أبو هريرة راوية الإسلام

محمد عجاج الخطيب

أبو هريرة راوية الإسلام

ـ[أبو هريرة راوية الإسلام]ـ المؤلف: الدكتور محمد عجاج خطيب الناشر: مكتبة وهبة الطبعة: الثالثة، 1402 هـ - 1982 عدد الأجزاء: 1 أعده للشاملة ودقَّقه/ توفيق بن محمد القريشي، غفر الله له ولوالديه [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

الطبعة الثالثة: شعبان 1403 هـ - يونية سنة 1982 م

مقدمة الطبعة الثالثة:

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الثالثة: الحمد لله حمداً كثيراً يوافي نعمه، ويكافئ مزيده، حمداً كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، الذي بنعمته تتم الصالحات، وتعمُّ الخيرات، سبحانك ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمداً عبده ورسوله، خير من اصطفى من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد .. فهذه هي الطبعة الثالثة لكتاب «أبو هريرة .. راوية الإسلام» أقدِّمُها إلى أعزَّائي قراء العربية من العلماء والباحثين والطلاب والعاملين في رحاب العلم عامة، وميدان السُنَّة خاصة. وكنت قد أقدمت على الكتابة في الصحابي الجليل أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - إثر الحملة المغرضة التي أثارها حوله وحول مروياته بعض أهل الأهواء، وبعض المغرضين من أعداء الإسلام، الذين قلبوا الحق باطلاً والصدق كذباً، ولم أخض لجج هذا الخصم إلاَّ إنصافاً لهذا الصحابي، ودفاعاً عن السُنَّة، وانتصاراً للحق، وما أنْ ظهرت تلك الطبعة في القاهرة - حماها الله وسائر بلاد الإسلام - سنة 1383 هـ - 1963 م حتى تداول القُرَّاء الكتاب، وعمَّ انتشاره بين أهل العلم وطلابه، في مصر وخارجها من بلاد العرب والمسلمين، ونفدت تلك الطبعة بعد فترة قصيرة، ثم أعاد بعض الأفاضل طبعه ثانية في لبنان سدّاً لحاجة القراء، ولم أتمكَّن آنذاك من زيادة ما عندي على الطبعة الأولى، لكثرة واجباتي، ونفدت الطبعة الثانية، وكثر طلب الكتاب، فكان لزاماً على أنْ أسدَّ حاجة القراء بإعادة طبعه، بعد أنْ أضفت عليه

في بعض أبحاثه ما رأيته هاماً ومتمماً للفائدة. سائلاً الله - عَزَّ وَجَلَّ - أنْ يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه، وأنْ يُحقِّقَ الغاية المرجوة من هذا الكتاب، وينفع به، إنه خير مسؤول، وبالإجابة جدير، وهو ولي التوفيق والسداد. مدينة العين 13 ربيع الأول سنة 1402 هـ - 9 يناير 1982 م محمد عجاج الخطيب الحسني الدمشقي ***

مقدمة الطبعة الأولى:

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الأولى: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وأصحابه، الذين اتبعوه، فوفقوا أعظم التوفيق في حفظ الرسالة، وأداء الأمانة، ونشر الدعوة، التي خلصت العرب من قيود الوثنية، ومدَّتهم بقوة الإيمان، وحمَّلتهم مسؤولية هداية العالم، فما أنْ فتح العرب الأوائل عيونهم على نور الإسلام، وفهموا القرآن، وأبصروا طريق الحق بعد الضلال، وسعدوا بالمعرفة بعد الجهل - حتى انطلقوا يحملون لواء الحرية، ومشعل النور والعرفان، يضيئون للإنسانية سبيلا، ويوجِّهُون نحو المجد والعزة ركبها، وينقلون العالم إلى السعادة والخير، فكانوا بحق خير أمَّة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله. وبعد .. فإنه لم يرق لأعداء الإسلام أنْ يروا هذا الدين، قد صلب عوده، واستوى ساقه، وأثمرت أزهاره، وأينعت ثماره، مما حال بينهم وبين استغلال المسلمين، واستنزاف خيرات بلادهم، وقضى على مصالحهم الاستغلالية، ولم تعد تجدهم وسائل القوة لتحقيق مآربهم والوصول إلى غايتهم، فرأوا أنْ تدسُّوا السم في عقائد المسلمين، ليسلخوهم عنه، فعملوا على تغيير وجه الإسلام وتشويهه بمختلف طرق الدعاية الجذابة، وافتنُّوا في وسائل التبشير المغرية، فشكَّكوا بعض ضعاف القلوب - ممن يحسبون على الإسلام - في تعاليمه وأحكامه، وكان من الصعب عليهم أنْ يعبثوا بالقرآن الكريم الأصل التشريعي الأول، عليهم فحاولوا أنْ يطرقوا باب السُنَّة، فاتهموا كبار نقلتها، وأئمة حُفاظها، لإضعاف جانب عظيم من الحديث النبوي، قاصدين من وراء هذا تشكيك المسلمين

في السُنَّة الطاهرة، ليطرحوها - وهي المفسِّرة المُبيِّنة للقرآن الكريم - فتبعد الشقة بين المسلمين وفهم قرآنهم، ويبدو القرآن غريباً عنهم مع مر الزمن، وبهذا يتم لأعداء الإسلام ما يريدون. وقد شاعت هذه الأفكار في أبحاث بعض المستشرقين، وحملها عنهم بعض من ينسب إلى أهل العلم، وروجها أشياعهم من أهل الأهواء. ولكنا نعلم وجميع المنصفين يعلمون أنَّ السُنَّة انتقلت إلينا جيلاً بعد جيل، على أسلم طرق التثبت العلمي، فقد بذل العلماء قصارى جهودهم في سبيل الحفاظ على السُنَّة، فرحلوا في طلب الحديث، وتحمَّلوا مشاق السفر، وتركوا الأهل والأوطان، وحفظوا الأحاديث بأسانيدها، وذكروا طرق كل حديث، وبيَّنوا نقلته عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومازوا الضعيف من الصحيح، ونقدوا الرُواة، نقداً علمياً دقيقاً، ولم يقبلوا الحديث إلاَّ عن الثقات. وقد أجمعت الأمَّة على عدالة الصحابة، الذين سمعوا من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتخرَّجُوا في حلقاته، وبذلوا النفس والنفيس في سبيل الدعوة إلى الله، وإرساء قواعد الإسلام وحفظ الشريعة الحنيفة. وكان الصحابي الجليل أبو هريرة أحد كبار الصحابة الذين رَوَوْا عن الرسول الأمين - عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَلاَةِ وَأَتَمِّ التَسْلِيمِ - الكثير الطيب، وروى عنه كثير من التابعين، فكان أكثر صحابي روي عنه الحديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لذلك وجه إليه أعداء الإسلام، وبعض أهل الأهواء سهام طعونهم فأعلنوها عليه حرباً شعواء لا هوادة فيها، وتحاملوا عليه، واتهموه في بعض ما روى عنه، واستهزأوا ببعض مروياته، حتى أنَّ بعضهم جعله في مصاف الوضَّاعين والكذَّابين، وفي زُمرة أهل الجحيم. وقد هالني أنْ أجد راوية الإسلام تلوكه الألسن المغرضة، وتتناوله أقلام الباطل، فرأيت من واجبي كمسلم أولاً، وكمشتغل في السُنَّة وعلومها

ثانيا، أنْ أكشف عن الحقيقة مهما تكن نتائجها، غير منحاز ولا متحامل، قاصداً في هذا وجه الله العلي القدير، لأنصف راوية الإسلام أبا هريرة، وأضع الحق في نصابه، فأقدمت على هذا البحث، تحف به الصعاب من كل جانب، وتناولت أمهات المراجع: المخطوط منها والمطبوع، فإذا بصورة أبي هريرة تبدو واضحة صافية، لا شِيَةَ فيها، تشرق بماض مجيد، وبروح سامية وبنفس طيبة لتكوِّن شخصيته العلمية القوية، فيتجلَّى بطلان تلك الطعون التي وجهت إليه من خلال نظرات خاصة، أو أهواء متبعة، أو غايات هدامة، وتتضح مخالفتها للواقع التاريخي، وللحقيقة العلمية، لهذا رأيت أنْ أستكمل دراسة أبي هريرة بتفنيد تلك الشُبهات التي أثيرت حوله على ضوء دراستي إياه، ولما كان الطعن في أبي هريرة ذريعة للطعن في غيره من الصحابة الكرام - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - لتوهين السُنَّة ورفض العمل بها رأيت من الواجب أنْ أمَهِّدَ للبحث بما يقتضيه فكان الموضوع في تمهيد وبابين: التمهيد: تناولت فيه العرب ورسالة الإسلام، ثم تكلمت عن السُنَّة والمقصود بها لغة وشرعاً، ثم بيَّنتُ مكانة السُنَّة من القرآن الكريم، وتماسك الأمَّة بها والمحافظة عليها، والعمل بها، ثم بيَّنت منزلة الصحابة وعدالتهم. وبعد ذلك تكلمت عن حفظ السُنَّة وصيانتها وانتشارها، وأهم ما صُنِّفَ فيها. لأنَّ في هذا ما يرحض عن السُنَّة الطاهرة أدران أعدائها. الباب الأول: وفيه فصلان: الفصل الأول: تناولت فيه حياة أبي هريرة في مختلف مظاهرها، الخاصة والعامة. الفصل الثاني: حياة أبي هريرة العلمية، بيَّنْتُ فيه نشاط أبي هريرة العلمي، وطرق تحمُّلِهِ الحديث ونشره السُنَّة، ومنزلته العلمية، ورأي العلماء فيه.

الباب الثاني: عرضت فيه ما أثاره بعض أهل الأهواء، وبعض الكاتبين والمستشرقين من طُعُونٍ حوله، وناقشتها وبيَّنت وجه الحق فيها. وإني لأرجو الله أنْ أكون قد وفِّقْتُ بهذه الطريقة، لعرض الموضوع بشكل يحقق الغاية منه. وأخيراً لا بد لي من أنْ أتوجه بشكري العميق إلى أستاذي الجليل فضيلة الشيخ علي حسب الله، أستاذ الشريعة الإسلامية والدراسات العليا في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، فقد تفضَّلَ عليَّ بقراءته هذا البحث، قراءة دقيقة فأفدت من ملاحظاته، مِمَّا شجَّعني على التفكير في طبعه ونشره، دفاعاً عن السُنَّة الطاهرة، وعن رُواتها الأمناء؛ فجزاه الله خير الجزاء. وختاماً .. أرجو كل من يطلع على هذ الكتاب، فيجد فيه ما يحتاج إلى تعديل أو تبديل، أنْ يفيدني بما عنده .. والله الموفق إلى الصواب محمد عجاج الخطيب القاهرة: 10 رمضان سنة 1381 هـ - 15 فبراير سنة 1962 م. ***

تمهيد:

تمهيد: - العرب ورسالة الإسلام. - حول السُنَّة. - السُنَّة ومكانتها من القرآن الكريم. - عدالة الصحابة. - حفظ السُنَّة وانتشارها.

العرب ورسالة الإسلام:

العرب ورسالة الإسلام: منذ أربعة عشر قرناً، بينما كان يعيش العالم كله في ظلام فكري، وتأخر علمي، وظلم اجتماعي، أشرقت في أرض الجزيرة العربية شمس الهداية، وعلت في الأفق تطارد ذاك الظلام، تنير للعالم سبيله، وترسم له طريق التقدم والرقي والنجاح. تلك الشمس شمس النبوة التي حملها محمداً - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ بعثه الله - عَزَّ وَجَلَّ -. {بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (1) {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (2). وشرفه بالرسالة السامية الخالدة، إلى الناس كافة .. {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (3). وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (4)، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (5). [سبأ: 28] وأمره أنْ يبلِّغ أحكام الإسلام وتعاليمه فقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (6). ومن فضل الله على الأمَّة العربية أنْ بعث فيهم: {رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (7).

_ (1) [البقرة: 119]، [فاطر: 24]. (2) [الأحزاب: 46]. (3) [الأعراف: 158]. (4) [الأنبياء: 107]. (5) [سبأ: 28]. (6) [المائدة: 67]. (7) [الجمعة: 2].

فأمره أن يدعو أهله وعشيرته، فقال: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (1). وقال عزَّ من قائل: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (2). أمره أن يدعو قومه إلى سبيل الرشاد، ليحملوا عبء تبليغ الرسالة إلى الأمم الأخرى، فيكون لهم شرف المُبَلِّغ الهادي، ويخلد اسمهم أبد الدهر، كما أراد الله للرسول الكريم - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، وللأمَّة العربية التي تلقَّت الرسالة، وانطلقت تحرر العالم من الظلم والطغيان، وتوجه مركب الإنسانية إلى شاطئ السلام، وتخرجه من الظلمات إلى النور، سالكة سبيل الهداية والحق، حاملة لواء التحرير ... بعد أنْ تنكب الناس الصراط المستقيم، وتخبَّطُوا في غياهب الجهالة والضلال. إلاَّ أنَّ هداية العرب لم تكن سهلة، بل تحمل الرسول الكريم - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - في سبيلها المشاق الكثيرة، وأوذي في جسمه وماله، وأهله وأصحابه ووطنه، وكان يدعو ليلاً ونهاراً وسراً وإعلاناً، ويسأل الله السداد والرشاد، متطلِّعاً إلى هداية قومه ليحملوا الرسالة ويؤدُّوا الأمانة. لقد أوحى الله إلى الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقومه على دين آبائهم، وثنية وأصنام، يسودهم النظام القبلي، وتربط بينهم صلة القرابة والدم، لا يحكمهم نظام عام، بل يخضعون للعادات والأعراف، يدفعهم الشرف والمفاخرة بالأنساب إلى المنافسة في المكارم والمروءات، يعيشون في حلقة الأسرة والقبيلة، في إطار الجزيرة العربية. وكان لحياته تلك أثر بعيد في صفاء نفوسهم، ومحافظتهم على أمجادهم وعاداتهم، وتفانيهم في سبيل مثلهم الأعلى، حتى كانوا يسرفون في ذلك كله، فهم كرام يبذلون ما يستطيعون للضيف، فيبلغون في ذلك حد الإسراف.

_ (1) [الشعراء: 214، 215]. (2) [الشورى: 7].

ويأبون العار ولو أدى بأعزِّ ما لديهم إلى الردى، ولهذا وَأَدُوا بناتهم خشية الفقر والزلل. ويحبون الأمجاد والبطولات فتغنَّوا بها ولكنهم ضلوا الطريق، وحرموا العقيدة الموصلة إلى ذلك، ترى العفة والكرامة من أخلاقهم، والكرم والشجاعة من سجاياهم، والحمية والثأر تسير في عروقهم، رضعوا هذا مع لبنهم، وفطروا ونشأوا عليه، فهم لا ينامون على ضيم، ولا يرضون ذلاًَّ أو هواناً، وويل لمن غضب عليه العرب، إذ كانوا يثورون لأتفه الأسباب، يكفي أنْ يستفز القبيلة فرد أهينت كرامته، فتنطلق جميعها كباراً وصغاراً تدفع عنه ما أصابه، لأنَّ كرامة الفرد من كرامة القبيلة، وإلى هذا يمكننا أنْ نردَّ أكثر الغزوات والغارات التي كانت بين القبائل قبل الإسلام. وقد حفظت ذاكرتهم القوية أشعارهم وأنسابهم التي كانت بمثابة سجل تاريخي لهم، وكان كل ذلك من المؤهِّلات التي أعدَّتهم لحمل الرسالة الإسلامية فيما بعد. وإذا كان العرب قد عبدوا الأوثان آنذاك، فإنهم لم يعبدوها على أنها هي الخالقة المدبرة لأمور الكون وشؤونه، بل رأوا فيها التقرب إلى الله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (1) ولم تكن عقائدهم معقَّدة مركبة، كما كانت عليه عقائد سكان البلاد المجاورة من الفرس والهند والروم، بل كانوا أصفياء النفوس، ويمكننا أنْ نقول: إنَّ عندهم فراغاً عقدياً - إذا صح هذا التعبير - تستره تلك العبادات والمعتقدات الأولية، التي لم تقف على قدميها أمام عقيدة الإسلام المتماسكة الكاملة، ولهذا كان العرب يمتازون عن غيرهم من الأمم بتلك الصفات التي أهلتهم فيما بعد لأنْ يكونوا رجال الإسلام، وحملة لوائه إلى العالم. ومع هذا لم يكن من السهل أنْ يستجيب العرب جميعاً إلى دعوة الرسول الكريم بادئ ذي بدء، إذ كان من الصعب أنْ يتركوا دين

_ (1) [الزمر: 3].

آبائهم وأجدادهم، فإذا ما دعاهم إلى الله قال له أقرب الناس إليه: تبّاً لك!! إلهذا دعوتنا؟ وأوذي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سبيل دعوته كثيراً، وقاسى الصعاب، ولم يؤمن به إلاَّ نفر قليل: زوجه، وبعض ذويه، وقليل من أهله. وكان لا يفتر عن دعوتهم، ويسخرون منه فيزداد نشاطاً وحيوية وراء أمله، ويصوِّرُهم الله في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (1)، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (2). إلاَّ أنَّ الباطل لا يقوى أمام الحق، فسرعان ما يتقوَّض، ويظهر ضعفه، كما يتلاشى الظلام حين يكون وراءه النور الساطع. ومضى الرسول الكريم - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - في دعوته، وصبر الصبر الجميل مُضْطَهَداً حيناً، مستهزَءاً به أحياناً، ومع هذا كان يتمنَّى لقومه الهداية والرشاد، فيطيب اللهُ خاطره، ويُخفِّفُ عنه، مُبيِّناً أنَّ هدايتهم بيده - عَزَّ وَجَلَّ -، فيقول: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (3). ويصوِّرُ الله تعالى ضيقه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سبيل هداية قومه، فيقول: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (4). ويؤكِّدُ له أنه على حق، ولا بد من أنْ ينتصر، فيشحذ عزيمته بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (5).

_ (1) [البقرة: 170]. (2) [المائدة: 104]. (3) [القصص: 56]. (4) [الكهف: 6]. (5) [الزخرف: 43].

وهكذا بدأ الإسلام يستولي على القلوب في مكة رُويداً رُويداً، ثم انتشر بين بعض سكان يثرب (المدينة المنورة)، وازدياد إيذاء المشركين للمسلمين واضطروهم إلى هجر وطنهم فراراً بدينهم. وفتحت المدينة المنورة صدرها رحباً للمسلمين، وبدأت الدولة الإسلامية تنتظم أمورها برياسة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وانتشر خبر الإسلام في أطراف الجزيرة، ولم تمنع أضاليل المشركين العرب من الدخول في دين الله، دين العدالة والمساواة، عقيدة سهلة سامية، إيمان بالله، وطاعة لرسول الله، وعبادات تدخل السعادة والطمأنينة إلى النفوس، نظام يضبط الجماعة ويؤمِّنُ حقوق الأفراد ... كل هذا جعل القبائل العربية تتهافت إلى المدينة من كل حدب وصوب، يعلنون إسلامهم، وعمَّ الإسلام الجزيرة العربية بعد الفتح الأكبر، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وانقلبت مكة والمدينة بل الجزيرة العربية إلى موطن إسلامي متماسك تنبع منه أشعة الهداية لتنير العالم. وقد تم ذلك للرسول الكريم خلال اثنتين وعشرين سنة وبضعة أشهر. وهكذا خرج العرب باعتناقهم هذا الدين الحنيف من نطاق القبيلة الضيق المغلق إلى صعيد الإنسانية الواسع، ومن إطار الصحراء إلى العالم الشاسع، وانقلبت رابطة الدم والقرابة إلى الأخوَّة في الدين، وانتهى نظام القبيلة وحل مكانه نظام الدولة الإسلامية في مختلف مرافق الحياة، وانتقلت حميَّتُهُم للقبيلة إلى نصرة الحق، والأخذ بيد المظلوم وإنصافه، وأصبح اعتزازهم بالإسلام وبما يقدِّمُونه من تضحيات وخدمات في سبيل ذلك بدلاً من اعتزازهم بالأنساب، واتجه حبهم للأمجاد والبطولات صعداً إلى تحقيق ما يرضي الله ورسوله، وتحوَّلت شجاعتهم وجرأتهم المحصورة في النطاق القبلي إلى شجاعة وجرأة في سبيل نشر الدين الجديد، وتحوَّلَ كرمُهُم الذي بلغ حد السرف إلى إعانة الفقراء وإغاثة الملهوفين، وتزويد الجيوش للدفاع عن معتقداتهم وعن إخوانهم في الدين، وتحرير

الأمم من نير العبودية إلى الحرية وعبادة إله واحد ... فكان الإسلام شرفاً عظيماً لهم، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (1). والذكر هو الشرف العظيم، وكان العرب بحق كما قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (2). يتبيَّنُ لنا مما ذكرت أنَّ هؤلاء العرب الأشدَّاء، الذين فرضت عليهم الطبيعة الصحراوية حياة خاصة، قد انطوت نفوسهم على خصال طيِّبة، وصفات كريمة، وميول سامية، وراءها دوافع قوية، وحيوية فائقة، ولكنه كان ينقصهم العقيدة الصالحة، التي تُوجِّهُهُم في هذه الحياة، وتؤثر في جميع تصرُّفاتهم، كما كان ينقصهم النظام الحسن، فما أنْ وجدوهما في الإسلام دين الحنيفية السمحة، والفطرة الصافية، حتى كانوا خير حافظ لها، بعد أنْ آمنوا بها، وتجاوبوا معها، وأصبحوا أول داعٍ إليها، ومن ثم فتحوا قلوبهم للرسول الكريم - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، وأصغوا إليه، والتفُّوا حوله ينهلون من المعين الذي لا ينضب، ويتلقَّون تعاليم الإسلام من رائده، ليقوموا بدورهم في هداية الناس جميعاً، وهكذا تضافر العامل الفطري الذي تميَّز به العرب مع العامل المكتسب الجديد (الروحي)، فظهر الرعيل الأول الذي حمل مشعل النور والحق إلى العالم، وساهم في تحرير الإنسان من عبودية الظلم والجهل والفقر، وأخذ بيده إلى سبيل السداد والرشاد، ظهر ذلك الرعيل العظيم الذي نقل القرآن الكريم والسُنَّة الطاهرة بكل أمانة وإخلاص. بعد هذا نتكلم عن السُنَّة وتعريفها ومكانتها من القرآن الكريم، وعن الصحابة وعدالتهم بما يُمَهِّدُ لنا السبيل إلى البحث. ...

_ (1) [الزخرف: 44]. (2) [آل عمران: 110].

حول السنة:

حول السُنَّة: السُنَّة في اللغة هي السيرة حسنة كانت أو قبيحة، وكل من ابتدأ أمراً به قوم بعده هو الذي سَنَّهُ ... قال خالد بن عتبة الهذلي: فََلاَ تَجْزَعَنْ مِنْ سيرةٍ أَنتَ سِرْتَهَا ... فَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا (1). وفي الحديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُِ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» (2). وإذا أطلقت السُنَّة في الشرع فإنما يراد بها ما أمر به رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونهى عنه، وندب إليه قولاً وفعلاً، ولهذا يُقال في أدلة الشرع الكتاب والسُنَّة، أي القرآن والحديث، ويطلق علماء الحديث لفظ السُنَّة على كل ما يتَّصل بالرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من سيرة، وخُلُقٍ، وشمائل، وأخبار، وأقوال، وأفعال، سواء أثبت ذلك حكماً شرعياً أم لا. وأما علماء أصول الفقه فإنهم يطلقون لفظ السُنَّة على أقوال الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأفعاله، وتقريراته التي تثبت حُكماً شرعياً. وأما علماء الفقه فقد بحثوا عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الذي تدلُّ أفعاله على حكم شرعي، وهم يبحثون عن حكم الشرع في أفعال العباد وُجُوباً، أو حرمة، أو إباحة، أو غير ذلك. فالسُنَّة عندهم كل ما ثبت عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يكن من باب الفرض ولا الواجب.

_ (1) انظر " لسان العرب "، مادة (سنن). (2) أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه "، ص 705، وص 2059، جـ 4.

فأوسع الإطلاقات إطلاق المُحَدِّثِينَ، الذين يقصدون بالسُنَّة كل أثر عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صِفَةٍ خَلْقِيَّةٍ، أو سيرة سواء أكان ذلك قبل البعثة كتَحَنُّثِهِ في غار حراء، أو بعدها، وسواء أثبت ذلك حُكماً شرعياً أم لا. والسُنَّة بهذا المعنى مرادفة للحديث النبوي. أما القول فهو أحاديثه التي قالها في مختلف المناسبات، كقوله: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لاِمْرِئٍ مَا نَوَى ... »، وقوله: «مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ»، وقوله: «لاَ ضَرَر وَلاَ ضِرَارَ»، وقوله في البحر: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ». وأما الفعل فهو أفعاله التي نقلها إلينا الصحابة، مثل وضوئه، وأدائه الصلوات الخمس بهيئاتها وأركانها، وأدائه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مناسك الحج، وما إلى ذلك. وأما التقرير فكل ما أقرَّهُ الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مما صدر عن بعض أصحابه من أقوال وأفعال، بسكوت منه وعدم إنكار، أو بموافقته وإظهار استحسانه وتأييده، فيعتبر ما صدر عنهم بهذا الإقرار والموافقه عليه صادراً عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن ذلك ما أخرجه أبو داود والنسائي عن أبي سعيد الخُدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّهُ خَرَجَ رَجُلاَنِ فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ، فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا فَصَلَّيَا، ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الصَّلاَةَ وَالْوُضُوءَ وَلَمْ يُعِدِ الْآخَرُ، ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ: «أَصَبْتَ السُّنَّةَ». وَقَالَ للآخَرِ: «لَكَ الأَجْرُ مَرَّتَيْنِ». وقد تطلق السُنَّة في مقابلة البدعة، فيقال: «فُلاَنٌ عَلَى سُنَّةٍ» إذا عمل على وفق ما عمل عليه الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سواء أكان ذلك مِمَّا نَصَّ عليه الكتاب أم لم يكن. ويقال: «فلان على بِدْعَةٍ» إذا عمل على خلاف ذلك. والبدعة لغة هي الأمر المُسْتَحْدَثُ، ثم أطلقت في الشرع على كل ما أحدثه

الناس من قول وعمل في الدين وشعائره مِمَّا لم يؤثر عنه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعن أصحابه، وقد قال رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَحْدَثَ فِى أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» (1). وتطلق السُنَّة أحياناً عند المُحَدِّثِينَ وعلماء أصول الفقه على ما عمل به الصحابة، وجد ذلك في الكتاب أو السُنَّة أو لم يوجد. ويحتجُّ لذلك بقوله - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» (2). ومن أبرز ما ثبت في السُنَّة بهذا المعنى «سُنَّة الصحابة» حد الخمر، فقد كان تعزير الشارب في عهده - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير محدود، تارة يضربونه نحو أربعين جلدة، وتارة يبلغون ثمانين، وكذا في عهد أبي بكر، فلما كان آخر إمْرَةِ عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، ورأى الناس في سعة العيش، وكاد الشرب يشيع بينهم - استشار الصحابة في حدٍّ زاجرٍ، فقال عليٌّ: نرى أنْ تجلده ثمانين، لأنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هَذَى، وإذا هَذَى افترى، وعلى المُفترِي جلد ثمانين جلدة، وقال عبد الرحمن بن عوف: أرى أن تجعلها كأخفِّ الحدود يعني ثمانين، وأجمع الصحابة على هذا، فتحديد الثمانين هو السُنَّة التي عمل عليها الصحابة باجتهاد منهم، حسبما اقتضاه النظر المصلحي. ومن هذا تضمين الصناع، وجمع المصاحف في عهد أبي بكر برأي الفاروق، وحمل الناس على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة، وتدوين الدواوين .. وما أشبه ذلك مما اقتضاه النظر المصلحي الذي أقرَّهُ الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - وأجمعوا عليه (3).

_ (1) " صحيح مسلم ": ص 1343، جـ 3. (2) أخرجه أبو داود في حديث طويل عن العرباض بن سارية. انظر " سنن أبي داود "، ص 506، جـ 2. (3) انظر " الموافقات " للشاطبي، ص 4 - 6. وانظر التمهيد من كتابنا " السُنَّة قبل التدوين ".

وأعني بالسُنَّة ما أراده المُحَدِّثُونَ، وهي ما يرادف الحديث عند جمهورهم وإن كان بعضهم يفرِّقُ بين السُنَّة والحديث، فيرى الحديث ما ينقل عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والسُنَّة ما كان عليه العمل المأثور في الصدر الأول. والحديث القُدْسي هو كل حديث يضيف فيه رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قولاً إلى الله - عز وجل -، كحديث أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه - عز وجل - أنه قال: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا ... » (1). وحديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - قال: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً» (2). والأحاديث القدسية أكثر من مائة حديث، وقد جمعها بعضهم في جزء كبير (3). ونسبة الحديث إلى القدس (وهو الطهارة والتنزيه)، وإلى الإله أو الرب، لأنه صادر عن الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -، المتكلم به أولاً،

_ (1) الحديث الرابع والعشرون من " الأربعين النووية "، وقد أخرجه الإمام مسلم. انظر " صحيح مسلم "، ص 1995، جـ 4. (2) رواه البخاري ومسلم. انظر " صحيح مسلم " ص 118، جـ 1. وانظر " الأربعين النووية "، الحديث (37). (3) جمع الشيخ محيى الدين محمد بن علي العربي الطائي، المتوفى سنة (638 هـ)، في كتابه " مشكاة الأنوار " (101) حديث عن الله - عَزَّ وَجَلَّ -. كما جمع العلاَّمة علي بن سلطان الهروي القاري، المتوفى سنة (1016 هـ) أربعين حديثاً قدسياً في كتابه " الأحاديث القدسية الأربعينية ". وطبع الشيخ محمد راغب الطباخ الحلبي هذين الكتابين في مجلد واحد، سنة (1343 هـ - 1927 م).

وأما كونه حديثاً، فلأنَّ الرسول هو المُخْبِرُ به عن الله - عَزَّ وَجَلَّ -، والحاكي له بلفظه - صلى الله عليه وسلم - ولغته. بعد هذا أرى من الواجب أنْ أُبيِّنَ مكانة السُنَّة من القرآن الكريم، لتظهر لنا أهميتها بالنسبة للشريعة الإسلامية ومصادرها التشريعية. ***

السنة ومكانتها من القرآن الكريم:

السُنَّة ومكانتها من القرآن الكريم: لم يكن للأحكام في عهد الرسول الكريم - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - مصدر سوى الكتاب والسُنَّة. ففي كتاب الله تعالى الأصول العامة للأحكام الشرعية، دون التعرض إلى تفصيلها جميعها، والتفريع عليها، إلاَّ ما كان منها متفقاً مع الأصول العامة ثابتاً بثبوتها، لا يتغيَّر بمرور الزمن، ولا يتطور باختلاف الناس في بيئاتهم وأعرافهم، كل هذا حتى يٌحقِّق القرآن الكريم النهضة الإنساية الشاملة، والرقيَّ الاجتماعي والفكري، وينشر العدالة والسعادة، في كل زمن، ويبقى صالحاً لكل أمَّة مهما كانت بيئتها وأعرافها، فتجد فيه ما يكفل حاجتها التشريعية في سبيل النهوض والتقدم، وإلى جانب هذه الأصول في القرآن الكريم نجد العقائد والعبادات وقصص الأمم الغابرة، والآداب العامة والأخلاق .. وقد جاءت السُنَّة في الجملة موافقة للقرآن الكريم، تُفَسِّرُ مُبْهَمَهُ، وتُفَصِّلُ مُجْمَلَهُ، وتُقَيِّدُ عامَّهُ، وتشرح أحكامه وأهدافه، كما جاءت بأحكام لم ينص عليها القرآن الكريم، تتمشى مع قواعده، وتحقِّق أهدافه وغاياته، فكانت السُنَّة تطبيقاً عملياً لم جاء به القرآن العظيم، تطبيقاً يتَّخذ مظاهر مختلفة، فحيناً يكون عملاً صادراً عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحيناً آخر يكون قولاً يقوله في مناسبة، وحيناً ثالثاً يكون تصرُّفاً أو قولاً من أصحابه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيرى العمل أو يسمع القول ثم يُقِرُّ هذا وذاك، فلا يعترض عليه ولا ينكره، بل يسكت عنه أو يستحسنه فيكون منه تقريراً. وهكذا كان رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبيِّنُ ما جاء في القرآن الكريم، والصحابة يقبلون ذلك منه، لأنهم مأمورون باتِّباعه وطاعته، ولم يخطر ببال امرئ منهم أنْ يترك قول رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو فعله، وقد عرفوا ذلك من كتاب الله تعالى، ففيه: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ

فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (1) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} (2)، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (3) {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (4) {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (5). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (6). فأوكل الله - عَزَّ وَجَلَّ - بيان أحكام القرآن الكريم إلى رسوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وغير ذلك من الآيات الكريمة. وقال - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» (7)، وقال: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» (8)، وقد أجمعت الأمَّة على العمل بسُنَّة الرسول الكريم. فتقبَّل المسلمون السُنَّة من الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما تقبَّلوا القرآن الكريم، استجابة لله - عَزَّ وَجَلَّ - وللرسول الأمين، لأنها المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم بشهادة الله - عَزَّ وَجَلَّ - ورسوله، وإذا اعتبرنا السُنَّة المصدر الثاني، إنما نعتبرها من حيث إنها مفسرة لكتاب الله، مُفَصِّلَةٌ مُجْمَلَهُ، مُبَيِّنةٌ أحكامه ومقاصده، مُفَرَّعة على أصوله وقواعده، لهذا كان الكتاب هو المصدر الأول والسُنَّة هي المصدر الثاني، ومع هذا فإنَّ ما استقلَّت به السُنَّة من أحكام لم ينص عليها القرآن الكريم، وليست بياناً له، ولا تطبيقاً مؤكداً لما جاء في كتاب الله - لا تقل في المنزلة عن

_ (1) [الفتح: 10]. (2) [المائدة: 92]. (3) [النساء: 80]. (4) [الحشر: 7]. (5) [النساء: 65]. (6) [النحل: 44]. (7) أخرجه أبو داود في " سُننه ". (8) " سُنن أبي داود ": ص 506، جـ 2.

الأحكام التي نص عليها الله - عَزَّ وَجَلَّ - في القرآن الكريم، ذلك لأنَّ ما يسُنُّهُ الرسول - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - لا يكون إلاَّ حقاً، والله - عَزَّ وَجَلَّ - لا يقر الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على اجتهاد خطأ، بل ينزل الوحي ويُصَحِّحُ له اجتهاده، فكل حكم ثبت من طريق السُنَّة وجب اتِّباعه، لأنه حكم الله لعباده على لسان رسوله. وقد ثبتت عدة أحكام بالسُنَّة من غير أنْ ينُصَّ عليها الكتاب الكريم، كتحريم أكل الحُمُر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، وتحريم نكاح المرأة على عمَّتها أو خالتها (1). ولم يفكر مسلم في ترك بعضها لأنها لم تذكر في الكتاب، بل استجاب لذلك جميع المسلمين مُطبِّقين أمر الله - عَزَّ وَجَلَّ - في اتِّباع سُنَّة محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الذي نزل فيه قول الله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (2). قال ابن قيم الجوزية: «وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (3). فأمر الله بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلاماً بأنَّ طاعة الرسول تجب استقلالاً من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقاً، سواء أكان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتاب ومثله معه، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالاً، بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول، إيذاناً بأنهم إنما يطاعون تبعاً لطاعة الرسول. فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته، ومن أمر بخلاف ما جاء به الرول فلا سمع له ولا طاعة» (4).

_ (1) انظر " الرسالة " للإمام الشافعي: ص 92 وما بعدها، و " أعلام الموقعين ": ص 288 - 290 جـ 2. و " أصول التشريع الإسلامي ": ص 42 وما بعدها. وانظر (موضوع السُنَّة ومكانتها من القرآن الكريم) من كتابنا " السُنَّة قبل التدوين ". (2) [النجم: 3، 4]. (3) [النساء: 59]. (4) " أعلام الموقعين "، ص 48، جـ 1.

فالقرآن والسُنَّة مصدران تشريعيان متلازمان. لا يمكن لمسلم أنْ يفهم الشريعة إلاَّ إذا رجع إليهما معاً، ولا غنى لمجتهد أو عالم عن أحدهما، ولا يجرؤ أنْ يدعى هذا أحد. فقد فرض الله تعالى الصلاة على المؤمنين، من غير أنْ يُبَيِّنَ أوقاتها وأركانها وعدد ركعاتها. فبَيَّنَ الرسول الكريم هذا بصلاته، وتعليمه المسلمين كيفية الصلاة، وقال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» (1)، وفرض الله - عَزَّ وَجَلَّ - الحج من غير أنْ يُبَيِّنَ مناسكه، وقد بَيَّنَ الرسول الأمين كيفيته، وقال: «خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ» (2). وقد فرض الله تعالى الزكاة من غير أنْ يبين ما تجب فيه من أموال وعروض وزروع، كما لم يبين النصاب الذي تجب فيه الزكاة من كل، وأوكل بيانه للرسول الكريم الذي أوضحه وفَصَّلَهُ بسُنَّته، وغير ذلك من الأحكام التي بَيَّنَتْهَا السُنَّةُ. لهذا كله رأينا الصحابة يلتفُّون حول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشاهدون بعيونهم، ويسمعون بآذانهم وتَعِي قلوبهم، ويتمسَّكون بسُنَّتِهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يفرِّقُون بين ما جاء في القرآن وما جاء في السُنَّة، وقد امتثل الصحابة لأوامر الله - عَزَّ وَجَلَّ - ورسوله، ونفَّذُوها مخلصين، وحَمَوْا الشريعة بالمال والدماء، في حياته - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبعد وفاته. وحافظوا على الكتاب الكريم والسُنَّةِ الشريفة وأَبَوْا أنْ يكونوا ذك الرجل الذي ينطبق عليه قوله - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -: «يُوشِكُ الرَجُلُ مُتَّكِئًا عَلى أرِيكَتِهِ، يُحَدِّثُ بَحَدِيث مِنْ حَدِيثي فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلاَل اسْتَحْلَلْنَاهُ، ومَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلاَ وإنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ مِثْلُ مَا حَرَّم اللهُ» (3) بل وقفوا من

_ (1) أخرجه البخاري في حديث طويل. انظر " صحيح البخاري بحاشية السندي ": ص 125 - 126، جـ 1. و ص 52، جـ 4. (2) " صحيح مسلم ": ص 943، جـ 2. وانظر " جامع بيان العلم وفضله ": ص 190 جـ 2. (3) " سنن ابن ماجه ": ص 6، جـ 1. و " سُنن البيهقي ": ص 6، جـ 1. وراهُ المقدام بن معدي كرب.

السُنَّة موقفاً عظيماً، وردُّوا على كل من فهم ذاك الفهم. روى أبو نضرة عن عمران بن حُصين: «أنَّ رجلاً أتاه فسأله عن شيء، فحدَّثه، فقال الرجل: حدِّثُوا عن كتاب الله عز وجل، ولا تحدِّثُوا عن غيره، فقال: إِنَّكَ امْرُؤٌ أَحْمَقُ!! أَتَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، لاَ يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ»، وعَدَّ الصلوات، وعَدَّ الزكاة ونحوها، ثُمَّ قَالَ: «أَتَجِدُ هَذَا مُفَسَّرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ كِتَابُ اللَّهِ أَحْكَمَ ذَلِكَ، وَالسُّنَّةَ تُفَسِّرُ ذَلِكَ» (1). ونهج التابعون وأتباعهم والمسلمون من بعدهم سبيل الصحابة في المحافظة على السُنَّة والعمل بها وإجلالها، قال رجل للتابعي الجليل مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ: لاَ تُحَدِّثُونَا إِلاَّ بِالْقُرْآنِ، فَقَالَ مُطَرِّفٌ: «وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ بِالْقُرْآنِ بَدَلاً، وَلَكِنْ نُرِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِالْقُرْآنِ مِنَّا» (2). وأخبار اقتداء الصحابة بالرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمحافظة على سُنَّته تفوق الحصر، وسأورد بعضها على سبيل الذكرى. أتت فاطمة بنت رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر تطلب سهم رسول الله - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - فقال لها: «إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، إِذَا أَطْعَمَ نَبِيًّا طُعْمَةً، ثُمَّ قَبَضَهُ جَعَلَهُ لِلَّذِي يَقُومُ بَعْدَهُ "، فَرَأَيْتُ أَنْ أَرُدُّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ». فَقَالَتْ: فَأَنْتَ وَمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ (3). وقال في رواية: «لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ بِهِ إِلاَّ عَمِلْتُ بِهِ، فَإِنِّي أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ» (4). وفي وقعة اليرموك كتب القادة إلى عمر بن الخطاب: «إِنَّهُ قَدْ جَاشَ إِلَيْنَا الْمَوْتُ» يستمدونه فكان فيما أجابهم: «إِنِّي أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ هُوَ أَعَزُّ

_ (1) " كتاب العلم " للمقدسي، مخطوطة الظاهرية: ص 51. و " جامع بيان العلم وفضله ": ص 191، جـ 2. (2) " جامع بيان العلم وفضله ": ص 191، جـ 2. (3) " مسند الإمام أحمد ": ص 160، جـ 1، بإسناد صحيح. (4) " مسند الإمام أحمد ": ص 167، جـ 1، بإسناد صحيح.

نَصْرًا، وَأَحْضَرُ جُنْدًا، اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَاسْتَنْصَرُوهُ , فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نُصِرَ يَوْمِ بَدْرٍ فِي أَقَلَّ مِنْ عِدَّتِكُمْ، فَإِذَا أَتَاكُمْ كِتَابِي هَذَا فَقَاتَلُوهُمْ وَلا تُرَاجِعُونِي» (1). ويرى عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - الناس قد أقبلوا على طيِّبات الدنيا مما أحلَّ لهم الله تعالى، فيُذَكِّرهم برسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقول: «لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَظَلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوِي، مَا يَجِدُ دَقَلا يَمْلأُ بِهِ بَطْنَهُ» (2). وقال سعيد بن المسيب: رَأَيْتُ عُثْمَانَ قَاعِدًا فِي الْمَقَاعِدِ «فَدَعَا بِطَعَامٍ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ، فَأَكَلَهُ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاةِ فَصَلَّى»، ثُمَّ قَالَ عُثْمَانُ: «قَعَدْتُ مَقْعَدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلْتُ طَعَامَ رَسُولِ اللَّهِ وَصَلَّيْتُ صَلاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» (3). وروى الإمام أحمد أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، شَرِبَ قَائِمًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّاسُ كَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوهُ، فَقَالَ: «مَا تَنْظُرُونَ؟ إِنْ أَشْرَبْ قَائِمًا، فَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَبُ قَائِمًا، وَإِنْ أَشْرَبْ قَاعِدًا، فَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَبُ قَاعِدًا» (4). وقد اشتهر عبد الله بن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - بمحافظته الشديدة على سُنن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان الرسول أسوته في كل شيء، في صلاته وحَجِّهِ وصيامه، وفي جميع أحواله (5)، وكثيراً ما كان يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (6).

_ (1) " مسند الإمام أحمد ": ص 304، جـ 1. بإسناد صحيح. (2) " مسند الإمام أحمد ": ص 224 و 307، جـ 1. بإسناد صحيح. والدقل: هو رديء التمر ويابسه. (3) " مسند الإمام أحمد ": ص 378، جـ 1. بإسناد صحيح. والمقاعد: مكان في المسجد كانوا يتوضأون عنده. (1) " مسند الإمام أحمد ": ص 130، جـ 2. و ص 179، جـ 2 منه أيضاً. (5) انظر ما رويناه عنه في كتابنا " السُنَّة قبل التدوين " في الباب الثاني، الفصل الأول: اقتداء الصحابة والتابعين بالرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (6) [الأحزاب: 21].

قيل لعبد الله بن عمر: لا نَجِدُ صَلاةَ السَّفَرِ فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: « ... إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ إِلَيْنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلا نَعْلَمُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ» (1) وفي رواية قال: «وَكُنَّا ضُلاَّلاً فَهَدَانَا اللَّهُ بِهِ، فَبِهِ نَقْتَدِي» (2). والأخبار عن الصحابة والتابعين وأهل العلم من بعدهم كثيرة جداً. نختتمها بهذا الخبر، فقد روى ابن ماجه أنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ الأَنْصَارِيَّ، النَّقِيبَ، صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَزَا مَعَ مُعَاوِيَةَ أَرْضَ الرُّومِ، فَنَظَرَ إِلَى النَّاسِ وَهُمْ يَتَبَايَعُونَ كِسَرَ الذَّهَبِ بِالدَّنَانِيرِ، وَكِسَرَ الْفِضَّةِ بِالدَّرَاهِمِ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَأْكُلُونَ الرِّبَا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لا تَبْتَاعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، إِلَّا مِثْلاً بِمِثْلٍ، لاَ زِيَادَةَ بَيْنَهُمَا وَلا نَظِرَةً»، فَقَالَ: لَهُ مُعَاوِيَةُ: «يَا أَبَا الْوَلِيدِ، لا أَرَى الرِّبَا فِي هَذَا، إِلا مَا كَانَ مِنْ نَظِرَةٍ»، فَقَالَ عُبَادَةُ: «أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُحَدِّثُنِي عَنْ رَأْيِكَ لَئِنْ أَخْرَجَنِي اللَّهُ لا أُسَاكِنُكَ بِأَرْضٍ لَكَ عَلَيَّ فِيهَا إِمْرَةٌ»، فَلَمَّا قَفَلَ لَحِقَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «مَا أَقْدَمَكَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، وَمَا قَالَ مِنْ مُسَاكَنَتِهِ، فَقَالَ: «ارْجِعْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ إِلَى أَرْضِكَ، فَقَبَحَ اللَّهُ أَرْضًا لَسْتَ فِيهَا وَأَمْثَالُكَ»، وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ: لا إِمْرَةَ لَكَ عَلَيْهِ، وَاحْمِلِ النَّاسَ عَلَى مَا قَالَ، فَإِنَّهُ هُوَ الأَمْرُ» (3). وأولئك صحابة رسول الله الذين لم يرضوا ترك سُنَّةً كان عليها رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يقبلوا مع السُنَّة رأي أحد مهما كان شأنه، ومهما عَلَتْ مكانته، أولئك الذين حفظوا الحديث النبوي، ووجَّهُوا

_ (1 و 2) " مسند الإمام أحمد ": ص 68، و ص 77 جـ 8. (3) " سُنن ابن ماجه ": ص 7 جـ 1. كِسَرَ الذَّهَبِ: جمع كسرة، وهي كالقطعة لفظاً ومعنى. نَظِرَةٌ: انتظار، أي أجل.

الأُمَّة إلى السبيل القويم، وحملوا الأمراء على تطبيق أحكام الشريعة، وأبَوْا أنْ يُماروا في دين الله، صادعين بالحق، لا يخافون فيه لومة لائم. وقد كان لهم الفضل الكبير، والشرف العظيم في حمل أحكام الشريعة وحفظها وتبليغها إلى من بعدهم. ***

عدالة الصحابة:

عدالة الصحابة: ولمنزلة الصحابة الكريمة، وأمانتهم وإخلاصهم، وحرصهم على الدين وأحكامه، ودفاعهم عنه، أجمع أهل السُنَّة على عدالتهم وتوثيقهم جميعاً إلاَّ من ظهر منه ما يُجَرِّحُ عدالته مِمَّنْ لم يستقيموا بعد وفاة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهم لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة (1)، فلا يجوز لأحد أنْ يتعدَّاهُم خشية أنْ يخالف الكتاب والسُنَّة اللذين نصَّا على عدالتهم جميعاً. قال ابن حزم: «نقول بفضل المهاجرين الأولين بعد عمر بن الخطاب ... ثم بعد هؤلاء أهل العقبة - الأنصار الذين بايعوه بيعة العقبة - ثم أهل بَدْرٍ ثم أهل المشاهد مشهداً مشهداً، وأهل كل مشهد أفضل من المشهد الذي بعده حتى يبلغ الأمر إلى الحُديبية، فكل من تقدَّم ذكره من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم إلى تمام بيعة الرضوان فإنا نقطع على غيب قلوبهم أنم كلهم مؤمنون صالحون، ماتوا كلهم على الإيمان والهُدَى والبر، كلهم من أهل الجنة، لا يلج أحد منهم النار» (2). وقال شارح " مسلَّم الثبوت: «إنَّ عدالة الصحابة مقطوعة لا سيما أصحاب البدر، وبيعة الرضوان كيف لا وقد أثنى الله تعالى عليهم في مواضع عديدة من كتابه، وبَيَّنَ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضائلهم غير مَرَّةٍ» (3). وقد ورد في الصحابة ما يوجب لهم العدالة، ويجعلهم في ذروة الثقة والائتمان، فقد زكَّاهُمْ الله تعالى ورسوله، وتقبَّلت الأُُمَّةُ ذلك بالإجماع من هذا قوله - عَزَّ وَجَلَّ -:

_ (1) انظر " الروض الباسم ": ص 128 - 130، جـ 1. حيث ذكر بعض من جَرَّحَ الصحابة وبَيَّنَ وجه الحق في عدالتهم. وراجع " العواصم من القواصم " لابن العربي، فإنه تناول أحوال الصحابة وفَنَّدَ بعض الأقوال والطُعُونِ، ووَضَّحَ ما قيل فيهم، وأثبت براءتهم. وانظر " العلم الشامخ ": ص 306 وما بعدها. (2) " ابن حزم، حياته وعصره وآراؤه الفقهية " لأبي زهرة: ص 259. (3) " شرح مسلَّم الثبوت ": ص 401 جـ 2.

{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (1). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2). وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (3). وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} (4). تلك آيات كريمة تشهد بفضل ومكانة جميع الصحابة، وهناك آيات أخرى تذكر فضلهم في كثير من المواقف، في الهجرة والجهاد والبذل والغزوات، وإنَّ هذه وتلك أدلة قطعية تنصُّ على عدالتهم، لقد رضي الله عنهم، ورضوا عنه، فهل بعد ذلك نطلب رضاء الناس عنهم وتعديلهم إياهم؟. وأدلة عدالة الصحابة من السُنَّة كثيرة تشهد بفضلهم جُملة وآحاداً، وقد أفردَتْ كثير من كُتُب السُنَّة أيواباً خاصة في فضل الصحابة. ومن ذلك ما رواه أبو سعيد الخُدري قال: قال رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ» (5).

_ (1) [الفتح: 29]. (2) [التوبة: 100]. (3) [الأنفال: 74]. (4) [الفتح: 18]. (5) " صحيح مسلم ": ص 1968، جـ 4.

ومنها ما رواه عبد الله بن مغفل وأخرجه الترمذي وابن حبان في " صحيحه ": قال: قال رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ». وغير ذلك من الأحاديث التي تدل على أفضليتهم كقوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ» وهو حديث صحيح. وفي رواية: «خَيْرُ النَاسِ». فبعد تعديل الله تعالى ورسوله للصحابة، وإجماع الأمة على عدالتهم لا يحتاج أحد منهم إلى تعديل أحد، على أنه لو لم يرد من الله تعالى ورسوله الكريم - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - شيء في تعديلهم لوجب تعديلهم لما كانوا عليه من دعم الدين والدفاع عنه، ومناصرتهم للرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والهجرة إليه، والجهاد بين يديه، والبذل السخي من الأموال والأرواح في سبيل الله والمحافظة على الدين، والتشدُّد في امتثال أوامر الله تعالى ورسوله، واندفاعهمه العظيم بصدق وإخلاص وتضحية وجْرأة في سبيل ذلك، فنراهم يوم بدر يقتحمون الموت، ويتسابقون لتنفيذ أوامر القائد العظيم محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من هذا قول سعد بن عُبادة الأنصاري: «يَا رَسُولَ اللهِ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لأَخَضْنَاهَا (1) وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ (2) لَفَعَلْنَا» (3) فقد بذلوا نفوسهم للذَوْدِ عن حياض الإسلام، وفدوا الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأرواحهم، فإذا ما نزل بهم الخطب في غزوة أُحُدْ رأيناهم يتسابقون للدفاع عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هذا أبو دجانة يجعل ظهره ترساً لرسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أثخنته الجراح، وإلى جانبه

_ (1) أي لو أمرتنا أنْ نخُوض البحر ونعبره بخيولنا لفعلنا. (2) بِرْكُ الغِمَادِ: موضع وراء مكة بخمس ليال بناحية الساحل. انظر هامش " صحيح مسلم ": ص 1404، جـ 3. (3) " صحيح مسلم ": ص 1403، حديث 83، جـ 3. (كتاب الجهاد) (غزوة بدر).

عليٌّ يذُبُّ بسيفه، وسعد بن أبي وقاص يرمي بقوسه حتى كتب لهم النصر ... فكانوا الأبطال الشُجعان في ساحات الوغى، والإخوان الأتقياء الرحماء في ميادين الحياة، وصدق فيهم قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} (1). أولئكم صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الذين عَلَتْ نفوسهم، وصَفَتْ قلوبهم، وسمت مُثُلُهُمْ، بعد أنْ ذاقوا حلاوة الإيمان، فحافظوا على الشريعة بكل ما أوتوا من قوة، سراً وعلانية حتى إنا نرى بعض من أخطأ منهم كان يقدم نفسه للرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لينال جزاءه في الدنيا قبل الآخرة، من ذلك ما رواه الإمام مسلم بسنده عن بُرَيْدَةَ قال: «جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، طَهِّرْنِي، فَقَالَ: «وَيْحَكَ (2)! ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ»، قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، طَهِّرْنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَتَى إِذَا كَانَتْ الرَّابِعَةُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِيمَ أُطَهِّرُكَ؟» فَقَالَ: مِنَ الزِّنَى، فَسَأَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبِهِ جُنُونٌ؟» فَأُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، فَقَالَ: «أَشَرِبَ خَمْرًا؟» فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْ رٍ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَزَنَيْتَ؟» فَقَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ ... ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ جُلُوسٌ، فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ». قَالَ: فَقَالُوا: غَفَرَ اللهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

_ (1) [الفتح: 29]. (2) ويح: كلمة ترحُّمٍ وتوجُّعٍ، تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها. (3) فاستنكهه، أي شم رائحة فمه، من النكهة، وهي رائحة الفم.

«لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ» (1). تلك هي القلوب المؤمنة والنفوس الطيبة الطاهرة، التي تحرص على حفظ الشريعة وتطبيقها، مهما تكن نتيجة ذلك. هؤلاء هم صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الذين حفظ لهم التاريخ مآثر خالدة أبد الدهر، وإنَّ رجالاً أوتوا من العزيمة والقوة والتضحية، والورع والتقوى - ما عرفنا - جديرون بكل احترام وحب وتقدير. بل إنَّ حُبَّهُمْ واحترامهم واجب على كل مسلم لما جاء فيهم من آيات كريمة وأحاديث شريفة، - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ -. قال عبد الله بن مسعود: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَأَسِّيًا فَلْيَتَأَسَّ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، وَأَقْوَمَهَا هَدْيًا وَأَحْسَنَهَا حَالاً، قَوْمًا اخْتَارَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ» (2). وقال التابعي الجليل إبراهيم بن يزيد النَخَعي: «لو أنَّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يمسحوا إلاَّ على ظفر ما غسلته التماس الفضل، وحسبنا من إزراء على قوم أنْ نسأل عن فقههم ونخالفهم» (3) وقد أجمع السلف والخلف من الأمة الإسلامية على فضل وإخلاص وأمانة الصحابة وعدالتهم، وأختتم الكلام في عدالة الصحابة جميعاً بقول الحافظ أبي زُرعة الرازي: «إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَنْتَقِصُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ فَاعْلَمْ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ , وَذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ حَقٌّ , وَالْقُرْآنَ حَقٌّ , وَمَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ، وَإِنَّمَا أَدَّى ذَلِكَ كُلَّهُ إِلَيْنَا الصَحَابَةُ، وَهَؤُلاَءِ الزَنَادِقَةُ يُرِيدُونَ أَنْ يُجَرِّحُوا شُهُودَنَا لِيُبْطِلُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ , وَالْجَرْحُ بِهِمْ أَوْلَى» (3).

_ (1) " صحيح مسلم ": ص 1321، حديث 22، جـ 3. (2) " الموافقات ": ص 78 - 79، جـ 4. (3) انظر ترجمة إبراهيم النخعي في كتاب " السُنَّة قبل التدوين ". (4) " الكفاية ": ص 49. وللاستزادة راجع (عدالة الصحابة) في كتابنا " السُنَّة قبل التدوين ". حديث بسطنا القول، وردَدْنَا على من ادَّعَى غير ذلك.

حفظ السنة وانتشارها:

حفظ السُنَّةِ وانتشارها: لقد نزل القرآن الكريم مُنَجَّماً على محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلال ثلاثة وعشرين عاماً، والرسول الأمين يُبَلِّغُ قومه ومن حوله، يُبَيِّنُ أحكام القرآن، ويوضِّحُ آياته، ويفصل تعاليم الإسلام، ويطبِّقُ نظامه، فكان مُعلِّماً وحاكماً وقاضياً ومُفتياً وقائداً طيلة حياته - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، كان المرجع الأول والأخير في جميع أمور الأُمَّة وأحوالها، فكل ما يتعلَّقُ بالأمَّة الإسلامية في جميع شؤونها، دقيقها وعظيمها، وكل ما يتناول الفرد والجماعة في مختلف نواحي حياتهم، مِمَّا لم يرد في القرآن الكريم فهو من السُنَّة، العمليَّة أو القوليَّة أو التقريرية، ومن ثَمَّ نجد بين أيدينا أحكاماً وآداباً وعبادات وقُرُبات شرعت وطبقت خلال ربع قرن، فلم توضع السُنَّة دُفعة واحدة - كما يتصوَّرُ بعضهم - كمجموعة من الشرائع الوضعية، أو الأحكام الخلقية، التي يمليها بعض الحكماء والوُعَّاظ، وإنما شرعت لتربية الأمَّة دينياً واجتماعياً وخُلُقياً وسياسياً في السلم والحرب، في الرجاء والشِدَّةِ، وتتناول النواحي العلميَّة والعمليَّة، فلم يكن من السهل أنْ ينقلب الناس آنذاك فجأة، ويتحوَّلوا بين عشيَّة وضُحاها عن تعاليمهم القديمة، وديانتهم وعاداتهم وتقاليدهم إلى الإسلام في نُظُمِهِ وعقائده وتعاليمه وعباداته. لقد تدرَّج القرآن الكريم في انتزاع العقائد الفاسدة والعادات الضارة المستحكمة، ومحاربة المنكرات التي كان عليها الناس في الجاهلية، وثبت بالتدريج أيضاً العقائد الصحيحة، والعبادات والأحكام، ودعا إلى الآداب السامية، والأخلاق الفاضلة الحميدة، وشجَّع الذين التفُّوا حول الرسول الكريم يُبيِّنُ القرآن ويُفتي الناس، ويفصل بين الخُصُوم، ويُقيم الحدود، ويُطبِّقُ تعاليم القرآن، وكل ذلك سُنَّةٌ. وكان الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد اتَّخذ دار الأرقم مقرًّا له ولأصحابه حين كانت الدعون سِرِّيَةً، وفيها تلقَّى المسلمون تعاليم الإسلام الأولى، وحفظوا ما تنزَّل من القرآن، ثم ما لبث أنْ أصبح منزل الرسول

- صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مكة معهد المسلمين الذي يتلقَّون فيه القرآن الكريم، وينهلون من معين السُنَّة على يَدَيْ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكان الصحابة يستظهرون آيات القرآن، ويتدارسونها فيما بينهم، ليثبتوا ما سمعوا من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد يتذاكرون تفسير ما تَلَقَّوْهُ، وما تفسيره إلاَّ شرح رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو الحديث. فحفظ الحديث النبوي كان مُتمشِّياً جنباً إلى جنب مع حفظ القرآن الكريم من الأيام الأولى لظهور الإسلام. ثم أصبح المسجد فيما بعد المكان المعهود للعمل والفتوى والقضاء إلى جانب العبادة وإقامة الشعائر الدينية، وعرض الأمور العامة على المسلمين، واستنفار الجيوش، واستقبال الوفود. ومع هذا لم يقتصر تبليغ الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على مكان محدود ولا على مناسبة معيّنة، فقد كان يُسْتَفْتَى في الطريق فيُفتِي، ويسئل في المناسبات فيجيب، يُبَلِّغُ الأحكام في كل فرصة تسنح له، وفي كل مكان يتَّسع لذلك. وإلى جانب هذا كانت له مجالس علميَّة كثيرة، يتخوَّلُ فيها أصحابه بالموعظة، فإذا جلس جلس إليه أصحابه حلقاً حلقاً (1) وعن أنس بن مالك - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قال: « ... إِنَّمَا كَانُوا إِذَا صَلَّوُا الْغَدَاةَ قَعَدُوا حِلَقًا حِلَقًا يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَعَلَّمُونَ الْفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ» (2). ولم يكن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضنيناً بالعلم على أصحابه، بل كان يكثر مجالستهم، يعلِّمُهُم ويزكيهم. وكان الرسول الكريم مثالاً رائعاً في تربية الأُمَّة، يخاطب الناس بما يُدركونه، فيُفْهِمُ البدويَّ الجافي بما يناسب جفاءه وقسوته، ويفهم الحضري بما يلائم حياته وبيئته، كما كان يراعي تفاوت المدارك، وانتباه أصحابه، وقدرهم الفطرية والمكتسبة، ويستعمل من الأساليب النظرية والعمليَّة

_ (1 و 2) انظر " مجمع الزوائد ": ص 132 جـ 1.

ما يُحقِّقُ مقاصد رسالته. والأخبار في هذا كثيرة جداً منها: أنَّ فَتًى مِنْ قُرَيْش أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي في الزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ وَزَجَرُوهُ فَقَالُوا: مَهْ. مَهْ. فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ادْنُهْ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا ". فَقَالَ: " أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ؟ " قَالَ: لاَ. وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ. قَالَ: " وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ ". قَالَ: " أَفَتُحِبُّهُ لابْنَتِكَ؟ " قَالَ: لاَ. وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ. قَالَ: " وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ ". ثم ذكر له رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخته ومعمَّته وخالته، وفي كل هذا يقول الفتى مقالته: " لاَ. وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ "، فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: " اللهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ " قَالَ الرَاوِي: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ (1). لقد اتَّبع الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسلوباً جعل الفتى يُدرك أثر الزنا في المجتمع، وكيف أنَّ الناس جميعاً لا يرضونه لأنفسهم وأهليهم كما أنه لا يرضاهُ هو لذويه، مِمَّا حمله على الاقتناع بالإقلاع عنه. وخير الأمور ما كان الدافع إليه من قرارة النفس. وكان الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو إلى التيسير دائماً، وينهى عن التنطع في العبادة، والتضييق في الأحكام، وكان في معاملته للمسلمين جميعاً أخاً رحيماً، ومُعلِّماً متواضعاً حليماً، ويظهر ذلك واضحاً من تتبُّع سيرته - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -. عن السيدة عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قالت: «مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبَعْدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ إِلاَّ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ بِهَا» (2). بهذه الروح الطيِّبة، والنفس السامية، والصدر الرحب، والمنهج التربوي الصحيح كان رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلِّمُ أصحابه

_ (1) " مجمع الزوائد ": ص 129، جـ 1. (2) " فتح الباري ": ص 385 - 386، جـ 7.

والمسلمين عامة أحكام الإسلام وتعاليمه وآدابه، ولم يكن بين الرسول الكريم والمسلمين حاجب كالملوك والقياصرة، بل كان المسجد معهده يُعَلِّمُ فيه المسلمين الشريعة، وقد يرونه في الطريق فيسألونه، فيبشُّ لهم ويجيبهم، وقد يعترضونه في مناسكه وحَجِّهِ، أو على راحلته، يستفتونه فيُفتيهم، والابتسامة لا تفارق ثغرهُ، وقد تكون إجابته لسائل عن مسألة وحوله جمع قليل أو كثير، وقد يكون على منبر مسجده يُبَلِّغُ الناس الإسلام وتعاليمه، ويُفَصِّلُ الأحكامَ ويشرحها .. فينقل السامعون ما تلقَّوْهُ إلى إخوانهم وذويهم ... فإنْ سمع وشاهد ووعى ستبقى آثار ما تلقاه واضحة جلية في نفسه أمداً طويلاً، حتى إذا ما شك فيما سمع عاد إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ليزيل وَهُمَهُ، ويثبته على الصواب، ويردَّهُ إلى الحق. وقد حرص الصحابة على مجالس الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأقبلوا على تلقِّي السُنَّة وتطبيقها من قلوبهم صادقين مخلصين، بعد أنْ ذاقوا حلاوة الإيمان، وعرفوا عظمة الإسلام، ورأوا في القرآن المعجزة الكبرى والهداية العظمي، فامتلأت قلوبهم حُباً لله ورسوله، وتفانوا في سبيل دينهم ومبادئهم وحماية قائدهم ومُعَلِّمِهِمْ، وأخبار بذلهم وفدائهم تكلِّلُ جبين التاريخ وتُزَيِّنُهُ، وإنَّ التاريخ ليحفظ تلك المفاخر الخالدة من التضحيات العظيمة النادرة. بهذه القلوب التي امتلأت بالإيمان، وبهذه الروح السامية والحيوية الدائمة أقدم الصحابة على تلقِّي العلم عن رسول الله الكريم، فكانوا يتعلَّمُون من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القرآن الكريم آيات معدُودات: يسْتَفِمُونَ معناها، ويتعلَّمُون فِقْهَهَا، ويطبِّقُونه على أنفسهم، ثم يحفظون غيرها، وفي هذا يقول أبو عبد الرحمن السُّلَمِي: «حدَّثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن - كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما - أنهم كانوا إذا تعلَّمُوا من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشر آيات لم تجاوزوها حتى يتعلَّمُوا فيها من العلم والعمل .. قالوا: فتعلَّمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً». وكان الصحابة يحرصون على حضور مجالس رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ - حرصاً شديداً، إلى جانب قيامهم بأعمالهم المعاشية من الرعاية والتجارة وغيرها، وقد يصعب على بعضهم الحضور دائماً، فيتناوبون مجالسه - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، كما كان يفعل عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قال: «كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنْ الأَنْصَارِ فِي بني أُمَيَّةَ بن زَيْدٍ، وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ... » (1). ولم يقتصر تعليمه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الصحابة وحدهم، بل كان يُعلِّمُ النساء أمور دينهم، ويعقد لَهُنَّ مجالسهُنَّ، ولم يكن ذلك صُدفة أو نادراً، بل خَصَّصَ لَهُنَّ أوقاتاً خاصة يَجْلِسْنَ فيها إليه ويتلقَّيْنَ عنه تعاليم الإسلام، ويسْأَلْنَهُ فيُجيبُهُنَّ، وفي هذا قالت عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: وكان بعض الوفود يقيم عند الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يتعلَّمُون أحكام الإسلام وعباداته، ثم يعودون إلى أقوامهم يُعَلِّمُونَهُمْ وَيُفَقِّهُونَهُمْ، من هذا ما أخرجه " البخاري " عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ: «أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحِيمًا، فَقَالَ: " ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ، وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ» (3). إنَّ مثل هؤلاء الوافدين الذين أقاموا أياماً خالدة عند رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا يمكن أنْ ينسوا ما تلقَّوْهُ منه، بل سيبقى ذلك ثابتاً قوياً في نفوسهم طوال حياتهم.

_ (1) " فتح الباري ": ص 195، جـ 1. (2) " فتح الباري ": ص 239، جـ 1. (3) " صحيح البخاري بحاشية السِنْدِي ": ص 52، جـ 4.

وإلى جانب هذه الوفود وتلك المجالس، كان المسلمون يتلقَّون السُنَّة عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه عِدَّةٍ. منها أنَّ بعض الحوادث التي تقع للرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيُبَيِّنُ حُكْمَهَا، وينتشر هذا الحُكم بين المسلمين، وبعض الحوادث كانت تقع للمسلمين فيسألون الرسول الأمين عنها فيجيبهم، ومن هذه الحوادث ما يتناول خصوصيات السائل نفسه، ومنها ما يتعلَّقُ بغيره، وجميعها من الوقائع التي تعرض للإنسان في حياته فنرى الصحابة لا يخجلون في ذلك كله، بل يسرعون إلى رائدهم ومُرَبِّيهِمْ ليقفوا على حقيقة تطمئنُّ قلوبهم إليها. إنَّ هؤلاء الصحابة الذين كانوا يسألون رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أمورهم الشخصية التي قد يخجل منها غيرهم، كانوا لا يحجمون عن سؤاله في معاملاتهم وعباداتهم وعقائدهم وسائر أمورهم. وكان رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجيبهم على أسئلتهم هذه كلها ويحكم بينهم، ويُبَيِّنُ لهم الحق، وفي تلك الأجوبة والفتاوى والأقضية مادة كثيرة في مختلف أبواب كتب السُنَّة، وهي تؤلِّفُ جانباً كبيراً من الحديث النبوي. ويبعد أنْ ينسى هذه الحوادث من وقعت له وسأل عنها النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لأنها جزء من حياة السائل، بل واقعة بارزة من وقائع عمره. وهناك وقائع شاهد فيها الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - تصرُّفات الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في صلاته وصيامه وحَجِّهِ وسفره وإقامته، فنقلوها إلى التابعين الذين بلَّغُوها من بعدهم، وهي تؤلِّف جانباً عظيماً من السُنَّة، وخاصة هديه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العبادات والمعاملات وسيرته ... مِمَّا سبق اتَّضح لنا كيف تلقَّى المسلمون السُنَّة عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعرفنا الروح التي شملتهم، والدوافع القوية التي حثَّتهم على تلقِّي القرآن والسُنَّة وحفظهما، مِمَّا يسمح لنا أنْ نقول - ونحن واثقون مطمئنُّونَ -:

إنَّ السُنَّة في عهد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت محفوظة عند الصحابة جنباً إلى جنب مع القرآن الكريم، وإنْ كان نصيب كل صحابي منها يختلف عن نصيب الآخر، فمنهم المكثر من حفظها، ومنهم المُقِلُّ، ومنهم المتوسط في ذلك، ومن ثَمَّ نستطيع تأكيد أنهم قد أحاطوا بالسُنَّة، وتكلفوا بنقلها إلى التابعين الذين نقلوها إلى من بعدهم طبقاً لقوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه: «تَسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ، وَيُسْمَعُ مِمَّنْ يُسْمَعُ مِنْكُمْ» (1). وقد انتشرت السُنَّة في عهده - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بما كان له من جِدٍّ ونشاط في تبليغه، وبواسطة أصحابه، ولا ننس أثر أمهات المؤمنين في نشر السُنَّة بين النساء، وأثر بعوثه وولاته ورسله، وما كان لغزوة الفتح من أثر بعيد في نشر بعض السُنن، ثم ما كان لحَجَّةِ الوداع من أثر عظيم وبعيد في نشر كثير من الأحكام والسُنن، كما انتشرت السُنَّة بواسطة الوفود الكثيرة التي قدمت بعد الفتح الأعظم وحَجَّةِ الوداع. كل تلك العوامل كفيلة بنشر السُنَّة وتبليغها المسلمين في مختلف أرجاء الدولة الإسلامية آنذاك (2) ولم ينتقل الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الرفيق الأعلى إلاَّ بعد أنْ انتشر الإسلام في الجزيرة العربية كلها، وساد ربوعها، وملأ القرآن والسُنَّة صدور أهلها، مصداقاً لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3). وبعد وفاته - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرص الصحابة والتابعون على الاقتداء بالرسول والتمسك بسُنَّته، وقوفاً عند وصيَّته - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي» واحتاطوا في رواية الحديث، وتتبَّعُوا آثار الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأَبَوْا أنْ يخالفوها متى ثبتت عندهم، كما أَبَوْا أنْ ينحرفوا عن شيء، فارقهُم عليه رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واتَّبعُوا كل سبيل يحفظ السُنَّة المُطَهَّرَةَ من الخطأ والتحريف، فآثروا الاعتدال في الرواية عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتشدَّدّ عمرُ في هذا خشية الخطأ،

_ (1) " مسند الإمام أحمد ": ص 74، جـ 2. (2) لقد فصَّلنا القول في هذا في كتابنا " السُنَّةُ قبل التدوين ". (3) [المائدة: 3].

لهذا نرى بعضهم - مع كثرة تحملهم عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - لا يكثر من الرواية آنذاك، وكانوا يتورَّعُون من الرواية عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكثيراً ما كان بعضهم تغرورق عيونهم بالدموع عندما يقولون: (قال رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)، وكثيراً ما كانوا يقولون بعد الحديث (أو كما قال)، قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: «أدْركْت مائَةً وَعشْرينَ من الأَنْصَار من أَصْحَاب مُحَمَّدٍ صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلم مَا مِنْهُم أَحَدٌ يُحَدِّثُ بِِحَدِيثٍ إِلاَّ وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفاهُ إِيَّاهُ وَلاَ يُسْتَفْتَى عَنْ شَيْء إِلاَّ وَدَّ أَََّنَّ أَخَاهُ كَفاهُ إِيَّاهُ» وَفِي رِوَايَة: «يُسْْأَلُ أَحَدُهُمْ الْمَسْأَلَةَ فَيَرُدَّهَا هَذَا إِلَى هَذَا حَتَّى تَرْجِعَ إَِِلَى الأَوَّلِ» (1). هكذا تشدَّدَ الصحابة في الحديث، وأمسك بعضهم عن روايته كراهية التحريف، أو الزيادة والنقصان في الرواية عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لأنَّ كثرة الرواية كانت في نظر كثير منهم مظنة الوقوع في الخطأ، والكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد نهى رسول الله عن الكذب عليه، وعن رواية ما يُرَى أنه كذب، من ذلك قوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» وفي رواية: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» وقوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ رَوَى عَنِّي حَدِيثًا وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ» (2). وكان الصحابة يخشون أنْ يقعوا في الكذب عامة، فكيف يكذبون على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ .. وفي هذا يقول الإمام عليٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْه ... » (3). وقد طبع جميع الصحابة هذا المنهج، حرصاً منهم على حفظ القرآن والسُنَّة، ومخافة أنْ يشتغل الناسُ برواية الحديث عن القرآن الكريم، وهو

_ (1) " مختصر كتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول ": ص 13. (2) مقدمة " التمهيد " لابن عبد البر: ص 11. (3) " مسند الإمام أحمد ": ص 45، جـ 2.

