الخطابة عند العرب

محمد الخضر حسين

الخطابة عند العرب تأليف العلامة محمد الخضر حسين (المتوفى سنة 1377 هـ) تحقيق ياسر بن حامد المطيري مكتبة دار المنهاج بالرياض الطبعة الأولى 1433 هـ

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه وسلم أيها السَّادة: أملنا وثيق في أن تنهض هذه الجمعية وتضرب بجناحيها في إقبالٍ ونجاح، وما علينا إلا أن نبتغي بها الأسباب التي تصعد بالجماعات إلى أن تكون عزيزة الجانب ثابتة الأقدام. ومن خير هذه الأسباب وأقربها إلى الغاية المنشودة صَرْفُنا العنايةَ في إتقان صناعة البيان، ومن أجل هذا اخترتُ أن ألقي كلمةً في الخطابة عند العرب، فقد كانت مظهرًا من مظاهر الإبداع، وعاملاً من عوامل الإصلاح. ولا بأس في أن أفتتح هذه الكلمة بالحديث عن حقيقة الخطابة في لسان الفلسفة وإن كانت وجهتُنا أدبيَّةً، فإنَّ للوجهة الأدبية في هذا الموضوع صلةً بالوجهة الفلسفية.

ما هي الخطابة؟

ما هي الخطابة؟ يذكر المناطقةُ الخطابة فيقولون: هذا القياسُ من قبيل الخطابة وليس ببرهان. والخطابة على هذا القَصْد ضَرْبٌ من ضروب القياس، وهي: القياس المؤلَّف من أقوالٍ مَظنُونَةٍ أو مقبولة. والأقوالُ المظنونةُ: ما يُؤخَذ فيها بالمحتمِل الرَّاجح. والأقوال المقبولة: ما تُتَلَقَّى ممن يُعْتَقَدُ صِدْقُه وسَدَادُ رأيِه. ومثال الخطابة المؤلَّفة من أقوال مظنونة: أن تشير إلى أُمَّةٍ غربية أو شرقية وتقول: (هذه الأُمَّةُ تُسَاسُ بإرادتها؛ لأنَّ لها مجلسًا نِيَابِيًّا ينظرُ في شؤونها). وهذا الاستدلالُ يرجع إلى الخطابة القائمةِ على أقوالٍ مظنونةٍ؛ إذ الشَّأْنُ في الأمم ذاتِ المجالس النيابيَّة أن تكون مَسُوسَةً بإرادتها. ولا يبلُغ هذا الاستدلال أن يكون قاطعًا؛ إذ من الجائز -ولو على بعد- أن تَجُول عند انتخاب الأعضاء ريحٌ ضَاغِطَةٌ فلا يجري الانتخابُ على وجهِه الصحيح. ومثال الخطابة المؤلَّفة من أقوالٍ مقبولة: أن تقول لمن يتخبَّطُه الغضب حين يُنقَدُ قولُه: (لا تستنكِف مِنْ أن يُرَدَّ عليك رأيُك، فقد قال الخليفة المأمون: "إنَّ العِلْمَ على المناقشة، أثبتُ منه على المتابعة"). أو تقول لمن يُبْلَى بسلطة جاهل: (لا تُطِعْ مَنْ يأمرُك بغير هدى، فقد قال

يقابل الخطابة أربعة فنون

أبوبكر الصديق - رضي الله عنه -: "فإذا عصيتُ الله ورسولَه فلا طاعة لي عليكم"). ومقابل الخطابة أربعة فنون: أحدها: البرهان: وهو القياس المؤلَّف من أقوال يقينية، كأن تقول: (تونس مملكةٌ غير مستقلَّة؛ لأنه يقيم في ثَكَناتِها ويقبِض على زمام أمرِها رجالٌ فرنسيون). وإنما كان هذا القياس برهانًا؛ لأنَّ العقل لا يستطيع أن يتصوَّرَ لأمةٍ استقلالاً إلا أن يكون لرجالها الرأيُ النافذ والكلمةُ العليا. ثانيها: الجدل: وهو القياس المؤلَّف من أقوال مشهورة مُسَلَّمَةٍ بين الناس، أو أقوالٍ يُسَلِّمُهَا المخاطَب ولو لم تكن في نفسها صادقة. ومثال ما كان مؤلَّفًا من أقوالٍ مشهورةٍ مسلَّمة بين الناس، أن تشير إلى قوانين أو محاكم ترفع الأقوياءَ على المستضعفين درجةً أو درجات، وتقول: (هذه القوانين قبيحةُ الوَضْع، أو هذه المحاكمُ قبيحةُ الهيئة؛ لأنها لا تقوم على أساس المساواة بين الناس). وهذا الاستدلال يرجع إلى أقوالٍ عَرَفها الناس وتعاقدوا على صِحَّتها، وهي أنَّ عدم المساواة بين الناس ظلمٌ، وأن قُبْحَ الظلم شديد. ومثال القياس المؤلَّف من أقوالٍ يسلِّمُها المخاطَب ولم تكن في نفسها صادقةً، أن تُحاور من لا يعرفُ الحقَّ والباطل أو الضَّارَّ والنافع، وإنما يريد الجديد والقديم، فتقول له: (الخمرُ غيرُ لائقةٍ؛ لأنَّ أحدثَ قانونٍ وُضِع لها في البلاد الغَرْبيَّة يمنع من تناولها). وهذا القياس يعتمدُ على قولٍ يسلِّمه مخاطَبك الذي يدور مع الجديد أينما دار، وهو أنَّ كلَّ شيءٍ يوضَع له قانونٌ جديدٌ يَمنع من تناوله، فهو غيرُ لائق. ولو قلت:

