الانتهاء لمعرفة الأحاديث التي لم يفت بها الفقهاء

عبد السلام علوش

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الكتاب: الانتهاء لمعرفة الأحاديث التي لم يفت بها الفقهاء المؤلف: أبو عبد الله عبد السلام محمد عمر علوش الناشر: دار ابن حزم - بيروت سنة الطبع: 1416 هـ - 1996 م عدد المجلدات: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

المقدمة

المقَدِّمَة الحمد للَّه القائل: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) في تنزيله، والذي جعل أصدق القول في قيله، وأحسن الهدي هدي رسوله، وأشهد أن لا إله إلا هو لا منتهى لتبجيله، وعلمه وتفصيله، وكتابه وتأويله، وأشهد أن محمداً قد اصطفاه على خلقه بالرسالة لسائر العوالم، ومبلغ المعالم، بإتمام المكارم، وإبطال المظالم، وإحكام القواعد، وإرساء الأوابد، بشيراً ونذيراً، وسراجاً منيراً، فأدَّى وبلَّغ، وأتم فأبلغ. فلم يكن لمتبعيه عن هديه تحويلاً، وعن الثابت من قوله محيلاً، إلا ببرهان بين، وصارف من الدليل متعين، بعد أن لزمتهم الحجة في قوله تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36). وإن الواقفين على أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - التي في الأحكام، وشرائع الإسلام، وعلى فتاوى العلماء، والمجتهدين والفقهاء، ما يجدون من مقبول حديثه مطروحاً، ولا من متروك صحيحه إلا مقدوحاً، قد ظهرت صحته، وخفيت علته. والمطلعون على علل الأخبار، وضعيف الآثار، يعلمون أن المفتين قد أفتوا وعملوا بالضعيف المردود، بل الواهي والمسرود، هو واقع في مسائلهم؛ بعضهم أكثر من بعض، بحسب ما لهم في هذه الصنعة من علوم

النقض. والإعلال والدحض، وكثرة الاطلاع، وشدة التحري في الاتباع، وما لبسطه في غير هذا المقام اتساع. فإذا علمت أن هذا فعلهم في الضعيف، فكيف هو بالصحيح المنيف، والحسن الرهيف. ثم إني أجلت البصر في النصوص، وفتاوى أهل الخصوص، فوقفت فيها على أحاديث يسيرة، وجمل عسيرة، قد ندت أوابدها، وأطلقت مقايدها، وليس من قائل يقول بها، مع ظهور السلامة من الانتقاد، أو الجواب عن رد أهل الاجتهاد، على ما سيأتي تفصيله، وترتيبه وتذييله. فوقع في نفسي لذاك التصنيف والتحرير، واستعنت عليه بالعليم الخبير، وسميته: "الانتهاء، لمعرفة الأحاديث التي لم يفت بها الفقهاء ". وقسمت الكتاب لبابين وسبعة فصول: - الباب الأول: وقد اشتمل على خمسة فصول. 1 - الفصل الأول: في تعريف خبر الواحد. 2 - الفصل الثاني: في اتفاق العلماء على العمل بخبر الواحد. 3 - الفصل الثالث: في بيان أدلة القائلين بالاحتجاج. 4 - الفصل الرابع: في بيان الشروط التي ذكرها بعض العلماء للعمل بالخبر ومناقشتها. 5 - الفصل الخامس: في ذكر شرطنا في الكتاب لإيراد الخبر الذي لم يفتوا به. - الباب الثاني: واشتمل على فصلين. الفصل الأول: في ذكر الأحاديث التي على شرط الكتاب.

الفصل الثاني: في ذكر بعض الأحاديث التي ليست على شرطنا فيه. والحمد للَّه أولاً وآخراً. وكتب أبو عبد الله راجي رحمات ربه لتسع خلون من شهر ربيع الآخر لسنة ألف وأربعمائة وأربع عشرة للهجرة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم السلام

الباب الأول

الباب الأول

الفصل الأول: في تعريف خبر الواحد

الفصل الأول: في تعريف خبر الواحد وهو ما رواه الواحد أو الاثنان دون أن يبلغ حد الشهرة أو التواتر. ويرى بعض أهل العلم بل أكثرهم أن لا دخل للشهرة في تعريف خبر الآحاد، فيقولون: "الخبر نوعان: متواتر وآحاد ". فهؤلاء بمقتضى تعريفهم يكون الحديث أو الخبر غير المتواتر آحاداً، وهذا المستتب عند جمهور الأصوليين من أئمة أصول الفقه. والتعريف الأول هو المقول به عند أئمة أهل مصطلح الحديث. وبهذا يعرف أن الأول يدخل في الثاني بخلاف عكسه. وبهذا يعرف أيضاً أن ثمرة الخلاف منتفية في وجوب العمل بالخبر، لأنهما قد اتفقا في تعريفيهما على اشتراك أقل الحديث رواية في كونه من أخبار الآحاد، فكان اتفاقهما على مما هو أعلى منه آكد. وجميعهم إنما يريدون بخبر الواحد، الحديث المتصل الإسناد، الخالي من الشذوذ والإعلال والإعضال أو سائر العلل التي يعلل بها أئمة الحديث الخبر، مما هو مبسوط في كتب المصطلح.

فلم يعد من فرق بين خبر الواحد، وأصح الأحاديث المتواترة، إلا قلة الرواة في الأول عن الآخر.

الفصل الثاني: في ذكر اتفاق أهل العلم على وجوب العمل بخبر الآحاد إلا من شذ

الفصل الثاني: في ذكر اتفاق أهل العلم على وجوب العمل بخبر الآحاد إلا من شذ وقبل الشروع في بيان أعدادهم وتقسيماتهم، وأدلة إثباتهم ونفيهم، فالواجب معرفته أننا نعني هنا بالاحتجاج في مسائل التعبد وإثبات السنن، بخلاف ما يسوقه المتكلمون من مسألة إفادة العلم اليقيني من خبر الآحاد، وبخلاف ما يسوقه بعض المصنفين في العقائد من الاحتجاج به في العقيدة، وغيرها من المسائل، فتلك أشياء أخرى قد اختلفوا فيها واتفقوا، في ما يحتاج غير هذا الموضع لبيانه، وبسطه على النحو المرضي، وإنما القول عندنا هنا عن الاحتجاج فيما يستدل به الفقهاء على الأحكام الشرعية في إثبات الدلالات وإقامة الحجج والبراهين على انتصاب مسائل الحلال والحرام، والسنة والبدعة، وبنحوها مما هو ليس من جنس تلك المسائل الطويلة العريضة في المبنى، والتي إنما هي من عمل فئة قليلة من أهل العلم فضلاً عن المتعلمين. قال الشوكاني رحمه الله في الإرشاد: وقد ذهب الجمهور إلى وجوب العمل بخبر الواحد، وأنه وقع التعبّد به. وقال القاشاني والرافضة وابن داود، لا يجب العمل به، وحكاه

الماوردي عن الأصم وابن علية وقال: إنهما قالا: لا يقبل خبر الواحد في السنن والديانات، ويقبل في غيره من أدلة الشرع، وحكى الجويني في "شرح الرسالة" عن هشام والنظام أنه لا يقبل خبر الواحد، إلا بعد قرينة تنضم إليه وهو علم الضرورة بأن يخلق الله في قلبه ضرورة الصدق. قال: وإليه ذهب أبو الحسين اللبان الفرضي، قال بعد حكاية هذا عنه: فإن تاب فالله يرحمه، وإلا فهي مسألة التكفير لأنه إجماع، فمن أنكره يكفر، انتهى. قلت: وهذا الذي قاله هو أو نقله عن غيره فيه أمور: أولها: أن من ذكر أسمائهم لا يكاد يعتد بأحد منهم أصلاً - أعني الثلاثة الأول - فإن القاشاني وابن داود ليسا ممن يخرق بخلافهم الإجماع، لكونهما ليسا من أئمة هذا الشأن أصلاً ولم يقع على قول أحد منهما التعويل في مسألة من مسائل الأصول أصلاً، ثم لم يأتيا كما سيأتي على حجة تذكر، ولذلك فكأن الجويني رحمه الله رأى هذا المذهب، فذكر كما تقدم استكمال الإجماع، وحذر من مسألة التكفير في نقض الإجماع، لكن على ما سيأتي في خامسها. وثانيها: إطلاقه القول في رفض الرافضة للاحتجاج به، وهو مردود، فإنه قول طائفة من الرافضة قليلة كما حكاه غير واحد منهم، كالكاظمي في " العناوين "، والجيلاني في " القوانين "، والحيدري في " أصول الاستنباط ". فلم ينسبوه لسائر الرافضة. لكن ربما عنى الشوكاني فيه معنى آخر، فأخذه من أنهم لا يعتمدون

في المسائل إلا قول طائفة من العلماء عندهم، ولو كان الخبر خلاف مسائلهم، فهو خاص مردود، لأن هذه الطائفة عندهم قبلت خبر الواحد فيما حكاه أهل التصنيف عنهم. وثالثها: أننا لا نعبأ بخلاف الرافضة أصلاً، وبيننا وبين القول بقواعدهم وأصولهم، التي حرروها مفاوز ما أظنها تتجاوز. ورابعها: أن قول هشام والنظام لا يعتبر نفياً للقول بحجة خبر الآحاد، وإنما هو زيادة شرط منهما حتى يقبل الخبر. وإنما كان وجه الإنكار عليهما الاتساع في وضع هذا الشرط الذي ينال كل حديث مهما بلغت صحته وارتفع قبوله، بخلاف غيرهما من الفقهاء الذين اشترطوا شروطاً أخرى في أشياء مخصوصة، كالتي شرطها الحنفية كما سيأتي، وبخلاف اشتراط طائفة من المحدثين أشياء أخرى مبسوطة في كتب المصطلح على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وبيان الشروط الصحيحة منها والفاسدة. وخامسها: في بيان الإجماع الذي حكاه الجويني، فإن المراد به إما الصحابة، وإما مَن بعدهم، وقد قدمنا أن من لا يعبأ بخلاف من خالف لا يتوانى عن ذكر الإجماع في المسألة، وعلى عدم اعتبار المشترطين من القائلين بالنفي. وأنها مسألة إجماع من العلماء، وذلك بعد الارتفاع عن مسألة نفي العلم أو العلم بالنفي التي يثيرها المتكلمون. وأما إن كان المراد إجماع الصحابة على ذلك، فهذا نقله غير واحد من العلماء وحكاه عنهم، بل وجعله من أدلة القول على العمل بخبر الواحد، لأنه يكون دليلاً لا يقبل الرد عند سائر من يعتبر إجماع الصحابة، ولا يجيز مخالفتهم. كما سيأتي بيان هذه المسألة عند دليل الإجماع على صحة قبول خبر الواحد.

وقد قال الإمام الشافعي في الرسالة: " لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد ". يعني في العمل به.

الفصل الثالث: في ييان أدلة القائلين بالاحتجاج بخبر الآحاد

الفصل الثالث: في ييان أدلة القائلين بالاحتجاج بخبر الآحاد اعلم رحمك الله أن أدلة القائلين بالاحتجاج قد انقسمت من حيث الأصلين لفرعين أساسيين: أدلة عقلية، وأدلة سمعية. قال الشيخ الرازي في المحصول: " والذين قالوا: وقع التعبد به - يعني خبر الآحاد - اتفقوا على أن الدليل السمعي دلّ عليه، واختلفوا في الدليل العقلي هل دلّ عليه أم لا. فذهب القفال وابن سريج منّا، وأبو الحسين البصري - من المعتزلة - إلى أن دليل العقل دل على وقوع التعبد به. وأما الجمهور منا ومن المعتزلة كأبي عليّ وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار، فقد اتفقوا على أن دليل التعبد به: السمع فقط. وهو قول أبي جعفر الطوسي من الإمامية. انتهى. لكن الآمدي في " الإحكام " يزيد ذكر أسماء القائلين بوجود الدليل العقلي فيقول: " واختلفوا في دليل وجوبه بدليل العقل: فأثبته

أحمد بن حنبل، والقفال وابن سريج من الشافعية، وأبو الحسين من المعتزلة وجماعة كثيرة. ونفاه الباقون. وفصل أبو عبد الله البصري - بين الخبر الدال على ما يسقط بالشبهة، وما لا يسقط بها، فمنع منه في الأول، وجوزه في الثاني، انتهى. قلت: فهذا أوان الشروع في تفصيل هذين الفرعين وفيهما: الدليل العقلي، ثم ذكر الأدلة السمعية من الكتاب والسنة والقياس والإجماع.

أ - الفرع الأول: في بيان الحجج العقلية: وحيث أن الآمدي لا يقول بصحة الحجج العقلية على دليل العمل بخبر الواحد، - وإن كان يقول بحجية الخبر الواحد من أدلة أخرى - فقد اخترت إيراد ما ذكره من هذه الححج العقلية ومناقضته لها، ومناقشته في ذلك. قال رحمه الله في " الإحكام ": فأما من قال بكونه - يعني الدليل العقلي - حجة، فقد احتجوا بحجج ضعيفة، لا بد من ذكرها والتنبيه على ما فيها، ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار. 1 - الحجة الأولى من جهة المعقول: وهي ما اعتمد عليها أبو الحسين البصري وجماعة من المعتزلة وهي أنهم قالوا: العقلاء يعلمون وجوب العمل بخبر الآحاد في العقليات، ولا يجوز أن يعلموا وجوب ذلك إلا وقد علموا علة وجوبه، ولا علة لذلك سوى أنهم ظنوا بخبر الواحد تفصيل جملة معلومة بالعقل. وبيان ذلك أنه قد علم بالعقل وجوب التحرز من المضار، وحسن اجتلاب المنافع. فإذا ظننا صدق من أخبرنا بمضرة، يلزمنا أن لا نشرب الدواء الفلاني، وأن لا نفصد، وأن لا نقوم من تحت حائط مستهدم، فقد ظننا تفصيلاً لما علمناه جملة من وجوب التحرز عن المضار. وبيان أن العلة للوجوب ما ذكره دورانها معها وجوداً وعدماً، وذلك بعينه موجود في خبر الواحد في الشرعيات، فوجب العمل به، وذلك لأنا قد

علمنا في الجملة وجوب الانقياد للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يخبرنا به من مصالحنا ودفع المضار عنا. فإذا ظننا بخبر الواحد، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد دعانا للانقياد له في فعل أخبر أنه مصلحة وخلافه مضرة، فقد ظننا تفصيل ما علمناه في الجملة، يوجب العمل به. قال الآمدي: ولقائل أن يقول: أما أولاً، فلا نسلم وجوب العمل بخبر الواحد في العقليات، بل غايته إذا ظننا صدقه، أن يكون العمل بخبره أولى من تركه، وكون الفعل أولى من الترك، أمر أعم من الواجب لشموله للمندوب، فلا يلزم منه الوجوب. قلت: قول الآمدي: ". . . العمل بخبره أولى من تركه. . . لشموله للمندوب، فلا يلزم منه الوجوب " منقوض بسائر المسائل التي لا يسع القول بالندب فيها مجالاً. أو التي لا يمكن أن تكون إلا ندباً أصلاً. مثال الأول الأحاديث التي تخبر عن فرضية الغسل للجمعة مثلاً، فإن ندب الاغتسال لها ثابت عند سائر الفقهاء، وإحالة أحاديث الفرض على الندب فيه إهمال لأنه أبطل الخبر الزائد فيه إبطالاً تاماً. ومثال الثاني أحاديث ندب وضع اليدين على الصدر في الصلاة، أو تحريك الأصبع في التشهد ونحوها من أحاديث الندب، فإن القول فيها بالندب على رأي الآمدي هو إعمال تام للخبر، فيرد عليه فيه. وذلك أن قولنا بوجوب العمل بخبر الواحد لا يعني منه أحاديث الفرض فقط، بل المستحبات، وكذلك المحرمات والمكروهات. فإذا تأملت هذا علمت اضطراب قوله في سائر الأحاديث التي تفيد إما الاستحباب وإما الكراهة حسب، دون التحليل أو التحريم، ولا الفرائض.

ثم قال الآمدي رحمه الله: " سلمنا أن العمل بخبره واجب في العقليات، ولكن لا نسلم أن علة الوجوب ما ذكرتموه من الدوران، فلا يدل على أن المدار علة الدائر، لجواز أن تكون العلة معنى ملازماً لما ذكرتموه لا ما ذكرتموه. . . " إلى آخر ما قال. وقد ضربت على القسم الآخر من قوله لأنه داخل على التحقيق في مبحث آخر من مباحث القياس في معرفة العلة والطرق التي تتبع في ذلك، وليس ذلك من مباحث هذا الكتاب. قال الآمدي: 2 - الحجة الثانية: قالوا: صدق الواحد في خبره ممكن، فلو لم نعمل به، لكنا تاركين لأمر الله تعالى وأمر رسوله، وهو خلاف ما يقتضيه الاحتياط. قال الآمدي: ولقائل أن يقول: صدق الراوي وإن كان ممكناً وراجحاً، فلم قلتم بوجوب العمل به والاحتياط بالأخذ بقوله، وإن كان مناسباً، ولكن لا بد له من شاهد بالاعتبار، ولا شاهد له سوى خبر التواتر، وقول الواحد في الفتوى والشهادة، ولا يمكن القياس على الأول، لأن ذلك مفيد للعلم، ولا يلزم من إفادته الوجوب إفادة الخبر الظني له، ولا يمكن قياسه على الثاني، وذلك لأن براءة الذمة معلومة وهي الأصل، وغاية قول الشاهد والمفتي مع مخالفته للبراءة الأصلية بالنظر إلى شخص واحد العمل بخبر الواحد المخالف لبراءة الذمة بالنظر إلى جميع الناس، وإن سلمنا صحة القياس فغايته أنه مفيد لظن لإلحاق. وهو غير معتبر في إثبات الأصول. . .

3 - الحجة الثالثة: أنهم قالوا: إذا وقعت واقعة، ولم يجد المفتي سوى خبر الواحد، فلو لم يحكم به لتعطلت الواقعة عن حكم الشارع، وذلك ممتنع. قال الآمدي: " ولقائل أن يقول: خلو الواقعة عن الحكم الشرعي، إنما يمتنع مع وجود دليله، وأما عدم الدليل فلا، ولهذا فإنه لو لم يظفر في الواقعة بدليل ولا خبر الواحد، فإنه لا يمتنع خلو الواقعة عن الحكم الشرعي، والمصير إلى البراءة الأصلية ... ". قلت: وهذا منه رحمه الله كاف في دفع هذه الحجة الثالثة بمثاله المذكور، فلا حاجة للإطالة في ذكر بقية جوابه. قال الآمدي: 4 - الحجة الرابعة: قالوا: إنه لو لم يكن خبر الواحد واجب القبول، لتعذر تحقيق بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى كل أهل عصره. وذلك ممتنع، وبيان ذلك أنه لا طريق إلى تعريف أهل عصره إلا بالمشافهة أو الرسل، ولا سبيل له إلى المشافهة للكل لتعذره، والرسالة منحصرة في عدد التواتر والآحاد، والتواتر إلى كل أحد متعذر، فلو لم يكن خبر الواحد مقبولاً، لما تحقق معنى التبليغ والرسالة إلى جميع الخلق فيما أرسل به، وهو محال مخالف لقوله تعالى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ). قال الآمدي رادّاً: ولقائل أن يقول: إنما يمتنع ذلك لو كان التبليغ إلى كل من في عصره واجباً، وأن كل من في عصره مكلف بما بعث به، وليس لذلك. بل إنما هو مكلف بالتبليغ إلى من يقدر على إبلاغه، إما بالمشافهة أو

بخبر التواتر، وكذلك كل واحد من الأئمة إنما كلف بما أرسل به الرسول إذا علمه، وأما مع عدم علمه به فلا، ولهذا فإن من كان في زمن الرسول في البلاد النائية والجزائر المنقطعة، ولا سبيل إلى إعلامه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن مكلفاً بتبليغه، ولا ذلك الشخص كان مكلفاً بما أرسل به،. انتهى كلام الآمدي. قلت: وقول الآمدي باطل، وما ادعاه من شرط شمول التبليغ ونفيه ليس بلازم، وبيان صورة الرد في المثال الآتي: وهو أن رسله - صلى الله عليه وسلم - الذين أرسلهم، كان بعضهم آحاداً، ولو لم يكن خبرهم حجة لما حل له - صلى الله عليه وسلم - منابذة الرافضين منهم إلى القتال في مواقع معلومة من السيرة بل ودعائه - صلى الله عليه وسلم - على من مزق كتبه. بل وكيف يستقيم أن يرسل - صلى الله عليه وسلم - إلى القبائل من يعلمهم الشرائع آحاداً، وهو يعلم من شريعته - صلى الله عليه وسلم - أن خبر الواحد ليس بحجة!!! لكن النظر عندي في هذه الحجة هل تلحق على الصواب بالعقلية أم النقلية منها، والأصوب الثاني قال الآمدي: 5 - الحجة الخامسة: قالوا: قد ثبت أن مخالفة أمر الرسول سبب لاستحقاق العقاب، فإذا أخبر الواحد بذلك عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وغلب على الظن صدقه، فإما أن يجب العمل الراجح والمرجوح معاً، أو تركهما معاً، أو العمل بالمرجوح دون الراجح أو بالعكس.

وبالاحتمال لا سبيل إلى الأول والثاني والثالث لأنه محال. فلم يبق سوى الرابع وهو المطلوب ".انتهى. قلت: وهذا احتجاج بين البطلان، فلم نذكر رد الآمدي عليه لوضوحه.

ب - الفرع الثاني: في بيان النقلية: وهي أنواع. 1 - أولها: حجج القرآن الكريم: * الحجة الأولى في قوله تعالى: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122). قال الرازي وغيره من العلماء فيها: وجه الاستدلال: أن الله تعالى أوجب الحذر بأخبار الطائفة، والطائفة ها هنا عدد لا يفيد قولهم العلم، ومتى وجب الحذر بإخبار عدد لا يفيد قولهم العلم فقد وجب العمل بالخبر الذي لا نقطع بصحته. وإنما قلنا: إنه أوجب الحذر - عند إخبار الطائفة - لأنه أوجب الحذر بإنذار الطائفة، والإنذار هو الإخبار. وإنما قلنا: إنه أوجب الحذر بإنذار الطائفة لقوله تعالى: (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) وكلمة " لعل " للترجي، وذلك في حق الله تعالى محال، وإذا تعذر حمله على ظاهره وجب حمله على المجاز، وذلك لأن المترجي طالب للشيء. فإن كان الطلب لازماً للترجي وجب حمل هذا اللفظ على الطلب، فيلزم أن يكون الله طالباً للحذر، وطلب الله تعالى هو الأمر فثبت أن الله تعالى أمر بالحذر عند إنذار الطائفة. وإنما قلنا: إن الإنذار هو الإخبار، لأنه عبارة عن الخبر المخوف، والخبر داخل في الخبر المخوف، فثبت أن الله تعالى أوجب الحذر عند إخبار الطائفة.

وإنما قلنا: إن الطائفة ها هنا: عدد لا يفيد قولهم العلم، لأن كل ثلاثة فرقة، والله تعالى أوجب على كل فرقة أن تخرج منها طائفة، والطائفة من الثلاثة واحد أو اثنان، وقول الواحد أو الاثنين لا يفيد العلم. وإنما قلنا إنه تعالى لما أوجب الحذر عند خبر العدد الذي لا يفيد قولهم العلم وجب العمل بذلك الخبر لأن قوماً إذا فعلوا فعلاً، وروى الراوي خبراً يقتضي المنع من ذلك الفعل، فإما أن يجب عليهم تركه عند سماع ذلك الخبر أو لا يجب. فإن وجب فهو المراد من وجوب العمل بمقتضى الخبر، وإذا ثبت وجوب العمل بمقتضى ذلك الخبر - في هذه الصورة - وجب العمل به في سائر الصور، ضرورة أن لا قائل بالفرق. وإن لم يجب الترك، لم يجب الحذر، وذلك ينافي ما دلت عليه الآية من وجوب الحذر. قلت: بقي الجواب عما إذا وقع النقاش مع حصر الطائفة في العدد الذي لا يفيد العلم، والجواب: أنه لا يخلو من أن يكون المراد من لفظ الطائفة التي وجب عليها الخروج للتفقه، والإنذار إذا رجعت أمرين: الأول: العدد الذي ينتهي لحد التواتر. الثاني: العدد الذي لا ينتهي لحد التواتر. ومن يحصر المراد بالأول يلزمه القول بأن الواجب على كل طائفة، وأهل قرية، أو بادية إذا كان عددهم ما دون حد التواتر أن يخرجوا بأجمعهم للتفقه والإنذار، وهذا لا يقول به قائل في أي عصر من الأعصار، بل القول خلافهم، فدل على أن المراد يشمل الأمر الثاني للخروج من هذا الإلزام. والله أعلم. وبهذا العرض يكون وقع الجواب عما يمكن أن يبديه أهل الاعتراض على صحة هذا الاستدلال، اللهم إلا وجهين نذكرهما، والجواب عليهما.

* مناقشة الاعتراض الأول: فإنهم قالوا: الحمل على الفتوى - أي حمل الخبر على الفتوى - متعذر لوجهين: الأول: أنا لو حملناه على الفتوى، لاختص لفظ القوم بغير المجتهدين، لأن المجتهد لا يجوز له العمل بفتوى المجتهد، لكن التقييد غير جائز لأن الآية مطلقة. انتهى اعتراضهم. قلت: وقد دفعه غير واحد من غير وجه، ولم أوردها جميعها، إذ لا حاجة لها، بل هي دفع للخطأ بجنسه، فإن أصل الاعتراض غير صحيح، ولا هو في باب الموضوع، إذ أننا بصدد الرواية عن الشارع، لا بصدد نقل فتوى المجتهد، وإلزام الآخر بها، فإننا لا نريد إلزام المجتهد إلا بقبول خبر الآحاد في الرواية فقط. * مناقشة الاعتراض الثاني: فإنهم قالوا: ومع تطرق هذه الاحتمالات فالاستدلال بالآية على كون خبر الواحد حجة في الشرعيات غير خارج عن باب الظنون فيما هو من جملة الأصول، والخصم مانع لصحته، فالقاعدة الأصولية أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل في الاستدلال. انتهى الاعتراض الثاني. قلت: والجواب على الاعتراض من أوجه: الأول: أن الاحتمال المذكور في القاعدة إنما هو الاحتمال غير المدفوع، ولا المنفي، وإلا فلترد كل قاعدة بأي احتمال ولو كان خطأً، وهو

غير صحيح، وبه تبطل سائر الأصول لأنه لا يخلو من إيراد احتمال ولو في غير موضعه، فعلمنا من هذا أن الاحتمال المراد إنما هو الاحتمال الذي لا يرد، ولا دليل على بطلانه، ولكننا قدمنا دفع جميع هذه الاحتمالات فلم يعد من معنى للاستدراك بها على بطلان أصلنا هذا. الثاني: أن الفقهاء يحتجون بغلبة الظن، وهو لا يكون إلا في معرض الاحتمال، وكذا الأصوليون في كثير من مسائل الترجيح التي لا يظهر فيها الصواب بيناً، ولم يمنعهم من ذلك العمل بها، والاعتماد عليها. الثالث: أن الدلالات الظنية إذا جتمعت أفادت القطع، بحسب كثرتها، ونحن لنا في هذا الباب ما لا ينضبط من الأدلة، التي لو تأملها المتأمل أفادت القطع عنده، والله أعلم. * الحجة الثانية في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ). ووجه الاستدلال من هذه الآية أن الله تعالى أوجب البيان على كل فرد من الذين أوتوا الكتاب تبيان ما عرف وأن لا يكتم، فلو لم يكن بيانه حجة، ولا بلاغاً، لما كان من معنى في مطالبته بذلك. وإنما قلنا بأن الأمر لكل واحد منهم، لأن الخطاب يكون على حسب الوسع، وليس في الوسع اجتماعهم جميعهم في مكان واحد، وإبلاغهم إبلاغاً واحدا لكل إنسان، فتبين أن المخاطب بذلك هو كل واحد منهم. وإنما قلنا بالوجوب، لأن الميثاق والعهد من أبلغ الالتزام الذي هو مقتضى الوجوب.

لكن تطرق الاحتمال لهذه الآية بخلاف سابقتها، وذلك بأن المراد بذلك العدد الذي تقوم به الحجة، دون ما لا تقوم به. فتبقى هذه الآية الدلالة منها على سبيل الاحتمال لا الجزم. وهذا موجود في آيات أخرى منها: * الحجة الثالثة فى قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى) الآية. * الحجة الرابعة في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) الآية. * الحجة الخامسة في قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). وفيها مناقشات أخرى سوى تطرق الاحتمال المذكور. * الحجة السادسة في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا). ووجه الاستدلال بهذه الآية من وجهين: الأول: أنه علق وجوب التثبت على خبر الفاسق، فدل على أن غير الفاسق بخلافه، وذلك إما أن يكون بالجزم برده أو بقبوله، ولا جائز أن يقال بالأول، وإلا كان خبر العدل أنزل درجة من خبر الفاسق، وهو محال، فلم يبق غير الثاني.

الثاني: وهو ما جاء في سبب نزول الآية. فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده، وابن أبي عاصم في تفسيره، والطبراني في معجمه، وابن مندة، وابن مردويه في التفسير، بإسناد حسن عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها، قلت: يا رسول الله: أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، وترسل إلي يا رسول الله رسولاً (بأبان) كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة، فلما جمع الحارث الزكاة، ممن استجاب له وبلغ الأبان الذي أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبعث إليه، احتبس الرسول فلم يأت، فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله ورسوله، فدعا بسروات قومه فقال لهم: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان وقت لي وقتاً يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة فانطلقوا فنأتي رسول الله، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض المال وكان عنده مما جمع من الزكاة، فلما سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق فرجع، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي، فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البعث إلى الحارث، فأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث، فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟، قالوا: إليك، قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله، قال: لا والذي بعث محمداً بالحق، ما رأيته ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي.

قال: والذي بعثك بالحق، ما رأيته ولا رآني، وما أقبلت إلا حين احتبس عليَّ رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خشيت أن تكون كانت سخطة من الله ورسوله فنزل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) إلى قوله (حَكِيمٌ). وأخرجه الطبراني وابن مندة وابن مردويه من حديث علقمة بن ناجية رضي الله عنه. وأخرجه الطبراني في الأوسط وابن مروديه من حديث جابر رضي الله عنه. وأخرجه ابن راهويه وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن أم سلمة رضي الله عنها. وأخرجه ابن جرير وابن مردويه والبيهقي في سننه، وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما. وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن مجاهد مرسلاً. وأخرجه عبد بن حميد عن الحسن مرسلاً. وأخرجه عبد بن حميد في مسنده عن عكرمة مرسلاً. وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة مرسلاً، وفيه أنهم أقبلوا نحوه فهابهم فرجع فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنهم ارتدوا. وأخرجه ابن المنذر عن الضحاك مرسلاً.

ووجه الاستدلال من هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عمل بخبر الواحد، حيث أرسل إليهم بعثاً لقتالهم، ولو لم يكن ذلك حجة عنده لما فعله. وقد اعترض على الاستدلال الأول بأنه مأخوذ من مفهوم المخالفة، وهو مصدر تشريعي مختلف فيه، واعترض على الاستدلال الثاني أن المذكور من سبب النزول هذا هو خبر من أخبار الآحاد فلا يكون حجة في الأصول. قلت: ولي أنا على الاستدلال اعتراض ثالث، وهو أن قوله " فتبينوا " هو من مواضع الاستدلال من الآية، وليس فيه العدد. فيبقى محتملاً كباقي الآيات، وأما القول على موضع الاستدلال الأول الذي ذكروه في مفهوم المخالفة فتقدم. الخلاصة: أن ما تقدم من الآيات لا يخلو الاستدلال بها من اعتراض، إلا الأولى، فهي حجة في الباب لمن تأمل، والله أعلم.

2 - ثانيها حجج السنة: وقبل الشروع في بيان أدلتها لا بد من التنبيه على أن القائلين بترك العمل بخبر الواحد، وأنه غير واجب العمل به، لا يعتدون بشيء من أدلة السنة إلا ما كان متواتراً، بخلاف سائر الأئمة القائلين بصحة الاحتجاج به، فإنه لا يلزمهم حصول هذا الشرط فيه، ولذلك فإنني أبتدئ هذه الحجج من السنة بالخبر الذي هو متواتر عند جمهور المحدثين والأئمة، بخلاف المتعنتين الذين ليس لقولهم حجة ولا برهان، الذين قالوا: أربعين. أن يبلغ عدد المخبرين أربعين كالعدد المعتبر في الجمعة. أو الذين قالوا: سبعين لقوله تعالى: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا). أو الذين قالوا: ثلثمائة وبضعة عشر بعدد أهل بدر. أو الذين قالوا: خمس عشرة مائة. أو الذين قالوا: سبع عشرة مائة. أو الذين قالوا: أربع عشرة مائة، وهؤلاء ثلاثتهم عزوه لعدة أهل بيعة الرضوان. أو الذين قالوا: عدد هذه الأمة. فإن هؤلاء جميعهم مجازفون مغالون، بل هاذون أعني القائلين منهم بما هو فوق السبعين. وأما سائر بقية العلماء فقد قالوا بما هو دون ذلك بكثير، ما بين الأربعة إلى العشرين، ومعلوم أن هذا العدد مشروط في سائر الطبقات عند الجميع. وهذا ذكر الحديث الأول الذي هو متواتر عند طائفة غير قليلة من

المحدثين والفقهاء الأصوليين، وهو أول حديث ذكره الشافعي رحمه الله في " الرسالة " في باب الحجة في تثبيت خبر الواحد. 1 - حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نضّر الله امرأً سمع منا حديثاً، فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع ".

2 - حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله وفيه: " فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه. . ".

3 - حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل حديث زيد.

4 - حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثله.

5 - حديث النعمان بن بشير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به، وعنه عن أبيه به. رضي الله عنهما. 6 - حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به.

7 - حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به. 8 - حديث جندرة بن خيشنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به.

9 - حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به. 15 - حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به 11 - حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به. 12 - حديث عبيد بن عمير عن أبيه عن جدّه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به.

13 - حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به. 14 - حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به. 15 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به. 16 - حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ: " رحم الله امرءاً سمع منا حديثاً فوعاه، ثم بلغه من هو أوعى منه ". 17 - حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ: " نضر الله عبدا سمع مقالتي هذه فحفظها ثم وعاها فبلغها عني ". 18 - حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. 19 - حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه. 20 - حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ثلاثتهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به.

21 - حديث ربيعة بن عثمان التيمي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به. وإن هذه الروايات المتقدمة لو ضمت لحديث " ليبلغ الشاهد الغائب " بلغت ضعف هذا القدر الذي أوردناه، وتركنا ذلك خشية الإطالة. والشاهد من الحديث كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: فلما ندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها امرءا يؤديها، - والامرؤ واحد - دلّ على أنه لا يأمر أن يؤدي عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه، لأنه إنما يؤدي عنه حلال وحرام يجتنب، وحدٌ يقام، ومقال يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دين ودنيا. ودل على أنه قد يحتمل الفقه غير فقيه، يكون حافظاً ولا يكون فقيهاً. قلت: فهذا حديث حجة في إثبات خبر الواحد، قد يرد على من اعترض عليه من فهم ردودنا على الاعتراضات الأولى.

حديث آخر: قال الشافعي الإمام رحمه الله: أخبرنا سفيان قال أخبرني سالم أبو النضر أنه سمع عبيد الله بن أبي رافع يخبر عن أبيه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما نهيت عنه أو أمرت به فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ". حديث ثالث: قال الشافعي الإمام رحمه الله: أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رجلاً قبَّل امرأته وهو صائم، فوجد من ذلك وجداً شديداً، فأرسل امرأته تسأل عن ذلك، فدخلت على أم سلمة أم المؤمنين، فأخبرتها، فقالت أم سلمة: إن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبِّل وهو صائم، فرجعت المرأة إلى زوجها فأخبرته، فزاده ذلك شراً، وقال: لسنا مثل رسول الله يحل الله لرسوله ما شاء، فرجعت المرأة إلى أم سلمة، فوجدت رسول الله عندها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما بال هذه المرأة؛ فأخبرته أم سلمة، فقال: ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك، فقالت أم سلمة: قد أخبرتها فذهبت إلى زوجها فأخبرته فزاده ذلك شراً وقال: لسنا مثل رسول الله يحل الله لرسوله ما شاء. فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: والله إني لأتقاكم لله ولأعلمكم بحدوده. قال الشافعي الإمام رحمه الله: في ذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك " دلالة على أن خبر أم سلمة عنه مما يجوز قبوله، لأنه لا يأمر بأن تخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا وفي خبرها ما تكون الحجة لمن أخبرته. وهكذا خبر امرأته له إن كانت من آهل الصدق عنده. حديث رابع: قال الشافعي الإمام رحمه الله: أخبرنا مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: بينما الناس بقباء

في صلاة الصبح، إذ أتاهم آت فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة، فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. قال الشافعي الإمام رحمه الله: وأهل قباء أهل سابقة من الأنصار وفقه، وقد كانوا على قبلة فرض عليهم استقبالها، ولم يكن لهم أن يدعوا فرض الله في القبلة إلا بما تقوم عليهم الحجة، ولم يلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمعوا ما أنزل عليه في تحويل القبلة، فيكونوا مستقبلين بكتاب الله وسنة نبيه سماعاً من رسول الله، وبخبر عامة، وانتقلوا بخبر واحد إذا كان عندهم من أهل الصدق عن فرض كان عليهم، فتركوه إلى ما أخبرهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أحدث عليهم بتحويل القبلة. ولم يكونوا ليفعلوه - إن شاء الله - بخبر إلا عن علم بأن الحجة تثبت بمثله إذا كان من أهل الصدق - يعني المخبر بذلك -. ولا ليحدثوا أيضاً مثل هذا العظيم في دينهم إلا عن علم بأن لهم إحداثه. ولا يدعون أن يخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما صنعوا منه. ولو كان ما قبلوا من خبر الواحد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تحويل القبلة وهو فرض، مما يجوز لهم لقال لهم - إن شاء الله - رسول الله: قد كنتم على قبلة، ولم يكن لكم تركها، إلا بعد علم تقوم عليكم به حجة، من سماعكم أو من خبر عامة. أو أكثر من خبر واحد عني.

حديث خامس: قال الشافعي الإمام رحمه الله: أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال: كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة بن الجراح، وأبى بن كعب شراباً من فضيخ وتمر، فجاءهم آتٍ فقال: إن الخمر قد حرّمت. فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها، فقمت إلى مهراس لنا، فضربتها بأسفله حتى تكسرت. وهؤلاء في العلم والمكان من النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقدم صحبته بالموضع الذي لا ينكره عالم. وقد كان الشراب عندهم حلالاً يشربونه فجاءهم آتٍ، وأخبرهم بتحريم الخمر، فأمر أبو طلحة وهو مالك الجرار، بكسر الجرار، ولم يقل هو ولا هم ولا واحد منهم: نحن على تحليلها حتى نلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع قربه منا، أو يأتينا خبر عامة. حديث سادس: قال الشافعي الإمام رحمه الله: وأمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أنيساً أن يغدو إلى امرأة رجل ذكر أنها زنت " فإن اعترفت فارجمها " فاعترفت فرجمها. أخبرنا بذلك مالك وسفيان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن

أبي هريرة، وزيد بن خالد، وساقا الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وزاد سفيان مع أبي هريرة وزيد بن خالد: شبلاً. حديث سابع: قال الشافعي الإمام رحمه الله: أخبرنا عبد العزيز عن ابن الهاد، عن عبد الله بن أبي سلمة عن عمرو بن سليم الزرقي عن أمه قالت: بينما نحن بمنى إذا عليّ بن أبي طالب على جمل يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن هذه الأيام أيام طعام وشراب، فلا يصومن أحد، فاتبع الناس وهو على جمله يصرخ فيهم بذلك. قال الشافعي الإمام رحمه الله: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يبعث بنهيه واحداً صادقاً إلا لزم خبره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بصدقه عند المنهيين عما أخبرهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه.

ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحاج، وقد كان قادراً على أن يبعث إليهم فيشافههم، أو يبعث إليهم عدداً، فبعث واحداً يعرفونه بالصدق. وهو لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث إليهم وعليهم قائمة بقبول خبره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. حديث ثامن: قال الشافعي الإمام رحمه الله: أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عمرو بن عبد الله بن صفوان عن خالٍ له - إن شاء الله - يقال له يزيد بن شيبان قال: كنا بموقف لنا بعرفة، - يباعده عمرو من موقف الإمام جداً - فأتا ابن مربع الأنصاري - فقال لنا: أنا رسول رسول الله إليكم، يأمركم أن تقفوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم. حديث تاسع: قال الشافعي الإمام رحمه الله: وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر والياً على الحج في سنة تسع، وحضر الحج كثيرون من بلدان مختلفة وشعوب متفرقة، فأقام لهم مناسكهم وأخبرهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما لهم وما عليهم، وبعث علي بن أبي طالب في تلك السنة فقرأ عليهم في مجمعهم يوم النحر آيات من سورة براءة، ونبذ

إلى قوم على سواء، وجعل لهم مُدداً، ونهاهم عن أمور. قال الإمام: فكان أبو بكر وعلي معروفين عند أهل مكة بالفضل والدين والصدق، وكان مَنْ جَهِلَهُما - أو أحدهما - من الحاج، وجد من يخبره عن صدقهما وفضلهما. ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليبعث إلا واحداً الحجة قائمة بخبره على من بعثه إليه إن شاء الله. حديث عاشر وحادي عشر. . . قال الإمام الشافعي رحمه الله: وقد فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - عمالاً على نواحي، عرفنا أسماءهم والمواضع التي فرقهم عليهما: فبعث قيس بن عاصم، والزبرقان بن بدر، وابن نويرة، كلاً إلى عشيرته بعلمهم بصدقهم عندهم. وقدم عليهم وفد البحرين، فعرفوا من معه، فبعث معهم ابن سعيد بن العاص. وبعث معاذ بن جبل إلى اليمن وأمره أن يقاتل بمن أطاعه من عصاه، ويعلمهم ما فرض الله عليهم. . . . ". إلى آخر ما ذكره الشافعي رحمه الله مما يطول ذكره.

وإن في هذا الذي أوردناه من الحجة والدلالة، ما يقنع به، من كان له لب، ومارس شيئاً من العلم، وتعلم كيف تنتصب الأدلة، ويقوم عماد البرهان. فلنطو هذه الطومار إلى غيرها.

باب فيما أورده من لم يحتج بخبر الواحد ورد هذه الدعوى

باب فيما أورده من لم يحتج بخبر الواحد ورد هذه الدعوى أ - الأول: توقف النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قبول خبر ذي اليدين في أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين فقط، وهو يظن - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى أربعاً. وقد رد الأصوليون هذه الدعوى من أوجه متعددة، وأقوى الردود عليها، لم أر أحداً منهم ذكره. وهو: إن هذا الحديث حجة لنا في قبول خبر الواحد، لا علينا، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - قد صلّى فيما يحسب أنه صلى أربعاً. وأقل هذا الحسب منه - صلى الله عليه وسلم -، أو من غيره، إنما هو بمقام الرواية الواحدة، التي تفيد أن الركعات كانت أربعاً، - ومحل ذلك على القطع حيث لا شك في كونها أربعاً عند من صلاها - فإذا أخبرك مخبر بأنك صليت اثنتين، كان بمثابة روايتين متضادتين، والشرع والعقل يقضي في مثل هذا الموضع الترجيح، وله أحوال: الأول: إلغاء أحد الخبرين، وإعمال الآخر من غير دليل، ولا برهان. والثاني: انضمام قرينة أو شاهد آخر لأحد الخبرين ليكون أقوى من مضادِّه فيعمل به.

والأول باطل. أما الثاني فهو الذي عمل به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدل على أنه أقام شهادة ذي اليدين بمقام عمله هو - صلى الله عليه وسلم -، فهل يكون أبلغ من هذا الاحتجاج. ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - لما سأل أصحابه، فأخبروه خبر ذي اليدين، خلاف ما كان يظن أنه فعل، فترجح عنده أحد الخبرين على الآخر فعمل به. ولو أنه - صلى الله عليه وسلم - أبطل خبر ذي اليدين، ولم يره حجة، ولا ينتهض به دليل، لما جعله مساوياً لما عرفه هو - صلى الله عليه وسلم -، وطلب الترجيح. والله أعلم. ب - الثاني: ردُّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه خبر أبي موسى الأشعري أن الاستئذان ثلاث، حتى شهد له بذلك أبو سعيد، رضي الله عنهم. والجواب عنه كالأول، وذلك أن عمر رضي الله عنه كان كثير الدخول والاستئذان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نحواً من عشرين سنة، وهو في كل هذا لم يسمع خبر أبي موسى، فكان استقر عنده بما لا شك - خاصة فيمن عاش مدته تلك، ودخل مداخله - أن الاستئذان ليس فيه هذا الشرط، من وجوب الرجوع بعد الثلاث. فلما سمع خبر أبي موسى، تناقض عنده الأمران، خبره هو وخبر أبي موسى، فاستعان بمرجح لأحد الخبرين، فقام بذلك أبو سعيد، بل وغيره كما في السياق، فترجح خبر أبي موسى على ما علم عمر. سيما وقد وقع في لفظ للموطأ: " أما إني لم أتهمك ".

والذي يؤكد هذا الذي قضينا به، أن سائر الأخبار التي جاءت عن عمر قد رجع فيها القول بخبر الواحد دون إشهاد عليه من غيره، وذلك لأنه لم يكني له فيه خبر سمعه، أو علم ما قام مقام الخبر. وكذا ما لو خالف الخبر رأيه المستنبط، فإن عمر رضي الله عنه لم يطلب دليلاً على صحة الخبر من غيره، ما دام صدق ناقله. ومن أخبار عمر رضي الله عنه في الرجوع لخبر الواحد والعمل به على مثل ما وصفنا حوادث: أولها: أن عمر رضي الله عنه كان يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً، حتى أخبره الضحاك بن سفيان، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه، أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته. فرجع إليه عمر. ثانيها: أن عمر رضي الله عنه قال: أذكر الله امرءًا سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنين شيئا؟. فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين جارتين لي - يعني ضرتين - فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فألقت جنيناً ميتاً، فقضى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغرَّة عبد.

فقال عمر: لو لم أسمع فيه لقضينا بغيره. وفي رواية أخرى: " إن كدنا أن نقضي في مثل هذا برأينا ". وقد ذكر الإمام الشافعي رحمه الله تذييلاً على الحديثين هذين الآخرين في " اختلاف الحديث " ليس يكون أحسن منه فقال: وفي كل هذا دليل على أنه يقبل خبر الواحد، إذا كان صادقاً من أخبره، ولو جاز لأحد رد هذا بحال جاز لعمر بن الخطاب أن يقول للضحّاك: " أنت رجل من أهل نجد ". ولقال لحمل بن النابغة:

" أنت رجل من أهل تهامة ". وأنتما لم تريا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم تصحباه إلا قليلاً. ولم أزل معه ومن معي من المهاجرين والأنصار، فكيف غرب هذا عن جماعتنا وعلمته أنت. وأنت واحد يمكن فيك أن تغلط وتنسى. بل رأى الحق اتباعه، والرجوع عن رأيه، في ترك توريث المرأة من دية زوجها، وقضى في الجنين بما أعلم من حضر أنه لو لم يسمع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قضى فيه بغيره. ولكن الله تعبَّده والخلق بما شاء، على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكن له ولا لأحد إدخال: " لِمَ " ولا " كيف " ولا شيئاً من الرأي، على الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا رده على من يعرفه بالصدق في نفسه، وإن كان واحداً ". ثالثها: أن عمر رضي الله عنه رجع بالناس عن خبر عبد الرحمن بن عوف في طاعون عمواس. رابعها: أن عمر رضي الله عنه ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم، فقال له عبد الرحمن بن عوف أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب ".

وخامسها: أن عمر رضي الله عنه لم يأخذ الجزية من المجوس حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر، وأشياء أخرى عن عمر يطول ذكرها. ج - الثالث: رد عمر رضي الله عنه خبر فاطمة بنت قيس. والجواب عنه كالجواب عن سابقيه، وأنه حجة لنا في قبول خبر الواحد، لا علينا، يدل على ذلك لفظ الحديث عند الشيخين فعندهما: أن الشعبي حدّث بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، فأخذ الأسود بن يزيد كفاً من حصى، فحصبه به، وقال: ويلك تحدث بمثل هذا؟! قال عمر رضي الله عنه: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أم نسيت".

ففي قول عمر هذا رضي الله عنه، بيان واضح في قبوله خبر الآحاد، لأنه لم يعلل عدم أخذه بالحديث لأنه من رواية الآحاد، بل أعله بأنه شك في قدرتها على الضبط وحفظها، وهذا قول كل من يحتج بخبر الآحاد، فإن الشك في حفظ الراوي مع القطع بصدقه، يمنع وجوب العمل بالحديث المروي، وما زال أهل العلم بالحديث يعلّون الحديث أو يضعفونه بقولهم: " فيه فلان سيّء الحفظ " أو " تغير بآخره " أو " ربما تلقن " أو " في حفظه شيء " أو " ليس بالمتقن " أو نحو هذا العبارات التي تعلم بققة ضبط الناقل للخبر. ولم يرد عمر الخبر لأنه من رواية الآحاد كما هو بين. ثم عارضه عنده سنة، وخبر متواتر يشهد له عموم القرآن، فدل على هذا الذي حكيناه من العمل بترجيح أحد الخبرين على الآخر. فسبحان الله، وكيف يقال: رد عمر خبر الواحد، مع ما قرعنا به أسماع النافين من روايات القبول عنه له. وهذه الثلاثة التي ذكرناها هي أقوى ما استدل به أصحاب دعوى ترك الاحتجاج بخبر الواحد قد أبطلناها، وما دونها أوهى منها بكثير، وظاهرة الفساد والبطلان. وقد ذكر منها أشياء الرازي في " المحصول " وغيره، فمن شاء فلينظرها.

3 - ثالثها: القياس: قال الرازي في " المحصول ". " لو وجب في خبر الواحد أن لا يقبل، لما كان كون خبر الفاسق غير مقبول معلّلاً بكونه فاسقاً، لكنه معلّل به، فلم يجب في خبر الواحد أن لا يقبل، فإذا لم يجب أن لا يقبل، جاز قبوله في الجملة، وهو المقصود " انتهى. قلت: وهذا الذي ذكره مردود. وذلك أن الذي لا يجوز أن يرد في الجملة، جاز أن يرد في الانفراد بخلاف هذا الذي زعمه. فالشاهد الواحد في الزنى مردود الشهادة عند تفرده، ما لم يكن زوجاً ولاعن، وهو بعينه مقبول في الجملة مع ثلاثة مثله. وكذا القول في كل أنواع الشهادات التي يشترط فيها العدد، وحتى في تلك التي يمكن أن يقوم اليمين فيها مقام الشاهد. لكن الصواب في هذا أن يقع القياس على إرساله الآحاد إلى الآفاق مبلغين عنه في الجملة، بل ويمكن القياس على الرسالة نفسها له - صلى الله عليه وسلم -، وللأنبياء من قبله، فإن القبول في الأخذ عن الرسل لا يشترط فيه إلا صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغ عن ربه، سواء ظهر منه ما يؤكد نبوته من إخباره بالمغيبات، وقيامه بالمعجزات أم لا. ولذلك أسلمت خديجة رضي الله عنها، وأبو بكر وعلي رضي الله

عنهما، ولم يكونوا عهدوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من معجزاته ودلائل نبوته إلا الصدق وصالح السيرة التي عرفوه بها - صلى الله عليه وسلم -، وكذا سائر من أسلم ممن هو مثلهم. رضي الله عنهم أجمعين.

4 - رابعها: الإجماع: قال الشوكاني: " واستدلوا من الإجماع بإجماع الصحابة والتابعين على الاستدلال بخبر الواحد، وشاع ذلك وذاع، ولم ينكره أحد، ولو أنكره منكر لنقل إلينا، وذلك يوجب العلم العادي باتفاقهم كالقول الصريح ". قال ابن دقيق العيد: ومن تتبع أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين وجمهور الأمة ما عدا هذه الفرقة اليسيرة علم ذلك قطعاً ". انتهى. وقد أجاب الرازي عن هذه الطائفة اليسيرة التي عناها الشوكاني، وهو لا يعني بذلك شرح كلام الشوكاني قطعاً لأنه توفي قبل مولده بسنين فقال: " فأما قول المرتضى: إن النظام وجمعاً من شيوخ المعتزلة والقاشاني والإمامية ينكرون ذلك ويقسمون بالله: " إنهم لا يجدون علماً ولا ظناً ". قلنا: رواية المذاهب لا تجوز بالتشهي واليمين، والنظام ما أنكر ذلك، بل سلّم - يعني بإجماع الصحابة - إلا أنه قال: " إجماع الصحابة ليس بحجة ". . . وأما الإمامية فالإخباريون منهم - مع كثرة الشيعة في قديم الزمان - ما كانت إلا منهم فهم لا يعوّلون في أصول الدين فضلاً عن فروعه إلا على الأخبار التي يروونها عن أئمتهم.

وأما الأصوليون، فأبو جعفر الطوسي وافقنا على ذلك، فلم يبق من فيه ينكر العلم هذا إلا المرتضى، مع قليل من أتباعه. فلا يستجعد اتفاق مثل هذا الجمع على المكابرة في الضروريات. ومما يحقق ذلك أنه قال: " إنهم يقسمون بالله على أنهم لا يعلمون، بل ولا يظنون ". ونحن نعلم بالضرورة أن هذه الروايات، وإن تقاصرت على العلم إلا أنها ما تقاصرت عن الظن، فعلمنا أن غرض المرتضى مما ذكر محض المكابرة ". انتهى. قلت: فقد رأى غير واحد من القائلين بصحة دليل الإجماع في هذه المسألة وقيامه وحصوله أنه حاصل من هذا الباب المتقدم، وهو عدم معرفة مخالف من الصحابة في ذلك، فقرروه بمسألة نفي الضد. ورأى غير واحد منهم أن المسألة مقررة بما جاء يوم سقيفة بني ساعدة، لما احتج أبو بكر رضي الله عنه على الأنصار بقوله عليه الصلاة والسلام: " الأئمة من قريش " مع أنه مخصص لعموم قوله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) " فقبلوه، ولم ينكر عليه أحد، فإن كتب السيرة قد تظاهرت بهذا الخبر. ولم يقل له أحد: كيف تحتج علينا بخبر لا نقطع بصحته. فلما لم يقل أحد منهم ذلك، علمنا أن ذلك كان كالأصل المقرر عندهم. وعلى الجملة فكما قال الشوكاني: " ولم يأت من خالف في العمل بخبر الواحد بشيء يصلح للتمسك به،

ومن تتبع عمل الصحابة وغيرهم وعمل التابعين فتابعيهم بأخبار الآحاد وجد ذلك في غاية الكثرة، بحيث لا يتسع له إلا مصنف بسيط ". وإذا وقع في بعضهم التردد في العمل به في بعض الأحوال فذلك لأسباب خارجة عن كونه خبر واحد، من ريبة في الصحة أو تهمة في الراوي، أو وجود معارض راجح أو نحو ذلك ". وهذا آخر ما أردنا حكايته والحمد لله.

الفصل الرابع: في بيان الشروط التي ذكرها أهل العلم للعمل بخبر الواحد

الفصل الرابع: في بيان الشروط التي ذكرها أهل العلم للعمل بخبر الواحد اعلم رحمك الله، وفتح عليك أنواع المعارف، أن أهل العلم قد ذهبوا مذاهب، وسلكوا مسالك، ووصفوا شرائط للعمل بخبر الواحد. وهذه الشروط لمن تأملها تنقسم إلى نوعين، نوع يدخل في أصول علم الحديث، وآخر في أصول الفقه. والحق أن النوع الأول المذكور في مصطلح الحديث، ليس من مباحث أصول الفقه أصلاً، وليس هو من أبوابه. ولذلك تجد المصنفين في الأصول مضطربين في ذكر هذا النوع الأول، الذي يجعلونه في مباحث شروط الراوي للخبر. كاشتراطهم فيه: أ - الإسلام. ب - والبلوغ. خ - والعدالة. د - والصدق. هـ - والضبط والإتقان. و- وأن لا يكون فاسقاً.

ز - ولا مبتدعاً. ح - ولا متساهلاً في الرواية. ط - ولا مشهوراً بجرح. ي - ولا مدلساً. أو كالذي يذكرونه من مباحث: أ - عدد المزكين له. ب - وتعارض الجرح والتعديل. ج - وإتقان العربية. د - وروايته للخبر الواحد، لا يعرف له غيره. هـ - وألفاظ التحمل في الرواية. وغير ذلك من المباحث التي يطرقونها في هذا الباب. فترى كلاً منهم يقتصر من هذه المباحث على بعض دون بعض، ويشترط من ذلك أشياء دون أخرى، ومنهم من لا يطرق شيئاً من ذلك أصلاً. ونحن لم نطرق شيئاً من مباحث هذه الأبواب، لأننا رأيناه من غير مبحثنا، ولا قصدنا، ولمعرفتنا بأن الخوض في مثل هذا يوجب استيعاب سائر علم مصطلح الحديث وقواعده ومباحثه، وإلا فلا معنى لبحث بعض فصوله دون الأخرى، ولأننا قد سلمنا أصلاً، وقلنا بالشرط الأول للعمل بالحديث وهو الصحة أو الحسن، وهذا مشتمل على سائر هذه المباحث وغيرها، مما تقتضيه سائر شروط تصحيح الحديث وتحسينه المقررة في أصول الحديث. وسائر الأصوليين مقلّدون لأئمة الحديث في الحكم على صحة النص، فلا معنى لاشتراط الشرائط المنقوصة عليهم، وما هم ليسوا له بمحققين.

فأهل الأصول وإن اشترطوا الإسلام أو البلوغ أو العدالة أو غير ذلك من الشرائط المتوجبة في الراوي، فإنهم غير قادرين على إثباتها فيه إلا عن طريق أهل الحديث والخبر، فهم مقلدون لهم فيه أولاً وآخراً. والقول بعدالة الراوي وصدقه إنما مردها لأئمة أهل الحديث أهل الجرح والتعديل، ولا دخل للفقهاء والأصوليين فيه، وقصارى أمرهم أن يجتهدوا في الترجيح بين ألفاظ أهل الجرح والتعديل، ومعرفة مرادهم الذي حكوه في هذه الألفاظ، التي توجب التحري الواسع في تحديد مقاصدهم. فهذا ابن سيرين يقول في رجل: " هو كما يعلم الله "، ويقول في آخر: " هو كما يشاء الله "، فإذا هو قد جرح الأول وعدّل الثاني. وهذا البخاري الإمام يقول في الرجل: " فيه نظر " فاختلف الناس في مراده بهذا، وما يزالون مختلفين إلى الساعة، ونحو هذا أشياء. ومعرفة علل الحديث قام بها أطباء هذا العلم وجهابذته، قد اقتصرت عليهم، بل وغاب الدليل على معرفتها عندنا في غير حديث، بل في جملة وافرة، وما حرر أحد في شيء من قواعدها، ولا يمكن أن يحرر، ومعرفة ذلك كما قال بعض السلف: يحسبها الجاهل كهانة، فإذا رأيت الاثنين والثلاثة والأربعة يعلّون هذا الحديث الواحد بالعلة الواحدة، التي لا تراها، علمت أنهم إنما يعلون بالموجود الواقع. والحاصل أن مثل هذا في الحكم على الأحاديث يطول ذكره، وهو مسلّم لأهله، فلنبدأ الشروع في النوع الآخر الذي هو من مقاصد هذا الكتاب، وفيه شروط:

1 - الشرط الأول: في عدم عمل الراوي بخلاف ما يرويه: أ - في بيان قصدهم بالراوي: والذي عناه الأصوليون بقولهم " الراوي " إنما هو الصحابي راوي الخبر، لا من دونه في السند، فإنه لا عبرة بعمله بخلاف الحديث. وهذا الحصر لا بد منه، ما دام المسندون للحديث لا ينقطعون إلى قيام الساعة، فالقول بغير هذا يقضي إلى أن كل الأحاديث قد تبطل حجتها إن لم نقل بهذا التقييد. ب - في القائلين بهذا الشرط: وهذا الشرط قد قال به الحنفية إلا قليلاً منهم وخالفهم سائر الأصوليين فيه. ج - في ذكر ما احتجوا به ومناقشتهم، وبيان ضعف دليلهم. واحتجوا فقالوا: لما كان الصحابي راوي الخبر قد شاهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان أعرف بمقاصده، وما كان له أن يخالف الذي رواه إلا وهو له ما يعتمد عليه. والجواب عنه هذا: إن المقتضي للعمل الذي هو الخبر المروي قائم صحيح، والمعارض الموجود من مخالفة الراوي أمر محتمل، لأنه قد يكون تمسك بالمخالفة بما

ظنه دليلاً، مع أنه ليس كذلك، أو كان يكون نسي ما رواه، فلا يصلح هذا أن يكون معارضاً. فإن قلت: إن الظاهر من دينه أنه لا يخالف إلا لدليل. قلنا: نعم، إن دينه يمنعه عن الخطأ العمد، لا عن السهو وما ليس بعمد، والمرء يصيب ويخطئ، فلما لم يتبين لنا وجه دليله، لم يكن عندنا من العلم، ونحن مطالبون بما بلغنا من العلم المقطوع بنسبته للشارع، لا بالمظنون، وما قد لا يكون حجة أصلاً. ومثال هذا الشرط: ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب " وله ألفاظ أخرى كثيرة. وأخرج الدارقطني عن أبي هريرة موقوفاً، وكذا الطحاوي، أنه كان يغسل من ولوغه ثلاث مرات. فحمل الحنفية رواية السبع على الاستحباب، والثلاث على الوجوب. وقد تعقب عليهم في هذا الفرع بالذي تعقبناهم به في الأصل، فقال الحافظ ابن حجر في " الفتح ": وأما الحنفية فلم يقولوا بوجوب السبع، ولا التتريب، واعتذر الطحاوي وغيره عنهم بأمور منها، كون أبي هريرة راويه أفتى بثلاث

غسلات، فثبت بذلك نسخ السبع، وتعقب بأنه يحتمل أن يكون أفتى بذلك - أو فعله - لاعتقاده ندبية السبع لا وجوبها، أو كان نسي ما رواه، ومع الاحتمال لا يثبت النسخ، وأيضاً فقد ثبت أنه أفتى بالغسل سبعاً، ورواية من روى عنه موافقة فتياه لروايته أرجح من رواية من روى عنه مخالفتها، من حيث الإسناد، ومن حيث النظر. أما النظر فظاهر، وأما الإسناد فالموافقة وردت من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عنه، وهذا من أصح الأسانيد وأما المخالفة فمن رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عنه، وهو دون الأول في القوة بكثير ... " انتهى. وقد أوردت هذه التتمة الباقية للحافظ في هذه المسألة للإشارة إلى أن الفتوى أو العمل المنقول عن الراوي في مخالفة الخبر، قد يكون له مخالف آخر للفتوى، وموافقة للخبر، في رواية موقوفة عنه أخرى، لم تبلغنا. وهذا جائز جداً، لأن فتاوى الصحابة لا تتطلب، ولا يحرص على نقلها، كما هو الحال في رواية الخبر المرفوع، فأبطلنا العمل بعمل الصحابي أو فتواه المخالفة لما روى لأجل هذه العلة الثالثة المحتملة. فإن قلت: قد يكون - صلى الله عليه وسلم - قال وفق فتوى الصاحب أو عمله أيضاً ولم يقع ذلك في النقل عنه - صلى الله عليه وسلم -، كما هو على ما احتملت في محل الصاحب. قلنا: هو احتمال مردود، لأن النصوص عن الشارع قد ضمن حفظها وبقاؤها في سائر العصور كما هو مقرر، بخلاف عمل الراوي فإنه ليس كذلك، فوقع الاحتمال في فتوى الراوي، وبطل في الثاني. فوجود هذه الاحتمالات غير المدفوعة يبطل هذا الاستدلال، لما تقرر عند أهل العلم أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل في الاستدلال. والله أعلم.

