المعارك الأدبية

أنور الجندي

مدخل

مدخل أولا: معركة مفاهيم الثقافة ... مدخل: تمثل "المعارك الأدبية" قطاعًا حيا من قطاعات الحياة الفكرية في الأدب العربي له خطورته وأهميته في مجالات النثر والشعر واللغة العربية والقومية العربية ومفاهيم الثقافة ونقد الكتب. وقد دارت هذه المعارك بين المحافظين والمجددين، ثم درات بين المجددين أنفسهم، متطرفيهم ومعتدليهم، وقد انتظمت موضعين هامين: معركة مفاهيم الثقافة ومعركة مفاهيم الأدب وكان أبرز أعلامها في معسكر المحافظين أحمد زكي باشا وفريد وجدي والرافعي ومحمد أحمد الغمراوي وشكيب أرسلان ورشيد رضا وفي معسكر المجددين: العقاد والمازني وزكي مبارك وهيكل وطه حسين وسلامة موسى. أولا: معركة مفاهيم الثقافة بدأت هذه المعارك منذ وقت مبكر منذ عام 1914 برسالة منصور فهمي التي قدمها للدكتوراه في باريس وهاجم فيها الإسلام، وموضوعها "حالة المرأة في التقاليد الإسلامية وتطوراتها" وقد كتبها تحت إشراف أستاذ يهودي هو "ليفي بريل". وكانت هذه الرسالة فاتحة اتجاه أطلق عليه من بعد "تيار التغريب" سار فيه كثيرون: من بينهم طه حسين ومحمود عزمي وسلامة موسى وعلي عبد الرازق وإسماعيل أدهم وعبد العزيز فهمي ولطفي السيد. وقد شمل هذا التيار مهاجمة "1" القومية العربية والوحدة العربية. "2" مقاومة اللغة العربية والدعوة إلى العامية. "3" الدعوة للكتابة العربية بالحروف اللاتينية. "4" مهاجمة الخلافة والإسلام والدين بصفة عامة. "5" اتهام العرب بالتخلف العقلي وهي نظرية "رينان". "6" النزعة اليونانية واعتبار اليونان أساتذة العرب.

"7" تصارع الثقافات الفرنسية والإنجليزية. "8" إثارة الاتهامات حول القرآن والإنجيل والتوراة بالشك في نصوصها والحملة على رسول الإسلام والحضارة الإسلامية. "9" تغليب الجانب الأسطوري على السيرة المحمدية. "10" الدعوة إلى الأدب المكشوف. "11" معارك الفن للفن. "12" الدعوة إلى نقل الحضارة خيرها وشرها ما يحمد منها وما يعاب. "13" إنكار فضل العرب على الحضارة. "14" الدعوة إلى الفرعونية. ولقد كان هذا هو أبرز جوانب المعارك الأدبية التي يمكن القول بأنها درات حول "مفاهيم" الثقافة والفكر والحضارة والأدب في خلال أربع تيارات واضحة هي المحافظة والتجديد ثم التغريب والعودة إلى الأصالة وقد دلت هذه المعارك على يقظة المحافظين وما أسموا دعاة القديم، فقد هبوا عندما قاوموا تمصير اللغة العربية أو مذاهب التجزئة والقوميات الضيقة أو الفرعونية أو الفينيقية أو غيرها، أو الشعر الجاهلي أو آراء التغريب أو الإلحاد أو التهوين من شأن الدين في المجتمع أو الفكر أو فضل العرب على الحضارة وقد كانوا أصدق إيمانًا وأقرب إلى الحق وأبعد عن الانحراف. غير أن الخطر في الأمر أن معارضة دعوات التغريب والاندفاع نحو الغرب والتطرف والانحراف لم يلبث أن ظهر من جانب المدرسة الحديثة نفسها، فقد تمزقت هذه المدرسة التي تعلمت في أوربا -وفي فرنسا في الأغلب- وانقسمت على أساس تطور فكري وتحول عقائدي، فقد كان دعاتها في أول الأمر من أشد المتحمسين للحضارة الأوروبية، غير أنهم اكتشفوا مدى الخيبة التي تكمن وراء إطلاق هذه الدعوة، حينما شاهدوا الفوارق البعيدة بين شعارات الحضارة الغربية وبين واقعها وتصرفاتها الفعلية في العالم العربي والإسلامي، هنالك استفاقت معان جديدة في نفوس هؤلاء المفكرين جعلتهم يقفون وقفة النظر والتأمل غلبت فيها عاطفة الإيمان بالوطن والتراث وحق أمتهم عليهم، وقد بلغ بهم الاعتقاد حد الإيمان بأن هذه المذاهب التغريبية لن تصل بهم إلى خلق أمة جديدة أو فكر

جديد، وهنالك قاوموا زملاءهم، ووقفوا يعارضونها، وفي مقدمة هؤلاء الدكتور هيكل ومنصور فهمي وزكي مبارك. فقد عارض هيكل طه في كتابه الأساطير على أنها جزء من سيرة الرسول، وعارض ساطع المصري وزكي مبارك وعبد الرحمن عزام آراء التجزئة والفرعونية وعارض توفيق دياب الأدب المكشوف وعارض منصور فهمي التقليد الخالص، وعارض فليكس فارس نظريات التغريب في الثقافة، وعارض زكي مبارك النزعة اليونانية، وعارض المازني الكتابات الإباحية وترجمة القصص الفرنسية المكشوفة. كما كشف منصور فهمي الذي تحول عن آرائه في الإسلام التي أثبتها في أطروحة الدكتوراه "1914" كشف عن تجربة الثقافة الغربية بالنسبة للمبعوثين العرب، فقد ذهب إلى فرنسا للحصول على الدكتوراه في الفلسفة فوقع تحت سيطرة أستاذ يهودي دفعه إلى مهاجمة الإسلام هجوما قاسيا إرضاء لنزعات المستشرقين الفرنسيين. وقد فعل طه حسين مثل ذلك عندما وقع تحت سيطرة دور كهايم وماسنيون فهاجم أهل المغرب المجاهدين في أطروحة الدكتوراه عن "ابن خلدون" التي تقدم بها للسربون، واتهمهم بالتأخر والجمود وعدم القدرة على تلقي الحضارة الغربية التي تقدمها إليهم فرنسا. ولم يفلت من ذلك القيد إلا الدكتور زكي مبارك الذي عارض آراء المستشرقين وأصر على رأيه ولقي في سبيل ذلك عنتا لحقه، حتى نهاية حياته وإن كان قد أخطأ في فهم القرآن. "المعركة في كتابنا المساجلات". ومع ذلك فقد اعترف أحد المستشرقين بحقيقة التبعية الفكرية حين قارن بين آراء طه حسين في "الشعر الجاهلي" وآراء زكي مبارك في "النثر الفني" قال: إذا قرأنا فكر طه حسين قلنا: {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} ، فلما عاد زكي مبارك وعارض اتجاه التغريب لقي العنت في الجامعة وفصله طه حسين وظل شقيا بنزعته التحررية إذ قاوم كثيرا من أهداف التغريب حين دعا إلى التعليم في كليات

الجامعة باللغة العربية، ودعا إلى الوحدة العربية وهاجم آراء التغريب في الثقافة والتعليم والإسلام والعرب. وقد انتصرت الفكرة العربية الصحيحة بعد قليل في عودة منصور فهمي وعودة هيكل ومحمود عزمي والمازني الذين كان لزياراتهم للبلاد العربية أثرها في إيمانهم بالوحدة العربية. وإذا كان أغلب هذه المعارك التي سجلناها قد دارت في صحف مصر فإن كتاب العالم العربي المبرزون قد اشتركوا فيها وإنما كانت تمثل قطاعًا من الحياة الفكرية في مصر فإنها في الحق صورة متكاملة صادقة لجميع المعارك الفكرية التي درات في العالم العربي كله. فقد كانت خطط التغريب متشابهة ودعوته متماثلة بين الاستعمارين الفرنسي والبريطاني اللذين سيطرا على العالم العربي في هذه الفترة. فإذا ذهبنا نبحث في دوافع المعارك الأدبية لم نجدها خالصة لوجه الفكر وإنما وقع أغلبها تحت سيطرة دافعين كبيرين: 1- الخصومات السياسية. 2- الخلافات الشخصية. ذلك أن الخلاف بين المعسكرات السياسية قد جعل طائفة من الكتاب تنحاز إلى هذا الجانب وطائفة تنحاز إلى الجانب الآخر، وكان لهذا أثره، ولذلك كانت أغلب أحكام هذه المعارك تدل على التناقض، فالرأي هنا مقيد بوجهة نظر وظرف معين، فإذا اختلف هذا الظرف تغير الرأي ومثال ذلك في معارك إمارة الشعر1 والقومية العربية والتغريب وقليلا ما ترى الإنصاف الذي جرى

_ 1 كتب الدكتور طه حسين في الجمهورية 1956 يقول: أحب أن أؤكد أني لم أبايع العقاد بإمارة الشعر وما كان لي أن أبايعه لأني لم أكن شاعرًا، اقرأ معركة الشعر في الفصل التاسع.

عليه المازني في العودة إلى الحق معركته مع عبد الرحمن شكري أو زكي مبارك في رجوعه عن آرائه في "الغزالي" فإذا ذهبت أستقصي أعنف المعارك لقلت: إنها معركة الرافعي مع العقاد وطه حسين. ومعركة زكي مبارك مع طه حسين ثم أحمد أمين. والأولى في جانب منها شخصي والثانية شخصية محضة. فقد كان الرافعي يطمع في أن يلي منصب أستاذ الأدب العربي في الجامعة واستأثر طه حسين بهذا المنصب، وكانت لقمة العيش حين فصل طه حسين زكي مبارك من الجامعة مصدر معركته الكبرى. وقد كانت هذه المعارك -على كل حال- خيرًا للأدب فقد حثت على التجويد وفتحت باب السجال والنقد ومعارضة الآراء على نحو شيق حقا، كشفت عن حقيقة النفوس، وطبائعها، وأبانت عن المزيف والصحيح. ويمكن القول بأن الكتاب المجددون كانوا في أول الأمر يغايظون الجماهير لكسب الشهرة ثم أرغمتهم السياسة على مسايرة الجماهير وتملقها كما حدث في كتابة حياة محمد للدكتور هيكل. أو الرضوخ لآراء المستشرقين حين تحول أحمد أمين للدعوة إلى العامية ومهاجمة الأدب العربي القديم وقد جرت بعض هذه المعارك بأسلوب بالغ العنف، مليء بالهجاء المقذع، وربما كان للسياسة والمعارك الحزبية أثرها في تلوث أقلام الكتاب. وعندي أن لأحمد زكي باشا أثر كبير في قيادة هذا الاتجاه فقد عرف بالعنف والسخرية البالغة واصطناع ألفاظ مثيرة، وتأثر بهذا الرجل: طه حسين والعقاد وزكي مبارك وهم الثلاثة الذين كانوا أعنف كتاب النقد العربي المعاصر. وقد كشف أحمد أمين في بعض المعارك عن الكتاب الذين بدءوا حياتهم في جرأة وحرية ثم تخاذلوا من بعد وتعودوا المجاراة بدلا من المقاومة والمداراة بدلا من الصراحة وفضلوا السلامة.

ثانيا: معركة مفاهيم الأدب

ثانيا: معركة مفاهيم الأدب أما معركة "مفاهيم الأدب" بدأت حول الأسلوب عام 1923 بين الرافعي وطه حسين ثم تناولت غاية الأدب، واتصلت بالأسلوب والمضمون، والفن للفن والفن للمجتمع، ومذهبي الأدب بين الرافعي والعقاد، والتراث القديم. والنقد والتتريظ، ومعارك مفاهيم اللغة. وقد قامت هذه المعارك على أساس مهاجمة الأسلوب القديم المغرق في السجع والمقدمات والألفاظ القاموسية، وحول غلبة العناية باللفظ على العناية بالمضمون. وقد وقف شكيب أرسلان والرافعي في صف الدفاع ووقف سلامة موسى وطه حسين في صف الهجوم. وكانت حجة المدافعين حماية اللغة العربية من أعجمية العامية التي كانت هدف الدعوة التي أثيرت واستشرت، غير أن المعركة انكشفت عن تقارب في الأساليب وهو ما أطلق عليه الأسلوب التلغرافي. وجرى مثل هذا في مفهوم الشعر، فكانت معركة أنصار الرافعي وأنصار العقاد، وكانت دعوة العقاد والمازني وشكري قد بدأت منذ العشرينات من هذا القرن، ثم انفصل شكري الذي هاجم زميله المازني في أول كتاب للمذهب وهو "الديوان" ثم تنكر المازني لشعره ووقف العقاد وحده يدافع عن الشعر الجديد وتصدى له الرافعي في هجوم عنيف. ثم كانت معارك تجديد اللغة بإحياء الألفاظ القاموسية التي تسد حاجة الحضارة وقد نشبت بين أحمد زكي باشا ومحمود مسعود وكان لها طابع العنف.

ثالثا: معركة مفاهيم الأدب

ثالثا: معركة مفاهيم الأدب ... ثالثا: طابع المعارك الأدبية ومن أبرز هذه المعارك ما قام من جانب واحد؛ فمعركة كتاب الشعر الجاهلي ومستقبل الثقافة مع طه حسين قامت من جانب معارضيه وحدهم، وكذلك معركة "لقمة العيش" التي أثارها الدكتور زكي مبارك ومعركته مع أحمد أمين وقد برزت في هذه المعارك عبارات عجيبة مثيرة: منها قول زكي مبارك: لقد ظن طه حسين أنه انتزع اللقمة من فم أطفالي فليعلم حضرته أن أطفالي لو جاعوا لشويت طه حسين وأطعمتهم من لحمه ولكنهم لن يجوعوا ما دامت أرزاقهم بيد الله. أو قوله لأحمد أمين: لعل أحمد أمين يريد امرأة فيلسوفة لها عرقوب كشهر الصوم في الطول. ولها عين كعين العميصاء تعينه على سهر الليالي إلى أن يبزغ "فجر الإسلام". أو قوله لعبد الله عفيفي: إذا دخل الأزهر وقفت لقدومه قواعد النحو صفا صفا فكانت المنصوبات في جانب، والمرفوعات في جانب وقد تصدمه "المجرورات" من شماله إذا دخل من الباب الذي كان يسمى باب المزينيين. ويقول عن كتابات لطفي السيد: هي لفظ مركب مفيد بالوضع العربي. ويقول الرافعي في نقده لطه حسين: مهد طه لرأيه بأن أعلن لشيخ الأزهر ولعلماء الدين أنه مثلهم مسلم. ثم قال و"الفرق بيني وبين الشيوخ أني مسلم حقا أفهم الإسلام على وجهه" فيا أرض ابلعي فهذا مستنقع لا رجل. ومن هذا ما يذكره توفيق الحكيم عن معركته مع طه حسين بعد انتهائها: إن الخصومة بيني وبين طه حسين كانت خصومة أدبية صرف ولكن الدكتور طه أراد أن يقحم فيها عنصر السياسة ليظهرني في صورة "يهوذا" ويظهر نفسه في صورة المسيح. ولعل مما يذكر هنا أن آراء توفيق الحكيم التي عرضها في مساجلاته مع طه حسين "ص559" هي آراء "رينان" التي رددها من قبل إسماعيل أدهم أحمد في مساجلته مع فيلكس فارس "ص105" وقد عارضها الدكتور طه حسين حين عرضها توفيق الحكيم "عام 1934" ثم عاد فرددها في كتابه مستقبل الثقافة "ص388" وفي معركته ضد العرب والقومية "ص17 و58".

ولقد هاجم العقاد والمازني وطه حسين الشاعر شوقي هجوما عنيفا ثم غير كل من طه حسين والمازني رأيهما في الشاعر الكبير وظل العقاد على رأيه القديم. ومما يلفت النظر هجوم أحمد زكي باشا شيخ العروبة على زكي مبارك مستهلا مقاله على هذا النحو "إلى الطفل الميمون نجل الدكتور زكي مبارك؛ ويقول له: إنك تكتب باسم أبيك فتارة تخطئ وتارة تصيب" ولعل من المعارك المثيرة ما ذكره مصطفى عبد الرازق في محاضرة عن ذكرى رينان الذي هاجم العرب ورماهم بأعنف التهم -واحتفلت به الجامعة المصرية- وفي هذه المحاضرة قرر المحاضر إن جمال الدين الأفغاني تطور فكره في أقل من ثلاث سنوات بعد مقابلته لرينان فغير رأيه في الدين وأعلن أن الإسلام كان عدوا للعلم والعقل والمدنية. ومما يذكر هنا أيضا أن زكي مبارك الذي هاجم كثيرا من الأدباء وساقهم بقلم مرير الهجاء قد تراجع أمام السباعي بيومي الذي كال لبمارك الصاع صاعين "ص441" وهناك معركة أخرى لم تكتمل ضاع فيها زكي مبارك ضياعا مؤلما، تلك هي معركة وحدة الوجود وآرائه في القرآن التي شبب أوارها محمد أحمد الغمراوي ودريني خشبة في الرسالة وصمت إزاءها زكي مبارك صمتا محزنًا1. ومن فنون المتناقضات في النقد الأدبي ما أحصاه الدكتور صلاح المنجد على الدكتور زكي مبارك "الرسالة 3 فبراير 1941" من أن مبارك نقد أحمد أمين في الرسالة "10 يوليه 1939" وقال عنه: "إن هذا الأستاذ لم يؤت أسلوبًا خاصًا وإنه ما كان في يوم من الأيام أديبًا وإن أحمد أمين ليس له أسلوب" ثم عاد بعد ذلك فكتب في الرسالة أيضا "11 نوفمبر 1940" فقال: "يجب الاعتراف بأن لأحمد أمين أسلوبًا وبأن لهذا الأسلوب شخصية تتميز بالسهولة والوضوح". ومن مبالغات النقد ما ذكره زكي مبارك من أن الشيخ عبد العزيز البشري اتصل به تليفونيا وقال له إن إخوته مهتاجون لنقده والدهم "الشيخ سليم

_ 1 أوردنا هذه المعركة في كتابنا "المساجلات".

البشري" وأنهم سيقتلونه على باب داره. وقال زكي مبارك: إنه يستطيع أن يسوق للمعركة ألف نبوت من سنتريس. وقد جرى النقد الهادئ المنمق بين طه حسين وهيكل أمدًا طويلا ثم تحول إلى العنف من جانب طه حسين عندما كشف هيكل دسائس التغريب وعارض اتجاه طه حسين في استغلال الأساطير في كتابه السيرة. أما المازني وطه حسين فقد كان بينهما سجال دائم وخصومة خفية، وظل طه حسين صامتا إزائها حتى هاجم المازني في معركة الديوان "أنات حائرة" لعزيز أباظة على نحو رمزي عنيف هنالك تدخل الدكتور زكي مبارك لكشف أسراره وتفسير مضامينه "ص122". أما المعارك الأدبية بين طه حسين والعقاد فقد كانت يسيرة، كان طه حسين يخشى قلم العقاد فلم يعرض له إلا لماما وفي حذر شديد، وعندما انضم طه حسين إلى الوفد كان العقاد أكبر من يخشاه، لذلك أسرع مع مناسبة تكريم العقاد فأعلن أنه أمير للشعر وكان قد سبق فقال بعد وفاة شوقي إن إمارة الشعر انتقلت إلى العراق، وليس أعجب في جانب النقد ولا أروع من تعليق الرافعي على رأي طه حسين في نقل إمارة الشعر إلى العقاد حين وصفها "ص540" بقوله: إنما أراد طه في سخريته أن يقول: فإن لم تثبتوا أن فيكم من استطاع أن يخلف شوقي فاصغروا واصغروا حتى يكون العقاد أميركم. وهكذا تمضي المساجلات الأدبية بين الهدوء والثورة، وبين العنف والعمق، وبين التجرد والهوى لتمثل صورة العصر نفسه بما فيه من اضطراب وقلق وتحول. ولا نعتقد أننا قد ألممنا إلماما كاملا بالمعارك الأدبية في هذا العصر، وإنما نقلنا صورة موجزة أمينة لهذه المعارك في غير ميدان السياسة التي سيختص بها كتابنا "الصحافة والسياسة". ولقد سبقت هذه المعارك معركتين كبيرتين: الأولى بين إبراهيم اليازجي

وفارس الشدياق وقد درات حول اللغة وبلغت فيها عبارات الهجاء حدا مريرًا. ومعركة تحرير المرأة التي استطارت بعد نشر قاسم أمين فصول كتابه في المؤيد ثم صدوره قبل نهاية القرن "1898" وقد امتدت طويلا، وأنشئت من أجلها الصحف وألفت الكتب فضلا عن المقالات المتعددة. ولا شك أن هذه المعارك تعطي صورة صادقة لحيوية المفكرين والكتاب العرب في إيمانهم بالبعث والتجديد وحماية القيم وتطوير المفاهيم في الفكر العربي المعاصر بما تحقق على نحو لا بأس به "1959"1.

_ 1 كان لنا -وقد أعدنا طبع هذه الرسالة- أن نذكر أننا أصدرنا حلقة أخرى تحت اسم "المساجلات الأدبية" تضم حوالي 50 معركة أدبية أخرى في نفس الفترة التي تبدأ من أوائل الحرب العالمية الثانية وقد احتفظنا في هذه الطبعة الثانية بنصوص الطبعة الأولى دون أي تعديل أو إضافة "1982".

الباب الأول: معارك الوحدة والتجزئة

الباب الأول: معارك الوحدة والتجزئة معركة الوحدة العربية ... الباب الأول: معارك الوحدة العربية معركة الوحدة العربية: هذه أضخم معركة فكرية عن القومية العربية جرت عام 1933، أثارها الدكتور طه حسين بتعبير جاء ضمن مقالاته في جريدة كوكب الشرق قال فيه: "إن المصريين قد خضعوا لضروب من البغض وألوان من العدوان جاءتهم من الفرس واليونان وجاءتهم من العرب والترك والفرنسيين". ولقد هبت العاصفة بعد هذه العبارة واستمرت أكثر من ثلاثة شهور وقود الصحف على اختلاف ألوانها في مصر والبلاد العربية، وقد حمل لواء مساجلة الدكتور طه، عبد القادر حمزة صاحب جريدة البلاغ واشترك فيها عدد كبير من الكتاب، لم يقف في صف الدكتور طه فيها غير حسن صبحي ومحمد كامل وسلامة موسى ووقف في الجانب الآخر عبد الرحمن عزام ومحب الدين الخطيب وعبد الله عفيفي وفتحي رضوان وزكي مبارك وزكي إبراهيم وعلي الجندي. ولقد نشر المقطم يوم 6 سبتمبر 1933 خبرًا مؤداه بأن أعضاء الجمعيات الثقافية والأدبية في دمشق بعد أن درست مقال الدكتور طه، قررت "أن تنتهج حيال الدكتور نهج النازي الألماني تجاه الكتب المعاكسة للقومية العربية. وأنهم قرروا دعوة الجمعيات العربية والأدبية والسياسية في العراق وفلسطين وجميع الأقطار العربية إلى مقاطعة كتب الدكتور. وأن هذه الطريقة ستتبع أيضا مع كل كاتب مصري يطعن في القومية العربية ويشجع الروح الشعوبية". وكتب المقطم في افتتاحية "7 سبتمبر 1933" قال: لسنا من موافقي الدكتور طه حسين على كل ما يروي في بحوثه ونظرياته. ولكن مع هذا لا يسعنا إلا أن نقول لإخواننا أدباء دمشق وأعضاء جمعياتها الثقافية أن روح الإكراه الذي يشم من قرارهم لا يطابق الرغبة البادية في جميع البلدان إلى التعاون والإقناع وبيان فوائد التضافر.

ونشرت المقطم يوم 12 سبتمبر 1933 بيان الشباب في سورية بصدد كتب الدكتور طه حسين ثم كتب فتحي رضوان إلى معروف الأرناؤوط صاحب جريدة فتى العرب يدافع عن طه حسين ولكنه اعترف بموقف الدكتور طه فقال: "إن إحراق كتب طه حسين لأنه واحد من الذين يهونون من أمر العرب ويصغرون من شأنهم، ويرفعون الصوت بالدعوة التي يكرهونها مر الكراهية ألا وهي الفرعونية". ونشرت جريدة فتى العرب في دمشق تقول: بني هذا القرار الذي سينفذ في البلاد العربية كافة على اعتداءات ماضية ترجع إلى الكتاب الذي ألفه الدكتور طه حسين تحت عنوان "الأدب الجاهلي" والمقال الذي نشره في كوكب الشرق ضد العرب ويهدف القرار إلى إخراج مؤلفات طه حسين من المكاتب واعتبارها ممنوعة التداول في البلاد العربية لمخالفتها روح القومية المنتشرة في بلاد العرب وتهجم صاحبها على حرمة التاريخ وعيبه في ذكريات الأجداد الذين حرروا العنصر المصري من سياط الفاتحين وأعطوه لغة قوية وديانة مرضية وحضارة لا تقاس بها حضارات العالم القديمة. وكتبت البلاغ ترد على جريدة فتى العرب "7 سبتمبر 1933" وتقول: كنا نحب للزميلة أن لا يزل قلمها ... كالذي قالته عن تحرير العنصر المصري من سياط الفاتحين فإن السخط على ذلة الدكتور طه لا يحوج قذف الأمة المصرية في وجهها بهذه العبارة على أنا نؤثر أن نغضي عن ذلك. ثم بدأت المعركة بصورة جدية بمقال عبد الرحمن عزام "أليست مصر عربية".

وتوالت المساجلة واشترك فيها عدد من كتاب القومية العربية وعدد من خصومها وكتب سلامة موسى يحرض على الفرعونية مقالا تحت عنوان: "دماء الفراعنة تجري في عروقنا جميعًا" البلاغ 8 أكتوبر 1933 وأنكر زكي مبارك وجود الثقافة الفرعونية وصلاحيتها للحياة، وهذه هي أبرز معالم المعركة التي تعد من أهم المعارك القومية العربية الفكرية إذ كانت مصر في هذه الفترة تحجب عن الأمة العربية ويشغلها الاستعمار بمذاهب متعددة ودعوات مختلفة من الفرعونية إلى التغريب بينما كانت سورية تحمل لواء القومية العربية، غير أن هذه الصيحة ما كادت تعلن حتى هب المؤمنون بعظمة الأمة وأمجادها ووقفوا في وجهها وقفة أدالت منها ومن دعاتها وحطمت شراعها. 1- البلاغ، أليست مصر عربية عبد الرحمن عزام 29/ 8/ 33: في سياق مقال للدكتور طه حسين استوقفتني العبارة الآتية: وهم -يريد المصريين- قد خضعوا لضروب من البغض وألوان من العدوان جاءتهم من الفرس واليونان وجاءتهم من العرب والترك والفرنسيين. والدكتور طه رجل له في العلم بالتاريخ مقام معلوم فهل له أن يتفضل بذكر بعض الحوادث التي تدخل العرب المسلمين في زمرة البغاة المعتدين، فقد قيل لنا عن دخول العرب إلى مصر إنه كان استخلاصًا لأهلها من البغي والعدوان وإنقاذًا لها من الضلال. وقد جاء إليها العرب دعاة إلى دين جديد أصبح دين الكثرة العظمى من أهلها. هذا الدين سوى بين الراعي والرعية وقرر أنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى؛ فهل يتفضل الدكتور طه حسين فيصحح معلوماتنا التاريخية عن الفتح العربي؟

ثم ذكر الدكتور كيف رد المصريون أهل البغي والعدوان وكيف أفنوهم في أنفسهم وحشر العرب في زمرة الذين أفناهم المصريون والواقع أن كل الأمم التي بغت على مصر قد فنيت فيها، إذ انتصر المصريون عليها ولا يستثنى من أهل البغض الذين يشير إليهم الدكتور طه حسين إلا العرب، أليس ذلك لأنهم لم يكونوا بغاة ولا معتدين؟ لقد قبل المصريون دين العرب وعادات العرب ولسان العرب وحضارة العرب وأصبحوا عربا في طليعة العرب والذي نعلمه من البحث عن أنساب أقاليم مصرية بأكملها أن أكثرية دماء أهلها ترجع إلى العرق العربي وأن فردًا واحدًا من تسعين في المائة من سكان مصر لا يستطيع أن ينكر أن عروقه تجري فيها الدماء العربية والواقع الملموس أن مصر الآن من جسم الأمة العربية في مكان القلب فهل يتفضل الدكتور طه حسين ببيان المعنى الذي يريده حينما يقرر أن العرب فنوا في مصر وانهزموا. نعم قد فني في مصر جميع الفاتحين من أهل البغي والعدوان وكسبت مصر أبديا الأمة الوحيدة التي جاءت تحمل راية الإسلام ولا تقصد بغيا ولا عدوانا. تلك هي الأمة العربية وتلك هي أمتنا التي ننتسب إليها ونفخر بتاريخها ثم أي شيء في العلم يتحول، والسنون والحوادث تفعل فعلها في كل بقعة من الأرض وفي كل شعب من الشعوب. والأمة المصرية الحالية إلا بقية من الأمة القديمة من الفراعنة، وبعض من مر بمصر في العصور المختلفة. قد غمرها جميعا سيل من الهجرة والدين وأصبح واديها مزدهرًا بالسلالة التي صبغتها الدماء وسادت بها الديانة العربية والعرف العربي واللغة والثقافة فإنه يستطيع أن يقنع أي مصري آخر بأن العرب كانوا من البغاة المعتدين الذين أفناهم المصريون. وأخيرا ألا يعلم

الدكتور طه أن علاقات الأمم الإسلامية في حكم مصر وحكم الأمم الإسلامية لم تكن علاقات قهر عنصري واستعمار كما هي مع الإنجليز، فإذا أنكرنا مصر العربية وتجاهلنا وجودها وأنكرنا كذلك العربية في الشام والعراق وأفريقيا وتجاهلنا وجودها في تلك الأقطار فماذا يبقى فيها غير حجارة صامتة وأمم بائدة وأرض لا أهل لها. ماذا بقي من آشور وفينيقية وفرعون وقرطاجنة غير ما أبقاه العرب في أنفسهم وغير الأمة الحية التي تمتد الآن من المحيط إلى المحيط. ونحن إنما ننتسب بصفة عامة إلى تلك الأمة الحية الوراثة للأرض المبثوثة فيها. 2- البلاغ، عبد القادر حمزة، 7 سبتمبر 1933: لعل الدكتور طه يكون قد فطن إلى خطئه ولذلك رأيناه أحجم عن الكر إلى الموضوع وآثر السكوت. والإنسان غير معصوم. وكل امرئ يخطئ ويزل، ورد المخطئ إلى الصواب ليس طريقه أن نحرق كتبه أو ننفيها من المكاتب أو نطاردها أو نفعل بها ما يشبه هذا. فما يدحض الرأي إلا بالرأي ... والآراء تتنازع كما يتنازع الرأي ولا يبقى منها إلا الذي هو أقوى وأصلح وما عرفنا كاتبا اضطهد ولو بحق إلا كانت النتيجة عكس المروم. وليس من حق أحد أن يمنع كاتبا من الإدلاء برأي ولو كان خطأ ولكن من حق كل قادر على ذلك أن ينقد هذا الرأي بالحجة القائمة والبرهان اللائح. وليس يعتبر العرب في كثير أو قليل أن يخطئ طه أو غيره في حقهم ولكنه يضير قضية العرب أن يلجأ إلى مثل هذه الأساليب.

3- البلاغ، محمد خياط الفلسطيني، مصر والعرب، 8/ 9/ 33: ألا إن السانحة التي بدرت من الدكتور طه كانت الفتيلة التي ألهبت شعور السوريين فوقفوا تلك الوقفة واندفعوا ذلك الاندفاع. على أن كلمة الدكتور طه ليست من الخطورة بمكان لولا أن سبقتها حوادث أخرى تجرعها السوريون على مضض واحتملوها من إخوانهم المصريين وإن نسي السوريون فلن ينسوا موقف البعض من الأمة العربية ودعوتهم الفرعونية التي حاولوا فيها قطع كل صلة لمصر بالعالم الإسلامي والتي منيت بالفشل وباءت بالخسران. وإن كتاب الدكتور طه "في الأدب الجاهلي" لا يزال دويه يدوي في سوريا إلى الآن إلا أن قلة وسائل الدعاية والنشر حالت دون إظهار رأي الغالبية منهم فيه. ثم ما هي الجناية التي جناها العرب على مصر، إنهم قدموا لها هذا الدين الإسلامي الحنيف، وهذا اللسان العربي المبين، فغدا المصريون والعرب سواء لا فرق بين المصري والعربي فانتشرت الأخوة والمحبة. على أن ما كتبته جريدة "فتى العرب" لم يكن فيما عدا الإشارة إلى الضرب بالسياط وهو ما لا يقر الكاتب عليه إلا عتبا على الدكتور طه حسين أولى بأدباء مصر أن يتقبلوه بنية حسنة. وأعود فأقول إن السوريين لم يغضبوا لكلمة الدكتور طه فقط وإنما هذه الكلمة ذكرتهم بما كتبه بعض الكتاب المصريين قبل الدكتور طه خاصًا بالفرعونية أو الشعوبية وأن السوريين ليقفوا لهؤلاء الكتاب بالمرصاد ليحولوا دون تسرب آرائهم السامة إلى نفوس الشبيبة العربية.

وبعد فليست هذه الحملة موجهة إلى مصر فمصر عربية على الرغم من المتفرعنين ولكنها موجهة إلى كل من ذكر العرب بالسوء. 4- رأي طه حسين في العرب رد طه حسين، كوكب الشرق 9 /9 / 33: كتب الأستاذ عبد الرحمن عزام ذلك الفصل الذي نشرته له البلاغ مدافعا عن العرب ولم يهاجمهم أحد، زائدا عن كرامتهم ولم يغض منها أحد، مثبتا لمجدهم ولم ينكره عليهم أحد. فصديقي عبد الرحمن عزام يعلم حق العلم. أني لست من خصوم العرب، ولا من المنكرين لما كان لهم من مجد مؤثل وعز باق على الزمان. وهو يعلم حق العلم أني لست خصما للنهضة العربية الحديثة. ولا لهذه الدعوة التي يذيعها العرب إلى وحدتهم القومية بأي شكل من أشكالها لأني تحدثت إليه في ذلك غير مرة. إن شك في شيء فلا يستطيع أن يشك في أني أبعد الناس عن الإساءة إلى العرب أو الازورار عنهم. وقد أثار مقال عبد الرحمن عزام حركة أو شيئا يشبه الحركة في دمشق. ورأت "البلاغ" لذة غريبة في أن تطيل الحديث حول هذا الشر، فتنشر ما قالته صحيفة من صحف دمشق ثم تنتظر يوما حتى إذا كان الغد لحقت ما نشرته هذه الصحيفة ثم أخذت تناقش هذه الصحيفة بعد أن تقرر أن الدكتور طه أخطأ خطأ عظيما فما في ذلك شك وأنه لذلك أحجم عن الرد على الأستاذ عبد الرحمن عزام. ولعل البلاغ قد فهمت عني ولعل صديقي عبد الرحمن عزام قد كان أسرع

منها إلى الفهم وإلا فإن صديقي عبد الرحمن عزام والذين يكتبون في صحيفة البلاغ ليسوا من الجهل بالتاريخ والغفلة عن حقائقه بحيث يعتقدون أن حكم العرب في مصر كان كله خيرًا وبرًا وعدلا وإنصافًا، وقد برئ من الجور والحيف وخلص من البغي والطغيان، هذا كلام يقوله العامة وأشباه العامة فأما المثقفون وفي مقدمتهم صديقي عبد الرحمن عزام وكتاب البلاغ فيعلمون حق العلم أن حكم العرب لمصر كان في الخير أول الأمر حين حمل إلى مصر الإسلام ولكن بعد ذلك كان كحكم العرب لجميع البلاد الإسلامية مزاجا من الخير والشر والعدل والجور وقد ضاقت مصر به وثارت عليه وجدت في الثورة. وعفا الله عن قوم يريدون شيئًا فيسلكون إليه طريق الذود عن العرب والدفاع عن الأحساب والأنساب لأنهم لا يستطيعون أن يسلكوا إليه طريقه الواضح المستقيم. 5- البلاغ "مصر والعرب"، إبراهيم المازني 9/ 9/ 1933: ساء الدكتور طه أن يقول في معرض الدفاع عن حرية الرأي أنه أخطأ ما في ذلك شك، وقد حاول أن يبين أنه لم يخطئ فنفى عنا الجهل بالتاريخ وبرأنا من الغفلة عن حقائقه. أو هو لم ينف ذلك ولكنه نفى أن يكون من الجهل والغفلة يجب أن نعتقد "أن حكم العرب في مصر قد كان كله خيرًا وبرًا وعدلا وإنصافًا قد برئ من الظلم والحيف وخلص من البغي والطغيان" هذا كلام يقوله العامة وأشباه العامة فأما المثقفون وفي مقدمتهم صديقي عبد الرحمن عزام وكتاب البلاغ فيعلمون حق العلم أن حكم العرب لمصر كان فيه الخير أول الأمر حين

حمل إلى مصر الإسلام ولكن بعد ذلك كان كحكم العرب لجميع البلاد الإسلامية مزاجا من الخير والشر ومن العدل والجور. فنقول لصديقنا الدكتور طه أننا لا نحتاج إلى علم خاص بالتاريخ لنعرف أن حكم الإنسان للإنسان يكون فيه الخير والشر والعدل والجور. وأن كل أمة قديمة أو حديثة في كل مكان من هذه الأرض، لقيت هذه الألوان من حكامها. والدكتور طه لم يقل هذا وإنما قال: إن مصر ابتليت بالبغي والعدوان من الفرس والعرب وغيرهم، فمعنى أن هذه خلاصة الرأي الذي انتهى إليه الدكتور طه في حكمهم لمصر وأن كفة الشر والجور رجحت عنده فاستحق عهدهم في مصر أن يذكر مقرونًا بالبغي والعدوان ليس إلا. ومن هذا نرى أن دفاع الدكتور طه عن كلمته لا ينهض وتسويغه لها لا يستقيم وما كنا لنعنى بهذا الجدل لولا أن الدكتور طه كره أن يقال عنه: إنه أخطأ كأنما هو معصوم فذهب يكابر ولو اعترف واعتذر لكان ذلك أكرم له وأمثل به في رأينا. 6- البلاغ، أليست مصر عربية "عبد الرحمن عزام": تناول عزام في مقاله هذا الرد على عبارة الدكتور طه وهي: "أنه قد فني في مصر جميع الفاتحين" قال: عبارة الدكتور طه تطوي في نفسها معنيين: الأول أن فتح العرب لمصر وحكمهم لها كان بغيًا وعدوانًا كفتح الرومان والفرس والفرنسيين وغيرهم والثاني أن مصر ردتهم عنها! إذ أفنتهم فيها كما فعلت بغيرهم.

ولو1 أن هذه المعاني قالها رجل غير صديقي الدكتور طه وكان له من المكانة من نفسي ما للدكتور طه لناقشته في الحال فيها، لأنني كما يعلم الدكتور طه رجل يؤمن بعربية مصر، ويرى في تاريخ العرب مثلا عليا ويضع الوحدة العربية بين ناظريه أسمى غايات الحياة. فإما أن يكون الدكتور طه حسين لا يرى رأيي في عربية مصرية ولا في الوحدة العربية وله كامل الحرية فيما يعتقده وليس لأحد أن يحاول اضطهاده في عقيدته، أما إننا على تمام الاتفاق، فهذا هو الجوهر في الأمر. لقد دلتني تجارب عشرين سنة في السياسة ومخالطة الشعوب والقبائل المجاورة لمصر في الجنوب أو الغرب أو الشرق على وحدة جلية، فما شعرت في وجودي جنوبي حلفا بأنني غريب عن إخواني السودانيين بل كانت عزتي فيهم صادرة عن الشعور بالوحدة التي تقوم على نسب مشترك وأدب مشترك ولسان مشترك، وفي برقة ما كنت أظن إلا أنني في عشيرتي وفي فلسطين لا يجد المصري نفسه إلا في قومه الأقربين، ذلك كله جلي ملموس. أما كيف صارت هذه الوحدة وكيف أصبحت مصر عربية وفي مكان القلب من جسم الأمة العربية فذلك ما فعلته آلاف السنين، فقد اندمجت مصر في الأمة العربية بحيث أضحى قيام الفكرة العنصرية على غير هذا الأساس منافيا للحقيقة الواقعة والدعوة إلى الباطل، لقد فعلت آلاف السنين فعلها لأن مما لا شك فيه أن امتزاج العرب بقدماء المصريين واشتراكهم مع العرب في أرومة واحدة هو قول يؤيده ما بين الهيروغليفية والعربية من التشابه القوي، وقد

_ 1 البلاغ 11 سبتمبر 1933.

كان العرب يدعون خئولة قدماء المصريين لهم قبل ظهور الإسلام بقرون طويلة. وإذا كانت الرسالة المحمدية قد وجدت بين شعوب العنصر السامي وأخرجت لنا وحدة جنسية تشملها لغة مشتركة وعرف متحد فأصبحت بذلك وسط سبعين مليونا متقاربين فما هو وجه المصلحة في التناكر أو الدعوة إلى عزلة مصر عن الأمة العربية. ليست الوطنية العزيزة الجانب هي التي تقوم على الغيرة المحلية أو الطائفية بل هي التي تتسع للغيرة على العنصر بأكمله كرمز لنوع من البشر له وجود خاص وبين أجزائه تعارف خاص ويستند إلى أدب مشترك ولغة مشتركة وتاريخ يعتز بترديده ويطرب لذكراه ويثير حميته، ويدفعه إلى الاستبسال والغلب. ذلك هو أساس الوحدة العربية في الأمة التي تمتد من المحيط إلى المحيط فليذهب إذن دعاة الفرعونية في مصر أو الفينيقية في سوريا أو الأشورية في العراق حيث شاءوا فإذا استطاعوا أن يستنهضوا قرية واحدة باسم الأمم التي فنيت في أهل العربية فإنهم يستطيعون أن يقيموا شعوبيتهم على أساس عميق. أما الدعوة باسم العربية فإنها تستنهض سبعين مليونا في أفريقيا وآسيا وتجد في تاريخ العرب وأبطالهم ما يثير الناس جميعًا. حدثوا ما شئتم عن خوفو أو مينا فهل تجدون في الناس إنصاتا، ثم حدثوهم عن عمر أو عمرو أو أبي عبيدة أو خالد أو سعد من فاتحي مصر وسوريا والعراق أفلا تجدون إنصاتا كإنصات البنين للآباء، هذا هو أصلهم الذين يعترفون به وهذا هو أصلهم الذي أنكروه فما معنى الشعوبية في مصر

الحديثة أو في غيرها من الأقطار العربية على أساس ينكره أهلها ولا ينصتون إليه. ذلك هو وجه الخلاف بيني وبين من يدعون إلى غير الوحدة العربية فإن كان الدكتور طه منهم فلن يمنع هذا الخلاف. أما الشق الخاص بتاريخ الفتح العربي أو ما بعد الفتح من نوع الحكم فإن الدكتور طه لم يوضح لنا فيه شيئًا بل زاد الأمر غموضًا بالإشارات إلى ثورات للمصريين واستقلال عن السلطان العربي، ونحن لا نعلم أي الثورات أو الاستقلالات يقصد. ومع ذلك ليس هذا جوهريا إلا إذا أراد به إبعادنا عن الحقيقة التي نريدها وهي "عربية مصر" الحديثة، ومصر الحية التي تناهض الإنجليز لتدفعهم عن هذا الوادي، وإذا لم تدفعهم عن مصر الحديثة فهل تستطيع الأصنام القائمة على جوانبه ضرًا ولا نفعًا. 7- البلاغ، القومية العربية ومكانة مصر منها، محب الدين الخطيب: نعم1 إن المصري مصري، ولكن مع أنه مصري هو عربي، فمصر وطنه والعربية جنسيته المنشقة من لغته وثقافته، بل من أربعة عشر قرنا على الأقل من تاريخه القومي كما أن العراقي عراقي وهو مع ذلك عربي، وكما أن السوري سوري وهو مع ذلك عربي. مصر وطن المصري المحبوب، وهو وادي النيل، ولكنه مكان ضيق

_ 1 البلاغ، 12 سبتمبر 1932.

لأمة بعيدة المطمح تضرب بآمالها آفاق الأرض وتخترق بهمتها أجواز السماء، وهنالك ناس تخفق قلوبهم مع قلبه وتغضب نفوسهم للمغضوب من حقه، وتحس عواطفهم بإخوته، هم الذين يقرءون مؤلفاته إذا ألف، ويترنمون بقصائده إذا نظم وبأناشيده إذا غنى. ومفخرة مصر أحمد كمال باشا رحمه الله، إنه لم يخرج من هذه الدنيا حتى ترك وراءه معجما يبلغ حمل جمل وضع فيه جميع ما عرفه البشر من الكلمات في لغة مصر القديمة المكتوبة بالخط الهيروغليفي وكان هو يفسر لغة مصر القديمة بلغة مصر الحديثة "العربية" ويجد في العربية في مقابل بعض الألفاظ المصرية القديمة ألفاظا شبيهة بها لفظا ومعنى. وقد حمل هذا الاكتشاف على إنعام النظر في هذا الأمر ومازال به حتى تبين له أن أكثر من نصف اللغة التي كان يستعملها قدماء المصريين هي شبيهة بمثلها في العربية لفظا ومعنى، زد على ذلك أنها شبيهة بالعربية المصرية التي نستعملها اليوم، ولو أن العربية المعاصرة لقدماء المصريين والتي كانت تستعمل في سيناء وجزيرة العرب قبل أربعة آلاف سنة -أي قبل أن تتزين العربية بإعراب أواخر الكلم- دونت يومئذ في معجم، أو لو أن في جزيرة العرب نيلا كالنيل الذي في مصر يجلب إلى أهلها ثروة كالثروة التي كانت لفراعنة مصر فتمكنوا بهذه الثروة من إقامة أهرام وآثار ينقشون لغتهم عليها لثبت لأحمد كمال باشا ولكل إنسان على وجه الأرض أن لغة مصر القديمة هي لغة جزيرة العرب لا تختلف إحداها عن الأخرى إلا بالإمالات وبعض المترادفات فهما لهجتان من لغة واحدة كما هي الحال اليوم تماما بلا أدنى فرق. إن الإسلام أوصل العربية إلى أوربا وآسيا وأفريقيا، وكانت العربية

في بعض القرون لغة السوق والمدرسة في إسبانيا وإيران كما ترى هي لغة السوق والمدرسة في مصر والشام والعراق والمغرب. فلما ضعفت سلطة الدولة العربية تقلصت العربية عن البلاد غير السامية، ولكنها رسخت في البلاد السامية وصارت عنوان قومية واحدة من الموصل إلى رباط الفتح. بل إن "مينا" وهو عنوان مجد مصر الفرعونية رجل آسيوي جاء إلى مصر من آسيا. لا شك أنه جاء عن طريق سيناء العربية أو من جبال وأودية أخرى وراء سيناء وأعمق في العروبة، وماذا يمنع من القول بأن مينا ابن جزيرة العرب! إن جزيرة العرب تغذي مصر بأبنائها من قبل مينا، ومن بعد مينا ومن قبل عمرو بن العاص ومن بعد عمرو بن العاص، وأن فرعون نفسه كانت تجول في عروقه دماء غير قليلة من الدماء التي كانت تجول في عروق عدنان. ومصر تتكلم العربية منذ أربع عشر قرنا ومع ذلك لا يزال يوجد فيها من يريد أن يقول إنه غير عربي، وأكثر القائمين بالقضية التركية في الأناضول يرجعون أنسابهم إلى الجركس والكرد أو اللاز أو الأرناؤوط ولم يتكلموا التركية إلا من مائة سنة أو مائتي سنة بالأكثر ومع ذلك يعتزون بالتركية فهل مائة السنة أو المائتان كافية ليكون القوم هناك أوفياء للغة التركية إلى هذا الحد والأربعة عشر قرنا التي مضت على العروبة في مصر غير كافية لتجعل مصر -تعلن من غير خوف ولا إحجام- أنها عربية. إن الحلقوم الكبير الذي أراد منذ مائة عام أن يبتلع الشرق الإسلامي خاف هذه اللقمة وخاف أن يغص بها. فبث ببراعة مدهشة نزعة القوميات التي صدعت المجامع الإسلامية ومزقتها. ثم وقف أمام القومية العربية فهابها ورآها

لقمة من شأنها أن يغص بها. فاخترع ببراعة هذه الوطنيات بل حاول في بعض الأحيان تمزيق العربية نفسها بالدعوة إلى كتابة اللهجات العامية في كل قطر وجعلها لغات أدبية. "وهل إحياء عنوان "الأشوريين" في العراق بعد أن أماتته القرون وإحياء العرف البربري في شمال أفريقيا وتأليف كتب نحو وصرف للغة البربرية إلا حلقات من سلسلة برنامج مرسوم ونحن نضع أعناقنا في هذه السلسلة لنختنق بها. ونحسب أنها حلية نتجمل بها، وهل أنبه إلى أن الإدارة بفلسطين أرادت قبل سنين أن تحيي اسم "فينيقيا" وتطلقه على المقاطعة الشمالية الغربية هناك. اجتهد الإنجليز وصنائعهم من عهد بعيد أن يوهموا النشء المصري بأن وجود العربية والإسلام في مصر إنما هو احتلال كالاحتلال الفارسي واليوناني والروماني والفرنسي والإنجليزي. والمعنى الحقيقي للاحتلال أن تستولي دولة على بلد وتتصرف في مرافقه وتبقيه غريبا عنها، هكذا كان حال الفرس واليونان والرومان قبل دخول مصر في الإسلام، وهكذا كان حال احتلال الفرنسيين ثم احتلال الإنجليز فهم يترفعون عن الامتزاج بالأمة المصرية ولا يساوونها بهم ولا يخطر في بالهم أن يعتبروها منهم. أما العرب ففي عشرين سنة فقط اختلطوا بالمصريين واتحدوا معهم بالدين واللغة والثقافة وصار لهم وعليهم وتولى أبناء مصر جميع مرافق الحكم والإدارة. فالذي قال عن المصريين "أنهم خضعوا لضروب من البغض وألوان من العدوان جاءتهم من الفرس واليونان وجاءتهم من العرب والترك والفرنسيين ... إلخ فقد خالف الحقيقة بما نسب إليهم من ضروب البغض وألوان العدوان،

وإذا كان أراد المتصرفين في إدارة بعد ذلك مدة الأمويين والعباسيين والفاطميين فلا شك أن الذي كان يتولى ذلك في مصر إنما هم المصريون أنفسهم. ولقد قال جوستان لوبون: "ما عرف التاريخ فاتحا أرحم من العرب" لأن التاريخ ما عرف أمة تخلط الأمم وتجعل لها ما لها وعليها ما عليها كما عرف ذلك من العرب. 8- البلاغ، مكان مصر من العرب والقومية العربية. عبد القادر حمزة 1: الفكرة البارزة هي أن للمصري وطنا أول هو مصر ووطنا ثانيا هو القومية العربية وهذا تحديد نظن أن جميع المصريين يوافقون عليه في جملته ولكنهم يحبون أن لا يدخل عليه شيء من الغلو في جزئياته. لا نكران إذن أن العنصر السامي اتصل بمصر منذ آلاف من السنين وأن العرب لما فتحوا مصر أعطوها الدين الإسلامي واللغة والثقافة العربية ولكن لا نكران أن كل ذلك لا يسلخ المصريين من جنسيتهم المصرية وبيئتهم المصرية وتاريخهم المصري، فالمصريون على هذا مصريون بوطنهم وجنسيتهم وتاريخهم. وهم في الوقت نفسه عرب بدينهم وبلغتهم والهوى الصادق الذي يحملونه لإخوانهم العرب شرقا وغربا. ولكن من شاء أن يسمي القومية العربية وطنًا ثانيًا للمصريين بعد وطنهم مصر، ذلك ما لا تنازع فيه ولا مصلحة لنا في أن نتنازع فيه، ولكن على أن يكون مفهومًا أننا إذا ذكرنا وطننا الأول مصر لم يكن المعنى أن هذا

_ 1 البلاغ 13 سبتمبر 1933.

الوطن نشأ منذ الفتح الإسلامي فقط بل نشأ قبل ذلك بألوف السنين. فهذا المعنى كله هو مجموع الذكريات ومجموع الآلام والآمال التي يتألف من بعضها الوطن ويتولد الشعور الوطني. فالذي يريد من المصريين أن ينسبوا ماضيهم هذا البعيد وأن يقفوا منه عند الفتح الإسلامي وحده إنما يريد ظلما لهم وشططا وخروجا على القواعد الطبيعية. ولهذا لا نفهم هذه الكراهية التي تبدو على بعض دعاة العربية لذكرى الفراعنة يتحدث بها المصريون فيما يتحدثون عن ماضي بلادهم ويستلهمونها ما يلهمه كل ماض مجيد من سمو المطمح وعزة النفس ومضاء العزيمة. وهل يكون معقولا أن يشيد الأوربيون جميعا والأمريكيون أيضًا بهذا الماضي حتى ليأتون ألوفا كل سنة ليشاهدوا آثاره ... ثم ينكره المصريون أو يهملونه. لعل هذه الكراهية التي تبدو على بعض دعاة العربية لذكرى الفراعنة إنما تنشأ عن فهم أن تنسلخ عن هواها للعرب فهذا الخوف لا محل له بعد أن صارت مصر عربية الدين عربية اللغة منذ أربعة عشر قرنا. 9- ثقافة مصر هل تكون عربية أم فرعونية؟ 1، عبد الله عفيفي: طلعت علينا في الأيام الأخيرة فكرة ضارة تدعو إلى الفرعونية تريد لها أن تسود ثقافتنا وتفكيرنا قائلين أن ذلك هو مجد الخلود. وسؤدد الأجيال. وأن الرجوع بمصر وبأهلها إلى عهد الفراعنة الشداد ووثنيتهم البالية وهو سبيل القوة والعظمة ووسيلة الجاه والحياة وما دروا أنهم بذلك يطالبوننا بالجمود

_ 1 البلاغ 16 سبتمبر 1933.

والنكران لهذا التراث المجيد الطاهر الذي ورثناه عن آبائنا العرب الكرام والذي جاء يتوجه الدين الإسلامي الحنيف بسهولته وعظمته وبقوته السامقة التي أبادت دولا وثلت عروشا وحطمت تيجانا واكتسحت جيوش الأمم من حولها حتى نشرت بنودها الخافقة على مشارق الأرض ومغاربها فكانت بذلك رسالة مقدسة أنقذت العالم من شرور الطغاة وأذلت من جبروت المستبدين وأبادت عبادات لا يرضاها العقل ولا تتفق مع الكرامة وسمت بالإنسانية إلى ذروات المجد والعزة، فإذا بالبشر هو البشر والرجل هو الرجل والمرأة هي المرأة في منازل الحياة ينعمون بحقوقهم ويؤدون واجبهم نحو الخالق القاهر ونحو الجنس البشري يتجهون للعزة الإلهية بالتقديس والعبودية. 10- لا فرعونية ولا عربية بعد اليوم، فتحي راضوان 1: إذا قيل: أمصر فرعونية أم عربية؟ وجدت الباحثين لا يبحثون بوسائل الإثبات العلمية فرعونيتنا أو عربيتنا، أي غلبة الروح الفرعونية على الروح العربية في مصر بل يفاضلون بين مجد الأمتين ... ويقرنون الدين في هذه المفاضلة. فمن رأى منهم أن العرب أعظم مجدًا وأبقى على التاريخ قال: مصر عربية ومن آمن بالحضارة الفرعونية ورأى فيها أكمل الإنسانية قال: مصر فرعونية. فإذا دار البحث عن أي الأمتين أعظم أثرًا وأسمى رسالة: العرب الذين انطلقوا من شبه الجزيرة القاحلة الجرداء بعد أن كانوا تائهين في أعطافها وأطرافها يحملون مشعل الهدى ويهدون الأمم جميعا إلى الحق والخير ويبغون لقومهم بدين جديد. أم الفراعنة الذين حدثت في أرضهم أولى حضارات العالم ثم قويت حتى

_ 1 البلاغ 19 سبتمبر 1933.

سارت ثم انطلقت تعم الدنيا وتشمل العالم وتترك في كل قطر أثرًا وفي كل شعب آية من آيات عمقها واتساع مداها، إذا دار البحث حول هذه النقطة واتجه هذا الاتجاه ... كان واجب الباحثين أن يقصروا بحثهم على العرب لا على الإسلام ووجب أن يفاضلوا بين العرب قبل الإسلام وبعده لا العرب قبله فحسب. أما الذين يريدون أن يمزجوا العرب بالإسلام فهم يخطئون محجة الصواب لأنهم بذلك ينقصون من عظمة هذا الدين، الذي يكسب به السمو والشرف كل من انتسب إليه. ثم خلص من هذا إلى أن قال: الفرعونية والعربية موضوع يجب أن يهجر لأنه في جملته وتفصيله سبة وعار. عار أن يختلف المصريون هكذا في معرفة أصولهم وأنسابهم. عار أن يرتفع صوت كاتب عظيم ليقرر أن مصر فرعونية ويرتفع من الجهة الأخرى كاتب عظيم ليقرر أن مصر عربية, وكلاهما يعيشان في مصر ويستنشقان هواءها ويشربان من مائها. لا فارق بين الكاتبين، وإنما هناك شبهة دست علينا. ولا أدري من المسئول عنها؛ ولكن أغلب الظن أن المسئول هنا هم المستعمرون الذين يريدون أن يقسموا تاريخ مصر قسمين. فيفسدوا وحدة تاريخ هذه الأمة العظيمة ويقلبوا أبناءها إلى معكسرين يتناوشان ويتنازعان وتبدو منهما الألفاظ النابية والتلويحات الكريهة. وكان الأولى أن يتعاونوا على إبراز جلال هذا التاريخ.

11- الثقافة العربية والثقافة الفرعونية، زكي مبارك 1: مصر اليوم لغتها العربية ودينها الإسلام، فمن يدعوها إلى إحياء الفرعونية يدعوها أيضًا إلى نبذ اللغة العربية أو يدعوها إلى اعتقاد أن اللغة الغربية لغة دخيلة. ويدعوها أيضًا إلى أن تذهب مذهب الفراعنة في فهم الأصول الدينية. نحن اليوم في عهد انتقال ومن الواجب أن تكون خطواتنا رشيدة موفقة وليس من الرشد والتوفيق أن نمكن المترددين من المضي في غيهم، والمترددون في مصر هم الحيارى الذين لا يدرون مكان القومية المصرية فهم تارة فراعنة وتارة عرب. واللغة العربية هي لغة المصريين وكيف لا تكون كذلك وقد كانت أداة التفاهم في وادي النيل نحو ثلاثة عشر قرنا وقد يصعب على الباحث أن يثبت أن المصريين في عهود التاريخ ظلوا يتكلمون لغة واحدة في مثل هذا المدى من الزمان. ونحن حين نتكلم العربية وندين بالإسلام لا نحتاج من يذكرنا بأننا عرب، فنحن عرب لغة ودينا ولكننا مصريون وطنا والذي يطالبنا بغير ذلك إنما يكابر في الواقع وقد كان مفهوما منذ أزمان طويلة أن مصر لها وجود خاص وتاريخ العرب حافل بشواهد هذا القول. والمصري لا يمتنع من القول بالوحدة العربية. وهذه الوحدة تتمثل اليوم في الصلات الأدبية التي تجمع بين مصر وبين المغرب والشام والحجاز واليمن والعراق. أما الوحدة السياسية فأمل ضعيف.

_ 1 البلاغ 22 سبتمبر 1933.

وليس من النافع أن نسير في البقاع المصرية لنستقصي ما بقي من الموسيقى الفرعونية فهذه رجعة ضائعة النتائج وإنما الواجب أن ندرس الموسيقى الحاضرة، موسيقى الغرب المثقف ثم نضيف إلى أصواتنا وألحاننا ما يزيدها قوة إلى قوة. بينت أنه لا يربطنا بالعرب غير اللغة والدين، ونحن فيما عدا ذلك أبناء هذا الزمان. إي والله نحن أبناء هذا الزمان فلتكن ثقافتنا موجهة إلى الأصول الحديثة في العلوم والآداب والفنون، ولقد كان الفراعنة من أعرف أهل زمانهم بالطب ولكن من الخرق أن نفكر اليوم في تجربة وصفات المصريين. إن التطلع إلى الوراء محنة وصرف الوقت في التشبث بالمدينات البائدة خسار وضلال ولا ينبغي لنا أن نفكر في الحضارة القديمة إلا بقدر ما يوقظ العزة القومية. ومن الخرافات التي يرددها شباب اليوم أن مصر قد تكون عربية دينا ولغة ولكنها فرعونية دما. وهذه فكرة وهمية فإن مصر كانت قد اندمجت في القومية الإسلامية وصاهرت الناس من جميع الأجناس وهي بطبيعة موقعها الجغرافي ملتقى لأهل الشرق والغرب فليس فيها دم خالص إلا في القرى السحيقة التي حرمها الجهل والفقر من الاتصال بالوافدين إلى البلاد من مختلف الجنسيات. وبعد؛ فنحن نعيش في مصر ونتكلم لغة العرب وندين بالإسلام. 12- ثقافة مصر يجب أن تكون مصرية، زكي إبراهيم 1: كان من رأي الأستاذ عبد الله عفيفي أن تكون ثقافة المصريين عربية

_ 1 البلاغ 12 سبتمبر 1933.

وقد نحا في التدليل على صحة رأيه ناحية الدين الإسلامي ... واسترسل في هذه النعرة، نعرة الدين لكي يصل إلى قلب الجمهور. على أن القضية لا دخل للدين فيها مطلقا فالمسألة ثقافة، والثقافة كما فسرها حسن صبحي هي كل ما يحيط بالمجموع. هي الظاهرة المتأصلة في نفس كل منا. هي الطابع الذي يسم الأمة، ولكل أمة طابعها. وقد برهن حسن صبحي على أن للمصريين ثقافة خاصة نحسها في الغيط عند الفلاح وفي الطريق على ألسنة العامة ... وفي الريف، وفي الغناء والأنغام. إن لمصر ثقافة قديمة مازالت هي ثقافتها إلى اليوم فما معنى تغييرها وإبدال ثقافة عربية جديدة بها تحتاج في تعلمها إلى الوقت الطويل. لنا لغة خاصة مكتسبة من العربية، نعم إنها ليست عربية فصيحة ولكنها ليست فرعونية أيضًا. وليست مصر وحدها التي تدين بالإسلام فهناك الترك والفرس والهند والأفغان والكرد وغيرهم من الأمم، ومع ذلك لم يفكروا في تغيير ثقافتهم بثقافات عربية ولا في استبدال لغتهم بلغة عربية، بل لم يفرضوا تعليم أبنائهم العربية ونحن كباقي من ذكرت من الأمم لنا لغة وثقافة وطابع لن نستطيع عنها بديلا. على أن ليس المسألة فيها فرعونية ولا فرعون؛ لأنها هي: هل ينبغي للمصريين أن يكون لهم ثقافة مصرية خاصة وطابع مصري خاص؟ أو أن تكون ثقافتهم عربية. وأن يكونوا مطبوعين بالطابع العربي.

وما كان يدور بخلدي أن دعاة العربية سيتناولون المسألة عن طريق الدين فلقد بحت أصواتنا من قولنا "مصر للمصريين" فهل تريدون بعد ما عانينا من نصب وقدمنا من تضحية أن نقول "مصر للعرب" اللهم لا، فهذا ما لا يرضاه أحد. 13- مصر عربية ولن تكون غير ذلك، علي الجندي 1: الفرق بين الفرعونية والدين في الواقع كالفرق بين الموت والحياة، والعدم والوجود ... لقد انتهى هذا الصراع الأدبي بفوز العربية فوزًا ظاهرًا ولكن يؤسفنا أن أشياع الفرعونية لم يعترفوا بأنهم غلبوا على أمرهم. إن من الخير لنا أن نوحد جهودنا لترقية ثقافتنا العربية التي عرفنا بها وعرفت بنا، كرهنا أم رضينا بدل أن نسلك شعابا متباينة تستنفذ قوتنا ولا تفضي بنا إلا إلى الفرقة والدمار. ليست الثقافة كما يظنون ثوبا يلبسه صاحبه متى شاء ويخلعه متى أراد وإلا لكان من السهل على الأمم جميعا أن تصبح أسرة مؤتلفة متساوية الدرجة، ماذا تريدون بالثقافة الفرعونية؟ وأين هي؟ وماذا بقي منها؟ إن أشقاءنا العرب لا يسوموننا شططا، هم لا يحبون لنا أن ننكر أجدادنا الأُول أو أن نبرأ من ماضينا المجيد، لا يريدون منا أكثر من أن نكون مسلمين دينًا، عربا لغة، تظلنا الثقافة المتحدة وتجمعنا الآمال والآلام المشتركة،

_ 1 البلاغ 27 سبتمبر 1932.

لا يريدون أكثر من أن نكون عضوا عاملا في الجسم العربي القومي، لا بل رأسا لذلك الجسم أو قلبا له. أتريدون أن ننسى شعراءنا من المهلهل إلى شوقي، اكتفاء بشعر بنتاءور إن صح أنه من الشعراء، أتريدون أن ننسى أسماءنا ونتسمى برمسيس وتحتمس ... 14- مصر بين الفرعونية والعربية، مناظرة بين عبد الله عفيفي وحسن صبحي: 1- عبد الله عفيفي. نحن عرب: إن مصر الحاضرة عربية لا فرعونية، البلاد عربية لأن دينها الإسلام وقد أنزل القرآن الكريم باللغة العربية. الثقافة العربية عقيدة قوية تفيض بالحيوية وليست آتية من الفتح والغزو. ليس في تمسكنا بها غضا على مصريتنا، إذ إنها لقوتها وحيويتها؛ أن كثيرا من الأمم القوية أغارت على البلاد العربية ولكنها مع ذلك دفعت إلى التثقف بالثقافة العربية، وأستشهد على صحة ذلك بالحبشة حينما أغارت على بلاد اليمن وفتحتها بكثرة العدد وقوة العدد. فإنها اندمجت فيها وأصبحت خلية من خلايا الثقافة العربية, إنها هي الثقافة التي صمدت أربعة عشر قرنا في وجه الغزاة الفاتحين من الأمم القوية كالبربر والمماليك والأتراك مما يثبت قوتها وخلودها. والعربي الثقافة قوي بشمائله قوي بدينه يؤثر فيمن حوله مضطرًا إياهم إلى الاندماج في ثقافته. ما لنا نريد أن نتحول عن ثقافة تمتد حدودها حول ضفاف بحر الروم إلى

ثقافة عفت وبادت، إننا حين نوازن بين الثقافتين، نوازن بين وجود وعدم. وأستنكر هذا التمرد وهذه الشرعة في اعتزال عن العالم العربي وفي التي يقول بنوها: نحن عشراؤكم وإخوانكم وأنتم زعماؤنا. ونحن عرب بلغتنا وديننا، تربطنا وسائر إخواننا من بني الشرق آصرة الدين وآصرة اللغة وللدعوة إلى الفرعونية معناها قطيعة الإخوان وهي ضارة بالوطنية. أما هذه الصيحة المنافسة من وراء قبور الفراعنة فلا يجب أن يتأذى بها إخواننا لأن الإسلام واللغة والأدب عوامل قوية تحول دون تحقيقها. الحضارة الحديثة مدينة إلى اللغة العربية لأنها قرنت بين القديم والحديث. 2- حسن صبحي: الوجهة الفرعونية التي يجب أن تتجه إليها ثقافتنا: قالت البلاغ تلخص محاضرته: رجع إلى تاريخ مصر منذ 7 آلاف عام حينما كانت قبائل متفرقة جاءت من جهات متعددة ثم وحدتها الظروف المماثلة وأكسبتها ثقافة أخرجت لنا الحضارة المصرية الأولى التي أشرقت بنورها على ما عرف من العالم في ذلك الحين. وعرج إلى مصر وإنتاجها الفكري العظيم "هذا الإنتاج الذي نعرفه بالثقافة" فذكر كيف صمد -محتفظا بشخصيته- أحقابا وأجيالا طويلة تعاقبت على مصر خلالها غزاة وفاتحون "منهم الكلدانيون الذين أتوا من العراق ومنهم الملكة نفرتيتي وحاولوا أن يقضوا عليه فقضي عليهم وسرعان ما تحولت الموجة الفكرية الكلدانية إلى موجة ثقافية مصرية.

ومنهم الأشوريون، ومنهم الرومان المتعجرفون الذين أرادوا أن يؤثروا في الثقافة المصرية بقوتهم الغشوم فكان جزاؤهم الفشل والخذلان والطرد. وأخيرًا جاء العرب بثقافتهم الخاصة إذ كانت لهم ثقافة واندمجوا في الثقافة المصرية كالكرات الحمراء ودفعتها إلى التقدم والمدنية والرقي. ولكنها لم تتغلب عليها قط إذ إنها مازالت محتفظة بطابعها المصري حتى الآن في نواح متعدد من الحياة في مصر، ومن السهل على المرء أن يميز آثارها في البيت المصري الصميم وفي الأغاني الشعبية القومية العامية التي يرددها الفلاحون بل في اللغة العربية التي نتكلم بها الآن. وأن عشر اللغة التي نتكلم بها هيروغليفي، مثل نون الوقاية وكاف الخطاب والفعل أدى، فهذه كلها ألفاظ تعود بأصلها إلى الهيروغليفية. وانتقل إلى الثقافة المصرية الدينية فذكر أن المصريين نشئوا جاهلين كالعرب ولكنهم مع ذلك عبدوا الخالق في صور عديدة، ومعنى هذا أنهم عرفوا فكرة التوحيد في الإسلام وفكرة التثليث في المسيحية. وعاد فقال إن الأرغول والناي بشكل القيثارة والدف هذه كلها أدوات مصرية فرعونية قديمة. 15- لا فرعونية ولا عربية: محمد كامل حسين 1: ذهب بعضهم إلى أن هذه الثقافة يجب أن تكون فرعونية وقال البعض: إن ثقافة مصر يجب أن تكون عربية خالصة. أما هؤلاء الذين يريدون لمصر الثقافة الدينية فلا نتفق معهم أيضًا في

_ 1 كوكب الشرق 2/ 10/ 1933.

هذا الرأي، فطبيعة مصر تختلف اختلافا طبيعيا عن طبيعة بلاد العرب. والحياة المصرية، تختلف عن حياة العرب وللمصريين عقلية خاصة تختلف أيضًا عن عقلية العرب فكل الظروف تدل على أن المصريين يختلفون عن العرب في أشياء كثيرة وإن كان المصريون والعرب -كما يقول البعض- من أصل واحد إذ إنهم اتصلوا ببعض اتصالا يكاد تاما حتى حينما دخل العرب مصر وهاجرت قبائل عربية إليها واستوطنوا بها، نرى الحياة التي كانوا يحيونها قبل دخولهم مصر تتغير ويصبحون كالمصريين في كل شيء، والثقافة العربية نفسها التي حملوها إلى مصر اختلفت في كثير عن الثقافة العربية في البلاد الأخرى. ثم إن اللغة العربية التي يدرسونها لمصر محدودة لا تتعدى اللغة والشعر وبعض القصص، أما العلوم الأخرى من فلسفة ومنطق وغيرهما فلم يكن للعرب حظ منها وإنما عرفها المسلمون بعد الفتوح الإسلامية. كل الذين يسمون الثقافة الإسلامية بالثقافة العربية قد أخطئوا في هذه التسمية لأن هذه الثقافة اشتملت على علوم وأفكار ليست عربية في شيء كما أن القائمين بها كثرتهم من غير العرب. ولكن هذه الثقافة الإسلامية لا تكفي وحدها لأن تكون ثقافة مصر بعد أن رأيت هذا الجمود الذي حل برجال الأزهر نتيجة اتخاذهم الثقافة الإسلامية وحدها دون غيرها. ثم عمدنا إلى الثقافات الأجنبية المختلفة التي كلف بها المصريون وأحبوها.

16- هذا الوطن المصري، سلامة موسى: لسنا في دعوتنا إلى درس الفراعنة رجعيين، لا بل نحن ندرس هذه الحضارة بروح يقرب جدًا من الروح الديني فإننا نزداد صلاحا بهذا الدرس إذ نجد فيها الأسباب الكبيرة لأن يحب بعضنا بعضا. فنحن أسرة قد عشنا في هذا الوادي أكثر من عشرة آلاف سنة وليس فينا مصري واحد كائنة ما كانت البقعة التي يعيش فيها إلا وفيه قطرة من الدم الذي جرى في رمسيس وخوفو ومنقرع وأخناتون. ولكن بعض الناس يتهموننا بما يسمونه "الفرعون" وهذه اللفظة لم تجر قط على قلم واحد من الكتاب المصريين في صدد الدفاع عنها وإنما هم اخترعوها لكي يشتمون بها، وقد بلغ السخف بأحدهم أن يقف في منبر مصري ويشتمنا على هذه الفرعونية المزعومة ويسب الفراعنة. وهم يقصدون بالفرعونية أننا نريد أن نجحد العرب ونرجع بالناس إلى ديانة الفراعنة وأنظمتهم، وهذا سخف لا يعرفونه هم أنفسهم ولكنهم يتوسلون به للطعن فينا. ثم يدعون علينا الدعاوي في الكراهية لوحدة العرب بل يتهموننا بخدمة الاستعمار بتفتيت الوحدة. وليس في العالم كله صحف تدافع عن الأقطار العربية وتعنى بأخبارها كالصحف المصرية، ولكن مجهود هذه الصحف لا يعترف به إذ هي لا تكتب في الليل والنهار عن الوحدة العربية ولا تنغمس في دعاية تعترف أنها تعد الآن سخيفة وأن الوقت لم يحن لها.

كلا أيها الإخوان لا تلوموننا على الزهو بالفراعنة لأن لنا حقًا في هذا الزهو يعترف به العالم كله. 17- عربية مصر، سعيد حيدر 1: أريد أن أطمئن الأستاذ صاحب البلاغ أن دعاة القومية العربية لا يسيئهم ولا يضيرهم مطلقا أن تستلهم مصر -في جهودها لتبوئ مكانتها السامية بين الأمم- مجد الفراعنة. لأن هؤلاء الدعاة يعلمون أن كبار علماء الآثار والعاديات يكادون يجمعون على أن أصل الفراعنة ومنشأهم بلاد العرب وأن مباحث اشتقاق اللغات تكاد تقرر أن لغة الفراعنة واللغة العربية شقيقتان، وأن المصريين القدماء والعرب سامية وأن الهكسوس عرب خلص. إنما الذي يسيء دعاة القومية العربية ويضيرهم هو سعي بعض أعلام الكتاب في مصر لإسدال ستر النسيان على تراث مصر من مجد آبائهم من العرب، ذاك المجد الخالد الذي قد لا يضاهيه مجد آخر ولا يضارعه حافز نحو العلاء وانصرافهم بكليتهم إلى ادعاء فرعونية مصر، والقول بأن العرب غرباء أجانب جاءوها غزاة فاتحين فأضروا بها وأخروها من سلم الحضارة العالمية أحقابا مما لا يتفق مع التاريخ والعلم ومصلحة مصر، حيث يبذرون بذور الكراهية والبغضاء بين الأخوة الأشقاء. وحين شرع أعلام الكتاب في مصر يترنمون بمجد العرب الخالد والحضارة الإسلامية الزاهرة ويمزجون بين هذا ومجد الفراعنة لاستثارة حماسة الشباب المصريين وتوجيه مطامحهم نحو العلاء فلم يبقَ بينهم وبين دعاة القومية أي خلاف.

_ 1 البلاغ 10/ 9/ 1933.

يكاد يحار المرء في إدراك المصلحة التي ينشدها لمصر دعاة الرجوع إلى الفرعونية والجنوح عن العربية، ماذا عساها تكون؟ أظن أن التجارب القاسية التي مرت بمصر أقنعت العقلاء والمفكرين بأن الاتجاهات الإقليمية لن تؤدي إلى حسن النتائج. وأن اتجاها مصريا واتجاها سوريا وآخر عراقيا وهلم جرا لن يصل بنا إلا إلى الفشل المرير وأن النجاح مضمون حين نجتمع على اتجاه عربي شامل. إن علماء الاجتماع وعلماء الحقوق والمؤرخين نبذوا منذ سنين نظرية الدم والعرق في التعرف على القومية وقالوا بوحدة اللغة ووحدة الثقافة والدين وتماثل الأخلاق والعادات والتقاليد ... فهل بين هذه الصفات ما يكذبنا إذا ادعينا أن مصر عربية في نظر العلم أيضا؟ 18- عربية أم فرعونية، "حسن عارف 1 ": الواقع أن الدعوة العربية حديثة جد الحداثة لم يقل بها النبي الكريم ولم تتواتر على الألسنة ولم تطرق ذهن رجل كجمال الدين أو الإمام والواقع أنها فكرة نشأت غامضة مبهمة مكبوتة حائرة في نفوس الشعوب العربية حين كانوا يأتمرون بها ويعصفون بكرامتها وعواطفها، وحين كانوا يعلنون أن العرب جنس خلق ليحكم ويجلد ويعامل معاملة الأنعام وحين شعرت الأمم العربية أن الترك لا ينظرون للخلافة على أنها رمز الوحدة الإسلامية حيث يتآخى الكل وحيث لا فضل لتركي على عربي. فأين مصر من هذا كله؟

_ 1 البلاغ 11 أكتوبر 1933.

كرم ملحم كرم، صاحب العاصفة "بيروت"1: الرغبة في رؤية الكتاب المصريين في الصف الأول حملت جريدة العاصفة على أن تحذرهم من داء كمن في نفوس بعضهم. وكانت مقاطعة السوريين لمؤلفات طه حسين ومناداتهم بإحراقها؛ فوقفت منذ تلك الدعوة المقاطعة موقفا حملنا على الميل إلى الصفاء والسلام، وقلنا للغاضبين لماذا إحراق الكتب وفي إحراقها دليل على التقهقر والتأخر فاكتبوا إلى الرجل واطلبوا منه الاعتذار، وفي اعتقادي أنه سيعتذر عن خطأ لم يقصده وإلا فالمجال أمامكم فسيح لا لإحراق كتبه بل للامتناع عن شرائها وقراءتها. هذا ما قلناه والدكتور طه حسين اعتذر بمهارة وحذق. نعم؛ نحن تمادينا فيما كتب عن إحراق كتب طه حسين وقلنا: إن بعض الكتاب المصريين يتناسى حيث يكتب أن هناك شعبًا غير الشعب المصري مع أن هناك في العالم العربي البلدان الوسيعة وفي كل منها أدباء لا يقلون عن الأدباء المصريين شأنا. ولو اتفق لهؤلاء أن يقيموا في بيئة كالبيئة المصرية لمشوا في الصف الأول من صفوف أدباء العرب2.

_ 1 البلاغ 23/ 10/ 1933. 2 تعليق: هذا العرض يدل على شيء واحد. وهو مدى، أحدث الاستعمار في مصر من بلبلة للأقطار بين الشرقية والفرعونية والإسلامية والعربية والإقليمية والشعوبية والتغريب وذلك حتى تظل محجوبة عن الاتجاه الواضح الصحيح وذلك في نفس الوقت الذي كانت الأمة العربية تتطلع إلى "مصر" كمركز لقيادة الحركة العربية ولكن هذه الهزة كانت بمثابة يقظة وتطلع وكانت دفعة للسير في الطريق الواضح وهزيمة لدعاة الشعوبية الذين تساقطوا من بعد كأوراق الخريف ثم لم يلبث الاتجاه العربي أن أصبح حقيقة واقعة.

إن مصر لم تقل يوما: إنها عربية بل قالت: إنها إسلامية، وظلت ساخطة على الترك متبرمة من تعسفهم وجهل أحوالهم ورجالهم ولكنها لم تربط سخطها على الترك بسخط أمة أخرى ولم تلج باب الوحدة العربية علمًا منها بأنها ليست عربية. وحين ثار في مصر عرابي لم يقل بالعربية بل كان شعاره مصر للمصريين. ولما دخل الإنجليز مصر وأوهنوا حريتها كان الناقمون على الإنجليز ينادون بالفكرة الإسلامية لا العربية. ونخرج بك الآن إلى الغرض الذي ترمي إليه الدعوة العربية. ذلك أن هذه الدعوة لن تضر البلاد العربية شيئًا؛ لأن فيها أمة عربية لها معالم ومظاهر تميزها عن غيرها تمييزًا محسوسا، وفخر هذه الأمة بتاريخها ومدنيتها وثقافتها أمر طبيعي يزيد ثقة في مستقبلها ويمهد الأمل ويفتح لها الطريق، ولكنها تضر مصر ضررا بالغًا، فمصر تتكلم العربية وتدين بالإسلام ولكنها تختلف عن العرب في كل شيء. أما الذين يدعون إلى الفرعونية فأسألهم: ماذا يريدون؟ فصحيح أن مصر كانت فرعونية وصحيح أن هناك بقايا كثيرة جدا من الحضارة الفرعونية تطفو على سطح العادات المصرية القديمة. ولكن علام يدل كل هذا؟ وما الفائدة من تكراره، والتكالب عليه وبعثه إلى الوجود؟ لا فرعونية ولا عربية. نريد اتجاها جديدًا مستقلا عن كل نفوذ أجنبي والعربية نفوذ أجنبي أي خارجي من حيث المكان، والفرعونية نفوذ أجنبي أي خارجي من حيث الزمان.

مصر بين العربية والفرعونية

مصر بين العربية والفرعونية: معركة بين هيكل والزيات: بدأت معركة "العربية والفرعونية" بمعركة الأدب القومي وتعزيز "المصرية" وحملت لواءها بعض الصحف وفي مقدمتها جريدة السياسة ومجلة السياسة الأسبوعية، ودافع عنها هيكل وطه حسين ومحمد عبد الله عنان وسلامة موسى. كانت مصر في فترة التطلع إلى هدف، وكان الاستعمار الفكري من وراء بلبلة الثقافة المصرية إنما يبعدها عن مجال الدعوة إلى القومية العربية بدعاوي الاعتزاز بالمصرية والتاريخ المصري القديم، وكان ظهور بعض الآثار الفرعونية في هذه الفترة كقبر توت عنخ آمن "1933" وغيره من المغريات له أثره في بروز هذه الدعوة؛ دعوة المصرية التي تحولت بعد قليل إلى دعوة تغليب الفرعونية على العربية. وقد اتجهت مجلة السياسة الأسبوعية إلى إنشاء جماعة للدعوة إلى الأدب المصري، ثم لم يلبث الدكتور هيكل أن حمل لواء الدعوة إلى الفرعونية، وقد ظهرت في هذه الفترة كتابات متعددة تحاول إحياء الأدب الفرعوني القديم على أنه تراث فكري كما فعل حسن صبحي بكتابه أوراق البردي وكتاباته الأخرى، ثم اتجه الدكتور هيكل إلى حمل لواء الدعوة لا إلى الفرعونية في مصر، بل إلى أن يقوم كل قطر عربي بالبحث عن تاريخه القديم وذلك بإحياء البابلية والأشورية وغيرها. ولم يقف كتّاب الأمة العربية صامتين أمام هذا التيار بل شاركوا فيه وعارضوا الفكرة وأظهروا جوانب الخطأ فيها. 1- المصرية؛ تراث قومي أثيل لمصر: محمد عبد الله عنان. ملحق السياسية الأسبوعية "14 أكتوبر 1932": من الطبيعي أن تكون الفكرة القومية في مصر أثيلة في مصريتها وأن تكون هذه المصرية المؤثلة رمزا لكل مظاهر الطموح المصري في جميع ميادين الحياة العامة وأن تتقدم كل ما عداها من الفكر والمظاهر، ولم يقف هذا الروح عند الجهاد الوطني ولكنه شمل التفكير والأدب بطبعها لون عميق من المصرية فأصبحت تمتاز رغم كونها عربية إسلامية بخواص تميزها عما عداها. ومصر اليوم تحمل لواء الزعامة والقيادة في إحياء تراث التفكير

الإسلامي ولكن فهم القومية المصرية على هذا النحو لا يروق لبعض المفكرين من إخواننا في البلاد العربية، فهم يأخذون على مصر أنها تغلو في مصريتها ويقولون: إنها بذلك تخرج من حظيرة الأمة العربية مع أنها ليست إلا واحدة منها. وفي حين أن هذه الأمم تتوق كلها إلى الالتفاف من الوجهة العامة حول لواء واحد لتكون في ميدان النضال السياسي والفكري كتلة موحدة من بعض الوجوه، فانسلاخ مصر عن هذا الاجتماع بدعوى أنها فرعونية أو مصرية يضعف هذا الاجتماع ويضعف نهضة الأمم العربية في سبيل حرياتها السياسية وتقدمها الفكري والاجتماعي. ويعبر البعض عن مثل هذا الاندماج في الفكرة العربية بالجامعة العربية التي أصبحت الدعوة إليها ظاهرة بارزة في الحياة العامة بفلسطين وسوريا والعراق وأحيانا تبدو الدعوة إلى العروبة وما إليها من الفكر التي يحمل لواءها أنصار الجماعة العربية أيضًا، ويدعو إليها في مصر بعض المصريين أو المتمصرين القلائل. والدعوة إلى الجامعة العربية شاملة فيما نفهم، يقصد بها إلى نوع من التضامن العام بين الأمم العربية سواء في الخطط والجهود السياسية والاقتصادية أو الاجتماعية والفكرية. وأحيانا تتخذ صورة الدعوة إلى اندماج فعلى بين أمتين أو أكثر من الأمم العربية، كما تسفر أحيانا عن بعض المشاريع السياسة العامة كمشروع الحلف العربي الذي تكررت الدعوة إليه آخرًا. ولقد صرحنا برأينا أكثر من مرة في شأن فكرة الجامعة العربية. فهي على ما يصورها الغلاة من دعاتها في نظرنا أمنية خيالية لا تقوم على أية أسس أو تقديرات عملية، وقد تكون مثلا أعلى يرجع بالأذهان إلى عصور المجد التي جمعت بين جميع الأمم العربية تحت خلافة أو سلطنة إسلامية واحدة، فلها

بذلك روعتها، ولكنها مع ذلك سراب تبدده الحقائق والظروف الواقعة. بل إن التعلق بها ضار في نظرنا بجهود الأمم العربية بما قد ينبه إليها من الوهن المترتب على إغفال الحقائق. على أننا نسيغ هذه الجامعة العربية بمعنى أدق وأكثر تحديدًا هو تقوية الروابط الفكرية والاجتماعية بين الأمم العربية وتنظيمها وتوجيهها إلى ما يرفع روح هذه الأمم وعقليتها ويصقل تفكيرها وهمها. وهنا تعرض مسألة القومية المصرية بصورة بارزة فمن الخطأ البين أن تنضم مصر في سلك البلاد العربية، إذا تعلق الأمر بالناحية القومية، فالقومية المصرية قديمة وأثيلة، وقد وجدت الأمة المصرية منذ أقدم عصور التاريخ واقترن اسمها بحضارة من أقدم وأمجد الحضارات. فلما جاء الفتح الإسلامي، وكانت مصر ولاية رومانية ولكنها كانت أمة فورثت من غزاتها الجدد: الإسلام واللغة العربية، ولكنها حافظت على خواصها القومية ونشأت في ظل الإسلام أمة مصرية مسلمة عربية لا بخواصها الجنسية ولكن فقط باللغة التي تنطق بها ولم تفقد قط شخصيتها المصرية في ظل الدول الإسلامية المختلفة. هذه "المصرية" هي في الواقع دعامة شخصيتنا القومية فلسنا نفهم كيف ينكرها علينا بعض إخواننا من العرب؟ وكيف يتخذونها مثارًا للانتقاص من موقف مصر إزاء الأمة العربية؟ وهي ترى من وراء محيط العربية أو العروبة الضيق محيطا أوسع وأبعد مدى هو محيط الأمم الإسلامية. أما العمل تحت لواء العربية أو العروبة فأصلح ما يرتبط في نظرنا بالجانب الفكري والاجتماعي.

2- مصر القديمة ومصر الحديثة، هيكل: وكتب1 الدكتور هيكل: تعليقا على كتاب حسن صبحي "قصص البردي" فقال: بين مصر الحديثة ومصر القديمة اتصال نفسي وثيق ينساه كثيرون ويحسبون أن ما طرأ على مصر منذ عصور الفراعنة من تطورات في نظم الحكم وفي العقائد الدينية وفي اللغة وفي غير ذلك من مقومات الحياة، وقد فصل بين هذه الأمة الحاضرة وبين الأمة المصرية القديمة فصلا حاسمًا جعلنا إلى العرب أو إلى الرومان أقرب منها إلى أولئك الذين عمروا وادي النيل في ألوف السنين التي سبقت المسيحية. فكيف ترى المصريين الذين يتكلمون العربية المصرية اليوم، والذين يتصورون الأشياء على ما تريدهم لغة العرب أن يتصوروها، تتصل حياتهم النفسية فيما يتعلق بالتصور والخيال بحياة الذين كانوا يتكلمون الهيروغليفية بما كانت تحمله ألفاظها وعباراتها المتوارثة إلى القلوب والعقول من صور. لا سبيل إلى إنكار ذلك الاتصال النفسي الوثيق الذي يربط تاريخ مصر منذ بدايته إلى عصرنا الحاضر وإلى آخر العصور المستقبلة التي يمكن أن يعرفها التاريخ ولئن تبدلت أسباب العيش ما تبدلت. فسيبقى أبدًا هذا الاتصال النفسي الوثيق الذي يجعل من مصر وحدة تاريخية أزلية خالدة فيما يصل إليه عقلنا من تصور الأزل والخلد مادام النيل ومادامت سماء مصر ومادامت هذه الطبيعة الباقية في هذا الوادي، ومادام ناس يعتمدون فيه على ما يورث

_ 1 السياسية الأسبوعية 27 نوفمبر 1926.

الأجداد والأحفاد مما سكبته طبيعة الوادي في وجودهم من حياة نفسية. كلنا صفق طربا لاكتشاف آثار توت عنخ آمون، وكلنا ملأ ماضيه فخرا بمدينة هذه الأسرة الثامنة عشر الفرعونية على ما بيننا وبينها من آلاف السنين. وإذا كان لنا من آثار الأقدمين المتصلين بنا هذه الصلة النفسية الوثيقة ما يطوع لنا أن نجدد مصر القديمة كما جدد الغربيون اليونان والرومان، وكان لنا من وراء ذلك مطمع في أن نقر في مصر حضارة قوية متينة كالحضارة التي أقرها الغربيون في أوربا فمن الجريمة على أنفسنا وعلى الوطن أن ننهى عن ذلك أو نقصر فيه أي تقصير، والسبيل إلى ذلك كله هو البحث عن موضع الاتصال بين مصر القديمة ومصر الحديثة في ميادين الأدب وكتبه والعقائد وطقوس العبادة. 3- وكتب الدكتور حسين هيكل، ملحق السياسة "29 سبتمبر 1933": بينما كنت في لبنان في شهر يوليو الماضي قصد إلي صحفي يتحدث في شئون وفي أخرى وكان من بين ما سألني عنه هذه "الفرعونية" التي أدعو إلى بعثها في الأدب وفي غير الأدب. وقد كان يبدو عليه شيء من الإنكار للفكرة الغربية التي تشغل أذهان رجال الشرق العربي وقلوبهم جميعًا، ولأنها فيما يقول لا فائدة منها بعد أن غزا الإسلام بلاد هذا الشرق العربي فعفى فيها على كل أثر قبله. وأحل بها حضارة جديدة لا صلة بينها وبين ما سبقها من الحضارات.

ولقد كنت أسمع لزميلي وهو يحدثني معترضا على فكرتي في كثير من الرفق والإشفاق على ما نسميه الحقائق. وبينما كنت أسمع كنت أذكر ما ثار في وجه هذه الفكرة بالذات من اعتراضات عنيفة في بلاد الشرق العربي المختلفة بل في مصر نفسها. ما رميت به هذه الفكرة من مقاصد مستترة لم تجل بخاطري يوم دعوت إليها. فقد اتهمنا بأنها ترمي إلى فصل مصر عن الكتلة العربية حينا وعلى فرض زعامة مصر على الكتلة العربية حينا آخر. وإلى محاربة الفكرة الإسلامية والحضارة الإسلامية تارات. وكنت أذكر كذلك أن العالم الفيلسوف يهوذا تحدث إلي في شأن هذه الفكرة سنة 1929، وسألني عما أقصد إليه منها حاسبًا أنني أريد أن تحيا مصر في هذا القرن المسيحي حياة مصر منذ خمسين قرنا مضت، تعيش كما كان الفراعنة يعيشون، تؤمن بما كان الفراعنة يؤمنون، وتفكر كما كان الفراعنة يفكرون، وهم بعد أن تذوقوا الحرية الفكرية والحضارة العلمية لن يستطيع أحد أن يقيد أفكارهم أو يردهم إلى حضارة الخضوع والإذعان. إنني حين أدعو المصريين إلى هذا إنما أراه واجبًا قوميًا يجب أداؤه في البلاد المختلفة بالدعوة إلى مثله وبتفسير قليل يقنع بأن تطبيق هذه الفكرة في بلاد الشرق العربي يؤدي إلى نتيجة هي خير النتائج، وبودي أن يصل أهل الشام حاضرهم بماضيهم منذ عهد الفينيقيين وإلى أن يصل أهل العراق حاضرهم بماضيهم إلى عهد آشور وبابل. ليست الدعوة لدراسة تاريخ مصر الفرعونية مقصودًا بها رد التاريخ على أعقابه ليصب في منبعه ولا هي مقصود بها إلى الإعراض عن دراسة تاريخ الشرق في مختلف عصوره.

أما القول بأن الدعوة إلى إحياء الفرعونية في الفن والأدب وما سواهما من ميادين الحياة إنما يقصد بها إلى أن تحيا مصر اليوم كما كانت تحيا مصر الفراعنة فإن ذلك محاولة المستحيل لأنها محاولة رد التاريخ القهقرى وصد تياره ليكر راجعًا إلى المنبع بدلا من أن يظل مندفعًا نحو المصب. ولكن ثمة حقيقة ليست أقل من هذه وضوحًا وقوة؛ تلك أن كل حاضر لا يتصل بماضيه لا مستقبل له. لا أقصد إلا أن يتصل الروح المصري الحديث بالروح القديم وأن يتابع هذا الوحي على تعاقب العصور من بعد الفراعنة أثناء حكم البطالسة وأثناء العهد الروماني في مصر. وأثناء أطوار الحياة المختلفة التي تعاقبت على مصر الإسلامية إلى عصرنا الحاضر وما يخالجني ريب في أن كل اتصال بين روحنا اليوم وبين روحنا في مختلف العصور يضاعف قوتنا وحيويتنا ويسمو بروحنا إلى مقام البقاء والخلود. 4- وكتب محمود سيف الدين الإيراني في "السياسة الأسبوعية" 3 فبراير 1933 يرد على هيكل: هذه الدعوة التي يبذل كثير من المفكرين في مصر في سبيل تعميمها، وتوجيه الأذهان إليها جهودًا كبيرة، وكيف تتلقاها الأمم في بلاد الشرق العربي وكيف تنظر إليها باعتبارها موجهة إليها. الحق أن هذه الدعوة تعتبرها الأمم في بلاد الشرق العربي صدمة قوية لشعورها وترى أنها تحمل في أطوائها معاني الاستخفاف والرغبة في الانسلاخ عن كل ما هو عربي ومعاني النكران والإهمال لكل ما تمحض هاته الأمم مصر من عطف وحب

إلى حد الاهتمام بكل ما جل ودق من شئونها، ثم هي ترى أن في الفكرة تطرفًا وغلوًا وأن من حقها أن نتناول بالتمحيص كل ما يتخذه الداعون إلى هذه الفكرة. وأول ما يلمس المتأمل لهذه الأبحاث التي تدور حول هذه الفكرة هو هذا الاندفاع من جانب يتولى قيادته الأستاذان عبد الله عنان وسلامة موسى، ثم فريق آخر متريثا متمهلا على رأسه طه حسين وهيكل. 5- وكتب أحمد حسن الزيات في "مجلة الرسالة" أول أكتوبر 1933: عفا الله عن كتابنا الصحفيين! ما أقدرهم على أن يثيروا عاصفة من غير ريح ويبعثوا حربا من غير جند، أفرعونيون نحن أم عرب؟ أنقيم ثقافتنا على الفرعونية أم نقيمها على العربية؟ نعم؛ قالوا ذلك القول وجادلوا فيه جدال من أعطى أزمة النفوس وأعنة الأهواء. ثم اشتهر بالرأي الفرعوني اثنان أو ثلاثة من رجال الجدل وساسة الكلام. فبسطوه في المقالات وأيدوه بالمناظرات. ورددوه في المحادثات. حتى خال بنو الأعمام في العراق والشام أن الأمر جد، وأن الفكرة عقيدة. وأن ثلاثة من الكتاب أمة، وأن مصر رأس البلاد العربية قد جعلت المآذن مسلات والمساجد معابد. والكنائس هياكل. والعلماء كهنة. لا نريد أن نحاجهم بما قرره المحدثون من العلماء من أن المصرية الجاهلية تنزع بعرق إلى العربية الجاهلية فإن هذا الحجاج ينقطع فيه النفس ولا ينقطع به الجدل. وكفى بالواقع المشهود دليلا وحجة. وهذه مصر الحاضرة تقوم على ثلاثة عشر قرنًا وثلثا من التاريخ العربي

نسخت ما قبلها كما تنسخ الشمس الضاحية سوابغ الظلال. أزهقوا إن استطعتم هذه الروح، وامحوا ولو بالفرض هذا الماضي، ثم انظروا ماذا يبقى في يد الزمان من مصر, وهل يبقى إلا أشلاء من بقايا السوط. وأنضاء من ضحايا الجور. وأشباح طائفة ترتل "كتاب الأموات" وجباه ضارعة تسجد للصخور، وفنون خرافية شغلها الموت حتى أغفلت الدنيا وأنكرت الحياة. لا تستطيع مصر الإسلامية إلا أن تكون فصلا من كتاب المجد العربي لأنها لا تجد مددًا لحيويتها، ولا سندًا لقوتها، ولا أساسًا لثقافتها، إلا في رسالة العرب. أنشروا ما ضمت القبور من رفات الفراعين، واستقطروا من الصخور الصلاب أخبار الهالكين، وغالبوا البلى على ما بقي في يديه من أكفان الماضي الرسيم، ثم تحدثوا وأطيلوا الحديث عن ضخامة الآثار وعظمة النيل وجمال الوادي وحال الشعب، ولكن اذكروا دائمًا أن الروح التي تنفخونها في مومياء فرعون هي روح عمرو، وأن اللسان الذي تنشرون به مجد مصر هو لسان مضر، وأن القيثار الذي توقعون عليه ألحان النيل هو قيثار امرئ القيس. وأن آثار العرب المعنوية التي لا تزال تعمر الصدور وتملأ السطور وتغذي العالم، هي أدعى إلى الفخر وأبقى على الدهر وأجدى على الناس من صفائح الذهب وجنادل الحجارة. وبعد فإن ثقافتنا المدنية إنما تقوم في روحها على الإسلام والمسيحية، وفي آدابها على الآداب العربية والغربية، وفي علمها على القرائح الأوروبية

الخاصة. أما ثقافة البردي فليس يربطها بمصر العربية رباط، ولا بالمسلمين ولا بالأقباط. 6- وكتب "أبو الخطاب، يافا" يرد على هيكل في "السياسة الأسبوعية": كنت أزعم أن نصيب دعاة الفرعونية بعد جهاد طويل ومحاولات عنيفة أن انشق عليهم من كان أكثرهم للدعوة تحمسا وأبرعهم دعاية وأبعدهم أثرًا وهذا الأستاذ محمد عزمي ينقلب من فرعوني متعصب إلى عربي صميم يصدر في قلب لندن جريدة دعاها "العالم العربي" وكلها عطف على سوريا واهتمام بالعراق. كنت أزعم هذا كله، وكنت جد مؤمن بحقيقة ما أزعمه وقد زادني الأستاذ الكبير إبراهيم المازني وثوقا بمزاعمي وارتياحا إليها عندما التففنا حوله نسائله عن الفرعونية فيجيب بأنها عاصفة في فنجان لا يجدر بنا أن نوليها هذا الاهتمام وأن نخافها هذا الخوف. إذن: فالدعوة الفرعونية باطلة كدعوة قومية والجدال حولها مهما كان عنيفا فهو عنف من غير طائل، صاخب من غير حاجة إلى الصخب إذ لا أصل له ولا يقوم على أساس من المنطق ولا تضرم نيرانه الحقائق العلمية، فليصخب دعاة الفرعونية ما يصخبون، فما أحسبهم راجعين إلى رمسيس وأمنحوتب وهاتور يستوحونهم الفلسفة ويستلهمونهم الدين ويتلقون عنهم العلم ويتذوقون منهم الأدب ويستصدرون عنهم الثقافة. وما أحسبهم كافة منسلخين عن العرب والشرق ومتنكرين للعرب والشرق، يطمعون في حياة

سياسية واجتماعية منفصلة عن الأقطار العربية كل الانفصال، منقطعة عن العراق وسوريا كل الانقطاع وإذا أرادت هي هذا الانقطاع فلن تسعفها الظروف ولن يستقيم لها الانفصال. لماذا ترى مصر تعود إلى الفراعنة إذا ما أرادت وحدة روحية قوية تنتظم الحاضر والمستقبل وتدفع الناس إلى حضارة تتضاءل أمامها الحضارات التي عرفت حتى اليوم. ولكن حتى دعوة مصر الحديثة إلى العودة إلى مصر الفرعونية دعوة باطلة في أساسها، فإن مصر اليوم عربية دينًا ولغة وثقافة وجدير بثلاثة عشر قرنًا وثلث قضاها العرب في مصر أن تجعل مصر عربية الروح، مضرية اللسان، محمدية الدين وجدير بالأزهر أن يزري بالكرنك والأهرام وجدير بدار الكتب أن يكف نورها بقايا من الآثار والمومياء والأكفان طريحة في دار الآثار. تعليق: تحول الدكتور "هيكل" عن رأيه في "الفراعنة" وأعلن صراحة في مقدمة كتابه "منزل الوحي" أنه لم يجد هذه الدعوة محققة لهدفه في بعث مصر فتحول عنها.

معركة العروبة والمصرية

معركة العروبة والمصرية: بين ساطع الحصري وطه حسين: عاد الدكتور طه حسين عام 1938 مرة أخرى إلى معارضة القومية العربية والسخرية بالوحدة العربية عندما أدلى بتصريحات إلى مجلة المكشوف اللبنانية في حديث جرى بينه وبين بعض الشباب العرب ويحمل هذا الحديث: - إن الفرعونية متأصلة في نفوس المصريين وأنها ستبقى كذلك بل يجب أن تبقى وتقوى. - إن المصري مصري قبل كل شيء فهو لن يتنازل عن مصريته مهما تقلبت الظروف. ولا تصدقوا ما يقوله بعض المصريين من أنهم يعملون للعروبة فالفرعونية متأصلة في نفوسهم، وستبقى كذلك. - إن الأكثرية الساحقة من المصريين لا تمت بصلة إلى الدم العربي بل تتصل مباشرة بالمصريين القدماء. - إن تاريخ مصر مستقل عن تاريخ أي بلد آخر. - لو كان للغة وزن في تقرير مصير الأمم لما كانت بلجيكا ولا سويسرا ولا البرازيل ولا البرتغال. وقد رد عليه ساطع الحصري ردًا علميا مقنعا عجز أمامه طه حسين أن يرد واكتفى بأن نشر فصلا من كتابه "مستقبل الثقافة" ... وكتب الدكتور طه مرة أخرى آراءه بصورة وبأخرى وبثالثة وفي كل مرة كان يجد الرد من كتاب العالم العربي الذين كالوا للدكتور طه بالباع باعين وفندوا آراءه ومزقوها شر ممزق، وهذه ملامح المعركة: مصر والعروبة، من ساطع الحصري إلى طه حسين 1: أيها الأستاذ: نشرت مجلة المكشوف البيروتية حديثا جرى بينكم وبين جماعة من شباب العرب على ظهر باخرة تمخر عباب البحر الأبيض المتوسط، قلتم في خلال هذا الحديث: إنكم تنادون بتوحيد برامج التعليم في جميع الأقطار العربية وتسهيل

_ 1 19 ديسمبر 1938، مجلة الرسالة.

التبادل الثقافي بينهما وترون "من المفيد أن يكون تعاونا اقتصاديا وحتى تحالفا عسكريا" بين تلك الأقطار. غير أنكم لا ترضون وحدة سياسية، سواء أكانت "بشكل إمبراطورية جامعة" أم على طراز "اتحاد مشابه للاتحاد الأمريكي أو السويسري" وعللتم آراءكم هذه بقولكم: "إن الفرعونية متأصلة في نفوس المصريين وأنها ستبقى كذلك. بل يجب أن تبقى وتقوى". قرأت هذه الآراء بدهشة غريبة لأنني استبعدت صدورها منكم كل الاستبعاد. وقلت في نفسي "لعل الكاتب نقلها على غير حقيقتها" ... أو لعل الدكتور أراد أن يمتحن هؤلاء الشبان. ويتأكد من مبلغ إيمانهم بالقضية، فالآراء التي أدلى بها ربما كانت من نوع الآراء الجدلية التي ترمي إلى حمل المخاطب على التعمق في التفكير، فوجدت نفسي تجاه هذه الملاحظات بين عاملين مختلفين: عامل يدفعني إلى الإسراع في مناقشة هذه الآراء لكي لا أترك مجالا لزعزعة إيمان بعض الشبان، وعامل يدفعني إلى التريث في الأمر لكي أتأكد من صحة الحديث المعزو إليكم. قلتم: إن المصري مصري قبل كل شيء فهو لن يتنازل عن مصريته مهما تقلبت الظروف فاسمحوا لي أن أسألكم: هل الوحدة العربية تتطلب من المصريين التنازل عن المصرية؟ أنا لا أتردد في الإجابة عن هذا السؤال بالنفي؛ لأني أعتقد بأن دعوة المصريين إلى الاتحاد مع سائر الأقطار العربية لا تتضمن بوجه من الوجوه حثهم على التنازل عن المصرية، إن دعاة الوحدة العربية لم يطلبوا ولن يطلبوا من المصريين -لا ضمنا ولا صراحة- أن يتنازلوا عن مصريتهم، بل إنهم يطلبون إليهم أن يضيفوا إلى شعورهم المصري الخاص شعورًا عربيًا عامًا. وأن يعملوا للعروبة بجانب ما يعملونه للمصرية.

قلتم: ولا تصدق ما يقوله بعض المصريين من أنهم يعملون للعروبة، فالفرعونية متأصلة في نفوسهم، ثم أضفتم إلى ذلك حكما قاطعا فقلتم: "وستبقى كذلك". فهل تسمحون لي أن أستوضحكم ما تقصدونه من كلمة "الفرعونية" هل تقصدون منها الأخذ بحضارة الفراعنة؟ أم الاعتزاز بثقافة الفراعنة؟ أم تقصدون بث اللغة الفرعونية أو الآداب الفرعونية أو الديانة الفرعونية أو السياسة الفرعونية؟ أنا لا أستطيع أن أشك في أنكم لم تقصدوا منها الحضارة أبدًا؛ لأنكم لستم -بدون ريب- ممن يقبلون لمصر ولغير مصر حضارة في هذا العصر غير الحضارة العلمية الحالية، كما لا أستطيع أن أشك في أنكم لم تقصدوا من هذه الكلمة "الديانة الفرعونية". إنكم أشرتم في حديثكم إلى الآثار الباقية من عهد الفراعنة بشكل يستوقف الأنظار وأردتم أن تدعموا آراءكم. بجلال تلك الآثار إذ قلتم: "لا تطلبوا من مصر أن تتخلى عن مصريتها"، وإلا كان معنى طلبكم: اهدمي يا مصر أبا الهول والأهرام، وتغاضي عن جميع الآثار التي تزين متاحفك ومتاحف العالم، وانسي نفسك واتبعينا". يظهر من هذه التأويلات أنكم تودون أن تخلقوا للفكرة العربية خصوما من الآثار القديمة وأن تضعوا في سبيل تيار هذه الفكرة سدودًا من الرموس والأطلال، فهل فاتكم أن التعارض والتصادم لا يحدثان إلا بين الأشياء التي تسير على مستوى واحد. في عالم واحد؟ وإن الفكرة العربية التي تعمل في القرن العشرين -للأجيال القادمة-

لا يمكن أن تتعارض مع آثار بقيت ميراثا من ماض سحيق، يرجع إلى أكثر من خمسة آلاف من السنين؟ إن مصر قد تباعدت عن ديانة الفراعنة دون أن تهدم أبا الهول، وتخلت عن لغتها القديمة دون أن تقوض الأهرام. وجميع آثار الفراعنة التي زينت بها متاحف مصر ومتاحف العالم لم تولد نزوعا للعودة إلى الديانة التي أوجدت تلك الآثار الخالدة، ولا حركة ترمي إلى بعث اللغة التي رافقتها خلال قرون طويلة فهل من موجب لطلب هدم الأهرام وتناسي الآثار لأجل الوحدة العربية. إن الأهرام -مع جميع الآثار الفرعونية- لم تمنع مصر من الاتحاد مع سائر الأقطار العربية اتحادًا تامًّا في ميدان اللغة، فهل يمكن أن تحول دون اتحادها مع تلك الأقطار في ميدان السياسة أيضًا! كلا أيها الأستاذ: إن التيارات القوية العميقة التي جرفت حياة مصر إلى اتجاهات جديدة منذ عشرات القرون، والتي أخرجتها من ديانتها القديمة وأنستها لغتها الأصلية بالرغم من وجود الأهرام وقيام أبي الهول سوف لا تحتاج إلى هدم شيء من آثارها القديمة؛ لتجرفها نحو السياسة التي يؤمن بها دعاة الوحدة العربية. ولا سيما أن هذه السياسة ليست إلا نتيجة طبيعية للغة مصر الحالية ووضعها العام. قلتم: أتريدون أن تتحقق الوحدة العربية؟ فعلى أي أساس علمي تنادون بها؟ تعالوا معي نستعرض الروابط التي تصل مصر بالأقطار العربية الأخرى. لقد وقفتم أولا أمام قصة "الأصل والدم" وقلتم: إن الأكثرية الساحقة من المصريين لا تمت بصلة إلى الدم العربي، بل تتصل مباشرة بالمصريين القدماء. وأسألكم بدوري: هل علمتم بوجود أمة على الأرض انحدرت من

أصل واحد تمامًا؟ هل تستطيعون أن تذكروا أن أمة واحدة ترتبط بروابط الدم فعلا وحقيقة؟ إن جميع الأبحاث العلمية تدل على عكس ذلك تمامًا، إنها تدل على أنه لا توجد على وجه البسيطة أمة خالصة الدم، حتى الأمة الفرنسية التي سبقت جميع الأمم الأوروبية في طريق الوحدة والاستقرار، لا تدعي وحدة الأصل والدم، وعلماؤها يعترفون بأن الأجناس التي دخلت في تركيبها تعد بالعشرات. ثم وقفتم أمام مسألة التاريخ وادعيتم أن "تاريخ مصر مستقل تمام الاستقلال عن تاريخ أي بلد آخر" فاسمحوا لي أن أقول بأن هذا الادعاء افتئات صارخ على الحقائق الواقعة؛ فإن تاريخ مصر اختلط اختلاطًا عميقًا بتاريخ سائر البلاد العربية وتشابكت أوشاجه معها خلال القرون الثلاث عشرة الآخيرة على الأقل، فكيف يحق لكم أن تحذفوا هذه الورقة من تاريخ مصر؟ أنا لا أنكر أن تاريخ مصر لم يبق متصلا بتاريخ سائر الأقطار العربية على الدوام غير أنني أدعي أن ذلك شأن تواريخ الأمم الأخرى بدون استثناء. فإن تواريخ الأمم تشبه الأنهر الكبيرة التي تتكون من روافد عديدة بوجه عام. إن من يلقي نظرة عامة على تواريخ الأمم المعاصرة لنا يضطر إلى التسليم بأن العلاقات التاريخية التي تربط مصر بسائر الأقطار العربية أقوى وأعمق وأطول من العلاقات التاريخية التي تربط الأقاليم الفرنسية بعضها ببعض. أنكرتم "تأثير اللغة" في تكوين الوحدة العربية وقلتم: لا تنخدعوا. لو كان للغة وزن في تقرير مصير الأمم لما كانت بلجيكا وسويسرا ولا أمريكا

ولا البرازيل ولا البرتغال فاسمحوا لي أن أناقشكم: إن تقلبات الزمان، أزالت من الوجود جميع تلك الأمثلة الشواهد. وحرمت النظرية التي تقولون بها إمكان الاستناد إليها. "إن قضية هذه البلاد لا تشبه قضية البلاد العربية بوجه من الوجوه فإن الأقطار العربية تتصل بعضها ببعض اتصالا جغرافيا تمامًا ... والقطر المصري يشغل بين هذه الأقطار مركزًا هاما. أما الحدود التي تفصلها عن سائر الأقطار العربية فتنحصر -في بعض الجهات- بخطوط وهمية ممتدة فوق رمال الصحراء. فهل تعتقدون أن هذه الخطوط الوهمية التي تفصل مصر عن سائر الأقطار العربية بصورة اعتبارية واصطناعية تستطيع أن تعمل عملا مماثلا لعمل المحيط الذي يفصل أمريكا عن أوربا؟ قلتم: إن كان لي نصيحة أسديها إليكم فهي أن تتمسكوا بالواقع العملي وتهملوا ما سواه مهما كانت قوته العاطفية والخيالية، افهموا أن المنفعة تسير الشعوب فإن لم تفهموا هذا فسترغمون على فهمه غدا. تقولون: إن المنفعة تسير الشعوب. فهل تعتقدون أن اتحاد الأقطار العربية مخالف لمنافعها أو خال منها؟ وهل تدعون أن منافع كل واحد من الأقطار العربية ستحول دون اتحادها؟ أما أنا فأعتقد عكس ذلك تمامًا. أعتقد أن فكرة الوحدة العربية لا تستند إلى العاطفة وحدها بل تستند إلى المنفعة أيضًا، أعتقد أن منفعة مصر نفسها تتطلب منها الاتحاد مع سائر البلاد العربية، بل هي من المنافع الهامة الحيوية، وإذا كان الذين يقدرون أهمية هذه المنافع لا يزالون قليلين اليوم فلا شك أنهم سيكثرون يوما بعد يوم.

-2- ورد طه حسين، مجلة الرسالة، 26 ديسمبر 1938: كان رد طه حسين هو نشر فصل من كتابه "مستقبل الثقافة" الذي وصفه بأنه "كتب وطبع قبل مقال الأستاذ الحصري" وهو يتناول دور مصر في الثقافة بالنسبة للأمم العربية وقد رد عليه ساطع الحصري ردًّا أوردناه في معركة كتاب مستقبل الثقافة في هذا السفر. وفي هذه الفترة طلب فؤاد مغبغب، رئيس تحرير مجلة "زهرة المشرق" من الدكتور طه حديثا عن الوحدة العربية وذلك صدى لتصريحاته لمجلة المكشوف لنشره في العدد الأول من مجلته الذي صدر في أول يناير 1939 وقدمه بهذه المقدمة: كانت المشاكل الشرقية التي نشأت من أثر الحرب العظمى واحتكاك الشرقيين بالغربيين من جرائها والعوامل التي أوحت إلى فريق من شباب العرب بفكرة الوحدة العربية. ولم يستطع القائلون بها أن يوضحوها الإيضاح الكافي. وقد غلا بعض أنصار هذه الفكرة في تصويرها حتى لقد جعلوا منها عقيدة يدينون بها ويتهمون كل من يعارضها بنقص في وطنيته وقوميته، وأعلن طه حسين "أنه من أنصار الوحدة العربية في الثقافة، ولكنه يعارض الوحدة العربية السياسية". ولما كان الرأي الذي أبداه مجملا وكان القراء يهمهم الإيضاح في هذا الموضوع فقد طلبنا منه أن يتحدث في هذا الأمر بتوسع. قال الدكتور طه: لست أفهم كيف يختصم الناس في هذه المسألة؟ أو كيف يجعلونها موضوعا للحوار؟ فهي في نفسي أوضح وأجلى: "الأمم والشعوب التي تتكلم هذه اللغة مضطرة سواء أرادت أم لم ترد وحدة الثقافة، ومعنى وحدة الثقافة وحدة العقل فيما أظن، فإذا أضفت إلى ذلك أن هذه الشعوب لا تشترك في اللغة وحدها وإنما تشترك معها في الدين أيضا فكثرتها مسلمة وقلتها مؤمنة بالديانتين السماويتين الأخريين كان ذلك داعيا إلى اشتداد ما يجب أن يكون بينها من التقارب. إذن ففيم يمكن أن يكون الخلاف؟ وفيم يمكن أن يكون الجدل؟ في أمر

واحد أراه بديهيا بالقياس إلى المصريين وما أعرف أن مصريا واحدا يستطيع أن يخالفني فيه مهما تكن ميوله ومذاهبه وهو أمر "الوحدة السياسية". فالمصريون لا يتصورون اشتراكهم في إمبراطورية عربية مهما يكن مستقرها ومهما يكن شكلها ومهما تكن نظم الحكم فيها، لا يتصورون إلا أن يكونوا دولة مستقلة معاونة لغيرها من دول الشرق العربي بأسباب المعاونة السياسية المعقولة التي تلائم المنفعة والحق والعدل، وما أرى أن عليهم في ذلك بأسًا. وما أرى أن أحدًا يستطيع أن يطالبهم بأكثر من ذلك. وما أرى أن مطالبتهم بأكثر من ذلك نفعا لأحد وإنما الكلام في ذلك لغو وإطالة لا غناء فيهما. ومن الناس من ينكر على مصر حرصها على تراثها الفرعوني القديم ويشوهون هذا الحرص ألوانا من التشويه، فليكن رأيي في ذلك واضحا جليا وهو فيما أعتقد رأي المصريين جميعا لا يختلفون فيه، فمصر حريصة على تاريخها كله لا تنزل عنه عن قليل أو كثير وهي إذا حرصت على تاريخها الفرعوني لا تريد أن تعود إلى دين الفراعنة. فهذا سخف، ولا تريد أن تتكلم اللغة المصرية القديمة مكان اللغة العربية فهذا سخف أيضًا ولا تريد أن تصطنع نظم الحكم الفرعوني مكان نظمها الديموقراطية الحديثة. وإنما تريد أن تنظر إلى هذا التاريخ بما كان فيه من خير وشر على أنه جزء من حياتها ومقوم لوحدتها ومكون لوطنيتها، تفخر بما يدعو منه إلى الفخر، وتألم بما يدعو منه إلى الألم وتعتبر بما يثير منه العبرة وتنتفع بما يمكن أن يكون مصدرًا للنفع، وكل مصري يزعم غير هذا فهو إما خادع أو مخدوع أو ضعيف الوطنية وما أعرف أن من المصريين من تضعف وطنيته فيفرط في تاريخه أو تضعف أخلاقه فيؤثر الخداع أو تضعف شخصيته فينخدع بتمويه الموهمين.

الرد على الدكتور طه 1؛ بقلم عربي "مجلة زهرة الشرق": الدكتور طه حسين بالرغم من كتابه في الرد على الصحفي علي العراقي على دفعتين وفي كل دفعة يتراجع قليلا في العرض دون الجوهر، لم يصارح الرأي العام العربي في هذا الأمر بل جعل المغالطة أساسًا لرديه حتى جاء الردان كالصفر على الشمال. يؤمن الدكتور طه بوحدة الثقافة بين العرب ويضع اللغة أساسًا لهذه الوحدة وهو قول لم يناقضه فيه أحد من العالمين، ولكن الدكتور لا يؤمن بالوحدة السياسية وهذا بيت القصيد وموضع المغالطة؛ إن الدكتور يعلم أن أوربا قسمت ممالكها بعد الحرب العظمى تقسيمًا سياسيًا بمقتضى اللغة وحدها، لأنها جعلت أساسًا للعنصرية وهو يعلم أيضا بأن الدنيا كادت تتحول إلى براكين في الخريف الماضي من أجل إلحاق بقية الألمان والذين يتكلمون الألمانية بأمهم. وقد فازت نظرية العنصرية على أساس اللغة. والعرب لا يتطلبون إلغاء استقلال مصر وضمها إلى العراق أو ضم سورية إليها برئاسة الحجاز وإنما يدعون إلى وحدة تشبه الوحدة الألمانية السابقة أو الولايات المتحدة. وأمر الوحدة هو المثل الأعلى لكل أمة خصوصًا إذا كانت في رد الدكتور أنه لا يستطيع الإشارة إلى هذه البديهيات ولكنه يحاول أن يوهم أن الوحدة العربية تقضي على تاريخ مصر القديم وهذا النوع من المغالطة لم نسمع به من قبل، فلماذا لا يقول السوري: إن وحدة العروبة تحاول إلغاء تاريخي القديم وأمجادي التاريخية؟

_ 1 مجلة زهرة الشرق 13 فبراير 1939.

ولكل شعب أمجاده والتاريخ لا ينفصل بل يستمد حديثه من قديمه ولكن هذا القديم لا يضيره أن يسير مع الحديث في وحدة من شأنها أن تخلق للحاضر قوة من الوحدة لا بد منها لحفظ كيانه الحديث والقديم. لقد جرب العرب بعد بزوغ فجر الإسلام هذه الوحدة فكانوا سادة الدنيا فما الذي يضير الدكتور من هذا وهو يعلم أن مصر سيكون لها فخر الرئاسة لهذا الاتحاد العربي. كان الناس يأملون أن يكون عميد كلية الآداب في مصر أول دعاة هذه الوحدة ولكن خاب ظنهم وخابوا في معرفة السر الذي يجعل الرجل الذي ينشر آداب العرب في العالم العربي كله لا يريد وحدة تصون هذا العالم من عبث العابثين. بين الحصري بك وطه حسين 1، عز الدين التنوخي: لا نكتم الدكتور طه أننا كنا قد اعتبرنا الإحالة إلى الفصل الذي نشره من كتاب مستقبل الثقافة يومئذ ضربا من الفرار من معركة المناظرة. أجمل بالدكتور طه حسين أن يكون أديب الأقطار العربية كلها من أن يكون في قطر واحد أديبًا. وليته -أصلحه الله- جامل في المكشوف أدباء العرب الذين يتنافسون في اقتناء آثاره، أو ليته وهو مسلم مصري خاطب العرب بما خاطبهم به الأستاذ مكرم عبيد وهو النصراني المصري وهو لذلك أشد اتصالا منه بالفراعنة ذوي الأوتاد.

_ 1 يقول طه عبد الباقي سرور، مجلة زهرة الشرق 13 فبراير 1939: والدكتور طه يؤمن في الناحية الاجتماعية بالحضارة الأوروبية وجلالها وصلاحيتها للحياة ولا يعترف أبدا بمدينة الشرق الروحية لأنها مدينة ضعف جمود ولا حياة للشرق عنده إلا أن يتعلق بأذيال الغرب لنلحق به في مضمار الحياة العامة.

قال مكرم عبيد: المصريون عرب. فنحن معشر المصريين جئنا من آسيا. ونحن أدنى إلى العرب منذ القدم من حيث اللون والخصائص السامية والقومية، نحن عرب ويجب أن نذكر في هذا العصر دائما أننا عرب قد وحدت بيننا الآلام والآمال ووثقت بيننا الكوارث والأشجان، وصهرتنا المظالم وخطوب الزمان، فالوحدة العربية حقيقة قائمة. وهي موجودة ولكنها في حاجة إلى تنظيم. والغرض من التنظيم إيجاد جبهة تناهض الاستعمار وتحفظ القوميات وتوفر الرخاء وتنمي الموارد الاقتصادية وتشجع الإنتاج المحلى وتزيد في تبادل المنافع وتنسق المعاملات فكما أن أوربا خلقت شيئا معنويا ترتبط به وتلتف حوله أغراض سكانها على اختلاف أممهم فكذلك نحن سيئول مصيرنا إلى الالتفاف حول مثل أعلى يوفق بيننا فنصير كتلة واحدة وتصير أوطاننا جامعة وطنية واحدة أو وطنًا كبيرًا يتفرع منه عدة أوطان لكل منها شخصيته لكنها في خصائصها القومية العامة متحدة متصلة اتصالا قويا بالوطن الأكبر". وقد قال لي: نحن عرب في مصر ولا نمجد الفراعنة إلا لأنهم عرب. الأستاذ مكرم عبيد فرعوني صميم ومن نوابغ مصر في ثقافته وأخلاقه ووطنيته والأستاذ طه حسين المسلم المصري يحكم والناس معه بالظن على فرعونيته فلن يكون ذلك أصدق تفرعنا من مكرم عبيد وإذا ما ادعى ذلك كان أشد فرعونية من فرعون نفسه، أو أشد كما قيل: ملكية من الملك، والأستاذ طه حسين ينكر الوحدة العربية بأنواعها وشرائطها، ويعد من يقول بهذه الوحدة من أصحاب العقل القديم. رأي طه حسين في الوحدة العربية، الهلال 1939: ربما كان من الأمثلة الطريفة التي تبين الفرق بين العقل العربي القديم،

والعقل العربي الحديث في هذا العصر الذي نعيش فيه مسألة الوحدة العربية أو الوحدة الإسلامية التي يكثر فيها الكلام وتشتد فيها الخصومة فما أظن الناس يختلفون في أن هذه الوحدة نافعة للشعوب العربية والشعوب الإسلامية أشد النفع، وفي أن مصالحهم تدعوهم إليها وتدفعهم إليها دفعا ولكنهم مع ذلك يختلفون ويختصمون لا لشيء إلا لأنهم يختلفون في تصورهم هذه الوحدة حسب ما يتاح لهم من العقل القديم أو العقل الحديث. أما أصحاب العقل الحديث -أي الدكتور طه حسين وأنصار التغريب- فيفهون هذه الوحدة على نحو ما تفهم عليه في البلاد المتحضرة بالحضارات الحديثة الأوروبية، يفهمونها على أنها لا تنفع ولا تضر إلا إذا احتفظت بالقوميات والشخصيات الوطنية والحريات الكاملة لأعضائها والسيادة العامة لهم في حياتهم الداخلية والخارجية وقامت على الحلف الذي لا يفني أمة في أمة ولا يخضع شعبا لشعب1.

_ 1 تعليق: تحول الدكتور طه حسين عن هذه الأراء بعد ثورة يوليو 1952 حينما رأى تيار الوحدة العربية يمضي إلى طريقه، ولكنه انحرف مرة أخرى وناقض نفسه حين تكلم عن القومية العربية في مؤتمر الأدباء العرب الذي عقد في القاهرة في ديسمبر 1957 وتصدى له بالرد عدد من كتاب العرب. "اقرأ محاضر جلسات مؤتمر الأدباء العرب طبع المجلس الأعلى للآداب، والفنون".

الباب الثاني: معارك اللغة العربية

الباب الثاني: معارك اللغة العربية مدخل ... الباب الثاني: معارك اللغة العربية كانت اللغة العربية منذ نهاية القرن التاسع عشر مجالا لمعركة كبرى. بدأت هذه المعركة بمحاولات الغزو الثقافي والاستعمار في العالم العربي وكانت "مصر" من أهم المناطق التي ركز عليها الاستعمار بعد الاحتلال فظهرت دعوات ومؤلفات لكتاب أجانب تدعو إلى الكتابة باللغة العامية وهي ما أطلق عليها المقتطف عبارة "اللغة المحكية" ثم حمل لواء الدعوة كتاب عرب. وما نعرضه هنا ليس إلا جانبا من المعركة التي سنفصلها في كتابنا: اللغة العربية، بين دعاتها وخصومها. "ثبت المعارك": 1- تمصير اللغة العربية: مصطفى الرافعي ولطفي السيد. 2- مجمع اللغة العربية: منصور فهمي وطه حسين. 3- معركة الكتابة بالحروف اللاتينية: عبد العزيز فهمي ومحمد كرد علي.

تمصير اللغة العربية

تمصير اللغة العربية: بين مصطفى صادق الرافعي ولطفي السيد: هذه معركة من أخطر المعارك التي واجهت اللغة العربية، ومن أقدم المعارك الأدبية، فقد حمل لطفي السيد عام 1913 في الجريدة لواء الدعوة إلى تمصير اللغة العربية فكتب أكثر من سبع مقالات في خلال شهري أبريل ومايو 1913 وكتب عدد من تلاميذه مقالات متعددة كهيكل وطه حسين وغيرهما. ولقد كانت مداخل البحث عند لطفي السيد بارعة دقيقة، فهو لم يفاجئ القارئ في هذا الوقت المبكر بالحملة على اللغة العربية، أو الدعوة إلى ترك الكتابة بها إلى العامية، وإنما تسلل إلى ذلك بطريقة فيها كثير من المداورة، وقد لخصنا هنا عبارته تلخيصا أمينا حتى تبرز صورة التيار الذي جرى فيه القاضي وليم موير من قبل وقاسم أمين ووليم ولكوكس وسلامة موسى من بعد. ولقد وقف عبد الرحمن البرقوقي ومصطفى صادق الرافعي لهذه الدعوة موقفا حماسيا جريئا حملا فيه لواء الاتهام مؤمنين بأن القضاء على اللغة قضاء على مقدسات الفكر العربي والإسلامي. ولقد كان للغة العربية قضية طويلة عريضة، ومعارك متعددة، بين حماتها وخصومها، وكان للدعوة التغريبية التي كانت تجتاح العالم العربي في فترة ما بين الحربين أثرها في محاولة خلق لغات إقليمية مصرية وسورية وعراقية ومغربية للقضاء على اللغة العربية وإدخالها إلى المتحف أسوة باللغة اللاتينية. ولكن هذه المحاولات المتعددة فشلت وانتصرت اللغة العربية وبقيت. آراء لطفي السيد في تمصير اللغة العربية: 1- لغتنا1 واسعة في القاموس ضيقة في الاستعمال، مخصبة في المعاني والمسميات القديمة، مجدبة في المعاني الجديدة والاصطلاحات العلمية قد انقطع رقيها من قرون طويلة فوقفت عند الحد الذي وصلت إليه أيام النهضة العباسية، فهي الآن لأننا هجرناها في المحادثة إلى لهجة غير مصرية ولحن غير مغتفر صارت تراكيبها غير مصقولة على الألسن ولا حية بالاستعمال.

_ 1 التأليف باللغة العربية "افتتاحية الجريدة" 6 أبريل سنة 1913.

2- الأوتومبيل1 والبسكليت والجاكيته والبنطلون والجزمة والمودة؛ كل هذه الأسماء ما ذنبها حتى تهجر في الكتابة إلى غيرها من الألفاظ التي نحاول انتحالها مع التكلف لنعبر بها عن هذه المسميات؟ إن هذه الأسماء الأعجمية وأمثالها قد دخلت لغتنا دخولا تاما واستعملت استعمالا شائعًا بحيث لا نستطيع أن نضع لها ولغيرها من المسميات الجديدة أسماء جديدة لا يعتد بها ولا يستعملها إلا بعض الكتاب، إننا لو اخترعنا أسماء للمسميات الجديدة لنستعملها في الكتابة وحدها من غير أن تدخل في أحاديث العوام ولا في أحاديث الخاصة أنفسهم، ولكنا عاملين بذلك على توسيع مسافة الفرق بين لغة الكتابة ولغة الكلام وذلك مؤخر للغة البيان والفصاحة، للتقدم من جميع الوجوه. ولا أراني أعرف سببا في الرغبة عن المألوف المشهور إلى ابتكار غيره إلا حب الإغراب، وإلا فما الذي ينفعنا من زيادة الأزمة اللغوية حرجا وإدخال التعقيد على البيان العربي الموجود بالفعل والذي نستعمله نحن أبناء اللغة وأبناء العرب؟ سيقال: إننا في جيل إحياء اللغة بعد مواتها فعلينا أن ننحت من اللغة وعلى موازين اللغة أسماء للمسميات الجديدة حتى لا ندخل الغريب في لغتنا. هذا كلام طيب، ولكن لدينا لإحياء اللغة العربية وجعلها لغة العامة، ينطقونها صحيحة معربة كما كان يفعل آباؤنا الأولون، لدينا عقبات لا يسهل تخطيها فلو حاولنا التمسك بالكمال والتزمنا في إحياء اللغة هذا التخرج المتعب، وقسمنا مجهودنا بعضه لتصحيح بناء الكلمات التي فسد بناؤها على لسان العوام، وبعضه لإصلاح الأسلوب العربي وبعضه لتعليم الإعراب وضبط

_ 1 إلى الإمام في اللغة "افتتاحية الجريدة" 20 إبريل سنة 1913.

أواخر الكلمات على قواعد اللغة لأضعنا مجهودنا الموزع من غير أن تجيء فائدة كبرى، وأضعنا الوقت في الاشتغال باللغة عن نتائج البيان وهي العلوم والمعارف، ويكفينا أن نتمسك بشخصية لغتنا والمحافظة على الموجود منها إلى الآن في الاستعمال اليومي ونحيي قواعد الإعراب. في لغتنا أسماء أعجمية كثيرة جدًا لم يخل وجودها بالفصاحة ولا بالبلاغة فإن بعضها قد وجد في القرآن وهو المعجز بفصاحته وبلاغته إلى الأبد. بل لقد أخذ آباؤنا بعض الألفاظ الأعجمية واستعملوها مع وجود مرادفها في اللغة العربية ثم هجروا العربي وقصروا استعمالهم على الأعجمي. واجبنا أن نطرح هذه المشاعر الساذجة؛ مشاعر الامتعاض من استعارة الأسماء الأجنبية للغتنا. لذلك نرفع النصيحة لزملائنا الكتاب أن يتساهلوا في قبول المسميات الأوربية ويدخلوها في الاستعمال الكتابي كما أدخلها الجمهور في المخاطبة. 3- الأسماء الجديدة1 ما لها، لو أخذناها "ذي ما هيه" فنيت في لغتنا واتبعت أوزانها وجرت عليها أحكام الإعراب فأصبحت عربية بالزمان. ما لنا لا نعتبر لغتنا كالعلم نزيد عليها كل جديد بمقدار الحاجة؟ ما لنا لا نزيد على أسمائها أسماء المخترعات الحديثة في العلم وفي الفنون والصناعة والتجارة؟

_ 1 في اللغة العربية 23 أبريل 1913 "افتتاحية الجريدة".

نحن نعمل ذلك بالفعل ولكننا نذكره بالقول. فالذين يأبون علينا إدخال الضروري من الكلمات الأجنبية يكتبون بأيديهم "التلغراف" و"التليفون" بغاية السهولة، كما يكتبون "الورد" الذي هو ليس عربيا, والأمة سائرة على هذا النمط من التطور فهي تعرف الكمبيالة ولا تعرف "السفتجة" ولا يقف في طريقها عائق، غير أن خمسة أو ستة من الكتاب هم الذين لا يريدون الاعتراف بهذه الحقيقة وتقف أقلامهم عند كتابة أسماء المخترعات الحديثة إذا لم يجدوا تسمية سعيدة. اللغة ملك الأمة وللكتاب الحرية في الزيادة عليها بأساليب جديدة وألفاظ جديدة إذا قبلها الجمهور وراجت وأصبحت من لغة الأمة. سيقولون: هذا المبدأ يدعو إلى الفوضى، ربما كان ذلك، ولكن الفوضى واقعة لا محالة في زمن الانتقال الشديد الذي نحن فيه, ولا بأس بالفوضى إذا كانت لازمة لحال التطور وصارفة لنا عن هذا الجمود الذي نحن فيه. سيقولون: وما الذي يمنع من تأليف المجمع اللغوي من اليوم؟ نقول: إن كل عمل عام لا تقتضيه حاجة الأمة اقتضاء تاما إنما هو عمل صناعي عقيم النتيجة، وقد تألف المجمع اللغوي ثلاث مرات ولم يفلح فكان فشله دليلا على أنه غير ضروري لحياة الأمة أو على الأقل إن الأمة لا تراه ضروريا لها الآن؛ وإلا لحكم له بالبقاء. إن الخروج باللغة من جمودها إلى طور جديد لا بد فيه من الفوضى الموصلة إلى الطور الراقي المتفق مع أطماع الأمة عن التقدم في كل شيء إلى الأمام. لا حرج على الكاتب أو المترجم أن يستعمل من الألفاظ ما شاء لما شاء من المعاني وكلما توسع الكاتب في استعمال ألفاظ كثيرة كان ذلك إحياء

بذلك عامل من عوامل الجامعة الإسلامية والثاني أن تصحيح الألفاظ العامية المصرية واستعمالها في الكتابة معطل للغة العربية الفصحى. إننا لسنا من أنصار هذه الجامعة المتخيلة بوصف كونها دينية لاقتناعنا بأن أساس الأعمال السياسية هو الوطنية وروابط المنفعة. ما نقترحه ليس من شأنه أن يعطل اللغة العربية الفصحى بل يزيدها فصاحة ويسرع في تطورها ولا يبقى منها إلا استعمال ألفاظ لا حاجة لنا بها ولا مانع يمنع من استعمالها في الشعر عند الوزن. الرد على لطفي السيد: 1- رد عبد الرحمن البرقوقي صاحب مجلة البيان: ليس1 من ينكر على الأستاذ الكبير أحمد لطفي السيد مدير الجريدة الغراء عبقريته ونبوغه وأنه من الأفذاذ المعدودين. وقد يعرف قراء البيان ما أثارته براعته الجبارة منذ ثلاثة أشهر حول مسألة اللغة والأخذ والرد الذي دار بينه وبين معارضيه والشجار الذي استطار بين الفريقين وامتد ومع ذلك انتهى إلى حيث ابتدأ شأن كل مسألة يتنازعها والمستقبل وحده هو الكفيل بفصل الخطاب وحل الإشكال فيها. أما المسألة فمنها ما يدور حول الأسلوب الكتابي وهل الرأي أن يكون أسلوبنا كأسلوب العرب الأولين؛ أسلوب الشعر الجاهلي والقرآن والحديث. أو أن نكتب بأسلوب مصبوغ باللون الأمي فيكتب المصريون بلغة مصرية يشترك في فهمها خاصة المصريين وعامتهم. هذا أحد شطري المسألة وشطرها الآخر يدور حول المفردات التي

_ 1 مجلة البيان. العدد 8 السنة 2 "شعبان 1331" يوليو سنة 1913.

يتألف منها الأسلوب وهذا يتشعب إلى مسألتين خلافيتين أولاهما: هل نضع للمسميات الحديثة أسماء عربية في مبادئها وأوزانها أو ننقل أسماء هذه المسميات من لغتنا الأجنبية بعد تهذيبها وجعلها بحيث لا تناكر الأوزان العربية, وقد رأيت أن من واجب "البيان" الذي رصد نفسه للغة العربية وأدبها أن يخوض في هذا الموضع الهام مع الخائضين، وهذه كلمة صديقنا النابغ الأديب السيد مصطفى صادق الرافعي. تمصير اللغة؛ رد على لطفي السيد بقلم مصطفى صادق الرافعي 1: نريد بهذا التمصير ما ذهبت إليه أوهام من الفضلاء يرون أن تكون هذه اللغة التي استحفظوا عليها مصرية، بعد أن كانت مضرية وأن تطرد لهم مع النيل بعدد الترع عداد القرى حتى ترسل الكلمة من الكلام فلا يجهلها في مصر جاهل ويصدر الكتاب من الكتب فيجري من أفهام القوم في طريقة واحدة ويأخذ منهم مأخذا معروفا غير متباين بعضه من بعض ولا ملتو على فئة دون فئة. ومن ثم يزين لهم الرأي أنه لا يبقى في هذا الجم الغفير، من علمائنا وكتابنا وأدبائنا من لا يعرف أين يضع يده من ألفاظ اللغة ومستحدثاتها إذا هو كتب أو مصر عن لغة أجنبية. ولا نقول عرب فإن هذه بالطبع غير ما نحن فيه، بل يأخذ من تحت كل لسان ويلقف عن كل شقة ولا يبعد في التناول إلى مضطرب واسع ولا يمضي حيث يمضي إلا مخففا عن هذه القواعد وتلك الضوابط العربية إذ تتهاون يومئذ العدوتان: هذه العامية وهذه الفصحى وتصلحان بينهما صلحا أن لا ترفع إحداهما في وجه الأخرى قلمًا ولا لسانًا.

_ 1 مجلة البيان، العدد 9 السنة الثانية "شعبان 1331".

وعلى أن تبيح كلتاهما للثانية حرية الانتفاع بما يشبه حرية التجارة إلا في المواد المضرة التي يعبر عنها دعاة السياسة اللغوية بالألفاظ العامة المبتذلة والألفاظ العربية الغريبة، ثم على أن لا تحفل إحداهما ما تركت الأخرى سوى ذلك فتستمر العامية على ما هي وتذهب الفصحى على وجهها. إنما تلك آراء كان يتعلق عليها بعض فتياننا إفراطا في الحمية ومبالغة في الحفيظة لمصر وأملا مما يكبر في صدورهم على ما ترى من تهافتها وضعف تصريفها. فكان ذلك عذر العقلاء إذا مروا بها لماما وتروحوا بالإعراض عنها سلاما حتى تناولها الأستاذ مدير الجريدة فحذفها وسواها وأخرج منها طائفة من الرأي تصلح أن تسمى عند الممارضة رأيا فقال بالإصلاح بين العامية والفصحى على طريقة تجعل هذه تغتمر تلك، وتحيلها إليها، فسعى أن يأبى لا تكون العامية فيه شيئا مذكورا. إن مجم هذا الرأي ومستجمعه أن الأستاذ يرى "أخذ أسماء المستحدثات من اللغة اليومية" وإمرارها على الأوراق العربية بقدر الإمكان فإن لم يكن لها ثمت أسماء فمن معاجم اللغة وكتب العلم إن هذه عنده دون اللغة اليومية فإن لم يصب ذلك في هذه أيضًا وضع لها الواضع ما شاء، وإن استعمال مفردات اللغة وتراكيبها إحياء للغة الكلام وإلباسها لباس الفصاحة. هذا هو محصل رأي الأستاذ؛ فإن طال عليك ذلك السر وبرمت به جملة فإن لك أن تدمجه في كلمتين, ذلك أن الأستاذ يرى "تمصير اللغة" لأننا إذا تابعناه فإنما نلمس كل ما أشار إليه من العامية المصرية وحدها ونعطي هذه العامية سعة أنفسنا وبذل أقلامنا فنلبسها الفصيح ونخلط منهما

عملا صالحا وآخر سيئا. ولعل هذا الرأي أن يشيع من ناحيتنا ويطمئن في كل أمة لها عربية فتأخذ مأخذها في عاميتها وتنزع إلى ما تذعن إليه فإذا أمكن أن يتفق ذلك وأن تتوافى عليه الأمم كان لعمري أسرع في فناء العربية وجدا عليها شؤم هذا الرأي ما لا يجدوا تآلب الأعداء لو استأصلوا أهلها وبلغ منها ما لا يبلغه الفاتحون ولو ملكوا تلك الأرض كلها ثم نحن نتسامح في استعمال المفردات والتراكيب العامية وسينقاد لذلك من بعدنا، ثم من بعدهم إلى أجيال بعيدة ويتراخى بعضنا عن بعض فيوشك أن يأتي يوم تكون فيه تلك اللغة الفصحى ضربا من اللغات الأثرية في كتابها الكريم لأننا لا ننظر في الترخص منه الآن من كلمات معدودة صدرت بها "قرارات الأمة" أن لا تزال على وجه الدهر عامية ولكننا ننظر إلى الأصل في قاعدة التسامح والترخيص فإذا ثبتناه وأخذ به غيرنا ولم يكن عندنا لذلك نكير فما أشبه ما أن تكون كالقاعدة الاستعمارية التي تبتدئ بالتسامح للمستعمرة والغزاة في أخذ الشيء القليل ثم ينتهي بالتسامح في كل شيء. - لا نفهم كيف يكون إحياء العربية باستعمال العامية وكيف نروض لغة القرآن التي تأبى إلا أن تتقيد بها اللهجات الأخرى كما محت من قبل لغات الغرب جميعها على فصاحتها وقوة الفطنة في أهلها وردتها إلى لغة واحدة هي القرشية ثم نرضى من جهة أخرى هذه اللهجات العامية التي تأبى أن تتقيد بشيء. - إذا حاولنا مذهب الإصلاح العامي فليت شعري أي لهجة نأخذ وأي لهجة في مصر هي غير مصرية فننبذها. - نحن لا نماري في وجوب الإصلاح اللغوي ووجوب أن يكون للغة في هذه النهضة مجمع يحوطها ويضع لها ولو على الأقوال كمصلحة الكنس والرش ولا نقول إن هذه اللغة كاملة في مفرداتها.

إنه لا يقيضنا من اللغة شيء وهي على ما هي من أحكام الأوضاع والتراكيب والاتساع للمفردات، ولو أقبلت كأعناق السيل ولكن يقتضي هذه اللغة رجال يعملون ويحسنون إذا عملوا. على أنه إن يكن في رأي التمصير خير فليس يقوم خيره بشؤمه، وهب أن أمرًا من ذلك كائن، وأننا أجرينا التراكيب العامية في الفصيح، أقحمنا مفردات القوم في اللغة، ومكنا للعامة على ما يتوهمون من مقاليد الكلام وأتبعناه مقادتهم، فما أجداه ذلك عنهم، وماذا يرد على الأمة! لا سبيل لتمصير العربية واعتبار هذه المصرية أصلا لغويا مجمعا عليه إلا بتمصير الدين الإسلامي الذي يقوم على هذه العربية، فإن بعض ذلك سبب طبيعي إلى بعضه فمن كشف لنا عن الوجه الذي يكون به الدين مصريًا وطنيا بأسباب ذلك ونتائجه قلنا له: أخطأنا وأصبت {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} .

مجمع اللغة: ما هي مهمته

مجمع اللغة، ما هي مهمته؟: بين منصور فهمي وطه حسين: هذه معركة جرت حول مهمة المجمع اللغوي، بدأها الدكتور طه حسين بآراء عرض فيها وجهة نظره في أمر المجامع اللغوية وعملها بمناسبة قرب دخوله إلى المجمع اللغوي الذي أنشئ في مصر سنة 1931 وظل الدكتور بعيدًا عنه، عارضه فيها الدكتور منصور فهمي وإسماعيل مظهر وجرت بينهم مناقشات انتهت بأن مهمة المجمع اللغوي الذي يقوم في مصر تختلف عن مهمة المجمع الفرنسي الذي أراد الدكتور طه أن نسير على نهجه، وذلك لمدى الفوارق في الاحتياجات اللازمة للغتنا والفرق بين اللغة العربية والفرنسية. قال الدكتور طه حسين 1: 1- إنها لكارثة كبرى أن يكلف مثلي وضع الاصطلاحات في الطب والطبيعة والفنون العملية المختلفة ولو أن الأكاديمية الفرنسية عنيت بوضع الاصطلاحات للعلوم والفنون لكانت موضع سخرية الفرنسيين جميعا والعلماء في مقدمتهم, فمن العبث إذن أن يكلف المجمع وضع الاصطلاحات أو يضيع وقته فيها. وهناك مسألة اللهجات فليس المجمع مدرسة وإنما تدرس اللهجات في معاهد خاصة تلحق بالجامعات وبكليات الآداب، وما أعرف المجمع الفرنسي مثلا عنى في يوم من الأيام باللهجات، بل هو يحاربها لأن عمله الأول إنما هو الاحتفاظ ببقاء اللغة وفصلها فإذا أريد درس اللهجات العربية القديمة كما تمثلها قراءات القرآن الكريم فهذه شيء متصل بالمعجم التاريخي وبالنحو والصرف, وهو شيء مخالف كل المخالفة لما يراد من درس اللهجات الحديثة. رد الدكتور منصور فهمي: إن وضع المصطلحات العلمية من صميم عمل المجامع. وأعضاء المجمع ليسوا لغويين فحسب، وإنما منهم من اختص أيضًا بعلوم غير علوم اللغة فعند اتصال بعضهم بالبعض الآخر ثمرة طيبة تعين على وضع مصطلحات علمية موقعة في مختلف نواحي العلوم والفنون. 1- أخالف الدكتور طه في رأيه بأن الأكاديمية الفرنسية لو عنيت بوضع الاصطلاحات للعلوم والفنون لكانت موضع سخرية الفرنسيين جميعًا.

_ 1 مارس 1937، الأهرام.

وهل يسخر أحد حين يعلم أن جماعة من أهل اللغة يضعون اصطلاحات لما يرتجل ارتجالا تكون أوفق لروح اللغة وقد يستساغ بعضها وقد يصقل الاستعمال البعض الآخر. ولا أظن أن الدكتور طه حسين حين يستفهم ويقول نصا "أي أعضاء المجمع" يستطيع أن يضع الأسماء لأي آلة من الآلات المستحدثة التي لا عهد للعرب بها يحسب أن كتابا من الكتاب يرضى أن يستخدم كلمتي "فرملة" أو "دريكسون" التي يستخدمها عامل السيارة في حين أن أدباء المجمع بل وكل أديب بل وكل من له إلمام يسير باللغة يجد لهاتين اللفظتين من لغة العرب ما يناسب ذوقها وذوق الناس. 2- ما قولكم في دراسة اللهجات التي تعرض لها الدكتور طه حسين؟ أما اللهجات فنعلم أن دراستها قد تعين على معرفة معنى الكلمة على وجهها الصحيح. فغير قليل من الكلمات قد تستخدم من ناحية أو في عدة نواح من البلاد العربية لمعنى من المعاني، وإن العناية بمعرفة هذه الألفاظ ومعانيها قد تعين على وضع كثير من المعاني والألفاظ موضعها الصحيح الأوفق فضلا عن أن اللهجات لم تخرج عن أنها جزء من تاريخ اللغة وتطورها. ومن أراد أن يزيد رسوخا في اللغة فليس له أن يهمل أجزاء تاريخها، زد على هذا أن البلاد العربية قد تعددت لهجاتها لدرجة الصعوبة في التفاهم أحيانًا وأنه من أمل مجمع اللغة المصري أن يكون لمصر مركز ممتاز بين البلاد العربية لتوحيد الأدوات والأساليب في التخاطب والكتابة والتفاهم بلغة مشتركة فصحى رقيقة فمن حقه إذن أن يعنى بلهجات البلاد العربية المختلفة، وذلك لدفع تلك اللهجات إلى لغة سليمة فصحى توحد بين الجميع في الكتابة والتخاطب. وما كان المجمع حين أراد أن يستبقي العناية باللهجات بغافل عن معرفة

حقيقة نفسه وأنه ليس مدرسة كما يقول الدكتور وأن من حق الكليات ومعاهد العلم العالية أن تعنى بدراسة اللهجات. ولكن المجمع رأى أن تقرير العناية بدراسة اللهجات يعينه على تحقيق أغراضه السامية في خدمة اللغة. أما قول الدكتور "أنه لم يعرف أن المجمع الفرنسي عنى في يوم من الأيام باللهجات وأنه يحاربها". فأحسبني لا أخطئ إذا قلت: إن العناية بدراسة اللهجات وما يتصل بها فائقة في فرنسا وفي غير فرنسا بل هي من الدراسات التي يحرص عليها العلماء خصوصا في الزمن الأخير لتفهم قانون تطور اللغات وما يستفاد من هذه الدراسة لتنمية ثروة القوانين العلمية والتاريخ. وقد ألفوا في ذلك المصورات والأطالس الكبرى. 2- طه حسين 1: الدكتور منصور فهمي أعلم بشئون المجامع اللغوية من أن يحتاج إلى أن أنبه إلى أن هذه المجامع ليس من شأنها ولا ينبغي أن يكون من شأنها ولم تزعم قط أن من شأنها وضع اصطلاحات العلوم والفنون وإنما هي تسجل من ذلك ما يصنعه العلماء وأصحاب الفن إذا لائم اللغة وفرضه الاستعمال. مازلت أقول وسأقول دائمًا وسيقول المثقفون الفرنسيون معي دائما: إن المجمع اللغوي الفرنسي يضحك الناس من نفسه لو أنه انصرف إلى وضع الاصطلاحات في العناية بصفاء اللغة ونقائها، فالعلماء وحدهم هم الذين يضعون اصطلاحاتهم وألفاظهم الخاصة وما ينبغي لغيرهم أن يتطفل عليهم أو يشاركهم في تسمية ما لا يتقنه من معاني العلم واصطلاحاته. إن الأمور تقلب أوضاعها في مصر فنحن نريد أن يذهب الأطباء إلى

_ 1 6 مارس 1937 الأهرام.

أعضاء المجمع اللغوي يلتمسون منهم الأسماء لمعاني الطب التي لا يحسنونها ولعلهم لا يعرفون عنها قليلا ولا كثيرا على حين يذهب أعضاء المجمع اللغوي الفرنسي إلى الأطباء يسألونهم عن معاني الكلمات الطبية التي يفرضها الاستعمال والتي يحتاج إلى أن تأخذ مكانها في المجمع اللغوي. 3- إسماعيل مظهر 1: لأول وهلة أدركت أن الأستاذ "طه حسين" يحاول أن يثبت أن لمجامع اللغة طبيعة واحدة لا تختلف باختلاف الشعوب واللغات وظروف الأحوال فمضى يطبق القواعد التي يجري عليها مجمع اللغة الفرنسي مثلا على ما يجب أن يكون لمجمع اللغة العربية كأن الطبيعة والتاريخ لا حساب لهما في قياس الفارق بين اللغتين "اللغة العربية واللغة الفرنسية" وحال الشعبين. "أما ما ذكره" من أن المجامع اللغوية لا شأن لها بوضع المصطلحات العلمية وأخذه المثل على ذلك من المجمع الفرنسي ووضع بذلك مقياسا على الفارق البعيد والبعيد جدًا فلا جدال إطلاقا من أن المجمع اللغوي الفرنسي لن يقبل كلمة واحدة أو اصطلاحا يضعه عالم من العلماء أو مؤلف من المؤلفين ما لم ينطبق على القواعد المرعية في اللغة الفرنسية أولا أو في اللغتين اليونانية واللاتينية إذا كان المصطلح منهما، وإذا جاز هذا فإن ذلك يكون بمثابة حكم بالإعدام على المجمع يوقعه أعضاؤه على أنفسهم، فالمجمع الفرنسي يجيز المصطلحات الحدثية متى كانت صحيحة مطابقة لقواعد اللغات التي تؤخذ منها. إن طبيعة لغتنا والظرف القائم بيننا يجعل من أوليات المهام التي يجب أن يباشرها مجمع اللغة العربية النظر في وضع المصطلحات العربية الصحيحة مع

_ 1 الأهرام، 6 مارس 1937.

الاستعانة بأهل الذكر من العلماء الذين هم على استعداد للتضحية في سبيل اللغة، لا أهل الذكر الذين يضنون على المجمع بجهودهم وكثير ما هم, أهل الذكر الذين يستطيعون التأليف باللغة العربية ولا يستكبرون أن تصحح لغتهم أو مصطلحاتهم التي يستعملونها إسرافًا بالأخذ من الأصول الأعجمية بغير حساب. 4- الدكتور منصور فهمي 1: إني أعلم أن المجامع تسجل ما يلائم اللغة وما يفرضه الاستعمال إذا لاءم اللغة ومنذ القديم عربت كلمات ودخلت في معاجمها لمواءمتها أو أشير إلى أنها معربة؛ ولكن هل علمت أن لغة من اللغات الراقية الحية أو معجما من معاجمها القائمة لخدمتها وسلامتها يجيز أن نسجل لفظا فرضه استعمال عامة الناس أو فرضه استعمال أهل حرفة من الحرف أو طائفة من الطوائف دون أن يكون حقا هذا اللفظ ملائما للغة صحة أو وضعا أو قالبا، فمن هو ذلك الحكم الذي يحتكم إليه لمعرفة ما إذا كان اللفظ ملائما للغة أو نابيا عنها أو هناك في اللغة ما يعوض عنه. حدثني الأستاذ "فيشر" أن علماء الكيمياء والطبيعة من الألمان يستعينون بزملائهم العلماء في اللغات القديمة لعونهم على وضع مصطلحات في الكيمياء وفي الطبيعة فهل كان في ذلك خير. بل على العكس كان ذلك الدليل القاطع على أن أهل العلم يحتاجون لعلماء اللغة وأن ذلك يحصل كل يوم في فرنسا التي يستشهد بها الدكتور وفي غير فرنسا من البلاد.

_ 1 الأهرام 7 مارس 1937.

المسألة إذن ليس أمرها واضحا وحظها من البداهة لا يحتمل الخلاف. بل إن المسألة هي خلاف بعيد في الرأي بيني وبينك. فأنا أرى أن من عمل المجمع وضع المصطلحات الموافقة لسلامة اللغة وذوقها وأن من عمله مؤازرة العلماء وأهل كل فن وحرفة لتسمية المسميات الحديثة وأنت ترى أن أهل الحرفة وأهل العلم وحدهم هم الذين يضعون هذه المصطلحات حتى "دون أن يشاركهم في تسمية ما لا يتقنه من معاني العلم واصطلاحاته أحد". تبارك الله يا صاحبي. إن الحياة كلها تقوم على التآزر والتعاون فالأمور لا تقلب أوضاعها في مصر كما تقول. الأطباء يتصلون بأعضاء المجمع يلتمسون فهم الأسماء العربية لمعاني الطب وعندي أن مثل هذا هو وضع للأمور في مواضعها وسواه هو القلب العنيف. أما اللهجات فأعود وأقول: لم يكن من مهمة المجمع أن يبحث فيها ليتوصل إلى توحيدها. لا لإحياء الميت منها وذلك بإصلاح ما فسد من مفرداتها ورده إلى الأصل العربي السليم الصافي وبهذا الاعتبار حرص المجمع على الاشتغال بمختلف اللهجات. ومن أهم الأسباب التي تدعو إلى البحث في اللهجات هو الوقوف على وسائل تطورها في مختلف العصور إذ إن ذلك يعين على معرفة نفس التطورات التي حدثت في العربية الفصحى قبل أن تبلغ وحدتها. 5- طه حسين 1: إذا أردت الحق فإن مجمعنا اللغوي قد أنشئ على عجل, وأخشى أن

_ 1 7/ 3/ 1937 الأهرام.

يكون إنشاؤه الأول قد قصد به الدعاية السياسية أكثر مما قصد به إلى المصلحة الحقيقة وإلا فقد كان الملائم لمصلحة مصر أن ينشأ فيها مجمع على طراز المجمع العلمي الفرنسي لا على طراز المجمع اللغوي. حرام1 عليكم أيها الأصدقاء فلا يباح لكم أن تقتلوا هذه العامية الحلوة فإنا نجد في اختلافها لذة ومتعة وعزاء في كثير من الأحيان. 6- منصور فهمي 2: حرام عليك أن تشجع تبلبل اللهجات وتطري اختلافها، فاللغة العربية هي التي تجمع بين البلاد العربية فلتكن موحدة في اصطلاحاتها اللغوية ولتكن موحدة في جمال نطقها فذلك أحرى للجمع والترابط والتفاهم. فأنا أقول لك إنه حلال أن تقتل لهجات قد تقوى فتتحول إلى لغات مختلفة تفرق بين بعض الأهل والبعض الآخر وحلال أن نسعى نرتفع باللهجات إلى لغة عربية موحدة فصحى تجمع بين أهل اللغة العربية الموحدة. ثم توحد في الثقافة إخوانا في اللسان والإنسانية والبيان. 7- طه حسين: إن المجمع الفرنسي لا ينظم لجانه على هذا النحو المصري الطريف الذي يفرض فيه الخبراء فرضًا لأن المجمع الفرنسي لا يكلف نفسه ولا يكلف أحد ما لا يطيق من وضع الاصطلاحات العلمية. ولو قد كلفه أحد ذلك لرفضه لأنه يرفع نفسه عن العرض لما لا يحسن.

_ 1 9/ 3/ 1937, الأهرام. 2 10/ 3/ 1937.

واللهجات إن حديثها لعجب، ماذا يراد من مجمعنا اللغوي أن يصنع؟ بل وكيف يكون درسه لها وقوله فيها؟ إنني أحقق أن الذين يفرضون على مجمعنا درس اللهجات لم يصوروا لأنفسهم هذا الموضوع تصويرا واضحا. كلا. إن لعلم اللهجات خطره وقيمته ولكن مكانه في الجامعة لا في المجمع, وإذا عرض المجمع له فإنما يعرض له مصادفة حين يحتاج إلى ذلك بين حين وحين. فأما أن يفرض درسه والعناية الخاصة به على المجمع فشيء لا يفهم ولا يستقيم.