(الخَمْرُ غيرُ لائقةٍ لأنَّ علماء الاجتماع بأمريكا قَرَّروا أنها قَذًى في عَيْنِ المدَنِيَّة، وعَثْرَةٌ في سبيل العُمْران)، كان قياسُك هذا من قبيل الخطابة. ثالثها: الشِّعْرُ: وهو القياس المؤلَّف من أقوالٍ خيَالِيَّةٍ. ومثال هذا أن يُزَيِّن لك الرجلُ الخُمُول والقعود عن الناس في ناحيةٍ فيقول: (الخُمُول أهنأُ حياةً، وأقربُ إلى السلامة من الظهور، فإنَّ عواصف الرياح تحطِم الأشجارَ الشَّامخة برؤوسِها، ولا تَمَسُّ الشجرَ القريب من الأرض بسوء). وإنما كان هذا القياسُ شِعْرًا؛ لأنَّه لم يزد على أن خَيَّلَ لك الظاهرَ بالعملِ مع الجماعةِ في صورةِ ما تصرَعُه الرياح العاصفةُ، حتى تأخذَك رَوْعَةٌ، وتَسُلَّ يدَك من يدهم نُفُورًا وفَزَعًا. ويمكنُك أن تعارِض هذا الخيالَ بخيالٍ مثلِه فتقول: (الظهور خيرٌ من الخمول؛ فإنَّ الثعالبَ تدوس النباتَ القريبَ من الأرض بأرجلِها، ولا تَصِلُ إلى الأشجار الشَّامخة إلا أن تَرمُقَها بأعينِها). وقد يجتمع في القياس الواحد الشِّعْرُ والخَطَابة، ومثال هذا أن تقول: (عَلِّمُوا البنات تحت ظِلال الصِّيَانةِ والحيَاء، فإنهنَّ من البنين بمنزلة أعجاز القصيدة من صدورِها، ولا يحسُن في القصيدةِ الواحدةِ أن تكونَ صدورُها مُحْكَمةً، وأعجازُها ضعيفةً متخاذِلةً). وهذا القياس من جهة ما فيه من تَخْييلٍ شِعْرٌ، ومن جهة ما يَضعُه في النَّفس من إقناعٍ خَطَابَةٌ. وهذا النوعُ من الاستدلال هو ما يسميه الباحثون في فلسفة الأدب بـ (التَّمثِيل الخَطَابي). رابعها: السَّفْسَطَة: وهو القياس المؤلَّف من أقوالٍ لم تستوفِ شرائطَ الإنتاج. ومثاله: أن يقول مَنْ في قلبه مَرَضٌ: (إنَّ نَبْذَ آداب الدين تَطوُّرٌ من تطورات العصر، وتطوُّرات العصر لا تأتي مُقَاومَتُها بشيء). وإنما كان هذا القياس من نوع السَّفْسَطَة؛ لأنَّ التطورات التي لا تُقَاوَم

إنما هي التطورات الناشئةُ عن سُنَنٍ كونيَّةٍ ثابتةٍ، أو التطورات التي يأتيها الناس برجَاحَة عَقْلٍ وسَلامةِ ذَوْقٍ، أما التطورات الناشئةُ عن أهواءٍ أو جَهَالةٍ، فهي التي تجيءُ الشرائعُ وتُؤَلَّفُ الكتب وتُلقَى الخُطَبُ لمحاربتها وتطهيرِ الأرض من أرجاسِها، وإن لبسها الرؤساءُ ومن في الأرض جميعًا. ولعلَّ بعضَ السَّادة الحاضرين يلاحظون أنَّا سُقْنَا أمثلةَ الخَطَابة وما يقابلها من فنون القياس على غير الطريقة المعروفة في دَرْسِ القوانين المنطقية، فلم نقل مثلاً: (تونس مملكةٌ شَرقيَّةٌ يقبِض على زِمَامِهَا رجالٌ فرنسيون، فهي غيرُ مستقلَّةٍ)، النتيجة: تونس غير مستقلة. وعُذْرُنَا فيما سلكنا أنَّ هذه المقاييس لا تَرِدُ في المخاطَبات التي تُرَاعَى فيها قوانينُ البلاغة إلا محذوفةَ إحدى المقدمتين أو النتيجة، أي محذوفةَ ما تدلُّ عليه قُوَّةُ الكلام تَفَصِّيًا من وَصْمَتي التَّكرار والإطالة لغير جَدْوى. ويُرَاد من الخطابة: القوة الصَّانعة للأقوال المقنعة. وعلى هذه البابة رسمها أرسطو فقال: "هي قوةٌ تتكلَّفُ الإقناع الممكِنَ في كلِّ واحدٍ من الأشياء المفرَدة". ومعنى هذا أنَّ الخطابةَ: قوةٌ يُطِيقُ صاحبُها إقناعَ المخاطَبين في كلِّ شيءٍ يَدَّعي أنه غرضٌ صحيح، والإقناع: تقويةُ الظَّنِّ، وهو ما تعتمد عليه صناعة الخطابة. وإنما وصف الإقناع بالإمكان فقال: (تتكلَّف الإقناع الممكن) لأنَّ شأن هذه الصناعة إعدادُ النفوس لعمل الإقناع، وإن لم تبلغ غايتَها القُصْوى. وكذلك الشأنُ في سائر الصناعات، فإنها تُعِدُّ النفس لعمل