دستور الأمَّة، فأرادوا أنْ يحفظ المسلمون القرآن جيِّداً، ويعتنوا بالحديث الشريف الذي لم يكن قد دُوِّنَ كله في عهد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كالقرآن الكريم، فنهجوا منهج التثبت العلمي ولم يكثروا من الرواية مخافة الوقوع في الخطأ، وقد تشدَّدَ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في تطبيق هذا المنهج، وعرف إتقان بعض الصحابة وحفظهم الجَيِّدَ فسمح لهم بالتحديث. ويجب ألاَّ يفهم من هذا أنَّ الصحابة امتنعوا عن رواية الحديث، أو عن تبليغه، إنما أَبَوْا أنْ يكثِرُوا من الرواية عند عدم الحاجة، ومفهوم أنه لا يكون إكثار إلاَّ عند عدم الحاجة إلى الإكثار، فكانوا جميعاً يتثبَّتون في الحديث، ويتأنَّوْنَ في قبول الأخبار وأدائها، وكانوا لا يُحدِّثُون بشيء إلاَّ وهُمْ واثقون من صِحَّةِ ما يَرْوُونَ، وقد حرصوا على المحافظة على الحديث بكل وسيلة تُفضِي إلى ذلك، فاتَّبعُوا منهجاً سليماً يمنع الشوائب من أنْ تدخل السُنَّة النبوية فتُفسدها. وقد اهتمُّوا اهتماماً كبيراً بالسُنَّة النبوية ونشرها، وإنَّ الأخبار التي تُروَى عنهم في هذا الشأن كثيرة جداً، فكان يسأل بعضُهُم بعضاً عن الحديث ويرحلون من أجله، قال ابن عباس: «إِنَّهُ كَانَ يَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنِ الرَّجُلِ فَآتِيهِ، وَهُوَ قَائِلٌ (1)، فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ، تُسْفِي الرِّيحُ عَلَيَّ مِنَ التُّرَابِ، فَيَخْرُجُ فَيَقُولُ: يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، مَا جَاءَ بِكَ، أَلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيَّ فَآتِيكَ، فَأَقُولُ: أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيَكَ، فَأَسْأَلُهُ عَنِ الْحَدِيثِ ... » (2). وروى بعض الصحابة عن بعض ولم يكتفوا بدراسة الأحاديث فيما بينم، بل حَثُّوا على طلبه وحفظه وحضُّوا التابعين على مجالسة أهل العلم والأخذ عنهم، ولم يتركوا وسيلة لذلك إلاَّ أفادوا منها. من هذا ما رُوِيَ عن عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قال: «تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا» (3) وقال: «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَالسُّنَّةَ كَمَا تَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ» (4).

_ (1) أي هو في نوم الظهيرة، من القيلولة والقائلة. (2) " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 24، جـ 1، وانظر ص 24: ب منه. (3) " فتح الباري ": ص 175، جـ 1. (4) " جامع بيان العلم وفضله ": ص 34، جـ 2.

وكان أبو ذَرٍّ مثلاً رائعاً لنشر الحق وتبليغ سُنَّة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، روى " البخاري " بسنده عنه أنه قال: «لَوْ وَضَعْتُمْ الصَّمْصَامَةَ - السيف الصارم - عَلَى هَذِهِ - وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ - ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنِّي أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا عَلَيَّ لأَنْفَذْتُهَا» (1)، وما كان أبو ذر بِدَعاً من الصحابة، إنما كان أحد الألوف الذين ساهموا في حفظ السُنَّة ونشرها. وقال أمير المؤمنين عليٌّ بن أبي طالب: «تَزَاوَرُوا وَتَذَاكَرُوا الْحَدِيثَ، فَإِنَّكُمْ إِنْ لاَ تَفْعَلُوا يَدْرُسُ» (2). ووقف عمرو بن العاص على حلقة من قريش فقال: «مَا لَكُمْ قَدْ طَرَحْتُمْ هَذِهِ الأُغَيْلِمَةَ؟ لاَ تَفْعَلُوا، وَأَوْسِعُوا لَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ، وَأَسْمِعُوهُمُ الْحَدِيثَ، وَأَفْهِمُوهُمْ إِيَّاهُ، فَإِنَّهُمْ صِغَارُ قَوْمٍ أَوْشَكَ أَنْ يَكُونُوا كِبَارَ قَوْمٍ، وَقَدْ كُنْتُمْ صِغَارَ قَوْمٍ فَأَنْتُمُ الْيَوْمَ كِبَارُ قَوْمٍ» (3). وازداد النشاط العلمي في عصر الصحابة والتابعين، وانتشرت حلقات العلم في جميع المساجد، في مختلف الأمصار الإسلامية، حتى إنَّ حلقات أبي الدرداء في جامع دمشق كانت تَضُمُّ نيفاً وخمسمائة ألف طالب (4)، قال أنس بن سيرين: «قَدِمْتُ الْكُوفَةَ قَبْلَ الْجَمَاجِمِ، فَرَأَيْتُ فِيهَا أَرْبَعَةَ آلاَفٍ يَطْلُبُونَ الْحَدِيثَ» (5)، وزاد في رواية فقال: «وَأَرْبَعَمِائَةٍ قَدْ فَقِهُوا» (6). كما كانت حلقات العلم تعقد في حِمص وحلب والفسطاط والبصرة والكوفة واليمن، إلى جانب حلقات ينبوع الإسلام في مكة والمدينة، فقد كانت في المدينة كالروضة يختار منها طالب العلم ما يشاء (7).

_ (1) " فتح الباري ": ص 170، جـ 1. (2) " شرف أصحاب الحديث ": ص 99. (2) " شرف أصحاب الحديث ": ص 89: ب. (3) " التاريخ الكبير " (تهذيب) لابن عساكر: ص 69. (5) " المحدث الفاصل ": ص 81: أ. ووقعة الجماجم مشهورة، كانت بين الحَجَّاجِ وعبد الرحمن بن الأشعث سنة (82 هـ)، وفيها قتل عبد الرحمن وكثير من القُرَّاء. انظر " تاريخ الطبري ": 5/ 157، ودير الجماجم بظاهر الكوفة على سبعة فراسخ منها، على طرف البر للسالك إلى البصرة. " معجم البلدان ": 4/ 131. (6) " المحدث الفاصل ": ص 135: ب. (7) انظر " المحدث الفاصل ": ص 9: ب.

وكان التعليم في تلك الحلقات يعتمد على أسُس تربوية هامة، تعتبر من أبرز الأسس في التربية الحديثة (1). ثم ما لبثت أنْ ظهرت دُورُ الحديث في العصور التالية، في معظم البلدان الإسلامية. وفي عهد التابعين وأتباعهم ازداد النشاط العلمي لانتشار الصحابة في الأمصار الإسلامية، ثم ما لبث التابعون أنْ تصدَّرُوا للرواية، وسلكوا سبيل الصحابة، وساروا على نهجهم، فكانوا على جانب عظيم من الورع والتقوى، وليس بعيداً ما نقول لأنهم تخرَّجُوا من مدارس الصحابة تلامذة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتثبَّتُوا في قبول الحديث وروايته، وكانت أمام عيونهم وصية الصحابة وكبار التابعين: «إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ»، ولهذا كانوا يرون الأمانة في الذهب والفضة أيسر من الأمانة في الحديث. فنسمع سليمان بن موسى يقول لطاوُوس: «إنَّ رَجُلاً حَدَّثَنِي بَكَيْتٍ وَكَيْتٍ، فَيَقُولُ لَهُ: إِنْ كَانَ مَلِياً فَخُذْ مِنْهُ» (2)، وكان ابن عون يقول: «لاَ يُؤْخَذُ هَذَا الْعِلْمُ إلاَّ مِمَّنْ شُهِدَ لَهُ بِالطَّلَبِ» (3). وكان يزيد بن أبي حبيب مُحَدِّثُ الديار المصرية يقول: «إِذا سَمِعْتَ الحَدِيثَ فانْشُدْهُ كَمَا تُنْشَدُُ الضَالَّةُ، فَإِنْ عُرِفَ، وَإِلاَّ فَدَعْهُ» (4). وكانوا لا يأخذون الحديث إلاَّ عن العُدُول الثقات، ولا يأخذون الحديث عن غير أهله، ولا عَمَّنْ لا يعرف ما يُروَى، قال الإمام مالك: «لاَ يُؤْخَذُ الْعِلْمُ عَنْ أَرْبَعَةٍ، وَيُؤْخَذُ مِمَّنْ سِوَى ذَلِكَ: لاَ يُؤْخَذُ مِنْ صَاحِبِ هَوًى يَدْعُو النَّاسَ إِلَى هَوَاهُ، وَلاَ مِنْ سَفِيهٍ مُعْلِنٌ بِالسَّفَهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَرْوَى النَّاسِ، وَلاَ مِنْ رَجُلٍ يَكْذِبُ فِي أَحَادِيثِ النَّاسِ، وَإِنْ كُنْتَ لاَ تَتَّهِمُهُ أَنْ يَكْذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلاَ مِنْ رَجُلٍ لَهُ فَضْلٌ وَصَلاَحٌ وَعِبَادَةٌ إِذَا كَانَ لاَ يَعْرِفُ مَا يُحَدِّثُ» (5) وقال الإمام الشافعي:

_ (1) انظر النشاط العلمي في عصر الصحابة والتابعين في كتابنا " السُنَّة قبل التدوين ". (2) " الجرح والتعديل ": ص 27، جـ 1. (3) " الجرح والتعديل ": ص 28، جـ 1. (4) " الجرح والتعديل ": ص 19، جـ 1. (5) " المحدث الفاصل بين الراوي والواعي ": ص 79: أ - ب. " الجرح والتعديل ": ص 32، جـ 1.

«كَانَ ابْنُ سِيرِينَ، وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيُّ، وطَاوُوس وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ يَذْهَبُونَ إِلَى أَلاَّ يَقْبَلُوا الْحَدِيثَ إِلاَّ عَنْ ثِقَةٍ، يَعْرِفُ مَا يَرْوِي وَيَحْفِظُ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ يُخَالِفُ هَذَا المَذْهَبَ» (1). لهذا اعتنى - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - بمعرفة أحوال الرُواة وبُلدانهم وسماعاتهم، وسألوا عنهم، وتكلَّمُوا في الجرح والتعديل، قال السخاوي: «وأما المتكلمون في الرجال فخلق من نجوم الهدى، ومصابيح الظلام المستضاء بهم في دفع الردى، لا يتهيَّأ حصرهم في زمن الصحابة، سرد ابن عدي في مقدمة كاملة خلقاً إلى زمنه (277 - 365 هـ)، فالصحابة الذين أوردهم: عمر، وعليٌّ، وابن عباس، وعبد الله بن سلاَّم، وعُبادة بن الصامت، وأنس، وعائشة، - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - .. وسرد من التابعين عدداً كالشعبي، وابن سيرين، وسعيد بن المسيب، وابن جُبير، ولكنهم فيهم قليل بالنسبة لمن بعدهم لقلة الضعف في متبوعهم، إذ أكثرهم صحابة عدول، وغير الصحابة من المتبوعين أكثرهم ثقات، ولا يكاد يوجد في القرن الأول الذي انقرض فيه الصحابة وكبار التابعين ضعيف إلاَّ الواحد بعد الواحد، كالحارث الأعور والمختار الكذَّب» (2). وكان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - يبيِّنون أحوال الرُواة وينقدونهم ويُعَدِّلُونهم حسبة لله، لا تأخذهم خشية أحد ولا تتملَّكُهم عاطفة، فليس أحد من أهل الحديث يُحَابِي في الحديث أباهُ ولا أخاهُ ولا ولده، سئل زَيْدٌ بْنَ أَبِي أُنَيْسَةَ عن أخيه فقال: «لاَ تَأْخُذُوا عَنْ أَخِي» (3)، وسئل علي بن المديني عن أبيه فقال: «سَلُوا عَنْهُ غَيْرِي»، فأعادوا المسألة، فأطرق، ثم رفع رأسه فقال: «هُوَ الدِّينُ، إِنَّهُ ضَعِيفٌ» (4). وكانوا يأمرون طلابهم وإخوانهم أنْ يُبَيِّنُوا أحوال الرُواة، قال عبد الرحمن بن مهدي: «سَأَلْتُ شُعْبَةَ وَابْنَ الْمُبَارَكِ وَالثَّوْرِيَّ وَمَالِكَ بْنَ أَنَسٍ

_ (1) مقدمة " التمهيد ": ص 10: ب. (2) " الإعلان بالتوبيخ لمن ذَمَّ التاريخ ": ص 163. (3) " صحيح مسلم بشرح النووي ": ص 121، جـ 1. (4) " الإعلان بالتوبيخ لمن ذَمَّ التاريخ ": ص 66.

عَنِ الرَّجُلِ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ، فَقَالُوا: انْشُرْهُ فَإِنَّهُ دِينٌ» (1). وقال يحيى بن سعيد: سَأَلْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، وَشُعْبَةَ، وَمَالِكًا، وَابْنَ عُيَيْنَةَ، عَنِ الرَّجُلِ لاَ يَكُونُ ثَبْتًا فِي الْحَدِيثِ، فَيَأْتِينِي الرَّجُلُ، فَيَسْأَلُنِي عَنْهُ، قَالُوا: «أَخْبِرْ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِثَبْتٍ» (2). وكان النقاد يُدَقِّقُون في حكمهم على الرجال، يعرفون لكل محدث ما له وما عليه، قال الشعبي: «وَاللهِ لَوْ أَصَبْتُ تِسْعاً وَتِسْعِينَ مَرَّةٍ وَأَخْطَأْتُ مَرَّةً لَعَدُّوا عَلَيَّ تِلْكَ الْوَاحِدَةَ» (3). وكانت المظاهر لا تغريهم، وكل ما يهمُّهُم أنْ يخلصوا العمل لله، ويصلوا إلى الحق الذي ترتاح عنده ضمائرهم، لخدمة الشريعة، ودفع ما يشوبها، وبيان الحق من الباطل، قال يحيى بن معين: «إِنَّا لَنَطْعَنُ عَلَى أَقْوَامٍ لَعَلَّهُمْ قَدْ حَطُّوا رِحَالَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ سَنَةٍ» (4). قال السخاوي: «أَيْ أُنَاسٌ صَالِحُوْنَ، وَلَكِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ» (5). هكذا بَيَّنَ جهابذة علم الحديث - منذ صدر الإسلام إلى عهد التدوين والتصنيف - أحوال الرُواة: المقبول منهم والمتروك، وأُلِّفَتْ مُصنَّفاتٌ ضخمة في الرُواة وأقوال النُقَّادِ فيهم، حتى إنه لم يعد يختلط الكذَّابون والضعفاء بالعدول الثقات، كما ألِّفت مُصنَّفات ومعاجم خاصة بالضعفاء والمتروكين، وأصبح من السهل جداً على أصحاب الحديث أنْ يُمَيِّّزُوا الخبيث من الطيِّب في كل عصر، وقد بنى النُقَّادُ حكمهم في الرُواة على قواعد دقيقة، فقدَّمُوا للحضارة الإنسانية أعظم إنتاج في هذا المضمار، يفخر به المسلمون أبد الدهر، وتعتزُّ به الأمَّة الإسلامية التي شهد لها كبار العلماء بأياديها البيضاء في خدمة السُنَّة الشريفة، قال المستشرق الألماني «شبرنجر»

_ (1) مقدمة " التمهيد ": ص 12: ب. (2) " صحيح مسلم بشرح النووي ": ص 92، جـ 1. (3) " تذكرة الحُفاظ ": ص 77، جـ 1. (4) " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 160: أ. (5) " الإعلان بالتوبيخ لمن ذمَّ التاريخ: ص 52.

في تصدير كتاب " الإصابة " لابن حجر - طبع كلكتا سنة 1852 - 1864 م -: «لم تكن فيما مضى أُمَّةٌ من الأمم السالفة، كما أنه لا توجد الآن أُمَّةٌ من الأمم المعاصرة أتت في علم أسماء الرجال بمثل ما جاء به المسلمون في هذا العلم العظيم الخطر الذي يتناول أحوال خمسمائة ألف رجل وشؤونهم .. ». وقد ظهرت تلك المُصَنَّفاتُ منذ أواخر القرن الهجري الثاني وطلائع القرن الثالث. وإلى جانب هذا فقد التزم العلماء رواية الحديث بأسانيده، وكانوا يتثبَّتُون من صحة الأحاديث بالارتحال إلى الصحابة وكبار التابعين، ويقارنون بين طرق الأحاديث، ومتونها، ويعرفون زيادات الرُواة فيهما، كما قسَّمُوا الأحاديث درجات يعرف بها المقبول من المردود، والقوي من الضعيف. فلم تصلنا الأحاديث في أمهات مصادرها إلاَّ بعد جهود عظيمة بذلها أسلافنا العظام، الذين خدموا السُنَّة خدمة جليلة، وتفانوا في سبيل حفظها وصيانتها. وقد هيَّأ الله - عَزَّ وَجَلَّ - لحفظ شريعته حفاظاً متقنين ضابطين، نقلوا حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحفظوا على الأُمَّة شريعتها ودينها، في مختلف العصور منذ عصر الصحابة إلى ما بعد التدوين وظهور مُصنَّفات الحديث العظيمة، وقد وهب الله تعالى لهؤلاء الحُفاظ حوافظ قويَّة، وإنَّ التاريخ يروي لنا ما كان يحفظه أبو هريرة، وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك، وعائشة أم المؤمنين التي كانت آية من آيات الذكاء والحفظ، وعبد الله بن عباس الذي اشتهر بسرعة حفظه، حتى إنه كان يحفظ الحديث من مَرَّةٍ واحدةٍ، وقد سمع قصيدة لابن أبي ربيعة عِدَّتُهَا ثمانون بيتاً فحفظها من المَرَّةِ الأولى، وفي الصحابة أمثاله كزيد بن ثابت الذي حفظ معظم القرآن قبل بلوغه، وتعلَّم لغة اليهود في سبعة عشر يوماً، وجابر بن عبد الله، وَأًبِي سعيد الخُدري وغيرهم من أعلام الصحابة في الحفظ والضبط والإتقان.

وفي التابعين نافع مولى عبد الله بن عمر الذي لم يخطئ فيما حفظ وأجمع النُقَّادُ على دقَّة حفظه، وفيهم محمد بن سيرين، وسعيد بن المسيب وابن شهاب الزُهري حفاظ عصرهم، وعامر الشعبي ديوان زمانه، وقتادة بن دعامة السَدُسِيِّ مضرب المثل في سرعة الحفظ والضبط والإتقان، وغيرهم من التابعين. وأما في عهد أتباع التابعين ومن بعدهم فقد كثر الحفاظ كثرة عظيمة، واتَّسع النشاط العلمي حتى إنه ما كانت تخلو مدينة من كبار الحفاظ الذين تُشَدُّ الرحال إليهم، أمثال سفيان الثوري، والإمام مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، ويحيى بن سعيد القطان، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه، والإمام أحمد، والإمام البخاري، ومسلم، وأبي حاتم الرازي، وأبي زُرعة الرازي وغيرهم من أئمة الحديث وحُفَّاظه. وقد ساهمت الأقلام والدفاتر في حفظ الحديث إلى جانب حفظه في الصدور، فمنذ عهد رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب عبد الله بن عمرو بن العاص صحيفته الصادقة بين يديه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما سمح لغيره مِمَّنْ لا يحفظ بالكتابة كسماحه (لأبي شاه) اليَمَنِي، كما أنَّ كُتَّاب الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتبوا بين يديه الكريمتين بعض الأحكام إلى أمرائه ووُلاَّته في البلدان. وأما ما ورد من نهي عن الكتابة فقد كان خشية التباس القرآن بالسُنَّة، وخوفاً من أنْ ينشغل الناس آنذاك عن القرآن الكريم، وقد سمح الرسول لبعض المتقنين بالكتابة، كما سمح لمن لا يقدر على الحفظ أنْ يكتب، ثم أبيحت كتابة الحديث، ولهذا كان كثير من التابعين يكتبون بين يَدَيْ الصحابة، كما كان عند بعض الصحابة بعض الصُحُفِ التي فيها حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كالصحيفة التي كانت في قائم سيف أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، والصحيفة التي وجدت في قائم سيف أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، والكتاب الذي كتبه أبو بكر الصِدِّيقُ لأنس بن مالك في الصدقات التي فرضها رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما كان عند

سعد بن عُبادة الأنصاري (- 15 هـ) كتاب أو كتب فيها طائفة من حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان مثل ذلك عند أبي رافع مولى الرسول الكريم، وعند غيره، وإنَّ المقام يضيق عن حصر ما كتب في عهد الصحابة والتابعين (1)، ومع هذا لا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ صحيفة عبد الله بن عمرو، وهي " الصحيفة الصادقة " قد دُوِّنَتْ في عهد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن أشهر ما دُوِّنَ في عصر الصحابة " صحيفة جابر بن عبد الله الأنصاري " (16 ق هـ - 78 هـ) ولعلَّ بعضها دُوِّنَ في عهده - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، و " الصحيفة الصحيحة " التي أملاها أبو هريرة على همام بن منبه وغيرها من الصحف التي كانت عند عروة بن الزبير، وخالد بن معدان الكلاعي، وأبي قلابة والحسن البصري، وكثرت كتب العلماء حتى بلغت كتب الصحابي الجليل عبد الله بن عباس حِمْلَ بعير، وقد نقلت كتب الزُهري بعد مقتل الوليد بن يزيد الأموي (88 - 126 هـ) من خزائنه على الدواب، وقد شاع التدوين في مطلع القرن الهجري الثاني بين العلماء، وأصبح من النادر ألا ترى لأحدهم تصنيفاً أو جامعاً فيه بعض أبواب الحديث. وقد تبنَّت الدولة رسمياً في عهد عمر بن عبد العزيز تدوين الحديث، فكتب إلى الأمصار يأمر العلماء بجمعه وتدوينه، وكان فيما كتبه لأهل المدينة: «انْظُرُوا حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاكْتُبُوهُ فَإِنِّي قَدْ خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابَ أَهْلِهِ»، وكتب إلى أمير المدينة، أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ (- 117 هـ): «اكْتُبْ إِلَيَّ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَكَ مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِحَدِيثِ عَمْرَةَ، فَإِنِّي خَشِيتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابِ أَهْلَهُ». كما أنَّ ابن شهاب الزُهري (- 124 هـ) وغيره بجمع السُنن، فكتبوها له، وكان ابن شهاب أحد الأعلام الذين شاركوا في جمع الحديث والكتابة، قال: «أَمَرَنَا عُمَرُ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِجَمْعِ الْسُّنَنِ، فَكَتَبْنَاهَا دَفْتَراً دَفْتَراً، فَبَعَثَ إِلَى كُلِّ أَرْضٍ لَهُ عَلَيْهَا سُلْطَانٍ دَفْتَراً».

_ (1) بسطت القول في هذا في كتابي " السُنَّة قبل التدوين " تحت عنوان «أشهر ما دُوِّنَ في صدر الإسلام».

وقد تبيَّن لي من متابعة بحث التدوين أنَّ عبد العزيز بن مروا والد عمر بن عبد العزيز حين ولي إمرة مصر - كتب إلى مُحَدِّثِ حِمْصْ التابعي الجليل كثير بن مُرَّة الحضرمي، الذي أدرك سبعين بدرياً من الصحابة - أنْ يكتب إليه بما سمع من أصحاب رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاَّ حديث أبي هريرة فإنه كان عنده، ولا يظن بكثير إلاَّ أن يستجيب لطلب الأمير، فيجتمع له بهذا ما كان عنده، ولا يظن بكثير إلاَّ أنْ يستجيب لطلب الأمير، فيجتمع له بهذا ما كان عنده من حديث أبي هريرة وما عند كثير. ويكون ما فعله الخليفة عمر بن عبد العزيز بعد هذا - من العناية بالحديث ومطالبة العماء في الأمصار المختلفة بكتابته والجلوس لمدارسته - ليس إلاَّ امتداداً لما شرع فيه أبوه من قبل. ولم يلبث تيار النشاط العلمي، وكتابة الحديث أنْ يطالع العالم بمُدوَّنات حديثية مختلفة، على يدي علماء النصف الأول من القرن الهجري الثاني، وقد ظهرت هذه المُصنَّفات في أوقات متقاربة في مختلف مناطق الدولة الإسلامية. وأول من صنَّف بالبصرة الربيع بن صُبيح (- 160 هـ)، وسعيد بن أبي عروبة (- 156 هـ)، وحماد بن سلمة (- 176 هـ)، وصنَّف سفيان بن سعيد الثوري (97 - 161 هـ) بالكوفة، ومعمر بن راشد (95 - 153 هـ) باليمن، والإمام عبد الرحمن عمرو الأوزاعي (88 - 157 هـ) بالشام، وعبد الله بن المبارك (118 - 181 هـ) بخراسان، وهُشَيْم بن بشير (104 - 183 هـ) بواسط، وجرير بن عبد الحميد (110 - 188 هـ) بالري، وعبد الله بن وهب (125 - 197 هـ) بمصر كما لا أشك في أنَّ الليث بن سعد المصري الفقيه الإمام المشهور (- 175 هـ) كان قد جمع وصنَّف، لما عرف عنه من نشاط علمي واسع وصلة دائمة بعلماء المشرق الإسلامي. ثم تلاهم كثير من أهل العلم في عصرهم في النسج على منوالهم، وقد كان هذا التصنيف بالنسبة إلى جمع الأبواب وضمِّها إلى بعضها في مؤلف.

أو مصنَّف أو جامع، وأما جمع حديث إلى مثله في باب واحد، فقد سبق إليه التابعي الجليل عامر بن شراحيل الشعبي (19 - 103 هـ). وكان معظم تلك المُصنَّفات، والمجاميع يضم الحديث الشريف وفتاوى الصحابة والتابعين، كما هو واضح في " موطأ الإمام مالك بن أنس " الذي يضمًّ ثلاثة آلاف مسألة وسبعمائة حديث. ثم رأى بعض الحفاظ أنْ تفرد أحاديث النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مؤلفات خاصة، فأُلِّفتْ المسانيد، وهي كتب تضم أحاديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأسانيدها، خالية من فتاوى الصحابة والتابعين، تجمع فيها أحاديث كل صحابي - ولو كانت في مواضيع مختلفة - تحت اسم مسند فلان، ومسند فلان، وهكذا. وأول من ألف المسانيد أبو داود سليمان بن الجارود الطيالسي (133 - 204 هـ)، وتابعه بعض من عاصره من أتباع التابعين وأتباعهم، فصنَّف أسد بن موسى (- 212 هـ)، وعبيد الله بن موسى العبسي (- 213 هـ) وغيرهم، واقتفى آثارهم أئمة الحفاظ كأحمد بن حنبل (164 - 241 هـ) وإسحاق بن راهويه (161 - 238 هـ)، وعثمان بن أبي شيبة (156 - 239 هـ) وغيرهم. ويعتبر مسند الإمام أحمد - وهو من أتباع أتباع التابعين - أَوْفَى تلك المسانيد وأوسعها. وكان هؤلاء الأئمة والحُفاظ قد جمعوا الحديث ودَوَّنُوهُ بأسانيده، واجتنبوا الأحاديث الموضوعة، وذكروا طُرُقاً كثيرة لكل حديث، يتمكَّنُ بها رجال هذا العلم وصيارفته من معرفة الصحيح من الضعيف، والقوي من المعلول، مِمَّا لا يتيسَّرُ لكل طالب علم، فرأى بعض الأئمة الحُفاظ أنْ يُصنِّفُوا في الحديث الصحيح فقط، فصنَّفُوا كتبهم على الأبواب، واقتصروا فيها على الحديث الصحيح، ومن أجل ذلك تكبَّدُوا عناء السفر، والرحلة في طلب الحديث والبحث، ولقاء الشيوخ العدول الثقات الضابطين، ومن يطَّلع على سير بعض أئمة الحديث وحفاظه يدرك الجهود العظيمة التي بذلت في سبيل حفظ السُنَّة. وهكذا ظهرت " الكتب الستة " في

1 - الإمام البخاري (194 - 256 هـ):

ذلك العصر، عصر أتباع أتباع التابعين، وكان أول من صنَّف الصحيح الإمام البخاي ثم تبعه بعض أئمة عصره، ومن تلاهم، وسنذكر لمحة موجزة عن مؤلفي " الكتب الستة " وكتبهم: 1 - الإمام البخاري (194 - 256 هـ): (1) هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه (2) الجُعفي البخاري، أمير المؤمنين في الحديث. ولد يوم الجمعة (13 شوال سَنَةَ 194 هـ) في مدينة بُخَارَى، وأول سماعه الحديث سَنَةَ (205 هـ)، وحفظ تصانيف عبد الله بن المبارك وهو صغير، وسمع مرويات بلده من محمد بن سلاَّم، والمسندي، ومحمد بن يوسف البيكندي، ورحل مع أمه وأخيه حاجًّا سَنَةَ (210 هـ)، فألَّف بالمدينة كتاب " التاريخ الكبير "، وهو مجاور قبر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وزاد على هذا الكتاب مرتين في آخر حياته، ورحل البخاري إلى شيوخ الحديث وأئمته، فذهب إلى بغداد، والبصرة، والكوفة، ومكة، والشام، وحِمص، وعسقلان، ومصر، وكتب عن أكثر من ألف رجل، وكان رأساً في الذكاء، رأساً في العلم، والورع والعبادة. وكان البخاري يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح. وكان وساع المعرفة غزير العلم، قال لسليم بن مجاهد: « ... ولا

_ (1) أهم مصادر ترجمته، التعريف بصحيحه: " تاريخ بغداد ": ص 4 وما بعدها، جـ 2. و " تذكرة الحفاظ ": ص 122 وما بعدها، جـ 2. و " سير أعلام النبلاء ": ص 234 - 254، جـ 8. و " طبقات الشافعية "، ص 2 وما بعدها، جـ 2. و " تاريخ دمشق لابن عساكر "، مخطوطة دار الكتب المصرية النسخة التيمورية، ص 110 وما بعدها، جـ 37. و " تهذيب التهذيب ": ص 47 وما بعدها، جـ 9. و " تدريب الراوي ": ص 12 و ص 49. و " تاريخ الأدب العربي ": ص 165، جـ 3. وانتدبت وزارة الثقافة والإرشاد أستاذنا الدكتور مصطفى زيد لتأليف كتاب في الإمام البخاري تنشره في سلسلة أعلام العرب، أرجو أنْ يصدر قريباً لينتفع الناس به، ويأخذ مكانه في المكتبة العربية. (2) بردزبه: بفتح الباء وسكون الراء، وكسر الدال، وبعدها زاي ساكنة، معناه بالفارسية الفلاح، أو البُستاني.

أجيئك بحديث عن الصحابة أو التابعين إلاَّ عرفت مولد أكثرهم، ووفاتهم ومساكنهم، ولست أروي حديثاً عن الصحابة أو التابعين إلاَّ ولي في ذلك أصل أحفظه حفظاً عن كتاب الله أو سُنَّة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». وأخباره مع شيوخه وأهل العلم، وأخبار حفظه وإتقانه كثيرة جداً نكتفي منها بما حصل له عندما قدم بغداد. كان صيت البخاري قد ذاع في مختلف البلدان، وعندما قدم بغداد أراد أهل الحديث امتحانه فعمدوا إلى مائة حديث، فقبلوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد هذا، وإسناد هذا المتن ذاك، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقوها عليه في المجلس، فاجتمع الناس، وانتدب أحدهم فقام وسأله عن حديث من تلك العشرة، فقال: لا أعرفه، ثم سأله عن آخر. فقال: لا أعرفه، حتى فرغ من العشرة، والبخاري يقول: لا أعرفه. ثم انتدب آخر من العشرة، فكان حاله معه كذلك إلى تمام العشرة، والبخاري لا يزيدهم على قوله: لا أعرفه، فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعض، ويقولون: الرجل فهم، وأما غيرهم فلم يدركوا ذلك، ولما فرغوا من إلقاء الحديث عليه، التفت إلى الأول فقال: أما حديثك الأول فهو كذا، وحديثك الثاني مثل ذلك إلى أنْ فرغ، فأقر له الناس بالحفظ والضبط والإتقان. خرج البخاري في آخر حياته إلى قرية (خَرْتَنْكْ) وهي على فرسخين من سمرقند، وتوفي بها في (30 رمضان سَنَةَ 256 هـ) - رَحِمَهُ اللهُ -. الجامع الصحيح: صنَّف الإمام البخاري كتابه في ستمائة ألف حديث، في ست عشرة سَنَةٍ، وما وضع فيه حديثاً إلاَّ وصلى ركعتين وقال: «جَعَلْتُهُ حُجَّةً بَيْنِي وَبِيْنَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى». وعِدَّةُ أحاديث صحيح البخاري (7275) حديثاً بالمكرَّرة، وبحذف

2 - الإمام مسلم (204 - 261 هـ):

المُكَرَّرُ منها أربعة آلاف حديث، وقد سمع كتاب البخاري تسعون ألف رجل من أهل عصره. ويعتبر " صحيح البخاري " أصحَّ كتاب بعد كتاب الله - عَزَّ وَجَلَّ -. وقد أجمعت الأمَّة الإسلامية على عظيم منزلته، فكان منا محل حفظ وعناية ودراسة وتقدير. وكان يقرأ على الناس في المحافل العامة بالقاهرة في شهر رمضان زمن المماليك، وتقام احتفالات كبيرة عند ختام قراءته، وكان الناس في الجزائر يحلفون بـ " البخاري " وكتاب " الشفاء " للقاضي عياض، وفي الصعيد كان " صحيح البخاري " شفاء الأسقام، يحلف الناس به، ويحترمونه، والحلف به عظيم لا يقل عن الحلف بالقرآن الكريم، ولا يزال " صحيح البخاري " في منزلة عالية جليلة في الصعيد حتى الآن. وكانت فرق الجُند التي تستحلف على " صحيح البخاري " عند الخدمة في الجيش ببلدان المغرب - تُسَمَّى البُخارية. وللبخاري مؤلفات حديثية كثيرة أشهرها " التاريخ الكبير " في ثماني مجلدات (1)، و " التاريخ الصغير " (2) وكتاب " الضعفاء " (3)، و " الأدب المفرد " (4)، وله مُصَنَّفاتٌ في علل الحديث، وأسامي الصحابة، والكُنَى تبلغ عشرين مؤلفاً ذكرها الحافظ ابن حجر في مقدمة " فتح الباري ". ... 2 - الإمام مسلم (204 - 261 هـ): (5): هو حُجَّة الإسلام أبو الحسين مسلم بن الحجاج القُشيري النيسابوري،

_ (1) فيه ترجمة حوالي (40) ألف رجل وامرأة، ضعيف وثقة. وطبع في حيدرآباد اعتباراً من سَنَةِ (1361 هـ). (2) طبع بالهند سَنَةَ 1325 هـ. (3) طبع بالهند سَنَةَ (1325 هـ) وطبع معه كتاب " الضعفاء والمتروكين " للنسائي. (4) طبع أكثر من مَرَّةٍ أحسنها ما طبع بالقاهرة سَنَةَ 1379 هـ بإشراف الأستاذ محب الدين الخطيب الذي استوفى تخريج أحاديثه وفهارسه. (5) أهم مصادر ترجمته والتعريف بكتابه: " تاريخ بغداد ": ص 10 - 14، جـ 13. " تذكرة الحُفاظ ": ص 150 - 152، جـ 2. و " تهذيب التهذيب ": ص 126، جـ 10 و " البداية والنهاية ": ص 33، جـ 11. و " تدريب الراوي ": ص 42 وما بعدها. و " الباعث الحثيث ": ص 22. و " شروط الأئمة الستة " للمقدسي، و " شروط الأئمة الخمسة " للحازمي.

صاحب التصانيف الكثيرة، ولد سنة (204 هـ) وقيل سَنَةَ (206 هـ)، كان أول سماعه سَنَةَ (218 هـ) وقدم بغداد مراراً، وكان آخر قدومه إليها سَنَةَ (259 هـ)، ولقي كثيراً من شيوخ الحديث وحُفاظه أثناء رحلاته إلى الحجاز، والعراق، والشام، ومصر وغيرها، وتردَّدَ على الإمام البخاري كثيراً عندما قدم البخاري نيسابور، وعرف فضله وغزير علمه، وروى عن كثير من أئمة الحُفاظ منهم: يحيى بن يحيى، والقعنبي، وأحمد بن يونس، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه شيخ البخاري وغيرهم، وروى عنه كثير من أهل العلم منهم: ابن خُزيمة، ويحيى بن صاعد، وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وكان أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان يُقَدِّمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما. وتوفي الإمام مسلم يوم (25 رجب سَنَةَ 261 هـ) في (نصر آباد) من قُرى نيسابور. - رَحِمَهُ اللهُ -. وقد صَنَّفَ الإمام مسلم " صحيحه " من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة، وفيه بأسقاط المُكَرَّرِ نحو أربعة آلاف حديث. وكتابه أصح كتاب بعد " صحيح الإمام البخاري "، ولكل من " الصحيحين " فوائد عظيمة من حيث كثرة الطرق وجمعها، وترجمة الأبواب وغير ذلك مِمَّا بَيَّنَتْهُ كُتُبُ الشروح وعلوم الحديث. وللإمام مسلم مؤلفات كثيرة غير " الصحيح " منها: كتاب " الأسماء والكُنَى "، وكتاب " التمييز "، وكتاب " العلل "، وكتاب " الوحدان، وكتاب " الأفراد "، وكتاب " الأقران "، وكتاب " أولاد الصحابة "، وغير ذلك من الكتب المفيدة في الحديث وعلومه (1). ...

_ (1) " تذكرة الحُفاظ ": ص 151 - 152.

3 - أبو داود السجستاني (202 - 275 هـ):

3 - أبو داود السجستاني (202 - 275 هـ): (1): هو الإمام الثبت سَيِّدُ الحُفاظ سليمان بن الأشغث بن إسحاق بن بشير الأزدي السجستاني، صاحب " السنن " المشهورة. ولد أبو داود سَنَةَ (202 هـ)، وطلب العلم صغيراً، ثم رحل إلى الحجاز والشام ومصر، والعراق والجزيرة، وخُراسان، ولقي كثيراً من أئمة الحُفاظ، فسمع من القعنبي، وأبي الوليد الطيالسي، وسليمان بن حرب، والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم، وكان أبو داود من العلماء العاملين، وشبَّهَهُ بعض الأئمة بالإمام أحمد، وكان على درجة عظيمة من العبادة والعلم والورع. وكان قد دخل بغداد مراراً، وآخر مَرَّةٍ دخلها سَنَةَ (272 هـ)، ودعاه أمير البصرة أخو الخليفة المُوَفَّق أنْ يقيم بالبصرة، بعد فتنة الزنج، لتعتمر من العلم بسببه، حين يأتيه طلاب الحديث من كل حدب وصوب، فنزل بها، وتوفي في (16 شوال سَنَةَ 275 هـ). وقد صنَّف أبو داود " سُننه " على أبواب الفقه، واقتصر فيها على السُنن والأحكام، فلم يذكر الأخبار والقصص والمواعظ، قال: «كتبتُ عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها أربعة آلاف حديث وثمانمائة حديث ضمَّنتُها هذا الكتاب». وقال: «ما ذكرت في كتابي حديثاً أجمع الناس على تركه». وكان قد عرض كتابه على الإمام أحمد فاستحسنه. وقد أثنى عليه كثير من أئمة هذا العلم، وهو أول كتاب بعد " الصحيحين ". وله مؤلفات في هذا العلم الجليل. ... 4 - الإمام الترمذي (209 - 279 هـ): (2) هو الإمام الحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي،

_ (1) " تذكرة الحفاظ ": ص 152، جـ 2. و " تاريخ بغداد: ص 55، جـ 9. و " رسالة أبي داود السجستاني إلى أهل مكة "، بتحقيق الشيخ زاهدا لكوثري. و " تدريب الراوي ": ص 12. (2) أهم مصادر تردمته والتعريف بكتابه: " تذكرة الحفاظ ": ص 187 - 188، جـ 2. " تهذيب التهذيب ": ص 387، جـ 9. " شروط الأئمة الستة " للمقدسي، طبع القدسي. و " شروط الأئمة الخمسة " للحازمي، طبع القدسي. و " تيسير الوصول إلى جامع الأصول ": ص 9، جـ 1. و " الباعث الحثيث ": ص 43. و " سنن الترمذي " بتحقيق الأستاذ أحمد محمد شاكر: ص 77 - 91، جـ 1.

5 - الإمام النسائي (215 - 303 هـ):

ولد بعد سَنَةِ مائتين في قرية (بوج) من قُرى تِرْمِذْ على نهر جيحون، وطلب العلم صغيراً، ورحل في سبيل ذلك إلى العراق والحجاز وخُراسان وغيرها، ولقي كبار أئمة الحديث وشيوخه، منهم الإمام البخاري، ومسلم، وأبو داود، وسمع من بعض شيوخهم مثل قتيبة بن سعيد، ومحمد بن بشار وغيرهما. وروى عنه خلق كثير. وقد شهد له معاصروه وأهل العلم بالحفظ والضبط والإتقان، وكان على جانب عظيم من الزهد والورع، بكى حتى عمي، وبقي ضريراً سنين آخر عمره. وقال له البخاري: «مَا انْتَفَعْتُ بِكَ أَكْثَرَ مِمَّا انْتَفَعْتَ بِي». وتوفي بترمذ ليلة الاثنين (13 رجب سَنَةَ 279 هـ) وله سبعون سَنَةً - رَحِمَهُ اللهُ -. وقد جمع الترمذي الفقه إلى جانب علمه بالحديث وعلله ورجاله وعلومه، ويظهر هذا واضحاً في كتابه " الجامع الصحيح " المعروف بـ " سُنن الترمذي "، وكتابه هذا من أحسن الكتب، وأكثرها فائدة وأقلَّها تكراراً، قال الترمذي - رَحِمَهُ اللهُ -: «عَرَضْتُ هَذَا الْكِتَابَ عَلَى عُلَمَاءِ الْحِجَازِ، وَالْعِرَاقِ، وَخُرَاسَانَ فَرَضُوا بِهِ، وَاسْتَحْسَنُوهُ، وَمَنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ فَإِنَّمَا فِي بَيْتِهِ نَبِيٌّ يَتَكَلَّمُ». وللترمذي كتاب: " الشمائل "، و " العلل "، و " التاريخ "، و " الزهد ". ... 5 - الإمام النَسَائِي (215 - 303 هـ): (1) هو الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر الخُراساني، النَسَائي بفتح النون نسبة إلى بلدة خراسان. ولد

_ (1) أهم مصادر ترجمته والتعريف بكتابه: " تذكرة الحفاظ ": ص 241، جـ 2. و " تهذيب التهذيب ": ص 36 - 39، جـ 1. و " البداية والنهاية ": ص 123، جـ 11. و " طبقات الشافعية ": ص 83، جـ 2. و " شروط الأئمة الخمسة " للحازمي. و " شروط الأئمة الستة " للمقدسي، و " تيسير الوصول ": ص 9، جـ 1. و " تدريب الراوي ": ص 49.

سنة (215 هـ)، وطلب الحديث صغيراً، ورحل إلى قتيبة بن سعيد وله خمس عشرة سَنَةً (230 هـ) وأقام عنده سَنَةً وشهريْنِ، وسمع إسحاق بن راهويه، وهشام بن عمار، ومحمد بن النصر المروزي، وأمثالهم، ورحل إلى الحجاز والعراق، ومصر، والشام والجزيرة، وبرع في هذا الشأن، وتفرَّد بالمعرفة والإتقان، وعلو الإسناد، واستوطن مصر وحَدَّثَ عنه كثيرون، وكان كثير العبادة في الليل والنهار مُتمسِّكاً بالسُنَّة، ورعاً مُتحرِّياً. والراجح بالنسبة لوفاته أنه خرج من مصر في شهر ذي القعدة سَنَةَ (302 هـ) وتوفي بفلسطين بالرملة يوم الاثنين (13 صفر سَنَةَ 303 هـ)، ودُفِنَ ببيت المقدس، - رَحِمَهُ اللهُ -. وإلى جانب علمه بالحديث وعلومه، كان فقيهاً، شافعي المذهب، وله مناسك على مذهب الإمام الشافعي. قال علي بن عمر الحافظ: «أَبُو عَبْدِ الْرَّحْمَنِ الْنَّسَائِيُّ مُقَدَّمٌ عَلَىَ كُلِّ مَنْ يُذْكَرُ فِيْ زَمَانِهِ فِي هَذَا العِلْمِ». وقد صَنَّفَ " سُنَنَهُ " ولم يخرج فيها عن راوٍ أجمع النُقَّادُ على تركه، فكانت " السُنن الكبرى "، التي قدّمها إلى أمير الرملة. فقال له: أكل ما فيها صحيح؟ فقال: فيها الصحيح والحسن وما يقاربهما. فقال له: فاكتب لنا الصحيح منه مجرداً. فاستخلص من " السُنن الكبرى " " السُنن الصغرى " وسمَّاهَا " المُجتبى من السُنن "، وقيل " المُجْتَنَى "، والمعنى واحد. و " السُنن الصغرى " أقل السُنن حديثاً ضعيفاً، ولهذا كانت برتبة " سنن أبي داود " أو دونا بقليل، ولم يذكر في " المجتبى " من السنن، كل حديث تكلم في إسناده بالتعليل. وله عدَّةَ مؤلفات سوى " السُنن " منها " الضعفاء والمتروكون " طبع بالهند سَنَةَ (1235 هـ). ***

6 - الإمام ابن ماجه (209 - 273 هـ):

6 - الإمام ابن ماجهْ (209 - 273 هـ): (1) هو الحافظ أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني ابن ماجهْ الربعي، صاحب " السُنن " و " التفسير " و " التاريخ " ومُحَدِّثُ قزوين في عصره. ولد سَنَةَ (209 هـ) وسمع من أئمة عصره، ورحل إلى العراق والحجاز ومصر والشام وغيرها من البلاد. وتوفي في (22 رمضان سَنَةَ 273 هـ) وصَلَّى عليه أخوه أبو بكر، وتولَّى دفنه أخوه أبو بكر، وعبد الله , وابنه عبد الله. قال أبو يعلى الخليلي: «ابْنُ مَاجَهْ ثِقَةٌ، كَبِيرٌ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، مُحْتَجٌّ بِهِ، لَهُ مَعْرِفَةٌ وَحِفْظٌ». صنَّف ابن ماجه " سُننه " فجمع فيها الصحيح والحسن والضعيف والواهي، لهذا لم يدخلها بعضهم في " الكتب الستة " وأول من اعتبرها سادس الكتب الصحيحة الحافظ أبو الفضل بن طاهر المقدسي (- 507 هـ) في كتابه " أطراف الكتب الستة " ومن العلماء من جعل " الموطأ " أحد " الكتب الستة ". ومع هذا فلـ " سنن ابن ماجه " فوائد كثيرة كما قال الذهبي: «سُنَنُ أَبِي عَبْدِ الْلَّهِ كِتَابٌ حَسَنٌ، لَوْلاَ مَا كَدَرَهُ أَحَادِيثَ وَاهِيَةً، لَيْسَتْ بِالْكَثِيرَةِ». وقد خدم الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي هذه السُنن وأحصى أحاديثها فكان جملة أحاديث " سُنن ابن ماجه " (4341) حديثاً. من هذه الأحاديث (3002) حديثاً أخرجها أصحاب " الكتب الخمسة " كلهم أو بعضهم، وباقي الأحاديث وعددها (1339) حديثاً هي الزوائد على ما جاء في " الكتب الخمسة ". وبيان الزوائد: أولاً - 428 حديث رجالها ثقات، صحيحة الإسناد. ثانياً - 199 حديث حسنة الإسناد. ثالثاً - 613 حديث ضعيفة الإسناد.

_ (1) أهم مراجع ترجمته والقول في كتابه: " تذكرة الحفاظ ": ص 189، جـ 2. و " تهذيب التهذيب ": ص 530، جـ 9 , و " شروط الأئمة الستة " للحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي، طبع القدسي سَنَةَ (1357 هـ). و " سُنن ابن ماجه ": ص 1519 و 1520، جـ 2. و " تدريب الراوي ": ص 49.

رابعاً - 99 حديثاً واهية أو منكرة، أو مكذوبة. ولهذا كان على الباحث ألاَّ يأخذ بحديث من " سُنن ابن ماجه " إلاَّ بعد معرفة درجته، وقد سَهَّلَ الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي على الباحث التحرِّي والبحث بخدمته هذا الكتاب، فجزاه ا لله عن المسلمين وأهل العلم كل خير. كانت تلك لمحة سريعة موجزة حول " الكتب الستة " ومؤلفيها، وهي لا تعدو قصد التعريف بتلك المصنَّفات الحليلة وبأصحابها، وأما القول في منهج مصنِّفيها وترتيب كتبهم وشروطهم فإنه يحتاج إلى كتاب خاص بذلك. وقد لقيت هذه الكتب عناية كبيرة من أهل العلم بالشرح والاختصار والاستخراج عليها، وما إلى ذلك .. وهناك كتب جليلة في الحديث سوى ما أسلفنا ذكره من الموطآت والمسانيد والصحاح، ككتب الإمام ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، والبغوي، وغيرهم من أئمة الحديث في العصور المختلفة. وقد طال بنا المطاف إلى راوية الإسلام، فنكتفي بذلك، لننتقل إلى موضوعنا المقصود أولاً، والله ولي التوفيق. ***

الباب الأول: أبو هريرة:

الباب الأول: أبو هريرة: الفصل الأول: حياته العامة الفصل الثاني: حياته العلمية

الفصل الأول: حياته العامة:

الفصل الأول: حياته العامة: - نسبه والتعريف به. - هيئته وأوصافه الجسمية. - نشأته قبل الإسلام. - إسلامه وهجرته. - إسلام أمه. - ملازمة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. - التزام أبي هريرة السُنَّةَ. - فقره وعفافه. - كرم أبي هريرة. - ولايته في عهد عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. - أبو هريرة وفتنة عثمان بن عفان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. - أبو هريرة في عهد عليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. - أبو هريرة أمير المدينة. - أبو هريرة والجهاد في سبيل الله. - مرح أبي هريرة ومزاحه. - قبس من أخلاقه. - مرض أبي هريرة. - وفاته. - أسرته.

- نسبه والتعريف به:

- نسبه والتعريف به: أبو هريرة هو عبد الرحمن بن صخر من ولد ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس اليماني، فهو دوسي نسبة إلى دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر وهو شنوءة بن الأزد، والأزد من أعظم قبائل العرب وأشهرها، وتنتسب إلى الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن كهلان بن العرب القحطانية (1). ولأبي هريرة أخ يقال له «كريم»، وابن عمه أبو عبد الله الأغر، وخال أبي هريرة سعد بن صبيح بن الحارث بن سابى بن أبي صعب بن هنية، كان في الجاهلية لا يأخذ أحداً من قريش إلاَّ قتله بأبي أزيهر الدوسي، وكان أبو أزيهر قد قتله هشام بن المغيرة المخزومي لمطله إياه بمهر أخته (2). كان اسم أبي هريرة في الجاهلية عبد شمس - وقيل غير ذلك - فسمَّاهُ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (عبد الرحمن) ... وأمه ميمونة بنت صخر، وقيل أميمة (3). اشتهر أبو هريرة بكُنيته، حتى غلبت عليه على اسمه فكاد ينسى، وأظن هذا كان سبب الاختلاف في اسمه. وسئل أبو هريرة: لم كنيت بذلك؟ قال: كنيت أبا هريرة لأني وجدت هِرَّةً فحملتها في كُمِي، فقيل لي أبو هريرة. ورُوِيَ عنه أنه قال: وجدت هِرَّةً وحشية، فأخذت أولادها فقال لي أبي: ما هذه في حجرك؟ فأخبرته فقال: أنت أبو هريرة.

_ (1) انظر " جمهرة أنساب العرب ": ص 358 و 360 و 361. و " الاستيعاب ": ص 1768، جـ 4. و " تاريخ ابن خلدون ": ص 253، جـ 2. و " نهاية الأرب ": ص 91 و 253. و " معجم قبائل العرب القديمة والحديثة ": ص 394، جـ 1، و ص 15 - 16، جـ 1. (2) انظر " جمهرة أنساب العرب ": ص 360. و " تاريخ دمشق لابن عساكر ": ص 444، جـ 47. (3) انظر " طبقات ابن سعد ": ص 52، قسم 2، جـ 4. و " تذكرة الحفاظ ": ص 31، جـ 1. و " سير أعلام النبلاء ": ص 418، جـ 2. و " تهذيب التهذيب ": ص 262، جـ 12. و " البداية والنهاية ": ص 103، جـ 8.

هيئته وأوصافه الجسمية:

وقد كان يرعى غنم أهله وهو صغير، ويداعب هِرَّتَهُ في النهار، فإذا جَنَّ الليلُ وضعها في شجرة، حتى إذا كان النهار أخذها ولعب بها، وفي " صحيح البخاري " أنَّ النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «يَا أَبَا هِرٍّ» كما ثبت أنه قال له: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ». وكان يقول: «لاَ تُكَنُّونِي أَبَا هُرَيْرَةَ، فَإِنَّ النَبِيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَنَّانِي أَبَا هِرٍّ. وَالذَكَرُ خَيْرٌ مِنَ الأُنْثَى». ... هيئته وأوصافه الجسمية: (1) كان أبو هريرة رجلاً آدم بعيد ما بين المنكبين، ذا ضفيرتين، أفرق الثنيتين، يخضب شيبه بالحُمرة، وكان أبيض ليناً لحيته حمراء، ورآه خباب بن عروة وعليه عمامة سوداء. ... نشأته قبل الإسلام: لا نعرف شيئاً كثيراً عن أبي هريرة قبل إسلامه، إلاَّ ما كان يرويه عن نفسه، فقد ولد في اليمن، ونشأ فيها، يرعى غنم أهله، ويخدمهم، كما نشأ أترابه، نشأة القبيلة والبادية، تلك النشأة العربية الخالصة. وقد توفي والده وهو صغير، فنشأ يتيماً، وقاسى شظف العيش، حتى مَنَّ الله عليه بالإسلام فكان له فيه الخير كله. وأخبار أبي هريرة في تلك الفترة قليلة، لا نفيد من تتبعها شيئاً بقدر ما نفيد من معرفة أخباره في الإسلام. ... إسلامه وهجرته: كان الطُفيل بن عمرو الدوسي رجلاً شريفاً مليئاً كثير الضيافة، وكانت قريش تعرف منزلته في قومه، وما أنْ عرفت قدومه إلى مكة بعد نبوؤة محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى انطلق إليه رجال منها يقولون له:

_ (1) انظر المراجع السالف ذكرها.

«إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وفرَّق جماعتنا، وشتَّتَ أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرِّقُ بن الرجل وأبيه ... » أرادوا بهذا أنْ يصُدُّوهُ عن الإسلام، واقتنع الطفيل بقولهم ونوى ألاَّ يسمع رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى لا يؤخذ بسحره كما ادَّعُوا ... وذهب الطفيل إلى الكعبة، وإذا برسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصلِّي، فسمع كلامه فأعجب به، وأبَى الله إلاَّ أنْ يفتح قلبه للإيمان، وذهب مع الرسول الكريم إلى داره فعرض عليه الإسلام، وتلا عليه القرآن، فشعر بحلاوة الإيمان، و طلب من الرسول أنْ يدعو له، وأن يجعل الله له عوناً في حمل الإسلام إلى قومه ودعوتهم إليه، فقال - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَهُ آيَةً» فوقع له نور بين عينيه، فقال: يا رسول الله .. أخشى أنْ يقول قومي هي مثلة، فرجع النور إلى طرف سوطه، فكان يضيء في الليل، ولهذا لُقِّب بذي النور (1). وعاد الطفيل إلى قومه فدعا أبويه إلى الإسلام، فأسلم أبوه، ولم تسلم أمه، ودعا قومه فأجابه أبو هريرة وحده، وأبطأ عليه قومه، فعاد إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخبره بإبطاء قومه، وقال له: ادع عليهم. فقال - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْساً» وفي رواية: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْساً وَائْتِ بِهَا»، وقال له: «اخْرُجْ إِلَى قَوْمِكَ فَادْعُهُمْ وارْفِقْ بِهِمْ»، فخرج إلى قومه فلم يزل بأرض دوس يدعوها حتى هاجر رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمن أسلم من قومه، ورسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيبر، حتى نزل المدينة بسبعين أو ثمانين بيتاً من دوس، ثم لحقوا رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيبر، فأسهم لهم مع المسلمين، وقال الطفيل: «قلنا يا رسول الله .. اجعلنا ميمنتك، واجعل

_ (1) انظر " طبقات ابن سعد ": ص 175 و 176، قسم 1، جـ 4. وانظر " الإصابة ": ص 287، جـ 3. و " جمهرة أنساب العرب ": ص 360 - 361.

شعارنا مبرور، ففعل، فشعار الأزد كلها إلى اليوم مبرور» (1). هكذا أسلم أبو هريرة قديماً وهو بأرض قومه، على الطفيل بن عمرو، وكان ذلك قبل الهجرة النبوية، وأما هجرته من اليمن إلى المدينة فقد كانت في ليالي فتح خيبر، ورواية أبي هريرة لهجرته توكِّدُ لنا قدم إسلامه. قال أبو هريرة: خرج النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى خيبر وقدمت المدينة مهاجراً، فصليت الصبح خلف سباع بن عرفطة - وكان استخلفه - فقرأ في السجدة الأولى بسورة «مريم»، وفي الآخرة «ويل للمطففين» (2) فقلت في نفسي: «ويل لأبي فلان - لرجل كان بأرض الأزد - وكان له مكيالان، مكيال يكيل به لنفسه ومكيال يبخص به الناس» (3). وفي رواية: «ويل لأبي! قل رجل كان بأرض الأزد، إلاَّ وكان له مكيالان. مكيال لنفسه، وآخر يبخس به الناس» (4). وقد ثبت في " صحيح البخاري " أنه ضلَّ غلام له في الليلة التي اجتمع في صبيحتها برسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه جعل ينشد: يَا لَيْلَةً مِنْ طُولِهَا وَعَنَائِهَا ... عَلَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ الكُفْرِ نَجَّتِ فلما قدم على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طلع غلامه، فقال له - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -: «هَذَا غُلاَمُكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ»!! فقال: «هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ» (5). وقد لازم النبيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى آخر حياته، وقصر نفسه على خدمته، وتلقَّى العلم الشريف منه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان يدور

_ (1) انظر " طبقات ابن سعد ": ص 176، قسم 1، جـ 4. و " الإصابة ": ص 287، جـ 3. ترجمة «الطفيل بن عمرو الدوسي». و " جمهرة أنساب العرب ": ص 361. وانظر " السيرة " لابن كثير: ص 72، جـ 2 وما بعدها. و " السيرة لابن هشام: ص 409 - 410، جـ 1. (2) " سير أعلام النبلاء ": ص 425 - 426، جـ 2. (3) " البداية والنهاية ": ص 104، جـ 8. (4) " سير أعلام النبلاء ": ص 426، جـ 2. (5) انظر " صحيح البخاري بحاشية السندي ": ص 81، جـ 2، كتاب العتق، باب: (إذا قال رجل لعبده هو لله ونوى العتق، والإشهاد في العتق). وانظر " سير أعلام النبلاء ": ص 446، جـ 2. و" البداية والنهاية ": ص 104، جـ 8.

إسلام أمه:

معه ويدخل بيته، ويحج ويغزو معه، يده في يده، يرافقه في حله وترحاله، في ليله ونهاره، حتيى حمل عنه العلم الغزير الطيب. ... إسلام أمه: أسلم أبو هريرة وهاجر إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاَّ أنَّ أمه بقيت على الشرك، وكان يدعوها إلى الإسلام فلا تستجيب , وأصابه من الهمِّ والحزن ما أصابه، كلما دعاها إلى الإسلام، تأبى عليه، فيزداد همَّهُ وحزنه. وفي يوم دعاها إلى الإسلام فأسمعته في رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يكره، وهنا نفسح لأبي هريرة المجال ليُحدِّثنا عما في نفسه، فيقول: جئت إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أبكي، فقلتُ: يا رسول الله، إني كنت أدعو أم أبي هريرة إلى الإسلام فتأبى عَلَيَّ، وإني دعوتُهَا اليوم، فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أنْ يعدى (1) أم أبي هريرة إلى الإسلام، ففعل. فجئت البيت، فإذا الباب مجاف، وسمعت خضخضة الماء (2)، وسمعت حسي، فقالت: كما أنت (3)، فلبست درعها، وعجلت عن خمارها، ثم قالت: ادخل يا أبا هريرة، فدخلت، فقالت: أشهد أنْ لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمداً عبده ورسوله، فجئت أسعى إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبكي من الفرح، كما بكيت من الحزن، فقلت: أبشر يا رسول الله .. فقد أجاب الله دعوتك، قد هدى الله أم أبي هريرة إلى الإسلام، ثم قلت: يا رسول الله .. ادع الله أنْ يُحَبِّبَنِي وأمِّي إلى المؤمنين والمؤمنات، وإلى كل مؤمن ومؤمنة، فقال: اللهم حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هذا وأمه إلى كل من مؤمن ومؤمنة، فليس يسمع بي مؤمن ولا مؤمنة إلاَّ أحبَّني (4).

_ (1) يريد بها أنْ يميل قلب أم أبي هريرة إلى الإسلام. (2) " طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 55. و " البداية والنهاية ": 8/ 104. (3) " سير أعلام النبلاء ": ص 428، جـ 2. (4) " طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 55. و " البداية والنهاية ": 8/ 104. " سير أعلام النبلاء ": ص 428، جـ 2.

ملازمته رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

لقد فرح أبو هريرة بإسلام أمه فرحاً شديداً، وبقي وفيًّا لها بارًّا بها يخدمها كل حياته، ولم يفارقها أبداً، حتى أنه لم يحجَّ حتى ماتت لصُحبتها (1). ... ملازمته رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صحب أبو هريرة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع سنوات، في حله وترحاله، كان يدخل بيته، ويحضر مجالسه، وقد اتَّخذ الصفة مقاماً له (2). كان رجلاً مسكيناً يخدم رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ملء بطنه، يتنقَّل بين الصحابة يقرئونه القرآن، وجعله رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عريف أهل الصُفَّة، فإذا أراد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنْ يجمعهم لطعام حضر، تقدَّم إلى أبي هريرة ليدعوهم ويجمعهم لمعرفته بهم وبمنازلهم ومراتبهم (3). وكان أبو هريرة يحب رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حباً شديداً، ففي يوم رفع رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدرة ليضربه بها، فقال أبو هريرة: «لأَنْ يَكُونُ ضَرَبَنِي بِهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ; ذَلِكَ بِأَنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ مُؤْمِنًا، وَأَنْ يُسْتَجَابَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعْوَتُهُ» (4). وبينما كان المسلمون يحملون اللَّبَنَ إلى بناء المسجد، ورسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معهم، رآه أبو هريرة وهو عارض لبنة على بطنه، فظن أنها شقت على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستقبله قائلاً:

_ (1) " طبقات ابن سعد ": 4، 2 8 55. سيظهر حبه لأمه في الفقرة (فقره وعفافه). وفي (قبس من أدبه وأخلاقه). (2) " حيلة الأولياء ": ص 379، جـ 1. و " تاريخ الإسلام ": ص 334، جـ 2. (3) " حيلة الأولياء ": ص 376، جـ 1. (4) " البداية والنهاية ": ص 105، جـ 8.

التزام أبي هريرة السنة:

ناولنيها يا رسول الله، فقال - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خُذْ غَيْرَهَا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَإِنَّهُ لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الآخِرَةِ» (1). وكان يحب من أحبه رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقد لقي أبو هريرة الحسن بن علي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - فقال له: «أَرِنِي أُقَبِّلْ مِنْكَ حَيْثُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ»، فَرَفَعَ القَمِيصَ وَقَبَّلَ سُرَّتَهُ (2). لم يفارق أبو هريرة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلاَّ حين بعثه مع العلاء الحضرمي إلى البحرين، ووصَّاهُ به، فجعله العلاء مؤذِّناً بين يديه، وقال له أبو هريرة: «لا تَسْبِقْنِي بِـ (آمِينَ) أَيُّهَا الأَمِيرُ» (3). وستبدو لنا ملازمة أبي هريرة للرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من خلال دراستنا لذلك نكتفي بهذا القدر هنا. كما أرسله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع قُدامة لأخذ جزية البحرين، فقد وجَّه رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتاباً إلى المنذر بن ساوى أمير البحرين فقال: «أما بعد ... فإني بعثت إليك قدامة وأبا هريرة، فادفع إليهما ما اجتمع عندك من جزية أرضك والسلام». وكتب أُبَيٌّ (4). التزام أبي هريرة السُنَّةَ: كان أبو هريرة يسير على هُدَى الرسول الأمين، ويقتدي به، ويُحِّذِرُ

_ (1) " مجمع الزوائد ": ص 9، جـ 2. رواه الإمام أحمد، ورجاله رجال الصحيح. (2) " مسند الإمام أحمد ": 13/ 195، رقم 7455 وفيه: (فقال بالقميصة: يعني رفع القميص). (3) " البداية والنهاية ": 8/ 113، وكان رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ولَّى العلاء الحضرمي البحرين سنة 8 هـ حين انصرف من (الجعرانة)، وكانت عمرة الجعرانة في ذي القعدة من سنة 8 للهجرة. انظر " طبقات ابن سعد ": ص 76 - 77، جـ 4، قسم 2. و " نور اليقين ": ص 239. (4) " الوثائق السياسية ": ص 87.

الناس من الانغماس في ملاذ الدنيا وشهواتها (1)، لا يفرق في ذلك بين غني وفقير، أو بين حاكم ومحكوم، يرشد الأمة إلى الحق والصواب، ها هو ذا يَمُرُّ بقوم يتوضَّأون فيقول لهم: أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا القَاسِمَ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ» (2)، ويسألونه عن القراءة في الصلاة، فيقول: «كُلُّ صَلاةٍ يُقْرَأُ فِيهَا، فَمَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَسْمَعْنَاكُمْ، وَمَا أَخْفَى عَلَيْنَا، أَخْفَيْنَا عَلَيْكُمْ» (3) ودخل أبو هريرة دَارَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَهِيَ تُبْنَى، فَرَأَى فِيهَا تَصَاوِيرَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «يَقُولُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً» (4). وكان لا يقبل مع حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو مع سُنَّته شيئاً، ولا يرضى أنْ يضرب لها الأمثال، ومن ذلك ما قاله لرجل: «يَا ابْنَ أَخِي إِذَا حَدَّثْتُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثًا، فَلاَ تَضْرِبْ لَهُ الأَمْثَالَ» (5) وكان يقول: «ثَلاَثٌ أَوْصَانِي بِهِنَّ خَلِيلِي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لاَ أَدَعُهُنَّ أَبَدًا: الْوَتْرُ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ، وَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَالْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» (6). حقاً إنَّ أبا هريرة لم يدع ذلك (7)، فقد سأله عثمان النهدي: كيف

_ (1) " حلية الأولياء ": ص 380، جـ 1. و " البداية والنهاية ": ص 111، جـ 8. (2) " مسند الإمام أحمد ": ص 89، جـ 12، رقم 7122، إسناده صحيح. (3) المرجع السابق، ص 245، جـ 12، رقم 7494، إسناده صحيح. يريد ما جهر به الرسول من القراءة، جهر به وما أَسَرَّ به، أَسَرَّ به. (4) " مسند الإمام أحمد ": ص 148، رقم 7166، جـ 12، وإسناده صحيح. وأخرجه البخاري. (5) " سنن ابن ماجه ": ص 10، حديث 22، جـ 1. و " سنن البيهقي ": ص 10، جـ 1. وانظر نحو هذا من قول أبي هريرة لابن العباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - في " سنن الترمذي ": ص 115، جـ 1. (6) " مسند الإمام أحمد ": ص 194، رقم 7457، جـ 13، وانظر الأحاديث: 7138 و 7180، بإسناد صحيح. وانظر " مسند ابن راهويْه ": ص 15، جـ 4. (7) راجع " مسند الإمام أحمد " أنه يروي كثيراً عنه مِمَّا يدل على ما ذكره أعلاه، مثاله ص 108، جـ 12.

تصوم؟ قال: أصوم من أول الشهر ثلاثاً (1)، كما كان يصوم الاثنين والخميس (2). وكان أحياناً يصوم مع بعض أصحابه، ويجلسون في المسجد، يقولون: نطهر صيامنا (3). قال أبو رافع: صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، صَلاةَ الْعَتَمَةِ - أَوْ قَالَ: صَلاةَ الْعِشَاءِ - فَقَرَأَ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (4)، فَسَجَدَ فِيهَا، فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ!؟ فقال: سَجَدْتُ فِيهَا خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلا أَزَالُ أَسْجُدُهَا حَتَّى أَلْقَاهُ (5). وواضح أنَّ السجود المقصود هو سجود التلاوة في الآية الكريمة {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} (6). وكان يحب التطهر ويخشى الوقوع في المعصية،حتى أنه خشي على نفسه - وهو شاب في أول عهده بالرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنْ يقع بالزنا، فقال: يا رسول الله ... إِنِّي رَجُلٌ شَابٌّ، قَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِيَ الْعَنَتَ، وَلاَ أَجِدُ طَوْلاً أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، أَفَأَخْتَصِي؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَالَ ثَلاَثًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاَقٍ، فَاخْتَصِ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ دَعْ» (7) أي كتب عليك ما أنت عليه، فاستسلم لذلك، أو لا تستسلم له، وليس هذا من باب التخيير بل من باب الردع، ليحمل أبا هريرة على الصبر، وعلى حفظ نفسه، ومهما يكن هذا الخبر، فإنه يدل على ورع أبي هريرة وتقواه، وحرصه على التزام طاعة الله ورسوله، وخشيته من الزلل في المعاصي فتقدم مضحياً بشهوته وبنفسه ليرضى عنه الله ورسوله، ولما عرف من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم ما سأله، امتثل لأمره، والتزم الصبر والعبادة.

_ (1 و 2) " سير أعلام النبلاء ": ص 438، جـ 2. (3) " البداية والنهاية ": ص 112، جـ 8. (4) [الانشقاق: 1]. (5) " مسند الإمام أحمد ": ص 122. حديث 7140، جـ 12 بإسناد صحيح. (6) [الانشقاق: 21].

كان يخشى الله كثيراً سراً وعلانية، فإذا مَرَّتْ به جنازة، يقول: «رُوحِي فَإِنَّا غَادُونَ، أَوِ اغْدِي فَإِنَّا رَائِحُونَ، مَوْعِظَةٌ بَلِيغَةٌ، وَغَفْلَةٌ سَرِيعَةٌ، يَذْهَبُ الأَوَّلُ وَيَبْقَى الآخِرُ لا عَقْلَ لَهُ!!؟» (1). وكان حريصاً على الاقتداء برسول الله في جُلِّ أعماله وتصرُّفاته وذكره وعبادته، من ذلك ما رواه الإمام أحمد عن الزهري عن أبي سلمة: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، كَانَ يُكَبِّرُ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ، وَيَقُولُ: «إِنِّي أَشْبَهُكُمْ صَلاَةً بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» (2). ومن هذا أيضاً ما رواه الترمذي بسنده عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اسْتَخْلَفَ مَرْوَانُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى المَدِينَةِ، وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ، فَصَلَّى بِنَا أَبُو هُرَيْرَةَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَرَأَ سُورَةَ الجُمُعَةِ، وَفِي السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ: {إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ} (3)، قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَأَدْرَكْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ لَهُ: تَقْرَأُ بِسُورَتَيْنِ كَانَ عَلِيٌّ يَقْرَأُ بِهِمَا بِالكُوفَةِ!؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنِّي «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهِمَا» (4). ومن ذلك ما رواه سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسول الله، أيصلي أحدنا في ثوب؟ قال: أولكلكم ثوبان!؟ قال أبو هريرة: أتعرف أبا هريرة! يصلي في ثوب واحد، وثيابه على الشجب (5). عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُصَلِّي أَحَدُنَا فِي ثَوْبٍ؟ قَالَ: «أَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ؟» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «أَتَعْرِفُ أَبَا هُرَيْرَةَ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَثِيَابُهُ عَلَى الْمِشْجَبِ» (5). ونرى أبا هريرة يُحَدِّثُ مَنْ حوله عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدَكُمْ جَارُهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ فَلاَ يَمْنَعْهُ، فَلَمَّا

_ (1) " حلية الأولياء ": ص 383، جـ 1. و " البداية والنهاية ": ص 112و 114، جـ 8. (2) " مسند الإمام أحمد ": ص 208. حديث 7219، جـ 12. (3) [المنافقون: 1]. (4) " سنن الترمذي "، تحقيق أحمد محمد شاكر: ص 396 - 397، جـ 2. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (5) " مسند الإمام أحمد ": ص 242. حديث 7250، جـ 12. وإسناده صحيح.

حَدَّثَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ، طَأْطَئُوا رُءُوسَهُمْ، فَقَالَ: «مَا لِي أَرَاكُمْ مُعْرِضِينَ؟ وَاللهِ لأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ» (1). لقد حدَّثهم في حسن الجوار ومعاملة الجار جاره، وحين رآهم مُعرضين اشتدَّ عليهم وأبى ألاَّ يعملوا ومعاملة الجار جاره، وحين رآهم معرضين اشتدَّ عليهم وأبى ألاَّ يعملوا طبقاً للسُنَّة وأحكامها وإنَّ قوله هذا وشدَّته، لا تقلُّ عن شِدَّة الفاروق عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وما أجمل عضبه لله ورسوله، الذي ظهر في عبارته «وَاللهِ لأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ». ومعنى قوله هذا: أنها كانت على ظهورهم وبين أكتافهم لا يقدرون أنْ يعرضوا عنها، لأنهم حاملوها (2). واختلف الفقهاء: أهذا حق على الجار لجاره واجب؟ أم هو أدب؟. قال الخطابي في " المعالم " (3487) من " تهذيب السنن ": «عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ يَذْهَبُونَ فِي تَأْوِيلِهِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِإِيْجَابٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْمَعْرُوفِ وَحَسُنِ الْجَوَارِ، إِلاَّ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَإِنَّهُ رَآهُ عَلَى الْوُجُوبِ وَقَالَ عَلَى الْحُكَّامِ أَنْ يَقْضُوا بِهِ عَلَى الجَارِ وَيُمْضُوهُ عَلَيْهِ إِنْ امْتَنَعَ مِنْهُ» (3). وقد أوصى الله ورسوله بالجار خيراً، لهذا كان على الجار أنْ يحسن جوار جاره، وأرى في مذهب الفقهاء ومذهب الإمام أحمد ما فيه مصلحة المسلمين جميعاً، وإنْ حمل الأمر فيه على الندب والأدب لا يمنع القاضي من أنْ يحكم بوجوب غرز الخشبة إذا وجد في ذلك مصلحة لأحدهما لا تضر بمصلحة الآخر. وعن سعيد بن المسيب عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَجُلٌ: كَمْ يَكْفِي رَأْسِي فِي الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ؟ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُبُّ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاثًا». قَالَ: إِنَّ شَعْرِي كَثِيرٌ؟ قَالَ: «كَانَ شَعْرُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ وَأَطْيَبَ». وكان يسيئه أنْ يرى بعض المُصَلِّينَ يتأخَّرُون يوم الجمعة في حضورهم إلى الجامع حتى يخطب الإمام، فيقول: «لأَنْ يُصَلِّيَ أَحَدُكُمْ بِظَهْرِ الْحَرَّةِ،

_ (1) " مسند الإمام أحمد ": ص 273. حديث 7276، جـ 12. وإسناده صحيح. (2 و 3) انظر هامش ص 274، جـ 12 من " مسند الإمام أحمد ". (4) " مسند الإمام أحمد ": ص 151. حديث 7412، جـ 13. وإسناده صحيح. ورواه " ابن ماجه "، كما ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد ": ص 271، جـ 1.

خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَقْعُدَ، حَتَّى إِذَا قَامَ الإِمَامُ يَخْطُبُ، جَاءَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» (1)، وفي قوله هذا دعوة المصلين إلى الحضور في أول الوقت، عملاً بالسُنَّة الشريفة، فقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلائِكَةٌ، يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ، فَإِذَا جَلَسَ الإِمَامُ طَوَوُا الصُّحُفَ، وَجَاءُوا فَاسْتَمَعُوا الذِّكْرَ» (2)، وإلى جانب العمل بهذا الحديث، فإنَّ قول أبي هريرة صادر عن نفس طيِّبة، مرهفة الحسن، تشعر بشعور الآخرين، وتراعي إحساسهم، فقد أدرك ما في تخطي رقاب الناس من إزعاج المصلِّين، وإضاعة بعض الفائدة عليهم، فقال مقالته تلك. ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد أَنَّ أَبَا السَّائِبِ، مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى صَلاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ، فَهِيَ خِدَاجٌ، هِيَ خِدَاجٌ غَيْرُ تَمَامٍ». قَالَ أَبُو السَّائِبِ لأَبِي هُرَيْرَةَ: يا أَبَا هُرَيْرَةَ إِنِّي أَكُونُ أَحْيَانًا وَرَاءَ الإِمَامِ؟ قَالَ أَبُو السَّائِبِ: فَغَمَزَ أَبُو هُرَيْرَةَ ذِرَاعِي، فَقَالَ: «يَا فَارِسِيُّ، اقْرَأْهَا فِي نَفْسِكَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي ... » (3). لقد أبى أبو هريرة إلاَّ أنْ يقف عند حديث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويؤمره في جميع أحواله،

_ (1) " موطأ الإمام مالك ": ص 110 جـ 1. (2) " مسند الإمام أحمد ": ص 18، حديث 7572، جـ 14. (3) وتتمة الحديث: «نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي، وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَءُوا، يَقُولُ: فَيَقُولُ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، فَيَقُولُ اللهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَيَقُولُ الْعَبْدُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]، فَيَقُولُ اللهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، فَيَقُولُ الْعَبْدُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، فَيَقُولُ اللهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ: هَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، يَقُولُ الْعَبْدُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، قَالَ: أَجِدُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. قَالَ: يَقُولُ عَبْدِي: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: هَذَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» " مسند الإمام أحمد ": ص 231، حديث 7823، جـ 14.

وحض الناس على الاقتداء بالرسول الكريم، وعلى العمل بسُنَّته الطاهرة. وكان يطبق ذلك على نفسه وأهله، فقد سمع من الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوله: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى، وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ» (1)، فكان هذا ديدنه، يصوم النهار، ويقوم الليل، يقوم ثلث الليل، ثم يوقظ امرأته فتقوم ثلثه، ثم توقظ هذه ابنته لتقوم ثلثه (2)، هكذا كانوا يتناوبون العبادة في الليل. وقد شهد بذلك ضيوفه وإخوانه، الذين خالطوه وعرفوه، وعاشوا معه. وكان ورعاً تقياً يحب التقرُّب إلى الله، وكثيراً ما كان يقابل المسيء بالحُسنى، من هذا أنَّ زنجيَّة كانت له، قد غمتهم بعلمها، فرفع عليها يوماً السوط، ثم قال: «لَوْلاَ القِصَاصُ يَوْمَ القِيَامَةِ لأَغْشَيْتُكِ بِهِ وَلَكِنِّي سَأَبِيعُكِ مِمَّنْ يُوَفِّينِي ثَمَنَكِ أَحْوَجَ مَا أَكُونُ إِلَيْهِ، اذْهَبِي فَأَنْتِ حُرَّةٌ للهِ عَزَّ وَجَلَّ». وكان لأبي هريرة مسجد في مخدعه، ومسجد في بيته، ومسجد في حُجرته، ومسجد على باب داره، إذا خرج صلَّى فيها جميعاً، وإذا دخل صلى فيها جميعاً (4). وكان يكثر من التسبيح والتكبير في أطراف النهار والليل، وكان يُسبِّحُ كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة، ويقول: «أُسَبِّحُ بِقَدْرِ ذَنْبِي» (5)، وكان يكثر الاستعاذة بالله من النار، ويُذَكِّرُ الناس بالله - عَزَّ وَجَلَّ -، ويحثَّهُمْ على طاعته (6). وكثيراً ما كان يُحَذِّرُ الناس من فساد الزمان، فيقول: إذا رأيتم

_ (1) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه. (2) " البداية والنهاية ": ص 110، جـ 8. وفي " مسند ابن راهويه ": ص 16، جـ 4. و " سير أعلام النبلاء ": ص 438، جـ 2 (كان هو وامرأته وخادمه). (3) " حلية الأولياء ": ص 384، جـ 1، و " البداية والنهاية ": ص 112، جـ 8. (4) " البداية والنهاية ": ص 110، جـ 8. وابن عساكر: ص 509، جـ 47. (5 و 6) " سير أعلام النبلاء ": ص 439، جـ 2. و ص 428، جـ 2. و " البداية والنهاية ": ص 110 و 112، جـ 8. و " تاريخ الإسلام ": ص 336، جـ 2.

فقره وعفافه:

ستاً فأنْ كانت نفس أحدكم في يده فليرسلها، فلذلك أتمنى الموت، أخاف أنْ يدركني: إذا أمرت السفهاء، وبيع الحكم، وتهون الدم، وقطعت الأرحام، وكثرت الجلاوزة، ونشأ نشء يتَّخذون القرآن مزامير (1). ولم يكن نصحه للناس فقط، بل كان يطبِّق هذا على نفسه وأهله، من ذلك أنَّ ابنته كانت تقول له: «يَا أَبَتِ ... إِنَّ البَنَاتَ يُعَيِّرْنَنِي، يَقُلْنَ: لِمَ لاَ يُحَلِّيكِ أَبُوكِ بِالذَّهَبِ؟»، فيقول: «يَا بَنَيَّةَ .. قُولِي لَهُنََّّ: إِنَّ أَبِي يَخْشَى عَلَيَّ حَرَّ اللَّهَبِ» (2). وأخباره في هذا الباب كثيرة، وأختم تمسُّكه بسُنَّة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بما رواه سعيد بن المسيب عنه، قال: لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ بِالْمَدِينَةِ مَا ذَعَرْتُهَا، إنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا حَرَامٌ» (3). ... فقره وعفافه: كان أبو هريرة أحد أعلام الفقراء والمساكين، صبر على الفقر الشديد، حتى أنه كان يلصق بطنه بالحصى من الجوع، يطوي نهاره وليله من غير أنْ يجد ما يقيم صلبه، يروي أبو هريرة عن نفسه فيقول: «إِنِّي كُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بِشَبَعِ بَطْنِي، حَتَّى لاَآكُلَ الخَمِيرَ، وَلاَ أَلْبَسَ الحَبِيرَ، وَلاَ يَخْدِمُنِي فُلاَنٌ وَفُلاَنَةٌ، وَإِنْ كُنْتُ لاَسْتَقْرِئُ الرَّجُلَ الآيَةَ مِنْ كِتَاِب اللهِ هِيَ مَعِي، كَيْ يَنْقَلِبَ بِي فَيُطْعِمَنِي» (4)، ويقول: «وَكُنْتُ فِي سَبْعِينَ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الصُفَّةِ

_ (1) " حلية الأولياء ": ص 384، جـ 1. و " البداية والنهاية ": ص 113، جـ 1. الجِلاوزة، بكسر الجيم: الشرطة. مفردها الجلواز: الشرطي. " القاموس المحيط " مادة (جلز). (2) " حلية الأولياء ": ص 380 جـ 1. و " البداية والنهاية ": ص 111، جـ 8. (3) " مسند الإمام أحمد ": ص 207، جـ 12، رقم 7217 بإسناد صحيح. واللابة: الحرَّة، وهي الأرض ذات الحجارة السود الكثيرة. ما ذرعتها: ما أفزعتها. (4) " فتح الباري ": ص 77، جـ 8. وانظر " حلية الأولياء ": ص 376 و 379 جـ 1. وفي " صحيح البخاري ": في الاستئذان «إِنْ كُنْتُ لأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الأَرْضِ مِنَ الجُوعِ». والحبير - بفتح الحاء - من البرد ما كان مُوَشَّى مخطَّطاً، يقال بُرْدٌ حبير، وبُرْدٌ حِبِرَةٌ بوزن عنبة.

ما منهم رجل عليه رداء، إما بُرْدَةٌ، أو كساء قد ربطوها في أعناقهم (1). ويشتدُّ بهم الألم من الجوع، فيخرج من بيته إلى المسجد، لا يخرجه إلاَّ الجوع، فيجد نفراً من أصحاب رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيقولون: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ .. مَا أَخْرَجَكَ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ فَيَقُولُ: «مَا أَخْرَجَنِي إِلاَّ الْجُوعُ». فَقَالُوا: نَحْنُ وَاللَّهِ مَا أَخْرَجَنَا إِلاَّ الْجُوعُ. يقول أبو هريرة: فَقُمْنَا فَدَخَلْنَا عَلَى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «مَا جَاءَ بِكُمْ هَذِهِ السَّاعَةَ؟» فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَاءَ بِنَا الْجُوعُ. قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِطَبَقٍ فِيهِ تَمْرٌ فَأَعْطَى كُلَّ رَجُلٍ مِنَّا تَمْرَتَيْنِ فَقَالَ: «كُلُوا هَاتَيْنِ التَّمْرَتَيْنِ وَاشْرَبُوا عَلَيْهِمَا مِنَ الْمَاءِ فَإِنَّهُمَا سَتَجْزِيَانِكُمْ يَوْمَكُمْ هَذَا». قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَكَلْتُ تَمْرَةً وَجَعَلْتُ تَمْرَةً فِي حُجْرَتِي. فقال رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ لِمَ رَفَعْتَ هَذِهِ التَّمْرَةَ؟»، فَقُلْتُ: «رَفَعْتُهَا لأُمِّي». فَقَالَ: «كُلَّهَا فَإِنَّا سَنُعْطِيكَ لَهَا تَمْرَتَيْنِ». فَأَكَلْتُهَا فَأَعْطَانِي لَهَا تَمْرَتَيْنِ.!! (2). أقول: هكذا فليكن الأبناء، ونعم الابن أنت يا أبا هريرة. وكثيراً ما كان يؤلمه الجوع، فيخرُّ مغشياً عليه في مسجد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيما بين منزل عائشة والمنبر، فيمرُّ به الرجل، فيظن به جنوناً، فيجلس على صدره، فيرفع أبو هريرة رأسه ليقول له: «لَيْسَ الَّذِي تَرَى، إِنَّمَا هُوَ الجُوْعُ» (3). ومِمَّا يقوله أبو هريرة: «إِنْ كُنْتُ لأَعْتَمِدُ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الجُوعِ، وَإِنْ كُنْتُ لأَشُدُّ الحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الجُوعِ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ عَلَى طَرِيْقِهِمْ،

فَمَرَّ بِي أَبُو بَكْرٍ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ - مَا أَسْأَلُهُ إِلاَّ لِيَسْتَتْبِعَنِي (1) -، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ، فَمَرَّ عُمَرُ، فَكَذَلِكَ، حَتَّى مَرَّ بِي رَسُوْلُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَرَفَ مَا فِي وَجْهِي مِنَ الجُوْعِ، فَقَالَ: «أَبُو هُرَيْرَةَ»؟ قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُوْلَ اللهِ. فَدَخَلْتُ مَعَهُ البَيْتَ، فَوَجَدَ لَبَناً فِي قَدَحٍ، فَقَالَ: «مِنْ أَيْنَ لَكُم هَذَا؟». قِيْلَ: أَرْسَلَ بِهِ إِلَيْكَ فُلاَنٌ. فَقَالَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، انْطَلِقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَادْعُهُمْ». وَكَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافَ الإِسْلاَمِ، لاَ أَهْلَ وَلاَ مَالَ، إِذَا أَتَتْ رَسُوْلَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَةٌ، أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يُصِبْ مِنْهَا شَيْئاً، وَإِذَا جَاءتْهُ هَدِيَّةٌ أَصَابَ مِنْهَا، وَأَشْرَكَهُمْ فِيْهَا، فَسَاءنِي إِرْسَالُهُ إِيَّايَ، فَقُلْتُ: كُنْتُ أَرْجُو أَنْ أُصِيْبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا، وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ!! وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُوْلِهِ بُدٌّ، فَأَتَيْتُهُمْ، فَأَقْبَلُوا مُجِيبِينَ. فَلَمَّا جَلَسُوا، قَالَ: «خُذْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَأَعْطِهِمْ». فَجَعَلْتُ أُعْطِي الرَّجُلَ، فَيَشْرَبُ حَتَّى يُرْوَى، حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَنَاوَلْتُهُ رَسُوْلَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ مُتَبَسِّماً، وَقَالَ: «بَقِيْتُ أَنَا وَأَنْتَ». قُلْتُ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَاشْرَبْ»، فَشَرِبْتُ، قَالَ: «اشْرَبْ» فَشَرِبْتُ، فَمَا زَالَ يَقُولُ: «اشْرَبْ» فَأَشْرَبُ، حَتَّى قُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أَجِدُ لَهُ مَسَاغًا، قَالَ: فَأَخَذَ فَشَرِبَ مِنَ الْفَضْلَةِ. (2). وإليكم عِفَّةَ نفس أبي هريرة والجوع يُقَطِّعُ أمعاءه، يقول: أَتَيْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقُمْتُ لَهُ وَهُوَ يُسَبِّحُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَانْتَظَرْتُهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ دَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْتُ: أَقْرِئْنِي، وَمَا أُرِيدُ إِلَّا الطَّعَامَ، قَالَ: فَأَقْرَأَنِي آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، فَلَمَّا

_ (1) كنت ذكرت استقراءه بعض الصحابة الآية من القرآن وهي معه. انظر " فتح الباري: ص 77، جـ 8. فضائل (جعفر بن أبي طالب). (2) " سير أعلام النبلاء ": ص 477، جـ 2. رواه البخاري مطوَّلاً في كتاب الدعوات. باب (كيف كان عيش النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه وتخليهم عن الدنيا). انظر " صحيح البخاري بحاشية السندي ": ص 122، جـ 4.

بَلَغَ أَهْلَهُ دَخَلَ وَتَرَكَنِي عَلَى الْبَابِ فَأَبْطَأَ، فَقُلْتُ: يَنْزِعُ ثِيَابَهُ ثُمَّ يَأْمُرُ لِي بِطَعَامٍ، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَلَمَّا طَالَ عَلَيَّ، قُمْتُ فَمَشَيْتُ فَاسْتَقْبَلَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إِنَّ خُلُوفَ فَمِكَ اللَّيْلَةَ لَشَدِيدٌ!!؟» فَقُلْتُ: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدْ ظَلَلْتُ صَائِمًا، وَمَا أَفْطَرْتُ بَعْدُ، وَمَا أَجِدُ مَا أُفْطِرُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَانْطَلَقَ فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ حَتَّى أَتَى بَيْتَهُ فَدَعَا جَارِيَةً لَهُ سَوْدَاءَ. فَقَالَ: «آتِينَا بِتِلْكَ الْقَصْعَةِ». قَالَ: فَأَتَتْنَا بِقَصْعَةٍ فِيهَا وَضَرٌ مِنْ طَعَامٍ - أُرَاهُ شَعِيرًا - قَدْ أُكِلَ وَبَقِيَ فِي جَوَانِبِهَا بَعْضُهُ - وَهُوَ يَسِيرُ - فَسَمَّيْتُ وَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُهُ، فَأَكَلْتُ حَتَّى شَبِعْتُ» (1). وكان أبو هريرة يقول: «نَشَأْتُ يَتِيمًا، وَهَاجَرْتُ مِسْكِينًا، وَكُنْتُ أَجِيرًا لِبُسْرَةَ بِنْتِ غَزْوَانَ بِطَعَامِ بَطْنِي، وَعُقْبَةِ (2) رِجْلِي، فَكُنْتُ أَخْدُمُ إِذَا نَزَلُوا، وَأَحْدُو إِذَا رَكِبُوا، فَزَوِّجْنِيهَا اللَّهُ , فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الدِّينَ قِوَامًا , وَجَعَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ إِمَامًا» (3). وقال إمام التابعين سعيد بن المسيب (13 - 93 هـ): رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَطُوفُ بِالسُّوقِ، ثُمَّ يَأْتِي أَهْلَهُ، فَيَقُولُ: «هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟» فَإِنْ قَالُوا: لاَ، قَالَ: «فَإِنِّي صَائِمٌ» (4). فلم يكن أبو هريرة نهماً ذا بطنة، وما كان في يوم عبداً لشهوة بطنه، بل كان يكتفي بما يعلِّلُ به نفسه، أو يمسك عليه رمقه، فإذا ما أصبح لديه خمس عشرة تمرة، أفطر على خمس، وتسحَّر بخمس، وأبقى خمساً لفطره (5). لقد صبر على الفقر طويلاً حتى أفضى به إلى الظل المديد، والخير الكثير، وبارك الله له في ماله، فكان كثير الشكر لله، يذكر دائماً أيام

_ (1) " حلية الأولياء ": ص 378، جـ 1. و " البداية والنهاية ": ص 111، جـ 8. (2) العقبة، أي نوبة ركوبه. (3) " طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 53. و " تذكرة الحفاظ ": ص 32، جـ 1. و " البداية والنهاية ": ص 110، جـ 8. و " سير أعلام النبلاء ": ص 440، جـ 2. (4) " حلية الأولياء ": ص 381، جـ 1. (5) " حلية الأولياء ": ص 384، جـ 1. و " البداية والنهاية ": ص 112، جـ 8. وانظر الباب الثاني في الرد على الشُبه التي أثارها بعض أعداء أبي هريرة.

كرم أبي هريرة:

فقره، ويذكِّرُ الناس نعم ربهم، ويدعوهم إلى الاقتداء برسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من ذلك أنَّ أبا هريرة مَرَّ بقوم بين أيديهم شاة مصليَّة، فدعوه أنْ يأكل فأبى وقال: «إنَّ رَسُولَ الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَا شَبِعَ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ» (1). وقال مضارب بن حزن: «بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ تَحْتَ اللَّيْلِ، إِذَا رَجُلٌ يُكَبِّرُ، فَأُلْحِقُهُ بَعِيرِي، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ. قُلْتُ: مَا هَذَا التَّكْبِيرُ؟ قَالَ: شُكْرٌ. قُلْتُ: عَلَى مَهْ؟ قَالَ: كُنْتُ أَجِيراً لِبُسْرَةَ بِنْتِ غَزْوَانَ ... فَزَوَّجَنِيهَا اللهُ!! فَهِيَ امْرَأتِي!!» (2). ويأتيه ضيوف، فيبعث إلى أمه: «إِنَّ ابْنَكِ يُقْرِئُكِ السَّلاَمَ وَيَقُولُ: أَطْعِمِينَا شَيْئًا» فَتُرْسِلُ إِلَيْهِ ثَلاَثَةَ أَقْرَاصٍ فِي الصَحْفَةِ، وَشَيْئًا مِنْ زَيْتٍ وَمِلْحٍ، فَلَمَّا وَضَعَهَا رَسُولُهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، كبَّر أبو هريرة، وقال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَشْبَعَنَا مِنَ الْخُبْزِ , بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ طَعَامُنَا إِلاَّ الأََسْوَدَيْنِ: التَّمْرَ وَالْمَاءَ» (3). ويتمخَّطُ في ثوب من كتان مُمَشَّقٍ، فيقول: «بَخٍ بَخٍ!! يَتَمَخَّطُ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي الْكَتَّانِ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لأَخِرُّ فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحُجْرَةِ عَائِشَةَ مَغْشِيًّا عَلَيَّ، يَجِيءُ الجَائِي يَرَى أَنَّ بِيَ جُنُوناً، وَمَا بِي إِلاَّ الجُوعُ» (4)!!. ... كرم أبي هريرة: كان أبو هريرة عفيف النفس مع فقره، فياض اليد، مبسوط الكف، جواداً، يحب الخير، ويكرم الضيوف، لا يبخل بما بين يديده، وإنْ كان قليلاً، فلم يحمله فقره على الشح، ولم يجعله دنيء النفس، يتكفَّفُ الناس ..

_ (1) " تاريخ الإسلام ": ص 338، جـ 2. رواه البخاري. (2) " سير أعلام النبلاء ": ص 440، جـ 2. و " الإصابة ": ص 206، جـ 7. (3) " سير أعلام النبلاء ": ص 439، جـ 2. (4) " طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 53. و " سير أعلام النبلاء ": ص 426، جـ 2. و " تاريخ الإسلام ": ص 335، جـ 2.

بل آثر أنْ يأكل الجوع بطنه من أنْ يأكل هو فتات الموائد، وفضلات الطعام، وفي عسره كله كان ضيف الإسلام وضيف رسول الله وصحبه، حتى إذا ما يسَّر الله عليه لم يجعله غناه قاسي القلب، تحجِّر الفؤاد، بل كان علماً من أعلام الجود والكرم. قَالَ الطُّفَاوِيُّ: «نَزَلْتُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ بِالمَدِيْنَةِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَلَمْ أَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلاً أَشَدَّ تَشْمِيراً، وَلاَ أَقْوَمَ عَلَى ضَيْفٍ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ». (1). وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِي: «قَالَ تَضَيَّفْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ سَبْعًا (2) فَكَانَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَخَادِمُهُ يَعْتَقِبُونَ اللَّيْلَ أَثْلاَثًا». كان أبو هريرة طيِّب الأخلاق، صافي السريرة، يحب الخير، حتى أنه تصدَّق بدار له في المدينة على مواليه (3)!!. ويكفيه من الكرم أنْ يتصدَّق بكل ما تيسَّر له، ويظهر هذا فيما يرويه لنا كاتب مروان بن الحكم، قال: بَعَثَ مَرْوَانُ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَلَمَّا كَانَ الغَدُ بَعَثَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِنِّي غَلَطْتُ، وَلَمْ أُرِدْكَ بِهَا، وَإِنِّي إِنَّمَا أَرَدْتُ غَيْرَكَ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «قَدْ أَخْرَجْتُهَا، فَإِذَا خَرَجَ عَطَائِي فَخُذْهَا مِنْهُ -». وَكَانَ قَدْ تَصَدَّقَ بِهَا - وَإِنَّمَا أَرَادَ مَرْوَانُ اخْتِبَارَهُ (4)!!. ذلكم أبو هريرة في فقره وغناه، في عسره ويسره، كان يفعل كل هذا لا يريد جزاءً ولا شُكُوراً، يبتغي وجه الله بعمله، وكان على ذلك منذ أيامه الأولى في الإسلام، فيوم هاجر مسلماً إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المدينة، كان له غلام قد أبق منه، ولقي أبو هريرة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأعلن إسلامه، وإذا بغلامه يأتي، فيقول

_ (1) " سير أعلام النبلاء ": ص 428، جـ 2. و " تاريخ الإسلام ": ص 336، جـ 2. (2) " تاريخ الإسلام ": ص 337، جـ 2. و " حلية الأولياء ": ص 383، جـ 1. و " سير أعلام النبلاء ": ص 438، جـ 2. وأبو عثمان هذا هو عبد الرحمن بن علي بن عمرو بن عدي سَكَنَ الكوفة، أسلم على عهد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يلقه، وهو ثقة صالح، توفي سنة (95 هـ) وقيل غير ذلك. راجع " تهذيب التهذيب ": ص 276، جـ 6. (3) " طبقات ابن سعد ": 4 " 2/ 63. و " سير أعلام النبلاء ": ص 423، جـ 2. (4) " البداية والنهاية ": ص 114، جـ 8.

ولايته في عهد عمر - رضي الله عنه -:

رسول الله - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -: «هَذَا غُلاَمُكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ». فَيَقُولُ: «هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ» فَيُعْتِقُهُ (1). لقد أعتق أبو هريرة مملوكه قربة لله، فرحاً مسروراً، وهو أحوج ما يكون إليه، فعوَّضهُ اللهُ خيراً منه، الإسلام وصُحبة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي هذا قُرَّةُ عَيْنٍ له، وسعادة أبدية، تفوق كل سعادة. وكان يحب أنْ يتصدَّق من ماله، ليشعر بالراحة النفسية، وينال أجره مرتين، قيراط لعمله وآخر لصدقته، يُرْوَى عنه أنه قَالَ: دِرْهَمٌ يَكُوْنُ مِنْ هَذَا - وَكَأَنَّهُ يَمْسَحُ العَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ - أَتَصَدَّقُ بِهِ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مائَةِ أَلْفٍ، وَمائَةِ أَلْفٍ، وَمائَةِ أَلْفٍ، مِنْ مَالِ فُلاَنٍ» (2). ... ولايته في عهد عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قد أرسل أبا هريرة مع العلاء الحضرمي إلى البحرين لينشر الإسلام ويُفَقِّهَ المسلمين ويُعلِّمهم أمور دينهم، فَحَدَّثَ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأفتى الناس. وفي عهد عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - استعمله على البحرين، فقدم بعشرة آلاف، فقال له عمر: «اسْتَأْثَرْتَ بِهَذِهِ الأَمْوَالِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، وَعَدُوَّ كِتَابِهِ؟. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «فَقُلْتُ لَسْتُ بِعَدُوَّ اللَّهِ، وَلاَ عَدُوَّ كِتَابِهِ، وَلَكِنِّي عَدُوُّ مَنْ عَادَاهُمَا». قَالَ: «فَمِنْ أَيْنَ هِيَ لَكَ؟». قُلْتُ: «خَيْلٌ نَتَجَتْ، وَغُلَّةُ رَقِيقٍ لِي، وَأُعْطِيَةٌ تَتَابَعَتْ عَلَيَّ».

_ (1) " البداية والنهاية ": ص 104، جـ 8. و " سير أعلام النبلاء ": ص 446، جـ 2. (2) " سير أعلام النبلاء ": ص 442، جـ 2. في سنده مقال لأنَّ هشام بن عروة يرويه عن رجل عن أبي هريرة، ومع هذا فليس بعيداً عن أبي هريرة أنْ يقول هذا.

فَنَظَرُوا، فَوَجَدُوا كَمَا قَالَ (1). وفي رواية عنه: «خَيْلٌ لِي تَنَاتَجَتْ وَسِهَامٌ لِيَ اجْتَمَعَتْ. فَأَخَذَ مِنِّي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا». وفي رواية همام بن يحيى، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طليحة: أنَّ عمر قال لأبي هريرة: كيف وجدت الإمارة؟ قال: بعثتني وأنا كاره، ونزعتني وقد أحببتها، وأتاه بأربعمائة ألف من البحرين، قال: أظلمت أحداً؟ قال: لا. قال: فما جئت به لنفسك؟ قال: عشرين ألفاً. قال: من أين أصبتها؟ قال: كنت أتجر. قال: انظر رأس مالك ورزقك، فخذه واجعل الآخر في بيت المال (3). أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لأَبِي هُرَيْرَةَ: «كَيْفَ وَجَدْتَ الإِمَارَةَ؟» قَالَ: «بَعَثْتَنِي وَأَنَا كَارِهٌ، وَنَزَعْتَنِي وَقَدْ أَحْبَبْتُهَا». وَأَتَاهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، قَالَ: «أَظْلَمْتَ أَحَدًا؟» قَالَ: «لاَ» ... قَالَ: «فَمَا جِئْتَ بِهِ لِنَفْسِكَ؟» قَالَ: «عِشْرِينَ أَلْفًا». قَالَ: «مِنْ أَيْنَ أَصَبْتَهَا؟»، قَالَ: «كُنْتُ أَتَّجِرُ»، قَالَ: «انْظُرْ رَأْسَ مَالِكٍ وَرِزْقَكَ، فَخُذْهُ وَاجْعَلِ الآخَرَ في بيت المال» (3). فقد قاسمة عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مع جملة من العُمَّال، وكان أبو هريرة يقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَمِيرِِ المُؤمِنِينَ» (4). وبعد ذلك دعاه عمر ليوليه، فأبى، فقال: «تَكْرَهُ الْعَمَلَ وَقَدْ طََلَبَ العَمَلَ مَنْ كَانَ خَيْراً مِنْكَ، يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -!؟». فقال: «يُوسُفُ نَبِيٌّ ابْنُ نَبِيٍّ، وَأَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ بْنُ أُمَيْمَةَ، وَأَخْشَى مِنْ عَمَلِكُمْ ثَلاَثاً وَاثْنَتَيْنِ». قَالَ: «فَهَلاَّ قُلْتَ خَمْساً؟». قَالَ: «لاَ، أَخَافُ أَنْ أَقُوْلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَأَقْضِيَ بِغَيْرِ حِلْمٍ، وَأَنْ يُضْرَبَ ظَهْرِي، وَيُنْزَعَ مَالِي، وَيُشْتَمَ عِرْضِي» (5). ...

_ (1) " تاريخ الإسلام ": ص 338، جـ 2. و " البداية والنهاية ": ص 111 و 113، جـ 8. و " عيون الأخبار ": ص 53، جـ 1. و " حلية الأولياء ": ص 380، جـ 1 , و " قبول الأخبار ": ص 57. (2) " طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 59. وكلاهما من رواية محمد بن سيرين والإسناد صحيح وإنما جمعت بين الروايات ليتم الانسجام بين أول القصة وآخرها. (3) " طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 60. و " تاريخ الإسلام ": ص 338، جـ 2. و " تهذيب التهذيب ": ص 267، جـ 12. و " سير أعلام النبلاء ": ص 444، جـ 2. (4) " طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 60. (5) انظر " طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 59. و " سير أعلام النبلاء ": ص 441، جـ 2، من رواية معمر عن أيوب عن محمد بن سيرين، وكانت ولاية أبي هريرة على البحرين بين سنة (21 - 23 هـ) بعد وفاة علاء الحضرمي. وانظر الباب الثاني من هذا الكتاب حيث رَدَدْنَا بعض الشُبُهات التي أثيرت حول أبي هريرة وانظر الفقرة (4 - على عهد الخليفتين).

أبو هريرة وفتنة عثمان:

أبو هريرة وفتنة عثمان: كان أبو هريرة يوم حصار عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عنده في الدار مع بعض الصحابة وأبنائهم الذين جاءوا ليدفعوا الثوار عن عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وكان عِدَّةُ من في الدار من المهاجرين والأنصار قريباً من سبعمائة رجل، فيهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين ومروان، وأبو هريرة وخلق من مواليه، ولو تركهم عثمان لمنعوه. إلاَّ أنه كان مسالماً فقال لهم: «أُقْسِمَ عَلَى مَنْ لِي عَلَيْهِ حَقٌّ أَنْ يَكُفَّ يَدَهُ، وَأَنْ يَنْطَلِقَ إِلَى مَنْزِلِهِ» ... وَقَالَ لِرَقِيقِهِ: «مَنْ أَغْمَدَ سَيْفَهُ فَهُوَ حُرٌّ. فَبَرُدَ الْقِتَالُ مِنْ دَاخِلِ الدَّارِ، وَحَمِيَ مِنْ خَارِجٍ» (1)، وكان فيما قاله عثمان لمن عنده في الدار: «فَأُحَرِّجُ عَلَى رَجُلٍ أَنْ يَسْتَقْتِلَ أَوْ يُقَاتِلَ» ... فتقدَّموا فقاتلوا ولم يسمعوا قوله فبرز الغيرة بن الأخنس و ... و ... وأقبل أبو هريرة والناس محجمون فقال: هذا يوم طاب فيه الضرب، ونادى: يا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار (2). وكان أبو هريرة إذن يدافع عن أمير المؤمنين في أشدِّ ساعات الفتنة، بل بقي عنده حتى الرمق الأخير ... وقد أجمعت كل الروايات على وجود أبي هريرة بين الذين دافعوا عن عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ومعه أعيان الصحابة وبعض أولادهم إلاَّ أنَّ عثمان أبى أنْ يقاتلوا حتى أنه لما مات أبو هريرة كان ولد عثمان يحملون سريره حتى بلغوا البقيع حفظاً بما كان من رأيه في عثمان (3)، كما أمر معاوية واليه على المدينة بأنْ يحسن جوار ورثة أبي هريرة لأنه كان مِمَّنْ ينصر عثمان وكان معه في الدار (4). ...

_ (1) " البداية والنهاية ": ص 181 جـ 7. و " شذرات الذهب ": ص 40، جـ 1. و " الإصابة ": ص 223، جـ 4. (2) " الكامل في التاريخ ": ص 88، جـ 3. وفي " تاريخ الطبري ": ص 389، جـ 3. «و شمر أناس من الناس فاستقتلوا منهم سعد بن مالك وأبو هريرة .. فبعث إليهم عثمان بعزمه لما انصرفوا فانصرفوا». (3) " طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 63. و " تهذيب التهذيب ": ص 266، جـ 12. (4) " تاريخ الإسلام ": ص 339، جـ 1.

أبو هريرة في عهد علي - رضي الله عنه -:

أبو هريرة في عهد عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: بعد وفاة عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لم يذكر المؤرِّخُون الثقات أبا هريرة في شيء مِمَّا جرى من الحوادث بين سَنَةَ خمس وثلاثين وسَنَةَ أربعين، التي استشهد فيها أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - اللهم إلاَّ ما رواه زياد بن عبد الله البكائي عن عوانه (بن الحكم الكلبي) أنَّ معاوية أرسل بسر بن أبي أرطأة إلى الحجاز - وكان ذلك سَنَةَ أربعين - ودخل المدينة وعليها عامل عَلِيٍّ يومئذٍ أبا أيوب الأنصاري، فَفَرَّ، وطلب بسر البيعة لمعاوية وأتى مكة ثم اليمن، وقتل في اليمن جماعة كثيرة من شيعة عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فلما بلغ عَلِيًّا خبر بسر وجه جارية بن قدامة في ألفين، ووهب بن مسعود في ألفين، فهرب بسر وأصحابه، فطلب جارية البيعة لأمير المؤمنين ولما بلغه استشهاده طلبها للحسن، «وأتى المدينة وابو هريرة يُصلِّي بهم فهرب منه فقال جارية: والله لو أخذت أبا سنور لضربت عنقه» وأخذ البيعة للحسن بن عَلِيٍّ، وأقام يومه ثم انصرف إلى الكوفة وعاد أبو هريرة فصلَّى بهم (1). إنَّ فرار أبي هريرة من جارية لا يعني قط أنه كان أميراً على المدينة من قبل معاوية، إنما فَرَّ بنفسه خافة بطش قائد فاتح. وأما غضب جارية عليه فلا يعني أنه كان خصماً لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، ومؤيداً لمعاوية، فقد يكون غضبه لأنه علم إمامته للناس في صلواتهم حين غاب عن المدينة أبو أيوب الأنصاري - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، الذي كان أمير المدينة لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، فظنَّ فيه ظن السوء ... وأراد البطش به، في حين أنه قدم للصلاة بالناس لجلالة قدره. والراجح القوي أنَّ أبا هريرة اعتزل هذه الفتن، وحثَّ الناس على اعتزلها، إذ كان يروي عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوله:

_ (1) " تاريخ الطبري ": طبع مصر (سَنَةَ 1358 هـ - 1939 م) ص 106 - 107، جـ 4 بإيجاز، وانظر " الكامل " طبع مصر (سَنَةَ 1356 هـ) حيث ذكره من غير سند في ص 193، جـ 3.

«سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ» (1). ولم يثبت عن أبي هريرة أنه اشترك في تلك الفتن والخلافات، وأما ما ذكره أبو جعفر الإسكافي من أنَّ أبا هريرة كان مع النعمان بن بشير في قدومه من دمشق إلى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - في المدينة، لرفع القتال، وحقن دماء المسلمين، على أنْ تكون الشام ومصر لمعاوية، والحجاز والعراق لعَلِيٍّ، فهذا الخبر لم يصح، ولم يروه مؤرِّخٌ ثقة قط، ولم أجده إلاَّ في " شرح نهج البلاغة " (2)، عن أبي جعفر من غير سند، فكيف نحكم على صحته مع مخالفته لصحيح الأخبار؟. ولو سلَّمنا جدلاً بصحة هذا الخبر، فإنه لا يدل على اشتراك أبي هريرة في الفتنة، كما لا يدل على تحزُّبه لمعاوية أو لعَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، وإنما يدل على حياده التام، وعلى إجلال الصحابة له، وعلى مكانته عند عَلِيٍّ ومعاوية - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - مِمَّا حمله على محاولة طيبة، وهي إيقاف القتال، وحقن الدماء، ودعوة الفريقين إلى الصلح والسلام. وأنَّ هذه المحاولة تدل على سمو أخلاق أبي هريرة، وحرصه على جمع كلمة المسلمين ونبذ الخلاف، والرجوع إلى الحق. وبالرغم من أنَّ هذا الخبر لا يدل قطعاً على تشيع أبي هريرة لأحد الفريقين، بل يدل على مكانته ومنزلته بين المسلمين، بالرغم من هذا فإننا نتوقَّف عن الأخذ به إلى أنْ يصح في مصدر موثوق به. والثابت عن أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - حُبَّهُ لأهل البيت، فقبل صفحات ذكرت حبه للحسن بن عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، وقد روى مساور مولى بني سعد بن بكر قال: رأيت أبا هريرة قائماً في المسجد يوم مات

_ (1) " فتح الباري ": ص 426، جـ 7. و " مسند الإمام أحمد " ص 208، جـ 14. (2) انظر " شرح نهج البلاغة " طبع دار الفكر ببيروت: ص 260، جـ 1.

أبو هريرة أمير المدينة:

الحَسَنِ يَبْكِيَ وَيُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ .. مَاتَ الْيَوْمَ حِبُّ رَسُولِ الْلَّهِ - صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَابْكُوْا» (1) وأنكر أبو هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - على مروان بن الحكم منع دَفْنَ الحسن في حُجْرَةِ السيدة عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - جانب جَدِّهِ - صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأصغى الحسين - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - إليه وكاد ينزل عند رأيه (2). ... أبو هريرة أمير المدينة: بعد استشهاد أمير المؤمنين عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، بايع الحسن بن عليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - معاوية بن أبي سفيان. وتنازل له عن الخلافة، فاجتمعت كلمة المسلمين، وانتشر السلام في أنحاء الدولة الإسلامية، وأرسل معاوية ولاته إلى الأمصار والمدن، وكان مروان بن الحكم وَالِيهِ على المدينة، فإذا ما غضب معاوية عليه استعمل أبا هريرة عليها، وإذا غضب على أبي هريرة بعث مروان وعزله (3). وكان مروان يستخلف أبا هريرة على المدينة حين يتوجَّهُ إلى الحج في ولايته لمعاوية (4). وقد كانت ولاية مروان من سَنَةِ [42 هـ] إلى أنْ عزله معاوية سَنَةَ [57 هـ] أو سَنَةَ ثمان وخمسين (5)، وقد حَجَّ مروان بالناس في ولايته هذه مرتين سَنَةَ [54 و 55]، فيكون استخلافه أبا هريرة على المدينة إما في إحدى هاتين السنتين وإما في كليهما (6). تلك لمحة موجزة عن أبي هريرة، من خلال الأحداث التي جرت في عهد عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وعهد أمير المؤمنين عليٌّ بن أبي طالب

_ (1) انظر " تهذيب التهذيب ": ص 301، جـ 2. و " الاستيعاب ": ص 391، جـ 1. و " أسد الغابة ": ص 9، جـ 2. و " الكامل ": ص 162، جـ 3. (2) انظر " ذخائر العُقبى في مناقب ذوي القُربى " للطبري: ص 142 والمراجع السابقة. (3) انظر " سير أعلام النبلاء ": ص 441، جـ 2. (4) انظر " مسند الإمام أحمد ": ص 236، جـ 13. (5) انظر " تاريخ الطبري ": ص 228، وفي رواية أبي معشر أنَّ معاوية نزع مروان سَنَةَ ُ [58 هـ]. (6) في هامش " مسند الإمام أحمد ": ص 236، جـ 13، أنَّ ولاية مرواة من سَنَةِ [54] والأشهر من سَنَةِ [42] كما ذكره كثير من المؤرِّخين.

أبو هريرة والجهاد في سبيل الله:

- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - إلى وفاته في آخر خلافة معاوية، وقد كثرت تلك الأحداث مِمَّا أدَّى إلى صعوبة تَقَصِّي سيرة الرجال، وخاصة النواحي السياسية، وذلك لكثرة الروايات واختلافها تارة، أو لقلَّتها وغموضها تارة أخرى. وخلاصة سيرة أبي هريرة فيها، أنه لم يرض في عهد عثمان أنْ تقوم الفتنة وتراق الدماء، ويثور الناس على الخليفة الثالث من غير حُجَّةٍ ولا دليل، فكان مع عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يوم الدار، واعتزل ما دار بين أمير المؤمنين عليٌّ بن أبي طالب وأمير الشام معاوية بن أبي سفيان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، وتولَّى أحياناً إمرة المدينة أيام معاوية، إما أصالة أو خلافة لمروان بن الحكم أيام حَجِّهِ. ... أبو هريرة والجهاد في سبيل الله: كنت ذكرتُ أنَّ أبا هريرة هاجر من اليمن إلى المدينة المنوَّرة أيام غزوة خيبر، وقد وصل إليها والرسول الكيم لا يزال في خيبر، فلحق به مع إخوانه اليمنيِّين المهاجرين، وعلى رأسهم الطُفيل بن عمرو، فسُرَّ بهم الرسول، وأسهم لهم، وجعلهم في ميمنته، وجعل شعارهم «مبرور» (1). فكانت خيبر أول مشاهد أبي هريرة مع الرسول الكريم، وإنْ كان قد وصلها بعد انتهاء القتال، ثم شهد مع الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جميع غزواته بعد خيبر. وكان الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينتدبه أحياناً في بعض بعوثه، من هذا ما رواه الإمام أحمد بسنده عن سليمان بن يسار، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْثٍ، فَقَالَ: «إِنْ وَجَدْتُمْ فُلانًا وَفُلانًا - لِرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ - فَأَحْرِقُوهُمَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ: «إِنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ

_ (1) انظر في هذا الكتاب: «إسلامه وهجرته».

تُحْرِقُوا فُلانًا وَفُلانًا بِالنَّارِ، وَإِنَّ النَّارَ لاَ يُعَذِّبُ بِهَا إِلاَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا» (1). وقد يرسله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سرية ويودعه، من هذا ما أخرجه ابن ماجه في باب تشييع الغزاة ووداعهم، بسنده عن أبي هريرة قال: وَدَّعَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «أَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ الَّذِي لاَ تَضِيعُ وَدَائِعُهُ» (2). ولم يترك أبو هريرة الجهاد في سبيل الله بعد وفاة الرسول الكريم وكيف يتركه؟ وقد سمع النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنْ أَغْزُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُوَ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُوَ فَأُقْتَلَ» (3)، كما سمع قوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي مُنْخُرَيْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، وَلاَ يَجْتَمِعُ شُحٌّ وَإِيمَانٌ فِي قَلْبِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ» (4). فإذا ما دعت الحاجة إلى الجاد، رأينا أبا هريرة في صفوف الجند يدافع في سبيل الله، وأول وقعة يحضرها أبو هريرة بعد وفاة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هي حرب الرِدَّةِ، أخرج الإمام أحمد بسنده عن عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود عن أبي هريرة عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى» قال: فلما كانت الرِدَّةُ قال عمر لأبي بكر: تقاتلهم وقد سمعت رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول كذا وكذا؟ قال: فقال أبو بكر: والله لا أفرِّقُ بين الصلاة والزكاة، ولأقاتلنَّ من فرَّقَ بينهما، قال: فقاتلنا معه فرأينا ذلك رشداً (5). القائل هو أبو هريرة. فَلَمَّا كَانَتِ الرِّدَّةُ، قَالَ عُمَرُ لأَبِي بَكْرٍ: تُقَاتِلُهُمْ وَقَدْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: كَذَا، وَكَذَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٌ: وَاللَّهِ لاَ أُفَرِّقُ بَيْنَ الصَّلاَّةِ، وَالزَّكَاةِ، وَلأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، قَالَ: فَقَاتَلْنَا مَعَهُ فَرَأَيْنَا ذَلِكَ رُشْدًا (5). والقائل هو أبو هريرة».

_ (1) " مسند الإمام أحمد ": ص 206، جـ 15. وإسناده صحيح. (2) " سنن ابن ماجه ": ص 943 حديث 2825، جـ 2. (3) " مسند الإمام أحمد ": ص 140، جـ 12. وإسناده صحيح. (4) " مسند الإمام أحمد ": ص 220، جـ 13. وإسناده صحيح. (5) " مسند الإمام أحمد ": ص 181، جـ 1. وإسناده صحيح.

ويذكر لنا ابن عساكر أنَّ أبا هريرة شهد وقعة اليرموك (1). وقد ذكر أبو القاسم السهمي - المتوفَّى سَنَةَ 427 هـ - أبا هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - في عداد من دخل «جُرْجَانْ» من الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، وقد فتحت «جُرْجَانْ» في عهد أمير المؤمنين عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - سنَةَ [18 هـ] (2). وذكر الرافعي في " التدوين في ذكر أخبار قزوين " أنَّ سلمان الفارسي وَرَدَ كُور قزوين مع أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - عند منصرفهما من الباب، وكان سلمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - والياً بالمدائن، وتوفيَ بها في خلافة عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وقيل في خلافة عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - سَنَةَ ستٍ وثلاثين (3). وروى الرافعي بسنده عن منصور بن عبد الحميد بن راشد - وكان قديم السن من أهل مرو - قال: رأيت أبا هريرة صاحب رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقزوين عليه عمامة بيضاء قد خضب بالصفرة، وهذه الرواية تعتضد بروايات أخرى تؤكِّدُ على ورود أبي هريرة «قَزْوِينْ» (4). ونلمس حُبَّهُ للجهاد في سبيل الله، والاستشهاد تحت لواء الإسلام، فيما يرويه الإمام أحمد بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «وَعَدَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةَ الْهِنْدِ، فَإِنْ أَدْرَكْتُهَا أَنْفَقْتُ فِيهَا نَفْسِي وَمَالِي، فَإِنِ اسْتُشْهِدْتُ كُنْتُ مِنْ خَيْرِ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ رَجَعْتُ فَأَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ الْمُحَرِّرُ» (5). ...

_ (1) " تاريخ دمشق " لابن عساكر: ص 429، جـ 47. (2) انظر " تاريخ جرجان ": ص 4 - 6. (3) انظر " التدوين في أخبار قزوين ": ص 19، جـ 1. (4) انظر المرجع السابق: ص 22، جـ 1 مصوَّر خزانة دار الكتب المصرية رقم (7100 ح). (5) " مسند الإمام أحمد: ص 97 حديث 7128، جـ 12. وإسناده صحيح، ورواه الحاكم في " المستدرك " والنسائي. وفي رواية للإمام أحمد: «رَجَعْتُ، فَأَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ الْمُحَرَّرُ، وقد أعتقني من النار»، والمُحَرَّرُ أي المُعْتَقُ، وما من بأس من زيادة الهاء، تكون للمبالغة، كما في «علامة» ونحوها انظر هامش ص 98، جـ 12 من " مسند الإمام أحمد ".

مرح أبي هريرة ومزاحه:

مرح أبي هريرة ومُزاحه: لم يكن أبو هريرة جافاً قاسي القلب، خشن الطباع، سيء المعشر، بل كان طيِّب النفس، حسن الخلق، صافي السريرة، وربما كان الفقر والصبر عليها هُما اللذان جعلا منه الإنسان المرح، يُسَرِّي عن نفسه بمزاحه أحياناً همومها ومُصابها، ومع هذا فقد كان يعطي لكل شيء حقَّهُ، لا يخاف في الله لومة لائم، سواء أكان أميراً أم فرداً من الرعية فقيراً، فقد نظر إلى الدنيا بعين الراحل عنها، فلم تدفعه الإمارة إلى الكبرياء، بل أظهرت تواضعه وحُسن خلقه. وربما استخلفه مروان على المدينة، فيركب حماراً، قد شدَّ عليه برذعة، وفي رأسه خلبة من ليف، يسير فيلقى الرجل، فيقول: «الطَّرِيقَ .. قَدْ جَاءَ الأَمِيرُ» (1). ويمر أبو هريرة في السوق، يحمل الحطب على ظهره - وهو يومئذٍ أمير لمروان - فَيَقُولُ لِثَعْلَبَةَ بْنَ أَبِي مَالِكٍ: «أَوْسِعِ الطَّرِيقَ لِلأَمِيرِ يَا ابْنَ أَبِي مَالِكٍ، فَيَقُولُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ .. يَكْفِي هَذَا!! فَيَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةُ: أَوْسِعِ الطَّرِيقَ لِلأَمِيرِ وَالْحِزْمَةُ عَلَيْهِ!!» (2). نعم الأمير أنت يا أبا هريرة، وليخلد الإسلام الذي سَوَّى بين أميره وفقيره، حتى أنَّ أحد أفراد الرعية، ينازع الأمير طريقه، ويلزمه بما يكفيه ليمر والحطب على ظهره، فهل بعد هذا عدالة وتواضع؟ وهل وراء ذلك صفاء سريرة وطيب نفس!!؟ وكأنِّي أرى أبا هريرة - وقد فهم نفسية الأطفال، وعرف أنَّ من

_ (1) " طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 60، 61. و " قبول الأخبار ": ص 59، 60. إلاَّ أنه يوردها طعناً عليه، والخلبة: الحلقة. (2) " حلية الأولياء ": ص 385، جـ 1. و " تاريخ الإسلام ": ص 334، جـ 2. و " النهاية والبداية ": ص 113، 114، جـ 8.

حاجاتها الأولى المداعبة والمزاح - يتيح لهم ذلك، بل يداعبهم ليضحكهم، ويدخل السرور إلى نفوسهم، يوم لم يعرف التاريخ الطرق التربوية المعاصرة، وقبل أنْ يخلق رواد التربية الحديثة بعشرة قرون، وقبل أنْ تجمع مجلدات التربية نظريات (موننوسوري) و (جون ديوي) وغيرهما ... فقد يرى الصبية يعلبون في الليل لعبة الغراب، فيتسلَّلُ بينهم، وهم لا يشعرون، حتى يلقي بنفسه بينهم، ويضرب برجليه (الأرض) كأنه مجنون، يريد بذلك أنْ يضحكهم، فيفزع الصبيان منه، ويفرُّون هَهُنَا وهَهُنَا، يتضاحكون (1). كان يحب مداعبة أصحابه، بلطف وأدب، دعابة تقبلها النفوس الطيبة وترى فيها ما يجدد النشاط، وما يدخل عليها السرور والحبور، فهو في ذلك يروِّح عن نفسه وعن غيره، من غير أنْ يمس شعور الآخرين بما يسيء إليهم. من ذلك ما يرويه لنا ابو رافع فيقول: وربما دعاني أبو هريرة إلى عشائه بالليل، فيقول: «دَعِ الْعُرَاقَ لِلأَمِيرِ»، فَأَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ ثَرِيدٌ بِالزَيْتٍ (2)!!. ... قبسٌ من أخلاقه: كَانَ مَرْوَانُ يَسْتَخْلِفُ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَيَكُونُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، وَأُمُّهُ فِي بَيْتٍ وَهُوَ فِي آخَرَ. فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ وَقَفَ عَلَى بَابِهَا فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكِ

_ (1) " طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 60، 61. و " البداية والنهاية ": ص 113، جـ 8. و " قبول الأخبار ": ص 59، 60. و " تاريخ الإسلام ": ص 238، جـ 2. (2) انظر " البداية والنهاية ": ص 114، جـ 8. و " طبقات ابن سعد ": 4: 4/ 61. و " تاريخ الإسلام ": ص 38، جـ 2. والعُرَاقُ: العظم الذي نزع عنه اللحم وبقي عليه قليل منه.

يَا أُمَّتَاهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَتَقُولُ: وَعَلَيْكَ يَا بُني وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَيَقُولُ: رَحِمَكِ اللَّهُ كَمَا رَبَّيْتِنِي صَغِيرًا. فَتَقُولُ: رَحِمَكَ اللَّهُ كَمَا بَرَرْتَنِي كَبِيرًا، ثُمَّ إِذَا أراد أن يدخل صنع مثله (1). قال محمد بن سيرين: كُنَّا عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَيْلَةً، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَبِي هُرَيْرَةَ، وَلأُمِّي، وَلِمَنِ اسْتَغْفَرَ لَهُمَا» قَالَ مُحَمَّدٌ: «فَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُ لَهُمَا؛ حَتَّى نَدْخُلَ فِي دَعْوَةِ أَبِي هريرة» (2). لقد امتثل لحديث رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين سأله رجل فقال: مَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: «بَرَّ أُمَّكَ»، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: «بَرَّ أُمَّكَ»، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: «بَرَّ أُمَّكَ»، ثُمَّ عَادَ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: «بَرَّ أُمَّكَ» ثُمَّ عَادَ الخَامِسَةَ فَقَالَ: «بَرَّ أَبَاكَ» (3). ولازم أبو هريرة أمَّهُ ولم يَحُجَّ حتى ماتت لصُحبتها (4). وكان يدعو الناس إلى الخير ويحملهم على حُسن الأخلاق، من ذلك ما رواه البخاري عنه أَنَّهُ أَبْصَرَ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ لأَحَدِهِمَا: «مَا هَذَا مِنْكَ؟» فَقَالَ: أَبِي، فَقَالَ: «لا تُسَمِّهِ بِاسْمِهِ، وَلاَ تَمْشِ أَمَامَهُ، وَلاَ تَجْلِسْ قَبْلَهُ » (5). وكان يقول: «مَنْ لَقِيَ أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ حَائِطٌ، ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ» (6)، كما قال: «أَبْخَلُ النَّاسِ الَّذِي يَبْخَلُ بِالسَّلامِ، وَإِنَّ أَعْجَزَ النَّاسِ وَإِنَّ أَعْجَزَ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ بِالدُّعَاءِ» (7). وكان يدعو إلى صلة القربى، وينهى عن قطع الرحم من هذا ما رواه البخاري عن أبي أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ - مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - قَالَ جَاءَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَشِيَّةَ الْخَمِيسِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: «أُحَرِِّجُ عَلَى كُلِّ قاطِع رحِم لمَا قَامَ من

_ (1) " الأدب المفرد ": ص 18. (2) المرجع السابق: ص 28 رقم 37. (3) " الأدب المفرد ": ص 16. (4) ابن عساكر: ص 516 و 517، جـ 47. (5) " الأدب المفرد ": ص 30. (6) " الأدب المفرد ": ص 349. (7) " الأدب المفرد ": ص 359.

عندِنْا. فلم يَقُم أحدٌ حتى قال ثَلاَثًا: فَأَتَى فَتًى عَمَّّةً لَهُ قَدْ صرَمَها منذُ سَنَتَيْنِ. فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: لَهُ يَا ابن أَخِي! مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، قَالَتْ: ارْجِعْ إِلَيْهِ فَسَلْهُ لمَ قَالَ ذَاكَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ تُعْرَض عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عشيةَ كُلِّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَلاَ يقبلُ عَمَلُ قَاطِعِ رَحِمٍ» (1). وكان يحرص على ألاَّ يسيء إلى إنسان، فكان يعامل إخوانه وجُلساءَهُ معاملة حسنة، وبرفق وبلطف، لا يجرح أحداً بكلمة نابية، أو عبارة قاسية، حتى إِذَا اسْتَثْقَلَ جَلِيسًا لَمْ يَزِدْ عَلَى قَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَهُ وَأَرِحْنَا مَنْهُ فِي عَافِيَةٍ» (2). وكان يحض الناس على التسامح والتجاوز عن أخطاء بعضهم وعيوب غيرهم من ذلك قوله: «يَبْصُرُ أَحَدُكُمْ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ، وَيَنْسَى الجَذَلَ - أَوْ الجَذَعض - فِي عَيْنِ نَفْسِهِ» (3). وكان متواضعاً، ومن حسن أخلاقه يؤاكل الصبيان (4) ويعطف عليهم. ومن تواضعه أنه ما كان يمشي على البساط بنعله، فقد عقد الخطيب البغدادي فقرة في كتابه الجامع تحت عنوان (استحباب المشي على البساط حافياً) وذكر سبب ذلك، وقال: وذلك أيضاً من التواضع وحسن الأدب ... ثم روى بسنده عن عقبة بن أبي حسناء اليمامي قال: «دَعَوْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ إِلَى مَنْزِلِي، وَفِي مَنْزِلِي بِسَاطٌ مَبْسُوطٌ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى خَلَعَ نَعْلَيْهِ ثُمَّ مَشَى عَلَى الْبِسَاطِ» (5). ...

_ (1) " الأدب المفرد ": ص 35، 36. (2) " روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ": ص 54. (3) " الأدب المفرد ": ص 207. (4) انظر ابن عساكر: ص 524، جـ 47. (5) " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع "، بتحقيقي:ص 260 و 261.

مرض أبي هريرة:

مرض أبي هريرة: مرض أبو هريرة فعاده مروان بن الحكم، وقال له: «شَفَاكَ اللَّهُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ»، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّ لِقَاءَكَ فَأَحِبَّ لِقَائِي» ... قَالَ فَمَا بَلَغَ مَرْوَانُ أَصْحَابَ القَطَانِينِ حَتَّى مَاتَ (1). وكان ينصح الناس، ويأمرهم بالمعروف، ويُحَذِرُهُمْ من مساوىء الزمان، وإقبالهم على الدنيا، وهو على فراش الموت. فَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ , فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اشْفِ أَبَا هُرَيْرَةَ»، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «اللَّهُمَّ لاَ تُرْجِعُنِي»، - أَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ - , ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا سَلَمَةَ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَمُوتَ فَمُتْ، فَوَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى الْعُلَمَاءِ زَمَنٌ يَكُونُ الْمَوْتُ أَحَبَّ إِلَى أَحَدِهِمْ مِنَ الذَّهَبِ الأَحْمَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَأْتِي الرَّجُلُ قَبْرَِ الْمُسْلِمِ , فَيَقُولُ: وَدِدْتُ أَنِّي صَاحِبُ هَذَا الْقَبْرِ» (2). وبكى أبو هريرة في مرضه، فقيل له: ما يبكيك يا أبا هريرة؟ قال: أما إني لا أبكي على دنياكم هذه وَبَكَى أَبُو هُرَيْرَةَ فِي مَرَضِهِ , فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟، قَالَ: «أَمَا إِنِّي لاَ أَبْكِي عَلَى دُنْيَاكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنِّي أَبْكِي لِبُعْدِ سَفَرِي وَقِلَّةِ زَادِي!! أَصْبَحْتُ فِي صُعُودٍ مُهْبِطَةٌ عَلَى جَنَّةٍ أَوَنَارٍ فَلاَ أَدْرِي إِلَى أَيِّهِمَا يُسْلَكُ بِي» (3). وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَمَّا حَضَرَتْهُ المَنِيَّةُ: «لاَ تَضْرِبُوا عَلَيَّ فُسْطَاطًا، وَلا تَتَّبِعُونِي بِنَارٍ وَأَسْرِعُوا بِي إِسْرَاعًا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

_ (1) " تاريخ الإسلام ": ص 329، جـ 2. وفي " طبقات ابن سعد ": «فما بلغ مروان أصحاب القطا حتى مات»: 4: 2/ 62. وكذلك في " سير أعلام النبلاء ": ص 448، جـ 2. وفي " البداية والنهاية ": ص 114، جـ 8: «فما بلغ مروان أصحاب القطن». ومفهوم أنه سوق القطانين. رُوي بأسانيد مختلفة منها مالك عن المُقبري، وهو صحيح، وانظر " ابن عساكر ":ص 534 و 535، جـ 47. (2) " طبقات ابن سعد: 4: 2/ 61 و 62، و " حلية الأولياء ": ص 384، جـ 1. و " البداية والنهاية: ص 112، جـ 8. (3) " طبقات ابن سعد: 4: 2/ 61 و 62. و " حلية الأولياء ": ص 383، جـ 1. و " البداية والنهاية: ص 112، جـ 8. و " سير أعلام النبلاء ": ص 448، جـ 2. و " ابن عساكر ":ص 533، جـ 47.

وفاته:

وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِذَا وُضِعَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ - أَوِ الْمُؤْمِنُ - عَلَى سَرِيرِهِ قَالَ: قَدِّمُونِي. وَإِذَا وُضِعَ الْكَافِرُ - أَوِ الْفَاجِرُ - عَلَى سَرِيرِهِ قَالَ: يَا وَيْلَتِي أَيْنَ تَذْهَبُونَ بِي» (1)؟ وكان أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا مِنْ مَرَضٍ يُصِيبُنِي أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ الْحُمَّى، لأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي كُلِّ عُضْوٍ مِنِّي، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي كُلَّ عُضْوٍ قِسْطَهُ مِنَ الأَجْرِ» (2). عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا مِنْ مَرَضٍ يُصِيبُنِي أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ الْحُمَّى، لأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي كُلِّ عُضْوٍ مِنِّي، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي كُلَّ عُضْوٍ قِسْطَهُ مِنَ الأَجْرِ ... وفاته: اختلف في وفاته على أقوال: قال هشام بن عروة: أبو هريرة وعائشة ماتا سَنَةَ سبع وخمسين، وهو رأي المدائني وعلي بن المديني. قال أبو معشر: توفي سَنَةَ ثمان وخمسين (3). قال الواقدي وأبو عبيد: مات سنة تسع وخمسين وهو ابن ثمان وسبعين سَنَةٍ وقد صَلَّى على عائشة في رمضان سَنَةَ ثمان وخمسين وعلى أم سلمة في شوال سَنَةَ تسع وخمسين، ثم توفي بعد ذلك فيها. ... مناقشة هذه الروايات: قال ابن حجر بعد أنْ ذكر رواية الواقدي - وفيها أنه توفي سَنَةَ [59]- هذا من أغلاط الواقدي الصريحة، فإنَّ أم سلمة إلى سَنَةِ إحدى وستين، ثبت في " صحيح مسلم " ما يدل على ذلك .. والظاهر أنَّ التي صلى عليها ثم مات

_ (1) " طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 62. و " الإصابة ": ص 206، جـ 7 وقد أخرجه أحمد والنسائي بسند صحيح عن عبد الرحمن بن مهران مولى أبي هريرة وانظر ابن عساكر: ص 531، جـ 47. (2) " الأدب المفرد ":ص 177 وأخرجه ابن أبي شيبة في " مصنَّفه "، قال ابن حجر: سنده صحيح. (3) انظر " البداية والنهاية ": ص 114، جـ 8. و " تاريخ الإسلام ": ص 339، جـ 2. و " طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 64. و " سير أعلام النبلاء ": ص 449، جـ 2.

معها في السَنَة هي عائشة، كما قال هشام بن عروة أنهما ماتا في سَنَةٍ واحدة (1). أقول: إنَّ خطأ الواقدي في وفاة أم سلمة، لا يستلزم خطأه في وفاة أبي هريرة. وقال ابن كثير: «وَالصَّوَابُ أنَّ أُمَّ سَلَمَةَ تَأَخَّرَتْ بَعْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ» (2) .. كان من الممكن أنْ ترجَّح رواية هشام بن عُروة على غيرها لمكانته عند عائشة وقرابته منها. إلاَّ أنه لم يذكر أحد أنها توفيت سَنَةَ سبع وخمسين، واشتهرت وفاة عائشة في سَنَةِ ثمان وخمسين (3). فإذا توفي أبو هريرة في السَنَةِ التي توفيت فيها عائشة كانت سَنَةَ وفاته عام [58] ولو تأخَّر عنها فترة ما تتحقَّق وفاته سَنَةَ تسع وخمسين وهي الأشهر. وقد كان على المدينة الوليد بن عُتبة بن أبي سفيان بعد أنْ عزل معاوية مروان سَنَةَ سبع وخمسين (4)، فصلَّى عليه، وحضر جنازته من الصحابة عبد الله بن عمر، وأبو سعيد الخُدري، وشهدها أيضاً مروان بن الحكم، وكان ابن عمر يسير أمامها ويكثر الترحم عليه (5). وكان ولد عثمان يحملون سريره، حتى بلغوا البقيع، حفظاً بما كان من رأيه في عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - (6). وكتب الوليد بن عتبة إلى معاوية بوفاته، فكتب إلى الوليد: ادفع

_ (1) انظر " تهذيب التهذيب ": ص 266، جـ 12. و " الإصابة ": ص 207، جـ 7. (2) انظر " البداية والنهاية ": ص 114، جـ 8. (3) " سير أعلام النبلاء ": ص 135، جـ 2. و " طبقات ابن سعد ": ص 39، جـ 8. (4) ذكر الطبري في " تاريخه ": ص 228، جـ 4 من رواية أبي معشر أنَّ معاوية نزع مروان سَنَةَ [58] وعلى هذا ترجَّح سَنَةَ وفاته بعد سَنَةِ [57] وهو الأشهر كما ذكرت أعلاه. (5) " طبقات ابن سعد ": 4: 2 8 63. وفي " سير أعلام النبلاء ": ص 449، جـ الوليد بن عقبة وهذا تصحيف لأنَّ الوليد بن عقبة لم يَلِ. " التهذيب ": ص 266، جـ 1. (6) انظر " طبقات ابن سعد ": 2: 4 8 63. و " تهذيب التهذيب ": ص 266، جـ 1.

أسرته:

لورثته عشرة آلاف درهم، وأحسن جوارهم، فإنه كان مِمَّنْ ينصر عثمان، وكان معه في الدار (1). ... أسرته: كان أبو هريرة قد تزوَّج من بُسرة بنت غزوان، أخت الأمير عٌتبة بن غزوان الصحابي المشهور [40 ق هـ - 17 هـ] (2)، وذلك بعد وفاة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الأرجح، وكثيراً ما كان يشكر الله - عَزَّ وَجَلَّ - ويحمده على زواجه منها (3). أما أولاده فهم أربعة، ثلاثة ذكور: المحرر، وعبد الرحمن وبلال (4)، وبنت لم يذكر لنا التاريخ اسمها (5)، تزوَّجها سعيد بن المسيب إمام التابعين، وأحد الأعلام في العلم والعبادة والورع (6). وقد توفي المحرر بن أبي هريرة بالمدينة في خلافة عمر بن عبد العزيز، وكان قد روى عن أبيه، وعن عمر بن الخطاب مرسلاً، وعن عبد الله بن عمر، وروى عنه ابنه مسلم، وابن شهاب الزُهري، وعامر الشعبي وابن عقيل وعطاء وعكرمة، ومصعب، وعبد الله بن محيريز، وغيرهم، وكان قليل الحديث (7). ...

_ (1) انظر " طبقات ابن سعد ": ص 63، جـ 4 قسم 2. و " سير أعلام النبلاء ": ص 448، جـ 2. و " تاريخ الإسلام ": ص 339، جـ 2. (2) انظر " الأعلام ": ص 360، جـ 4. (3) انظر " سير أعلام النبلاء ": ص 441، جـ 2. (4) انظر " جمهرة أنساب العرب ": ص 360. (5) انظر " حلية الأولياء ": ص 380، جـ 1. و " البداية والنهاية ": ص 111، جـ 8. ولعلها أم حبيب، انظر " تهذيب التهذيب ": ص 84، جـ 4. (6) انظر " السُنَّة قبل التدوين ": ص 485. (7) انظر " طبقات ابن سعد ": ص 188، جـ 5. و " تهذيب التهذيب ": ص 55، جـ 1.

الفصل الثاني: حياته العلمية: - حرصه على الحديث. - أبو هريرة والقضاء. - أمله علم لا ينسى. - شيوخه ومن روى عنهم. - مجالسه ونشره للحديث. - عدَّةُ من روا عنه من الحديث. - كثرة حديثه وسعة علمه. - نماذج من روايته. - حفظ أبي هريرة. - الثناء على أبي هريرة. - حضه على صيانة الحديث من الكذب. - أصح الطرق عن أبي هريرة. - أبو هريرة والفتوى.

الفصل الثاني: حياته العلمية:

الفصل الثاني: حياته العلمية:

بين يدي الفصل:

بين يدي الفصل: صحب أبو هريرة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع سنوات، بعد غزوة خيبر، وكان قد زاد على الثلاثين سَنَةٍ، أقام معه حتى توفي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يدور معه في بيوت نسائه، يخدمه ويصلي خلفه، يحُجُّ ويغزو معه، لا ينقطع عن مجالسه، بل كان المسجد مقامه، والرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إمامه، فعرف كثيراً من سُنَّةِ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وشاهد دقائق السُنَّة ووعى تطبيق الشريعة، فأرسله رسول الله - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - مع العلاء الحضرمي إلى البحرين، فكان مؤذناً وإماماً، عرف رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرصه على الحديث، وحُبَّهُ للعمل فكان لا يتأخَّر في إجابته عما يسأل، ويدعو له. وربما تبدو صحبة أبي هريرة قليلة بالنسبة لما يروى عنه من علم جم كثير، إلاَّ أنَّ ملازمته الدائمة لرسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحرصه على طلب العلم وسعيه وراء ذلك، يدفع أي شك يرد على مروياته. وقد غضب من مروان بن الحكم مرة، عندما قال له: أكثرت على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحديث.!! فقال أبو هريرة: «كُنْتُ وَاللَّهِ أَعْلَمَ النَّاسِ بِحَدِيثِهِ، كُنْتُ وَاللَّهِ أَعْلَمَ النَّاسِ بِحَدِيثِهِ، قَدْ وَاللَّهِ سَبَقَنِي قَوْمٌ بِصُحْبَتِهِ، وَالْهِجْرَةِ إِلَيْهِ مِنْ قُرَيْشٍ وَالأَنْصَارِ، فَكَانُوا يَعْرِفُونَ لُزُومِي لَهُ، فَيَسْأَلُونِي عَنْ حَدِيثِهِ، مِنْهُمْ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَلاَ وَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ كُلُّ حَدِيثٍ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلَةٌ، وَكُلُّ صَاحِبٍ لَهُ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ صَاحِبَهُ فِي الْغَارِ، وَغَيْرُهُ ... » (1) ثم قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «لِيَسْأَلْنِي أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ

_ (1) بقية قول أبي هريرة: «وقد أخرجه رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يساكنه - يعرض بأبي مروان بن الحكم -» وفي رواية أنَّ أبا هريرة قال لمروان: «إني أسلمت وهاجرت اختياراً وطوعاً، وأحببت رسول الله حبا شديداً، وأنتم أهل الدار وموطن الدعوة أخرجتم الداعي من أرضه، وآذيتموه وأصحابه، وتأخر إسلامكم عن إسلامي إلى الوقت المكروه إليكم»، فندم مروان على كلامه واتقاه. " البداية والنهاية ": ص 108، جـ 8.

حرصه على الحديث:

هَذَا وَأَشْبَاهِهِ، فَإِنَّهُ يَجِدُ عِنْدِي مِنْهُ عِلْمًا جَمًّا وَمَقَالاً» (1). فلم يعد مروان لمثل ذلك، بل كان يخافه ويخاف جوابه. ... حرصه على الحديث: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَاذَا رَدَّ إِلَيْكَ رَبُّكَ فِي الشَّفَاعَةِ؟ فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ أَوَّلُ مَنْ يَسْأَلُنِي عَنْ ذَلِكَ مِنْ أُمَّتِي، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْعِلْمِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا يَهُمُّنِي مِنَ انْقِصَافِهِمْ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ (2)، أَهَمُّ عِنْدِي مِنْ تَمَامِ شَفَاعَتِي، وَشَفَاعَتِي لِمَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ مُخْلِصًا، يُصَدِّقُ قَلْبُهُ لِسَانَهُ، وَلِسَانُهُ قَلْبَهُ» (3)، وفي رواية: «أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله خَالِصاً مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ» (4). لقد شهد رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بحرصه على الحديث، فنعم تلك الشهادة، وهنيئاً لمن شهد له بذلك، وشهد بعض الصحابة بأنه كان جريئاً يسأل رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما لا يسأله غيره، من هذا قول أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ جَرِيئًا عَلَى أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ أَشْيَاءَ لاَ نَسْأَلُهُ عَنْهَا» (5). وَكَانَ يَقُولُ: «مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي وَجْهِهِ (6). وكان يُصَرِّحُ بهذا إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ

_ (1) " البداية والنهاية ": ص 108، جـ 8. و " سير أعلام النبلاء ": ص 435، جـ 2. (2) معنى «انْقِصَافِهِمْ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ» القصف بفتح القاف وسكون الصاد المهملة ثم الفاء، هو الكسر والدفع الشديد، لفرط الزحام، حتى يقصف بعضهم بعضاً. قال ابن الأثير: «يعني استسعادم بدخول الجنة وأنْ يتم ذلك، أهم عندي من أنْ أبلغ أنا منزلة الشافعين المُشفعين، لأنَّ قبول شفاعته كرامة له. فوصولهم إلى مُبتغاهم آثر عنده من نيل هذه الكرامة، لفرط شفقته على أُمَّته» " هامش مسند الإمام أحمد ": ص 208، جـ 15. (3) " مسند الإمام أحمد ": ص 208، حديث 8056، جـ 15. ونحوه في " فتح الباري": ص 203، جـ 1. (4) " فتح الباري": ص 203، جـ 1. (5) ابن عساكر: ص 477، جـ 47. (6) أخرجه الترمذي: كتاب المناقب.