معركة الكتابة بالحروف اللاتينية

معركة الكتابة بالحروف اللاتينية: بين: عبد العزيز فهمي ومحمد كرد علي هذه معركة من معارك التغريب، المتصلة بمحاولة القضاء على اللغة العربية بدأها وقدمها عبد العزيز فهمي عضو مجمع اللغة العربية في "يناير 1944" ولقيت معارضة ضخمة من المفكرين والكتاب. وقد حاول عبد العزيز فهمي في أكثر من مرة أن يواجه العاصفة ولكنه عجز عن أن يقاومها واشترك في معارضته فيها عبد الوهاب عزام وإسعاف النشاشيبي وعباس العقاد ومحمد كرد علي ومحمود محمد شاكر وغيرهم. وقد تبين لي في السنوات الأخيرة بعد مراجعات واسعة أن عديدا من الصحف والباحثين شارك في هذه المعركة وأهمها مجلتي المنار والفتح. اقتراح اتخاذ الحروف اللاتينية لرسم الكتابة العربية. قدمه إلى المؤتمر في 24 يناير 1944 عبد العزيز فهمي: إن اللغة كائن كالكائنات الحية ينمو ويهرم ويموت مخلفا من بعده ذرية لغوية متشعبة الأفراد هي أيضا في تطور مستمر، ولن يستطيع قوم للآن أن يغالبوا هذه الظاهرة الطبيعية فإن التطور يكبح شراسة من غالبه. كانت اليونانية القديمة لغة شعر وحكمة فلما اشتد التبلبل في ألسنة أهلها اضطروا على الرغم منهم أن يتخذوا من عاميتهم لهجة جعلوا لها قواعد نحو وصرف وهي التي يتكلمونها ويكتبون بها اليوم. وكانت اللاتينية لغة الإمبراطورية الرومانية فأتى عليها التطور فاشتقت منها الإيطالية والفرنسية والإسبانية وغيرها. وكل لغة من تلك اللغات الذراري هي كل يوم في تطور. ولكن حال اللغة العربية حال غريبة, بل أغرب من الغريبة لأنها مع سريان التطور في مفاصلها وتحولها في عدة بلاد من آسية وأفريقية إلى لهجات لا يعلم عددها إلا الله لم يدر بخلد أي سلطة في أي بلد من تلك البلاد المنفصلة سياسيا أن تجعل من لهجة أهله لغة قائمة بذاتها، لها نحوها وصرفها وتكون

هي المستعملة في الكلام الملفوظ, وفي الكتابة معًا تيسيرًا على الناس كما فعل الفرنسيون والإيطاليون والإسبان وبقي أهل اللغة العربية من أتعس خلق الله في الحياة. إن أهل اللغة العربية مستكرهون على أن تكون العربية الفصحى هي لغة الكتابة عند الجميع وأن يجعلوا على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا وأن يردعوا عقولهم عن التأثر بقانون التطور الحتمي الآخذ مجراه بالضرورة رغم أنوفهم في لهجات الجماهير. هذا الاستكراه الذي يوجب على الناس تعلم العربية الفصحى كيما تصح قراءتهم وكتابتهم هو في ذاته محنة حائقة بأهل العربية، إنه طغيان وبغي، لأنه تكليف للناس بما فوق طاقتهم. ولقد كنا نصبر على هذه المحنة لو أن اللغة العربية الفصحى كانت سهلة المنال كبعض اللغات الأجنبية الحية لكن تناولها من أشق ما يكون وكلنا يؤمن بهذا. وبعد أن أورد بعض صعوبات العربية: الأفعال مجرد ومزيد، الفعل الثلاثي وأوزانه، الأسماء المصروفة والممنوعة قال: تلك الأشواك والعقبات وهذا التعدد يريك الواقع من أن هذه اللغة العربية ليست لغة أمة واحدة لقوم بعينهم بل إنها جموع كل لهجات الأعراب البادين في جزيرة العرب من أكثر من ألف وأربعمائة سنة جمعها علماء اللغة وأودعوها المعاجم وجعلوها حجة على كل من يرد الانتساب للغة العربية ولا يعلم إلا الله كم لهجة كانت. أفليس من الظلم المبين إلزام المصريين وغير المصريين من متكلمي

اللهجات العربية الحديثة بمعالجة التعرف بتلك اللهجات القديمة التي ماج بعضها في بعض فانعجنت. لئن كان قانون التطور وصعوبة الأوضاع والقواعد هما اللذان رانا على جمال العربية فباعد بينها وبين أهلها وطلابها، وإنهما وحدهما اللذان يعملان في هدم كيانها، فإنها مع الأسف الشديد تكون آيلة للزوال لا محالة على الرغم ما فيها من قوة الحيوية الذاتية، إذ إن هذه الحيوية لن تستطيع مغالبة قانون التطور وصعوبة الأوضاع والقواعد. لكن الواقع لحسن الحظ أن السبب الحقيقي في فرض هذه اللغة الجميلة وانزوائها في عقر بيتها إنما هو استبداد أهلها وإكراههم إياها على الظهور في ثوب غير مقيس عليها وصورة مبهجة مشكلة لا تجلي من جمالها شيئًا, أريد رسم كتابتها. إن رسم الكتابة العربية هو الكارثة الحائقة بنا في لغتنا, إنه أكبر عون لقانون التطور والإحساس لما فيها من الصعوبات وللالتفات عما يزينها من جمال. إذن أول واجب على أهل اللغة العربية هو أن يبحثوا عن الطريقة التي تيسر لهم كتابة هذه اللغة على وجه لا يحتمل فيه الكلمة إلا صورة واحدة من صور الأداء. ولقد فكرت في هذا الموضوع من زمن طويل. فلم يهدني التفكير إلا في طريقة واحدة هي اتخاذ الحروف اللاتينية وما فيها من حروف الحركات بدل حروفنا العربية كما فعلت تركيا؛ أخطر هذا في بالي أني عقب أن أمر المرحوم مصطفى كمال باستبدال الحروف اللاتينية العربية التي كانت مستعملة في كتابة

اللغة التركية لاقيت أحد نظار المدارس بالأناضول فسألته عما يكون أحدثه هذا الانقلاب في التعليم عندهم فأخبرني أن اتخاذ الحروف اللاتينية وما فيها من حروف الحركات قد امتعض منه الأهالي في بادئ الأمر, ثم تدخلت الحكومة وابتدأ تعليم الأطفال اللغة مرسومة كلماتها بتلك الحروف فكانت دهشة الأساتذة ودهشة الأهالي كبيرة إذ وصل الطفل في شهرين أو ثلاثة إلى قراءة أي متن مكتوب بها قراءة صحيحة وذلك بعد أن كان الطفل يستغرق سنين في قراءة التركية مكتوبة بالحروف العربية ويصحفها بكل ضروب التصحيف على مثال ما هو حاصل عند أهل العربية. إن لكل تجديد غصة وفي كل خارج عن المألوف غضاضة، وإنما تنجع المقالة في المرء إذا ما صادفت هوى في الفؤاد. ثم بين الطريقة التي يرى استعمالها: وتحويل الكسرة إلى "i" والضمة إلى "u" والفتحة إلى "a" إلخ. ثم صور مزايا استعمال الحروف اللاتينية فقال: إن الحروف الهجائية بحسب ما وضعناها لا تخل بشيء من نغمات الحروف العربية بل هي تبرزها جميعًا بلا استثناء. وكل نغمة منها بشخصها كما هو الحال الآن حرف واحد لا يشرك غيره معه في أدائها. ثم قال: طريقة الحروف اللاتينية التي أقرها هي الوسيلة الوحيدة المتعينة لتخلية لغتنا الفصحى في جلالها وجمالها على الوجه الواحد المتعين من أوجه النطق بكلماتها. 2- محمد كرد علي 1: سمعت زميلي عبد العزيز فهمي يتلو علينا موضوعه في الدعوة إلى

_ 1 مذكرات محمد كرد علي جـ2 ص449.

الاعتماد على الحروف اللاتينية في كتابه اللغة العربية, ثم قرأت مقترحه مطبوعا فرأيته مفتنا في إيراد البراهين عارفا بالاستطراد والاستنباط، يريد أن يؤثر في عقل السامع والقارئ، وقد وقعت له مقاطع من الكلام خانه فيها اللفظ منها قوله: إننا نحن الضعاف أي العرب نطأطئ كواهلنا أمام تمثال اللغة نحمل أوزار ألف وخمسمائة سنة مضت وأننا من أتعس خلق الله في الحياة لأننا لم نعالج التيسير الذي فعله أهل اللغات العربية إلى غير ذلك مما لم يكن غير أسلوب خطابي يحاول أن يخرج منه ليفرض على الناس اختراعه الجديد. وبلغ بالأستاذ فرط الغيرة على تبسيط اللغة أن رثى لها بما فيها من صعوبات ومنها تبرمه بما في الأفعال من مجرد ومزيد، ونعى على العربية تعدد جموعها وتشكل الواحد من الأسماء الجامدة جملة أشكال. يقول زميلي: إنه يوشك أن تغزونا اللغات الأجنبية فتترك لغتنا ونستعيض عنها بلغة من لغاتهم وهذا خوف لا محل له لأن العربية تزداد كل يوم رسوخا في نفوس أهلها بفضل النهضة التي نهضناها وبفضل توفر أسباب التعليم والنشر ومما قال إن لغتنا كانت سبب تخلفنا في مضمار الحياة, وما أظن شيخ القضاة إلا ويعرف أن لانحطاط الشعوب الإسلامية في بعض مظاهرها عوامل أخرى لا علاقة لها بحروف الكتابة وقواعد الرسم وأن برهانه هذا ضعيف لا يصح الاستدلال به على من هو بصدده. إنه يعرف كما نعرف جميعًا أننا أنشأنا مدنية شهد لعظمتها كل من قاموا بعدنا وما حال هذا الخط ومن قبله الخط الكوفي دون الانتفاع بما آل إلينا من علوم القدماء وما وضعناه نحن بصنعنا وقرائحنا من علوم وآداب1.

_ 1 مذكرات كرد علي جـ2 ص449.

وتبرم حضرته من تعدد اللهجات العربية وأنا أبشره بأن هذه اللهجات يقل عددها ولا يزيد كما ادعى، إننا نقترب كل يوم من الفصحى بفضل المدرسة والجريدة والكتاب والخطبة والمذياع, أي أن اللهجة الدارجة تتضاءل أمام اللغة الأدبية، والفصحى تتغلب على العامية اليوم بعد اليوم. ومن الحجج التي أدلي بها لإثبات قضيته التمثيل لنا بالأتراك وهي في الواقع حجة عليه لا له. فالأتراك لما أخذوا بالحروف اللاتينية وقضوا على الأمية فيما زعموا بهذه البدعة الجديدة التي ابتدعوها قطعوا كل صلة بينهم وبين ماضيهم وعمر هذا الماضي لا يقل عن ستمائة سنة. وشأن العربية غير شأن التركية لأن العربية تمثل تراث العالم الإسلامي كله وإذا عملنا عمل الأتراك نقضي على تراث علمي وأدبي وديني دام مطردًا خمسة عشر قرنا مما لم يعهد لأمة مثله ومعنى ذلك الزهد فيما خلفه العرب من آثار، والقضاء على مشخصاتنا وهو ما لا يرضى بذلك عربي مسلم. خسر الأتراك أي خسارة بما أتوا من العبث بلغتهم فلا نريد أن نتقبل مثالهم ولا يجوز لأنفسنا الاقتداء بأهل لغة من اللغات فمنحانا غير منحاهم ولغتنا تتسامى عن جميع لغات الشرق. إن الصعوبة الموهومة في لغتنا ما وقفت في سورية دون تعليم الرجل البالغ من ابن العشرين إلى الخمسين في المدارس الليلية التي أنشأناها بما أخرجناه به في أربعة أشهر من الأمية. إذن؛ فالعربية ليست من الصعوبة بخطها على ما يزعم رصيفي والعرب إذا قصروا في التصوير فقد عوضوا عنه هذا الخط الجميل والنقوش, واللبس

إلى حروف الكتابة اللاتينية أقرب أن يحل حروف الكتابة بإحدى اللغات اللاتينية. نحن هنا لإحياء العربية ونخشى أن تدعو هذه الصيحة إلى زعزعة السمعة الأدبية التي أحرزتها مصر فإن في اعتماد الحروف اللاتينية بدل هذه الحروف العربية الجميلة يحدث تناقضا مع الغاية السامية التي أنشئ المجمع لأجلها نحن لا نملك بوجه من الوجوه إدخال جديد مضر يكون فيه القضاء على قديم مقدس. 3- أستاذ جليل "إسعاف النشاشيبي": ذكر1 برناردشو في مقدمة كتاب "هجرة نشأة اللغة" للأستاذ ويلسون؛ إذ يرى أن حروف الهجاء الإنجليزية لا تناسب اللغة الإنجليزية نظرا لأنها وضعت في الأصل من أجل اللغة اللاتينية التي تختلف في مخارج ألفاظها عن لغة أبناء التاميز. وعلى ذلك فهجاؤها يبعد كل البعد عن وقعها على السمع. ولا شك أن الذين يرغبون في حذق الهجاء الإنجليزي يقرون نقده هذا وهو نقد لا شك سيهم القارئ العربي لاتصاله بالتغيير الذي يقترحه بعضهم بشأن كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية، إذ يحق لنا أن نتساءل بعد ذلك إذا كان من الحكمة الاستغناء عن حروف الهجاء العربية التي تمتاز على الأقل بأنها وضعت خصوصًا للغة العربية واستبدال حروف بها وإن كانت شائعة الاستعمال إلا أنها لا تناسب حتى هذه اللغات التي دأبت على استعمالها منذ أول عهدها بالكتابة والحروف اللاتينية التي نقدها كاتب القوم

_ 1 مجلة الرسالة 10 أبريل 1944.

العبقري: برناردشو وأبدت هذه المجلة نقده إياها، إنما هي الحروف العربية غير المهذبة التي كتبها كاتبوها من الشمال مكثرين من حروف المد فيها، والبركات في تلك الحركات قد خفت وسهل النطق بأحرفها، مطيلين الكلمة بتسطير حروفها جميعها، والعربية قد أبدعت حين أخذلت، متعبين عيون القارئين بما صوروا وطولوا؛ وشتان ما بين حرفان أحدهما يريح البصر والآخر يرهقه. فسم الحرف اللاتيني بالحرف المتعب تنصفه. ولقد بالغ إخواننا الترك في الإساءة إلى أنفسهم باستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير وتفضيل الشمال على اليمين. أما مقترح تصوير العربية بالحروف اللاتينية الذي أشارت إليه مجلة المستمع العربي فهو كمقترح استعمال تلك العامية ولكل إقليم عربي عامية بل بلية، والأمم العربية قد أجمعت على أن تكون في هذه الدنيا في الكائنين لا أن تبيد في البائدين، وأن دعوة الباطل متلاشية ودعوة الحق هي الباقية. 4- محمود محمد شاكر 1: عبد العزيز فهمي رجل كنا نعرفه بالجد والحرص والفقه وطول الباع في القانون وكنا نظنه رجلا محكم العقل في جميع نواحيه لا يتدهور إلى ما ليس به عهد ولا يرمي بنفسه في غمرات الرأي إلا على بصيرة وهدى. فلما قال ما قال عن الحروف العربية في المجمع. ونشرت الصحف قوله ورأيه قلنا: عسى أن يستفيق الرجل ويعود إلى سالف ما عهد فيه من الحكمة والمنطق، وأن يكون ما قال خالصًا لخدمة العربية. نحن نسلم للأستاذ الجليل بما يقول عن صعوبة الحرف العربي المكتوب وبأنه يعوق القراءة وأنه يجعل العربية أبعد متناولا عن عامة الناس، نسلم له

_ 1 الرسالة 10 أبريل 1944.

بهذا ثم ننظر كيف يكون الرأي الذي اعتسفه فظنه للتسهيل ومدعاة لنشر العربية، وكيف يكون الذي يخرج الحرف العربي الغامض إلى البيان والوضوح فلا يكون مضللا ولا معوقا، فإنه يزعم أن "ليس لدى المسلمين وغيرهم من أهل البلاد العربية وقت فائض يصرفونه في حل الطلاسم" هذا هو محصول رأيه. إن أول التضليل في رسم العربية باللاتينية أن يضيع على القارئ تبين اشتقاق اللفظ الذي يقرؤه. فإذا عسر عليه ذلك صار اللفظ عنده بمنزلة المجهول الذي لا نسب له. وصار فرضًا عليه أن يعمد إلى رسم المادة الواحدة من اللغة في جميع صورها التي تكون في السياق العربي ثم عليه أن يحاول تقريب الشبه بالذاكرة الواعية ثم عليه أن يحفظ معاني ذلك كله. فإذا كان هذا شأنه في المادة الواحدة فما ظنك باللغة كلها. يومئذ تصبح العربية أجهد لطالبها من اللغة الصينية، نعم، وإذا ضل عن تبين الاشتقاق والتصريف، فقد ضل عن العربية كلها لأنها لم تبن إلا عليهما، وهي في هذه الوجهة مخالفة لجميع اللغات التي تكتب بالحرف اللاتيني، لأن الاشتقاق والتصريف يعرضان لها من قبل بناء الكلمة كلها حتى تختلف الحركات على كل حرف في كل بناء مشتق أو مصرف ثم يزيد على ذلك ما يدخل الكلمة من جميع ظروف الحروف العاملة وغير العاملة، ثم علل الإعراب والبناء والحذف، إلى آخر كل ما يعرفه مبتدئ في العربية1. وقوله: حل الطلاسم فأي الطلاسم؟ أهي الطلاسم التي تدخل على كل حرف من الحروف في المادة الواحدة، ألوانا من الحركات تكتب بين

_ 1 الرسالة 10 أبريل 1944.

كل حرف وحرف وفي أواخر كل كلمة وتقف فواصل متباينات بين حروف مادة واحدة من لغة بقيت على الاشتقاق وعلى الاختصار وجاء فيها الجموع المختلفة والصفات والأبنية ذوات المعاني. أهذه هي الطلاسم أم تلك؟ وأيهما أفسد لوقت المسلمين وغيرهم من أهل البلاد العربية! بل أيهما أخزى وأشنع فتكا وشراسة، بل أيهما يغول العقل لا الوقت وحده. ولكنها فتنة، فتنة اغتر بها شيخ صالح فاستغلها من لا يرى للعربية حقًا ولا حرمة. 5- إسماعيل مظهر 1: ما أشبه لغتنا العربية المجيدة بكرة الأرض وحادثتها مع الشيطان! فإن هذه اللغة ما فازت بالبقاء دون أخواتها الساميات إلا لأسرار فيها يعجز عن إدراكها الفكر ويضل في بحثها التاريخ، وكل تعليل لهذه الظاهرة إنما هو تعليل ناقص فإن ذلك التيه الواسع الذي نسميه اللغة العربية إنما هو على اتساعه وحدة كاملة الأطراف متماسكة الجوانب إذا اقتلعت منه حجرًا واحدًا انهارت منه أركان. وإذا زعزعت منه أساسا تداعت من حوله كثير من الأسس، فلقد تطورت هذه اللغة على مر السنين. وتكاملت على كر الأعوام حتى أصبحت كالبناء المصبوب من الفولاذ، ناحية النقص الواحدة فيه أنك لا تجد فيه منفذًا واحدًا يمكنك أن تضيف إليه جديدًا منه غير أنه يظهر كالرقعة المهلهلة في الثوب الجديد الكامل النسق.

_ 1 الرسالة 13 مارس 1944.

وما الذي يحملنا على أن نفكر في الحروف اللاتينية لنكتب بها العربية، ما الذي يحملنا على أن نحمل ذلك الحجر الثقيل على أكتافنا من بلاد اللاتين إلى صميم بلاد العرب لنقذف به لغة العرب فيلوب في بحرها الخضم ثم يلوب ومن بعد تبتلعه، ولا نكسب من ذلك إلى تعب الحمل ووزر ذلك الشيطان الذي قذف كرة الأرض بحجره الثقيل، فلم ينتقصها وإنما ابتلعه جمالها فزادت به جمالا ولا يغير من طبيعتها وإنما زاد إلى تاريخها فضلا محجوبا مكروها. إنما يكون مثلنا في هذه الحال كالشمطاء التي أبت إلا أن تنتقص جمال حسناء، حقدًا وكيدًا فاجترت خصلة من لمتها فبدت غرتها أجمل وأفتن. 6- عباس محمود العقاد 1: خالفت رأي معاليه لأن اقتراحه يترك الصعوبة الأصلية قائمة ويعنى بالصعوبة المتفرعة عنها وهي تابعة لها باقية ببقائها فلا صعوبة عندنا في كتابة حرف من الحروف مضموما كان أو مفتوحا أو مكسورًا إذا عرفنا أنه مضموم أو مفتوح أو مكسور ولا صعوبة كذلك في قراءته مع هذه المعرفة سواء أكان مشكولا أم غير مشكول. إنما الصعوبة الأصلية أن نعرف ما يضم وما يكسر ثم نكتبه ونقرأه على صواب. وترجع هذه الصعوبة إلى خواص في بنية اللغة العربية لا وجود لها في اللغات التي تكتب بالحروف اللاتينية غربية كانت أو شرقية. أما الكتابة بالحروف اللاتينية فإن صح أنها تضمن للقارئ أن يقرأ ما أمامه على صورة واحدة. فهي لا تمنع الكتاب المختلفين أن يكتبوا

_ 1 الرسالة 17 مارس 1944.

الكلمة على صور مختلفة كلها خطأ وخروج على القواعد اللغوية ومن هنا يشيع التبلبل على الألسنة ويقرر الخطأ تسجيله في الكتابة والطباعة بدلا من تركه متحملا للقراءة على الوجه الصحيح. فقصارى ما نعنيه بهذا التبديل، أننا ننقل التبعة من القارئ إلى الكاتب ولا نمنع الخطأ ولا نضمن الصحة، وهي فائدة لا يبلغ من شأنها أن تبدل معالم اللغة وتفصل ما بين قديمها وحديثها. وكان من أسباب مخالفتي لاقتراح الأستاذ العلامة -وهي كثيرة- أن طريقته ليست بأيسر من طريقتنا التي نجري عليها الآن في كتابة الكلمات العربية مضبوطة بعلامات الشكل المصطلح عليها في موضع الحاجة إليها1. إن الطريقة اللاتينية المضاف إليها بعض الحروف العربية تعفينا من علامات الشكل ولكنها تضطرنا إلى زيادة الحروف حتى تبلغ ضعفها أو أكثر من ضعفها من كلمات كثيرة وتوجب هذه الكلفة على العارفين وهم غنيون عنها. ثم هي لا تغنينا بتة عن النقط والشكل لأنها تعود بنا إلى النقط في حروف وإلى ما يشبه الشكل في بعض الحروف لتمييز الألف والتاء والذال والشين. حاول الأستاذ عبد العزيز فهمي باشا أن يصلح من اللغة العربية بمشروعه ذلك بأن يجد طريقا يسهل على الناس قراءة العربية صحيحة كما تلقينا من الفصحاء. وأشار من طرف خفي إلى حروف الحركة، كأن اللغة العربية

_ 1 الرسالة 18 سبتمبر 1944.

ليس بها حروف حركة. ولكنه نسي أن العربية تمتاز على جميع لغات العالم من هذه الناحية، نسي أن بها حروف مد وحروف حركة. ما أريد أن أتكلم عن تراث العرب والعربية وما أريد أن أتكلم في أن هذه اللغة لغة دين ولغة أدب وعلم وفن انحدرت إلينا من خمسة عشر قرنا إلا قليلا تحمل إلينا في تضاعيفها مشعل الماضي مضيئا، إن هذه النزعات نزعات يبعثها ضعف في القومية واستهتار بتراث العرب الموروث ونبذ لكل تقليد قديم تلقيناه عن أصولنا.

الباب الثالث: معارك مفاهيم الثقافة

الباب الثالث: معارك مفاهيم الثقافة مدخل ... الباب الثالث: معارك مفاهيم الثقافة مفاهيم الثقافة: هي البؤرة التي دارت حولها بعض المساجلات والمعارك الأدبية الجادة، كان هناك اتجاه تغريبي لفرض آراء جديدة، عفيفة صارمة، مخالفة تمام المخالفة لوجهتنا وقيمنا، ومحاولة لاتهامنا بالقصور والتخلف في مفاهيمنا الأساسية، وهي في جملتها ترديد لنظريات وضعها المفكرون الاستعماريون لفرض سلطان الغرب الفكري كأساس لتركيز قواعد الاستعمار والتجزئة ومسخ الشخصية المربية الإسلامية وتمييعها. المعارك: 1- ثقافة الشرق وثقافة الغرب. 2- لاتينيون وسكسونيون. 3- النزعة اليونانية. 4- كتابة السيرة. 5- كتابة التاريخ. 6- معركة الترجمة. 7- أدب الساويتش. 8- غاية الأدب. ما هي؟ 9- متى يزدهر الأدب؟ 10- الأدب المكشوف. 11- التراث الشرقي. 12- ثقافة دار العلوم.

ثقافة الشرق ثقافة الغرب

ثقافة الشرق ثقافة الغرب: معركة بين فيلكس فارس وإسماعيل أدهم: هذه معركة أدبية من أضخم المعارك التي دارت حول الثقافة العربية وهل هي شرقية أم غربية؟ بدأها توفيق الحكيم بمقال في الأهرام عنوانه "هل يوجد اليوم شرق؟ " ورد عليه فيلكس فارس بما كان قد أورده من قبل في مناظرة مع إسماعيل أدهم أحمد. ثم بدأت المساجلة بين فيلكس وأدهم واتسع نطاقها وشمل كل ما يتصل بفنون الثقافة والعلم والموسيقى وظهر الاختلاف واضحا بين مفاهيم الكاتبين، أحدهما مسيحي عربي يؤمن بثقافة العرب ويدافع عن كيان الأمة العربية أن تنمحي في الصورة الغربية، والآخر مصري تركي مسلم يؤمن بمفاهيم الغرب وآراء المستشرقين المتعصبين في العرب وفي عقلنا وتراثنا ويزدري كل مقدراتنا ويحتقر مقومات تفكيرنا، بينما يقف فيلكس فارس موقف الإيمان البصير بتراثنا وكياننا العربي ومدافعا عن هذا التراث بحرارة قوامها العلم والرأي النقي المتسامح غير المتعصب. وتعد هذه المناظرة خلاصة النظريتين اللتين تصارعتا في عالمنا العربي خلال هذه الفترة. هل يوجد اليوم شرق؟ توفيق الحكيم "الأهرام 13 مايو 1938": قال "إذا لم يكن لنا قدرة على خلق حضارة شرقية فلنفعل ما فعلت تركيا وننخرط بكل بساطة في سلك الأمم الأوروبية". فيلكس فارس "الرسالة" 6 يونيه 1938: إن الأستاذ توفيق الحكيم لا يجهل أننا إذا عجزنا عن خلق الحضارة الشرقية وعن إحيائها بتعبير أصح، فإن انخراطنا في سلك الأمم الأوروبية لا يوصلنا إلى الهدف الذي تتجه إليه الأمة التركية ولما تصل إليه، فإن بين الفطرة التركية والفطرة العربية من الفروق ما لا يصح معه أن يتخذ العرب الترك قدوة

لذلك لا أحسبني مخطئا إذا ذهبت إلى أن الأستاذ الحكيم لم يخير العرب بين حضارتين إلا ليثبت لهم أن في أعماق قلوبهم شرقا لا حياة لهم إلا بالاتجاه إليه واستجلائه وراء ظلمات الأحقاب. وذكر أنه كان قد ناظر إسماعيل أدهم حول موضوع "أمن الخير لمصر أن تأخذ الحضارة العربية؟ " وهذا هو تفصيل رأيه: أولا: "التفريق بين الثقافة والعلم" إن العلم مشاع لكل الأمم ولكل الأفراد فهم يتفقون فيه على ما بينهم من اختلاف بعيد في نظرات الحياة، وفي حين أن الثقافة مستقرة في الشعور فهي "دماع في قلب" لا قانون لها لأنها راسخة في الفطرة، والفطرة في الفرد، كما هي في الأمم ميزة خاصة في الذوق، واستعداد خاص لفهم الحياة والتمتع بها، فإذا كان العقل رائدا لبلوغ الحاجة فليست الفطرة إلا القوة الممتعة للإنسان بتلك الحاجة بعد الظفر بها، وكما أن لكل فرد ثقافته التي تتجلى فطرته فيها، هكذا لكل أمة ثقافتها المستقرة في فطرتها، فلا ريب إذًا في أن سعادة الفرد والمجموع وشقاء كل منهما يتوقفان على ملاءمة الحياة أو عدم ملاءمتها لما فطرا عليه، وسواء أكان المرء مخيرًا أم مسيرا في إرادته وأعماله فإنه على الحالين غير مخير في ذوقه في الحياة وفي لذته وألمه منها، فكل فرد خالفت طريقة حياته ما استقر من الحوافز في فطرته يفقد الشعور التام بتلك الحياة ويتعرض للسقوط في المعترك، وهكذا الأمم إذا خدعت نفسها وسارت في حياتها على ما يؤلم فطرتها فإنها تفقد قوة الارتقاء بذاتها فتميت شخصيتها دون أن تتدفق إلى الأنبعات في شخصية تستعيرها من سواها.

ثانيا: "بين الحضارة الآلية والحضارة الذهنية": إن الخلاف الذي ينشأ بين باحثي مسألة الشرق والغرب إنما ينشأ من عدم التفريق بين المدنية الآلية والمدنية الأدبية. التغريب الشامل: 2- إجابات إسماعيل أدهم على آراء فيلكس فارس: "أدهم": إن الشرق روحه الذي يستوحيه أبناؤه نزولا على فطرتهم وللغرب منطقه الذي يستنير به أفراده نزولا على وحي مشاعرهم. "ف": العلم مشاع بين كل الأمم وما اخترع الغرب المنطق ولا هو أوجد التفكير العلمي لنعترف له بثقافة قوامها التفكير ينفرد بها بين ما على الأرض من الشعوب. "أدهم": إن الحياة العلمية التي يحياها المصري الآن تجري على غرار ما كان بحياة أسلافه الفراعنة. "ف": أنا لا أرى في حياة المصريين اليوم أثرًا من الحضارة الفرعونية لا في الحياة العلمية ولا في الحياة الأدبية، كما لا أرى شيئا من حضارة الفينيقيين في حضارة أهل سوريا ولبنان، وما تبقى من هذه الحضارات المستغرقة في القدم إلا أهرام ومعابد وأعمدة وقصور وقبور. "أدهم": وجوب تلقيح الذهنية المصرية بثقافة غريبة تبث فيها النشاط وتدفع بالأمة إلى الحياة. "ف": إن السبب الذي يراه الناظر موجبا لهذا الانحراف إلى ثقافة

الغرب فقائم على اعتقاده بأن الثقافة العربية ذاتية تدفع بالإنسان إلى الذهاب مع الخيال، فردية تذهب بالفرد إلى الانعزال عن المجتمع في حين أن ثقافة الغرب أو ذهنيته تستجل حقائق الحياة بالتفكير الفلسفي والبحث العلمي. "أدهم": إن المدنية الغربية مستمدة من الثقافة الأوروبية العلمية في حين أن الشرق العربي يتوه ذاهبا وراء خياله. "ف": إن الأمر ليس كذلك، وإليكم البرهان، فهو يقول إن عصرنا عصر العلم. ولقد بدأ ذلك العصر بثورة نفر من رجال القرن السادس عشر على العقلية القديمة التي تبحث عن علل الأولى فسيروا سنن الطبيعة وأقاموا عليها المدينة مستمدة من الذهنية الآرية. إذ إن أصحابنا الآريين كانوا يغطون في نومهم ولم تراود أحلامهم الآلهة التي خلقتها عقلية التعاون فيهم فبلغ عدد هؤلاء الآلهة الثمانية، آلاف من الأساطير التي يراها الناظر غنية بالرمز والفن، وما هي في نظر الشرقي العربي إلا دلالة فقر مدقع في التفكير وجموح في خيال لم يدرك شيئا من الوحدة التي تقوم حقائق الأشياء عليها. وفي هذه الأثناء كانت الحضارة العربية تحتضن العلوم القديمة وهي ممثلة بأرسطو في الاستقراء وبأفلاطون في القياسات، وما كانت هذه العلوم في ذلك العصر إلا في طور التدرج الأولي فاستولى عليها التفكير العربي لا ليدفعها إلى الارتقاء فحسب، بل ليستنبط ويعدل ويوجد. ومما يجدر ذكره هو أن العرب حين اقتبسوا من تراث اليونان ما

يعززون به تفكيرهم العلمي ولم تستهوهم الثقافة اليونانية ولا حضارتهم الأدبية إذ أحسوا بما بين الحضارة التي كانت تمخض في شعورهم وتقديرهم للحياة وبين حضارة اليونان الاجتماعية من مهاو سحيقة فأعرضوا عن شعورهم وموسيقاهم ونظم إحيائهم، لذلك لا تجد في شعر العرب شيئا من إبهام بيندار وأوريبين وهيوس، وهذا الأخير بقي مجهولا حتى ترجمة البستاني في أوائل هذا القرن، وقد برز العرب في تقدمهم في علوم الآلات وتوازن السوائل ونظريات الضوء والإبصار والهندسة وعلم الهيئة فوضعوا علم الكيمياء واكتشفوا أجهزة للتقطير وأوجدوا الأسطرلاب ووضعوا جداول الأوزان النوعية والأرياح الفلكية. وهم واضعوا علم الجبر والأرقام. وما كاد ينقضي القرن الثامن الميلادي حتى كان هارون الرشيد يسير شوطًا بعيدًا في مضمار الرقي ليسلم إلى المأمون سنة 813 المدينة التي أصبحت عاصمة العلم الكبرى في ذلك الزمان. ويذكر التاريخ أن هارون الرشيد كان أرسل إلى شارلمان ساعة تدل على الزمان بحركة من الشريط المربوط فأفزعت حركتها هذا الملك حتى أمر بكسرها. أبعد هذا يصح لقائل أن يقول إن رسالة الشرق روح وشعور فقط وأن رسالة الغرب عقل ومنطق؟ إن مناظري قد ضيق عدسة منظاره، وحدق على مجال من الزمان لا يزيد على قرن ونصف قرن متطلعا إلى الرقي العلمي في طوره الأخير فخيل له أن الغرب قد أوجد وأبدع وأكمل بعقليته الآرية، ثم التفت إلى الشرق العربي وهو خارج محطما من عبودية نيف وأربعة قرون فحسب أن السامية العربية هي ما لمحه من عدسة منظاره.

"أدهم": إن هناك تجربة نجحت إذ كانت الدولة العثمانية تمتد حتى الدانوب وتعيش على غرار شرقي فكانت منبعا للفساد في العالم فلما استقلت عنها المجر ورومانيا والبلغار واليونان اليوغسلاف فأخذوا بمدنية الغرب تقدموا. "ف": إن الدولة العثمانية التي "عاشت على غرار شرقي" إنما كانت آرية في روحها وما تسنى لها طوال حكمها الذي سحب أذياله قرونا أن تدغم فيه العنصر العربي السامي أو تندغم فيه فارتفعت عليه ولم تتمكن من الارتفاع به بالرغم من اعتناقها دينه المبين. وليت الدولة العثمانية بعد أن بنت سلطانها على السطوة عرفت أن تحتفظ به بالعمل على ترقية الشعوب المستظلة بعلمها، ليتها لم تكتف بالمظاهر، معرضة عن الصفات العليا التي أنار الخلفاء الأقدمون بها وجه الأرض وأقاموا عليها أروع حضارة عرفها التاريخ، إذن لما كانت الشعوب التي ذكرها المناظر لتتنفس الصعداء بزوال كابوس الدولة العثمانية عنها, وما كان اليونان والبلغار وسواهم مرهقين متقهقرين لاتخاذهم الثقافة العربية فإنهم ما عرفوها وما عملوا بها. ما يقوله المناظر عن أن اليابان نهضت بالمدنية الغربية بعد أن أعرضت عن منطق الحياة الشرقية ففيه حقيقة كبرى تقدم برهانا على نظريته؛ فإن اليابان لم تزل متمسكة بثقافتها كل التمسك وفي ذلك سر ارتقائها، فهي لم تأخذ من الغرب إلا الآلة والآلة فقط. وما الآلة إلا نتاج العلم العملي الوضعي الذي رافق الإنسانية منذ اكتشف أول مكتشف شرارة النار في كهفه. وليس للهندسة والكيمياء وعلوم الأحياء وسواها طابع قومي1.

_ 1 الرسالة 6 يونيه 1938.

تحدث أدهم عن الثقافة الغربية والذهنية الآرية. "ف": ما تلك النظرية إلا توهم اتخذته نحو "جينو" وأتباعه إذ قالوا بتفوق السلالة الآرية على سائر الأرض لتفردهم بشكل خاص في جماجمهم وبنوع خاص في شعرهم، وبلون فارق في جلودهم، فادعوا أن هذا الشكل دون سواه من بني الإنسان يملك صفاء الذهن وقوة الاختراع والعبقرية بأنواعها, غير أن الاستقرار قد اضطر دهاقنة علماء الأحياء إلى الاعتراف بفساد هذه النظرية بعد أن رأوا أن الجماجم التي ينطح بها الآريون السحاب إنما يحمل مثلها أقزام أفريقيا الوسطى. "أدهم": إذا أخذنا بما اكتشفه العرب من علم يمكننا التحكم بمقدراتنا فإننا نستطيع أن نغير عقليتنا لنقيس طرائف الغرب التي توصلنا إلى خير النتائج. "ف": لماذا يجب أن تعمل الشعوب العربية على تغيير عقليتها وإنكار فطراتها وحوافزها التي تكونت من أعظم حوادث التاريخ طوال ألوف السنين ما دامت هذه العقلية نفسها قد أنارت الدنيا بعلومها وآدابها واكتسحت الغرب كله بروحانيتها وشرائعها؟ "أدهم": متى أصلحت روحانية الشرق النفوس ما دام العالم هو بشروره لم يتغير؟ "ف": نحن نقول إن روحانية الشرق هي التي أسقطت ألوف الآلهة في الغرب عن عروشها، وإن الشعوب الآرية بدون استثناء أي عنصر منها إنما اهتدت إلى الحق والجمال في منشأ حضارتها بتفكير الشرق ووحيه وإلهامه.

فإذا نحن رجعنا بالذكر إلى حضارة أوربا الوثنية التي بنيت على خرافات الأساطير لا يسعنا بعد ذلك أن ننكر الواقع ونقول بأن الإنسان كان سيهتدي دون أن يهدى. "أدهم": قال الدكتور باتروفيل: بأنهم سيصلحون بالعلم من البشر ما عجزت الأديان عن إصلاحه منذ ألوف السنين. "ف": إن العقلية الآرية المعززة بالعلم والثقافة العالية ستقطع دابر الإجرام بوسيلة علمية هي تعقيم المجرمين. وأنا أحد أبناء هذه الأمة العربية التي يدعى الآريون قصورها في ميدان التفكير، أنا على ما أنا عليه من ضيق الاطلاع وفي قومي من رجال العلم من لا يشق لهم غبار، أستنير بعقليتي السامية وبإيماني العربي المكين فأقول لعلماء الغرب: لقد ضللتم وأقول بخاصة إلى الدكتور باتروفيل إنه مغرور بعلمه وإنه لا يداوي من العلة إلا أعراضها. إن الغرب يرى تكاثر عدد المجانين والبلهاء والمجرمين في شعوبه فلا يبحث من منشأ العلة ليداويها بل يعمد إلى تعقيم ضحايا مدنيته وثقافته ظنا منه أن هناك بعض الأسر المصابة بداء وراثي وأنه إذا قضى على تناسلها خنقت العلة من منشأتها!. أما فرويد فنظريته صحيحة في هذه الأمراض النفسية التي تفتك فتكا ذريعا في أبناء المدينة الغربية، وما كانت مثل هذه الأمراض لتعيب أبناء بلادنا في العصور الماضية إلا في القليل النادر لأن الذهنية الشرقية لم تحارب الغريزة الجنسية بل اعتبرتها جزءا من إيمانها. وما التبتل إلا بدعة طرأت على تعاليم عيسى فاحتضنها الغرب وجعلها على ما هي والشرق منها براء. "أدهم": أراد أن يثبت لنا أن الموسيقى الغربية خير من موسيقى

الشرق وحجته العلمية في ذلك أن الغناء الإفرنجي غني بما فيه من طباق بين عدة أصوات. "ف": ونحن إذا صرفنا النظر عن الغرائز المستقرة في العقل والتي يصدر عنها الفن الخاص بكل أمة وبحثنا الموسيقى من وجهة علمية استقرائية نجد أن الموسيقى العربية أصدق تعبيرًا للطبيعة وأدق تصويرًا للمشاعر بعديد نغماتها في الصوت المنفرد. فإن الموسيقى العربية تمثل في نغماتها السبع الأساسية ألوان الطيف يتفرع منها ما يزيد على السبعين نغمة تخضع مرنة ناعمة للعاطفة فتظهر خفاياها كصورة اختطفت عن الأصل بجميع أنوارها وظلالها. إن الموسيقى الغربية رست على الطباق أو المطاوعة فكان لا بد لها من كبت النيران الدقيقة المتمردة على الطباق ومن الاكتفاء بنغمات معدودات هي محل ثروتها. أما الموسيقى العربية فإنها هتاف عميق من النفس منفردة تجاه الوحدة المتجلية في مستلهمات الشرق دينا وفنا. فهي وإن نقصها الطباق لعدم ملاءمته لحريتها ودقة نبراتها لا تزال في دور انحطاطها اليوم، أغنى بأوزانها ونغماتها من الموسيقى الغربية الغنية بالصخب والفقيرة بالتنوع المنفرد. يمكنني أن أؤكد أن الفن الغربي على ما بذل فيه من جهود لا يرتكز على أساس من الموسيقى الطبيعية التي تتجلى بكل روعتها في الإنشاد العربي المفرد. ولو أن رجال الفن عندنا أدركوا هذه الحقيقة وانصرفوا إلى شرقية موسيقانا على أساسها دون أن يستهويهم ما يتوهمونه رائعا في الموسيقى الغربية لكانوا ينتزعون من الطبيعة أروع موسيقاها ولكن أكثرهم كمن لديه ثروة يطبق خزانته عليها ليذهب مستجديا من الغرب كسرات تتخمه ولا تسد جوعه.

هل يظن الناظر الكريم أن تجربة التقليد شيء جديد لم يتضح لنا زيفه بعد. أفلا ترى في كل بلد من هذا الشرق العربي عددا من المتفرنسين والمتألمنين والمتأكلزين والمتروسين إلخ خرجوا عن الثقافة العربية وامتنع عليهم أن يتصفوا بالثقافات التي استهوتهم فأصبحوا لا الغرب يعرفهم ولا الشرق يعترف بانتمائهم إليه. وهناك ظاهرة غريبة نشأت من هذا التقليد وهي النعرة التي استحكمت بين هؤلاء المقلدين وهم أبناء البلد الواحد، فإنك لن تجد متفرنسًا يمكنه الاتفاق مع متألمن أو سواه من المستغربين. ثم وصف مثل هؤلاء المستغربين فقال: إنما هو شخصية تائهة فقدت ذاتها ولقد يلمع مثل هذا الإنسان بالظفر والمجد ولكن أنوار السعادة تبقى منطفئة في عينيه. ثم قال: إن كل أمة تحيا على غير ما تسوقها فطرتها إليها فهي أمة باكية بدموع صامتة هي أمة مستضعفة مستعبدة لا معنى لحياتها، وإذا كانت مدنية الغرب الحديثة ترى أن الارتقاء يقوم على العلم وحده، على الاستقرار دونا الاستلهام فإن للشرق العربي المتحفز للوثوب دستورا هو: اعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا واعمل لدنياك كأنك لا تموت أبدًا1. 3- آراء فيلكس فارس؛ أمة لها كيانها ومقدراتها: لخص فيلكس فارس آراءه فقال: إن العرب عندما رقوا العلوم ونشروها وأوجدوا أهمها إنما عملوا بعقليتهم الشرقية العربية. وإننا لسنا بحاجة لتقليد الغربيين في أسلوب تفكيرهم لتجاربهم في مضمار العلوم. ومن العرب اليوم في أوربا وأميركا ومصر وسائر الأقطار العربية علماء في كل فن يفتخر العالم بأسره؛ غربه

وشرقه بسمة اطلاعهم وعبقريتهم وما بلغ هؤلاء الأعلام مقامهم إلا بعقليتهم العربية. إن العلوم الرياضية مشاع بين البشر جميعهم فليس على الأرض سلالة خصها الله بالعلم دون سواها. إن لكل شعب فطرته وهي ميزة خاصة في الذوق واختصاص في فهم الحياة والتمتع بها، وإن كل أمة تستبدل ثقافة غريبة بثقافتها إنما تؤلم فطرتها وتموت شخصيتها. إن الأخذ بالعلم عن أي شعب لا يستلزم مطلقا اقتباس طرق حياته في الأسرة والمجتمع وتقليد ذوقه وسكناته وحركاته فإن العرب عندما احتضنوا العلوم الاستقرائية عن اليونان لم يأخذوا الفطرة اليونانية ولا ذوقها ولا معتقداتها كما أن أوربا عندما تلقت هذه العلوم عن العرب لم تتعرب بل بقي فيها كل شعب محتفظا بثقافته. هذا فضلا عن أن في الغرب ثقافات قد يراها من يحدجها من بعيد على شيء من التقارب غير أن من يدرسها عن كثب ليدهشه ما بينها من فروق تتناول صميم الذوق والعقيدة والشعور. فأي الثقافات يشار على الشرق بأن يتبع. 4- بين الغرب والشرق: جملة آراء إسماعيل أدهم في ثقافة الشرق وثقافة الغرب: لكل شعب في العالم تراثه التقليدي الذي خرج به من ماضيه والذي يحف به حاضره ومصر لم تخرج عن كونها مجتمعًا استوحى روح الشرق عصورًا متطاولة. الثقافة التي كونتها مصر بما ورثته عن أسلافها الفراعنة في أصول الفن

الفرعوني القديم، تمثل وحدة الحياة المعاشية في مصر إلى عهد الفراعنة إلى يومنا هذا. أما الثقافة العقلية فهي فرعونية تكيفت تبعًا لها الثقافة العربية تكيفا يتلاءم وما تحتاج إليه الثقافة الفرعونية في عهد الحكم الروماني من ملابسات لتجازي فن الحياة في ذلك العصر، ومن هنا قامت أو قل استمدت اللغة العربية في مصر قدرتها على صوغ المعاني بما يتكافأ ومحيط مصر فكانت اللغة العامية في مصر وهي في الحقيقة الفرعونية الآخذة بأسباب التعرب. لمصر ثقافتها التقليدية التي تباين ثقافة السوريين التقليدية أو ثقافة اللبنانيين التقليدية وما ينجح لمصر قد لا ينجح لغيرها. لا أجد التفرقة بين العلم الوضعي والثقافة اعتباريا لأن الأولى نتيجة الثانية إن ثقافة اليوم من حيث إنها تتبع العلم لا يمكن تخليصها من آثار العلم والثقافة الأدبية يغزوها العلم بمنهجه الصارم ومنطقه فمن الخطأ أن نفرق بين الثقافة من حيث إنها نتيجة معاشية وأسلوب في الحياة وبين العلم ومنطقه وهو أداة اليوم للعيش والحياة. إن الفرق بين الشرق والغرب ينحصر في هذا وحده: الغرب يقيم الحياة على أساس إنساني ويترك للعلم أن ينظم الصلات بين البشر، والشرق يقيم الحياة على أساس غيبي ويترك للغيبيات تنظيم الصلات بين البشر والغرب يقيم حياته على أساس من التفكير في إيجاد التكافؤ بين حاجاته ومحيطه مستخدمًا في ذلك العلم. والشرق يقيم حياته على أساس من التواكل: قول مناظري: وما اخترع الغرب المنطق ولا أوجد التفكير العلمي. فذلك مجانب للحقائق المعروفة في التاريخ، من أن الإغريق هم أول من عرفوا المنطق وأوجدوا البحث وعنهم أخذ العالم المنطق.

هناك فرق أساسي في منطق التفكير بين الشرقي والغربي، وهذا الفرق ينحصر في الشرقي يبدأ بحثه من الوحدة المتجلية حوله فينتهي للخالق ومنه للطبيعة. بعكس الطبيعي الذي يبدأ بحثه من التغاير الذي يكتنفه فينتهي للطبيعة ومنها للخالق. هذا الفرق المشهور في أن الشرقي يبدأ من عالم الغيب لينتهي للعالم المنظور بعكس الغربي الذي يبدأ من العالم المنظور لينتهي لعالم الغيب كان سببا لظهور اللاهوت عند الشرقيين والفلسفة عند الغربيين. هذا التباين في نوع التفكير ذهب بالعقل الشرقي إلى الاعتقاد بأن العالم حادث، وأن الخالق مطلق التصرف في الكون منفصل عنه ومدبر له، وأنه السبب لكل ما يحدث والعلة الأولى والأخيرة لكل ما يكون وما سيكون. بينما البحث على التغاير المشهود في السكون يدفع بالأخذ بأساليب الاستقراء والمشاهدة إلى جانب أسلوب الاستنتاج والنظر، وهذا كله ينتهي بالإنسان كما انتهى بمفكري الغرب إلى أن لكل حادثة سببا في الكون وأن للعالم وحدته وانسجامه. والإنسان من حيث هو كائن في العالم المنظور فهو في نظر الشرق خاضع لإرادة عليا هي إرادة الخالق الحر، فهو الذي يقضي فيكون ويقدر فيحدث. وهذه فكرة القضاء والقدر عند الشرقيين. أما نظر الغربي فالإنسان وإن كان يتبع في تصرفاته وسلوكه نواميس الحياة ويخضع لها. فإن في قدرة الإنسان تغيير المقدر له عن طريق معرفة النواميس المتحكمة في وجود العمل على إيجاد الملائمة بين حاجات الإنسان في الحياة ومطالبه في الوجود. وخلاصة القول أن في الشرق استسلاما محضًا للغيب وفي الغرب نضالا محضًا مع قوى الغيب؟

الفرق بين منطق الغرب الإثباتي وروح الشرق الغيبي: أن المنطق الغربي ينظر للحياة الإنسانية كما هي وعن طريق العقل وحده يحاول معرفة حقيقته وتنظيم الصلات بين أفراد المجموع البشري. بعكس الذهن الشرقي الذي يدخل عنصرا غيبيا في الحياة الإنسانية وعن طريق هذا العنصر الغيبي يحاول تفسير الحياة وتنظيم الصلات الإنسانية وإقامة العلاقات بين أفراد الهيئة الإنسانية. الثقافة الغربية إنسانية، بعكس الثقافة الشرقية التي وقفت عند حدود المرحلة الثانية حيث يمتزج فيها العالم المنظور بعالم ما وراء المنظور. مما يجدر ذكره أن العرب حين اقتبسوا من تراث اليونان ما يعززون به تفكيرهم العلمي لم تستهوهم الثقافة اليونانية ولا حضارتهم الأدبية إذ أحسوا ما بين الحضارة التي كانت تتمخض في شعورهم وتقديرهم للحياة وبين حضارة اليونان الاجتماعية عن مهاو سحقية فأعرضوا عن شعرهم وموسيقاهم ونظم اجتماعهم. إن ثقافة العرب ذاتية وإن الثقافة موضوعية عند اليونان. لهذا لا نجد في الشعر العربي شعرًا قصصيًا ولا شعرًا تمثيليًا ولا شعرًا تصويريًا، لأن القصص والتمثيل والتصوير يستلزم الانسحاب من أفاق الذات إلى رحاب الموضوعية وليس هذا في مكنة الذهنية العربية. قامت المدنية الرومانية على تراث الإغريق، غير أن المسيحية سرعان ما غزت روما وهبت عليها حاملة معها نزعات المنطق الآسيوي والروح الشرقية إلا أن الحضارة الرومانية ابتلعت المسيحية وامتصتها، وكان هذا الابتلاع والامتصاص بعض الخلاص لمنطق الغرب من روح النسك الآسيوية ثم طغت موجة العرب على الغرب، غير أن الغربيين نجحوا في وقف الموجة العربية

عندما تفاقم أمرها وكان نجاح شار مارتل عن العرب على نهر اللوار كنجاح الإغريق على الفرس في إنقاذ العقلية الغربية من طغيان روح النسك الآسيوية. 5- رد فيلكس فارس على إسماعيل أدهم: إن مصر1 لن تكون فرعونية في القرن العشرين إلا إذا تراجع الزمان القهقري طاويا معه كلمة الله التي جعلت قوم فرعون حديثا في تاريخ الشعوب. أما أن تكون مصر ذات ثقافة خاصة تتميز بها عن سائر الأقطار العربية فذلك ما ننكره. لأن لشعوب سائر الأقطار العربية كلها جدودًا عاصروا الفرعونية وتركوا في التاريخ ذكرى حضارات لم يبق منها سوى أعمدة محطمة وهياكل متداعية. إن في كل قطر من الأقطار العربية من المميزات الإقليمية ما لا ينكره أحد ولكنها أضعف من أن تسلخ هذه الشعوب عن ثقافة عامة شاملة لها في اللغة والموسيقى ونظام الأسرة وروح التشريع. وهذه المميزات العامة هي ما تقوم الحضارة الأدبية عليه في كل الأمم. ليست اللغة العامة في مصر إلا كسائر اللغات العامية في الأقطار لغة أخذتها عصور الانحطاط، فإنك لو أغضيت عن اللهجات في كيفية الإلقاء، فإنك لا تجد إلا كلمات معدودات يختلف فيها النطق بين مصر وسوريا وبغداد. أراد مناظري أن يجعل العلم والثقافة شيئا واحدًا فهو يقول بانبثاق الثقافة من العلوم الأصلية، ونحن لا نعلم ما هي العلاقة بين علم طبقات الأرض مثلا والمبادئ الأدبية التي يقوم عليها المجتمع.

_ 1 الرسالة 18 يوليه 1938.

يقول المناظر: إن الفلسفة الإسلامية روحها يونانية ومتعلقها يوناني، لأن الفارابي وابن سينا وسواهما علقوا إرادة الخالق بقوانين الكون، ونرى أن فلسفة المفكرين ليست إسلامية ولا مسيحية. إن المناظر يجد قصورا في عدم مجاراة العرب لليونان في آدابهم التي جعلت على قولي في رحاب الموضوعية خارجة عن رحاب الذات، ويذهب إلى القول بأن التحليل ليس من مكنة الذهنية العربية. لا يا مناظري، إن الأديب العربي قد استوعب في ذهنيته كل ما جال في خاطره وفي الآفاق حوله. إن الآداب صورة لثقافة الشعب وحياته، وقد أخذ أجدادنا العلوم عن اليونان لأن العلم مشاع كما سلمت، فهل كان حضارتنا الأدبية يونانية لتكون آدابه يونانية. 6- بين الشرق والغرب، فيلكس فارس 1: إن حضارة الأقوام التي ترغب إلينا أن نقتبسها إنما بنيت في تاريخها القديم كما بنيت في تاريخها الحديث على الاعتقاد بحياة أخرى. أما حضارة أوربا الحديثة فقد قامت على ما نعلم بتعاليم عيسى وإذا كان قد بقي فيها شيء من الرحمة فهي من آثار موعظة هذا الناصري على جبل من جبال الشرق. وإذا كان قد هب فيها بعد انتصار شار مارثل من دعوا إلى إصلاح المسيحية فما كان صوت هؤلاء المصلحين إلا صدى للصوت الذي دوى في صحراء العرب منذ ثلاثة عشر قرنا. إن الدكتور أدهم يريد أن يميز بين عقلية الشرقي وعقلية الغربي فيقول

_ 1 العدة 624 من الرسالة سنة 1938.

إن الأولى مستسلمة "محضًا" للقضاء والقدر تخضع للغيب والثانية تناضل نضالا "محضا" ضد الغيب. أما أن يكون الشرقي هذا المستسلم الضعيف فمما يكذبه التاريخ، تاريخ المسيحية وتاريخ الإسلام على السواء؛ فما كان المسيحيون الأولون ليتجنبوا حتى بين أشداق الأسود، وما كان المسلمون إلا مجاهدين بالجهادين، توكلوا فما تواكلوا، وسلموا أمرهم لله فما استسلموا لزعازع الحياة بل أرغموها ليسيطروا عليها بمكارم الأخلاق. أما قول الناظر بأن العقلية الغربية تناضل ضد الغيب فقول فيه جنوح في التعبير، ولا نعتقد أن الدكتور أدهم يقصد الغيب بل أسرار المادة وما يكمن فيها من تفاعل لأن الغرب إنما هو من هذه الإنسانية التي وحدت قواها فوقفت واجمة أمام نظام الكون وسر الحياة والموت. ليس هناك عقلان، عقل للغرب، وعقل للشرق في ميادين الاستقراء غير أن هناك فطرة أو ثقافة تختلف بين شعب وشعب. وقد أراد المناظر أن ينكر استقلال الثقافة الأدبية عن العلم الوضعي فأسماها روحا كأن يمحو أثرها باستبدال أممها. لتكن الثقافة روحا كما يريد الدكتور أدهم، فلماذا يطلب أن يلفظ أبناء الشرق روحهم لتتقمص روح الغرب حضارتهم. أليس من غرائب المنطق أن يقول المناظر بفرعونية مصر وبتمردها على العروبة نفيا وثلاثة عشر قرنا ثم يطلب منها أن تتفرنج بين عشية وضحاها. ما هي الفائدة التي يرجوها المناظر لمصر إذا أنكرت إيمانها وفسدت لغتها وتغنت على الأنغام الإفرنجية التي تتنافر مع ذوقها وحتى مع مخارج ألفاظها.

لا يظنن مفكر أننا نقصد بالحضارة العربية هذه الحالة الراهنة التي أوصلتنا إليها قرون من الولايات والعبودية وأرهقتها حتى تنكر لنا أنفسنا. لقد طغت على مجتمعنا في معتقداته، وفي نظم أسرته وفي آدابه وفي حكوماته دخيلات من متخلفات جميع العصور وجميع الأمم. إنني مازلت معتقدًا منذ قدر لي أن أعتلي المنابر أن هذه البلاد العربية مستودع لأشرف الثقافات ومكمن لأسمى المواهب، فالأقوام المنتشرة في جزيرة العرب وفلسطين وسوريا ولبنان ووادي الفرات ووادي النيل وعلى الشوطئ الشرقية للبحر المتوسط وشواطئ البحر الأحمر تدفعها حضارات الغرب والعالم الجديد بطابع التواكل والخمول. 7- بين الغرب والشرق، الدكتور إسماعيل أحمد أدهم: قلت1 للأستاذ فيلكس فارس: إن لكل أمة في العالم روحها التي تحتضن تراثها التقليدي، وعن طريق تحليل تراث مصر التقليدي انتهينا إلى أنها فرعونية آخذة بأسباب العربية لتجاري فن الحياة في ذلك العصر الذي طغت فيه العربية على كل شيء: وكانت مركزا للجذب الاجتماعي في الشرق الأدنى. وبينما الفروق الأساسية بين ما سميناه ذهنية للغرب وذهنية للشرق، وقلنا أن نزعة الذهن الغربي يقينية ونزعة العقلية الشرقية غيبية واستدللنا على هذه الحقيقة من حقائق التاريخ. ولهذا قلنا أنه من الصعوبة بمكان أن تأخذ مصر الثقافة العربية وهي محتفظة بثقافتها التقليدية وأساسها الإيمان بالغيب.

_ 1 العدد 270 الرسالة 1938.

يقول الأديب النابغة فيلكس فارس: الثقافة راسخة في الفطرة والفطرة في الفرد كما هي في الأمم ميزة خاصة في الذوق واختصاص في فهم الحياة والتمتع بها، فإذا كان العقل رائدًا لبلوغ الحاجة فليست الفطرة إلا القوة المتمتعة في الإنسان بتلك الحاجة بعد بلوغه إياها. ونحن نفرق بين الثقافة والفطرة، بين تراث الشعب الذي يخرج به من ماضيه انسلالا على مدى الدهور والأعوام وبين الفطرة من حيث هي روح الأمة التي تحتضن تراثها. فتراث مصر الفرعونية التي أسلمته لمصر الإسلامية فاختلطت نتيجة لذلك الفرعونية والعربية فكان من ذلك ما سعيناه لمصر من ثقافة تقليدية شيء والروح المصرية شيء آخر إلا أن هذا لا يمنع من أن ترسخ الثقافة التقليدية وتصبح وكأنها من صميم فطرة الشعب. وانسلاخ الشعب عن ثقافته التقليدية، وإن كان لها رجة في صميم الفطرة والروح، إلا أنها لا تعني انسلاخ الشعب من روحه وفطرته. وما ثقافة الشعب وتراثه إلا أثر وقوع الفطرة والروح تحت تأثير ظروف ومؤثرات تجد طريقها للمحيط الاجتماعي والبيئة الطبيعية للشعب وبيان ذلك أن الروح المصرية تحتفظ بذاتيتها منصبة في قوالب شتى، فهي في قالب في العصر الفرعوني وهي في قالب في العصر الإسلامي، وجماع هذه القوالب المختلفة يكافئ الحالات المتابينة التي يتضمنها المحيط اجتماعيا وطبيعيا، وإنكار هذا معناه أن الروح المصرية تغيرت من العصر الفرعوني إلى صورة أخرى في العصر الإسلامي فما الذي يمنع أن تتغير إلى صورة أخرى في العصر الحديث. وإذا يكون من الممكن لمصر أن تتجرد من ثقافتها التقليدية وتستبدل مثلا بدينها آخر وبلغتها لغة أخرى كما حدث ذلك في عهد الفتح العربي ومع ذلك تحتفظ بروحها وفطرتها لأن ما ستأخذه الروح من القوالب سيكون من

طريق الوقوع تحت تأثير عوامل ومؤثرات وجدت طريقها للمحيط الاجتماعي والطبيعي. على هذا الوجه فقط يمكن تعليل تفسير القالب للروح المصرية والذي تكون نتيجة لوقوع الروح المصرية تحت تأثير الثقافة العربية. وعندما يقوم أنصار الثقافة الغربية بدعوة إلى مدينة الغرب يثور عليهم أنصار الثقافة العربية قائلين إن معنى ذلك ضياع الروح المصرية والقومية، مع أن الروح شيء ثابت والثقافة شيء عرضي يتقوم بالروح وفطرة الشعب. 8- الغرب والشرق 1: يرى الأستاذ فيلكس فارس رجحانا لطابع الشرق الغيبي على قالب ثقافة الغرب الإثباتية. ومرد هذا الرجحان اعتقاده بقانون الرجعى وبأن لهذا الشرق من كيانه نافذة يتطلع منها إلى الحياة، هي نافذة فطرته الموروثة فمنها يستقبل النور. وفطرة الشرق الموروثة على زعمه قائمة على الإيمان بالعنف ونحن نرى ما يعبر عنه بالفطرة الموروثة هو التراث الشعبي لهذا والثقافة التقليدية له، وهو شيء كما قلنا غير فطرة الشرق وروحه لأن الفطرة شيء مجرد يظهر في تاريخ الشعب وفي ثقافاته المتعاقبة. إذًا من الخطأ من الناحية العلمية أن فطرة شعوب الشرق هي الحالة الغيبية والصحيح أن يقول أن طابع ثقافة الشرق التقليدية هو غيبي. حين أراد المناظر الفاضل أن يرد على القول بوجود أصل فرعوني في

_ 1 مجلة الرسالة 23 سبتمبر 1938.

ثقافة مصر التقليدية تعسف إلى حد أن خرج على الأوليات المعروفة من حقائق اجتماع وعلم تكون الشعوب. كما هنالك تقاليد بقيت من العهد الفرعوني وتسربت إلى الدين الإسلامي في مصر ولونته بلون محلي. أما أن الدين يعمل على اقتلاعها لخير المجتمع وسلامته فليس ذلك من شأن الباحث السوي. قلنا: إن لمصر ثقافتها التقليدية التي تميزت بها عن جيرانها من بلدان الشرق العربي، غير أن المناظر وإن اعترف معنا بأن للمميزات الإقليمية أثرًا على ثقافة الأمم اعتبر أن لكل أمم الشرق العربي ثقافة عامة شاملة. غير أن هذا الاعتراض في غير محله لأن اعتباره أن لأمم الشرق العربي ثقافة عامة شاملة إن كانت صحيحة إلى حد ما فهذه تتلون وتأخذ طابعا من كل بلد من بلدان الشرق العربي، فمظهرها في سوريا غير مظهرها في العراق، وهي في العراق غيرها في مصر، وفي مصر غيرها في الحجاز. وهم المناظر الفاضل أننا نهزل حين قلنا أن العامية في مصر هي العربية الآخذة بأسباب الفرعونية، إننا نعني بالفرعونية وحدة عقلية أو معاشية متمشية في ثقافة المصريين التقليدية حتى العهد الفرعوني، فإذا قلنا أن العامية هي العربية الآخذة بأسباب الفرعونية فإنما نعني أنها تأخذ طابعا مصريا خاصا بها. سيأتي ذلك اليوم قريبا وسنقول العقلية اليقينية في الشرق والمنطق الإثباتي في العالم العربي نتيجة لتغلب الاتجاه الغربي على هذا الشرق بحكم كون الغرب مركز الجذب الاجتماعي في عصرنا، إذًا فلسنا نحن في حاجة إلى الانتقال إلى الغرب لاكتساب عقلية يقينية كما يقول المناظر إنما كل ما نحن في حاجة إليه أن نقوي الاتجاه نحو الغرب فتكون العقلية اليقينية أخذت بطريقها إلى الشرق.

9- الرد الختامي لفيلكس فارس: درج1 الكتاب على تقرير عقلية للشرق وأخرى للغرب، ذهب بعضهم إلى أبعد من هذا مقررًا طبيعة كل من هاتين العقلين، وأن الواحدة منهما لا تقبل إلا المظهر الفلاني ولا تتلون إلا بلون خاص. وهم بقياسهم المظاهر الفكرية لهذه العقليات قد طبقوا هذا القياس نفسه على الشعوب فناضلت بسبب ذلك. وعنده أن عقلية العرب العلمية ترجع للغرب لأنهم أخذوا أصولها عن فلاسفة اليونان. أما روحانيتهم فهي للشرق لأن الشرق منبع الأديان وكل ما فيها روحاني الطبيعة والمظهر. وسبب هذا التباين الذي اعتبره أساسيا أن العقلية الشرقية ابتدأت بالاعتقاد بالخالق ثم انتهت بالطبيعة والعقلية الغربية بدأت بالطبيعة وانتهت إلى الخالق. وانتهى2 الكاتب إلى أن الجانب العلمي من الثقافة الإسلامية نتيجة الأخذ بأساليب الفكر اليوناني ولماذا لا يكون هذا الجانب نتجية للأخذ بأساليب الدين الإسلامي وتعاليمه. {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} . "ثم عرض آيات القرآن التي لم تدخل عن طريق العاطفة بل عن طريق العقل" ألا تعتبر هذه الدعوة أساسا علميا لأن استعمال العقل في التفكير في مخلوقات الله هو الأسلوب العلمي بعينه.

_ 1 الرسالة 17 أكتوبر 1938. 2 الرسالة 24 أكتوبر 1938.

أفيكون اليونان أصحاب الفضل في ذلك فيأخذ عنهم فلاسفة المسلمين هذا الجانب العلمي أم يكون الدين الإسلامي هو الأصل الأول. يقول أدهم: "إن شارل مارتل أنقذ العقلية الغربية من العقلية الشرقية حين كانت تغزو أوربا على يد العرب". ولو قال هذا الكلام أحد من الغرب لعذرناه فطبيعة الإنسان كثيرًا ما تغالط نفسها فتنكر الفضل على مستحقه. حقيقة صد شار مارتل تيار العرب. ماذا منع عن أوربا؟ منع روح النسك، والعرب لم يعرفوا بذلك لا في الشرق ولا في الغرب؛ أم أنه صد عن أوربا سبعة قرون من ينابيع الفكر والعلم والثقافة؟ وهذا ما أقر به علماء الغرب ومؤرخوهم قبل أن ينكره أحد من الشرق والغرب. سلوا مؤرخي النهضة الأوروبية واستفتوا عن أثر الأندلس في تلك النهضة، ألم تكن جامعاتها وحلقاتها قبلة للطلاب من كل ركن من أوربا، فلماذا تأثروا بالعلم ولم يتأثروا بالنسك؟ أفيكون مارتل بعد هذا قد أنقذ العقلية الجرمانية؟ وهي كما يعلمها طلبة التاريخ من العقلية الشرقية يأتي بها العرب أم يكون مارتل قد أنقذ الجهل من العلم قرونًا1.

_ 1 استمرت هذه المعركة على صفحات الرسالة من يونيه 1938 إلى أكتوبر 1938.

لا يتنيون وسكسونيون: بين العقاد وطه حسين

لا يتنيون وسكسونيون: بين العقاد وطه حسين ... لاتينيون وسكسونيون: بين العقاد وطه حسين هذه معركة تمثل صراع الثقافتين الفرنسية والإنجليزية في مصر. قامت بين زعيمي المدرستين في مصر. بدأت عندما أصدر أنطون الجميل كتابه عن "شوقي" فنقده "العقاد" في النقد على طريقة الصالونات ولا تتحدث عن العيوب والأخطار إلا في إيماء وتورية ولباقة وإن النقد اللاتيني يؤثر الظواهر ويبيع النكت على حين يعنى النقاد السكسونيين ببساطة الطبيعة بالرجل ومن حيث هو رجل. ورد الدكتور طه فقال: إن العقاد أراد أن يرضي أنطون الجميل ويهاجم شوقي والمعروف أن العقاد له رأي في شوقي وشعره فقال هذا الكلام وأن الثقافة اللاتينية براء مما اتهمها به وأن العقاد ظلم الثقافة اللاتينية والنقد اللاتيني ولا شك أن هذه المعركة تمثل بوضوح صراع الثقافتين الفرنسية والإنجليزية في مصر. 1- العقاد: شوقي أو أسلوبان في النقد 1: لا بأس أن نطلق حكمًا عامًا على مدرستين كبيرتين ضمن مدارس النقد الأدبي الحديث في البلاد العربية وهما مدرسة اللاتين وشعارها عندنا "الأناقة" ومدرسة السكسون وشعارها عندنا "البساطة" أو "الفطرة". ولكل منها أنصار وأتباع بين كتاب العربية يمثلونها من حيث يشعرون أو لا يشعرون. تقرأ الناقد الفرنسي فكأنما تتخيل أمامك ظريفا باريسيا يقدم رجلا من معارفه إلى الصالون أو جماعة من جماعات الأندية، فهو في وصفه لهم يعرفهم قيمته "العرفية" ولا يعنى كثيرًا بتعريف قيمته المعنية أو هو يعرفهم قيمته على حساب الأوضاع والمراسيم الجارية ولا يلتفت إلى ما وراء ذلك من القيم الخفية التي لا يعنى بها في المجالس والعلاقات الاجتماعية.

_ 1 عباس محمود العقاد: الجهاد 16 يناير 1933.

وقد يومئ إلى عيب من عيوبه لتكون الغمزة نكتة مستملحة أو معرضا للباقة والتعبير والتورية البليغة أو ليكون الدفاع عنها براعة في المحاماة والتخريج. وإنك لتقرأ الناقد السكسوني فكأنما تتخيل أمامك دليلا يرشدك إلى رجل يعنيك أن تعامله وتطلع على جميع شأنه أو يرشدك إليه وهو على سجيته كما يكون الإنسان في قافلة للسفر أو بين خاصة أهله أو منفردًا بنفسه. ثم يأبى بعد ذلك خصاله الإنسانية التي تنطوي على مظاهره وشاراته. وقس على ذلك أبطال الفريقين في القصص والروايات، فبطل الرواية الفرنسية دائما عضو في مجمع تعرفه بهذه الشارة قبل أن تعرفه بصفة أخرى وبطل الرواية السكسونية هو دئما "رجل" قبل كل شيء أو امرأة قبل كل شيء، رجل تعرفه بطبائعه وأخلاقه قل أن تعرفه بوظائفه وشاراته. عنت لي هذه الخواطر وأنا أقرأ الرسالة الطريفة التي دبجها الكاتب الألماني الأستاذ أنطون الجميل عن "شوقي شاعر الأمراء". فالأستاذ الجميل يقدم لنا الشاعر في هذه الرسالة كما يقدم الظريف الباريسي صاحبه إلى جماعة الصالون. مجاملة اجتماعية في كل سطر من السطور، فإن كان لا بد من غمزة فهي الغمزة التي تعود في ثنايا الكلام نكتة مستملحة. ولم يعن الكاتب الأريب بدرس شوقي عنايته بعرض القواعد والشارات التي تتصل بشوقي ومقاصد شعره. فشوقي في هذه الرسالة موضوع تدور حوله القواعد والآراء وليس بإنسان مقصود لذاته من وراء النقد والعرف والمصطلحات. وفي الرسالة ولا ريب ملاحظات صائبة وآراء رفيعة وإشارات عن

ذوق ومعرفة وأقوال يتفق عليها القراء ولكنها لا تتعدى كلها باب الصالون إلى ساحة الفطرة المطلقة، فالرسالة تعرفنا شوقي في حلة المساء أو في لباس السواريه، أما شوقي الذي خلقه الله فربما زادنا جهلا به أن ننظر إلى تمثاله في كلام الأستاذ الجميل. 2- "طه حسين" لاتينيون وسكسونيون 1: أراد العقاد أن ينقد كتاب الأستاذ أنطون الجميل في شوقي شاعر الأمراء. ولم أكن أشك في أن الأستاذ سيشتد على الكتاب ومؤلفه وعلى شوقي أيضًا فمذهب الأستاذ في الأدب العصري معروف، وأقل ما يوصف به أنه بعيد كل البعد عن الإعجاب بشعر شوقي وعن الإقرار للذين يعجبون بهذا الشعر. وقد أشارك الأستاذ في كثير جدًا من أرائه في شوقي والمعجبين به ولكن الشيء الذي أخالف فيه الأستاذ أشد الخلاف. والذي أكتب من أجله هذا الفصل هو المقدمة التي بسطها بين يدي فصله. وعرض فيها لما أسماه نقد اللاتينين ونقد السكسونيين. وأحب ألا يغضب الأستاذ العقاد إذا اصطنعت الصراحة في بسط رأيي في هذا الفصل فلعله يوافقني على أنه في حقيقة الأمر غير راض عن الكتاب ولا مؤمن ولكنه أراد أن يكون ناقدًا مجاملا لبقا فاستعار من اللاتينيين ما يعيبهم به من المحاملة واللباقة في النقد. لم يرد أن يصارح الأستاذ أنطون الجميل بأن كتابه لا يرضيه من كل وجه لأنه حريص على مقدار ولو محدود

_ 1 الرسالة أول فبراير 1933.

من المجاملة بين الزملاء، ولم يرد أن يعيد على الناس حديثه في شوقي وشعره لأن شوقي قد مات منذ وقت قصير والنظم الاجتماعية تقضي بشيء من المجاملة للموتى. وللذين رزءوا فيه أشهرًا على أقل تقدير. لم يرد هذا ولا ذاك، ولم يكن يستطيع أن يهمل كتاب الأستاذ أنطون الجميل فضلا عن أن يقرظه تقريظًا خالصًا؛ لأن في هذا أو ذاك ظلما لرأيه وكتمانا لما يعتقد أنه الحق فسلك في نقده هذه الطريقة الغربية التي لا تخلو من التواء. أعتذر للأستاذ أنطون الجميل بثقافته اللاتينية وأخذه المذهب اللاتيني في النقد بما تورط فيه خطأ بين وحكم غير مستقيم على شعر شوقي. ولست أدري أظفر الأستاذ العقاد بإرضاء الأستاذ الجميل أم لم يظفر. أوفق إلى مجاملة شوقي والذين رزئوا فيه أم أخطأه هذا التوفيق. لست أدري. ولكني أعلم علم اليقين أنه ظلم الثقافة اللاتينية وظلم النقد اللاتيني وظلم قراءه جميعا. وأن إرضاء الأستاذ أنطون الجميل أو مجاملته أهون على الأستاذ العقاد نفسه من ظلم العلم والأدب والقراء جميعا. فزعم أولا أن للاتينيين مذهبا في النقد, وأن للسكسونيين مذهبا آخر وأن هذين المذهبين يختلفان فيما بينهما أشد الاختلاف. وزعم بعد ذلك أن أخص ما يمتاز به المذهب اللاتيني "الأناقة" وأخص ما يمتاز به المذهب السكسوني "البساطة" أو "الفطرة" وفسر هذا بأنك إذا قرأت الناقد الفرنسي رأيت رجلا أنيقا لبقا يقدم في أحد الصالونات كاتبه الذي ينقده على الأوضاع الاجتماعية المألوفة مجالا وتكلفا. وقد يومئ إيماء خفيفا إلى بعض العيوب. ولكن على سبيل النكتة أو على سبيل الحيلة في التماس الدفاع عن هذا الكتاب الذي ينقده أو الرجل الذي يقدمه إلى الصالون. أما الناقد السكسوني فهو لا يحفل بالأوضاع الاجتماعية. وإنما يهجم

بك فورًا على الحياة الفردية، على الحقيقة الإنسانية، على الرجل من حيث هو رجل لا من حيث هو فرد في جماعة. ومعنى أن نقد اللاتيني سطحي مخالف لأصول العلم وأن نقد السكسونيين هو النقد العلمي الصحيح الذي تجد فيه الفائدة وتجد فيه العناء. وأنا أحب أن يعذرني الأستاذ العقاد إذا قلت له في صراحة أني كنت أنتظر منه كل شيء إلا التورط في هذا الخطأ الصارخ والظلم البين، فليس من الحق بوجه من الوجوه أن الاختلاف بين النقاد اللاتينيين والسكسونيين عظيم إلى هذا الحد الذي يصوره الأستاذ. فليس هناك نقد لاتيني ونقد سكسوني وإنما هناك نقد فحسب، قد يعتمد على هذا الذوق الفني العالي الذي أحدثته الثقافة اليونانية واللاتينية، وورثته عنها الأمم الحديثة على اختلاف أجناسها وبيئاتها. فكل النقاد من الفرنسيين والإيطاليين والألمانيين والإنجليز قد قرءوا آيات البيان اليوناني واللاتيني وذاقوا آيات الفن اليوناني والروماني لأنفسهم أو كونت لهم هذه القراءة ذوقا عاما مشتركا بينهم جميعا يختلف في ظاهره ولكنه لا يختلف في جوهره لأن الجوهر واحد مستمد من هوميروس وبندار وسوفوكل وأرستوفان وأفلاطون. عسير جدا أن يقال إذًا: إن هناك نقدًا لاتينيا ونقدًا سكسونيا وأن النقدين يختلفان في الجوهر والطبيعة، ثم أعتذر إلى الأستاذ بعد هذا من أني لا أستطيع ولا أظن أن أحدا يستطيع أن يقره على رأيه في النقد اللاتيني بل أنا لا أقضي العجب من تورط الأستاذ في إعلان هذا الرأي الغريب، فليس من الحق أن هذا النقد يعتمد على الأوضاع الاجتماعية ويهمل الإنسان من حيث هو إنسان.

هذا كلام لا يمكن أن يقبل. ألم يقرأ سانت بوف. أن قراءة فصل واحد لهذا الكاتب الذي ملأ الدنيا نقدًا لأنه أنفق في النقد صفوة حياته يقنع الأستاذ ومن هو أقل من الأستاذ إلماما بالأدب والنقد بأن سانت بوف كان أبعد الناس عن أن يكون رجلا من رجال الصالونات يقدم الكتاب والشعراء إلى الناس في أناقة ولباقة وظروف ومجاملة. أنا أحب ألا يظن الأستاذ العقاد أني أدافع هنا عن الثقافة اللاتينية على حساب الثقافات الأخرى، فأنا من أشد الناس إكبارًا للثقافة السكسونية وإعجابا بما عرفت منها ولكني كنت وسأظل من أقل الناس حديثًا عنها وحكما عليها. والحق الذي لا غبار عليه في هذه المسألة هو أن الأستاذ العقاد تعجل وجامل فأخطأ الصواب وأقام أحسن دليل على أن التعميم في الأحكام على الشعوب مزلة للأقدام وسبيل إلى الظلم. 3- العقاد: نعم؛ لاتينيون وسكسونيون أتاح لنا الدكتور طه حسين فرصة أخرى لسوق الأمثلة الظاهرة والمحسوسة على الفرق بين الثقافة اللاتينية والثقافة السكسونية على الإجمال، وهذا المثل الجديد وهو الدكتور طه حسين نفسه سامحه الله. فقد أقول اليوم في ثقة أن الدكتور لو كان يدرس الأدب السكسوني كما يدرس الأدب اللاتيني لكتب مقاله "لاتينيون وسكسونيون" بأسلوب غير أسلوبه هناك. فالدكتور ما كان ليستطيع أن يزيد حرفا وحدًا على ذلك المقال لو أنني

قلت: إن الثقافة اللاتينية خلاصة كل مزية وأن الثقافة السكسونية جامعة لكل المزايا أو لو أنني قلت أن الأمة اللاتينية أدبت وعقمت فما أنتجت ناقدًا يؤخذ برأيه في نقد الكتاب والشعراء، وأن الأمم السكسونية استأثرت بالعبقرية الأدبية فما نبغ في غيرها ناقد ولا شاعر ولا أديب. لأن الدكتور يسألني عن سانت بيف وأضرابه من نقاد فرنسا، ما رأيي فيهم وما حكمي على طريقهم. ويستكثر على أن أجرد اللاتينية من ملكات الثقافة وفيهم أمثال هؤلاء الأعلام. فالدكتور يقول "للأستاذ أن يدرس على مهل وفي أناة وروية من شاء من النقاد المحدثين في أي أمة من الأمم الأوروبية فسيرى أن هؤلاء النقاد جميعًا يتفقون في أن نقدهم يقوم على هذين الأصلين اللذين أشرت إليهما وأنا أستعير عبارته فأقول: إن على الدكتور أن يدرس على مهل وفي أناة وروية سانت بيف وتين وفاجيه وأناتول فرانس ولامثيه، فسيرى أن هؤلاء النقاد يؤيدون رأيي وينقضون ما قرره. أليس معنى هذا أن القواعد والمراسيم الاجتماعية تغلب على عبقرية اللاتين وأن بساطة الحياة العادية من أكلاف المراسيم تغلب على عبقرية السكسون، وأنه أي النقد اللاتيني إذا التفت إلى "الخصائص الإنسانية الحية" فإنما يلتفت إليها تبعا لتلك القواعد والمراسم الاجتماعية. ونحن لم نعمد إلى هذه التفرقة كما ظن صديقنا ابتغاء المجاملة للأستاذ الجميل فقد سبقه إلى مثل هذه التفرقة في فصل استكتبتنا إياه شركة لاروس قبل ثلاث سنوات ونشرته في كراستها التي تجمعها عن الشعوب الشرقية والغربية، فهنالك قسمنا أدباءنا إلى دارسين للثقافة اللاتينية ودارسين للثقافة

للثقافة السكسونية وقلنا أن الأولين يكثر بينهم مؤرخو الأدب والشارحين وأن الآخرين يكثر بينهم الأدباء والشعراء. وصفوة القول أن الدكتور طه أتاح لنا مثلا جديدًا يضاف إلى الأمثلة التي أجملناها هناك ولا ريب مزاج لاتيني ومزاج سكسوني وما دام للجنسين مزاجان فهما في النقد والشعر مختلفان. وهناك إذن لاتينيون وسكسونيون يظهرون مختلفين في كل فروع الآداب والفنون. 4- "طه حسين" لاتينيون وسكسونيون: لم أكن أحب أن تنتقل المناقشة بين الأستاذ العقاد وبيني من نقد اللاتينيين ونقد السكسونيين إلى الثقافة اللاتينية والثقافة السكسونية. ما كنت أحب أن أجاري الأستاذ العقاد في المفاضلة بين هاتين الثقافتين. ذلك أني أحب الثقافتين جميعًا وأوثرهما جميعًا وأريد أن أتثقف بهما جميعًا بل أريد أن أتثقف بكل ثقافة أستطيع أن أصل إليها أو أن أظفر منها بحظ سواء كان ذلك عن طريق القراءة في النصوص الأولى أو من طريق القراءة في التراجم. وليس الدفاع عن الثقافة اللاتينية تعصبا لثقافتهم اللاتينية أو تنكرا لثقافة السكسونيين، وإنما هو العلم ينبغي أن يقر الأشياء في نصابها وليس من الحق بحال من الأحوال أن نقد اللاتينيين كله أو أكثره أو نصفه أو من الحق بحال من الأحوال أن نقدًا جديا يقصد إلى طبيعة الكاتب أو الشاعر في بساطتها ويقصد إلى الرجل من حيث هو رجل وقد يضطلع في ذلك التأنق والظرف ولكن ذلك ليس عيبا له ولا غاضا منه وإنما يعيبه ذلك ويغض منه لو لم يكن في النقد اللاتيني إلا تأنق وظرف، فأما وفيه بحث وتحقيق فأما وفيه التماس لطبيعة الكاتب

والشاعر في بساطتها؛ فقد يكون التألق والظروف شيئا لا بأس به ولا معنى للزهد منه. وعجيب جدًا من الأستاذ العقاد أن يكره الاعتراف بأن النقد الحديث كله يقوم رغم تطوره واختلاف المذاهب الحديثة فيه على الثقافة الأدبية اليونانية واللاتينية. فإن العقل الأوروبي كله مهما تكن بيئته ومهما تكن جنسية أصحابه ومهما يكن حظه من التطور وليد العقل اليوناني الروماني سواء رضينا أم كرهنا. من الذي يستطيع أن يوافق الأستاذ العقاد على أن النقد لا يمكن أن يكون علما يذكر قبل أن يوجد علم النفس الحديث، أما أنا فلا أعرف أن النقد علم وأحب له أن يكون علما، وإنما أرى أن يكون النقد مزاجا من العلم والفن وهو على هذا النحو قد وجد منذ عهد بعيد. أريد أن أعاتب الأستاذ العقاد عتابا رقيقا، فقد زعم الأستاذ أن سانت بوف لا يشهد لمذهبي في نقد اللاتينيين. وإنما يشهد لمذهب الأستاذ لأن ما في سانت بوف من مزايا راجع إلى تأثره بالثقافة السكسونية والدم السكسوني ذلك أن أم سانت من أصل إنجليزي، وأنه كان يؤثر الشعر الإنجليزي على الشعر الفرنسي في بعض الفصول. أما أن سانت بوف كان يؤثر الشعر الإنجليزي على الشعر الفرنسي فذلك شيء مشكوك فيه جدًا لأن سانت بوف لم يكن يؤثر شيئًا أو قل كان يؤثر كل شيء أو قل إن أردت التحقق أن أخص ما يمتاز به هذا الناقد العظيم أنه كان شاكا مسرفا في الشك يقر اليوم شيئا ويعدل عنه غدا ويجوز أن يرجع إليه بعد غد فحب سانت بوف لشعر الإنجليز إن صح، لا يجعله

مدينا بأدبه للإنجليز وأن يكون تأثير الثقافة الإنجليزية في سانت بوف أكبر من تأثير الثقافة الفرنسية فيه. أما أن أم الناقد العظيم كانت من أصل إنجليزي فالأستاذ يبالغ في نتيجته فقد كانت أم سانت بوف نصف إنجليزية، ذلك أن أباها كان بحارًا فرنسيا وأن أمها كانت إنجليزية. من 1 العقاد إلى طه: ألا شعر الدكتور أن دينه للأدب السكسوني أكبر من دينه لأدب اللاتينيين في كتابه "في الصيف" وفي كتاب الأيام. أليس الدكتور متأثرًا بجيتي حتى في فلسفة ليبنتز التي أشار إليها وحتى في التفاته الخاص إلى شغف ابنة نكنيسه ستراسبورج التي كان لها في حياة جيتي أثر بليغ؛ أليست طريقة الفصول الخطابية هي طريقة الرسائل الفرترية. فهل ترى الدكتور على استعداد لأن يرد إلى السكسون ما أخذه منهم هنا مكتفيا بما أخذه من اللاتينيين، إنه ليخسر ولا يربح هذه الصفة بلا مراء.

_ 1 14 فبراير 1933 الجهاد.

النزعة اليونانية بين زكي مبارك وطه حسين

النزعة اليونانية بين زكي مبارك وطه حسين: حمل الدكتور طه حسين لواء الدعوة إلى "النزعة اليونانية" وقال: إن الناس في الشرق والغرب وفي جميع الأجيال مدينون لثقافة اليونان. وقال فيما قال: "إن عقلية مصر عقلية يونانية". وقال عام 1925 في مقال بعنوان "بين الشرق والغرب": نعتقد ونظن أن غيرنا من مؤرخي الفلسفة المحدثين يعتقد أيضا أنه لم يكن للشرق في تكوين الفلسفة اليونانية والعقل اليوناني والسياسة اليونانية تأثيرًا يذكر وإنما كان تأثير الشرق في اليونان تأثيرًا عمليا ماديا ليس غير ... "، وهو بهذا ينكر فضل الأثر المصري القديم ويجعل الثقافة العربية تابعة لثقافة اليونان متأثرة بها وقد أورد طه حسين هذا الرأي في كتابه "قادة الفكر" 1926 ثم عاد وردده في مقالاته بالهلال "مجلد 39" ثم توسع فيه في كتابه مستقبل الثقافة. وقد لقي هذا الرأي معارضة من كثير من الكتاب أمثال شكيب أرسلان وزكي مبارك. طه حسين بين الشرق والغرب: مجلد 33 الهلال: يجب أن نلاحظ أن العقل الإنساني ظهر في العصر القديم بمظهرين مختلفين أحدهما يوناني خالص هو الذي انتصر وهو الذي يسيطر على الحياة الإنسانية إلى اليوم وإلى آخر الدهر، والآخر شرقي انهزم مرات أمام المظهر اليوناني وهو الآن يلقي السلاح ويسلم للمظهر اليوناني تسليمًا تامًا. بينما نجد العقل اليوناني يسلك في فهم الطبيعة وتفسيرها هذا المسلك الفلسفي الخصيب الذي نشأ عنه فلسفة سقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس ثم فلسفة ديكارت وكانت وكونت وهيجل وسبنسر نجد العقل الشرقي يذهب مذهبا دينيا خالصا في فهم الطبيعة وتفسيرها فلم يستطع العقل الشرقي أن يظهر شخصية فلسفية قوية في فهم العالم وتفسيره وإنما خضع للكهان في عصوره الأولى وللديانات السماوية في عصوره الراقية.

وهناك شيء آخر نجده عند اليونان ولا نجده في الشرق، وهو هذا التطور السياسي الخصب الذي أحدث النظم السياسية المختلفة في المدن اليونانية من ملكية وجمهورية وأرستقراطية وديمقراطية معتدلة أو متطرفة والذي لا يزال أثره قويا في أوربا إلى اليوم، وإلى آخر الدهر والذي أخذ الشرق يتأثر في نظمه السياسية أيضا، وبينما كانت المدن اليونانية تخضع لهذا التطور الغريب الذي حقق حرية الأفراد والجماعات والذي انتصر حتى أصبح المثل الأعلى للحياة الحديثة في الشرق والغرب، وكان الشرق خاضعًا لنظام سياسي واحد لم يتغير ولم يتبدل هو نظام الملكية المطلقة المستبدة التي تفقد فيه الجماعات والأفراد كل حظ من الحرية. 2- طه حسين: في العقل العربي الحديث 1: الشيء الذي لا أشك فيه وما أظن أحدًا يشك فيه هو أن لونا من ألوان العقل قد ظهر في عصر من عصور التاريخ القديم في بلاد اليونان وتجاوز حدود هذه البلاد في بعض الأوقات حتى كان الإسكندر المقدوني فخرج بهذا العقل فاتحا للشرق القريب والبعيد، محاولا أن يقره فيه ويبسط سلطانه عليه، ونجح الإسكندر نجاحا عظيما في مهمته هذه بالقياس إلى الشرق القريب بنوع خاص وقد استطاع العقل اليوناني أن يستقر في هذا الشرق ويمازج نفوس أهله حتى يصبح جزءًا منها. ومنذ ذلك الوقت أصبح هذا العقل مقياس الحضارة في أي أمة من الأمم الشرقية القريبة كما أصبح مقياس الحضارة في الأمم الغربية نفسها، فالأمة متحضرة راقية إذا أخذت بتراث العقل اليوناني وشاركت فيه وأضافت إليه. والأمة غير متحضرة أو غير مشاركة في الحضارة الإنسانية الممتازة

_ 1 الهلال. العدد الخاص عن الإسلام "مجلد 1939".

إذا أعرضت عن هذا التراث فلم تأخذ به ولم تلتفت إليه ولم تجعله أصلا من أصول حياتها المقومة لها. وما من شك في أن هذا العقل قد كان مقياسًا لحضارة الأمة العربية بعد أن هديت إلى الإسلام وقال التاريخ: إنها بلغت أرقى ما استطاعت أن تبلغ من الحضارة الراقية المزدهرة أيام بني العباس حين عرفت فلسفة اليونان وعلمهم وفنهم الرفيع وفنونهم التطبيقية أيضًا. وحين شاركت في هذا كله فنمته وأضافت إليه. ثم قال التاريخ: إنها أخذت تخلص من هذا الجمود والهمود وتسترد حظها في الحياة والنشاط ونباهة الذكر في هذا العصر الحديث لأنها اتصلت بهذا التراث العقلي القديم الذي أهدته إلى أوروبا وأعرضت عنه وقتا ما. سألت نفسي إذن عن نشأة العقل العربي الإسلامي الذي ملأ الأرض في بعض عصور التاريخ علما وأدبا وفلسفة وفنا فرأيت، وأظن أن المثقفين كلهم يرون كما رأيت. إن هذا العقل إنما نشأ ونما وأنتج حين اتصلت الأمة العربية بعد الفتح بالأمم الأجنبية الأخرى وحين أعطتها وأخذت منها. أعطتها دينا ولغة وأدبا؛ وأخذت منها علما وفلسفة وفنا وسياسة وإدارة وتدبيرًا. ونشأ عن هذا الأخذ والعطاء مزاج خاص، هو هذا العقل العربي الذي نراه فيما نقرأ من آثار أدبائنا وعلمائنا وفلاسفتنا. مهما يكن من شيء فالعقل العربي الإسلامي إنما نما وأثمر وأنتج حين اتصل بالعقل اليواناني بل حين امتزج بل حين أساغه وتمثله وجعله مقوما لنفسه ومشخصا لحياته.

رد الدكتور زكي مبارك 1: -1- ساير الدكتور طه الباحثين الأوربيين في القول بأن الثقافة اليونانية هي مصدر الثقافة الإنسانية وأن الناس في الشرق والغرب وفي جميع الأجيال مدينون لثقافة اليونان. والحق أن للدكتور عذرًا في هذه المسيارة فقد قرأ كتبا ترى هذا الرأي، ولو أنه تريث لعرف أن هنالك كتبًا أجدر من تلك الكتب بالتلخيص. وهي التي ترى أن المعارف اليونانية منقولة من المعارف المصرية، وأن فلاسفة اليونان لم يكونوا إلا تلاميذ لفلاسفة مصر القدماء. وأنا لا أسوق هذه المؤاخذة تعصبا لبلادي، فاليونانيون أنفسهم يعترفون بأنهم تلاميذ المصريين وكانت زيارة مصر واجبة على كل يوناني يريد التفقه في أسرار الوجود، أستاذية مصر الفرعونية الوثنية ليست أسطورة من الأساطير بل هي حقيقة من الحقائق وإن أراد الدكتور طه أن يساجلني فأنا حاضر للسجال وقد سجل في كتابه مستقبل الثقافة: إن عقلية مصر عقلية يونانية وإنه لا بد من أن تعود مصر إلى احتضان فلسفة اليونان. والواقع أن إيمان الدكتور طه حسين بهذا الرأي يرجع إلى تاريخ قديم ففي نوفمبر 1919 قدم ثروت باشا الدكتور طه حسين إلى الجمهور في قاعة المحاضرات بالجامعة المصرية فألقى المحاضرة الأولى وقال في هذه المحاضرة: "إنه

_ 1 الرسالة 15 نوفمبر 1943.

عزم على إحياء التراث اليوناني لأنه يؤمن إيمانا جازما بأن مرجع الفكر في الشرق والغرب إلى القدماء من مفكري اليونان". زعموا أن الدكتور يعترف بظهور الحضارة الشرقية القديمة التي لا تزال تبهرنا حتى الآن قبل أن تكون الحضارة اليونانية شيئا مذكورًا، وزعموا أن الدكتور لا ينكر أن الأمة اليونانية من غير شك تأثرت بالحضارات الشرقية المختلفة وأخذت عن الساميين في آسيا وعن المصريين في أفريقيا أشياء كثيرة مختلفة. يقول الدكتور: "نعتقد ونظن أن غيرنا من مؤرخي الفلسفة المحدثين يعتقد أنه لم يكن للشرق في تكوين الفلسفة اليونانية والعقل اليوناني والسياسة اليونانية تأثير يذكر إنما كان تأثير الشرق في اليونان تأثيرًا ماديًا علميا ليس غير. فقد أخذ اليونان الشرقيين أشياء كثيرة ولكنها عملية مادية، أخذوا عنهم شيئا من الموسيقى وتعلموا منهم فنونا عملية كالحساب والهندسة ولكنهم لم يأخذوا عنهم شيئا عقليا يذكر "ص46، 47" وإن قيادة الفكر اليوناني كان قوامها الشعر والفلسفة. نقول: كيف عرف اليونان الفلسفة؟ هل عرف اليونان الفلسفة والشعر عفوا؟ أم أنهم نقلوها من الأمم التي استعمروها؟ فإنه لما ضاقت الأرض اليونانية بأهلها ذرعا لم يجد اليونان أمامهم إلا الهجرة أو الاستعمار فانتشروا في مختلف أقطارها كآسيا وأفريقيا وإيطاليا وصقلية وإسبانيا وفرنسا. ولا أخال الدكتور يناقضنا إذا قلنا: إن جميع الأقطار العربية التي

استعمرها اليونان في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وصقلية في تلك العصور لم يكن بها حضارة أو مدنية. وإنما كان الجهل فيها طبقات بعضها فوق بعض. ونريد أن نصل من هذا إلى حقيقة واضحة هي أن اليونان لم يأخذوا عن أهل هذه الأقطار الغربية شيئا من الحضارة أو المدنية. والذي لا شك فيه أن العقل اليوناني ارتقى وتطور عندما عرف اليونان الهجرة والحروب والاستعمار، والحقيقة المرة التي يجب أن يعترف بها الدكتور هو أنه لو لم يكن الشرق وحضارته وفنونه لما ارتقى العقل اليوناني ولما انتقلت منارة الفكر من الشعر إلى الفلسفة. قال الدكتور: إن اليونان لم يأخذوا عن الشرقيين إلا أشياء عملية مادية ليس غير، أخذوا عنهم شيئا من الموسيقى ونقلوا عنهم فنونا عملية كالحساب والهندسة. أما نحن فنجاهر بأن الدكتور أخطأ في زعمه. فما معنى أن اليونان أخذوا عن مصر فنًا عمليًا الموسيقا. أليست الموسيقا فنا من الفنون الجميلة. ويقول الدكتور: فلئن كان البابليون قد رصدوا النجوم ووصلوا من ذلك إلى نتائج قيمة في علم الفلك فهم لم يضعوا علم الفلك وإنما هذا العلم يوناني لم ينشأ عن النتائج البابلية وإنما نشأ عن البحث اليوناني "ص47". والحقيقة أن البابليين عرفوا علم الفلك قبل أن يعرف اليونان هذا العلم وماهيته. وعلم الفلك الذي توصل إليه البابليون هو الذي ندرسه اليوم في جوهره وأصوله.

ينكر الدكتور نبوغ الشرقي من الناحية الفلسفية إنكارًا باتا بكل ما في الكلمة من معنى، ولا أدري هل سبب هذا هو أن الدكتور غير ملم بالأصول الفلسفية الحقة أم هو ملم بها غير أنه لم يقو بعد على تحليل هذه الأصول تحليلا صحيحا وتفهمها فهما جيدًا. ونظرة بسيطة إلى الشرق قبل أن يولد سقراط وأفلاطون، بل قبل أن يعرف شيء عن اليونان جميعها نجد فن التحنيط ولا أراني محتاجا إلى أن أقول لم حنط القدماء في مصر جثث موتاهم؟ فهل هناك شك أن هذه العقيدة التي كان يؤمن بها المصريون القدماء وهي خلود النفس نتيجة بحث فلسفي قيم. الحق أن الفلسفة ظهرت في مصر قبل ظهورها في بلاد اليونان بمئات السنين غير أن سوء الحظ الذي يصادفنا اليوم. هو الذي أخفى هذه الحقيقة. -2- تساءل زكي مبارك1: ما الموجب لإثارة هذه المشكلة؟ وأجاب: الموجب هو إصرار الدكتور طه على القول بأن مرجع الفكر في الشرق والغرب إلى القدماء من مفكري اليونان وحرصه على إثبات هذا القول في الكتاب المقرر لمسابقة الأدب العربي، وكان قبل ذلك مقررا للمطالعة في المدارس الثانوية. يضاف إلى هذا أن الدكتور طه. "جعل" القيمة الفعلية من حظ الغرب وجعل البوارق الخيالية من حظ الشرق وانتهى إلى النص بأن الغرب وطن الفلاسفة وأن الشرق وطن الأنبياء.

_ 1 الرسالة 22 نوفمبر 1943.

ما حظ الدكتور طه في أن يقرر أن العقل الشرقي انهزم أمام العقل اليوناني مرات في التاريخ القديم وأنه ألقى السلاح في التاريخ الحديث. ما الغرض من الإصرار على أن العقل الشرقي يذهب في فهم الطبيعة وتفسيرها مذهبًا دينيا قانعًا بدليل أنه خضع للكهان في عصوره الأولى، وخضع للديانات السماوية في صوره الراقية. لا بد من نقض هذه الآراء قبل أن يفتتن بها التلاميذ لأنها مسجلة في كتاب رقم عليه اسم وزارة المعارف العمومية. الكهان: والظاهر أن الدكتور طه يتوهم أن الكهانة ظاهرة شرقية لا غربية وذلك توهم طريف لأن الدكتور طه نفسه يشهد بأن سقراط قد استلهم الكهان مع أنه في زعم الدكتور طه أول محرر للعقل الإنساني من أغلال الأضاليل، وأقول بعبارة صريحة أن الكهانة لم تصر مهنة مقدسة إلا في عهود الوثنية اليونانية فقد كانت لها معابد وكان لمعابدها سدنة وأمناء وكان المصير لكل معضلة فردية قومية رهينا برأي "الصوت المتنكر" في زوايا الظلام المنشور فوق معابد اليونان. أما كهان الشرق فقد كان مركزهم في المجتمع أيسر وأخف، لأن الشرق سبق الغرب إلى استحياء العقل، وهل يستطيع مكابر أن ينكر فضل الشرق في السبق إلى رفع القواعد عن الحضارة الإنسانية. تفرد الشرق بالأنبياء: وأقول إن النبوات في الشرق دانت الإنسانية بديون يراها الحاضر وذكرها التاريخ.

إن الشرق لن يتخلى عن السيطرة الروحية وإن عجز عن السيطرة المدنية ولن يوهن من قوة الشرق أن يقرأ أبناؤه كلاما منقولا عن أحد الأجانب ولو كان الناقل طه حسين. -3- وقال الدكتور زكي مبارك1 تحت عنوان "نزعة تمجيد اليونان" إن العرب لا يزالون أقوياء يخشى شرهم، وذكرياتهم الأدبية والعلمية والتشريعية مقرونة بالإسلام وكل إحياء لذكريات العرب خليق بأن يثير الزهو والكبرياء في نفوس الأمم الإسلامية وهم يعرفون ما صنعت تلك الأمم في الأيام الخوالي، وأثار العرب ترجع في صميمها إلى التشريع وهو من المعاني الجافة التي لا يقبل عليها غير أهل الجد من كبار الباحثين، ولا كذلك أثار اليونان فإن معظمها يرجع في جوهره إلى الأدب الصريح الذي يهيج الأهواء ويثير الشهوات حتى ليمكن أن يقال أن جميع الشهوات واللذات الجنسية أخذها الأوربيون عن اليونان، ولذلك يمجد الغرب ذكريات اليونان ولا يمجد ذكريات العرب. ويقول زكي مبارك2: يرى الدكتور طه أن الأدب الذي يحتل المركز الأول في الآداب القديمة هو الأدب اليوناني ثم يجيء الأدب العربي. كتب مأمون حلمي عبد اللطيف يقول: إذا كان كل هذا حق فمن هو الفيلسوف الأول الفرعوني الذي أثبت خلود النفس قبل أن تولد الأمة اليونانية، أم سقراط الذي جاء لنفس هذه النظرية قبل الميلاد بأقل من أربعة قرون.

_ 1 الرسالة: مجلد 1931. 2 البلاغ: 11 نوفمبر 1932.

ويقول مبارك، إن من المجاملة المخدرة أن يعلن الدكتور طه أن الأدب العربي أقوى من الأدب الفارسي واللاتيني. وإذا كان الأدب اليوناني في المكان الأول فإن الأدب العربي في المكان الأول أيضًا، الأدب اليوناني له المكان الأول من الناحية القصصية والتمثيلية وأنه في هذا الباب يمتاز امتيازًا صريحا لا يقبل الجدل ولا النزاع. والأدب العربي له المكان الأول من الناحية الدينية، فإن البلاغة الدينية باب مهم من أبواب البلاغات في الأدب القديم والحديث، فقد شغل ثلاثمائة مليون في العالم شغلا موصولا بأروع أثر في البلاغة الدينية ممثلا في القرآن وعندنا أدب الصوفية. أيستطيع باحث أن يزعم أن اليونان عندهم هذا الصفاء في الجوانب الروحية أما الأدب العربي فقد سكت عنه الأوربيون عامدين، لأنه يمثل الحضارة الإسلامية وهي حضارة كانت تبغي أوربا هدمها منذ أزمان، ولأنه من جهة ثانية مصبوغ في أكثر موضوعاته بصبغة الجد الرصين، وأوربا فتنت بما في الأدب اليوناني من نزق وطيش وخلاعة ومجون، بدليل أن أكبر شاعر شرقي راج أدبه في أوربا هو عمر بن الخيام لأنه شاعر اللذة والقلق والارتياب ويضاف إلى هذا أن يقظة أوربا الحديثة اتفق وجودها في أزمان كانت فيها الأمة العربية منحدرة إلى مهاوي الضعف والخمول فلم تستطع أن تقدم أدبها إلى العالم القديم تقديما حسنا بقدر ما كان له من روعة وجمال. "رأي رشيد رضا": وفيما يتصل بالنزعة اليونانية ما كتبه إبراهيم المصري في تفضيل الشعر

اليوناني على الشعر العربي وقد كتب رشيد رضا1 في الرد عليه. قال: أما شعر الإغريق الذي يفضله المجدد إبراهيم المعري على الشعر العربي وينبغي على العرب نبذهم له وترك الاقتباس من معانيه كما اقتبسوا من فنون اليونان وفلسفتها فقد كنا نجهله قبل أن يترجم لنا سليمان أفندي البستاني "الإلياذة" وكنا نبيح لأنفسنا الحكم عليه، فلما أطلعنا على "الإلياذة" وهي أعلى شعر الإغريق ومفخرتهم التاريخية حكمنا بأن أجدادنا لم ينبذوا شعرهم وراء ظهورهم، إلا لأنهم وجدوه دون الشعر العربي في حكمه وسائر معانيه وأنه على ذلك محشو بالخرافات الوثنية التي طهر الله عقولهم ومخيلاتهم منها بالإسلام.

_ 1 المنار جـ5 م 27 ص392 "إبريل 1926".

كتابة السيرة بين التاريخ والأسطورة

"كتابة السيرة" بين التاريخ والأسطورة: بين هيكل وطه: بدأ تحول في التفكير العربي المعاصر في مصر بعد عام 1931 حيث قام الدكتور هيكل بكتابة فصول عن حياة الرسول تحت عنوان "حياة محمد" مترجمة عن كتاب لمؤلف فرنسي هو إميل در منجم ولم تلبث أن صدرت مجلة الرسالة وبها فصول للدكتور طه تحت عنوان "على هامش السيرة" ثم صدرت هذه الفصول في كتاب بهذا العنوان ولقد أثارت كتابة طه حسين عن الإسلام والسيرة ثائرة المجددين والمحافظين على السواء. وكان الرأي أن طه حسين أراد أن يتعلق الجماهير بعد أن اتصل بالوفد وترك حزب الأحرار الدستوريين ومن قبله حزب الاتحاد الذي أنشأه الملك فؤاد. وقال آخرون: إنه أراد أن يسلك إلى دعوة "التغريب" سبيلا جديدًا مختلفًا عن سبيل "الشعر الجاهلي" ولكنه يهدف إلى نفس الغرض. وكان كتاب هامش السيرة موضع سجال وجدل، نورد هنا منها رأيين: رأي هيكل ورأي لعوض محمد: وجملة ما قيل: أن طه حسين بهذا الكتاب قد تحول من النقد الأدبي إلى إحياء الأساطير. طه حسين: مقدمة هامش السيرة أنا أعلم أن قوما سيضيقون بهذا الكتاب لأنهم محدثون يكبرون العقل، ولا يثقون إلا به، ولا يطمئنون إلا إليه. وهم لذلك يضيفون بكثير من الأخبار والأحاديث التي لا يسيغها العقل ولا يرضاها، وهم يشكون ويحلون في الشكوى حين يرون كلف الشعب بهذه الأخبار، هؤلاء يضيقون بهذا الكتاب بعض الشيء لأنهم سيقرءون فيه طائفة من هذه الأخبار والأحاديث التي نصبوا أنفسهم لحربها ومحوها من نفوس الناس، وأحب أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شيء، وأن للناس ملكات أخرى ليست أقل حاجة إلى الغذاء والرضا من العقل.

وأن هذه الأخبار والأحاديث إذا لم يطمئن إليها العقل ولم يرضها المنطق ولم تستقر لها أساليب التفكير العلمي فإن في قلوب الناس وشعورهم وعواطفهم خيالهم وميلهم إلى السذاجة واستراحتهم إليها من جهد الحياة وعنائها ما يحبب إليهم هذه الأخبار، ويرغبهم فيها ويدفعهم إلى أن يلتمسوا عندها الترفيه على الناس حين تشق عليهم الحياة. أحب أن يعلم الناس أني وسعت على نفسي في القصص، ومنحتها من الحرية في رواية الأخبار واختراع الحديث ما لم أجد به بأسًا، إلا حين تتصل الأحاديث والأخبار بشخص النبي أو بنحو من الدين. هيكل: ملحق السياسة 1 طه، إنما سلك في هامش السيرة طريق كتاب الغرب ممن يتحدثون عن الأساطير القديمة وينشرونها ويزينونها، وطه إنما قصد إلى إحياء أدب الأساطير حين أملى هذا الكتاب أو حين دفع إلى ذلك دفعًا وأكره عليه إكراهًا إذ رأى نفسه يقرأ السيرة فتملأ بها نفسه ويفيض بها قلبه وينطلق بها لسانه. وهذه الفصول لم تكتب لذلك للعلماء، للمؤرخين، ولم يرد المؤلف بها إلى العلم ولا قصد بها إلى التاريخ. إنما أراد إحياء الأدب القديم وإحياء ذكر العرب الأولين ولئن لم يطمئن العقل إلى أخبارهم وأحاديثهم، ولم يرضها المنطق: وهي إن تكن أساطير يضيق بها العقل ويأباها المنطق فليس العقل في الأدب كل شيء. وليس العقل في الحياة كل شيء. ذلك كله يقوله طه في

_ 1 ديسمبر سنة 1923.

مقدمة هذا الكتاب وهو يشير إلى أنه وضعه نموذجا للشباب في استغلال الحياة العربية الأولى واتخاذها موضوعا خصبا للإنتاج في الأدب الإنشائي الخالص. ولعل طه قد رأى واجبا أن يقدم لكتابه بهذا التحديد للغاية منه لسببين: أولهما: ما ذكر هو في المقدمة من أن قوما سيضيقون بكتابه لأنهم يكبرون العقل ولا يثقون إلا به ولا يطمئنون إلا إليه. والسبب الآخر: لم يذكره هو المقدمة لأنه سبب يتعلق بشخصه فهو إلى حين وضع كتابه هذا كان من أولئك الذين يكبرون العقل ولا يثقون إلا به، فهذا الكتاب تطور عظيم في نفسية طه وفي نظرته للحياة. تطور صارخ، صارخ يكفي لتبيينه أن نقرأ معا مقدمتين: مقدمة "على هامش السيرة" ومقدمة "في الأدب الجاهلي". ولا تقل: إن المقارنة غير ممكنة بين كتاب "في الأدب الجاهلي" وهو كتاب يقصد به إلى غرض التحقيق العلمي الدقيق وكتاب "على هامش السيرة" وهو كتاب في الأدب الإنشائي لم يكتب للعلم ولا للتاريخ، فقد مر طه في فترة ما بين ظهور هذين الكتابين بانتقال من العلم إلى الأدب، كان مظهره كتابها: الأيام وفي الصيف. وهو في هذه الفترة قد كتب مقالات أدبية كثيرة نشرتها السياسة ونشرتها الرسالة ونشرتها الكواكب وما أنتج طه من ذلك لا اتصال بينه وبين الأساطير مما ربع طه في تدوينه وتزيينه في "على هامش السيرة" ولا دلالة فيه على ميله إلى هذا النوع من الأدب. ثم إن بين "في الأدب الجاهلي" و"على هامش السيرة" موضعا للمقارنة

فكلاهما يتحدث عن العصر الجاهلي الذي سبق مولد النبي عليه السلام والذي عاصر هذا المولد، والكتاب الأول يهدم ما جاءت به الأساطير عن الجاهلية بل يهدم الكثير مما ينسب للجاهلية من شعر ونثر ويراه من وضع المتأخرين لأغراض دينية أو مخالفة للدين. والكتاب الأخير يجلو هذه الأساطير وينمقها. ويرى في ذلك غذاء لما سوى العقل من ملكات الناس. وطه يذكر أنه دفع لإحياء هذه الأساطير دفعا لم يكن له إلى الإذعان منه بد ومعنى ذلك أن هذه الخطوة من خطوات تطور النفس خطوة طبيعية كان محالا مغالبتها أو التغلب عليها. ويجب أن نذكره أن هذا الدافع قد بلغ من القوة ما لا يستطيع أحد من الناس مقاومته، فهو كما رأيت قد خطأ في هذا الكتاب من تحقيق العلم الذي ظل عاكفا من قبل عليه سنين إلى أدب الأسطورة الميثولوجية في حياة العرب وفي سيرة النبي وهو إذ خطا هذه الخطوة يعلم أن كثيرًا من هذه الأساطير التي روي إنما هي بعض الإسرائيليات، التي روج اليهود بعد عصر النبي متأثرين بحقدهم على محمد لأنه حاربهم وأجلى الأكثرين منهم عن بلاد العرب ومهد بذلك لإجلاء البقية الباقية بعد زمن قصير من وفاته، متأثرين بحفيظتهم على المسلمين حفيظة جعلتهم يروجون الألوف من الأحاديث المكذوبة على النبي ومن القصص التي تنافي تعاليمه منافاة صريحة، فما عسى يكون هذا الدافع القوي الذي دفع طه إلى هذا التطور فيم يجد بدا من الإذعان ومن صياغة هذه الأساطير في الصورة البديعة الرائعة التي تنفس فيها كتابه الأخير. وقال الدكتور هيكل: إن الأطور التي مر بها طه في حياته هي التي

انتهت حتمًا إلى إخراج هذا الكتاب، فهو قد روى لنا في كتاب الأيام الشيء الكثير عن طفولته وبدء صباه وكيف كان في تلك الأثناء متأثرا بظروفه وبيئته يخاف الأشباح ويتوهمها ويرسم منها في خياله عند وفاة أخيه ولمناسبات أخرى فنونا من الصور، ثم بدأ بعد ذلك يدرس في الأزهر ويقرأ سيرة النبي عليه السلام. ويقرأ في كثير من الكتب أساطير من الإسرائيليات التي لم يزف التحقيق في ذلك الزمن. فلما بدأت ملكات الحكم تنمو وتتجه إلى ناحية التمام العقلي عنده وبدأ يستمع إلى الأدب وإلى العلوم الحديثة، بدأت تتكون ذاتيته وتنضج نضجا سريعا ملحا، وأول مظهر لتكوين الذاتية ظهور ملكة النقد. وقد ظهرت في طه أول شبابه عاصفة لا يراها شيء ولا يثبت أمامها شيء وقد تناولت هذه الملكة ما وعى واستظهر في الأزهر فكان ذلك سبب خلافه مع شيوخه خلافا انتهى إلى ترك الأزهر والانتماء إلى الجامعة المصرية الوليدة إذ ذاك، وفي الجامعة وجد الطريقة العلمية في البحث؛ الطريقة التي أرضت عنده وترضي عند كل إنسان ملكة النقد إلى غاية ما تريد هذه الملكة من الرضى. في ظل هذه الطريقة العلمية سقطت عن جوانب طه العقلية أكداس مما تعلم من قبل ولكن أين سقطت، في طوايا نفسه وفي البعيد العميق من خبايا ذاكرته. "ثم صور" كيف أثار كتابه في الشعر الجاهلي اللائمة، مما دعاه إلى أن ينقطع إلى نفسه يقلب ويمتحن أركانها ويمتحن، ليرى آخر الأمر أن الناس ينئون بالحقيقة العلمية ويأبون حمل أمانتها ثم يقلب طه في نفسه

ويقلب ويمتحن أركانها ويهز جوانبها هزًا عنيفا حتى تختلط تلك الصور المختلفة المتباينة ليخرج منها مزاج كانت "الأيام" مقدمة البشرى به ثم كان هامش السيرة ثمرته الأولى. وقال هيكل: إن أدب الأسطورة هو أخصب ألوان الأدب، ويزيدها خصبا أن الكاتب والقارئ يعرفان جميعا أن المادة التي يعالجان هي من نوع الأسطورة لا جناح عليهم إذا هم أطلقوا للخيال فيها العنان فابتدعوا من خيالهم ما يزيد هذه الأساطير رقة وعذوبة ولا تحول بينهم وبين الأخذ بقول بعضهم "أعذب الأدب أكذبه" أي حائل. ولذلك أستميح طه العذر إن خالفته في اتخاذ النبي وعصره مادة لأدب الأسطورة. وأشار إلى ما اتصل بسيرة النبي ساعة مولده وما روي عما حدث له من إسرائيليات روجت بعد النبي ثم قال: لهذا وما إليه يجب في رأيي أن لا يتخذ مادة لأدب الأسطورة، فإنما، يتخذ من التاريخ وأقاصيصه مادة لهذا الأدب ما اندثر أو ما هو في حكم المندثر، وما لا يترك صدقه أو كذبه في حياة النفوس والعقائد أثرًا ما. والنبي وسيرته وعصره تتصل بحياة ملايين المسلمين جميعًا، بل هي فلذة من هذه الحياة ومن أعز فلذاتها عليها وأكبرها أثرا في توجيهها. وطه يعلم أكثر مما أعلم أن هذه الإسرائيليات إنما أريد به إقامة أساطير مثولوجية إسلامية لإفساد العقول والقلوب من سواد العشب ولتشكيك المستنيرين ودفع الريبة إلى نفوسهم في شأن الإسلام ونبيه. وقد كانت هذه غاية الأساطير التي وضعت عن الأديان الأخرى. ومن أجل ذلك ارتفعت صيحة المصلحين الدينيين في مختلف العصور لتطهير العقائد من هذه الأوهام. ثم قال هيكل: من أجل ذلك أود أن يفصل طه فيما قد يكتب من بعد من فصول تجري مجرى "على هامش السيرة" بين ما يتصل بالعقائد وما لا يتصل بها.

العودة إلى إرضاء الجماهير، هامش السيرة: الدكتور محمد عوض محمد، الرسالة 18 ديسمبر 1933. ثبت لدي ما كنت أتوهمه من أمره وما أكاد أثبته. إن ثقافة الدكتور الحقيقة هي ثقافة أزهرية متينة قوية الأسس ضخمة الدعائم وطيدة الأركان وأن ليست ثقافة الغربيين التي نسمع عنها الشيء الكثير إلا رواء وطلاء أن تبهر العين منظرة فإنه لا يذهب إلى غور بعيد. وقديما قال نابليون في الروس. إنك إذا حككت الروسي بدأ لك التتري. وفي وسعنا أن نقول إذا حككت طه حسين برفق بدا لك الأزهري القح الصميم بكل ما تحمله هذه الكلمة من فضل وعلم. وقد استطاع طه حسين -على غير عمد- أن يصرف الناس عن حقيقة أمره بحديثه عن اليونان والرومان والسكسون واللاتين. وأثارته هذه الزوابع التي برع في إثارتها أثناء كلامه عن أشخاص مثل ديكارت وبودلير وعن التجديد فلعل أصدقاء طه حسين أن يحمدوا للشخص الضعيف كاتب هذه السطور أن كشف لهم عن أمر صديقهم ما خفي عليهم هذه السنين.

كتابة التاريخ بين رفيق العظم وطه حسين

كتابة التاريخ: بين رفيق العظم وطه حسين أثار "طه حسين" جدلا طويلا حول طريقة كتابة التاريخ عندما اعتمد على كتاب "الأغاني" في تصوير الحياة العقلية للقرن الثاني الهجري مما أدى إلى إسباغ صورة الخلاعة والمجون على هذا العصر، وقد نظر طه حسين إلى هذا العصر ممثلا في أبي نواس وأضرابه من الشعراء فحكم على العصر كله بأنه عصر شك ومجون قال: "إن هذا العصر الذي انحلت الدولة الأموية وقامت فيه الدولة العباسية قد كان عصر شك ومجون"1. قال ص50: "إن هؤلاء الشعراء كانوا يمثلون عصرهم حقا وكانوا أشد تمثيلا وأصدق لحياته تصويرا من الفقهاء والمحدثين وأصحاب الكلام. وأن هؤلاء العلماء على ارتفاع أقدارهم لم يأمنوا أن يكون من بينهم من شك كما شك الشعراء ولها كما لها الشعراء". وقد وجد هذا من الرأي للدكتور طه هجومًا وسجالا عنيفين: وأبرز من تناول هذا رفيق العظم وإبراهيم المازني: 1- من رفيق العظم إلى طه حسين 2: مما يلفت النظر ويستدعي التمحيص والحذر من ذلك الحديث حكمكم أن أبا نواس ومن في طبقته أو على شاكلته من الشعراءكانوا مثلا صادقا للعصر الذي عاشوا فيه. وأن الرشيد والمأمون ذهبا من الشك والاستماع باللذائذ في ذلك العصر مذهب أبي نواس وأضرابه من شعراء المجون. وقد سردتم طائفة من الشعر والأخبار المنسوبة إليهم واستنتجتم منها ذلك الحكم الذي يحتاج إلى تمحيص كثير. إن الحقائق التاريخية ولا سيما في تاريخ الإسلام شبه الدر الملقى بين

_ 1 "مقدمة كتاب حديث الأربعاء جـ1". 2 السياسة 7 فبراير 1923".

أشواك يحتاج ممن يريد استخراجه من تلك الأشواك إلى أناه ورويه ونظر في وجه السلامة من أذى الشوك. ولا نريد أن نذهب بعيدا في مذاهب الشك التي ذهب إليها الأستاذ وإنما يكفي أن ننبهه بما نقول وهو العليم بما عاناه رواة الحديث ونقلة الأخبار النبوية في تمحيص تلك الأخبار وتنظيفها من شوائب الوضع المكذوب. نقرأ في كتب التاريخ أخبارا نسبها شيع العباسيين إلى خلفاء بني أمية وأخبار نسبها شيع آل علي إلى خفاء بني العباس هي أحط ما ينسب إلى خلفاء أو ملوك أو سمهم ما شئت، كانوا في مثل مرتبتهم من العزة والمنعة وبسطة الجاه والملك. وكان من المحال أن يكونوا من انحطاط الأخلاق والسيرة في المنزلة التي أنزلهم إليها الوضاعون ويدوم لهم طويلا ذلك الملك العريض والشهرة الذائعة في التاريخ. الحقيقة التي ينبغي أن تقال أن التنازع السياسي بين الشيع الإسلامية أدخل في روايات بعض الإخباريين شوائب في التاريخ الإسلامي ليست منه في شيء فإنما هي من وضع المتزلفين لبيوت الإمارة والملك أو المتشيعين لبعض المذاهب السياسية أو الدينية. ولا أظنني مخطئا إذا قلت أن ما نقل من هذا القبيل عن أبي نواس وأضرابه من شعراء ذلك العصر، ويسميه الدكتور طه حسين عصر الشك والمجون ويتخذه دليلا على حكمه على أهل ذلك العصر إنما هو تلفيق قصصي يراد به أحد أمرين: إما تشويه سمعة بعض الخلفاء العباسيين كالرشيد والمأمون. وإما سد نهمات العامة إلى أمثال تلك القصص المخزية والروايات الملفقة. على أنه لو صح شيء منه لما كان لنا أن نتخذه دليلا على شيوع

الفحش والفجور والشك بين أهل ذلك العصر لأنه مجون لا يجوز أن يتعدى الماجن مهما تكال إلى النيل من سواه باسم المجون. على أني أعتقد كما قلت أن ما نسب إلى أولئك الشعراء كأبي نواس وبشار ومن في طبقتهما محل للشك ولا سيما إذا صح أن شعر أبي نواس لم يجمع في كتاب "ديوان" على حدة في حياته, إنما جمعه رواة القصص وأخبار شعراء المجون وتناقلوه بعد وفاته بزمن قريب أو بعيد. إن أكثر ما نقل عن أبي نواس وأضرابه من شعراء المجون إنما هي روايات قصصية بعدية عن الصحة وأنه لا يصح أن تتخذ دليلا على حالة الأمة الروحية والخلقية في ذلك العصر وفوق كل ذي علم عليم. "رد طه حسين" 1: لا يزال العالم الجليل وكثير من العلماء المعروفين في الشرق يسبغون على التاريخ الإسلامي صفة من الجلال والتقديس الديني تحول يبن العقل وبين النظر إليه نظرًا يعتمد على النقد والبحث العلمي الصحيح. فهم يؤمنون بمجد القدماء من العرب وجلال خطرهم وتقديس مكانتهم. أنا أزعم أن القرن الثاني للهجرة كان عصر شك ومجون وأزعم أن كل شيء في هذا العصر يؤيدني في هذا الرأي. أنا أزعم -وأعتقد أني قادر على إثبات ما أزعم- أن القرن الثاني للهجرة قد كان عصر لهو ولعب، وقد كان عصر شك ومجون. وأزعم أن كل شيء في هذا العصر يؤيدني في هذا الرأي، وحسبي أن ألفت الأستاذ

_ 1 السياسة اليومية 22/ 2/ 1923.

رفيق بك إلى أن هذا القرن قد بدأ بخلافة الوليد بن يزيد وختم بخلافة الأمين ابن الرشيد وأحب أن يقارن بين هذين الخليفتين ثم ألفت الأستاذ إلى بشار ومطيع, وأبي النواس والرقاشي والعباس بن الأحنف وسلم بن الوليد وحماد عجرد ويحيى بن زياد وابن المقفع وإبان بن عبد الحميد وغيرهم من الشعراء والكتاب والمفكرين ولا أريد أن أذكر الفقهاء وأصحاب الكلام مخافة أن يغضب المتحرجون. 3- نزعة الإباحية في كتاب طه حسين 1: رد إبراهيم عبد القادر المازني: لقد لفتني من الدكتور في كتابيه حديث الأربعاء وهو مما وضع "قصص تمثيلية" وهي ملخصة، أن له ولعا بتعقيب الزناة والفساق والفجور والزناة. وقد ينكر القارئ أن أدخل القصص التمثيلية في هذا الحساب. ويقول إنها ليست له وإن كان ما له فيها أنه ساق خلاصة وجيزة لها، وهو اعتراض مدفوع لأن الاختيار بدل على عقل المرأ ويشي بهواه، كالابتكار سواء بسواء، وإنما يختار المرء ما يوافقه ويرضاه ويحمله عليه اتجاه فكره حتى لا يسعه أن يتخطاه، ولست بمازح حين أنبه إلى ذلك وها هو حديث الأربعاء: ماذا فيه؟ فيه كلام كثير عن العصر العباسي وللعصر العباسي وجوه شتى، وفي وسعك أن تكتب عنه من عدة وجهات. وأن تتناول فلسفته أو علمه أو شعره وجده أو هزله. ولكن الدكتور طه يدع كل جانب سوى الهزل والمجون ويروح يزعم أنه عصر مجون ودعارة وإباحة متغلغلة إلى كل فرع من فروع الحياة فلماذا؟ بل قل لماذا لا يرى في غير الماجنين والخليعيين صورة

_ 1 ص83 من كتاب المازني "فيض الريح".

منه؟ ولست أفتري عليه فإنه القائل في الصفحة السابعة والعشرين من كتابه "أدرس هذا العصر درسًا جيدًا وأقرأ بنوع خاص شعر الشعراء وما كان يجري في مجامعهم من حديث تدهشك ظاهرة غريبة هي ظاهرة الإباحة والإسراف في حرية الفكر وكثرة الازدراء لكل قديم سواء أكان هذا القديم دينًا أم خلقًا أم سياسة أم أدبا. فقد ظهرت الزندقة وانتشرت انتشارًا فاحشًا اضطر الخلفاء من بني عباس إلى أن يبطشوا بالشعراء والكتاب لأنهم اتهموا بالزندقة، وظهر ازدراء الأدب القديم والعادات العربية القديمة والسياسة العربية القديمة، بل ظهر ازدراء الأمة العربية نفسها وتفضيل الأمة الفارسية عليها، وكانت مجالس الشعراء والكتاب والوزراء مظهرًا لهذا كله. وليس يعنينا أن تكون النهضة السياسية الفارسية، وحرصها على الانتقام من العرب والاستئثار دونهم بالسلطان مصدر هذا التغيير وإنما الذي يعنينا أن هذا التغيير قد وجد وقوي حتى ظهر في الشعر ظهورًا جعل إنكاره مستحيلا. ولم يكف الدكتور طه أن يعمد إلى طائفة معينة من شعراء العباسيين وأن يرسم من سيرتهم صورة يزعمها صورة العصر بل هو ينكر أن غير هؤلاء من العلماء أو الشعراء يمثل العصر العباسي واقرأ له قوله في ص50 من هذا الكتاب "فقد بينا في هذا الحديث أن هؤلاء الشعراء كانوا يمثلون عصرهم حقا وكانوا أشد تمثيلا وأصدق لحياته تصويرًا من الفقهاء والمحدثين وأصحاب الكلام وأن هؤلاء العلماء على ارتفاع أقدارهم العلمية ومنازلهم الاجتماعية والسياسية وعلى أن كثيرًا منهم كان ورعا مخلصا طيب السيرة لم يأمنوا أن يكون من بينهم من شك كما شك الشعراء ولها كما لها الشعراء واستمتع بلذات الحياة "في سر" كما استمتع بها الشعراء في جهرهم.

وهل يقف الدكتور هنا ويقنع بهذا القدر؟ كلا يا سيدي! بل يجري إلى آخر الشوط ويقول في الصفحة 39 من كتابه "خسرت الأخلاق من هذا التطور وربح الأدب فلم يعرف العرب عصرًا كثر فيه المجون وأتقن الشعراء التصرف في فنونه وألوانه كهذا العصر، ثم كان من كثرة المجون أو أصح كان من فساد الخلق في هذا العصر والعصور التي وليته أن ظهر فن جديد في الغزل لم يكن معروفا في الجاهلية ولا في صدر الإسلام ولا في أيام بني أمية وإنما هو أثر من آثار الحضارة العباسية، وهو أثر أنشأته هذه الحضارة الفارسية عندما خالطت العرب أو عندما انتقل العرب إليها فاستقل سلطانهم في بغداد وهذا الفن الجديد أو الغزل بالغلمان الذي سنحدثك عن خصائصه في غير هذا الفصل". وإذا سمعت رجلا يقول: إن الأخلاق فسدت وخسرت وأن الأدب ريح من وراء ذلك أفلا ينهض لك العذر إذا قلت: إنه ينفح عن هذا الفساد ويسوغ هذه الخسارة؟ نعم بلا ريب. وأنت تحس من كلامه الرضى والارتياح. ومن الذي لا يشعر بذلك حين يقرأ قوله في عقب ما سقنا لك "إنما الذي يعنينا الآن أن هؤلاء الناس الذين وصفنا لك ما وصلوا إليه من شك في كل شيء وإسراف في المجون واللهو كانوا يجتمعون ويجتمعون كثيرًا أكثر مما كان يجتمع أسلافهم وكانت اجتماعاتهم ناعمة غضة فيها اللهو وفيها الترف. كانوا لا يجتمعون إلا على لذة، إلا على كأس تدار أو إثم يقترف، وكانت اللذة والآثام حديثهم إذا اجتمعوا، يتحدثون فيها شعرًا ونثرًا، وكان الدين واللغة والفلسفة حديثهم أيضًا. ولم تكن اجتماعاتهم تخلو دائما من النساء، فقد كان الإماء الظريفات يأخذون منها بنصيب عظيم. وكانوا يجتمعون في الحانات والأديرة وفي بيوت الأمراء والوزراء فيلذون ويتحدثون.

فأنت تستطيع أن تتنبأ بمقدار ما كان لأحاديثهم هذه من أثر عظيم في الأدب العربي والعقل العربي. كانت هذه الأحاديث عذبة غير متكلفة ولا ثقيلة الروح. كانت تصدر عنهم عفوًا فتمثل عقولهم وشعورهم وقوة حرصهم على اللذات وشدة شغفهم بالجديد أحسن تمثيل". هـ ص40. ثم مضى يورد سير أبي نواس ومن إليه من مثل الوليد بن يزيد ومطيع بن إياس وحماد عجرد والحسين بن الضحاك وواليه ابن الحباب وإبان بن مروان ابن أبي حفصة ويقول في بيان الحكم عن ذلك إنه لا يريد أن يكتفي بالقول "بأن القرن الثاني للهجرة على كثرة من عاش فيه من الفقهاء والزهاد وأصحاب الشك والمشغوفين بالجد إنما كان عصر شك ومجون وعصر افتنان وإلحاد عن الأخلاق المألوفة والعادات الموروثة والدين أيضًا. وليس عندي شك في أن هذا العصر لم يكن عصر إيمان ويقين في جملته وإنما كان عصر شك واستخفاف وعصر مجون واستهتار باللذات". هـ ص184. يقول المازني: إنه ما من عصر يمكن أن يكون له جانب واحد كما يريد أن صور لنا العصر العباسي وأنه لم يخل زمن قديم أو حديث من مثل ما يصف الدكتور. 2-القصص المترجمة: وبعد ذلك نعود ما كنا فيه وننتقل إلى قصص الدكتور ولنبدأ بقوله عنها: "فإني أعترف بأني لا أتخير هذا القصص عفوًا وإنما أتخير منها بنوع خاص ما من شأنه أن يهز العاطفة أو يلذ العقل أو يدعو إلى العناية والتفكير" فليس في الأمر مجال للتأول والتمهل والإحالة على الاتفاق والمصادفات فإن العمد هنا معترف به:

ويقول الدكتور: إنه إنما كتبها وجمعها ونشرها لأنه يريد أن يطلع قراء اللغة العربية "على نحو من أنحاء الأدب الغربي، ولأنه يرغب أن يكون بهذه القصص وما فيها من الآراء الفلسفية والمذاهب المختلفة أثر في نفوس الأدباء والذين يمنون منهم بالتمثيل العربي. وللقارئ أن يسأل: لماذا يؤثر الدكتور "نحوا" آخر من أنحاء الأدب الغربي وليس هذا كل ما فيه ولا هو خيره. لماذا عني على وجه الخصوص بقصص الزناة والزواني وبحكايات الجهاد -كما يقول هو- "بين العواطف والشعور من جهة وبين العقل من جهة أخرى. بين العواطف والشعور الفردية من ناحية وبين القانون والأوضاع الاجتماعية من ناحية أخرى. بين العواطف وبين الواجب. وبين العقل وبين الدين، ثم بين القانون وبين الدين أيضا"؟ ألا ترى أن صنيعه في اختيار هذه القصص كصنيعه في اختيار من كتب عنهم من العباسيين؟ فكما أنه ترك أبا تمام والبحتري والشريف ومهيارًا والمتنبي والمعري في فحولة شعراء العرب وفضلائهم ووقع على أهل المجون والخلاعة والاستهتاك، كذلك لم ينتق من كنوز الأدب الغربي إلا هذه القصص الحافلة بضروب "الآثام والمنكرات". ونحسب الآن أن نزعة الدكتور قد صارت ملموسة باليد فهل لها تعليل؟ هل في وسع الكاتب منا أن يبين لماذا كان الأمر كذلك والحال على ما وصفنا للقراء، نعم والعلة ظاهرة والكلام حاضر1.

_ 1 لم يدخل الدكتور طه في مناقشته من المازني صراحة وصمت. صمت صمتا طويلا وانتظر مجالا آخر للرد عليه وكان بعد سنوات طويلة.

معركة الترجمة: بين منصور فهمي وطه حسين

معركة الترجمة: بين منصور فهمي وطه حسين هذه إحدى المعارك الأدبية المبكرة، جرت عام 1921 حينما عرض الدكتور منصور فهمي في جريدة الأهرام لقصة "سيرانو دي برجراك" التي عربها مصطفى لطفي المنفلوطي فأعلن إعجابه بترجمتها العربية الجميلة. غير أن الدكتور طه الذي كان قد أوغل قبل ذلك بسنوات في نقد كتاب "النظرات" للمنفلوطي، كتب في الأهرام يرد على منصور فهمي ويعارض رأيه في ترجمة القصة الفرنسية ويرى أسلوب المنفلوطي بالاتهامات. ثم دارت مساجلة بين منصور فهمي وطه حسين حول الأسلوب والمضمون وطريقة الترجمة وتعد هذه المساجلة من أولى معارك الترجمة من الأدب الأوروبي. 1- رواية1 الشاعر "سيرانو دي برجراك" منصور فهمي: قل للذين لا تذهب أنظارهم إلى ما وراء الأدب العربي أن لغيرنا من الأمم أدبا بليغا راقيا نكسب من حسنه لأدبنا إذا ما أردنا أن نأخذ عن حسناته، قل للذين قصروا تشبيهاتهم على التشبيهات العربية والكنايات. وقيدوا عواطفهم بالأساليب العربية أن لغيرنا أساليب من ذهب وعواطف من رقة وصفاء ويحق علينا أن نتبادل معهم عواطفنا ونزوج أساليبنا من أساليبهم حتى تتجدد اللغة وتنمو وتكثر العواطف في قلوبنا وتنتشر. ثم قال: إن المعرب اقتحم سبيلا وعرًا في قصة سيرانو إذ في بلاغة الأصل الفرنسية وصناعاتها اللفظية واصطلاحاتها ما ليس في الطاقة نقله. على أنه لا ينبغي أن تكون صعوبة النقل عقبة في سبيل التعريب وربما تجمد الجرأة في اقتحام الصعاب ولا سيما وقد أنعم الله على المنفلوطي بقلم بليغ وأدب موفور، فلو أن تعريبه لا يؤدي لنا صورة كاملة من تلك البلاغة

_ 1 الأهرام 19 يوليو 1921.

الفرنسية الفائقة إلا أنه يؤدي لنا صورة حية بقلم عربي مبين وتؤدي بعض أجزائها على أحسن مثال في البلاغ. 2- طه حسين 1: بيني وبين المنفلوطي خصومة أدبية قديمة كونت لي فيه رأيا قديمًا لم أوفق بعد إلى أن أتحول عنها، وهذه الخصومة نفسها هي التي حملتني على أن لا أعرض لكتاب "الشاعر" بخير ولا بشر مع أن لي فيه رأيا قبل ظهوره. منعتني هذه الخصومة من أن أعرض لهذا الكتاب بخير أو شر، فأنا أعلم أن النقد لم يصل بعد في مصر من الحرية إلى حيث يمكن أن يتناسى فيه الأحقاد والثارات. قال: إن مؤلف سيرانو قد وضع قصة تمثيلية شعرية أو جمال هذه القصة رهين بالشعر من جهة، وبالأسلوب التمثيلي من جهة أخرى ثم بالبلاغة الفرنسية نفسها. فإلى أي حد يباح للمترجم أن يحول قصة من التمثيل إلى الفن القصصي الخالص، أليس هذا مسخا للكتاب، وجناية على المؤلف. لا أطالب المنفلوطي بأن يترجم الكتاب شعرًا كما ألف شعرًا فقد لا يكون ذلك ميسورًا، ولكني لا أستطيع أن أتجاوز عن تحويل التمثيل إلى قصص فهذا مسخ لا يرضاه إلا الذين لا يقدورن الفن قدره. إن لكل لغة جمالا ليس إلى نقله إلى لغة أخرى من سبيل، فمن المستحيل أن يتذوق هذا الجمال في لغة غير اللغة الفرنسية، ومع ذلك

_ 1 الأهرام 10 يوليو سنة 1921.

فقد يتجاوز للمترجم عن هذا التصور فهو غير مكلف أن يحقق المستحيل. إلى أي حد يباح للمترجم أن يتصرف فيما يترجمه بالمسخ والتشويه. أي الأمرين أجدر بالغبن؛ أن نترجم قصصا فيه من القصور المحقق في نقل أخص ما يميزها من الجمال أو أن نترك هذه القصة في لغتها حتى لا تمسخ ولا تشوه وحتى لا ينقص من قدرة المؤلف ونبوغه في صورة أقل ما توصف به أنها لا تطابق بعد الأصل ولا تدل عليه. 3- منصور فهمي 1: كلانا متفق على أن لا نطالب المنفلوطي بأن يترجم الكتاب شعرًا كما ألف شعرًا فقد لا يكون ذلك ميسورًا نتفق في ذلك كله، فأين الخلاف؟ إن الخلاف الذي أظنه ينشأ بيننا قد يكون في سؤالين وجهتهما إلي: إلى أي حد يباح للمترجم أن يتصرف فيما يترجمه بالمسخ والتشويه؟ وجوابي البسيط أني لا أبيح قط للمترجم أن يتصرف فيما يترجمه بمسخ أو تشويه، أما بعد هذا فاسمح لي أن أسالك: أي الأمرين أجد بالغبن أن تترجم قصة فنية مع القصور عن نقل أخص ما يميزها من الجمال أو أن تترك هذه القصة في لغتها حتى لا تمسخ ولا تشوه؟ أرى خيرًا أن تنقل لنا القصة في جمال الأصل من أن يحجب عنا كل هذا الجمال، خير لنا أن تكون عندنا فكرة صغيرة من أدب جديد من أن يهمل هذا الأدب, ولو لم يكن ذلك لما نقل الفرنجة في لغاتهم القرآن الكريم، ولما قرئت في لغاتنا التوراة والأناجيل, ولما قرأنا بالعربية شعر

_ 1 الأهرام 26 يوليو سنة 1921.

"هوميروس" وما ترجم من أدب اليونان وكلنا يعلم أن جمال الأصل فوق جمال المنقول. أضف إلى ذلك أن الدافع الأول للنقل من لغة إلى لغة قد يكون في جمال الموضوع وليس في تفاصيله، وقد يكون في المعاني وليس في ثيابها من الأساليب دعني أسالك إلى أي حد يباح لنا أن نبخل في تقريظ كاتب جد وكد في سبيل الأدب ونأبى عليه حقه. 4- رد طه حسين 1: تسألني أين يقع المسخ والتشويه فيما فعل المنفلوطي؟ وتعلن أنك لا تفهم كيف يكون تحويل قصة تمثيلية إلى حكاية قصصية مسخًا وتشويهًا؟ إن للتمثيل جمالا لا يشتمل عليه القصص وإن مصدر هذا الجمال هو أسلوب الحوار. ما رأيك فيمن يترجم لك "الجمهورية" مهملا أسلوب الحوار ويصوغها في قالب نثري عادي ككتب ابن سينا وأرسطاطاليس. ما أظن أن التاريخ الأدبي سطر تحويل قصة تمثيلية إلى حكاية قصصية قبل المنفلوطي ولكنه سطر تحويل القصص إلى تمثيل إلا شيئا لا يؤبه به. يخيل إلي أن استشهادك بنقل القرآن ليس بمقنع. فالقرآن لم ينقل من حيث هو أثر فني فحسب، وإنما نقل لأنه كتاب دين ولأن نقله أمر لا بد منه، فأما كتاب سيرانو فأثر فني، وآية من آيات الجمال ليس غير.

_ 1 البلاغ 11 سبتمبر 1933.

وكتاب المنفلوطي مع ما فيه من التشويه والمسخ لم ينقل عن الأصل وإنما نقل عن ترجمة, وعن ترجمة عربية فيا لضيعة الوقت ويا للحرص على الشهرة وبعد الصيت. أحب أن لا تكون مقالاتك مشجعة للمفسدين الفنيين على إفسادهم وللأدعياء في الأدب على أن يسرفوا في ادعائهم ويخيل إلي أن أحسن أثر للفلسفة إنما هو تقدير الأشياء وإقرار الأمور في نصابها. 5- رد منصور فهمي حول قصة سيرانو: إنك مهما تشددت في النقد فلا تجد ما يبرر لك ذكر المنفلوطي مع الأدعياء وإني مهما تساهلت في الفن، فلا أستكثر وصف الكاتب الأديب عندما أذكر المنفلوطي. إنك تجد جريمة تريد أهل القانون أن يلتفتوا إليها إذ تحول قصة سيرانو من قالبها التمثيلي إلى صورة قصصية، وإنك تجد غريبا ومضيعة للوقت أن تصيب الرواية في الشكل القصصي بعد أن ترجمت في شكلها التمثيلي الأصيل. وإنك في الوقت نفسه تقول: إن قراءة الموضوع أسهل على الناس في تركيبه القصصي منه في تركيبه التمثيلي، فهلا ترى أن المنفلوطي وقد حافظ على الأصل أدى خدمة للجمهور إذ سهل عليهم قراءة هذا الموضوع الجميل، أم ترى أن يسهل الأدب والفن والعلم على العامة إثما، ليس له في ساحة غفرانك نصيب. لا أخالك تقول بذلك وأنت تعلم أن أكبر العلماء وأحرصهم على لغة الفن والعلم يغشون جامعات الشعب فيلقون فيها نتائج أبحاثهم العويصة سهلة

حلوة المذاق ويقيدون نتائج كدهم في كتب مبسطة ليسهلوا تناول العلم والفن على من لا يألف من الناس لغة العلوم والفنون حتى ولو فرطوا في مصطلح العلم ووقائعه. فإذا كنت ترى بدعة تحويل الرواية التي نحن بصددها إلى قصة، فتلك بدعة صالحة لا يستهجنها الذوق السليم ويستحق المبتدع عليها كل الحمد والثناء. زد على ذلك أن لكل لغة أسلوبا فيه رواؤها وبهاؤها فإذا كان أسلوب المحاورة والتمثيل يتمشى مع بهاء اليونانية والفرنسية فإن العربية يتمشى مع روائها أسلوب القصص، على ذلك لم يكن المنفلوطي ليمسخ الفن أو يشوهه كما تقول بل حرص عليه إذ يحول الفن الغربي إلى فن عربي صميم. أدعوك بالوداع ... على أني عندما أذكر نقدك على المنفلوطي أدعوك بالتحامل القاسي.

آداب الساندويتش: بين الزيات والمازني والعقاد

آداب الساندويتش: بين الزيات والمازني والعقاد هذه مساجلة هادئة حول الأدب، دور من أدوار تحوله؛ عندما انتشرت ظاهرة الأدب السريع الصحفي، الذي لا يرعي قواعد النحو ولا أصول اللغة، وهي صيحة تصور مدى الخطر الذي تعرض له الأدب في هذه الفترة، وقد أثار المناقشة أحمد حسن الزيات واشترك فيها إبراهيم عبد القادر المازني وعباس محمود العقاد وتوحي هذه المساجلة بالنذر التي قلت بعد الحرب العالمية الثانية حين استفحلت نزعة أدب الساندويتش, وتورط فيها كثير من كبار الكتاب وحملت لواءها صحافة ذات اتجاه واضح. 1- أدب الساندويتش 1: أحمد حسن الزيات أريد الأدب الذي تتأدبه ناشئة اليوم. والثقافة الأدبية اليوم لا تختلف في سرعتها وتفاهتها وفسادها عن هذا النوع الجديد من الأكل، فهي نتاف من الكتب ولقفات من الصحف وخطفات من الأحاديث ومطالعات في القهوة أو الترام. يلفظ الكلام فيها النظر الخاطف. كما يلفظ الحب الطائر الفزع ثم نتاج مختصر معتسر كجنين الحامل أسقطته قبل التمام. وصراخ مزعج في أدنى هذا السقط ليستهل وهو مضغة من اللحم المسيخ لا تشعر ولا تنبض. يقول أنصار الساندويتش في الأدب: إن قواعد اللغة قيود لا توافق حرية العصر، وأساليب البلاغة عوائق لا تجاري قراءة السرعة وبدائع الفن شواغل لا تساعد وفرة الإنتاج، والحق الصريح أن آكلي السندويتش أعجلتهم محافز العمل ومشاغل الرزق عن النعيم الآمن والجمام الخصب والبيت المطمئن فجعلوا صعلكة المطاعم نظاما وفلسفة. آثار هذا الموضوع في ذهني طائفة من الرسائل النقدية تلقيتها من أقطار

_ 1 الرسالة 14 يونيه 1932.

العربية تستنكر بعض ما تظهر المطابع المصرية من لغو الكهول وعبث الشباب وتشدد النكير على بعض الأحاديث الأدبية التي تبثها الإذاعة اللاسلكية. والواقع الأليم أن الذين درسوا لغتهم وفقهوها من الأدباء النابهين نفر قليل. فإذا استثنيت هؤلاء الستة أو السبعة وهم من الكهول الراحلين وجدت طبقة الأدباء كطبقات الصناع والزراع والتجار يأخذون الأمور بالتقليد والمحاكاة لا بالدروس والمعاناة. وكما تجد من هؤلاء من ينشئ المتجر ثم يكله إلى أجنبي ينظمه ويرتبه تجد في أولئك من يؤلف الكتاب ثم يدفعه إلى نحوي يعربه ويهذبه. 2- رد إبراهيم عبد القادر المازني: نفى1 صديقي الأستاذ الزيات -صاحب الرسالة- على أدباء هذا الجيل الجديد جهلهم بلغتهم وتقصيرهم في تحصيل آدابها. وهذا صحيح ... وأحسبني من الستة أو السبعة الذين أشار إليهم الأستاذ. وأني لمن الكهول فقد جاوزت الأربعين وقاربت الخمسين. عرفنا القراءة والاطلاع ونحن تلاميذ في المدارس الثانوية "وبعد أن تحدث المازني عن جهده في صرف كل مليم على شراء الكتب" قال: ومن العناء الذي تكلفته أني اشتريت الأغاني الذي طبعه "الساسي" اشتريته ورقا على عادتي فكنت أراجع الأبيات التي ترد فيه، في دواوين الشعراء أو كتب الأدب الأخرى فأصلحها أو أتمم القصيدة، أنسخ ذلك في ورقة وألصقها في الكتاب. وكلما فرغت من جزء جلدته وقد أصبح ضعف ما كان، وهذا هو

_ 1 الرسالة 21 يونيه 1937.

الكتاب الوحيد الذي بعته بأضعاف ثمنه فقد اشتريته بمائة قرش وخمسة قروش. فلما بعت مكتبتي عام 1917 أو 1918، لا أذكر، ابتاعه مني وراق بخمسين وسبعمائة قرش، وقد ندمت على بيعه فما أستطيع اليوم أن أصنع الآن ما صنعته قديمًا. وأنا مع ذلك أقل الثلاثة -العقاد وشكري- اطلاعا وصبرًا على التحصيل، وأدع للقارئ أن يتصور مبلغ شرههما العقلي، ولا خوف من المبالغة هنا، فإن كل ظني دون الحقيقة التي أعرفها عنهما. وأنا أجتر كالخروف ولكنهما يقضمان قضم الأسود ويهضمان كالنعامة، فليتني مثلهما. 3- السندويتش والمائدة: عباس محمود العقاد أدب1 السندويتش هو أدب الفاقة والعجلة، وأدب المائدة واليسار والوقار كما سماها الكاتب البليغ الأستاذ الزيات وأصاب في التسمية لأنها تسمية وتوصيف وتعليل في وقت واحد. وقد ختم الأستاذ مقاله سائلا: ليت شعري إذا خلت أمكنة هؤلاء النفر -أدباء الكهول- الذين نبغوا بالاستعداد والاجتهاد، كيف يكون حال الأدب الرفيع في مصر؟ يذهبون وبطئان ما يعوضون على رأي الأستاذ أحمد أمين. أم يذهبون وسرعان ما يخلفون على رأي الأستاذ العقاد؟ وفي جواب هذا السؤال أيضًا لست من المتشائمين لأن الجواب يعضه من سر المستقبل، وبعضه من حقائق الماضي. قبل ربع قرن من الزمان كان أناس غير قليلين يسألون كما يسأل الأستاذ

_ 1 الرسالة 5 يونيه 1937.

الزيات اليوم ترى من يرفع لواء الأدب بعد أعلامه البارزين في هذه الآونة! ترى هل ينطوي اللواء بعدهم أو تهيئ له الأيام أكفاء تنشره كما نشروه وتعزه كما أعزوه. ولم يكن اسم واحد من الأسماء الستة أو السبعة الذين أشار إليهم الاستاذ الزيات معروفا تلك المعرفة التي تغني عن إجابة السؤال. وربما كانوا مجهولين كل الجهل في غير مجال الأصحاب أو مجال المتطلعين المتسمعين إلى أبعد الأصداء. فإذا سألنا في معرفة الجيلين مثل هذا السؤال ورأينا البوادر تملي علينا مثل ذلك من الجواب. فليس من اللازم أن تصدق البوادر وأن ينقضي خمس وعشرون سنة أخرى دون أن يخلف السابقين عوض من اللاحقين. وإنا لنذكر اليوم الستة أو السبعة القائمين بأمانة الأدب وننسى الستين أو السبعين الذين كانوا يهزلون. كما يهزل البعض الناشئين في أيامنا. ويتبلغون بالقليل من زاد الاطلاع كما يتبلغ أدباء الساندويتش بيننا. نسينا أولئك الستين أو السبعين لأن الزمان قد نسيهم وعفى على أسمائهم وآثارهم. ولكنهم كانوا في أيامهم يحجبون ويشبهون الشخوص على الأنظار ويبعثون اليأس ويثبطون الرجاء. وفي العالم كله نوازع شتى تنزع بالناس الآن إلى الأدب الرخيص أو أدب الساندويتش أو أدب الفاقة والعجلة ... ثم قال: تلك النوازع من بلاد العالم كله على اختلاف النظم الاجتماعية خليقة أن تنصر أدب الفاقة والعجلة وتنحي على أدب اليسار والوقار. ولكنا نرجع إلى العصور الغابرة فلا يصادفنا عصر منها إلا كانت فيه نوازع كهذه النوزاع في نصرة الأدب المبذول وخذلان الأدب الكريم العزيز.

أما في مصر؛ فأدب الجد والأمانة والرصانة والترفع عن القشور إنما يقوم على كواهل أصحابه ولا يقوم على كواهل القراء. وكل ما تملك من عزاء أن الجد والهزل في هذا الباب يتساويان فليس بيننا كاتب هازل يعيش بهزله، وليس بيننا كاتب جاد يعيش بجده. أما عندنا فحين ظهر بيننا من ينعتون أنفسهم بمدرسة الشباب لم يكن معهم شيء جديد، ولا دليل على الحداثة غير شهادة الميلاد، وراحوا في دعوتهم يميعون تميع الذي يربت على عطفيه ويتحبب إلى نفسه ويفرط في تدليل سنة كأنه يتقدم في سوق الرقيق لا في ميدان الفكر وحلبة الصراع.

أدبنا: هل يمثلها؟ بين أحمد أمين وأمين الخولي

أدبنا: هل يمثلها؟ بين أحمد أمين وأمين الخولي ... أدبنا: هل يمثلنا؟ بين أحمد أمين وأمين الخولي: هذه مناقشة بين أحمد أمين وأمين الخولي حول أدبنا؛ هل يمثلنا؟ أو لا يمثلنا؟ بدأها أحمد أمين فألقى نظرة متشائمة على الأدب ورأى أن أدبنا لم يصل بعد إلى القدرة على تمثيل كل جوانب حياتنا، بينما قال أمين الخولي: إن أدبنا يمثلنا وإنه في "تقلقله" ليس إلا صورة صادقة كل الصدق لحياتنا الاجتماعية. 1- أدبنا الآن لا يمثلنا. أحمد أمين: في رأيي أن الأدب العربي بحالته التي هو عليها الآن لا يصلح أن يكون غذاء كافيا للجيل الحاضر سواء في ذلك الأدب القديم والأدب الحديث والأدبين معًا. قد يكون الأدب الإنجليزي قديمه وحديثه صالحًا للإنجليز في الوقت الحاضر وقد يكون الأدب الفرنسي والألماني كذلك. أما الأدب العربي فليس صالحًا للأمم العربية. ذلك؛ لأن الأدب إنما يعد صالحًا للأمة إذا كان مظهرها تاما شاملا صادقا لحياتها الاجتماعية على اختلاف أشكالها في جدها وهزلها وفي صبا أفرادها وكهولتهم وشيوختهم، في آلامها وآمالها، في حياتها اليومية. في البيت والمصنع والمسجد ودور اللهو والتمثيل والموسيقى، في حياتها السياسية وحياتها الاقتصادية. وعلى الجملة في كل شيء فيها. فإذا استطاع أدب الأمة أن يملأ هذا الفراغ عد أدبًا صالحًا كافيًا وإلا لم يكف وحده فلننظر في ضوء هذه النظرية إلى الأدب العربي. فماذا نجد؟ نجد أن الأمم العربية من مصريين وشاميين وعراقيين وغيرهم بين أدبين: أدب عربي قديم وأدب عربي حديث.

فأما الأدب العربي القديم فلا يمثل إلا أجياله ولا يمثل جيلنا وهو صورة للحياة الاجتماعية التي نشأ فيها، وليس صورة لحياتنا. وهذا النوع من الأدب العربي القديم لا يصلح أن يمثلنا ولا يسمى أدبًا لنا بالمعنى الدقيق للكلمة ولا يقول به عاقل. ولست أشك أن قسما منه صالح لكل زمان ومكان، كالحكم والمواعظ وتمثل العواطف العامة المشتركة بين الناس كلهم كالسرور والحزن والوفاء والغدر. والنتيجة لهذا كله أن الأدب القديم ثقافة الخاصة لا ثقافة العامة. وثقافة العدد القليل لا الجم الغفير، وليس يكفي ذلك وحده في أداء رسالة الأدب العامة إذ هو لا يؤدي رسالته حتى يجد الناس فيه عامتهم وخاصتهم التعبير الفني عن مشاعرهم. أما الأدب الحديث العربي فهو كذلك لا يكفي لغداء الجيل الجديد لأنه لم يملأ حياتنا، وإن شئت فاستعرض كل شئون الحياة تجده لم يحقق رسالة، فإن أحببت أن تضع في يد أطفالك في سنهم المختلفة كتبا في القصص أو في الثقافة العامة لم تجد إلا القليل الذي لا يكفي على حين تدخل المكتبة الأوروبية فيملأك العجب والإعجاب من وفرة الكتب للأطفال على اختلاف أنواعها ومما حليت به من الصور الجذابة والأسلوب المشوق البديع. والواقع أن أدب كل أمة يجب أن يساير نهضتها، وأدبنا الآن لا يمثلنا وهو وراء نهضتنا ويجب أن يكون أمامها وهو كالثوب القصير للرجل الطويل. أو كالثوب المرقع للرجل الغني أو كالثوب البدوي للمرأة المتحضرة.

وأهم علاج هذا النقص عناية العالم العربي بإيجاد طائفة تثقفت ثقافة عربية واسعة، وثقافة غربية واسعة، ثم تتولى بعد الإنتاج. 2- أدبنا الآن يمثلنا؛ أمين الخولي: إن أدبنا يمثلنا في هذا العصر تمام التمثيل. وليس يثبت ذلك إلا أن ننظر لحياتنا. ونتفق على من نحن الآن! ولسنا إلا شرقيين قد ورثنا حضارة لها مزاجها وكيانها. ثم طلعت علينا حضارة غربية لها مزاج آخر وكيان آخر. وهاجمتنا محاولات لإحياء قديم أسبق من الحضارتين تثير عصبيتنا لمجد شاده الفراعين، فنحن بين هذا وذاك أشتات بدد، يذهب كل فريق إلى ناحية ويلوذ بزاوية أو يقوم فريق وسطا بين هذا وذاك، ومظاهر هذا التقسيم واضحة في حياتنا فلا أقول لك مثلا: إن في مصر دراين للآثار مصرية وعربية ودراستين للآثار: مصرية وإسلامية، ولكن أقول لك: إن لدراسة الأدب في مصر معاهد ثلاثة: كلية الآداب تجنح للثقافة الحديثة الغربية، والأزهر بكلية اللغة العربية يحتفظ بالشرقية جاهدا، ودار العلوم تميل إلى هنا حينا وتصعد عن هناك حينا. وانظر مع ذلك في صنوف التعليم عندنا تجد المثقفين قد وردوا مناهل العلم في جامعات الغرب وتعرفوا إلى الحضارة النشطة القوية العاملة وتذوقوا أو حاولوا تذوق صنوف الفنون المبدعة في مثلها السامية، وإلى جانب هؤلاء متعلمون قد عكفوا على القديم ليس غير، فهم يحرمون الفنون ويودون بجدع الأنف لو مزقوا الصور وحطموا التماثيل، يعدون المتحف المصري دارًا للأصنام وبقية من جاهلية وثنية ثم هناك آخرون قد مروا بمدارسنا المدنية وقطعوا مراحل التعليم فيها فتنسموا ريح تلك الحضارة الحديثة واتصلوا بتلك الفنون اتصالا تاما.

وآخرون قد أصابوا حظا من ذلك يختلف قلة وكثرة، وضيقا وسعة وإلى هؤلاء وأولئك ترى ناسا توسطوا بين هذه الأطراف ونالوا نصيبا من كل جانب يتحدثون إلى أهل القديم فيفهمونهم ويجدون من قديم اصطلاحهم وموروث علمهم بما يرضي ويطمئن، فلعل أصدق ما يقال في وصف أدبنا الآن: إنه يمثل مصرية قد ائتلف عنصراها. والتقى وفاق طرفاها. وقد طاب منها الأصلان وكرم العنصران؛ من فرعونية قادت الإنسانية وأسست المدنية وعربية شاركت في تمدين الدنيا وحملت مشعل الهدى, فنحن منهما بين أصلين كريمين. ففي الحق إن أدبنا في عربيته وغربيته وقدمه وحداثته، ثم في تململه وتقلقله ليس إلا صورة صادقة كل الصدق لحياتنا الاجتماعية التي لا يترجم لها عنوان موحد ولا تبرز لها صورة مكتملة.

غاية الأدب: ما هي؟ بين زكي مبارك وسلامة موسى

غاية الأدب: ما هي؟ بين زكي مبارك وسلامة موسى كانت حملة سلامة موسى على الأدب العربي مثارًا لمعارك متعددة، كان أبرزها معركته مع زكي مبارك، يرى سلامة موسى أن غاية الأدب هي توجيه الحياة الاجتماعية وأن الأدب الحديث أنفع من الأدب القديم، ويرى زكي مبارك أن الأدب وثيقة تسجل فيها مظاهر الحياة الاجتماعية وقد تصير "دستورا تخضع له هذه الحياة". 1- الآداب الباقية: رد زكي مبارك على سلامة موسى 1 كنت بينت للخصم الشريف سلامة موسى وجه الخطأ فيما ذهب إليه من الدعوة إلى الإقلال من العناية بالأدب العربي، وكانت حجتي أنه يعنى بالأدب الفرعوني مع أنه أدب موغل في القدم، وأن الأستاذ عبد القادر حمزة يبذل جهودًا عنيفة في شرح الأساطير الفرعونية، ولم يقل أحد أنه يضيع وقته فيما لا يفيد، فكيف يلام رجل مثلي إلى قصر عمره على درس الأدب العربي مع أنه أدب حي لا يزال يسيطر على أذواق الناس في المشرق والمغرب، وهو فوق ذلك يفسر غوامض النفس العربية التي تلقت الإسلام ونشرته في العالمين. وأعود فأقرر أن لدراسة الأدب العربي غايات أخرى غير تلك الغايات الدينية وأبدأ فأنقض حجة سلامة موسى إذ يرى أن غاية الأدب هي توجيه الحياة الاجتماعية وأن الأدب الحديث أنفع دائما من الأدب القديم. وعندي أن الأدب كما يكون ضربا من الإصلاح يكون نوعا من الوصف وهو وثيقة تسجل فيها مظاهر الحياة الاجتماعية، وقد يصير دستورًا تخضع له الحياة الاجتماعية. فإن كنت في ريب من ذلك فراجع كتب الأدب في القديم والحديث تراها سجلات دونت فيها أزمات القلوب والنفوس والعقول.

_ 1 ك: الأسمار والأحاديث ص371.