الخطابة عند الأدباء والبلغاء

خاصٍّ. ثم إنَّ الناس يكونون فيها على درجاتٍ متفاوتة متفاضلة. وإنما قال: (في كلِّ واحدٍ من الأشياء المفرَدة) لأنَّ الخَطَابة تتناولُ كلَّ العلوم والفنون، ويسوغُ لها أن تدخلَ في كل شيءٍ صغيرًا كان أو كبيرًا، معقولاً كان أو محسوسًا، ومن هنا قال الباحثون في شؤونها: يلزمُ الخطيبَ أن يكون مُلِمًّا بالعلوم والفنون ما استطاع، وأن يسعى دائبًا إلى أن يزداد في كلِّ يومٍ عِلْمًا. أما الخَطَابة في لسان الأدباء والبلغاء، فهي: إلقاء الكلامِ المنثورِ سَجْعًا أو مُرْسَلاً؛ لاستمالةِ السامعين إلى رَأْيٍ، أو ترغيبِهم في عمل، وهذا ما يريدونه عندما يذكرون الخطابة ويقولون: فلانٌ يقومُ على الخَطَابة أكثر مما يقوم على الكتابة. والخطابة عند هؤلاء -وإن كانت تعتمِد على الأقوال المظنونةِ أو المقبولة- قد يدخل فيها ما يُسمَّى عند المناطقة (بُرْهَانًا)، قال صاحب المناهج الأدبية: "والأقوال الصادقةُ يقينًا لا تقعُ في الخَطَابة من حيث إنها خطابة، فإن ألَمَّ بها الخطيبُ فقد عَدَل بالخطابة عن أصلِها". وربما أتى الخطيبُ على أقوالٍ مموهة أي ذات جمل تشبه ما يكون صادقًا وليست في نفسها صادقة أو ذات هيئة تشبه ما يكون صحيحًا وليست في نفسها بصحيحة. قال مالك بن دينار: رأيت الحجاج يتكلُّم على منبره، ويذكر حُسْنَ صنيعه لأهل العراق، وسوء صنيعهم له، حتى إنَّه لَيُخيَّلُ إليَّ أنه صادقٌ مظلوم.

شرف الخطابة

شرف الخطابة تَشرُف العلومُ والصنائع بمقدار ما تشرُف غاياتها. وللخَطَابة غايةٌ ذاتُ شأنٍ خطيرٍ، وهي إرشاد الناس إلى الحقائق، وتشويقِهم إلى ما ينفعهم في هذه الحياة، وفي تلك الحياة. والخطابة معدودةٌ في وسَائلِ السِّيَادَة والزَّعَامة، سمع الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - زيادًا يخطُب -وكان زيادٌ لا يدَّعي يومئذٍ لأبي سفيان- فقال: "لو كان هذا الفتى قُرَشِيًّا لَسَاق العربَ بعصاه". وكانوا يعدُّونها شرطًا للإمارة، ألا ترون إلى عبيد الله بن زياد -وكان خطيبًا على لُكْنَة في لسانه- كيف يقول: "نِعْمَ الشيءُ الإمارةُ، لولا قَعْقَعَةُ البُرُد، والتَّشَزُّنُ للخطب". وقد عُنِي الإسلام بالخطابة إذ شَرَعها في أيام الجُمَع والأعياد ومواسم الحَجِّ، شَرَع الخطابةَ وما شرعها إلا ليتولاها ذو نَبَاهَةٍ وعِلْمٍ وبلاغة:

(يتولاها ذو نَبَاهَة) ليكون بصيرًا بما يطرأ على نظام الجماعة مِنْ خَلَلٍ، وبما يَنصِبُه أعداؤُها من مكايد، وبما يُبَيِّتُهُ منافقوها من تضليل. (يتولاها ذو عِلْم) حتى يُفَرِّق بين المعروف والمنكر، ويُمَيِّزَ الأوهام من الحقائق، ويكون إرشادُه مملوءًا بالمواعظ الحسنة، والحكم السامية. (يتولاها ذو بلاغة) ليختار مِنْ أساليب البيان ما تألفُه الأذواقُ، وتنفتح له الصُّدُور. وكذلك كانت الخطابة يوم كانت اللغة في حياتها الزاهرة وكان الخطباء كما ولدتهم أمهاتهم أحرارا. ففي الخطابة شرفٌ عظيمٌ، وشَرَفُها في أن يكونَ القائمُ عليها نبيهًا عالِمًا بليغًا. قد يبلغ الخطيبُ بِحِذْقِه في فنون البيان، أن يريك الباطلَ في صورة الحق، ويخيِّلَ إليك الشقاءَ سعادةً. وهذا لا يُزرِي بقَدْر الخطابة، وإنْ هي إلا ككثيرٍ من وسائل الخير التي قد يذهبُ بها بعضُ الناس في غير مذهبِها، ويَضَعُها فيما ليس من شأنها، ومَثَلُهَا في هذا مَثَلُ السَّيْف، تَهَزُّه يدُ العَدْل لتضرب به الباطلَ مرَّةً، ويَهزُّه الباطلُ ليسطو به على الحقِّ مرَّةً أخرى.

ماذا تفعل الخطابة؟

ماذا تفعل الخطابة؟ الخطيب البارع يقف في الجُنْدِ المتباطئ، ويصفُ له ما ينالُه الأبطالُ من عِزَّةٍ يوم يعيشون، أو سعادةٍ يوم يموتون، فينقلبُ التَّرَدُّدُ عَزْمًا صارمًا، والإحجامُ هجومًا رائعًا. الخطيب البارع يقف في الجماعة الخاملةِ، فيهزُّ قلوبَهم هَزًّا، فإذا هي ناهضةٌ من خُمُولها، عاملةٌ لإعلاء ذِكْرِها، مُقْتَحِمَةٌ كلَّ عقبةٍ تقوم في طريقها. الخطيب البارع يقف بين قومٍ نشؤوا في بيئةٍ مغبرة جهلاً وعَمَاية، أو تلقَّتهم دُعَاة الغَوَاية، قبل أن تألفَ الحقَّ بَصَائِرُهم، ويَشتدَّ في العلم ساعدُهم، فلا يبرح يعرِض عليهم سُبُلَ الهداية في استوائها ونقائها، فإذا هم الرِّجَالُ المصلحون، أو الزعماء الناصحون. الخطيب البارع يقف بين طائفتين استعرت بينهما نارُ العداوة، ولم يبق بينهم وبين أن يصبح لونُ الأرضِ أحمرَ قانيًا إلا شِبْرٌ أو ذراع، فيذكِّرهم بعواقب التَّدَابر، وينذرهم مصارعَ التقاتل، فإذا القلوب راجعةٌ إلى ائتلافها، والسيوفُ عائدةٌ إلى أغمادها. والشعراءُ يقرِنون الخطابةَ بالسيف لتشابههما في إعلاء كلمة الحق، وحَمْل النفوس الجامحة على أن تعود إلى السكينة والنِّظَام، وهذا أحد الشعراء يسمِّي فعل السيف خُطْبَةً فيقول: السيفُ أصدقُ مِنْ زيادٍ خُطْبَةً ... في الحَرْبِ إن كانت يمينُك مِنْبَرَا

