الحجاب في الشرع والفطرة

عبد العزيز الطريفي

الحِجَابُ في الشَّرْعِ والفِطْرةِ

كل الحقوق محفوظة الطبعة الأولى 1436 هـ - 2015 م

الحِجَابُ في الشَّرْعِ والفِطْرةِ بينَ الدَّلِيل، والقَوْلِ الدَّخِيل تأليفُ عبدِ العَزِيزِ بنِ مَرْزُوقٍ الطَّرِيفِيّ دار المنهاج

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

مقدِّمة الحمدُ لله ربِّ العالمين، الذي أقامَ الشريعةَ وقوَّمَ الفِطْرةَ وأحسَنَ الخِلْقة، والصلاةُ والسلامُ على النبيِّ الأمين، سيِّد المرسَلِين، وعلى آلِه وصحبِه ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .. أما بعد: فإنَّ مسألةَ الحجابِ ولباسِ المرأة عند الأجانبِ مِن المسائل الجَلِيّة، ولم تَحْتَجْ على مَرِّ قرونِ الإسلامِ إلى فقيهٍ يُصنِّفُ فيها مؤلَّفاً مفرَداً، ولم يكن أئمةُ المذاهبِ الأربعةِ يُفردونها بفُصولٍ، وإنما تَرِدُ في كلامِهم استطراداً وتَبَعاً لغيرِها؛ لوضوحِ حكمِها وجلائِه. وكانت أدلةُ الحجابِ واللباسِ توضَعُ في موضِعِها الذي أُنزلت فيه، وتَجْرِي على العملِ الذي كان الصحابةُ وأتباعُهم عليه، حتى جاء القرنُ الرابعَ عشَرَ والخامِسَ عشَرَ للهجرة، واحتُلَّ أكثَرُ بُلدانِ الإسلام عقوداً، وتأثَّرت كثيرٌ مِن الأفهام والعقولِ بالمشاهَدةِ والمخالَطةِ؛ فأُخذت أدلةٌ

ووُضِعَت في غيرِ موضعِها، وجُعِلت أقوالُ الفقهاءِ في غيرِ سياقِها، فلم يُفَرَّقْ بين حُرَّةٍ وأَمَةٍ، ولا بين شابَّةٍ وعجوزٍ، ولا بين ما قبلَ فرضِ الحجابِ وبعدَه، ولا بين محكَمٍ ومتشابِه! حتى ظَهَر الترويجُ لأقوالٍ لا تعرِفُها مذاهبُ الفقهاء، ونُسِب إلى مالكٍ وأبي حنيفةَ والشافعيِّ القولُ بـ (أن تغطيةَ المرأةِ لوجهِها ليس بشريعةٍ)، أو بـ (أنَّ المرأةَ لا يجبُ عليها تغطيةُ وجهِها ولو فَتَنَت، ولا تَأثَمُ حينَها ولو كَشَفَتْ)! ويؤخَذُ كلامُهم في عورةِ السترِ والصلاةِ فيُجْعَلُ في عورةِ النظرِ، حتى يَظُنَّ القارئُ -مِن كثرةِ تعارُضِ النقولِ وتضادِّها- اضطرابَ المذاهبِ وتناقُضَها! ومسألةُ الحجابِ ولباسِ المرأة لا تحتاجُ إلى توسُّعٍ في التأليف، ولا إلى جمعِ كلامِ الفقهاءِ وحَشْدِه، وإنما تحتاجُ إلى إعادةِ نصوصِ الوحيَيْن إلى مواضعِها، وإرجاعِ أقوال الفقهاءِ إلى سياقاتِها التي قِيلَت فيها، وإلحاقِ متشابِهِ النصوصِ بمُحْكَمِها، مع بيان التبديلِ الذي طَرَأ عليها، ورَدْمِ عقودِ التبديلِ؛ ليتّصلَ الفقهُ الصحيحُ بأهلِه، ولا يُقوَّلَ أئمةُ المذاهب ما لم يقولُوه؛ فإنَّ المتشابِهَ والعامَّ إذا كانا في كلام الله فإنَّهما في كلام الفقهاءِ أظهَرُ وأكثَرُ.

وتلك الحاجةُ مِن التصنيف هي المقصودةُ في هذه الرسالةِ، ومِن الله نستمِدُّ العونَ، ونَستلهِمُه الرُّشد، ونسألُه السَّداد. عبد العزيز الطريفي الاثنين 20 - 4 - 1436 للهجرة

جاءت الشرائع السماوية بأصلين عظيمين

الحمدُ لله الذي أنزَلَ القرآنْ، وأحسَنَ فطرةَ الإنسانْ، وأكرَمَه بالإيمانْ، وطبَعَهُ على معرفةِ الحقِّ مِن الباطِلِ، وتمييزِ الخيرِ مِن السرِّ، وأُصَلِّي وأُسَلِّمُ على النبيِّ الأمينِ محمَّدِ بنِ عبدِ الله، وعلى آلِهِ وصحبِه، ومَنِ اتَّبَع .. أمَّا بعدُ: فإنَّ الذي أنزَلَ الشرعَ هو الذي خلَقَ الطبعَ، وجعَلَ طبائعَ الإنسانِ الصحيحةَ التي لم تتبدَّلْ تتوافقُ كتوافُقِ كَفَّيِ الرَّجُلِ الواحدِ، وتتطابقُ الفطرةُ الصحيحةُ والشريعةُ المنزَّلةُ كتطابُقِ أسنانِ التُّرْسِ حينما يُقابِلُ مِثْلَه، فيَدُورانِ بانتظامٍ لا ينتَهِي حتى يختلَّ أحدُهما؛ ولهذا جاءَتِ الشرائعُ السماويةُ بأصلَيْنِ عظيمَيْنِ: أوَّلُهما: امتثالُ الأمرِ وحفظُه؛ {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف: 27]، وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام: 115]. ثانيهما: التحذيرُ مِن تغييرِ الطبعِ الفِطْرِيِّ الصحيحِ

توافق الفطرة والشريعة

وتبديلِه؛ {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]. ولتوافُقِ الفطرةِ والشريعةِ وامتزاجِهما فقد يُسمي اللهُ دينَه فِطْرةً، ويسمِّي فِطْرتَهُ ديناً، وهكذا في تفسيرِ الصحابةِ للفطرةِ والخِلْقةِ بالدِّينِ في القرآن. وكلُّ تغييرٍ في واحدٍ منهما، يُورِثُ خللاً في الاستجابةِ والسيرِ على مرادِ الله؛ ولذا يحرِصُ الشيطانُ على إحداثِ خلَلٍ فيهما جميعاً؛ لتقلَّ الاستجابةُ، ويشتدَّ الانحرافُ، وإنْ عجَزَ عنهما، حَرَصَ على تغييرِ واحدٍ منهما؛ حتى لا يُقْبَلَ الآخَرُ، ولا يستجابَ له. وقد أخبَرَ اللهُ عنِ اجتهادِ إبليسَ في تغييرِ الشريعةِ، وتحريفِها، وتغييرِ الفطرةِ، وتبديلِها؛ قال اللهُ عنه: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]، وفي تبديلِ الشريعة وتغييرِها يسمِّي اللهُ تحريفَ الشيطانِ للأدلةِ زخرفةً وتزييناً؟ قال اللهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112]، وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39]؛ فجعَلَ الزَّخْرفةَ والتزيينَ مقدِّماتٍ يتبَعُها الفعلُ

الشريعة أسرع في التغيير من الفطرة

والإغواءُ؛ ولكنْ يبقى عمَلُه تزييناً وزخرفةً للمَظَاهِر، ولا يستطيعُ أن يُغَيِّرَ الجواهِر. فأصبَحَ الإنسانُ المفسِدُ الذي لم يَجِدِ استجابةً لفسادِه، يسعَى لإحداثِ تغييرٍ؛ إمَّا في الشريعةِ، أو في فطرةِ الناسِ؛ حتَّى يَجِدَ مدخلاً لفسادِه وانحرافِه في النفوسِ، وهذه أساليبُ تُستعمَلُ في كلِّ زمانٍ، وفي مواجهةِ كلِّ رسالةٍ صحيحةٍ، حتى إنَّ قريشاً عندَما واجَهُوا دعوةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، طلَبُوا التبديلَ؛ قال اللهُ تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15]، وقال عنِ المنافِقِين: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} [الفتح: 15]؛ حتى أصبحَتْ منهجاً وعادةً لمَن يريدُ التغييرَ في الأُمَمِ والمجتمعاتِ، إمَّا أنْ يُغَيِّرُوا الأدلَّةَ والبراهينَ الصحيحةَ، أو يبدِّلُوا الفِطَرَ السليمةَ؛ حتى لا تتطابقَ ولا تتوافقَ، ثم لا تَقْتنِعَ ولا تؤمِنَ ولا تُسلِّمَ. وبيَّنَ اللهُ أن هذه عادةٌ لهم: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75]. ولكنَّ الشريعةَ أسرعُ في التغييرِ مِن الفطرةِ وأسهلُ،

رجوع الفطرة إلى أصلها أسهل من خروجها منه

فتجِدُ أنَّ الانحرافَ عن الفطرةِ لا يكونُ في جيلٍ واحدٍ؛ بل في أجيالٍ، وربما قُرونٍ، وأمَّا الشريعةُ فيمكِنُ أن تتغيَّرَ في عِقْدٍ أو عِقْدَيْنِ أو ثلاثةٍ، ورُبَّما أقَلّ، بحسبِ قوَّةِ براهينِ التبديلِ، فالتعرِّي لا يمكِنُ أن يتوغَّلَ في بلدٍ نَشَأَ على الفطرةِ والعفافِ والحياءِ والسترِ، إلا بعقودٍ أو قرنٍ أو أكثَرَ؛ لأنَّ الإنسانَ مخلوقٌ عليها، وممزوجٌ فطرةً بها؛ لهذا سمَّى اللهُ فِطْرتَهُ الصحيحةَ صِبْغةً؛ كما في قولِه: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138]. وإذا تغيَّرتِ الفطرةُ وانحرَفَتْ، فرجوعُها إلى أصلِها أسهلُ مِن خروجِها منه، ولكنَّه شاقٌّ، فيصعُبُ أن يقتنِعَ إنسانٌ حَيِيٌّ محتشِمٌ، فيتعَرَّى في يومٍ ولو أُقْنِعَ بأدلةٍ بصحةِ التعرِّي، ولن يقدِرَ على الاستجابةِ مرةً واحدةً، حتى يتدرَّجَ، ولكنْ لو أقنَعْتَ مَن يتعَرَّى بأدلةِ السترِ والحجابِ، يسهُلُ عليه أن يستتِرَ ويستجيبَ مرةً واحدةً، ولو كانت درجةُ الإقناعِ واحدةً عندَهما جميعاً؛ لأنَّ الأولَ يخرُجُ مِن الفطرةِ الصحيحةِ، والثانيَ يعودُ إليها، والأصلُ الفطريُّ غلَّابٌ جذَّاب، ولو دُلِّسَ على العقلِ بالأدلَّةِ. الشرائعُ والطبائعُ .. وتغييرُها: الفطرةُ تُفسِّرُ نَفْسَها، ويصعُبُ تفسيرُها مِن جميعِ

تغير الفطرة من موانع فهم الشريعة

الوجوهِ بنصٍّ، وخلَقَها اللهُ صحيحةً سليمةً، فإذا نزلَتْ عليها شرائِعُه، فَهِمَتْ هذه الفطرةُ تلك الشرائعَ بلا تفسيرٍ، وتطابقَتْ معها كتطابُقِ أغطيةِ الأقلامِ على الأقلامِ؛ فمثلاً: اللهُ يأمُرُ بأنْ يأخُذَ الإنسانُ زينَتَهُ عند كلِّ مسجدٍ: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، لكنَّه لا يفسِّرُ له تلك الزينةَ؛ لأنه مطبوعٌ على معرفتِها بنَظَرِه. ويأمرُهُ بتحسينِ الصوتِ بالقرآنِ؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (زَيِّنُوا القُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ) (¬1)؟ لكنَّه لا يُفسِّرُ له ما الصوتُ الحسَنُ مِن القبيحِ؛ لأنَّه مطبوعٌ على معرفتِه بسمعِه وحِسِّه. ويأمرُهُ بالتطيُّبِ بالرائحةِ الحسنةِ، ولكنْ لا يُفسِّرُ اللهُ له ما الرائحةُ الطيبةُ مِن الخبيثةِ؛ فلن تُعرَفَ بدليلٍ أكثرَ مما هو مطبوعٌ عليه بشَمِّه. وإذا تغيَّرتِ الفطرةُ التي طُبعَ عليها الإنسانُ، فلن يفهَمَ الأوامِرَ الشرعيةَ التي أمرَهُ اللهُ بها، حتى تُعدَّلَ الفطرةُ عنِ انتكاستِها؛ لتستوعِبَ؛ كالإناءِ المقلوبِ لا بُدَّ مِنْ تعديلِه حتَّى يستوعِبَ ما يوضعُ فيه؛ لهذا شدَّد اللهُ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1468)، والنسائي (1015 و 1016)، وابن ماجه (1342)؛ مِن حديثِ البَرَاءِ بنِ عازِبٍ رضي الله عنه.

تعدد ما فطر عليه الإنسان

في أمرِ الفطرةِ، وحذَّر مِن تغييرِها؛ لأنَّها تؤثِّرُ على استيعابِ أوامرِه ونواهِيه، والإيمانِ بعلَلِها ومقاصدِها، وكُلَّما كانتِ الفطرةُ أشدَّ تغييراً، كانَتْ أشدَّ ردّاً للجزئياتِ؛ لأنَّها لم تَفْهَمِ القواعدَ والكُلِّيَّاتِ، فالأُمَمُ التي تُحِلُّ الزِّنَى وتُبِيحُهُ وتُشَرِّعُه لن تفهَمَ الحجابَ، وتحريمَ الخلوةِ والاختلاطِ؛ لأنَّها مقدِّماتٌ وحواجزُ بعيدةٌ لشيءٍ لا يؤمِنُون بتحريمِه. والإنسانُ مفطورٌ على فِطَرٍ عديدةٍ، وهذه الفِطَرُ منها ما يُمكِنُ تغييرُه، ومنها ما لا يمكِنُ تغييرُه؛ لتجذُّرِه وامتزاجِهِ بالخِلْقةِ البشريةِ، وتكوُّنِ الإنسانِ منها كتكوُّنِ الماءِ مِن عناصرِه. وما يمكِنُ تغييرُه، يختلِفُ في مقدارِ الزمانِ والقوةِ التي يَحْتاجُ إليها للتغييرِ، بحسبِ ثباتِه في الفطرةِ ورسوخِه فيها، والشيطانُ يحرِصُ على تغييرِ الفطرةِ أشَدَّ مِن حرصِهِ على تغييرِ الشريعةِ؛ لأنَّها أشدُّ في الانحرافِ والإعراضِ، ثم إنَّ العودةَ إلى الفطرةِ الصحيحةِ تحتاجُ إلى عقودٍ طويلةٍ، ورُبَّما قرون، وأما تغييرُ الشريعةِ فيحتاجُ إلى مجدِّدٍ يعيدُ الأدلَّةَ إلى حقيقتِها، فتتلقَّاها الفطرةُ الصحيحةُ بسهولةٍ، وإن كابَرَتْ فلا يطولُ عنادُها، حتى تستَسْلِمَ وتُذْعِنَ لها.

تغيير الفطرة الواحدة يلغي معه شرائع كثيرة

ثم إنَّ تغييرَ الفطرةِ الواحدةِ يُلْغِي معه شرائعَ كثيرةً متعدِّدةً؛ كقَطْعِ أغصانِ الشجرةِ الكبيرةِ يسقُطُ معها ما لا يُحصى مِن عيدانِها وأوراقِها، لو تتبَّعَها وحدَها، أتعَبَتْه جهداً، وطالَتْ معه زمناً؛ ولهذا فمِن وسائلِ الشيطانِ وأعوانِه: تغييرُ أصولِ الفطرةِ؛ ليسهُلَ سقوطُ توابِعِها من مقرَّراتِ الشريعة. فطرةُ العفافِ وتغييرُها: ومِن أعظمِ أصولِ الفطرةِ: فطرةُ العفافِ، وإنْ غُيِّرَتْ فإنها يتغَيَّرُ معها -تبعاً- شرائعُ كثيرةٌ؛ كغَضِّ البَصَرِ، وخَفْضِ صوتِ المرأةِ، وعدمِ خضوعِها به، والحجابِ، وإخفاءِ المفاتِنِ منعاً للإثارةِ، وعدمِ الاستهانةِ بالخلوةِ، والفصلِ بين الجنسَيْنِ، وتركِ الغَزَلِ، وعدمِ اتخاذِ الأصدقاءِ بين الجنسَيْنِ، وغيرِ ذلك، فهذه وغيرُها تسقُطُ، إن سقطَتْ فطرةُ العفافِ، تبعاً. لهذا نَجِدُ أنَّ جميعَ الأنبياءِ يَدْعُونَ إلى حفظِ أصول الفطرةِ مع التوحيدِ؛ لأنَّ التوحيدَ أصلُ العباداتِ، والفطرةَ أصلُ المُرُوءاتِ، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بمَكَّةَ إلى هذا، فقد قال أبو سفيانَ لهِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ لَمَّا سأله عما يدعو إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم: يأمُرُنا بالصلاةِ والصدقِ والعفافِ،

تغيير الفطرة أخطر من تغيير سنن الكون

قال هِرَقْلُ: «هذه صفةُ نَبِيٍّ» (¬1). ولعِظَمِ هذا الأصلِ الفِطْرِيِّ؛ العفافِ، جعَلَ اللهُ له حُرَّاساً وحُمَاةً؛ فضلاً عن حمايةِ الإنسانِ الواحدِ نَفْسَه، حتَّى يقاوِمُوا دوافِعَ تمرُّدِ الواحدِ على فطرتِه؛ فخلَقَ اللهُ في الإنسانِ الغَيْرَةَ على غيرِه، كما تغارُ الزوجةُ على زوجِها، فتكونُ رقيبةً عليه، ويكونُ هو لغَيْرتِه رقيباً عليها، والوالدُ مع بِنْتِه، والأخُ مع أُخْتِه، والعكسُ كذلك، بل تقَعُ الغَيْرةُ بين الغرباءِ بعضِهم على بعضٍ، جعَلَهم اللهُ حُرَّاساً، يتناوَبُون على عدمِ تمرُّدِ الواحدِ على عفافِ نَفْسِه، وعفافِ غيرِه. وتغييرُ الفطرةِ أخطرُ مِن تغييرِ سُنَنِ الكَوْنِ، وأشدُّ أَثَراً على دِينِ الإنسانِ، وقد كان نبيُّ اللهِ موسى عليه السلام حَيِيّاً سَتِيراً، وكان يستَحْيِي أن يبدُوَ مِن جِلْدِه ما يتساهلُ بنو إسرائيلَ في إبدائِه، حتى آذَوْهُ وقالُوا: ما يستتِرُ هذا التستُّرَ إلا مِن عيبٍ بجِلْدِه؛ إمَّا بَرَصٍ، وإما أُدْرَةٍ، وأمَّا آفةٍ، فأرادَ اللهُ أن يبرِّئَه، ولا يبدِّلَ فطرتَه، فلما أراد أن يغتسِلَ، وضَعَ ثيابَهُ على حَجَرٍ، فلَمَّا قضَى غُسْلَه، وأراد أن يأخُذَ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7)، ومسلم (1773).

ثيابَه، عدا الحَجَرُ، وهرَبَ بثوبِه، وأخذَ موسى عصاهُ، وطلَبَ الحجَرَ، يقولُ: ثَوْبِي حَجَرُ! ثَوْبِي حَجَرُ! حتى خرَجَ لبني إسرائيلَ فرأوْهُ، وعلموا أنَّه مبرَّأٌ مما قالوا؛ فأنزلَ اللهُ على نبيِّه محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مذكِّراً بتلك الحال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69]، والحديثُ أخرَجَه البخاريُّ ومسلمٌ مِن حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه (¬1). واللهُ تعالى لم يأمُرْ موسى أن يَنْزِعَ ملابِسَه ويخرُجَ للناسِ ليبرِّئَ نفسَه؛ ولكنْ غيَّر سننَ الكونِ وجاذبيَّةَ الأرضِ، وأوجَدَ في الحجَرِ قوَّةً للسيرِ بثيابِه، لِيَتْبَعَها؛ ليكونَ ظهورُ جسَدِه وعوراتِه بلا اختيارٍ منه؛ فلا يكونُ هناكَ أدنى قناعةٍ للنفسِ بإمكانِ اختيارِ مثلِ هذا الفعلِ؛ لأنَّ خَرْقَ الفطرةِ إنْ بدأَ، اتَّسَعَ وتدَرَّجَ اتساعاً حتى لا يَنْتهِي. لهذا فالعاقلُ العفيفُ حينَما يُصَابُ بمرضٍ في موضِعِ عورتِه، ويُضطرُّ لجراحةِ طبيبٍ يلزَمُ منها كَشْفُها، تجدُه يُحِبُّ أن يبنَّجَ ويخدَّرَ؛ لِيغيبَ وَعْيُه، وتُنْزعَ عنه عورتُه مِن غيرِه، بلا اختيارٍ منه، لا أن يقومَ هو بنفسِه باختيارِه، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (278)، ومسلم (339).

قصة آدم وحواء وما فيها من عفاف الفطرة والطبع

مع أنَّ المؤدَّى واحدٌ؛ لكنَّ نَزْعَ الإنسانِ بنَفْسِه يُصاحِبُه نزعُ هيبةِ العفافِ مِن النفسِ والفطرةِ؛ فإنَّ كَسْرَ الحياءِ والعفافِ حينئذٍ يكونُ بالاختيارِ؛ ومَن جَرَّبَه مرةً، تساهَلَ به أخرَى في حالةٍ أقلَّ حاجةً. وقد فطَرَ اللهُ آدمَ وحواءَ -وهُما أوَّلُ البَشَرِ- على العفافِ والسترِ، فلمَّا أكَلَا مِن الشجرةِ، وسقطَ عنهما لباسُهما، دعاهم داعي الفطرةِ والطبعِ الذي خُلِقُوا عليه، إلى رَدَّةِ فعلٍ؛ طلباً للسترِ؛ فأخذَا يَجْمَعانِ الورَقَ ويؤلِّفانِه بعضَه إلى بعضٍ؛ ليستُرَ عوراتِهما، وفي ذلك قال اللهُ: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 22]. والسُّنَّةُ الكونيةُ: أنَّ العفافَ إن نُزِعَ أوَّلُه، تتابَعَ وتساقَطَ، ومنه حجابُ المرأةِ، إنْ سقطَ أوَّلُه، تداعَى إلى آخِرِه، وهذا مشاهَدٌ في كلِّ المجتمعاتِ والشعوبِ، حتى أصبَحَ في كثيرٍ منها عادةً معاكِسةً للفطرةِ الصحيحةِ. والإنسانُ يمكِنُ أن يتطبَّعَ ويألَفَ ما يُخالِفُ بعضَ الفطرةِ، وإنما يحتاجُ إلى كثرةِ مخالَطةٍ ومشاهَدةٍ ومجاوَرةٍ، وتدرُّجٍ بذلك مع صَبْرٍ حتى يتشرَّبَها كتشَرُّبِ الإسفنْجِ للماءِ، فيستطيعَ الإنسانُ أن يُجاوِرَ أنتَنَ الروائحِ وأكرَهَها؛

الحجاب .. عبادة وعادة

كجِيفَةِ المَيْتةِ، فإنْ جاوَرَها شَقَّ عليه، حتَّى إذا طالَتْ مجاوَرَتُه لها ليومٍ وأيَّامٍ، اعتاد عليها، ولم يشعُرْ بما يستَنْكِرُه المارَّةُ عليه، كذلك الأفعالُ والأفكارُ، ومنها السفورُ والتعرِّي، حتى لو تكاثَرَ الناسُ على مجاوَرَتِها وتشرُّبِها، آنَسَ بعضُهم بعضاً، ونظَرَ بعضُهم إلى بعضٍ، فلم يستنكِرُوا شيئاً، وظَنُّوا أنَّ صاحبَ الفطرةِ الصحيحةِ شاذٌّ، وهكذا كان قومُ لُوطٍ؛ تدرَّجُوا بالانحرافِ حتى جاوَرُوه، وقارَفُوه، وتكاثَرُوا، وطالَ عهدُهم عليه؛ قالوا في لوطٍ -تهكُّماً-: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56] عابُوهم والعيبُ فيهم! الحجابُ .. عبادةٌ وعادةٌ: لا يختلِفُ البشَرُ أنَّ سَتْرَ الإنسانِ لبَدَنِه فطرةٌ طُبِعَ عليها؛ ولو لم يكن هناك حَرٌّ ولا بَرْدٌ ولا مَطَر؛ بل حتى لو كانَ الإنسانُ وحدَه لا يراهُ أحَدٌ، أَحَبَّ أن يلبَسَ ويتزيَّنَ ولو لنَفْسِه؛ ولهذا كان آدَمُ وحواءُ يستترانِ لنَفْسَيْهِما، لا وجودَ لبَشَرٍ معهما؛ ولذا قال اللهُ -مبيِّناً أنَّ عقوبةَ كشفِ لباسِهما، كانت لتَرَى أعينُهما سوْءَاتِهما متقابِلَيْنِ بلا داعٍ-: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف: 27].

اختلاف الناس في حدود فطرة الستر

ولكن يختلِفُ الناسُ في حدودِ هذه الفطرةِ، وفي حجمِ ما يُستَرُ مِن البَدَنِ؛ بحَسَبِ ما يحكُمُهم مِن نقلٍ أو عقلٍ أو عرفٍ، أو ما يَحرِفُهم مِن شَهَواتٍ أو شُبُهاتٍ. ولما كانت فطرةُ السترِ تتجاذبُها العقولُ، وأهواءُ النفوسِ وشبهاتُها، وتزيينُ الشيطانِ على الإنسانِ، جاءتِ الشريعةُ مِن اللهِ ضابطةً له وحاكمةً عليه بنصوصٍ كثيرةٍ في جميعِ الشرائعِ، ورسالاتِ الأنبياءِ على كلِّ الأُمَم، وتواتَرَ هذا في القرآنِ والسُّنَّةِ، وقد بيَّن اللهُ أنَّ كشفَ العوراتِ وظهورَ المفاتِنِ غايةٌ قديمةٌ لإبليسَ وذُرِّيَّتِه مع آدَمَ وذُرِّيَّتِه؛ كما قال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف: 27]. والشرائعُ أقوى هَيْبةً وحفظاً مِن العاداتِ في نفوسِ الناسِ، حتى وإنْ قصَّروا في دينِهم في العملِ الظاهِرِ؛ إلا أنَّ عاداتِهم تتغيَّرُ كثيراً عبرَ القرونِ، ويبقى دينُهم محفوظاً بهَيْبَتِه في النفسِ، يذهَبُون ويَرْجِعُون إليه، وأمَّا العاداتُ الخالصةُ فإنْ ذهبَتْ فغالباً لا تعودُ. ولما كان السترُ عمومًا -وحجابُ المرأةِ خصوصاً- عبادةً ربانيَّةً تمتزِجُ مع الفطرةِ البشريةِ، كان مِن وسائلِ

من وسائل الشيطان وأعوانه: فصل عبودية الحجاب، والإبقاء على كونه عادة

الشيطانِ وأعوانِه: فَصْلُ عبوديَّةِ الحجابِ، والإبقاءُ على كونِه عادةً، حتى يسهُلَ تحكُّمُ الأهواءِ به؛ لأنَّ الأهواءَ كأَهْوِيةِ الرِّيَاح، لا تحمِلُ معها إلا الخفيفَ، وتخفيفُ الثقيلِ ثم إزالَتُه، أهوَنُ مِن إزالَتِه وهو ثقيلٌ. وقد ظهرَتْ دعواتٌ تجعَلُ مِن حجابِ المرأةِ والسترِ عموماً عادةً وتقليداً، لا عبادةً ودِيناً؛ لأنَّ العبادةَ لا تقبلُ الهَدْمَ إلا بنزعِ أدلَّتِها، وأدلَّتُها إن كانتْ ثابتةً راسخةً لا تقبَلُ النَّزْعَ إلا بمواجهةِ الشريعةِ كُلِّها؛ لأنَّ مَن جحَدَ شيئاً مِن الدينِ بالضرورةِ، كان كمَن جَحَدَه كُلَّه. وأدلةُ حجابِ المرأةِ في القرآنِ والسُّنَّةِ أقوى وأرسخُ مِن أن تَنزِعَها الأهواءُ، ولكنَّها تَقْدِرُ على استدبارِها وراءَ ظَهْرِها، ثم تَدَّعِي أنها لا تراها، وكلُّ شيءٍ تستدبِرُه أو تُغْمِضُ عينيكَ عنه، لن تراه، ولو أغمَضَ الإنسانُ عينَيْه عن نَفْسِه، لم يرَ نفسَه، وإن كانت هذه حُجَّةً فليس بعدَ هذا مثقالُ ذرَّةٍ مِن عَقْلٍ! الحكمةُ مِن مشروعيَّةِ حجابِ المرأةِ: لا يوجدُ أمرٌ محرَّمٌ ولا كبيرةٌ، إلا وحاطَها اللهُ وحَمَاها مِن جميعِ جهاتِها، حتى لا يَتوصَّلَ الناسُ إليها

الوسائل أكثر من الغايات والمقاصد

فيقَعُوا فيها؛ فحرَّمَ اللهُ الشِّرْكَ والكفرَ، وحرَّم وسائِلَه، وأغلَقَ المنافِذَ إليه، وحرَّم السِّحْرَ، وحرَّم وسائلَه، وحرَّم الرِّبَا، وحرَّم وسائلَه، وحرَّم الزِّنَى، وحرَّمَ الوسائلَ المُفْضِيةَ إليه. والوسائلُ أكثرُ مِن الغاياتِ والمقاصد؛ فكلُّ غايةٍ لها أكثرُ مِن وسيلةٍ توصلُ إليها، كالذاهبِ إلى مَكَّةَ، فكلُّ جهاتِها الأربعِ وما بينَها وأوديَتِها وجبالِها وسِكَكِها تؤدِّي إليها، وكلما كان الشيءُ شديدَ التحريمِ، شدَّد اللهُ في وسائلِه، ولو كثُرَت، واحتاطَ له مِن وقوعِ الإنسانِ فيه، ولو مِن وسائلَ بعيدةٍ، بخلافِ تحريمِ الصغائرِ، فتحريمُ وسائلِها ضعيفٌ؛ كالفَرْقِ بين الحُفْرةِ الصغيرةِ، والهُوَّةِ السحيقةِ، فالأُولَى تُحاطُ مِن قريبٍ، والثانيةُ تُحاط مِن بعيدٍ. والزِّنَى مِن أكبرِ الكبائِرِ؛ قال اللهُ تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان: 68 - 70]، وقال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]،

تحريم وسائل الكبائر أشد من تحريم وسائل الصغائر

وقد ذكَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم السَّبْعَ المُوبِقاتِ، ولم يَنُصَّ على الزِّنَى منها؛ وإنَّما قال: (وقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلَاتِ) (¬1)؛ يعني: بالزِّنَى؛ ليدُلَّ على أنَّ مجرَّدَ قذفِ البريءِ به، مُهلِكٌ ومُوبِق؛ فكيفَ بالوقوعِ فيه أو إشهارِه وإذاعتِه؟! وفي هذا تعظيمٌ للزنَى أعظمَ مما لو نصَّ عليه باسمِه، وقد قال صلى الله عليه وسلم -كما في «الصحيحين» -: (لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ) (¬2). وإذا انتشَرَ الزِّنَى، فلِأَنَّ وسائِلَهُ الموصلةَ إليه يسيرةٌ، فإذا تيسَّرتِ الوسائلُ سهُلَ الوصولُ إلى الغاياتِ؛ ولهذا أخبَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ مِن علاماتِ الساعةِ: ظهورَ الزِّنَى، وظهورُه يكونُ بظهورِ وسائلِه، وقوةِ الدعوةِ إلى الاستهانةِ به؛ ففي «الصحيحين» مِن حديثِ أَنَسٍ رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: (مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: أَنْ يَقِلَّ العِلْمُ، وَيَظْهَرَ الجَهْلُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَى) (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2766)، ومسلم (89)؛ مِن حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه. (¬2) أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (57)؛ مِن حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه. (¬3) أخرجه البخاري (80)، ومسلم (2671).

كبيرة الزنى والاحتياط في تحريم وسائلها

ومِن وسائلِ الزنَى المحرَّمَةِ لأجلِه: النَّظَرُ، والسُّفُورُ، والخضوعُ بالقولِ، والغَزَلُ، والاختلاطُ، والخَلْوةُ، وهذه خطواتٌ واحدةٌ تلي الأُخْرَى، أوَّلُها النظرُ، ثم يسيرُ حتى يتكلَّمَ بالفُحْشِ، ثم يختلِطَ، فيَخلُوَ، فيَمَسَّ، فيَزنِيَ، وهذا ما بَيَّنَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم كما في «الصحيح»: (إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَى ابنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَى أدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ؛ فَزِنَى العَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَى اللِّسَانِ المَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَدِّبُهُ) (¬1). وقد ذكَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم التفكُّرَ بالزنى وتَمَنِّيَه؛ لأنَّه يثيرُ قوَّة ًكامنةً في النفسِ، ورغبةً للبحثِ عنه؛ ليبدأَ الإنسانُ خُطُواتِ الوقوعِ فيه، ولن يَصِلَ إلى الزنى إلا بهذه الوسائلِ التي نَهَى اللهُ عنها، وكلما كانَتِ الوسيلةُ إلى الفاحشةِ أقرَبَ، وتسهيلُها لها أقوَى، كان التأكيدُ على تحريمِها في القرآنِ والسُّنَّةِ أشدَّ. ولا يُقدِّرُ تحريمَ الوسائلِ، مَن لم يعرِفْ خطرَ الغاياتِ، وشدةَ تحريمِها؛ ولهذا حينَما يتساهَلُ أحدٌ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6243)، ومسلم (6257)؛ مِن حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.

بالزنى، ويقعُ فيه ويعتادُه، تظهَرُ عليه علاماتُ الاستهانةِ بالوسائلِ الموصلةِ إليه، وعدمِ المبالاةِ بها، والاستهزاءِ بمَن يُشدِّدُ فيها، ولو لم يتجرَّا على التصريحِ بأنَّه مِن أهلِ الزنى، وقد جعَلَ اللهُ سُنَّةً عقليةً ونقليةً: أنه لا يَهْدِمُ الوسائلَ إلا مَن لم يؤمِنْ بالغاياتِ. وقد عظَّمَ اللهُ الزنى، وشدَّد في تحريمِ وسائِلِه في الجنسَيْنِ؛ رجالاً ونساءً، فيشرِّعُ للجنسَيْنِ جميعاً حكماً، ويشرعُ للذَّكَرِ حكماً، وللأُنثى حكماً -كلٌّ بما يصلُحُ لفطرتِه- شرائِعَ وتكاليفَ متقابلةً لحفظِ الوسائلِ، لو أُحكمتْ، ما وقَعَ الناسُ في الغاياتِ المحرَّمةِ. ولما كان افتتانُ الرجلِ بالمرأةِ أقوى، ولأنه أجسرُ في الإقدامِ على الزنى، شُدِّدَ عليه في تحريمِ وسيلةِ النظرِ أكثَرَ مِن المرأةِ، وإنِ اشترَكَا في أصلِ النهيِ؛ ولكنَّ الرجلَ أكثرُ جرأةً لِمَا بعدَ النظرِ، فيأتي بالخطوةِ التي تليها، والمرأةُ غالباً لو نظرَتْ لا تَجسُرُ على ما بعدَ النظرِ كالرجلِ؛ لذا قال اللهُ تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]؛ فجعَلَ الطَّمَعَ في الرجُلِ، مع احتمالِ ورودِه مِن المرأةِ؛ وذلك تعظيماً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وتطهيراً لنسائِه، ولبيانِ خَصُوصيَّةِ الرجالِ

ميل الجنسين بعضهما إلى البعض

بالجَسَارةِ؛ ولذا جاء الوحيُ مُتَمِّماً للفطرةِ في كلِّ واحدٍ منهما. وشدَّدَ اللهُ على الرجُلِ في غَضِّ البصرِ، وشدَّدَ على المرأةِ في الحجابِ؛ حتى يَقِلَّ ما بينهما مِن تجاذُبٍ ومَيْلٍ، ولا يعني هذا أنه يجوزُ للرجلِ إبداءُ مفاتِنِه؛ فيَفْتِنُ، ولا أنه يجوزُ للمرأةِ إطلاقُ بصَرِها؛ فتُفْتَن؛ ولكنَّ الوحيَ يشُدُّ الحبالَ المرتَخِيةَ في النفوسِ، أشدَّ مِن الحبالِ الثابتةِ فيها، وأقرَبُ الناسِ إلى السقوط يُجذَبُ أشدَّ مِن البعيدِ عنها، حتى تكتمِلَ فطرةُ العفافِ وتصِحَّ، فإذا لم يَغُضَّ الرجلُ بصَرَه، فإنَّ المرأةَ تدفَعُ فتنَتَه بحجابِها، وإن لم تتحَجَّبِ المرأةُ فالرجلُ يدفَعُ فتنَتَها بغَضِّ بصرِه؛ ولهذا ربَطَ اللهُ بينَ غَضِّ البصرِ وبين الزِّنَى؛ لأنَّه سببٌ له، فقال للرجالِ: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النُّور: 30]، وقال للنساء: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النُّور: 31]؛ ولكنه زاد في النساء: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النُّور: 31]. ميلُ الجنسَيْنِ بعضِهما إلى البعضِ: كثُرَتِ الدعواتُ الفكريةُ إلى التهوينِ مِن وسائل

الزنى، وربما إلى التهوينِ مِن الزنى بذاتِه، بأساليبَ متنوعةٍ، والأفكارُ الليبراليةُ اليومَ تؤصِّلُ لذلك بطرقٍ كثيرةٍ، كلُّ مجتمعٍ ويلدٍ بِحَسَبِه، ومِن أخطَرِ تلك الوسائلِ: التهوينُ مِن ميلِ الجنسَيْنِ بعضِهما إلى البعضِ، ومكابَرَةُ الفطرةِ والغريزةِ المركَّبةِ في الإنسانِ كما يُركَّبُ الماءُ مِن عناصِرِه، فيثيرون أموراً فطريةً مسلَّمةً لا عَلَاقةَ لها بالمناهي والأحكامِ الشرعيةِ التي أمَرَ اللهُ بها الجنسَيْنِ حتى لا يُكْسَرَ العفافُ وتقَعَ الفواحِشُ؛ فيُحْيُونَ أخوَّةَ الجنسينِ، و (النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ) (¬1)، ويُكْثِرُونَ مِن ذكرِ تكافُلِهما وتعاوُنِهما، ويحيونَ البراءةَ وسلامةَ القلبِ، ويُظْهِرونَ الغاياتِ الماديَّةَ الصحيحةَ، وأنْ لا حاجةَ لتنافُرِ الجنسينِ، ويجبُ كَسْرُ ما بينَهما، ويَرْمُونَ مَن يحتاطُ للغاياتِ التي حرَّمَ اللهُ الوسائلَ لأجلِها، بالشكِّ والوَسْوسةِ والرِّيبةِ والشهوانيةِ، حتى يُشْعِرُوا غيرَهم بالخجَلِ مِن سوءِ قَصْدِه المزعومِ، ويرفَعُوا رؤوسَهم بنبلِ مقاصدِهم. وأُسلوبُ التخجيلِ أُسلوبٌ عقليٌّ قديمٌ، هروباً مِن ¬

_ (¬1) يُرْوَى مرفوعاً مِن حديثِ عائشةَ رضي الله عنها؛ أخرجه أبو داود (236)، والترمذي (113).