2 - الشرط الثاني: أن لا يكون الحديث مما تعم به البلوى، ويكثر وقوعه: أ - في بيان مقصدهم: فمرادهم أن حديث الواحد يجب أن لا يكون موضوعه فيما يتكرر حدوثه، وتعمّ به البلوى، إذ أن ما يكون كذلك فالواجب إتيان الحكم فيه عن طريق التواتر أو الشهرة لا الآحاد، لأن الدواعي متوفرة على نقله، فحيث انفرد به الواحد، دل على شك في صحة ذلك، ومثله لو كان الحادث في الخبر المهم. كما لو انفرد الواحد بنقل قتل أمير البلد في السوق بمشهد من الخلق، أو طروء حادثة في البلاد منعت من إقامة صلاة الجمعة. ومثال الذي تعم به البلوى كخبر أبي هريرة في غسل اليدين عند القيام من نوم الليل، وخبره في رفع اليدين في الركوع ". ونحو هذا. فإنهم قالوا: لا يعمل بخبر الواحد في مثل هذه الوقائع بهذه الأحكام المروية آحاداً. ب - في ذكر القائلين بهذا الشرط: وقد تفرد الحنفية من بين المذاهب بالقول بهذا الشرط ج - بيان ما احتجوا به، وفساد احتجاجهم:

قالوا: إن ما تعم به البلوى، أو يجب اشتهاره وإشاعته، لا يمكن أن يقتصر به على رواية الآحاد، أو مخاطبته - صلى الله عليه وسلم - للآحاد به، بل يلقيه على عدد متواقر مبالغة في إشاعته ونشره، لكثرة الحاجة إليه، فحيث لم ينقله لنا سوى الواحد دل على كذبه!! فالوضوء من مس الذكر مما يتكرر في كل وقت، فلو كانت الطهارة تنتقض به، لوجب إشاعته في الرواية. والجواب عن ما زعموه حجة وليس كذلك من أربعة أوجه: أ - الأول: عن طريق النص: وقد قدمنا من النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة قبل عند ذكر دليل الاحتجاج بخبر الواحد، ولم يقع التفريق في واحد من هذه النصوص بين ما تعم به البلوى، وبين ما لا تعم، فقامت الحجة بخلاف هذا الشرط، إذ أن المقرر عند علماء الأصول وسائر أهل العلم قاطبة أن التخصيص لا يكون إلا بدليل نص، وهو هنا مفقود، كما هو في مسألة الإطلاق، فإن التقييد لا يكون إلا بما هو مثل حكم الإطلاق. فالاستدلال بالمعقول في معارضة المنقول باطل، لأن أحسن أحوال المعقول أن يكون معروفاً بالقياس الجلي، والقياس الجلي أو غيره لا يمكن له أن يدفع النصوص أو يخصصها أو يقيدها، لأن القياس باطل في معرض النص، فتبين أن دلالة النص على العموم أقوى من القياس القاضي بالتخصيص. وهذا القول يفضي للإجابة على شرط آخر قال به بعض الناس وهو أن لا يخالف الخبر القياس، على ما سيأتي بيانه والجواب عنه إن شاء الله تعالى في الشرط التالي. ب - الثاني: عن طريق الحوادث التي بلغتنا في العمل من الصحابة

بهذه الأخبار دون اعتبار الشرط المذكور. وبعض أهل العلم يجعل الإجماع قائماً بين الصحابة في هذا، فيحتج بالإجماع. أقول: وحيث أن المخاطب بهذا الرد هم الحنفية، وهم يحتجون بخبر الآحاد من حيث الأصل فإن الواجب عليهم التسليم إن صحت هذه الأخبار، لا إلزاماً بالحكم بالقضية الواردة في خبر الواحد هذا، ولكن ببيان أن الصحابة عملوا بالخبر دون اعتبار هذا الشرط، ثم يكون إلزامهم من بعد بترك الشرط، والعمل بهذه الأخبار. فمن ذلك حديث رافع بن خديج في المزارعة عند الشيخين وغيرهما. ففي رواية عند الشيخين: أن ابن عمر كان يكري مزارعه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي إمارة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وصدراً من خلافة معاوية، حتى بلغه في آخر خلافة معاوية أن رافع بن خديج يحدث فيها بنهي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدخل عليه وأنا معه، فسأله، فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كراء المزارع، فتركها ابن عمر، وكان إذا سئل عنها بعد قال: زعم ابن خديج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها. وفي رواية لمسلم: " كنا لا نرى بالخبر بأساً، حتى كان عام أول فزعم رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه فتركناه من أجله ". وللحديث ألفاظ كثيرة جداً يطول ذكرها. فها هو ابن عمر وغيره - كما في اللفظ الآخر - يرجعون لخبر الواحد في الأمر الذي تعم به البلوى، هذا مع كونهم كانوا قبل معرفته على خبر آخر، وهو نقيضه.

فكيف لو لم يكونوا على خبر أصلاً. ومن ذلك حديث تحويل القبلة الذي قدمناه في دليل الاحتجاج بخبر الواحد. وكذا حديث توريث الجدة الذي رجع له أبو بكر وعمر، وذلك فيما رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في " صحيحه "، والحاكم، من حديث قبيصة بن ذؤيب، أنه قال: " جاءت الجدة إلى أبي بكر تسأله ميراثها، فقال: " مالك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً، فارجعي حتى أسأل الناس ". فسأل الناس. فقال المغيرة بن شعبة: " حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس ". فقال أبو بكر: " هل معك غيرك ". فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة. فأنفده لها أبو بكر. قال: ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر فسألته ميراثها، فقال: مالك في كتاب الله شيء ولكن هو ذاك السدس فإن اجتمعتما فهو بينكما، وأيتكما خلت به فهو لها ".

والحاصل أن في الباب أمثلة غير قليلة تتطلب من مظانها. ج - الثالث عن طريق المعقول. وهو وجهان: أحدهما: أن الراوي عدل ثقة، وهو جازم بالرواية فيما يمكن فيه صدقه، وذلك يغلب على الظن صدقه، فوجب التصديق كخبره الذي لا تعم به البلوى. ثانيهما: أن العمل بالقياس صحيح في المسائل التي تعم بها البلوى، فكان إعمال النص فيها أولى من إعمال القياس، على فرض وقوع مسألة قياسية في مثل هذه المسائل. وبعض الفقهاء يعبر عن هذا الوجه بقوله: " أنه يغلب على الظن صدق خبر الواحد، فكان الواجب الاتباع كالقياس. لأن المسألة ظنية، فكان الظن فيها حجة ".

د - الرابع عن طريق الإلزام: فإنه لما كان الحنفية هم القائلون بهذا، كان يلزمهم أن لا يقولوا بحديث مسح الرقبة في الوضوء، ولا بالقهقهة في الصلاة أنها تبطل الوضوء، ولا بوجوب الغسل من غسل الميت، ولا بحديث إفراد الإقامة، وغيرها، وقد جاءت هذه الأحاديث آحاداً، بل وكثير منها ضعيف مع إفراده، كحديث مسح الرقبة، والقهقهة، وغير ذلك. فلما قال الحنفية بمثل هذه الأحاديث الآحادية الضعيفة الإسناد، لزمهم أن يقبلوا خبر الواحد من غير شرطهم هذا.

3 - الشرط الثالث: في عدم مخالفة الخبر للقياس: أ - بيان ذكر القائلين بهذا الشرط، وبيان مقاصدهم في ذلك: اعلم رحمك الله أن الفقهاء يعنون بالمخالفة تفصيلات وأموراً: الأول: أن يكون كل من الخبرين معارضاً للآخر معارضة تامة من كل وجه، كأن يكون أحدهما مثبتاً لحكم والآخر نافياً، أو كان يكون الخبر محللاً، والقياس محرماً، أو العكس. فذهب الإمام الشافعي وأحمد بن حنبل وجمهور العلماء إلى تقديم النص على القياس، وهو مذهب أبي حنيفة على كل حال وكذا من تقدم. وذهب بعض المالكية إلى تقديم القياس. وقال عيسى بن أبان الحنفي: إذا كان الراوي ضابطاً عالماً غير متساهل فيما يرويه، قدم خبره على القياس، وإلا فهو موضع اجتهاد. وكذا فرق بعض الحنفية بين الحديث الذي رواه الفقيه، وبين الذي لا يرويه الفقيه.

الثاني: في علة القياس: فقال أبو الحسين البصري: علّة القياس الجامعة إما أن تكون منصوصة أو مستنبطة: فإن كانت منصوصة، فالنص عليها - يعني أنه يقدم القياس - لأنه إما أن يكون مقطوعاً به أو غير مقطوع. فإن كان مقطوعاً به، وتعذر الجمع بينهما، وجب العمل بالعلة، لأن النص على العلة، كالنص على حكمها، وهو مقطوع به، وخبر الواحد مظنون، فكانت مقدّمة. وأما إن لم يكن النص على العلة مقطوعاً به، ولا حكمها في الأصل مقطوعاً به، فيجب الرجوع إلى خبر الواحد لاستواء النصين في الظن، أو اختصاص خبر الواحد بالدلالة على الحكم بصريحه من غير واسطة، بخلاف النص الدال على العلّة، فإنه يدل على الحكم بواسطة العلة. وأما إن كان حكمهما ثابتاً قطعاً فذلك موضع الاجتهاد. وأما إن كانت العلة مستنبطة فحكم الأصل إما أن يكون ثابتاً بخبر الواحد أو بدليل مقطوع به، فإن كان ثابتاً بخبر واحد، فالأخذ بالخبر الأولى، وإن كان ثابتاً قطعاً فينبغي أن يكون هذا موضع الاختلاف بين الناس " انتهى. فمعنى قوله أنه يجتهد في هذا الأخير. وتوقف القاضي أبو بكر الباقلاني. وقال أبو الحسين الصيمري: لا خلاف في العلة المنصوص عليها وإنما الخلاف في المستنبطة.

قلت: كذا قال، وهو مردود بما قدمنا. الثالث: أن يكون أحد الخبرين مخصصاً للآخر. واختلافهم في هذا يشبه اختلافهم في الأول. الرابع: في القياس الظني والقياس القطعي. وهو يشبه الثاني، لكن لما كان بعضهم يطلق هذه التسمية دون الأخرى أفردناها هنا. فيمكن مراجعة أقوالهم هناك. ويزاد هنا قول أبي بكر الأبهري الذي قال: إن كانت المقدمات قطعية قدم القياس، وإن كانت ظنية قدم الخبر. ب - بيان فساد الشرط المذكور. وهو مردود بوجهين نقلي وعقلي: أما الوجه النقلي: فإن فيه أحاديثاً كثيرة جدا قد تقدم منها بعضها، كما في تصريح عمر برد الرأي وتركه عند وجود النص، وكذا غيره ممن قدمنا ذكرهم. وهذا إنما أخذه عمر وغيره من قول الله تعالى، وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فأما في كتاب الله تعالى ففيه قوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ). وقوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ).

وقوله تعالى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ). وقوله: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ). وهذا الأمر في نحو من بضعة وثلاثين قولاً في كتاب الله تعالى. وقال تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ). ففي هذه الآيات وغيرها كثير، تقديم النظر في أمر الله ورسوله من النصوص، ولا يجوز النظر للمسألة بالرأي والقياس، في مسألة جاء الحديث نصاً فيها. ولذلك أجمع الفقهاء على بطلان القياس في معرض النص، فلم يعد للاستثناء لهذا الآحاد من جملة هذه الأحاديث معنى، ولا دليل، ما دامت قد ثبتت لها الصحة. إنما القياس كما قال بعض السلف كالميتة، لا يعمل به إلا عند الاضطرار. ولذلك مدح الله تعالى مطيعي الرسول، وذم مخالفيه وتوعدهم فقال جل ذكره: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. . .). وقال: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115).

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ. . .). وأي خيانة أعظم من مخالفة أمره الثابت الصريح عنه. الذي بلغ به عن ربه عظم عزه. وقد قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا). والعمل على غير حكمه باطل، كما قال تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33). والآيات في هذا المعنى من الكتاب كثيرة جداً. وأما ما جاء من هذا في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فأشهره حديث معاذ قال: يا رسول الله، بم أقضي؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم أجد؟ قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم أجد؟ قال: استدق الدنيا، وتعظم في عينيك ما عند الله، واجتهد رأيك فيسددك الله للحق ". وله ألفاظ أخرى بنحو هذا.

وقد تنازع الناس في صحة هذا الخبر. والذي قدمناه يستغني به عن هذا الخبر، وعن مؤونه الجزم بصحته.

فإن قال قائل: نحن نقر بجميع هذا الذي ذكرت، ولكن لا نسلم بأن القياس الذي حكمنا به ليس هو من العمل بالسنة لأنه آتٍ منها. فإن الجواب ها هنا هو الوجه العقلي. ذكر الوجه العقلي: إن الخبر يحتاج إلى النظر في ثلاثة أمور: أ - صحة الحديث ومتعلقات ذلك. ب - دلالة الخبر على الحكم. ج - توفر شروط العمل به - عند من له شرط لذلك -. وأما القياس فيحتاج إلى النظر في سبعة أمور: أ - منها الثلاثة الأول. ب - إمكان تعليل الحكم في الأصل ووصف التعليل. ج - نفي المعارض له في الأصل. د - وجود العلة في الفرع. هـ - نفي المعارض في الفرع. ومعلوم عقلاً أن ما يفتقر في دلالته إلى النظر في ثلاثة أمور لا غير، أيسر في الضبط والإتقان، وأبعد عن الخطأ عما يحتاج النظر فيه من سبعة أوجه.

ولتأكيد هذا الذي حكمنا به، نورد ما سقط فيه القياسيون من التناقضات والأخطاء، وبيان ما قالوه في بعض الأحكام الثابتة: إنه مخالف للقياس مع حكمهم بهذه الأحكام!!. " ملحق أول " في تناقض القياسيين في أصول القياس: فإن الواجب معرفته هنا أن القياسيين قد اضطربوا في تحديد المقبول من أنواع القياس وأسسه، مما يدل على انتفاء الضبط، وقلة الاحتياط. فغلاة الفقهاء يحتجون بقياس العلة،، وقياس الدلالة، وقياس الشبه، وقياس الطرد، مما أدى بهم إلى مخالفة سائر الفقهاء في أحكام لم يتنازع فيها غيرهم، كمسألة التطهر بالمائعات. وطائفة يحتجون بالثلاثة الأول حسب. ثم إن القائلين بقياس العلة اختلفوا أيضاً: فطائفة لا تثبت العلة إلا بالنص. وأخرى تثبتها بالنص والنظر. ثم اختلف القياسيون بمحل القياس. فقالت طائفة: لا يثبت القياس في الأسماء.

وقالت أخرى: بلى هو ثابت. ثم اختلفوا في تحديد مناطه. فأجراه جمهورهم ولم يقيد. واستثنت طائفة الحدود والكفارات فقط. وثالثة منعت منهما مع الأسباب. (ملحق آخر) في تناقض القياسيين في مسائل مخصوصة. فقد أجاز الحنفية الوضوء بنبيذ التمر، وقاسوا في أحد القولين عليه سائر الأنبذة، وفي القول الآخر لم يقيسوا عليه. فإن كان صح قياسهم، فلم تركوه في القول الآخر. وإن كان باطلاً فلم أعملوه في القول الأول. وفي مسألة الطهارة من سؤر الكلب. منعت طائفة من القياس على الكلب. وطائفة قاست عليه الخنزير وحده. وثالثة قاست عليه البغل والحمار! أفصح القياس أم لا؟! أم كيف يصح قياس الخنزير دون الذئب!! وكيف صح قياس بعض ما هو أدنى منهما دون بعض!! وتناقضوا في مسألة العمد والنسيان فقاسوهما في الصلاة على بعضهما، وتركوا قياسهما في الصوم وترك التسمية على الذبيحة، بل وعلى آخر الصلاة!!

فكيف صح لهم قياسهم في أول الصلاة، ثم لم يصح معهم في آخرها، فأبطلوه!! محتجين على الفارق بخبر واهٍ، مخالف للأحاديث الصحيحة الصريحة التي جعلت تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم. فواعجبي من اشتراط هؤلاء الشروط للحديث الصحيح الصريح، وترك قبول الأساطين، مع تلقفهم واهي المنقول، وسفساف ما ينسب للعقول، وما هو منها!!. وقد ذكر الشيخ ابن القيم رحمه الله في " الأعلام " أشياء من هذا كثيرةً جداً نحيل عليها.

4 - الشرط الرابع: في وجوب عرض الخبر على الكتاب: قد ذكر هذا الشرط بعض من صنف في الأصول، دون أكثرهم. والصواب إهمال ذكره هنا، كما هو فعل الأكثر، لأنه ليس من مباحث قبول خبر الآحاد كما هو ظاهر. فإن الواجب في كل حديث عرضه على النصوص الثابتة في المسألة من الكتاب أو السنة الصحيحة. فإن كان للخبر مثله فعندها تصير المسألة في إحدى هذه المباحث. أ - الناسخ والمنسوخ. ب - العام والخاص. ج - المطلق والمقيد. د - تحقيق المناط أو تنقيحه. ويزاد على هذا إن كان النص الآخر من القرآن مسألة جواز نسخ القرآن أو تخصيصه أو تقييده بالسنة أم لا، كما هو مذكور في مسائل القرآن العظيم. فبهذا يعرف أن الشرط المحكي ليس من مباحثنا. ولكن نبهنا عليه.

5 - الشرط الخامس: أن لا يخالف عمل أهل المدينة: أ - المقصود بعمل أهل المدينة: اعلم رحمك الله ووفقك أن المقصود بعمل أهل المدينة أنواع وأقسام، يدخل بعضها في بعض، وأنه لا يصح إطلاق هذه الأنواع دون تبيينها لمعرفة مذاهب الناس في قبولها واعتبارها، أو تركها وإهمالها. فوجب من هذا، التعريف بأن عمل أهل المدينة على أربع مراتب: أ - المرتبة الأولى: في المنقول طبقة بعد طبقة، من العلماء والعوام، ولا يعرف له مخالف بينهم عمل بخلافه. 2 - المرتبة الثانية: العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه. 3 - المرتبة الثالثة: العمل الجاري في المدينة ساعة طلب الحكم، الذي تعارض فيه دليلان أو شبههما. 4 - المرتبة الرابعة: العمل المتأخر بالمدينة. ب - بيان ذكر من احتج بعمل أهل المدينة: أما المرتبة الأولى فإن المشهور بين العلماء قبولها كما أطلق شيخ الإسلام في " صحة أصول مذهب أهل المدينة " وقال: هو حجة باتفاق!!

وهذا الإطلاق منه عجيب جداً، لأنه لا يعدو كونه إجماعاً لأهل المدينة، والمعلوم عند سائر علماء الأصول أن إجماع أهل المدينة ليس بحجة عند الجمهور إلا المالكية الذين قالوا به. حتى قال الشافعي في " اختلاف الحديث ": قال بعض أصحابنا: إنه حجة، وما سمعت أحداً ذكر قوله إلا عابه، وإن ذلك عندي معيب. وقال الجرجاني: " إنما أراد مالك بالإجماع الفقهاء السبعة وحدهم ". والذي أراه أن الإتفاق الذي أورده شيخ الإسلام ابن تيمية، إنما هو صحيح فيما لو اقتصر على مسائل مخصوصة كالحكم في المقادير المنسوبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - عندهم في معرفة مقدار المد والصاع ونحوهما، أو كمعرفة حدود مسجده، وروضته، ومكان المنبر، والأذان، وأشياء من هذا مخصوصة، فإنه لم يذكر تحت هذا الباب إلا مسألة الصاع والمد، ومسألة صدقة الخضروات، وتعريف أحباس بعض الصحابة. فهذا الذي من الواجب حصر كلامه فيه، حتى لا يلزم الخطأ. وقد بسطت القول على معرفة المراد من إجماع أهل المدينة في أول " تقريب المدارك " بما لا يوجد في غيره. وأما المرتبة الثانية: فهي حجة في مذهب مالك، وهو المنصوص عن الشافعي كما يذكر

ابن تيمية رحمه الله، ويقول: قال الشافعي في رواية يونس بن عبد الأعلى: إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء، فلا يدخل في قلبك شك أنه الحق. قال شيخ الإسلام: وكذا ظاهر مذهب أحمد أن ما سنَّه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعها، وقال أحمد: كل بيعة بالمدينة فهي خلافة نبوة. ثم قال شيخ الإسلام: والمحكي عن أبي حنيفة يقتضي أن قول الخلفاء الراشدين حجة. وانتهى. قلت: لكن الواجب هنا التفرقة بين احتجاج مالك والشافعي، واحتجاج أحمد وأبي حنيفة، فالأولان أرادا عمل أهل المدينة، والآخران أراد عمل الخلفاء. هذا وليعلم أنه قد خالفهم من أتباعهم في هذا غير قليل. وأما المرتبة الثالثة: فقد ذهب مالك والشافعي، إلى جواز الترجيح بها، ومنع من ذلك أبو حنيفة، واختلف فيه أصحاب أحمد على الوجهين. وأما المرتبة الرابعة: فلم يجعلها أحد من أهل العلم حجة شرعية، إلا ما ذكر عن بعض أهل المغرب من المالكية، وإلا فإنه لا يحتج أحد من أصحاب المذاهب الأربعة ولا أتباعهم بها إلا من ذكر.

وذلك لأن القول بهذه المرتبة يفضي لحمل سائر الناس، على مذهب أهل المدينة في سائر المسائل. وهو محال. استلحاق: والحاصل أن المرتبة الأولى يمكن إحالتها على مسائل الإجماع، وأن الثانية لا أثر لها لأنه لا يكاد يعرف عمل قديم لأهل المدينة قد عمله الخلفاء وهو مخالف للسنة، وأن الثالثة، لم تعد حجة بذاتها، ويكون العمل للخبر، وأن الرابعة غير معتبرة. فلم يعد عندنا من شرط واجب الحصول في هذا الباب، فليتأمل. ولذلك تركنا ذكر الدليل والجواب عنه. والله أعلم.

6 - الشرط السادس: أن لا ينكر الشيخ رواية الفرع عنه: وظاهر هذا الشرط أنه من مسائل أصول مصطلح الحديث، لكنه غير مذكور في مصنفاتهم الحديثية الاصطلاحية عند أكثرهم، والصواب ذكره. أ - بيان هذا الشرط وذكر القائلين به: فصورة هذا الشرط أن يتحدث الشيخ بالحديث، ثم يسمع من حدثه يحدث به عنه، فيزعم أنه ما حدث به، منكراً أو جاحداً، أو مكذباً، أو ناسياً، أو متوقفاً، أو محتملاً. ومذهب مالك والشافعي وأحمد فيه - في أصح الروايتين عنه - ومذهب أكثر المتكلمين جواز العمل بالحديث، وعدم اعتبار هذا الشرط للعمل بالخبر. خلافاً للكرخي وجماعة من أصحاب أبي حنيفة، وبعض أصحاب أحمد. هذا في الصورة الغالبة كما سيأتي. ب - بيان أن ليس للقائلين بالشرط حجة، وأن الحجة مع من خالفهم: قال الشيخ الآمدي في " الإحكام ": الإنكار لا يخلو، إما أن يكون إنكار جحود وتكذيب للفرع، أو إنكار نسيان وتوقف. فإن كان الأول فلا خلاف في امتناع العمل بالخبر - لأن كل واحد منهما مكذب للآخر فيما يدعيه، ولا بد من كذب أحدهما، وهو موجب

للقدح في الحديث، غير أن ذلك لا يوجب جرح واحدٍ منهما على اليقين، لأن كل واحد منهما عدل، وقد وقع الشك في كذبه والأصل العدالة، فلا تترك بالشك. وتظهر فائدة ذلك في قبول رواية كل واحدٍ منهما في غير ذلك الخبر - وهذا نادر جدا - وأما إن كان الثاني فاختلفوا فيه - على ما تقدم، وهو الموجود -. ودليل الجواز: الإجماع والمعقول: أما الإجماع فما روي أن ربيعة بن عبد الرحمن روى عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قضى باليمين مع الشاهد. ثم نسيه سهيل، فكان يقول: حدثني ربيعة عني أني حدثته عن أبي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. . . الحديث. ولم ينكر عليه أحد من التابعين ذلك. فكان إجماعاً منهم على جوازه ". انتهى. قلت: حكاية الإجماع هذه فيها نظر بين، لأنه قد لا يكون بلغ هذا جميعهم، أو أنه بلغ بعضهم فأنكره، ولم يبلغنا إنكاره. ثم هو على مذهب: " لا ينسب لساكت قول " غير معتبر أصلاً في الإجماع، إلا أنه مفيد الراوي وشيخه ومن دونهما، ومن أورد الخبر من الأئمة ورواه أنه مقبول عندهم، وهذا مهم جداً، لكثرة من أخرج هذا الخبر. وأما المعقول فمن وجهين: الأول: أن الفرع عدل، وهو جازم بروايته عن الأصل غير مكذب له، وهما عدلان، فوجب قبول الرواية والعمل بها.

الثاني: أن نسيان الأصل لا يزيد على موته وجنونه، ولو مات أو جنّ، كانت رواية الفرع عنه مقبولة ويجب العمل بها إجماعاً، فكذلك إذا نسي. فإن قيل: أما الاستدلال بقضية ربيعة، فلا حجة فيها لاحتمال أن سهيلاً ذكر الرواية برواية ربيعة عنه، ومع الذكر فالرواية تكون مقبولة. ثم هو معارض بما روي أن عمار بن ياسر قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: أما تذكر يا أمير المؤمنين لما كنا في الإبل، فأجنبت فتمعكت في التراب، ثم سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنما يكفيك أن تضرب. . . فلم يقبل عمر من عمار ما رواه، مع كونه عدلاً عنده. فالجواب عن قولهم إن سهيلاً ذكر الرواية. أنه لو كان كذلك لانطوى ذكر ربيعة، ولذكر الحديث عن أبيه عن أبي هريرة دون ذكر ربيعة. وأما في قصة عمر، فلم يكن عمار راوياً عن عمر، وإنما كان شاهداً للقصة كلها راوياً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت: وثمة وجه ثالث في المعقول وهو: إن كلام الفرع على فرض صحته له شاهدان: كلام الشيخ، وسماع الراوي عنه، بخلاف الأمر على فرض صحة كلام الأصل فإنه ليس له إلا شاهد واحد غير محسوس. وحصول الوهم في الثاني أغلب بكثير من حصوله في الأول. فوجب القبول بكثرة عدد الشهود، والعمل بالمحسوس، وقلّة الوهم، فهذه ثلاث أمور ليس أقوى منها في قبول الخبر. وأما حجة المانعين من القبول بقياسهم الرواية على الشهادة. فلا

يصح، لأن باب الشهادة فيه اعتبارات وقيود ليست في الرواية كالعدد والحرية والذكورية، وعدم قبول العنفة أو التحديث عن من شاهد وغير ذلك. بل إن قياس الشبه يقضي بالتفرقة بينهما على ما قدمنا في الشرط الثالث.

7 - الشرط السابع: أن لا يأتي خبر آخر فيه عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلافه: وهذا إنما ذكرناه تبعاً لمن ذكره هنا، والحق أن هذا ليس من مباحث شروط قبول العمل بحديث الآحاد، وذلك أن هذا الشرط إنما يأتي البحث فيه في سائر الأحاديث الصحيحة حتى ولو كانت متواترة. فالواجب الترجيح بين أحد الخبرين، والعمل بأحدهما، كما قدمنا فيه القول مراراً، من العمل بمبحث الناسخ والمنسوخ، أو العام والخاص، أو المطلق والمقيد، أو بتحقيق أو تنقيح المناط. وعلى فرض أي من هذه المباحث يكون الحديث قد عمل به، حتى في المنسوخ، فإنه يكون قد قبل لحين، ثم امتنع. خلافاً لمن أجاز النسخ قبل العمل بالمنسوخ. والحاصل أن هذا ليس بشرط أصلاً، وإنما يذكره الأصوليون استطراداً، ولا يذكرون واحداً ممن يقول به. وبسط القود على هذه المسألة في رسالة مفردة، في حكم قتل شارب الخمر في الرابعة إن شاء الله. ومثله:

8 - الشرط الثامن: أن لا يكون خلاف عمل أكثر الأمة: فهذا ليس بشرط كسابقه، ولا أعرف قائلاً يقول به، إلا من يلزمون الأخذ بكلام الجمهور، وهم زمرة قليلة، لا يحشر قولها مع أقوال أهل الفن والاختصاص. وهذا إنما قلناه، وقاله غيرنا ممن سبقنا، لأنه كان تقرر قسيمه هذا في أن قبول أكثر الأمة للخبر. لا يوجب قبوله. فكذلك هنا.

9 - الشرط التاسع: أن لا يحمل على خلاف تفسير راويه: أ - وصورة هذا أن يروي الصحابي خبراً تكون له محامل متعددة، لأنه جاء مجملا غيرمفسر ويمتنع حمله على جميع محامله. فقد ذهب الفقهاء في هذا إلى وجوب حمل الخبر على ما حمله الراوي عليه، لأن الظاهر من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا ينطق باللفظ المجمل في التشريع وبيان الأحكام، ويخليه عن قرينة حالية أو مقالية، تعين المقصود من الكلام. ولما كان الصحابي رأوي الخبر، الشاهد للحال، أعرف بذلك من غيره، وجب حمل الحديث على ما فسّره به. وخالف غير واحد منهم فقالوا: لا يكون تعيين الراوي حجة على غيره من المجتهدين حتى ينظر في تفسيره، فإن انقدح له غير ما جاء في تفسيره عن الراوي، وجب عليه متابعة الذي رآه هو، لا ما حمله عليه الراوي. وأما إن تردد المجتهد في تعيين مقصده فالواجب حمله على محمل الراوي. ب - وأما إن كان اللفظ ظاهراً في معنى معين محدد، وحمله الراوي على غيره، فذهب الشافعي والجمهور وأبو الحسن الكرخي من الحنفية إلى إهمال تفسير الراوي. وذهب الآخرون إلى وجوب العمل بتفسير الراوي كالأول. وقال القاضي عبد الجبار: إن لم يكن لمذهب الراوي وتأويله وجه سوى علمه بقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك التأويل، وجب المصير إليه.

وإن لم يعلم ذلك، بل جوز أن يكون قد صار إليه لدليل ظهر له من نص أو قياس، وجب النظر إلى ذلك الدليل. فإن كان مقتضياً لما ذهب إليه، وجب المصير إليه، وإلا فلا، وهذا اختيار أبي الحسين البصري. قلت: وأي المذاهب ترجح، فإن هذا الشرط الواجب إلحاقه، بمبحث دلالة اللفظ، لا بمبحث شروط العمل بالخبر، فإدخاله هنا مجازي من باب اعتبار الشيء بما يؤول إليه، ولذلك ترى غير واحد من الأصوليين يذكر هذه المسألة فيما ذكرنا لا هنا. وكذا مسائل أخرى يذكرها بعض الأصوليين هنا، ننبه عليها للفائدة. كمسألة: زيادة الثقة. ومسألة: ألفاظ الصحابة: نهينا عن كذا، كنا نرى، ونحو هذه الألفاظ.

10 - الشرط العاشر: أن لا يكون الخبر في الحدود والكفارات، وقد داخلته شبهة: فقد ذهب الكرخي من الحنفية، وأبو عبد الله البصري في أحد قوليه، إلى سقوط حديث الحدود والكفارات بأدنى شبهة، ولم يعملوه، وخالفهم سائر الفقهاء والأصوليين. وقد احتجا على ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ادرؤوا الحدود بالشبهات ". وأجيب عنه، بما ذكره الشوكاني وغيره، قال: أولا وجه لهذا الخلاف فهو خبر عدل في حكم شرعي، ولم يثبت في الحدود والكفارات دليل يخصها من عموم الأحكام الشرعية.

وأما استدلالهم بحديث " ادرؤا الحدود بالشبهات " باطل. فالخبر الموجب للحد يدفع الشبهة على فرض وجودها،. وقال الآمدي: ودليل ذلك - أي العمل بالحديث، خلافاً للمشترطين لهذا الشرط - أنه يغلب على الظن، فوجب قبوله لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " نحن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر ". ولأنه حكم يجوز إثباته بالظن، بدليل ثبوته بالشهادة، وبظاهر الكتاب، فجاز إثباته بخبر الواحد كسائر الأحكام الظنية، والمسألة ظنية، فكان الظن كافياً فيها. وسقوطه بالشبهة لو كان، لكان مانعاً من الإعمال، والأصل عدم ذلك وعلى من يدعيه بيانه ". انتهى. قلت: يستدرك على الآمدي من وجهين: الأول: فيما ظنه حديثاً وليس بحديث، وهو " نحن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر " فهو ليس بحديث. قال ابن طولون: " لا وجود له في كتب الحديث المشهورة، ولا الأجزاء المنثورة، وجزم العراقي بأنه لا أصل له، وكذا أنكره المزي وغيره ". وأنكره الحافظ ابن الملقن في تخريج أحاديث البيضاوي.

وقال العماد ابن كثير في تخريج أحاديث المختصر: لم أقف له على سند. وقال السخاوي: لا يوجد في الكتب المشهورة. قلت: نعم قد جاء ما في معناه من قول عمر، كما في البخاري: إنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ". وجاء في مسلم مرفوعاً من حديث أبي سعيد: " إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ". وأما ما ورد في " إدارة الأحكام " للجيزوي، ونقله عن مغلطاي: إن هذا الحديث ورد في قصة اختصام الكندي والحضرمي في الأرض، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله عندها. فقد قال ابن حجر: لم أقف على هذا الكتاب، ولا أدري أساق له إسماعيل المذكور إسناداً أم لا. الثاني: أننا لا نسلم أن الخبر مساق عن الخبر الذي فيه الحكم الشرعي في الحدود والكفارات، وأنه قد يكون سيق في إثبات ما يوجب الحد أو الكفارة على الفاعل، فلا يكون الدرء للحكم، وإنما لإقامة الحد على فاعل مخصوص. والذي يؤكد هذا الذي ذهبنا إليه، ألفاظ هذا الحديث لمن تأملها، فإن وجه الصرف فيها لإقامة الحد، أغلب وأقوى منه لإثبات الحكم. والله أعلم.

خلاصة القول في سائر الشروط المتقدمة: والذي يرجع لسائر الشروط التي ذكرناها يجدها إما مندفعة غير صحيحة، وإما هي على التحقيق ليست من شروط قبول الحديث، وإما أنه ليس لها أثر على فرض صحتها. لذلك فإنه كان من الواجب العمل بالحديث عند ثبوته، كما هو مذهب سائر المحدثين، وجمهور الشافعية والمالكية والحنابلة، وأنه إنما يعرض كسائر النصوص المقبولة على القواعد الأخرى من قواعد الاستنباط، والدلالة، ومعرفة العام والخاص والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ، وغيرها مما يخدم فهم النص واستخراج الحكم منه، لا أكثر. وهذا آخر كلامنا في ذكر هذه الشروط. وهذا أوان الشروع في بيان تلك الأحاديث التي لم يفْت بها الفقهاء. وبيان درجتها من الصحة والضعف، وأن أقوال الفقهاء على خلافها - بعد ذكر شرطنا في هذا الكتاب -. فبالله المستعان. وعليه التكلان.

الفصل الخامس: في ذكر شرطنا في ذكر الحديث

الفصل الخامس: في ذكر شرطنا في ذكر الحديث اعلم أنه لما كنّا لم نستقرئ جميع مذاهب الإسلاميين، في سائر الأزمان، واختلاف البلدان، فإنه كان من الواجب التنبيه على مرادنا في قولنا: " لم يفت بها الفقهاء " أو " ليست الفتوى عليها " - واللفظ الثاني أبين من الأول لمرادنا -. فالذي أردناه من شرطنا هذا أن القول المعتمد في المذاهب الأربعة يكون خلاف الحديث المذكور، وكذا أن يكون خلاف قول المحققين والمجتهدين المتبعين للدليل خاصة، وكذا أن يكون المنقول عن الصحابة خلافه، وأن لا يكونوا اتفقوا على القول بنسخه، أو تجمهروا. وأن يكون الحديث صح عند بعضهم تصريحاً أو مقتضى. وأنه لا يضر بشرطنا هذا، أن يكون أفتى بالحديث واحد أو اثنان، من غير الأئمة الأربعة، ومجتهدي مذاهبهم. فإن كان أفتى بالحديث بعض المغمورين من الفقهاء غير المتبوعين، وفاتنا العلم بذلك، فإن ذلك غير قادح في ذكرنا للحديث فليعلم.

وقد رأيت أن أذكر في كل حديث متنه، وطرقه، والكلام عليه، وبيان أن أقوال الفقهاء بخلافه، والعلة في عدم الفتوى به، إن كان لذلك علة، أو أن تلزمهم القول به إن لم يكن لتركه من علّة مرعية، ولم يجمعوا بخلافه، والله أعلم.

الباب الثاني

الباب الثاني

الفصل الأول في ذكر الأحاديث التي هي على شرطنا بهذا الكتاب

الفصل الأول في ذكر الأحاديث التي هي على شرطنا بهذا الكتاب بسم الله وبه نستعين الحديث الأول الذي متنه: " من غسَّل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضّأ " وقد رواه أبو هريرة رضي الله عنه الوصل الأول: في بيان طرق الحديث وألفاظه: ° الطريق الأولى: عن القاسم عن عمرو بن عمير عن أبي هريرة: أخرجها أبو داود فقال: حدثنا أحمد بن صالح، أخبرنا ابن أبي فديك، حدثني ابن أبي ذئب، عن القاسم بن عباس، عن عمرو بن عمير، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من غسَّل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ ". ومن طريق أبي داود أخرجها ابن حزم في المحلى. والبيهقي في الكبرى، وقال: إنما عمرو يعرف بهذا الحديث، وليس بالمشهور.

* الطريق الثانية: عن سهيل عن أبيه عنه: أخرجها الترمذي وابن ماجه كلاهما عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، ثنا عبد العزيز بن المختار، عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من غسل ميتاً فليغتسل " - لفظ ابن ماجه -. وزاد الترمذي شطره الآخر بلفظ " من غسله الغسل، ومن حمله الوضوء - يعني الميت - ". وأخرجها البيهقي من طريقهما، وساق لفظ الترمذي. ثم قال: وكذلك رواه ابن جريج، وحماد بن سلمة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، ورواه أيضاً من طريق محمد بن جعفر بن أبي كثير عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره. . - كلفظ ابن ماجه -. وأخرجها ابن حبان من طريق الحسن بن سفيان وأبي يعلى قالا: حدثنا إبراهيم بن الحجاج السامي، حدثنا حماد بن سلمة عن سهيل به، ولفظه كلفظ ابن ماجه. ومنها أخرجه ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ قال: حدثنا جعفر بن حمدان الشحّام، نا محمد بن مسعود العجمي. ونا الحسن بن محمد بن سعيد القطيعي، نا زنجويه، قالا: نا عبد الرزاق، نا ابن جريج عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من غسل ميتاً فليغتسل ".

وهي طريق لعبد الرزاق فيها راوٍ لم يسمّ قال: وعن غيره - يعني غير معمر - عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من غسل ميتاً فليغتسل ". ° الطريق الثالثة: عن سهيل عن أبيه عن إسحاق عنه: أخرجها أبو داود قال: حدثنا حامد بن يحيى عن سفيان عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه. وأخرجها البيهقي، من طريق أبي علي الروذباري ثنا أبو بكر بن داسة ثنا أبو داود، ثنا حامد بن يحيى (وتحرفت في مطبوع السنن إلى حاتم) فذكره. . . قال البيهقي: وكذلك رواه ابن علية عن سهيل، مرة مرفوعاً، ومرة موقوفاً. ورواه وهب بن خالد عن سهيل. وأخرجها ابن حزم في المحلّى من طريق أبي داود به. ° الطريق الرابعة: عن يحيى عن إسحاق عنه: أخرجها عبد الرزاق في المصنَّف قال: ثنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن رجل يقال له إسحاق عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من غسل ميتاً فليتغسل ". وبه نأخذ.

وأخرجها الإمام أحمد من طريقه فقال: ثنا عبد الرزاق فذكره، لكن قال: " أبو إسحاق " بدل " إسحاق ". وذكرها الإمام البخاري من غير إسناد قال: وقال معمر فذكره. وقال " إسحاق ". رواها عنه البيهقي بإسناده. ° الطريق الخامسة: عن أبي واقد عن محمد بن عبد الرحمن عنه: أخرجها البيهقي قال: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، ثنا أحمد بن عبيد الصفار. ثنا محمد بن غالب ثنا موسى - يعني ابن إسماعيل - ثنا وهب، ثنا أبو واقد عن محمد بن عبد الرحمن -، وإسحاق مولى زائدة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من غسله الغسل، ومن حمله الوضوء " قال: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب، قال: لو علمت أنه نجس لم أمسّه. تفرد البيهقي بهذه الطريق، أعني طريق محمد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة. ° الطريق السادسة: عن سهيل عن أبيه عن الحارث عنه: أخرجها البيهقي قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر أحمد بن كامل القاضي ببغداد، ثنا عبد الله بن مهران الضرير الثقة المأمون - وكان من أحفظ الناس - ثنا عفان بن مسلم، ثنا وهب بن خالد، ثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن الحارث بن مخلد عن أبي هريرة قال: قال

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غسله الغسل ومن حمله الوضوء - يعني في الميت والجنازة - ". تفرد بها البيهقي أيضاً. ° الطريق السابعة: عن رجل من بني ليث عن إسحاق عنه: أخرجها البيهقي: أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم الفارسي، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله، ثنا أبو أحمد بن فارس، ثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا موسى بن إسماعيل، عن أبان عن يحيى عن رجل من بني ليث، عن إسحاق عن أبي هريرة. ولم يذكر لفظه. وهي طريق للإمام أحمد قال: ثنا يونس ثنا أبان عن يحيى فذكره بلفظ: " من غسل ميتاً فليغتسل ". ° الطريق الثامنة: عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه: أخرجها بسنده المتقدم للبخاري قال: حدثنا موسى بن إسماعيل عن حمّاد، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مثله - كذا قال ولم يذكر لفظاً -. قلت: والذي أحال عليه لفظه " من غسله الغسل ومن حمله الوضوء ". ثم إنه ذكر هذه الطريق بإسناد آخر، وساق اللفظ المذكور. ومنها أخرجه ابن شاهين فقال: حدثنا يحيى بن صاعد، نا يحيى بن حكيم بالبصرة، نا أبو بحر البكراوي، نا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن

أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ ". ثم عاد فأخرجه من طريق إبراهيم بن عبد الله اليزني، نا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، نا المعتمر قال: سمعت محمداً به. ثم أخرجه من طريق يحيى بن محمد، نا يوسف بن موسى، نا حجاج بن المنهال، نا حماد بن سلمة، ونا يحيى بن محمد، نا أحمد بن منصور، نا حماد بن سلمة نا محمد بن عمرو، به بنحوه. وقد أخرجه ابن حزم من هذه الطريق. ° الطريق التاسعة: وهي التي قبلها، لكنها موقوفة: أخرجها البيهقي قال: ثنا. . فذكر إسناده المتقدم للبخاري قال: حدثنا الأويسي عن الدراوردي، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة. قوله. يعني موقوفاً. قال البخاري: وهذا أشبه، قال: وقال أحمد بن حنبل وعلي: لا يصح في هذا الباب شيء. ° الطريق العاشرة: ابن أبي ذئب عن صالح عنه: أخرجها الإمام أحمد قال: ثنا يحيى عن ابن أبي ذئب، قال: حدثني صالح مولى التوأمة، قال سمعت أبا هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من غسل ميتاً فليغتسل ".

وقال: أنا حجاج عن ابن أبي ذئب به، ولفظه مثله وزاد: " ومن حمله فليتوضأ ". ومنها أخرجه ابن أبي شيبة. وكذا أبو داود الطيالسي قال: حدثنا ابن أبي ذئب، به، ولفظه: " من غسل ميتاً فليغتسل من حمل جنازة فليتوضأ ". ومن طريقه البيهقي وقال: هذا المشهور، وصالح ليس بالقوي. وكذا ابن شاهين قال: حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، نا يحيى بن المغيرة، نا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب به، ولفظه: " من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ ". وكذا البغوي في شرح السنة قال: حدثنا أبو الفرج. أنا القاسم بن حمزة بن يوسف، نا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ، نا عبد الله بن سعيد، نا أسد بن موسى، نا ابن أبي ذئب، به. ولفظه " من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ ". ° الطريق الحادية عشرة: عن العلاء عن أبيه عنه: وهي التي أخرجها ابن شاهين قال عبد الله بن سليمان بن الأشعث،

نا محمد بن عبد الرحمن - يعني البرقي - وجعفر بن مسافر قالا: نا عمرو بن أبي سملة، نا زهير، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ ". ومنها أخرجه البيهقي قال: أخبرنا أبو خازن الحافظ، أنا أبو أحمد الحافظ، أنا أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث به. ثم قال البيهقي: زهير بن محمد، قال البخاري: روى عنه أهل الشام أحاديث مناكير، وقال أبو عبد الرحمن النسائي: زهير ليس بالقوي. ° الطريق الثانية عشرة: عن يحيى بن أبي كثير عن أبي إسحاق عنه: أخرجها البيهقي قال: حدثنا الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أحمد الأرموي، أنا أبو القاسم النسوي، ثنا الحسن بن سفيان النسوي، ثنا محمد بن منهال، ثنا يزيد بن زريع، ثنا معمر بن راشد، عن يحيى بن أبي كثير عن أبي إسحاق عن أبي هريرة. ° الطريق الثالثة عشرة: عن صفوان عن أبي سلمة عنه: أخرجها البيهقي قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، ثنا حاجب بن أحمد، ثنا محمد بن يحيى. وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أحمد بن محبوب الرملي بمكة، أنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الربيع التميمي بمصر قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، حدثني ابن لهيعة، عن حنين بن أبي حكيم، عن صفوان بن أبي سليم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من غسل ميتاً فليغتسل ".

قال البيهقي: هذا لفظ القاضي. وفي رواية الحافظ " من غسل الميت الغسل، ومن حمله الوضوء ". قال البيهقي: ابن لهيعة وحنين بن أبي حكيم، لا يحتج بهما، والمحفوظ من حديث أبي سلمة، ما أشار إليه البخاري موقوف من قول أبي هريرة. ° الطريق الرابعة عشرة: عن ابن لهيعة عن موسى بن وردان عنه: أخرجها البيهقي قال؛ أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، ثنا أحمد بن عبيد، ثنا أحمد بن جعفر بن عاصم الدمشقي، ثنا هشام بن عمار، ثنا الوليد، حدثني ابن لهيعة عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أراد أن يحمل ميتاً فليتوضأ ". ° الطريق الخامسة عشرة: عن ابن شهاب، عن سعيد عنه: أخرجها البيهقي قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر بن الحسن القاضي، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق، ثنا عبد الله بن صالح، حدثني يحيى بن أيوب، عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: " من غسل الميت فليغتسل، ومن أدخله قبره فليتوضأ ". هكذا موقوفاً. وجاء في سند للدارقطني من هذه الطريق مرفوعاً.

الوصل الثاني: في بيان درجة الحديث: 1 - حكم الطريق الأولى: قد سكت عليها أبو داود، وابن حزم، وتقدم قول البيهقي: عمرو بن عمير إنما يعرف بهذا الحديث، ليس بالمشهور. قلت: ليس له في الكتب الستة إلا هذا الحديث، حتى قال الحافظ في " التقريب ": مجهول. وباقي رجال الإسناد ثقات. فالطريق ضعيفة بمفردها. إلا أن ترتقي بالشواهد والمتابعات. 2 - حكم الطريق الثانية: قال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن. وقال الحافظ: هو معلول لأن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة، نقله عنه المباركفوري. قلت: ليس هذا بلازم، فقد يكون سمعه من أبي هريرة بغير واسطة، وسمعه من إسحاق عنه كما في الطريق الثالثة، وسمعه أيضاً عن الحارث كما في الطريق السادسة - إن صحت -. وإنما رجح هذا الحافظ لأن أقوى طرق حديث سهيل عن أبيه هي الطريق التي فيها إسحاق، كما في الثالثة. وإنَّما رجحت سماع أبي صالح عن أبي هريرة، من غير واسطة في هذا الحديث - لأن السماع ثابت له في غيره بلا خلاف - لأن من رواه عن أبي صالح بدونها أكثر، فإن الذين أسقطوا الواسطة: 1 - عبد العزيز بن المختار: ثقة روى له الجماعة، والراوي عنه - محمد - ثقة من رجال مسلم وغيره.

2 - ابن جريج: ثقة فقيه، لكنه مدلس وقد عنعن. 3 - حماد بن سلمة: ثقة عابد روى له مسلم وغيره، خاصم فيه ابنُ حبان البخاري لأنه لم يخرج له في الصحيح أصلاً، وإنما لم يخرج له البخاري لأنه تغير بأخرة. 4 - القعقاع بن حكيم: ثقة روى له الستة، إلا أن البخاري روى له في غير الصحيح، ومن قبله تكلم في بعضهم. 5 - رجل لم يسم: ساقط من الاعتبار. فتبين أن رواية عبد العزيز الصحيحة، تابعه عليها أربعة - أحدهم مجهول - وقد بينا حالهم. فالواجب عدم إسقاطهم من الاعتبار، لذلك رجحنا الأمرين، سماعه عنه بواسطة وبدونها. وكان هذا هو الذي ذهب إليه ابن حبان حيث صحح الحديث. وملخص القول أن هذه الطريق حسنة، ولا تعل بالتي فيها واسطة، والله أعلم. 3 - حكم الطريق الثالثة: صحيحة رجالها ثقات، ولا علة لها، - إلا أن يقال ما قيل في الثانية، وقد أجبنا عنه - وقول أبي داود عقب الحديث لا يفهم منه إعلال. سيما وقد قال بنسخ هذا الحديث، فكأنه أقر بصحته. وأما الذي: أشار إليه البيهقي من رواية ابن علية - وهو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم - فلم أقف على هذه الرواية، ولا ذكرها هو، فالله أعلم. وما ندري كيف السند لابن علية. ثم إن روايته إن صحت لا تعل هذا الحديث، وإنما تعل نفسها - أعني أن المرفوعة تعل الموقوفة، والموقوفة المرفوعة، وكيف لا يكون كذلك

والخلاف فيها إنما هو مع ابن عيينة، ومن ذا الذي تنهض حجته بإسناد اتفقا عليه، ثم اختلف فيه الراوي مع سفيان أمير المؤمنين؟ وأما رواية ابن وهب التي ذكرها، فليست هي كالتي هنا، وسيأتي الكلام عليها عند الطريق السادسة إن شاء الله تعالى. 4 - حكم الطريق الرابعة: والعهدة فيها على تصحيح أحد اللفظين: " أبو إسحاق " أو " إسحاق ". فهذا الحديث يدور على رواية عبد الرزاق عن معمر عن يحيى عن - أحد الرجلين - به، لذلك وجب اعتماد الذي في نسخة عبد الرزاق. إلا أنا لم نفد حيث اختلفت نسخ المصنف في ذلك، وجاءت باللفظين، كما أفاده حبيب الرحمن الأعظمي. وكذا أضرّ بنا اختلاف لفظي البيهقي وأحمد، فتعطل الترجيح من جهة النسخ. فإن كان المكي، فلم أعرفه. وإن كان الآخر فيكون هو مولى زائدة، فإنه روى عن أبي هريرة، وروى عنه يحيى. لكن لا يصح لنا الحديث بهذا، لأنه قد اختلف على يحيى فيه، ففي رواية أبان عند أحمد والبيهقي - من طريق البخاري - قال: عن رجل من بني ليت عن إسحاق. وهو مما يعلل هذه الطريق. 5 - حكم الطريق الخامسة: ضعيفة، فيها أبو واقد صالح بن محمد بن زائدة. 6 - حكم الطريق السادسة: ضعيفة، فيها الحارث بن مخلد، مجهول الحال كما في التقريب.

7 - حكم الطريق السابعة: فيها راو لم يسم، ثم هي معلولة كما قدمنا في آخر حكم الطريق الرابعة. 8 - حكم الطريق الثامنة: أحسن أسانيدها، إسناد ابن شاهين في روايته الأخيرة التي من طريق يحيى بن محمد بن صاعد، نا أحمد بن منصور، نا حماد بن سلمة، نا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، فهو إسناد صحيح رجاله ثقات، ولا أعرف له علة: إلا ما جاء في الطريق التاسعة، من رواية الوقف، لكن في أحد رواتها مقال. 9 - حكم الطريق التاسعة: فيها الدراوردي، وهو عبد العزيز بن محمد، صدوق يخطئ، له أوهام، فنرجوا أن تسلم الثامنة، لأجل ضعف هذه التاسعة. 10 - حكم الطريق العاشرة: رجالها ثقات، وأما صالح وإن كان اختلط، لكن لا بأس برواية القدماء عنه، كابن أبي ذئب، كما في هذه الطريق، وكابن جريج، كذا في التقريب في ترجمة صالح. ولذلك لما قال البيهقي: صالح مولى التوأمة ليس بالقوي، تعقبه ابن التركماني في " الجوهر النقي " وقال: رواه عن صالح؛ ابن أبي ذئب، وقد قال ابن معين: صالح ثقة حجة، ومالك والثوري أدركاه بعدما تغير، وابن أبي ذئب سمع منه قبل ذلك.

وقال السعدي: حديث ابن أبي ذئب عنه مقبول لثبته وسماعه القديم منه. انتهى كلام ابن التركماني. قلت: هذا في تغيره. وأما هل هو ثقة في نفسه، فإنهم اختلفوا في ذلك. فضعفه يحيى بن سعيد فقال: ليس بثقة. ومالك بن أنس وقال: ليس بثقة، وقال مرة: كذاب، كما حكاه أبو زرعة. واختلف فيه قول ابن معين، فقال مرة: ليس بالقوي. وقال مرة: ثقة حجة، وسفيان ومالك أدركاه بعدما كبر وخرف، ولكن ابن أبي ذئب سمع منه قبل أن يخرف. ونحو قول ابن معين الثاني، قال الجوزجاني. وقال أبو زرعة: ضعيف. وقال أبو حاتم: ليس القوي. وقال النسائي ضعيف، وقال مرة: ليس بثقة، ونسبه لمالك. وقال أبو أحمد بن عدي: لا بأس به إذا سمعوا منه قديماً. . . وقال العجلي؛ مدني ثقة. وقال ابن المديني: ثقة. قلت: فالراجح والله أعلم أن تضعيفه إنما كان لأجل تغيّره، فإن كان،

فقد عرفت الجواب عنه، وإما لا، فالحديث لا يرقى للحسن من هذه الطريق، لكثرة من ضعفه. وأما قول مالك: كذاب، فغير مقبول، وما بمثل تغير صالح يكون الكذب - والله أعلم. 11 - حكم الطريق الحادية عشرة: ضعيفة، فيها: زهير بن محمد. قال البخاري: روى عنه أهل الشام أحاديث مناكير. وقال مرة: أنا أتقي هذا الشيخ كان حديثه موضوع، وكان أحمد بن حنبل يضعف هذا الشيخ وذكره أبو زرعة في أسامي الضعفاء. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال العجلي - ولم ينفع زهيراً قوله -: جائز الحديث. 12 - حكم الطريق الثانية عشرة: هي الرابعة، إن كانت الرابعة عن إسحاق كما قدمنا، وإلا فهي أخرى، وقد قدمنا الكلام عليهما. 13 - حكم الطريق الثالثة عشرة: كنا قدمنا قول البيهقي: ابن لهيعة، وحنين لا يحتج بهما. قلت: ضعفهما ليس بشديد، فيصلحان في الشواهد.

فاعرض هذه الطريق على الثامنة، يتبين لك حسنها، - وإن لم تكن متابعة تامة عند أهل الاصطلاح -. 14 - حكم الطريق الرابعة عشرة: ضعيفة فيها ابن لهيعة، وموسى بن وردان، الأول سيّء الحفظ، والثاني صدوق ربما أخطأ، ولم يتابع أحد ابن لهيعة على رواية موسى بن وردان. 15 - حكم الطريق الخامسة عشرة: صحيحة موقوفة على أبي هريرة، لكنها جاءت مرسلة أيضاً عن سعيد. قال البيهقي: أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، أنا أبو محمد المزني، أنا علي بن محمد بن عيسى، ثنا أبو اليمان، أخبرني شعيب بن أبي حمزة عن الزهري، قال: حدثني سعيد بن المسيب أن من السنة أن يغتسل من غسل ميتاً، ويتوضأ من نزل في حفرته، حين يدفن، ولا وضوء على أحد من غير ذلك، ممن صلى عليه، ولا ممن حمل جنازته، ولا ممن مشى معها. قال ابن التركماني عقب هذه الرواية: وفي مصنف ابن أبي شيبة، نا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري - عن سعيد بن المسيب قال: من السنة من غسل ميتاً اغتسل. وروى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريح أخبرني ابن شهاب، قال: السنة أن يغتسل الذي يغسل الميت. قال: وأكثر علماء الحديث على أن الصحابي إذا قال أُمرنا بكذا أو نُهينا عن كذا، أو من السنة كذا، فهو من قبيل المرفوع، وهو الصحيح

عندهم، وقال أبو بكر الخطيب في الكفاية ما مخلصه: إذا قال من بعد الصحابة أمرنا، فلا يمتنع أن يعني أمر الأئمة، وأمرهم إجماع يحتج به، كأمره عليه السلام. فقد ثبت أمره عليه السلام بما أجمعت الأمة عليه، فأمرهم تضمن أمره. قال ابن التركماني: فعلى هذا قول ابن المسيب " من السنة " يحتمل أن يريد سنة الأئمة، أو سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى الثاني يكون من قبيل المرفوع المرسل، وعلى التقديرين، ليس هذا في المعنى قول ابن المسيب مقصوراً عليه. انتهى. قلت: هو ليس مقصوراً على ابن المسيب باتفاق، ومرسل صحيح يقبله من يحتج بالمرسل، لكن قول الخطيب: بأن المراد أمر الأئمة، وأمرهم إجماع، فإنه غير ثابت في هذه المسألة، فإنهم لم يجمعوا كما سيأتي، ثم القول بذلك عنهم يحتاج إلى نقل، وهو غير موجود هنا. وملخص القول في هذه الطريق أنها اضطربت بين الوقف والإرسال، والأول غير معتبر عند الجمهور، بخلاف الثاني. وأنها معلولة بهذا الاضطراب. قلت: وأما طريق الدراقطني المرفوعة، فهى معلولة بما جاء عن سعيد في الروايتين الأخريين الوقف، والإرسال، وقد قال الدارقطني بعدها: فيه نظر. وقال الحافظ في سند الدارقطني: ورجاله موثوقون. قلت: قول الحافظ لا يفهم منه التصحيح وعدم الإعلال. والله أعلم.

(ملحق في أقوال أهل العلم في هذا الحديث): فقد اختلف أهل العلم في هذا الحديث فمنهم من صحح الرفع فيه، ومنهم من صحح الوقف فقط، ومنهم من ضعف. * ذكر من ضعف الحديث. قال علي بن المديني وأحمد بن حنبل: لا يصح في الباب شيء - يعني مرفوعا - وهذا الحديث منها. وقال الحاكم في تاريخه: ليس في " من غسل ميتاً فليغتسل " حديث صحيح. وقال الذهلي: لا أعلم فيه - في هذا الباب - حديثاً ثابتاً، ولو ثبت للزمنا استعماله. وقال ابن المنذر: ليس في الباب حديث يثبت. واعترض النووي على تحسين الترمذي له كما سيأتي. * ذكر من صحح الوقف فقط - دون الرفع -: قال الإمام البيهقي: الصحيح أنه موقوف من قول أبي هريرة، - وقد تقدم قوله مراراً -. وقال البخاري: الأشبه أنه موقوف. وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه: لا يرفعه الثقات، إنما هو موقوف.

وقال الرافعي: لم يصحح علماء الحديث في هذا الباب شيئا مرفوعاً. ذكر من صحح الحديث مطلقاً - أعني المرفوع والموقوف -. قال الإمام الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن. - وقد تقدم -. قال الإمام البغوي: هذا حديث حسن، ويروى هذا عن أبي هريرة موقوفاً. وقال ابن حبان: صحيح، وقد قدمنا روايته في صحيحه له في الطريق الثانية. وقال الإمام ابن حزم: صحيح، وتقدم إسناده فيه. وقال الإمام الذهبي: هو أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء - وهذا وإن لم يكن تصريحا بالتصحيح، إلا أن القول بالاحتجاج به، يخرجه عن الضعف إلى الحسن أو الصحة -. وقال الحافظ ابن حجر: وفي الجملة هو بكثرة طرقه، أسوأ أحواله أن يكون حسناً، فإنكار النووي على الترمذي معترض - وقال الحافظ: وقد رواه الدارقطني بسند رجاله موثوقون.