والكتاب الاجتماعيون يعيشون في عالم الواقع كما يعيش رجال القوانين، ولذلك نراهم يهتمون بشئون لا يلتفت إليها أحد من الشعراء، والأستاذ سلامة موسى كاتب اجتماعي وليس بأديب واللغة عنده ليست إلا أداة تفاهم وكل تأنق في العبارة يبدو لعينيه وكأنه لغو وإسراف. والأدب القديم لا يمكن أن يحتل رأسًا مثل رأس الأستاذ سلامة موسى. أما الأديب -وارحمتاه للأديب- فهو إنسان لا يعرف غير عالم المعاني وليس للدنيا في نفسه حدود ولا تواريخ فهو يلتمس الحكمة حيث وقعت، الحكمة الجميلة التي تحمل طابع الحق والخير والجمال. الذي يهمني أن أقرر أن الأديب لا يشوقه غير المعاني، وهو من أجل ذلك لا يتقيد بالحدود التاريخية والجغرافية وهو لا يعنى بالمشاكل إلا من الوجهة الإنسانية. أما الأوضاع الاجتماعية فموقفه منها موقف الوصاف الذي يشرح المحاسن والعيوب. وهذا لا يمنع أن يكون الأديب من أهل الكفاح، وهو حين يكافح يصبح قوة خطرة في الحياة الاجتماعية لأنه يحلق دائما في الأجواء العالية ولا يقنع بالقليل. 2- قد يكون سلامة موسى في دينه أصدق مني في ديني والله أعلم بالسرائر، ولكن من المؤكد أني أصدق منه في الوطنية، فأنا أحرص على اللغة العربية والإسلام خدمة لوطني. وأنا أغض النظر عن هفوات كبيرة لرجال الدين لأنهم على أي حال من الشواهد على أن وطني له سلطة روحية، وقد تطوع المسلمون في مصر لمعاونة الأحباش أيام محنتهم بعدوان الطليان بغرض وطني هو الشعور بأن الكنيسة القبطية لها سلطات روحية على عقائد الأحباش.

فهل يغار الأستاذ سلامة موسى على الأزهر الشريف كما أغار على الكنيسة القبطية. وهل من الكثير أن يكون منا عشرة أو عشرون أو ثلاثون يقضون أعمارهم في دراسة ماضي اللغة العربية، وهي اللغة القومية في مصر منذ ثلاثة عشر قرنا وهل تعاب فرنسا وإنجلترا وإيطاليا بأن فيها مئات من الباحثين لا يهتمون بغير درس الذخائر في الأدب القديم عند اليونان والرومان. وفي العرب: نصارى ويهود ومسلمون لأن العروبة هي مصدر هذه الديانات الثلاثة، ولو كان سلامة موسى من أرباب المآرب المادية لعذرناه وقلنا: إنه رجل ينتفع من مؤازرة خصوم العروبة والإسلام، ولكن سلامة موسى رجل عفيف القلب والجيب ولن يترك لأطفاله غير ما ورث من أبويه الكريمين فكيف يستبيح لنفسه أن يسيء إلى سمعة مصر العربية الإسلامية بلا جزاء. 3- إن اهتمام الأستاذ سلامة موسى بالكلام عن الحرمان وتفاوت الطبقات فتات خطفه من موائد الأجانب الذين كتبوا في الاشتراكية فليس فيه أصالة فكرية أما أعمالنا فنحن في درس أسرار اللغة العربية فهي الأساس لزعامة مصر في الشرق فمؤلفاتنا في الأدب هي المظهر لمجد مصر. إن تجني سلامة موسى على مؤرخي الأدب العربي بغير حق دليل على أنه جاهل وجهول وجهالة ومجهال. إنه يعادي لغة العرب لسبب بسيط وهو أنها لغة القرآن المجيد.

متى يزدهر الأدب: معركة بين لطفي جمعة وزكي مبارك

متى يزدهر الأدب؟ معركة بين لطفي جمعة وزكي مبارك: هذه مناظرة وقعت بين لطفي جمعة وزكي مبارك في مارس سنة 1940 في مدرج كلية الآداب بالجامعة، وصور هذه المناظرة زكي مبارك بقلمه فرسم صورة الأساليب التي تتبع في إعداد المساجلات وما يدور وراء كواليسها. وكيف يحرز أحد المتساجلين النصر. موضوع المناظرة: يزدهر الأدب في عصور الفوضى الاجتماعية، أيد الرأي زكي مبارك وعارضه لطفي جمعه. 1- سألني فريق1 من أعضاء كلية الآداب أن أشترك في مناظرات هذا الموسم وعرضوا علي طوائف من الموضوعات لم يرقني منها غير موضوع "يزدهر الأدب في عصور الفوضى الأخلاقية". ولكني اقترحت أن يعدل فتوضع كلمة "الفوضى الاجتماعية" مكان الفوضى الأخلاقية، ومضت أيام وأسابيع والاتحاد مشغول بالبحث عمن يناظرني من أساتذة كلية الآداب ثم علمت أن الأساتذة لم يرقهم أن يناظروا "المشاغب الأكبر" على حد تعبير الدكتور هيكل باشا، وهل من العقل أن يتقدم أحد الأساتذة لمناظرتي وقد شاع وذاع إني أكبر المشاغبين. هي تهمة ظالمة ولكنها حقت علي وسأقضي بقية العمر في الدفاع عن نفسي ولكن بلا نفع ولا عناء لأن الناس عندنا يؤذيهم أن يصححوا رأيهم في رجل ظلموه بلا بينة ولا برهان. وأخيرًا ظفر اتحاد الكلية برجل يناظرني. ولكن أي رجل؛ كاتب مشهور لي معه وقائع في بعض الجرائد والمجلات، فقلت في نفسي، هي مكرمة

_ 1 الرسالة 17 مارس 1944.

من مكرمات الأستاذ لطفي جمعه فقد هداه القلب الطيب إلى أنني رجل ينهاه الأدب والذوق عن الاستخفاف بأقدار الزملاء. كانت المناظرة لا تحمل المعنى العلمي لها، وهي أن يحمل جانبا من الجانبين يعني أنه من أنصار هذا الرأي، وإنما الأمر أن يأخذ كل مناظر نصيبه من المناظرة ليعرض المتناظرين للجمهور، ولا يعني هذا الإيمان بالرأي ولذلك نعجب كيف قوبل زكي مبارك بالرزاية حينما تقدم لهذه المناظرة وأنه سمع من الذين حاوروه في المناظرة قول أحدهم إنه لا يستبيح ما لا يباح في تحقير الرأي الذي ارتضاه وهناك من أعلن عجبه أن يكون من موظفي وزارة المعارف من يحمل على الدعوة إلى الفوضى. ويميل الأستاذ لطفي جمعه على أذني وهو يقول: أهنئك على أن عرضت سمعتك للأراجيف في سبيل الحق. فأبتسم وأنتظر أن يصنع ما صنعت ليظفر بتهنئتي وينهض الخصم الشريف فيسلك في تحقيري جميع المسالك ويدعي أني فوضوي وأثيم وينهى الجمهور عن الانخداع بآرائي ويعلن عجبه من أن يكون لي كتاب اسمه التصوف الإسلامي في مجلدين كبيرين مع إني من أنصار الفوضى الاجتماعية ويقضي في تحامله ساعة وبعض ساعة وأنا مطرق أكاد أذوب من الخجل والحياء. وأعود إلى نفسي فأندم على تعريض سمعتي لهذا الضيم البغيض، وأعرف أني أخطأت في قبول المناظرة مع الخصم الشريف، وأعاهد الله على اعتزال الناس إلى يوم الممات، ومن الذي يغريني بصحبة بني آدم ولم ألق منهم غير شجا الحلوق وقذى العيون. وقد أقمت داري على حدود الصحراء لآنس بظلمات الليل ولأنسى إنني موصول الأواصر بهذا الخلق ولأناجي موات البادية حين أشاء.

لطفي جمعة الرجل الفاضل الذي أثنيت عليه في خطبتي أيقضي في شتمي ساعة بعض ساعة. تلك إحدى الأعاجيب إن كان الفكر في زماننا من الأعاجيب، أين أنا من دهري وزماني؟ أمثلي يشتم جهرة في كلية الآداب وقد حملت على كاهلي أحجار الأساس؟ هو ذلك وعلى نفسي أنا الجاني فقد عرضت سمعتي للجدل الذي يسمونه مناظرات. وينتهي الأستاذ لطفي جمعة من خطبته بعد أن مزق آرائي كل ممزق وبعد أن شفى صدره مني وقد كانت بيني وبينه ثارات وضغائن وحقود1. موضوع المحاضرة: في بلادنا تصطرع جميع المذاهب والعقائد وفي بلادنا تقتتل جميع العادات والتقاليد وفي بلادنا يلتقي البحران: بحر المدينة الشرقية وبحر المدينة الغربية وفي بلادنا يجتمع الضب والحوت، وتمتزج أنغام المؤذنين بأصوات النواقيس. عندنا برج بابل المشهور في التاريخ. بل عندنا برجان هما: الأزهر والجامعة المصرية يتجه أحدهما إلى الشرق فيكون خلف الضفة الشرقية للنيل ويتجه ثانيهما إلى الغرب فيكون حول الضفة الغربية. فالأديب المصري يغرب إن شاء فيرى القاهرة في ثياب أليس ومرجريت ويشرق إن شاء الله فيراها في عباءة ليلى وظمياء. وبفضل هذه البلبلة بين الحضارة والبداوة نهضت قواعد الأدب الحديث. 2- النهضة الحقيقية للأدب الحديث ترجع إلى عهد مشئوم هو النزاع بين الرجلين العظيمين: عدلي يكن وسعد زغلول ففي هذا العصر صارت الكتابة والخطابة عنصرين أساسيين في تكوين الأدب المصري الحديث

_ 1 يقرأ معارك لطفي جمعة معه، باب زكي مبارك وخصومه.

وبفضل النزاع بين عدلي وسعد خلقت جرائد ومجلات وأندية صار لها في نهضة الأدب مكان ملحوظ وبفضله استطعنا أن نذيع في الشرق فنا جديدًا هو الأدب السياسي وهو فن كان انقرض بانقراض النضال بين أشياع بني أمية وأتباع بني العباس، وإليكم هذه النكتة؛ كان شاع أني أخاصم الدكتور طه حسين فكتبت في الهجوم عليه مقالات كان لها وقع حسن أو سيئ عند قراء اللغة العربية. وكان بيني وبين الدكتور طه ود وثيق ولكن رعاية هذا الود لم تنفع الأدب لأن كل ما يصدر عنه كان يقع في نفسي موقع القبول، فلما ثار علي وغضبت عليه أتيت في مصاولته بالأعجايب، واطلع الأستاذ محمود بسيوني على تلك المقالات فانزعج أشد الانزعاج وسعى للصلح بيني وبين الدكتور طه في حفل مشهور حضره العمداء وكبار الأساتذة بكليات الجامعة المصرية فهل تعرفون نتيجة هذا الصلح المشئوم أو الميمون؛ تلفت الناس متوجعين لضياع فرصة ثمينة هي فرصة الجدل حول المذاهب الأدبية، فهل فيكم من يتفضل بالسعاية بيني وبين الدكتور طه لأرجع إلى مصاولته من جديد؟ 3- لو سلم المجتمع من الاضطرابات لأغلقت المحاكم ولم يبق أمام الأستاذ لطفي جمعة إلا الفرار إلى الريف ليأخذ قوته مما تخرج الأرض بجهاد الفأس والمحراث.

الأدب المكشوف: بين توفيق دياب وسلامة موسى

الأدب المكشوف: بين توفيق دياب وسلامة موسى سلامة موسى 1: كان "الأدب المكشوف" من الموضوعات التي كثر حولها الجدل وتشعب القول. وقد جرت مساجلة بين سلامة موسى وتوفيق دياب في 9 ديسمبر 1927 عن الأدب المكشوف والأدب المستور ثم لم تلبث جريدة السياسة أن فتحت مجال المناقشة وكان السؤال هو: هل يضيرنا أن يسمي كتابنا الأشياء بأسمائها وأن يكتبوا أو يعربوا لقارئاتهم، وقرائهم ما تنطوي عليه مخادع الزوجين أو الخليلين من أسرار طالما ظلت مكتومة؟ أم هل تقول بأن المتعمق في وصف التفاصيل مضعف لأخلاق الناشئين والناشئات، شديد الإثارة للشهوات وإذن يجب أن تقمع الأقلام بعض الشيء فلا تخوض في هذه الأمور إلا على حذر واستحياء. وقد دافع سلامة موسى عن الحرية المطلقة في الأدب وعدم التقيد أصلا بالأخلاق بينما قمع توفيق دياب من جهة النظر الأخرى ودخل المعركة كثيرون من بعد واستمرت سنوات طويلة. موضوع الأدب هو موضوع الطبيعة البشرية في حقيقتها والتسامي بهذه الطبيعة إلى ما هو أرقى منها مما يبصره الأديب بما يشبه بصيرة النبي. فالعلم يقرر الواقع. ولكن الأدب يسمو بالواقع إلى ما هو أرقى منه. فاعلم كالصورة الفوتوغرافية والأدب كرسم اليد. فإذا عالج الأديب موضوع الحب فهو لا يقنع بما هو مألوف من العلاقات الجنسية بل يسمو بها إلى ما هو أرقى من المألوف، فإذا احتاج في ذلك إلى صراحة تامة فيجب أن يمنح هذا الحق أن للأديب قيدًا وحدًا فقط يتقيد به هو إخلاصه في عمله وله الحق ما دام مخلصًا في أن ينال الحرية في أن يبحث بصراحة كاملة جميع مسائل الجنس كما يبحث العالم مسائل الغازات السامة مثلا.

_ 1 نشرها في المجلة الجديدة "المجلد الأول 130".

وليس في الأدب كله ضرر نشأ من الصراحة يساوي أو يقرب من الضرر الذي نشأ من الغازات السامة. قد يقال: إننا يجب أن نراعي الأخلاق ونحتشم في وصف العلاقات الجنسية فإذا فعلنا ذلك هل نمتنع من قراءة "ثورة الملائكة" التي وضعها أناتول فرائس أو "الجريمة والعقاب" لدستوفسكي وفيها أوصاف بالغة الدعارة. إن الأديب الذي يعالج العلاقة الجنسية قد يصارح القارئ أو المشاهد بأشياء كثيرة، ولكن لإخلاصه وأن بصيرته تنزع إلى السمو لا يستثير في القارئ شيئا من شهوات الدنيا. إن الذي يثبته علم النفس الحديث أن الصراحة الوقوف في وجه الغريزة الجنسية, والكلام عنها كل هذا لا يضر بل يفيد، إن الذي يضر ويؤذي هو مجابهة الموضوع والابتعاد عنه بتاتا بالقول والعمل. وهنا نرى مهمة الأديب الصريح إذا عالج موضوع الشهوة الجنسية أمكنه أن يفتح أمام الشباب باب التسامي، أي أن ينقل حبه للمرأة إلى حب للفنون الجميلة عندئذ تستحيل هذه الشهوة البهيمية إلى العمل للشرف والقوة والمجد. وليس للأدب علاقة بالأخلاق. إن ستر الحقائق يجعلها أجذب للنفس من ظهورها، وإبعاد المسائل الجنسية عن الأدب أو عدم المصارحة في الكلام فيها يجعل الذهن أعلق بها ويفتح الطريق للكاتب المنحط الذي يلجأ إلى الرجس. الأدب السافر يجعلهم يمسون الحياة كما هي في الحقيقة والواقع فلا يحدث الانحراف الذي تجلبه المجانبة.

إن الأدب كالعلم يجب أن يبقى حرًا، ثم إن علم النفس الحديث يبين لنا أن المصارحة في المسائل الجنيسة خير من المواربة وأن معظم الأمراض الجنسية تنشأ من المجانبة والابتعاد. 2- توفيق دياب: الأدب المستور 1 إن وظيفة الآداب والعلوم والفنون مهما اختلفت موضوعاتها وظيفة سامية أو يجب أن تكون سامية. ذلك أن وجهة الإنسانية هي الرقي في جميع بواطن النفس وظواهرها. وعندي وعند كثير ممن هم أجل منا مقاما في عالم التفكير وتصوير قيم الأشياء وغاياتها أن كل علوم الناس وآدابهم وفنونهم يجب أن تكون خداما وأعوانا لمثال الإنسانية المنشود، فأما أن يشذ الأدب عن سائر عناصر الثقافة وعوامل التهذيب فيجعل همه مصروفا إلى مجرد "الوقائع الحادثة" مهما تكن تلك الوقائع مزرية بالغاية الإنسانية العليا مغرية باللذائذ الدنيا، فذلك ما نخالف فيه أخانا الناقد والآخذين أخذه. وتشمل اللذائذ الدنيا كل شهوات البدن إذا خرج بها صاحبها على حرمة الأفراد أو الجماعة أو وقف عليها من فكره وجهوده ما قد يشل معه مواهبه العليا، ونحن نزعم أن كثيرًا جدا من مادة الأدب الحديث منصرف إلى تلك الشهوات، دافعا إليها دفعًا شديدًا وكيف يتفق "الخيال المهذب الراقي" وتلك العريانة المستهترة التي لا تدع للخيال الراقي مجالا. لو وضعنا كل شيء يقع وضعًا فنيًا لاستحالت كتب الأدب وأثار رجاله

_ 1 السياسة الأسبوعية "مجلد 1927".

أو كثير منها إلى حانات معنوية ومواخير مبتذلة له مقرها رءوس الكتاب والقارئين وأشخاصها أولئك "الأبطال" الذين يصورهم لنا "الفن الأمين" غارقين إلى الأذقان في لجج الشهوات ممعنين فيها إمعان من لا يرى في الحياة متاعا يعلو متاع الحيوان. إن القطيعة التي يزعمها بعض الباحثين من الأدب القومي والخلق الإجماعي قطيعة وهمية لا أساس لها من الواقع إذ الواقع، أن التفاعل بين الأدب والأخلاق متواصل لا ينقطع. 3- حافط محمود؛ الأدب المكشوف: إن الأدب الصحيح ليست مهمته أن يصف لنا "ما تنطوي عليه مخادع الزوجين أو الخليلين من أسرار، وليست مهمته أن يبلغنا ملابسات العاشقين ومداعباتهم. إن وظيفة الأدب في الحياة وظيفة فنية قوامها أن يصور لنا الوقائع الحادثة والحقائق الزمنية إلى جانب دخائل النفس تصويرًا صادقًا لا يداخله غلو في شيء ولا إغراق في شيء. فالمقصود من الأدب ليس الحكمة أو الموعظة، وإنما هو أن يعطينا صورة لأنفسنا ويترك للتاريخ صورة من حياتنا، فإذا اعتبرنا ما تنطوي عليه مخادع الزوجين أو الخليلين صورة من التفسير الإنساني صحت علينا الأمانة الفنية أن نذكرها على ما هي عليه من واقع لا تغيير ولا تغرير فيه. أما أن يكون التفضيل في هذه المواضيع مما يضعف المقاومة ويحلل المناعة بين الفتيان والفتيات فهذا شيء ليس متصلا بالأدب إنما هو موضوع الخلق الاجتماعي في الأمة.

4- عزيز طلحة 1: نشأ هذا النوع من الأدب نشأة سهلة لم يكلف الذين ولغوا فيه عناء ولا جهدًا فليس هو الأدب الذي يستدعي بحثا أو تمحيصا، وليس هو الأدب الذي يتصل بالدراسات النفسية بسبب, ويكفي أن ننزل عن شيء من الأخلاق, ويكفي أن نستبيح شيئا من المجون والاستهتار ليخرج الناس أسلوبًا جديدًا ينفر منه الذوق وتمجه النفس. وإذا أنت حاولت إقناع أصحاب الأدب الرخيص بأنهم حين ينشرون مثل هذا العبث في مختلف البيئات يمنون على الأدب أولا وعلى النواميس الاجتماعية يزعمون أنك قديم, وأنك ما دمت قديما أو من أنصار القديم فأنت عدو لكل جديد. 5- إبراهيم المصري: أغلب الجمهور عندنا نظرًا لاجتيازها فترة الانتقال الحاضرة يعتقد أن المقصود بالأدب المكشوف: هو أدب التبذل والتهتك وتصوير المحرمات المنسية والميول المنحرفة المخزية وأن كل من يعالج هذا الأدب إنما يرمي إلى نشر الإباحية الممقوتة وأن من واجب الحكومات والمصلحين وقادة الرأي الحكام محاربة هذا الأدب وأصحابه حرصًا على أخلاق الأمة. وليس شك أن من حق الأدب الصحيح على الأدباء المصريين2 المثقفين ألا يقفوا سكوتًا حيال خلط كهذا. وألا يسمحوا -وهم الذين يتولون جهود الجبابرة في تعديل القيم الأدبية وتقويمها- بأن تظهر في الجو الفكري في

_ 1 البلاغ 24 نوفمبر 1936. 2 الهلال "يوليو 1937".

مصر خرافة مرعبة تحمل اسم الأدب المكشوف وهي في الواقع ليست من حقيقة هذا الأدب في شيء. والغريب أن الأدب المكشوف اسم غير معروف في أوربا حيث ابتدع هذا الأدب وإنما هو اسم ابتكرناه نحن وخلعنا عليه ثوبا صارخا مما جعل المحافظين التقليديين يرون فيه الشيء الكثير من معنى التحدي. وما نسميه نحن أدبا مكشوفا يسميه الغربيون "ناتوراليزم" أو "رياليزم" أي رسم الطبيعة كما هي. أما أدب التهتك والتبذل فلا يعتبر هناك أدبا يطلق عليه اسم "بورنوجرافي" للتفرقة بينه وبين الأدب الصحيح. والباتوراليزم أو ما يسمى عندنا بالأدب المكشوف مذهب يعترف بحرية الكاتب في أن يقول كل شيء ويرسم كل شيء وينقد كل شيء في حدود أدب القول ما دام حسن النية رائدة وتصوير الحقيقة البريئة غرضه الأول والأخير. وهذا الأدب يتيح للقصص بصفة عامة أن يصور أخفى الغرائز البشرية ويحدثنا عن أطوارها وتقلباتها وتفاعلها وما يتولد عنها من أعراض تصطبغ بها الشخصية الإنسانية في فترة من فترات حياتها. وإذن فالمقصود بهذا الأدب ليس ترويج الإباحة الممقوتة ولا نشر التبذل والتهتك بل دراسة الإنسان والكشف عن ميوله الدفينة ونزعاته الغربية التي تسيطر تمام السيطرة على معظم اتجاهات عقله وقلبه. ومن الميسور جدًا أن نفرق بين الأدب الصحيح الذي يرسم الأعراض

النفسية الغريبة ليهتدي إلى حقيقة الإنسان وبين الأدب الزائف الذي يروج للتهتك ويتاجر بالشهوات ويعمل على هدم الأخلاق. ومن مميزات الأدب الأول أنه لا يبالغ في وصف تلك الأعراض الجسمية والنفسية الغريبة ولا يخلع عليها حللا خيالية رائعة تستهوي القارئ وتفسده، ولا يلتذ رسم الدقائق والتفاصيل الجنسية بل يعالجها في أدب جم وحيدة تامة. ويقررها تقريرا هادئا، لا يؤثر في أعصاب القارئ ولا تشوبه النية الخبيثة التي تخرج بالحقيقة عن محيط الأدب وتهوي إلى درك التبذل. عباس محمود العقاد 1: معظم الأدب الأوروبي الذي تم بعد الحرب العالمية أدب ضرورة كثيفة وخضوع أعمى للحاجة العاجلة وليس بأدب حرية وتمرد على قيود الضرورة فقد أطلقت الحرب عشرات الملايين من الجنود عاشوا في الخنادق معيشة الهمج الذين يواجهون ضرورة الجسم في كل ساعة من الساعات وتعودوا نسيان التهذيب في الشعور والذوق والكلام. فإذا انطلق هذا الجيل المصاب في دمائه وصبره وعزيمته يريد أن يفرض على الدنيا تلك الآفات والنقائض فليس هذا دعوة إلى التجديد وليست دعوة لورنس ولا اشتداد دعوة السريالية إلا من آثار النكسة وبقايا الخضوع.

_ 1 27 فبراير 1934 الجهاد.

إبراهيم عبد القادر المازني 1: النزوع الملحوظ في أدب القصة الأوروبية إلى تناول المسائل الجنسية بلغة صريحة -أو إلى الأدب المكشوف- كما يقولون شبيه بالنزوع إلى العري بل الحركتان فرعان من أصل واحد، وهي في الغرب متسايرتان بخطى متقاربة وقد لا يكون ثم بأس في الفشو في نهاية الأمر. ولكن اليأس يكون من التجرد في جماعة كاسية، ومن الأدب المكشوف لأذهان ألفت الاستتار، وعلى أني لا أرى مزية للكشف لا تنال بالتحفظ بل إني لأرى على الإنسان خسارة لا تعوض. إن الإنسان عرف الثياب فهو يستر بها جسمه ولو ظل عاريا كغيره من الحيوان لما كان للمسائل الجنسية وذكرها -أو حتى رؤيتها- أي تأثير في نفسه. فإنا نرى الحيوانات عارية ولا تخجل ونشهد تنزيها فلا تتحرك لذلك شهواتنا، وكان يمكن أن يكون هذا نظر الإنسان إلى الإنسان لو ظل عاريا، ولكنه استتر فكان من فضل الثياب أن صرفت ذهنه إلى حد كبير، عن جسمه وشهواته إلى ما هو أسمى وأعلى وإن جعلت ما في الثياب شيئا يستحيى منه ولا يذكره إلا بعبارة مستورة مثله، وصحيح أن الثياب أغرت بالتطلع والكشف ولكنها حجبت، فوجهت النفوس والعقول وجهات أخرى. وكان من فضلها هذا الرقي ولا فرق عندي بين أن تصف المسائل الجنسية -شاذة كانت أو غير شاذة- وصفا صريحا في قصد وأن تعري إنسانا في الطريق وتنزع عنه ثيابه. وإذا كان أحد يرى فرقا فإني لا أراه، وما دام الإنسان يلبس الثياب

_ 1 6 يوليو 1935 البلاغ.

ويستتر بها فلا بد أن يتوخى في كتابته الكبح والضغط، والثياب جمال مزيد، وقد التمسها الإنسان أول ما التمسها للزينة لا للمنفعة والجسم الإنساني في الثوب المناسب أجمل منه وهو عريان. وأفتن أيضًا. وكذلك الكتابة الصريحة أقل جمالا وفتنة من اللغة المستورة. ومزية التحفظ في الكتابة أنه يجعلها أقوى وأفعل وآنس وآسى وهو بعد ذلك آمن لأنه لا يهيج شهوة ولا يشغل الذهن بما هو أسمى وأروع.

التراث الشرقي: يكفي أو لا يكفي: بين عبد الرحمن الرافعي وعباس محمود العقاد

التراث الشرقي؛ يكفي أو لا يكفي؟: بين عبد الرحمن الرافعي وعباس محمود العقاد "هل يكفي التراث الشرقي لنضج الحياة العقلية عند الشرقيين؟ ": هذه مساجلة هادئة بين عبد الرحمن الرافعي وعباس محمود العقاد حول "كفاية" التراث الشرقي لنضج الحياة العقلية عند الشرقيين. أخذ فيها الرافعي جانب قصور التراث الشرقي وضرورة الترجمة وأخذ العقاد جانب كفاية التراث الشرقي. عبد الرحمن الرافعي 1: التراث الشرقي في العلوم والآداب والفنون، هو ولا شك تراث مجيد ولكنه مع ذلك لا يكفي لنضج الحياة العقلية الحديثة عند الشرقيين, بل يجب لكي يصل هذا النضج إلى مداه من التقدم أن يجمع إلى التراث الشرقي خير ما أنتجته وتنتجه القرائح والعقل البشري في الغرب ولا غضاضة علينا في ذلك؛ فإن الأمم الأوروبية نفسها وهي التي تم نضج الحياة العقلية فيها، لا تفتأ كل منها تقتبس عن أية أمة أخرى في الغرب أن الشرق ما يظهر فيها من مستحدثات التجارب والاكتشافات والمذاهب العلمية. ولذلك قالوا: إن العلم لا وطن له وإن كان العالم له وطنه. ومما لا شك فيه أنه منذ الفتح العثماني لمصر سنة 1517 قد وقفت حركة التقدم تماما فكسرت العلوم وانحط الأدب وجهدت القرائح وتراجعت العقول وانقضت نحو ثلاثة قرون والشرق في تأخر من الناحية العلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. بينما الغرب قد أخذ بأسباب الحياة والنهوض فسبق الشرق عدة قرون من النضج العقلي، فبديهي أنه عندما ابتدأ الشرق يستفيق

_ 1 من 370م السنة التاسعة 1941 "الرسالة".

من سباته العميق في نهاية القرن الثامن عشر كان لا بد أن يقتبس من الغرب ما سبقه إليه في خلال القرون المتعاقبة. ولم يتردد الغرب حين بدأ عهده بالبعث والنهوض أن يقتبس عن التراث الشرقي حضارته وعلومه فقد نقل علماؤه فلسفة ابن رشد ودرسوها وكانت ينبوعا لليقظة العلمية في الغرب. فمن الواجب إذن على الأمم الشرقية إلى جانب إحياء التراث الشرقي القديم أن يقتبس عن الغرب تراثه الجديد. وتأخذ عنه محاسنه ومزاياه، لو أن حركة التقدم قد تابعت سيرها في الشرق ولم يقفها ذلك التأخر الذي أصابه خلال قرون عديدة لزاد من غير شك تراثه في العلوم والآداب ولما سبقه الغرب في هذا المضمار. هناك وجهات نظر ثلاث لا تزال النهضة العلمية والعقلية في الشرق مترددة حائرة بينها: "إحداها" ترمي إلى الاقتصار على التراث الشرقي القديم وإحيائه، وقصر الحياة العقلية على حدوده ومقتضياته، وهذه الوجهة لا تكفي فيما أعتقد لاستكمال أسباب النهضة والحياة في العصر الحديث. "والثانية" إطراح التراث الشرقي جانبا وقطع صلاتنا بالماضي واقتباس الحضارة الأوروبية والعقلية الأوروبية كما هي بما لها وما عليها وهذه أيضا وجهة خاطئة تنتهي بنا إلى اقتباس العيوب دون المزايا وتؤدي إلى نوع من التبعية العقلية والثقافية لأوربا تتطور مع الزمن إلى تبعية سياسية وقومية. والوجهة "الثالثة" هي إحياء التراث الشرقي مع اقتباس خير ما أنتجه وينتجه التراث الغربي من الناحية العلمية والأدبية. وهي في اعتقادي الطريقة الوسط التي تكفل لنا نهضة صحيحة في الحياة العقلية والفكرية. وصفوة القول أن التراث الشرقي يحتوي ولا شك على كنوز من العلم

والحكمة والأدب ولكننا في حاجة أيضا إلى كنوز التراث الغربي الحديث لكي يتم لنا النضج والكمال في حياتنا العقلية. عباس محمود العقاد 1: هل يستطيع أحد أن يقول بأن الشرق خلا من العقول الناضجة في العصور القديمة؟ هل خلا الشرق من الحياة العقلية الناضجة يوم أن كان التراث الشرقي هو التراث الذي لا تراث غيره؟ فإذا كنا لا نرى أحدًا يستطيع أن يزعم ذلك فقد حكمنا بأن التراث الشرقي كاف لنضج الحياة العقلية، لأننا إذا أنكرنا هذه الحقيقة وجب أن نقول أن الشرق خلا من العقول الناضجة قديما وحديثًا وهذا ما لم يقل به أحد من الشرقيين ولا من الغربيين. الواقع: أن الشرقيين لا يمكن أن تنضج لهم حياة عقلية في غير تراثهم الذي ينتمي إليهم ويصطبغ بصبغتهم. فغير ممكن أن تجعل العلم الطبيعي تراثا شرقيا أو غربيا بأية صفة من الصفات وغير ممكن كذلك أن تجعل العلم الرياضي تراثًا ينسب إلى الشرقيين أو إلى الغربيين، فلم يبق إذن إلا التراث الخاص بالشرقيين الذي لا يشاركهم في خصائصه مشارك من العالمين، وهو التراث المشتمل على ما لهم من أشعار ومواعظ وأمثال وحكايات وآداب وقواعد سلوك، وفي طليعته روح العقائد الدينية والحكمة النفسية والفكرية وما يصاحب ذلك من فقه وشريعة ودين. وقد يسأل السائل في هذا المعرض: وما الرأي في الأشعار والأمثال والحكايات التي تنقل من الغربيين وهي تراث غربي لا نزاع فيه.

_ 1 س 506 مجلد السنة التاسعة "1948" الرسالة.

فجوابنا على هذا السؤال أن التراث الغربي ينتقل إلى الشرقيين ينقسم إلى قسمين: القسم الذي يمكن أن يمتزج بحياتهم وهو من نوع تلك الحياة فلا يلبث أن يدخل في الشرق متى يصطبغ بصبغته ويجري على سنته. والقسم الآخر من التراث الغربي الذي ينتقل إلى الشرق، هو القسم الذي لا يمتزج بحياة الشرقيين ولا يدخل لهم في عقل ولا روح، وهذا غريب عنهم وهم غريبون عنه, وحكمهم فيه حكم المتفرج العابر الذي يمر به وكلاهما باق حيث كان، هؤلاء شرقيون وذلك تراث غربي لا يدخل في عوامل النضج العقلي أو في عوامل التكوين سواء رجعنا فيها إلى الأفراد أو إلى الشعوب. ومعنى هذا: أن الحياة العقلية إذا نضجت بين الشرقيين فهي شرقية لاحقة بالتراث الشرقي أيا كان المصدر الذي جاءت منه أو حملت عنوانه، ولا يصح أن تنسب إلى غير الشرق إلا كما يصح أن تنسب دماؤنا إلى أستراليا وأمريكا؛ لأننا نأكل القمح الأسترالي والفاكهة الأمريكية في بعض الأوقات, وعلى أية حال ليس لنا مناص من إحدى اثنتين: إما أن نقرر أن الشرق خلا من الحياة العقلية الناضجة في جميع العصور وهو مخالف للمعقول ومخالف لإجماع الآراء، وإما أن نقرر أن الشرق قد عرف الحياة العقلية الناضجة ولو في عصر واحد من عصوره وهذا في بابه مرادف لقولنا: إن التراث الشرقي كان لنضج الحياة العقلية بين الشرقيين.

ثقافة دار العلوم: بين أحمد أمين ومهدي علام

ثقافة دار العلوم: بين أحمد أمين ومهدي علام مرت فترة على الثقافة العربية في مصر، قام فيها صراع عنيف بين الأزهر والجامعة وبين دار العلوم والقضاء الشرعي، وبين دار العلوم والجامعة، وكان أحمد أمين من خريجي القضاء الشرعي ثم عمل بالجامعة فهاجم الأزهر ودار العلوم في العدد الأول من مجلة الرسالة في مقال له بعنوان حلقة مفقودة. وقد رد عليه الدكتور مهدي علام فيما يتعلق بثقافة أبناء دار العلوم في مقال بالعدد الأول من مجلة دار العلوم. أحمد أمين 1 حلقة مفقودة: في مصر حلقة مفقودة لا نكاد نشعر بوجودها في البيئات العلمية مع أنها ركن من أقوى الأركان نبني عليها نهضتنا وفقدانها سببًا من أسباب فقرنا في الإنتاج والقيم والغذاء الصالح. تلك الحلقة هي طائفة من العلماء جمعوا بين الثقافة الدينية الإسلامية العميقة وبين الثقافة الأوروبية العلمية الدقيقة، وهؤلاء يعوزنا الكثير منهم ولا يتسنى لنا أن ننهض إلا بهم ولا نسلك الطريق إلا على ضوءهم. إن أكثر من عندنا قوم تثقفوا ثقافة عربية إسلامية بحتة وهم جاهلون كل الجهل بما يجري في العصر الحديث من آراء ونظيرات في العلم والأدب والفلسفة وطائفة أخرى تثقفت ثقافة أجنبية بتة يعرفون آخر ما وصلت إليه نظريات العلم في الطبيعة والكيمياء والرياضة ولكنهم يجهلون الثقافة العربية الإسلامية كل الجهل. هاتان الطائفتان عندنا يمثل الأول خريجو الأزهر ودار العلوم ومدرسة القضاء ويمثل الأخرى نوابغ خريجي المدارس العصرية والثقافات الأوروبية.

_ 1 الرسالة: العدد الأول 15 "يناير 1933".

ذلك أن الأولين إذا أنتجوا نعيب إنتاجهم أنهم لم يستطيعوا أن يفهموا روح العصر ولا لغة العصر ولا أسلوب العصر، وإنما التزموا التعبير القديم في الكتابة والنمط في التأليف وتحجر أمثلتهم ومل الناس بلاغاتهم وعمادها رأيت أسدًا في الحمام وعضت على العناب بالبرد. ومل الناس نحوه ومداره ضرب زيد عمرا ورأيت زيدا حسنا وجهه، أما الآخرون فضعف ثقافتهم العربية الإسلامية، فلما أرادوا أن يخرجوا شيئا لقومهم وأمتهم أعجزهم الأسلوب والروح الإسلامي، فلم يستطيعوا التأليف ولا الترجمة وحاولوا ذلك مرارا فلم يفهم الناس ما يريدون، والذي جر إلى فقدان هذه الحلقة أن التعليم عندنا سار في خطين متوازيين لم يلتقيا، فالتعليم العربي الإسلامي سار في خط والتعليم المدني الحديث سار في خط آخر، ولم تكن هناك محاولات جدية لتلاقي الخطين أو ربط بعضهم ببعض وقد كان إخواننا الهنود أسبق منا إلى إيجاد هذه الحلقة والانتفاع بها. ولكن الهنود يعرضون وآسفاه "إنتاجهم" باللغة الإنجليزية فلا يغذون جمهورنا ولا يسدون حاجة العالم العربي. محمد مهدي علام 1؛ الحلقة المفقودة: شاء صديقنا الكاتب أن يختص أبناء دار العلوم بالنصيب الأوفى من سهام جعبته, فكتب ردًا على تلك المقالة ... ولكني رأيت أن الأستاذ أحمد أمين أكرم علينا من تنازله على صفحات الجرائد التي لا يقتصر قراؤها على خاصة القوم.

_ 1 مجلة دار العلوم "العدد الأول" يونيه 1934.

يدعي صديقنا المفضال أن رجال "دار العلوم" لا يمثلون إلا الثقافة الإسلامية وحدها وأنهم لا يزالون حيث كانت مصر قبل اتصالها بأوربا "إذا أنتجوا نعيب إنتاجهم أنهم لم يستطيعوا أن يفهموا روح العصر ولا لغة العصر ولا أسلوب العصر وإنما التزموا التعبير القديم في الكتابة والنمط القديم في التأليف، وتحجرت أمثلتهم ومل الناس بلاغتهم وعمادها رأيت أسدا في الحمام وعضت على العناب بالبرد وعشرة أمثلة عن هذا الطراز. ومل الناس نحوهم ومداره ضرب زيد عمرا ورأيت زيدًا حسنا وجهه. وسئم الناس منطقهم وكله الإنسان حيوان وكل حيوان يموت فالإنسان يموت وهذا حجر وكل حجر جماد فهذا جماد". ويخيل إلى قارئ هذه المقالة أن كاتبها لا يعيش على أرض مصر ولا يتصل بعالم العلم والأدب فيها، ولا بالثروة التأليفية التي نهضت في هذا العصر، أو أنه يعرف كل ذلك ولكنه لسبب ما لا يريد أن يعترف به. "ثم عدد مؤلفات أبناء دار العلوم". هل نسي الأستاذ أن الأزهر يوم أراد الإصلاح الجديد لم يجد أمامه إلا رجال دار العلوم يستنجد بهم ليقوموا بهذا العمل النبيل فيكونوا رسل الثقافة الحديثة إلى المعهد العتيد، بل هل نسي السيد أن كلية الآداب بالجامعة المصرية التي يعتز صاحب الحلقة المفقودة المزعومة بأستاذيته فيها، لا يقوم عبء التدريس في قسم اللغة العربية فيها والنهضة بها إلا على شيوخ دار العلوم فإذا استثنى الأستاذ نفسه وزميلا فاضلا آخر لم يجد الجامعة إلا إخواننا الفضلاء: إبراهيم مصطفى وطه أحمد إبراهيم وعبد الوهاب حمودة وأحمد الشايب وعبد العزيز أحمد.

على أنني أشعر بميل ملح لأن أسر في آذان الأستاذ كلمة بيني وبينه: هو أن يحدثني عن الأساتذة الذين كان لهم فضل تثقيفه في مدرسة القضاء الشعري وفي الجامعة المصرية القديمة فهل يسمح له أدبه المعروف بأن ينكر ما تركه في نفسه من أثر كل من أساتذته: عاطف بركات ومحمد الخضري، وعبد الحكيم بن محمد وحسن منصور ومحمد المهدي وحفني ناصف وغيرهم. أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع على أنني أريد أن أجاري الأستاذ، جدلا، في أن طلبة دار العلوم -أو على الأصح خريجها- لا يمثلون الحلقة المفقودة الموهومة. فهل لي أن أطمع في أنصافه بالاعتراف بأن خريجي دار العلوم عشرات قد تمموا دراساتهم العالية في جامعات إنجلترا وفرنسا وألمانيا، وأن من الإسراف في الطعن والتجريح أن يدعي مدع أنه حتى هؤلاء لا يمثلون ما يسميه الأستاذ "الحلقة المفقودة" في أمة أنا وهو نعلم عدد المتعلمين فيها. وثم غلط آخر وقع فيه صديقنا النابه. وأرجح الظن أن الذي أوقعه فيه هو خطؤه الأول في الحكم علينا -لأسباب نحرص أنفسنا على اعتقاد أننا نجهلها- ذلك أنه ادعى أن "إخواننا الهنود أسبق منا إلى إيجاد هذه الحلقة والانتفاع بها". فإن ما فرغ من أطرائه إخواننا الهنود على إيجاد "الحلقة المفقودة" عندهم حتى سطر بقلمه ما ينقض ذلك ... ويهدم كل ادعاء بأن حلقة مفقودة قد وجدت في الهند، ويسمع إليه القارئ حين يقول: "ولكن الهنود يعرضون وآسفاه ذلك باللغة الإنجليزية" مرحى مرحى! فهل يرى الأستاذ أن تأليف الهنود في الشريعة والتاريخ الإسلامي باللغة الإنجليزية يصل السلسلة المقطوعة بحلقة أو يقيم على الهوة السحيقة بين الشرق والغرب قنطرة.

وهل يعد ذلك إيجادًا للحلقة المفقودة. إن الحلقة المفقودة لا تتحقق في أمة من الأمم إلا بما اشترطه الأستاذ أحمد أمين في مستهل مقاله من أن يكون التأليف بلغة الأمة وبلغتها العصرية. أرأيت يا صديقي أنك تكيل في المقالة الواحدة بكيلين فتعد اللغة الوطنية أساسًا في الحلقة المفقودة المصرية ولا يقيم لها وزنًا في الحلقة المفقودة الهندية.

الباب الرابع: معارك الأسلوب والمضمون

الباب الرابع: معارك الأسلوب والمضمون الأسلوب والمضمون: بين الرافعي وسلامة موسى وطه حسين ... الباب الأول: معارك الأسلوب والمضمون الأسلوب والمضمون؛ بين الرافعي وسلامة موسى وطه حسين: كانت معركة "المضمون" في الأدب من أبرز معارك الأدب بين معسكر المحافظين والمجددين، وقد تمثلت هذه المعركة في عدة مساجلات، بدأت بهذه المساجلة عام 1925 في الهلال عندما كتب سلامة موسى عن أديب الفقاقيع يقصد أدب مصطفى صادق الرافعي. وقد دخل الرافعي المعركة وأعلن وجهة نظر، ثم كتب طه مهاجما للرافعي ولكن الرافعي لم يلبث أن تحول عن أسلوبه التقليدي إلى أسلوب وسط فيه محاسن الأسلوب القديم مع العناية بالمضمون. أدب الفقاقيع؛ سلامة موسى 1: أدباء الصنعة يكتبون وكل همهم محصور في تأليف استعارة خلابة أو مجاز جميل أو كتابة بارعة أو غير ذلك من الفقاقيع، فإذا أراد أحدهم أن يؤلف كتابا أو يضع مقالة لم يعن أقل عناية بالموضوع الذي يكتب فيه، وإنما يعمد إلى الفقاقيع فيؤلف منها عبارات خلابة فيتوبل بها إنشاءه أو يرصها رصًا أو كثيرا ما يعجز أمثاله عن تأليف عبارة من إنشائهم الخاص. وهكذا يعيش كتاب الصنعة هذه الأيام بما خلفه لهم الأقدمون يتداولون الصيغ القديمة في الأداء ويجترونها اجترارًا كما تجتر البهيمة طعامها طوال حياتهم أو يقضون وقتهم في العبث واللهو بتأليف السجعات والاستعارات والتشبيهات، ولست أنكر أن لهذه الأشياء جمالا، ولكنه جمال الفقاقيع والزبد الذي يذهب جفاء عندما تسطو عليه أشعة الشمس أو تهفوا به الريح. كتاب الصنعة يكرهون الفلسفة والعلوم. وقد قالها أحدهم "المنفلوطي"

_ 1 713 مجلد 33 من الهلال أبريل 1925.

وربما كان أقلهم صنعة "ما دخلت الفلسفة أيا كان نوعها على عمل من أعمال الفطرة إلا أفسدته". وهذه نزعة خطيرة نطلب أن يعمد رجال الذهن في جميع البلاد العربية إلى وقفها بكل الوسائل. يجب أن نحبب تلاميذنا في الفلسفة والعلوم ونكرههم في فقاقيع الاستعارات والكتابات. وهذا كاتب يضع كتابا على الحب والجمال "يقصد كتاب مصطفى صادق الرافعي. السحاب الأحمر" ويبدأ الفصل الأول منه بوصف فقاعة هي نضاب قلم مصنوع من زجاج ويحتوي على مداد أحمر ويباع بالقاهرة بنصف قرش فيكتب عن هذا النضاب عدة صفحات ويستوحي منه التأملات والخواطر في الحب والجمال. فهو كاتب صنعة لا يبالي إلا برنين ألفاظه وخلابة استعاراته وهذا لعمري هو اللهو واللعب. فإن للأدب غاية وغايته هي صلاح الناس وهديهم وكشف حقائق هذا الكون والتمتع بجمال هذه الحقائق. 2- المذهب القديم والمذهب الجديد؛ سلامة موسى 1: في مصر وسوريا طبقة من الأدباء لها عيون ممن خلف رؤوسها فإذا نظرت لم تر سوى الماضي ثم هي مع ذلك لا ترى كل الماضي وهي لو استطاعت أن تفعل ذلك لكان لها من ذلك بصيرة بالحاضر والمستقبل. وأجل لو كانت هذه الطبقة تنظر إلى الماضي خلال تلسكوب العلوم الحديثة لاستطاعت أن تقرأ لغة الطبيعة وتدرك أن روح العالم هي روح نشوء وتطور. تقول هذه الطبقة: إن الأديب لا مندوحة له إذا أراد أن يكون أديبًا

_ 1 الهلال يناير 1934.

حصيفًا أن يقلد العرب ويحتذي كتابهم في أساليبهم ومراميهم. ومن هذه الطبقة بل وفي رأسها نضع الأستاذ مصطفى صادق الرافعي والأستاذ الأمير شكيب أرسلان. ومن المستطاع أن يحلل الإنسان هذه "الوطنية الأدبية" وأن يردها إلى أصولها في ذلك العقل الباطن الذي يخلط بين الدين والقومية والأدب العربي، فالخروج عن المألوف في الأدب العربي يوهم أفراد هذه الطبقة بالخروج على الدين والقومية العربية. الصنعة دون الفن، وأن الفن هو الجوهر وهي الغرض. ونحن الآن بقوة ما ورثناه عن العرب كثيرًا ما نعنى بالصنعة ونهمل الفن فنتعلق بالقشور ونترك اللب. الرافعي "1" يدافع عن المذهب القديم ويقول بأفضلية الأساليب العربية القديمة على أساليبنا الراهنة "2" هو أيضا يجيد الصنعة أيما إجادة ولكنه لا يعنى بالفن فإذا كتب اتسقت عباراته وانتظمت ألفاظه فأتى بالعجب ولكن الحقيقة "أي الجمال" لا تشغله في نظمه أو نثره "3" هو لا يكاد يؤمن بالعلم بل لا تجد له أثرًا في جميع كتاباته. 3- دفاع 1 عن المذهب القديم في الأدب؛ الرافعي: زعم الأستاذ المفكر سلامة موسى أن ما نقول به من اقتداء العرب في أساليبهم والارتياض بكلامهم والحرص على لغتهم وأن يكون الكاتب في هذه اللغة حسن البيان رشيق العرض رائع الخلابة يثبت في ألفاظه وينظر في أعطاف كلامه ويفتن في أساليبه، كل هذا وما إليه من مذهب قديم

_ 1 الهلال جـ50 ص469 "فبراير 1924".

و"وطنية أدبية" ترجع العلة فيها إلى ذلك العقل الباطن الذي يخلط بين الدين والقومية والأدب العربي. ثم قال: إن أهل المذهب القديم يهملون العلم لأن العلوم تتعارض ومعتقدات العرب. والظاهر أنه يعنى بالعرب المسلمين لا غيرهم. فالمذهب القديم إذن هو أن تكون اللغة لا تزال لغة العرب في أصولها وفروعها وأن تكون هذه الأسفار القديمة التي تحويها لا تزال حية تنزل من كل زمن منزلة أمة من العرب العظماء، وأن يكون الدين العربي لا يزال هو كأنما نزل به الوحي أمس، لا يفتننا فيه علم ولا رأي، وأن يأتي الحرص على اللغة من جهة الحرص على الدين إذ لا يزال منها شيء كالأساس والبناء لا منفعة فيها معا إلا بقيامها معا. العلة في الحقيقة لا ترجع إلى مذهب قديم أو جديد بل إلى الضعف في لغة والقوة في أخرى وأن صاحب المذهب الجديد.. آخذ بالحزم في واحدة وبالتضييع في الثانية وأكثر من الإقبال على شيء دون الآخر فتعلق به وأمضى أمره عليه وحسنت نيته فيه واستمكنت فصارت إلى نوع من المعصية للأدب الأجنبي وأهله. فلما تعطل الزمن وأصبح الأدب صحفيًا، وآلت العربية وآدابها إلى لفيفة في أوراق مدرسية وانزوى ذلك العلم المستطيل واستحكمت المكاتب له كالقبور المملوءة بالتوابيت، وفشت العصبية بيننا للأجنبي. رجع الأمر على مقدار ذلك في صغر الشأن وضعف المنزلة واحتاج أهل هذا القليل من العربية إلى أن يعتبروه كلا بنفسه لا جزءًا من كله فكان لذلك مذهبًا. وكان مذهبا جديدًا.

فإنك واجد في أهل سنة 1923 "يقصد جبران خليل جبران" من يقول في هذه اللغة "لك مذهبك ولي مذهبي ولك لغتك ولي لغتي" فمتى كنت صاحب اللغة وواصفها ومنزل أصولها ومخرج فروعها وضابط قواعدها ومطلق شواذها. من سلم لك بهذا يسلم لك حق التصرف "كما يتصرف المالك في ملكه" وحتى يكون لك من هذا حق الإيجاد ومن الإيجاد ما تسميه أنت مذهبك ولغتك ... لأهون عليك أن تولد ولادة جديدة فيكون لك عمر جديد تبتدئ فيه الأدب على حقه من قوة التحصيل وتستأنف دراسة اللغة بما يجعلك شيئا فيها -من أن تلد مذهبا جديدًا أو تبتدع لغة تسميها لغتك- فإنك عمر واحد بين ملايين من الأعمار في عصور متطاولة وأن ما تحدثه إلى خطأ لا يبقى على أنه صواب ولا ينفي أبدًا إلا كما ينفي العلة على أنها علة فلا يقاس عليها أمر الصحيح ولا يحكم بها فيمن لم يعتل. إن أعادوا بالمذهب الجديد أن يكتب الكاتب في العربية منصرفا إلى المعنى تاركا اللغة وشأنها متعسفا فيها، آخذا ما يتفق كما يتفق وما يجري على قلمه يجري. إن أرادوا بهذا وأشباهه المذهب الأدبي الجديد قلنا لا ثم لا ثم لا؛ ثلاث مرات. ثم أي خير لأدبنا وعلومنا وكتبنا أن نحرص على الأصل الصحيح القوي الذي في أيدينا ونحتمل فيه ضعف الضعفاء ونصبر على مدافعتهم عن إفساده حتى ينشأ جيل أقوى من جيل وتخرج أمة خيرًا من أمة، أم ندع الإصلاح للفساد ونتراخى في القوة حتى تحول ضعفا. إن هذه العربية لغة دين قائم على أصل خالد هو القرآن الكريم وقد أجمع الأولون والآخرون على إعجازه بفصحاته إلا من لا حفل به من زنديق يتجاهل أو جاهل يتزندق.

ثم إن فصاحة القرآن يجب أن تبقى مفهومة ولا يدنو الفهم منها إلا بالمران والمزاولة ودرس الأساليب الفصحى والاحتذاء عليها. 4- الخصومة بين القديم والجديد في الأدب؛ طه حسين: الحق أن ميدان هذه الخصومة أوسع من مجلة الهلال وأن أبطال هذه الخصومة أكثر من الأستاذين سلامة موسى ومصطفى الرافعي. إن مصدر هذه الخصومة إنما هي صحيفة الأدب في السياسة حول رسالة "أسلوب في العتب" ذهب فيها الرافعي مذهب المتكلفين من بعض الكتاب القدماء ثم إن المعركة تحولت إلى معارك ثلاث: 1- بين طه حسين والرافعي: السياسة. 2- بين السكاكيني وشكيب أرسلان: السياسة. 3- بين الرافعي وسلامة موسى: الهلال. للأستاذ الرافعي في فصله هذا آراء محتاجة إلى شيء من المناقشة. ومنها ما كان يحتاج إلى شيء من المراجعة قبل أن ينشر ويعلن إلى الناس، انظر إليه مثلا يزعم أن المذهب الجديد في الأدب ليس في حقيقة الأمر إلا نتيجة لضعف في اللغة والأدب العربي وقوة في اللغة والأدب الأجنبي. وأن الذين يزعمون أنهم من أنصار المذهب الجديد إنما هم قوم ضيعوا حظهم من لغة العرب وآدابهم وأخذوا بنصيب موفور في لغات الإفرنج وآدابهم. نعتقد أن الأستاذ الرافعي يسرف في هذا الحكم. ولعل مصدر إسرافه في هذا الحكم، إن صحت نظريته أنه أخطأ فهم ما يكتب أنصار المذاهب

الغربية وهو إنما أخطأ الفهم؛ لأنه أخطأ الذوق، أو هو إنما أخطأ الذوق؛ لأنه أخطأ الفهم. ولكن الأستاذ الرافعي معذور على كل حال فما كان له أن يحكم فيحسن الحكم دون أن يفهم ويذوق وهو قد يخطئه الفهم والذوق أحيانا فتخطئه الإصابة في الحكم. ونظن أن للأستاذ الرافعي حظًا من الإنصاف وأنه يرى هنا أن بعض أنصار المذهب الجديد أو الذين يسمون أنصار المذهب الجديد قد أخذوا من اللغة العربية وآدابها بحظ لا بأس به وإن قوتهم في اللغة الأجنبية وآدابها لم تحملهم على أن يضيعوا حظهم في اللغة العربية وآدابها. إذن فانتصار هؤلاء لمذهب جديد ليس ضعفا وليس اعتذارًا لأنفسهم وليس تعصبًا للأدب الأجنبي الذي تفوقوا فيه. نسمح لأنفسنا بأن نزعم أن لنا في هذه اللغة التي نتكلمها ونتخذها أداة للفهم والإفهام حظًا يجعلها ملكا لنا ويجعل من الحق علينا أن نضيف إليها ونزيد فيها كلما دعت إلى ذلك الحاجة، أو قضت ضرورة الفهم والإفهام أو كلما دعا إليه الظرف الفني لا يقيدنا في ذلك إلا قواعد اللغة العامة التي تفسد اللغة إذا تجاوزناها. ولولا هذا ولولا أن اللغة ملك لأبنائها يضيفون إليها، ويدخلون فيها لما نمت اللغة وعاشت، ولما استطاعت أن تفي بحاجات أهلها التي تتجدد وتتنوع. والرافعي ... يسرف في سوء الظن بأوربا وأمريكا وفي سوء الحكم

عليهما ولعل مصدر ذلك أنه لا يقرأ لغة أوربا وأمريكا ولا يفهمها ولا يذوقها فهو يخطئ في الحكم على أوربا وأمريكا. والرافعي كغيره من أنصار المذهب القديم مشفق كل الإشفاق على القرآن الكريم وعلى الإسلام أن يصيبهما من المذهب الجديد شر أو ينالهما ضيم ... نهون على الأستاذ ونهدئ من روعه فليس هناك ما يدعو إلى هذا الإشفاق.

أسلوب الكتابة: معركبة بين شكيب أرسلان وخليل سكاكيني

أسلوب الكتابة: معركبة بين شكيب أرسلان وخليل سكاكيني ... أسلوب الكتابة؛ معركة بين شكيب أرسلان وخليل سكاكيني: هذه معركة أخرى بين شكيب أرسلان وخليل سكاكيني، تمثل وجهتي نظر مختلفتين، شكيب أرسلان يؤمن بالأسلوب البليغ ويرى خليل سكاكيني أن المعنى يمكن أن يؤدى بالأسلوب البسيط التلغرافي، متأثرا في ذلك بآراء سلامة موسى في مصر، خليل سكاكيني من كتاب فلسطين. والأمير شكيب أرسلان كاتب العرب اللبناني الأصل المغترب المقيم في سويسرا إذ ذاك يحمل لواء حماية اللغة العربية ويقاوم مع مصطفى صادق الرافعي في مصر كل نزعة إلى مهاجمة اللغة العربية إيمانا منه أن هذا الهجوم موجه إلى القيم والأمجاد والتراث العربي كله. لغة الجرائد، خليل سكاكيني 1: لعل القارئ الكريم يذكر أن علامتنا المرحوم الشيخ إبراهيم اليازجي صاحب مجلة الضياء كان أول من تصدى للتنبيه على هذا النوع من الغلط فأنشأ لذلك الفصول الطوال في مجلته في لغة الجرائد وفصولا أخرى في أغلاط العرب وأغلاط المولدين مما يجدر بكل أديب الرجوع إليه والاستبصار به. ومن العجيب أن نرى الأغلاط التي نبه عليها لا تزال متفشية إلى اليوم "أورد نماذج من هذه العبارات". يقولون أن اللغة مرآة الأمة وسجل تاريخها وصورة أحوالها في كل أدوارها بحيث أن من تفقد ألفاظها وتدبر معانيها واستقصى تاريخها وجد فيها آثارا تدل على ماضي الأمة وتطورها من حال إلى حال كما تدل الأحافير والعاديات على حالة الأمم الغابرة، ولكنا ما لنا لا نزال نستعمل لغة البداوة وقد انفسخ بيننا وبينها الأمد وانقطعت كل صلة، وإذا تفقد الناس في

_ 1 السياسة 2 ديسمبر 1923.

المستقبل البعيد لغة هذا العصر أفلا يقولون أننا كنا في الجيل العشرين: عصر السيارات والترام والطيارات بدوا رحلا رافقنا الوحش في سكنى مراتعها وخالفناها بتقويض وتطنيب كما يقول المتنبي. لا تكون لغة أمة حية إلا إذا انطبقت على حياة تلك الأمة التي تستعملها وما استعمال لغة البداوة في عصر الحضارة إلا من قبيل إنزال الشيء في غير محله. 2- تطور اللغة في ألفاظها وأساليبها؛ خليل سكاكيني 1: كان الناس قبل هذه النهضة الأخيرة: لو سار السوري في مصر أو المصري في سوريا لا يسير إلا بترجمان. مما أولع به أصحاب المذهب القديم إلى يومنا هذا تكرار الكلام في غير مواطن الكدار والإسراف في استعمال الترادفات على غير حاجة إليها ولا فادئة منها، فهم لا يأتون بكلمة إلا اتبعوها بمرادفاتها. بل أستأذن القارئ الكريم في تقديم مثل على ذلك من رسالة أمامي لكاتب كبير قال: "يا إخواننا! إن الصارخة القوية والنعرة الجنسية قد بدأت في الأقوام ونشأت مع الأمم مذ الكيان ومنذ وجد الاجتماع البشري وتساكن الإنسان مع الإنسان. وأن هذه النعرة الجنسية والحمية القومية، وإن عم أمرها جميع الأمم ولم يخل منها عرب ولا عجم، فقد اختص منها العرب بالشقص الأغر والحظ الأكمل" وهذه العبارة لشكيب أرسلان. وسبب ذلك هو إما قلة البضاعة أو نزارة المادة الفكرية وأصحاب هذا

_ 1 مقالات نشرها في السياسة اليومية خلال "أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر سنة 1923".

المذهب يحسبون أن اللغة هي كل شيء فإذا حمل أحدهم على ظهر قلبه مقامات الحريري وديوان الحماسة والمعلقات والمفضليات فقد صار كاتبًا تحريرا، أو يكون ذلك متابعة لما ورد في بعض أقوال العرب ومن التكرار لضرورة أو تقليدًا لأحمد فارس الشدياق في كتابه "الساق" ولكن أحمد فارس لم يأت بالمترادفات لأنه لا يذهب إلى هذا النوع من الكتابة وإنما أراد أن يضع كتابا في المترادفات ككتاب الألفاظ الكتابية لعبد الرحمن بن عيسى الهمذاني. فبدلا من أن يسرد المترادفات لغير مناسبة ألقى بها في سياق كلام على اعتقاد منه أن ذلك أشوق للقارئ ... ومهما يكن السبب فإن هذا النوع من الكتابة غير طبيعي أو غير عربي, أو على الأقل لا يستمرئه ذوق هذا العصر. 2- رد شكيب أرسلان على خليل سكاكيني 1: ظاهر أن هذا الكاتب الأديب يقصدني في تعريضه لاستشهاده ببعض جمل من نداء كان الوفد السوري وجهه إلى الأمة العربية مراعيًا حالة من يخاطبهم وضرورة تمكين المعاني من نفوسهم وتحريك عواطف حميتهم. وقد كنت فكرت في أن أترك هذا الكتاب وشأنه وأن أعرض عنه وأتجاهل ابتعاده تاركا للغة العربية ونظمها ونثرها ومتونها وأصولها ترد عليه وتقنعه بخطئه ولولا أنني رأيته -وأرجو منه أن لا يؤاخذني على هذا القول- واضعا نفسه موضع أستاذ اللغة وشيخ الصناعة والجهبذ الذي لا يقبل هذا ويزيف ذاك والقاضي الفيصل الذي يحكم ولا معقب لحكمه ماضيا في غلوائه مسرورًا بآرائه راضيًا عن أبحاثه، فحرصت على أن أبين له مناهج

_ 1 السياسة 7 نوفمبر 1923.

اللغة في باب الإيجاز والمساواة والإطناب ومقام كل منه ليعلم أن مقام منشورنا هو مقام إطناب كما لا يخفى على كل من شدا شيئًا من الأدب أو طالع شيئا من آثار هذه الأمة. أما الأساليب فهناك مذهبان مذهب قديم ومذهب جديد. وأنا لا أعلم مذاهب جديدة إلا في العلم والفن أما في الأدب واللغة فلا أعرف إلا مذهبًا واحدًا هو مذهب العرب وهو الذي يريد أن يسميه بالمذهب القديم. وهو الذي يجتهد كل كاتب في العربية أن يحتذي مثاله ويقرب منه ما استطاع لأنه هو المثل الأعلى والغاية القصوى، وقصارى الأديب العربي اليوم أن يتمكن من إفراغ الموضوع العصري في قالب عربي بحت لا يخرج باللغة عن أسلوبها ولا يهجن لهجتها ولا يجعلها لغة ثانية إذا كان التباعد عن الفصاحة والحرمان من حظها هما على مقدار التجانف عن أسلوب العرب عندما كانوا عربا لم تخامر لغتهم المعجم. ولم تفسد منهم السليقة. أما المذهب الجديد الذي أشار إليه في الأدب فلا تعلمه في المذاهب ولا وصل إلينا خبره. فحبذا لو أتانا صاحبنا بتعريف المذهب الجديد هذا ودلنا على أمثلة منه وكتب مؤلفا فيه. إنني إريد أن أنزه صاحب مقالة التطور في اللغة عن أن يكون مقصده الانتقاد لأجل الانتقاد ولإثبات فضله وإظهار طوله على غيره. "ثم استشهد الأمير شكيب بأسانيد مختلفة من الإطناب في اللغة العربية". 3- من خليل سكاكيني إلى شكيب أرسلان 1:

_ 1 السياسة 22 نوفمبر 1933.

إن الأمير لم يغضب لأن انتقادي المذهب القديم جاء مباينا لوجه الصواب. إنما غضب لأني استشهدت بأقواله، ولم أستشهد بها إلا أني اخترت أن أستشهد بأقوال كاتب كبير يوثق به ... تركته ولم أترك أحدًا من المتقدمين والمتأخرين إلا انتقدته، لكان الخطب عنده هينا ولكان انتقادي حينئذ في محله. ولكفى نفسه مئونة هذا الرد الطويل العريض الذي أرجو أن "لا يتعجل في الغضب علي إذا قلت: إن هذا الرد من أوله إلى آخره جاء دليلا جديدا على أن الأمير من أصحاب المذهب القديم، وأنه لا يزال مولعًا بالمترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها. ثم قال للأمير: إن مقاله كله مترادفات. ثم قال: أما كان الأولى بأدبه وعلمه أن يلزم نفسه قاعدة "خير الكلام ما قل ودل" ولكنه يظهر أنه لم يراع هذه القاعدة لا في منشوره الذي طبعت منه ألوف ألوف من النسخ ليوزع على ملايين وملايين من الأمة العربية في المدر والوبر". إذا كان لكل مقام مقال فما باله أعزه الله يجعل المقال الواحد لكل مقام. ولست أظن أن كاتبا كبيرًا مثله يتعذر عليه أن يتنكب هذا الأسلوب من الكتابة لولا أنه ألفه واتخذه مذهبا في كل ما يكتب سواء أكان منشورا تقرؤه الأمة العربية جمعا أو ... فصار إذا أمسك القلم انهالت عليه المترادفات كأنه يتناولها من حبل ذراعه فلا يتركها حتى تجيء على آخرها. وليس هذا أسلوب الأمير، ولكنه أسلوب قديم أكل الدهر عليه وشرب ولعله يتصل بعصر الكهان وليس الأمير فيه إلا مقلدا. انتقدت الأمير على إكثاره من المترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها فقال: إن منشوري للعامة. يا سيدي الأمير. تفهم منشورك. أكثرت

فيه من المرادفات أم أقللت. إذا أردت أن تخاطب الجمهور فلا أخالك تنكر علي أنه يجب أن تخاطبه بلغ مفهومة تتجنب فيها مثل قولك: "الشقص الأغر" إلا إذا كان قصدك أن تنومه لا أن تفهمه. 4- ولكل دولة رجال 1 "رد الأمير شكيب": كنا نظن أننا بعد الإتيان بنصوص علماء الأدب وشواهد فحول البلاغة مثل الجاحظ والبديع الهمذاني وابن خلدون، وأمثالهم نأمن المغالات والمكابرة ويقع التسلم بأن المترادف مألوف في لغة القوم قد يأتي في الأحايين لتمكين المعنى في نفس السامع. إن للإطناب مقامات وللإيجاز مقامات وإن وضع الواحد منها موضع الآخر مخل بالفصاحة التي هي المطابقة لمقتضى الحال إلى غير ذلك. لا بل والله كنت غافلا عن أنك صاحب مذهب. ولم يخطر ببالي أن أسلوب الجاحظ صار قديما باليا وأن مثلي ومثلك صرنا مجددين في اللغة. وإذا كان لهؤلاء مذهب فلست أنت بالذي يقدر أن يأتي بنقيضه. فأربع على ظلعك ولا تركب في غير سرجك. وتحرير القصد أنك أنت تنكر المترادف مطلقا وأنا أقول بل له مواضع. 5- رد خليل سكاكيني 2: وتحرير القصد أني قلت: إن الإطناب ومنه تكرار الكلام بلفظه أو بمرادفه مواطن وشرائط مضى عليها البيانيون، وأن الأمير يكثر من المرادفات اقتضاها المقام أو لم يقتضها، فأنت ترى أن الجدل أصبح عقيما.

_ 1 السياسة 22 ديسمبر 1923. 2 السياسة 3 يناير 1924.

إن الأمير أعزه الله وإن تكلف الدفاع عن مذهبه في الكتابة جهد ما يستطيعه كاتب كبير مثله لم يسعه الا أن ينكب في ردة هذا الأخير عن مذهبه الذي ألفه وألفناه منه، إذ لم يأت منه بالمترادفات ليكيلها كيلا، اقتضاها المقام أو لم يقتضها. ولا شك أن تنكيه عن مذهبه اعتراف منه أنه مذهب بال وأنه ليس طبيعيا ولا عربيا ولا يستمرئه ذوق ذلك العصر. لست يا سيدي صاحب المذهب الجديد في الكتابة ولكني من دعاته، فإذا كان لك شيء فدونك ففنده ولا شأن لك مع أصحابه ودعائه، إلا إذا كنت أرستقراطي المذهب في الكتابة كما أنت أرستقراطي المذهب في الاجتماع فلا يجوز في عرفك أن يكون الكتاب من غير الأمراء. 6- العربي شرط لازم في القديم والحديث؛ رد الأمير شكيب 1: أنا لم أقل في وقت من الأوقات: إنه لا يوجد أسلوب جديد، إنه يحرم على الناس التجدد وإنه إن جاز في شيء فلا يجوز في البيان وإنما قلت: إن لكل لغة أسلوبا أصليا أو نصابا معروفا وليس هذا خاصا بالعرب وحدهم، إن اللغة العربية يمكنها أن تسع المعاني الجديدة ومن المواضيع العصرية ما يعين للكاتب ويتوخاه المؤلف مع رعاية ديباجتها الأصلية التي إن خرج البيان عنها كان عند العرب مستهجنا. وقلت في موضوع التجدد: إن العقل البشري هو بنفسه لا يتغير بل المعلومات هي التي تتغير.

_ 1 السياسة 6 مارس 1924.

إذن لست ممن يعترضون على أولئك الذين يريدون "أن يأخذوا بحظهم من الحياة ويريدون أن يفهموا الناس ويفهمهم الناس ويعيشون مع الجيل الذي هم فيه دون أن يقطعوا الصلة بينهم وبين الأجيال الماضية. كلا لأني من هؤلاء القوم أنفسهم، لي ماض يشهد لي بذلك و38 سنة في عالم المطبوعات من أهرام ومؤيد ومقتطف ومقتبس وجرائد ومجلات عديدة عشت فيها مع الجيل الذي أنا فيه واجتهدت أن أفهم الناس وأن يفهمني الناس ولكن حرصت على أن يبقى أسلوبي عربيا وأن أقتدي بنغمة السلف في دولة فصاحتهم. إن شكيب أرسلان لم يقل أصلا ولا في موضع من المواضع إن الإطناب خصلة من خصال اللغة العربية، ملازمة لها ولا بد منها. لا، بل شكيب أرسلان كرر عدة مرات من قبل ومن بعد: أن كلا من الإطناب والإيجاز والمساوة له مقام إن عدل به إلى غيره أخل ذلك بالفصاحة. 7- رد السكاكيني على الأمير 1: مر زمن غير قصير على اللغة العربية انصرفت عناية الكثيرين من أدبائها وعلمائها إلى الصناعة اللفظية من ذلك أنهم كانوا يطنبون حيث لا يجوز إطناب ويكثرون من المترادفات اقتضاها المقام أو لم يقتضها. وقد سرت عدوى هذا المرض إلى عصرنا هذا فلم يسلم منها أحد من أكبر كاتب مثل الأمير شكيب إلى كاتب هذه السطور. ولم تخف وطأة هذا المرض إلا من عهد قريب، فأخذ كثير من الكتاب أصحاب المذهب

_ 1 السياسة 19 مارس 1924.

الجديد يميلون إلى الإيجاز، ولا يطنبون إلا إذا اقتضى المقام الإطناب، إن لكل لغة أسلوب أصلي أو نصاب معروف لا بد من المحافظة عليه كما يقول الأمير شكيب، فالمذهب القديم خروج على ذلك النصاب والمعروف والمذهب الجديد رجوع إليه، والخلاف بيني وبين الأمير ليس على هذا "النصاب المعروف" ولكن على أسلوبه، فهو يقول: إن أسلوبه ينطبق على النصاب المعروف في اللغة وأنا أنكر عليه ذلك1.

_ 1 "جمعت هذه المساجلات في كتاب "مطالعات في اللغة والأدب" خليل السكاكيني 1925 مطبعة القدس".

أساليب الكتابة: بين شكيب أرسلان ومحمد كرد علي

أساليب الكتابة؛ بين شكيب أرسلان ومحمد كرد علي: هذه مساجلة أخرى حول أساليب الكتابة بين أدباء الشام، بدأها محمد كرد علي في نقد كتاب "قواعد التحديث في فنون مصطلح الحديث" لجمال الدين1 القاسمي وهاجم طريقة المؤلف وأنحى باللائمة على الكتاب الذين قدموا كتابه وهم ثلاثة من بينهم شكيب أرسلان، وقال: إن هذه المقدمات لم يخرج الكلام في بعضها عن الدعاية والتمجيد، في حين أن الكتاب لم يأت بجديد وأن المؤلف "قتصر على نقل كلام غيره من أول الكتاب إلى آخره" وقال: "كأن هذا السفر كان مجموعة من مفكرات يريد واضعها أن يضع كتابا في هذا الفن ويقتبس أقوال المؤلفين الذين درجوا. وقال: إن القاسمي جرى على طريقة الأقدمين في الجمع والنقل "فاكتفى في أكثر تآليفه ببسط آراء غيره". وقال: إن طريقة التأليف اليوم هي الإنجاز من دون إشلاء بالمعاني، وبأسلوب سهل صائغ خال من الخطابيات والسجع". ولما كان الأمير شكيب أرسلان أحد كتاب هذه المقدمات فقد دخل في سجال مع محمد كرد علي حول الأسلوب العربي وتطوره على هذا النحو: 1- من شكيب أرسلان إلى كرد علي: إنني في كتابتي عن الشيخ جمال القاسمي رحمه الله لم أدخل في علم الحديث دخول من تصدى لترجيح أو تجريح وخاض في الحديث خوض من يعلمه، بل بقيت واقفًا على الشاطئ على حين أن محمدًا الكرد علي دخل في الموضوع وحكم فيه حكمه. وهو مع ذلك يقول: إنني أنا وإياه لسنا من هذا العلم في ورد ولا صدر. فإذا كان الأمر كذلك فما كان أحراه بأن يترك انتقاد كتاب مؤلف في الحديث الشريف وقد أطنب في وصفه مثل الأستاذ السيد رشيد رضا رحمه الله الذي إذا تكلم في هذا الفن يقال: القول ما قالت خذام.

_ 1 أول يوليه 1935 الرسالة.

كان أكثر كلامي في محاسن الأستاذ جمال القاسمي تغمده الله برحمته، فإن كنت لست من علماء الحديث فإني لست جاهلا معرفة الرجال ولا مسلوبا مزية التمييز بينهم ولولا حسن فراستي ما كان الأستاذ كرد علي عظيما في عيني وقد اخترته لإخائي منذ اثنين وأربعين سنة. أما السجع وما أدراك ما السجع، فالكلام العربي ينقسم إلى مرسل ومسجع، وموزون ومقفى. ولكل نوع من هذه الأنواع الثلاثة مقام يجيء فيه أكثر من غيره والمرسل هو الكلام المعتاد الطبيعي الذي به أكثر تفاهم الناطقين بالضاد والموزون المقفى هو الشعر الذي لا رونق للغات بدونه. والسجع وسط بين المرسل والموزون، وله وقع في النفوس لا جدال فيه ويكفيه من الشرف أن كتاب الله أنزل بهذه الطريقة. وأنه نهج البلاغة وكثير من كلام أفصح العرب هو من النوع المسجع. فإن كانت اللغات الأوروبية ليس فيها سجع إلا من ندر فليس هذا بحجة على اللغة العربية فلكل لغة خواص تمتاز هي بها، وقد خلق الله الناس أذواقا مختلفة وجعل لكل أناس مشربهم والعرب غير العجم والشرق غير الغرب. إن هناك غمزا بالسجع. وليس الأخ "كرد علي" وحده الذي بدأ بهذا الغمز، بل إن أحد الأصحاب أطلعني على كتاب للدكتور زكي مبارك لمحت فيه كلامًا يشبه أن يكون استصغارًا للسجع أو استكبارًا لإتيانه، وهذا باب جديد عجيب إذا أردنا أن ندخل فيه يطول بنا الأمر. ولم نعلم أحدًا عاب السجع من حيث هو، وإنما يعاب السجع بالنسبة إلى المقام الذي يستعمله فيه الكاتب. أي إنه لما كان السجع تقييدا بفواصل

كما هو الشعر تقييد بقواف فلم يكن السجع مستحسنا في المواطن التي يجب أن ينطلق منها عقال القلم تأدية المعاني على وجهها. أما في المواطن التي هي أقرب إلى الشعر منها إلى المباحث العلمية الصرفة فليس السجع بالذي يعد سبة على العربية. بل هو من محاسن هذه اللغة. وإن كان يجب حذفه من هذه اللغة من أجل كونه طريقة قديمة، ومن أجل أنه عبارة عن زينة كلامية فإن هذا يؤدي بنا إلى اقتراح حذف الشعر. وأن العرب قد اصطلحوا على السجع في أسماء الكتب ولم يخطئوا في ذلك لأن الكلام المسجع أعلق في الذهن من غيره1. من محمد كرد علي إلى شكيب أرسلان 2: نعم، شق علي يا أخي أن تلقي دلوك في الدلاء، وأن تكتب مقدمة "قواعد التحديث في فنون مصطلح الحديث" بهذا اللسان الذي ما عهده فيك من تأدبوا بأدبك وأكبروا عظمة بيانك. بالأمس كتبت مقدمة النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي فمن منا لم يعجب بما كتبت وحبرت وإن كنت قد أطلت وتوسعت. واليوم تكتب ما تكتب لقواعد التحديث في فن لست منه ولا أنا في العير ولا في النفير وجئت تغالي بكتاب ليس فيه من حديثه ولا أسلوبه أسلوب المؤلفين. أنا أجلك عن الدخول في هذا المأزق، لأنك في غنية عنه ولست بحمد الله محتاجًا إلى مصانعة الناس ولا نضبت أمامك الموضوعات، وتحتاج لمعالجتها

_ 1 الرسالة 5 أغسطس 1935. 2 الرسالة 19 أغسطس 1935.

لتورثك شهرة وحسن ذكر، وما أخالك إلا كتبت ما طلب منك في غير وقت نشاطك. وليس لك من القول ما تقول فتبدع على عادتك، ومهما كانت منزلة الكتاب وكاتبه من نفسك. ما أرى لقلمك أن يجري إلا فيما يصلح إن ينسب إلى إحسانه. وحملة الأقلام مسئولون إذا اقتصروا مع المؤلفين والطابعين على مقارضة الثناء. ولم يتعاودوهم بالنقد الصحيح، والإفراط في التقريظ شيمة المتأخرين من أهل عصور الانحطاط الأدبي في العرب. والنقد المفيد عادة نقاد الإفرنج في زماننا. ومن الأمانة للعلم والأدب أن يدل كل كاتب على مواطن الخطل في كلامه. وإلا أن تغشه وتغش قراءه فتجسم ما صغر حجمه في العيان ولا يشول مهما نفخناه في الميزان، ثم عرض نموذجا لما قال في مقدمته وقال: بأبي أنت وأمي يا شكيب! هلا هذا بيانك الذي عرفته وعرفه فيك قومك أنا لا أطلب غير حكمك. فلا أحتكم إلا إليك! أهذا كلام ترضاه لنفسك في كتاب يبقى ... وما هذا القلق في المعاني والمباني؟ وحديث السجع ... أنت عرفت رأيي فيه ولعلك تذكر أني كنت لفت نظرك إلى ما أسميت به كتاب رحلتك إلى الحجاز "الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أسمى مطاف" وقلت لك يومئذ مهما بلغ من ثقوب ذهنه لا يدرك لأول وهلة معنى هذا العنوان المسجوع إلا بكثير من إجهاد الفكر. وهكذا كدت باستمساكك السجع في بعض المقامات والغلو في تقريظ من ترى تقريظه أن تنسينا حسناتك علينا في كلامك المرسل الكثير وأنا على ما تعلم من أحرص الناس على تخليده وتأييده.

بحقك هل رأيت لأحد من بلغاء القرون الأولى سجعا في شيء من أسماء كتبهم، وهذا الجاحظ وابن المقفع. وهذه أسماء كتبهما ورسائلهما. هل وجدت لهم سجعا تتقزز منه كصاحبك أبي إسحاق الصحابي الذي أفسد اللغة على علو مكانته في الأدب بما سجع ورصع؟ وأظنك موافقي على رأيي في أن التسجيع أضعف ملكات المؤلفين من عهد ابن العميد إلى زمن أستاذنا الشيخ محمد عبده الذي قضى بقوة حكومته على استعمال السجع في الصحف والرسائل الرسمية، فعد عمله هذا أكبر حسنة من حسناته ولولا عمله ما دخلت اللغة في هذا الأسلوب الممتع الذي نقرؤه للمنشئين والمؤلفين، ونرجو أن تعود به اللغة إلى رونقها السالف من الرشاقة والجزالة. ولو كنت على مقربة منك ما تركتك تقول في مقدمة الديوان الذي نشرته بآخره ودعوته "روض الشقيق في الجذل الرقيق" ما قلته في فاتحته: الذي لا أجد لشعره وصفا في عرضه عن الأنظار، ولا لديوان حليه أجمل نشره في الأقطار، وخير وصف الحسناء جلاؤها والجواد عينه تغني عن الفرار ولعمري ولو وصفته بأزهار الربيع وأنواع البديع وشققت في تحليته أصناف الأساجيع وكان هو في الواقع دون ما أصف ما أغنيته فتيلا ولا رفعته عن درجته كثيرًا ولا قليلا. ولو كنت مكانك لقلت وما باليت: "الذي لا أجد لشعره وصفًا أوفى من عرضه على الأنظار. ولو وصفته بأزهار الربيع وكان في الواقع دون

ما أصف لما أغنيته فتيلا. لو قدمته للقراء فرديه معطالا. وكان هو في نفسه درًا نظيما لما خفي أمره". أليس هذا الإيجاز أوقع في النفس وأجمل في أداء المعنى وأدعى إلى الإفهام من إسجاع تثقل على الطباع، ونحن إنما نكتب لنفهم لا لنعجم ونبهم.

الباب الخامس: معارك النقد

الباب الخامس: معارك النقد الفصل الأول: أسلوب طه حسين؛ معركة بين المازني وطه حسين عندما أصدر عزيز أباظة ديوانه "أنات حائرة" كتب الدكتور طه حسين مقدمة الديوان فنشر المازني مقالا في البلاغ هاجم فيه هذه المقدمة وقال: إن الدكتور طه حسين قد خسره الأدب ولم تربحه الحكومة وقد أثارت هذه "المقدمة" ثائرة الدكتور طه. الذي وجه خطابا إلى رئيس تحرير البلاغ ضمنه نوعا جديدا من الهجاء اصطنع فيه أسلوب الرمز والإيماء واعتذر عن ذلك بأنه لا يتحدث إلى القارئ بقدر ما يتحدث إلى المازني نفسه. غير أن الدكتور زكي مبارك لم يدع هذا الكلام ينشر في الصحف دون أن ينقله إلى مجلة الرسالة ويفسره، ويكشف رموز الهجاء التي ضمنها طه حسين مقاله. والمعتقد أن هذه المعركة ليست شيئا قائما بذاته وإنما هي متصلة بمعارك سابقة أغضى الدكتور عنها في حينها ثم انتهز هذه الفرصة فانتقم من المازني. من هذا ما تجده في معركة لقمة العيش بين الدكتور مبارك وبين الدكتور طه. ومنها ما أورده الدكتور طه من نقود متعددة لكتابيه حديث الأربعاء والشعر الجاهلي مما أوردنا نموذجا منه في معركة "كتابة التاريخ" وفي هذه المعركة. إبراهيم عبد القادر والمازني 1: وتوكلت على الله وقرأت التصدير الذي كتبه الدكتور طه حسين له، فقلت لنفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا طه حسين يخسره الأدب ولا تكسبه الحكومة، فما خلق لها، بل للأدب؛ وإنه ليضع نفسه في هذا المناصب التي تشغله وتستنفد جهده ووقته، فإذا كتب جاء بماذا؟ بمثل هذا الكلام الذي لا محصول وراءه ولا أعرف له رأسا من ذنب، فلماذا لا يستقيل ويريح نفسه من هذا العناء الباطل ويتفرغ للأدب؟ فماذا يفتنه من هذا العرض الزائل والذي أهمل أو ترك أبقى، كيف يستطيع بالله أن يواظب على التحصيل وتغذية

_ 1 البلاغ في 25 يونيه 1942.

عقله ونفسه -وهو ما لا غنى بأديب عنه- وكيف يتسنى له التجويد حين يكتب وهو مشغول في ليلة ونهاره بهذا الذي لا آخر له من شئون الوظيفة. واللجان وما إليها. حملت على طه لأني لم أفهم تصديره لا لأنه غير مفهوم أو لا يفهم، بل لأني كنت ذاهلا شارد اللب، وآية ذلك أني لم أعرف من هذا التصدير أن الكتاب شعر لا نثر، وإن كان قد ذكر هذا في غير موضع. ورجعت إلى الكتاب بعد أيام فأدهشني أنه شعر، أنه فوق هذا جيد عامر. طه حسين 1: أراد الأستاذ المازني أن يثني على ديوان شاعرنا المدير أو مديرنا الشاعر الأستاذ عزيز أباظة فلم يستطع أن يصل إلى غرضه دون أن يقدم بين يدي مقالة برثاء لي وإشفاق علي؛ لأن الأدب قد خسرني وأن الحكومة لم تكسبني ولأني كتبت في تصدير هذا الديوان كلاما لا محصول وراءه ولا يعرف له رأس من ذنب. أنا أستأذنك في أن أشكر للأستاذ رثاءه لي وإشفاقه علي، فذلك أقل ما ينتظر من أديب مثلي لا يكتب إلا ما وراءه محصول وما يتبين رأسه من ذنبه وأريد أن أؤكد أني آسف أشد الأسف؛ لأن الأستاذ عزيز أباظة لم يطلب إليه هو كتابة هذا التصدير، إذن لكان له المحصول كل المحصول ولكان له رأس كقمة الجبل وذنب كالذي خوف به المنجمون المعتصم حين هم بفتح عمورية. وآسف أشد الأسف؛ لأن الحكومة لم تكل إلى الأستاذ عملي في وزارة المعارف وفي جامعة فاروق، إذن لكسبته الحكومة والأدب جميعا والأستاذ

_ 1 البلاغ 26 يوليه 1943.

المازني يعرف أن لأبي العلاء قصة مع الشريف المرتضى، وأظنه يأذن لي في أن أسرق من هذه القصة شيئا فالسرقة في الأدب مباحة ولا سيما حين تكون في العلن لا في السر. وهي حينئذ أشبه بالسطو. ولست أسرق من قصة أبي العلاء أو لست أسطو منها إلا بمقدار. فأنا أرجو أن يقرأ الأستاذ سورة الفلق وأن يقرأ مطولة لبيد ومطولة طرفة وعينية سويد بن أبي كاهل التي مطلعها: بسطت رابعة الحبل لنا ... فبسطنا الحبل منها ما اتسع ورائية الأخطل التي مطلعها: ألا يا سلمي يا هند هند بني بدر ... وإن كان حيانا عدي آخر الدهر ولامية المتنبي التي مطلعها: بقائي شاء ليس هم ارتحالا ... وحسني الصبر زمو لا الجمالا وسيقول القراء: إني ألغزت هذا الكلام، ولكني أعتذر إليهم فإني لا أكتب لهم وإنما أكتب للأستاذ المازني. وأنا أسلك في ذلك طريقة الأستاذ نفسه فمن المحقق أنهم لم يفهموا عنه ما قاله أمس لأنهم لم يقرءوا التصدير الذي لا محصول وراءه والذي لا رأس له ولا ذنب ولأن أكثرهم لن يقرأه لأن الكتاب ليس معروضا للناس، وأحبب إليّ بأن أستقيل وأفرغ للأدب ولكني أود أن أستيقن قبل ذلك بأن الحكومة ستضع الأستاذ المازني مكاني لنرى أيكتب كلامًا كالذي أكتبه أم يكتب كلاما خيرًا منه.

زكي مبارك 1: مناوشة عنيفة ثارت بين الدكتور طه والأستاذ المازني على صفحات جريدة البلاغ وهي مناوشة تمثل التجني والتظالم على أعنف ما يكون، بغى الرجل على الرجل، وسنقف من المناوشة موقف القاضي العادل فقد ساءنا أن يتقارض هذان الرجلان الظلم والعدوان بلا ترفق ولا استبقاء بعد أن ظلا صديقين حينا من الزمان وأصل القصة أن عزيز أباظة مدير البحيرة أصدر مجموعة شعرية سماها "أنات حائرة" مع تصدير بقلم الدكتور طه حسين. فلما بدا للأستاذ إبراهيم المازني أن يتحدث عن تلك المجموعة بدأ بالهجوم على صاحب التصدير فغضب الدكتور طه وكتب ردا أراد به دفع العدوان بما هو أقصى من العدوان ثم قال إنه سيفسر للقارئ هذه الرموز. ولخص زكي مبارك كلمة المازني في عناصر أربع: 1- إن الدكتور طه خسره الأدب ولم تكسبه الحكومة ومعنى ذلك أنه يتولى عملا لم يخلق له. وسنرى كيف أن الدكتور طه ثار على هذه العبارة وعدها تحديا لقدرته في الأعمال الحكومية. 2- إن الدكتور طه يضيع نفسه في مناصب تشغله وتستنفذ جهده ووقته فغذا كتب جاء بكلام لا محصول من ورائه ولا يعرف له رأس من ذنب. 3- إن الأفضل للدكتور طه أن يستقيل ويريح نفسه من العناء الباطل "وهو عمله في الحكومة" ويتفرغ للأدب.

_ 1 الرسالة 9 أغسطس 1943.

4- إنه لا يمكن للدكتور طه أن يزود نفسه بالتحصيل، أو يتفرغ للتجويد حين يكتب، وهو مشغول ليله ونهاره بأعمال كل واحد منها كاف للإرهاق. ونسارع فنذكر أن الإشارة إلى سورة الفلق منصب على آية: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} . وإن الإشارة إلى مطولة "لبيد" تتجه إلى هذين البيتين: فاقنع بما قسم المليك فإنما ... قسم الخلائق بيننا علامها وإذا الأمانة قسمت في معشر ... أوفى بأعظم حظها قسامها وأنه يريد من مقولة "طرفة" هذين البيتين: فلو كنت وغلا في الرجال لضرني ... عداوة ذي الأصحاب والمتوحد ولكن نفى عني الأعادي جرأتي ... عليهم وإقدامي وصدقي ومحتدي ومن عينية "سويد" أشار الدكتور طه إلى هذين البيتين: رب من أنضجت غيظا قلبه ... قد تمنى لي موتا لم يطع وتراني كالشجا في حلقه ... عسرًا مخرجه ما ينتزع وأراد من رائية "الأخطل" هذين البيتين:

تنق بلا شيء شيوخ محارب ... وما خلتها كانت تربش ولا تبري ضفادع في ظلمات ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية البحر ومن لامية "المتنبي"أراد هذين البيتين: أرى المتشاعرين غرو بذمي ... ومن ذا يحمل الداء العضالا ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرًا به الماء الذلالا وما أردت تبليغ هذه التعاريض إلى الأستاذ المازني وإنما أردت منفعة القراء والشر يتسم بالخير في بعض الأحايين. غمزات الدكتور طه: 1- كان يستطيع أن يقول أن "يستعير" قصة أبي العلاء مع الشريف و"يستعير" هو اللفظية المطلوبة في هذا الموقع. ولكنه قال أنه "يسرق1" ليندد بالأستاذ المازني ولم يكتف بذلك بل جعل سرقته علنية، وهي "حينئذ أشبه بالسطو" كما قال. 2- صور الأستاذ المازني بصورة الحاسد لمن كتب تصدير الديوان.

_ 1 كان قد وجه للمازني في بعض المناسبات اتهامات السرقة من قصائد بعض الشعراء الإنجليز وكتاب القصة.

3- صوره بصورة من يعجز عن عمل المستشار الفني لوزارة المعارف ويعجز عن إدارة جامعة فاروق. وقد فصلنا الخصومة بين الرجلين بوضوح ولم يبق إلا أن نكف شر الأستاذ المازني عن الدكتور طه. وشر الدكتور طه عن الأستاذ المازني؛ لأننا نكره أن تختل الموازين في هذه البلاد. ولم ينس الدكتور زكي مبارك أن يهاجم الدكتور طه بعد أن أشاد بقدرته على إدارة الأعمال الحكومية فقال: أما قول الأستاذ المازني بأن شواغل الدكتور طه تصرفه عن تزويد عقله بالمطالعات والمراجعات فهو قول صحيح. ولكنه لا يؤذي الدكتور طه في شيء لأن الدكتور طه قد اختار بنفسه أن يكون من رجال الدولة لا من رجال الأدب وهو لن يزاحم أحدًا من الباحثين ولن يقول إنه أوحد الناس في جميع الفنون فما يجوز لمن يكون في مثل حصافته أن يتناسى أن الأستاذية في الأدب توجب الانقطاع إلى الأدب. وتفرض الخلوة إلى النفس ساعات من كل يوم وذلك لا يتيسر لمن تكون الأعمال الإدارية عناءه بالنهار وهمه بالليل.

2- رأي المازني في أسلوب طه حسين: إذا أردنا أن نعرف لماذا هاجم طه حسين المازني على هذا النحو، علينا أن نرجع إلى ما قبل ذلك بعشرين سنة منذ ما هاجم المازني أسلوب طه حسين في حديث الأربعاء فقال: والآن ما رأينا في أسلوب صديقنا الدكتور طه حسين. الحق أن هذا موضوع يدق فيه الكلام. تناولت القلم فكتب به الشيطان ما يأتي: الدكتور طه حسين رجل أنيس المحضر زكي الفؤاد جريء القلب تعجبك منه صراحته ويعلق بقلبك إخلاصه ووفاؤه. ويثقل عليك أحيانا اعتداده بنفسه. ولما كان قد ألف أن يملي كتبه ورسائله ومقالاته فإن كتبه وحديثه حين يجد في مستوى واحد، كائنا ما كان ذلك المستوى، فلست تفقد في أحاديثه ما تجده في كتابته من الخصائص والشيات ويندر في غيره مثل ذلك. ومن شأن الإملاء أن يحول دون مط الكلام وأن يجعل الجمل قصيرة فلا تطول مسافة ما بين أولها وآخرها. وأن يغري بالتكرير والإعادة إلى حد ما، إذن أنا أخرجها من عالم الكتابة. نعم ولن أراها إلا خطبًا مدونة. وقد صدق في قوله "إني ما كتبت فصلا إلا وأنا أعلم أنه شديد النقص يحتاج إلى استئناف العناية به والنظر فيه وأنا أقدر أن سيتاح لي من الوقت وفراغ البال ما يمكنني من استئناف تلك العناية وهذا النظر حتى إذا فرغت منه ونشرته السياسة وعرضت لغيره في مثل هذه الحالة العقلية التي عرضت له

_ 1 فيض الريح للمازني ص30.

فيها معتزما أن أستأنف العناية به والنظر فيه مستحييا أن أقدمه إلى الناس على ما فيه من نقص وحاجة إلى الإصلاح. والأيام تمضي والظروف تتعاقب مختلفة متباينة أشد الاختلاف وأعظم التباين ولكنها كانت تحول دائما بيني وبين ما كنت أريد من تجديد العناية واستئناف النظر". ولا شك أن أظهر عيب في مقالات الدكتور هو التكرار والحشو وما إليهما من سبيل وعندنا أن علة ذلك ليست فقط إنه يملي ولا يراجع بل الأمر يرجع في اعتقادنا إلى سببين جوهريين: أولهما: إن ما أصيب في حياته من فقد بصره كان له تأثير لا يستطيع أن نقدر كل مداه في الأسلوب الذي يتناول به موضوعاته. وليس يخفى أن المرء إذا حيل بينه وبين المرئيات ضعف أثرها في نفسه ولم تعد الكلمة الواحدة تغني عن إحضار الصورة المقصودة إلى ذهنه بالسرعة والقوة الكافيتين، فلا يسمعه فيما يعتقد إلا الإسهاب ومحاولة الإحاطة ومعالجة الاستقصاء والتصفية. وثاني هذين السببين: أنه أستاذ مدرس وقد طال عهده بذلك والتعليم مهنة تعود المشتغل بها التبسط في الإيضاح والإطناب في الشرح والتكرير أيضا وعبارة أخرى تضطر المدرس إلى تجنب التعمق والغوص، وأن يكتفي ما وسعه الاكتفاء بما لا عسر في فهمه ولا عناء في تلقيه وتلك آفة التدريس. 2- هل1 زادت معارفنا به قليلا أو كثيرًا؟ "يقصد كتاب حديث الأربعاء" أكنا نكون أجهل مما نحن الآن لو لم يكتبه. وأذكر أن الأدب العربي ليس إلا بعض الأدب العالمي، وأن الدكتور لم يتناول في كتابه سوى

_ 1 ص45 من كتاب قبض الريح.

جانب واحد من فترة من عصر من عصور الأدب العربي. وأعني بذلك أن الدكتور لم يزدنا علما بالعصر العباسي ولم يضف إلى ما نعرفه عنه جديدًا فلو لم يكتب هذه المقالات لما فاتنا شيء يذكر من هذه الناحية. ولكن هذه المقالات كشفت عن جانب من جوانب نفسه هو، لم يكن يتأنى لنا العلم به والاطلاع عليه ولو فقدنا هذه المقالات، وهذا هو الذي ربحناه. والواقع أننا جميعا نترجم لنفوسنا ونحدث الناس عنها ونكشف لهم عن دخائله حين نكتب مؤرخين أو مترجمين أو ناقدين أو غير ذلك. 3- ألف1 الدكتور كتابا ودفعه إلى الناس وقال لهم في تواضع كله كبر: هذا ما رضيت لكم. وما هو بسفر أو كتاب كما أتصور السفر والكتاب، وإنما هي مباحث متفرقة "لست تجد فيها الفكرة الواضحة القوية المتحدة التي يعبر عنها المؤلفون حين يؤلفون كتبهم"، وبالغ في هذا التواضع المقلوب فأعلن إلى الناس أنه لم يعن بهذه المباحث العناية التي تليق بكتاب يعده صاحبه ليكون كتابا حقًا، كأنما أراد أن يقول لقراء الصحف السيارة وهم جمهور القراء في مصر: لستم أهل للعناية. كلا يا سيدي. ولكم وددت أنا -المازني- حين قرأت هذه المقدمة التي صدر بها الدكتور كتابه وقبل أن يصل حائك الأقدار ما بين أسبابي وأسبابه أن أعلمه احترام القراء. ولقد سمعت الدكتور مرة يقول وقد عرض ذكر أسلوبه ما معناه أنه لا يطمع من الشهرة في أكثر ما وفق إليه من كثرة المقلدين الذين يقتاسون به وعندي أن الأساليب التي سهل محاكاتها هي أحلى الأساليب من المياسم الشخصية والميزات الخاصة التي يختلف بها كل كاتب عن كاتب.

_ 1 ص47 من كتاب فيض الريح للمازني.

الفصل الثاني: مقومات الأدب العربي

-2- الفصل الثاني: مقومات الأدب العربي معركة بين زكي مبارك وأحمد أمين: كتب أحمد أمين مجموعة مقالات في مجلة الثقافة تحت عنوان "جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي" 9 و23 مايو 1939 و4 يونيه 1939 و4 و15 أغسطس 1939 ثم كتب تحت عنوان "أدب الروح وأدب المعدة" مقالا في 6 يونيه 1939. وفي 12 يونيه 1939 فاجئت مجلة الرسالة قرائها باستهلال لسلسلة من المقالات العنيفة في الرد على أحمد أمين بقلم الدكتور زكي مبارك تحت عنوان "جناية أحمد أمين على الأدب العربي" وقد اتصلت هذه المقالات حتى 13 نوفمبر 1939 أي أنها استمرت ستة شهور وبلغت 22 مقالة. ولم يشترك أحمد أمين في المعركة على نحو سافر مما يمكن معه أنه يطلق على هذا السجال اسم معركة وأن اشترك فيها بعض الباحثين أمثال عبد الوهاب عزام وعبد المتعال الصعيدي. ولا شك أن هذه المعركة تمثل جانبا هاما من جوانب حياتنا الفكرية ذلك هو اختلاف المدرسة الحديثة على نفسها ووقوف أحمد أمين الأزهري الذي لم يدرس في الجامعات الأوروبية موقف التطرف في ترديد آراء المستشرقين ودعاة التغريب بينما وقف زكي مبارك خريج السربون موقف الاعتدال والدفاع عن تراثنا ومقدراتنا ويمكن القول أن زكي مبارك بالرغم من عنفه كان يصدر عن نفس نقية من الخصومة الشخصية. قال: "أقسم أني أهجم على هذا الرجل وأنا كاره لما أصنع، فأحمد أمين رجل محترم وقد وصل بكفاحه إلى منزلة عالية في الحياة وأنا قد ضيعت جميع أصدقائي بفضل جرائر النقد الأدبي. وكنت أحب أن أداوي ما جرح قلمي لأنجو من الدسائس التي تعترضني في جميع الميادين". ثم يقول: "إن أحمد أمين لم يوجه إلي أية إساءة، وربما جاز أن يقال: إنه لم يؤذ أحدًا من معاصريه، ولكن أحمد أمين الذي كف شره عن الأفراد وجه شره إلى التاريخ، فهو يدرس ماضي اللغة العربية بلا تحرز ولا رفق ولو تركناه شهرين اثنين يؤرخ الأدب على هواه لجعل الأمة العربية أضحوكة بين العالمين".

ويصور صلة أحمد أمين بطه حسين فيقول: إن الدكتور طه هو المسئول عن أحمد أمين فهو الذي قال: "إن أحمد أمين لم يكن يعرف نفسه فهديناه إليها". ومعنى ذلك أن أحمد أمين لم يكن يعرف أنه أديب قبل أن يدله الدكتور طه على الكنز المدفون في صدره، إن أحمد أمين لم يكن أديبا وإنما قال له طه حسين كن أديبا فلم يكن. ويقول في موضع آخر: "كان أحمد أمين مشدود البصر إلى رجل واحد هو طه حسين، كان يكتب وهو يراه أمامه لأنه كان يعرف عداوته له فيخشى صولته. ويقول: إن أحمد أمين شغل نفسه بالنص على أن العرب في جاهليتهم "لم تكن لهم وثنية تبدع الأساطير على نحو ما كان الحال عند اليونان وذلك يشهد بأن الجاهليين لم يكونوا من أهل الخيال". هل يعرف القراء من أين أخذ "أحمد أمين" هذا الرأي. أخذه من قول الدكتور أحمد ضيف: "وقد قال بعض المشتشرقين مثل رينان ومن جرى على مذهبه: إن العرب ككل الأمم السامية ليس لها أساطير في شعرها وفي عقائدها". ثم قال: "ولو كان أحمد أمين يعرف أن في مصر رجالا يسايرون الحياة الأدبية مسايرة تمكنهم من رد كل كلام إلى مصادره الظاهرة والخفية لتهيب عواقب السطو على آراء من سبقوه في القديم والحديث" وقد ردد مرات أن آراء الدكتور ضيف التي أذاعها 1918 عاد أحمد أمين إلى ترديدها 1938. ويرد على قول أحمد أمين: إن أدب المقامات "أدب معدة"، أن احتقار

المعدة لا يقوم على أساس من الواقع ولا من المنطق وإنما هو مجاراة للعوام الذين يصعب عليهم أن يدركوا أن النفس تتبع الجسم في الصحة والمرض والقوة والضعف والنشاط والخمول، ويعسر عليهم أن يفهموا أن الإنسان يرى المعنويات والمحسوسات بأشكال مختلفة في وجوه متباينة تبعا لاختلاف الذوق والحس والمزاج". ولم يلبث زكي مبارك بعد أن أنهى مقالاته الاثنين والعشرين أن عاد إلى مصالحة أحمد أمين "الرسالة عدد 326، 11 ديسمبر 1939" فقال: ولم يبق شك في أن الأستاذ أحمد أمين غضبان بسبب المقالات التي تجاوزت العشرين والتي حرضت عليه من خاصموه في مجلة المكشوف وأغرت بعض أنصاره في العراق وأخرجته عن وقاره فشتمنا في مجلة الثقافة بأبيات جاهلية سامحه الله وعفا عنه وأقول اليوم إني استوحشت بما صنعت والاعتراف يهدم الاقتراف. وليس من الكثير أن أرجو عفوه، فقد عفا أخ له من قبل. والأستاذ أحمد أمين يعرف أني رجل ممتحن بعداوات الرجال. وقد عانيت من ذلك مصاعب ولو صادفت رجلا غيري لدحرته في أقصر وقت. فمن حقي عليه وهو صديقي وجاري وكان زميلي في الجامعة المصرية أن يتجاوز عن سيئاتي إنه -ولله المثل الأعلى- غفور رحيم. وهذه مقتبسات من هذه المساجلة: جناية أحمد أمين على الأدب العربي 1: لصديقي الأستاذ أحمد أمين مؤلفات جيدة على أساس المنطق والعقل

_ 1 الرسالة 12 يونيه 1939 "المقال الأول".

وهو من كبار الباحثين من العصر الحديث ولكنه على أدبه وفضله لا يحسن إلا حين يصطحب الروية ويطيل الطواف بالموضوع الواحد عاما أو عامين وذلك سر تفوقه فيما نشر من البحوث والتصانيف. أحمد أمين باحث كبير بلا جدال ولكنه ليس بكاتب ولا أديب أن كان من أساتذة الأدب بالجامعة المصرية. ولم يستطع أحمد أمين على كثرة ما كتب وصنف أن ينقل القارئ من ضلال إلى هدى أو من هدى إلى ضلال. وإنما كانت مؤلفاته وبحوثه ضربا من التقرير الذي يخاطب الأذهان ويعجز عن مخاطبة العقول والقلوب. وحياة أحمد أمين تؤيد ما نقول؛ فهو رجل لا يعرف الخلوة إلى الفكر والقلم، ولا يتسع وقته لدرس ما في الوجود وما في الأخلاق من مشكلات ومعضلات. وإنما يقرأ ويسمع ويعلق على ما يقرأ ويسمع، بدون أن يتغلغل إلى أسرار المجتمع أو سرائر القلوب. الحظر كل الحظر أن ينصب هذا الرجل نفسه حاكما بأمره في مصير الآداب العربية وهو لم يستطع إلى اليوم أن يقيم الدليل على أنه يتذوق المعاني والأساليب. والحظر كل الحظر أن يتوهم أحمد أمين أنه قادر على زعزعة ما أقامته الأيام من الحقائق الأدبية، الحقائق التي ساد بها العرب في أزمان طوال. وكان لها سلطان مهيب في أقطار الشرق وأقطار الغرب. ولكن ما الذي نقل ذلك الرجل الفاضل من حال إلى أحوال وحوله من الروية إلى الارتجال.

لقد أصبح الرجل صحفيا، وكان أستاذًا، ولكنه لم يراع أدب الصحافة، لأن الصحافة تقف عن المشاهدات وهو يهيم بأودية الفروض. ابتدأ الرجل مقالاته في مجلة الثقافة بتلخيص بعض الكتب الأدبية فكان من الصحفيين الأدباء ثم رأيناه يتحول فجأة فيلخص الأدب العربي في جميع صوره تلخيصًا يقوم على أساس الخطأ والاعتساف، ويعوزه تحرير الحجة وتصحيح الدليل، فهل يظن أنه سينجو من عواقب ما يصنع؟ هل يتوهم أن التجني على الأدب العربي سيمر بلا اعتراض ولا تعقيب، فما رأيه إذا أقنعناه بأن للأدب العربي أنصارًا يغارون عليه أشد الغيرة ويقفون لخصومه بالمرصاد. 2- أنا1 أؤمن بأن الأدب العربي أدب أصيل وأعتقد أن من الواجب أن ندعو جميع أبناء العروبة إلى الاعتزاز بذلك الأدب الأصيل لأنه يستحق ذلك لقيمته الذاتية ولأن الإيمان بأصالته يزيد في قوتنا المعنوية ويرفع أنفسنا حين ننظر فنرى أن أسلافنا كانوا من المبتكرين في عالم الفكر والبيان. وقد درج الأستاذ أحمد أمين في الأيام الأخيرة على الغض من قيمة الأدب العربي وكان من السهل أن نتركه يقول ما يشاء لو كان من عامة الأدباء. ولكنه اليوم رجل مسئول، لأنه من أساتذة الأدب بالجامعة المصرية ولأغلاطه سناد من تلك الأستاذية، فهو يقدر زعزعة الثقة الأدبية في أنفس طلبة الجامعة حين يريد. فإن بدا لهذا الصديق أن يغضب من هجومنا عليه فأمامه الخلاص:

_ 1 الرسالة 19 يونيه 1939.

وهو الانسحاب من ميدن الدراسات الأدبية إلى أن يعرف أن الأديب لا يؤرخ على طريقة الارتجال. ولعل هذا الصديق يرجع إلى نفسه فيذكر أنه لم يخلق ليكون أديبا وأنه لم يفكر في دراسة الأدب دراسة جدية إلا بعد أن جاوز الأربعين. لو رجع هذا الصديق إلى نفسه لعرف أنه لا يجيد إلا حين يشغل وقته بتلخيص المذاهب الفقهية والكلامية. ولو شئت لكررت ما قلت من أن موقفه في جميع أبحاثه موقف "المقرر" ولم يستطع مرة أن يكون من المبتكرين في الدراسات الفقهية والكلامية وإذا كان هذا حاله في الفقه والتوحيد فكيف يكون حاله في الأدب, والأدب يرتكز على الحاسة الفنية. وهي حاسة لم توهب لهذا الرجل قبل اليوم ولن توهب له بعد اليوم لأنها من الهبات التي لا تنال بالدرس والتحصيل. أحمد أمين ليس بكاتب ولا أديب وإن سود الملايين من الصفحات. أيهدم ماضينا الأدبي بمحاولة رجل محروم من الذوق الأدبي، هذا الرجل ينظر إلى الأدب وإلى الوجود نظرة عامية، فهو يقسم الأدب إلى قسمين: أدب معدة وأدب روح. والسخرية من المعدة لا تقع إلا من رجل يفكر كما يفكر الأطفال فالمعدة التي يحتقرها هذا الرجل العامي هي سر الوجود، وعن قوة المعدة تنشأ قوة الروح. إن المباعدة بين المعدة والروح عقيدة هندية الأصل وتلك المباعدة هي التي قضت بأن يعيش الهنود فقراء ولو احترم الهندي معدته كما يحترم الإنجليزي معدته لما استطاع الإنجليز أن يكونوا سادة الهنود. لقد فكرت كثيرا قبل أن أقدم على هذه الحملة الأدبية وصح عندي بعد

الروية أن الغض من قيمة الأدب العربي هو عدوان على كرامة الأمة العربية، فأنا أستهدف لعداوة هذا الرجل وعداوة أصدقائه في سبيل المبدأ والعقيدة. والهجوم على هذا الرجل قد ينفعه أجزل النفع فينقله من حال إلى أحوال ويحبب إليه التروي والتثبت ويصرفه عن التحامل البغيض على الأدب العربي. وإنما يصل إليه الخطأ من طريقين: الأول عدم تمكنه من تاريخ الأدب العربي والثاني عدم تعمقه في درس السرائر النفسية والوجدانية. وأحدد الغرض من هذه الحملة فأقول: تورط أحمد أمين في أحكام جائزة وهو يلخص تاريخ الأدب بطريقة صحفية. 3- إن1 هذا الرجل يحكم على الأدب العربي أحكاما تشهد بأن طريقته في فهم الأدب والحياة طريقة عامية، فكيف يكون حاله إذا صححنا بعض ما وقع من أغلاط؟ أيرجع إلى الحق؟ أيوجه إلينا كلمة ثناء؟ هنا تعرف قيمة الأخلاق في نفس الرجل الذي ألف أول ما ألف في الأخلاق وأقسم أني أهجم على الرجل وأنا كاره لما أصنع فأحمد أمين رجل محترم، وقد وصل بكفاحه إلى منزلة عالية في الحياة الأدبية وأنا قد ضيعت جميع أصدقائي بفضل جرائر النقد الأدبي، وكنت أحب أن أداوي ما جرح قلمي فأنجو من الدسائس التي تعترضني في جميع الميادين, ولكن كيف أسامح رجلا يحاول أن يلطخ ماضينا الأدبي بالسواد. يرى هذا الرجل أن "المديح

_ 1 26 يونيه 1939 "الرسالة. المقال الثالث".

والهجاء" هي أظهر الفنون في الأدب العربي وبذلك يكون الأدب العربي في أغلب أحواله أدب معدة لا أدب روح1. ولو كان هذه الرجل يدقق لعرف أن المديح والهجاء هي السجل الصحيح للأخلاق العربية فمن المديح نعرف كيف كان العرب يتمثلون المناقب ومن الهجاء نعرف كيف كانوا يتصورون المثالب, ومن المحاسن والعيوب يعرف الباحث صور المتسع في الحياة العربية والإسلامية. ولو ضاعت قصائد المديح والهجاء لضاع بضياعها أعظم ثروة يستعين بها علماء النفس لفهم تطورات الأفكار والأذواق فيما سلف من عهود التاريخ. حتى قال: أريد أن أنزه تاريخ العربي عن وصمة المعدة والمعدة ليست وصمة إلا في ذهن الأستاذ أحمد أمين. أحمد أمين يقول: نرى في العصر العباسي طغيان أدب المعدة على أدب الروح. هذا

_ 1 كتب أحمد أمين يصور الفرق بين أدب الروح وأدب المعدة فقال: أدب الروح هو الأدب الذي يتصل بالعواطف السامية عند الإنسان فيهذبها ويرقيها ويغذيها, القرآن أدب روح لأنه يسموا بالإنسان عن عالم المادة ويأخذ بيده إلى السماء وباب الحماسة من ديوان الحماسة أدب روح وغزل جميل وكثير والعباس بن الأحنف أدب روح والغزل الفاجر أدب معدة. وأدب الطبيعة أدب روح. قال زكي مبارك: إن القرآن إذن على هذا الأساس أدب معدة لأنه ذكر الحور العين. وقال زكي مبارك إنه لا يمكن للمرأة أن تكون مصدر وحي وإلهام للرجل إلا إذا اشتهاها بشهوة حسية ومن قال بغير ذلك فهو رجل ضعيف لا يدرك جوهر الصلات بين الرجل والمرأة. وأن رجال الأخلاق لم يستنكروا الشهوات إلا بسبب الإسراف، أما الشهوات في حد ذاتها فهي دليل العافية، وأن فضيلة العفاف لا يقام لها وزن إلا حين تصدر من رجال مزودين بحيوية الشهوات. وقال أحمد أمين: إن أدب المعدة هو ذلك الأدب الذي يدور حول ملء المعدة واستدرار المال ويحصل الفوات. ومثل لذلك بالغزل الفاجر ومقالات الكتاب التي هدفها الأول ملء الأعمدة والاستيلاء على الرواج وأدب المديح.

البارودي اختار لثلاثين شاعرًا من خيرة شعراء الدولة العباسية. وكانت مختاراته في أربعة أجزاء كبار، فكان ما اختاره من المديح 24815 بيتا ومن الأدب 1967 بيتا ومن الغزل 4616 بيتا ومن الهجاء 1229 بيتا ومن الوصف 3993 ومن الزهد 473 بيتا ونظرة واحدة إلى هذا الإحصاء تدهشنا أشد الدهش إذ تبين لنا طغيان أدب المعدة -وهو المديح والهجاء- على أدب الروح طغيانا كبيرًا، هذا هو أحمد أمين الذي يدرس الأدب بالإحصاء والذي يقيس الدواوين الشعرية بالمتر والباع والذراع. لو كان أحمد أمين يدقق لعرف أن طغيان المديح على الزهد كان من علائم الحيوية في العصر العباسي، فهو الشاهد على أن العرب كانت حياتهم تتزاحم بالأخطار الدنيوية وهو الشاهد على أنهم كانوا أهل نجدة وأريحية, وهو الدليل على أنهم كانوا يحيون حياة تفيض بمعاني الأفراح والأحزان وتتسم بعلائم القوة والكفاح. 4- يعلن1 الأستاذ أنه يحتقر المعدة ليصح له التطاول على ماضي الأدب العربي، واحتقار المعدة لا يقوم على أساس من الواقع ولا من المنطق وإنما هو مجاراة للعوام الذين يصعب عليهم أن يدركوا أن النفس تتبع الجسم والصحة والمرض والقوة والضعف. والواقع أننا عبيد لحواسنا وأعصابنا، وأن جمهورنا مدين في تكوين ذوقه وعقله إلى ما يأكل وما يشرب. يقول أحمد أمين: "ثم انظر بعد إلى الفن المبتكر في العصر العباسي. وهو فن المقامات

_ 1 الرسالة 3 يوليه 1939 "المقال الرابع".

فقد ابتدعها بديع الزمان الهمذاني فلم يجعل محورها حبا ولا غرامًا كما يفعل الروائيون ولم يجعل محورها شيئا يتصل بأدب الروح ولكنها كلها "أدب معدة"، فأبو الفتح الإسكندري بطل المقامات كلها، رجل مكر واحتيال يصطنع جميع المهن لابتزاز الأموال، تراه مرة قرادًا يسلي الناس ويضحكهم ومرة واعظا مزيفا يعظ وينصح ثم تتكشف حيله فإذا هو مهرج. وجاء الحريري فجعل مكان أبي الفتح الإسكندري أبا زيد السروجي وهو كصاحبه دناءة نفس وخساسة حرفة". أبهذه الجرأة يحكم أحمد أمين على فن المقامات. يلاحظ أولا أن أحمد أمين لم يفهم أغراض الحريري وبديع الزمان فهو يتوهم أنهما يحاولان إغراء الجماهير بالإقبال على ما في تلك المقامات من شمائل وخصال بينما الغرض من تعلم المقامات عند بديع الزمان هو نقد الحياة الاجتماعية والأدبية في القرن الرابع. وغفل أحمد أمين أن للفن غاية أخرى؛ وهي النظرية التي تقول بأن للفن والأدب غاية أصيلة هي الصدق في وصف ما ترى العيون وما تحس القلوب وما تدرك العقول. ثم يقول: هل يطلب من الكاتب ألا يغفل وصف الطفيليين لئلا يقال: إن أدبه أدب معدة. أتحبون أن تعرفوا من أين وصل الخطأ إلى الأستاذ أحمد أمين! وصل إليه الخطأ من التلمذة للأستاذ الكبير طه حسين؛ فقد حكم الدكتور طه بأن العصر العباسي عصر شك ومجون لأن فيه عصابة

مشهورة بالزيع والفسق وهي جماعة أبي نواس ومطيع بن أياس, مع أن العصر المدني عرف أمثال هذين الرجلين هو نفس العصر الذي نبغ فيه كبار الفقهاء والنساك والزهاد. وهو الذي بلغ فيه الفكر العربي غاية الغايات في فهم أصول الفلسفة وأصول الأخلاق. 5- عرض1 زكي مبارك لما ورد في كتاب أحمد الشايب "الأسلوب" الذي قرر فيه بأن أحمد أمين له أسلوب له مزايا وخصائص. وتساءل: هل لأحمد أمين أسلوب حتى يخلق لأسلوبه مزايا وخصائص؟ ثم قال: إن الدكتور طه وقف في قصر الزعفران سنة 1927 ألقى كلمة في مهرجان شوقي فقال: إن الجامعة لا تؤرخ الأحياء، ثم هو الذي ارتضى لنفسه أن يدرس أسلوب أحمد أمين بكلية الآداب. ثم قال: أتريدون الحق؟ إن أحمد أمين لم يكن له أسلوب يدرس في كلية الآداب إلا لأنه أستاذ في كلية الآداب, وإلا فكيف غابت قيمة أسلوبه عن أساتذة الأزهر ودار العلوم؟ إن الرجل لا يكون له أسلوب إلا يوم يصح أنه يحس الثورة على ما يكره والأنس بما يحب، فعندئذ تعرف نفسه معنى الانطباعات الذاتية ويعبر عن روحه وعقله وقلبه بأسلوب خاص. لقد اشتغل أحمد أمين بالقضاء الشرعي بضع سنين فهل قرأتم له مقالا أو قصة تدل على أنه توجع مرة واحدة لآلام الإنسانية. لقد عاش أحمد أمين بالواحات فهل سمعتم قبل أن تسمعوا مني أنه قد عاش بالواحات.

_ 1 الرسالة 10 يوليو 1939 "المقال الخامس".

ولكن أحمد أمين لم يكن أديبا، وإنما كان موظفا مخلصا لواجب الوظيفة لا يرى ما عداها من الشئون ثم قال طه حسين: كن أديبا فكان. إن هذا الرجل أراد أن يؤرخ العصر العباسي من الوجهة الأدبية فجعله عصر معدة لا عصر روح وشاء له أدبه أن يختص البصرة بحكم من أحكامه القاسية فزعم أنها "نقابة الطفيليين" فهل خطر في بال هذا الباحث المفضال أن البصرة عرفت أكرم أنواع نكران الذات حين كانت مبدأ لإخوان الصفا. لو أن أحمد أمين كان يدقق لعرف أن البصريين لم يصلوا إلى ذلك إلا لقوة الروح فكيف شاء له هواه أن يجعلهم أصحاب معدات! لو أن معدتي كانت كما أحب من القوة والعافية لأكلت لحم الأستاذ أحمد أمين وأرحت الدنيا من أحكامه الجائرة في الأدب والتاريخ. ولكن الدهر حكم بأن أكون من أصحاب الأرواح فلم يبق لي في محاسبته غير شيطنة الروح وفي الأرواح شياطين. 6- يشهد1 الأستاذ "أحمد أمين" على نفسه فيقول: "أين الشعر العراقي الذي تجد فيه الشعراء يتغنون بمناظر العراق الطبيعية ويضعون فيه أحداثهم الاجتماعية. وأين الشعر الشامي أو المصري أو الأندلسي الذي يشيد بذكر مناظر الطبيعة وأحوال الاجتماع للشام ومصر والأندلس, إنك تقرأ الشعر العربي فلا تعرف إن كان هذا الشعر مصري أو عراقي أو شامي إلا من ترجمة حياة الشاعر, أما القالب كله فشيء واحد،

_ 1 الرسالة 24 يوليه 1939.

والموضوع كله واحد مديح أو رثاء أو هجاء أو نحو ذلك مما قال الجاهليون". يعتقد أحمد أمين أن شعراء العراق لم يصفوا مناظر بلادهم الطبيعية ولم يصفوا أحداثهم الاجتماعية ولو أنه كان اطلع على الشعر العراقي في عهوده الماضية وهي التي تعنيه لعرف أن شعراء العراق لم يفرطوا في الحديث عن أنهارهم وبساتينهم ولم يتركوا صغيرة ولا كبيرة من شئون المجتمع إلا أفردوها بحديث خاص. الشعراء المصريون في نظر أحمد أمين لم يكونوا إلا مقلدين لشعراء الشام والعراق. ولأحمد أمين في هذا الحكم الجائر عذر معقول، لأنه لم يدرس الشعر المصري دراسة تمكنه من الحكم له أو عليه، فلو كان من المطلعين لعرف أن الشعراء المصريين وصفوا بلادهم وتحدثوا عنها بأقوى العواطف وتغنوا بمحاسن بلادهم أجمل غناء. 7- لقد1 كان ناس يتوهمون أننا حاربنا الدكتور طه حسين لأغراض شخصية وكان الدكتور طه يلوز بهذا التوهم فلم يرد علينا غير ثلاث مرات أو أربع مرات بأسلوب واضح صريح. ثم شاء له الحذر والاحتراس أن يوهم قراءه وسامعيه بأننا نحاربه لغرض خاص ثم درات الأيام واعترف الدكتور طه علانية أمام جمهور من أقطاب الرجال بأن زكي مبارك من "أصحاب العقائد" في حياته الأدبية ويجب أن ينظر المنصف إلى مصاولاته في النقد الأدبي بعين الرفق.

_ 1 الرسالة 24 يوليه 1939.

فكيف جاز للأستاذ أحمد أمين أن يهرب من الرد علينا بحجة أننا نشتمه ونؤذيه بغير سبب معقول؟ وكيف جاز له أن يظن أني تآمرت مع صاحب الرسالة عليه؟ مع أن مقالاتي في الرسالة قد تنتهي بخصومة بيني وبين الزيات؛ لأن الزيات قد حذف من مقالاتي فقرات كثيرة رعاية لصديقه العزيز أحمد أمين. أتريدون الحق أيها القراء: الحق أني في غربة موحشة بين إخوان هذا الزمان فالأستاذ أحمد أمين كان ينتظر أن أمتشق قلمي لتزكية أحكامه الخواطئ على الأدب العربي والأستاذ الزيات كان ينتظر أن أرد على أحمد أمين بأسلوب رقيق شفاف يحاكي نسائم الأصائل والعشيات على ضفاف النيل. الله يشهد أني متوجع لما صنعت بالأستاذ أحمد أمين وهو رجل له ماض في خدمة الدراسات الإسلامية وله مواقف في مؤازرتي سأذكرها وإن طال الزمان ولكنه في الأعوام الأخيرة أصيب بمرض عضال هو السخرية من ماضي الأمة العربية وأغرم بضرب من الحذلقة لا يقره غير الأصحاب المتطفلين الذين لا يهمهم غير الاقتراب من روحه اللطيف. أحمد أمين رجل فاضل وإن تردى في هاوية العماية والجهل حين حكم بأن آباء العرب كانوا أصحاب معدات لا أصحاب أرواح. يقول أحمد أمين: إن الأدب يخدم النقد أكثر ما يخدم التقريظ وهذا حق ولكن هل يدرك المراد من النقد. النقد هو في الأصل تمييز الزائف من الصحيح فيدخل فيه اللوم ويدخل فيه الثناء. ولكن أحمد أمين يتوهم أن النقد مقصور على التجريح.

ويرى الكلمة الطيبة بابا من التقريظ وهو عنده معيب، ونحن نقول بلا تردد: إن الأدب العربي أدب أصيل والزائف منه لا يقام له وزن بجانب الأدب الصحيح، فكيف انحرف بصره عن المحاسن ولم يشهد إلا العيوب وهل في الأدب حسن وقبح. الأدب جده جد وهزله جد، ولا يعاب عليه إلا ما غلب عليه التكلف والافتعال. ولو رزقني الله الشجاعة لقلت: إن هذا الرجل يتجنى على الأدب العربي لأنه لم يعرفه معرفة صحيحة، ولو قد عرفه حق معرفة لأدرك أنه خليق بأن تبذل في سبيله نفائس الأعمال من أحرار الرجال. يعز علي أن أراه يحبط أعماله بمقالات خطيرة لم تكن ثمرة لسهر الليل وأقذاء العيون تحت أضواء المصابيح. وإنما كانت ثمرة لنزوة وقتية أراد بها أن يخلق حركة في بعض المجلات، والمجد كالرزق بعضه حرام وبعضه حلال. 8- نحن أمام فتنة جديدة؛ هي فتنة القول بأن الأدب العربي لا يصلح لتربية الأذواق في الجيل الجديد، وهذه الفتنة ليست من مخترعات أحمد أمين فقد نجمت قرونها منذ أكثر من خمسين سنة حين أراد المستعمرون والمبشرون أن يوهموا أبناء الأمم العربية بأن الصلة بين ماضيهم وحاضرهم لم يبق لها مكان، وأن المصلحة تقتضي بأن يوضع الأدب القديم في المتاحف وألا يدرسه غير المختصين على نحو ما يصنع الأوروبيون في الآداب اليونانية واللاتينية ثم تقبل كل أمة على لغتها المحلية فتجعلها لغة التخاطب والتأليف، وبذلك تكون اللغة الفصيحة أما واحدة للغات الشعوب العربية. كما صارت اللاتينية أما واحدة للغات الشعوب اللاتينية. وقد صرح بذلك المسيو ماسينون في خطبة

_ 1 الرسالة 10 أبريل 1944.

ألقاها في بيروت سنة 1931 ونقدتها يومذاك بمقال أرسلته إلى البلاغ من باريس. والحق أن الفتنة التي أذاعها المستعمرون والمبشرون كانت فتنة براقة جذابة تزيغ البصائر والعقول وقد انخدع بها من انخدع من الأعوام الماضية فكانت المفاضلة بين الفصيحة والعامية من المشكلات التي تقام لها المناظرات في المعاهد والأندية الأدبية وقد وصل صدى هذه الفتنة إلى المجمع اللغوي بالقاهرة فانقسم الأعضاء إلى فريقين: فريق يقول بدراسة اللهجات المحلية وفريق يقول بأن الأفضل إنفاق المال في إحياء الأدب القديم، وقامت بسبب هذه المشكلة مساجلات فوق صفحات الجرائد بين الدكتور منصور فهمي والدكتور طه حسين والظاهر أن الأستاذ أحمد أمين من أنصار القول بإحياء اللهجات المحلية فهو يدرس على صفحات مجلة الراديو المصري ألفاظ اللهجة المصرية باهتمام يدل على تأصل تلك الفتنة في نفسه الواعية. 9- الدكتور1 طه قد زعم أن أحمد أمين لم يكن يعرف نفسه فهداه إليها وأنا أيضا أزعم أن أحمد أمين لم يكن يعرف نفسه وسأهديه إليها وفرق بين الهدايتين، شغل الأستاذ أحمد أمين نفسه بالنص على أن العرب في جاهليتهم لم تكن لهم وثنية تبدع الأساطير على نحو ما كان الحال عند اليونان، وذلك يشهد بأن الجاهليين لم يكونوا من أهل الخيال. أخذ هذا من الدكتور أحمد ضيف. "وقد قال بعض المستشرقين مثل رينان ومن جرى على مذهبه: إن العرب ككل الأمم السامية ليس لها أساطير في شعرها ولا في عقائدها, وإن

_ 1 6 نوفمبر 1939 مقال "21" الرسالة.

هذا يدل على ضيق الخيال لديهم: لأن الأساطير والخرافات إنما هي نتيجة سعة الخيال ونتيجة الخبرة والبحث وحب الاطلاع وكل ذلك يظهر أثره في بلاغات الأمم من نظم ونثر كما هي الحال عند الأمم الأوروبية كاليونان وغيرهم. وقالوا: سعة الخيال، ولا يقصدون بالخيال ما نقصده نحن من المجاز والتشبيه وإنما يقصدون سعة الخيال في تصور الحقائق وفي إدراك الموضوعات المختلفة". إن الدكتور أحمد ضيف لم يبتكر هذا الكلام ولكنه راعى الأمانة العلمية فذكر مصدره من كلام المستشرقين، أما الأستاذ أحمد أمين فقد انتهب ما نقله الدكتور أحمد ضيف عن المستشرقين ثم ادعى أنه من مبتكراته. 10- يقول أحمد أمين: إن الأدب العربي على اختلاف عصوره ليس فيه إلا كاتب واحد يهتم بتحليل المعاني هو ابن خلدون ولا شك أن إعجاب أحمد أمين بابن خلدون يرجع إلى الدكتور طه حسين شغل به. إن بعد الدكتور طه حسين عن مصر في أيام الصيف عرض الأستاذ أحمد أمين للمعاطب, فلو أن الدكتور طه بقي في مصر لكان من الجائز أن يعلن إعجابه بكاتب آخر غير ابن خلدون. فهل نرجو أن يتلطف الدكتور طه حسين فيقول: إنه لا يعقل ألا ينبغ في الأدب العربي غير كاتب واحد في ذلك الأمد الطويل الذي سيطر فيه على أقطار آسيوية وأفريقية وأوروبية. إن الدكتور طه لو قال هذه الكلمة وهي حق لسرت عدواها إلى الأستاذ أحمد أمين فاندفع يثني على الأدب العربي بما هو أهله. لكان من الممكن أن يصرخ بأن الأدب العربي نبغ فيه من الكتاب عشرات أو مئات. ولكن الدكتور طه يترفق بأصدقائه أشد الترفق ويحرص على ستر ما يقعون فيه من أوهام وأضاليل، وقد يقدمهم إلى الجمهور في جلبة وضوضاء. فكيف ينتظر أن يقول في الأدب العربي كلمة حق تشجع رجل مثلي على

مهاجمة رجل يستبيح في الغض من أدب العرب ما لا يباح. إن الدكتور طه حسين هو المسئول عن أحمد أمين فهو الذي قال: "إن أحمد أمين لم يكن يعرف نفسه فهديناه إليها" ومعنى هذا أن أحمد أمين لم يكن يعرف أنه أديب قبل أن يدله الدكتور طه على الكنز المدفون في صدره. مقال الختام: هل1 أستطيع أن أحدث القارئ مرة عن بعض مكاره النقد الأدبي. ليتني أعرف من أغروني بسلوك هذا الطريق المحفوف بالمخاوف والمعاطب والحتوف، كنت تبت ونجاني الله من مهلكات هذا الطريق الوعر الشائك فكيف رجعت إليه بعد أن عرفت وجه الخلاص! كنت يومئذ مدرسا بكلية الآداب وأخرج الأستاذ أحمد أمين الجزء الثالث من ضحى الإسلام، وقد سرق من الأستاذ إبراهيم مصطفى مسألة متصلة بتاريخ النحو وسرق مني مسألة متصلة بتاريخ التشريع الإسلامي. فصاح إبراهيم: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فكيف يسرقها مني، إنه لطماع! وجلست أنا وإبراهيم نتشاكى في غرفة أساتذة اللغة العربية، وانتقلنا من التشاكي إلى التباكي فهتفت: سأنتقم لي ولك يا إبراهيم. منذ أشهر نشر الأستاذ أحمد أمين مقالته الأولى فيما سماه جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي فلم تعجبني؛ لأني رأيتها من الحديث المعاد، ثم لقيني مصادفة في "المترو" بعد ظهور مقالته الثانية فسألني عما أراه من الأفكار التي أودعها مقالتيه، فقلت له: لم يعجبني غير نقد الشاهد الذي

أوردته في كلام ابن قتيبة، أما سائر أفكارك فتحتاج إلى تحقيق، فقال أنا أدعو القراء إلى مناقشة تلك الأفكار. فهل كان يدعوني إلى أن أساجله الحديث! كانت الصداقة بيني وبين الأستاذ أحمد أمين قد بلغت أقصى حدود المتانة والصدق، وما كان ينتظر أن يرى مني غير ما يحب, وكنت والله خليقا بالتجاوز عن سيئاته ولو لم يسرف في الإساءة إلى ماضي اللغة العربية في وقت يحرص فيه العرب على تفهيم أبنائهم أن أجدادهم كانوا من أصحاب المنازل الرفيعة في العلوم والآداب والفنون، وأنهم كانوا في ماضيهم من أقطاب الزمان. وكذلك وقعت الواقعة وكان ما عرفه القراء من تمزيق الأوهام التي اعتز بها ذلك الصديق، إن الفخر بغيض ممقوت وقد عابه علي الأصدقاء قبل الأعداء, ولكن ماذا أصنع وأنا أشهد آرائي تنتهب بلا تحرز ولا ترفق وبها يرد على خصومي حين يشتجر القتال. اهتم الأستاذ أحمد أمين بالنص على أن الشعر العربي كان في أغلب أحواله أدب معدة لا أدب روح وحجته في ذلك أن التكسب بالشعر كان عادة غالبة على أكثر الشعراء، وقد طنطن بهذه المسألة وأخذ يعيدها في كل مكان وهذا الكلام وارد في البدائع جـ1 ص 99. عاب أحمد أمين على العرب أن يلتزموا افتتاح القصائد بالتشبيب وأن يتصلوا بهذه العادة من جيل إلى جيل في حين أن الشاعر قد لا يكون مشبوب العاطفة في كل حين. هذا الكلام مسروق من مقال أرسلته من باريس سنة 1931. اهتم الأستاذ أحمد أمين بتوكيد القول بأن نزعة القرآن روحية لا حسية فنال بذلك ثناء الأستاذ محمود علي قراعة الذي عد كلامه من المبتكرات فهل يعلم أن هذا الكلام مسروق من قول صاحب "التصوف الإسلامي" جـ2 ص7. إن الفخر بغيض ممقوت وقد عابه علي الأصدقاء قبل الأعداء, ولكن ماذا

أصنع وأنا أشهد آرائي تنتهب بلا تحرز ولا ترفق وبها يرد على خصومي حين يشتجر القتال، وكأنها مما ابتكرت من أفكارهم الثواقب وألسنتهم النواطق. يقول أحمد أمين وطه حسين: إن الأدب يجب أن يرفع نفسية الأمة ويدلها على مواطن الضعف والقوة لتواجه الحياة عن هدى وبصيرة فهل أستطيع أن أقول أن هذه الآراء منهوبة من قول صاحب رسالة اللغة والدين والتقاليد ص46، 47. أما بعد فقد أنهيت القول من محاسبة الأستاذ أحمد أمين بعد أن أرقت جفونه خمسة أشهر كانت عنده كألف سنة مما تعدون. انتهيت من محاسبة أحمد أمين الباحث أما أحمد أمين الصديق فله في قلبي أكرم منزلة وأرفع مكان، ولن يراني إلى حيث يحب في حدود المنطق والعقل، فما أرضى له أن يكون من الساخرين بالأدب العربي وماضي الأمة العربية. وسأبدأه بالتحية حيث ثقفته فلا يروعني وجها أراه أهلا للكرامة والحب وسلام عليه من الصديق الذي لا يغدر ولا يخون. هجوم من عبد المتعال الصعيدي على زكي مبارك 1: إن الدكتور زكي مبارك يجب أن يكون آخر من يدافع عن الشعر الجاهلي فهو وأستاذه الدكتور طه حسين لا يؤمنان بصحة ذلك الأدب، فقد ألف الدكتور طه كتابه في الشعر الجاهلي وكان أكبر جناية على أدب الجاهلية. إذ أنكر فيه صحة هذا الأدب وقلد هذا الرأي أعداء الأدب العربي من المستشرقين. فلم يكن الدكتور زكي مبارك إلا أن احتفل بظهور ذلك الكتاب وعده فتحا جديدا في الأدب العربي "مقال جريدة البلاغ الأسبوعي 3 ديسمبر 1926" وقال عنه: إنه "آثار ما خمد من القرائح وأيقظ ما هجع من العقول". والفرق كبير بين رأي طه حسين في الأدب الجاهلي ورأيي ورأي أحمد أمين فيه فطه حسين يرمي إلى الهدم والطعن في ثقة السلف ونحن نرمي إلى

_ 1 الرسالة أول فبراير 1933.

الإصلاح ومن الغريب أن زكي مبارك يؤمن بالإصلاح ويدعو إليه في كتابه أحمد أمين النثر الفني ولكنه ينسى ذلك في حب التغلب على الأستاذ. عبد الوهاب عزام يناقش أحمد أمين1: بينا أنا في بغداد لقيني أحد الأدباء العراقيين يسألني: أقرأت مقال الأستاذ أحمد أمين عن الأدب الجاهلي. فقلت لا. فأنكر ما ضمن المقال من آراء وأخذ على الأستاذ الكاتب أنه ذهب هذا المذهب في بحثه, قلت: سأقرأه لأرى. جادلت الأستاذ منذ سنين على صفحات الرسالة في موضوع التجديد في الأدب وهو متصل بموضوع اليوم. كلاهما نتاج آراء اعتقدها الأستاذ في أدبنا القديم وأبادر إلى حمد أستاذنا في اجتهاده في تناول مسائل كثيرة من مسائلنا الأدبية والاجتماعية فما الأستاذ في هذا إلا مفكر مجتهد مخلص. له الحمد إن أصاب أو أخطأ. ثم قدم لبحثه بمقدمات أربع: 1- إن معيشة العرب في جاهليتهم وهي المعيشة التي يصورها الأدب الجاهلي لم تزل بظهور الإسلام ولم تنقطع بانقطاع الجاهلية الدينية بل هي مستمرة منذ العصر الذي نسميه الجاهلية إلى يومنا هذا. 2- هذه البداوة المتصلة بنا ليست سرًا ينبغي الابتعاد عنه ولا أمرًا يجوز جهله أو إغفاله فهي ممتزجة بتاريخنا، وهي طور من أطوار الجماعات الإنسانية أقرب إلى الفطرة وأحفظ للإنسان في كثير من أحوال جسمه ونفسه. 3- الأمة الغربية تشمل البادين والحاضرين. ولا تجعلها البداوة والحضارة واختلاف درجاتهما أمما مختلفة. 4- الأدب العربي هو أدب الأمة العربية كلها ينبغي أن يصور حياة هذه الأمة: حاضرتها وباديتها على اختلاف التصوير باختلاف البيئات والحالات.

_ 1 الرسالة 15 نوفمبر 1943.

5- إن اللغات على تطورها مع الأمة تحفظ في ألفاظها ومجازاتها وأمثالها كثيرا من تاريخ الأمة. وكما تتطور الأمة فتتقدم ولا يمنعها التقدم أن تحتفظ بما يربطها من سنن وعادات كذلك تتطور لغتها ولا يضيرها الاحتفاظ بكلمات وجمل وكنايات هي من تاريخها. آخذ على الأستاذ الغلو في الدعوى والإغراق في تصويرها. ومما يتصل بهذا الغلو أنه جعل رأي طائفة من الأدباء في عصر ما رأي أهل العصر كلهم وعمم الدعوة حيث يقتضي الدليل التخصيص. حينما تكلم عن الأدب العربي نظر إلى الشعر وحده وأغفل النثر. وعرض لرأي أحمد أمين الخاص بالتزام شعراء العربية في العصور الإسلامية طريقة الجاهليين في الأوزان والقوافي وبين أنهم اخترعوا نظاما للتقفية لم يؤثر عن الجاهلية واخترعوا أوزانا على قدر ما أحسوا من حاجة. ثم عرض لرأي أحمد أمين في التزام شعراء العربية موضوعات الشعر الجاهلي وخالفه, ودلل على أن الشعر العربي لم يحجم عن موضوع ما، وأدخل في أحوال المعيشة وحادثات الحياة من شعر أمم كثيرة. وعرض لرأي الأستاذ في الشعراء حيث قال: إنهم لم يمسوا عواطفهم وحالاتهم الاجتماعية وإن شعراء الأقطار العربية: العراق والشام ومصر والأندلس لم يعنوا بمناظر بلادهم الطبيعية وأحداثهم الاجتماعية. ويرى عزام أن الشعر العربي شارك بيان وجدان الإنسان وآلامه وآماله، وأن الشعر الذي يصف بيئة إقليم أو حادثة بعينها فهو كثير في دواوين شعراء العربية، وأن الشعراء العرب لم يقفوا في الشعر على موضوعات قليلة يقبلوا فيها الجاهليين. وذكر طرفا من تصوير شعراء مصر التي عاشوا فيها وبين أن شعراء العراق والشام صوروا بيئاتهم وأمعنوا في الصورة، وعرض زكي مبارك لنقد الدكتور عبد الوهاب عزام لأحمد أمين فقال: قال أحمد أمين: "إن علماء العرب رفعوا من فن كل شيء جاهلي وغلوا

في تقديره فالماء الحقير في مستنقع جاهلي خير من دجلة والفرات والنيل وكل أنهار الدنيا. والجاريتان اللتان غنتا للنعمان كان صوتهما وغناؤهما خيرا من كل صوت، وكل غناء، ودوسر كتيبة النعمان بن المنذر أقوى جيش عرفه التاريخ، وأيام العرب في الجاهلية ووقائعه الحربية لا يعادلها أي يوم من أيام المسلمين وجبلا علي خير جبال الدنيا, وحاتم الطائي لا يساوي كرمه كرم, حتى الرزائل لا يصح أن يساوى برزائلهم رذيلة, فليس أبخل من مادر ولا أشأم من البسوس ولا أشرف من شظاط". "قال الدكتور عزام في نقد هذا الكلام الأجوف؛ قال: إنه يقوم على أساس المبالغة والإغراق. وهناك كلمة طواها الدكتور عزام وهي كلمة "الافتراء" فقد افترى أحمد أمين على علماء العرب حين زعم أنهم لا يرون أن أي يوم من أيام المسلمين يعادل أي يوم من أيام الجاهلية ونحن نتحداه أن يثبت أنه رأى شواهد هذا الرأي في أي مكان من كتب الأدب والتاريخ نتحداه، فينطق إن كان على يقين" ... ما رأيك إذا صارحتك بأن كلامك هذا هو الحجة عليك. ألم تقل: إن العرب لم يحسوا الطبيعة في بلادهم. موقف أحمد أمين: أردت أن يتحرر الأدب من قيوده التي تنقله وأن يكون الحكم في أدبنا أذواقنا لا أذواق غيرنا وأدبنا معتمدا على شيئين. خير ما في الماضي مما يتناسب وحاضرنا ويبعث على تحقيق أملنا في مستقبلنا ودراسة حاضرنا واستقامة أدبنا. لا أن نعيش في أدبنا على الماضي وحده. ولا يتم شيء بعد ذلك إذا نظرنا إلى الخلف فقط وإلى الخلف دائما. ولا يكون شيء من ذلك إلا إذا كسرنا عمود الشعر الذي وضعه الأدب الجاهلي، إنما يكون ذلك يوم نزن الأدب العربي ككل أدب بموازينه الصحيحة من غير عصبية ونصرح بالنقص من غير خجل, ونبني الجديد في غير هوادة ونكسر القديم في غير رفق.

الفصل الثالث: مذهبان في الأدب

الفصل الثالث: مذهبان في الأدب: ترجع المعركة بين الرافعي والعقاد إلى أيام الكتابة في مجلة "البيان" 1911، 1912, ثم امتدت خلال حياة الرافعي حتى توفي 1937 على النحو الذي تكشف عنه وقائع المعارك كما أوردناها، ثم بدأت المعركة بين أنصار الرافعي وأنصار العقاد بعد وفاته، اشترك فيها من جانب الرافعي الأساتذة: سعيد العريان ومحمود شاكر, ومن جانب العقاد: سيد قطب, وحسم المعركة الأستاذ الغمراوي. معركة بين أنصار الرافعي وأنصار العقاد: واستمرت المعركة ثمانية شهور من "25 أبريل إلى 14 نوفمبر 1928". وقد صور سعيد العريان موقف الرافعي من الحياة الفكرية في عصره فقال: "إنه هو الذي ألب على نفسه هذه العداوات حيا وميتا". "لقد كان ناقدًا عنيفًا حديد اللسان لا يعرف المداراة ولا يصطنع الأدب في نضال خصومه، وكان فيه غيرة واعتداد بالنفس، وكان فيه حرص على اللغة من جهة الحرص على الدين؛ إذ لا يزال منها شيء قائم كالإحساس. والبناء لا منفعة بقيامهما إنها منفعتهما معا وكان يؤمن بأنك لن تجد ذا خلة خبيثة لهذا الدين إلا وجدت لها مثلها في اللغة1".

_ 1 الرسالة أبريل 1938.

ولقد جرد أنصار العقاد "الرافعي" من النفس والإنسانية والعقيدة الأدبية وقال محمد أحمد الغمراوي: "لو غير صاحب تلك المقالات خطر له في الرافعي مثل هذا الرأي المسرف من أنه ليس للرافعي إنسانية ولا طبع ولا نفس ولا ذوق ولا ذهن ولا حياة إلى آخر ما شاءت له بغضاؤه أن ينفي عن الرافعي، لو غيره خطر له هذا في الرافعي لوقف من هذا الخاطر موقف المتهم على أقل تقدير، إذ غير معقول أن يبلغ الرافعي رحمه الله ما بلغ من حسن السمعة وبعد الصيت في عالم الأدب العربي ثم لا يكون له من كل تلك الصفات حظ يفسر ما نال من صيت حسن وتقدير كبير", وهذه هي فصول المعركة: بين الرافعي والعقاد: 1- سيد قطب: قرأت كل ما كتبه الأستاذ سعيد العريان عن مصطفى الرافعي، قرأته تحت تأثير عامل نفسي خاص، ذلك أنه كان لي رأي في المرحوم صادق الرافعي، لعل فيه شيئا من القسوة، ولما كنت على ثقة أن هذا الرأي لم يتدخل في تكوينه عندي أي عامل خارجي وإنما كان نتيجة لعدم التجاوب بين آثاره الأدبية وبيني، فقد كنت في حاجة لأن أسمع من أصدقاء الرافعي ما عساه يخفف شدة هذا الحكم، ويكشف لي عن بعض حياة الرجل الذي اشتركت في تكوين أدبه, فلعل فيها تفسيرًا وتبريرًا لما كنت أراه فيه مما يستدعي قسوة الحكم وشدة النفور. والقصة بين الرافعي وبين أنني قرأت له أول ما قرأت كتابه: "حديث القمر" فأحسست بالبغضاء له، أجل بالبغضاء, فهي أصدق كلمة تعبر عن ذلك الإحساس الذي خالجني إذ ذاك، ولم تكن ثارت بين العقاد وبيني إذ ذاك خصومة, ولم أكن سمعت شيئا عنه من العقاد أو سواه, مما قد يكون

سببا في هذه البغضاء. ولو خالجني هذا الشعور بعد خصومته للعقاد لوجدت بعض التفسير، فأنا لا أنكر أنني شديد الغيرة على هذا الرجل. شديد التعصب له, وذلك ينتجه فهم صحيح لأدبه واقتناع عميق بفطرته، لا يؤثر فيه أن تجف العلاقات الشخصية بيني وبينه في بعض الأحيان, ولقد كنت أكره نفسي بعد ذلك على مطالعة الرافعي فتزداد كراهية لهذا اللون من الأدب، دون أن أجد التعليل، ذلك أنني كنت إلى هذا الوقت أديبا يتذوق فحسب، لا ناقدًا يستطيع التعليل ويصبر على التحليل, والرجل قد مات فما تحسن القسوة عليه, ولكن لا يصح أن يكون الموت معطلا للنقد, ولهذا سأتحدث عنه كما لو كان حيا؛ لأن الذي يعنيني هو إنتاجه الأدبي. كنت أشك في "إنسانية هذا الرجل، قبل أن أشك في قيمة أدبه، وكنت أزعم لبعض إخواني أنه خواء من "النفس" وأن ذلك سبب كراهيتي له، ولو أني لم أره مرة واحدة ولم أجلس إليه. ولذلك كان همي أن أبحث فيما كتب الأستاذ العريان عن حياته لا عن أدبه, وكان يهمني أن أعثر في ثنايا هذه الحياة على نفس وعلى إنسانية. ولهذا اعتبطت، إن لم أقل دهشت، حينما رأيت الأستاذ سعيدا يذكر للرافعي "حبا" وحدثنا عن مظاهر هذا الحب وخطواته, ذلك أن خيالي المنبعث من قراءتي للرافعي لم يكن يطوع لي أن ألمح إمكان وجود هذه العاطفة في حياته؛ فالحب يتطلب قلبا، وكنت أزعم أن ليس للرجل قلب والحب يقتضي إنسانية وكنت أفتقدها فيه. ولقد ظللت هكذا حتى استطعت أن أكون ناقدا، لا يكتفي بالتذوق والاستحسان أو الاستهجان ولكن يعلل ما يحس ويحلله فماذا كانت النتيجة؟ لقد عدلت حكمي قليلا, وخفت حدته، ولم أعد أستشعر البغض والكراهية للرجل وأدبه. ولكن بقي الأساس سليما.

كنت أنكر عليه الإنسانية فأصبحت أنكر عليه الطبع, وكنت لا أجد عنده "الأدب الفني" فأصبحت لا أجد عنده "الأدب النفسي" الرافعي أديب معجب، في أدبه طلاوة وقوة، ولكنه بعد أدب الذهن لا أدب الطبع فيه اللمحات الذهنية الخاطفة، واللفتات العقلية القوية التي تلوح للكثيرين أدبا مغريا عميقا لذيذا، ولكن الذي ينقصها أنه ليس وراءها ذخيرة نفسية ولا طبيعية حية. لم تكن تعني الرجل في أدبه الحقيقة الأزلية البسيطة بقدر ما يعنيه أن يصور الحقيقة الوقتية محكمة النسج رائعة المظهر، تشبع الذهن ويستطيبها ولكنها لا تلمس القلب أو يستسيغها. وكثيرا ما يختلط أدب الذهن وأدب الطبع إذا كان مع ذكاء وقوة وما من شك أن الرافعي كان ذكيا قوي الذهن ولكنه كان مغلفا من ناحية الطبع والأريحية. وبعد فما كان يمكن أن يتفق العقاد والرافعي في شيء فلكل منهما نهج لا يلتقي مع الآخر في شيء. العقاد أديب الطبع القوي والفطرة السليمة والرافعي أديب الذهن الوضاء والذكاء اللماع. والعقاد متفتح النفس ريان القلب والرافعي مغلق من هذه الناحية متفتح العقل وحده للفتات والومضات. والطاقة العامة لكل منهما في ناحيته متفاوتة بعد ذلك؛ فطاقة العقاد النفسية أقوى من طاقة الرافعي الذهنية وعالم العقاد والحياة في نظره أشمل وأرحب بكثير من العالم الذي يعيش فيه الرافعي ويبصر الدنيا على ضوئه. وفيما كتبه الأستاذ سعيد عن العقاد كثير من الجهل بطبيعة العقاد ودوافعه في الحياة وعوامل الكتابة في نفسه والأستاذ معذور في هذا لأنه لم يختلط بالعقاد أولا. ولأن نفسه لم تتفتح لأدب العقاد فتفهمه ثانيا. ولقد كان يعيش

في بيئة الرافعي وجوه ويلوح لي من كتابته أن ذلك يلائم جوه الخاص ويناسب بيئته الروحية. وأول ما يخطئ في اعتقاده أن طعن العقاد على الرافعي من ناحيته الوطنية في رده على نقد وحي الأربعين كان حيلة أملتها البراعة السياسية فإذا اتهم العقاد الرافعي بأن نقده لوحي الأربعين منشؤه ضغينة شخصية وإيحاء سياسي كما فعل فإنما هو معتقد هذا في صميم نفسه وما يعنيه ما ينال الرافعي من الناحية السياسية قدر ما يعنيه كشفه من الناحية النفسية. كتب الرافعي عن وحي الأربعين كلاما يعترف الأستاذ ببواعثه الأصلية والعقاد يعرف هذا ويعتقد في صفات الرجل النفسية وفي نصيبه من الطبع السليم والفهم المتفتح أشد مما أعتقد أنا ودواعيه لذلك الاعتقاد كثيرة ومفهومة. فإذا كتب يصور الرافعي كما هو في خيال العقاد وكما هو في الحقيقة فليس الذنب ذنب العقاد في قسوته فإنما هو يصور حقيقة أو على الأقل ما يعتقده أنه حقيقة. "رأيه في لقب أمير الشعراء": رأيي أن هذا اللقب غير لائق بالعقاد لأن المسافة بينه وبين شعراء العربية في هذا العصر أوسع من المسافة بين السوقة والأمراء، قد يكون هناك من يتقاربون مع العقاد. ولكن ليس هناك شعراء في لغة العرب يتقاربون مع العقاد، الفرق هائل جدا وأكبر مما يتصوره الأكثرون بين طاقة هذا الشعر والطاقات الأخرى. 2- محمود محمد شاكر: يعلم الأستاذ قطب أني إذا أحببت لا أغلو, ولا أتجاوز حد الحب الذي يصل القلب بالقلب فهذا أخلق الحب أن يخلو من سوء العصبية وفساد الهوى،

فلا يجدني أرفع الرافعي عن الخطأ، ولا أجله عن الضعف ولا أنزهه عما هو من عمل كل إنسان حي ناطق يأمل ويشتهي. ولقد عرفنا الرافعي زمنا -طال أو قصر- فأحببناه ومنحناه من أنفسنا ومنحنا من ذات نفسه, ورضيناه أبا وأخا وصديقا وأستاذًا ومؤدبا فلم نجد إلا حسن الظن به في كل أبوته وإخائه وصداقته وأستاذيته, ولقد مات الرافعي الكاتب الأديب وهو على عهدنا به إنسانا نحبه ولا ننزهه, ثم جاء الأستاذ سيد قطب بحسن أدبه يقول في الرجل غير ما عهدناه، يؤول كلامه ويأخذ منه ويدع ويتفلسف ويحلل ويزعم القدرة على التولج في طويات القلوب وغيب النفوس فيكشف أسرارها ويميل اللثام عما استودعت من خبيئاتها, ثم هو في ذلك لا يتورع ولا يحتاط, ولا يرعى زمام الموت ولا يوجب حق الحي. هذا الذي ترك الدنيا بالأمس وحيدًا, وخلف من ورائه صغارًا وكبارًا من أبنائه وحفدته وأصحابه واللائذين به, ثم يراهم والدمع يأخذهم بين الذكرى المؤلمة والألم البالغ، ولو فعل لعرف كيف أخطأ ومن أين أساء ولوجده لزاما عليه أن يقدر عاطفة الحي إن لم يعظم حرمة الموت. جعل1 الأستاذ يستثير دفائن الإحن والأحقاد التي كانت بين الرافعي والعقاد ليتخذ منها دليله الذي يفزع إليه في أحكامه على الرافعي, لا بل على قلب الرافعي ونفسه وإيمانه بعمله وعقيدته فيه, ثم لم يرض بذلك حتى نفح منها من روح الحياة ما جعلها مما يكتب الأطياء عن الأطياء للإيلام والإثارة لا للجرح والتعديل والنقد. وكأن الفتوة عادت جذعة بين الرافعي نفسه وبين العقاد وإلا فما الذي رمى في صدر الأستاذ بهذه الغضبة الجائحة من أجل العقاد!

_ 1 الرسالة 9 مايو 1938.

حقيقة لا بد من تقريرها عن الرافعي والعقاد: ذلك أن الرافعي رحمه الله لو كان يرى العقاد ليس بشيء البتة وأن أدبه كله ساقط ذاهب السقوط, وأن مما كان يكتب ليغيظ به العقاد من جراء العداوة التي ضربت بينهما لما حمل الرافعي عناء الكتابة في نقد العقاد وتزييف أدبه وإبطال أصل الشعر في شعره. ولو كان العقاد يرى في الرافعي بعض رأيه الذي كتب لما تكلف الرد على الرافعي ولا التعرض له. فالرافعي والعاقد أديبان قد أحكما أصول صناعتهما كل في ناحيته وغرضه وافينا الليالي والأيام والسنين في ممارسة ما هو فيه وإليه, وكلاهما يعلم عن عمل صاحبه مثل ما يعلم عنه ولا يظن بأحدهما أنه يجهل قيمة الآخر. فلما كانت العداوة بأسبابها بينهما بدأت قوة تعارض قوة ورأي يصارع رأيا وكان في كليهما طبيعة من العنف والمرام والحدة، ولمع العقاد بإرسال العبارة حين يغضب على هينها صريحة لا صنعة فيها, وأغرى الرافعي بالسخرية والمبالغة في تصوير ما نصب لسخره وتهكمه على طريقة من الفن، فمن ثم ظهرت العداوة بينهما في النقد وفي أذيالها أذى كثير وغباره ملأه القواذع والقوارض من اللفظ. وعلى جنباته صور ينشئها أحدهما لصاحبه للكيد والغيظ والحفيظة ولا يرد بها إلا ذلك. وخليق بنا وبآدابنا أن نطوي الآن سيئة رجلين قد تفارط أحدهما في غيب الله وبقي الآخر. الكلمة الأولى أنها تدور رحاها عن نفي الإنسانية عن ذلك الإنسان رحمة الله عليه وخلوه من النفس, وفقدانه الطبع, وفقره إلى الأدب النفسي وما إلى ذلك من لفظ ضل عنه معناه وتهافت عليه حده.

وإن كان -رحمة الله عليه- ذكيا قوي الذهن، ولكنه كان مغلقا من نتحية الطبع والأريحية، وأن أدبه كان أدب الذهن لا أدب الطبع فيه اللمحات الذهنية الخاطفة واللقطات العقلية القوية, ولكن الذي ينقصها أنه ليس وراءها ذخيرة نفسية ولا طبيعية حية. في القبول والإنكار, ولكني نقدت ما فيها من نقص الحيوية واستغلاق الطبع وأتيت على هذا بالأمثلة التي تثبت موت هذه الطريقة وعجزها عن مسايرة الحياة وهذا هو مناط الحكم. أما قول أحدهم بأني رفعت صاحبي ولم يقل هو في صاحبه بعض ما قلت فلكأننا في معرض مفاخرة على طريقة القدماء لا يهم فيها الواقع والصدق وإنما يهم الفخر والنخع. 5- علي الطنطاوي 1: إنما المناظر والناقد من أتقن وسائل النقد واستكمل أدواته. وسبيل الأستاذ قطب إذا أراد نقد الرافعي رضي الله عنه أن يدرس كتبه كلها ويحكم عليه حكما عاما ويبحث في أسلوبه وفي ألوان أدبه ويشرح مزاياه وعيوبه لا أن يأخذ كلمة من هنا وبيتا من هنا. لقد تعلمت وعلمت تلاميذي أن النقد يستند إلى دعامتين: دعامة في اللغة وعلومها يعرف بها خطأ الكلام من صوابه، ودعامة من الذوق يعرف بها جماله من قبحه. أي أن النقد علم حين يدور على الخطأ والصواب وفن حين يبحث في الجمال. أما فن النقد فلا يمكن الجدال فيه لأن أداته الذوق، والذوق شيء شخصي ومداره على الجمال، والجمال لا ينبع من قاعدة ولا يعرف له مقياس.

_ 1 الرسالة 13 يونيه 1938.

6- إسماعيل مظهر: تاريخ1 الصراع الأدبي في مصر وتاريخ الصراع السياسي يتلخصان في معارك تقوم بين أشخاص، ولقد أدركت هذه الظاهرة النقد أيضا؛ فتاريخ النقد في مصر عبارة عن موازنة بين كاتبين أو شاعرين يحاول الناقد أن يعلي أحدهما على الآخر. أما مذاهب الأدب ومذاهب النقد فهذه لا قيمة لها في نظر الأديب, ولا في تقدير الناقد. أفهم أن يقوم الصراع الأدبي بين مذهبين يمثلهما كتاب أو شعراء يعتنقون في الأدب مذهبا محدود المرامي بين الغايات, وأفهم أن يقوم النقد على فكرة منطقية يقتنع الناقد بصلاحيتها وحقها في البقاء فيمضي في نقد الكاتب أو الشاعر انتصارا لتلك الفكرة, وأفهم فوق هذا كله أن يقتتل كاتبان ولكن انتصار المذهبين يعتنق كل كاتب مذهبا منهما والغلبة للأصلح بين المذهبين. وما أبرئ نفسي فإن عدم قدرتي على فهم هذه الأشياء قوة لم أشهدها في نفسي إلا منذ عهد قريب، وما بعثها إلا ذلك الصراع الذي قام على صفحات الرسالة بين أنصار صديقي الأستاذ العقاد وصديقي المرحوم الأستاذ الرافعي, صديقان مات أحدهما وأدعو الله أن يمد في عمر الآخر. سكت أحدهما وطواه الزمن, وصمت الآخر على ما كان بينه وبين الأديب الراحل تجلة للموت ودفعا لحزازات ما أجدر الموت أن يكون ماحيا لآثارها وذكرياتها. صمت صاحب الحق وتكلم غيره احتسابا, وحاشايا أن أقول هنا: لوجه الله؛ لأن الله لا يأمر أن تنبش الحزازات وتحتفر الضغائن.