وآخر يسمِّي نفسَه يوم يَطعُنُ بالسيف خطيبًا فيقول: إذا لم أكنْ فيكم خطيبًا فإنني ... بسيفيَ في يومِ الوَغَى لَخَطيبُ ورُبَّ كلمةٍ يلقيها الخطيبُ فتنفذُ في قلب السامع، وينتفع بها في سيرته ما دام حَيًّا، قال الحسن: لقد وَقَذَتْنِي كلمةٌ سمعتُها من الحَجَّاج. فقيل له: وإنَّ كلامَ الحَجَّاج لَيَقِذُك؟ ! فقال: نعم، سمعتُه على هذه الأعواد يقول: إنَّ امرأً ذهبتْ ساعةٌ من عمره في غير ما خُلِق له، لَحَرِيٌّ أن تطولَ عليه حَسْرتُه. ولشدةِ وَقْعِ الخطب في نفوس الملأ، ترى الرئيسَ المستبِدَّ ينظرُ إلى الخطباء الأذكياء بعينٍ عابسةٍ، يحذرُ من أن يحومُوا حولَ سيرتِه، ويُقنِعُوا الناسَ بأن لا طاعةَ لمن يضطهدُ حقوقَهم، ولا ينصحُ في تدبير شؤونهم.

أطوار الخطابة

أطوار الخطابة كان للعربِ في الجاهلية خطابةٌ أدبية، ولكنهم كانوا يقدِّمون الشاعر على الخطيب من جهة أن الشعر أعلقُ بالأذهان، وأسرعُ تقلُّبًا في البلاد، فهو أرفع صوتًا بمفاخرهم، وأكثرُ إذاعةً لمثالب أعدائِهم. وتقديمُ العرب للشَّاعر على الكاتب، وإقبالُهم على حفظ الشعر أكثر من إقبالهم على حفظ الخطب، كان السببَ في قلة ما وصل إلينا من خطبهم في الجاهلية. والخطب التي يمكننا أن نستخلصَ منها صورةَ الخطابة في ذلك العهد، هي هذه الخطب التي تُؤثَر في كتب الأدب والتاريخ، كخطب وفود العرب عند كسرى، ثم هذه الخطب المرويَّة في كتب السيرة النبوية لزعماء العرب، الذين يَفِدون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبدأ اعتناقهم للإسلام. والنظرُ إلى جملة هذه الخطب، يجعلنا على ثقةٍ من أنَّ الخطابة قبل الإسلام كانت بهذه المنزلة المناسبة لأمةٍ هي إلى البداوة أقرب منها إلى

الحضارة، ولكنها كانت ذاتَ ذكاء وحُسْن تصرُّفٍ في فنون البيان. وهذه الخطب تُمَثِّلُ الخطابةَ في عهد الجاهلية، سواءٌ علينا أكانت مأثورةً على نحو الواقع أم وصلت أَثَارةٌ منها إلى أيدي الرواة، وأضاف إليها بعضُهم جُمَلاً تحاكيها في أسلوبها وطِرْز تفكيرها. ولا وجه لإنكار أن يكون في العرب قبل الإسلام خطابة ممتازة، فإن الخطابة أثرُ انفعالاتٍ تنشأ عن حوادث تَمَسُّ الجماعات، ولم تخلُ حالُ العرب من حوادثَ على هذا النَّحْو، فقد كانوا مطبوعين على التَّفَاخر بخصالِ السُّؤْدَدِ، كإباءةِ الضَّيْم، وحماية الجار، وعلى التَّفَاخر بمجد الآباء والعشيرة والقبيلة، فتثورُ بينهم لهذه الطبيعةِ محاوراتٌ شديدةٌ، وجِدَالٌ عنيف، وكانت الحروب بينهم لا تكاد تضعُ أوزارَها، وكانت لهم بعدَ هذا مجامعُ ينشرون فيها مصنوعاتِ قرائحِهم، ليباهوا بما فيها من بلاغةٍ وحكمة. وإذا كان في لغة القوم بلاغةٌ، وفي نفوسهم طُمُوحٌ إلى السِّيَادة، وفي ألسِنتهم قوةٌ على الجَدَل، وشِدَّةٌ في المُحَاورة، وفي أَيْمَانهم سيوفٌ تتجافى عن أغمادها، وفي بلادهم أسواقٌ بضاعتُها ما تبتدعُه القرائح، فما الذي يمنعهم من أن يلدوا خطباءَ يقرَعُون الأسماع بذكر مفاخرهم، ويُثيرون العواطفَ إلى الدفاع عن أعراضهم وأنفسهم وأموالهم؟ طلع الإسلام بشأنه الخطير فاتسع مجال الخطابة، واشتدت البواعث على ركوب منابرها، ومن أهم هذه البواعث: الدعوة إلى هداية