مكابرة عدم التفريق بين الذكر والأنثى

الدليل، يُستعمَلُ عندَ عدمِ إرادةِ مناقشةِ الأدلَّةِ، تحقيراً لها ولو كانتْ عظيمةً؛ قال قومُ صالحٍ له: {قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود: 62]. ومِن أعظَمِ صورِ المكابَرَةِ للفطرةِ وللعقلِ في الفكرِ الليبراليِّ: هي مكابرةُ عدمِ التفريقِ بين الذكَرِ والأُنْثَى، وبهذا يُهَوِّنُون مِن الغاياتِ، كفاحشةِ الزنى لو وقعَتْ، وأن الغاياتِ لا تستحِقُّ لأجلِها وَضْعَ كلِّ هذه الوسائلِ التي يُسَمُّونها عراقيلَ وعقباتٍ، فهم ينظُرُون لزِنَى الجنسينِ كمصافحةِ الكَفَّيْنِ لبعضِهما؛ بل مِن المسلمينَ مَن يُعظِّمُ أمرَ مصافحةِ الجنسينِ الأجنبيَّينِ بعضِهما البَعْض أعظَمَ مِن تعظيمِ زِنَاهما في الفكرِ الليبراليِّ! انتكسَتِ الفطرةُ، وزالَتِ الغاياتُ، وزالَتِ الوسائلُ معها. ومِن هذا المبدأ -ولو لم ينطِقُوا به- أنَّهم يكابِرُون في ميلِ الجنسَيْنِ بعضِهما للبعض، حتى يصوِّروا للجُهالِ أنَّ حاجزَ الهيبةِ بين الجنسينِ في الإسلامِ لو كُسِرَ بكسرِ الحجابِ والمخالَطَةِ، لكانَتِ الأُخُوَّةُ بينهما كأُخُوَّةِ الرجالِ للرجالِ، والنساءِ للنساءِ؛ ومن المعلومِ: أنه لا أعظَمَ مِن كسرِ تلك الحواجِزِ بين الزوجينِ وما زالتِ الغريزةُ بينهما قائمةً عشراتِ السنين، يميلُ الزوجُ لزوجتِه، والزوجةُ

لزوجِها، ميلاً فطريّاً لا ينتهي، ولكن مَن هانَتْ عندَه محارِمُ الله، تعلَّقَ بأوْهَى الحُجَجِ ولو كانت كبيتِ العنكَبُوتِ. ومِن أساليبِهم في التهوينِ مِن وسائلِ الزنى: احتجاجُهم أنَّ وقوعَها لا يلزَمُ منه الوقوعُ في الغايةِ، فالنظَرُ، وتبرُّجُ المرأةِ، والاختلاطُ، وخَلْوَتُها بالأجنبيِّ عنها، لا يلزمُ منه الوقوعُ في الزنى؛ فقد ينظُرُ الرجلُ مرَّاتٍ، وتتبرجُ المرأةُ سنواتٍ، ولا يقعُ أحدُهما في الزنى، واللهُ حينما حرَّم الوسائلَ، يعلمُ أنَّ بعضَها لو وقَعَ لا يلزَمُ منه وقوعُ الغايةِ، وإلا فلا فرقَ بين الغاياتِ والوسائلِ، ولا بينَ النظرِ والتبرُّج والاختلاطِ، وبين الزنى؛ ولكنْ مِن مسلَّماتِ العقلِ والنَّقْلِ: أنَّ الوسائِلَ لو تتابعتْ أوصلَتْ للغايةِ؛ لهذا لا يفرَّقُ بين الخطوةِ الأُولَى والأخيرةِ في أصلِ النهيِ -لا في تعظيمِه- فالرجُلُ ربما ينظُرُ لمِئَةِ امرأةٍ، ويزني بواحدةٍ، والنظرُ لهذا العددِ هو وَقُودُ الوقوعِ على واحدةٍ؛ فإنَّ الخطوةَ الأخيرةَ ليست هي التي أوصلَتِ الماشيَ إلى الهاويةِ؛ وإنما هي آخِرُها، وقد وصلَ بمجموعِ الخطواتِ لا بواحدةٍ منها.

تاريخ تشريع الحجاب والستر

وتبرُّجُ المرأةِ وسفورُها وتركُها للحجابِ، مِن تلك الوسائلِ الموصلةِ إلى الفاحشةِ، سواءٌ للمرأةِ بذاتِها، أو لكونِها وقوداً لغيرها، ولو لم تشعُرْ به في نفسِها. تاريخُ تشريعِ الحجابِ والسترِ: مِن إحكامِ الله لشريعتِه: أنه يبدأُ بتحريمِ الغاياتِ قبلَ تحريمِ الوسائلِ الموصلةِ إليها؛ لأنَّ المقصدَ مِن العبوديةِ يظهَرُ في الغاياتِ أكثَرَ منه في الوسائلِ، فجاء تحريمُ الوسائلِ تبغاً، وقد كانت أكثرُ الوسائلِ مباحةً، ثم حُرِّمت بعدَ رسوخِ تحريمِ غاياتِها في النفوسِ؛ ولهذا يُمكِنُ أن تُباحَ الوسائلُ الموصلةُ للزنى في أحوالٍ نادرةٍ وخاصةٍ، لكنْ لا يمكنُ أن يُحَلَّ الزنى أبداً؛ لأنَّه محرَّمٌ لذاتِه؛ قال الله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] فالنظرُ للمرأةِ يجوزُ للعجوزِ، وللمخطوبةِ، وأن يَمَسَّ الرجلُ المرأةَ، والمرأةُ الرجلَ؛ للضرورةِ الشديدةِ للتطبيبِ والعلاجِ، ولكنَّ الزنى لا يُمكِنُ أن تُبيحَه أيُّ ضرورةٍ. ولما كانتِ الوسائلُ الموصلةُ إلى الزنى كثيرةً،

وكان تحريمُها جملةً شاقّاً على نفوسٍ حديثةِ عهدٍ بجاهليةٍ وضلالٍ؛ كطوافٍ للعُرَاةِ حولَ الكعبةِ، وشِعْرٍ فاحشٍ، وغَزَلٍ ماجِنٍ، وتساهُلٍ بزنى الإماءِ والتكسُّبِ منهنَّ: تدرَّجَتِ الأحكامُ بتحريمِ الغايةِ أولاً، وهي الزنى، قبلَ وسائِلِها الكثيرةِ؛ جذباً للنفوسِ، وتأليفاً لها، فلما حرَّم اللهُ الزنى، وشدَّد في أمرِه، وقوَّم الفِطَرَ المنحرِفةَ بجاهليةٍ سابقةٍ، ناسَبَ فحرَّم وسائلَ الزنى، بحسبِ ما يجتمِعُ فيها مِن قوَّةٍ، وسرعةٍ، وقُرْبٍ مِن فاحشةِ الزنى، ومِن هذه الوسائلِ شريعةُ الحجابِ للمرأةِ وجلبابِها وخمارِها، فشَرَعَه اللهُ في السَّنَةِ الخامسةِ، وقيلَ: قريباً منها. وقد جاء في ذكرِ أحوالِ النساءِ أحاديثُ كثيرةٌ؛ في حجابِهِنَّ، ولباسِهِنَّ، وخروجِهِنَّ قبلَ فرضِ الحجابِ، ومَن لم يَعْرِفْ تواريخَ الحوادثِ والنوازلِ، اضطربتْ عليه الأدلَّةُ؛ خاصَّةً إنْ كان في النفوسِ هَوىً، تشبَّثَتْ بأدنَى دليلٍ لا تعرِفُ إحكامَه ونَسْخَه، ويستطيعُ كلُّ واحدٍ أنْ يأخُذَ بنصوصِ الوحيَيْنِ المنسوخةِ، فيحتجَّ بها على ما يَهْوَى، حتى في أركانِ الإسلامِ، فإنَّ الصحابةَ كانوا يصلُّون ركعتَيْنِ ركعتَيْنِ، ولم تُفْرَضْ أكثرَ مِن ذلك،

بعض الكتاب يستدل بأحاديث قبل فرض الحجاب على تهوين الحجاب

حتى زِيدَتِ الظُّهْرُ والعصرُ والمغرِبُ والعشاءُ (¬1). وقد رأيتُ مِن الكُتَّابِ مَن يستدِلُّ بأحاديثَ قبلَ فرضِ الحجابِ على تهوينِ الحجابِ، والعلماءُ كانوا يَعْرِفُون هذه الأحاديثَ، وَيمُرُّون عليها مرورَ العارِفِين لمنازِلِها ومواضِعِها في الدِّينِ، ولم يَخطُرْ بالبالِ أن يَحتَجَّ بها محتجٌّ على رأيٍ خطأٍ، أو هوىً وضلالةٍ، والجهلُ بتواريخِ نزولِ الوحيَيْنِ، بابٌ لكلِّ صاحبِ هوىً، يدخُلُ منه ليأخُذَ ما يريدُ، حتى الخمرُ فالأحاديثُ والأخبارُ في شربِ الناسِ لها قبلَ تحريمِها كثيرةٌ! ولم يكنْ تشريعُ الحجابِ والسترِ باللباسِ فُرِضَ جملةً واحدةً بجميعِ تفاصيلِه؛ وإنما جاءَ متدرِّجاً. أنواعُ النساءِ في الحجابِ واللِّبَاسِ، وفسادُ قياسِ حكمِ بَعْضِهِنَّ على بعض: لا بُدَّ لمَن أراد أن يعرِفَ أحكامَ حجابِ المرأةِ ولباسِها، أن يكونَ عارفاً بأنواعِهِن؛ فالنساءُ أنواعٌ باعتباراتٍ عديدةٍ، وقد جَعَلَتِ الشريعةُ لكلِّ واحدةٍ أحكاماً ¬

_ (¬1) كما في حديثِ عائشةَ رضي الله عنها عند البخاريِّ (350)، ومسلمٍ (685).

تختصُّ بها، ومِن أحكامِها أحكامُ اللباسِ والحجابِ. والنساءُ باعتبارِ السِّنِّ: طِفْلَةٌ، وشابَّةٌ، وقاعِدٌ عجوزٌ. وباعتبارِ الرِّقِّ: حُرَّةٌ، وأَمَةٌ. وباعتبارِ الدِّينِ: مسلمةٌ، وكافرةٌ. وكُلُّهُنَّ يوصَفْنَ في اللُّغَةِ والشرعِ بالنساءِ، وتوصَفُ الواحدةُ منهنَّ بأنَّها أُنثى وامرأةٌ، ومَن لم يعرِفْ خصائصَ هذه الأنواعِ، جهِلَ واضطرَبَ في معرفةِ أحكامِ الحجابِ، وأدخَلَ نوعاً في نوعٍ، واشتبَهَ عليه الأمرُ؛ لأنَّ بعضَ الأحاديثِ والأخبارِ والرواياتِ تذكُرُ الأوصافَ والأسماءَ المشتَرَكةَ، ويزدادُ الاشتباهُ في هذا الزمانِ لتغيُّرِ الأحوالِ. وذلك أنَّ الناسَ يَغِيبُ عنهم أحكامُ الإماءِ والجواري اللَّاتي خَصَّهُنَّ اللهُ بأحكامٍ في السترِ والحجابِ، يَخْتَلِفْنَ بها عنِ الحرائِرِ، وقد كان في بعضِ بيوتِ الصحابةِ والتابعينَ: الإماءُ الخَدَمُ أكثرَ مِن الحرائِرِ، ومِن الإماءِ صحابياتٌ وتابعياتٌ، ويبقَيْنَ بأحكامِهِنَّ الخاصَّةِ بهنَّ؛ لأنَّ اللهَ يَفْرِضُ ويُشدِّدُ ويخفِّفُ على مَن شاء، كيفَما شاء؛ لعِلَلٍ وحِكَمٍ، منها الظاهِرُ، ومنها الخَفِيُّ؛ فلنساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أحكامٌ خاصَّةٌ بهنَّ، وله أحكامٌ خاصةٌ في تعدُّدِه بالنساءِ، وللرجُلِ أن يملِكَ مِن الإماءِ ما شاءَ، وليس له أن يكونَ في عصمَتِهِ مِن

الأزواجِ إلا أربعٌ، وليس للمرأةِ إلا زوجٌ، وللحُرَّةِ لباسٌ وعورةٌ، وللأَمَةِ لباسٌ وعورةٌ، والقياسُ في هذا لا يجوزُ، فحَمْلُ ما لا يجوزُ على ما يجوزُ -عند المشابَهَةِ مِن بعضِ الوجوهِ الضعيفةِ القاصرةِ- تَعَدٍّ على حدودِ اللهِ وأحكامِه. وقد جعَلَ اللهُ للأَمَةِ حدّاً في لباسِها وحجاباً يَخُصُّها، يختلِفُ عنِ الحُرَّةِ، وقد كانت عليه العربُ حتى في الجاهليةِ. قال سَبْرةُ الفَقْعَسِيُّ: وَنِسْوَتُكُمْ فِي الرَّوْعِ بَادٍ وُجُوهُهَا ... يُخَلْنَ إِمَاءً وَالإِمَاءُ حَرَائِرُ (¬1) يقولُ لهم: «إنَّكُم مِن كثرةِ نوائِبِكم وهزيمةِ الناسِ لكم، تكشِفُ نساؤكم دوماً وجوهَهُنَّ؛ خوفاً مِن السَّبْيِ»؛ لأنَّ العرَبَ في الجاهليةِ تُحِبُّ سبيَ الحرائرِ؛ لأنهن أَثْمَنُ وأشدُّ وقعاً على العدُوِّ. ¬

_ (¬1) هذا البيتُ لسَبْرَةَ بنِ عمرٍو الفَقْعَسِيِّ، يخاطِبُ به ضَمْرةَ بنَ ضَمْرةَ النَّهْشَلِيَّ. انظر: «شرح ديوان الحماسة» للمرزوقي (1/ 173)، و «شرح ديوان الحماسة» للتبريزي (1/ 178)، و «خزانة الأدب» للبغدادي (9/ 510).

مصطلحات الستر واللباس في الشريعة وفي لغة الفقهاء، ووجوب التفريق بينها

وقال الفرزدقُ: تَرَى لِلْكُلَيْبِيَّاتِ وَسْطَ بُيُوتهِمْ ... وُجُوهَ إِمَاءٍ لَمْ تَصُنْهَا البَرَاقِعُ (¬1) مصطلحاتُ السترِ واللباسِ في الشريعةِ وفي لغةِ الفقهاء، ووجوبُ التفريقِ بينهما: يَرِدُ في القرآنِ والسُّنَّةِ مِن معاني السترِ ألفاظٌ ومُصْطَلَحاتٌ عديدةٌ، تُشكِلُ على كثيرٍ مِن الناسِ، ورُبَّما استعمَلَ بعضُ الفقهاءِ بعضَ تلك المصطلحاتِ على معانٍ غيرِ مطابِقَةٍ لمعناها في الوحيِ، واستعمالُ المصطلحاتِ واسعٌ في العلومِ والفنونِ، ولكنْ يَجِبُ التفريقُ بين الاستعمالِ في لغةِ الشرعِ والاستعمالِ في لغةِ الفقهاءِ -فإنَّ اللغةَ تستوعِبُ ذلك كلَّه غالباً -حتى لا تتداخَلَ المعاني وتختلِطَ الأفهامُ في المرادِ بمصطلحِ الوحيِ، ومصطلحِ بعضِ الفقهاءِ، وتلك الألفاظُ عديدةٌ، منها: الحِجَابُ: يُستعمَلُ الحجابُ في الكتابِ والسُّنَّةِ بمعنى الحاجِزِ الساتِرِ بين شيئَيْن، ويكونُ مِن جدارٍ أو قُمَاشٍ أو خَشَبٍ، وليس هو في القرآنِ والسُّنَّةِ يُطْلَقُ على ¬

_ (¬1) «ديوان الفرزدق» (ص 363).

معنىً مِن معاني اللباسِ أو اللُّبْس، وهو المرادُ في الآيةِ لأمهاتِ المؤمِنِين: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]، ومِن هذا المعنى قولُه تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51]، وقولُه عن مَرْيمَ: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} [مريم: 17]، وقولُه عن نبيِّه سليمانَ: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32]، وقولُه عن قولِ الكفارِ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فُصِّلَت: 5]، وكذلك هو في السُّنَّةِ بمثلِ هذا المعنى، فليس هو لباساً يختَصُّ به أحدٌ، وإنما هو ساتِرٌ بين جهتَيْنِ أو شيئينِ: فقد يُطْلَقُ في اللُّغَةِ على الفَصْلِ بين رجالٍ ورجالٍ؛ كما في حديثِ أَنَسٍ رضي الله عنه في» الصحيحين» في قصةِ موتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: «أومَأَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ إلى أبي بَكْرٍ أن يتقدَّمَ وأَرْخَى الحجابَ، فلم يُقْدَرْ عليه حتى ماتَ» (¬1). وقد يُطْلَقُ على الفصلِ بين الرجالِ والنساءِ؛ كما في قولِ عُمَرَ رضي الله عنه في «الصحيح»: «يا رسولَ اللهِ! يدخُلُ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (681)، ومسلم (419).

عليكَ البَرُّ والفاجِرُ، فلو أَمَرْتَ أمهاتِ المؤمنينَ بالحجابِ! فأنزَلَ اللهُ آيةَ الحجابِ» (¬1). وقد يُطلَقُ على ما يستُرُ موضعاً مِن مواضعِ الجسَدِ، وهو قليلٌ؛ كما في «الصحيح» مِن حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه؛ قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعُنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبَيْهِ بِإِصْبَعِهِ حِينَ يُولَدُ، غَيْرَ عِيسَى بنِ مَرْيَمَ؛ ذَهَبَ يَطْعُنُ فَطَعَنَ فِي الحِجَابِ) (¬2). وهذا المعنى في هذا الحديثِ الواردِ في قصةِ عيسَى هو الذي غلَبَ في كلامِ المتأخِّرِينَ مِن الفقهاءِ والكُتَّاب؛ فيُطْلِقُون لفظَ: «الحجابِ» على ما يستُرُ البَدَنَ مِن اللباسِ، وخصَّصوه ببَدَنِ المرأةِ، ومنهم مَن يخصِّصُه جدّاً، فيجعَلُه ما يستُرُ الرأسَ والوجهَ، وهذا التخصيصُ مع عدمِ معارضَتِه لأصلِ لغةِ العربِ، إلا أنَّه غيرُ معروفٍ في لغةِ الكتابِ والسُّنَّةِ، ولا اصطلاحِ الصحابةِ، فلا بُدَّ مِن تمييزِ ذلك حتَّى لا تتداخَلَ المصطلحاتُ والاستعمالاتُ في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (402)، واللفظُ له، ومسلم (2399)؛ مختصراً. (¬2) أخرجه البخاري (3286)، واللفظُ له، ومسلم (2366)؛ بنَحْوِه.

الخمار

الشريعةِ؛ حتى زعَمَ بعضُهم: أنَّ عمومَ سترِ المرأةِ لبَدَنِها مِن خصائصِ أُمَّهاتِ المؤمِنِين لا لعمومِ المسلماتِ؛ لأنَّ اللهَ خَصَّ أمهاتِ المؤمنينَ بقولِه تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]؛ لأنَّه فسَّرَ الحجابَ باللباسِ، وهذا مِن الجهلِ العَرِيضِ. وإذا ظَهَرَ أنَّ الحجابَ ليس شيئاً مِن أنواعِ اللباسِ في الآيةِ، نعلَمُ ضعفَ قولِ مَن يقولُ: إنَّ أمهاتِ المؤمنينَ اختَصَّهُنَّ اللهُ بشيءٍ مِن أحكامِ اللباسِ في موضِعٍ مِن مواضعِ البَدَنِ، ولفظُ الحجابِ -وإنْ جازَ استعمالُه في اللغةِ وعندَ بعضِ الفقهاءِ بمعنى اللباسِ- إلا أنَّه لا يجوزُ مطابقةُ استعمالِه لاستعمالِ القرآنِ. كما يجوزُ في اللغةِ وفي استعمالِ بعضِ الفقهاءِ استعمالُ «اللَّمْسِ» بمعنَى مسِّ الرجُلِ لجسدِ المرأةِ، ولكنْ وَضْعُ هذا الاستعمالِ على قولِه تعالى في الظِّهَارِ: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] لا يَصِحُّ؛ لأنَّ المرادَ به في القرآنِ الجماعُ، واللهُ أعلَمُ. الخِمَارُ: جاء الخمارُ في القرآنِ في قولِه تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]، والخمارُ اسمُ

يستعمل الخمار لتغطية ثلاثة مواضع وشدها

مصدرٍ؛ مِن خَمَّرَ يُخَمِّرُ تخميراً؛ يعني: غَطَّى، ومنه سُمِّي الخَمْرُ خمراً؛ لأنَّه يُغَطِّي العقلَ، والخمارُ: لباسٌ تلبَسُهُ وتَشُدُّهُ المرأةُ في أعلى الرأسِ وما دونَه، ويُسَمَّى النَّصِيفَ، ويُستعمَلُ الخمارُ لتغطيةِ ثلاثةِ مواضعَ وشدِّها، وكلُّ واحدٍ منها يُضْرَبُ عليه بالخمارِ: الأوَّل: الرأسُ؛ لظاهِرِ الآية، فالرأسُ مرتكَزُ الخمارِ وقاعدَتُه، وفي بعضِ الأحاديثِ تُسَمَّى عمامةُ الرجلِ خماراً؛ جاء ذلك مِن حديثِ المغيرةِ (¬1)، وثَوْبانَ (¬2)، وبِلالٍ (¬3)، وسَلْمانَ (¬4)، وكانت أمُّ سَلَمةَ تَمْسَحُ على خمارِها (¬5)؛ يعني: بَدَلَ شعرِ رأسِها، وصحَّ عن نافِعٍ مولَى ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قال: «رأيتُ صَفِيَّةَ بنتَ أبي عُبَيْدٍ توضَّأَتْ -وأنا غلامٌ- فإذا أرادَتْ أن تمسَحَ رأسَها، سَلَخَتِ الخمارَ» (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه عبدُ الرَّزَّاق في «مصنَّفه» (740)، والدارقطني في «سننه» (1/ 192). (¬2) أخرجه أحمد (5/ 281 رقم 22419)، والبزار (4173). (¬3) أخرجه مسلم (275). (¬4) أخرجه ابنُ أبي شيبةَ في «مصنفه» (229 و 1881 و 37253)، وعنه ابن ماجه (563)، والبزار (2505). (¬5) أخرجه ابنُ أبي شيبة في «مصنفه» (224 و 250). (¬6) أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 35)، ومِن طريقِه عبد الرزاق =

الثاني: الصدر

ونحوُهُ صحَّ عن ابنِ المسيَّبِ (¬1)، والنَّخَعِيِّ (¬2). وصحَّ عن عطاءِ بنِ أبي رَبَاحٍ، قال: «إذا أرادَتْ أن تمسَحَ رأسَها، قال: تُدْخِلُ يدَيْها تحتَ الخمارِ، فتمسَحُ مُقَدَّمَ رأسِها؛ يُجزِئُ عنها» (¬3). وصحَّ عنِ ابنِ سِيرِينَ: أنَّه كَرِهَ أن تُصَلِّيَ المرأةُ وأُذُنُها خارجةٌ مِن الخمارِ (¬4). الثاني: الصَّدْر؛ لظاهِرِ قولِه: {عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]؛ لأنَّ الجيوبَ: هي ما على الصدورِ مِن الثيابِ مما يدخُلُ منه الرأسُ عند لُبْسِهِ، والضَّرْبُ يأتي مِن أعلَى ويَنْزِلُ على جيبِ المرأةِ، وهو صَدْرُها، فالجيوبُ هي الصدورُ؛ ولذا جاء في الحديثِ: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ) (¬5)، وهو نهيٌ للمرأةِ أن تَشُقَّ جيبَها عندَ المصيبةِ. ¬

_ = في «مصنفه» (51)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (43). (¬1) أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (50). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (252). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (247). (¬4) أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (5051). (¬5) أخرجه البخاري (1294)، ومسلم (103) مِن حديثِ عبد الله بنِ مسعود رضي الله عنه.

الثالث: الوجه

الثالث: الوَجْه؛ فإنَّ الخمارَ قُمَاشٌ طويلٌ ممتتَدٌّ مشدودٌ تُنزِلُه المرأةُ مِن قاعدتِه -وهي الرأسُ- على ما شاءت، ومنه الوجهُ، وصحَّ عن هثامٍ، عن حفصةَ بنتِ سيرينَ أُمِّ الهُذَيْلِ، قالتْ: «تُخَمَّرُ المرأةُ المَيِّتَةُ، كما تُخَمَّرُ الحَيَّةُ، وتُدَرَّعُ مِنَ الخمارِ قَدْرَ ذراعٍ تَسْدُلُهُ على وَجْهِها» (¬1). وقال الفرزدَقُ: نِسَاءٌ بِالمَضَايِقِ مَا يُوَارِي ... مَخَازِيَهُنَّ مُنْتَقَبُ الخِمَارِ (¬2) وكذلك: فإنَّ الخمارَ يُسَمَّى نَصِيفاً عندَ العربِ، وفي لغةِ الشرعِ؛ ولذا جاء في «الصحيح» مِن حديثِ أَنَسٍ رضي الله عنه مرفوعاً: (لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى الأَرْضِ، لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَمَلَأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحاً، وَلَنَصِيفُهَا -يعني: الخمارَ- خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) (¬3)، ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (6220)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (11219). واللفظُ لعبدِ الرزاق. (¬2) («ديوان الفرزدق» (ص 305). (¬3) أخرجه البخاري (2796 و 6568)، وهو عند مسلم (1880)؛ مختصراً.

وقد جاء في «المصنَّف» لابنِ أبي شَيْبةَ مِن مُرْسَلِ الحسَنِ تفسيرُ الخمارِ بالنَّصِيفِ صريحاً مِن قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم (¬1). وفي «المسند» لأحمدَ جاءَ مِن حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه تفسيرُ النَّصِيفِ موقوفاً عليه (¬2). والنَّصِيفُ -وهو الخِمَارُ- تُطْلِقُه العربُ على ما يُغَطَّى به الوجهُ، وقد قال النابغةُ: سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ يُرِدْ إِسْقَاطَهُ ... فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِاليَدِ (¬3) ويُستعمَلُ الخمارُ في هذه المعاني الثلاثةِ أو بعضِها، ولكنَّ أصلَ استعمالِ النساءِ للخمارِ على أنَّ له محيطاً ووسطاً يبدأُ مِن الرأسِ ويُحِيطُ به، وينزِلُ تبعاً على الكتفَيْنِ والوجهِ والصدرِ، كما قال ابنُ خزيمةَ في «الصحيح»: «الخِمَارُ الذي تَسْتُرُ به وجهَها؛ بل تَسْدُلُ الثوبَ مِن فوقِ رأسِها على وجهِها» (¬4). وإنْ كشفَتِ المرأةُ خمارَها عن وجهِها لمَحْرَمِها، ¬

_ (¬1) أخرجه ابنُ أبي شيبةَ في «مصنَّفِه» (35156). (¬2) أخرجه أحمد (2/ 483 رقم 10270). (¬3) («ديوان النابغة الذُّبْيَاني» (ص 107). (¬4) «صحيح ابن خزيمة» (4/ 203).

الجلباب

بَقِيَ مُحِيطاً بوجهِها، وقد جاء في حديثِ مسلمِ بنِ أبي حُرَّةَ، قال: «لما حُصِرَ ابنُ الزُّبَيْرِ، دخَلَ على أُمِّهِ أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ، فقَبَّلَها وقَبَّلَ ما بينَ الخمارِ إلى الوجهِ فوقَ الجَبْهَةِ»؛ رواه الحاكِمُ (¬1). والأصلُ: أنَّ الخمارَ لا يبقَى على الرأسِ، بل يكونُ منه على ما دونَه؛ ففي «صحيح البخاري»: أنَّ عائشةَ رضي الله عنها كانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَها -الذي نَذَرَتْه ألَّا تكلِّمَ عبدَ الله بنَ الزُّبَيْرِ- فتَبْكِي حتى تَبُلَّ دموعُها خمارَها (¬2). قال أبو نُعَيْمٍ الأصبهانيُّ: «الجِلبابُ: فوقَ الخمارِ، ودونَ الرِّداءِ، تستوثِقُ المرأةُ صدرَها ورأسَها» (¬3). والغالبُ: أنَّ المرأةَ عندَ تغطيتِها لوجهِها تأخُذُ الخمارَ مِن أسفَلِه الذي على صَدْرِها وترفَعُه على وجهِها، وبالنسبةِ للجلبابِ تُدْنِيه مِن فوقِ رأسِها وتَسْدُلُه أو تَضْرِبُ به على وجهِها، ويصِحُّ العكسُ، خاصَّةً إن كان الخمارُ واسعاً سدَلَتْ منه شيئاً مِن رأسِها على وجهِها. الجلبابُ: جاء ذِكْرُ الجلبابِ في قولِه تعالى: ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكِمُ في «المستدرَك» (4/ 525 _ 526). (¬2) «صحيح البخاري» (6073). (¬3) «مستخرَج أبي نُعَيْم» (1997).

الفرق بين الخمار والجلباب

{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59]. وهو ما يكونُ مِن لباسٍ فَضْفَاضٍ فوقَ الخمارِ يستوعِبُ أعلى البَدَنِ ووسطَهُ، وهو دون الرداءِ، ويُسْدَلُ فيُغَطَّى به الوجهُ والصدرُ؛ ففي «الصحيحينِ» مِن حديثِ عائشةَ رضي الله عنها، قالتْ: «فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي» (¬1). والجلبابُ قريبٌ مِن العَبَاءةِ اليومَ؛ لكنَّها غيرُ مفصَّلةٍ، ويسمَّى القِنَاعَ أو المُلاءَةَ. والفَرْقُ بين الخمارِ والجلبابِ: أنَّ الخمارَ يكونُ تحتَ الجلبابِ، والخمارُ تلبَسُه المرأةُ، وتشُدُّه على رأسِها وما دونَه، ويكونُ ملاصقاً للجسمِ مشدوداً، بخلافِ الجلبابِ فهو غطاءٌ زائدٌ فوقَه فضفاضٌ يُرخَى غالباً، ولا يُشَدُّ لا على الوجهِ ولا على الصدرِ، بحيثُ يُبْرَزُ حجمُ العُضْوِ؛ ولذا ففي «صحيح مسلم» عن أُمِّ سُلَيْمٍ أنَّها خرجَتْ مستعجِلةً تَلُوثُ خِمَارَها (¬2)؛ يعني: تُدِيرُه على رأسِها وتَشُدُّه، والخِمَارُ هو الذي تَصُرُّ بطَرَفِه بعضُ النساءِ الأوائلِ دنانيرَها لتماسُكِه وثباتِه عليها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4141 و 4750)، ومسلم (2770). (¬2) «صحيح مسلم» (2603).

التاريخ والواقع وأثره على الفقه

التاريخُ والواقعُ وأثَرُه على الفِقْه: اتَّسَعَ الإسلامُ وانتشَرَتْ نصوصُه وأدلَّتُه، على أُمَمٍ وشعوبٍ، متبايِنةِ العاداتِ، مختلِفَةِ المشارِبِ والأفهامِ، منها وَثَنِيَّةٌ، ومنها كتابيَّةٌ، ومنها ما لا دِينَ له، واختلفَتِ الألسُنُ حتى مِن العربِ: عربٌ عروبَتُهم قريبةٌ مِنِ استعمالاتِ القرآنِ، وعربٌ بعيدونَ عن استعمالِه، وبين ذلك شعوبٌ وقبائلُ، ويَغلِبُ على النفوسِ ربطُ المصطلحاتِ والألفاظِ بأقرَبِ استعمالٍ لغويٍّ أو عُرْفِيٍّ، فأثَّرَتِ اللغاتُ والعاداتُ والدياناتُ السابقةُ على فقهِ أصحابِها، وغالباً أنَّ النفوسَ -وإن لم تَشْعُرْ -لا تُحِبُّ أنْ تخرجَ عما هي عليه مِن عرفٍ وعادةٍ وواقعٍ، فانتشَرَ القرآنُ والحديثُ على شعوبٍ يختلِفُون في مِقْدارِ العفافِ والسَّتْرِ، حتى بلَغَ في شعوبٍ عادَتُها تلثُّمُ رجالِها، وسفورُ نسائِها، وعكَسَتْ بعضُ المجتمعاتِ التشريعَ؛ فتتخَمَّرُ العجوزُ وتتغَطَّى، وتتبَرَّجُ بنتُها، حتى إذا كَبِرَتِ الشابَّةُ وقَعَدَتْ، تخمَّرَتْ، وبينَ ذلك أحوالٌ وعاداتٌ لا حَصْرَ لها. تتقَلَّبُ الشعوبُ وتتدرَّجُ في تغَيُّرِ عاداتِها، وتدورُ بها دائرةُ التغييرِ كدائرةِ الفَلَكِ، وتختلِفُ أزمانُ التغييرِ فيها بينَ عقودٍ، وبين قرونٍ، بحَسَبِ المؤثِّرَاتِ عليها، ولو قُدِّرَ للناظرِ

أن يكونَ القرنُ الواحدُ للشعوبِ لديه ما ليومِ الواحدِ، فأخذَ ينظُرُ إليهم يَتقلَّبُونَ في لباسِهم وهيئاتِهم، ومآكِلِهم ومشارِبِهم، وألسنَتِهم ومساكِنِهم، لظهَر له أنَّ آخِرَ قَرْنِهم لا يعرِفُ ما كان عليه أوَّلُه، وكلٌّ يَظُنُّ أنَّه مُتَّصِلٌ بمَن سبَقَه، وهو يَتقلَّبُ ببُطْءٍ وهو لا يشعُرُ، ولولا أنَّ القرآنَ يَقُصُّ والتاريخَ يُكْتَبُ، لظَنَّ الناسُ اليومَ أنَّهم على ما كان عليه أبوهم آدَمُ. ولهذا؛ فلا عبرةَ بما عليه الأُمَمُ والشعوبُ والدُّوَلُ، فإنَّ للواقِعِ المُشاهَدِ تأثيراً على فقهِ الفقيهِ، فضلاً عن جهالةِ الجاهلِ، فيظُنُّ الجاهلُ أنَّه حينَما يفتَحُ عينَيْهِ على لباسِ أهلِه أو بلدِه، أنَّ هذا الأمرَ متسلسِلٌ على ما كانَ عليه الناسُ في زمَنِ النبوَّةِ، وربما يتأثَّرُ بعضُ الفقهاءِ والكُتَّابِ بالواقعِ، فيحمِلُه على ترجيحِ قولٍ على قولٍ، أو تغييرِ قِيَمِ الأقوالِ لِيناً وشِدَّةً، حتى رأيتُ أحدَ محقِّقِي أحدِ كتبِ السُّنَّةِ يُغَيِّرُ ما في المخطوطِ في تعليقِ أحدِ الأئمةِ السابقينَ على أحدِ الأحاديثِ النبويَّةِ مِنْ: «كشف وجهها حراماً» إلى: «كشف رأسها حراماً»، فحذَفَ الوجهَ، وأبدَلَه بالرأسِ، كما في كتابِ «شرح مُشْكِلِ الآثار» للطَّحَاوِيِّ (¬1)؛ ويدُلُّ على حسنِ قصدِ المحقِّقِ: أنَّه نبَّه في الحاشيةِ على ¬

_ (¬1) «شرح مشكل الآثار» (5/ 397).

ميل نفوس كثير من الكتاب إلى محاكاة الواقع، وتتبع ما يوافقه من النصوص والآثار

فِعْلِه، مع أنَّ الخمارَ يُلَفُّ به الرأسُ، ويُضْرَبُ به ما دونَه؛ كما تقدَّمَ بيانُه (¬1)، وقد ذكَرَ نَصَّ الطحاويِّ كما هو: أبو المَحَاسِنِ الحنفيُّ في كتابِه «المُعْتَصَر مِن المُخْتَصَر مِن مشكِلِ الآثار»، فقال: «وكان كشفُها وجهَها حراماً» (¬2)، وأبو المحاسِنِ مِن فقهاءِ الحنفيةِ في القرنِ الثامنِ. ومِن هذا: ما في تعليقِ أحدِ أهلِ العلمِ على قولِ ابنِ حَجَرٍ في «الفَتْح»: «فاخْتَمَرْنَ بها؛ أي: غَطَّيْنَ وجوهَهُن» (¬3)، قال: «وجوههنَّ: يحتَمِلُ أن يكونَ خطأً مِن الناسخِ، أو سبقَ قَلَمٍ مِن المؤلِّفِ؛ أرادَ أن يقولَ: «صُدُورَهُنَّ «، فسَبَقَه قَلَمُه» (¬4)! ومع شدَّةِ وَطْأَةِ الواقعِ والتغريبِ الإعلاميِّ والفكريِّ، وعَيْشِ كثيرٍ مِن المسلِمِين في بُلْدانِ الغربِ، أخذتْ نفوسُ كثيرٍ مِن الكُتَّابِ تَمِيلُ إلى محاكاةِ الواقعِ، وتتبُّعِ ما يوافِقُه مِن نصوصِ الوحيِ، وآثارِ السلَفِ والفقهاءِ، مِن المحكَمِ تارَةً، ومِن المتشابِهِ تاراتٍ؛ حتى بلَغَ الأمرُ ببعضِ الكُتَّابِ ¬

_ (¬1) انظر: «رد المحتار» (2/ 79)، و «حاشية الطحطاوي على الدر المختار» (1/ 191). (¬2) «المعتصر» (1/ 261). (¬3) «فتح الباري» (8/ 490). (¬4) انظر: «الرد المفحِم» للألباني (ص 20).