الخلاصة: والحاصل أن هؤلاء الأئمة قد اختلفوا فيه، وأن الذي ظهر لنا فيه التصحيح، ثم هو على كل حال كما قال الذهبي: " أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء " فكان واجبهم العمل به، سيما وأن إعماله أحوط من تركه، والعمل بالأحوط مذهب يرضاه جماهير المسلمين وأئمتهم.

الوصل الثالث: بيان من ذكر من العلماء، أن الأئمة لم يفتوا بقوله: " ومن حمله فليتوضأ ": قد انقسم الحديث الذي قدمناه إلى شطرين ظاهرين: الأول: من غسل ميتاً فليغتسل. الثاني: ومن حمله فليتوضأ. وقد تنازع العلماء في الشطر الأول تنازعاً بيناً، واختلفوا فيه اختلافاً كثيراً، فعمل به أقوام من المتقدمين والمتأخرين، وتركه أيضاً كثيرون، وتوسط بعضهم فقال بالاستحباب للغسل دون الوجوب، فتبين أن شطره الأول ليس من شرطنا في هذا الكتاب. وربما يتعسف بعض الناس فيلحقه لقلة القائلين به من الفقهاء، استحباباً لا وجوباً. وأما شطره الثاني فهو على شرطنا، حيث لم يفت أحد من العلماء بظاهره فيما علمنا، وتتبعناه من أقوال الشراح. إلا ما حكاه ابن حزم رحمه الله من القول به. قال الصنعاني في " سبل السلام ": وأما قوله: " ومن حمله فليتوضأ " فلا أعلم قائلاً يقول به بأن يجب الوضوء من حمل الميت أو يندب. قال: ولكنه مع نهوض الحديث لا عذر عن العمل به، ويفسر الوضوء بغسل اليدين، كما يفيده التعليل بقوله - في حديث آخر - " إن ميتكم يموت طاهراً ". فإن لمس الطاهر لا يوجب غسل اليدين منه، فيكون في حمل الميت غسل اليدين ندباً تعبداً، إذ المراد إذا حمله مباشراً لبدنه بقرينة

السياق. ولقوله " يموت طاهراً " فإنه لا يناسب ذلك إلا من يباشر بدنه بالحمل. انتهى. قلت: وهذا الذي قاله فيه أمور منها: أنه لم يقل هو بظاهره. إذ الأصل حمل الألفاظ على المعاني الشرعية لا اللغوية، إلا بقرينة، والذي أتى به من التعليل على أنه قرينة تصرف اللفظ عن ظاهره تعليل باطل. لأنه مبني على أن الوضوء لا يكون واجباً على من مسَّ طاهراً، فان هذا هو مقتضى قوله بأن المسَّ للنجس لا يوجب وضوءاً، فيكون مس ما هو طاهر من باب أولى أن لا يجب فيه الوضوء. قلت: وهذا تعليل غير مكتمل، إذا هو قياس بين الحي والميت، ثم قد ثبت في حديث أبي هريرة وغيره في الصحيحين " إن المؤمن لا ينجس " أي فهو طاهر، وليس المعنى الطهارة - التي هي عدم وجود النجاسة - باتفاق العلماء في المشرق والمغرب، سواء الذكر والأنثى فيه، فقد يكون المراد بالطهارة في ذاك الحديث من هذا الباب - إن صح الحديث -. ثم إنا إن لم نفرق بينهما، فقد قال كثير من العلماء بوجوب الوضوء الشرعي من مس الذكر، بل ومس المرأة، ولو لم يكن بنجاسة. وأما قول الصنعاني: إن المراد إذا حمله مباشراً لبدنه بقرينة السياق، فيه نظر لا يخفي، وإلزام بما ليس بملزم، وحصر لما هو مطلق غير مقيّد. ثم إن الذي علّل به في آخر كلامه، يناقض الذي ذهب إليه، حيث جعل الطهارة سبباً لغسل اليدين عند المباشرة!! والحاصل من كلامه رحمه الله أنه هو أيضاً لم يفت بظاهر هذا الحديث من غير خلاف. ثم إني لم أعرف أحداً من العلماء قال بظاهر هذا الحديث إلا ابن حزم

كما قدمت، وأما ابن حبان فترجم بالأمر بالوضوء من حمل الميت، ولكن لم نعرف مراده بذلك، أعلى الوضوء الشرعي أو اللغوي؟ ولم نعرف أن الأمر الذي قاله أهو على الوجوب أم على الاستحباب , والله أعلم.

الوصل الرابع: في جوابهم عند هذا الخبر: وقد تقدم بعضها في السياقات المتقدمة: فمنها: القول بضعفه. ومنها: حمل الوضوء على المعنى اللغوي، دون الشرعي. ومنها: قول من قال باستحباب ذلك، دون الوجوب كما هو ظاهر الخبر، ومقتضى اللغة باستعمال لام الأمر وفائه. ومنها: بتقدير مقدر، وهو أن الوضوء إنما يجب على من حمل الميت، ثم أصابه منه شيء. ومنها: أن الأمر بالوضوء، إنما هو قبل الحمل، حتى يكون متهيئاً للصلاة. ومنها: القول بنسخ الخبر، وهم وإن لم يذكروا ناسخاً للوضوء من حمل الميت، لكنهم اعتلوا بأن النقل جاء بأنه - صلى الله عليه وسلم -، كان يصلي على الميت هو وأصحابه، دون أن يذكر في ذلك وضوء، ومعلوم أنه لا بد من وقوع الحمل للجنازة من أحدهم أو بعضهم، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يأمرهم بذلك. قلت: وهو مدفوع بما جاء في ترك ذكر أشياء كثيرة، معلوم وجودها ضرورة وشرعاً، فلا يدل ذلك على عدم حصولها، من ذلك وضوؤه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الذي هو الأصل، من غير حمل للجنازة، فهو غير مذكور أيضاً، ووجوده واجب، ثم قد ذكر عن بعض الصحابة كعمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يتوضأ لذلك. وقد ذكروا أشياء غير هذه، وفيما تقدم كفاية والله أعلم.

الحديث الثاني الذي متنه: " لا تحدي بعد يومك هذا "

الحديث الثاني الذي متنه: " لا تحدّي بعد يومك هذا " قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لامرأة توفي زوجها، عند يومها الثالث الوصل الأول: في بيان طرق الحديث وألفاظه: (وما له إلا طريق واحدة) وبيان صحته: قال الإمام أحمد ثنا يزيد. قال أنبأنا محمد بن طلحة، قال ثنا الحكم بن عتيبة عن عبد الله بن شداد عن أسماء بنت عميس قالت: دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليوم الثالث من قتل جعفر فقال: لا تحدي بعد يومك هذا. قلت: وهو إسناد صحيح لا علّة له. وقال في موضع آخر من المسند: ثنا أبو كامل ويزيد بن هارون، وعفان قالوا: ثنا محمد بن طلحة - قال يزيد في حديثه - ثنا الحكم - وقال عفان في حديثه سمعت الحكم - بن عتيبة، (وتحرفت في المسند إلى عقيبة، بالقاف) عن عبد الله بن شداد عن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر، أتانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: قومي (وتحرفت في المسند إلى أمي) البسي ثوب الحداد ثلاثاً، ثم اصنعي ما شئت. ومن هذه الطريق أخرجه ابن سعد (8/ 282). قال عبد الله بن الإمام أحمد: وحدثنا محمد بن بكار قال حدثنا محمد بن طلحة مثله.

وأخرجه الطبراني فقال: حدثنا علي بن عبد العزيز، ثنا حجاج بن المنهال، وعاصم بن علي، وأحمد بن يونس قالوا: ثنا محمد بن طلحة بن مصرف، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " تسكني ثلاثاً ثم اصنعي ما شئت ". قلت: وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات غير علي فهو صدوق يدلّس، لكن صرح بالتحديث فانتفت الشبهة. وأخرجه ابن حزم في المحلّى فقال: نا محمد بن سعيد بن نبات، نا أحمد بن عون الله، نا قاسم بن أصبغ، نا محمد بن عبد السلام الخشني، نا محمد بن بشار، نا محمد بن جعفر (وفي بعض النسخ: غندر) نا شعبة، نا الحكم بن عتيبة، عن عبد الله بن شداد بن الهاد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لامرأة جعفر بن أبي طالب: إذا كان ثلاثة أيام فالبسي ما شئت، أو إذا كان بعد ثلاثة أيام - شك شعبة -. ومن طريق حماد بن سلمة، نا الحجاج بن أرطأة عن الحسن بن سعيد، عن عبد الله بن شداد أن أسماء بنت عميس استأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تبكي على جعفر وهي امرأته، فأذن لها ثلاثة أيام، ثم بعث إليها بعد ثلاثة أيام أن تطهري واكتحلي. قال أبو محمد بن حزم: هذا منقطع ولا حجة فيه، لأن عبد الله بن شداد لم يسمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً. انتهى.

قلت: هذا مبني على أن قول عبد الله: " أن أسماء. . " ليس سماعاً له منها، وأنه هو الذي شهد الواقعة. وهو مردود بأمرين: الأول: أن " أنَّ " في مثل هذا الموضع بمعنى " عن " فهي مستعملة كثيرا جداً في الأحاديث، حتى قال ابن عبد البر: وجمهور أهل العلم على أنّ: " عن " و " أن " سواء. قلت: وهو إن لم يكن قول سائر أهل العلم، لكن له مفاده. الثاني: أن في شيوخ ابن حزم من لا يعرف، فمثله لا يعل الحديث الصحيح. فكيف يعارض الإسناد النازل جداً، الذي فيه مجاهيل، ثم هو محتمل. لإسناد عالٍ متصل رجاله ثقات، وصرحوا فيه بالسماع والاتصال. والحديث أخرجه البيهقي فقال: أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد بن محمد بن عبدان النيسابوري، نا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا العباس الدوري، نا مالك بن إسماعيل، نا محمد بن طلحة، عن الحكم بن عتيبة عن عبد الله بن شداد بن الهاد عن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر رضي الله عنه أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: تسلبني ثلاثاً ثم اصنعي ما شئت. قال البيهقي: فلم يثبت سماع عبد الله من أسماء، وقد قيل فيه عن أسماء فهو مرسل، ومحمد بن طلحة ليس بالقوي.

فتعقبه ابن التركماني في " الجوهر النقي " قائلاً: ابن شداد لم يذكر من المدلسين، والعنعنة من غير المدلّس محمولة على الاتصال، إذا ثبت اللقاء أو أمكن على الاختلاف المعروف بين البخاري ومسلم، ومسلم لا يشترط ثبوت السماع، وحكى ابن عبد البر عن جمهور أهل العلم أن: " عن " و " أن " سواء، قال: - يعني ابن عبد البر - وأجمعوا على أن قول الصحابي: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال، أو: سمعت، سواء. قال ابن التركماني: ومحمد بن طلحة هو ابن مصرّف، اتفق الشيخان عليه، وقد جاء لحديثه هذا متابعة وشاهد. قلت: فذكر طريق شعبة عن الحكم. وطريق الحسن بن سعد عن عبد الله التي رواها عن الحجاج - كما تقدمت. فتبين من هذا ضعف ما ادعاه البيهقي من الإعلال. والحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه قال: أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى، قال حدثنا محمد بن بكار، قال: حدثنا محمد بن طلحة عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن أسماء بنت عميس أنها قالت: لما أصيب جعفر بن أبي طالب أمرني رسول الله " فقال: تسلمي ثلاثاً، ثم اصنعي بعد ما شئت. قال أبو حاتم ابن حبان بعد إيراده:

قوله - صلى الله عليه وسلم -: (تسلمي ثلاثاً). لفظة قرنت بعدد موصوف قصد به الحسم عما لا يحل استعماله في ذلك العدد. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " اصنعي ما شئت "، لفظة أمر قصد به الإباحة في ظاهر الخطاب، مرادها الزجر عن استعمال ما أمر به، يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله ما وصفت، التسليم لأمر الله جل وعلا في الأيام الثلاث قبلها وبعدها. انتهى كلامه. قلت: وهذا الذي قاله ابن حبان ناتج عن تحريف أولاً، ثم أوّله تأويلاً باطلاً ثانياً. فأما التحريف، فليس لفظ الحديث تسلمي، كما قدمنا في الطرق والألفاظ السالفة، وقد نقل لفظ الحديث غير واحد من شراح الغريب. فقالوا: " تسلبي " بالباء بدل الميم فقال ابن منظور في " لسان العرب ": " وفي الحديث عن أسماء بنت عميس أنها قالت: " لما أصيب جعفر أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: تسلبي ثلاثاً، ثم اصنعي بعد ما شئت ". قال ابن منظور: تسلّبي: أي البسي ثياب الحداد السُّود، وهي السِّلاب، وتَسَلبت المرأة إذا لبسته، وهو ثوب أسود تغطي به المحِد رأسها. وقال ابن الأثير في " النهاية في غريب الحديث ": " تسلّبي: أي البسي ثياب الحداد، وهو السِّلاب، والجمع سُلُب، وتسلبت المرأة إذا لبسته، وقيل هو ثوب أسود تغطي به المحدُّ رأسها،.

وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح ". " وأغرب ابن حبان فساق الحديث بلفظ " تسلمي " بالميم بدل الموحدة، وفسره بأنه التسليم لأمر الله، ولا مفهوم لتقييدها بالثلاث، بل الحكمة فيه كون القلق يكون في ابتداء الأمر أشد فلذلك قيدها بالثلاث، هذا معنى كلامه. قال ابن حجر: فصحف - ابن حبان - الكلمة وتكلف لتأويلها. وقد وقع في رواية البيهقي وغيره " فأمرني أن أتسلب ثلاثا " فتبين خطؤه، انتهى كلام الحافظ. قلت: ومثل هذا الخطأ الذي جاء في مطبوع المعجم الكبير بلفظ " تسكني " فهو وإن كان يؤيد لفظ ابن حبان إلا أنه باطل، وهو تصحيف قبيح دلنا على ذلك ما جاء في المسند وغيره كما قدمنا، لأن الطريق لجميع هذه الألفاظ واحدة. ومثله الخطأ الذي جاء في " المجمع " فإنه أورد الحديث بلفظ " تسلي " وهو كمعنى " تسكني " إلا أنه نسب اللفظ لأحمد!! ثم قال: وروى الطبراني بعضه في الكبير. قلت: فهذا كله ناشئ من عدم ضبط النساخ، والله أعلم. ثم إننا لو سلمنا بصحة هذا اللفظ، فلا يمكن العدول عن لفظ أحمد - ومن وافقه - السابق الصريح في المراد، ويكون في الحديث أمران مختلفان، لا يتناقضان، ولا ينفي أحدهما الآخر.

وقد أورد المجد بن تيمية في (منتقى الأخيار) الحديث بلفظ " تسلبي " على الصواب. وأما اللفظ الذي كنا أوردناه في المسند ونبهنا على تحريفه إلى " أمي " فربما يكون بتشديد الميم والمعنى: اقصدي، فلا يبعد. كما أن الحديث أخرجه الطحاوي في " شرح معاني الآثار "، وقال: " تسلبي " وهو من الطريق التي رواها أحمد. الكلام على صحته: قد قدمنا تصحيح ابن حبان له، وابن التركماني، وهو المنقول عن الإمام أحمد كما سيأتي من كلام ابن حجر، فإنه قال: وإعلال البيهقي له بالانقطاع مدفوع، فقد صححه أحمد. وكان قال أول الكلام عليه: أوقد ورد في حديث قوي الإسناد أخرجه أحمد. قلت: وقد تبين لك علة قول من أعله، فسلم الحديث.

الوصل الثاني: في بيان أن قول سائر الفقهاء بخلافه: قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): بعد ذكر حديث أسماء. " قال شيخنا - يعني العراقي - في شرح الترمذي: ظاهره أنه لا يجب الإحداد على المتوفي عنها بعد اليوم الثالث، لأن أسماء بنت عميس كانت زوج جعفر بن أبي طالب بالاتفاق، وهي والدة أولاده عبد الله ومحمد وعون وغيرهم. قال: بل ظاهر النهي أن الإحداد لا يجوز، وأجاب بأن هذا الحديث شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة، وقد أجمعوا على خلافه، انتهى. قلت: فها هو نقل الإجماع على خلاف هذا الحديث، فدل على أن ليس من قائلٍ به. ومعلوم أن العلماء جميعاً قالوا في الإحداد بحديث أم سلمة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يحل لامرأة مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها أربعة أشهر وعشراً " أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، عنها. ولم يخالف أحد من العلماء في هذا أبداً إلا ما حكي عن الحسن البصري والشعبي، أخرج ذلك عنهما ابن أبي شيبة، فلم يوجب الحسن شيئاً من الإحداد ألبتة، وقال الشعبي لا أعرفه!! وهو من عجيب المنقول عن هذين الإمامين. ثم هو ليس قولاً بحديث أسماء.

الوصل الثالث: في بيان الأوجه التي رد بها هذا الخبر: وأول أوجه الرد لهذا الخبر، هو الضعف عند القائلين بذلك. والثاني: ثبوت ما هو أصح منه، كحديث أم سلمة المتقدم في الصحيحين وغيرهما، والقاعدة أن ما في الصحيحين أصح، وأن المتفق على قبوله، أولى بالعمل من المختلف فيه. الثالث: اتفاق الصحابة والتابعين ومن بعدهم على القول بحديث أم سلمة، مما يوهن القول بخبر الباب. الرابع: الاختلاف على لفظة " تسلبي " كما قدمنا، وإن كان الثابت في الحديث هو اللفظ الشاهد دون سواه. وهذه الأربعة أثبتها، وثمة في ذلك أقوال واهية لا دليل عليها ضربنا عنها صفحاً.

الحديث الثالث في المسح على النعلين والقدمين

الحديث الثالث في المسح على النعلين والقدمين فصل من الأحاديث الواردة في ذلك: قد جاءت المتون في المسح على النعلين والقدمين على أربعة أوجه. الأول: ما جاء فيه ذكر المسح على النعلين فقط. الثاني: ما جاء فيه ذكر المسح على النعلين والقدمين. الثالث: ما جاء فيه ذكر المسح على القدمين فقط. الرابع: ما جاء فيه ذكر المسح على الجوربين والنعلين. ويأتي وجه خامس في الرد على هذه الأحاديث فيه ذكر الخفين والنعلين، وكذا غيره. * ذكر ما جاء في الوجه الأول في المسح على النعلين فقط: أ - حديث أوس بن أبي أوس: أخرج الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا يَحْيَى عن شعبة قال: ثنا يعلى بن أمية، عن أوس بن أبي أوس رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على نعليه. ثم قام إلى الصلاة. وأخرجه من طريق ثانية قال: حدثنا وكيع عن شريك عن يعلى بن عطاء عن أوس بن أبي أوس رضي الله عنه عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على نعليه. وأخرجه الطبراني في الكبير قال:

حدثنا علي بن عبد العزيز وأبو مسلم الكشي قالا: ثنا حجاج بن المنهال ثنا حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن أوس بن أبي أوس قال: رأيت أبي يمسح على النعلين فقلت أتمسح عليها؟ قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله. وهذا اللفظ لأحمد عن بهز عن حماد به. قلت: فهذا ظاهره عن والد أوس بن أبي أوس!! وكذا هو عند ابن حبان من هذه الطريق هكذا. ثم أخرجه فقال: حدثنا عبيد بن غنام ثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا شريك عن يعلى بن عطاء عن أوس بن أبي أوس عن أبيه قال: مررنا على ماء من مياه الأعراب، فقام أبي فبال ثم توضأ ومسح على نعليه، قلت: ألا تخلعهما؟ قال: لا أزيدك على ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله. قلت: وهذا ظاهره أنه عن جد أوس!!! وليس هو المراد، بينت ذلك رواية أحمد من هذا الوجه. ثم أخرجه الطبراني فقال: حدثنا عبد الله بن أحمد ثنا زيد بن الحريش حدثني يحيى بن سعيد عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن أوس بن أبي أوس " سَقطت كلمة " أبي، في المطبوع " رضي الله عنه قال؛ رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على نعليه. ثم أخرجه قال: حدثنا معاذ بن المثنى، ثنا مسدد، ثنا يحيى بن سعيد

عن شعبة عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن أوس بن أبي أوس قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على نعليه، وقام إلى الصلاة. والحديث أخرجه أبو داود الطيالسي قال: حدثنا حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن أوس الثقفي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على نعليه. قلت: سقط قوله " عن أبيه ". ب - حديث ابن عباس رضي الله عنهما. أخرجه ابن عدي في الكامل قال: ثنا محمد بن بشر القزاز، ثنا أبو عمير، ثنا رواد عن سفيان، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة ومسح على نعليه. وقد أخرجه البيهقي من طريق ابن عدي فقال: أخبرنا أبو سعيد أحمد، ثنا أبو أحمد بن عدي به. ثم أخرجه من طريق آخر قال: أخبرنا أبو الحسن بن عبدان أنبأ سليمان بن أحمد الطبراني، ثنا إبراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي، حدثني أبي ثنا زيد بن الحباب، ثنا سفيان فذكره. والحديث عند عبد الرزاق بسياق آخر قال:

عن معمر عن يزيد بن أبي زياد عن أبي ظبيان الجنبي قال: رأيت علياً بال قائماً حتى أرغى ثم توضأ ومسح على نعليه ثم دخل المسجد فخلع نعليه فجعلهما في كمه ثم صلى. قال معمر، ولو شئت أن أحدث أن زيد بن أسلم حدثني عن عطاء بن يسار عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صنع كما صنع عليٌّ فعلت. قلت: وهذا فيه نكارة شديدة جداً. إلا بأن يكون المسح المذكور فعل زيادة، وليس هو من الوضوء كان يكون توضأ وهو غير محدث، أو مسح بعد الغسل، على ما سيأتي في موضعه. ج - حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال البزار: حدثنا إبراهيم بن سعيد، ثنا روح بن عبادة، ابن أبي ذئب أبي عن نافع، أن ابن عمر كان يتوضأ ونعلاه في رجليه ويمسح عليهما. ويقول: كذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل. قال البزار: لا نعلم رواه عن نافع إلا ابن أبي ذئب، ولا عن ابن أبي ذئب إلا روح. قال البزار: وإنما كان يمسح عليهما لأنه توضأ من غير حدث، انتهى كلامه. د - حديث علي رضي الله عنه. قال ابن خزيمة:

أخبرنا أبو طاهر نا أبو بكر نا أبو يحيى محمد بن عبد الرحيم البزار، نا إبراهيم بن أبي الليث، نا عبيد الله بن عبد الرحمن عن سفيان عن السدي عن عبد خير عن علي: أنه دعا بكوز من ماء ثم توضأ وضوءاً خفيفا ثم مسح على نعليه. . . والحديث أخرجه الدرامي في سننه قال: أخبرنا أبو نعيم. ثنا يونس، عن أبي إسحاق، عن عبد خير قال: رأيت علياً توضأ ومسح على نعلين فوسع، ثم قال: لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل كما رأيتموني فعلت لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرها. قال الدارمي: هذا الحديث منسوخ بقوله (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ). * ذكر ما جاء في الوجه الثاني من المسح على النعلين والقدمين. وفيه: حديث أوس بن أبي أوس الثقفي المتقدم: قال أبو داود في سننه: حدثنا مسدد وعباد بن موسى قالا: أخبرنا هشيم عن يعلى بن عطاء عن أبيه - قال عباد: قال - أخبرني أوس بن أبي أوس الثقفي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على نعليه وقدميه. وقال عباد - يعني بالإسناد المذكور - رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى على كظامة قوم - يعني الميضأة - ولم يذكر مسدد الميضأة والكظامة - ثم اتفقا - فتوضأ ومسح على نعليه وقدميه.

قال في عون المعبود: وغرض أبي داود من هذا الإيراد أن مسدداً وعباد بن موسى قد اختلفا في هذا الحديث في ثلاثة مواضع: الأول: لفظ: أخبرني أوس، فقال عباد: أخبرني بصيغة الإخبار، ولم يقل به مسدد. الثاني: قال عباد: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال مسدد إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الثالث: زيادة ذكر الكظامة والميضأة في حديث عباد. والحديث أخرجه البيهقي من طريق أبي داود. * الوجه الثالث الذي ذكر فيه المسح على القدمين فقط. أ - حديث علي بن أبي طالب. قال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة قال أخبرني عبد الملك بن ميسرة، قال سمعت النزال بن سبرة يقول: صلى علي الظهر في الرحبة ثم جلس في حوائج الناس حتى حضرت العصر، ثم أتى بكوز من ماء فصبّ منه كفاً فغسل به وجهه ويديه ومسح على رأسه ورجليه، ثم قام فشرب فضل الماء وهو قائم وقال: إن أناساً يكرهون أن يشربوا وهم قيام، ورأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل الذي فعلت، وقال: هذا وضوء من لم يحدث. والحديث أخرجه البخاري من طريق شيخ أبي داود فيه فقال: حدثنا آدم، حدثنا شعبة به. . . فذكره.

إلا أنه قال: " وذكر رأسه ورجليه " وليس عنده: (هذا وضوء من لم يحدث). وأخرجه النسائي في سننه فقال: أخبرنا عمرو بن يزيد قال حدثنا بهز بن أسد قال: حدثنا شعبة به. وعنده فيه " فأخذ منه كفاً فمسح به وجهه وذراعيه، ورأسه ورجليه ". وأخرجه الإمام أحمد من طريق بهز بنفس لفظ النسائي. وأخرجه من طريق محمد بن جعفر عن شعبة به. ولفظه: " فمسح يديه وذراعيه ووجهه ورأسه ورجليه. . ". وأخرجه من طريق محمد بن فضيل عن الأعمش عن عبد الملك به فذكر الحديث، وفيه: " فأخذ كفاً من ماء فمضمض واستنشق ومسح وجهه وذراعيه ورأسه ثم شرب. . " فلم يذكر فيه وضوءاً، ولا ذكر القدمين. هذا وقد أخرجه في مواضع أخرى لكن اقتصر في روايته على الشرب دون ذكر الوضوء، ولا المضمضة ولا المسح. وأخرجه البيهقي في السنن من رواية آدم، نا شعبة به، التي هي طريق البخاري.

وذكر مثل لفظ أبي داود المتقدم. وأخرجه البغوي من طريق شعبة به، ولم يذكر فيه الرجلين، بمثل لفظ أبي داود المتقدم. قلت: فهذه الروايات مختلفة جداً. قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " بعد ذكر رواية البخاري التي فيها: " وذكر رأسه ورجليه ". قال الحافظ: كذا هنا، وفي رواية بهز " فأخذ منه كفاً فمسح وجهه وذراعيه ورأسه ورجليه " وكذلك عند الطيالسي " فغسل وجهه ويديه، ومسح على رأسه ورجليه "، ومثله في رواية عمرو بن مرزوق عند الإسماعيلي. قال: ويؤخذ منه أنه في الأصل " ومسح على رأسه ورجليه " وأن آدم توقف في سياقه فعبر بقوله " وذكر رأسه ورجليه ". قلت: ربما يكون الذي توقف في ذلك هو البخاري نفسه، فإن تصرفه في بعض الألفاظ المشكلة في الصحيح معروف. والذي يقوي هذا أن البيهقي قد أخرجه من طريق آدم من غير توقف كما قدمت. قال ابن حجر: ووقع في رواية الأعمش: " فغسل يديه ومضمض واستنشق ومسح بوجهه وذراعيه ورأسه " وفي رواية علي بن الجعد عند الإسماعيلي: " فمسح

بوجهه ورأسه ورجليه " ومن رواية أبي الوليد عن شعبة ذكر الغسل والتثليث في الجميع، وهي شاذة مخالفة لرواية أكثر أصحاب شعبة، والظاهر أن الوهم فيها من الراوي عنه أحمد بن إبراهيم الواسطي شيخ الإسماعيلي فيها، فقد ضعفه الدارقطني. قلت: وقد وقع في رواية منصور عن عبد الملك عند ابن خزيمة، مثل رواية بهز عند النسائي، وكذا عند ابن حبان مثل شيخه ابن خزيمة لكنه فضل: " ومسح وجهه وذراعيه، ومسح برأسه، ومسح رجليه ". قلت: ولحديث علي في الوضوء طريق آخر من رواية عبد خير عنه. أخرجه أصحاب السنن الأربعة، ولكن لم يذكر أحد منهم ذكرَ المسح على القدمين فيه، بل في جميعها الغسل وفي رواية منها أنه غسل رجليه وهما في النعل. لكن أخرج ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ الحديث فقال: حدثنا أحمد بن المغلس، قال: نا أبو همام، قال: نا عيسى - يعني ابن يونس - قال: نا الأعمش عن رجاء عن عبد خير عن علي عليه السلام قال: كنت أرى أن باطن القدمين أحق بالغسيل، حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح ظاهرهما. وأخرجه الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا إسحاق بن يوسف عن شريك عن السدي عن عبد خير قال:

رأيت عليا رضي الله عنه دعا بماء ليتوضأ فتمسح به تمسحاً ومسح على ظهر قدميه ثم قال: هذا وضوء من لم يحدث، ثم قال: لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على ظهر قدميه، رأيت أن بطونهما أحق. ثم شرب. وأخرجه من طريق ربعي في موضع آخر فقال: " وتمسح " ولم يفصِّل فتركنا ذكر هذه الرواية. ب - حديث أوس بن أبي أوس الثقفي رضي الله عنه - وهو المتقدم -. أخرجه ابن شاهين قال: حدثنا أحمد قال نا بشر بن موسى نا سعيد بن منصور. قال: نا هشيم قال: نا يعلى بن عطاء عن أبيه قال أخبرني أوس بن أبي أوس قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى كظامة قوم بالطائف فتوضأ ومسح على رجليه، قال هشيم: كان هذا في مبدأة الإسلام. وأخرجه الطبراني في الكبير قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا هشيم عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن أوس بن أبي أوس قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى كظامة - يعني مطهرة - فتوضأ ومسح على قدميه. ج - حديث عثمان رضي الله عنه: أخرجه ابن شاهين قال: نا أحمد - بن سليمان بن الحسن الفقيه، نا عبيد بن شريك، نا عبد الغفار - يعني ابن داود - قال: نا ابن لهيعة، عن أبي الأسود عن عباد بن تميم عن عثمان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على القدمين. وكان عروة يفعل ذلك حتى أسود ظاهر قدميه.

د - حديث تميم رضي الله عنه: وقد خالف سعيد بن أبي أيوب ابن لهيعة فيه فجعله من مسند عباد بن تميم عن أبيه. فأخرجه ابن خزيمة قال: أخبرنا أبو طاهر، نا أبو بكر، نا أبو زهير عبد المجيد بن إبراهيم المصري، نا المقري نا سعيد بن أبي أيوب عن أبي الأسود - وهو محمد بن عبد الرحمنِ مولى آل نوفل يتيم عروة بن الزبير - عن عباد بن تميم عن أبيه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ ويمسح الماء على رجليه. والحديث قد ذكره الهيمثي في المجمع عن عباد بن تميم عن أبيه، ونسبه للطبراني في الأوسط وقال: رجاله رجال الصحيح خلا شيخ الطبراني. وفي لفظ آخر: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ومسح بالماء على لحيته ورجليه " قال الهيثمي: ورجاله موثوقون. قلت: وإسناد الطبراني فيه: حدثنا هارون بن ملول المصري، ثنا أبو عبد الرحمن المقري، ثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثني أبو الأسود عن عباد بن تميم عن أبيه به. هـ - حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه: أخرجه الدارقطني في سننه: حدثنا الحسين بن إسماعيل، نا يوسف بن

موسى، نا هشام بن عبد الملك، والحجاج بن المنهال - واللفظ لأبي الوليد - قلت: هو هشام - قالا: نا همام نا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن عمه رفاعة بن رافع قال:. . . . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين ثم يكبر. . وذكر الحديث ". قلت: قال في التعليق المغني: رجاله ثقات. * الوجه الرابع الذي فيه المسح على الجوربين والنعلين. أ - حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: قال الإمام أحمد ثنا وكيع أنا سفيان عن أبي قيس عن هذيل بن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على الجوربين والنعلين. وأخرجه ابن ماجه عن علي بن محمد عن وكيع به. وقال الترمذي، حدثنا هنَّاد ومحمود بن غيلان قالا: حدثنا وكيع به. وقال أبو داود حدثنا عثمان بن أبي شيبة عن وكيع به.

وأخرجه البيهقي من هذه الطريق. وبنحو هذا اللفظ أخرجه الطبراني في الكبير، وابن حزم في المحلّى. وابن خزيمة كذلك. ب - حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. أخرجه ابن ماجه في سننه قال: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا معلى بن منصور وبشر بن آدم قالا: ثنا عيسى بن يونس عن عيسى بن سنان، عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على الجوربين والنعلين. ومن هذه الطريق أخرجه الطحاوي والطبراني في معجمه.

الوصل الثاني: ذكر ما جاء عن الصحابي الواحد في الأوجه الأربعة، وبيان درجة الحديث: 1 - حديث أوس بن أبي أوس الثقفي. جاء في حديثه ذكر المسح على النعلين فقط في روايتي أحمد، وروايات الطبراني، وعند ابن حبان وابن أبي شيبة، وأبي داود الطيالسي. وجاء في حديثه ذكر المسح على القدمين والنعلين عند أبي داود السجستاني والبيهقي. وجاء في حديثه ذكر المسح على القدمين فقط عند ابن شاهين والطبراني. ولم يأت في حديثه شيء في الوجه الرابع. وملخص طرقه: أ - عن يحيى عن شعبة ثنا يعلى بن أمية عن أوس. ب - عن شريك عن يعلى بن عطاء عن أوس - زاد في رواية: عن أبيه - يعني والد أوس -. ج - عن حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن أوس عن أبيه - وفي أخرى: لم يقل: عن والد أوس -. د - عن يحيى بن سعيد عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن أوس. هـ - عن يحيى بن سعيد عن شعبة عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن أوس. و- عن هشيم عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن أوس.

قلت: وفي هذه الأسانيد مسائل: الأولى: في الاختلاف على صاحب الحديث، أهو أوس أم والده. والجواب: أنهم ذكروا أوساً وأباه في الصحابة، فهو غير مؤثر على الحديث. وبهذا يعرف ضعف قول صاحب " النيل ": فزيادة " عن أبيه " توجب كون أوس في التابعين فيحتاج إلى النظر في حاله!!! الثانية: الخلاف على اسم أوس، أهو أوس بن أبي أوس، أم هو أوس بن أوس؟ والجواب: أن لا فرق عند بعض العلماء حيث عدوهما واحداً، وأما على رأي من فرق بينهما، فيكون في مسند صحابيين إن ثبت ما في النسخة، والصواب أن ما في النسخة خطأ، لاتحاد المتن ومن نقل عنه الخبر. المسألة الثالثة: ما حكاه البيهقي من الانقطاع بين يعلى وأوس. وقد رد هذا ابن التركماني فقال: أخرجه الحازمي في الناسخ والمنسوخ وقال: لا يعرف مجوداً متصلاً إلا من حديث يعلى بن عطاء، وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه، فالاحتجاج به كاف. انتهى. قلت: وقد ذكر له المزي سماعاً منه ورمز له فاندفعت شبهة البيهقي. المسألة الرابعة: ما أعله به ابن القطان من جهالة عطاء والد يعلى. وقال: لم يرو عنه غير ابنه يحيى. وهو مردود، فإن كان جهله ابن القطان فقد عرفه غيره، ذكره ابن حبان

في الثقات وقال ابن حجر مقبول - يعني عند المتابعة - وهو متابع في إحدى روايتي أحمد بيعلى بن أميّة. بل وبرواية ابنه عند من يثبت سماعه من أوس كما قدمنا. وأما قوله: لم يرو عنه غير ابنه يحيى كما في تهذيب التهذيب، فأنت ترى أن هذا الحديث ليس من رواية يحيى، بل هو من رواية يعلى، وربما تكون تحرفت يعلى إلى يحيى، وعلى كل حال فمثل هذا لا يضر من ثبتت عدالته. المسألة الخامسة: قالوا: في إسناده هشيم عن يعلى. وقد قال أحمد: لم يسمع هشيم هذا من يعلى، مع ما عرف من تدليس هشيم. والجواب: أنه وقع في رواية سعيد بن منصور التي أخرجها ابن شاهين التصريح بالإنباء والتحديث بين هشيم ويعلى فزال إشكال العنعنة، ثم إنه موصول من غير طريق هشيم، فلا وجه لإعلاله بذلك أصلاً، وهذا يعرفه الإمام، إلا أنه ذكره لأن هذه الطريق عنده هي أمثل طرق الحديث. هذا وقد ضعف أبو عمر بن عبد البر هذا الحديث في ترجمة أوس، ولم يبين وجه تضعيفه له، فيبقى قولاً من غير دليل نعرفه حتى نجيب عنه. والله علم. ويعلى بن أمية الذي جاء ذكره في المسند لوحده أظنه تحرف، وإلا فلم أعرفه. وليس في أسماء الرجال من اسمه يعلى بن أمية، إلا الصحابي المشهور. وليس هو هذا. * * *

والخلاصة أن الحديث لا ينزل عن رتبة الحسن. 2 - حديث ابن عباس رضي الله عنهما في المسح على النعلين. والكلام على الطريق الأولى عن رواد عن سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس: قال البيهقي: هكذا رواه رواد بن الجراح، وهو يتفرد عن الثوري بمناكير هذا أحدها، والثقات رووه عن الثوري دون هذه اللفظة - يعني المسح على النعلين - ورُوِيَ عن زيد بن الحباب عن الثوري هكذا، وليس بمحفوظ. - قلت: وقد تقدمت له هذه الطريق -. ثم قال: الصحيح رواية الجماعة، ورواه عبد العزيز الدراوردي وهشام بن سعد عن زيد بن أسلم فحكيا في الحديث رشاً على الرجل وفيها النعل، وذلك يحتمل أن يكون غسلهما في النعل. فقد رواه سليمان بن بلال، ومحمد بن عجلان وورقاء بن عمر ومحمد بن جعفر ابن أبي كثير عن زيد بن أسلم فحكوا في الحديث غسله رجليه. والحديث حديث واحد، والعدد الكثير أولى بالحفظ من العدد اليسير، مع فضل حفظ من حفظ فيه الغسل بعد الرش على من لم يحفظه. انتهى. وتعقبه ابن التركماني في " الجوهر النقي " قال: في الكامل لابن عدي: رواد يكتب حديثه، وقال ابن أبي حاتم: أدخله البخاري في كتاب الضعفاء، فسمعت أبي يقول: يحول من هناك، وقال ابن حنبل: لا بأس به صاحب سنة إلا أنه حدث عن سفيان أحاديث مناكير.

وقال ابن معين: ثقة مأمون. ثم لم ينفرد بهذا الحديث، بل رواه كرواية ابن الحباب كما ذكر البيهقي، فعلى هذا لا ينبغي أن يعد هذا الحديث من مناكير رواد. ثم العجب من البيهقي كيف يجعله مما انفرد به عن الثوري - ثم يذكر هو أن ابن الحباب رواه عن الثوري - كروايته. وزيد بن الحباب ثقة مشهور، وثقة ابن المديني وابن معين وأخرج له مسلم، وقال ابن حنبل: كان صاحب حديث كيساً، رحل إلى خراسان ومصر والأندلس كتبت عنه بالكوفة وها هنا، وقال ابن عدي هو من أثبات مشايخ الكوفة ممن لا يشك في صدقه. قال ابن التركماني: فإذا كان كذلك فهذا الحديث لو انفرد به قُبِلَ، فكيف وقد تابعه عليه غيره كما مرّ، وجاءت له متابعة أخرى، وهي أن عبد الرزاق، قال في مصنفه أنا معمر. . - وذكر الرواية التي قدمناها هناك - انتهى. قلت: فالحديث صحيح ولكن لا حجة فيه. ومحصل سائر الروايات المتقدمة التي ذكرها البيهقي أن روّاداً وزيداً، أتيا ببعض الحديث، وهو المسح على النعلين، وأتى عبد العزيز وهشام بالرش على الرجل وفيها النعل، وأتى غيرهم وهم الأكثر بغسل الرجلين. فمتى صحت هذه الطرق جميعها لم يجز إعمال بعضها دون بعض، وبإعمالها جميعاً، يصح المسح على النعلين في هذا الحديث، لكن بعد الغسل والرش.

ويؤيد هذا الرواية التي قدمناها وأشار لها ابن التركماني وهي عند عبد الرزاق، فإن فيها أنه مسح على النعلين، ثم لما دخل المسجد خلعهما ثم صلى. ولو كان مسح عليهما فقط دون غسل، لم يجز له أن يخلعهما ويصلي فيهما، بعد أن مسح عليهما، سواءً عند من يقول بجواز المسح على النعلين كابن حزم، وعند من لا يقول بذلك وهم سائر الفقهاء. أو أن يكون توضأ من قبل وهو غير محدث، ثم فعل هذا، على ما سيأتي الكلام عليه عند حديث علي في قوله: " هذا وضوء من لم يحدث ". وهذا كله من الاستشهاد بحديث عبد الرزاق - فيما لو صحَّ. فإن يزيد بن أبي زياد ضعيف، ولم يذكروا لمعمر سماعاً عنه. * * * 3 - حديث ابن عمر رضي الله عنهما وهو في المسح على النعلين. قلت: حديث صحيح، ورجاله ثقات، وإسناده متصل، ولا علة له، والتفرد من مثل هؤلاء الثقات الأثبات المتقنين، لا أثر له على صحة الحديث. ولذلك لم يجد البزار سبيلاً لدفعه، لأن لا يقول به، إلا بالتأويل الذي ذكره، والذي يجنح إليه سائر أهل الحديث في مثل هذه المواطن. أو إلى القول بالنسخ، كما فعل ابن خزيمة وابن شاهين وغيرهما. * * * 4 - حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وله في المسح على النعلين طريقان: الأولى التي لابن خزيمة، وهي ضعيفة فيها إبراهيم بن أبي الليث وهو متروك، لكن له متابع كما سيأتي، بغير هذا اللفظ.

والثانية التي للدارمي. وهي طريق صحيحة، رجالها ثقات حفاظ، وإسنادها متصل، ولا علة لها. وأما في المسح على القدمين: فقد تقدم أن الطريق فيه عند البخاري - مع ما قدمنا من إبهام اللفظ - وعند ابن حبان في صحيحه من غير إبهام، وغيرهما، فلا طريق للقول بضعفه من جهة الإسناد، إلا أن يعلّ بكثرة الاضطراب الحاصل في متنه. ثم إنا إن لم نقل بإعلاله من الاختلاف الحاصل في المتون لكون حفاظ هذه الطرق لم تتباين ألفاظهم لمن تأمل، ويمكن أن تخرج تخريجا واحداً، فإنه يبقى الكلام على الزيادة الحاصلة في آخره وهي قوله: " هذا وضوء من لم يحدث ". فهي من جهة الإسناد ثابتة على شرط البخاري وغيره، والزيادة من الثقة مقبولة - فكيف من الثقات -. فبطل الاحتجاج بهذا الحديث لمسألتنا، والله أعلم. بقي الكلام على رواية ابن شاهين: فعنده: قال علي: كنت أرى باطن القدمين أحق بالغسيل، حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح ظاهرهما ". وهذا اللفظ عنده من رواية عيسى بن يونس نا الأعمش عن رجاء عن عبد خير عن علي، وهذا منقطع بين رجاء وعبد خير. ورجاء لم يذكروا فيه شيئا يعتمد عليه. ثم هو مخالف سنداً ومتناً.

فقد أخرجه أبو داود قال: حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي إسحاق، عن عبد خيرٍ عن علي، قال: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر قدميه ". وهذا إسناد متصل. وقال: حدثنا محمد بن رافع قال حدثنا يحيى بن آدم، قال أخبرنا يزيد بن عبد العزيز عن الأعمش بإسناده بهذا الحديث قال: ما كنت أرى باطن القدمين إلا أحق بالغسل، حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظهر خفيه ". قال أبو داود: ورواه وكيع عن الأعمش بإسناده قال: كنت أرى أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما، حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح ظاهرهما " قال وكيع يعني الخفين. قال أبو داود: ورواه عيسى بن يونس عن الأعمش كما رواه وكيع. قلت: فتبين أن عيسى الذي روى عنه ابن شاهين قد اختلف عليه أيضاً. قال أبو داود: ورواه أبو السوداء عن ابن عبد خير عن أبيه، قال رأيت علياً توضأ فغسل ظاهر قدميه وقال: لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله وساق الحديث. كذا قال أبو داود. قلت: ويزاد على هذا طريق أحمد عن إسحاق بن يوسف عن شريك

عن السدي عن عبد خير، فإنه ذكر فيها بعد المسح على القدمين قال: " لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على ظهر قدميه، رأيت أن بطونهما أحق. . ". قلت: فحاصل ما تقدم من حديث علي رضي الله عنه. أ - صحة الحديث الوارد في المسح على النعلين بمفردهما. ب - صحة الحديث الوارد في المسح على القدمين، وأنه كان متوضئاً حين فعل ذلك. * * * 5 - حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه في المسح على القدمين. له طريق واحدة: وله علتان: الأولى: ضعف ابن لهيعة لسوءٍ في حفظه. الثانية: مخالفة ابن لهيعة لمن هو أحفظ منه. فقد رواه سعيد بن أبي أيوب عن أبي الأسود عن عباد بن تميم عن أبيه، فصار الحديث من مسند تميم - إن صح الحديث - أعني السند إليه وهو الآتي: * * * 6 - حديث تميم رضي الله عنه في المسح على القدمين. فقد أخرجه ابن خزيمة، والطبراني كلاهما من حديث سعيد بن أبي أيوب عن أبي الأسود عن عباد بن تميم عن أبيه. لكن الراوي عن سعيد عند ابن خزيمة أبو زهير عبد المجيد بن إبراهيم المصري. والراوي عنه عند الطبراني هو هارون بن ملول المصري.

ولم أقف على ترجمة لأحد منهما - فلينظرا. ويبقى الحديث على عهدتهما. والله أعلم. * * * 7 - حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه في المسح على القدمين. رجاله ثقات كما ذكر في التعليق المغني، وأورده صاحب النيل فلم يتعلق عليه بشيء، وليس للحديث ما يعل به، إلا التفرد، وهو غير قادح كما قدمنا. والحديث جاء في مقام التعليم، فهو حجة قاطعة في الباب، لا تنفع معه دعاوي من قال بأنه وضوء من لم يحدث، ولا من قال أنه حاصل بعد الغسل، ولا غيره، والله أعلم. * * * 8 - حديث المغيرة بن شعبة في المسح على الجوربين والنعلين. وطريقه واحدة عند الجميع من طريق وكيع، أنا سفيان الثوري، عن أبي قيس الأودي وهو عبد الرحمن بن ثروان، عن هزيل بن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة. أما وكيع وسفيان فاثنان أجل من أن يتكلم فيهما. وأما أبو قيس الأودي: فقال يحيى بن معين: ثقة. وقال العجلي: ثقة ثبت. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: ليس بقوي، هو قليل الحديث، وليس بحافظ، قيل له: كيف هو حديثه؟

قال: صالح هو، ليِّن الحديث. وقال الإمام أحمد: يخالف في أحاديثه. وذكره ابن حبان في الثقات: وروى له الجماعة سوى مسلم. واختصر الحافظ ابن حجر جميع ما تقدم من الأقوال في " تقريب التهذيب " فقال: صدوق ربما خالف. وأما هزيل بن شرحبيل. فقال فيه ابن حبان: ثقة. وقال ابن سعد: ثقة. وقال العجلي: كوفي ثقة. وقال الذهبي: ثقة. وقال الدارقطني: ثقة. وقال ابن حجر: ثقة مخضرم. وقد روى له الستة سوى مسلم.

قلت: والحاصل مما تقدم أن العهدة في هذا الحديث على أبي قيس الأودي إن كان حفظ، ولم يخالف، وقد انقسم أهل العلم في المقصود بالمخالفة هنا على وجهين: الأولون: الذين قالوا: هذا الحديث مخالف لحديثه المخرج في الصحيحين وغيرهما، أنه مسح على الخفين. والآخرون: الذين قالوا: هذه واقعة أخرى، أو هي زيادة، والزياة من الثقة مقبولة، وقد استعرض الزيلعي في نصب الراية أقوالهم فقال: قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال النسائي في " سننه الكبرى ": لا نعلم أحداً تابع أبا قيس على هذه الرواية، والصحيح عن المغيرة أنه عليه السلام مسح على الخفين " انتهى. ورواه ابن حبان في صحيحه، في النوع الخامس والثلاثين من القسم الرابع. وقال أبو داود في سننه: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث، لأن المعروف عن المغيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين، قال: وروى أبو موسى الأشعري أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح على الجوربين، وليس بالمتصل ولا بالقوي. . . وذكر البيهقي حديث المغيرة هذا وقال: إنه حديث منكر، ضعفه سفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني ومسلم بن الحجاج، والمعروف عن المغيرة حديث المسح على الخفين، ويروى عن جماعة أنهم فعلوه، انتهى. قال النووي: كل واحدٍ من هؤلاء لو انفرد لقدم على الترمذي، مع أن

الجرح مقدم على التعديل، قال: واتفق الحفاظ على تضعيفه. ولا يقبل قول الترمذي: إنه حسن صحيح. انتهى. وقال الشيخ تقي الدين - ابن دقيق العيد - في الإمام: أبو قيس الأودي اسمه عبد الرحمن بن ثروان، احتج به البخاري في صحيحه، وذكر البيهقي في سننه أن أبا محمد يَحْيَى بن منصور قال: رأيت مسلم بن الحجاج ضعف هذا الخبر. وقال: أبو قيس الأودي وهزيل بن شرحبيل لا يحتملان، وخصوصاً مع مخالفتهما الأجلة الذين رووا هذا الخبر عن المغيرة فقالوا: مسح على الخفين، وقال: لا نترك ظاهر القرآن بمثل أبي قيس وهزيل. قال: فذكرت هذه الحكاية عن مسلم لأبي العباس محمد بن عبد الرحمن الدغولي فسمعته يقول: سمعت علي بن محمد بن شيبان يقول: سمعت أبا قدامة السرخسي يقول: قال عبد الرحمن بن مهدي: قلت لسفيان الثوري لو حدثتني حديث أبي قيس عن هزيل، ما قبلته منك. فقال سفيان: الحديث ضعيف. ثم أسند البيهقي عن أحمد بن حنبل قال: ليس يروى هذا الحديث إلا من رواية أبي قيس الأودي، وأبى عبد الرحمن بن مهدي أن يحدث بهذا الحديث، وقال: هو منكر. وأسند البيهقي أيضاً عن علي بن المديني قال: حديث المغيرة بن شعبة في المسح رواه عن المغيرة أهل المدينة، وأهل الكوفة، وأهل البصرة، ورواه هزيل بن شرحبيل عن المغيرة إلا أنه قال ومسح على الجوربين فخالف الناس.

وأسند أيضاً - يعني البيهقي - عن يَحْيَى بن معين قال: الناس كلهم يروونه على الخفين، غير أبي قيس. قال الشيخ - تقي الدين ابن دقيق العيد -: ومن يصححه يعتمد بعد تعديل أبي قيس على كونه ليس مخالفاً لرواية الجمهور مخالفة معارضة، بل هو أمر زائد على ما ورد، ولا يعارضه، لا سيما وهو طريق مستقل برواية هزيل عن المغيرة لم يشارك المشهور في سندها. انتهى. وبه ينتهي ما نقله صاحب " نصب الراية ". (تنبيه): قد جاء في الحديث المذكور - حديث المغيرة - أمران: الأول: المسح على الجوربين. الثاني: المسح على النعلين. فأما الأول فليس من شرطنا في الكتاب، لأنه يوجد بين الفقهاء من يقول به. وأما الآخر: فليس من قائل به إلا ابن حزم، وهو على شرطنا في الكتاب. ثم هو ليس بحديث فرد حتى يعلّ بالمخالفة والشذوذ، لما قدمنا من الأحاديث في المسح على النعلين، فلا يعلّ بمثل هذه العلّة، والله أعلم. * * *

9 - حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. في المسح على الجوربين والنعلين. وله طريق واحدة: عن عيسى بن يونس عن عيسى بن سنان عن الضحاك بن عبد الرحمن عن أبي موسى. وقد أشار أبو داود لهذا الحديث ثم قال: وليس بالمتصل ولا بالقوي. وفسر البيهقي قوله فقال: الضحاك بن عبد الرحمن لم يثبت سماعه من أبي موسى، فهو ليس بمتصل، وعيسى بن سنان ضعيف لا يحتج به. ثم أسند البيهقي عن يحيى بن معين قال: عيسى بن سنان ضعيف. قلت: وبهذا أعله العقيلي في الضعفاء. وقد ناقش المباركفوري تضعيف حديث أبي موسى فقال: فإن قلت: قال الشيخ علاء الدين المارديني: إن التضعيف بعد ثبوت سماع عيسى بن سنان عن أبي موسى هو على مذهب من يشترط للاتصال ثبوت السماع. قال: ثم هو معارض بما ذكره عبد الغني فإنه قال في الكمال: سمع الضحاك من أبي موسى، قال: وابن سنان وثقه ابن معين، وضعفه غيره، وقد أخرج الترمذي في الجنائز حديثاً في سنده عيسى بن سنان هذا وحسَّنه. انتهى. قال المباركفوري: إن ثبت سماع الضحاك من أبي موسى ترتفع العلة الأولى وتبقى الثانية، وهي كافية لضعف حديث أبي موسى المشهور. وأما قول المارديني: " وابن سنان وثقه ابن معين وضعفه غيره " ففيه أن ابن معين أيضاً، ضعّفه. قال الذهبي في الميزان: ضعفه أحمد وابن معين، وهو مما يكتب على لينه. .

وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: قال يعقوب بن شيبة عن ابن معين: ليِّن الحديث. وقال جماعة عن ابن معين: ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم: ليس بقوي في الحديث. وقال العجلي: لا بأس به. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن خراش صدوق، وقال مرة: في حديثه نكارة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الكناني عن أبي حازم: يكتب حديثه ولا يحتج به، انتهى كلام الحافظ في التهذيب. وقال: أبو زرعة: مخلط ضعيف الحديث. قال المباركفوري: ولضعف هذا الحديث علة ثالثة، وهي أن عيسى بن سنان مخلّط، كما تقدم. قال المباركفوري: وأما إخراج الترمذي له حديثاً في الجنائز وتحسينه، فمما لا يصغى إليه، فإن الترمذي يحسّن الحديث مع تصريحه بالانقطاع، ومع تصريحه بضعف رواته، ثم تساهل الترمذي مشهور. انتهى. قلت: وخلاصة جميع ما تقدم من الأحاديث أن المسح على القدمين قد صح فيه حديث أوس وحديث علي، وحديث رافع، وله شواهد أخرى ضعيفة.

وأن المسح على النعلين قد صح فيه حديث أوس، وحديث ابن عباس ولكن لا حجة فيه على المسألة، وحديث ابن عمر، وحديث علي، وحديث المغيرة بن شعبة، وفيه حديث ضعيف عن أبي موسى. رضي الله عنهم أجمعين.

الوصل الثالث: في بيان أن قول الفقهاء خلاف الحديث الوارد في المسح على النعلين، وذكر حججهم في دفع ذلك: وإنما ذكرنا هنا حديث المسح على النعلين وحده، وهو الوجه الأول، لأنه هو المراد من هذا الموضع، دون الثلاثة الباقية التي أسلفت ذكرها في أول الباب، لأنها ثمة من أفتى بها، كالمسح على الجوربين، أو القدمين. قال البخاري رحمه الله في الصحيح: " باب غسل الرجلين في النعلين، ولا يمسح على النعلين " فقال الحافظ في الشرح: أي لا يكتفي بالمسح عليهما كما في الخفين، وأشار بذلك إلى ما روي عن علي وغيره من الصحابة أنهم مسحوا على نعالهم في الوضوء ثم صلوا، وروي في ذلك حديث مرفوع أخرجه أبو داود وغيره، من حديث المغيرة بن شعبة، لكن ضعفه عبد الرحمن بن مهدي وغيره من الأئمة، واستدل الطحاوي على عدم الإجزاء بالإجماع على أن الخفين إذا تخرقا حتى تبدو القدمان أن المسح لا يجزئ عليهما، قال: فكذلك النعلان لأنهما لا يفيدان القدمين. انتهى. قال ابن حجر: وهو استدلال صحيح، لكنه منازع في نقل الإجماع المذكور، وليس هذا موضع بسط المسألة. انتهى. قلت: هو الموضع عندنا، والإجماع الذي ذكره الطحاوي له وجهان: الأول: إجماعهم جواز المسح على الخفين. والثاني: إجماع من قال بالمسح على الخفين، بعدم جواز المسح على الخف غير الساتر لما فوق الكعبين. فأما الأول: فقد نقل المنذري عن ابن المبارك أنه قال ليس في المسح

على الخفين عن الصحابة اختلاف، لأن كل من رُوي عنه منهم إنكاره فقد روي عنه إثباته. وذكر أبو القاسم ابن مندة من رواه في تذكرته فكانوا ثمانين صحابياً، وكذا فعل غيره. وما روي عن أبي هريرة وابن عباس وعائشة في إنكار ذلك فقد قال ابن عبد البر: لا يثبت وكذا قال غيره عن غيرهم. وقد قال ابن عبد البر: لا أعلم من روى عن أحد من الفقهاء من السلف إنكاره، إلا عن مالك مع أن الروايات الصحيحة مصرحة عنه بإثباته. قلت: وخلاف داود الظاهري هو المشهور في ذلك، وجماعة لا يعتد بخلافهم من غير أهل السنة، وسواء في مسألتنا بحصول الإجماع على ذلك أم لا، فهو غير مؤثر. فالقائل بمنع المسح إن اعتد بخلافه، وليس بذاك - هو مانع أيضا للمسح على النعلين من باب أولى. والقائل بجواز المسح، قد اشترط ستر ما يستره النعل، فهو مانع للمسح على النعلين أيضاً لعدم تحقق شرطه، وهذا هو المراد بالإجماع الثاني، وهذا الشرط متوفر عند الجميع كما قال الطحاوي، وذكر اشتراط ذلك عن الجميع، ليس لهذه العجالة. فتحقق أن ليس من قائل بجواز المسح على النعلين إلا من تقدم ذكره من الصحابة، والمنقول فيه عن ابن حزم رحمه الله، وقد قدمناه. والأصل الأقوى الذي أعلّوا به العمل بهذه الأحاديث، هو المخالفة

للأحاديث الصحيحة الصريحة في المسح على الخفين، وأن الاختلاف نتيجة الوهم، لا الحصول. والوجه الآخر، هو أنهم قالوا: إنه كان يلبس جوربين منعلّين، وهو جواب يخالفه ظاهر الخبر. والثالث وهو أضعفها، من أن المراد بالنعل الخف. ولهم أجوبة في ذلك غير هذه.

الحديث الرابع في النهي عن تنقيص الوضوء عن ثلاث مرات

الحديث الرابع في النهي عن تنقيص الوضوء عن ثلاث مرات والذي متنه: ". . هكذا الوضوء - يعني ثلاثاً ثلاثاً - فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم ". مروي من طريق عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبيه عن جده. الوصل الأول: في بيان طريق هذا المتن، والكلام على صحتها: قال الإمام الحافظ أبو داود في سننه: حدثنا مسدد قال: حدثنا أبو عوانة عن موسى بن أبي عائشة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: إن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله كيف الطهور؟ فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل ذراعية ثلاثاً، ثم مسح بإبهامه على ظاهر أذنيه، وبالسباحتين باطن أذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: " وهكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم، أو ظلم وأساء ". وأخرجه البيهقي من طريق أبي داود فقال: أخبرنا أبو علي الروذباري، أنا أبو بكر محمد بن بكر ثنا أبو داود. . . فذكره.

قلت: وهذا اللفظ بهذه الزيادة: " أو نقص " لا يعرف إلا بهذا الإسناد من طريق أبي عوانة عن موسى عن عمرو عن أبيه عن جده. وأما طريقه الأخرى التي ليس فيها الزيادة المذكورة، فهي من حديث سفيان الثوري عن موسى بن أبي عائشة عن عمرو عن أبيه عن جده: أن أعرابياً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الوضوء؟. فتوضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: " من زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم ". وأخرجه من هذه الطريق: أ - النسائي قال: أخبرنا محمود بن غيلان، قال حدثنا يعلى قال حدثنا سفيان عن موسى. . فذكره. ب - ابن ماجه قال: حدثنا علي بن محمد، ثنا خالي يعلى عن سفيان. . فذكره. ج - ابن خزيمة قال: أخبرنا أبو طاهر أنا أبو بكر، نا يعقوب بن إبراهيم الدروقي، حدثنا الأشجعي عن سفيان. . فذكره. د - ابن الجارود قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدروقي. . فذكره. هـ - البيهقي قال: أخبرنا أبو طاهر الفقيه، أنا أبو عثمان البصري،

والعباس بن محمد القوهياري قالا: نا محمد بن عبد الوهاب، ثنا يعلى بن عبيد، ثنا سفيان. . . فذكره. مسألة: ولما كان في الإسنادين رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، وجب ذكر قول أهل العلم في هذا بشيء من الإيجاز المغني. ولما كان أهل العلم، على ثلاثة أقوال في روايته، فقد قسمنا أقوالهم كذلك. الأول في ذكر المضعّفين لروايته عن أبيه عن جدّه: قال يحيى بن سعيد القطان: حديثه عندنا واهٍ. وقال سفيان بن عيينة: إنما كان يحدث عن أبيه عن جده، وكان حديثه عند الناس فيه شيء. وقال مرة أخرى: غيره أجود منه. وقال يحيى بن معين مرة: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده كأنه ليس بذاك. وقال أبو داود: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ليس بحجة، ولا نصف حجة. وقال ابن علية: غيره خير منه.