الإسلام، والتحريض على الوقوف في وجه خصومه بعزم وطيدٍ وإقدام حكيم، ويضاف إلى هذا أنَّ من أسباب إجادتِها وإبداعها ما بَهَرهم به القرآن ومنطق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بلاغة القول وروعة الأسلوب. وقد تنفَّس صدرُ الإسلام برجالٍ سبقوا في حَلْبَة الخطابة، حتى أصبح الخطباء لذلك العهد يُقَدَّمون على الشعراء ويُرفَعون فوقهم درجَات، خصوصًا عندما انحطَّ الشِّعْرُ بالإسراف في المديح، والإقذاع في الهجاء، والإغراق في التَّشْبِيب، وفي المديح المُفْرِط مَلَقٌ، وفي الهجاء المُقْذِعِ دَناءَةٌ، وأقلُّ ما يدلُّ عليه الإسراف في التَّشبيب أنَّ صاحبَه لا يُرجَى لمقامات الجِدِّ، ولا يصلح لأن تُنَاط به جَلائلُ الأعمال. واستمرت الخطابة لأول عهد الدولةِ العباسية بمنزلتها التي بلغَتْها في صدر الإسلام، ومن بلغاء الخطباء في هذا العهد: أبو جعفر المنصور، والمأمون بن الرشيد، وجعفر بن يحيى، وشبيب بن شيبة. ولما اختلط العرب بالعجم، وأصبح الموالي يتقلَّدون إمارة الجيوش وولاية الأعمال، ساءت حالُ الخطابة العربية، فاغبرَّ وَجْهُهَا، وبَلِي ثوبُها، وتضاءل على المنابر صوتُها. وفي هذا العهد قامت سوق السَّجْع، واندفع يستولي على النثر كتابةً وخطابة. وإذا كان في بعض الخطب المنسوجةِ على منوال السَّجْع فَصَاحَةٌ ورَوْنَقٌ، كخطب ابن نُبَاتة،

فإنَّ كثيرًا منه لم يُكسِبْه السجع إلا سَمَاجةً وثِقَلاً. والتزامُ السجع -كما يقول ابن خلدون-: "ناشئٌ من القصور عن إعطاء الكلام حقَّه في مطابقة مقتضى الحال". عندما سقطت بغداد في أيدي التَّتَار، وصارت الدولة إلى أيدي أمراءَ لا يعنيهم شأنُ العربية، انحطَّت اللغة العربية إلى دَرْكٍ سافلٍ، وظَلَّت الخطابة بعد هذا مقصورةً على أيام الجُمَعِ والأعياد ومواسم الحج، وموقوفةً على مواعظ محدودة، بعد أن كانت تخوضُ الإرشادَ إلى وسائل العِزَّة ووجوه الإصلاح. وما برحت الخطابةُ في موقفها، حتى أقبلَ عهدُ الخديوي إسماعيل باشا، واهتزَّت مِصْرُ في حركة اجتماعية أو سياسية، فنشطت الخطابة مِنْ عِقَالِها، بل بُعِثَتْ من مرقدِها، وتخلَّصَتْ من قيود السجع، فآتَتْ من الآثار ما تقرؤون اليوم وما تسمعون.

أسباب ارتقاء الخطابة

أسباب ارتقاء الخطابة إذا اعتبرنا بأطوار الخطابة عند العرب نجد الخطابة أخذت ترتقي في ثلاثة أحوال: في أواخر عهد الجاهلية. في صدر الإسلام. في صدر نهضتنا الحاضرة. نأخذ من الحالة الأولى أنَّ من أسباب رُقِيِّ الخطابة -بعد فصاحة اللغة- حياةَ الأمة في بيئةٍ حُرَّةٍ، وشعورَها بأنَّها ذاتُ سُؤْدَدٍ وفَخَارٍ، وكثرة تَردُّدِهَا على حروبٍ تُدَافِعُ فيها عن أعراضها ونفوسِها وأموالِها. ونأخذ من الحالة الثانية أنَّ من أسباب رُقِيِّ الخطابة: اعتناقَ الأمةِ دينًا تحملُها الغَيْرَةُ والعاطفة على أن تَبُثَّ نصائحَه وتُجَاهرَ في سبيله بما تملك من قوة. ونأخذ من الحالة الثالثة أنَّ من أسباب رُقِيِّ الخطابة: شعورَ الأمة بالحاجة إلى أن تأخذَ الحالة الاجتماعية [و] السياسية هَيْئةً غيرَ هيئتِها، وتسلكَ سيرةً أقومَ وأهدى من سيرتها.

تعلم الخطابة

تعلُّم الخطابة قد يَدْرُسُ علومَ الأدب بما فيها علمي العَروض والقوافي مَنْ لا يدري كيف يصنعُ شِعْرًا مستقيمَ الوَزْن سليمَ القافية، وقد يَدرُسُ علومَ الأدب بما فيها من علوم البلاغة مَنْ لا يستطيعُ أن يكتبَ خِطَابًا يُسِيغُه الذَّوْقُ الصحيح، كذلك الرجلُ قد يدرسُ قوانين الخطابة ويضيفُ إليها التَّضَلُّعَ من علوم اللغة وآدابها، ثم لا يكون له بعد هذا في الخطابة العَمَليَّةِ جزءٌ مقسوم. الخطابةُ لا يُحكِم صُنعَها إلا من يأخذ بها خاطِرَه يومًا فيومًا، ويُروِّضُ عليها لسانَه في هذا المَجْمَعِ مَرَّةً، وفي ذلك المَجْمَعِ مَرَّةً أخرى. نقرأ في كتب الأدب ما يدلُّنا على أن العرب كانوا يأخذون أنفسهم بالتدرُّب على الخطابة حتى تلين لهم قناتُها، نجدهم حين يتحدثون عن عمرو بن سعيد بن العاص يقولون: إنه كان لا يتكلَّم إلا اعترَتْهُ حُبْسَةٌ في مَنْطِقِه، فلم يزل يَتَشَادَقُ ويعالِجُ إخراج الكلام حتى مَالَ شِدْقُه، ومن أجل هذا دعي بالأشدق وإياه يعني الشاعر الذي يقول: تَشَدَّقَ حتى مَالَ بالقولِ شِدْقُهُ وكُلُّ خطيبٍ لا أبا لك أَشْدَقُ