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويؤكِّدُ له سروره وفرحه بحضور مجالسه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. من هذا ما رواه الإمام أحمد بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي إِذَا رَأَيْتُكَ طَابَتْ نَفْسِي وَقَرَّتْ عَيْنِي، فَأَنْبِئْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ. فَقَالَ: «كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ» قَالَ: قُلْتُ: أَنْبِئْنِي عَنْ أَمْرٍ إِذَا أَخَذْتُ بِهِ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ. قَالَ: «أَفْشِ السَّلاَمَ، وَأَطْعِمِ الطَّعَامَ، وَصِلِ الأَرْحَامَ، وَقُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، ثُمَّ ادْخُلِ الْجَنَّةَ بِسَلامٍ» (1). لقد كان أبو هريرة يشعر بدافع داخلي ذاتي، وإحساس ضمني نحو رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الذي تطيب نفسه برؤيته - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، وينشرح صدره لحديثه، لهذا كثيراً ما نرى أبا هريرة يبذل جهده في خدمة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أنه كان يحمل له الماء لقضاء حاجته، وهو في هذا كله ينهل من المعين الصافي، الكثير الطيب، يسأل الرسول تارة، ويسمع منه أخرى، ويجالسه حيناً، ويراه أحياناً؛ فيتعلم دقيق أحكام الشريعة وعظيمها، من هذا ما أخرجه أبو داود بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ، فَتَحَيَّنْتُ فِطْرَهُ بِنَبِيذٍ صَنَعْتُهُ فِي دُبَّاءٍ (2) ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِهِ فَإِذَا هُوَ يَنِشُّ (3)، فَقَالَ: «اضْرِبْ بِهَذَا الْحَائِطَ، فَإِنَّ هَذَا شَرَابُ مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ». أحب أبو هريرة أنْ يقدم للرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساعة

_ (1) " مسند الإمام أحمد ": ص 72، حديث 7919، جـ 15. (2) الدباء: القرع، الواحدة منها دباءة. كانوا يُجَفِّفُونَ القرع ويجعلونه كالآنية. (3) ينش: أي يغلي من نفسه لتخمُّره. (4) " سنن أبي داود ": ص 301، جـ 2. كانوا يطلقون اسم النبيذ على نقيع التمر أو الزبيب، لأنهم كانوا ينبذونها في الماء ريثما يصير حلواً، عن السَيِّدَةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -عَنْ، قَالَتْ: «كُنَّا نَنْبِذُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي سِقَاءٍ، فَيَشْرَبُهُ عَشِيَّةً، وَعَشِيَّةً، فَيَشْرَبُهُ غُدْوَةً». قالت: «وَكُنَّا نَغْسِلُ السِّقَاءَ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً مَرَّتَيْنِ فِي اليَوْمِ». أخرجه الخمسة والإمام مالك. انظر ص 167، جـ 2 من " تيسير الوصول ". فالنبيذ عندهم هو ما نسمِّيه «الخشاف» في عصرنا، وأما النبيذ المعروف الآن، وغيره من المسكرات فهي حرام، لا يجوز تناولها. فقد أخرج أصحاب السُنن عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» وغيره مِمَّا يثبت حرمة جميع المسكرات. انظر " تيسير الوصول ": ص 163، جـ 2.

الإفطار، ما يثلج صدره، ويطفئ ظمأه فصنع له (خشافاً) كهذا الذي نصنعه في رمضان من التمر والتين، إلاَّ أنَّ نبيذ (خشاف) أبي هريرة تخمَّر، فأمره رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطرحه. إنَّ مثل هذه الوقائع التي كانت تقع لأبي هريرة ولغيره، لا يمكن أنْ ينساها لأنها تمثل جزءًا من حياته، بل تمثِّل فترة بارزة من عمره، عاش فيها مع الرسول الكريم، ورأى بعينه، وسمع بأذنه، ووعى بقلبه. وقد شعر أبو هريرة بالسعادة تخالط نفسه، وبالإيمان يملأ قلبه لملازمته رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان كثيراً ما يشكر الله تعالى على هذه النعمة فيقول: «الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَى أَبَا هُرَيْرَةَ للإِسْلام، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَلَّمَ أَبَا هُرَيْرَةَ الْقُرْآنَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ بمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم» (1). هنيئاً لك يا أبا هريرة بهذا كله وهنيئاً لجميع المسلمين به أيضاً، بل لتهنأ الإنسانية برسول الإنسانية العظيم، وبرسالته الخالدة التي أرادها الله رحمة للعالمين. وكان أبو هريرة من أكثر الصحابة حرصاً على الحديث، روى الإمام أحمد بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَأْخُذُ مِنِّي خَمْسَ خِصَالٍ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ، أَوْ يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟» قَالَ: قُلْتُ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّهُنَّ فِيهَا» ثُمَّ قَالَ: «اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلَا تُكْثِرِ الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ» (2). وفي الحقيقة رأينا هذا الحديث ينطبق تماماً على أبي هريرة حينما عرضنا بعض أخبار التزامه للسُنَّة، والحرص عليها، وتأسِّيه دائماً بالرسول، والامتثال لأوامره، وطبعي أنْ يكون أبو هريرة أحد أعلام الصحابة

_ (1) " تاريخ ابن عساكر ": ص 511، جـ 47. (2) " مسند الإمام أحمد ": ص 228، حديث 8081، جـ 15، وروى نحوه الترمذي وابن ماجه من عدة طرق، والبيهقي، وانظر " الجامع الكبير ": ص 16، جـ 1.

أمله علم لا ينسى:

العظام، وطبعي أنْ نراه في منزله رفيعة سامية، بعد أنْ عاش سنوات مع الرسول الكريم لا يفارقه فيها، يتخرَّج في حلقاته، وينهل من علمه. وقد عرف الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرص أبي هريرة على الحديث، فكان كثيراً ما يحدثه، من هذا ما رواه الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قال: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَخْلٍ لِبَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، هَلَكَ الْمُكْثِرُونَ، إِلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا - ثَلاَثَ مَرَّاتٍ: حَثَا بِكَفَّهِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ -، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ» ثُمَّ مَشَى سَاعَةً فَقَالَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟» فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ، وَلاَ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ» ثُمَّ مَشَى سَاعَةً فَقَالَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ النَّاسِ عَلَى اللهِ؟، وَمَا حَقُّ اللهِ عَلَى النَّاسِ؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَحَقٌّ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ» (1)، وغير ذلك من الأخبار التي تؤكِّدُ كثرة تحمُّله عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ... أمله علم لا يُنْسَى: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: عَلَيْكَ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَإِنِّي بَيْنَمَا أنا وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَفُلاَنٌ فِي الْمَسْجِدِ، ذَاتَ يَوْمٍ نَدْعُو اللهَ، وَنَذْكُرُ رَبَّنَا خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى جَلَسَ إِلَيْنَا فَسَكَتْنَا فَقَالَ: «عُودُوا لِلَّذِي كُنْتُمْ فِيهِ» قَالَ زَيْدٌ: فَدَعَوْتُ أَنَا وَصَاحِبَيَّ قَبْلَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِنَا، ثُمَّ دَعَا أَبُو هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِثْلَ مَا سَأَلَكَ صَاحِبَايَ هَذَانِ، وَأَسْأَلُكَ عِلْمًا لاَ يُنْسَى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

_ (1) " مسند الإمام أحمد ": ص 220، حديث 8071، جـ 15.

مجالسه ونشره الحديث:

«آمِينَ»، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللهَ عِلْمًا لاَ يُنْسَى، فَقَالَ: «سَبَقَكُمْ بِهَا الْغُلاَمُ الدَّوْسِيُّ» (1). ... مجالسه ونشره الحديث: كان أبو هريرة يُحَدِّثُ عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المدينة المنورة، وفي مكة المكرمة، كما حَدَّثَ في دمشق، وحفظ عن أهلها، وحَدَّثَ في العراق والبحرين، وكان يُحَدِّثُ حيثما حل، ويفتي الناس بما سمع من الرسول الكريم - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - ومن يتتبَّع حديثه يرى أنه قد جعل بيته معهداً للمسلمين يتردَّدُون إليه، ليسمعوا حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2)، كما كان يستقبل طلاب العلم في أرضه بالعقيق (3)، ويُحدَّثُهُمْ ويكرمهم، ويدخل السرور عليهم بما أنعم الله عليه من حُسن المعشر، ولطيف الخلق، وكثرة العلم والخير. وكانت أكثر مجالسه في المسجد النبوي إلى جانب الحُجرة المشرفة، وقد عرف الناس فضله ومكانته، فكانوا يرجعون إليه في كثير من أمورهم، وكان يفتي بوجود علماء الصحابة، وكان بعض الصحابة كزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس يحيلون السائل عليه، لأنهم عرفوا علمه واتقانه، فعن معاوية بن أبي عياش الأنصاري، أنه كان جالساً مع ابن الزبير، فجاء محمد بن إياس بن بكير، فسأل عن رجل طلَّق ثلاثاً قبل الدخول، فبعثه إلى أبي هريرة، وابن عباس - وكانا عند عائشة - فذهب فسألهما، فقال ابن عباس لأبي هريرة: أفته يا أبا هريرة، قد جاءتك معضلة، فقال: «الْوَاحِدَةُ تُبِينُهَا، وَالثَّلاَثُ تُحَرِّمُهَا» (4).

_ (1) " تهذيب التهذيب ": ص 266، جـ 12 وفيه: «سألاك صاحبي» والتصحيح من " فتح الباري": ص 226، جـ 1. و " سير أعلام النبلاء ": ص 432، جـ 2. وانظر " حلية الأولياء ": ص 381، جـ 1. و " النهاية والبداية ": ص 111، جـ 8. (2) انظر " سنن أبي داود ": ص 568، جـ 1، باب في صوم يوم عرفة بعرفة، كتاب الصيام. (3) انظر " ذخائر الواريث ": ص 46، جـ 4 حديث (8421)، و " موطأ مالك ": كتاب الجامع. (4) " سير أعلام النبلاء ": ص 437، جـ 2. وانظر " سنن أبي داود ": ص 509، جـ 1.

ونقل لنا أبو داود عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِيَاسٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، سُئِلُوا عَنِ الْبِكْرِ يُطَلِّقُهَا زَوْجُهَا ثَلاَثًا؟ فَكُلُّهُمْ قَالُوا: «لاَ تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ» (1). وروى أبو داود عَنْ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدْ تَتَابَعُوا فِيهَا، قَالَ: أَجِيزُوهُنَّ عَلَيْهِمْ» (2). لما رأى عمر الناس يتابعون إيقاع الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد، استشار الصحابة في أنْ يجيزوها ثلاثاً زجراً لهم. فأوقعها عمر ثلاثاً (3)، والظاهر من فتوى أبي هريرة أنها كانت بعد أنْ أجرى عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - إيقاع الثلاث زجراً للناس. وكان حُبُّهُ لرسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يظهر من خلال حديثه عنه، فكان أحياناً يقول: «حَدَّثَنِي الصَّادِقُ المَصْدُوقُ»، وأحياناً: «حَدَّثَنِي خليلي أبو ألقاسم»، ومَرَّةً يقول: «حَدَّثَنِي حَبِيبِي مُحَمَّدٌ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»، وقد يقول: «قَالَ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَخْنَقُهُ عَبْرَةُ الذِّكْرَى وَيَنْهَضُ مِنْ مَجْلِسِهِ» (4). وكان يبتدئ حديثه بحديث: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ». روى عاصم بن كليب عن أبيه قال: سمعتُ أبا هريرة يقول: - وكان يبتدئ حديثه بأنْ يقول -: قال رسول الله، أبو القاسم الصادق المصدوق: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» (5).

_ (1) انظر " سنن أبي داود ": ص 509، جـ 1. (2) " سنن أبي داود ": ص 509، جـ 1. (3) انظر بسط أقوال الأئمة من الصحابة والتابعين وأهل العلم من بعدهم في «الطلاق ثلاثاً» في " نيل الأوطار " للشوكاني: ص 245 - 248، جـ 6. (4) انظر " البداية والنهاية ": ص 107، جـ 8. و " سير أعلام النبلاء ": ص 440، جـ 47.

ويصف لنا مُحَمَّدٌ بنِ عُمَارَةَ بنِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ مَجْلِساً لأَبِي هُرَيْرَةَ فَيَقُولُ: أَنَّهُ قَعَدَ فِي مَجْلِسٍ فِيْهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَفِيْهِ مَشْيَخَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً، فَجَعَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُهُمْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالحَدِيْثِ، فَلاَ يَعْرِفُهُ بَعْضُهُمْ، ثُمَّ يَعْرِفُهُ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ مِرَاراً. قَالَ: «فَعَرَفْتُ يَوْمَئِذٍ أَنَّهُ أَحْفَظُ النَّاسِ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» (1). وقد وثق الناس بأبي هريرة وعرفوا مكانته، فكانوا يتواعدون لينطلقوا إليه، فيسمعوا حديثه عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من ذلك ما رواه مكحول قال: «تواعد الناس ليلة من الليالي إلى قُبَّةٍ من قباب معاوية، فاجتمعوا فيها، فقام أبو هريرة، فحدَّثهُم عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أصبح» (2). وعن محمد بن سيرين «أنَّ أبا هريرة كان يقوم كل خميس فيُحَدِّثَهُمْ» (3). وعن عاصم بن محمد عن أبيه قال: «رأيت أبا هريرة يخرج يوم الجمعة، فيقبض على رمانتي المنبر، ويقول: «حَدَّثَنَا أَبُو القَاسِمِ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ»، فلا يزال يُحَدِّثُ حتى يسمع فتح باب المقصورة لخروج الإمام فيجلس» (4). وقد عرف الصحابة والتابعون سعة علمه، ومكانته من الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكانوا لا يرونه في مكان إلاَّ اجتمعوا حوله ينهلون من علمه، ولم يقتصر ذلك على المدينة فحسب، بل تعدَّاهُ إلى الشام والعراق، روى الإمام أحمد عن سفيان بن عُيينة قال: قال إسماعين بن أبي خالد،

_ (1) " سير أعلام النبلاء ": ص 444، جـ 2. وقد أخرجه البخاري في " تاريخه " والبيهقي في " المدخل ". انظر " فتح الباري ": ص 225، جـ 1. (2) انظر " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 114، و " سير أعلام النبلاء ": ص 432، جـ 2. و " البداية والنهاية ": ص 106، جـ 8. (3) انظر " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 113: ب. (4) " سير أعلام النبلاء ": ص 446 - 447، جـ 2.

عَنْ قَيْسٍ،قَالَ: نَزَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ بِالكُوفَةِ، - قَالَ: فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْلاَنَا قَرَابَةٌ، قَالَ سُفْيَان وَهُوَ مَوْلَى لأَحْمَس - فَاجْتَمَعَتْ أَحْمَس، قَالَ قَيْس: فَأَتَيْنَاهُ نُسَلِّمُ عَلَيْهِ - وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: فَأَتَاهُ الْحَيُّ -، فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، هَؤُلاَءِ أَنْسِبَاؤُكَ أَتَوْكَ يُسَلِّمُونَ عَلَيْكَ، وَتُحَدِّثُهُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: مَرْحَبًا بِهِمْ وَأَهْلاً، صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَ سِنِينَ، لَمْ أَكُنْ أَحْرَصَ عَلَى أَنْ أَعِيَ الْحَدِيثَ مِنِّي فِيهِنَّ، حَتَّى سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «وَاللهِ لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلاً فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَأْكُلَ وَيَتَصَدَّقَ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلاً أَغْنَاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ فَضْلِهِ، فَيَسْأَلَهُ، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ» (1). وكان أبو هريرة حريصاً جداً على تبليغ العلم ونشره، وبيان السُنَّة في أية فرصة تسنح له، من هذا ما رواه ابن ماجه بسنده عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، قَالَ: كُنَّا قُعُودًا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمَسْجِدِ يَمْشِي فَأَتْبَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بَصَرَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «أَمَّا هَذَا، فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» (2). وكان أبو هريرة دقيقاً ضابطاً لما يحفظ عن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعزو ما يُحَدِّثُ به عن رسول الله إلى الرسول الكريم - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، ويعزو قول غيره إلى قائله، وإذا قال في شيء برأيه قال: «هَذِهِ مِنْ كَيْسِي» (3). وقد ثبت هذا بأدلة كثيرة، وأخبار عدَّة منها ما رواه بكير بن الأشج قال: قال لنا بشر بن سعيد: اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة، فيُحَدِّثُ عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيُحَدِّثُنَا عن كبعب الأحبار، ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا، يجعل حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كعب،

_ (1) " مسند الإمام أحمد ": ص 143، حديث 7973، جـ 15، وانظر ابن عساكر: ص 454، جـ 47. (2) " سنن ابن ماجه ": ص 242، حديث 733، جـ 1. وأخرجه الإمام مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي في كتاب الصلاة. (3) " إعلام الموقعين ": ص 64، جـ 1.

وحديث كعب عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فاتقوا الله وتحفظو امن الحديث (1) وقد يؤكِّدُ أحياناً صحة ما يرويه عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقول: «يَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ لَحْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَدَمُهُ» (2) لأنه على يقين مِمَّا يقول، فقد سمع بأذنه، ووعى قلبه وذكر بلسانه. وقد يسأله بعض الحضور: أسمعت هذا من رسول الله؟ فيقول: نعم. ويُبَيِّنُ أنَّ ذلك ليس رأيه، من ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو القارئ، قال: سمعت أبا هريرة يقول: لاَ وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ، مَا أَنَا قُلْتُ: «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلاَ يَصُومُ» .. «مُحَمَّدٌ وَرَبِّ الْبَيْتِ قَالَهُ، مَا أَنَا نَهَيْتُ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، مُحَمَّدٌ نَهَى عَنْهُ وَرَبِّ الْبَيْتِ» (3). وربما جلس إلى حُجرة عائشة، فيُحَدِّثُ ثم يقول: يا صاحبة - وفي رواية يا أمه - أتنكرين مِمَّا أقول شيئاً؟ قال ابن عباس: فلما قضت صلاتها، لم تنكر ما رواه، لكن قالت: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ سَرْدَكُمْ (4). فلم تنكر عليه حفظه، أو سماعه عن النبي - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - إنما أنكرت سرده الحديث. وكان أبو هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يُبَيِّنُ أهمية فهم ما يسمعه المرء، ومكانة الفقه من الدين، قال: قال رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي الدِّينِ». قال أبو هريرة: «لأََنْ أَفْقَهُ سَاعَةً أَحَبُّ إِلَيَّ

_ (1) " البداية والنهاية ": ص 109، جـ 8 ونحوه في " سير أعلام النبلاء ": ص 436، جـ 2. (2) " مسند الإمام أحمد: ص 291، جـ 13 رقم 7555 بإسناد صحيح وقد قال هذا بعد أنْ ذكر الحديث التالي عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنَعَتِ الْعِرَاقُ قَفِيزَهَا وَدِرْهَمَهَا، وَمَنَعْتِ الشَّامُ مُدَّهَا وَدِينَارَهَا، وَمَنَعَتْ مِصْرُ إِرْدَبَّهَا وَدِينَارَهَا، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ». يشهد على ذلك .. (3) " مسند الإمام أحمد: ص 117، جـ 13 رقم 7383 إسناده صحيح، ورواه البخاري. (4) " سير أعلام النبلاء ": ص 437، جـ 2. وقد اعتبر أعداء أبي هريرة قولها هذا تكذيباً لأبي هريرة، وسَنُفَنِّدُهُ في الباب الثاني إنْ شاء الله .. انظر فقرة (أبو هريرة وعائشة).

مِنْ أَنْ أُحْيِيَ لَيْلَةً أُصَلِّيهَا حَتَّى أُصْبِحَ، وَالْفَقِيهُ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ دِعَامَةٌ، وَدِعَامَةُ الدِّينِ الْفِقْهُ» (1). وكان أبو هريرة يدعو الناس إلى طلب العلم بالحكمة والموعظة الحسنة، ويُضْفِي إلى ذلك شيئاً من مرحة فتقبله النفوس، وتطمئنُّ له القلوب. من هذا ما رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ مَرَّ بِسُوقِ الْمَدِينَةِ - (وقد هاله انشغال الناس في الدنيا) - فَوَقَفَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: «يَا [أَهْلَ السُّوقِ]، مَا أَعْجَزَكُمْ»!!. قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: «ذَاكَ مِيرَاثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْسَمُ، وَأَنْتُمْ هَاهُنَا لاَ تَذْهَبُونَ فَتَأَخُذُونَ نَصِيبَكُمْ مِنْهُ؟». قَالُوا: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: «فِي الْمَسْجِدِ» فَخَرَجُوا سِرَاعًا [إِلَى الْمَسْجِدِ]، وَوَقَفَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَهُمْ حَتَّى رَجَعُوا، فَقَالَ لَهُمْ: «مَا لَكُمْ؟» قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَدْ أَتَيْنَا الْمَسْجِدَ، فَدَخَلْنَا، فَلَمْ نَرَ فِيهِ شَيْئًا يُقْسَمُ. فَقَالَ لَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ: «أَمَا رَأَيْتُمْ فِي الْمَسْجِدِ أَحَدًا؟» قَالُوا: بَلَى، رَأَيْنَا قَوْمًا يُصَلُّونَ، وَقَوْمًا يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ، وَقَوْمًا يَتَذَاكَرُونَ الْحَلاَلَ وَالْحَرَامَ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ: «وَيْحَكُمْ، فَذَاكَ مِيرَاثُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» (2). وكان أبو هريرة حين يعقد حلقات الحديث، يسمح لبعض طلابه بالكتابة عنه، ويكننا أنْ نعتبر هذه الحلقات التي يكتب فيها طلاب أبي هريرة عنه - مجالس إملاء الحديث، التي كثرت في العصور التالية: وقد ثبت أنه أملى على التابعي الثقة بشير بن نهيك السدوسي البصري بعض حديثه، وقرأ بشير ما كتبه عن أبي هريرة عليه قبل أنْ يفارقه (3). ويحفظ لنا التاريخ وثيقة تاريخية علمية قيِّمة، لما أملاه أبو هريرة على تلميذه همام بن منبه، المولود سَنَةَ أربعين هجرية، والمتوفَّ سَنَةَ

_ (1) " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع " بتحقيقي ف 1364. رواه الطبراني مرفوعاً وهو ضعيف. انظر " مجمع الزوائد ": ص 121، جـ 1. (2) " مجمع الزوائد ": ص 123، جـ 1، رواه الطبراني في " معجمه الأوسط "، وإسناده حسن. (3) انظر " طبقات ابن سعد ": ص 162، جـ 7، و " كتاب العلم " لزهير بن حرب: ص 193: ب. و " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 137: ب. و " المُحدث الفاصل ": ص 128: آ.

إحدى وثلاثون ومائة، فقد لقي همام بن منبه أحد أعلام التابعين الثقات الصحابي الجليل أبا هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وكتب عنه كثيراً من حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجمعه في صحيفة أو صحف أطلق عليها اسم " الصحيفة الصحيحة " (1). وربما سَمَّاهَا بالصحيحة على مثال " الصحيفة الصادقة " لعبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، وحق لهَمَّام أنْ يُسَمِّهَا بالصحيحة، لأنه كتبها عن صحابي خالط رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع سنين، وروى عنه الكثير. وقد وصلتنا هذه الصحيفة كاملة، كما رواها ودَوَّنَهَا همَّام عن أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، فقد عثر على هذه الصحيفة الدكتور المُحقِّق محمد حميد الله في مخطوطتين متماثلتين في دمشق وبرلين (2)، ووجدت لهذه الصحيفة نسخة مخطوطة في دار الكتب المصرية، تحت رقم (1981 حديث). وتزداد ثقتنا بصحيفة همام حينما نعلم أنَّ الإمام أحمد قد نقلها بتمامها في " مسنده "، كما نقل الإمام البخاري عدداً كثيراً من أحاديثها في " صحيحه " في أبواب شتى. ولهذه الصحيفة أهمية تاريخية في تدوين الحديث الشريف، أنها حُجَّة قاطعة ودليل ساطع على أنَّ الحديث النبوي كان قد دُوِّنَ في عصر مُبَكِّرٍ خلافاً للخطأ الشائع: أنَّ الحديث لم يُدَوَّنْ إلاَّ في أوائل القرن الهجري الثاني، ذلك لأنَّ هَمَّاماً لقي أبا هريرة قبل وفاته، وقد توفي أبو هريرة سَنَةَ 59 للهجرة، فمعنى ذلك أنَّ هذه الوثيقة العلمية قد دُوِّنَتْ قبل هذه السَنَةِ، أي في منتصف القرن الهجري الأول، وبهذا يكون لأبي هريرة فضل كبير في تشجيع طلاب العلم على تدوين الحديث وحفظه، وتضم صحيفة همام هذه (138) حديثاً وقد ذكر ابن حجر أنَّ هماما سمع من أبي هريرة نحو أربعين ومائة حديث بإسناد واحد (3)، وهذا يزيدنا ثقة بهذه الصحيفة، لاتفاق عدد ما جاء فيها من الأحاديث وما ذكره العلماء. وقد رواها عن همام

_ (1) انظر أقدم تدوين في الحديث النبوي: " صحيفة همام ": ض 20. (2) انظر وصف الدكتور حميد الله للمخطوطتين في " صحيفة همام ": ص 21 - 23. (3) انظر " تهذيب التهذيب ": ص 67، جـ 11.

كثرة حديثه وسعة علمه:

تلميذه معمر بن راشد، ثم عبد الرزاق عن معمر ثم هَلُمَّ جَرًّا (1). ... كثرة حديثه وسِعَةِ علمه: كان أبو هريرة من أوعية العلم , ومن كبار أئمة الصحابة في الحديث، مع الجلالة والعبادة، والتواضع والورع، ولم يكن أحد أكثر منه حديثاً من أصحاب رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاَّ عبد الله بن عمرو بن العاص، كما قال أبو هريرة نفسه: «مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ الله بن عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُبُ» (1). إلاَّ أنَّ ظروف عبد الله بن عمرو وتنقُّلهُ مع أبيه بين الحجاز ومصر والشام، وعدم استقراره، وانشغاله في العبادة عن التحديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، جعل ما رُوِيَ عنه أقل مِمَّا رُوِيَ عن أبي هريرة بكثير (3). وقد استكثر بعض الصحابة حديث أبي هريرة عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حين كانت سياسة الصحابة الإقلال من حديث رسول الله - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - كيلا ينصرف الناس عن القرآن، وخوفاً من الخطأ والكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وروى عن عمر أنه أمره بالإقلال من الرواية عن رسول الله، إلاَّ أنه عاد فسمح له حين عرف علمه ومكانته وورعه (4). وكان أبو هريرة يُبَيِّنُ أسباب كثرة حديثه فيقول: «إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللهُ الْمُوعِدُ، وَيَقُولُونَ: مَا لِلْمُهَاجِرِينَ لَا يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ؟ وَإِنَّ أَصْحَابِي مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَتْ تَشْغَلُهُمْ

_ (1) انظر " صحيفة همام بن منبه ": ص 20. (2) " فتح الباري ": ص 217، جـ 1. و " مسند الإمام أحمد ": ص 119، جـ 13 رقم 7383، رواه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن عمرو كثير: انظر رقم: 6510، 6802، 6930، 7018. (3 و 4) سأتعرَّضُ لهذا بالتفصيل في الباب الثاني من هذا الكتاب.

أَرْضُوهُمْ وَالْقِيَامُ عَلَيْهَا، وَإِنِّي كُنْتُ امْرَءًا مِسْكِينًا، (أَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَلْءِ بَطْنِي) (1) وَكُنْتُ أُكْثِرُ مُجَالَسَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَحْضُرُ إِذَا غَابُوا، وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا، وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا يَوْمًا فَقَالَ: «مَنْ يَبْسُطُ ثَوْبَهُ حَتَّى أَفْرُغَ مِنْ حَدِيثِي، ثُمَّ يَقْبِضُهُ إِلَيْهِ، فَلاَ يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّي أَبَدًا» فَبَسَطْتُ ثَوْبِي، - أَوْ قَالَ: نَمِرَتِي - ثُمَّ قَبَضْتُهُ إِلَيَّ، فَوَاللهِ مَا نَسِيتُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ (2). وكان يقول: «وَايْمُ اللهِ، لَوْلاَ آيَةٌ فِي كِتَابِ اللهِ مَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ أَبَدًا، ثُمَّ يَتْلُو: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ}» (3). وكان يدعو الناس إلى نشر العلم، وعدم الكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من ذلك ما يرويه عن النبي - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، أنه قال: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ، أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (4) وعنه أيضاً: «وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» (5). وكان أبو هريرة يقول: «مَنْ كَتَمَ عِلْماً يُنْتَفَعُ بِهِ، أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» (6).

_ (1) ما بين قوسين من رواية الزُهري في " مسند الإمام أحمد ": ص 267، جـ 12 رقم 7573. (2) " طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 52 و " فتح الباري ": ص 224، جـ 1. و " مسند الإمام أحمد: ص 270، جـ 12. و " حلية الأولياء ": ص 378، جـ 1. و " تاريخ الإسلام ": ص 334 جـ 2. «وَاللهُ الْمُوعِدُ»: قال القاضي عياض في " المشارق ": ص 290، جـ 1 أي عند الله المجتمع أو إليه، أي الموعد عنه .. انظر هامش الصفحة: 270 من الجزء 12 من " مسند الإمام أحمد ". وفي " طبقات ابن سعد ": ص 56، جـ 24 «فَبَسَطْتُهُ، فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثم قال: «ضُمَّهُ»، فَضَمَمْتُهُ». (3) " فتح الباري ": ص 224، جـ 1. و " مسند الإمام أحمد: ص 270، جـ 12 رقم 7274 وفيه: «لولا آيتان» - والآية [البقرة: 159]. (4) " فتح الباري ": ص 212، جـ 1 من حديث طويل. (5) " طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 56 و 57.

هكذا كان يشعر أبو هريرة أنَّ من واجبه أنْ يُفَقِّهَ الناس، ويعلمهم ما سمعه من الصادق المصدوق، ويرى هذا لزاماً عليه، لذلك لم يتوان في هذا المضمار ولم يقصر فيه، بل كان في طليعة المعلمين، سعى لنشر العلم، وأفتى الناس أكثر من عشرين سَنَةً، وكان طلاب العلم وأصحاب المسائل لا ينقطعون عنه، لعلمه الجم، وحفظه الجَيِّدِ، فقد كان من أعلم الصحابة بسُنَّة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويظهر لنا ذلك فيما حدث له مع عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَخَذَتِ النَّاسَ رِيحٌ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَاجٌّ، فَاشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ لِمَنْ حَوْلَهُ: مَنْ يُحَدِّثُنَا عَنِ الرِّيحِ؟ فَلَمْ يُرْجِعُوا إِلَيْهِ شَيْئًا، فَبَلَغَنِي الَّذِي سَأَلَ عَنْهُ عُمَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَاسْتَحْثَثْتُ رَاحِلَتِي حَتَّى أَدْرَكْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أُخْبِرْتُ أَنَّكَ سَأَلْتَ عَنِ الرِّيحِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ، وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا، فَلاَ تَسُبُّوهَا، وَسَلُوا اللهَ خَيْرَهَا، وَاسْتَعِيذُوا بِهِ مِنْ شَرِّهَا» (1). ومن هذا ما رواه الوليد بن عبد الرحمن أنَّ أبا هريرة حَدَّثَ عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا وَتَبِعَهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ» فقال عبد الله بن عمر: «انْظُرْ مَا تُحَدِّثُ، فَإِنَّكَ تُكْثِرُ مِنَ الحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»، فأخذ بيده، فذهب به إلى عائشة فسألها عن ذلك، فقالت: «صَدَقَ أَبُو هَرَيْرَةُ!!» ثم قال: «يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَاللَّهِ مَا كَانَ يَشْغَلُنِي عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، إِنَّمَا كَانَ يَهُمُّنِي كَلِمَةٌ من رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُنِيهَا، أَوْ لُقْمَةٌ يُطْعِمُنِيهَا» (2). وفي رواية: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَشْغَلُنِي

_ (1) " مسند الإمام أحمد ": ص 52، جـ 14 رقم 7619 بإسناد صحيح ونحوه في " الأدب المفرد ": ص 312 وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وهذا الحديث دليل قاطع على قناعة عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بحفظ أبي هريرة بالرغم من كثرة حديثه. وسأتعرض لهذا في الباب الثاني من البحث. (2) " طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 57 وروى نحوه بإسناد صحيح الإمام أحمد في " مسنده ": ص 175، جـ 12 رقم 7188.

عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَرْسُ بِالوَادِي وَصَفْقٌ بِالأَسْوَاقِ (1). فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «أَنْتَ أَعْلَمُنَا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَحْفَظُنَا لِحَدِيثِهِ» (2). وقد شهد له إخوانه أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكثرة سماعه وأخذه عن رسول الله. وهذه الشهادات تدفع كل ريب أو ظن حول كثرة حديثه، حتى إنَّ بعض الصحابة رَوَوْا عنه لأنه سمع من النبي الكريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يسمعوا. من هذا أنَّ رجلاً جَاءَ إِلَى طَلْحَةَ (3) بْنُ عُبَيْدِ اللهِ فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ أَرَأَيْتُكَ هَذَا اليَمَانِيَّ - يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ - أَهُوَ أَعْلَمُ بِحَدِيْثِ رَسُوْلِ اللهِ مِنْكُم؟ نَسْمَعُ مِنْهُ أَشْيَاءَ لاَ نَسْمَعُهَا مِنْكُم؟ قَالَ: «أَمَّا أَنْ قَدْ سَمِعَ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَمْ نَسْمَعْ فَلاَ أَشُكُّ، سَأُحَدِّثُكَ عَنْ ذَلِكَ: إِنَّا كُنَّا أَهْلَ بُيُوْتَاتٍ وَغَنَمٍ وَعَمَلٍ، كُنَّا نَأْتِي رَسُوْلَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَرَفَي النَّهَارِ، وَكَانَ مِسْكِيْناً ضَيْفاً عَلَى بَابِ رَسُوْلِ اللهِ، يَدُهُ مَعَ يَدِهِ، فَلاَ نَشُكُّ أَنَّهُ سَمِعَ مَا لَمْ نَسْمَعْ، وَلاَ تَجِدُ أَحَداً فِيْهِ خَيْرٌ يَقُوْلُ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ مَا لَمْ يَقُلْ» (4). وقال في رواية: «قَدْ سَمِعْنَا كَمَا سَمِعَ، وَلَكِنَّهُ حَفِظَ وَنَسِينَا» (5). وَرَوَى أَشْعَثُ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أَيُّوبَ (الأَنْصَارِي) يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؟ فَقَالَ: «إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدْ سَمِعَ مَا لَمْ نَسْمَعْ، وَإِنِّي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي مَا لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ -» (6).

_ (1) " البداية والنهاية ": ص 107، جـ 8. و " طبقات ابن سعد: 2: 2/ 118. (2) المراجع السابقة: ورَوَى نحو قول ابن عمر هذا الترمذي ونصه: «كُنْتَ أَلْزَمَنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْرَفَنَا بِحَدِيثِهِ». وقال الترمذي: حسن. راجع " فتح الباري ": ص 225، جـ 1. (3) في " سير أعلام النبلاء «طليحة» والصواب طلحة كما في " فتح الباري ": ص 225، جـ 1. (4) " سير أعلام النبلاء ": ص 436، جـ 2. و " البداية والنهاية ": ص 109، جـ 8. (5) " فتح الباري ": ص 77، جـ 8. (6) " البداية والنهاية ": ص 109، جـ 8. و " سير أعلام النبلاء ": ص 436، جـ 2.

ثم إنَّ جرأة أبي هريرة في سؤال الرسول - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، أتاحت له أنْ يعرف كثيراً مِمَّا لم يعرفه أصحابه، فكان لا يتأخَّرُ عن أنْ يسأله عن كل ما يعرض له، حيث كان غيره لا يفعل ذلك. قال أُبَيْ بن كعب: «كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ جَرِيئاً عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ لاَ نسَأَلُهُ عَنْهَا» (1). كما كان يسأل أصحابه الذين سبقوه إلى الإسلام. فكان لا يتأخر عن طلب العلم، بل كان يسعى إليه في حياة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبعد وفاته، وهو الذي يُرْوَى عنه - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» (2). وقد رأينا أبا هريرة يحب الخير ويعمل من أجله، فما أظنه عن خير من هذا النوع، وهو الذي صاحب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكلمة يعلمه إياها، ولحكمة يعظه بها. ونراه بعد وفاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجالس أصحابه يسألهم ويسألونه، حتى إنه كان يأتي إلى كل من يظن عنده بعض العلم، فقد جَاءَ إِلَى كَعْبٍ يَسْأَلُ عَنْهُ. وَكَعْبٌ فِي الْقَوْمِ. فَقَالَ كَعْبٌ: «مَا تُرِيدُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: «أَمَا إِنِّي لاَ أَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكُونَ أَحْفَظَ لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنِّي». فَقَالَ كَعْبٌ: «أَمَا إِنَّكَ لَمْ تَجِدْ طَالِبَ شَيْءٍ إِلا سَيَشْبَعُ مِنْهُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ إِلا طَالِبَ عِلْمٍ أَوْ طَالِبَ دُنْيَا». فَقَالَ: «أَنْتَ كَعْبٌ؟». فَقَالَ: «نَعَمْ». فَقَالَ: «لِمِثْلِ هَذَا جِئْتُكَ» (3). وَلَقِيَ أَبُو هُرَيْرَةَ كَعْبَ الأَحُبَارِ فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُ، وَيَسْأَلُهُ، فَقَالَ كَعْبٌ: «مَا رَأَيْتُ أَحَداً لَمْ يَقْرَأِ التَّوْرَاةَ أَعْلَمَ بِمَا فِيْهَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ». وكان أبو هريرة واسع العلم كثير الحديث، يُحَدِّثُ إخوانه وطلابه،

_ (1) " سير أعلام النبلاء ": ص 451، جـ 2. (2) " مسند الإمام أحمد ": ص 180، جـ 2، رقم 7193 ورواه الشيخان. (3) " طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 57. و " سنن الدارمي ": ص 86، جـ 1. وكعب تابعي عاصر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يلقه، توفي سَنَة َ 32 هـ. (4) " سير أعلام النبلاء ": ص 432، جـ 2.

وَقَدْ يَقُوْلُ لَهُمْ: «رُبَّ كِيْسٍ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمْ يَفْتَحْهُ - يَعْنِي: مِنَ العِلْمِ -» (1). وقال أبو هريرة: «حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِعَاءَيْنِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ فِي النَّاسِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ لَقُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ» (2). وَكَانَ يَقُولُ: «لَوْ أَنْبَأْتُكُمْ بِكُلِّ مَا أَعْلَمُ لَرَمَانِي النَّاسُ بِالْخَرْقِ وَقَالُوا أَبُو هُرَيْرَةَ مَجْنُونٌ» (3). وفي رواية: «لَوْ حَدَّثْتُكُمْ بِكُلِّ مَا فِي جَوْفِي لَرَمَيْتُمُونِي بِالْبَعْرِ». وَقَالَ الْحَسَنُ - رَوِاي الحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -: «صَدَقَ وَاللَّهِ .. لَوْ أَخْبَرَنَا أَنَّ بَيْتَ اللَّهِ يُهْدَمُ وَيُحْرَقُ مَا صَدَّقَهُ النَّاسُ» (4). وفي رواية قال: «يَقُولُونَ أَكْثَرْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أَنْ لَوْ حَدَّثْتُكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَرَمَيْتُمُونِي بِالْقَشْعِ - يَعْنِي بِالْمَزَابِلِ - ثُمَّ مَا نَاظَرْتُمُونِي» (5). وأبو هريرة في هذا لا يكتم علماً ينتفع به، ويشهد على ذلك قوله السابق «مَنْ كَتَمَ عِلْماً يُنْتَفَعُ بِهِ، أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ»، وهو الذي قال: «لَوْلاَ آيَةٌ فِي كِتَابِ اللهِ مَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ» (6). مِمَّا سبق يتبيَّنُ لنا أنَّ أبا هريرة قد بَثَّ في الناس وعاء مِمَّا سمع من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يبث الوعاء الآخر خوفاً من أنْ يُكَذِّبَهُ الناس، أو يرموه بالقشع، أو يتهموه بالجنون .. وإنَّ المرء ليتساءل عن ذلك الوعاء الذي يحفظه أبو هريرة، ولا يُحدِّثُ منه، فما هو ذلك العلم الذي لم يبثه أبو هريرة؟ وترى هل خَصَّهُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دون الأُمَّة بذلك؟ نفهم من حديث أبي هريرة أنَّ الرسول الكريم - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - حَمَّلَهُ نوعين من العلم، كل نوع لو كتبه إنسان لكان جراباً كبيراً،

_ (1) المرجع السابق: ص 430، جـ 2 رواه محمد بن راشد عن مكحول. (2) " طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 57 و 2: 2/ 118. و " فتح الباري ": ص 227، جـ 1. و " حلية الأولياء ": ص 381، جـ 1. و " البداية والنهاية ": ص 105، جـ 8. و " تذكرة الحُفاظ ": ص 34، جـ 1. و " سير أعلام النبلاء ": ص 430، جـ 2. (3) " طبقات ابن سعد ": ص 57 قسم 2، جـ 4 و ص 119 قسم 2، جـ 2. والتخرق لغة التخلق من الكذب. (4 و 5) " طبقات ابن سعد ": ص 57 قسم 2، جـ 4 و ص 119 قسم 2، جـ 2. (6) " فتح الباري ": ص 224، جـ 1. وانظر " مسند الإما أحمد ": ص 270، جـ 12.

أحدهما بثه والثاني لم يبثثه، أما أنْ يكون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد اخْتَصَّ أبا هريرة بشيء من الأحكام، فغير معقول، لأنه ينافي تبليغ الرسالة، وأمر الله - عَزَّ وَجَلَّ - في قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (1). وهل ما اختصه به من الآداب؟ فبعيد جداً لأنَّ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إنما بعث ليتمم مكارم الأخلاق، ومنعه ذلك عن الأمَّة ينافي تبليغ الرسالة أيضاً، فليس من المتصور أنْ يلقن الرسول الكريم، بعض ما يتعلق بالأخلاق والآداب أبا هريرة، ويترك الأمَّة من غير أنْ يفيدها بشيء من هذا، من هنا يتأكد لنا أنَّ الوعاء الثاني الذي لم يبثثه أبو هريرة لم يكن فيه ما يتعلق بالأحكام ولا بالآداب والأخلاق ويُرَجَّحُ أنْ يكون بعض ما يتعلق بأشراط الساعة، أو بعض ما يقع للأمَّة من فتن، وما يليها من أمراء السوء، وَيُقَوِّي هذا عندي أنَّ أبا هريرة، كان يكني عن بعض ذلك، ولا يصرِّحُ به خوفاً على نفسه مِمَّنْ يسيئه ما يقوله كقوله: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ رَأْسِ السِّتِّينَ، وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ» (2) وقوله: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ» (3). كما كان يدعو «اللَّهُمَّ لاَ تُدْرِكْنِي سَنَةُ سِتِّينَ» (4). ولا بد من أنْ نُنَبِّهَ إلى أنه ليس في حديث أبي هريرة هذا، أي دليل على أنَّ للدين ظاهراً وباطناً، ولا يجوز لأحد أنْ يتَّخذه ذريعة لذلك، حتى ينتهي إلى التحلل من الدين ومخالفة أوامره. وقد حرص أبو هريرة على أنْ يُحَدِّثَ الناس بما يعرفون، حتى لا يكذِّب اللهَ ورسولَهُ، إذا أخبر القوم بما لا تتصوَّره عقولهم (5)، وقد

_ (1) [المائدة: 67]. (2 و 3) انظر " فتح الباري ": ص 227، جـ 1، و " سير أعلام النبلاء ": ص 430، جـ 2. وانظر " البداية و النهاية ": ص 112، جـ 8. «وفيه ويلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شرٍ قَدِ اقْتَرَبَ، وَيْلٌ لَهُمْ مِنْ إِمَارَةِ الصِّبْيَانِ، يَحْكُمُونَ فِيهِمْ بِالْهَوَى وَيَقْتُلُونَ بِالْغَضَبِ». (4) انظر " ترتيب الثقات " لابن حبان: ص 171: ب، جـ 3. (5) من ذلك ما استشهد به ابن تيمية عن تنبُّو الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بعض أمور تقع في المستقبل، وذكر منها في " الصحيحين ": «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ، صِغَارَ الأَعْيُنِ =

حفظ أبي هريرة:

روى البخاري عن عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قوله: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» (1). أجل لم يكن أحد من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر حديثاً من أبي هريرة، ولكنه كان حذراً، لا يُحَدِّثُ إلاَّ بما ينتفع به الناس، ويخشى أنْ يُتَقَوَّلَ عليه ما لم يقل، أو أنْ يضع السامعون ما يُحدِّثُ به في غير مواضعه، لذلك أبى أنْ يُمْلِي على مروان بن الحكم حديثه كله، عندما طلب منه مروان - في ولايته على المدينة - أنْ يكتب حديثه. وقال له: أبو هريرة: ارْوِ كما روينا، فلما أبى عليه تحيَّنَ له مروان فرصة مناسبة، وأقعد له كاتباً ثقفاً، ودعاه، فجعل أبو هريرة يُحَدِّثُهُ، ويكتب ذلك الكاتب، حتى استفرغ حديثه، ثم قال مروان: «تَعْلَمُ أَنَّا قَدْ كَتَبْنَا حَدِيْثَكَ أَجْمَعَ؟»، قَالَ: «وَقدْ فَعَلْتَ!!؟» قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ: «فَاقْرَؤُوْهُ عَلَيَّ».فَقَرَأُوهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «أَمَا إِنَّكُمْ قَدْ حَفِظْتُمْ، وَإِنْ تُطِعْنِي تَمْحُهُ، - قَالَ الراوي -: «فَمَحَاهُ» (2). ... حفظ أبي هريرة: رأيت أنَّ أُفْرِدَ هذه الفقرة، تحت عنوان «حفظ أبي هريرة» لنعرف ضبطه لما يرويه، ومقدار تثبُّته في حفظ حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرُسُوخِ قدمه، وجلال قدره، وكان من الممكن إدراج هذا

_ =، ذُلْفَ الأُنُوفِ، حُمْرَ الخُدُودِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ المَجَانُّ المُطْرَقَةُ» - وهو من حديث أبي هريرة في الجهاد، وباب قتال الترك - ويقول ناشر كتاب ابن تيمية " الرد على المنطقيين " وقد شاهد المصنِّف - رَحِمَهُ اللهُ - من وقائعهم، وشارك الجهاد معهم، وكتب عنهم كثيراً، انظر هامش الصفحة 446 من كتاب " الرد على المنطقيين "، ومن ذلك ما رواه أبو هريرة: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الحِجَازِ تُضِيءُ أَعْنَاقَ الإِبِلِ بِبُصْرَى» وقد خرجت هذه النار قبل مجيء أكثر الكفار إلى بغداد سَنَةَ خمس وخمسين وستمائة وتواتر خبرها، وللاستزادة راجع " فتح الباري "، و " تاريخ ابن كثير " و " شذرات الذهب " في السَنَةِ المذكورة، و " الرد على المنطقيِّين ": ص 445 - 446. (1) " فتح الباري ": ص 235، جـ 1. (2) " سير أعلام النبلاء ": ص 431، جـ 2، رواه عوف الأعرابي عن سعيد بن أبي الحسن.

فيما سبق مِمَّا ذكرته في كثرة حديثه وسِعَةِ علمه، إلاَّ أنَّ كثرة الحديث وسِعَةِ العلم قد لا تدلان على قوة الحفظ والاتقان، فقد يكون الراوي كثير الحديث غير ضابط لما يروى، فإذا اجتمع العلم الكثير، والحفظ المتقن، كان ذلكغاية ما يتمنَّى أولو العلم. ونحن الآن بين يَدَيْ حفظ أبي هريرة راوية الإسلام، ومُحَدِّثِ الأُمَّة في القرن الأول، الذي حفظ على الأمَّة حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما قال عب الله بن عمر. لقد دعا له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحفظ، وبسط له رداءً كان على ظهره، وحدَّثَهُ، ثم أمره أنْ يضُمَّهُ إليه، فلم ينس بعد ذلك مِمَّا حدَّث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً، وكان أبو هريرة، يدعو الله أنْ يهبه علماً لا ينسى، فأمن له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد عرفنا حرصه على الحديث النبوي، حُبَّهُ العظيم للرسول الكريم، الذي وجد عنده الخير كله، فانكبَّ على طلب العلم، من بيت العلم ومنزل الوحي، ومعين المعرفة، وتعلَّق بهذا طيلة حياة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبعد وفاته، فكان يحاول أنْ يعي كُلَّ ما يُحَدِّثُ به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي ذلك يقول أبو هريرة: «صَحِبْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلاثَ سِنِينَ مَا كُنْتُ سَنَوَاتٍ قَطُّ أَعْقَلَ مِنِّي، وَلا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَعِيَ مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنِّي فِيهِنَّ» (1). فقد اجتمع لأبي هريرة عاملان عظيمان هُمَا حُبُّهُ للرسول الكريم وتعلقه به، واندفاعه وراءه في سبيل كلمة يعلِّمُهُ إياها، أو حكمة ينتفع بها، ونحن نعلم ما لهذا العامل النفسي من أثر بعيد في تثبيت تلك الأحاديث في نفس طالبها، والعامل الآخر هو دعاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له بالحفظ، وتشجيعه إياه على ذلك، ونحن نعلم ما لأثر المُرَبِّي والمُعَلِّمِ في توجيه طلابه وتفوُّقهم ونجاحهم، فكيف يكون توجيه معلم الإنسانية وتشجيعه، وخاصة من حيث إنه رسول رب العالمين!!؟ فقد تعاضد

_ (1) " طبقات ابن سعد ": ص 54 قسم 2، جـ 4، رواه قيس بن أبي حازم عن أبي هريرة.

هذان العاملان ليجعلا من أبي هريرة راوية الإسلام حافظ السُنَّة، وإني أومن بالأثر العظيم الذي تركه دعاؤه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نفس أبي هريرة على طلب الحديث بنفس صافية وعزيمة قوية، وهِمَّةٍ عاليةٍ، أومن بذلك إيمان اليقين، وإنَّ سيرته وحياته تؤكِّدان ذلك. وما كان أبو هريرة ليكتفي بما يسمع من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في نهاره أو ليله، بل كان يراجع حديثه - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، ويُكرِّرُ في المسجد، وفي الطريق، وفي بيته، ليلاً ونهاراً، لأنه يرى في ذلك نوعاً من أنواع العبادة، قال أبو هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «جَزَأْتُ اللَّيْلَ ثَلاَثَةَ أَجْزَاءٍ: ثُلُثًا أُصَلِّي، وَثُلُثًا أَنَامُ، وَثُلُثًا أَذَكَرُ فِيهِ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» (1). وهذا عامل ثالث من عوامل تثبيت الحديث في صدر أبي هريرة وحفظه، وذاك غاية ما يفعله المتعطِّشُون للعلم المُحِبُّون له، الساعون وراءه، فكيف بأبي هريرة الذي عرفنا عزيمته وإقدامه على حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -!؟. ويذكر لنا أبو الزعيزعة، كاتب مروان، ما يُثْبِتُ اتقانه وحفظه، فيقول: «دَعَا مَرْوَانُ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ، وَأَجْلَسَنِي خَلَفْ الْسَّرِيرِ، وَجَعَلْتُ أَكْتُبُ عَنْهُ، حَتَّىَ إِذَا كَانَ رَأْسُ الْحَوْلِ، دَعَا بِهِ، فَأَقْعَدَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ، فَمَا زَادَ وَلاَ نَقَصَ، وَلاَ قَدَّمَ وَلاَ أَخَّرَ» (2)!!. ومن هذا أيضاً أنه لقي رجلاً، فَقَالَ لَهُ: بِأَيِّ سُورَةٍ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَارِحَةَ فِي الْعَتَمَةِ؟ فَقَالَ: لاَ أَدْرِي. فَقُلْتُ: أَلَمْ تَشْهَدْهَا؟

_ (1) " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 180: ب - 181: آ، وانظر " سنن الدارمي ": ص 82، جـ 1. (2) " البداية والنهاية ": ص 106، جـ 8، و " سير أعلام النبلاء ": ص 431، جـ 2، وقد جمعت بين الروايتين.

حضه على صيانة الحديث من الكذب:

قَالَ لَهُ: بَلَى. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «إِنِّي أَدْرِي، قَرَأَ بِسُورَةِ كَذَا وَكَذَا» (1). وقد شهد له بذلك الصحابة والتابعون وأهل العلم من بعدهم (2). ... حَضُّهُ على صيانة الحديث من الكذب: أجل لقد كان أبو هريرة يكثر الحديث عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحرص على نشره، ومع هذا فإنه كان حريصاً حرصاً شديداً على ألاَّ يدخل حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ليس منه، وألاَّ يكذب أحد على الرسول الكريم، لهذا كان كثيراً ما يُحَذِّرُ الناس من ذلك، ويُنذرهم بعذاب الله تعالى، ويُذَكِّرَهُمْ بقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيَمُرُّ فِي السُّوقِ فَيَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ .. مَنْ كَانَ يَعْرِفُنِي فَأَنَا الَّذِي عَرَفْتُمْ , وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ , سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (3). ... أبو هريرة والقرآن الكريم: مِمَّا لا شك فيه أنَّ أبا هريرة سمع القرآن الكريم من الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما سمع منه الحديث، وكان يتلو منه في أكثر أوقاته، وبخاصة في صلواته ليلاً، التي كان يُحْيِي به ثلث ليله (4). وعرض أبو هريرة القرآن الكريم على الصحابي الجليل أُبَيْ بن كعب سَيِّدُ القُرَّاء، وأخذ عنه: الأعرج، وأبو جعفر وطائفة (5). وكان أبو هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - شيخ شيوخ نافع صاحب القراءة المشهورة. قال ابن حزم - رَحِمَهُ اللهُ -: وَلِأَهْلِ الْمَدِينَةِ: الْقِرَاءَةَ الْمَعْرُوْفَةَ بِنَافِعٍ بْنِ أَبِيْ نُعَيْمٍ، مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ. قَرَأَ عَلَىَ يَزِيدَ الْقَعْقَاعِ،

أبو هريرة والفتوى:

وَعَبَدَ الْرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ الْأَعْرَجِ، وَمُسْلِمٍ بْنِ جُنْدُبٍ الْهُذَلِيِّ، وَيَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، وَشَيْبَةَ بْنِ نِصَاحٍ. هَؤُلَاءِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدَ الْلَّهِ بْنَ عَيَّاشٍ بْنِ أَبِيْ رَبِيْعَةَ الْمَخْزُوْمِيِّ. هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ عَنْ أُبَيٍّ بْنِ كَعْب (1). قَالَ سُلَيْمَانُ بنُ مُسْلِمِ بنِ جَمَّازٍ: «سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ يَحْكِي لَنَا قِرَاءةَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (2) يُحَزِّنُهَا شِبْهَ الرِّثَاءِ» (3). قال الذهبي - رَحِمَهُ اللهُ -: «وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي " طَبَقَاتِ القُرَّاءِ "، ... وَذَكَرْتُهُ فِي " تَذْكِرَةِ الحُفَّاظِ "، فَهُوَ رَأْسٌ فِي القُرْآنِ، وَفِي السُّنَّةِ، وَفِي الفِقْهِ» (4). ... أبو هريرة والفتوى: لم يكن أبو هريرة راوية للحديث فقط، بل كان من رؤوس العلم في زمانه، في القرآن والسُنَّة والاجتهاد، فإنَّ صُحبته وملازمته لرسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أتاحت له أنْ يتفقَّهَ في الدين، ويشاهد السُنَّة العمليَّة، عظيمها ودقيقها، ويحفظ عن الرسول الكريم الكثير الطيب، فتكوَّنتْ عنده حصيلة كثيرة، من الحديث الشريف، وقد اطَّلع على حلول أكثر المسائل الشرعية، التي كانت تُعْرَضُ للمسلمين في عهده - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - كل ذلك هيَّأ أبا هريرة، لأنْ يفتي المسلمين في دينهم نيفاً وعشرين سَنَةُ، والصحابة كثيرون آنذاك. ويذكر لنا زياد بن مينا، أنه كان ابن عباس وابن عمر وأبو سعيد، وأبو هريرة، وجابر، مع أشباه لهم يفتون بالمدينة، ويُحَدِّثُونَ عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من لَدُنْ توفي عثمان إلى أنْ توفوا. قال: هؤلاء الخمسة إليهم صارت الفتوى (5).

_ (1) " جوامع السيرة ": ص 269. (2) [التكوير: 1]. (3) " سير أعلام النبلاء ": ص 451، جـ 2. (4) المرجع السابق: ص 449، جـ 2. (5) " تاريخ الإسلام ": ص 337، جـ 2. و " سير أعلام النبلاء ": ص 437، جـ 2.

وقد ولي أبو هريرة البحرين لعمر، وأفتى فيها في مسألة المُطَلَّقة طلقة، ثم يتزوَّج بها آخر، ثم بعد الدخول فارقها، فتزوَّجها الأول. هل تبقى عنده على طلقتين - كما هو قول عمر وغيره من الصحابة، ومالك و الشافعي، وأحمد في المشهور عنه - أو تلغى تلك التطليقة، وتكون عنده على الثلاث، كما هو قول ابن عباس، وابن عمر وأبي حنيفة، ورواية عن عمر، بناء على أنَّ إصابة الزوج تهدم ما دون الثلاث، كما هدمت إصابته لها الثلاث. فالأول مبنيٌّ على أنَّ إصابة الزوج الثاني، إنما هي غاية التحريم الثابت بالطلاق. فهو الذي يرتفع، والمطلَّقة دون الثلاث لم تحرم، فلا ترفع الإصابة منها شيئاً. وبهذا أفتى أبو هريرة، فقال له عمر: «لَوْ أَفْتَيْتَ بِغَيْرِهِ، لأَوْجَعْتُكَ ضَرْباً» (1). وقد سأله قوم يُحَرِّمُونَ عن مُحِلِّينَ أهدوا هلم صيداً، فأمرهم بأكله، ثم لقي عمر بن الخطاب فأخبره بذلك، فقال له: «لَوْ أَفْتَيْتَهُمْ بِغَيْرِ هَذَا، لأَوْجَعْتُكَ» (2). وقد أفتى أبو هريرة في مسائل دقيقة، مع مثل ابن عباس (3) وعمل الصحابة ومن بعدهم - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - بحديث أبي هريرة، في مسائل كثيرة، تخالف القياس، كما عملوا كلهم بحديثه عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا»، كما عمل أبو حنيفة والشافعي وغيرهما بحديثه، أنَّ «مَنْ أَكَلَ نَاسِياً، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ»، وهو مخالفف للقياس، كما عمل الإمام مالك بحديثه: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ» في غسل الإناء سبعاً، مع أنَّ القياس عنده: أنه لا يغسل لطهارته عنده (4).

_ (1) " سير أعلام النبلاء ": ص 445، جـ 2. (2) " سير أعلام النبلاء ": ص 446، جـ 2. (3) " سير أعلام النبلاء ": ص 437، 446، جـ 2. (4) " سير أعلام النبلاء ": ص 445، جـ 2.

وهكذا تصدَّرَ أبو هريرة في المدينة للفتوى والاجتهاد يسأله الناس فيجيبهم، ويستفتونه فيُفتِيهم، ويستشهدونه على حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيشهد لهم. من هذا ما رواه البخاري بسنده عن أَبي سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ، يَسْتَشْهِدُ أَبَا هُرَيْرَةَ: نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ، هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَا حَسَّانُ، أَجِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ القُدُسِ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَعَمْ (1). ويسأله مروان بن الحكم عن صلاة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الجنائز فيجيبه (2). وعرف الصحابة والتابعون وأهل العلم من بعدهم منزلته ومكانته، فكانوا يحتجُّون بعمله واجتهاده، من هذا ما رواه الإمام مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ، مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: شَهِدْتُ الأَضْحَى وَالْفِطْرَ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ «فَكَبَّرَ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَفِي الآخِرَةِ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ» (3). ومن هذا أيضاً ما رواه الإمام مالك عن يحيى بن سعيد، أنه قال: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: «صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى صَبِيٍّ لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً قَطُّ. فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» (4). وأختم هذا بما قاله الإمام مالك: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وعَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، وأَبَا هُرَيْرَةَ كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى الْجَنَائِزِ بِالْمَدِينَةِ. الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَيَجْعَلُونَ الرِّجَالَ مِمَّا يَلِي الإِمَامَ. وَالنِّسَاءَ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ (5). من هذا يتبيَّنُ لنا أنَّ أبا هريرة كان أحد أعلام الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ -

_ (1) " صحيح البخاي بحاشية السندي ": ص 74، جـ 4، وانظر " مسند الإمام أحمد ": ص 63، جـ 14. (2) انظر " مسند الإمام أحمد ": ص 214 حديث 7471، جـ 13. (3) " موطأ الإمام مالك ": ص 180 حديث 9، جـ 2. وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب التكبير في العيدين. (4) " موطأ الإمام مالك ": ص 228 حديث 18، جـ 1. (5) " موطأ الإمام مالك ": ص 230 حديث 24، جـ 1.

عليهم جميعاً، في الفتوى والاجتهاد، وأنه لا يقل في ذلك عن عبد الله بن عمر، و عثمان بن عفان وغيرهما من كبار الصحابة، وأنه كثيراً ما كانت تتلاقى فتاواه بفتاوى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. ولسعة علمه، وإتقانه وحفظه، وفضله ومكانته، وورعه وتقواه كثر الناس عليه، في عصره ينهلون من علمه، ويعملون به، وبقي علماً لمن بعده يقتدى به ويهتدى بسيرته .. وكان أبو هريرة في فتواه يقتدي بالرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحرص على تتبُّع حديثه - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - وأحكامه وفتاواه، من هذا ما رواه أبو داود بسنده عَنْ هِلالِ بْنِ أُسَامَةَ، أَنَّ أَبَا مَيْمُونَةَ سَلْمَى مَوْلًى مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ رَجُلَ صِدْقٍ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَارِسِيَّةٌ مَعَهَا ابْنٌ لَهَا فَادَّعَيَاهُ، وَقَدْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا، فَقَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَرَطَنَتْ لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ، زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «اسْتَهِمَا عَلَيْهِ»، وَرَطَنَ لَهَا بِذَلِكَ، فَجَاءَ زَوْجُهَا، فَقَالَ: مَنْ يُحَاقُّنِي فِي وَلَدِي، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي لا أَقُولُ هَذَا إِلاَّ أَنِّي سَمِعْتُ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا قَاعِدٌ عِنْدَهُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي، وَقَدْ سَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ، وَقَدْ نَفَعَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَهِمَا عَلَيْهِ»، فَقَالَ زَوْجُهَا: مَنْ يُحَاقُّنِي فِي وَلَدِي؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا أَبُوكَ، وَهَذِهِ أُمُّكَ فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ»، فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ» (1).

_ (1) قوله: «مَنْ يُحَاقُّنِي»: الحقاق والاحتقاق: الخصام والاختصام أي من يخاصمني في ولدي. رواه أبو داود في " سننه ": ص 530، جـ 1. وروى نحوه أهل السُنن وابن أبي شيبة وصحَّحهُ الترمذي وابن حبان وابن القطان، وفي هذا الباب أخبار أخرى نحوه، وفي هذا دليل على أنه تنازع الأبوان في ابن لهما كان الواجب هو تخيير الولد، فمن اختاره ذهب به. وقد أخرج البيهقي عن عمر أنه خَيَّرَ غلاماً بين أبيه وأمه، وأخرج أيضاً عن عَلِيٍّ أنه خَيَّرَ عُمارة الجذامي بين أمه وعمَّته، وكان ابن سبع أو ثمان سنين. وقد ذهب الشافعي وأصحابه وإسحاق بن راهويه إلى أنْ يبقى الولد مع الأم إلى سبع سنين ثم يُخَيَّرُ، وقيل إلى خمس، وذهب الإمام أحمد إلى أنَّ الصغير إلى دون سبع سنين أمه أولى به، وعند بلوغه السابعة، ففي الذكر ثلاثة أقوال: وهو أنْ يُخَيَّرَ وهذا هو المشهور عن أصحاب الإمام =

أبو هريرة والقضاء:

ومن ذلك أيضاً ما رواه الإمام مالك، أنه بلغه عن المُقبري، أنه قال: سئل أبو هريرة عن الرجل تكون عليه رقبة، هل يعتق فيها ابن الزنا، فقال أبو هريرة: نعم ذلك يجزي عنه (1). وسبق أنْ ذكرنا بعض نماذج من فتاواه، عندما تكلمنا عن تمسُّكه بالسُنَّة، وعن مجالسه. وإنَّ المقام يضيق بنا عن حصر فتاواه - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، ولن نُفرِّط في القول فنّدَّعِي أنه كان من المكثرين في الفتيا، بل كان من المتوسطين في ذلك، كما ذكره الإمام محمد بن حزم، قال: «وَالْمُتَوَسِّطُونَ مِنْهُمْ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُمْ مِنْ الْفُتْيَا: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، ... فَهَؤُلاَءِ ثَلاَثَةَ عَشَرَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْمَعَ مِنْ فُتْيَا كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ صَغِيرٌ جِدًّا» (2). وقد جمع شيخ الإسلام تقي الدين السُبكي جزءًا سمَّاهُ " فتاوى أبي هريرة " (3). ... أبو هريرة والقضاء: لم ينقل أنَّ أحداً من الخلفاء أو الأمراء وَلَّى أبا هريرة قضاء المدينة

_ = أحمد. وإنْ لم يختر أقرع بينهما. والثانية أنَّ الأب أحق به، والثالثة أنَّ الأب أحق بالذكر، والأم بالأنثى إلى تسع سنين ثم يكون الأب أحق بها. وحكى عن الحنفية والهادوية ومالك أنه لا يُخَيَّرُ، بل متى استغنى بنفسه، فالأب أولى بالذكر والأم بالأنثى، وعن مالك: الأنثى للأم حتى تزوَّج وتدخل، الأب له الذكر حتى يستغني، وحاول النافون للتخيير الاستدلال بحديث: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ تَنْكَحِي» وأجيب عنها بكونها أحق به فيما قبل سن التمييز وذلك بقرينة أحاديث الباب. قال الشوكاني: «وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي قَبْلَ التَّخْيِيرِ وَالاسْتِهَامِ مُلاَحَظَةُ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلصَّبِيِّ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الأَبَوَيْنِ أَصْلَحَ لِلصَّبِيِّ مِنْ الآخَرِ قُدِّمَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ وَلاَ تَخْيِيرٍ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ» .. " نيل الأوطار ": ص 350 - 351، جـ 6. وواضح أنَّ التخيير لا يكون إلاَّ بعد تمييز الصبي، وعندما يستوي الأبوان في الصلاح والرعاية وحُسن التوجيه، وإذا ثبت للقاضي سوء تصرُّف أو توجيه أحدهما توجيهاً شاذاً قضى به لمن يحسن رعايته وتأديبه. (1) " موطأ الإمام مالك ": ص 777، جـ 2. (2) " إعلام الموقعين ": ص 12، جـ 1. و " الإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم: ص 666. (3) " الأعلام ": ص 81، جـ 4 حيث ذكر السُبكي ومؤلفاته.

شيوخه ومن روى عنه:

أو غيرها، ولكن لا بد أنه نظر في بعض القضايا حينما ولي البحرين لعمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، والمدينة لمعاوية ومروان، وليس بعيداً أنْ يرجع إليه بعض المتخاصمين في قضية لم يقتنعا فيها بحكم القاضي، فيعيد النظر فيها، ذلك لأنه لم يكن منصب قاضي المظالم قد أفرد القاضي المظالم بعد، بل كان ينظر في المظالم الخليفة أو الأمير، ثم ما لبثت محكمة المظالم أنْ تبلورت في عهد عبد الملك بن مروان (1). ولا شك في أنه إذا جاء إلى أبي هريرة متظلم أنصفه، لأنه كان مسؤولاً عن أمور رعيته أثناء إمارته. ومع أنه لم ينقل إلينا أنه ولي القضاء لأحد، فإنَّ البلاذري يذكر أنه ولي قضاء البحرين (2)، كما أننا نرى في بعض الأخبار أنه فصل في بعض القضايا، من هذا ما أخرجه أبو داود بسنده عَنْ عُمَرَ بْنِ خَلْدَةَ، قَالَ: أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ فِي صَاحِبٍ لَنَا أَفْلَسَ، فَقَالَ: لأَقْضِيَنَّ فِيكُمْ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «مَنْ أَفْلَسَ، أَوْ مَاتَ فَوَجَدَ رَجُلٌ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» (3). ... شيوخه ومن روى عنه: روى أبو هريرة عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الكثير الطيب، وروى عن بعض الصحابة منهم: أبو بكر الصدِّيق، وعمر بن الخطاب، والفضل بن عباس بن عبد المطلب، وأُبَيُّ بن كعب، وأسامة بن زيد، وعائشة أم المؤمنين، وبصرة بن أبي بصرة.

_ (1) انظر " تاريخ الإسلام ": ص 491، جـ 1. (2) انظر " فتوح البلدان ": ص 93. و " الإصابة ": ترجمة قدامة بن مظعون. و " الانوار الكاشفة ": ص 225. (3) " سنن أبي داود ": ص 257، جـ 2، كتاب البيوع، باب في الرجال يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه عنده. وانظر " مسند الإمام أحمد ": ص 103 حديث 7366، جـ 13. والراجح عندي أنَّ ما ذكرته كان في قضية مرفوعة إلى أبي هريرة والنص ظاهر في هذا، ويؤكد ما ذهبت إليه أنَّ أبا داود نفسه روى بسند آخر هذا عن أبي هريرة من غير أنْ يذكر القضاء فيه، وروى نحوه عن طريق ثالث عن أبي هريرة عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يذكر فيه أيضاً قول أبي هريرة: «لأَقْضِيَنَّ فِيكُمْ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ».

الصحابة الذين رووا عنه:

الصحابة الذين رَوَوْا عنه: منهم ابن عباس، وابن عمر، وأنس بن مالك، وواثلة بن الأسقع، وجابر بن عبد الله الأنصاري (1)، وأبو أيوب الأنصاري (2). التابعون الذين رَوَوْا عنه: لقد رُوِيَ عن أبي هريرة خلق كثير فيهم أئمة التابعين، وأعلامهم في الحديث والفقه، منهم إبراهيم بن إسماعيل، وإبراهيم بن عبد الله بن حنين، وإبراهيم بن عبد الله بن قارظ الزهري - ويقال: عبد الله بن إبراهيم - وإسحاق مولى زائدة، وأسود بن هلال، وأغر بن سليك، والأغر أبو مسلم، وأنس بن حكيم، وأوس بن خالد، وبُسر بن سعيد، وبشير بن نهيك، وبشير بن كعب، وبعجة بن عبد الله الجُهيني، وبكير بن فيروز، وثابت بن عباس، وثابت بن قيس الرزقي، وثور بن غفير، وجبر بن عُبيدة، وجعفر بن عياض، وجمهان (3) الأسلمي، والجلاس، والحارث. والحارث بن مخلد، وحريث بن قُبيصة، والحسن البصري، وحصين بن اللجلاج - ويقال: خالد. ويقال: قعقاع - وحصين بن مصعب، وحفص بن عامر بن عمر، وحفص بن عبد الله بن أنس، والحكم بن مينا، وحكيم بن سعد، وحميد بن عبد الرحمن الزُهري، وحميد بن عبد الرحمن، وحميد بن مالك، وحنظلة بن علي، وحيان بن بسطام والد سليم. وخالد بن عبد الله، وخالد بن غلاق، وخباب صاحب المقصورة، وخلاس، وخيثمة بن عبد الرحمن. وذهيل بن عوف. وربيعة الجرشي، ورميح الجذامي. وزرارة بن أوفى (4)، وزفر بن صعصعة - بخلف - وزياد بن ثوب،

_ (1) " الإصابة ": ص 201، جـ 7. و " تهذيب التهذيب ": ص 263، جـ 12. (2) " سير أعلام النبلاء ": ص 436، جـ 2. (3) بضم أوله، وذكر صاحب " الخلاصة " و " ميزان الاعتدال " بتقديم الهاء على الميم. (4) في " الإصابة ": ابن أبي أوفى، انظر: ص 201، جـ 7.