وقال ابن حبان: إذا روى عن أبيه عن جدّه ففيه مناكير كثيرة، لا يجوز الاحتجاج عندي بشيء رواه عن أبيه عن جدّه، لأن هذا الإسناد لا يخلو أن يكون مرسلاً أو منقطعاً. الثاني في ذكر المصححين لها: قال محمد بن إسماعيل البخاري: رأيت أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه، وأبا عبيد، وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، ما تركه أحد من المسلمين. قال البخاري: ومن الناس بعدهم. قال الذهبي في " الميزان " بعد أن ساق كلام البخاري هذا: " ومع هذا القول ما احتج به البخاري في جامعه ". قلت: لأنه صحيح، ولكن على غير شرطه يا إمام من تحقق السماع، وعدم الاكتفاء بمجرد المعاصرة، وما عرف من انتقاء البخاري لأصح الروايات، فإنه حيث ترك كثيراً من الروايات الصحيحة لم يتركها لضعفها، ولكن لوجود ما هو أصح منها. وأما تشكيك الذهبي في السير بهذه الكلمات عن البخاري، فلا معنى له، مع ثبوته في كتب البخاري كما في " التاريخ الكبير " وكتب الناقلين عنه كالترمذي، والمزي وغيرهما. ثم تأمل قول البخاري: " يحتجون " وقوله " وما تركه أحد " فليست هذه الألفاظ من معالي عبارات التصحيح، بل ولا أوسطها، لأن ترك الترك أقل

القبول. بل لا يبلغ الاحتجاج أحياناً، ولذلك زاد " الاحتجاج " حتى يشعر باختلاف درجة التوثيق عند الناقل عنهم ". وهذا الذي تلفظ به البخاري رحمه الله من أدق العبارات، وكيف لا يكون كذلك وهو إمام الدنيا في هذا الشأن، وذلك أننا بالرجوع لعباراتهم لا نجد إلا هذا المعنى الذي ذكره الإمام البخاري. فقد قال الإمام أحمد في رواية: عمرو بن شعيب له أشياء مناكير، وإنما يكتب حديثه يعتبر به، فأما أن يكون حجة فلا. وقال مرة: أراه قد سمع من أبيه. وقال ثالثة: أصحاب الحديث إذا شاؤوا احتجوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، " وإذا شاءوا تركوه ". فهذه الألفاظ عن أحمد قد حواها قوله: " ما تركه أحد منهم ". وأما قوله " يحتجون " فهو المروي عن إسحاق فإنه قال: " إذا كان الراوي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه ثقة، فهو كأيوب عن نافع عن ابن عمر ". وقال ابن المديني: سمع أبوه شعيب من جده عبد الله، وعمرو بن شعيب عندنا ثقة وكتابه صحيح.

وممن صحح حديثه عن أبيه عن جدّه: أبو بكر بن زياد النيسابوري قال: " صح سماع عمرو عن أبيه شعيب، وصح سماع شعيب من جدّه عبد الله ". الثالث: في ذكر المصححين عند عدم التفرد، أو بقيد، وذكر المنتقين لحديثه. قال يحيى بن معين في رواية: يكتب حديثه. وقال أبو زرعة: روى عنه الثقات، وإنَّما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبيه عن جدّه، وقالوا: إنما سمع أحاديث يسيرة، وأخذ صحيفة كانت عنده فرواها، وما أقل ما نصيب عنه مما روى عن غير أبيه عن جده من المنكر، وعامة هذه المناكير التي تروى عنه إنما هي عن المثنى بن الصباح وابن لهيعة والضعفاء، وهو ثقة في نفسه، إنما تكلم فيه بسبب كتاب عنده ". وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي أي أحب إليك عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، أو بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، قال: عمرو أحب إلي. وقال مرة عنه: عمرو ليس بقوي، يكتب حديثه، وما روى عنه الثقات فيذاكر به. وقال ابن عدي: روى عنه أئمة الناس وثقاتهم، وجملة من الضعفاء، إلا أن أحاديثه عن أبيه عن جده مع احتمالهم إياه، لم يدخلوها في صحاح ما خرجوا، وقالوا: هي صحيفة.

وقال أبو بكر بن الأثرم: سئل أبو عبد الله عن عمرو بن شعيب، فقال: أنا أكتب حديثه، ربما احتججنا به، وربما وجس في القلب منه شيء، ومالك يروي عن رجل عنه. قلت: إشارة الإمام أحمد لرواية مالك عن رجل عنه، أراد بها أن مالكاً يوثقه، لأن مالكاً لا يحدث إلا عن ثقةٍ عنده. وقال الدارقطني: لعمرو ثلاثة أجداد: الأدنى منهم: محمد، والأوسط: عبد الله، والأعلى: عمرو بن العاص. وسمع - يعني شعيباً - من جدّه عبد الله، فإذا بينه وكشفه فهو صحيح حنيئذ، ولم يترك حديثه أحد من الأئمة. ولم يسمع من جدّه عمرو. قلت: والذي يؤكد سماع شعيب من عبد الله بن عمرو، ما رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي عن شعيب: أن رجلاً أتى عبد الله بن عمرو يسأله عن محرم وقع بامرأته، فأشار إلى عبد الله بن عمر، فقال: اذهب إلى ذلك فاسأله قال شعيب: فلم يعرفه الرجل، فذهبت معه. . وفيه: فرجع إلى عبد الله بن عمرو وأنا معه، فقال عبد الله: اذهب إلى ابن عباس فسله. قال شعيب: فذهبت معه إلى ابن عباس فسأله، فقال كما قال ابن عمرو، فرجع إلى عبد الله بن عمرو، وأنا معه فأخبره. . ".

وقد قال الحاكم في هذا الموضع: وقد أكثرت في هذا الكتاب الحجج في تصحيح روايات عمرو بن شعيب - يعني عن أبيه عن جده - إذا كان الراوي عنه ثقة، ولا يذكر عنه أحسن من هذه الروايات، وكنت أطلب الحجة في سماع شعيب عن عبد الله بن عمرو فلم أصل إليها إلى هذا الوقت. ثم روى الحديث السابق وقال: هذا الحديث رواته ثقات حفاظ، وهو كالآخذ باليد في صحة سماع شعيب عن جدّه عبد الله بن عمرو. ونقل الذهبي كلامه، ولم يتعقبه بشيء. " ملخص القول في قبول رواية عمرو المذكورة ". قال الحافظ ابن حجر: عمرو بن شعيب ضعّفه ناس مطلقاً، ووثقه الجمهور، وضعّف بعضهم روايته عن أبيه عن جدّه حسْب. وقال شيخه العراقي في شرح الألفية له: وقد اختلف العلماء في الاحتجاج برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، الأقوى أنها حجة مطلقاً إذا صح السند إليه. وقال من قبلهما ابن الصلاح؛ والصحة قول أكثر أهل الحديث. وقد قدمنا ذكر من أطلق الصحة من قبل، وهؤلاء الثلاثة الشيوخ من المحققين لعلم المصطلح، الناس جميعاً من بعدهم عيال عليهم في الاختيار

بين أقوال السلف والأئمة السابقين، سيما وقد تبين أن حجتهم في ذلك قائمة. هذا، وفي المقام أشياء كثيرة مبسوطة مذكورة في مواضعها يطول ذكرها، قد أعفانا من ذكرها اشتراط الإيجاز. مسألة: في الكلام على صحة سند الحديث، وأن الرواة قبل عمرو ثقات: فأما موسى فثقة عابد من رجال الشيخين. وأما أبو عوانة، فهو وضاح اليشكري، ثقة ثبت من رجال الشيخين. وأما مسدد، فحافظ كبير مسند، ثقة من رجال البخاري. وقد ثبتت رواية كل واحد من هؤلاء الثلاثة عمن بعده، فاتصل الحديث، ووثق رجاله. مسألة: في بيان أن مخالفة سفيان لأبي عوانة، لا تضر. هذا إن صح إطلاق المخالفة، فأهل الاصطلاح لا يسمون مثل هذا بالمخالفة، وإنما يعبرون عنه بزيادة الثقة فقط. لأن أبا عوانة إنما زاد هذا اللفظ " أو نقص ". وعند أهل الاصطلاح أن الزيادة من الثقة مقبولة، وبعضهم يذكر لذلك قيوداً، لكنها ليست في هذا الحديث، فالواجب قبولها عند هؤلاء أيضاً.

الوصل الثاني: في بيان أن فتوى أهل العلم على خلاف الحديث المذكور: قال الزرقاني: ومن الغرائب ما حكاه أبو حامد الاسفرائيني عن بعض العلماء أنه لا يجوز النقص عن الثلاثة كأنه تمسك بظاهر الحديث المذكور. قال الزرقاني: وهو محجوج بالإجماع. قلت: فقد استفدنا من قول الزرقاني أن الإجماع على خلافه. والإجماع على خلاف الحديث منقول عن النووي أيضاً.

الوصل الثالث: في بيان مذاهب العلماء وذكر حججهم في دفع القول بظاهر الحديت: أ - أما القائلون بضعف رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، فغير محتاجين للجواب عنه. ب - وكذا القائلون باشتراط المتابع وعدم التفرد، فالحديث فرد لا متابع له في النقص. ج - وأما الذين يصححون الحديث فطرفان: منهم من يعتبر الوهم فيه من أبي عوانة، كابن المواق، وغيره. فهم يصححون الحديث دون هذه الزيادة، ويعتبرونها من الأوهام، أو منكرة كما نقل عن مسلم. ومنهم من يصرفه عن ظاهره بتأويل: كأن يحمل على نقص غسل بعض الأعضاء بالكلية، قاله السيوطي. أو يحمل بأنه ظلم نفسه بما فوتها من الثواب الذي يحصل بالتثليث. حكاه الشوكاني في " النيل ". قال الشوكاني: وأما توجيه الاعتداء فمشكل.

الحديث الخامس في التيمم إلى المناكب والآباط

الحديث الخامس في التيمم إلى المناكب والآباط وهذا الحديث لست أعرفه في شيء من الكتب المصنفة التي وقفت عليها إلا من رواية ابن شهاب الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود. ليس هو من غير هذه الطريق. الوصل الأول: في بيان صحته، وذكر طرقه: لهذا الحديث ثلاث طرق لا رابع لها: ° الطريق الأولى: وهي التي من رواية ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن عمار. أ - أخرجها أبو داود قال: حدثنا أحمد بن صالح، أخبرنا عبد الله بن وهب حدثني يونس عن ابن شهاب قال: إن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، حدثه عن عمار بن ياسر أنه كان يحدث أنهم تمسَّحُوا وهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصعيد لصلاة الفجر. فضربوا بأكفهم الصعيد، ثم مسحوا وجوههم مسحة واحدة، ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى، فمسحوا بأيدهم كلها إلى المناكب، والآباط من بطون أيديهم ". ب - وأخرجها ابن ماجه مختصرة المتن قال: حدثنا أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح، ثنا عبد الله بن وهب، أنبأنا يونس بن يزيد. . . فذكر الحديث إلى قوله " بأيديهم " الأولى، ولم يزد.

ج - وأخرجها عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، بتمام اللفظ، ومن طريقه أحمد. د - وأخرجها البيهقي في السنن، تامة المتن قال: أخبرنا الأستاذ أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، أنا عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب ثنا أبو داود ثنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن عبيد الله عن عمار بن ياسر قال:. . . . إن الناس طفقوا يومئذ يمسحون بأكفهم الأرض فيمسحون وجوههم ثم يعودون فيضربون ضربة أخرى فيمسحون بها أيديهم إلى المناكب والآباط، ثم يصلّون كذلك. هـ - وهذه طريق أبي داود الطيالسي فإنه قال حدثنا ابن أبي ذئب فذكره ... (حكم هذه الطريق): وهذه الطريق منقطعة، لأن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة لم يدرك عمار بن ياسر. وهو قول سائر أهل العلم لاتفاقهم على عدم اللقاء بينهما. كما حكاه الزيلعي وغيره. ° الطريق الثانية: وهي التي من رواية الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبيه عن عمار، فزاد في هذه الطريق: " عن أبيه ".

أ - أخرجها ابن حزم فقال: روينا من طريق العباس بن عبد العظيم، عن عبد الله بن محمد بن أسماء بن عبيد، عن عمه جويرية بن أسماء، عن مالك بن أنس عن الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبيه عن عمار بن ياسر قال: " تيممنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمسحنا بوجوهنا وأيدينا إلى المناكب ". وهذه الطريق هي طريق النسائي، والعباس شيخه فيه. ب - وأخرجها ابن حبان في صحيحه قال: أخبرنا الفضل بن الحباب، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء بن أخي جويرية، قال: حدثنا جويرية، عن مالك عن الزهري. . . فذكره - ولم يذكر الوجه فيه - وإنما قال: تيممنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المناكب ". ج - وأخرجها الحميدي في مسنده قال: ثنا سفيان قال: ثنا الزهري فذكره كابن حبان. د - وأخرجها ابن ماجه في سننه قال: حدثنا محمد بن أبي عمر العدني، ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن الزهري به مثل لفظ ابن حبان. هـ - وأخرجها الشافعي عن الثقة عن معمر عن الزهري به. . فذكره.

و - وأخرجها البيهقي في السنن قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، ثنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا إسماعيل بن إسحاق. وأخبرنا أبو طاهر الحسن بن علي، أنا أبو جعفر، ثنا إسماعيل، ثنا زيد القاضي، ثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، ثنا جويرية عن مالك عن الزهري به. . . كلفظ النسائي. (حكم هذه الطريق): وهذه الطريق صحيحة إن شاء الله، موصولة. وأما قول البيهقي: شك سفيان بن عيينة في ذكر أبيه في إسناده. فمرة يسقطه كالطريق الأولى ومرة يثبته كما هنا. فالجواب: أنه ليس له ذكر في الروايات التي سقط فيها ذكراً عن أبيه " ولذلك لم يذكر هذه العلة أحد من أصحاب العلل، ولا المضعفين لهذه الطريق، فالوهم هنا من البيهقي، إلا أن يكون ذلك عنده من طريق لم يسقها هو، وليست هي عند أحد من الناس، وهو بعيد جداً. نعم، الخلاف عنه في ذكراً عن أبيه " أو " عن ابن عباس " كما سيأتي في الطريق الثالثة، فقط. هذا من وجه. ومن آخر، أن الحديث لا يدور على سفيان من هذه الطريق الموصولة، بل تابعه على ذلك مالك كما عند النسائي وابن حبان والبيهقي. فإن طرحت رواية سفيان بقيت رواية مالك.

نعم، الخلاف عن سفيان إنما هو بذكر عمرو بن دينار مرة، وترك ذكره مرّة. وقد ذكر هذا البيهقي وغيره. والجواب أنه لا مانع من أن يكون سفيان سمعه من عمرو أولاً عن الزهري، ثم سمعه من الزهري نفسه، فأسقط الواسطة. ومما يؤكد صحة هذا، ما ذكره الحميدي في مسنده بعد الحديث المذكور، من هذه الطريق التي سقناها عنه قال: حضرت سفيان وسأله يحيى بن سعيد القطان فحدثه وقال فيه - القائل سفيان -: حدثنا الزهري. ثم قال سفيان: حضرت إسماعيل بن أبي أمية أتى الزهري فقال: يا أبا بكر إن الناس ينكرون عليك حديثين يتحدث بهما. فقال الزهري: ما هما؟ قال: تيممنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المناكب. فقال الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن أبيه عن عمار. ثم سأله إسماعيل عن الحديث الآخر. . . قلت: فتبين من هذا أن سفيان قد سمعه من الزهري في هذا المجلس، إن لم يكن سمعه أيضاً في آخر. ولما كان سفيان شيخ الحميدي - راوي هذه القصة في مسنده - وهو

من أجل شيوخ البخاري - لم يعد من إسناد أصح من هذا الإسناد، لهذه القصة، فقطعنا بصحة سماعه منه لهذا الحديث بعينه. وسيأتي بعد ذكر تصحيح الحافظين أبي حاتم وأبي زرعة لهذه الطريق، عند ذكر الطريق الثالثة: ° الطريقة الثالثة: وهي التي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمار بن ياسر. أ - أخرجها أبو داود قال: حدثنا محمد بن أحمد بن أبي خلف، ومحمد بن يحيى النيسابوري في آخرين، قالوا: أخبرنا يعقوب أخبرنا أبي، عن صالح عن ابن شهاب حدثني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمار بن ياسر: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرّس بأولات الجيش ومعه عائشة، فانقطع عقد لها من جزع ظفار، فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر، وليس مع الناس ماء، فتغيظ عليها أبو بكر - رضي الله عنه - وقال: حبست الناس وليس معهم ماء، فأنزل الله تعالى ذكره على رسوله رخصة التطهر بالصعيد الطيب، فقام المسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضربوا بأيديهم الأرض ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئاً، فمسحوا بها وجوهم وأيديهم إلى المناكب، ومن بطون أيديهم إلى الأباط ". زاد يحيى في حديثه: قال ابن شهاب في حديثه: ولا يعتبر بهذا الناس. وأخرجها ابن الجارود في المنتقى قال:

حدثنا محمد بن يحيى قال ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، قال: ثني أبي عن صالح. . فذكره مثل رواية أبي داود. ب - وأخرجها النسائي قال: أخبرني محمد بن يحيى. . . فذكره - إلا قول ابن شهاب الذي في آخر الحديث " ولا يعتبر الناس بهذا ". ج - وأخرجها البيهقي قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أحمد بن جعفر القطيعي ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي عن صالح عن ابن شهاب. . فذكره. د - وهذه الطريق مروية عن الإمام أحمد كما ترى، وقد أخرجها في مسنده هكذا. هـ - وقد روي هذا من طريق محمد بن إسحاق عن الزهري. وظاهر كلام بعض الأئمة ومقتضاه أن هذا اللفظ قد روي أيضاً من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري به، كما سيأتي مع مناقشته. ولم أقف على هذه الطريق. (حكم هذه الطريق): ظاهرها الصحة والسلامة، إلا أن الحفاظ يعفونها بالطريق الثانية المتقدمة، يجعلون الثانية هي الصواب، وأن الثالثة خطأ.

فقد رأيت ابن حاتم في " العلل " يقول: سألت أبي وأبا زرعة، عن حديث رواه صالح بن كيسان وعبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التيمم، فقالا: " هذا خطأ، رواه مالك وابن عيينة عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبيه عن عمار، وهو الصحيح، وهما أحفظ ". قلت - القائل ابن أبي حاتم -: قد رواه يونس وعقيل وابن أبي ذئب عن الزهري - عن عبيد الله بن عبد الله عن عمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم أصحاب الكتب. فقالا: " مالك صاحب كتاب، وصاحب حفظ ". انتهى. قلت: فاستفدنا من مناقشة هؤلاء الحفاظ لهذه الطرق الثلاثة أشياء: - أولها: أن الطريق الأولى ليست تروى عن سفيان، كما قررناه في الرد على البيهقي. وذلك أن ابن أبي حاتم، لم يذكره عند محاولته إعلال الطريق الثانية، فإنه من واجب من قام مقامه أن يذكر أجل من روى الطريق الأولى، فما كان له أن يعدل عن ذكر سفيان، ويذكر يونس وعقيلاً وابن أبي ذئب، ويغفل عن سفيان. - ثانيها: أن الطريق الثالثة كالأولى، ليست تروى عن سفيان، فإن ابن أبي حاتم لم يذكر ذلك في أول سؤاله.

وكذلك فإنهما لما أجاباه بصحة الثانية، ذكرا فيها سفيان بن عيينة مع مالك، ولو كان سفيان روى غير الثانية - كالأولى أو الثالثة مثلاً - لما ناسب ذكره في الطريق الثانية، لأنه عند ذلك يكون ذكره من الإعلال لا من التصحيح، وهما إنما أرادا تصحيح الخبر لا إعلاله. وهنا يبقى الجواب عما ذكره أبو داود في سننه فإنه قال: " وشك فيه ابن عيينة: مرة قال عن عبيد الله عن أبيه، أو عن عبيد الله عن ابن عباس: ومرة قال: " عن أبيه "، ومرة قال: (عن ابن عباس) انتهى. فالظاهر أن هذه الطريق التي حكاها أبو داود ولم يروها هو، ولم نقف عليها، ولم يستدل بها الحفاظ، قد جاءت من طريق ضعيفة جداً غير معتبرة، فأسقط الحفاظ ذكرها لعدم ثبوتها، فمثلها لا يستدل به، وذكرها أبو داود في جملة ما اعترض به على رواية سفيان، أو أنها جاءت مغايرة اللفظ، والله أعلم. ثالثها: أن الحديث محفوظ صحيح من الطريق الثانية بحمد الله تعالى، كما هو قول ابن خزيمة وابن حبان وابن حزم والبيهقي وغيرهم.

الوصل الثاني: بيان ترك القول بهذا الحديث: قد تقدم لنا قول ابن شهاب: " ولا يعتبر بهذا الناس ". أي لا يعتبرون بهذا الحديث ويعملون به. وقد قال صاحب عون المعبود: " ولم يذهب أحد إلى التيمم إلى الآباط والمناكب، هكذا قال الزهري، وأما هو - يعني الزهري - فقد ذكر ابن المنذر والطحاوي وغيرهما أنه كان يرى التيمم إلى الآباط " انتهى. قلت: وقد استقرينا مذاهب الناس فلم نجد من يقول بهذا الخبر، وإنما يفتون بأحاديث مسح الوجه الكفين. وقد قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: لم يختلف أحد من العلماء في أنه لا يلزم مسح ما وراء المرفقين. قلت أنا أبو عبد الله: هذا تفصيل من الخطابي دقيق، لأن القول بمسح المرفقين، كما أشار قد قال به ابن عمر، والحسن، والشعبي، وإبراهيم، وعبد الرزاق. أخرج جميع ذلك عنهم عبد الرزاق في المصنف وغيره، ولذلك لم نذكر أحاديث المرفقين في هذا الكتاب لأنها ليست على شرطنا. والله أعلم.

الوصل الثالث: في ذكر الأوجه التي ردوا بها هذا الخبر: الوجه الأول: في ثبوت ما أهو أصح منه بغير هذه الكيفية، وجعله ناسخا له. قال الحافظ في الفتح: الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهيم وعمار، وما عداهما فضعيف أو مختلف في رفعه ووقفه، والراجح عدم رفعه. فأما حديث أبي جهيم فورد بذكر اليدين مجملاً. وأما حديث عمار: فورد بذكر الكفين - فقط - في الصحيحين. وبذكر المرفقين في السنن، وفي رواية إلى نصف الذراع، وفي رواية إلى الآباط. فأما رواية المرفقين، وكذا نصف الذراع ففيهما مقال. وأما رواية الآباط، فقال الشافعي وغيره: إن كان وقع بامر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكل تيمم صح للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعده فهو ناسخ له. ثم قال: ومما يقوي رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين، كون عمار كان يفتي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره، ولا سيما الصحابي المجتهد، انتهى.

الوجه الثاني: لمن يشترط عدم مخالفة الراوي لروايته. فقد عرفت من الجواب الأول أن عماراً كان يفتي بخلافه، فلم يتحقق به هذا الشرط عند القائلين به. الوجه الثالث: في أن هذا التيمم كان من فعلهم، ولم يكن عن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا حكاه كثيرون من شراح الحديث والفقهاء، فقالوا: ليس في القصة نص بيان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك، ولا نص بيان بأنه عليه الصلاة والسلام عرف به بعد فأمرَّه. وهذا منقول عن الشافعي، والبيهقي، وابن حزم، والسندي، والسيوطي، وكثيرين.

الحديث السادس: في الذي يقع على جارية امرأته من حديث سلمة بن المحبق

الحديث السادس: في الذي يقع على جارية امرأته من حديث سلمة بن المحبِّق وهذا الحديث في سائر طرقه يدور على الحسن البصري، ليس يعرف إسناد له، لم يذكر فيه الحسن. الوصل الأول: في بيان طرقه وقبل الشروع في تفصيل طرقه، فإننا نذكرها موجزة جداً فنقول: قد روي هذا الحديث عن الحسن على ثلاثة أوجه: الأول: عنه عن جون عن سلمة. روى ذلك عنه قتادة. الثاني: عنه عن قبيصة عن سلمة. روى ذلك عنه قتادة، وسلَّام بن مسكين. والفضل بن دلهم ومنصور بن زاذان، وعمرو بن دينار. الثالث: عنه عن سلمة مباشرة. روى ذلك عنه عمرو بن دينار، وهشام، وقتادة، ويونس ومنصور. ° (الطريق الأولى): التي من رواية الحسن عن جون عن سلمة. أخرجها الطبراني في الكبير قال: حدثنا عبدان بن أحمد، ثنان نصر بن علي، ثنا بكر بن بكار، ثنا شعبة، عن قتادة عن الحسن عن جون بن قتادة، عن سلمة بن المحبِّق، عن

النبي - صلى الله عليه وسلم - في رجل وقع على جارية امرأته: " إن كان استكرهها فهي حرة، وعليه مثلها، وإن كانت طاوعته، فهي له وعليه مثلها ". وأخرجها البيهقي من طريق بكر بن بكار فقال: حدثنا أبو الحسن محمد بن الحسين إملاء، أنبأ أبو حامد أحمد بن محمد الحافظ، ثنا علي بن سعيد النسوي، وأحمد بن سعيد الدارمي، قالا: ثنا بكر بن بكار. . . فذكره بلفظ " إن استكرهها فهي حرة، ولها عليه مثلها، وإن كانت طاوعته فهي أمة، ولها عليه مثلها ". انتهى. قلت: وهذا اللفظ مفسّر. وأخرجه الطبراني من طريق آخر عن قتادة، عن سعيد بدل شعبة فقال: حدثنا محمد بن العباس الأخرم الأصبهاني، حدثنا أحمد بن عبيد الله بن الحسن العنبري ثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة. . . فذكر الحديث - بمثل لفظه الأول -. (حكم هذه الطريق): هي بعينها، لا تصح، ولكنها متابعة. ففي طريق الطبراني الأولى، وهي طريق البيهقي: بكر بن بكار القيسي. قال أبو زرعة: ليس بالقوي. وقال النسائي مثله، ومرة قال: ليس بثقة.

وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال ابن حبان: ثقة ربما يخطئ. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وأما جون بن قتادة فهو مقبول كما في التقريب. وجون هو في الطريق الثانية التي للطبراني، ومعه: أحمد بن عبيد الله بن الحسن العنبري: قال في " اللسان ": عن أبيه، وعن الحسن بن علي، وإبراهيم، وحماد، وعلي بن سعيد الرازي وآخرون. قال ابن القطان: مجهول. قلت - القائل ابن حجر -: ذكره ابن حبان في الثقات فقال: روى عن ابن عيينة، وعنه ابن الباغندي لم تثبت عدالته. وابن القطان تبع ابن حزم في إطلاق التجهيل على من لا يطلعون على حاله، وهذا الرجل بصري شهير، وهو ولد عبيد الله القاضي المشهور. انتهى. قلت أنا أبو عبد الله: فانتفت جهالة عينه، وبقيت جهالة حاله. فهو علة هذا الإسناد.

° (الطريق الثانية): المروية من طريق الحسن عن قبيصة بن حريث عن سلمة. أخرجها عبد الرزاق في مصنفه قال: حدثنا معمر عن قتادة عن الحسن عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبِّق قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رجل وطئ جارية امرأته: إن كان استكرهها فهي حرة وعليه مثلها، وإن كانت طاوعته فهي له، وعليه لسيدتها مثلها " انتهى. ومن طريق عبد الرزاق أخرجها أحمد في مسنده. ولعبد الرزاق فيها إسناد آخر قال: عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال: سمعت الحسن يحدث عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. - وأخرجه أيضاً الطبراني من طريق عبد الرزاق المذكورة قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رجل وطئ جارية امرأته: " إن كان استكرهها

فهي حرة، وعليه لسيدتها مثلها، وإن كانت طاوعته فهي له أمة، وعليه لسيدتها مثلها ". وهذا لفظ مفسر جداً، لذلك أوردناه بتمامه. - وأخرجه النسائي في الصغرى والكبرى عن عبد الرزاق قال: حدثنا محمد بن رافع النيسابوري، قال: ثنا عبد الرزاق. . . فذكره كاللفظ السابق. - وأخرجه أبو داود عن عبد الرزاق أيضاً قال: حدثنا أحمد بن صالح أخبرنا عبد الززاق. . . فذكره بألفاظه. - وأخرجه البيهقي من طريق أبي داود وغيره فقال: أخبرنا أبو علي الروذباري، أنبأنا أبو بكر بن داسة، ثنا أبو داود فذكره، قال: وأخبرنا أبو محمد عبد الله بن يحيى عن إسماعيل بن محمد الصفَّار، ثنا أحمد بن منصور، ثنا عبد الرزاق به. وقد أخرج الطبراني هذه الطريق بإسناد آخر قال. حدثنا يوسف القاضي ثنا القاسم بن سلام بن مسكين حدثني أبي قال سألت الحسن عن رجل يقع بجارية امرأته، فقال حدثني قبيصة من حريث. . . فذكره.

ومن طريق يوسف أخرجها البيهقي قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقري، أنبأنا الحسن بن محمد بن إسحاق، ثنا يوسف. . . فذكره. وأما طريق الفضل بن دلهم ومنصور بن زاذان عن الحسن عن قبيصة عن سلمة فقد ذكرهما البخاري. (حكم الطريق الثانية): هذا إسناد رجاله أئمة اثبات، إلا قبيصة بن حريث، فهو ليس بإمام لكنه صدوق. وذكره الآجري وغيره من مشايخ الحسن. وذكره ابن حبان في الثقات. وذكره العقيلي في " الضعفاء " وساق له هذا الخبر وقال: (في هذا الحديث اضطراب). وقال الحافظ ابن حجر في (التهذيب): جهله ابن القطان. وقال النسائي: لا يصح حديثه.

وذكر أبو العرب التميمي أن أبا الحسن العجلي قال: قبيصة بن حريث تابعي ثقة. وأفرط ابن حزم فقال: ضعيف مطروح،. انتهى. قلت أنا أبو عبد الله: فكان ملخص القول عند الحافظ أنه صدوق كما في التقريب. وقد قال البخاري: في حديثه نظر. قلت: وللناس مذاهب في قول البخاري: " وفي حديثه نظر ". فالذهبي والعراقي يريانها من أعظم ألفاظ الجرح، وخالفهما في هذا كثيرون، إذ الصواب ليس معهما ". والمسألة طويلة الذيل، فنحيلك على موضع هذه المسألة، مع مزيد بسط يفي بالمقام إن شاء الله تعالى، فتلطف بالرجوع " للرفع والتكميل ". وملخص جميع ما تقدم أن قبيصة قد اختلفوا فيه، فمثله لا يرد حديثه، سيما وقد توبع في الطريق الأولى. وأما قتادة، فمع اشتهاره بالتدليس، لم يذكر أحد من العلماء أنه كان يدلس عن الحسن قط. وهو متابع بسلام وعمرو وغيرهما، فهو حسن إن شاء الله. وسيأتي في آخر الطريق الثالثة ذكر من رجح هذه الطريق الثانية من العلماء وشهد لها بالصحة.

° (الطريق الثالثة): التي عن الحسن عن سلمة. أخرجها الإمام أحمد بن حنبل في مسنده قال: ثنا عفان، أنا حماد بن زيد، ثنا عمرو بن دينار، قال: سمعت الحسن عن سلمة بن المحبق قال:. . . فذكر الحديث. وأخرجها البيهقي من طريق حماد المذكور فقال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقري، أنبأنا الحسن بن محمد بن إسحاق، ثنا يوسف بن يعقوب، ثنا أبو الربيع، ثنا حماد بن زيد. . . فذكره. وأخرجها الطبراني عن عمرو بن دينار أيضاً فقال: حدثنا موسى بن هارون، ثنا داود بن عمرو الضبي، ثنا محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار قال: سمعت الحسن بن أبي الحسن عن سلمة بن ربيعة بن المحبق قال: سمعت امرأة تسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جارية لها، خرج بها زوجها إلى السفر فأصابها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن كان. . . وذكره. وله فيها إسناد آخر قال: حدثنا أبو خليفة، ثنا علي بن المديني، ثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، عن الحسن البصري عن سلمة بن المحبق أن رجلاً. . . وذكره.

وأخرجه ابن ماجه والنسائي من طريق هشام عن الحسن به. أما ابن ماجه فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا عبد السلام بن حرب، عن هشام بن حسان، عن الحسن عن سلمة بن المحبق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع إليه رجل وطئ جارية امرأته، فلم يحده. وأما النسائي فقال: حدثنا هناد بن السري عن عبد السلام، به. فاختصر هشام هذا الحديث، أو من دونه. وأخرجه أبو داود والنسائي عن قتادة عن الحسن به. قال أبو داود: حدثنا علي بن حسين الدرهمي، أخبرنا عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن الحسن عن سلمة بن المحبق به. . . - بمثل اللفظ الأول التام -. وقال النسائي في الصغرى والكبرى. أخبرنا محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا يزيد هو ابن زريع قال: ثنا سعيد فذكره. . وأخرجه النسائي، وعلقه أبو داود من طريق يونس عن الحسن به.

قال النسائي في الكبرى: أخبرنا يعقوب بن إبراهيم، قال ثنا ابن علية، عن يونس عن الحسن فذكره. وأخرج الحديث من طريق منصور عن الحسن عن سلمة، ذكر ذلك أبو داود في السنن، ولم أقف على هذه الطريق. ولم أنقب عنها كما يجب. (حكم الطريق الثالثة): قد أطال أهل العلم النفس في تدليس الحسن، وهل سمع من الصحابة شيئاً، ومن هم الذين سمع منهم على الصحيح، واختلفوا في ذلك اختلافا بيناً. وجميع هذه الطرق التي أوردناه معنعنة من الحسن، اللهم إلا طريقا واحداً لم نذكره فيما تقدم، وهو ما أخرجه البخاري في التاريخ الكبير في ترجمة سلمة قال: حدثني يسرة بن صفوان، نا محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار، سمعت الحسن بن أبي الحسن سمعت سلمة بن ربيعة بن المحبق سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن كان استكره جارية امرأته فهي حرة. قال البخاري: وهم، لم يسمع الحسن من سلمة، بينهما قبيصة بن حريث، ولا يصح. انتهى.

قلت: قول البخاري لا يصح، غير مبين، أهو يرجع لسماع الحسن من سلمة، أم للحديث؟. ورأيت البيهقي في السنن يقول: قال البخاري - فيما بلغني عنه -: هذا - يعني من الرواية التي كان ساقها البيهقي من طريق الحسن قال سمعت قبيصة عن سلمة - أصح من رواية من رواه عن الحسن عن سلمة. ثم قال البخاري: قبيصة بن حريث الأنصاري سمع سلمة بن المحبق، وفي حديثه نظر. انتهى. قلت أنا أبو عبد الله: فتبين من قول البخاري أمران: أولهما: أنه لا يثبت سماع الحسن من سلمة، مع تصريحه بالسماع في الإسناد الذي ساقه البخاري نفسه، ومع كون رجال إسناد البخاري ثقات، سمع بعضهم من بعض باتفاق. لكن ربما لم يقنع البخاري بهذا، لكونه لا يخلو يسرة ومحمد من كلام، ولكون حماد بن زيد، وسفيان، خالفا محمداً في ذكر هذه اللفظة عن عمرو. ثانيهما: تصحيح اتصال السند من طريق الحسن عن قبيصة عن سلمة، على كلام في قبيصة عنده. (ذكر المصححين لهذا الخبر). فأنا أورد هاهنا مناقشتين لأئمة هذا الشأن في صحة هذا الخبر:

الأولى: رواها الطبراني قال: حدثنا أبو خليفة، ثنا علي بن المديني، ثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن الحسن البصري عن سلمة بن المحبق أن رجلاً. . . وساق الخبر ثم قال: قال علي - ابن المديني -: فقلت لسفيان: فإن قتادة يقول: عن الحسن عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق. فقال سفيان: قال عمرو: بينهما إنسان أو رجل. فقال له الهذلي - يعني أبا بكر الهذلي -: بينهما قبيصة بن حريث. قال سفيان: إنما أعرف هذا الهذلي، إنه من قوم سلمة - لأن سلمة بن المحبق هذلي - انتهى ما أورده الطبراني. قلت أنا أبو عبد الله: فتبين من هذا، أن ابن المديني كان يرجح رواية الحسن عن قبيصة عن سلمة، ولذلك ناقش سفيان بن عيينة فيها. ثم إن نقل ابن المديني عن قتادة أنه يقول: عن الحسن عن قبيصة، مشعر بأن قتادة كان يقدم هذه الطريق أيضاً، لأن قتادة روى الأمرين: الحسن عن قبيصة، والحسن عن جون. وفي الحكاية أيضاً ترجيح أبي بكر الهذلي لما رجحه ابن المديني وقتادة. وفيها موافقة سفيان لهم، بحجة أن أبا بكر أعلم بسلمة من غيره لأنهما هذليان.

الثانية: ذكرها ابن أبي حاتم في " العلل " قال: " سألت أبي عن حديث الحسن عن سلمة بن المحبق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلاً وقع على جارية امرأة فرفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن كانت طاوعته فهي له وعليه مثلها، وإن كان استكرهها فهي حرّة، ولمولاتها عليه مثلها. قلت لأبي: هو صحيح؟ قال: نعم. قلت: الحسن عن سلمة متصل؟ قالا: لا، حدثنا القاسم بن سلام عن أبيه عن الحسن قال حدثني قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأدخلا بينهما قبيصة بن حريث، فاتصل الإسناد. قلت: الحسن سمع من سلمة، وروى محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار عن الحسن سمعت سلمة بن المحبق. قال: هذا عندي غلط غير محفوظ،. انتهى. قلت أنا أبو عبد الله: فتبين من هذا، اتفاق أبي حاتم مع من تقدم على تصحيح الحديث من الطريق الثانية.

الوصل الثاني: في ذكر من نقل أن العلماء لم يفتوا بهذا الخبر: قال البيهقي: قال البخاري: ولا يقول بهذا - الخبر - أحد من أصحابنا. قال البيهقي: أخبرناه أبو سعيد الماليني أنبأ أبو أحمد بن عدي، قال سمعت ابن حماد يذكره عن البخاري. ثم قال البيهقي: حصول الإجماع من فقهاء الأمصار بعد التابعين على ترك القول به دليل على أنه إن ثبت صار منسوخاً بما ورد من الأخبار في الحدود. انتهى. وقال الخطابي: لا أعلم أحداً من الفقهاء يقول به. قلت: ومذهب العلماء في هذه المسألة فيه اختلاف: فروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما إيجاب الرجم على من وطئ جارية امرأته، وهو قول عطاء وقتادة من التابعين، وذهب إليه مالك والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال الزهري والأوزاعي: يجلد ولا يرجم. وقال أبو حنيفة وأصحابه فيمن أقر أنه زنى بجارية امرأته: يحد، وإن قال ظننت. وقال الثوري: إذا عرف بالجهالة، يعزر بجلدات معلومات.

الوصل الثالث: في ذكر الأوجه التي ردوا بها هذا الخبر: 1 - الأول: الضعف والاضطراب، عند القائلين بضعفه ممن قدمنا ذكره. 2 - الثاني: النسخ: وقد قدمنا قول البيهقي: ترك القول به، دليل على أنه صار منسوخاً بما ورد من الأخبار في الحدود. وأحاديث الحدود ثابتة بالكتاب والسنة الصحيحة. 3 - الثالث: أن هذا الخبر كان قبل نزول الحدود. وهو مروي عن أشعث، ذكره في " فتح الودود " ونقله عنه صاحب " عون المعبود ". 4 - الرابع: درء الحد بالشبهة. وقد قدمنا الكلام عليه في شروط العمل بالخبر. 5 - الخامس: ثبوت ما هو أصح منه، من حيث العموم. ومن حيث الخصوص. أما ما صح من حيث العموم من رجم المحصن، ففي منسوخ خط الكتاب، والأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم في قصة ماعز وغيره. ومن جلد غير المحصن بنص الكتاب، كما في سورة النور، والأحاديث الصحيحة. وأما من حيث الخصوص، فما جاء عن النعمان بن بشير في مثل هذه

الواقعة - أي فيمن وقع على جارية امرأته - ففيه " إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة، وإن لم تكن أحلتها لك رجمتك. . . ". خرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد وغيرهم. وإليه ذهب أحمد وإسحاق في رواية. (ملحق فيما ذكره ابن القيم رحمه الله عن هذين الخبرين أعني حديث سلمة وحديث النعمان): قال رحمه الله في " الزاد ": فصل في قضائه - صلى الله عليه وسلم - في الرجل يزني بجاريته. في المسند والسنن الأربعة من حديث قتادة عن حبيب بن سالم أن رجلاً يقال له عبد الرحمن بن حنين وقع على جارية امرأته، فرفع إلى النعمان بن بشير، وهو أمير على الكوفة، فقال: لأقضين فيك بقضية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة جلدة، وإن لم تكن أحقلّها، رجمتك بالحجارة، فوجدوه أحلتها له، فجلده مائة. قال الترمذي: في إسناد هذا الحديث اضطراب، سمعت محمداً - يعني البخاري - يقول: لم يسمع قتادة من حبيب بن سالم هذا الحديث، إنما رواه عن خالد بن عرفطة، وأبو اليسر لم يسمعه أيضاً من حبيب بن سالم، وسألت محمداً عنه فقال: أنا أنفي هذا الحديث. وقال النسائي: هو مضطرب. وقال أبو حاتم الرازي: خالد بن عرفطة مجهول.

وفي المسند والسنن عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن المحبق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في رجل وقع على جارية امرأته إن كان استكرهها فهي حرة وعليه لسيدتها مثلها، وإن كانت طاوعته فهي له، وعليه لسيدتها مثلها. فاختلف الناس في القول بهذا الحكم، فأخذ به أحمد في ظاهر مذهبه - يعني بحديث النعمان - فإن الحديث حسن، وخالد بن عرفطة قد روى عنه ثقتان حبيب بن سالم وأبو اليسر، ولم يعرف فيه قدح، والجهالة ترتفع عنه برواية ثقتين. والقياس والشريعة وقواعدها يقضيان القول بموجب هذه الحكومة، فإن إحلال الزوجة شبهة توجب سقوط الحد، ولا تسقط التَّغْزِير، فكانت المائة تعزيراً. فإذا لم تكن أحلتها، كان زنا لا شبهة فيه، ففيه الرجم، فأي شيء في هذه الحكومة مما يخالف القياس. وأما حديث سلمة فإن صح تعين القول به، ولم يعدل عنه، ولكن النسائي قال: لا يصح هذا الحديث. وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الذي رواه عن سلمة شيخ لا يعرف، ولا يحدث عنه غير الحسن - يعني قبيصة من حريث -. وقال البخاري في التاريخ: قبيصة من حريث سمع سلمة، في حديثه نظر. وقال ابن المنذر: لا يثبت خبر سلمة بن المحبق.

وقال البيهقي: قبيصة من حريث غير معروف. وقال الخطابي: هذا حديث منكر، وقبيصة غير معروف، والحجة لا تقوم بمثله، وكان الحسن لا يبالي أن يروي الحديث ممن سمع. وطائفة أخرى قبلت الحديث. ثم اختلفوا فيه: فقالت طائفة: هو منسوخ، وكان هذا قبل نزول الحدود. وقالت طائفة: بل وجهه أنه إذا استكرهها فقد أفسدها على سيدتها، ولم تبق ممن تصلح لها، ولحق بها العار، وهذا مثلة معنوية كالمثلة الحسية أو أبلغ منها. وهو قد تضمّن أمرين: إتلافها على سيدتها. والمثلة المعنوية بها. فتلزمه غرامتها لسيدتها وتعتق عليه. وأما إن طاوعته، فقد أفسدها على سيدتها، فتلزمه قيمتها لها، ويملكها لأن القيمة قد استحقت عليه، وبمطاوعتها وإرادتها خرجت عن شبهة المثلة. قالوا: ولا بعد في تنزيل الإتلاف المعنوي منزلة الإتلاف الحسي، كلاهما يحول بين المالك وبين الانتفاع بملكه، ولا ريب أن جارية الزوجة إذا صارت موطوءة لزوجها فإنها لا تبقى لسيدتها كما كانت قبل الوطء. فهذا الحكم من أحسن الأحكام، وهو موافق القياس الأصولي. وبالجملة فالقول به مبني على قبول الحديث، ولا يضر كثرة المخالفين له، ولو كانوا أضعاف أضعافهم. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.

الحديث السابع في نهي الوالي عن قتل القاتل

الحديث السابع في نهي الوالي عن قتل القاتل وهذا الحديث يروى عن غير واحد من الصحابة. الوصل الأول: في بيان ألفاظ هذه الأحاديث وأنها صحيحة: أ - وأصحها حديث وائل بن حجر الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه فقال: حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا أبو يونس عن سماك بن حرب، أن علقمة بن وائل حدثه، أن أباه حدثه قال: إني لقاعد مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة. فقال: يا رسول الله، هذا قتل أخي. فقال رسول الله ": أقتلته؟ فقال - الرجل أخو المقتول -: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة. فقال - القاتل -: نعم، قتلته. قال - يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف قتلته؟ قال - القاتل -: كنت أنا وهو نختبط من شجرة، فسبني فأغضني، فضربته بالفأس على قرنه فقتلته. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل لك من شيء تؤديه عن نفسك. قال: مالي مال إلا نسائي وفأسي. قال: فترى قومك يشترونك؟ قال: أنا أهون على قومي من ذاك.

فرمى إليه - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - بنسعته وقال: دونك صاحبك. فانطلق به الرجل - أخو المقتول - فلمّا ولّى: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن قتله فهو مثله. فرجع فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك قلت: إن قتله فهو مثله، وأخذته بأمرك! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أما تريد أن يبوء بإثمك وإثم صاحبك؟ قال: يا نبي الله - لعله قال - بلى. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فإن ذاك كذاك. قال فرمى بنسعته، وخلى سبيله. ثم قال الإمام مسلم: وحدثني محمد بن حاتم، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا هشيم، أخبرنا إسماعيل بن سالم عن علقمة بن وائل عن أبيه قال: أُتي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - برجل قتل رجلاً آخر، فأقاد ولي المقتول منه، فانطلق به، وفي عنقه نسعة يجرها. فلما أدبر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: القاتل والمقتول في النار. فأتى رجل الرجل فقال له مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخلّى سبيله. قال إسماعيل بن سالم: فذكرت ذلك لحبيب بن أبي ثابت فقال: حدثني ابن أشوع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما سأله أن يعفو عنه فأبى.

وأخرج أبو داود في سننه من طريق مسلم الأولى التي عن سماك، نحو لفظ مسلم. وإننا إنما نكتفي بإخراج مسلم للحديث، للقطع له بالصحة ما لم يكن عليه اعتراض مشهور من العلماء. ولكن حيث ثبت للحديث ألفاظ أخرى وروايات، لزمنا إخراجها لمعرفة وجه الحديث، وتحقيق مناطه، والجواب عنه. فمن هذه الروايات ما أخرجه النسائي قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن علية، قال حدثنا إسحاق - هو الأزرق - عن عوف الأعرابي، عن علقمة بن وائل المغربي عن أبيه قال: جيء بالقاتل الذي قتل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جاء به ولي المقتول. فقال له رسول الله ": أتعفو؟ قال: لا. قال: أتاخذ الدية؟ قال: لا. قال: القتل؟ قال: نعم قال: اذهب. فلما ذهب دعاه وقال: أتعفو؟

قال: لا. قال: أتاخذ الدية؟ قال: لا. قال: أتقتل؟ قال: نعم قال: اذهب. فلما ذهب قال: " أما أنك إن عفوت عنه، فإنه يبوء بإثمك وإثم صاحبه ". فعفا عنه، فأرسله. قال: رأيته يجر نسعته. قلت: وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات محتج بهم. وقد رواه أبو داود السجستاني في السنن بإسناده. ومن طريق أبي داود رواه البغوي في شرح السنة من حديث عبيد الله بن عمر بن ميسرة عن يحيى بن سعيد عن عوف به، لكنه جعل حمزة أبا عمر العائذي بينه وبين علقمة. لكن بمثل هذا لا يعل الخبر، لأن عوفاً قد حدث عن حمزة وعلقمة كليهما، فيكون سمعه من حمزة أولاً، ثم من علقمة، فعلا بإسناده. ولفظهما مثل لفظ النسائي.

ثم إن النسائي نفسه قد أخرج طريق أبي داود، والبغوي، عن محمد بن بشار قال: حدثنا يحيى بن سعيد فذكره. وكذا من طريق محمد عن يحيى قال: حدثنا جامع بن مطر الحبطي عن علقمة به. فتابع جامعٌ حمزة وعوفاً فيه. وله طرق عنده أخرى، وألفاظ، لا تخرج عما تقدم من الألفاظ، فأغفلنا ذكرها. ب - ومنها حديث أنس بن مالك. وهذا الحديث تفرد به ضمرة عن عبد الله بن شوذب، عن ثابت البناني عن أنس. قال النسائي في الصغرى والكبرى: أخبرنا عيسى بن يونس قال حدثنا ضمرة عن عبد الله بن شوذب عن ثابت عن أنس بن مالك: أن رجلاً أتى بقاتل وليَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اعف عنه ". فأبى. قال: " خذ الدية ". فأبى.

قال: " اذهب فاقتله فإنك مثله ". فذهب، فلُحِق الرجلُ فقيل له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " اقتله فإنك مثله " فخلى سبيله، فمر بي الرجل وهو يجر نسعته. وهذا إسناد رجاله ثقات، وهو حديث حسن لأجل ضمرة. فهو صدوق يهم قليلاً. وأخرج الحديث ابن ماجه من طريق عيسى بن محمد النحاس، وعيسى بن يونس، والحسن بن أبي السري العسقلاني، ثلاثتهم عن ضمرة بن ربيعة به. وقال في آخره: قال أبو عمير في حديث - هو عيسى بن محمد -: قال ابن شوذب عن عبد الرحمن بن القاسم: فليس لأحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: " اقتله فإنك مثله ". قال ابن ماجه: هذا حديث الرمليين ليس إلا عندهم. قلت: نعم، هو كما قال ابن ماجه، لأن الحديث من أفراد ضمرة، وهو فلسطيني، قليل الطلب، فاقتصر على روايته أهل الرملة. وقد ذكر أبو نعيم هذا الخبر في الحلية قال: حدثنا عبد الله بن جعفر ثنا إسماعيل بن عبد الله، ثنا الحسين بن رافع ثنا ضمرة به.

ثم قال أبو نعيم: قال ابن شوذب فذكرت ذلك لعبد الله بن القاسم فقال: ليس لأحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. قال أبو نعيم: تفرد به عن ابن شوذب ضمرة. انتهى. قلت أنا أبو عبد الله: هذا هو الصواب عبد الله بن القاسم، فهو المذكور في كتب الرجال في الرواية عنه، دون عبد الرحمن. ولما صح لنا هذا الحديث، وكان شاهده عند مسلم، ولم نر له من الروايات ما يعلّه، ضربنا على الباقي.

الوصل الثاني: في بيان عدول الأئمة عن القول بظاهر هذا الخبر: ولسنا نعني بظاهره القول بأن ليس للوالي، أو القاضي، الطلب من ولي المقتول العفو، فهذا سائغ، متفق على العمل به. وإنما المقصود ترك الفتوى بظاهره، هو ما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " القاتل والمقتول في النار، كما في لفظ مسلم، وبقوله " إن قتله فهو مثله ". فإن في هذين اللفظين من الزجر الشديد عن اختيار ولي المقتول للقتل، خلاف سائر الآيات والأحاديث الصحيحة الصريحة في أن المقتول له: هو بخير النظرين، بين الإرش والقتل. كما سياتي ذكر ذلك في سبب ترك الفقهاء القول بظاهر هذا الخبر. بل إن في هذا الحديث في أوله، ذكر التخيير، فتناقض آخر هذا الخبر مع أوله. وقد استقرينا فتاوى الفقهاء فوجدنا أن الجميع على جواز القود، والعمل بالتخيير.

الوصل الثالث: في ذكر حججهم التي أفتوا بها، وجوابهم عن الحديث: فأول ما احتجوا به قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى). وقوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إمّا أن يودى، وإما أن يقاد ". فأجمع العلماء لهذه النصوص على أن ولي الدم مخير بين القصاص، وبين أن يعفو عن القصاص ويأخذ الدية - واشترط بعضهم لهذا موافقة القاتل - وبين أن يعفو الولي مجاناً. وبعد أن حكى النووي في شرح مسلم نحو هذا، حاول الجواب عن حديث الباب فقال: " وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن قتله فهو مثله " فالصحيح في تأويله، أنه مثله في أنه لا فضل ولا منّة لأحدهما على الآخر، لأنه استوفى حقه منه، بخلاف ما لو عفى عنه، فإنه كان له الفضل والمنة وجميل الثناء في الدنيا، وجزيل الثواب في الآخرة. وقيل: فهو مثله: في أنه قاتل، وإن اختلفا في التحريم والإباحة، لكنهما استويا في طاعتهما الغضب، ومتابعة الهوى، لا سيما وقد طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - منه العفو.

وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال بهذا اللفظ الذي هو صادق فيه، لإيهام مقصود صحيح، وهو أن الولي ربما خاف، فعفا، والعفو مصلحة للولي والمعقول في دينهما، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " يبوء بإثمك وإثم صاحبك "، وفيه مصلحة للجاني، وهو إنقاذه من العقل. فلما كان العفو مصلحة توصَّل إليه بالتعريض. وقد قال الضمري وغيره من أصحابنا وغيرهم: يستحب للمفتي إذا رأى مصلحة في التعريض للمستفتي أن يعرض تعريضاً يحصل به المقصود. . . ثم قال النووي: وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " القاتل والمقتول في النار "، فليس المراد به في هذين، فكيف تصح إرادتهما، مع أنه إنما أخذه ليقتله بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل المراد غيرهما، وهو إذا التقى المسلمان بسيفيهما في المقاتلة المحرمة، كالقتال عصبية ونحو ذلك، فالقاتل والمقتول في النار، والمراد به التعريض كما ذكرناه، وسبب قوله ما قدمناه لكون الولي يفهم منه دخوله في معناه، ولهذا ترك قتله، فحصل المقصود، انتهى. قلت أنا أبو عبد الله: جوابه عن اللفظ الأوّل مقبول، وأما جوابه عن الثاني فظاهر الفساد والبطلان، وقد كنت أربأ بالنووي عن أمثال هذا، فالعجب العجب!.

وأغرب الخطابي، فأدخل هذا الحديث في حديث آخر فيه أن رجلا قتل على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فدفعه ولي المقتول للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال القاتل: يا رسول الله ما أردت قتله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للقاتل: أما إنه إن كان صادقا ثم قتلته دخلت النار، قال: فخلى سبيله. قال الخطابي: يحتمل وجهين أحدهما أنه لم ير لصاحب الدم أن يقتله، لأنه ادعى أن قتله كان خطأ أو شبه العمد، فأورث ذلك شبهة في وجوب القتل، الآخر أن يكون معناه إذا قتله كان مثله في حكم البواء فصارا متساويين لا فضل للمقتصّ على المقْتَصّ منه. انتهى. قلت: الوجه الثاني، هو قول مسلم الأول وقد حسَّناه من جواب، وأما إدخاله حديثاً في آخر في وجهه الأول، فهو مردود، لاختلاف السياقين، والتصريح الوارد في رواية مسلم بعكس الذي في حديث أبي هريرة، فإنه قال في رواية مسلم " فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه "، وهذا لا يمكن أن يكون من شبه العمد، أو الخطأ إجماعاً. ثم لو كان صح ما ادعاه الخطابي، لما كان أمكن النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل الولي من التخيير بين القتل والدية، لأن التخيير لا يكون إلا بعد ثبوت القتل العمد. وهذا الوجه الذي أنكرته على الخطابي، رأيت ابن حزم يقول به في المحلّى.

والذي قدمناه يرد هذا الادعاء من وجه. والثاني: وهو أنه ليس ما يدل على أن كلا الخبرين واحد، وذكر النسعة في الخبرين غير كاف. فكيف يحصل الجزم على ما هو بعيد الاحتمال!. الثالث: إن صح جوابكم هذا عن سبب إرادته العفو، فما الجواب عن اللفظين الواردين، وما المراد بالقاتل والمقتول، وفي القصة إن ثبت العمد: قاتلان ومقتولان. وستأتي مناقشة هذا الوجه الثالث بعد. وأما الجواب الذي أورده الإمام مسلم عن ابن أشوع كما تقدم، من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما سأله أن يعفو عنه فأبى. فقد رأيت ابن حزم أجاب عنه فأجاد حيث قال: " إنه تفسير فاسد، لا يجوز ألبتة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يخلو في سؤاله ذلك من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما أن يكون شافعاً في العفو، وإما أن يكون آمراً به. فإن كان شافعاً، فليس الممتنع من إسعاف شفاعته - صلى الله عليه وسلم - عاصياً لله تعالى، كما فعلت بريرة، إذ قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد خيرها بين البقاء مع زوجها أو فراقه، فاختارت فراقه، فقال: لو راجعته فإنه أبو ولدك، فقالت: أتامرني يا رسول الله قال: لا إنما أنا شافع، فقالت: لا أرجع إليه أبداً. فلا خلاف بين أحد من الأمة أن بريرة لم تكن عاصية بذلك. فإن كان عليه الصلاة والسلام شافعاً في هذا القاتل، فليس الممتنع عاصياً، فإذا كان ليس عاصياً فليس في النار، ولا هو مثل القاتل الظالم.

وإن كان - صلى الله عليه وسلم - آمراً فهو بيقين لا يأمر إلا بواجب فرض، ومن الباطل أن يأمر عليه الصلاة والسلام بشيء، ويطلق على خلافه، ولا يمنع من الحرام الذي هو خلاف أمره، وهذا هو القضاء بالباطل وقد أبعده الله تعالى عن هذا. فإن قالوا: هو أمر الندب. قلنا: لا راحة لكم في هذا، لأن من ترك قبول الأمر بالندب الذي ليس فرضاً، فليس في النار، ولا هو مثل القاتل الظالم، فبطل تفسير ابن أشوع، انتهى. ثم إن ابن حزم، عاد لذكر جوابه الأول الذي تابعه الخطابي عليه، ولكن قصره هنا على الحكم في المسألة. وهو الصواب الذي لا يمكن أن يعدوه إن صح الجواب - ثم حاول الإجابة عن الألفاظ الواردة فيه فقال: " فإن قيل: هذا وجه الجمع بين حكمه عليه الصلاة والسلام وقوله في ذلك، فما وجه حكمه عليه الصلاة والسلام بأن القاتل والمقتول في النار، وأنه مثله، وكيف يكون من قتل غير مريد للقتل في النار؟ قلنا - وبالله التوفيق -: هذا إخبار من النبي - صلى الله عليه وسلم - بغيب أعلمه الله تعالى إياه، لأنه عليه الصلاة والسلام لا يقول ألبتَّة إلا الحق، ولا يقول بالظن قصدا إلى ذلك، ومن قال هذا عليه ونسبه إليه فهو كافر. فنقول: إن ذلك القاتل الذي لم يعمد القتل، كان فاسقاً من أهل النار بعمل له غير هذا القتل أطلع الله تعالى عليه نبيه - صلى الله عليه وسلم - على عاقبته فيه، ولم يكن دمه يحل لهذا المستقيد لأنه لم يعمد قتل أخيه، فلو قتله على هذا الوجه

لكان قاتلاً بغير الحق، ولاستحق النار ولكان ظالماً كالمقتول إذ ليس كل ظالم يستحق القتل ". انتهى. قلت أنا أبو عبد الله: وهذا الذي جنح إليه ابن حزم في الآخر من جعله من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - وما أطلعه الله عليه، هو الذي تطمئن إليه النفس وتسكن، من الأجوبة المتقدمة، وهو معنى قول عبد الله بن القاسم المتقدم رحمه الله حيث قال كما قدمنا في روايته: " ليس لأحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله ". مع قولي بضعف قول ابن حزم: " لكان قاتلاً بغير الحق " لأنه لا يكون كذلك، ولو لم يكن القاتل قاتلاً ما دام هو لا يعرف ذلك. ولكني لا أحصر هذا التخصيص بهذا الخبر في ذكر اللفظ - كما يقول ابن حزم وهو ظاهر قول ابن القاسم - ولكني أعتبره في حكم هذا الخبر ولفظه سواء بسواء، حتى يصح لنا ترك القول بهذا الخبر، ومعرفة الجواب عنه بما هو غير متعقب. فإن جميع ما أوردناه من الأجوبة ومما هو في بطون الكتب مما لم نذكره متعقب. فإن قال قائل: ولكن القول بالتخصيص، لا يجب المصير إليه عند الاحتمال، ولا بد عليه من دليل، وإلا بطلت سائر أحكام الشريعة بحجة التخصيص. قلت - وبالله المستعان -: الجواب عن هذا، هو بعينه ذكر الدليل القاطع على أنه لا يصح جواب عن الحديث إلا الجواب الذي ارتضيناه من القول بالتخصيص. وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم - " القاتل والمقتول في النار ".

فإنك إذا تأملت هذه العبارة وجدت قبل قتل القاتل حالة، وبعده حالة. ورأيت أن انصرات الحديث للحالة الثانية هو الأقرب كما يدل عليه السياق، إلا أننا نجيب عنهما جميعاً لنبيّن المراد: فإننا إن سلمنا أن قوله - صلى الله عليه وسلم - " القاتل والمقتول في النار " أراد به الحالة التي قبل قتل القاتل. فإن معرفة كون المقتول من أهل النار، لا تتم إلا عن طريق الوحي، والوحي من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - ". وإن سلمنا أن المراد من قوله ما بعد قتل القاتل فاللفظ منصرف إلى ثلاثة احتمالات لا رابع لها: الأول: أن يكون المراد بالقاتل والمقتول، ما قصد في الحالة الأولى، وقد أجبنا عنها. الثاني: أن يكون المراد بالقاتل ولي المقتول، وبالمقتول القاتل أولا، فإن كان هذا، فهو أيضاً لا يمكن معرفته في حق ولي المقتول أنه في النار إلا عن طريق الوحي، سيما وأنه لم يمت بعد، والتوبة مفتوحة له على رأي الجمهور القائلين بصحة توبة القاتل. فهو كالأول. الثالث: أن يكون المراد بالقاتل ولي المقتول، وبالمقتول الأول، وجواب هذا منتزع من الأول والثاني. فتبين من هذا وجوب الحكم على الحديث بأنه من الخصائص، ولم نفرق فيه بين اللفظ والحكم، لأن القصة واحدة، واللفظ كما قدمنا، والحكم عرفنا تخصيصه من مخالفته لسائر النصوص عنه الصحيحة الصريحة المستفيضة، والله أعلم.