_ 1 الرسالة 13 يونيه 1938.

7- سيد قطب "رد على إسماعيل مظهر": إن الذي لا يفهم ولا يستطيع أن يفهمه يوما من الأيام أن يكون رجل كالأستاذ إسماعيل مظهر أو أقل منه درجات، يقرأ ما كتبناه ثم لا يتبين منه أننا ننقد مذهبا معينا في الأدب ونعتنق مذهبا بينا منه كذلك وأن الكاتب الذي ننتصر له يمثل مذهب بيننا يدعو إليه منذ خمس وعشرين سنة وما يزال يشرحه ويقرره ويعود إليه في نثره وشعره وأنا من أخلص تلاميذ مدرسة هذا الكاتب لطريقته وأشد الناس فهما لها واقتناعا بها ونسجا على منوالها. ويتحدث الأستاذ عن الشذوذ ونصرة كاتب على كاتب فإن شاء أن يعرف الشذوذ حقا فنحن محدثوه عنه. إنه يا سيدي في تقديم هذه السوأة الأدبية الخلقية الإنسانية المسماة "على السفود" في تقديمها ذاته. وفي طريقة تقديمها, وفي نشرها، دون تأذ ولا تألم. ولا خشية على آداب الحديث في الأمة ولا آداب الطريق, ودعك من آداب النقد ودون رحمة بأسماع الناس وأبصارهم وآنافهم. وإذا شاء الأستاذ أن يعرف نوع هذا الشذوذ فليعلم أن هذه "السوأة" التي كشف عنها من قدمتها للناس لم يستطع أشد تلاميذ الرافعي إخلاصا أن يبلعها. ولقد حاول أن ينحيها في خفة عن أعين النظارة وهو يزن حسنات الرافعي, ويدغم وزن سيئاته، حتى لا تهبط هذه السوأة بالكفة إلى الحضيض لو هي لامست الميزان. قال الأستاذ سعيد العريان إنه قرأ "على السفود" فعابه على الرافعي وأنزله

غير ما كان ينزله من نفسه وإذا قال الأستاذ سعيد مثل وهو يدغم الكلام ويدحرجه ليبعد بهذه السوأة عن الأنظار فالذين لم يصابوا بداء العدالة التاريخية يستطيعون أن يعرفوا مقدار شنعها. ولولا أنني أكرم أسماع القراء وآدابهم وإنسانيتهم من التدهور أو التأذي والتأنف لنقف لهم شيئا من "على السفود" الذي لا يعتبر تقديمه ونشره شذوذا ولا مناصرة لأديب على أديب، وإنما يعتبر نصرة لمذهب بين على مذهب بين في الآداب والآراء. 8- إسماعيل مظهر: إن1 انفعال سيد قطب فيما كتب لم يكن ليعجل لعقله محلا من الأثر في صوغ المعاني التي أرادها فأخذ يرمي الجمل والكلم ذات اليمين وذات الشمال شأن الثائر؛ لا شأن الناقد ثم خانته ثورته وخذله انفعاله فاستيقظ عقله الباطن استيقاظة الحقيقة فرجع إلى قوله "أنا" كأنما طبيعته لم تقو على احتمال تلك الثورة ولم تستطع مقاومة ذلك الانفعال فتبدت في ثوب ذي ألوان. إذن2 فالأديب سيد قطب أشد الناس فهما لأدب الأستاذ العقاد وليس ذلك فقط فهو أيضا أشد الناس اقتناعا بطريقته، وليس هذا ولا ذاك فقط بل هو فوق هذا وفوق ذاك أقدر الناس على النسج على منوال الأستاذ العقاد وأن يكون الأديب سيد قطب أديب طبعة ثانية فهو باعترافه أديب غير أنه عبارة عن نسخة من أديب آخر، أديب شخصيته صورة من شخصية أديب آخر,

_ 1 الرسالة 27 يونيه 1938. 2 الرسالة نفس العدد.

وأدبه لوحة من أدب شخص آخر، أديب أسلوبه كالطبعة التي يتركها في الرمل قدم أديب آخر. أديب نفسيته وطبعه وذاتيته كالصورة الموهومة التي تلتقطها الصورة الضوئية وتطبعها على الورق المعروف، ولكنها صورة وهمية. هذه الصورة الوهمية قد أفرغ عليها صفات وحلاها بفضائل، لا أنكر أنه نسبها إلى العقاد لتكون نسبتها إليه منصرفة بالتبعية إلى الطبيعة الثانية من الأستاذ العقاد وتلك الطبعة هي الأديب سيد قطب. 9- سيد قطب: "عرض1 بعض جمل من كتاب على السفود ورد عليها فيما يتعلق بحديث العقاد عن رأي شو بنهور في الجمال". قال في مقدمتها: "سيعرف الناس كيف يكون الإنسان سيئ الفهم -يقصد الرافعي- قاصر الاطلاع، ثم يناقش العلماء النيري البصيرة المطلعين -يقصد العقاد- ولا يكلف نفسه الاطلاع على أصل المسائل التي يناقش فيها, ويجد من الجرأة في نفسه أن يقول لم يطلع على هذا الموضوع ولكنه يجزم بأنه كيت وكيت أما الذي اطلع فهو جاهل. "ثم ينقل كلام الرافعي في العقاد"2. "على مثل تلك الطريقة من الغباوة سوء الفهم وقبح الاجتراء والغرور والحماقة، نجد كل ما يولده العقاد أو أكثره ثم يزين له لؤم نفسه وعمى بصيرته أنه هو وحده الذي يهدي إلى سرائر الأشياء ويلهم حقائق المعاني.

_ 1 الرسالة 27 يونيه 1938. 2 الرسالة 27 يونيه 1938.

ثم يقول قطب: "ولولا أننا نسمو بآدابنا وآداب المجتمع لرددنا هذه الكلمات إلى من يستحقها بعد هذا البيان من الرجلين. رأي سعيد العريان في كتاب "على السفود": "الحق الذي أعتقده أن هذا الكتاب -على ما فيه- نموذجا في النقد يدل على نفاذ الفكر ودقة النظر وسعة الإحاطة وقوة البصر بالعربية وأساليبها. ولكن فيه مع ذلك شيئا خلقيا بأن يطمس كل ما فيه من معالم الجمال فلا يبدو منه إلا أذم الصور وأقبح الألوان. بما فيه من هجر القول ومر الهجاء. وإننا لنريد للناقدين في العربية أن يكونوا أصح أدبا وأعف لسانا من ذاك وإنها لخسارة أن ترى التمثال الفني البديع مغمورا في الوحل فلا تصل إليه إلا أن تخوض له الحمأة المنتنة وإنها الخسارة على العربية أن ترى هذا الفن البديع في النقد يكتنفه هذا الكلام النازل من هجر القول ومر الهجاء. "الرسالة 27 يونيه 1938". 10- علي الطنطاوي: ما هكذا1 يكون النقد ولا هكذا تكون المناقشة. إني سقت رأيا إن كان خطأ عدت إلى الصواب الذي تكشفه لي فيه، وإن كان صوابا وجب أن تعود أنت إليه فتبين خطأه من صوابه. وعد عن هذا الأسلوب, أسلوب التعريض والسخرية، واعلم أني إن

_ 1 الرسالة 27 يونيه 1938.

حططت عليك ساخرا ومعرضا لم أدعك حتى تلتصق بالأرض, وأنا من أقدر الناس على ذلك, ولكن ذلك شيء يأباه الخلق الكريم وتأباه الرسالة. ولقد كانت لي في هذا الميدان جولات، صرعت فيها كثيرًا من الكتاب المدعين المستكبرين, ثم أقلعت عنها واستغفرت الله. قال لصاحب الرسالة: لماذا تنشر الرسالة هذه المقالات للأستاذ قطب؟ الحقيقة والحقيقة لا ظل لها في هذه المقالات. أم من أجل الأستاذ العقاد؟ وفيها من الإيذاء للعقاد مثل ما فيها من المس بالرافعي أم بغضا بالرافعي وصاحب الرسالة صديقه الحميم, وهو شريكه في التلبس بجريمة البلاغة والحرص على البيان المشرق الذي يسوء هؤلاء المجددين, أم لماذا؟ إننا لم نفد من هذه المقالات إلا فائدة واحدة، هي أننا عرفنا أن الجديد إن كان كما يصوره سيد قطب فهو أهون شيء وأبعد عن الحق، وأنا راضون لقديمنا مطمئون إلى "رجعيتنا". "كلمة الرسالة": وقالت الرسالة: إن من مبادئها أن تكون صورة صادقة لأدب العصر فلا تسجل مذهبا دون مذهب ولا تتوخى أسلوبا دون أسلوب. ومعارك النقد ظاهرة مألوفة عفت الرسالة عنها حينا ثم رأت أن تسجل هذه المعركة؛ لأن أدب الرافعي وأدب العقاد يمثلان وجهتي الثقافة في أقطار العروبة ومن حسن القول أن يتكلم الناظر في الأدب بلسان الأدب وأن يعتقد أن أدب الرجل شيء آخر غير شخصه فلا ينبغي أن يدخل الناقد في حسابه الحياة والموت، ولا الصداقة والعداوة.

11- سعيد العريان 1: لقد كانت بين الرافعي والعقاد عداوة وشحناء سارت مسير المثل بين أدباء الجيل فهل كان من الحتم تبعًا لذلك أن يكون سعيد العريان وسيد قطب عدوين؛ لأن أولهما يؤرخ للرافعي والثاني يجري في غبار العقاد. ولكن سيد قطب يرشح ليكون في غد شيئا له في الأدب خطر ومقدار. وما يرى نفسه بالغا هذه المنزلة إلا أن يجري على نهج صاحبه ويتأثر بخطاه. فكان أول سعيه إلى غايته أن احتقب كنانته وخرج إلى الطريق يرمي الناس باليمين والشمال, لا يعنيه أن يصيب ولا من يصيب, ولو كان أحرص الناس عليه وأرأفهم به. لقد ظل المرحوم الرافعي دائبا على تجديد الآداب العربية سبعة وثلاثين سنة, يتردد اسمه في المحافل والنوادي ومجامع الأدب فليس بين قراء العربية أحد لا يعرفه. وسيد قطب واحد من قرائها الأخصائيين في اللغة كما قد يعرف القراء, ولكنه مع ذلك لم يشرع قلمه ليجرد الرافعي من النفس ومن الإنسانية ومن العقيدة وليزيف أدبه ويكشف عيبه إلى حين غيبه التراب وآن أوان ذكراه. هذه هي عربيتنا نحن أنصار المذهب القديم فبأي عربية فهمها الناقد المجدد الأخصائي في اللغة وفي أساليب البيان. 12- سيد قطب "الرد على إسماعيل مظهر": أنت يا سيدي2 لم تفهم الكلام ومن هنا كان تفسيرك للجملة التي أقول

_ 1 رسالة 4 يوليه 1938.

فيها: "وإننا من أخلص تلاميذ مدرسة هذا الكاتب لطريقته, وأكثر الناس فهما لها واقتناعا بها ونسجا على منوالها". ففهمتَ منها أن الذي يقول ذلك يكون "طبعة ثانية" للعقاد وهنا كلام نقوله للناس وكلام نقوله لك: إن الإخلاص لطريقة في الأدب والاقتناع بمذهب خاص والنسج على منوال مدرسة معينة لا يعني تقليد شخص معين، فقد ينشأ إمام وينشئ له مدرسة ويكون لهذه المدرسة تلاميذ، ثم يكون لكل تلميذ من هؤلاء طابعه الشخصي ومميزاته الذاتية. ولا سيما إذا كانت هذه المدرسة هي مدرسة العقاد التي تقوم على أساسها الدعوة إلى أدب "الشخصية" وتنكر التقليد وتشتط في إنكاره. أما كلمتنا لك فنحن نسلم أننا "طبعة ثانية" من العقاد فماذا تكون أنت؟ إننا نقول لك: كن أنت -إن استطعت- طبعة ثانية من العقاد أو أي فنان سواء, أو كن على حد تعبيرك المؤدب الطبعة التي تتركها في الرمل قدم العقاد تكن خيرًا مما أنت الآن عشرات المرات. إنك تحقد على العقاد حقدًا دفينا لا سبب له إذ ليس بينكما منافسة، لا منافسة على أدب ولا موهبة فنية, وإنك لهذا ترحب بشتائم الرافعي له وتطبعها وتروج لها وتسميها علوا عن الشخصيات. 13- محمد أحمد الغمراوي: مسألة1 القديم والجديد عمرها لا يزيد على ثلاثين عاما أثارها من الناس

_ 1 الرسالة يوليه 1938.

نفر تثقفوا ثقافة غربية من غير أن يكون لأحدهم من الثقافة الإسلامية نصيب مذكور, والغرب والشرق على طرفي نقيض, لا يلتقيان, كما يقول ريارد كيلنج إن كان من الممكن أن يلتقيا في العلم الذي هو معجزة الغرب والذي هو جزء من الإسلام الذي يدين به الشرق. لكن الذين أثاروا مسألة القديم والجديد لم يكونوا يعرفون. ولعل أنصارهم لا يزالون يجهلون أن العلم الذي يظهر به الغرب هو في الإسلام جزء من الدين، وأن المدنية الغربية ليس فيها ما يستحق أن يطلب ويؤخذ إلا ذلك العلم الطبيعي الذي اهتدى إليه الغرب بالعقل والتجربة والذي يمثل فطرة الله التي فطر عليها الأشياء. أما فطرة الله التي فطر الناس عليها فتلك يمثلها الإسلام عن يقين. فكأن الغرب والشرق قد اقتسما علم الفطرة؛ علمها الغرب في الماديات بالعلم والتجربة, وعلمها الشرق في الروحانيات والاجتماعيات بالدين والوحي فكان الشرق مخطئا حين لا يأخذ بعلم الغرب وكان الغرب ضالا حين يخالف الإسلام. علم الغرب الطبيعي ودين الشرق الإسلامي, هذا هو سبيل التمدن الصحيح لمن يريد أن يكون مجددا مصلحا؛ يجدد للشرق شبابه ومجده من غير أن يعرضه لشر ما يهدد الغرب من أخطار. لكن دعاة التجديد الذين جاءا بعدهما "بعد جمال الدين ومحمد عبده" ولم يكن لهما مثل علمهما ضلوا سبيل الدعوة. وصدقوا الغرب في ظنه الذي ظن بالإسلام من أنه كان سبب تأخر الشرق. ولما لم يطيقوا أن يهاجموا الإسلام مواجهة فيدعو الناس صراحة إلى نبذه, إلى مهاجمته مداورة بدعوة الناس إلى قبول كل ما عليه الغرب إن كانوا يريدون أن يكون لهم ما للغربيين من قوة وحياة. وزعموا للناس أن المدنية الغربية كل لا يتجزأ فإما أن تؤخذ

كلها أو تترك كلها، إما أن تؤخذ باجتماعياتها وأدبياتها وعلمياتها، وأما ألا يؤخذ فيها شيء. ونجحت حركة اللالتفاف التي قام بها دعاة الغرب ضد سلطان الإسلام في نفوس من أصغى إليهم من الناس، حين ألجئوهم إلى أن أصابتهم فتنة ذلك التجديد كمن أحاط به العدو لا بد له من الموت أو التسليم. ومن هنا كان ما أصاب أولئك المجددون من نجاح, وما يهدد الإسلام في بلاده وفي نفوس أهله من خطر، ومن هنا أيضا هب لدرء هذا الخطر فريق من المجاهدين المحتسبين الذين آتاهم الله فقها في الدين وقوة في الجنان وبسطة في البيان وفي طليعة هؤلاء كان الرافعي رحمة الله عليه. فالمسألة بين القديم والجديد كما يسمونها ليست مسألة اختيار بين أدب وأدب وطريقة وطريقة ولكنها في صميمها مسألة اختيار بين دين ودين. فالذين يسمون أنفسهم أنصار التجديد يؤمنون بالغرب كله، ويريدون أن يحملوا الناس على دينهم هذا. وكل خلاف بين أنصار القديم وأنصار الجديد منشؤه هذا ومرده إلى هذا. هؤلاء مثلا، يريدون متابعة الغرب في السفور والاختلاط، وأولئك يرون السفور والاختلاط مفسدة ثم أنصار الجديد يضيقون ذرعا بالقيود الأخلاقية التي قيد الدين بها الناس فيما يعملون ويقولون, يريدون أن يتحللوا منها فيزعموا للناس أن هذه الأخلاق وقيودها إن هي إلا عرف وتقاليد، وإن التقيد بالعرف والتقاليد في الفن والأدب يعوق الفن ويحول دون ترقي الأدب فيجب إذن إطلاق الفن وتحرير الأدب من تلك القيود ومن هنا نشأ خلاف

آخر بين الفريقين, نقل العراك بينهما من ميدان الاجتماع إلى ميدان الأدب فأنصار الجديد يدعون إلى الفن العادي والأدب المكشوف ويدعون للفن والأدب حرية في القول والعقل. واتسع الخلاف وتشعب بين الفريقين بمضي أنصار الدين الجديد في توهية السد الإسلامي الذي يجدونه قائما في وجوههم أينما يلتفتوا فيزعمون للناس من طرف خفي أن القرآن من صنع عبقري لا من صنع الله، وأنه آية فنية، لكن آية فنية إنسانية لا معجزة إلهية. وإذن فينبغي أن يخضع له كل عمل إنساني من النقد والفحص والبحث العلمي فيما يزعمون ويهب لدرء هذا الإفك العظيم كل كريم ويقاتلونهم على إعجاز القرآن وحرمته وتقديسه ويدعونهم إلى خطة إنصاف ليس من إنصاف بعده. إن من أشد من يؤسف له أن يفترق قوة أولى القوة في الشرق هكذا فرقتين إحداهما تهدم والأخرى تدفعها عن الهدم فيشغل الفريقان جميعا عن التجديد والبناء وعدوهما واقف لهما بالمرصاد. 14- سيد قطب: "في الرد على سعيد العريان": "لعل القسوة ليست في الحكم الذي أصدرته ولكنها في وضع الرافعي مقابلا العقاد والجميع بينها في عنوان, فمن هنا بدأ مطالبة الرافعي بأدب الطبع وأدب النفس؛ لأن المقابل له فياض بهذا النوع، مبرز فيه، بل هو ميزته ورمز فنه، وقد كان من جراء مطالبة الرافعي بهذا اللون الرفيع من الفن الأدبي ظهور خوائه وإنكار أدبه، فهذه هي القسوة ومتى أعفينا الرافعي من أدب النفس والطبع فقد نجده بعد ذلك شيئا من التعبير, وفي الأخذ بطريقة خاصة في هذا التعبير".

لقد قرأت كل ما كتبه الرافعي في هذا الباب "الغزل" فإذا هو خواء مقفر من كل عاطفة وإحساس فإذا أنا عرضته فإنما أعرض قطعة من صحاري النفوس ليس فيها ندى ولا حياة -ولن يضير القراء معي- إذا أنا صبرت على قطع هذا القفار الموحش المتشابه الأرجاء. والثاني: وقد اخترته أن أعرض غزل العقاد فأشكف عن هذا العالم الحي المائج المضطرب بشتى الانفعالات والاتجاهات. إن العقاد والرافعي مختلفان متناقضان, ولقد شاءت الظروف أن يكون العنوان بين العقاد والرافعي, فتوجد رابطة بين اسمي هذين الرجلين لا وجود لها في أدبهما ولا اتجاههما ولا في شيء مما يصح فيه التشابه والارتباط. والواقع؛ لقد كان هذا الجمع بينهما ظلم لكليهما، فأما العقاد فمظلوم -ولا شك- أن يقرن اسمه إلى اسم الرافعي، وبينهما هذه الهوة السحيقة الفاصلة، والهوة إلى تفصل بين الصورة الفنية ترمز إلى معنى وتكاد تجيش بالحياة وتهمس بالنطق والتعبير وبين النقوش التي نراها على أبواب المساجد ونوافذها خطوط متعرجة أو مستقيمة ودوائر ومثلثات ومربعات كلها من عمل المسطرة والبركار, ولا شيء وراءها غير المهارة في اللعب والتزويق. 15- محمد أحمد الغمراوي: 1- العقاد: أديب الطبع القوي الفطرة السليمة والرافعي أديب الذهن والوضاء والذكاء اللماع والعقاد متفتح النفس ريان القلب. والرافعي مغلق هذه الناحية متفتح العقل وحده للفتات والومضات. 2- كنت أنكر عليه الإنسانية فأصبحت أنكر عليه الطبع، وكنت لا أجد عند الأدب النفسي فأصبحت لا أجد عنده الأدب النفسي.

هكذا حكم سيد قطب بين الأديبين الكبيرين، والحكم لا يعطي للعقاد شيئا من الفتح العقلي ولو للفتات والومضات. فقد سوى بين الاثنين تسوية تكاد تكون تامة أو بالأحرى جعل المزايا الأدبية قسمة بينهما عن سواء تقريبا. أخرج العقاد من دائرة الذهن والعقل كما أخرج الرافعي من دائرة النفس والقلب، وخص أحدهما بما نفى عن الآخر. فإذا شك أنصار العقاد في أن هذا مفهوم حكم صاحبهم على صاحبه ومنطوقه فليقرءوا مقدمة الحكم إذا شاءوا: "وبعد فما كان يمكن أن يتفق العقاد والرافعي في شيء, فلكل منهما نهج لا يلتقي مع الآخر في شيء" إذ لو كان العقاد يشرك الرافعي في أدب الذهن لاتفق الاثنان في شيء. والتقى الأديبان على شيء. أما وهما لا يتفقان ولا يلتقيان في شيء في حكم هذا الحكم المجدد فما أثبته للرافعي من أدب الذهن الوضاء والذكاء اللماع لا بد أن يكون نفاه عن العقاد إن كان يعرف ما المنطق وما التفكير, ليس عن ذلك محيص. والرافعي كذلك مظلوم -ولا شك- أن يقرن اسمه إلى اسم العقاد فيطالبه النقاد حينئذ بالحياة والحركة والعمق, أو يطالبونه برأي معين في مسائل الحياة الكبرى وفي نواحي الإحساس والشعور. والرجل في عالم آخر غير هذا كله؛ عالم الأخشاب المنقوشة والشرفات المزركشة. "لقد أخذ يردد نغمه العوام في الموتى والأحياء ويعتمد على شعور هؤلاء العوام في تقدير موقفي وأنا أتحدث عن العقاد الحي. وموقفهم وهم ينافحونه عن الرافعي الذي مات. "فأنا في دفاعي عن العقاد أمجد وأشرف من دفاعهم عن الرافعي, فماذا يكلفهم الدفاع عن الرافعي؟ إنه لا يكلفهم شيئا, بل على العكس يكسبهم

حسن الأحدوثة لدفاعهم عن رجل ميت, ويكسبهم سمعة الدفاع عن الدين, ويكسبهم محبة الأسلوبيين والعاجزين عن التحليق في الأجواء الفنية العالية. أما الدفاع عن العقاد فيكلفني التعرض لغضب الكثيرين من ذوي النفوذ. لأن العقاد رجل لم يبق له قول الحق صديقا وكثير ممن يظهرون صداقته يكونون له غير ذلك لأنهم ينفسون عليه شموخه واعتداده بنفسه وتعاليه على الضرورات. 16- سعيد العريان: الجديد والقديم حديث طويل في تاريخ الرافعي فهو قد وقف نفسه على الدفاع عن الدين والحفاظ على لغة القرآن. ذلك مذهب درج عليه وأعانته عليه نشأته وتدينه, فهو إنما يحرص على اللغة من جهة الحرص على الدين. إذ لا يزال منهما شيء قائم كالأساس والبناء، لا منفعة فيهما معا إلا بقيامهما معا". فما نعرفه ناقدًا عنيفا إلا حين يتناول الجديد والقديم وإذا نحن تدبرنا ما أسلفناه من تلخيص رأيه في الجديد والقديم ومن مقدار حماسته في الذود عن الدين والعربية عرفنا لماذا يؤثر الرافعي ذلك الأسلوب العنيف في مهاجمة خصومه والطعن عليهم إذ هو لا يعتبر حينئذ إلا شيئا واحدا هو الدفاع عن الدين وتراث السلف مؤمنا بأنك "لن تجد ذا دخلة خبيثة لهذا الدين إلا وجدت له مثلها في اللغة". وقد تعجب أشد العجب أن ترى الرافعي ينسى حين يجرد قلمه للنقد كل اعتبار مما يقوم به الصلات بين الناس ولكنه هو يعتذر من ذلك بقوله إنما تعمل على إسقاط فكرة خطرة، إذا هي قامت اليوم بفلان الذي نعرفه فقد

تكون غدا فيمن لا نعرفه، ونحن نرد على هذا وعلى هذا برد سواء لا جهلنا من نجهله بلطف منه ولا معرفتنا من نعرفه تبالغ فيه. فإن كان في أسلوبنا من الشدة والعنف أو القول المؤلم أو التهكم فما ذلك أردنا ولكنا كالذي يصف الرجل الضال ليمنع المهتدي أن يضل، فما به زجر الأول بل عظة الثاني. 7- محمد أحمد الغمراوي 1: جرى الناس على رد التفاصيل في الأدب إلى أصلين: اللفظ والمعنى, وبدءوا في ذلك وأعادوا وأسرفوا في الاختلاف بينهم. أي هذين الأصلين يقدم على الآخر في تقديم أديب على أديب واختلافهم في هذا شيء عجيب. فإن اللفظ والمعنى ركنان متلازمان لا ينبغي التقصير في أدبهما للأديب المكتمل. إن امتلاك ناصية اللغة أمر لا بد منه لكل أديب يريد أن يبلغ في الأدب مرتبة الخلود وليس معنى هذا أن امتلاك ناحية اللغة وحدة كاف للخلود. فليس في الأدب مكانة لخلود المعنى الخسيس في اللفظ الأنيق. وإذا تساءل متساءل: أي الأديبين أدل على امتلاك لناصية اللغة واقتدار على التفنن والتصرف في التعبير بها أدب الرافعي أم أدب العقاد؟ كان الجواب الذي يسرع إلى الإنسان في غير تكلف ولا تحيز؛ أدب الرافعي؛ كان أملك لناصية اللغة من شك أو أكثر افتنانا فيها وتصرفا بها. ولا نظن أن العقاديين يمارون في هذا فأكبر ما ادعاه العقاد مفتونهم به هو الأسلوب الفخم والتعبير الجيد غير بعيدين عن شعر العقاد. بقيت ناحية المعنى ولم تر أحدا ظلم في معانيه مثل ما ظلم الرافعي ومعاني الرافعي يكثر من بينها الطريق كثرة تدعو إلى العجب, كثرة لا تظن أحدا من المحدثين يفضله فيها أو يزحمه.

_ 1 الرسالة 15 أغسطس سنة 1938.

ثم قال: فالمسألة في الأدب ليست مسألة لفظ ومعنى فقط ولكنها في صميمها مسألة روح. فريق يريد أن يجعل روح الأدب روحا شهوانيًا بحتا وفريق يريد أن يحيا الحياة الفاضلة في حدودها الواسعة. إن أدب الفريق الأول هو ما يسمونه بالأدب الجديد ويمثله العقاد. وأدب الفريق الثاني هو ما يسمونه بالأدب القديم ويمثله الرافعي. الرافعي يتفوق على العقاد في التعبير وفي الخيال وكلاهما يحتفل بالمعنى أكبر احتفال، غير أن الرافعي عنده نور يهدي به ليس عند العقاد، فكان لذلك أقل من العقاد عابا وأكثر صوابا. إنما الخلاف الأساسي بينهما في الروح. هما من حيث الروح مختلفان كل الاختلاف وعندك الحكم بين الروحين معيار صدق لا يخطئ هو معيار الدين ومعيار الخلق الفاضل، وإذا قيمت الأديبين بأحد هذين المعيارين لم يبق عندك شك في أيهما أولى بالإكبار وأصلح للبقاء.

الفصل الرابع: بين النقد الذاتي والموضوعي

الفصل الرابع: بين النقد الذاتي والموضوعي بين أحمد أمين وطه حسين 1: هذه معركة داخل جبهت المدرسة الحديثة، بين رجلين عرفا بالسير في الطريق الواحد، كان أحمد أمين قاضيا واختاره طه حسين ليعمل أستاذا في كلية الآداب بعد أن دافع عنه في لجنة الإسلام" يختص كل منهما بجانب منه ثم مضى أحمد أمين فأتم الدراسة وتوقف طه العبادي وعلى الرغم من هذه الصداقة والارتباط في اتجاهات الفكر والثقافة والجامعة فإن أحمد أمين حين عرض للنقد الأدبي لم يتراجع عن أن يعلن رأيه صريحا في موقف الأدباء الذين برزوا بعد وقد جرى في هذا الشأن سجال بين أحمد أمين وطه حسن أصر فيه أحمد أمين على رأيه في أن كتاب هذه الفترة كانوا متحمسين مندفعين أول الأمر حتى إذا تحققت لهم الشهرة والمكانة عادوا إلى شيء كثيرا من الاعتدال وهذه هي المعركة. هذه معركة: 1- أحمد أمين: "حدث في تاريخ مصر الحديث أن جماعة تسلحوا بالشجاعة فأظهروا آراءهم في صراحة تامة ولم يبالوا الرأي العام سواء في ذلك بحوثهم أو نقدهم، وكانت هذه البذرة الأولى للشجاعة الأدبية في مصر فألفوا كتبا عبروا فيها عن آرائهم في جلاء ووضوح، وكتبوا مقالات تعبر عما يختلج في نفوسهم وإن لم تكن على هوى الجمهور، ونقدوا أدب الأدباء وإن بلغوا القمة في نظر الناس، فكان صراع بين القديم والحديث وبين التفكير الحر والتقاليد وبين الأدب الناشئ والأدب الموروث. ولكن هذا الصراع انتهى بغلبة الجامدين. ونال الأحرار من العسف والعنت فوق ما ظنوا. وشعر القائمون بهذه الحركة الجديدة أنهم أصيبوا في سمعتهم ثم رأوا أن

_ 1 الرسالة أول يونيه 1936.

أتباعهم تخلوا عنهم في وقت الضيق، ومن عطف عليهم فعطف أفلاطوني، عطف يتبخر، وكان الرأي العام قويا مسلحا فتغلب وانتقم وأصبحت له السلطة التامة، وانهزم أمامه فريق المفكرين الصرحاء هزيمة منكرة. ولم تكن له أمثلة كثيرة في تاريخه القريب فاضطر إلى التسليم، وتعود المجاراة بدل المقاومة، والمداراة مكان الصراحة. فلم يعد هناك معسكران ولم يعد صراع وإنما هو معسكر واحد ولا قتال، وتعلم الجيل اللاحق مع الجيل السابق فاختط خطته ونهج منهجه وأخذ الدرس عن أخيه الأكبر ففضل السلامة. وبذلك اختنق النقد الأدبي في مهده وأصبح الأدب مدرسة واحدة يختلف أفرادها اختلافا طفيفا، في العرض لا في الجوهر. ولا أمل في عودة النقد الصريح إلا ببذرة جديدة وروح جديد على شرط أن تكون البذرة صلبة تتحمل حوادث الدهر وعوادي الأيام. ويتصل بهذا أن الأدباء عندنا صنفان: صنف نضج وتكون واستوى على عرش الأدب, وهؤلاء هم القادة، وهم أفراد معدودون تسالموا وتهادنوا وحرمنا ما بينهم من خصومة أدبية وعلمية، وصنف ناشئ في طور التكوين وهو يخشى أن يتعرض لمن استوى على العرش فيبطش به بطشة جبارة تقضي عليه، فلما جامل الكبراء بعضهم بعضا، وخاف الناشئون من الكبراء ضاع النقد بين هؤلاء وهؤلاء". 2- طه حسين 1: فأنت ترى أن جماعة النقاد الذين كانت إليهم قيادة الرأي الأدبي أو قيادة الحياة العقلية منذ حين قد اصطنعوا الشجاعة أول أمرهم. وآثروا الصراحة

_ 1 الرسالة 8 يونيه 1936.

أو كانت الصراحة لهم خلقا، فكتبوا كما كانوا يرون، وأخذوا بحظوظهم الطبيعية من الحرية، فلم يحفلوا بالجمهور ولم يخافوا الرأي العام. ولم يحسبوا لمقاومة المحافظين حسابا. ونشأ عن شجاعتهم تلك وعن صراحتهم هذه أن بعثوا في الحياة العقلية نشاطا لم تألفه مصر، فكان الصراع العنيف بين القديم والجديد، وكان الخصام الشديد بين الحرية والرجعية. وكذلك ترى بعد ذلك أن هؤلاء الكتاب قد أوذوا في مناصبهم وفي أنفسهم وفي سمعتهم وفي أرزاقهم فلم يثبتوا للأذى، ولم يمضوا في المقاومة، ولم يعنهم أتباعهم وأولياؤهم على الثبات، وإنما عطفوا عليهم عطفا أفلاطونيا, فلانوا ودانوا وجاروا وداروا, وآثروا العافية ومضوا مع الجمهور إلى حيث أراد الجمهور. ونشأ الجيل الجديد فاقتدى بإخوته الكبار وسار سيرتهم وأصبح النقد مصانعة ومتابعة وأصبح الأدب تملقا وتقليدًا. وهذا أيها الأخ العزيز هو الذي أخالفك فيه أشد الخلاف وأنكره عليك أعظم الإنكار يدفعني إلى ذلك أمران: أحدهما أن رأيك بعيد كل البعد عن أن يصور الحق. والثاني أن رأيك يمسني وأؤكد لك أنه يحفظني كل الإحفاظ ويؤذيني كل الإيذاء. ولعله يحفظني ويؤذيني أكثر مما أحفظني وآذاني كل ما لقيت من ألوان المشقة والإعنات. فهل من الحق أن هؤلاء الكتاب الذين نشير إليهم قد أدركهم الضعف والوهن فمالئوا الجمهور وصانعوا السلطان، وآثروا العافية في أنفسهم وأموالهم ومناصبهم؟ ومتى كان هذا، أحين عصفت العواصف بمصر فأفسدت أمرها السياسي والعقلي وألغت نظامها الحر وفرضت عليها نظاما آخر مصنوعا ألغيت فيه كرامة الأفراد والجماعات.

تعال أيها الأخ العزيز نبحث معا عن هؤلاء الكتاب أين كانوا في ذلك الوقت؟ وماذا صنعوا؟ وإلى أي حد جاروا وداروا وآثروا العافية؟ لست في حاجة أن أسميهم فأنت تعرفهم كما يعرفهم الناس جميعا. لم يكن لأكثرهم منصب من المناصب، فلما عصفت العاصفة أقصيت عن هذا المنصب فأدركت الزملاء ووقفت معهم حيث كانوا يقفون، ومضينا جميعا إلى حيث كان يحب أن نمضي واحتملنا جميعا ما كان ينبغي أن نحتمل من الأثقال. فكنا أيها الأخ العزيز ألسنة الساسة وسيوف القادة والسفراء بينهم وبين الشعب, وكنا سياطا في أيدي الشعب يمزق بها جلود الظالمين تمزيقا. وكنتم تعجبون منا بذلك وتحمدونه لنا وتؤيدوننا فيه, وكنتم تقومون على الشاطئ وتروننا ونحن نغالب الأمواج ونقاوم العواصف نظهر عليها حينا وتظهر علينا أحيانا فكان بعض الناس يصفق لنا إذا خلا إلى نفسه لا إذا رآه الناس ويعطف علينا إذا لم يحس السلطان منه هذا العطف ولست أزعم أني قد استأثرت بهذا الفضل فقد كان نصيبي منه أقل من نصيب كثير من الزملاء. لم أدخل السجن وقد دخله منهم من دخله. أترى أن مواقفنا تلك كانت مواقف المنهزمين؟ إننا شغلنا عن النقد الأدبي بأنفسنا وأموالنا وإيثارنا للعافية ومجاراتنا للسلطان. والغريب أن أريك هذا في إخوانك الكتاب يظهر أنه قد أعجبك حتى ألهاك عن حقائق ما كان ينبغي أن تلهو عنها. فهؤلاء الكتاب المنهزمون في رأيك لم تشغلهم هذه السياسة العنيفة المنكرة عن الأدب ولا عن النقد. وإنك لتعلم أنهم جميعا كانوا يخاصمون في السياسة وجه النهار، ثم يفرغون

لأدبهم آخر، وكلهم قد أنتج في الأدب أثناء المحنة وفي الأدب الخاص الذي لا يتصل بالسياسة ولا يمت إليها بسبب, ومن منهم اتخذ السجن وسيلة إلى هذا الإنتاج. وبعد فليس السبيل على الذين أدوا واجبهم الأدبي كما استطاعوا وما زالوا يؤدونه كما يستطيعون، وإنما السبيل على الذين يتاح لهم الهدوء ويستمتعون بالبال الرضي والحياة المستقيمة المطمئنة ثم لا ينقدون لأنهم لا يقرءون، أولا ينقدون لأنهم يقرءون ويشفقون إن أعلنوا آراءهم أن يتنكر لهم الناس وأن يسلقهم أصحاب الكتب بألسنة حداد. 3- أحمد أمين: شرحت وجهة نظري في بعض وجوه العيب في النقد العربي من ناحيتهم العامة. فإن1 أراد أخي طه أن يحورها من عمومها إلى شخصياتها وينقل المسألة من النقد الأدبي إلى النقد السياسي ويجعل الأمر يدور حول أنا وأنت ونقدت ولم تنقد، وكتبت ولم تكتب، وبئست ونعمت، وشقيت وسعدت لم أجاره في ذلك، ووقفت حيث أنا إلا أن يعود إلى أساس النظرية ويقرع حجة بحجة وبرهانا ببرهان فإني إذن أساجله القول حتى ينجلي الحق ويظهر الصواب. 2- إني أقارن2 بين النقد من نحو عشرين عاما والنقد الآن فأجده ليس خاضعا لسنة النشوء والارتقاء. بل لسنة التدهور والانحطاط حتى وصل إلى حالة من العجز يرثى لها.

_ 1 الرسالة 15 يونيه 1936. 2 الرسالة أول نوفمبر 1936.

فقد كان الكتاب إذا ظهر هبت الصحف والمجلات لعرضه ونقده فاللغوي ينقد نقدًا لغويا والمؤرخ ينقده نقدا تاريخيا والأديب ينقده نقدًا أدبيا وتثور معركة حامية بين أنصار الكتاب وأعداء الكتاب. ولست أنسى ما كان يقوم به الأستاذ إبراهيم اليازجي في نقده لمجاني والأدب وأقرب الموارد كما لست أنسى ما نقد به كتاب التمدن الإسلامي وكان شوقي أو حافظ يقول القصيدة فيقوم ناقد معترض يبين معايبها، ومادح مقرظ يبين محاسنها ومن هذا وذاك يستفيد الأديب ويرقى الأدب. وكان يؤلف الكتاب الذي مثل كتاب الإسلام وأصول الحكم فتنشب معارك حامية وينقسم المفكرون إلى معسكرين. تعال فانظر معي الآن إلى ما وصلنا إليه. لقد كثرت الكتب يخرجها المؤلفون وأصبح الإنتاج الأدبي أضعاف ما كان. ولكن من الغريب أن تحدث هذه الظاهرة وهي رقي الأدب وانحطاط النقد. ولكن ما هي علامات هذه الظاهرة في الأدب العربي؟ أهمها أن النقد الصريح الصحيح يحتاج إلى شجاعة أدبية قوية من الناقد ورحابة صدر من المنقود وقد حدث في تاريخ مصر الحديث أن جماعة تسلحوا بالشجاعة الأدبية في مصر فألفوا كتبا عبروا فيها أن آرائهم في جلاء ووضوح وكتبوا مقالات تعبر عما يختلج في نفوسهم وإن لم تكن على هوى الجمهور، ونقدوا أدب الأدباء وإن بلغوا القمة في نظر الناس فكان صراع بين القديم والحديث وبين التفكير الحر والتقاليد ولكن هذا الصراع انتهى بهزيمة هذه الطليعة من المعسكرين وتعرضوا للخطر في

_ 1 الرسالة 15 نوفمبر 1943.

مناصبهم وأرزاقهم. ونالوا من العسف والعتب ما ليس في طاقتهم. وهذا يحدث مثله في كل أمة من الأمم الأوروبية ولكن كان هناك فرق كبير بيننا وبينهم. ذلك أن أصحاب الرأي الجديد في البلاد الراقية إذا أوذوا في العصر الحديث رأينا من مقلديهم وأتباعهم في الرأي من يمدونهم بالمال والمعونة. أما في مصر فقد شعر القائمون بهذه الحركة الجديدة أنهم أصيبوا في سمعتهم وفي منصبهم وفي مالهم ثم رأوا أن أتباعهم تخلوا عنهم في أوقات الضيق ومن عطف عليهم منهم فعطف أفلاطوني، عطف يتبخر، عطف لا يمكن أن يتحول إلى مال أو مجهود. وكان الرأي العام قويا مسلحا فتغلب وانتقم وأصبحت له السلطة التامة. وانهزم أمامه فريق المعسكرين الصرحاء هزيمة منكرة. ولم تعد له أمثلة كثيرة في تاريخه القريب فاضطر إلى التسليم بل وفي بعض الأحيان رجع عن رأيه إلى آرائهم، وعن منهجه إلى منهجهم وتعود المجاراة بدل المقاومة، والمداراة مكان الصراحة فلم يعد هناك معسكران ولم يعد صراع. وإنما هو واحد ولا قتال. وتعلم الجيل اللاحق من الجيل السابق فاختط خطته ونهج منهجه وأخذ الدرس عن أخيه الأكبر ففضل السلامة وبذلك اختنق النقد الأدبي في مهده وأصبح الأدب مدرسة واحدة يختلف أفرادها اختلافا طفيفا في العرض لا في الجوهر لا مدارس متعددة تتناحر وتتعاون وتتعادى وتتصادق. ولا أمل في عودة النقد الصريح إلا ببذرة جديدة وروح جديد. ولعل من أسباب ضعف النقد "السياسة" قاتلها الله فقد تدخلت فنصرت

الجمهور على القادة، وعاونت الرأي العام على المفكرين وما كان الجمهور والرأي العام ينتصران هذا النصر لو وقفت السياسة على الحياد ولو فعلت لكانت الحرب سجالا ولظل المعسكران في قتال. ثم إن السياسة دخلت في الأدب ولونت الأدب بلونه السياسي ولم يستطع الناس التفرقة بين موازين الأدب وموازين السياسة فأفسد ذلك الأدب والنقد معا.

الفصل الخامس: الأدب بين التجديد والانحراف

الفصل الخامس: الأدب بين التجديد والانحراف بين زكي مبارك وزكي أبو شادي: هذه واحدة من معارك الفكر بين التجديد والانحراف، في فترة غلبت فيها نزعة "التغريب" واتخذت سبلا غاية في الدقة واللباقة لتصل إلى إذاعة الآراء المنحرفة. فلقد كان الكتاب يتناولون موضوعات خطيرة بأسلوب غاية في النقاء والاعتدال ثم إذا بهم يزجون بين أحشاء هذه الأبحاث عبارات قليلة لها بريق ومظهر واجتمال وآخر ليثيروا البلبلة وكانت كل عناصر "التغريب" تكمن في إذاعة الآراء حول بعث فرعونية مصر وأصلها المسيحي السابق للإسلام، ومهاجمة الأزهر وعلماء الأزهر باسم مهاجمة الكنائس والمساجد معها، ومهاجمة الإسلام باسم مهاجمة الأديان جميعها. وإذاعة آراء "فرويد" لأنه يدعو إلى فرض الرأي الذي يقول بأن الجنس هو الدافع الأول للحياة ومقاومة الدعوة إلى القومية العربية بإذاعة آراء الإقليمية والتجزئة. ولقد وقف الدكتور زكي مبارك من صديقه الدكتور زكي أبو شادي موقفا حاسما وعاه أبو شادي فتكلم عن حرية الفكر ونقل أصول كلماته المسمومة التي دسها في مقالاته وفصوله ليبين أنها جرت مجرى السياق وأنها لم تكن تستهدف غرضا معينا. وهذه هي المعركة: 1- الدكتور زكي مبارك: قرأت مقال الدكتور أبي شادي "عن فرويد" فلم يرضني وقرأت له مباحثات عن الدولة والدين فلم ترضني "نشرها الدكتور أبو شادي في مجلة أدبي" وما أحب للدكتور أبي شادي أن يتورط في مسائل تفسح المجال أمام الدساسين وما أحب له أن يفتح أعيننا على مأساة جديدة في عالم الأخلاق

سأحاسب الدكتور أبا شادي على مقاله بأقسى ما يكون من العنف ولكن على شرط يتيح له الدفاع عن نفسه في حدود المنطق. لقد عرفت وعرف الجمهور أن فريقا من خصومك شكوك إلى النيابة العمومية وقال بعض المطلعين أن مشيخة الأزهر اهتمت بدرس ما نشرته في مجلتك. أأنت الذي قلت في مجلتك "إن جميع أبناء مصر أقباط صميمون أغلبيتهم أسلمت بحكم الفتح العربي"؟ أأنت الذي قلت ذلك؟ إن كنت قلته فأين الدليل؟ أين دراستك التاريخية؟ أين اطلاعك على تفاصيل ما ظفرت به مصر بفضل الإسلام؟ أين ما روى التاريخ حين حدثنا أن والي مصر كتب إلى عمر بن عبد العزيز يخبره أن حالة مصر في خطر لأن الأقباط سارعوا إلى الإسلام؟ فقال: "إن رسول الله بعث هاديا، ولم يبعث جابيا" لنفرض جدلا أن أكثر الأقباط أسلموا بحكم الفتح العربي. فهل من الذوق أن تقول ذلك وأنت رجل مسلم اسمه أحمد، إن هذه سقطة ذوقية يجب أن تستغفر منها الذوق إن لم تستغفر الحق، ومن موجبات الأسى أن هذه السقطة الذوقية، تردى منها من قبلك رجل مسلم اسمه طه حسين في مقال كتبه في جريدة كوكب الشرق ولكنه حوسب على ذلك حسابا عسيرًا وهدده أهل سوريا بإحراق ما يوجد من مؤلفاته في مكاتب دمشق. أأنت الذي قلت في مجلتك بوجوب هدم الأزهر وهدم الكنيسة ليحيا المصريون حياة مدنية؟

أأنت قلت ذلك؟ وقد نقل ما كتبته في مجلتك إلى المجلة الجديدة "مجلة سلامة موسى هداه الله" وسلامة يسره أن ينشر في مجلته ما خططته، بقلمك في مجلتك وليس عنده ما يمنع من هدم الأزهر وهدم الكنيسة تأسيا يقول الشاعر: اقتلوني ومالكا ... واقتلوا مالكا معي ولكن أتعرف ما يكون لو هدمت الكنيسة وهدم الأزهر في يوم واحد أتعرف النتيجة أيها المسلم الذي اسمه أحمد والذي يرتفع نسبه إلى الحسين، تكون النتيجة أن يهدم الأزهر ثم لا يبنى أبدًا لا قدر الله ولا سمح، أما الكنيسة فتهدم، ثم تبنى من جديد على قواعد أمتن وأرسخ. من أين جاءكم هذا التسامح يا أبناء اليوم؟ من أين جائتكم هذه الغفلة يا شعراء الجيل؟ أنت تشير بهدم الأزهر يا أبا شادي؛ ولم ذلك؟ أتستكثر أن يقوم أولئك المشايخ بنشر الثقافة الإسلامية والثقافة العربية ويرفعوا رأس مصر في العالمين1. أمن القليل في مجد مصر أن يذكر اسمها في كل لحظة بين أهل الشرق والغرب بفضل الأزهر الشريف؟ سيطول بلاؤك يا أبا شادي حين تذهب الثقافة الأزهرية إلى من يستند الأدب الحق حين ينقرض هذا النوع من التثقيف.

_ 1 اقرأ المقال بالكامل في البلاغ 23 أغسطس 1936.

والأزهر مدرسة. ومن مجد الإسلام أنه يرى الدرس أفضل من العبادة لأن الإسلام منذ نشأ يحمل طابع المدنية، ويجعل المساجد معاهد للدرس والتثقيف. وليس في الدنيا كلها أمة متدينة دعت إلى العلم كما دعت إليه الأمة الإسلامية والمسلمون هم وحدهم الذين لا يفرقون بين المدنية والدين. 2- "قال زكي أبو شادي عن فرويد إنه الرسول الجديد": وهاجمه زكي مبارك وقال: إن الجزء الأعظم من فلسفة فرويد تنتهي إلى غاية واحدة هي أن الناس جميعا متأثرون بالغريزة الجنسية في جميع المعاملات أما الأنبياء فهم ميادين أخرى، الأنبياء يفهمون أن الناس لا يعيشون للجسد وبالجسد إلا وهم حيوانات. ليست النيابة العمومية التي تملك تقويمك وإنما يملك تقويمك من يفهم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

2- زكي أبو شادي: كتب1 زكي مبارك مقالا في البلاغ خصه بما سماه "الدمامة الخلقية البشعة" التي تتمثل في كيد الأدباء بعضهم لبعض. وقد أضحكني أن واحدا من أولئك المساكين الكائدين أضاع معظم الساعات التي ينفقها عادة في دعايته لنفسه يستعدي على النيابة ومشيخة الأزهر وغيرهما فليفهم هذا القزم وأمثاله أن كاتب هذه السطور بعد معالجته الأدب زهاء ثلاثين عاما ليس في حاجة إلى من يفهمه ما هي أحكام القانون في الكتابة ولا ما هو واجب الأدباء في احترام عقائد الناس ولا ما هو مبلغ سياج الحرية الفكرية التي يحميها الدستور. إن المقال الذي أشار إليه صديقي نشر في مجلة المهذب. وقد أعيد نشره بعد ذلك بزمن طويل في مجلة "أدبي" لأني اعتدت أن أجمع فيها شعري وبحوثي. وبديهي أننا لو أخذنا نحاسب جميع الكتابات الأدبية والفلسفية والكتابات العلمية على أساس ذلك التخريج العجيب لا ينتهي الأمر بالطعن فيها جميعا وعلى الأخص الكتابات الصوفية، وأن ما ذكرته عن فرويد ونتائج أبحاثه التي تعارض الدين على الأقل في ظاهر الأمر لا علاج لها سوى قيام المتنورين من علماء الدين "ولا أعني بذلك علماء الإسلام وحدهم" للرد النابه عليها بدل العادة القديمة في طلب مصادرة كل ما لا يرضيهم.

_ 1 البلاغ 30 أغسطس 1936.

ليس لمشيخة الأزهر ولا لغير الأزهر ذرة من الحق في محاسبتي على مذهبي الديني وتفصيل عقيدتي. فليس الذي يلخص آراء فرويد ونتائجها في نزاهة كما يراها العلماء الأوربيون مع الحرص على الإشارة إلى اختلاف أصحاب الأديان، مثل هذا الرجل لا يجوز أن تقام له محكمة تفتيش إسلامية سنة 1936 إذ لا محل لقيامها من الناحية الدستورية ولا من ناحية الإسلام نفسه الذي سامح في أزهر عصوره حتى مع العقائد المخالفة له نهاية التسامح. أما هذه الوصاية الممقوتة على آراء الناس التي يتهافت عليها طائفة بين شيوخ الأزهر فأمر لا يليق لا بكرامة الإسلام ولا بكرامة الأزهر. وإذا سكت عنه مؤلف أو أكثر بين الحسرة والألم فلن يسكت عنه كاتب هذه السطور بقية حياته التي وهبها لتحرير الفكر والوطن لا لعبودية الجمود والرجعية. ولا يفوتني أن أذكر أن بين الأزهر وكاتب هذه السطور خصومة قديمة ترجع إلى اعتبارات نقدية فلو تقرر أن يكون الأزهر حكما قانونيا لوجب حتما رده. 3- لا يجوز حمل تعابيري الشعرية في مقال عن "فرويد" على المحمل الذي ذهب إليه إذ ليس من المعقول أخذ هذه التعابير على حرفيتها ولولا الجو الذي خلقه حب الكيد لي لما رأى أحد فيها شيئا. وهذا الجو نفسه مسئول عن نظرات صديقي الدكتور إلى فقرات أخرى من كتابتي بحيث أخرجتها تماما عن دائرة تفكيري.

_ 1 البلاغ 3 سبتمبر 1936.

إن قولي "لا أؤمن بقيام وحدة وطنية سليمة إلا إذا توافرت عوامل الاندماج في الأمة ومن حسن حظ الأمة المصرية أنه من الناحية الوطنية لا توجد فيها أكثرية وأقلية؛ لأن جميع أبناء مصر أقباط صميمون أغلبيتهم أسلمت بحكم الفتح العربي وأقليتهم بقيت على مسيحيتها التي كانت حنيئذ دين الشعب المصري" إن هذا القول لا يتعارض بتاتا والروح النقية التي أبداها عمر بن عبد العزيز. وليس هو مذكورا في معرض بيان أسباب إسلام المسيحيين المصريين إذ أن هذا خارج عن موضوعي وليس فيه أي انتقاض للإسلام إذ لولا الفتح العربي لما عرف أقباط مصر شيئا عنه وتهيئوا للدخول في الإسلام حتما نظرًا للعصبية الدينية الهائلة من النصارى حينئذ، وإنما سقت هذا القول إشارة إلى أن أصل المسلمين والمسيحيين واحد بالدليل العلمي الذي أثبته الدكتور محمد شرف بك في فحص دمائهم وهو أن الجميع أقباط ومن شعوب البحر الأبيض المتوسط. 4- لا أعرف إني قلت بهدم الأزهر وهدم الكنيسة ليحيا المصريون حياة مدنية إنما هذا ما قلته بالحرف الواحد. "وإننا نغتبط بكل حركة إصلاحية يستفيد منها الأزهر والكنيسة القبطية ولكن عنايتنا بكليهما يجب أن تكون محدودة ويجب أن توجه العناية الكبرى إلى تهذيب الروح المدنية في الشعب. 5- إني أتمنى على صديقي الدكتور زكي مبارك أن يبقى حسن ظنه في كاملا ثم يراجع كتاباتي فسيجد لها معان جد مختلفة عما ساقته إليه حماسته الدينية في الجو الشاذ الذي خلقه الكائدون. والمضحك المحزن أني بالرغم من اعتدال أسلوبي وعفة قلمي وحرصي

على نزاهة القصد يعاب على ما تعرضه ثقافتي من تلخيصات فلسفية أدبية لقرائي كأنما الواجب أن أحتفظ بمعارفي لنفسي وأحتقر أبناء المصريين الذين يجهلون اللغات الأوروبية. 6- إن لغتنا الشرعية محرومة من مئات التصانيف الذائعة في شتى اللغات الحية والميتة في نفس بلادنا، لا لسبب سوى أن حركة النقل إلى اللغة العربية غير مشجعة ولا تنال التصفيق والتعطيل والتزمير إلا النقل من الكتب القديمة من أساسات التثبيط المقاد والتقليدية العنيفة التي يبديها بعض الجامدين. وما دامت هذه الحالة المخزية فليست لها أي معنى سوى أنها سترتد بفكرنا إلى حياة القرون الوسطى وسيكون للأهواء لا للقوانين العليا الحكم في تكييف الثقافة والأفكار. إن الأيدي المصرية المتعلمة تتداول مئات الكتب الأدبية التي لا يجوز ترجمة واحد منها لما فيها من الفكر الحر وإن جاء في أدب واتزان مع أن الخير كل الخير في ترجمتها وإثارة النقاش الأدبي والفكري. 7- وظاهرة أخرى عجيبة تقرأها في كتابات من يتصدرون للنقاش وهي الجهل التام بحقائق التاريخ والعلوم والآداب الحديثة مع أنهم لو شجعوا النقل الوافي إلى لغتنا ثم التفتوا إلى الرد على ما لا يعجبهم من هذه الترجمات لجاءوا لنا بردود أقوى وأحكم, لا بمهازل سخيفة يبرأ منها الدين والعلم والأدب معا.

الفصل السادس: هل نقتبس أم نقلد؟

الفصل السادس: هل نقتبس أم نقلد؟ بين منصور فهمي وطه حسين: قال زكي عبد القادر معلقًا على حديث الدكتور طه من التعليم الجامعي1 في مصر ومقارنته بفرنسا "أما الزج2 بفرنسا وغيرها من البلاد الغربية حين يكون الكلام خاصا بمصر فكم كنت أود لو أعفانا منه الدكتور طه فإن مصر لن تكون كفرنسا وفرنسا لن تكون كمصر. والأسلوب الذي تتناول به فرنسا مشاكلها لا ينبغي أن يكون هو الأسلوب الذي تتناول به مصر مشاكلها. فإن لنا مشاكلنا الخاصة، لنا حاجتنا وبيئتنا وشعبنا وتاريخنا ونهرنا وصحراؤنا, ولنا أخيرًا عقولنا وثقفاتنا فلنعالج مشاكلنا على الأسلوب الذي نراه إلى أدنى تحقيق مصالحنا. فرد طه حسين عليه 3 وقال: إنما أكتب اليوم لأني أرى في تفكيرنا الاجتماعي والتعليمي شيئا من العوج وأود أن نلتفت إليه ونعنى بتقويمه، فمن أشد الأشياء خطرا أن نفكر في شئوننا الاجتماعية والثقافية تفكيرا معوجا، ثم نقيم على هذا التفكير نتائج ذات خرط ثم نتخذ هذه النتائج أصولا للإصلاح الاجتماعي والثقافي. ولأضرب لذلك مثلا قريبا جدًا فالأستاذ زكي عبد القادر يريدني على ألا أذكر فرنسا ونظمها التعليمية لأن فرنسا ليست مصر ولأن ظروف فرنسا

_ 1 الأهرام 3 يونيه 1939 "إسراف" طه حسين. 2 الأهرام 5 يونيه 1939 زكي عبد القادر. 3 الأهرام 7 يونيه 1939 "تقويم" لطه حسين.

ليست ظروف مصر، وهذا كلام يستقيم في ظاهره كل الاستقامة ولكنه لا يثبت للتحقيق، فإذا كان من الحق ألا نذكر فرنسا وألمانيا وإنجلترا. فقد يكون من الحق ألا نفكر في التعليم الإلزامي ولا في التعليم الجامعي الحديث، ولو أننا أردنا أن نلاحظ ظروفنا الخاصة وألا نلاحظ غير هذه الظروف فقد كان حقا علينا أن نكتفي بما كان عندنا من ألوان التعليم قبل أن ننظم الصلات بيننا وبين أوربا بتعليم الكتاتيب وتعليم الأزهر الشريف فقد عشنا قرونا على هذا اللون من ألوان التعليم حتى كون شخصيتنا أو كون جزءا عظيما من هذه الشخصية. ولكننا منذ أوائل القرن الماضي نظرنا إلى أوربا واتخذناها مثلا نحتذيه ونقلده، فاستعرنا منها فكرة التعليم الإلزامي ومجانيته وفكرة التعليم الجامعي العالي. أترى إلينا ننظر إلى أوربا نظرا متصلا ونقلدها تقليدًا مستمرًا وننكر في الوقت نفسه النظر إلى أوربا والانتفاع بما خضعت له من التجارب وما اختلف عليها من الحظوظ. منصور فهمي 1: أكاد أرجع أكثر الخصومات في الرأي حول مشاكلنا الاجتماعية إلى علة واحدة, تلك هي "الرغبة في تقليد الغربيين أو كراهية هذا التقليد". أقرأ لزميلي الدكتور طه حسين مقالا حديثًا من مقالاته في جريدة الأهرام فأجد ما يأتي "لكننا منذ أوائل القرن الماضي نظرنا إلى أوربا واتخذناها مثلا نحتذيه ونقلده، فاستعرنا منها فكرة التعليم الإلزامي ومجانيته وفكرة التعليم الجامعي العالي, أترى إلينا ننظر إلى أوربا نظرا متصلا

_ 1 الأهرام 25 يونيه 1939.

ونقلدها تقليدا مستمرا وننكر في الوقت نفسه النظر إلى أوربا والانتفاع بما خضعت له من التجارب ولما اختلف عليها من الحظوظ". وطالما قرأت لغيره من ذوي الرأي وسمعت منهم حين يتحدثون في اتخاذ طرائق الغربيين أو تجنبها، ما يخالف رأي الأستاذ الصديق ويغايره، وعندئذ يتردد إلى خاطري سؤال فأقول في نفسي: أيهما يا ترى أهدى إلى الحق وأدنى إلى سبيله؟ أذلك الذي يجد أن حياتنا الاجتماعية تظل في عوج واضطراب ما دمنا لا نحتذي أثر الغرب ونقدم على اصطناع مثله في صراحة وعزم؟ أم ذلك الذي يرى أن أمتنا ليست كأمم الغرب في كل شيء، وأن اتخاذ أكثر من نظم الغربيين لا يجدي في رقينا وإسعادنا، وقد يعود علينا بالشقوة والخسران؟ وفي الحق أنني طالما عجزت عن الجواب على هذا السؤال، وتولتني منه حيرة من هذه الحيرات التي تتجمع فيها النفس لتستعين بالله عساه يقرها إلى رأي ويسكنها إلى مذهب تجد عنده راحة اليقين وتتخلص به من ألم الحيرة. كدت أشعر أحيانا بدافع إلى الميل لرأي زميلي طه فهؤلاء ذوو الشأن فينا يتأثرون بالغربيين في غير هوادة ولا مبالاة، فأوربا إمام في التعليم وأوربا إمام في أكثر مسائل التشريع، وأوربا إمام في أكثر مظاهر الأخلاق والنظم وقد يجرنا القادة إلى اتباع أوربا فيما هو أبعد الأمور عن طباعنا, فهل من المستطاع حقا بعد ذلك أن يسهل علينا الرجعة والنكوص؟ سبحانك اللهم, أي السبيلين لنا فيه هدى وتوفيق؟ على أنني بعد هذا الجذب الذي يراد به تقريبي إلى ما يقولون. أعود فأستمع من أعماق القلب صوتا مدويا يشق سبيله إلى عقلي الحائر فأقول إلى

نفسي "سبحانك اللهم فليست بيئتي التي أعيش بها ولها وفيها هي بيئة الغرب. فهذه سماؤها غير سماء الغرب وهذه تربتها غير تربته وهذا موقعها في ملكوت الله غير موقعه. وهذه لغتنا غير لغته وما ورثناه من عادات ومحن وظروف وصروف غير ما ورث الغرب. فتكون مكنوناتنا، ومميزاتنا غر مميزاته وظورفنا وصروفنا غير ظروفه وصروفه، ثم يراد بنا على أن نكون كالغربيين ويحاول داعية صريح، أن يقنعنا بأن نتخذ من الغرب إماما نأتم به في كليات ما يسير عليه الغرب وفي جزئياته؟ عفوك اللهم وهداك، إن نفسي وعقلي مازالا راغبين في سبيلها، بل إن النفس لتدعوني أن أحتفظ بالخصائص التي أراد الله أن يميز بها أمة أنا من بينها وأن أتمسك بميراث انحدار إلى بلدي من قرون. وأن أستوحي به تاريخي وأن أستلهم ما يلهمني به جو بلادي وما تلهمني به تلك الأرواح الخفية الحائمة في سماواته". عند سكون نفسي إلى هذه النزعة أعود فأهمهم في شدة وحماسة: لسنا من الغرب في شيء. وإنها لكبيرة أن ننتهج في كل شيء سبيل الغربيين فللتقليد حدود فما هي يا ترى حدوده؟ ".

الفصل السابع: معركة فقدان الثقة

الفصل السابع: معركة فقدان الثقة بين الدكتور محمد حسين هيكل وطه حسين: عندما أصدر الدكتور هيكل كتابه "ثورة الأدب" استقبله الدكتور طه استقبالا حافلا كعادته في استقبال كتب رصيفه، غير أن الدكتور طه لم ينس بذور الخلاف التي كانت قد نشأت بينه وبين زميله القديم، وهو خلاف جوهر يتعلق بصميم العقيدة والتفكير والاتجاه، ذلك أن هيكل رأى أن الغرب قد خدعنا عن نفسه حتى تكشف لنا أنه إنما يهدف إلى تغريب الشرق وقد ظهر حين أصدر المستشرق "جب" كتابه "وجهة الإسلام" الذي كان بعيد الأثر في تحول تفكير هيكل ولكن طه حسين الذي ظل مصرا على أرائه انتهز الفرصة ليعاقب الدكتور هيكل في هذا التحول وهكذا درات هذه المعركة التي تعد نقطة ارتكاز في تمزق تيار المدرسة الحديثة. من طه إلى هيكل: وهكيل كالسيل إذا عرض لموضوع اندفع فيه فجاء بالجيد الكثير ولكن لا يسلم أحيانا من العثار فكثيرا ما يتورط في الخطأ لأنه يسرع ولا يتكلف التحقيق والتثبت. وتستطيع أن تأخذ هيكلا بطائفة غير قليلة من الخطأ الذي مصدره الإهمال والسرعة وشيء من الازدراء لتحقيق المحققين، متفق أننا بعد هذا كله مع هيكل في آرائه كلها حول القديم والجديد، ما أظن إلا أننا نتفق في أكثرها ونختلف في أقلها، ولعل اختلافنا أن يكون ناشئا من شيئين: أحدهما هذا الإهمال الذي أخذ به هيكلا والذي يدفعه إلى المبالغة ويضطره إلى التقصير أحيانا، والثاني أن هيكلا رجل أديب. ولكن اشتغاله المتصل بالسياسة قد أثر في تصوره للأشياء وحكمه عليها بعض الشيء. فهو يسرف حين يسيء الظن بما يكتبه الأوروبيون عنا حين يمسون حياتنا الأدبية ويسرف أيضا حين يحسن الظن بنا وبحظنا من الخيال وقدرتنا على الإنتاج.

ولكنه رجل سياسي حين يكتب في الأدب يريد أن يدافع عن مصر والشرق كما يفعل في السياسة، أما أنا فأريد أن أدافع عن مصر والشرق، وأريد أن أرضي مصر والشرق ولكن بشرط ألا يورطني هذا في تغيير الحقائق العلمية أو مسها بشيء من التشويه ولو قليلا. من هيكل إلى طه: وقد لاحظت يا أخي أن اشتغالي المتصل بالسياسة قد أثر في تصوري الأشياء وفي حكمي عليها بعض الشيء وذكرت لذلك مثلين: أحدهما، أني أسرفت حين أسأت الظن بما يكتبه الأوروبيون عن حياتنا الأدبية بينما أنت تظن أن جب وأمثاله لا يأخذون السياسة وأهواءها مقياسا لدراساتهم الأدبية والثاني إني أسرفت حين أحسنت الظن بنا وبحظنا من الخيال وقدرتنا على الإنتاج وإني فعلت ذلك لأرضي المصريين والشرقيين في الأدب كما أفعل في السياسة وأنك أنت ترى هذا شرا لأنه تغيير للحقائق العلمية وإني أؤكد لك أن في الحقائق العلمية أثر عندي أنا أيضا من كل شيء ومن كل إنسان. وإن كان اشتغالي بالسياسة قد أثر في تصوري الأشياء وفي حكمي عليها فإنما كان أثره أن زادني تقليبا للأشياء وامتحانا لها وتعمقا في بحث ما تنطوي عليه وما ترمي إليه وإذا كانت الأهواء السياسية ليست هي التي توجه دراساتهم فدراساتهم يقصد بها في كثير من الأحيان إلى خدمة تلك السياسة. وما أحسبك تخالفني يا صديقي في أن كتاب "وجهة الإسلام" الذي ألفه خمسة من كبار المستشرقين المشتغلين بالأدب الحديث في بلاد الشرق المختلفة، إنما هو كتاب سياسة مداه بحث ما وصلت إليه أوربا مما يسميه الأستاذ جب "تغريب الشرق" وما يرجى لهذا التغريب في المستقبل من نجاح

وأنا لا أعيب هؤلاء العلماء بهذا بل أحسدهم عليه أعظم الحسد فهم به يخدمون أوطانهم ويخدمون العلم ويخدمون الحقيقة من ناحية سياسة بلادهم ومن ناحية الحضارة الغربية التي يريدون أن تظل المدينة الحاكمة في العالم. وهذه الخدمة الجليلة التي يقومون بها لأوطانهم وللعلم ولحضارتهم حقيقة علمية يسر لي اشتغالي بالسياسة الوقوف عليها ولو أنك انقطعت للسياسة يا صديقي انقطاعي لها وأفنيت من تفكيرك ما أفنيت أنا لوافقتني على هذه الحقيقة ولم تتهمني بالإسراف إذ علمتها. أما إني أسرفت متأثرا باشتغالي المتصل بالسياسة في حسن الظن بنا وبحظنا من الخيال وقدرتنا على الإنتاج فأحسب صديقي يوافقني على أنه إذا زالت عوامل الفتور والضعف مما أشرت إليه في تضاعيف كتابي لما كان فيما قلت شيء من الإسراف. يومئذ يكون القول بقصورنا في الخيال وفي القوة على الإنتاج تجنيا على هذه البلاد وعلى الحقيقة، هذا إلا أن تكون يا صديقي من الذين يقولون بأن الأوروبيين ينتمون إلى الجنس الآري، وهم لذلك أرقى منا ونحن ننتمي إلى الجنس السامي بالطبع. وما أحسبك تقول بهذا أو تعتبره حقيقة كما يود بعض العلماء في أوربا اعتباره بل أحسبك ترى هذه حقيقة سياسية يراد بترويجها "تغريب الشرق" والقضاء عليه بأن يبقى خاضعا للغرب إلى الأبد.

اعترافات الدكتور هيكل 1: والآن علنا أن نستعرض القضية من أولها ذلك أن هذا التحول كان بعيد الأثر في الفكر العربي المعاصر وهو ليس هينا على النحو الذي يبدو من المساجلة ولكنه كان عميقا وخطيرًا بالنسبة للمثقفين الذين سافروا إلى أوربا واعتنقوا مذاهب الغرب في الفكر ثم فقدوا ثقتهم في هذا الفكر فيما بعد ولذلك يعرض هيكل هذه القضية عندما أصدر "جب" كتابه وجهة الإسلام قال: عاد هؤلاء "المبعوثون من شباب العرب" إلى بلادهم يبشرون بالحضارة الغربية، لكنهم ما لبثوا أن صدمتهم ظاهرتان عجيبتان أثارتا دهشتهم لتناقضها مع أصول الحضارة الغربية تناقضا بينا، الأولى هذه الحرب المنظمة التي يقوم بها الاستعمار الأوروبي لحرية العقل حرية مستندة إلى النظام الجامعي الذي يقرر البحث العلمي الطليق من كل القيود سواء أكانت دينية أم غير دينية والمستند إلى القواعد العلمية الصحيحة. وقد راعهم من هذه الحروب أنها لم تكن تقبل هوادة قط وأن ممثل إنكلترا في مصر لم يكن يأبى أن يكتب في تقاريره أن مصر بغير حاجة إلى علماء بالمعنى الغربي وإنما هي بحاجة إلى موظفين مطواعين. والظاهرة الثانية: انتشار المبشرين الغربيين في كل مكان في المدن الكبيرة والصغيرة بل في القرى يدعون إلى المسيحية ولا يأبون التعريض بالإسلام. وبالرغم من هاتين الظاهرتين ظل هؤلاء الشبان يدعون إلى الحضارة الغربية مستندة إلى أصلها الصحيح. أي إلى حرية البحث ونزاهة العلم ويدعون إلى ذلك في حرارة لم تكن من شأن الجامدين على التقليد الديني الذين رموهم بالإلحاد، إلا أن زادها قوة استعارا، ولكن مرور الزمن فتح عيونهم على حقيقة أخرى لم تكن أقل إثارة لدهشتهم من

_ 1 14 أكتوبر 1932 ملحق السياسة الأسبوعية.

الظاهرتين اللتين قدمتا. فما يصدر الغرب للشرق من آثار حضارته قد وقف أو كاد عند أسوأ ثمرات هذه الحضارة وعندما كان يؤتى بلاد الغرب من الربح المادي ما يمده بأسباب الرخاء والترف. فتجارة الرقيق الأبيض والكحول ومواد الزينة واللهو وجوقات الهذر المسرحي كانت أول ما يصدم الناظر لآثار الغرب في الشرق. ولم يقدم الغرب إلى جانب هذا من صالح ثمرات حضارته ما يستر سوآتها هذه، بل هو كما قدمنا قد وقف حائلا دون سرعة انتشار العلم الصحيح مما كان هؤلاء الشبان يجاهدون بكل ما يدخل في حدود طاقتهم لنشره والتمكين له. ثم كشفت تعاقب السنين من بعد الحرب عن الحقيقة المؤلمة المضنية، فقضية أوربا التي حاربت في سبيلها أربع سنوات تباعا والتي بذلت فيها مهج أبنائها وملايين ما كدست من الثروة على السنين، لم تكن إلا قضية الاستعمار ومن يكون له حق التوسع فيه دول الوسط أمام الخلفاء، ثم بدت حقيقة أشد من هذه الحقيقة مرارة وإيلاما، تلك أن الغرب الذي تزعم دولة أنه تحرر من قيود التعصب الديني ما زال يذكر الحروب الصليبية التي نشبت خلال القرون بين المسيحية والإسلام. وإن كلمة لورد اللنبي يوم استولى على القدس وقوله أن الحروب الصليبية قد انتهت كانت تعبر عن معنى يجول بخاطر الدول الأوروبية جميعًا. في ظل هاتين الحقيقتين الأليمتين جعلت دول الغرب التي وضعت يدها على العالم الإسلامي تمد في أسباب الجمود الديني عن طريق الجامدين المتعصبين لتزيد الشعوب الإسلامية جمودًا ليزيدها الجمود ضعفا, وجعلت تحمي الجماعات التبشيرية الدينية وتمدها بكل ما تستطيع من قوة وتحاول أن تحطم كل قلم وكل رأس يقف في وجه هؤلاء وأولئك.

هنا اليقظة المرعبة، يقظة هؤلاء الشبان الذين درسوا في أوربا وجاءوا ينشرون في البلاد الإسلامية لواء حضارة الغرب، ما هذا؟ إلى أي حضيض يهوي أهل الحضارة؟ كيف تطوع لهم ضمائرهم أن يستخدموا العلم الإنساني لإذلال الإنسانية وإهدار كرامتها؟ وكيف تظل أوربا على تعصبها الديني الذي انبعثت جنودها في القرون الوسطى باسمه لمحاربة المسلمين؟ وكيف تسيغ أوربا في سبيل الحياة المادية وترفها أن تحول بين شعوب كاملة. بل بين عالم بأسره وبين النور القدسي الذي يضيء به الله الأرواح والقلوب عن طريق العلم والمعرفة وكيف تطمع المسيحية في أن تكتسح الإسلام وهو أسمى الأديان التي دعت إلى الحرية الحقة ما أخذ في صفاء جوهره وما نفيت عنه هذه الترهات التي أضيفت إليه على أنها منه وليست منه. وقامت لذلك في نفوس الذين ألقي إليهم النهوض بأعباء الحركات القومية التي اهتزت بها أمم الشرق في أعقاب الحرب ثورة على هذه الأساليب التي لجأ إليها الغرب، وجعل كل يفكر. والذين يقومون بأمر الصحف في الشرق ويؤيدون هذه الأفكار الثائرة على الغرب وعلى استعماره وتبشيره كثرتهم الساحقة إن لم نقل كلهم من الذين تعلموا علوم الغرب وكانوا يبشرون بحضارته ومن الذين يؤمنون ما يزالون بأن الأساس الذي قامت عليه: حرية العقل والتفكير وحرية البحث العلمي هو خير أساس تقوم عليه حضارة على أن لا ينكر هذا الأساس حاجات الروح للاتصال بالعالم على أنه فكرة لا على أنه آلة. وعلى أن لا ينكر على العاطفة وعلى وحي النفس وإلهام الفؤاد سلطانها في الحياة.

ثم أشار الدكتور هيكل إلى هذا التحول من جانبه وجانب زملائه فقال: وليس أدل على ذلك مما لاحظه الأستاذ جب وزملاؤه مؤلفو "وجهة الإسلام" من أن كثيرين من الشبان الذين حملوا لواء الحضارة الغربية وصاروا يبشرون بها قد عاد الكثيرون منهم يشعرون شعورا قويا صادقا بأنهم في حاجة إلى أكثر مما تمدهم الحضارة الغربية به، وأنهم لذلك يجب أن يلجئوا إلى تراث السلف من المسلمين لالتماس ما ينقص هذه الحضارة الجديدة. وزادهم شعورًا بهذا النقص أن رأوا الفكرة القومية تقوم في الغرب على نضال اقتصادي عنيف لا يعرف هوادة ولا يقف في وجهه اعتبار من قواعد الخلق أو من الإخاء الإنساني أو من المودة والرحمة. نضال في سبيل المادة بين أهل البلد الواحد وبين الدول المختلفة هو الذي كان مثار الحروب ومثار أسباب الشقاء والتعس في هذا العصر من عصور الإنسانية فهل ترى يجد العالم في تراث الماضي ما يشفي غلة روحه مما عجزت الحضارة الغربية عن أن تقوم به وما يقيم حياة جديدة وحضارة جديدة ليس فيها هذا الجشع المادي الفظيع الذي يهوي بالإنسان إلى مرتبة لا ترضاها النفس الفاضلة. إن هذا التراث قد اختفى تحت طبقات وطبقات من أباطيل عصور الانحلال الذي أصاب العالم الإسلامي قرونا متواصلة. فليكن من عمل رجال العالم الإسلامي أن يزيحوا أكداس هذه الطبقات وأن يعيدوا إلى الوجود في إحدى صور الوجود وعلى طريقة علمية صحيحة ما يشتمل عليه هذا التراث الذي غزا العالم وغذاه بأدوات الحضارة أجيالا وقرونا طويلة. عند هذه النقطة يقف العالم الإسلامي اليوم، ومظهرها الواضح الصريح أن أولئك الذين كانوا دعاة الحضارة الغربية وحملة أعلامها والذين بلغوا

من إدراك حقيقتها، أن وقفوا على هذا العجز والتصور فيها، هم الذين يقومون اليوم بهذه الدعوة وكثيرون منهم هم الذين يقومون اليوم بهذا البحث، أولئك يشعرون شعور الواثق بأنهم سيجدون ولا ريب في هذا التراث ما يبعث إلى عالم اليوم الرازح تحت ظلمات المادة ضياء روحيا، هم وحدهم القديرون على بعثه من جديد لأن اتصاله بروحهم دون روح الغرب هو الذي يذكي ضياءه. ويوم يدفعون إلى هذا فسيتاح للعالم الإسلامي بموقعه الجغرافي بين الغرب والشرق وبين المسيحية والديانات الآسيوية أن يمد يدا إلى ناحية ويدا إلى الأخرى ليرتفع بهؤلاء وأولئك إلى ميادين الحضارة الصحيحة الحضارة التي تقوم على أساس الإخاء وتقول: إن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. الحضارة التي لا تعرف إسلاما لغير الله. ولا تعرف للحق حدودًا ولا لحرية العقل قيودا. والتي تنير ظلمات العيش بالرحمة والمؤخاة بين الناس جميعا أيا كانت أجناسهم وعقائدهم.

الفصل الثامن: الفن للفن والفن المجتمع

الفصل الثامن: الفن للفن والفن المجتمع ... لفصل الثامن: الفن للفن والفن للمجتمع؛ بين أحمد أمين وتوفيق الحكيم وعبد الوهاب عزام: جرت مساجلة حول "مستقبل الأدب العربي" حيث أنشأ أحمد أمين في مجلة الثقافة عدة مقالات في هذا الموضوع تناول فيها ضرورة إنشاء أدب جديد يعنى بالإصلاح الاجتماعي وعرض للأدب الاجتماعي الأمريكي وهاجم الأدب الذي يعتمد على التراث القديم ويستوحي أساطير اليونان والرومان. ورد عليه "توفيق الحكيم" مبينا أن الأدب الباقي وهو الذي لا يرتبط بالأحداث ولا بالمشاكل الاجتماعية العامة؛ وإنما يبقى الأدب حين يتصل بالنفس الإنسانية. وهاجم توفيق الحكيم دعوة أحمد أمين إلى "أخلاقية الأدب" وقال: إن الفنان ليس مطالبا بأن ترسم له الطريق وله أن يكون حرًا في عمله. وكان توفيق الحكيم في هذا متأثرا بالنظرية الغربية التي تفرض فصل الأدب عن المجتمع هي نظرية تخدم الاستعمار والتغريب إذا قبلناها على علاتها. أحمد أمين 1: أول واجب على الأدب العربي في نظري أن يتعرف الحياة الجديدة للأمة العربية ويقودها. ويجد في إصلاح عيوبها ويرسم لها مثلها الأعلى ويستحثها للسير إليه. إن الأدب العربي إلى الآن تغلب عليه النزعة الفردية لا النزعة الاجتماعية. وأرى أن الأدب العربي يجب أن يتجه من جديد -بقوة ووفرة- إلى النزعة الاجتماعية حتى يعوض ما فاته منها ومستقبل الأمم العربية وحاضرها في أشد الاحتياج إلى الأدب الاجتماعي ينهض بها. أطمع أن يكون لنا في الأدب العربي أمثال برناردشو في الأدب الإنجليزي وأنانول فرانس في الأدب الفرنسي وتولستوي في الأدب الروسي

_ 1 العدد 275 مجلة الثقافة 4 أبريل 1944.

وأمثالهم ممن وقفوا أدبهم على خدمة المجتمع وأشعاره واستثارته إلى التسامي. وهذا هو الأدب الأمريكي يحمل لواءه اليوم رجال مارسوا الحياة العلمية في شتى شئونها، ثم لم يكتبوا في خيال أو أوهام وأحلام. وإنما يكتبون أكثر ما يكتبون في مشكلاتهم المالية ومسائلهم اليومية وحياتهم الاجتماعية وأكثر هؤلاء لا يستوحون أساطير اليونان وإنما يستوحون مجتمعهم وما فيه وما يصبو إليه وللأديب العربي أن يستوحي امرأ القيس أو شهر زاد ولكن يجب أن يكون ذلك نوعا من الأدب لا كل نوع وهو النوع الغالب ولا هو الأرقي. والذي أوقع الأدب العربي في هذا النقص أن الأدب ظل من ظلال الحياة الاجتماعية وللبيئة أثر كبير في تكوينه والأمم العربية قضت عهدًا طويلا في دور قوي فيه الوعي الفردي ولم يقوَ فيه الوعي الاجتماعي شأن الأمم كلها. ولكن الأمم الحية قطعت هذه الدور، وتعلمت الوعي الاجتماعي والأمم العربية لا يزال الوعي الاجتماعي فيها في حالة التكون لم يتم ولم يقو. فالوعي الاجتماعي يكون حيث يكون شعور أفراد الأمة بعلاقاتهم وخيرهم وتجاه تفكيرهم وإرادتهم لخير المجتمع بجانب الشعور بالتفكير والإرادة في أشخاصهم. إن الأمم الشرقية في بدء عهدها بالوعي الاجتماعي يجب أن يكون لها أدباء يدفنون هذا الوعي العام إلى الإمام حتى يكمل وينضج. توفيق الحكيم 1: مع الأسف أراني مضطرا أن أقول: إن استيحاء أساطير اليونان والرومان

_ 1 مجلة الرسالة عدد 562, 10 أبريل 1944.

وامرئ القيس و"شهر زاد" هو النوع الأرقى في الأدب، في كل أدب، لا في الماضي وحده ولا في الحاضر بل في الغد أيضًا وبعد آلاف السنين ما دام الإنسان إنسانًا, وما دام رقيه الذهني بخير لم يصبه نكاس. فالإنسان الأعلى هو الذي يصون "الجمال الفني" من الاستغلال في أي صورة من صوره. ويحتفظ به لمتعته الذهنية وثقافته الروحية. وأن اليوم الذي يرى فيه "الأدب" قد استخدم للدعايات الاجتماعية. والتصوير استغل في معارض الإعلان عن السلع التجارية، و"الشعر" جعل أداة لإثارة الجماهير في الانتخابات السياسية، لهو اليوم الذي نوقن فيه بأن الإنسان قد كر فانقلب طفلا يضع في فمه تحف الذهن وطرف الفكر لأنه لا يدرك لها نفسًا غير ذلك النفع المادي المباشر، والأدب الأمريكي الذي يعجب به أحمد أمين هو في أغلبه صحافة راقية أكثر مما هو أدب حقيقي. والأدب الحقيقي فيه هو ما استند إلى أساطير اليونان والرومان، أي مخلوقات الإنسانية التي أبدعتها أحلامها وخيالها الرائع. فالخلاف بيني وبين الأستاذ أحمد أمين هو على معنى الرقي فأنا لا أسلم أبدا بأن رقي الإنسان هو في تقدم أسباب معايشه المادية، هذا حقا هو الرقي بالمعنى الأمريكي، ولكن الرقي بالمعنى الإنساني المثالي شيء غير ذلك. إن الإنسان الأعلى ليس ذلك الذي يضع كل شيء في فمه. ولكنه ذلك الذي يشعر بحاجته إلى متع معنوية وأغذية روحية وأطعمة ذهنية لا علاقة لها من قرب أو بعد بتطورات حياته المادية أو الجسمانية. إن مطامع الناس شاءت أن تمتد أيديها الفانية إلى هذا الجوهر السامي لتسخره في شئون الأرض فرأينا الشعر والأدب يتجهان إلى غايات نفعية. فاستخدام الشعر أحيانا لمدح الملوك والأمراء من أجل المال والثراء, أو لنشر الدعوة في الدين والسياسة من أجل الثواب أو الجزاء. ولكن كلمة الفن هي العليا دائمًا.

ويملك ما لا يسلم به الأستاذ أحمد أمين فهو يعتقد الفن المسخر لخدمة الضرورات اليومية في المجتمع هو الفن الأرقى متأثرا ولا ريب بتلك النظريات الحديثة في السياسة والاقتصاد التي ترمي كلها إلى تملق الجماهير ومداهنة الدهماء ومصانعة الجماعات والنقابات ومسايرة الكتل والسواد من الناس والشعوب. أما إذا كان في الإمكان وجود فن يخدم المجتمع دون أن يفقد ذرة من قيمته الفنية العليا فإني أرحب به وأسلم من الفور بأنه الأرقى. ولكن هذا لا يتهيأ إلا للأفذاذ الذين لا يظهرون في كل زمان. أحمد أمين 1: إنه -أي الأستاذ توفيق الحكيم- قلب غرضي رأسا على عقب ونسب إلي ما لم أقل. إني دعوت إلى أن يكون من مصادر الأدب حياتنا الاجتماعية التي تحياها فيكون لها روايات تمثل بؤس الشعب وأغلالها والاستبداد بها وتعدو إلى حياة أسمى من حياتنا وإلى تكسير أغلالنا والثورة على الظلم الذي ينتابنا، فاستنتج من هذا استنتاجا عجيبا, إني أدعو إلى المادية، وإلى تسخير الأدب في خدمة العيش وإني أريد -على حد تعبيره- أن أستخدم الأدب للدعايات الاجتماعية. لا يا أخي؛ فرق كبير بين الدعوة إلى أن يكون من مصادر الأدب الحياة الاجتماعية والوعي الاجتماعي وبين الدعوة إلى مادية الأدب وتسخيره للأغراض الوضعية، فالأدب الاجتماعي قد يكون في أسمى مراتب الروحانية.

_ 1 مجلة الثقافة العدد 277, 18 أبريل 1944.

الحق أن في الأدب الفردي ما هو مادي وما هو روحاني، وفي الأدب الاجتماعي ما هو مادي وروحاني, فتعميك بأن الأدب الاجتماعي أدب مادي، وأنه هو الذي أقصده دون سواء، ظلم في الحكم لا ترضاه. ولعل الخلاف الحقيقي بينك وبيني أنك تفضل الأدب الذي ينبع من الوعي الفردي على الأدب الذي ينبع من الوعي الاجتماعي، وأنك تفضل الأدب الذي يستوحي الحياة الاجتماعية الحاضرة وتفضل الفن للفن على الفن للمجتمع. أو من الحق أن تستلهم الأدب اليوناني والروماني وتترك استلهام قومك وهم أولى بالاستلهام، ونحن أكبر تذوقا لما يستلهم منا وأشد انتفاعا به من غير أن ينقص الفن شيئا. أيعجبك أن ينصرف الأدباء كلهم إلى وصف لوعة الحب والاستمتاع باللذة والتغزل في الخمر، ولا يتعرضون لمكبلين بالأغلال يجب أن يكفوا وإلى غارقين في الجهل يجب أن يتعلموا ومصابين بالخمول يجب أن ينشطو أو لاصقين بالأرض يجب أن يعلوا إلى السماء ثم تقول الفن للفن وماذا يضير الفن لو نظر إلى المجتمع فرفعه كما فعل برناردشو وتولستوي وأمثالهما. توفيق الحكيم 1: مناقشتنا تقوم في جوهرها على الرغبة المجردة في الوصول إلى غرض واحد. هو كيف نبلغ بأدبنا العربي قمة الكمال! النية واحدة لا ريب. ولكن السبل مختلفة فأحمد أمين يرى أن أدبنا

_ 1 الرسالة العدد 564، 24 أبريل 1944.

لن يصل إلى مرتبة الآداب الأوروبية إلا إذا خاض مثلها في طريق الحياة العامة. فنقد الفاسد من أوضاع المجتمع وقوم المعوج واقترح وسائل الإصلاح ونادى بالنافع من العلاج والمستحدث من النظم. وهنا يجدر بنا أن نسأل: هل من الحق أن الأدب الأوروبي بلغ مبلغه بفضل نزوله معترك الحركات الإصلاحية, أو بفضل قيمته الفنية ومزاياه الأدبية. الذي أعلمه هو أن أناتول فرانس أديب وأن برناردشو مؤلف مسرحي وأن تولستوي قصصي. وتلك هي صفاتهم التي تؤخذ على سبيل الجد أما ميول فرانس وشو الاشتراكية ونزعات تولستوي الإصلاحية فهي نواح ينظر إليها تارة بغير احتفال وتارة أخرى على أنها توابع أو ظواهر ودلائل قد تفسر على ضوئها بعض أعمالهم الأدبية أو آثارهم الفنية. لقد تحدث الأستاذ أحمد أمين في أكثر من موضع عن الرويات الغرامية وعرامة الحب بما ينم عن الازدراء. كم من المؤلفات المملوءة بالإرشاد والإصلاح. قد نشرت وظهرت ولم تحتفظ بها ذاكرة الزمان ولكنها احتفظت بقصة غرامية أو قصيدة غزل أو رواية حب عارم. كلا؛ لا ينبغي علينا أن نملي على الفن اتجاها بعينه ولا يجوز لنا أن نوصيه بارتداء لباس الحكمة الرزينة أو رداء الإصلاح الوقور. إن الآداب الأوروبية لم تحترم يوما فنانا أديبا لأنه مصلح, ولكنها قد تحترم المصلح إذا كان أديبا أو فنانا.

ونحن الشرقيين تبهر عيوننا دئما كلمة "مصلح" بقدر ما نستهين بكلمة فنان. إن الفنان ليس مصلحا ولكنه هو صانع المصلح. كل أولئك المصلحين ما كونهم وهيأهم لرسالات الإصلاح غير أدب الأدباء، وشعر الشعراء وفن الفنانين. وإن الفنان هو مصلح المصلح ولا شيء غير ذلك أما أن ينزل الفنان بفنه إلى الميدان فيناقش ويدافع ويهاجم وينافح, فهذا ما لم نره حتى الآن في فن استحق البقاء في أمة من الأمم أو حضارة من الحضارات. أما أن يخدم الفنان والعالم أمته وقومه فهذا واقع بالبداهة والضرورة. لأن آثار الفن والعلم لا تبقى ولا يمكن أن تبقى إلا إذا رأى الناس في بقائها منفعة. أحمد أمين: إني أوافقك تمام الموافقة على أن الأدب أخلد من العلم، ومن النظريات السياسية والاجتماعية، والعلة في هذا أن الأدب متصل بالعاطفة والعواطف بطيئة التغير. أما العقل ففي تغير مستمر ورقي مستمر، فما يصلح له أمس لا يصلح له اليوم، وما يصلح له اليوم لا يصلح له غدا. إن الأدب يجب أن يكون صورة للنزاعات كلها السامية منها والوضعية. أما أن يكون كله أو أكثره تصويرا للعلاقات الجنسية ففقر في الأدب، وضيق في الأفق. إن أدب الأمة الحق ما صور الأمة وصور الحياة في مختلف نواحيها وكما أن الحياة الحقة ما انسجمت فيها نواحيها، فكذلك الأدب الحق ما انسجم إنتاجه، فإذا كان أدب أمة واسعًا عريضًا في الحب والعلاقة الجنسية ضيقا كذا فيما عداه فهو صورة مشوهة لا تمثل الواقع. إنكم مقررون أن كل شيء صالح

لأن يكون موضوع أدب إذا رددتم على من يطالبكم بناحية في الأدب جديدة، ولكن في موضوع واحد هو الحب والغرام. وظيفة الأدب الحقة أن يغني نواحي الإنسانية ويرقي مشاعرها، ويعلي من مداركها ويوسع أفقها. لعل نقطة الخلاف الحقيقية بين الأستاذ توفيق الحكيم وبيني هو أنه يريد أن يقدر الفن بجماله فقط وأريد أن أقدره بجماله وأخلاقيته معًا، وقلت: لا ينبغي لنا أن نملي على الفن اتجاها بعينه ولا يجوز لنا أن نوصيه بارتداء لباس الحكمة الرزينة. وهذا حق إلى حد ما ولم أرد فيما قلت أن أرسم منهجًا للأدب أحمل الأدباء على السير فيه ولو أردت ما استطعت1.

_ 1 مجلة الثقافة عدد 279, 2 مايو 1944.

الباب السادس: معارك النقد حول الكتب

الباب السادس: معارك النقد حول الكتب الفصل الأول: رسالة منصور فهيم الدكتوراه ... الباب السادس: معارك النقد حول الكتب الفصل الأول: رسالة منصور فهمي. الدكتوراه كان الدكتور منصور فهمي من أوائل المبعوثين إلى الجامعات الأوروبية. منذ سافر 1908 إلى باريس حيث أعد أطروحة الدكتوراه تحت إشراف "ليفي برل" الإسرائيلي وموضوعها "حالة المرأة في التقاليد الإسلامية وتطوراتها" وقد طبعت هذه الرسالة في باريس 1913؛ ولم تنشر باللغة العربية وإنما أثارت ضجة حينما نقلت بعض نصوصها إلى الصحف وقد اضطرت الجامعة المصرية بعد أن راجعت نصوص الكتاب إلى الاستغناء عن منصور فهمي وتناولت جريدة المؤيد أمر هذا الكتاب بعدد من المقالات نشرتها خلال شهر يناير ومارس 1914 وكان أبرزها ما نشره محمد لطفي جمعة "وهو أحد كتابنا الذين درسوا في أوروبا وفرنسا بالذات" مفندًا أخطاء منصور فهمي وقد دافعت "الجريدة" دفاعا حارًا عن منصور فهمي كما نشرت الجريدة مقالا بعنوان حرية الفكر وأدب النقد لعبده البرقوقي ذكر فيه أنه نائب عن جمعية الطلبة المصريين بباريس ينعى فيه على من هاجموا منصور فهمي ونالوا منه وسفهوا رأيه وقال: إن الإنسان حر في معتقده. ولكن الدكتور منصور فهمي لم يلبث أن صحح معتقده وألقى خطابا في الاحتفال بعيد الهجرة "1361-1915" تحدث فيه عن أنشودة البطولة المحمدية الرائعة, وقال: إنها تهز هواطعنا لمطلع دين جديد إنساني سمح عظيم يذكرنا بروائح الجهاد البالغ من حمل رسول الله أمانته فحملها واثقا لكي يبلغها إلى الناس كاملة. وكان في خلال المرحلة التالية من حياته إلى أن توفي 1957 مدرة للعربية والإسلام وأحد أقطاب جمعية الشبان المسلمين ومن الدعاية إلى أمجاد العرب في اعتدال رأي وحماسة صادقة. وهذه هي النصوص التي هاجمها النقاد: "ص15" محمد يشرع لكل الناس ويستثني نفسه ومع أنه -يعني محمدا- كان المشرع الذي ينبغي أن يخضع لما يدعو إلى تطبيقه على الآخرين إلا أنه كان له ضعفه واختص نفسه ببعض المزايا. "ص16" وهكذا نجد أنه -يعني محمدا- بعد أن ينام نومًا عميقا, يقوم ليؤدي صلواته دون أن يجدد طهوره ووضوءه على حين أن المؤمنين

الآخرين كان عليهم الشروع في وضوء وطهور جديد ومن أجل أنه يبرر الاستثناء الذي علم لصالحه اكتفى بأن قال: إن عيني تنام ولا ينام قلبي أبدًا. "ص18" لقد حد النبي من نظام تعدد الزوجات إلا أنه تعدى بالنسبة إلى نفسه ما وضعه من حدود للآخرين فمع أن بقية المؤمنين لم يكن في مقدورهم أن يتزوجوا بأكثر من أربع نساء فإن محمدًا أجاز لنفسه أن يتزوج بأكثر من ذلك كما أنه استلزم لشرعية الزواج دفع مهر ووجود شهود إلا أنه في زواجه أعفى نفسه من المهر والشهود. محمد لطفي جمعة 1: عاد منصور فهمي من أوربا بعد دراسة الفلسفة حاملا لقب دكتور جامعي وهي درجة في العالمية حديثة الوضع أنشأتها جامعة باريس إكرامًا لطلاب العلم الأجانب الذين يعجزون أو يضيق وقتهم عن تحصيل الدكتوراه الحقيقية التي اختص بها الفرنسيون أنفسهم وقليل من الأجانب المجدين. إن أعلى الألقاب العلمية وأشرف المناصب المعنوية لا تبيح للرجل أن ينتهك حرمة دين قوم من الأقوام أو يهاجم أمة في معتقدها أو يقلل من مجد وكرامة نبي مرسل شهد له بالفضل أعداء دينه. لا يظن منصور فهمي أننا نناقشه في رسالته مناقشة من يمكن رميهم بالتعصب وضيق الفكر من المتشددين المغالين في المحافظة على القديم إلى درجة الجمود ولكننا سنناقشه الحساب مناقشة العلم الحديث الذي بهرت بصره قشوره ولم يصل إلى بصيرته.

_ 1 المؤيد 28 يناير 1914.

لن نجادله دينيا لأننا لو طرقنا معه باب الدين فقد كفر لمجرد قوله "إن محمدًا شرع للناس واستثنى نفسه" ص13 من رسالته. فهو بهذا القول ينكر الوحي وينكر العصمة ويؤكد أن محمدًا هو واضع الشرع. نحن نريد أن نتجرد عن صفتنا الدينية مؤقتا لنثبت بالعلم القديم والحديث وبالأدلة العقلية والمنطقية جهله وتعديه حقوقه وعبثه بحرية القول والفكر والاعتقاد. يقرر منصور فهمي في فاتحة رسالته أنه أنشئ مسلما في وسط إسلامي وأنه قصد باريس ففتح عليه بإرشاد العلامة ليفي الإسرائيلي فظهرت فيه المؤثرات السعيدة فدون هذه الرسالة التي بحث فيها في حالة المرأة في الإسلام. ألا يعلم حضرته أن العالم الحقيقي إذا أراد البحث والاستقصاء عن أمر من الأمور ذهب إلى مصدر الأمر واستقصى الحقيقة من نبعها الأصلي حتى إن دارون القائل بمبدأ التطور والنشوء لما أراد التثبت من مبدئه طاف جزر المحيط الهندي الخصيب منها والمجدب ليقف على طبائع ما يوجد فيها من أنواع المخلوقات. كذلك علماء الاجتماع الذين جعلوا همهم درس شئون الأمم والشعوب المختلفة لم يقولوا برأي من الآراء دون الذهاب إلى أوطانها ودرس أحوالها من قرب. فغريب جدًا من منصور فهمي الشرقي المصري المسلم أن يترك الوسط الإسلامي، وسط علماء الأزهر ووطن جلال الدين السيوطي وابن تيمية والشافعي ويذهب إلى باريس مقر الحاخام ليفي الإسرائيلي للبحث عن حقائق

الدين الإسلامي والاهتداء بنور هذا الأستاذ للوقوف على تاريخ محمد وحياته الخاصة والعامة. إن كثيرين من المستشرقين الذين أخذ عنهم منصور أقل بضائعهم وأحقرها قبل أن يدونوا ما دونوا أنهم يحملون الشدائد في تعلم اللغة الدينية وانتقلوا إلى وسط إسلامي وخاطروا بحياتهم في سبيل الوصول إلى الحقيقة، وصاحبنا منصور فهمي قصد باريس مقر العلامة ليفي ليعود إلينا بالطعن في نبينا ومعتقداتنا المقدسة. وهنا ننقل لحضرته رأي العلامة فبلهاوزن الألماني مؤلف كتاب تاريخ الدولة العربية إذ يقول: إن كثيرين منا يذهبون إلى الشرق للبحث عن عيوب فيجدوا أمورًا تبدل عقيدتهم وفضائل لم تكن تخطر على بالهم فتغير آراءهم تمام التغيير. وإني أذكر منصورًا بعبارة لا بد سمعها من الأستاذ إدوار لامبير وهي قوله: "إنني قبل أن أقصد مصر كان رأيي في الإسلام مخالفا لرأيي بعد إقامتي بضعة شهور حتى إنني مضطر لتغيير ما جاء في كتبي عن الإسلام مما دونته قبل ذهابي إلى مصر". إننا نعرف المصادر التي استقى منها منصور، وبئست تلك المصادر، هي كتب بعض المتعصبين من المستشرقين الذين يرمون بكتاباتهم أغراضا سياسية أكثر منها علمية. إن حرية الاعتقاد تبيح لكل شخص أن ينتحل أي دين أو يقيم شعائر معتقده دون اضطهاد أو تعذيب وشتان بين حماية المتدين وبين الطعن في صاحب شريعة عظمى.

إن العاقل الكبير النفس هو الذي يرحل إلى الغرب مملوء القلب بالآمال العالية فيعود إلى وطنه وقد ازداد حبه لقومه ودينه وقد يرحل أحدنا وهو ضعيف العقيدة ويعود إلينا وهو شديد التعصب لملته وقومه. يقول منصور فهمي في مقدمة كتابه 1: "إن هذه الرسالة تعطينا فرصة لإظهار المؤثرات السعيدة التي أثرت على تفكيرنا العلمي فقد ولدت مسلما وقضيت شبابي في وسط إسلامي ثم رحلت إلى باريس وحصلت العلوم بإرشاد ورعاية العلامة ليفي بريل". ومعنى هذا أن نشأته في وسط إسلامي كان حائلا بينه وبين النور الإسرائيلي الذي أشرف عليه مجلس الأستاذ ليفي وهو فيما نعلم رجل خامل الذكر لم نسمع عن مؤلف من مؤلفاته وربما خدع منصور أفندي بما يقوله بعض أدعياء العلم في أوربا من أن النبي عليه الصلاة والسلام تزوج عددًا عظيما من النساء بلغن الثلاثة عشر عددا حبا منه في التمتع وأنه عليه السلام لم يبح لأمته إلا أربعا على أن منصور أفندي لو نظر إلى شخصيات زوجات النبي نظرة الفيلسوف العالم الباحث عن الحقيقة، الآخذ بلب الأمور المعرض عن قشورها لعلم أن هناك أسباب عليا دعت النبي محمدًا إلى التزوج من نساء يزيد عددهن عن الأربع وتلك الأسباب أولها وأهمها رغبته في ربط الأسر والعائلات الكبرى ببيته الطاهر.

_ 1 نشرت جريدة الجريدة عدد 2117 مقالا بعنوان حرية الفكر وأدب النقد لعبده البرقوقي ذكر فيه أنه نائب عن جمعية الطلبة المصريين بباريس ينعى فيه من ردوا على منصور فهمي أنهم نالوا منه وسفهوا رأيه وتناولوه بالسب والشتم وقال: إن الإنسان حر في معتقده.

الفصل الثاني: الخلافة وأصول الحكم

الفصل الثاني: الخلافة وأصول الحكم معركة حول كتاب علي عبد الرازق: في أوائل عام 1925 كانت تركيا قد ألغت الخلافة وقام في العالم الإسلامي عراك سياسي ضخم حول إعادة الخلافة. وتقدم الشريف حسين فدعا إلى نفسه بالخلافة، في مصر قام الأزهر بحملة كبرى دعا فيها إلى عقد مؤتمر لبحث الخلافة ورددت الصحف أن الملك فؤاد أصلح ملوك العالم الإسلامي لحمل لواء الخلافة وفي هذه الفترة كان الملك عبد العزيز آل سعود قد استولى على الحجاز ودعا إلى عقد مؤتمر إسلامي في مكة. وفيما كانت هذه المعركة تشغل الصحف والهيئات السياسية وتجد مداها في الصحف الأجنبية المختلفة, كان هناك تيار خفي يجري خلف واجهة حزب الأحرار الدستوريين يحمل لواء الدعوة إلى مهاجمة الخلافة والحيلولة دون قيامها ومعارضة رغبة الملك فؤاد في أن يصبح خليفة للمسلمين. وقد أخذ هذا التيار صورة علمية عندما أذاع الشيخ علي عبد الرازق قاضي محكمة المنصورة الشرعية في يونيه 1926 كتابه الذي أثار ضجة كبيرة إذ ذاك، "الإسلام وأصول الحكم" والذي حاول فيه أن يثبت بالأدلة المختلفة أن الخلافة ليست أصلا من أصول الإسلام، وكان الشيخ عبد الرازق واحدا من أسرة عبد الرازق التي كانت دعامة من دعائم حزب الأمة قبل الحرب العالمية الأولى ثم حزب الأحرار الدستوريين من بعدها. وقد أثار كتاب "الإسلام وأصول الحكم" جدلا وضجة شديدين حيث قامت هيئة كبار العلماء بالتحقيق مع المؤلف الذي هاجمته صحف الوفد وهاجمه علماء الأزهر والغيورون على بقاء الخلافة كنظام من أنظمة الإسلام التي وافقت تطوره على الطريق الطويل. وقد انتهى التحقيق بأن أخرج علي عبد الرازق من زمزة العلماء في أغسطس 1952 ومصادرة كتابه ووقعت من أجل هذا الكتاب أزمة أدت إلى استقالة الأحرار الدستوريين من الوزارة القائمة إذ ذاك. وليس يعنينا هنا إلا جانب المعركة الفكرية التي قامت حوله. أما أثره الفكري فذلك مكانه كتابنا "قضايا الفكر وتيارات الثقافات في الأدب العربي المعاصر".

آراء علي عبد الرازق: 1- إن هذه المسألة "الخلافة" دنيوية وسياسية أكثر من كونها مسألة دينية وأنها مع مصلحة الأمة نفسها مباشرة. ولم يرد بيان صريح في القرآن الكريم ولا في الأحاديث النبوية في كيفية الخليفة وتعيينه وشروط الخلافة ما هي. 2- إنه لعجب عجيب أن تأخذ بيدك كتاب الله القرآن الكريم وتراجع النظر فيما بين فاتحته وسورة الناس فترى فيه تصريف كل مثل وتفصيل كل شيء عن أمر هذا الدين {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ثم لا نجد فيه ذكرًا لتلك الإمامة العامة أو الخلافة. إن ذلك لمحال للمقال. ليس القرآن وحده هو الذي أهمل تلك الخلافة ولم يتصد لها بل السنة كالقرآن أيضًا، قد تركتها، ولم تتعرض لها. رأي هيئة كبار العلماء: 1- جعل المؤلف الشريعة الإسلامية روحية محضة لا علاقة لها بالحكم وتنفيذ أمور الدنيا، مع أن الدين الإسلامي على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عقائد وعبادات ومعاملات لإصلاح أمور الدنيا والآخرة، وأن كتاب الله تعالى وسنة رسوله كلاهما مشتمل على أحكام كثيرة في أمور الدنيا وأحكام كثيرة من أمور الآخرة. 2- زعم أن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين ولا لإبلاغ الدعوة إلى الفاتحين. 3- زعم أن نظام الحكم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان موضع

_ 1 س5 من كتاب الإسلام وأصول الحكم. 2 ص16 من نفس المصدر.

غموض وإبهام أو اضطراب أو نقص وموجبا للحيرة: 4- زعم أن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بلاغا للشريعة مجردًا عن الحكم والتنفيذ. 5- أنكر إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام وعلى أنه لا بد لسلامة من يقوم بأمرها في الدين والدنيا. 6- أنكر أن القضاء وظيفة شريعة وقال: إن الذين ذهبوا إلى أن القضاء وظيفة شرعية جعلوه متفرغا من الخلافة. 7- زعم أن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعد -رضي الله عنهم- كانت لا دينية وهذه جرأة لا دينية. وقد حكمت الهيئة بإخراج علي عبد الرازق من زمرة العلماء غير أن الهيئة عادت وغيرت رأيها في علي عبد الرازق عام 1947 فطالت بالعفو عن الأثر المترتب على الحكم السابق وعين وزيرا للأوقاف "مارس 1947". 1- رشيد رضا: صرح الدكتور منصور فهمي بأن مؤلف كتاب الإسلام وأصل الحكم وأنصاره يذهبون إلى أن الإسلام لا شأن له بمسائل الخلافة ولا بصورة خاصة من صور الحكم وصدقه فيما يحكيه عن المؤلف وأنصاره وهو في مقدمتهم. قال: "لأنه فكر على أسلوب غير أسلوبهم" وهذا خطأ محض فليس الإنكار لأسلوب من أساليب التفكير ولا لوجه من وجوه النظر في المسائل، لقد كنت أول هؤلاء المفكرين ردًا على الكتاب في بعض الصحف إنا لم ننكر أسلوبا من أساليب التفكير ووجها من وجوه النظر في مسألة من المسائل النظرية

في الإسلام وإنما أنكرنا على صاحب الكتاب أنه خرج في كتابه من عقائد جميع المسلمين في الخلافة وحكم الإسلام، وقرر أن الحكومة يحب أن تكون "لا دينية" في السياسة والقضاء بجميع أنواعه وفروعه لا شأن للدين في ذلك. وإنما مأخذه عندما تنتج العقول وتدل عليه تجارب الأمم. نعم إنه حاول الاستدلال على ذلك بأساليب كتابية لا تخرج عن السفسطة والتخيلات الشعرية، وإنها أساليب باطلة ولكننا تجنبنا إلى الآن البحث في تلك الأساليب لئلا تشغلنا عن الحقيقة الصريحة التي هي مخالفة دعوى المؤلف في أن الحكومة في الإسلام يجب أن تكون "لا دينية". هذا ملخص ما ننكره على صاحب هذا الكتاب فهو قد صرح فيه بمخالفة جميع المسلمين سلفهم وخلفهم فموافقة خروج من حظيرة الإسلام والمسلمين. طه حسين 1: سنعرف أهي -أي مصر- جزء من أوربا كما قال إسماعيل أم هي قلعة من الشرق المظلم كما يزعم المصريون وعرفنا وسنعرف أيستطيع الناس أن يفكروا أحرارا وأن يكتبوا أحرارًا ويعيشوا أحرارًا؟ أم هم مأخوذون بلون من التفكير والكتابة والحياة يأمنون ما حرصوا عليه فإن عدوه وأعرضوا عنه فويل لهم من عذاب أليم. لقد تألب رجال في الأزهر -فالأزهر شيء والدين شيء آخر- على الرجل فأخرجوه من زمرتهم. أفليس هذا خليقا بأن يهنأ به "علي"؟ بلى؛ وماذا يضر "عليا" أن يخرج من زمرة علماء الأزهر؟ وماذا ينفع "عليا" أن يبقى في زمرة علماء الأزهر؟ إيه أيها الطريد من الأزهر؛ تعال نتحدث ضاحكين عن هذه القصة

_ 1 السياسة اليومية 14 أغسطس 1925 لم يكتبها بإمضائه، بل بإمضاء "-" وكذبت السياسة في اليوم التالي من أرسل يقول: إن طه هو الذي كتبها.

المضحكة قصة كتابك والحكم عليه وعليك وطردك من الأزهر. ما بال رجال الأزهر لم يفضوا إلى كتابك بالتحريق وقد كان يلزمنا أن نرى نسخة تجمع في صحن الأزهر أو أمام باب المزينين. ألست قد دخلت الأزهر واختلفت إلى شيخوخة وجلست فيه مجلس الأستاذ وقد أخرجوك منه لأنك لا تليق به فليمحوا آثارك منه ليطهروه، ليحرقوا كتابك من ناحية من أنحائه أو زاوية من زواياه. وأنت ماذا يصنع بك؟ يجب أن تحمد الله على السلامة فلو أننا في تلك العصور التي يحكم فيها الأحبار والكهان لأحرقت مع كتابك. دعنا نتحدث في حرية، ولا تكن أزهريا فقد أخرجت من الأزهر، نعم سنضحك منك ومن كتابك وسنضحك من الأزهر ومن الذين أخرجوك منه، ماذا قلت في هذا الكتاب؟ قلت: إن الخلافة ليست أصلا من أصول الإسلام فهلا أكملت البحث وأتممت النظرية، فالخلافة ليست أصلا من أصول الإسلام وإنما هي أصل من أصول الفقه الروماني. سترى أن الخلافة عند المسلمين ليست إلا مناصب الإمبراطورية الرومانية وأن الخليفة ليس إلا إمبراطور وأن مناصب الحكم عند المسلمين ليست إلا مناصب الحكم عند الرومانيين. تعالى نضحك فقد كان كتابك مصدرًا لتغير الأرثوزكسية في الإسلام ولست أنت الذي غيرها أيها الطريد المسكين وإنما غيرها الذين طردوك وأخرجوك من الأزهر. وقد كنا نعلم أن القاهرة مركز أهل السنة وموطن الأشاعرة ومستقر الأرثوزكسية الإسلامية.

ثم ما هذه الهيئة التي أخرجتك من الأزهر وما سلطتها الدينية. هما أثر من آثار الاستبداد أنشأها عباس يوم كان يريد أن يستهوي ويوم كان يريد أن يكيد. وهي أثر من آثار الاستبداد لا يليق بعصر فؤاد مصدر الدستور. الدكتور هيكل 1: لقد ذهبت الأمم العريقة في الحرية والمدنية إلى إطلاق الرأي إطلاقا لا يحد فيه قيد ولا تقف في سبيله عقبة وهؤلاء هم الكتاب في فرنسا وإنجلترا يعلنون آراءهم الاشتراكية بل الشيوعية ولا يضار أحد منهم سبب رأيه ولا يقوم في وجهه قائم لمناقشة وتفنيد آرائه. أقل ما تطمع فيه أن تكون حرية البحث العلمي والاجتهاد الديني القائم على تسامح الشريعة الغراء بحيث لا يضار أحد من ورائها ولا يترتب على مخالفة إنسان لغيره في الرأي أن يصاب بأذى أو يعتدى على حقوقه. إسماعيل مظهر 2: قد يكون الشيخ الأستاذ علي عبد الرازق مخطئًا وقد يكون خطؤه فاحشًا فأنا مثلا لا أوافقه على القول بأن الخلافة ليست حكومة الإسلام. كذلك فصرح بأن في نظام الخلافة مناقضة صريحة لنظام الديمقراطية الممثلة في الحكومات النيابية الحديثة. ولكن هل يصح أن يجرد عالم من ألقابه العلمية لمجرد أنه دافع عن فكرة فيها شيء من روح المناقضة لما يعتقد به أصحاب المدرسة القديمة التي

_ 1 19 أغسطس 1925: 2 السياسة 20 أغسطس 1923.

تفكر على ذات الأسلوب الذي فكر به أسلافنا منذ أزمان بعيدة. ذلك ما لا نقر عليه هيئة كبار العلماء. علي عبد الرازق: رأيه في حكم هيئة كبار العلماء. 1- كنا1 وجلين نعجب للقوم يتهموننا في ديننا ويحاولون أن يعتدوا علينا فيه وما كنا نخاف منهم أن ينزعوا من قلبنا إيمانه ولا من أنفسنا يقينها ولو أن يخرجونا بحق من ديننا الذي ندين الله به ولكن خفنا عليهم أن يتورطوا حتى يزعموا أنهم حكام على القلوب حراس على العقائد وأن بيدهم مفاتيح هذا الدين يدخلون في حظيرته من يشاءون ويخرجون من يشاءون. 2- أن2 النقط السبع التي اعتصرها حضرات السادة من كتابنا اعتصارًا وحسبوها موضع مناقشة بيننا وبينهم واتخذوها حجة علينا لهم، هي خارجة عن موضوع الكتاب إلا نقطة واحدة منها. وليس يضير الكتاب ولا يطعن في موضوعه ولا ينقص من قيمة المباحث الأساسية فيه أن تكون صحيحة أو فاسدة. والواقع أننا كمؤلفين وأصحاب رأي معين ومذهب جديد في مسألة من المسائل لا يهمنا أن يكون حضرات العلماء قد أصابوا أو أخطئوا في أكثر تلك الملاحظات التي ناقشوا بها الكتاب خارج موضوعه الأصلي. ولو شئنا لوافقنا حضراتهم وقبلنا منهم تلك الملاحظات وأرضيناهم وأرحنا أنفسنا وحذفنا من الكتاب الجمل التي بنوا عليها القصور وأقاموا فوقها

_ 1، 2 السياسة 4 سبتمبر 1925، 7 سبتمبر 1925.

الهياكل والقلاع ثم وجدت الكتاب بعد ذلك سليما لم يتغير ولوجدت عنوانه باقيا وصحيحا كما هو. هي الملاحظة الخامسة وحدها التي قد تتصل على نحو ما بموضوع الكتاب فأما الملاحظات الست غيرها فالحق أنها خروج عن الموضوع وتنكب عن حدود البحث. وإقزاع في الجدل لا يرضى عنه كثير. لقد قالوا إننا جعلنا الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة لا علاقة لها بالحكم وأنكرنا ومازلنا ننكر أننا نعتقد أن الإسلام شريعة روحية محضة. تفاصيل المعركة: بدأت السياسة في 20 يونيه سنة 1925 أول حملاتها لتأييد علي عبد الرازق ومهاجمة الأزهر وهيئة كبار العلماء. وقالت إننا نريد صيانة الدستور في روحه وفي كيانه وحماية حرية الرأي. وقال المحرر "لا نريده هو -أي الأزهر- أن يضيق الخناق على عقول فئة من الناس وتفكيرهم بدعوى من الأديان والتعويض بها مختصمة الناس وحاكمة عليهم في وقت واحد". وكتب العقاد في البلاغ فتناول المسألة من الناحية السياسية بعنوان "روح الاستبداد في الآراء1" قال: "إن من العزاء للمتشائمين من هذه الضجة التي ثارت حول كتاب الإسلام وأصول الحكم أن نعلم أن أكثر القائمين بها مدفوعين إليها بدوافع لا علاقة لها بالعقائد والآراء، وأنها لم تمنع أن يروج الكتاب بين الخاصة والعامة وأن يقبل على قراءته الذين حذروا من الاطلاع عليه، إننا لا نعرف صاحب "الإسلام وأصول الحكم" إذا رأيناه في الطريق، وليس هو من شيعتنا السياسية أو غير السياسية فنحن

_ 1 البلاغ 19/ 7/ 1925.

لا ندافع عن شخصه ولا عن مذهبه السياسي حين نكتب هذه الكلمة ولكنا نود أن يعلم الذين لا يعلمون أن قد مضى الزمن الذي تتصدى فيه جماعة من الناس بأي صفة لإكراه الأفكار على النزول عند رأيها. وقالت البورص أجبسيان: إن الدوائر العليا قد أبلغت عن الأستاذ أنه يعمل لمصلحة حزب سياسي معين. وإن آراء الشيخ قد ألبست منذ الساعة الأولى لباس السياسة الممقوت. ولعل السياسة قاتلها الله هي التي لعبت كل هذه الأدوار المحزنة. وقالت الصحف البريطانية: إن الشيخ عبد الرازق هو المصلح العظيم الذي يشبه لوثر بين المسلمين. وهاجمت جريدة السياسة أعضاء اللجنة واحدًا بعد واحد وفي مقدمتهم الشيخان: شاكر وبخيت. وقالت1: إن إقدام الشيخ بخيت على ما أقدم عليه من اعتداء صريح على حرية الرأي لهو أكبر عار يسجله على نفسه في حياته لم تكن كلها مما تطمئن إليه النفوس العالية ودعا الشيخ بخيت إلى مقاطعة جريدة السياسة. وقالت جريدة الأهرام: لقد أحدث الشيخ بخيت حدثا نأمل أن تقابله الأمة بالعبوس والسخط لا بالرضا. وقالت السياسة: إن الشيخ بخيت أخ ماسوني من إخوان محفل الشيخ حسن الطويل وإنه فارس الصليب الأحمر.

_ 1 السياسة 23 سبتمبر 1925.

وقالت جريدة الاتحاد: إن جمعية العلماء تأسست لحماية الدين من اعتداء جريدة السياسة برئاسة الشيخ الدجوي. وقال الشيخ "علي" ردًا على ما وجه إليه من حملات: إن فكرة الكتاب الأساسية التي حكم عليه من أصلها هي أن الإسلام لم يقرر نظامًا معينًا للحكومة ولم يفرض على المسلمين نظامًا خاصًا يجب أن يحكموا بمقتضاه، بل ترك لنا مطلق الحرية في أن ننظم الدولة طبقًا للأحوال الفكرية والاجتماعية والاقتصادية التي توجد فيها مع مراعاة تطورنا الاجتماعي ومراعاة مقتضيات الزمن. وقال: إن الخلافة ليست نظامًا دينيًا والقرآن لم يأمر بها ولم يشر إليها. وإن الإسلام بريء من نظام الخلافة وقد أثبت في كتابي أن النبي لم يكن قط ملكا. وأنه لم يحاول قط أن يبني حكومة أو دولة. ثم تساءل: هل أردت خدمة حزب معين؟ وأجاب: لست عضوًا في أي حزب، إني رجل دين ورجل شريعة ولم يحملني على وضع كتابي إلا غاية علمية وقد كتبته بعيدًا عن أهواء السياسة. بل ليس لموضوع الكتاب علاقة بالسياسة، وإن كثيرين يروون رأيي لا في مصر وحدها بل في العالم الإسلامي بأسره وأن الحكم الذي صدر لم يعدل طريقة تفكيري. لقد أخرجني الحكم من هيئة علماء الأزهر وهي هيئة علمية أكثر منها دينية، ولم ينشئها الدين الإسلامي، ولكن أنشأها شرع مدني لم يكن له أية صبغة دينية. ولن أكون في حسن الإيمان والإخلاص للإسلام بأقل من أولئك العلماء الذين قضوا بإخراجي.

وقد أشار سيد كيلاني مؤلف كتابه "فصول ممتعة" إلى هذه المعركة فقال: الحقيقة أن حزب الأحرار الدستوريين كان يضم بين رجاله كثيرًا من العناصر المنحرفة عن الدين فلطفي السيد مثلا كان الصحفي الوحيد الذي نشر في الجريدة دفاعا عن منصور فهمي "إبان حادث كتابه الذي هاجم فيه الإسلام" وطه حسين مؤلف كتاب الشعر الجاهلي. وعبد الخالق ثروت الذي تولى الدفاع عن طه حسين في مجلس النواب وأبى أن يفصله من وظيفته وهدد بالاستقالة كما أن عبد العزيز فهمي رفض فصل الشيخ علي عبد الرازق من وظيفته بعد صدور حكم هيئة كبار العلماء". وقد انتهت المعركة السياسية للكتاب ولكن المعركة الفكرية ظلت حية في آراء مختلفة أثارت معارك فرعية بين علي عبد الرزاق وبعض الكتاب. فقد كتب في أول رمضان "15 مارس 1926" في السياسة مقالا عده الأمير شكيب أرسلان هجوما خفيا على الدين فكتب في كوكب الشرق بإمضاء "ش" تحت عنوان "أيهزأ أم أنا لا أفهم العربية" قال فيه: قرأت في السياسة مقالا للشيخ علي عبد الرازق عن رمضان أعدت النظر فيه كرتين فلم أقدر أن أفهم منه إلا أنه يهزأ بالدين، ويذم في معرض المدح ويشير من طرف خفي إلى أن القرآن حمل الناس على الضرر بل على المحال. فهمت أن الدين يأمر الإنسان بأمور لو أردنا تعليلها لم نجد لها تعليلا وأن أوامر الله قد تخالف العقل وتحمل المرء على ما فيه ضرره. وإذا جرى التسليم بنظرية الشيخ علي عبد الرازق هذه؛ أي أن الدين

مناقض للعقل وأمر بما يضر الناس كان لا بد من اتهام النقل، ومن القول بأن دينا يقول المحال ويأمر بالضرر لا يكون سماويا. وجرى سجال بين الكاتبين حتى قال شكيب، أنا آسف ولكن ضاق الصدر بكتابتك وأنت من واحدة إلى أخرى تتحكم بهواك تارة في التاريخ وطورًا في التوحيد وتوهم الناس أنك فهمت ما لا يفهم وليس الأمر كذلك.

الفصل الثالث: معركة الشعر الجاهلي

الفصل الثالث: معركة الشعر الجاهلي مدخل ... الفصل الثالث: معركة "الشعر الجاهلي" أثار صدور كتاب "الشعر الجاهلي" عام 1926 ضجة كبرى، هذه الضجة تتصل بالمشاعر الدينية من ناحية وبالصراع الحزبي من ناحية أخرى، وكانت نقطة الخطر فيه أنه ألقي على طلبة الجامعة. والجامعة يومها حديثة العهد، لم يمض عليها أكثر من عامين منذ ضمتها الحكومة إليها, كما كان صدى كتاب "الخلافة وأصول الحكم" الذي أصدره علي عبد الرازق لم يزل ماثلا في الأذهان. والكاتبان متصلان بحزب الأحرار الدستوريين وجريدة السياسة التي كانت وقته تجمع الكتاب المجددين الذين يثيرون المعارك حول التجديد ويصطدمون بعلماء الأزهر والكتاب المحافظين، لذلك قامت معركة أدبية كبرى حول الشعر الجاهلي، فقد نشرت فصول في الصحف وصدرت مؤلفات في الرد على الكتاب بأقلام محمد فريد وجندي ومحمد لطفي جمعة ومصطفى صادق الرافعي وشكيب أرسلان ومحمد أحمد الغمراوي ويوسف الدجوي وعبد المتعال الصعيدي ومحمد عبد المطلب وعبد ربه مفتاح. وكما حملت جريدة السياسة لواء الدفاع عن طه حسين حملت جريدة كوكب الشرق لواء الحملة التي بدأها شكيب أرسلان في مقال كتبه من "روما 19 مارس 1926" تحت عنوان "التاريخ لا يكون بالافتراس ولا بالتحكم", ثم بدأت مقالات الرافعي في 23 مارس 1926 وامتدت وتعددت حتى كانت بعد مادة كتابة "تحت راية القرآن: الرد على الشعر الجاهلي" واشتركت مختلف الصحف في هذه المعركة فنشرت الأهرام في 28 أبريل 1926 مقالا للشيخ عبد المطلب وصمتت جريدة السياسة حتى 13 مايو 1926 حينما نشرت كتاب طه حسين الذي ينص على أنه مسلم مؤمن بالله واليوم الآخر ثم عادت إلى الصمت حتى 16 مايو حيث نشرت حديث طه حسين مع جريدة فرنسية هي "الأنفورماسيون", وكتب طه حسين مقالا في 16 يوليو 1926 في السياسة يهاجم الأزهر ونظام التعليم فيه. ومن هذه المقالات التي نشرتها جريدة كوكب الشرق ما كتبه عبد المتعال الصعيدي "12 مايو" وإسماعيل حسن ومحمد أحمد العدوي 18 مايو و22 مايو و19 يونيه ويوسف الدجوي "21 مايو" وكانت هذه المقالات تحمل هذه العناوين: جماعة الملاحدة، مهزلة الجامعة المصرية، من يهد الله فهو المهتد: طه حسين يعادي التاريخ والعلم فوق عداوته للدين. حول

الدكتور طه حسين: نفسية شعوبية. شعوذية علي ديكارت. وعشرات المقالات بدون إمضاء. وفي الأهرام كتب عبد ربه مفتاح بعنوان "الآن وقد عصيت قبل". وامتدت المعركة في الصحف حتى شهر سبتمبر 1936 حين تحولت إلى استجوابات في البرلمان وتحقيقات في النيابة. وقامت في هذه الفترة مظاهرات توجهت إلى مجلس الوزراء وخرج سعد زغلول ليخطب فيها ويقول "الأهرام 7 نوفمبر 1926": "إن مسألة كهذه لا يمكن أن تؤثر في هذه الأمة المتمسكة بدينها. هبوا أن رجلا مجنونا يهذي في الطريق فهل يضير العقلاء شيء من ذلك. إن هذا الدين متعين وليس الذي شك فيه زعيما ولا إماما حتى تخشى من شكه على العامة فليشك ما شاء ماذا علينا إذا لم يفهم البقر؟ ". وقد كتب الدكتور طه مقالا واحدًا في هذه المعركة هو المقال الذي هاجم فيه تعليم الأزهر، وكتب زكي مبارك مقالا عن ديكارت ثم طلب الدكتور إلى بعض أصدقائه ومنهم زكي مبارك أن يكفوا عن الرد فقد كان المطلوب أن تمر العاصفة بسلام. وصورت جريدة الأهرام الموقف على هذا نحو: "من المسائل1 التي ثارت حولها الإشاعات مسألة كتاب الشعر الجاهلي الذي أخرجه الدكتور طه حسين الأستاذ بالجامعة واستنكر العلماء بعض ما احتواه من العبارات الماسة بالدين، فإن كثيرين من النواب يستنكرون بقاء الدكتور طه أستاذًا بالجامعة بعد أن اجتمعت كلمة العلماء على خروجه على الدين وكان صاحب الفضيلة النائب المحترم الشيخ مصطفى الغاياتي قد أعلن عزمه على استجواب رئيس الوزراء في هذا الشأن ثم بذلت مساع حثيثة لحمله على العدول عن الاستجواب ثم إبدال الاستجواب بسؤال نشرناه منذ أيام على أن يكون الرد عليه كتابة. ولم يرد رئيس الوزارة

_ 1 12 سبتمبر 1926.

على السؤال وأشيع أن كثيرين من النواب سيعرضون مسألة الدكتور طه حسين على المجلس أثناء بحث الميزانية وقيل: إن بعضهم سيطلب إلغاء وظيفته فبذل أصدقاء الدكتور طه حسين مساعي حثيثة للوصول إلى إقناع الذين ينوون المطالب بالغاء الوظيفة بالعدول عن ذلك على أن يكتفي المجلس باستنكار عمل الأستاذ طه. وحدث أمس أن ثارت المناقشة في مجلس النواب في شأن كتاب الشعر الجاهلي ومؤلفه وألقيت الخطب مما يراه القراء بنصه في محضر جلسة المجلس. وقدم النائب المحترم عبد الحميد البنان نائب الجمالية اقتراحا من ثلاثة أقسام: 1- إبادة كتاب الشعر الجاهلي. 2- إحالة الدكتور طه حسين إلى النيابة. 3- إلغاء وظيفته. وقد سلم معالي وزير المعارف بالقسم الأول من الاقتراح وتكلم دولة عدلي باشا رئيس الوزراء عن القسم الثاني وجرت بينه وبين دولة الرئيس الجليل "سعد زغلول" مناقشة اشترك فيها وزير المعارف والحقانية انتهت بأن ذكر عدلي باشا أن قرار المجلس بإحالة المؤلف إلى النيابة يكون بمثابة اعتراض على تصرفات الحكومة وذكر مسألة الثقة بالوزارة. وكان جو المجلس مملوءًا كهرباء فاقترح النائب الدكتور أحمد ماهر رفع الجلسة عشر دقائق للاستراحة ولما رفعت ذهب الرئيس الجليل إلى مكتبه بمجلس النواب وتبعه إليه عدلي باشا ورشدي باشا وبقيا معه عشر دقائق. وكان دولة الرئيس الجليل سعد باشا متعبًا فاستقل سيارته إلى دراه واتفق بعض النواب على تأجيل الجلسة إلى غد. وعلى إثر انصراف دولة سعد باشا قصد دولة عدلي باشا ومعه دولة رشدي

باشا إلى بيت الأمة كما قصد إليها صاحب المعالي فتح الله بركات باشا ومحمد محمود باشا وتكلم عدلي باشا عن ظروف الحادث وذكر أنه قام على سوء تفاهم فإنه لم يقصد تحدي المجلس في سلطته وبعد انصرافهما سألنا بعض الوزراء عن النتيجة فقالوا لنا: إن الحادث سوي وأصبح كأن لم يكن. وقالت الأهرام: إنه في جلسة يوم الثلاثاء قال عبد الحميد البنان في مجلس النواب: "أنه قدم بلاغا إلى النيابة العمومية للتحقيق مع الدكتور طه حسين عما كتبه طعنًا على الدين الإسلامي وبناء على ذلك لم يبق محل للقسم الثاني من اقتراحي الذي قدمته أمس في المسألة. وبما أن مصادرة الكتاب لا يمكن أن تكون إلا بحكم وهذا تابع بطبيعة الحال للقضية المطلوب تحقيقها فإنه لم يبق محل للقسم الأول من اقتراحي". وتولى محمد نور "بك" رئيس نيابة مصر التحقيق مع الدكتور طه حسين وحصره في أربعة أمور هي: - أنه كذب القرآن في إخباره عن إبراهيم وإسماعيل. - أنه أنكر القراءات السبع المجمع عليها فزعم أنها ليست منزلة من الله تعالى. - أنه طعن في نسب النبي. - أنه أنكر للإسلام أوليته في بلاد العرب وأنه دين إبراهيم. وقال النائب العام في تقريره أن طه حسين أدلى بردود وأدلة على النقط الثلاثة، وأجاب ردًا عما إذا كان قد استنتج هذا الكلام أم نقله: "إن هذا

فرض فرضته دون أن أطلع عليه في كتاب آخر وقد أخبرت بعد أن ظهر الكتاب أن شيئا مثل هذا الفرض يوجد في بعض كتب المبشرين ولكن لم أفكر فيه حتى بعد ظهور كتابي. وقد قال: إن كلامه ليس فيه طعن في نسب النبي وإن أورده بشكل غير لائق ولم يكن في بحثه ما يدعوه إلى إيراده بهذا الشكل. وقال: إنه لا ينكر أن الإسلام دين إبراهيم ولا أن له أولية في بلاد العرب وأن ما ذكره هو رأي القصاص، فقد أنشئوا حوله كثيرا من الشعر والأخبار. وقال عن القراءات: إن القرآن نزل بلغة قريش ولكن القراء من القبائل لم يكادوا يتناولونه بلهجاتهم حتى أمالوا فيه حيث لم تمل قريش. وأنكر المؤلف في التحقيق أنه يقصد الطعن على هذا الدين وذكر أنه ورد في كتابه على سبيل البحث العلمي من غير تقييد بشيء. وأنه كمسلم لا يرتاب في وجود إبراهيم وإسماعيل ولا فيما جاء عنهما في القرآن، ولكنه كعالم مضطر أن يذعن لمناهج البحث فلا يسلم بالوجود العلمي التاريخي لإبراهيم وإسماعيل. ورأى رئيس النيابة أن العقاب على الخطأ في الرأي مكروه ومن ثم حفظ القضية. وصور الدكتور طه حسين موقفه من المعركة فيما بعد فقال في كتابه "في الصيف" أنه سافر في ذلك العام على كره من قوم لو استطاعوا لأمسكوني في مصر، وأنا الآن أسافر رغم هذا الشيخ الذي نهض في مجلس

الشيوخ يستصرخ المسلمين، ويستغيث برئيس الوزراء علي؛ لأني -فيما زعم مسخروه- عرضت الدين للخطر. نعم، وزعم هؤلاء الشيوخ الأزهريين الذين أبرقوا إلى رئيس الوزراء من أقصى الصعيد يستغيثون به لأن الصحف نقلت إني عرضت الدين للخطر. وقال الدكتور طه أنه سافر "مغيظا محنقا على هؤلاء الناس الذين يتخذون الدين والسياسة وسيلة للكيد وبث الفساد في الأرض ليعلموا أن الدين أثبت وأمكن من أن يعرضه للخطر رجل كائنا من كان". وذكر الدكتور طه ذلك الرجل الذي لم يكن يعرفه إلا بما كان بينهما من خصومة سياسية عنيفة. والذي وقف أمام البرلمان وهو يتألف من كثرته الحزبية وقفة الحزم والمروءة والإباء والدفاع عن حرية الرأي "نعم إني لجاحد منكر للجميل إن نسيت موقف علي باشا الشمسي أمام النواب وأمام الشيوخ وأمام أولئك وهؤلاء من السعادة وأصحاب الكيد، لا يضطرب ولا يتردد ولا يفرط. "أأذكر عدلي وموقفه يوم ثارت الثائرة؟ كلا فما كنت أنتظر من عدلي غير هذا. أأذكر ثروت وموقفه يوم استقلت فرفض الاستقالة. ويوم سعى إليه الساعون وكاد عنده الكائدون فأبى إلا أن يكون وفيًا شريفًا. أهداف الكتاب: استهل الدكتور طه حسين بحثه على هذا النحو: هذا نحو من البحث عن تاريخ الجاهليين ولغتهم وأدبهم جديد، لم يألفه الناس عندنا من قبل، وأكاد أثق بأن فريقا منهم سيلقونه ساخطين عليه، وبأن فريقا آخر سيزورون عنه ازورارًا ولكني على سخط أولئك وازورار هؤلاء أريد أن أذيع هذا البحث. وبعبارة أصح أريد أن أفنده، فقد أذعته قبل اليوم حين تحدثت به إلى طلابي في الجامعة وليس سرًا ما نتحدث به إلى أكثر من مائتين.

ولقد اقتنعت بنتائج هذا البحث اقتناعا ما أعرف أن شعرت بمثله في تلك المواقف المختلفة التي وقفتها من تاريخ الأدب العربي، وهذا الاقتناع القوي هو الذي يحملني على تقييد هذا البحث ونشره في هذه الفصول، غير حافل بسخط الساخط ولا مكترث بازورار المزور وأنا مطمئن إلى أن هذا البحث وإن أسخط قومًا وشق على آخرين فسيرضي هذه الطائفة الثقيلة من المستنيرين الذين هم في حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة الحديث وفخر الأدب الجديد. ونحن بين اثنين: إما أن نقبل من الأدب وتاريخه ما قاله القدماء لا يتناول ذلك من النقد إلا بهذا المقدر اليسير الذي لا يخلو منه كل بحث والذي يتيح لنا أن نقول: أخطأ الأصمعي أو أصاب وإما أن نضع علم المتقدمين كله موضع البحث. لقد أنسيت، فليست أريد أن أقول البحث وإنما أريد أن أقول الشك. لا ينبغي أن تخدعك هذه الألفاظ المستحدثة في الأدب ولا هذا النحو من التأليف الذي قسم التاريخ إلى عصور ويحاول أن يدخل فيه شيئا من الترتيب والتنظيم فذلك كله عناية القشور والأشكال لا يمس اللباب ولا الموضوع. وقال طه حسين إنهم لم يغيروا في الأدب شيئا أما أنصار الجديد فالطريق أمامهم موجة ملتوية تقوم فيها عقاب لا تحصى. وهم لا يطمئنون إلى ما قال القدماء وإنما يلقونه بالتحفظ والشك. وأن النتائج اللازمة لهذا المذهب الذي يذهبه المحددون عظيمة جليلة الخطر فهي إلى حياة المسلمين وميولهم وأهوائهم أكثر مما تمثل حياة الجاهلية. وصور طه حسين منهج البحث فقال: إنه سيسلك إلى هذا البحث منهج ديكارت الذي يطالب الباحث بأن يتجرد من كل شيء كان يعمله من قبل. وأنه ينسى عواطفه القومية والدينية وألا يتقيد بشيء ولا يذعن لشيء، وقال: إن علينا أن ندرس الأدب العربي غير حافلين بتمجيد العرب أو الغض منهم ولا وجلين حين ينتهي بنا هذا البحث إلى ما تأباه القومية أو تنفر منه الأهواء السياسية.

ثم صور طه حسين هدفه في كتاب الشعر الجاهلي فقال: إنه إنما يرمي إلى تحرير الأدب العربي من القيود التي تربطه بالعلوم العربية والعواطف الدينية وحتى يدرس الأدب لنفسه دون أن يكون وسيلة لفهم القرآن والحديث, وقال: إنه يريد أن يدرس تاريخ الآداب في حرية وشرف كما يدرس العلم الطبيعي وعلم الحيوان والنبات قال: من الذي يستطيع أن يكلفني أن أدرس الأدب لأكون مبشرًا بالإسلام أو هاديا للإلحاد وأنا لا أريد أن أبشر ولا أريد أن أناقش الملحدين. النصوص موضع الاعتراض: 1- للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضًا ولكن ورود هذين الاسمين في التوارة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلا عن أثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة. ونشأة العرب المستعربين فيها ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوارة من جهة أخرى فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام واستغلها الإسلام بسبب ديني وسياسي أيضًا. فيستطيع التاريخ الأدبي واللغوي ألا يحفل بهما عندما نريد أن نتعرف أصل العربية، ونستطيع أن نقول: إن الصلة بين اللغة العربية الفصحى التي كانت تتكلمها العدنانية واللغة التي كانت تتكلمها القحطانية في اليمن كالصلة بين اللغة العربية وأي لغة من اللغات السامية وأن قصة العاربة والمستعربة وتعلم إسماعيل من "جرهم" كل ذلك أحاديث أساطير لا خطر لها ولا عناء فيه "ص26 من كتاب الشعر الجاهلي".

2- ونوع آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه من قريش فلأمر ما اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف وأن يكون بنو مناف صفة بني قصي، وأن تكون قصي صفوة بني قريش، وقريش صفوة مضر، ومضر صفوة عدنان، وعدنان صفوة العرب والعرب صفوة الإنسانية "ص72 من الشعر الجاهلي". 3- وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام وبعده، فكرة أن الإسلام يحدد دين إبراهيم، ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب في عصر من العصور, ثم أعرضت عنه لما أضلها المضلون وانصرفت إلى عبادة الأوثان "ص81 من الكتاب". دفاع الدكتور طه 1 عن نفسه: حديث طه حسين مع جريدة "الألفورماسيون": إن الأستاذ الذي يلقي دروسه بأمانة كثيرا ما يعرض له في المادة التي يدرسها ملاحظات ومباحث شخصية كما تعرض له في بعض الأحايين نظريات أيضا وطبيعي جدا أن يجمع هذه الملاحظات ويصوغها في قالب تحليلي يعرضه مع شيء من التفصيل على زملائه. طلبت مدفوعا بسبب مهنتي إلى أولئك الذين لا يعرفون مناهج النقد المدنية والبحث الحر ألا يقرءواكتابا لم يكتب لهم. خصومي فريقان، رجال الدين ومعلموا الآداب في مدارس الحكومة،

_ 1 مايو 1916 السياسة اليومية.

رجال الدين يرمونني بالإلحاد على أن 98 في المائة ممن يتهموني لم يقرءوا كتابي. إن الآداب تعتبر لدينا حتى اليوم علما تابعا للدين فأي بلد في العالم يتهم في القرن العشرين بالإلحاد أستاذا يريد أن يدرس الآداب ذاتها. طه حسين؛ خطران: وكتب طه حسين مقاله الوحيد السياسة الذي هاجم فيه خصومه الأزهريين طالبا إلغاء الأزهر. أولهما1 الجهل وثانيهما الجمود وكلاهما عقبة كئود في سبيل الحياة الدستورية الصالحة في سبيل الحياة الصالحة من حيث هي. أحب ألا يغضب صاحب الفضيلة مولانا الأكبر شيخ الجامع الأزهر ومن حوله من الشيوخ. وأنا أريد أن أصارح البرلمانيين والذين إليهم أمور مصر في هذه الأيام بأن في مصر شرًا عظيما هو جمود الشيوخ. إن واجبهم الوطني يقضي عليهم أن يتخذوا من الوسائل التشريعية والسياسية ما يحول بين الشيوخ وبين التسلط على الحياة العقلية والعلمية والسياسية. والأمر الثاني، هو استئصال هذا الجمود ووقاية الأجيال الحاضرة والمقبلة من شره. وأؤكد للبرلمان أن الشر مستمر متضاعف ما دام الأزهر قائما كما هو وأنا لا أريد أن أتدخل في شئون الأزهر. إن حياتنا العقلية والعلمية لن تصلح ولن تتجه إلى خير ما دام في مصر نوعان من التعليم يقف كلاهما في وجه صاحبه عدوا مبينا وخصما عنيدًا.

_ 1 16يوليو 1626 "السياسة اليومية".

التعليم المدني في مدارس الحكومة وما إليها والتعليم الديني في الأزهر وملحقاته؛ هذان النوعان من التعليم يخرجان لمصر في كل عام جيشين مستعدين للخصام: أحدهما جيش المتعلمين الطامحين إلى المثل الأعلى الراغبين في الاتصال بحياة العالم الحديث والآخر جيش الجامدين المتعصبين الذين ركبت رءوسهم مدارة إلى الوراء، فهم ينظرون إلى أمس بينما ينظر خصومهم إلى غد، وسيظل هذان الجيشان في خصومة وحرب حتى يظفر أحدهما، وليس من شك في أن جيش التعليم المدني هو المنتصر، ولكن انتصاره سيكون بعيدا وسيكون عنيفا وسيكلف مصر ضروبا من الضحايا إذا تركت الأمور في مصر بحيث هي الآن. نحن بين أمرين إما أن ندع الأزهر كما هو والمدارس المدنية كما هي وأن ندع مصر تعاني هذه الخصومة المنكرة بين فريقين من أبنائها لكل منهما عقلية خاصة وفهم للحياة خاص وأن نتحمل ما يستتبعه هذا الإهمال من النتائج, وإما أن نحتاط لحماية مصر من هذه النتائج. ولنا إلى ذلك سبيلان: أحدهما إصلاح الأزهر "وليس إليه كما أعتقد سبيل" ويجب أن نلاحظ أن طلاب الأزهر وملحقاته يعدون بالألوف أو عشرات الألوف فهم في حقيقة الأمر قوة لا يستهان بها في حياة الأمة فإذا نحن تركناهم كما هم أضعنا على الأمة عددا ضخما من أبنائها وأعددنا في الوقت نفسه جيشًا ضخما يحارب العمل ويحارب الحرية ويحارب العلم نفسه. ينبغي أن نمهد السبيل لطلاب الأزهر وملحقاته حتى يستطيعوا أن يتحولوا إلى التعليم المدني أو أن يجمعوا بينه وبين التعليم الديني وسبيل ذلك:

أن يحال بين مناصب الدولة وبين الذين لا يحصلون على الشهادات المدنية مهما تكن هذا المناصب بحيث لا ينهض للقضاء الشرعي إلا من حصل على الليسانس ولا للتعليم إلا من حصل على دبلوم المعلمين العليا. جريدة السياسة وكتاب الشعر الجاهلي 1: رجال الدين وحركاتهم السياسية: لما صدر كتاب الدكتور طه حسين "في الشعر الجاهلي" وتناوله حضرات رجال الدين بالنقد لم نرد أن ندخل في جدل أو مناقشة لنؤيد حرية الرأي أو البحث العلمي ولو كان صاحبه مخطئا وآثرنا أن يتلافى أولو الأمر الخلاف بالحكمة والأناة. فلما طلب بعض المشايخ محاكمة الدكتور طه حسين وإخراجه من الجامعة ومصادرة كتابه أفهمهم من بيدهم الأمر أن ليس في الكتاب ما يحاكم عليه وأعلن الدكتور طه للناس أنه يؤمن بالله وكتبه واليوم الآخر. واتفق على أن تشتري الجامعة الكتاب فلا تتداوله أيدي الناس. ولم يكن أحد يتوقع أن تثور مسألة الدكتور طه وكتابه من جديد، ولكن حضرات العلماء تحركوا في المرة الأولى لم يدعوا الوزارة تطمئن إلى مجالسها في الحكم ثلاثة أيام حتى قدموا عرائض يطلبون فيها فصل الدكتور طه من الجامعة ومصادرة كتابه وإحالته إلى المحاكمة. وكنا نود أن الوزارة قوية غاية القوة مؤيدة أشد التأييد وأن محاولتهم إحراجها على هذه الصورة لن تصل بهم إلى أية نتيجة، وأنهم يقصدون

_ 1 السياسة 7 يوليو 1929.

لغايات خاصة أو لإفساد الجو السياسي مما لم يستطيعوا الوصول إليه، وإنا لنود مخلصين أن يذر المشايخ هذه السياسة التي لا تفيدهم ولا تفيد أحدًا والتي تحرجهم ولا تحرج أحدا وأن ينصرفوا إلى التفكير في إصلاح حال المسلمين الدينية. من محضر جلسة مجلس النواب عبد الخالق عطية 1: حدث يا حضرات الأعضاء حادث بالجامعة المصرية وقام من ناحيتها صوت أفقدها عطف الكثيرين فقد أدى إلى فتنة أو كاد والأشد والأنكى أن البلاد لم ينلها حظ ولم تنلها مصالح ظاهرة من إثارة ذلك الموضوع. أظن أنكم فطنتم إلى ما أريد وتبينتم أن الصوت المعني بقولي هذا هو كتاب الشعر الجاهلي الذي تضمن طعنا ذريعا على الموسوية الكريمة والعيسوية الرحيمة وعلى الإسلام دين الدولة بنص الدستور. إن تصرف هذا الشخص كان أيضا مخالفا للذوق فإنه مدرس بالجامعة المصرية وهي معهد أميري يعيش من أموال الحكومة وهو يتقاضى مرتبه من هذه الهيئة التي دينها الإسلام فلم يكن من المفهوم ولا من المعقول أن يقوم هذا الشخص فيبصق في وجه الحكومة. إننا إذ نسلم أولادنا للحكومة ليتعلموا في دورها نفعل ذلك معتمدين على أن بيننا وبينها تعاقدًا ضمنا على أن الديانات محترمة. وأغرب ما في هذا التصرف إن صح ما بلغني أن إدارة الجامعة اشترت

_ 1 اقرأ محضر جلسة المجلس في الأهرام 14 سبتمبر 1926.

من مؤلف هذا الكتاب كتابه، اشترته من أموال الأمة الموتورة بهذا العمل، فإن كان هذا الكتاب سيدرس في الجامعة فتلك ثالثة الأثافي. وزير المعارف: إننا لا نرمي أن تكون كراسي الأساتذة منابر تلقى منها المطاعن في أي دين من الأديان، وحادث كتاب الشعر الجاهلي وقع في عهد الوزارة السابقة, وقال مدير الجامعة: إن الجامعة منعت انتشار الكتاب بشراء جميع النسخ من المكاتب وحصرتها في مخازنها. الشيخ القاياتي: الحق إنه ما كان من المظنون أن يوجد بين المسلمين في مصر من يجرؤ على الدين إلى هذا الحد الذي بلغه الشيخ طه حسين. قبائح متعددة ما بين تكذيب لصحيح التاريخ وتكذيب لنصوص القرآن ونسبة والتحايل إلى الله وإلى النبي وإلى موسى. ثم اقترح عبد الحميد البنان مصادرة الكتاب وتكليف النيابة برفع الدعوى على طه حسين وإلغاء وظيفته في الجامعة. من تقرير النائب عن طريقة طه حسين في الكتابة: إن الذي1 نريد أن نشير إليه إنما هو الخطأ الذي اعتاد أن يرتكبه المؤلف في أبحاثه حيث يبدأ بافتراض بتخيله ثم ينتهي بأن يرتب عليه قواعد كأنها حقائق ثابتة. كما فعل في أمر الاختلافات بين لغة حمير وبين لغة عدنان, ثم في رسالة إبراهيم وإسماعيل وهجرتهما إلى مكة وبناء الكعبة. أما إذا رأى المؤلف في بحثه إنكار شيء فيقول: لا دليل عليه

_ 1 الفتح 12 مايو 1927 العدد 45.

من الأدلة التي تطلبها الطرق الحديثة للبحث حسب الخطة التي رسمها في منهج البحث. "الشك في وجود إبراهيم وإسماعيل" سئل الأستاذ في التحقيق عن أصل هذه المسألة, فقال هذا فرض فرضته أنا دون أن أطلع عليه في أي كتاب آخر، وقد أخبرت بعد أن ظهر الكتاب أن شيئا مثل هذا الفرض يوجد في كتب المبشرين "هذا المبشر هو هاشم العربي". وقد يكون للمبشر عذره في سلوك هذا السبيل لأن وظيفته التبشير لدينه وهو غرضه الذي يتكلم فيه. ولكن ما عذر المؤلف في طرق هذا الباب، وما هي الضرورة التي ألجأته أن يرى في هذه القصة نوعا من الحيلة. "الافتراض في أول الأمر ثم الجزم كأنما هي حقيقة". عندما سألناه في التحقيق عن السبب الذي دعاه أخيرًا لأن يقرر بطريقة تفيد الجزم بأن القصة حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام قال "هذه العبارات إذا كانت تفيد الجزم فهي إنما تفيده إن صح الغرض الذي قامت عليه وربما كان فيها شيء من الغلو ولكني أعتقد أن العلماء جميعا عندما يفترضون فروضا علمية يبيحون لأنفسهم مثل هذا النحو من التعبير. تورط المؤلف في هذا الموقف الذي لا صلة بينه وبين العلم لغير ضرورة يقتضيها بحثه ولا فائدة يرجوها. لا نفهم كيف أباح المؤلف لنفسه أن يخلط بين الدين وبين العلم

وهو القائل بأن الدين يجب أن يكون بمعزل عن هذا النوع من البحث الذي هو بطبيعته قابل للتغيير والنقص والشك والإنكار. وإننا حين نفصل بين العلم والدين نضع الكتب السماوية موضع التقديس ونعصمها من إنكار المنكرين وطعن الطاعنين ولا ندري لم يفعل غير ما يقول في هذا الموضوع؟

نماذج من حملات المعركة

نماذج من حملات المعركة: 1- مصطفى صادق الرافعي 1: ما رأيت فئة يأكل الدليل الواحد أداتها جميعا كهؤلاء المجددين في العربية فهم عند أنفسهم كالجمرة المتوقدة لا يشبعها حطب الدنيا. ولقد كان من أشدهم غراما وشراسة وحمقا هو الدكتور طه حسين أستاذ الآداب العربية في الجامعة المصرية فكانت دروسه الأولى في الشعر الجاهلي كفرا بالله وسخرية بالناس فكذب الأديان وسفه التواريخ وكثر غلطه وجهله فلم تكن في الطبيعة قوة تعينه على حمل كل ذلك والقيام به إلا المكابرة واللجاجة؛ فمر يهذي في دروسه لا هو يثبت الحقيقة الخيالية ولا يترك الحقيقة الثانية، على أن أستاذ الجامعة إنما يقلد الهدامين من جبابرة العقول في أوربا وإنه منهم. ولكن كما تكون هذه الكرة الجغرافية المدرسية التي تصور عليها القارات الخمس من كرة الأرض التي تحمل القارات الخمس. والرجل متخلف الذهن تستعجم عليه الأساليب الدقيقة ومعانيها وأكبر ما معه أنه يتحذلق ويشداهى ويشبه بالمفكرين ولكن في ثوب الرواية. هو وأمثاله المجددين يسمون كتابا وعلماء وأدباء إذا كان لا بد لهم من نعت وسمة في طبقات الأمة غير أنهم على التحقيق غلطات إنسانية تخرجها الأقدار في شكل علمي أدبي لتعارض بها صوابا كاد يهمله الناس فيخشى الناس أن يتخيف الخطأ صوابهم أو يذهب به فيستمسكون بحبله ويشدون عليه. من أقبح ما في كتاب الدكتور طه حسين أنه يعلن في مقدمته تجرده من دينه عند البحث، يريد أن يأخذ النشء بذلك اتباعا لمذهب ديكارت الفلسفي الذي يقضي على الباحث بالتجرد من كل شيء عندما يبحث عن الحقيقة.

_ 1 ك: تحت راية القرآن؛ الرد على الشعر الجاهلي.

قال الأستاذ: يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربي وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل مشخصاتها "وأن ننسى ديننا وكل ما يتصل به". وهذا لعمري هو منتهى الجهل فإن هناك فرقا بين البحث عن حقيقة فلسفية عقلية محضة وبين البحث عن حقيقة أدبية تاريخية قائمة على النص، وقول فلان وفلان، وإذا هو نسي دينه "وتأمل هذه العبارة" فماذا يكون من أثر هذا في التاريخ مادامت المادة التاريخية لم تجتمع له كما أسلفنا وما دام الأستاذ مبتلى من كل جهة؟ إن طه حسين مجموعة أخلاق مضطربة وأفكار متناقضة وطبائع زائفة وما من عالم في الأرض إلا وأنت واجد آراءه قائمة بمجموع أخلاقه أكثر مما هي آتية من صفاته العقلية، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان" , وطه رجل أرسلوا لسانه إلى أوربا فرجع بلسانه وترك قلبه هناك في خرائب روما, فيجب أن يكون نفاقه وثرثرته مقصورتين على نفسه وإذا كان عميد كلية الآداب لا يحسن من العربية شيئا ولا يفقه من هذه المباحث شيئًا ولا هو من دين الأمة في شيء فماذا نقول في الأستاذ الأديب الذكي البليغ مدير الجامعة الذي اسمه أحمد؟ والأمر الذي نخشاه من طه أنه "أداة" أوروبية استعمارية تعمل على إفساد أخلاق الأمة وحل عروتها الوثقى من دينها في أدبه ولغته وكتابه وتحقير كل من يتسم بشيء من ذلك عالما أو متعلما أو متورعا، فهو دائب على إزالة ما وقر في نفوس المسلمين من تعظيم نبيهم وكتابه وإيثار دينهم وفضيلتهم وإجلال علمائهم وسلفهم مرة بالتكذيب ومرة بالتهكم ومرة

بالزيادة ومرة بإفساد التاريخ ومرة بنقل الأخلاق الفاحشة المتعهرة من مدينة الفرنسيين. إن التاريخ الإسلامي إذا حمل على غير طريقته وتولاه غير أهله لم يأت منه إلا ما هو دخيل فيه وتقل الرواية ويكثر التكذيب، ويحصل الخطأ ويقع الخلل لأن الأشياء، بما كانت عليه لا بما تتوهم أنت أنها كانت عليه. وذلك هو السر في خلط المستشرقين والمسيحيين والديكارتيين من أمثال طه حسين إذا هم تعاطوا الكلام في المصدر الأول أو ما يفصل به نوعا من الاتصال في الأدب وفي الشعر أو نحوهما. وإذا كتبت الشياطين تاريخ الملائكة واتبعت مذهب ديكارت, فتجردت من قوميتها ودينها فهل تراها تقلب طبيعتها وخبثها وهل يدخل عليها الخطأ إلا من ناحية هذه الطبيعة في تركيبها على غرائز وأوصاف لا تتحول. 2- محمد فريد وجدي 1: رأيت منه أخطاء اجتماعية وسيكولوجية وفلسفية لا يصح السكوت عليها وألفيت الدكتور لاضطراره إلى تصيد الأسباب التي حملت ذوي النفوس المريضة على اختلاق الشعر ونسبه إلى الجاهليين قد عول على كتب المستشرقين وهي قرارة الأكاذيب ومستنقع المقدمات من كل نوع فجاء كتابه بما حمل من أوزار المغتربين وبما غلا هو فيه من تقصي إغراءات المتناظرين وتسويدات المتنافسين من القادة الأعلين طامسا لمعالم أكبر ثورة اجتماعية حديثة في العالم ألا وهي ظهور الديانة الإسلامية وما استتبع انتشارها من سقوط دول وقيام دول.

_ 1 ك/ نقد كتاب الشعر الجاهلي 12960.

فبينما علماء الغرب لا يتمالكون أنفسهم من الدهش من قوة هذه الحركة الاجتماعية التي انبعثت من بلاد العرب فجأة فرجت العالم كله رجة أذهلته عن كل شيء, يصعب علينا أن نرى واحدًا منه يضع كتابا بالفرض قليل الخطر وهو إثبات أن الشعر الجاهلي مختلق يكون أثره على قارئه أن يحتقر هذه الثورة الكبرى ويستخف برجالها الذين أخذوا حظا من تمثيلها والاضطلاع بأعبائها1. 3- محمد لطفي جمعة 2: هذا المؤلف لم يترك فضيلة للعرب في علومهم وتاريخهم وآدابهم وعقائدهم دون أن يحاول هدمها بشدة وتهكم واستهزاء لم يعد له مثيل في كتب العلماء فيخيل للقارئ أن المؤلف يلعب ويلهو بأشرف الأشخاص وأسمى المبادئ التي خلفتها المدنية العربية الإسلامية منذ أربعة عشر قرنا. وكنا نود أن نظن بكتابه خيرا فلم نجد له في الخير محملا. وحاولنا أن نلمح بصيصا أشبه بالبصيص شيئا في وسط هذه الظلمات المتكاتفة المتطالعة من أول الكتاب إلى آخره لأنه للأسف طافح بالأوهام فهو سراب يحسبه الإنسان من بعيد ماء. والحقيقة أن كتاب "في الشعر الجاهلي" عبارة عن بعض نصوص صحيحة أو مزورة وبعض أكاذيب وأساطير وشيء من التهويل وشيء من السياسة وشيء من الخرق وكثير من الشعوبية والتعصب ضد العرب وعقائدهم.

_ 1 سؤال: هل رجع طه حسين عن آرائه؟ كلا, والدليل أن الكتاب ما يزال يطبع الطبعة الخامسة والسادسة ولذلك فهو يناقض نفسه في آرائه فيما كتب عن الإسلام في الفتنة الكبرى وهامش السيرة. 2 ك/ الشباب الراصد على الشعر الجاهلي.

ولم يترك المؤلف نبيا أو صديقا أو عالما أو راوية أو شاعرًا إلا ابترك في عرضه ابتراكا ونال من شرفه وسمعته. يقول المؤلف: إنه ليس لنا أن نتمسك بالقديم لمجرد قدمه وهو يعد أعظم مفاخر المدنية العربية في القوانين والأنظمة والعلوم والآداب قديما، يجب تركه، ولا يؤيد أقواله بدليل أو مرجع صحيح أو إسناد يعول عليه. فيقول ليس لنا أن ننبذ القديم لمجرد قدمه فما كل قديم ينبذ ولا كل جديد يؤخذ، والواجب على من رأى المصلحة في القديم أن لا يتركه ما لم تقم الأدلة على صحة الجديد وهذا ما فعلته الأمم الأوروبية فلم تترك قديمها بل فتشت فيه وبعثته وأحيت العلوم والآداب التي كانت مفاخر اليونان واتخذتها أساسًا متينًا إلى الجديد في عهد إحياء العلوم على أن معظم قديمهم أساطير وخرافات وأخبار لم يستطع أحد من علمائهم تحقيقها بيد أن قديمنا معظمه حقائق وشرائع وقوانين وآداب. لقد طعنت في هدم العرب وتاريخهم وآدابهم قبل الإسلام وبعده1 بثلاثة قرون ولم تترك فرصة إلا اختلقت فيها غميزة ضد المدنية العربية وشرائعها وقوانينها وآدابها وتاريخها في عمد وإصرار كأنك تهدم بمعول الحقد الكمين بناء شاده أعداء لك ألداء وطعنت قبل كل شيء في الرواية والتواتر والإسناد وهي وسائل العلم والدين والأدب عند العرب في جاهليتهم وأسلافهم ولم يسبق لأحد من الباحثين أن طعن في تلك الوسائل من علماء المشرقيات الأجانب1.