وربما تصدَّى بعض خطبائهم لتعليم الفتيان كيف يخطبون، يقصُّ علينا صاحب (العِقْد الفريد) أنَّ بِشْرَ بنَ المعتمر مَرَّ بالخطيب إبراهيم بن جَبَلة السَّكونيِّ وهو يعلِّم فتيانَهم الخطابة، فوقف بشرٌ يستمع ثم قال لهم: اضربوا عما قال إبراهيم صَفْحًا، واطووا عنه كَشْحًا، ثم دفع لهم صحيفةً من تَنْمِيقِه تحتوي شيئًا من آداب الخطابة. والخطابة كسائر الصناعات يتفاوت الناس في إتقانها والأخذ بزمامها؛ فمنهم مَنْ يمتلكها في أَمَدٍ قريبٍ، ومنهم مَنْ يحتاج إلى أن يصرف في مزاولتها زمنًا بعيدًا، وقد كان أهل الأدب يقولون: إنهم لم يروا قطُّ خطيبًا بلديًّا إلا وهو في أول تكلُّفِه للخطابة مُستثقَلاً، إلى أن يَتوقَّحَ وتستجيبَ له المعاني، ويتمكَّنَ من الألفاظ، إلا شبيب بن شَيْبَة، فإنَّه بدأ بحلاوةٍ ورشاقة، وسُهولة وعُذوبة. وإذا كانت الخطابةُ صناعةً تتعاصَى على طُلابها إلا أن يأتوها عن طريق الدُّرْبَة والممارسة، فمن اللائق برجالٍ يتقلَّدون في هذه الأمة أَمْرَ التعليم، أن يفرِضُوا لها من أوقات الدراسة نصيبًا كافيًا، حتى تُخرِجَ لنا هذه المعاهدُ والمدارسُ خطباءَ يقودون الأمة إلى حيث تلقى السِّيَادة والعَظَمة.

إعطاء الحروف حقها

إعطاء الحروف حقَّها ومما يُقِيمُ الخطبة ويكسوها رَوْنَقًا، أن يلفِظ الخطيبُ بالحروف مُتَمَكِّنَةً من مخارجها، وقد كان العرب يحتفلون بهذا الوجه من الحُسْن، فيأسفُ الخطيب على سقوط شيءٍ من أسنانه، وإنما يأسف لأنه يَفُوتُه النطقُ ببعض الحروف على وجهها الصحيح. سقطت ثنايا عبد الملك بن مروان فَشَدَّها بالذهب وقال: "لولا المنابرُ ما باليتُ متى سَقَطَتْ". وكانوا يفضِّلون الخطيب الذي يمكِّن الحروف من مخارجها على الخطيب الذي يضع الحرف بمخرج غيرِ مكين. خطب الجُمَحِيُّ، وكان منزوعَ إحدى الثَّنِيَّتَيْنِ، فكان عندما ينطق يُخالط نطقَه شيءٌ يُشبِه الصَّفِير، وخَطَب عَقِبَهُ زيدُ بنُ عليِّ بنِ الحسين، فأجاد الخطيبان إلا أنَّ زيد بن عليٍّ فَضَل الجُمَحِيَّ بتمكين الحروف وحسن مخارج الكلام، فقال عبد الله بن معاوية يذكر ذلك: صَحَّتْ مخَارجُهَا وتَمَّ حروفُها ... فلهُ بذاك مَزِيَّةٌ لا تُنْكَرُ ولِهُجْنَةِ الحروف غيرِ المتمكِّنة، ونُبُوِّها عن السمع، كان بعض الخطباء الذين يُبْلَوْنَ بنحو اللُّثْغَةِ يَتجنَّبون في كلامهم الحرفَ الذي يَتعذَّرُ

عليهم أن يلفِظوا به على وَجْهٍ سليم، ومثل هذا واصل الغَزَّال، فقد كان ألثغَ قبيحَ اللُّثغَة في النُّطْقِ بالراء، فكان يتحامَى أن ينطِق بكلمةٍ تحتوي على الراء، على كثرة تردد الرَّاء في الكلام، ولقوَّة عارِضَتِه، وغَزَارة مادَّته من اللغة استطاع أن يلقيَ الخُطَبَ الطِّوَال دون أن يأتيَ على لفظٍ يشتملُ على هذا الحرف، وقد مَدَحَه بهذا الصنيع بعضُ الشعراء فقال: عليمٌ بإبدالِ الحروفِ وقَامِعٌ ... لكلِّ خطيبٍ يغلبُ الحقَّ بَاطِلُهْ ومما يؤخذ به الخطيب أن ينطقَ بالألفاظ في عَجَلٍ حتى يَصِلَ الحرفَ أو اللفظَ بأخيه قبل أن يستقرَّ الحرفُ أو اللفظُ الأول في موضعِه، والأدب الجميل أن يمكِّن الحروف تمكينًا، ويفصِّلَ الكلمات تفصيلاً، وكذلك كان كلامُ أفصحِ الخليقة صلوات الله عليه، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "ما كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَسْرُدُ سَرْدَكم هذا، ولكنَّه كان يتكلَّم بكلامٍ بَيِّنٍ فَصْلٍ يحفظُه مَنْ جلس إليه".