الحديث الثامن في أكل البرد في رمضان، ولم يصح

الحديث الثامن في أكل البرد في رمضان، ولم يصح ذكرُ الحديث وبيان ضعفه: قال الحافظ البزار في مسنده: حدثنا محمد بن معمر، ثنا عبد الصمد، ثنا أبي، عن علي بن زيد، عن أنس قال: مطرنا برداً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان أبو طلحة يأكل منه، وهو صائم، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " خذ عن عمك ". قال البزار: خالفه قتادة. ثم قال: حدثنا هلال بن يحيى ثنا أبو عوانة، عن قتادة عن أنس قال: رأيت أبا طلحة يأكل البرد وهو صائم، ويقول: إنه ليس بطعام ولا شراب. قال: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فكرهه، وقال: إنه يقطع الظمأ. قال البزار: لا نعلم هذا الفعل إلا عن أبي طلحة. قال الحافظ ابن حجر معقباً: - قلت -: الإسناد الموقوف هو الصحيح، وعلي بن زيد بن جدعان ضعيف، لا يقبل ما ينفرد به، فكيف إذا خالف. وكذا أخرج طريق زيد الموصولة أبو يعلى فقال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثني أبي عن ثابت عن علي بن زيد بن جدعان، عن أنس بن مالك قال:

مطرت السماء برداً، فقال لنا أبو طلحة ونحن غلمان: ناولني يا أنس من ذلك، فقلت: ألست صائماً؟! قال: بلى، إن ذا ليس بطعام ولا شراب، وإنما هو بركة من السماء نطهر به بطوننا. فقال أنس: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته. فقال: " خذ عن عمك ". وقال الحافظ ابن حجر في المطالب بعد أن ساقه: ضعيف، وكذا قال البوصيري. وقال الهيثمي في " المجمع ": فيه علي بن زيد، وفيه كلام، وقد وثق، وبقية رجاله رجال الصحيح. وهذا من الهيثمي هو الإنصاف، وذلك أن علي بن زيد هو أقرب إلى الضعف، وكثير ممن ترجموا له لم يطلقوا عليه الضعف، فقد قال العجلي في الثقات: بصري، يكتب حديثه، وليس بالقوي، وكان يتشيع. وقال مرة: لا بأس به. قلت فمقتضى كلام العجلي أنه مقبول إذا توبع، لكنه في هذا الحديث خالف قتادة في وقف الحديث، ورفعه، فلا يقبل منه ذلك.

وقال الآجري: قلت لأبي داود: أيما أحب إليك علي بن زيد، أو ابن عقيل؟ فقال: علي بن زيد. قلت: يشار إلى أن كليهما ضعيف. وقال الآجري: قال حماد بن زيد: حدثنا علي بن زيد، وكان كثير التخليط. وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا بندار حدثنا عبد الرحمن عن شعبة قال: سمعت علي بن زيد، وكان رفاعا - أي - يرفع الأحاديث - وقال الترمذي: صدوق إلا أنه ربما يرفع الشيء الذي يوقفه غيره، ثم ساق قول شعبة المتقدم. قلت: وهذه هي علته في هذا الحديث. حيث خالف فيه فرفع الحديث، والصحيح وقفه. وقال أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان: ليس بقوي. وقال النسائي: ضعيف. وقال الدارقطني مرة: ضعيف. وقال مرة: أنا أقف فيه، لا يزال عندي فيه لين.

فهذا محصل كلامهم فيه، كما قدمنا. قلت: وعلي لم يخالف فيه قتادة فحسب، كما ذكر البزار، بل إنه خالف فيه حميداً أيضاً، وذلك فيما أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائده قال: حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن قتادة وحميد عن أنس، قال: مطرنا برداً، وأبو طلحة صائم، فجعل يأكل منه، قيل له: أتأكل وأنت صائم؟! قال: إنما هذا بركة. قلت: وهذا إسناد صحيح لا علة له. ولذلك قال ابن حزم في " المحلّى ": روينا بأصح طريق عن شعبة وعمران القطان، كلاهما عن قتادة عن أنس: أن أبا طلحة كان يأكل البرد وهو صائم، وقال عمران في حديثه: ويقول: ليس طعاماً ولا شراباً!!. قال ابن حزم: وقد سمعه شعبة من قتادة، وسمعه قتادة من أنس. انتهى. قلت: نعم هو كما قال: سمعه قتادة من أنس، وذلك أن قتادة وإن ذكروا له تدليساً، لكن عن غير أنس. فلم يعد يضرنا كذلك تدليس حميد لأنه متابع. وابن حزم مع قوله بصحة هذا الأثر، فإنه لم يقل به، وإنما ساقه للرد على الحنفية والمالكية، فهو لا يحتج بالموقوفات، كما هو قول عامة الفقهاء.

وقد سئل الإمام الحافظ الدارقطني عن هذا الحديث فقال: الموقوف أصح. وأما الجوزقاني في الأباطيل فقال: هذا حديث باطل. وأورده ابن الجوزي في العلل المتناهية وقال: هذا حديث لا يصح. قلت: أي المرفوع.

الحديث التاسع في زكاة الإبل

الحديث التاسع في زكاة الإبل الوصل الأول: في ذكر الأخبار التي عليها أهل العلم والفتوى في زكاة الإبل: إعلم رحمك الله، وأبان لك وجه الصواب، والعمل به، أن أحاديث فرض زكاة الإبل، قد جاءت عن غير صحابي، وفي الصحيحين وغيرهما، وأن هذه الأحاديث جميعها اتفقت على أن في كل خمس من الإبل شاة - وفي العشرة من الإبل شاتان، وفي الخمس عشرة ثلاث شياه، وفي العشرين أربع شياه - فإذا بلغت أربعاً وعشرين ففيها بنت مخاض، فإن لم يكن بنت مخاض، فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين، ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ستاً وأربعين إلى ستين ففيها حقة، طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها ابنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة، ففي كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حقة، ومن لم يكن معه إلا أربعة من الإبل، فليس فيها صدقة. فأخرج حديث أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما استخلف كتب له - حين وجهّه إلى البحرين - هذا الكتاب، وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر: " محمد " - سطر -، و " رسولاً - سطر -، و " الله " - سطر -: بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. . . " البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن الجارود، والبيهقي، والدارقطني، والبغوي وغيرهم.

وأخرج حديث ابن عمر بهذا، الأربعة إلا النسائي، والحاكم، والبيهقي، ومن قبلهم جميعاً الإمام أحمد في المسند، وغيرهم. وهو بمعنى حديث أنس. وأخرج ابن ماجه هذا الحديث بهذا المعنى عن أبي سعيد الخدري، وهو عند غيره أيضاً.

فهذه الأحاديث الثلاثة هي أصح ما روي في هذا الباب، وقد اتفقت جميعها على النص الذي قدمناه في زكاة الإبل، ومضى الحكم بها عند سائر العلماء من غير اختلاف. لكن قد جاءت روايتان قد خالفتا نص الحديث السابق، ولم تعتبرا، إلا واحدة عند الحنفية. * الحديث الأول الذي فيه الرواية الأولى هو حديث عمرو بن حزم. أخرجه ابن حبان في صحيحه فقال: أخبرنا الحسن بن سفيان، وأبو يعلى، وحامد بن محمد بن شعيب في آخرين قالوا: حدثنا الحكم بن موسى، حدثنا يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود، حدثني الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جدّه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن. . . . فذكر الحديث مطولاً جداً. وأخرجه الحاكم بمثل ما عند ابن حبان قال: أخبرنا أبو نصر أحمد بن سهل، ثنا صالح بن عبد الله بن محمد الحافظ، ثنا الحكم بن موسى. وحدثنا أبو زكرياء يحيى بن محمد العنبري، ثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد العبدي، ثنا أبو صالح الحكم بن موسى. . . وساق الخبر. وكذا هو عند البيهقي قال: حدثنا أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، ثنا محمد بن

المؤمل، ثنا الفضل بن محمد. وحدثنا أبو عبد الرحمن وأبو نصر عمر بن عبد العزيز بن قتادة، قالا: أنبأنا أبو عمر ومحمد بن جعفر بن محمد بن مطر ثنا أبو عبد الله أحمد بن الحسين الصوفي. قالا: يعني الفضل وأحمد -: ثنا الحكم بن موسى. . . فذكر الحديث بتمامه. قلت - أنا أبو عبد الله -: وهذه الطريق التي سقتها في خبر عمرو بن حزم هي أصح طرق هذا الخبر المطول، ليس في الدنيا أصح منها في خبر عمرو بن حزم هذا في الصدقات والديات بهذا الطول. على خلاف في ثبوتها لما سيأتي. وسائر روايات هذا الخبر الباقية، إما مختصرة المتن، وإما لا يخلو إسنادها من ضعف أو إعضال أو إرسال. وقد أخرج هذه الروايات جماعات من المحدثين لا يحصون منهم مالك في الموطأ، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، وأحمد، والدارمي، والنسائي، وأبو داود في المراسيل، والدارقطني، والبيهقي، وابن خزيمة والبغوي، وغيرهم. وقد اختلف أهل العلم اختلافاً كبيراً في صحة هذا الخبر: فصححه من قدمنا ذكرهم: ابن حبان والحاكم والبيهقي، وصححه الإمام أحمد، أو جنح لصحته، كما في سننن البيهقي حيث قال:

أخبرنا أبو سعيد الماليني، أنبأنا أبو أحمد بن عدي الحافظ، قال سمعت عبد الله بن محمد بن عبد العزيز يقول سمعت أحمد بن حنبل، وسئل عن حديث الصدقات هذا الذي يرويه يحيى بن حمزة: أصحيح هو؟ فقال: أرجو أن يكون صحيحاً. قال ابن عدي: وسمعت عبد الله بن محمد بن عبد العزيز يقول: وقد حدثنا الحكم بن موسى عن يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود عن الزهري بحديث الصدقات فقال: أخرج أحمد بن حنبل هذا الحديث في مسنده عن الحكم بن موسى عن يحيى بن حمزة. قال ابن عدي: وقد روى عن سليمان بن داود يحيى بن حمزة وصدقة بن عبد الله من الشاميين، وأما حديث الصدقات فله أصل في بعض ما رواه معمر عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم فأفسد إسناده. قال: وحديث سليمان بن داود مجوّد الإسناد، وقد أثنى على سليمان بن داود الخولاني هذا: أبو زرعة الرازي، وأبو حاتم الرازي، وعثمان بن سعيد الدارمي وجماعة من الحفاظ، ورأوا هذا الحديث الذي رواه في الصدقة موصول الإسناد حسناً. انتهى. قلت أنا أبو عبد الله: فهذا فيه أيضاً ذكر قبول ابن عدي وأبي حاتم وأبي زرعة والدارمي لهذا الخبر، لكن ابن التركماني في " الجوهر النقي " ما زال يحشد اتهاماته على صحة هذه الأخبار الواردة في سنن البيهقي كحديث أنس وابن عمر وأبي سعيد، وهذا الذي نحقق القول فيه، وذلك لتصحيح مذهبه، مذهب أكثر الحنفية، والقول بصحة الذهاب لحديث إسحاق بن راهويه في هذا الخبر، ولو لم يصرح هو بذلك، وما هذا بنافعه كما سيأتي، فإنه قال:

في " الكمال " للحافظ عبد الغني: قال الدارقطني: قد روي عنه - يعني سليمان بن داود - حديث عن الزهري عن أبي بكر بن حزم الحديث الطويل، ولا يثبت عنه. وقال ابن المديني: منكر الحديث، وضعفه. وقال ابن خزيمة: لا يحتج بحديثه إذا انفرد. وروى النسائي هذا الحديث من حديث يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود عن الزهري ثم رواه من حديث يحيى عن سليمان بن أرقم عن الزهري، ثم قال: هذا أشبه بالصواب. وسليمان بن أرقم متروك الحديث. وذكر المزي في أطرافه هذا الحديث ثم قال: رواه أبو داود في المراسيل عن هارون بن محمد عن أبيه وعمه كلاهما عن يَحيَى بن حمزة عن سليمان بن أرقم عن الزهري، ثم قال: وعن ابن هبيرة قرأت في أصل يحيى بن حمزة حدثني سليمان بن أرقم بإسناده نحوه. وعن الحكم بن موسى عن يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود عن الزهري نحوه. قال أبو داود: وهذا وهم من الحكم - يعني قوله ابن داود. وفي الميزان للذهبي: " قال أبو زرعة الدمشقي: الصواب سليمان بن أرقم. وقال أبو الحسن الهروي: الحديث في أصل يحيى بن حمزة عن سليمان بن أرقم غلط عليه الحكم. وقال ابن مندة: رأيت في كتاب يحيى بن حمزة بخطه: عن سليمان بن أرقم عن الزهري، وهو الصواب. وقال صالح جزرة: ثنا دحيم قال: نظرت في أصل كتاب يَحيَى،

حديث عمرو بن حزم في الصدقات فإذا هو عن سليمان بن أرقم، قال صالح: فكتب هذا الكلام عني مسلم بن الحجاج. قال الذهبي: ترجح أن الحكم وهم فيه ولا بد، فالحديث إذاً ضعيف ". وقال ابن معين: سليمان الخولاني لا يعرف، والحديث لا يصح، وقال مرة: ليس بشيء. ومرة: شامي ضعيف. وقال ابن حنبل: ليس بشيء. وفي التمهيد لابن عبد البر: قال أحمد بن زهير سمعت ابن معين يقول: سليمان بن داود الذي يروي عن الزهري حديث الصدقات والديات: مجهول لا يعرف. وقال الطحاوي: سمعت ابن أبي داود يقول: سليمان بن داود، وسليمان بن أبي داود الحراني ضعيفان جميعاً. انتهى ما أورده ابن التركماني رحمه الله. قلت أنا أبو عبد الله: قد انحصرت أقوال من تقدمت اعتراضاتهم في أمرين: الأول: ضعف سليمان بن داود. الثاني: وهم الحكم حيث أبدل سليمان بن أرقم بسليمان بن داود.

أما الاعتراض الأول فغير مكتمل، لأنه قد ثبتت عدالته عند غير واحد من الأئمة فأما قول الإمام أحمد: " ليس بشيء " على ما قال ابن التركماني - إن صح - فقد قابله ما نقله البغوي عنه، وقدمناه، من قوله: " أرجو أن يكون الحديث صحيحاً " مع تصريحهم بالسند الذي فيه يحيى عن سليمان. وأما قول الدارقطني: فيه إقرار بثقة سليمان وتشكيك بصحة الخبر عنه، هذا ظاهر الذي نقله ابن التركماني عنه، حيث لم يغمز من قدر سليمان وإنَّما شكلك في صحة الخبر عنه حسب. وقد جاء عن الدارقطني أنه قال مرة: ضعيف، وقال مرة: لا بأس به، وقال في ترجمة سليمان بن أرقم: وقيل: هو سليمان بن داود في حديث الصدقات. فالدارقطني مرة يثبت أن الحديث غير ثابت، ومرة يشك في كون ابن أرقم هو ابن داود في حديث الصدقات فيقول: وقيل. ومرة يوثق سليمان، ومرة يضعفه. وأما قول ابن معين، فمرة يقول مجهول لا يعرف، ومرة يقول: ليس بشيء، ومرة يقول شامي ضعيف، فالظاهر من كلامه أنه عنده مجهول الحال، فأطلق الضعف عليه، ومثل هذا غير قادح إذا عرفه غيره، وقد حصل. ثم إن في كلام ابن معين ما يشعر أنه موافق لصحة هذا الخبر عنه،

حيث قال: يروي عن الزهري حديث الصدقات، ولم يتعقب ذلك، فكأنه أقره. وأما في مقابل قول من ضعفه، فقد وثقه من هم أكثر منهم عدداً. فقال أبو حاتم: لا بأس به. وقال ابن حبان: ثقة مأمون. ووثقه الحاكم، والبيهقي، وابن عدي، والدارمي، وابن حجر وغيرهم، فهو مختلف فيه كما قدمنا، ولذلك قال الذهبي: مختلف فيه، ولم يزد. وأما الجواب عن العلة الثانية فهو ما حكاه عبد الرحمن أبو محمد في علل الحديث حيث قال: " سألت أبي عن حديث رواه يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جدّه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن بصدقات الغنم. . . قلت له: من سليمان هذا؟ قال أبي: من الناس من يقول سليمان بن أرقم. قال: وقد كان قدم يحيى بن حمزة العراق، فيرون أن الأرقم لقب، وأن الاسم داود. قال: ومنهم من يقول سليمان بن داود الدمشقي شيخ ليحيى بن حمزة، لا بأس به.

قال: فلا أدري أيهما هو، وما أظن أنه هذا الدمشقي، ويقال: إنهم أصابوا هذا الحديث بالعراق من حديث سليمان بن أرقم، انتهى. قلت أنا أبو عبد الله: فإن ثبتت هذه النكة العجيبة في أن الأرقم هو لقب له، ما ضره ما تقدم من ثبوت لفظة الأرقم في أصل يحيى الذي ما زال يحكيه أهل العلم، ونسأل الله أن يكون هذا الحديث حسناً، وإلا فقد اكتفينا بما ثبت في ذلك بالأحاديث الأخرى المتقدمة. وإلى هذا الموضع فجميع ما قدمنا من الأحاديث متنها واحد، على النحو الذي سقناه في أول الأخبار، من غير اختلاف.

الوصل الثاني: في ذكر الرواية المخالفة الضعيفة التي أفتى بها الحنفية والثوري والنخعي خلافاً للجمهور: وقد وقع الخلاف الأول في المتن بتحديد صدقة الإبل، فيما أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده، وعمل بما فيه - أكثر - الحنفية، ولولا ذلك لحشرناه في زمرة الأحاديث التي لم يفت بها الفقهاء. فأخرج الشيخ الإمام إسحاق بن راهويه في " مسنده " وأبو داود في " مراسيله "، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " وابن حزم في " المحلى " جميعهم من طريق: حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن محمد بن عمرو بن حزم. ولكن اختلفت عباراتهم: فعند إسحاق: قال حماد: هذا كتاب كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم في فرائض الإبل والغنم: " وفي الغنم. . . " الحديث. وفيه: وفي الإبل في خمس وعشرين بنت مخاض، فإن لم توجد فابن لبون، فإذا بلغت ستاً وثلاثين ففيها بنت لبون، فإذا بلغت ستاً وأربعين ففيها حقة، حتى تبلغ ستين، ثم فيها جذعة، حتى تبلغ خمساً وسبعين، فإن فيها بنتي لبون حتى تبلغ تسعين، فإذا زادت ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا زادت فعد إلى أول الفريضة في الإبل؛ في كل خمس من الإبل شاة، حتى تبلغ عشرين ومائة، فإذا كثرت ففي كل خمسين حقة. قال حماد: أخبرنا بذلك قيس بن سعد، عن أبي بكر بن عمرو بن حزم.

وأما عند أبي داود: قال حماد: قلت لقيس بن سعد: خذ لي كتاب محمد بن عمرو بن حزم، فأعطاني كتاباً، أخبر أنه أخذه من أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب لجدّه، فقرأته، فكان فيه ما يخرج من فرائض الإبل، فقص الحديث إلى أن يبلغ عشرين ومائة، فإذا كانت أكثر من ذلك، فعد في كل خمسين حقة، وما فضل فإنه يعاد إلى أول فريضة الإبل. . . . ". قلت - أنا أبو عبد الله -: فقد اختلفا اختلافاً بيناً في فرائض الإبل بعد المائة والعشرين. هذا في المتن. وأما في السند، فإنه ألغى الإخبار الذي في مسند إسحاق، وبين أن المأخوذ هو كتاب، عن طريق المناولة. وأما عند ابن حزم: عن حماد أنه أخذ من قيس بن سعد كتاباً عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب لجدّه عمرو بن حزم ذكر ما يخرج من فرائض الإبل: فذكره. . . بمثل رواية أبي داود. وعند الطحاوي نحو ما تقدم. وله شاهد: فأخرج عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب لهم كتاباً فيه: ". . . فإذا كانت أكثر من ذلك - عشرين ومائة - فاعدد في كل خمسين حقة، وما كان أقل من خمسة وعشرين ففي كل خمس شاة.

قلت: وهذا اللفظ موافق لما عند إسحاق. وهذه الأحاديث لا يصح منها شيء البتَّة، ولو أعلت بالشذوذ قبل النظر لإسنادها لصح ذلك، لكنها غير صحيحة من جهة الإسناد أيضاً. أما حديث عبد الرزاق فمعضل سقط منه أبو عبد الله، وأبوه، وهو كما قال ابن عدي وقدمنا كلامه: " قد أفسد معمر إسنادهاً فتارة يرويه هكذا معضلاً، وتارة عن الزهري عن أبي بكر ". وأما رواية حماد المذكورة، فقد ردّها غير واحد من العلماء وبينوا علتها، وأكثر من ذكر في الرد عليها الزيلعي فإنه قال في " نصب الراية ": " قال ابن الجوزي رحمه الله في " التحقيق ": هذا حديث مرسل، قال هبة الله الطبري: هذا الكتاب صحيفة ليس بسماع، ولا يعرف أهل المدينة كلهم عن كتاب عمرو بن حزم إلا مثل روايتنا التي رواها الزهري وابن المبارك وأبو أويس، كلهم عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جدّه، مثل قولنا، ثم لو تعارضت الروايتان عن عمرو بن حزم بقيت روايتنا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهي في الصحيح، وبها عمل الخلفاء الأربعة. وقال البيهقي: هذا حديث منقطع بين ابي بكربن حزم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيس بن سعد أخذه عن كتاب لا عن سماع، وكذلك حماد أخذه عن كتاب لا عن سماع، وقيس بن سعد وحماد بن سلمة، وإن كانا من الثقات، فروايتهما هذه تخالف رواية الحفاظ عن كتاب عمرو بن حزم

وغيره، وحماد بن سلمة ساء حفظه في آخر عمره، فالحفاظ لا يحتجون بما يخالف فيه، ويتجنبون ما ينفرد به وخاصة عن قيس بن سعد وأمثاله، وهذا الحديث قد جمع الأمرين مع ما فيه من الانقطاع، والله أعلم. قال البيهقي في المعرفة: الحفاظ مثل يحيى القطان وغيره، يضعفون رواية حماد عن قيس بن سعد. ثم أسند عن أحمد بن حنبل قال: ضاع كتاب حماد بن سلمة عن قيس بن سعد، فكان يحدثهم من حفظه، ثم أسند عن ابن المديني نحو ذلك. قال البيهقي: ويدل على خطأ هذه الرواية أن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم رواه عن أبيه عن جدِّه بخلافه. وأبو الرجال محمد بن عبد الرحمن الأنصاري رواه بخلافه. والزهري مع فضل حفظه رواه بخلافه في رواية سليمان بن داود الخولاني عنه موصولاً، وفي رواية غيره مرسلاً. قال البيهقي: وإذا كان حديث حماد عن قيس مرسلاً ومنقطعاً، وقد خالفه عدد، ومنهم ولد الرجل. والكتاب بالمدينة بأيديهم يتوارثونه بينهم. وأمر به عمر بن عبد العزيز فنسخ له فوجد مخالفاً لما رواه حماد عن قيس، موافقاً لما في كتاب أبي بكر وما في كتاب عمر.

وكتاب أبي بكر في الصحيح. وكتاب عمر أسنده عنه سفيان بن حسين، وسليمان بن كثير عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكتبه عمر عن رأيه، إذ لا مدخل للرأي فيه، وعمل به عمر وأمر به عمّاله، فعملوا به، وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، وأقرأه ابنه عبد الله بن عمر، وأقرأه عبدُ الله ابنه سالماً، ومولاه نافعاً، وكان عندهم حتى قرأه مالك بن أنس. أفما يدلك ذلك كله على خطأ هذه الرواية. انتهى كلام البيهقي، وبه ينتهي ما جاء في " نصب الراية ".

الوصل الثالث: في ذكر الحديث المخالف، الذي ليس العمل عليه عند سائر الفقهاء: وهو ما أخرجه أبو داود في سننه قال: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، أخبرنا زهير، أخبرنا أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة، وعن الحارث الأعور عن علي رضي الله عنه، قال زهير: أحسبه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:. . . . فذكر الحديث. وفيه: ". . . وفي خمسة وعشرين - من الإبل - خمسة من الغنم، فإذا زادت واحدة ففيها ابنة مخاض. . . ". وأخرجه البيهقي من غير طريق عن سفيان الثوري، وعن شعبة وزهير بن معاوية وغيرهم عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة أن عليا رضي الله عنه قال: ". . . وفي خمس وعشرين من الإبل خمس شياه. . . ". رووه هكذا موقوفاً، ثم ساق البيهقي الرواية الموصولة من طريق أبي داود. وأخرجه أبو عبيد في الأموال كذلك بهذا موقوفاً من طريق أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف موقوفاً عن معمر عن أبي إسحاق.

قلت أنا أبو عبد الله: حديث أبي داود له عنده إسناد آخر مبهم غير مفسر قال فيه أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري أنبأنا ابن وهب أخبرني جرير بن حازم - وسمى آخر - عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ببعض أول هذا الحديث قال: فإذا كانت لك مائتا درهم. . . الحديث. وللحديث طريق موقوف أيضاً عن أبي الأحوص، رواها ابن أبي شيبة وذكرها من روايته ابن حزم في المحلى. ثم قال ابن حزم: وقد أسند زهير بن معاوية من طريق الحارث عن علي رضي الله عنه، والحارث كذاب، ولا حجة فى قول أحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، انتهى كلام ابن حزم. قلت أنا أبو عبد الله: قد فتح ابن حزم طرق تضعيف هذا الحديث بأمرين - أصلهما واحد -. الأول: إعلاله بالوقف. الثاني: إعلاله بأن الرافع للخبر هو الحارث الأعور وهو كذاب، فكأنه لم يثبت الرفع. والذي حمله على هذا أن سائر رجال أبي داود الذين وصلوا الخبر، هم أئمة أو ثقات، بل إنه جاء في ترجمة عبد الله بن محمد النفيلي: قال أبو الفضل يعقوب بن إسحاق: سمعت أحمد بن سلمة يحكي عن مسلم بن وارة قال: أحمد بن حنبل ببغداد والنفيلي بحرّان. . . أركان الدين. وقال أحمد بن حنبل: أهل أن يقتدى به.

وقال ابن نمير: هو رابع أربعة ابن مهدي ووكيع والفضل بن دكين. وقد جاء عن أحمد بن حنبل أنه ثبت جداً في زهير. وأما زهير فقال فيه ابن عيينة: ما بالكوفة مثله. وقال أحمد: من معادن الصدق. وقال ابن معين: ثقة. وغلا شعيب بن حرب فقال: كان زهير أحفظ من عشرين مثل شعبة!! ثم الناس متفقون على توثيقه. فلذلك لم يعلّه ابن حزم بغير هذا. ثم رأيت ابن القيم في شرح أبي داود يقول: قال ابن حزم: حديث علي هذا، رواه ابن وهب عن جرير بن حازم، عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور، قرن فيه أبو إسحاق بين عاصم والحارث، والحارث كذاب، وكثير من الشيوخ يجوز عليه مثل هذا، وهو أن الحارث أسنده، وعاصم لم يسنده، فجمعهما جرير، وأدخل حديث أحدهما في الآخر، وقد رواه شعبة وسفيان ومعمر عن أبي إسحاق عن عاصم موقوفا عليه، وكذلك كل ثقة رواه عن عاصم إنما وقفه على عليّ، فلو أن جريرا أسنده عن عاصم أخذنا به. هذه حكاية عبد الحق الإشبيلي عن ابن حزم، وقد رجع عن هذا في كتابه المحلّى فقال في آخر المسألة:

ثم استدركنا فرأينا أن حديث جرير بن حازم مسند صحيح لا يجوز خلافه. وأن الإعتلال فيه بأن أبا إسحاق أو جريراً خلط إسناد الحديث بإرسال عاصم هو الظن الباطل الذي لا يجوز، وما علينا في مشاركة الحارث لعاصم، ولا لإرسال من أرسله، ولا لشك زهير فيه، وجرير ثقة، فالأخذ بما أسند لازم،. انتهى كلام ابن حزم وبه ينتهي كلام ابن القيم. ثم رجعت إلى إمام الدنيا في العلل فوجدته يعلّ هذا الخبر، ويقطع أنه موقوف. قال الإمام الدارقطني رحمه الله: يروي حديث الصدقات أبو إسحاق، واختلف عنه. فرفعه أبو أحمد الزبيري عن أبي إسحاق - يعني عن عاصم بن ضمرة - عن علي، شك في رفعه، ووقفه غيره عن الثوري. ورواه عبد المجيد عن معمر عن أبي إسحاق مرفوعاً. وشك زهير في رفعه، كذلك قال الحسن بن موسى الأشيب عن زهير. قلت: وكذا قال أبو داود أو النفيلي - كما قدمنا -. قال الدارقطني: ورواه أبو بدر شجاع بن الوليد عن زهير عن أبي إسحاق عن عاصم والحارث عن علي، فرفع بغير شك، إلا أنه لم يذكر في

حديثه إلا زكاة البقر فقط ورفعه الحسن بن عمارة عن أبي إسحاق عنهما عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورفعه سلمة بن صالح، وأيوب بن جابر عن أبي إسحاق عن عاصم عن علي. ووقفه شعبة، وأشعث بن سوار، وعلي بن صالح، وأبو بكر بن عياش وغيرهم عن أبي إسحاق، والصواب أنه موقوف عن علي. انتهى كلام الدارقطني. قلت أنا أبو عبد الله: فوجب عندي رد الحديث المرفوع من تسعة أوجه: إما لقلة الرفاعين عن عدد الواقفين. وإما لضعف الرفّاعين له كالحسن بن عمارة وسلمة بن صالح وأيوب بن جابر، وإما للاختلاف على الرافع كما يذكر عن الثوري ومعمر، وإما للشك كما يذكر عن زهير، وإما عدم وجود المتن الشاهد لفرائض الإبل، كما في رواية جرير،

وإما لوجود الحارث الأعور مع عاصم، فلم ندر من الرافع منهما للخبر، وإما لكون زهير حدث عن بي إسحاق بعد الاختلاط، وهذه العلة السابعة هي قاصمة الظهر، فقد ذكر الرازي في الجرح والتعديل عن صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه قال: زهير فيما روى المشايخ ثبت، وفي حديثه عن أبي إسحاق لين سمع منه بأخرة. وقال أبو زرعة: ثقة إلا أنه سمع من أبي إسحاق بعد الاختلاط وقال أبو حاتم: زهير أحب إلينا من إسرائيل في كل شيء إلا في حديث أبي إسحاق. وأما الثامن فيما ذكره الحافظ في التلخيص قال: ونبه ابن الموّاق على عفة خفية فيه، وهي أن جرير بن حازم والحارث بن نبهان عن الحسن بن عمارة عن أبي إسحاق فذكره. قال ابن المواق: والحمل فيه على سليمان شيخ أبي داود فإنه وهم في إسقاط رجل. - قلت أنا أبو عبد الله -: ومما يؤكد هذا عدم ذكر الحديث عند الدارقطني من طريق الحارث بن نبهان عن أبي إسحاق، مع سعة إطلاعه، وإنما اكتفى بذكر الحسن بن عمارة الراوي المتروك، عن أبي إسحاق، فصح هذا الذي ذكر ابن المواق، والله أعلم. فإذا أضفت لهذه الوجوه الثمانية، المخالفة، علمت أن الخبر لا يثبت رفعه.

الوصل الرابع: في ذكر من ثقل الإجماع علي خلاف هذا الخبر، وترك العمل به: قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال، بعد ذكر حديث علي موقوفاً: وهذا قول ليس عليه أحد من أهل الحجاز، ولا أهل العراق، ولا غيرهم نعلمه. وقال الإمام البيهقي: وقد أجمعوا على ترك القول به. قلت: وقد بينا من قبل اختلاف الناس على غير هذا القول.

الحديث العاشر إلى الحديث العشرين، في السحور بعد الأذان

الحديث العاشر إلى الحديث العشرين، في السحور بعد الأذان الأصل في هذه المسألة قول الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ). وقد جاءت السنة ففسرت هذا، كما في حديث ابن مسعود المخرج في الصحيحين وغيرهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن بليل، ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم، وليس الفجر أن يقول هكذا - وجمع بعض الرواة كفيه - حتى يقول هذا، ومد إصبعيه السبابتين ". وفي لفظ لمسلم: " إن الفجر ليس الذي يقول هكذا، وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الأرض، ولكن الذي يقول هكذا، ووضع المسبحة على المسبحة ومد يديه ". وأخرج مسلم وغيره فيما يصح تفسيراً للآية من حديث سمرة رضي الله عنه قال: " لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال، ولا بياض الأفق المستطيل هكذا، حتى يستطير هكذا " وحكاه حماد بن زيد بيديه قال: يعني معترضاً. وقال أبو داود الطيالسي في رواية النسائي: بسط يديه يميناً وشمالاً، ماداً يديه. وأخرج الترمذي وأبو داود عن طلق بن علي مرفوعاً: كلوا واشربوا، ولا يهيدنّكم الساطع المصعد حتى يعترض لكم الأحمر ".

وهذه الأحاديث الثلاثة هي العمدة في اختيار بيان طلوع الفجر ووجوب الإمساك، وعليها الفتوى في سائر الأمصار، فقالوا: ذلك الفجر المعترض في الأفق يمنة ويسرة. وأثبتها الأول ثم الثاني والثالث، وما دونهما من الأحاديث لا يرقى لنحوها في الصحة مما رفعوه وهي غير قليلة، وفيها حسن أيضاً، وذلك أن هذه الثلاثة قد جاءت مفسرة للآية بما يقطع الشك، فوق الذي جاء في حديث زيد بن ثابت، وأنس بن مالك عند الشيخين الأول، والآخر عند البخاري والنسائي، وتفرد البخاري بحديث عن سهل في الباب، فإنها فيه ذكر السحور داخل الوقت، لا في تعيينه وتحديده. وكذا القول في حديثي عائشة وابن عمر، وهما في الصحيحين أيضا، فإن التعويل فيهما على الأذان الذي عند طلوع الفجر، فعلقا الأذان على الطلوع، وهو غير مفسر في حديثيهما، فكانا عامين في المسألة كالآية، فعاد المصير لما قدمنا. لأجل هذا ذهب الأئمة الأربعة، وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم للقول بهذه الأخبار، فيما نقله عنهم ابن المنذر وزاد: وبه قال عمر بن الخطاب، وابن عباس وعلماء الأمصار، وبه نقول.

وأما حديثا سهل بن سعد وعدي بن حاتم المخرجان في الصحيحين، في نظر الصحابة رضي الله عنهم للخيط الأبيض والأسود حتى يتبين لهم، فكانا بينين جداً في المسألة لولا قوله - صلى الله عليه وسلم - لعدي وغيره: " إن وسادك إذاً لعريض، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل " فبين قوله - صلى الله عليه وسلم - لهم في ذلك لمعنى الآية على بيان يياض النهار، وهو غير مفسر كسابقه، ويحتاج لمثل حديث ابن مسعود وسمرة وطلق، فحملنا العام على الخاص، والمؤول على الصريح، والمبهم على المفسر.

الوصل الثاني: في ذكر الأحاديث التي ليست الفتوى عليها، والقائلين بها إن كان: وقد عنينا بالأحاديث المرفوع منها، دون الموقوف، كما هو شرطنا في الكتاب، وشرط سائر علماء الملة، في طرح الموقوف إذا صح لنا المرفوع من غير إعلال، وعلى ما قدمنا من الشروط المختلف في اعتبارها عند علماء الأصول. 1 - الحديث الأول حديث أبي هريرة في إتمام الشرب للصائم إذا فجأه المؤذن: فقد أخرج أبو داود في سننه قال: حدثنا عبد الأعلى بن حماد أخبرنا حماد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده، فلا يدعه حتى يقضي حاجته منه ". وأخرجه ابن جرير في التفسير قال: حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال: ثنا روح بن عبادة قال: ثنا حماد عن محمد بن عمرو فذكره. ثم أخرجه من طريق أحمد بن إسحاق قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا حماد عن عمّار بن أبي عمّار عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله، وزاد: وكان المؤذن يؤذن إذا بزغ الفجر. وأخرجه الدارقطني في سننه من طريق محمد بن يحيى بن مرداس ثنا

أبو داود فذكره - كلفظ أبي داود المتقدم - وقال: قال أبو داود: أسنده روح بن عبادة كما قال عبد الأعلى. وأخرجه الحاكم قال: حدثنا أبو نصر الفقيه، ثنا الحسن بن سفيان ثنا عبد الأعلى بن حماد فذكره بمثل لفظ أبي داود وقال: صحيح على شرط مسلم، وأعاده في غير موضع، وأشار لرواية عمّار. وعلّقه ابن حزم في " المحلّى " فقال: ومن طريق حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه ". قال عمار: وكانوا يؤذنون إذا بزغ الفجر. وقال حماد عن هشام بن عروة: كان أبي يفتي بهذا. وأما الإمام أحمد فله في هذا الخبر أسانيد. منها من طريق غسان، ثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو به. ومنها من طريق حماد عن يونس عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. ومنها من طريق روح عن حماد عن محمد عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً.

ومنها من طريق روح عن حماد عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة مرفوعاً، بالزيادة المتقدمة. والحديث من الطريقين الموصولين أخرجه البيهقي في " السنن " والجوهري في " الفوائد "، وما عرفت غيرهما موصولين لهذا الخبر، وظاهر كلا الطريقين الصحة، إلا كلاماً في محمد بن عمرو في روايته عن أبي سلمة خاصة. وهو وسائر الرواة في الطريقين ثقات أجلاء. فقد ذكر أبو بكر بن أبي خيثمة قال: سئل يحيى بن معين عن محمد بن عمرو فقال: ما زال الناس يتقون حديثه، قيل له: علة ذلك؟ قال: كان يحدث مرة عن أبي سلمة بالشيء من رأيه، ثم يحدث به مرة أخرى عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وكان هذا مراد يحيى القطان بقوله: رجل صالح ليس بأحفظ الناس للحديث. والجوزجاني بقوله: ليس بقوي الحديث، ويشتهى حديثه. وأبي حاتم بقوله: صالح الحديث، يكتب حديثه، وهو شيخ. وابن حبان بقوله: كان يخطئ.

وكذا ذكروا لعمار أخطاءً. وحماد بن سلمة قد ساء حفظه في آخر عمره، فالحفاظ لا يحتجون بما يخالف فيه، وهو هنا لم يخالف غيره، لكنه اختلف عليه في هذا الخبر على ثلاثة أوجه، ورابع يأتي بعد موقوف ولفظه مختلف. أ - عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً. ب - عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة مرفوعاً. ج - عن يونس عن الحسن مرسلاً. د - عن حميد عن أبي رافع أو غيره عن أبي هريرة موقوفاً. وهذا مما يعلّ به هذا الخبر. لا سيما الإرسال، والوقف إن صح. ثم رأيتني في ذلك بحمد الله متابعاً للعارفين بهذا الشأن غير متفرد، وذلك فيما حكاه عبد الرحمن في العلل قال: سألت أبي عن حديث رواه روح بن عبادة عن حماد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه " قلت لأبي: وروى روح أيضاً عن حماد عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله وزاد: وكان المؤذن يؤذن إذا بزغ الفجر؟ قال أبي: هذان الحديثان ليسا بصحيحين، أما حديث عمار فعن أبي هريرة موقوف، وعمار ثقة، والحديث الآخر ليس بصحيح. انتهى.

قلت: وهو في تضعيف طرق محمد بن عمرو، له الوجه الذي قدمناه، وكذا الاختلاف. وأما في ترجيحه الوقف، فلم أدر ما وجه تحكمه فيه، فلعل له فيه روايات عنده. مع التنبيه أن ابن حزم علقه موقوفاً عن أبي هريرة بضعف. ثم استدركت، فإن مذهب أبي حاتم وجماعة من الحفاظ معه كثيرون الاقتصار على أقل ما في الروايات، يحكمون بذلك دائماً حيث لا مرجّح. وقد ذكر شمس الدين ابن القيم لهذا الخبر علة قالها ابن القطان، وهي معلولة، قال: هذا الحديث أعله ابن القطان بأنه مشكوك في اتصاله قال: لأن أبا داود قال: أنبأنا عبد الأعلى بن حماد أظنه عن حماد عن محمد بن عمرو. . . انتهى. قلت: ومع كون هذا القول الذي حكاه ابن القطان غير موجود في النسخ التي بأيدينا لأبي داود، فإنه مع فرض ثبوته - في نسخة عنده - غير قادح، لأنه قد ثبت ذلك عند غيره من غير شك في ذكره، فلا معنى لإعلاله بهذا. ثم إن الحديث قد صححه غير واحد، وتوقف فيه آخرون، في القديم والحديث. وله شاهد عن أبي أمامة يأتي. وعن جابر. * ذكر المفتين بهذا الخبر والمؤولين له: قد قدمنا فيما علق ابن حزم أن الزبير كان يفتي بهذا الخبر، وكذا أبو هريرة إن صح. ولفظه: أنه سمع النداء والإناء على يده فقال: أحرزتها ورب

الكعبة. وهو قول سائر من يجيز الأكل لبعد هذا الوقت، كما سيأتي في الأحاديث بعده. وقد رده أهل العلم - إن صح - بأوجه، ممن لم يفتوا به. قال في عون المعبود: " قال البيهقي: - إن صح هذا - يحمل عند الجمهور على أنه - صلى الله عليه وسلم - قاله حين كان المنادي ينادي قبل طلوع الفجر، بحيث يقع شربه قبل طلوع الفجر. وقال صاحب فتح الودود: من يتأمل في هذا الحديث، وكذا حديث: " كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر "، وكذا ظاهر قوله تعالى: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) يرى أن المدار هو تبيين الفجر، وهو يتأخر عن أوائل الفجر بشيء، والمؤذن لانتظاره يصادف أوائل الفجر، فيجوز الشرب حينئذٍ إلى أن يتبين، لكن هذا خلاف المشهور بين العلماء، فلا اعتماد عليه عندهم، والله أعلم. وقال علي القاري: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " حتى يقضي حاجته " هذا إذا علم أو ظن عدم الطلوع. وقال ابن الملك: هذا إذا لم يعلم طلوع الصبح، أما إذا علم أنه قد طلع أو شك فيه، فلا. وقال القاري أيضاً: لعل هذا كان في أول الأمر. انتهى ما في العون. قلت: وعندي جواب عنه، وهو أن يكون المراد بالحديث كالمراد من حديث عائشة وابن عمر المتقدم في عدم الامتناع عن الطعام والشراب عند

أذان بلال، ويكون هو المقصود بالأذان هنا، ثم رأيت من تقدمني لهذا الجواب، وستأتي لهذا الجواب بعد مناقشة في موضعها عند ذكر الحديث الرابع إن شاء الله تعالى.

2 - الحدبث الثاني عن أبي أمامة بنحوه لكن عند الإقامة: أخرجه ابن جرير في التفسير قال: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال سمعت أبي قال: أخبرنا الحسين بن واقد: وحدثنا ابن حميد قال ثنا يحيى بن وضاح قال: ثنا الحسين: قالا جميعاً عن أبي غالب عن أبي أمامة قال: أقيمت الصلاة، والإناء في يد عمر، قال: أشربها يا رسول الله؟ قال: نعم، فشربها. لم أقف عليه عند غير ابن جرير، وهو حديث ضعيف. خلافاً لمن حسنه من المعاصرين. فأبو غالب: صدوق يخطئ. والحسين وإن كان ثقة، فإن له أوهاماً، ثم هو مدلس على ما ذكر سبط ابن العجمي، نقلاً عن أبي يعلى الخليلي، وقد عنعن هنا، فالسند ضعيف. وممن وصفه بالتدليس الدارقطني، كما ذكره الحافظ في التقريب. وأما ابن رجب في شرح العلل فقال إنه يدلس في روايته عن أيوب بن خوط، ولم يذكر غيره، فإن صح هذا الاقتصار من ابن رجب، كان الحديث حسناً، على مضض.

(تنبيه): اعلم أن الذي أوردناه في تأويل خبر أبي هريرة السابق، هو بعينه لا يصلح في هذا الخبر، إلا الوجه الأخير، وأن القائلين بذاك الخبر، لا يلزمهم القول بهذا، للفارق بين وقتي الأذان للإقامة، فخرجت فتاوى من ذكرناهم عن القول بالذي هنا.

3 - الحديث الثالث مثل حديث أبي هريرة، وهو عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أخرجه الإمام أحمد في مسنده قال: ثنا موسى حدثنا ابن لهيعة عن أبي الزبير قال: سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن الرجل يريد الصيام والإناء على يده ليشرب منه فيسمع النداء؟ قال جابر: كنا نتحدث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ليشرب. وتابع موسى الوليد بن مسلم. أخرجه أبو الحسين الكلابي عن ابن لهيعة به. وأبو الزبير قد صرح في هذا الخبر بالتحديث، فبقي الحديث في عهدة ابن لهيعة على الخلاف المشهور المعروف فيه، فيكون الحكم على الحديث كل بحسب ما يرى في عبد الله، من الحسن أو الضعف. والمأمول تحسينه بشاهده. (نكتة): ويكون الكلام على هذا الحديث، هو الكلام على حديث أبي هريرة، مع زيادة بيان أن قول جابر هنا " كنا نتحدث " مشعر أنه لم يسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، وأنه له فيه واسطة عن صحابي، وهو غير مؤثر في الحديث، لكن لا يبعد أن يكون الصحابي أبا هريرة، فيرجع عندها هذا الحديث للحديث الأول. والله أعلم.

4 - الحديث الرابع عن أنس، ووقته بعد الأذان وقبل الإقامة: أخرج عبد الرزاق في مصنفه حديثه فقال: أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سحرنا يا أنس، إني أريد الصيام فأطعمني شيئاً، فجئته بتمر وإناء فيه ماء، بعدما أذن بلال، فقال: يا بلال انظر إنساناً يأكل معي. فدعوت زيد بن ثابت فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني شربت شربة من سويق وأنا أريد الصيام فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وأنا أريد الصيام ". فتسحر معه، ثم صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، ثم خرج فأقيمت الصلاة. وكان معمر يؤخر السحور، ويسفر، حتى يقول الجاهل: ما له صوم. ومن طريقه أخرجه الإمام أحمد في المسند، فقال: حدثنا عبد الرزاق فذكره، إلا قوله: " وكان معمر ... " قال: " وذلك في السحر " مكان " سحرنا يا أنس " ومن طريقه أخرجه النسائي في الكبرى فقال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال أنبأنا عبد الرزاق، بمثل لفظ أحمد. وأخرجه ابن حزم فقال: حدثنا حمام ثنا ابن مفرج، ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن قتادة عن أنس: أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تسحر هو وزيد بن ثابت، وهو عليه السلام يريد الصوم، ثم صلى الركعتين، ثم خرج إلى المسجد فأقيمت الصلاة.

قلت: هذا حديث رجاله رجال الشيخين، ثم له طريق آخر، بنحو هذا السياق أخرجه الحافظ البزار في مسنده قال: حدثنا عبدة بن عبد الله، ثنا زيد بن الحباب، ثنا مطيع بن راشد، حدثني توبة العنبري أنه سمع أنس بن مالك يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " انظر من في المسجد فادعه "، فدخلت - يعني المسجد - فإذا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فدعوتهما، فأتيته بشيء فوضعته بين يديه، فأكل وأكلوا، ثم خرجوا، فصلى بهم صلاة الغداة. قال البزار: لا نعلم أسند توبة عن أنس إلا هذا، وحديثاً آخر، ولا رواهما عنه إلا مطيع. قال الهيثمي: إسناده حسن، وكذا قال في " المجمع "، وسكت عليه الحافظ ابن حجر. والحديث أخرجه ابن أبي شيبة بهذا اللفظ كما أورده الحافظ في " المطالب العالية ". قلت: وهذا الحديث غير مفسر كما ترى، إلا أن يكون الهيثمي أحال فيه على حديث أنس السابق فترجم له (باب الحث على السحور). لكن العجب من الهيثمي كيف أغفل في المجمع ذكر حديث أنس مع هذا، فذكره في المجمع معزواً للبزار فقط، ودون العزو لأحمد ولا ذكرٍ لسياقه. وأما إيراد ابن حجر له في المختصر، فإنه عد منه أنه حديث آخر، لأن

شرطه في المختصر أن لا يورد الحديث إذا كان في المسند. ولعله اغتر بعدم عزو شيخه له. وليس من مانع أن يكونا واحداً، ولا من تأثير على أي الأمرين. وصرف رواية البزار إن أفردت غير مستبعد عن أحاديث الصيام، وصرفها عن كونها كانت قبل الأذان ممكن، لأنه لا يمنع أن يكون الراوي أغفل ذكر الأذان بعد تناولهما الطعام واقتصر على ذكر الإقامة. وأما رواية عبد الرزاق، فلا صارف لها ألبتَّة، مع ذكر السحور، وأن بلالاً كان أذن للفجر، فهي في السحور بعد الأذان. لكنها غير محتاجة للجواب عنها بما قدمنا، وذلك أن التصريح وقع هنا، بأن المؤذن هو بلال، وقد ثبت عند الشيخين وغيرهما من حديث عائشة وابن عمر كما قدمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم " فلم يعد في الحديث حجة لمن يجيز الأكل بعد طلوع الفجر المذكور بالآية، والذي كان يؤذن له ابن مكتوم، من هذا الخبر. فإن قلت: فما يمنع أن يكون أذن ابن أم مكتوم أيضاً، ولم يذكره الراوي، كما جوزت إغفال ذكره بعد تناولهم الطعام، حيث وقع في الحديث ذكر صلاتهم، دون ذكر أذان ابن أم مكتوم. قلت: حملاً على الأحاديث الصحيحة من باب، ومن باب آخر اعتمادا على فقه الراوي، ومن ثالث على الحمل على المقتضى. أما الأول فهو الواجب عند توجيه الحديث الفرد الذي شذ ظاهره، إلى معنى الأحاديث المصححة الصريحة، وكذا في كل مبهم أو محتمل إذا صح المفسر أو المعين. حتى لا تتناقض الأحاديث، فمفهوم المخالفة من حديث عائشة وابن عمر مفيد لمنع تناول الطعام بعد أذان ابن أم مكتوم، فلذلك

منعنا حصول أذان ابن أم مكتوم حتى لا تتناقض الأخبار ولا تتهاتر. وحملاً على ظاهر لفظ الرواية. وأما الثاني: فالمقصود به أن الفقيه لا يصح عنده أن يذكر أذان بلال عند طعامهم، ويكون ابن أم مكتوم هو الذي أذن، للفارق بين الأذانين، واختلاف الحكمين، أفترى هذا يخفى على أنس. وأما الوجه الثالث في عدم ذكر أنس لأذان ابن أم مكتوم بعد، لأنه مفهوم من مقتضى السياق، والبلاغة الإيجاز كما تقرر عند أكثر البلاغيين، سيما باستعمال فاء الفصيحة في ذكر السياق كما هنا، وهذا كثير جداً في القرآن والحديث، لا تكاد تخلو منه قصة. فإن قلت: لكن جاء في بعض الروايات أن ابن أم مكتوم هو الذي كان يؤذن أولاً، وجمع العلماء بين الخبرين بأن هذا كان يسبق مرة، وذاك أخرى، فيحتمل أن يكون هذا الخبر حصل عندما كان بلال يؤذن للفجر الصادق الذي يحل الصلاة ويمنع الطعام، على رأي الجمهور. قلنا: هذا قول ضعيف، وأكثر حفاظ الدنيا مجمعون على أن الحديث الذي فيه تقديم ذكر ابن أم مكتوم على ذكر بلال هو حديث مقلوب أخطأ فيه الرواة، وبسط هذا معلوم في موضعه. وقد جاء حديث مفسر جداً في هذا، موافق لما قدمناه من حديث عائشة وابن عمر، وفيه تفسير حديث ابن مسعود وسمرة وطلق، وهو ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي ذر قال: قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني أريد أن أبيت عندك الليلة فأصلي بصلاتك. قال: لا تستطيع صلاتي. فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل فيستر بثوب وأنا محوّل عنه، فاغتسل، ثم

فعلت مثل ذلك، ثم قام يصلي وقمت معه، حتى جعلت أضرب برأسي الجدران من طول صلاته، ثم أذن بلال للصلاة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفعلت؟ قال: نعم. قال: يا بلال إنك لتؤذن إذا كان الصبح ساطعاً في السماء، وليس ذلك الصبح، إنما الصبح هكذا معترضاً. ثم دعا بسحور فتسحر. قلت: لكن في إسناده رشدين بن سعد.

5 - الحديث الخامس حديث بلال - رضي الله عنه -، ووقته بعد الأذان وقبل الإقامة. ولبلال حديثان: أحدهما في الأكل قبل الصلاة، والثاني يأتي بعد في إباحة الطعام حتى طلوع الشمس. أخرج حديث بلال الإمام أحمد في المسند قال: حدثنا يحيى بن آدم، وأبو أحمد قالا: ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن معقل المزني عن بلال بن رباح رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوذنه بالصلاة، - قال أبو أحمد: وهو يريد الصيام - فدعا بقدح فشرب وسقاني، ثم خرج إلى المسجد للصلاة فقام يصلى بغير وضوء، يريد الصوم. وأخرجه ابن جرير فى التفسير قال: " حدثنى محمد بن أحمد الطوسي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى قال أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق فذكره. وأخرجه الطبراني في الكبير من وجهين قال: حدثنا أحمد بن الحسن الصوفي ثنا أبو خيثمة زهير بن حرب ثنا أبو أحمد الزبيري ثنا إسرائيل فذكره. وقال: حدثنا محمد بن عبد الرحيم الديباجي التستري ثنا حماد بن بحر

التستري، ثنا محمد بن الحسن المزني، ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق عن عبد الله به. وقد أخرجه ابن جرير من هذه الطريق قال: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح قال ثنا يونس عن أبيه فذكره. قلت: وهذا إسناد ضعيف لأن فيه أبا إسحاق السبيعي، مدلس واختلط بأخرة، وقد عنعن في سائر طرق الحديث، وقول الشيخ الهيثمي في المجمع " رجالهما رجال الصحيح "، صحيح، ولكنه لا يعد صحة ولا تحسيناً مع وجود هاتين العلتين، وإن كانت الثانية أقل تأثيراً من الأولى لكثرة الراوين عنه لهذا الخبر، فإنه يبعد أن يكون جميعهم قد سمع منه هذا الخبر بعد الاختلاط. لكن للحديث طريق أخرى قوَّى بها بعض الناس هذا الخبر، وهي منقطعة، أخرجها الإمام أحمد قال: ثنا وكيع ثنا جعفر بن برقان عن شداد مولى عياض بن عامر عن بلال أنه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤذنه بالصلاة فوجده يتسحر في مسجد بيته. وهذه الطريق عند الطبراني لكن لفظها عنده: " لا تؤذن حتى ترى الفجر هكذا " وأشار بيده ثم فتحها، هكذا ذكره.

وهكذا أخرجه أبو داود في سننه، ثم قال: " شداد مولى عياض، لم يدرك بلالا ". قلت: فتبين انقطاع هذا الإسناد. مع أنه ليس في المتن شاهد قط للتسحّر، بل ولا للصيام، لذلك ترجم له أبو داود في كتاب الصلاة، باب في الأذان قبل دخول الوقت. نعم لفظ أحمد فيه ذكر السحور فلعلهما حديثين، أو أن بعض الرواة مرة كان يحدث بهذا ومرة بهذا. وارجع لما قدمناه من الأجوبة عن مثل هذا الخبر.

6 - الحديث السادس عن ابن عمر ووقته كسابقه. أخرج أبو داود الطيالسي في مسنده قال: حدثنا قيس عن زهير بن أبي ثابت الأعمى، عن تميم بن عياض عن ابن عمر قال: كان علقمة بن علاثة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة. بمال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رويداً يا بلال يتسحر علقمة - وهو يتسحر برأس. وأخرجه الطبراني من طريق قيس بن الربيع المذكور. وقد سكت الحافظ ابن حجر في المطالب، والبوصيري في الإتحاف على هذا الخبر، وقال الهيثمي: قيس بن الربيع، وثقه شعبة وسفيان، وفيه كلام. ومن طريق قيس أيضاً أخرجه عبد بن حميد في مسنده اللفظ، وسكت عليه أيضاً العسقلاني والبوصيري، والحق أن الحديث ضعيف، وأن قيساً ضعيف أيضاً. قال البخاري: حدثنا علي قال: كان وكيع يضعفه.

وقال مرة: كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عن قيس. وقد حدث عنه عبد الرحمن ثم تركه. وقال أبو داود: أتي قيس من قبل ابنه، كان ابنه يأخذ أحاديث الناس فيدخلها في فُرَج كتاب قيس، ولا يعرف الشيخ ذلك. وقال البخاري: أنا لا أكتب حديث قيس ولا أروي عنه. وذكره أبو زرعة في الضعفاء. وقال أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان: ضعيف. وقال يحيى بن معين: قيس بن الربيع ليس بشىء. وقال أحمد بن حنبل: ولي قيس بن الربيع فلم يحمد. وذكره يعقوب بن سفيان في باب من يرغب في الرواية عنهم. وقال الترمذي: يضعف في الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث، كوفي. وقال الدارقطني: ضعيف.

هذا وما زلت أتناول الأسفار، وأطوي الصفحات، علّي أقف على تميم بن عياض، فأبى الطرف أن يغض على الذي يشتهيه، وكرهت مزيد تبديد الزمان في التنقيب، مع الحكم بضعف الخبر، دون معرفة حال تميم. ولقصة علقمة بن علاثة حديث عن علي هو الآتي بعد حديثين.

7 - الحديث السابع عن يزيد بن أبي زياد مولى آل علي، ووقته بعد الأذان الأول، فهو بيِّن لا يحتاج جواباً عنه، ثم هو ضعيف. أخرجه عبد الرزاق في مصنفه قال: عن ابن جريج عن يزيد بن أبي زياد مولى آل علي، أن ناساً من ثقيف قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزلهم المقبرة، وذلك في رمضان، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم بسحورهم بعد أذان بلال، بعد طلوع الفجر الأول، وأسفر جداً، فأكلوا وأكل معهم بلال، ثم صاموا جميعاً. . . . ". قلت: فهذا مرسل لا يقبله إلا من يحتج بالمرسل، فيزيد لم ير من الصحابة إلا أنساً. ثم أن يزيد الأكثرون على ضعفه، وإن روى له مسلم مقروناً، وعلق له البخاري حديثاً أو حديثين. قال شعبة: كان رفاعاً. وقال أحمد بن حنبل: لم يكن بالحافظ. وقال مرة: حديثه ليس بذاك. وقال ابن معين: لا يحتج بحديثه. وقال مرة: ليس بالقوي. وقال أبو زرعة: لين يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال الجوزجاني: سمعتهم يضعفون حديثه. وقال العجلي: جائز الحديث، وكان بأخرة يلقن.

قلت: فمثل هذا يكون حديثه للاعتبار، كما يفعل مسلم رحمه الله. ثم للحديث علّة ثالثة وهي تدليس ابن جريج، وقد عنعن.

8 - الحديث الثامن عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، وهو كسابقه. أخرجه عبد الرزاق فى مصنفه قال: عن ابن جريج عن سعيد بن جهمان عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن يزيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا قتادة في حاجة له، فجأءه بعد ما أسفر جداً، يقول: بعد الفجر الأول، فقدم إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - سحوراً فقال: أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أصبحت. فقال: تسحروا، وطبَّق النبي - صلى الله عليه وسلم - يجيف الباب حتى لا يتبين الإسفار، فلما فرغ، فوجده قد أسفر جداً، يقول: بعد الفجر الأول. قلت: وهذا ضعيف، فيه عنعنة ابن جريج، وعبد الحميد بن عبد الرحمن بن يزيد المذكور في الحديث لم أعرفه، إلا أن يكون عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بإسقاط الياء الأولى، فيكون هو عامل عمر بن عبد العزيز، المذكور في التاريخ الكبير للبخاري، ولم يذكر البخاري أن سعيداً ممن روى عنه. والحاصل أن الخبر لا يصح على كل حال.

أحاديث طلوع الشمس

أحاديث طلوع الشمس 9 - الحديث التاسع في قصة علقمة بن علاثة المتقدم قبل حديثين، وهو عن علي بن أبي طالب: أخرجه البزار في مسنده قال: حدثنا خلاد بن أسلم، ثنا حنيفة بن مرزوق عن سوار بن مصعب عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن علي بن أبي طالب قال: دخل علقمة بن علاثة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدعى له برأس، وجعل يأكل معه، فجاءه بلال فدعاه إلى الصلاة، فلم يجب، فرجع فمكث في المسجد ما شاء الله ثم رجع فقال: الصلاة يا رسول الله، والله قد أصبحت. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رحم الله بلالاً، لرجونا أن يؤخر لنا وما بيننا وبين طلوع الشمس، فقال علي: لولا أن بلالاً حلف، لأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يقول له جبريل عليه السلام: ارفع يدك. قال البزار: تفرد به سوار، وهو لين. فتعقبه الحافظ ابن حجر فقال: بل هو متروك الحديث. وكان قال الهيثمي في المجمع: فيه سوار بن مصعب وهو ضعيف. قلت: هو كما قال الحافظ، والمحفوظ في هذا الحديث الإرسال، لا الوصل، كما أخرجه عبد الرزاق، وأبو داود في المراسيل، وهو الحديث العاشر الآتي، من حديث إسماعيل بن أبي خالد.

والحديث له إسناد آخر موصول ضعيف من حديث سوار أيضاً عند ابن مندة، رواه سوار عن إسماعيل عن قيس عن علي، كما عند البزار.