العرب ولباس المرأة

أن يُشكِّكَ بأصلِ مشروعيَّةِ تغطيةِ المرأةِ لوجهِها؛ بل مِنهم مَن يُشكِّكُ بأصلِ مشروعيةِ الحجابِ، وسترِ المرأةِ كلِّه، وجعَلَه عادةً لا عبادةً؛ لأنَّ للواقعِ المشاهَدِ في الإعلامِ أثراً على أفهامِ العقلاء؛ فكيفَ بالسفهاءِ وأهلِ الأهواء؟! وطالِبُ الإنصافِ يجبُ عليه أن يَتجرَّدَ مِن تأثيرِ واقِعِه أيّاً كان، ويَفهَمَ القرآنَ بلسانِ أهلِ البيانِ، وتفسيرِ أقربِ الناسِ إلى نزولِه، الذين خالَطُوه عملاً ولساناً مع سلامةِ قَلْبٍ، فنزلَ القرآنُ على لسانِهم واستعمالِهم، فتطابَقَت ألفاظُ القرآنِ على أفهامِهم، وهي تنزِلُ كتطابُقِ القدورِ وأغطيَتِها. العربُ ولباسُ المرأةِ: لم يثبُتْ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أرشدَ إلى لباسِ قبيلةٍ أو أُمَّةٍ بعينِها، وإنما ثبَتَ ذلك عن الخليفةِ الراشدِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه؛ فقد كتَبَ لِمَن في أَذْرَبِيجانَ مِن عُمَّالِه وأصحابِه: «عَلَيْكُمْ بِاللِّبْسَةِ المَعَدِّيَّةِ، وَإِيَّاكُمْ وَهَدْيَ العَجَمِ؛ فإِنَّ شَرَّ الهَدْيِ هَدْيُ العَجَمِ». أخرجَه ابنُ أبي شيبةَ، وابنُ شَبَّةَ، وغيرُهما، بسندٍ صحيحٍ، وأصلُه في «المسنَد» لأحمد (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه ابنُ أبي شيبة في «مصنفه» (25366 و 33593)، وأحمد (1/ 43 رقم 301).

قبائل معد بن عدنان وفروعها

ومرادُه: ما كان عليه قبائِلُ مَعَدِّ بنِ عَدْنانَ، وهم ذُرِّيَّةُ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ، بلا خلافٍ، وقد ثبتَ مِن وجهٍ آخَرَ عن عمرَ رضي الله عنه قولُه: «عَلَيْكُمْ بِلِبَاسِ أبِيكُمْ إِسْمَاعِيلَ»؛ رواهُ ابنُ الجَعْدِ، بسندٍ صحيحٍ (¬1). والمرادُ: تشبَّهُوا بلباسِ بني مَعَدِّ بنِ عدنانَ زِيّاً وخشونةً، ومِن المهمِّ معرفةُ ما كانتْ عليه أقربُ الناسِ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم نسباً الذين عاش بينَهم؛ فإنَّ فهمَ الحالِ التي نزلَ عليها القرآنُ، مما يُعِينُ على فهمِ مقصودِه، وقد كانت طوائفُ مِن العجَمِ على ما كانت عليه مَعَدُّ بنُ عدنانَ، كعجَمِ أصبهانَ؛ كما قال الأصمعيُّ: عجَمُ أصبهانَ قريشُ العَجَمِ» (¬2)؛ يعني: في هَدْيِها وأخلاقِها، ولباسِها وشِيَمِها. وقبائلُ مَعَدِّ بنِ عدنانَ هي بطونٌ مِن العربِ، وفروعُها الكُبرى: رَبِيعةُ ومُضَرُ، ومِن بطونِها الدُّنيا: قُرَيْشٌ وكِنَانَةُ وأَسَدٌ وهُذَيْلٌ وتَمِيمٌ ومُزَيْنَةُ وضَبَّةُ وخُزَاعَةُ وهَوَازِنُ وسُلَيْمٌ وثَقِيفٌ ومازِنٌ وغَطَفانُ وباهِلَةُ وتَغْلِبُ وبنو حَنِيفةَ، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو عوانةَ في «مستخرَجِه» (8514)، والبَغَوِيُّ في «الجَعْدِيَّات» (995)، وابن حِبانَ في «صحيحه» (5454). (¬2) رواه عنه أبو طاهِرٍ السِّلَفِيُّ في كتاب «فضل الفُرْس». انظر: «اقتضاء الصراط المستقيم» (1/ 403).

الأصل في نساء معد بن عدنان، وكثير من قبائل العرب، الستر التام

وقيل: قُضَاعَةُ وجُهَيْنَةُ، ونَهْدٌ وكَلْبٌ وخَوْلانُ وبَلِيٌّ ومُهْرةُ وغيرُهم، وفيهم اليومَ قبائلُ كثيرةٌ؛ كعُتَيْبةَ وعَنَزَةَ وبَنِي مُرَّة وبَنِي سُلَيْمٍ وبني هلالٍ ومُطَيْرٍ والدَّوَاسِرِ وسُبَيْعٍ والسُّهُولِ، وخَلْقٍ. وقد كانَ الأصلُ في نساءِ مَعَدِّ بنِ عدنانَ، وكثيرٍ مِن قبائلِ العربِ، السَّتْرَ الغالبَ للبَدَنِ، سواءٌ منهم الوَثَنِيُّ أو الكتابيُّ، حتى يُقالَ في مَثَلِهم السائرِ: «العَوَانُ لا تُعَلَّمُ الخِمْرَةَ» (¬1)؛ يعني: هيئةَ الاختمارِ؛ لأنها معتادةٌ عليها مِن صِغَرِها، فلا تحتاجُ إلى تعليمٍ وهي كبيرةٌ، حتى كان كثيرٌ مِن نسائِهم لا تكشِفُ وجهَها إلا في الإحرامِ للنُّسُكِ، وهذا مما بَقِيَ فيهم مِن مناسكِ الحنيفيَّةِ، حتى لم يفرِّقُوا بينَ سفورِ المرأةِ لإحرامِها، وبينَ سفورِها عند الرجالِ ولو كانتْ مُحْرِمةً في الحجِّ، قال خُفَافُ بنُ نُدْبَةَ السُّلَمِيُّ: وأَبْدَى شُهُورُ الحَجِّ مِنْهَا مَحَاسِناً ... ووَجْهاً متَى يَحْلِلْ لهُ الطِّيبُ يُشْرِقِ (¬2) وكانوا يُفَرِّقُون بين الحُرَّةِ والأَمَةِ بكشفِ الوجهِ، ¬

_ (¬1) انظر: «الأمثال» لأبي عُبيد (265)، و «جمهرة الأمثال» للعسكري (2/ 38)، و «مجمع الأمثال» للميداني (1/ 19). (¬2) انظر: «الأصمعيات» (ص 22).

تستر نساء نصارى العرب

والحرائرُ لا يكشفْنَ إلا عندَ الشدائدِ والحروبِ عندَ خوفِ السَّبْيِ والأسْرِ؛ ليَرَاهُنَّ العدوُّ فيَتْرُكَهُنَّ زُهداً بهن؛ قال سَبْرَةُ بنُ عمرٍو الفَقْعَسِيُّ: وَنِسْوَتُكُمْ فِي الرَّوْع بادٍ وُجُوهُها ... يُخَلْنَ إِمَاءً وَالْإمَاءُ حَرَائِرُ (¬1) وقد كانَتْ تُسْتَرُ نساءُ نصارى العربِ؛ فيقولُ شاعرُهم الأخطَلُ التَّغْلَبِيُّ: أَنِفْتُ لِبِيضٍ يَجْتَلِيهِنَّ ثابِتٌ ... بِدَوْغَانَ، يَهْفُو قَزُّهَا وحَرِيرُهَا إذَا أَعْرَضَتْ بَيْضَاءُ قالَ لها: اسْفِرِي ... وكانتْ حَصَاناً لا يُنَالُ سُفُورُهَا (¬2) وتسمِّي العربُ ما يغطَّى به الوجهُ بأسماءٍ، منها: (الغُدْفَة) (¬3)، و (الوَصَاوِص) (¬4)، و (النَّصِيف) (¬5)، ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص 42). (¬2) «ديوان الأخطل» (ص 468). (¬3) انظر: «المحيط في اللغة» (5/ 42). (¬4) انظر: «غريب الحديث» لأبي عبيد (5/ 515). (¬5) انظر «غريب الحديث» لأبي عبيد (1/ 379)، و «جمهرة اللغة» (2/ 892).

معنى السفور عند العرب

و (النِّقَاب) (¬1)، و (البُرْقُع) (¬2)، و (القِنَاع) (¬3)، و (المَيْسَنانيّ) (¬4)، وغيرُ هذا مما تقدَّمَ دخولُه فيما يُغَطَّى به الوجهُ مما سبق؛ كالخمارِ والجلبابِ، وغيرِهما. ومعنَى السفورِ عندَ العربِ: هو كشفُ المرأةِ لوجهِها، وليس المرادُ بذلك كَشْفَها لشعرِها أو نحرِها؛ لأنه لا يعرَفُ عندَ غالبِ العربِ والعجَمِ كشفُ المرأةِ لشعرِها؛ قال تَوْبَةُ بنُ الحُمَيِّرِ: وكُنْتُ إذَا ما جِئْتُ لَيْلَى تَبَرْقَعَتْ ... فقَدْ رَابَنِي مِنْهَا الغَدَاةَ سُفُورُهَا (¬5) وقد ذكَرَ بعضُ المفسِّرِين -كمُقاتِلِ بنِ حَيَّانَ-: أنَّ تبرُّجَ الجاهليةِ الأولَى -قبلَ وُجودِ العربِ- الذي نَهَى اللهُ عنه في قولِه: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]؛ ¬

_ (¬1) انظر: «غريب الحديث» لأبي عبيد (5/ 514). (¬2) انظر: «تهذيب اللغة» (3/ 294). (¬3) انظر: «جمهرة اللغة» (2/ 942 - 943). (¬4) انظر: «المحكم والمحيط الأعظم» (8/ 534). (¬5) نسَبَه له ابنُ قتيبةَ في «الشعر والشعراء» (1/ 445)، والأزهريُّ في «تهذيب اللغة» (3/ 294). وهو في «العين» للخليلِ بن أحمدَ (2/ 298) غيرَ منسوبٍ، وفيه: «زُرْتُ»، بدلَ: «جِئْتُ».

أنَّهُنَّ كُنَّ يُلْقِينَ الخمارَ على رؤوسِهِنَّ ولا يَشْدُدْنَه (¬1)، ومع ذلك نهى اللهُ عنه، وشدَّد عليه، وذكَرَه مثالاً، لفعلِ سُوء. وقد جاء عن بعضِ السلفِ -كابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وغيرِه-: أنَّ تبرُّجَ الجاهليةِ الأُولَى كان بين نُوحٍ وإدرسَ (¬2)، ولو كان هناك تبرُّجٌ عامٌّ في التاريخِ بعدَه أسوَأُ منه، لذَكَرَهُ اللهُ مثالاً. والأُمَمُ تتقلَّبُ بين الرجوعِ إلى الفطرةِ وبينَ الانسياقِ لإبليسَ، وكُلَّمَا ابتَعَدَتْ أعادَها اللهُ بالوحيِ، وسَتْرُ النساءِ شِرْعةٌ وفطرةٌ للأنبياءِ والصالحينَ في كلِّ زمَنٍ، وقد صحَّ عن عُمَرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه أنَّه فسَّرَ قولَ اللهِ تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص: 25]؛ بتغطيةِ وجهِها بثوبِها؛ أخرَجَه ابنُ أبي شَيْبة (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: «تفسير ابن كثير» (11/ 152). (¬2) أخرجه ابنُ جرير في «تفسيره» (19/ 98 - 99)، والحاكم في «المستدرك» (2/ 548) - وعنه البيهقي في «شُعَب الإيمان» (5068) - مِن حديثِ ابن عباس رضي الله عنهما. وانظر: «فتح الباري» (8/ 520). (¬3) أخرجه ابنُ أبي شيبة في «مصنفه» (32503)، والحاكم في «المستدرك» (2/ 407).

معنى كلمة (العورة) لغة وعرفا وشرعا

معنى كلمةِ (العَوْرةِ): تَسْتعمِلُ العربُ الكلمةَ على وضعٍ، ثم تَتوسَّعُ في إطلاقِها على ما يُشارِكُها مِن المعاني ولو مِن بعضِ الوجوهِ لا كُلِّها؛ كلفظةِ (المَسِّ)، وهي مباشَرَةُ الشيئَيْنِ بعضِهما لبعضٍ والتِصاقُهما؛ كقولِه تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]، ثم تُوسِّعَ في إطلاقِه حتى للمعنويَّاتِ؛ كقولِه: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ} [يونس: 12]، وعلى تلبُّسِ الجِنِّيِّ بالإنسيِّ: {لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]، وتُطلَقُ أيضاً على الجِماعِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]، وإن كان القَدْرُ المشترَكُ بينَها واحداً ولوِ اختلَفَ المعنَى بينها وتباعَدَ جِدّاً. ومِن ذلك: مصطلَحُ (العورةِ)؛ فأصلُ إطلاقِهِ على النقصِ والخَلَل، ولما كان صاحبُ النقصِ يَكْرَهُ أن يُرى وينكشِفَ نَقْصُه، دخَلَ في معنى (العَوْرةِ) كُلُّ ما يَشْترِكُ في كراهةِ رؤيَتِهِ عقلاً أو شرعاً أو عُرْفاً: ففي العُرْفِ: لا يُحِبُّ الناسُ أن تُرى بيوتُهم مِن الداخلِ إلا بإذنِهم؛ فقال اللهُ على لسانِ المنافِقِين: {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13]؛ أي: تُدخَلُ ونحنُ نَكرَهُ،

قد يكون العضو الواحد عورة في حال، وليس بعورة في حال أخرى

ولا أحَدَ يَمنَعُ، فتسمَّى البيوتُ المفتوحةُ عورةً وإنْ كانتِ البيوتُ لا عيبَ فيها ولا نقصَ، ويُطلَقُ على الجهةِ التي يَكْرَهُ الإنسانُ أن يُدخَلَ عليه منها: عورةٌ؛ كبابِ البيتِ، ونافِذَتِه، وثُقْبِ البابِ، وجهةِ الحيِّ والمدينةِ التي لا حارِسَ عليها مِن عدوٍّ أو سارِقٍ؛ قال لَبِيدٌ: حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَداً فِي كَافِرٍ ... وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا (¬1) وفي الشرعِ: أُطْلِقَ على معانٍ تعبديَّةٍ؛ كعَوْرةِ الصلاةِ؛ فيقولون: «المرأةُ كُلُّها عَوْرةٌ إلا وجهَها وكَفَّيْها»؛ لأنَّ الشارعَ يَكْرَهُ كشفَها في الصلاةِ، ولو كانت المرأةُ وحدَها ببيتِها، ولما كان اللهُ يَكْرَهُ أن يَكْشِفَ الرجالُ والنساءُ مواضعَ معيَّنةً مِن أبدانِهم، سُمِّيتْ عورةً، ولما كانَتِ المرأةُ العفيفةُ تكرَهُ أن ينظُرَ إلى شيءٍ مِن جسمِها رجلٌ غيرُ زوجِها غريزةً وشَهْوةً، سُمِّيَ المنظورُ إليه عورةً. فقد يكونُ العضوُ الواحدُ في حالٍ عورةً، وفي حالٍ ليس بعورةٍ؛ كوجهِ الأَمَةِ، ووجهِ الحُرَّةِ، ووجهِ الشابَّةِ، ووجهِ العجوزِ، بل يختلِفُ بحسبِ الناظِرِ؛ إن كان ذكَراً ¬

_ (¬1) «ديوان لبيد» (ص 114).

اشتراك لفظ العورة بين السوءتين والوجه

طفلاً لم يُصبِحْ ما ينظُرُ له عورةً، وإنْ كان بالغاً أصبَحَ عورةً؛ لهذا قال اللهُ: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31]. وقد اتَّخَذَ بعضُ مَن لا يَفهَمُ لغةَ العربِ ولا مصطلحاتِ الشرعِ مصطلحَ العورةِ مدخلاً للتقليلِ مِن حجابِ المرأةِ وسَتْرِها لوجهِها والسخريةِ به؛ لاشتراكِ لفظِ العورةِ بين السَّوْءَتَيْنِ والوجهِ؛ وهذا كحالِ مَن لا يُفرِّقُ بين إطلاقاتِ مصطلَحِ: (المَسِّ)؛ فلا يُفرِّقُ بين مَسِّ المُصحَفِ: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]، وبين جماعِ الزوجَيْنِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3 و 4]. عورة الصلاةِ، وعورةُ السترِ والنظَرِ، وخلطُ كثيرٍ من الكُتَّاب بينهما: جعَلَ اللهُ لبعضِ العباداتِ أحكاماً في اللباسِ تختصُّ بها، وذلك للرجالِ والنساءِ في الصلاةِ والحجِّ؛ فشرَعَ اللهُ للمرأةِ لباساً على وصفٍ، وللرجالِ لباساً على وصفٍ: أمَّا الصلاةُ: ففي الرجالِ جاءت أحاديثُ، منها ما في «الصحيحَيْنِ»، قال صلى الله عليه وسلم: (لَا يُصَلِّي أحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ

الوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ شَيْءٌ) (¬1)، واختُلِفَ في الحدِّ الذي تبطُلُ صلاةُ الرجلِ بكشفِه له، والجمهورُ: أنَّ عَوْرَتَهُ ما بينَ السُّرَّةِ إلى الرُّكْبةِ، وفي النساءِ جاءتْ أحاديثُ أيضاً، ومنها ما في «السُّنَن»، قال صلى الله عليه وسلم: (لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلا بِخِمَارٍ) (¬2). وللصلاةِ أحكامٌ خاصَّةٌ بها في لباسِ الجنسَيْنِ، وللحجِّ أحكامٌ خاصَّةٌ به في لباسِ الجنسَيْنِ أيضاً، سواءٌ كان أحدُ الجنسينِ وحدَهُ أو كان مع غيرِه، يجبُ عليه أن يستُرَ ما أُمِرَ بسترِه، وكلُّ حكمٍ في اللباسِ ورَدَ به نصٌّ خارجَ الصلاةِ والحجِّ، فهو مستقِلٌّ لا يرتبِطُ بهما. وكثيرٌ مِن الكُتَّابِ ينقُلُ أقوالَ الفقهاءِ عندَ كلامِهم على لباسِ المرأةِ في الصلاةِ: «المَرْأَةُ عَوْرةٌ إلا وَجْهَها وكَفَّيْها»، ويجعلُها في أحكامِ النظرِ، ولا يفرِّقُ بين عورةِ الصلاةِ والسَّتْرِ، وعورةِ النظرِ، والمرأةُ يجبُ عليها أن تستُرَ كلَّ شيءٍ في صلاتِها إلَّا وجهَها وكَفَّيْها، ولو كانت ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (359)، ومسلم (516)؛ من حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) أخرجه أبو داود (641)، والترمذي (377)، وابن ماجه (655)؛ مِن حديثِ عائشة رضي الله عنها.

في بيتِها وحدَها، وإنْ شهِدَها أحدٌ مِن مَحارِمِها أو زَوْجُها، وأظهَرَتْ شعرَها وصَلَّتْ، بطَلَتْ صلاتُها، وليس لها أن تقولَ: «إنَّه لا يراني إلا زَوْجِي» مثلاً؛ فإنَّ سَتْرَها لبدنِها إلا وجهَها وكَفَّيْها حينئذٍ للصلاةِ، لا لمَن يراها ولو كان زوجَها؛ فهذه عَوْرةُ صلاةٍ، لا عَوْرةُ نَظَرٍ، وهكذا فإنَّه نَصَّ بعضُ الفقهاءِ أنَّ المميِّزةَ الصغيرةَ تُسْتَرُ للصلاةِ كالبالغةِ، مع أنَّ الصغيرةَ تخرُجُ للرجالِ الأجانبِ، ولا عورةَ نظرٍ عليها. بل نَصَّ الفقهاءُ مِن المذاهبِ الأربعةِ على أنَّ المرأةَ إن كانت في الصلاةِ وعندَها أجانبُ، أنَّها تستُرُ وجهَها؛ نصَّ عليه الخطيبُ الشِّرْبِينِيُّ مِن الشافعيةِ؛ فقال: «إلا أنْ تكونَ بحضرةِ أجنبيٍّ ... فلا يجوزُ لها رفعُ النِّقَاب» (¬1)، ومِن المالكيةِ اللَّخْمِيُّ، ومِن الحنابلةِ ابنُ تيميَّةَ وغيرُه، وأشار إليه الطحطاويُّ وغيرُه مِن الحنفيةِ. وعدمُ التفريقِ بين سياقاتِ الأئمَّةِ في عورةِ الصلاةِ وعورةِ النظرِ مِن أكثرِ ما يخطِئُ به النَّقَلةُ؛ فيأخُذُون كلامَ الفقهاءِ في عورةِ الصلاةِ، ويَضَعُونه في عورةِ النظرِ، ¬

_ (¬1) انظر: «الإقناع، في حلِّ ألفاظ أبي شُجَاع» (1/ 124).

صلاة نساء الصحابة خلف الرجال مع الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يلزم منه رؤيتهن

ولا ينظُرُون للسياقِ، وربما نَظَرَ بعضُهم لِمَا صحَّ أن نساءَ الصحابةِ يُصَلِّينَ خلفَ الرجالِ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في المساجدِ، ويَتصوَّرُ لازماً ذهنيّاً أنَّ الرجالَ يرونَ النساءَ بعدَ الصلاةِ؛ وهذا خطأٌ مِن وجهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ الصحابةَ تكونُ وجوهُهم إلى القِبْلةِ، وأنْ سلَّموا، انتهتِ الصلاةُ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم ينهَى الصحابةَ أن يتحرَّكُوا حتى تخرُجَ النساءُ؛ ففي البخاريِّ، عن أُمِّ سَلَمةَ رضي الله عنها، قالت: «إنَّ النساءَ في عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كُنَّ إذا سَلَّمْنَ مِنَ المكتوبةِ، قُمْنَ، وثبتَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومَن صَلَّى مِن الرجالِ ما شاء اللهُ، فإذا قام رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قام الرجالُ» (¬1). الثاني: يجوزُ للمرأةِ إنْ صلَّت عندَ الرجالِ تغطيةُ وجهِها؛ لأنَّ كشفَ وجهِ المرأةِ وكَفَّيْها في الصلاةِ ليس مِن واجباتِ الصلاةِ بالإجماعِ، ولكنَّ تغطيةَ غيرِ الوجهِ والكفينِ واجبٌ؛ فيجبُ التفريقُ بين ما يجبُ سترُه وما يجوزُ كَشْفُه؛ فللمرأةِ أن تُغطِّيَ وجهَها في الصلاةِ بسببِ مرورِ رجلٍ أو غُبَارٍ أو رِيحٍ كريهةٍ ولا تبطُلُ صلاتُها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (866).

نقاب المرأة في الحج

نِقَابُ المرأةِ في الحَجِّ: يَربِطُ كثيرٌ مِن الكُتَّابِ بين مسألتينِ مُنفكَّتَيْنِ: الأُولَى: تحريمُ النقابِ على المُحْرِمةِ. الثانية: تغطيةُ وجهِها عند الرجالِ الأجانبِ في الحجِّ. ويجبُ أن يُعلَمَ أنَّ اللهَ حرَّم حالَ الإحرامِ على الرجلِ لباساً، وعلى المرأةِ لباساً، أمَّا الرجُلُ: فحرَّم عليه اللباسَ المفصَّلَ على جسمِه أو عضوٍ مِن أعضائِه؛ كالثيابِ، والسراويلِ، والخُفَّيْنِ، والجَوْرَبَيْنِ، وشِبْهِها، وأمَّا المرأةُ: فحرَّم عليها مِن اللباسِ نوعَيْنِ: النِّقابَ، والقُفَّازَ، وتحريمُ لباسٍ معيَّنٍ لا يعني كشفَ العضوِ؛ فالحكمُ يتعلَّقُ باللباسِ لا بما تحتَه؛ فالرجلُ يغطِّي كلَّ الأعضاءِ التي نُهِيَ عن استعمالِ لباسٍ مخصَّصٍ لها، فيغطِّي قَدَمَه؛ ولكنْ لا يَلبَسُ الخُفَّ، ويغطِّي جسدَه كلَّه أعلاه وأسفَلَه إلا رأسَه؛ لكنْ لا يلبَسُ القميصَ والسِّرْوالَ والفانيلةَ، ولا يُقال له: اكشِفْ كلَّ عضوٍ مِن جسدِكَ حرَّم اللهُ عليكَ أن تلبَسَ عليه شيئاً مفصَّلاً. فتلك مسألتانِ منفصلتانِ، فلو غطَّتِ المرأةُ كفَّيْها بثوبٍ، لم تَأثَمْ، ولو لَبِسَتْ قُفَّازاً، أثِمَت، فالحكمُ لِلِّباسِ

الحكم يتعلق باللباس، لا بما تحته؛ فتحريم لباس معين لا يعني كشف العضو

لا للعُضْو، ويبقى حكمُ سترِ أعضاءِ الرجلِ والمرأةِ بغيرِ أنواعِ اللباسِ المنهِيِّ عنها بحسبِ حكمِها قبلَ الإحرامِ؛ فما وجَبَ سَتْرُه، يجبُ سترُه عند قيامِ موجِبِه، وما يُستحَبُّ سترُه، فيبقى على حكمِه لا يُغَيِّرُ منه الإحرامُ شيئاً، ولم يثبُتْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه نهى عن تغطيةِ المرأةِ لوجهِها؛ وإنما النهيُ كان عن النقابِ بعينِه. والقولُ بأنَّ: تحريمَ النقابِ على المرأةِ المُحْرِمةِ في الحجِّ؛ يعني: وجوبَ كشفِها لوجهِها، يلزَمُ مِنه أنَّ الرجلَ يجبُ عليه أن يكشِفَ ما تحتَ اللباسِ الذي نهاه اللهُ عن لبسِه، فحديثُهما واحدٌ، وفي سياقٍ واحدٍ؛ ففي «الصحيحَيْنِ»، عن عبد الله بنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قال: قامَ رجلٌ، فقال: يا رسولَ الله، ماذا تأمُرُنا أن نلبَسَ مِن الثيابِ في الإحرامِ؛ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَا تَلْبَسُوا القَمِيصَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا العَمَائِمَ، وَلَا البَرَانِسَ؛ إِلَّا أنْ يَكُونَ أَحَدٌ لَيْسَتْ لَهُ نَعْلَانِ، فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْ أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئاً مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلَا الوَرْسُ، وَلَا تَنْتَقِبِ المَرْأَةُ المُحْرِمَةُ، وَلَا تَلْبَسِ القُفَّازَيْنِ) (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (134)، ومسلم (1177).

تفريق الصحابة بين تخصيص النقاب بالنهي، وبين تغطية الوجه

ولذا؛ فإنَّ فقهاءَ الصحابةِ يفرِّقون بين تخصيصِ النقابِ بالنهيِ؛ كونَه مفصَّلاً على الوجهِ، وبين تغطيةِ العضوِ وهو الوَجهُ؛ فقد صَحَّ عن عطاءٍ، عن أبي الشَّعْثاءِ، عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أنَّه قال: «تُدْلِى الجلبابَ إلى وجهِها، ولا تضرِبُ به، قلتُ: وما «لا تَضْرِبُ به»؟ فأشارَ لي، كما تَجلْبَبُ المرأةُ، ثمَّ أشارَ لي: ما على خَدِّها مِن الجلبابِ، قال: تَعْطِفُه، وتَضْرِبُ به على وجهِها؛ كما هو مسدولٌ على وجهِها» (¬1). ويؤكِّدُه ما روى طاوسٌ، قال: «لِتُدْلِ المرأةُ المُحْرِمةُ ثوبَها على وجهِها، ولا تَنتَقِبْ» (¬2). وقد حكى الإجماعَ على أنَّ المرأةَ تغطِّي وجهَها عن نظرِ الرجالِ وهي مُحْرِمةٌ: ابنُ عبدِ البَرِّ، وابنُ قُدَامةَ، وغيرُهما: قال ابنُ عبدِ البَرِّ: «أجمَعُوا على أنَّ المرأةَ تَلْبَسُ ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في «مسنده» (1/ 303 رقم 788)، وفي «الأُم» (3/ 370 - 371)، وأبو داود في «مسائل الإمام أحمد» (732). ولم يذكُرِ الشافعيُّ: «أبا الشعثاء». (¬2) أخرجه الشافعي في «الأم» (3/ 371)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (14540).

لا تشترط المجافاة عند سدل المحرمة ثوبها على وجهها، خلافا للشافعي

المَخِيطَ كُلَّه، والخِفَافَ، وأنَّ لها أنْ تُغطِّيَ رأسَها، وتستُرَ شَعْرَها؛ إلا وجهَها، فتَسْدُلُ عليه الثوبَ سَدْلاً خفيفاً تُسْتَرُ به عن نظرِ الرجالِ» (¬1)، وقال ابنُ قُدَامةَ: «لا نَعْلَمُ فيه خلافاً» (¬2). ولا تشترَطُ المجافاةُ عند سدلِ المُحْرِمةِ ثوبَها على وجهِها، بحيثُ لا يلتصِقُ بوجهِها كالتصاقِ النِّقابِ؛ فلم يَشتَرِطْهُ مالكٌ وأحمدُ في قولٍ (¬3)؛ خلافاً لمَذهبِ الشافعيِّ (¬4). وعلى هذا عملُ نساءِ الصحابةِ في الحجِّ؛ يَتْرُكْنَ النقابَ، ويَتخَمَّرْنَ أو يَتجلبَبْنَ بغيرِه، فقد صحَّ عن فاطمةَ بنتِ المنذِرِ، قالت: «كُنَّا نُخمِّرُ وجوهَنا ونحنُ مُحْرِماتٌ مع أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ (¬5). وقد كانتِ العربُ في بعضِ أنساكِها في الحجِّ على ¬

_ (¬1) انظر: «التمهيد» (15/ 108)، و «الاستذكار» (11/ 28 - 29). (¬2) انظر: «المغني» (5/ 154). (¬3) انظر: «المدونة» (1/ 463)، و «المغني» (5/ 155). (¬4) انظر: «الأم» (3/ 370 و 571). (¬5) أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 328)، وإسحاق بن راهويه في «مسنده» (2255).

ما كان عليه إبراهيمُ، ومَن بعدَه مِن الأنبياءِ عليهم السلام، وقد كانُوا في الجاهليةِ تَكْشِفُ النساءُ وجوهَهُنَّ في الحجِّ؛ ظَنّاً منهم أنَّ الحكمَ عامٌّ للنقابِ وغيرِه، عند الرجالِ الأجانبِ وغيرِهم؛ قال خُفَافُ بنُ نُدْبةَ السُّلَمِيُّ، وهو شاعرٌ جاهليٌّ يَصِفُ حالَ امرأةٍ مُحْرِمةٍ: وأبْدَى شُهُورُ الحَجِّ مِنْهَا مَحَاسِناً ... ووَجْهاً مَتَى يَحْلِلْ لهُ الطِّيبُ يُشْرِقِ (¬1) وبَقِيَ الظنُّ عند بعضِ نساءِ العربِ كذلك بعدَ الإسلام، حتى إنَّ منهنَّ مَن كانت تجدُ حَرَجاً على نُسُكِها مِن تغطيةِ وجهِها في حَجِّها خوفاً على أجرِها؛ وذلك مِن بقايا فهمِ الجاهليةِ، وكانت عائشةُ رضي الله عنها تُسأَلُ عن ذلك وتُبَيِّنُ الأَمرَ؛ فقد روى إسماعيلُ بنُ أبي خالِدٍ، عن أُمِّهِ وأُخْتِه أنَّهما دخلَتَا على عائشةَ يومَ التَّرْوِيَةِ، فسألَتْها امرأةٌ: أَيَحِلُّ لي أنْ أغطِّيَ وجهِي وأنا مُحْرِمةٌ؟ فرفعَتْ خمارَها عن صدرِها، حتى جعلَتْه فوقَ رأسِها؛ أخرَجَه ابنُ سعدٍ في «الطبقات» (¬2). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص 58). (¬2) أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبير» (10/ 456).

وقد كانت عائشةُ رضي الله عنها تُبيِّنُ التفريقَ بينَ النقابِ والتغطيةِ بغيرِه، وأنَّ التغطيةَ جائزةٌ ولو كانتِ المرأَةُ وحدَها؛ كما في البخاريِّ معلَّقاً، وأسنَدَه ابنُ حزمٍ والبيهقيُّ، قالت: «لا تَنْتقِبْ ولا تَلَثَّمْ، وتَسْدُلُ الثوبَ على وجهِها»، وعندَ البيهقيِّ: «إن شاءَتْ» (¬1). وعلى هذا يَنُصُّ الفقهاءُ في كتبِهم عندَ ذكرِ المرأةِ ولباسِها حالَ إحرامِها، فيقولون عباراتٍ تُزِيلُ اللبسَ فيقولون: «ولها أن تغطِّيَ وجهَها»، وربَّما قال بعضُهم: «ويجوزُ لها أنْ تُغَطِّيَ وجهَها عند الرجالِ». ويبيِّنُ بعضُ الفقهاءِ المرادَ كالعِمْرَانِيِّ الشافعيِّ كما في «البَيَان»؛ قال بعدَ تقريرِ ذلك: «ولَسْنَا نريدُ بذلك أنَّها ¬

_ (¬1) علقه البخاري (2/ 137). فقال: «ولَبِسَتْ عائشةُ رضي الله عنها الثيابَ المُعصْفَرَةَ وهي مُحرِمةٌ، وقالت: لا تَلَثَّمْ ولا تَتبَرْقَعْ، ولا تلبَسْ ثوباً بوَرْسٍ ولا زعفَرَانٍ»، ووصَلَه ابنُ حزمٍ في «المحلَّى» (7/ 91)؛ فقال: وروينا عن وكيعٍ ... سُئِلَت عائشةُ أمُّ المؤمِنِين: ما تلبَسُ المحرِمَةُ؟ فقالت: «لا تنتَقِبْ ولا تَلَثَّمْ، وتَسْدُلُ الثوبَ على وجهِها»، ووصلَه البيهقيُّ في «السنن الكبرى» (47/ 5)؛ بلفظِ: «المحرِمَةُ تَلْبَسُ مِن الثيابِ ما شاءتْ؛ إلا ثوباً مَسَّه وَرْسٌ أو زَغفَرانٌ، ولا تتبَرْقَعْ ولا تَلَثَّمْ، وتَسْدُلُ الثوبَ على وجهِها إنْ شاءَت».

أخذ الأحكام من غير فهم سياقاتها خطأ كبير؛ كأخذ بعض الكتاب أحكام غطاء المرأة من المناسك أو من حجاب الصلاة

تبرُزُ للناس» (¬1). ويزعُمُ بعضُ الكُتَّابِ أنَّ الأئمةَ يقولونَ بجوازِ كشفِ المرأةِ لوجهِها عند الرجالِ، ولا يُوجِبونَهُ، وهذا فَهْمٌ خاطِئٌ لا وجهَ له؛ لأنَّ التعبيرَ عند إرادةِ رفعِ الحرجِ أو الحظرِ يكونُ هكذا في لغةِ القرآنِ ولسانِ العرب؛ كما في قولِه تعالى عنِ السعيِ بين الصَّفَا والمروةِ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]؛ لأنَّ الناسَ كانت تَجِدُ حرجاً مِن السعيِ بينَ الصفا والمروةِ؛ لأنَّهم كانُوا يَضَعُونَ أصناماً على الجَبَلَيْنِ فيسعَوْنَ بينهما، فأصبحت عالقةً في أذهانِهم فيتحَرَّجُون مِن السعيِ؛ فقال اللهُ: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، والطوافُ بهما واجبٌ أو ركنٌ في الحجِّ والعمرةِ، والآيةُ وكذا كلامُ الفقهاءِ لرفعِ الحرَجِ المتوهَّمِ؛ لا لإثباتِ أصلِ الحكمِ. وأخذُ الأحكامِ مِن غيرِ فهمِ سياقاتِها خطأٌ كبيرٌ، وكثيراً ما يأخُذُ بعضُ الكُتَّابِ أحكامَ غطاءِ المرأةِ لوجهِها مِن المناسكِ أو مِن حجابِ الصلاةِ، فينشَأُ الخطأُ، ¬

_ (¬1) «البيان في مذهب الإمام الشافعي» (4/ 154).

ما لا يختلف فيه من لباس المرأة

وينشرونَهُ بصيغَتِهِ على غيرِ مرادِه، ولو أُجْرِيَ هذا الأسلوبُ على جميعِ الأحكامِ وبُتِرَتْ مِن سياقاتِها، لهُدِمَتْ كثيرٌ مِن الثوابتِ والأحكامِ. ما لا يُختلَفُ فيه مِن لباسِ المرأةِ: لا يَخْتلِفُ العلماء في جميعِ المذاهبِ: أنَّ المرأةَ يجبُ عليها ألَّا تَلْبَسَ لباساً ملتصِقاً يَصِفُ جسمَها، ولا أنْ تلبَسَ شَفَّافاً يُبْدِي لونَ أو هيئةَ ما يجبُ عليها سَتْرُه مِن بَدَنِها، وهُنَّ المقصوداتُ بقولِه صلى الله عليه وسلم في أحدِ الصنفَيْنِ مِن أهلِ النارِ: (نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ) (¬1)؛ يعني: لا هي كاسيةٌ ولا هي عارِيَةٌ؛ لشُفُوفِ لباسِها ووَصْفِه، وفي» المسنَد» عن أسامةَ بنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما، قال: كَسَانِي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُبْطِيَّةً كَثِيفَةً مما أهدَاها له دِحْيَةُ الكَلْبِيُّ، فكَسَوْتُها امرأتي، فقال: ما لَكَ لم تَلْبَسِ القُبْطِيَّةَ؛ قلتُ: كسوتُها امرأتي، فقال: (مُرْها فلْتَجْعَلْ تحتَها غِلَالَةً؛ فإنِّي أخافُ أن تَصِفَ حجمَ عِظامِها) (¬2). وقد أجمَعَ الصحابةُ والتابعونَ على النهيِ عنه؛ فقد ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2128)؛ من حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) أخرجه أحمد في «مسنده» (5/ 205 رقم 21786 و 21788).

جاءَ عن عمرَ رضي الله عنه مِن وجوهٍ؛ أنَّه كان ينهى النساءَ عن لُبْسِ ما يَصِفُ وَيشِفُّ؛ رواه جماعةٌ كعبدِ اللهِ بنِ خُبَيْبٍ الجُهَنِيِّ، وعبدِ الله بنِ أبي سَلَمَةَ، وأبي يزيدَ المُزَنِيِّ، وأبي صالِحٍ، ومسلمٍ البَطِينِ، وسُليمانَ بنِ مُسهِرٍ؛ كلُّهم يرويه عن عُمَرَ (¬1)، ورواه نافعٌ عنِ ابنِ عُمَرَ (¬2)، وعكرمةُ عنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما (¬3). وقد روى مالكٌ في «الموطَّأ»، عن علقمةَ بنِ أبي علقمةَ، عن أُمِّه؛ أنَّها قالَتْ: «دخلتْ حفصةُ بنتُ عبدِ الرحمنِ على عائشةَ أُمِّ المؤمِنِين، وعلى حفصةَ خمارٌ رقيقٌ، فشقَّقَتْهُ عائشةُ وكَسَتْها خماراً كثيفاً» (¬4)؛ واللِّبَاسُ مالٌ مُحترَمٌ لا يُتلَفُ إلا للنهيِ عنه وتحريمِه. وروى ابنُ أبي شيبةَ، عن ميمونِ بنِ مِهْرانَ، قال: «لا بأسَ بالحَرِيرِ والدِّيبَاجِ للنساءِ؛ إنما يُكْرَهُ لهنَّ ما يَصِفُ ¬

_ (¬1) انظر: «مصنف عبد الرزاق» (9253 و 12142)، و «مصنف ابن أبي شيبة» (25288 و 25289)، و «تاريخ المدينة» لابنِ شَبَّةَ (3/ 793)، و «السنن الكبرى» للبيهقي (2/ 234). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (25291). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (25290). (¬4) أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 913).