_ 1 قال ص51 ولكن النبي توفي بعد الفتح بقليل ولم يضع قاعدة للخلافة ولا دستورًا لهذه الأمة.

4- شكيب أرسلان 1: ليس طه حسين في هذا الرأي القائل والمنطق المقلوب إلا مقلدا لمرغليوت أو لغيره من الأوروبيين بسائق عقيدة سخيفة فاشية -وياللأسف- في الشرق وهي أن الأوروبي لا يخطئ أبدًا, وأنه من حيث اخترع الأوروبي سكة الحديد والغواصة والطيارة والسيارة وما أشبه ذلك فلا شك أنه صار يفهم أحسن مما يفهم سيبويه والخليل بن أحمد وليس في الدنيا خطأ أعظم من هذا ولا طيش يفوت هذا الطيش فكل علم له أربابه الذين هم أدرى به. إننا لا ندعي كون الشرقيين أعلم من الغربيين وحاشا أن نقول هذا بل أولئك اليوم على وجه الإجمال أعلم منا لا جدال, ولكن الحقيقة القاتلة هي أن الشرقي يتهم أخاه الشرقي في نقله ويسفهه في عقله ويحتقر رأيه ولا يقبل له قولا لمجرد أنه شرقي حتى إذا اطلع على تأليف أوروبي ولو محشوا بالهذيان تلقى ما فيه نازلا من السماء وعض عليه بالنواجذ وأبى أن يرتاب فيه أو يحاكمه، ومن هنا نشأ ما نحن فيه من الأزمة الأدبية، والاجتماعية واللغوية والتخبط الذي ترانا نتخبطه لأن حقائقنا انقلبت ضلالات بلا سؤال, وضلالات الإفرنج تلقيت حقائق بلا جدال. النظرية الجديدة غير الحقيقة العلمية. الحقائق العلمية ما تزال تتجدد وينقض آخر منها أول. الهوس بقبول الجديد.

_ 1 مقدمة كتاب النقد التحليلي. الغمراوي.

مخالفة رأي الجمهور. ليس كل شيء قديم منبوذا وليس كل شيء جديد مرغوبا فيه. أني لا ألوم الدكتور طه حسين الذي قصاراه أن يسرق رأيا لمستشرق أوروبي خالف به جمهور المستشرقين فضلا عن علماء العرب وأن ينتحل هذا الرأي لنفسه متبجحا به. 5- محمد عبد المطلب 1: سخطت وازوررت لأني أجد ضعفا في أسلوبه العربي وضعف تأليف وخطأ في اللغة وقواعد الإعراب وسخطت وازوررت ثم تنظمت وأوردت إذ رأيت أكبر أستاذ في أكبر معاهد مصر يتردد بين التناقض في الرأي والخطأ الفاحش في الفن. فأما قصور اللفظ فإني وجدت الدكتور يمنح في كل دعوى الشك والتشكيك عجزًا عن الدليل القويم ولا ينتج من المقدمات في أدلته إلا العقيم وما كان الشك والتشكيك يوما عكازًا لأحد من العاجزين، أما التقصير في الاجتهاد فإنك تراه لا يزجر نفسه ولا يكلفها شيئا من الجهد فيستمرئ الكسل عن التحقيق في أقل المواطن كلفة وأيسرها منالا ويتستر بالتعمية في الأسلوب والمراوغة في الجدال والختل في الاستدلال ولو كلف نفسه قليلا لبدا له العلم الصحيح. أما ضعف الأسلوب فإنه يجيئك بالمعنى القليل الهزيل في اللفظ الكثير والتركيب المملول. على أني حائر في الحكمة التي يرمي إليها بافتتاحه القول مغيظًا محنقا

_ 1 الأهرام 28 أبريل 1926.

بتصوير الخصومة ولا خصومة ويمعن في اللئوم روبما كان هو الحليم وبعد فإنه خرج من التمهيد الطويل العريض الذي وضع أسلافنا فيه تحت المطرقة وانهال عليهم بلا حرمة ولا مبالاة وتجرد في حقهم من آداب المؤلفين. 6- عبد ربه مفتاح: تبرأ طه حسين بجواب أرسله إلى مدير الجامعة بعد أن قامت الأمة وقعدت لفعلته الشنيعة، تبرأ الآن من الكفر والإلحاد بعد أن سجله في مؤلفه وأذاعه بين الناس وأفسد به عقول النابتة. ولكن فات دكتور أوربا أن هذا سبيل البراءة والخلاص، وإنما السبيل أن يعلن رجوعه عن هذا الكفر الصريح وأن ينص في غير مواربة ولا لف ولا دوران أن مؤلفه باطل لا يعول عليه. وبخاصة ما يمس منه الدين. أخبرني أيها الدكتور ماذا في كتابك وما الجديد الذي أحدثته فيه، أفكرة التغير والتعديل في الشعر الخاصة وقد رادها قبلك الرواد. 7- عبد المتعال الصعيدي 1: بين يدي الآن كتاب "مقالة عن الأحلام" لجرجيس صال الإنجليزي معربة عن الإنجليزية بقلم من يدعى هاشما العربي مطبوعة 1891 يرى فيها ما رأى الدكتور طه في قصة إبراهيم وإسماعيل وينسبه لنفسه على أنه ابتكار من ابتكاراته ورأي من آراءه الجديدة. وهو الذي أقام الدنيا وأقعدها على الأستاذ علام سلامة إذ نقل على لسان العرب ما نقل مما كتبه عن الآداب والأدباء في السياسة الأسبوعية ولم ينسبه إلى صاحبه.

_ 1 12 مايو 1926 الأهرام. وعبد المتعال الصعيدي أول من كشف نقل طه حسين عن المبشر الإنجليزي.

فلماذا استحل الدكتور طه هذه السرقة الفظيعة وهو العالم الذي لا يبارى ولا يليق أن يتهجم على الكتب فيسرق منها وينسب لنفسه. يقول طه حسين "ص29" أمر هذه القصة "قصة إبراهيم وإسماعيل" إذن واضح فهي حديثة العهد ظهرت قبل الإسلام واستغلها الإسلام لسبب ديني وسياسي, وإذن فيستطيع التاريخ الأدبي واللغوي ألا يحفل بها عندما يريد أن يتعرف أصل اللغة العربية الفصحى. ويقول "هاشم العربي" في كتابه مقالة في الإسلام: "وحقيقة الأمر في قصة إسماعيل أنها دسيسة لفقها قدماء اليهود العرب تزلفا إليهم وتذرعا بهم إلى دفع الروم عن بيت المقدس أو تأسيس مملكة جديدة لهم في بلاد العرب يلجئون إليها". هل يليق يا دكتور أن تنقلب مبشرًا تنقل آراء المبشرين التي يمليها عليهم حقدهم في جامعة علمية. وقال عبد المتعال الصعيدي في كتابه "القضايا الكبرى في الإسلام" ص391: إن الدكتور طه أجاب في التحقيق بأنه يقرر صدق هجرة إسماعيل عليه السلام إلى مكة ويؤمن بقصة بناء الكعبة كما وردت في القرآن ويؤمن بتنزيل القراءات بصفته مسلما معتقدا ولكنه لا يقرها بصفته عالما أديبا وقال: إن عدم إقرارها هو الطريق الوحيد العلمي للوصول إلى حقائق الشعر الجاهلي وتاريخه. وقال: إن الدكتور أنكر القراءات السبع المجمع عليها فزعم أنها ليست

منزلة من الله تعالى. وأن العرب قرأتها كما استطاعت لا كما أوحى الله بها إلى نبيه. 8- محمد أحمد الغمراوي 1: ظهر كتابه "في الشعر الجاهلي" تحت اسم جديد بعد أن حذف منه وزيد فيه أما المحذوف فيه فهو أكثر تلك الأجزاء التي ثارت من أجلها ثائرة الناس في مصر على صاحب الكتاب فاستعدوا عليه القانون فهذا تحسن في الكتاب من غير شك يرجع الفضل بعض إلى صاحبه -أو إلى النيابة- ولكن المنقود عاد فانبعث بعد أن غير زيه وإن لم يغير من حقيقته "الأدب الجاهلي بدلا من الشعر الجاهلي" فلم نجد بدا من أن نعيد ذلك النقد ونجعله بعد التعديل نواة لنقد أوسع يتناسب مع التضخم في الكتاب المنقود. لم ينتفع صاحب الكتاب بنقد الناقدين على تعدد نقدهم وصوابه، وفي رأينا أن إعراض صاحب الكتاب عن الانتفاع بذلك النقد الكثير الصائب أدل على الروح الذي يحركه والغرض الذي يسعى إليه من كل ما نمق وينمق من زخرف يزعم به التجرد من الهوى والجري على أسلوب العلم الحديث. إن عملية تنقية الكتاب بالحذف لم تقو على تخليصه من كل ما يجافي الدين وإن خلصته فيما يظهر من كل ما يؤاخذ عليه القانون. وخلصته من الواضح الصريح الذي يمكن أن يمتد القلم إليه بالحذف أما المثبت في ثنايا جملة من التهكم الخفي فذلك ما لا يمكن أن يتناول بالحذف إلا أن يحذف أكثر الكتاب. فالكتاب وإن خلص من مثل: "للتوراة أن تحدثنا أن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضًا".

_ 1 النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي "1929".

ومن قوله: "لأمر ما شعروا بالحاجة إلى إثبات أن القرآن كتاب عربي مطابق في ألفاظه للغة العرب", فإنه لم يخلص من مثل: "وفي القرآن سورة تسمى سورة الجن أنبأت أن الجن استمعوا للنبي" ومن مثل قوله: "فلأمر ما اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون من صفوة بني هاشم" وهذه القطعة التي وصفتها النيابة بسوء الأدب في حق النبي، وكان ينبغي أن تحذف ومن مثل قوله: "لأمر ما شعروا بالحاجة إلى إثبات أن القرآن كتاب عربي مطابق في ألفاظه للغة العرب", فإن التهكم المستتر طي هذا الكلام وكثير غيره من الكتاب أخفى من أن يستطاع إثباته بالبرهان المنطقي على ما يظهر، على أن هناك على حذف المحذوف ملاحظة جديرة بالذكر هي أن صاحب الكتاب حذف من غير أن يذكر أسباب الحذف. وهذه نقطة لها خطرها فقد جرت سنة العلماء إذا نشروا بحثا ألا يغيروا منه من غير أن يقرنوا التغيير بالتنبيه إلى الأسباب التي دعت إليه خصوصا إذا كان التغيير رجوعا في الظاهر عن رأي كان الباحث قد ارتآه وأذاعه باسم العلم كما وقع من صاحب الكتاب. فحذفه ينفع صاحبه من غير شك لأنه يخلصه من عار ذلك الخطأ ومن كل ما ينطوي تحته من دلالة على مبلغ صاحبه من العلم ولا في غير العلم ما يمنع من التخلص من مثل هذا العار ولكن بشرط واحد هو إقناع المخطئ بأنه قد أخطأ واعترافه بذلك من غير مراوغة ولا غمغمة وصاحب الكتاب لم يعترف وليس هناك ما يدل على أنه اقتنع. إن التجديد في الأدب كالتجديد في العلم لا يمكن أن يقوم إلا على أساس تعاون الحاضر والماضي، سيبنى العقل في حاضره على ما أسس العقل

في ماضيه فإن الحق وحدة قائمة لا يقوم جزء منها إلا على جزء فلن يقوم حق جديد إلا على أساس من حق قديم. القاعدة البسيطة هي التي يمكن العلم بها من تجديد ثرائه وتنميته، وهي القاعدة التي ينبغي أن يسير عليها فيحتفظ بتراثه الكثير القيم فلا يغير منه إلا بقدر ما يجدده وينميه. ولا ننسى أن قد كان للشرق ماض باهر في العلم والأدب والدين والاجتماع هو لنا تراث ينبغي تجديده، وإن هذا التراث منه الحق اليقيني الذي نسي بتطاول العهد وتجديد هذا يكون بالتنقيب عنه وإحيائه وفيه ما هو بين الاحتمال واليقين وتجديد هذا يكون باستعماله وارتقاب الفرص في تمحيصه والترقي به شيئًا فشيئًا إلى مرتبة اليقين. ثم لا تنسى أن كل ما أسلمته إلينا أجيال العلماء من السلف إنما هو في مرتبة الرجحان على أقل تقدير. الرد على نقطة: "نسيان القومية والدين شرط أساسي من شروط البحث العلمي". إنه ذهب إلى أن نسيان القومية والدين شرط أساسي من شروط البحث العلمي، فإن كان أراد بذلك على الباحث ألا يخفى بعض الحق أو يتراخى في استيفاء الدليل العلمي محاباة لقوميته أو إرضاء لعاطفته فقد أصاب. أما إذا كان أراد أن الإنسان لا يستطيع أن يكون ذا عاطفة قومية أو دينية من غير أن يحابي أو يداجي في العلم فقد أخطأ ولم يصب، إن الإنسان يستطيع أن يراعي الدقة العلمية التامة في البحث وهو متذكر دينه كل التذكر ومعتقد صحته كل الاعتقاد. غير مجوز على قرآنه خطأ أو توراته. بل إن التدين

_ 1 ص122 من كتاب النقد التحليلي.

الصحيح يزيد الباحث المخلص إن أمكن حرصًا على الحق واستمساكا به إذا وصل إليه. إن الباحث المتدين بين محبين في الحق: دينه وعلمه, ومبغضين في الباطل: دينه وعلمه، وكذلك فهو يحب الحق مرتين: مرة لدينه ومرة لعلمه, ويبغض الباطل مرتين كذلك, ولا خوف عليه مطلقا أن يخفي بعض الحق أو يدلس في البحث محاباة لدينه، إذ ليس الحق يخاف على دينه ولكنه الباطل، وهو يعلم أن دينه حق. يعلم ذلك علم مستيقن. ويعلم أن العلم قائم على قاعدة استحالة التنافي بين أجزاء الحق، فهو لا يخشى أبدًا أن يكشف البحث الصحيح عن حقيقة تنافي دينه ولذلك يمضي في أبحاثه آمنًا مطمئنا متبعا أقوام الطرق في البحث والتفكير. فالتدين الصحيح والعلم الصحيح ممكن اجتماعهما إذن وكثيرًا ما اجتمعنا, كما أن العاطفة العلمية القوية والعاطفة الدينية القوية لا تتعارضان بل تتضافران في خدمة العلم.

تجدد معركة الشعر الجاهلي

تجدد معركة الشعر الجاهلي: ثم تجددت معركة الشعر الجاهلي مرة أخرى، ولم تكن هذه المرة على صفحات الجرائد وإنما في مجلس النواب, كان ذلك عام 1932 حيث وجهت إليه تهم عدم كفايته العلمية عدم كفياته الإدارية، ومحاباته لبعض الأساتذة الأجانب رعاية لجنسياتهم. وصودر كتاب "الأدب الجاهلي" مرة أخرى 19/ 3/ 1932 وقامت مظاهرات واضرابات, وكان الدكتور طه قد عاد إلى بث آرائه التغريبية واكتشفت كراسات فيها إلحاد, والمعروف أن تجدد هذه المعركة كان له صلة بالسياسة والحزبية، وقالت جريدة الاتحاد "12/ 3/ 1932" التي كان الدكتور رئيس تحريرها قبل ذلك سنوات: إننا إذا وضعنا الدكتور طه حسين موضع التحليل لوجدنا أنه شخصية عادية لا يستحق كل هذا الضجيج، إلا أن الكلف بالشذوذ والشغف بالخروج عما عليه الجماعة من شأنه أن يدعو الناس إلى الأخذ والحد في هذا الشذوذ. فقد كان طه حسين متصلا بحزب الأحرار الدستوريين الذين أيدوا رئيس الحكومة إذ ذاك "إسماعيل صدقي" فلما أنشأ حزب الشعب هاجموه وانضموا إلى الوفد في جبهة لمقاومته, هنالك بدأت الحملة على طه حسين واستغل فيها عنصري الثقافة اللاتينية والثقافة السكسونية وتصارعها في مصر حيث كانت الجامعة هي "البؤرة" التي يتجمع فيها المستشرقون ودعاة التغريب، واتهم طه حسين بأنه كان يمالئ الفرنسيين منهم غير أن الرجل الذي حمل لواء اتهام طه حسين لم يكون رجلا حزبيا وإنما كان رجلا مؤمنا بوطنه صادق الإيمان بالعروبة والإسلام, ذلك هو الدكتور عبد الحميد سعيد, وهذا ملخص حملته. لقد قضت1 على بلادنا موجة من التقليد الغربي. موجة الخروج عن الدين والآداب وقد قام بالتبشير بها جماعة لم يصل نور الإسلام إلى قلوبهم وقد اشتهر الدكتور طه حسين في كتبه ومحاضراته بتلك النزعة اللادينة. وقال: إننا نشاهد الرجل عدوا للدين وتعاليمه يشوه كل ما هو منسوب إليه ومن يتتبع سلسلة حياته العلمية يجدها وحدة، يذهب في كل مسألة تتعلق بالدين الإسلامي مذهب أعداء الدين. وخصومة الألداء، وهناك نقطة ضعف

_ 1 الأهرام 17/ 3/ 1932 و29/ 3/ 1932.

في حياته أعلنها صديقه الأستاذ المازني في كتابه "قبض الريح" وتلك هي كونه ضريرا قد أثر على آرائه وحكمه على الأشياء. إن ضرر الدكتور طه بعقول الناشئة لم يقف عند الجامعة أو مصر بل جاوزها إلى البلاد العربية المجاورة، وكيف كلف طلبته أن ينتقدوا القرآن ويسجلوا آراءهم في كراسة فيذكروا أن هذه آية ضعيفة، وتلك ركيكة، "تلا فصولا من نوتة لأحد الطلاب استملاها من محاضرات الدكتور طه على الطلبة في القرآن وفيها يحث الدكتور الطلبة على نقد القرآن" ويذكر لهم أن في القرآن أسلوبين مختلفين كل الاختلاف، أحدهما جاف وهو مستمد من البيئة التي نزل فيها "مكة" ففي هذا الأسلوب تهديد ووعيد وزجر, فلما هاجر النبي إلى المدينة تغير الأسلوب بحكم البيئة وأصبح ذلك الأسلوب لينًا. وحث الدكتور طه حسين الطلبة على أن ينظروا إلى القرآن كأي كتاب عادي يجري عليه من النقد العلمي ما يجري عليها وأن يغضوا النظر عن البحث فيه عن قدسيته وعرض طه لفواتح السور وذكر عدة آراء فيها منها قصد التعمية، ومنها أنها كانت في الأصل علامات مميزة لمصاحف الصحابة. ثم قال: هل بعدها نقول: إن طه حسين مسلم وموحد بالله؟ وكان الدكتور قد أعلن في خلال هذه الضجة كلمة قال فيها: "إنني أبعد الناس عن المساس بكرامة الدين الإسلامي" الصحف 7/ 3/ 1932. وقال: "لقد سمى الدكتور طه ابنه كلود وابنته مرجريت وعمد أبناؤه على نحو ما يفعله المسيحيون". هذا الدكتور مغرم بالشك والتشكيك والطعن على الدين والفسق والفجور والدعوة إليه، وكتاباه في الأدب الجاهلي وحديث الأربعاء محشوان

بالطعن في الدين، والتحريض على الفسق والفجور، ثم أشار إلى تحقيق النيابة معه سنة 1926، كيف أن المبادئ التي ضمنها كتابه "في الأدب الجاهلي" ورد منها في كتب بعض المبشرين، وكيف أنه تعرض لنشر المساوئ والعورات عن عصور الإسلام الزاهرة وأغضى عن نشر الفضائل والرجال الأفذاذ الذين بنوا مجد الإسلام، وقال: إن الحكومات التي سكتت عن هذا الرجل وتركته يهدم الأخلاق والآداب ويمثل بالفضيلة لهي شريكة له في إثمه. لقد شاع هنا في البلاد العربية أن هناك صلة بين الدكتور طه وبين دعاة التنصير، يثبت هذا التحقيق الذي أجرته النيابة وهو ينفث سمومه ويحتمي باستقلال الجامعة. وأعيدت إذاعة تقرير لجنة 28 ديسمبر 1927 الذي كتبه الغمراوي والعوامري ومحمد عبد المطلب حيث أحصى على بحث الدكتور طه حسين أنه أضاع على العرب المسلمين "1" الوحدة القومية والعاطفة الدينية. "2" الإيمان بتواتر القرآن وقراءاته وأنها وحي من عند الله. "3" كرامة السلف من أئمة الدين واللغة. "4" كرامة الثقة بسيرة النبي في كل ما كتب عنها. "5" اعتقاد صدق القرآن وتنزهه عن الكذب. "6" الوحدة الإسلامية. "7" حرمة الصحابة والتابعين. "8" تنزيه القرآن من التهكم والازدراء. "9" تنزيه النبي عن مواطن التهكم والاستخفاف. "10" صدق القرآن والنبي فيما أخبر به عن ملة إبراهيم. "11" براءة القرآن مما رماه به المستشرقون من أعدائه. "12" الأدب العام مع الله ورسوله. وقال عبد الحميد سعيد "6 مارس 1933، الأهرام": عرف هذا الرجل بمصادمة آرائه لنصوص القرآن الكريم والعقائد الدينية وقد ظهرت عداوته للإسلام في كثير من تعاليمه وآثاره منها كتاب "الشعر الجاهلي الذي مازال

يدرس في الجامعة تحت اسم "الأدب الجاهلي" ولكن تغيير العنوان لم يغير شيئا من روحه اللادينية فإن السموم التي أراد الدكتور أن ينفثها في كتابه لاتزال ماثلة في كثير من فصوله ومباحثه، كما أنه قد زين للشباب وسائل المجون والفجور في مؤلفه "حديث الأربعاء" ولا يمكن للأمة أن تطمئن إلى وعوده المتكررة بالعدول عن هذا السبيل المعوج فسوابقه لا تشجع على تصديقه، وهذه جامعة أميرية مصرية في أعمال دولة دينها الرسمي الإسلام, ولا نريد مطلقا أن تخفي حركة التعليم بين جدرانها أغراضًا شبيهة بتلك الأغراض المخزية التي بدأت للأمة عيانا من بعض المذاهب الأجنبية التي تتخذ العلم ستارًا للتضليل، فكيف سكتت وزارة المعارف عن ذلك كله ولم تحرك ساكنًا وكيف تسمح أن يكون ذلك الرجل عميدًا لكلية الآداب بالجامعة المصرية بعد أن افتضح أمره وضجت البلاد من خطر تعاليمه وآرائه التي لا تقل عن خطر دعاة التنصير في البلاد.

الفصل الرابع: كتاب "النثر الفني"

الفصل الرابع: كتاب "النثر الفني": بين زكي مبارك وفريد وجدي ولطفي جمعة: يرى الدكتور زكي مبارك أن كتابه "النثر الفني" في القرن الرابع الهجري الذي أصدره سنة 1934 والذي كان رسالته في الدكتوراه التي حصل عليها من جامعة السربون سنة 1933 هو دعامة مذهبه الأدبي وأشار في مقدمته أنه شغل نفسه به سبع سنين "فإن رآه المنصفون خليقا بأن يغمر قلب مؤلفه بشعاع من نشوة الاعتزاز فهو عصارة لجهود عشرين عاما قضاها في دراسة الأدب العربي والأدب الفرنسي وقال: فإن رأوه أصغر من أن يورث المؤلف شيئا من الزهو فيذكروا أنني ألفته في أعوام سود لقيت فيها من عنت الأيام ما يقصم الظهر ويقصف العمر, فقد كنت أشطر العام شطرين، أقضي شطره الأول في القاهرة حيث أؤدي عملي، وأجني رزقي؛ وأقضي شطره الثاني في باريس كالطير الغريب أحادث العلماء وأستلهم المؤلفين إلى أن ينفذ ما ادخرته أو يكاد، ثم صممت على أن أنقطع إلى الدرس في جامعة باريس حتى أنتصر أو أموت". وقد ردد المؤلف عيوب كتابه فقال: إن من أهمها غلبة النزعة الوجدانية في الرسالة العلمية, واختلاف منهج التأليف في الكتاب وهذا يرجع إلى أن لم يؤلف في عام واحد, وإنما كتبت فصوله في خلال سبع سنين تحول فيها أسلوب المؤلف وعقله وذوقه من حال إلى حال. وقد عرض الكتاب لنقد مرسيه رأس المستشرقين الفرنسيين الذي خالفه زكي مبارك في آرائه عن النثر الفني مخالفة صريحة، وقد غضب مرسيه لذلك وأمر بحذف الفصلين بحجة أنهما لون من الاستطراد لا يوائم الروح الفرنسي في البحث. وصمم مبارك على بقاء الفصلين بحجة أنهما العماد الذي تنهض عليه نظرية نشأة النثر الفني. كما تعرض لمهاجمة الدكتور طه حسين ونقض رأيه وهاجم فكرته التي تدافع عنها. وقد لقيت آراء زكي مبارك معارضة ونقدا متجددين استمرت معاركه شهورًا متعددة، وقد نشر مبارك فصول كتابه في جريدة البلاغ قبل أن يضمها كتابه. وكانت أبرز آراء زكي مبارك التي أثارت النقد هي: أن العرب كانوا على قدر من الحضارة والعلم فلما جاء الإسلام ودفعهم إلى الأمام اندفعوا.

النثر الفني كان موجودًا عند العرب قبل الإسلام. إن العرب الجاهليين كانوا قد دخلوا في تطور نحو ثلاثة قرون قبل البعثة المحمدية. القرآن شاهد من شواهد الشعر الجاهلي. وهذه أهم معالم هذه المعركة: محمد فريد وجدي 1: 1- إن استدلال الدكتور زكي مبارك على وجود ذلك النثر الفني عند العرب بالقرآن لانزال نراه معلولا ولا يصح الإصرار عليه فإنه إن كان القرآن وحيا سماويا أو قبضا وجدانيا من أية طريقة روحانية فلا يجوز الاستدلال به على ما يظهر أن لدى الجاهليين من نثر لانقطاع الصلة بين ما هو إلهي وما هو بشري. وإن كان ليس بنثر ولا بفيض وجداني من طريق روحانية تميزه فلا يجوز الاستدلال به أيضًا في هذا الوطن، لأن هذا الكتاب اعتبرته أمة بأسرها كتابا إلهيا معجزًا للإنس والجن مجتمعين ولشيء لا يعتبر إلهيا ومعجزا إلى هذا الحد إذا كان فوق قدرة الذين يدينون بهذه العقيدة على الأقل. كي يفترض أن يكون لفئام الناس من الأميين نثر فني وهو نقيض الكتابة والتمييز. أليس لو كان لهم شيء من ذلك لكان كتابًا يعتبرونه أساسًا لديانتهم يقدسونه ويحتفظون به ككل أمة متدينة في الأرض، إن الأمة التي ليس لها كتاب مقدس لا يعقل أن يكون لها شيء مكتوب على الإطلاق

_ 1 البلاغ 18 أكتوبر 1931.

وإذا عدم المكتوب فقد عدم النثر الفني ولا يجوز السؤال عنه ولا البحث فيه. 2- إني لمعجب بالأسلوب العلمي الدقيق وبمهارته في نقل المباحث الأدبية من مجال الظنون والأوهام إلى مجال النظر المباشر المجرد عن الملابسات الدينية والتقاليد. ولسنا ننكر أن سلوك هذه الجادة على وضوحها واستقامتها لا تخلو من الخصال التي تستدرج الباحثين إلى ما لا يتفق والأسلوب الذي يحرصون على تطبيقه فيضربون في متاهاتها بمعزل عن الأعلام العلمية ويكون مثلهم في تصرفهم في تطبيق الأسلوب الأمثل كمثل خصومهم الذين يتخبطون في بحوثهم بغير دليل. وأني أوافق الدكتور زكي مبارك1 على أن حقيقة الحياة الأدبية عند العرب الجاهلية لا يصج أن تؤخذ عن الذين كتبوا فيها من المؤلفين الذين تأثروا بالروح الدينية ونحوا في وضعها نحوا يتفق وروايات رجال ليس مرماهم تقرير الحقائق ولكن الأغرب والزلفى من الحاكمين. 3- رأى زكي مبارك أن العرب الجاهليين كانوا قد دخلوا في تطور نحو ثلاثة قرون قبل البعثة عارضناه فيه وأثبتنا له أن ثلاثة قرون تمضي في التطور ولا تثمر لذويه توحيد كلمتهم وتعيين غايتهم ولا تبعث فيها داعيا يهيب بهم إلى الأخذ بالأسباب وهو شرط لا محيص من وجوده، إن مثل هذا التطورا لمجرد من جميع مميزاته المعروفة لا يصح القول به في عرف علم الاجتماع فإن من شروط الافتراضات العلمية أن تكون مرجحات وأعلام وإلا لفظت إلى عالم الأوهام2.

_ 1 البلاغ 20 سبتمر 1931. 2 المصدر السابق 30 أكتوبر 1931.

رد زكي مبارك على فريد وجدي 1: يرجع أصل الخلاف إلى رغبتي في نقض ما أصر عليه فريق من المستشرقين وشايعهم عليه الدكتور طه من أن النثر الفني عند العرب لم يعرف إلا في أواخر العصر الأموي حين اتصل العرب بالفرس واليونان، فهو فن اكتسبه العرب بعد الإسلام، ومن رأي المسيو مرسيه أن العرب يدينون في نثرهم إلى اليونان وحجة هؤلاء الباحثين أن العرب قبل الإسلام لم يكن لهم وجود أدبي ولا عقلي وأنه يمكن فقط الاعتراف بأنه كان عندهم شعر؛ لأن الشعر فن ساذج يوجد عند الأمم الهمجية, ولا كذلك النثر فإنه لغة العقل, والعرب في رأيهم كانوا قبل الإسلام يعيشون عيشة أولية لا يعرف فيها كيف تكون طرائق البيان. تلك حجتهم وذلك أصل الخلاف. أما أنا فقد تطلعت إلى تحقيق هذه المسألة منذ سنوات فقد نشر الدكتور طه حسين في مجلة المقتطف سنة 1926 مقالًا عن النثر في الخمسين سنة الماضية فقد تكلم عن بداية النثر العربي وتكلم عن المقفع وكيف كان يلحن ويحرف الكلم عن مواضعه؛ لأنه في ظنه كان أول الثائرين ولا يخلو مبتدئ من تعثر واضطراب. فلما ذهبت إلى باريس سنة 1927 وجدت المستشرقين يبدءون ويعيدون في هذه المسألة وعرفت أن المسيو مرسيه هو صاحب الرأي القائل بأن العرب أخذوا مناهج النثر عن الفرس؛ لأن أول ثائر عند العرب هو ابن المقفع وكان فارسي الأصل وبعد تأملات طويلة اهتديت إلى أن للنثر العربي أصولا أخرى

_ 1 البلاغ 29 سبتمبر 1931.

غير الأصول الفارسية، وتلك الأصول هي النثر عند الجاهليين وبذلك يكون النثر الأموي نثرًا متطورا عن النثر الجاهلي ولم ينقل نقلا عن نماذج النثر الفارسي ثم بحثت عن الشواهد فرأيت القرآن أفصح شاهد وأصدق دليل. ولما اطمأننت إلى نظريتي أعلنتها للدكتور طه حسين سنة 1928 على أنها محاولة, فراعه ذلك ورأى أن نظريته أو نظرية المسيو مرسيه أصبحت في مهب الأعاصير ثم قال في انفعال: "أنت عاوز تكفر". هنالك ابتسمت وقلت: لا بأس من أن يكفر زكي مبارك بسبب نظريته عن النثر الجاهلي فقد كفر أستاذ له من قبل بسبب نظريته عن الشعر الجاهلي وتلك ظاهرة طبيعية فإن الشعر أقدم من النثر كما أن الأستاذ أقدم من التلميذ والكفر درجات بعضها مركب وبعضها بسيط. وكانت بيننا محادثات طويلة حول هذا الموضوع ستنشر بعد حين. وإن كان الدكتور طه غير رأيه قليلا لأن تلميذه أثر فيه أثرا غير قليل. وهذا كلام يشرف الأستاذ أضعاف ما يشرف التلميذ. ثم رجعت إلى المسيو مارسيه فقارعته في باريس مقارعة عنيفة انتهت بإصراره على حذف الفصول التي كتبتها عن نظرية النثر الجاهلي في الرسالة التي قدمتها إلى السربون، وانتهت من جانبي بالإصرار على بقاء تلك الفصول والدفاع عنها أمام هيئة الامتحان وكان لذلك يوم مشهود. وهي نظرية إيمان لا سلبية سيقف مؤرخو الآداب العربية منها موقف التأمل والبحث كلما بدا لهم أن يدرسوا أصول النثر القديم وأنا

مطمئن إلى صحة هذه النظرية واثق بأنها ستجتذب إليها كل خصومها ولو بعد حين. يرى خصوم نظرية النثر الجاهلي أن العرب قبل الإسلام لم يكونوا أهل معارف ولا أهل تفكير، وإنما كانوا يعيشون عيشة فطرية لا تساعد على إنشاء النثر الذي يخاطب العقل، وإن أمكن أن يكون لهم شعر وأن يكون لهم خطب صغيرة وأسجاع وأمثال فذلك لا يستلزم أن يكونوا عرفوا وتخاطبوا به متراسلين. ونحن ننقض هذا الاعتراض ونعلن أن الإسلام كان تاجا لنهضة أدبية وعقلية واجتماعية عند العرب، ونرى أن العرب أعدتهم الأيام للملك والفتح في تطور طويل لا يقدر بأقل من ثلاثة قرون, وفي تلك المدة نشأت عند العرب فنون أدبية منها الشعر والخطابة وهما ليسا موضع جدال ومنها النثر وشاهده القرآن الذي نزل بلغة الجاهليين ليهديهم إلى الصراط المستقيم. ارتضينا لأنفسنا أن نخرج الدين من هذه الهيجاء لنظل في حدود البحث العلمي الدقيق الذي يفرض علينا غض النظر عن الأديان والتقاليد. محمد لطفي جمعة 1: ألا فليعلم الدكتور زكي أن العرب في جاهليتهم كانوا أميين إلى درجة ذات فصول؛ فلم يحفظوا عن طريق الكتابة شيئا يستحق الذكر ويبتعد عن الحقيقة بعدًا شديدا كل من يقول إن الإسلام كان تاجا لنهضة علمية وأدبية وإسلامية وأخلاقية واجتماعية فقد أثبتنا من التاريخ والعلم أن العرب قبل

_ 1 البلاغ 1 سبتمبر 1931.

الإسلام لم يكونوا على شيء من مؤهلات المدنية والنهضة بل كانوا على العكس في حضيض من العصبية الحمقاء والمطامع اللاشعبية، وحب الانتقام والتفريق بين القبائل والاستهزاء بروابط الألفة القومية. رد زكي مبارك على لطفي جمعة 1: 1- قد جدت الحرب بكم فجدوا. هممت أن أسوق إلى الأستاذ ألوانا مما جرى به قلمه من التهكم والسخرية والاستخفاف ولكني بعد لحظات تذكرت أن هذا كاتب سبقني إلى خدمة اللغة العربية بأكثر من عشرين عاما وليس من البر ولا المروءة أن نتعالم على رجال كانوا أساتذة يوم كنا طلابا وتذكرت بعد ذلك أن لي قراء كراما يراقبونني مراقبة شديدة ويحاسبونني على صغار الهفوات. 2- إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارًا2: أننا لا نستبيح لأنفسنا تحويل الخصومات العقلية إلى خصومات شخصية ولكن الأستاذ لطفي جمعة عاد فملأ مقاله بعبارات يعرف هو كيف صيغت وكيف بنيت على روح الغدر وأنا عائد إليه وماض في مقارعته ليعلم أنني أصلب عودًا من أولئك الرجال الذين استلانهم فصال في نقدهم وجال وألف على حسابهم الأسفار الطوال "يقصد طه حسين". ولقد استطاع الأستاذ أن يباهي بأنه شغل بهذه الموضوعات قبل اليوم وله فيها أبحاث ودراسات فإني سأريه أن الأدب أصعب مرتقى وأعز منالا.

_ 1 البلاغ 4 سبتمبر 1931. 2 المصدر السابق 11 سبتمبر 1931.

من أن يمتلك ناصيته من يقرءونه في أوقات الفراغ, ولست بهذا أغض من قيمة الأستاذ فهو رجل قانون ويعرف كما أعرف أن الأدب يقتل من يفرغ له قتلا ذريعا ولا يبقي له من الوقت ومن البال ما يتفوق به في القانون أو غير القانون. وقد تكون حرف المحاماة قد علمت الأستاذ كيف ينقل مذاهب مهنته إلى الدراسات الأدبية التي يحاول أصحابها أن يصبغوها بالصبغة العلمية وتبعدها عن مداورات المحامين الذين يصورون الباطل بصورة الحق حين يشاءون. عبد المتعال الصعيدي 1: إن هذا الشك وتلك الشعوبية التي يجاري فيها زكي مبارك الأستاذ طه حسين قد فرغنا من أمرها معه منذ سنين وعندنا ما هو أهم منها مما لا نحب أن نقطعها إلى إعادة الكلام فيها وأن إعجاز القرآن وإعجاب العرب كان يرجع إلى بلاغته وإنشائه كما يرجع إلى روحه ومعناه. هل القرآن الكريم من شواهد النثر الجاهلي؟ إن عند زكي مبارك مقياس قريب من كلام البشر أنفسهم في عصر القرآن الكريم وعنده خطب الرسول وخطب أصحابها فلماذا لا يأخذ منها شاهدا على النثر الفني ويعقد المشابهة بين كلام البشر في العصرين ويترك كلام الله تعالى. رد زكي مبارك 2: أما أنا فأمثل مدرسة ثانية، هي المدرسة التي تحكم العقل في كل شيء

_ 1 البلاغ 10 و16 أغسطس 1931. 2 المصدر السابق 28 أغسطس 1931.

وتفرض على الباحث أن ينقد أولا المصادر التي يعتمد عليها وتروضه على إدراك الفرق بين الأذواق والأحاسيس في مختلف العصور الأدبية. ولهذه المدرسة الأدبية أشياع عديدون, ولكني أمتاز من بينهم بميزة ظاهرة هي أنني لا أعرف ما هو الحقد وما هو الضغن ولا أفهم مطلقا كيف تنقلب الخصومات العقلية إلى خصومات شخصية. وفي يقيني أني سأحول النقد الأدبي في مصر تحويلا جديا وخلاصة القول أني لا أتفق مع الأستاذ على الأساس الذي بنى عليه ما ينشئ من النظريات والفروض, وأرى أن المدرسة التي يمثلها لا تتناسب مع الجيل الجديد وللمدرسة الحديثة أشياع عديدون, ولكن أمتاز من بينهم بميزة ظاهرة هي أنني لا أعرف ما هو الحقد وما الضغن ولا أفهم مطلقا كيف تتحول الخصومات العقلية ألى خصومات شخصية يقال فيها هذا لله وهذا للشيطان.

الفصل الخامس: كتاب "أوراق الورد"

الفصل الخامس: كتاب "أوراق الورد": بين مصطفى صادق الرافعي ولطفي جمعة وإبراهيم المصري: عندما أصدر "مصطفى صادق الرافعي" أوراق الورد قال: إنه لون جديد من أدب الحب في الأدب العربي لم يكتب من قبل، وعرض في مقدمة مطولة الفن رسائل الحب في الأدب العربي خلص منها إلى أنه استحدث فنا جديدًا في الأدب العربي بكتابه هذا. وقد واجه الرافعي مساجلات متعددة بالنسبة لأسلوبه وفنون كتاباته وكان هذا الكتاب فرصة جديدة لمعارك حول الأسلوب الجديد في الأدب العربي المعاصر. 1- لطفي جمعة 1: صاحب أوراق الورد يريد القارئ على أن يعتقد أن أوراق الورد تكملة على كتابي رسائل الأحزان والسحاب الأحمر، وإن لم يكن بين الكتب الثلاثة رابطة سوى كونها نوعا من الأدب الذي أراد الرافعي أن يظهر به الأسلوب القديم قادرًا على مسابقة الأسلوب الجديد وأنه هو الكاتب العربي القح الصميم الذي لم يغرف من حياض الآداب الأوروبية قادر على الغوص إلى لجج المعاني والظفر بدراري ولآلئ لا تقل عما يظفر به أهل الفرقة الجديدة من المحدثين. إن كنا لانزال نذكر أنه بجانب جمال أسلوبها ونقاء ديباجتها التي قد لا تجاري من حيث الفصاحة والبيان إلا أن المعاني كانت مبهمة وبها بعض الغموض، لقد كان الأسلوب في تلك الكتب يشبه ثوبا واسعًا جميلا مزركشًا ولكن لابسه طفل صغير، وهذا هو الأثر الباقي في ذهننا وربما كان الأثر خاطئًا.

_ 1 المساء 19 أبريل 1931.

غاية الرافعي أن يظهر اللغة العربية بمظهر القادر على احتواء المعاني وكسوتها بأجمل شكل وأبهى صورة، إذ العبرة في نظره وفي نظر كل كبار الأدباء ليست بغرابة المعنى، ولكن العبرة بجمال الشكل. موضوع الجدل بينه وبين خصومه هو أنه يقول: إنه لا يوجد في العربية قديم وجديد ولكن يوجد أسلوب واحد فصيح من ذاق حلاوته ووصل للقدرة على احتلال ناصيته لا يسلوه ولا يستطيع التخلي عنه مهما أعطي من المزايا. قد وجدنا الأستاذ قد قطع شوطا بعيدًا في التجديد من حيث لا يدري ولعله بذلك أن يعجمهم بممارسة كافة أنواع الأدب بين دفتي هذا الكتاب حتى الشعر المنثور الذي ليس موزونا ولا مقفى. 2- إبراهيم المصري 1: الأستاذ مصطفى صادق الرافعي ولوع بالأدب العربي وطريقة التأليف العربية تستهويه بالجملة المتماسكة والعبارة المصقولة واللفظ السليم فيشتغل بالعرض عن الجوهر ويصيب من بلاغة القول أضعاف ما يصيب من بلاغة الحياة. وهو غني بالألفاظ غنى يحسد عليه، لا يحفل بالفكرة وتناسبها وعمقها قدر احتفاله بصياغة اللفظ وحلاوته وحسن رنينه. ومن هذه الناحية فهو فنان، فنان مغرم بالشكل الظاهري وتطربك أهازيج أسلوبه، ولكنها لا تنفذ إلى قرارة نفسك ولا تستطيع أن تؤثر في مجرى تفكيرك على أن الرجل يحاول أن يفكر وقد يصادفك في كتابه

_ 1 المساء 23 يوليو 1931.

الجديد "أوراق الورد" خواطر مبتكرة رائعة ولكن إفراطه في حبك العبارة ونحتها يسوقه إلى تضحية بالفكرة في سبيل اللفظ. والأستاذ مصطفى صادق الرافعي هو دون شك أقرب أدباء الثقافة العربية المحضة إلى روح العصر الحديث، ففي أسلوبه عذوبة وله نصوع وفيه لمحات من الشعر الوجداني الصادق ولولا عبادة اللفظ المشئومة لكان شأنه غير هذا الشأن. ولكن ما حيلته والثقافة الغربية لا تصل إليه واطلاعه لا يجاوز حدود الأدب العربي وبعض الأعمال الأوربية المترجمة. والواقع أن أسلوب الرجل يتمثل في الصراع الدائم بين النزعة الخيالية والنزعة الواقعية الأولى فيه تتغلب على الثانية وهذا سر ضعفه ولكنه لا يلبث أن يهجر الخيال الأجوف يتوخى البساطة والحقيقة حتى يعتدل أسلوبه ويفيض على القارئ بأروع العواطف وأفتن الأنغام. 3- رد مصطفى الرافعي: أنا أقرر أن البيان في اللغة أسمى وأدق وأظرف من البيان في لغة باريس ولندن وبرلين وغيرها، وليس عندنا عبادة لفظ ولا ألاعيب ألفاظ ولا شيء يسمى استعارة أو مجازا فإن هذه كلمات اصطلحوا عليها بعد الإسلام عند تدوين العلوم ولم يعرفها العرب ولا تعمد صناعتها رجال البيان. إنما البيان العربي فن دقيق يحقق في اللغة ناموس الجمال وطبيعة الوزن. قال لإبراهيم المصري: إن كتابته لا تسمو إلى طبقة الفصيح وهو وأمثاله يعيبون هذه اللغة بما يعجزهم منها كأنها اشتراكية لغوية.

إني لأدعو كتابنا وأدباءنا أن ينبذوا التقيد بآراء كتاب أوربا وأدبائها فهم قوم يصيبون ويخطئون, فإذا قالوا: إن الفن في كتابة الحب "أن ترى فيه قوة هائلة من قوى الغريزة الجامحة العمياء تشترك فيها المادة والروح والعاطفة والشهوة". إن الفن عندنا في كتابة فن إسلامي عربي يقوم على الضمير الطاهر والنزعة الشريفة وعلى الخلق القوي الدال على المروءة والشجاعة وضبط النفس وعلى الإيمان بحق المرأة في الحياة وسموها. وإن كانت ضعيفة فلا يتغفلها الرجل ولا يطلب عزتها ولا ينتفع من ضعفها بل يحميها من نفسه ولا يكون معها كالمفترس يشبع من فريسته ويحيا من قتلها. وقلنا لهم: إن الكتابة عندنا يجب أن تكون لتهذيب النفس الناشئة لا لإسقاطها ولضبط الغريزة الحيوانية لا لإثارتها. وقلنا: إن الكاتب الإسلامي يضع في كتابته عن الحب نفسه لا أغراضه ويحيا بما هو إلهي فيه لا بما هو حيواني منه ويكون كالطبيعة نفسها تظهر للأعين ما بدا من جمال الجسم وتستر عن الأعين ما في داخله. أنا أعرف أن الأستاذ المصري مأخوذ بآراء ديستويفنسكي فهو من أجل ذلك ومن وجهة نظره نظر تقليد ينتقد الحب في أوراق الورد بأنه مجرد فكرة فلسفية أفلاطونية تحلق في سموات الخيال. "ولذلك أنت لا تسمع من خلال سطوره هدير الحب الإنساني الحي" نعم يا صاحبي أنت لا تجد في أوراق الورد قلما مرسلا بالرفث والنخاسة والتعهر ولا تجد فيه مثل قولك أنت في رواية سخرية الميول التي تقول فيها على لسان بطلها: "ألست الرجل الذي تمرغ في حمأة فسقه كتيس مخمور".

كلا يا هذا لا تيس ولا مخمور، التمس هذا ونحوه عند صاحبك ديستويفنسكي الذي يريد أن يقارف أبطاله كل محرم وأن يتمرغوا في حمأة الفسق كالتيوس المخمورة ليتألموا من بعد ذلك, ثم يكون الألم آخر الأمر سموا وروحانية. هذه سخافات دنيئة بعيدة عن الفن تتضع عن قدرة النفس المؤمنة ويجب أن لا يكتب فيها كاتب مسلم ولا كاتب شريف. الفن عندي في الحب أن يبدأ في المرأة ولكنه لا ينتهي فيها. فالمرأة طريقة لا غاية وهي وسيلة لفهم الجمال وإدراكه فيما هو أجمل منها، أي في الوجود نفسه بكل ما فيه، كان الخلود الروحي في الإنسان يحاول بالحب أن يحس معانيه السامية الخالدة. أما أني أرى أن شيوع الكتابة في الحب المادي الفاسق ليس معناه إلا تحول نساء الأمة التي يشيع فيها ذلك إلى بغايا. وهذا هو رأيي وهذا هو الفن عندي. 4- رسائل الحب في اللغة العربية؛ زكي مبارك: كان الأستاذ محمد علي غريب استكثر على الأستاذ مصطفى الرافعي أن ينكر خلو اللغة العربية من رسائل الحب وقال قد يكون هذا الرأي صائبا فلم ينته إلينا مؤلف كهذا إلا ما تفرق بين أسفار الأدب من بعض الرسائل مما جرى بين المحبين. وقرأت رد الأستاذ الرافعي ونقضه هذه الجملة إذ قال: فأين هذه الرسائل التي تشتت في أسفار الأدب؟ إنها كلمة تكتب في دقيقة ولكن برهانها لا يجيء إلا من عمر طويل يفرق على مكاتب الدنيا في مشارق الأرض ومغاربها.

وأنا أحب أن أقدم للقراء نماذج من رسائل الحب التي عثرت عليها في كتب الأدب بدون أن أبدد عمرا جديدا في طلبها. لقد قرأت كتاب أوراق الورد واستجدته وفي رأيي أن المؤلف لا غضاضة عليه في أن يتنازل عن الأولية في كتابه رسائل الحب فقد كانت للناس أقلام وقلوب منذ مئات السنين.

الفصل السادس: كتاب ثورة الأدب

الفصل السادس: كتاب ثورة الأدب بين فريد وجدي والدكتور هيكل: هذه المعركة نموذج طيب للنقد في الأدب العربي المعاصر، فهي مساجلة خلت من كل عبارات السخرية أو الغرض أو الاندفاع وراء الأهواء، ناقش بها محمد فريد وجدي آراء الدكتور هيكل في كتابه "ثورة الأدب" مناقشة موضوعية هادئة. بحث 1 في ثورة الأدب؛ من فريد وجدي: قال هيكل: الأدب فن جميل غايته تبليغ الناس رسالة ما في الحياة والوجود من حق وجميل بواسطة الكلام, والأديب هو الذي يؤدي هذه الرسالة. فريد وجدي: في رأيي أنا أن هذا التجديد على افتراض صحته ناقص وكان حقه أن يقول: إن غاية الأدب تبليغ الناس ما في الحياة والوجود من حق وباطل وجميل وقبيح وخير وشر، فإن في الحياة والوجود كل ذلك بدليل أن كثيرًا من القطع الأدبية نثرًا وشعرًا قديما وحديثا قد بالغت في الباطل والقبيح والشر إلى حد أن أنكرت معه الحق والجميل والخير معبرة عن مذهب التشاؤميين من الفلاسفة وهذه القطع من الكثرة بحيث لا يمكن أن تعتبر من النادر الذي لا حكم له. وهذا الاقتصار من الدكتور فضلا عن أنه يخل تعريف الأدب فإنه يدمجه في دائرة الفلسفة التفاؤلية فإن غرضها هي أيضًا بيان ما في الوجود من حق

_ 1 الأهرام 18 يونيه 1933.

ثم قال: فنحن هنا بإزاء أديبين كبيرين يكتبان في موضوع واحد فيقول أحدهما: إن كل حركة في حياتنا الأدبية اليوم ثورة وإن المحافظين أنفسهم ثائرون على ما يؤيدونه, والآخر يقول: إن حركة مهما كبرت عندنا وعند غيرنا يصح أن تسمى ثورة. ولو سألت أديبا ثالثًا ورابعًا وخامسًا على أن يكتبوا لوجودا وجوها أخرى من الخيال والتلاعب بالألفاظ في تعليل صحة اسمه وفي التدليل على عدم صحته تناقض هذين الرأيين1. -2- عرض لما ذكره هيكل من أن الأدب في ثورة منذ الثورة العرابية وإلى الاحتلال إلى ثورة 1919. ثم قال: نحن نخالفه في وجود ثورة أدبية أولا, وتقرر أن هناك نهضة لغوية لا أكثر ولا أقل. وقال: إن أركان الثورة غير مستوفاة وقال: إن الثورة كما عرفها العلم هي انقلاب فجائي يحدث في الأشياء والآراء أو الحكومة فلدينا بموجب هذا التعريف أركان ثلاثة: أولهما الانقلاب والثاني الفجاءة والثالث العنف. ونحن إذا بحثنا فيما نحن بصدده لم نجد واحدًا منها فلم يحدث انقلاب في اللغة فإن ما كان يكتب به الناس على عهد محمد علي هو ما نكتب به اليوم اللهم إلا تعبيرات اقتبسها بعض الكتاب عن اللغات الأوروبية لايزال يعفو عنها كبار الكتاب ويعدونها مجافية لروح البلاغة العربية وكل ما حدث هو ميل هؤلاء الكتاب والكبار عن طريقة الترسل التي كان قد أغرى بها كتاب القرون

_ 1 الأهرام 18 يونيه 1933.

الإسلامية الوسطى من الإطالة والتحذلق والتخطيط إلى الطريقة البدوية الصريحة الموجزة التي تهجم بالقارئ على الغرض من أقرب الطرق وأوقعها في النفس. ثم يحدث عن تطور اللغة في عهد عبد الله نديم ومحمد عبده فجرى هؤلاء بالعربية شوطا بعيدًا وعملوا على نشرها بين آحاد الشعب فزادوا في تذوقهم اللغة الصحيحة وتبع ذلك تحسن كثير في اللهجة العلمية. وبينما اللغة تسير سيرًا طبيعيًا "بطيئًا" في هذا الدرب إذا برأي ارتآه بعضهم وعده شرطا أوليا في إنهاض الأمة من الناحية الأدبية، وذلك بإشراكها في كل ثمرات العقول مؤداه توحيد لغتي الكلام والكتابة بالاعتماد على اللغة العامية مستندا في إبداء هذا الرأي على ما حدث لجميع أمم العالم من اتخاذ لهجة الكلام في كل منها لغة للأدب والعلم والدين معا. وإهمال اللغات الرئيسية التي اشتقت تلك اللهجات منها فثار على هذا الرأي بعض الكاتبين وعاونهم العامة أنفسهم بالتقزز منه. وكان السائق إلى هذا الإجماع المحافظة على لغة القرآن وحمياتها من التدهور فيحال بين الناس وبين كتابهم السماوي المعجز. وما هي إلا بضع عشرة مقالة حتى قبع صاحب هذا الرأي في كسر مكتبه ولم يجرؤ على استئناف البحث فيه1. ثم شرح الوسائل إلى تقريب الشقة بين لغة الكتابة ولغة الكلام وهي حروف الكتابة وحروف المطبعة على وجه يكفل عدم اللحن ووجوب النظر في إصلاحها بواسطة جماعة من كبار أهل البصر. ويستند إليهم ابتكار طريقة صالحة لأن يقرأ بها قراءة صحيحة بدون اللجوء إلى معاجم اللغة فإذا كتبت هذه اللغة بحروف تمثل النطق بكلماتها. ثم قال: هذا الداء الناجز الذي فتك باللغة العربية ومزقها شذر مذر

_ 1 يشير الكاتب إلى مقالات لطفي السيد في الجريدة عام 1913.

وجميل، وهذا الإدماج لو صح في بيئة لا تزال على حالة السذاجة الأولى فلا يصح في بيئة أخذت من الفلسفة والعلوم بحظ كالبيئة التي نعيش فيها وقد أصبح تحديد منطقة الأدب من الضرورات العقلية للعلة التي ذكرناها. هيكل: الأدب من الفلسفة وفن العلم كالزهرة الجميلة وكالثمرة الناضجة وكالخضرة النضرة من الشجرة الضخمة شجرة الفلسفة. فلكي تكون حقيقة الأدب جميلة ولكي يكشف الأدب للناس عما في الحياة من حق وجميل يجب أن يتغذى ما استطاع من ورد الفلسفة وورد العلم. "فريد وجدي": وفي رأيي أنه لو قال: "الأدب من اللغة الصحيحة المعقولة ومن الخيال العالي الجذاب كالزهرة الجميلة والثمرة الناضجة ولكي تكون مادة الأدب أشهى للمتناول ولكي يكشف الأديب للناس عما في الحياة من حق وباطل وجميل وقبيح وخير وشر يجب أن يتغذى ما استطاع من لباب الفلسفة والعلم". وهذا التعريف أقرب إلى تعريف الأدب النافع، والأدب الصالح, وأجمع لأدواتهما في التعريف الأول, فنحن اليوم لسنا بحاجة إلى التأنقات الكتابية والإطلاقات الخيالية في وضع حدود لمناطق النشاط العقلي ولكن بحاجة ماسة إلى تسمية كل شيء باسمه وقرنه بمميزاته ليقف عند حده. ثم عرض لما كتبه طه حسين عن الكتاب فقال عنه: "وهل حياة الأدب العربي في هذه الأيام إلا ثورة متصلة، كل إنتاجنا الأدبي ثورة حتى الذين يسمون أنفسهم محافظين ويلحون في المحافظة، هؤلاء أنفسهم ثائرون يفرون من القديم الذين يحرصون عليه". وعرض لما قاله المازني: "أؤمن بأن الثورات أكاذيب وأنا أدور بعيني فلا أرى ثورة متصلة ولا منقطعة لا في الأدب ولا في سواه, وإنما أرى خطوات بطيئة طبيعية".

لايزال يفت في عضدها إلى اليوم ويقطع عليها سبيل الاتصال بالعلماء! -3- قال هيكل: وقد احتدمت معركة القديم والحديث هذه منذ سنين طويلة ونقل المحاربون فيها في ميادين مختلفة، كانت هذه الميادين قبل الحرب العامة، تتناول أساليب الكتابة وتتناول الألفاظ العلمية وغير العلمية إلى يومئذ كانت الغلبة لأنصار تقليد الأدب القديم وكان السجع والإغراب في اختيار الألفاظ بعض ما يمتاز به كتاب العصر. "فريد وجدي": ونحن نرى أن إيراد تاريخ الأدب على هذه الصورة يطمس معالمه, لم تحتدم معركة ما بين قديم وحديث في أساليب الكتابة ولا في نقل الألفاظ العلمية وغير العلمية إلى العربية، ولا كان السجع والإغراب في الألفاظ مميزين للبلاغة العربية ما قبل الحرب العالمية. والذي يعرفه كل مطلع على تاريخ هذه اللغة أن الكتاب كانوا أحرارًا في تخير أساليبهم ولم يحجر على كاتب أسلوبا يتميز به إلا ما كان من استحسان الناس واستهجانهم له شأن أسلوب كتابنا إلى اليوم، نعم أعتبر السجع وجها من وجوه المحسنات اللفظية ولم يقل أحد إنه الأسلوب المميز للبلاغة العربية. وكيف يعقل أن يتشبث أنصار القديم بالسجع والإغراب. وقد قال أئمتهم الأولون بأن السجعة لا بأس بها إن جاءت عفوا ولم يكن بها تكلف. وقد عدوا الإغراب في الألفاظ من العيوب التي تحط من قدر البلاغة، أما الألفاظ العلمية فلم تنشب بسببها لدينا معركة، وكل ما حدث حولها شكوى الكاتبين والمترجمين من حيرتهم حيالها والتماسهم من كبار العارفين بالعربية العمل على تعريبها تعريبًا لا يجافي أصول اللغة الصحيحة. نعم، رأى بعضهم أن تكتب تلك المصطلحات على ما هي عليه، ورأى

_ 1 23 يونيه 1933 الأهرام.

آخرون تعريبها، ولكن لم يتعد هذا الخلاف منطق الحوار إلى النزال والنضال فكان الأولون يقولون إنهم يستنون بتلك الألفاظ أسنة واثلنا فإنهم لم يتحرجوا أن يطلقوا على كل علم أو أداة أو عقار اسم مستكشفيه، وكانت حجة الآخرين أن العربية تسع جميع المصطلحات فيمكن أن يطلق عليها ألفاظ عربية فلم يصادف رأي أحد الفريقين إجماعا وظل كبار الكتاب يكتبون بما يبدو لهم غير مقيدين بمذهب، أما صور الأدب وما يصح أن يكون عليه فلم يعترك عليها قلمان. ولم يقل أحد بوجوب قصر تلك الصور على حال لا يجوز تعديلها. وتخير الأسلوب يرجع إلى ثقافة الكاتب العلمية وقدرته اللغوية فكل ما شهدناه في هذا الباب أن شبانا ممن لم يتسع لهم الوقت لدراسة العربية يريدون في نفس الوقت أن يكونوا كتابا ونقدة أدب أكثروا من الكتابة في وجوب التحلل من قيود العربية وفي الإشارة بأنهم في طليعة أهل التجديد. والواقع أنهم قاصرون في اللغات التي يدعون إلى تحدي أساليبها قصورهم في العربية نفسها ولكن لأجل أن يعتبروا في الرعيل الأول من المجددين كان لا بد لهم من كلام يلوكونه بألسنتهم ويصرفونه بأقلامهم كلما لاح لهم الكلام أو الكتابة فإذا طلبت إليهم أن يستنوا بألسنة التي يدعون إليها أتوا بكل سمج مرذول من العبارات التي لا تمت إلى أحد الأسلوبين بصلة. إن اللغة العربية لم تبلغ إلى اليوم على أقلام كتابها السمو الذي كان للغة في عهدها الذهبي عند أسلافنا. وفي رأينا أنها كانت قد وصلت إلى منزلة من الصقل والفخامة تستطيع معها أن تقف جانبا إلى جنب مع أية لغة من لغات الغربيين اليوم.

نعم؛ إن أكابر كتابنا ليقصرون عن أن يبلغوا شأو فحول العربية في عصرها القديم لا من ناحية تخير الألفاظ والإبداع في صوغها فحسب ولكن في أسلوب الأداء ودقة التركيب أيضًا. -4- الدكتور هيكل1: إن شبابنا الذين وفدوا إلى أوربا كانوا قد فتنوا بالأدب الكبير فيها فلما عادوا كان هذا الأدب الكبير قد دالت دولته وحل محله نوع من الأدب يصح أن يوصف بالصغير. "فريد وجدي": إن ما يسميه الدكتور بالأدب الكبير في أوربا في العهد الذي كان شبابنا يدرسون الأدب فيها كان يعتبر في نظر أئمة الأدب في القرن السابق أدبا صغيرا قصد به الكتاب إرضاء شهوات النفوس وأمتاعها بذكر اللذات الجسدية، وكان علماء الاجتماع يعدونه خروجا بالأدب عن صراطه إلى ما لا يتفق ومصلحة الاجتماع, وشبابنا لما يلزموا سمت الأدب الأوروبي الذي يصفه هيكل بالكبير ولكنهم يجرون على سنة ما يدعونه بالأدب الصغير الذي يخدم شهوات النفوس ويثير فيها ما كمن رعوناتها البهيمية فكل ما يكتبه قصاصونا وما تمثله مسارحنا اليوم صورة صحيحة من هذا الأدب الصغير بل هو ترجمة حرفية له يصح أن توضح بكل ما وصف به الدكتور هذا الأدب المنحط وكيف يتأتى أن يكون الأمر على غير ما يقول وقد تشعبنا بروح الفلسفة المادية وتدهورها في أخلاقنا وعادتنا إلى حيث لم يصل إليه الأوروبيون بعد، أفيستطيع ناقد بصير أن يعين لي وجها من وجوه الخلاعة والتهتك وضربا من ضروب الاستخفاف بالآداب والأخلاق مما يصادف في أوربا لم نأخذ به ولم نسبق أهله فيه؟

_ 1 7 يوليو 1933 الأهرام.

"هيكل عن الحضارة": إن الكثرة من الأدباء رأوا أن تكون تلك الحضارة حضارتنا الماضية. "فريد وجدي". وهذا في نظرنا رأي غريب بل هو من المستحيلات العقلية فإن أدب أية أمة لا يمكن أن يكون إلا مظهرًا لحضارتها الراهنة التي هي عليها لا حضارة ماضية, وإلا كان عبثا محضا. كيف يعقل أن يكون مظهر الأدب حضارة قديمة قد لا يعرف القراء عنها أكثر مما قرءوه في الكتب المدرسية وكل من طالع ما كتبه كتابنا وما يكتبون لا يجد فيه غير مظاهر حضارتنا الحالية. والأدب لا يكون إلا مظهر حضارة الأمة في الوقت الذي يكتب فيه؛ لأن الأدب مبني على وصف الواقع وما يمكن أن يقع. فإذا قيل: إن الأدب الأوروبي قد حمل نير المدينتين اليونانية والرومانية أجيالا فلا يعني أن القطع الأدبية في أوربا كانت توضع في قوالب حضارة يونانية أو رومانية ولكن بمعنى أنها حملت تقاليدها العلمية والفلسفية والشرعية واللغوية. وهذا الغير محكوم ببقائه على عاتق أوربا ما دامت علومها وفلسفاتها وشرائعها مستمدة من هاتين الأمتين. ونحن على هذا القياس محكوم علينا بحمل نير التقاليد اللغوية والعلمية والفلسفية والتشريعية لأسلافنا عن طريق الحتم لا التمييز. يقول الدكتور: ورأى الأقلون الأخذ بالحضارة الأوروبية في كل مظاهرها كما فعل الأتراك. ثم علق على ذلك بقوله: إن كلينا في هذه الجيل كفرسي رهان فإننا

مدفوعون للأخذ بحضارة الغرب في كل شيء في لباسنا أو أكلنا أو عاداتنا وثقافتنا العقلية لا يمتاز عنا الترك إلا في شيء واحد، هو أنهم أشد تحوطا من الفناء في جثمان الأمم الغربية منا لأنهم يأخذون بمظاهر مدنيتهم مع الاحتفاظ بقوميتهم. ولكننا لا نحتفظ بمميزات قوميتنا، وقد تركنا لعوامل التحلل تنتاشنا من كل جانب فكثير منا يتكلمون في بيوتهم باللغات الأجنبية والتكلم بغير اللغة التركية محظور في تركيا فنحن لا نكتفي بالأخذ بمظاهر المدنية الأوروبية فحسب, ولكننا نهدر قوميتنا في سبيلها والترك مع أخذهم بمظاهر هذه المدنية يقتبسون حوافظ قومياتها أيضًا. فإن كان عندنا أدب فليجعل همه التنبيه على هذه النقائض القومية فإن لغتنا أثرى اللغات ألفاظا وأرقها منطقا وأدقها معاني فلا يحل لنا أن نجعلها نهبًا للعجمة تتحيفها من جميع نواحيها, وإننا لنأسف أن كتابنا قد وقفوا أدبهم الهوى. -5- تحدث عن رأي الدكتور هيكل عن مهمة الأدب في "تجلية جانب الإيمان في النفس". كيف يرجى من أديب كل همه مصروف إلى تحليل عاطفة الهوى ودرس تيارات الجوى أن يتناول بالبحث أعلى عواطف النفس وهي عاطفة الدين بمثل أسلوبه الذي مرن عليه واستولى على شعوره، وهي تستدعي أسلوبا يجافي ذلك الأسلوب، ولا يمت إليه بصلة من درس النفس في حالة عزوفها عن الشهوات الجسدانية. أمن الحق أن يكلف الكاتب التبريز في تصور المتناقضين فيراد منذ

أن يتدله في الجمال الصوري ثم أن يعود فيضرب بهذا كله عرض الحائط ويدرس عاطفة تحقره كل الاحتقار. ولسنا ننسى ما جره تدخل الأدباء فيما ليس من اختصاصهم في العشر السنين الأخيرة في المباحث الدينية فقد تناولوها على طريقة الماديين وأثاروا فيها شكوكا لا محل لها لو كانوا عنوا بدراستها دراسة علمية, فكان من أثر ذلك أن أهاجوا الناس عليهم هياجا مشروعا فخرجوا من هذه المعمعة على غير ما كنا نرجوه لهم. ولا ندري كيف ساغ للدكتور هيكل أن يقع في هذا الخطأ بعد ما رأى من التجربة المؤلمة، وهو بكتابه يرمي إلى تأييد الدين لا إلى إفساد عقائد الناس فيه وإثارة الشبهات عليه ولا إلى قطع صلة الماضي بالحاضر منه. ومن الأمثلة القريبة على ذلك أن إماما من أئمة الأدب في بلادنا انتدب لألقاء خمس محاضرات في الجامعة الأمريكية عن الأدب في العصر الأموي فكان مما قاله: إن الخليفة الوليد بن يزيد إنما قتل لأنه كان يود أن يعيش على ما تقتضيه الحضارة فكان جزاؤه أن لقي حتفه. فإيراد التاريخ على هذه الوجهة جناية على التاريخ وعلى الحقائق الاجتماعية ويشين الدين الذي ينتمي إليه الخليفة، فالذين لم يدرسوا تاريخ بني أمية دراسة علمية ولم يقعوا على سيرة هذا الخليفة يصدقون هذا الحديث ويستنكرون ما حدث له. والحقيقة أن الوليد هذا كان متجردًا للهو والبطالة، شغوفا بالفسوق والإباحة مستخفا بالدين مجاهرًا بالكفر. فهل هذه السيرة المعوجة من إهمال الرعية والانقطاع إلى اللهو يعتبر من مقتضيات الحضارة1.

_ 1 15/ 7/ 1933, الأهرام.

الفصل السابع: كتاب مع المتنبي

الفصل السابع: "كتاب" مع المتنبي بين محمود محمد شاكر وطه حسين: هذه مساجلة من نوع آخر؛ عرض فيها محمود محمد شاكر لآراء الدكتور طه حسين التي أوردها في كتابه "مع المتنبي". وهذه المعركة نموذجا من معارك كثيرة من نوعها جرت "بين الشباب والشيوخ" من ناحية وبين "مدرستي المحافظة والتجديد" من ناحية أخرى وبين نظريتي "الترجمة ودراسة تاريخ الأعلام", إحداهما: التي تمزق الحجب عن الشخصيات على أساس إثارة الشكوك وافتراض الفروض ثم التدليل عليها، والثانية: التي تنظر في تجرد علمي إلى مختلف العوامل التي أثرت في تكوين الشخصية من غير تحيز أو خصومة. المتنبي؛ بين طه ومحمود شاكر 1: وصف شاكر كتاب طه حسين "مع المتنبي" بأنه "جيد النسق وجميل الرونق, لو تمنى عالم عزب لألقي في أمنيته أن يكون له بعدادها ولد يحملون عنه العلم من جيل إلى جيل". ثم قال: إنه -أي شاكر- عاش مع المتنبي زمنا وكتب عنه كتابا متواضعا في 170 صفحة نشره المقتطف "يناير 1936" فمن حق المتنبي علي أن أقرأ ما كتب عنه الدكتور طه وغير الدكتور طه، وكما أنه من حق نفسي علي أن أضع التاريخ في موضعه الذي أرخته به معدة الفلك. فإن التاريخ لا يصلح معه الأدب الذي أدبنا به الله تعالى في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} فوالله إنا لنفسخ للدكتور الجليل في مجالسنا حتى يبلغ الغاية التي هو لها أهل

_ 1 البلاغ 13 فبراير 1937.

وعلى ودنا أن نفسح له في التاريخ أيضًا، لولا أن التاريخ "يحتج بشدة" وكان أهم ما ركز عليه شاكر هو مولد المتنبي، فقد سجل طه حسين في كتابه أن مولد المتنبي كان شاذا وأن المتنبي أدرك هذا الشذوذ وتأثر به في سيرته كلها". قال شاكر: إن الدكتور طه رجل عبقري ليس في ذلك شك عندي فهو من قبل شكه في نسب أبي الطيب قد استطاع بتوفيق الله أن يتغلب على خصومه والمناوئين له واستطاع أن يقوم كالجبل لا يعمل فيه السيف عمل السيف. ويعمل هو في السيف عمل الجبل في تثليمه وتكسيره ورجع السيف عوده على بدئه حديده لا ينفع ولا يقطع. ولكن هل يستطيع الدكتور الجليل أو كتابه الأجل أن يجيبني لماذا شك في نسب أبي الطيب؟ وما هي الأسباب التي دفعته إلى هذا الشك. أما الدكتور الجليل فأكبر الظن فيه أنه يترفع -على عادته- عن الإجابة فهو رجل عبقري والعبقري لا يقال له لماذا، فإذا قيل لماذا، زوى وجهه وانصرف وترك سائله لصخرة الأعشى التي ذكرها لاميته المشهورة، أما كتابه الأجل فهو أطوع لسائله وأسرع إلى جوابه. إن الدكتور يزعم "أنك إذا قرأت ديوان أبي الطيب مستأنيا متمهلا لا تجد فيه ذكرًا لأبيه وإنك تجده لم يمدحه ولم يفخر به ولم يرثه ولم يظهر الحزن عليه حين مات، وهذا كاف في تشكيك العلماء في نسب أبي العلاء, وهو كاف في اليقين بأن المتنبي لم يعرف أباه، هذه هي الأسباب التي وقفت الدكتور طه إلى الشك في نسب المتنبي فمن حق المتنبي علينا أن ننظر

فيها، أهي مما يحمل على الشك في نسب رجل لم يشك في نسبه الذي رواه المؤرخون أحد. من يوم أن روى ذلك النسب إلى اليوم. ألا فليحدثنا الدكتور طه: أيكون لزاما على كل شاعر أن يمدح أباه وأن يفخر به وأن يرثيه وأن يظهر الحزن عليه حين يموت؟ فإن لم يفعل الشاعر ذلك فهو شاعر لا يعرف أباه! إني أجد من الشعراء من فخر بأبيه وقد كان ذلك في شعر كثير, وأجد فيهم كثيرا لا يعد كثرة لم يفخر بأبيه ولا ذكره في شعره، أفكل هؤلاء لم يعرف أباه. ولا يثبت نسبة لضعفه وخسته. ليحدثنا الدكتور الجليل عن هؤلاء الشعراء الذين أظهروا الحزن على آبائهم حين ماتوا، وليرجع الدكتور إلى ما شاء من كتب الشعر وكتب الأدب فيجمع لنا أسماء الشعراء الذين رثوا آباءهم وحزنوا عليهم وليثبت أن هؤلاء كانوا من الأشراف ذوي الأنساب وأن سائر الشعراء الذين لم يفعلوا مثل الذين فعلوا من السوقة والملطمين اللقطاء الذين لا يعرفون آباءهم ولا يثبتون أنسابهم. إن الدكتور طه رجل ذكي صاحب حيلة نفاذ. فربما رأى الرأي فأراده ليتخذه رأيا فيختلق له الأسباب فيرى الأسباب لا تغني في الرأي وأن الاعتراض يأكلها سببا سببا فيحتال بجعل الاعتراض في سياق قوله، وأتى به على وجهه ليجعله ظهيرا لرأيه وهذا الذي تقوله ليس برغم من عند أنفسنا بل هو ما ترى. رأى الدكتور طه أن إغفال الشاعر ذكر أبيه لا يدل على شيء البتة وإن الشعراء الذين لم يفخروا بآبائهم ليسوا أقل نسبا ولا أحط مغرسا من الذين فاخروا ونافروا آباءهم، وأن التاريخ يحدثنا أن أبا جرير الشاعر لم

يكن شيئا وأن جريرا أضاف إليه من انحلال الخصال والأخلاق ما لم يكن منه بسبب حتى خلب به الشعراء وقهر النحول ثم لم يمنعه ذلك من أن يظهر للناس كما هو ليثبت لهم أن شعره كان أكبر من غروره. لقد عرف الدكتور أن المتنبي هو الشاعر الذي رمى شعراء عصره فأصماهم فغلبهم فذهب بأرزاقهم عند الأمراء، كان يستطيع أن يفعل ما فعل جرير وأن يفخر بأبيه السقا على أبي فراس الحمداني وغيره من أشراف الشعراء في عصره، وعرف أن كثيرًا من الشعراء غير جرير قد فخروا بآبائهم على من كان أكرم أبا وأما، فماذا يفعل الدكتور بعد ذلك. إنها لمشكلة تلد مشاكل، إذن فما الذي يضيره أن يقول: أما المتنبي فلم يستطع شعره أن يغلب غروره ولم يستطع أن يضيف إلى أبيه ما ليس فيه. حقا إن الدكتور طه حسين رجل صاحب حيلة لا تفرغ، وحقا إن له فنا غلب به أهل الفنون وحقا إنه لعبقري، وهذا الدكتور الذي يقول: إن شعر جرير قد أعانه على أن يخلق خلقا جديدًا, فإذا كان المتنبي لا يعرف أباه كما يزعم فإن ذلك لا بأس به لأنه إذا أراد أن يصوره فلن يرجع إلى حقيقته لينتزع منه الصورة كما أن جريرا لم يرجع إليها وإنما المرجع هنا إلى شيطان الشعر فهو وحده الذي لا يخلق أباه خلقا جديدا. وجهد المتنبي في هذا أقل من جهد جرير. فشيطان أبي الطيب كان أنثى ضعيف المنة قليل الخير يكذب صاحبه في طالب الخيال القوي للآباء. وكان شيطان جرير ذكرًا فحلا قد امتلأ قوة لا يطلب خيالا إلا أدركه به وغالب به الشعراء. إني أشفق على الدكتور طه حسين من بدوات عبقريته "فهي تصور له

الأشياء كما تريدها لا كما يجب أن يكون فيتورط فيحتال فتكون حيلته كالكذبة البلقاء لا تجد من يسترها. لقد مضى علي زمن وأنا أجد اللذة في تتبع كتب الفكاهة فكان أعجب ما يعجبني منه المحالات، وهو الكلام الذي يأتي به الرجل تحسبه مستقيما وهو محال لا يكون ولا يفهم على وجه من الوجوه. وأشهد الله أن فن الدكتور طه في شرح هذا الشعر أعجب إلي الآن من ذلك. كيف لا وهو عميد الأدب العربي بالجامعة المصرية وهو بعد ذلك إمام الأدباء المجددين في هذا العصر، أي امرئ في القراء فهم شرح الدكتور الذي نقلناه فله عندنا ثلاث نسخ من كتابنا عن المتنبي. أي شيء هذا الذي يقوله الدكتور "أنه ينسب نفسه إلى متجزئ بعضه يمتاز عن كله" أنا أتولى تفهيم الدكتور معنى الشعر فالمتنبي يقول: أنابن من ولده يفوق أبا الباحث ويعني بذلك نفسه. هذا كل ما أراد المتنبي أن يقول والذي أوهم الدكتور فأوقعه فمرغ كلامه في هذا "المتجزئ الذي له بعض يمتاز عن كله" أهو قول أبي الطيب "بعضه" في البيت. إن الدكتور طه حسين "عميد الأدب العربي بالجامعة المصرية" رجل قد أثبتت التجارب والأيام ثم مؤلفاته أنه لا بصر له بالشعر ولا بمعانيه.

الفصل الثامن: معركة مستقبل الثقافة

الفصل الثامن: معركة مستقبل الثقافة بين طه حسين وساطع المصري وزكي مبارك وم. محمد حسين: أثار كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" الذي أصدره الدكتور طه حسين عام 1938 ضجة كبرى ومعارك متعددة: فقد صدر هذا الكتاب عقب توقيع معاهدة 1936 حيث إن الاستعمار يركز جهوده في حركة "التغريب" وخاصة الغزو الثقافي الفرنسي الذي أراد أن يعوض ما فقده من الأرض بإلغاء الامتيازات الأجنبية وسيطرتها على الإرساليات التعليمية. ويحاول أن يفرض على مناهج العربية والتعليم أهدافا من شأنها القضاء على كل معالم الشخصية الإسلامية وذلك بالقضاء على "1" أنظمة التعليم في الأزهر. "2" اعتبارات مصر العربية. "3" مقومات الكيان العربي. "4" أثر الدين والإسلام بالذات في ثقافتنا وتفكيرنا. فقد وقفت فرنسا ضد توقيع اتفاقية مونترو سنة 1937 لإلغاء الامتيازات ما لم تتأكد من أن خطتها في التغريب في مصر ستظل محررة وفي هذه اللحظات الحاسمة أهدى طه حسين وشاحًا كبيرًا من جامعة لون التي تعلم فيها وعاد وهو يحمل معه أصول هذا الكتاب. وبعد أن كانت هذه المعركة تدار عن طريق آراء المستشرقين أمثال جب وماسنون والمبشرين وغيرهم أمثال ولكوكس وزويمر وغيرهم, أصبح هناك من الكتاب العرب من يحمل لواء هذه الأفكار ويدعو إليها كمحاولة لتثبيت دعائم التجزئة وخلق ملامح مصطنعة لما يسمى بالفكر المصري المنعزل عن الفكر العربي. وقد رد ساطع المصري ردا علميا على آراء طه حسين وفند ما فيها من اضطراب وخطأ وانحراف. وقال الدكتور م. محمد حسين: إن معظم هذه الآراء منقولة من دعاة التغريب الذين يهدفون وفق خطة شاملة إلى تغريب الفكر العربي وتمزيقه والقضاء على مقوماته ومعالمه. وإن طه حسين حاول أن يثبت أن مصر ليست جزءا من الأمة العربية. وهذا مجمل آراء طه حسين: آراء طه حسين: 1- إن سبيل النهضة واضحة بينة مستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء، وهي أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادًا ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها وحلوها ومرها وما يحب منها وما يكره

وما يحمد منها وما يعاب، ومن زعم لنا غير ذلك فهو خادع أو مخدوع "نظرية الانصهار في حضارة الغرب". 2- العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل إن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط. وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها في شعوب البحر الأبيض المتوسط. 3- إذن فالعقل المصري القديم ليس عقلا شرقيا، وقد نشأ هذا العقل المصري في مصر متأثرًا بالظروف الطبيعية والإنسانية التي أحاطت بمصر وعملت على تكوينها, فإذا لم يكن أن نلتمس أسرة للعقل المصري نقره فيها فهي أسرة الشعوب التي عاشت حول "نظرية البحر المتوسط" بحر الروم. 4- التاريخ يحدثنا بأن رضاها "أي مصر" عن السلطان العربي بعد الفتح لم يبرأ من السخط ولم يخلص من المقاومة والثورة، وبأنها لم تهنأ ولم تطمئن إلا حين أخذت تسترد شخصيتها المستقلة في ظل ابن طولون فلما كان فتح الإسكندرية للبلاد الشرقية واستقرار خلفائه في هذه البلاد اشتد اتصال الشرق بحضارة اليونان واشتد اتصال مصر بهذه الحضارة بنوع خاص. وأصبحت مصر دولة يونانية" "محاولة هدم صلة مصر بالأمة العربية". 5- لقد التزمنا أمام أوربا أن نذهب مذهبها في الحكم، ونسير سيرتها في الإدارة ونسلك طريقها في التشريع، والتزمنا هذا كله أمام أوربا. وهل كان إمضاء معاهدة الاستقلال ومعاهدة إلغاء الامتيازات إلا التزاما صريحًا قاطعًا أمام العالم المتحضر بأننا سنسير سيرة الأوروبيين في الحكم والإدارة والتشريع؟ فلو هممنا الآن أن نعود أدراجنا وأن نحيي النظم العتيقة لما وجدنا إلى ذلك سبيلا ولوجدنا أمامنا عقبات لا تجتاز ولا تذلل.

6- شيء آخر لا بد من التفكير فيه والطلب له. وهو أن التفكير الأزهري القديم قد يجعل من العسير على الجيل الأزهري الحاضر إساغة الوطنية والقومية بمعناهما الأوروبي الحديث. "نظرية القومية الضيقة والتجزئة". 7- إن وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساسًا للقومية السياسية ولا قواما لتكوين الدول. إن المسلمين قد أقاموا سياستهم على المنافع العملية وعدلوا عن إقامتها على الوحدة الدينية واللغوية والجنسية أيضًا، وقد فطنوا منذ عهد بعيد إلى أصل من أصول الحياة الحديثة وهي أن السياسة شيء والدين شيء آخر. 8- يجب أن يصح أن الإسلام لم يغير العقل المصري أو لم يغير عقل الشعوب التي اعتنقته والتي كانت فيه متأثرة بهذا البحر الأبيض المتوسط، بل يجب أن نذهب إلى أبعد من هذا فنقول مطمئنين: إن انتشار الإسلام في الشرق البعيد، وفي الشرق الأقصى قد مد سلطان العقل اليوناني وبسطه على بلاد لم يكن قد زارها إلا لماما. "نظرية اتهام الإسلام". 9- من الجهل وأخطأ الخطأ أن هذه الحضارة المادية قد صدرت عن المادية الخالصة. إنها نتيجة العقل. إنها نتيجة الخيال. إنها نتيجة الروح. إنها نتيجة الخصب المنتج. نتيجة الروح الحي الذي يتصل بالعقل فيغدوه وينميه ويدفعه إلى التفكير ثم إلى الإنتاج. 10- إن حديث "الشرق الروحي" هذا حديث لا غناء فيه، وهو

مضحك إذا نظرنا إليه نظرة عامة، ولكن هذا الحديث خطر لأنه يلقي في روع الشباب بعض الحضارة الأوروبية التي يعرفونها فتثبط هممهم وتضعف عزائمهم. "تمجيد الحضارة الأوروبية والسخرية بالتراث الإسلامي". 1- ساطع الحصري 1: إن المسألة التي يفتتح بها الدكتور طه أبحاث كتابه تتلخص في السؤال الآتي: هل يوجد فرق جوهري بين العقل المصري والعقل الأوروبي؟ أما الحكم الذي يصل إليه فهو: كل شيء يدل على أنه ليس هناك عقل أوروبي يمتاز عن هذا العقل الشرقي الذي يعيش في مصر وما جاورها من بلاد الشرق القريب "ص28" فمهما نبحث ومهما نستقصي فلن نجد ما يحملنا على أن نقبل أن بين العقل المصري والعقل الأوروبي فرقا جوهريًا "ص29". وإني أشارك الدكتور طه في هذا الحكم الصريح مشاركة تامة. ومما يجدر بالملاحظة أن مغالاة المؤلف في تشبيه المصريين بالأوروبيين وإنكار وجود الفروق بينهما لا تنحصر في هذه القضية وحدها بل تتعداها إلى أمور أغرب منها؛ إذ إننا نراه يدعي عدم وجود فروق بينهما من حيث الطبع والمزاج أيضًا. فهو عندما يصرح بأنه "لا يخاف على المصريين أن يفنوا في الأوروبيين".

_ 1 الرسالة 24 يوليه 1939.

يبرهن على ذلك بقوله: "ليس بيننا وبين الأوروبيين فرق في الجوهر ولا في الطبع ولا في المزاج" ص63. "ليس بين المصريين والأوروبيين فرق لا في الطبع ولا في المزاج" لا أدري كيف يستطيع أحد أن يدعي ذلك بصورة جدية! فإن الفروق بين الطبع والمزاج من الأمور التي تشاهد على الداوم في الأمم الأوروبية نفسها وهي تبدو للعيان بين الإنجليزي والفرنسي والألماني والإيطالي. حتى بين الشمالي والجنوبي من الفرنسيين، والشرقي والغربي من الألمان وبين الريفي والمدني والمثقف والعامي. فكيف يعقل مع هذا ألا يختلف طبع المصريين ومزاجهم عن طبع الأوروبيين ومزاجهم بوجه من الوجوه. إنني أميل إلى الحكم بأن الدكتور طه لم يكتب هذه العبارة أيضًا عن تأمل واقتناع، بل كتبها بدافع الاستعجال وتحت تأثير توارد الكلمات إني لا أكون من الغالين إذا قلت إن "نزعة التسرع في الحكم والإسراف في الكلام" من النزعات المستولية على معظم مباحث كتاب "مستقبل الثقافة في مصر". وهذه النزعة هي التي ورطت المؤلف في مآزق غريبة، وأوقفته مواقف لا تخلو من التناقض في بعض الأحيان. الثقافة والأزهر: 2- يذكر الدكتور طه الأزهر في كتابه هذا، أولا عندما نبحث عن اتصال مصر بالحضارة الأوروبية فيوسع كثيرًا في وصف هذا الاتصال؛ لأنه يعتبره دليلا على عدم وجود فرق جوهري بين العقلية المصرية والعقلية

الأوروبية، وعن ما يتطرق المؤلف إلى حالة الأزهر خلال هذا البحث يعرضه لنا كمعهد مسرف في التجديد, "كل شيء يدل، بل كل شيء يصيح بأن الأزهر مسرف في الإسراع نحو الحديث"، غير أننا نراه في محل آخر من الكتاب يتراجع قليلا عن تعبير "الإسراف" الذي استعمله في هذا المقام، كما أننا نراه في محل آخر يتناسى كل ذلك فيقول: "إن الأزهر بحكم تاريخه وتقاليده بيئة محافظة تمثل العهد القديم، ثم يقول: إن هذا التفكير الأزهري القديم قد يجعل من العسير على الجيل الأزهري الحاضر إساغة الوطنية والقومية بمعناهما الأوروبي الجديد, ثم لا يتحرج المؤلف من إبداء رأي يناقض رأيه الأول مناقضة صريحة "يقتضي أن يعدل الأزهر عدولا تامًا عما دأب عليه من الانحياز على نفسه والعكوف عليها والانقطاع من الحياة العامة". أريد أن ألفت الأنظار إلى الاختلافات الموجودة بين هذه الآراء التي صدرت من قلم واحد في موضوع واحد في كتاب واحد. مصر بين الشرق والغرب: 3- لا يكتفي المؤلف بالبرهنة على عدم وجود فرق جوهري بين العقل المصري والعقل الأوروبي، بل يحاول أن يبرهن على أن مصر ليست جزءًا من الشرق ويسير بين سلسلة آراء وملاحظات يكتنفها الغموض والتضارب من كل الجهات، ويلوم الأوروبيين الذين يقولون: إن مصر جزء من الشرق، وإن المصريين فريق من الشرقيين ثم يقول: "إن من السخف الذي ليس بعده سخف اعتبار مصر جزءًا من الشرق"، غير أنه لا يلبث أن يتناسى قوله هذا ويدخل المصريين في عداد الشرقيين في عشرات من المواضع في الكتاب.

4- وعندما يسأل المؤلف: أمصر من الشرق أم من الغرب، يوضح قصده من هذا السؤال بقوله: "أنا لا أريد بالطبع الشرق الجغرافي والغرب الجغرافي، إنما أريد الشرق الثقافي والغرب الثقافي, فقد يظهر أن الأرض نوعين من الثقافة يختلفان أشد الاختلاف ويتصل بينهما صراع بغيض ولا يلقى كل منهما صاحبه إلا محاربًا أو متهيئا للحرب. أحد هذين النوعين الذي تجده في أوربا منذ العصور القديمة، والآخر هذا الذي نجده في أقصى الشرق منذ العصور القديمة أيضًا. 5- يصعب علي جدًا أن أوافق المؤلف في قوله: "لا أدري ما هي الثقافة التي كانت موجودة في أوربا منذ القرون القديمة، ولا ما هو الصراع البغيض الذي اتصل بين هذه الثقافة وثقافة الشرق الأقصى المخالفة لها! ومتى وكيف حدث هذا الصراع. وكل ما أعرفه في هذه المضمار يحملني على القول بخلاف ذلك تمامًا، كل ما أعرفه في هذه المضمار يحملني على القول بأن الصراع الذي حدث بين الثقافات والحضارات التي نشأت وترعرعت حول بحر الروم نفسه، كانت أشد وأعنف وأطول من الخصام الذي حدث بين هذه الثقافات، والثقافات الهندية والصين بدرجات كبيرة. ما شأن هذه القضية بشرقية مصر أو غربيتها، وهل من علاقة منطقية بين هذه القضية وبين حالة وجود أو عدم وجود فروق جوهرية بين العقل المصري والعقل الأوروبي؟

وحدة الدين ووحدة اللغة: 6- يثير المؤلف "تأثير وحدة الدين ووحدة اللغة في تكوين الدول فيقول: من المحقق أن تطور الحياة الإنسانية قضى منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساسًا للوحدة السياسية ولا قوامًا لتكوين الدول. فقد تخففت أوربا من أعباء القرون الوسطى وأقامت سياستها على المنافع الزمانية، لا على الوحدة المسيحية, لا على تقارب اللغات والأجناس. 7- يسوي المؤلف في كلماته هذه بين وحدة الدين ووحدة اللغة في وجهة التأثير السياسي ويدعي أن تأثيرهما في السياسة كان من خصائص القرون الوسطى، إنني أعتقد أن كل ذلك مخالف لحقائق التاريخ وقوانين الاجتماع مخالفة صارخة، فإن عمل وحدة اللغة في الحياة الاجتماعية والحوادث التاريخية، يختلف عن عمل وحدة الدين اختلافا كليا. إن وحدة اللغة لم تصبح من القوى الفعالة في تكوين الدول وتوجيه السياسات إلا في القرن الأخير، وإلا بعد أن فقدت وحدة الدين قوتها وتأثيرها في هذا المضمار كما أن تأثير وحدة اللغة في السياسة لم ينته بانتهاء الفرق المذكور، بل ازداد شدة في القرن الذي نعيش فيه, وهو لا يزال مستمرًا وشديدًا. لهذه الأسباب أقول: إن قياس وحدة اللغة على وحدة الدين في هذا المضمار والادعاء بأنها فقدت تأثيرها السياسي وعملها التكويني منذ عهد بعيد لا يتفق مع حقائق التاريخ بوجه من الوجوه. إنني أعتقد اعتقادًا جازمًا أن اللغة تختلف عن الدين في وحدة الطبيعة

الذاتية والتأثير النفسي والعمل الاجتماعي. إن عدم ملاحظة هذا الفرق الجوهري الموجود بين اللغة والدين في هذه الوجوه المختلفة، قد عرض المؤلف لأخطاء كبيرة يخالف فيها أثبت وقائع التاريخ وأظهر حقائق الاجتماع مخالفة صريحة. يحاول المؤلف أن يستشهد على أقواله بتاريخ الإسلام أيضًا، غير أن محاولاته هذه لا تزيد إلا تغلغلا في الأغلاط وتباعدًا عن حقائق التاريخ. التحليل والخلط: 8- من المعلوم أن التفكير العلمي يتطلب تحليل المسائل وتجزئة المشاكل، ليسهل معالجة كل جزء منها على حدة، أما الخطة التي يسير عليها الدكتور طه حسين في أبحاثه هذه في أكثر الأحيان فمعكوسة لذلك تمامًا، لأنه كثيرًا ما يخلط المسائل بعضا ببعض، ويدخل بعضها في بعض، فيزيد بذلك تعقيدًا وإشكالا. لا شك أن الطريقة المثلى لدرس مثل هذه المسائل درسًا علميًا وحلها حلا منطقيًا هي طريقة الاستقراء والمقارنة, إجراء مقارنة مباشرة بين الشرق والغرب، بين مصر وأوربا من حيث العقل والثقافة والطبع والمزاج واستعراض الفروق والمشابهات التي تتجلى بينهما من هذه الوجوه المختلفة. ثم البحث عن جوهرية وعدم جوهرية الفروق المذكورة. إن الدكتور طه بقي بعيدًا عن هذه الطريقة من أول أبحاثه هذه حتى آخرها ونجم عن هذا الابتعاد: أن المؤلف لم يلتفت إلى أهم الفروق الموجودة بين الشرق والغرب،

وهي التي تشاهد بينهما من وجهة نظم الأسرة وأوضاع المرأة والأوصاف النفسية -الخلقية والعقلية- التي تتبع تلك النظم والأوضاع. اللاتينية 1 واليونانية: يقول طه حسين: أنا مؤمن أشد الإيمان وأقواه بأن مصر لن تظفر بالتعليم الجامعي الصحيح، ولن تفلح في تدبير مواقفها الثقافية الهامة إلا إذا عنيت بهاتين اللغتين لا في الجامعة وحدها بل في التعليم العام قبل كل شيء، لأن اللاتينية واليونانية أساس من أسس العلم والتخصيص، ولأن التعليم العالي الصحيح لا يستقيم في بلد من البلاد الراقية إلا إذا اعتمد على اللاتينية واليونانية على أنهما من الوسائل التي لا يمكن إهمالها والاستغناء عنها. والسؤال الذي يجب أن نلقيه وأن نجيب عنه في صراحة وإخلاص وفي وضوح وجلاء هو أتريد أن ننشئ في مصر بيئة للعلم الخالص تشبه أمثالها من البيئات العلمية في أي بلد من البلاد الأوروبية الراقية أو المتوسطة أم لا تريد؟ فإن كانت الثانية فقد خسرنا القضية وليست مصر في حاجة إلى الجامعة وإلى كلياتها بل حسبها أن تعود إلى عهد أيام الاحتلال وأن تسير سيرة المستعمرات. يظهر من هذه العبارات أن الدكتور يعتبر هاتين اللغتين من لوازم الجامعة الأساسية ويدعي أن عدم العناية بهما لا يختلف كثيرًا عن طلب إلغاء الجامعة نفسها، ويرى بأن ذلك لا يجوز إلا إذا طلب من مصر أن تعود إلى عهد أيام الاحتلال وأن تسير سيرة المستعمرات. وإذا كانت المسألة بهذه الدرجة من الوضوح والجلاء فكيف

_ 1 الرسالة 8 أغسطس 1939.

وجدت هذه المقاومة وهذا الازورار في دوائر المعارف ومحافل المثقفين. إن الدكتور طه يبدي هذا الاستغراب فيقول: "ومن أغرب الأشياء في نفسي وأبعدها عن فهمي ألا يفطن ولا يهتدي إليها الذين ينهضون بشئون مصر ويقومون على تدبير الأمور فيها والذين يشرفون على التعليم منها بنوع خاص. ويبحث الدكتور أسباب هذه المقاومة عدة مرات غير أنه يعزوها إلى عوامل أساسية تتلخص من حيث الأساس في نقص ثقافة القائمين بشئون التعليم في مصر فيقول: "وأكبر الظن أن مصدر هذا إنما هو الجيل الحاكم والمرتقي إلى الحكم الذي لا يتقن العلم بالشئون الثقافية في أوربا ولا يكاد يعرف من أمرها إلا ظواهرها وظواهرها الغريبة اليسيرة التي لا يحتاج فهمها ولا العلم بها إلى جهد وعناء إذ إن منهم من تعلم في المدارس المصرية وانتهى إلى غاية التعليم العالي المصري أيام وقف ولم يتجاوزه، ومن اتصل بالجامعات الأوروبية قبل أن يتم التعليم العالي في مصر أو بعد أن أتمه فدرس وظفر ببعض إجازاتها، ولكنه درس فيها عجلا وظفر باليسير من إجازاتها وأهونها ولذلك عاد من أوربا دون أن يعرف من الحياة العقلية الأوروبية إلا ظواهرها وأشكالها، وأن بين الذين ذهبوا إلى أوربا وعادوا منها وبين الذين أقاموا في مصر واتصلوا بأوربا بعض الاتصال من ألم إلمامًا يسيرًا بل إلمامًا ناقصا مشوها بهذه الخصومة التي قامت في أوربا منذ أواخر القرن الماضي بين الديمقراطيين والمتطرفين من جهة وبين المعتدلين والمحافظين من جهة أخرى حول تعليم اللاتينية واليونانية وأنهم فهموا هذه الخصومة على غير وجهها الصحيح، وظنوا أن التجديد يقتضي بعض هذه الأشياء القديمة

ثم قال: إن المقاومة التي تلقاها اللاتينية واليونانية في مصر نشأت من هذا النقص الأساسي. ثم يقول: "أنا أسمع في أثناء إملائي هذه الكلمات صياح الصائحين وأحس هياج الهائجين وأشعر بما سيثور من سخط ولكني مع ذلك مقتنع بما أقول, مذعن بصواب ما أدعو إليه، ملح في هذه الدعوة, غير حافل بالرضا ولا بالسخط ولا معني إلا بما أعتقد أنه يحقق المنفعة الثقافية للمصريين". "الرد": من المعلوم أن اللغة اللاتينية كانت لغة روما في القرن الأول غير أنها صارت بعد ذلك لغة الطبقة المديرة والمستثيرة في جميع أنحاء أوربا الغربية عندما دخلت تحت حكم روما, كما أصبحت لغة الدين والصلاة في تلك البلاد عندما اعتنقت الديانة المسيحية, وأخيرًا صارت من دعائم الكنيسة الكاثوليكية عندما تكونت الكنيسة المذكورة وأخذت تبسط سلطتها على جميع الدول والدويلات التي تدين بها. أما اليونانية فقد حافظت على كيانها في معظم البلاد التي انتشرت فيها بالرغم من استيلاء الرومان عليها, كما أنها أصبحت لغة الدولة بعد انفصال الشرق عن الغرب وتكون الإمبراطورية الشرقية مستقلة عن إمبراطورية روما الغربية كما أصبحت لغة الدين والصلاة في العالم الأرثوذكسي عندما اعتنقت الإمبراطورية المذكورة الديانة المسيحية. بهذه الصورة تقاسمت اللغتان اللاتينية واليونانية السيطرة على الحياة الدينية في أوربا المسيحية, فأصبحت الطقوس والصلوات المسيحية تحت احتكار اللاتينية في أوربا الغربية في جميع البلاد التي اعتنقت المذهب الكاثوليكي, وتحت احتكار اليونانية في أوربا الشرقية في جميع البلاد

التي اعتنقت المذهب الأرثوذكسي، أما الحياة الأدبية والعلمية في القرون الوسطى، فمن المعلوم أنها لم تجد من يزاولها ويهتم بها إلا من بين رجال الدين فعاشت وترعرعت تحت ظلال الكنائس وفي أروقة الأديرة. 2- الدكتور زكي مبارك: يا دكتور! قلت1: إن عقلية مصر عقلية يونانية وصرحت بأن الإسلام لم يغير تلك العقلية في حين أن مصر ظلت ثلاثة عشر قرنا وهي مؤمنة بالعقيدة الإسلامية، والأمة التي تقضي ثلاثة عشر قرنا في ظل دين واحد لا تستطيع أن تفر من سيطرة ذلك الدين، إن الإسلام رج الشرق رجة أقوى وأعنف من الرجة التي أثارتها الفلسفة اليونانية. إن الديانات تفترق ثم تجتمع وهي في روحها تحدث الناس بأسلوب واحد في أوقات الضعف, ولكن هذا لا يمنع من أن هناك خصائص للعقلية الإسلامية والعقلية المسيحية. كيف جاز عندك أن تتوهم أن الإسلام لم يغز العقلية المصرية بتغيير أو تبديل, أنا لا أنكر أن مصر ورثت ما ورثت من علوم اليونان ولكني أنكر أن تكون مصر عاشت بعقلية واحدة منذ آلاف السنين إلى اليوم. في الحق إن المصريين في حياتهم الإسلامية شغلوا أنفسهم بعلوم اليونان أكثر من عشر قرون، ولكنك وقد جلست على صحن الأزهر كما جلست تعرف أن المصريين لم يتذوقوا تلك العلوم، والأزهر لا يزال باقيا. أنا لا أنكر قيمة التراث الذي خلفه اليونان القدماء ولكن أرتاب في أنه وصل إلى لفاف العقلية المصرية.

_ 1 الرسالة 23 يناير 1939.

أنت تعرف فيما تعرف أن الفقه الإسلامي نفسه كان يتغير بانتقال من أرض إلى أرض فكان للشافعي مذهب في مصر ومذهب في العراق ومعنى ذلك أن العقليات تتغير من وقت إلى وقت باختلاف ظروف الزمان وظروف المكان. والموجة الإسلامية التي طغت على مصر فنقلتها من لغة إلى لغة ومن دين إلى دين والتي قضت بأن تتفرد مصر بحراسة العروبة والإسلام بعد سقوط بغداد، هذه الموجة الصائبة لا يمكن أن يقال: إنها لم تنقل مصر من العقلية اليونانية إلى العقلية الإسلامية. ولكن ما هي تلك العقلية الإسلامية؟ هي لون آخر غير العقلية اليونانية بلا جدال. أقول هذا وأنا أشعر بأني لم أزحزحك تمامًا عن موقفك، ولكني موقن بأني عرضت صدرك لشبهات ستوجب عليك الحذر حين تتكلم في هذا الموضوع مرة ثانية وأنت تعرف ما أعني. 2- الدكتور م. محمد حسين: يمكن رد ما حواه هذا الكتاب إلى ثلاثة أصول وهي: الدعوة إلى حمل مصر على الحضارة الغربية وطبعها بها وقطع ما يربطها بقديمها وبإسلامها. الدعوة إلى إقامة الوطنية وشئون الحكم على أساس مدني لا دخل فيه للدين، أو بعبارة أصرح دفع مصر إلى طريق ينتهي بها إلى أن تصبح حكومتها لا دينية. الدعوة إلى إخضاع اللغة العربية لسنة التطور ودفعها إلى طريق ينتهي

باللغة الفصحى التي نزل بها القرآن الكريم إلى أن تصبح لغة دينية فحسب كالسريانية والقبطية واللاتينية واليونانية. ويرد المؤلف على خصوم الحضارة الأوروبية ممن يشفقون على كياننا الديني فيقول: إن الحياة الأوروبية ليست إثما كلها، ففيها خير كثير، ويستدل على ذلك بأنها حققت للأوروبيين رقيا لا شك فيه والإثم الخالص لا يمكن من الرقي. والمؤلف لا يطالب بإلغاء المدارس الأجنبية في مصر بل هو يقرر أنه نافر من ذلك أشد النفور "لا لأن التزاماتنا الدولية تحول بيننا وبين ذلك، بل لأن حاجتنا الوطنية تدعو إلى الاحتفاظ بهذه المدارس والمعاهد"، وهو يدعو ألا تقتصر الدراسات الأدبية في مدارسنا على الأدب العربي بل يجب أن ندرس الآداب الأجنبية على أن يكون تدريسها باللغة العربية، وكلام المؤلف هنا يلبس ثوب الوطنية والتعصب للغة القومية ولكن مقصده الحقيقي الذي يتفق مع مذهبه في الكتاب كله هو نشر آداب الغرب وثقافته على أوسع نطاق, وذلك هو ما تفعله الدول الاستعمارية الآن، على أن الأولى بأن يدعو إليه المؤلف هو أن يترجم كتب العلوم من طب وهندسة وزراعة وطبيعة وكيمياء إلى العربية وأن تدرس هذه العلوم في الجامعات المصرية باللغة العربية. ويمضي المؤلف في سائر كتابه على اعتبار صلات مصر بالغرب أوثق من صلاتها بالشرق حتى إنه ليجور على التاريخ في بعض الأحيان كي يقيم به مذهبه الذي يزعمه، وذلك في مثل تصويره العرب بأنهم غزاة دخلاء لا يطمئن إليهم المصريون في الوقت الذي يصورهم فيه مطمئنين إلى الفتح اليوناني لا ينكرونه ولا يعترضون عليه.

وتقرير المؤلف أن سبيل الحضارة الغربية هو السبيل الذي لا بد من سلوكه والمضي فيه، لا لأن تاريخنا يؤيد هذا المذهب في زعمه، ولا لأن مصلحتنا تقتضي ذلك على ما يدعي لأن التزاماتنا الدولية في المعاهدة التي يسميها معاهدة الاستقلال تجبرنا على ذلك. ألم يسأل المؤلف نفسه لماذا تحرص الدول الغربية كل هذا الحرص على أن تحملنا على حضارتها، وتذهب في حصرها إلى حد لا تقنع منه إلا بالمواثيق المكتوبة؟ هل تفعل ذلك حرصا على رقينا؟ أم تفعله حرصا على مصلحتها؟ ويريد المؤلف أن يدعو إلى حكومة "لا دينية" ولكنه يرى أن الوقت المناسب للجهر بمثل هذه الدعوة لم يأت بعد, وأول ما ينبغي أن يزال ويهدم عنده هو الأزهر، فهو يتحدث عنه فيصوره أثرًا، من مخلفات العهود المتأخرة المنحطة، ومشكلة من المشاكل التي تتطلب حلا. ويدور المؤلف حول ما يسميه "مشكلة اللغة العربية" والمشكلة تأتي في نظره مما يضفي عليها رجال الدين من قداسة باعتبارها لغة دينية, وهو يريد أن يعتبرها لغة وطنية أولا وقبل كل شيء, فهي -في رأيه- ملك لنا نتصرف فيها كيف نشاء ولا حق لرجال الدين أن يفرضوا وصايتهم عليها وفي أن يقوموا دونها للمحافظة عليها والمؤلف لا يرى بأسا من أن تتطور لغة الكتابة والأدب في العربية حتى يصبح الفرق بينها وبين عربية القرآن الكريم مثل الفرق بين الفرنسية واللاتينية, وهذا فيما يبدو هو سبب آخر يضاف إلى الأسباب السابقة التي تدفع المؤلف إلى مهاجمة الأزهر والمطالبة بعزله عن الوصاية على اللغة العربية.

الباب السابع: المعارك بين المجددين والمحافظين الفصل الأول: معارك الرافعي مع العقاد وطه حسين وزكي مبارك وعبد الله عفيفي: ولعل مما لا جدال فيه أن أبرز رجال النقد في هذه الفترة التي تؤرخ معاركها ومساجلاتها هم كتاب أربع: الرافعي والعقاد وزكي مبارك وطه حسين، ولكل منهم وجهة في نقده وآرائه الأدبية غير أنه يجمعهم ذلك الأسلوب المر العنيف في النقد وقد كان لعمل بعض هؤلاء في الصحافة أثره في مرونة التعبير في الصحافة ولكنه كان متصلا بها. ولعل أبرز معارك الرافعي كانت مع العقاد وطه حسين وزكي مبارك, وعبد الله عفيفي كانت معركته مع العقاد ذات صلة بسعد زغلول وصالون مي ومعركته مع طه حسين متصلة بإنشاء الجامعة المصرية ورغبته في التدريس بها وخصومته مع عبد الله عفيفي متصلة بمنافسته له في مدائح الملك فؤاد, ومعركته مع زكي مبارك تتصل بكتابه أوراق الورد ورأي زكي مبارك في أنه ليس فنا جديدًا في الأدب العربي كما صوره الرافعي. ولا شك أن الرافعي الذي كان بعيدًا عن محيط الصحافة القاهري مقيما في مدينة "طنطا" رئيسا لكتاب المحكمة والذي تصدى من وقت مبكر للدفاع عن اللغة العربية والإسلام وقد أحس بخصومته للمدرسة المجددة، هذه المدرسة التي بادئته الخصومة حين أصدر كتابه "السحاب الأحمر" فهاجمه سلامة موسى و"رسائل الأحزان" الذي هاجمه طه حسين في السياسة الأسبوعية ثم وقعت الواقعة بينه وبين العقاد حول "ديوان" وحي الأربعين1، بعد أن وقعت بينه وبين طه حسين حول كتابه في الشعر الجاهلي2. وكان الرافعي في خصومته قوي المعارضة عنيفا، متمكنا مما يقول، دامغ

_ 1، 2 يراجع نصوص هذه المساجلات في هذا الكتاب.

الحجة، تتصل معركته دائمًا بأمرين هما: اللغة العربية والإسلام وقد بلغ قمة العنف في كتابه "على السفود" الذي هاجم به العقاد. 1- معارك الرافعي مع العقاد: وتبدأ معركة الرافعي مع العقاد منذ صدور "الديوان" للعقاد والمازني وقد تناول العقاد الرافعي وأدبه بالنقد ثم استؤنفت معركة الرافعي مع العقاد بعد صدور كتاب الرافعي "إعجاز القرآن" الذي أثنى عليه سعد زغلول ووصفه بأنه "كأنه تنزيل من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم". ولما كان العقاد هو كاتب الوفد الأول فقد أزعجه هذا أيما إزعاج. وقد صور سعيد العريان في كتابه "حياة الرافعي" الموقف بينهما كما رواه الرافعي قال: قال الرافعي: سعيت لدار المقتطف لأمر، فوافقت العقاد هناك، ولكنه لقيني بوجه غير الوجه الذي كان يلقاني به، فاعتذرت من ذلك إلى نفسي, وجلسنا نتحدث, وسألته الرأي في "إعجاز القرآن" فكأنما ألقيت حجرًا في ماء آسن, فمضى يتحدث في حماسة وغضب وانفعال، كأن ثأرًا بينه وبين إعجاز القرآن, ولو كان طعنه وتجريحه في الكتاب نفسه لهان علي, ولكن حديثه عن الكتاب جره إلى حديث آخر عن القرآن نفسه وعن إعجازه وإيمانه بهذا الإعجاز. وأخذت أناقشه الرأي وأبادله الحوار في هدوء وإن في صدري لمرجلا يتلهب, إذ كنت أخادع نفسي فأزعم لها أنه لم يتخذ لنفسه هذا الأسلوب في الهجوم على فكرة إعجاز القرآن إلا لأنه حريص على أن يعرف ما لا يعرف

وعلى أن يقتنع بما لم يكن مقتنعا به، فأخذت معه في الحديث على هدوئي وثورة أعصابه ولم أفهم إلا من بعد ما كان يدعوه إلى ما ذهب إليه. يقول العريان: ولقد كان العقاد كاتبا من أكبر كتاب الوفد، ينافح عنه ويدعو إليه بقلمه ولسانه عشر سنين، وإنه ليرى له عند "سعد" منزلة لا يراها لكاتب من الكتاب أو أديب من الأدباء وأن له على سعد حقًا، ولكن سعدًا مع كل ذلك لم يكتب له عن كتاب من كتبه مثل ما كتب للرافعي. ومن هنا كانت ثورته, كانت ثورة الغيرة. قلت له "قال الرافعي للعقاد" وكان الحديث يدور بينهما بواسطة أوراق يكتبها كل منهما نظرًا؛ لأن الرافعي كان ضعيف السمع. أنت تجحد فضل كتابي فهل تراك أحسن رأيا من سعد؟ قال العقاد: وما سعد؟ وما رأي سعد؟ قال الرافعي: وطويت الورقة التي كان يكتب فيها حديثه، فقبضت عليها يدي, ثم قلت: أفتراك تصرح برأيك هذا في سعد لقرائك وأنت تأكل الخبز في مدحه والتعلق بذكراه؟ قال: فاكتب إلي هذا السؤال في صحيفة من الصحف تقرأ جوابي عما عرفته الآن. قال ذلك وإن ورقته في يدي أشد عليها بأناملي حتى تقبض وجهه وتقلصت عضلاته, ثم قال في غيظ وحنق: ومع ذلك فمالك أنت ولسعد؟ إن سعدًا لم يكتب هذا الخطاب ولكنك أنت كاتبه ومزوره, ثم نحلته إياه لتصدر به كتابك فيروج عند الشعب. وكان العقاد قد تناول كتاب إعجاز القرآن في "البلاغ الأسبوعي"

"10/ 12/ 1926" فلما أرسل الرافعي رده عليه رفض البلاغ نشره. وقد أشار إلى ذلك في رسائله إلى الشيخ محمود أبو رية في غير موضع مما يجمله قوله: إن العقاد سيكتب عن إعجاز القرآن و"أنا غير واثق منه لأن عقيدته زائفة", ثم قال: إن العقاد خرج إلى السخف في كتابته عن الإعجاز وإنه أرسل ردًا فيه مغامر كثيرة, وأشار إلى أنه لو رد عليه مرة أخرى "فسيكيل له بالكيل ثلاثة مكاييل"، وقال: "أظنني قلت لك: إن الرجل صرح لي بأنه لا يعتقد بالقرآن ولا بالنبوة ولا بالوحي". ثم أشار إلى أنه ترك الكتابة في البلاغ؛ لأنهم لم ينشروا رده على العقاد "وظنوا أنهم متى دفعوا إلي ثمن المقالات فقد صرت خاضعًا لهم. ولذلك رفضت الكتابة وثمنها. وقد كان الرجل يدفع جنيهين على المقالة فرفضت هذه الفائدة محافظة على كرامتي". وأشار إلي ما أسماه "سقطة" العقاد في إعجاز القرآن مما أورده في مقاله وقال: إن ذلك "دليل على أن العقاد لا يفهم ما يكتب". وكان ذلك مما دعا الرافعي إلى نقد العقاد، وقال في رسائله إلى أبو رية "أقترح وضع العقاد في السفود", ثم "وضع في سفود غليظ يظهر في أول يوليو 1929". رأي العقاد في الرافعي 1: مصطفى أفندي الرافعي رجل ضيق الفكر مدرع الوجه يركب رأسه مراكب يتريث دونها الحصفاء أحيانًا وكثيرًا ما يخطئون السداد بتريثهم

_ 1 الديوان جـ2.

وطول أناتهم. وطالما نفعه التطوح وأبلغه كل أدبه أو جله إذ يدعي الدعاوي العريضة على الأمة وعلى من لا يستطيع تكذيبه فتجوز دعواه وينفق إلحافه عند من ليس يكرثهم أن يخدعوا به، بيد أن الاعتساف إذا كان رائده الحذق في الرأي وشيك أن يوقع صاحبه في الزلل إحدى المرات فيضيع عليه ما لو علم أنه مضبعه لفداه بكل ما في دماغه من هوش وما في لسانه من كذب, وكذلك فعل ضيق الفكر وركوب الرأس بمصطفى الرافعي فحق علينا أن نفهمه خطر مركبه وأن قدميه أسلس مكانًا من رأسه لعله يبدل المطية ويصلح الشكيمة. عرض النقد إلى نشيد شوقي دون إشارة إلى الديوان "ولا كلمة متعسف فيها أن أحدًا يقدمه إلى هذا النقد بل لعله قصد إلى ادعائه عنوة فكتب على الرسالة أنها طبعت في نوفمبر سنة 1920 ونسي لغفلة ذهنه أنه ضمنها في صفحة 67 كتابا للأستاذ منصور أفندي عوض مؤرخا في11 ديسمبر. فهذا الخلق البغيض ونظائر من جرثومته هي التي تملأ نفوسنا تقززًا وعزوفا من أدب الجيل الماضي وأدبائه ومن صناعة من ينتسبون إليها ولكن ليس لها ما لأحقر الصناعات من حرم يرعى ودستور يفاء إليه ووازع يوقف عند حده. أرجعهم منها سهما أجمعهم فيها على استحذاء الجبن وصفاقة الادعاء. وأوقعهم فيها اسما أطبعهم على صفة الحيلة وصفوف الرياء، وشعارهم جميعا نقيضان من شعور بالعجز وخيلاء وملق واستعلاء صناعة بلا واجب لها ولا حقوق لذويها ولا تعرف غيرها من صناعة بلا واجب ولا حقوق. وما على المتحدث بها بأس من السماجة والافتراء, وإنما البأس كل البئس عليه من المروءة والحياء.

وهذا الرجل لا يستحيي أن يسم نفسه على غلاف رسالته "بنابعة كتاب العربية وزهرة شعرائها" يعمد إلى نقد مطبوع لم يفرغ الحديث فيه ولم ينقطع صاحبه عن إتمامه فينتحله جملة ولا يفلت منه كبيرة ولا صغيرة حتى تسميتنا مشاهير المذهب العتيق بالأصنام ثم لا يرى أن عليه بعد ذلك أن يوحي بفرد كلمة إليه ولو من باب التأريخ لحوادث هذه الأناشيد. كأننا حين كتبنا نقدنا في مصر كان هو يكتب رسالته في أقاصي الصين أو أطراف السويد, ولا ندري وقد وثق من وجهة بهذه الصلابة من أين له الثقة بالتهاون منها والهضمية؟ إيه يا خفايش الأدب! أغثيتم نفوسنا أغثى الله نفوسكم الضئيلة, لا هوادة بعد اليوم, السوط في اليد وجلودكم لمثل هذا السوط خلقت, وسنفرغ لكم أيها الثقلان. على السفود: نشر الرافعي هذه المقالات عام 1929 بمجلة العصور نقد فيها عبد الله عفيفي وعباس العقاد، وقد أغفل اسمه في هذه المقالات ظنا منه "أن1 إغفال الاسم هو عين الحكمة لا خوفا من العقاد ولا مبالاة به. ولكن بمن هو فوقه ثم نحن لا نريد المباهاة بكتاب ولكن نريد إظهار الحقيقة وفي إغفال الاسم قوة كبيرة لهذه الحقيقة ما دام الكتاب مثبتًا" وقد صور الرافعي رأي فؤاد صروف محرر المقتطف السفود الأول -في العقاد- بأنه متحامل وذلك عند "ذكر أصل الرجل والتعريض بأبيه وصاحب العصور "إسماعيل مظهر" يرى أن المقالات هي غاية الغايات في نقد هذا الرجل.

_ 1 رسائل الرافعي إلى محمود أبو رية.

وقد أجمع النقاد حتى تلاميذ الرافعي -سعيد العريان ومحمود أبو رية- على أن مقالات "على السفود" كانت غاية في العنف والنزول عن مستوى النقد ولكن الرافعي دافع عن هذه المقالات فقال في رسائله إلى أبو رية: "إن الناس مختلفون فمنهم من يقول: إن المقالات تحامل على صاحب مرحاضه "أي العقاد", وإن هذا التحامل سيفيده ويذهب أثر النقد ومنهم من يقول بل كل ما في المقالات هو صحيح وفي محله، ولا ننسى أن العقاد الآن في رأي نفسه ورأي كثيرين هو جبار الكتابة فنحن نريد أن نضع أنف هذا الجبار في الأرض مقدار ساعتين على الأقل لأنه لم يتجرأ عليه أحد إلى الآن والذين كتبوا عنه لم ينالوا منه نيلا وطه حسين لم يكد يمسه مرة حتى هرب وأخذ ينافق له ويتملقه. وقد أشار الرافعي في أحاديث العريان عنه1 إلى أن العقاد لم يكن يستطيع أن يقف وإياه أمام القضاء على ما اتهمه به بعد أن اعترف بأن في الكتاب ما لم يكن ينبغي أن يقول وبأن خصمه بما قال فيه كان يملك أن يسوقه إلى المحاكمة. قال العريان للرافعي: لقد قلت في العقاد ما كان حريا أن يوقفه وإياك أمام القضاء! قال الرافعي: ولكني كنت على يقين بأن العقاد لن يفعلها. إني كنت أهاجم العقاد بمثل أسلوبه في النقد وإن معي لورقات بخطه لا يسره أن أجعلها دفاعي أمام المحكمة فيخسر أكثر مما يربح.

_ 1 كتاب حياة الرافعي ص155.

-2- استهل الرافعي كتاب "على السفود" بقوله: أما بعد فإنا نكشف في هذه المقالات عن غرور ملفق ودعوى مغطاة وننتقد فيها الكاتب الشاعر الفيلسوف "عباس محمود العقاد" وما إياه أردنا ولا بخاصته نعبأ ولكن لمن حوله نكشفه ولفائدة هؤلاء عرضنا له، والرجل في الأدب كورقة البنك المزورة هي في ذات نفسه ورقة كالورق, ولكن من ينخدع فيها لا يغرم قيمتها بل قيمة الرقم الذي عليها. وقد يكون العقاد أستاذًا عظيما ونابغة عبقريا، وجبار ذهن كما يصفون ولكنا نحن لا نعرف فيه شيئا من هذا وما قلنا في الرجل إلا ما يقول فيه كلامه، وإنما ترجمنا حكم هذا الكلام ونقلناه من لغة الأغلاط والسرقات والحماقات إلى لغة النقد وبيناه كما هو, لم نبعد ولم نتعسف ولم نتمحل في شيء مما بنينا عليه النقد. والعقاد وإن زور شأنه وادعى وتكذب واغتر ومشى أمره في ضعفاء الناس بالتنطيع والتلفيق والإيهام فإن حقيقته صريحة لن تزور وغلطاته ظاهرة تدعى وسرقاته مكشوفة لن تلفق, وما زدنا على أن قلنا هذا، فإن يغضب الأسود على من يصف سواده فليغضب قبل ذلك على وجهه. وأثار هذا المغرور في الأدب تنظمها كلها قضية واحدة من السرقات والانتحال في غباوة ذكية، ذكية عند الطبقة النازلة من قراء جرائدنا وعند أشباههم ممن ليست لهم موهبة التحقيق ولا وسائله، ثم غبية فيما فوقها, وأولئك طائفة لا ميزان لها ولا وزن فلا ترفع ولا تضع, وسترى في أثناء ما تقرؤه ما يثبت لك أن هذا الذي وصفوا بأنه جبار الذهن ليس في نار "السفود" إلا أديبا من الرصاص المصهور المذاب.

يقول: إننا في دور انتقال بالأدب العربي والحقيقة أننا من العقاد وأمثاله الغارين المغرورين بآرائهم الطائشة وبياتهم المنخط، في دور انسلاخ ورجعة منقلبة والأعرج وبحكم هو دائما في دور انتقال، إنه ذهب يعمي ويتفلسف في أسباب عرجته، وما يمنعه أنه ليس بأعرج وإنما هذا فن جديد من الخيلاء والتبختر ينتقل به من المشي خطوا إلى المشي رقصا. ثم توقفت المعركة بين الرافعي والعقاد ثمة، حتى تجددت عند صدور ديوان العقاد "وحي الأربعين1" وقد انتهز العقاد فرصة هذه المعركة فانتقم من الرافعي وإسماعيل مظهر صاحب العصور وطابع كتاب على السفود بالجملة. وكان الباب الذي نفذ منه العقاد هو اتهام الرافعي في وطنيته. والقول بأن الرافعي إنما ينتقده لأنه العقاد السياسي الوفدي "1933" وعدو الحكومة المتسلطة بالحديد والنار. وكان الرفعي قد نشر نقده في البلاغ التي كانت تحارب الوفد ويسرها أن تهاجم كاتبه العقاد والمحرر بالجهاد إذ ذاك. ثم تقلبت السياسة تقلباتها فإذا العقاد -كاتب الوفد الأول- يخرج على الوفد, هنالك ينتهز الرافعي فرصة الحملة عليه فيكتب بدون توقيع مقالا في الجهاد عنوانه "أحمق الدولة". 2- معارك الرافعي مع طه حسين: هاجم طه حسين كتاب الرافعي "تاريخ الآداب العربية" وقال: إنه لم يفهمه كما هاجم كتابيه حديث القمر ورسائل الأحزان.

_ 1 أوردنا تفاصيل هذه المعركة في باب الشعر.

وكانت السياسة الأسبوعية التي صدرت عام 1922 تحمل لواء الأدب الجديد وقد استهلت المعركة بين القديم والجديد عندما هاجم طه حسين كتاب الرافعي "رسائل الأحزان" فقال: نظلم الأستاذ الرافعي إذا قلنا: إنه لا يشق على نفسه في الكتابة والتأليف, بل أنت تنصفه إذا قلت: إنه يتكلف من المشقة في الكتابة والتأليف أكثر مما ينبغي. ولو كنت أريد أن أقول: إنه ينحت كتبه من الصخر ولكني لا أجد في هذه الجملة ما ينبغي لوصف هذه المشقة، وما لي لا أتبسط معه بعض الشيء فأقول: إن كل جملة من جمل هذا الكتاب تبعث في نفسي شعورًا قويا مؤلما بأن الكاتب يلدها ولادة. وهو يقاسي من هذه الولادة ما تقاسيه الأم من آلام الوضع، يجب أن أكون منصفا فأنت تستطيع أن تقطع كتاب الرافعي جملا جملا وأن تجد بين هذه الجمل طائفة غير قليلة فيها شيء من جمال اللفظ، وبهرجة تخلبك وتستهويك, وفيها معان قيمة لا تخلو من نفع, ولكن المشقة كل المشقة في أن تصل هذه الجمل بعضها إلى بعض، ونستخرج منها شيئا قيما, لن تظفر من هذا بشيء وأكبر ظني أن الأستاذ الرافعي نفسه لا يحاول أن يقول شيئا حين يكتب هذه الرسائل, وإنما هو يذهب في النثر مذهبا غريبا فيتكلف العناء والمشقة في الغوص على المعاني الغريبة, ثم يتكلف العناء والمشقة في أن يسبغ على هذه المعاني ألفاظًا عربية". هجوم طه على الرافعي: وكان الرافعي قد أرسل خطابا في العتب إلى ظريف من أدباء الشام، وقد نشرت السياسة الأسبوعية الرسالة التي نورد منها هذه العبارات: "كتبت إليك من أيام يشفع لها قربك من نفسي فلا أقول: إنها بعيدة، وتمر قديمة ولكن ما في هذه النفس منها يجعلها جديدة وكأنها تجري بي إلى

الفناء فهي تطول إلى غير حد، وتأخذ معنى اليأس من كل أمس، فتنسخ به معنى الأمل في كل غد وأرى الأيام تعد بالأرقام، أما هي فقد جعلتها أنت تعد بأنها لا تعد. لقد هممت أن أعاتب القلم الذي كتبت به إليك فأحطم سنه وأجعله من ناحيتين "خبر كان" حتى لا يبقى من ناحيتك في خبر "إنه" وقلت كيف ويحك، سودت وجه صحيفتي بما هو في سوادة مداد مع المداد، وفي نفسه سواد غير السواد. ثم علق الدكتور طه حسين على الرسالة وقال: "أعتذر للكاتب الأديب إذا أعلنت مضطرًا أن هذا الأسلوب الذي ربما راق أهل القرن الخامس والسادس للهجرة، ولا يستطيع أن يروقنا في هذا العصر الحديث الذي تغير فيه الذوق الأدبي -ولا سيما في مصر- تغيرًا شديدًا". ورد الرافعي يقول: إن الأسلوب الذي كتبت به الرسالة كان موضع الانفراد وكان الغاية التي تتقاصر دونها الأعناق منذ القرن الرابع إلى القرن التاسع، ولم يوحش منه تغير الذوق الأدبي كما يقول الأستاذ، بل ضعف الكتابة فيه وتقصيرهم عن حده، وأنهم لا يوافقون به مواضعة ولا يعدلون بها إلى جهاته في ألفاظه ومعانيه. رد طه حسين: "اتخاذ هذه الأساليب نقص أدبي؛ لأن الكمال الأدبي يستلزم أن تكون اللغة ملائمة للحياة، وهو نقص خلقي؛ لأنه كذب للكاتب على نفسه وعلى معاصريه وهو نقص من جهة أخرى؛ لأنه لا يدل على أقل من أن الكاتب

ينكر شخصيته ولا يعترف لها بالوجود، وأي إنكار للشخصية أشد من أن تحس وتشعر ثم تستحيي أن تصف إحساسك وشعورك كما تجدهما. أعرف أن الأسلوب الذي اتخذه الأستاذ الرافعي كان مستعذبا في عصر من العصور، ولكني أعرف أنه إنما كان مستعذبا لأنه كان يلائم هذا العصر فإذا انقضى هذا العصر وانقضى معه ما ألف الناس من ضروب الحياة فيه، فيجب أن ينقضي معه أيضا أسلوب التعبير الذي كان الناس قد اتخذوه وسيلة لوصف ما يجدون في أنفسهم. وهكذا بدأت الخصومة بين الرافعي وطه حسين، ولم ينتظر الرافعي كثيرا فقد جاء عام 1926 يحمل معه كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" ووجد الرافعي فرصته للانتقام من طه حسين بالحق فكان المصارع الأول في هذه المعركة، وحمل عليه في مقالات متعددة في جريدة كوكب الشرق مستغلا جريدة الوفد, والوفد خصم الأحرار الذي كان طه من أبرز كتابه, وكانت عقدة الخصومة عند الرافعي هي محاربة مذهب التجرد من الدين لتحقيق مسألة من مسائل العلم أو مناقشة رأي من آراء الفكر أو رواية من روايات التاريخ1. وكانت معركة الشعر الجاهلي 2: وقد هاجم الرافعي طه حسين في بضعة وعشرين مقالة نارية، ولم يجب طه على واحدة منها، فقد كان المتفق عليه أن يترك الدكتور طه "العاصفة

_ 1 اقرأ جريدة السياسة اليومية مايو ويونيه 1923. 2 اقرأ معركة الشعر الجاهلي في موضعها من هذا الكتاب.

تمر" ولا شك أن المعركة بين الرافعي وطه حسين هي معركة خلاف في الرأي وأسلوب الفكر ومنهج الفهم للأدب والدين واللغة، وأن الرافعي كان بالنسبة للمجددين سيفا مصلتا يحسب له ألف حساب. ويعزو سعيد العريان "ص123 من كتابه حياة الرافعي" هذه المعركة إلى أن الرافعي كان يطمع في أن يكون إليه تدريس الأدب في الجامعة وأنه كشف عن رغبته هذه في مقالاته بالجريدة. وقد صور الرافعي خلافه مع طه حسين في عديد من رسائله إلى الشيخ محمود أبو رية التي جمعها في كتابه "رسائل الرافعي" ولكنه كان منصفا فهو يقول: "كانت محاضراته مجموعة متناقضات وإن كانت الجامعة حشدت لها حشدا عظيمًا من المدعوين والرجل ميسر وخطه مقبول. ويقول: أما طه حسين فليس بالضعيف الذي تتوهمه وهو في أشياء كثيرة حقيق بالإعجاب كما هو في غيرها حقيق باللعنة1. وقد وصف كتاب هامش السيرة بأنه "تهكم صريح2". 3- معارك الرافعي مع زكي مبارك: وكان الخلاف بين الرافعي وزكي مبارك حول "أوراق الورد" حيث أعلن الرافعي أن كتابة فن جديد في الأدب العربي وأنه "سد المكان الخالي

_ 1 رسائل الرافعي ص182. 2 نفس المصدر ص270.

في الأدب من أول تاريخه إلى اليوم، وإعطاء العربية كتابا في رسائل الحب وفلسفته وأوصافه1 تقابل ما في اللغات الأخرى. "إن زكي مبارك قد زعم أنه وقف على رسائل غرامية في الأدب العربي وأورد بعضها وهي رسائل كتبت في العراق ولا تعد من الرسائل الغرامية، بل هي من الإخوانيات التي نبهت إليها في المقدمة، وقد غلط في مقاله غلطة هائلة فلما رددت عليه امتنع البلاغ عن نشر الرد كما فعل مع العقاد وبقيت غلطات زكي مبارك لم تكشف لأنه يكتب للبلاغ بأجر رخيص جدا وهذا هو الذي يهم البلاغ فلا يريد إسقاطه. وقال: إن زكي مبارك بالغ في التحريف ولا بد من ضربه ضربة قوية في السفود متى زال هذا المرض. "أما الغلطة التي غلطها -هذا المغرور- فهي أنه يزعم وقوفه على رسائل غرامية أورد فيها أشياء وكلها رسائل للغلمان مما نبهت عليه في المقدمة وفي تصحيحه لزهر الآداب وقع في نحو مائتين غلطة منها غلطات غاية في الجهل. وقال: "لو اطلعت على أغلاط زكي مبارك هذا في تصحيح زهر الآداب لأيقنت أنه حـ ... كبير وهو مع ذلك دكتور في الآداب. وقد كتب الرافعي مقالة "أبو حنيفة ولكن من غير فقه" عن زكي مبارك وفيها يقول: هل يبدأ الأدب العربي في عصرنا أم ينتهي؟ وهل تراه يعلو أو ينزل؟ وهل يستجمع أو ينفض؟ وهذه معاني لو ذهبت أفضلها لاقتحمت تاريخا طويلا أمر فيه بعظام مبعثرة في ثيابها لا في قبورها حتى أصبح أمر الأدب على أقبحه وهم يرونه أحسنه حتى قلب في الأسلوب، أسلوب تلغرافي، وفي الفصاحة عامية، وفي اللغة لغة الجرائد.

_ 1 صفحات 194 و204 و255 من رسائل الرافعي.

الرافعي يختلف مع أدباء مصر في آراء كثيرة فهو يعارض رأي هيكل في كتابه حياة محمد في "الإسراء" ويقول: إنما جاء1 بعد صدور الكتاب الفرنسي يقصد كتاب أميل در منجم, ولولا هذا الكتاب ما كتب هيكل في حياة الرسول حرفا, فهؤلاء قوم مستعمرون في عقولهم, ورأيه في الإسراء لا قيمة له بل هو ألفاظ فلسفية لا غير. وقال عن لطفي السيد: إنه فيلسوف سوفسطائي "أورد ذلك" في مقالاته عن طه حسين "تحت راية القرآن". وقال: إن أحمد أمين كان عضوا في لجنة الأزهر عام 1928 التي حاكمت طه حسين وإنه الوحيد الذي كان يدافع عنه ويصحح ما في كتابه وإن طه حسين كافأه على ذلك بالعمل أستاذا في الجامعة2 ووصف عبد الله عفيفي بأنه "شعرور". ومما ذكره الرافعي أن عنده نسخة من كليلة ودمنة "ليس مثلها عند أحد وما شئت من مثل هذا إلا وجدته فيها" وقد كتب فصولا منها عن طه حسين وعن العقاد. 4- معركته مع عبد الله عفيفي: وقد دخل الرافعي معركة مع عبد الله عفيفي عندما كتب في مقتطف "نوفمبر 1942" ينعى شوقي ويقول: "إن مصر أصبحت سيدة العالم العربي في الشعر وهي التي لم تذكر قديما في الأدب إلا بالنكتة والرقة وصناعات بديعية ملفقة ولم يستفض لها ذكر بنابغة وعبقري، وقال الرافعي: إن شوقي

_ 1 ص223 رسائل الرافعي. 2 ص151 نفس المصدر.

لو كان مصريا لما تهيأت له الأسباب الفنية التي بلغت به مبلغه من الشعر لأن الطبيعة المصرية لا تساعد على إنضاج المواهب الشعرية". وقد رد عليه عبد الله عفيفي وفتح بابا في النقد في البلاغ تحت عنوان "مصر شاعرة" وحاول أن يثبت أن مصر لها تاريخ طويل في الشعر وكان الرافعي قد بدأ مقالاته على السفود في مجلة العصور بمقال عن عبد الله عفيفي شاعر الملك الذي نازعه صولجانه بعد أن اختلف الرافعي مع الإبراشي ناظر الخاصة الملكية إذ ذاك. وقد أراد الرافعي أن يضرب العقاد وطه حسين في النقد ضربة واحدة، وأتته الفرصة عندما أعلن طه حسين 1934 أن أمير الشعراء بعد شوقي هو العقاد، كذلك قال الرافعي "مجلة الأسبوع". وليس لدي الآن نص كلام الدكتور ولا أنا أذكر ألفاظه بحروفها، ولكن الذي أذكره أني حين قرأته لم أبحث بين ألفاظه عن يقين المتكلم واقتناعه وحججه وأدلته بل بحثت فيه عن سخرية طه بالعقاد وبالشعراء جميعا في أسلوب كأسلوب تلك المرأة العربية في قصتها المعروفة حين قالت لرجال قومها في أبيات مشهورة: وإن أنتموا لم تغضبوا بعد هذه ... فكونوا نساء لا تغيب عن الكحل غير أن طه في سخريته كالذي يقول: فإن لم تثبتوا أن فيكم من استطاع أن يخلف شوقي فاصغروا واصغروا حتى يكون العقاد هو أميركم وبقي أن نتساءل لماذا لم تأت الشهادة يوم كان الدكتور طه عميدًا لكلية الآداب

وكان يومئذ امرأ لا يستزله الإكراه، ولماذا جاءت الشهادة وهو يحترف الصحافة؟ أترى لوكان العقاد من الحزب الوطني أو من الأحرار الدستوريين أو اتحاديا أو شعبيا أفتكون قولة طه يومئذ وفي انسلاخه الثاني وانقلابه وفديا أفتكون إلا ردا سياسيا على العقاد وشعره نفرة سياسية من هذا الشعر وعقاده". حقيقة رأي الرافعي في طه والعقاد 1: غير أن أحمد حسن الزيات كان قد استطاع أن يستل من الرافعي تصريحا عن حقيقة رأيه في طه حسين والعقاد ونشره بعد وفاة الرافعي. قال الرافعي للعقاد: أما ما كتبه في "على السفود" فأكثره رجس من عمل الشيطان وأما ما أدخلته "تحت راية القرآن" فكله إلهام من روح الله. ووصف طه حسين بقوله: ذهنه لماع الذكاء ولكنه لا ينفذ, وقريحته واسعة الحيلة ولكنها لا تخلق لذلك, تجده معسول الكلام لا أثر فيه لروعة الفن ولا لبراعة الفكرة ولكنه قوي الشخصية جياش الحركة عذب السياق جميل العرض، وهو أشبه الناس بمهندس العرض في بيوت التجارة، يعرض البضائع في البترينات منسقة على نظام يملك البصر ولكنها تظل بعد التنسيق كما كانت قبل التنسيق ملك غيره أو أحسبه إذا تنفس به العمر على هذا الحال يعود رجلا له رأي مسموع في التأديب, ولكن ليس له أثر خالد في الأدب, ويلوح لي أن طه

_ 1 الرسالة 13 مايو 1940.

تعوزه العقيدة التي تخلق المبدأ ومن هنا كان التناقض الظاهر في كل ما يصدر عنه من قول أو فعل. ووصف العقاد بقوله: أما العقاد فإني أكرهه وأحترمه؛ أكرهه لأنه شديد الاعتداد بنفسه قليل الإنصاف لغيره, ولعله أعلم الناس بمكاني في الأدب ولكنه ينفس على قوة البيان فيتجاهلني حتى لا أجري معه في عنان.

الباب السابع: المعارك بين المجددين والمحافظين

الباب السابع: المعارك بين المجددين والمحافظين الفصل الأول: معارك الرافعي ... تعوزه العقيدة التي تخلق المبدأ ومن هنا كان التناقض الظاهر في كل ما يصدر عنه من قول أو فعل. ووصف العقاد بقوله: أما العقاد فإني أكرهه وأحترمه؛ أكرهه لأنه شديد الاعتداد بنفسه قليل الإنصاف لغيره, ولعله أعلم الناس بمكاني في الأدب ولكنه ينفس على قوة البيان فيتجاهلني حتى لا أجري معه في عنان.

الفصل الثاني: معركة فضل العرب على الحضارة

الفصل الثاني: معركة فضل العرب على الحضارة بين طه حسين وأحمد زكي باشا وشكيب أرسلان: أثار البحث حول مكتبة الإسكندرية "وهل حرقها العرب" معركة حول فضل العرب على الحضارة. وذلك أن طه حسين، ترجم تقريرا كتبه المستشرق "بول كانوفا" ونشره في السياسة اليومية "2 مايو 1923" حول هذا الموضوع. وقد عرض طه حسين لأحمد زكي باشا "شيخ العروبة" وسخر من أنه أذاع بأن للعرب فضلا على الحضارة وسبقا فيها أجاب زكي باشا بأنه لم يطلق هذا إطلاقا، ودخل المعركة الأمير شكيب أرسلان حيث عرض لدور كتاب التقريب. وهذه ملامح المعركة: 1- طه حسين: لست أدري لماذا نبحث عن الظهر في الساعة الرابعة عشرة كما يقول الفرنسيون، فقد يخيل إلي أن من السهل أن نلتمس لهذه القصة أصلا تاريخيا لم يروه التاريخ، وما الذي يمنع أن تكون هناك خزانة كتب تحرقت أثناء فتح الإسكندرية دون أن يكون عمر قد أمر بتحريقها ودون أن يكون عمرو قد أحدث هذا التحريق. فإن أخذ المدن عنوة يستتبع أهوالا كثيرة من التحريق والتدمير, ذلك إلى أن هذا التأويل الذي أفترضه سهل معقول في نفسه لا يأباه المنطق ولا ينكره التاريخ. وأشار الدكتور طه إلى رأي المستشرق كازانوفا في قضية مكتبة الإسكندرية على النحو الذي أشار إليه ثم قال: المستشرقون إذن متعصبون للعرب وقد لا يكونون أقل تعصبا للعرب من صاحب السعادة أحمد زكي باشا الذي أذاع في الناس منذ سنين فكرة أن العرب سبقوا إلى كل شيء، ولا يوجد بين الشعوب شعب سبقهم إلى

إلى شيء، وظاهر أن هذا التعصب وما ينشأ عنه من الآراء الكثيرة المختلفة، هو أبعد الأشياء عن الشعور العلمي والمنهج العلمي في البحث والتحقيق. فإذا قامت مناهج البحث عن خزانة الإسكندرية وتمزيق العرب إياها على قاعدة التعصب للعرب والمسلمين أو على العرب والمسلمين فنحن واثقون بأمرين: الأول أن هذه المسألة لن تحل، والثاني أن القرون ستتعاقب قبل أن يفرغ الباحثون من الكلام الكثير. 2- أحمد زكي باشا 1: إن الذي قلته وكررته وأيدته بالوقائع الثابتة ودعمته بالنصوص الصحيحة التاريخية المعهودة هو: أن العرب سبقوا الإفرنج إلى اختراع كتابة العميان. سبقوا الإفرنج إلى التفكير في حل مسألة الطيران وإلى محاولة ذلك بالفعل وإلى نقله من حيز العلم إلى حيز العمل. إن العرب سبقوا الإفرنج إلى التفكير في كشف أمريكا وأنهم حاولوا الوصول إليها مرتين بالفعل، وأولاهما من لشبونة عاصمة البرتغال وثانيهما من مدينة غانة بالسودان الغربي على ساحل المحيط الأطلنطي. إن العرب سبقوا الإفرنج إلى معرفة مرض النوم. إن العرب سبقوا الإفرنج إلى اكتشاف منابع النيل ووصفوها وصف شاهد العيان. إن العرب سبقوا الإفرنج إلى احتلال أمريكا وافتراض وجودها.

_ 1 اقرأ تفاصيل البحث في السياسة اليومية 18 أبريل 1923 و2 مايو 1923, 3/ 1/ 1924.

وكان ذلك بطريقة منطقية عقلية هي أفضل من التي اتبعها كرستوف كولوفب فإنه لم يكتشفها إلا بطريق الصدفة والاتفاق فإن نظريته التي شرحها للملكة إيزابلا الكاثوليكية بعد طرد العرب من غرناطة إنما كان الإمعان في السير غربا حتى يصل إلى بلاد الهند فلما وصل إلى أمريكا أسماها بلاد الهند الغربية وكان معه رجل من المسلمين الأندلسيين هو الرياش وقد وصفها لها وسماها "الهند الغربية". وإن كل أمة في الوجود لها فضل في الحضارة والعمران فهل يراد بنا أن نسكت عن مفاخر أجدادنا ونترك الميدان لغيرنا مثل العلامة سيديو الإفرنسي الذي أثبت أن اكتشاف أبو الوفا البوزجاتي فيما يتعلق باختلافات القمر وأثبت أن العلامة "تيخويراهما" الدنماركي إنما نقل أرقامه وحساباته بالنص والحرف. واعترف علماء الإفرنج لذلك الفلكي الإسلامي بالسبق إلى هذا الاكتشاف البديع فضلا عن الاكتشافات الأخرى. أم تريد أن نترك لغيرنا إظهار مفاخر أجدادنا1. 3- شكيب أرسلان: لكل عصر شعوبية وإن شعوبية هذا العصر نفر من أدباء مصر لا تمر بهم فرص ينتقصون فيها فضل العرب ويغضون منزلتهم في التاريخ وينحتون من أثلة مدينتهم الشيهرة إلا توردوها مبتهجين، ولا يرون للعرب عورة من العورات إلا تهافتوا على إظهارها. من هذه الطائفة من يطعن في العرب جهارًا دون مواربة مثل سلامة موسى الذي يكتب في الهلال والذي زعم أن العرب بدو هجموا على المدنيات

_ 1 السياسة اليومية 24/ 1/ 1924.

الرومانية والإغريقية, وهذا النوع من العداء أقل خطرًا وأجدر بأن لا يباليه أحد لأنه كلام ساقط عن نفسه ومن محاسن العرب أن يكون أعداؤهم -مثل سلامة موسى- إباحية يدعون إلى اختلاط الأنساب ولا يرون بأسًا من أن يعرف المولود بأبيه وهي الشناعة. ومن هذه الطائفة من تراه يضيق صدره -كأنما يصعد إلى السماء- إذا سمع كلمة خير في العرب أو قرأ عبارة توفر لهم قسطهم من المجد، وقد قامت قيامة طه حسين على أحمد زكي باشا بزعمه أن الأستاذ المشار إليه قال إن مدينة العرب فوق كل مدينة مع أنه لم يقل ذلك, وكيف كان يقول لو قال أحمد زكي باشا: كلما كان الإنسان عريبا كان أقرب إلى البشرية، كما يقول الفرنسيس -ولا يكبر ذلك طه حسين- كلما كان الإنسان إفرنسيا كان أعرق في البشرية" أو كما يقول الألماني "ألمانيا فوق كل شيء" وهلم جرا، فلا نتحرج صدور هؤلاء إلا إذا كان الإعجاب بالعرب، ولعمري لو قال أحمد زكي باشا إن مدنية العرب فوق كل مدنية بالنسبة إلى القرون الوسطى -أي إلى الوقت الذي ظهرت فيه- لم يكن كاذبًا لكان ظهيره التاريخ العام كما يعلم في مدارس أوربا1. ولا يعيب أنهم في القرون الوسطى لم تكن مدنيتهم أعلى من مدنية أوربا اليوم بعد القرون الوسطى ينحو تسعمائة سنة وألف سنة من البديهي أن الآخر بطبيعة الحال يعلم ما لا يعلمه الأول. نعم، لا يعيب السلف أن يكون الخلف أعلم منهم وإنما يعيب السلف أن يكونوا قعدوا عن النهوض بالواجب عليهم ولكن طه حسين أذنه صماء عن الفحشاء.

_ 1 الزهراء مجلد 3/ 290, 1345هـ.

فلا يجب أن يسمع هذا اللغو الذي هو مدح العرب وسبحان من جمع بين عمى البصائر وعمى الأبصار وأولهما أشد وأدهى. يعلم الله أننا كنا نحب أن لا نستعمل لهذه الطائفة مثل هذه الألفاظ ولكن وقاحتهم على الوطن والدين واللغة والإخلاص والصيانة والقومية، وما أشد ذلك تجاوزت حدها فأصبح من الواجب على كتاب الوقت أن يضعوهم حيث وضعوا أنفسهم وأن يصبوا السخن على هذه الجراثيم الفاسدة للتخلص من سر عدواها. ومنهم من لا تصل به الحماقة إلى هذا الحد، ولكنه ينقب في الكتب والآثار حتى إذا وجد كلمة يقدر أن يغمز بها العرب ولو من طرف خفي وقع عليها وأخذ يستنتج ويقيس ويذهب إلى بعيد، وكان مرماهم الأصلي هو سلب العرب محاسنهم التي حلا بها التاريخ، فإن لم يمكن سلبهم بعضها وأي شيء وجده في هذ المعنى عدوه ربحا. فترى الواحد منهم يذكر فلاسفة العرب وأطباءهم أو الكمياويين منهم وهو يشير إلى أن هذا كان نصرانيا وذاك يهوديا وذاك صابئا أو حرانيا, على أن هؤلاء العلماء كلهم بعد أن كتبوا مؤلفاتهم بالعربية لم تعرفهم الدنيا إلا عربًا. والتحامل كل التحامل هو قول بعضهم أن العرب كانت علومهم كلها مبنية على الأسلوب الغيبي وأنهم لم يعرفوا التجربة في العلم, كلمات ينقلونها عن بعض المؤلفين الأوروبيين الذين لا يريدون أن يعترفوا بفضل الشرقيين، أو بعض مؤلفيهم الذين لم يفهموا تاريخ العرب حق الفهم. ومن الغريب أن هذه الفئة إذا حاجها الإنسان بأقوال وشواهد من أناس من المستشرقين الأوروبيين كان جوابهم أن المستشرقين هؤلاء من دأبهم المبالغة وهم لتعلمهم اللغة العربية أحبوها وصاروا يزينون كل شيء عربي.

فإذا ما عثر على رواية تنقص من فضل العرب في كلام مستشرقي الإفرنجة أسرعوا إلى نقلها وعدوها آية منزلة وبنوا عليها أحكاما طويلة عريضة، ونسوا أن المستشرقين الذين يكرهون العرب ويشنئون العالم الإسلامي هم أكثر عددا من المستشرقين المحبين، فهم يحرمونه عاما ويحلونه عامًا. وليس من عربي عاقل يحب أن ينحل العرب ذرة مما لم يعملوه، ولا أن يمدحهم بالكذب، ولكن أليس من عربي عاقل يرضى بأن فئة مريضة من أهل هذا الزمان تهجم على مدنية العرب التي اتفق على عظمتها المشرق والمغرب وتحاول أن تحط من قدرها وأن تطفئ من نورها بأفواهها. أما إن علوم العرب كانت نظرية تخمينية ليس لها حظ من التجربة العلمية فهذا خلاف ما عليه الجمهور ممن اشتغلوا بتاريخ حضارة العرب، ارجع إلى مقال الدكتور محمد شرف في السياسة الأسبوعية عن الحضارة الإسلامية وفضلها على العلوم الطبية.

الفصل الثالث: الدين والمدينة

الفصل الثالث: الدين والمدينة ... الفصل الثالث: الدين والمدنية بين محمود عزمي وعلماء الأزهر: محمود عزمي، التغريب 1: أثار "محمود عزمي" معركة فكرية بمناسبة إعداد الدستور المصري عام 1922 حيث دعا إلى اعتبار "القومية المصرية" وحدها أساسًا لتقرير حقوق المصريين وواجباتهم العامة والمطالبة بتوحد التشريع والقضاء وجعلهما مدنيين في الأحوال الشخصية كما في المعاملات وقد جرى هذا السجال في جريدة الأهرام "يونيه 1922" واشترك فيه كثيرون منهم: محمد هلال الإبياري وعبد ربه مفتاح. ولم يتوقف محمود عزمي عن آرائه ولكنه استنبطها بحثه طوال حياته الفكرية. نريد أن تكون القومية المصرية وحدها أساسًا لحياتنا العامة, نريد أن تكون القومية المصرية بارزة كتلة واحدة. تسمح التقاليد الدينية بتزويج المسلم من الكتابية، فتسمح بهذا بدخول العنصر المسلم إلى حظيرة الأسرة الكتابية، ولكن هذه التقاليد نفسها تأبى أن تتزوج مسلمة من كتابي فيجعل باب الأسرة المسلمة محكم الإغلاق في وجه الكتابيين جميعًا. نحن أول من يتقدم بكل قلبه مطالبا بالمظاهر المدنية البحتة لحياتنا العامة جميعًا، في أسرتنا وفي تعليمنا وفي تفكيرنا وفي قضائنا. لا نريد غير قواعد واحدة للزواج, ولا نريد غير محاكم واحدة للفصل في كل أنواع المنازعات, ولا نريد أن يكون -خاصة في مدارسنا- مظهر لخلاف بين التلاميذ في العقيدة.

_ 1 الأهرام 3 يونيو 1922.

لا نريد غير الوحدة القومية للتشريع وغرضنا للتشريع ولا نريد أن يكون في تصرفاتنا العامة مظهر لغير القومية وغير الامتزاج الحقيقي لجميع عناصر الوحدة المصرية. فكوا عنا تلك الأغلال التي تريد أن تقيد فكرنا وعواطفنا وتقيد أعمالنا بدعوى أنها منزلة خالدة. محمد هلال الإبياري؛ مدنية القوانين جميعا 1: كيف يعقل أن يكلف أهل الأديان عامة في قطر من الأقطار أن يدعوا عقائدهم وأديانهم جانبا ونلزمهم باستبدالها بقوانين وضعية يستنبطونها بعقولهم وأفكارهم مع ما يعلمه كل واحد منا من أن العقول البشرية لا يمكنها أن تستقل وحدها بعلم المصالح والمفاسد التي يربط بها الشقاء والسعادة. كان على الأستاذ أن لا يخاطر بالأديان هذه المخاطرة وأن لا يغامر بها هذه المغامرة حتى يدعو الناس إلى هذه التجربة الخطيرة فيدعوهم إلى التخلص من دياناتهم لمجرد ظنه أنها قيود عتيقة تقيد العواطف والأفكار بدعوى أنها منزلة خالدة. هذا هو ما يقوله في ترويج تلك التجربة الخطيرة مدعيا أن من وراء العمل بها إسعاد الأمة وحفظ الوحدة وهو خيال إذ لو تجرد الناس عن أديانهم والتجئوا إلى ما توحيه إليهم عقولهم من السبل والوسائل في التشريع لأصبحت الأمة في فوضى خلقية. ويئن الأستاذ ويتضجر من الأديان ويجعلها قيودا ثقيلة ويطلب إلى الأمة التخلص منها ويقرر أن كونها منزلة خالدة دعوى من الدعاوي.

_ 1 الأهرام 7 يونيه 1932.

عبد ربه مفتاح؛ إلى عصبة الملاحدة 1: لقد فتح دين الإسلام أبواب الكمال في وجه القراء، وأماط لها الستار عن سبل السعادة وقرر حقوق البشرية على وجه الشركة وأتى على بنيان الاستبداد من أساسه. فما بال هؤلاء الناس يريدون أن لا نكون كالأمم الحية والدول القائمة بل ما بالهم يريدون أن لا يكونوا في دائرة البشرية، بل كلما جذبناهم إلى نوعنا استعصوا وأبوا ألا يشتركوا معنا في الجنس. أروني يا زعماء الزندقة عقلية عند مشرعيكم ونظما عند مقننيكم ينطق بهذا اللسان وإنصاف يقرب لا أن يساوي هذا الإنصاف، وروحا يدنو من هذا الروح. بين زكي مبارك ومحمود عزمي: "كتب زكي مبارك في كتابه "ليلى المريضة بالعراق" يناقش آراء محمود عزمي". لما ذهب2 إلى بغداد قال: إن الخلاف بين السنة والشيعة ينتهي في حالة واحدة "هو الإسلام: ولو خرج العراقيون من دينهم ورجعوا إلى الفطرة لزالت أسباب هذا الخلاف". قال زكي مبارك "والحكاية غريبة، ولكن وقوعها من الأستاذ عزمي غير مستحيل، فلهذا الرجل سوابق من هذا النوع, وهو الكاتب الوحيد الذي اعترض على أن ينص في الدستور على أن دين الدولة المصرية هو "الإسلام" وكان يسميه النص المشئوم في كلمات نشرها بجريدة الأهرام وجريدة الاستقلال.

_ 1 الأهرام 12 يونيو 1922. 2 جـ1 جـ1 25.

وهناك سابقة ثالثة وقعت يوم كنا في باريس, فقد أثنى عليه الدكتور بشر فارس في أحد المحافل وقال: إنه يريد أن يكون الإسلام إسلامًا, فاعترض الأستاذ عزمي قائلا: أنا ما يهمني أن يكون الإسلام إسلامًا. ولم يكن عزمي أول من أشاد بالارتداد عن الإسلام لتنقية الفطرة من أوهام المحترفين من أتباع الدين, فقد سبقه إلى ذلك الأستاذ محمد فريد وجدي ولكن فريد وجدي يقبل منه كل شيء لأنه قضى حياته في الدفاع عن الشريعة الإسلامية, أما محمود عزمي فرجل يعلن أن إيمانه مقصور على الحقائق التي يؤيدها العلم الحديث, ومن أجل هذا يقع هجومه على الإسلام موقعا غير مقبول.

الفصل الرابع: التغريب

الفصل الرابع: التغريب بين حسين فوزي وسعيد العريان: صدر الدكتور حسين فوزي كتابه "سندباد عصري" بهذه العبارة: "درجت على حب الغرب والإعجاب بحضارة الغرب، وقضيت أهم أدوار التكوين من عمري في أوربا, فتمكنت أواصر حبي وتقوت دعائم إعجابي, فلما ذهبت إلى الشرق، عدت إلى بلادي وقد استحال الحب والإعجاب إيمانا بكل ما هو غربي". ورد سعيد العريان عليه يقول: "إني لأبيح لنفسي وقد قرأت الكتاب وحللت صداه في نفسي، أن اقتحم على قدس هذا الرأي في نفس الدكتور حسين فوزي، فأزعم أنه مؤمن بالشرق وما فيه إيمان الرأي والعقيدة والدم الموروث. وما هذا الرأي الذي يجهر به إلا صدى معكوس لبعض هذا الإيمان، أنشأه في نفسه إحساس قوي بمحبة هذا الشرق، ورغبة غالية في إنهاضه، وأسف بالغ لما صار إليه، ثم ثورة فاترة في أعماقه على أكثر ما يرى ويحس من عادات الشرقيين وتقاليدهم، فلما هم أن يصيح صيحته قائلا: "يا بني قومي، ليست هذه روحانية الشرق وليست هذه مفاخره" عقه البيان فلم يجد إلا هذه العبارة التي صدر بها كتابه يترجم عن ذات نفسه في لغة من لغات الغرب الذي تعلم فيه فتكلم بلسانه، على أن هذا الشرق الذي رآه الدكتور حسين فوزي بعينيه ليس هو الشرق الذي ندعو إلى إحياء مجده وتجديد حضارته، إن للشرق حضارة أخرى لا تجتليها العين ولا تدركها المشاهدة، فقد درست معالم هذه الحضارة فلم يبق منها فيما تراه العين إلا أرض وناس، وتاريخ يتحدث عن ماض

يخزي من ذكره حاضره وليس الشرق هو هذا الهند الغارق في العبودية والأسر والهوان ولا هذه الجزر المبعثرة بين شواطئ المحيط الهندي والبحر الأحمر، ولكن الشرق معنى عام إن لم يبد اليوم لعينيه فيما شاهد من نوى، وآثار وحجارة مركومة، فإنه حريا أن يشرق في نفسه معناه أنه حاول أن ينفذ بعينيه إلى ما وراء ما يرى من آثار وحجارة وناس.

الفصل الخامس: حقوق المرأة

الفصل الخامس: حقوق المرأة مساجلة بين رشيد رضا ومحمود عزمي: هذه واحدة من مساجلات المجددين والمحافظين, موضوعها هل يجب مساواة المرأة بالرجل في الحقوق والوجبات؟ وهي محاضرة ألقاها الدكتور محمود عزمي ورواها ورد عليها الشيخ رشيد رضا وكان معارضا لكثير مما أورده عزمي. قال عزمي: ما كنت أحسب وقد ملأت الدنيا أنباء الفضليات من النساء اللاتي يضربن الآن بسهم وافر في مختلف نواحي النشاط البشري والواقي، وفي الملك الدستوري النابه، في إدارة شئون الدول, ولا يزال يطن في آذاننا جميعا دوي تلك الجهود الهائلة التي قام بها النساء خلال الحرب العالمية وقد استحلن عمال خشنين يبرزن على الرجال في المعامل والمصانع المدنية فيها والعسكرية. وقد تناول الشيخ رشيد رضا رواية المساجلة بقلمه: خطاب1 الدكتور محمود عزمي، كان مكتوبا بالأسلوب الخطابي الذي يقصد به التأثير بخلابة القول وما يزينها من المعاني الشعرية, ولعله ينشره في بعض الجرائد اليومية التي يثبت فيها دعابته وآراءه وقد بدأه بقضايا ظن أنها كليات لأشكال منطقية يلزم من تسليمها النتيجة المطلوبة, والحق أنها في عرف المنطق الصحيح إما شخصية وإما جزئية لا يصح تأليف الأشكال المنتجة منها، وأن ما قد يضاف إليها من الكليات لا يمكن أن تكون مسلمة فيحتج بنتيجتها، وقد سماها منطقية وهي تسمية مردودة عند من له إلماما بعلم المنطق وما في باب الحجة والقياس من الشروط في تأليف الأشكال المنتجة للبرهان. ذلك أنه ذكر أسماء بعض النساء في أوربا وفي الشرق من معاصرات

_ 1 كوكب الشرق 22 يناير 1930.