10 - الحديث العاشر المرسل عن حكيم بن جابر. أخرجه عبد الرزاق في مصنفه قال: عن ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن حكيم بن جابر قال: جاء بلال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يتسحر، فقال: الصلاة يا رسول الله. قال: فثبت كما هو يأكل. ثم أتاه فقال: الصلاة - وهو حاله - ثم أتاه الثالثة فقال: الصلاة يا رسول الله، قد والله أصبحت. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يرحم الله بلالاً، لولا بلال لرجونا أن يرخص لنا حتى تطلع الشمس. وأخرجه أبو داود في المراسيل قال: حدثنا وهب بن بقية، عن خالد، عن إسماعيل بن أبي خالد فذكره. قلت: وهذا مرسل صحيح، يحتج به من يحتج بالمرسل. لكن ليس فيه إلا ما في ما مضى قبله من جواز الأكل بعد أذان بلال، وأما الترخيص حتى تطلع الشمس، فظاهر هذا الخبر المنع منه، لقوله ": " لولا بلال لرجونا. . . . ".

الحديث الحادي عشر حديث حذيفة بن اليمان

11 - الحديث الحادي عشر حديث حذيفة بن اليمان. أخرجه عبد الرزاق في المصنف قال: عن إسرائيل عن عامر بن شقيق عن شقيق بن سلمة قال: انطلقت أنا وزر بن حبيش إلى حذيفة وهو في دار الحارث بن أبي ربيعة، فاستأذنّا عليه، فخرج إلينا، فأتى بلبن، فقال: اشربا، فقلنا: إنا نريد الصيام. قال: وأنا أريد الصيام، فشرب، ثم ناول زرًّا فشرب، ثم ناولني فشربت، والمؤذن يؤذن في المسجد، قال: فلما دخلنا المسجد أقيمت الصلاة، وهم يغلسون. قلت: فهو موقوف. وأخرجه الإمام أحمد في المسند قال: حدثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش قال: تسحرت ثم أنطلقت للمسجد فمررت بمسجد حذيفة بن اليمان، فدخلت عليه فأمر بلقحة فحلبت، وبقدر فسخنت، ثم قال: ادن فكل، فقلت إني أريد الصوم. فقال: وأنا أريد الصوم. فأكلنا وشربنا، ثم أتينا المسجد فأقيمت الصلاة. ثم قال حذيفة: هكذا فعل بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت: أبعد الصبح؟! قال: نعم، هو الصبح غير أن الشمس لم تطلع.

قال: وبين بيت حذيفة وبين المسجد كما بين مسجد ثابت وبستان حوط. وقد قال حماد أيضاً: وقال حذيفة: هكذا صنعت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصنع بي النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال: حدثنا مؤمل، ثنا سفيان عن عاصم عن زر عن حذيفة قال: كان بلال يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتسحر، وإني لأبصر مواقع نبلي. قلت: أبعد الصبح؟ قال: بعد الصبح إلا أنها لم تطلع الشمس. وقال: حدثنا وكيع عن سفيان عن عاصم قال: قلت لحذيفة: أي ساعة تسحرتم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. وقال: حدثنا يزيد، أنا شريك بن عبد الله عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قال: قلت لحذيفة: يا أبا عبد الله، تسحرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم.

قلت: أكان الرجل يبصر مواقع نبله؟ قال: نعم، هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. وأخرجه ابن جرير قال: حدثنا أبو كريب. قال: ثنا أبو بكر عن عاصم عن زر عن حذيفة قال: قلت: تسحرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، لو أشاء لأقول هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. وحدثنا أبو كريب قال: ثنا أبو بكر، قال؛ ما كذب عاصم على زر، ولا زر على حذيفة. قال قلت له: يا أبا عبد الله تسحرت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. وحدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان عن عاصم عن زر عن حذيفة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتسحر وأنا أرى مواقع النبل. قلت: أبعد الصبح؟ قال: هو الصبح إلا أنه لم تطلع الشمس. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، قال حدثنا عمرو بن قيس وخلاد الصفار عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش قال: أصبحت ذات يوم فغدوت إلى المسجد، فقلت. لو مررت على باب حذيفة، ففتح لي فدخلت، فإذا هو يسخن له طعام، فقال اجلس حتى تطعم. فقلت: إني أريد الصوم. فقرب طعامه فأكل، وأكلت معه، ثم قام إلى لقحة في الدار فأخذ يحلب من جانب، وأحلب من جانب، فناولني.

فقلت: ألا ترى الصبح؟ قال: اشرب. فشربت ثم جئت إلى باب المسجد فأقيمت الصلاة. فقلت له: أخبرني بآخر سحور تسحرته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: هو الصبح إلا أنها لم تطلع الشمس. وأخرجه ابن ماجه في سننه قال: حدثنا علي بن محمد، ثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن زر، عن حذيفة قال: تسحرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. وأخرجه النسائي من أوجه كثيرة قال: أنبأنا محمد بن يحيى بن أيوب، قال: أنبأ وكيع عن سفيان عن عاصم عن زر قال: قلنا لحذيفة: أي ساعة تسحرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. ثم أخرجه موقوفاً من طريقين: الأول: عن شعبة عن عدي قال سمعت زراً قال تسحرت مع حذيفة. . . فذكره. الثاني: عن محمد بن فضيل ثنا يعقوب، ثنا إبراهيم، عن صلة بن زفر قال تسحرت مع حذيفة. . .

وأخرجه ابن حزم في " المحلّى " قال: حدثنا حمام بن أحمد، ثنا عبد الله بن محمد الباجي، ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن، ثنا حبيب بن خلف البخاري، ثنا أبو ثور إبراهيم بن خالد، ثنا روح بن عبادة، ثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قال: تسحرت، ثم انطلقت إلى المسجد، فدخلت على حذيفة. . . فذكر مثل لفظ أحمد الأول، إلا أنه قال: " بعد الصبح. . . " مكان " هو الصبح. . . ". وقال: حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، ثنا عبد الله بن نصر، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا ابن وضاح ثنا موسى بن معاوية، ثنا وكيع عن سفيان الثوري عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قلت لحذيفة: أي وقت تسحرتم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. وأخرجه سعيد بن منصور عن أبي الأحوص عن عاصم عن زر به، وكذا ابن أبي شيبة. قلت: فهذه الأسانيد، لا يتطرق إليها الضعف لجهة الراوين عن عاصم بن بهدلة - وهو نفسه ابن أبي النجود، باتفاق - أمثال سفيان الثوري وعنه وكيع ومؤمل، وحماد بن سلمة وعنه روح وعفان، وأبو بكر بن عياش وعنه علي بن محمد وغيره، وغيرهم.

ومن فوقه زر بن حبيش عن حذيفة، - لا كلام - وأما عاصم بن أبي النجود واسم أمه بهدلة: فقد وثقه جميع الناس، ولم يختلف في عدالته أحد. إلا أن كبار الحفاظ - ومع توثيقهم له - ينتقدون عليه مفاريده، واضطراباته، وسوء في حفظه. قال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه فقال: ثقة. فذكرته لأبي، فقال: ليس هذا محله أن يقال: إنه ثقة، وقد تكلم فيه ابن علية فقال: كان كل من اسمه عاصم سيئ الحفظ. وقال أبو حاتم أيضاً: محله عندي الصدق، صالح الحديث، ولم يكن بذاك الحافظ. وقال ابن خراش: في حديثه نكرة. وقال أبو جعفر العقيلي: لم يكن فيه إلا سوء الحفظ. وقال الدارقطني: في حفظه شيء. وقال يعقوب بن سفيان: في حديثه اضطراب، وهو ثقة وقال ابن رجب في شرح علل الترمذي: وممن يضطرب في حديث سماك، عاصم بن بهدلة.

وقد ذكر الترمذي، أن هؤلاء وأمثالهم، ممن تكلم فيه من قبل حفظه وكثرة خطأه، لا يحتج بحديث أحد منهم إذا انفرد - يعني من الأحكام الشرعية والأمور العلمية - وأن أشد ما يكون ذلك إذا اضطرب أحدهم في الإسناد فزاد فيه أو نقص، أو غيَّر الإسناد أو غيَّر المتن تغييراً يتغتر به المعنى. . . ". قلت: فهذا أشد مما ذكر ابن رجب، فإنه وإن لم يكن مضطرباً سنداً، لكنه في سياقه اختلاف، فهو مضطرب متناً: فتارة يقول: فأمر بلقحة فحلبت. ثم يقول: فقام إلى لقحة في الدار، فأخذ يحلب من جانب وأحلب من جانب. وطوراً يقول: " بعد الصبح ". ثم يقول: " هو الصبح ". ومرة يقول: كان بلال يأتي النبي وهو يتسحر، وإني لأبصر مواقع نبلي - والمبصر حذيفة - ومرة يقول: " كان الرجل يبصر مواقع نبله " - والسائل زر. وقد يجاب عن جميع هذا بأنه يحمل على التعدد في الواقعة، أو حكاية الرواة للحديث بالمعنى. قلت: وهو جواب محتمل غير مدفوع، لا يقطع فيه. لكن من يرى كالترمذي - على ما حكى ابن رجب - أن من كان سيئ الحفظ، أو كثير الخطأ، يرد ما جاء عنده من تفرد زائد على الخبر، فمن باب أولى أن يرد الحديث إذا كان الخبر كله مما تفرد به هذا الراوي.

ومع هذا فإن الحافظ ابن حجر في الفتح يصحح هذا الخبر فيقول: " روى سعيد بن منصور عن أبي الأحوص عن عاصم عن زر عن حذيفة قال: تسحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هو والله النهار غير أن الشمس لم تطلع، وأخرجه الطحاوي من وجه آخر عن عاصم نحوه، وروى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق ذلك عن حذيفة من طرق صحيحة. قلت: وإني متوقف في صحة هذا الخبر، لما تقدم.

وصل فيما يستفاد من الخبر على فرض ثبوته وتسمية القائلين به، والجواب عنه: اعلم أن قول حذيفة في الخبر " إلا أن الشمس لم تطلع " غير مفيد إلا للإسفار في التسحّر، إسفاراً مبهماً غير مفسر، فالسحور على كل حال لا تطلع عنده الشمس، وقوله " إلا " مفيد للقرب قدراً من الزمن يختلف الناس في تحديده وتعيينه اختلافاً كبيراً، بحسب الطباع والعادات، واختلاف تعابير الناس واصطلاحهم في اللفظ، وباختلاف البلدان، بل وباختلاف البلد الواحد، بل وربما القرية الواحدة، بحسب قرب القائل من الوديان أو الجبال وبعدهم عنها، أو المقيمين عليها أو فيها. وكذا يختلف في أيام السنة، وصفاء الجو، ومطالع القمر ومواقيته. إنما المحدد في هذا الخبر: قوله " هو الصبح " أو " بعد الصبح " فأما الأول فلا إشكال فيه، لأنه هو المقصود ببداية حل الصلاة وتحريم الطعام، فهو موافق للآية والأخبار المتقدمة، إذ الصبح يطلق على الفجر، كما في الأحاديث الصحيحة الكثيرة، كما في صحيح مسلم وغيره " من صلى الصبح فهو في ذمة الله ". وأما الثاني " بعد الصبح " فهو المشكل جداً الذي لا يرد - على التحقيق - إلا بالمخالفة والشذوذ، وما قدمناه من الإعلال. أو أن يحمل هذا اللفظ على الأذان الأول، وفيه بعد، ويصرفه ما بعده " إلا أن الشمس لم تطلع " فمثل هذا لا يقال في الأذان الأول مطلقاً. وما علمت من الفقهاء أحداً يقول بظاهر هذا الخبر البتَّة، وإنما هو

منقول عن بعض الصحابة، بل عن أبي بكر قطعاً بالأسانيد الصحيحة، وعن على احتمالاً مع صحة السند إليه، فإنه قال مرة بعدما صلى الصبح: " الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود " رواه عنه ابن المنذر بسند صحيح. فقطع بعض الناس أن المراد صحة ذهابه إلى جواز السحور بعد الصلاة، وهو غير مقطوع به على الصحيح، للخلاف المشهور في حتى، هل هي تفيد الوصول أو الغاية، فبالقول الأول هي موافقة لظاهر القرآن، وما عينته السنة من أن الأذان بالصبح هو انتهاء وقت إباحة الطعام. وكذا خبر علي في قصة تسحره في العسكر، فإنه محتمل إن صح له الخبر، وكذا خبر ابن مسعود محتمل أيضاً، لا يقطع فيه بمثل قول أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين. فإني لا أحل النقل عن علي وابن مسعود، بمثل النقل عن أبي بكر، وأما من التابعين فهو الأعمش، ولم يكن يعمل به، كما هو ظاهر كلامه فإنه قال: " لولا الشهرة لصليت الغداة ثم تسحرت، فمفهومه أنه كان يراه ولا يفعله، ومعناه منقول عن أبي بكر بن عياش راوي هذا الخبر كما قدمنا، ولم يصل إلينا إن كان عمل به أم لا. لذلك صح تعقب الحافظ على الموفق وغيره في نقلهم الإجماع على خلاف ما ذهب إليه الأعمش. قلت فصح هذا الحديث على شرطنا، إن كان قال به واحد أو اثنان من الفقهاء أو المحدثين.

الحديث الحادي والعشرون في توريث المولى الأسفل معتقه

الحديث الحادي والعشرون في توريث المولى الأسفل معتقه اعلم هدانا الله وإياك لفصل الخطاب، وتحقيق الصواب، أننا إنما قلنا الأسفل فيما ترجمنا به تبعاً للمدققين من أصحاب المعرفة في تبين المراد. فالمولى كلمة تطلق على المعتق - بكسر التاء، والمعتق - بفتحها - فكانت مبهمة، فقيدوها بالأسفل لبيان المراد، وأن المقصود بالمولى: المعتق - بفتح التاء - لا سيّده الذي أعتقه. واعلم أن هذا الحديث مسألته خاصة، ولا تعلق لها بغيرها من المسائل التي يوردها بعض العلماء في باب واحد من غير تفريق، وهو خطأ محض، ويقع الشراح في ذكر الفتاوى فيها في أخطاء لعدم التفرقة والتمييز بين المسائل. فأكثر ما يقع الاشتباه بين هذه المسألة في توريث المولى الأسفل من سيده، وبين مسألة توريث الرجل ممن أسلم على يديه. فخلط في هاتين المسألتين الشوكاني في النيل، والسندي في حاشية ابن ماجه، ومن المعاصرين إن شئت قلت سائرهم إلا قليلاً جداً. وأما أهل التحقيق من المحدثين والفقهاء فكلامهم فيه بيّن جداَ مفصّل، في تقسيم الأبواب، وفي نقل مذاهب العلماء، كعبد الرزاق، وابن أبي شيبة وابن ماجه، وابن حزم، والبيهقي، وابن حجر وغيرهم. والذي أوقع من ذكرناهم في هذا، إنما هو إيراد هذه الأحاديث من بعض المحدثين دون تفريقها تحت باب ميراث ذوي الأرحام، كما يفعل أبو داود وغيره، فوقع الوهم عند من لم يتدبر. فأما مسألة توريث الرجل ممن أسلم على يديه، ففيها حديث تميم الداري، وأبي أمامة وغيرهما، ولفظ حديث تميم: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن

الرجل: من أهل الكفر يسلم على يدي الرجل من المسلمين، ما السنة فيه , قال: هو أولى الناس بمحياه ومماته. ولفظ حديث أبي أمامة: " من أسلم على يديه رجل فهو مولاه ".

في الباب عن عمر عند إسحاق بن راهويه، وسعيد بن منصور، وعن عمرو بن العاص عند الطبراني، وعن راشد بن سعد مرسلاً، عند مسدد وسعيد بن منصور. وفيه آثار أيضاً. وهذه المسألة هي التي ينقل أهل العلم، أن الجمهور على خلاف هذه الأحاديث كما في المغني لابن قدامة فإنه قال: فإن أسلم الرجل على يدي الرجل لم يرثه بذلك، في قول عامة أهل العلم، منهم الحسن والشعبي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، وقد روي عن أحمد رواية أخرى أنه يرثه، وهو قول إسحاق، وحكي عن إبراهيم أن له ولاءه ويعقل عنه، وعن ابن المسيب: " إن عقل عنه ورثه، وإن لم يعقل عنه لم يرثه ". وعن عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما أنه يرثه وإن لم يواله. لما روى راشد بن سعد قال: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من أسلم على يديه رجل فهو مولاه يرثه ويدي عنه " رواه سعيد، وقال:

حدثناه عيسى بن يونس ثنا معاوية بن يحيى الصدفي عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن أسلم على يديه رجل فله ولاؤه ". وروى بإسناده عن تميم الداري أنه قال يا رسول الله ما السنة في الرجل يسلم على يدي الرجل من المسلمين؟ فقال: " هو أولى الناس بمحياه ومماته " رواه أبو داود والترمذي وقال: لا أظنه متصلاً. قال ابن قدامة: ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الولاء لمن أعتق " ولأن أسباب التوارث غير موجودة فيه، وحديث راشد مرسل، وحديث أبي أمامة فيه يحيى، وحديث تميم تكلم فيه الترمذي، انتهى. قلت: وليس الأمر عند الحنفية على إطلاقه هنا، فلهم فيه شروطا ذكروها. والحاصل هنا أن هذا الحديث على غير شرطنا لكثرة القائلين به، وأننا قد ميزنا بينه وبين حديث ابن عباس وهو الآتي في توريث العبد من سيده. ذكر حديث ابن عباس الذي على شرطنا وليست الفتوى عليه. وله طريقان: الأولى: عن عمرو بن دينار، عن عوسجة مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أن رجلا مات على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يدع وارثاً إلا عبداً هو أعتقه، فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ميراثه. أخرجها عبد الرزاق عن ابن جريج قال أخبرني عمرو بن دينار فذكره بلفظ: " إن رجلاً مات ولم يدع أحداً يرثه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ابتغوا، فلم يجدوا أحداً يرثه، فدفع النبي - صلى الله عليه وسلم - ميراثه إلى مولى له أعتقه الميت، هو الذي

له الولاء، هو الذي أعتق. وأخرجها عن ابن عيينة: أحمد عنه، باللفظ الأول. وعبد الرزاق عنه، مثل أحمد. وابن ماجه عن إسماعيل بن موسى عنه، مثلهما. والترمذي عن ابن أبي عمر عنه، مثلهم. والبيهقي من طريق ابن المديني عن سفيان به، مثلهم. وشيخه الحاكم من طريق الحميدي عن سفيان مثلهم وغيرهم. وأخرجها عن حماد بن سلمة: أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل أخبرنا حماد، باللفظ الأول والبيهقي عن شيخه الحاكم من طريق يزيد بن هارون عن حماد به، كذلك.

الثانية: عن عمرو بن دينار عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، بنحو اللفظ الثاني أخرجها الحاكم في مستدركه قال: أخبرني أبو الحسين محمد بن أحمد الخياط، ثنا أبو قلابة، ثنا أبو عاصم، أنبأ ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار عن عكرمة فذكره. قال الحاكم: هذا إسناد صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، إلا أن حماد بن سلمة وسفيان بن عيينة، روياه عن عمرو بن دينار عن عوسجة عن ابن عباس. انتهى. وقد قال البيهقي أيضاً بعد إيراد هذه الطريق: " وهو غلط لا شك فيه. قلت: وهو الحق الأبلج، لأن الثقات عن ابن جريج ذكروه على الاستقامة كالطريق الأولى، فأخرجه أحمد عن روح عنه بالطريق الأولى، وكذا عبد الرزاق عنه. ثم لو فرضنا صحته عن ابن جريج من جميع الوجوه، لما أمكننا القول بصحة هذه الطريق لمخالفة ابن جريج لمن هو أوثق منه كابن عيينة، وموافقة حماد لابن عيينة. فرجع الحكم على الحديث من جهة الطريق الأولى حسب. وهي ضعيفة من وجهين: الأول: الكلام في عوسجة. الثاني: عدم سماع عمرو من عوسجة.

أما الكلام على عوسجة، فلما ذكر أبو حاتم والنسائي، قالا: ليس بمشهور وقال الذهبي: مجهول. وذكره العقيلي في الضعفاء، وساق له هذا الخبر وقال: لا يتابع عليه. قلت؛ وهو كلام لا يفيد ضعفاً، لأن عدم الشهرة غير كافية للراوي في رد خبره، وجهالة الذهبي له مردودة، وقد عرفه غيره، بل ووثقه جماعة منهم أبو زرعة، وابن حبان، وذكر له ابن عدي غير حديث من طريق عمرو عنه. نعم، هذا ينزل بالخبر عن الصحة إلى الحسن لو صح سائره، لكن بقيت العلة الثانية التي ذكرها البخاري. العلة الثانية: قال الإمام البخاري: روى عنه عمرو بن دينار ولم يصح. وهنا أسجل مسألة عبد الرحمن لأبيه عن هذا الخبر، قال: سألت أبي عن حديث رواه حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن عوسجة مولى ابن عباس أن رجلاً توفي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يدع وارثاً إلا مولى هو أعتقه. . . الحديث. فقلت: إن ابن عيينة، ومحمد بن مسلم الطائفي يقولان: عن عوسجة

عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت له: اللذان يقولان: ابن عباس، محفوظ؟ فقال: نعم، قصر حماد بن زيد. قلت لأبي: يصح هذا الحديث؟ قال: عوسجة ليس بالمشهور. انتهى. قلت أنا أبو عبد الله: فظاهر مسألة عبد الرحمن أن في نفسه من رواية الإرسال شيء، التي هي من طريق حماد بن زيد، وقد أخرجها البيهقي وغيره، وكذلك ذكره مرسلاً روح بن القاسم، فتابع حماد بن زيد، والرواية عند البيهقي أيضاً. وأنه قد خطر عنده إعلاله برواية الإرسال، فلم يوافقه أبوه. فإني منفصل هنا على أن الخبر لا يصح.

وصل في أن الفتوى ليست علي هذا الخبر، والجواب عنه: قال ابن حزم في " المحلّى ": مسألة: والعبد لا يرث، ولا يورث ماله كله لسيده، هذا ما لا خلاف فيه، وقد جاء به نص نذكره بعد هذا إن شاء الله، وروينا عن بعض الصحابة أنه يباع فيعتق فيرث، وهذا لا يوجبه قرآن ولا سنة فلا يجوز القول به. انتهى. وقال ابن قدامة في المغني: " ولا يرث المولى من أسفل معتقه في قول عامة أهل العلم، وحكي عن شريح وطاووس أنهما ورثاه لما روى سعيد عن سفيان عن عمرو بن دينار عن عوسجة عن ابن عباس أن رجلاً. . . الحديث. قال الترمذي: هذا حديث حسن، وروي عن عمر نحو هذا. قال ابن قدامة: ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الولاء لمن أعتق " ولأنه لم ينعم عليه فلم يرثه كالأجنبي، وإعطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - قضية عين يحتمل أن يكون وارثاً بجهة غير الإعتاق، وتكون فائدة الحديث أن إعتاقه له لم يمنعه ميراثه. ويحتمل أنه أعطاه صلة وتفضلاً ". انتهى. وبمثل جواب ابن قدامة الأخير، أجاب القاري، فقال: وهذا الجعل

مثل ما سبق في حديث عائشة رضي الله عنها في الذي أعطوا ميراثه رجلاً من أهل قريته بطريق التبرع لأنه صار ماله لبيت المال. انتهى. وقول المباركفوري مثله في شرح الترمذي وكذا السندي على ابن ماجه. قلت: وحديث عائشة أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه، والنسائي في الكبرى والبيهقي في السنن، وغيرهم. ومثل هذا حديث بريدة في الذي توفي من الأزد فلم يجدوا له وارثاً فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ادفعوا ماله لأكبر خزاعة "، خرجه أحمد وأبو داود وغيرهما. فقد ذكر أهل العلم أن هذه وقائع عين، يتخير فيها الإمام في صرف هذا المال على هذا النحو، وذهب بعضهم لظاهره.

الحديث الثاني والعشرون استرقاق ولد الزنا من الحرة

الحديث الثاني والعشرون استرقاق ولد الزنا من الحرة وله طرق: الأولى: أخرجها عبد الرزاق في مصنفه قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد - أبو إسحاق الأسلمي - عن صفوان بن سليم عن سعيد بن المسيب عن رجل من الأنصار يقال له بصرة قال: تزوجت امرأة بكراً، فدخلت عليها فإذا هي حبلى. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لها الصداق بما استحل من فرجها، والولد عبدٌ لك، فإذا ولدت فاجلدها ". وتابع عبد الرزاق عليه إسحاق بن إدريس عند الدارقطني: حدثنا إسحاق بن محمد بن الفضل الزيات، نا محمد بن سنان، نا إسحاق بن إدريس، نا أبو إسحاق الأسلمي، عن صفوان بن سليم عن سعيد بن المسيب، عن نضرة بن أبي نضرة الغفاري أنه تزوج امرأة بكراً في سترها فوجدهاً حاملاً، ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وأعطاها الصداق بما استحل من فرجها، وقال إذا وضعت فأقيموا عليها الحد. فخالف إسحاقُ عبد الرزاق في اسم الصحابي، وذكر التفريق، ولم يذكره عبد الرزاق، وأبهم الحد وفسره عبد الرزاق، ولم يذكر استرقاق الولد، فهذه أربعة أمور.

لكن إسحاق المذكور هو أبو يعقوب البصري، متروك، تركه ابن المديني. وقال أبو زرعة: واهٍ وقال البخاري: تركه الناس. وقال الدارقطني: منكر الحديث. ثم فيه محمد بن سنان الأموي، كذبه أبو داود وابن خراش. وقال الدارقطني: لا بأس به. فطرحنا هذه المتابعة ومخالفاتها. وتابعه بسطام بن جعفر عند البيهقي قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن داود الرزاز ببغداد، ثنا جعفر بن محمد بن نصير، ثنا إبراهيم بن علي العمري الموصلي، ثنا بسطام بن جعفر بن المختار، ثنا إبراهيم بن محمد المديني، عن صفوان بن سليم، عن سعيد بن المسيب عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري أنه تزوج امرأة بكراً، فدخل بها فوجدها حبلى، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - ففرق بينهما ثم قال: " إذا وضعت فاجلدوها الحد " وجعل لها صداقها بما استحل من فرجها. فوافق بسطام إسحاق بن إدريس فيما خالف فيه عبد الرزاق غير اسم الصحابي، فإنه ذكره على الوجه الذي ذكره عبد الرزاق. ولكن إسناد البيهقي هذا فيه مجاهيل. بسطام بن جعفر لم أقف عليه، وإبراهيم بن علي المعمري، أو العمري

الموصلي، لم أجده، بل كل من اسمه إبراهيم بن علي ممن وقفت عليهم ضعفاء. وكذا جعفر بن محمد بن نصير، لم أعرفه، فهذا إسناد ساقط، لا عبرة له، وبقيت لنا رواية عبد الرزاق من الطريق الأولى لا منازع لها. الطريق الثانية: وهي التي عن ابن جريج عن صفوان عن سعيد بن المسيب عن الرجل الأنصار ". أخرجها الطبراني قال: حدثنا محمد بن يزداد الثوري البصري، ثنا محمود بن غيلان، ثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج عن صفوان بن سليم عن سعيد بن المسيب عن بصرة قال: تزوجت امرأة بكراً في خدرها، فوجدتها حبلى، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أما الولد فعبدٌ لك، فإذا ولدت فاجلدوها مائة، ولها المهر بما استحل من فرجها ". وأخرجها الدارقطني قال: حدثنا أبو إسماعيل بن يونس بن ياسين، نا إسحاق بن أبي إسرائيل، نا عبد الرزاق عن ابن جريج عن صفوان به. وأخرجها أبو داود قال: حدثنا مخلد بن خالد، والحسن بن علي، ومحمد بن أبي السري، المعنى، قالوا: أخبرنا عبد الرزاق أنبأنا ابن جريج عن صفوان بن سليم به.

وأخرجها البيهقي من طريق ابن أبي السري به. ومن طريق إسحاق بن أبي إسرائيل كذلك. الطريق الثالثة المرسلة عن سعيد بن المسيب. أخرجها أبو داود قال: حدثنا محمد بن المثنى، أخبرنا عثمان بن عمر، أخبرنا علي بن المبارك، عن يحيى، عن يزيد بن نعيم، عن سعيد بن المسيب، أن رجلا يقال له بصرة بن أكتم نكح امرأة، فذكره بمعناه - كذا قال أبو داود، يعني مثل اللفظ الأول لعبد الرزاق - وزاد: " وفرق بينهما ". قال أبو داود: وحديث ابن جريج: أتم. وأخرجها البيهقي من طريق أحمد بن نجدة عن سعيد بن منصور، ثنا عبد الله بن المبارك، ثنا علي بن المبارك عن يحيى فذكره. قال أبو داود: روى هذا الحديث قتادة عن سعيد بن يزيد عن ابن المسيب. ورواه يحيى بن أبي كثير عن يزيد بن نعيم عن سعيد بن المسيب. ورواه عطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب. أرسلوه كلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي حديث يحيى بن أبي كثير: أن بصرة بن أكثم نكح امرأة، وكلهم قال في حديثه: " جعل الولد عبداً ". انتهى.

وصل في الكلام على الحديث، والحكم على طرقه: 1 - بيان ضعف الطريق الأولى من أجل إبراهيم بن محمد الأسلمي، أبي إسحاق المدني. قال البخاري فيه: كان يرى القدر، وكلام جهم، تركه ابن المبارك والناس. وقال العجلي: رافضي جهمي لا يكتب حديثه. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال مرة: متروك. وقال ابن عدي: أحاديثه موضوعة. وقال الذهبي: ساقط متهم. وضعفه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبو حاتم وأبو زرعة، وتركوا حديثه.

2 - بيان ضعف الطريق الثانية، وأنها ترجع للأولى. فقد عنعن ابن جريج في سائر روايات هذه الطريق، وهو مع إمامته مدلّس كبير. وقد سئل عنه الدارقطني سؤالاً، فأجاب عنه كأنما يعني هذا الخبر بعينه، حيث قال: يتجنب تدليسه، فإنه وحش التدليس، لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح، مثل إبراهيم بن أبي يحيى - هو الذي في طريقنا الأولى - وموسى بن عبيدة وغيرهما. وقد سئل أبو حاتم عن حديثنا هذا، فأجاب بمقتضى كلام الدارقطني - وكأن الدارقطني أخذ عبارته من مفهوم كلام أبي حاتم وغيره - قال عبد الرحمن في العلل: سئل أبي عن حديث رواه سعيد بن المسيب عن نضرة بن أكثم أنه تزوج بكراً، فإذا هي حبلى، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لها الصداق بما استحللت من فرجها، والولد عبد لك، فإذا ولدت فارجمها " وقال بعضهم: وفرق بينهما. ما وجه هذا الحديث عندك؟ فأجاب أبي فقال: هذا حديث مرسل ليس بمتصل، ورواه يحيى بن أبي كثير عن يزيد بن نعيم، عن سعيد بن المسيب، لا يجاوزه، مرفوع. وما رواه ابن جريج عن صفوان بن سليم عن ابن المسيب عن نضرة بن أكثم ليس هو حديث صفوان بن سليم، ويحتمل أن يكون من حديث ابن جريج

عن إبراهيم بن أبي يحيى - يعني: ابن محمد الأسلمي - عن صفوان بن سليم، لأن ابن جريج يدلس عن ابن أبي يحيى عن صفوان بن سليم غير شيء، ولا يحتمل أن يكون منه. انتهى. ولذلك قطع البيهقي بما احتمله أبو حاتم، ونبه عليه شيخ شيخه الدارقطني، فقال في السنن بعد إخراجه لهذا الحديث: هذا الحديث إنما أخذه ابن جريج عن إبراهيم بن أبي يحيى عن صفوان بن سليم. ثم أسند هذا الذي قطع به هو لعبد الرزاق قال - بعد ذكر إسناده - قال عبد الرزاق: وحديث ابن جريج عن صفوان، هو ابن جريج عن إبراهيم بن أبي يحيى عن صفوان. انتهى كلام عبد الرزاق، وبه ينتهي كلام البيهقي. قلت أنا أبو عبد الله: وقد ظفرت بما يقطع الشك في ضعف هذا الخبر، إذ الاحتمال لا يقوم مقام الدليل مهما بلغ، حتى وقفت على صحة هذه الدعوى، وجاءك عبد الرزاق بالخبر اليقين فيما ذكر، وتابعه عليه أبو حاتم، والدارقطني والبيهقي وغيرهم فأخرج في مصنفه قال: عن ابن جريج قال: حُدِّثت عن صفوان بن سليم عن سعيد بن المسيب. . . . وذكر الخبر. فقامت الأساطين تحمل صدق البراهين، وقُطع الشك باليقين. وحكمنا بالرجوع من هذه الطريق للأولى الضعيفة.

3 - الطريق الثالثة المرسلة. وإن شئت قلت الطرق المرسلة، وهي صحيحة رجالها ثقات، يحتج بها من يحتج بالمرسل، ووافق شروطه فيه.

وصل آخر في كلام ابن القيم على هذا الحديث: قال رحمه الله: هذا الحديث قد اضطرب في سنده وحكمه، واسم الصحابي راويه. أما في اسم الصحابي فقيل: بصرة بالباء الموحدة، والصاد المهملة. وقيل: نضرة، بالنون المفتوحة، والضاد المعجمة. وقيل: نضلة، بالنون والضاد المعجمة واللام. وقيل: بسرة، بالباء الموحدة، والسين المهملة. وقيل: نضرة بن أكثم الخزاعي. وقيل: الأنصاري. وذكره بعضهم: بصرة بن أبي بصرة الغفاري، ووهم قائله. وقيل: بصرة هذا مجهول. وله علّة عجيبة - وذكر العلة التي ذكرناها عن عبد الرزاق وأبي حاتم وغيرهما - وله علة أخرى: وهي أن المعروف أنه يروى مرسلاً عن سعيد، ذكر عبد الحق هذين التعليلين، ثم قال: والإرسال هو الصحيح. انتهى كلام ابن القيم. قلت: وفي بعض ما قاله نظر.

وصل ثالث في الكلام على ما يستفاد من الحديث، وأن قول أهل العلم بخلاف استرقاق المولود من الحرة ولو كانت زانية به والجواب عنه: قال ابن القيم: قد اشتمل هذا الحديث على أربعة أحكام: أحدها: وجوب الصداق عليه بما استحل من فرجها، وهو ظاهر لأن الوطء فيه غايته أن يكون وطء شبهة، إن لم يصح النكاح. الثاني: بطلان نكاح الحامل من الزنا، وقد اختلف في نكاح الزانية، فمذهب أحمد بن حنبل أنه لا يجوز تزوجها حتى تتوب، وتنقضي عدتها، ومذهب الثلاثة أنه يجوز أن يتزوجها قبل توبتها، والزنا لا يمنع عندهم صحة العقد. . . الثالث: وجوب الحد بالحبل، وهذا مذهب مالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه. . . الرابع: إرقاق ولد الزنا، وهو موضع الإشكال في الحديث، وبعض الرواة لم يذكره في حديثه، كذلك رواه سعيد وغيره، وإنما قالوا: ففرق بينهما، وجعل لها الصداق، وجلدها مائة. وعلى هذا فلا إشكال في الحديث. وإن ثبتت هذه اللفظة فقد قيل: إن هذا لعله كان في أول الإسلام حين كان الرق يثبت على الحر المدين، ثم نسخ. وقيل: إن هذا مجاز، والمراد به استخدامه. انتهى.

بيان من ذكر من أهل العلم أن الإجماع على خلاف هذا الخبر وجوابهم عنه قال الخطابي في معالم السنن: هذا الحديث، لا أعلم أحداً من الفقهاء قال به، وهو مرسل، ولا أعلم أحداً من العلماء اختلف في أن ولد الزنا حر، إذا كان من حرة، فكيف يستعبده؟. قال: ويشبه أن يكون معناه - إن ثبت الخبر - أنه أوصاه به خيراً، وأمره باصطناعه وتربيته واقتنائه، لينتفع بخدمته إذا بلغ، فيكون كالعبد له في الطاعة مكافأة له على إحسانه وجزاءً لمعروفه. وقيل في المثل: بالبرّ يستعبد الحر، انتهى. وقال البيهقي: أجمع أهل العلم على أن ولد الزنا من الحرة يكون حراً، فيشبه أن يكون هذا الحديث منسوخاً.

الحديث الثالث والعشرون في المتبايعين إن اختلفا

الحديث الثالث والعشرون في المتبايعين إن اختلفا يرويه جماعة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وله طرق. - الأولى: عن أبي عبيدة عن ابن مسعود، وهي منقطعة. أخرجها أحمد في المسند قال: حدثني محمد بن إدريس الشافعي أخبرنا سعيد بن سالم - يعني القداح - أخبرنا ابن جريج أن إسماعيل بن أمية أخبره عن عبد الملك بن عمير أنه قال: حضرت أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وأتاه رجلان يتبايعان سلعة، فقال هذا: أخذت بكذا وكذا، وقال هذا: بعت بكذا وكذا، فقال أبو عبيدة، أتي عبد الله بن مسعود في مثل هذا فقال: حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي في مثل هذا، فأمر البائع أن يستحلف ثم يخير المبتاع، إن شاء أخذ وإن شاء ترك. وأخرجه الدارقطني من طريق أحمد قال: ثنا أبو بكر النيسابوري، ونا الحسين بن صفوان قالا: نا عبد الله بن أحمد حدثني أبي. . . فذكره. ثم قال عبد الله بن الإمام أحمد: إني أخبرت عن هشام بن يوسف في البيعين في حديث ابن جريج عن إسماعيل بن أمية عن عبد الملك بن عبيدة، وقال حجاج الأعور: عن عبد الملك بن عبيد. وكذا من طريق أحمد أخرجه البيهقي مع تفصيل عبد الله في آخره لكنه عكسه فقال: أخبرت عن هشام بن يوسف عن ابن جريج عن إسماعيل بن أمية عن عبد الملك بن عبيد، قال أحمد: وقال حجاج الأعور: عبد الملك بن عبيدة. وكذا هي في المسند.

وأما شيخه الحاكم، فأخرج الحديث عن أبي العباس محمد بن يعقوب عن الربيع تلميذ الشافعي عن الشافعي به، بالسند والمتن، وقال فيه " عبد الملك بن عبيد " ثم ذكر الحاكم الخلاف في عبد الملك هل هو ابن عبيدة أو ابن عبيد، لكن النساخ حرفوها فجعلوها " ابن عبيد " في الموضعين، وهو خطأ بين وتحريف. فلم نفد من ما ذكر الحاكم، حكم جهل النساخ أو سهوهم. إلا أن الدارقطني أخرج الحديث عن ابن جريج من وجه آخر قال: ثنا أبو بكر النيسابوري، نا يوسف بن سعيد، نا حجاج، عن ابن جريج، أخبرني إسماعيل بن أمية، عن الملك بن عبيدة فذكره. وخالفه النسائي في الصغرى والكبرى في عبد الملك فقال: حدثنا إبراهيم بن الحسن، ويوسف بن سعيد وعبد الملك بن خالد، واللفظ لإبراهيم قالوا: حدثنا حجاج قال: قال ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية عن عبد الملك بن عبيد فذكره. فتلخص أنه يرويه عن أبي عبيدة ثلاثة: 1 - عبد الملك بن عمير. 2 - عبد الملك بن عبيد. 3 - عبد الملك بن عبيدة. الأول تغير حفظه، وربما دلس، وهو في نفسه ثقة، والآخران

مجهولان. وقد قال البخاري:: عبد الملك بن عبيد عن بعض بني عبد الله بن مسعود، مرسل، فاعتل الخبر بهذا الاختلاف. والعلة الثانية قاصمة الظهر أن أبا عبيدة لم يدرك أباه عبد الله بن مسعود كما ذكر ذلك البيهقي، وابن حزم، وغيرهما من الأساطين، وقد سئل: أتذكر من أبيك شيئاً؟ قال: لا. وغفل الحاكم عن ذلك فصحح الخبر، ولم يهمه إلا أن يكون سعيد بن سالم حفظ في إسناده عبد الملك بن عبيد! كذا قال واهتم!!! والطريق غير متصلة، ولا صحيحة أحفظه سعيد أم لم يحفظه. * * * - الطريق الثانية: طريق القاسم بن عبد الرحمن عن عبد الله بن مسعود، وهي منقطعة أيضاً. وقد رواها عن القاسم جماعة. 1 - المسعودي، وهو عبد الرحمن بن عبد الله. صدوق اختلط. 2 - أبو العميس عتبة بن عبد الله المسعودي، وثقه أحمد وغيره، وسكت عنه البخاري وابن أبي حاتم. 3 - عبد الملك بن عبيدة، مجهول الحال. 4 - معن بن عبد الرحمن، ثقة من رجال الشيخين. 5 - أبان بن تغلب، ثقة، على تشيع فيه. 6 - ابن أبي ليلى، إن كان محفوظاً، صدوق سيّء الحفظ جداً.

أما المسعودي: فأخرج طريقه أبو داود الطيالسي قال: حدثنا المسعودي عن القاسم: بايع عبدُ الله الأشعثَ بن قيس برقيق من رقيق الإمارة، فأرسل إليه يتقاضاه، فقال الأشعث: بعتني بعشرة آلاف. وقال عبد الله: بعتك بعشرين ألفاً. ثم قال عبد الله: اختر بيني وبينك رجلاً، فقال الأشعث: أما والله لأختاره، أنت بيني وبين نفسك. فقال عبد الله: أما والله لأقضين بيني وبينك بقضاء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا اختلفا البيعان، ولم يكن بينهما بينة، فهو بما يقول رب السلعة أو يتتاركان ". وأخرج طريقه - أعني المسعودي - مع أبي عميس، البيهقي قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ - وغيره - ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة، أنا جعفر بن عون، أنا أبو عميس وعبد الرحمن - يعني المسعودي - عن القاسم بنحوه. وكذا أخرج الدارقطني طريق أبي العميس: عن محمد بن مخلد، نا عباس بن محمد، نا عمر بن حفص نا أبي عن أبي العميس به. وأما عبد الملك بن عبيدة فأخرج طريقه أحمد قال: أخبرت عن هشام بن يوسف في البيعين في حديث ابن جريج عن إسماعيل بن أمية عن عبد الملك بن عبيد، وقال حجاج الأعور:

عبد الملك بن عبيدة، قال: وحدثنا هشيم قال: أخبرنا ابن أبي ليلى عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود، وليس فيه عن أبيه. قلت: ولم يذكر أحمد لفظاً فيه. وأما معن بن عبد الرحمن فأخرج طريقه أحمد قال: حدثنا ابن مهدي، قال حدثنا سفيان، عن معن عن القاسم عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا اختلف البيعان - والسلعة كما هي - فالقول ما يقول صاحب السلعة، أو يترادان ". قلت: فاختصر معن القصة، وزاد: " والسلعة كما هي "، في رواية ابن مهدي عن سفيان هذه. وأخرج طريقه أحمدُ عن عمر بن سعد قال: حدثنا عمر بن سعد أبو داود، حدثنا سفيان عن معن به، باللفظ الأول للطيالسي وذكر القصة. وأخرج طريقه عبد الرزاق قال: أخبرنا الثوري عن معن بن عبد الرحمن عن القاسم بن عبد الرحمن أن ابن مسعود. فذكره باللفظ الأول للطيالسي والقصة، لكنه قال: " رب المال " ولم يقل " رب السلعة ". وأما أبان بن تغلب فأخرج طريقه البيهقي قال: " وكذلك رواه معن بن عبد الرحمن أخو القاسم، وأبان بن تغلب عن القاسم ". ولم يذكر سنداً.

قلت: هي طريق أبي يعلى في مسنده. وأما طريق ابن أبي ليلى فأخرجها البغوي قال: أجاز لي أبو الحسن عبد الرحمن الداوودي، أنا أبو محمد بن عبد الله السرخسي، أنا أبو عمران عيسى بن عمر السمرقندي الدارمي، أنا أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي، أنا عثمان بن محمد، نا هشيم، نا ابن أبي ليلى عن القاسم بن عبد الرحمن، عن عبد الله قال: سمعت رسول الله " يقول: " البيعان إذا اختلفا، والمبيع قائم بعينه، ليس بينهما بينة، فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع ". قلت: وطريق ابن أبي ليلى عن القاسم هذه فيها عندي شك: فقد روى البغوي هذا الإسناد عن الدارمي صاحب السنن، والحديث عند الدارمي بهذا اللفظ وهذا الإسناد، وفيه " عن أبيه ". وكذا أخرجه أبو يعلى من طريق هشيم عن ابن أبي ليلى عن القاسم عن أبيه عن ابن مسعود. نعم، ذكر الدارقطني في العلل طريق البغوي فقال: رواه هشيم عن ابن أبي ليلى عن القاسم عن ابن مسعود مرسلاً، قال: قال ذلك أحمد بن حنبل وسعيد بن منصور عن هشيم. قلت: فكأنه لم يقف على هذه الطريق هو، والله أعلم.

والخلاصة أن الطريق ضعيفة لاتفاقهم على أن القاسم لم يسمع من عبد الله بن مسعود، وهي مع ضعفها لانقطاعها. فقد تفرد ابن مهدي بزيادة " والسلعة كما هي ". وتفرد عبد الرزاق بلفظ " رب المال " لكنه قد يؤول على أن المراد " رب السلعة " مع تعسف هذا التأويل. * * * الطريق الثالثة: عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود. وروى هذه الطريق عن القاسم جماعة منهم: 1 - ابن أبي ليلى، وهو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى المتقدم، سيّء الحفظ جداً. 2 - معن بن عبد الرحمن، المتقدم، ثقة من رجال الشيخين. 3 - الحسن بن عمارة، متروك. 4 - ابن عباس، إن كان محفوظاً. 5 - عمر بن قيس الماصر، صدوق ربما وهم. 6 - أبو حنيفة النعمان بن ثابت، ضعيف. - أما طريق ابن أبي ليلى فأخرجها أبو داود في السنن قال:

حدثنا محمد بن عبد الله النفيلي، أخبرنا هشيم، أنبأنا ابن أبي ليلى عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه: أن ابن مسعود، باع من الأشعث بن قيس رقيقاً، فذكر معناه، والكلام يزيد وينقص. انتهى. قلت: كذا قال أبو داود، ولم يذكر لفظاً. وأخرجها ابن ماجه قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ومحمد بن الصباح قالا: ثنا هشيم، أنبأنا ابن أبي ليلى، عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه، أن عبد الله بن مسعود باع من الأشعث، نذكره كلفظ الطيالسي المتقدم وزاد: " والبيع قائم بعينه ". وأخرجها الدارمي، كما نبهنا فى آخر الطريق الثانية، وبنفس لفظ أبي داود الطيالسي لكن قال: " والمبيع قائم بعينه "، ولم يقل " وليس بينهما بينة " ولا ذكر القصة. وأخرجها الدارقطني عن عبد الله بن محمد، ثا عثمان - شيخ ابن ماجه - كلفظ ابن ماجه. وكذا البيهقي، من طريق ابن أبي شيبة به. وتابع موسى بن عقبة فيه هشيماً كما عند الدارقطني من غير وجه قال:

حدثنا محمد بن الحسين بن سعيد الهمداني، نا أبو عبد الملك أحمد بن إبراهيم الدمشقي، نا هشام بن عمار، نا ابن عياش، نا موسى بن عقبة عن محمد بن أبي ليلى عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن جدّه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا اختلف المتبايعان في البيع والسلعة كما هي لم تستهلك، فالقول قول البايع أو يترادان البيع ". ثم ذكره الدارقطني من وجهين آخرين عن إسماعيل بن عياش عن موسى به. وكذا أخرج هذه الرواية الهيثم بن كليب في مسنده. وقد أخطأ الدارقطني في قوله في " العلل ": وزاد - يعني موسى - لفظة لم يأت بها غيره فقال: " والسلعة قائمة كما هي ". وكان الصواب أن يقول: " لم تستهلك "، فهذا الذي تفرد به موسى، أما " السلعة قائمة كما هي " فقد ذكرناها في رواية ابن مهدي عند أحمد في الطريق الثانية. هذا مع أنه وقع في سنن الدارقطني إسناد عجيب جداً، فيه سقط، ولفظ عجيب جداً، من طريق ابن أبي ليلى، قال الدارقطني: ثنا ابن صاعد، نا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا اختلف البيعان والمبيع مستهلك، كان المبتاع بالخيار، إن شاء أخذ، وإن شاء ترك ". قال الدارقطني: تفرد بهذا اللفظ أبو الأحوص القاص، عن هشام. انتهى.

قلت: بين ابن صاعد ومحمد ابن أبي ليلى مفاوز، وخلق ليسوا دون الأربعة، ولا يبعد أن يكون السند هكذا: حدثنا ابن صاعد - هو يحيى بن محمد بن صاعد - نا محمد بن الهيثم بن حماد - هو أبو الأحوص القاضي -، نا هشام - هو ابن بهرام - نا إسماعيل بن عياش، نا موسى بن عقبة، عن محمد بن أبي ليلى. . . باللفظ الذي أوردناه. وعليه فيكون كما قال الدارقطني: تفرد بهذا اللفظ أبو الأحوص عن هشام. وأياً ما كان السند فيه على ما استظهرته، أو بخلافه، ففي رواية إسماعيل عن أهل الحجاز كلام كما ذكر ذلك البيهقي وغيره، وابن أبي ليلى سيّء الحفظ ضعيف في الرواية، كثير التخليط باتفاق. فلا يقبل شيء من هذه الألفاظ. - وأما طريق معن بن عبد الرحمن فأخرجها الطبراني قال: حدثنا محمد بن صالح النرسي، ثنا علي بن حسان العطار، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا سفيان عن معن بن عبد الرحمن عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة بعينها، فالقول قول البائع، أو يترادان ". وتابع ابن مهدي على ذلك - ولا تهمنا متابعته إلا في الوقوف على أول السند - أبو حذيفة، موسى بن مسعود - وهو صدوق سيّء الحفظ، وكان يصحف - عن الثوري عن معن به، كما ذكر هذه المتابعة الدارقطني في العلل، وقال: قاله أحمد بن يونس الضبي عنه.

قلت: وأحمد هذا ثقة، لكن ما عرفنا بقية السند. نعم رأيته في آخر العلل عن أبي القاسم الشيرازي - وثقه الدارقطني - عن أحمد به، فبقي في السند موسى. ورواية الطبراني فيها علي بن حسان العطار، قال الهيثمي: لم أعرفه، قلت: وأنا كذلك، فلينظر. ومحمد بن صالح النرسي مثله. لكن ذكر في اللسان: علي بن الحسن بن حفص العطار، قال ابن أبي الفوارس: توفي سنة ست وسبعين وثلاثمائة، وكان مخلطاً في الحديث. قلت: فهو مستبعد جداً لتأخر وفاته عن الطبراني بست عشرة سنة. ومحمد بن صالح النرسي، وقفت على ذكر له غير شاف. فقال ابن ناصر الدين في توضيح المشتبه: شيخ للطبراني، هو ابن صالح بن الوليد بن نصر، حدث عن عبد بن عبد الله الصفار، وعمرو بن علي الفلاس وغيرهما. وأغفله صاحب الأنساب السمعاني. والخلاصة أن السند لمعن غير ثابت. - وأما طريق الحسن بن عمارة فأخرجها الدارقطني قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد، ثنا الحسن بن جعفر بن حوراء،

حدثني عمي طاهر، نا الحسن بن عمارة عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا اختلف البيعان فالقول ما قال البايع، فإذا استهلك فالقول قول المشتري ". قال الدارقطني: الحسن بن عمارة متروك. قلت: نعم، وهذا اللفظ من مفاريده. - وأما طريق ابن عباس فإني لم أقف عليه، ورأيت بعض الناس ذكروه، ونسبوه للدارقطني، وأن البيهقي ذكر ذلك. قلت: والحق أنه ليس عند واحد منهما، وما أدري كيف ذكر، ونبهت عليه، فلعله يكون ذكر وغفلت عنه. - وأما طريق عمر بن قيس الماصر فأخرجها ابن الجارود قال: حدثنا أبو زرعة الرازي، قال ثنا محمد بن سعيد، قال: ثنا عمرو بن قيس، عن عمر بن قيس الماصر، عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه قال: فذكره مثل رواية الطيالسي. وأخرجها الدارقطني في السنن قال: ثنا أبو محمد بن صاعد أملاءً وغيره، قالوا: نا محمد بن مسلم بن وارة، حدثني محمد بن سعيد بن سابق، نا عمرو بن أبي قيس، عن عمر بن قيس الماصر عن القاسم به مثل رواية الطيالسي. وأشار لهذه الطريق في كتابه العلل وقال: رواه عمر بن قيس الماصر. حدث به عمرو بن أبي قيس.

وأخرجها البزار بهذا اللفظ وقال: " لا نعلم رواه عن عمر بن قيس إلا عمرو بن أبي قيس ". قلت: فتبين أن لفظ ابن الجارود " عمرو بن قيس " هو من خطأ النساخ. وعمرو بن أبي قيس ثقة على كلام فيه: فقد قال أبو داود: لا بأس به، في حديئه خطأ. وقال الذهبي: صدوق له أوهام. ومثله قول الحافظ ابن حجر. والباقون على توثيقه. وأما عمر بن قيس الماصر: فوثقه ابن حبان، وابن معين، ويعقوب بن سفيان. وقال أحمد بن صالح: ثقة إنما الطعن فيه من قبل الغلط. وقال ابن حجر في التهذيب: " قال ابن حزم: عمر بن قيس مجهول، فما أدري أراد هذا أو غيره ". وقال في التقريب: صدوق له أوهام.

قلت: فهذا السند حسن لا يتجاوزه، في الظاهر، لكن له علة فيه، وأخرى بالمقارنة والتأمل والاعتبار. أما التي فيه فذكرها الحافظ في التلخيص حيث قال: " ورجاله - يعني هذا الإسناد - ثقات، إلا أن عبد الرحمن اختلف في سماعه من أبيه ". قلت: قد قال بصحة السماع جماعة من الأئمة، منهم يحيى بن معين، وعلي بن المديني، والبخاري، وقيد السماع بأحاديث معينة قليلة ليس على إطلاقه جماعة منهم إسرائيل، والعجلي، ومنع من السماع وأنكره: يحيى بن معين في رواية، وسفيان الثوري، وشريك، وشعبة وقال الحاكم: اتفق مشايخ أهل الحديث أنه لم يسمع من أبيه! وقال ابن المديني مرة: سمع من أبيه حديثين حديث الضب، وحديث تأخير الصلاة. قلت: فالذي أجده من كلامهم أن الصحة في قول من توسط فأثبت سماع بعض الأحاديث القليلة، فقد كان سنه يوم توفي أبوه ست سنين، كما قال يحيى بن سعيد القطان، وبهذا يصح قول من أثبت السماع ولم يعين، ويصح قول من نفي أيضاً لأن السماع لحديث أو حديثين مع كثرة المنقول لا يعد سماعاً، لا سيما إن لم يعين الحديثان، وعلى فرض صحة التعيين قطعنا بضعف هذا الخبر وانقطاعه. وبهذا الجواب تقطع حجة من قال في صحة السماع: " المثبت مقدم على النافي، ومن علم حجة على من لم يعلم " والله أعلم.

وأما طريق أبي حنيفة. فأخرجها الخصكفي في مسند أبي حنيفة عن ابن أبي السري العسقلاني، عن المقري، عن أبي حنيفة، عن القاسم عن أبيه عن جده عبد الله. وذكر الدارقطني أن عبد الله بن بزيغ تابع المقري فيه عن أبي حنيفة به. وهذه طريق ضعيفة، لا تثبت لأوجه: الأول: أن ابن أبي السري، هو محمد بن المتوكل صدوق، له أوهام كثيرة. الثاني: أن عبد الله بن بزيغ، قال ابن عدي: ليس بحجة، وعامة أحاديثه ليست بمحفوظة. وقال الساجي: ليس بحجة. الثالث: ضعف الإمام في الرواية مع الاعتذار للحنفية، فإنه لا يجوز طرح تضعيفه الوارد عن جمهور الأئمة. وما كنت سأورد ذكر من ضعفه، لولا علمي بالطعن علي إن لم أذكر ذلك. قال الإمام البخاري: تركوه، [التاريخ الكبير (8/ 3463]. وقال الإمام مسلم: مضطرب الحديث، ليس له كبير حديث صحيح. [الكنى: الورقة 31].

وقال الإمام النسائي: ليس بالقوي في الحديث [الضعفاء والمتروكون رقم (614]. وقال الإمام أحمد: ضعيف، [ضعفاء العقيلي ص (432)]. وقال ابن سعد: كان ضعيفاً في الحديث [الطبقات (6/ 256]. وقال أبو زرعة: ضعيف [أسامي الضعفاء (338]. وقال الدارقطني: ضعيف [السنن ص (123]. وقال عبد الحق الأشبيلي: لا يحتج به لضعفه في الحديث [الأحكام الكبرى (ق 17/ 2]. وقال ابن عدي: ليس هو من أهل الحديث، وعامة ما يرويه غلط وتصاحيف وزيادات ولم يصح في جميع ما يرويه إلا بضعة عشر حديثاً، [الكا مل (2/ 453]. وروى الترمذي في العلل الكبير بإسناد صحيح على شرط الشيخين قال: سمعت محمود بن غيلان يقول سمعت المقري يقول سمعت أبا حنيفة يقول: عامة ما أحدثكم خطأ. [ترتيب علل الترمذي الكبير ص (388]. وأما ابن معين، فاختلف قوله، فمرة يوثق ومرة يضعف. والحاصل أن تتبع ذكر من ضعّفوه يطول. وما قد جاء في ذكر مناقبه ومآثره، والثناء عليه في دينه واجتهاده، ما يطول جداً، وليس هو من جنس رواية الأحاديث والحكم بالضبط والإتقان والحفظ في الرواية، فهذا شأن آخر. وأما طرح كلام كل هؤلاء الأئمة في تضعيفه في رواية الحديث فقط، فطعن في معرفتهم، وشك في دينهم وصلاحهم.

ومعاذ الله أن يداخلنا الريب في صدق هؤلاء الأئمة. وأما العلة التي تعرف بالمقارنة. فقد تبين أن القائلين بقول " عن أبيه " في رواية القاسم خمسة: الأول: سيّء الحفظ جداً، وهو ابن أبي ليلى. والثاني: لم يصح السند إليه، وهو معن. والثالث: متروك، وهو الحسن. والرابع: لم يثبت، هو ابن عباس، إن كان ذكر. والخامس: له أوهام، هو ومن قبله، واختلف في صحة سماع من بعده، وهو عمر بن قيس. السادس: النعمان ضعيف، والسند إليه غير ثابت. وأما بمقابلة المسقطين لقول " عن أبيه ". مع المثبتين: الأول منهم: كالأول في المثبتين، وهو ابن أبي ليلى. والثاني منهم: كالثاني في المثبتين، لكن صح السند إليه، بخلاف الأمر عند الإثبات. والثالث منهم: المتروك، قابله عبد الملك عند المثبتين مجهول، والجهالة أحسن حالاً من الترك. والرابع منهم: المجهول عند المثبتين، قابله المسعودي صدوق اختلط، فمثله حسن الحديث. والخامس منهم: صدوق له أوهام، قابله أبان بن تغلب ثقة عند المثبتين. والسادس: ضعيف السند إليه غير ثابت، وللنافين أبو العميس، ثقة.

فرجحنا المسقطين لقول " عن أبيه " لكثرتهم، وثقتهم، وأعللنا رواية عمر بالمخالفة، لمخالفته الثقات ذوي العدد. كما يعل أئمة هذا الشأن زيادة الثقة بمثل هذه العلة، مع اعترافهم وقولهم بأن الزيادة من الثقة مقبولة، لكن حيث القوة فيها من غير وهن ولا مخالفة. ولا ينكر وهن هذا الموصول هنا أحد وقف على الذي حررناه. وبهذا تعرف صحة من أنكر أن يكون لهذا الحديث طريق صحيح موصول، كما قال الإمام الشافعي، والبيهقي، وابن حزم، وابن حجر وغيرهم. وبقي القول أن القاسم توبع في هذا الخبر، بالشعبي، ولكن ما صح السند للشعبي، وهي الطريق الرابعة. ثم هي منقطعة بين عبد الرحمن وأبيه عند الأكثر. * * * الطريق الرابعة عن الشعبي عن عبد الرحمن عن أبيه عبد الله بن مسعود. أخرجها الطبراني قال: حدثنا عبد الله بن ناجية، ثنا إبراهيم بن محشر، ثنا أبو بكر بن عياش عن أبي سعد البقال، عن الشعبي، عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع ".

وذكر هذا، الدارقطني، ولم يسنده. لكنها لا تصح، فأبو سعد هو سعيد بن المرزبان، ضعيف ومدلّس * * * الطريق الخامسة: عن ابن لعبد الله بن مسعود عن أبيه. أخرجها الدارقطني قال: ثنا أبو بكر النيسابوري، نا محمد بن غالب الأنطاكي، نا سعيد بن مسلمة، نا إسماعيل بن أمية عن عبد الملك بن عبيدة، عن ابن لعبد الله بن مسعود، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا اختلف البيعان، ولا شهادة بينهما، استحلف البايع، ثم كان المبتاع بالخيار، إن شاء ترك وإن شاء أخذ ". وأخرجها البيهقي قال: أخبرنا أبو الحسن بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد، ثنا عياش بن الفضل، ثنا الحكم بن موسى ثنا سعيد بن مسلمة فذكره - وليس عنده لفظ -. وأخرجها من وجه آخر قال: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد، ثنا أحمد بن علي، ثنا يعقوب بن حميد، ثنا يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية عن عبد الملك بن عمير، عن بعض بني عبد الله بن مسعود. . . فذكره بمثل لفظ الدارقطني.

وهي ضعيفة من وجهين: الأول: في الاختلاف على عبد الملك بن عمير أو ابن عبيدة، كما قدمنا في الطريق الأولى، وأن الأول تغير حفظه، وربما دلس، مع ثقته، والآخر مجهول، والسند لابن عمير فيه أحمد بن علي لم أعرفه. الثاني: ما ذكره ابن حزم بعد ذكر هذه الرواية قال: وهذا لا شيء، لأن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود سئل: أتذكر من أبيك شيئاً؟ قال: لا. قال ابن حزم: ولم يكن لعبد الله رضي الله عنه من الولد إلا ثلاثة: أبو عبيدة وهو أكبرهم، وعبد الرحمن تركه ابن ست سنين، وكان عتبة أصغرهم، وعبد الملك بن عبيدة مجهول، فسقط القول. انتهى. وقال البخاري في تاريخه: عبد الملك بن عبيد عن بعض ولد عبد الله بن مسعود، روى عنه إسماعيل بن أمية، مرسل. * * * الطريق السادسة عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. أخرجها الدارقطني: نا أبو القاسم بدر بن الهيثم، نا محمد بن عبيد بن عبد، نا أحمد بن مسبح الجمال، نا عصمة بن عبد الله، نا إسرائيل عن الأعمش عن أبي وائل، عن عبد الله قال: " إذا اختلف البيعان والبيع مستهلك، فالقول قول البائع " ورفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.