يجب ألا يكون لباس المرأة عند الرجال مطيبا

أو يَشِفُّ» (¬1). ويجبُ ألَّا يكونَ لباسُ المرأةِ عندَ الرجالِ مطيَّباً؛ ففي «الصحيح» عن زينبَ، قالتْ: قال لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (إذا شَهِدَتْ إحداكُنَّ المسجِدَ، فلا تَمَسَّ طِيباً) (¬2)؛ وهذا في قُرْبِها مِن الرجالِ في المساجِدِ؛ مواضِعِ العبادةِ، وخُلُوِّ القلبِ؛ فكيفَ بغيرِها؟! ويحرُمُ أن يكونَ لباسُ المرأةِ مشابِهاً لِلِباسِ الرجالِ؛ ففي «الصحيح»، قال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: «لَعَنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المُتَشَبِّهِينَ مِن الرجالِ بالنساءِ، والمتشَبِّهَاتِ مِن النساءِ بالرجالِ» (¬3). ويجبُ ألَّا يكونَ لباسُ المرأةِ مختصّاً بلباسِ غيرِ المسلماتِ، فتُشابِهَهُنَّ؛ فإنَّ التشبُّهَ بالكفارِ في اللباسِ نُهِيَ عنه الرجالُ والنساءُ؛ ففي «الصحيح»، عنِ ابنِ عمرٍو، قال: رأى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ، فقال: (إنَّ هذه مِن ثيابِ الكفارِ؛ فلا تَلْبَسْها)، قلتُ: أَغْسِلُها؟ قال: ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (25286). (¬2) أخرجه مسلم (443)؛ مِن حديثِ زينبَ امرأةِ عبدِ الله. (¬3) أخرجه البخاري (5885).

تحرير محل النزاع فيما يجب أن يستر من بدن المرأة

(لا؛ أَحْرِقْها) (¬1). تحريرُ محلِّ النزاعِ فيما يجبُ أن يُستَرَ مِن بدنِ المرأةِ: يَشرَعُ اللهُ في الدِّينِ عباداتٍ وأحكاماً، ويَحُدُّ حدوداً، تَخْتلِفُ مَنازلُها ومَوازينُها حتى في العبادةِ الواحدةِ؛ كالصلاةِ والصدقةِ والنُّسُكِ؛ فيها الفَرْضُ، وفيها النَّفْلُ، ومنها المُتَّفَقُ عليه، ومنها المختَلَفُ فيه. ويجبُ قبلَ الكلامِ على تفصيلِ مسائلِ الحجابِ، وسَتْرِ المرأةِ بلباسِها، أنْ نذكُرَ ما أجمَعَ عليه العلماءُ مِن أحكامِ الحجابِ واللباسِ، حتى لا يتسلَّلَ أحدٌ إلى مواضعِ الخلافِ وهو لا يحترِمُ الإجماعَ، فالتسليمُ بالقطعيَّاتِ قبلَ بحثِ الظَّنِّيَّاتِ، ومِن هذا تأكَّدَتْ معرفةُ محلِّ النزاعِ في مسألةِ لباسِ المرأةِ وحجابِها عند الأجانبِ؛ فنقولُ: أجمَعَ العلماءُ أنَّ حجابَ المرأةِ بمفهومِه العامِّ: شريعةٌ ودِينٌ، وأنَّه ثابتٌ قطعيٌّ متواترٌ في الكتابِ والسُّنَّةِ، ومَن أنكَرَ شريعةَ لباسِ المرأةِ وحجابِها، وقال: إنَّ لباسَها عادةٌ تُبْدِي ما تشاءُ وتستُرُ ما تشاءُ، فهو منكِرٌ لقطعِيٍّ معلومٍ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2077).

أجمع العلماء أن تغطية وجه المرأة الحرة الشابة عند خوف الفتنة بها، واجب

مِن الدينِ بالضرورةِ؛ كمنكِرِ الصلاةِ، والزكاةِ، والحَجِّ. وأجمَعَ العلماءُ مِن جميعِ المذاهبِ الأربعةِ وغيرِها: أنَّ تغطيةَ وجهِ المرأةِ الحُرَّةِ الشابَّةِ عندَ خوفِ الفتنةِ بها، واجبٌ؛ خاصَّةً عندَ مَن يُطْلِقُونَ أبصارَهم إليها، ولا تَحْترِزُ منهم إلا بتغطيةِ وجهِها؛ حكى الإجماعَ على هذا جماعةٌ؛ كابنِ رَسْلانَ، وا لجُوَيْنِيِّ (¬1)، وغيرِهما، قال ابنُ رَسْلانَ الشافعيُّ: «ويدلُّ على تقييدِه بالحاجةِ -يعني: النظرَ- اتفاقُ المسلمينَ على منعِ النساءِ أنْ يَخْرُجْنَ سافراتِ الوجوهِ؛ لا سِيَّما عندَ كثرةِ الفُسَّاقِ» (¬2). وأجمَعَ العلماءُ مِن جميعِ المذاهبِ الأربعةِ وغيرِها: أنَّ تغطيةَ المرأةِ الحرةِ الشابَّةِ لوجهِها شريعةٌ ربانيَّةٌ لذاتِه؛ وإنما خلافُهم في التاركةِ له- في غيرِ فتنةٍ -هل هي تاركةٌ لفرضٍ تأثَمُ به، أو لمستَحَبٍّ وفضيلةٍ؟ وأجمَعُوا: أنَّ المرأةَ العجوزَ لها أن تكشِفَ وجهَها؛ بشرطِ ألَّا تتبَرَّجَ بزينةٍ على وجهِها، وأنَّ تغطيةَ المرأةِ العجوزِ لوجهِها خيرٌ لها مِن كشفِه؛ لقولِه تعالى: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور: 60]. ¬

_ (¬1) «نهاية المطلب» (12/ 31). (¬2) نقله عن العظيم آبادي في «عون المعبود» (11/ 162).

أجمع العلماء أن عورة الأمة ليست كعورة الحرة

وأجمَعَ العلماءُ: أنَّ عورةَ الأَمَةِ ليست كعورةِ الحُرَّةِ، وأنَّ ما يجبُ على الحرةِ مِن السَّتْرِ، لا يجبُ كُلُّه على الأمَةِ، حكى الإجماعَ جماعةٌ؛ كابنِ عبدِ البَرِّ، وغيرِه (¬1). وأجمَعَ العلماءُ: على التفريقِ بين عورةِ السَّتْرِ وعورةِ النظرِ، وإنِ اختلَفُوا في حدودِ كلٍّ منهما، فعورةُ السترِ: عورةٌ في ذاتِها؛ ولذا تُسْتَرُ لذاتِها، وعورةُ النظرِ: تُسْتَرُ لأجلِ الناظرِ لها ولو لم تكن عورةً في ذاتِها. ومَن لم يُفَرِّقْ بين عورةِ الأَمَةِ وعورةِ الحُرَّةِ، وبين عورةِ السترِ وعورةِ النظرِ، اختَلَّ أصلُه؛ فاختلَّتْ تفريعاتُه تبغاً، ولم يَحْمِلْ كلامَ الفقهاءِ على ما أرادُوه. توظيفُ الخلافِ واستغلالُهُ لِهَدْمِ الأصولِ وخرقِ الإجماعِ: بعضُ الذين يكتُبُون حولَ الخلافيَّاتِ لا يُؤْمِنُونَ بالقطعِيَّاتِ والإجماعاتِ، ومَن لا يؤمِنُ بالإجماعِ ويُعظِّمُه، فدخولُه إلى الخلافِ هدىً، ولا يجوزُ للفقيهِ إدخالُه مِن ¬

_ (¬1) انظر: «الاستذكار» (27/ 290).

من وسائل معرفة المستغلين للخلاف لضرب الأصول: النظر في سيرهم، وفي موقفهم من القطعيات والإجماعات

باب (سَعَةِ الخلافِ)؛ فهؤلاءِ كاللُّصُوصِ يَطرُقون الأبوابَ لتُفَتَحَ، ويَطْرُقون البابَ بأَدَبٍ؛ وذلك لأنَّ فتحَ البابِ عندَهم أهوَنُ مِن كَسْرِه، ولأنَّ كسرَهُ شاقٌّ، ومَن نظرَ إلى طريقةِ مَن لا يؤمِنُ بالإجماعِ، ويتظاهَرُ بطلبِ الإنصافِ عند الخلاف، يجدُ أنَّه يدخُلُ مِن أبوابِ الخلافِ ليصِلَ إلى ما وراءَه؛ فمِن الجَدَلِ مُناظَرةُ مَن يُحِلُّ الخمرَ في مسألةِ حِلِّ النَّبِيذِ، ومناظرةُ مَن يُحِلُّ المخدِّرَاتِ في مسألةِ حِلِّ الدُّخَانِ. وقد كثُرَ الكُتَّابُ اليومَ، وحَمَل القلمَ كلُّ أحَدٍ، واختَلَطَتْ على العامَّةِ وأكثرِ الخاصَّةِ مقاصدُ الكُتَّابِ في بحثِ المسائلِ الخلافيةِ وأهدافُهم وغاياتُهم. ومِمَّا يجبُ التأكيدُ عليه: أنَّ مِن وسائلِ معرفةِ المُتَتَرِّسِينَ بالخلافِ والمستَغِلِّينَ له؛ لإخلاءِ الطريقِ وإفساحِه لضربِ الأصولِ وخَرْقِ الإجماع: أنْ يُنظَرَ في سيرةِ الكاتبِ وموقِفِه مِن الإجماعِ والقطعياتِ. فمَن يبحَثُ باندفاعٍ وحماسٍ عن حِلِّ شربِ الدُّخَانِ والنبيذِ، وهو يُحِلُّ المخدِّراتِ أو الخمرَ أو يسكُتُ عنها وهي منتشرةٌ؛ فذلك دليلٌ على أنَّ له غايةً وراءَ الخلافِ! ومِن ذلك: مَن يبحَثُ باندفاعٍ عن جوازِ كشفِ

المرأةِ لوَجْهِها، وهو يُجالِسُ العارياتِ بلا نَكِيرٍ، أو يرى السُّفُورَ يَنْتشِرُ والحِشْمةَ تَنْحسِر، ويندفعُ بحماسٍ للتهوينِ مِن الفضيلةِ ويسكُتُ عن الرذيلةِ بحُجَّةِ الخلافِ؛ فهؤلاءِ يسلُكُون طرائقَ المنافقينَ السابقِينَ الذين يستغِلُّونَ مسائلَ الفروعِ وسيلةً لهدمِ الأصولِ وضربِها. فقد كان المُنافِقُونَ يَتكاسَلُونَ عنِ الصلاةِ جماعةً مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا يذكُرُون اللهَ إلا قليلاً: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]، ومع كَسَلِهم عن الفضائلِ، اندَفَعُوا لبناءِ مسجدٍ في المدينةِ، ورفَعُوا فيه الأذانَ بمواقيتِه، وأقامُوا الصلاةَ، وهذا العملُ فضيلةٌ في ذاتِهِ لو فعَلَهُ غيرُهم مِن أهلِ الحرصِ على الأصولِ وتعظيمِها، ولكنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَفصِلْ فضيلةَ بناءِ المسجدِ عن سياقاتِهِ وحالِ مَن بناهُ وسيرتِهم ومَواقِفِهم المُشابِهةِ، ولم ينظُرْ إليه نظرةً فرعيَّةً كمسجدَيْنِ متجاوِرَيْنِ في بلدٍ تحكُمُ قربَهما المصلحةُ؛ وإنما رآه مسجِدَ ضِرَارٍ، مع أنَّ في المدينةِ مساجدَ أُخرى أَذِنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ببنائِها وصلَّى هو فيها، ولكنَّ المنافقينَ اتَّخَذوا فعلَهم للفضيلةِ باباً لغايةٍ أُخرى مِن الرذيلةِ، وهي شقُّ صفِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومَن حولَه، فنَظَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى

ترويج بعض الكتاب والمنافقين أن الحجاب عادة لا عبادة، أن تغطية الوجه تقليد لا دين

الغاياتِ لا إلى الجزئياتِ، فحَوَّلَ الأمرَ مِن فضيلةٍ ظاهرةٍ تخدَعُ العامَّةَ، إلى شرٍّ، وأنزلَ اللهُ عليه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 107]؛ وهذا في مسجدٍ وبيتٍ لله! وكذلك في مسائلِ خلافِ الفروعِ؛ يُدخَلُ فيها كثيراً مِن هذا البابِ، فسِيرَةُ القائمينَ والكُتَّابِ تحكُمُ أفعالَهم، وتغيِّرُ تعامُلَ العالِمِ معها؛ فإنَّ العلماءَ ما زالُوا يبحثونَ مسائلَ الفقهِ، ويتداوَلُون الأدلَّةَ في الكتبِ؛ في العباداتِ، والنِّكاحِ، والمعامَلاتِ، والحجابِ، والحدودِ، ويتناظَرُون، ويَرُدُّ بعضُهم على بعضٍ بإجلالٍ وتوقيرٍ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهم يبحَثُ الفروعَ، ويعرِفُ موقفَ الآخَرِ مِن الأصولِ، وحَمِيّتَهُ لها. وفي مسائلِ الحجاب ولباسِ المرأةِ، ظهَرَتْ كتاباتٌ لباحِثِين -عندما يُرَوِّجُ الإعلامُ والمنافقون أنَّ الحجابَ عادةٌ لا عبادة، وأنَّ تغطيةَ الوجهِ تقليدٌ لا دينٌ- كتَبُوا أن تغطيةَ الوجهِ ليست بواجبةٍ، ويتغافلُ -عن جهلٍ أو هوىً- عن أنَّ العلماءَ يجعلُون تغطيةَ الوجهِ مِنَ الدِّين، وهؤلاءِ يَفصِلُونها مِن الدينِ كلِّه؛ كمَن يُورِدُ أقوالَ بعضِ العلماءِ:

الخلاف وحق الاختيار

أنَّ صلاةَ العيدَيْنِ ليستْ بواجبةٍ، في سياقِ مَن ينفِيها مِن الدينِ كلِّه، أو مَن يسوقُ أقوالَ بعضِ العلماءِ: أنَّ زكاةَ الفِطْرِ ليستْ بواجبةٍ، في مَسَاقِ مَن يقولُ: إنها عادةٌ وتقليدٌ؛ فهؤلاءِ الباحثون لم يضرِبُوا الحقَّ؛ وإنَّما أعطَوُا الضارِبَ مِطْرَقةً! وربما ينقُلُ أحدُهم كلامَ الشافعيِّ في عَوْرةِ المرأةِ للصلاةِ، وأنَّه ليس منها الوجهُ والكَفَّانِ؛ ليَرمِيَها بيَدِ مَن يرى السفورَ مطلقاً، ثم يَرْمِيَها الآخَرُ حُجَّةً لمَن تبرُزُ في وسائلِ الإعلامِ سافرةً، مع أنَّ الشافعيَّ يمنَعُ المرأةَ أن تصعَدَ على الصَّفَا والمروةِ؛ حتى لا يَرَى شخصَها الناسُ وهي في حَرَمِ الله! الخلافُ وحقُّ الاختيارِ: يتوهَّمُ كثيرٌ مِن الناسِ أنَّ مجرَّدَ اختلافِ العلماءِ في مسألةٍ مِن المسائلِ، يبيحُ للمسلمِ أنْ يختارَ منها ما يَشْتَهِيه، وهذا -بإجماعِ أهلِ العلم المختلِفِين أنفُسِهم- خطأٌ؛ ونصَّ على هذا المعنى أئمَّةٌ؛ كَأحمدَ (¬1)، والبخاريِّ (¬2)، والمُزَنِيِّ ¬

_ (¬1) «فتاوى ابن تيمية» (20/ 212). (¬2) «صحيح البخاري» (6/ 2681).

أجمع المسلمون على أن الخلاف ليس بحجة

صاحبِ الشافعيِّ (¬1)، وابنِ حزمٍ (¬2)، وابنِ عبدِ البَرِّ، والشاطبيِّ (¬3)، وأبي الفَرَجِ بنِ الجَوْزِيِّ (¬4)، والخَطَّابِيِّ، وابنِ تيمِيَّةَ (¬5)، وغيرِهم: قال ابنُ عبدِ البرِّ في «التمهيد»: «وقد أجمعَ المسلمونَ أنَّ الخلافَ ليس بحُجَّةٍ، وأنَّ عندَه يلزَمُ طلبُ الدليلِ والحُجَّةِ؛ لِيَتبيَّنَ الحقُّ منه (¬6)، وقال في «الجامع»: «الاختلافُ ليس بحُجَّةٍ عند أحدٍ علمتُهُ مِن فقهاءِ الأُمَّةِ؛ إلا مَن لا بَصَرَ له، ولا معرفةَ عندَه، ولا حُجَّةَ في قولِه» (¬7). وقال الخطابِيُّ: «ليس الاختلافُ حجةً، وبيانُ السُّنَّةِ حجةٌ على المختلِفَيْن» (¬8). ¬

_ (¬1) نقَلَ كلامَه ابنُ عبدِ البر في «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 922) (¬2) انظر: «الإحكام» (5/ 64 - 70). (¬3) انظر: «الموافقات» (5/ 92 - 97). (¬4) «تلبيس إبليس» (ص 81)، و «نواسخ القرآن» (ص 831). (¬5) انظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 472 - 473). (¬6) «التمهيد» (1/ 165). (¬7) «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 922). (¬8) انظر: «أعلام الحديث» (3/ 209).

أجمع المسلمون على أن الخلاف لا يسوغ ترك الدليل البين تقليدا لفقيه

ومَن زعمَ أنه لا يأخُذُ إلا بمسائلِ الإجماعِ، فليَعْلَمْ أنَّ مِن مسائلِ الإجماعِ: أنَّ الخلافَ لا يُسَوِّغُ تركَ الدليلِ البَيِّنِ تقليداً لفقيهٍ، وقد نصَّ على هذا الأئمةُ الأربعةُ؛ وذلك أنَّ هذا يجعَلُ مجرَّدَ ورودِ الخلافِ، كورودِ الدليلِ على الإباحةِ؛ كما لو جاء دليلٌ خاصٌ على أنَّ شيئاً مَّا مباحٌ أو حرامٌ! وهذا فهمٌ خطيرٌ للخلافِ؛ فأقوالُ الفقهاءِ في ذاتِها ليستْ في مقامِ الأدلَّةِ. وقد بلغَ ببعضِ الناسِ أنْ يجعلَ مِن وجودِ الخلافِ مسوِّغاً لتركِ الدليلِ البَيِّنِ، فجعَلُوه أقوى مِن الدليلِ، فعُكِسَتِ القاعدةُ الشرعيةُ؛ فبدلاً مِن أن يكونَ القرآنُ والسُّنَّةُ حاكمَيْنِ عندَ الاختلافِ، جُعِلَ الاختلافُ حاكماً عليهما! قال اللهُ: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، وقال اللهُ لنبيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]؛ فلم يجعلْهُ يحكُمُ بما يرى مع وجودِ النصِّ، مع أنَّه نبيٌّ مؤيَّدٌ، ولَمَّا ذكَرَ اللهُ الاختلافَ، لم يأمُرِ العلماءَ والناسَ بالاختيارِ كما يُريدون؛ وإنَّما رجَعَهُمْ إلى النَّصِّ؛ فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].

الله تعالى لم يرجع الناس إلى الخلاف؛ لأن الخلاف حادث وليس من الدين، بل رجعهم إلى النص والدليل

واللهُ لم يَرْجِعِ الناسَ إلى الخلافِ؛ لأنَّ كلَّ خلافٍ فهو حادثٌ بعدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وليس مِن الدِّينِ، ولكنَّ اللهَ يَعْذِرُ أقواماً غاب عنهم الدليلُ واجتهَدُوا، ولا يَعْذِرُ آخَرِينَ تساهَلُوا؛ فالتوسِعةُ مِن الله ليست على ذاتِ الخلافِ، وإنَّما على اجتهادِ المجتهدِ وأثرِه عليه، ولو كانتِ التوسعةُ في ذاتِ الخلاف بعينِه، لكان الأوْلَى للفقهاءِ أن يبحَثُوا عن مسوِّغاتٍ للخروجِ من الإجماعِ؛ ليحدُثَ خلافٌ؛ ليكونَ توسعةً ورحمةً؛ وهذا خطأٌ وضلالٌ. واللهُ تعالى أخبَرَ بوجودِ الاختلافِ قَدَراً، وعَذَرَ المجتهِدَ المستفرغَ لوُسْعِهِ رحمةً منه، لكنْ متى لاحَ له الدليلُ، وجبَ له أن يَرْجِعَ، ففَهْمُه مهزوزٌ، والدليلُ ثابتٌ، وفي زمنِ الفقهاءِ السابقينَ في القرنِ الثاني والثالثِ لم تُجْمَعِ الأحاديثُ والآثارُ في الكتبِ جمعاً محكَماً، كما هو عند المتأخِّرِين، فكان الفقيهُ إذا أفتى بقولٍ خطأٍ وهو مأجورٌ، تتابَعَ المتأخِّرُون على تقليدِه، وقد ظهَرَ لهم دليلٌ غابَ عنه، فيُعذَرُ الفقيهُ المجتهدُ المتقدِّمُ؛ لغيابِ دليلٍ عنه، وربما لا يُعْذَرُ المقلِّدُ؛ لأنَّ الفقيهَ المتقدِّمَ اجتَهَدَ، والمقلِّدَ المتأخِّرَ ترَكَ الدليلَ، وأخذ ما يشتَهِي ويهوَى فقطْ؛ ولهذا تجدُ كثيراً مِن الناس يقلِّدُ كلَّ فقيهٍ بما يشتهي حتى تجتمعَ فيه الشهوةُ في صورةِ فقهٍ!

النبي معصوم، والفقيه يخطئ ويصيب، والله تعالى يسأل الناس يوم القيامة عن اتباع المرسلين، لا تقليد الفقهاء

وقد يخطئُ الفقيهُ، ويُصِيبُ فقيةٌ آخَرُ؛ فمَن ظهَرَ له دليلٌ، وجبَ عليه أنْ يأخُذَ به؛ لأنَّ اللهَ يسأَلُ الناسَ يومَ القيامةِ عن اتِّباع المرسَلِين؛ لا تقليدِ الفقهاءِ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]، واللهُ أنزَلَ الكتابَ؛ لِينزعَ به الخلافَ: {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213]. والعقلُ يدلُّ على أنَّ تتبُّعَ الرُّخَصِ يُمْرِضُ الأبدانَ والأديانَ؛ فتتبُّعُ رُخَصِ العلماءِ يُفْسِدُ الدِّينَ، وتتبُّعُ رخصِ الأطباءِ يُفْسِدُ البدَنَ. ومَن يجعَلُ الشهوةَ والرغبةَ مُرَجِّحاً للاختيار، كمَن يجعَلُ حلاوةَ طعمِ دواءِ الطبيبِ مرجِّحاً لصلاحِ علاجِه، وكثيراً ما يحتاطُ الناسُ لأبدانِهم وليسوا أطبَّاءَ، ويتساهَلُون في احتياطِهم لأديانِهم؛ بحُجَّةِ أنَّهم مقلِّدُون وليسوا فقهاءَ! ويظهَرُ الهَوَى في تقليدِ الفقهاءِ عندَ كثيرٍ مِن الناسِ، مع أنَّهم يزعُمُون التحرِّيَ وتتبُّعَ الأرجَحِ؛ بينما لا يقَعُون إلا على الرخَصِ والتساهُلِ مِن أقوالِ الفقهاءِ؛ وهنا يظهَرُ الفرقُ بين الباحثِ عن الحقِّ، وبين الباحثِ عمَّا يوافِقُ هَوَاه.

القرآن لا تتعارض آياته، بل تتوافق وتتعاضد

القرآن لا تتعارَضُ آياته، بل تتوافقُ وتتعاضد: مِن المُهِمَّاتِ المسلَّماتِ: أنَّ القرآنَ يصدِّقُ بعضُه بعضاً، ويؤكِّدُ بعضُه بعضاً، ويفسِّرُ بعضُه بعضاً، لا يتعارَضُ إلا بنسخٍ مِن الوَحْيِ، وقد أنزلَ اللهُ آياتٍ في الحجابِ والسَّتْرِ كُلُّهُنَّ مُحْكَماتٌ بلا خلافٍ، ومَن أراد فَهْمَ معنىً مِن معانِيه، فيجِبُ عليه أنْ يجمَعَ آياتِ البابِ الواحدِ للموضوعِ الواحد، وينظُرَ فيها؛ فإنَّها تُزِيلُ ما يلتبِسُ عليه منها؛ قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزُّمَر: 23]؛ صحَّ عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ قولُه: «يُشبِهُ بعضُه بعضاً، ويصدِّقُ بعضُه بعضاً، ويَدُلُّ بعضُه على بعضٍ» (¬1). وكثيرٌ ممن ينظُرُ في أحكامِ حجابِ المرأةِ وسترِها في القرآنِ والحديثِ، ينظُرُ إلى موضِعٍ مشتَبِهٍ، ويَحمِلُه على ما يفهَمُه، ولو قرَنَ به الموضِعَ الآخَرَ مِن الوحيِ، لفَهِمَ كلامَ اللهِ وكلامَ نَبِيِّه وحُكْمَهما، وتَصوَّرَ لهما معنىً سويّاً لا لَبْسَ فيه ولا قصورَ، خاصةً مع انتشارِ عُجْمةِ اللِّسان، وبُعْدِها عن لغةِ القرآن، حتى عندَ العربِ فضلاً عن العجَمِ المتعَرِّبِين، ومع بُعدِ العهدِ عن مُصطَلَحاتِ الصدرِ الأوَّلِ، وحدوثِ ¬

_ (¬1) أخرجه ابنُ جرير في «تفسيره» (20/ 191).

من وجوه الفهم لمعنى الألفاظ والمصطلحات: معرفة ما يحدها من المعاني غير الداخلة فيها

مصطلحاتٍ جديدةٍ، لم يفهَمْ أكثرُ الناسِ معنَى استعمالِ القرآنِ لـ (الحِجَاب)، و (الجِلْبَاب)، و (الخِمَار)، وهذه ألفاظٌ قرآنيةٌ كان يعرِفُها أدنَى العربِ، نساءً ورجالاً، وقد حَلَّ محلَّها مصطلحاتٌ جديدةٌ واستعمالاتٌ لِلِباسِ المرأةِ، فوقَعَ الخلطُ عندَ العامَّةِ وكثيرٍ مِن الخاصَّةِ في هذا البابِ. ومِن وجوهِ الفَهْمِ لمعنى الألفاظِ والمصطلحاتِ: أنْ تَعْرِفَ ما يَحُدُّها مِن جميعِ جهاتِها مِن المعاني التي لا تدخُلُ فيها، حتى تعرِفَ المعنى الذي تريدُه، ولا تدخُلَ في حدودِ معانٍ لا تريدُها؛ فالعقلُ يدلُّ على أنَّ الإنسانَ يعرِفُ حدودَ أرضِه مِن حدودِ أرضِ جيرانِه مِن جهاتِه الأربعِ؛ ولذا فلن يفهَمَ الناظِرُ المتأخِّرُ أحكامَ حجابِ المرأةِ الشابَّةِ وسترِها مِن آيِ سورةِ (النُّور)، وآيِ سورةِ) الأحزاب)؛ حتى يعرِفَ حكمَ حجاب المرأةِ العجوزِ مِن سورةِ (النُّور)، ويُحكِمَ الفهمَ بالنظرِ إلى أحاديثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وآثارِ الصحابةِ في الباب، وجمعِها في سياقٍ واحدٍ؛ فبذلك يصحُّ الفَهْمُ، ويتجلَّى الحُكْمُ. أقوالُ الصحابةِ في حجابِ المرأةِ وسترِها، وأسبابُ الخطأِ فيها: لا بُدَّ للناظِرِ مِن جمعِ أقوالِ الصحابةِ في الآياتِ

جميعاً، وقَرْنِ القولِ بالآخَرِ، ومعرفةِ مواضِعِ كُلِّ قولٍ، حتى يَصِحَّ الفهمُ، ويستوِيَ الحكمُ على معنىً تَبْرَأُ به الذِّمَّةُ؛ فإنَّ الأصلَ في أقوالِ الصحابةِ المتعدِّدِين، الاتفاقُ في تفسيرِ القرآنِ، فاختلافُهم تنوُّعٌ لا تضادٌ؛ فكيفَ بالصحابيِّ الواحدِ يتعدَّدُ قولُه في الآيةِ الواحدةِ أوِ الآيتَيْنِ وموضوعُهما واحدٌ؟! فهو أوْلَى بالاتفاقِ؛ روى سعيدُ بنُ منصورٍ، عن سُفْيانَ؛ أنَّه قال: «ليس في تفسيرِ القرآنِ اختلافٌ؛ إنما هو كلامٌ جامعٌ يرادُ به هذا وهذا» (¬1). وقد نصَّ على هذا المعنَى ابنُ قتيبةَ في «تأويلِ مشكِلِ القراآن» (¬2)، ومحمَّدُ بنُ نصرٍ المروزِيُّ في «السُّنَّة» (¬3)، والشاطبيُّ في «الموافَقَات» (¬4)، وابنُ تيميَّةَ في مواضِعَ (¬5). ومَن أراد فهمَ أقوالِ الصحابةِ والتابعينَ في مسألةٍ واحدةٍ، فليَجْمَعْ أقوالَهم كلَّها في ذاتِ المسألةِ، ¬

_ (¬1) أخرجه سعيدُ بنُ منصورٍ في «سننه» (1061 /التفسير). (¬2) «تأويل مشكل القرآن (ص 40). (¬3) «السنة» (ص 41 - 43). (¬4) «الموافقات» (5/ 210 - 217). (¬5) انظر: «مجموع الفتاوى» (5/ 160 - 163)، و (6/ 390 - 391)، و (13/ 333 و 340 - 344 و 381 - 384)، و (19/ 139 - 141).

من أسباب الأخطاء في فهم أقوال الصحابة في حجاب المرأة وسترها

وما يُشابِهُها، وما يقرُبُ منها مما هو في معناها العامِّ، فللصحابةِ أقوالٌ في لباسِ المرأةِ؛ في الأَمَةِ والحُرَّةِ، وللشابَّةِ وللعجوزِ، وعند المحارِمِ وعند الأجانبِ، وعند الصغيرِ وعند الكبيرِ، ولها أحكامٌ في اللِّباسِ مخصوصةٌ في العباداتِ؛ كالصلاةِ والحجِّ، ولها أحكامٌ ليست مِن اللباسِ؛ وإنما تُحِيطُ بمعناه؛ كأحكامِ خروجِها لصلاةِ الجماعةِ، والعيدَيْنِ، فمَن جمَعَ هذه الأقوالَ في كلِّ بابٍ، ثم توسَّعَ فيها، عرَفَ مرادَه مِن عمومِ لفظِهِ في مواضعَ، ومِن خصوصِهِ في مواضعَ أخرى، وزال إشكالُه إن وُجِد. ومِن أسبابِ الأخطاءِ في فهمِ أقوالِ الصحابةِ في حجابِ المرأةِ وسَتْرِها أمورٌ: الأوَّلُ: أخذُ قولِ الصحابيِّ أو التابعيِّ في موضِعٍ مشتَبِهٍ، وتركُ المحكَمِ البيِّنِ في مواضعَ أُخرى في ذات المعنى، التي تُبيِّنُ له المرادَ وتفسِّرُ له المعنى المقصودَ في هذا الموضعِ وغيرِه، وقد رأيتُ مَن ينقُلُ عن بعضِ السلفِ، فيأخُذُ قولاً مجملاً لبعضِ السلفِ أنَّ زِينةَ المرأةِ الظاهرةَ هي الوجهُ والكَفَّانِ، ويحمِلُهُ على ظهورِه لعمومِ الناس، فأخَذَ القولَ المخصوصَ وعَمَّمَهُ بذِهْنِه على مَن يريدُ هو، وترَكَ أقوالاً له صريحةً أنه لا يجوزُ للمرأةِ أن

تُبْدِيَ وجهَها وكَفَّيْها للأجانبِ، وإنما للمحارِمِ؛ بل له أقوالٌ أًخرى يمنَعُ المرأةَ مِن الخروجِ حتى للصلواتِ والعيدَيْنِ، فيأخُذُ هذا ما يُرِيدُ بعمومِه، ويرى ما لا يُرِيدُ ويَدَعُه؛ وهذا شبيهٌ بمَن يأخُذُ عمومَ قولِه تعالى في المشرِكِين: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5]، ويترُكُ ما يُفَسِّرُ له المعنى، ولمَن يتوَجَّهُ. وعند الوقوفِ على آيةٍ، فلا بُدَّ مِن جمعِ ما يُشابِهُها في الحكمِ الخاصِّ، وما يُقارِبُها في الحكمِ العامِّ؛ فمَن أراد أن يَفهَمَ مرادَ المفسِّرِ مِن حجابِ الشابَّةِ وسَتْرِها، فليَنْظُرْ إلى قولِه في آيةِ لباسِ العجوزِ، فما أسقَطَه المفسِّرُ مِن الصحابةِ والتابعينَ عن العجوزِ، هو الذي يُبْقِيه في حجابِ الشابَّةِ، ويفسِّرُ بها المعنى في آيةِ لباسِها، ثم ينظُرُ ما يؤكِّدُ هذا المعنى في قولِ ذاتِ الصحابيِّ في الأحكامِ المقارِبةِ لآياتِ السترِ؛ كأحاديثِ الخروجِ للمساجدِ، والعيدَيْنِ، والحجِّ، ونحوِ ذلك، فمَن يأمُرُ المُحرِمةَ أن تغطِّيَ وجهَها عند الرجالِ، كيف يُجْعَلُ قولُه للمرأةِ أن تبدِيَ وجهَها وكفَّيْها للأجانبِ وهي غيرُ مُحرِمةٍ؟! فيأمُرُها أن تفعَلَ محظوراً في حَجِّها، ثم يأمُرُها أن تترُكَ فاضلاً في غيرِه!

جمع الآيات الواردة في حجاب المرأة وسترها، وبيان المراد منها

الثاني: فصلُ قولِ الصحابيِّ في تفسيرِ القرآنِ عن مجموعِ أقوالِ الصحابةِ، وعدمُ جمعِها وتأليفِ بعضِها إلى بعضٍ لتُفْهَمَ، والأصلُ في أقوالِهم الاتفاقُ، وتفسيرُ بعضِها بعضاً. الثالث: فصلُ قولِ الصحابيِّ عن أقوالِ تلامذَتِهِ وفتاواهم مِن التابِعِين، الذين لا يخرُجُون غالباً عن قولِه؛ فإنَّ أقوالَ التابِعِين تفسِّرُ أقوالَ شيوخِهم مِن الصحابةِ. جمعُ الآياتِ الواردةِ في حجابِ المرأةِ وسَتْرِها، وبيانُ المرادِ منها: جاء في القرآنِ في حجابِ المرأةِ وسترِها صريحاً خمسةُ مواضعَ، وذِكْرُها في سياقٍ واحدٍ مِن الامتثالِ لقولِ اللهِ تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزُّمَر: 23]؛ أي: يؤكِّدُ بعضُه بعضاً، ويُصَدِّقُ بعضُه بعضاً، والمرادُ: أنَّ اللهَ يذكُرُ حكمَهُ في أكثَرَ مِن موضعٍ مكرَّراً؛ وهذا يزيدُ في إحكامِه، ويرفَعُ اللبسَ الواردَ عليه بعباراتٍ وحروفٍ في موضعٍ ليست في الآخَرِ؛ وأما الآياتُ الصريحةُ في حجابِ المرأةِ وسترِها، فهي: الآيةُ الأُولَى: قولُه تعالى للمؤمِنِين بشأنِ نساءِ

النبيِّ صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53]. تقدَّم الكلامُ على معنى الحجابِ في القرآنِ، وفي استعمالِ السَّلَفِ، ولا خلافَ عندَهم أنَّ المرادَ بالحجابِ في الآيةِ هو الفاصِلُ بين شيئَيْنِ مِن جدارٍ أو خشَبٍ أو سِتَارةٍ أو غيرِها، ومِن ذلك قولُه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51]، وليس المرادُ بالآيةِ: اللباسَ الذي تَلْبَسُهُ النساءُ. وهذا الاصطلاحُ استعمَلَه الفقهاءُ المتأخِّرُون حتى شاعَ، حتى فسَّرَ بعضُهم القرآنَ باصطلاحِ الفقهاءِ، وجعلَ الحجابَ -وهو اللباسُ الساتِرُ- جلباباً وخماراً خاصّاً بأمهاتِ المؤمِيين! فابتدَعَ شيئاً لم يَقُلْ به أحدٌ مِن السَّلَفِ؛ إذْ إنَّهم يفرِّقُون بين حَجْبِ الشخوصِ، وسترِ الأبدانِ بثيابٍ؛ فاللهُ نهى المؤمِنِين عنِ النظَرِ إلى أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولو كُنَّ متستِّراتٍ لا تُرَى أظفارُهُنَّ، وأمَرَهُنَّ وأمرَهُم عندَ المحادَثَةِ أن يكونَ مِن وراءِ حائطٍ أو سِتَارٍ، حتى إنَّهن إنْ رَكِبْنَ الإبلِ وُضِعْنَ في هَوْدَجٍ، ثم حُمِلْن عليها. وإنَّما شدَّدَ اللهُ على نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم تعظيماً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبقيَّةُ النساءِ يدخُلْنَ في هذا الحكمِ، لكنْ حكمُهُنَّ أخَفُّ؛

الآية الثانية: قوله تعالى: {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} [الأحزاب: 33]

لأنَّ التَّبِعةَ عليهنَّ وعلى أزواجِهِنَّ أيسَرُ، وهذه الآيةُ تدلُّ على تحريمِ الاختلاطِ ومجالسةِ الجنسَيْنِ بعضِهما لبعضٍ بلا ضرورةٍ؛ لأنَّه ذكرَ علةً مشتَرَكَة لكلِّ النساءِ: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53]، وقال بعمومِ هذه الآيةِ ابنُ جريرٍ الطَّبَرِيُّ، وابنُ عبدِ البَرِّ وغيرُهما (¬1). وهذه الآيةُ جاءت في حكمِ الاحتجابِ عن الرجالِ في البيوتِ، ومثلُه التعليمُ والعمَلُ؛ لأنَّه يطولُ الحديثُ والقعودُ، فكانت آيةُ الحجابِ [الأحزاب: 53] مبيِّنةً لحكمٍ، وآيةُ الجلابيبِ [الأحزاب: 59] مبيِّنَةً لحكمٍ آخَرَ؛ وهو اللباسُ عند إرادةِ الخروجِ إلى الطُّرُقاتِ، والسُّوقِ، والمساجِدِ، وغيرِها. الآيةُ الثانيةُ: قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]. أنزَلَ اللهُ هذه الآيةَ وصدَّر الأمرَ بها لنساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ ¬

_ (¬1) «تفسير الطبري» (19/ 166)، و «التمهيد» لابن عبد البر (8/ 236).