وزياد بن رباح، وزياد بن قيس، وزياد الطائي، وزيد بن أسلم - مرسل - وزيد بن أبي عتاب. وسالم العمري، وسالم بن أبي الجعد، وسالم أبو الغيث، وسالم مولى البصريين، وسُحيم الزهري، وسعد بن هشام، وسعيد بن الحارث، وسعيد بن أبي أبي الحسن، وسعيد بن حيان، وسعيد المقبري، وسعيد بن سمعان، وسعيد بن عمرو الأشدق، وسعيد بن مرجانة، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن ابي هند، وسعيد بن يسار، وسليمان الأغر، وسلمة بن الأزرق، وسلمة الليثي، وسليمان بن حبيب المحاربي، وسليمان بن سنان، وسليمان بن يسار، وسنان بن أبي سنان. وشتير - وقيل سمير بن نهار -، وشداد أبو عمار، وشريح بن هانئ، وشفيُّ بن ماتع، وشقيق بن سلمة، وشهر بن حوشب، وصالح بن درهم، وصالح بن أبي صالح، وصالح مولى التوأمة، وصعصعة بن مالك، وصهيب العتواري. والضحاك بن شرحبيل، والضحاك بن عبد الرحمن بن عرزم، وضمضم بن جوش، وطارق بن مخاشن ... وعامر بن سعد بن أبي وقاص، وعامر بن سعد البجلي، وعامر الشعبي ... وعبد الله بن عُتبة الهذلي، وعبد الله بن عمرو القاري، وعبد الله بن فروخ، ... وعبد الرحمن بن ابي عمرة، وعبد الرحمن بن غنم، وعبد الرحمن بن مهران مولى أبي هريرة، وعبد الرحمن بن أبي نعيم البجلي، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وعبد العزيز بن مروان، وعبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن ... وعروة بن الزبير ... وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن أبي علقمة، وعطاء بن يسار ... وعمار بن أبي عمار مولى بني هاشم، وعمر بن الحكم بن رافع، وعمر بن خلدة قاضي المدينة، وعمر بن دينار ... وعنبسة بن سعيد بن العاص ... وعوف بن الحارث رضيع عائشة. والقاسم بن محمد، وقُبيصة بن ذؤيب ... وكثير بن مرة، والمحرر بن أبي هريرة ... ومحمد بن سيرين ... ومحمد بن كعب القرظي، ومحمد

عدة ما روي عنه من الحديث:

ابن مسلم الزُهري - ولم يلحقه - ومحمد بن المنكدر، ومروان بن الحكم، ومضارب بن حزن، ومكحول - ولم يره - ... وميمون بن مهران، ومينا مولى عبد الرحمن بن عوف، ونافع بن جُبير، ونافع بن عباس مولى أبي قتادة، وهمام بن منبه، الذي أملى عليه أبو هريرة صحيفته المشهورة ... ويحيى بن جعدة، ... ويحيى بن أبي صالح، ... ويزيد بن هرمز ... ويعلى بن مرة، ويوسف بن ماهك. وأبو إدريس الخولاني، وأبو إسحاق مولى بني هاشم، ... وأبو بكر بن عبد الرحمن، وأبو جعفر المدني - فإنْ كان الباقر فمرسل - ... وأبو رزين الأزدي، وأبو زرعة البجلي، وأبو سعيد المقبري، ... وأبو صالح السمان، ... وأبو عثمان النهدي، ... وأبو مدله مولى عائشة، وأبو يونس مولى أبي هريرة ... وابن مكرز - شامي -، وكريمة بنت الحسحاس، وأم الدرداء الصغرى، وآخرون كثيرون، وهؤلاء بعض من روى عن أبي هريرة، وأحاديثهم في " الكتب الستة " (1). قَالَ الْبُخَارِيُّ: «رَوَى عَنْهُ نَحْوٌ مِنْ ثَمَانِمِائَةِ رَجُلٍ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ» (2). ... عدة ما رُوِيَ عنه من الحديث: سبق أنْ ذكرت أنَّ أبا هريرة أكثر الصحابة حديثاً عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولن نستغرب هذا بعد أنْ عرفنا حُبَّهُ وملازمته للرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحُبَّهُ للعلم، وحرصه على طلب الحديث، وجرأته في السؤال، وتكراره ومذاكرته حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في كل فرصة تسنح له، وجِدُّهُ واجتهاده ونشاطه، ولن نستغرب كثرة ما رُوِيَ عنه، بعد أنْ عرفنا حرصه على نشر الحديث وتبليغه،

_ (1) انظر " سير أعلام النبلاء ": ص 418 - 423، جـ 2. و " تهذيب التهذيب ": ص 263 - 265، جـ 12. و " الإصابة ": ص 201 - 202، جـ 7. (2) انظر " تهذيب التهذيب ": ص 265، جـ 12. و " البداية والنهاية ": ص 103، جـ 8.

وحَضِّهِ الأمَّة على التمسك بالسُنَّة النبوية، واقتداءه بالرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جميع أحوله، وتحديثه في الشام والعراق والبحرين، والحجاز، وبعد أنْ عرفنا منزلته ومكانته وفضله، وكثرة الرُواة عنه، لهذا كان أكثر الصحابة حديثاً عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان محل عناية وتقدير واحترام من جميع المسلمين قديماً وحديثاً. وقد أخرج أحاديثه كثير من أئمة الحفاظ، فأخرج له أصحاب المسانيد، والصحاح، والسُنن، والمعاجم، والمصنَّفات، وما كان من كتاب معتمد في الحديث، إلاَّ فيه أحاديث عن الصحابي الجليل أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. وتتناول أحاديثه معظم أبواب الفقه: في العقائد، والعبادات، والمعاملات، والجهاد، والسير، والمناقب، والتفسير، والطلاق، والنكاح، والأدب، والدعوات، والرقاق، والذكر والتسبيح ... وغير ذلك. روى الإمام أحمد بن حنبل في " مسنده " [3848] حديثاً وفيها مُكَرَّرٌ كثير باللفظ والمعنى، ويصفو له بعد حذف المُكَرَّرٌ خير كثير (1). وروى له الإمام بقي بن مَخْلَدْ (201 - 276 هـ) في " مسنده " [5374] خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثاً (2). وروى له أصحاب " الكتب الستة " والإمام مالك في " موطئه " [2218] ألفي حديث، ومائتين وثمانية عشر حديثاً مِمَّا اتَّفقوا عليه وانفردوا به (3). له في " الصحيحين " منها [609] ستمائة وتسعة أحاديث، اتفق الشيخان: الإمام البخاري، والإمام مسلم عن [326] ثلاثمائة وستة وعشرون حديثاً

_ (1) انظر " مسند الإمام أحمد ": ص 83، جـ 12. (2) انظر " البارع الفصيح في شرح الجامع الصحيح " مخطوط دار الكتب المصرية: ص 9: ب عن " مسند الإمام بقي بن مخلد ". وفي " تاريخ الإسلام ": ص 334، جـ 2 عدد أحاديثه [5371] حديثاً. وانظر " شذرات الذهب ": ص 63، جـ 1. (3) انظر " ذخائر المواريث ": ص 229، جـ 3. و ص 2 - 155، جـ 4. حيث ذكر له في الأطراف من رقم [8241] إلى الرقم [10457].

نماذج من مروياته:

منها. وانفرد الإمام البخاري بـ[93] بثلاثة وتسعين حديثاً، ومسلم بـ[190] بتسعين ومائة حديث (1). وعلى هذا يكون له في " السنن الأربعة " وفي " موطأ الإمام مالك [1609] ألف وستمائة وتسعة أحاديث. مِمَّا اتَّفقوا عليه وانفردوا به. وكان الحافظ أبو يوسف يعقوب بن شيبة بن الصلت السدوسي البصري (- 162 هـ) قد صنَّف مسنداً كبيراً ما صُنِّفَ مسند أحسن منه - لكنه لم يُتِمّضهُ - وقيل إنَّ نسخة لمسند أبي هريرة عنه شوهدت بمصر فكانت مائتي جزء (2). وقد جمع أبو إسحاق إبراهيم بن حرب العسكري المُتَوَفَّى سَنَةَ (282 هـ) مسند أبي هريرة، وتوجد نسخة منه في خزانة كوبرلي بتركيا (3). وقد أفرد الإمام الحافظ مسند الدنيا أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (260 - 360 هـ) مسند أبي هريرة في مصنف (4). بعد هذا نذكر نماذج من مروياته وبالله التوفيق. نماذج من مروياته: لقد عرفنا كثرة حديث أبي هريرة، وعرفنا قوة حفظه وضبطه وإتقانه، وكنتُ أتمنَّى لو يتَّسع المقام لدراسة مروياته في أمهات كتب السُنَّة، وموازنة طرقها ومناقشتها، ومقارنتها بمرويات غيره من الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعاً - لما في ذلك من فائدة علمية عظيمة، تزيدنا ثقة برواية الإسلام وحفظه وإتقانه وسِعَةِ علمه، ولكن هذه الدراسة تحتاج إلى عشرين مجلداً أو يزيد، وإذا كان من الصعب القيام بهذه الدراسة على صفحات هذا الكتاب، فإننا لن نحرم من عرض نماذج مِمَّا رواه عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

_ (1) انظر " الرياض المستطابة ": ص 70. و " شذرات الذهب ": ص 63، جـ 1. وفي " سير أعلام النبلاء ": انفرد البخاري بثلاثة وتسعين، ومسلم بثمانية وتسعين، والصواب ما أثبتناه، وانظر " الفصل في الملل والأهواء والنحل " لابن حزم: ص 138، جـ 4. وفي بعضها أنَّ الشيخين اتَّفقا على [325] وانفرد مسلم بـ[189]. (2) انظر " تذكرة الحفاظ ": ص 155، جـ 2. الطبعة الثانية. (3) انظر " تاريخ الأدب العربي ": ص 154، جـ 3. (4) انظر " تذكرة الحفاظ ": ص 126، 127، جـ 3.

1 - مما أخرجه الإمام مالك في " الموطأ ":

مِمَّا أخرجه له أشهر الحفاظ في كتبهم. وسأكتفي بعرض ثلاثة أو أربعة أحاديث، مِمَّا أخرجه له كل إمام من أئمة الحفاظ في مُصَنَّفِهِ متوخِّياً في هذا تناول عدة أبواب من تلك الكتب، ومع هذا فإنَّ هذه النماذج لا تعدو صورة مُصَغَّرة جداً لمرويات أبي هريرة. 1 - مِمَّا أخرجه الإمام مالك في " الموطأ ": مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاَةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» (1). مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ يَمُوتُ لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلاَثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، فَتَمَسَّهُ النَّارُ، إِلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» (2). وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا يَنْظُرُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ يَجُرُّ إِزَارَهُ بَطَرًا» (3). حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» (4). ...

_ (1) " الموطأ ": ص 16 حديث 29، جـ 1. وأخرجه البخاري ومسلم. (2) " الموطأ ": «باب الحسبة في المصيبة» ص 235 حديث 38، جـ 1. وأخرجه الشيخان. ومعنى «تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» أي ما ينحلُّ به القسم وهو اليمين. يقال: فعلته تحلَّة القسم، أي قدر ما حللت به يميني، والمراد به قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71]. قال الخطابي: «مَعْنَاهُ لاَ يدْخل النَّار لِيُعَاقَبَ بِهَا، وَلَكِنَّهُ يَدْخُلُهَا مُجْتَازًا وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ الْجَوَازُ إِلاَّ قَدْرَ مَا تنْحَل بِهِ الْيَمين، وَهُوَ الْجَوَاز على الصِّرَاطِ». (3) " الموطأ ": ص 914 حديث 10، جـ 2. «باب ما جاء في إسبال الرجل ثوبه». وأخرجه البخاري. (4) " الموطأ ": «باب زكاة الركاز» ص 249 حديث 9، جـ 1. وأخرجه البخاري. والركاز: هو كنوز الجاهلية المدفونة في الأرض، وإنما فيه الخمس لكثرة نفعه وسهولة أخذه.

2 - مما أخرجه الإمام أحمد:

2 - مِمَّا أخرجه الإمام أحمد: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْتَدَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ، لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ جِهَادًا فِي سَبِيلِي، وَإِيمَانًا بِي، وَتَصْدِيقًا بِرَسُولِي، فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ أُرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، نَائِلاً مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ كُلِمَ، لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ، وَرِيحُهُ رِيحُ مِسْكٍ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، مَا قَعَدْتُ خِلاَفَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَبَدًا، وَلَكِنِّي لاَ أَجِدُ سَعَةً فَيَتْبَعُونِي، وَلاَ تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ فَيَتَخَلَّفُونَ بَعْدِي. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنْ أَغْزُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُوَ، فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُوَ، فَأُقْتَلَ» (1). حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا، فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا». قَالَ: «فَلَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ» (2). حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ بِيَدِهِ، يَجَأُ بِهَا (3) فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِسُمٍّ، فَسُمُّهُ بِيَدِهِ، يَتَحَسَّاهُ (4) فِي نَارِ جَهَنَّمَ، خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ، خَالِدًا

_ (1) " مسند الإمام أحمد ": ص 140 حديث 7152، جـ 12، وإسناده صحيح. وأخرجه الإمام مسلم، والبخاري مختصراً، ورواه النسائي متفرِّقاً. وقوله: «انْتَدَبَ» أي أجابه إلى غفرانه. يقال: ندبته فانتدب، أي بعثته ودعوته فأجاب. وقال الحافظ ابن حجر: «أَيْ سَارَعَ بِثَوَابِهِ وَحُسْن جَزَائِهِ». والكلم: الجُرْحُ. و «خِلاَفَ سَرِيَّةٍ» أي خلفها وبعدها. انظر هامش ص 141، جـ 12 منه. (2) " مسند الإمام أحمد ": ص 16 حديث 7569، جـ 14. ورواه البخاري ومسلم. (3) يَجَأُ: يطعن. (4) يَتَحَسَّاهُ: يتجرَّعُهُ.

3 - مما رواه البخاري:

مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ، خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» (1). حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ أَبَا الْقَاسِمِ صَاحِبَ الْحُجْرَةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لاَ تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلاَّ مِنْ شَقِيٍّ» (2). حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ، وَالثَّيِّبُ تُشَاوَرُ»، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي قَالَ: «سُكُوتُهَا رِضَاهَا» (3). وواضح هذا في زواج البنات. وهذا دليل على أنَّ الإسلام لا يجبر الفتاة على الزواج من رجل لا ترضى عنه، ولهذا أمر الولي بسؤال الفتاة واستشارتها، وفي هذا الحكمة كل الحكمة. ... 3 - مِمَّا رواه البخاري: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» (4).

_ (1) " مسند الإمام أحمد ": ص 185 حديث 7441، جـ 13. (2) " مسند الإمام أحمد ": ص 156 حديث 7988، جـ 15. ورواه البخاري وأبو داود والطيالسي والترمذي والحاكم. (3) " مسند الإمام أحمد ": ص 102 حديث 7131، جـ 12. رواه أصحاب الكتب الستة من عِدَّةِ طرق عن أبي هريرة. (4) " صحيح البخاري بحاشية السندي ": ص 248، جـ 1، كتاب الزكاة. باب «الصدقة باليمين». وأخرجه الإمام مسلم في الزكاة والترمذي في الزهد، والنسائي في القضاء.

4 - مما رواه الإمام مسلم:

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ ابْنُ المُسَيِّبِ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «الحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ» (1). وواضح في هذا النهي عن الحلف من أجل إنفاق السلعة وبيعها. حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ صَاحِبَتُهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، وَقَالَتِ الأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ، فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لاَ تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى» (2) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ، وَمَا كُنَّا نَقُولُ إِلاَّ المُدْيَةُ. حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ أَبُو الرَّبِيعِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ أَبُو سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» (3). ... 4 - مِمَّا رواه الإمام مسلم: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ الْهَمْدَانِيُّ - وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى -، (قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا وقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا) أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ

_ (1) " صحيح البخاري بحاشية السندي ": ص 9، جـ 2. (2) " صحيح البخاري بحاشية السندي ": ص 170، جـ 4. ولعل قول أبي هريرة: «إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ ... »، أنه لم يسمع بها في قومه في اليمن، وقد كانت لغات العرب كثيرة، ولهجاتها مختلفة، فقربها الإسلام ووحَّدها القرآن، وحفظها، وستبقى خالدة إلى يوم الدين. (3) " صحيح البخاري بحاشية السندي ": ص 15، جـ 1. في كتاب الإيمان، باب «علامة المنافق»، وأخرجه مسلم في «الإيمان» والترمذي والنسائي فيه أيضاً.

الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ (1) بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» (2). وحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُطَّلِبِ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» (3). وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالاَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، - وَهَذَا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلاَثٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالْفَلاَةِ يَمْنَعُهُ مِنَ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلاً بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ (4)

_ (1) وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ: أي من كان عمله ناقصاً لم يلحقه بمرتبة أصحاب الأعمال، فينبغي ألاَّ يَتَّكِلَ على شرف النسب، وفضيلة الآباء، ويُقَصِّرَ في العمل. (2) " صحيح مسلم ": ص 2074 حديث 38، جـ 4. وأخرجه أبو داود في الأدب، والترمذي في الحدود، وابن ماجه في السُنَّة. (3) " صحيح مسلم ": ص 1272 حديث 13، جـ 2. وأخرجه الترمذي في النذور، والإمام مالك فيه أيضاً. (4) والمقصود ببيع الرجل بعد العصر: أي بيعه في آخر النهار لينفق سلعته، فيحلف له أنه اشتراها بكذا وكذا ليربح على رأس ماله قليلاً أو يبيعا برأس المال لأنَّ النهار قد انصرم، فيصدق المشتري قوله ويأخذها بذلك الثمن. في حين يكون البائع كاذباً. وإنما ذكر (بعد العصر) في الحديث لأنه يغلب حلف الباعة في ذلك الوقت، فيحتج الحالف بانتهاء النهار وبأنه يريد أنْ يبيع حاجته بأي ثمن كيلا تبقى إلى الغد ... ولهذا استحق ما جاء في الحديث ومفهوم أنَّ مثل هذا البيع مَنْهِيٌّ عنه في أي وقت.

5 - مما رواه الإمام أبو داود:

فَحَلَفَ لَهُ بِاللهِ لأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لاَ يُبَايِعُهُ إِلاَّ لِدُنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَى، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ» (1). ... 5 - مِمَّا رواه الإمام أبو داود: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلاَ الْعَمَّةُ عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا، وَلاَ الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا، وَلاَ الْخَالَةُ عَلَى بِنْتِ أُخْتِهَا، وَلاَ تُنْكَحُ الْكُبْرَى عَلَى الصُّغْرَى، وَلاَ الصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى» (2). حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَبُو مُصْعَبٍ الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنَا الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ» (3). حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، - أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَوْ عَنْهُمَا جَمِيعًا -، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا قُسِّمَتِ الأَرْضُ وَحُدَّتْ، فَلاَ شُفْعَةَ فِيهَا» (4).

_ (1) " صحيح مسلم ": ص 103 حديث 173، جـ 1. وأخرج البخاري نحوه في الأشربة والتوحيد، وفي الشهادات وفي الأشربة وأبو داود في البيوع، والترمذي في السير، والنسائي في البيوع، وابن ماجه، كما أخرجه الإمام أحمد في مسند أبي هريرة. (2) " سنن أبي داود ": ص 476، جـ 1. كتاب النكاح، «باب ما يكره أنْ يجمع بينهن من النساء» وأخرج نحوه البخاري في النكاح، ومسلم في النكاح أيضاً، والترمذي وابن ماجه ومالك في النكاح أيضاً. (3) " سنن أبي داود ": ص 277، جـ 2. كتاب الأقضية، «باب القضاء باليمين والشاهد». وأخرجه الترمذي في الأحكام، كما أخرجه ابن ماجه. (4) " سنن أبي داود ": ص 256، جـ 2. كتاب البيوع، «باب الشُفعة». وأخرجه ابن ماجه في الأحكام.

6 - مما رواه الإمام الترمذي:

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ تَأْمُلُ الْبَقَاءَ وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلاَ تُمْهِلَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلاَنٍ كَذَا وَلِفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ» (1). ... 6 - مِمَّا رواه الإمام الترمذي: حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: وَأَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ بِأَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» (2) قال أبو عيسى الترمذي: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ». حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ المُقَدَّمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ الخَثْعَمِيِّ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَافَرَ فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ، قَالَ بِإِصْبَعِهِ - وَمَدَّ شُعْبَةُ إِصْبَعَهُ - قَالَ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ، اللَّهُمَّ اصْحَبْنَا بِنُصْحِكَ، وَاقْلِبْنَا بِذِمَّةٍ، اللَّهُمَّ ازْوِ لَنَا الأَرْضَ، وَهَوِّنْ عَلَيْنَا السَّفَرَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ المُنْقَلَبِ» (3).

_ (1) " سنن أبي داود ": ص 102، جـ 2 كتاب الوصايا. باب «ما جاء في كراهية الإضرار بالوصية». (2) " سنن الترمذي " بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي: ص 87 حديث 707، جـ 3 كتاب الصوم باب «ما جاء في التشديد في الغيبة للصائم». كما أخرجه البخاري في كتاب الصوم، وأبو داود في كتاب الصيام أيضاً. (3) " سنن الترمذي " طبع دهلي: ص 181، جـ 2، كتاب الدعوات، باب «ما يقول إذا خرج مسافراً».

7 - مما رواه الإمام النسائي:

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ [بُنْدَارْ] قَالَ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلاَنَ، عَنْ القَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» ثَلاَثَ مِرَارٍ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» (1) قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيح. حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ، عَنْ الحَجَّاجِ الصَّوَّافِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وَالمُؤْمِنُ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ المُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ» (2). ... 7 - مِمَّا رواه الإمام النسائي: أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ (ابن سعيد) قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟» قَالُوا: لاَ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ. قَالَ: «فَكَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا» (3). أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الإِيمَانُ بِاللَّهِ» قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «ثُمَّ الْحَجُّ الْمَبْرُورُ» (4).

_ (1) " سنن الترمذي " طبع دهلي: ص 14، جـ 2، كتاب البر والصلة، باب «ما جاء في النصيحة». (2) " سنن الترمذي " طبع دهلي: ص 181، جـ 1، كتاب الرضاع، باب «ما جاء في الغيرة». (3) " سُنن النسائي ": ص 81، جـ 1 كتاب الصلاة، باب «فضل الصلوات الخمس». أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، وأخرجه مسلم في كتاب الصلاة أيضاً، كما أخرجه الترمذي في الأمثال. (4) " سُنن النسائي ": ص 3، جـ 2 كتاب الحج، باب «فضل الحج».

أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكٌ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا، «فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغُرَّةٍ: عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ» (1). أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا تُوُفِّيَ الْمُؤْمِنُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ سَأَلَ: «هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ مِنْ قَضَاءٍ؟» فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ صَلَّى عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالُوا: لا، قَالَ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ»، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالاً فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ» (2) قال السِنْدي: «ترك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَوَّلِ الأََمْرِ الصَّلاَةَ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ زَجْرًا لَهُمْ عَن التَّسَاهُلِ فِي الاسْتِدَانَةِ وَعَنْ إِهْمَالِ وَفَائِهَا» (3) أقول: ولما قويت الدولة الإسلامية وقوي الإسلام في نفوس المسلمين، وتمثَّلُوا هذا الدين الحنيف، كان المسلم إذا استدان لا يستدين إلاَّ عن حاجة، ولا يتساهل بالاستدانة، حينئذٍ رأى الرسول الكريم أنْ تتحمَّل الدولة دين المتوفى، لأنه على يقين من أنَّ المتوفى لم يتمكن من الإيفاء قبل وفاته لفقره وحاجته، وقد كان المسلمون أعِزَّةً كرام النفوس لا يمكن أنْ يستلف أحدهم وفي نيته عدم الوفاء وهذه صورة واضحة للتكافل الاجتماعي، والتعاون بين أبناء الأمَّة الواحدة، ودليل واضح على أنَّ الشريعة الإسلامية تهدف إلى تأمين الكفاية والحياة الكريمة لكل فرد من أفراد الأمَّة. ...

_ (1) " سنن النسائي ": ص 249، جـ 2، كتاب الديات، باب «دية الجنين». والغرة اسم للإنسان المملوك العبد أو الأَمَةِ. و (أو) ليست للشك بل للتقسيم. أخرجه البخاري في الديات، ومسلم في الحدود، وأبو داود في الديات. (2 و 3) " سنن النسائي ": ص 279، جـ 1.

8 - مما رواه الإمام ابن ماجه:

8 - مِمَّا رواه الإمام ابن ماجه: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَيَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ كَاسِبٍ، وَسُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» (1). حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَزَلَتْ فِي أَهْلِ قُبَاءٍ {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (2)، قَالَ: «كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةُ» (3). حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، يَقُولُ اللَّهُ: إِلاَّ الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ. وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» (4). وإلى هنا نكتفي بعرض هذه النماذج من مرويات أبي هريرة، علماً بأنه قد أخرج له أصحاب المسانيد والصحاح جميعاً والحاكم في " المستدرك " وغيرهم كما أسلفنا ...

(1) " سنن ابن ماجه ": ص 1319 حديث 3986، جـ 2. وأخرجه الإمام مسلم في الإيمان. (2) [التوبة: 108]. (3) " سنن ابن ماجه ": ص 128 حديث 357، جـ 1. (4) " سنن ابن ماجه ": ص 525 حديث 1638، جـ 1.

أصح الطرق عن أبي هريرة:

أصح الطرق عن أبي هريرة: حكى عن ابن المديني أنه من أصح المسانيد (إطلاقاً) حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة (1). وقال سليمان بن داود: «أصح الأسانيد كلها يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة» (2). وأصح ما يروى من الحديث عن أبي هريرة ما جاء عن: الزُهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. أبي الزناد، عن الأعرج - عبد الرحمن بن هُرمُز - عن أبي هريرة. ابن عون، وأيوب عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة (3). ونضيف إلى هذه الأسانيد ما خرَّجه الشيخ أحمد محمد شاكر واعتبره من أصح ما رُوِيَ عن أبي هريرة لمكانة الرُواة وثناء العلماء عليهم، ولإمامتهم في هذا العلم. وهي: مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة. إسماعيل بن أبي حكيم عن عبيدة بن سفيان الحضرمي عن أبي هريرة. معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة (4) ...

_ (1) " تدريب الراوي ": ص 36، و " الكفاية ": ص 398. (2) انظر " الكفاية ": ص 398. (3) " تدريب الراوي ": ص 36. " سير أعلام النبلاء ": ص 348، جـ 2. و " توضيح الأفكار ": ص 35، جـ 1. (4) " مسند الإمام أحمد ": ص 149 - 150، جـ 1 ...

الثناء على أبي هريرة:

الثناء على أبي هريرة: قال رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ أَوَّلُ مَنْ يَسْأَلُنِي عَنْ ذَلِكَ مِنْ أُمَّتِي، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْعِلْمِ» (1). وفي رواية: «لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنْ لاَ يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ» (2). وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَبُو هُرَيْرَةَ وِعَاءُ الْعِلْمِ!!» (3). قال زيد بن ثابت: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللهَ عِلْمًا لاَ يُنْسَى، فَقَالَ: «سَبَقَكُمْ بِهَا الْغُلاَمُ الدَّوْسِيُّ»!! (4). قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «مَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ حَدِيثًا مِنِّي عَنْهُ إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو , فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ , وَكُنْتُ لاَ أَكْتُبُ» (5). كان عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قد نهى أبا هريرة من الإكثار عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما نهى غيره، لأنَّ سياسة عمر وبعض الصحابة الإقلال من رواية الحديث، لأنَّ في الإكثار مظنة الخطأ، وخوفاً من أنْ يشغل الناس بالحديث عن القرآن، ومع هذا فقد سمح عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأبي هريرة بالتحديث، بعد أنْ عرف ورعه وتقواه.

_ (1) " مسند الإمام أحمد ": ص 208، جـ 15. (2) " فتح الباري ": ص 203، جـ 1. و " سير أعلام النبلاء ": ص 430، جـ 2. وهو صحيح. (3) " سير أعلام النبلاء ": ص 430، جـ 2. وفي إسناده مقال لاختلافهم في أحد رجال سنده، (زيد العمي). انظر " ميزان الاعتدال ": ص 363، جـ 1. (4) " فتح الباري ": ص 226، جـ 1، و " سير أعلام النبلاء ": ص 432، جـ 2. و " حلية الأولياء ": ص 381، جـ 1. (5) " فتح الباري ": ص 217، جـ 1، و " جامع بيان العلم ": ص 70، جـ 1 .....

روى الذهبي عن أبي هريرة قال: «بَلَغَ عُمَرَ حَدِيثِي، فَأَرْسَلَ إِلَيَّ، فَقَالَ: كُنْتَ مَعَنَا يَوْمَ كُنَّا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِ فُلاَنٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَقَدْ عَلِمْتُ لأَيِّ شَيْءٍ سَأَلْتَنِي. قَالَ: وَلِمَ سَأَلْتُكَ؟ قُلْتُ: إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَئِذٍ: " مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ". قَالَ: أَمَا لاَ، فَاذْهَبْ فَحَدِّثْ» (1). وفي رواية قال عمر: «حَدِّثْ الآنَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا شِئْتَ» (2)، وفي رواية أخرى قال: «أَمَا لِي، فَاذْهَبْ فَحَدِّثْ» (3). وهذا السماح توثيق لأبي هريرة، من أمير المؤمنين. قال عبد الله بن عمر: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، كُنْتَ أَلْزَمَنَا لِرَسُولِ الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَحْفَظَنَا بِحَدِيثِهِ» (4). وَقِيلَ لابْنِ عُمَرَ: هَلْ تُنْكِرُ مِمَّا يُحَدِّثُ بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ شَيْئًا؟ قَالَ: «لاَ، وَلَكِنَّهُ اجْتَرَأَ، وَجَبُنَّا» (5). وفي رواية قال ابن عمر: «أَبُو هُرَيْرَةُ خَيْرٌ مِنِّي، وَأَعْلَمُ بِمَا يُحَدِّثُ». وكان يكثر الترحُّم عليه ويقول: «كَانَ مِمَّنْ يَحْفَظُ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمُسْلِمِينَ» (7). قال أُبَيٌّ بن كعب: «كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ جَرِيئاً عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ لاَ نسَأَلُهُ عَنْهَا» (8). قالت السيدة عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: «صَدَقَ أَبُو هَرَيْرَةُ» (9)،

_ (1) " سير أعلام النبلاء ": ص 434، جـ 2، إلاَّ أنه في سنده يحيى بن عبيد الله مختلف فيه، انظر " ميزان الاعتدال ": ص 297، جـ 3، ولكنه رُوِيَ عن طرق أخرى ثابتة. (2، 3) ابن عساكر: ص 487، جـ 47. (4) " المحدث الفاصل ": ص 134، و " سير أعلام النبلاء ": ص 435، جـ 2. و " طبقات ابن سعد ": ص 118، جـ 2 قسم 2. وفي " فتح الباري ": ص 225، جـ 1: (أَعْرَفَنَا بِحَدِيثِهِ) وقال فيه الترمذي: حسن. انظر " سنن الترمذي ": ص 224، جـ 2. (5) " سير أعلام النبلاء ": ص 437، جـ 2. و " تاريخ دمشق ": ص 492، جـ 47. (6) " الإصابة ": ص 204، جـ 7. و " سنن الترمذي ": ص 224، جـ 2. (7) " طبقات ابن سعد ": ص 63، جـ 4 قسم 2. و " سير أعلام النبلاء ": ص 435، جـ 2. و " البداية والنهاية ": ص 107، جـ 8. وابن عساكر: ص 493، جـ 47. (8) " سير أعلام النبلاء ": ص 451، جـ 2. (9) " طبقات ابن سعد ": ص 57 قسم 2، جـ 4. و " الإصابة ": ص 205، جـ 7.

حين أرسل ابن عمر يستفهم عن حديث الجنازة الذي رواه أبو هريرة. قال طلحة بن عبيد الله: «لاَ نَشُكُّ أَنَّهُ سَمِعَ مَا لَمْ نَسْمَعْ» (1). وفي رواية: «قَدْ سَمِعْنَا كَمَا سَمِعَ، وَلَكِنَّهُ حَفِظَ وَنَسِينَا» (2). قال زيد بن ثابت لرجل سأله عن شيء: «عَلَيْكَ بِأَبِي هُرَيْرَةَ» (3). جاء رجل إلى ابن عباس في مسألة، فقال ابن عباس لأبي هريرة: «أَفْتِهِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَقَدْ جَاءَتْكَ مُعْضِلَةٌ» (4). قال مروان بن الحكم: «إِنِّي رَأَيْتُكَ اليَوْمَ حَبْراً» (5). وذلك حين عاده في مرضه وسمعه يدعو قائلاً: «اللهُمَّ إِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ لِقَاءَكَ، فَأَحِبَّ لِقَائِي». قال كعب الأحبار: «مَا رَأَيْتُ أَحَداً لَمْ يَقْرَأِ التَّوْرَاةَ أَعْلَمَ بِمَا فِيْهَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ» (6). وقال محمد بن عمارة بن عمرو بن حزم: «فَعَرَفْتُ يَوْمَئِذٍ أَنَّهُ أَحْفَظُ النَّاسِ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» (7). وذلك يحين حضر مجلسه الذي كان فيه مشيخة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يُحَدِّثُهُمْ، فلا يعرف بعضهم الحديث، ثم يتراجعون فيه فيعرفونه. قال أبو صالح السمان: «كان أبو هريرة من أحفظ أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» (8).

_ (1) " سير أعلام النبلاء ": ص 436، جـ 2، رواهُ عن طليحة والتصحيح من " الإصابة ": ص 204، جـ 7 و " فتح الباري "، وطلحة هذا صحابي جليل - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - توفي الرسول وهو راضٍ عنه. (2) " فتح الباري ": ص 77، جـ 8. (3) " سير أعلام النبلاء ": ص 432 و 443، جـ 2. و " تهذيب التهذيب ": ص 266، جـ 12. (4) " سير أعلام النبلاء ": ص 437، جـ 2. (5) " ابن عساكر ": ص 534 - 535، جـ 47. (6) " الإصابة ": ص 205، جـ 7. و " سير أعلام النبلاء ": ص 432، جـ 2. (7) " سير أعلام النبلاء ": ص 444، جـ 2. و " فتح الباري ": ص 225، جـ 1. (8) " تذكرة الحُفاظ ": ص 34، جـ 2. و " ابن عساكر ": ص 481، جـ 47.

وعنه أيضاً قال: «ما أزعم أنَّ أبا هريرة كان أفضلهم - يعني الصحابة - ولكنه كان أحفظ» (1). ويعرف سيرين الأنصاري - أبو محمد ويحيى ابني سيرين - مكانة أبي هريرة، فيبعث بَنِيهِ إليه ليُعَلِّمَهُمْ (2). وكان صحابة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذٍ كثرة، مِمَّا يدل على شهرة أبي هريرة، وحفظه وإتقانه، ولولا هذا ما بعث إليه أبناءه الذين أصبحوا من أعلام رجال الحديث بعد ذلك .. قال الإمام الشافعي: «أَبُو هُرَيْرَةَ أَحْفَظُ مَنْ رَوَى الْحَدِيثَ فِي دَهْرِهِ» (3). قال الإمام البخاري: «رَوَى عَنْهُ نَحْوَ ثَمَانِمِائَةٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، وَكَانَ أَحْفَظَ مَنْ رَوَى الْحَدِيثَ فِي عَصْرِهِ» (4). قال حافظ المغرب يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر [368 - 463 هـ]: كَانَ مِنْ أَحْفَظِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». وفي (نسخة أخرى من كتابه): «كَانَ أَحْفَظَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ يَحْضُرُ مَا لاَ يَحْضُرُ سَائِرُ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، لاِشْتِغَالِ المُهَاجِرِينَ بِالتِجَارَةِ، وَالأَنْصَارِ بِحَوَائِجِهِمْ» (5). وقال المُؤَرِّخُ علي بن محمد (ابن الأثير) الجزري [555 - 630 هـ]: «أَبُو هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيُّ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَكْثَرُهُمْ حَدِيثاً عَنْهُ» (6).

_ (1) ابن عساكر: ص 482، جـ 47. (2) انظر " تهذيب التهذيب ": ص 228، جـ 11. (3) انظر " الرسالة " للشافعي ": ص 281 وابن عساكر: ص 483، جـ 47. و " سير أعلام النبلاء ": ص 432، جـ 2. (4) " تهذيب التهذيب ": ص 265، جـ 12. وانظر " البداية والنهاية ": ص 103، جـ 8. (5) " الاستيعاب ": ص 1771، جـ 4. (6) " أُسْدُ الغابة ": ص 315، جـ 5.

ويقول الإمام الحافظ الذهبي [673 - 748 هـ]: «أَبُو هُرَيْرَةَ الفَقِيهُ المُجْتَهِدُ الحَافِظُ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَكْثَرُهُمْ حَدِيثاً عَنْهُ، أَبُو هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيُّ اليَمَانِيُّ. سَيِّدُ الحُفَّاظِ الأَثْبَاتِ» (1). وقال في موضع آخر: «أَبُو هُرَيْرَةَ: إِلَيْهِ المُنْتَهَى فِي حَفِظِ مَا سَمِعَهُ مِنَ الرَّسُوْلِ - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، وَأَدَائِهِ بِحُرُوْفِهِ» (2) وقال أيضاً: «كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَثِيقَ الحِفْظِ، مَا عَلِمْنَا أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي حَدِيثٍ» (3). وقال الذهبي: «هُوَ رَأْسٌ فِي القُرْآنِ، وَفِي السُنَّةِ، وفي الفِقْهِ» (4). وقال: «أَيْنَ مَثَلُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حِفْظِهِ وَسَعَةِ عِلْمِهِ» (5). ويقول الحافظ ابن كثير [701 - 774 هـ]: «قد كان أبو هريرة مِنَ الصِّدْقِ وَالْحِفْظِ وَالدِّيَانَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ» (6)، وقال: «رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكَثِيرَ الطَّيِّبَ، وَكَانَ مِنْ حُفَّاظِ الصَّحَابَةِ» (7). وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني [773 - 852 هـ]: «إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ أَحْفَظَ مِنْ كُلِّ مَنْ يَرْوِي الحَدِيثَ فِي عَصْرِهِ، وَلَمْ يَاْتِ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَحَابَةِ كُلِّهِمْ مَا جَاءَ عَنْهُ» (8). قال يحيى بن أبي بكر العامري [816 893 هـ]: «أَبُو هُرَيْرَةَ: كَانَ عَرِيفَ مَسَاكِينَ الْصُّفَّةِ، حُلَفَاءَ الفَقْرِ وَالْصَّبْرِ، وَكَانَ شَدِيدَ الحُبِّ لِرَسُولِ الْلَّهِ - صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مُلاَزِمًا لَهُ فِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ، لاَ يَشْغَلُهُ عَنْهُ دُنْيَا، وَلاَ أَهْلٌ وَلاَ مَالٌ، وَلِمُلازَمَتِهِ وَخُصُوصِيَّتِهِ

_ (1) " سير أعلام النبلاء ": ص 417، جـ 2. (2) " سير أعلام النبلاء ": ص 445، جـ 2. (3) " سير أعلام النبلاء ": ص 446، جـ 2. (4) " سير أعلام النبلاء ": ص 449، جـ 2. (5) انظر المرجع السابق: ص 438، جـ 2. (6) " البداية والنهاية ": ص 110، جـ 8. (7) " البداية والنهاية ": ص 103، جـ 8. (8) " تهذيب التهذيب ": ص 266، جـ 12.

الأُخْرَى فِي الحِفْظِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّىَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَكْثَرَ الْصَّحَابَةِ رِوَايَةً عَلَى الإِطْلاَقِ وَأَحْفَظهُمْ». وَقَالَ: «وَكَانَ حَافِظاً مُتَثَبِّتاً ذَكِيّاً مُفْتِياً، صَاحِبَ صِيَامٍ وَقِيَامٍ» (1). قال المؤرِّخُ عبد الحي بن أحمد (ابن العماد) الحنبلي [1032 - 1089 هـ]: «كَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ وَالْذِّكْرِ، حَسَنُ الأَخْلاقِ، وَلِيَ إِمْرَةَ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ حَافِظَ الْصَّحَابَةِ، وَأَكْثَرُهُمْ رِوَايَةً» (2). وإلى هنا أكتفي بما ذكرته من شهادات رؤوس العلم في أبي هريرة، وإنَّ ثناء العلماء عليه وتوثيقه يحتاج وحده إلى مجلد، وإنَّ مكانة أبي هريرة، وسعة علمه، وكثرة حديثه، وفضله وورعه، وضبطه وإتقانه، لا تخفى على مسلم في مشارق الأرض ومغاربها، وما سُقْتُهُ من ثناء عليه إنما كان على سبيل الذكرى، وإلاَّ فإني أظلم راوية الإسلام - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ - إذا حاولت أنْ أُحَدِّدَ أو أحصر من أثنى عليه، وهل هناك أحد من أهل العلم والمعرفة يجهل أبا هريرة ومنزلته!!؟. ...

_ (1) " الرياض المستطابة ": ص 70. (2) " شذرات الذهب ": ص 63، جـ 1.

الباب الثاني: الرد على الشبه التي أثيرت حول أبي هريرة:

الباب الثاني: الرد على الشُبه التي أثيرت حول أبي هريرة: - أبو هريرة وبعض الباحثين. - موقف الصحابة من أبي هريرة.

أبو هريرة وبعض الباحثين:

أبو هريرة وبعض الباحثين: ذلكم أبو هريرة الذي عرفناه قبل إسلامه وبعد إسلامه، عرفناه في هجرته وصُحبته للرسول الكريم - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان الصاحب الأمين والطالب المُجِدُّ، يدور مع الرسول الكريم - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - في حِلِّهِ وترحاله، ويشاركه أفراحه وأحزانه، وعرفنا التزامه للسُنَّة المُطَهَّرة، وتقواه وورعه، في شبابه وهرمه، وفي غناه وفقره، وقرأنا كثيراً عن تواضعه وكرمه، ورأينا مواقفه المُشَرِّفَةَ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعتزاله الفتن وحُبَّهُ للجماعة وسيعه للخير، وكشفنا عن روحه الطيِّبة المرحة، ونفسه الصافية، وأخلاقه الكريمة، وزُهده في الدنيا وتفانيه في سبيل الحق، وعرفنا مكانته العلميَّة، وكثرة حديثه، وقوة حافظته، ورأينا منزلته بين أصحابه، وثناء العلماء عليه. ذلكم أبو هريرة الذي صوَّرهُ لنا التاريخ من خلال البحث الدقيق إلاَّ أنَّ بعض الباحثين لم يسرَّهم أنْ يروا أبا هريرة في هذه المكانة السامية، والمنزلة الرفيعة، فدفعتهم ميولهم وأهواؤهم إلى أنْ يصوِّرُوهُ صورة تخالف الحقيقة التي عرفناها، فرأوا في صُحبته للرسول الكريم - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، غايات خاصة لأبي هريرة، ليشبع بطنه ويروِي نهمه، وصوَّرُوا أمانته خيانة، وكرمه رياء، وحفظه تدجيلاً، وحديثه الطيِّبَ الكثير كذباً على رسول الله - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - وبُهتاناً، ورأوا فقره مطعَناً وعاراً، وفي تواضعه ذُلاًّ، وفي مرحه هذراً، وصوَّرُوا أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر لوناً من المؤامرات لخداع العامة، ورأوا في اعتزاله الفتن تحزُّباً، وفي قوله الحق انحيازاً، فهو صنيعة الأمويين الذين طووهُ تحت جناحهم فكان أداتهم الداعية لمآربهم السياسية، فكان لذلك من الكاذبين الواضعين للأحاديث على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افتراءًا وزُوراً!!. هكذا أراد أنْ يُصَوِّرَهُ بعض أهل الأهواء، كالنظَّام، والمريسي، والبَلْخي، وتابعهم في هذا العصر بعض المستشرقين أمثال (جولدتسيهر)

مقدمة كتاب " أبو هريرة ":

و (شبرنجر) وأغرب من هذا أنْ يطعن فيه وفي السُنَّة بعض من يُنسبُ إلى العلم، فقد عثرتُ أثناء بحثي على كتاب تحت عنوان " أبو هريرة " ألَّفه عبد الحُسين شرف الدين العاملي، وهو إماميٌّ، والإمامية يتَّخذون أبا هريرة هدفاً لكي يُوَهِّنُوا أحاديث أهل السُنَّة ويرفضوها، ويُرَوِّجُوا أخبارهم، وقد لَفَّ لَفَّهُمْ من كان لهم تابعاً مُجَرِّباً على تبعيَّته. ولم أكد أتصفَّحُهُ حتى دهشتُ لما جاء فيه من الافتراءات والطعون، والتأويلات التي لا تتمشَّى مع البحث العلمي، ولا توافق التاريخ .. وقد استقى من هذا الكتاب أيضاً محمود أَبُو رِيَّة صاحب كتاب " أضواء على السُنَّة المحمَّدية "، فكان أشدَّ على أبي هريرة من أستاذه، وأكثر مجانبة للصواب، فرأيت من واجبي أنْ أَرُدَّ تلك الشُبُهات التي أثارها بعض أهل الأهواء و المستشرقين وبعض الباحثين، الذين كشفوا عن جوانب من سيرة أبي هريرة، وتركوا الجوانب الأخرى، كما حدث للباحث الأستاذ أحمد أمين، ورأيتُ أنْ أَرُدَّ على بعض ما جاء في كتاب " أبو هريرة " وأتناول خلال ذلك بعض النقاط التي اشترك فيها هؤلاء جميعاً، مُبيِّناً في ذلك كله وجه الحق بالأدلَّة والبراهين، معتمداً على الله - عَزَّ وَجَلَّ - طالباً منه التوفيق والسداد. ... مقدمة كتاب " أبو هريرة ": قال عبد الحسين شرف الدين: «هذه دراسة لحياة صحابي روى عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فأكثر حتى أفرط وروت عنه صحاح الجمهور وسائر مسانيدهم فأكثرت حتى أفرطت أيضاً، ولا يسعنا إزاء هذه الكثرة المزدوجة إلاَّ أنْ نبحث عن مصدرها لاتصالها بحياتنا الدينيَّة والعقليَّة اتصالاً مباشراً ولولا ذلك لتجاوزناها وتجاوزنا مصدرها إلى ما يُغْنِينَا عن تجشُّم النظر فيها وفيه. ولكن أسلات هذه الكثرة قد استفاضت في فروع الدِّين وأصوله، فاحتجَّ بها فقهاء الجمهور ومُتَكَلِّمُوهُمْ في كثير من أحكام الله - عَزَّ وَجَلَّ - وشرائعه ملقين إليها سلاح النظر والتفكير. ولا عجب منهم في ذلك بعد بنائهم على أصالة العدالة في الصحابة أجمعين. وحيث لا دليل على هذا الأصل كما هو مُبَيَّنٌ في محلِّه بايضاح».

أيَّ إفراط كان من أبي هريرة؟ وهو الحافظ الذي عرفناه، والمُفتي الذي احتاجت إليه الأمَّة، بعد وفاة رؤوس الصحابة، وبقي أبو هريرة مع من بقي في المدينة مرجعاً للمسلمين في دينهم وشريعتهم. بعد أنْ انطلق الصحابة في الأقطار الإسلامية يُعلِّمُون أهلها ويُفَقِّهُونهم. وسنتعرَّض للرد التفصيلي على دعواه هذه فيما بعد، ولكن لا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ أبا هريرة لم يكن مفرطاً، بل كان كغيره، من علماء الصحابة، يُسْتَفْتَى فَيُفْتِي، ويُسْألُ فيجيب، فلم يكن مفرطاً في عهد الخلفاء الراشدين ولا بعدهم، إنما وثق به القومُ، وعرفوا مكانته، فوضعوه حيث يستحقُّ، فكم من راحل يقطع المسافات ليرى أبا هريرة. وكم من مُقيمٍ يترك كبار الصحابة ويأتيه في مسألة أو حديث عن رسول الله - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -. فأبو هريرة لم يكثر من عنده، إنما وثق الناس بحفظه فحرصوا على أنْ ينهلوا منه، فما جريرته في ذلك، وقد شهد بعلمه وحفظه ابن عمر وطلحة بن عُبيد الله والزُبير وغيرهم، حتى إنه قال - عندما استكثروا حديثه - «مَا ذَنْبِي إِذَا حَفِظْتُ وَنَسُوا؟». وأما أنَّ الصحاح وسائر مسانيد الجمهور قد أفرطت فيما روته عنه، فهذا ظلم وجور، لا نوافقه عليه، ولا يقبله منه إنسان منصف، ولا يُقِرُّهُ عليه عقل راجح، وأنه حُكْمٌ بلا دليل ولا حُجَّة، فإنَّ الصحاح لم تضمَّ بين دفاتها أي حديث إلاَّ بعد بحث وتنقيب وتمحيص، ومقارنة وتحقيق، يتناول حياة الراوي وسلوكه وحفظه، ولا يؤخذ عن إنسان إلاَّ بعد التحقُّق من عدالته، ولم يكتف - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - بهذا، بل كان العقل محله ودوره واعتباره في التحمل، والأداء وحين الحُكم على الرُواة، وعلى الأحاديث. فكان النقد يتناول الرجال والمتن، ولم يكن النقد خارجياً فقط، بل كانوا يعرضون الرواية على القرآن والسُنَّة، حتى يتأكَّدُوا من صحة الخبر، وكان منهم من يجمع الأخبار المتعارضة فيسلك طريق الدراسة والموازنة والتوفيق والترجيح حتى يتبيَّن له وجه الحق والصواب، فلم تكتب الصحاح إلاَّ على أسس علميَّة دقيقة، تتناول السند والمتن على السواء.

ففي هذا الطعن أخطأ المؤلِّفُ طريقه، وتنكب جادَّة الصواب، واتَّهم المسلمين جميعاً بأنهم لم يعرفوا قيمة الصحاح، وفي هذا إنكار شديد للمنهج العلمي الذي نهجه - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - للمحافظة على السُنَّة الشريفة، وقد ذاعت شُهرة هذا المنهج وانتشرت في الآفاق، حتى شهد الغرباء عن الإسلام، بل أعداء الإسلام بدقَّة العمل الذي كان عليه حُفاظ الأُمَّة ومُحَدِّثُوهَا، من ذلك ما قاله مرجليوث: «ليفتخر المسلمون ما شاؤوا بعلم حديثهم» (1). ولكن المؤلِّفَ لا يذكر هذا ليعمي على المسلمين طريقهم ويشكِّكَهُمْ في كتبهم المعتمة، قبل أنْ يُدلِي بأية حُجَّةٍ أو أنْ يعرض عليهم بعض بحثه، يريد منا أنْ نُسَلِّمَ له بما يقول ويرى، فنحن كقُرَّاء لا نعرف شيئاً عن أبي هريرة وحديثه، لا يمكننا أنْ نحكم عليه ما لم ندرسه دراسة نزيهة مُحرَّرة، نحكم عليه من خلالها. أما أنْ نكون فريسة خَيَالِهِ وأهوائه فهذا خلاف البحث العلمي، وما عهدنا بحثاً توضع نتائجه قبل مناقشته ومحاكمته، فهذا خلاف المنهج العلمي الذي يَدَّعِيهِ. ثم إنه يرى ذلك نتيجة طبيعية للأصل الذي أجمع عليه الجمهور، وهو عدالة الصحابة، ويَدَّعِي عدم وجود دليلٍ على هذا الأصل. إلاَّ أننا أثبتنا صِحَّةَ ما ذهب إليه الجمهور وبَيَنَّا الأدلَّة في ذلك (2) ثم يقول: «لم يكن لنا بُدٌّ من البحث عن هذا المكثر نفسه، وعن حديثه كَمًّا وكَيْفًا لنكون على بصيرة فيما يتعلَّق من حديثه بأحكام الله فروعاً وأصولاً، هذا ما اضطرَّنَا إلى هذه الدراسة المُمْعِنة في حياة هذا الصحابي - وهو أبو هريرة - في نواحي حديثه، وقد بالغت في الفحص، وأغرقت في التنقيب حتى أسفر وجه الحق في كتابي هذا، وظهر فيه صبح اليقين». لقد تصوَّر أحاديث أبي هريرة موضوعة مكذوبة، وقد تغلغل هذا الوضع في أصول الدين وفروعه، وغفل عنه المسلمون!! لذلك كان من واجبه الدفاع عن الشريعة الغرَّاء، وحمايتها من الأكاذيب والأوهام،

_ (1) تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديث عن المقالات العلمية: ص 234 - 235. (2) انظر ما كتبناه عن عدالة الصحابة وأدلَّة ذلك في هذا الكتاب.

فكان لا بُدَّ له من دراسة أبي هريرة، تلك الدراسة التي كشفت عن وجه الحق - كما يَدَّعِي - إلاَّ أنها دراسة كشفت عن نوايا خبيئة في نفوس أعداء السُنَّة وخصوم الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ -، دراسة بَيَّنَتْ حقدهم على الصحابة، وعلى أبي هريرة بوجه خاص، ومن يَطَّلِعْ على كتابه هذا، لا يشك في أنه حلقة من سلسلة الأبحاث التي يقوم بها المستشرقون المُتَطَرِّفُونَ، وأتباعهم من المسلمين المُغْرضِينَ، وليس إلاَّ خدمة لأعداء الإسلام، ووسيلة لتصديع جمع المسلمين في وقت كادت كلمتهم أنْ تتَّفق، وأوشكت وحدتهم أنْ تَتِمَّ. ويرى المؤلِّفُ أنه حَلَّلَ نفسيَّةَ أبي هريرة تحليلاً علميًّا حتى فهم «كُنهَهُ وحقيقته من جميع نواحيه) لندركه بحواسنا كلها. كما يرى أنه أمعن النظر في حديثه كَمًّا وكَيْفًا فيقول: «فلم يسعنا - شهد الله - إلاَّ الإنكار عليه في كل منهما». ويكثر الطعن في أبي هريرة وحفظه وكثرة حديثه ويعيب عليه أُمِيَّتَهُ، ثم يقول: «ونحن حين نُحَكِّمُ الذوق الفني والمقياس العلميَّ نجدهما لا يُقِرَّانِ كثيراً مِمَّا رواه هذا المفرط في إكثاره وعجائبه ... ص: ب». وتابع المُؤلِّفُ الحَطَّ من قدر أبي هريرة وأقل ما يقال في الصفحة (ج): «فالسُنَّة أرفع من أنْ تحتضن أعشاباً شائكة، وَخَزَ بها أبو هريرة ضمائر الأذواق الفنية، وأدمى بها تفكير المقاييس العلميَّة، قبل أنْ يُشَوِّهَ بها السُنَّة المُنَزَّهَةَ، ويسيء إلى النبي وأُمَّتِهِ». أجل لقد وخز أبو هريرة بقول الحق ضمائر من يريدون الباطل، وروى عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما لا يتَّفق مع أهل الأهواء وعقائدهم، فناصبوه لذلك العداء. والمؤلِّف ينادي بالذوق الفني، والتفكير العلمي، فأيَّ ذوقٍ علميٍّ يريد وأيَّ تفكير يقصد؟ بعد أنْ أجمعت الأُمَّةُ من لَدُنْ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومنا هذا، على دِثَّةِ الذوق الفني عند المُحَدِّثِينَ في علمهم ومنهجهم، حتى أصبح تَثَبُّتَهُمْ في العلم مضرب الأمثال، لم يتركوا كبيرة

أو صغيرة إلاَّ بَيَّنُوهَا، فعرفوا الصحيح والضعيف والسليم والمعلول، لم تأخذهم في ذلك عاطفة أو هوى، فطبَّقُوا مقاييسهم الدقيقة على الجميع، فكانوا قدوة حسنة في إخلاصهم وأمانتهم، حتى إنَّ الرجل يأبى أنْ يُحَدِّثَ عن أبيه أو أخيه بالرغم من ورعه وصلاحه، ويُبَيِّنَ أمره للناس، من ذلك قول عليٌّ بن المديني في أبيه حين سألوه عنه قال: «سَلُوا عَنْهُ غَيْرِي»، فأعادوا المسألة، فأطرق ثم رفع رأسه فقال: «هُوَ الدِّينُ، إِنَّهُ ضَعِيفٌ» (1). كما كانوا يأبون أنْ يُحَدِّثُوا من يرتابون في أمره، وإن كان صالحاً أو ذا منزلة ومكانة، من هذا، ما رواه أحمد بن أبي الحواري قال: «جاء رجل من بني هاشم ليسمع من ابن المبارك فامتنع. فقال الهاشمي لغلامه: قُمْ بنا، فلما أراد الركوب، جاء ابن المبارك، ليمسك بركابه، فقال: يا أبا عبد الرحمن لا ترى أنْ تُحَدِّثَنِي وتمسك بركابي .. !!؟ قال: رأيت أنْ أذل لك بذُلِّي، ولا أذلَّ لك الحديث!!» (2). هؤلاء جهابذة العلم، ورجال الفن، الذين نقبل حكمهم في أبي هريرة، فلو عرفوا عنه شيئاً ما سكتوا عنه وإنْ كان صحابياً جليلاً، لأنَّ السُنَّة والشريعة لا تُحَابِي أحداً. ولكنهم لم يجدوا ما يأخذونه عليه، بل كان عندهم الثقة الأمين .. على ضوء المقاييس العلمية والأذواق الفنيَّة المُجَرَّدَةِ. ويتابع الكاتب قوله: «فلا يصح في منطق أنْ نسكت عن هذا الدخل الشائن لجوهر الإسلام، وروحه الرفيعة المُنادية بالتحرُّر والانعتاق من كبول العقائد السخيفة والخرافات التي يسبق إلى الذهن استنكارها، وإذن فالواجب تطهير الصحاح والمسانيد من كل ما لا يحتمله العقل من حديث هذا المكثار». أيُّ دخل شائن لجوهر الإسلام وروحه؟ نحن على استعداد، بل المسلمون جميعاً مُستعدُّون، للدفاع عن الإسلام وتخليصه من

_ (1) " الإعلان بالتوبيخ لمن ذمَّ التاريخ ": ص 66 وانظر أيضاً قول زيد بن أبي أنيسة في أخيه: " صحيح مسلم بشرح النووي ": 10/ 121. (2) " تذكرة الحُفاظ ": 1/ 255.

الشوائب، ولكن أيَّ خرافات وسخافات في حديث أبي هريرة؟ وهل يريد منا المؤلف أنْ ننظر إلى تلك الأحاديث من زاوية معيَّنة؟ أم أنه يظن أنَّ الأُمَّة بقيت في غفلة من تلك الأوهام والضلالات، طيلة أربعة عشر قرناً لا تعرف جوهر الإسلام، ولا تميِّزه من خرافاته، لقد طعن في طلائع العلماء وأئمة النقد، واتَّهمهم بالسكوت عن المنكر، وهذا يوجب تأثيم الأمَّة بأجمعها، ولا أظن أحداً يقول هذا!؟ لقد جعل تلك المواكب المتتالية، والأمواج المتتابعة من أبناء الأمَّة، رجال العلم والبحث، خلال تلك القرون الطويلة، ينسون أو يتجاهلون ما ورد عن أبي هريرة من تلك الخرافات التي - يزعمها المؤلف - ليتسنى له الكشف عن ذلك على يدي بحثه العلمي!!! فينقذ به الأمَّة من قيود الجهل والغفلة!! وقد شعر المؤلف بخطر بحثه فقال: « ... أقول هذا وأنا أرى وجوهاً تنقبض دوني، ونفوساً تتقبض مزورة عني. وقد يكون لها بسبب الوراثة والتربية والبيئة أنْ تنقبض وتتقبض أمام حقيقة وضعها البحث على غير ما ألفت من احترام الصحابة واعتقاد عدالتهم أجمعين أكتعين أبصعين، من غير أنْ تزن أعمالهم وأقوالهم بالموازين التي أخذ النبي صلى الله عليه وآله بها أمَّته، لأنَّ الصُحبة عندهم بمجرده ا حرم لا تنال من اعتصم به معرة ولا يمس بجرح، وإنْ فعل ما فعل، وهذا شطط على المنطق وتمرُّدٌ على الأدلَّة» [صفحة: ج]. كيف لا تتقبَّضُ النفوس الصافية عن الباطل؟ وكيف لا يثور المرء المعتدل للحق إذا ديست حرمته؟ إنه يفتري على الصحابة نقلة الشريعة وحفظها، ويريد منا أنْ نكون في بردٍ وسلامٍ!! ثم من هم الصحابة الذين فعلوا ما فعلوا وجعلهم الجمهور معصومين؟ لقد بيَّنْتُ فيما سبق أنَّ من اختلف في عدالتهم من الصحابة لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة .. ومع هذا فقد انتصر ابن العربي وبَيَّنَ الحقَّ وأبطل ما ادَّعَاهُ الخصم. ثم يتابع قوله مُبَيِّناً أحوال الصحابة إلى أنْ يقول: «هذا رأينا في حَمَلَةِ الحديث من الصحابة وغيرهم، والكتاب والسُنَّة بَيِّنَتُنَا على هذا الرأي -». ويقول في هامش [صفحة: د]: «لكن الجمهور بالغوا في تقديس كل من يُسَمُّونَهُ صحابياً حتى خرجوا عن الاعتدال فاحتجوا بالغث منهم والسمين».

فالوضَّاعُون لا نعفيهم من الجرح وإنْ أطلق عليهم لفظ الصحابة، لأنَّ في إعفائهم خيانة لله عز وجل ولرسوله ولعباده ... وعلى هذا فقد اتَّفقنا في النتيجة وإنْ قضى الالتواء في المقدمات شيئاً من الخلاف، فإنَّ الجمهور إنما يعفون أبا هريرة، وسَمُرَةَ بن جُندب، والمغيرة، ومعاوية وابن العاص، ومروان، وأمثالهم تقديساُ لرسول الله لكونهم في زُمرة من صُحبه صلى الله عليه وآله ونحن إنما ننتقدهم تقديساً لرسول الله ولسُنَّتِهِ صلى الله عليه وآله شأن الأحرار في عقولهم مِمَّنْ فهم الحقيقة من التقديس والتعظيم». [صفحة: د]. إنَّ بحثه هذا عن أبي هريرة سيُبَيِّنُ مقدار محافظته ودفاعه عن السُنَّة، فالدفاع عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتقديس رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يكون في طعن أصحابه وتكذيبهم، والافتراء عليهم، والاستهزاء بهم، وهو القائل: «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي» و «احْفَظُونِي فِي أَصْحَابِي» ثم إنه بعد ذلك يُبيِّنُ أنَّ كتابه هذا وضعه مخلصاً للحق، ولا يريد من أحد أنْ يقبض وجهه [صفحة: هـ] ثم يقول: «لا نقصد بهذا الكتاب - شهد الله - أنْ نصدع هذه الوحدة المتواكبة المتراكمة في هذه اللحظة المستيقظة، بل نقصد تعزيز هذه الوحدة وإقامتها على حرية الرأي والمعتقد، لتكون الوحدة على هذا الضوء للغاية وأدلَّ على القصد. شهد الله أنَّ كتابه معول هدَّامٌ في بناء الوحدة، وعامل لتفريق كلمتها، وتشتيت شملها، وأنَّ حرية الرأي والمعتقد التين يراهما، إنما هما الفوضوية والعصبية والهوى بعينه، تحت أسماء مغرية برَّاقة، فهل الحرية والذوق الفني والكرامة العقلية خاصة بفئة معيَّنة، وخاضعة لمقاييس شخصية تتبدَّلُ حسب الميول والأهواء؟ أم أنَّ الكرامة العقلية والتفكير العلمي مجرَّد الدفاع عن مبدأ مهما كان نصيبه من الصواب والخطأ؟؟ لا أظن أحداً أنْ يوافق على مثل هذا، فالتفكير العلميُّ والذوق الفنيُّ يكونان على أسس ثابتة لا تتأثر بنزعة أو هوى، أسس عامة شاملة لا تنظر النظرة الخاصة الضيِّقة، أسس مبنيَّة على منهج علميٍّ سليم.

1 - اسمه ونسبه:

ثم يسرد الكاتب ألواناً موجزة مما سنعرض له بما يتناسب وهذه الرسالة الموجزة. أتحرَّى الحق، غير منحاز إلى فئة أو متأثر بهوى، أبحث ما جاء في كتابه وأشير أحياناً إلى ما ذكره بعض الطاعنين في أبي هريرة إذا ما اقتضى الأمر، لاشتراك المؤلف وبعض الطاعنين في فكرة ورأي .. ، وستكون هذه الدراسة على ضوء ما عرفناه من حياة أبي هريرة، وعلمه في الباب السابق، ولن أبادل الطاعنين استهزاءهم وازدراءهم لأبي هريرة، بازدراء مثله، ولن أَرُدَّ شتائمهم وسبابهم وافتراءاتهم بمثل ما فعلوا، لأنَّ المنهج العلمي يأبى هذا كله. ... 1 - اسمه ونسبه: يقول الكاتب: «كان أبو هريرة غامض الحسب، مغمور النسب، فاختلف الناس في اسمه واسم أبيه اختلافاً كثيراً. لا يحاط ولا يضبط في الجاهلية والإسلام. وانما يُعرف بكُنيته. وينسب إلى دَوْسٍ» [صفحة 2]. أراد أنْ يَغُضَّ من قدر أبي هريرة، ويغمز نسبه لأنه لم يكن معروفاً في الجاهلية، ولاختلاف الناس في اسمه، ومتى كان الاختلاف في اسم إنسان يشينه أو يسقط عدالته؟ ويكفي أنْ نعرفه بكنيته كما عرفنا أبا بكر وأبا عُبيدة وأبا دُجانة الأنصاري، وأبا الدرداء، الذين اشتهروا بكُناهم وعابت أسماؤهم عن كثير من الناس .. ولم نسمع في يوم من الأيام أنَّ الحسب والنسب يقدم صاحبه في المفاضلة العلمية أو يؤخِّرُهُ. ثم إنه اشتهر بكُنيته من صغره وعرفه الناس جميعاً بذلك، فما يضيره أنْ يعرف بكنيته ويختلف اسمه؟ والاختلاف في الاسم طبيعي وبدهي لا في أبي هريرة وحده بل في كل إنسان عرف بكنيته منذ نعومة أظفاره، ولم هذه الحملة وإيهام القارئ بأنَّ اسمه لا يحاط به ولا يضبط؟ ومَرَدُّ الخلاف فيه إلى ثلاثة أسماء (عُمير وعبد الله وعبد الرحمن) كما قال ابن حجر (1) وقد اختلف في

_ (1) " الإصابة ": 7/ 201.

اسم غيره على أكثر من ذلك ولم ير فيهم عيباً أو مطعناً بسبب ذلك!!. ثم يقول: «وكنى أبا هريرة بِهِرَّةٍ صغيرة كان مغرماً بها، ولعلَّ من غرامه بها حَدَّثَ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ امرأة دخلت النار في هِرَّةٍ ربطتها» [صفحة 3 - 4]. إنَّ أبا هريرة الطفل الصغير الذي كان يرعى غنم أهله، ويداعب هرَّته في نهاره ويضعها في شجرة أثناء الليل، ما كان يظن ولا يتوقَّعُ أنْ تصبح كنيته سبب مهانته وازدرائه، فأيُّ عار لأبي هريرة في كُنيته وأيُّ إثم اقترفه حين لقَّبه أهله بذلك. ثم نحن أمام زعم خطير من المؤلف، فإما يتَّهمه أنه يضع حديث الهرَّة على رسول الله، أو أنه سمعه فحدَّث به، فإنْ كانت الأولى، فمعاذ الله أنْ يجرؤ أبو هريرة ويكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سبيل هِرَّتِهِ التي رافقته في صغره، ثم إنَّ الحديث قد رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والدارمي وابن ماجه. وصحيح أنَّ راويه في مسلم أبو هريرة وحده وأما البخاري فلم ينفرد به أبو هريرة بل رواهُ أيضاً عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الله بن عمر وأسماء بنت أبي بكر (1)، فهل هؤلاء شاطروا أبا هريرة في كذبه!!؟ أم أنَّ لهؤلاء هِرَراً حملتهم على وضع مثل حديث أبي هريرة!!!؟ إنَّ الحقيقة تَرُدُّ هذا الافتراض والتخمين الذي تَصَوَّرَهُ المؤلف. وإذا كان المؤلف يقصد الثانية وهي سماع أبي هريرة الحديث والتحديث به، فأيَّ جريمة يقترفها من يُبَلِّغُ حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو الذي حضَّ الصحابة على نقل وتبليغ حديثه؟ فهل يؤخذ على أبي هريرة أمر منكر في هذا!!؟ أم أنَّ المؤلف نظر من زاوية خاصة إلى راوية الإسلام فكانت لا تعكس عليه إلاَّ ما في نفسه من الظلمات؟. نحن في موضع الحكم على صحابي، بل على إنسان له شعوره وكرامته،

_ (1) " فتح الباري ": 5/ 439 و " صحيح مسلم ": 4/ 2023 و 2110.

2 - نشأته وإسلامه:

وحقوقه الاجتماعية - أقول هذا بِغَضِّ الطرف عن مكانه وشرف الصُحبة - والحكم على إنسان مهما كان شأنه صعب يحتاج إلى روية، وبحث وتنقيب، وعقل وتفكير، لأننا إذا طعنَّا فيه يعني ذلك أننا حرمناه من جميع حقوقه الاجتماعية، والثقافية والسياسية وغيرها، ورفضنا كل ما يصدر عنه وتركنا كل ما رواه أو قاله، وإنْ حكمنا بعدالته نكون قد اعترفنا له بكل حقوقه وأقررنا وقبلنا مروياته، ولهذا وجب علينا أنْ نتجرَّد، لنرضي الله ونكون مع الحق الذي أمرنا باتِّباعه وتطبيقه، وإنْ كان في هذا غضب أصحاب الأهواء والغايات. ... 2 - نشأته وإسلامه: قال الكاتب: «نشأ في مسقط رأسه (اليمن) وشب ثمة حتى أناف على الثلاثين، جاهلياً لا يستضئ بنور بصيرة، ولا يقدح بزناد فهم، صعلوكاً قد أخمله الدهر ويتيماً أزرى به الفقر، يخدم هذا وذاك وتي وتلك، مؤجراً نفسه بطعام بطنه حافياً عارياً. راضياً بهذا الهوان ... » أترك القارئ الأمين يحكم على هذا النص ويستنتج منه روح ونفسية الكاتب الذي وضع نفسه قاضياً أو حَكَماً لينصف الإسلام في شخصية أبي هريرة، ويضع أبا هريرة حيث يليق به. أيها الناس .. هل من إنسان متجرِّد للحق وحده يقبل أنْ يقال في أبي هريرة هذا .. بعد أنْ رأى الصورة الصادقة التي لم يخالطها هوى، أو تعتريها رغبات نفس حقودة، أو طائفية موروثة!!؟؟. نحن نقبل الذوق الفني والقياس العلمي الذي ادَّعَاهُ الكاتب في مقدمة كتابه، فنقول: متى كان الجهل يسقط العدالة؟ وهل كان جميع الناس في الجاهلية متعلِّمين أو علماء؟ ألم يكن كثير من الصحابة أُمِيِّينَ جاهلين قبل الإسلام فشرح الله صدورهم للإيمان، وثبته في قلوبهم، فغدوا سادات زمانهم، وعلماء عصرهم، وأساتذة أُمَّتِهِمْ.

وغريب كيف استنتج هذا الكاتب عدم فهم أبي هريرة؟ هل استعمل معه مقاييس الحفظ والذكاء؟ أم أنَّ هذا قدح ضمير وتحليق خبير؟ أم أنه إبداع بلا تفكير!!؟. وما يضر أبا هريرة إذا لم ينتشر صيته في الآفاق، وهل كان وحده كذلك أم أنَّ أبا بكر وعمر وعثمان وسعداً وعبد الرحمن بن عوف وأكثر الصحابة كانوا غير معروفين قبل الإسلام؟ وهل يجرؤ امرؤ أنْ يسلب عدالة هؤلاء وغيرهم لأنَّ شهرتهم لم تطر في مشارق الأرض ومغاربها قبل أنْ يكونوا مسلمين؟. أما أنه يرمي أبا هريرة بالتصعلك فهذا ما لا نرضاه منه ولا من غيره، فإن كان يريد بها ما يفهمه عوام عصرنا، من الدناءة والخِسَّةِ وانحطاط القدر والتطفُّل، فيكون قد حكم عليه من غير دليل ولا حُجَّةٍ، وإنْ كان يريد بها الفقر والفاقة - وهو المعنى اللغوي - فلا داعي لتكرار كلمة (الفقر) ثانية في جملة واحدة، وهذا لا يليق بمن يتصدَّرُ لكتابة والحكم، لأنَّ في الإطالة ما يصدُّ النفس، ويسيء إلى الذوق، والكاتب لا يحب أنْ يجرح أذواق قُرَّائِهِ، لأنه يحب الذوق الفني السليم، فتعيَّنَ أنَّ مراده المعنى الأول، وهو أَمَرُّ وَأَدْهَى. أجل .. لم يكن أبو هريرة غنياً، ولا أرستقراطياً، إنه أحد ملايين الفقراء الذين عاشوا كراماً رغم الفاقة والحرمان. ومتى كان الفقر رذيلة أو عاراً؟ إننا لم نسمع في عصر من العصور بسقوط عدالة إنسان، أو احتقاره بسبب فقره، وأنَّ مثل هذا الحُكم لا يصدر إلاَّ في بيئة مادية، يعيش أبناؤها مُتْرَفِينَ مُبَذِرِينَ .. أو في مجتمع تحكمت به عادات الأرستقراطية وحفنة أعرافها وتقاليدها .. وما كنا نظن أنْ يحكم الكاتب على أبي هريرة بالمهانة والازدراي لكونه فقيراً، لأننا على علم يقين بأنه ليس واحداً مِمَّنْ ذكرنا، وهو الذي قال في مقدمة كتابه: «إنما يحكم بما أمر الله ورسوله، ويتبع في بحثه الحق»، فعلى أيِّ أساس بنى حكمه هذا!!؟ أو السُنَّة ما يجعل الفقر عيباً أو عاراً؟ .. كَلاَّ .. فها هو يجانب المنهج العلميَّ الذي وضعه لنفسه.