قلت: لم أعرف شيخ الدارقطني فيه، ولا شيخ شيخه، ولا شيخ شيخ شيخه، ولا شيخ شيخ شيخ شيخه. وكأنه لجهالة رواة هذه الطريق، لم يذكرها الدارقطني، في ذكره لطرق هذا الحديث في العلل. فَأَسْقِط بها من طريق. * * * الطريق السابعة عن علقمة عن عبد الله بن مسعود. أخرجها الطبراني في الكبير قال: حدثنا محمد بن هشام المستملي، نا عبد الرحمن بن صالح، نا فضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " البيعان إذا اختلفا في البيع ترادا البيع ". قال الحافظ: " رواته ثقات، لكن اختلف في عبد الرحمن بن صالح، وما أظنه حفظه، فقد جزم الشافعي أن طرق هذا الحديث عن ابن مسعود ليس فيها شيء موصول ". قلت: نعم الخلاف في عبد الرحمن قوي حتى قال أبو داود: لم أر أن أكتب عنه، وضع كتاب مثالب في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال موسى بن هارون: شيعي محترق، حرّقت عامة ما سمعت منه، يروي أحاديث في مثالب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". * * *

وقال مرة: كان ثقة، وكان يحدث بمثالب أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. وقال صالح بن محمد: كوفي صالح، إلا أنه كان يبغض عثمان. والرجل وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وأبو حاتم، وابن حبان وغيرهم. واختصر كلامهم ابن عدي فقال: " معروف مشهور في الكوفيين، لم يذكر بالضعف في الحديث، ولا اتهم فيه، إلا أنه محترق فيما كان فيه من التشيع ". قلت: فهذا شيعي داعية، والمذهب الأعدل رد روايته على مذهب الجمهور، والخلاف في هذا مشهور كما اختصر الكلام عليه الحافظ في مقدمة الفتح فلينظر. ثم شيخ الطبراني، ما وقفت على توثيقه، وإنما وقفت على قول الهيثمي: محمد بن هشام المستملي، لم أجد من ذكره. * * ** الطريق الثامنة: التي عن عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث عن أبيه عن جدّه عن ابن مسعود. أخرجها أبو داود قال: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، أخبرنا عمر بن حفص بن غياث، أنبأنا أبي عن أبي عميس قال: أخبرني

عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث عن أبيه عن جدّه قال فذكر نحواً من لفظ الطيالسي الذي سقناه أول الطرق. وأخرجه النسائي قال: حدثنا محمد بن إدريس قال حدثنا عمر بن حفص فذكر المتن من غير قصة. وأخرجه ابن الجارود قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: ثنا عمر بن حفص بن غياث، بالقصة والمتن. وأخرجه الدارقطني قال: ثنا محمد بن مخلد، نا العباس بن محمد، نا عمر بن حفص بن غياث به، فذكره بالقصة والمتن. وأخرجه البغوي بإسناده إلى أبي داود، بالقصة والمتن. وأخرجه الحاكم قال: حدثنا محمد بن صالح بن هانئ، والحسن بن يعقوب، وإبراهيم بن عصمة قالوا: ثنا السري بن خزيمة ثنا عمر بن حفص بن غياث به، بالقصة والمتن سواء. ومن طريق الحاكم أخرجه البيهقي قال: أخبرنا محمد بن عبد الله - يعني الحاكم - فذكره مثله. قال الحاكم بعد إخراجه: " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ". وقال البيهقي: " هذا إسناد حسن موصول، وقد روي من أوجه بأسانيد مراسيل إذا جمع بينها صار الحديث بذلك قوياً ".

لكن ابن التركماني تعقبه، فجمع ما انتقد على هذه الرواية فقال: " في كل من حسنه واتصاله نظر ": أ - فإن عبد الرحمن وأباه وجدّه محمداً حالهم مجهول، كذا قال ابن القطان. ب - وقال ابن عبد البر: إسناده ليس بحجة، وفيه مقال من جهة انقطاعه، وضعف نقلته. ج - وذكر ابن القطان أنه عنى بجده: محمد بن الأشعث، وأن الانقطاع بينه وبين ابن مسعود. د - وما حكاه البيهقي عن الشافعي أنه قال: " لا أعلم أحداً يصله عن ابن مسعود " يدل على انقطاعه. هـ - وفي " المحلى ": الحديث مرسل، محمد بن الأشعث لم يسمع من ابن مسعود، وعبد الرحمن ظالم من ظلمة الحجاج لا حجة في روايته، وإنما هو عبد الرحمن بن محمد بن قيس بن محمد بن الأشعث، وهو مجهول ابن مجهول، وأيضاً فلم يسمع منه أبو عميس شيئاً لتأخر سنّه عن لقائه، انتهى كلام ابن حزم. قال ابن التركماني: والسند الذي أخرج البيهقي هذا الحديث به، قال فيه عن أبي عميس أخبرني عبد الرحمن بن قيس، وهذا يرد على ابن حزم، ويدل على سماعه منه. ثم قال: وقال المزي في أطرافه: رواه يعقوب بن سفيان عن عمر بن

حفص وقال: عبد الرحمن بن محمد بن قيس بن محمد بن الأشعث، ويظهر من مجموع ما تقدم الاختلاف في نسبة عبد الرحمن،. انتهى كلام ابن التركماني. خلاصة القول في الخبر: والخلاصة أن الخبر لا يتصل من وجه صحيح من الوجوه، وأن الإرسال هو المحفوظ، كما قطع بذلك الدارقطني في العلل، والشافعي في رواية المزني وغيره، على البيان الذي فضلناه، وأن الحكم بصحته واتصاله، هو قول من تعجّل. إلا أن مجموع طرقه يدل على أصل، كما ذكر صاحب التنقيح، والزيلعي، وغيرهما، حتى أودعه مالك في الموطأ بلاغاً. (تنبيه): قد أنكر بعض الناس أن يكون في الخبر قد وقع ذكر الحلف. والحق أنها موجودة كما ذكرنا ذلك في الطريق الأولى لهذا الخبر، عند أحمد والنسائي والدارقطني والحاكم، ففيه " فأمر البائع أن يستحلف ". وكذا وقع في رواية الدارقطني، التي عن بعض بني عبد الله بن مسعود. كما في الطريق الخامسة. والطريقان اللذان وقع فيهما ذكر الحلف ضعيفان جداً، أقلنا بالإرسال أو الاتصال.

نعم، الذي لم يقع في شيء من الأخبار، هو أن يستحلف كل واحدٍ منهما الآخر، على نحو ما يذكر في فتوى بعض العلماء. وهو اللفظ إنما ذكره في الأحاديث، الفقهاء، لا أصحاب الأسانيد، كما هو في المغني، والوسيط وغيرهما. فالحديث على فرض صحة وصله أو إرساله، لا يثبت فيه ذكر الحلف، ولا التحالف.

وصل في بيان أن الفتوى على غير معنى هذا الخبر، وذكر حجتهم في ذلك: قال في المغني: إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة، فقال البائع بعتك بعشرين وقال المشتري بل بعشرة ولأحدهما بينة حكم بها. وإن لم يكن لهما بينة تحالفا، بهذا قال شريح وأبو حنيفة والشافعي ومالك في رواية. وعنه - يعني عن مالك - القول قول المشتري مع يمينه، وبه قال أبو ثور وزفر. قال: وقال الشعبي: القول قول البائع أو يترادان البيع، وحكاه ابن المنذر عن إمامنا رحمه الله، والمشهور في المذهب الأول، ويحتمل أن يكون معنى القولين واحداً، وأن القول قول البائع مع يمينه، إذا حلف فرضي المشتري بذلك أخذ به، وإن أبى حلف أيضاً وفسخ البيع، لأن في بعض ألفاظ حديث ابن مسعود " إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة، ولا بينة لأحدهما تحالفا ". انتهى. قلت: وهذا الذي استغربه ابن قدامة من نسبة هذا القول بظاهر الحديث لأحمد، وأنه خلاف ما يعرفه هو في المذهب، هو الصواب. فإن ابن المنذر قال: ما علمت أحداً قال بظاهره غير الشعبي.

قلت: وهو كما قال، فسائر الأئمة والفقهاء، أدخلوا الحلف في حال الاختلاف، إما على البائع، وإما على المشتري، وإما عليهما معاً، سواءً مع البينة أو بدونها، وسواءٌ استهلكت العينة أم لا. كما هو مبسوط في كتب الفقه.

الحديث الرابع والعشرون والخامس والعشرون في النهي عن التمتع بالحج، أو النهي عن العمرة قبل الحج، والآخر في النهي عن القران

الحديث الرابع والعشرون والخامس والعشرون في النهي عن التمتعِ بالحج، أو النهي عن العمرة قبل الحج، والآخر في النهي عن القِران وكلاهما أخرجه أبو داود في سننه: الحديث الأول: قال: حدثنا أحمد بن صالح، أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرني حيوة، أخبرني أبو عيسى الخراساني عن عبد الله بن القاسم عن سعيد بن المسيب، " أن رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فشهد عنده أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي قضي فيه ينهي عن العمرة قبل الحج ". وقد أخرجه البيهقي وغيره من هذه الطريق، ولا أعرف له غيرها. وهي معلولة من وجوه: الأول: الاختلاف في سماع سعيد من عمر بن الخطاب، فمن مقتضى قبول هذا الخبر إثبات صحة سماع سعيد من عمر، ولو لم يكن الحديث عن عمر. الثاني: الاختلاف في عبد الله بن القاسم، فهو وإن وثقه ابن حبان، فقد قال ابن القطان فيه: " مجهول "، ولذلك قال الحافظ ابن حجر في التقريب: مقبول. يعني إذا توبع، وليس هو متابع في هذا الخبر.

الثالث: الاختلاف في أبي عيسى، فهو كذلك عند ابن حبان وابن القطان، وابن حجر. ولذلك قال ابن القيم في شرح أبي داود: " وهذا حديث باطل، ولا يحتاج تعليله إلى عدم سماع ابن المسيب من عمر. . . وقد قال أبو محمد بن حزم: هذا حديث في غاية الوهي والسقوط، لأنه مرسل عمن لم يسمّ، وفيه أيضاً ثلاثة مجهولون: أبو عيسى الخراساني، وعبد الله بن القاسم وأبوه، ففيه خمسة عيوب، وهو ساقط لا يحتج به من له أدنى علم. وقال عبد الحق: هذا منقطع ضعيف الإسناد ". انتهى. قلت: قوله: " مرسل عمن لم يسمّ " وإعلاله بذلك، غير مقبول، لأنه صرح بصحبته، فلا تضر جهالة الصحابي. وقوله: " وأبوه " لا معنى للقول بمعرفته أو جهالته، إذ المقصود ولده، لا هو، إلا أن يكون وقع في بعض طرق الحديث: " عن أبيه " ولم أقف على ذلك. فرجعت الخمسة التي ذكرها ابن حزم إلى الثلاثة التي أوردناها. وقد اكتفى البغوي في شرح السنة بقوله: " في إسناده مقال ". وهو قول أبي الطيب شمس الحق محمد.

وأعله المنذري بالعلة الأولى، تبعاً لسائر القائلين بعدم صحة السماع، فهؤلاء جميعهم يضعفون الخبر بهذا. الحديث الثاني: قال أبو داود: حدثنا موسى أبو سلمة، أخبرنا حماد عن قتادة عن أبي شيخ الهنائي، حَيْوان - أو خيوان - بن خلدة، ممن قرأ على أبي موسى الأشعري من أهل البصرة، أن معاوية بن أبي سفيان قال لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هل تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كذا وكذا، وعن ركوب جلود النمور؟ قالوا: نعم. قال: فتعلمون أنه نهى أن يقرن بين الحج والعمرة؟ فقالوا: أما هذه فلا. قال: أما إنها معهن ولكنكم نسيتم ". وأخرجه أحمد في المسند قال: ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن قتادة عن أبي شيخ الهنائي أن معاوية قال فذكره ولفظه فيه: " وتعلمون أنه نهى عن المتعة " - يعني متعة الحج - قالوا: اللهم لا. ثم أخرجه عن محمد بن جعفر قال: ثنا سعيد، عن قتادة عن أبي شيخ الهنائي أنه شهد معاوية فذكره ولفظه في آخره: " وتعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن جمع بين حج وعمرة؟

قالوا: اللهم لا. قال: فوالله إنها لمعهن. ومن هذه الطريق أخرجه البيهقي. وله طريق آخر أخرجه النسائي في الكبرى، بعد أن كان ساق له طرقاً كثيرة في الصغرى والكبرى ليس في شيء منها ذكر المتعة. قال: أخبرنا أبو داود قال: ثنا يزيد بن هارون قال: أنا شريك، عن أبي فروة عن الحسن قال: خطب معاوية الناس فذكره وفيه: " وسمعته ينهي عن المتعة، قالوا: لم نسمع. قال: بلى، وإلا فصمت ". وأما سائر الطرق لهذا الخبر فليس فيها ذكر المتعة، وإنما فيها النهي عن لبس الذهب والحرير وركوب المياثر وجلود النمور. وقد أخرج جميعها النسائي. فمرة يقول: عن أبي شيخ الهنائي عن أبي حمّان أن معاوية. ومرة يقول: عن أبي شيخ الهنائي عن أخيه حمان عن معاوية. ومرة يقول: عن أبي شيخ الهنائي عن حمّان عن معاوية. ومرة يقول: عن أبي شيخ الهنائي عن ابن عمر. فاختلف النقل عنه كثيراً. وذكر المنذري هذا وزاد.

ولذلك أطال ابن القيم الكلام في رد هذا الخبر فقال. " وقال عبد الحق: لم يسمع أبو شيخ من نعاوية هذا الحديث، وإنما سمع منه النهي عن ركوب جلود النمور، فأما النهي عن القِران فسمعه من أبي حسان عن معاوية. ومرة يقول: عن أخيه حمان ومرة يقول: حمان، وهم مجهولون،. فلت: قوله أنه سمع النهي عن ركوب جلود النمور دون المتعة، بعيد جداً، ولا يوافقه نقل ولا عقل، أما النقل فالمثبت في الرواية ذكر المتعة دون واسطة بين أبي شيخ ومعاوية، وعكسه الحاصل، وجود الواسطة عند عدم ذكر المتعة. وأما العقل فبعيد جداً عند ذوي الحجى أن يكون سمع الخبر هو بنفسه، ثم بواسطة حمان أو غيره بزيادة ذكر المتعة، فيروي الذي سمعه هو بذكر الواسطة، ويطرحها إذا روى الزيادة التي من طريق الواسطة. ثم كيف يصح أن يكون سمع الخطبة هو، ثم يخبره غيره بما لم يسمع منها، لا سيما مع المناقشة والسؤال الحاصل بين معاوية والناس، وبالأخص مع رفض الناس لسماع ذلك. والسؤال عن المتعة إنما هو بعد السؤال عن لبس الذهب والحرير والجلود، فاستبعدنا أن يكون حضر بعد السؤال عن المتعة، وليس بين السؤال عن هذه المسائل ما يتيح المغادرة، فهو مستبعد جداً، والتحكم والقطع في مثل هذا لا يدرك بما هو مستبعد الحصول، وهو محتاج لبراهين، لا لتخامين. وأما قوله: وهم مجهولون، فيحتاج لأن يذكر معه توثيق ابن حبان.

ثم قال ابن القيم رحمه الله: " وقال ابن القطان: يرويه عن أبي شيخ رجلان، قتادة ومطرف لا يجعلان بين أبي شيخ ومعاوية أحداً. ورواه عنه بيهس بن فهدان، فذكر سماعه من معاوية، ولفظ النهي عن ركوب النمور خاصة، وقال النسائي: ورواه عن أبي شيخ يحيى بن أبي كثير، فأدخل بينه وبيه معاوية رجلاً اختلفوا في ضبطه، فقيل: أبو حماز، وقيل: حمان، وقيل: جمان، وهو أخو أبي شيخ ". قلت: فأشارا للخلاف، على رأي من يعل الخبر بالاختلاف مطلقاً، أو على رأي من يتوقف في الاختلاف الكثير. والجمهور على أن هذا غير قادح عند إمكان الترجيح ومعرفة من حفظ ممن لم يحفظ، والنسائي يذكر الاختلاف في سننه كثيراً مع قوله بصحة الخبر. ثم قال ابن القيم رحمه الله: " وقال الدارقطني: القول قول من لم يدخل بين أبي شيخ ومعاوية فيه أحداً، يعني قتادة ومطرفاً وبيهس بن فهدان ". قلت: وهو الصواب البين جداً، المنبلج مداً، فمخالفة هؤلاء الأساطين لا تقوم برواية يحيى الذي مرة يوافق ومرة يخالف. ثم قال ابن القيم: " وقد رواه النسائي في سننه - فذكر طريق الحسن التي قدمناها - ثم قال: فهذا أصح من حديث أبي شيخ، وإنما فيه النهي عن المتعة، وهي -

والله أعلم - متعة النساء، فظن من ظن أنها متعة الحج، فرواه بالمعنى، فأخطأ خطأ فاحشاً ". قلت: هذا التأويل من ابن القيم رحمه الله باطل من وجهين: الأول: أنه خلاف سائر الروايات التي فيها ذكر التصريح بمتعة الحج، وهو الذي فهمه سائر الرواة، بل وأصحاب السنن كأبي داود وغيره، فأورده في المناسك، وكذا سائر من اعتمد على هذا الخبر، وحتى لو سلمنا بصحة رواية النسائي، فالمقرر عند سائر علماء الأصول حمل المبهم على المفسر، لا على نقيض المفسر من غير قرينة في نفس الخبر. الثاني: أننا لو سلمنا بصحة قول ابن القيم، فكيف يكون الجواب عن قول من حضر من الصحابة: " أما هذه فلا ". فإنه لا يصح أن يكون السؤال عن متعة النساء ثم يقولوا: " أما هذه فلا ". فتبين ضعف تأويل الشيخ. ثم كيف هو قوله: " فهذا - يعني طريق الحسن - أصح من حديث أبي شيخ ". وحديث أبي شيخ الذي في طريق أحمد الأولى رجاله رجال الشيخين، غير أبي شيخ وقد وثقه ابن حبان، وابن سعد من قبله، والعجلي وغيرهم. وحديث الحسن فيه أبو فروة وهو مسلم بن سالم ضعيف!.

وصل في معرفة المراد من الخبرين: قال ابن القيم: " وقع في بعض نسخ أبي داود " نهى أن يفرق بين الحج والعمرة " بالفاء والقاف. قال ابن حزم: هكذا روايتي عن عبد الله بن ربيع، وهكذا في كتابه وهو - والله أعلم - وهم، والمحفوظ يقرن ". قلت: فلا خلاف في أن المراد من ظاهر خبر معاوية وجهان: فأما على ما وقع في سنن أبي داود فالنهي إنما هو عن القران كما في ظاهر الخبر. وكذا في رواية محمد بن جعفر عند أحمد. وأما رواية أحمد الأخرى، فالنهي فيها عن التمتع. ولكن يمكن حمل رواية محمد بن جعفر على التمتع، لأنه أطلق الجمع بينهما، ولم يعين قِراناً ولا تمتعاً، وأما حمل رواية أبي داود على ذلك ففي ذلك تعسف لا يخفى، لأنه صريح بلفظ القران، إلا أن تعتبر من تصرف الرواة. هذا عن حديث معاوية. وأما حديث الصحابي الذي لم يسمّ، فإنه قال فيه: " نهي عن المتعة قبل الحج " وهذا عندي له صور: الأولى: أن يكون المراد مطلقاً تقديم العمرة على الحج، كأن يعتمر في عام من الأعوام قبل أن يكون سبق له أن حج، ثم يحج بعد عام أو نحوه.

والثاني: أن يقع له الاختيار بين الحج والعمرة، وهو لا يكون إلا في أشهر الحج، فيختار العمرة على الحج. والثالث: أن يتمتع عن عام واحد قبل أشهر الحج، ثم إذا جاءت أشهره حج. والرابع: أن يتمتع في أشهر الحج بالعمرة أولاً، ثم يحج عن نفس العام، وهو المشهور بالتمتع. فتحصل من معنى الحديثين خمسة أقوال. سائر الفقهاء على خلافها، إلا الصورة الثانية عن حديث معاوية في النهي عن العمرة في أشهر الحج وتركه، فهذا مما لا يختلف العلماء في النهي عنه أكان نهي كراهة أو نهي تحريم، هذا مع أن اشتقاق هذه الصورة عن معنى الخبر فيه كلام لا يخفى.

وصل آخر في ذكر من كان يفتي بالنهي عن التمتع المشهور عند الفقهاء: اعلم أن الفقهاء اتفقوا على جواز التمتع، واستقر عليه الإجماع من بعد عهد الصحابة رضي الله عنهم، وإنما كان الخلاف في هذا بين الصحابة حسب. وقد وقع النهي عن ذلك عن جماعة من الصحابة يظن من لم يتحر أنه مبطل لشرطنا في ذكر هذا الخبر، بل ربما جنح للقول بمقتضاه. والصواب أن النهي قد جاء عن عمر رضي الله عنه أولاً، لكن على وجه لا يراد منه الكراهة ولا المنع لمن تأمله وكذا مثله عن عثمان، وكذا جاء النهي عن أبي ذر، لكن له عنده معنى خاص أراده كما سيأتي، ولم يثبت النهي عن أحد من الصحابة على مطلق المنع فيما علمت إلا عن معاوية وأما عبد الله بن الزبير فلعل نهيه كنهي أبي ذر. فأما خبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في النهي عن ذلك فقد أخرجه أحمد في المسند وغيره عنه قال: " أتموا الحج والعمرة كما أمركم الله، وحصنوا فروج هذه النساء ". ولفظ سعيد بن منصور: " أن عمر نهى عن متعة النساء ومتعة الحج "، ونحوه لفظ الطحاوي وغيره.

ثم صرح عمر بسنية التمتع وأبدى عذره في المنع، فأخرج مسلم في صحيحه وغيره عنه أنه قال: قد علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلوا مع النساء تحت الأراك، ثم يروحون بالحج تقطر رؤوسهم. وفي رواية أن أبا موسى كان يفتي بهذه الفتوى، ثم إنه ذكر بعد قول عمر: " هي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكني أخشى أن يعرسوا. . . ". وبيّن عبد الله مراد أبيه من النهي فيما أخرجه أحمد وغيره، أن ناساً قالوا له: كيف تخالف أباك وقد نهى عن ذلك؟ فيقول لهم عبد الله: ويلكم، ألا تتقون الله، إن عمر كان نهى عن ذلك يبتغي فيه الخير، يلتمس به تمام العمرة. . . ثم قال: إن عمر لم يقل لكم إن العمرة في أشهر الحج حرام، ولكنه قال: أتم للعمرة أن تفردوها عن أشهر الحج. وأخرج مالك في الموطأ ما يشهد لهذا. ثم ذكر الحسن أن عمر تراجع عن ذلك بعد حجاج مع أبي بن كعب، فيما أخرجه الإمام أحمد إن صح الخبر. قلت: فليس لقائل أن يقول: إن عمر كان يفتي بمقتضى الخبر الذي أوردناه. وأما خبر عثمان في النهي فأخرجه مسلم والنسائي وغيرهما، وفيه

عندهم أنه رجع عنه، رواه سعيد بن المسيب قال: حج علي وعثمان، فلما كنا ببعض الطريق، نهى عثمان عن التمتع، فقال على: إذا رأيتموه قد رحل فارتحلوا، فبقي علي وأصحابه بالعمرة، فلم ينههم عثمان، فقال علي: ألم أخبر أنك تنهى عن التمتع؟ قال: بلى، قال له على: ألم تسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تمتع؟! - قال - يعني عثمان -: بلى. قلت: فظاهر هذا أنه كان ينهي عن ذلك على نحو ما كان ينهي عمر. وقد جاء في البخاري عن عمران بن الحصين: " تمتعنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزل القرآن، وقال رجل برأيه ما شاء ". فقال الحافظ: في الحديث ما يعكر على عياض وغيره من جزمهم بأن المتعة التي نهى عنها عمر وعثمان هي فسخ الحج إلى العمرة، لا العمرة التي يحج بعدها، فإن في بعض طرقه عند مسلم التصريح بكونها متعة الحج. قلت: نعم هو الصواب، والذي قال بالنهي عن فسخ الحج إلى عمرة، وأن ذلك كان للنبي وأصحابه في حياته - صلى الله عليه وسلم -، هو أبو ذر رضي الله عنه. وأصرح ألفاظه في هذا، ما أخرجه الدارقطني في سننه وغيره قال: لم تكن متعة الحج لأحد أن يهل بحجة، ثم يفسخها بعمرة، إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وخبر ابن الزبير أخرجه مسلم وغيره باختصار، لكن فسره الإمام أحمد في روايته قال: خرج علينا عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فنهى عن

التمتع بالعمرة إلى الحج، وأنكر أن يكون الناس صنعوا ذلك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبلغ ذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فقال: وما علم ابن الزبير بهذا، فليرجع إلى أمّه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، فليسألها إن لم يكن الزبير قد رجع إليها حلالاً وحلّت. فبلغ ذلك أسماء فقالت: يغفر الله لابن عباس، والله لقد أفحش، قد والله صدق ابن عباس، لقد حلوا وأحللنا، وأصابوا النساء ". قلت: ظاهر كلامها أن الزبير قد حل مع من حلوا، وليس كذلك، ففي مسلم أن الزبير كان قد ساق الهدي، فلم يحل، وأما أسماء فلم يكن معها هدي فحلت، فقال لها الزبير: قومي عني، فقالت: أتخشى أن أثب عليك. وأما خبر نهي معاوية فأخرجه الترمذي وأحمد عن ابن عباس قال: " تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان، وأول من نهى عنها معاوية ". قلت ففي هذا فوائد، منها أن عمر وعثمان لم يكونا ينهيان عنها كما قدمنا، وإنما لهما في ذلك التأويل الذي قدمناه. وقال النووي: كان عمر وعثمان ينهيان عن ذلك نهي تنزيه لا تحريم. وقال أبو الطيب في شرح الترمذي: ويمكن الجمع بين فعلهما ونهيهما، بأن الفعل كان متأخراً لما علما الجواز، ويحتمل أن يكون الفعل لبيان الجواز.

قلت: فبهذا يجاب عن قول ابن عباس بأن معاوية أول من نهى عن ذلك، أي أن نهيه، إنما كان للتحريم، ونهي من قبله لم يكن كذلك. ولا ينقضي عجبي، كما لم ينقض عجب ابن عباس له، كما في لفظ أحمد لخبر ابن عباس المتقدم وفيه: قال ابن عباس: " وقد حدثني - يعني معاوية - أنه قصر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمشقص ". وإنما كان التقصير لعمرة قطعاً، أو في حجته. فأما في العمرة فلا وجه لعجب ابن عباس. وأما في الحج، فمع اختلافهم في كونه - صلى الله عليه وسلم - كان مفرداً، أو قارناً، أو تمتعاً - على عبارة من يطلق التمتع على القِران مجازاً - فإنهم لم يختلفوا أنه لم يتحلل بعد إحرامه إلى أن قضى حجه، وقال: " لولا أني سقت الهدي لأحللت ". فعرف من هذا أيضاً أن تقصير معاوية للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حجته، ليس للتمتع. وصرح أبو داود في روايته أنه في الحج. فالعجب من عجب ابن عباس! ثم حديث معاوية في التقصير، لولا أنه في البخاري ومسلم، وتأبى هيبة الصحيح الكلام عليه، لقالوا بانه لم يكن في حجته تقصير منه - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو حلق يوم النحر، ليس قبله تقصير ولا بعده، إلا أن يكون الخطأ في رواية أبي داود. ومما يقوي أنه كان في عمرة، رواية للنسائي صرح فيها بذلك.

وفي أخرى للنسائي: قال قيس - أحد رواة الخبر -: والناس ينكرون هذا على معاوية. لكن لعل ابن عباس كان يرى في قوله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تمتع: التمتع الذي فيه إحلال، حتى يصح تعجبه. فهذا والله أعجب منه، مع سعة علمه وتحريه في المسائل. والله أعلم، ويا ليتنا نقطة في بحره. الخلاصة: وملخص ما تقدم أن القول بظاهر الخبر الذي أوردناه، لا يثبت إلا عن معاوية رضي الله عنه، وعن ابن الزبير احتمالاً.

الوصل الأخير في ذكر من ذكر أن الإجماع على خلاف الخبرين وجواب أهل العلم عنها: قال البغوي: أجمع العلماء على جواز تقديم العمرة على الحج، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن العمرة قبل الحج، وفي إسناده مقال. وإن ثبت فيحتمل أنه أراد على طريق الاختيار أمر تقديم الحج، لأنه أعظم الأمرين وأهمهما ووقته محصور، وأيام السنة كلها وقت للعمرة. انتهى. وقال النووي: وقد انعقد الإجماع بعد هذا على جواز الإفراد والتمتع والقران من غير كراهة، وإنما اختلفوا في الأفضل. انتهى. وقال ابن القيم: وأبو شيخ راوي الخبر ولو كان حافظاً لكان حديثه هذا معلوم البطلان، إذ هو خلاف المتواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فعله وقوله، فإنه أحرم قارناً، رواه عنه ستة عشر نفساً من أصحابه، وخير أصحابه بين القران والإفراد والتمتع، وأجمعت الأمة على جوازه. ولو فرض صحة هذا عن معاوية، فقد أنكر الصحابة عليه أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه، فلعله وهم، أم اشتبه عليه نهيه عن متعة النساء بمتعة الحج، كما اشتبه على غيره. انتهى.

الفصل الثاني: في ذكر الأحاديث التي لم يفت بها الفقهاء، وليست على شرط الكتاب لجهة القول بنسخها فقط

الفصل الثاني: في ذكر الأحاديث التي لم يفت بها الفقهاء، وليست على شرط الكتاب لجهة القول بنسخها فقط 1 - منها أحاديث في الغسل: الأول: " إنما الماء من الماء " وما روى في معناه. أ - حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين إلى قباء، حتى إذا كان في بني سالم، وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على باب عتبان بن مالك، فصرخ، فخرج يجر إزاره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أعجلنا الرجل ". فقال عتبان: يا رسول الله، أرأيت الرجل يعجل عن امرأته، ولم يمن، ماذا عليه؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الماء من الماء ". أخرجه البخاري ومسلم - واللفظ له - وأبو داود وابن ماجه وغيرهم. ب - حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنما الماء من الماء "، أخرجه النسائي وابن ماجه وغيرهما. وفي الباب عن غيرهما.

وصل في بيان حصول الاختلاف علي القول بهذا الخبر بين الصحابة ثم رجوعهم عن ذلك

وصل في بيان حصول الاختلاف علي القول بهذا الخبر بين الصحابة ثم رجوعهم عن ذلك، وقول من قال ذلك من التابعين ثم اتفاق الفقهاء من بعد علي ترك الفتوى بهذا الخبر: قال البخاري رحمه الله في الصحيح: " باب غسل ما يصيب من فرج المرأة ". ثم أورد حديثين: أولهما: حديث زيد بن خالد الجهني أنه سأل عثمان بن عفان فقال: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته فلم يمن؟ قال عثمان: " يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره ". قال عثمان: سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال زيد: فسألت عن ذلك علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وأبي بن كعب رضي الله عنهم، فأمروه بذلك. وثانيهما: حديث أبي بن كعب أنه قال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل؟ قال: " يغسل ما مس المرأة منه، ثم يتوضأ ويصلي ". قال البخاري: الغسل أحوط، وذلك الآخر، وإنما بينا لاختلافهم. قال ابن حجر: قوله " الآخر " أي آخر الأمرين من الشارع أو من اجتهاد الأئمة.

ثم قال الحافظ: وقوله " لاختلافهم " اللام تعليلية، أي حتى لا يظن أن في ذلك إجماعاً، ثم قال: واستشكل ابن العربي كلام البخاري فقال: إيجاب الغسل أطبق عليه الصحابة ومن بعدهم، وما خالف فيه إلا داود، ولا عبرة بخلافه، وإنما الأمر الصعب مخالفة البخاري، وحكمه بأن الغسل مستحب. وهو أحد أئمة الدين وأجلة علماء المسلمين. . . ثم قال ابن العربي: ويحتمل أن يكون مراد البخاري بقوله: " الغسل أحوط " أي في الدين، وهو باب مشهور في الأصول، وهو أشبه بإمامة الرجل. انتهى كلام ابن العربي. قال الحافظ معقباً: وهذا هو الظاهر من تصرفه، فإنه لم يترجم بجواز ترك الغسل، وإنما ترجم ببعض ما يستفاد من الحديث من غير هذه المسألة، كما استدل به على إيجاب الوضوء فيما تقدم. ثم قال الحافظ: وأما نفي ابن العربي الخلاف فمعترض، فإنه مشهور عن الصحابة ثبت عن جماعة منهم. انتهى كلام الحافظ. قلت: نعم ثبت هذا عن بعض الصحابة، لكن ثبت رجوع كثير منهم عن هذا القول، وربما رجع جميع من كان قال بذلك، فعندها يصح قول ابن العربي. فقد أخرج الترمذي من حديث أُبي بن كعب قال: " إنما كان الماء من الماء " رخصةً في أول الإسلام ثم نهي عنه. وأخرجه أبو داود بلفظ: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما جعل ذلك رخصة للناس في أول الإسلام لقلة الثياب، ثم أمر بالغسل ونهى عن ذلك، قال أبو داود: يعني " إنما الماء من الماء ".

وفي لفظ آخر لأبي داود: إن الفتيا التي كانوا يفتون: " إنما الماء من الماء " كانت رخصة في أول الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد "، وبنحوه لفظ ابن ماجه. وهذا حديث حسن صحيح كما قال الترمذي، وهو مفهم أن كثيراً منهم إنما قال ذلك في أول الإسلام ثم رجع عن ذلك. وقد صرح بذلك زيد بن ثابت في حق أبي في الموطأ فقال: " إن أُبيّ بن كعب نزع عن ذلك قبل أن يموت. وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن جماعة من الصحابة اختلفوا في ذلك وقال الأنصاريون: " الماء من الماء "، فذهب هو لعائشة رضي الله عنها فسألها عن ذلك، فأخبرته بوجوب الغسل فأخبرهم. فيبعد بعد هذا أن يكونوا بقوا على قولهم، والله أعلم، سيما وقد أخرج عبد الزراق بسند صحيح عن سهل بن سعد: إنما كان قول الأنصار: " الماء من الماء " رخصة في أول الإسلام ثم أخذنا بالغسل بعد ذلك إذا مس الختان الختان ". ثم قال الحافظ: وادعى ابن القصار أن الخلاف ارتفع بين التابعين، وهو معترض أيضاً، فقد ذكر الخطابي من التابعين الأعمش وتبعه عياض، لكن قال: لم يقل به أحد بعد الصحابة غيره. قال الحافظ: وهو معترض أيضاً، فقد ثبت ذلك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وهو في سنن أبي داود بإسناد صحيح.

قلت: وثبت في الموطأ أيضاً أن أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قد سئل عائشة عن ذلك فأخبرته بالصواب ووجوب الغسل، وعنَّفته، فلعله رجع عن ذلك، كما هو مشهور عنه في غالب ما كان يسأل عنه عائشة رضي الله عنها. ثم قال الحافظ: وجاء هذا القول عن هشام بن عروة عند عبد الرزاق بإسناد صحيح. قلت: قول هشام في الخبر غير بيّن، ولفظه فيه: "لقد أصبت أهلي فأكسلت، فلم أنزل فما اغتسلت ". فهذا محتمل لا مؤكد، لأنه ربما حكى واقعة حال كانت منه، لا أنه ذهب ذلك المذهب، وقد رأيت وضع عبد الرزاق لهذا الأثر، في موضع مناسب تماماً، يدل على عظيم توخيه فإنه أورد الأثر بين أحاديث الغسل من التقاء الختانين، وبين أحاديث الماء من الماء، حيث أنه لم يفصل بين الأحاديث بباب، وأوردهم جميعاً في باب واحد. مما يدل على توقفه - والله أعلم - في معرفة مذهب هشام بهذا الخبر، وهذه نكتة لطيفة عجيبة، كان الحافظ يتوقف عند أمثالها في الفتح. ومعلوم أن علم هشام من أبيه عروة في غالبه، وكذا غالب علم عروة من عائشة، وجاء الحديث عن عائشة من رواية عروة عنها، كما عند ابن شاهين، والحازمي وغيرهما (وأنه كان يفتي بفتواها)، فاستبعدنا أن يكون مذهب هشام على الأمر المنسوخ، أو أنه قال بذلك ثم تراجع، فحكى واقعة حالٍ سابق له كما قدمنا. ثم قال الحافظ: وقال عبد الرزاق أيضاً عن ابن جريج عن عطاء أنه

قال: لا تطيب نفسي إذا لم أنزل حتى أغتسل من أجل اختلاف الناس حتى آخذ بالوثقى. قلت: فيه أن مذهبه مذهب الجماعة، وأما إثبات الخلاف فقد قدمنا الكلام عليه. ثم قال الحافظ: وقال الشافعي في اختلاف الحديث: حديث " الماء من الماء " ثابت، لكنه منسوخ، وقد خالفنا بعض أهل ناحيتنا - يعني من الحجازيين - فقالوا: لا يجب الغسل حتى ينزل. قال الحافظ: فعرف بهذا أن الخلاف كان مشهوراً بين التابعين ومن بعدهم، لكن الجمهور على إيجاب الغسل، وهو الصواب، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ. قلت: حيث لم يذكر الشافعي مخالفه، فإننا ما اعتدينا بخلافه، لاحتمال كونه ممن لا يعبأ بخلافهم. ولهذا فقد يصح - ولا نجزم بذلك - إطلاق من أطلق أن الإجماع منعقد بين الصحابة على إيجاب الغسل، كما نقله ابن عبد البر عن بعضهم ونقلناه من قبل عن ابن العربي، وكان أجمل ما فصلناه فقال: " فإن الصحابة اختلفوا فيها، ثم رجعوا عنها ".

وصل آخر في بيان تركهم القول بهذا الخبر من جهة النسخ

وصل آخر في بيان تركهم القول بهذا الخبر من جهة النسخ: فإنهم اتفقوا على القول بنسخ هذا الخبر كما قدمنا، مما أفقده شرطنا في الكتاب، وأصح ما جاء في أحاديث النسخ: أ - حديث أبي موسى الذي قدمنا ذكره عند مسلم أنه سأل فيه عائشة عن ذلك. ب - حديث أبي هريرة عند الشيخين مرفوعاً: " إذا جلس الرجل بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل " وزاد وأحمد: (وإن لم ينزل). والحديث عند سائر الستة إلا الترمذي. وفي الباب عن غيرهما، كما قدمنا. فهذا هو الحامل لهم على القول بنسخ ذاك الخبر. وقد وقع تفسير لابن عباس لهذا الخبر صرفه به عن ظاهره بغير دعوى النسخ فقال: (إنما الماء من الماء في الاحتلام). أخرجه الترمذي عنه وقال: هو حديث حسن صحيح. قلت: لو صح هذا أنه في الاحتلام لم ينازع في ذلك، والفتوى في الاحتلام كقول ابن عباس عند سائر الفقهاء، ولكن ثبت كما قدمنا أن الحديث ليس على هذه الصورة.

استلحاق

استلحاق: وقد جاء أحاديث أخرى في وجوب الغسل من الحجامة، وللعيدين، وعرفة، لكن ليست على شرطنا لاتفاقهم على ضعف هذه الأخبار، ففاتها شرطنا. ونبهنا عليها للفائدة فلتعرف. والله أعلم.

أحاديث قتل شارب الخمر في الرابعة وفيه عن ستة عشر صحابيا سوى المراسيل

أحاديث قتل شارب الخمر في الرابعة وفيه عن ستة عشر صحابياً سوى المراسيل 1 - حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وهو أصح ما في الباب، ولرويه عنه اثنان: أ - ذكوان أبو صالح السمان. ب - عبد الرحمن بن عبد. أما طريق ذكوان: فأخرجها عبد الرزاق قال: عن الثوري عن عاصم بن أبي النجود عن ذكوان عن معاوية بن أبي سفيان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من شرب الخمر فاجلدوه - قالها ثلاثاً - قال: فإن شربها أربع مرات فاقتلوه ". ومن طريق عبد الرزاق أخرجها أحمد: قال ثنا عبد الرزاق عن سفيان به مثله، لكن قال: " فاضربوا عنقه ". ثم أخرجها من طريق هاشم بن القاسم قال: ثنا هاشم بن القاسم قال: ثنا شيبان عن عاصم فذكره نحو اللفظ الأوّل.

وأخرجها من طريق آخر عن عاصم قال: ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة أنه سمع عاصم بن بهدلة - هو ابن أبي النجود - فذكره بلفظ ". . . ثم إذا شربوا الرابعة فاقتلوهم ". وأخرجها أبو داود قال: حدثنا موسى بن إسماعيل أخبرنا أبان عن عاصم فذكره بمثل الذي قبله. وأخرجها الترمذي قال: حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم. فذكره " فإن عاد في الرابعة فاقتلوه ". وأخرجها ابن ماجه قال: حدثنا هشام بن عمار، ثنا شعيب بن إسحاق، ثنا سعيد بن أبي عروبة عن عاصم فذكره. وأخرجها النسائي قال: ثنا عمرو بن زرارة عن محمد بن حميد عن سفيان عن عاصم نحوه. وأخرجها الطبراني قال:

حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري عن عبد الرزاق فذكره، بمثل لفظ عبد الرزاق المتقدم. ثم قال: حدثنا حجاج بن عمران السدوسي، ثنا أبو سلمة يحيى بن خلف الجوباري، ثنا عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن عاصم، فذكره بنحو الذي قبله. وأخرجها ابن شاهين قال: حدثنا عبد الله بن محمد البغوي، قال نا عثمان بن أبي شيبة، قال نا أبو بكر بن عياش عن عاصم فذكره. وأخرجها ابن حزم في المحلى من طريق أبي داود قال: نا عبد الله بن ربيع: نا محمد بن إسحاق، نا ابن الأعرابي، نا أبو داود فذكره، لكن بلفظ: " إذا شربوا الخمر فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاقتلوهم ". فذكر القتل في المرة الثالثة لا الرابعة. ثم قال: حدثنا حمام، نا ابن مفرج، نا ابن الأعرابي، نا الدبري، نا عبد الرزاق، نا سفيان الثوري عن عاصم به ولفظه في آخره: " ثم إن شرب الرابعة فاضربوا عنقه ".

وأخرجها ابن حبان قال: أخبرنا محمد بن الحسن بن الخليل، قال حدثنا هشام بن عمار، فذكره مثل رواية ابن ماجه. وأخرجها الحاكم قال: حدثنا الحسن بن يعقوب العدل، ثنا يحيى بن أبي طالب، ثنا عبد الوهاب بن عطاء أنبأ سعيد عن عاصم فذكره، ولفظه في آخره: " ثم إن شربوا الرابعة فاقتلوهم ". وأخرجها البيهقي بإسنادٍ عالٍ من طريق أبي داود قال. أخبرنا أبو علي الروذباري، أنبأ أبو بكر بن داسة، ثنا أبو داود، ثنا موسى فذكره مثله. وأخرجها الطحاوي عن ابن عطاء مثل رواية الحاكم. ب - وأما طريق عبد الرحمن بن عبد. فأخرجها الإمام أحمد في المسند قال: حدثنا عارم، ثنا أبو عوانة عن المغيرة عن معبد القاص، عن عبد الرحمن بن عبد عن معاوية به. ثم قال:

حدثنا هاشم عن مغيرة عن معبد فذكره نحوه. وأخرجها النسائي قال: ثنا أبو بكر إسماعيل بن حفص الأبقي، عن معتمر بن سليمان عن أبيه عن مغيرة عن معبد به. وقال: حدثنا عمرو بن منصور، ومحمد بن يحيى بن عبد الله، كلاهما عن محمد بن عبد الله الرقاشي عن أبي عوانة عن مغيرة به. وأخرجها الطبراني قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، ثنا عمرو بن عون الواسطي ثنا هشيم عن مغيرة عن معبد به، لكن قال: " من شرب الخمر فاضربوه، فإن عاد فاضربوه، ثم إن عاد فاقتلوه ". فجعل القتل في الثالثة. ثم قال: حدثنا إبراهيم بن هاشم، ثنا كثير بن يحيى، ثنا أبو عوانة عن مغيرة عن عبد الرحمن بن عبد الجدلي به، وفي آخره: " فإن عاد الرابعة فاضربوا عنقه ".

ثم قال: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، ثنا إسماعيل بن حفص، فذكره كالنسائي. ثم قال: حدثنا عبد الرحمن بن سلم الرازي، ثنا محمد بن حميد، ثنا حكام بن مسلم عن سفيان، عن معبد به، ولفظه في آخره: " فإن ربّع فاقتلوه ". وأخرجها ابن حزم قال: حدثنا أحمد بن قاسم، نا أبي قاسم بن محمد بن قاسم، نا جدي قاسم بن أصبغ، نا أحمد بن زهير، نا إبراهيم بن عبد الله، أنا هشام، أنا المغيرة عن معبد بن خالد عن عبد بن عبد عن معاوية رفع الحديث قال: " من شرب الخمر فاضربوه، فإن عاد فاضربوه، فإن عاد فاقتلوه". قلت: فجعل القتل في الثالثة. قال ابن حزم بعد إيراده: قال أحمد بن زهير: هكذا قال عبد بن عبد، وعبد بن عبد: هو أبو عبد الله الجدلي، قال أحمد بن زهير: سألت يحيى بن معين عن أبي عبد الله الجدلي قال: " هو فلان ابن عبد، كوفي ثقة، من قيس "، لم يحفظ يحيى اسمه. والحديث عند الطحاوي من هذا الوجه أيضاً. وكذا عند الحازمي في الاعتبار وبهذا انتهت الطرق التي وقفت عليها من روايات هذا الخبر.

حكم الطريق الأولى: قد ذهب جماعة من الحفاظ والناس إلى تصحيح هذه الطريق بمفردها، فأخطأوا وما أصابوا، كيف وفي هذه الطريق عاصم بن أبي النجود الذي اتفقوا إلا من شذ أن في حفظه شيء: فقال ابن سعد: كان ثقة، إلا أنه كان كثير الخطأ في حديثه. وقال يعقوب بن سفيان: في حديثه اضطراب وهو ثقة. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه فقال: ثقة، فذكرته لأبي فقال: ليس هذا محله أن يقال: إنه ثقة، وقد تكلم فيه ابن علية فقال: كل من كان اسمه عاصم سيّء الحفظ. وقال: ذكره أبي فقال: محله عندي محلّ الصدق، صالح الحديث، ولم يكن بذاك الحافظ. وقال ابن خراش: في حديثه نكرة. وقال أبو جعفر العقيلي: لم يكن فيه إلا سوء الحفظ. وقال الدارقطني: في حفظه شيء. وقال ابن معين مرة: ليس بالقوي في الحديث، وقال مرة: لا بأس به، ولم يزد. وأما الإمام أحمد فكأنه أشار لذلك إشارة فقال: كان خيراً ثقة، والأعمش أحفظ منه، وكان شعبة يختار الأعمش عليه في تثبيت الحديث. فإذا تقرر هذا في حق عاصم علم أن الحديث من هذه الطريق بمفردها لا يكون إلا حسناً، كما تقرر في المصطلح وعلومه. فإن محمد بن عمرو بن علقمة، حاله كحال عاصم تماماً، ثقة في

حفظه شيء، وترجم لهما ابن حجر بقوله: " صدوق له أوهام " وكان يرى هو ومن بعده السخاوي، ومن قبلهما ابن الصلاح، وغيرهم: أن حديثه في عداد الحسن ليس إلا، فإن جاءه متابع معتبر التحق بالصحيح. قلت: فيصح قولهم إن أرادوا بذلك الطريق ومتابعها، إن صح المتابع متابعاً. الخلاصة: والحاصل أن الطريق الأولى حسنة، إلا رواية ابن حزم التي فيها أن القتل محلّه المرة الثالثة، فهذه الطريق مردودة من وجهين: الأول: أن أبا داود الذي الرواية من طريقه، لم يروه بهذا اللفظ، وكذا البيهقي الذي أخرجها من طريق أبي داود، ليس عنده هذا اللفظ. الثاني: جهالة عبد الله بن ربيع شيخ ابن حزم فيه. حكم الطريق الثانية: صحيحة إن ثبت سماع معبد من عبد الرحمن بن عبد، فإن هذا السماع لم يذكره المزي في التهذيب، ولا البخاري ولا الرازي في تاريخهما، ولا ابن حبان في ثقاته، وقد جاء الحديث معنعناً في سائر الطرق التي أوردناها. ففي القلب شيء من صحة هذا السماع، وإن لم يكن لمعبد ذكر في كتب المدلسين. ولعله لأجل هذه العلة العليلة، ترك أصحاب السنن إخراجه منها، مع

كونها في الظاهر أسلم، وأما رواية ابن حزم المخالفة، فمعلولة كالسابقة، بالمخالفة لسائر الرواة، وجهالة في بعض رواتها أو ضعف. الحكم على حديث معاوية بطريقيه: هو في أقل مراتبه حسن، كما في الطريق الأولى، إن قلنا بانقطاع الثانية، وأما بالقول والمجازفة بصحة الثانية، فالحديث صحيح من غير نزاع، وهو عندي مستبعد. ولنرجع الآن إلى ما حكاه الحفاظ من الكلام على صحة هذا الخبر: أ - فقد قال الترمذي: سمعت محمداً - يعني البخاري - يقول: حديث أبي صالح عن معاوية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا أصح من حديث أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت: فهذا تقديم صريح من البخاري، للطريق الأولى على الثانية، فكأنه أشار للعلة التي أفصحنا عنها، وإلا فكان الواجب تقديم رواية معبد عن عبد عن معاوية، على رواية عاصم عن أبي صالح عن معاوية. لأن رواية معبد لو صح فيها السماع مقدمة على رواية عاصم المتكلم في حفظه، فرواية معبد تكون صحيحة، ورواية عاصم لا تتجاوز درجة الحسن. ورأيت محقق " العلل " للترمذي أشار إلى ترجيح للدارقطني بمثل ترجيح البخاري، وليس عندي الجزء المحكي فيه هذا، فلينظر. ب - والزيلعي في نصب الراية لم يشر إلا للطريق الأولى، دون الثانية، ونقل في الخبر التصحيح، وهذا منه بين في تعليله للطريق الثانية، وإلا لأشار لها في أدنى الأحوال.

ج - والحاكم سكت على الخبر، فقال الذهبي في التلخيص: " قلت: صحيح ". د - وقال ابن حزم: فكانت الرواية في ذلك عن معاوية وأبي هريرة ثابتة تقوم بها الحجة، وباللَّه تعالى التوفيق.

2 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ويرويه عنه اثنان: أ - أبو سلمة بن عبد الرحمن. ب - أبو صالح السمان. أ - أما طريق أبي سلمة عنه، فيرويها جماعة منهم الحارث بن عبد الرحمن، وعمر بن أبي سلمة، وخالد بن الحارث - وهي وهم -. فأما طريق الحارث فأخرجها الإمام أحمد قال: حدثنا يزيد أنا ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاضربوا عنقه. هكذا ذكره في موضع، ثم إنه أعاده في آخر وزاد: قال الزهري: فأُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل سكران في الرابعة فخلى سبيله. قلت: وليس الزهري في سند هذا الخبر، ثم هذا مرسل إن صح السند للزهري كما سيأتي، وبسط الكلام عليه إن شاء الله، ولم يذكر أحد قول الزهري بعد حديث أبي هريرة هذا غير الإمام أحمد، فإنه أتى به ليشير إلى النسخ، كما هو معروف في مذهبه رحمه الله. وأخرجها أبو داود الطيالسي قال:

ثنا ابن أبي ذئب فذكر الخبر. وأخرجها ابن ماجه قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا شبابة عن ابن أبي ذئب به، ولفظه في آخره: ". . . فإن عاد في الرابعة فاضربوا عنقه ". وأخرجها أبو داود قال: حدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي، أخبرنا يزيد بن هارون الواسطي، أنا ابن أبي ذئب فذكره، بمثل لفظ ابن ماجه. وأخرجها النسائي قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا شبابة حدثنا ابن أبي ذئب عن خاله الحارث بن عبد الرحمن به، بمثل لفظ أبي داود وابن ماجه. وأخرجها الدارمي قال: حدثنا عاصم بن علي ثنا ابن أبي ذئب فذكره نحوهم. وأخرجها ابن حزم قال: حدثنا يونس بن عبد الله بن مغيث، أنا أبو بكر بن أحمد بن خالد، أنا أبي، نا ابن وضّاح، نا أبو بكر بن أبي شيبة، فذكره بمثل ابن ماجه والنسائي.

وأخرجها ابن حبان قال: أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، مثل رواية النسائي. وأخرجها من قبل ابن الجارود قال: حدثنا محمد بن يحيى، قال ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا ابن أبي ذئب، فذكره مثلهم. وأخرجها البيهقي قال: أخبرنا أبو بكر بن فورك أنبأ عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب ثنا أبو داود الطيالسي فذكره. ثم قال: وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس، محمد بن يعقوب، ثنا العباس بن محمد الدوري ثنا يزيد بن هارون، فساقه مثل أحمد، دون قول الزهري. وأما رواية عمر بن أبى سلمة عن أبيه أبى سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة. فأخرجها الإمام أحمد في المسند قال: ثنا سليمان بن داود، أنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة، فذكر نحو ما تقدم.

وأخرجها ابن شاهين قال: حدثنا محمد بن غسان بن حبلة العتكي بالبصرة، قال: نا خالد بن يوسف قال نا أبو عوانة فذكره. وأخرجها البيهقي قال: أخبرنا أبو علي الروذباري، أنبأ أبو بكر بن داسة قال: قال أبو داود السجستاني، وكذا حديث عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة. قلت: فذكره بالإسناد السابق لأبي داود وساقه معلقاً كما علقه أبو داود بعد الرواية السابقة، من طريق الحارث عن أبي سلمة. وأما رواية خالد بن الحارث عن أبي سلمة، فتفرّد بها الحاكم قال: أخبرنا أبو بكر بن إسحاق أنبأ أبو المثنى، ثنا القعنبي، ثنا ابن أبي ذئب عن خالد بن الحارث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة فذكره. ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم، ولم يخرجاه. ونقل ذلك عنه الذهبي في التلخيص. قلت: والظاهر أنه وهم أو تحريف، فليس في رجال مسلم ولا البخاري من اسمه خالد بن الحارث بن عبد الرحمن، بل وما عرفت له ذكر في سائر كتب الرجال، فلينظر. وكذا فما عرفت في شيوخ ابن أبي ذئب من اسمه خالد بن الحارث بن عبد الرحمن، فلعل الصواب عن خاله الحارث - لأنه خاله - فتصحفت من النُّساخ، والله أعلم.

ب - وأما طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. فأخرجها عبد الرزاق قال: عن معمر عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا شربوا، فاجلدوهم - قالها ثلاثاً - قال: فإذا شربوا الرابعة فاقتلوهم. وأخرجها الإمام أحمد قال: ثنا عبد الرزاق فذكره. وأخرجها النسائي قال: حدثنا محمد بن رافع عن عبد الرزاق به. وأخرجها ابن حزم قال: حدثنا عبد الله بن ربيع، نا محمد - بن معاوية نا أحمد بن شعيب - يعني النسائي - ومن طريقه المتقدم ساق الخبر. ثم قال: حدثنا حمام، نا ابن مفرج، نا ابن الأعرابي، نا الدبري، نا عبد الرزاق فذكره. وأخرجها الحاكم قال: حدثنا الحسن بن يعقوب العدل، ثنا يحيى بن أبي طالب ثنا

عبد الوهاب بن عطاء، أنبأ سعيد عن سهيل، فذكره. قال الحاكم: هذا الإسناد صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ثم عاد فأخرجه قال: حدثنا أبو زكريا العنبري، ثنا أبو عبد الله البوشنجي، ثنا أحمد بن حنبل فذكره مثله. حكم الطريق الأولى: صحيحة إن شاء الله، لا علة لها، أعني التي ذكرتها أولاً عن ابن أبي ذئب، عن الحارث عن أبي سلمة عن أبي هريرة، فرجالها ثقات لا مغمز فيهم، سمع بعضهم من بعض، إلا أن يقال - ولم أر من قال ذلك - إنها جاءت مرسلة، كما سيأتي في آخر الأحاديث، لكن كثرة الواصلين للخبر تقطع دابر حجة من يعلل بذلك. أما التي من طريق عمر فلا تصح لضعفه، وكذا خالد بن الحارث فهو مجهول إن صحت التسمية فيه، وإلا فهي وهم من أهلها كما بينا. حكم الطريق الثانية: صحيحة على شرط مسلم دون البخاري، فإنه لم يخرج لسهيل إلا مقروناً، وكان النسائي صاحب السنن أحب أن يخرج له البخاري. قلت: والحق مع البخاري في ذلك، فإن في سهيل كلاماً، ربما جعل حديثه في عداد الحسن لا الصحيح. أو هو متردد بينهما. والله أعلم. حكم حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قد تبين مما قدمنا أنه حديث صحيح لا ينزل عن درجة الصحة عند سائر الناس.

وقد تقدم تصحيح ابن حزم لهذا الخبر فيما تقدم، عند الكلام على حديث معاوية رضي الله عنه. وكذا تقدم تصحيح الحاكم. وكذا ابن حبان حيث أورده في صحيحه.

3 - حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: - وضمنه أيضاً حديث النفر، فعدوه حديثين - وقد رواه عنه ثلاثة: أ - نافع مولاه. ب - عبد الرحيم بن إبراهيم. ج - عبد الرحمن بن أبي نعم. فأما رواية نافع عنه: فأخرجها أبو داود قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، أخبرنا حماد عن حميد بن يزيد عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال بهذا المعنى - هكذا قال أبو داود - قال: " وأحسبه قال في الخامسة إن شربها فاقتلوه ". وأخرجها أحمد من طريق ساوى فيها رواية أبى داود من غير علوٍّ قال: حدثنا عبيد الله بن محمد التيمي، أنا حماد بن سلمة عن حميد بن يزيد أبي الخطاب، عن نافع عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من شرب الخمر فاجلدوه، فإن شربها فاجلدوه، فإن شربها فاجلدوه، فقال فى الرابعة أو الخامسة فاقتلوه. وأخرجها البيهقي بالإسناد المتقدم لأبي داود مثله، وكذا الحازمي في الاعتبار.

ووقع عند ابن حزم رواية كأنها بالمتابعة لحميد بن يزيد قال: نا أحمد بن محمد بن عبد الله، نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي، نا الدبري، نا محمد بن أيوب نا أحمد بن عمر بن عبد الخالق البزار، نا محمد بن يحيى القطيعي، نا الحجاج بن المنهال، نا حماد بن سلمة عن جميل بن زياد عن نافع عن ابن عمر عن النبي " قال: " من شرب الخمر فاجلدوه ثلاثاً، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه ". قلت: جميل بن زياد لم يذكره أحد فيمن روى عنهم حماد، ولا في الرواة عن نافع، وما أراه إلا من تحريف النساخ، وأنه هو هو حميد بن يزيد. ثم لو ثبت هكذا لكان مجهولاً، فلم أقف على من اسمه جميل بن زياد إلا في اللسان قال: يكنى أبا حسان، ذكره الطوسي في رجال الشيعة ووثقه. قلت: فلا هو معروف إن كان رجلنا، وما ندري ما طبقته، ولا عمن حدّث أو حدّث عنه، ثم لو ثبت أنه هو ما فرحنا بتوثيق الطوسي ولا بصاحبه. وأما رواية عبد الرحيم بن إبراهيم. فأخرجها ابن حزم قال: حدثنا عبد الله بن ربيع، نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب، نا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - أنا جرير - هو ابن عبد الحميد - عن المغيرة بن مقسم عن عبد الرحيم بن إبراهيم عن عبد الله بن عمر ونفر من

أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه ". قلت: هذه الرواية ظاهرة أنها طريق النسائي، وهي مروية عنه، وقد أخرجها النسائي بهذا الإسناد، لكن لم يقل: " عبد الرحمن بن إبراهيم " وإنما قال: " عبد الرحمن بن أبي نعيم ". كذا في السنن الصغرى. وفي التحفة " عبد الرحمن بن أبي نعم "، وكذا في التهذيب والتقريب على الصواب. فتبين أن " عبد الرحيم بن إبراهيم " وهم. ودل عليه أنه لا يعرف في الرواة عن ابن عمر من اسمه " عبد الرحيم بن إبراهيم "، ولا فيمن روى عنهم المغيرة. فرجعت هذه الرواية لرواية النسائي التي عن عبد الرحمن بن أبي نعم. وقد أخرجها مع النسائي، الحاكم قال: حدثنا إبراهيم بن عصمة بن إبراهيم، ثنا أبي، ثنا يحيى بن يحيى، أنبأ جرير عن مغيرة عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من شرب. . . " فذكره مثل لفظ ابن حزم والنسائي السابق.

حكم الطريق الأولى التي عن نافع: لم يروها عن نافع: إلا حميد بن يزيد، كما قدمنا، وهو مجهول كما قال ابن القطان والذهبي وابن حجر فالطريق ضعيفة. حكم الطريق الثانية التي عن عبد الرحيم بن إبراهيم: هي ترجع للطريق الثالثة كما قدمنا، فهي وهم وليست بصحيحة أصلاً. حكم الطريق الثالثة التي عن عبد الرحمن بن أبي نعم: هي حسنة إن شاء الله، لأجل كلام غير كبير في عبد الرحمن المذكور، وأما تدليس المغيرة، فخصُّوه بالنخعي، ولم يطلقوه، والله أعلم. خلاصة القول في خبر ابن عمر: والحاصل أن خبر ابن عمر في عداد الحسن كما في الطريق الثالثة، ولا يتقوى بما قبله. وقد تقدم تصحيح الحاكم له. والحق أنه لا يتجاوز الحسن لما قدمناه، لكن رأيت الحاكم كثيراً ما يطلق الصحيح على الحسن فكأنهما عنده بمعنى، والمعنى مقبول من حيث الاحتجاج عند جمهور الفقهاء والمحدثين، لكن فيه ما فيه عند أهل المصطلح. أو لعله حكم عليه بشواهده، فصحيح عندها قوله: " صحيح ". وعرف مما تقدم أن لفظ القتل في الخامسة غير مقبول بمفرده، فكيف إذا خالف.