لمكانةِ بيتِ النبوَّةِ في المسلِمِين وعلوِّ منزلَتِهم، وكونِهم قدوةً للناسِ في الدِّينِ، وهذه الآيةُ كسابقَتِها في التشديدِ على أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ودخولِ غيرِهِنَّ، مع أنَّ غيرَهُنَّ أخفُّ وأيسرُ، واستَثْنَى خروجَ الحاجاتِ؛ فما نهاهُنَّ اللهُ عن الكلامِ مع الرجالِ لورودِ الحاجةِ؛ ولكنْ نَهَاهُنَّ عن الخضوعِ بالقولِ. وهذه الآيةُ تدلُّ على مباعَدةِ مواضعِ النساءِ عن الرجالِ؛ كما صحَّ عن مجاهِدِ بنِ جَبْرٍ في تفسيرِه لتبرُّجِ الجاهليةِ: «كانَتِ المرأةُ تخرُجُ تَمْشِي بين يدي الرجالِ، فذلك تبرُّجُ الجاهليةِ (¬1)، وقد ذكَرَ مقاتِلُ بنُ حَيَّانَ: أنَّ تبرُّجَ الجاهليةِ أنهنَّ كُنَّ يضَعْنَ الخمارَ على رؤوسِهِنَّ ولا يَشْدُدْنَه (¬2). ورُوِيَ عن بعضِ السلفِ -كابنِ عباسٍ رضي الله عنهما- أنَّ تبرُّجَ الجاهليةِ الأُولَى كان بين نُوحٍ وإدريسَ (¬3)، وقال عكرمةُ: هي زَمَنَ ولادةِ إبراهيمَ (¬4)، ورُوِيَ أنَّها بعدَ ذلك (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (2/ 116)، وابنُ سعد في «الطبقات الكبير» (10/ 189). (¬2) سبق تخريجه (ص 60). (¬3) سبق تخريجه (ص 61). (¬4) أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبير» (10/ 189 و 190). (¬5) انظر: «تفسير ابن جرير» (19/ 97 - 98).

الآية الثالثة: قوله: {ياأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن} [الأحزاب: 59]

ولو كان بعدَ نوحٍ تبرُّجٌ عامٌّ أشدُّ مِن هذا، لذكَرَهُ اللهُ مثالاً لسوئِه. وقد قال بعمومِ هذه الآيةِ على نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وغيرِهن جماعةٌ؛ كالجَصَّاصِ، وابنِ كثيرٍ (¬1)، وغيرِهما؛ ويدلُّ على ذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُبايِعُ النساءَ على عدمِ التبرُّجِ تبرُّجَ الجاهليةِ الأُولَى؛ كما صحَّ في «المسنَد» لَمَّا بايَعَتْهُ أُمَيْمةُ بنتُ رُقَيْقةَ كان مما قال لها: (وَلَا تَبَرَّجِي تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) (¬2)؛ وله شاهِدٌ عنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما؛ أخرَجَه الطبرانيُّ (¬3). ولكنْ كُلَّما كان الرجُلُ أكثَرَ قدوةً مِن غيرِه في الناسِ مِن العلماءِ والمصلِحِين والأُمَراءِ، وجَبَ أن تكونَ نساؤهم أكثَرَ سَتْراً؛ لأنَّ الناسَ تقتَدِي بكُبَرائِها، فيأخُذُون أجورَ مَن تَبِعَهم بخيرٍ، ويأخُذُون إثمَ مَن تَبِعَهم بسوءٍ وشَرّ الآيةُ الثالثةُ: قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ ¬

_ (¬1) انظر: «أحكام القرآن» (5/ 259)، و «تفسير ابن كثير» (11/ 150) (¬2) أخرجه أحمد في «مسنده» (2/ 196 رقم 6850)، وابن جرير في «تفسيره» (22/ 597). (¬3) أخرجه الطبراني في «الكبير» (11/ 264 رقم 11688).

يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 59]. وهذه الآيةُ وا لآيتانِ بعدَها [النور: 31، 60] هي أصرَحُ الآياتِ وأوضَحُهُنَّ في حجابِ نساءِ المؤمِنِينَ عامَّةً؛ فهي لـ (نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم)، و (بناتِه)، و (نساءِ المؤمِنِين)، أمَرَهُنَّ اللهُ أنْ يُدْنِين عليهن مِن جلابِيبِهِنَّ، وقد تقدَّمَ تعريفُ الجلابيبِ، وأنَّها ما يكونُ مِن لباسٍ فَضْفاضٍ فوقَ الخمارِ يستوعِبُ أعلَى البدنِ ووَسَطَه، ويُسْدَلُ فيُغَطَّى به الوجهُ والصدرُ؛ ففي «الصحيحين»، مِن حديثِ عائشةَ رضي الله عنها، قالت: «فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي» (¬1). والجِلْبابُ قريبٌ مِن العَبَاءةِ اليومَ، لكنَّها غيرُ مفصَّلةٍ، وهو القِنَاعُ والمُلَاءةُ، والجِلْبابُ ليس غطاءً خاصّاً بالوجهِ وحدَه، ولكنَّه للوجهِ وغيرِه؛ ولذا قال: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}؛ يعني: تأخُذُ شيئاً مِن جلبابِها وتُنْزِلُه على وجهِها، والإدناءُ مِنَ الدُّنُوِّ وهو القُرْبُ، ويكونُ مِن مكانٍ عالٍ أو مُوَازٍ، والدُّنُوُّ نزولٌ؛ فيُسَمَّى أسفلُ الشيءِ وأقرَبُه: أدناهُ، ويقالُ للنازلِ الهابطِ بالنسبةِ للعالي: أدْنَى ودَانٍ؛ كما في قولِه: {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3]. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص 52).

تفسير إدناء الجلابيب بتغطية الوجه

والأمرُ في الآيةِ هو لتغطيةِ المرأةِ وجهَها، فالجلبابُ في الأعلَى، فأُمِرَتْ أن تُنزِلَهُ على وجهِها وتُرْخِيَه عليه؛ قال الزمخشريُّ: «يقالُ إذا زَلَّ الثوبُ عن وجهِ المرأةِ: أَدْنِي ثوبَكِ على وجهِكِ» (¬1). ويدلُّ على أنَّ الإدناءَ في الآيةِ يتضَمَّنُ القربَ مِن عُلُوٍّ: قولُ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: «يُدْلِينَ عليهنَّ مِن جلابِيبِهِنَّ»؛ كما عندَ الشافعيِّ والبيهقِيِّ (¬2)؛ ففسَّرَ (الإدناءَ) بـ (الإدلاءِ)، والإدلاءُ يكونُ مِن الشيءِ العالي؛ ومنه قولُه: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 5 - 9]، وهو قُرْبُ جبريلَ مِن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فكان عالياً ثم دَنَا فتدَلَّى إليه، ومنه سُمِّيَ الدَّلْوُ دَلْواً؛ لأنَّه يُدْلَى به مِن عُلْوٍ إلى أسفَلِ البِئْرِ. وقد فَسَّرَ إدناءَ الجلابيبِ بتغطيةِ الوجهِ في هذه الآيةِ وغيرِها مِن السُّنَّةِ والأثَرِ جماعةٌ مِن الصحابةِ؛ صحَّ عن ¬

_ (¬1) انظر: «تفسير الزمخشري» (3/ 560). (¬2) أخرجه الشافعي في «الأم» (3/ 370)، وفي «مسنده» (1/ 303 رقم 788)، ومِن طريقِه البيهقيُّ في «معرفة السنن» (7/ 141 - 142).

ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، وعائشةَ رضي الله عنها، ومِن التابِعِين: عن عَبِيدةَ السَّلْمانيِّ، ومحمَّدِ بنِ سِيرِينَ، وابنِ عَوْنٍ، ولا أعلَمُ أحداً مِن الصحابةِ صحَّ عنه خلافُ هذا المعنى. أما ما جاء عنِ ابنِ عباسٍ، فقولُه: «أمَرَ اللهُ نساءَ المؤمِنِين إذا خَرَجْنَ مِن بيوتِهِنَّ في حاجةٍ أنْ يُغطِّينَ وجوهَهُنَّ مِن فوقِ رؤوسِهِنَّ بالجلابيبِ، ويُبْدِين عيناً واحدةً»، أخرَجَهُ ابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتِمٍ عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عنِ ابنِ عبَّاسٍ (¬1)؛ وهي صحيفةٌ قوَّاها أحمدُ، واحتج بها البخاريُّ (¬2). وأما ما جاء عن عائشةَ، فقولُها: «تَسْدُلُ المرأةُ جلبابَها مِن فوقِ رأسِها على وجهِها» (¬3)؛ أخرَجَه سعيدُ بنُ منصورٍ في «سُنَنِه» بسندٍ صحيحٍ. وأما ما جاء عن عَبِيدةَ السَّلْمانيِّ، فما رواه ابنُ عونٍ، ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (19/ 181)، وابن أبي حاتم، كما في «الدر المنثور» (12/ 141)، مِن طريقِ عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباس. (¬2) انظر: «فتح الباري» (8/ 438 - 439). (¬3) أخرجه سعيدُ بن منصور في «سننه»، كما في «فتح الباري» (3/ 406).

الآية الرابعة: قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن} [النور: 31]

عن محمَّدِ بنِ سيرينَ، قال: سألتُ عَبيدةَ السَّلْمانيَّ عن قولِ اللهِ تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59]؛ فغَطَّى وجهَهُ ورأسَهُ وأبرَزَ عينَه اليُسْرَى؛ وبهذا فسَّرَه ابنُ سيرينَ وابنُ عَوْنٍ؛ رواه ابنُ جريرٍ (¬1). وعلى هذا كان عَمَلُ نساءِ الصحابةِ جميعاً في الصدرِ الأوَّلِ، كما في «الصحيحين»، مِن حديثِ حفصةَ بنتِ سِيرِينَ، عن أُمِّ عَطِيَّةَ وغيرِها: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَمَرَ بحضورِ النساءِ للعيدَيْنِ، سُئِلَ: أعَلَى إحدانا بأس إذا لم يكنْ لها جِلْبابٌ ألَّا تَخْرُجَ؟ قال: (لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا، وَلْتَشْهَدِ الخَيْرَ وَدَعْوَةَ المُسْلِمِينَ) (¬2). ويستَشْكِلُ بعضُهم ما جاء في الآيةِ الرابعةِ، وهي قولُه تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (19/ 181 و 182). (¬2) أخرجه البخاري (324)، ومسلم (890).

نوع الزينة في الآية

بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31]. ومَن لم يَعْرِفْ أزمنةَ نزولِ آياتِ الحجابِ، ولم يَجْمَعْ أقوالَ الصحابةِ في آياتِ الحجابِ والسَّتْرِ بعضَها إلى بعضٍ، وينظُرْ في مذاهِبِهم فيما تعلَّقَ ببابِ لباسِ المرأةِ وسترِها وحجابِها -: أشكَلَ عليه ذلك، وضَرَبَ بعضَها ببعضٍ، على ما تقدَّمَ بيانُه؛ فآياتُ الحجابِ في سورةِ النُّورِ والأحزابِ لم تَنْزِلْ دَفْعَةً واحدةً، وأقوالُ الصحابةِ في التفسيرِ تتنوَّعُ حسَبَ الحالاتِ والمواضِعِ ولا تتعارَضُ، ومِن بابِ أَوْلَى أقوالُ الصحابيِّ في المسألةِ الواحدةِ، كما تقدَّمَ. فاللهُ تعالى ذكَرَ في الآيةِ الزِّينةَ، وجعلَها إجمالاً على نوعَيْن: الأوَّل: الزِّينةُ الباطِنةُ، التي يكونُ الأصلُ فيها عدمَ الظهورِ، وهذا في قولِه: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}، ثم أتبَعَها بالاستثناءِ. الثاني: الزينةُ الظاهرةُ، التي تظهَرُ لمن خَصَّهُم اللهُ بها، بقولِه: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، وبعضُ الناظِرِين لتفسيرِ السلفِ لقولِه: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يَحْمِلُ تفسيرَهم أنَّهنَّ يُظْهِرْنَهُ للأجانبِ غيرِ

كلام السلف كله في الزينة الظاهرة للمحارم وليست للأجانب؛ وذلك من أربعة أوجه

المحارِمِ، فيَنْقُلُون عن جماعةٍ مِن الصحابةِ والتابِعِين قولَهم في: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أنَّه: الكَفُّ والوَجْهُ؛ كما رُوِيَ عنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، وابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، والضَّحَّاكِ، أو: الكُحْلُ والخِضَابُ والخَاتَمُ؛ كما رُوِيَ عنِ ابنِ عباسٍ، ومجاهِدٍ، وابنِ جُبَيْرٍ، أو: الكُحْلُ والخاتَمُ؛ كما رُوِيَ عن أنَسٍ رضي الله عنه، أو: الخِضَابُ والكُحْلُ؛ كما رويَ عن عطاءٍ، أو: الكُحْلُ؛ كما رُوِيَ عن الشَّعْبِيِّ، وقتادةَ، أو: الوجهُ والثيابُ؛ كما رُوِيَ عن الحسَنِ، وقتادةَ، أو: الوجهُ وثُغْرةُ النَّحْرِ؛ كما جاء عن عِكْرِمةَ، أو: الكُحْلُ والثيابُ؛ كما جاء عن الشَّعْبيِّ؛ وما سبقَ أصَحُّ ما جاء عن الصحابةِ والتابِعِين مِن تفسيرِ آيةِ الزِّينةِ (¬1). وكلامُ هؤلاءِ السلفِ كلُّه في الزينةِ الظاهرةِ للمحارِمِ مِن النَّسَبِ والرَّضَاعِ، وليستْ للأجانِبِ، ولمَّا كثُرَ السُّفُورُ والتعرِّي اليومَ يَسْتثقِلُ بعضُ الناسِ هذا الفهمَ، وهذا مِن أثرِ الواقعِ على النفوسِ؛ فإنَّ الصحابةَ والتابعينَ كانُوا على ¬

_ (¬1) انظر هذه الآثارَ في: «تفسير عبد الرزاق» (2/ 56)، و «مصنف ابن أبي شيبة» (17281 - 17300)، و «تفسير ابن جرير» (17/ 258 - 261)، و «تفسير ابن أبي حاتم» (8/ 2574 - 2575).

قَدْرٍ شديدٍ مِن العفافِ والسترِ، حتَّى إنَّهم قَلَّما يَسْأَلُون عما تُبْدِيه الحُرَّةُ للرجلِ الأجنبيِّ. ويوضِّحُ أنَّ مرادَ الصحابةِ والتابِعِينَ بكشفِ الزينةِ الظاهرةِ: للمحارمِ لا الأجانبِ، نصوصُهم الأُخْرَى ونصوصُ غيرِهم الصريحةُ في ذلك؛ فهي لا تَتَّفِقُ وتجتَمِعُ إلا على هذا المعنى؛ وذلك مِن أربعةِ أوجُهٍ: الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ جميعَ مَن صحَّ عنه تفسيرُ الزينةِ الظاهرةِ في آيةِ النُّورِ: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قد صَحَّ عنه ما يؤيِّدُ حملَ تفسيرِهِ على تخصيصِهِ للمحارِمِ صريحاً أو قرينةً قويةً في موضِعٍ آخَرَ: - أما عبدُ الله بنُ عبَّاسٍ: فصحَّ عنه أنَّه قال: «الزينةُ الظاهرةُ: الوجهُ، وكُحْلُ العينِ، وخِضَابُ الكفِّ، والخاتَمُ، فهذا تُظْهِرُه في بيتِها لمن دخَلَ عليها»، ثم قال صريحاً: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ}، والزينةُ التي تُبْدِيها لهؤلاءِ الناسِ: قُرْطَاها، وقِلَادَتُها، وسوارَاها، فأمَّا

خَلْخَالُها، ومِعْضَدَتُها، ونحرُها، وشعرُها، فلا تُبْدِيه إلا لزَوْجِها»؛ أخرَجَه البيهقيُّ عن عليٍّ، عنِ ابنِ عباسٍ، وهو صحيحٌ (¬1). وصحَّ عنِ ابنِ عباسٍ أيضاً لَمَّا ذكَرَ المَحارِمَ: «الزِّينةُ التي تُبْدِيها لهؤلاءِ: قُرْطَاها وقِلَادَتُها، وسِوَارَاها، وأما خَلْخَالَاها ومِعْضَدَاها ونَحْرُها وشعرُها، فإنَّها لا تُبْدِيه إلا لزَوْجِها»؛ أخرَجَه ابنُ جَرِيرٍ عن عليٍّ، عن ابنِ عباسٍ (¬2)، وعلى هذا اتَّسَقَ جميعُ تفسيرِ ابنِ عباسٍ وأقوالِه في كلِّ أبوابِ الفِقْه؛ كالحَجِّ، وآيَةِ الأحزابِ، وفي آيَةِ القواعِدِ -العجائِزِ-: فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} [النور: 60] قال: «الجلابِيب» (¬3)، وهي التي على الشابَّةِ، كما صَحَّ عنِ ابنِ عباسٍ قولُه: «أمَرَ اللهُ نساءَ المؤمِنِين إذا خَرَجْنَ مِن بيوتِهِنَّ في حاجةٍ أن يُغَطِّينَ وجوهَهن مِنْ فوقِ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (17/ 259)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (8/ 2576)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 94). (¬2) أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (17/ 264 و 267). (¬3) أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص 307)، وابن جريرٍ في «تفسيره» (17/ 360)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (8/ 2641)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 93).

رؤوسِهِنَّ بالجلابيبِ، وُيبْدِينَ عَيْناً واحدةً» (¬1)، وصحَّ عنه أيضاً قولُه: «تُدْلِي الجلبابَ على وجهِها» (¬2). وجميعُ أصحابِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما الذين رُوِيَ عنهم ما يشابِهُ قولَه، لم يكونُوا يَسْأَلُونَ عن غيرِ المَحارِمِ، والسؤالُ عنهم غيرُ واردٍ؛ لوضوحِه وجَلَائِه، وقد كانُوا على نوعٍ مِن العفافِ والسَّتْرِ شديدٍ، فيُطْلِقُونَ إطلاقاتٍ لا يَفهَمُها مَن تأثَّرَ بواقعِ السفورِ والتعرِّي، حتى أصبحَ مِن النساءِ مَن تلبَسُ عندَ الأجانبِ ما لا تلبَسُهُ نساءُ السلفِ عندَ أَبِيها وأَخِيها وابْنِها، ومَن جمَعَ أقوالَ أُولئِكَ السلَفِ المفسِّرِينَ للزِّينةِ مِن أبوابِ السترِ والعوراتِ، ظهَرَ له مرادُهم جليّاً: - فأمَّا سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، فصَحَّ عنه: أنَّ تخفيفَ اللهِ عن القواعِدِ -العجائزِ- هو وضعُ الجلابيبِ فقط، قال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ: «لا تتَبَرَّجْنَ بوضعِ الجلبابِ؛ أَن يُرَى ما عليها مِن الزِّينةِ» (¬3)، والجلابيبُ: هي ما يستُرُ الوجوهَ كما تقدَّمَ بيانُه، فإنْ كانَتْ هذه هي الرخصةَ عند سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ للعجوزِ، فهي ليست رخصةً للشابَّةِ، وقد أجمَعَ العلماءُ: ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص 101). (¬2) سبق تخريجه (ص 70). (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (8/ 2642).

أنَّه لا يحِلُّ للعجوزِ إظهارُ شعرِها؛ حَكَى الإجماعَ: الجَصَّاصُ وابنُ حزمٍ (¬1). - وأمَّا عطاءُ بنُ أبي رَبَاحٍ، فقد صحَّ عنه تفضيلُه سترَ الشعرِ عن المحارِمِ، فقد قال في الرجُلِ يرى مِن النساءِ -مِمَّا يحرُمُ عليه نكاحُهُنَّ- رؤوسَهُنَّ: «يَستَتِرْنَ أحبُّ إليَّ، وإنْ رأى فلا بأسَ»؛ أخرجَه ابنُ أبي شيبةَ، عن عبدِ الملِكِ، عن عطاءٍ، وهو صحيحٌ (¬2). ثمَّ إنَّه قد صَحَّ عن عطاءٍ ما صحَّ عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ في العجوزِ؛ أنَّها تضَعُ جلبابَها، والجلبابُ: ما على الوجهِ. - وأمَّا مجاهِدُ بنُ جَبْرٍ، فصحَّ عنه أنَّه لا يرى وضعَ الخمارِ عند المرأةِ الكافرةِ؛ فكيف يُحمَلُ قولُه في الزِّينةِ الظاهرةِ: «الخَاتَمُ والخضابُ والكُحْلُ» أنَّها للرجالِ الأجانبِ مشرِكِين ومسلِمِين؟! فقد روَى لَيْثٌ عن مجاهِدٍ قال: «لا تَضَعِ المسلمةُ خمارَها عندَ مُشرِكَةٍ، ¬

_ (¬1) انظر: «أحكام القرآن» للجصاص (5/ 196)، و «المحلى» لابن حزم (10/ 32). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (17566).

ولا تَقْبَلْها (¬1)؛ لأنَّ اللهَ تعالى يقولُ: {أَوْ نِسَائِهِنَّ}؛ فليس مِن نسائِهِنَّ»؛ رواه البيهقيُّ عنه (¬2)، وروايةُ ليثٍ عن مجاهِدٍ كتابٌ ونُسْخةٌ؛ ذكَرَه ابنُ حِبَّانَ (¬3). وقد صَحَّ عن مجاهِدٍ -كما صَحَّ عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وعطاءٍ- في العجوزِ، وأنَّ اللهَ رخَّص لها بوضعِ جلبابِها (¬4)، وهذه خَصِيصةُ العَجُوزِ عندَه عن الشابَّةِ. - وأما قولُ عامِرٍ الشَّعْبيِّ: «الكُحْلُ والثِّيَابُ»، وقولُ عكرمةَ مولَى ابنِ عباسٍ: «الوَجْهُ وثُغْرَةُ النَّحْرِ»، فقد صحَّ عنهما أنَّهما كانا يَنْهَيَانِ أن تضَعَ المرأةُ خمارَها عند عَمِّها وخالِها، خلافاً لجمهورِ العلماءِ؛ فكيفَ يُحمَلُ قولُه في: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}: أنَّ المرأةَ تُبْدِي وجهَها ونَحْرَهَا وكُحْلَها للأجانبِ الأبعَدِينَ، وهما ¬

_ (¬1) يُقال: قَبِلَتِ القابِلةُ المرأةَ تَقْبَلُها قِبالةً وقِبالاً: تَلقَّتِ الولَدَ مِن بطنِ أمِّه عند الوِلادة. «تاج العروس» (30/ 209). (¬2) أخرجه سعيد بن منصور ف «سننه» (1576 /التفسير)، ومِن طريقِه البيهقيُّ في «السنن الكبرى» (7/ 95). (¬3) انظر: «الثقات» (7/ 331). (¬4) أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (1617 /التفسير)، وابن جرير في «تفسيره» (17/ 361 و 363 و 364). وهو في «تفسير مجاهد» (2/ 444).

يُشَدِّدَانِ في المحارِمِ غيرِ المَذْكُورِينَ في الآيةِ؟! فقد رَوَى داودُ، عن الشعبيِّ وعكرمةَ، في قولِه: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ}، حتى فَرَغَ منها؛ قالا: «لم يَذْكُرِ العَمَّ والخالَ؛ لأنَّهما يَنْعَتانِ لأبنائِهما، وقالا: لا تَضَعْ خمارَها عندَ العَمِّ والخَالِ»؛ أخرَجَه ابنُ أبي شيبةَ وابنُ جَرِيرٍ وابنُ المُنْذِرِ (¬1). ويَعْضُدُ هذا ما رواه جابِرٌ عن عامِرٍ الشَّعْبيِّ؛ أنَّه كَرِهَ أن ينظُرَ إلى شعرِ كلِّ ذي مَحْرَمٍ؛ أخرَجَه ابنُ أبي شيبةَ (¬2). ثمَّ إنَّه قد صحَّ عن الشعبيِّ ما صحَّ عنِ ابنِ جُبَيْرٍ وعطاءٍ ومجاهِدٍ في العجوزِ (¬3). - وأمَّا الحسَنُ البَصْرِيُّ: فإنَّه لا يَرَى أن يَرَى الأخُ أُخْتَه بلا خمارٍ على رأسِها؛ فقد صحَّ عن هشامٍ، عن ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في (مصنفه) (17580)، ومِن طريقِه ابنُ المنذِر؛ كما في «تفسير ابن كثير» (10/ 220)، وابن جرير في «تفسيره» (19/ 173). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (17569). (¬3) أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (17/ 363).

الحسَنِ؛ في المرأةِ تضَعُ خمارَها عندَ أَخِيها؟ قال: «واللهِ ما لها ذَاكَ»؛ أخرَجَه ابنُ أبي شيبةَ، وهو صحيحٌ (¬1)؛ وهذا دليلٌ أنه يقصِدُ المحارِمَ، وما كانوا يَسْأَلُونَ ولا يَقْصِدُونَ غيرَهم لشِدَّةِ وَرَعِهم. وقد صحَّ عنِ الحسَنِ البصريِّ، مثلُ ما صحَّ عند ابنِ جبيرٍ وعطاءٍ ومجاهِدٍ والشعبيِّ في العجوزِ، وأنَّ اللهَ خَصَّها بوضعِ الجلبابِ (¬2). - وأمَّا الضَّحَّاكُ، فيدلُّ على أنَّه يتكلَّمُ عن المحارِمِ: ما رواه مُزَاحِمٌ عنه أنَّه قال: «لو دخَلْتُ على أُمِّي، لقُلْتُ: غَطِّي رأسَكِ»؛ أخرَجَه ابنُ أبي شيبةَ (¬3). - وأمَّا قتادةُ، فصَحَّ عنه ما صَحَّ عند ابنِ جُبَيْرٍ وعطاءٍ ومجاهدٍ والشعبيِّ والحسَنِ في العجوزِ (¬4). وعلى هذا المعنى لم يخرُجْ واحدٌ مِن أصحابِ ابنِ عباسٍ وغيرِهم مِن التابِعِين؛ فقد صحَّ عن عكرمةَ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (17568). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (2/ 63)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (8/ 2641 - 2642) (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (17574 و 17576). (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (8/ 2640).

وأبي صالحٍ: «أنَّ الزِّينةَ الظاهرةَ: ما فوقَ الدِّرْعِ» (¬1)، والدِّرْعُ: ثوبُ البيتِ لا ثوبُ الخروجِ كما هو معروفٌ؛ لأنَّ الدِّرْعَ يظهَرُ معه الشعرُ والنَّحْرُ، وهو محرَّمُ الكشفِ للأجانبِ بالإجماعِ. وصح تفسيرُ الزينةِ الظاهرةِ أيضاً بالدِّرْعِ عن إبراهيمَ النخعيِّ (¬2). وصحَّ عن طاوسٍ: ما كان أكرَهَ إليه مِن أن يَرَى عورةً مِن ذاتِ مَحْرمٍ، قال: وكان يَكْرَهُ أنْ تَسلَخَ خمارَها عندَه؛ رواه عبدُ الرَّزَّاقِ، عن مَعْمَرٍ، عنِ ابنِ طاوسٍ، عن أَبِيه، وهو صحيحٌ (¬3). - وأمَّا عبدُ الله بنُ عُمَرَ، فإنَّه قد صحَّ عنه أنَّه جعَلَ ما استَثْناه اللهُ للعجوزِ أن تكشِفَه هو جِلْبَابَها (¬4)، ويتَّفِقُ العلماءُ أنْ لا خَصِيصةَ للعجوزِ في ذلك، فبَقِيَ جلبابُ الوجوهِ على الشابَّةِ، ولا يليقُ بفقهِ الصحابةِ ولا بعقولِهم ¬

_ (¬1) أخرجه ابنُ أبي شيبة في «مصنفه» (3/ 383). (¬2) أخرجه ابنُ أبي حاتم (10/ 109)، والطحاويُّ في «شرح معاني الآثار» (4/ 332)؛ بسندٍ صحيحٍ. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (12831). (¬4) أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (1616 /التفسير)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (8/ 2641).

وفهمِهم، أنْ تُضرَبَ أقوالُهم بعضُها ببعضٍ في البابِ البَيِّنِ الواضِحِ؛ كحجابِ المرأةِ ولباسِها. وعلى هذا الجمعِ بوَّب البيهقيُّ في «سننه» فقد ترجَمَ على تفسيرِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما لقولِه تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]، فقال: «باب: ما تُبْدِي المرأةُ مِن زينَتِها للمَذْكُورِين في الآيةِ مِن محارِمِها»، ثم أورَدَ قولَ ابنِ عباسٍ الذي فيه: «والزِّينةُ الظاهرةُ: الوجهُ وكُحْلُ العينِ وخِضَابُ الكَفِّ والخاتَمُ؛ فهذا تُظْهِرُه في بيتِها لمن دخَلَ عليها» (¬1). ونصَّ على هذا ابنُ عبدِ البرِّ؛ فجعَلَ كشفَ الزينةِ وإظهارَها للمحارمِ لا للأجانبِ، فقال: «إنَّ ذَوِي المحارِمِ مِن النَّسَبِ والرضاعِ لا يُحتجَبُ منهم ولا يُستتَرُ عنهم إلا العَوْراتُ، والمرأةُ فيما عدَا وجهَها وكَفَّيْها عورةٌ» (¬2). ومَن نظَرَ إلى تفسيرِ بقيةِ الصحابةِ في ذلك، وجَدَ أنه يتطابَقُ مع هذا المعنى ويوافِقُه؛ كما صحَّ عن عبدِ الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه؛ أنَّ الزينةَ الظاهرةَ: الثيابُ (¬3)، وعلى هذا ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص 105 - 106). (¬2) انظر: «التمهيد» (8/ 236). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (2/ 56)، وسعيد بن منصور=

جميعُ أصحابِه وغيرُهم مِن العراقِيِّين؛ كأبي الأحوَصِ والنَّخَعِيِّ والحسَنِ وابنِ سِيرِينَ وغيرِهم (¬1)، وقال به مجاهدٌ (¬2)، ومرادُه بالثيابِ: التي تكونُ تحتَ الجلبابِ مما على الثيابِ الداخليةِ مِن زخرفةٍ وزينةٍ، فالجلبابُ يستُرُ زينةَ الملابسِ التي تحتَه ممّا يُلبَسُ في البيوتِ عادةً، فللمحارمِ رؤيةُ ذلك؛ لأنَّ الزينةَ تكونُ بالثيابِ كما في قولِه تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]؛ يعني: زينةَ ثيابِكم؛ وبهذا فسَّرَ أبو إسحاقَ السَّبِيعِيُّ قولَ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه؛ فقد تَلَا هذه الآيةَ: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} لَمَّا روى تفسيرَ ابنِ مسعودٍ، عن أبي الأحوَصِ، عنه (¬3). ¬

_ = في «سننه» (1569 /التفسير)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (17282 و 17296)، وابن جرير في «تفسيره» (17/ 256 و 257)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (8/ 2573 و 2574)، وغيرهم. (¬1) انظر: «سنن سعيد بن منصور» (1571)، و «مصنف ابن أبي شيبة» (17285 و 17289 و 17293)، و «تفسير ابن جرير» (17/ 257). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (8/ 2574). (¬3) انظر: «تفسير عبد الرزاق» (2/ 56)، و «تفسير ابن جرير» (17/ 257).

الوجهُ الثاني: أنَّ فِقْهَ السلفِ في غيرِ التفسيرِ في بقيةِ أبوابِ السترِ والنظَرِ، دالٌ على هذا المعنى؛ فقد صحَّ عنِ ابنِ شهابٍ الزُّهْرِيِّ قولُه: «لا بأسَ أن ينظُرَ الرجلُ إلى قُصَّةِ المرأةِ مِن تحتِ الخمارِ، إذا كان ذا مَحْرَمٍ، فأمَّا أنْ تسلَخَ خمارَها عندَه، فلا» (¬1). وقال الزهريُّ أيضاً في المرأةِ تسلَخُ خمارَها عند ذي مَحْرَمٍ: «أمَّا أنْ يَرَى الشيءَ مِن دونِ الخمارِ، فلا بأسَ، وأمَّا أن تسلَخَ الخمارَ، فلا»؛ أخرجَه عبدُ الرَّزَّاقِ عن مَعْمَرٍ، عنه، وهو صحيحٌ (¬2). ومَن جَمَعَ أقوالَ السلَفِ في جميعِ الأبوابِ، ونظَرَ فيها في سياقٍ واحدٍ، أدرَكَ حجمَ وَرَعِهم وتحفُّظِ نسائِهم، وأدركَ أنهم يَدُورون في دائرةٍ أُخرى مِن العِفَّةِ والاحتياطِ على غيرِ ما يحمِلُه كثيرٌ مِن الكُتَّابِ عنهم؛ فإنَّهم لا يريدونَ مِن معنى الزينةِ التي تتعلَّقُ بالوجهِ وما حولَه للأجانبِ الأبعَدِين، وهم لا يختَلِفُون في جوازِ كشفِ المرأةِ لوجهِها للأقرَبِين، ولا يخوضونَ في ذلك؛ وإنَّما يذكُرُون الوجهَ اختصاراً لإجازةِ زينَتِه تبغاً مِن الكُحْلِ والقُرْطِ، ويذكُرُون ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (12829). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (12830).

الآية الخامسة: قوله تعالى: {والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم} [النور: 60].

اليَدَ اختصاراً ليدخُلَ فيها زينَتُها مِن الخاتَمِ والخضابِ والسِّوَارِ، ولا يَعْنُون الوجهَ بذاتِه، ولا اليدَ بذاتِها؛ ومَن نظَرَ في مجموعِ تفسيرِهم، أدرَكَ ذلك يقيناً. ومِن المهمِّ بيانُه: أنَّ تفسيرَ الصحابةِ للزِّينةِ الظاهرةِ مِن بابِ شِدَّةِ العفافِ وغايةِ الاحتشامِ، والسترِ الذي هم عليه؛ ولا يظهر أنَّهم يُحَرِّمون على المرأةِ أن تُبْدِيَ شعرَها ويديها عندَ محارمِها، فهذا الذي خففت به الشريعةُ، وهو الذي نعتقِدُ، ولكنَّ المرادَ مِن بيانِ أقوالِهم ووضعِها في مواضعِها وسياقاتِها التي أوْرَدُوها فيها: أنَّ المعاصِرِين لمَّا بعَّدَ الزمانُ والواقعُ بينهم وبين ذلك الجيلِ، وضَعُوا أقوالَهم في غيرِ موضعِها، ولم تتصَوَّرْها نفوسُهم إلا كذلك؛ فكانت أقوالُ السلفِ في بيانِ الحكم احتياطاً، ثم وُضِعَت في غير موضعِها تفريطاً. الوجهُ الثالثُ: أنَّ اللهَ رخَّصَ في الآيةِ الخامسةِ مِن آياتِ الحجابِ للقواعِدِ أنْ يضَعْنَ ثيابَهُنَّ فقال: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 60]. واتَّفق المفسِّرُون مِن الصحابةِ والتابعينَ أنَّ الثيابَ التي رخَّصَ اللهُ بوضعِها للعجوزِ هي الجلابيبُ؛ جاء بسنَدٍ

صحيحٍ ذلك عن ابنِ عباسٍ وابنِ مسعودٍ وابنِ عُمَرَ رضي الله عنهم والشَّعْبيِّ وابنِ جُبَيْرٍ والحسَنِ ومجاهِدٍ وعطاءٍ وعِكْرِمةَ وقتادةَ وغيرِهم (¬1)، وهؤلاءِ كُلُّهم لهم تفسيرٌ للزينةِ الظاهرةِ كما تقدَّمَ، واتَّفَقُوا هنا على أنَّ ما تختَصُّ به العجوزُ عن الشابَّةِ رفعُ الجلبابِ فقطْ، والجلابيبُ: هي ما تختَصُّ بسترِ الوجهِ مِن بَشَرَةِ الجِسْمِ، وتكونُ فوقَ بقيَّةِ الثيابِ ثوباً على ثوبٍ، فالجلبابُ فوقَ الخمارِ؛ ويدلُّ على أنَّ الجلابيبَ: ما كانتْ تستُرُ الوجوهَ للشابَّةِ: جملةٌ مِن تفسيرِ أفصَحِ الناسِ وأقرَبِهم إلى الوحيِ، وهمُ الصحابةُ والتابِعُون: منها: قولُ عائشةَ رضي الله عنها: «تَسْدُلُ المرأةُ جلبابَها مِن فوقِ رأسِها على وجهِها»؛ أخرَجَه سعيدُ بنُ منصورٍ بسنَدٍ صحيحٍ (¬2)، وقولُها في «الصحيحَيْن»: «فخَمَّرْتُ وَجْهِي بجِلْبَابِي» (¬3). ومنها: قولُ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: «تُدْلِي الجلبابَ إلى وجهِها»؛ أخرَجَه أبو داودَ في «المسائِلِ» بسندٍ صحيحٍ، وتقدَّمَ ¬

_ (¬1) انظر: «تفسير عبد الرزاق» (2/ 63)، و «تفسير ابن جرير» (17/ 360 - 360)، و «تفسير ابن أبي حاتم» (8/ 2639 - 2642). (¬2) سبق تخريجه (ص 101). (¬3) سبق تخريجه (ص 52).

بطُولِه (¬1)، وقولُه: «أمَرَ اللهُ نساءَ المؤمِنِين إذا خرَجْنَ مِن بيوتِهِن في حاجةٍ أنْ يُغَطِّينَ وجوهَهُنَّ مِن فوقِ رُؤُوسِهِنَّ بالجلابيبِ، ويُبْدِين عَيْناً واحدةً»؛ رواه ابنُ جريرٍ بسندٍ صحيحٍ (¬2). ومنها: ما رواه عاصِمٌ الأحوَلُ، قال: كُنَّا ندخُلُ على حفصةَ بنتِ سيرينَ، وقد جعَلَتِ الجلبابَ هكذا، وتَنقَّبت به، فنقولُ لها: رحمَكِ اللهُ! قال اللهُ تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60]، وهو الجِلبابُ، قال: فتقولُ لنا: أيُّ شيءٍ بعدَ ذلك؟ فنقولُ: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور: 60]؛ فتقولُ: هو إثباتُ الجلبابِ (¬3). وإذا اتَّفق الصحابةُ على أنَّ رخصةَ النساءِ العجائزِ وضعُ الجلابيبِ، وكشفُ الوجهِ مِن غيرِ زِينةٍ، فماذا يُحِلُّون للمرأةِ الشابَّةِ أمامَ الأجانِبِ؟! وقد حكَى الإجماعَ غيرُ واحدٍ مِن العلماءِ على أنَّه لا يجوزُ للعجوزِ أنْ تكشِفَ شَعْرَها للأجانِبِ مهما بلَغَ ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص 70). (¬2) سبق تخريجه (ص 101). (¬3) أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (1618 /التفسير)، وسعدان بنُ نصرٍ في «جزئه» (60)؛ ومن طريقِ سعدانَ أخرجَه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 93).