وغابرات كمدام كوري وملكة هولندا وأميرة لكسبورج وخالدة أديب والأميرة نازلي وهدى ومي وسيزانبراوي. فالقضايا التي تتركب من هذه الأسماء تسمى في المنطق قضايا شخصية لا يصح أن يتألف عنها منفردة ولا مجتمعة قياس برهاني على وجوب مساواة النساء والرجال في جميع الحقوق والواجبات، وذكر أيضا بعض أعمال النساء العامة في أوربا وما كان من جهودهن في إبان الحرب العظمى. وهؤلاء وإن كن كثيرات فإنه لا يصح الاحتجاج بهن على المطلوب لأنها جزئيات لم تصل إلى حد الاستقراء التام الذي يفيد البرهان اليقيني. وما زال يقول "وما كنت أحسب" ويذكر جملا حالية معروفة حتى جاء بإتمام الجملة فقال: "ما كنت أحسب وكل هذه الظروف تكتنفنا أن وجود تسوية المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات يمكن أن يكون محل مناظرة" لأنها في رأيه كانت يوم قال بها الأستاذ لاند خيالا من الخيالات ولأنها أصبحت اليوم بدهية من البدهيات, وحقيقة من الحقائق العلمية التي لا يماري فيها إنسان. وبعد إلقاء الدكتور عزمي لهذه المقدمات العقيمة شرع في بيان الحقوق فقال إن أولها حق الوجود واستنشاق الهواء كالرجل لأنها كائن موجود مثله سواء, وإن النتيجة المنطقية لذلك تمزيق الحجاب وهتك الستر والاختلاط مع الرجال في كل مجال فهو القاعدة الأولى لحق الوجود. وأفاض في مدح هذا الاختلاط وعده من مهذبات الرجل في ملبسه وزينته وكلامه وتفكيره. واستشهد على ذلك برحلته الأخيرة إلى فرنسا فذكر أنه كان يحلق ذقنه كل مرة أو مرتين لأجل الاجتماع بالنساء وذكر أيضا من مزايا هذا الاجتماع

بهن، التفكير الطاهر البريء، وانتقل منه إلى حق الحياة في المجتمع ومنه أن يكون لها حق اختيار الزوج، وحق الطلاق، واتقاء ما يهدد حياتها من عواصف تعدد الزوجات وقفى عليه بحق الاشتراك مع الرجل في تربية الأولاد وتوجيه أنفسهم إلى الأعمال، وعطف على هذا حق الامتلاك بالإرث والكسب فارتطم ههنا في حمأة مصادمة الشرع، إذ زعم أنه يجب مساواة الأنثى للذكر في الإرث فكان كعاصفة على البحر اضطرب جمهور الموجودين اضطراب الموج، واصطخبوا اصطخابة عندما يتكسر على الصخر وأرادوا منعه من الكلام. ولما أمكن إتمام القول التجأ إلى التأويل فزعم أن مسألة الإرث عند كثير من علماء الشرع ليست كمسائل العبادات التي تجب المحافظة عليها والجمود على نصوصها بل هي من مسائل المعاملات المالية التي يجوز تعديلها وتغييرها حسب تطور الزمان والمكان. وقال: وإذا تعنت معنا أصحاب الجمود على الآراء الدينية فلماذا لا يتفيئون في تعدي قواعد الحدود الشرعية كالرجم، وقطع يد السارق؟ فإن الحدود قد عطلت وهم ساكتون فليسكتوا إذن على تغيير أحكام الميراث. والدليل على أن هذه الأحكام لا يمكن الاستمرار عليها أن المسلمين أنفسهم قد شعروا بذلك فرأوا الخروج من هذا الجمود بالوقف الذي هو عبارة عن حيلة يجيزها الإسلام الصحيح للخروج من الشيء إلى ما هو أوسع منه وقد جزم بأن أبناءنا سيرون هذا التغير إن لم نره نحن. وختم هذه الحقوق بالحق السياسي وهو أنه لما كانت المرأة عنده كالرجل من كل وجه وجب أن يكون لها الحق في جميع أعمال الحكومة ووظائفها والانتخاب لمجالسها وقد حال انتهاء مدة كلامه دون إفاضة فيها

فسكت سكوتا مسخوطا عليه من الأكثرين, وصفق له الأقلون، وقد علمت بعد الخروج أن أكثرهم من غير المسلمين وأقل من ملاحدتهم. 2- قلت1 فيما ذكره الخضم من المقدمات من نابغات النساء أن المرأة إنسان فلا يستنكر أن يظهر في بعض النسوة عالمات فاضلات ومهذبات نابغات، وأن وجود من ذكرهن دليلا على مساواتهن للنابغين من الرجال على قلة أولئك وكثرة هؤلاء، وأن سياسة الأميرة نازلي لا تسمو فتصل إلى سياسة سعد باشا وإن زعم أن اجتماعات قصرها كانت هي العاملة في تكييف ملكات التفكير العام عنده. وإنما الفضل الأول لتكوين ملكات التفكير في عقل سعد هو الأستاذ الإمام ثم قلت منها ما سماه "حق الوجود واستنشاق الهواء" أنه ثابت بنفسه في الواقع وخلق الخالق فالكلام فيه من تحصيل الحاصل فلا يحتاج وجود النساء إلى إثبات الخطيب له بالدلائل فالنساء موجودات بدون حاجة إليه، إنما الباطل هو استدلاله به على وجوب تمزيق المرأة للحجاب والستور الذي يعبر عنه بالسفور واختلاط النساء بالرجال الذي ذقنا مرارته وتجرعنا غصصه، بخروجهن كاسيات عاريات يسبحن مع الرجل على شواطئ البحار ويرقصن معه في مواخير الفساد. أما حق المرأة في التعلم فقد قلت فيه: إن الله تعالى فرض طلب العلم على النساء كما فرضه على الرجال فهو واجب عليهن في الدين وحق لهن على الوالدين والأولياء, ومن العلم ما هو واجب عيني على الصنفين وما هو واجب كفائي ومنه ما هو واجب عيني على أحدهما دون الآخر كالأحكام

_ 1 كوكب الشرق 10 يناير 1930.

الخاصة بالنساء فيما هو خاص بطبيعتهن كبعض أحكام الطهارة المعروفة. فكل علم تنتفع به المرأة في تهذيب نفسها وتربية أولادها وتدبير مغزلها فهو حق مشروع وقد جعل الشرع لها حق حضانة الأطفال دون الرجل. قلت: وما ظلم النساء من ظلمهن من الرجال إلا بسبب امتهان الأقوياء غير المهذبين بتهذيب الدين للضعفاء, وذلك شأن كل قوي غير مهذب من ذكر أو أنثى هو من هو أضعف منه حتى الوالدين مع الأولاد، والعلم قوة يحترم التسليح بها بالطبع فتعلم النساء العلم الصحيح النافع يثمر لهن احترام أزواجهن وغير أزواجهن. أما حق الحياة في المجتمع فقد بينت حكم الشرع فيما ذكره منه وهو حق اختيار الزوج وحق الطلاق كالرجل وحق صيانة نفسها من ضرر تعدد الزوجات. قلت: إن الرضى بالزوج حق شرعي قررته السنة الصحيحة للمرأة وإن من قال من الفقهاء بجواز إجبار الأب لبنته البكر على الزواج فقد اشترطوا له شروطا له ولصحته شروطا منها الكفاءة وعدم العداوة الظاهرة بينه وبين الولي وعدم العداوة الظاهرة أو الباطنة بينها وبين الرجل الذي يراد تروجها به. أما الطلاق فلو جعل حقا مطلقا للنساء كالرجال لفسدت البيوت وانقطع سلك نظام العائلات بالإفراط فيه كما تحدثنا الصحف عن أعظم أمم الغرب مدنية أن للمرأة أن تشترط في عقد النكاح أن يكون أمرها بيدها وهذا الشرط يعطيها حق تطليق نفسها. أما حق الامتلاك للنساء كالرجال فالشرع الإسلامي فيه أوسع الشرائع

وأرحمها ومن رحمته وحكمته أحكام الإرث وقد تكلمت في ذلك حتى أسكتني الرئيس بانتهاء الوقت. 3- ومع1 أن بعض الجرائد الإفرنجية انتصرت للأستاذ محمود عزمي وطعنت على الجمهور الذي أيدني بما يطعن به الإفرنج على كل مسلم معتصم بدينه -مع هذا وذاك- لا أزال مصرا على ما كتبه من إعجابي بحرية الرجل وصراحته وإنصافه فيما صرح به أمامي فيما قلت من الرد عليه ومنه قوله لي: "إننا نبالغ فيما نطلب للنساء من الحقوق في مقابلة ما نعلم من مبالغة رجال الدين في هضم حقوقهن لنصل إلى الاعتدال الذي يقول به مثلك، نعم لقد أكبرت من إنصافه في هذا المقال وزاد عجبي به ما علمته من أنه قال هذا في مجالس أخرى.

_ 1 كوكب الشرق 31 يناير 1930.

الفصل السادس: معركة حول التراث القديم

الفصل السادس: معركة حول التراث القديم بين زكي مبارك والسباعي بيومي: هذه معركة من أقسى المعارك التي خاضها الدكتور زكي مبارك، ولأول مرة صادفته الهزيمة إذ واجه لأول مرة ألد وأقسى وعنفا أشد من مناظرة الأستاذ السباعي بيومي الذي كان قوي العارضة في مواجهة سجال زكي مبارك مما حمله على أن يفر سريعا من المعركة ويلجأ إلى الصلح. زكي مبارك؛ الهجوم الآثم على المرصفي: إلى 1 الأستاذ سباعي بيومي: نشرت الرسالة كلمة بإمضاء "محمد فهيم عبيد" عن كلام وقع منك وأنت تحاضر عن "المبرد" بمدرسة دار العلوم فقد تحدثت عن أخلاق الشيخ سيد المرصفي بما لا يليق، فإن كان ذلك الكلام لم يقع منك فانفه في العدد المقبل، وإن كان وقع منك فسارع إلى الاعتذار، إبقاء على ما بيني وبينك من وداد، فما أستطيع السكوت عن رجل يتعرض لأخلاق الشيخ سيد المرصفي بسوء ولو كان من أعز الأصدقاء. وإلى أن يثبت أن الراوي افترى عليك، أعلن غضبي على ما بدر منك، فقد كنت أظن أنك تعرف الشيخ سيد المرصفي له تلاميذ يحفظون عهد الوثيق وسنرى كيف تجيب، وإن كانت في العدوان على ذلك الرجل العظيم من الأبرياء. وفي نفس العدد من الرسالة نشر كلام لطلاب من دار العلوم يقولون فيه: "أن الأستاذ السباعي لم يقل عن المرصفي إلا أنه كان يملكه الغرور، والمرصفي ذلك يسجل ذلك على نفسه في كل ما كتب.

_ 1 الرسالة 6 يناير 1941.

ثم عاد زكي مبارك فكتب في الرسالة 3 فبراير 1941 تحت عنوان "الهجوم الآثم على الشيخ سيد المرصفي" يقول: كثرت الخطابات التي ترد إلى تحقيق ما ادعاه الأستاذ السباعي بيومي في حق الشيخ المرصفي، وكنت أغفلت الموضوع عن عمد لأن الأستاذ السباعي له حقوق، فقد كان دئمًا من أنصاري ولم آخذ عليه ما يريب. ولأن مقام الشيخ المرصفي أقوى من أن يهدم بكلمة جراحة تساق إليه في إحدى المحاضرات. ولكن سكوت الأزهريين عن الانتصاف للشيخ المرصفي أزعجني وكنت أرجو أن يكونوا دروعا واقية لذلك الشيخ الجليل، وهو رجل لم ير مثله الأزهر منذ أجيال طوال. فماذا أصنع؟ سأنقل القصة من وضع إلى وضع فأصيرها قضية أدبية لا قضية شخصية، وأبين أن السباعي بيومي يستر جنايته على "المبرد" بجنايته على "المرصفي". ولكن كيف؟ سيرى صديقنا السباعي أن تهذيب الكامل لم يكن إلا جناية أدبية. وسيعرف أن التطاول على مقام الشيخ المرصفي لا يذهب بلا عقاب. "السباعي 1 بيومي: خصومة أدبية": استهل السباعي بيومي كلامه بقوله: "ما أحبها إلى نفسي خصومة أدبية تقوم على صفحات الرسالة بيني وبين صديقي الدكتور زكي مبارك، فإن الخصومات الأدبية للمتخاصمين

_ 1 الرسالة 10 يناير 1941, 17 فبراير 1941.

مجالا واسعًا للبحث والتدقيق, ولحضرات القارئين مجالا أوسع للموازنة والتحكيم. ثم أشار الكاتب إلى أنه ألقى محاضرة في دار العلوم عن أسلوب المبرد في كامله ثم ذكر أن طالبا تحدث بعد المحاضرة فرمى المبرد بالغرور والادعاء ثم ذكر أنه دافع عن المبرد, وتطرق الكلام إلى المرصفي لأنه هو شارح كتاب "الكامل" للمبرد فأشار إلى أن مؤلفات المرصفي هي التي تنم عن خلق الغرور والادعاء فيه وأن ذلك يظهر في شرح الكامل وفي ديوان الحماسة, وقال السباعي: وإنه لتأصل هذا الخلق فيه كان شديد التحامل على المبرد والتشهير به فيما يظن أن المبرد أخطأ فيه. ثم قال: وكم كنا نتمنى للشيخ المرصفي أن يجرد علمه من غروره ويسبل على تأليفه ثوبا ضافيا من التواضع والاعتدال حتى يكون ذلك أبين لفضله وأدل على نبله. ثم أشار إلى أن هذا الكلام قد حرف بما وصف بأنه رمى المرصفي "بكثير من الأخلاق الذميمة ... إلخ". وقال: وما كان مني عن الشيخ المرصفي -علم الله- إلا أسفي على ما خالط مؤلفاته من غرور وادعاء وتطاول على المبرد في أسلوب غير حميد ومازلت معتقدًا هذا رضي الدكتور "مبارك" أم سخط. ثم قال "هذا يا صديقي الدكتور هو الأمر الأصيل على جبلته وقد بسطه موضوعا في نصابه مقررًا على وجهه، لا كما تطايرت به الإشاعات. وقديمًا قالوا: وما آفة الأخبار إلا رواتها. أما قولك: "وإلى أن يثبت أن الراوي افترى عليك أعلن غضبي على

ما بدر منك "فسبحانك اللهم وتعاليت" فما كان لأحد أن يقول: {مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} إلا أنت. زكي مبارك 1: هذه طلائع لغزوة شريفة تنقل عقل الأستاذ السباعي من وضع إلى وضع، وذلك فضلي عليه، إني أصفح عنه أو يشتغل محررًا متطوعا بمجلة الرسالة ثلاث سنين كما قهرت أخا له من قبل على أن يشتغل محررًا متطوعا بجريدة البلاغ، هي محنة صبت من شاهق على الأستاذ السباعي فليتحملها صابرًا وليوطن نفسه على أن الخصومة بيني وبينه لن تنتهي قبل شهر مايو وهو الموعد الذي حدده الشيخ الأسيوطي لنهاية الحرب بين الإنجليز والألمان. وكيف يخيفني تهديد الأستاذ السباعي وليس في ماضيه الأدبي غير نقل نصوص كتاب الكامل من مكان إلى مكان وتلك مهمة يقوم بها أحد النساخين بدراهم معدودات. أمثلي يخاف من عواقب الجهر بكلمة الحق وقد قضيت دهري ممتحنا بعدوات الرجال. لقد تلطفت معه أكثر مما يجب، ولم يحفظ عملي، فكيف يراني أعطف عليه وقد تردى بثوب العقوق. السباعي بيومي 2: جعلت كلمتك "الهجوم الآثم" على الشيخ سيد المرصفي وهذا أمر غبت عنه،

_ 1 الرسالة 17 فبراير1941. 2 الرسالة 24 فبراير 1941.

ولم تشهده فكيف أقدمت عليه قبل أن يتجلى لك، وإذا سوغك تتطاولك أن تسميه هجوما فكيف وصفته متسرعا بالإثم فكنت الآثم بما وصفت. وتزعم أن الخطابات قد كثرت عليك في تحقيق ما ادعيته علي من حق الشيخ المرصفي وأنا أجزم قاطعًا وأحلف غير حانث، أنه لا خطابات، وتقول: وكنت -أي لولا تلك الخطابات- قد أغفلت هذا الموضوع عن عمد، لأن الأستاذ السباعي له علي حقوق" وما كنت أفهم إلا أن تلك الحقوق هي حقوق الصداقة، فإني لا زلت بها حفيا وعليها حريصا، ولكنك جعلتها يا صديقي "إنني كنت دائما من أنصارك" وليس لمثلي أن ينخدع بخدعة الصبي هذه تسوقها إليه، فالحقيقة المرة التي أسمعك إياها الآن بعد أن طغيت زمنا ولم ترد، إنك ما كنت في يوم زعيما في الأدب حتى يصح أن يكون لك أنصار. وإنما زعامتك نسج عنكبوت حكته من حولك وتركك الناس تلهو به وتلعب، ثم زدت هذه العلة أخرى تقول فيها "ولأن مقام الشيخ المرصفي أقوى من أن يهدم بكلمة جارحة تساق إليه في إحدى المحاضرات وأني أحذرك جريئا على تحذيرك إن كنت تريدها خصومة أدبية بيني وبينك أن تترك الآن الشيخ المرصفي فإن التحكك به لن يغني عنك في الموضوع شيئا، وإذا ما صفي الحساب بيننا عدت أبين لك أن مكانة الشيخ المرصفي لا تعلو في النقد، وأن الذي يصفه ببعض ما وصف به المبرد لا يكون قد عدا الحقيقة ولا تعدى على السلف الصالح، فإن المبرد على أي حال أعلم من المرصفي علما وآدب منه أدبا، ثم هو أدخل في السلفية الصالحة دخولا. "وأشار إلى ما ذكره زكي مبارك من سكوت الأزهريين على الانتصار للمرصفي" ثم قال: إن عبارتك هذه من باب الاستعداد الذليل والملق الرخيص الذي ينقص منك ولا يزيد فيك, وقد فاتك أن الأزهريين

يقدسون حرية البحث في دراساتهم أول ما يقدسون وأنهم يرثون المبرد قبل أن يرثوا المرصفي. وإنني بهذه الخصومة لجد مسرور، أتدري لماذا؟ لأني سأعرضك فيها للجمهور على حقيقتك التي غشيتها ما غشيتها وتسامح الناس معك فيها ما تسامحوا وسيكون أول كشف لك فيما عملت واقعا على كتاب "زهر الآداب" لأنه دون سائر أعمالك أشبهَ بما عملت في تهذيب الكامل الذي عددته جناية أدبية. أما قولك بأن "قول الحق لم يدع لي صديقًا" فإن الذي لم يدع لك صديقًا هو دأبك على الباطل في كثير مما تبحث وبغيك على حق الصديق في جل ما تنقد حتى لقد أقللت وأمللت. زكي مبارك 1: عرض زكي مبارك لأشياء كثيرة فقد اتهم السباعي بأنه سرق منه نظرية من كتابه "النثر الفني" عن نشأة المقامات وقال: إنه كتم سرقته أربع سنوات "لأني أشعر بالارتياح كلما تذكرت أن عندي ذخائر يتطلع إليها الناهبون من الفضلاء. وأشار إلى أن الدكتور طه حسين هاجم دار العلوم وقال: إنها مدرسة عاقر ومن الموجب أن تغلق دون تسويف فلم يتحرك الأستاذ السباعي ولم يغضب "وكيف يغضب والدكتور طه رجل يضر وينفع، وهو يملك المحو

_ 1 الرسالة 24 فبراير 1942.

والإثبات من أعضاء بعض اللجان بوزارة المعارف، وقال: "أما الشيخ سيد المرصفي فهو اليوم جسد هامد لا يملك دفع الضرر عن سمعته" مات المرصفي ولكن تلاميذه أحياء والويل كل الويل لمن يتعرض لشيخنا العظيم بكلمة سوء. ثم أشار إلى أن السباعي أخرج كتابا سماه "تهذيب الكامل" في جزأين أولهما في المنشور والثاني في المنظوم، ومعنى ذلك أنه قدم وأخر في نصوص الكامل فهل يرى القراء أن هذا عمل مطلوب؟ وهل يرون أن المبرد كان يعز عليه أن يصنف كتابه على هذا الوضع لو أراد؟ المبرد راوح بين المنثور والمنظوم لحكمة تعليمية، هي نقل الذهن من فن إلى فن ليبعد عنه السآمة والملال وقد أضاع السباعي تلك الحكمة التعليمية بصنيعه "الجميل". وقال: إن السباعي ارد المرصفي وكتابه "شرح الكامل" من دخول دار العلوم ليجهل طلبة تلك الدار أسرار كتاب الكامل وليجهلوا مبلغ أستاذهم السباعي من العلم بما وقع في الكامل من تحريف وتصحيف، ثم قال إنه سيصحح كتاب السباعي بيومي خدمة لأبناء دار العلوم وطلاب الأدب العربي. "وعلى الأستاذ السباعي أن يناقشني إن استطاع وهو لن يستطيع ولو ظاهره ألوف من المعجبين بقدرته على الاستهانة بفضائل التدقيق والتحقيق. والأستاذ السباعي شتمني في مجلة الرسالة مرتين فليكف عن شتمي - غير مأمور- فإن الألسنة والأقلام لم تبق في شتمي مزيدا لمستزيد، ولو حاسب الله أعدائي وخصومي على ما اجترحوا آثمين في إيذائي لسلط عليهم شآبيب

البلاء لا تشتمني يا سيد سباعي فحسبي ما أعاني من البلوى بمحنة النقد الأدبي. ألا تراني أحاور أناسا لا أرتضيهم نساخًا لمقالاتي ومؤلفاتي. لقد لامني الناصحون على ما اقترفت من التنازل إلى مساجلة بعض الناس. فهل تعرف كيف كان جوابي؟ لقد أجبت بأن الأدب كالعلم، والعالم يشرح جسد الضفدعة كما يشرح جسم الإنسان، فمن واجب الأديب أن يفهم أن لا عيب في أن يهتم بتشريح ما يضاف إلى الأدب لو صدر عن نكرات، لا تشتمني يا سيد سباعي فأنا رجل "شتيم" وذلك حرف لا يخفى عليك، لا تشتمني فما أملك محاسبتك ولو أردت الانتصاف لنفسي، وماذا أقول في تجريحك ولست بشاعر ولا كاتب ولا مؤلف ولا خطيب. إن قلبي ليكتحل بالغبار الذي يثيره قلمي، فمن طاب له أن يلقاني في ميدان النقد الأدبي فليوطن نفسه على مكاره لا يصبر عليها لأواؤها غير الخناذيذ. السباعي بيومي 1: تدعي أن صديقا عزيزا قال لك: لم يرضني تحديك للأستاذ السباعي فقد كان يتفق أحيانا كثيرة أن يجعل مقالاتك من موضوعات الدرس في دار العلوم وذلك من شواهد الإعجاب, ويظهر يا دكتور أن هذا الصديق من الخبثاء الظرفاء الذين عرفوا فيك ما قرره ابن المقفع من أن عجب المرء بنفسه أرحب باب يدخل عليه منه الضاحك عليه والمضلل له، فهو قد أضلك

_ 1 الرسالة 10 مارس 1941.

وضحك عليك بما تخيل فتحققت، وما كان لشيء من مقالاتك أن يكون موضع الدروس في دار العلوم، ولو حدث ما سميت دار العلوم. ويقول: إنك لن تصفح عني أو أشتغل محررًا متطوعًا بالرسالة ثلاث سنين وما هذا لي بالتهديد فما أنا ممن يضيرهم التحرير ولا ممن تعودوا أخذ أجر ما يكتبون لأني أكتب للكتابة لا طمعا في مال. ولذلك يصدر ما أكتب من غير كلفة ولا إكراه. وسأعلمك بأن ماضيّ لم يكن قائما على خدمة الكامل وحده وأن تهذيبي له لم يكن عملا يقوم به أحد النساخين بدراهم معدودات وذلك إنما أقفك عليه من أنه كان خدمة يعرفها العارفون. وتزعم أنك قضيت دهرك ممتحنا بعداوات الرجال، ورجائي أن يكون رجلا فيما أصبت به عدائي، وأن لا تغالي في عدم العطف على ذلك الذي أزمعت تركه لأني ترديت لك ثوب العقوق، والحقيقة يا دكتور أنه لا عطف منك ولا عقوق مني إليك، وإنما هو نقاش وحسب يتطلب منك أن تكون الجلد الصبور. قلت: "فليواجهني إن استطاع وأنا ماض إليه بقلم أمضى من السيف وأعنف من القضاء" وستعرف أينا الذي سيكون قلمه أمضى من السيف. إما أن قلمك أعنف من القضاء فمعاذ الله أن أشاركك هذا الكفران. وإذا بك تقحم الدكتور طه حسين في الموضوع بأنه أتعب نفسه في النيل من دار العلوم ولم أغضب مع أني أستاذ بها، وهذا غير ما كان يا دكتور، فقد كتبت في الصحف ولكنك لم تقرأ، كما لم تعرف ما ضحيته ومازلت مستعدا لتضحيته في سبيل الدفاع عن دار العلوم، ثم توغل في الإقحام فتدعى

أن علة سكوتي أن الدكتور طه يضر وينفع ويملك المحو والإثبات في أعضاء بعض اللجان، وردي على هذه الأكذوبة عني وعن الدكتور أني لم أسكت ومع هذا كنت عضوا في اللجان، وما ذنبي إذا كنت أدعى وتترك، وأعرف وتنكر. وأخيرًا تكثر من الجملة "لا تشتمني يا سيد سباعي" معقبا إياها بتعاليل هي الأباطيل، فالشاتم أنت وأنا عن الشتم بعيد وإذا كنت تلحن لي في ذلك بأنك "شتيم" فأنا ألحن لك بأني "بشر بن عوانة". وتقول: "ما أنت بشاعر ولا كاتب ولا مؤلف ولا خطيب" فأما الشعر فلو رضيت لنفسي ما قلته كما رضيت أنت ما قلت، لسويته ديوانا كما سويت، ولوقعت في الشرك كما وقعت، فقد اغتررت في طبع ديوانك بضحك من غرروا بك، وخالفت قول من نصحوا لك وما ديوانك بشعر شاعر ولكنه تجميع ناظم، أما الكتابة فها نحن في ميدانها وسيصدر الجمهور حكمه. أما التأليف فقد عرفت من عملي فيه "تهذيب الكامل" وستعرف غيره من مؤلفاتي متى انتهيت منه ونقاشنا فيه الآن فاثبت ولا تفر من الميدان. أما الخطابة فرأيي لك فيها يا دكتور أن نتلاقى في حلبتها أمام جمع من الأدباء وجمهرة من السامعين ويقترح على كلينا التكلم بداهة في موضوع عام من أدب أو اجتماع وهنالك فقط -لست مزكيا نفسي- تجد بحرا يغمرك وأمواجا تقطعك وتبهرك, فتندم طالبا النجاة ولات حين مناص. زكي مبارك 1: إني لم أكن أعرف أن اللغة العربية غنية بألفاظ الهجاء قبل أن أقرأ

_ 1 الرسالة 10 مارس 1941.

كلمته الثانية، وأنا1 من الذين يدينون بوجوب طلب العلم من المهد إلى اللحد. فمن واجبي أن أرحب بمن يعلمني طرائق السباب ومن أجل هذا الرفض كل الرفض أن ينتهي ما بيني وبينه بالصلح. السباعي يهدد ويهدد بنقد مؤلفاتي وهو من فضلها يعيش فهل رأيتم أقبح وأشنع من هذا الكفران2.

_ 1 الرسالة 10 مارس 1941. 2 انتهت هذه المساجلة بأن أعلن الدكتور زكي مبارك "أن بعض كبار المفتشين في وزارة المعارف رأوا وقف الجدال الذي أثرته في وجه الأستاذ السباعي بيومي وحجتهم أنه وصل إلى درجات من العنف تؤذي كرامة المشتغلين بخدمة العربية, وقال: أنني أجيب هذه الدعوة لأنها أول دعوة كريمة لكف الشر بيني وبين من أخاصمهم بقلمي لا بقلبي، فلم أسمع هذا الصوت يوم خاصمت رجالا أعزاء لم يكن يسرني أني فصم القلم ما بيني وبينهم من عهود إنصافا لنفسي أقول أنني كتبت ما كتبت وأنا أبتسم. فإني قد أخاصم ولكن لا أعادي فما استطاعت الدنيا بأحداثها الفواتك أن تضيفني إلى أرباب الضغائن والحقود، وأنا أتهم بالقسوة والعنف بغير حق فما كان همي في كل ما أثرت من مجادلات إلا إيقاظ الروح الأدبي واللغوي، أما إيذاء الأدباء فهو معنى لا يمر بخاطري. وعلق سيد قطب على ذلك فقال: إنه إذا كان لدى الدكتور ما يقوله بالأسلوب اللائق فليستمر فإن الوساطة كانت منصبة على أسلوب الجدال لا على موضوعه، وصمت زكي مبارك.

الفصل السابع: معركة الخلاف بين الدين والعلم

الفصل السابع: معركة الخلاف بين الدين والعلم أثار الكتاب المجددون معركة الخلاف بين الدين والعلم، وهي واحدة من المعارك التي ركز عليها دعاة التغريب لبلبلة الأفكار وإثارة جو من الشكوك والشبهات وقد اشترك فيها الدكتور هيكل ومحمود عزمي وطه حسين وساجلهم الشيخ رشيد رضا، واتسع البحث ليشمل عديدا من الصحف غير السياسية وكتابا كثيرين منهم مصطفى عبد الرازق وفريد وجدي، وهاجمت السياسة رشيد رضا ورسمت له لوحة في مقالاتها "في المرآة" واتهمته بأنه كان صنيعة الخديوي والإنجليز وأنه جامل كرومر حين سب الإسلام وقال له: أنت تقصد إسلام اليوم ووجد في وثقائق الشيخ محمد عبده ما يرضي الخديوي فتقرب به إليه, وقال أنه عمل في الجريدة سفيها لا يشق له غبار وأعلن رشيد رضا إنشاء جمعية تجديد الإلحاد والزندقة والإباحة المطلقة ومضت سنوات في الصراع ثم حسم الدكتور هيكل المعركة بأن أعلن أنه لا صلة البتة بين التجديد والإلحاد. "معركة بين رشيد رضا والمجددين": بدأت المعركة في يونيه 1926 عندما كتب هيكل مقاله عن "الدين والعلم ورجال الدين ورجال العلم" ولكن الدكتور طه حسين أذاع أنه قد دخل المعركة عام 1923 ولخص رأيه في أن الدين" حين يثبت وجود الله ونبوة الأنبياء يأخذ الناس بالإيمان بهما يثبت أمرين لم يستطع العلم إلى الآن أن يثبتهما. فالعلم لم يصل بعد إلى إثبات وجود الله ولم يصل بعد إلى إثبات نبوة الأنبياء، وإذا فبين العلم والدين خصومة في هذين الأمرين يثبتهما الدين ولا يعترف بهما العلم. "السياسة الأسبوعية 17 يوليو 1926: وقالت الأهرام "26/ 12/ 1926" إن فريق المنتصرين للعلم على الدين يؤيدون نظريتهم بالتلميح لا بالتصريح، وأن المقصود بالدين العاطفة الدينية التي ترفع المخلوق إلى الخالق أيا كانت تفاصيل العقائد.

وقال "مصطفى عبد الرازق" إن الاتجاه العلمي الأخير إنما هو انتصار للدين "ولست من القائلين بأن العلم كان يوما من الأيام يناهض الدين. ومن الناحية الأخرى لم يحض الدين على منابذة العلم بل العكس، إن الإسلام يدعو إلى حرية البحث وصراحة التفكير والتسامح الذهني. وقال "محمد فريد وجدي": إن شقة الخلافة بين الدين والعلم -وهي على ما هي عليه في حالتها الراهنة- بعيدة المدى وقائمة على أسباب غاية في الخطورة وما دامت هي محافظة على تقاليدها فلا يوجد في العالم ما يقرب بينها وبين العلم. الدكتور هيكل: رجال الدين ورجال العلم نحن1 لم نعرض للمسألة لنثير الخصومة بين رجال الدين ورجال العلم. ولكن لننفي الخصومة بين الدين والعلم ولنثبت أن ما يحسبه البعض خصومة بينهما ليس في الواقع إلا خصومة بين الرجال الذين ينتسبون لكل منها وأنها خصومة غايتها التسلط والحكم قبل أن يكون لها أية غاية أخرى, ونفى الخصومة بين الدين والعلم وقال: قد يحتاج إلى بعض إيضاح للمسائل التي ناقش بها بعضهم رأينا، ونعتقد اعتقادا لا ريب فيه أن الذين باحثونا أو أرادوا مباحثتنا سينتهون إلى الاتفاق معنا اتفاقا تاما وسيسلمون، سواء كانوا من رجال الدين أو من رجال العلم بأن الخصومة بينهما مادية محضة، العلم لذاته منها بريء والدين لذاته بريء. "الدين والعلم حقيقتان واقعيتان تاريخيتان في حياة الإنسانية، على أننا نبادر من الآن لنقول إنا لم نقصد بالعلم مجرد المعرفة وإنما قصدنا به

_ 1 السياسة الأسبوعية 3 يوليو 1926.

العلم الوصفي أو الواقعي ولم نقصد بالدين ديانة خاصة بل قصدنا الأديان جميعًا من غير تفريق بينهما, ولو أنا قصدنا بالعلم مجرد المعرفة لكان الدين علما في رأي الواضعين الذين ينظرون إليه كواقعة اجتماعية تاريخية، لكان للعلم بعض آثار الدين الذي أحاط بكل شيء علمًا. ثم تساءل هل الإسلام في هذا الموضوع على خلاف سائر الأديان لتناوله أمور الدين وأمور الدنيا فرجال الدين فيه هم لذلك العلماء وهل يسد العلم أبدًا حاجات البشر لأن أساس العلم والتطور والتجديد فلا يمكن أن يقف فيه باب الاجتهاد ولا يمكن أن يجمد رجاله! الدكتور هيكل؛ الدين والعلم: فأما1 الخصومة بين رجال الدين ورجال العلم فخصومة قديمة لأنها خصومة على الاستئثار بالسطة وبنظام الحكم، أما الدين والعلم فلم يكن بينهما خصومة ولن تكون بينهما خصومة، لأن الدين يقرر المثل الأعلى لقواعد الإيمان التي يجب أن يأخذ الناس بها في حياتهم، والعلم يقرر الواقع في حياة الوجود ويترسم تطور الحياة في سبيل سيرها نحو ما يظنه الكمال. والكمال الذي يدعو الدين إليه كمال مقرر القواعد والأركان لا يمكن أن يتغير أو أن يعدل والكمال الذي يظن أن الإنسانية تسير نحوه كمال ظني لا يستطيع العلم رسم قواعده لأن العلم يعرف بأن الإنسانية وهي بعض قليل من الوجود، خاضعة في تطورها ودورها لعوامل معروفة وأخرى ثابتة ولكنها ما تزال غير معروفة. فإذا سمعت يوما أن بين الدين والعلم خلافا أو خصومة فاقطع بادئ

_ 1 السياسة الأسبوعية 12 يوليو 1926.

الرأي بأن الخلاف والخصومة ليست بين الدين والعلم، ولكنها بين رجال الدين ورجال العلم وأن أساسها ليس في شيء من الدين لذاته ومن العلم لذاته ولكنه في سعي هاتين الطائفتين سعيًا صرفا ليكون بيدها الحكم والسلطان دون الأخرى. إن الخلاف بين رجال الدين ورجال العلم إذن، وهي خصومة أساسها بعيد عن الدين والعلم, وقاعدتها حرص كل طائفة على الاستئثار بالسلطة وبنظام الحكم، وكلما تغلبت طائفة من الطائفتين على الأخرى قام منها رجال الأمر في الدولة. ولم يكن فوز رجال الدين بالحكم ولا كان فوز طائفة من رجال العلم بالحكم راجعًا إلى الدين ذاته أو العلم ذاته بل كان راجعًا أبدًا إلى اعتقاد المجموع بصلاح واحدة من الطائفتين دون الأخرى لولاية شئون الدولة. ولقد قضت العصور الحديثة منذ قرون ثلاثة في أوربا أن يتغلب رجال العلم على رجال الدين شيئًا فشيئًا حتى كان ما كان من فصل الكنيسة عن الحكومة في فرنسا في العهد الأخير الذي سبق الحرب الكبرى، وإنما تغلبت طائفة رجال العلم عندما نشأ من بينها المخترعون والاقتصاديون وهذه تركيا مثل قوى من أمثلة انقضاء سلطة رجال الدين في أمور الحكم وذهابها إلى غير عودة، ومصر من زمن بعيد تقف سلطة رجال الدين فيما يختص بالحكم ونظامه في حدود ضيقة وإن بقي لهم مقامهم واحترامهم الديني. وليس محققا أن تبقى السلطة أبدا لرجال العلم فقد يأتي زمن يكون العلم فيه قد أنتج كل ما يستطيع إنتاجه فأصبح العلماء مجرد حفاظ للميراث الذي خلفه أسلافه وعقموا عن أن يبدعوا جديدًا.

على أن هذا اليوم الذي يجمد فيه العلم ما يزال في رأي الأكثرين بعيدا. الدكتور طه حسين: العلم والدين 1: من الحق أني فكرت في هذا الموضوع وكتبت فيه قبل صديقي هيكل وعزمي. وفي الحق أن السياسة اليومية قد نشرت لي في ربيع سنة 1923 فصلا غضب له مولانا الشيخ بخيت غضبا شديدا لأنه كان يمس مولانا الشيخ بخيت حين ألقى محاضرة في الرد على رينان. وفي الحق أيضا أني كتبت في العلم والدين وما بينهما من خلاف فصلا آخر كنت أريد أن أنشره في السياسة إبان تلك الضجة العنيفة التي أثيرت حول الشعر الجاهلي ثم بدا لي فتركت هذا الفصل في زاوية من زوايا مكتبي. وقد تكون الحالة جديدة في مصر ولكنها قديمة في أوربا. إني أعلن في صراحة ووضوح أن العلم شيء والدين شيء آخر ومنفعة العلم والدين في أن يتحقق بينهما هذا الانفصال حتى لا يعدو أحدهما على الآخر وحتى لا ينشأ من هذا العدوان في الشرق الإسلامي مثل ما نشأ في الغرب المسيحي. إن صيدقي هيكل يرى أن ليس بين الدين والعلم من خلاف وأن هذا الخلاف لا يمكن أن يكون, وإنما الخصومة بين رجال الدين ورجال العلم وهي خصومة على الحكم والسلطان لا على الدين والعلم. أحب أن ألفت صديقي هيكل إلى أمرين عظيمي الخطر: الأول أن

_ 1 السياسة الأسبوعية 17 يوليو 1926.

الدين حين يثبت وجود الله ونبوة الأنبياء يثبت أمرين لم يستطع العلم إلى الآن أن يثبتهما. فالعلم لم يصل بعد إلى إثبات وجود الله ولم يصل بعد إلى إثبات نبوة الأنبياء وإذن فبين الدين والعلم خصومة في هذين الأمرين. ثم إن العلم لا ينفيهما أو هو لا يعرض بنفيهما أو إثباتهما, وإنما ينصرف عنهما انصرافا تاما إلى ما يمكن أن يتناوله بالبحث والتمحيص. هذا أمر والأمر الثاني هو أن الكتب السماوية لم تقف عند إثبات وجود الله ونبوة الأنبياء، وإنما عرضت لمسائل أخرى يعرض لها العلم وبحكم وجوده لا يستطيع أن ينصرف عنها، وهنا يظهر تناقض صريح بين نصوص هذه الكتب السماوية وما وصل إليه العلم من النظريات والقوانين، وأمر ثالث هو أعظم من هذين الأمرين خطرًا وأبعد منهما في تحقيق الخلاف أثرًا ذلك أن العلم لم يقف عند هذا اللون من ألوان الخلاف وإنما طمع في أن يخضع الدين لبحثه ونقده وتحليله، وهو لا يحفل الآن بأن التوراة تناقضه أو لا تناقضه وإنما يزعم أن له الحق في أن يضع الدين نفسه موضع البحث وقد فعل. وصديقنا هيكل لا يجهل أن العالم ينظر إلى الدين كما ينظر إلى اللغة, وكما ينظر إلى الفقه وكما ينظر إلى اللباس من حيث إن هذه الأشياء كلها ظواهر اجتماعية يحدثها وجود الجماعة, وتتبع الجماعة في تطورها، وتتأثر بما يتأثر به الجماعة. إذن فالدين في نظر العلم الحديث ظاهرة كغيره من الظواهر الاجتماعية لم ينزل من السماء, ولم يهبط به الوحي وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها.

وصديقنا هيكل قد قرأ فيما أظن كتاب "دوركايم" في الدين وهو يعلم أن دوركايم ينتهي من بحثه الطويل الدقيق إلى نتائج مختلفة منها أن الجماعة تعبد نفسها أو بعبارة أدق تؤله نفسها. إن الدين في ناحية والعلم في ناحية أخرى وأن ليس إلى التقائهما سبيل ومن زعم للناس غير هذا فهو إما خادع أو مخدوع. والحق أن المخدوعين كثيرون وهؤلاء المخدوعون هم الذين يحاولون دائما التوفيق بين العلم والدين. الدكتور محمود عزمي؛ الدين والعلم 1: عرض صديقي الدكتور هيكل لموضوع خطير لم يعرض له باحث جدي في مصر، وقرر أن الخصومة إنما هي بين الرجال لا بين العلم والدين، وإنها خصومة من أجل الحكم والسلطان كما قرر أنه قد يأتي زمن يظهر منه من التعاليم ما يكون موقفه من العلم موقف العلم أول مرة من الدين يتمسح منه ثم يستقل إذ يحس من نفسه القوة والنشاط. وعندي أن هذا الافتراض غير محتمل الوقوع ولا يمنعني من القول بأنه مستحيل إلا أن التعبير بالاستحالة ليس من الأسلوب العلمي في شيء كثير. غير محتمل في اعتقادي أن يطغى غير العلم على اللعم, وأن يصبح أهل العلم بحيث لا يسدون حاجات الحياة والأحياء بأكثر مما يسدها أهل غير العلم من الناس. وغير محتمل أن يأتي ذلك الزمن الذي يقول الدكتور هيكل أنه قد يأتي يوم يكون العلم فيه قد أنتج كل ما يستطيع إنتاجه فيصبح العلماء مجرد

_ 1 السياسة الأسبوعية 19 يونيه 1926.

حفاظ للميراث الذي خلقه أسلافهم وعقموا عن أن يبدعوا جديدا". ذلك بأن العلم الصحيح قائم على فكرة "التطور المستمر من ناحية والخلق باستمراره من ناحية أخرى" ومادام التطور قائما فلن يعرف أحد ولن تعرف قوة بكل المعاني الفلسفية لهذه الكلمة أن تحدد لهذا التطور مدى, وهكذا ترى محل العلم قائما محددا منشورا غير قابل للحد ولا للطي. إذن فإن العلم باق وإن العلم خالد وإن العلم متطور تطورًا مستمرًا خالقًا. التجديد والإلحاد؛ رشيد رضا: نبتت1 في مصر نابتة من الزنادقة الملحدين في آيات الله الصادين عن دين الله، قد سلكوا في الدعوة إلى الكفر والإلحاد شعابا جددا وللتشكيك في الدين طرائق قددا منها الطعن في اللغة العربية وآدابها والتمادي في بلاغتها وفصاحتها وجحود ما روي عن بلغاء الجاهلية من منظوم ومنثور وقذف رواتها بخلق الإفك وشهادة الزور ودعوة الناطقين باللسان العربي المبين إلى هجر أساليب الأولين واتباع أساليب المعاصرين ومنهم الذين يدعون استبدال اللغة العامية المصرية بلغة القرآن الخاصة المصرية, والغرض من هذا وذاك صد المسلمين عن هداية الإسلام, وعن الإيمان بإعجاز القرآن فإن من أوتي حظا من بيان اللغة, وفاز بسهم رابح من آدابها حتى استحكمت له ملكة الذوق فيها، لا يملك أن يدفع عن نفسه عقيدة إعجاز القرآن بلاغته وفصاحته, وبأسلوبه في نظم عبارته. قد صرح بهذا من أدباء النصرانية الأستاذ جبر ضومط مدرس علوم البلاغة بالجامعة الأمريكانية في كتابه الخواطر

_ 1 مقدمة إعجاز القرآن للرافعي.

لحسان وصرح بذلك أديب هذه الملة وبليغها الشيخ إبراهيم اليازجي الشهير وهو أبلغ كاتب أخرجته المسيحية وقد أشار إلى رأيه ذاك في مقدمة كتابه نجعة الرائد وكذلك سألنا شاعر التاريخ المسيحي الأستاذ خليل مطران ولا نعرف من شعراء القوم من يجاريه فأقر لنا بمثل ما أقر به أستاذه اليازجي, والأمر بعد إلى العقل والعقل ليس له دين إلا الحق والحق واحد لا يتغير. وقد رأيت شيخنا الأستاذ الإمام يقرأ في كتاب إفرنسي اللغة لحكيم من حكمائها فكان ما قرأه علي منه بالترجمة العربية رد المؤلف على من قال من دعاة النصرانية أن محمد صلى الله عليه وسلم لم يأت بمثل آيات موسى وعيسى المسيح عليه السلام قال: إن محمدًا كان يقرأ القرآن مدلها صادعا متصدعا فيفعل في جذب القلوب إلى الإيمان به فوق ما كان تفعل جميع آيات الأنبياء من قبل. الشيخ رشيد رضا في مرآة السياسة 1؛ بقلم عبد الحميد حمدي: وددت لو أنني وفقت إلى معرفة تاريخ الليلة بل الساعة التي ولد فيها الشيخ رشيد رضا حتى أرصد الكواكب في تلك الليلة وأرى أي كواكب النحس اقترن به ذلك الرجل، ورحم الله الشيخ محمد عبده لقد كان أول من أصيب بشؤم هذا الرجل الذي لم يوفق رجل إلى الشؤم توفيقه إليه. وقد حدث أن طعن لورد كرومر في ثورة طعنا جارحًا في الإسلام فهاجت لذلك خواطر الناس، فأبى المسلم الورع رشيد رضا إلا أن ينقذ الموقف، فبعث إلى كرومر بخطاب قال فيه: إنك ولا شك قصدت بطعنك الإسلام اليوم

_ 1 السياسة الأسبوعية 21 مايو 1927.

لا الإسلام على حقيقته فما كان أسرع من كرومر أن يؤمن على الاعتذار ليهرب مما تورط. وإليك بعض نوادر الشيخ في غير مصر: اتصل بجمعية الاتحاد والترقي التركية بعد إعلان الدستور فوقف منها موقف المداح الطبال يشيد باسمها ويغني بحمدها، حتى إذا أبى عليه زعماؤها وظيفة تركهم، وانقلب عليهم طعانا هجاء ثم اتصل بالرجميين من الأتراك فشأمهم وجرى عليهم من حكم الزمن ما جرى. ووقعت الحرب الكبرى وأمر الملك فيصل على الشام فاتصل به صاحب المنار فقربه الرجل إليه حتى أوصله إلى أكبر مناصب دولته. ثم اتصل بالملك حسين ملك الحجاز أبي فيصل فلما زال به حتى عزل عن العرش وشرد إلى المنفى, واتصل بمؤتمر الخلافة والناس يذكرون ما كان من أمر مؤتمر الخلافة وهذا هو السر في حملة الشيخ رضا على الأستاذ علي عبد الرازق. وبعد فيستطيع الشيخ رشيد رضا أن يكون مسلما أو نصرانيًا أو يهوديًا أو بوذيا أو ملحدًا ويستطيع أن يكون كل هؤلاء جميعا أو لا يكون شيئا من هؤلاء جميعا ولكن شيئا واحدا لا يمكن الشيخ رشيد أن يكونه, بأن يكون صادقا في أي من هذه المذاهب اعتنق وفي أي منها نبذ. رشيد رضا؛ جمعية تجديد الإلحاد والزندقة والإباحة المطلقة: ألف الدكتور طه حسين أستاذ تجديد الإلحاد والإباحة بالجامعة المصرية غير الرسمية فالرسمية كتيبا كذب فيه نقله للغة العربية ورواة آدابها فيما ردده من شعوب العرب في عصر الجاهلية وزعم أنهم هم الذين وضعوا المعلقات السبع

وافتروها على امرئ القيس وطرفه، وقد ألقى هذا الكتاب دروسا في الجامعة المصرية الرسمية وربما يصدق الكثيرون من طلابها هذا الأعمى البصر والبصيرة فيما يكذب به علماء الأمة الإسلامية وكتاب ربها وحديث نبيها المعصوم فيما يريد به تجرد أمتهم من الدين واللغة والنسب والأدب والتاريخ ليجددهم فيجعلهم أمة أوروبية, بل طعمة للدول الأوروبية كما جدد نفسه وبيته بتزويجه امرأة غير مسلمة وتسمية أولاده منها بأسماء الإفرنج رغبة عن الأسماء العربية القديمة والجديدة واحتقارًا لها. ومن الغريب أن عمد دعاة الزندقة في هدم مقومات هذه الأمة ومشخصاتها ووصفها بالقديمة وشبهتهم عليه أن كل قديم فهو قبيح يجب تركه, ومن المعلوم أن ما من قديم إلا وكان جديدًا ولا جديد إلا وسيكون قديما ومن لا قديم له لا جديد له بل لا وجود له, وإنما الأمم بتاريخها. ومن عجيب أمر هؤلاء أننا نراهم يدعون إلى انتحال ما هو أقدم مما يذمون من قديم أمتهم كالأدب الإغريقي والشعر الإغريقي الذي هو دون الأدب والشعر العربي الجاهلي والإسلامي كما تراهم يعنون بتحقير آداب اللغة العربية ليجردوا الأمة من هذا الفضل المنطقي الذي يفضلها عن غيرها من الأمم ويثبت لها استقلالا خاصا بمقومات خاصة ومشخصات خاصة. بين رشيد رضا وهيكل 1: "الدكتور هيكل؛ لا صلة البتة بين التجديد والإلحاد": "إن مسائل الأزياء واللغة والحضارة وما تخضع له من تطورات لا علاقة لها بالعقيدة على أن الاتهام بالإلحاد حتى في بعض مسائل تمس الدين يبدو

_ 1 السياسة الأسبوعية 3 مارس 1929.

هو الآخر وليس فيه أكثر من صيحة حرب يقصد بها الظهور بالغلب أمام الجماهير". هذا على أن الإلحاد لا علاقة له بهذه الشئون التي يتشدق بها من يرمون به غيرهم, يريدون أن يحاربوهم باسم الدين والخروج منه, فما نعرف أن للإيمان والإلحاد علاقة بزي اللباس وألفاظ اللغة ونوع الحضارة التي تحياها أمة من الأمم. ومن المؤمنين من ينادي بتجديد الأزياء والأساليب وصورة الحضارة ومن الملحدين محافظين لا يريدون أن يتغير في اللغة حرف وأن تبقى الأشياء كما كانت من قرون. بل أراني لا أغلو إذا قلت: إن التجديد أقرب إلى الإيمان منه إلى الإلحاد وهو كذلك في الإسلام بنوع خاص. ولعل أشد الناس منادة بصيحة الحرب ضد التجديد وقرن الإلحاد إلى صيحتهم جماعة من إخواننا الكتاب يحسبون النقد موجهًا إلى أسلوبهم الكتابي لأنهم يلجئون إلى استظهار أساليب الأقدمين لا في ألفاظها وتراكيبها وكفى, بل في مجازاتها واستعارتها وفي وقوفها على الأطلال وبكائها وحدائها للإبل وذكرها الهوادج والصحاري وكثبان الرمل في ألوان غزلها ولهوها ومجونها. يوجه النقد إلى هؤلاء ويرى الذين ينتقدونهم أن خير الأساليب ما تجاوب مع الحياة المحيطة بالإنسان وما أدى الصور والمعاني التي يراها ويشعر بها ويتخيلها مما يرى ويشعر ويجول بخاطره. فبربك ما شأن هذا النقد بالعقيدة والإيمان!

ولم لا يكون الدعاة إلى الوقوف عند القديم من أساليب اللغة وألفاظها من هؤلاء الملحدين, ولم لا يكونون أشد منهم في الإلحاد إلحاحا؟ ولقد تعجب حين تذكر أن رجلا كالشيخ رشيد رضا مثلا كان متصلا اتصال تلمذة واتصال رزق بالمغفور له الشيخ محمد عبده حين كان رحمه الله يرمى بالزندقة والكفر والإلحاد ولا يتعفف هو عن أن يرمي الناس بالإلحاد. من الخلط غير اللائق برجل يمسك القلم ويدعي لنفسه التفكير والتخيل أن يلجأ كاتب إلى هذا النوع السقيم من المنطق. لقد نفهم أن يقول هؤلاء من أنصار الأساليب والأخيلة القديمة والعائشين ما يزالون بين كثبان الرمل إن كل مسايرة للمدنية الغربية فيه باللغة وبأساليبها أضرار لكيت وكيت من الأسباب التي يسردونها, لكن ذلك شيء والإلحاد شيء آخر. ولو أنهم استطاعوا أن يقفوا من أنفهسم موقف النقاد وأن يعرفوا مواضع القوة ومواضع الضعف من كتابتهم لمهد لهم ذلك السبيل إلى السمو فوق هذه المنازعات بين القديم والجديد. لكن كثيرين لا يستطيعون هذا لأنهم يريدون أن يروا حولهم جمهورًا يصفق لهم ويشكون في أن يجدوا هذا الجمهور المعجب الضعيف للجيد الصالح مما يكتبون. فهم لذلك يشنون الغارة باسم الإلحاد وتارة باسم المحافظة على اللغة طورًا. مصطفى عبد الرازق 1: إن الاتجاه العلمي الأخير هو انتصار للدين, ولست من القائلين بأن العلم كان يوم من الأيام يناهض الدين هذا من جهة، ومن الناحية الأخرى

_ 1 الهلال يوليو 1931.

لم يحض الدين على منابذة العلم بل على العكس إن الإسلام يدعو إلى حرية البحث وصراحة التفكير والتسامح الذهني. لقد كانت المودة بين المثقفين في القرن الماضي هي المصارحة بإنكار العقائد وللمثقفين مودة في كل جيل. والعلم والدين اليوم يتماسان والفضل في ذلك يرجع إلى تفكير العلماء على النمط الفلسفي، فأصبح العلم اليوم يسلم بوجود ما ليس قائما أمام الحس, وذهب عصر البديهات وتغير وضع القواعد العلمية، وأصبح عصرنا هذا عصر يقين واعتقاد بالقوى الخفية، وقد أستطيع القول بأن العلم في الأيام المقبلة سيخطو نحو الدين خطوات جريئة لا يبعد أن تثبت إمكان وقوع المعجزة وفي الختام إن العلم يعزز الدين. محمد فريد وجدي: إن شقة الخلاف بين العلم والأديان وهي على ما هي عليها في حالتها بعيدة المدى وقائمة على أسباب غاية في الخطورة, ومادامت هي محافظة على تقاليدها فلا يوجد في العالم ما يقرب بينها وبين العلم مهما تكمل في تطوره فإن كل ما ينتظر من تكملة هذا أن يصل إلى إثبات وجود الروح وخلودها من طريق أسلوبه العملي المعروف, وهو إذا وصل إلى هذه الغاية عمل على متابعة طريقه ليبلغ إلى أقصى ما يعرفه عن علاقات بالوجود وعن خير الطرق لترقيها واتصالها بالملأ الأعلى، والناس كما لا يخفى تعودوا ألا ينقادوا إلا إليه فيصبح العلم زعيما للحركة الروحية كما هو زعيم للحركة المادية. ولكن إذا انتهزت الأديان فرصة هذه الفترة الانتقالية وألقت من فوق أكتافها كل ما حملته من آثار الأساطير وبقايا القوميات، وما أحيطت به

الآراء والمذاهب والتأويلات وتجلت عاطفة نزاعة إلى أقصى درجات التكمل الأدبي غير مقيدة بأوهام بيئة ولا بأهواء قبيل، وغير خاضعة لسلطان طائفة، ولا تابعة لقيادة بشرية. قلنا إذا انتهزت الأديان هذه الفرصة، وتجردت من كل أعبائها البشرية اتفقت والنزعة العلمية بل اندمجت فيها وتوحدتا وبطل النزاع بينها. ولزيادة البيان نقول: إن الأديان قد أخرجت من بساطتها الفطرية، وأصبحت ممثلة لآراء أهلها وحالاتهم خلال القرون وقائمة على حوادث محلية ولها وجهات نظر خاصة بها في العلوم والفنون، ومنطق مطبوع بطابعها للنظر والقياس والمعرفة فلا يعقل في حال من الأحوال أن تتفق والعلم، بل المنتظر أن تزداد شقة الخلاف بينهما اتساعا، ويقضي أحدهما على صاحبه قضاء لا قيام له بعده، وأنت خبير لمن يكون التغلب في هذا الصراع الذي طال أمده.

الفصل الثامن: جمال الدين الأفغاني ورينان

الفصل الثامن: جمال الدين الأفغاني ورينان معركة بين رشيد رضا ومصطفى عبد الزارق: كانت الجامعة المصرية في الثلاثينات قد وقعت تحت سيطرة المستشرقين ودعاة التغريب ولذلك عمدت إلى مصادمة مشاعر العرب والمسلمين والمصريين احتفلت بمرور مائة عام على ميلاد الفيلسوف الملحد أرفست رينان صاحب نظرية "الآرية والسامية" والكاتب الغربي استعماري الذي هاجم التراث أشد هجوم واتهمهم بالضعف في النقل والقصور في التفكير والذي هاجم الإسلام أعنف هجوم. وقد كان من العجب أن يكرم ذكرى رينان رجل مثل الشيخ مصطفى عبد الرازق أستاذ الفلسفة بالجامعة وخريج الأزهر الشريف والسربون فيرمي بقضية جريئة، كانت لها ضجة بعيدة المدى، تلك هي اتهامه جمال الدين الأفغاني بأنه بعد وصوله إلى باريس 1881 واجتماعه بالفيلسوف أرفست رينان قد "تطور فكره" في أقل من ثلاث سنين، فغير رأيه في "الدين" وأعلن أن الإسلام كان عدوًا للعقل والمدنية. والمعروف أن رينان قد تحدث إلى جمال الدين في شأن إلإسلام والعرب، وإنه ألقى على أثر ذلك محاضرة نشرت في جريدة الديبا الباريسية، وإن جمال الدين رد على هذه المحاضرة ونقد آراء الفيلسوف الفرنسي مما اضطره إلى أن يعلن تراجعه "ظاهريًا" عن آرائه واعتذاره أنه سيعيد النظر في مصادر دراسته. ولما كان هذا الرأي جريئًا على "جمال الدين الأفغاني" فقد تصدى "رشيد رضا" للرد على مصطفى عبد الرازق فكتب في الأهرام والمنار يعرض للآراء التي وردت في المحاضرة عن رينان وجمال الدين مفندا لها، وقالت جريدة الأهرام1 معلقة على المحاضرة: "إن المحاضر أخذ يحقق تحقيقا دقيقا لبعض التواريخ الخاصة بسياحات جمال الدين ثم أخذ يذكر لرينان رأيه في

_ 1 الأهرام 32 مارس 1923.

عدم قابلية الإسلام للعلم الحديث وذكرت الردود التي رد بها الفيلسوف الشرقي جمال الدين مزاعم الفيلسوف الغربي، قالت الأهرام: لاحظنا أن المحاضر وضع نفسه موضع النزاهة العلمية فكان يذكر آراء الفيلسوفين دون أن تميل به العاطفة إلى انتقاص رينان فكأن النزاهة التي طبع عليها حالت بينه وبين أي تأثير. وقد يخرج العلماء أحيانًا من حدودهم العلمية، وقد لاحظنا أن الجمهور أصبح أوسع صدرًا من ذي قبل, وأصبحت الأفكار أشد مرونة وأشد تقديرًا للحرية الفكرية رغم أن المحاضر كان يلقي عن رينان ما قد يستفز غضب أصحاب الصدور الضيقة فقد كان السامعون منصتين متتبعين لكل ما يلقى عليهم. من محاضرة مصطفى عبد الرازق: وقال مصطفى عبد الرازق: إنه مما يعنى "بالبحث في أسباب التطور في تفكير السيد جمال على هذا الوجه في أقل من ثلاث سنوات يستدعي الإحاطة بما حفل به من العوامل وأظهر هذه العوامل سفره لأول مرة في أوربا واتصاله بكبار الفلاسفة والعلماء وحبه للاستظهار بصداقتهم على خدمة مراميه السامية واندماجه في سلك الحركة الفكرية الحديثة البعيدة عن الدين. ولخص مصطفى عبد الرازق رأي جمال الدين في قوله: إن الدين لم يكن عنه مناص في سوق الأمم عند نشأتها إلى كمال. إن الدين الإسلامي كسائر الأديان يزدري العلم ولكن المسلمين لا يمنعهم مانع من الوصول إلى ما وصل إليه المسيحيون في الغرب. وإذا صح القول بأن الدين الإسلامي عقبة في سبيل ترقية العلوم فهل يستطيع المرء أن يقول: إن هذه العقبة لا يمكن أن تزول يومًا, ثم بماذا

يختلف الدين الإسلامي في هذه النقطة عن بقية الأديان الأخرى. إن الأديان جميعها ضيقة الصدر, ولكل في ذلك أسلوبه الخاص. وقد كان الأمل كبيرًا أن تصل الجماعة الإسلامية يومًا إلى تحطيم قيودها والسير في طريق المدنية بخطى ثابتة محتذية مثال العالم الغربي الذي لم يقف الدين المسيحي في طريقه حجر عثرة. وقال رينان: يلوح لي أن الشيخ جمال الدين قد زودني بطائفة من الآراء الهامة تعينني على نظريتي الأساسية وهي أن الإسلام في النصف الأول من وجوده لم يحل دون استقرار الحركة العلمية في الأراضي الإسلامية ولكنه في النصف الثاني خنق الحركة العلمية وهي في حظيرته فكان هذا من سوء حظه. مناقشة رشيد رضا لآراء رينان وعبد الرازق: كان من1 مثار العجب للناس أن الجامعة المصرية أقامت حفلة حافلة لذكرى رينان بمناسبة انقضاء قرن على عهد ولادته وحاروا في استنباط الباعث لأساتذة الجامعة على الخيار هذا الملحد الطاعن في دين الإسلام وفي المسيحية أيضا للإشادة بذكره وإعلاء قدره على عدم حفظ أي منقبة له نفع بها البشر فأصاب هذه البلاد وهذه الأمة حظ منها يستحق بها ذلك عليها. وقد كان الدكتور طه حسين أحد مدرسي الجامعة المصرية ينشر في هذه الأيام التي وقع فيها الاحتفال بذكرى رينان مقالات في جريدة السياسة يحاول فيها إثبات انتشار الارتياب في الدين الإسلامي والإلحاد والفسق عنه في أهل القرن الثاني والثالث للهجرة الإسلامية في بلاد الحضارة العربية كالعراق

_ 1 المنار جـ30؛ 16 أبريل 1923.

بل في الحجاز أيضًا. ويستدل على ذلك بشبهات كشبهات رينان. ولما أعلن عن المحاضرة ظننا نحن وأمثالنا أنه يريد بهذه المحاضرة أن يمحو سيئة ذلك الاحتفال بالإشادة بفضل فيلسوف الإسلام السيد الحسيني "جمال الدين الأفغاني" الذي اشتهر عنه أنه رد على محاضرة رينان في وقتها بما هدم بنيانها وقوض أركانها. وكنا نظن أن الأستاذ1 "يقصد مصطفى عبد الرازق" الذي درس العلم الإسلامي بالجامع الأزهر وبعض العلم الأوروبي في باريس أراد بعد احتفال الجامعة المصرية برينان الذي لم يعرف في هذه البلاد إلا بما اشتهر من طعنه في الإسلام إنما يقوم بما هو جدير به من تلخيص رأي رينان في الإسلام وتلخيص رد السيد جمال الدين عليه. 2- كانت خلاصة المحاضرة أن السيد جمال الدين الذي اشتهر في العالم الإسلامي كله بأنه حكيم الإسلام وموقظ شعوبه والداعية إلى تجديد مجده وإعزاز دولته بهدى الدين وعدو الإلحاد وصاحب تلك الحلة المقصورة على أهله في رده على الدهريين. هذا ما كان من أمره في ذلك محصورًا في حياته قبل أن يذهب إلى أوربا, بل إلى باريس, وإنما كان لغرض سياسي وأنه بعد وصوله إلى مدينة الكفر والإلحاد واجتماعه برينان وأمثاله في أوائل سنة 1883 قد تطور فكره في أقل من ثلاث سنين فمرق من الدين واعتقد أنه عدو للعلم والعقل والمدنية حتى إنه قبل بكل تعظيم وارتياح طعن رينان في الإسلام, وعظمه وأثنى عليه

_ 1 الأهرام 23 و30 مارس 1923.

من جرأته أطيب الثناء، مما هو ظاهر في بطلانه وسخفه الذي لا يخفى على طالب علم بله حكيم الإسلام، ومكمل تربية الأستاذ الإمام. بهذا أجاب الأستاذ الشيخ مصطفى عن المقارنة بين رد السيد "جمال الدين" على رينان سنة 1883 وبين سائر محرراته حتى رده على الدهريين الذي كتبه سنة 1881 وهذا سر ذلك التدفق التاريخي الذي أشرنا إليه في فاتحة هذه الكلمة. ولكن المعروف من تاريخ السيد الحكيم ومن محرراته سنة 1883 وما بعدها أنه لم يزد بعد إقامته في أوربا وباريس خاصة إلا استمساكا بعروة الإسلام الوثقى ودفاعا عنه ودعوة إلى النهضة الإسلامية المدنية بهدايته العالمية وخلاصة المحاضرة أن فيلسوفي الشرق والغرب "جمال الدين ورينان" قد اتفقا على إثبات عداوة الدين للعلم والعقل وحرية الفكر لا فرق بين الإسلام وغيره، ونحن نرى التعارض تامًا بين هذا الرد الذي استخرجه لنا صاحب هذه المحاضرة من ترجمة ألمانية عن ترجمة فرنسية لم يرها عن أصل عربي مفقود وبين سيرة ومكتوباته ومما روى الثقات عنه من أول عمره إلى آخره حيث كان في الأستانة يختلف إليه العلماء والكتاب فأي الأمرين نرجح؟ إننا نجد فيما لخصه صاحب المحاضرة "مصطفى عبد الرازق" عن رد السيد جمال الدين على رينان جملا أخرى تحول دون صحة النتيجة التي استنبطها من مجموع الرد وقد يؤيدها في ذلك جملة من تلخيص رد رينان على السيد. 3- ثم فصل الشيخ رشيد رضا رأي مصطفى عبد الرازق فقال: إن الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق قد استنبط مما فهم من كلام السيد

الذي خلص إليه من ثلاث ترجمات أنه بعد وصوله إلى مارس سنة 1883 دخل في طور جديد تغير فيه اعتقاده ورأيه في الإسلام وكونه منشأ العلم والحكمة والعمران. أفرأيت لو كان السيد جمال الدين رجع بباريس سنة 1883 عن رأيه في كون الدين ولا سيما الإسلامي لا يتفق مع العلم والحكمة، أكان يبني سياسته في إعادة مجد المسلمين على هذه الدعوة؟ كلا، إنه لو دخل في الطور الذي استنبطه صاحب تلك المحاضرة لجعل دعوته فلسفية محضة مشوبة بفصل الدين عن السياسة وبالتشكيك في الدين أو الصد عنه كما فعل النصارى في أوربا من قبل وكما يفعل مقلديهم من متفرنجة المصريين والترك والفرس. ولكنه لم يفعل ذلك بل جعل دعوة الإصلاح كلها قائمة على إحياء هداية القرآن وصحيح السنة وسيرة السلف الصالح من الأمة، وهذه حجتنا الناهضة على أن ما سلم به "رينان" من اضطهاد بعض المسلمين للعلم إنما هو بسوء فهمهم للإسلام. وإن الإسلام المشوب بالبدع والأهواء هو الذي يناهض الحكم والعلم لا إسلام القرآن الذي كان المسلمون يفهمونه في إبان سلطان الدولة العربية قبل تغلب العجم عليها. 4- جمع رينان ما له منحول وقوة واستعان بما يملك من جهد في تسويء سمعة الإسلام والحط من قيمة تعاليمه وطعن المسلمين في عقليتهم وما لهم من علم وأدب وخلق وأنكر على العنصر السامي عمومًا والعربي خصوصًا أن يكون لهم عقلية سليمة أو طبيعة تسالم العلم والفلسفة أو تتفق مع حرية الفكر. وامتد به نفس السلب والشتم إلى أن أنكر أن يكون للعرب عمل أو فكر

أو رأي في العلوم والفلسفة وإذاعتها لأن نقل تلك العلوم إلى العربية إنما كان من أولئك النفر الذين تلقوا العلم بمدرسة حران، ونقلوا الفلسفة من اليونان إلى اللسان العربي وأن ابن رشد هو الذي أشعل ذلك القبس العلمي الذي استضاءت به أوربا. وقر هذا في نفسي وقد رأيت رجلا من علماء الدين بالأزهر الشريف يورد مطاعن رينان في الإسلام من حيث هو دين وفي أهل الإسلام كافة باعتبارهم متدينين، ويخرجهم في عقليتهم وآدابهم وأخلاقهم وعلومهم في بلد يدين أكثر أهله بالإسلام. وقد اجتمع جمهور السامعين، وهم من المسلمين الذين سلقهم بأحدّ لسان وفيهم كثير من علماء الدين وجميعهم مصغ إلى تلك الآراء التي يقصد بها الحط من دينهم وعقليتهم ولا يستفزهم ذلك إلى الغضب من رينان الشاتم السالب ولا من مكرم "رينان" المورد لأقواله. أليس تكريمه في بلد إسلامي بفم رجل من علماء الإسلام بالأزهر الشريف يورد طعنة في الإسلام والمسلمين. ويستغرب كثير من الناس أن يقدم رينان إلى الافتراء على دين يعتقده خمس النوع الإنساني، ويهجم في الحكم على عقليتهم وآدابهم وأخلاقهم دون حياء، حكما لمي نضجه البحث الصحي أو الوراية - ولكن أخالفهم في عد ذلك الأمر غريبا منه بعد أن علمت وكل من سمع محاضرات رينان قد علم أنه نشأ نشأة دينية وانتظم في سلك رجال الكهنوت ليعد نفسه ليكون قسيسًا فإني أعتقد أن الرجل لما فسدت دينيته قد بقي عنده ما يثبت في قرارة نفسه من التعصب على الإسلام. 5- طعن رينان في الإسلام بأنه عدو العلم والعقل وطعن في العرب بأن

عقولهم قاصرة بطبعها غير مستعدة لفهم الفلسفة وما وراء الطبيعة وكل ما ذكر في المحاضرة من تلخيص كلامه يدل على أنه لم يكن يعرف من أصول الإسلام شيئًا إلى بعض كلام دعاة النصرانية في الجزائر ورجال السياسة الفرنسية فيها وناهيك بإخلاص الفريقين في التحقيق والصدق فمن تحقيق الفريق الأول ما يعرفه قراء العربية من كتاب الإسلام للكونت دي كاسترو الذي ترجمه بالعربية المرحوم أحمد فتحي باشا زغلول فإن فيه من العقائد المنسوبة إلى الإسلام ما لم يخطر في بال أحد من البشر لم يطلع على مفترياته. ومن تحقيق الفريق الآخر تفضيل البربر على العرب في العلم والمدنية. ودليلهم على ذلك أن أصلهم من برابرة الشمال الأوروبيين لا من همج الساميين وقد اضطر إلى تجهيلهم الفيلسوف الاجتماعي بحق "غوستاف لوبون" أحد أفراد علماء الفريق الذين أنصفوا العرب حق الإنصاف على علم صحيح بالتاريخ. ومن هذا الباب ثناء رينان على جمال الدين وعلى قومه الأفغان بأنهم من الأرومة الآرية ذات العقل الراقي المستعد للفلسفة العليا التي تستعصي على عقول العرب وعلل بذلك ما زعمه من عدم استمساك هذا الشعب بالإسلام. والحق الواقعي القطعي الدال على مبلغ جهل رينان هو أن السيد جمال وهو الفيلسوف الوحيد الذي خرج من الأفغان هو من صميم العرب من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم. وأن الشعب الأفغاني هو أشد الشعوب الإسلامية اعتصاما بدين الإسلام وتعصبًا له. فإذا كان السيد جمال الدين غير متدين كما تراءى لعقل رينان فقد نقضت قاعدته في العرب، وفي الأفغان جميعًا.

على أننا لا نثق مما نقل إلينا الأستاذ صاحب المحاضرة من كلام فيلسوف الغرب والشرق على رأيه فإن السيد جمال الدين كتب رده على رينان بالعربية -كما قال- وترجم لجريدة الديبا بالفرنسية ونقل من الفرنسية إلى الألمانية ومنها إلى العربية فهل حفظ الأصل مع كثرة النقل من لغة إلى لغة أخرى. 5- ملخص ما ذكر في المحاضرة من رد السيد الأفغاني على الفيلسوف الفرنسي أنه وافقه على كون الإسلام عدو العلم والعقل كسائر الأديان وخالفه في طعنه في العرب، ولكن المحاضر نقل عن السيد كلمة وجيزة مجملة فيما عزاه رينان إلى الإسلام، هل هو من تأثير الدين نفسه أم هو تأثير فهم الناس له واختلاف الشعوب في فهمه، خرجت هذه الكلمة بصوت غير جهوري فلم يعها كل أذن ولا فكر فيها كل سامع, ولعل كل ما في الرد من التسليم باضطهاد الإسلام للعلم وعداوته للعقل مبني على هذه الكلمة. ومن الكلمات المأثورة عن السيد جمال الدين: إن الإسلام وحده كاف لرفع البشر إلى أرقى مقام من العلم والعرفان والفضائل والحضارة. فعلم من هذا أن الذي يتفق مع ما كتبه السيد جمال الدين أو أملاه في حقيقة الإسلام وكونه دين الحكم والعقل والمدنية. ويحب الملحد أن يكون عظماء الرجال ملاحدة مثله، وإذا كان من منتحلي الفلسفة والعلم والباحثين في الأدلة يظن أن من عرف بالعقل لا يمكن أن يكون ذا دين وهذا ما كان يحمل بعض الناس على القول بأن جمال الدين ومحمد عبده غير متدينين. أرى في هذا البلد أفرادًا يعنون في هذه الأيام بإفساد1 عقائد المسلمين

_ 1 يشير إلى أحاديث الأربعاء التي كتبها طه حسين في السياسة.

وتجرئتهم على الكفر حتى زعم بعضهم أن أكثر المسلمين كانوا كذلك في القرن الثاني للهجرة مرتابين في الدين وفاسقين عنه بدليل ما يوجد في بعض كتب الخلاعة والأخبار من حكاية ما يؤثر في ذلك عن بعض الأفراد من بعض الشعراء والمغنين والمخنثين. أما نحن فإننا لا نقبل إلا رواية الثقاة العدول. محمد الببلاوي؛ رينان وجمال الدين الأفعاني 1: يقول المسيو رينان أن الأمة العربية غير صالحة بطبيعتها لعلوم ما وراء الطبيعة الفلسفية، وهو يعلم أنها الأمة التي أدخلت في العالم المدنية وأخرجتها من ظلمة الجهالة إلى نور العلوم والمعارف في قرن واحد من غرب أوربا إلى حدود الصين ولا عيب لها عند المسيو رينان إلا أنها عرفت كيف تهدم الأباطيل التي تؤدي إليها إلى المقدمات الفاسدة مما يقوم بأذهان بعض الطبيعيين والفلاسفة فإنها هدمتها بما ألجمتهم من الحجج والبراهين. أما ما لحظه رينان من الانحطاط الذي عليه المسلمون الآن فهذا منشؤه بعدهم عن التمسك بدينهم القويم فلو أنهم رجعوا إليه لعاد بهم إلى أوج العلوم العقلية والكونية وهداهم إلى خير مدنية والتاريخ شاهد عدل. ويظن رينان أن المسلمين يسلمون أبناءهم كما ينصر النصارى أبناءهم ويهود اليهود أولادهم وهو وهم فإنما هي الفطرة التي يولد المولود عليها. ويعيب رينان على الدين الإسلامي, ويعد من أكبر عيوبه اعتقاده المسلم أن الله يهب الرزق والسلطان لمن يشاء وهو خطأ منشؤه جهله بتعاليم الدين

_ 1 الأهرام 27 مارس 1923.

الإسلامي فإنه مع هذه العقيدة الصحيحة ربط الأسباب بالمسببات ولم يأمر بالنوم اعتمادًا على ما خطه القدر" وزعم رينان أن الإسلام لم يأت بعلم خاص فأين علم الميراث الذي مثل العدالة تمثيلا صحيحا حتى رجعت إلى تعاليم الأمم الغربية وصار هو المعمول به في كثير منها, وأين علم المعاملات الذي ضرب باعتداله المثل حتى أخذ منها القانون الفرنسي. يعيب رينان على المسلمين أنهم أقل الناس حظا من الفلسفة وكان من أولى له أن يقول هم أقل الناس قبولا لأباطيلها وترهاتها، وإلا فليقل لنا في أي عصر عجز عالم من علماء المسلمين عن رد مفترياتها أو قذف أباطيلها. يرمي رينان الدين الإسلامي بأنه اضطهد الفكر الحر, وكيف يضطهد الإسلام حرية فكر معتنقه وهو الذي أطلق حرية الفكر لمخالفيه؟ يقول الفيلسوف رينان أن العلم لم ينف الألوهية وإنما أبعدها دائما من عالم الجزئيات الذي يعتقدون أنهم يشهدون آثارها فيه. يوسف الدجوي "لو غيرك قالها" 1: لست أكتم الشيخ أني لا أفهم معنى لهذا الاختبار ولا سرا لهذا العناء الذي تحمله في البحث عنها وعمن يترجمها من اللغة الألمانية، فإن كان الغرض التنويه بذكر رينان لأجل أن نفنى في الأمم الأجنبية أكثر مما نحن فيه فهذا لا يثبت لرينان علما وفلسفة ولا شيئا يروق الناظر إنما هو شيء سخيف معتاد سماعه من جهلة الأوروبيين بالدين الإسلامي البعيدين عن الفلسفة الصحيحة وقد خالفه في ذلك المئات والألوف من علماء أوربا وأمريكا. وأمامنا كتاب الفيلسوف "درابر الأمريكي" وكتاب الكنت هنري الفرنسي وتاريخ المستر ولز الإنجليزي.

_ 1 السياسة 28 مارس 1922.

وإن كان الغرض من المحاضرة التنويه بالسيد جمال الدين فقد ألصقت به يا أستاذ أكبر المعايب فإننا إذا لم نشك في نقله قلنا: إنه رجل متقلب لا ثبات له على شيء أو منافق يظهر خلاف ما يبطن. وعندما ذكرتنا برسالته في الرد على الدهريين قلت: إن الرجل سياسي منافق يقول غير ما في قلبه, وكان الأولى أن تراجع رأيه الغربي إلى رأيه الشرقي لا العكس. ولا أقول: إنك أردت أن تضع من شأن الإسلام فإن ذلك لو صح لوضع من شأن ذلك الفيلسوف لا من شأن الإسلام.

الفصل التاسع: خم النوم

الفصل التاسع: خم النوم معركة ساخرة بين أحمد زكي باشا وزكي مبارك: هذه إحدى معارك المجددين والمحافظين تنفرد بلونها الساخر، هذا اللون الذي عرف به زكي باشا شيخ العروبة في عديد من مساجلاته التي نورد منها نموذجا آخر في معركته مع محمد مسعود، والحق أن طريقة أحمد زكي باشا في المجال هي جزء من تاريخ النقد العربي المعاصر فإن كتابنا الذين عرفوا بالنقد الساخر المليء بالضربات والطعنات هم عندنا أتباع لمدرسة أحمد زكي باشا وتلاميذ له لا سميا وأن طه حسين وزكي مبارك وغيرهم قد تلقوا عنه في الجامعة ونظروا إلى كتاباته ومساجلاته حول الحضارة الإسلامية في الصحف, وقد بدأت المساجلة باعتراض أحمد زكي باشا على ما ذكره زكي مبارك من نهج البردة التي حملت اسم الشيخ سليم البشري هي من كتابة ابنه الشيخ عبد العزيز البشري وقد سخر زكي باشا من مبارك فوجه كتابه إلى الطفل الميمون نجل الدكتور زكي مبارك ذاكرا أن الابن يكتب بإمضاء أبيه ويخطئ وتطورت المساجلة فدخلت في أساليب متعددة وسخريات مختلفة. إلى الطفل الميمون نجل الدكتور زكي مبارك 1: أنت تكتب باسم أبيك فتارة تخطئ وتارة تصيب. فأنت تزعم بالأمس فيما كتبته أنت بإمضاء أبيك أن الأستاذ الأخ شيخ المحدثين وشيخ الأزهر المرحوم سليم البشري قد رضي بالكذب وبالزور وبالبهتان بأن يوضع اسمه على شرح نهج البردة بأنه هو ناسج بردته والحال -كما تزعم أنت وحدك- أن هذا الشرح مكتوب بقلم والده فخر الكتاب وإمام المنشئين الكاتب الأبرع الأمجد الأستاذ عبد العزيز البشري.

_ 1 البلاغ 16 ديسمبر 1912.

ولو أنك سألت أباك الدكتور زكي مبارك الصادق المصدوق، لقال لك: إنك جريء على الحق، وإنك مستهتر بالتاريخ. فإن أدبك أبوك بالأدب الذي أخذه هو عن أشياخه "ولي معهم سهم ضئيل" أيام كانت العمامة البيضاء تتوج رأسه المبارك بالعلم وتزين مفرقه الحالي بالأدب ثم رجعت تطلب مني الإفادة بأن تجلس بين يدي كمثل الطالب المستفيد المتأدب في جلسته وفي عبارته فإنك تكون في هذه الحالة -وهذه الحالة فقط- عليم بالجواب وإلا فخير من مجاوبتك السكوت. زكي مبارك 1: إني أعرف أني أسرفت في الثرثرة وملأت الدنيا كلامًا وضجيجًا وكان لا بد أن يتقدم كاتب جريء فيقول: اسكت فقد أسرفت. وكان ذلك الكاتب الجريء هو العلامة المفضل "أحمد زكي باشا" الذي لم يعد الصواب حين قال: إن هناك إنسانين أولهما زكي مبارك وثانيهما نجل زكي مبارك وأنا واثق أعرف هذا من نفسي. فقد يتفق في أحيان قليلة جدا أن أكتب فأجيد ثم أكثر من الهدر واللغو والفضول حتى لأحب أن أزيل مقالاتي بإمضاء أحد أبنائي, ولكني أشفق أن أحملهم تبعة ما أكتب حين يفوتني أن أوفق إلى القول الفصل والرأي الحصيف. "ثم أشار إلى نهج البردة ظهر منذ عشرين سنة "قال: وكنا نسمع في أندية الأدب أنه من وضع الأستاذ "عبد العزيز البشري" لا من وضع أبيه المرحوم الشيخ "سليم" ثم اتفق لي أن أكتب ربيع 1925 في المقطم عن قصيدة نهج البردة وأشرت إلى كاتب ذلك الشرح فلم يعترض أحد على ذلك.

_ 1 البلاغ 16 ديسمبر 1932.

وقابلت شوقي وطه حسين ثم نشرته في كتاب الموازنة بين الشعراء فلم يثر زكي باشا ولم يغضب أحد من مؤرخي الأدب الحديث. ثم قال "لما ظهر خطاب زكي باشا رأيته عنيفًا جدًا وأشار بعض الأصدقاء بأن أقابله بخطاب أقسى وأعنف، ولكني تذكرت أن زكي باشا كان من أوائل الأساتذة الذين تولوا التدريس بالجامعة، وتذكرت أن زكي باشا شيخ كبير ومن حقه أن يلهوا بالإساءة إلى أبنائه الأوفياء, ثم تذكرت أخيرًا أن الواجب يقضي بأن أشتغل بتحقيق هذه الحالة تحقيقا علميا بعيدًا عن لغط القيل والقال. "ثم ذكر الدكتور مبارك أنه رجع إلى طه حسين" فقال له: إنه لا موضع للشك في أن يكتب المرحوم الشيخ سليم لك الشرح لأنه كان متفوقا جدا في علم الحديث وكان يحفظ البخاري متنا وسندا. ثم اتصلت بعبد العزيز البشري. فابتدرني بكتاب أرق من أدبه الرائع وسألني كيف أستكثر على أبيه أن يكون كاتبًا مع أنه كان من كبار المحدثين وأحالني على مقالات كتبها والده في السنة الأولى من المؤيد في الرد على الطويراني الشنقيطي وقال: إن مقالاته تضعه في الصف الأول من الكتاب. ثم قال مبارك: وتلك بيانات رأينا أن نقدمها في نزاهة إلى قراء البلاغ وفيها انتصار لأستاذنا المفضال "أحمد زكي باشا" ولا يضيرنا أن ينصر حين يكون الحق في جانبه بل الشرف كل الشرف أن نعمل لانتصار الحق ولو أدى ذلك إلى انهزامنا في مناظرة أدبية. ثم قال "وبعد أن وصلت إلى هذه النقطة لقيت أديبًا أزرق الناب من القروم الخناذيذ الذين شهدوا ذلك العهد فأكد أن زكي باشا لم يوفق في

إثارة هذه المسألة وإنه كانت هناك ظروف سياسية دقيقة قضت بتكليف الشيخ "سليم البشري" بشرح نهج البردة وأن الشيخ سليم لم يكن منشرح الصدر لذلك وأن الشرح الأول وضع في منزل شوقي بك بالمطرية بمعاونة الأستاذ عبد العزيز وأن الشيخ سليم راجع الشرح وصادق عليه وتوجه باسمه. ثم عاد زكي باشا معلقا على قوله "لطالما عارض الناس بردة البوصيري في القديم والحديث بمئات ومئات من المنظومات". وقال: واستكثر هذا الإغراق في المبالغة، والكلام الفضفاض إن مئات ومئات توجب على الأقل خمسمائة قصيدة والصواب أنها توجب ستمائة لأن أقل الجمع ثلاثة وطلبت من الباشا أن يدلنا على خمسين قصيدة لا خمسمائة فراح الباشا يراوغ مراوغة علمية اسمها في الفقه الفصيح "الهرب" واتهمنا بالغض من قدره مع أننا من أعرف الناس بسعة اطلاعه. وإن كنا نوافق خصومه في بعض ما يأخذون عنه من سرعة الغضب ونقل المناظرة من باب الحد إلى باب التنابذ الذي يكرهه العلماء. وكان زكي باشا قد سأله عن بعض أبيات من الشعر, ومن قائلها؟ فرد عليه وقال: "ولو استبحنا لأنفسنا أن نسأله مثل هذا السؤال لأعجزناه وأعجزنا معه ألوفا من القراء ثم وجه إليه ثلاثة اتهامات: 1- هل من الحق أن بردة البوصيري عورضت بمئات ومئات من المنظومات؟ 2- هل يليق بالعالم أن ينقل الجدل من ميدان إلى ميدان؛ ليفر من الجواب؟

3- هل من الحق أن كل ما جاء به في المدائح النبوية كان معارضا للبوصيري وإن اختلف في الوزن والقافية ثم ختم مقاله بقوله: "والنتيجة أن سعادة زكي باشا قد انهزم في هذه المعركة وإن لم يثر منها نقع ولم تتناثر أشلاء، فلسنا بحمد الله ممن يسترون ضعفهم بالطعن والسباب وإنما بالحجة الساطعة التي تدفع رأي المكابرين. أحمد زكي باشا؛ خم النوم - صح النوم: كان من حسن ظني بك أن أتخيل أن ابنك هو الذي كان في حاجة إلى تأديبك فإذا بك أنت، أو أنت إياه. امتد بك النوم في هذا الشتاء سبع ليالي إلى أن تمخضت أنت بعد السبوع بمقال الأمس في أربعة أعمدة ونصف عمود في البلاغ. وليس من الطريف سوى أنك وأنت نائم قد حلمت بأنهم قتلوك مرارًا وأنهم أماتوك تكرارًا ولكن الغير كان يخرجك كما كان دائبا على التجرد عنك لتواظب الرجع إلى الدبيا وإسعادنا بذلك الثغر البسام فالحمد لله على السلامة يا دكتور مبارك. ثم قال في الرد على ما ذكره زكي مبارك في مقالة سنة 1925: هل تتصور أنني موكل بإدحاض كل بطولة تصدر هنا أم أن الوحي يأتيني بما يظهر من التلافيق هناك، يمينا بالله لولا الدكتور أحمد بك عيسى لما كنت قرأت كلماتك الجافة الجامحة عن أستاذك الذي رباك وأحسن تأديبك في الجامعة، أيام كنت أنت متوجا بالعمامة الناصعة البياض. فيا رحمة الله

على تلك العمامة وما كان تحتها من أدب. ويا خيبة الأمل فيما آلت إليه في صورة البرنيطة المطربشة ثم الطربوش المبرنط. أما الدلال يا دكتور، وأما التجني يا مبارك، فإن كان يوسف الجديد المتقمص في ثياب الأستاذ الدكتور زكي مبارك ابن قرية سنتريس قد سحر بهما بنات باريس فهذا السحر خيال باطل في نظر غواني المغاني بشارع عماد الدين. ثم ذكر قصة تأديبية لأستاذه "منصور أحمد" الذي ذهب إلى باريس, وكان زكي باشا طالبًا بالمدرسة التجهيزية بدرب الجماميز "وقد صادفته العناية المقلوبة فذهب إلى باريس وعاد مثل ما قيل عن زميله الصعيدي: "جاموسة طماوي تضرب بالفرنساوي" وكان يتشدق باسم فلان ويشيد باسم فلان. وفي أثناء دروسه على الأوكسجين وحمض الكربونيك يتمخض بالكلام عن غرام نساء باريس به وبجماله، واحدة واحدة وسربا سربا وأفواجا أفواجا. فما كان من التلميذ الخبيث "أحمد زكي" إلا أن قال له ذات يوم: "يا دكتور ماعندكش مراية" فانهال عليه بالسب والشتم، فهل في فعلنا نحن بالأمس, أنهم يخدمون الأمة ويخدمون أنفسهم، وحينئذ فقط يكون جديرًا بالجواب. أما إذا سكت التلاميذ واستمرأ الأستاذ "د. م" هذا النوع من الغطرسة الكذابة والعجرفة الفارغة فإنهم يكونون مسيئين إلى أنفسهم وإلى أمتهم ويكون السكوت خيرًا من الإجابة.

زكي مبارك؛ خم النوم باشا: كنا نظن أن الأدب البارع الذي يظهر في مقالات شيخ العروبة فن جديد رمته به أيام الشيخوخة، ولكن يظهر أن هذا الأدب كان من صفاته لعهد الطفولة. فقد حدثناحفظه الله أنه استباح أن يقول لأستاذه في المدرسة التجهيزية "معندكش مراية" ولم يكتف الباشا بهذا في وصف أستاذه بلى وصفه بأنه "جاموسة طماوي تضرب بالفرنساوي" وهذا الرجل الذي يكتب هذ القول هو نفسه الرجل الذي قضى وقتا طويلا يدعوني فيه إلى أدب القول. ومن كلماته يوم ذاك "لقد أفسدت السياسة أساليب النقد في الأدب فلنكتب نحن الأدب بأدب. وقد عملت بنصيحته وتأدبت معه فاستأسد وكشر عن أنيابه وكان في مقدوري أن أعامله بمثل ما عامله به الأستاذ محمد مسعود1 ولكني رفقت بشيخوخته وقدرت له ماضيه في خدمة اللغة العربية، والله يشهد أني عصيت جميع الناصحين, فما رآني أديب إلا حذرني عواقب ملاينته وقد دعاني إلى مهاجمته ناس كرام يعرفون طباعه فآثرت الرفق رعاية للواجب واحترامًا لماضي "خم النوم" حرسه الله. "ثم أعاد زكي مبارك أسئلته إلى أحمد زكي باشا" وقال: هذه هي الأسئلة التي فر منها الباشا المفضال ليكتب في شتمنا مقالين أطول من ليل الشتاء. ونحن لا نزال نحسن الظن به ونرجو أن يقلع عن شحطه ونطحه.

_ 1 البلاغ 25 ديسمبر 1972.

ليس بيننا وبين حضرة العلامة زكي باشا حقد شخصي ولكنه مازحنا فمازحناه فإن عاد عدنا وفي الكأس بقية كلها علقم وصاب. أحمد زكي باشا؛ يا دكتور زكي! كلمة أخيرة 1: ما بالك تجحد فضل أستاذيتي عليك وتعاود فحش القول وجفاء الطبع وبماذا نبيض وجهك عند الأستاذين الطاهر والإسلامبولي بعد أن استغفرتني في دار مجلة المعرفة قبل ردك الأخير. أفأنت حينما تواجهني يتغلب عليك الأدب ويغلبك الحياء، وإذا ما خلوت إلى نفسك جمح به القلم ذلك الجموح الذي طالما حاربته فيك. "ثم قال بعد أن تحدث عن معركته مع مسعود ومعركته مع مرقص باشا". أعود للمستنصر المبارك. كنت أظنه أديبا, فإذا به لا يريد إلا أن يكون "أدباتيا" وكان من تعليمي إياه أن يكون محققا فإذا به يبقي ممخرقا، إنه يزعم أنني صنفت كتابا في القول الناشف "برضه يا مبارك تموت في هذا القول، ولا تصدر عنه صدودًا بعد أن تطورت من العمامة إلى البرنيطة إلى الطربوش ثم تنسب لي "الذهب الإبريز في محاسن باريز" ونسي أن هو ابن سنتريس الذي عبدته أحاسن باريس" كما يقول وينسب لي "التحفة البهية في الكبدة المشوية" يا كبدي عليك يا مبارك حينما كنت تجري ليلا في درب المش وراء يا حاير الذي يبيع الكبدة وأنت لاتزال تحلم بها وتتصور أنها أكل الملوك. ثم أشار إلى أن زكي مبارك وسط إليه حسن القاياتي, وقال: إنني لم

_ 1 البلاغ 25 ديسمبر 1972.

أتشرف قط بأن أكون صديقا للدكتور مبارك وغاية الأمر أنني عرفته تلميذا نجيبا، ثم صار اليوم إلى ما صار إليه من الجموح فرددت عليه. وبعد أن أوهمني بالسكوت أعاد الكرة فرجعت إليه ثم طغى في الثالثة فكانت له مني هذه الكلمة وهي الأخيرة فإن التزم السكوت رضي بحكم الأستاذ القياتي وعاد إلى التأدب مع أستاذه الذي له عليه فضل التربية والتثقيف فذلك ما كنت أعهد من كرم أخلاقه.

الفصل العاشر: بين النقد والتقريط

الفصل العاشر: بين النقد والتقريط ... الفصل العاشر: بين النقد والتقريظ بين زكي مبارك وعبد الله عفيفي 1: هذه معركة من ذلك النوع القائم على السخرية لا الأخطار ذات الأهداف جرت بين كاتبين نبرات حياتهما في الأزهر ثم اتجه أحدهما إلى أوربا وعاد بنقد الأسلوب القديم قد ناقش زكي مبارك الوفد بين النقد والتقريظ في الكتابة عن المؤلفات, ثم دخلت المعركة في المهارة وقد بدأها زكي مبارك وحاراه فيه وزار عنه عبد الله عفيفي وجرت المناقشة والتنابذ بالبلاد والقرى وباب المزينين وحسان باريس. نقد زكي مبارك: قال زكي مبارك في مقدمة مقاله أنه تصل إليه بين حين وحين مؤلفات يعلن أصحابها رغبتهم الشديدة في نقدها لا تقريظها "فنقع بذلك في حيرة لأن النقد القوي قد يعطل أحيانا سوق الكتاب ولكننا من ناحية أخرى نرى من حق القراء أن تطلعهم على المآخذ التي تبدو لنا فيما نقدمه إليهم من المؤلفات. وقال: إنه يسعرض لكتاب "زهور منثورة" بين النقد والتقريظ "فنعرض موضوع الكتاب ومنهجه عرضا حسنا ثم نعقب عليه بملاحظاتنا في رفق ولين حتى نجمع بين الحسنيين. وقال: "إن الكتاب في 192 صفحة وموضوعه النقد الأدبي, والأستاذ عبد الله عفيفي كاتب متين الديباجة مشرق العبارة دقيق الملاحظة وهو صديق عرفناه منذ سنين فلم نطلع منه إلا على صدق الخلق وكرم الوفاء.

_ 1 البلاغ 3 فبراير 1933.

ثم تناول بعض موضوعات الكتاب وعرض للهفوات التي وجدها وعددها 27 هفوة. وقال: هذا ما قيدناه ونحن نراجع الكتاب وفي هذه المؤاخذات دليل على أننا راعينا صداقتنا للأستاذ عفيفي ونحن حين نصادق الناس نبالغ في محاسبتهم على يسير الهفوات. مراجعة المراجعة؛ عبد الله عفيفي 1: أهنئك على نجاحك فيما اعترفت من حمل الأدباء على مساجلتك بكل ما ملكت من حيلة وما بذلت من وسيلة حتى ولو كانت من تلك الوسائل التي يعدها بعض رجال الأدب تجنيا غير سائغ، وتحاملا غير مقبول, ذلك ما أؤول به دعابتك الطريفة ومزاجك الرشيق في نقد كتابي. ومن الخير لي ولك أن أعدك هازلا في كثير مما أتيت به، لأني لا أعتقد أن يرخص النقد الأدبي في هذا الزمان حتى يكون تصحيحا مدرسيا تحاسبني فيه على حرف نافر أو نقطة طائرة. وأبيت إلا أن تنفذ من كتابي هذا إلى الأزهر وكليات الأزهر وأساتذة الأزهر وهي أغنية مرجعة وإيقاع مردد وقد أوشك السامعون أن يملوا. وأوشك الحفل أن ينفض، ولا أعلم إن كان تجنيك على الأزهر أصابني في طريقه أو تجنيك علي ما أصاب الأزهر في طريقي أو أنك أردت أن تشبها غبراء قاتمة وإن انجلت عن غير جند وغير قتل. أما أن تتناول القلم وتبدأ الكتابة وأنت تنوي أن تصيب الأزهر بحق أو بباطل فذلك ما لا أحله لك ولا أرضاه لأدبك.

_ 1 البلاغ 8 فبراير 1933.

ولا أحب لك أن تجحد "أبوة الأزهر" إلى الحد الذي آراه منك، قد تقول: إني أريد الجد في الأمر وإني أريد إصلاحا لا هوادة فيه فهل يهذا العبث وتلك الدعاية تصلح الأزهر. الأزهر والنحو؛ زكي مبارك 1: قدمت لصديقنا الأستاذ عبد الله عفيفي طائفة من الأغلاط التي وقعت في كتابه وكانت الأغلاط تنقسم إلى قسمين: أغلاط بسيطة وأغلاط جوهرية، أما الأغلاط البسيطة فقد أشرت أنها وقعت من الطابع أما الأغلاط الجوهرية فقد نبهت عليها في رفق وعطف. فجاء الأستاذ وتجاهل الأغلاط الجوهرية. وكان من واجبه أن يقدم إلينا كلمة ثناء رعاية للجهد الذي بذلناه في تصحيح كتابه. لقد استبحت لنفسك أن تسلك معنا سبيل السخرية في جوابك فما رأيك لو استبحنا لأنفسنا ما استبحت لنفسك، ولكنك أعز علينا من أن نروض القلم في السخرية منك. أما بعد فمن كان يظن أننا سنلقي درسا في النحو على فضيلة الأستاذ عبد الله عفيفي, تلك والله أعجوبة الأعاجيب, فالأستاذ لا يزال يحمل العمامة, ومثل الأستاذ عبد الله عفيفي إذا دخل الأزهر وقفت لقدومه قواعد النحو صفا صفا، فكانت المنصوبات في جانب, والمرفوعات في جانب وقد تصدمه المجرورات من شماله إذا دخل إليها من الباب الذي كان يسمى باب المزينين. وأراد الأستاذ عبد الله عفيفي أن يتظرف -وهو والله ظريف- فقص

علينا قصة "التركي" الذي زعموا أنه حين تقدمت به السن ولزم بيته ووضع على منهل عنده أكوابا بيضاء وحمراء فإذا شرب أحد بالكوب الأحمر انتهره وقال: "اشرب بالأبيض" إلى آخر تلك القصة الشريفة، فما رأي القارئ في أن هذا المثل لا ينطبق إلى على الأستاذ عبد الله عفيفي. ضربني وبكى؛ عبد الله عفيفي: إلى الأزهر1 يا دكتور زكي! فإن الهواء أطارك منه أخضر فجا لا تحسن مبادئ ما يدرس فيه. إلى الأزهر يا دكتور زكي! واحذر أن تنوي عند باب المزينين أو عند هذا الشيء الذي تنضح به منه، فقد ذهب عهده كما ذهب عهدك منه. إلى الأزهر يا دكتور زكي مبارك! لتعرف باب الاشتغال فقد طويت في دراسته إحدى عشرة ليلة, ثم خرجت منه أفرغ مما دخلت فيه, تريد أن تعلمني النحو يا دكتور زكي؟ اسمع يا بابا! اسمع يا معلمي! اسما يا شاطر! واعلم أن لتلاميذك حقا إن لم يكن عليك فعلى الذين ائتمنوك عليهم. إنك أرخصت النقد وأهزلته لأنك فهمته مراجعة مطبعية وزعمته تصحيحا مدرسيًا فلم تصغ إلى ما أقول وشاء أن يرد وجاء رده بعامل جديد زاد النقد رخصا وهزالا حتى انحدرت سوقه عن سوق القمح والقطن، والفول والشعير، ذلك العامل: إنه اتخذ الشتم حجة واللغو سلاحًا، وشاء أيضًا أن يكون ظريفا خفيفا فقال: أكرم الله وجهه "وقد تصدمه المجرورات من شماله إذا دخل من الباب الذي كان يسمى باب المزينين" أرأيت كيف كان ظريفا؟

_ 1 البلاغ 20 فبراير 1933.

وكان نظيفا في نكتته، وهذا الذي يقذف فمه الشريف بهذه المجرورات برغم أن سامر حسان باريس وساهر حسان باريس، ولو أن سامر حسان الصومال أو حسان ما وراء خط الاستواء، أو أي حسان بين أعطاف الأرض وأطرافها ما قارف تلك الكلمة التي تكدر الجو وتزهق الأنوف. "وهذا الدكتور الذي يتخذ الشتم حجة، واللغو سلاحا يكتب في جريدة البلاغ وصاحب البلاغ هو الكاتب الذي تقرؤه فتجده أطهر الناس من الشتم وأبعدهم عن اللغو, وهو الذي تقرؤه فتراه ساطعا كالنجم، نافذًا كالسهم صافيا كالفرات, وتراه أقدح ما يكون إذا خف وأقسى ما يكون إذا لان، ذلك رأيي فيه كاتبا أديبا، فما كانت لك به قدوة حسنة وأسوة طيبة، ولكنك لا تملك أن تكونه ولا أن تقع قريبا منه لأنك تعوم ولا تغوص، وتحوم ولا تمعن، فإذا قيل لك غص غرقت، وإذا قيل لك أمعن ضللت، فأنت حين تطهر يدك من الشتم وقلمك من اللغو لا تجد شيئا تقوله. نحن حين نجالدك إذًا على صفحة البلاغ إنما نجاهد في الله حق جهاده لأننا نريد أن نفهمك كيف يكون نقد الأدب وأدب النقد ولأننا نريد أن نحول بين الأدباء وبين طغيان الشتم وإرهاب اللغو. أما بعد يا صديقي الدكتور! لا بد من تحطيم تلك الدمى المنتفخة الأوداج واعلم أننا حين ننغلب لأطفالنا الصغار وننخذل أمامهم ونتركهم يقتعدون أكتافنا فما ذلك إلا لأن لهم شفيعا من غرارة الطفولة وطهارة الطفولة, أما أنت فلماذا تسطو على أقدار الناس وإكراماتهم ومروءاتهم ولماذا تنضح عليهم مما وراء باب المزينين وتطلب إليهم بعد ذلك أن يداروك ويجاملوك.

أتريد أن تفرض الجزية وتضرب الإتاوة على الأدباء ليصوفوا أعراضهم بالفداء؟ لا, لن يكون ذلك. ولقد حاول قوم من قبلك أن يفعلوا ما فعلته فكانوا كالفقاقيع الطافية على الماء لا تلبث حين يدركها قليل من الهواء أن تزول وتتبدد, لتقل في الأزهر ما شئت فإنك تريد أن ترضي قوما تظن أنهم يثيبونك على هجائه. أجل، لتقل في الأزهر ما شئت فإنه لا يضيق ذرعا بأن ينتفع بهجائه والصخرة التي قاومت الخطوب وصمدت لها ألف عام لا يقوى زكي مبارك أن يزحزحها عن مكانها. قل في الأزهر ما شئت ودع الأدباء وشأنهم فهم قوم يعز عليهم أن يأتي زكي مبارك فيكدر عليهم صفاء الحياة. لماذا دعوك زكيا وأنت قروي من سنتريس ومولدك في القرن التاسع عشر وهذه الأسماء لم يكن مما يألفه القرويون في ذلك العهد. زكي مبارك قروي من سنتريس 1: ادعى صديقنا الأستاذ عبد الله عفيفي أننا كنا نطوي مقالات خصومنا من العلماء أو نمزقها أو نجتزئ منها بما لا غناء فيه, وأننا كنا نقف على أقدارهم المهضومة وأفواههم المكمومة. وحقيقة المسألة أن علماء الأزهر ألفوا الجنة في العام الماضي "ليقفوا طغيان زكي مبارك عند الحد المعقول" وصح رأيهم على نشر ردودهم في جريدة البلاغ وهنا يعلم الله أني لم أطلع على سطر واحد مما أرسلوه للجريدة وقلم التحرير هو الذي فصل في المسألة.

_ 1 البلاغ 24 فبراير 1933.

حرص الأستاذ على إفهام القراء أنني قروي من سنتريس وكتب هذا وأعاده ثلاث مرات. أفيستطيع أن يحدثنا في أي قصر ولد من قصور الحواضر, إن الأستاذ يشاطرنا شرف الانتساب إلى الريف وقد ولد فضيلته في قرية لطيفة بالقرب من سنتريس, والفرق بيني وبينه أني أتحدث عن بلدي في جميع المناسبات أما هو فلا يذكر بلده على الإطلاق, ولا يجري اسمها على قلمه ولا لسانه مع أن الأوطان الصغيرة هي حبات العقد في الوطن الكبير.

الباب الثامن: معارك بين المحافظين حول اللغة

الباب الثامن: معارك بين المحافظين حول اللغة المعركة الأولى: بين أحمد زكي باشا ومحمد مسعود: كان العالم اللغوي "محمد مسعود" قد قدم عددًا من الألفاظ العربية المهجورة منقح إياها لتحل بدلا من الألفاظ الغربية المدرجة, ولما كان شيخ العروبة أحمد زكي باشا له باع طويل في هذا الميدان وسبق إليه منذ عهد بعيد فقد صاول "محمد مسعود" ودخل معه أكثر من معركة واتهمه بأنه أخذ منه كثيرا من الكلمات, ويبدو أن زكي باشا في مساجلاته في إهاب الاستعلاء وله عبارات جزئية وكلمات عنيفة، وهنا نورد ثلاث معارك جرت بين أحمد زكي باشا ومحمد مسعود خلال عامي 1932/ 1933. أحمد زكي باشا؛ اتق الله يا مسعود 1: اتق الله يا مسعود فلك مركز وطيد بين أهل العلم والتحقيق وإذا كان منك سكوت على هذه الأخطاء فإنه يكون خطيئة لا تغتفر لمثلك. "الشطارة" يا أخي أن يكون الإنسان مستعدًا لإثبات ما ذهب إليه أو يبادر بالرجوع للحق متى نبهوه عليه. فهل عندك هذه الشجاعة؟ أكبر الظن أن الجواب سيكون بالإيجاب بلا مداورة ولا مواربة. يا مسعود! اتق الله في الأمانة التي في عنقك فأنت أخذت تتحلفط وتتحذلق وتتلاعب بهذا الاسم وبالناس الذين تصورت أنت أنهم قد يخلطونه بالاسم المقارب له وهو "طلمنكة". فكان عجبي شديد حينما قرأت هذه الحقائق الصحيحة التي ليس فيها سوى عيب واحد وإنه لعيب عظيم هو عيب الاغتصاب الأدبي.

_ 1 البلاغ 22/ 6/ 1932.

وأنا أربا بك عنه يا صاحب "المرياء" بل لا أسمح لنفسي أن أنهرك بسببه لأنك صاحب "المنهرة" ولا أدعو عليك فالق الحب والنوى لأنك الداعي إلى تأنيث الفيلق بغير حق ولكني أتخيل أنك وقفت أمام المرآة فرأيت شخصا أخذت تسخر منه ثم وجهت السخرية إلى الناس بغير حق. أنت أخذت متى عني كل هذه المعلومات الصحيحة التي رويتها في الأهرام مع صياغتها بتلك الرشاقة البديعة وبذلك الأسلوب الجذاب الذي برعت فيه وفقت الأقران، فلماذا إذا خالفت واجب الأمانة ولم تنسب الفضل لأهله. أنت أنت كنت الخالط بين شلمنقة وطلمنكة، أنت أنت كنت إلى بضعة أيام تظن أنهما شيء واحد أو مدينة واحدة، وأنا الذي هديتك إلى الصواب، وشرحت لك الحقيقة، وذكرت لك التفاصيل. لعلك نسيت يا مسعود. لعلك تقول: إن الإنسان معدن النسيان. منها: أن أذكرك بما حصل لترجع إلى الحق وتنسب الفضل لذويه فهذه سجيتك التي عهدتها منك وهذه شيتمك التي يعرفها الناس عنك وفيها كل مفخرة لك. أتذكر أنك في كلامي معك قلت أنت لي: إن سلمنكة هي التي عربها العرب وجعلوها طلمنكة, أتذكر أن جوابي لك كان "حاسب يا مسعود حاسب". ثم شرحت لك الفرق بين المدينتين وذكرت لك مما بقي في ذاكرتك وجرى به قلمك دون أن تشير إلى المصدر الذي سقاك هذه المعلومات.

محمد مسعود؛ يا شيخ العروبة اتق الله: يدعوني شيخ العروبة إلى تقوى الله ليهيئ لي من أمري رشدا فأكرم بهذه النصيحة الغالية والتحذير الحكيم من عالم فاضل يغار على الحق ويعمل لتأييده. ولكني أراني الأستاذ تجاهه في مأزق حتى يرأف بحالي فيدعوني إلى التزود بزاد التقوى لأقيل عثرتي وأخلص من ورطتي وهو الذي في مناظراته عود مناظريه أن يكون أمرهم معه يسرا لا عسرًا. وصف سيدي الأستاذ ما يتفضل الأهرام بنشره لي بين الفينة والفينة من تحقيق بعض الأسماء الأعلام أو تسمية بعض الأشياء بأسمائها الصحيحة في اللغة بأنها "ألفاظ مقعرة وحفلطة وجليطة وتحذلق وتفاصح ... إلخ" ما عرف الناس طرا من الحافقين وما زالوا يعرفونه أن شنشنة مولاي الأستاذ وفطرته التي فطر عليها في مباحثاته وسلاحه الذي يخطر به خطرانا في غطرسة وزهو كلما أقبل على ميدان أو تحضر للضرب والطعان. وليس من ديدني أن أقرع هذا السلاح بمثله أو آبه لتلك النعوت, بل النوابل والأفاوية الزكية الذي اعتاد أستاذي الكريم أن يذر ذرورها على ما يقدم إلى قرائه من صحائف بياناته ومناقشاته المسهبة فإني مار بها مر الكرام وواضعها دبر أذني. إن الحرب في سنيها الأول ألزمت سواد الناس ملازمة بيوتهم وحرمتهم إمتاع النفس بما اعتادوا أن يرفهوها به خارجها في الهزيع الأول من الليل وكانت تطوف بخاطري دائما في تلك الأيام وأنا في عزلتي ذكرى المحاولات المستخذية التي حاول بعضهم سنة 1893 أن ينضوا عن اللغة العربية عار إفقارها

من ألفاظ فصحى تؤدي معاني الألفاظ العامية والدخيلة التي تسربت إليها وفشا استعمالها في اللحنين الكتابي والكلامي. وقد كنت أعتقد أن سد هذه المفاقر لا يتأتى عن تصعيد الألفاظ المطلوبة من هنا وثم كما كان يفعل ذلك البعص مسايرة للمصادفات والمناسبات بل عن مطالعة المعاجم مطالعة استقراء واستقصاء لتقييد ما يكون صالحا لسد تلك الثلمة الفاغرة التي علا نعي الناعين لها في الغابر والحاضر فتوفرت على هذا العمل زمانا مديدا حتى اجتمع لي منه بضعة آلاف كلمة عنيت برد ما يتصل منها بمختلف العلوم إلى ما هداني البحث والتنقيب إليه من مقابلها في اللغتين الفرنسية واللطينية, وهذه الكلمات وتلك مصورة عندي في أمام مبين أعاوده بنظري كلما احتجت إلى تحقيق أو تصحيح. فمن العجب العاجب بعد هذا أن يريدني الأستاذ شيخ العروبة فيما يتعلق بكلمة "المنهرة" وهي من تلك الكلمات التي أحصيتها ثم سمعتها بعد من كثيرين على أن يرتقي علمي بها إلى ما قبل سني الحرب. وأي حرج في استعمال كلمة المنهرة الآن للدلالة على مجمع الكناسات المنزلية وكتب اللغة قاطبة لا مخصص ابن سيدة وحدة متفقة على أنها "الموضوع بين الدور لإلقاء الكناسات". بعد أن أفرغ سيدي الأستاذ جام غضبه ونقمته على كلمة المنهرة توجه بنقده اللاسع اللاذع إلى كلمة "الفيلق" التي أثبت بالمراجع اللغوية والشواهد الشعرية تأنيثها ثم قال: "إني" ثائر على تأنيث كلمة الفيلق وقد يكون هذا التأنيث صحيحا ولكني لن أستعملها إلا مذكرة". هذا ما قاله شيخ العروبة مبنى ومعنى، ولقد قرأت بعد ظهور نبذتي عن

كلمة الفيلق ست عشرة نبذة نشرها بعض أفاضل اللغويين تعليقا وملاحظة على ما ذهبت إليه من تأنيثها. ولكن سيدي إذا انزرع بمخه رأي عددت فيه جذوره وأخذت منه المأخذ العميق فيصبح عسيرا عليك أن تقتلعه، وما دام أنه يحب التذكير ولا يرضى ألاه فلندعه وشأنه. لنسرح الطرف قليلا في تفسير طريف فكه جاء به لكلمة الفيلق. يقول أم اللغة وشيخ العروبة في لهجة التأكيد والاستيثاق ما يأتي: "إن فيلق إنما هي صفة أو نعت تطلق بصيغتها هذه على المذكر والمؤنث مثل خام وقبيل ومصون إلخ". مرحى يا سيدي الأستاذ! ما هذا التخليط في التحقيق اللغوي الذي لم تتورع بصدده عن نصيحتي بتركه إذ تقول: "إن استمعت لي أخرجت نفسك من ميدان البراز فائزا من الغنيمة بالأسباب. أسألك بربك أن تجاوبني ما هذا الخبط والخلط. رأيت النفس النقادة من الهيولي اللغوية لمولاي الأستاذ إلا أن تلقف بكفي نقدها العميق كلمة مرباء بالهمزة التي رأيت ومازلت أرى أنها أصلح لفظ وأدقه لأداء معنى المصعد أو الأسنسور, ولكن الظاهر أن تلك النفس العيوفة تقززت منه فقالت مستنجدة مستصرخة "سألتك بالله ألا تردنا على استعمال كلمة مربأة, لا أحد يتقعر بما لا يفهمه الناس من مرباتك". إني حين حدثت قرائي عن "المربأة" حدثتهم عن موجود في اللغة لا معدوم ويجمل بك يا سيدتي النفس الكريمة أن أذكرك أنك في غابر الزمان وسالف العصر والأوان كنت تتصدين لما أنا متصد له الآن من خلع بعض الأسماء على ما يجب أن يسمى به مدلولها فأسميت التروتوار بالإفريز ما الإفريز إلا ما برز من حائط البناء كالطيف وأسميت الأوتومبيل بالسيارة وكان حقا

أن تسميه بالجوالة وتغلغل خطأ هاتين التسميتين في غصون الزمان حتى جهد عليها الإصلاح الآن. أفلم يكن الأولى بك أن ترى الخشبة في عينك من أن ترى القشة في عين غيرك. وألفت نظرك إلى أن ربي وربك أمرنا في محكم آياته بالحسنى في الجدل وأنت أيتها النفس العاقلة الحصيفة تخشين أسلوبك الجدلي بهجر القول وسقط الكلام وحواشي اللفظ. لكني أهيب بك أن تكون تحية أول صديق من الكرام الكاتبين قابلته في صبيحة اليوم قوله لي "تالله لو كنت طالبا لو لم يكن غير زكي باشا أستاذنا على وجه الأرض لآثرت البقاء جاهلا خاملا طول عمري على أن أكون عالما نبيها إذا كان أسلوبه في التعليم كأسلوبه في الجدل. 2- محمد مسعود؛ يا شيخ العروبة اتق الله 1: إن نخلة الأدب والعلم في حديقة شيخ العروبة تأبى إلا أن يكون ثمرها حجرًا ومدرًا لا رطبًا جنيا فهي ترمي بهما الناس جميعًا لا ترحم كبيرًا ولا تعطف على صغير. ولقد أرسلت النخلة المباركة علي بدلا من ثمرها الشهي ورطبها الجني أحجارًا غلاظا أسمتها "الأمانة" والشطارة والصهينة والهروب إلى آخر ما في الجبهة الزكية. تذكرين الأمانة تريدين بها ضدها أيتها النخلة المأمونة الأمينة وتذكرين

_ 1 البلاغ 4 يوليو 1932.

الشطارة تنزعين في معناها إلى جانب الفصيح، وقد كان أبعد خطورا على البال أن تلوحي بهما إلي وأنت لم تكوني الأمينة حتى على كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فغيرت في آياته وأبدلت ونسخت ومسخت وزدت إن أعذت هذا الخطأ في الصحف فهجت بذلك حفيظة الناس عليك وكانت غضبة مصرية من أهل العلم فهبوا لإصلاح ما أفسدت وجبر ما كسرت، وكان منك يومئذ أن لجأت إلى ما تلجئين إليه الآن, إلى ذلك الحصن الحصين؛ حصن الرجوع إلى الحق فضيلة تكررين الأمانة الأمانة، وأنت لا تتقي الله فيها إذا رحت تدعين لنفسك الحق في طبع كتاب الأدب الكبير لعبد الله بن المقفع مع أنه من ألوف الكتب التي أصبحت بموت مؤلفيها منذ مئات السنين ملكا مشاعا للجميع فلأي أن يطبعه فلما طبعه محمد المرصفي طبعة صحيحة هاج هائجك فأرسلت عليه كسفا من سماء غضبك إذ أنكرت عليه ذلك الحق وأمطرته وابلا من مثل هذه العبارات "نال من الرواج ما جعل بعض البلد المتطفلين يقلده بلا خجل", إلى ذلك من العبارات التي ينطبق عليها قول الفرنسيين. "إن ديباجة المرء إنشاؤه" أي إن عصارة تفكيره التي ينضج بها فهي كفيلة بأن تكشف للقارئ، والسامع عن حقيقة مشاعره من كل نواحيها. وترميني يا نخلة العلم والأدب فيما رميت من أحجار الصهينة والسكوت لأنني مررت بمقالك "حاسب يا مسعود حاسب" مر الكرام. وأنت أنت يا شيخ العروبة نسيج وحدك في الإغضاء والتغاضي ونابغة زمانك في الانسلال من التبعات فما عهدك ببعيد بمقال "بقايا العرب في أمريكا" الذي نشرته لي "الأهرام أوائل نوفمبر 1930" فقد لبثت تنتظر أسبوعين

كاملين طالعت الناس بعدهما بمقالك الذي صدرته بما هو ديدنك من التفاخر والزهو إذ قلت: "عني وعني وحدي خذوا النبأ الصادق، وعندي وعندي وحدي الحجة الصحيحة والبرهان الصادق" ومننت فيه على كل شرقي وعربي "هكذا" بأنك أول من نبه العرب إلى كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق وزدت المن منا على مصر شعبا وحكومة بتصويرك إياه بالفوتوغرافيا لإهدائه إلى دار الكتب. فلما انبرينا لنفند هذه الدعوى، وأثبتنا بالدليل المقنع والحجة البالغة أن الكتاب طبع بالعربية بحاضرة روما عام 1592 أي قبل عثورك عليه بثلاثمائة سنة رأينا قلمك الندي قد ذبل عوره وانقطع سيله وعدت لا تحبر جوابا. فلست أدري لماذا لا يرى شيخ العروبة الخير والصواب إلا في ملاحقة كل كاتب باحث بدعاوي التفوق وتعقبه بصنوف المن والتعبير والتكدير والتحذير؟ بل لا أدري لماذا يلذ له أن يصلح بغيره ما هو به ألصق؟ فهل جهل أو تجاهل؟ إن من أمارات العلم الصحيح أن يكون زكي النفس قبل أن يكون عالما وأن يقصد بعلمه هداية غيره في تواضع وإنكار للذات.

المعركة الثانية

المعركة الثانية: كتب "محمود مسعود" عن العالم الطرطوشي فقال 1: "لأشاغيل طرآنية صرفتني في الأسبوعين الغابرين عن مطالعة الصحف في مواعيدها فإنني أن أمتع النفس بتلاوة المقال القيم الذي دبجه البلاغ ببراعة أستاذي العلامة المحقق شيخ العروبة تحت عنوان "الصواب أنها مدينة لا ريدة" جريا مع منطوقها الفرنجي. وقد استطرد البحث بشيخ العروبة في ذلك التصويب المكتنز بالفوائد التاريخية والجغرافية إلى ذكر مدينة طرطوشة الأندلسية. رد أحمد زكي باشا: أتقدم إلى الأستاذ مسعود برجاء مربع وقد أطمع في كرمه أن ينعم علي وعلى نفسه بحاجة خامسة, ولعله يتفضل ببناء هذه الأركان الخمسة لمصلحة الأدب ولفائدة العلم، فيحقق أملي القديم فيه بأن يعود "كما كان" مثالا للشبيبة الجامحة وللكاتبين المستهترين في المحافظة على الكرامة وفي تأدية واجب الأمانة. أولا: أن يرجع -كما فعل أمس وأمس فقط- إلى عفاف القول واجتناب النكتة الباردة, أو غير الصادقة فأسدل حجاب النسيان على ما طغى به قلمه قبل اليوم بسبعة أشهر. ثانيًا: أن لا يكتفي في المستقبل بالرجوع إلى مصدر واحد أو إلى قول واحد في كتاب واحد, بل يقارن ما ينقله هو عن الإفرنج بما نقلوه هم عن العرب فيما يتعلق بعلوم العرب وبلاد العرب أو البقاع التي كانت للعرب، إذن يكون في أمان من الغلط ومن السقط في الشطط. ثالثا: أن يشاركني في فضيلة الرجوع إلى الحق "بلا مواربة ولا مداورة" ليكون قدوة صالحة للناشئة الطيبة.

_ 1 البلاغ فبراير 1933.

رابعًا: أن لا يحول الكلام الذي يريد نقده أو نقله عن مجراه ولا يرمي به إلى غير معناه. هل يسمح لي الأستاذ مسعود بخامسة الأماني! إني أتوسل إلى الأستاذ مسعود باسم الرشاقة واللباقة واللياقة بحق اللطانة والطرافة والظرافة أن يرحمنا من الألفاظ العويصة المقفرة الجوفاء فيميل بنفسه إلى السلاسة في التعبير وهو عليها قدير, وإلى الكياسة في نظم الكلام. وهو فيها أستاذ بل "إمام" فيعود بنا إلى ما تعودناه عنه مما تقبله الأسماع وترضاه الأذواق، ففي اللغة سعة وفي مخزون صدره كفاية وكفاءة. فليس كل القراء مثل الشنقيطي والزمخشري وابن الزبعرى، يا أستاذ ولا سيما قراءة الجريدة اليومية. فارحمنا يرحمك الله من براعة الافتتاح التي صدرت بها كلمتك أمس عن الطرطوشي وهو قولك: "لأشاغيل طرآنية". يا ستار! يا ستار! لعن الله هذه "الأشاغيل" التي شغلتك مشاغلها فأوقعتنا في صحراء الحيرة وأرجعتنا رغم أنوفنا إلى قعر القاموس. أنا لا أقول فقط إنها خطأ، بل هي عين الصواب وكل الصواب ولكن الذوق شيء غير الذي في الكتب. يا ستار! يا ستار! من تلك الطرآنية التي طرأت عليك فطرقت أسماعنا بالمرزبة المفردة ولك مقامع الحديد. يا ستار! يا ستار! من هذا التركيب الذي لا يفهمه أحد من ألف أو مائة ألف, والحقير كاتب هذه السطور داخل في غمار هذا "المليون". أشاغيل طرآنية ... اعمل معروف يا مسعود واتركها للقصيدة الطنطرانية.

المعركة الثالثة

المعركة الثالثة: من محمد مسعود إلى شيخ العروبة 1: ليس من الهنات الهينات ولا من تافه الأشاغيل أن يسوقك الحظ العاثر يوما إلى النزول مع شيخ العروبة في ميدان مناظرة وبحث لتقرير الحقيقة في شأن علمي. ذلك لأنك إذا خضت معه هذا الغمار استهدفت لغمزات شتى من سنان قلمه الجارح، فمن من عليك وتعبير لك بأنك إنما من بحر علمه اغترفت إلى تشهير بك وانحاء باللوم والتعنيف عليك لأنك لم تؤد إليه صاغرًا إتاوة الشرك لقاء ما غمرك به من فيوض إحساناته العلمية, ومن تفاخر بأنه القابض وحده على مفاتيح التحقيقات العلمية واللغوية، والمالك لناحية البحوث الأفدلسية، والملهم في دياجير الأخطاء بالتوفيق لنور الصواب والحق، إلى اتهام لك بالجهل وانتحال علم ما لا يعلم. فهو يرى إذًا أن العلم وما يتصل به من تحقيق وتمحيص تراث أوصت له به الحكم الأزلية وميراث خلص له من غضون الأجيال السابقة. ليس لأحد من مخلوقات الله أن يرمقه بعينه أن يشرئب إليه بعنقه. وهذه هي الغاية لا متجاور بعدها للصلف وتصغير الخد وحب الأثرة التي جاء في ذمها ما لا يحصى من أحاديث شريفة وحكم بالغة نطق بها الفلاسفة وأرباب الدراية بالتربية النفسية والتثقيف العقلي. وإذا أنت في مناقشتك إياه أخذته بالهوادة القائمة على أساس وطيد من أدبك العالي وخلقك الرضي الكريم فقلت له مثلا أنت سيدي وأستاذي وأنت نسيج وحدك في العلم ومنقطع القرين في الفضل, وبذلت له في هذه السبيل

الأشاغيل، إن فيه مسحة من التنافر اللفظي ويهيم على وجهه صائحًا صيحة الاستغاثة والاستعاذة إذ يقول: يا ستار يا ستار, لعن الله هذه الأشاغيل ناسيا أو متناسيا فيه مسحة التنافر اللفظي إنما كان حينما نهض لتأبين الشيخ علي يوسف في نوفمبر أو ديسمبر 1913 فوصف أمرا بأنه "بحت محت محض" فأضحك الحاضرين يومئذ في وجوههم وحزنهم. أما هو فقد مضى في تأبينه راشدًا ومعتقدا أن تلك المترادفات خفيفة على اللسان سهل النطق بها وأنها من الألفاظ التي لا يجاريها في شرف جوهرها وحسن رونقها وشدة طلاوتها وحلاوتها غير قول الشاعر: وقبر حرب في مكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر أحمد زكي باشا؛ يا فتاح يا عليم: أعتذر ولا أعني الأستاذ مسعود بوجه خاص. أما الاعتذار فلأنني قد كنت وسأكون بلا قصد سببا في تصديقهم بإرهاقي إياه على اقتاح ما لا طاقة له به من عويص المباحث ولا صبر عليه من غوامض الحقائق، وهو يريد أن يكتب دون مبالاة بالصواب ولا يرضى أن يزيد على فضائله العديدة: فضيلة الرجوع إلى الحق. من أجل ذلك نراه يتناول القلم بعد أن يغوص في قعر القاموس ثم يأتينا بعجز الألفاظ الميتة وبجر التعابير الداثرة المندرسة. وأما الحقائق وأما البراهين فإنه يتهرب منها إلى هنا, وينفلت عنها إلى هناك, وله في ذلك براعة -يا لها من براعة- في مجافاة الحق الذي تقدم به إليه بصادع البرهان وساطع البيان. ثم هو لا يتورع عن تأييد الباطل بصنوف المحال ولا يتحرج عن التشبث بأفانين التقول والاختراع وسبحان الخلاق الذي جعله نسيجا وحده في هذا

الباب, فهو أستاذ بل إمام وله تلاميذ ومريدون بهم يستنصر ويستكثر, وهل يقام بناء من هباء على هباء؟ أما أنني لا أهنئه اليوم -اليوم فقط- فإنه لم يتفضل برعاية الأمانة، أف لهذه الكلمة، إنها ثقيلة على قلبه، والويل كل الويل لمن يذكرها له أو يذكره بها. أقول: إنني لا أهنئه اليوم لأنه لم يتفضل بمراجعة وجدانه عن الفرق بين الغلطة المطبعية "رغم كل مكابر ومداور" التي تحديته إلى التفطن لها وبين ما خلقه له وهمه وخيل له وسواسه أنه "غلطة تاريخية". إن الغلطة المطبعية هي التي تقع من صفاف الحروف ولا يتشبث بهذه الصغيرة من الصغائر إلا المتعسف المتعنت. أما الغلطة التاريخية مثل أغلاط سيدي مسعود الكبير, فهي التي تؤاخذ بها الكاتب حتى يعترف بغلطه فيها من تلقاء نفسه أو بعد تنبيهه, فتكون له فضيلة الرجوع إلى الحق "العقبى لك يا أستاذ". والسماط في دار العروبة ممدود لك, ولأهل الفضل في كل يوم مرتين فشرف أنت والأستاذ دياب ومن تريدان على الرحب ولك الفضل وله الحكم على أحدنا على الآخر فيما يتعلق بالغلطة المطبعية. من أحمد زكي باشا إلى محمد مسعود: "الحديث موجه إلى زكي مبارك": الحق أنه -أي مسعود- بزني في الخطاب وأنه فاز في مديان الشتم والسباب وها أنا ذا أعترف له بذلك وأشهد أنك -أي مبارك- لحقت غباره بل إنك سبقته بأشواط.

ألا فليعلم أنني تعففت عن منازلة الأستاذ مسعود في التراشق بالقول الهراء ولا يجهل أن عجزي فيه لا يوازي سوى قسوة قلمي في تشديد النكير على أهل الدراية أو الذين أحسبهم منهم إذا ارتكبوا خطأ وأذاعوا ضلالا. ثم بعد إرشادي لهم. أأنت ترى في سلوكي عن الأستاذ مسعود وقد خلا له الجو مضيعة الحق العلم الصحيح؟ أم هل الحقائق التاريخية والجغرافية داخلة تحت الشريعة السمحة والقوانين المدنية والجنائية حتى سقط بالتقادم أو مضي المدة. كلا. بل إن الأغلاط التي نبهت الأستاذ مسعود إليها فشتمني من أجلها لا تزال عالقة برقبته حتى يبررها بغير السباب أو حتى يرجع إلى الصواب الذي دللته عليه ولا غضاضة في الرجوع إلى الحق. لقد جازف حين زعم بغير حق ولا تحقيق أنني أنا الذي ابتدعت كلمة إفريز للمعنى المغلوط المستعمل الآن في قولهم "إفريز المحطة" بل هو يعلم أو يتجاهل أن المرحوم الشيخ علي يوسف هو أول من استعملها بهذا المعنى فكانت مني مقاومة ومعارضة ومكافحة ولكن صوت "المؤيد" كان ولا يزال أعلى من صوتي فبقيت هذه الأغلاط شائعة بين أرباب الأقلام1. ومن سوء حظ العربية أن يغلط الأستاذ مسعود في نقله الوصف الذي أعطاه الإدريسي لأبناء العم الثمانية الذين جازفوا باقتحام المحيط الأطلنطي. فالإدريسي يصف هؤلاء العرب الكرام بـ "المعزرين" وعلماء المستشرقين

_ 1 البلاغ 29 ديسمبر 1932.

يتابعونه على هذا التعبير الصواب، أما الأستاذ مسعود فقد التبس عليه الأمر وكتب تحت "المغررون" بالقلم العريض ثم عاد في مقال ثان وكرر هذا الغلط "بزيادة الواو". أيريد الناس برهانا عمليا على شرف الطباع ومحامد الأخلاق وعلى الاحتفاظ بكرامة الأدب في الجدل. إذن فيسمع الأستاذ مسعود. بينما كان هو مبالغ في شتمي والزراية بشأني على صفحات جريدة الأهرام طلب إلي أديب أن يكتب عن رواية ترجمها مسعود وظهر بها 300 غلطة في رواية. ولكني رجوته رجاء شديدًا وألححت عليه لما لي عنده من المكانة ألا يغفل. كلمة أخيرة من محمد مسعود 1 إلى شيخ العروبة: لشيخ العروبة في التعبير عن مراده أسلوب خاص لم يبره فيه أحد حتى الآن فقد جعل قوامه ادعاء الكمال لنفسه في العلم والفضل والزراية بالناس والتنقيص من أقدارهم حتى لقد رأيت الكثيرين يربئون بأنفسهم من منازلته في ميدان البحث خيفة أن ينقلب بهم إلى ميدان تراشق بالشتائم قد يصابون من لوئها بما لا يحبون. وفي "البلاغ" كلمة بقلمه تعد مظهرًا جليا من مظاهر هذه النزعة التي أصبحت ديدنا له وشيعة يمتاز بها عن الكرام الكاتبين، وقد حاول فيها

_ 1 البلاغ 7 يناير 1933.

أن يمسني برشاش ذلك الأذى إذ راح يحصي علي أغلاطا يقول: إنها وقعت في مناظرات بيني وبينه انقضى عليها نصف عام إلى عامين وشهرين, وكان قمينا به أن ينبري لتصحيحها في إبانها كما جرت به العادة بين المتناظرين ولكنه صبر طول ذلك المدى كي ينسي القراء موضوع تلك المناظرات التي خرج منها مدحورًا لا يستطيع لها ردًا ولا يجد عليها جوابا، فتتهيأ له الوسيلة لإيهامكم بأنه أخذ علي مآخذ لا تمت إلى مناظرات سابقة بصلة ما فيأمن عاقبة حكمهم عليه فيما لو كانت موضوعاتها بين أيديهم أو عالقة بأذهانهم.

الباب التاسع: معارك نقد الشعر

الباب التاسع: معارك نقد الشعر الفصل الأول: بين شوقي ونقاده لعل شاعرًا لم يتناول أدبه أقلام النقاد والباحثين مثل "شوقي"، فقد كان صاحب ذهب وسيف، وكان في فترات حياته وسيط الخديوي إلى رجال القلم والصحافة، فضلا عن أنه كان شاعر الأمير حتى نفي في أوائل الحرب العالمية الأولى فلما عاد تحرر من سلطان القصر, ولكن رأى خصومة ظل فيه كما هو، هاجمه إبراهيم المازني وعباس العقاد وطه حسين ثم هاجمه هيكل بعد أن كتب له مقدمة ديوانه وأصدرت السياسة الأسبوعية عددًا خاصا عنه ثم غير المازني وطه حسين رأيهما في شوقي وأصر العقاد على رأيه، وهذه صورة من أراء نقاد شوقي. عباس محمود العقاد؛ شوقي في الميزان: كنا نسمع الضجة التي يقيمها شوقي حول اسمه في كل حين فنمر بها سكوتا كما نمر بغيرها من الضجات في البلد لا استضخاما لشهرته ولا لمنعة في أدبه عن النقد، فإن أدب شوقي ورصفائه من أتباع المذهب العتيق هدمه في اعتقادنا أهون الهيئات، ولكن تعففنا عن شهرة يزحف إليها زحف الكسيح، ويضن عليها من قوله الحق ضن الشحيح، وتطوى دقائق أسرارها ودسائسها على الضريح, ونحن من ذلك الفريق من الناس الذين إذا ازدادوا شيئا بسبب يقنعهم لم يبالوا أن يطبق الملأ الأعلى والملأ الأسفل على تبجيله والتنويه به فلا يعنينا من شوقي وضجته أن يكون لهما في كل زفة، وعلى كل باب وقفة. فإذا استطاع أن يقحم اسمه على الناس بالتهليل والتكبير والطبول والرموز في مناسبة وغير مناسبة وبحق أو بغير حق فقد تبوأ مقعد المجد وتسنم مقعد الخلود وعفاء بعد ذلك على الإفهام والضمائر وسحقا للمقدرة والإنصاف, وبعدا للحقائق والظنون, وتبا للخجل والحياء, فإن المجد سلعة تقتنى ولديه الثمن في الخزانة, وهل للناس عقول؟

ومن كان في ريب من ذلك فيحققه في تتابع المدح لشوقي ممن لا يمدح الناس إلا مأجورا فقد علم الخاصة والعامة شأن تلك الخرق المنتنة نعني بها بعض الصحف الأسبوعية. وعرف من لم يعرف أنها ما خلقت إلا لسلب الأعراض والتسول بالمدح والذم. وأن ليس للحشرات الآدمية التي تصدرها مرتزق غير فضلات الجبناء وذوي المآرب والجزازات, خبز مسموم تستمرئه تلك الجيفة التي تحركها الحياة لحكمة كما تحرك الهوام وخشاش الأرض؛ في بلد لو لم يكن فيه من هو شر منه لماتوا جوعا أو تواروا عن العيون, هذه الصحف الأسبوعية وهذا شأنها وتلك أرزاق أصحابها تكيل المديح جزافا لشوقي في كل عدد من أعدادها وهي لا تنتظر حتى يظهر للناس بقصيدة تؤثر، أو أثرا يذكر, بل تجهد نفسها في تحمل الأسباب واقتسار الفرص، فإذا ظهرت له قيدة جديدة وإلا فالقصائد القديمة في بطون الصحف وإن لم يكن شعر حديث ولا قديم فالكرم والأريحة والفضل واللوذعية. ولقد استخف شوقي بجمهوره واستخف واستخف حتى لا مزيد عليه، ما كفاه أن تسخر الصحف سرًا لسوقه إليه واختلاف حواسه واختلاس ثقته حتى يسخرها جهره، وحتى يكون الجمهور هو الذي يؤدي بيده أجرة سوقه واختلاسه. إن امرأ تبلغ به محنة الخوف على الصيت هذا المبلغ، لا يدرى مم يستكنف في سبيل بغيته وأي باب لا يطرقه تقربا إلى طلبته والحق أن تهالك شوقي على الطنطنة الجوفاء قديم عريق ورد به كل مورد وأذهله عما ليس يذهل عنه بصير أريب، وليس المجال منفسح للتفصيل ولا الفرصة سانحة لجلاء الغوامض.

_ 1 في الديوان جـ1 "يناير 1921" 46 صفحة عن شوقي وفي الجزء الثاني 46 صفحة عن شوقي أيضا.

إبراهيم عبد القادر المازني؛ رأيه في شوقي 1: ليس شوقي عندي بالشاعر ولا شبهه، وإنه لقطعة قديمة متلكئة من زمن غابر لا خير فيه. يغني عنه كل قديم ولا يضيف هو إلى قديم أو حديث وما أعرفني قرأت له شيئا إلا أحسست أني أقلب جثة ملئت صديدا وشاع فيها الفناء علوا وسفلا. وعسى من تستفظع هذا ويرى فيه غلوا. ولهذا يقول أن مقياسنا كان ولا زال. إن الجيد في لغة جيد في سواها والأدب شيء لا يختص بلغة ولا زمان ولا مكان لأن مرده إلى أصول الحياة العامة لا إلى المظاهر والأحوال الخاصة العارضة. فمن كان يكابر بالخلاف في أن شعر شوقي كما نصف، فما عليه إلا أن يتناول خير ما يذكر له وأبرعه في رأي أنصاره ثم فلينقله إلى لغة أخرى ولينظر بعد ذلك مبلغه من الفساد والاضطراب والاعتساف والشطط والسفه والغلو والخلو من الصدق، والعجز عن صحة النظر. وليت شوقي أنه لا يسمو عن المطروق والمألوف والمبتذل، إذن لكانت له على الأقل مزية الفطنة إلى ما كانت له في زمنه طلاوة الجدة فإن المطروق اليوم كان متبكرًا بالأمس وإنا لنمط شفاهنا الآن إذ نرى كاتبا أو شاعرا يشبه وجه الحبيب بالقمر أو غيبته بالنجوم. والمرء إما أن يكون شاعرًا أو لا يكون ولا وسط هناك، فإن كان شوقي عندكم شاعرًا فقيسوه إلى شعراء الدنيا من مثل شكسبير وجوتيه وملتون وهاردي ودانتي، فإن لم يقف به مكانه بينهم فهو ما زعمتم، وإلا

_ 1 السياسة الأسبوعية "كتب في العدد الخاص بتكريم شوقي" 30 أبريل 1927.

فاعلموا أن الشعر ليس الوزن والقافية وأن من أول خصائصه قدرته على النقل، ولسنا نعني المقدرة على التصوير بالألوان بل تناول الأشياء. بحيث يوقظ هذا التناول في نفس القارئ إحساسا تاما قويا بالشيء وبصلتك به. لا سيدي هيكل بك: هذه معابثة لا مطايبة فيها تقيمون كل هذه الضجات والضوضاء حول شوقي وتحفونه بالزمر والطبل في أرجاء المعمورة كلها ثم تعمدون إلى رجل خفيض الصوت مثلي تدعونه إلى أن ينهض وسط هذه الزفات المجلجلة ليفضي إليكم برأيه الصريح. 3- شوقي مرة أخرى في رأي العقاد 1: شوقي شاعر الخليين. يلجأ إليه من لا تحفزه إلى قراءة الشعر عاطفة مشبوبة ولا بديهة يقظى ومن قصارى رأيه في الشعر أنه معان شائعة في صياغة مقبولة ولعب لا يؤاخذ صاحبه على خطأ ولا يحاسب على ضلال. فأنت لا تقرأ في كل ما نظم شوقي شيئا ينم عن فتنة بجمال الطبيعة أو امتزاج بحياتها النابضة في الأرض والسماء ومجاليها الحية في الرياض والبحار والغمائم والأهواء, سحرها الذي يجلب النشوة ويسري في بعض النفوس مصري الهيام الغالب والغرام الخالب, وليس في كل ما نظم شوقي شيء ينم عن تلك السليقة المتفطنة لبدائع الألوان والأشكال العاكفة على تصوير ما تلمح من تلك البدائع والأسرار. وليس في شوقي ذلك التصوف الذي يتطلع إلى المجهول ويقف بين يديه موقف الكشف والإلهام وليس فيه ذنك الألم الذي يشف عن فرط

_ 1 السياسة الأسبوعية أبريل 1927 بمناسبة مهرجان شوقي.

الإحساس ولا ذلك الطرب الذي يتغنى بالحياة. وليس في ذلك الخيال الخالق الذي ينشئ الصور والأشباه ويلبس المعاني الخفية أثواب المنظور والمحسوس. ولكن أليس شوقي شاعر الرثاء؟ ونقول نحن: هو كذلك إن كان الغرض من ذلك القول أنه أكثر الشعراء شعرا في بكاء الأموات وأنه قد نظم أربعين أو خمسين قصيدة أو أكثر أو أقل رثاء جماعة من نبهاء المعاصرين. غير أنك تقرأ هذه المراثي فلا تجد فيها فرقا بين الرجل والصفات ولا يعجزك أن تضع رثاءه لإسماعيل أباظة موضع رثائه لرياض أو رثائه لفريد موضع رثائه لعمر لطفي اللهم إلا اختلاف الأسماء والوظائف والألقاب. أخلاق شاعر الأخلاق: الدكتور هيكل بعد أن أصدر هيكل العدد الخاص من السياسة لتكريم شوقي وكتب مقدمة الشوقيات تحول إلى الهجوم على شوقي. علمت أن شوقي بك لفق بعض أخبار عن السياسة ومحرريها وانطلق وأطلق جماعة من صبيانه يذيعونها في القهاوي وفي الطرقات فأصغرت ذلك منه وأعرضت عنه وأبيت أن أحدثه فيه لكيلا أحرجه بأن أصارحه بهذا التدلي إلى حضيض الخلق. ولكنه لم يقف عند رواية أخباره الملفقة وإرسالها على ألسن صبيانه، بل جرت السفاهة على صفحات "نشرة" ينفق عليها لتصفق له ويدير تحريرها باسم مستعار لتنال من أعراض من يحسبهم خصومه. جرت بالطعن

_ 1 السياسة الأسبوعية 2 يوليه 1927.

في أعضاء اللجنة التي كرمته باتهام أعضائها جميعًا بأنهم "أرادوا أن يتخذوا من تكريمه أداة للنصب والظهور، ويتخذوا منها إعلانًا عن أنفسهم وعن سلعهم البائرة وصحفهم الخاملة" لم يستنن منهم أحدا كلما كثر عددهم كما جرت بالأسف على أن لم يتول العمل أشخاص معينون ذكر اسمي من بينهم. أنا لا أستطيع أن أجد لهذا التطور العجيب مبررًا من روية أو تفكير وإنما هو إسلام النفس للبطانة من الصبية فبعدما كان شوقي يقدر بنفسه ما في إصدار جريدة كالسياسة الأسبوعية لعدد خاص من التكريم وسوس إليه الصبية المملقون أنهم لا يرضون عن أن ينتقد، ويعتبرون أي نقد في حضور رجال الأدب من مختلف بلاد الشرق العربي جناية على مجده تكاد تثله ففزع ثم اضطرب ثم لفق ثم جاء إلى الاسم المستعار. مقدمة الشوقيات: زكي مبارك كانت الصلة1 قويت بيني وبين شوقي سنة 1935 وكان شرع في طبع الشوقيات فشاء لطفه وكرمه أن يدعوني لكتابة المقدمة بعبارة لا أزال أذكر نصها بالحرف: "سيكتب الدكتور هيكل مقدمة تاريخية وستكتب أنت مقدمة أدبية". وبعد أيام تلطف فأهدى ما طبع من الجزء الأول مصححًا بخطه الجميل لأكتب في تقديمه ما أريد ورجعت إلى نفسي فتذكرت أن المقدمات يلتزم فيها الترفق وذلك ما لا يجمل بكاتب مشغول بالنقد الأدبي مع شاعر لا يزال في الميدان وأسرعت فكتبت إليه خطابا قلت فيه: إني لا أستطيع كتابة

_ 1 "البلاغ" ديسمبر 1941.

المقدمة التي ينتظرها أمير الشعراء لأني أخشى أن أقول فيها كلاما يصدني عن نقده إن رأيت في أشعاره المقبلة ما يوجب الانتقاد وفي عصرية اليوم الذي كتبت فيه ذلك الخطاب قابلت الدكتور طه حسين وأخبرته بما وقع فغضب أشد الغضب وقال: "ليتك استشرتني قبل أن تصنع ما صنعت، ألا تعرف أنك أضعت على نفسك فرصة من فرص التشريف؟ لو طلب شوقي مني ما طلب منك- وأنا خصمه- لاستجبت بلا تردد، فشوقي في رأيي هو أعظم شاعر عرفته اللغة العربية بعد المتنبي". ثم أقيم الحفل بدار الأوبرا سنة 1927 لتكريم شوقي وأصدر هيكل عددًا خاصًا من السياسة الأسبوعية ودعي للاشتراك في تحريره رجال منهم زكي مبارك وقيل: إن شوقي أشار بحذف مقالات كان من بينها مقالة "ولم يرتح شوقي إلى هذا العدد الخاص فقد ظهرت فيه عبارات تغض من مقام أمير الشعراء". قال زكي مبارك: "ثم غضب شوقي على هذا العدد من السياسة الأسبوعية وكان شوقي إذا غضب معه ألف مرتزق من أدعياء الأدب، فمضى أولئك المرتزقة يقولون في الدكتور هيكل كل ما تسمع بنشره الوريقات المتسمة زورا بوسم الجرائد والمجلات فكتب الدكتور هيكل في السياسة الأسبوعية مقاله المأثور "أخلاق شاعر الأخلاق" وهو مقال فصل فيه ما كان بينه وبين شوقي وتوعده توعدًا أليما, فقد نص على أن شوقي لن يظفر مرة ثانية بمثل ذلك الاحتفال. ورأيت أن أرجع إلى الدكتور طه أستفتيه فابتسم وقال: كان مصيرك سيكون أفظع من مصير هيكل لو كتبت مقدمة الشوقيات.

فلما جاء طاغور إلى مصر دعا شوقي أساتذة الجامعة المصرية للقائه في داره ولم يدع زكي مبارك فحرضه بعض الصحفيين على إيذاء شوقي بمقال أو مقالين "وزعموا أن مال شوقي لا ينال بغير الهجاء". 6- بين هيكل وبين شوقي: صور الدكتور هيكل موقفه من شوقي في ذكريات كتبها في أخبار اليوم سنة 1952 "قال": كان شوقي يضيق بالنقد بل كان لا يطيقه. أما حافظ فكان يضيق بالنقد ولكنه يطيقه. أذكر يوما من أربعين سنة خلت كنت فيه بمنزل عبد الرازق خلف قصر عابدين. وكان في المجلس المرحوم مصطفى عبد الرازق وأخوه علي عبد الرازق وحافظ. وقد كان بيني وبين شوقي مودة دامت عشر سنوات. وكان شوقي يضيق بالنقد ولا يطيقه ولعله كان يحسبه عيبا في ذات أمير الشعراء كالعيب في الذات الملكية، وكان الدكتور طه ينقد شوقي في جريدة السياسة وأنا رئيس تحريرها وكنت ألتقي بشوقي كل مساء وكثيرا ما كنا نصطحب في سيارته إلى منزلي وإنها لفي إحدى الليالي إذ قال لي: ما الذي يقصد إليه صديقك طه من توجيه النقد إلي في كل مناسبة؟ أيظن نفسه قديرًا على أن يهدمني؟ قل له: إنني مجد تكون ومن المستحيل هدم مجد تكون وإنه ينطح بنقده صخرة لا تستجيب له. ولم أعجب لهذا الكلام. إنما كان عجبي لأن شوقي كان يسرع إلى مقاطعة من ينقدونه. ثم كان يسرع إلى استرضائهم بكل وسيلة مستطاعة.

رأي طه حسين في شوقي 1: لغيري أن يمدح شوقي ببا حساب. أما أنا فلا أريد أن أمدح ولا أريد أن أذم. وإنما أريد أن أنقد وأن أؤثر القصد في هذا النقد، وأظن أن شوقي يؤثر النقد المنصف على الحمد المسرف، وأظن أني أجل شوقي وأكبره بالنقد أكثر من إجلالي إياه بالتقريظ والثناء وقد شبع شوقي ثناء وتقريظا. وأحسبه لم يشبع نقدًا بعد. وليس شوقي فيما أعلم منه شرها إلى حسن الحديث وطيب المقالة، وهو لم ينشئ شعره لذلك وإنما هو شاعر يحب الشعر للشعر. قرأت مقدمة هيكل وكنت أظن أنني سأظفر فيها بمذهب شوقي في الشعر ولكنني لم أكد أظفر بشيء صريح من العقيدة الشعرية لشوقي فيما كتب هيكل، أترى أن يصدر ذلك أن ليس لشوقي عقيدة شعرية يستطيع هيكل أن يعرضها أم ترى أن مصدر ذلك أن هيكلا لم يعن بشعر شوقي عنايته بنثر أناتول فرانس. والوقاع أنني لا أعرف لأمير الشعراء عقيدة صريحة في الشعر، وما أرى أنه قد حاول أن يكون لنفسه هذه العقيدة وما أرى أنه فكر في الشعر إلا حين يقوله، إنما هو كما يقول هيكل في شيء من الدهاء مجدد حينا ومقلد حينا آخر، وهو في تجديده وتقليده لا يصدر عن عقيدة فنية واضحة، وإنما

_ 1 كتاب حافظ وشوقي لطه حسين. تحول طه حسين والمازني عن رأيهما في شوقي أما العقاد فإنه لم يغير رأيه الأول وكان العقاد قد هاجم شوقي في شعره كما هاجم مسرحياته وله في نقد رواية قمبيز كتابا مطبوعا هو "قمبيز والميزان". ولا شك أن هناك خلافا حقيقيا بين مذهب شوقي ومذهب المدرسة الحديثة التي يمثلها العقاد والمازني غير أن السياسة وصراعها كان لها دخل كثير في خصومة الأدباء لشوقي ومما يذكر أن العقاد هاجم شوقي في صحف الوفد يوم تكريمه في نفس الوقت الذي كان فيه سعد زغلول رئيسا للاحتفال.

يتأثر بالساعة التي يتهيأ فيها لقول الشعر، وبالظرف الذي يقرض فيه الشعر ليس غير. إنما الحق أن شعر شوقي لم يستطع أن يلهم هيكلا ما استطاع أن يلهمه نثر الكتاب الفرنسيين وشعر الشاعر الإنجليزي وشعرائنا شخصيتهم مصنوعة وهم لا يسلكون طريقا من طرق الشعر، ولا يتعاطون فنا من فنون الشعر إلا مقتادين مقلدين فهم يصنعون شخصياتهم التي تراها في شعرهم، هم يخفون بها شخصيتهم الأولى التي فطرها الله، وهم بهذا التكلف يحولون بينك وبين الوصول إليهم وفهمهم كما هم في حياتهم العادية.

الفصل الثاني: بين عبد الرحمن شكري والمازني

الفصل الثاني: بين عبد الرحمن شكري والمازني هذه أضخم معركة أدبية في ميدان الشعر المعاصر بدأت 1917 واستمرت سبعة عشر عاما قد بدأ الشعراء الثلاثة "شكري, المازني, العقاد" حياتهم الفكرية معا ثم اختلف العقاد والمازني مع شكري الذي قصر عمله على وظيفة التعليم، بينما عمل المازني والعقاد في الصحافة ثم كان من نصيب شكري أن يهاجم في أول عمل نقدي للمدرسة الحديثة وهو "الديوان" قد حمل المازني لواء الحملة على شكري وبجوار حملة العقاد على شوقي والرافعي وكان مقال "صنم الألاعيب" من أقسى ما كتب المازني ثم عاد المازني فصحح موقفه من شكري عام 1930 فأعلن رأيه في شكري, صحح موقفه وعاد إلى الكتابة مرات في هذا الأمر حتى أثار العقاد الذي دخل المعركة مصححا لما وقع ثم صدر كتاب رسائل النقد للدكتور رمزي مفتاح حول هذه القضية. 1- شكري يتهم بالسرقة المازني: قال عبد الرحمن شكري في مقدمة ديوانه "الجزء الخامس": "لقد لفتني أديب إلى قصيدة المازني التي عنوانها "الشاعر المحتضر" البائية التي نشرت في عكاظ واتضح لنا أنها مأخوذة من قصيدة أودني للشاعر شيلي الإنجليزي, كما لفتني أديب آخر إلى قصيدة المازني التي عنوانها "قبر الشعر" وهي منقولة عن هيني الشاعر الألماني ولفتني آخر إلى قصيدة المازني "فتى في سباق الموت" وهي للشاعر هود الإنجليزي, ولفتني أيضا أديب إلى قصيدة المازني التي عنوانها الوردة الرسول وهي للشاعر ولز الإنجليزي وأشياء أخرى ليس هذا مكان إظهارها. وقرأت له في مجلة البيان مقالة تناسخ الأرواح وهي من أولها إلى آخرها من مجلة السبكتانور لادسون الكاتب الإنجليزي ومن مقالاته في ابن الرومي التي نشرت في البيان قطع طويلة عن العظماء وهي مأخوذة من كتاب شكسبير والعظماء تأليف فيكتور هيجو ومن مقالات كارليل الأدبية وقد ذاعت هذه الأشياء ولو كنت أعلم

أن المازني تعمد أخذها، لقلت: إنه خان أصحابه بهذه الأعمال، ولكني لا أصدق تعمد أخذها ولو أني رأيت الآن عفريتا لما عراني من الحيرة والدهشة قدر ما عراني لرؤية هذه الأشياء ولا أظن أني أبرأ من دهشتي طول عمري, وفي أقل من ذلك مبررًا لمروجي الإشاعات والتهم، لا أظن أن أحدًا يجهل مدحي المازني وإيثاري إياه وإهدائي الجزء الثالث من ديواني إليه وصداقتي له ولكن كل هذا لا يمنع من إظهار ما أظهرت، ومعاتبته في عمله لأن الشاعر مأخوذ إلى الأبد بكل ما صنع في ماضيه حتى يداوي ما فعل ويرد كل شيء إلى أصله وليس الاطلاع قاصرًا على رجل دون رجل حتى يأمن المرء ظهور هذه الأشياء ولسنا في قرية من قرى النمل حتى تخفى. 2- شكري؛ انتحال المعاني الشعرية 1: لقد كان يعد الاطلاع على آداب الغرب جريمة وتهمة في أعين الأدباء إذ إنه مظنة السرقة وذلك لأن بعض الشبان لا يدين بدين الملكية في الآداب والواقع أن العقول مثل التربة تحتاج إلى أن تتعهد بما يظهر خصبها. ولو كانت المسألة التي أتكلم فيها تافهة لما تعرضت لها, ولكنها تشمل قصائد ومقالات كثيرة تسيء ظن الناس بأهل العلم والابتداع وتبعث على الفوضى في العلوم والآداب، وقد شاعت حتى لم يمكن كتمانها، على أن كل أديب حارس من حراس الأدب ومن واجبه ألا يغفل عن حراسته. وهناك دافع آخر دفعني إلى الكتابة أو إظهار هذه المآخذ وهو الرغبة في الخلاص من مظان الريب. فقد اعتاد بعض الناس أن يقرن اسمي إلى اسم المازني والعقاد للمودة التي بيننا, ولكنها مودة لا تحمل كل واحد منا عيوب.

_ 1 مجلة المقتطف يناير 1917 ص28 وقد واصل شكري اتهامه للمازني.

أخيه فحسب المرء منا أن يحمل عيوب نفسه ولكن الجمهور لا يستخدم المنطق في كل رأي يراه. إن المودة التي بيني وبين المازني قديمة، ومن أجل ذلك لم أعرف كيف يسوغ لي أن أكتب هذا المقال, ولكني شرحت الأسباب التي دعتني إلى الكتابة, وقد شاع بين الأدباء أن المازني قد أخذ بعض قصائد كاملة من شعراء الغرب وأفكار متفرقة غير أني لم أنتبه إلى هذه التهمة, وأهديت إليه الجزء الثالث من ديواني علامة على ثقتي ومودتي، ولكن أحد الأدباء لفتني إلى قصيدة "فتى في سياق الموت" في ديوان المازني وهي مأخوذة من قصيدة لتوماس هود الشاعر الإنجليزي ثم لفتني آخر إلى قصيدة "قبر الشعر" في ديوانه فإذا هي للشاعر هيني الألماني, وقد كنت أقرأ عرضا في تينسون الشاعر الإنجليزي فرأيت فيه قصيدة الذكرى التي قال المازني: إنها له، ثم أرسل إلي المازني بعد ذلك قصيدة "الوردة الرسول" فإذا هي للشاعر ولز الإنجليزي, ونشر في جريدة عكاظ قصيدة "الراعي المعود" فإذا هي للشاعر لويل الأمريكي, وبينما كنت أحادث أحد الأدباء في شعر المازني وهو الأديب أمين أفندي مرسي لفتني إلى قصيدته البائية التي سماها الشاعر المحتضر فإذا هي من قصيدة أوديني لشلي الشاعر الإنجليزي وهي التي قالها في رثاء كيتسي ورأيت بعد ذلك قصيدة "شوكة الحسن" فإذا هي لهيني الألماني. وقد نبهت المازني إلى هذه القصائد فاعترف أنها ليست له ولكنه قال: إنه نظمها وهو يظن أنها له. ذلك لأنه حفظ المعاني ونسي أنها لغيره، فبينت له أن الأبيات والمعاني متسلسلة والترجمة دقيقة جدا، فأصر على فكرته السيكولوجية وقال: إن ذلك جائز في علم السيكولوجيا, ولكنه وعد أن يتجنب مثال هذه المآخذ في المستقبل, ولم يف، إذ إنه بعد ذلك أنشدني قصيدة

إكليل الشوك والغزال الأعمى وهي أيضا من هذه المآخذ, وبينما كنت أقلب مجلة البيان وجدت مقالا طويلا عنوانه "تناسخ الأرواح" منسوبا إلى المازني فإذا هو مأخوذ من أوله إلى آخره من مقالات أديسون الكاتب الإنجليزي الشهير في مجلة السبكتاتور. ثم اطلعت على مقالات المازني في ابن الرومي والجزء الأكبر منها ليس في ابن الرومي بل في العبقرية والعظماء فإذا أجزاء كبيرة منها مأخوذة بعضها من كتاب عنوانه شكسبير تأليف فكتور هيجو الشاعر الفرنسي. وبعضها من مقالات كارليل الأدبية، فنبهت المازني إلى ذلك فقال: ماذا أصنع إذا كنت أكتب الشيء ولا أعرف أنه ليس لي، هل أطوف على الناس أسألهم هل رأوه من قبل. "هذه كلمة من رسالة بعث بها إلي". وليس الأمر مقصورًا على ما ذكر فإن أحد أدباء مصر هو مصطفى أفندي علوة كان قد جمع كتابا ذكر فيه مآخذ كثيرة زعم أن المازني أخذها من كتاب واحد فقط وهو كتاب "الذخيرة الذهبية" في الشعر الإنجليزي. وقد جمعنا مجلس فأخذ أحد الأدباء الأفاضل وهو عبد الحميد أفندي العبادي ديوان المازني وكتاب الزخيرة الذهبية الإنجليزي وجعل يقارن بين أبيات المازني وأبيات الذخيرة حتى أدهش الحاضرين، وقد أرسل إلى المازني قصيدة عنوانها الإنذار فإذا جزء منها مأخوذ من قصة "قابيل" للشاعر الإنجليزي بيرون ... إلخ. ولا أريد أن أذكر مآخذ المعاني المفردة والأبيات المتفرقة. ولكني اكتفيت عن المقال بذكر ما قدرت أن أحصيه من المقالات والقصائد التي أخذت كاملة.