ثُمَّ هل في عمل أبي هريرة وسعيه - كي لا يكون عالةً على قومه - عيبٌ؟ وهل كان العمل في يوم من الأيام عاراً؟. وأغرب من هذا أنه يأخذ على أبي هريرة (حفاه) ويَدّعِي (عُرْيَهُ) راضياً بهذا الهوان. أقول هل كان جميع الناس ينتعلون الأحذية والنعال؟ ومتى كان مقياس العدالة الانتعال أو عدمه؟ ونحن في القرن العشرين ما سمعنا في يوم من الأيام بسقوط عدالة حاف، أو ثبوت عدالة منتعل!! والحُفاة كثيرون. فالناس سواء حفاتُهُم ومنتعلوهم، وإنما المفاضلة في التقوى وحُسْن الخُلُق، كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1). وإني لأعجب من ادِّعائه (عُرْيَ) أبي هريرة، وأتساءل كيف استنتج هذا؟ ومن نقل إليه ذلك؟. ثم هل في كل ما سبق هوان وذُلٌّ لأبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. ثم يقول الكاتب: «لكن لما أظهر الله أمر نبيه صلى الله عليه وآله في المدينة الطيِّبة بعد بَدْرٍ وَأُحُدْ والأحزاب وبعد اللتيا والتي. لم يكن لهذا البائس المسكين حينئذ مذهب عن باب رسول الله صلى الله عليه وآله فهاجر إليه بعد فتح خيبر فبايعه على الاسلام. وكان ذلك سَنَةَ سبع للهجرة بانفاق أهل الاخبار. أما صحبته فقد صَرَّحَ أبو هريرة ـ في حديث أخرجه البخاري ـ بأنها كانت ثلاث سنين» [صفحة: 5]. لقد سبق أنْ بَيَّنْتُ أنَّ الفقر والمسكنة لا يحطان من قدر المرء ومكانته إلاَّ عند من أعمت المادة قلوبهم، ولم يكن دخول الجنة مشروطاً باللُّبس والبذخ. «رُبَّ أَشْعَثَ، مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ» (2). ولعل المؤلف يَرُدُّ هذا الحديث لأنَّ راويه أبو هريرة. ثم أنَّ أبا هريرة أسلم قبل خيبر على يد الطفيل بن عمرو (3) وإنما هاجر

_ (1) [الحجرات: 13]. (2) " صحيح مسلم ": 4/ 2024 و 2191. (3) " الإصابة ": 3/ 287 وانظر في هذا الكتاب «إسلامه وهجرته».

إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيام فتح خيبر، فأكرمه الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأسهم له كما في إحدى الروايات، وأشار أبو هريرة حينذاك على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنْ لا يقسم لأبان بن سعيد بن العاص، لأنه قاتل ابن قوقل (1). وابن قوقل هو النعمان صحابي استشهد يوم أُحُدْ. فهذا دليل على أنَّ أبا هريرة كان قد أسلم قبل خيبر وكان يتتبَّعُ أخبار المسلمين قبل هجرته إلى المدينة، وأنه من ذوي الرأي يتقدَّمُون به غلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو سلَّمنا جدلاً بأنه أسلم يوم خيبر، أنعيبُ عليه إسلامه هذا؟ ألم يُسْلِمْ بعد خيبر خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن أبي طلحة وغيرهم؟. وأما صُحبته ثلاث سنوات كما قال أبو هريرة نفسه، فهذا من باب التقريب لا من باب الحصر، فأبو هريرة لم يعلم أنه سيأتي في آخر الزمان من يُحْصِي عليه أيام صُحْبَتِهِ، ويتتبَّعَ مَنَاقِصَهُ ويزدريه لفقره، ويرى في هذا لوناً من الهوان والذُلِّ. وإذا عرفنا أنَّ غزوة خيبر كانت في (مُحَرَّمْ) من السَنَةِ السابعة، أيْ في أول تلك السَنَةِ واستمرَّت الغزوة نحو ثلاثين يوماً، وأنَّ أبا هريرة قدم المدينة على أشهر الروايات أيام فتح خيبر، ورأى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عقبها أي في العشر الأول في صفر، وأنَّ وفاة رسول الله - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - كانت يوم الاثنين (13 ربيع أول سنة 11 للهجرة الموافق 8 يونيو سنة 633 م) (2) - إذا عرفنا ذلك - تَبَيَّنَ أنَّ أبا هريرة قد تشرَّف بصُحبة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع سنوات وثلاثة وثلاثين يوماً. وإذا أراد أبو هريرة من تصرحه بالسنوات الثلاث الحصر، يكون قد رفع من صُحبته وملازمته للرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما قضاه في البحرين مع العلاء بن الحضرمي سَنَةَ ثمانٍ للهجرة. ...

_ (1) " فتح الباري ": 6/ 281 و " البخاري بشرح السندي ": 3/ 55. (2) نور اليقين: ص 274.

3 - على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -:

3 - على عهد النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وصفه بالفقر وأنه من أهل الصُفَّة الذين لا مأوى ولا معين [صفحة: 5 - 8] ونسي أو تناسى أنْ يُبَيِّنَ أنَّ أهل الصُفَّة كانوا أضياف الإسلام، وقفوا أنفسهم للجهاد في سبيل الله وطلب العلم، وكانوا صلة بين الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه وعامة المسلمين، فإذا ما أراد أنْ يُبلِّغَ تنزيلاً أو يجمع المسلمين دعا بعض أهل الصُفَّة لينادُوا في المسلمين ويجمعوهم، وكان أكثرهم من المهاجرين وفيهم كرام الصحابة، وكان يحبهم رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويكرمهم، وكثيراً ما كان يأكل معهم. ثم عرض الكاتب جوع أبي هريرة وفقره، وملازمته رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشبع بطنه، وفي هذا كله لم ير براءة أبي هريرة وصفاء نفسه وحُسن سريرته، بل حاول أنْ يعرضه على القارئ عرض الفقير البائس، المنقطع المتشرِّدِ الذي يستجدي الصحابة ويلازم الرسول فقط ليشبعه، لم ير في ذلك حرصه على العلم فيما في يَدَيْ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وصَوَّرَهُ الجائع المتماوت من جوعه، يريد فُتاتَ الموائد، ويطلب الحياة الدنيا، وأغمض الكاتب عينيه عن الروايات الثانية التي تُبَيِّنُ حقيقة ملازمته للرسول - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، وزُهده في الدنيا وانقطاعه لخدمة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طلباً للعلم، وقد سأله رسول الله: «أَلاَ تَسْأَلُنِي مِنْ هَذِهِ الْغَنَائِمِ الَّتِي يَسْأَلُنِي أَصْحَابُكَ؟» فقال أبو هريرة: «أَسْأَلُكَ أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللهُ». ثم ذكر الكاتب ثناء أبي هريرة على جعفر بن أبي طالب لأنه كان للمساكين عوناً يكرمهم ويُواسِيهِمْ، ويختتم هذه الفقرة بقوله: «وما زالت الصُفة موطن أبي هريرة الذي يطمئن إليه ليلاً ونهاراً، لا يأوي إلى ما سواها حتى ارتحل النبي صلى الله عليه وآله من هذه الدار الفانية، ولحق بالرفيق الأعلى، وقبل ذلك لم يقم أبو هريرة بشيء يعود عليه بشبع بطنه سوى

_ (1) " حلية الأولياء ": 1/ 381 و " البداية والنهاية ": 8/ 111.

4 - على عهد الخليفتين:

القعود في طريق المارة ينزع إليهم بجوعه، لا تحفزه مهمة، ولا يذكر في حرب ولا في سلم». هكذا أراد أنْ يختم الكاتب حياة أبي هريرة في عهد رسول الله، مهيناً ذليلاً يستجدي أكف المارة. أمن العدالة؟ أم من الحق؟ أم من الوجدان العلميِّ والذوق الفنيِّ الذي يَدَّعِيهِ الكاتب أنْ يُصَوِّرَ أبا هريرة بهذه الصورة؟ أبو هريرة الصحابي الذي ترك الدنيا وراءه، وهاجر إلى رسول الله حُبًّا في الإسلام وطاعة لله، ولازم النبي الكريم أربع سنوات لا يريد منه إلاَّ العلم الطيِّب الكثير، أبو هريرة الذي ترك الدنيا لأهلها ووقَّفَ نفسه للعلم وخدمة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقابل كلمات يعلِّمُهُ إيَّاها ومواعظ يؤدِّبُهُ بها. أبو هريرة الذي عرفنا عِفَّةَ نفسه وكرم أخلاقه وشهامته يوم أراد عمر أنْ يُوَلِّيهِ على البحرين فأبى أنْ يقبلها بعد أنْ نزعت منه، يُصَوِّرُهُ الكاتب الأمين تلك الصورة التي لا يرضاها له حق بل لا ينفيها الواقع والتاريخ. ... 4 - على عهد الخليفتين: يقول الكاتب في [الصفحة 14 - 15]: «ألممنا بأخبار الخليفتين، واستقرأنا ما كان على عهدهما، فلم نجد لأبي هريرة ثَمَّةَ أثراً يذكر، سوى أنَّ عمر بعثه والياً على البحرين سَنَةَ إحدى وعشرين، فلما كانت سَنَةَ ثلاث وعشرين عزله وولَّى عثمان بن أبي العاص الثقفي، ولم يكتف بعزله، حتى استنقذ منه لبيت المال عشرة آلاف زعم أنه سرقها من مال الله في قضية مستفيضة». ويحيلُنا الكاتب إلى " العقد الفريد ". أما أنه ألمَّ بأخبار الخليفتين، واستقرآ ما كان على عهدهما، فلم يجد لأبي هريرة أثراً يذكر، فهذا مُجَرَّدُ زعم وادِّعاءٍ، فإنَّ أبا هريرة اشترك في حروب الرِدَّةِ في عهد أبي بكر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، فقد روى الإمام أحمد ما دار بين أبي بكر وعمر عن أبي هريرة وفيه: «فَلَمَّا كَانَتِ الرِّدَّةُ، قَالَ عُمَرُ لأَبِي بَكْرٍ: تُقَاتِلُهُمْ وَقَدْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

يَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: " وَاللهِ لاَ أُفَرِّقُ بَيْنَ الصَّلاَةِ، وَالزَّكَاةِ، وَلأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، قَالَ: فَقَاتَلْنَا مَعَهُ فَرَأَيْنَا ذَلِكَ رَشَدًا» (1). وكان يعتزُّ بموقف أبي بكر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ويُثْنِي عليه. فقد أخرج البيهقي وابن عساكر عن أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قال: «وَالَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَوْلاَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتُخْلِفَ مَا عُبِدَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ: مَهْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَّهَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فِي سَبْعِمِائَةٍ إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا نَزَلَ بِذِي خَشَبٍ قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: رُدَّ هَؤُلاَءِ، تُوَجِّهُ هَؤُلاَءِ إِلَى الرُّومِ وَقَدِ ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ ‍‍‍؟ فَقَالَ: وَالَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَوْ جَرَتِ الْكلاَبَ بأَرْجُلِ أَزوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَدَدْتُ جَيْشًا وَجَّهَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلاَ حَلَلْتُ لِوَاءً عَقَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَّهُ أُسَامَةَ، فَجَعَلَ لاَ يَمُرُّ بِقَبِيلٍ يُرِيدونَ الارْتِدَادَ إِلاَّ قَالُوا: لَوْلاَ أَنَّ لِهَؤُلاَءِ قُوَّةً مَا خَرَجَ مِثْلُ هَؤُلاَءِ مِنْ عِنْدِهِمْ وَلَكِنْ نَدَعُهُمْ حَتَّى يَلْقَوُا الرُّومَ، فَلَقَوُهُمْ فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ، وَرَجَعُوا سَالْمِينَ فَثَبَتُوا عَلَى الإِسْلامِ» (2). وفي عهد عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - اشتغل في طلب العلم والتعليم ورافق أمير المؤمين في حَجِّهِ، وحدَّثه حديث الريح عندما اشتدَّتْ بهم حين لم يذكر أحد من أصحاب رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آنذاك شيئاً فيها (3)، كما اشترك في وقعة اليرموك كما أسلفنا، فلم يحمل ذكر أبي هريرة في عهد الخليفتين الراشدين إلاَّ أنَّ الكاتب لم يُلِمَّ بأخبارهما كما ادَّعَى، وأما ولايته على البحرين والرواية التي ذكرها ابن عبد ربه من غير سَنّدٍ، ويستشهد بها المؤلف فيقول: «ثمّ دعا أبا هريرة، فقال له: علمت أني استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين. ثم بلغني انك ابتعت أفراساً بألف دينار

_ (1) " مسند الإمام أحمد ": 1/ 181 بإسناد صحيح. (2) " البداية والنهاية ": ص 305، جـ 6، و " الخلفاء " للسيوطي: ص 74، و " الكامل ": ص 62، جـ 2. (3) " مسند الإمام أحمد ": 4/ 521 رقم 7619 بإسناد صحيح.

وستمائة دينار. قال - أبو هريرة -: كانت له أفراس تناتجت وعطايا تلاحقت، قال: حسبت لك رزقك ومؤنتك، وهذا فضل فأده. قال: ليس لك ذلك. قال: بلى والله وأوجع ظهرك، ثم قال إليه بالدرة فضربه حتى أدماه، ثم قال: ائت بها، قال: أحتسبها (1) عند الله، قال: ذلك لو أخذتها من حلال وأدَّيْتَهَا طائعاً، أجئت من أقصى حجر البحرين (2). يجيء الناس لك لا لله ولا للمسلمين؟ مارجّعَّت (3) بك أميمة إلاَّ لرعية الحمر» (4). رأى المؤلف هذه الرواية توافقه فاستشهد بها، ولم يذكر الرواية التي بعدها مباشرة، فليس في تلك ضرب عمر لأبي هريرة، بل فيها رَدُّ أبي هريرة على عمر حين قال له: «يَا عَدُوَّ اللَّهِ أَسَرَقْتَ مَالَ اللَّهِ؟» قال أبو هريرة: «مَا أَنَا عَدُوُّ اللَّهِ وَلاَ عَدُوُّ كِتَابِهِ، لَكِنِّي عَدُوُّ مَنْ عَادَاهُمَا ... ». إنَّ ما استشهد به المؤلف مُجَرَّدٌ من السند، فلو كان لروايته في الأصل سند أمكننا أنْ نتعرَّف من خلاله مقدار صحَّتها، بينما وردت الرواية الثانية التي لم تنص على ضرب عمر لأبي هريرة في مراجع كثيرة جداً باسانيد صحيحة في " حلية الأولياء " و " طبقات ابن سعد " و " تاريخ الإسلام " و " الإصابة " و " عيون الأخبار "، وقد ذكرت هذا في ترجمته، فهذه الرواية التي استشهد بها المؤلف ترد لأنها تخالف روايات أصح منها. ولو فرضنا صِحَّتها، فإنَّ الرواية الثانية التي تلتها وليس فيها ضرب عمر لأبي هريرة، بل فيها مناقشة أبي هريرة عمر، وبيان طريق أمواله التي جمعها، وردِّهِ اتهامه الذي وجَّهه إليه؛ أقول إنَّ هذه الرواية تُصَحِّحُ ما قبلها، وتُلقِي ضوءاً عليها إذ فيها «فَقَبَضَهَا - الدَّرَاهِمَ - مِنِّي فَلَمَّا صَلَّيْتُ الصُّبْحَ اسْتَغْفَرْتُ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ». إنَّ أبا هريرة يستغفر لأمير المؤمنين الذي شاطرهُ ماله، وهو يعلم

_ (1 و 2 و 3 و 4) في " العقد الفريد ": 1/ 34: احتسبتها ... ومن أقصى حجر بالبحرين. ورجعت من غير تشديد الجيم. قال الكاتب في هامش الصفحة [15]: «الرجع والرجيع العذرة والروث سُمِّيَا رجيعاً لأنهما رجعا من حالتهما الأولى بعد أن كانا طعاماً وعَلَفاً .. وكلمة الخليفة هذه من أفضع كلمات الشتم». أقول: إنَّ سوء فهم الكاتب للنص وهَوَاهُ جعلاهُ يفسِّرُ هذه الكلمة بما فسَّرَ، بينما الحقيقة ما رجعت أي ما عادت. والنص لا يحتمل أكثر من هذا التفسير. فلم هذا التحامل؟ وهل هذا سبيل الباحث النزيه!!؟.

أنَّ ما أخذه الأمير منه إنما هو عطاياه وأسهمه، ومع هذا لم يحقد على عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بل شعر في نفسه أنه مظلوم، فراح يستغفر لأميره .. هذا إذا اعتبرنا صِحَّةَ الرواية، عِلْماً بأنَّ الروايات الأخرى تقول: «قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ هِيَ لَكَ؟ قُلْتُ: خَيْلٌ نُتِجَتْ، وَغَلَّةٌ وَرَقِيقٌ لِي، وَأَعْطِيَةٌ تَتَابَعَتْ عَلَيَّ». فَنَظَرُوا فَوَجَدُوهُ كَمَا قَالَ (1). وفي بعضها: «أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا» (2) وأُرَجِّحُ أنَّ عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - شاطره ماله، كما شاطر غيرَهُ من الأمراء، إلاَّ أنه لم يضربه، وفي الحقيقة إنَّ ابن عبد ربه يقول: «ولما عزل عمر أبا موسى الأشعريّ عن البصرة وشاطره ماله وعزل أبا هريرة عن البحرين وشاطره ماله، وعزل الحارث بن كعب بن وهب وشاطره ماله ... ودعا أبا موسى ... ثم دعا أبا هريرة» (3). وقاسم عمر سعد بن أبي وقاص ماله حين عزله عن العراق (4)، فعُمَر لم يتَّهِمْ أبا هريرة ولم يشاطره ماله وحده بل تلك كانت سياسته مع وُلاَّته، كي لا يطمع امرُؤٌ في مال الله، ويحذر من الشُبُهات، وكان يعزل وُلاَّته، لا عن شُبْهَةٍ، بل من باب الاجتهاد وحُسْنِ رعاية أمور المسلمين، فلما عزل «المغيرة بن شُعبة عن كتابة أبي موسى، قال له: أعن عجز أم خيانة يا أمير المؤمين؟ قال ك لا عن واحدة منهما، ولكنِّي أكره أنْ أحمل فضل عقلك على العامة» (5). وكتاب عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - إلى الْعَلاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ يؤكِّدُ سياسته مع جميع وُلاَّته وعُمَّاله فقد جاء في كتابه: «سِرْ إِلَى عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ - وكان والياً على البصرة - فَقَدُ وَلَّيْتُكَ عَمَلَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ تَقَدَمُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الحُسْنَى لَمْ أَعْزِلْهُ اَلاَّ يَكُونُ عَفِيفًا صَلِيبًا شَدِيدَ الْبَأْسِ، وَلَكِنِّي ظَنَنْتُ أَنَّكَ أَغْنَى عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ

_ (1) " تاريخ الإسلام ": 2/ 338، و " حلية الأولياء ": 1/ 380، و " البداية والنهاية ": 8/ 111. (2) " طبقات ابن سعد ": جـ 4، القسم الثاني، ص 59. (3) " العقد الفريد ": 1/ 33. (4) انظر " طبقات ابن سعد ": ص 105، قسم 1، جـ 3. (5) " العقد الفريد ": 1/ 60 ...

5 - على عهد عثمان: [ص 16 - 17]:

مِنْهُ فَاعْرِفْ لَهُ حَقَّهُ، وَقَدْ وَلَّيْتُ قَبْلَكَ رَجُلا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ، فَإِنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ تَلِيَ وُلِّيتَ، وَإِنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَلِيَ عُتْبَةُ فَالْخَلْقُ وَالأَمْرُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ... » (1). أما أنه ضربه فإنه غير معقول لأنَّ عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يعرف مكانته ومنزلته، وأما أنه أهانه وقال له: «استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين»، فالواقع يُكَذِبُ هذا لأنَّ جميع المسلمين تحسَّنتْ أحوالهم أيام عمر، وكثر عطاؤهم عندما فتحت البلاد المجاورة فأغدقت عليهم الغنائم والأموال الكثيرة، وإلى جانب هذا لم يرد في الروايات الصحيحة المعتمدة شيء من ذلك. وهناك ما يدل على عدم اتهام عمر لأبي هريرة، ويدل على استقامته وأمانته، وهو أنَّ أمير المؤمنين عاد إلى أبي هريرة، وطلب أنْ يستعمله ثانية على البحرين فأبى. وأنَّ هذه الرواية تَتِمَّةَ ما نقله الكاتب. إلاَّ أنه حذفها كي لا يظهر بطلان ما يَدَّعِيهِ، ولِيُتِمَّ طعنه في أبي هريرة وفيها «فقال لي بعد ذلك: ألا تعمل؟ قلت: لا. قال: قد عمل من هو خير منك يوسف - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ -. قلتُ: يوسف نبيّ وأنا ابن أميمة، أخشى أن يشتم عرضي، ويضرب ظهري، وينزع مالي» (2). هذا النص تتمة الذي رواه الكاتب وأبى أنْ يثبته للحقد الذي في نفسه على راوية الإسلام، وهذا النص يؤكِّدُ عدم ضرب عمر لأبي هريرة إذ لو صح أنه ضربه لقال له أبو هريرة: لن أعود بعد أنْ شتم عِرْضِي وضرب ظهري. وهكذا ثبتت براءة أبي هريرة مِمَّا تجنَّاهُ عليه الكاتب. ... 5 - على عهد عثمان: [ص 16 - 17]: لقد رأينا موقف أبي هريرة يوم الدار، وكيف حث الناس على الدفاع عن أمير المؤمنين، إلاَّ أنَّ عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - منعهم من القتال

_ (1) " طبقات ابن سعد ": ص 78، قسم 2، جـ 4. (2) " العقد الفريد ": 1/ 34 - 35 و 60.

6 - على عهد علي [صفحة 21 - 26]:

وأجمعت كل الروايات على وجود أبي هريرة بين دافع عن عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يوم الدار. إلاَّ أنَّ المؤلف يصوِّرُهُ بالمنتهز المستغل لتلك الفتنة من أجل تحقيق مآربه وغاياته، فيقول بعد ذلك: «وبهذا نال نضارة بعد ذبول ونباهة بعد خمول»، ويقول: «وكان أبو هريرة على علم بأنَّ الثائرين لا يطلبون إلاَّ عثمان ومروان، وهذا شجَّعه على أنْ يكون في المحصورين». لا أدري كيف قرأ سريرة أبي هريرة واطَّلع عليها، وليس لنا إلاَّ الظاهر، فقد كان محصوراً في الدار مع عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين فكل افتراض يفترضه بالنسبة لأبي هريرة يفترض بالنسبة لمن كان معه فهل يقبل المؤلف هذا لسيِّدَيْ شباب أهل الجنة!؟. ثم يقول: «ومهما يكن فقد اختلس الرجل هذه الفرصة فربحت صفقته وراجت سلعته، وأكبَّ بعدها بنو أمية وأولياؤهم على السماع منه فلم يألُ جُهداً في نشر حديثه والاحتجاج به. وكان ينزل فيه على ما يرغبون». ثم استشهد بأحاديث موضوعة على أبي هريرة وحَمَّلَهُ وِزْرَ وضعها وهو لا يَدَ له فيها. وعلَّق في هامش [صفحة 18 و 19]: «أنَّ أولياء أبي هريرة يحيلون الآفة بها على رُواة في أسانيدها». ويأبى هو إلاَّ أنْ يجعل أبا هريرة وضَّاعاً وألعوبة في أيدي الأمويِّين، والأمويُّون لم يظهروا بعد ... !؟. ... 6 - على عهد عَلِيٍّ [صفحة 21 - 26]: بَيَّنْتُ فيما سبق اعتزال أبي هريرة جميع ما جرى من حوادث بعد استشهاد عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، إلاَّ أنَّ المؤلف يأبى إلاَّ أنْ يعتمد على روايات ضعيفة ليشرك أبا هريرة في بعض الحوادث، وليته يكتفي بذلك، بل يعرض ما يريد مستهزئاً مُزدرياً. فيقول: «خَفَتَ صوت أبي هريرة على عهد أمير المؤمنين، واحتبى برد الخمول، وكاد أنْ يرجع إلى سيرته الأولى، حيث كان هيان بن بيان، وصلعمة بن قلعمة قعدا عن نصرة أمير المؤمنين فلم ينضو إلى لوائه بل كان وجهه ونصحته إلى أعدائه».

ثم ساق رواية واهية مفادها أنَّ معاوية أرسل أبا هريرة والنعمان بن بشير ليفاوضا عليًّا ويأخذا قتلة عثمان إلى معاوية، لتجتمع كلمة المسلمين بعدها. وأقام النعمان بن بشير عند عليٍّ وعاد أبو هريرة إلى معاوية وأخبره بما حدث في محاولتهما. قال المؤلف: «فأمره معاوية أنْ يعلم الناس ففعل ذلك وعمل أعمالاً ترضي معاوية» وهذه الرواية لم ترو بسند صحيح قط ولم أجدها إلاَّ في " نهج البلاغة ". ثم إنْ صَحَّتْ الرواية فهل يعاب على أبي هريرة أنْ يكون وسيط خير وداعياً إلى جمع كلمة المسلمين!!؟ وأما ما ذكره ابن قتيبة من قدوم أبي هريرة وأبي الدرداء على معاوية وعليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - ومناصحتهما معاوية لحقن دماء المسلمين ثم اتصالهما بعليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - من أجل قتلة عثمان، فإنها تدل على اعتزال أبي هريرة الفتنة ومحاولة جمع كلمة المسلمين بالرغم من ضعف هذه الرواية (1). ثم يقول الكاتب: «وحين جد الجد، وحمى وطيس الحرب، ورد على أبي هريرة من الهول ما هزم فؤاده وزلزل اقدامه، وكان في أول تلك الفتنة لا يشك بأنَّ العاقبة ستكون لعليٍّ. فضرب الأرض بذقنه، قابعاً في زاويا الخمول يثبط الناس عن نصرة أمير المؤمنين بما يُحَدِّثُهُمْ به سراً وكان مِمَّا قاله يومئذ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: «سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ» [صفحة 24]. هل بعد هذا النص شك في أنَّ الكاتب متحامل على أبي هريرة؟ إنه يدَّعي البحث العلمي والذوق الفنيَّ، ثم يسيِّرُهُ هواهُ أنَّى يشاء ضارباً بما ادَّعى عرض الحائط!! ويأبى أنْ يقبل ما دلَّ من النصوص على اعتزال أبي هريرة جميع الحوادث، التي دارت بين عليٍّ ومعاوية - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -. ويحاول الكاتب أنْ يستنتج من غزوة بسر بن أرطأة الحجاز واليمن قبول أبي هريرة ولاية المدينة. فيقول: «وفي ختام هذه الفظائع أخذ

_ (1) " الإمامة والسياسية ": 2/ 175.

7 - على عهد معاوية [صفحة 26 - 31]:

(بُسر) البيعة لمعاوية من أهل الحجاز واليمن عامة، فعندها باح أبو هريرة بما في صدره واستراح بُسْرُ بن أرطأة بمكنون سره، فوجد بسر منه إخلاصاً لمعاوية ونُصحاً في أخذ البيعة له من الناس فولاَّهُ على المدينة حين انصرف عنها وأمر أهلها بطاعته» [صفحة 25]. وهذا لم يثبت قط وقد بيَّنْتُ الصواب فيما سبق من حياة أبي هريرة (1). ... 7 - على عهد معاوية [صفحة 26 - 31]: قال الكاتب: «نزل أبو هريرة أيام معاوية الى جناب مريع، وأنزل آماله منه منزل صدق، لذلك نزل في كثير من الحديث على رغائبه، فحدَّث الناس في فضل معاوية وغيره أحاديث عجيبة». ثم تكلم عن وضع الحديث في عهد الأمويِّين وكثرة الكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وادَّعى أنَّ أبا هريرة كان في الرعيل الأول من هؤلاء فحدَّث بأحديث منكرة ذكرها ابن عساكر وغيره، وساق أحاديث موضوعة لا يقبلها عقل ولا يرضاها ضمير، وضعها أتباع الأمويِّين بعد عهد معاوية، نكاية بأتباع أمير المؤمنين عليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وجميع ما ادَّعاهُ يعرف أهل السُنَّة مفتريه ووُضَّاعه، ويقول الكاتب [صفحة: 29 - 31]: «غير أنهم لم يجعلوا الآفة فيها من أبي هريرة نفسه إنما جعلوها مِمَّنْ نقلها عنه .. وكذلك فعلوا في سائر ما صنعته يدا أبي هريرة مِمَّا ضاق ذرعهم .. وله في " صحيحي البخاري ومسلم " أحاديث أفرغها على هذا القالب وحاكها على هذا المنوال». إنَّ الكاتب يتَّهم أبا هريرة اتِّهامين خطيرين؛ الأول أنه تشيَّع لنبي أمية، والثاني أنَّ حُبَّهُ لبني أمية حمله على وضع الحديث لهم (أي الكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -). ولهذا يعقد فصلين من كتابه ليُبَيِّنَ (أيادي بني أمية عليه) ثم (تطوُّرُهُ

_ (1) انظر «أبو هريرة في عهد عليٍّ» من هذا الكتاب.

أولا - هل تشيع أبو هريرة للأمويين؟:

في شكر أياديهم) وسَنَرُدُّ هذين الاتِّهامين بنقض حُجَجِهِ، وبيان وجه الحق في ذلك فنبدأ بِرَدِّ الشبهة الأولى. أولاً - هل تشيَّع أبو هريرة للأمويِّين؟: إنَّ أهل العلم جميعاً يعلمون أنَّ أبا هريرة كان مُحبًّا لأهل البيت ولم يناصبهم العداء قط، ومشهور عنه أنه تمسَّك بسُنَّة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فكان يحب من أحبه رسول الله - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - وأبو هريرة هو الذي كشف عن بطن الحسن بن علي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - وقال: «أَرِنِي أُقَبِّلْ مِنْكَ حَيْثُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ»، وَقَبَّلَ سُرَّتَهُ (1). ثم إنَّ أبا هريرة لم يكن دائماً على صلة حسنة بمعاوية، فقد كان يعزله عن المدينة ويُعَيِّنُ مروان بن الحكم، ومن العجيب أنْ يدَّعِي إنسان نهل من العلم بعضه أنَّ أبا هريرة يكره عليًّا وأهله، بعد أنْ سمع ما دار بين مروان بن الحكم وأبي هريرة، حين أراد المسلمون دفن الحسن مع النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فكان مِمَّا قاله: «وَاللَّهِ مَا أَنْتَ بوالٍ، وَإِنَّ الْوَالِيَ لَغَيْرُكَ فَدَعْهُ، وَلَكِنَّكَ تَدَخَّلُ فِيمَا لاَ يَعْنِيكَ، إِنَّمَا تُرِيدُ بِهَذَا إِرْضَاءَ مَنْ هُوَ غَائِبٌ عَنْكَ - يَعْنِي مُعَاوِيَةَ ... »!! (2) ولكن الكاتب المتحامل على أبي هريرة والذي امتلأ قبله ضغناً وحِقداً عليه يرى هذا مُجَرَّدَ رياءٍ ومُؤامرة مُدَبَّرَةٍ بينهما.!! (3) ونرى أبا هريرة ينكر على مروان بن الحكم في مواضع عِدَّةٍ، فهل هذا الإنكار أيضاً من باب المؤامرات التي يُدَبِّرُها مرواة وأبو هريرة لمخادعة العامة - كما زعم مؤلف كتاب " أبو هريرة "؟، لقد أنكر عليه عندما رأى في داره تصاوير فقال: سمعتُ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: يقول الله - عَزَّ وَجَلَّ -: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ

_ (1) " مسند الإمام أحمد " 13/ 195، رقم 7455. (2) " البداية والنهاية ": 8/ 108. (3) انظر " أبو هريرة " لعبد الحسين: ص 40 - 41.

كَخَلْقِي! فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً، وَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً» (1) وأبطأ مروان بن الحكم يوماً بالجمعة فقام إليه أبو هريرة فقال له: «أَتُظَلُّ عِنْد ابْنَة فُلاَنٍ تُرَوِّحَُِك بِالمَرَاوِحِ وَتَسْقِيَك الْمَاءَ الْبَارِدَ، وَأَبْنَاء الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ يُصْهَرُونَ مِنَ الْحَرِّ؟ لََقََدْ هَمَمْتُ أََنْ أَفْعَلَ وَأَفْعَلَ»، ثُم قَال: «اسْمَعُوْا مَن أَمِيرِكُمْ» (2). فهل هذا موقف المُتشيِّع لبني أمية، النازل على رغباتهم في الحديث، الدَّاعي لهم!! أم أنَّ هذا موقف ملتزم الحق؟ إنه أنكر على الأمير تأخُّرهُ، وحفظ له حقه فأمر المسلمين بالسماع إليه. وهذا دليل آخر على مكانة أبي هريرة بين المسلمين. فلو كان حقيراً مهيناً ما سمع منه المسلمون وما تحمَّله مروان. ومع هذا فإنَّ المؤلف لكتاب " أبو هريرة " قد يرى في هذه القصة لوناً جديداً من المؤامرات لتثبيت ملك الأمؤيِّين كما يتخيَّلُ المؤلفُ أبا هريرة في تفكيره وعلمه وذوقه الفنيَّ، واستنتاجه واستقرائه .. !! وكان يجدر بالمؤلف أنْ يتَّهِمَ أبا هريرة بالتشيُّع لأهل البيت، لما رُوِيَ عنه عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مناقبهم ومدحهم مِمَّا ورد في صحاح السُنَّة المُطَهَّرَةِ (3)، وهذا أولى له من أنْ يتتبَّع الأحاديث الضعيفة، والموضوعة على أبي هريرة في مدح الأمويِّين، ليتَّهمه بموالاتهم وتأييدهم، بالرغم من وضوح وضع تلك الأحاديث، ومعرفة الكَذَبَةِ الواضِعِين لها. وجلاء أمرها .. ولو كان أبو هريرة مُتَشَيِّعاً للأمويِّين لأَبَى أنْ يروي بعض فضائل أهل البيت، وبوجه خاص فضائل أمير المؤمنين عليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، ولكن شيئاً من هذا لم يقع، وكان أبو هريرة أسمى وأعلى من أنْ يكتم حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لميل أو هوى، وأرفع من أنْ يكذب على حبيبه الصادق المصدوق محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإننا

_ (1) " مسند الإمام أحمد ": 12/ 148، رقم 7166 بإسناد صحيح ورواه البخاري. (2) " العقد الفريد ": 1/ 42. (3) انظر " مسند الإمام أحمد ": ص 129، رقم 7392. وص 195، رقم 7455، جـ 13. و ص 69، حديث 7636. و ص 260، حديث 7892، جـ 14. و " فتح الباري ": ص 76 و 95، جـ 8. وقد ذكرت هذا مِمَّا حضرني، وليس على سبيل الحصر.

نراه يروي في فضائل عَلِيٍّ ما لا يخفى، من هذا ما أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه " بسنده عن أبي هريرة: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: «لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلاً يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ». قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا أَحْبَبْتُ الْإِمَارَةَ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَتَسَاوَرْتُ لَهَا رَجَاءَ أَنْ أُدْعَى لَهَا. قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، وَقَالَ: «امْشِ، وَلاَ تَلْتَفِتْ، حَتَّى يَفْتَحَ اللهُ عَلَيْكَ». قَالَ: فَسَارَ عَلِيٌّ شَيْئًا ثُمَّ وَقَفَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ، فَصَرَخَ: يَا رَسُولَ اللهِ! عَلَى مَاذَا أُقَاتِلُ النَّاسَ؟ قَالَ: «قَاتِلْهُمْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ. فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، فَقَدْ مَنَعُوا مِنْكَ دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ، إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ» (3). إننا نرى المُنصفين من أهل العلم لم يتَّهِمُوا أبا هريرة - لروايته هذا الحديث - بالتشيُّع لعليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وبالعداء لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فأبو هريرة لا يتحزَّبُ لأحد ولا يمالئ أحداً، ولا يسير وراء هوى مُتَّبعٌ أو شهوة جامحة، إنما هو ذلك الصحابي العظيم الذي عرفنا استقامته وعدالته، وتقواه وورعه وأمانته. وقد تصوَّر المؤلف جميع ما بين يدي أبي هريرة من نعمة وخير هي أفضال الأمويِّين عليه، وإكرام منهم له، لما بذله في سبيل تدعيم مُلْكِهِمْ!! ونسي أو تناسى أنَّ أبا هريرة كان يحب العمل إلى جانب حبه للعلم، ونسي ما كان له من أعطيات وتجارة، كما نسي أنه ولي البحرين الخليفة عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وَبَيَّنَ له مورد ماله الذي جاء به، بل رأى أنَّ جميع ما بين يديه من منح بني أميَّة له، فهم الذين كَسَوْهُ الخزَّ، وألبسوه الكتان، وبنوا له في العقيق قصراً، وهو الذين زوَّجُوهُ بُسرةَ بنت غزوان، أخت الأمير عُتبة بن غزوان، ويستشهد لذلك بما رواه مضارب بن حزن

_ (1) فتساورت لها: معناه تطاولت لها، أي حرصت عليها، أي أظهرت وجهي وتصدَّيتُ لذلك ليتذكَّرني. انظر " صحيح مسلم "، ص 1872، هامش 1، جـ 4. (2) " صحيح مسلم ": ص 1871، حديث 33، جـ 4.

ثانيا: هل وضع أبو هريرة الأحاديث كذبا على رسول الله؟:

حين سمع أبا بكر يُكَبِّرُ في الليل، قَالَ مُضَارِبُ بنِ حَزْنٍ: «بَيْنَا أَنَا أَسِيْرُ تَحْتَ اللَّيْلِ، إِذَا رَجُلٌ يُكَبِّرُ، فَأُلْحِقُهُ بَعِيْرِي، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ. قُلْتُ: مَا هَذَا التَّكْبِيْرُ؟ قَالَ: شُكْرٌ. قُلْتُ: عَلَى مَهْ؟ قَالَ: كُنْتُ أَجِيْراً لِبُسْرَةَ بِنْتِ غَزْوَانَ بِعُقْبَةِ (1) رِجْلِي، وَطَعَامِ بَطْنِي، وَكَانُوا إِذَا رَكِبُوا سُقْتُ بِهِمْ، وَإِذَا نَزَلُوا خَدَمْتُهُمْ، فَزَوَّجَنِيْهَا اللهُ!! فَهِيَ امْرَأتِي» (2). فأبو هريرة يشكر الله - عَزَّ وَجَلَّ - على نعمه وتوفيقه لزواجه من بُسرة، وأي شيء في هذا؟ أي شيء أكثر من طيب نفس أبي هريرة وصفائها، ورضائها بما قسم الله له. واحترامه لأنعم الله تعالى، وتوضعه وتذكره ما كان عليه وإقراره بفضل الله - عَزَّ وَجَلَّ - عليه. ولكن المؤلف استغلَّ طيب نفس أبي هريرة للتشهير به، ورأى في كل ذلك مادة غزيرة يشوِّهُهَا كما يحب ويرضى. وفي هذا كله يرى أنَّ الأمويِّين استعبدوه بِبِرِّهِمْ «فملكوا قياده، واحتلُّوا سمعه وبصره وفؤاده، فإذا هو لسان دعايتهم في سياستهم، يتطوَّرُ فيها على ما تقتضيه أهواؤهم .. » [صفحة 35]. هكذا أراد المؤلف أنْ يُصَوِّرَ أبا هريرة، الذي عرفنا اعتزاله الفتن، وسيره مع الحق، ومناصحته للمسلمين، وحُبه لأهل البيت. وهكذا يأبى الله إلاَّ أنْ يُقَوِّضَ ما حاكه أعداء أبي هريرة من شُبُهات ضدَّهُ، ويكشف النقاب عن وجه الحق، ليزهق الباطل، وصدق اللهُ العظيم إذ يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} (3). ... ثانياً: هل وضع أبو هريرة الأحاديث كذباً على رسول الله؟: لقد افترى المؤلف على أبي هريرة افتراءات لا يتصوَّرُها إنسان من مستشرق متجاهل أو من عدوٍّ متحامل، قال: «فتارة يفتئتُ الأحاديث

_ (1) العقبة، أي نوبة ركوبه. (2) " سير أعلام النبلاء ": ص 440، جـ 2. (3) [الأنبياء: 18].

في فضائلهم، ... وتارة يُلَفِّقُ أحاديث في فضائل الخليفتين، نزولاً على رغائب معاوية وفئته الباغية، إذ كانت لهم مقاصد سياسية ضد الوَصِيِّ وآل النبي ... وحسبُك حديثه في تأمير أبي بكر على الحج سَنَة براءة - وهي سَنَةُ تسع للهجرة - وحديثه في أنَّ عمر كان مُحْدِثاً تكلِّمه الملائكة (1). وقد اقتضت سياسة الأمويِّين في نكاية الهاشميِّين تثبيت هذين الحديثين وإذاعتهما بكل ما لمعاوية وأعوانه .. من وسيلة أو حيلة .. حتى أخرجتهما الصحاح .. وتارة يقتضب أحاديث ضد أمير المؤمنين جرياً على مقتضى تلك السياسة كقوله: سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَمْ تُحْبَسِ الشَّمْسُ أَوْ تَرد إِلاَّ لِيُوشَعَ بْنِ نُونٍ لَيَالِيَ سَارَ إِلَى بَيْتِ الْمُقَدّس .. » [صفحة: 36 - 37]. لقد سيطر على المؤلف هواهُ، حتى أصبح لا يرى في أبي هريرة إلاَّ الكذوب الوضَّاع، فتنكب سبيل الحق، وقذف الصحابة بالكذب، وتجاهل ما أجمع عليه المؤرِّخُون الثقات، واعتمد على روايات الضعفاء، فكان كلام الطبرسي عنده كالتنزيل الحكيم، وضرب بصحاح الكتب عرض الحائط، فيحاول طمس الحق، وتحريف الصواب، وإنني قبل أنْ أجيب عن زعمه أنَّ الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عزل أبا بكر عن ولاية الحج أتساءل كيف حبست الشمس أو ردت لأمير المؤمنين عليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -؟ وهل أمسكت الشمس عن الغروب ليتمكَّن - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - من أداء صلاة العصر في وقتها؟ إنَّ هذه معجزات لا تكون في كل وقت، ولا يمن الله بها إلاَّ على رسله!! ثم لِمَ تُرد الشمس له أو تمسك، ويمكنه أنْ يقضي الصلاة!! والصحاح لم تذكر شيئاً عن هذا الخبر، فأترك المؤلف أنْ يُبَيِّنَ لنا كيف حبست الشمس ومتى كان ذلك علناً نفيد منه؟ لقد ادَّعَى هذا قبله ابن المطهر الحلي، ورد عليه ابن تيمية ردًّا قوياً، وبَيَّنَ كذب هذا الادِّعاء (2).

_ (1) يشير إلى حديث أبي هريرة عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ، فَإِنَّهُ عُمَرُ». " فتح الباري ": 8/ 49. مُحْدَثٌ بفتح الدال: أي مُلْهَمٌ وصادق الظن، يجري الصواب على لسانه، والتاريخ يشهد لعمر بهذا في أمور مشهورة. (2) " المنتقى من منهاج الاعتدال ": ص 524 وما بعدها.

وأما حديث أبي هريرة في تأمير أبي بكر على الحج سَنَةَ براءة، فإنه جاء من طرق كثيرة لا يرقى إليها الشك، ولا يتناولها الظن، والمؤرِّخُون مجمعون على أنه كان أمير الحج ذلك العام، وأنَّ الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث علياً بأول سورة براءة، ليقرأها على الناس، وقد سأل أبو بكر علياً عندما أتاه: «اسْتَعْمَلَكَ رَسُوْلُ الْلَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَىَ الْحَجِّ؟» قَالَ: «لاَ وَلَكِنْ بَعَثَنِيَ أَقْرَأُ بَرَاءُة عَلَىَ الْنَّاسِ» (1)، ويقول الإمام الشافعي: «وَبَعَثَ رَسُولُ الْلَّهِ أَبَا بَكْرٍ وَالَياً عَلَىَ الحَجِّ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَحَضَرَهُ الْحَجُّ مِنْ أَهْلِ بُلْدَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَشُعُوْبٍ مُّتَفَرِّقَةٍ، فَأَقَامَ لَهُمْ مَنَاسِكَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ رَسُوْلِ الْلَّهِ بِمَا لَهُمْ وَمَا عَلَيْهِمْ. وَبَعَثَ عَلَيَّ بْنِ أَبِيْ طَالِبٍ فِي تِلْكَ الْسَّنَةِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ فِيْ مَجْمَعِهِمْ يَوْمَ الْنَّحْرِ آيَاتاً مِنْ سُوْرَةُ (بَرَاءَة)، وَنَبَذَ إِلَىَ قَوْمٍ عَلَى سَوَاءٍ وَجَعَلَ لَهُمْ مُدَداً، وَنَهَاهُمْ عَنْ أُمُوْرٍ». ولكن المؤلف الذي اتَّبع المنهج العلمي، والذوق الفني السليم، - كما ادَّعى - أبى إلاَّ أنْ يساير أصول عقيدته، ورفض هذه الروايات، وقبل رواية الطبرسي وفيها أنه أعطى علياً أول سورة براءة «وعهد إليه بالولاية العامة على الموسم، وأمره بأنْ يُخَيِّرَ أبا بكر بين أن يسير مع ركابه أو يرجع إلى المدينة» (3). الأول: أنها شاذة ومنكرة لمخالفتها الروايات الصحيحة الموثوق بها. الثاني: أنها غير مسندة فلا يقوم دليلاً؛ وكيف نحكم بصحَّتها، ونقبلها من غير أنْ نعرف الأمناء الذين نقلوها إلينا؟. ولو فرضنا أنها صحيحة السند، ولم يذكره الكاتب، فهي مردودة من

_ (1) " سيرة ابن هشام ": 4/ 201. وانظر " البخاري بشرح السندي ": 3/ 76. حج أبي بكر بالناس سَنَةَ 9. (2) " الرسالة ": ص 414، رقم الفقرة: 1133 و 1134. وانظر " المنتفى من منهاج الاعتدال ": ص 340. حيث يَرُدُّ ابن تيمية على الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي، (648 - 726 هـ)، وينقض ما ادَّعاهُ من عدم تولية الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر إمارة الحج سَنَةَ تسع. وانظر ص 497 و 539 منه. (3) " أبو هريرة " لعبد الحسين: ص 162 عن " مجمع البيان ": 3/ 3.

حيث المتن، لأنها تخالف إجماع الروايات الموثوق بها، التي لم يستشهد بها المؤلف (1) ثم حاول الكاتب أنْ يدعم رأيه هذا بروايات ضعيفة تطعن في كبار الصحابة، وهي تتنافى مع المنطق السليم، ويرفضها الذوق الفني، ويردُّها المنهج العلمي، ويدحضها الواقع التاريخي بما يعارضها وينفي صّحتها. فمِمَّا استشهد به ما رواه عن ابن عباس في الصفحة [166] من كتابه قال: «قَالَ مَرَّةً: إِنِّي لأُمَاشِي عُمَرَ بِنَ الْخَطَّابِ فِي سِكَّةٍ مِنْ سِكَكِ الْمَدِينَةِ إِذْ قَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَاسٍ مَا أَرَىَ صَاحِبَكَ إِلاَّ مَظْلُوماً، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي وَالْلَّهِ لاَ يَسْبِقُنِي بِهَا. فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيْرَ الْمُؤْمِنِينَ: فَارْدُدْ إِلَيْهِ ظُلاَمَتَهُ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ يَدِي وَمَضَىَ يَهُمُّهُمْ سَاعَةً، ثُمَّ وَقَفَ فَلَحِقْتُهُ؛ قَالَ: يَا ابْنَ عَبَاسٍ، مَا أَظُنُّهُمْ مَنَعَهُمْ عَنْهُ إِلاَّ أَنَّهُمْ اسْتُصْغْرُوهُ، فَقُلْتُ: وَالْلَّهِ مَا اسْتُصْغْرَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ حِينَ أَمَرَاهُ أَنْ يَأْخُذَ بَرَاءَةً مِنْ صَاحِبِكَ فَأَعْرِضْ عَنِّي وَأَسْرع». الْحَدِيْثِ (1). إنَّ هذا الخبر مردود من وجوه ينطق بها النص نفسه، منها: أولاً متى ماشى الخليفة الفاروق ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -؟ ومتى دار بينهما هذا الحوار؟ يفهم من النص أنَّ هذا الحاديث كان في خلافة عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أي بين سنة (13 و 23) فإنْ كان خطابه هذا في أول خلافته - أي حين كان عمر ابن عباس ست عشرة سَنَةً وعُمْرُ أمير المؤمنين ثلاثاً وخمسين سَنَةً، لأنَّ عُمَرْ ولد قبل الهجرة بأربعين سَنَةً وابن عباس ولد قبلها بثلاث سنين - فهو غير معقول، ولا يُتَصَوَّرُ أنْ يناقش عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ابن عباس - وهو فتى يافع في مقتبل العمر - في أمور الخلافة، وفي الأمَّة أكابر الصحابة!! وإنْ كانت الحادثة في آخر عهد عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يكون له ثلاث وستون سَنَةً ولابن عباس ست وعشرون سَنَةً، يبعد معها أنْ تجري مثل هذه

_ (1) انظر " مسند الإمام أحمد ": 2/ 22 رقم 594 وصفحة 319 رقم الحديث: 1286. و " سيرة ابن هشام " و " البخاري " و " الرسالة " المذكورين آنفاً. و " تاريخ الطبري ": 2/ 382.

المناقشة بينهما، لما عرف من أدب ابن عباس ووقار عمر؛ ورجوعه إلى الحق. ثانياً - إنَّ علائم الوضع ظاهرة على هذا الخبر، ذلك أنَّ عليًّا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لم تقم له بعد جماعة وأصحاب، حتى يقول أمير المؤمنين عمر لابن عباس: «مَا أَرَىَ صَاحِبَكَ إِلاَّ مَظْلُوماً» ولِمَ كان مظلوماً؟ وما هي المناسبة التي تدعو أمير المؤمنين لأنْ يتعطَّف ابن عباس ويسرِّي عنه باعترافه بظلامة أبي الحسن؟. ثم هل يتصوَّر من عمر أنْ يعرف ظلامة الإنسان ولا يردها؟ وكيف يكون هذا ولا يَرُدُّ ظلامة صاحبه عَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -؟. ولو سلَّمنا بوقوع هذه المحاورة، فمن هؤلاء الذين ظلموه؟ ومن يعني في قوله: «مَا أَظُنُّهُمْ مَنَعَهُمْ عَنْهُ إِلاَّ أَنَّهُمْ اسْتُصْغْرُوهُ؟». ثم إنَّ من الذين منعوا عنه الخلافة، ومن الذي استصغره، وهل كان صغيراً حقاً؟؟ لم يمنع أحد الخلافة عنه أيام بيعة الصِدِّيقِ، بل أجمع الناس على خلافة أبي بكر، ولم يُبْدِ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَيَّ استياء منها وسرعان ما أعلن بيعته؛ ولا يمكن أنْ يقصد عمر بقوله هذا أحقية عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بالخلافة من الصِدِّيقِ، والتاريخ دليل على ما ذهب إليه جمهور المسلمين. ثم إنَّ عَلِيًّا نفسه لم يكن صغيراً آنذاك، وكما وافق على خلافة أبي بكر وافق على خلافة عمر وأعلن بيعته، والإمام عَلِيٌّ نفسه يشهد للعُمَرَيْنِ بمكانتهما فيدحض كل افتراءٍ وكذبٍ، وينقض ما ورد في هذا الخبر. ويأبى اللهُ إلاَّ أنْ يظهر الحق على لسان ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: وُضِعَ عُمَر عَلَى سَرِيره، فَتَكَنَّفَهُ النَّاس، يَدْعُونَ وَيُصَلُّونَ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ وَأَنَا فِيهِمْ، فَلَمْ يَرُعْنِي إِلاَّ رَجُلٌ آخِذٌ مَنْكِبِي، فَإِذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ وَقَالَ: مَا خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ، وَحَسِبْتُ إِنِّي كُنْتُ كَثِيرًا أَسْمَعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «ذَهَبْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ

وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» (1). فرضي الله عن الصحابة جميعاً وأرضاهم، فقد كانوا خير قُدوة للناس في حياتهم وإخوتهم، ولكن أهل الأهواء أَبَوْا إلاَّ أنْ بيعدوا الشقَّة بينهم، ويصطنعوا الخلافات، ويستغلُّوا بعض الحوادث، يدفعهم إلى ذلك الضغائن والحقد الذي في نفوسهم ضد الإسلام والمسلمين، كل ذلك لتفريق الكلمة وتحقيق مآربهم وإشباع ميولهم.

_ (1) " فتح الباري ": 8/ 47. والأخبار التي تعارض ما رواه مؤلف كتاب " أبو هريرة " وتثبت حب عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - للخلفاء الثلاثة، وعدم إنكاره لخلافتهم أو اعتبار نفسه خصماً لهم يريد رد ظلامته، أقول إنَّ هذه الأخبار كثيرة جداً منها: ما ذكره السيوطي قال: أخرج ابن عساكر عن الحسن قال: لما قدم علي البصرة قام إليه ابن الكواء، وقيس بن عباد، فقالا له: ألا تخبرنا عن مسيرك هذا الذي سرت فيه، تتولى على الأمَّة تضرب بعضهم ببعض؟ أعهد من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليك؟ فَحَدِّثْنَا فأنت الموثوق المأمون على ما سمعت، فقال: أمَّا أنْ يكون عندي عهد من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك فلا، والله لئن كنت أول من صَدَّقَ به، فلا أكون أول من كذب عليه، ولو كان عندي من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عهد في ذلك ما تركت أخا بني تيم بن مرة وعمر بن الخطاب يقومان على منبره، ولقاتلتهما بيدي، ولو لم أجد إلاَّ بُرْدِي هذا، ولكن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقتل قتلاً، ولم يمت فجأة، مكث في مرضه أيامًا وليالي، يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة، فيأمر أبا بكر فيصلِّي بالناس وهو يرى مكاني، ولقد أرادت امرأة من نسائه أنْ تصرفه عن أبي بكر، فأبى وغضب، وقال: " أنتن صواحب يوسف، مُرُوا أبا بكر يصلي بالناس "، فلما قبض الله نبيَّه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نظرنا في أمورنا، فاخترنا لدنيانا من رضيه نبي الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لديننا. وكانت الصلاة أصل الإسلام، وهي أمير الدين، وقوام الدين، فبايعنا أبا بكر، وكان لذلك أهلاً، ولم يختلف عليه منا اثنان ... فلما قبض تولاها عمر، فأخذها بِسُنَّةِ صاحبه، وما يعرف من أمره، فبايعنا عمر، ولم يختلف عليه منا اثنان ... فلما قبض تذكرت في نفسي قرابتي وسابقتي وسالفتي وفضلي، وأنا أظن ألاَّ يعدل بي، ولكن خشى ألاَّ يعمل الخليفة بعده ذنبًا إلاَّ لحقه في قبره، فأخرج منها نفسه وولده، ولو كانت مُحاباة منه لآثر بها ولده، فبرئ منها إلى رهط من قريش ستة أنا أحدهم، فلما اجتمع الرهط ظننت ألاَّ يعدلوا بي، فأخذ عبد الرحمن بن عوف مواثيقنا على أنْ نسمع ونطيع لمن وَلاَّهُ الله أمرنا، ثم أخذ بيد عثمان بن عفان، وضرب بيده على يده، فنظرتُ في أمري، فإذا طاعتي قد سبقت بَيْعَتِي، وإذا ميثاقي أخذ لغيري، فبايعنا عثمان، فأديت له حقه، وعرفت له طاعته، وغزوت معه في جيوشه، وكنت آخذ إذا أعطاني وأغزو إذا أغزاني، وأضرب بين يديه الحدود بسوطي. فلما أصيب نظرت في أمري، فإذا الخليفتان اللذان أخذاها بعهد رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهما بالصلاة قد مضيا، وهذا الذي أخذ له الميثاق قد أصيب، فبايعني أهل الحرمين، وأهل هذين المِصْرَيْنِ، فوثب فيها من ليس مثلي، ولا قرابته كقرابتي، ولا علمه كعلمي، ولا سابقته كسابقتي، وكنت أحق بها منه». اهـ. انظر " تاريخ الخلفاء القائمين بأمر الأُمَّة " للسيوطي: ص 119.

ومعاذ الله أنْ يروي ابن عباس ذاك الخبر، ولكن يد الوضع صنعته، لتثبت بالفقرة الأخيرة منه أحقية عليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بالخلافة .. ولتثبت ولايته العامة على الحج سَنَةَ براءة. ثالثاً: إنَّ هذا الخبر لم يرد في كتاب موثوق به، وقد نقله الكاتب عن كتاب " الموفقيات " للزبير بن بكار المشهور، وهو ثقة قد ألَّف تاريخه هذا للموفق بالله بن المتوكِّل الخليفة العباسي. إلاَّ أنه لم يذكر إسناده فسقط الاحتجاج به. وهكذا تبيَّن لنا ضعف هذا الخبر سنداً ومتناً: إلاَّ أنَّ المؤلف لم يأخذ ما ذكرناه مأخذاً سليماً ولم يعتبره، ورأى في هذا الخبر ما يُشفي غليله، ويشبع رغبته بتوجيه الطعن، لا إلى أبي هريرة وحده، بل إلى الخليفتين الراشدين - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ جَمِيعاً - فعقَّب على تلك الرواية بقوله: «فلله أبوه كيف استظهر على الخليفة بهذه الحُجَّةِ البالغة فأخذه من بين يديه ومن خلفه ومن جميع نواحيه حتى لم يبق في وسعه أنْ يثبت فأعرض وأسرع ولو أنَّ صاحبه كان هو الأمير في ذلك الموسم ـ كما يزعم أبو هريرة ـ ما لاذ إلى الاسراع بل كانت له الحُجَّةُ على ابن عباس وعمر كان مع أبي بكر إذ توجه ببراءة وإذ رجع من الطريق فهو من أعرف الناس بحقائق تلك الأحوال» (1). هذه إحدى النتائج التي يرمي إليها الكاتب من وراء ذاك الخبر؛ ولكن ابن عباس لم يأخذ الخليفة من بين يديه ومن خلفه ومن جميع نواحيه، لأنَّ شيئاً من هذا كله لم يكن، وإني على يقين من عدم صحة ذاك الخبر الذي بيَّنْتُ ضعفه، ومنافاته للذوق السليم والمنطق والمنهج العلمي، لوجود روايات صحيحة ثابتة ترده، وتقوم حُجَّةُ على المؤلف، وتبرِّئ ابن عباس مِمَّا ألصق به، وتنزه الخلفاء الثلاثة عن تلك التُّهم الباطلة التي وجهت إليهم، وتثبت مقام عليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وحُبَّهُ لهم، وتنفي كل افتراء عليه وعليهم، وإنَّ

_ (1) " أبو هريرة " لعبد الحسين: ص 168.

هذه الروايات ستأخذ الكاتب من بين يديه، وتسدُّ عليه كل منفذ، وتقوِّض كُلَّ حُجَّةٍ يدَّعيها في هذا الموضوع. ثم يتابع الكاتب عرض بعض الأخبار، ليدعِّم ما ذهب إليه من ولاية أمير المؤمنين عليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - للحج سَنَةَ براءة، وإنَّ جميع ما استشهد به مطعون في صِحَّتِهِ، والصحيح منه ينصُّ فقط على إرسال أمير المؤمنين عليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بأول سورة براءة. ثم يستنتج المؤلف بعد هذا ما يأتي فيقول: «ألا تراه كيف حَرَّفَ الحديث عن موضعه، وصرف الفضل فيه عن أهله متقرباً فيما حَرَّفَ الى اولياء الأمور، ومتحبباً فيما صَحَّفَ إلى سواد الجمهور اختلق لهم ما يروقهم من تأمير أبى بكر الصديق. وما أدرك ما فعل!؟ إنه أخرس بذلك ألسنة الثقات الأثبات عن معارضته، وألجم أفواههم أنْ تنبس في بيان الحقيقة ببنت شفة، خوفاً من تألُّب العامة ورعاع الناس. واشفاقاً من نكال أولي الأمر ووبالهم يومئذ؟ وما أدراك ما يومئذ؟!» (1). إنه يَتَّهِمُ أبا هريرة بتحريف الحديث عن موضعه، لأنه لم يختلق حديثاً يتمشَّى مع هوى المؤلف، ويوافق ميوله وما يصبو إليه، ويدَّعِي أنه انتقص الإمام، وصرف عنه ذلك الفضل الذي ادَّعَاهُ في رواية الطبرسي؛ كل هذا فعله أبو هريرة ليتقرَّب إلى الأمويِّين؟! وليتقرَّب إلى سواد الجمهور بما يروقهم؛ عَجَبٌ من المؤلف كيف يَدَّعِي هذا!!؟ ولِمَ يُرْضِ أبو هريرة الجمهور، ويكذب على رسول الله من أجل ذلك؟ أيخشى أبو هريرة الجمهور ولا يخشى الله ورسوله؟ هذا افتراء على أبي هريرة، وافتراء على الحق، واستخفاف بجمهور المسلمين، وَزَعُمٌ واضح منه أنهم على غير صواب فيما يعتقدون، وعلى غير هُدَى فيما يعترفون، إنه يتَّهم الجمهور في هذا ويجعلهم مِمَّنْ يمالئون السلطة .. وينساقون كما يريد .. ويتحامل على أولي الأمر فيُصَوِّرُهُمْ بالمُستبدِّين الغاشمين الطاغين. عَجَبٌ من المؤلف

_ (1) " أبو هريرة " لعبد الحسين: ص 180.

كيف يريد أنْ يقلب الحقائق التاريخية التي عرفها كل إنسان آنذاك، وعاصرها كثير من المسلمين، فيجعل أبا هريرة كذاباً يضع ما يروق للجمهور!! فهل الجمهور على خطأ في معرفتهم أم أنَّ بعض أهل الأهواء الذين دفعتهم ميولهم وأهواؤهم إلى الكذب والتلفيق وقلب الحقائق هم المخطئون!!؟ إنَّ الواقع والبحث العلمي شيء والانسياق وراء العاطفة والهوى شيء آخر، فللمرء أنْ يميل إلى أيِّ مبدأ أو إلى أي شخص، وله أنْ يحبه أو يكرهه، ولكن لا يجوز بأيِّ شكل أنْ يُحَرِّف الحقيقة، ويخالف الواقع، فأبو هريرة لم يكذب في هذا الخبر ولا في غيره، والجمهور في تأمير أبي بكر على الحج لم يختلقوا أخباراً من عندهم، إنما كانوا على الحق والصواب، لأنهم عاصروا ذلك وعرفوه ورفضوا كل خبر ينافي الحقيقة التاريخية الصادقة. ولهم في اعتقادهم هذا وأبو هريرة في خبره لم يمنعوا أحداً من أنْ يقول ما يعرف وما يعتقد، وقد كانت الحرية عامة، وكان المسلمون على جانب عظيم من الجُرأة في الحق، حتى إنَّ بعض النساء كُنَّ يُنَاقِشْنَ الخلفاء وَيَسْتَدْرِِكْنَ عليهم، والتاريخ يشهد بهذا، ولو كان أبو هريرة غير صادق في خبره لانبرت ألسنة الحق تُقَوِّمُهُ وتَرُدُّهُ إلى الصواب، وقد كان في الأمَّة أكابر الصحابة وعلماؤهم مِمَّنْ اعتزلوا الفتن، فلم يرد قط رَدَّ أحد منهم على أبي هريرة، وأكثر من هذا لم ينفرد أبو هريرة برواية هذا الخبر، بل رواه كثيرون، حتى إنَّ ابن سعد عندما يروي ذلك يقول (قالو) (1) وقد رواه ابن عمر (2) وأبو جعفر محمد بن علي - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - (3) وغيرهم، فهل هؤلاء جميعاً وضعوا الخبر تقرُّباً إلى أولياء الأمور!!؟ وأكثر من هذا اعتراف الإمام عليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بولاية أبي بكر العامة على الحج (4)، أفبعد هذا يحاول امرُؤٌ أنْ يقلب الحقائق ويُحَرِّفَ النصوص، ويطعن في أكابر الصحابة وفي علمائهم!!؟

_ (1) " طبقات ابن سعد ": 2: 1/ 120. (2) " طبقات ابن سعد ": 2: 1/ 125. (3) " سيرة ابن هشام ": 4/ 203. وانظر " تاريخ الطبري ": 2/ 382. (4) انظر " سيرة ابن هشام ": 4/ 203، و " تاريخ الطبي ": 2/ 382.

ثم يستنتج الكاتب ما يلي فيقول: «أراد أبو هريرة بحديثه هذا أنْ يجتاح المقام المحمود الذي رفع الله ورسوله يومئذ سُمْكَهُ مقام أمير المؤمنين في ذلك الموسم إذ كان يرمي إلى امرين. (أحدها) أنَّ المهمة التي جاء بها عَلِيٌّ انما كان أمرها بيد أبى بكر الصديق بسبب إمارته على الحج وولايته العامة تلك السَنَةِ على الموسم وإنَّ أبا بكر لم يكتف بِعَلِيٍّ في أداء المهمة حتى بعث أبا هريرة في رهط من أمثاله الأقوياء الأشداء!! اهتماماً بأدائها ... وحسبك في تزييف هذا أنَّ الله تعالى لم يَرَ أبا بكر نفسه أهلاً لأداء هذه المهمة فأرجعه عنها ... » (2). هكذا أراد المؤلف أنْ يُصَوِّرَ الحاديثة، وهذا ما استنتجه منها، وقد ظهر زيف ما ادَّعَى وبطلان ما زعم. تخيَّل المؤلف أنَّ أبا هريرة كان يسير بتوجيه الأمويين، وينزل على ما يحبون ويضع الحديث، وأدلى بِحُجَّتِهِ على ذلك فساق أخباراً لا ترقى إلى الصِحَّةِ والحقيقة فقال: «قال الامام أبو جعفر الاسكافي: إنَّ معاوية حمل قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في عَلِىٍّ تقتضي الطعن فيه والبراءة منه وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله، فاختلقوا له ما أرضاه، منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمُغيرة بن شُعبة، ومن التابعين عُروة بن الزيبر إلى آخر كلامه». وقال: «لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة جاء إلى مسجد الكوفة، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على رُكبتيه ثم

_ (1) يشير المؤلف إلى الحديث الذي ذكره في الصفحة 179 من كتابه عن أبي هريرة: «بعثني أبو بكر في الحَجَّةِ التي أَمَّرَهُ عليها رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل حَجَّةِ الوداع بسَِنَةٍ في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذِّنُونَ بِمِنَى: أَنْ لاَ يَحُجّ بَعْد الْعَام مُشْرِك وَلاَ يَطُوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان، ثُمَّ أَرْدَفَ رَسُولُ اللهِ بعَلِيٍّ فَأَذَّنَ مَعَنَا يَوْمَ النَحْرِ». يذكر هذا الحديث ويعلق عليه بأنه من تزوير أبي هريرة وتنميقه ليرضي رعاع الناس والسلطة الحاكمة. وأنَّ هذا الحديث صحيح أخرجه البخاري في " صحيحه ". انظر " البخاري بشرح السندي ": 3/ 76 وابن سعد في " طبقاته "، انظر: 2/ 120. (2) " أبو هريرة ": ص 170.

ضرب صلعته مراراً!! وقال: " يا أهل العراق .. أتزعمون أني أكذب على الله ورسوله (1) وأحرق نفسي بالنار؟ والله لقد سمعت رسول الله يقول: " إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَرَمًا وَإِنَّ الْمَدِينَةُ حَرَمِي فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ". قال: (واشهد بالله أنَّ عَلِياً أَحْدَثَ فيها!! فلما بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاَّهُ إمارة المدينة» [صفحة: 38 - 39]. وروى في هامش ص 39: «عن سفيان الثورى عن عبد الرحمن بن قاسم عن عمر بن عبد الغفار: أنَّ أبا هريرة لما قدم الكوفة مع معاوية كان يجلس بالعشيات بباب كِنْدَةَ، ويجلس الناس إليه فجاءه شاب من الكوفة ـ لعلَّه الأصبغ بن نباتة ـ فجلس إليه فقال: يا أبا هريرة .. أنشدك بالله أسمعت رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - يقول لعلي بن أبي طالب: اللهم وَالِ من والاه وعَادِ من عاداه؟ فقال: اللهم نعم. قال: فأشهد بالله لقد واليت عَدُوَّهُ وعاديت وَلِيَّهُ ثم قام عنه وانصرف» (2). هذه أخبار مختلفة استشهد بها المؤلف ليدعم زعمه أنَّ أبا هريرة كان عميلاً للأمويِّين، وَضَّاعاً للحديث. إلاَّ أنَّ هذه الأخبار مردودة سنداً ومتناً. أولاً: أما من حيث السند. فإنَّ ابن أبي الحديد صاحب " شرح نهج البلاغة " نقل هذه الأخبار عن شيخه محمد بن عبد الله أبو جعفر الإسكافي (- 240 هـ) وهو من أئمة المعتزلة المتشيِّعين، والعداء مستحكم بين المعتزلة وأهل الحديث من أواخر القرن الأول الهجري وأصبح متوارثاً. وأترك التعريف بأبي جعفر وتزكيته لتلميذه ابن أبي الحديث فيقول: ذكر

_ (1) إنَّ صاحب كتاب " أضواء على السُنَّة " ساق هذه الروايات في ص 190 - 191 وعلَّق في الهامش على هذا الخبر فقال: «يَدُلُّ هذا القول على أنَّ كذب أبي هريرة على النبي قد اشتهر حتى عَمَّ الآفاق لأنه قال ذلك وهو بالعراق وأنَّ الناس جميعاً كانوا يتحدَّثُون عن هذا الكذب في كل مكان» [هامش ص 190]. انظر إلى هذا المؤلف الذي أخذ عن أستاذه فبزَّهُ وتفوَّق عليه بالاستنتاجات الخيالية والأوهام الصورية. وكن له وقفة بين يدي الله تعالى. (2) يعلِّقُ صاحب " أضواء على السُنَّة " بعد هذا فيقول: «ثم قام عنه بعد أنْ صفعه هذه الصفعة الأليمة ... » إنه يريد أنْ ينتهز أيَّةَ فرصة ليصُبَّ غضبه على أبي هريرة لبغضه إيَّاهُ وحقده عليه.

شيخنا أبو جعفر الإسكافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - وكان من المُحقِّقين بموالاة عليٍّ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - والمُبالغين في تفضيله وإنْ كان القول بالتفضيل عاماً شائعاً في البغداديِّين من أصحابنا كافة إلاَّ أنَّ أبا جعفر أشدُّهُمْ في ذلك قولاً، وأخلصهم فيه اعتقاداً» (1). هذه شهادة تليمذ لأستاذه لا يرقى إليها الشك، ولا يعتريها الظن والتأويل، فالأستاذ من أهل الأهواء، الداعي إلى هواهُ، بل من المُتعصِّبين في ذلك، بشهادة أقرب الناس إليه وأعرفهم به. فإذا سبق لأمثاله أنْ كذَّبُوا الصحابة في الحديث بل في نقل القرآن فليس بعيداً أنْ يكذبوا على أبي هريرة ويفتروا عليه وعلى بعض الصحابة والتابعين. فروايته مردودة لسببين: الأول: ضعف الإسكافي لعاملين: الأول أنه معتزلي يناصب العداء لأهل الحديث، والثاني، أنه شيعي محترق. فقد اجتمع هذان العاملان فيه، ويكفي أحدهما لردِّ روايته. وبعد هذا لا يعقل أنْ تقبل الجرح والتعديل أو الرواية من رجل مطعون في عدالته، مشكوك في روايته يعادي أهل السُنَّة، فمن البداهة رفض روايته. الثاني: لم تذكر هذه الروايات في مصدر موثوق بسند صحيح. علماً بأنَّ الإسكافي لم يذكر لها سنداً فلن أقول إنها موضوعة، بل يكفي إنها ضعيفة لا يُحْتَجُّ بها. ثانياً: وأما من حيث المتن - فلم يثبت أنَّ معاوية حمل أحداً على الطعن في أمير المؤمنين عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، ولم يثبت عن أحد من الصحابة أنه تطوَّع في ذلك، أو أخذ أجراً مقابل وضع الحديث، والصحابة جميعاً أسمى وأرفع من أنْ ينحطُّوا إلى هذا الحضيض، ومعاذ الله أنْ يفعل هذا إنسان صاحب رسول الله وسمع حديثه وزجره عن الكذب، وإنَّ جميع ما جاءنا من هذه الأخبار الباطلة، إنما كان عن طريق أهل الأهواء الداعين

_ (1) " شرح نهج البلاغة ": 1/ 467 طبعة بيروت.

إلى أهوائهم المُتعصِّبين لمبادئهم، فتجرَّأوا على الحق، ولم يقيموا للصُحبة حرمتها، فتكلَّمُوا في خيار الصحابة واتَّهَمُوا بعضهم بالضلال والفسق، وقذفوا بعضهم بالكفر، وافتروا على أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم (1)، وقد كشف أهل الحديث عن هؤلاء الكذبة، لذلك ناصبت أكثر الفرق العداء أصحاب الحديث، فاخترعوا الأباطيل وأرادوا أنْ تفقد الأُمَّة الثقة بهم، وتتبَّعُوا أحوالهم، من ذلك ما فعله المعتزلة والروافض وبعض فرق الشيعة، ومن أراد الاطلاع على بعض هذا فليراجع كتاب " قبول الأخبار " للبلخي. ولكن الله أبى إلاَّ أنْ يكشف أمر هذه الفرق، ويميط اللثام عن وجوه المتستِّرين وراءها، فكان أصحاب الحديث هو جنود الله - عَزَّ وَجَلَّ -، بيَّنُوا حقيقة هؤلاء، وأظهروا نواياهم وميولهم، فما من حديث، أو خبر في صحابي، أو يُشَكِّكُ في عقيدة، أو يخالف مبادئ الدين الحنيف إلاَّ بين جهابذة هذا الفن يد صانعه، وكشفوا عن علَّته. فادِّعاء المؤلف مردود حتى يثبت زعمه بحُجَّةٍ صحيحة مقبولة. وكيف تتصوَّرُ معاوية يُحَرِّضُ الصحابة على وضع الحديث كذباً وبُهتاناً وزُوراً، ليطعنوا في أمير المؤمنين عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وقد شهد ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - لمعاوية بالفضل والعقل والفقه (2) وقد ذكر ذلك البخاري في " صحيحه ". فهل للمؤلف أنْ يتَّهم حبر الأُمَّة وعالمها بالكذب، أو بالتشيُّع لمعاوية (3)؟ هذا لا يمكن، وشهادة ترجمان القرآن صحيحة، وبذلك ننفي تُهمة المؤلف الأمين!! وقد افترى الإسكافي على الصحابة الذين ذكرهم، وبَيَّن ابن العربي في " العواصم من القواصم " جانباً من أمرهم وكانتهم وورعهم، كما بَيَّنَتْ كُتُبُ التراجم سيرتهم. ثم إنَّ روايات أهل الأهواء تسرَّبتْ إلى التاريخ الإسلامي، وخاصة ما يتعلَّق بأخبار الأمويِّين.