حسن الإلقاء

حُسْنُ الإلقاء لاختيار المعاني وحسن تنسيق الألفاظ وَقْعٌ في نفوس السامعين بليغٌ، ومما يزيد الخطبة حُسْنًا على حسنها، أن يُجيد الخطيب إلقاءها، ونعني بإجادة الإلقاء: أن لا يستمرَّ في نُطقِه بالجُمَل على حالٍ واحدة، بل تكون الجمل متفاوتةً في مظاهرها، من نحو رفع الصوت وخَفْضِه، وتفخيمه وترقيقه، والوقوف عند جملة، أو وصله بأخرى، والضَّغْطِ على الكلمة أو التلفُّظ بها في هَوَادَةٍ، وأنتم تعلمون أنَّ من هَيْئَات النطق بالجملة ما يُشعِرُ بابتهاجِ الخطيب أو حزنه، ومنها ما يُلاءم الجمل التي يلقيها وهو واثقٌ بصِحَّتها، ومنها ما يُلاءم الجمل المرسلةَ لتهكُّمٍ أو مزاحٍ، ومرجع هذا كلِّه إلى ذكاء الخطيب وسلامةِ ذَوْقِه. وجودةُ إلقاء الخطبة هي التي تجعل لسماعها فضلاً على قراءتها في صحيفة، وكم من خطبةٍ يُحسِنُ الرجلُ إلقاءَها فيجدُ الناسُ في سماعها من الارتياح وهِزَّةِ الطَّرَبِ فوق ما يجدونه عندما يقرؤونها في صحيفة، أو يستمعون إلى من يسرُدها عليهم سَرْدًا متشابهًا.

الإشارة في الخطابة

الإشارةُ في الخَطَابة من سُنَن الخطابة عند العرب وغير العرب، أن يقرِن الخطيبُ بعضَ أقواله بإشاراتٍ محسوسة، كرفع اليد وخَفْضِها، أو قَبْضِها وبَسْطِها، أو إِدَارَتِها إلى اليمين في حالٍ وإدارتِها إلى اليسار في حالٍ أخرى، وأمثال هذه الإشارات لا يكاد صاحبُ حديثٍ يستغني عنها. قال ثُمَامة بن أشرس: "لو كان ناطقٌ يستغني بمنطِقِه عن الإشارة، لاستغنى جعفرُ بن يحيى عن الإشارة كما استغنى عن الإعادة". وقد يتكلَّف الرجلُ أن يتكلَّم في هدوء وسكون، ويحرص على أن لا يتحرَّك من جوارحه حين يتحدث غير شفتيه ولسانه، مثل ما كان يصنع أبو شَمِر ويقول: "ليس من المنطِق أن تستعين عليه بغيره". وإنما تتيسَّر هذه الهَيْئةُ لمن يتحدَّثُ في راحةِ بالٍ وقرارةِ جَأْشٍ، وليس هذا شأنَ الخطيب المطبوع، وإنما شأنه تَوَقُّدُ الفؤاد، وهياج العاطفة،

فهو في انفعالٍ يضطرُّه إلى أن يحرِّك يده ولو قليلاً. فالخطيب الأَحْوَذُ من يحتفظ بحُسْن الصمت، ولا يكثرُ من الإشارة، وإذا أشارَ فإنما تكونُ إشارتُه من الحِكْمَة، كأنَّها شيءٌ استدعاه المعنى بطبيعتِه.

القيام بمكان مرتفع حال الخطبة

القيام بمكان مرتفع حال الخطبة يقفُ الخطيبُ بمكانٍ مرتفعٍ لكي يمتدَّ صوتُه إلى مدًى أبعدَ مما يبلغه لو كان قائمًا بمكانٍ مُسَاوٍ لمقاعدِ المستمعين، ومن دواعي ارتفاع الخطيب أن يشهدَ الحاضرون إشاراتِه الممثِّلة لبعض المعاني المعقولة. ووقوفُ الخطيب بمرأى من المستمعين يدعوهم إلى الإقبال عليه بأوفى مما لو كانوا يسمعون حديثَه وهو غائبٌ عن أبصارهم. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة مُسنِدًا ظهرَه إلى جِذْعٍ منصوبٍ في المسجد، ثم أَمَر فَصُنِعَ له منبرٌ من طَرْفَاءِ الغَابة، وكان المنبرُ مُرَكَّبًا من ثلاثة درج، وبقي بهذه الهيئة حتى زاده مروان في خلافة معاوية سِتَّ درجات من أسفله، وقال: "إنما زِدْتُ فيه حين كَثُرَ الناس". وكان العرب يخطبون مِنْ قيامٍ، ولا يخالفون هذه العادةَ إلا في خطبة النكاح؛ فإنهم يُلقُونَها مِنْ جلوسٍ؛ إذ ليس مِنْ شأنِها أن تحتوي معانيَ تدعو الحاجةُ إلى أن يَسمَعها جميعُ الحاضرين.

وكان عليه الصلاة والسلام يخطُب قائمًا، وكذلك كان شأنُ الخلفاء الراشدين، وروي أنَّ معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - خَطَب جالسًا، وذكروا في وجه الاعتذار عنه أنه جَلَس للخطبة حينما ثَقُلَ جِسْمُه. وروى مسلمٌ في صحيحه أنَّ عبد الرحمن بن الحكم خَطَب في يوم جمعةٍ قاعدًا، فأنكرَ عليه بعض الصحابة، وقال: انظروا إلى هذا يخطُب قاعدًا والله تعالى يقول: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} ... [الجمعة: 11]. وقد اتفق العلماء على أنَّ القيام في الخطبة مشروعٌ، وإنما اختلفوا في تقدير المشروعية، فذهب فريقٌ أنه شرطٌ في صحة الخطبة. وقال آخرون: إنه واجب، ولو خَطَب مِنْ جلوسٍ لَصحَّت الخطبةُ وارتكب إثمًا. والذي اعتمده الحنفية أنه سنة، ولا يبلغ حَدَّ الوجوب، فلو خَطَب قاعدًا مضت الخطبةُ على ما نَقَصَها من أدبٍ كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يحافظُ عليه ما دام حيًّا.