هذا وأوكد لصديقي المازني أني أحبه وأوده بالرغم من ذلك وأدع للقارئ أن يحكم أمصيب أو مخطئ أنا في إظهار ما أظهرت، وليس لي أن أتملك هذه المآخذ أو أتهم المازني بأنه تعمد أخذها. 3- أبو شادي؛ انتحال المعاني الشعرية 1: قرأت ملتذا رسالة الأستاذ عبد الرحمن شكري في موضوع انتحال المعاني الشعرية وانتقاد شعر المازني فأكبرت شعوره بالواجب نحو الأدب دون تحيز بحكم صداقة أو قرابة في المذهب الشعري، وهذه صفة تكاد تكون معدومة في مصر لأنها فوق الشجاعة الأدبية التي تعتبر عن ندرتها بيننا من نقائص الأخلاق المصرية. ويلوح لي أن بين الأسباب التي دفعت شكري أفندي إلى الجهر بتلك الملاحظات غيرته على حسن سمعة صديقه المازني الذي أبدع أيما إبداع في ديوانه باكورة ثماره الشهية, وظهر بين أقطاب الشعر الحديث الذي تتكسر فوق درعهم نبال الجامدين, وقد كان هؤلاء المجاهدين الأبطال يغنمون الموقعة كما غنمها من قبل شوقي ومطران وغيرهما ممن حرروا الشعر العربي بعد اعتقاله الطويل. الشعر العربي آخذ في تدرج راق سريع، شكري وأمثاله منة كبيرة عليه للروح الجديدة العالية التي نفحوها فيه وهو يغدر إذا خشه أن تعبث العواطف بمجهوداته ومجهودات أقرانه فقال كلمة نصح وتحذير, ولكن اقتدار المازني المشهور به ضمين بفوزه مهما عدت له العثرات، وما الابتكار بعزيز على خاطره الفياض بالآيات البينات, ومهما تشابهت نغماته مع أنغام

_ 1 مارس 1917 ص187 "المقتطف" وقد دخل المعركة من لندن.

غيره ففضله في النقل عظيم وفضله في الاعتراف بالحق عند تنبيهه أعظم وهو إذا احترس في المستقبل من أغاليط تعودها أضاف إلى حسناته حسنات خالصة وأنصف نفسه وأهل حزبه والأدب والعلم. "ولم يرد المازني إلا بعد مرور أربع سنوات" وكان رده عنيفا. 4- إبراهيم عبد القادر المازني, "صنم الألاعيب 1 ": شكري صنم ولا كالأصنام, ألقت به يد القدر العابثة في ركن خرب على ساحل اليم, صنم تتمثل فيه سخرية الله المرة وتهكم "إستفانيز السماء" مبدع الكائنات المضحكة ورازقها القدرة على جعل مصابها فكاهة الناس. وسلوانهم ولم لا يخلق الله المضحكات وقد آتي النفوس الإحساس بها وأشعرها الحاجة إليها, ولم يلتزم في الإنسان ما لا يتوخى في سواه من وزن واحد وقافية مضطردة، هنالك إذا عند ساحل البحر شاءت الفكاهة الإلهية أن ترمي بهذا الصنم, ليس في كل مفاتن الطبيعة ما يحرك هذا الصنم لأن باطنه شاعت فيه لعنة السماء فعاد أشقى الناس بنفسه وصار لا ينقذه منها ومما منته به من صفوف البلاء إلا أن تهدمه فئوس الكاشفين طبقات التراب عنه، وليت تراب الخمول لم يرفع عنه فقد ولد ميتا ولم يجده نور الحياة وحرها ولا أغنيا عنه من جمود طبعه شيئا. وعلى قدر ابتعاد الكتابة عن مجال التفكير البارد ودنوها من ميدان الذهن المشبوب والعواطف الذكية تكون الحاجة إلى ضرورة فن الأسلوب ولعل هذا أكبر الأسباب التي أفضت إلى خمول شكري وفشله في كل ما يعالج من فنون الأدب لأنه لا أسلوب له إذ كان يقلد كل شاعر ويقتاس بكل

_ 1 الديوان العدد الأول 1922.

كاتب وينسج على كل منوال وحسب المرء أن يجعل نظره في كلامه ليدرك ذلك إذا كان على شيء من الاطلاع فإذا لم يكن فهو لا يعيبه أن يرى أنه يستعمل اللغة جزافًا. ولعله من أسباب ضعفه العديدة أنه يقرأ حتى كتب العفاريت وقصص السحرة والمردة والجان لما وقع في نفسه أن هذا حقيق أن يقوي خياله ويجعل له أجنحة يحلق بها في سماء الشعر. وقد ركب شكري هذا الجهل متكلفا ما لا يحسن وأراد أن يكون شاعرًا وكاتبًا من الطراز الأول وظن أن الاجتهاد يغني عن الاستعداد فلا هو بلغ إلى درجة مما طمع فيه ولا هو أبقى على خلقه الوداع وقناعة بميسور العيش. لا نقول: إن شكري مجنون، فنحن أرفق من أن نصدمه بذلك وأعرف بحاله، وبأمراض العقل من أن نهيجه إلى الخيال بالإيحاء والتذكير والإلحاح. ولكننا نقول: إن ذهنه متجه إلى هذا الخاطر -خاطر الجنون- وأن فكرته مالئة لجو حياته والخوف منه منغص عليه كل لذاته. وقلنا: إن ذهن شكري متجه إلى هذا المعنى وقد يكون هذا غير راجع إلى علة أصيلة فيه إلى ما يجسم نفسه من المتاعب ويحمل عليها ويرهقها به كأنه يكتب جزءًا من ديوانه في شهر واحد حتى كأنما هو مأجور على ذلك مشروط عليه أن يتمه في وقت محدود, وقد كان نتيجة ما أصابه من الكلال أن حدثته نفسه بإحراقه بعد طبعه. إن لشكري كتابين غير دواوينه1 أحدهما اسمه الاعترافات وليس فيه ما يستحق الذكر إلا أنه وصفه بأنه أحلام مجنون والآخر رواية اسمها الحلاق المجنون وهي كذلك تافهة لا قيمة لها.

_ 1 ملخص من 15 ص الجزء الأول "الديوان" من ص48 إلى ص62.

وقد سبق لنا أن نبهنا شكري إلى ما في شعره من دلائل الاضطراب في جهازه العصبي وأشرنا عليه بالانصراف عن كل تأليف أو نظم ليفوز بالراحة اللازمة له أولا. صنم الألاعيب؛ "الجزء الثاني من الديوان من ص85 إلى 95"1. في هذا الجزء المازني ينقل سطورًا من كتاب الاعترافات الذي ألفه شكري يريد أن يدلل بها على أن شكري كان يتهم نفسه بالجنون "قال": "لا يمكن أن يقال في الرد علينا وفي تبرئة شكري مما قذف به نفسه أن الاعترافات صاحبها رجل آخر اسمه "م. ن" وأن شكري ليس إلا ناشرًا لها فإن هذه الاعترفات ليست إلا طائفة من المقالات لا يربطها شيء إلا ضمير المتكلم، وقد نشر شكري أكثرها في الجريدة سنة 1909/ 1913 بتوقيعه على أنها له ثم عاد فجمعها في كتاب طبعه 1916. ومما هو خليق أن يبعث القارئ على الركون إلى هذه الاعترافات وتصديقها أنه يجد مصداقها في شعره فكما أنه قال في الاعترافات أن في نفس القديس جرثومة الإجرام كذلك قال في شعره "فقد أغرم الإنسان بالشر والأذى". 5- المازني؛ إنصاف لنفسي ولشكري 2: أتيحت لي اليوم فرصة للتفكير في بعض ما اجترحت من الاتهام وارتكبت من الذنوب، وإني لمدين بهذا لمن لا أعرف, بل لمن تحدثني نفسي

_ 1 الرسالة 15 أغسطس سنة 1938. 2 البلاغ 20 مايو 1934.

أنه شخص لا وجود له, فإن للسان سلطة منكرة ولقد لعن آبائي وأجدادي لعنا أظنه أزعجهم في قبورهم. قلت لنفسي: لا بد أن في الأمر سرًا وأقبلت على الكتاب أتصفحه فما راعني إلا أن مؤلفه هو الدكتور رمزي مفتاح يتهمني بالعقوق والغدر والخيانة, وإلى آخر ما يمكن أن يخطر بالبال من أمثال هذه المعاني وهو يشرك معي في التهمة الشنيعة صديقي الأستاذ العقاد بلا سبب ثم يفرد له تسعة أعشار الكتاب وللعقاد لسان حال وبيان قوي، وإن كنت أحسبه لن يعنى بهذا الطن السخيف وسبب هذه الحملة أني كنت نقدت الأستاذ عبد الرحمن شكري الشاعر في كتاب الديوان الذي أصدرناه -العقاد وأنا- في سنة 1922وأن ما بيني وبين شكري فسد بعد ذلك وقبله. وأحب أن أنصف شكري وأسطر للقراء قصتي معه لا لأن الدكتور رمزي مفتاح رماني بالغدر والخيانة, بل لأن كتابة مناسبة صالحة. كانت علاقتي بشكري كأوثق ما يمكن أن تكون علاقة صديقين ثم حدث سنة 1915 أن كنت أنا في الإسكندرية فبلغني أنه وضع كتابا عن أدباء هذا العصر وأن فيه فصلا عني يجب أن يقرأه علي قبل طبعه وأنه قادم لهذا. ولما صرنا في بيتي أدهشني بقوله: إنه يريد أن يسترد مني رسائل كان قد كتبها إلي فذهلت، وقلت له: دونك الدرج فخذ منه رسائلك جميعًا إذا شئت ولم أر أن أسأله بعد هذا عن كتابه الذي يزعم أنه كتبه عني فقد حز هذا المطلب في نفسي ووقع عندي أسوأ وقع وآلمه. وكان مما قاله لي في ذلك اليوم أن الجزء الأول من ديواني أبياتا سهل

أن أرمى فيها بالسرقة فقلت له إذا كنت قد وقعت على هذه الأبيات فما عليك إلا أن تدلني عليها وإنك تعلم أني لا أتعمد ذلك, وإني لمستعد إلى أراجعها معك فإذا اقتنعت فلست أتردد في كتابة مقال أنشره في الأهرام. وأنص فيه على هذه الأبيات مهما بلغت عدتها وأعلن نزولي عنها وردها إلى من يعدون مني لأنهم أسبق, فنصح ألا أفعل وقال: إن الناس لا يقدرون هذه الصراحة. وإذ به بعد الجزء الخامس من ديوانه يحمل على مقدمته حملة يتهمني فيها بالسرقة. ولم يثقل على نفسي اتهامه لي بالسرقة لأني أعرف من نفسي أني لم أتعمد سطوًا ولم أغر على شاعر وإنما علقت المعاني بخاطري أثناء المطالعة وجرى بها القلم وأنا غافل لأني ضعيف الذاكرة سريع النسيان، وإنما الذي أثارني أنه لم يأتمني على بعض رسائله وشك في مروئتي، وثانيا أنه ضحك علي ووصفني أني أميط عن شكري لوثة السرقة ليتسنى له أن يرميني بها وليكون وقع التهمة أعمق وأثرها أبلغ. ولا أكتم القارئ أني انتقمت لنفسي شر انتقام وأني أسأت إلى شكري أعظم إساءة وما كنت أستطيع أن أفعل غير ذلك لأني لا أؤمن بإدارة الخد الأيسر لمن يضربني على خدي الأيمن وبعد أن شفيت نفسي مما وجدت استرحت ونسيت الحكاية. ومضت سنون أخرى وجاء شهر مارس 1930 فطلبت مني إحدى الجمعيات أن ألقي عندها محاضرة في التجديد في الأدب العربي فجعلت موضوعها عبد الرحمن شكري وقد نشرت هذه المحاضرة في الخامس من أبريل 1930 في السياسة الأسبوعية.

قلت هذا عن شكري وأنا لم أضع يدي في يده منذ سنة 1919 إلى اليوم لأني لا أحمل له ضغنًا أو أنطوي له على حفيظة فما أحمل له أو لغيره شيئا من هذا القبيل بل لأنه هو شاء أن ينأى ويبتعد ولست أستطيع أن أطارد أحدًا بصداقة لا يريدها, وأنا امرؤ ينسى المعركة بعد انتهائها يستوي في ذلك أن أكون غالبا أو مغلوبا. فإذا كنت غالبا لم أره أو كنت مغلوبا لم أتحسر ولم أحقد, وبحسبي أن أكون قد بذلت جهده كله ولم أدخر منه شيئا. ولو كان شكري يذهب مذهبي في الحياة لما منعه شيء من أن يصافحني بعد أن وضع السلاح وانقطع الكفاح, ولماذا يظل الناس متنافرين طول العمر. وإنما كتبت هذا الكلام الكثير لأني أحب شكري وأجله ولأني نادم على ما صنعت به تائب من ذنبي إلى الله ومعه وله أن يصدق أو يرتاب فما لي فيه مطمع ولقد حاولت أن أكفر عما أسأت به إليه وأن أجره إلى الدنيا مرة فأبى وقال: اتركني ولا تنبش قبري وحسبي ما لقيت منك فأقصرت ونفضت يدي يائسا. وإنه لسخيف من الدكتور رمزي مفتاح أن يخوض فيما لا يعلم وأن يكتب عن العقاد وعني وما كتب ولست أظن العقاد مباليه. ويحسن أن أنبه إلى أن الأستاذ العقاد لا ذنب له فيما وقع بيني وبين شكري ولم يكتب حرفا واحدًا يسوء شكري ولقد كان فضله علينا أن أصلح ما أفسدناه.

6- المازني؛ شكري وكتاب رواد الشعر الحديث 1: كيف كنا صديقين حميمين ثم وقعت الجفوة بيننا وحلت النبوة وتعادينا وأساء كل منا إلى صاحبه ومضى خير عمرينا إلى قطيعة سخيفة، ولعلي ما ندمت على شيء في حياتي كندمي على ما فرط مني في حقه, ذلك أني أحبه ولا أستطيع أن أجحد فضله علي، نعم كنا زميلين في المدرسة ولكن كان ناضجا وكنت فجا، وكان أديبا شاعرًا واسع الاطلاع، وكنت جاهلا ضعيف التحصيل قليل العقل فتناول يدي وشد عليها وأبت مروءته أن يتركني ضالا حائرًا أنفق العمر سدى وأبعثر في العبث ما هو كامن في نفسي من الاستعداد وكنت أقرأ ابن الفارض والبهاء زهير فأقرأني شعر الحماسة وشريف الرضي والبحتري والمعري وابن المعتز. وكانت مطالعاتي في الإنجليزية قاصرة على أمثال ماري كوريللي ومن نسيت غيرها ففتح عيني على شكسبير وبيرون وردز ورث وشيللي وبينز وملتون وهازيلت وكارليل ولي هنت وماكولي وشيلي وراين وروسو ومئات غيرهم, وصرفني عن المقلدين في أدب كل أمة وأغراني بأصحاب المواهب والابتكار وصحح لي المقاييس وأقام الموازين الدقيقة وفتح عيني على الدنيا ومن فيها وكنت عميا لا أنظر وإذا نظرت لا أرى، وكان لفرط أدبه يتوخى معي سلوك الند ولا يتعالى تعالي الأستاذ على التلميذ وكنت فقيرًا فكان يعيرني الكتب أو يهبنيها, وكنت غبيا فكان يشرح ويفسر. ولما نفخني وأعداني فقلت الشعر كان يصرفني عن العبث ويزجرني عن التقليد ولا يرضى لي الضعف؛ ولو أردت أن أنقضي لما فرغت وأنا مدين له

_ 1 الجهاد 4 سبتمبر 1934.

بكل ما أعان على ما صرت إليه. أقول ذلك مباهيًا شاكرًا فضل الله علي أنه لم يضيعني وأن كتب لي نعمة الاتصال بشكري، وإني لأرجع البصر في حياتي وأتساءل ماذا عساي كنت أكون لولاه؟ فلا أجد عندي لهذا جوابًا وأدير عيني في نفسي وأبحث عن نزعة لم يكن هو غارس بذرتها إذا لم يكن هو الموحي بها فلا أهتدي. ومن طول ما عرفته وفرط ما ملأت نفسي به صرت على البعد والقطيعة أستطيع أن أستوحيه فكأننا ما تباعدنا ولا تجافينا، ولقد تذمرت له وغدرت به ولكني والله ما كرهته قط ولا انطويت له في أحلك ساعات النعمة إلى على الحب والإكبار. وشكري وحده هو المظلوم المغمور ولا نكران أنه هو الذي حجب نفسه عن العيون وطوى آثاره وكيف عن نشرها وأصر على ذلك سبع عشر عامًا حتى نسيه الناس. ولكن من له مثل فضله ومزاياه إنه يحب إكراهه على الظهور رضي أم سخط. 7- العقاد؛ اعترافات المازني 1: من اعترافات الأستاذ المازني الأخير قوله وهو يذكر الأستاذ عبد الرحمن شكري "نعم كنا زميلين في المدرسة ولكنه كان ناضجا وكنت فجا، وكان أديبا شاعرًا واسع الاطلاع وكنت جاهلا ضعيف الشخصية قليل العقل فتناول يدي وشد عليها وأبت له مروءته أن يتركني ضالا حائرًا أنفق العمر سدى وأبعثر من العبث ما لعله كان في نفسي من الاستعداد وكنت أقرأ ابن الفارض

_ 1 الجهاد 1 سبتمبر 1934.

والبهاء زهير فأقرأني شعر الحماسة والشريف الرضي والبحتري والمعري وابن المعتز وأبي نواس وغيرها من أضرابها ففتح عيني على شكسبير وبيرون دورد زورث وشيلي وملتو وهازلليت وكارليل ولي هنت وماكولي وجوتيه وشيللر ولسنج وموليير وراسين وروسو ومئات غيرهم من أعلام الأدب الغربي وصرفني عن المقلدين في كل أمة وأغراني بأصحاب المواهب والابتكار وصحح لي المقاييس وأقام الموازين الدقيقة وفتح عيني على الدنيا وما فيها وكنت عميا لا أنظر وإذا نظرت لا أرى". لا ضير عليه في إثباتها إذا كانت هي الحقيقة ولا ضير على أنا في إثبات مثلها إذا لزمني منها ما يلزمه وسرى علي ما سرى عليه ولكننا هنا نفترق كما يعلم الأستاذ: ويخطئ من يظن لنا شأنا واحدًا في تاريخ هذه الفترة التي تحدث عنها. إن الأستاذ شكري والأستاذ المازني كانا طالبين في مدرسة المعلمين قبل فتعارفا وتزاملا قبل لقائي لهما ببضع سنوات. اما أنا فلم ألق الأستاذ عبد الرحمن إلا في سنة 1913 بعد عودته من البلاد الإنجليزية, ولم ألق الأستاذ المازني إلا قبل ذلك ببضعة شهور ولم يخرج منهجي في القراءة بعد أن لقيتهما عما اخترته لنفسي منذ بداية الاطلاع. فقبل أن لقيت الأستاذين كنت أشترك في تحرير مجلة البيان وأترجم فيها ماكس نورد ونيتشه وأمرسون وحافظ الشيرازي وغيرهم. وقبل اشتراكي في تحرير البيان أصدرت خلاصة اليومية وفيها آثار الاطلاع على فتزجيرالد وتلستوي ودافيد هيوم وبيرك ونيتشه، وغيرهم مقتبسة من مراجع لم تترجم إلى اللغة العربية.

وقبل صدور خلاصة اليومية بأربع سنوت أو خمس اشتركت في تحرير الدستور ونشرت فيه فصولا متعاقبة عن شعراء الفرس المترجمين إلى اللغة الإنجليزية. بل لقد لقيت الأستاذ شكري وهو يعلم لي رأيا مكتوبا في الأدب وحكما مستقلا في النقد إلى أن أقدم ديوانه الثاني الذي طبعه على أثر عودته من البلاد الإنجليزية فقدمته. فدراستي الآداب الأوربية ومطالعاتي في تاريخها ومذاهبها سابقة لمعرفتي بالأستاذ شكري والمازني، إنني لم أغير مناهج قراءتي بعد سنة 1913 أقل تغيير. ولكن الأستاذين شكري والمازني هما اللذين غيرا منهجهما في القراءة فالتفتا إلى النقد العلمي الفلسفي بعد أن كانت القراءة عندهما شاخصة كلها -في هذه الناحية- إلى النقد الأدبي المحض على أسلوب ماكولي ومن إليه، وظهرت في كتابتهما أسماء ماكس نوردو ولمبروز لسنغ ونيتشه بعد أن كانت خلوا منها وهم النقاد الذين عنيت بهم منذ البداية. الواقع أنني بدأت بقراءة الأدب الإنجليزي قبل سنة 1903. وأنا بعد تلميذ بالمدرسة الابتدائية في بلدي أسوان وساعدني على ذلك أسباب لعلها خاصة بمدينة أسوان بين المدن المصرية. ولقد كانت أسوان تزدحم بالمئات من علية الأوروبيين الذين يفدون إليها من أقطار أوربا في الشتاء, فكنا نحادثهم ونسمع منهم ونغتبط بالمرانة التي نستفيدها بمحادثتهم والإصغاء إليهم. وإذا أقبل الشتاء تفتحت المكتبات في أسوان وفيها ذخيرة صالحة من المصنفات الإنجليزية التي كانت تشيع بين القراء في تلك الأيام.

وهناك لغط فارغ يطن به بعض الناس حول شكري والمازني والعقاد لا أثر فيه للحقيقة، بل هو نقيض الحقيقة في أكثر الأمور، ولكني لا أعرض لها -أي الحقيقة- بالتوضيح إلا إذا كان المسئول بين أيدي القراء رجال كالمازني أو كشكري أو من يروي عنهما رواية يقوم عليها الدليل لدي، أما من عدا هؤلاء فليسوا عندي في حساب. 8- المازني؛ حول اعترافاتي 1: أنا وشكري كنا طالبين في مدرسة المعلمين وتزاملنا منذ عام 1901 أما الأستاذ العقاد فلم ألقه إلا في سنة 1912 أو في أخريات سنة 1911 بمناسبة ظهور مجلة البيان. وكان الأستاذ العقاد كاتبا معروفا في ذلك الوقت بل من قبل ذلك بسنوات وله كتب مطبوعة ورسائل منشورة. ما يمكن أن يفهمه أحد أن ما يسري عليّ يسري على الأستاذ العقاد أو أن حظي وحظه مشتركان في عالم الأدب بلا افتراق أو اختلاف. كان لكل منا شأنه وطريقه ومنهجه على الرغم من صلاتا الوثيقة كل هذه الأعوام المديدة وصداقتنا التي لم توهنها الأزمات من سياسية وغير سياسية. إني لا أزال أقيس قدرتي إلى أملي فلا أراني صنعت شيئا أو بلغت حيث أريد. إن خير شعري هو الذي لم أقله وهو الذي يدور في نفسي ويضطرب به جنابي ولا يجري به لساني. فليسمح لي أن أقول أن ليس لي بالاعتراف وإنما هو إيثار للحقيقة وأنفة من المكابرة.

_ 1 البلاغ سبتمبر 1934.

9- مقدمة رسائل النقد للدكتور رمزي مفتاح: يجد القارئ في هذا الكتاب رجلين هما: عبد الرحمن شكري وعباس العقاد وسيكون بلا ريب من العسير على نفسه أن يحل كلا منهما في المنزلة التي يجده فيها في هذا الكتاب إلا إذا كان مستوعبا للحركة الأدبية منذ عشرين سنة حينما صدر ديوان شكري الأول سنة 1906 وكانت له ضجة كبيرة في الشرق العربي. واسم العقاد الآن مذكور لاشتغاله بالصحافة أكثر من عشرة أعوام واسم شكري مغمور لعزوفه عن طلب الشهرة وعدم طبعه دواوينه بعد أن نفذت طبعتها من أزمان. ولقد كان تلميذه العقاد والمازني يلازمانه ويأخذان من أدبه ويؤمنان بعظمته حتى إن المازني كتب في الدفاع عن ديوانه الأول قرابة عشرين مقالا متتالية. ولما اشتغلا بالصحافة اصطحبا عليه وراحا ينالان منه ويقعان فيه ليغمرا ذكره ويعلوا على شلوه المأكول فأصدرا معا كتاب "الديوان في النقد" فرمياه بالنقد الذي لا يمت إلى النقد الأدبي ولكنه مفرق إلى مقتل يعلمانه في الرجل وطبيعة استحيائه ونكوصه أمام المهاترة الحزاف, فكان كل نقدهما أنه ذكر لفظة الجنون في أبيات متفرقة من شعره فلا بد أن يكون مجنونًا!. 10- رد عبد الرحمن شكري 1: ذكر الأستاذ خلدون أنه إذا صح ما في الكتاب "كتاب الدكتور مفتاح" تكون منزلته من الأستاذ العقاد والأستاذ المازني كمنزلة عريف القرية من تلاميذه الذين يبزونه فضلا وعلما ويفوقونه دراية وحكمة، وكنت أود أن

_ 1 الأهرام 12/ 9/ 1934 وقد نشرها ردا على مقال عنه.

أكون عريف القرية المفضول الذي علم هذين الأستاذين, كما أكتسب شيئا من الخلد بسبب خلود اسميهما ولكن لم يكن حتى هذا الفضل, وإهدائي إلى صديقي المازني الكتب أو إعارتي إياه بعضها لا يعد تعليما، أما الأستاذ العقاد فلم أعرفه إلا بعد أن أتم دراسته للأدب ولم أكن أقابله كثيرًا لأني كنت في الإسكندرية وكان هو في القاهرة وكانت المكاتبة بيننا نادرة. وإذا كان في دواوينه الأخيرة والتي قبلها ما يشبه بعض قولي فسبب التشابه في القولين تشابه الثقافة وأسلوب التعبير والشعور في موضوعات خاصة. وقد تنحيت عن الاشتغال بالأدب نحو سبعة عشر عاما من غير قاهر يقهرني وإنما تنحيت زهدا في أن أكيد أو أكاد فليس من المعقول أن آتي بعد أن فترت فورة الشباب فأغري الكتاب بالأستاذ العقاد والأستاذ المازني وأنا لا أتكسب بالكتابة ولم أحترف الأدب والصحافة ولا أعد نفسي المحترمون أديبا إذا عد الأساتذة.

الفصل الثالث: إمارة الشعر

الفصل الثالث: إمارة الشعر بين الزهاوي والعقاد ومطران: "كانت إمارة الشعر حدثا من أهم أحداث الأدب العربي المعاصر بعد وفاة شوقي 1932 فقد تعدد القول فيها وأصدر الدكتور طه ثلاثة أحكام مختلفة في عام 1932 بايع "العراق" بإمارة الشعر ولم يحدد هل هو الزهاوي أم الرصافي؟ وفي 1934 بايع طه حسين "العقاد" بإمارة الشعر في حفل تكريمه وفي عام 1937 بايع طه حسين "مطران" بهذه الإمارة ونظر الرافعي للمبايعة نظرة ساخرة. ثم عاد طه حسين فأنكر أنه بايع العقاد وقد نقلنا نص كلامه الذي نسبه الناس يوم قال قلت: إن الشعراء ييستطيعون أن يدفعوا لواء الشعر إلى العقاد بعد أن مات حافظ وشوقي فهو يستطيع أن يحمل هذا اللواء مرفوعا منشورًا وأن يحتفظ لمصر بمطانها من الشعر الحديث. 1- مبايعة طه حسين للعراق بإمارة الشعر 1: "صور أحمد حسن الزيات هذه المبايعة على هذا النحو": خلا ميدان الشعر فجأة من قائديه العظيمين فحدث في صفوف الشعراء اضطراب وفوضى وقام في السقيفة المقلدون والمجددون يقولون: منا أمير ومنكم أمير. وهناك أرسل الدكتور طه حسين حكمه المعروف فزاد الخلاف شدة والجدال حدة. قضى للعراق بإمارة الشعر التقليدي فغضبت مصر, وكان الأستاذ الهراوي أشد المصريين حنقا وأعنفهم خصومة. وسورية ... لقد هبت العاصفة تدافع رأي الدكتور في حدة وعنف وتقول مع السيد النجار: ما للدكتور يرسل الزعامة إلى العراق في طيارة وكان يكفيه أن يرسلها إلى صاحبه مطران في سيارة.

_ 1 الرسالة 15 يناير 1933.

والعراق ... هل اغتبط بهذه الزعامة؟ أما الرصافي فيرجو أن يكون خليفة لشوقي وحافظ. أما الزهاوي فأنا أعلم أنه يؤثر يكون في ساقة المجددين على أن يكون في طليعة المقلدين. 2- مبايعة طه حسين بإمارة الشعر للعقاد 1: "بين خطاب طه حسين في حفل تكريم العقاد": تستطيعون أيها السادة أن تحبوا العقاد وما وسعكم الحب فلن توفوه حقه. ذلك لأن العقاد هو الصورة الناطقة واللسان الخالد والمرآة الصافية والمجلوة التي حفظت صورة مصر الناهضة وأبقتها ذخرًا للأجيال المقبلة. أما أنا أيها السادة فسعيد جدًا بهذه الفرصة التي أتيحت لي ومكنتني أن أقول بالرغم من الذين سخطوا والذين يسخطون إني لا أؤمن في هذا العصر الحديث بشاعر عربي كما أؤمن بالعقاد. تسألونني لماذا أؤمن بالعقاد في الشعر الحديث وأؤمن به وحده؟ وجوابي يسير جدًا. لماذا؟ لأنني أجد عند العقاد ما لا أجده عند غيره من الشعراء، لأني حين أسمع شعر العقاد أو حين أخلو إلى شعر العقاد فإني أسمع نفسي أو أخلو إلى نفسي إنما أرى صورة قلبي، وصورة قلب الجيل الذي نعيش فيه لأن العقاد ليس مقلدًا ولا يستطيع أن يكون مقلدا, ولو حاول التقليد لفسدت شخصيته وشخصية العقاد فوق الفساد. يعجبني العقاد لأنه يلتمس موضوعاته حيث لم يستطع شعراء العرب أن يلتمسوا موضوعاتهم لأننا نحن الأساتذة أعلم بالعقاد من العقاد. أعترف أني عندما قرأت القصيدة "ترجمة شيطان" وقرأتها, وقرأتها

_ 1 الجهاد 29 أبريل سنة 1934.

فكرت في شعراء آخرين ليسوا عندنا ولا هم بين شعرائنا. ولكنهم يعيشون في أوربا، فكرت في جوت، فكرت في بول فاليري، وفكرت في ملتون. كنا أيها السادة نشفق على الشعر العربي وكنا نخاف عليه أن يحل سلطانه عن مصر، وكنا نتحدث حين مات الشاعران العظيمان شوقي وحافظ، كنا نتحدث عن علم الشعر العربي المصري، أين يكون ومن يرفعه للشعراء والأدباء ليستظلون به. كنا نسأل هذا السؤال، وكنت أنا أسأل هذا السؤال، لماذا؟ لأني كنت أرى هذه المكانة العظيمة التي اكتسبها شوقي وحافظ رحمهما الله، وكنت أرى شعر العقاد على علو مكانته وجلال خطره شعرًا خاصا مقصورًا على المثقفين المترفين في الأدب، وكنت أسأل هل آن للشعر القديم المحافظ المسرف في المحافظة أن يستقر وأن يحتفظ بمجده، وهل آن للشعر الجديد الذي يصور مجد العرب وأمل المصريين أن ينشط ويقوى، انتظرت فلم أجد للمقلدين حركة أو نشاطا فإذا المدرسة القديمة قد ماتت بموت شوقي وحافظ، وإذا المدرسة الجديدة قد أخذت تؤدي حقها, وتنهض بواجبها فترضي المصريين والعرب جميعا. وإذا الشعر الجديد يفرض نفسه على العرب فرضا، وإذا الشعور المصري والقلب المصري والعواطف المصرية أصبحت لا ترضى أن تصور كما يصورها حافظ. وإنما تريد وتأبى إلا أن تصور تصويرا جديدا، هذا التصوير الذي ترونه في العقاد الذي حمل هؤلاء الملايين على إكبار العقاد كما قال أحد الخطباء إذن لا بأس على الشعر العربي وعلى مكانة مصر في الشعر والأدب. ضعوا لواء الشعر في يد العقاد وقولوا للأدباء والشعراء: أسرعوا واستظلوا بهذا اللواء فقد رفعه لكم صاحبه.

2- مصطفى صادق الرافعي 1: "ليس لدي الآن نص كلام الدكتور طه ولا أنا أذكر ألفاظه بحروفها, ولكن الذي أذكره أني حين قرأته لم أبحث بين ألفاظه عن يقين المتكلم واقتناعه وحججه وأدلته، بحثت فيه عن سخرية طه بالعقاد وبالشعراء جميعا في أسلوب كأسلوب تلك المرأة العربية في قصتها المعروفة حين قالت لرجال قومها في أبيات مشهورة: وإن أنتموا لم تغضبوا بعد هذه ... فكونوا نساء لا تغيب عن الكحل غير أن طه في سخريته كالذي يقول: فإن لم تثبتوا أن فيكم من استطاع أن يخلف شوقي فاصغروا واصغروا حتى يكون العقاد هو أميركم. ثم قال: بقي أن نتساءل: لماذا لم تأت الشهادة يوم كان الدكتور طه عميدًا لكلية الآداب وكان يومئذ حرًا لا يستذله الإكراه؟ ولماذا جاءت الشهادة وهو يحترف الصحافة؟ وترى لو كان العقاد من الحزب الوطني أو من الأحرار الدستوريين أو اتحاديا أو شعبيا, أفتكون قولة طه يومئذ وهو في انسلاخه الثاني وانقلابه وفديا, أفتكون إلا ردًا سياسيا على العقاد وشعره ونفرة سياسية من هذا الشعر وعقاده؟ 3- مبايعة طه حسين بإمارة الشعر لمطران: "من خطاب من طه حسين إلى مطران بمناسبة بلوغه الستين": تحية ذكية إليك أيها الصديق الكريم من صديق تعرف مكانك في قلبه ومنزلتك في نفسه وتعرف إعجابه بخلقك العظيم وإكباره لأدبك الرفيع.

_ 1 الأسبوع مجلد عام 1934.

وإعلانه في كل قطر زاره من أقطار الأرض في الشرق والغرب وإلى كل متحدث إليه من الشرقيين والغربيين أنك زعيم الشعر العربي المعاصر وأستاذ الشعراء العرب المعاصرين, لا يستثني منهم واحدا ولا يفرق منهم بين المقلدين والمجددين، وإنما يسميهم جميعا بأسمائهم غير متحفظ ولا متردد ولا ملجلج ولا مجمجم, وإنما هو اللفظ الصريح يرسله واضحا جليا لا التواء فيه ولا غموض، فأنت قد علمت المتقدمين كيف يرتفعون بتقليدهم عن إفناء النفس فيما يقلدون, وأنت قد علمت المجددين كيف ينزهون أنفسهم عن الغلو الذي يجعل تجديدهم عبثا وابتكارهم هباء. أنت حميت حافظا من أن يسرف في المحافظة حتى يصبح شعره كحديث النائمين, وأنت حميت شوقي من أن يسرف في التجديد حتى يصبح كهذيان المحمومين. وأنت رسمت للمعاصرين هذه الطريقة الوسطى التي تمسك على الأدب العربي شخصيته الخالدة وتتيح له أن يسلك سبيله إلى الرقي والكمال، وقد حاولوا أن يتبعوك في هذا الطريق فطار بعضهم بجناح واستسلم بعضهم فارتاح1.

_ 1 مجلة الحديث مجلد 48 سنة 1927.

الفصل الرابع: ديوان وحي الأربعين

الفصل الرابع: ديوان وحي الأربعين بين مصطفى صادق الرافعي وعباس محمود العقاد: هذه إحدى معارك الصراع بين المدرسة القديمة والمدرسة الحديثة، بين علمين من أكبر أعلامها، بين الرافعي والعقاد، كانت الخصومة بينهما قديمة، لها جذور بعيدة المدى منذ إصدار كتاب "إعجاز القرآن" وقرظة سعد زغلول وغضب العقاد, واتهم الرافعي بأنه هو كاتب التقريظ واتهم سعد زغلول، ونامت الخصومة ثمة, ثم تجددت. 1- من الرافعي إلى العقاد 1: ولم أر في كل ما قرأت من شعر أدبائنا ما يستوفي أوصاف الشعر الوسط كنظم صاحب وحي الأربعين عباس محمود العقاد فله فلسفة وفكر وطريقة وله منزع بعيد ومرمى قصي وله اطلاع على شعر الأمم وآدابها، وفيه رغبة شديدة إلى أن يكون مبدعا مجددًا، وقد ارتهن نفسه بملامسة صناعة الأدب وفرغ لها فراغ من يعيش لما يعيش به وانغمس منها انغماس السمكة في بحرها أو مستنقعها، ولكنه أعطى هذا كله ولم يعط أسباب التمكن فيه وتكلف لمظاهر القدرة العالية ولم يهبه الله خصائص هذه القدرة وجاوز عند نفسه حدود العبقرية لزعمه القوي وهو محتبس من ورائها بطبعة الضعيف وأغرق في المحاولة ليغرق مثل ذلك في الخيبة, وجاء بالكثير ليرد عليه الكثير أيضا, وقدم لنا شعره على أنه التجديد والعبقرية وأنه وأنه، وليعد ما شاء من الأوصاف, ولكن ماذا ينفع ملكة جمال أن يكون فيها كل شرائط الجمال وهي عوراء؟ وقبل أن نتناول شعر الوحي نريد أن ندل العقاد على سر سقوطه في الشعر

_ 1 البلاغ 18 مارس 1933.

وأنه لن يفلح ولا يجيء به إلا فضولا مكرها أن يكون شعرا, ولعله لا يدري أن أكثر ما يحرص عليه من نظمه يتفق أحسن منه لكثير من كبار الشعراء فينفونه ويهذبون شعرهم منه، ذلك أن الفكر يأتي بمادة القصيدة ثم يصورها الطبع ويصوغها ثم يأتي الذوق فيهذبها كما يهذب صانع التمثال تمثاله، ولقد كنت أقرأ "وحي الأربعين" وما يخطر لي إلا أن أكثره أبيات كان العقاد أسقطها من قصائده القديمة ثم فتنه الحرص فجمعها ديوانا ولو هو سمى الحقيقة باسمها لكان اسم ديوانه "الحثالة". ذلك السر الذي أومأنا إليه هو أن العقاد يحترف الصحافة السياسية من أول نشأته وهو عمل الساعة ولغة الجمهور وأساليبها في نقل الأخبار بعضها من بعض معروفة. وأساس كل بيان فيها قيام المعنى لمحض الدلالة التي يحملها لا للسمو بها, وفي أساليب صناعة الحكاية لا في أساليب صناعة البلاغة وعلى سياسة الواقع لا على سياسة الارتفاع بالواقع، وما زعم أحد أن الصحافة السياسية أنشئت للشعر ولغته وبيانه وفلسفته، فهي في خاص معناها وافية بما وجدت له وهي الحق كل الحق في غايتها وسبيلها إلى هذه الغاية، ولكن شر ما في الباطن وأبعد ما في المستحيل إذا أريدت على أن ينبع باحترامها الشاعر العبقري مبدع اللغة في مادة فنها البياني وحكم النفس القائم على سياستها الداخلية والخارجية وملك الطبيعة الذي قيل له من الأزل إن قوة الملوك السلاح للفتك والموت وقوتك أنت الكلمة الجميلة التأثير والحياة. إن ما نراه في شعر العقاد من أثر كل ذلك، معان ملخصة وقصائد هي مقالات فسدت فصارت نظما وصناعة من القلم للماكينة لا ننكر أن يكون المعنى تحصيل الحاصل أو يكون من المعاني التي لا توجد حضري ولا همجي إلا عرفها من هذه الأصول التي بيناها ترى أكثر شعر العقاد أو كل شعره يعتريه ما يعتري

المقالات الصحفية من النقض والرد, فأنت تستطيع أن تفسده كله بأيسر الكلام لأنه موضوع على قاعدة تقبل ذلك وتقرؤه فلا تهتز لشيء منه كأنه رأي ألقي من الأحزاب السياسية ليرده أحدهما على الآخر، ويغلبك شعور عجيب في أكثر ما تقرأ فما تشك أن وراء هذه المعاني "مقصا" قصها من كتب ودواوين ورسائل وأن صاحب "المقص" جالس في ديوانه مجلسه في جريدته يتبادل أخبار الفكر الإنساني وعلة أخرى هي أن في العقاد نقصا كبيرًا في البيان العربي وهو ضعيف الفهم جدًا لأسرار هذا البيان، وقد قرر عند نفسه كما قال لي مرة أن البيان هو ما يكتب به في الصحف. وهذا مذهب إذا صار إلى الشعر كان فيه كعمل من يستعطر بالعطر من أي أوراق النبات أصابها ولو كراثة أو بصلة, ومن هذا جاء شعره, وإنه ليقابل في أيامنا هذه ما كان عند ناقدنا من شعر الفقهاء, ولا يراد به دقة المسلك إلى النفس ولا لفط المأخذ من اللغة ولا إصابة الفضل في المعنى ولا حكاية الطبيعة في صناعة فكرية جميلة ولا بث إشراق النفس الروحانية في تركيب المادة، وإنما هو نظم بحت مستجلب متكلف يقع منه أقبح التفاوت كما ترى في ألفاظ العقاد ويعدل في سياقه عن طبيعة الشعر إلى طبيعة الجدل والسرد وحكاية الآراء والمذاهب. وما يخيل إلي في شعر العقاد إلا أنه مستنقع اخضرت ضفتاه, فهذا الجمال القليل منه لا يكشف عن سر ورونق وإمتاع وإنما يزيد في القبح وما في هذا المستنقع إلا البعوض والملاريا والطحلب والوخم والعفن ولو أنك

كنت دقيق الحس مصفي الذوق عالي البيان, ثم قرأت شعر العقاد؛ لرأيت من شعره ما يلسع الذوق لسع البعوض وفي شعره أبياتا تنهق نهيق الضفادع في الماء ومع هذا كله لا تنفك من منظر نضر هنا وهناك من ضفاف المعاني الحسنة التي يعرضها مما ينقله عن غيره من شعراء العرب والأوروبيين. -2- والعقاد1 لا يتهيأ في طبعه من الفلسفة كالذي يتهيأ في طباع الشعراء الملهمين إذ لا يجد في استطاعته أن يقتسر الإلهام وليس بضاعة ولا جبلة له فما يفوت ذرعه ويقطع قوته وما لا يخلقه الله لا تخلقه اللغة الإنجليزية والشاعر الملهم يسنح له المعنى من فكر أو نظر أو قراءة فإذا هو كأنه قطعة من جمال الحياة تريد أن تنفذ إلى حياة الناس ليزيدوا بها حسًا وذوقا ومنفعة، فإذا المعنى في صورته تجعله وحيا إلى هذا العبقري بخاصته وإن كان قد وقع من قبل ذلك لكل شعراء الدنيا ويجيء كما يجيء من الناس قد امتلأت بهم الأرض، وقلما يتشابه اثنان شبها تاما إلا في الندرة ولكن غير الملهم يتسقط المعنى من فكر أو نظر أو اختلاس فإذا هو قد جاء بصناعة عقلية على قدر خاصته لا على قدر المعنى فكأنه لم يزد على أن تنبه له دون أن ينفذ إلى حقه إلى طبيعة الشعر فيه. ونحن نعرف العقاد رجلا ذكيا مفكرا مطلعا ولكن هذه الخصال على

_ 1 الجهاد 19 مارس 1937.

أنها الطبقات العليا في صناعة الكتابة الصحفية هي نفسها الطبقات السفلى في صناعة الشعر العالي، فإن الإلهام من فوقها يبدأ وكأنها الجاذبية الأرضية لا يتخطى حدودها من كانت طبيعته من الأرض وإن علا في طيارة أبعد ما يعلو وإلى أن يختنق. فما يصنع الرجل شيئا أكثر من أن يضع يده على المعنى ثم يجهد في تقليبه وتقطيعه وتهشيمه وكثيرًا ما تقصر عبارته لضعفه في البيان واللغة فيرى أن ما كان في نفسه لايزال في نفسه مع أنه قد نظمه وتعب فيه فيعمد إلى الشرح يستعين به كأنه في طريق مقالة يترجمها أو يحصلها, ويأتي الشرح دليلا على أن هذه مطردة على ساقها بل هي ملفقة تلفيق المتن ينظم اعتمادا على أنه لا يقوم بنفسه ولا بد معه من شرح ولا بد مع إبهامه من تفسير. 2- رد العقاد؛ سماسرة الأدب 1: فأحد هؤلاء رجل منكوب يسمى إسماعيل أفندي مظهر كان يطبع في القاهرة مجلة تسمى العصور، علم هذا المنكوب الأول أنه يشبه العقاد وحجة الثاني أن يزول العقاد من صفحة الدنيا فلا يرى له شخص ولا يسمع له بخير، اكتب عن ابن الرومي فيكتب عن ابن الرومي واكتب عن بشار والمتنبي والمعري فيكتب عن بشار والمتنبي والمعري ولما حار في أمره ولم تغن عنه هذه المحاكاة الزائفة خطر له أن العقاد إنما اشتهر لأنه يكتب في صحيفة وفدية فتطوع هو الكتابة في زميلتنا كوكب الشرق عدة أشهر بغير جدوى فما شأن العقاد في نفس هذا المنكوب, هو بلا ريب كل شيء.

_ 1 الجهاد 21 مارس 1933.

وزميل آخر لهذا المنكوب الثاني مصطفى صادق الرافعي. زاده الله من كل ما فيه. ما كتب هذا الرجل حرفا عني إلا ليقول أنني لست بكاتب ولست أحسن فهم الشعر والبلاغة، وما كتبت حرفا في النقد والبلاغة إلا سعى إليه يقرؤه ويحفظه ليسرق منه ما يصل إليه عقله الكليل، فمنذ أشهر كتب عن شوقي مقالا ينكر فيه الشعر على المصريين كما يصفهم بالعقم وخمود القريحة فلما غضب القراء والناقدون على هذه المسبة الغليظة وثبت السرقة علي لسانه وقال: إنه إنما يروي ما كتبه العقاد. فهو يحفظ كلامي ويتجاهله ولا يعترف به إلا حين تسوء نيته ويحسب أن سينبه إلى غضاضة علي فهو خاطئ الفهم سيئ النية كاذب اللسان ولولا ذلك لعلم أنني أقول عن حلقات الريفيين في كتابي ساعات بين الكتب أنه "من شهد تلك الحلقات أو سمع ذلك الغباء ومن لمس ذلك الجذل المخزون في قلوب أبناء الأقاليم صعب عليه أن يستمال إلى الدلائل التي تنكر الشاعرية على سليقة المصريين وهذا هو الكلام الذي فهم منه العليم بأسرار البلاغة أنني أنكر الشعر على سليقة المصريين. وهو يزعم في كلام نشره في المقتطف الأغر أن يهمل كتبي ولا يلتفت إليها ولا سيما كتاب الديوان مع أنه قد سرق فصلا كاملا من ذلك الكتاب وإلى القراء شواهد السرقة منقولة عن جزء الديوان الذي أهمله على طريقته البديعة في الإهمال. انتقدنا حامي القرآن حمى الله منه القرآن ولغة القرآن. وهذا المنكوت لا يعرف كلمة في الإنجليزية ولكن يعرف الحقد على

العقاد فكل ما يعيب العقاد فهو صحيح ولو نطقت به القمل والنمل والخنفساء. وقد روى في إحدى المجلات أنني سرقت قصيدة غزل فلسفي من قصيدة شلي "أبيسكديون" وسرقت قصائد الآثار من ثيوفيل جونيه؛ روى هذا وصدقه مع أنه لا يعرف الإنجليزية ومع أن الزاعمين لم يجرءوا على ترجمة بيت واحد من تلك القصائد التي زعموا أني سرقت منها ولكنه يحقد على العقاد فسحقا إذن للأدلة والبراهين ومرحبا بكل تهمة يفتريها المفترون جزافا بغير دليل. إن كان في ذرات لحمك ودمك يا حاسدي المسكين ذرة واحدة لم يهرأها الحقد علي فاعلم إذن أنني لست أفعل ذلك لأنني لست أحب أن أبادل شلي وجونيه أو شاعرًا أكبر أو أصغر بما أقول. 2- فإنما1 أكتب وأنظم لأعبر عما في نفسي لا لأنقل ما عبر به الناس. إنني لا أعمل غير أن أكتب فيقرأ الناس. ما احتلت قط على الشهرة بحيلة ولا توسلت إليها بغير هذه الوسيلة، فإن بلغ جنون الضغينة ببعض الموتورين أن يطلبوا مني كف الناس عن قرائتي شفاء لضغنهم وقضاء لوترهم فالطالب مجنون وليس المستمع بمجنون. لقد مضى زمن اللغو. لقد مضى زمن السحرة. لقد مضى زمن الشهرة بأمثال هذه الأساليب. لقد نشأ في العالم العربي قراء لا يأخذون بالأوهام ولا يدينون بعبادة الأصنام، فإن كان الرافعي وأضرابه يحسبون أنهم نالوا من كاتب هذه السطور منالا في العالم العربي بما لوثوا به صفحات

_ 1 الجهاد 21 مارس 1932.

الرسائل والمجلات فلتسمعوا كلمة الأستاذ محمد الحليوي في صحيفة الزمان إذ يرد على سفاهة الرافعي فيقول: أما العقاد فحسبك أن أبحاثه في الأدب ومقاييسه في النقد قد وجهت الأدب العربي بحق إلى وجهة جديدة وأماطت اللثام عن أصنام من خشب وجبال من طين, وحررت العقول من عبودية أمساخ القبور وأحلاس القديم الذين قيدوا حركة الأدب, وقتلوا فيه كل روح. فليكتب الرافعي ما ينضح به إناؤه وإناء أمثاله فقد عرف أدباء تونس وغير تونس مكانه من عربات المجالس البلدية قبل أن يعرف هو مكانه من تلك العربات وسيزداد الناس علما به وبي كلما ازداد. 3- من الرافعي إلى العقاد 1: قرأت اليوم في الجهاد رد صاحب وحي الأربعين على ما كتبته عنه في البلاغ وهو رد ظهر فيه العقاد طائرًا بالكلام على وجهه مثيرا حوله عجاجة من السب كما يفعل العامة إذا طار بها الرعب في عرض البيد وخفق بها الفزع خفقة البرق وحاولت أن تسب السماء بغبار الأرض, فذكر لي فزعه هذا أو غيظه مع إشاعة في الدعوى وتعريضه إياها إلى ما يفوت عرض الغرور وطوله هذا النفخ وهذه الصولة وهذا التفعي والتثعثن أنيابا فيها السم فاقع وما دروا أن من الحيات أفاعي كل سلاحها أن تنفخ نفخها وتصول صولتها وتنشر مقالتها, وهما وخداعا وإرهابا للحشرات الضعيفة وسحرا لبغاث الطير ثم ليس معها بعد ذلك شر ولا خير.

_ 1 البلاغ 23 مارس 1933.

ذكرني فزع العقاد بمثل ما كنت قرأته في النسخة التي عندي من كتاب كليلة ودمنة ويعرف الأدباء الذين قرءوا كتابي تحت راية القرآن أنه ليس في العالم كله نسخة أخرى مثلها. يعرف العقاد معرفته الشرق والغرب والشمال والجنوب أننا لا نعبأ به ولا نعده أديبا ولا نقيم له وزنا في العربية ولا نخشى سفاهته ولو جعل الجهاد جهادًا فنيا نحن وهذا كله ما قلناه له في وجهه ونعتقد يقينا أننا قلناه له في قلبه. ورأينا في العقاد أنه لو صح فيه مذهب التناسخ وتناسخ في هذه الأرض ألف مرة لما كان في واحدة منها عف اللسان ولا كريم النفس ولا وفيا لأحد ولا شاكرًا لنعمة ولا معترفا بحقيقة وليس من العقاد إلا العقاد. ولعله يسره أن يعلم أنه أضحكنا بسفاهته ضحكا لا عهد لنا بمثله إلا أن نرى شارلي شابلن في السينما. قال الأستاذ "بنطلونه وحذاؤه" وهو يعنينا: ما كتب هذا الرجل حرفا عني إلا ليقول: إنني لست بكاتب ولست أحسن فهم الشعر والبلاغة. وقال: وما كتبت حرفا في النقد والبلاغة إلا سعى إليه يقرؤه ويحفظه ليسرق منه ما يصل إلى عقله الكليل. قلنا كذب والله أنه ليهلك في صفحة واحدة لو أراد أن يعارض صفحة مما نكتبه. وليحتكم إلى من يحسنون الكتابة ليرى في قراءتهم كيف خلق الله وجهه البياني كأنه "بروفه" مطبعية ملقاة بدون تصحيح. إن العقاد إنما يريد بهذا الزعم أن يشرف نفسه كما أراد من قبل حين

كتب في الجزء الثاني من الديوان يزعم أننا أخذنا من نقده لنشيد شوق وقد نشرنا هذا في سنة 1921 ومع ذلك عاد إليه اليوم فنقله في الجهاد ويظنه برهانا جديدًا ونعرفه نحن إفلاسا جديدًا، فإن هذا المغرور يعلم في ضميره الذي يحاول أن يخبأه حتى من الله جل جلاله, يعلم أنه هو نفسه كان قد وقف طبع كتابه "الديوان" حين علم أننا سننقد نشيد شوقي، وأشاعت جريدة الأخبار نبأ هذا النقد وذلك لينقل ما نكتبه ويفخم به شأن كتابه ويستعين بنا على عدوه شوقي، فلما أبطأنا في طبع النقد كتب هو تلك الرقاعة التي سماها نقدا ونشرها, حدثنا بذلك صديقنا الأستاذ المازني وكان شريكه في كتاب الديوان وخير هذا الحديث أني كنت معه في جريدة الأخبار فرأيت في يديه جزء الديوان الذي زعم فيه العقاد مزاعمه الشخصية فبعد أن قرأت ما كتب عني قلت له: كنت أظن العقاد عاقلا فإذا لطوله معنى, فقال: إن شاء الله لا يجد للقصر معنى, ثم سألته: كيف أنى للعقاد أن يزعم هذا الزعم؟ وهل ذلك رأيه في اعتقاده؟ أم رأيه في ادعائه، فقال: إننا كنا نرقب ظهور نقدك لننقله, ونكتفي به, فلما تأخر كتب العقاد كتابه, ثم اطلع على نقدك بعد ظهوره فرأى فيه كتابا من الأستاذ منصور عوض مؤرخا في 11 ديسمبر وهو بعد ظهور الديوان, فظن بعد ذلك أنك نقلت عنه, فقلت لهذا الصديق: إنك تعلم أني شرعت في الطبع قبل أن يخط العقاد حرفا, ولهذا انتظركما يقول, ثم تعلم أن فلان باشا سعى عند أمين بك الرافعي رحمه الله ليجمعني به فيتفق على أمر من الأمور لأكف عن نشر هذا النقد وقد كنت تراه رجاني وإني من أجل ذلك وقفت طبع النقد مدة, وفي أثناء هذه المدة جاءني كتاب الأستاذ منصور عوض ثم تم سيئ وأخفق سيئ فمضيت في إتمام الطبع, وكان هذا سببا في خروج كتابي متأخرًا

فأقرني الصديق على ذلك، وقال: إن العقاد لم يكن يعلم هذا ولم تبق فائدة في أن يعلم. فقلت: ولا كانت على مضرة في أن يجهله. هذا هو حديث الإفلاس الجديد الذي استخرجه العقاد من دفاتره القديمة فإن كان أهلا للخجل فليخجل، وكل ماكتبته هنا أشعته بين جميع أصدقائي من يومئذ. 4- من إسماعيل مظهر إلى العقاد 1: هاجمني اعتباطا وانتقض فيه ارتجالا، كأن ما طبع عليه العقاد يأبى عليه إلا أن يقول الشر وأن يرمي أقدار الناس بقصد وبغير قصد وأن يكثر عليهم السباب والشتائم لوجه الشر وحده ولوجه النار الآكلة التي تغلي مرجلها في صدره وحفيظته على كل من نبه في الأدب قدره أو رجحت في العلم كفته. أما إذا كان هذا من أثر السفافيد التي شواك فيها الأستاذ الرافعي شيئا على صفحات العصور وطبعها في كتاب وزعت منه على ما أعرف آلاف النسخ في العالم العربي كله, فكن على يقين من أن تهجمك هذا ليس بمغنيك عما في هذه السفافيد فهي باقية معك طول حياتك, وستظل باقية بعد مماتك. وكأني بك تريد أن تحتكر الأدب وتاريخ الأدب لنفسك فتنعي علي لأني كتبت في بشار وابن الرومي والمتنبي والمعري لأنك كتبت عنهم وإني أريد أن أكون العقاد في كل شيء, ومما يدل على سفاهة أحلامك أنك تكذب في هذا كذبا صراحا وإن كنت كذوبا فكن ذكورًا فإني لم

_ 1 البلاغ 23 مارس سنة 1933.

أكتب في ابن الرومي حرفا واحدًا, ولم أكتب حرفا واحدًا في المتنبي, أما ما كتبت في المعري فمقال تناولت فيه ناحية واحدة هي عقيدته في الخالق. ولكن على تعمدك الكذب البين تعمدت أيضا أن تكون مغالطا فإنك لم تذكر أني كتبت عن مهيار الديلمي وإني قطعت في ذلك المقال برأي فيما تحدثه الورثة الأنثولوجية من أثر في الاتجاه الشعري, وكنت أول من قال بفكرة أن الدم الآري الذي يجري في عروق مهيار وابن الرومي أثرًا جعل النزعة إلى الحقائق وإلى الماديات أبين في شعرهما. أما إني لم أنقد ديوانك الجديد أو شيئا من شعرك فإن ذلك ليس عن قصور بل عن عقيدة وعقيدتي فيك أنك شاعر لا يرجى منك أن تبلغ من الشعر أكثر من قولك: أرى في جلال الموت إن كان صادقا ... جلالة حق لا جلالة باطل وفيه من التواء الفكر ما يمضي بحسنات ألف بيت من الشعر الجيد. أما قولك بأني حاولت أن أكتب متطوعا في جريدة وفدية لأنال الشهرة بمثل ما نلتها فثق بإني أعتقد أن الشهرة التي تأتي من وراء الصياح في الجرائد ومن نشر العناوين بحروف بارزة كبيرة. شهرة حقيرة في نظري وهي إلى العناوين أقرب منها إلى أن يكون فيها دلالة على شيء جدير بالاحترام ودليلي القاطع على هذا أنك قتلت جريدة مصر فلم ينقذها من الموت أدبك ولا أغناها عن السقوط أنك أستاذ بحروف المطبعة وقتلت بعد ذلك كوكب الشرق فلم ينقذها من الموت أدبك ولا أغناها عن السقوط أنك أستاذ بحروف المطبعة.

5- من الرافعي إلى العقاد 1: أما بعد فقد سبنا العقاد أفحش السب في كلمته. التي ظهرت بها جريدته اليوم كخرقة المطبخ. وما ندري والله كيف يفهم هذا الرجل؟ ولا كيف يعتبر الناس يقرءونه؟ ولا ما هي فلسفته في السب والشتم؟ وهل هذا جهل منه أم تغافل؟ وهل هو تطاول أم تظارف؟ وهل تلك قدرة أم عجز؟ لقد درسنا جب العقاد في رده الأول ورده الآخر فما خرج لنا من ذلك إلا أنه جلف مدخول الطبيعة كان قد وقعت فيه معجزة غريبة فوضع الله في جسمه طبيعة أسوان من قدمه إلى عنقه ثم وضع في وجهه طبيعة القطب الشمالي فالرجل فاسد الحس ويحب ذلك عمقا في الإحساس يتسع به لنقائص الدنيا من الجمال إلى الجيف إلى المراحيض ويتسع جبينه "لكل موجود وموعود تؤام" ومادام إحساسه بهذا العمق فكل شيء كأنه جزء منه وإذا كان كل شيء جزءا منه فالقبح والفساد من بعض ما فيه. ومادام له هذا القبح وهذا الفساد فلا قبح في غلطه ولا فساد في ذوقه، ولا فساد في ذوقه ولا يعات ما هو طبيعي لأنه طبيعي. ومكابرة العقاد ومباهاته وفخره وبطره وكبرياؤه على ما فيه من الضعف والقلة والذلة كل ذلك من الأدلة القاطعة على ذهن مختل قد انفرد بنفسه في اختلاله انفراد ذوق صاحبه في اعوجاجه, ولا يكون القانون لمثل هذا الذهن إلا خطؤه وغروره. لقد كنا على يقين من أن العقاد الجبار سينهزم عنا أقبح هزيمة وإنه

_ 1 البلاغ في 3 مارس 1933.

ليست له الأجولة, ثم يصرع فإنه هو يعرف في ذات نفسه أنه لا يملكه معنا ما يملكه مع غيرنا وهذا سبب آخر في شتمه إيانا لأن صيحة من تأخذه من حلقة لا تجيء كصيحة من أخذته من يده أو رجله, وما علينا يدخل العقاد ولا علينا يشعوذ ولا معنا يستطيع المستطاع. من البراهين عند العقاد قول ذلك الذي هو أزكى وأبلغ رجل في الشرق هو المعفور له سعد باشا زغلول في وصف سياسة مصطفى صادق الرافعي في كتابه إعجاز القرآن كأنه تنزيل من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم. أمن براهين العقاد عند العقاد قول العقاد نفسه؟ وقد كتب عنا قديما في المؤيد وهو ينتقد كتاب إعجاز القرآن "ولقد اتفقت للرافعي في هذا الكتاب جمل وعبارات لم يتفق مثلها للعرب منذ أن تكلموا وخطبوا إلى أن ألفوا وكتبوا". معذرة أيها القراء فإن الخجل لا يوضع على وجه من لا يخجل كهذا العقاد وليس للخجل دواء يستعمل من الظاهر, وأنا أعرف الكلام الذي يتحول في دم العقاد إلى سم يشتعل في روحه اشتعالا، وما قرظني سعد باشا بكلمته السماوية التي لا يعدوها أبلغ ما في الحقيقة ولا أبلغ ما في المبالغة بل قرظني وقتل العقاد بداء الحقد في وقت معا. ولو حدثتكم أن هذا العقاد قال لي مرة في مجلس رئيس تحرير مجلة شهيرة هي "المقتطف" أنه أبلغ من سعد باشا وأذكى من سعد باشا حين لم يجد له مخرجا من كلمة سعد إلا بهذا الادعاء الساقط وإني أشهدت على كلمته هذه صاحبنا رئيس التحرير. ولو أنا حدثتكم في ذلك واقتصصت القصة على نسقها لأدركتم أي معتوه هو, بل أي أحمق ولعرفتم أن عندنا في مصر جبار

ذهن أي مخبولا, كثيرون الذي صاح وهو يسوق نفسه على فراش الموت أي فنان سيهلك بهلاكي. 6- العقاد: المنكوب المطموس 1 مصطفى صادق الرافعي رجل عامي, إن المناقشة هي أن تغلب وإن علامة الغلب أن يظل يتكلم ويتكلم فإذا أخذته بكتب النحاة جميعا قال ذلك: وما كانت النحاة جميعا، إني أخطئهم، وأشتمهم في وجوههم ولو كان هذا يعقل ما يقول لما شغل حياته كلها بنا وبمؤلفاتنا قياما وقعودًا وكتابة وحدثيا؛ ليقول: إنه لم يقرأ كتب العقاد ولا يبالي ما كتب العقاد. يا هذا؛ عندي ما يشغلني عن ضغينة نفسك الصغيرة فاذهب إلى عالم الأشباح الذي ألقيت بك فيه منذ سنوات ودعنا لما هو أفضل من صغائرك وأولى بنا وبقرائنا, فلن تظفر منا بعد اليوم بجواب.

_ 1 الجهاد 28 مارس 1933.

الباب العاشر: معارك النقد بين المجددين

الباب العاشر: معارك النقد بين المجددين الفصل الأول: بين التغريب والتجديد مساجلة بين توفيق الحكيم وطه حسين 1: 1- من توفيق الحكيم: إنما الأمر الذي يحتاج إلى كلام هو معرفة مميزات الفكر المصري معرفة أنفسنا حتى تتبين لجيلنا مهمته. هذه هي المسألة: ما هي مميزات العقلية المصرية في الماضي والحاضر والمستقبل؟ ما روح مصر؟ ما مصر؟ إن اختلاطنا بالروح العربية هذا الاختلاط العجيب كاد ينسينا أن لنا روحا خاصة تنبض نبضات ضعيفة تثقل تحت ثقل تلك الروح الأخرى الغالبة وإن أول واجب عليكم لنا استخراج أحد العنصرين من الآخر, حتى إذا ما تم تمييز الروحين أحدهما من الأخرى كان لنا أن نأخذ أحسن ما عندهما. لا بد لنا أن نعرف ما المصري؟ وما العربي؟ هذا السؤال ألقيته على نفسي منذ ست سنوات إذ كنت أدرس الفنين: المصري والإغريقي, وكانت المشكلة عندي وقتئذ ما المصري؟ وما الإغريقي؟ وأذكر أني لخصت الفرق بين العقليتين بمثل واحد في فن النحت سائلا: ما بال تماثيل الآدميين عند المصريين مستورة الأجساد وعند الإغريق عارية الأجساد؟ هذه الملاحظة الصغيرة تطوي تحتها الفرق كله, نعم كل شيء مستتر خفي عند المصريين، عار جلي عند الإغريق. كل شيء في مصر خفي كالروح، وكل شيء عند الإغريق عار كالمادة. كل شيء عن المصريين كالنفس, وكل شيء عند الإغريق جلي كالمنطق. في مصر الروح والنفس وفي اليونان المادة والعقل. لا أكاد أفتح كتابا في الفن الإغريقي حتى أجد كلمة الصرامة نعتا من نعوت هذا الفن، ولا أفتح كتابا في الفن الإغريقي إلا وجدت كلمة الحياة وكلمة الإنسانية من نعوت هذا الفن. حظ الإغريق في كل هذا هو حظ العرب. العرب أيضا أمة نشأت في

_ 1 الرسالة أول يونيو 1933.

فقر لم تعرفه أمة غيرها. صحراء قفراء، قليل من الماء يثير الحرب والدماء. جهاد وكفاح لا ينقطعان في سبيل العيش والحياة. أمة لاقت الحرمان وجها لوجه, وما عرفت طيب الثمار وجري الأنهار ورغد العيش ومعنى اللذة إلا في السير والأخبار، كل تفكير العرب وكل فن العرب في لذة الحس والمادة, لذة سريعة مفهومة مختطفة اختطافا لأن كل شيء عند العرب سرعة ونهب واختطاف, وعند الإغريق الحركة، أي الحياة، وعند العرب السرعة، أي اللذة، لم تفتح أمة العالم بأسرع من العرب، ومر العرب بحضارات مختلفة فاختطفوا من أطايبها اختطافا راكضا على ظهور الجياد. كل شيء قد يحسونه إلا عاطفة الاستقرار وكيف يعرفون الاستقرار وليس لهم أرض ولا ماض ولا عمران لهذا السبب لم يعرف العرب البناء، سواء في العمارة التي عرفها تاريخ الفن. وإذا عاش لليوم فإنه يعيش بالزخرف، فن الزخرف العربي أنقذ العمارة العربية. أما فن الزخرف العربي فهو في الحق أجمل وأعجب فن للزخرف خلده التاريخ، والزخرف عند العرب وليد ذل الحلم باللذة والترف. كل شيء عند العرب زخرف. الأدب نثر وشعر لا يقوم على البناء، فلا ملاحم ولا قصص ولا تمثيل, إنما هو شيء مرصع جميل يلذ الحس. فسيفساء اللفظ والمعنى وأرابسك العبارات والجمل، كل مقامة للحريري كأنها باب لجامع المؤيد. تقطيع هندسي بديع, وتطعيم بالذهب والفضة، لا يكاد الإنسان يقف عليه حتى يترنح مأخوذا بالبهرج الخلاب. قد يكون للطين دخل في النحت والتصوير عند العرب، غير أني أعتقد براءة الدين، إن العرب كانوا دائما ضد الدين كلما وقف الدين دون

رغبات طبائعهم، لقد حرم الدين والشراب، فأحلوا هم الشراب في قصور الخلفاء، وما وصفت الخمر ولا مجالس الخمر في أدب أمة بأحسن مما وصفت في الأدب العربي، أما النحت والتصوير الكبير فليس في طبيعتهم لأن تلك فنون تتطلب فيمن يزاولها إحساسًا عميقا بالتناسق العام مبناه التأمل الطويل والوعي الداخلي للكل في الجزء وللجزء في الكل، وليس هذا عند العرب فهم لا يرون إلا الجزء المنفصل وهم يستمتعون بكل جزء على انفراد، لا حاجة لهم بالبناء الكامل المتسق في الأدب, لأنهم لا يحتاجون إلا للذة الجزء واللحظة، قليل من الكتب العربية في الأدب تقوم على موضوع واحد متصل، إنما أكثر الكتب كشاكيل في شتى الموضوعات تأخذ من كل شيء بطرف سريع، من حكمة وأخلاق ودين ولهو وشعر ونثر ومأكل ومشرب وفوائد طبية ولذة جسدية. وحتى إذ يترجمون عن غيرهم يسقطون كل أدب قائم على البناء فلم ينقلوا ملحمة واحدة ولا تراجيديا واحدة ولا قصة واحدة. العقلية العربية لا تشعر بالوحدة الفنية في العمل الفني الكبير، لأنها تتعجل اللذة، يكفيها بيت شعر واحد أو حكمة واحدة أو لفظ واحد أو زخرف واحد لتمتلئ طربا وإعجابا لهذا قصر العرب وظيفة الفن على ما نرى من الترف الدنيوي وإشباع لذات الحس، حتى الحكمة وشعراء الحكمة, كانوا يؤدون عين الوظيفة، إشباع لذة المنطق، والمنطق جمال دنيوي. من المستحيل إذن أن نرى في الحضارة العربية كلها أي ميل لشئون الروح والفكر بالمعنى الذي تفهمه مصر والهند من كلمتي الروح والفكر. إن العرب أمة عجيبة، تحقق حلمها في هذه الحياة، فتشبثت به تشبث

المحروم، وأبت إلا أن تروي ظمأها في الحياة، وأن تعب من لذاتها عبا قبل أن يزول الحلم وتعود إلى شقاء الصحراء. ولا ريب عندي أن مصر والعرب طرفا نقيض، مصر هي الروح، هي السكون، هي الاستقرار، هي البناء، والعرب هي المادة، هي السرعة، هي الظعن، هي الزخرف. مقابلة عجيبة؛ مصر والعرب وجها الدرهم، وعنصر الوجود، أي أدب عظيم يخرج من هذا التلقيح؟ إني أتمنى للأدب المصري الحديث هذا المصير: زواج الروح بالمادة، والسكون بالحركة، والاستقرار بالقلق، والبناء بالزخرف. 3- من طه حسين إلى توفيق الحكيم 1: أنا معجب بآرائك في الفن المصري وفي الفن الإغريقي ولكن لا أحب لك هذا الإسراع إلى استخلاص الأحكام العامة وإقامة القواعد التي لا تثبت للنقد والتمحيص. ها أنت ذا تفهم من الفن المصري ما تفهم، ويشاركك فيه كثير من المثقفين ثقافة أدبية، ولكن أواثق أنت حقا بأن قدماء المصريين كانوا يرون تماثيلهم وعماراتهم كما تراها, ويفهمونها كما تفهمها، ويستلهمونها كما تستلهمها؟ أرأيتك لو سألت مصريا معاصرًا لرمسيس عن رأيه في تمثال من التماثيل أو عمارة من العمارات، أيقول فيهما مثل ما تقول؟ ومثل هذا يقال في الفن اليوناني، وفي كل هذه الفنون الصامتة, فليس

_ 1 الرسالة 15 يونيه 1933.

من الخير أن نعتمد عليها وحدها في تشخيص عقلية الأمم وروحيتها، كل هذه عندي أحكام يتعجل بها أصحابها، ويرسلونها على غير تحقيق، وإذا فقد يكون الإسراف أن تتخذ هذه الروحية المصرية الغامضة التي يسرع إليها الشك والتي تعجز عن أن تثبت للبحث، والتي توشك أن تكون خيالا تخيلته أنت وتخيله أصحابك من الأدباء ورجال الفن أساسا لأدبنا المصري الحديث. فمن يدري؟ لعل البحث عن آثار مصر أن يكشف لنا بعد زمن طويل أو قصير عن حياة مصرية قديمة تغاير كل المغايرة هذا الخيال الذي تحبونه وتطمئنون إليه. نحن إذًا أمام أمرين: أحدهما عرضة للشك الشديد لا تكاد نعرف منه شيئا، والآخر لا سبيل إلى الشك فيه؛ أحدهما حياة مصر القديمة وحضارتها العقلية -إن صح هذا التعبير- والآخر حياة العرب وحضارتهم، فإلى أي الأمرين نفزع لنقيم عليه بناء أدبنا الجديد؟ إلى الشك أم إلى اليقين؟ وهنا يظهر الخلاف بينك وبيني شديدًا حقا. ولكن رأيك في العرب وآثارهم في حاجة شديدة جدًا إلى التقويم, فقد كنا نرى أن ابن خلدون جار على العرب فإذا أنت أشد منه جورًا وأقل منه عذرًا، يسر الله لك من أسباب العلم لمختلف الأمم والشعوب ما لم ييسره لابن خلدون، فإذا قبل من هذا المؤرخ الفيلسوف أن يتورط في الخطأ لأن عقله الواسع لم يحط من أمور اليونان والرومان والهند والفرس والمصريين القدماء بما نستطيع نحن الآن أن نحيط به أو نمعن بوجه عام، وقد ذهبت إلى مثل ما ذهبت إليه جماعة من المستشرقين منهم دوزي ورينان، وأحسبكم جميعا تظلمون العرب ظلما شديدا وتقضون في أمرهم بغير الحق.

فلو أنكم ذهبتم تقارنون بين العرب وبين الهنود والفرس والمصريين القدماء لما كان من حقكم أن تقدموا هذه الأمم في الأدب على الأمة العربية بحال من الأحوال, لأننا لا نكاد نعرف من آداب هذه الأمم في تاريخها القديم شيئا يقاس إلى ما بين أدبنا من الأدب الغربي. فإذا أردت أن تقارن بين العرب والرومان فأظنك توافقني على أن الأدب العربي الخالص أرقى جدًا من الأدب الروماني الخالص، أي أن الأدب الروماني إنما ارتقى حقا حين أثر فيه الأدب اليوناني، فالرومان تلاميذ اليونان في الأدب والفن والفلسفة والعرب يشبهونهم في ذلك, ولكن العرب كان لهم أدب ممتاز قبل أن يتأثروا بالحضارة اليونانية ولم يكن للرومان من هذا الأدب الروماني الممتاز حظ يذكر. وقد تفوق الرومان في الفقه ولكنهم لم يسبقوا العرب في هذه الناحية من نواحي الإنتاج، ولعل الأمة الوحيدة التي يمكن أن تشبه الرومان في الفقه إنما هي الأمة العربية. لم يبق إذًا إلا أدب اليونان هو الذي يمكن أن يقال فيه أنه متفوق على الأدب العربي حقا، ولكن من الذي يقيس رقي الأدب في أمة من الأمم برقي الأدب في أمة أخرى. وليس من شك أن الأدب العربي قد صور حياة العرب تصويرًا صادقًا فأدى واجبه أحسن الأداء، وكل ما يؤخذ به الأدب العربي القديم وهو أنه لا يصور حياتنا نحن الآن. وأنت تميز اليونان بالحركة وتميز العرب بالسرعة وتستنبط من هذه السرعة ظلما كثيرًا للعرب. كما فعل ابن خلدون من قبل، وليس من شك

إن العرب يشاركون اليونان في الحركة, ولكن ليس من شك أيضا في أنك تغلو غلوا شديدًا في وصفهم بالسرعة. إنما أسرع العرب في الخروج من باديتهم، ولكنهم حين بلغو الأمصار استقروا فيها وطال بهم المقام. وأريد أن أدع هذه المناقشات وأن أخلص إلى جوهر الموضوع الذي تريد أن تعرف رأيي فيه. عناصر ثلاثة تكون منها الروح الأدبي المصري منذ استعربت: أولها العنصر المصري الخالص الذي ورثناه من المصريين القدماء على اتصال الأزمان بهم وعلى تأثرهم بالمؤثرات المختلفة التي خضعت لها حياتهم والذي نستمده دائما من أرض مصر وسمائها، ومن نيل مصر وصحرائها، هذا العنصر موجود دائما في الأدب المصري الخالص، فيه شيء من التصوف وفيه شيء من الحزن وفيه شيء من السماحة وفيه شيء من السخرية. والعنصر الآخر هو العنصر العربي الذي يأتينا من اللغة ومن الدين ومن الحضارة، والذي مهما نفعل فلن نستطيع أن نتخلص منه ولا أن نضعفه ولا أن نخفف تأثيره في حياتنا، لأنه قد امتزج بهذه الحياة امتزاجا مكونا لها مقوما لشخصيتها فكل إفساد له إفساد لهذه الحياة ومحو لهذه الشخصية، لا تقل: إنه عنصر أجنبي، فليس أجنبيا هذا العنصر الذي تمصر منذ قرون وقرون فليست اللغة العربية فينا لغة أجنبية، إنما هي لغتنا وهي أقرب إلينا ألف مرة من لغة المصريين القدماء، وقل مثل ذلك في الدين، وقل مثله في الأدب. أما العنصر الثالث: فهو العنصر الأجنبي الذي أثر في الحياة المصرية دائما والذي سيؤثر فيها دائما, والذي لا سبيل لمصر إلى أن تخلص منه، ولا خير لها في أن تخلص منه لأن طبيعتها الجغرافية تقتضيه، وهو الذي يأتيها من اتصالها بالأمم المتحضرة في الشرق والغرب، جاءها من اليونان والرومان

واليهود والفينيقيين في العصر القديم، وجاءها من العرب والترك والفرنجة في القرون الوسطى ويجيئها من أوربا وأمريكا في العصر الحديث. وأخوف ما أخاف على هذا الروح المصري شيئان: أحدهما أن تلهينا الثقافة الأوروبية عن الثقافة المصرية والعربية، وكل شيء يغوينا بها ويغريها بنا فهي ضرورة من ضرورات الحياة, فمن الحق علينا ألا نضيع حظنا منها ولكن من الحق علينا ألا نفني أنفسنا فيها. "تحول طه حسين عن هذا الرأي في كتاب مستقبل الثقافة".

الفصل الثاني: معركة الكرامة

الفصل الثاني: معركة الكرامة بين توفيق الحكيم وطه حسين: وقعت بين توفيق الحكيم وطه حسين معركة أدبية تحولت بها الصداقة إلى خصومة والمدح والثناء إلى خلاف وعراك، كان توفيق الحكيم نائبا في الريف قدمه صديقه الدكتور حسين فوزي إلى طه حسين وقد نشر قصة "أهل الكهف" فكتب عنها هيكل ومصطفى عبد الرازق وغيرهما ومجدوها, هناك أطلق رأيه في توفيق الحكيم وقال عنه أنه أنشأ في الآداب فنا جديدا ثم صدرت "شهر زاد" فنقدها طه حسين ولم يلبث الموقف أن تحول بين الكاتبين على الصورة التي سجلها طه في قصة الأديب الحائر وتعكر الصفاء. عاد مرة أخرى بين الأديبين. وقد صور توفيق الحكيم موقعة من بعد في معركة "الصفا بين الأدباء". وقد صور سيد قطب في كتابه "شخصيات وكتب" أسرار الموقف بين الكاتبين فقال مجيبا على سؤال: لماذا نالت "أهل الكهف" إعجاب طه حسين ولماذا وقعت الجفوة بينهما حين صدور "شهر زاد" فقال: هناك ملابسات شخصية أحاطت بالموضوع, ولكن بقي وراء هذه الملابسات شيء ثابت, هو طبيعة الدكتور طه وطبيعة توفيق الحكيم فالدكتور أوفر حظا من الحياة الواقعية وتوفيق أوفر حظا من التأمل والتجريد والدكتور معني بالنفوس البشرية كما هي، يتبع خطواتها ويقفو خطواتها ويتسمع همساتها, وتوفيق معني بالذهن الإنساني المجرد، يوغل في تأملاته ويسبح في فروضه. ومن هنا أعجب الدكتور طه بأهل الكهف لأن مخلوقاتها من صنع

الطبيعة، وهنا وقعت الجفوة بين الدكتور وشهر زاد, فشهر زاد هي قصة توفيق الحكيم الكاملة -على طريقته- هي قصة الذهن الإنساني المجرد من أوشاج البشرية، هي قصة القلق الفكري والشك الذهني. رأي طه حسين في أهل الكهف: "أهل الكهف" حادث ذو خطر لا أقول في الأدب المصري وحده، بل أقول في الأدب العربي كله, وأقول هذا في غير تحفظ ولا احتياط وأقول هذا مغتبطا به مبتهجا له وأي محب للأدب لا يغتبط ولا يبتهج حين يستطيع أن يقول وهو واثق بما يقول أن فنا جديدًا قد نشأ فيه، وأضيف عليه, وأن بابا جديدًا قد فتج للكتاب وأصبحوا قادرين على أن يلجوه وينتهوا منه إلى آماد بعيدة رفيعة ما كنا نقدر أنهم يستطيعون أن يفكروا فيها الآن. ولكن في القصة عيبان: أحدهما يسوءني حقا، ومهما ألوم فيه الكاتب فلن أؤدي إليه حقه من اللوم وهو هذا الخطأ المنكر في اللغة، وهذا الخطأ الذي لا ينبغي أن يتورط فيه كاتب فضلا عن كاتب كالأستاذ توفيق الحكيم ولا يراد في أن أكون قاسيا عنيفا، وفي أن أطلب إلى الأستاذ في شدة أن يلغي طبعة هذه الجملة وأن يعيد طبع القصة مرة أخرى بعد أن يصاح ما فيها من الأغلاط. أما العيب الثاني فله خطره ولكنه مع ذلك يسير، هذا العيب يتصل بالتمثيل نفسه فقد غلبت الفلسفة وغلب الشعر على الكاتب حتى نسي أن للنظارة حقوقا يجب أن تراعى فأطال في بعض المواضع وكان يجب أن يؤخر، وفصل في بعض المواضع وكان يجب أن يجمل.

من توفيق الحكيم إلى طه حسين: أستاذنا الكبير الدكتور طه: إني أشكر أهل الكهف الذين قادوني إليك، وإن كان هذا هو الغرض من بعثهم في كتابي فقد حق البعث نجح، الحقيقة أن رعاية الدكتور طه هو أثمن من تمنحني القديسون الثلاثة من كنوز، وإن صداقته التي أطمح إليها يوم أكون خليقا بها هي مفتاح عملي الأدبي في المستقبل, إنه ليشق علي أن يمضي الأسبوع ولا ألقى الدكتور, فلقد وجدت في حديثه زادًا روحيا لا غنى لي عنه. رأي طه حسين في قصة "شهر زاد": شهد الله ما آثرت صاحب أهل الكهف ولا خصصته بثناء، ولا رأيته ولا تحدثت إليه ولا سمعت منه قبل أن أقدم قصة أهل الكهف إلى القراء، وإنما قرأته فأحببته وأعجبت به ورأيت أن الحق يجب أن يعلن, وأن الكتاب المجيدين يجب لهم حظهم من الإجادة ليزدادوا رغبة فيها. ولأعود إلى هذه القصة، قصة شهر زاد فأعترف بأنهاكقصة أهل الكهف فن جديد من الإنتاج في أدبنا الحديث لم يسبق توفيق إلى مثله ولا إلى قريب منه، ولست أزعم أنها المثل الأعلى في القصص التمثيلية، بل لست أزعم أنها شيء يقرب من المثل الأعلى، ولكني أزعم أنها أثر فني متقن ممتع، دقيق الصنع، بارع الصورة، خليق بالبقاء والبقاء الطويل. ليقل الغاضبون على توفيق والحاسدون له ما يقولون فالأدب العربي الحديث لم يعرف مثل هذا الفن من الإنشاء, بل ما لي أقتصد؟ فالأدب العربي

الحديث لم يعرف مثل هذا الفن, وأنا أرجو ألا يغتر توفيق بهذا الثناء الذي أهديه إليه صادقا مخلصا وأود لو دفعه هذا الثناء إلى العناية بفنه والتكميل لما ينقصه من الأدوات، فهو في حاجة إلى كثير من الجد والعناء، ومن الدرس والتحصيل، فهو في حاجة إلى أن يكثر من قراءة الفلسفة ليقول عن علم ويفكر على هدى وهو في حاجة إلى أن يعنى باللغة ويتقنها ليستقيم التعبير عما يعرض له من الخواطر والآراء. طه حسين: الأدب الحائر قصة تمثيلية للأستاذ توفيق الحكيم: الناس جميعا يعلمون أني محب للأستاذ توفيق الحكيم معجب بقلمه وأقل ما يوجبه علي الحب والإعجاب أن أكون رفيقا شفيقا، حين يشتد القيظ ويخشى من شره على الرءوس والنفوس والأقلام، وهذا العنوان الذي وسمت به هذه القصة لا يعدو أن يكون اقتراحا قد يعدل عنه الأستاذ توفيق الحكيم إن خطر له أن يكتب قصة، فما ينبغي لمثلك ولا لمثلي، بل ما ينبغي لخير منك ولا خير مني، أن يقترح على الأستاذ أن ينصح له فالأستاذ أكبر من أن يقترح عليه مقترح أو ينصح "ناصح" مهما يكن مخلصا أمينا. 1- أما الفصل الأول من هذه القصة كما كانت فتقع في العام الماضي في أوائل الربيع في حجرة من حجرات البيت الذي كنت أسكنه في هليوبوليس إذ يقبل علي صديقان يحبان الأدب لأنهما أديبان ويعجبان بالأستاذ توفيق الحكيم لأنه أديب, وهما يتحدثان إلي عن هذا الأستاذ الذي لم أعرفه ولا سمعت من حديثه شيئا، فيثنيان عليه بما هو أهله، أو بما هو أهل لأكثر منه، ثم يدفعان إلي كتابا وضعه الأستاذ توفيق الحكيم، وكان يود أن يهديه إليَّ

لولا أنه لا يعرفني ولا يريد أن يلقاني حتى أقرأ كتابه وأكون لنفسي رأيا فيه ثم يقصان علي الكثير من أطواره الغريبة حتى يثيرا في نفسي الشوق إلى لقائه وإلى النظر في كتابه، فإذا انصرفا أقبل صديق ثالث فلا أكاد أحدثه بما كان من أمر الصديقين حتى يثني على الكاتب ويثني على الكتاب ويزعم لي أنه قرأ الكتاب مخطوطا قبل أن ينشر. 2- فإذا كان الفصل الثاني فقد أخذت أقرأ في الكتاب فأرضى عنه ثم أعجب به، ثم أكتب عنه فصلا في الرسالة أسجل فيه هذا الإعجاب وذلك الرضى، وملاحظات يسيرة لا بأس فيها على الكاتب ولا على الكتاب، وما يكاد يلقى الستار على هذا الفصل وتستريح النظارة في وقت الراحة بين الفصول حتى أتلقى رسالة برقية ملؤها الشكر وعرفان الجميل ومصدرها الأستاذ توفيق الحكيم. 3- ثم يكون فصل ثالث، وإذ بالأستاذ توفيق الحكيم قد سعى إلي من إقليمه الذي كان يعمل فيه، وهو يشكر لي تشجيعي له ويغلو في هذا الشكر ثم يلقي أموره الأدبية كلها إلي, ويطلب مني أن أكون مرشدًا وحاميا فأقبل منه هذا كله سعيدا به مبتهجا له، وأتحدث إلى الإستاذ حديث الصديق المحب المعجب. ويتكرر هذا المنظر مرات. ثم يكون منظر آخر، مجتمع معه مع أصدقاء لنا يعرفهم الأستاذ، ونتشاور في أمره هو لا في أمرنا نحن، فهو يريد أن ينتقل من الأقاليم إلى القاهرة لأنه ضيق بحياة الريف, وفي وزارة المعارف عمل قد يلائمه وهو يميل إلى هذا العمل، ولكني أنا لا أميل إليه. والأستاذ وأصدقاؤه يلحون في العرض وأنا ألح في الرفض.

ثم يلقى الستار ويتم انتقال الأستاذ من الريف إلى القاهرة في هذه الراحة التي تكون بين الفصول. ثم يكون منظر آخر أو مناظر أخرى نجتمع فيها لنقرأ بعض الكتب التي يريد الأستاذ إخراجها للناس ومنها "شهر زاد" فالأستاذ شديد الشك في نفسه ضئيل الثقة بفنه، لا يظهر آثاره إلا إذا أقرها أصدقاؤه الأقربون وهو لا ينشر فصلا في الرسالة إلا إذا قرأته وأذنت بنشره، وهو لا يدري أنه قادر على أن يحتمل وحده تبعة الإذاعة والنشر, ثم نقر من هذه الكتب ما نقر، ونرجئ منها ما نرجئ، ونتحدث عن أهل الكهف وعن طبعة ثانية تذاع بين الناس فأقترح أنا أن أقدمها إلى الجمهور، ويظهر الأستاذ وأصدقاؤه الرضا بذلك والابتهاج له، ثم يلقى الستار ويرفع وقد تمت الطبعة الثانية من أهل الكهف وأبطأت أنا بالمقدمة أسبوعين أو نحو أسبوعين، فينشر الكتاب بغير مقدمة وبغير أن يتحدث إلى أحد في ذلك، فيسوءني ذلك بعض الشيء فيسعى إلي الأستاذ في منظر جديد ويعتذر إلي بمحضر من بعض الأصدقاء1، فأسمع منه وأبتسم وأتجاوز عن استعجاله وينصرف راضيا فإذا أصبحت تلقيت منه هذا الكتاب باللغة الفرنسية وأنا أترجمه فيما يأتي. ثم يكون منظر آخر يراني الله فيه حزينا آسفا ومشفقا جزعا لأني صدقت هذا الكلام، وخفت أن يكون صاحبه جاد فيه، فأنكرت من نفسي ما أظهرت من غضب، وها أنا ذا أسرع إلى التليفون فألتمس صاحبي في مظانه

_ 1 أنا محزون حقا فقد فكرت فإذا خطئي بديهة فقد كان يجب على الأقل أن أستشيرك قبل أن أخرج كتبي فماذا ترى في موقفي منك ويزيدني حرفا لطفك حين تجاوزت في سهولة وكرم عن كل هذا, إنما أنت حقا فنان كبير، فنان حقا وإني لأعترف بأني لم أمنح هذه النفس ولست أنا خليقا بالفن ولا بك وإليك الآن ما تمت عزيمتي عليه إذا احتفظت بغضبك علي، سأعرض عن كل حياة أدبية وتقبل. ت الحكيم.

كلها، حتى يصلني به التليفون فأداعبه وألاعبه وأترضاه وأتلطف له وأقبل منه وأهدي إليه حتى يرضى وتطمئن نفسه الثائرة أو التي كنت أحسبها ثائرة ويهدأ قلبه المضطرب أو الذي كنت أظنه مضطربا. ثم تكون مناظر أخرى تجري الحياة فيها بيننا كما تجري بين الأصدقاء ثم تكون مناظر أخرى، أسمع في بعضها اللوم لأني أحب توفيق الحكيم وأقرأ في بعضها الشتم لأني أكبر توفيق الحكيم وأنا أبتسم للوم اللائمين وأضحك لشتم الشاتمين، لأني لم أحب هذا الكاتب إلا لأنه ألهمني الحب، ولم أعجب بهذا الكاتب إلا لأنه ألهمني الإعجاب. ثم أكتب إلى المصور فصلا عن الأدب التمثيلي في مصر فلا يكاد ينشر حتى يتحدث إلي من يتحدث بأن الكاتب الأديب مغضب من هذا الفصل لأني لم أنصفه فيه، ولأني زعمت أن قصصه التمثيلية على حالها وروعتها قد لا تلائم الملعب المصري فلا أحفل بحديث المحدثين وأقرأ في المصور بعد ذلك ردًا من توفيق فيه عوج كثير فأقوم هذا العوج مداعبًا لصاحبه ملاطفا له. ثم يبلغني أنه قد سعى إلى بيتي مساء الاثنين الماضي فلم يجدني فيه وترك لي تحيته ومودته وانصرف ثم أكتب عن "شهر زاد" فلا يكاد يظهر حديثي عن "شهر زاد" حتى أتلقى من صديقي توفيق هذا الكتاب صباح الخميس، لا يحمله إلي البريد وإنما يحمله ساع خاص، ولا يكتبه توفيق بخطه وإنما يضربه على الآلة الكاتبة ضربا ويتفضل الصديق فيمضيه بخطه وأنا أنشر هذا الكتاب لأنه سيكون باقيا على الدهر ولأنه سيقع من الكتاب والناقدين في هذا العصر موقع الوصية التي زعموا أن عبد الحميد قد أذاعها في الكتاب القدماء آخر أيام بني أمية.

يظهر أني سيئ الحظ معك، وأنك سيئ الحظ معي هذا الأسبوع، فلقد قرأت مقالك عن شهر زاد وما أحسبنا تلاقينا فيه عند رأي, فأما قولك أني أدخلت في الأدب العربي فنا جديدًا وأتيت بحدث لم يسبقني إليه أحد، فهذا إسراف سبق لي أن أشرت إليه في خطاب مني إليك من أدب الجاحظ ذكرت فيه يومئذ أن للجاحظ ملكة في إنشاء الحوار تذكرنا ببعض كتاب المسرح من الغربيين، فما أنا إذا بمبتدع، وإنما أنا أحد السائرين في طريق شقه الشرق من قبلي. وأما نصيب قصصي من البقاء فلست أعتقد أن لناقد معاصر حق الجزم به وما بلغت من البساطة حق تصديق ناقد يتكلم في هذا, فإن الزمن وحده هو الكفيل بالحكم على الأعمال بالبقاء فأنا كما ترى لا أسمح لنفسي بقبول مثل هذا الثناء, كذلك لست أسمح لأحد أن يخاطبني بلسان التشجيع فما أنا في حاجة إلى ذلك فإني منذ أمد بعيد أعرف ماذا أصنع ولقد أنفقت الأعوام أراجع ما أكتب قبل أن أنشر وأذيع، كما أني لست في حاجة إلى أن يملي علي ناقد قراءة بعينها فإني منذ زمن طويل أعرف ماذا أقرأ, وما أخالك تجهل أني قرأت في الفلسفة القديمة والحديثة وحدها ما لا يقل عما قرأت أنت, وما أحسبك كذلك تجهل أني أعرف الناس بما أحتاج إليه من أدوات، فأرجو منك أن تصحح موقفي أمام الناس وألا تضطرني إلى أن أتولى ذلك بنفسي. وأؤكد لصديقي توفيق أني لم أنشر كتابه هذا إلا تصحيحا لموقفه أمام رؤسائه وأمام نفسه, فيعلم رؤساؤه منذ اليوم أنه قد أساء إلي عمدا وفي غير ما يبيح الإساءة، وأنه قد قطع ما بينه وبيني من صلة، وأنه قد سجل هذه القطيعة في كتب, وأني قد سجلت هذه القطيعة في صحيفة سيارة ليشيع أمرها بين الناس، وأظن أن رؤساءه منذ اليوم سيرفقون به, ويعطفون به ويحسنون الرأي فيه، وأظن أنه سيحس منهم ذلك فيطمئن على منصبه ويستريح إلى رضا رؤسائه عنه ويبتسم له الأمل في المستقبل القريب والبعيد. فأما قول توفيق: إني قد أسرفت حين زعمت أنه أحدث في الأدب العربي

حدث لم يسبقه أحد فإني أحمده له وإن كنت أعرف أن هذا الكلام كان يرضيه وأنه كان يحب أن يسمعه وأن يقرأه. وأما أن توفيقا ينكر علي أن أحكم على قصصه بالبقاء فهذا إسراف منه كثير، فنحن الناقدون أحرار فيما نعرف من ذلك وما ننكر، ما دام الزمن هو الحكم الأخير في هذا الموضوع. وأغرب من هذا كله أن يرفض توفيق ما أهديت إليه من ثناء فليعلم أني لم أهد الثناء إلى شخصه ليرفضه أو يقبله وأن شخصه لا يعنيني إلا قليلا منذ الآن، وإنما أهديت الثناء إلى فنه وما زلت أهديه إليه ولن يستطيع هو أن يرده، وكنت أحب له أن يفرق بين شخصه الفاني وفنه الباقي. أما أنه لا يسمح لأحد بأن يدله على ما يقرأ، وأنه قرأ في الفلسفة القديمة والحديثة مثل ما قرأت على الأقل، فإنني أحب أن يعلم أن ما قرأته لا يرضيني لنفسي ولا لغيري، وأسأل الله أن يقيني وإياه شر الغرور فهو مهلك للنفوس حقا, وأما أنه أعرف الناس بما ينقصه وأعلم الناس بما يحتاج إليه من أدوات وأنه لا يحتاج مع ذلك إلى نقد ناقد، فهذا رأيه في نفسه منذ الآن وهو لا يشرفه ولا يرفع منزلته عند أحد وأحب أن يعلم توفيق أني لن أرد عليه بعد الآن, ولن أحفل به إلا يوم يخرج لنا كتابا نقرؤه, ويومئذ سأعلن رأيا في الكتاب سواء رضي توفيق أم سخط. من توفيق الحكيم "خصومة" إلى طه حسين: بعثت إليه أول النهار بالرسالة التي سماها "باقية على الدهر" ثم أويت آخر النهار إلى بيتي فوجدت أسطوانات "بتهوفن" التي استعارها مني قد

_ 1 الرسالة 2 يوليه 1934.

ردها إلي فعلمت أنها القطيعة، فوقفت واجما في مكاني وزالت آثار الغضب ولم يبق في نفسي إلا ألم عميق. ولقد انتهى كل شيء بيني وبين الدكتور طه حسين, ولم أستطع أن أقرأ شيئا في ليلتي، وما أن أقبل الصباح حتى أوفدت إلى الدكتور طه صديقين كريمين يحادثانه في أمر الرسالة، فإذا قد دفعها إلى المطبعة وإذا به يأبى إلا أن يعلن الخصومة إلى الناس. وحاول الصديقان عبثا أن يحولا بينه وبين هذا الإعلان, ولكن الدكتور طه أراد أن ينتقم فتناول القلم ووضع قصة روى فيها ما كان من أمري وأمره. قرأت القصة فدهشت؛ أي روعة وأي إبداع! إنها في ذاتها أثر من آثار الفن الخالد، إني أشهد أنها عمل فني عظيم، فيها من سعة الخيال وروعة الأسلوب ما يضمن لها البقاء. إنها هي التي ستبقى على الدهر, وقد أنساني إطارها الأدبي ما احتوته من اتهامات قاسية وماذا يهم، إن شخصي ليس يعنيني كثيرًا، كما أنه ليس يعني صديقي الدكتور منذ اليوم. وأغلب ظني أن الدكتور قد أصر على نشرها لأنه يعلم أنه قد كتب شيئا جميلا, وإني الآن لأرضى أن يضحي شخصي الزائل في سبيل ظهور هذه القطعة الباقية. على أن القارئ وقد فرغ من القصة لا بد يسأل نفسه: ما كل هذا الذي بين توفيق وبين الدكتور؟ وإني أمد القارئ بالجواب فأقول: لا شيء في رأيي غير صداقة لا يمكن أن تزول، ولئن قامت خصومة بيننا اليوم أو في الغد فهي خصومة من أجل الرأي والتفكير.

وإنه ليعلم أني أقدره أحسن تقدير وأضعه في نفسي في أسمى مكان وأحفظ له على الزمن ما أسدى إلي من جميل، ولا أنسى أنه هو الذي ألقى الضوء على وجودي, غير أنه يخطئ إذا فهم أن صداقتي له معناها التزام موافقته على كل رأي أدبي يبديه، والتسليم والتأمين على كل ما يخرج من قلمه أو من فيه, إن الحكم المطلق إذا صلح في دولة السياسة فهو لا يصلح في دولة الأدب، وإني لا أخال صديقي الدكتور نفسه، يرضى لي أو يرضى لفني وتفكيري في هذه الحرية المقيدة. هذه هي الخصومة التي بينه وبيني. فهو قد استاء مني إذا عارضته في بعض آرائه، ولقد استاء مني كذلك يوم أخرجت الطبعة الثانية من أهل الكهف بغير مقدمة، إن الحقيقة لا تعدو أني شخص بسيط لا أمقت شيئا في الأدب مثل المقدمات، وإني روح حر يأبى أن يقيد نصوصه بتفسيرات. أعتقد أن خير هدية أهديها صديقي العزيز عليَّ، هي "الحرية" وقد بلغ من إخلاصي في صداقتي لطه حسين أن أعطيته "حريتي" فهو لن ينسى أني ما أتصرف في عمل أدبي بغير رأيه. على أني أحب من جهة أخرى أن أستعير بعض هذه الحرية أحيانا لأناقشه في فكرة من الفكر أو أحاوره في مسألة. فأنا كما يعلم الدكتور ذو طبيعة لا تسير على نظام. إني أعطي كثيرًا ثم آخذ فجأة، ثم أعود فأرد ما أخذت، وعلى صديقي أن يكون رحب الصدر. غير أن الدكتور لم يعرفني حق المعرفة، وأراه يأخذ بعص تصرفاتي على سبيل الجد، حيث لا ينبغي أن تؤخذ في سبيل الجد. وبعد فيا صديقي الدكتور أنا محزون حقا. فقد فكرت فإذا خطيئتي بديهية فقد كان يجب على الأقل أن أستشيرك قبل أن أبعث بتلك الرسالة.

فماذا ترى في موقفي منك؟ إليك الآن ما تمت عزيمتي عليه: "إذا احتفظت بغضبك علي فسأعرض عن كل حياة أدبية". أحمد بهاء: لماذ يخاف توفيق الحكيم من طه حسين1؟ حضرت 1949 على ما أذكر محاضرة للدكتور طه حسين ألقاها في نادي الخرجين عن قصة أوديب في الآداب المختلفة، وكان توفيق الحكيم قد أخرج منذ قليل مسرحيته الملك أوديب وبعد أن تحدث طه عن مسرحيات أوديب التي كتبها سوفوكليس وأندريه جيد وجان كوكتو وغيرهم تحدث عن توفيق الحكيم فهاجمه هجوما قاسيا عنيفا وقال: إن توفيق الحكيم أفسد القصة إفسادًا شنيعًا كأشنع ما يكون الإفساد. وقال: إن الذي ينقص توفيق الحكيم هو أن يقرأ وأن يقرأ كثيرا مع أنه يتباهى بدراسة الأدب اليوناني والتمثيلية اليونانية ويبدو أنه درسهما درسا متواضعا وفهمهما فهما أشد تواضعا, ولاحظ أن توفيق لم ينظر حتى إلى خريطة اليونان ليعرف أن مدينة طيبة -مسرح مأساة أوديب- بعيدة جدا عن البحر على عكس ما يفهم من تمثيلية توفيق الحكيم.

_ 1 روز اليوسف العدد 355.

الفصل الثالث: معركة الصفاء بين الأدباء

الفصل الثالث: معركة الصفاء بين الأدباء بين توفيق الحكيم وزكي مبارك والعقاد والزيات: كان توفيق الحكيم قد دعا على صفحات "مجلة الرسالة" إلى الصفاء بين الأدباء، فأثارت دعوته صراعا وسجالا عجيبا، كأنما تفتحت له أبواب الخصومة والعراك، ذلك أن زكي مبارك انبرى له وقال: إنه إنما يقصده بهذه العبارة، وقال توفيق الحكيم: إنه ما من أديب واحد يعنيه بهذه الكلمة وإنما هي كلمة عامة للنفع العام ثم كشف عن حقيقة الأمر فقال: إن الذي أوحى له بها هو مقال العقاد الذي يشكر فيه طه حسين إهداءه إليه دعاء الكروان وقال: وفي الحق أني لم أجد بالمقال الرقة التي كنت أنتظرها واستأت في نفسي من الأستاذ العقاد بعض الاستياء وأنا الذي يعتقد أنه يخفي وراء قناع الكبر والتكبر نفسا طيبة تتفجر إذا اطمأنت بأجمل عاطفة وأنبل إحساس. واتسع نطاق المعركة حتى هدد توفيق الحكيم بالانقطاع عن الأدب وانحنى بالملائمة على صاحب الرسالة إطلاق قلم زكي مبارك؛ وهذه ملامح المعركة: 1- توفيق الحكيم؛ تواضع الأديب الحق 1: مما يسترعي الالتفات أحيانا تلك اللغة التي يخاطب بها بعض الأدباء زملاءهم فتراهم يقولون "زميلنا أو صديقنا فلان يطلب إلينا كذا ونحن نقول له كذا والأجدر أن يسألنا كذا" إلى آخر هذا الكبر والتكبر في التعبير. هؤلاء نسوا من غير شك أن تكبر الأديب الحق وتعاليه هو في الفكر والتفكير لا في مخاطبة الآخرين. إني أرى شعار الأديب الحق هو "تواضع في معاملة الناس وتعال في معالجة الأفكار"؛ لقد آن الآوان لأذكياء الشعراء أن يقفوا بالمرصاد لكل أديب يحاول أن يتعاظم بالحط

_ 1 الرسالة 2 مارس 1942.

من قدر غيره وأن يرفع قدر نفسه بوسائل لا تتصل بجوهر الرسالة العليا للفكر والآداب. حدث ذات مرة أن تفضل أحدهم فذكرني بقوله: صديقنا فلان، فتساءلت أهو يريد أن يشرفني بصداقته أم يشرف نفسه بتعظيمها على حسابي. يقولون: إن الذوق شيء ليس الكتب, ولكني أقول: إن الذوق شيء ينبغي أن يكون في طبيعة كل كاتب. 2- من زكي مبارك إلى توفيق الحكيم 1: صديقي العزيز! قرأت لك في الرسالة منذ أسابيع كلمة صغيرة تذكر فيها أن في مصر كاتبا قال في سياق حديثه إنه صديقك، وأنك تنكر أن يشرف الناس أنفسهم بالانتساب إليك, ولم يخطر في البال أني مقصود بتلك الغمزة؛ لأني أعرف أن منزلتي في نفسك لا تبيح لك أن تقع في مثل هذا الخطأ, ولكن ناسا حدثوني إنك تريدني بتلك الكلمة الصغيرة, وقد أردت أن أستوثق من نيتك, فكان جوابك أن تلك الغمزة موجهة إلى فلان فهل أجد عندك من الشجاعة ما تقوى به على التصريح باسم ذلك الفلان، أوضح، أوضح, فإن لم تفعل فسأنوب عنك في الإيضاح، صنع الزمن ما صنع, واستطال الدهر ما استصال, فمن يعزيني وقد استباح بعض الناس أن يكتب كلمة توهم أنه أكبر من أن يكون صديقي.

_ 1 الرسالة 13 أبريل 1943.

3- الصفاء بين الأدباء؛ توفيق الحكيم 1: كتب: قد نشرت في الرسالة كلمة, وظاهر من روح هذه الكلمة أني أحض على توثيق صلات المودة الصادقة بين الأدباء بدعوتهم إلى نبذ الألفاظ التي قد تحدث في نفوس زملائهم شيئا من الامتعاض, ولكن الدكتور زكي مبارك فهم الأمر على وجه آخر. ثم سألني؛ فقلت: أديب واحد قد عنيته بالذات، إنما هي كلمة عامة للنفع العام ولئن كان لا بد من مناسبة أوحت بهذه الكلمة فربما كانت مقالة الأستاذ عباس العقاد التي يشكر فيها الدكتور طه إهداءه إليه "دعاء الكروان". وفي الحق إني لم أجد بالمقال الرقة التي كنت أنتظرها واستأت في نفسي من الأستاذ العقاد بعض الاستياء، وأنا الذي يعتقد دائما أنه يخفي وراء قناع الكبر والتكبر نفسا طيبة تتفجر إذا اطمأنت بأجمل عاطفة وأنبل إحساس. فالذي يستطيع التأثير في نفوسنا بكتاباته الإنسانية عن الكلب بيجو لا بد أن يحمل نفسا خليقة أن تفيض بالمودة نحو إنسان. تلك هي المناسبة يا دكتور زكي، ولكنك شئت أن تحمل الكلمة على أنها غمزة مني لك، وأنا أبعد الناس عن الغمزات خصوصا إذا تعلق الأمر بشخصي فأنا لم أنشر قط يوما كلمة تعمدت بها إيذاء أديب في شعوره، أنا الذي يخرج على مهاجمة المبادئ والنظم إلى حد التعرض للخطر، لا أجد من اللائق بأديب أن يهاجم أديبا ليخدشه في كرامته. لأن الأدب قبل كل شيء مودة ومحبة ورحمة وصباء، على هذا الوجه فهمت دائما الأدب هو صنع

_ 1 الرسالة 20 أبريل 1942.

الجمال, وعلى الذين يصنعون الجمال أن ينطووا على نفوس جميلة، وأنا الذي لا يختلط بالناس والأدباء إلا قليلا لما في طبيعتي من وحشة وكآبة أشكو منهما تجدني مع ذلك أحب الأدباء وأقدرهم ولا أقول فيهم قولة سوء؛ غير أني أيها الصديق العزيز وأنت تأخذ كلمتي على أنها موجهة إليك قد ذكرت لي أسباب ظنك فتحريتها بعد انصرافك، فاتضح لي أنك على حق وأن الكلمة ينبغي أيضا أن تنصرف إليك فقد تستعمل أداة التعظيم في مخاطبة الزملاء من الأدباء فماذا يضجرك أن أشكو منك ومن كل أديب يسهو عن واجبات التواضع والمودة والمحبة التي تؤلف بين نفوس الأدباء جميعا ويجعل منهم دولة متحدة مقرها حديقة الصفاء الغناء. وليسمح لي الدكتور بأن أوجه إليه كلاما وجهته إلى الأستاذ أحمد أمين منذ ستة أعوام فقد تثمر بهمته ما فيه من فكرة خيرة, لقد قلت وقتئذ: لا شيء في الوجود أقوى من الابتسامة ولكن من ذا الذي أعطى القدرة على الابتسام الصافي الجميل في كل موقف وفي كل حين أهو الجبار وحده، ألا ترى معي الجبروت إنما هو الصفاء. "إذا أردت أن تسلك طريق السلام الدائم، فابتسم للقدر إذا بطش بك ولا تبطش بأحد" تلك كلمة لعمر الخيام فإن كنت في رأي من هذا فإن لي عندك حاجة "أن تنثر معي تلك الابتسامة بين الأدباء فإن الأدب شيء جميل؛ هو جنة لا صخب فيها وهو معبد لا تدخله الأحقاد، وأن ظاهرة في أدبنا أنه لا توجد فيه صداقات عظيمة جديرة بأن يتحدث عنها تاريخ الأدب، ما الذي يعوزنا نحن؟ أهو شيء في الخلق؟ أم ضعف في النفس؟ أم هو نقص في الصحافة؟ لست أعلم.

4- من العقاد إلى توفيق الحكيم: عندي تعليق على كلمة عجيبة سبق إلى كتابتها الأستاذ توفيق الحكيم وهو في قبضة الأديب الفلاح الدكتور زكي مبارك، فقال كلاما لا يحسن السكوت عليه. فلماذا قال؟ قال ما معناه أنه "صعب عليه" لأنه لم يجد في شكري للدكتور طه حسين تلك الرقة التي كان ينتظرها لا أدري ولا أعتقد أن الدكتور طه اهتم بأن يدري أو احتاج إلى رقة الأستاذ توفيق الحكيم التي أوشكت أن تسيل عبراته، لم؟ والله لا أدري، وقد أدري ويدري القارئ معي بعد قليل. فعندي قصة صغيرة أهديها إلى الأستاذ توفيق الحكيم لأنه رجل قصتي يجب أن يخاطب بأسلوبه. وهي قصة لا تتجاوز بضعة سطور ولكنها تفيد. قيل إن الدكتور طه حسين خرج من وظيفته بالجامعة المصرية قبل سنوات وقيل: إنه أثنى على الأستاذ توفيق الحكيم في بعض ما كتب وهو على جفوة رؤساء تلك الأيام وقيل: إن الأستاذ توفيق الحكيم أشفق من مغبة تلك الجفوة فكتب يقول: إنه لا يريد مدحًا من أحد, وكان رفيعا جدًا فيما قال وأدرك شهر زاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح وقيل في قصة أخرى؛ لأن القصة الأولى انتهت والحمد لله. إن الأستاذ توفيق الحكيم يسيل رقة حين ينكر أن الدكتور طه حسين رفع من شأنه بما كتب عنه لأنه أطنب في وصف أديبه وفي وصف أديب, فلم يرفع من شأنهما على ما يزعم، وهما في الحق أرفع شأنا عند أناس كثيرين من صاحبنا الحكيم. وأدرك شهر زاد الصباح أو المساء على قصة أخرى تمثل اليوم مع العقاد

لأن خصومته قد تشبه خصومة الدكتور طه حسين قبل سنوات, فما الرأي في تمثيلية تشتمل على فصول كهذه الفصول؟ أليس في التمثيل هوى لصاحبنا الحكيم؟ 5- الحكيم: خصومات أدبية 1 من كان يتصور أن دعوتي إلى الصفاء بين الأدباء تثير خصومات أو ذكريات عن خصومات فلقد كتب الأستاذ العقاد في الرسالة. والتعليق على هذه القصة الطريفة لا يحتاج إلى عناء؛ لأن الأساس الذي بنيت عليه، وهو شبهة الخصومة بيني وبين العقاد قد انهار في اليوم ذاته الذي ظهر فيه مقالي, فقد طلع لحسن الحظ في مجلة الثقافة في مساء ذلك النهار تحية مني للعقاد وثناء على كتابه عبقرية محمد بما هو أهله. يضاف إلى ما تقدم "أن ما يدريه العارفون أوشك أن يدريه غير العارفين" هو أني موقفي اليوم يشبه في كثير من الوجوه موقف العقاد، وأن بين المجلات والصحف والأقلام ما يعلن تجريحي وخصومتي بمختلف الأسباب لعين الأغراض. إن حقيقة الخصومة بيني وبين طه حسين في تلك الأيام "عام 1934" كانت خصومة أدبية صرف، ولكن الدكتور طه أراد أن يقحم فيها عنصر السياسة ليظهرني في صورة "يهوذا" ويظهر نفسه في صورة "المسيح" فاخترع تلك القصة اختراعا ولكن الحقيقة ما لبثت أن ظهرت واضحة بينة. وهناك قصة أخرى للأستاذ العقاد ومهداة إلي أيضا، وربما احتاجت

_ 1 الرسالة 11 يوليه 1924.

إلى تعليق طويل لأنها تمس قضية أدبية تحدث في جميع الآداب في كل زمان، تلك هي قصة الناقد والكاتب, فقد ذكر الأستاذ العقاد أني أنكر أن الدكتور طه رفع من شأني بما كتب عني، وأنا حقا أنكر ذلك كل الإنكار ومن يحرص على كرامة الفن لا يسعه أن يقول غير هذا القول, فما من مخلوق على الأرض يرفع أو يخفض من شأني غير فني, ولما ترجم هذا الفن أو بعضه إلى لغات أجنبية وجد من أعلام نقادها من يرفع شأنه كما وجد من اللغة العربية طه وأمثاله. فالفن هو الذي يكرم نفسه أو يمتهنها في كل مكان وزمان يحل فيهما. حقا؛ إن الدكتور طه حسين استقبل كتاب أهل الكهف استقبالا رائعا، ولكن لا ينبغي أن ننسى غيره، فبمراجعة تاريخ الحوادث يتضح أن أول من نوه بالكتاب تنويها جميلا كان الشيخ مصطفى عبد الرازق ثم الأستاذ المازني ثم الأستاذ العقاد على هذا الترتيب, فلما اطمأن طه حسين إلى آراء هؤلاء أقبل فصاح صيحته المشهورة كأنها صيحة "يوحنا المعمدان" وهو يبشر بالمسيح فقد قال بهذا النص: "أما قصة الكهف فحادث ذو خطر لا أقول في الأدب العربي المصري وحده بل أقول في الأدب العربي كله وأقول هذا من غير تحفظ ولا احتياط وأقول هذا مغتبطا به مبتهجا له، وأي محب للأدب العربي لا يغتبط ولا يبتهج حين يستطيع أن يقول وهو واثق بما يقول: إن فنا جديدًا قد نشأ فيه وأضيف إليه, وأن بابا جديدًا قد فتح للكتاب وأصبحوا قادرين على أن يلجوه وينتهوا منه إلى آماد بعيدة رفيعة ما كنا نفكر أنهم يستطيعون أن يفكروا فيها الآن". نعم هذه القصة حادث ذو خطر يؤرخ في الأدب العربي عصرًا جديدًا.

ويمكن أن يقال: إنها أغنت الأدب العربي وأضافت إليه ثروة لم تكن له: ويمكن أن يقال: إنها قد رفعت من شأن الأدب العربي وأتاحت له أن ينبث للآداب الأجنبية الحديثة والقديمة". ولنسلم بأن طه حسين هو المشيد الأول بشأن أهل الكهف ومؤلفها فهل هذا حدث جديد في تاريخ الأدب. لم نسمع من قبل أن الناقد إذا أثنى على كتاب حسب أنه تفضل على مؤلفه ورفع شأنه من الحضيض وأن على المؤلف واجبا مقدسا هو أن يشتري من فوره سبحة لكيلا ينسى أن يسبح بحمد الناقد أناء الليل وأطراف النهار. ولكن من الإنصاف أن أقول: إني لا أشك في أن طه حسين أول الأمر كان يصدر حقا عن عقيدة الناقد الذي يؤدي واجب النقد والفن وحدهما، فلم يكن قد رآني وما كنت قد رأيته، وما كان تصادم الطباع والخصال قد لعب دورا في تقدير الأمور وسواء كان طه مخطئا أو مصيبا في رأيه الذي أبداه فهذا ليس من شأني ولا من شأن الأشخاص، إنما هو شأن النقاد. على أني إذا تفرغت للنقد يوما، فإني أرجوا أن أؤدي واجبي بمثل هذه الحرارة والأمانة والقوة نحو آثار طه وغيره من الأدباء. أما مشاعري الخاصة كإنسان نحو الدكتور طه فليس الظرف اليوم مواتيا للإطناب في وصفها وسأختار الزمان والمكان الملائمين للإفاضة بها دون أن يحمل فعلي على غير محمله.

وأخيرًا أوجه خطابي إلى الأستاذ العقاد قائلا: إنك للمرة الأولى تخاطبني بهذه اللهجة التي كنت تخاطب بها الرافعي رحمه الله. أبهذه السرعة تضع الناس في صف أعدائك، لعلك لفرط ما قاسيت من شر الناس ولقلة ما وجدت من خيرهم، أصبحت مثل "هملت" تستل سيفك لتضرب من خلف الأستار دون أن تتبين الوجوه فطعنت صديقا وأنت لا تدري. 6- عباس محمود العقاد؛ صداقات الأدباء 1: والأستاذ توفيق الحكيم أراد الصفاء بين جميع الأدباء فهل أراد شيئا يكون في هذه الدنيا؟ وهل أراده حقا؟ وهل توصل إليه بوسيلته المثلى؟ إن ثلاث "لاءات" مفحمات هي أصدق جواب على هذه الأسئلة الثلاث، فالصفاء بين جميع الأدباء معناه الصفاء بين الناس وليس هذا بميسور ولا هو بلازم للأدب والأدباء. فالأستاذ توفيق الحكيم هنا لم يطلب شيئا يجاب. ولكن نعود لنسأل: هل طلبه حقا؟ وهل اجتهد في تحقيقه فتوصل إليه بوسيلته المثلى؟ إن الذي يطلب الصفاء لا يبحث عن أسباب الكدر بملقاط ليخلقها خلقا بين رجلين على أحسن ما يكون من الصفاء. أهدي إلى الدكتور طه حسين قصة "دعاء الكروان" فجعلت هذا الإهداء موضوع مقال من أعماق النفس في معنى الكروان ودعاء الكروان وذكريات

_ 1 الرسالة أول يونيه 1933.

الكروان وقرأه كثيرون من الأدباء فحدثوني عنه حديث رضا وسرور، وفي مقدمتهم الدكتور طه مهدي دعاء الكروان. أما الأستاذ توفيق الحكيم فماذا صنع؟ لم يرضه ما أرضى الدكتور طه ولا ما أرضى الأدباء ولا ما أرضى كثرة القراء. وراح يتحدث ويكتب ليقول: هنا صفاء. فكيف بالله يليق هذا الصفاء؟ ثم وجه إلي بعد أيام أخرى خطابا قال فيه: "إنك للمرة الأولى تخاطبني إلخ ولا أظن أنني أشبه هملت في كثير من خصاله وأفعاله ولكني إذا سئلت: لم صنعت صنيع "هملت"؟ أفلا يجوز لي أن أسأل: ولم الوقوف وراء الأستار وأولى من ذلك الخروج إلى وضح النهار؟ أليس هنالك بعض اللوم على من ينصت خلف الستر ليسمع ما يسمع أو ليقول ما لا يقال. وعبرة أخرى أن الأستاذ الحكيم يذكر التعالي في موقف الكاتب وينسى أنه اختار لأدبه عنوان "البرج العاجي" وهو عنوان الأدب المصطلح على وصفه بالتعالي بين نقاد الغرب وشعرائه، فليترك برجه العاجي إذن أو فليتركنا نحن نتعالى ونتواضع كما نشاء. إن كان يعني هؤلاء وأمثال هؤلاء فهو واجد في الأدب العربي الحديث صداقات من تلك الصداقات وواجد من هناتهم في الغرب نظائر لما نشكوه من هنات الزملاء المصريين والشرقيين والطبيعة البشرية واحدة في كل مكان تلك أصدق حكمة عن الناس قالها إنسان.

7- توفيق الحكيم 1 الصفاء "أيضًا": كانت دعوتي إلى الصفاء بين الأدباء خالصة لوجه الأدب, فأدباء مصر البارزون الدائبون على الإنتاج لا يتجاوز عددهم العشرة على التسامح الشديد. كان الأجدر بنا نحن العشرة أن نوجه صراعنا لا إلى بعضنا البعض بل إلى الفن ومصاعبه وأسراره. ولكن الأستاذ العقاد في مقاله رد يقول: إن صاحب الدعوة إلى الصفاء هو الذي بحث في أسباب الكدر بملقاط ليخلقها خلقا بين رجلين على أحسن ما يكون من الصفاء فإذا صح هذا الزعم كان حقا مما يدعو إلى الأسف بل إلى السخرية، ربما كان ظاهر الوقائع يدل على ذلك ولكن هل كانت تلك حقيقة المقاصد والنوايا. وقد رأى الأستاذ العقاد أن يجزي واحدة بواحدة فلم يفته في ختام مقاله أن يدرس هو الآخر سببا من أسباب الكدر بيني وبين الدكتور طه حسين لقوله أن الأستاذ الحكيم يقول بعد الإشارة إلى ثناء الدكتور طه عليه منذ سنوات: لم نسمع في غير مصر أن الناقد إذا أثنى على كتاب حسب أنه تفضل على مؤلفه ورفع شأنه من الحضيض ... إلخ. ومضى يصورني في هيئة الناكر للجميل. والأستاذ العقاد ولا شك قد فهم أني ما قصدت بإيراد هذه العبارة وأمثالها إلا مجرد إظهار الإساءة لطه حسين وهو في أوج نفوذه, فقلت ما نصه: "إن هذا الوقت هو أحب الأوقات عندي لإساءته لا لإرضائه".

_ 1 الرسالة 8 يونيه 1942.

الحقيقة أنها كانت قصة انتهت مع الأسف بانهيار صداقة من أعظم الصداقات التي عرفها أدبنا المعاصر: ثم تحدث توفيق الحكيم عن قصة أهل الكهف ورأي طه حسين فيها وصداقتهما التي قامت على الأثر وقال: "ولكن, وآسفاه لقد تغلب أولئك الشامتون واللائمون آخر الأمر وفازوا بمآربهم وأشعلوا نار الوقيعة بيننا واضعين أيديهم على مواطن الضعف فينا، وضعف الفنان هو عزته وكرامته، وإن شئت فقل غروره, وهكذا لم يستطع طه حسين أن يحتفظ طويلا بابتسامته وضحكه أمام السامعين بالسوء ولم أستطع أنا أن أحتفظ باتزاني فأنقذ المودة الصادقة وأضحي بالعزة الكاذبة. وبهذا حطمنا تلك الجوهرة التي منحتنا إياها السماء, ومن أجل ... من أجل ماذا؟ لست أدري ما حدث بعد ذلك، فذاكرتي الآن لا تسعفني، كل ما أذكر أننا حاولنا أن نرم ما تحطم، ولقد أقمنا معا بعض الصيف في جبال الألب فضحكنا كثيرًا ولهونا طويلا بل لقد ألفنا معا هناك كتابًا, ولكنها مع ذلك لم تكن الصداقة الأولى، لماذا؟ لعل شيئا في نفسينا لم يكن صافيا كل الصفاء أو في نفسي أنا على الأقل, إني أعرف؛ لقد كنت أمتنع عن كل ما يؤخذ على أنه ملق أو زلفى, لقد كان طه حسين وقتئذ هو شخصية ذات نفوذ، وأنا أكره إرضاء أصحاب النفوذ. ولكني الآن وقد وضعت بين تهمتين: الزلفى ونكران الجميل فإني أوثر التهمة الأولى فلقد سبق أن اتهمت بها في مجال السياسة, إن الشهرة قد جائتني حقيقة ببعض المال ولكن، هل كنت محتاجا إلى ذلك المال؟ إني لم أكن معسرا ولا مقترا, جائتني بالمركز الاجتماعي، كلا فقد كنت قبلها من رجال

القضاء المحترمين ولو أني بقيت كذلك ولا شيء غير ذلك لظفرت بالحياة الهانئة الوديعة النافعة، على الأقل للعدالة والناس، ولكن الشهرة وما يحيط بها من الإشاعات والأقاويل والأباطيل قد حالت بيني وبين ذلك الخير، فبعد أن كانت تسعى إلى طلبي الأسر وأنا في القضاء سموا في الثقة والهيبة أصبحت تنفر مني اليوم, لقد جاوزت الأربعين وما أبصر في الأفق طيف واحة مورقة في صحراء حياتي المحرقة. ما قيمة الشهرة بغير سعادة وما قيمة الأدب والفن بغير هناء؟ 8- زكي مبارك؛ أحزان توفيق الحكيم: لم أكن أنتظر أن يكون عتبي على الأستاذ توفيق الحكيم1 فرصة لمجادلات ومساجلات يجري بها قلمه مع الكاتبين العظيمين عباس العقاد وطه حسين. يظهر أن أحزان توفيق الحكيم لن تنجيه من "الوقوع في قبضة الأديب الفلاح" فاسمعه اليوم كلاما يسره في حين ويحزنه في أحايين وفقا لحالته النفسية. دار الأستاذ الحكيم في رده على الأستاذ العقاد حول "نفوذ" الدكتور طه حسين فماذا يريد أن يقول؟ هل يتوهم أن نفوذ الدكتور طه تميمة تعيذه شر أقلامنا إذا رأيناه انحرف؟ وما احتياجنا إلى نفوذ طه حسين ونحن نعرف أن ذلك النفوذ بلاء عليه، يستطيع الدكتور طه بكفايته العلمية أن يكون أكبر موظف في الحكومة المصرية ولكنه لا يستطيع الزعم بأن سلطان القلم يفوقه أي سلطان.

_ 1 الرسالة 8 يونيه 1942.

الدكتور طه رجل ضرار نفاع، ولكنه من العيب على حامل القلم أن يرجوه أو يخشاه, فما معنى هذا الذي تقوله يا عم توفيق؟ صديقنا توفيق يتألم ويتوجع لأن شهرته الأدبية أبعدته عن الانخراط في سلك القضاء فما معنى هذا؟ معناه أن الرجل يعيش بين رجال الأدب عيش الغرباء، وإلا فهل يجوز لكاتب له عقيدة أدبية أن يتوهم أن في الدنيا حظا أرباب الأقلام. وصديقنا توفيق الحكيم يقول بعبارة صريحة أنه لا يجد أسرة تعطف عليه تتزوجه بنية يسكن إليها وتسكن إليه لأن الشهرة الأدبية أضافته إلى المشبوهين. غضبة الأدب عليك يا توفيق فما أوذي الأدب بأقبح ولا أبشع ولا أفظع مما جرى به قلمك الأهوج. أيهون الأدب على أهله إلى هذا الحد من الهوان البغيض؟ أيكون نفوذ طه حسين شيئا يخاف فتحبر فيه المقالات الطوال العراض؟ آه, ثم آه. لو كان بيدي شيء لقضيت بنفي توفيق إلى جزيرة "واق الواق" ليعرف أبناؤنا وتلاميذنا أن للأدب سيطرة سماوية تبغض التأدب مع غير صاحب السماء. أنت في جماعتنا دخيل يا توفيق، لأنك تقدم علينا رجال القضاء ولأنك تتهيب أصحاب النفوذ. 9- توفيق الحكيم؛ الصفاء بين الأدباء: صديقي الزيات؛ حتى أنت قد خاب أملي فيك! أنا الذي دعا إلى الصفاء

بين الأدباء كما رأيت وبذلت في ذلك ما بذلت؛ فإذا كان كل هذا يسفر عن كلمة سمحت أنت بنشرها في العدد الأخير من الرسالة كلها إيذاء لشخصي دون مبرر، كلمة لم تدع إليها مساجلة أدبية، ولم يتبع بها الأدب والفكر ولكن دعت إليها شهوة الهجوم والتجريح لمجرد الزهو والخيلاء بالهجوم علي وتجريحي. ولعل السبب الوحيد في ذلك أنني رجل هادئ الطبع كما تعرف، نزاع إلى الخير، ينزه القلم عن أن يستخدم هراوة للبطش، وكنت أحسب أن الشجاعة الحقيقة فيه في احترام أصحاب هذه المبادئ والنزعات. ولكن صدمني حقا ما رأيت من أن الأدباء في مصر -مع الأسف- لا يحسبون حسابا لغير الكاتب الذي يبرز مخالبه، ويكشر عن أنيابه، ويتهيأ دائما للوثوب. أنا الذي أراد الأدب أن يكون حديقة غناء سياجها "الصفاء" إذا بي أراه حرشا من الأحراش المأهولة بالضواري. ما هي في واقع الأمر رسالة الأدب إلى اليسر؛ أهي شيء آخر غير ترويض كواسر الناس وإفهامهم أنهم أرقى من الحيوان. إن الأدب الرفيع هو الذي يثير المشاعر الرفيعة بما فيها من صدق وحب وخير وجمال, وإن الأدب الوضيع هو الذي يهيج فينا الغرائز الحيوانية بشهواتها للفتك والبطش والعدوان. كنت أظن يا صديقي الزيات أن تلك هي رسالتك, وأن عملك في مجلتك هو توجيه الأدب إلى هذه الغاية الفضلى. خاب أملي فيك, إنما الذي خيب أملي هو أني رأيتك قد حدت قليلا عن رسالتك في "الرسالة" وفي هذا خطر على شرف الغاية التي عاهدت نفسك والناس عليها, وقد أغتفر لك إهداء حق الصداقة والزمالة، أما هذه، فلا.

هنا ونفترق. وليكن اليوم آخر عهدي بك و"بأصالة" والأدباء. لن أكتب شيئا لك ولن أذكر بعد اليوم أديبًا بخير ولا بشر. سأصمت عن أشخاصهم، صمت القبر لأنصرف إلى الإنتاج وحده من حيث هو إنتاج. فلا حلم في صفاء ولا أمل في عودة بين أدباء. على أني قبل ذلك أحب أن أنوه بحق لك عندي وفضل لا أود أن أنساه: لقد كنت أنت الذي اقترح علي فكرة تدوين ذكرياتي المنسية من عهد اشتغالي بالقضاء.. فخرج كتاب "يوميات نائب في الأرياف" ربما لولاك ما اتجه ذهني إلى هذا الأمر ولضاعت إلى الأبد معالم تلك الأيام. 10- من الزيات إلى الحكيم: ولو لم يكن النسيان عرض ملازما لك يا صاحب أهل الكهف لذكرت أن اسمي الزيات، لا زكي مبارك ولو أنك ذكرت ذلك لما كان منك ذلك الكتاب ولا كان مني هذا الجواب، ولكنك لا تستطيع أن تنكر أنك كفرت بنفسك وكذبت برسالتك لأن الرسول الصادق لا ينذر بالكدر وهو يبشر بالصفو ولا يبادر إلى القطيعة وهو يدعو إلى الصلة. لم يكفر برسالتك غير العقاد ولا شك في إخلاصك للأدب غير المبارك فما، بالك يا توفيق تئن قبل التعذيب وتلقي بيديك ورجليك إلى الصليب وتفضح بهذا الجزع نبوة الأدب. تقول إنني حدت قليلا عن رسالتي في الرسالة وقليلا هنا معناها "زكي مبارك" وزكي مبارك يا توفيق لون من ألوان الأدب المعاصر لا بد منه ولا حيلة فيه، فهو الملاكم الأدبي في ثقافتنا الحديثة؛ أما عنفه وشماسه فهي الطبع المميز للونه، فلو شئت أن تجرد هذا الملاكم المبارك من عنف الهجوم وخشونة المراس لما بقي منه غير توفيق الحكيم وحمار الحكيم.

على أنه هو نفسه أول الشاهدين على أن صفارتي قد بحت من طول ما أهبت به وهو في قفاره السنتريسي يهدر في المحال بين الجبال مغضيا بعض الأعضاء عن قواعد الملاكمة. وزكي مبارك بعد ذلك سليم الصدر، صريح القلب رياضي الروح لا يتحرج أن يطلب إلى صديقه أن ينصره ظالما أو مظلوما. ثم تقول إن الأدباء في مصر مع الأسف لا يحسبون حسابا لغير الكاتب الذي يبرز مخالبه ويكشر عن أنيابه ويتهيأ دائما للوثوب، فهل مصداق ذلك يا توفيق أنك أدرت ظهرك لخصمك وحملت علي، أما قطعك الأسباب بينك وبين الرسالة والأدباء فأمر يهون ما دمت تخرج كتبك إلى قرائك الأوفياء، وإذا جاز لي أن أواجهك مرة أخرى فإني أنصح لك يا توفيق بأن تؤمن برسالتك كما أمن ذوو الفضل من الكتاب وأن تصبر عليها كما صبر أولو العزم من الرسل.

الفصل الرابع: معارك النقد

الفصل الرابع: معارك النقد بين العقاد وطه حسين: اتصل حبل المساجلة والنقد والعراك الأدبي بين العقاد وطه حسين أمدًا طويلا، ولكنه كان في كل الأحوال هينا لينا لم يصل إلى ما عرف من عنف طه حسين أو عنف العقاد في خصومته مع من ساجلا من أدباء, ولعل ظروف السياسة هي التي حالت دون ذلك فقد دافع العقاد عن طه حسين إبان محنته بكتاب الشعر الجاهلي وخالف رأي حزبه. ولما تحول طه حسين إلى الوفد وكان العقاد كاتبه الأول أعلن في أول مناسبة العقاد أميرا للشعر، وجرت بينهما مجاملات كثيرة أهدى فيها طه كتاب "دعاء الكروان" إلى العقاد صاحب ديوان "هدية الكروان" ولم تحتدم المعارك بينهما إلا مرة واحدة حول النقد اللاتيني والنقد السكسوني وقد ذكر طه حسين خصوماته مع العقاد1. فقال: لقد هاجمت العقاد في غير موطن من مواطن الخصومة، خاصمته في السياسة وخاصمته في الأدب وخاصمته في السياسة والأدب أيضا، ولكن هذه الخصومة لم تغض من مقدار العقاد في نفسي. وما أظن أن بين لدات العقاد وأترابه ومعاصريه من يقدره مثل ما أقدره أنا وأكبره وليس يعنيني أن يكون رأي العقاد فيّ كرأيي فيه، وإنما الذي يعنيني أن أقول الحق وإن كرهه الكارهون, وإن كرهه العقاد نفسه، والذين عاصروا خصومات العقاد يذكرون من غير شك أني أثنيت على أدبه في جريدة السياسة حيث كانت الخصومة بين الوفد والدستوريين كأعنف ما تكون الخصومات، وقد كانت الحرب سجالا بيني وبينه حربا ولم يمنعه ذلك من أن يقوم قيام الرجل الكريم في مجلس النواب يدافع عني حين كان الوفديون جميعا علي حربًا، ولا أعرف أن الخصومة بين العقاد وبيني قد

_ 1 اقرأ المساجلة في موضعها في هذا الكتاب.

انقطعت، فما دام كلانا يكتب فالخصومة بيننا ممكنة ولكننا قوم نعرف كيف نختصم دون أن نفسد الخصومة رأي واحد منا في صاحبه. ومن المقطوع به أن لهذا الكلام معنى عميق وطه حسين لا يقوله مجردًا ولعله أن يدفع به حملة من حملات العقاد ضد شيء ما، وقت كتابة هذه الكلمات. "وهذه ملامح من هذه المعارك". رأي طه حسين في "مطالعات" العقاد: إن الأستاذ عباس1 العقاد من أصحاب الألوان السياسية الظاهرة وأي لون سياسي! وأي ظهور وهو سعدي مغرق في السعدية وهو كاتب من كتاب البلاغ. لقد أخذت نفسي بأن أكون حرًا في النقد، وأعطيت على نفسي موثقا من الله لأكونن حرًا مطلق الحرية ولا يستثن في هذا النقد صلات المودة والقربى وعواطف الرضا والسخط، وإذا كنت قد أخذت على نفسي بتلك الخصلة وأعطيت على نفسي هذا الموثق وتناولت الأصدقاء والزملاء والأساتذة بالنقد والتقريظ، لم أصطنع في هذا كله إلا الإنصاف والحق. فقد يكون لي أن أتجاوز الخصومات السياسية، وأن أجعل خلاف الأحزاب دبر أذني وتحت قدمي، لأقول كلمة الحق في الأدب ليس بينها وبين السياسة والأحزاب صلة. فليطمئن خصومنا السياسيون وليطمئن أنصارنا السياسيون أيضًا، وليعترف أولئك وهؤلاء أن للعلم والأدب حقهما في الوجود إلى جانب السياسة والأحزاب، وإذا كان من الحق أن ليس للعلم والأدب وطن، فمن الحق أيضا أن ليس للعلم والأدب حزب سياسي وإذا كنت قد أخذت نفسي

_ 1 السياسة مجلة 26/ 1.

بأن أكون حرا في النقد فلأكن حرا حقا، ولأنسى في سبيل الأدب والعلم مذهبي السياسي كما نسيت عواطف المودة والقربى ومكانة الزميل والأستاذ. وليطمئن هؤلاء وأولئك مرة أخرة. فأنا أمقت المذهب السياسي للأستاذ عباس العقاد مقتا شديدًا وأزدريه ازدراء لا حد له1. سأنقده وسأقول فيه كلمة الحق والإنصاف هذه، وسيكون هذا النقد وهذا الإنصاف في جريدة السياسة التي تخاصم السعديين، وتزدري سياستهم لأن السياسة إلى جانب مذهبها السياسي والحزبي مذهبًا آخر تقدسه وتجد في تقديسه ولا يفهمه غيرها من الصحف وهو حرية الرأي مهما يكن صاحبه ومهما يكن رأيه السياسي. واعترف بأن الأدب ثقيل أحيانا، لأنه ينسيك الخصومة السياسية، ويجيب إليك خصمك السياسي كما حبب إلى أدب العقاد، وبأن السياسة ثقيلة أحيانا لأنها تنسيك القرابة الأدبية وتبغض إليك الأدب كما بغضت سياسة العقاد أحيانا أدب العقاد. ولست أخدع نفسي, فمن الأدباء الذين يخاصمون في السياسة ويرون فيها رأيا غير رأيي من يقول في ما أقوله في العقاد، ولقد سمعت شبانا من السعديين يقولون في محكمة الجنايات، وقد خلبتهم بلاغة المحامين الذين كانوا يدافعون عن السياسة, ما أكفأهم أولاد الكلب لو لم يكونوا عدليين. 2- معركة حول المعري: كان "المعري" مصدر حركة أدبية بين طه حسين والعقاد عندما أصدر الأخير كتابه عن أبي العلاء.

_ 1 تحول طه حسين إلى هذا المذهب السياسي بعد ذلك بسنوات قليلة.

طه حسين: إن الأستاذ العقاد أراد أن يرتحل بأبي العلاء بعد أن بعثه بعثًا جديدًا وأن يطوف به في أقطار الأرض فلم يصنع شيئا وإنما ارتحل به في طائفة من الكتب التي قرأها وفي ألوان العلم الذي أحاط به وفي فنون من الآراء التي أتقنها واستقصاها, ذلك لأن الأستاذ العقاد نفسه لم يرتحل ولم يطوف في أقطار الأرض, وإنما ارتحل وهو مقيم وطاف وهو مستقر، وعرف الدنيا وهو لم يتجاوز حدود مصر، وعند الأستاذ العقاد أدب وعلم وفلسفة، فقد ملأ يديك أدبا وعلما وفلسفة، ولكنه لم يرتحل إلى أوربا ولا أمريكا، فلا يستطيع أن يرحل بك ولا بأبي العلاء في ألمانيا وفي روسيا وفي السويد والنرويج والدانمارك وفي بلاد الإنجليز وإسبانيا وفي أمريكا ولكنه لا يريك سيرهم وينتهي بك إلى مصر فيظهرك منها على طبيعتها الرائعة ونهرها الجميل، ذلك لأنه يعرف مصر وقد رآها رأي العين فهو قادر على أن يعطيك منها شيئا، وهو أمين كل الأمانة لا يستطيع أن يعطيك من أوربا ولا من أمريكا لأنه لا يعرفهما، أستغفر الله وأستغفر الأستاذ العقاد، بل لأنه لم يرهما رأي العين ولم يلم بها إلا من طريق الكتب. "رد العقاد": من المتفق عليه أن أبا العلاء المعري لو كان حيا وساح في الأرض لما كان غرضه من السياحة أن يكتب لنا دليلا من كتب السياحة، وإنما تعنيه مشكلات العقائد والأخلاق التي كان يعنى بمثلها في الحياة، وليست هذه المشكلات والعقائد مقصورة على المسافرين دون المقيمين. على أننا نعود فنسأل: أين هي المشاهد التي لا يراها الإنسان إلا بالانتقال

إليها في هذا الزمان! الصور المتحركة التي ترينا وتسمعنا كل يوم ما يراه ويسمعه الباريسيون واللندينون وسائر الغربيين والشرقيين، والمطابع تنقل إلينا ما يقولون وما يعتقدون، والأصوات الحالية تحكي لنا ما ينشدون ويعرفون والعالم كله معروض لنا عرضا ينقله إلينا وإن كنا لا ننتقل إليه. 3- حول كتاب: "أبو نواس" للعقاد: عندما أصدر العقاد كتاب: "أبو نواس", تناول الدكتور طه حسين بالنقد فكان مما قاله أن علماء التحليل النفسي لهم مذاهبهم في البحث يخطئون فيها ويصيبون وهم يعتمدون في بحثهم على التجارب فتستقيم لهم حينا وتخطئهم أحيانا. أما الأدباء فيذهبون في ذلك مذهب التقليد والمحاكاة لا مذهب الاستكشاف والاجتهاد، والعلم لا يجوز فيه التقليد. إنه من العسير على الأدباء أن يجروا آراءهم هذه الاتباعية على الأحياء الذين يرون ويستطيعون أن يقولوا لهم ويسمعوا منهم ويراقبونهم عن قرب أو بعد. من العسير عليهم ذلك لأنهم لا يملكون أداة هذا البحث ولا يحسنون التصرف بها إن أتيحت لهم، فكيف بهم حين يجرون هذه الآراء على الموتى الذين بعد بهم العهد ولم يبق لنا من آرائهم إلا الأحاديث. وقال العقاد: إن دراسة الأدب لعلم النفس ودراسته للأدباء والشعراء على ضوء هذا العلم أمر ضروري، لأنه عندئذ سيتمكن من فهم ما يصدرون عنه، مثال ذلك أن أبا نواس وحكيم المعرة والمتنبي وبشار لا يخلو أحدهم من الاعتداد بالنفس، ولكن علم النفس يمكنك من التمييز بينهم لأنه يذكر لك أن

هناك اعتدادا بالنفس يدخل في جنون العظمة واعتدادا بالنفس يدخل في جنون الأثر واعتدادا يدخل في الانحسار الذاتي، واعتدادا يدخل في جنون النقص والتحدي واعتدادا مبعثه العناد ثم اعتدادا بالنفس يدخل في جنون الاشتهاء الذاتي وهو النرجسية التي وصفنا بها أبا نواس. 4- طه في رأي العقاد: طلبت مجلة الهلال في يوليه 1935 إلى طه حسين والعقاد أن يكتب كل منهما عن الآخر فكتب العقاد وتخلف طه. قال العقاد: أنا ضامن أن الدكتور طه حسين سيقول أنني شاعر، فليضمن الدكتور طه إذًا أن أقول فيه إنه كاتب ناتج في الأدب، وخير ما أنتجه كتاب "الأيام" وكتاب في الصيف، وهما الكتابان اللذان سرد فيهما بعض ما جرى له في حياته فكان فيهما مثلا في البساطة والثقة التي تعزف بصاحبها عن التماس التأثير المصطنع بالتعمل والتمحل والطلاء والتزويق، فالموصوف في هذين الكتابين صادق بسيط الوصف كذلك. أنا ضامن أن الصديق الأديب سيجد عيبا أو عيوبا في شعري يقيسها بمقياسه ويقدرها بمعياره فإذا ضمنت هذا فليضمن الصديق الأديب أن أعلل قلة الوصف في كتاباته القصصية بعيب فيه وهو قلة الخيال, فهو يصف ما يعالجه من المحسوسات ولا يتخيل ما عداه من نقائضه أو مشابهاته. أما طه حسين الناقد فما أقول فيه؟ أقول: إن اطلع على الأدب العربي القديم اطلاعه الواسع الذي لا جدال فيه واطلع على نفائس من أدب الإغريق واللاتين والأقدمين، واطلع على آثار رهط من كبار الأدباء الأوروبيين ولا سيما الفرنسيين، كل أولئك خليق أن يحبب إليه الصحة والمتانة والقوة، ويبغض إليه الزيف والسخف والركاكة، فهو يختار ما يعلو على مقاييس المقلدين

المصطنعين، وينبذ ما يستطيعه المجددون من أصحاب الاطلاع القليل أو أصحاب الذوق السليم. ومن حساب الدكتور طه حسين أنه رجل جريء العقل وقويه، مفطور على المناجزة والتحرش، يستفيد مما يقنع بصحته ومما يعينه على التحدي والتفرد فلا يحجم عن اتخاذه، ولهذا تغير أسلوبه الكتابي بعد دراسته للأساليب الأوروبية، فاتخذ له نمطا يوافق علمه بالعربية الفصيحة وعلمه بتقسيم المقاطع والفواصل في الكلام الأوروبي، كما يتكلم من يجمع بين الحديث والكتابة، في وقت واحد فهو يتحدث ولا ينسى أنه يكتب، ويكتب ولا ينسى أنه يتحدث، وأسلوبه الذي اختاره هو أوفق الأساليب لذلك جميعًا، وأولها من نوعه في اللغة العربية، وليس فيه محاكاة لأسلوب آخر في اللغات الأوروبية. ولو كانت كنايته حديثًا محضا لاسترسلت بلا توكيد ولا تكرير، ولو كان تقريرًا محضا أو درسا محضا لما انحرفت عن أسلوب الكتابة الذي لا يتحدث به القائل, ولو كانت تقريرًا أو درسًا على الطريقة الشرقية لما ظهرت فيها المقاطع والفواصل الأوروبية ولجرت على سياق الدروس الأزهرية. ولكن كتابته حديث فيه محاضرة ومراجعة وتنظيم فلا يوافقها إلا ذلك الأسلوب الذي استقل بابتداعه طه حسين ولو غضب المنكرون. والدكتور صحيح الأصول في النقد ولكنه لا يوفق بين أصوله وطبيعته في كثير من الموضوعات، وهو حين يقرر المبدأ على الصواب غالب ولكنه حين يطبق المبدأ ينحرف أحيانا عن الصواب. التباين بين القاعدة والطبع هو الذي جعل الدكتور ينكر الجديد إذا جاء في زي القديم.

5- رأي العقاد في هامش السيرة: عندما كتب طه حسين "هامش السيرة" كان يبدأ لونا جديدًا من الفن في الأدب العربي فكيف رأى العقاد هذا اللون؟ "ما أحسب إلا أن الدكتور طه حسين قد شبع من إغضاب الجامدين فهو يتصدى هنا لإغضاب المحدثين، وما أحسب إلا أنه يكتب ليثير ويستثير. فمرة تقع النوبة مع أهل الجمود ومرة أخرى تقع النوبة مع أهل التجديد. قلت: بل أنا أحسب أن الدكتور طه قد ملئ إعجابا بالنسق الهومري في تمثيل وقائع الأبطال وأنباء العصور فأراد أن يخرج لنا إلياذة نثرية عربية، يشترك فيها عالم الشعر البليغ، وعالم التاريخ الصادق وتجري حوادثها في آفاق الزمن الغابر الذي لا حدود فيه بين الغيب والشهادة وأسرار الخيال والحقيقة. فنحن نفهم الإلياذة ولا نجهلها إذ ننرها؛ لأنها قد أفرغت في ذلك القالب وانتظمت على ذلك الأسلوب ثم نحن نفهم هامش السيرة ولا نجهله أو ننكره لأنه نقل إلينا الجاهليين كما كانوا في حياتهم وعقائدهم وأفكارهم، ولم ينقلهم إلينا كما نكون نحن لو أننا انتقالنا بزماننا إلى زمانهم، فهل أصاب الدكتور أم أخطأ؟ وهل أحسن للقصص أو لم يحسن؟ أما أنا فأرى أن أسلوب التعليل والتحليل لا يزاد شيئا كثيرًا لو أننا جعلنا الجاهليين عصريين يعيشون في القرن العشرين ولكن أسلوب القصص يخسر كثيرًا من البساطة والتخيل لو أننا سردنا القصة معللين محللين. 6- رأي العقاد في كتاب طه "مع أبي العلاء في سجنه" 1: كتابه حديث المرء عمن يحب لمن يحب، وأراه مذكري أحاديث الأدباء عن أبنائهم الأعزاء.

_ 1 الرسالة 4 ديسمبر 1939.

وأنا ممن يحبون أبا العلاء، وممن أطالوا قراءته في أول عهد الشباب، والدكتور طه لفرط حبه لأبي العلاء يتهم نفسه بمحاباته فيقول: "قل إني أوثر أبا العلاء وأحابيه وأرضى منه أشياء لا أرضاها من غيره فقد لا تخطئ ولا تبعد". ومن المصادفات العجيبة أنني حابيت أبا العلاء على نحو قريب من هذا النحو، ولكن لم أسمها محاباه، بل إنها هي الإنصاف المعقول في قياس الأقوال بالقائلين. فكلانا إذن يسمع القول من شيخ المعرة فيجعبه ويسمع القول نفسه من غير الشيخ فلا يحظى عنده بذلك الإعجاب، ولكن صديقنا الدكتور يسميها محاباة ومجاملة لصديق، وأنا أجري فيها عن سنتي الغالبة في كل شيء من التوفيق بين الحجة والعاطفة، فلا أبرح بالعاطفة حتى أقنع بها عقلي، وأثبت له أنها جديرة بإقراره، وترخيصه، فيعيش العقل والعاطفة معا في وئام, وأخلص بهذا عما يقع من ملام وصدام. ويعرض العقاد لرأي طه حسين في أبي الطيب المتنبي أستاذ المعري وصاحبه الذي يقول فيه "أنا أقدر فن المتنبي وأعجب ببعض آثاره إعجابا لا حد له وأعجب ببعضها الآخر إعجابا متواضعا إن صح أن يتواضع الإعجاب وأمقت سائرها مقتا شديدًا ثم يقول: الحق أنني أعجب لهذا النفور بين الدكتور وشاعرنا المعري الكبير وما أنا ممن يستحسنون كل شعره ولا كل عمله ولكني أزن ما زاده في ثروة الآداب العربية، وما زاده في شرور الحياة بسوء عمله وسوء خلقه، فاعلم أن الحياة لم تفسد بفساد المتنبي وأن الأدب قد صلح بصلاح شعره. هنا أيضا أعود إلى العاطفة والحجة وأحسبني أقرب من الدكتور إلى وفاق الصداقة بيني وبين شيخ المعرة وأقرب إلى الإنصاف.

ويعرض العقاد لرأي طه حسين في موقف المعري من باريس لو رآها وإن ذلك لم يغير من تشاؤمه ويقول: فما باله -أي الدكتور- لا يرضى أن أجعل أبا العلاء يرى في باريس ما يراه السائحون، ويقول فيها ما يقوله أولئك السائحون، أنا ذهبت إلى باريس بالخيال فأخذت إليها صاحبي بالخيال، والدكتور طه ذهب إلى باريس حسا وخيالا فأبى على صاحبه المزاملة وهتف به: إلى اللقاء. ودافع العقاد عن المتنبي قال عندما أصدر طه كتابه "مع المتنبي": إنني أقرب إلى جانب العذر وطه أقرب إلى جانب الملام، فهو لم يتهم الرجل بخلق ليس فيه، ولكنه لم يطلب له العذر حيث تتضح معاذيره، ولم يتهم الرجل بخلق ليس فيه، ولكنه لم يطلب له العذر حيث تتضح معاذيره، ولم يزل يشتد في تفنيده ويمهد في اتهامه حيث يكون الاضطرار أغلب على الرجل من الاختيار.

الفصل الخامس: بين زكي مبارك وخصومه

الفصل الخامس: بين زكي مبارك وخصومه جرت بين زكي مبارك وكتاب عصره معارك أدبية متعددة1؛ وهذه ثلاث نماذج من نقده لكتابات: عباس محمود العقاد, وعبد العزيز البشري, وإبراهيم عبد القادر المازني, وطنطاوي جوهري، ولقد كان لزكي مبارك آراء في الزيات سجلها في خلال كتاباته في مجلة الرسالة غير أنه بعد أن ترك الرسالة هاجم الزيات في أسلوبه، وعرض لعبارته التي تقول: "قل لأولئك الذين زعموا أن مصر نبت عن العروبة فقطعت الأسباب الموصلة وأيبست الأرحام المبلولة". فقال مبارك: من الذي أباح لك يا زيات أن تتكلم عن الأرحام المبلولة؟ ومن أوحى إليك ذلك؟ أجبني، إنها الرجل الذي لبس بهذه المقولة قفطانا أخضر وجبة خضراء وبعد أن ندد بجناية السجع على المعاني وأعرض قال: أمن أجل سجعة تافهة تقع في ذلك الجرم المبلول, اتق الله في قرائك فلا ترهقهم بالسجع ولا تقتلهم بالازدواج. بين زكي مبارك والعقاد: عرض زكي مبارك للعقاد في أكثر من مناسبة على نحو فيه ذلك التهيب لقلم العقاد حتى إنه أجاب على سؤال في هذا لمجلة المكشوف "يوليه 1939" فقال: أنا لا أنقد مؤلفات الأستاذ عباس العقاد ولا هو ينقد مؤلفاتي، لأننا كنا تلاحينا مرة على صفحات جريدة الجهاد وأنا غير مستعد لإنصاف الأستاذ عبد العزيز البشري لأني سمعت أنه تألم من المناوشة التي وقعت بيني وبينه منذ سنوات وأنا أكره أن أقول كلمة خير في الدكتور طه حسين لأنه كتب مقالا في مجلة الرسالة فيه تهوين من شأن كتاب النثر الفني وأنا أحقد على جميع علماء الأزهر لأن فيهم جماعة أرادوا أن يثيروا الغبار حول كتاب التصوف الإسلامي.

_ 1 أوردنا عددًا من هذه المعارك في هذا الكتاب.

وقال: إن الناقد الصريح في مصر يتعرض رزقه ومعاشه لضروب من الزعزعة والاضطهاد وقد يتعرض مسلكه في الحياة إلى سفاهة القيل والقال, وفي مصر عبارة مألوفة حين تظهر مقالة نقدية؛ هي: ما الذي بين فلان وفلان. ومعنى ذلك أن الناقد لا يتعرض لمؤلف إلا وفي صدره غرض خاص. وهاجم زكي مبارك العقاد في مقال له "البلاغ 28 يناير 1947" فقال: زعم الأستاذ العقاد أن "سعدًا" خلع عليه لقب الكاتب الجبار والعقاد كاتب بلا جدال وشاعر من أكابر الشعراء وله في نفسي منزلة غالية حفظه الله من جميع الأسواء, ولكن الكاتب الذي عناه سعد باشا هو "عبد القادر حمزة" كما تشهد بذلك مذكرات كامل سليم سكرتير سعد زغلول. رأيه في العقاد 1: العقاد في الكتابة والنقد شخصان مختلفان كل الاختلاف؛ فالعقاد الكاتب السياسي يرمي ويرمي ويظلم ويظلم في كل وقت، فهو من أبناء السماء عند قوم ومن أبناء الأرض عند آخرين، أما العقاد الكاتب الأدبي فهو من الطبقة الأولى بشهادة الجميع. والعقاد الناقد لا ينحرف عن القصد إلا في حال واحد، حال الحكم على من يعادي من المعاصرين. أما حكمه على المفكرين الذين بعد عهدهم في التاريخ، فهو في غاية من العدل والسداد وقد يصل به الرفق إلى المبالغة في إظهار المحاسن وإخفاء العيوب. وانحراف العقاد في كتاباته السياسية والنقدية يشهد بأنه سليم الشخصية وللكلام هنا مدلول خاص هو اكتمال الحيوية والإحساس، فالعقاد يصادق بعنف ويعادي بعنف فأصدقاؤه ملائكة ولو كانوا شياطين وأعداؤه شياطين

_ 1 الرسالة 13 يناير 1941.

ولو كانوا ملائكة مقربين، وهو مستعد لخوض النار مع أصدقائه إن أوجب الوفاء أن يشاطرهم عذاب الحريق. أما أعداؤه فهو لهم بلاء وعناء، وهو يلقاهم في السر والعلانية بأقبح ما يكرهون، وقد شاع وذاع أن العقاد رجل حقود وهو كذلك، فالحقد من كبريات الفضائل في بعض الأحايين وقد يجزى عليه خير الجزاء يوم يقوم الحساب. والرجولة الحق تفرض الشجاعة الحق ولا تتم الشجاعة لرجل إلا إذا جاز أن تصل به أحيانا إلى حد التهور والجنون. ما قيمة القلم إن لم يحز بستانه عيون المتعاقلين والمتغافلين من حين إلى حين وما حظ الأمة في أن يوصف جميع أبنائها بالفظ والظرف. رأي مبارك في كتاب "مطالعات": العقاد في هذا الكتاب ناقد وكاتب، وقد خلص من الشوائب التي تعرض لها في بعض كتاباته النقدية أو السياسية, نجده يقول في هامش بعض الفصول "من مقال نشر بالبلاغ" كان المقال في الأصل يحوي فكرة باقية أضيف إليها التحامل على أحد المعاصرين. ويكتفي بالجزء الذي يصور فكرة باقية من أمثلة ذلك مقاله عن "المتأنقين" وهذا الفصل أنشأه العقاد للسخرية من الأستاذ لطفي السيد، ثم رأى أن يحذف تلك السخرية من جانبها الخاص وأن يكتفي بجانبها الأصيل وهو احتقار التأنق في تناول عظائم الأمور. أما الدكتور طه حسين فقد أساء إلى نفسه وإلى تاريخه حين عجز عن تهذيب مقاله عن عنترة بن شداد في الجزء الأول من الطبعة الثانية لكتاب

"حديث الأربعاء" ففي ذلك المقال تعريض قبيح بالأستاذ حلمي عيسى. وما أعيبه على الدكتور طه حسين أعيبه على نفسي، فقد أثبت في الطبعة الثانية من كتاب البدائع فضلا دميما عن "طه حسين بين البغي والعقوق" وهو فصل عانيت من شئومه ضروبا من العقابيل، وعرضني لمكاره ومتاعب لم أدفع شرها إلا بنضال عنيف. ومن أعجب العجب أن يكون عباس العقاد أقدر على ضبط النفس من زكي مبارك وطه حسين. وقال زكي مبارك: إن عيب العقاد وعيب المازني في الغرام بالسجع والاذدواج عيب مغفور، لأن هذين الكاتبين لم يكونا إلا شاعرين ضاق عنهما نظام القريض, وإن غرام المازني بالشرح والتفصيل فيما يعرضان له من دقائق الشئون يرجع إلى أنهما ابتدءا حياتهما الأولى باحتراف التدريس، والتدريس يوجب التفكير في تفهيم الأغبياء قبل التفكير في مسامرة الأذكياء ولعل هذا هو السبب في اهتمام طه حسين وأحمد أمين بالطواف حول هوامش الكلمات. رأي مبارك في كتاب "المختار" للبشري 1: إنه كاتب على الطريقة البشرية، كاتب يذكرك في كل سطر بأنه أديب يتصيد الأوابد من مجاهيل القاموس واللسان والأساس. الكاتب الحق الذي يشغلك بنفسك ويوجهك إلى مصيرك المنشود ويفرض عليك درس غرائزك وأهوائك. والبشري رجل صخاب ضجاج يدق الأجراس الضخام حين يدخل الغابة

_ 1 الرسالة 20 يناير 1951.

للصيد، هل سمعتم بالرحا التي تطحن القرون، هي البشري في بعض نثره القعقاع؟ إذ يندر أن تجد في نثر هذا الرجل صفحة خلت من التكلف. والجزء الأول من المختار تراه محصولا من الجهد المحمود في عرض طوائف كثيرة من صور الدنيا والناس، وإن كان قدم بروح مكدود، ونفس مجهود لأن الكاتب لا يفصح عما بنفسه إلا بعد أن يعاني من المشقات ما لا يطاق. وقد كافح عبد العزيز البشري في ميدان الكتابة كتاب المستميت فلنعرف له هذا الفضل ولنذكر أنه قضى ثلاثين سنة وهو معدو من أبطال القلم في هذه البلاد. رأي مبارك في إبراهيم الكاتب 1 للمازني: المازني معني بالسخرية من نفسه. وقد عرف المازني معرفة أدبية لا شخصية في أعوام الحرب الماضية. وكان قد أخرج كتابا في نقد "حافظ إبراهيم" وكان نقد حافظ في تلك الأيام من شواهد التفوق. عرفت أن المازني بروحين, وأرواح, وعرفت أن الذي كان يراسل "الأفكار" وهو في "الأخبار" هو نفسه الذي يراسل "الأهرام" وهو في "البلاغ" ثم تعقبته فعرفت أن بينه وبين أنطوان الجميل صلات وأنه ينشر من الأهرام أشياء بدون إمضاء لمكانه في البلاغ. "الكاتب" هو الذي أضاع "المدرس" في المازني، فما كاد يرى بوارق النضال السياسي حتى اندفع إليه بقسوة وعنف ومضى ينشر مقالات سياسية في تأييد الخطة الوفدية. وجاء الخلاف بين أمين الرافعي وسعد زغلول فاندفع المازني في الهجوم

_ 1 الرسالة 10 نوفمبر 1941.