4 - حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. أخرجه ابن حبان في صحيحه قال: أخبرنا أبو يعلى، قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من شرب الخمر فاجلدوه، ومن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه ". قلت: ولم أقف على هذا الخبر عند غير ابن حبان، حتى إن أبا يعلى شيخ ابن حبان فيه، لم يخرجه، وكذا لم يخرجه أبو داود ولا ابن ماجه، مع أنهما أكثرا كثيراً عن عثمان بن أبي شيبة، لا سيما ابن ماجه، فإن غالب ما يرويه عن أخيه أبي بكر بن أبي شيبة، ثم عنه. وكأنهم إنما تركوا إخراج هذه الرواية، لأن المحفوظ فيها عن معاوية بن أبي سفيان، لا عن أبي سعيد. فقد روى حديث عاصم عن أبي صالح عن معاوية جماعة، منهم: 1 - سفيان الثوري، عند عبد الرزاق وأحمد والنسائي والطبراني وابن حزم. 2 - شيبان، عن أحمد. 3 - شعبة، عند أحمد. 4 - أبان، عند أبي داود وابن حزم. 5 - سعيد بن أبي عروبة، عند ابن ماجه والطبراني وابن حبان والحاكم.

وقد تقدمت روايات هؤلاء جميعهم. في حديث معاوية. أما أبو بكر بن عياش فاختلف عنه. أ - فرواه الترمذي عن أبي كريب حدثنا أبو بكر بن عياش. . . فجعله في مسند معاوية. ب - أما عثمان، فمرة يجعله في مسند معاوية، كما تقدم عند ابن شاهين، ومرة يجعله في مسند أبي سعيد كالذي هنا. فتبين من هذا أن عثمان لم يحفظ الخبر على وجهه، وأنه اضطرب فيه، هذا من وجه. ومن وجه آخر تبين أن أبا بكر بن عياش تفرد بهذه الرواية عن أبي سعيد. ومن وجه ثالث تبين أن أبا كريب، الذي هو أحفظ من عثمان، روى الخبر على الوجه الصواب. فهذه ثلاث علل - ما رأيت أحداً من الناس نبّه عليها - وإن كان فعلى سبيل الموافقة لا المتابعة - قاضية بتضعيف هذا الخبر عن أبي سعيد، ولله الحمد على التوفيق. وكأن ابن حبان كان قد سمع من يطعن في رواية أبي بكر بن عياش لخبر أبي سعيد، فقال بعد أن أورد الحديث السابق: " ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذا الخبر تفرد به أبو بكر بن عياش " ثم ساق الخبر عن محمد بن الحسن، عن هشام بن شعيب، عن سعيد بن أبي عروبة عن عاصم عن ذكوان عن معاوية!!. كما تقدمت روايته. ثم قال: سمع هذا الخبر أبو صالح عن معاوية وأبي سعيد جميعاً. انتهى. قلت: لكن الظاهر جلياً من صنيعه أنه ما فهم مراد المعترض، فظن أن

الاعتراض على الحديث نفسه الذي هو في قتل شارب الخمر فى الرابعة، لذلك جاء به من طريق سعيد لكن عن معاوية، لأن الخبر واحد. والأمر البيّن الجلي أن الاعتراض إنما هو على حديث أبي سعيد فقط، والصواب مع المعترض حيث لم يروه عن أبي سعيد إلا أبو بكر بن عياش، أما الخبر جميعه فرواه جماعة كما قدمنا أسماءهم منهم الثوري وشعبة وأبان وغيرهم. وأما إن كان عرف مراد المعترض - وما أظن ذلك - فما يليق هذا الجواب من مثله وأنا أربأ به عنه. وانفصلنا على أن هذا الخبر ضعيف بمفرده، وإن كان ظاهره السلامة والحسن، وتسلسل بالحفاظ الأئمة. وأما متنه، فلا شك أنه صحيح بشواهده. نعم الآن وقفت على قول الحافظ ابن حجر في " الفتح " مؤيداً ما حققته، قال: أخرجه ابن حبان عن أبي سعيد من رواية عثمان بن أبي شيبة عن أبي بكر، وأخرجه الترمذي عنه فقال: " عن معاوية " بدل " أبي سعيد " وهو المحفوظ. انتهى.

5 - 6 - حديث شرحبيل بن أوس رضي الله عنه ومعه حديث آخر عن صحابي لم يسمّ. وقد روى هذا الخبر عن شرحبيل: عمران بن مخمر أو مخبر - أو هو نمران لا عمران - أخرج طريقه الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا علي بن عياش وعصام بن خالد، قالا: ثنا حريز، قال حدثني عمران بن مخمر، وقال عصام: " ابن مخبر "، عن شرحبيل بن أوس - وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه ". وأخرجه الطبراني قال: حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، ثنا أبو المغيرة، وعلي بن عياش الحمصي، قالا ثنا حريز بن عثمان، ثنا أبو الحسن نمران بن مخمر عن شرحبيل بن أوس الكندي فذكره. وأخرجه ابن شاهين قال: حدثنا أحمد بن محمد بن المغلس، قال نا عبد الكريم بن الهيثم، قال: نا أبو اليمان، قال نا حريز عن أبي الحسن نمران بن محمد عن شرحبيل بن أوس وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من شرب الخمر فاجلدوه، ومن شرب الخمر فاجلدوه، ومن عاد فاقتلوه ".

فجعل القتل في الثالثة. وأخرجه الحاكم قال: حدثنا أبو علي عبد الله بن إسحاق الخراساني، ثنا محمد بن أحمد بن برد الأنطاكي، ثنا الحكم بن نافع البهراني، ثنا جرير بن عثمان، عن أبي الحسن نمران بن محمد عن شرحبيل فذكر الخبر، وفيه أن القتل في الرابعة. الثاني عن يزيد بن أبي كبشة: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة عن أبي بشر قال سمعت يزيد بن أبي كبشة يخطب بالشام قال سمعت رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث عبد الملك بن مروان في الخمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في الخمر: " إن شربها. . . " وفيه " ثم إن عاد في الرابعة فاقتلوه ". ولم يسمّ الصحابي. لكن أخرج الحاكم هذا الخبر فقال: أخبرني أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه، ثنا محمد بن غالب، ثنا خلف بن سالم، وعبد الله بن عمرو العراقي، قالا: ثنا محمد بن جعفر فذكره مثل لفظ الإمام أحمد.

ثم قال الحاكم: فسمعت أبا علي الحافظ - يعني الدارقطني - يحدثنا بهذا الحديث فقال: في آخره: هذا الصحابي من أهل الشام هو شرحبيل بن أوس. قال الحاكم: فحدثنا بصحة ما ذكره أبو علي عبد الله بن إسحاق، وساق الرواية المتقدمة له. قلت: وهذا الذي رجحه الدارقطني، ثم الحاكم غير مقطوع به كما هو بين، بل ظاهر الرواية يخالفه، وإنما رجحا ذلك لأن شرحبيل بن أوس الكندي معدود فيمن سكن الشام، وهذا كما هو بين غير كافٍ، فقد سكن جماعة من الصحابة كثيرون الشام تجاوز المشهورون منهم المائة على ما ذكر ابن سعد في الطبقات وغيره من المصنفين في معرفة الصحابة، فاحتاج الجزم إلى دليل آخر. وقد أخرج ابن شاهين هذه الطريق فقال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن محمد الزيني، قال نا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال: نا خالد - يعني ابن الحارث، قال نا شعبة عن أبي بشر قال: سمعت ابن أبي كبشة يحدث قال: سمعت رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا شربها فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه ". فجعل القتل في الثانية. هذا ما وقفت عليه من طرق هذا الخبر، وكان الحافظ ابن حجر ذكر

في الإصابة في ترجمة شرحبيل رضي الله عنه أنه خبره هذا رواه سوى من قدمت: البغوي وابن السكن، فلينظرهما من وقف عليهما. وقد أشار الحافظ لمن ذكر الخلاف في شرحبيل بن أوس، وأنه هو أوس بن شرحبيل، ومن عدهما اثنين، ورجح الثاني، وذكر أن الأول - الذي هو شرحبيل بن أوس - له حديث حد شارب الخمر هذا، يرويه حريز عن نمران عنه، وأن أوس بن شرحبيل هو صاحب حديث " من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام ". انتهى. ثم وقفت في معجم الطبراني على حديث أوس بن شرحبيل، فوجدت الطبراني أخرج حديث " من مشى. . . " ثم أردفه بحديث الخمر هذا قال: حدثنا أبو زرعة الدمشقي، ثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، وعلي بن عياش، قالا ثنا حريز بن عثمان ثنا نمران بن مخمر عن شرحبيل بن أوس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه ". فكأنه أشار إلى أنهما واحد عنده، مع أنه لم يورد في مسند شرحبيل بن أوس إلا حديث الخمر من الطريق المتقدمة التي سقناها من قبل. وعلى كل حال، فليس من اختلاف في حديث شرحبيل وإسناده، إلا في والد نمران كما سيأتي، سواء كان هو أوس بن شرحبيل أم لا. لكن بقي الفصل بين حديث ابن أبي كبشة، وحديث شرحبيل، الذي جزم الدارقطني والحاكم أنهما واحد. فقد رجعت لمن ترجم ليزيد بن أبي كبشة فما رأيت أحداً منهم ذكر أنه روى عن شرحبيل بن أوس أو أوس بن شرحبيل، حتى إن المزي يقول في

" التهذيب ": " روى عن مروان بن الحكم وأبيه ورجل له صحبة ولم يسمّه. ولما ذكر البخاري في التاريخ الخلاف في اسم شرحبيل، لم يورد غير الحديثين الذين سقتهما من قبل: حديث المشي مع الظالم، وحديث الخمر، من طريق نمران. ثم إني وددت لو وجدت ضالتي في معرفة وفاة شرحبيل، وهل أدرك خلافة عبد الملك بن مروان، لكن انقطعت بي الطرق. لكن استأنست بفعل الهيثمي في المجمع، حيث أورد خبر شرحبيل أولاً، وعزاه لأحمد والطبراني، ثم أخرج حديث يزيد بن أبي كبشة وعزاه لأحمد وحده، ولو كانا واحداً عنده لغاير في الصنيع. وكذا وجدت الإمام أحمد قد أخرج خبر شرحبيل في مسند شرحبيل ليس معه خبر آخر، وأخرج حديث ابن أبي كبشة مع جملة أحاديث في موضع آخر في مسند رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت: فالمقتضى فصل الحديثين بموجب أصول المصطلح، غير المختلف عليها، وكما حكيت من ذلك شواهداً، في غير هذا الموضع، وأنه مذهب الحافظ ابن حجر والبوصيري وغيرهما. والله أعلم.

وصل في الكلام على حديث شرحبيل بن أوس: وفيه مسائل: المسألة الأولى في ضبط اسم عمران أو نمران واسم أبيه، والكلام عليه. فتقدم عند أحمد أنه: عمران بن مخمر أو " مخبر ". وعند الطبراني: " نمران بن مخمر ". وعند ابن شاهين والحاكم: " نمران بن محمد ". وعند الرازي في " الجرح والتعديل ": " نمران بن مخمر " وفي نسخة مخالفة " محمد " بدل " مخمر ". وعند البخاري في " التاريخ الكبير ": " نمران بن مخمر ". وعند ابن حجر في التعجيل كلام طويل وأسماء رجح من بينها أنه " مخمر ". فكأن هذا هو الصواب في تسميته، وعلى فرض الاختلاف فإن ذلك غير ضار ما داموا اتفقوا على أنهم جميعاً واحد. وقد ذكر ابن حبان نمران الرحبي هذا في ثقاته. وقال الحافظ: شيوخ حريز كلهم ثقات، كذا قال أبو داود.

وأما البخاري والرازي فقد سكتا عنه. وأما الهيثمي فقال: " عمران بن محمد لم أعرفه " فجهله لأجل تحريفه. المسألة الثانية في الكلام على صحة الخبر: رجاله ثقات أثبات، وكان تقدم قول الحاكم: " فحدثنا بصحة ما ذكره " فذهب إلى تصحيح الخبر، وإن لم يصرح في آخره. ولذلك قال الحافظ في الفتح: وأما حديث شرحبيل الكندي فأخرجه أحمد والحاكم والطبراني وابن مندة في " المعرفة " ورواته ثقات نحو الذي قبله، وصححه الحاكم من وجه آخر ". يشير لرواية يزيد المتقدمة. ولم يناقشه في ذلك، ولعله ارتضاه أن يكون من طرق هذا الحديث، ولعله لم يفعل، لكن قد ذكرت المانع من ذلك حتى يقوم البرهان، ولا برهان حتى الساعة. المسألة الثالثة، في بيان ضعف لفظ ابن شاهين الذي فيه القتل في الثالثة. فإن في إسناده أحمد بن محمد بن المغلس، لم أجده. ثم إن مخالفته لسائر الروايات قاضية بردّ هذا الاختلاف، لا سيما وأن الحاكم قد أخرجه من طريق أبي اليمان - الذي هو شيخ شيخ أحمد عند ابن شاهين - فذكر الحديث على الوجه الصواب.

وكذا سائر من روى الخبر غير أبي اليمان كعلي بن عياش وعصام بن خالد فقد ذكراه على الصواب.

وصل آخر في الكلام على حديث ابن أبي كبشة: قال الهيثمي بعد إيراده في " المجمع ": يزيد بن أبي كبشة وثقه ابن حبان، وباقي رجاله رجال الصحيح. قلت: وهو كما قال. مع الإشارة إلى أن ابن حجر قال في يزيد: " مقبول ". . (تنبيه). لكن بقي التنبيه على ضعف رواية ابن شاهين التي فيها القتل في الثانية في ظاهرها. فإن في إسناده شيخه إبراهيم بن عبد الله بن محمد الزيني مجهول. ثم هو معلول بالمخالفة. هذا فيما لو سلمنا بظاهر الرواية، ولكن يمكن صرف الرواية عن ظاهرها، فإن لفظه " إذا شربها فاجلدوه فإن عاد فاقتلوه " فليس فيها تعيين العود أهو في الثانية أو الثالثة أو الرابعة. فلو أن هذه الرواية أتت بمفردها، لكان المعنى في الثانية، لأن ترك القتل في الثانية يكون إهمالاً للخبر، الذي أفاد القتل عند العود، والثانية من العود، لكن حيث جاءت الروايات الأخرى في الرابعة، لم يجز تفسير العود على المرة الثانية دفعاً لتعارض الروايات، لا سيما وأن الرواية واللفظ يقبلان ذلك، فحملنا العود على المرة الرابعة، حتى لا يتناقض الخبر. فإن المقرر في علم الأصول، أن الواجب حمل النصوص المفسرة على التي فيها إبهام، وهو الصنيع هنا. والله أعلم.

7 - حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. ويرويه عنه الحسن وشهر: أما طريق الحسن: فأخرجه الإمام أحمد في المسند قال: حدثنا وكيع، حدثني قرة ورَوح، ثنا أشعب وقرّة بن خالد - المعنى - عن الحسن عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه ". وقال: حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا قرة عن الحسن قال: والله لقد زعموا أن عبد الله بن عمرو شهد بها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، فإذا كان عند الرابعة فاضربوا عنقه ". قال الحسن: فكان عبد الله بن عمرو يقول: ائتوني برجل قد جلد في الخمر أربع مرات، فإن لكم عليّ أن أضرب عنقه. والحديث أورده الهيثمي في " المجمع " وعزاه للطبراني دون أحمد، وأورد نحو السياق الذي قدمناه لكن قال: " ائتوني برجل شرب الخمر ثلاث مرات " فذكره. وأما الحافظ فعزاه لأحمد والحاكم، ولم يذكر الطبراني.

واقتصر المباركفوري بعزوه لأحمد كما في شرح الترمذي، وكذا غيره، حتى كدت أظن أنه ليس عنده، لكن بين في نصب الراية أن الحديث في الطبراني، وبيّن فيه طريقه كما سيأتي. والحديث أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده قال: حدثنا النضر بن شميل، ثنا قرة بن خالد عن الحسن، مثل لفظ أحمد الثاني، مع قول عبد الله فيه. وأخرجه عبد الرزاق فيما ذكره الزيلعي قال: حدثنا وكيع عن قرة عن الحسن عن عبد الله بن عمرو، ولم يذكر لفظه، لكن نبّه في عون المعبود أن المرفوع منه سواء، وأن الموقوف كلفظ " المجمع "، ولم أقف عليه في المصنف، فلينظر. ثم قال الزيلعي: ومن طريق إسحاق بن راهويه، رواه الطبراني في معجمه، وكذا في " عون المعبود ". قلت: وأخرجه ابن شاهين من هذا الوجه قال: حدثنا عبد الله بن محمد البغوي، قال: نا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة، قالا نا وكيع عن قرة، - يعني ابن خالد - عن الحسن فذكره كلفظ " مجمع الزوائد ".

وأما رواية شهر: فقد أخرجها الإمام أحمد قال: حدثنا عفان، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن شهر، عن عبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من شرب الخمر فاجلدوه. . . " فذكره على الصواب. وأخرجها الحاكم من طريق إسحاق بن راهويه قال: حدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري، ثنا محمد بن عبد السلام، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأ معاذ بن هشام، حدثني أبي عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الله بن عمرو فذكره على الصواب. وأخرجها الحازمي من هذا الوجه. حكم طريق الحسن: هي منقطعة بين الحسن وعبد الله، فإنه لم يسمع منه كما جزم بذلك علي بن المديني وغيره، كما في " نيل الأوطار ". وقد أشار الحافظ ابن حجر لهذا فقال في الفتح: " أخرجه الحاكم وأحمد من وجهين في كل منهما مقال ". قلت: وهو بين كما في لفظ لأحمد قال: " زعموا أن. . . " فبين أنه لم يسمع هو، وثمة واسطة.

حكم طريق شهر: قد تقدم لك قول الحافظ أن فيها مقالاً، وإنما المقال في شهر، فقد اختلفوا فيه كثيراً جداً، ما بين تارك ومضعف وموثِّق، وأما قتادة وإن كان مدلّساً، فإنهم لم يذكروا له تدلسياً عن شهر، وإنما ذكروا أسماء غيره. وكذا فإنهم ذكروا أن شهراً يرسل عن جماعة من الصحابة، لم يذكروا بينهم عبد الله بن عمرو. وقد لخص الحافظ حال شهر في التقريب فقال: صدوق كثير الإرسال والأوهام، فهو محتجٌ به عنده، وعند كثير من الأئمة، منهم من يجعله في الحسن، ومنهم من يجعله في الضعيف المحتج به، الذي يرتقي إذا جاء معه ما يساويه، أو ما هو فوقه. حكم حديث عبد الله بن عمرو: هو حسن عند طائفة من العلماء، حتى عند من يقول بضعف رواية شهر، عند غير واحد من العلماء، منهم الرازي في المحصول، وأما حفاظ الحديث فذكر بعض الناس في " مناهج المحدثين " أنه قول بعضهم أيضاً، وسمى منهم الزيلعي والبيهقي وابن حجر، وليس ما قاله بمسلّم، وليس هذا موضع بسطه. والصواب أن الإمام الشافعي اشترط لاعتضاد المرسل أن يكون عاضده مرسل صحيح، كما حكاه الزركشي وغيره عنه. وأما متنه فصحيح بالشواهد، كما قدمنا ذلك مراراً. (تنبيه): قال الشوكاني في نيل الأوطار: " حديث عبد الله بن عمرو أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده، ومن طريقه أخرجه ابن حزم. . . ".

قلت: هو القدر الموقوف، وأما مرفوعاً فما أخرجاه، والقدر الموقوف ذكرناه في رواية الإمام أحمد وغيره.

8 - حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه. ويرويه عنه اثنان: ابنه، وخالد بن حزم وهو نفسه الأول. أما رواية ابنه: فأخرجها ابن شاهين قال: حدثنا عبد الله بن زياد بن محمد النيسابوري، قال: نا أحمد بن حفص بن عبد الله، قال: نا أبي، قال: نا إبراهيم بن طهمان، عن سماك بن حرب عن أخيه محمد بن حرب عن ابن جرير عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب في الرابعة فاقتلوه ". قال الشيخ: وهذا حديث غريب لا أعلم أن سماكاً حدث عن أخيه إلا هذا، وابن جرير هذا اسمه: خالد بن جرير. وأخرجها الطبراني قال: حدثنا محمد بن شعيب الأصبهاني، ثنا عبد السلام بن عاصم الرازي، ثنا الصباح بن محارب، ثنا داود الأودي عن سماك بن حرب عن خالد بن جرير عن أبيه فذكره. ثم قال: حدثنا محمد بن صالح بن الوليد النرسي، ثنا محمد بن المثنى، ثنا مكي بن إبراهيم، ثنا داود الأودي وذكره.

وذكره البخاري في تاريخه فقال: قال مكي. . . . وذكر الخبر. وأما رواية خالد بن حزم وهي تصحيف. فأخرجها الحاكم في المستدرك قال: أخبرنا بكر بن محمد الصيرفي بمرو، ثنا عبد الصمد بن الفضل، ثنا مكي بن إبراهيم، ثنا داود بن يزيد عن سماك بن حرب عن خالد بن حزم عن جرير فذكره. وقد أورد الزيلعي إسناد الحاكم في نصب الراية كما أوردناه وفيه " خالد بن حزم " وكذا هو في تلخيص الذهبي. لكن لم أجد خالد بن حزم فيمن روى عن جرير، ولا فيمن روى عنهم سماك، بل لم أجد من اسمه خالد بن حزم. فتبين أن الرواية بهذا غير مستقيمة، وأن جريراً تصحفت إلى حزم. وكان المزي أغفل ذكر خالد في أولاد جرير الذين رووا عنه، كما في التهذيب، وذكر البخاري في التاريخ، خالد بن جرير، وذكر إسناده كما قدمنا، عن خالد بن جرير عن جرير، وساق الخبر، فما أشار إلى أنه ولده. أما الرازي فقال: " خالد بن جرير بن عبد الله البجلي، روى عنه سماك بن حرب، ومنهم من يدخل بينه وبين سماك أخاه ".

وكذا نسبه ابن حيان في الثقات نحو أبي حاتم. فتبين أن الإسناد للحديث واحد، لكن على الخلاف المتقدم. فابن طهمان أدخل أخا سماك واسطة بين سماك وخالد، وخالفه الأودي فأسقطه. حكم الخبر: وإبراهيم بن طهمان ثقة، بخلاف الأودي فهو ضعيف، فالقول قول ابن طهمان بإثبات الواسطة. وقد جاء في العلل لابن أبي حاتم قال: سئل أبي عن حديث رواه أحمد بن حفص النيسابوري، قال حدثنا أبي عن إبراهيم بن طهمان عن سماك بن حرب عن أخيه محمد بن حرب عن خالد بن جرير عن جرير بن عبد الله البجلي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من شرب الخمر فاجلدوه "، ورواه الأودي عن سماك عن خالد بن جرير عن جرير بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال أبي: حديث إبراهيم بن طهمان أصح لأنه زاد فيه رجلاً. انتهى. قلت: فتبين أن الحكم على هذا الحديث إنما هو لهذا السند الذي فيه محمد بن حرب، وهو إسناد رجاله موثقون، على كلام في بعضهم يسير لا يضرّ. لكن في النفس شيء من خالد بن جرير، وأن يكون هو من أولاد

جرير، والظاهر عندي أن من نسبه لأبيه نسبه ظناً لا يقيناً، لما رأى من التناسب بين الأسماء. ولذلك فإنني وقفت في معجم الطبراني له على صنيع عجيب جداً، فإنه قال: " ما روى ولد جرير عن جرير ". ثم أورد ما رواه المنذر وعبيد الله وإسماعيل وإبراهيم وعبد الله، ثم إنه ذكر خالداً، وأورد له هذا الخبر الواحد، ثم أخرج حديثاً عقبه مباشرة، وتحت نفس الباب الذي بوب له لخالد: عن أيوب بن جرير عن أبيه - ووقع في بعض النسخ عن جدّه، والصواب حذفها، كما هو بين ومعلوم من أن جريراً ليس له أب مسلم - فكأنه جعلهما واحداً، أو أنه سقط من المطبوع ترجمة ولده أيوب، والله علم. ثم رأيت محقق كتاب الثقات قال عند قول ابن حبان: " محمد بن حرب أخو سماك يروي عن ابن جرير عن أبيه عن. . . ". قال محققه شارحاً قوله: " عن ابن جرير " قال: هو عبيد الله بن جرير بن عبد الله البجلي كما في التهذيب. قلت: وهو كما قال: فإن في التهديب إنه روى عن عبيد الله لا عن خالد. وحيث أن الطريق الأصح الأعلى، هي الأولى التي فيها: " عن ابن جرير " دون تسمية، وفي سياق مساءلة أبي حاتم في العلل سمّاه، فأنا متوقف في تعيين الابن هذا.

9 - حديث غضيف بن الحارث رضي الله عنه. ولا يرويه عنه إلا عياض ولده. أخرج حديثه ابن شاهين قال: حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، قال: نا محمد بن عوف بن سفيان، قال نا الحكم بن نافع، قال نا إسماعيل بن عياش وسعيد بن سالم الكندي، عن معاوية بن عياض بن غضيف عن أبيه عن جدّه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه، ثم إن عاد فاقتلوه ". وأخرجه البزار قال: حدثنا عمر بن الخطاب السجستاني ثنا أبو اليمان - هو الحكم بن نافع - ثنا إسماعيل بن عياش عن سعيد بن سالم عن معاوية فذكره، ولم يقل: " ثم إن عاد في الرابعة فاقتلوه ". ثم قال البزار: لا نعلم روى غضيف إلا هذا. قال ابن حجر معقباً: بل إسماعيل ضعيف. قلت: لكن حيث ذكره الهيثمي في المجمع ذكره بطوله مع الجملة الرابعة، وعزاه للطبراني والبزار معاً. وأخرجه الطبراني قال: حدثنا أبو زيد أحمد بن عبد الرحيم الحوطي، ثنا أبو اليمان الحكم بن نافع فذكره بتمامه مع الجملة الرابعة.

قلت في الحديث مسائل: الأولى: في قول ابن شاهين " إسماعيل بن عياش وسعيد. . . " فالذي عند الطبراني والبزار: " عن سعيد ". وهذا هو الصواب - والله أعلم - لأنه لو كان " وسعيد " لما كان من معنى لقول الحافظ المتقدم: " إسماعيل ضعيف، لأنه حينئذٍ يكون متابعا بثقة، ولا معنى لتضعيف المتابع بثقة في إسنادٍ واحد، على تفصيل يأتي. ثم قد ذكره الحافظ في الإصابة في موضعين على الصواب: " إسماعيل بن عياش عن سعيد بن سالم. . . ". وعزاه للطبراني وابن شاهين وابن السكن وأبي خيثمة كلهم من هذه الطريق. وأما في ثقات ابن حبان فوقع تصحيف قبيح قال: " وروى عن معاوية إسماعيل بن سالم الكندي "!، لكن سيأتي أنه ذكره على الصواب في موضع آخر. الثانية: في تحديد اسم الصحابي هل هو غضيف بالضاد، أو غطيف. فالذي عند ابن شاهين بالثاني، وكذا الطبراني، وخالفهما البزار فقال الأول. هو متردد بينهما في مصادر كثيرة. وقد كشف النقاب عن هذا التردد غير واحد، وذكروا أن الناس اختلفوا فيه مع آخر كندي وقيل سكوني. وقد فرق بينهما ابن حجر فقال: " والذي يظهر لي أن السكوني غير

الكندي "، ثم ذكر للسكوني حديثاً في وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، بعد أن كان ذكر أن السكوني هو الذي اسمه غضيف، وأن الكندي هو الذي اسمه غطيف. قلت: ويؤيد قوله هذا ما قاله ابن عبد البر في الاستيعاب، فإنه بعد أن ذكر السكوني الأول غضيف - أو غطيف، على خلاف - ذكر صاحبنا الثاني الكندي وقال: غطيف بن الحارث الكندي والد عياض - وهو آخر - تفرد بالرواية عنه ابن عياض فيما ذكر الموصلي. . . ". قلت: فعلى مقتضى قول الموصلي هو آخر كما جزم الحافظ وابن عبد البر وغيرهما، لأن راوي حديث وضع اليد عن غضيف هو يونس بن سيف. المسألة الثالثة في الكلام على ضعف إسماعيل الذي ذكره الحافظ ولم فإن إسماعيل لا يصح إطلاق الضعف عليه أصلاً، فالعجب من قول الحافظ، وهو القائل في التقريب: صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلط في غيرهم "، لكن لعله قال حاكياً حكمه في هذا الخبر خصوصاً كما سيأتي. فالصواب في إسماعيل أنه ثقة ضابط في الشاميين، لا سيما الحمصيين - فهو حمصي - نبه على هذا الأساطين كيحيى بن معين في قول،

وأحمد بن حنبل، ودحيم، وعمرو بن علي، ومنهم البخاري والدولابي وابن عدي وغيرهم. فإنهم اتفقوا على قبول روايته في الشاميين خاصة. والذي روى عنه إسماعيل هو سعيد، وكندة أصله، وما ذكروا ما يعرف به موطن السماع منه. فالله أعلم وقد أخرج هذا الحديث ابن حبان في الثقات عن آخر، لكنه متروك من نفس الطريق عن سعيد قال: حدثا ابن قتيبة، ثنا عبد الوهاب بن الضحاك، قال ثنا إسماعيل بن عياش فذكر الحديث لإسناده ومتنه على الصواب. فالحاصل أن الواجب قبول أو رد رواية إسماعيل في هذا الخبر بحسب حال سعيد، وطرح تضعيف الحافظ له مطلقاً، إلا أن يكون جزم بأن عداده ليس في الشاميين فيصح إطلاقه هذا على المعنى الذي ذكرناه. الحكم على الخبر: رجاله ثقات، مع التنبيه إلى أن سعيداً ومن بعده تفرد ابن حبان بتوثيقهم، فهذا حديث عهدته على إسماعيل. وتوثيق ابن حبان إذا لم يوجد متابعه، ولم يكن الموثق معروفاً إلا في حديث أو حديثين، وليس فيه جرح، لم يبلغ التوثيق مرتبة الصحة، هذا إن لم يكن في الخبر نكارة - والله أعلم - هذا مع التنبيه على أن الحافظ كثيراً ما يترجم لمن تفرد ابن حبان بتوثيقه، وكان حاله كالذي هنا بقوله " مقبول " - يعني إذا توبع احتج بحديثه وإلا فهو ليّن.

10 - حديث الشريد بن أوس الثقفي رضي الله عنه. أو هو الشريد بن سويد، والثاني أصح. والأول ذكره الحافظ في الفتح والثاني هو المذكور في التحفة والتهذيب. ويرويه عنه عمرو ولده. أخرج حديثه الإمام أحمد قال: حدثنا يعقوب، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، قال حدثني عبد الله بن أبي عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي، أن عمرو بن الشريد حدثه أن أباه حدثه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا شرب الرجل فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه - أربع أو خمس مرار - ثم إذا شرب فاقتلوه ". وأخرجه الدارمي قال: حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي، ثنا يزيد - هو ابن زريع - ثنا محمد - هو ابن إسحاق - ثنا عبد الله بن عتبة بن عروة بن مسعود الثقفي فذكره على الصواب ". . . فإن عاد في الرابعة فاقتلوه ". وأخرجه الطبراني قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، ثنا محمد بن عبد الله الرقاشي. وحدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني عبيد الله بن عمر القواريري. قالا: ثنا يزيد بن زريع فذكره مثل الدارمي، سواءً بسواء.

وأخرجه النسائي قال: أخبرنا محمد بن يحيى بن عبد الله، قال ثنا محمد بن عبد الله الرقاشي، فذكره كالدارمي. قال في الأطراف: كذا في رواية ابن الأحمر ولم يذكره أبو القاسم. وجاء في النكت للحافظ عليه مثله لكن قال: " عبد الله بن عطية بن عمرو الثقفي " وهو خطأ من النساخ. وكذا أخرجه ابن حزم من هذا الوجه قال: حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية، نا أحمد بن شعيب - يعني النسائي - فذكره على الصواب كما قدمنا في النسائي. وتابع الزهريُّ عبد الله عند الحاكم فإنه قال: حدثنا أبو عبدَ الله الصفار، ثنا محمد بن مسلمة، ثنا يزيد بن هارون، أنبأ محمد بن إسحاق عن الزهري عن عمرو بن الشريد عن أبيه فذكره على الصواب. ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وسكت عليه الذهبي في المختصر حيث أورد كلام الحاكم ولم يتعقبه. حكم الخبر عن الشريد: هو كما قال الهيثمي في " المجمع ": فيه عبد الله بن عتبة بن عروة بن مسعود الثقفي، لم أعرفه، وباقي رجاله ثقات.

قلت: وكذا أنا لم أجد عبد الله بن أبي عاصم المذكور في سند أحمد، ولعله هو نفسه ابن عتبة، فهذا حال الطريق الأولى. وأما متابعة الحاكم فكانت مقبولة لولا محمد بن مسلمة، فقد قال فيه الحافظ: " أتى بخبر باطل اتهم به، وقال أبو القاسم اللالكائي: ضعيف، وساق له ابن عدي أحاديث تستنكر، وأورد ابن الجوزي حديثاً فقال: رواته ثقات سوى ابن مسلمة، وقال الخطيب: في أحاديثه مناكير بأسانيد واضحة، وهو غير ثقة، وقال الخطيب: رأيت هبة الله الطبري يضعفه، وكذا سمعت أبا محمد الخلال يقول: هو ضعيف جدا. انتهى ما أورده الحافظ ملخصاً من اللسان. نعم، قد ذكر أيضاً أن الدارقطني قال: " لا بأس به ". قلت: هيهات بعد الذي ذكر. وبالمناسبة فالدارقطني يقبل الخبر الذي فيه مجهول العين، إذا توبع ولو بضعيف، أو مثله، ولم يصرح مدى هذا القبول. وأنا أستبعد أن يكون يريد بذلك الحسن لغيره، لأنه عندها لا يكون من فارق بين الحديث الضعيف المحتج به، وبين ما هو دونه. فلعله يريد أن يكون مقبولاً للاحتجاج كالضعيف الذي يرتقي، إذا تابعه مثله، واللَّه أعلم بالذي أراد. والحاصل عندي أن مثل هذا الخبر بمفرده غير قابل للتحسين، وكذا عند جمهور أهل الحديث. وأما بشواهده فحسن كما قدمنا مراراً.

11 - حديث أبي الرمد البلوي. أو أبو الربداء. لم أقف على حديثه من أول إسناده، لكن فيه ابن لهيعة فاستغنينا عن ذلك على رأي من يطلق التضعيف على عبد الله. وكذا لجهل مولى أم سلمة. ذكره الحافظ ابن حجر في ترجمته قال: وأخرج أبو اليسر الدولابي، وابن مندة من طريق ابن وهب عن ابن لهيعة عن ابن هبيرة عن أبي سليمان مولى أم سلمة أن أبا الربداء حدثه أن رجلاً منهم شرب، فأتوا به النبي - صلى الله عليه وسلم - فضربه، ثم عاد فشرب الثانية فضربه، ثم عاد فشرب الثالثة، فأُتي به لا أدري في الثالثة أو الرابعة، فأمر به فحمل على العجل فوضع عليها فضرب عنقه. وذكره الدولابي بالميم والدال المهملة - يعني أبا الرمد - وقال عبد الغني بن سعيد: هو تصحيف وإنما هو بالموحدة والذال المعجمة!!. قال الحافظ: وأخرجه البغوي في الكنى بالميم والمهملة وقال: سكن مصر، وساق الحديث من طريق ابن لهيعة، وقال في سياقه: عن أبي سلمان، وفي رواية أخرى: عن أبي سليمان، وقال في المتن: فأُتي به فيما أرى في الثالثة أو الرابعة فأمر به فحمل على العجل فضربت عنقه. انتهى. الحكم على الخبر: ضعيف، لأن فيه أبا سليمان، أو أبا سلمان، مولى أم سلمة، وهو مجهول الحال كما قال ابن القطان، ونقله عنه الحافظ في اللسان. وفيه عبد الله بن لهيعة، مختلف فيه كثيراً، وبعضهم يحسن حديثه عن العبادلة كما هنا، فتبقى علة الحديث في جهالة مولى أم سلمة.

12 - حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أخرجه عبد الرزاق في المصنف قال: عن محمد بن راشد قال سمعت عمرو بن شعيب يحدث أن أبا موسى الأشعري حين بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن سأله قال: " إن قومي يصنعون شراباً من الذرة، يقال له المزر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أيسكر "؟. قال أبو موسى: " نعم ". قال: " فانههم عنه ". قال: " قد نهيتهم، فلم ينتهوا ". قال: " فمن لمن ينته في الثالثة فاقتله ". حكم الخبر: هو مرسل أو معضل، لأن عمراً قد روى عن بعض الصحابة، كالربيع بنت معوذ، وأم كرز الكعبية وغيرهما. ثم في عمرٍو كلام مشهور، استغنينا عن ذكره لشهرته. وأصل الحديث عند الشيخين وأصحاب السنن إلا الترمذي، بغير هذا الإسناد وهذه السياقة، وليس فيه ذكر القتل قط. ثم إن له جواباً خاصاً، يأتي في الحديث الذي بعده عن أم حبيبة رضي الله عنها.

13 - حديث أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها. أخرجه الإمام أحمد قال: ثنا حسن قال ثنا ابن لهيعة، قال ثنا دراج عن عمر بن الحكم أنه حدثه عن أم حبيبة بنت أبي سفيان: أن أناساً من اليمن قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعلمهم الصلاة والسنن والفرائض. ثم قالوا: يا رسول الله، إن لنا شراباً نصنعه من القمح والشعير. فقال: الغبيراء؟ قالوا: نعم. قال: لا تطعموه. ثم لما أرادوا أن ينطلقوا سألوه عنه. فقال: الغبيراء؟ قالوا: نعم. قال: لا تطعموه. قالوا: فإنهم لا يدعونها. فذكره قال: من لم يتركها فاضربوا عنقه. وتابع حسناً فيه يحيى بن بكير عند الطبراني قال: حدثنا عبد الملك بن يحيى بن بكير المصري، ثنا أبي، ثنا ابن لهيعة مختصراً ليس فيه ذكر آخرهاً قالوا: فإنهم لا. . . الحديث ".

لكنه عاد فأخرجه من طريق أحمد نفسها، فذكره بتمامه قال: حدثنا يحيى بن عثمان، ثنا حسان بن غالب، ثنا ابن لهيعة فذكره مثل أحمد باختصار يسير. وأخرجه أبو يعلى من هذا الوجه أيضاً. وكذا البيهقي. الحكم على الخبر: هو كما قال الهيثمي في " المجمع ": " فيه ابن لهيعة وحديثه حسن، وفيه ضعف، وبقية رجال أحمد ثقات ". قلت: لكن يتعقب عليه، بأن ابن لهيعة حديثه حسن إذا روى عنه أحد العبادلة - على الرأي المختار - وبعضهم يطلق التحسين، وهو هنا ليس كذلك. وأما من ضعف الخبر بأبي السمح فليس بصحيح، لأن روايته ضعيفه في أبي الهيثم خاصة. وليس هو هنا كذلك. (تنبيه): والظاهر في هذا الخبر والذي قبله، أن الحكم إنما هو في حق منكر الحرمة لشرب هذه الأنواع من الخمور، ولذلك لم يجئ فيهما عدد معين، وظاهر السياق في ذلك بيّن. فهذان الحديثان والآتي بعدهما، يصح عليهم جواب ابن حبان الذي سنورده في آخر المقام وقوله: " معناه - أي الحديث -: إذا استحل شربه - يعني الخمر - ولم يقبل تحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - ".

حكاه عقب حديث أبي هريرة المتقدم، فحمل رحمه الله هذا الخبر على خبر أبي هريرة ومعاوية كعادته في الجمع بين الآثار. فكأنه ذهب إلى أن من شرب الخمر أربعاً، كان كالذي استقر عنده حلُّه، فاستحق القتل، على ما سيأتي ذكره والجواب عنه إن شاء الله تعالى.

14 - حديث ديلم الحميري الجيشاني رضي الله عنه. أخرجه الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا عبد الكبير بن عبد الحميد أبو بكر الحنفي، قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني، أن ديلم أخبرهم أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا رسول الله، إننا ببلد بارد، وإنا نشرب شراباً نتقوى به؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فهل يسكر؟ قال: نعم. قال: لا تقربوه. قال: فإنهم لن يصبروا عنه. قال: فمن لم يصبر عنه فاقتلوه. ثم أخرجه قال: حدثنا الضحاك بن مخلد قال: حدثنا عبد الحميد فذكره مثله. وقال: حدثنا محمد بن عبيد، ثنا محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب فذكره وفي آخره: فقلت: إن الناس غير تاركيه. قال: " فإن لم يتركوه فاقتلوهم ". وأخرجه أبو داود قال:

حدثنا هناد بن السري، أخبرنا عبدة، عن محمد - يعني ابن إسحاق - فذكره وفيه: قال: " هل يسكر؟ ". قال: نعم. قال: " فاجتنبوه ". قال: قلت: فإن الناس غير تاركيه. قال: " فإن لم يتركوه فقاتلوهم ". وأخرجه البيهقي من طريقي أحمد مثله. ولفظه عنده " فاقتلوهم " كما عند أحمد. ثم أخرجه من وجه آخر مختصر قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، وأبو زكريا بن أبي إسحاق، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أنبأ ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب وعياش بن عباس عن أبي الخير، وهو مرثد، عن ديلم الجيشاني أنه قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله إنا بأرض باردة شديدة البرد نصنع بها شراباً من القمح، أفيحل يا نبي الله؟ فقال: " أليس بمسكر؟ ". قالوا: بلى. قال: " فإنه حرام ".

هذا ما وقفت عليه من طرق هذا الخبر وألفاظه. وكان مسلم أخرج في صحيحه، والنسائي في الكبرى، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: إن رجلاً قدم من جيشان (وجيشان من اليمن) فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة، يقال له المزر. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أمسكر هو؟ ". قال: نعم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كل مسكر حرام، إن على الله عز وجل عهداً لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال ". قالوا: يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال: " عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار ". قلت: فلعل هذا السائل هو ديلم، والله أعلم، وقد جزم بذلك ابن بشكوال في غوامض الأسماء، وأما حديث فيروز الديلمي عند أبي داود، فقد فرق ابن حجر بينه وبين هذا الحديث، كما في الإصابة. حكم خبر ديلم: إسناد الإمام أحمد الأول حسن، لأجل الكلام اليسير في خطأ عبد الحميد بن جعفر، وأما يزيد، فإنهم ذكروا له تدليساً يسيراً جداً عن واحد أو اثنين، غير مرثد بن عبد الله. وقد تابع ابن إسحاق عبد الحميد كما في الرواية الثانية، لكنه عنعن وهو مدلس.

(تنبيه): وبه يتبين أن رواية " فقاتلوهم " غير ثابتة، لأنها لم ترد إلا في حديث محمد بن إسحاق، الذي بإسناد أبي داود الضعيف. ثم على صحة ثبوتها أو ارتقائها، فيمكن حملها على رواية " فاقتلوهم "، لأن القتل من لوازم المقاتلة. (تنبيه): بقي من أحاديث قتل شارب الخمر في الرابعة، حديث ذكره الزيلعي في نصب الراية، وعزاه للطبراني في معجمه من حديث ابن مسعود. كذا قال، ولم يذكر فيه شيئاً، لا سنداً ولا متناً، ولم أجده في المعجم الكبير للطبراني، بل إنه ليس في المعجم الكبير لابن مسعود إلا بضعة أحاديث متفرقة، فلينظر في غيره من معاجمه أو في الساقط منه. وكذلك لم أقف عليه في " المجمع " للهيثمي، ولو كان في أحد المعاجم لذكره ولوجدته. فغلب على الظن أنه من وهم الزيلعي. وحيث أني نظرت في " نظم المتناثر من الحديث المتواتر " فلم أقف له على ذكر في هذا الخبر، ترجح عندي بما يشبه القطع، أن ليس لابن مسعود حديث في الباب. هذا وقد بقي حديثان أحدهما عن جابر والآخر عن قبيصة يأتيان إن شاء الله.

باب آخر فيما جاء من المراسيل في قتل شارب الخمر

باب آخر فيما جاء من المراسيل في قتل شارب الخمر الأول: مرسل مكحول. أخرجه عبد الرزاق في مصنفه قال: عن محمد بن راشد قال: سمعت مكحولاً يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من شرب الخمر فاضربوه ثم قال: من شرب الخمر فاضربوه، ثم قال في الرابعة: من شرب الخمر فاقتلوه. قلت هو مرسل حسن، لكلام ذكروه في محمد. الثاني: مرسل أبي سلمة بن عبد الرحمن. أخرجه مسدد في مسنده، ولم نقف على سنده فيه، وإنما ذكره الحافظ في المطالب وقال البوصيري في " الإتحاف ": رجاله ثقات. كما بحاشية المطالب.

باب ما جاء من الأحاديث في قتل شارب الخمر في الرابعة ونسخ ذلك

باب ما جاء من الأحاديث في قتل شارب الخمر في الرابعة ونسخ ذلك 1 - حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: ولا يرويه عنه إلا ابن المنكدر، ولا يرويه عن ابن المنكدر إلا محمد بن إسحاق. أخرجه النسائي قال: أخبرنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد، قال: ثنا عمي يعقوب بن إبراهيم بن سعد، قال: ثنا شريك عن محمد بن إسحاق عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا شرب الرجل فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد الرابعة فاقتلوه "، فأُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل منا فلم يقتله. وقال: أخبرنا محمد بن موسى الحرشي، قال: ثنا زيادا بن عبد الله البكائي، قال: حدثني محمد بن إسحاق عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من شرب الخمر فاضربوه، فإن عاد فاضربوه، فإن عاد فاضربوه، فإن عاد الرابعة فاضربوا عنقه " فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعيماً أربع مرات، فرأى المسلمون أن الحد قد وقع، وأن القتل قد رفع. وأخرجه البيهقي عن النسائي بهذا.

وأخرجه ابن حزم من وجه النسائي الأول، والثاني مثله. ومن وجه النسائي الثاني أخرجه الحاكم، على سقط كبير وقع في أول السند في الأصل وتلخيص الذهبي. ومن هذا الوجه أخرجه البزار والطحاوي وعلقه الترمذي. وقال البزار في روايته " وكان ذلك ناسخاً لقتله ". ثم قال: ولا نعلم أحداً حدث به إلا ابن إسحاق. قلت: وقد رواه غير ابن إسحاق عن ابن المنكدر فأرسله كما سيأتي. الحكم على حديث جابر: وقبل الشروع في التقرب إلى الله بمعرفة حكم ذلك الخبر، وطلب التوفيق منه ذلك والسداد، وجب التنبيه على أن ابن حجر قال في الفتح بعد ذكر رواية ابن المنكدر عن جابر: " وأخرجه البيهقي والخطيب في المبهمات من وجهين آخرين عن ابن المنكدر ". وظاهر عبارته أن الطريقين عن غير جابر.

فإن كان هو المراد فسيأتي الكلام على ذلك عند الحديث عن المراسيل في النسخ. وإلا فالحديث ليس يروى موصولاً عن ابن المنكدر عن جابر إلا من طريق محمد بن إسحاق كما ذكر البزار. ولا يرويه عن محمد بن إسحاق إلا اللذان ذكرهما النسائي في روايتيه: شريك القاضي، وزياد بن عبد الله البكائي. كما جزم بذلك ابن حزم في المحلى قال: " أما حديث جابر بن عبد الله في نسخ الثابت من الأمر بقتل شارب الخمر في الرابعة، فإنه لا يصح لأنه لم يروه عن ابن المنكدر أحد متصلاً إلا شريك القاضي، وزياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق عن ابن المنكدر - يعني عن جابر - وهما ضعيفان ". قلت: أما أنه يوجد من ضعفهما فنعم، وأما إطلاق الضعف عليهما، فليس بشيء. كيف وقد روى لشريك البخاري استشهاداً، ومسلم متابعة في صحيحيهما، وهما ليسا يحتجان بالاستشهاد والمتابعة بالضعفاء. فأما شريك القاضي. فقال فيه يحيى بن معين: ثقة، وقال مرة: ثقة ثقة، وقال ثالثة: هو ثقة صدوق، إلا أنه إذا خالف، فغيره أحب إلينا منه. وقال أحمد بن حنبل نحو قول ابن معين الآخر. وقال وكيع: لم يكن أحد أروى عن الكوفيين من شريك. وقال ابن المبارك: شريك أعلم بحديث الكوفيين من سفيان الثوري -! وقال علي بن المديني: شريك أعلم من إسرائيل.

قلت: إسرائيل ثقة. ثم إنه تكلم فيه كثيرون لأجل سوء حفظه. فقال يحيى بن سعيد القطان: ليس بشيء، وأفصح مرة فقال: ما زال مخلطاً. وقال يعقوب بن شيبة: شريك صدوق ثقة، سيّء الحفظ جداً. وقال أبو زرعة: كان كثير الخطأ، صاحب وهم، وهو يغلط أحياناً. وقال أبو حاتم: كان له أغاليط، وقال مرة: ساء حفظه. قلت فمن تأمل القول الجامع لهؤلاء الأئمة رحمهم الله، لم يجد فيه تناقضاً إذا أمعن النظر وأحسن التدبر. فليس من وثّقه نفى عنه سوء الحفظ، أو الغلط، وليس من ذكره بسوء الحفظ أنكر فيه التوثيق، من وثق روايته عن الكوفيين، فكأنه جعل الخطأ عنهم أقل من غيرهم. والخلاصة أنه ثقة، يقع الغلط في حديثه من غير تعمد، فإذا خالف الثقات، كان غيره أحق منه بالصواب، والله أعلم. وأما متابعة زياد بن عبد الله البكائي. فقال فيه وكيع: هو أشرف من أن يكذب. وقال أحمد: ليس به بأس. وقال يحيى بن معين: ليس بشيء، وقال مرة: هو في ابن إسحاق ثقة.

وقال أبو داود: كأنه يضعّفه في غيره. قلت: لا كأنه، فإنه فعل. وقال مرة ثالثة: لا بأس به في المغازي. قلت: وهذا نحو الثاني، فغالب رواية محمد بن إسحاق في المغازي. وقال ابن المديني: ضعيف، وقال مرة: كتبت عنه وتركته. وقال أبو زرعة: صدوق. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ويحتجّ به. وقال النسائي: ضعيف، وقال مرة: ليس بالقوي. وضعفه العقيلي، وابن حبان، وابن الجوزي. وقد أوردت أن البخاري روى له، ووجب التنبيه أنه حديث واحد مقرون بغيره. قلت: وملخص القول أنه صدوق في نفسه، لكن كثر غلطه فتجاسروا على القول بضعفه، وبرأه من الضعف من نظر لأحاديثه الجياد. الخلاصة: ومنتهى الفهم فيهما أن الأول حسن الحديث ما لم يخالف، والثاني ضعيف محتج به، لكن بقي النظر في بقية السند. فأما محمد بن إسحاق فقد اختصر الحافظ في التقريب حاله بكلام غير شافٍ فقال: " صدوق يدلّس ورمي بالتشيع والقدر ". وأتقن الخلاصة الذهبي فقال: " له ارتفاع بحسبه ولا سيما في السير،

وأما في أحاديث الأحكام فينحط حديثه فيها عن رتبة الصحة إلى رتبة الحسن، إلا فيما شذ فيه، فإنه يعدّ منكراً ". قلت: ومن تأمل كلام السابقين فيه، ارتضى قول الذهبي وأقرّه فيه، وعلم أنه أشبه ما يكون بقول الإمام أحمد القائل: لا أقبل حديثه إذا تفرّد. وقد خالف معمر محمداً في هذا الخبر عن ابن المنكدر، فأرسله، كما عند عبد الرزاق على ما سيأتي، ثم عنعن ابن إسحاق فيه، فمن يطلق التدليس عليه في سائر عنعناته، لا يقبل هذا الخبر.

2 - حديث قبيصة بن ذؤيب. وفيه بحث قبل الشروع في ذكر أسانيده، والكلام عليه، وهو تحقيق حال قبيصة، أهو في عداد الصحابة أم التابعين. وملخص القول فيه ما ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في الإصابة، حيث أورده في القسم الثاني ممن له رؤية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسمع منه. قلت: وهو الصواب، حتى إنهم ذكروا أن روايته عن أبي بكر وعمر مرسلة. وممن ذهب للقول بأن روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلة جماعة من الأكابر كثيرون يطول تعدادهم. منهم ابن سعد، والدوري، وابن المديني، وخليفة بن خياط، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه، والعجلي، ويعقوب الفسوي، وأبو زرعة الدمشقي، والرازي أبو حاتم، وابن حبان، والدارقطني، وابن منجوية، وابن عبد البر، والذهبي، وابن حجر، والعلائي، وغيرهم كثير جداً. وقد بسطوا الكلام عليه في مواطن كتبهم فلتنظر.

أخرج حديثه جماعة منهم أبو داود قال حدثنا أحمد بن عبدة الضبي، أخبرنا سفيان عن الزهري، أخبرنا عن قبيصة بن ذؤيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه ". فأُتي برجل قد شرب الخمر فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ورفع القتل فكانت رخصة. قال سفيان: حدّث الزهري بهذا الحديث وعنده منصور بن المعتمر، ومخول بن راشد، فقال لهما: كونا وافدي أهل العراق بهذا الحديث. وأخرجه ابن شاهين قال: حدثنا عبد الوهاب بن عيسى بن أبي حية، قال: نا محمد بن معاوية بن صالح، قال: نا سفيان فذكره. وأخرجه البيهقي قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني، أنبأ أبو سعيد ابن الأعرابي، (ح) وأخبرنا أبو الحسين بن بشران، أنبأ إسماعيل بن محمد الصفّار، قالا: ثنا سعدان بن نصر، ثنا سفيان. ثم أخرجه من طريق الشافعي قال: أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب،

أنبأ الربيع بن سليمان أنبأ الشافعي أنبأ سفيان فذكره. ثم أخرجه من غير طريق سفيان قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران العدل، ببغداد، أنبأ أبو سهل أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد القطان، ثنا محمد بن الجهم السمري، ثنا يعلى بن عبيد، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، فذكره. وأخرجه البغوي من طريق الشافعي قال: أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، نا أبو العباس الأصم، (ح) وأخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، ومحمد بن أحمد العارف، قالا: أنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي، نا سفيان الثوري. فذكر الخبر. وأخرجه الحازمي في الاعتبار من طريق الشافعي أيضاً، ومن طريق الأصم، وسماه سفيان بن عيينة لا الثوري، فقال الحازمي: قرأت على روح بن بدر بن ثابت، أخبرك أبو الفتح أحمد بن محمد في كتابه، عن محمد بن موسى الصيرفي، أخبرنا محمدا بن يعقوب الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا ابن عيينة فذكره. قلت: وهو الصواب، فلا الشافعي حدث عن الثوري، ولا حدث الثوري عن ابن شهاب. وتابع يحيى بن أبي أنيسة ابن عيينة وابن إسحاق، فأخرج ابن شاهين حديثه في الناسخ فقال:

حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الكريم الفزاري، قال: نا زياد بن يحيى الحساني، قال: نا أبو بكر البكراوي قال: نا يحيى بن أبي أنيسة، قال: نا الزهري فذكره. وتابع الثلاثة يونس عند ابن حزم، قال: حدثنا حمام، نا عباس بن أصبغ، نا محمد بن عبد الملك بن أيمن، نا إسماعيل بن إسحاق، نا أبو ثابت، نا ابن وهب، أخبرني يونس بن يزيد أخبرني ابن شهاب أن قبيصة بن ذؤيب حدثه أنه بلغه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره. قلت ففي هذا الإسناد - إن سلم - فائدتان: الأولى: تصريح ابن شهاب بسماعه من قبيصة. والثانية: تصريح قبيصة بأنه لم يسمع الخبر من النبي - صلى الله عليه وسلم - ". وتابع الأربعة معمرٌ وابن جريج عند عبد الرزاق، قال: عن معمر وابن جريج عن الزهري عن قبيصة فذكر نحوه. وتابع الزهري في هذا الخبر أبو أمية البصري عنده أيضاً قال: عن محمد بن راشد عن عبد الكريم أبي أمية، عن قبيصة بن ذؤيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب رجلاً في الخمر أربع مرات، ثم إن عمر بن الخطاب ضرب أبا محجن الثقفي في الخمر ثمان مرات. وأبو أمية ضعيف جداً.

وقد روي هذا الخبر عن الزهري دون ذكر قبيصة، من وجهين يأتيان بعد هذا الحديث إن شاء الله. حكم خبر قبيصة: وفيه ثلاث مسائل: الأولى: في أنه مرسل، لما قدمنا من حال قبيصة في أول الحديث. وما في رواية ابن حزم. الثانية: في صحة سماع الزهري من قبيصة لهذا الخبر. وقد ذكر هذه العلة الطحاوي في الرد على الكرابيسي، واستدل على ذلك قال: ثنا يونس بن عبيد، ثنا بشر بن بكر، ثنا الأوزاعي، عن ابن شهاب أنه بلغه عن قبيصة بن ذؤيب فذكر الحديث. قال ابن التركماني بعد ذكره: وهذا سند على شرط مسلم. وعورض برواية ابن حزم المتقدمة التي " عن يونس عن ابن شهاب أن قبيصة بن ذؤيب حدثه. . . ". قالوا: " يونس أحفظ لحديث الزهري من الأوزاعي ". والثالثة: أنه روي عن الزهري مرسلاً لما نبهنا وسيأتي، دون ذكر قبيصة، وأجيب بأن الذاكرين لقبيصة أوثق وأكثر، وعلى فرض ثبوته فلا مانع من الأمرين، ثم هو مرسل على كل حال. ولذلك قال الحافظ ابن حجر: " ورجال هذا الحديث ثقات مع إرساله ".

وما جزم بالوصل ولا بالانقطاع بين الزهري وقبيصة، واكتفى بإيراد الإعلال وجوابه.

وصل في ذكر المراسيل الواردة في نسخ الخبر

وصل في ذكر المراسيل الواردة في نسخ الخبر: الأول: مرسل الزهري. أخرجه عبد الرزاق قال: عن معمر عن الزهري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا شربوا فاجلدوهم، ثم إذا شربوا فاجلدوهم، ثم إذا شربوا فاقتلوهم " ثم قال: " إن الله قد وضع عنهم القتل، فإذا شربوا فاجلدوهم، ثم إذا شربوا فاجلدوهم، ذكرها أربع مرات ". وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه ابن شاهين من وجه آخر عن ابن أبي ذئب عن الزهري مختصراً جداً. الثاني: مرسل ابن المنكدر. أخرجه عبد الرزاق عن معمر كما قدمنا، ولفظه " قد ترك القتل، قد أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بابن النعيمان فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به بعد الرابعة فجلده، أو أكثر ". الثالث: عن زيد بن أسلم. أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه ولفظه: أتي بابن النعيمان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم قال: مراراً أربعاً أو خمساً.

فقال رجل: اللهم العنه، ما أكثر ما يشرب، وما أكثر ما يجلد. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله ". الرابع: عن عمرو بن دينار. قال عبد الرزاق: عن ابن جريج عن عمرو بن دينار أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكره مثل حديث قبيصة المتقدم، وسمى الرجل أنه ابن النعيمان. الخلاصة: والحاصل أن النسخ صح بالمراسيل، وقد احتج بها غير واحد من الأئمة، وكذا قد صح شرط من اشترط لقبولها أشياء، فإنها متوفرة في هذا الحكم. وكذا فإن من يحتج بالمراسيل إذا تعددت يقبل ما جاء في هذا الخبر، وكذا من يراها تجبر بالمسند ولو لم يصح. ولذلك نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على القول بنسخ هذا الخبر. وقد فصلت القول بذلك في رسالة مفردة أسميتها " إعلام أهل العصر بحكم قتل مدمن الخمر " ذكرت فيها: أ - وصلاً في بيان من يحتج بالمرسل، وشروطهم. ب - ووصلاً آخر في بيان من نقل الإجماع على خلاف هذا الخبر. ج - ووصلاً ثالثاً فيمن تعقب هذا الإجماع. د - ورابعاً في أدلة المانعين من القتل والجواب عليها. هـ - وخامساً في أدلة المجيزين، والجواب عليها كذلك.

و - وسادساً في ما حكاه أهل أصول الفقه في حكم هذا التعارض. ز - وسابعاً في بيان مرجحات كلا الخبرين. ثم خلصت فيها لقول شيخ الإسلام ابن تيمية من أن نسخ الوجوب لا يمنع الجواز، وأن قتله راجع للإمام إن رأى المصلحة في ذلك. والله أعلم.

الخاتمة

الخَاتِمَة قد تم بحمد الله تعالى، وعونه وتوفيقه وتسديده، الفراغ من ذكر الأحاديث التي نقل الإجماع على خلافها، مع صحتها وسلامتها، على الشرط الذي اشترطته في الفصل الخامس من هذا الكتاب. وثمة أحاديث لا يخلو ذكرها في هذا المصنف من مقال، قد ضربت عليها، وأنا غير مدعٍ في ذلك انتفاء وجود غيرها لمن أطال التنقيب عنها، وأعمل فيها شرطنا، فإن وجد فليلحقها في آخر هذا الكتاب على النمط الذي ذكرناه. وكان الفراغ من هذا المصنف - كتب الله لي به الثواب والرفعة - آخر ليلة من شهر ربيع الآخر، لسنة ألف وأربعمائة وخمس عشرة، لهجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ". وكتب راجي الرحمات أبو عبد الله عبد السلام محمد عمر علوش في طرابلس - الشام آخر ربيع الثاني. * * *

§1/1