_ (1) انظر " العواصم من القواصم ": ص 182 - 183. (2) " فتح الباري ": 8/ 104 - 105. (3) انظر " أضواء على التاريخ ": ص 191 وما بعدها فللأستاذ محب الدين كلمة قَيِّمَةٌ في معاوية يجدر الاطلاع عليها.

لأنَّ كُتُبَ التاريخ كتبت بعد بني أمية فشوَّهتْ سيرتهم (1) ومع هذا لم يعدم التاريخ الرجال الأمناء المُخلصين، الذين دَوَّنُوا حوادثه بأسانيدها حتى يَتَبَيَّنَ المُطَّلِعُ الصحيحَ من الباطلِ، فليس كل خبر في كتاب يقبل ويؤخذ به، فلا بد من دراسته دراسة علميَّةٍ حسب منهج المُحَدِّثِينَ الدقيق - سنداً ومتناً. ثم إنا نستبعد صحة هذا الخبر، فإنَّ عُروة ولد سنة (22 هـ) فكان عمره في فتنة عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - (13 سَنَةً)، وعندما استشهد أمير المؤمنين عَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - (18 سَنَةً)، فمن يتصوَّرْ خليفة كمعاوية يحمل عروة بن الزبير ليضع أحاديث تطعن في عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -؟ ثم إنَّ عُروة نفسه كان يافعاً على عَتَبَةِ العلم لم يشتهر بعد. فكان أحرى بمعاوية - لو صَحَّ الخبر - أنْ يُغري من هو أشهر منه وأعلم من كبار الصحابة والتابعين. وإن قال قائل إنما استعان به أيام خلافته بعد استشهاد الخليفة الراشد الرابع، فالجواب بَدَهِيٌّ في أنَّ عروة كان حين وفاة معاوية ابن (38) ثمان وثلاثين سَنَةً، فَلِمَ يستفيد منه؟ وفي الأُمَّة كبار الصحابة والتابعين. أيفيد منه ليضع له الحديث كما زعم الكاتب؟ إنَّ كلمة المسلمين اجتمعت سَنَةَ (40) عام الجماعة حين بايع الحسن معاوية بالخلافة وثبتت دعائم الحكم، فلم تبق أية ضرورة للدعاية للأمويِّين وهم الحكام وبيدهم الزمام. ولو سلَّمنا جدلاً أنَّ عروة قد قام بما ادَّعاهُ المؤلف!! فهل يسكت عنه علماء الأُمَّة أصحاب رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وبينهم الأبطال الشُجعان وفيهم الأقوياء الأفذاذ؟ لقد كانت الأُمَّةُ الإسلامية واعية في ذلك العصر، عرف أبناؤها الحوادث جميعها وعاصروها واختبروها فلم تعد تخفى دقائقها على أحد، وعرف المسلمون قادتهم من صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يكن من السهل أنْ يُغيِّرَ وجه الحق بعضُ الصحابة والتابعين - كما زعم المؤلف - لإرضاء الخليفة وإشباع ميوله ورغباته. وإنَّ من يحاول إثبات صِحَّةَ هذا الخبر لَيَتَجَنَّى على الأُمَّة جميعها، ويجعل من عاصر

_ (1) " العواصم من القواصم ": ص 177.

تلك الحوادث بُلْهاً مُغَفَّلِينَ، يعمي عليهم الحق بالدعايات الكاذبة والأخبار الموضوعة، والواقع يثبت خلاف ذلك، ويثبت وضع الخبر وعدم صِحَّتِهِ. أما الخبر الثاني وهو قدوم أبي هريرة العراق، فإن رواية الإسكافي وقد عرفناه وعرفنا منزلة أخباره، ولو سلَّمنا - جدلاً - بصحة هذه الرواية، فإنَّ أبا هريرة يدفع عن نفسه ما أشاعه بعض خصوم الأمويِّين. ثم إنَّ الحديث الذي رُوِيَ عن أبي هريرة ينفي نفياً قاطعاً صحة هذه الرواية ويُبَيِّنُ زيفها. فقد روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المَدِينَةُ حَرَمٌ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلا صَرْفٌ» (1). فليس فيها تلك الزيادة التي اختلقتها أيدي الواضعين في ذم الإمام عَلِيٍّ لينال أبو هريرة أجره من معاوية - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ جَمِيعاً -. والمؤلف الأمين يحذف من الرواية بعضها وهو «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَرَمًا، وَإِنَّ حَرَمِيَ بِالْمَدِينَةِ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عِيرٍ وَثَوْرٍ» لأنَّ هذا القسم سينقض روايته وادِّعاءه لأنَّ الثابت عن أبي هريرة أنه لم يذكر هذا بل ذكره أمير المؤمنين عَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - في كلمة مشهورة له كما في " صحيح مسلم " (2) إلاَّ أنَّ الإسكافي ذكرها عن أبي هريرة (3) وهذا دليل آخر على سوء نياتهم وموقفهم من أبي هريرة خاصة وبعض الصحابة عامة. ثم إنَّ المؤلف نفسه يناقض بروايتاته ما يزعمه ويدَّعِيهِ. فقد زعم قبل قليل في الصفحة [25] من كتابه أنَّ بُسر بن أبي أرطأة وَلَّى ابا هريرة المدينة حين قدم إليها. وفي الصفحة [39] يقول: «لما بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاَّهُ إمارة المدينة»!! فأيُّ الخبرين يحب المؤلف أنْ نعتمد

_ (1) " صحيح مسلم ": 2/ 999 حديث 469. (2) انظر " صحيح مسلم ": 2/ 995 وما بعدها و 2/ 1147 وقد نقل صاحب " أضواء على السُنَّة " الرواية كاملة ظناً منه أنه يوفق لإثبات خطأ أبي هريرة ولم يفلح لأنها ليست من روايته. انظر صفحة [190] من كتابه. (3) " شرح نهج البلاغة ": 1/ 467.

ونأخذ به؟ أم أنَّ المؤلف يرى في الخبر الثاني توكيداً لإمارته على المدينة؟ إنَّ له ما أراد وما اختار من الروايات المتعارضة!!. وأما ما ذكره في الهامش من صفحة [39] رواية عن الثوري فقد نقلها إلينا أبو جعفر الإسكافي وجرَّبنا عليه الكذب والطعن في الصحابة فروايته هذه غير مقبولة من طريقه، وهناك رواية عن أبي هريرة ليست فيها الزيادة وَرَدِّ الشاب عليه «فأشهد بالله لقد واليتَ ... » التي ذكرها الإسكافي، فالرواية عن داود بن يزيد الأودي عن أبيه قال: دخل أبو هريرة المسجد فاجتمع إليه الناس فقام إليه شاب فقال: أنشدك بالله سمعت رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ»؟ قال: «إني أشهد أني سمعت رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ». رواه أبو يعلى والبزار بنحوه (1). إنَّ هذه الرواية تثبت مكانة أبي هريرة عند أهل العراق، إذ يستشهدونه عن سماعه لحديث مكانة عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بخلاف ما ذهب إليه الكاتب، وليس فيها تلك الزيادة التي ألحقت لحاجة في نفس صانعها، وحاول أنْ يُدَلِّسَ على الناس حقيقة الحديث ... وهكذا ينكشف أمر هؤلاء الذين خاضوا في الصحابة وأعراضهم وعدالتهم ودينهم ... ولم تكن هذه الحادثة صعفة أليمة (2) من ذلك الشاب لأبي هريرة، بل كانت صفعة قاضية من الحق لأعدائه!! ويتابع المؤلف افتراءه على أبي هريرة ويتَّهمه بالولاء للأمويِّين حتى زعم أنَّ أبا هريرة كان يرتجل الأحاديث يدافع بها عن منافقي بني أميَّة (3) الذين لعنهم رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ...

_ (1) " مجمع الزوائد ": ص 105، جـ 9 وقال: «وَفِي أَحَدِ إِسْنَادَيْ الْبَزَّارِ رَجُلٌ غَيْرُ مُسَمًّى، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ فِي الآخَرِ، وَفِي إِسْنَادِ أَبِي يَعْلَى (دَاوُدُ بْنُ يَزِيدَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ)» فالحديث صحيح في إحدى روايتي البزار. (2) إشارة لما قاله مؤلف " أضواء على السُنَّة المحمدية ": في الصفحة 191. (3) انظر كتاب " أبو هريرة " لعبد الحسين: ص 39.

8 - كمية حديثه: [ص 42 - 55]:

ولهذا عرف الأمويُّون فضله عندهم فعمل «مروان وبنوه في تعداد أسانيده وتكثير طرقه أعمالاً جبَّارة، لم يألفوا جُهداً، ولم يدَّخروا وسعاً. حتى أخرجه أصحاب الصحاح والسُنن والمسانيد. ولمروان وبنيه في رفع مستوى أبي هريرة وتفضيله على من سواه في الحفظ والضبط والإتقان والورع أعمال كان لها أثرها إلى يومنا هذا ... » [ص 40]، ثم يسوق قصة كاتب مروان حين كتب ما حدَّث به أبو هريرة، ويستشهد بالمشادة التي قامت بين مروان وأبي هريرة يوم وفاة الحسن والخلاف في مواراته في حُجْرَةِ الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ويرى أنَّ هذه مؤامرة للإشادة بحفظ أبي هريرة، وأفضليته في ذلك على كثير من الصحابة، ويرى أنَّ هذه المؤامرة الممثلة انتهت بتسليم مروان وخنوعه واعترافه بفضل أبي هريرة ومكانته وفي هذا يُرَوِّجُ - كما يزعم المؤلف - بضاعة أبي هريرة «التي كان مروان ومعاوية وبنوهما يحاربون بها الحسن والحُسين وأباهما وبنِيهِمَا، وكانت من أنجع الدعايات في تلك السياسات ... » [ص 42]. لقد سبق أنْ بيَّنتُ وجه الحق في هذه الحقائق التاريخية، وإنما نظر المؤلف إليها بمنظاره الأسود، من خلال نفسه وآرائه، فكانت صورة ناطقة عما يدور في ضميره وتنطوي عليه سريرته. ... 8 - كمية حديثه (1): [ص 42 - 55]: قال المؤلف: «أجمع أهل الحديث - كما في ترجمته من " الإصابة " وغيرها

_ (1) قديماً أخذ النَظَّامُ على أبي هريرة كثرة أحاديثه وتابعه بعض المعتزلة منهم أبو القاسم البلخي وتعرَّض لذلك في كتابه " قبول الأخبار ومعرفة الرُواة "، وقد رَدَّ ابن قتيبة على النظَّام في كتابه " تأويل مختلف الحديث ": صفحة 48، وبرَّأ أبا هريرة من تُهمة النظام. ومن المتأخرين عبد الحسين شرف الدين في كتابه " أبو هريرة " ونحن نناقشه ذلك، وكذلك " دائرة المعارف الإسلامية " نقلاً عن جولدتسيهر، ومحمود أَبُو رِيَّة في كتابه " أضواء على السُنَّة المحمدية ": ص 162، ويجمعهم جميعهم في ذلك هوى مُتَّبَعٌ ومآرب نفسية تخدم مبادئهم سواء أكانت طائفية أم تبشيرية. وقد تولى الدكتور مصطفى السباعي الرد على المستشرقين وعلى أبي رية في كتابه " السُنَّة ومكانتها في التشريع =

- على أنه أكثر الصحابة حديثاً، وقد ضبط الجهابذة من الحفظة الأثبات حديثه فكان خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين مسنداً، وله في " البخاري " فقط أربعمائة وستة وأربعون حديثاً. وقد نظرنا في مجموع ما روى من الحديث عن الخلفاء الأربعة فوجدناه بالنسبة إلى حديث أبي هريرة وحده أقل من السبعة والعشرين بالمائة، لأنَّ جميع ما روي عن أبي بكر إنماهو مائة واثنان وأربعون حديثاً، وكل ما أسند إلى عمر إنما هو خمسمائة وسبعة وثلاثون حديثاً، وكل ما لعثمان مائة وستة وأربعون حديثاً، وكل ما رَوَوْهُ عن عَلِيٍّ خمسمائة وستة وثمانون مسنداً، فهذه ألف وأربع وأحد عشر حديثاً، فإذا نسبتها إلى حديث أبي هريرة وحده - وقد عرفت أنه 5374 - تجد الأمر كما قلناه، فلينظر ناظر بعقله في أبي هريرة، وتأخُّره في إسلامه، وخموله في حسبه، وأميَّته، وما إلى ذلك مِمَّا يوجب إقلاله، ثم لينظر إلى الخلفاء الأربعة، وسبقهم، واختصاصهم، وحصوريهم تشريع الأحكام، وحسن بلائهم في اثنين وخمسين سَنَةً، ثلاث وعشرين كانت بخدمة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتسعة وعشرين من بعده، ساسوا فيها الأمَّة وسادوا الأمم ... فكيف يمكن والحال هذه أنْ يكون المأثور عن أبي هريرة وحده أضعاف المأثور عنهم جميعاً؟ أفتونا يا أولي الألباب؟! وليس أبو هريرة كعائشة وإنْ أكثرت أيضاً، فقد تزوَّجها رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل إسلام أبي هريرة بعشر سنين، فكانت في مهبط الوحي والتنزيل ومختلف جبرائيل وميكائيل أربعة عشر عاماً، وماتت قبل موت أبي هريرة بيسير». ثم وازن بينهما في الذكاء والفطنة، ثم قال: «على أنها اضطرت إلى نشر حديثها إذ بثت دعاتها في الأمصار، وقادت إلى البصرة ذلك العسكر

_ = الإسلامي ". وانظر كتاب " ظلمات أبي رية ": ص 162، و " الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السُنَّة المحمدية من الزلل والتضليل والمجازفة ": ص 152. و " المنهج الحديث ": ص 153 وكتاب " الحديث والمحدِّثون ": ص 153.

الجرَّار. ومع هذا فإنَّ جميع ما رُوِيَ عنها إنما هو عشرة مسانيد ومائتا مسند وألفا مسند، فحديثها كله أقل من نصف حديث أبي هريرة. ولو ضممت حديثها وحديث أم سلمة مع بقائها إلى ما بعد وقعة الطَفِّ وجمعت ذلك كله إلى حديث البقية من أمهات المؤمنين، وحديث سَيِّدَيْ شباب أهل الجنة، وسيِّدة نساء العالمين وحديث الأربعة من خلفاء المسلمين ما كان كله إلاَّ دون حديث أبي هريرة وحده! وهذا أمر مهول الفت إليه أرباب العقول ... ». ثم يطعن في حديث الوعاءين، ويستشهد بأقوال أبي هريرة في ذلك، ثم يقول: «قلت: إنَّ أبا هريرة لم يكن من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِِيَّ عهده، ولا خليفته من بعده، ليؤثره بأسراره، ويُفضي إليه من العلوم ما لم يفض بها إلى أحد من خاصَّته. وما الفائدة بإفضاء تلك الأسرار إليه؟ وهو رجل ضعيف ذو مهانة تمنعه أنْ ينبس في شيء منها ببنت شفة، فإذا نبس رجم بالحجارة، ورمي بالبعر وبالمزابل، وإذا حدَّثَ بشيء من تلك العلوم قطعوا منه البلعوم». ويستغرب كيف لا يفضي بها إلى الخلفاء من بعده؟ ويرى قول أبي هريرة «إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لاَ يَكْتُمُ، وَلاَ يَكْتُبُ» يعارض حديث حفظ الوعاءين، وهو صريح في أنه كان يكتم؛ ثم يستهزئ بما كتم أبو هريرة، ويتساءل: هل أحد الوعاءين من باب الأسرار الإلهية ... ثم يتساءل عن بعض أحاديث حَدَّثَ بها، وقد وردت في " الصحيحين "، وفهمهما الجمهور من غير لبس، وجميع أهل السُنَّة صِحَّتَهَا، ولكنه أراد أنْ يتهكَّمَ ويسخر من أبي هريرة (1) وإنَّ ضِيقَ تفكيره، وتحامله على اصحاب رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعله يفهم هذه الأحاديث فهماً خاطئاً، ويحملها على غير مواضعها. ثم يرى حديث أبي هريرة: «مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ الله بن عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُبُ» يعارض

_ (1) انظر " أبو هريرة ": ص 50 - 52.

كثرة حديث أبي هريرة، ويرى أنه إقرار صريح من أبي هريرة بأنَّ ابن عمرو أكثر منه حديثاً. وقد بلغ مسند عبد الله بن عمرو (700) حديثاً. ثم يزعم أنَّ العلماء حاروا في أمر أبي هريرة ولم يروا مخرجاً له، اللهم إلاَّ ما علَّله ابن حجر العسقلاني والشيخ زكريا الأنصاري، بأنَّ عبد الله بن عمرو وقطن مصر بينما سكن أبو هريرة المدينة مقصد المسلمين. ومع هذا يرى كلام أبي هريرة صريحاً يحبط تأويل واعتذار القسطلاني والأنصاري. ويعود ليقارن بين مقام أبي هريرة في المدينة وعبد الله بن عمرو في مصر ويغمز جانب أبي هريرة ويجعله من المتَّهمين عند من يفد إلى المدينة ويقول: «وكثيراً ما كانوا ينقمون عليه إكثاره على رسول الله فيقولون إنَّ أبا هريرة يكثر الحديث، ويقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدِّثون مثل حديثه ... ». وينتهي الباحث النزيه من تحقيقه هذا في كثرة أحاديث أبي هريرة إلى النتيجة الآتية حيث يقول: «والحق أنَّ أبا هريرة إنما اعترف (1) لعبد الله في أوائل أمره بعد رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين لم يكن مفرطاً هذا الإفراط الفاحش، فإنه إنما تفاقم إفراطه وطغى فيه على عهد معاوية حيث لا أبو بكر ولا عمر ولا عليٌّ ولا غيرهم من شيوخ الصحابة الذين يخشاهم أبو هريرة». من الغريب أنْ يعجب الكاتب لكثرة حديث أبي هريرة، ومن العجيب أنْ يثير هذا في القرن العشرين!! فهل يعجب من قوة ذاكرة أبي هريرة أنْ تجمع (5374) حديثاً؟ أم يعجب أنْ يحمل هذه الكثرة عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلال ثلاث سنوات؟. إذا كان يعجب من قوة حافظة أبي هريرة فليس هذا مجالاً للدهشة والطعن، لأنَّ كثيراً من العرب قد حفظوا أضعاف أضعاف ما حفظه أبو هريرة، فكثير من الصحابة حفظوا القرآن الكريم والحديث والأشعار،

_ (1) يشير المؤلف إلى حديث أبي هريرة: «مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي».

فماذا يقول المؤلف في هؤلاء؟ ماذا يقول في حفظ أبي بكر أنساب العرب؟ وعائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - شعرهم؟ وماذا يقول صاحبنا في حماد الراوية الذي كان أعلم الناس بأيام العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها؟ وماذا يقول فيه إذا علم أنه روى على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات، من شعر الجاهلية دون الإسلام (1)؟ وماذا يقول في حفظ حبر الأمَّة عبد الله بن عباس؟ فحفظ أبي هريرة ليس بدعاً وليس غريباً وخاصة إذا عرفنا أنَّ تلك الأحاديث الـ (5374) مروية عنه ولم تسلم جميع طرقها. فأبو هريرة لا يتهم في حفظه وكثرة حديثه من هذا الوجه. وإذا كان المؤلف يعجب من تحمل أبي هريرة هذه الأحاديث الكثيرة عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلال ثلاث سنوات، فقد غاب عن ذهنه أنَّ أبا هريرة صاحب الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سنوات ذات شأن عظيم، جرت فيها أحداث اجتماعية وسياسية وتشريعية هامة، وفي الواقع أنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد تفرَّغ تلك السنوات للدعوة والتوجيه بعد أنْ هادنته قريش، ففي السنة السابعة وما بعدها انتشرت رسله في الآفاق ووفدت إليه القبائل من جميع أطراف جزيرة العرب. وأبو هريرة في هذا كله يرافق الرسول - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، ويرى بعينيه، ويسمع بأذنية، ويعي بقلبه. ثم إنَّ ما رواه لم يكن جميعه عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل روى عن الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - ورواية الصحابة عن بعضهم مشهورة مقبولة لا مأخذ عليها، فإذا عرفنا هذا زال العجب العجاب الذي تصوره المؤلف. ومن الخطأ الفاحش أنْ يقارن الخلفاء الراشدون وأبو هريرة في مجال الحفظ وكثرة الرواية. لأسباب كثيرة أهمها: أولاً: صحيح أنَّ الصِدِّيق والفاروق وذا النورين وأبا الحسن - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - سبقوا أبا هريرة في صُحبتهم وإسلامهم، ولم يرو عنهم مثل ما روى عنه. إلاَّ أنَّ هؤلاء اهتمُّوا بأمور الدولة وسياسة الحكم، وأنفذوا العلماء

_ (1) انظر " الأعلام ": 2/ 301.

والقُرَّاء والقضاة إلى البلدان، فأدُّوا الأمانة التي حملوها، كما أدى هؤلاء الأمانة في توجيه شؤون الأمَّة. فكما لا نلوم خالد بن الوليد على قِلَّةِ حديثه عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لانشغاله بالفتوحات لا نلوم أبا هريرة على كثرة حديثه لانشغاله بالعلم، وهل لأحد أنْ يلوم عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أو عبد الله بن عباس لأنهما لم يحملا لواء الفتوحات؟ فكل امرئ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له. ثانياً: انصراف أبي هريرة إلى العلم والتعليم واعتزاله السياسة، واحتياج الناس إليه لامتداد عمره، يجعل الموازنة بينه وبين غيره من الصحابة السابقين أو الخلفاء الراشدين غير صحيحة، بل ذات خطأ كبير. ثم إنَّ الباحث يطعن عليه في هذا المجال في حَسَبِهِ ونَسَبِهِ وأمِيَّتِهِ، فهل لهذه النواحي أثر في كثرة الرواية وقلَّتها؟ لم يقل بهذا أحد. وما رَدَدْنَا به عليه بالنسبة لمقارنته بالخلفاء الراشدين، يرد بالنسبة لمقارنته بالسيدة عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، ونضيف أنَّ السيدة عائشة كانت تُفتي للناس في دارها، وأما أبو هريرة فقد اتَّخذ حلقة له في المسجد النبوي، كما كان أكثر احتكاكاً بالناس من السيدة أم المؤمنين بصفته رجلاً كثير الغدو والرواح. وأضيف إلى هذا أنَّ السيدة الجليلة كان جل هَمِّهَا موجَّهاً نحو نساء المؤمنين، وكان يتعذَّرُ دخول كل إنسان عليها. ومع هذا فإنَّ المؤلف النزيه لم يكفَّ لسانه عنها، بل رأى أنها أكثرت أيضاً!!؟ وهو في هذا يناقض نفسه. أما أنه يرى حديث أبي هريرة أكثر من حديث السيدة عائشة وأم سلمة وحديث بقية أمهات المؤمنين والحَسَنَيْن وأمَّهُمَا مع حديث الخلفاء الأربعة، فقد سبق أنْ أجبتُ على ذلك، وأضيف أنَّ أم سلمة لم تكن مرجعاً للناس كالسيدة عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، وأما الحسنان فهما صغار الصحابة، وقد اشتغلا في الأمور السياسية، فبدهيٌّ أنْ تكون مروياتهما قليلة، ومثل هذا يقال في سيِّدة نساء العالمين أمُّهُمَا، التي توفيت بعد وفات رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بستة شهور. فالأمر ليس مهولاً، يحتاج إلى تفكير أرباب العقول كما ادَّعَى؟؟ وهل يقصد بأرباب العقول النَظَّام والجاحظ!؟.

إنَّ نظرة مجرَّدة عن الهوى تدرك أنَّ ما رُوِيَ عن أبي هريرة من الأحاديث لا يثير العجب والدهشة، ولا يحتاج إلى هذا الشغب الذي اصطنعه أهل الأهواء، وأعداء السُنن، وإنَّ ما رواه عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سواء سمعه منه أو من الصحابة لا يشك فيه لِقِصَرِ صُحْبته، بل إنَّ صُحبته تحتمل أكثر من هذا، لأنها كانت في أعظم سنوات دولة الإسلام دعوة ونشاطاً وتعليماً وتوجيهاً في عهد رسول الله - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -. أما طعن المؤلف في حدين الوعاءين، وتهكُّمَهُ على أبي هريرة، واستهزاؤه بما في وعائه من العلم الذي لم ينشره، وتساؤله عن ذلك العلم، كل هذا قد طرقه العلماء قبله وبيَّنُوا أنَّ ما عنده مِمَّا لم ينشر لا يتعلق بالأحكام أو الآداب، وليس مِمَّا يقوم عليه أصل من أصول الدين، بل بعض أشراط الساعة، أو بعض ما يقع للأمَّة من الفتن (1) ويدل على ذلك حديثه الذي ذكر بعضه المؤلف الأمين!! ولم يذكر تعليق راويه الذي يبيِّنُ قصد أبي هريرة، قال أبو هريرة: «لَوْ حَدَّثْتُكُمْ بِكُلِّ مَا فِي جَوْفِي لَرَمَيْتُمُونِي بِالْبَعْرِ». وَقَالَ الْحَسَنُ - رَوِاي الحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -: «صَدَقَ وَاللَّهِ .. لَوْ أَخْبَرَنَا أَنَّ بَيْتَ اللَّهِ يُهْدَمُ وَيُحْرَقُ مَا صَدَّقَهُ النَّاسُ!!» (2). وأبو هريرة ليس بدعاً في قوله. فقد كان رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يختص بعض أصحابه بأشياء دون الآخرين، من هذا حديثه لمعاذ بن جبل - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - «مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ، إِلاَّ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ». قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلاَ أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: «إِذًا يَتَّكِلُوا» (3). وأخبر به معاذ عند موته تأثُّماً، خوفاً من أنْ يكون قد كتم العلم. ولم يكن معاذ ولِيَ عهده ولا خليفته من بعده، فالأمر لا يحتاج إلى ولاية عهد ولا إلى وصاية، فَلِمَ ينكر الكاتب مثل هذا على أبي هريرة ولا ينكره على غيره؟ ثم ليعرف المؤلف الذي

_ (1) راجع ص 119 وما بعدها من هذا الكتاب وراجع " فتح الباري ": ص 227، جـ 1 و " الرد على المنطقيين ": ص 445 - 446. (2) " طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 57 و 2: 2/ 119. (3) " فتح الباري ": ص 236، جـ 1.

أساء كثيراً إلى أبي هريرة، وشتمه وكال له السِبَابَ كيلاً - أنَّ كتمان أبي هريرة لهذا الوعاء لم يكن لخوفه ألا يسمع الناس له لمهانته وضعفه فيرموه بالبعر وبالمزابل، بل لأنه أرأد أنْ يُحَدِّثَ على قدر عقولهم، وأنْ يخاطبهم بما يفهمون ويعرفون، وبذلك أوصى أمير المؤمنين عليٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - (1). أما قول أبي هريرة: «إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لاَ يَكْتُمُ، وَلاَ يَكْتُبُ»، فلا يتعارض مع حديث الوعاءين لأنَّ أبا هريرة لا يكتم العلم النافع الضروري، وما كتمه أبو هريرة لم يكن من هذا، بل كان بعض أخبار الفتن والملاحم وما سيقع للناس مِمَّا لا يتوقف عليه شيء من أصول الدين أو فروعه. - أما استشهاد المؤلف بحديث أبي هريرة: «مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ الله بن عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُبُ» وبمرويات ابن عمرو التي لا تتجاوز سبعمائة حديث - على أنَّ ابن عمرو أكثر من أبي هريرة حديثاً، وأنَّ أبا هريرة بذلك يُقِرُّ ويعترف بتقوله على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما لم يقل - فهو استشهاد في غير موضعه، بُنِيَ على تصوُّرٍ خاطئٍ، وفهم للحديث على خلاف الواقع. إنَّ الحديث يدل على أنَّ عبد الله بن عمرو كان أكثر أخذاً للحديث من أبي هريرة، لأنه كان يكتب وأبو هريرة لا يكتب. ويحتمل أنْ يكون قول أبي هريرة هذا في حياة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أنْ يدعو له بالحفظ، وكان يعيده في كل مناسبة تقع له. وإذا استبعدنا هذا الفرض فكل ما في الأمر أنَّ عبد الله بن عمرو حمل من الحديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر من أبي هريرة إلاَّ أنه لم يتيسَّرْ له نشره لأسباب نُبَيِّنُهَا بعد قليل. ولابن حجر رأي أُبَيِّنُهُ فيما يلي: قال: «قَوْله: (فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُب وَلاَ أَكْتُب) هَذَا اِسْتِدْلاَل مِنْ أَبِي هُرَيْرَة عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَكْثَرِيَّة مَا عِنْد عَبْد اللَّه

_ (1) " فتح الباري ": ص 235، جـ 1.

بْن عَمْرو أَيْ: اِبْن الْعَاصِ عَلَى مَا عِنْده: وَيُسْتَفَاد مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة كَانَ جَازِمًا بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّحَابَة أَكْثَر حَدِيثًا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ إِلاَّ عَبْد اللَّه، مَعَ أَنَّ الْمَوْجُودَ الْمَرْوِيَّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو أَقَلّ مِنْ الْمَوْجُودِ الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَة، فَإِنْ قُلْنَا الاِسْتِثْنَاء مُنْقَطِع فَلاَ إِشْكَال، إِذْ التَّقْدِير: لَكِنَّ الَّذِي كَانَ مِنْ عَبْد اللَّه وَهُوَ الْكِتَابَة لَمْ يَكُنْ مِنِّي، سَوَاء لَزِمَ مِنْهُ كَوْنَهُ أَكْثَر حَدِيثًا لِمَا تَقْتَضِيه الْعَادَة أَمْ لاَ. وَإِنْ قُلْنَا الاِسْتِثْنَاء مُتَّصِلٌ فَالسَّبَب فِيهِ مِنْ جِهَات: أَحَدهَا: أَنَّ عَبْد اللَّه كَانَ مُشْتَغِلاً بِالْعِبَادَةِ أَكْثَرَ مِنْ اِشْتِغَاله بِالتَّعْلِيمِ فَقَلَّتْ الرِّوَايَة عَنْهُ. ثَانِيهَا: أَنَّهُ كَانَ أَكْثَر مُقَامُهُ بَعْد فُتُوح الأَمْصَار بِمِصْرَ أَوْ بِالطَّائِفِ وَلَمْ تَكُنْ الرِّحْلَة إِلَيْهِمَا مِمَّنْ يَطْلُبُ الْعِلْمَ كَالرِّحْلَةِ إِلَى الْمَدِينَة، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة مُتَصَدِّيًا فِيهَا لِلْفَتْوَى وَالتَّحْدِيث إِلَى أَنْ مَاتَ، وَيَظْهَر هَذَا مِنْ كَثْرَة مَنْ حَمَلَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، فَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيّ أَنَّهُ رَوَى عَنْهُ ثَمَانمِائَةِ نَفْس مِنْ التَّابِعِينَ، وَلَمْ يَقَع هَذَا لِغَيْرِهِ. ثَالِثهَا: مَا اُخْتُصَّ بِهِ أَبُو هُرَيْرَة مِنْ دَعْوَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ بِأَنْ لاَ يَنْسَى مَا يُحَدِّثهُ بِهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا. رَابِعُهَا: أَنَّ عَبْد اللَّه كَانَ قَدْ ظَفِرَ فِي الشَّام بِحِمْلِ جَمَل مِنْ كُتُب أَهْل الْكِتَاب فَكَانَ يَنْظُر فِيهَا وَيُحَدِّث مِنْهَا فَتَجَنَّبَ الأَخْذَ عَنْهُ لِذَلِكَ كَثِير مِنْ أَئِمَّة التَّابِعِينَ». اهـ (1). أضيف إلى هذا أنَّ عبد الله بن عمرو كان ينتقل بين مصر والشام والطائف، وكثيراً ما كان يتردَّدُ على الطائف ليشرف على الوهط (الكرم) الذي كان لأبيه، وقد ساومه معاوية بن أبي سفيان من أجله على مال كثير فأبى أنْ يبيعه بشيء (2). وقد عزا التنافر الذي كان بينهما إلى هذه الحادثة (3).

_ (1) " فتح الباري ": ص 217، جـ 1. (2) " الأموال ": ص 301 وكان هذا الكرم عظيماً على ألف ألف خشبة. (3) قد تكون هذه الحادثة أحد الأسباب للتنافر بينهما، ومشهور عن عبد الله بن عمرو =

ولا بد هنا من أنْ أبيِّنَ أنَّ عبد الله بن عمرو لم يفسح له مجال التحديث في عهد معاوية وابنه يزيد، لأنه لم يكن على وفاق دائم مع معاوية، وربما منعه معاوية وابنه، من ذلك مارواه الإمام أحمد من طريق شهر قال: «أَتَى عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو عَلَى نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ وَهُوَ يُحَدِّثُ، فَقَالَ: حَدِّثْ، فَإِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنِ الْحَدِيثِ»، قَالَ: «مَا كُنْتُ لأُحَدِّثُ وَعِنْدِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ مِنْ قُرَيْشٍ» (1). وقول عبد الله بن عمرو: «إِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنِ الْحَدِيثِ» لا يريد به ما يظنه أعداء السُنَّة أنَّ هذا النهي من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. إنما يريد به نهي معاوية وابنه يزيد كما بَيَّنَتْهُ رواية ثانية فيها: فَجَاءَهُ رَسُولُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ: أَنْ أَجِبْ، قَالَ: «هَذَا يَنْهَانِي أَنْ أُحَدِّثَكُمَا كَمَا كَانَ أَبُوهُ يَنْهَانِي» (2) فربما فعل ذلك يزيد أيضاً مخافة أنْ يؤلِّبَ عبد الله الناس على بني أمية. تلك أسباب هامة في قلة ما رُوِيَ عن عبد الله بن عمرو بن العاص، بالنسبة لما تحمله عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تنفي ما زعمه المؤلف من «أنَّ أبا هريرة إنما اعترف لعبد الله في أوائل أمره بعد رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حين لم يكن مفرطاً هذا الإفراط الفاحش، فإنه إنما تفاقم إفراطه وطغى فيه على عهد معاوية ... ». وإنَّ قلة مرويات عبد الله بن عمرو لم تعد تثير أي شك، أو تدخل أية شبهة على مرويات ابي هريرة الكثيرة بالرغم من تصريحه عن كثرة حديث ابن عمرو، بعد أنْ عرفنا تلك الأسباب التي كان لها أثر بعيد في قلة مروياته .. ...

_ = أنه كان قد رَدَّ على معاوية بعد صِفِّينْ رَدًّا قوياً، رَوَى عَبْدُ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: إِنِّي لأُسَايِرُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمُعَاوِيَةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو لِعَمْرٍو: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ " - يَعْنِي عَمَّارًا -» فَقَالَ عَمْرٌو لِمُعَاوِيَةَ: «اسْمَعْ مَا يَقُولُ هَذَا»، فَحَدَّثَهُ، فَقَالَ: «أَنَحْنُ قَتَلْنَاهُ؟ إِنَّمَا قَتَلَهُ مَنْ جَاءَ بِهِ»!! راجع " مسندا لإمام أحمد ": ص 64، جـ 10. وص 155 و 156، جـ 11 بإسناد صحيح. (1) " مسندا لإمام أحمد ": ص 172، جـ 11 رقم 6952 بإسناد صحيح. (2) المرجع السابق: ص 172، جـ 11 رقم 6865 بإسناد ضعيف.

موقف الصحابة من أبي هريرة:

موقف الصحابة من أبي هريرة: ذكر إبراهيم بن سيَّار النظَّام أبا هريرة فقال: أكذبه عمر وعثمان وعَلِيٌّ وعائشة (1) - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -. وقال بشر المريسي عن عمر بن الخطاب أنه قال: «أَكْذَبُ المُحَدِّثِينَ أَبُو هُرَيْرَةَ» (2). قال الأستاذ أحمد أمين: «وقد أكثر بعض الصحابة من نقده - أبي هريرة - على الإكثار من الحديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشَكُّوا فيه، كما يدل على ذلك ما روى مسلم في " صحيحه " أنَّ أبا هريرة قال: " إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... " وفي حديث آخر: " يَقُولُونَ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدْ أَكْثَرَ ... "» (3). وقال عبد الحسين شرف الدين: «أنكر الناس على أبي هريرة واستفظعوا حديثه على عهده، وحسبك أنَّ في مُكَذِّبِيهِ عظماء الصحابة ... » (4). ثم قال:: «وبالجملة فإنَّ إنكار الأجِلاَّء - من الصحابة والتابعين - عليه واتهامهم إياه مِمَّا لا ريب فيه ما تورع منهم عن ذلك أحد حتى مضوا لسبيلهم، وإنما تورَّع الجمهور مِمَّنْ جاء بعدهم إذ قرَّرُوا القول بعدالة الصحابة أجمعين أكتعين أبصعين، ومنعوا من النظر في شؤونهم، وجعلوا ذلك من الأصول المتَّبعة وجوباً، فاعتقلوا العقول بهذا، وسملوا العيون، وجعلوا على القلوب أكِنَّةً وعلى الأسماع وَقْراً فاذاهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} (5). _______ (1) " تأويل مختلف الحديث ": ص 27. (2) " رد الدارمي على بشر المريسي ": ص 132. (3) " فجر الإسلام ": ص 218. (4) " أبو هريرة ": ص 262 - 264. (5) [البقرة: 18].

[أ] أبو هريرة وعمر بن الخطاب:

حاشا ائمة أهل البيت عليهم السلام فانهم أنزلوا الصحابة حيث أنزل الصحابة أنفسهم فرأيهم في أبي هريرة لم يعد رأي عليٍّ وعمر وعثمان وعائشة وتبعهم في هذا شيعتهم كافة القدماء منهم والمتأخِّرون من عهد أمير المؤمنين إلى يومنا هذا، ولعل جُلَّ المعتزلة على هذا الرأي. قال الامام ابو جعفر الاسكافي ما هذا نصه: " وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضي الرواية، (قال) ضربه عمر بالدُرَّةِ، وقال: قد اكثرت من الرواية وأحْرَ بِكَ أنْ تكون كاذباً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... » (1). رَأْيُ أبي رية: أورد أَبُو رِيَّة بعض الأقوال السابقة، وساق بعض استدراكات الصحابة على أبي هريرة، واستشهد بفقرات لجولدتسيهر و (شبرنجر)، وسرد أقوالاً مختصرة لبعض ما دار بين الصحابة وأبي هريرة لِيُكَوِّنَ من ذلك رأيه في أبي هريرة ويجعله أول راوية اتُّهِمَ في الإسلام (2). مِمَّا سبق تتبيَّنُ لنا الشُبَهُ التي أوردها بعضهم على موقف الصحابة من أبي هريرة، وقد ساقوا تلك الشُبه من غير أنْ يُبَيِّنُوا لنا أسبابها، وإنْ بَيَّنَ بعضهم ذلك فإنما يحمل الحادثة على غير محملها. لذلك سأُبَيِّنُ موقف الصحابة من أبي هريرة وحديثه، وقد اضطر إلى ذكر بعض الأحاديث والأخبار التي دارت بينهم، أو اختلفوا من أجلها، لأكشف عن حقيقة أمرهم من راوية الإسلام، ولا بد لي أنْ أشير إلى أنَّ الصحابة لم يقفوا من أبي هريرة موقفاً خاصاً كما أنهم لم ينظروا إليه من زاوية معيَّنة، أو بمنظار الشك والريبة. ولن أطيل بأكثر مِمَّا يُحدِّدُهُ المقام ويقتضيه البحث. [أ] أبو هريرة وعمر بن الخطاب: لم يثبت قط أنَّ عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ضرب أبا هريرة بدُرَّته لأنه أكثر الحديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأما ما ذكره أَبُو رِيَّة

_ (1) " أبو هريرة ": ص 267 - 268. وقد بيَّنتُ في بحث «عدالة الصحابة» أدلة عدالتهم والآراء في هذا فلتراجع الصفحة 30 وما بعدها. (2) " أضواء على السُنَّة المحمدية ": ص 166 - 172.

في صفحة [163] وما ذكره عبد الحسين في [ص 268] من ضرب عمر لأبي هريرة فهي رواية ضعيفة لأنها من طريق أبي جعفر الإسكافي وهذا غير ثقة. وأما تهديد عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لأبي هريرة بالنفي وهو ما رواه السائب بن يزيد إذ قال: «سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة: " لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ عَنِ رَسُولِ اللَّهِ أَوْ لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ دَوْسٍ "، وَقَالَ لِكَعْبِ الأَحْبَارِ: " لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ عَنِ الأُوَلِ أَوْ لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ القِرَدَةِ "» (1) هذا ما جاء في " تاريخ ابن كثير "، بينما ذكر عبد الحسين وأَبُو رِيَّة أنه قال لأبي هريرة: «لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ دَوْسٍ أَوْ بِأَرْضِ القِرَدَةِ» نقلاً عن ابن عساكر، وابن عساكر بَرَاءٌ من هذه الرواية فكل ما فيه: عن السائب بن يزيد قال: «سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة: " لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ عَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ دَوْسٍ "، وَقَالَ لِكَعْبٍ: " لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيثَ أَوْ لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ القِرَدَةِ "» (2). فلم يحسن عبد الحسين النقل!!. أما أَبُو رِيَّة فقد أشار إلى " البداية والنهاية " وليس فيها هذا. وَنَهْيُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لم يكن خاصاً بأبي هُريرة بل ذلك كان منهاجه خوفاً من الوقوع في الخطأ. ثم إنَّ ابن كثير بعد أنْ ذكر هذه الرواية قال: «وَهَذَا مَحْمُولٌ مِنْ عُمَرَ عَلَى أَنَّهُ خَشِيَ مِنَ الأَحَادِيثِ الَّتِي يَضَعُهَا النَّاسُ عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، وَأَنَّهُمْ يَتَّكِلُونَ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ أَحَادِيثِ الرُّخْصِ، أَوْ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَكْثَرَ مِنَ الْحَدِيثِ رُبَّمَا وَقَعَ فِي أَحَادِيثِهِ بَعْضُ الْغَلَطِ أَوِ الْخَطَأِ فَيَحْمِلُهَا النَّاسُ عَنْهُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ». اهـ. وَنُقِلَ إِلَيْنَا أَنَّ عُمَرَ أَذِنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي التَحْدِيثِ بعد أنْ عرف ورعه وخشيته الخطأ. قاَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «بَلَغَ عُمَرَ حَدِيثِي، فَأَرْسَلَ إِلَيَّ فَقَالَ: كُنْتَ مَعَنَا يَوْمَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِ فُلاَنٍ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، وَقَدْ عَلِمْتُ لِمَ سَأَلَتْنِي عَنْ ذَلِكَ. قَالَ: وَلِمَ سَأَلْتُكَ؟ قُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَئِذٍ: " مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا

_ (1) " البداية والنهاية ": ص 106، جـ 8. (2) ابن عساكر: ص 486، جـ 47.

فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ". قَالَ: إِمَّا إِذًا فَاذْهَبْ فَحَدِّثْ» (1). وفي رواية قال له عمر: «حَدِّثْ الآنَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا شِئْتَ» (2)، وفي رواية: «أَمَا لِي، فَاذْهَبْ فَحَدِّثْ» (3)، ونحن نرى في كل هذا أنَّ عمر لم يطعن في أبي هريرة، ولو أنه اتَّهمه كما ادَّعى النظَّام وغيره، لكان قال له: (لتتركن الكذب على رسول الله)، ولكنه لم يقل ذلك، وكل ما صدر عن أمير المؤمنين إنما كان من باب سياسته في تطبيق منهجه في التثبُّت في السُنَّة والإقلال من الرواية. وأبو هريرة نفسه يروي تطبيق الفاروق لمنهجه، إلاَّ أنَّ أَبَا رِيَّة وأستاذه عَبْدَ الحُسَيْن لم ينقلا النص الكامل لروايته فَبَدَتْ مُشَوَّهَةً وخاصة عند أبي رِيَّةَ ص [163] إذ يقول: «ومن أجل ذلك كثرت أحاديثه بعد وفاة عمر وذهاب الدرة إذ أصبح لا يخشى أحداً بعده»، ومن قوله في ذلك: «إِنِّي أُحَدِّثُكُمْ بِأَحَادِيثَ لَوْ حَدَّثْتُ بِهَا زَمَنَ عُمَرَ لضَرَبَنِي (4) بِالْدُرَّةِ» - وفي رواية - «لَشَجَّ رَأْسِي». وعن الزُهري عن أبي سلمة: سمعت أبا هريرة يقول: «مَا كُنَّا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَقُولَ: قَالَ رَسُولُ الْلَّهِ حَتَّىَ قُبِضَ عُمَرُ!» ثم يقول: «أَفَكُنْتُ مُحَدِّثُكُمْ بِهَذِهِ الأَحَادِيْثِ وَعُمَرُ حَيٌّ؟ أَمَا وَاللَّهِ إِذَنْ لأَيْقَنْتُ أَنَّ الْمَخْفِقَةٍ سَتُبَاشِرُ ظَهْرِي فَإِنَّ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: " اشْتَغَلُوا بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ "». لم ينقل أَبُو رِيَّة إلاَّ ما يفيده في إثباب رأيه في أبي هريرة، وترك ما ينقض كلامه ورأيه. فقد ذكر ابن كثير بعد قول أبي هريرة: «حَتَّىَ قُبِضَ عُمَرُ» رواية عن الزُهري، فيها قال: قال عمر: «أَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ الْلَّهِ - صَلَّىَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلاَّ فِيمَا يُعْمَلُ بِهِ» قال: ثم يقول أبو هريرة: «أَفَكُنْتُ مُحَدِّثُكُمْ بِهَذِهِ الأَحَادِيْثِ وَعُمَرُ حَيٌّ؟» إلخ، ثم قال: وَلِهَذَا لَمَّا بَعَثَ أَبَا مُوسَى إِلَى الْعِرَاقِ قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا لَهُمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ دَوِيٌّ بِالْقُرْآنِ

_ (1) " البداية والنهاية ": ص 107، جـ 8. و " سير أعلام النبلاء ": ص 434، جـ 2. (2 و 3) ابن عساكر: ص 487، جـ 47. (3) هذه الأخبار جميعها وأمثالها ساقها أبو القاسم البلخي في كتابه " قبول الأخبار ومعرفة الرُواة " للطعن في أبي هريرة فلم يفلح، انظر: ص 57 - 58 وبعضها ضعيف وبعضها لا إسناد له.

كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَدَعْهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَلاَ تَشْغَلْهُمْ بِالأَحَادِيثِ، وَأَنَا شَرِيكُكَ فِي ذلك» (1). هذا معروف عن عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. فسياسة عمر هذه لم تكن خاصة لأبي هريرة وحده بل كانت عامة. وهناك ما يثبت أنَّ عمر لم يكذبه ولم يطعن فيه، ولم يُهَدِّدْهُ بالنفي إلى جبال دوس، فقد سبق أنْ سُقْتُ رواية صحيحة للإمام أحمد وفيها أنَّ عمر سأل من كان معه في طريق مكة عن الريح عندما اشتدت فلم يجبه أحد، وعندما علم أبو هريرة بسؤال أمير المؤمنين استحثَّ راحلته حتى أدركه فقال: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أُخْبِرْتُ أَنَّكَ سَأَلْتَ عَنِ الرِّيحِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللهِ ... " الحديث» (2). هذه الحادثة تنفي كل ما رُوِيَ من تكذيب عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لأبي هريرة أو الطعن في حديثه، أو تهديده بالنفي .. وذلك من وجهين: أولاً - هل يعقل أنْ يستحثَّ أبو هريرة السير إلى عمر، ليحدِّثه لو كان قد صدر من عمر شيء مِمَّا ذكرت؟، لو كان مثل هذا قد صدر - ما حَدَّثَ أبو هريرة أمير المؤمنين، إذ يكون قد اقتنع بأنه لم يسمع منه بل سيُكذِّبُهُ. وهل يعقل من مثل أبي هريرة أنْ يُضرب بالدرة ويُكَذَّبَ وَيُهَدَّدَ بالنفي، ثم يوافق الفاروق في حجه!!؟ هذا بعيد جداً. ثانياً - وأما بالنسبة لعمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فلا يمكن أنْ يُهَدَّدَهُ أو يُكَذَّبَهُ بعد ذلك لأنه عرف حفظه حين نسي أصحابه، أو عرف سماعه حين لم يسمع أصحابه من الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومع هذا فإنَّ تلك الأخبار محمولة على سياسة عمر العامة في التحديث. وقد رَدَّ ابن قتيبة على من ادَّعَى تكذيب الصحابة لأبي هريرة في كتابه " تأويل مختلف الحديث " وبيَّن أنَّ ذلك إنما كان من سياسة عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَتَشَدُّدِهِ على من أكثر الرواية (3). وأما ادِّعاء بشر المريسي تكذيب الفاروق لأبي هريرة فهو باطل لا أصل له

_ (1) " البداية والنهاية ": ص 107، جـ 8. (2) " مسند الإمام أحمد ": ص 52، جـ 14 رقم 7619 بإسناد صحيح. (3) انظر " تأويل مختلف الحديث ": ص 48.

[ب] أبو هريرة وعثمان بن عفان:

وما رواه عن عمر أنه قال: «أَكْذَبُ المُحَدِّثِينَ أَبُو هُرَيْرَةَ» لم يذكر سنده وقد تصدَّى له عثمان بن سعيد الدارمي (200 - 280 هـ) فَرَدَّ عليه رَدًّا قوياً أخمده وكشف عن جميع اتهاماته (1). ... [ب] أبو هريرة وعثمان بن عفان: لم يذكر مصدر موثوق أنَّ عثمان كَذَّبَ أبا هريرة كما ادَّعَى النظَّام وغيره، كما لم يثبت أنه طعن فيه أو منعه من التحديث، وكل ما هنالك رواية ذكرها ابن خلاَّد قال: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ هَارُونَ بْنِ عِيسَى، - يَنْزِلُ جَبَلَ رَامَهُرْمُزَ - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بِسْطَامٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَظُنُّهُ ابْنَ يُوسُفَ قَالَ: سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يُحَدِّثُ قَالَ: أَرْسَلَنِي عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: قُلْ لَهُ: «يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: مَا هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَقَدْ أَكْثَرْتَ، لَتَنْتَهِيَنَّ أَوْ لأَلْحَقَنَّكَ بِجِبَالِ دَوْسٍ، وَأْتِ كَعْبًا، فَقُلْ لَهُ: «يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ: مَا هَذَا الْحَدِيثُ؟ قَدْ مَلأْتَ الدُّنْيَا حَدِيثًا، لَتَنْتَهِيَنَّ أَوْ لأَلْقِيَنَّكَ بِجِبَالِ الْقِرَدَةِ» (2). إلاَّ أنَّ الخبر رُوِيَ عن عمر بن الخطاب، ولم نر إلاَّ هذه الرواية عن عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وقد كانت صلة أبي هريرة قوية بأمير المومنين عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، مِمَّا لا يتصور أنْ يهدِّدهُ بالنفي، والمعقول أنْ ينصحه بالحُسنى، ولو صحَّت هذه الرواية، فليس فيها طعن في أبي هريرة، لأنه ينهاه عن الإكثار من الرواية عندما لا تكون هناك حاجة إلاَّ الإكثار منها، وأبو هريرة نفسه لم ير في هذا مطعناً، ولم يترك كل هذا أثراً في نفسه، فنراه يوم الدار يدافع عن الخليفة الراشد الثالث - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - ...

_ (1) " رد الدارمي على بشر ": ص 132 وما بعدها. (2) " المحدث الفاصل ": ص 133.

[ج] أبو هريرة وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما -:

[ج] أبو هريرة وعَلِيٌّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: لم يحمل مصدر موثوق بين دفَّتيه ما يثبت أنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كَذَّبَ أبا هريرة أو نهاه عن التحديث، إلاَّ أنَّ بعض أعداء أبي هريرة يستشهدون برواية عن أبي جعفر الإسكافي أنَّ عَلِيًّا لما بلغه حديث أبي هريرة قال: «أَلاَ إِنَّ أَكْذَبَ النَّاسِ - أَوْ قَالَ أَكْذَبَ الأَحْيَاءِ - رَسُولِ اللَّهِ أَبُو هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيُّ» (1). هذه رواية ضعيفة مردودة لأنها من طريق الإسكافي وهو صاحب هوى دَاعٍ إلى هواه غير ثقة. ومنها ما أروده النَظَّام على أبي هريرة أنَّ عَلِيًّا بلغه قول أَبِي هُرَيْرَةَ: «قَالَ خَلِيلِي، وَحَدَّثَنِي خَلِيلِي» فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: «مَتَى كَانَ النَبِيُّ خَلِيلُكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟» (2). ومن الغريب أنَّ عبد الحُسين ينقل هذا في كتابه ويعزوه إلى ابن قتيبة (3)، بينما ينقله ابن قتيبة عن النظَّام ليرُدَّ عليه، وهذا خطأ كبير، إنْ لم يكن تدليساً لا يغتفر مثله مِمَّنْ ادَّعَى البحث العلميَّ والذوق الفني. وَرَدَّ ابن قتيبة قول النظَّام بما مُلخَّصُهُ: أنَّ الخُلَّة بمعنى المصافاة والصداقة درجتان إحداهما ألطف من الأخرى، فمن الخلة التي هي أخص قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} (4). وقول رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً». وأما الخلة التي تعم هي الخلة التي جعلها الله تعالى بين المؤمنين فقال: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (5).

_ (1) " شرح نهج البلاغة ": ص 468، جـ 1 و " أبو هريرة ": ص 273. (2) " تأويل مختلف الحديث ": ص 27 و 51. (3) " أبو هريرة ": ص 273. وما زاده ابن قتيبة في الصفحة [52] من " تأويل مختلف الحديث " (إذ كان سيِّئ الرأي فيه) لا يضير أبا هريرة لأنَّ ابن قتيبة إنما يبيِّن للنظَّام سبب قول عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ويَرُدُّ عليه افتراءه على أبي هريرة. (4) [النساء: 125]. (5) [الزخرف: 67].

فَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يقصد النوع الأول فأنكر عليه قوله لأنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتَّخّ خليلاً من هذا النوع ولو اتَّخذ لاتَّخذ أبا بكر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وذهب أبو هريرة إلى الخلة التي جعلها الله تعالى بين المؤمنين، والولاية فإنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من هذه الجهة خليل كل مؤمن ووَلِيُّ كل مسلم (1). وهل في هذا تكذيب لأبي هريرة!؟. ومن أعجب ما رأيت في هذا الباب ما ادَّعاهُ النظَّام إذ قال: «وَبَلَغَ عَلِيًّا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَبْتَدِئُ بِمَيَامِنِهِ فِي الْوُضُوءِ، وَفِي اللِّبَاسِ. فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، فَبَدَأَ بِمَيَاسِرِهِ، وَقَالَ: لأُخَالِفَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ» (2). وقد نقل هذا الخبر عبد الحُسين، ومِمَّا يؤسف له أنه عزاه إلى ابن قتيبة (3)، وابن قتيبة بريء منه إنما أورده للردِّ على النظَّام، وهكذا نعود ثانية فنكشف عن عدم الأمانة العلمية التي ثبتت على المؤلف في أكثر من موضع. هل يقبل إنسان يحب عَلِيًّا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، ويرى فيه إمام أهل البيت وحامل راية الحق، وأمير المؤمنين الذي «مع القرآن والقرآن مع عَلِيٍّ لن يفترقا حتى يَرِدَا الحوض على رسول الله، وعَلِيٌّ مع الحق والحق مع عَلِيٍّ يدور معه كيف دار» (4). هل يقبل إنسان يؤمن بهذا أنْ يصدر عن إمامه مثل هذا الخبر؟. بل هل يُصَدِّقُ مثل تلك الرواية؟. وأغرب من هذه وتلك أنه يورد هذه القصة ليستشهد بها على طعن أمير المؤمنين عَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وإنَّ عَلِيًّا بريء من هذا الحادثة، وإني لأؤكد أنَّ هذه الرواية موضوعة وقد صنعتها يد أعداء أمير المؤمنين، بل إنَّ كل من يدَّعِي صحتها نشك في حُبِّهِ لعَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. وهو الذي ثبت عنه في الصحاح: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَدَعَا بِوَضُوءٍ، ... فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَلا أَتَوَضَّأُ لَكَ وُضُوءَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ - قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -

_ (1) انظر " تأويل مختلف الحديث ": ص 52. (2) المرجع السابق: ص 27 وانظر " قبول الأخبار ": ص 59. (3) " أبو هريرة ": ص 273، قال في الهامش: «العُهدة في هذه الرواية على ابن قتيبة». (4) هذا ما نصَّ عليه مؤلف كتاب " أبي هريرة " في الصفحة 273 - 274.

[د] أبو هريرة وعائشة:

قُلْتُ: بَلَى، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي. قَالَ: " فَوُضِعَ لَهُ إِنَاءٌ ... ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَدَهُ الأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ (1). وهذا الخبر صحيح يعارض الخبر السابق الضعيف. وإنَّ من الخطأ الذي لا يغتفر، أنْ ينساق المرء وراء ميوله وأهوائه، حتى ينتهي إلى ما يخالف به أصوله وسيرة قدوته. ويستشهد بما يطعن في مرشده ومعلمه، لقد ثبت تمسك عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بسُنَّة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهل يعقل أنْ يخالف سُنَّة الرسول الكريم، لأنه يسيء الظن بأبي هريرة؟ لا يقول هذا أحد قط وإنْ قاله فهو من أعداء عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - لا من شيعته. فكان من الخير لعبد الحسين الذي يدَّعي أنه من أتباع المؤمنين أنْ يَعَضَّ على حجر، أو على جمرة حتى يحترق لسانه من أنْ يستشهد بما يخالف الحقيقة والتاريخ. ... [د] أبو هريرة وعائشة: لقد طال العهد بعائشة أم المؤمنين وبأبي هريرة، فاحتاج الناس إليهما كثيراً، فروى عنهما من الحديث ما لم يرو عن غيرهما، وقد كان أبو هريرة يُحَدِّثُ، فتستدرك عليه السيدة عائشة تارة، وتصدُّقه أخرى، كما كان يُحَدِّثُ مع غيره من الصحابة، فقد استدركت (2) على أبي بكر وعمر وعثمان وعَلِيٍّ، وعلى ابن عمر، وعلى أبي هريرة ... وكل ذلك كان من باب التفاهم والسؤال عن الحديث، أو الدليل في المسألة التي يفتي بها المسؤول، كما استدرك غيرها عليها، كما أنها كانت توجه من يسألها أحياناً إلى من هو أعرف منها في تلك المسألة، وقد ثبت أنها وجَّهت من سألها عن مسح الخف إلى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - (3)، وفي كل هذا لم يشعر

_ (1) " مسند الإمام أحمد ": ص 49، جـ 2 رقم 625. بإسناد صحيح. (2) جمع الإمام بدر الدين الزركشي كتاباً في ذلك تحت عنوان " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ". (3) قال شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنِ الْمَسْحِ (على الخفين) فَقَالَتْ: «اِئْتِ عَلَيًّا فَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنِّي» قَالَ: فَأَتَيْتُ عَلِيًّا فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ قَالَ: فَقَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا أَنْ نَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَلِلْمُسَافِرِ ثَلاثًا». انظر " مسند الإمام أحمد ": 2/ 175 رقم 906 ورواه الإمام مسلم.

الصحابة بغضاضة أو حرج، لأنَّ هدفهم واحد، وهو تطبي الشريعة، وما كان الصحابة يُكَذِّبُ بعضهم بعضاً. إلاَّ أنَّ من جاء بعدهم من أهل الأهواء استغلوا ما دار بين الصحابة من النقاش العلميِّ، أو التثبت في الحديث، وجعلوا منه مادة طيبة ينفذون من خلالها إلى مآربهم، ويحقِّقُون غاياتهم. ولكنهم لم يفلحوا، لأنَّ الأمَّة لم تعدم العلماء المخلصين، والساهرين النابهين، الذي بَيَّنُوا الحق من الباطل، ووضعوا كل شيء في موضعه. ومِمَّا أخذه النظَّام على أبي هريرة حديث: «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا، فَلاَ صِيَامَ لَهُ» (1) وإليكم الحديث كما رواه مسلم قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ (2)، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَقُصُّ (و) يَقُولُ فِي قَصَصِهِ: «مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ جُنُبًا فَلاَ يَصُمْ». قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ (فَذَكَرَهُ) (3) - لأَبِيهِ - فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَسَأَلَهُمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَكِلْتَاهُمَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ، ثُمَّ يَصُومُ» قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى مَرْوَانَ (4)، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ مَرْوَانُ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ إِلاَّ مَا ذَهَبْتَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَرَدَدْتَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ: قَالَ: فَجِئْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبُو بَكْرٍ حَاضِرُ ذَلِكَ كُلِّهِ، قَالَ: فَذَكَرَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَهُمَا قَالَتَاهُ لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هُمَا أَعْلَمُ، ثُمَّ رَدَّ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنَ الْفَضْلِ، وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

_ (1) " تأويل مختلف الحديث ": ص 28 وقد استشهد به عَبْدُ الحُسَيْن شرف الدين في كتابه " أبو هريرة ": ص 275 واستشهد بذلك أَبُو رِيَّة في كتابه " أضواء على السُنَّة المحمدية ": ص 165 و 176. (2) " صحيح مسلم بشرح النووي ": ص 220، جـ 7 وأبو بكر هو ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. (3) في " صحيح مسلم " لم يذكر (فذكره) أثبتها من كتاب " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة " وهو أسلم للسياق، انظر صفحة: 124 من المرجع المذكور. (4) يتبيَّنُ من عودتهم إلى مروان بن الحكم أنَّ ذلك كان في إمارته على المدينة.

قَالَ: فَرَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَمَّا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ. قُلْتُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: أَقَالَتَا: فِي رَمَضَانَ؟ قَالَ: كَذَلِكَ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ ثُمَّ يَصُومُ. فهل هذا ينتقص من عدالة أبي هريرة؟ إنَّ عائشة وأم سلمة لم تقولا فيه شيئاً بل رَوَتَافعل رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصومه. ثم إنَّ أبا هريرة عندما بَلَّغُوهُ قول عائشة وأم سلمة، تأكد منهم «أَهُمَا قَالَتَاهُ لَكَ؟»، لم يتأخَّر عن أن يقول: «هُمَا أَعْلَمُ» ويُبَيِّنُ لهم مِمَّنْ سمع ذلك. فأبو هريرة أمين في ذلك كله، إنه لم يُصَّرِّحْ في حديثه قط أنه سمع (1) ذلك من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل كان يقص على الناس ويفتيهم، ومع هذا فإنَّ لقول أبي هريرة وجهات يمكن أنْ أبيِّنها. أولاً: أنْ يكون قوله محمولاً على النسخ، وذلك أنَّ الجماع كان في أول الإسلام محرماً على الصائم في الليل بعد النوم كالطعام والشراب، فلما أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر جاز للجنب إذا أصبح قبل أنْ يغتسل أنْ يصوم ذلك اليوم، لارتفاع الحظر، وكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل على الأمر الأول، ولم يعلم بالنسخ، فلما سمع من عائشة وأم سلمة صار إليه (2). ثانياً: أنْ يكون حديث أبي هريرة هذا خاصاً بمن تجنَّب من الجماع

_ (1) لقد روى هذا الحديث وما في معناه من طرق أخرى عنه، مرفوعاً إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يذكر فيها أنه سمعه من الفضل، وكلها بمعنى («مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ جُنُبًا فَلاَ يَصُمْ». فتحتمل تلك الرويات على أنها لا صوم كامل لمن أدركه الفجر وهو جنب، أو أنه مما نسخ كما هو مُبَيَّنٌ في المناقشة، ورفعه تارة إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعدم رفعه أخرى لا يطعن فيه لأنهم أحياناً لا يذكرون الإسناد، ولم يكن بعضهم يُكَذِّبُ بعضاً، فإذا سئل صحابي مِمَّنْ سمعت قول كذا؟ عزاه من غير تردُّدٍ ... وإن كان فيه رأياً بيَّنَهُ، وكانوا أورع من أنْ يكذبوا على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (2) " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ": ص 125 وهو قول ابن المنذر، ويروى أنه أحسن ما سمع في ذلك، وانظر " أخبار أهل الرسوخ في الفقه والتحديث بمقدار المنسوخ من الحديث ": ص 29.

بعد طلوع الفجر فإنه يؤمر بالإمساك، ولا يعتدُّ له بصوم ذلك اليوم (1). ثالثاً: حمل حديث أبي هريرة على كمال الصوم، وأنه إرشاد إلى الافضل وهو الاغتسال قبل الفجر، وقد تركه رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لذلك في حديث عائشة وأم سلمة، لبيان الجواز (2). وبالرأي الأول أقول وإليه أذهب، وإني أراه أقوى الأوجه علماً بأنَّ الرأي الثالث يوفق بين الحديثين من غير أنْ يكون هناك ناسخ ومنسوخ. ذلك هو الحديث ووجهه، إلاَّ أنَّ أَبَا رِيَّة، بعد أنْ ذكر قول عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، ورجوع أبي هريرة. قال: «فلم يسعه إزاء ذلك إلاَّ الإذعان والاستحذاء!! وقال: إنها أعلم مني، وأنا لم أسمعه من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما سمعته من الفضل بن العباس، فاستشهد ميتاً، وأوهم الناس أنه سمع الحديث من رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما قال ابن قتيبة في " تأويل مختلف الحديث "» (3). نأخذ على أَبِي رِيَّة في هذا التعليق أمرين: الأول: لم يستشهد أبو هريرة ميتاً بل ثبت أنه عزا الحديث إلى الفضل بن العباس، وإلى أسامة بن زيد (4)، في رواية. وأسامة بن زيد توفي سَنَةَ [54] وفي قول [58 أو 59] والحادثة وقعت في ولاية مروان على المدينة، وكانت قبل سنة [57]، فمن المحتمل أنْ تكون وقعت في حياة أسامة بن زيد قبل سَنَةِ [54]، وإن كانت وفاته على الرواية الثانية فإنها تؤكِّدُ لنا وقوع الحادثة في حياة أسامة، فلا يكون أبو هريرة قد استشهد ميتاً، كما قال أَبُو رِيَّة. الثاني: أنَّ أَبَا رِيَّة عزا الرواية إلى ابن قتيبة، إلاَّ أنَّ القائل هو النَظَّام،

_ (1) " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ": ص 126. و " أخبار أهل الرسوخ: ص 29 أي كمن طلع عليه الفجر وهو يجامع. (2) " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ": ص 126. (3) " أضواء على السُنَّة المحمدية ": ص 168. (4) شهد بذلك أَبُو رِيَّة نفسه، انظر هامش صفحة [168] من كتابه " أضواء على السُنَّة المحمدية ".

وابن قتيبة بريء من أنْ يفتري على أبي هريرة، إنما ساق قول النَظَّام ليرد عليه: (انظر " تأويل مختلف الحديث ": ص 28) ومن يتهاون في نسبة الآراء إلى أصحابها على هذا النحو - هل يؤتمن في قول؟ أو يقبل قدحه في أبي هريرة؟!. وأما قول مروان لعبد لرحمن: «عَزَمْتُ عَلَيْكَ إِلاَّ مَا ذَهَبْتَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَرَدَدْتَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ». فإنَّ مروان يريد أنْ ينتقم ويثأر لنفسه من أبي هريرة، الذي رَدَّ عليه رَدًّا مُفحماً، حين عارض في دفن الحسن إلى جوار جده، ولعله أراد أنْ يرده إلى الصواب والحق. وليس في كل ما سبق ذكره أي دليل على تكذيب أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، ومنها أنه روى حديثاً في النهي عن المشي بالخف الواحد فبلغ ذلك عائشة فمشت بخف واحد، وقالت: «لأُخَالِفَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ» (1). فالحديث احتجَّ به النظَّام ليطعن في أبي هريرة، وَرَدَّ ابن قتيبة عليه افتراءه. وقد ذكر أبو القاسم البلخي هذا الحديث عن عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أنها دخلت في خفها حسكة فمشت في خف واحد وقالت: «لأُحَنِّثَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ... إِنَّهُ يَقُولُ لاَ يَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ وَلاَ خُفٍّ وَاحِدٍ» (2). هذه الرواية تبيِّنُ سبب مشيها في الخف الواحد. وأما قولها: «لأُحَنِّثَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ» فإنه لا يتجاوز باب المزاح والمرح، الذي عُرِفَ به الصحابة. وقد أخرج حديث (النهي عن المشي في خف أو نعل واحدة) الشيخان، كما رواه مسلم عن جابر. ورواه الإمام أحمد عن أبي هريرة (3). ويُرْوَى عن عائشة من طريق مندل بن علي بن ليث بن أبي سليم: «أنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رُبَّمَا انْقَطَعَ شِسْعُ (4) نَعْلِهِ فَمَشَى فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ»، ومندل وليث ضعيفان لا حُجَّة فيما نقلا منفردين (5).

_ (1) " أبو هريرة ": ص 274 عن " تأويل مختلف الحديث ": ص 27. (2) " قبول الأخبار ": ص 57 و 59. (3) " مسند الإمام أحمد ": ص 69، جـ 13 رقم 7343 بإسناد صحيح وانظر الهامش. (4) الشسع: أحد سيور النعل. (5) " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ": ص 140.

وقد رُوِيَ عنها أنها مشت في خف واحد وقالت: «لأُخُشَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ» (1) فعائشة لم تُكَذِّبْ أبا هريرة، وإنْ صحَّ عنها ما روي من مخالفته فهو مجرد رأي، والرأي لا يعارض السُنن، ثم إنَّ أبا هريرة لم يتفرَّدْ بالحديث. ومن هذا ما رواه ابن شهاب أنَّ عُروة بن الزبير حدَّثه أنَّ عائشة قالت: «أَلاَ يُعْجِبُكَ أَبُو هُرَيْرَةَ؟ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَى جَانِبِ حُجْرَتِي، يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُسْمِعُنِي ذَلِكَ، وَكُنْتُ أُسَبِّحُ (2) فَقَامَ قَبْلَ أَنْ أَقْضِيَ سُبْحَتِي، وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ» (3) كأنها تنتقد أبا هريرة في سرعة إلقائه وعدم تَرَيُّثِهِ. إنَّ إنكار عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - على أبي هريرة لم يكن مُوَجَّهاً إلى ما يُحَدِّثُ به، إنما أنكرت عليه أنْ يسرد حديث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ويظهر هذا فيما رُوِيَ عنها: إِنَّمَا «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا، لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لأَحْصَاهُ» (4). ولو أنكرت عائشة عليه غير سرده للحديث لقالت وبيَّنَتْ، وهي الجريئة الصريحة، فأبو هريرة لم يَكْذِبْ على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يخطئ أثناء تحديثه حتى تُكَذِّبَهُ عائشة، فكل ما كان منه أنه كان يسرد الحديث ويكثر منه في مجلسه، فأي شيء يضير أبا هريرة إذا كان مُتَيَقِّظاَ متنبِّهاً عارفاً لما يروي؟!. قال أبو حاتم بن حبان: «قَوْلُ عَائِشَةَ: " لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ " أَرَادَتْ بِهِ سَرْدَ

_ (1) أَخُشَنَّ من خَشَشْتُ فلاناً: شنأته ولمته في خفاء. (2) معنى أسبح: أي أصلِّي النافلة، وهي السُبحة، قيل المراد هنا صلاة الضُحى. انظر " فتح الباري ":ص 390، جـ 7. (3) " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ": ص 135 وأخرجه مسلم في «باب ما يستحبُّ للمرء من ترك سرد الأحاديث»: ص 1940 حديث 2493، جـ 4. و " فتح الباري ": ص 390، جـ 7. (4) " فتح الباري ": ص 389، جـ 7.

الْحَدِيثِ لاَ الحَدِيثَ نَفْسَهُ» (1). قال ابن حجر: واعتذر «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَنَّهُ كَانَ وَاسِعَ الرِّوَايَةِ كَثِيرَ الْمَحْفُوظِ فَكَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْمَهَلِ عِنْدَ إِرَادَةِ التَّحْدِيثِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ أُرِيدُ أَنْ أَقْتَصِرَ فَتَتَزَاحَمُ الْقَوَافِي عَلَى فِيَّ» (2). ومن العجيب أنَّ بعض الكُتَّابِ الذين ناصبوا أبا هريرة العداء، يستشهدون ببعض الأخبار الضعيفة أو الثابتة التي تدل على خلاف بين أبي هريرة والصحابة، ولا يتعرَّضون للروايات التي تُبَيِّنُ صدقه وأمانته وثناء الصحابة عليه، فهم دائماً ينظرون إليه من جانب واحد ويتناسون الجانب الآخر الذي يُبَيِّنُ علمه ومنزلته بين أصحابه. وجميع ما استشكله هؤلاء قد أجيب عنه إجابة علمية مقنعة، ولولا ضيق المقام، لذكرت جميع ما دار بين عائشة وأبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، فحديث «إِنَّمَا الطِّيَرَةُ فِي الْمَرْأَةِ» حَلَّلَهُ وأجاب عنه الزركشي وبَيَّنَ الأحاديث المروية في ذلك وبَيَّنَ أنَّ أبا هريرة لم ينفرد به، بل ذكر أيضاً ما يعارضه وبَيَّنَ أنه لا مأخذ على أبي هريرة (3) كما بَيَّنَ قول أبي هريرة «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا اغْتَسَلَ وَمَنْ حَمَلَهُ تَوَضَّأَ» (4). ولا بد لي من أنْ أُنْهِي هذه الفقرة عن موقف عائشة من أبي هريرة بمناقشة صاحب كتاب " أضواء على السُنَّة " فيما قاله، قال: «ولما قالت له (لأبي هريرة) عائشة: إنك لتُحَدِّثُ حديثاً ما سمعته من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجابها بجواب لا أدب فيه، ولا وقار: إذ قال لها - كما رواه ابن سعد والبخاري وابن كثير وغيرهم: شغلك عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المرآة والمكحلة! وفي رواية - ما كانت تشغلني

_ (1) " صحيح ابن حبان ": ص 261، جـ 1، وإلى هذا ذهب ابن كثير، انظر " البداية والنهاية ": ص 107، جـ 7. (2) " فتح الباري ": ص 390، جـ 7. (3) انظر " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ": ص 125 - 129. (4) انظر " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ": ص 125 - 126.