على الوفد وكانت مقالاته غاية في القوة البيانية، ولكن هذا الكاتب الذي يعادي الوفد علانية في جريدة الأخبار هو نفسه الكاتب الذي يزور الأفكار كل صباح ويقدم إليها في تأييد الوفد أشياء ثم يثب فجأة فينتقل إلى حزب الاتحاد ويزامل الدكتور طه حسين في تحرير جريدة الاتحاد ثم ننظر فنراه مع الأحرار الدستوريين في صحبة الدكتور هيكل، ونلتفت فنراه انتقل إلى البلاغ. كان المازني من أكابر الشعراء. ولكنه انشغل بالكتابة في جميع الأوقات ولجميع الأحزاب ولم يجد الفرصة للغناء ومتى يخلو إلى نفسه من يعاني ضجيج المجتمع السياسي في الصباح والمساء. بدأ المازني حياته النثرية بالطريقة الجاحظية وهي تقوم أساسا على الازدواج وقد وفى المازني لهذه الطريقة أصدق الوفاء في أمد يزيد على عشر سنين. ثم جنى المازني على نفسه بالكتابة اليومية، ثم ابتدع المازني طريقة جديدة هي كتابة أكثر مقالاته وقت إنشائها بالكتاب. ثم قال زكي مبارك: إن المازني رجل جنى عليه قلمه وجنى عليه إحساسه فلم يعرف قيمة الصبر على الانحياز إلى إحدى الجهات. في زمن لا يعيش فيه المفكرون إلا بأسندة من العصبيات السياسية والاجتماعية. بين زكي مبارك وطنطاوي جوهري 1: كتاب "أحلام في السياسة" للأستاذ طنطاوي جوهري هو دعوة إلى السلام وقد أرسله إلى الملوك ورؤساء الحكومات. قال زكي مبارك تحت عنوان: "اسمع يا أستاذ طنطاوي" إن كتابك هذا لن يغني فتيلا في الدعوة إلى السلام، لأنك لم تكلم الساسة بلغة السياسة،

_ 1 البلاغ 5 يوليو 1935.

وإنما كلمتهم بلغة الرفيق في عالم الإنسانية ودعوتهم إلى فهم الجمال، وأغلب الظن أن كتابك إن ترجم إلى اللغات الأوروبية سيكون أضحوكة لأنه يتكلم عن كل شيء إلا الدعوة إلى السلام. إن الدعوة إلى السلام في العصر الحاضر لا تكون إلا عن طريق واحد هو الاقتصاد، فإن أمكنك يا أستاذ طنطاوي أن تؤلف كتابا جديدًا تبين فيه أن المنافع الاقتصادية لا تقوم إلا على السلام وأن الحرب نذير الخراب، كان من الممكن أن تكون رسول السلام في هذه الأيام. إن الجمال الذي تتحدث عنه هو في أعين الساسة حديث خرافي ولا قيمة لتلك الصور الملائكية التي تعرضها للترغيب في السلام بين أهل الأرض. أنت يا أستاذ طنطاوي رجل طيب, أو أكبر عيوبك أنك رجل طيب وإلا فكبف تنتظر أن يترجم كتابك بأمر ملك الإنجليز ليشعر ذلك الملك بالتبعة التي يحملها وهو يسيطر على ربع الأرض فيما قيل. إن خصوم الإسلام أطالوا القول في غمزه ولمزه لأنه يبيح القتال، ولو فهم أولئك لعرفوا أن إباحة القتال في الشريعة الإسلامية هي الدليل أنها أصلح الشرائع لقيادة الحياة الإنسانية, إن السلام العام هو الأمل الباطل الذي يتحدث عنه الفارغون، والنضال بين الأمم والأفراد والجماعات هو القانون الذي يعيش في ظله التقدم العلمي والاجتماعي. طنطاوي جوهري 1: لقد كان ينقد كتبي كثيرون فلم أكن لأعبأ بهم، ولا أرد عليهم ضنا بوقتي ومضيت في عملي، فأما أنت فإن منزلتك الخاصة توجب عليَّ أن أجاذبك الحديث.

_ 1 البلاغ 9 يوليو 1935.

ليس هذا الكتاب بأول ما سطرته في السلام العالمي، بل ألفت كتابا قبله بربع قرن أسميته "أين الإنسان" وأنا حين كتبته لم تكن في العالم جمعية للسلام العام, فهل أنت أيها الأستاذ مشفق علي من هذا الضحك؟ وأي رأي شريف لم يقابل أول الأمر بالسخرية. أما كوني مفتونا بالكتاب فهل معنى هذا أكثر من أني موقن بما فيه لأن سياسة الأمم مبنية على الحقائق العلمية الثابتة وأي قوة في الأرض تستطيع أن تنتزع الآراء الثابتة بالبرهان. أما كوني لم أتكلم بلغة السياسة فها أنا ذا أسمعك آراء علماء الأمم في الكتاب الأول، وهذا الكتاب الثاني أوسع بيانا وإيضاحا وأوفى حكمة وعلما منه.

الفصل السادس: مبارك ينقد كتابه

الفصل السادس: مبارك ينقد كتابه الأخلاق عند الغزالي: لعل هذه هي المرة الأولى التي ينقد فيها كاتب أحد مؤلفاته ويعارض ما جاء فيها من آراء. كان الدكتور زكي مبارك قد كتب كتابه "الأخلاق عند الغزالي" كأطروحة للدكتوراه من الجامعة المصرية عام 1924 وحاول أن يحدث به صيحة حين عارض آراء هذا الفيلسوف الكبير وعندما نوقش في جلسة علنية قامت ضجة بين علماء الأزهر الشريف وفي مقدمتهم الشيخ عبد المجيد اللبان، يقول زكي مبارك "وانتقلت الثورة من الجمهور إلى أساتذة الجامعة من غير لجنة الامتحان وأسر حلمي عيسى في أذن منصور فهمي أن الدكتور طه حسين يريد أن يوجه إلى زكي مبارك ثلاثة أسئلة، وكانت معركة لم أنتصر فيها إلا بأعجوبة, ثم انتقلت المعركة إلى جريدة المقطم حيث صور زكي مبارك بصورة الثائر على التقاليد الدينية ونصحه منصور فهمي وطه حسين بالسكوت عما أثاره امتحانه من جدال وعاد زكي مبارك فنقض آراءه عن الغزالي في رسالة تقدم بها للدكتوراه للجامعة المصرية أيضًا عام 1947 عن الإسلامي وقد عاب زكي مبارك كتابه حين نقده بعد ثلاثة وعشرين عاما ووصفه بأنه دعوة صريحة إلى التشكيك في أصول الأخلاق الموروثة عن القدماء وأن الغزالي لم يعن إلا بالفضائل السلبية ولم يشرح الفضائل الإيجابية، وعاب المؤلف على رجال الدين أن ينسحبوا من الميدان السياسي في الأوقات التي يعرض فيها الجهاد وأن الغزالي لم يؤد واجبه في التحريض على مقاومة الحملات الصليبية مع أنه حجة الإسلام، وهذا هو نقده لكتابه: شاع منذ أعوام أن كتاب "الأخلاق عند الغزالي" من تأليف الدكتور منصور فهمي وهي إشاعة تشرفني وترفع من قدري، فأنا تلميذ هذا المفكر الجليل، ولو قضيت العمر في الثناء عليه لما وفيته بعض حقه من تعليمي وتثقيفي. ولكن كتاب "الأخلاق عند الغزالي" كتابي لا كتابه بشهادة ما فيه من غطرسة واستعلاء وأستاذنا الدكتور منصور فهمي آية في التواضع المقبول:

ألم يرفض جماعة من علماء العراق مصافحتي بحجة أني آذيت الغزالي؟ ألم يقل جماعة من علماء مصر بأني وجهت أقوال الغزالي إلى غير ما كان يريد؟ ألم يقترح الأستاذ جاد المولى بك أن ينص في محضر الامتحان أن اللجنة غير مسئولة عما في الكتاب من آراء؟ قدم هذا الكتاب لنيل الدكتوراه في الفلسفة من الجامعة المصرية سنة 1924 وكانت لجنة الامتحان مؤلفة من منصور فهمي وأحمد ضيف ومحمد جاد المولى وعبد الوهاب النجار وأحمد عبده خير الدين. ويظهر أن المؤلف كان يعاني ثورة روحية وعقلية عند تأليف هذا الكتاب فقد صاحب الغزالي في مؤلفاته نحو خمس سنين، فأسره الغزالي على نحو ما يصنع بمن يواجهون ثورة الوهاج. ورأى المؤلف أن تأليف كتاب في "الأخلاق عن الغزالي" لا يتيسر إلا بعد النجاة من أسر الغزالي فجمع قواه وكسر باب الأسر ليتنسم روح الحرية الفكرية وليلقي الغزالي لقاء الند للند إن كان للغزالي أنداد. وفي مدى ثلاث سنين استطاع ذلك الشاب أن يكتب رسالة للدكتوراه في الفلسفة عن "الأخلاق عند الغزالي", وهي رسالة شرقت وغربت بحق أو بغير حق، واهتم الدكتور "سنوك هوجريته" فنشر في الثناء عليها بحثا باللغة الهولندية كان طليعة التنويه بالمؤلف في بيئات المستشرقين. وفي اليوم التالي نوقش فيه المؤلف بجلسة علنية في الجامعة المصرية كان بين الحاضرين جماعة من أساتذة الأزهر الشريف على رأسهم الأستاذ الجليل

عبد المجيد اللبان شيخنا وشيخ أشياخنا وصاحب الفضل على كثير من العلماء, وقد طاب للشيخ اللبان في ذلك اليوم أن يعترض من وقت إلى وقت بأسلوب يحرج الممتحن ويحرج لجنة الامتحان. لخص مقدم الكتاب معركة الامتحان بأسلوب صورني فيه بصورة الثائر على التقاليد الدينية فانبرى لمجادلتي على صفحات المقطم عالمان جليلان أحدهما الشيخ أحمد مكي، والشيخ يوسف الدجوي فلم أرد عليهما؛ لأن الدكتور طه والدكتور منصور نصحاني بالسكوت عما أثار امتحاني من جدال, وهي نصيحة سجلها الدكتور طه في جريدة السياسة وهو ينقد كتاب مدامع العشاق في أوائل عام 1925. واستطاع كتاب الأخلاق عند الغزالي أن يقاوم هجمات الناقدين عددا من السنين إلى أن تعرض له ناقد لا يرحم المؤلف، وإن كان يحمل اسم المؤلف، ففي اليوم الرابع من أبريل 1937 وقف طالب يؤدي امتحان الدكتوراه في جلسة علنية بالجامعة المصرية، وكان أكبر همه أن ينتقض آراء الطالب الذي وقف هذه الوقفة في الخامس عشر من شهر مايو 1924 فماذا صنع؟ أثبت في كتاب "التصوف الإسلامي" أنه ظلم الغزالي في كتاب الأخلاق عند الغزالي والحكم على النفس من مظاهر القدرة على مغالبة الأهواء. وقال زكي مبارك: وهذا كتاب ألفته في أوقات كنت فيها ثائر القلب والعقل على فهم القدماء للأخلاق، وهي ثورة لم أنج من شرها إلى اليوم, وقد أسايرها وتسايرني إلى آخر أيامي، وكيف يهدأ من يروعه أن يرى في رجال الدين من يعرفون خريطة الحياة الأخروية ويجهلون خريطة الحياة الدنيوية.

والواقع أن كتاب "الأخلاق عند الغزالي" لم يكن إلا دعوة صريحة إلى التشكيك في أصول الأخلاق الموروثة عن القدماء. يقسم المؤلف الفضائل إلى قسمين: فضائل سلبية وفضائل إيجابية ثم يقرر أن "الغزالي" وجه اهتمامه إلى الفضائل السلبية ولم يعن بشرح الفضائل الإيجابية كالشجاعة والإقدام والحرص وما إلى ذلك مما يحمل المرء على حفظ ما يملك والسعي لنيل ما لا يجد، فإنه لا يكفي أن يسلم الرجل من الآفات النفسية بل يجب أن يزود بكل مقومات الحياة، والخير للمرء أن يوصم برزائل القوة من أن يتحلى بفضائل الضعف فإن الضعف شر كله ولكن أكثر الناس لا يفقهون. عاب المؤلف على رجال الدين أن ينسحبوا من الميدان السياسي في الأوقات التي يفرض فيها الجهاد فطوق الغزالي بطوق من حديد حين سجل أنه لم يؤد واجبه في التحريض على مقاومة الحملات الصليبية، مع أنه حجة الإسلام ومع أن صوته كان مسموعا في أكثر الأقطار العربية. أنكر المؤلف على الغزالي أن يتعلق بأهداب الآداب السلبية التي دعا إليها الإنجيل, ثم قال: قد رجعت عن بعض الآراء المدونة في هذا الكتاب حين ألفت كتاب "التصوف الإسلامي" وبين الكتابين أعوام تنقل فيها عقلي من أفق إلى أفق، أما أسلوب الكتاب فيغلب عليه الحذر والتهيب، وقد يصل إلى الرمز والإيماء لأن الموقف كان يعاني رقابة عنيفة، هي رقابة اللجنة المكلفة بالنظر في صلاحيته لامتحان الدكتوراه. وبعد فقد راضتني الأيام بعد الجموح وانضممت كارها إلى العصابة التي تقول بأن الرياء سيد الأخلاق.

الفصل السابع: بين العقاد وخصومه 1: ليست معارك العقاد الفكرية مما يمكن إحصاؤها، فهي متداخلة مع معاركه السياسية وخلافاته في الرأي. ولكنها كلها على وجه العموم لا تحمل صورة الدعوة إلى التغريب ولا العمالة الفكرية لحساب الاستعمار، وإذا جاز أن نذكر المقالات التي كتبها خلال الحرب العالمية الثانية في الهلال والصحف, فإن كل الكتاب قد اشتركوا في كتابة مثلها، وكان ظاهرها الدفاع عن الديمقراطية ومقاومة الدكتاتورية النازية، غير أننا إذا قارنا بين العقاد وبين طه حسين وسلامة موسى ومحمود عزمي وجدنا فارقا واضحا فقد هاجم العقاد الدكتاتورية والشيوعية والصهيونية ولم يدافع عن الاستعمار وإن دافع عن الديمقراطية الغربية. يقول: "نحن نعلم أن ما من أحد من الغلاة في التشيع للقديم يقول بأن كل قديم على علاته مفضل على كل جديد، ولو كملت له محاسن القديم وأربى عليها بفضل محاسن الجديد، كذلك نعلم أن المتشيعين للجديد لا يقولون إن ما يكتب اليوم أجمل وأبلغ مما كتب في العهد الذي نسميه قديما، ولو كان هذا لشيخ من شيوخ الكتاب المعدودين، وكان ذلك لناشئ من الشداة المترسمين أن شرط الأديب عندي أن يكون مطبوعا على القول، أي غير مقلد في معناه ولفظه وأن يكون صاحب هبة في نفسه وعقله لا في لسانه فحسب". وهذا نموذج من معارك العقاد مع خصومه إبان الخلاف السياسي مع حكومة صدقي والقصر. مساعي الإبراشي في عالم الأدب العربي 2: مصطفى أفندي الرافعي ألف كتابا في التشهير بالدكتور طه وألف كتابا سماه السفود أفعمه بالطعن الفاحش في كاتب هذه السطور. ووقف نفسه

_ 1 الجهاد 12 نوفمبر؛ 1943. 2 البلاغ 15 أبريل 1942.

من سنوات على السرقة من كتبي والإنكار علي وعلى ما أكتب وأنظم، ولم يتورع في سبيل ذلك عن كذب ولا بذاء ولا تشويه ولا تحريف، فهل يعلم القراء في أي شيء كان هذا الجهاد النبيل؟ سلوه عمن تعلم من أبنائه على نفقة الخاصة الملكية التي يديرها الإبراشي باشا وعما طبع من كتبه على نفقة الحكومة الملكية. وإسماعيل أفندي مظهر صاحب مجلة العصور لم يدخر من وسعه شيئا في التشهير بي والافتراء علي وانتحال المزاعم الخاوية التي يسندها إلي، فهل يدري القارئ ماذا كان جزاؤه على هذه الحماسة الخالصة لوجه الله؟ لم ينقض علي آخر مقالة كتبها في ذمي شهرًا أو نحو ذلك حتى أصاب وظيفة كتابية في المجمع اللغوي ينقدونه مرتبا لها مائتين وأربعين جنيها في العام. وهناك رجل جاهل اسمه "غلاب" ولا أدري ماذا قبل غلاب أو بعده من الأسماء والألقاب، فهذا الرجل الجاهل قد استحق مقام التدريس في الجامعة الأزهرية لأنه كان يطبع في القاهرة وريقة يسميها "النهضة الفكرية" ويملأها بالغباء والبذاء على انتقاص طه حسين وعباس العقاد. والشيخ زكي مبارك رجع إلى الجامعة المصرية بعد فصله منها زهاء خمس سنوات لأنهم استخدموه في احتفال يقابلون به احتفال الأمة المصرية بالنشيد القومي الذي نظمته في مطلع هذا العام ولأنهم رضوا عما كتب في غمز طه حسين وغمز العقاد من كلام معيب في بعض الكتب والمقالات. وهناك طبيب متشاعر "يقصد الدكتور أبا شادي" سمحوا له بإصدار خمس مجلات في وقت واحد وهو موظف بإحدى المصالح الحكومية فجعل القسم الأدبي من مجلاته كلها وقفا على التشهير بالعقاد وأدب العقاد وأخلاق

من سنوات على السرقة من كتبي والإنكار علي وعلى ما أكتب وأنظم، ولم يتورع في سبيل ذلك عن كذب ولا بذاء ولا تشويه ولا تحريف، فهل يعلم القراء في أي شيء كان هذا الجهاد النبيل؟ سلوه عمن تعلم من أبنائه على نفقة الخاصة الملكية التي يديرها الإبراشي باشا وعما طبع من كتبه على نفقة الحكومة الملكية. وإسماعيل أفندي مظهر صاحب مجلة العصور لم يدخر من وسعه شيئا في التشهير بي والافتراء علي وانتحال المزاعم الخاوية التي يسندها إلي، فهل يدري القارئ ماذا كان جزاؤه على هذه الحماسة الخالصة لوجه الله؟ لم ينقض علي آخر مقالة كتبها في ذمي شهرًا أو نحو ذلك حتى أصاب وظيفة كتابية في المجمع اللغوي ينقدونه مرتبا لها مائتين وأربعين جنيها في العام. وهناك رجل جاهل اسمه "غلاب" ولا أدري ماذا قبل غلاب أو بعده من الأسماء والألقاب، فهذا الرجل الجاهل قد استحق مقام التدريس في الجامعة الأزهرية لأنه كان يطبع في القاهرة وريقة يسميها "النهضة الفكرية" ويملأها بالغباء والبذاء على انتقاص طه حسين وعباس العقاد. والشيخ زكي مبارك رجع إلى الجامعة المصرية بعد فصله منها زهاء خمس سنوات لأنهم استخدموه في احتفال يقابلون به احتفال الأمة المصرية بالنشيد القومي الذي نظمته في مطلع هذا العام ولأنهم رضوا عما كتب في غمز طه حسين وغمز العقاد من كلام معيب في بعض الكتب والمقالات. وهناك طبيب متشاعر "يقصد الدكتور أبا شادي" سمحوا له بإصدار خمس مجلات في وقت واحد وهو موظف بإحدى المصالح الحكومية فجعل القسم الأدبي من مجلاته كلها وقفا على التشهير بالعقاد وأدب العقاد وأخلاق

العقاد وإلى القراء مثل من الإسفاف الذي ينحدر إليه الطبيب المؤتمن على الأعراض والأرواح ومثل من أدب الصحفيين الذين تغمرهم الوزارة بالرخص الكثيرة حين تضن على غير الموظفين رخصة واحدة لمجلة واحدة لأنها حريصة على الآداب والأعراض. جاء في إحدى مجلاته "ومن الناس من يهيم بالإباحية ويؤمن بالشيوعية في اللذات ومن ذلك قصيدة العقاد ليلة الأربعاء يصف فيها لية في دار". والقصيدة مع هذا منشورة في الصفحة الثمانين من مجموعة شعري الكبيرة وليس سرًا ولا أثرا خطيا مهجورًا فيجوز عليه هذا الاختلاف والافتراء وإنما قيلت في وصف الإسكندرية. وليس هذا التلفيق الدنس بالذي يقع فيه الإنسان وهو جاهل بالحقيقة، غافل عن معنى القصيدة، وإنما يتعمده ويتعمد تشويه المعنى والتقديم والتأخير في ترتيب الأبيات لينتزع أسباب التشهير انتزاعا من حيث لا موجب للتشهير وهو أول من يعلم إنه كاذب ملفق مخادع لقرائه، وذلك حضيض من التبذل لا ينحدر إليه إلا المدخولون الموصومون.

الفصل السابع: بين العقاد وخصومه

الفصل السابع: بين العقاد وخصومه 1: ليست معارك العقاد الفكرية مما يمكن إحصاؤها، فهي متداخلة مع معاركه السياسية وخلافاته في الرأي. ولكنها كلها على وجه العموم لا تحمل صورة الدعوة إلى التغريب ولا العمالة الفكرية لحساب الاستعمار، وإذا جاز أن نذكر المقالات التي كتبها خلال الحرب العالمية الثانية في الهلال والصحف, فإن كل الكتاب قد اشتركوا في كتابة مثلها، وكان ظاهرها الدفاع عن الديمقراطية ومقاومة الدكتاتورية النازية، غير أننا إذا قارنا بين العقاد وبين طه حسين وسلامة موسى ومحمود عزمي وجدنا فارقا واضحا فقد هاجم العقاد الدكتاتورية والشيوعية والصهيونية ولم يدافع عن الاستعمار وإن دافع عن الديمقراطية الغربية. يقول: "نحن نعلم أن ما من أحد من الغلاة في التشيع للقديم يقول بأن كل قديم على علاته مفضل على كل جديد، ولو كملت له محاسن القديم وأربى عليها بفضل محاسن الجديد، كذلك نعلم أن المتشيعين للجديد لا يقولون إن ما يكتب اليوم أجمل وأبلغ مما كتب في العهد الذي نسميه قديما، ولو كان هذا لشيخ من شيوخ الكتاب المعدودين، وكان ذلك لناشئ من الشداة المترسمين أن شرط الأديب عندي أن يكون مطبوعا على القول، أي غير مقلد في معناه ولفظه وأن يكون صاحب هبة في نفسه وعقله لا في لسانه فحسب". وهذا نموذج من معارك العقاد مع خصومه إبان الخلاف السياسي مع حكومة صدقي والقصر. مساعي الإبراشي في عالم الأدب العربي 2: مصطفى أفندي الرافعي ألف كتابا في التشهير بالدكتور طه وألف كتابا سماه السفود أفعمه بالطعن الفاحش في كاتب هذه السطور. ووقف نفسه

_ 1 الجهاد 12 نوفمبر؛ 1943. 2 البلاغ 15 أبريل 1942.

الفصل الثامن: بين سلامة موسى وخصومه

الفصل الثامن: بين سلامة موسى وخصومه كان لسلامة موسى طابعه المعروف في الكتابة الأدبية، مما يضعه في مكان الكتاب التغريبي الأول، فقد كان عنيف الخصومة للغة العربية وللأمة العربية والدين عامة والإسلام والشرق والقيم والمثل العليا والأمجاد التي عرفتها أمتنا وأقلمت عليها كيانها. وقد عمل منذ أن بدأ يكتب عام 1913 على هدم هذه المعالم في عنف حينا وفي رفق حينا آخر واستمر على ذلك حتى توفي في أغسطس عام 1958. وقد سار في طليعة الدعاة إلى التجديد الذين كانوا خصومه أيضا فهو لم يكتف بخصومة المحافظين وحدهم، وكانت له سقطات كثيرة متعددة ومرجعها اندفاعه ويقتضينا الإنصاف أن نذكر له بجانب هذا أن له أثارا في الفكر العربي المعاصر ستظل مذكورة فقد كان معنيا بالدعوة إلى التطور والتحليل النفسي فضلا عن أسلوبه التلغرافي وطريقته الدقيقة الواعية في العرض مهما قيل من أنه كان ينقل من هوامش الصحف والمجلات الغربية وأنه لم يكن كاتبا موضوعيا يتصل بالآثار الكبرى أو يحدد هدفه. وهذه ملامح من خصوماته وآراء الكتاب المحافظين والمجددين فيه: أحلام الفلاسفة لسلامة موسى؛ محب الدين الخطيب 1: الكتاب موضوعه أماني العظماء في تكون الإنسان وإبلاغها إلى خبيئه من المثل العليا، وهذه الفكرة جميلة لولا ما بثه الكاتب في كتابه من آراء ما يرتجونه كقول سلامة موسى ص18 وكان أفلاطون يبحث عن شيوعية النساء ففي مثل هذا الوسط الحر نشأ أدب نزيه خلا من القيود ولا يزال "يوحي إلى الكتاب والأدباء روح التفكير النزيه الحر الجريء" وقوله: وليس في هذا النظام ما يخالف الطبيعة البشرية كما يتوهم القارئ لأول وهلة, فإن العائلة لا تزال موجودة بوجود الأم التي هي صلة القرابة بين جميع السكان، ثم إن

_ 1 مجلة الزهراء جزء 3 ص193.

الأبناء لا يعرفون لهم أبا معينا فالمنفعة الشخصية والأثرة الأبوية منتفية, ثم إن الشهوة الجنسية غير مقيدة لأن لجميع الأفراد أن يتمتعوا بها بشرط أن لا يعقب نسلا. وكنا نستغرب من الأستاذ المؤلف شدة كراهيته للإسلام والنصرانية معا -مع أن الثانية دين آبائه- إلى أن علمنا من هذا ما أساءت به هاتان الشريعتان إلى حضرته حيث قال له: "ثم كان ملوك النصارى وخلفاء المسلمين عائقا آخر يمنع التخيل والبحث عن المثل العليا للحكومات والهيئات الاجتماعية". ويقول: "وحسبك أن تعرف أن لجزيرة العرب حرمة في نفس المصري أكثر مما لممفيس، وأن موسى من الأنبياء المكرمين، وأن فرعون من الظلمة الفاسقين, ثم أذكر أن الطوبيات الدينية تغمر كل طوبي دنيوي أخرى. فهذه كلها عقبات تمنعنا أن نحب مصر, وتعترض العاطفة الوطنية في نفوسنا، فمنذ خرج البدوي "يعني المسلمين" من جزيرة العرب على حضارة المصريين والرومانيين والإغريق، ووطنية مصر شائعة في العالم الإسلامي ومدينتها مغمورة بالبداوة العربية". إن تعصب الأستاذ سلامة موسى للباطل قد وصل إلى شغاف قلبه حتى صار لا يرى فظاعة عبودية آبائه للفراعنة وبينما هو يشفق على الإنسانية من عبوديتها لله عز وجل. 1- بين الرافعي وسلامة موسى 1: مصطفى الرافعي يدافع عن المذهب القديم ويقول بأفضلية الأساليب العربية

_ 1 الهلال يناير 1924.

القديمة على أساليبنا الراقية وهو يجيد الصنعة أيما إجادة ولكنه لا يعنى بالفن فإذا كتب اتسعت عباراته وانتظمت ألفاظه فأتى بالعجب ولكن الحقيقة "أي الجمال" لا تشغله في نظمه أو نثره، ثم هو لا يكاد يؤمن بالعلم بل لا تجد له أثرا في جميع كتاباته والقطعة التي انتخبناها منه تشهد بذلك ويمتاز شعر الرافعي بقوة الطبيعة وحسن النظم ولكن خياله مع ذلك عربي تقليدي تعرف ذلك من تشبيهه صفحة البدر بصفحة الأمرد وضوء الفجر برونق الصارم، هذا إلى خلوه من مثل أعلى يتوخاه. إن أهل المذهب القديم يهملون العلم لأن العلوم تتعارض ومعتقدات العرب. رد الرافعي 1: أرادوا بالمذاهب الجديد أن يكتب الكاتب في العربية ينصرف إلى المعنى والغرض تاركا للغة وشأنها، متعسفا فيها آخذًا ما يتفق كما ينعق، ما يجري على قلمه كما يجري تعبيرًا ذلك الممتاز من يرى أن غلافا من عظام رأسه وأن عظام رأسه كعظام رجله. وأن اللغة أداة ولا بأس بالأداة ما اتفق منها والواقع أن هذه العربية لغة دين قائم على أصل خالد هو القرآن الكريم وقد أجمع الأولون والآخرون على إعجازه بفصاحته إلا من لا حفل به من زنديق يتجاهل أو جاهل يتزندق. 3- رأي طه حسين في سلامة موسى: إن الأستاذ سلامة موسى ليس من أصحاب الألوان السياسية الظاهرة، وقد يكون حرًا دستوريا وقد يكون وطنيا، بل قد يكون اتحاديا،

_ 1 الهلال فبراير 1942.

ولكنه على كل حال لا يعلن رأيه السياسي أو لا يتكلف إعلانه ولا يتخذ لنفسه لونا. وهو من أنصار الجديد, وهو يعلم أني أرى رأيه وأشاركه فيه دون حفظ ولا احتياط، ولكن نصره للجديد قد اضطره إلى شيء من الإسراف. كنت أحب ومازلت أحب ألا يتورط فيه الباحثون المنصفون، وهو مسرف في ازدراء الأدب العربي القديم والغض منه وقد أفهم ألا يكون هذا الأدب القديم كما هو ملائما كله لذوقنا الحديث أو كافيا لحاجات أنفسنا، ولكن القدماء لم يضعوا أدبهم لنا وإنما وضعوه لأنفسهم. وليس من شك في أن هذا الأدب القديم كان يلائم أذواق القدماء وحاجات نفوسهم، فإذا لم يلائم أذواقنا وأهواءنا فلنبتغ غيره لا أكثر ولا أقل، وهو مسرف أيضا حين يقول: إن الأدباء المصريين لم يكن لهم شأن في حركة الاستقلال، لم يقودوا الأمة في هذه الحركة، وإنما قادتهم الأمة بل قادهم الرعاع إلى الاستقلال، وقد يكون هذا حقا بالقياس إلى هؤلاء الشعراء الذين تبعوا الجمهور ولم يتبعهم. رد سلامة موسى: لقد اتهمني الدكتور طه حسين بالشعوبية أو كاد، وكأنه نسي كفاحي لأجل الشعب ضد فاروق الفاسد، هذا الفاروق الذي وقف الدكتور طه نفسه في حرم الجامعة ومن منبرها يخاطبه بالصوت العالي بقوله: صاحب مصر. واتهمني عباس العقاد بأني لست عربيًا، مع أنه هو وهو التركي النوبي وصف فاروق بأنه فيلسوف من أعظم الفلاسفة.

إن أدب الملوك والأمراء والباشوات هو الذي يدعو إليه طه حسين. 4- من سلامة إلى توفيق الحكيم: أحب أن أسأل توفيق الحكيم: ما هي رسالتك الأدبية في مصر؟ وهل تستطيع أن تفهم هذه الرسالة مثلا من "أهل الكهف"؟ وأحب أن أسال عباس محمود العقاد: لقد ألفت نحو خمسين أو ستين كتابا فما هي رسالتك الإنسانية فيها؟ وأحب أن أسال طه حسين مثل هذا السؤال. لقد عشنا في مجتمع مصري لابسته ظروف سياسية استعمارية واستبدادية والكاتب الذي وقف بعيدًا لا يكتب عن هذه الظروف لمصالح الشعب أو الذي كتب في مدح المستبدين والمستبدين والمستعمرين لا يمكن أن يوصف بأنه كان أمينا للإنسانية والمجتمع. وعرض سلامة موسى لخصومه في كتابه "الأدب والشعب"1 فردد ما اتهمه به توفيق الحكيم من أنه متخلف الفكر وأن طه حسين يرى أن جريمة شوقي في نظر سلامة موسى في هذه القصائد التي تغنيها أم كلثوم أي قصائد شوقي في مدح الرسول. وقال كامل الشناوي: إن سلامة موسى حاقد موهوب وهو يحقد على الأموات أكثر مما يحقد على الأحياء وحقده على الضعيف أشد من حقده على القوي. 5- سلامة موسى في رأي العقاد: كل ما يهدف إليه سلامة موسى في حملاته على الأدب العربي هو تشويه الأدب العربي عامة ورميه بالقصور والجهل وانحلال مجتمعه. والذنب الأكبر للأدب العربي عند سلامة موسى هو أن هذا الأدب عربي وسلامة موسى ليس بعربي.

_ 1 ص250.

والواقع أنه "أي سلامة موسى" ليس أديبا وعالما ولكنه قارئ لبعض العلم وبعض الأدب في بعض الأوقات وما يفهمه أتفه مما لا يفهمه. 6- رأي سلامة موسى في طه حسين والمازني والعقاد: أدب الملوك والأمراء والباشوات هو هذا الأدب الذي يدعو إليه الدكتور طه حسين, ومن أحسن ما اقترحه الدكتور طه حسين قبل نحو عشرين عاما أننا يجب أن تنقل إلى لغتنا ترجمة أدبية لأحد الكتاب الأوربيين. إنه لولا انغماس العقاد وطه حسين في الأدب العربي القديم لما خاطب طه حسين الفاروق بكلمة "يا صاحب مصر" ولما وصفه العقاد بأنه فيلسوف؛ ذلك لأن الأدب العربي القديم هو إلى حد بعيد أدب الملوك. إن تاريخ أدبائنا في مصر هو مأساة إنسانية قبل أن يكون مأساة أدبية، ولست أذكر شوقي الذي طعن في وطنية عرابي ونظم الأشعار في سبه ومحمد حسين هيكل الذي أيد عدلي في تحطيم وحدة الأمة، ثم بعد ذلك أيد زيور الذي جمع البرلمان في الظهر ثم حله مساء اليوم نفسه وطرد الأعضاء ثم أيد محمد محمود في تعطيل البرلمان ثلاث سنوات تقبل التجديد. وأديب آخر هو إبراهيم عبد القادر المازني فقد اشترك مع الدكتور طه حسين في تحرير جريدة يومية تخدم زيور في مكافحة الشعب. "هي جريد الاتحاد". وكان طه حسين والمازني القلمين الفصيحين في الدعوة إلى هذا التحطيم ووجد فاروق الدكتور طه حسين الذي خاطبه أمام الطلبة: "يا صاحب مصر", ووجد عباس محمود العقاد الذي يقول فيه: "إنني لم أسعد من قبل بفرصة كهذه الفرصة الواسعة لاستجلاء طلعة المليك عن كثب والإصغاء إلى جلالته على

على انفراد في جو لا مثيل له بين أجواء اللقاء والحديث لأن جو الملك والديمقراطية ممثلين في شخصية الكريم أجمل تمثيل, لقد سمعت في هذا الحديث الواحد كلام فيلسوف, وكلام وطني غيور وكلام محدث ظريف, وطاف بخاطري الإيمان وذكر الوطن". قال توفيق الحكيم: إن سلامة موسى يتحدى للحكم على قضايا لا يملك أسباب التصدي لها ويخيل إلي أنه قد انقطع للقراءة منذ ربع جيل على الأقل فإني كلما قرأت له لمحت أثر تفكير القرن التاسع عشر في اتجاهات تفكيره والتفاتات ذهنه. إنه لا زال يقيم فلسفته -إن كان له فلسفة- على الاعتراف بالمادة وإنكار الروح. وقال: إن ما قرأته لسلامة موسى منذ ثلاثين عاما لا يختلف عما أقرؤه له اليوم نزعة وأسلوبا واتجاها حادًا إلى إنكار كل شيء والاستخفاف بكل شيء. وقال العقاد: إن كل ما يهدف إلى سلامة موسى بين حملاته على الأدب العربي هو تشويه للأدب العربي عامة، ورميه بالقصور والجهل وانحلال مجتمعه.

الفصل التاسع: بين المازني وخصومه

الفصل التاسع: بين المازني وخصومه لم تكن للمازني خصومات واضحة، ولعل أكبر معاركه الأدبية كانت مع طه حسين1 ولعل الخلاف السياسي كان مصدرا من مصادرها، أو سببا من أسبابها، ومعركته مع عبد الرحمن شكري تدل على قدرته على ضبط النفس والرجوع إلى الحق، وقد ظل على رأيه في أن مدرسة "شكري، العقاد، المازني" كانت هي مطلع النهضة الفكرية الحقيقية وليست مدرسة "طه حسين، هيكل" في جريدة السياسة وفي ذلك يقول موجها قوله إلى الدكتور طه حسين: "أستأذن صديقي الدكتور طه حسين في أن أقول من غير غمط لأحد أو إنكار لفضل أحد أن أدب العقاد وشكري وإخوانهما هو عندي مظهر النشوء الطبيعي للأدب العصري، وهو لهذا تيار رئيسي في رأيي الحركة الأدب عندما تسايره تيارات أخرى يتعذر الحكم عليها الآن لأنها صاخبة لم تستقر، فيما عدا هيكل بك فقد اهتدى إلى طريقة وأخذ سمته فيه إلى غايته أما تيار العقاد وشكري وإخوانهما فقد أخذ الطريق منذ اللحظة الأولى ولايزال ماضيا فيه على سنته في هدوء وصراحة وإيمان واطمئنان. ولا أنكر أني من هذه المدرسة بحكم مزاجي وتربيتي واطلاعي ولعله من سوء حظها أني معدود من رجالها". وقد عني المازني بالكتابة في نقد الكتب ثم انصرف عنها مغضبا بعد أن أحس بعجز المثقفين عن تقبل النقد، فقد رأى أنهم يريدون منه أن يكتب مدحا خالصا تحت ستار النقد وقد عدد الأضرار التي وقعت له من جراء بعض كلماته الصريحة عن بعض الكتاب، وبعض الشعراء، ولذلك فقد قرر أن يعدل نهائيا عن نقد الكتب حتى لا يقرأ منها ما لا يريد وحتى يقتني منها ما يحب فقط وحتى يربح "دماغه" من آلام هو في غنى عنها وقد حدث هذا بعد مناقشة لكتاب "النثر الفني" للدكتور زكي مبارك ويقول في مقاله عن هجر النقد:

_ 1 اقرأ هذه المعركة في هذا الكتاب.

المازني والنقد 1: أقول: إني صرت أعتقد أن هذا النقد هدم وتخريب وقلة حيلة وضيعة وإفلاس, وما رأيت أحدًا زاد علما بالقديم أو فهما له من أجل النقاد تناولوه بفلسفتهم وما ضر لو تركنا الناس يتدبرون هذا القديم بعقولهم التي خلقها الله لهم ويقدرونه على قدر فهمهم وإدراكهم له. من أجل هذا آليت ألا أتناول شيئا بنقد -لا جديدا ولا قديما- فمن كان له كتاب وكان يشتهي أن يكتب عن الكتاب فليضن به علي كناقد وليحتقب شكري له كعادتي. تهمة السرقة: ولعل أبرز الاتهامات التي وجبت إلى المازني اتهامه بالسرقة في الشعر وفي القصة, فقد هاجمه عبد الرحمن شكري بأنه يترجم شعر بعض الشعراء الإنجليز وينقله إلى قصائد دون الإشارة إليه2، كما وجهت إليه الاتهامات بأنه ترجم قصة "ابن الطبيعة" وأنه نقل فصولا كاملة منها في قصته الأولى "إبراهيم الكاتب". وقد حفلت أعداد مجلة "النهضة الفكرية" التي أصدرها الدكتور محمد غلاب سنة 1932 بمقالات متعددة تحت عنوان "سرقات المازني" وقد رد المازني على هذه الاتهامات فقال: في سنة 1926 شرعت أكتب في قصة إبراهيم الكاتب وانتهيت منها ولم أرض عنها فألقيتها في درج حتى كانت سنة 1930 فخطر لي أن أنشرها فدفعت بها إلى المطبعة فاتفق بعد أن طبعت نحو نصفها أن ضاعت بعض

_ 1 29 سبتمبر 1934, البلاغ. 2 اقرأ نص المعركة في معارك الشعر في هذا الكتاب.

الأصول وكنت لطول العهد قد نسيت موضوعها وأسماء أشخاصها فحرت ماذا أصنع؟ ثم لم أر بدا من المضي في الطبع فسددت النقص ووجهت الرواية فيما بقي منها توجيها جديدًا ونشرت الرواية. وبعد شهور تلقيت نسخة من مجلة الحديث التي تصدر في حلب وإذا فيها فصل يقول فيه كاتبه: إني سرقت فصلا من رواية "ابن الطبيعة" فدهشت ولي العذر, واذكروا أني أنا مترجم ابن الطبيعة وناقلها إلى العربية وأن 4 آلاف نسخة نشرت منها في العالم. وإني أكون أحمق الحمقى إذا سرقت من هذه الرواية على الخصوص فبحثت عن ابن الطبيعة وراجعتها وإذا بالتهمة صحيحة لا شك في ذلك بل هي أصح مما قاله الناقد الفاضل. وقد اتضح لي1 أن أربع أو خمس صفحات منقولة بالحرف الواحد من ابن الطبيعة في روايتي "إبراهيم الكاتب" أربع أو خمس صفحات سال بها القلم وأنا أحسب أن هذا كلامي، حرف العطف هنا هو حرفه هناك، وأول السطر في إحدى الروايتين هو أوله في الرواية الأخرى لا اختلاف على الإطلاق في واو أو فاء أو اسم إشارة أو ضمير مذكر أو مؤنث ومن الذي يصدقني إذا قلت: إن رواية ابن الطبيعة لم تكن أمامي ولا في بيتي وأنا أكتب روايتي؟ من الذي يمكن أن يصدقني وأنا أؤكد له أني لم أر رواية ابن الطبيعة منذ فرغت من ترجمتها وأني لو كنت أريد اقتباس شيء من معانيها أو مواقعها لما عجزت عن صب ذلك في عبارات أخرى! لهذا سكت ولم أقل شيئًا, والواقع أن صفحات أربعا أو خمسا من رواية ابن الطبيعة علقت بذاكرتي -وأنا لا أدري- لعمق الأثر الذي تركته هذه الرواية في نفسي فجرى بها القلم وأنا أحسبها لي.

_ 1 اقرأ الفصل كله "السرقات الأدبية" في الرسالة 2 أغسطس 1937.

حدث ذلك على الرغم من السرعة التي قرأت بها الرواية والسرعة التي ترجمتها بها أيضا ومن شاء أن يصدق فليصدق ومن شاء أن يحسبني مجنونا فإن له ذلك. ولست أروي هذه الحادثة لأدافع عن نفسي فما يعنيني هذا، وإنما أرويها على أنها مثال لما يمكن أن تؤدي إليه معابثة الذاكرة للإنسان.

الفصل العاشر: معارك أدبية بين الدكتورين هيكل وطه حسين

الفصل العاشر: معارك أدبية؛ بين الدكتورين هيكل وطه حسين تاريخ طويل من العمل السياسي بين هكيل وطه فقد عملا معا في حزب الأحرار الدستوريين وجريدة السياسة منذ صدورها عام 1922 حتى انفصلا عام 1933, عندما ترك طه حزب الأحرار, وانضم للوفد, وبدأ يكتب في جريدة الكوكب, ثم استمرت الصلة بالرغم من اختلاف طه حسين مع الوفد وهيكل مع الأحرار حتى كانت 1946, حينما عاد الأحرار إلى الحكم مع السعديين, وما وقع لطه حسين من أزمة اضطرته للسفر إلى أوربا, وأن يبقى هناك فترة, وأن يوجه من هناك عديدا من الرسائل إلى خصوم اليوم وأصدقاء الأمس ومنهم الدكتور هيكل, ثم عودة طه حسين بعد ذلك وبقاء الخصومة بينهما، ثم ما كان من تولي طه حسين منبر وزير المعارف في عهد حكومة الوفد عام 1950 ثم زالت الخصومة بينهما، ثم زالت الخصومة بعد الثورة, وكتب طه حسين نقدا لقصة هيكل الأخيرة "هكذا خلقت" قبيل وفاة هيكل, والواقع أن طه وهيكل كانا في السياسة كفرسي رهان، يتقارضان الثناء والنقد في كل مناسبة، ولكنهما عندما اختلفا لم يختلفا إلا في أمر جد خطير، كان ذلك حين تحول هيكل من الإعجاب بالحضارة الغربية إلى نقمة عليها ومقاومة حركة التغريب ومهاجمة المستشرقين والمبشرين الذين غضوا من تراثنا وكياننا، وكانت كتاباته عن محمد والإمبراطورية الإسلامية مقدمة هذا التحول، وهذه نماذج من المعارك الأدبية بين هيكل وطه حول كتاب هيكل "جان جاك روسو" و"ثورة الأدب" ثم صورة من خطابات طه المجهولة إلى هيكل إبان الأزمة. 1- جان جاك روسو؛ نقد طه حسين: "يجب أن يكون هيكل شديد الالتواء على النقاد, مسرف في ازدراء القراء غاليا في الاقتناع بأنه وحده موفق للخير حين يفكر وحين يعمل, فقد أذكر أني تناولت الجزء الأول من كتابه حين ظهر في سنة 1921 فقرأته بعد مشقة وكنت انتظر الجزء الثاني من كتابه لأثني ثناء خالصا من كل عيب، ولكني أعترف بأني أحسست شيئًا كثيرًا مما يسمونه خيبة الأمل حين انتهى إلى هذا الكتاب, ذلك أني رأيت صاحب هذه المرة كما رأيته في هذه

المرة الماضية مزدريا لقرائه ولنقاده، ولا يحفل بأولئك ولا بهؤلاء، وما أحسب إلا أن هذا الازدراء خلق من أخلاقه ليس إلى إصلاحه من سبيل. ثم لم يقف أمر هذا الكتاب عند سوء الطبع وقبح الورق، فما رأيك في كتاب يبحث فيه عن فهرست فلا تجد! وما رأيك في كتاب لا تستطيع أن تلم بما فيه إلا إذا قرأته من أوله إلى آخره! ثم لم يقف الأمر في هذا الكتاب عند هذا الحد، فهيكل لم يكتف بإهمال الطبع والورق, ولا بإهمال الفهرست ولا بإهمال التقسيم والترتيب، بل أضاف إلى هذه الضروب من الإهمال ضربًا آخر ليس أقل قبحا عندي وقد يكون أشد منها قبحا عند غيري من الأدباء والنقاد، ذلك هو إهمال اللغة. لقد أعطيت نفسي من الحرية في نقد هذا الكتاب أكثر مما ينبغي لها فيما يظهر، وما رأيك في محرر السياسة الأدبي يتناول بهذا النقد العنيف، رئيس تحرير السياسة ثم لا يستحي أن ينشر هذا النقد العنيف في جريدة السياسة نفسها1. أليس هذا إسراف أو شيئا فوق الإسراف! كلا ليس إسرافا، وإنما هو القصد كل القصد والاعتدال كل الاعتدال، فهيكل تلميذ لطفي السيد، ولقد أذكر أن لطفي السيد علمنا حين كان مدير "الجريدة" أن ننقد أصحاب الصحف في صحفهم، وعودنا أن ينشر نقدنا راضيا به مبتهجا له معتذرًا إن كان في الأمر ما يدعو إلى الاعتذار، ولو علمت أن في هذا النقد ما يغضب صاحبي أو يغيظه لما نشرته لا في السياسة ولا في غير السياسة، أستغفر الله.

_ 1 نشر هذا النقد في أثناء غياب هيكل في أوربا.

بل لو علمت في هذا النقد ما يغضب صاحبي أو يغيظه لنشرته ولضحيت بصحبة هيكل في سبيل ما أعتقد إنه حق. وليس معنى هذا أني لن ألقى من رئيس تحرير السياسة شططا ولا عنتا، فأنا أعلم ما ينتظرني منه بعد أن يعود من سفره. ولكني أعلم أننا سنتحاور ونختصم، ثم نتضاحك ونفترق. رد هيكل على طه: أود أن أسألك عما إذا كان القارئ البعيد عني وعن روسو شعر بمثل شعوري بعد أن يفرغ من قراءتك، وقد عرف أن الكتاب مطبوع طبعا سيئا على ورق رديء, وأنه على ذلك كتاب دسم مفيد، ولكن سوء طبعه يصد عن قراءته، فما الذي يمكن أن يقف عليه من أمر الكتاب؟ ألا تظن أن يشعر بأنك لم تقرأ الكتاب بل اكتفيت بتقليب صفحاته، واقتصرت بعد ذلك على الكتابة عن الشكل والصورة الظاهرة من غير أن تكلف نفسك عناء الوقوف على موضع الكتاب لترى إن كان على سوء شكله يستحق احتمال القراء عناء مطالعته ولتندر مباحث الكتاب فنحكم له أو عليه. وهب أن قارئك كان من الذين يولعون باستقصاء ما في الكتب مهما يحملهم هذا الاستقصاء من عناء وهب أنه كان من الذين لا يحفلون بالظواهر ولا يعنون كثيرا باللباس ولا يفهمون قيم الناس بأرديتهم ويحسبون التأنق لهوا، فماذا يكون حكم هذا القارئ على ما كتبت حين يراك اقتصرت على نقد الطبع والورق. أما نقدك له غياب الفهرس والتبويب فكنت أود أن أشاركك رأيك

فيه لولا أن الجزء الثاني من كتاب جان جاك في غير حاجة إلى فهرس أو تبويب فهو يلخص رواية ماويز الجديدة وكتاب التربية وينقدهما، وليس فيه شيء آخر، وهل تحسب أن الفارق الكبير في نظم العلم والأدب إلى حد لا يصبح معه نقدك مشوبا بشيء غير قليل من الإسراف الذي ذكرت أنك لا ترضاه. كنت أرجو أن لا يقف نقدك عند الغضب لي مني، وإظهار هذا الغضب في ثورة صريحة، وكنت أود أن نتناول موضوع الكتاب وأن تبين لقارئك في شيء من التفصيل ما تراه من وجوه حسنه وقبحه، وكماله ونقصه وما أحسبك حين تعرض لهذا النقد مضيعًا وقتك سدى. 2- ثورة الأدب لهيكل؛ نقد طه حسين: هل أنا في حاجة إلى أن أصف هيكلا وأحمد قلبه الزكي وعقله القوي وبصيرته النافذة وفهمه الصحيح لحقائق الحياة, فهيكل صاحب صحيفة يشرف عليها ويدير أمورها ويكتب فيها فصلا في كل يوم على أقل تقدير. وهو عضو في حزب سياسي يشارك زملاءه فيما يعملون, ويتحدث إليهم كل يوم في السياسة إذا كان الصباح فإذا كان المساء وهو أديب يقرأ فيكثر في القراءة وينوعها فيحسن تنويعها، يقرأ في الأدب الأنجليزي ويقرأ في الأدب الفرنسي، ويقرأ في السياسة ويقرأ في التاريخ، والغريب أنه لا يكره أن يقرأ في علوم القانون وهو على هذا كله يكتب في الأدب في موضوعات مختلفة منه، يكتب في الأدب الإنشائي فإذا هو يصف فيبدع في الوصف، وإذا هو يقص فيجيد القصص ويكتب في الأدب الوصفي فإذا هو ينقد الشعر وينقد النثر، ويوفق في هذا النقد إلى خير ما يطمع

فيه الناقدون، وهو على ذلك كله أب وزوج لا يبخل على أسرته بحقها عليه، وهو صديق لا يبخل على أصدقائه بحقوقهم، وهو رجل له مكانته الظاهرة في حياتنا الاجتماعية والسياسية وهو ينهض بما تستتبعه هذه المكانة من حقوق وواجبات، والغريب مع هذا كله أنك تلقاه فإذا رجل هادئ مطمئن كأنه أفاق منذ حين قصير من نوم مريح فهو لم ينشط كل النشاط بعد ولكنه بعيد عن الجمود والفتور ولا تكاد تتحدث إليه دقائق حتى يفتنك ويروعك فكأنك تتحدث إلى جني ولكنه جني عذب الروح لذيذ الحديث. لم أجد في الكتاب شيئا جيدا وأرجو ألا يغضب هيكل فالكتاب كله جديد ولكني أعرفه لا لأني قرأت كثيرا من فصوله، بل لأني قرأته وسأقرؤه كله في هيكل كلما لقيته أو تحدثت إليه، وأظلم هيكل، وأظلم نفسي إن قلت إني راض على كتابه كل الرضا فهيكل من أصحاب المعاني بين الكتاب وإنه يهمل لغته إهمالا شديدا ويتورط في ألوان من الخطأ واضطراب الأسلوب، يدنيه أحيانا من الابتذال، والغريب أنه لا يضيق بذلك ولا يجد به بأسا ولا يعترف بأنه يسيء إلى نفسه وإلى أدبه معا. رد هيكل: ويأخذ هيكل في عرض موجز للكلمات التي سبق أن كتبها طه مثنيا على أسلوبه وأدبه من قبل عندما صدر في أوقات الفراغ 1926 حيث تقول: كذلك كنت منذ عشرين سنة أو نحو ذلك حين كنت تكتب في الجريدة وكذلك أنت الآن, وإن يكن قد جد شيء فهو فهمك, ازددت فيما أنت فيه من القوة ثباتا ورسوخ قدم، وأنك استطعت أن تملك اللغة العربية وتسخرها لأغراضك، وقد كانت تستعصي عليك وتنتهي

بك أحيانا إلى ما يكره سيبويه والخليل وصديقك طه حسين, وأنت تذكر ما كان بيني وبينك من جدال متصل في هذا الموضوع. فقد كنت أتهمك بقلة البلاغة في اللغة العربية وكنت تجيبني بأني أزهري, وكان أستاذنا لطفي السيد يسخر منك ومني في رفق وحنان، وقد مضيت أيام وأعوام، ومازلت أنا أزهريا كما كنت أما أنت فقد أتقنت اللغة العربية إتقانًا1. من هيكل إلى طه: هذا البحث يشعرني بما لك من أثر في مجهودي وإنتاجي يجعلك صاحب فضل فيه كبير، ولست أخفيك أني مدين في حياتي ككاتب لأشخاص كثيرين شجعوني وآذروني وعاونني بوحيهم ونقدهم وبحسن توجيههم إياي وأني ماأزال بحاجة إلى هذه المؤاذرة وإلى هذا الوحي. ولست أخفيك أن فضلك عن "ثورة الأدب" قد أثار مني ابتسامات دهشة وخجل متصلين، فقد رأيتك تصورني فيه بصورة لا أعرفها لنفسي، سورة جني لا ينقطع إنتاجه وأب لا يبخل على أسرته بحقها عليه, وصديق لا يضن على أصدقائه بحقوقهم عليه، فلست أعرف لنفسي من هذا كله شيئا، غنما أنا مقصر في حقوق أصدقائي أكثر من مقصر في حق أسرتي. ثم ماذا تراني يا صديقي أنتجت، دعك من فصول يومية تكتب في الصحف أنت أعرف الناس بتفاهة ما ينفق من مجهود في هذه الفصول، ودعك من العمل في حزب سياسي فأنت أدرى بالسياسة المصرية، ما هي

_ 1 السياسة 17 يونيه 1933.

وما مبلغ الجهد فيها، دعك من هذين وانظر وإياي فيما أنتجت، إنه لا شيء أو لا يكاد يكون شيئا فأنا رجل بيني وبين الخامسة والأربعين شهور، وهذا أنا. وما أدري يا صديقي ما عساي أقول لك فيما كتبت عن "ثورة الأدب" لند آثار دهشتي وآثار خجلي فما كنت أحسبه ينال منك كل هذا التقدير وما كنت أحسبه جديرًا به. ولعلك أنت شعرت بهذا وخشيت أن يتهمك الناس بالإسراف في الثناء على صديقك إسرافا يصرفهم عن حسن الاستماع لهن فأردت أن تحصي عليه وعلى كتابه بعض هنات تجعلهم أدنى إلى الإيمان بعدالة ثنائك وأنت على حق فيما أحصيت من بعض الهنات وإن كنت قد أسرفت في بعضها فقد ذكرت أن هيكلا من أصحاب المعاني بين الكتاب وأنه يهمل لغته إهملا شديدًا. والحق يا صديقي أني لا أضيق بأسلوب ولا أجد به بأسا ولعلك يا صديقي على حق بل إنك لعلى حق، فليكن أسلوبي ما يكون فلن أرضى به بديلا، فأسلوب الكاتب هو الكاتب ولن أرضى لنفسي أن أكون إلا أنا بما في من حسن وقبح، ومن خير وشر، ومن عرف ونكر، والحمد لله الذي لم يجعلني شرا مما أنا. وما لي أضيق بأسلوبي ولم أتخذ الأدب يوما صناعة ولا أنا توفرت على دراسة الأدب، إنما أنا رجل درس القانون والاقتصاد والسياسة ومال إلى قراءة الفلسفة والأدب لا إلى دراستهما دراسة انقطاع وتمحيص، وطبيعي

أن يكون أسلوبي أسلوب الذين يدرسوا القانون والذين يرون أن تؤدى المعاني بألفاظ لا تزيد عليها ولا تضيق بها. والذين لا يعنيهم لذلك بهرجة اللفظ وقد زادني حرصا على هذا الأسلوب أني رأيت مثله موضع الإطراء من طائفة كبار الكتاب والفلاسفة. ولعل ميل العالم الحاضر إلى السرعة في كل شيء هو الذي عفا على الإطالة، فمل الاستماع إلى الأشخاص الذين يعجبون بالاستماع, لعل هذا الميل إلى السرعة هو الذي مال حتى بالأدب إلى أسلوب القانون وهو الذي جعل الذين درسوا القانون في فرنسا وفي مصر وفي كل أمة من الأمم يجددون في الأساليب كما يجدد فيها الذين توفروا على دراسة الأدب أو أكثر مما يجدد فيها هؤلاء في بعض الأحايين ولكني أعترف يا صديقي بأنك على حق حين آخذتني بأنني أسرع فيفوتني لذلك التحقق من بعض الشئون وأنك وقعت على هنة ما كان أن أقع فيها حين أردت أن أذكر الأوديسا فذكرت الإنياد. من طه إلى هيكل: فاخجل يا صديقي ما وسعك الخجل وادهش ما وسعك الدهش واغضب يا صديقي ما استطعت احتمال الغضب، فأنت كاتب بارع وأديب فذ كثير الإنتاج كأنك الجني. فيك إسراع إلى الحكم وفتور عن البحث ورغبة عن الاستقصاء تضطرك أحيانا إلى الخطأ وتصرفك أحيانا عن الحق، وفي أسلوبك الرائع البارع وبيانك الفائق الرائق شيء من الضعف يقربه أحيانا الابتذال، ويخيل إلي أن هذه الملاحظة وحدها هي التي آلمتك، فأذن لي في أن أصر عليها وألح فيها، وأذن لي في أن أصر أيضا على كل رأي

فيك لا أغير منه حرفا ولا أنقص منه شيئا فأنت تجيد حتى تصل إلى الإبداع وتضعف حتى تشرف على الابتذال، ولك أن تلومني ما شئت لأني لم أهدك إلى مواطن الضعف في أسلوبك فقد يئست من هدايتك لأنك كما يقول محب لأسلوبك كما هو مشغوف به على علاته ولا تريد أن تغيره ولا أن تصلح مواضع النقص فيه. رسالة إلى ... خطاب مجهل من طه إلى هيكل بعد الخلاف والقطيعة: لست أدري كيف أدعوك! فقد كنت فيما مضى من الأيام أدعوك بالأخ العزيز والصديق الكريم، وأنا أخشى أن أسوءك وأن أسوء الحق إن دعوتك بهاتين الصفتين، إحداهما أو كلتيهما. نعم؛ لست أدري كيف أدعوك! فلست أريد أن أسوءك ولست أريد أن أسوء الحق، فالحق يعلم أنك كنت لي أخا عزيزا صديقًا كريما ثم ألغيت الإخاء إلغاء ومحوت الصداقة محوًا. وكنت أحبك أشد الحب وأترك على الناس جميعا وأوثرك على نفسي قل أو أوثرك على الناس, وكنت تحبني أشد الحب، وتؤثرني على الناس جميعا، وكان كل واحد منا حريصا من أجل ذلك على أن يعرف من أمر صاحبه كل شيء. إنك لتفهم عني وإن لم أدعك وإني لأوجه إليك القول وإن لم تسمع دعائي، فأنت رجل تتحدث عنه الصحف فتكثر الحديث. وتروي أنباءه فتحسن رواية الأنباء، لا أعرف من أمرك إلا ما يعرفه كل قارئ للصحف، ولا ألقاك إلا حين تفرض علينا ظروف الحياة أن نلتقي في هذا الحفل أو ذاك.

وقد يقبل أحدنا على الآخر مكرها فيهدي إليه تحية فاترة ملؤها الاستحياء أو الاستخذاء وفيها كثير من التعجل. ستقرأ هذا الكتاب ما في ذلك شك لأنك تقرأ كل ما أكتب كما أقرأ أنا كل ما تكتب, فأنت مريض بي كما أني مريض بك؟ لا نلتقي ولا نتزاور ولا نتحدث ولكننا نتصل على رغم هذا كله اتصالا يشوبه الرضى حينا ويشوبه السخط حينا ويشوبه الحزن دائما.

الفصل الحادي عشر: معركة لقمة العيش

الفصل الحادي عشر: معركة لقمة العيش أضخم معركة في تاريخ الأدب العربي المعاصر بين زكي مبارك وطه حسين: هذه أضخم معركة أدبية دارت من جانب واحد بين زكي مبارك وطه حسين، واستمرت منذ 1931 إلى 1940 على مراحل متعددة منها الخصومة الفكرية ثم خصومة "لقمة العيش" حين أقصى طه حسين زكي مبارك من الجامعة، وأثار ذلك سلامة موسى وإبراهيم المازني ثم أصبحت خصومة حقيقية وصداقة تشوبها خصومة ممتدة كلما أنتج طه حسين شيئا أو كتب عن شيء, وجملة القول أن زكي مبارك ظل مشدود البصر إلى طه حسين طوال حياته منذ عرف الأزهر إلى الجامعة عام 1912 وحين ترك الأزهر إلى الجامعة 1916 ثم بعد ثورة 1919 واتجاه زكي مبارك إلى الجامعة نهائيا كاتصاله بطه حسين وعمله كسكرتير له ثم موقفه منه إبان أزمة الشعر الجاهلي وهو موقف يصفه زكي مبارك بأنه الرجل الوحيد الذي وقف إلى جوار طه حسين ودافع عنه وكتب في المقطم والأهرام يذود عنه خصومة، إلى أن أمره طه بأن يصمت حتى تمر العاصفة بسلام. ويحرز زكي مبارك الدكتوراه من "الأخلاق عند الغزالي" ويهاجم "الغزالي" صاحب الإحياء رغبة في خلق جو من الشهرة، ثم يحاول أن يسافر إلى أوربا عن طريق الجامعة، فإذا حيل بينه وبين ذلك سافر عن طريق جريدة البلاغ, ثم يرى رأيا في النثر الفني يخالف رأي المستشرقين ورأي طه حسين ويقع الخلاف بينه وبين أساتذته في السربون ويصر على رأيه ويسجله في رسالة الدكتوراه "النثر الفني" ثم يعود إلى مصر مواصلا الحملة على آراء مسيو مرسيه كبير المستشرقين في السربون، وهنا يصدر كتابه النثر الفني فيلقاه الكتاب بالنقد ويساجلونه في آرائه، إلا أن الدكتور طه فهو الذي يشير إليه إشارة عابرة بأنه "كتاب من الكتب ألفه كاتب من الكتاب" ثم يقع المعركة بينهما، ويخرج طه حسين من الجامعة في إبان حكم صدقي ويدافع مبارك عن طه، ثم يتاح لزكي أن يعود إليها، مدرسا بكلية الآداب ويتغير الجو السياسي ويعود طه حسين ويرفض تجديد عقد زكي مبارك

وفصل طه حسين زكي مبارك من الجامعة فيهاجم طه حسين هجوما مرًا ويكتب تحت عنوان "لو جاع أولادي لشويت طه حسين وأطعمتهم لحمه" وجاء فيها "لقد ظن طه حسين أنه انتزع اللقمة من يد أطفالي فليعلم حضرته أن أطفالي لو جاعوا لشويت طه حسين وأطعمتهم لحمه ولكنهم لن يجوعوا ما دامت أرزاقهم بيد الله". وتستمر المعركة بينهما طويلة لا تنتهي، ويصل فيها زكي مبارك إلى حد بعيد من الإسفاف ويرى النقاد أن هذه المعركة لها صلة بالتغريب ونفوذ المستشرقين وآرائهم وتبعية المثقفين الذين يتلقون دروسهم في السربون في ترويج آراء الغرب والإيمان بها ويقولون: إن آراء طه حسين في الشعر الجاهلي كانت آراء مسيو مرسيه وغيره, وأن زكي مبارك حين ناقض هذه الآراء إنما أراد أن يتحرر من سلطان المستشرقين الفكري والتغريبي ولذلك أغروا به طه حسين الذي فصله من الجامعة وألجأه إلى العمل في مجال آخر حتى يكون عبرة لغيره، ويرى بعض النقاد أن "الكرامة" التي حاول زكي مبارك أن يحتفظ بها إزاء طه هي التي صنعت الخصومة ويرون أن زكي مبارك تحول تحولا كبيرًا بعد هذه المعركة فهاجم آراء المستشرقين التغريبية وخالفهم وكشف عن تعمدهم في خلق الشبهات، ودعا إلى بعث أمجاد العرب وظاهر القومية العربية, ودعا إلى التعليم في الجامعة باللغة العربية، وقال النقاد: إن المستشرقين وأساتذة باريس وطه حسين يرون أن زكي مبارك رجل غير مصقول وعاق لأنه خان أمانته للتغريب والحضارة الغربية رسالة الفكر الفرنسي في تسميم الفكر العربي وهدمه والتقليل من شأنه وإثارة الشبهات حوله. وترسم مجموعة مقالات زكي مبارك التي تضمها هذه المعركة، صورة

رجل طيب القلب كان يتطلع إلى أستاذه في وفاء ولا يرى أن معارضة رأيه تفسد ما بينهما من ود، فإذا بطه حسين ينتقم منه انتقاما عنيفا يحوله إلى إعصار عاصف، يأكل الأخضر واليابس. ويرى زكي مبارك أن كتابه "النثر الفني" هو نقطة الخلاف، ولذلك يعلم يعلن "أن الدكتو طه علم اليقين أن كل نسخة توزع من كتاب النثر الفني" هي سهم مسموم يصوب إلى صدره وهو لذلك يتجاهل اسم المؤلف واسم الكتاب. ويشير إلى رأي طه حسين فيه حين يصفه بأنه أي زكي مبارك "الرجل الذي لا يخلو إلى قلمه إلا وعلى رأسه عفريت" يقول مبارك: تلك كلمتك وأنا عنها راض وبها مختال فما هو العفريت الذي يحتل رأسي حين أخلو إلى قلمي، إن كان ذلك فأنت تشهد لي بالعبقرية، وهل تكون العبقرية إلا من نصيب من يخاصم رجلا مثلك في سبيل الحق وما هي المنفعة التي أرجوها من مخاصمتك وأنت رجل يضر وينفع. ويستطيل زكي مبارك في مساجلاته ويقول لطه حسين: هل تذكر يا دكتور ما وقع في نوفمبر سنة 1919. هل تذكر ما وقع يوم غاب سكرتيرك وكنت وحدي الطالب الذي يفهم العبارة الفرنسية لكتاب "نظام الأثينيين" لأرسطو. هل تذكر أنك أعلنت سرورك بأن يكون في طلبة الجامعة المصرية من يفهم أسرار اللغة الفرنسية. ويستعلي في مناقشة أخرى فيقول:

طلبته بالتليفون لأسأله عن معنى كلمة الزمالك وهو يقيم بالزمالك. فقال: لا أعرف يا دكتور زكي. فقلت: إن الزمالك جمع زملك بضم الزاي وهي كلمة ألبانية والأصل فيها أن محمد علي أسكن جنده بتلك البقعة في مواسم الاصطياف والزملك هي الخيمة في اللغة الألبانية. وقد هاجم زكي مبارك طه حسين في أمرين هامين: الأول: رأيه في أن الأدب العربي يرجع إلى أصول فارسية ويونانية. الثاني: رأيه في أن عقلية مصر عقلية يونانية1. ومع ذلك فإن زكي مبارك يبدو منصفا لطه حسين مرتين, إبان أزمته الأولى من أجل كتاب الشعر الجاهلي والمرة الثانية عندما هوجم في مارس 1932 ونقل من الجامعة إلى وزارة المعارف وقد كتب زكي مبارك يقول: "وطه حسين هذا يزعم فريق أنه ملحد ويزعم آخرون أنه يدعو إلى الفسق والمجون، وأقسم بالله صادقا ما رأيت من هذا الرجل وقد صاحبته اثني عشر عاما إلا القلب الطيب والأدب البارع والخلق المتين". بدأت المعركة بينهما بصفة جدية عندما أعيد زكي مبارك إلى الجامعة بعد إخراج طه حسين منها فلما عاد طه مرة أخرى رفض تجديد عقده وقال: أنا لم أستشر في تعيينه فكيف أستشار في تجديد عقده. وكان ذلك دافعا له لكتابة مقالته النارية "طه حسين بين البغي والعقوق". والتي قال فيها "إن عودتي إلى الجامعة لا تدهش لأني لم أعد إليها من

_ 1 راجع الفصل الخاص بها في هذا الكتاب ص137.

عرض الطريق فقد ذكاني طه حسين للتدريس في الجامعة منذ تسع سنين, ثم اشتغلت بالتدريس إلى جواره ثلاثة أعوام". وقال: إن إرادة فوق إرادة الدكتور طه هي التي أخرجته -أي مبارك- من الجامعة ثم عاتبه على أنه ذكر بأن عودة مبارك إلى الجامعة كانت مكرمة من "حلمي عيسى" وبعد فهذه فصول المعركة: 1- زكي مبارك؛ "طلائع المعركة": مرت1 المناقشات هادئة في هذا الكتاب "النثر الفني" ولم تستمر إلا حين اتصلت برجلين من كرام الرجال، هما المسيو مرسيه والدكتور طه حسين. أما المسيو مرسيه فعالم واسع الاطلاع، وهو رأس المستشرقين الفرنسيين لهذا العهد، وكانت له آراء مدونة عن نشأة النثر الفني عن العرب، وما كدت أصل إلى باريس حتى هممت بمهاجمته فنصحني المسيو ماسنيون وأفهمني أنه رجل صعب المراس، وأن منزلته في المعهد العلمي عظيمة وأن المستشرقين جميعا يجلونه أعظم الإجلال, ولكن كتب الله أن لا أنتصح برأس المسيو ماسنيون، فابتدأت رسالتي التي قدمتها للسوربون بفصلين في نقض آرائه من الأساس فغضب الرجل وثار, وصمم على حذف الفصلين وصممت على بقائهما بحجة أنهما العماد الذي تنهض عليه نظريتي في نشأة النثر الفني. وكأنما عز عليه أن أهاجمه في عقر داره فمضى يعاديني عداء خفيا كانت له أثار بشعة لا أتذكرها إلا انتقضت رعبا من عجز الرجال عن ضبط النفس وقدرتهم على تقويض دعائم الإنصاف.

_ 1 من كتاب النثر الفني ص13 وما بعدها.

وقد قابلت خصومته بلدد أقسى وأعنف، ورأيت الحرص على آرائي أفضل من الحرص على رضاه فأبقيت الفصلين الذين أغضباه، وانتهينا إلى عاقبة أفصح عنها المسيو ماسنيون كل الإفصاح حين لقيته في باريس إذ قال: "إن المسيو مارسيه لا يحبك ولكنه لا يستطيع أن ينساك". أما الدكتور طه حسين فما أدري والله ما ذنبه حتى يهاجهم أعنف الجهود في هذا الكتاب, إن هذا الرجل تربطني به ألوف من الذكريات، يرجع بعضها إلى العهد الذي كنت فيه طالبا بالجامعة المصرية القديمة يوم كان يصطنع العدل الذي يلبس ثوب الظلم في امتحان الطلاب، فقد ساعد مرة على إسقاطي في امتحان الجغرافيا ووصف الشعوب وأسقطني مرة ثانية في امتحان تاريخ الشرق القديم، والسقوط في الامتحان مما يحفظه الطالب المخلص لأستاذه المنصف. ويرجع بعض الذكريات إلى العهد الذي كنت فيه مدرسا بالجامعة المصرية الجديدة، حين كنت أحمل إليه على أكتافي أحجار الأساس لنرفع القواعد من كلية الآداب. وأدق ما يتصل بيننا من الذكريات منا وقع في ربيع سنة 1926 يوم ظهر كتاب الشعر الجاهلي؟ وثارت الأمة والحكومة والبرلمان، وكان أصدقاؤه وزملاؤه بين خائف يترقب، وحاسد يتربص، وكانت وحدي صديقه الذي لا يهاب وزميله الذي لا يخون. ولكن حماستي للفكرة التي أدافع عنها، غرام الدكتور طه بنقضها في رسائله وأحاديثه ومحاضرته، كان مما حملني على مقاومته بعنف وقوة، حتى ليحسب القارئ أن بيننا عداوة سقيت لأجلها القلم قطرات من السم الزعاف حين عرضت لدحض آرائه من فصول هذا الكتاب.

اكتب هذا وقد شرق الدكتور طه وغربت ولم يبق بيننا إلا أطياف من الذكريات. 2- طه حسين: النقد والطربوش وزجاج النافذة1 ذكرت النقد والطربوش وزجاج النافذة، واعتقدت أنا أو خيل إليك أني أعتقد، واعتقدت أنت أو خيل إلي أنك اعتقدت. واعتقد صديقي المازني أو خيل إلي نفسه وإلينا أن يعتقد أني قد أمتعت الرسالة وقراء الرسالة بفصل قيم أو غير قيم، قوامه الحديث عن النقد والطربوش وزجاج النافذة. وتسألني ما بال الأستاذ المازني يقحم هنا إقحاما، وما خطبه مع النقد والطربوش وزجاج النافذة ومرق الفول النابت وماء المخلل وما يتبع هذا كله من الأشياء والأحياء. فأجيبك بأن هذا السؤال لا ينبغي أن يساق إلي وإنما ينبغي أن يساق إلى الأستاذ المازني فهو الذي تحدث عن هذا كله. فهل تدري ماذا دفع الأستاذ المازني إلى أن يتحدث عن هذه الأشياء وعن هؤلاء الأشخاص فيثيرني إلى أن أتحدث عنه وعنها وعنهم؟ هو شيء يسير جدا، هو أنه أديب يقرأ في الكتب ويكتب في الصحف وينقد الكتاب والمؤلفين. وتتغير الأزمان وتتبدل ظروف الحياة، ولكن هناك شيء لا يتغير ولا يتبدل في حقيقة الأمر، وهو أن الأدب محنة يمتحن بها الأدباء.

_ 1 الرسالة 26 مارس 1934

وقد امتحن الله صديقنا المازني ووفر له من نقمة الأدب وبلائه حظا عظيما فجعله شاعرًا مجيدا وكاتبًا بارعًا، لا يصدر كتاب إلا أراد الناس أن يعرفوا رأيه فيه وحكمه عليه. وكان صاحب الكتاب نفسه أحرص الناس وأشدهم طلبا له وإلحاحا فيه، والكتب تمطر على الأستاذ المازني ويمطر منها طلب النقد وطلب التقريظ، والنقد والتقريظ يحتاجان إلى القراءة والدرس، وإذن فالمازني المسكين مصروف عن نفسه وعن فنه وعن كتبه إلا هؤلاء الذين يكتبون. ومن هنا ومن جهات أخرى كان المازني شقيا بالأدب وإن كان الأدب سعيد بالمازني, وأي شيء أدل على شقاء المازني بالأدب وسعادة الأدب بالمازني، أقوى من هذه القصة التي أحدثك عنها الآن, فقد أخر "كاتب من الكتاب كتابا من الكتب" وأهداه إلى الأستاذ بالطبع، وعرف الناس أن هذا الكتاب قد أهدي إليه فأخذ الناس ينتظرون، وأخذ صاحب الكتاب بنوع خاص ينتظر، فلما طال الانتظار كان الطلب، ولما كان الطلب ولم يجد شيئا كان الإلحاح، واضطر المازني أن يذعن، وأكره المازني على أن يكتب ولكنه كان قد أرسل الكتاب إلى من يجلده فلما اشتد عليه الإلحاح ذهب في طلب الكتاب من المجلد فدفع إلى رحلة غريبة وإلى استكشاف أغرب دفع من هذه الأحياء المتحضرة التي تتسع فيها الشوارع والتي لا تتغطى أرضها بالوحل إلى أزقة ضيقة ملتوية فاسدة الهواء، تعيش فيها أجيال من المردة والشياطين وفي هذه الأزقة عرف المازني الخوف والفرق. ثم عرف قصة الرجل الذي يطلب كتابا ففقد طربوشه وعاد صفر اليدين. ولكنه السؤال الذي أحب أن أسأله هو: هل يظن المازني أنه أبرأ ذمته أمام القراء وأمام المؤلف

بهذا الفصل البديع الذي كتبه منذ أيام فحدثنا فيه عن النقد والطربوش وزجاج النافذة وعما تحمل الأرض من وحل وما تمطر السماء من مرق. وسؤال آخر أحب ألا يغضب صديقي المازني حين أسوقه إليه، ما باله يطغى على نفسه ويسرف عليها في الطغيان ويصورها هذا التصوير الذي لا يلائمها بحال من الأحوال والذي لا نحبه لها، فهل من الحق أنه هياب إلى هذا الحد؟ كلا ولكنه يحب أن يعبث بنفسه فيسرف في العبث وأكبر الظن أننا إن حدثاه في ذلك ضاق بنا وسخر, وخشي أن لا يكون لشيء من هذا كله أصل ولا فرع كما يقولون، وأن يكون المازني قد أراد نقد الكتاب الذي طلب إليه نقده فمضى به الخيال، ومضت به الدعاية إلى هذه الأزقة الضيقة الملتوية يبحث فيها عن الكتاب وصاحب الكتاب، فلم تفد إلا أن فقد طربوشه وأضاع على صاحبه الشيخ زجاج نفاذته ولم يجن لنفسه ولا لصديقه المؤلف شيئا، وويل للكتاب والمؤلفين من دعاية المازني ومجونه, وويل للكتاب والمؤلفين من ألغاز المازني ورموزه بل ويل للمازني نفسه من طغيان خياله وجموحه فإن في هذا الجسم النحيل الضئيل، جسم هذا الرجل الهادئ الوديع ماردًا لا كالمردة وشيطانا لا كالشياطين. 3- من زكي مبارك إلى طه حسين: أنا أعرف الدكتور طه حسين1 أقسم جهد اليمين ليمسخن كتابي مسخا وليمحونه من الوجود وليصيرن اسم زكي مبارك مرادفا لاسم عيسى بن هشام، اسمع ما يقول الدكتور طه حسين:

_ 1 البلاغ 30 مارس 1934.

"أخرج كاتب من الكتاب كتابا من الكتب" فمن هو الكاتب وما اسم ذلك الكتاب، لعلكم فهمتم أن الرجل طوى اسم كتابي فاستطاع بذلك أن يمحوني وأن يجر على كتابي ذيل البستان، ولم لا يفعل ذلك وهو يتوهم أنه يرفع أقواما ويخفض آخرين، وأن المؤلفين لا يعرفون إلا إذا زكاهم وأثنى عليهم. سألت جميع الناس أن ينقذوا كتابي "النثر الفني". لقد سألت فلانا وفلانا ... وكان الدكتور طه هو الرجل الوحيد الذي لم أسأله على الإطلاق فكيف تخطيته مع أنه يكتب كل يوم. تخطيته لأنه يقدر على كل شيء إلا الإنصاف، وهو لا ينصف حين ينصف إلا لحاجة في النفس, وقد قطعت بيني وبينه الأسباب منذ اعتزمت كشف ما تورط فيه من الأخطاء، والرجل لا يرضى إلا عمن يؤمنون بأن باطله أشرف من الحق وأن خطأه أفضل من الصواب. يا دكتور طه!: أنا ما أسأت إليك بل أحسنت إليك بعض الإحسان حين دللت القراء على أنك لم تبتكر ما تورطت فيه من الأخطاء، وإنما أخطأ جماعة المستشرقين فتبعتهم بلا روية, فكان عليهم إثم السنة السيئة وكان عليك إثم التقليد. كنت أنتظر أن تفرح بكتابي لأنه كما تعلم جهد أعوام طوال، لكن خاب الظن وعرفت أنك وسائر الناس تغضب وتحقد، وكنت أرجو أن يكون عندك شيء من تسامح العلماء. تعال نتحاسب يا ناسي العهد ويا منكر الجميل، لقد مرت أعوام لم يكن

يذكرك فيها بخير أحد غيري، هل كان في أصحاب الأقلام من انبرى للدفاع عن طه حسين غير تلميذه وصديقه زكي مبارك, لقد ذكوتك بالخير في جميع مؤلفاتي، فهل يضيع عندك كل هذا المعروف لأني بددت أوهامك في كتاب النثر الفني. كان في همي دائما أن أحرص على واجبات المروءة، وقد رأى الدكتور موقفي يوم أخرجه وزير المعارف من كلية الآداب، فقد دافعت عنه في البلاغ دفاعا ما كان ينتظره ولعله قد دهش منه وكنت في محضره ومغيبه من المنافحين عنه، لأن المروءة كانت تطالبني بذلك ... أفيعجز الدكتور وهو أكبر مني سنا وأرفع صوتا عن مقابلة المروءة بالمروءة. لقد كان يجب أن يكون الضمير العلمي أقوى من أن تؤثر فيه الأحقاد اليومية وكان يجب أن يكون العلماء أرفع من أن يخضعوا للأهواء والشهوات وكان الدكتور طه أولى الناس وأجدرهم بأن يتخلق بالخلق الجميل. 4- زكي مبارك: "طه حسين بين البغي والعقوق" 1: لقد ذهبت أنت فأتممت دراستك في باريس وذهبت أنا فأتممت دراستي في باريس فهل تعلم ما الفرق بيني وبينك؟ اسمع أيها الصديق القديم البالي: ذهبت على نفقة الجامعة ومضيت أنا متوكلا على الله فأنفقت ما ادخرت من عرق الجبين, واتصلت أنت بالمسيو كازانوفا ففرض عليك آراءه فرضا ولم تكن رسالتك عن ابن خلدون إلا نسخة من آراء ذلك الأستاذ، اتصلت أنا بالمسيو مرسيه ففرضت عليه آرائي فرضا واتصلت بيننا وبينه الخصومة

_ 1 البلاغ 23 نوفمبر 1934.

فأذاني إيذاء شديدًا، ولكن قناتي ظلت صلبة واستطعت أن أقوض كبرياءه في عقر بيته وفوق كرسي السربون. ولم تمر هذه المعركة بلا غنيمة، وقد وقف المسيو ماسنيون يوم أديت امتحان الدكتوراه وقال: "إنني حين أقرأ أبحاث طه حسين أقول هذه بضاعتنا ردت إلينا، وحين أقرأ أبحاث زكي مبارك أشعر بأنني أواجه شخصية جديدة". فإن كنت في ريب من ذلك فاسأل من حضروا امتحاني في السربون وكانوا مئات، وفيهم مدير البعثة المصرية في باريس. لقد اشتغلت أنا بالصحافة واشتغلت أنت بالصحافة, وإليك الفرق بين الشخصيتين، كنت أنا رئيسا لتحرير جريدة الأفكار، وكانت تدافع عن مبادئ الحزب الوطني وكان يشرف عليها عبد اللطيف بك الصوفاني فكنا نختلف ونختصم كل صباح لأني كنت آبى أن أكتب غير ما أراه من التعليقات السياسية, وأنت اليوم رئيس تحرير جريدة وفدية فهل تدري ماذا تصنع! تدخل إلى مكتبك فلا تكتب سطرا قبل أن تتصل تليفونيا بهذا أو ذاك لتتلقى الوحي ثم تكتب ما يلقى عليك وكأنك الببغاء. اشتغلت أنت بالتأليف واشتغلت أنا بالتأليف وإليك الفرق، مضيت أنت فانتهبت آراء المستشرقين وتوغلت فسرقت حجج المبشرين وكان نصيبك ذلك التقرير الذي دمغتك به النيابة العمومية، وأنت تعلم أن ليس لك رأي واحد وصلت إليه بعد جهد وبحث. واشتغلت أنا بالتأليف فكانت آرائي مبتكرة ولم يستطع أحد

أن يتهمني بالسرقة من فلان أو فلان كما اتهموك بالسرقة من جميع الناس. ومؤلفاتك تموت يوم تولد، ولك أن تسأل لجنة التأليف لتخبرك أن كتاب الأدب الجاهلي لم يبع منه شيء بعد النسخ التي فرضتها أنت على طلبة كلية الآداب. ثم رأيت مائدة الوفد أشهى من غيرها وأمتع فذهبت وقدمت إليها نفسك وهددت الدكتور بكشف أسرار الدستوريين. كنت لوحة إعلانات لا تذيع الرأي إلا لتغيظ الجمهور لتصبح حديث الناس في الأندية والمجتمعات. أعلنت بعد إخراج الشعر الجاهلي نداء قلت فيه: "أشهد أني أؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر" أنت تؤمن بالله وكتبه يا دكتور طه وأنت تكذب التوارة والقرآن اعتمادا على رأي خاطئ سرقته من أحد المبشرين. أنت لم تترك حزبا إلا خدمته ولا جريدة حكومية إلا توددت إليها بعدد عديد من الرسائل الطوال. 5- زكي مبارك: الجديد في دم الأديب1 سترون أن أبلغهم أثرا في نفس الجماهير وأقدرهم على أسر القلوب وغزو العقول واحتلال النفوس هم الأدباء الذين ابتلتهم الحياة بصنوف من الأرزاء، وعرفوا كيف تقسو الحياة؟ وكيف تلين؟ أولئك هم الذين يكتبون وفي كل حرف سر ظاهر أو غرض دفين, أما الأدباء المدللون الذين حبتهم الدنيا

_ 1 البلاغ 25 يوليه 1935.

بألوان من الترف والنعيم فهم ينظمون ويكتبون وكأنهم يلعبون، وليس للألاعيب في عالم الأدب بقاء. الحياة هي كتاب الأديب ومن حظه أن يعرف البؤس والشقاء وأن يدرك كيف يكون الضجر والاكتئاب؟ وأن يشهد بعينيه كيف يرتفع السفلة والأغبياء؟ وكيف يطيش الحظ الأهوج فيظلل بجناحيه رءوس المحررين من أهل الجاه المزيف والمجد المكذوب؟ والأديب الذي يتهيب الحياة ويخاف مجاهلها هو أديب رخو ضعيف ليس أهلا لمجد القلم ولا شرف البيان، الأدب الصادق ليس إلا حومة قتال ولكن أي قتال؟ قتال في سبيل الحق والخير والجمال. والحياة لم تكن يوما دار سلام، وإنما السلام في المقابر، فمن أراد أن يستريح فليمت أما الأحياء فقد كتب عليهم أن يناضلوا ويقاتلوا ويصاولوا ما بقي فيهم عرق ينبض وقلب يثور، فإن جنحوا للسلم فقد استلموا إلى سكرات الموت وبئس المصير، خذوا وحيكم من الحياة يا طلاب الأدب، وتذكروا دئما أن وقود عقولكم وقلوبكم لا يكون إلا من الألم ومن الصدق. الأدب الصادق هو الذي يحمي صاحبه من بريق الزيف والبهرج ويصونه من الخضوع لأرباب الألقاب، وإن أديب واحد بهذه الخلال أجدى على الأدب من ألوف الأدباء. 6- أول هجوم سافر على طه حسين 1: أما الأحقاد التي تتلظى في صدر طه حسين فستقضي عليه شر قضاء وتنكل به تنكيلا ولن تدوم له أيام الطغيان، ولن يبقى له فلان وفلان، والكرسي الذي يجلس عليه في الجامعة هو أقل ما أنتظره من الجزاء في المستقبل

_ 1 البلاغ 15 أغسطس 1935.

القريب، إن أعظم منصب في الجامعة لا ينيلني من المجد ما أنالني كتاب النثر الفني، ستفنى أحجار الجامعة المصرية وتبيد ذكرياتها ثم يبقى ذلك الكتاب على مر الزمان والذين يحاربونني لم يطمعوا في محاربتي إلا لظنهم أني رجل أعزل لا أنحاز إلى حزب من الأحزاب وليس لي في الحكومة عم ولا خال، ولكن خاب ظنهم فإن الحق أعز وأقوى وسيرون كيف أزلزل أرواحهم وكيف أملأ قلوبهم بالرعب وكيف أريهم عواقب ما يصنعون. إن النصر سيكون حليف من يصلون النهار بالليل في تثقيف عقولهم، أما الثرثرة الفارغة التي يعتصم بها طه حسين فلن يكون لها في عالم الجد بقاء. 7- زكي مبارك: كيف هاجمت طه حسين1 1- إني بدأت أناوش الدكتور طه حسين منذ سنين حين تبين أنه كالطبل الأجوف وأنه لا يعرف من تاريخ الأدب العربي إلا قشور عديمة المحصول وكنت كلما هاجمته تخذل وضعف وخشي عاقبة النضال, ثم اتفق أني عينت في الجامعة المصرية فبدا له أن يتشجع ويناوشني ظنا منه أني أخاف المناوشات احتفاظا بمنصبي في الجامعة ودفعا لمغبات القتال، فأمهلته قليلا وتركته يصول في مناوشتي ويجول وكذلك أمليت له حتى جاءت, الموقعة الحاسمة يوم عين نجيب الهلالي وزيرا للمعارف وكان يعرف الصلة التي بينه وبين نجيب الهلالي وفي هذا ما هوى المحالفة بين رجلين لهما خصم لا سند له بين الأحزاب ولا عم له في الحكومة ولا خال. في تلك الأيام أراد طه حسين أن يناوشني وكان يثق أني سأسكت فلا أجيب ورأى فريق من زملائي في الجامعة أن أتسامح مراعاة للظروف،

_ 1 البلاغ 26 أغسطس 1935.

فأقسمت لأقذين مشرع حياته ولأجعلنه مثلا في الآخرين وكذلك كتب مقال "طه حسين بين البغي والعقوق" الذي أبكى طه حسين بالدمع السخين وكان يظن أنه لن يعرف البكاء وعاد طه حسين إلى الجامعة في زفة لم يسمع بمثلها منذ كان يسكن في كفر الطماعين، وظن الناس أني سألاينه ولكن هيهات فقد تجاهلت عودته سبعة أيام إلى أن جمع بيننا مجلس قسم اللغة العربية. في تلك الأثناء أراد الشيخ أمين الخولي أن يصلح بيننا فعرض الفكرة على الدكتور طه فقبل وعرضها علي فقبلت وكنت أرى أن الصلح خير وأن الزهد فيه بغي وعدوان. وكنت أحسب أن الصلح لن يزيد عن المصافحة وتبادل التحيات ولكني فوجئت مفاجأة لم تخطر على بال، فإن الأستاذ أمين الخولي انتظر حتى اجتمع بعض الزملاء ثم نهض فقال: هذه أول جلسة يحضرها الدكتور طه حسين بعد عودته وأنا أقترح أن تلقى كلمة ترحيب وأفضل أن يلقيها الدكتور زكي مبارك لأن بينهما أشياء يجب أن تزول. وكان موقفا في غاية الحرج ولكني تحفظت، إذ كنت أعرف أن العداوة التي بيني وبين الدكتور طه يصعب أن تزول، ومن الحزم أن لا أقول كلاما ينطوي على تودد أو ترفق فوقفت وقلت: إني أرحب بعودة الدكتور طه وقد زاملته من قبل من ثلاث سنين، وكنت من قبل ذلك من تلاميذه الأوفياء، والذي وقع بيني وبينه لم يكن فيه شيء جارح إلا المقال الذي نشرته في البلاغ، وهو مقال أعرف بأن فيه شيئا من الشطط ولكني لا أعتذر عنه لأنه من بعض ما علمني، ومن الخير

أن نتناسى ما فات لأن مصلحة العمل توجب الوفاق, وقد ابتسم الأساتذة حين ذكرت أن الشطط كان من بعض ما علمني وعدوها خطبة لبقة فيها ترضية وفيها احتراس، وبعد أيام دار طلبة الجامعة على الأساتذة يطالبونهم بدفع قيمة الاشتراك في تكريم الدكتور طه، وكانت خمسين قرشا وهو مبلغ زهيد ولكني رأيت من الأشرف أن لا أدفع خمسين مليما في تكريم شخص مثل طه حسين. فلما طالبوني بالاشتراك أبيت وكانت حجتي أني لا أحب أن أهجو رجل وأكرمه في أسبوع واحد, وكذلك عصمت نفسي من هذا التكريم. وبعد شهرين من ذلك التاريخ أقام طلبة قسم اللغة العربية حفلا لتكريم طه حسين وجاء تلاميذي فرجوني أن أحضر ذلك الاحتفال ودعيت للخطابة فألقيت كلمة حازمة في الموازنة بين أساتذة دار العلوم وأساتذة كلية الآداب وكان في تلك الكلمة درس نافع، قلت: إني أوجهه إلى نفسي وإلى تلاميذي وإلى الدكتور طه إن شاء ومع ما في تلك الكلمة من إيذاء الدكتور طه فقد قابلها الطلبة بالتصفيق والإعجاب لأني ألقيتها في حزم وإخلاص. 2- أما موقفي في جلسات قسم اللغة العربية فكان دائما موقف المعارضة الصريحة لنزعات طه حسين، وكان لا يسلم مني إلا بأخذ الأصوات، وكان أساتذة اللغة العربية لا يرون فائدة في معارضته إذ كانوا يعرفون أن كل شيء مصيره إلى هواه بفضل الوسائل التي يعرفها الجميع. 3- لا أنكر أني أسرفت ولكن الأيام أرتني أن الحزم كان أوجب ولولاه ما استطعت الآن أن أناقش من يزعم أني قابلت الدكتور طه حسين بالترحيب وأنه مع ذلك لم ينس ما كويت به جنبيه من قوارع التثريب ولم

يغفر ما كشفت من سرقاته وكان الناس يحسبونه من المبدعين. وفي أوائل شهر مايو دعاني الأستاذ الدكتور منصور فهمي إلى مكتبه وقال: أرسلت إدارة الجامعة تسأل عن تجديد العقد والنظام يوصي بأخذ رأي الدكتور طه حسين فاذهب يا بني وصف ما بينك وبينه وسأحفظ الخطاب حتى يتم بينكما الصفاء فأجبت الدكتور منصور فهمي بما نصه: "أنا على أتم استعداد لتصفية ما بيني وبين الدكتور طه ولكني لا أفعل ذلك في هذه الأيام, ولو أنك اقترحت ذلك منذ شهرين لقبلت, أما الآن فلا تسمح نفسي بمصافحة الدكتور طه وأنا أعلم أن لذلك دافعا من الغرض ومع ذلك ما الذي يزعجك يا سيدي العميد؟ أتظن أن الدكتور طه يتحين هذه الفرصة ويتشفى مني، إنه أعقل من أن يقترف مثل هذا الانتقام المفضوح. فابتسم الدكتور منصور ابتسامة مرة وقال: أنت يا بني تسرف في حسن الظن بالناس. وفي المساء الذي اختلفنا فيه بتكريم لطفي بك في فندق ميناهاوس تلفت فرأيت الدكتور طه فصافحته، وكان معه الدكتور حسن إبراهيم فوجه إليه الكلام قائلا: الدكتور زكي تلميذك وهو يحبك يا حضرة الأستاذ. فقلت: أما إني كنت تلميذ الدكتور فصحيح ولكني لا أحبه وهو لا يستحق مني غير البغض. فتكلف الدكتور طه الابتسام وقال: ألا أستحق منك غير البغض يا دكتور زكي؟ فقلت: أنت تعرف أن مودتنا كانت أطهر من الماء, وتعرف كيف

فتحت أذنيك للدساسين فأفسدوا ما كان بيننا إفسادًا لا يرجى له صلاح، ومزية زكي مبارك أنه لا يجامل ولا يصانع فأعرف الآن أن ما بيننا قد انقضى وأنك كنت من الآثمين". والقصة معروفة فقد رفض طه حسين تجديد عقد الدكتور زكي مبارك وأخرجه من الجامعة وبدأت الحملة. 8- مقالات مجلة الصباح 1: الذي بيننا لم يكن خلافا في الرأي وإنما هو قتال عنيف بين شخصين، فالدكتور طه يرى أنني كنت تلميذه ومن واجب التلميذ فيما يزعم أن لا يخالف الأستاذ، وأما أنا فأرى الدكتور طه رجلا قليل العلم والمعرفة بالأدب العربي, وأراه استمرأ السطو على آراء المستشرقين وأراه في حياته العلمية نموذجا للفوضى والقلق والاضطراب, قد تقولون: وكيف سكت زكي مبارك عن نشر عيوب طه حسين وهو يصاحبه منذ خمسة عشر عامًا وأجيب بأن الدكتور طه ابتدأ التدريس في الجامعة المصرية قبل أن يقدم الدراسات الأدبية فكان منذ سنين مستور العيوب, على أن الخواص يعرفون أنني بدأت أعارضه منذ 1927 حين اطلعت على عجزه الفاضح وعرفت أنه يعيش من سرقة آراء الأدباء والعلماء. وأنتم تعرفون أني رجل صريح لم تستطع الأيام أن تروضني على المجاملة والمداراة فلم يكن بد من أن يعرف الدكتور طه أنني لا أحترمه ولا أحترم مسالكه الأدبية ولا أحترم تهافته الفاحش على موائد الأحزاب, وكذلك هدته غريزته إلى وجوب محاربتي في عملي في الجامعة وساعده على ذلك ناس كنت شجًا في حلوقهم, وكان هو في أنفسهم مثال الخادم الأمين.

_ 1 قدم الدكتور زكي مبارك حملة أخرى في مجلة الصباح بدأت في 23 أغسطس 1935.

فإذا كان الدكتور طه قد انتصر حين وجد من يساعدونه على إخراجي من الجامعة فليذكر وليذكر من عاونوه على شفاء صدره أن انتصارهم ليس إلا هزيمة شنعاء وسوف يعلمون. 9- مثال من جهل طه حسين 1: لقد انكشف أمر طه حسين منذ أصدرت كتاب النثر الفني فقد بينت أغلاطه وسرقاته، وتحديته أن يدافع عن نفسه، فتخاذلت قواه ولم يملك الجواب وعرف الأدباء في المشرق والمغرب أنه لا يملك شيئا أصيلا، وأن مؤلفاته ليست إلا هلاهيل انتزعها من كلام الناس، وأن ما يدعيه من الآراء ليس إلا صورًا ملفقة انتزعها مما يقرأ ويسمع؛ لأن قلمي ليس إلا محنة صبها الله على طه حسين, ولعله انتقام من الله على طه حسين، ولعله انتقام من الله صوبه إلى صدر ذلك الشخص الذي اجترأ على التوراة والقرآن واستطاع أن يقول في وقاحة "للتوارة أن تحدثنا وللقرآن أن يحدثنا" كأن العلم لا يكون إلا حيث تقع مساقط هواه, أما التوراة والقرآن فهي ظنون في ظنه؛ طه حسين جاهل. سبحان الله. وكيف يكون جاهلا وهو رئيس قسم اللغة العربية بالجامعة المصرية، من الذي وضع طه حسين في ذلك المنصب؟ إن الذي وضعه فيه هو لطفي السيد مدير الجامعة المصرية. ولطفي السيد ليس حجة في الأدب العربي ولم ير في حياته جامعة أوروبية حتى يعرف كيف تكون الدراسات العليا؟

_ 1 الصباح 13 سبتمبر 1935.

طه حسين جاهل. نعم طه حسين جاهل أشنع الجهل وإليكم اليوم مثال من جهله الميمون. 1- ألقى حضرته محاضرة في الجامعة الأمريكية عن شعر البحتري ونشرها في جريدة كوكب الشرق فهل تصدقون أنه وقع في خمس غلطات جوهرية في محاضرة واحدة ... إلخ إلخ. 2- وقال في المقال الثاني: إن مصر1 لا يسرها أن يقوم مجدها الأدبي على أساس من خيوط العنكبوت وطه حسين أديب مزيف ومن الواجب أن يسبق المصريون إلى كشف القناع عن وجهه قبل أن يتقدم أدباء الشرق فيعدونا بسيطرة هذا الجاهل على الحياة الأدبية وهل خلت مصر من الرجال حتى يكون طه حسين عنوانا على مجدها الأدبي؟ إن2 هذا الرجل لم يكن في جميع أدوار حياته العلمية إلا مرتزقا يتلمس فتات العلماء كلما نصبوا موائدهم أو أوقدوا نارهم، ولم يستطع حتى اليوم أن يواجه تلاميذه ببحث أصيل يشعرهم بأنه من أهل الفكر والبيان. إن كشف القناع عن معلومات طه حسين واجب أدبي يقوم به أحرار الأدباء، ولو كان طه حسين من الخاملين لأعفيت نفسي من تمزيق ما على وجهه من مختلف البراقع. 3- وقال في مقاله الثالث: إنه في عام 1932 كنت يومئذ على وفاق مع الدكتور طه، ولكني كنت أحب أن أداعبه بالنقد من حين إلى حين لأني كنت أعرف أنه في حاجة شديدة إلى من يذكره بالواجب، وهو كما

_ 1 الصباح 20 سبتمبر العدد 469. 2 الصباح 4 أكتوبر 1935 العدد 471.

عرفته رجل قليل الاطلاع ولا يفهم الشعر إلا بعنف شديد، فلما سمعت محاضرته عن البحتري ورأيت ما تورط فيه من الأخطاء لم أجد بدًا من تنبيهه إلى عواقب الكسل والتفريط وكتبت عمودًا واحدًا في جريدة البلاغ تحت عنوان "الدكتور طه يخطئ خمس مرات فقط في محاضرة واحدة" فلما ظهرت تلك الكلمة انزعج الدكتور طه أشنع انزعاج، وصارع أصداقاؤه فرجوني أن أكف عنه، وأن أدع تقويمه إلى الأيام ولا سيما وهو رجل أخرجه وزير المعارف من الجامعة وهو يحاول أن يكسب قوته وكشف أغلاطه في جريدة البلاغ قد يصرف عنه طائفة من القراء. وعندئذ تبينت أن من الذوق أن أترك طه حسين يخطئ كيف يشاء إلى أن تصلح حاله ويستطيع النضال، وذهبت إلى الجامعة الأمريكية لأسمع محاضرته الثانية فلما انتهى من إلقاء الدرس نظرت فرأيته قادما فأسرعت إليه وحييته فلما وضع يده في يدي شعرت بأنه يرتجف ارتجافا عنيفا وكاد يسقط من شدة الاضطراب ولكنه تمالك نفسه وقال: أنت مخطئ، قلت: صدقت. ولما خرج الدكتور طه1 أقبل تلاميذي بالجامعة الأمريكية وقالوا هاتفين: كيف تسكت عن مناقشة الدكتور طه وتعترف بأنك مخطئ وأنه مصيب؟ فقلت: انتظروا حتى أشتري بخمسة تعريفة ذوق وأوزعه عليكم, أتظنون أن أدبي يسمح لي بملاحاة طه حسين أمام الناس؟ إن مكان ذلك في جريدة البلاغ, ثم علمت أن الدكتور طه راح يزهو ويختال ويقول: إنه فند مزاعم زكي مبارك على رءوس الأشهاد.

_ 1 كان زكي مبارك قد كتب في البلاغ الأسبوعي "3 ديسمبر 1926" مقالا عن كتاب الشعر الجاهلي الذي ألفه الدكتور طه حسين ووصفه بأنه فاتحة عهد جديد في دراسة الآداب العربية.

إنني سكت عنه يومئذ إيثارًا للترفق برجل ضعيف, أما اليوم فهو بخير وعافية وكشف أغلاطه من الواجبات, فليجيبنا إن كان يملك الجواب. وقال زكي مبارك في مقاله الرابع 1: لقد درست طه حسين من جميع نواحيه فوجدته قليل العلم جدا ورأيته ضعيفا أبشع الضعف في فهم النصوص. وأوردت الصباح رسالة بقلم أديب قال فيها: "قرأنا للدكتور طه بحوثا في الكتب المنزلة عامة والقرآن المحفوظ خاصة ثم قرأنا أشياء -كأنها هي- للمستشرق الإنجليزي "جرجس سال" وكتاب هذا المستشرق مطبوع بعد ترجمته والتعليق عليه منذ ثلاثين عاما". لحظة قصيرة مع المنصفين في قرائي 2: أسارع فأقرر بأن طه حسين لم يكن يوما من المفكرين، وإنما هو أديب قليل الفكر قليل الاطلاع نشأ في أوقات لم يكن يعرف الناس فيها غير المجادلات السياسية وكان النقد فيها قليلا فتظاهر بالعلم فطنة القراء من العلماء. لم يقرأ في حياته كتابا كاملا وإنما قرأ فقرات من هنا ومن هناك. وأخذ يشطح ذات اليمين وذات الشمال إلى أن اتصل بالمرحوم ثروت باشا فوضعه في الجامعة المصرية. ظل طول عامين ظلا من الظلال في عالم السياسة ولم يترك حزبا إلا خدمه ودبج في تقريظه ألوانا من الرسائل الطوال, والاتجاه السياسي صورة من الاتجاه العقلي والرجل الذي يتردد بين المذاهب السياسية لا يبعد أن

_ 1 الصباح 11 أكتوبر سنة 1935 العدد 472. 2 الصباح 18 أكتوبر سنة 1935 العدد 472.

يعيش فريسة الحيرة بين المذاهب الأدبية, وقد اتفق للرجل الصالح جدا طه حسين أن يخدم قبل الحرب ثلاثة أحزاب, وأن يخدم بعد الحرب أربعة أحزاب، وحظه من الثبات في المذاهب الأدبية يشبه حظه في الثبات على المذاهب السياسية؛ تردد هنا وحيرة هناك. وقد بذل الدكتور طه جهودًا عنيفة في إخفاء حقيقته الأدبية عله يستر ما ظهر عنه في حياته السياسية ولكن هيهات فلن ينفع الكتمان. إن الدكتور طه مقلد في كل شيء، حتى لتراه يهز كتفيه على الطريقة الفرنسية. خصومتي للدكتور طه ستعود عليه بأجزل النفع فأنا واثق أنه سيحضر دروسه بعد اليوم وسيرى قلمي مصوبا فوق رأسه في اليقظه والمنام فلا يستسلم للجهل أو التفريط. كيف ينظر الأحفاد إلى تاريخ الجامعة المصرية حين يعرفون أن أكبر أستاذ فيها لم تقم أستاذيته إلا بفضل انتهاب آثار المستشرقين. النقل من المستشرقين 1: كتب الدكتور طه في جريدة السياسة فقال: ولكن شجرت بين الفريقين اليمانيين والقيسيين معركة "مرجرات" ومرجرات كلمة لا يعرفها العرب, إنما هو مرج راهط. وكتبت مجلة الجامعة الإسلامية بحلب "عدد 13 أغسطس سنة 1934" مقالا ردت فيه على مقالة نشرها طه حسين في جريدة السياسة يوم 22 فبراير عن الحياة العربية وأثرها في الشعر أيام بني أمية.

_ 1 الصباح 12 نوفمبر سنة 1935 العدد 478.

المعركة إذن مرج راهط ولكن الدكتور طه نقل كلمتها بل سرقها من أحد المستشرقين ولم يفطن إلى الأصل العربي لهذه الكلمة فجاءت أعجمية. إني أنفق على الحبر والورق ما لا يستطيع طه حسين إنفاقه على الطعام والشراب، وإن صفحة واحدة من كتاب النثر الفني تساوي كل ما كتبه طه حسين في عمره الطويل فلا يحتوي أجهل مقدار ما أبذل من جهد في حياتي الأدبية ولا تظنوا أني أبالي طغيان تلك الشخصيات الضعيفة التي لا تنهض بلا عون ولا سناد. القديم والجديد 1: نحن نعلم أنه ما من أحد من الغلاة في التشيع للقديم يقول بأن كل قديم على علاته مفضل على كل جديد ولو كملت محاسن القديم وأربى عليها بفضل من محاسن الجديد. كذلك نعلم أن المتشيعين للجديد لا يقولون أن كل ما يكتب اليوم أجمل وأبلغ مما كتب في العهد الذي نسميه قديما. إن شرط الأديب عندي أن يكون مطبوعًا على القول أي غير مقلد في معناه ولفظه وأن يكون له هبة في نفسه وعقله وليس لسانه فحسب. إن أطفالي لو جاعوا لشويت طه حسين وأطعمتهم من لحمه2. قالت مجلة الصباح يعرف القراء حديث طه حسين وزكي مبارك وكيف أن الأول اجترأ على الثاني فحاربه في أدبه فلم يفلح فحاربه في رزقه فأفلح، لأن العيش أراد أن يكون زكي مبارك معيدًا وأن يكون طه حسين كبيرًا من أساتذة الجامعة فيكون للأول الغلبة على الثاني.

_ 1 الصباح 15 أبريل 1924. 2 الصباح 17 يناير 1936 العدد 486.

ودارت رحى الحرب في وجود الصحف فتكلم زكي وحده فلم يجد أنصارا وسكت طه وتكلم أنصاره حتى تحرك إبراهيم المازني فقال ما قال إلى أن قال كلمة سب هي من جوامع الكلم قال: "وإني لأحدث نفسي أحيانًا بأني لو كنت أقول الشعر في هذه الأيام لرثيت طه حسين فإنه يخيل إلي أنه قد مات طه حسين الذي عرفته وأحببته وأكبرته وجاء غيره الذي أنكره", حين يقول المازني -وهو من خلصاء طه- ذلك فقد حكم في القضية وانتصر زكي مبارك. إلى الدكتور طه حسين من المازني 1: أما عتابك يا أخي فنعام عين، وما قصرت لبخل في أو تعال مني، أو قلة إدراك للواجب نحو الزملاء والأصدقاء، ولا لأني نسيتك أو أني أرى أن أهملك أو أتكلف الإغضاء عنك فما كان هذا قط ولن يكون في طباعي. ولكن أمرين حرماني من أن أفوز برضى الصديق وارتياح الزميل؛ أما الأول فهو أني أراني كلما كبرت صغرت في نفسي، نعم زادت معارفي وكثرت تجاربي وعظمت إحاطتي ورحب أفقي, ولكن كنت -ومازلت- أمرأ دأبه أن يدير عينيه في نفسه والشاهد أني مغرى بحساب نفسي. أما الأمر الثاني فذاك أني أرى الدكتور طه قد خرج من زمرتنا معشر الأدباء الأحرار ودخل في زمرة الملقبين وذوي الجاه والسطوة والسلطان. ولست أعني أنه اكتسب لقبا جديدًا، فما حدث له شيء من ذلك ولكني أعني أنه محشور -بكرهه أو رضاه- في هذه الزمرة وأنا أكرهها ولا أطيقها أو أحتملها لما يلوت من سخافة أخلاق أهلها وما عرفت رجلا علت

_ 1 البلاغ 31 ديسمبر 1935.

به الألقاب أو المناصب إلا رأيته يشيل في ميزاني، وإلا وجدتني أتقيه وأنبذه. ألفيتني أشعر أن ما بيني وبينك من قرابة الأدب ونسبه يكاد ينقصم على الأيام, والأدب ينكر الأرستقراطية ولا يعرفها، ولست أصانعك أو أتملقك فما تملك لي نفعا أو ضرا فإن أمري بيد الله ثم بيدي. ويعز علي يا صاحبي أن أقول: إني أراهم عدوك ببعض ما فيهم، فما كدت ترجع إلى الجامعة حتى صببت نقمتك على الدكتور زكي مبارك تلميذك القديم الذي كان من حقك أن تفرح به ولكنك قطعت عيشه وحرمته وظيفته الصغيرة في الجامعة لأنك صرت ذا سلطان وأصبح بقاؤه وطرده في يديك، ووسعك أن تعاقبه على تسحبه عليك, وقد كنت أصدق أنك تفعل كل شيء إلا هذا فلما كان منك ما كان من زكي مبارك صعقت ولا أزال من هذا كالمضروب على أم رأسه، وأقسم لقد فجعتني ودفعتني إلى الكفر بالخير في هذه الدنيا وأقسم مرة أخرى أنك المسئول لا عما أصاب زكي مبارك أو يصيبه فعسى أن يكون الأمر أهون مما أظن بل عما أصابني أنا في نفسي من التحول وما اضطرم فيها من النورة. إنك إذن من أصحاب السلطان يا صاحبي وممن يملكون أن يقطعوا أرزاق العباد أو يصلوها فلست اليوم بالأديب الذي عرفته وأحببته وأجللته وحدثت للناس عن رجولته ومروءته وحسن شمائله، وإنما أنت رجل يدني ويقصي، ويرزق ويحرم، ويطعم العيال أو يجيعهم، ويضرب اليد التي ترتفع باللقمة إلى الفم فيطيرها ويوقعها على التراب لتلتقطها الكلاب والقطط ويأباها على أخيه الإنسان. وإني لأحدث نفسي أحيانا بأني لو كنت أقول الشعر في هذه الأيام

لرثيت طه حسين فإنه يخيل إلي أنه قد مات طه الذي عرفته وأحببته وأكبرته وجاء غيره الذي أنكره. زكي مبارك؛ هل مات طه حسين 1: شغلت الأندية الأدبية بالنضال الممتع أو الخطاب النفيس الذي وجهه الأستاذ إبراهيم المازني2 إلى الدكتور طه حسين. ومن النادر أن يخرج الأستاذ المازني من صومعة السخرية بالحياة والأحياء ليكتب مثل هذا الخطاب وأغلب الظن أن الدكتور طه حسين لم يكن ينتظر ذلك الذي صب على رأسه صاحب "خيوط العنكبوت" ولكن الدكتور طه حسين يعاني في أعوامه الأخيرة أزمة روحية لم يشهد مثلها من قبل فقد تفرق عنه أصحابه جميعًا، ولم يبق حوله غير المراثين المشغفين الذين يعز عليهم أن يتركوه للوحدة والاكتئاب، وهو يحاول اليوم رأب ما صدعته الأثرة والغفلة عن عواقب الإجحاف وسبيله إلى ذلك أن يتخذ محطة الإذاعة مطية لوصف المؤلفات الجديدة على طريقة شوبش يا حبايب. إنه لا يسرف في المدح حبا في تشجيع المؤلفين ولكن يريد أن يمدحهم جميعًا ليؤلف منهم جمعية أدبية يقارع بها خصمه الذي يعرفون.

_ 1 البلاغ 3 يناير 1936. 2 ردد زكي مبارك كلمة المازني "وإني لأحدث نفسي أحيانًا بأني لو كنت أقول الشعر في هذه الأيام لرثيت طه حسين، فإنه يخيل إلي أنه قد مات طه الذي عرفته وأحببته وأكبرته وجاء غيره الذي أنكره" ثم قال: فإن كان المازني يود أن ينظم قصيدة في رثاء الدكتور طه حسين فأنا والله أولى منه بتأدبة هذا الواجب فقد كان لي صديق اسمه طه حسين صاحبته عشر سنين، وكان كما وصفه الأستاذ المازني حلو الشمائل دمث الطباع ثم ضيعته الأيام. وأقسم ما تذكرت طه حسين القديم إلا تشوقت إليه فقد كان رحمه الله مثل المروءة والوفاء أما طه حسين الجديد فهو لا يرعى العهد ولا يحفظ الجميل.

ولكن رأسه انبطح حين اصطدم بالصخرة المازنية وانكشف للناس عواره حين أراد التقرب من صاحب "حصاد الهشيم". من المازني إلى طه حسين 1: لما كتبت أعاتب الدكتور طه حسين في فصل الدكتور زكي مبارك من الجامعة، وأقول: إن الدكتور طه أصبح ممن يملكون إشباع البطون وإجاعتها وأنه صار يضرب اللقمة التي ترتفع بها ليد إلى الفم ويطيرها فتسقط على الأرض فيعثر بها الكلاب ويحرمها الإنسان, لما قلت هذا لم أكن أعني أني أخشى على الدكتور زكي مبارك وأولاده الجوع من أجل أنه حرم وظيفة صغيرة في الجامعة ومعاذ الله أن يخطر لي على بال لا لأن الأدباء لا يتفق أن يعدموا القوت إلى أكثر من جاع منهم في حياته، بل لأني أعلم أن الدكتور زكي مبارك رجل كفء للحياة قادر على الاضطلاع بأعبائها وأنه أزكى وأعظم رجولة من أن يبالي كيف يكسب رزقه مادامت وسيلة الكسب مشروعة لا عيب فيها ولا دنس يعلق بها. وقد أعجبني من الدكتور زكي مبارك قوله أنه لو خاف الجوع على عياله لشوى لحم الدكتور طه وأطعم عياله وليس الذي أعجبني أنه مستعد لشي لحم الدكتور طه، كلا، ولو أنه هم بذلك لكنت أول من يقاتله عليه ويحمي طه منه وإنما الذي أعجبني هذه الفحولة الساذجة التي لم تفسدها باريس.

_ 1 البلاغ 3 يناير 1936.

زكي مبارك 1 يواصل حملته: 1- يا دكتور طه تذكر أن الدنيا تغرب وأن انتهاب آراء الناس لا يغني ولا يفيد، وتذكر أنك تتكلم باسم الجامعة وهي توجب على مثلك أن يدرس ويبحث ولا تقنع منه بالطواف حول ما كتب الناقدون عن المتنبي. لقد أثبت آراء الباحثين المصريين وسطوت على آراء المستشرقين ثم مضيت في تعثر واضطراب لا يليقان ممن يفهم الكلام عن المتنبي أي تقدير. 2- إنما2 نشاغب عمد النخبة القائلين من أدعياء البيان وأنا أسعى إلى غرض هو شغل الناس بالأدب وجعل الأفكار الأدبية والاجتماعية والفلسفية ضرورة عقلية لا يستغني عنها أحد المثقفين. إن شهرة كتابنا لا ترجع في الأغلب إلى الناحية العقلية وإنما ترجع إلى ما يتصل بها من الأحداث السياسية, وكذلك نهضة الأدب متصلة بالنهضة السياسية أوثق اتصال. أنا لا يرضيني الإنصاف، لأن الظلم أشعل قريحتي ولو كنت لقيت العدل في حياتي لعشت منزويا في كلية الآداب أحقق الخلاف بين ابن جني وابن خروف. 3- إن ما بيني3 وبين الدكتور طه لا يصرفني عن التنويه بكتاب "على هامش السيرة" هذا الكتاب النفيس، فإنني أحب أعدائي وأتمنى لهم طيب الأحدوثة وبعد الصيت.

_ 1 البلاغ 14 مارس 1936. 2 البلاغ 5 يونيه 1936. 3 البلاغ 5 يونيه 1936.

4- هاجم1 زكي مبارك مؤلف كتاب المجمل, وقال: إن الدكتور طه حسين لا يعرف عقلية التلاميذ في المدارس الثانوية، وأن عمله في التدريس لا يزيد عن إلقاء المحاضرات في كلية الآداب، أما أحمد الإسكندري فهو باحث مفضال ولكن ترك المدارس الثانوية منذ ثلاثين عاما، وأما عبد العزيز البشري فهو كاتب بليغ ولكن لم يدخل في حياته مدرسة أميرية ولا يعرف كيف يخاطب التلاميذ. وأحمد ضيف لم يشتغل بالتدريس في غير الجامعة ودار العلوم. وأحمد أمين لا يعرف المدارس الثانوية إلا بمقدار ما يعرفها عبد العزيز البشري. وعلي الجارم أديب وشاعر ولكن صلته بالتعليم الثانوي وقفت عن التفتيش والمفتش يتوهم أنه يعرف المدارس. 10- إلى الدكتور طه حسين بك من الدكتور زكي مبارك 2: 1- يظهر أن المقادير لا تريد أن أسكت عنك أو تسكت عني وفي ذلك الخير كل الخير لو تعرف وأعرف؟ وهل ارتفع العقل إلا بفضل الخلاف؟ وهل يتصور الناس وجودًا للحيوية التشريعية لو لم يثر الخلاف بين الشافعية والحنفية؟ وهل تأصلت مشكلات النحو والصرف إلا بفضل الجدال بين البصريين والكوفيين؟ وهل تفوق العقل المصري في العصر الحديث إلا بسبب النزاع حول القديم والجديد والصراع حول المذاهب الاجتماعية والأحزاب السياسية.

_ 1 البلاغ 12 يونيه 1936. 2 الرسالة 2 فبراير 1940.

إن بداوة الطبع التي كثر الكلام في ذمها وتجريحها لم تكن من المثالب إلا في كلام الشعوبية وهم قوم أرادوا الغض من شمائل العربية، ولولا ذلك الهجوم لبقيت من المحامد، فكيف تنكر على رجل مثلي أن يظل بدوي الطبع في زمن توارت فيه الصراحة وكثر فيه تنميق الأحاديث. لا بد من خلاف بيني وبينك لتجد الأبحاث الأدبية والفلسفية وقودا يحيا به اللهب المقدس في حياة العقل والوجدان. فإذا ضاق صدرك فهذه الحقيقة واكتفيت بمحاورة الرجل اللطيف الذي يقول: إن الصحراء تشكو الظمأ وإن البحر يشكو الري وإن الخير في امتزاج البحر بالصحراء. إن كان ذلك ما يرضيك فشرق في محاوته وغرب كيف شئت وكيف شاء. 2- يا دكتور طه! ما سبب الخصومة بيني وبينك؟ منذ أكثر من سبعة أعوام ألقيت محاضرة في الجامعة الأمريكية عن البحتري وسجلتها جريدة كوكب الشرق وشاء "العفريت الذي يحتل رأسي حين أخلو إلى قلمي" أن أنشر في جريدة البلاغ مقالا عنوانه: "الدكتور طه حسين يغلط خمس مرات فقط في محاضرة واحدة". ثم لقيتني بعد ذلك في الجامعة الأمريكية وجادلتني في تلك الأغلاط فأعلنت أني أخطأت، وكان ذلك لأن الجمهور قد أحاط بنا من كل جانب ليرى كيف أدفع هجومك وما كان يجوز لي أن أصنع غير الذي صنعت لأن أدبي لا يسمح لي بمجادلتك أمام الناس ولأن وجهك يشفع لك فهو وجه لا يلقاه الرجل الحر بغير الإعزاز والتبجيل. فما الذي صنعت أنت في تصحيح الأغلاط التي أخذتها عليك؟ مضيت

فنشرت محاضرتك عن البحتري في كتابك حديث النثر والشعر وأبقيت تلك الأغلاط. أستغفر الله. بل تفضلت فشكلت الكلمات المغلوطة لتقول: إنك لا تعبأ بأي نقد يوجه إليك. 3- ثم ماذا؟ ثم حدث في صيف عام 1929 أن أنكرت علي أن أتخذ شواهد لتطور النثر الفني من رسائل عبد الحميد بن يحيى وقلت: إن عبد الحميد بن يحيى شخصية خرافية كشخصية امرئ القيس وكان ذلك بمسمع من شابين واعيين هما محمد مندور وعلي حافظ وكانت حجتك أن عبد الحميد بن يحيى لم يرد اسمه في مؤلفات الجاحظ، فرجعت إليك بعد أيام وأخبرتك أن الجاحظ تكلم عن عبد الحميد بن يحيى مرات كثيرة. وأن مؤلفات الجاحظ تعرف رجلين أحدهما عبد الحميد الأكبر والثاني عبد الحميد الأصغر فلم تجب بحرف واحد. ثم ألقيت وأنا في باريس محاضرة قلت فيها: إن عبد الحميد بن يحيى أخذ أشياء من أدب اليونان وفاتك أن تنص على اسم الرجل الذي أقنعك بأنه لم يكن شخصية خرافية. وقد حملني العفريت الذي يحتل رأسي حين أخلو إلى قلمي على أن أسجل هذه القصة في أحد هوامش كتاب النثر الفني فكانت فرصة اغتنمها صديقك الأستاذ أحمد أمين ليقول في مقال كتبه في مجلة الرسالة: إن زكي مبارك يعوزه الذوق في بعض الأحيان. 4- أنت تعرف أني لم أنل ألقاب الجامعة المصرية بلا جهاد. وأنت نفسك أسقطتني في امتحان الليسانس مرتين واشتركت في امتحان الدكتوراه الذي أديته أول مرة مع أنك لم تكن عضوًا في لجنة الامتحان.

وكان لخصومتك الصورية تأثير في الدكتوراه التي ظفرت بها للمرة الثالثة فلم أصل إليها إلا بعد جهاد سبع سنين. 5- هل تذكر يا دكتور ما وقع في نوفمبر 1919: هل تذكر ما وقع يوم غاب سكرتيرك، وكنت وحدي الطالب الذي يفهم العبارة الفرنسية لكتاب الأثينيين لأرسطو؟ هل تذكر أنك أعلنت سرورك بأن يكون في طلبة الجامعة المصرية من يفهم أسرار اللغة الفرنسية؟ فمن يبلغك أن الشاب العربي أدخل السرور على قلبك في 1919 هو الكهل الذي تنكره سنة 1940؟ أنا أعرف ما تكره مني, أنت تكره الكبرياء وكيف أتواضع وقد أعانني الله على بناء نفسي؟ وكيف قد أقمت الدليل على أن الشباب المصري خليق بعظمة الاعتماد على النفس؟ وهل رأيت رجلا قبلي أتم دراسته في أوربا وهو مثقل بتكاليف الأهل والأبناء؟ هل رأيت رجلا قبلي يهتز بأوطار الشباب وهو مثخن بجراح الزمان بعد الأربعين؟ وهل رأيت رجلا قبلي يؤلف الكتب الجيدة في البواخر والقطارات والسيارات؟ ومن يصدق أني أنفق في سبيل الورق والمداد أضعاف ما ينفق بعض الناس في سبيل الطعام والشراب؟ أحمد الله إليك "من مبارك إلى طه" 1: في شهر يوليو 1928 تلقيت وأنا في باريس خطابا من الدكتور طه حسين جاءت فيه عبارة "أحمد الله إليك" فالتفت ذهني إلى هذه العبارة لأنها لم تكن من العبارات المألوفة في رسائله إلي.

_ 1 الرسالة 15 يوليه 1940.

وصح عندي بعد التأمل أن الدكتور قد يكون مشغولا بمراجعات متصلة بالسيرة النبوية؛ لأن عبارة "أحمد الله إليك" تكثر في الرسائل المأثورة عن عصر النبوة وعصر الخلفاء. وبعد أعوام أخرج الدكتور طه كتابه "على هامش السيرة" فكتبت في جريدة البلاغ فقلت: إن الدكتور طه يجيد أعظم الإجادة حين يتروى في التأليف وكتابه الجديد أثر من آثاره الجيدة في تروية فهو مشغول بموضوعه منذ 1928 وإن لم يقل ذلك فقد كتب إلي خطابا في يوليه من تلك السنة يقول: "أحمد الله إليك". وقال الدكتور طه: إنه اختراع من اختراعات زكي مبارك في الأسماء والأحاديث. وهذا نص الخطاب كما رواه زكي مبارك: "أحمد الله إليك على ما أنت فيه من رضا بالإقامة في باريس، وأتمنى لك المزيد من هذا الرضا كما أتمنى أن تنتفع بأيامك في فرنسا إلى أبعد حد ممكن وتقبل من السيدة ومني تحية خالصًا وشكرًا جميلا". وسرد زكي مبارك نص خطاب آخر وجده في أوراقه جاء فيه: "لست أدري كيف أشكر لك عنايتك بفلسفة ابن خلدون وأنا مقتنع فما بيني وبين نفسي بأنها لا تستحق هذه العناية، ومع ذلك فسأشتري المقطم منذ اليوم لأقرأ ما تكتب لأنك أنت الذي ستكتبه لا لأني أنا موضوعه. وكل ما أرجوه لك أن تصدر فيما تكتبه عن الحرية الصادقة القاسية، لا عن الإخاء والمودة اللذين يدفعان في كثير من الأحيان إلى شيء من الرفق الذي لا يخلو من إثم، وأنا أعيذ أصدقائي من أن يتورطوا من أجلي في إثم

الإسراف في البر كما أكره أن يتورطوا في إثم العقوق". وتاريخ هذا الخطاب أغسطس 1925. فإن قيل: وكيف أمكن بعد ذلك الوداد الوثيق أن تفسد العلائق بيني وبين الدكتور طه حسين؟ فإني أجيب بأن لله حكمة فيما وقع بيني وبين الصديق. لم يكن لي بد من خصومة أتخذ منها فرصة لتوجيه الجمهور إلى الحقائق الأدبية وكذلك خاصمت عددا من رجال الأدب كان أظهرهم الدكتور طه حسين. الأيام؛ لطه حسين 1: هذا الرجل موهوب بلا جدال ولكنه قليل الصبر على تكاليف المواهب فهو يطع في اللمحة الأولى ثم يجنح إلى الأقوال. ترجم لأبي العلاء فأفلح ثم ترجم للمتنبي فأخفق لأنه لم يصحب المتنبي بقدر ما صحب أبا العلاء. وأخرج الجزء الأول من الأيام فكان أعجوبة ثم فتر في الجزء الثاني. والجزء الأول من هامش السيرة سفر نفيس أما الجزء الثاني فهو أيضا "سفر نفيس". وكان أستاذا في الجامعة المصرية القديمة، أستاذًا عظيما, أستاذًا يملك القدرة على إسقاط زكي مبارك في امتحانات الليسانس مرتين. أما في الجامعة المصرية الجديدة فهو أستاذ هيوب يستر كسله الجميل بالتغاضي عن ضعف الطلاب.

_ 1 الرسالة 16 ديسمبر 1940.

وأمره في الصداقة أعجب من العجب، فهو يؤاخيك ويصافيك إلى أن تظن أنه قطعة من قلبك، ثم يتحول في مثل ومضة البرق إلى عدو مبين، وهو على الرغم من ضعفه في الاضطلاع بتكاليف المواهب، رجل جذاب لأنه معسول الحديث ولأنه قد يصدق في الحب وفي البغض إلا أنه تهديه حاسة النفع إلى أن يعادي من يعادي ويصادق من يصادق كالذي صنع في طوافه بأركان الأحزاب. ولشعوره بأن لسانه مصدر قوة يلح في الحديث وفي الإملاء إلحاحًا يترك سامعيه وقارئيه على أهبة الاقتناع بما يملي وبما يقول. وللدكتور طه أسلوبان: أسلوب حين يملي، وأسلوب حين ينظم. أما أسلوبه حين يملي فلا يخلو من ركاكة واضطراب لأنه رهين بما في الإملاء من سرعة وإبطاء. إن لنشر كتاب الأيام تاريخ هو تاريخ مجهول ولأنه يصور كيف رجع الدكتور طه إلى ألفاف ماضيه لينشر منه صفحات تسير مسير الأمثال من حيث لا يقصد ولا يريد. في مطلع الربيع من سنة 1927 ثار الأزهريون وتبعهم فريق من النواب على الدكتور طه حسين لآرائه في الشعر الجاهلي واشتدت الثورة ثم رحل إلى فرنسا مع الصيف ليتناسى كروبه الداجية في ربوعها النيح. وهناك خطر له أن يملي أشياء بعيدة كل البعد عن الشعر الجاهلي والأزهر والدين فكلفت تلك الأمالي وهي تاريخ طفولته بلا تزيين ولا تهويل. وفي صباح يوم من أيام الخريف في سنة 1926 عرفت من الدكتور طه أنه كتب مذكراته عن حداثته وأنه قدمها للأستاذ عبد الحميد العيادي

ليطمئن إلى أنها مما تجوز إذاعته بين الناس، وفي صباح يوم آخر حضر الأستاذ العبادي ومعه أصول المذكرات وهو يقترح أن تحذف الفقرة الخاصة بالضريرة نفيسة؛ فلم ير الدكتور طه أن تحذف، وفي ليلة شاتية جلسنا نتجاذب أطراف الحديث، فسألته عن موضوع تلك المذكرات، فوقف وقفة الخطيب المكروب وقص علي قصة يوم بدا له أن ينقل اللقمة إلى فيه بيديه الاثنين وكيف أضحك إخوته وبكت أمه وانزعج أبوه فعرفت أن المذكرات سيكون لها في تاريخ الأدب مكان. يزيد من طرافة هذه الاعترافات أن بعضها معيب فصدورها من رجل مثل طه حسين يشهد بأنه فنان يقيم فنه على قواعد من الصراحة والصدق. وأن طه حسين قد التزم الصدق التزاما في كتاب الأيام. لعلي أريد القول بأن طه حسين من أساتذة الأخلاق فهو يقصد إلى إفهام الشباب بأن العظيم لم ينشأ عظيما وإنما هو عظيم بفضل الصبر على متاعب الجهاد، لعلي أريد القول بأن طه حسين أراد محاكاة جان جاك روسو وأناطول فرانس. 19- "الحب الضائع" 1: هو كتاب يصور العواطف الطبيعية في الريف الفرنسي لعهد الحرب الماضية والكتاب ليس بجديد لا في الروح ولا في الأسلوب، فله أمثال تعد بالعشرات أو بالمئات ومع ذلك فلن يقول الفرنسيون حين يترجم إلى لغتهم هذه بضاعتنا ردت إلينا؛ لأن طه حسين حين يقتبس لا يفوته أن يضفي ثوب الابتكار على الاقتباس.

_ 1 الرسالة 8 يونيه 1942.

تلك الصفحة تقيس ما يقع فيه الدكتور طه من وقت إلى وقت فهو يقطع ما بينه وبين أصدقاء لا يجود بأمثالهم الزمان، وهو قد يصل أقواما لا يمتون إلى روحه بسبب قريب أو بعيد ولعله أكثر الناس ابتلاء بالمخادعين والمرائين لأنهم أحرص على مراعاة الظواهر من المصافين والموافين والكاذب يسبق الصادق إلى امتلاك القلوب الخواضع لخوادع الوداد. وهناك صفحة عجيبة تذكر بأدب أبي حيان التوحيدي في تشريح العواطف، وهي الصفحة الخاصة بالشوائب التي تفسر الوداد ومن تلك الصفحة تعرف كيف جاز أن يتعرض الدكتور طه حسين لتقلبات في المورات والصدقات يستفظعها من لا يعرف ما فطر عليه من توهج الإحساس. 20- طه حسين وإمارة الشعر: إن الدكتور طه حسين "مسيو" بالفعل فلغته ولغة زوجته وأبنائه هي اللغة الفرنسية، ولكنه برغم ذلك من أعاظم الرجال في اللغة والدين. ولو كان الأمر بيدي لقتلت الدكتور طه حسين، ولو كان الأمر بيده لقتلني فقد تحاربنا سنتين، وأردت أن أقتله فيها فما استطعت وأراد أن يقتلني فما استطاع، نحن يا سيدي الدكتور لم نخلق للموت وإنما للحياة والمجد، فمن واجبك أن تكف شرك عني لأكف شري عنك وأنا على الشر أقدر منك. أشعت أن إمارة الشعر بعد شوقي قد انتقلت إلى العراق: أخطأت يا سيدي الدكتور إن الشعر لمصر حتى آخر الزمان، أنت نفسك حاولت أن تكفر عن ذنبك فخلعت إمارة الشعر على الأستاذ العقاد وهو أديب فاضل بدليل أنك أهديت أحد كتبك إليه، ولكنه شاعر صغير بالقياس إلى العبقرية المصرية.

العقاد في الشعر كالزيات في النثر كلاهما يأخذ قوته من الانفعال وهذا لا يمنع من الاعتراف بأنهما أديا خدمات عظيمة للحياة الأدبية. 21- زكي مبارك؛ عدوي طه حسين: نشرت الهلال مبحثا من فصلين, صديقي طه حسين الدكتور أمير بقطر وكتب زكي مبارك: "عدوي طه حسين". إنه عدو عزيز! إي والله، فما أذكر أني عاديت إنسانا أحبه قبل الدكتور طه حسين، والعداوة والحب يجتمعان في القلب الواحد، وإن عجب من ذلك من لا يفقهون، وآية الصدق في هذه القضية أني لم أتورط في عداوة الدكتور طه حسين إلا منذ أشفقت عليه، فقد ابتدأ هذا الرجل حياته الأدبية بداية حسنة، ولكنه لم يستطع الصبر على مكاره الجد، ولم تقو نفسه على معالجة البحث العميق وعندئذ عرفت أن الرجل سيضيع نصيبه من الخلود، وعز علي ذلك فأردت أن يبقى اسمه في الدنيا بعد أن تبيد ملايين الأسماء ولا يبقى إلا من أشار إليهم صاحب "النثر الفني". وكان الدكتور طه في بداية هذه العداوة يظنها جمرة سريعة الخمود، ولكنها تضرمت، واستطارت أقباسها من المشرق والمغرب، ولم يبق إنسان يقرأ ويفهم إلا عرف أن في الدنيا رجلا اسمه طه حسين، وصار لا يدخل في محفل، ولا يتكلم في مجتمع، ولا نشر مقالا في جريدة، إلا قال الناس: هذا هو الرجل الذي رأينا اسمه في مؤلفات زكي مبارك. والدكتور طه رجل فيه شيء من الذكاء، وقد هداه ذكاؤه إلى هذه الحقيقة فاندفع يعاديني بلا ترفق ليتم له من نباهة الذكر ما يريد. ولكن هل يستحق الدكتور طه أن يشغل رجلا مثلي؟ هذا هو السؤال.

وأجيب بأنه يستحق ذلك الاستحقاق، فما ينكر أحد أن لهذا الرجل شخصية قوية، وأنه استطاع أن يكون غرضا ترميه الأقلام، وهذا دليل على ماله من وجود ملحوظ. ومن مظاهر القوة في هذا الرجل أنه تماسك في أزمات كثيرة، وأنه عرف كيف يقارع الأحداث والخطوب, حتى أصبح رجلا يحسب له حساب. ومن مظاهر القوة أيضا في هذا الرجل أنه حلو المودة، مر العداوة، يضر وينفع، وبعض الناس تغلب عليهم التفاهة فلا ينفعون ولا يضرون. ولا يمكن أن نعرف قيمة الدكتور طه إلا إن نظرنا في مهارته الأدبية، وبيان ذلك أن هذا الرجل قليل المحصول، ولعلي لم أر في حياتي رجلا قليل العلم مع الصيت البعيد، كما رأيت طه حسين، ومع قلة محصوله العلمي نراه يتكلم كلام المحققين، ويمضي فيبني ويهدم، ويبرم وينقض، كأنه عالم محقق أخذ بنواحي المعارف الإنسانية في القديم والحديث، وهذا لا يقع إلا من رجل وصل في المهارة إلى أبعد حدود. يضاف إلى ذلك كله لسان يحكي ملاسة المرمر، وليونة الماء، فإذا سمعت طه حسين وهو يحاضر شعرت بأنك أمام إنسان يملك ناصية الحديث، وليس ذلك بالقليل. ولكن للشخصية العلمية شيء غير ذلك، فالدكتور طه الذي يضر وينفع ويبرم وينقض، ويحدث فيحسن الحديث، هذا الرجل قد انهزم في الميادين العلمية، ولم يظفر من المجد الأدبي بأيسر نصيب, وأعيذكم أن تفتنوا بأنه ألف أقصوصة اسمها "الأيام" نشرها الهلال ثم ترجمت إلى الإنجليزية والروسية، فإن تأليف الأقاصيص ليس من الفنون العالمية، وإنما هو فن

يمثل سذاجة الإنسان الأول يوم كان يملأ الدنيا أساطير وأحاديث. وهل رأيتم في الدنيا كلها رجلا يرأس كلية آداب ثم يقف مجده عند الأقاصيص؟ انظروا ما وقع للدكتور طه يوم قرر المشاركة في تأليف كتاب فجر الإسلام، فقد كانت النية أن يؤلف في الناحية الأدبية، أتعرفون ما وقع؟ كانت النتيجة أن نشر أحمد أمين أربعة مجلدات وطه حسين ساكت يترقب. وكيف تفسرون ذلك السكوت؟ إنه تفسير سهل؛ وهو يتلخص في أن طه حسين لا يحسن الكتابة العلمية، وإنما يحسن تلخيص الأقاصيص. وهناك جانب آخر من ضعف هذا الرجل، وهو حرمانه من حاسة العدل، فما أعرف أن هذا الرجل استطاع أن يقهر أهواءه وهو يعامل الناس، وقد اتفق أن يصطنع النقد الأدبي حينا من الزمان، فكانت أحكامه كلها وليدة الهوى والغرض، ولم يستطع أن يكشف للناس عن موهبة مستورة أو نبوغ مكنون. ولو سئل طه حسين عما صنع في النقد الأدبي لعجز عن الجواب، وهل من النزاهة أن يقصر محاضراته في الراديو على ما أخرجته لجنة النشر والتأليف؟ إن طه حسين تسامى إلى منزلة أدبية عالية يوم سعى إلى الظفر بعمادة كلية الآداب، ولكن هل استطاع أن يخلق لتلك الكلية نصيرًا واحدًا؟ هل استطاع أن يخرج من عمره كله بكتاب جيد يضيفه إلى منازل الباحثين من عمداء الكليات؟ وليته اكتفى بهذه المزايا العظيمة من الضعف! بل رأيناه يتكلم عن البحتري فيقع في أغلاط، فلما نبهناه أصر واستكبر ونشر المحاضرة في كتاب، وشكل الأغلاط ليدلنا على أنه لا يهتم بالنقد، ولا يحسب للحق أي حساب.

وقد ظن من لا يفهمون أننا نعني شخصه حين نجادله، وهيهات أن يكون الأمر كذلك، إنما يهمنا أن نحاسب من يشغل أكبر المناصب الأدبية حين يسيطر على كلية الآداب، ولا يرضينا من عادة مثل هذا الرجل إلا أن يكون باحثًا نرى في وجهه وجه برونو ودي لا كروا من الذين تولوا كلية الآداب جامعة باريس. نحن قوم غلبتنا الأقدار في الميادين السياسية، فمن العيب أن نرضى بمثل ذلك الحظ في الميادين العلمية، وإذا قيل: إن الإنجليز غلبونا في السياسة فلا يصح أن يقال: إن العجز غلبنا في العلوم والآداب.

الفصل الثاني عشر: بين شباب الأدب وشيوخه

الفصل الثاني عشر: بين شباب الأدب وشيوخه ... الفصل الثاني عشر: المعارك الأدبية؛ بين شباب الأدب وشيوخه جرت معارك متعددة بين شباب الأدب وشيوخه، وتنوعت، وتنوعت، ولكنها لم تصل إلى مجال المعارك الكبرى إلا في معركة واحدة: هي معركة أنصار العقاد وأنصار الرافعي وكانت مناوشات كتاب الشباب تمثل الهجوم على "نفوذ" كبار الكتاب على اتجاهاتهم الغربية. وقد اشترك فيها عدد كبير منهم محمد علي غريب وعبد الله عفيفي ومحمد أمين حسونة ورئيف خروي ومحمود شاكر ودريني خشبه. 1- محمد علي غريب1؛ أبناء المدرسة الحديثة يهدمون القديم والجديد: وللأدب عند أخواننا مقياس غير محدود فهم يطلبون التجديد من الأدب ولكنهم لا يكلفون أنفسهم عناء في الخلق والابتكار ويكادون يجمعون على أنه ليس في مصر أدب ترتضيه عقولهم أو تستسيغه نفوسهم، ولهذا تراهم يشيدون بأدباء الغرب من شكسبير فنازلا أو فصاعدًا ولكنهم لا يعيشون طويلا على تمجيد أولئك الأدباء ومن ثم تسمع واحدا منهم يلقي بيديه على حافتي المقعد ويميل برأسه إلى الوراء متحدثا في وقار وحلم قائلا: أنا لا يعجبي من نيتشه تطرفه بالنسبة للمرأة. 2- محمد خصار المغرب 1: ومنذ سنوات كانت جماعة المجددين المصريين تبرق وترعد بمحاسن المدينة الغربية وأفضليتها وسوء الحضارة الشرقية ولما أراد الله رفع الستار عن مساوئ الأولى وظهر إفلاسها بعد الحرب فبرز كتاب أوروبيون عظام للتنديد بها

_ 1 البلاغ 15 سبتمبر 1931.

وتفضيل الحضارة الشرقية في عدة نواح خصوصا الروحية منها أخذت هذه الجماعة نفسها تمجدها تقليدًا لهؤلاء لا عن عقيدة. 3- عبد الله عفيفي 1؛ بائع أحذية مؤلف في الأدب: يا أساتذة الجامعة المصرية، يا أساتذة الجامعة الأزهرية، يا أساتذة دار العلوم العليا، يا أعلام الأدب وأقطاب البيان. اطووا أوراقكم وحطموا أقلامكم واسرحوا إن شئتم بالبقل والخضر أو اعملوا إن شئتم في الحجر والمدر فقد تولى مئونة التأليف عنكم بائع أحذية في محل سمعان، أتحسبوني أهزل، وهل أبقت الحياة مكانا للهزل. إي والله لقد فرغ صاحبكم أو نقيبكم بائع الأحذية في محل سمعان ساعة أو بعض ساعة وقت قيلولة العمال في الظهر فأخرج كتابا في فلسفة الأدب ونقد الأدب لا في الأدب وحده ولا في الشعر وحده. وأشهد لقد رأيت هذا البائع الأحذية في محل سمعان فيلسوفا في فقهه لبقا في مهنته فهو يريك أن الجزمة المصنوعة في شارع بين الصورين ثم واردات الإلزاس واللورين. وحسب صاحبنا البائع الباتع أن هذا كله من الأدب أو فلسفة الأدب فظهر على الناس مؤلفًا في الأدب وفلسفة الأدب. ويا أشراط السادة هل بقي فيك شرط واحد ما يظهر للناس بعد أن أخرج بائع الأحذية في سمعان كتابا في فلسفة الأدب ونقد الأدباء بعشرة قروش صاغ.

_ 1 البلاغ 8 مايو 1938.

هل تحب أن تسمع شيئا من أدب هذا البائع الأحذية, قال في وصف شاعر شاب؛ لقد سلم الناس من شعره ولم يسلموا من علله المعدية وأمراضه المتنقلة، ويقول فيه: لقد نفخه ... الأثيم المغرور؛ هذا أسلوب بائع الأحذية في كتابه في فلسفة الأدب ونقد الأدباء، لقد احتملنا رغم أنوفنا فساد الجو الأدبي حتى سأمه من لا يحسن كتابة اسمه فهل نرضى أن يسوء أدب الباعة والعمال وهم يقدمون السلع المرغوبة للآنسات والسيدات وذوي الكرامات، اللهم عونك ورحمتك1. 4- محمد أمين حسونة 2؛ مدارس الفكر في الأدب المصري: نادى أنصار الجديد بقطع الصلة بالماضي واستندوا إلى محاكاة الغرب دون أن يحاولوا الابتكار لأن الأفكار الأوروبية لم تكن قد تأصلت في نفوسهم ومن ناحية أخرى لم يكن في وسعهم أن يهزوا الوسط الذي عاد إليه ولا البيئة التي يعيشون فيها، لأن هذه البيئة كانت لا تزال فطرية، للماضي سلطان قوي عليها وهو حي في أعماق عقولهم. وأول من سعت لحل قيود العقل والتخلص من الأسار الضيقة نتيجة التأثر بمظاهر الحركات السياسية التي لمسوها في الغرب وقوي فيهم هذا الميل اطلاعهم على الآداب الفرنسية. وهناك فريق أدرك بعد التبصر وإنعام النظر أن الثبات على القديم سيؤدي إلى الفناء فقالوا إذا كان للقديم حق وللتراث قيمة بارزة فلا يجوز نبذه والقضاء عليه ويمكن إعادة تنظيمه وفق الأصول والدراسات الخصبة.

_ 1 المؤلف: المقصود هو الناقد القصاص: "حبيب الزحلاوي". 2 المكشوف 1939.

5- رئيف خوري 1؛ من عهد الجرأة إلى عهد التراجع: الذي يبدو لي أن حياة الدكتور طه حسين الأدبية حتى الآن تقع في قسمين بينين: فالقسم الأول هو ما يجوز أن تدعوه دور الجرأة على الأساليب والآراء القديمة, وهي جرأة نلمس فيها حب الدهش والمفاجأة والظهور أكثر من الحرص المتزن على إبراز الحقيقة. في هذا الدور ألف كتاب في الشعر الجاهلي، والحق أن الكتاب في حد ذاته يسير الابتكار، فالمستشرقون قبل الدكتور طه حسين كتبوا ما كتب بصورة أقوى علمًا, ثم إن كون الشعر الجاهلي منحولا أو غير منحول قضية قليلا ما هي خطيرة، ولكن طارئًا طرأ فخرج الدكتور طه حسين من هذا الدور الأول من حياته إلى دوره الثاني اليوم، هناك كثيرون من الكتاب في مطلع حياتهم الأدبية خلعوا على أنفسهم جبة الجرأة, لماذا؟ لأن الجرأة في الكتاب كما هي في غيرهم فضيلة، أقول: إن كثيرا من الكتاب يخلعون على أنفسهم جبة الجرأة من أجل هذا المورد, مورد الشهرة فإذا ظفر أولئك الكتاب بما يطمعون فيه عمدوا إلى طرح جبة الجرأة عنهم وهم يعتقدون أن سوقهم نافقة. أجل إن كثيرين من الكتاب يصيرون في دور من أدوارهم إلى استغباء القراء أو استحمارهم إذا صح الاشتقاق. المفروغ منه أن الدكتور طه حسين لبس جبة الجرأة في دوره الأول.

_ 1 المكشوف 6 شباط 1939.

وهو الآن لا يقبل مهما كان الأمر أن يقال عنه أنه خلعها. لذلك يبدو في الدكتور تهالك على أن يظهر أبدًا بمظهر الشهيد المضحى به. كان الدكتور طه في دوره الأول مشهورا بشقة الخلاف الواسعة بينه وبين الأزهر على أن الدكتور طه في دوره الثاني قد رغب في التسوية، ولست أعترف أكان حقا هو القائل هذه الكلمة التي شاعت مؤخرًا، إن الدكتور طه يعتبر أنحس أيامه ذلك اليوم الذي رمى فيه بعمته إلى البحر. أما أثر هذا التحول في أدبه نجده واضح ملموس، فإن الدكتور أخذ بعده بأسباب نوع من إنشاء دعاة الإنشاء الخالص في مقدمة كتابه "على هامش السيرة" وهو نوع من الإنشاء لا يقوم في أساسه على فكرة تؤدي بل على جمال رصف ووصف. والدكتور زكي مبارك قد سجل على الباحثين في مصر "الحديث، كانون الثاني 1929" إنهم اليوم انصرفوا عن المسائل التي تصدمهم برجال الدين. والمؤسف1 أن الدكتور طه حسين قد أوشك أن يتوصل إلى تلك الدرجة التي يستغبي فيها الكتاب قراءهم أو يستحمرونهم وعندي على ذلك دلائل هامة وشواهد معينة. 1- كان في إنشاء الدكتور طه صفة الإطناب والتكرير، وكنا نقول إن الآفة التي حرمته البصر لا تمكنه من مراجعة ما يكتب، على أنني يسوءني الآن أن أقرر أن صفة الإطناب والتكرير في إنشاء الدكتور قد أصبحت شيئا يتوخاه توخيا وهو مطمئن إلى أن القراء لن يفطنوا إليه. إن خوف الدكتور من أن تعني عروبة مصر هدم أبي الهول والأهرام

_ 1 المكشوف 13 شباط 1929 العدد 175.

والتغاضي عن جميع الآثار التي تزين متاحفها ومتاحف العالم، خوف يدعو إلى القهقهة وإنا ندعو الدكتور إلى الاطمئنان، فالعروبة كما يعلم قد دخلت في ماضيها مصر ولم تهدم أبا الهول ولا الأهرام. وكم كنت أحب أن يكون الدكتور قد استغنى عن هذا التصريح الذي أذعته بخصوص حديثه مع الدكتور نجيب صدقة وأظهر عليهم غضبا لأنهم لم يستأذنوا في نشر ما نشروا فقد أتشمم من وراء ذلك أن الدكتور يقول في سره ما لا يقول في علانيته، وأنا لا أقبل أن أعتقد بأن فيه شيء من الدجل بعد أن ثبتت لي عادته الكريهة في استغباء القراء. ولنا كلمة إلى الدكتور هي أن يقوي ثقته بالشعب المصري فثقته به ضعيفة إلى حد بعيد، فالمصري عنده يمتاز بتسرعه وإهماله وخفة دمه لا يستطيع إجهاد نفسه في قراءة بحث مفيد والمصري عنده يأنف وتقاعس عن القيام بالأعمال البسيطة التي تسهل للمرء سبيل الحياة "المكشوف 175" وكل هذا كلام ينصف الشعب المصري من ناحية وفيه ما هو غير صحيح من ناحية أحرى وفيه أيضًا ما يرتد ارتدادًا على طه حسين ولا شك أن الشعب المصري شعب كبير فيه كوامن نهضة جبارة إذا حطمت عنه كوابيسه يا دكتور. 6- محمود شاكر: تقارض المقالات 1: قرأت أخيرًا مقالتين إحداهما للدكتور طه والأخرى للأستاذ أحمد أمين وهما بهذا العنوان "رحلة" وقد تعود الأستاذان أن يتقارضا المقالات منذ أسابيع طويلة, وأكثرا من ذلك إكثارًا لا يمكن أن نغضي عنه، وكنت أحب ألا أعرض له لعله ينتهي إلى نهايته، فإذا هو شيء لا ينقطع

_ 1 الرسالة 29 فبراير سنة 1940.

فمن يوم أن كتب الأستاذ أحمد أمين ما كتب وسماه "مدرسة الزوجات" وقارضه الدكتور طه بمدرسة الأزواج، ثم مدرسة المروءة ثم "مدرسة ... " إلى آخر هذه الأشياء، وافتتنا بهذه الطاحون التي تدور على دقيق مطحون قد فرغ منه من ذلك اليوم وأنا لا أرى فيما يكتبان إلا استسلامًا للقلم وبداوته وبوادره، واجتلبنا في ذلك من الرأي ما لا يستقر ولا يتماسك. وفي هاتين الرحلتين رأيت العجب! فالدكتور طه مثلا قد أطال في تحقير مصر والزراية عليها وعلى أرضها بما احتمله عليه الغضب الذي رغب في إنشاء مدرسة له ليسميها "مدرسة الغضب" رحل الدكتور طه بالسيارة في الطريق الزراعية فغاظه التراب الذي يثور حوله فيطلق لسانه بهذه الأسئلة "لماذا تدفع الضرائب" فليخبرنا الدكتور طه عن السبيل الذي تتقي به الزراية على أرض مصر. ماذا تصنع الدولة عن طريق جانبية من تلك الأراضي الخصبة الواسعة التي تسعى لتطعم أهل مصر من خيراتها؟ والأستاذ أحمد أمين هو الذي حمل على الأدب العربي وحقر الشعر الجاهلي ودفع بحجته في وجوب نبذ هذا الأدب وذلك الشعر الجاهلي لأنه كان جناية على أدبنا وأنا كنت هممت أن أؤدي واجبي للأدب العربي بإظهار فساد هذه الآراء التي لم تنضج ثمراتها. 7- درني خشبة 1: وأظرف ما في معسكر الشيوخ من فتنة مكبوتة تلك النذر الضاحكة التي يلوكها الدكتور زكي مبارك فزكي مبارك جريء عن المازني جرأة لا حد لها والمازني لائذ بأذيال الصمت, والمازني بهذا الصمت يمكر بزكي مبارك الذي لا ينال منه إلا صمت مناوشيه، ونادى زكي بأعلى صوته فقال: أنا أكتب منك يا عقاد، وأنا أشعر منك يا عقاد، ومؤلفاتي لا تسمو إليها

_ 1 الرسالة 9 مايو 1938.

مؤلفاتك ثم لم يلبث أن ختم صيحته بكلمات هن إلى الملاينة والاسترضاء أقرب منهن إلى ما هو دون الملاينة والاسترضاء ثم عاد في كلمة أخرى فسأل بعض القراء ألا يوقعوا بينه وبين العقاد ليقعدوا هم ويتفرجوا ولست أدري العلة في جرأة زكي مبارك على المازني وإشفاقه من العقاد على هذا النحو المكشوف أفصح يا دكتور ولا تحسبن أن أحدا قد صدقك حينما رفعت عقيرتك بأنك أشعر شعراء هذا الزمان ولا أكتب أهله بل أنت أجرأ كاتب في الشرق العربي فما علة إشفاقك من العقاد. انتهى المجلد الأول؛ المعارك الأدبية, ويليه المجلد الثاني: المساجلات والمعارك الأدبية, ويضم خمسون معركة أخرى.

محتويات الكتاب

محتويات الكتاب: الصفحة الموضوع 5 مدخل. 15 الفصل الأول: معارك الوحدة والتجزئة. 16 1- معركة الوحدة العربية "طه حسين وعزام والخطيب". 28 2- مصر بين العربية والفرعونية "الزيات وعثمان". 59 3- معركة العروبة والمصرية "ساطع الحصري وطه حسين". 71 الفصل الثاني: معارك اللغة العربية. 72 1- تمصير اللغة العربية "مصطفى الرافعي ولطفي السيد". 82 2- مجمع اللغة: ما هي مهمته؟ 90 3- معركة الكتابة بالحروف اللاتينية. 103 الفصل الثالث: معارك مفاهيم الثقافة. 104 1- ثقافة الشرق وثقافة الغرب. 104 معركة بين فيلكس فارس وإسماعيل أدهم.

الصفحة الموضوع 127 لاتينيون وسكسونيون: بين العقاد وطه حسين. 137 النزعة اليونانية: بين زكي مبارك وطه حسين. 148 كتابة السيرة: بين التاريخ والأسطورة، بين هيكل وطه حسين. 155 كتابة التاريخ: بين رفيق العظم وطه حسين. 163 معركة الترجمة: بين منصور فهمي وطه حسين. 169 أدب الساندويش: بين أمين الزيات والمازني والعقاد. 174 أدبنا هل يمثلنا؟ بين أحمد أمين وأمين الخولي. 178 غاية الأدب, ما هي؟ بين زكي مبارك وسلامة موسى. 181 متى يزدهر الأدب؟ بين لطفي جمعة وزكي مبارك. 185 الأدب المكشوف: بين توفيق دياب وسلامة موسى. 194 التراث الشرقي: يكفي أو لا يكفي، بين عبد الرحمن الرافعي وعباس محمود العقاد. 198 ثقافة دار العلوم: بين أحمد أمين ومهدي علام. الباب الرابع: معارك الأسلوب والمضمون. 205 الفصل الأول: الأسلوب والمضمون؛ بين الرافعي وسلامة موسى وطه حسين.

الصفحة الموضوع 213 أسلوب الكتابة: معركة بين شكيب أرسلان وخليل السكاكيني. 223 أساليب الكتابة: بين شكيب أرسلان ومحمد كرد علي. الباب الخامس: معارك النقد. 321 الفصل الأول: أسلوب طه حسين؛ معركة بين المازني وطه حسين. 241 الفصل الثاني: مقومات الأدب العربي؛ معركة بين زكي مبارك وأحمد أمين. 266 الفصل الثالث: مذهبان في الأدب؛ معركة بين أنصار الرافعي وأنصار العقاد. 296 الفصل الرابع: بين النقد الذاتي والموضوعي؛ بين أحمد أمين وطه حسين. 299 الفصل الخامس: الأدب بين التجديد والانحراف؛ بين زكي مبارك وزكي أبو شادي. 207 الفصل السادس: هل نقتبس أم نقلد؟ بين منصور فهمي وطه حسين.

الصفحة الموضوع 310 الفصل السابع: معركة فقدان الثقة؛ بين الدكتور محمد حسين هيكل وطه حسين. 319 الفصل الثامن: الفن للفن والفن للجميع بين أحمد أمين وتوفيق الحكيم وعبد الوهاب عزام. الباب السادس: معارك النقد حول الكتب. 329 الفصل الأول: رسالة منصور فهمي للدكتوراه. 334 الفصل الثاني: الخلافة وأصول الحكم؛ معركة حول كتاب علي عبد الرازق. 346 الفصل الثالث: معركة الشعر الجاهلي. 379 الفصل الرابع: كتاب النثر الفني؛ بين زكي مبارك وفريد وجدي ولطفي جمعة. 388 الفصل الخامس: كتاب أوراق الورد؛ بين مصطفى صادق الرافعي ولطفي جمعة وإبراهيم المصري. 394 الفصل السادس: كتاب ثورة الأدب؛ بين فريد وجدي والدكتور هيكل. 404 الفصل السابع: كتاب مع المتنبي؛ بين محمود شاكر وطه حسين.

الصفحة الموضوع 409 الفصل الثامن: معركة مستقبل الثقافة؛ بين طه حسين وساطع الحصري وزكي مبارك ومحمد حسين. الباب السابع: المعارك بين المجددين والمحافظين. 427 الفصل الأول: معارك الرافعي مع العقاد وطه حسين وزكي مبارك وعبد الله عفيفي. 445 الفصل الثاني: معركة فضل العرب على الحضارة؛ بين طه حسين وأحمد زكي باشا وشكيب أرسلان. 451 الفصل الثالث: الدين والمدنية؛ بين محمود عزمي وعلماء الأزهر. 455 الفصل الرابع: التغريب؛ بين حسين فوزي وسعيد العريان. 457 الفصل الخامس: حقوق المرأة؛ مساجلة بين رشيد رضا ومحمود عزمي. 463 الفصل السادس: معركة حول التراث القديم؛ بين زكي مبارك والسباعي بيومي. 475 الفصل السابع: معركة الخلاف بين الدين والعلم.

الصفحة الموضوع 490 الفصل الثامن: جمال الدين الأفغاني ورينان؛ معركة بين رشيد رضا ومصطفى عبد الرازق. 502 الفصل التاسع: خم النوم؛ معركة ساخرة بين أحمد زكي باشا وزكي مبارك. 511 الفصل العاشر: بين النقد والتقريظ؛ بين زكي مبارك وعبد الله عفيفي. الباب الثامن: معارك بين المحافظين حول اللغة. 518 بين أحمد زكي باشا ومحمد مسعود. الباب التاسع: معارك نقد الشعر. 537 الفصل الأول: بين شوقي ونقاده. 547 الفصل الثاني: بين عبد الرحمن شكري والمازني. 565 الفصل الثالث: إمارة الشعر بين الزهاوي والعقاد ومطران. 570 الفصل الرابع: ديوان وحي الأربعين بين مصطفى صادق الرافعي وعباس محمود العقاد.

الصفحة الموضوع 585 الباب العاشر: معارك النقد في المجددين. 587 الفصل الأول: بين التغريب والتجديد؛ مساجلة بين توفيق الحكيم وطه حسين. 595 الفصل الثاني: معركة الكرامة؛ بين توفيق الحكيم وطه حسين. 607 الفصل الثالث: معركة الصفاء بين الأدباء؛ بين توفيق الحكيم وزكي مبارك والعقاد والزيات. 624 الفصل الرابع: معارك النقد؛ بين العقاد وطه حسين. 634 الفصل الخامس: بين زكي مبارك وخصومه. 642 الفصل السادس: مبارك ينقد كتابه. 646 الفصل السابع: بين العقاد وخصومه. 649 الفصل الثامن: بين سلامة موسى وخصومه.

الصفحة الموضوع 656 الفصل التاسع: بين المازني وخصومه. 660 الفصل العاشر: معارك أدبية؛ بين الدكتور حسين هيكل وطه حسين. 670 الفصل الحادي عشر: أضخم معركة في تاريخ الأدب العربي المعاصر. 713 الفصل الثاني عشر: المعارك الأدبية بين شباب الأدب وشيوخه.

§1/1