سِنُّها، حكى الإجماعَ الجَصَّاصُ وابنُ حزمٍ وغيرُهما (¬1)، فشعرُ العجوزِ عورةٌ للأجانِبِ، كشعرِ الشابَّةِ؛ بلا خلافٍ. وإذا كان تفسيرُ ابنِ عُمَرَ وابنِ عباسٍ وابنِ جُبَيْرٍ وعكرمةَ والحسَنِ والشَّعْبيِّ والضَّحَّاكِ ومجاهِدٍ وقتادةَ لآيَةِ: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}: أنَّها الوجهُ والكَفَّانِ، ويرادُ بها: الأجانبُ، فما الفائدةُ مِن نزولِ آيةِ القواعدِ، والترخيصِ لها بوضعِ الجلبابِ؟! الوجهُ الرابعُ: أنَّ اللهَ نَهَى عن إظهارِ الزينةِ بقولِه: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}، ثم استَثْنَى؛ فقال: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، ثم أرادَ أن يبيِّنَ المعنِيِّينَ بإظهارِ الزينةِ لهم، مُفصِّلاً لمراتِبِهم بحسبِ قُرْبِهم؛ فقال: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ} [لنور: 31]، وقد يَسْتشكِلُ البعضُ ذِكْرَ الزوجِ مع أنَّه لا يُستثنى دونَه شيءٌ، وإنما ذُكِرَ مع غيرِه مِنَ المحارِمِ مِن بابِ حصرِ المعنِيِّينَ حتى لا يُظَنَّ أنَّ الخطابَ للأَبْعَدِينَ، وليس المرادُ أنَّ الزينةَ له كالزِّينةِ لغيرِه؛ ولذا بدأَ به للخَصُوصِيَّةِ، ¬

_ (¬1) انظر: «أحكام القرآن» للجصاص (5/ 196)، و «المحلى» (10/ 32).

التدرج في فرض الحجاب

فالمفسِّرُونَ يَعْلَمُونَ اختلافَ مراتِبِ المذكُورِين؛ روى ابنُ وَهْبٍ عن ابنِ زيدٍ: قال: «والزَّوْجُ له فَضْلٌ، والآباءُ مِن وراءِ الرجلِ لهم فَضْلٌ، قال: والآخَرُونَ يتفاضَلُون، قال: وهذا كلُّه يجمَعُه ما ظهَرَ مِن الزينةِ»؛ أخرجَه ابنُ جريرٍ (¬1). فقولُ عبدِ الرحمنِ بنِ زيدِ بنِ أسلَمَ: «وهذا يجمَعُه ما ظهَرَ مِن الزِّينَةِ»؛ يعني: أنَّ المذكُورِين همُ المَحَارِمُ وهم المَعْنِيُّون بقولِه قبلَ ذلك: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، وليس الأجانبَ، فذُكِرُوا للبيانِ والإيضاحِ، والزوجُ له فضلٌ على الجميعِ وخَصُوصيةٌ؛ كما قالَه ابنُ زيدٍ. التَّدَرُّجُ في فرضِ الحجابِ: يَذْهَبُ بعضُ المفسِّرينَ إلى أنَّ الحجابَ لم يُفْرَضْ جملةً واحدةً؛ وإنما جاء متدرِّجاً، فأوَّلُ ما نزلَ وذُكِرَ فيه عمومُ المؤمناتِ: آياتُ النُّورِ، ثم آياتُ سورةِ الأحزابِ، ومِن هؤلاءِ ابنُ جريرٍ الطبريُّ، وأبو بكرٍ الجَصَّاصُ، وابنُ تيميَّةَ، وغيرُهم، وهؤلاءِ يتفِقون مع غيرِهم في الغايةِ والنهايةِ التي استقَرَّ عليها الحُكْمُ، وإنِ اختلَفُوا مع غيرِهم في المراحِلِ، وكثيرٌ ممن ينظُرُ في كتبِ المفسِّرِين، ينظُرُ في ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (19/ 173 - 174).

سورةِ النورِ فيراهم ينقُلُون كلامَ السلفِ في الزينةِ الظاهرةِ بإجمالٍ، ثم يُعَلِّقُ أولئك الأئمةُ في سورةِ النور، ويَنُصُّون على جوازِ كشفِ المرأةِ لوجهِها وكَفَّيْها، ولو نظَرُوا في كلامِهم في سورةِ الأحزابِ، لوجَدُوا أنَّهم يمنَعُون، وليس هذا اضطراباً، ولا قولَيْن؛ فالمؤلِّفُ واحدٌ، والكتابُ واحدٌ، وإنَّما لأنَّهم يَرَوْنَ تقدُّمَ آيةِ الحجابِ مِن سورةِ النورِ على آيةِ الحجابِ مِن سورةِ الأحزابِ، فيُفَسِّرُون كلَّ موضِع بحسبِ ما فَهِمُوه في موضِعِه، ويجعَلُون فرضَ الحجابِ متدرِّجاً. ومَن جَهِلَ المتقدِّمَ والمتأخِّرَ مِن السُّوَرِ عندَ الأئمةِ، لم يفهَمْ مقاصدَ القرآنِ وأحكامَ المفسِّرِينَ مِن السلَفِ، قال ابنُ جريرٍ الطبريُّ في سورةِ الأحزابِ: «لا يتشَبَّهْنَ بالإماءِ في لباسِهِنَّ إذا هُنَّ خرَجْنَ مِن بيوتِهنَّ لحاجَتِهِنَّ، فكشَفْنَ شعورَهن ووجوهَهُن، ولكنْ لِيُدْنِينَ عليهن مِن جلابيبهن» (¬1)، وذكَرَ تفسيرَ السلفِ لتغطيةِ الوجهِ بالجلابيبِ، وهكذا فسَّر آيةَ القواعدِ في سورةِ الأحزابِ (¬2)، وقولُه في سورةِ النُّورِ بأنَّ المرأةَ تُبْدِي وجهَها (¬3)، يحكِي ¬

_ (¬1) انظر: «تفسير ابن جرير» (19/ 181). (¬2) انظر: «تفسير ابن جرير» (17/ 359 - 360). (¬3) انظر: «تفسير ابن جرير» (17/ 261 - 262).

المرحلةَ الأُولَى مِن فرضِ الحجابِ، وآيةُ الأحزابِ بعدَها. وابنُ جريرٍ إمامٌ بصيرٌ ينقُلُ أقوالَ السلفِ في الموضِعِ ويبيِّنُه، ولو كانتِ الآيةُ في حكمٍ سابقٍ، ثم تَبِعَتْه آياتٌ تزيدُ عليه في الحكمِ، فإنه يذكُرُ عندَ كلِّ آياتٍ حكمَها، وهذا له نظائِرُ كثيرةٌ في تفسيرِه. وهكذا الإمامُ الجَصَّاصُ ذكَرَ معنَى ما ذكَرَه ابنُ جريرٍ في آيةِ النُّورِ؛ لأنَّها سابِقَةٌ (¬1)، ثم في آيَةِ الأحزابِ المتأخِّرَةِ، قال: «في هذه الآيَةِ دلالةٌ على أنَّ المرأةَ الشابَّةَ مأمورةٌ بِسَتْرِ وجهِها عنِ الأجنَبِيِّين، وإظهارِ السترِ والعفافِ عند الخُرُوجِ «(¬2). وهكذا كثيرٌ مِن المفسِّرِين، يفسِّرون آيةَ النُّورِ على حالٍ سابقةٍ كما جاء عند ابنِ جَرِيرٍ، ثم يَنُصُّون صراحةً على مَنْعِ المرأةِ مِن كشفِ وجهِها عندَ آيةِ الأحزابِ، ومِن هؤلاءِ المفسِّرين: أبو اللَّيْثِ نَصْرٌ السَّمَرْقَنْدِيُّ الحنفيُّ في «تفسيره» (¬3)، وأبو عبدِ الله بنُ أبي زَمَنِين (¬4)، والثعلبيُّ (¬5)، ¬

_ (¬1) انظر: «أحكام القرآن» (5/ 172 - 173). (¬2) انظر: «أحكام القرآن» (5/ 245). (¬3) انظر: «تفسير السمرقندي» (2/ 508)، و (3/ 69). (¬4) انظر: «تفسير ابن أبي زمنين» (3/ 230 - 231)، و (3/ 412). (¬5) انظر: «تفسير الثعلبي» (7/ 87)، و (8/ 64).

والكِيَا الهَرَّاسِيُّ (¬1)، والزمخشريُّ (¬2)، والعِزُّ بنُ عبدِ السلام (¬3)، والبَيْضَاوِيُّ (¬4)، والنَّسَفيُّ (¬5)، وابنُ جُزَيٍّ (¬6)، والسُّيُوطيُّ (¬7)، والبِقَاعيُّ (¬8)، وأبو السُّعُودِ (¬9)، وغيرُهم. وكثيرٌ ممَّن ينقُلُ أقوالَهم السابقةَ في إبداءِ الزينةِ الظاهرةِ، يُهْمِلُ أقوالَهم المحكَمةَ في سورةِ الأحزابِ، وقد نزلَتْ بعدَ ذلك! وسواءٌ قِيلَ: إنَّ الحجابَ نزلَ متدرِّجاً، أم نزَلَ مرةً واحدةً وتنوَّعَتْ نصوصُ القرآنِ في الخطابِ؛ فالغايةُ واحدةٌ، وهو ما ظهَرَ في جميعِ الآياتِ وتجلَّى صريحاً في سورةِ الأحزابِ. ¬

_ (¬1) انظر: «أحكام القرآن» (4/ 312)، و (4/ 350). (¬2) انظر: «تفسير الزمخشري» (3/ 231)، و (3/ 560). (¬3) انظر: «تفسير العز بن عبد السلام» (2/ 398)، و (2/ 590). (¬4) انظر: «تفسير البيضاوي» (4/ 104)، و (4/ 238). (¬5) انظر: «تفسير النسفي» (2/ 500)، و (3/ 45). (¬6) انظر: «تفسير ابن جزي» (2/ 67)، و (9/ 159). (¬7) انظر: «الإكليل» (ص 192)، و (ص 214 /العلمية). (¬8) انظر «نظم الدرر» (13/ 259)، و (15/ 411). (¬9) انظر: «إرشاد العقل السليم» (6/ 170)، و (7/ 115).

حجاب الصحابيات والتابعيات

حجابُ الصحابيَّاتِ والتابعيَّاتِ: مَن تتبَّعَ حالَ الصحابيَّاتِ والتابعيَّاتِ، وجَدَ أنَّ حجابَهُنَّ وسَتْرَهُنَّ لا يختلِفُ في السترِ التامِّ للمرأةِ، وأنَّ عملَهُنَّ كلِّهن على تغطيةِ الوجوهِ، ولا أعلَمُ صحابيةً ولا تابعيةً حُرَّةً شابَّةً معروفةَ الحالِ تكشِفُ وجهَها، وإنْ نُقِلَ فيُنْقَلُ عن مجهولةِ الحالِ، فلا يبيِّنُ النصُّ المنقولُ حالَها؛ عجوزاً أم شابَّةً، حُرَّةً أم أمَةً، وقد كان عملُهُنَّ على تغطيةِ الوجهِ، وقد جاء ذلك في أحاديثَ كثيرةٍ: منها: ما ثبتَ في «الصحيحين»، مِن حديثِ حفصةَ بنتِ سيرينَ، عن أمِّ عَطِيَّةَ وغيرِها: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أمَرَ بحضورِ النساءِ للعيدَيْنِ، سُئِلَ: أعَلَى إحدانا بأسٌ إذا لم يكن لها جِلْبابٌ ألَّا تخرُجَ؟ قال: (لِتُلْبِسْها صاحبَتُها مِن جلبابِها، ولْتَشْهَدِ الخَيْرَ ودَعْوَةَ المُسْلِمِينَ) (¬1). والجلابيبُ: ما تُغَطَّى بها الوجوهُ؛ على ما سبق بيانُه مِن تفسيرِ الصحابةِ. ومنها: ما رواه البخاريُّ ومسلمٌ؛ أنَّ عائشةَ رضي الله عنها لَمَّا جاءَها صَفْوانُ بنُ المُعَطَّلِ، قالت: «فخَمَّرْتُ وجهِي ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص 102).

بجِلْبَابِي» (¬1)، وما رواه سعيدُ بنُ منصورٍ في «سننه» بسنَدٍ صحيحٍ عن الأسوَدِ، عن عائشةَ رضي الله عنها، قالتْ في المُحْرِمةِ: «تَسْدُلُ المرأةُ جلبابَها مِن فوقِ رأسِها على وجهِها» (¬2). ومنها: ما رواه أبو داودَ في «مسائِلِه لأحمدَ» بسندٍ صحيحٍ، عن أبي الشعثاءِ، عنِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّه قال: «تُدْلِي الجلبابَ إلى وَجْهِها، ولا تَضْرِبُ به»، قلتُ: وما «لا تَضْرِبُ به»؟ فأشارَ لي، كما تَجَلْبَبُ المرأةُ، ثم أشار لي: ما على خَدِّها مِن الجلبابِ، قال: تَعْطِفُه، وتضرِبُ به على وجهِها؛ كما هو مسدولٌ على وجهِها (¬3). ومنها: ما رواه مالكٌ في «الموطَّأ»، مِن حديثِ فاطمةَ بنتِ المنذِرِ؛ أنَّها قالَتْ: «كُنَّا نُخَمِّرُ وجوهَنا ونحنُ مُحْرِماتٌ، ونحنُ مع أسماءَ بنتِ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ» (¬4)؛ وفاطمةُ تَحْكِي عملَ النساءِ صحابياتٍ وتابعياتٍ وهُنَّ مُحْرِماتٌ. ومنها: ما رواه سعيدٌ وابنُ المنذِرِ والبيهقيُّ بسندٍ صحيحٍ، عن عاصِمٍ الأحوَلِ، قال: كُنَّا نَدْخُلُ على حفصةَ ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص 52). (¬2) سبق تخريجه (ص 101). (¬3) سبق تخريجه (ص 70). (¬4) سبق تخريجه (ص 71).

زينة الوجه للعجوز وزينة الوجه للشابة

بنتِ سِيرِينَ، وقد جعلَتِ الجلبابَ هكذا، وتنقَّبَتْ به، فنقولُ لها: رحمَكِ اللهُ! قال اللهُ تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60]، وهو الجِلْبَابُ، قال: فتقولُ لنا: أيُّ شيءٍ بعدَ ذلك؟ فنقولُ: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور: 60]؛ فتقولُ: هو إثباتُ الجِلْبَابِ (¬1). زِينةُ الوجهِ للعجوزِ، وزينةُ الوجهِ للشابَّة: رخَّصَ اللهُ للقاعِدِ مِن النساءِ وَضْعَ جلبابِها وكَشْفَ وجهِها؛ ولكنَّه منَعَها مِن الزينةِ، ثمَّ فضَّلَ لهنَّ عدمَ وضعِ الجلبابِ؛ كما قال تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور: 60]، فجعَلَ شرطَ وضعِ الجلبابِ عدمَ الزينةِ، والمرادُ بالزينةِ: المكتسَبةُ، وهي إمَّا ذهَبٌ، وإمَّا أصباغٌ على الوجهِ، وقد صحَّ عنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا}، قال: «هي المرأةُ لا جُناحَ عليها أنْ تَجْلِسَ في بيتِها بدِرْعٍ وخِمَارٍ، وتضَعَ عنها ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص 118).

عورة الستر وعورة النظر

الجلبابَ ما لم تتبَرَّجْ لِمَا يكرَهُه اللهُ، وهو قولُه: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ}، ثُمَّ قالَ: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ}؛ أخرَجَه البيهقِيُّ (¬1). وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ: «لا تتبَرَّجْنَ بوضعِ الجلبابِ؛ أن يُرَى ما عليها مِن الزِّينةِ» (¬2). فإذا حرَّم اللهُ التزيُّنَ عندَ كشفِ العجوزِ لوجهِها، وجعلَ شرطَ الرخصةِ بالكشفِ للعجوزِ عدمَ تبرُّجِها بزينةٍ، فمِن بابِ أولَى تحريمُ الكشفِ على الشابَّةِ ولو بدونِ زينةٍ، وغريبٌ أنْ يقولَ قائلٌ بجوازِ تزيُّنِ الشابَّةِ عندَ كشفِها، واللهُ يُحَرِّمُه على العجائزِ وجعلَه شرطاً لكشفِها خاصَّةً لكِبَرِها، فلم يقلْ بذلك أحدٌ مِن المفسِّرِين مِن السلفِ ولا الفقهاءِ. عورةُ السَّتْرِ وعورةُ النظرِ: يفرِّقُ العلماءُ بينَ عورةِ السَّتْرِ وعورةِ النظرِ، ومَن لم يَفْهَمْ هذينِ المصطلحَيْنِ، أشكَلَ عليه كلامُ العلماءِ مِن المفسِّرِين والفقهاءِ، وهذا سببُ خطأِ أكثَرِ الباحثِين ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (17/ 360)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (8/ 2641)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 93). (¬2) سبق تخريجه (ص 107).

والكُتَّابِ اليومَ في فَهْمِ كلامِ العلماءِ؛ فالعلماءُ يُطْلِقُون عورةَ المرأةِ أمامَ الأجانبِ بإطلاقَيْنِ: الأوَّلُ: عورةُ السترِ؛ فيقولُ الجمهورُ: «المرأةُ عورةٌ إلا وجهَها وكَفَّيْها»، ويقولُ جماعةٌ مِن الفقهاءِ: «المرأةُ كلُّها عورةٌ»، ونحوَ هذه العبارةِ. الثاني: عورةُ النظرِ؛ فيقولون: «لا يجوزُ أن ينظُرَ الرجلُ إلا لوجهِها وكَفَّيْها»، أو: «لا ينظُرُ إلى شيءٍ منها حتى وجهِها وكَفَّيْها». والعورةُ الأُولَى عورةُ السترِ، هي التي يجبُ أن تُسْتَرَ لذاتِها؛ لا لأَجْلِ الناظرِ إليها فحَسْبُ، فمثلاً المرأةُ العجوزُ أو الشابَّةُ مهما كان صَدْرُها ونَحْرُها أو شعرُها أو ساقُها مشوَّهاً يسوءُ الناظرِينَ، ولا يجلِبُ أقوى غرائزِ الرجالِ؛ فإنَّه لا يجوزُ لها أن تكشِفَه؛ لأنَّه عورةٌ لذاتِه لا تعلُّقَ للفتنةِ به. وأمَّا العورةُ الثانيةُ عورةُ النظرِ، فالتي يَحْرُمُ كشفُها لسببٍ خارجٍ عنها، فمتى انتَفَى الأمرُ الخارجيُّ، لم يحرُمْ كشفُها، وهو نظرُ الرجالِ وفتنَتُهم به، ويتفقُ العلماءُ -ومنهم الأئمةُ الأربعةُ- على أنَّ الوجهَ والكفينِ مِن عورةِ النظرِ عندَ الفتنةِ، فيجبُ سترُه؛ لأنه عورةٌ بسببِ الرجلِ

من الفروع الموجبة للنظر مسائل كثيرة

الناظرِ وفتنَتِه؛ لا عورةٌ في ذاتِهِ للمرأةِ المنظورِ إليها، فيُسْتَرُ لغيرِه لا لذاتِه، أمَّا اختلافُهُمْ فعند عدمِ الفتنةِ ووجودِ الرُّخْصةِ للرجلِ أن ينظُرَ. ومِن الفروعِ المُوجِبةِ للنظرِ مسائلُ كثيرةٌ، منها: نظَرُ الرجلِ إلى المخطوبةِ، ونظرُ القاضي للتعرُّفِ على أحدِ الخصمَيْنِ إن كان امرأةً، أو إدلاءُ المرأةِ للشهادةِ على حقٍّ في بيعٍ أو شراءٍ أو خصومةٍ، حتى تُحْفَظَ الحقوقُ فلا تشتَبِهَ امرأةٌ بأُخرى؛ ولهذا يُطْلِقُ كثيرٌ مِن الفقهاءِ عباراتٍ في سياقِ حكمِ عورةِ النظرِ لا عورةِ السترِ، فيقولونَ في أحكامِ العقودِ والشهاداتِ والخصوماتِ: «يجوزُ أن ينظُرَ لوجهِها وكفَّيْها»، ورُبَّما قال بعضُهم: «ينظُرُ إلى وجهِها وكفَّيْها؛ لأنَّهما ليسا بعورةٍ»، أو يقولون: «لا يجبُ عليها سترُهما»، وكلامُهم في عورةِ النظرِ، وتعليلُهم في عورةِ السَّتْرِ؛ ولذا تجدُ الأئمةَ أنفُسَهُمْ عندَ كلامِهم على مسألةِ: كشفِ الوجهِ عندَ الأجانبِ، ومسألةِ: النظرِ بلا مُوجِبٍ، يُوجِبونَ تغطيةَ المرأةِ لوجهِها: ومِن أمثلةِ ذلك: ما يُقَرِّرُه الحنفِيَّةُ؛ كما قال أبو جعفَرٍ الطَّحَاوِيُّ عندَ الكلامِ على عورةِ السترِ في «شرح معاني الآثار»: «فأُبِيحَ للناسِ أن ينظُرُوا إلى ما ليس بمحرَّمٍ عليهم

مِن النساءِ؛ إلى وجوهِهِنَّ وأَكُفِّهِنَّ» (¬1)، وعندما يكونُ الكلامُ في سياقِ عورةِ النظرِ عندَ الحنفِيَّةِ فإنَّهم يُقَرِّرُون للمرأةِ حكماً يتعلَّقُ بها وبمَنْ يَلِيها، قال مُفْتِي الحنفِيَّةِ بدِمَشْقَ علاءُ الدِّينِ الحصكَفِيُّ في «الدر المختار»: «وتُمْنَعُ المرأةُ الشابَّةُ مِن كشفِ وجهِها بينَ الرجالِ» (¬2)، وقال الطَّحْطَاوِيُّ الحنفيُّ في «حاشيتِه»: «ومنعُ الشابَّةِ مِن كشفِ وجهِها لخوفِ الفتنةِ، لا لأنَّه عورةٌ» (¬3). انتهى. ومِن ذلك: ما صنَعَه النوويُّ في «المجموع» عندَ كلامِه على عورةِ السترِ، فقَدِ استَثْنَى الوجهَ والكَفَّيْنِ (¬4)، قال الإمامُ الرمليُّ في «نهاية المُحْتَاج»: «وممَّنِ استَثْنَى الوجهَ والكفَّيْنِ: المصنِّفُ -النوويُّ- في «مجموعِه»؛ لكنَّه فَرَضَه في الحُرَّةِ، ووجوبُ سترِهما في الحياةِ ليس لكونِهما عورةً؛ بل لكونِ النظرِ إليهما يوقِعُ في الفتنةِ غالباً» (¬5). انتهى. ¬

_ (¬1) «شرح معاني الآثار» (4/ 332). (¬2) «الدر المختار» (1/ 438). (¬3) انظر: «حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح» (ص 241). (¬4) انظر: «المجموع» (3/ 174). (¬5) انظر: «نهاية المحتاج» (2/ 457).

وقال البيهقيُّ في «معرفة السُّنَنِ والآثار»، لَمَّا ذكَرَ قولَ الشافعيِّ في جوازِ النظرِ لوجهِ المخطوبةِ وكَفِّها؛ لأنهما ليسَا بعورةٍ، قال: «وأمَّا النَّظَرُ -بغيرِ سببٍ مُبِيحٍ- لغيرِ مَحْرَمٍ، فالمنعُ منه ثابتٌ بآيةِ الحجابِ، ولا يجوزُ لهنَّ أن يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا للمذكُورِينَ في الآيةِ مِن ذَوِي المحارمِ» (¬1). وهكذا قال السُّبْكِيُّ: «الأقرَبُ إلى صنيعِ الأصحابِ: أنَّ وجهَها وكفَّيْها عورةٌ في النظرِ، لا في الصلاةِ» (¬2). انتهى. ولهذا كان مذهبُ مالكٍ تحريمَ كشفِ المرأةِ لوجهِها عند وجودِ مَن ينظُرُ إليها في طريقِها، وجوازَه عندَ عدمِ وجودِ الناظِرِ؛ لأنَّه يفرِّقُ بين عورةِ السترِ وعورةِ النظرِ؛ قال ابنُ القَطَّانِ: «ويحتَمِلُ عندي أن يقالَ: إنَّ مذهبَ مالكٍ هو أنَّ نظَرَ الرجلِ إلى وجهِ المرأةِ الأجنبيَّةِ لا يجوزُ إلا مِن ضرورةٍ ... والجوازُ للبُدُوِّ وتحريمُه مُرَتَّبٌ عندَه -أي: مالكٍ- على جوازِ النظرِ، أو تحريمِه؛ فكلُّ موضعٍ له فيه جوازُ النظر، فيه إجازةُ البُدُوِّ» (¬3). انتهى. ¬

_ (¬1) انظر: «معرفة السنن والآثار» (10/ 23). (¬2) نقله عن الخطيبُ الشربيني في «مغني المحتاج» (4/ 209). (¬3) انظر: «النظر في أحكام النظر» (ص 50 - 51).

إشكالان والجواب عنهما

فمَنْعُهُما للكشفِ لا يلزَمُ منه أنْ يكونَ الوجهُ والكفَّانِ عندَهما عورةً، وعدمُ كونِ الوجهِ والكفَّيْنِ عندَهما عورةً، لا يلزَمُ منه كشفُهما. وكثيراً ما تُبتَرُ أقوالُ الأئمَّةِ الفقهاءِ مِن المذاهبِ الأربعةِ، فيُؤخَذُ كلامُهم في عورةِ السترِ، وُيوضَعُ في عورةِ النظرِ؛ للتدليلِ على جوازِ السفورِ والتبرُّجِ! وسببُ ذلك إمَّا جهلٌ أو هوىً. إشكالان: الإشكالُ الأوَّلُ: يَسْتشكِلُ بعضُ الكُتَّابِ الجمعَ بينَ إطلاقِ بعضِ الفقهاءِ بقولِهم: «ويجوزُ له أَن ينظُرَ إلى وجهِها وكَفَّيْها»، وبينَ إطلاقِهم: «يجبُ أنْ تَسْتُرَ وجهَها وكفَّيْها»؛ فيَرَوْنَ أنَّ جوازَ النظرِ لازمٌ للكشفِ، كما يَحْسَبُون أنَّ السترَ لازِمٌ لعدمِ النظرِ. الإشكالُ الثاني: يَسْتشكِلُ بعضُهم أمرَ اللهِ بغَضِّ البصَرِ، فهذا لازِمٌ لكشفِ الوجهِ؛ فكيفَ يؤمَرُ بغَضِّ البصرِ إلا لما هو موجودٌ؟! وهذا الإشكالُ شبيهٌ بما سبقَ، وإنَّما يَرِدُ غالباً عندَ مَن لا يفرِّقُ بين عورةِ السترِ وعورةِ النظرِ؛ ولبيانِ

كانت الإماء في الطرقات أكثر من الحرائر

ذلك يقالُ: إنَّه يوجَدُ في الشريعةِ هنا حُكْمانِ: الأوَّلُ: يَتوجَّهُ إلى المرأةِ المنظورِ إليها: فالمرأةُ قد تكشِفُ وجهَها رُخْصةً لها؛ مثلُ الأَمَةِ، والقاعدِ العجوزِ، وعند القاضي للشهادةِ والخصومةِ إذا استشكَلَ أمرَها، وعندَ الخِطْبةِ، وكذلك في كشفِ الكافراتِ، وقد تَكْشِفُ الحُرَّةُ مخالِفةً للأمرِ الشرعيِّ، فما كلُّ أحدٍ يَمْتثِلُ الأمرَ، فحكمُ المرأةِ لها، وحكمُ الرجلِ له، فمَن فرَّطَ في شيءٍ، لا يلزَمُ سقوطُ الحكمِ فيه عن الآخَر، كمَنْ ترَكَ مالَه كالذَّهَبِ والفِضَّةِ في الطريقِ، فإنَّ هذا لا يُجِيزُ سرقَتَه؛ فيَجِبُ عليه أن يحفَظَ مالَه، ويجبُ على غيرِه عدمُ السرقةِ ولو كان المالُ سائباً. الثاني: يتوَجَّهُ إلى الرجلِ الناظِرِ: فهو مأمورٌ بغضِّ البصَرِ عما يتعلَّقُ به كرجُلٍ ناظِرٍ، وهو ما يَفْتِنُ مِن الإماءِ، ومَن فُتِنَ بعجوزٍ، حَرُمَ عليه النظرُ إليها ولو جازَ في حقِّها الكشفُ، والنَّظَرُ للخِطْبَةِ، وعند الشهادةِ والحقوقِ، يكونُ للوجهِ والكفينِ فقطْ؛ فلا يجوزُ تعدِّيهما للشعرِ والنحرِ بأيِّ حالٍ. وقد كانتِ الإماءُ في الطُّرُقاتِ أكثرَ مِن الحرائِرِ؛ ولهذا يكثُرُ الإطلاقُ: مسألةُ النظرِ للمرأةِ؛ فجوازُ كشفِ

كلام الأئمة الأربعة في كشف المرأة لوجهها

الأَمَةِ دَوْماً، والحُرَّةِ أحياناً، لا يعني جوازَ النظرِ إليها بكلِّ حالٍ، ولما تغيَّرَتِ الحالُ وكثُرَ خروجُ الحرائرِ كخروجِ الإماءِ في الطرقاتِ، اضطَرَبَتِ الأحكامُ، واستَثْقَلَها الناسُ في واقِعِهم. ولذا؛ فالفقهاءُ يأمُرُون بتغطيةِ المرأةِ لوجهِها ولو لم يَقُلْ جمهورُهم بعورَتِه؛ لأنَّها لا تميِّزُ مَن ينظُرُ إليها ومدى فتنَتِه بها؛ لأنَّ الناظِرِين كثيرٌ، وهي واحدةٌ، وليس كلُّ الناسِ يغُضُّ بصَرَه، لكنْ لو قُدِّرَ أنَّ المرأةَ لا يراها إلا رجلٌ أجنبيٌّ واحدٌ لا يفتَتِنُ مثلُه بها كالكبيرِ العَجُوزِ، أو ذاهبِ الشهوةِ كالعِنِّينِ، جازَ لها كشفُ الوجهِ، وحرُمَ كشفُ شعرِها؛ لأنَّ الوجهَ عورةُ نظَرٍ، فزالَتِ العِلَّةُ، والشعرَ عورةُ سترٍ لا تتعلَّقُ بالفتنةِ؛ بل بمجَرَّدِ وجودِ البصرِ. كلامُ الأئمَّةِ الأربعةِ في كشفِ المرأةِ لوجهِها: لم يتكلَّمْ مالكٌ وأبو حنيفةَ والشافعيُّ في مسألةِ كشفِ المرأةِ لوجهِها لذاتِه، ولا يُعرَفُ هذا في كتبِهم ولا في مسائلِ أصحابِهم المُقَرَّبِينَ منهم، وإنما يتكَلَّمُون في مسألةِ وجهِ المرأةِ وكفَّيْها عندَ تعلُّقِها بمسألةٍ أُخرى مِن العباداتِ أو المعاملاتِ؛ كالصلاةِ والحجِّ، والعُقُودِ

والخِطْبَةِ؛ وذلك لأنَّ المسألةَ عندَهم ظاهرةٌ في أنَّ الأصلَ في النساءِ الحرائرِ السَّتْرُ والعفافُ وتغطيةُ الوجهِ، وكان كلامُهم كلُّه في الأبوابِ المستَثْناةِ من هذا الأصلِ المستقِرِّ؛ قال الإمامُ محمَّدُ بنُ عليٍّ المَوْزَعِيُّ الشافعيُّ في «تفسيرِه»: «والسلفُ كمالِكٍ والشافعيِّ وأبي حنيفةَ وغيرِهم لم يتكلَّمُوا إلا في عورةِ الصلاةِ»، ثم قال: «وما أظُنُّ أحداً منهم يبيحُ للشابَّةِ أن تكشِفَ وجهَها لغيرِ حاجَةٍ، ولا يبيحُ للشابِّ أن ينظُرَ إليها لغيرِ حاجةٍ» (¬1). انتهى. ولو كان الأصلُ في النساءِ السفورَ، لكان بحثُ المسألةِ عندَهم استقلالاً آكَدَ وأوجَبَ مِن بحثِها تبعاً، فهُمْ لم يَبْحَثُوها إلا عندَ الحاجةِ لضِدِّ الأصلِ وخلافِه، وهو الكشفُ في الصلاةِ، والنِّقابُ في الحجِّ، والمعاملاتِ والخصوماتِ والعقودِ وشِبْهِها؛ لأنَّها في هذه الأبوابِ تنتقِلُ المرأةُ عنِ الأصلِ؛ فاحتاجَ للتأكيدِ، وقد نُسِبَ إلى هؤلاءِ الأئمةِ أقوالٌ لا تُعْرَفُ عنهم، ولم ينطِقُوا بها، وأُلْزِمُوا بلوازِمَ لا تَلْزَمُهم، حتَّى نُسِبَ إليهم القولُ بإباحةِ كشفِ المرأةِ لوجهِها عندَ الأجانبِ؛ وُجِدَتِ الفتنةُ أو لم توجَدْ! ¬

_ (¬1) انظر: «تيسير البيان، لأحكام القرآن» (2/ 1001).

مسألة عورة الصلاة

وهذا مِن الأقوالِ الباطلةِ التي لم يقولوا بها هُم ولا مَن سبَقَهم، ولا أحدٌ مِن تلامذَتِهم، ولا أحدٌ معتَبَر. ومَن لم يعرِفْ مقاصدَ الأئمةِ وسياقاتِ كلامِهم ومواضِعَه، يَحْمِلْ أقوالَهم على غيرِ مرادِهم، وكلامُهم أو كلامُ بعضِهم يَرِدُ في مواضعَ مِن الفقهِ في غيرِ كشفِ الوجهِ لذاتِه، منها: عورةُ الصلاةِ، ونِقابُ المُحْرِمةِ، وحاجةُ النظرِ في العقودِ والشهاداتِ والخِطْبةِ وشبهِها: أمَّا مسألةُ عورةِ الصلاةِ: فهي أكثرُ الأبوابِ التي يتكلَّمُون فيها، فيُطلِقُون أنَّ المرأةَ عورةٌ إلا وجهَها وكفَّيْها، وعورةُ الصلاةِ شيءٌ، وعورةُ النظرِ شيءٌ؛ فإنَّ المرأةَ لو كانتْ في بيتِها لا يراها أحدٌ وحَسَرَتْ شَعْرَها، بَطَلَتْ صلاتُها باتفاقِهم، ولو قالتْ: لا يراني أحدٌ، أو: ليس عندي إلا طِفْلٌ أو زَوْجِي، لم يُعتبَرْ بذلك؛ لأنَّ العورةَ للصلاةِ لا لهم؛ فإدخالُ عورةِ الصلاةِ في عورةِ النظرِ مِن أعظَمِ أخطاءِ الكُتَّابِ على الأئمةِ في هذا البابِ. وقد نَصَّ غيرُ واحدٍ مِن الفقهاءِ مِن المذاهبِ الأربعةِ: على أنَّ المرأةَ إن كانتْ في الصلاةِ وعندَها أجانبُ، أنَّها تغطِّي وجهَها؛ نصَّ عليه الخطيبُ الشِّرْبِينيُّ مِن الشافعيةِ، وقال: «إلَّا أن تكونَ في مكانٍ وهناكَ

أجانبُ لا يحتَرِزُون عن النظَرِ إليها، فلا يجوزُ لها رفعُ النِّقابِ» (¬1)، ومِن المالكيةِ اللَّخْمِيُّ، ومِن الحنابِلَةِ ابنُ تيمِيَّةَ وغيرُه، وأشار إليه الطَّحْطاوِيُّ وغيرُه مِن الحنفيةِ. وقد نسَبَ بعضُ الكُتَّابِ لأحمدَ روايةً: أنَّ كشفَ الوجهِ جائِزٌ؛ لروايةٍ عنه أنَّ وجهَ المرأةِ ليس بعورةٍ، نقلَها ابنُ قُدَامةَ، وكذا المَرْدَاويُّ في «الإنصاف» في عورةِ الصلاةِ، وهذا لا يقولُه مَن عرَفَ فِقْهَ أحمدَ وغيرِه مِن الأئمَّةِ في اصطلاحاتِهم وتفريقِهم بين الأبوابِ وأنواعِ العوراتِ. ومِن ذلك: ما يشتهرُ نسبَتُهُ لمالِكٍ والشافعيِّ: في أنَّ المرأةَ عورةٌ إلا وجهَها وكَفَّيْها، فكلامُ مالكٍ في «المُدَوَّنَةِ»، والشافعيِّ في «الأُمِّ» في أبوابِ الصلاةِ، وفيه: «وظهورُ قدمَيْها عَوْرةٌ» (¬2)، فيأخُذُون ما يُكْشَفُ مِن عورةِ الصلاةِ، وهو الوجهُ والكفَّانِ، ليُكْشَفَ في غيرِ الصلاةِ، وَيتْرُكون قولَهم: «ظهورُ القدمَيْنِ عورةٌ»؛ فلا يُنْزِلُونه خارِجَ الصلاةِ؛ لأنَّه سترٌ! فكشفُ ظهرِ القدمَيْنِ شائعٌ عندَ مَن ¬

_ (¬1) «الإقناع، في حل ألفاظ أبي شجاع» (1/ 285)، وانظر: «إعانة الطالبين» (1/ 135). (¬2) انظر: «المدوَّنة» (1/ 185)، و «الأم» (2/ 201).