الإرتاج في الخطبة

الإرتاج في الخطبة قد يعرِض للخطيب وإن كان ذا عارضةٍ قويةٍ ما يسمونه إرتاجًا، وهو أن يقف فتنقطعُ عنه مذاهبُ القول فلا يدري أين يضعُ كلامَه، ومن أسباب الإرتاج: الدَّهَشُ والانبهار الذي يأخذ النفس من هيبة الملأ العظيم، أو هيبةِ الرجل الذي شأنُه أن يَنقُدَ الأقوال بعَقْلٍ موزون. وحال الدَّهَش والانبهار إنما تغشى ذلك الذي لم يكن على ثقةٍ من كفايتِه لمقام الخطابة، فيَخشى أن يقع في معنى سخيفٍ أو لفظٍ مرذول. قال الكميت بن زيد: "إنما يجترئُ على الخطابة الغَمْرُ الجاهل، أو المطبوع الحاذق، الواثقُ بغَزَارته واقتداره". والخطيب المتصنِّع متى أُرتِجَ عليه لم يَسَعْهُ إلا أن يَدَع الكلام، وينزلَ عن مقام الخطابة صاغرًا، أما الخطيبُ المطبوع فقد ينبو فِكْرُه عن الغرض الذي وقف من أجله، ولكنه لا يعجِز أن يُسمِع الناس كلماتٍ بليغةً يصونُ بها موقفَه من أن يُسَامَ بغضاضةٍ أو ازدراء. صعد خالدُ بن عبد الله القَسْري المنبرَ فأرتِجَ عليه، فمكث مَليًّا لا يتكلَّم، ثم تكلَّم فقال: "أما بعدُ، فإنَّ هذا الكلام يجيءُ أحيانًا ويعزُب أحيانًا، فيسيحُ عند مجيئه سَيْبُه، ويَعِزُّ عند عُزُوبِه طلبُه". إلى أن قال: "وقد يُرْتَجُ على البليغ لسانُه، ويَختِلجُ من الجريءِ جَنَانُه، وسأعود فأقول

إن شاء الله". ويروى في هذه الصَّدَد أنَّ ثابت قُطْنَة صَعِد منبرَ سِجِسْتَان فقال: الحمد لله. ثم أُرتِجَ عليه، فنزل وهو يقول: فإن لا أكنْ فيكم خطيبًا فإنني ... بسيفيَ في يومِ الوَغَى لَخَطيبُ فقيل له: لو قلتَها فوق المنبر لكنتَ أخطبَ الناس.

الارتجال في الخطبة

الارتجال في الخطبة في الناس مَنْ يقفُ ليخطب فَتَنْهَالُ عليه المعاني، وتتسابقُ إليه الألفاظ، فيسترسلُ في القول دون أن يُدرِكَه حَصَرٌ أو يَتعثَّرَ في لَجْلَجَةٍ، وهذا ما نسمِّيه ارتجالاً. وفي الناس مَنْ تجيئُه المعاني على مَهَلٍ، وتتوارد عليه الألفاظ في تباطؤ، فلا يحسن أن يخطب إلا بعد أن يُعِدَّ لمقام الخطابة مَقَالاً. قال أبو هلال العسكري: "في الناس مَن إذا خلا بنفسه وأَعْمَل فِكْرَه أتى بالبيان العجيب، واستخرجَ المعنى الرَّائق، وجاء باللفظ الفائق، فإذا حاوَر أو ناظَر قَصَّر وتأخَّر، فخَلِيقٌ بهذا أن لا يتعرَّضَ لارتجال الخُطَب". وكانوا فيما سلف يتَّهمون الخطيب المبدِع بأنه يهيئُ الخطب ويحبِّرها تحبيرًا، وإنما ينفي عنه هذه التُّهْمَةَ أن يحدُث داعٍ للخطابة فَجْأَةً فيقفُ ويخطبُ بما يُشْبِهُ خُطَبه السابقةَ ارتجالاً. قيل لبعض الخلفاء: إنَّ شبيب بن شيبة يستعملُ الكلام ويستعيرُه، فلو أمرتَ أن يصعدَ المنبر لرجوتُ أن يَفتضح، فأمرَ رسولاً فأخذ بيدِه إلى المسجد فلم يُفَارِقْهُ حتى صَعَد المنبرَ فارتجلَ كلامًا يُشبِه طِرَازَ خطبه، فعرفوا أنه من أولئك الذين يستطيعون أن يقتضبوا الخطب ساعةَ يقومون على أعواد المنابر اقتضابًا.

الخاتمة

فبلاغة الخطيب في نفسها مَزِيَّةٌ، وارتجالُها بعد هذا مَزيَّةٌ أخرى، وإنما يقوى على ارتجال الخطبة وإلقائِها متماسكةَ الحَلَقات مَنْ سبق له أن أدركَ معانيَ كثيرةً تتصل بالموضوع، وكانت له حافظةٌ قويةٌ تؤدي إليه صورةَ هذه المعاني كما أودعها، وكان بعدَ هذا أَلْمَعِيًّا مُهَذَّبًا، ويحسن التصرُّف في هذه الصور، ويضع كلَّ صورة بالمكان اللائق بها. أيها السَّادة: هذا ما سمح المقام بعرضه على أسماع شبابنا الأذكياء، وإنما قَصَدْنَا تذكرتَهم بهذا الفن الجليل فَنِّ الخطابة، لعلهم يمنحونه من إقبالهم جانبًا، فإنَّ الحاجة الشديدة إليه قائمةٌ، والدواعي إلى تَرْقِيَتِه وتوسيع نطاقه مجتمعةٌ، وأولو الألباب هم الذين يقدِّرون الحاجات فيبادرون إلى سَدِّها، ويستمعون إلى الدواعي فيحسنون إجابتها. ***

§1/1