مسألة نقاب المحرمة

تُظْهِرُ الوجهَ والكفَّيْنِ اليومَ، ومع كونِ نقلِ عورةِ السترِ في الصلاةِ لعورةِ النظرِ أو السترِ خارجَ الصلاةِ ليس في محلِّه، إلَّا أنَّ هذا الانتقاءَ يدُلُّ على جهلٍ أو هوىً. وأمَّا مسألةُ نِقابِ المُحْرِمةِ: فمحلُّ اتفاقٍ عندَهم، وهو كنَهْيِ الرجلِ عن لُبْسِ المَخِيطِ؛ سراويلَ وقُمُصٍ، وأخفافٍ وجوارِبَ، كما تقدَّمَ، وقد كان النهيُ عن لُبْسِ المحرِمةِ للنقابِ قبلَ الإسلامِ، وينقُلُ الأئمةُ الأربعةُ -مالِكٌ وأبو حنيفةَ، والشافعيُّ وأحمدُ- سترَ المرأةِ لوجهِها في الحجِّ بغيرِ النِّقَابِ بعبارةِ التجويزِ؛ لأنَّ الأصلَ الحَظْرُ والحَرَجُ، وهو أُسلوبُ القرآنِ في السعيِ بين الصَّفَا والمروةِ؛ قال اللهُ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]؛ لأنَّ الناسَ في الجاهليةِ قد وضعَتْ صنمَيْنِ على الصَّفَا والمَرْوَةِ يَطُوفُون لأَجْلِهما، ولا يَعْرِفُون طوافاً بين الصفا والمروةِ إلا لأجلِ ذلك، فوجَدُوا حَرَجاً عندَ تشريعِ السعيِ؛ فأنزَلَ اللهُ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، مع أنَّ السعيَ واجِبٌ، وكثيراً ما تُنقَلُ أقوالُ الأئمَّةِ في لباسِ المرأةِ في الحجِّ في بابِ: كشفِ المرأةِ لوجهِها، ولم يتطَرَّقُوا لأصلِ المسألةِ، وعباراتُ التجويزِ موجودةٌ حتى في كلامِ أحمدَ بنِ حَنْبلٍ الذي يصرِّحُ أنَّ

المرأةَ عورةٌ كلُّها حتى ظُفْرُها (¬1)؛ يقولُ في سياقِ بيانِ حكمِ تغطيةِ المُحرِمَةِ لوجهِها بغيرِ نقابٍ: «لها أن تَسْدُلَ على وجهِها مِن فَوْقُ» (¬2)، وعبارةُ أحمدَ كعبارةِ الأئمةِ؛ فهُم يتكلَّمُون على حكمٍ خاصٍّ لا على الحكمِ العامِّ في تغطيةِ الوجهِ عندَ الأجانبِ، وهذا له نظائرُ في الفقهِ كقولهم: «وللمسافِرِ أن يتيَمَّمَ إنْ فقَدَ الماءَ»، مع أنَّه يجِبُ عليه التيمُّمُ عندَ الصلاةِ إنْ عُدِمَ الماءُ. والعرَبُ كانتْ تحرِّمُ تغطيةَ الوجهِ كلِّه على المرأةِ المُحْرِمةِ بنِقَابٍ وغيرِه؛ قال خُفَافُ بنُ نُدْبةَ السُّلَمِيُّ: وأَبْدَى شُهُورُ الحَجِّ مِنْهَا مَحَاسِناً ... ووَجْهاً مَتَى يَحْلِلْ لَهُ الطِّيبُ يُشْرِقِ (¬3) ثم جاء الإسلامُ بإلغاءِ ذلك ودَفْعِ ما تجِدُه نفوسُهم مِن حَرَجٍ، حتى كانتْ عائشةُ تنبِّهُ النساءَ على هذا، حيثُ كُنَّ يَسْأَلْنَها عن دخولِ الغطاءِ في حكمِ النِّقَابِ؛ ¬

_ (¬1) انظر: «أحكام النساء عن الإمام أحمد» (ص 31 - 33)، و «الفروع» لابن مفلح (2/ 35). (¬2) انظر: «المغني» لابن قدامه (5/ 155). (¬3) سبق تخريجه (ص 58).

مسألة العقود والشهادات والخطبة، والحاجة إلى النظر فيها

فروَى ابنُ سعدٍ، عن إسماعيلَ بنِ أبي خالِدٍ، عن أُمِّهِ وأُخْتِه؛ أنَّهما دخلَتَا على عائشةَ رضي الله عنها يومَ الترويةِ، فسألَتْها امرأةٌ: أيَحِلُّ لي أنْ أُغَطِّيَ وجهِي وأنا مُحْرِمَةٌ؟ فرفعَتْ خمارَها عن صدرِها حتى جعلَتْه فوقَ رأسِها (¬1). ومِن أئمَّةِ الفقهِ مَن يدفَعُ اللَّبْسَ الذي قد يطرَأُ على هذه المسألةِ، مِن أنَّهم يجوِّزُون كشفَ المرأةِ لوجهِها في الحجِّ وبروزَها للناسِ حينما يَمْنَعُونَها مِن النِّقَابِ؛ قال العِمْرانيُّ الشافعيُّ في «البيان»: «ولسنا نُرِيدُ بذلك أنًّها تبرُزُ للناسِ» (¬2). وأمَّا مسألةُ العقودِ والشهاداتِ والخِطبةِ، والحاجةِ إلى النظرِ فيها: فالأئمةُ الثلاثةُ- مالكٌ وأبو حنيفة والشافعيُّ- يعدُّون الوجهَ والكفينِ عورةَ نظَرٍ، فيرَوْنَ تغطيتَها لهذه العِلَّةِ، وأحمدُ وجماعةٌ يرَوْنَ الوجهَ والكفينِ عورةَ سَتْرٍ؛ كالشعرِ والنحرِ للشابَّةِ والعجوزِ، ويظُنُّ مَن يقرَأُ مثلَ هذا الكلامِ: أنَّ الجمهورَ على جوازِ كشفِ الوجهِ، وتفرَّدَ أحمدُ بالمَنْعِ، ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص 72). (¬2) «البيان في مذهب الإمام الشافعي» (4/ 154).

وهذا خطأٌ؛ بل هم مُتَّفِقُونَ على وجوبِ التغطيةِ؛ لكنَّهم يختَلِفُون في تعليلِ حكمةِ التغطيَةِ: هل لأنَّه عورةٌ فيُسْتَرَ لذاتِه، أو لأجلِ فتنةِ الناظِرِ فيُغَطَّى لأجلِ غيرِه؟ ويتفِقُون في الغايةِ وهي التغطيةُ، ويُرخِّصُ الجميعُ للقاضي أن ينظُرَ للشاهدةِ في الخصومةِ إنْ أنكَرَها خصمُها، أو عندَ عدمِ حفظِ الحقوقِ إلا بمعرفةِ حالِها، أو عندَ إرادةِ الرجلِ خِطْبةَ المرأةِ لنكاحِه بها، أو تعامُلِ الرجلِ مع الأَمَةِ في البيعِ عندَ خشيةِ فَوْتِ الحقِّ؛ فيَذكُرُ الأئمةُ جوازَ نظرِ الرجلِ إليها في هذه الأحوالِ وشبهِها، ويعلِّلُ الجمهورُ جوازَ ذلك بقولِهم:» لأنَّ وجهَها وكفَّيْها ليسا بعورةٍ»؛ فيحمِلُون قولَهم على عورةِ النظرِ، والأئمةُ يريدونَ: إنَّما جازَ ذلك لأنَّ الوجهَ ليس بعورةٍ يُسْتَرُ لذاتِه، وإنَّما لغيرِه، فقامتِ الحاجةُ في غيرِه للنظرِ إليه، فجازَ؛ لأنَّ الحاجةَ لا تجيزُ النظرَ إلى الشعرِ والنحرِ بأيِّ حالٍ؛ لأنَّهما عورةُ سَتْرٍ يُستَرانِ لذاتِهما، لا لأجلِ فتنةِ الناظرِ بهما، فلا يَحِلُّ كشفُ ذلك لا لعجوزٍ ولا لامرأةٍ ولو كانتْ قبيحةً مريضةً شوهاءَ. وعلى هذا حمَلَ البيهقيُّ قولَ الشافعيِّ في تفسيرِ قولِه: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]؛ الوجهَ والكفَّيْنِ، فنقَلَ البيهقيُّ كلامَ الشافعيِّ في النظرِ إلى المخطوبةِ؛

التفريق بين عورة الحرة وعورة الأمة

قال الشافعيُّ: «ينظُرُ إلى وجهِها وكفَّيْها، ولا ينظُرُ إلى ما وراءَ ذلك»، ثم قال البيهقيُّ معلِّقاً وموضِّحاً لقولِ الشافعيِّ: «وهذا لأنَّ اللهَ جلَّ ثناؤُه يقولُ: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]، قيل عنِ ابنِ عباسٍ وغيره: هي الوجهُ والكفَّانِ ... وأما النظرُ -بغيرِ سببٍ مبيحٍ- لغيرِ مَحْرَمٍ، فالمنعُ منه ثابتٌ بآيةِ الحجابِ، ولا يجوزُ لهنَّ أن يُبْدِينَ زينَتَهُنَّ إلا للمذكُورِينَ في الآيةِ مِن ذَوِي المحارمِ» (¬1)، وفرَّقَ البيهقيُّ بين تجويزِ الشافعيِّ نظرَ الرجلِ للمخطوبةِ، واستدلالِه له بالآيةِ وقولِ ابنِ عباسٍ، وبينَ كشفِها لوجهِها وكفَّيْها، فمَنَعَهُ إلا للمحارمِ، ففرقٌ عندَ الشافعيِّ بين عورةِ النظرِ التي تجوزُ لحاجةٍ، وبينَ عورةِ السترِ التي لا تجوزُ مطلقاً، وسترُ المرأةِ لوجهِها عن النظرِ عند الجمهورِ لا لكونِه عَوْرةً. ومِن الواجبِ التنبيهُ على أنَّ الفقهاءَ يفرِّقُونَ بين عورةِ الحُرَّةِ وعورةِ الأَمَةِ، وأنَّ الأَمَةَ يُبتَلَى بخروجِها وتعامُلِها في الأسواقِ، وكلامُ الفقهاءِ في الأخذِ والعطاءِ وحاجةِ الرجلِ إلى النظَرِ العابِرِ جُلُّه للإماءِ لا للحرائرِ، ¬

_ (¬1) انظر: «معرفة السنن والآثار» للبيهقي (10/ 23).

مذهب مالك

ولا يَتصوَّرُ الناسُ ذلك اليومَ؛ لانعدامِ الإماءِ، وكثرةِ خروجِ الحرائرِ كما تخرُجُ الإماءُ سابقاً، فيَحْمِلُون كلامَ الفقهاءِ في فقهِ الإماءِ ورُخَصِهِنَّ، على فقهِ الحرائِرِ. والأئمةُ الثلاثةُ -مالكٌ وأبو حنيفةَ والشافعيُّ- يقولون بسَتْرِ المرأةِ الحُرَّةِ لوجهِها لأجلِ نظرِ الرجالِ، وإن لم يقولُوا بأنَّه عورةٌ كأحمَدَ، ومَن نَظَرَ في كلامِهِم وكلامِ أصحابِهم وسياقاتِه ومناسباتِه، وجدَ ذلك بيِّناً: أما مالكُ بنُ أنَسٍ: فهو يرى أنَّ الوجهَ والكفَّيْنِ يُستَرَانِ لأجلِ النظرِ لا لكونِهما عورةً، وهذا ما يُقَرِّرُه عنه أصحابُه، فهو يقولُ بالغايةِ ويختلِفُ في التعليلِ، فهو يأمُرُ بتغطيةِ الوجهِ عندَ وجودِ الناظِرِ، وُيجيزُهُ عند عدَمِه؛ قال ابنُ القَطَّانِ: «ويحتَمِلُ عندي أنْ يقالَ: إنَّ مذهَبَ مالِكٍ هو أنَّ نظرَ الرجلِ إلى وجهِ المرأةِ الأجنبيَّةِ لا يجوزُ إلا مِن ضرورةٍ ... والجوازُ للبُدُوِّ، وتحريمُه مُرَتَّبٌ عندَه -أي: مالِكٍ- على جوازِ النظرِ، أو تحريمِه، فكلُّ موضعٍ له فيه جوازُ النظر، فيه إجازةُ البُدُوِّ» (¬1). انتهى. وهكذا يقولُ أبو العباسِ الوَنْشَرِيسِيُّ المالكيُّ في ¬

_ (¬1) انظر: «النظر، في أحكام النظر» (ص 50 - 51).

استشكال البعض تجويز مالك لأكل المرأة مع غير محرمها

«المِعْيَارِ المُعْرِب»: «عورةُ الصلاةِ، والعورةُ التي يجوزُ النظرُ إليها، نوعانِ مختلفانِ»، ثم قال: «فدلَّ جميعُ هذا على أنَّ للعورةِ بالنسبةِ إلى النظرِ حُكْماً، وبالنسبةِ إلى الصلاةِ حكماً آخَرَ؛ يدلُّ على طلَبِ سَتْرِ الوجهِ للحُرَّةِ: أنها لو صلَّتْ مُنتقِبةً، لم تُعِدْ» (¬1). انتهى. وأمَّا ما يَسْتَشْكِلُه البعضُ مِن تجويزِ مالكٍ لأكلِ المرأةِ مع غيرِ مَحْرَمِها (¬2)؛ فإنَّما يقصِدُ أحوالاً لا يلزَمُ منها المحظورُ، ونساءُ العربِ تأكُلُ مع عبيدِها، وتأكُلُ مِن تحتِ جلبابِها، وهذا مشهورٌ، بل فسَّرَ الأزهريُّ قولَ مالكٍ، فقال: «معنى قولِ مالِكٍ في المُؤاكَلةِ: ذلك في الحِجَال» (¬3)، جمع حَجَلَةٍ، وهو بيتٌ كالقُبَّةِ يُسْتَرُ بالثيابِ (¬4)، فجعَلَ المرأةَ عندَ أكلِها مع غيرِ مَحْرَمٍ، ساترةً لبدَنِها كلِّه؛ لا لوجْهِها فحَسْبُ. وقد يجوزُ في قولِ مالكٍ في المرأةِ المُتَجالَّةِ العجوزِ أو الحُرَّةِ مع عبدِها وخادمِها، وهو صريحُ قولِ مالكٍ؛ كما ¬

_ (¬1) انظر: «المعيار المعرب» (1/ 310). (¬2) انظر: «الموطأ» (2/ 934). (¬3) انظر: «إكمال المعلم» للقاضي عياض (6/ 520). (¬4) انظر: «النهاية في غريب الحديث والأثر» (1/ 346).

استشكال البعض ما ينقل عن مالك في مسألة الظهار

نقلَه ابنُ العربيِّ، قال: «قال مالِكٌ: يجوزُ للوَغْدِ أن يأكُلَ مع سيِّدَتِه، ولا يجوزُ ذلك لذي المَنْظَرةِ» (¬1). وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: «وقد وردَتِ الرُّخْصةُ في أكلِ المرأةِ مع عبدِها الوَغْدِ، ومع خادمِها المأمونِ» (¬2)، ومالكٌ في «الموطَّأ» يَمْنَعُ مِن تسليمِ الرجلِ على المرأةِ الشابَّةِ (¬3)، فكيف يمنَعُ مِن تسليمِ الرجلِ الأجنبيِّ على المرأةِ الشابَّةِ، ثم يُجِيزُ أكلَه معها؟! إلا أنَّه يقصِدُ المُتَجالَّةَ العجوزَ كما بيَّنَه ابنُ الجَهْمِ، وقد صرَّح مالكٌ بقولِه: «ولا تُترَكُ المرأةُ الشابَّةُ تجلِسُ إلى الصُّنَّاعِ، فأمَّا المرأةُ المتجالَّةُ، والخادمُ الدُّونُ التي لا تُتَّهَمُ على القعودِ، ولا يُتَّهَمُ مَن تَقعُدُ عندَه، فإِنِّي لا أرَى بأساً بذلك» (¬4). وكذلك يَسْتشكِلُ البعضُ ما يُنْقَلُ عن مالكٍ في مسألةِ الظِّهَارِ، وأنَّ الزوجةَ تكشِفُ وجهَها لزوجِها الذي ظاهَرَ منها، وقال مالكٌ: «وقد ينظُرُ غيرُه أيضاً إلى ¬

_ (¬1) انظر: «أحكام القرآن» (3/ 386 /العلمية). (¬2) انظر: «الكافي في فقه أهل المدينة» (2/ 1136). (¬3) انظر: «الموطأ» (2/ 959). (¬4) انظر: «مواهب الجليل» (3/ 405)، و «البيان والتحصيل» (9/ 335).

وجهِها» (¬1)؛ يعني: أنَّها تكشِفُ له لأنَّه زوجُها ولو ظاهَرَ منها، والوجهُ يراه غيرُه ممن هو أبعَدُ منه، فلا يَخْتَصُّ الزوجُ بالوجهِ، وليس عورةَ سترٍ؛ وإنما عورةُ نظَرٍ، فقد يراها غيرُه؛ كعَبْدِها ومحارِمِها، وهم كثيرٌ، بلْ مِن السلَفِ مَن يرخِّصُ للعبدِ المملوكِ أن يرى شَعْرَ سَيِّدَتِه؛ روى ابنُ أبي شيبةَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: «لا بأسَ أن ينظُرَ المملوكُ إلى شَعْرِ مولاتِه» (¬2). والزوجُ أَوْلَى مِن أولئكَ لزوجَتِه ولو ظاهَرَ منها، وهذا مرادُ مالكٍ، والإمامُ مالكٌ يشدِّدُ في الرؤيةِ للمخطوبةِ ألَّا تتجاوَزَ الوجهَ والكفَّيْنِ، ويُسْأَلُ عنِ الأمَةِ المشتراةِ: أَتَرَى ينظُرُ إلى كَفَّيْها؟ قال مالكٌ: «أرجو ألَّا يكونَ به بأسٌ» (¬3). ومَن عرَفَ مذهبَ مالكٍ في العَوْراتِ والنظرِ، في الحُرَّةِ والأَمَةِ، والحاجاتِ والضروراتِ، عرَفَ أنَّه لا يقصِدُ ما يَنْسُبُه إليه بعضُ الجَهَلَةِ مِن سفورِ المرأةِ أمامَ الرجالِ بكلِّ حالٍ. ¬

_ (¬1) انظر: «المدونة» (2/ 335). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (17557). (¬3) انظر: «البيان والتحصيل» (7/ 296).

استشكال البعض كلام مالك في الرجال ييممون المرأة الميتة بالتراب

ويورِدُ بعضُهم كلاماً لمالِكٍ في الرجالِ يُيَمِّمُون المرأةَ الميتةَ بالتُّرَابِ (¬1)، وجعَلُوا ذلك لازماً لكشفِ أعضاءِ التيمُّمِ، والمرأةُ قد تُيمَّمُ مِن غيرِ كشفٍ ولا مَسٍّ؛ وذلك أنَّ مالكاً يرى أنَّ المرأةَ لو ماتت وليس معها غيرُ ابنِها: أنَّه يُغَسِّلُها مِن وراءِ الثيابِ (¬2)، وهذا وهو ابنُها وهي مَيِّتةٌ، واستيعابُ الأعضاءِ بالماءِ أشقُّ مِنِ استيعابِ عضوَيْنِ بالترابِ لم يَقْصِدِ الشارعُ استيعابَهما أصلاً. وحملُ كلامِ مالكٍ في مسألةِ النظرِ على كشفِ المرأةِ لوجهِها، خطأٌ يقعُ فيه من لم يحقِّقْ مذهَبَهُ في التفريقِ بين العورتَيْنِ. والمالكيَّةُ يفرِّقُون بين عورةِ النظرِ وعورةِ السَّتْرِ، ومِنهم مَن يُطْلِقُ عورةَ النظَرِ والفتنةِ فيَجْعَلُ المرأةَ كُلَّها عورةً مِن هذا الوجهِ؛ قال القرطبيُّ: «وبما تضمَّنَتْهُ أصولُ الشريعةِ مِن أنَّ المرأةَ كلَّها عورةٌ؛ بدنَها وصوتَها، كما تقدَّمَ، فلا يجوزُ كشفُ ذلك إلا لحاجةٍ؛ كالشهادةِ عليها، أو داءٍ يكونُ ببدنِها، أو سؤالِها عما يَعْرِضُ وتَعيَّنَ ¬

_ (¬1) انظر: «المدونة» (1/ 261). (¬2) انظر: «النوادر والزيادات» (1/ 551 - 552)، و «البيان والتحصيل» (2/ 247).

مذهب أبي حنيفة

عندَها» (¬1). انتهى. وأمَّا أبو حَنِيفةَ: فهو كمالِكٍ في هذا البابِ، يُفرِّقُ بين عورةِ السترِ وعورةِ النظرِ، فلا يُوجِبُ سترَ الوجهِ والكفَّيْنِ لأنهما عورةٌ؛ وإنَّما يوجِبُ سَتْرَهما عندَ نظرِ الرجالِ الذين يُستَرُ عن مِثْلِهم، وقد رأيتُ مَن يحتجُّ بقولٍ لأبي حنيفةَ في سياقِ أحكامِ النظرِ، نقلَه محمدُ بنُ الحسنِ كما في «المبسوط»؛ حيثُ قال: «ولا بأسَ أن ينظُرَ إلى وجهِها والى كَفَّيْها، ولا ينظُرُ إلى شيءٍ غيرِ ذلك منها؛ وهذا قولُ أبي حنيفةَ» (¬2). ولمَّا اختَلَّ لدى الناقِلِ لمثلِ هذا الكلامِ الأصلُ، وهو عدمُ التفريقِ بين العورتَيْنِ والسياقَيْنِ، نسَبُوا إلى مذهبِ أبي حنيفةَ ما لا يُريده، وأعلامُ الحنفيةِ يَعْلَمُون مرادَه ويُدْرِكُونَ التفريقَ، ويبيِّنون أنَّ الأصلَ التغطيةُ، وأنَّ إباحةَ النظرِ في أحوالٍ للرجلِ لا تُناقِضُ أصلَ السترِ مِن المرأةِ؛ فخطابُ المرأةِ غيرُ خطابِ الرجلِ؛ قال السَّرَخْسيُّ: «المرأةُ عورةٌ مِن قَرْنِها إلى قَدَمِها، ثم أُبِيحَ ¬

_ (¬1) انظر: «الجامع لأحكام القرآن» (17/ 208). (¬2) «المبسوط» لمحمد بن الحسن الشيباني (3/ 49 - 50).

مذهب الشافعي

النظرُ إلى بعضِ المواضعِ منها؛ للحاجةِ والضرورةِ» (¬1)، وهو هنا يريدُ عورةَ النظرِ. ولذا؛ لا تَجِدُ مَن يُبِيحُ مِن الحنفيَّةِ المحقِّقِين للمرأةِ كشفَ وجهِها إلا في سياقِ الحاجةِ إلى النظرِ إليها في العقودِ والحقوقِ، ويُفَرِّقُون بينَ أصلِ النظرِ، وبين الحاجةِ إليه، ويفَرِّقُون بين عورةِ السترِ وعورةِ النظرِ؛ قال الطحطاويُّ في «حاشيته»: «قولُه: «وجميعُ بدنِ الحُرَّةِ»؛ أي: جسَدِها، قولُه: «إلا وَجْهَها»، ومنعُ الشابَّةِ مِن كشفِهِ لخوفِ الفتنةِ، لا لأنَّه عورةٌ» (¬2). انتهى. وهذا ما يقَرِّرُه علماءُ الحنفيةِ ومحقِّقُوها؛ كالجَصَّاصِ (¬3)، وابنِ عابِدِين (¬4)، وغيرِهما. وأمَّا الشافعيُّ: فلا يختلِفُ القولُ عنه بوجوبِ سترِ المرأةِ لوجهِها لأجلِ النظرِ كقولِ مالِكٍ وأبي حنيفةَ، وما نقلَه المُزَنِيُّ عنه في تفسيرِ الزينةِ الظاهرةِ: بالوجهِ والكَفَّيْن (¬5)، فهو ¬

_ (¬1) انظر: «المبسوط» للسرخسي (10/ 145). (¬2) انظر: «حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح» (ص 241). (¬3) انظر: «أحكام القرآن» (5/ 172 - 173 و 245). (¬4) انظر: «رد المحتار» (2/ 79). (¬5) انظر: «مختصر المزني» (ص 163).

يريدُ عورةَ النظرِ، وذكَرَه في سياقِ عورةِ الصلاةِ؛ ولذا حمَلَ البيهقيُّ تفسيرَه ذلك على إبرازِ الوجهِ والكفَّيْنِ لنظَرِ المحارمِ لا لنظَرِ الأجانِبِ؛ كما في «السُّنَنِ الكُبْرى» (¬1)، وفسَّرَهُ بهذا المعنى الخطيبُ الشِّرْبِينيُّ والسُّبْكِيُّ وابنُ الرِّفْعةِ وغيرُهم. وقال إمامُ الحرمَيْنِ الجُوَيْنيُّ: «اتَّفق المسلمونَ على منعِ النِّساءِ مِن الخروجِ سافراتِ الوجوهِ؛ لأنَّ النَّظَرَ مَظِنَّةُ الفِتنةِ» (¬2)، وقال أبو حامِدٍ الغزاليُّ لَمَّا ذكَرَ فتنةَ النظرِ بين المرأةِ والرجلِ في «الإحياء»: «لم يَزَلِ الرجالُ على مَمَرِّ الزمانِ مَكْشُوفي الوجوهِ، والنساءُ يَخْرُجْنَ مُنتَقِبَاتٍ» (¬3)، وعدَّ أبو حامدٍ الغزاليُّ في» الإحياء» الكشفَ معصيةً (¬4). وقد أيَّدَ النوويُّ في كتابِه «الروضةِ» الاتفاقَ الذي حكاهُ الجوينيُّ (¬5)، قال الشِّهَابُ الرَّمْليُّ:» نقَلَ في «الروضةِ» وأصلِها هذا الاتفاقَ وأقرَّاه» (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: «السنن الكبرى» (7/ 85 و 94). (¬2) «نهاية المطلب» (12/ 31). (¬3) انظر: «إحياء علوم الدين» (2/ 47). (¬4) انظر: «إحياء علوم الدين» (2/ 313). (¬5) انظر «روضة الطالبين» (5/ 366 - 367). (¬6) انظر: «حاشية الرملي على أسنى المطالب» (3/ 109)، =

وقد نَصَّ أبو العبَّاسِ بنُ الرِّفْعةِ على وجوبِ تغطيةِ المرأةِ لوجهِها في الصلاةِ؛ إنْ مَرَّ أمامَها الرجالُ، وقد قال ابنُ تيميَّةَ عنِ ابنِ الرِّفْعةِ: «رأيتُ شيخاً تتقاطَرُ فروعُ الشافعيةِ مِن لِحْيَتِه» (¬1). وقال السبكيُّ: «الأقرَبُ إلى صنيعِ الأصحابِ: أنَّ وجهَها وكفَّيْها عورةٌ في النظَرِ» (¬2). انتهى. وفقهاءُ الشافعيةِ يفرِّقُون بين عورةِ الصلاةِ، وعورةِ السَّتْرِ، وعورةِ النظرِ، وأكثَرُ الخطأِ عليهم في نقلِ قولٍ لهم في موضِعٍ، وحملِه على موضِعٍ آخَرَ. قال ابنُ حجَرٍ الهَيْتَمِيُّ: «ومَن تَحقَّقَتْ نظَرَ أجنبيٍّ لها، يلزَمُها سَتْرُ وجهِها عنه؛ وإلَّا كانَتْ مُعِينةً له على حرامٍ فتأثَمُ» (¬3). انتهى. وقال الرَّمْليُّ الشافعيُّ: «استَثْنَى الوجهَ والكفَّيْنِ المصنِّفُ- النوويُّ- في» مجموعِه»، لكنَّه فرَضَه في الحُرَّةِ، ووجوبُ سترِهما في الحياةِ ليس لكونِهما عورةً؛ ¬

_ = و «فتاوى الرملي» (3/ 170). (¬1) انظر: «الدرر الكامنة» (1/ 337). (¬2) نقله عنه الخطيبُ الشربيني في «مغني المحتاج» (4/ 209). (¬3) انظر: «تحفة المحتاج، في شرح المنهاج» (7/ 193).

بل لكونِ النظرِ إليهما يوقِعُ في الفتنةِ» (¬1). انتهى. وأئمَّةُ الفَتْوَى والتحقيقِ مِن الشافعيَّةِ يَنُصُّونَ على وجوب سَتْرِ المرأةِ لوجهِها، وإنِ اختلَفَ تعليلُهم للسترِ؛ فأقوامٌ يوجِبُون السترَ لذاتِه؛ كالشِّهابِ الرَّمْليِّ، والشَّمْسِ الرَّمْليِّ، والخطيبِ الشِّرْبِينيِّ، ومنهم مَن يُوجِبُه لمصلحةِ الناسِ ودفعِ الفتنةِ والفسادِ؛ كأبي زكَرِيَّا الأنصاريِّ، والشهابِ ابنِ حَجَرٍ. والمعتَمَدُ عند الشافعيَّةِ: ما اتَّفَقَ عليه الرافعيُّ والنوويُّ؛ أنَّ تغطيةَ المرأةِ لوَجْهِها واجبٌ لذاتِه؛ كما نقلَه الخطيبُ عنهما، ثم ما عليه الهَيْتَمِيُّ والرَّمْليُّ، وهو ما حكَيَاه في هذه المسألةِ بلا اختلافٍ أنَّ المرأةَ يجبُ أن تُغَطِّيَ وجهَها عندَ رؤيةِ الرجالِ لها. وقد منَعَ النوويُّ مِن كشفِ المسلمةِ لوجهِها وكفَّيْها عندَ المرأةِ الكافرةِ إلا أنْ تكونَ مملوكةً لها، وقال: «هذا هو الصحيحُ في مذهبِ الشافعيِّ»؛ كما نقَلَ ذلك عن النوويِّ تلميذُه ابنُ العَطَّارِ في «الفتاوى» (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: «نهاية المحتاج» (2/ 457). (¬2) انظر: «فتاوى الإمام النووي» (ص 180).

وقال النوويُّ في «المنهاج»: «ويحرُمُ نظَرُ فَحْلٍ بالغٍ إلى عورةِ حُرَّةٍ كبيرةٍ أجنبيَّةٍ، وكذا وجهِها وكَفَّيْها؛ عندَ خوفِ فِتْنَةٍ، وكذا عندَ الأَمْنِ؛ على الصحيحِ» (¬1). انتهى. وبعضُهم ينقُلُ كلاماً للنوويِّ في «المِنْهاج» نقلَه عن القاضي عِيَاضٍ: أنَّ تغطيةَ المرأةِ لوجهِها سُنَّةٌ مُستَحَبَّةٌ (¬2)، وينسُبُون للنوويِّ إقرارَه، وهذا غَلَطٌ عليه؛ فالنوويُّ يتشدَّدُ في كشفِ المسلمةِ للكافرةِ، وُيوجِبُ احتجابَها عنها؛ لكونِها ليست مِن نسائِها؛ كما في آيةِ الزينةِ وما بعدَها؛ فكيفَ بالرجالِ الأجانِبِ؟! وقولُ القاضي عياضٍ ضعَّفَه جماعةٌ مِن أئمةِ الشافعيةِ؛ كالخطيبِ الشِّرْبينيِّ (¬3)، والشمسِ الرَّمْليِّ (¬4)، وابنِ حَجَرٍ الهَيْتَميِّ (¬5)، وغيرِهم. ويُدْرِكُ فقهاءُ الشافعيةِ مقاصدَ الشافعيِّ وتفريقَه بين ¬

_ (¬1) انظر: «منهاج الطالبين» (ص 204). (¬2) انظر كلام القاضي عياضٍ في: «إكمال المعلم» (7/ 37)، وكلام النوويِّ في «شرح مسلم» (14/ 139). (¬3) انظر: «مغني المحتاج» (4/ 209). (¬4) انظر: «نهاية المحتاج» (6/ 188). (¬5) انظر: «تحفة المحتاج» (7/ 193).

مذهب أحمد

عورةِ النظرِ وعورةِ السترِ؛ فلا ينسُبُون للشافعيِّ جوازَ كشفِ المرأةِ لوجهِها إلا في سياقاتِ عورةِ الصلاةِ والسترِ، وإنما ينسُبُون إليه وجوبَ تغطيَتِها لوجهِها في سياقِ عورةِ النظرِ -يعني: وجودَ الناظِرِينَ- قال الشِّهَابُ: «ومذهَبُ الشافعيِّ رحمه الله -كما في «الروضةِ»، وغيرِه-: أنَّ جميعَ بدنِ المرأةِ عورةٌ حتى الوجهُ والكَفُّ مطلقاً، وقيلَ: يَحِلُّ النظرُ إلى الوجهِ والكفِّ إن لم يُخَفْ، وعلى الأَوَّلِ: هما عورةٌ إلا في الصلاةِ، فلا تبطُلُ صلاتُها بكشفِهما» (¬1). انتهى. وما يُنْسَبُ للشافعيِّ ومالِكٍ وأبي حنيفةَ: أنهم يجيزونَ كشفَ وجهِ المرأةِ عندَ الرجالِ الذين لا يجوزُ لهم النظرُ إليها، ولا يَغُضُّون أبصارَهم عنها، خطأٌ شاعَ عند المتأَخِّرِين، ولا يَسْتَطِيعونَ إثباتَه عنهم صريحاً؛ وسببُهُ عدمُ تتبُّعِ أقوالِهم في عورةِ السترِ؛ وعورةِ النظرِ، والتفريقِ بينهما. وأمَّا أحمدُ بنُ حنبلٍ: فالنصوصُ عنه كثيرةٌ، وهو يأمُرُ بتغطيةِ المرأةِ لوجهِها؛ لكونِه عورةً تستُرُه الحرةُ لذاتِه ولو لم تكنْ فيه فتنةٌ؛ قال أحمدُ: «كُلُّ شيءٍ مِن المرأةِ ¬

_ (¬1) انظر: «حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي» (6/ 372).

تغطية المرأة لوجهها بين التشديد والتيسير

عورةٌ حتى الظُّفْرُ، وقال: وظُفْرُ المرأةِ عورةٌ، وإذا خرجَتْ فلا يَبِينُ منها لا يَدُها ولا ظُفْرُها ولا خُفُّها؛ فإنَّ الخُفَّ يَصِفُ القَدَمَ» (¬1)؛ كما نقلَه عنه الخَلَّالُ. قال الشيخُ ابنُ تيميَّةَ في الوجهِ في الصلاةِ: «والتحقيقُ: أنَّه ليس بعورةٍ في الصلاةِ، وهو عورةٌ في بابِ النظرِ؛ إذا لم يَجُزِ النظرُ إليه» (¬2)، وقال مبيِّناً الفرقَ بين عورةِ النظرِ وعورةِ السترِ: «ليستِ العورةُ في الصلاةِ مرتبطةً بعورةِ النظرِ، لا طرداً ولا عكساً» (¬3). انتهى. تغطيةُ المرأةِ لوجهِها بينَ التشديدِ والتيسيرِ: مَن نظَرَ في الأحاديثِ والآثارِ بعدَ فرضِ الحجابِ، وجَدَ أنَّ نساءَ المؤمِنِين والصحابياتِ والتابعياتِ ونساءَ الصَّدْرِ الأوَّلِ على تستُّرٍ دامٍّ؛ يُغَطِّينَ وجوهَهُنَّ، فضلاً عن غيرِ ذلك مِن أبدانِهِنَّ، وينظُرْنَ إلى ذلك على أنَّه عبادةٌ ودينٌ، حتى كان مِنهُنَّ مَن يَتتَبَّعْنَ فضائلَ السترِ بعدَما فعَلْنَ واجباتِه، ويَحْتَسِبْنَ الأجرَ بالسترِ وهنَّ في بيوتِهِنَّ، ورُوِيَ ¬

_ (¬1) انظر: «أحكام النساء عن الإمام أحمد» (ص 31 - 33). (¬2) انظر: «الفتاوى الكبرى» (5/ 324). (¬3) انظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 115).

مدارس فقهية مهزومة تريد أن تطوع الآيات والأحاديث والآثار لهذا الواقع البعيد

عنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «كانتْ أُمُّ سَلَمَةَ لا تضَعُ جلبابَها وهي في البيتِ؛ طلباً للفَضْلِ» (¬1). وقد تقادَمَ الزمَنُ، واتَّسَعَتْ رقعةُ الإسلامِ، ودخَلَ فيه مِن العربِ والعجمِ مع رسوخِ عاداتِهم السابقةِ فيهم، فكانَ أئمةُ الإسلامِ والفاتحونَ يَنْشَغِلُون بتقريرِ التوحيدِ وأصولِ الدِّينِ فيهم، يتدَرَّجُون في البلاغِ، ولا يَبْنُون فرغاً إلا وقد بنَوْا أصلَه. ومع قوَّةِ الإعلامِ وتسلُّطِ أيادٍ غيرِ أمينةٍ عليه؛ تُبْعِدُ الفضيلةَ وتُقَرِّبُ الرذيلةَ، شاعَ السفورُ في أكثرِ بلدانِ العالَمِ المسلِمِ، وفتَحَتْ أجيالٌ عيونَها على حالٍ، وتوطَّنُوا عليها، ثم نظَرُوا في الأحاديثِ والآثارِ وهَدْيِ نساءِ المؤمِنِين في الصَّدْرِ الأوَّلِ، فاستَثْقَلُوها؛ وذلك للبُعْدِ بينَ الحالَيْنِ. وخرجَتْ مدارسُ فقهيَّةٌ مهزومةٌ تُرِيدُ أنْ تطوِّعَ الآياتِ والأحاديثَ والآثارَ لهذا الواقعِ البعيدِ، وتقرِّبَ الفجوةَ بين المسلِمِين ودينِهم، وانشغَلَتْ نفوسُهم بمحاولةِ تفصيلِ الإسلامِ على الواقعِ، لا تفصيلِ الواقعِ على الإسلامِ، ورُبَّما يكونُ بعضٌ منهم صادِقِين، واختلفَتْ هذه المَدْرسةُ ¬

_ (¬1) «جامع الأصول» (10/ 647).

التفريق بين هذه المدرسة المهزومة، وبين منهج الأنبياء في تقريب الحق والتدرج فيه

في تبديلِها، ولكنَّها اتفقَتْ على شِدَّةِ التحرِّي والتتبُّعِ لنصوصٍ تؤيِّدُ الواقعَ، ناسخةً أو منسوخةً، عامَّةً أو خاصَّةً، مُطْلَقةً أو مُقَيَّدةً، صحيحةً أو ضعيفةً، مرفوعةً أو موقوفةً، يتتَبَّعُون حتى كُتُبَ التاريخِ والسِّيَرِ، وأذهانُهم مهتمَّةٌ بإيجادِ ما يوافقُ الواقعَ، فيَفْرَحُون بالنَّصِّ المُجمَلِ، ويَتعامَوْنَ عنِ المُحكَمِ! وكأنَّهم أرادُوا بدلاً مِن أنْ تُسْتَرَ عوراتُ النساءِ بالثيابِ أن يَسْتُرُوها بالنصوص؛ لتَهْدَأَ النفوس، حتى رأيتُ مَن يحتَجُّ بقولِه تعالى عن مَلِكةِ سَبَأٍ: {وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} [النمل: 44] على جوازِ كشفِ ساقِ المرأةِ! وكلَّما ازدادَ الواقعُ بعداً، ازدادُوا للنصوصِ بَتْراً. ويجبُ التفريقُ بين هذه المدرسةِ المهزومةِ وبين منهجِ الأنبياءِ في تقريبِ الحقِّ والتدرُّجِ فيه، فإنْ كان الناسُ في بلدٍ بعيدِينَ عن الحَقِّ، فيجبُ دعوتُهم إلى أُصولِ الحقِّ، وتحذيرُهم مِن أُصولِ الباطلِ قبلَ فروعِه، فكلُّ ذنبٍ عظيمٍ، فله مِن جِنْسِه صغائِرُ حتى الكُفْرُ، فإنَّ الخَمْرَ حُرِّمَتْ؛ لأنَّها مُسْكِرةٌ ومُفتِّرةٌ، فإنْ كانت مُنتشِرة في بلدٍ، فإنَّه يُبدَأُ بها ويُتغافَلُ عما كانَ مِن جنسِها مِن الصغائرِ كالدُّخَانِ ونحوِه؛ حتى يستقِرَّ الأصلُ فيُنتقَلَ إلى الفرعِ.

يتدرج بتثبيت الأصول قبل الفروع، والمقاصد قبل الوسائل

وكذلك إنْ كانَ الزِّنَى ينتشِرُ في بلدٍ، فيُنْهَوْنَ عن الزنى ويُتغافَلُ عن وسائِلِه، حتى تَتوطَّنَ النفوسُ على تحريمِه، ثم يُتدرَّجُ في ترتيبِ الوسائلِ بحسبِ قُرْبِها مِن المقاصِدِ، فأقرَبُ وسائلِ الزنى: الخَلْوةُ، فيُشدَّدُ فيها، ثم يَلِيها الاختلاطُ في التعليمِ والعمَلِ، والتغافُلُ عن الوسائلِ لا يعني إباحتَها. وأن كان البلدُ في عُرْيٍ تُؤْمَرُ المُسلِماتُ بتغطيةِ عورةِ السترِ قبلَ عورةِ النظَرِ، حتى تَتوطَّنَ نفوسُهُنَّ، فيؤمَرْنَ بما دُونَه، وهكذا لا يؤمَرُ بفرعٍ لم يثبُتْ أصلُه، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم كان يُثبِّتُ الأصولَ قبلَ فروعِها. وقد تَتبايَنُ البلدانُ في قربِها وبعدِها عنِ الإسلامِ، فيجبُ أن تَتبايَنَ البِدَايَاتُ فيها؛ فإنَّه يُبدَأُ في كلِّ بلدٍ بما انتَهَتْ إليه مِن القُرْبِ إلى الخَيْرِ، فتُدْعَى إلى ما بعدَه. وقد تَمْدَحُ في بلدٍ ما تَذُمُّه في آخَرَ، وإن كانَا في زمنٍ واحدٍ؛ فقد يكونُ أحدُ البلدانِ في عُرْيٍ، وبلدٌ أُخرى في احتشامٍ، فتَمْدَحُ المتعرِّيةَ إنْ غطَّتْ رأسَها ولو أبقَتْ وجهَها، وتَذُمُّ المحتشِمَةَ إنْ كشفَتْ وجهَها وإنْ غطَّتْ رأسَها؛ لأنَّ الأُولَى اقتربَتْ إلى الحقِّ فتُمدَحُ ولو لم تَصِلْ إلى الخيرِ التامِّ، والثانيةُ ابتعَدَتْ عند الخيرِ فتُذَمُّ ولو لم

تصِلْ إلى الشَّرِّ التامِّ؛ ففَرْقٌ بين تأليفِ المُقْبِلِ وتحذيرِ المُدْبِرِ، فشاربُ الخمرِ والدُّخَانِ، إنْ ترَكَ الخمرَ وحدَه مُدِحَ، وتاركُ الخمرِ والدخانِ، إنْ شَرِبَ الدخانَ وحدَه ذُمَّ، ولو كانَا جميعاً عند المدحِ والذمِّ سواءً، ولكنَّ هذا مُقْبِلٌ فاستحَقَّ المَدْحَ، وهذا مُدْبِرٌ فاستحَقَّ الذَّمَّ. وإن كانتِ الفروعُ تَصُدُّ عن الأصولِ، سُكِتَ عنها، ولا يجوزُ صَدُّ الناسِ عن أصولِ دينِهم بها، فإنْ تمكَّنَ الناسُ مِن الأصولِ، قَبِلُوا الفروعَ وأذعَنُوا لها، وأن لم يتمكَّنُوا زادَتْهم الفروعُ صدّاً، وقد روَى ابنُ سعدٍ في «الطبقات»؛ أنَّ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ كَتَبَ وهو خليفةٌ إلى عامِلِه على خُرَاسانَ الجَرَّاحِ بنِ عبدِ الله الحَكَمِيَّ يأمُرُه أن يدعُوَ أهلَ الجزيةِ إلى الإسلامِ، فإنْ أسلَمُوا قَبِلَ إسلامَهم، ووضَعَ الجزيةَ عنهم، وكانَ لهم ما للمسلِمِين، وعليهم ما على المسلِمِين، فقال له رجلٌ مِن أشرافِ أهلِ خُرَاسانَ: إنَّه واللهِ ما يَدْعُوهم إلى الإسلامِ إلا أنْ توضَعَ عنهم الجزيةُ، فامتَحِنْهم بالخِتَانِ، فقال: أنا أرُدُّهم عن الإسلامِ بالختانِ؟ هم لو قد أسلَمُوا، فحَسُنَ إسلامُهم، كانُوا إلى الطُّهْرَةِ أسرَعَ، فأسلَمَ على يَدِه نحوٌ مِن أربعةِ آلافٍ (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبير» (7/ 375).

أحاديث مشكلة في الحجاب، والجواب عما أشكل فيها

أحاديثُ مُشْكِلةٌ في الحِجَابِ: لا يَخلُو بابٌ مِن أبوابِ أصولِ الدِّينِ ولا فروعِه مِن آياتٍ أو أحاديثَ مُشتبِهَةٍ، تُخالِفُ في ظاهرِها المحكَماتِ البيِّناتِ، فإنْ جازَ ذلك في الأصولِ، فإنَّه في أبوابِ الفروعِ مِن بابِ أَوْلَى، وفي أبوابِ حجابِ المرأةِ ولباسِها يُورِدُ بعضُ الكُتَّابِ أحاديثَ تُخالِفُ المُحكَمَ البَيِّنَ، منها الصحيحُ، ومنها الضعيفُ، ومنها ما لو وُضِعَ في موضِعِه ولم يُلْغَ به العامُّ، لاستقامَ للناظِرِ الحكمُ، ولكنِ استُعْمِلَ كثيرٌ مِن الأحاديثِ الظنيَّةِ في نقضِ القطعيَّةِ، والأحاديثِ المشتَبِهةِ في نقضِ المحكَمةِ، ومِن هذه الأحاديثِ المتعلِّقةِ بأبوابِ الحجابِ: الأوَّلُ: قِصَّةُ أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ: وهو ما رواهُ أبو داودَ، عن عائشةَ رضي الله عنها؛ أنَّ أسماءَ بنتَ أبي بكرٍ دخلَتْ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثيابٌ رِقَاقٌ، فأعرَضَ عنها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا أَسْمَاءُ! إِنَّ المَرْأةَ إِذَا بَلَغَتِ المَحِيضَ، لَمْ تَصْلُحْ أنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَهَذَا)، وأشارَ إلى وجهِهِ وكَفَّيْه (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (4104)، وقال: «هذا مرسَلٌ؛ خالدُ بنُ دُرَيْكٍ لم يُدْرِكْ عائشةَ».

يرويه سعيدُ بنُ بَشِيرٍ، عن قتادةَ، عن خالِدِ بنِ دُرَيْكٍ، عن عائشةَ. وخالدُ بنُ دُرَيْكٍ لم يَسْمَعْ مِن عائشةَ؛ قاله أبو داودَ، وأبو حاتمٍ (¬1). وسعيدُ بنُ بَشِيرٍ الأَزْدِيُّ، وإن كان صدوقاً في لسانِه؛ إلا أنَّه ضعيفٌ في حفظِه، وقد ضعَّفَه أحمدُ، وابنُ المدينيِّ، وأبو داودَ، والنَّسَائيُّ (¬2)، وقال ابنُ مَعِينٍ: «ليس بشيءٍ» (¬3)، ثم إنَّ له مُنكَراتٍ يحدِّثُ بها عن قتادةَ؛ قالَه ابنُ نُمَيْرٍ والساجِي (¬4). وقد تفرَّدَ سعيدُ بنُ بَشِيرٍ بروايةِ هذا الحديثِ عن قتادةَ، واضطَرَبَ فيه؛ فمَرَّةً يجعَلُه عن خالِدِ بنِ دُرَيْكٍ عن عائشةَ، ومَرَّةً أُخرى يجعَلُه عن خالِدِ بنِ دُرَيْكٍ عن ¬

_ (¬1) انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (1463). (¬2) انظر: «سؤالات محمد بن عثمان بن أبي شيبة» (223)، و «العلل ومعرفة الرجال؛ رواية المروزي وغيره» (495)، و «سؤالات الآجري» (682 /البستوي)، و «الضعفاء والمتروكين» للنسائي (282)، و «الجرح والتعديل» (1/ 35 و 143 و 4/ 6 - 7). (¬3) انظر: «تاريخ ابن معين؛ رواية الدُّورِي» (4/ 94). (¬4) انظر: «الجرح والتعديل» (1/ 321 - 322 و 4/ 7)، و «إكمال تهذب الكمال» (5/ 264).

أُمِّ سَلَمةَ (¬1). وخولِفَ فيه سعيدٌ؛ خالَفَه هِشَامٌ الدَّسْتَوائيُّ، وهو مِن أوثَقِ أصحابِ قتادةَ؛ فرواهُ عن قتادةَ مرسلاً: (إنَّ الجاريةَ إذا حاضَتْ لم يَصْلُحْ أن يُرَى منها إلا وجهُها ويَدَاها إلى المَفْصِل)؛ أخرجَه أبو داودَ في «المراسيلِ» (¬2). وتابَعَه مَعْمَرٌ عن قتادةَ: بلَغَنِي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فذكَرَ معناهُ؛ أخرجَه عبدُ الرَّزَّاقِ، وعنه الطَّبَرِيُّ (¬3). وله طريقٌ آخَرُ: أخرَجَه الطبرانيُّ والبيهقيُّ، مِن حديثِ ابنِ لَهِيعةَ، عن عِيَاضِ بنِ عبدِ الله؛ أنَّه سَمِعَ إبراهيمَ بنَ عُبَيْدِ بنِ رفاعةَ الأنصارِيَّ يُخبِرُ عن أبيهِ أظُنُّه عن أسماءَ بنتِ عُمَيْسٍ؛ أنَّها قالتْ: دخَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على عائشةَ بنتِ أبي بكرٍ ... فذكَرَ نحوَه (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: «الكامل» لابن عدي (3/ 373). (¬2) أخرجه أبو داود في «المراسيل» (424). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (2/ 56)، ومِن طريقِه ابن جريرٍ في «تفسيره» (17/ 259). (¬4) أخرجه الطبراني في «الكبير» (24/ 142 - 143 رقم 378)، و «الأوسط» (8394)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 86). وقال البيهقيُّ: «إسنادُه ضعيفٌ».

الثاني: حديث المرأة الخثعمية

وابنُ لَهِيعةَ ضعيفُ الحديثِ (¬1)، وشيخُه عِيَاضٌ ضعيفٌ أيضاً؛ ضعَّفَه ابنُ مَعِينٍ (¬2)، وقال البخاريُّ: «مُنْكَرُ الحديثِ» (¬3)، وعُبَيْدُ بنُ رفاعةَ قليلُ الحديثِ ليس فيه توثيقٌ يستحِقُّ الذِّكْرَ. ولا يُقْبَلُ مثلُ هذا الإسنادِ شاهداً لغيرِه، فضلاً عن قيامِه بنَفْسِه! ومِن وجوهِ نكارةِ الحديثِ: أنَّ أسماءَ بنتَ أبي بكرٍ أكبَرُ مِن عائشةَ، وكذلك فإنَّها معروفةٌ بِسَتْرِها لوجهِها وكَفَّيْها عندَ الرجالِ، بسندٍ صحيحٍ، عن فاطمةَ بنتِ المنذِرِ، قالَتْ: «كُنَّا نُخَمِّرُ وجوهَنا ونحنُ مُحْرِمَاتٌ مع أسماءَ بنتِ أبي بَكْرٍ» (¬4). إلا أنْ يكونَ حديثُها الأوَّلُ عن عَوْرَرتِها عندَ مَن يدخُلُ عليها مِن أهلِها ومحارِمِها، وليس الأجانِبَ، فقد صحَّ تستُّرُها عندَ الأجانبِ؛ فلا يُصَارُ إلى غيرِه. الثاني: حديثُ المرأةِ الخَثْعَميَّةِ: وهو ما رواهُ الشيخانِ، عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، ¬

_ (¬1) انظر: «تهذب الكمال» (15/ 487 - 502». (¬2) انظر: «تهذب التهذب» (3/ 353). (¬3) انظر: «الضعفاء الكبير» للعقيلي (3/ 350). (¬4) سبق تخريجه (ص 71).

قال: كانَ الفَضْلُ رَدِيفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فجاءَتِ امرأةٌ مِنْ خَثْعَمٍ، (وفي روايةٍ: وَضِيئَةٌ)، فجعَلَ الفضلُ ينظُرُ إليها وتنظُرُ إليهِ، (وفي روايةٍ: أعجَبَه حُسْنُها)، فجعَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْرِفُ وجهَ الفضلِ إلى الشِّقِّ الآخَرِ، فقالتْ: إنَّ فريضةَ اللهِ أدركَتْ أبي شَيْخاً كبيراً لا يثبُتُ على الراحلةِ، أفأحُجُّ عنه؟ قال: (نَعَمْ)؛ وذلك في حَجَّةِ الوداعِ (¬1). وبيان ما أشكَلَ فيه مِن وجوهٍ: أولاً: صحَّ أنَّ الخَثْعَميَّةَ جاريةٌ عُرِضَتْ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حَجِّهِ ليَرَاها فيتزَوَّجَها، كما جاءَ عنِ الفضلِ بنِ عبَّاسٍ، قال: كُنْتُ رِدْفَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأعرابِيٌّ معه ابنةٌ له حَسْناءُ، فجعَلَ يَعْرِضُها لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رجاءَ أنْ يتزَوَّجَها، قال: فجعَلْتُ ألتَفِتُ إليها، وجعَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأخُذُ برَاسِي فيَلْوِيه، وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي حتى رمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ؛ أخرَجَه أبو يَعْلَى بسندٍ صحيحٍ (¬2). والنبيُّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عنِ الخِطْبَةِ في الحجِّ (¬3)؛ لا العَرْضِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1513 و 1854 و 1855 و 4399 و 6228)، ومسلم (1334). (¬2) أخرجه أبو يعلى في «مسنده» (6731). (¬3) كما في حديث عثمانَ بنِ عَفَّان رضي الله عنه عند مسلم (1409).

والنَّظَرِ لمَن نَوَى، وإنْ كانتْ جاريةً وقُصِدَ بها الأَمَةُ غالياً؛ فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْتِقُ الأَمَةَ فيتزَوَّجُها؛ كما فعَلَ بِصَفِيَّةَ ومارِيةَ القِبْطِيَّةِ رضي الله عنهما. ثانياً: جاء أنَّ الخَثْعَميَّةَ جاريةٌ شابَّةٌ؛ أخرَجَه الترمذيُّ بسندٍ صحيحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طالِبٍ رضي الله عنه، مرفوعاً (¬1)، والطحاويُّ بسندٍ صحيحٍ عنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما (¬2)، وهذا الوصفُ: جاريةٌ شابَّةٌ، يُطلَقُ عادةً على الإماءِ، لا على الحرائِرِ، والأَمَةُ ليستْ مخاطَبةً بالجلبابِ وتغطيةِ الوجهِ كالحُرَّةِ، والى هذا أشار البخارِيُّ في «صحيحه»؛ حيثُ أورَدَه في سياقِ عورةِ النظَرِ، وعلى هذا بوَّبَ، وساقَ قبلَ هذا الحديثِ قولَه: «وكَرِهَ عطاءٌ النظَرَ إلى الجوارِي التي يُبَعْنَ بمَكَّةَ؛ إلا أنْ يُرِيدَ أن يَشْتَرِيَ»، ثم ذكَرَ حديثَ الخثعَميَّةِ بعدَه (¬3). وتسمَّى الأَمَةُ جاريةً؛ لأنَّها تَسِيرُ غاديةً ورائحةً في خِدْمةِ أهلِها، كما تسمَّى السفينةُ: جاريةً؛ قال الله: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11]، ومنه قولُه: ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (885). (¬2) أخرجه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (2540). (¬3) انظر: «صحيح البخاري» (8/ 50 - 51).

{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الشُّورَى: 32]، وقولُه: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الرحمن: 24]؛ لأنَّها تَجْرِي بخدمةِ الناسِ وحَمْلِهم ومَتَاعِهم. وقد تُطلِقُ العربُ الجاريةَ على الحُرَّةِ يُريدونَ الشابَّةَ، ولكنَّه في حديثِ الخثعمِيَّةِ قال: جاريةٌ شابَّةٌ، وَيندُرُ جدّاً الجمعُ بين اللفظَيْنِ للحُرَّةِ، ورُبَّما لا يوجَدُ في كلامِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويَندُرُ جَرَيانُه على ألسنةِ الصحابةِ والتابِعِين، والأصلُ عند إطلاقِ لفظِ: «جارية» وحدَه أنَّها أَمَةٌ، وهذا الغالبُ في الأحاديثِ والآثارِ، وهو كثيرٌ شائعٌ، ولا يُنتقَلُ عنه إلا ببيِّنةٍ أو قرينةٍ، ومِن ذلك إطلاقُه على الحُرَّةِ معروفةِ الحُرِّيَّةِ للتدليلِ على صِغَرِها، كما أُطْلِقَ على عائشةَ في الإِفْكِ (¬1)، فإطلاقُ لفظِ «الجارية» على الأَمَةِ لا يَحْتاجُ إلى قرينةٍ وسياقٍ؛ لأنَّه الأصلُ، وإنما يُحْتَاجُ إلى القرينةِ والسياقِ في إخراجِه عنها وإنزالِه على الحُرَّة. ثالثاً: المرأةُ تكونُ أَمَةً ولو كانتْ مِن نسبةٍ قَبَلِيَّةٍ لكونِها سَبِيَّةً؛ فقد بعَثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى خَثْعَمٍ سرايَا مِن أصحابِه، منها عامَ تسعةٍ، وجاؤوا منهم بسَبْيٍ رجالاً ونساءً، وقد ذكَرَ ¬

_ (¬1) انظر: «صحيح البخاري» (2637 و 2661 و 4141 و 4750 و 7369)، و «صحيح مسلم» (1211 و 2770).

ابنُ سعدٍ في «الطبقات» سَرِيَّةَ قُطْبةَ بنِ عامِرٍ إلى خَثْعَمٍ بناحيةِ بِيشَةَ قريباً مِن تُرَبَةَ في صَفَرَ سنةَ تسعٍ، ثم قال: «وقتَلَ قُطْبَةُ بنُ عامِرٍ مَن قتَلَ -يعني: مِنْ خَثْعَمٍ- وساقُوا النَّعَمَ والشاءَ، والنساءَ إلى المدينةِ» (¬1). انتهى. وقد تكونُ الأَمَةُ والعَبْدُ أعراباً؛ فإنَّ الأعرابيَّ: اسمٌ للأحرارِ والعبيدِ؛ لمَن كان في الباديةِ ولو كان أعجمِيّاً. رابعاً: أنَّ هذا الحديثَ لا أعلَمُ مَنِ استدَلَّ به مِن أهلِ القرونِ الثلاثةِ على مسألةِ كشفِ المرأةِ الحُرَّةِ لوجهِها؛ وإنما يُورِدُونَه في الحكمِ المتعلِّقِ بنظرِ الرجلِ لا كشفِ المرأةِ؛ لأنَّ حكمَ تغطيةِ الوجهِ خاصٌ بالحُرَّةِ، والنظَرُ المحَرَّمُ عامٌّ للجميعِ؛ للحرةِ والأَمَةِ. وأما فتوَى الخثعَمِيَّةِ عن حَجِّ جَدِّها، فلا يَتعارَضُ مع كونِها أَمَةً، وجَدُّها أو أبوها حُرٌّ، فالرِّقُّ معنىً يقومُ بالنَّفْسِ، بل قد يكونُ الابنُ حُرّاً والوالدُ عبداً؛ فيَمُنُّ الابنُ على أَبِيه، فيُعْتِقُه، قال صلى الله عليه وسلم: (لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ، إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكاً فيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقِهُ)؛ أخرجه مسلم (¬2). وحَجُّ العبدِ عنِ الحُرِّ، والصبيِّ عنِ البالِغِ، صحيحٌ ¬

_ (¬1) انظر: «الطبقات الكبير» (2/ 148). (¬2) أخرجه مسلم (1510)؛ من حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.

الثالث: حديث سبيعة الأسلمية

بالاتِّفاقِ؛ وإنَّما الخلافُ في إجزائِه عن الفريضةِ، والعاجِزُ المُقعَدُ لا فريضةَ عليه؛ لسقوطِها بعجزِه، وإنْ حُجَّ عنه، فالأَجْرُ صحيحٌ له، وقد ذهَبَ بعضُ الفقهاءِ: إلى صِحَّةِ نيابةِ العبدِ عند الحُرِّ، وإجزاءِ ذلك عنه؛ فلم يَشْتَرِطُوا الحريةَ في النائبِ. الثالثُ: حديثُ سُبَيْعةَ الأَسْلَميَّةِ: وهو أنَّ سُبَيْعةَ بنتَ الحارثِ كانَتْ تحتَ سعدِ بنِ خَوْلةَ، فتوفِّي عنها في حَجَّةِ الوداعِ وهي حاملٌ، فلم تَنشَبْ أنْ وضَعَتْ حَمْلَها بعدَ وفاتِه، فلمَّا تَعَلَّتْ مِن نفاسِها، تَجمَّلَتْ للخُطَّابِ، فدخَلَ عليها أبو السَّنابِلِ، فقال لها: ما لي أراكِ تَجَمَّلْتِ للخُطَّابِ تَرْجِينَ النكاحَ؟! فإنَّكِ واللهِ ما أنتِ بناكِحٍ حتى تَمُرَّ عليَكِ أربعةُ أشهُرٍ وعَشْرٌ، قالت سُبَيْعةُ: فلَمَّاً قال لي ذلك، جَمَعْتُ عليَّ ثيابي حينَ أَمْسَيْتُ، فأتيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فسأَلْتُه عن ذلك، فأفتاني بأنِّي قد حَلَلْتُ حينَ وضَعْتُ حَمْلِي، وأمَرَنِي بالتزوُّجِ إنْ بَدَا لي؛ أخرَجَ الحديثَ البخاريُّ ومسلمٌ (¬1). وبيانُ ما أشكَلَ فيه مِن وجوهٍ: أولاً: ليس في شيءٍ مِن الأحاديثِ أنَّها كانَتْ كاشفةً ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3990)، ومسلم (1484).

لوجهِها؛ وإنَّما رأى أبو السنابِلِ زينَتَها، واستنكَرَ ذلك؛ يَظُنُّها في عِدَّتِها، والمعتدَّةُ بوفاةِ زوجِها مُنِعَتْ مِن الخِضَابِ، وهو في الكفِّ، ومِنَ الكُحْلِ وهو في العَيْنِ لا يستُرُه النِّقَابُ، ومُنِعَتْ مِنَ الثيابِ المُزَعْفَرةِ والمُعَصْفَرةِ، ومنَعَ بعضُ الأئمةِ كمالِكٍ وغيرِه لُبْسَ المعتدَّةِ للذَّهَبِ ولو خاتَماً، وكلُّ هذه زينةٌ تُرَى، ولا يلزمُ رؤيةُ الوَجهِ، والمتشابِهاتُ لا يجوزُ أن تكونَ أصولاً، يُبْنَى عليها أحكامٌ، ولا قاضيةً على ما هو أصرحُ منها وأحكَمُ واللهُ حَرَّمَ الزينةَ على العجوزِ أمامَ الرجالِ: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60]، فكيفَ تُجَازُ الزينةُ للشابَّةِ الحُرَّةِ بنَصٍّ مشتَبِهٍ، ولم يَقُلْ بجوازِ بروزِ الشابَّةِ بزينةِ وجهِها للأجانِبِ أحدٌ مِن الصحابةِ ولا التابِعِين. ثانياً: أنَّ زوجَ سُبَيْعةَ الأسلَميَّةِ مولىً وليس حُرّاً، وهكذا يَنُصُّ عليه أئمةُ السِّيَرِ؛ كابنِ إسحاقَ، وابنِ هِشَامٍ، والواقديِّ، وابنِ حِبَّانَ، وابنِ عبدِ البَرِّ، والبلاذُرِيِّ، وأبي الفَرَجِ بنِ الجَوْزِيِّ، ومحمَّدِ بنِ حَبِيبَ، وابنِ الأَثِيرِ (¬1)؛ ¬

_ (¬1) انظر: «سيرة ابن إسحاق» (ص 157)، و «سيرة ابن هشام» (1/ 329 و 369 و 685)، و «مغازي الواقدي» (1/ 156)، و «الثقات» (1/ 189 و 3/ 151)، و «الاستيعاب» (ص 284)، =

ولكنَّهم يختَلِفُون في أصلِه: هل هو مِن كَلْبٍ، أو مِن مَذْحِجٍ، أو مولىً مِن موالي فارِس، وإنْ نسَبَه بعضُهم لبَنِي عامِرٍ؛ فإنَّ المولَى يُنْسَبُ لقومِه وَلَاءً؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (مَوْلَى القَوْمِ مِنْهُمْ) (¬1)، وسعدُ بنُ خَوْلةَ مَوْلىً قديمٌ، فأمُّهُ مولاةٌ كذلك لسعدِ بنِ أبي السَّرْحِ، كما ذكَرَه البلاذُرِيُّ في «أنساب الأشراف» (¬2)؛ ولذا جاءَ في «الصحيح» عن سُبَيْعةَ: «أنَّها كانتْ تحتَ سعدِ بنِ خَوْلةَ وهو في بَنِي عامِرٍ» (¬3)، وهذا غالباً يُطْلَقُ على الموالي والحُلَفَاءِ، لا على الحُرِّ، وأصيلِ النسَبِ، فالحُرُّ يقالُ فيه غالباً: «مِن بني فلانٍ»، والمولَى والحَلِيَفُ يُقال فيه غالباً: «في بَنِي فلانٍ». والأصلُ أنَّ سُبَيْعةَ الأسلميةَ مولاةٌ كزَوْجِها، ونِسْبَتُها لأسلَمَ كنِسْبَةِ زوجِها سعدٍ لبَنِي عامِرٍ؛ فإنَّ العرَبَ لا تزوِّجُ الحرائرَ العبيدَ، وليس مِن عاداتِها ذلك، والخروجُ عن هذا الأصلِ نادِرٌ يَفْتقِرُ إلى بيِّنةٍ تنقُلُه، وكانتِ الحرةُ تَسْتثقِلُ ¬

_ = و «أنساب الأشراف» (1/ 222)، و «تلقيح فهوم أهل الأثر» (ص 143)، و «المُحَبَّر» (ص 276 و 288)، و «أسد الغابة» (2/ 191 - 192) (¬1) أخرجه أبو داود (1650)، والترمذي (657)، والنسائي (2612)؛ من حديث أبي رافعٍ مولى النبي صلى الله عليه وسلم. (¬2) «أنساب الأشراف» (1/ 222). (¬3) «صحيح البخاري» (3990).

زواجَها مِن المَوْلَى ولو كان مُعْتَقاً؛ وهو في الشرعِ جائزٌ؛ ولذا؛ رُوِيَ أنَّ زيدَ بنَ حارثةَ مولى الرسولِ صلى الله عليه وسلم وعتيقَه لَمَّا أرادَ خِطْبةَ زينَبَ بنتِ جَحْشٍ، واستَشْفَعَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: (لا أُرَاهَا يَفْعَلُ؛ إِنَّهَا أَكْرَمُ مِنْ ذَلِكَ نَسَباً). وفي روايةٍ قالتْ: «فَإِنِّي خَيْرٌ مِنه حَسَباً» (¬1). ثالثاً: يدلُّ على كونِها أَمَةً أمورٌ: منها: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم طَلَبَ أن تُؤْذِنَهُ إنْ خرَجَتْ مِن عِدَّتِها، ولم يُحِلْها إلى وَليِّها وأهلِها لترى شأنَها مِنهم. ومنها: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم هو الذي أنكَحَها؛ ففي البخاريِّ: «فأنكَحَها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم» (¬2)، وهذا لا يكونُ في الحرائِرِ؛ فإنَّ الحُرَّةَ يزوِّجُها عادةً أهلُها، وقد يُزَوِّجُ الأَمَةَ غيرُ مَوَالِيها؛ كأنْ تكونَ مَوْلاتُها امرأةً، أو كانَتْ شِرْكاً لرجالٍ كثيرٍ بإرثٍ أو غيرِه، فيزَوِّجُها الحاكِمُ. ومنها: أنَّ أبا السنابِلِ دخَلَ عليها، ولا يُدْخَلُ على الحُرَّةِ، بخلافِ الأَمَةِ؛ لما في «الصحيحين»، مِن حديثِ عُقْبةَ بنِ عامرٍ؛ قال صلى الله عليه وسلم: (إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ) (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير (20/ 272). (¬2) «صحيح البخاري» (4909). (¬3) أخرجه البخاري (5232)، ومسلم (2172).

رابعاً: أنَّ دخولَ أبي السنابِلِ عليها ورُؤْيَتَهُ لها رؤيةُ راغِبٍ بالخِطْبَةِ لها؛ وهذا جائِزٌ؛ ففي «البخاري»: «وكان أبو السنابِلِ فِيمَنْ خَطَبَها» (¬1)، ونظَرُ الرجلِ للمرأةِ التي يَرْغَبُ في نكاحِها في عدَّةِ بينونَتِها الكبرى -وفاةً كانَتْ أو طلاقاً- جائِزٌ، ولكنْ لا تُخْطَبُ ولا تُوَاعَدُ حتى تخرُجَ مِن العِدَّة. خامساً: أنَّ دخولَ أبي السنابِلِ على سُبَيْعةَ كان في حُجْرَتِها كما جاء في «الصحيح»، ولم تكنْ بارِزةً بزينَتِها في الطُّرُقاتِ. وأمَّا عِدَّةُ وفاةِ الزوجِ فلا اعتبارَ فيها بالحَيْضِ، بالنَّصِّ والإجماعِ؛ وإنَّما بالأَشْهُرِ للحُرَّةِ والأَمَةِ (¬2)، ولم يثبُتْ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ لسُبَيْعةَ بنَفْسِهِ عِدَّةَ الأشهُرِ للنساءِ حرائِرَ أو إماءً، وإنَّما بَيَّنَ لها انتهاءَ عِدَّتِها بالوَضْعِ، وإنما في الأحاديثِ قولُ غيرِه لها. ويُجْمِعُ العلماءُ على أنَّ الأَمَةَ الحاملَ كالحُرَّةِ إنْ تُوُفِّي عنها زوجُها: أنَّها تعتَدُّ حتى تضَعَ حَمْلَها (¬3). وإنْ كانَتْ غيرَ حاملٍ، فجمهورُ العلماءِ: على أنَّ عدةَ الأَمَةِ ¬

_ (¬1) «صحيح البخاري» (4909). (¬2) انظر: «المبدع» (7/ 75 - 76). (¬3) انظر: «المبدع» (7/ 72 - 73).

الرابع: حديث سفعاء الخدين

على النِّصْفِ مِن عدَّةِ الحُرَّةِ، وذهَبَ بعضُ السلفِ -كابنِ سيرينَ، ومكحولٍ؛ كما عزاهُ أحمدُ إليهما، وهو قولُ جماعةٍ مِن أهلِ الظاهِرِ- إلى أنَّ عدةَ الحرةِ كالأَمَةِ (¬1). وجعَلَ مالِكٌ وربيعةُ وأحمدُ -في روايةٍ- ومجاهِدٌ والحَسَنُ وعُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ، الأَمَةَ المعتَدَّةَ بالأشهُرِ كالحُرَّةِ؛ تعتَدُّ ثلاثةَ أشهُرٍ (¬2). ولا خلافَ عندَ العلماءِ أنَّ الحُرَّةَ والأَمَةَ إن كانَتْ حاملاً: أنَّها تَبِينُ بوَضْعِ حَمْلِها. وأُمُّ الوَلَدِ لو مات سيِّدُها وزوجُها معاً ولم تَعْلَمِ الأوَّلَ منهما، فإنَّها تعتَدُّ أربعةَ أشهُرٍ وعشراً كالحُرَّةِ؛ قاله غيرُ واحدٍ مِن الفقهاءِ مِن المالِكِيَّةِ وغيرِهم (¬3). الرابع: حديثُ سَفْعاءِ الخَدَّيْنِ: وهو حديثُ جابِرِ بنِ عبدِ الله رضي الله عنه، قال: شَهِدتُّ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصلاةَ يومَ العيدِ، فبدَأَ بالصلاةِ قبلَ الخُطْبَةِ بغيرِ أَذَانٍ ولا إقامةٍ، ثم قامَ متَوَكِّئاً على بلالٍ، فأمَرَ بتقوَى اللهِ، وحَثَّ على طاعَتِه، ووعَظَ الناسَ وذَكَّرَهم، ثم مَضَى حتَّى أتى النساءَ، فوعَظَهُنَّ وذكَّرَهُنَّ، فقال: (تَصَدَّقْنَ؛ ¬

_ (¬1) انظر: «المحلَّى» (11/ 308)، و «المبدع» (7/ 76). (¬2) انظر: «المدونة» (2/ 8 - 9)، و «المبدع» (7/ 83 - 84). (¬3) انظر: «المدونة» (2/ 17)، و «الأم» (6/ 555).

فإِنَّ أكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ)، فقامَتِ امرأةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ سَفْعَاءُ الخَدَّيْنِ، فقالَتْ: لِمَ يا رسولَ اللهِ؟ قال: (لِأنَّكُنَّ ثُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ، وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ)، قال: فجعَلْنَ يتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ، يُلْقِينَ في ثوبِ بِلَالٍ مِنْ أَقْرِطَتِهِنَّ وخَوَاتِمِهِنَّ (¬1). وبيانُ ما أشكَلَ فيه مِن أوخُهٍ: أولاً: أنَّ المرأةَ المذكورةَ لا يُجزَمُ بكونِها حُرَّةً شابَّةً، وظاهِرُ الحديثِ: أنَّها مِن القواعدِ أو الإماءِ؛ فـ «السَّفْعَةُ» شُحُوبٌ وسوادٌ أو تغيُّرٌ، وغالباً ما يُصِيبُ كِبارَ السِّنِّ أو الجوارِيَ؛ لكثرةِ بُرُوزِهِنَّ، وحديثُ «سَفْعَاءِ الخَدَّيْنِ» نظيرُ ما في «صحيح البخاري»، قالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: رَأَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم في بيتِها جارِيَةً في وجهِها سَفْعَةٌ، فقال: (اسْتَرْقُوا لَهَا) (¬2)، وكونُها كاشفةً لا يجعَلُ منها حُرَّةً؛ فقد كانتْ جاريةً. ثانياً: يَعْضُدُ أنَّ سَفَعَ الخَدَّيْنِ يكونُ في قواعدِ النساءِ، لا في المرأةِ الشابَّةِ الحسناءِ، ما في روايةِ أحمدَ والنَّسَائِيِّ في هذا الحديثِ، قال: «مِنْ سَفِلَةِ النِّسَاءِ، سَفْعَاءُ الخَدَّيْنِ» (¬3)؛ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (958 و 961 و 978)، ومسلم (885/ 4). (¬2) أخرجه البخاري (5739). (¬3) أخرجه أحمد (3/ 318 رقم 14420)، والنسائي (1575).

الخاتمة

يعني: مِن أَقَلِّ النساءِ شأناً، وكذلك ما رواه أحمدُ وأبو داودَ، مِن حديثِ عوفِ بنِ مالِكٍ الأشجَعِيِّ، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الخَدَّيْنِ كَهَاتَيْنِ يَوْمَ القِيَامَةِ -وأَوْمَأَ بالوُسْطَى والسَّبَّابَةِ- امْرَأَةٌ آمَتْ مِنْ زَوْجِهَا، ذَاتُ مَنْصِبٍ وجَمَالٍ، حَبَسَتْ نَفْسَها عَلَى يَتَامَاهَا؛ حَتَّى بَانُوا أَوْ مَاتُوا) (¬1). وإنما ذكَرَ جابرٌ رضي الله عنه قولَهُ: «سَفِلَة النِّساءِ»؛ ليبيِّنَ أنها ليستْ مما تَفتِنُ الناظرَ إليها. ثالثاً: أنَّ الحديثَ لم يَرِدْ في جميعِ طُرُقِه وصفُ وجهِ المرأةِ، وإنَّما تفرَّد به عبدُ المَلِكِ، عن عطاءٍ، عن جابرٍ؛ أخرَجَه مسلِمٌ (¬2)، وقد رواهُ ابنُ جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ، عن جابِرٍ، ولم يَذْكُرْ وَصْفَها (¬3)، وقد جاءتِ القِصَّةُ مِن حديثِ جماعةٍ مِن الصحابةِ؛ رواها ابنُ مسعودٍ (¬4)، وابنُ عُمَرَ (¬5)، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6/ 29 رقم 24006)، وأبو داود (5149). (¬2) في «صحيحه» (885/ 4). (¬3) كما عند البخاري (961 و 978)، ومسلم (885/ 3). (¬4) أخرجه النسائي في «الكبرى» (9212 و 9213). (¬5) أخرجه مسلم (79).

وابنُ عباسٍ (¬1)، وأبو هريرةَ (¬2)، وأبو سعيدٍ (¬3) رضي الله عنهم، ولم يَذْكُرُوا سُفُورَها؛ ولذا قِيلَ بشُذوذِ هذه اللفظةِ في الحديثِ، وإن كانتْ محفوظةً فلا يُعْلَمُ كونُها قاعداً أم أمَةً أم حُرَّةً، وفي المحكَمِ حُجَّةٌ وغُنْيَةٌ وكفايةٌ، والمُتشابِهاتُ لا يَتَّبِعُها إلَّا مَنْ في قلوبِهِمْ زَيْغٌ؛ كما قال اللهُ تعالى. والله أعلم. وبهذا ينتَهِي المقصودُ مِن هذه الرسالةِ، ولم تكن الغايةُ منها سَوْقَ الأدلةِ ولا سردَ أقوالِ الفقهاءِ وحَشْدَها، فإنَّ هذا البابَ لا حدَّ له ولا حَصْر، والمرادُ هو إعادةُ ما زُحْزِحَ مِن الأدلة والأقوالِ إلى مواضعِها، وبيانُ مُحْكَمِها مِن متشابِهِها؛ فإنَّ مِن الأدلةِ ما كان على موضعٍ عند العلماء يعرِفُون سياقَهُ ومنزلةَ دلالتِه بالنسبةِ لغيرِه، حتى جاء الزمنُ المتأخر فاستثير وحُمّل ما لا يحتمل، وجُعل منه أصلاً في الباب، واستُنبط منه ما جُعل تجديداً للدين، وما هو إلا قول دخيل لا يُعرف في قولٍ ولا عملٍ سالف، والله أعلم وأحكَم، وهو الموفق للهدى والسداد، وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (98)، ومسلم (884). (¬2) أخرجه مسلم (80). (¬3) أخرجه البخاري (304)، ومسلم (80 و 889).

§1/1