عنه المكحلة والخضاب ولكن أرى ذلك شغلك!!! على أنه لم يلبث أنْ عاد فشهد بأنها أعلم منه وأنَّ المرآة والمكحلة لم يشغلاها» (1). إنَّ القصة التي يشير إليها الكاتب رواها ابن سعد عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأُمَوِيُّ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ لأَبِي هُرَيْرَةَ: «إِنَّكَ لَتُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثًا مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ». فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «يَا أُمَّهْ! طَلَبْتُهَا وَشَغَلَكِ عَنْهَا الْمِرْآةُ وَالْمُكْحُلَةُ وَمَا كَانَ يَشْغَلُنِي عَنْهَا شَيْءٌ» (2). وروى الذهبي القصة من طريق إسحاق بن سعيد عن أبيه قال: دَخَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ لَهُ: «أَكْثَرْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ». قَالَ: «إِيْ - وَاللهِ - يَا أُمَّاهُ، مَا كَانَتْ تَشْغَلُنِي عَنْهُ المِرْآةُ وَلاَ المُكْحُلَةُ وَلاَ الدُّهْنُ». قَالَتْ: «لَعَلَّهُ» (3). وروى نحو هذا ابن عساكر وابن كثير (4). هل خرج أبو هريرة عن حدود الأدب مع السيِّدة عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -!؟ إنه يدافع عن نفسه عندما استكثرت ما يُحَدِّثُ به، فبيَّن لها أنه كان يطلب الحديث وأنها شغلت عما استكثرته من أبي هريرة بحياتها المنزلية، وهو شأن كل امرأة في بيت الزوجية، عليها مسؤوليات كثيرة لا تتيح لها أنْ تسير مع زوجها في كل مكان، أو ترافقه في جميع أنواع حياته.

_ (1) " أضواء على السُنَّة المحمدية ": ص 166 - 167. (2) " طبقات ابن سعد ": 2: 2/ 119 وإسناده عن الوليد بن عطاء بن الأغر وأحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي المَكِّيَانِ. قالاَ أخبرنا عمرو بن يحيى بن سعيد الأموي عن جده. وهؤلاء كلهم ثقات: الوليد بن عطاء ذكره ابن حبان في " الثقات ". " تهذيب التهذيب ": 11/ 142، وأحمد بن محمد بن الوليد ثقة: " تهذيب التهذيب ": 1/ 79، عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية روى عن جده (سعيد بن عمرو) ثقة: " تهذيب التهذيب ": 8/ 118 ونحوه بإسناد آخر من طريق عمرو بن يحيى أيضاً: " المحدث الفاصل ": ص 133: ب. (3) " سير أعلام النبلاء ": ص 435، جـ 2. (4) انظر " تاريخ دمشق ":ص 497، جـ 47، و " البداية والنهاية ": ص 108، جـ 8.

فلم تُكَذِّبْهُ السيِّدة أم المؤمنين، بل قالت: «لَعَلَّهُ». ونرى الروايات تعيد الضمير في قوله: (شغلك عنه) إلى كثرة الحديث ولكن أَبَا رِيَّةَ أعاده للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِيُصَوِّرَ شناعة قول أبي هريرة وكيف رأى أدبه خروجاً على الأدب والوقار؟ وهذا لا يليق بالبحث العلمي. أما قوله بعد ذلك (أنه لم يثبت أنْ عاد فشه بأنها أعلم منه). فهذا غير صحيح ولا يقوله إلاَّ متحامل، لأنه لا يوجد أي تعارض بين الروايتين، فهذه القصة تتناول حفظ أبي هريرة وكثرة حديثه، ولم يتراجع أبو هريرة عما رواه، بل سَمِعَتْ منه عائشة دفاعه عن نفسه واقتنعت بما قال. وهناك ما يثبت أنَّ السيِّدة عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - لم تنكر على أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كثرة ما يَرْوِي بل صَدَّقَتْهُ، فقد روى الرامهرمزي بسنده عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: قِيلَ لِعَائِشَةَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: «أَدْنُوهُ مِنِّي»، فَأَدْنُوهُ فَقَالَتْ: «أَذَكَّرْتَنِي شَيْئًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ (1). وأما القصة الثانية «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا، فَلاَ صَوْمَ عَلَيْهِ» وتراجع أبي هريرة فقد بيَّنتُ فيما سبق وجهتها، ولا شك أنَّ عائشة أعلم بهذا منه، لأنَّ هذا خاص لم يطَّلِعْ عليه أبو هريرة، فهل في دعوته عن رأيه تكذيب من عائشة له؟ ثم من تعمق في البحث يجد أنَّ أبا هريرة عاد عن فتواه التي بناها على ما أخبره به الفضل بن العباس في رواية وأسامة بن زيد في رواية أخرى. وأنَّ رجوعه هذا لم يكن رجُوعاً عن حديث حَدَّثَ به (2).

_ (1) " المحدث الفاصل " بتحقيقي ف 748. (2) ومِمَّا ذكره المؤلف ص [276] والطاعنون على أبي هريرة: (أنه روى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «مَتَى اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَضَعَهَا فِي الإِنَاءِ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ». فأنكرت عائشة عليه، فلم تأخذ به وقالت: «كَيْفَ نَصْنَعُ بِالْمِهْرَاسِ؟» ليست عائشة بل أحد أصحاب عبد الله بن مسعود واسمه (قين الأشجعي) وقد ذكر الدكتور مصطفى السباعي تحقيقه في ذلك وأورد أقوال العلماء في كتابه " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " الصفحة: 285 - 287.

[هـ] أبو هريرة وعبد الله بن عمر:

وهذه الأفضلية لأبي هريرة يشكر عليها، لأنه تمسَّك بالحق وعدل عن رأيه. ثم إنَّ السيدة عائشة لم تكن معارضة لأبي هريرة دائماً بل ناصرته في مواقف كثيرة، قالت: «صَدَقَ أَبُو هَرَيْرَةُ»، وقد مَرَّ بنا شيء من هذا في ترجمته وسَيَمُرُّ بعض ذلك فيما يلي. ... [هـ] أبو هريرة وعبد الله بن عمر: عَنْ عَامِرٍ بْنِ سَعْدٍ بْنِ أَبِي وَقَّاصَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَانَ قَاعِدًا عِنْدَ عَبْدِ الله بن عُمَرَ، إِذْ طَلَعَ خَبَّابٌ صَاحِبُ المَقْصُورَةِ فَقَالَ: يَا عَبْدَ الله بن عُمَرَ أَلاَ تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أبو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ مِنْ بَيْتِهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ أَجْرٍ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ كَانَ لَهُ مِنْ الأَجْرِ مِثْلُ أُحُدٍ». فَأَرْسَلَ ابْنُ عُمَرَ خَبَّابًا إِلَى عَائِشَةَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ أبي هُرَيْرَةَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ بِمَا قَالَتْ، وَأَخَذَ ابْنُ عُمَرَ قَبْضَةً مِنْ حَصَى الْمَسْجِدِ يُقَلِّبُهَا فِي يَدِهِ، حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ فَقَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: «صَدَقَ أبو هُرَيْرَةَ». فَضَرَبَ ابْنُ عُمَرَ بِالْحَصَى الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ الأَرْضَ ثُمَّ قَالَ: «لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ» (1). وضاق أهل الأهواء ذَرْعاً بحديث أبي هريرة، وحاولوا جَرْحَهُ بكل وسيلة إلاَّ أنهم لم يفلحوا في ذلك. من هذا ما رواه أبو القاسم البلخي عَنِ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلاَبِ إِلاَّ كَلْبَ مَاشِيَةٍ , أَوْ كَلْبَ صَيْدٍ» فَقِيلَ لاِبْنِ عُمَرَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: «أَوْ كَلْبَ زَرْعٍ». قَالَ: «إِنَّ لأِبي هُرَيْرَةَ زَرْعًا» (2). واستشهد بهذا صاحب كتاب " أبو هريرة " (3) مُستدلاًّ به على نقد الصحابة لأبي هريرة.

_ (1) " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ": ص 117. رواه الشيخان. وفي رواية " البخاري " فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «أَكْثَرَ عَلَيْنَا أَبُو هُرَيْرَةَ»، فَبَعَثَ إِلَى عَائِشَةَ، فَسَأَلَهَا، فَصَدَّقَتْ أَبَا هُرَيْرَةَ. (2) " قبول الأخبار ": ص 57 أورده طعناً على أبي هريرة فلم يوفق. (3) " أبو هريرة ": ص 277.

وذكر الأستاذ أحمد أمين هذا الحديث في معرض كلامه عن عدم توسُّع المُحَدِّثِينَ في النقد الداخلي للأحاديث، وعدم تعرُّضهم كثيراً لبحث الأسباب السياسية التي قد تحمل على الوضع، وعدم تَعَرُّضِهِمْ كثيراً لبيئة الراوي الشخصية، وما قد يحمله منها على الوضع وهكذا ... ثم قال: ومن هذا القبيل (1) ما يروى عن ابن عمر وساق الحديث: «مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ انتََقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ» قالوا: كان أبو هريرة يروي هذا الحديث هكذا «إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ كَلْبَ زَرْعٍ» فيزيد كلب زرع. فَقِيلَ لاِبْنِ عُمَرَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: «أَوْ كَلْبَ زَرْعٍ». قَالَ ابْنُ عُمَرَ: «إِنَّ لأِبي هُرَيْرَةَ زَرْعًا»، وهو نقد من ابن عمر لطيف في الباعث النفسي. وهناك أشياء منثورة من هذا القبيل، ولكنها لم تبلغ من الكثرة والعناية مبلغ النقد الخارجي» (2). لقد تسرَّع هؤلاء في الحكم على أبي هريرة وعلى حديثه، وحملوا كلام ابن عمر على أنه طعن في أبي هريرة، والواقع غير ما ذهبوا إليه، وليس في قول ابن عمر تكذيب لأبي هريرة، فكل ما في الأمر أنَّ أبا هريرة حفظ هذا الحديث لأنَّ عنده زرعاً. وهذا ما ذهب إليه النووي في شرحه للحديث. وقال ابن عساكر: «قَوْلٍ ابْنِ عُمَرَ هَذَا (إِنَّ لأِبي هُرَيْرَةَ زَرْعًا) لَمْ يُرِدْ بِهِ التُّهْمَةَ لأََبِي هُرَيْرَةَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنََّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَفِظَ ذَلِكَ لأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ، وَصَاحِبُ الحَاجَةِ أَحْفَظُ لَهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا ... أَبُو سُلَيْمَانَ أَحْمَدَ بْنُ إِبْرَاهِيْمَ قَالَ: قَدْ زَعَمَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَسُرُّهُ فِي قَوْلِهِ ولَمْ يُوَفَّقْ بِحُسْنِ الْظَّنِّ بِسِعَة، أَنَّ ابْنِ عُمَرَ إِنَّمَا أُخْرِجَ قَولُهُ هَذَا مَخْرَجً الْطَّعَنِ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَّهُ ظَنَّ بِهِ الْتَّزَيُّدَ فِي الرِّوَايَةِ لِحَاجَةٍ كَانَتْ إِلَى حِرَاسَةٍ الزَّرْعِ. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرْوِيهِ لاَ يَذْكُرُ فِيْهِ كَلْبَ الزَّرْعِ، قَالَ أَبُوْ سُلَيْمَانَ: ... وَإِنَّمَا ذَكَرَ

ابْنُ عُمَرَ هَذَا تَصْدِيْقاً لِقَوْلِ أَبِيْ هُرَيْرَةَ، وَتَحْقِيقاً لَهُ، وَدَلَّ بِهِ عَلَىَ صِحَّةِ رِوَايَتِهِ وَثُبُوْتِهَا، إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ صَدَقْتَ حَاجَتَهُ إِلَىَ شَيْءٍ كَبُرَتْ عِنَايَتُهُ بِهِ وَكَثُرَ سُؤَالُهُ عَنْهُ، يَقُولُ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ جَدِيْرٌ بِأَنْ يَكُوْنَ عِنْدَهُ هَذَا الْعِلْمُ وَأَنْ يَكُوْنَ قَدْ سَأَلَ رَسُوْلَ الْلَّهِ - صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ لِحَاجَةٍ كَانَتْ إِلَيْهِ، إِذْ كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ. يَدُلُّ عَلَىَ صِحَّةِ ذَلِكَ فُتْيَا ابْنِ عُمَرَ بِإِبَاحَةِ اقْتِنَاءِ كَلْبِ الزَّرْعِ بَعْدَمَا تَبِعَهُ خَبَرُ أَبِي هُرَيرَةَ» (1). وإذا أبى الباحثون هذا التفسير، فماذا يقولون في رواية ابن عمر نفسه التي ذكر فيها كلب الزرع؟؟!! روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي الْحَكَمِ الْبَجَلِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا غَيْرَ كَلْبِ زَرْعٍ أَوْ ضَرْعٍ أَوْ صَيْدٍ نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ» فَقُلْتُ لابْنِ عُمَرَ: «إِنْ كَانَ فِي دَارٍ وَأَنَا لَهُ كَارِهٌ؟ قَالَ: هُوَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ الَّذِي يَمْلِكُهَا» (2). وفي رواية: فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: «وَكَلْبَ حَرْثٍ»؟ فَقَالَ ابْنِ عُمَرُ: «أَنَّى لأََبِِي هُرَيْرَةَ حَرْثٌ!؟» (3) فابن عمر لم يتَّهم أبا هريرة بأنه كذب على رسول الله - صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنَّ عنده زرعاً، بل هذه الرواية تنفي ما ذهب إليه أحمد أمين، ومع هذا فقد ثبت عن ابن عمر قوله: «إِنَّ لأِبي هُرَيْرَةَ زَرْعًا» ولكنه لم يذهب بقوله مذهب الطاعن المُكَذِبَ بل ثبت روايته برواية أبي هريرة لأنَّ أبا هريرة حفظ تلك الرواية التي تشمل بعض أحواله. وهذا الحديث رواه الإمام مسلم من طريق الإمام مالك، ورواه أيضاً من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وفي آخره: «قَالَ عَبْدُ اللَّهِ (يَعْنِي ابْنِ عُمَرَ): قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ» ورواه من طريق

_ (1) ابن عساكر: ص 491 و ص 492، جـ 47. (2) " مسند الإمام أحمد ": ص 29، جـ 7، رقم 4813 بإسناد صحيح، وأبو الحكم البجلي هو عبد الرحمن بن أبي نعيم كوفي عابد ثقة. (3) " مسند الإمام أحمد ": ص 222، جـ 6، رقم 4478.

[و] أبو هريرة وابن عباس:

سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، وفي آخره قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: «أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ»، وَكَانَ صَاحِبَ حَرْثٍ. وروى أيضاً حديث أبي هريرة من طريق الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة: وفي آخره: قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَذُكِرَ لابْنِ عُمَرَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: «يَرْحَمُ اللهُ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ». فهذه الروايات تدل على أنَّ ابن عمر لم يكن ينكر على أبي هريرة روايته، وإنما كان يروي كل منهما ما سمع، بل إنَّ ابن عمر روى عن أبي هريرة الزيادة التي (جاءت) في روايته، ولم يكن هؤلاء الرجال الصادقون المخلصون يُكَذِّبُ بعضهم بعضاً، بل كانت أمارتهم الصدق والأمانة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - (1). ولم تكن هذه الزيادة نتيجة دافع نفسي أو عامل شخصي كما ظن وذهب إليه الأستاذ أحمد أمين، وما كان أبو هريرة ليكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولو كان في ذلك نجاته. ... [و] أبو هريرة وابن عباس: ذكر عبد الحسين مؤلف كتاب " أبو هريرة " من الأحاديث التي عارض فيها الصحابة أبا هريرة، أنَّ أبا هريرة روى عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّ «مَنْ حَمَلَ جِنَازَةً فَلْيَتَوَضَّأْ» فلم يأخذ ابن عباس بخبره وَرَدُّهُ صريحاً، قال: «لاَ يَلْزَمُنَا الوُضُوءُ مِنْ حَمْلِ عِيدَانٍ يَابِسَةٍ» (2). وذكر نحوه أبو رِيَّةَ عن ابن مسعود (3) وقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَنْجَسُوا مِنْ مَوْتَاكُمْ» قال الإمام الزركشي: وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِيْ هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا اغْتَسَلَ وَمَنْ حَمَلَهُ تَوَضَّأَ» فبلغ ذَلِكَ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُا فَقَالَتْ أََوَ نَجَسٌ مَوْتَى الْمُسْلِمِيْنَ وَمَا عَلَى رَجُلٍ لَوْ حَمَلَ عُوداً». قال البيهقي في ذلك: «الروايات المرفوعة في هذا الباب من أي هريرة غير قوية، لجهالة رُواتها، وضعف بعضهم» والصحيح أنه موقوف

_ (1) " مسند الإمام أحمد ": هاشم صفحة 222 من الجزء السادس، تعليق العلاَّمة الأستاذ أحمد محمد شاكر. (2) " أبو هريرة ": ص 276. (3) " أضواء على السُنَّة المحمدية ": ص 169.

[ز] أبو هريرة والزبير:

على أبي هريرة (1). اهـ. فإنْ صَحَّ عنه ذلك فهو رأي وليس في ذلك كذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما ليس في ذلك تكذيب الصحابة له. ... [ز] أبو هريرة والزبير: ذكر أبو رِيَّةَ جزءاً من خبر الزبير مع أبي هريرة وهو قوله: «صَدَقَ، كَذَبَ» ولم ينقل بقية الرواية التي تكشف عن وجه الحق، لذلك أسوق ما رواه أبو القاسم البلخي الذي حاول الطعن في أبي هريرة قال: قال ابن أبي خيثمة وحَدَّثَنَا هارون بن معروف حَدَّثَنَا محمد بن سلمة حَدَّثَنَا محمد بن إسحاق عن عمر - أو عثمان بن عروة عن أبيه يعني عروة بن الزبير قال: قال أبي الزبير: «يا بني من هذا اليماني - يعني أبا هريرة - فإنه يكثر الحديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فأدنيته منه فجعل أبو هريرة يُحَدِّثُ بينما جعل الزبير يقول صدق، كذب، صدق، كذب، قال: قلت: يا أبت ما قولك صدق كذب، قال: يا بُنَيَّ ... أما أنْ يكون سمع هذه الأحاديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا شك، ولكن منها ما وضعه على مواضعه، ومنها ما لم يضعه على مواضعه» (2) هل في هذا الخبر تكذيب لأبي هريرة كما ظن البلخي وأبو رِيَّةَ؟. والزبير لم يعترض على سماع أبي هريرة أو عدم سماعه، بل سَلَّمَ بالسماع، ولم يشك فيه، إنما قال عندما سمع أحاديث أبي هريرة الكثيرة إنه يضع بعضها على غير ما يجب أنْ يوضع، ولا ضير على أبي هريرة في ذلك،

_ (1) " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ": ص 135، 136. (2) " قبول الأخبار ": ص 18 ونحوه في " البداية والنهاية ": ص 109، جـ 8. وفي " الإصابة ": ص 205، جـ 7 في سند الرواية المذكورة محمد بن سلمة، فإنْ كان محمد بن سلمة من قرباء البغدادي أو محمد بن سلمة بن كهيل أو محمد بن سلمة البناني أو ابن فرقد فهؤلاء كلهم متروكون وضعاف فإن كان من جهة واحد منهم فالخبر ضعيف، ولو كان واحداً غير هؤلاء فهو مجهول. وإذا عرفت عدالته وسلَّمنا بصحة الخبر فليس فيه تكذيب لأبي هريرة كما ذكرت.

[ح] أبو هريرة ومروان بن الحكم:

ولا سبيل للطعن في صدقه. لأنه لم يتقوَّل على رسول الله ما لم يقل، ومعنى قوله: صدق، كذب (أصاب، وأخطأ) كما سأُبَيِّنُهُ بعد قليل وليس في الخطأ كذب وخاصة في هذا المقام. ... [ح] أبو هريرة ومروان بن الحكم: (1) عَنْ عُثْمَانَ بْنِ شَمَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَمَرَّ عَلَيْهِ مَرْوَانُ، فَقَالَ: «بَعْضَ حَدِيثِكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ حَدِيثَكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». ثُمَّ رَجَعَ (مروان)، فَقُلْنَا: الآنَ يَقَعُ بِهِ، قَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى الْجَنَائِزِ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «أَنْتَ خَلَقْتَهَا، وَأَنْتَ رَزَقْتَهَا ... » الحديث. اهـ (2)، قال مروان لأبي هريرة: «بَعْضَ حَدِيثِكَ - أَوْ حَدِيثَكَ»، يريد به الإنكار على أبي هريرة في كثرة روايته. وكان بعض الصحابة، وبعض الوُلاَّة ينكرون عليه، ثم يضطرُّون إلى علمه وحفظه، فيسألونه أو يقرُّون له بما روى، كما صنع مروان هنا، وغيره في روايات كثيرة، وما كانوا يظنون بصدقه الظنون، ولا كانوا يتَّهمونه في حفظه وأمانته - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - (3). تلك صورة حقيقية لما دار بين أبي هريرة وبعض الصحابة، وهي لا تعدو ما كان يحصل بين الصحابة من نقاش حول تحرِّي الحق، ومعرفة الصواب، إذ لم يكن الصحابة يُكَذِّبُ بعضُهُم بعضاً، بل يُبَيِّنُ بعضهم خطأ بعض، وكانوا سرعان ما يعودون إلى الحق ويدورون معه حيث دار. وإذا صدر عنهم ألفاظ (الكذب) فإنما يقصدون بها الخطأ والغلط، لا التكذيب والافتراء، وكان هذا يقع كثيراً بين الصحابة ولا يرون فيه

_ (1) لم تثبت لمروان صُحبة. (2) " مسند الإمام أحمد ": ص 213، جـ 13، رقم 747 بإسناد صحيح. (3) " مسند الإمام أحمد ": ص 213، جـ 13، الهامش تعليق الأستاذ أحمد محمد شاكر.

جَرْحاً ولا إهانة، ولا يُخرجون من قيل له ذلك من العدالة والصدق، من ذلك ما قالته أسماء بنت عُميس لعمر بن الخطاب: «كَذَبْتَ يَا عُمَرُ» (1)، وكان ذلك في عهد رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهل يُتَصَوَّرُ من أسماء أو غيرها أنها تعني التكذيب بمعنى الافتراء؟ إنها تعني الخطأ ولا شك. وقد بيَّن ابن قتيبة معنى إنكار الصحابة على أبي هريرة فيما ذكره من الأخبار والوقائع، فلم يكن قط بمعنى الإكذاب، ولم يقولوا له إنك تكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو تضع أو تفتري أ وتختلق، إنما خالفوه أحياناً وليس هذا من باب التجريح، ومِمَّا قاله ابن قتيبة عن الصحابة وأحوالهم: «وَأَخَافُ أَنْ يُشَبَّهَ لِي كَمَا شُبِّهَ لَهُمْ، فَأُعْلِمُكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُخْطِئُونَ لاَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَمَّدُونَ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ بِأَنَّهُ كَانَ أَلْزَمَهُمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِخِدْمَتِهِ وَشَبَعِ بَطْنِهِ، وَكَانَ فَقِيرًا مُعْدَمًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَشْغَلَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَرْسُ الْوَدِيِّ وَلاَ الصَّفق بِالأَسْوَاقِ، يُعَرِّضُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَصَرَّفُونَ فِي التِّجَارَاتِ وَيَلْزَمُونَ الضِّيَاعَ فِي أَكْثَرِ الأَوْقَاتِ، وَهُوَ مُلاَزِمٌ لَهُ لاَ يُفَارِقُهُ، فَعَرَفَ مَا لَمْ يَعْرِفُوا، وَحَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظُوا - أَمْسَكُوا عَنْهُ» (2). وبعد هذا، فإنَّ عَبْدَ الحُسَيْنَ ينكر إمساك الصحابة عن أبي هريرة عندما عرفوا منزلته كما روى ابن قتيبة ويرى أنَّ دفاعه إنما كان جزافاً لا يصغى إليه (3). هذا ما يريده مؤلف كتاب " أبو هريرة " لأنَّ الحق لا يوافق هواه، ولا يعجبه إلاَّ أنْ يستشهد بروايات الإسكافي المتروكة، التي يُجَرِّحُ فيها أبا هريرة. ويدَّعِي بعد ذلك أنَّ الإمام أبا حنيفة وأصحابه كانوا يتركون حديث أبي هريرة إذا عارض قياسهم كما فعلوا في حديثه عن المصراة وهي البقرة أو الشاة أو الناقة يجمع اللبن في ضرعها ... إذ روى أنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالغَنَمَ، مَنْ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا، فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخَطَهَا رَدَّهَا وَصَاعاً

_ (1) " صحيح مسلم ": ص 1946، جـ 4 رقم 2503. (2) " تأويل مختلف الحديث ": ص 50. (3) " أبو هريرة ": ص 266.

مِنْ تَمْرٍ» فلم يأبهوا بحديثه هذا وقالوا: أبو هريرة غير فقيه وحديثه هذا مخالف للأقيسة بأسرها، فإنَّ حلب اللبن من التعدي، وضمان التعدِّي يكون بالمثل أو القيمة والصاع من التمر ليس واحداً منهما إلى آخر كلامهم (1). وهذا ما ذكره الأستاذ أحمد أمين (2) كما استشهد أبو رِيَّةَ بنحو هذا عن الحنفية، وذكر مسألة المصراة (3). وقد انتصر ابن عساكر لأبي هريرة ورفض قبول ذاك الادِّعاء وأكَّدَ أنه غير مقبول وغير مرضي وقال: «فقد قدمنا ذكر من أثنى عليه ووثقه، وذكرنا من روى عنه وأصدقه» (4). وقد ذكر الذهبي مسألة المصراة وداع فيها عن أبي هريرة، وأوجب العمل بحديثه، وَبَيَّنَ أنَّ عمل الحنفية وسائر الأئمة بخلاف هذه الرواية عن الحنفية، وَبَيَّنَ أنَّ الحنفية قدَّمُوا خبر أبي هريرة على القياس، وكذلك فعل الإمام مالك، وَبَيَّنَ أنَّ أبا حنيفة قد ترك القياس لما هو دون حديث أبي هريرة بل الدليل أقوى منه، وقد فَنَّدَ الدكتور مصطفى السباعي ما ادَّعَاهُ الأستاذ أحمد أمين من تقديم الحنفية القياس على الخبر إذا عارضه، وأنهم فعلوا هذا في أحاديث أبي هريرة، وأنهم يعدُّونه غير فقيه، وَرَدَّ على ذلك رَدًّا علمياً جليلاً كشف فيه عن الحق، ودحض هذه الرواية بالحُجَّةِ القوية والأدلة الواضحة، ولولا ضيق المقام لذكرت ذلك هنا (6).

_ (1) المرجع السابق: ص 270. (2) انظر " فجر الإسلام ": ص 269. (3) انظر " أضواء على السُنَّة المحمدية ": ص 169 و 171. (4) ابن عساكر: ص 507، جـ 47. (5) انظر " سير أعلام النبلاء ": ص 444، 445. (6) راجع كتاب " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 299 - 301. ولإتمام الموضوع راجع صفحة: 302، 303. ومن ذلك يتبيَّنُ لنا دس ما روي عن محمد بن الحسن عن أبي حنيفة والذي ذكره صاحب كتاب " المؤمل " في الصفحة 31، لأنه يخالف ما طَبَّقَهُ الأحناف.

لقد تبيَّن لنا مِمَّا عرضناه أنَّ أبا هريرة يم يكن محل تكذيب من الصحابة والتابعين، ولم يثبت قط أنَّ أحداً اتهمه بالكذب، والوضع واختلاق الأحاديث على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بخلاف ما ادَّعاه أهل الأهواء وبعض المستشرقين أمثال (جولدتسيهر) و (شبرنجر) وكل ما كان بينه وبين بعض الصحابة لم يعد باب التحقيق العلمي، ولم يتناول قط عدالته وصدقه وأمانته، وإذا رََدَّ عليه بعضهم فإنما رَدُّوا بعض ما كان يفتي به، مِمَّا علمه من حديث رسول الله - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، فكان خلافهم في فهم الحديث، لا في الحديث نفسه حيث نسبته إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو عدم نسبته، وكان اعتراضهم على (فتواه) لا على (حديثه) ولم يكن هذا خاصاً بأبي هريرة، بل حديث كثيراً بين الصحابة. وهناك فرق كبير بين رَدِّ (الفتوى) وَرَدِّ (الحديث)، و (الخطأ) و (التكذيب)، فشتان ما هما. وقد ثبت أنَّ أبا هريرة أفتى في مسائل دقيقة في حضرة ابن عباس وغيره، وعمل الصحابة ومن بعدهم بحديثه في مسائل كثيرة - تخالف القياس - كما عملوا كلهم بحديثه عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلاَ خَالَتِهَا» (1). فلو شك أحد في صحة حديثه أو في صدقه لتركوا حديثه، ولكن شيئاً من ذلك لم يحصل. هذا وقد عرفت الأمَّة مكانته ومنزلته، وقبلوا حديثه، وظهر لنا ذلك واضحاً كالشمس في رابعة النهار. وقد سبق أنْ بيَّنت ثناء الصحابة والتابعين والأئمة عليه وأُكَرِّرُ هنا قول الإمام الذهبي فيه «وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَثِيقَ الحِفْظِ، مَا عَلِمْنَا أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي حَدِيثٍ» (2). إلاَّ أنَّ مؤلف كتاب " أبو هريرة " لم يأبه بكل هذا، واستنتج من تلك المناقشات العملية كذب أبي هريرة، ورأى ما دار بينه وبين بعض الصحابة

_ (1) " سير أعلام النبلاء ": ص 445، جـ 2. (2) المرجع السابق: ص 446، جـ 2.

دليلاً قاطعاً على تجريحه، فقال: «وناهيك تكذيب كل من عمر وعثمان وعلي وعائشة له، وقد تقرَّر بالإجماع تقديم الجرح على التعديل في مقام التعارض، على أنه لا تعارض هنا قطعاً، فإنَّ العاطفة بمجردها لا تعارض تكذيب من كَذَّبَهُ من الأئمة. أما أصالة العدالة في الصحابة فلا دليل عليه، والصحابة لا يعرفونها، ولو فرض صحتها فإنما يعمل على مقتضاها في مجهول الحال، لا فيمن يُكَذِّبُهُ عمر وعثمان وعلي وعائشة، ولا فيمن قامت على جرحه أدلة الوجدان، فإذا نحن من جرحه على يقين جازم» (1). إلاَّ أنَّ زعمه هذا رددناه بالحُجج الدامغة، فانهار ما ادَّعاه أمام الصرح الشامخ الذي يحمي عدالة أبي هريرة، وتحطمت سهامه الواهية على الحصن المنيع الذي بناه أبو هريرة بصدقه وأمانته واستقامته، فلم يجد ثغرة ينفذ منها، أو ثلماً يدس في هواه، فراح يشكِّكُ الناس في مرويات أبي هريرة، ويستشهد ببعض الأحاديث التي وردت في " الصحيحين " عنه، متَّخذاً طعنه في أبي هريرة وتجريحه إياه، مطيَّّة وذريعة للتشكيك في ما ورد في " الصحيحين " عامة، يريد من قُرَّائِهِ بل من الناس جميعاً أنْ لا يثقوا بالكتب التي أجمعت الأمَّة على صحتها، وتلقَّتها بالقبول، ولم يجد إلى ذلك سبيلاً، إلاَّ أنْ يذكر بعض الأحاديث التي تتعلق بالأمور الغيبية، ويحاول أنْ يُحَكِّمَ العقل البشري فيها، يوازن بينها وبين الواقع، من ذلك حديث خلق آدم [ص 56] فَيُحَمِّلُ ألفاظه ما لا تحتمل، ويفسِّرُهُ تفسيراً لا يقبله العقل والذوق السليم، ويسوق غيره من الأحاديث التي تتناول بعض أحوال يوم القيامة، كرؤية الله تعالى [ص 64]، والنار [ص 70]، وينكر ما جاء في حديث استجابة الله تعالى الدعاء في الثلث الأخير من كل ليلة [ص 72] وَيُحَمِّلُ ألفاظه ما لا تحتمل، فالحديث (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَرْفُوعاً «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِى فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ... » الحديث. اهـ.

_ (1) " أبو هريرة ": ص 279.

ويثور الكاتب قائلاً: «تعالى الله عن النزول والصعود والمجيء والذهاب والحركة والانتقال ... » وقد كان هذا الحديث والثلاثة التي قبله مصدراً للتجسيم في الإسلام، كما ظهر في عصر التعقيد الفكري، وكان من الحنابلة بسببها أنواع من البدع والأضاليل ولا سيما ابن تيمية ... [ص 73]. ويذكر قصته الشهيرة على منبر دمشق. إنَّ المؤلف حَمَّلَ ألفاظ هذه الأحاديث على ظاهرها حتى وصل إلى نتيجة التجسيم، كما فعل (المُشَبِّهَةُ)، ولما كان التشبيه مخالفاً لعقيدة جمهور المسلمين، أنكر صحة الحديث وهو رأي (الخوارج والمعتزلة وهو مكابرة) (1) وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ: «حُكِيَ عَنْ الْمُبْتَدِعَة رَدّ هَذِهِ الأَحَادِيث، وَعَنْ السَّلَف إِمْرَارهَا، وَعَنْ قَوْم تَأْوِيلهَا وَبِهِ أَقُول ... وَالْحَاصِل أَنَّهُ تَأَوَّلَهُ بِوَجْهَيْنِ: إِمَّا بِأَنَّ الْمَعْنَى يَنْزِل أَمْره أَوْ الْمَلَك بِأَمْرِهِ، وَإِمَّا بِأَنَّهُ اِسْتِعَارَة بِمَعْنَى التَّلَطُّف بِالدَّاعِينَ وَالإِجَابَة لَهُمْ وَنَحْوه» (2). أقول إنَّ حمل ألفاظ اللغة على الحقيقة صرفت إلى المجاز، وهذا كثير في اللغة، فكما تقول: خرجت المدينة تستقبل الحُجَّاجَ، وتقصد بذلك أكثر أهل المدينة، كذلك يجب أنْ تقول في مثل هذا الحديث وفي الآيات التي استدلَّ بها (المُشبِّهة) على رأيهم كآية (الاستواء) وغيرها. ويلزم من إنكار هذه الأحاديث لما فيها من التجسيم والتشبيه - على رأي المؤلف - إنكار جميع الآيات التي بهذا المعنى، ولا يقول بهذا مسلم، فكما صرفت ألفاظ تلك الآيات إلى المجاز تصرف ألفاظ بعض الأحاديث أيضاً إلى ذلك، لأنَّ بعض الأحاديث جاءت على سُنن ونهج القرآن الكريم. وإذا أبى أنْ تُصرف هذه الألفاظ إلى المجاز قلنا له: يلزم من هذا أن تسير المدينة - في مثالنا - بأبنيتها ومساجدها وبيوتها وأشجارها، وهذا لا يعقل ولا يتصور، وهو خلاف العادة والعرف لذلك وجب صرفه إلى المجاز، من غير أنْ نَرُدَّ ذلك الأصل اللغوي، الذي

_ (1) " فتح الباري ": ص 272، جـ 3. (2) " فتح الباري ": ص 272، جـ 3.

عليه العرب، أدباؤهم وفصحاؤهم وعامَّتهم منذ عرفه التاريخ. وعلى هذا الأصل نحمل بعض آيات القرآن الكريم وبعض أحاديث الرسول الأمين - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وبمثل هذه الاعتراضات يرد بعض الأحاديث، التي تتعرض لأحوال الأنبياء - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ وَسَلاَمُهُ -، والملائكة، وفي كل هذا لا يكف أذى لسانه عن أبي هريرة، فيستهزئ به تارة، ويزدريه أخرى، ويشتمه حيناً، ويتهكَّم عليه أحياناً ... ويتَّهمه بالتزوير مرة (1)، وبالهراء والهذر مراراً (2)، وذهب المؤلف إلى التشكيك في الأحاديث التي ساقها، والتي لم يخف منها على العلماء شيء، فبيَّنُوا صِحَّتَهَا ومعانيها ومناسباتها، وقارنوا ما رُوِيَ منها عن أبي هريرة بمرويات غيره - ولم يكن هذا خاصاً لحديث أبي هريرة، بل عامًّا لجميع الأحاديث - ولم يثبتوها في كتبهم إلاَّ بعد تحقيق ودراسة علمية عميقة. ثم إنَّ المؤلف خلال بحثه وعرضه لأكثر تلك الأحاديث، لم يتخلَّ عن هواه، فكان يرى أنَّ بعضها من وضع أبي هريرة لِيُرْضِي به الأمويِّين، من ذلك ما رواه عنه فقال في [ص 118]: «أخرج الشيخان عن أبي هريرة مرفوعاً: " اللهُمَّ إِنَّمَا مُحَمَّدٌ بَشَرٌ، يَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، وَإِنِّي قَدِ اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ آذَيْتُهُ، أَوْ سَبَبْتُهُ، أَوْ جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْهَا لَهُ كَفَّارَةً، وَقُرْبَةً، تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ». الحديث، ويرى أنَّ أبا هريرة «وضع هذا الحديث على عهد معاوية تزلُّفاً إليه، وتقرُّباً إلى آل أبي العاص، وسائر بني أمية، وتداركاً لما ثبت عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من لعن جماعة من منافقيهم، وفراعنتهم إذ كانوا يصدُّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، فسجل عليهم رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعلنه إياهم في كثير من مواقفه المشهودة خزياً مؤبَّداً، ليعلم الناس أنهم ليسوا من الله ورسوله في شيء فيأمن على الدين من نفاقهم» [ص 123، 124].

_ (1) انظر ص 77 من كتابه. (2) انظر ص 96 من كتابه.

هذه إحدى الروايات المطلقة (1)، التي ورد فيها إيذاء أو سب الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد وردت روايات أخرى مقيَّدة بيَّنت المراد من الروايات المطلقة، فقد جاء في رواية عنه - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -: «فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ، مِنْ أُمَّتِي، بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ، أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً، وَقُرْبَةً» (2)، ولم يذكر أحد من العلماء أنَّ أبا هريرة وضع هذا الحديث إرضاء لمعاوية. وماذا يقول عندما يعلم أنَّ عائشة أم المؤمنين وجابر بن عبد الله الأنصاري، وأنس بن مالك (3) - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - قد رَوَوْا هذا الحديث أيضاً؟ فهل وضعوه إرضاء لمعاوية!! أظن أنه لا يقول هذا أحد يعرف للصحابة منزلتهم وفضلهم وجليل قدرهم. ثم إنَّ هذا الحديث ورد في حديث طويل، حين داعب رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتيمة عند أم أنس بن مالك، وقال لها: «لَقَدْ كَبِرْتِ، لاَ كَبِرَ سِنُّكِ» فظنَّت اليتيمة أنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد دعا عليها، فاستفهمت أم أنس من الرسول عن ذلك فقال فيما قاله: «فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ، مِنْ أُمَّتِي، بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ، أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً، وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بِهَا مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (4). فإنَّ دعاءه - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - أو سبه لمؤمن ليس بأهل لذلك، يكون أجراً وطهراً له، وهذا من باب تلطف رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأمَّته، وقد ذكر الإمام النووي بعض المقصود من هذا الحديث، فقال: «أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ سَبِّهِ وَدُعَائِهِ وَنَحْوِهِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بَلْ هُوَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي وَصْلِ كَلامِهَا بِلاَ نِيَّةٍ كَقَوْلِهِ تَرِبَتْ يَمِينُكَ وعَقْرَى حَلْقَى وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ " لاَ كَبِرَتْ سِنُّكِ " وَفِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ لاَ " أَشْبَعَ

_ (1) انظر " صحيح مسلم ": ص 2007 - 2010، جـ 4. (2) " صحيح مسلم ": ص 2010، جـ 4. من حديث طويل رقم [95]. (3) انظر " صحيح مسلم ": ص 2007 و 2009، جـ 4. (4) " صحيح مسلم ": ص 2009، حديث 95، جـ 4.

اللَّهُ بَطْنَهُ "» (1) ونحو ذلك لا يقصدون بشيء من ذلك حقيقة الدعاء، فخاف - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنْ يصادف شيء من ذلك إجابة. فسأل ربه سبحانه وتعالى، ورغَّب إليه أنْ يجعل ذلك رحمة وكفَّارة وطهوراً وأجراً وإنما كان يقع هذا منه في النادر والشاذ من الأزمان، ولم يكن - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاحشاً ولا متفحشاً ولا لعَّاناً (2). وإلى جانب هذا، فإنَّ حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا يطمئن بأنَّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يقصد بما يجري على لسانه مِمَّا اعتاده العرب في كلامهم أذى ولا شتماً، وإنما يرجوه أنْ يكون رحمة وأجراً. هذه إحدى الصور التي يُعَلِّلُ بها سبب وضع أبي هريرة لحديث رُوِيَ في " الصحيحين "، وهو الذي ادَّعَى في كتابه أكثر من مَرَّّةٍ (التجرُّد العلمي والذوق الفني)، يكذِّبُ الصحابة، ويُفَسِّقُ بعض المسلمين، بل يُكَفِّرُهُمْ من غير دليل ولا برهان، فأي تجرُّد هذا؟ وأي تحقيق وبحث نزيه في مثل هذا!!؟ ثم يقول المؤلف: «وقد كان صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى في منامه كأنَّ بني الحكم بن أبي العاص ينزون على منبره كما تنزو القردة، فيردون الناس على أعقابهم القهقرى، فما رؤي بعدها مستجمعاً ضاحكاً حتى توفي، وقد أنزل الله تعالى عليه قرآناً يتلوه آناء الليل وأطراف النهار:» {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} (3). قال في الهامش هي الآية [6] من الإسراء. [ص 124]. وعزا حديث (المنام) إلى الحاكم الذي صحَّحه على شرط الشيخين، إلاَّ أنَّ الحاكم متساهل في تصحيحه، ولو سلمنا صحة (المنام) فما هي علاقته

_ (1) انظر تفصيل هذه الأخبار ومناسباتها في " صحيح مسلم بشرح النووي ": ص 154 - 155، جـ 16. (2) " صحيح مسلم بشرح النووي ": ص 152، جـ 16. (3) [الإسراء: 60، بلفظ: {طُغْيَانًا كَبِيرًا}.

بالآية؟ ثم إنَّ القرآن الكريم كله لا يحمل بين دفتيه آية كاملة بهذا اللفظ، والآية [60] من سورة الإسراء، لا السادسة كما ذكر، تختلف في ختامها، فليس فيها {طُغْيَانًا وَكُفْرًا} بل {طُغْيَانًا كَبِيرًا}، فحسنا الظن به وقلنا من المحتمل أنْ يكون هذا خطأ مطبعياً، إلاَّ أنه لم يشر إلى شيء في جدول الخطأ والصواب من كتابه، فلم يعد ينفع معه حسن الظن به، فتأكد لنا أنه يثبت هذا متيقناً من صحته؛ فهو يُحَرِّفُ الكلم عن مواضعه، ويبدِّلُ كلام الله تعالى كما يشاء، وأغرب من هذا أنه يستشهد بالآية الكريمة على أنها نزلت من أجل ذلك (المنام)، وأنَّ الشجرة الملعونة في القرآن هي الأسرة الأموية أخبره الله تعالى بتغلبهم على مقامه وقتلهم ذريَّته وعتيهم في أمَّته .. !! لا نعلم مصدراً موثوقاً يروي هذا!! فمن الأميرن الذي نقل لعبد الحُسين ذلك المنام؟ ومن الذي أخبره عن الشجرة الملعونة؟؟ وكل ما يذكره المؤلف عن مصادره في هذا قوله: «والصحاح فيه متوافرة ولا سيما من طريق العترة الطاهرة»!! شهد الله أني أُحِبُّ عَلِيًّا وأهله وعترته حُبًّا لا ينازعني فيه كثير مِمَّنْ يزعمون حُبَّهُ من شيعته في هذا العصر، لا أقول هذا مُتعصِّباً لنسبنا المتصل به، ولا تحزُّباً إليه، بل لأنه من أفضل الصحابة والخلفاء الراشدين ولحُبِّ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إيَّاهُ، وليده الكريمة الطيبة في الدفاع عن الإسلام .. فأي شيء عند عترته الطاهرة!؟ وقد قال - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ عِنْدَنَا شَيْئًا نَقْرَؤُهُ إِلاَّ كِتَابَ اللَّهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةَ، صَحِيفَةٌ فِيهَا أَسْنَانُ الإِبِلِ وَأَشْيَاءٌ مِنْ الْجِرَاحَاتِ فَقَدْ كَذَبَ ... » (1). بعد هذا لا يمكننا أنْ نقبل هذا التأويل للآية الكريمة، ولا يمكننا أنْ نثق بذلك الإخبار عن الشجرة الملعونة التي ذكرها المؤلف. وكل ما جاء في هذا الموضوع في أشهر التفاسير: أنَّ هذه الآية الكريمة تتناول جانباً مِمَّا جاء في ليلة المعراج المبارك، والرؤيا المقصودة هنا «ما عاينه - عَلَيْهِ الصَلاَةُ

_ (1) " مسند الإمام أحمد ": ص 44، جـ 2، رقم 615 بإسناد صحيح ونحوه كثير في " المسند " بهذا المعنى.

وَالسَّلاَمُ - ليلة المعراج من عجائب الأرض والسماء حسبما ذكر في فاتحة السورة الكريمة» (1). «{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء: 60] عطف على الرؤيا ... » (2). ولم يذكر أحد قط أنَّ هذه الشجرة هي الأسرة الأموية - اللهم إلاَّ ما ذكره عبد الحسين - والشجرة تلك التي «تنبُت في أصل الجحيم في أبعدِ مكان من الرحمة، أي وما جعلناها إلاَّ فتنةً لهم حيث أنكروا - (المشركون) - ذلك وقالوا إنَّ محمداً يزعُم أنَّ الجحيمَ يحرُق الحجارةَ ثم يقول ينبُت فيها الشجرُ ولقد ضلوا في ذلك ضلالاً بعيداً ... » (3). فماذا نقول في مؤلف ينتحل على الله - عَزَّ وَجَلَّ - ما لم يسمع به إنسان، ويفسِّرُ الآيات بهواه، ويزعم أنَّ هذا يتهم راوية الإسلام أبا هريرة!! أنَّ جميع ما وجَّهَهُ من الطعون إلى أبي هريرة، لو وجهت إليه أضعاف مضاعفة، ما وفَّت رَدًّا على دعواه في تلك الصفحة من كتابه. ويتابع المؤلف سرده بعض الأحاديث التي رواها أبو هريرة، ويحاول الطعن فيها والتشنيع على راويها، وينتهي به تحقيقه واستنتاجه، إلى أنَّ مسند أبي هريرة في حكم المرسل لا يصلح حُجَّة ولا يقوم دليلاً، [ص 250] ضارباً عمل الأمَّة بحديث أبي هريرة من لدن الصحابة إلى عهدنا عرض الحائط، مُخَطِّئاً العلماء والفقهاء، بل مُخَطِّئاً الصحابة أنفسهم الذين حملوا عنه حديثه وعملوا به. فكان مُخْطِئاً في بحثه، ضالاً في نتائجه غير دقيق في استنباطه واستنتاجه. وقد أداه إلى ذلك هواه وتعصُّبه واعتماده على الروايات الضعيفة (4)، والكتب غير الموثوقة، ونظرته الضيِّقة التي جعلته يرى في أبي هريرة الرجل المُتَّهم دائماً بل الرجل المتلبِّسَ بالجُرم الثابت. لذلك كانت نتائجه أحياناً تسبق بحثه واستنتاجه وحكمه، وكثيراً ما كان يتأوَّلُ بعض النصوص ويُحَمِّلُهَا ما لا تحتمل حتى انتهى إلى أنَّ رسول الله قد أخبر عنه بأنه

_ (1 و 2 و 3) " تفسير أبي السعود ": 3/ 223. (4) لذلك لم أتعرَّض إلى بعض ما ذكره المؤلف لأنه استقاهُ من كتب غير موثوقة، أو من كتب موثوقة نَصَّتْ على ضعفه، من ذلك ما رواه عن مزود أبي هريرة الذي قال في روايته الترمذي: حسن غريب. وغيره. انظر " سير أعلام النبلاء ": ص 452، جـ 2.

من أهل النار (انظر صفحة 310 و 315 من كتابه)، ويفسِّرُ بعض الأخابر بما تمليه عليه عواطفه، وقد أشرت إلى هذا فيما سبق، كما أنه حَمَّلَ أبا هريرة وِزْرَ الوَضَّاعِينَ الذين استغلُّوا كثرة حديثه، ووضعوا بعض الأخبار على لسانه، وكل ذلك بَيَّنَهُ رجال النقد. وإني أدعو العلماء المُنصفين إلى استقراء مرويات أبي هريرة - أجمع ما لدينا " مسند الإمام أحمد " - فإنهم لن يجدوا له حديثاً يخالف فيه الأصول العامة للشريعة أو يتفرَّد بحديث شاذ ينكر عليه، وما من حديث استشهد به الكاتب إلاَّ عرف المحدِّثون والنُقَّادُ فيمته، وما من شُبهة أوردها على أبي هريرة أو على مروياته إلاَّ رَدَّهَا الحُفَّاظُ، وأزالوا أشكالها وبَيَّنُوا حقيقتها، حتى أسفر وجه الحق، ونجا أبو هريرة من تلك الأعاصير المصطنعة التي عصفت حوله، ومن تلك الأمواج الغدَّارة التي تلاطمت على قدميه. فبقي صامداً أبد الدهر يحترمه الجمهور، ويعرفون مكانته ومنزلته، وارتدَّت تلك الهجمات الضالة على أعقابها خامدة مكتومة الأنفاس تَجُرُّ وراءها ذيول الخزي والانكسار، ولم تزل بعض بقايا هؤلاء تحمل لواء مهاجمة أبي هريرة واتِّهامه، إلاَّ أنهم قِلَّةٌ لا يذكرون، ولن يستطيعوا أنْ يخدشوا من عدالة أبي هريرة، أكثر مِمَّا يخدش طفل صغير في جبل شامخ بظفره. ولا بُدَّ لي من أنْ أشير هنا إلى ما كتبه مؤلف كتاب " أضواء على السُنَّة المحمدية " حول أبي هريرة زيادة على ما جاء في كتاب عبد الحُسين شرف الدين. لقد ذكر الكاتب أكثر ما كتبه صاحب كتاب " أبو هريرة " إذ كان من مراجعه الأساسية، وقد أثنى عليه في كتابه في أكثر من موضع (1)، ودعم آراءه وأقواله بما جاء في " دائرة المعارف الإسلامية " (2) عن (شبرنجر) و (جولدتسيهر)، وكان أكثر طعناً في أبي هريرة من أستاذه، وأسلط لساناً، وأشدَّ منه في استهزائه وازدرائه إياه. فلم ير صحبته للرسول - صَلََّى اللهُ

_ (1) انظر هامش الصفحة 157 من كتابه. (2) انظر صفحة 171 - 172 من كتابه " أضواء على السُنَّة المحمدية ".

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاَّ من أجل أكله وشربه، وقد صوَّرهُ طفيلياً جشعاً نهماً، يقف على الأبواب، ويتصدَّى لأصحابه في الطريق حتى إنهم لَيَنْفِرُونَ منه أحياناً، ولَقَّبَهُ بـ (شَيْخِ المُضَيْرَةِ) اعتماداً على ما استقاه من كتب الندماء والظرفاء، وكتب الأدب التي رآها مصدراً حسناً للسُنَّةِ!!! (1)، ويجمع من الأخبار صحيحها وسقيمها من غير أنْ يُمَحِّص فيها، مثال ذلك ما رواه (أبو نعيم في " الحلية "، قال: كان أبو هريرة يطوف بالبيت وهو يقول: «وَيْلٌ لِي مِنْ بَطْنِي، إِذَا أَشْبَعْتُهُ كَظَّنِي، وَإِنَّ أَجَعْتُهُ سَبَّنِي» (2). ذكر هذه الرواية دون أي تعليق لأنها تُؤَيِّدُ ما زعم. إلاَّ أنَّ راوي هذا الخبر ضعيف مردود، لأنَّ فرقد هذا ليس من أصحاب الحديث. وإليكم أقوال العلماء فيه: قال أيوب السختياني: «ليس بشيء ولم يكن صاحب حديث». قال علي بن المديني عن يحيى القطان: «ما يعجبني التحديث عنه». قال الإمام أحمد: «إنه رجل صالح ليس بقويٍّ في الحديث لم يكن صاحب حديث». قال يحيى بن معين: «ليس بذاك، وقال مَرَّةً: ثقة ... ». قال البخاري: «في حديثه مناكير». قال النسائي: «ليس بثقة». قال يعقوب بن شيبة: «رجل صالح ضعيف الحديث جداً». قال أبو حاتم الرازي: «ليس بقويٍّ في الحديث ... ». وأما ابن حجر فلم يذكر سماعه من أبي هريرة (3)، وأقول إنَّ سماعه غير محتمل لأنه توفي سَنَةَ إحدى وثلاثين ومائة وأبو هريرة توفي في أبعد الأقوال سَنَةَ تسع وخمسين، فمتى سمعه ووعى عنه، ولو سلَّمنا سماعه، فإنه غير ثقة.

_ (1) انظر صفحة 156 من كتابه " أضواء على السُنَّة المحمدية ". (2) انظر صفحة 157 من كتابه " أضواء على السُنَّة المحمدية ". و " الحِلية ": ص 382، جـ 1. (3) " تهذيب التهذيب ": ص 263، جـ 8.

هل كان أبو هريرة تلميذا لكعب الأحبار؟:

وقال ابن حبان: «فيه غفلة، ورداءة حفظ، فكان يرفع المراسيل وهو لا يعلم ويسند الموقوف من حيث لا يفهم، فبطل الاحتجاج به» (1). وأمثال هذه الرواية كثير في كتابه سأتعرض لبعضها بعد قليل. ... هل كان أبو هريرة تلميذاً لكعب الأحبار؟: (2). وكما اتَّهمه عبد الحُسين (3) بالأخذ عن كعب الأحبار اتَّهمه أيضاً أبو رية بذلك، وهَوَّلَ هذا الزعم، وصوَّرهُ مؤامرة دبَّرها كعب الأحبار لِبَثِّ الإسرائيليات في الدين الإسلامي، وجعل أبا هريرة مطيَّة له من أجل ذلك، ويرى أيو ريَّة أنَّ كعباً «قد سلَّط قوة دهائه على سذاجة أبي هريرة لكي يستحوذ عليه ويُنيِّمَهُ ليلقِّنه كل ما يريد أنْ يبثَّهُ في الدين الإسلامي من خرافات وأوهام، وكان له في ذلك أساليب غريبة وطرق عجيبة» [ص 172]. ويرى أبو ريَّة أنَّ كعباً كن يثني على أبي هريرة وعلى معرفته لما في " التوراة "، ليثق الناس به ويأخذوا عنه حديثه الذي يلقِّنَهُ إياه كعب. هكذا يتصوَّرُ أبو ريَّة، ويرى أبا هريرة ألعوبة في يد كعب يأخذ عنه ويدَّعِي أنه سمع من الرسول!!! ما كان لكعب ولا لغير كعب أن يشتري ضمير أبي هريرة الذي عرفناه في أمانته وصدقه وإخلاصه. وحاول أنْ يستشهد ببعض الأحاديث ليدعم زعمه إلاَّ أنه لم يوفَّق في واحد منها (4).

_ (1) المرجع السابق: ص 264، جـ 8. و " ميزان الاعتدال ": ص 327، جـ 2، ترجمة 2614. (2) انظر " أضواء على السُنَّة المحمدية ": ص 125. فقد ذكر المؤلف رواية أبي هريرة وعبد الله بن عمرو حديث «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ... ». ثم قال: «وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو من تلاميذ كعب الأحبار». (3) " أبو هريرة ": ص 57. (4) فقد رَدَّ عليه كل ما ادَّعاه الأستاذ عبد الرحمن المعلَّمي اليماني في كتابه " الأنوار الكاشفة "، ومدير دار الحديث بمكة الأستاذ محمد عبد الرزاق حمزة في كتابه " ظلمات أبي رِيَّة "، وفضيلة الأستاذ محمد محمد السماحي أستاذ علوم الحديث في كلية أصول الدين في كتابه " المنهج الحديث ". ثم نشر رَدَّهُ في كتاب سَمَّاهُ " أبو هريرة في الميزان ". وهذه الردود تفصيلية. وكان الدكتور مصطفى السباعي رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه في جامعة دمشق يطبع كتابه " السُنَّة " فتعرَّض للرد على أبي رِيَّةَ (ص 305 - 364) رَدَّا قوياً، إلاَّ أنَّ سوء أحواله الصحية ومرضه حال بينه وبين الرَدِّ التفصيلي عليه.

والمشهور عن أبي هريرة أنه كان يعزو كل ما يُحَدِّثُ به عن غير النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قائله، فبالأحرى أنْ يبيِّن حديث كعب، وما يقوله له كعب، ولا يمكن لإنسان أنْ يتصوَّر أبا هريرة الذي روى حديث: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يكذب على لسان الرسول - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -، وينسب ما يقوله كعب إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخاصة أنَّ كعب الأحبار لم يلق النبي - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -. فإنْ كان أبو هريرة وابن عباس قد سمعا من كعب وَرَوَيَا عنه فإنما رَوَيَا أخبار الأمم الماضية وعَزَوَاهَا إليه. وربما يكون بعض السامعين قد خلط بين ما يروي أبو هريرة عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما يرويه من القصص عن كعب، ويثبت ذلك ما قاله [بُسْرٌِ بنِ سَعِيدٍ]: «اتَّقُوا اللهَ، وَتَحَفَّظُوا مِنَ الحَدِيثِ، فَوَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُنَا نُجَالِسُ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَيُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُحَدِّثُنَا عَنْ كَعْبٍ (الأحبار)، ثُمَّ يَقُوْمُ، فَأَسْمَعُ بَعْضَ مَنْ كَانَ مَعَنَا يَجْعَلُ حَدِيْثَ رَسُوْلِ اللهِ عَنْ كَعْبٍ، وَيَجْعَلُ حَدِيْثَ كَعْبٍ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» (1). فليس في تحديث أبي هريرة عن كعب أيُّ حرج أو مانع وقد سمح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك فقال: «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ»، ولكن ليس لأحد أنْ يزعم أنه كان يسب ما يُحَدِّثُ به عن كعب إلى الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد بان وجه الحق فيما رويناه من أنَّ بعض من كان يسمع ذلك كان يخطئ في نسبة ما سمع من أبي هريرة إلى الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... فما جريرة أبي هريرة في ذلك؟. والغريب من أمر المؤلف أنه يتعجَّبُ من بعض الأحاديث التي يرويها أبو هريرة ويوافقه عليها كعب، ويستشهد بما يؤيِّدها من " التوراة ". مثال ذلك، قوله: «وإليك مثلاً من ذلك نختم به ما ننقله من الأحاديث التي رواها أبو هريرة عن النبي وهي في الحقيقة من الإسرائيليات حتى لا يطول

_ (1) " سير أعلام النبلاء ": ص 436، جـ 2 عن بُشر بن سعيد وأخرجه مسلم عن بشير وهو الأصح.

بنا القول: روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أنَّ رسول الله قال: " إِنَّ فِي الجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ سَنَةٍ عَامٍ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30] ". ولم يكد أبو هريرة يروي هذا الحديث حتى أسرع كعب فقال: " صدق والذي أنزل التوراة على موسى، والفرقان على محمد " ... » (1). ما وجه الإنكار لهذا الحديث، وقد رواه عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عدد من الصحابة، وأخرجه الأئمة الأعلام في الصحاح والسُنن والمسانيد والمُصنَّفات، ورواه عن هؤلاء الصحابة خلق كثير من التابعين، فهل خدع كعب في قوله هذا؟ أم أنَّ هناك غايات وراء الميول والأهواء التي حملت أمثال هؤلاء على النيل من السُنَّة ورُواتها للتشكيك فيها بمجانبة البحث العلميِّ حيناً وبالتدليس والكذب أحياناً. هذا الحديث الذي أنكره، حديث الشجرة التي يسير الراكب في ظلها مائة عام في الجنة ولا يقطعها، رواة الأئمة الأعلام وسأذكر أكثرهم لا على سبيل الحصر: رواه أحمد عن أبي هريرة في " مسنده ". ورواه مسلم عنه في " صحيحه ". ورواه البخاري عنه في " صحيحه ". ورواه عبد الرزاق عنه في " مُصَنَّفِهِ ". ورواه ابن جرير الطبري عنه في " تفسيره ". ورواه الترمذي عنه في كتابه " الجامع الصحيح ". وسمعه من أبي هريرة الأعرج، وعبد الرحمن بن أبي عمرة، وهمَّام بن منبه، ومحمد بن زياد، والمقبر، ومحمد بن سيرين، وأبو الضحاك،

_ (1) " أضواء على السُنَّة المحمدية ": ص 177، وروى هذا الحديث الإمام مسلم.

ومحمد بن عمرو بن أبي سلمة، وعبد الرحيم بن سليمان، وزيادة مولى بني مخزوم. وروى هذا الحديث أنس بن مالك عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأخرجه البخاري عنه في " الصحيح "، وابو داود الطيالسي في " المسند "، وأبو يعلى الموصلي في " المسند " أيضاً. وروى هذا الحديث أيضاً أبو سعيد الخُدري وسهل بن سعد الساعدي عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأخرجه عنهما البخاري ومسلم في " صحيحيهما " (1). قال ابن كثير: «فَهَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ مُتَوَاتِرٌ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ النُّقَّادِ، لِتَعَدُّدِ طُرُقِهِ، وَقُوَّةِ أَسَانِيدِهِ وَثِقَةِ رِجَالِهِ» [" تفسير ابن كثير " طبعة المنار: ص 187 و 188، جـ 8]. وأخرج حديث أبي هريرة أيضاً: ابن أبي شيبة في " المصنَّف "، وهنَّاد في " المسند "، وعبد الرحمن بن حُميد في " المسند "، وابن المنذر في " تفسيره "، وابن مردويه في " تفسيره ". وأخرج حديث أنس أيضاً: أحمد في " المسند "، والترمذي في " جامعه "، وابن جرير في " التفسير "، وابن المنذر في " التفسير "، وابن مردويه في " التفسير ". وأخرج حديث أبي سعيد الخُدري أيضاً ابن مردويه في " تفسيره ". وروى ابن عباس الحديث موقوفاً عليه، وأخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه في " تفسيريهما " (2). وروت أسماء بنت أبي بكر الصدِّيق هذا الحديث وأخرجه الترمذي (3).

_ (1) انظر " جامع الأصول ": ص 138، جـ 11. (2) انظر " الدر المنثور " للسيوطي: ص 157، جـ 6. (3) انظر " جامع الأصول ": ص 138، جـ 11. وينظر حديث أبي هريرة أيضاً في " مجمع الزوائد ": ص 414، جـ 8.

بعد كل هذا هل من سبيل لاتِّهام أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -؟ أيتَّهِمُُهُ الكاتب لأنه روى بكل أمانة ما سمعه من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما سمع غيره وروى!!؟ أصبح واضحاً لكل ذي لُبٍّ أنَّ الطعن في أبي هريرة مقصود لذاته، وفي سبيل توهين السُنَّة وزعزعة ثقة الناس برُواتها ... وكل هذا لا يستقيم على منهج البحث، ولن يتحقَّق شيء منه لمن أبغض الصحابة إشباعاً لميله وهواهُ ... لم يبق لإنكار الكاتب هذا الحديث على أبي هريرة، أم أنه ينكره لضخامة الشجرة، أو لسير الراكب مائة عام في ظلها؟ أم أنه أنكر عليه كل هذا لأنه لم يعهد في حياته مثلها؟. هل يريد الكاتب أنْ ينفي كل ما لم يتصوَّره عقله وتفكيره؟ إنْ أراد هذا وجب عليه أنْ ينفي كثيراً من المخترعات التي نسمع بها ولا نراها، أو ينفي كثيراً مِمَّا جاء في القرآن الكريم. بل عليه أنْ يترك جانباً عظيماً من اللغة العربية، ذلك لأنَّ بعض ما جاء في السُنَّة من ألفاظ وعبارات، إنما جاء على نسق وسُنن ما حكاه القرآن الكريم من عبارات سِيقَتْ من باب المجاز لا من باب الحقيقة، تخاطب الإحساسات النفسية والنفوس البشرية لتتصوَّر عظمة ما يمثله القرآن الكريم من الثواب والعقاب ... لذلك وجب علينا أنْ نصرف الألفاظ والعبارات التي لا تطابق الحقيقة إلى المجاز، فللعدد معنى خاص لا يتناول غيره، وقد أجمع المُفسِّرون على أنَّ بعض ما ذكره من الأعداد في القرآن الكريم إنما جاء لا للحصر، وكذلك ما جاء في السُنَّة - في مثل هذا المقام - من العبارات الكثيرة التي لا تتناول حقيقة العدد. وهنا إنما ورد للتكثير وبيان إتساع ذلك الظل الذي أعدَّهُ الله تعالى للمؤمنين، فمن الخطأ أنْ يجعل المؤلف الحقيقة والواقع ميزاناً لتلك الألفاظ التي وردت من باب المجاز، لأنه في ذلك سيجانب القواعد المُسَلَّمَةَ في اللغة، ويقع معها في أخطاء فادحة، لا يقرُّهُ عليها أحد، ويلزم من هذا عدم فائدة الاستعارات والكنايات، والمجازات العقلية، التي

تُشَكِّلُ جانباً عظيماً في تراثنا الأدبي، ما دام المؤلف سيصرف كل لفظ إلى حقيقته!! ثم إنَّ العلم الحديث يُرَجِّحُ أنَّ لفظ هذا الخبر من باب الحقيقة لا من باب المجاز، فإذا عرفنا أنَّ سرعة الضوء [300,000] ثلاثمائة ألف كيلومتراً في الثانية، وأنَّ ضوء كثير من الكواكب والنجوم يستغرق وصوله إلينا ساعات ضوئية، ومنها ما يستغرق أياماً بل عشرات السنين الضوئية ... وإذا تذكَّرنا إلى جانب هذا قوله تعالى: { ... وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (1). وقوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في وصف الجنة: «فِيهَا مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» (2) إذا تذكَّرنا كل هذا، أدركنا أنه ليس في هذا الحديث ما يثير العجب العجاب، ولا ما يستدعي الإنكار على راويه، بل نزداد إيمانا بصحة هذا الخبر الذي أيَّدَهُ النقل والعقل والمقاييس العلمية ... ولن أطيل في هذا مع أبي رِيَّة، بل أترك للدكتور طه حُسين أنْ يُبَيِّنَ رأيه في بعض ما ذكره المؤلف في كتابه، علماً بأنَّ كلمة الدكتور طه حسين كلمة ثناء على المؤلف وعلى كتابه، وقد نشر المؤلف بعض هذه الكلمة - بعد أنْ رفع منها سقطاته التي أخذها عليه الدكتور طه حسين - في كراسة صغيرة كشهادة قيِّمة في كتابه (3)!!!

_ (1) [الحديد: 21]. (2) " صحيح مسلم ": ص 2175، جـ 4، حديث 5. أخرجه عن سهل بن سعد الساعدي. (3) لقد ثارت ضَجَّةٌ علمية حول كتاب " أضواء على السُنَّة المحمدية " لأبي رِيَّةَ لما فيه من انحراف عن الصواب، ومخالفة للعلم وطعون بعض الصحابة والتابعين، واستخفاف بالمدونات الحديثية، وأخطاء علمية واضحة تخالف الواقع التاريخي، وما ذكره الدكتور طه حسين من مآخذ عليه لا يساوي عشر ما ورد فيه، إلى جانب التحريف في بعض النصوص، وعَزْوِ بعض الأقوال إلى غير أصحابها، وقد ذكرتُ بعض ذلك في مواضعه، كما بَيَّنْتُ الكتب التي صدرت رَدًّا على الكتاب المذكور. ومن العجيب أنْ ينشر هذا الخطل في القول، وينتقل إلى مختلف الطبقات على ما فيه من =

فبعد أنْ تكلم الدكتور عن الكتاب وموضوعه وجهود مؤلفه قال (1): «وهذا كله سجله المؤلف في كتابه ولكنه لم يبتكره من عند نفسه وإنما هو شيء كان المُتقنون من علماء المسلمين يقولونه ويُذيعونه في كتبهم كما فعل ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما ... » ولكن المؤلف مع ذلك قد أسرف على نفسه في بعض المواطن، ولست أريد أنْ أذكر هذه المواطن كلها للإسراف في الإطالة، وإنما أكتفي بضرب الأمثال: فمنها مثلاً هذه المؤامرة التي دُبِّرَ فيها مقتل عمر بن الخطاب - رَحِمَهُ اللهُ -، وشارك فيها كعب الأحبار وهو يهودي أسلم أيام عمر، والرُواة يُحَدِّثُونَنَا بأنَّ كعباً هذا أنبأ عمر بأنه مقتول في ثلاث ليالٍ، فلما سأله عمر عن ذلك زعم أنه يجده في " التوراة "، فدهش عمر لأنَّ اسمه يذكر في " التوراة " ولكن كعباً أنبأه بأنه لا يجد اسمه في " التوراة " وإنما يجد صفته. ثم غدا عليه في اليوم الثاني لهذا الحديث فقال له: بقي يومان. ثم غدا عليه في اليوم الثالث فقال له: مضى يومان وبقي يوم وإنك مقتول من غد، فلما كان الغد في صلاة الصبح أقبل ذلك العبد الأعمى فطعنه وهو يُسَوِّي الصفوف للصلاة، والمؤلف يؤكِّد أنَّ عمر إنما قتل نتيجة لمؤامرة دَبَّرَهَا الهُرْمُزَانُ وشارك فيها كعب، ويؤكد أنَّ هذه المؤامرة ثابتة لا يشك فيها إلاَّ الجهلاء. وأريد أنْ أؤكِّدَ أنا للمؤلف أني أنا أحد هؤلاء الجُهلاء، لأني أشك في

_ = أخطاء فادحة، وطعون صريحة، مِمَّا يدخل الشك في نفوس الذين لم يؤتوا نصيباً كافياً من الاطلاع على هذا العلم العظيم الواسع. فقد نشرت مجلة (روز اليوسف) في عددها 1722 - السَنَة السادسة والثلاثون - (يوم الاثنين 12 يونيو سَنَة 1961) مناقشة لأبي رِيَّةَ مع أحد مُحَرِّرِيهَا، تحت عنوان (العقل والدين). تدور تلك المناقشة حول ما جاء في كتاب أبي رية والأحاديث النبوية، وقد طعن في السُنَّةِ على الملأِ وفي كتب الصحاح، وفي تدوين السُنَّةِ، فأعطى صورة مُشَوَّهَةً لتاريخ السُنَّةِ ورجالها، وهاجم أبا هريرة، وأقل ما قاله فيه: إنه هو الذي أفسد الحديث، وإنه لم تكن له أيَّة مكانة في عهد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء الأربعة، وادَّعَى أنَّ بعض الأحاديث تتنافى مع العقل والقرآن والعلم، وشهد الله أني لولا الإطالة، لأَثْبَتُّ كلمته، وبَيَّنْتُ فِرْيَتَهُ. (1) " جريدة الجمهورية "، عدد الثلاثاء، 25 نوفمبر (تشرين الثاني) سَنَةَ 1958، تحت عنوان " أضواء على السُنَّةِ المحمدية ".

هذه المؤامرة أشد الشك وأقواه، ولا أراها إلاَّ وهماً، فقد قتل ذلك العبد المشؤوم نفسه قبل أنْ يسأل، وتعجَّل عبيد الله بن عمر فقتل الهرمزان دون أنْ يسأل، وعاش كعب الأحبار هذا سبعة أعوام أو ثمانية دون أنْ يسأله أحد أو يتَّهمه أحد بالاشتراك في هذا المؤامرة، وكان كثيراً ما يدخل على عثمان، ثم ترك المدينة وذهب إلى حمص فأقام فيها حتى مات سَنَةَ اثنتين وثلاثين للهجرة، فمن أين استطاع المؤلف أنْ يؤكِّد وقوع هذه المؤامرة أولاً، ومشاركة كعب فيها ثانياً، مع أنَّ المسلمين قد غضبوا حين تعجَّّلَ عبيد الله بن عمر حين قتل الهُرمزان جهلاً عليه، ولم يقدِّمه إلى الخليفة، ولم يقم عليه البيِّنة لأنه شارك من قريب أو من بعيد في قتل أبيه. وقد ألحَّ جماعة من المسلمين من أصحاب النبي - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - على عثمان أنْ يقيم الحَدَّ على عبيد الله لأنه قتل مسلماً دون أنْ يقاضيه إلى الإمام، ودون أنْ يُثْبِتَ عليه قتل عمر بالبيِّنة، فعفا عنه عثمان مخافة أنْ يقول الناس: قتل عمر أمس ويقتل ابنه اليوم. وعدَّ الثائرون على عثمان هذا العفو إحدى أغلاطه، و كان عَلِيٌّ حين تولى الخلافة مزمعاً معاقبة عُبيد الله على فعلته تلك، ولكنه هرب من عَلِيٍّ ولجأ إلى معاوية، فعاش في ظله، وقُتل في موقعة صِفِّينْ، ولم يسأل عثمان كعباً عن شيء. ولم يتَّهمه أحد بشيء وقد ذهب من المدينة إلى الشام ومعاوية أمير عليها، فعاش فيها حتى مات فلم يسأله معاوية عن شيء، فمن أين يأتي هذا التأكيد الذي ألحَّ فيه المؤلف حتى لعن كعباً ولم يكن له ذلك فالمعروف من أمر كعب أنه أسلم، والمعروف كذلك أنَّ لعن المسلمين غير جائز. ومثل آخر في الصفحة [154] حين زعم أنَّ أبا هريرة - رَحِمَهُ اللهُ - لم يصاحب النبي محبَّة له أوطلباً لما عنده من الدين والهُدَى، وإنما صاحبه على ملء بطنه، كان مسكيناً وكان النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطعمه، والمؤلف يروي لإثبات ذلك حديثاً رواهُ أحمد بن حنبل ورواه البخاري ولكن مسلماً نفسه روى هذا الحديث نفسه عن أبي هريرة ونص الحديث عند مسلم أصرح وأوضح من نصه عند البخاري وابن حنبل، فقد كان

أبو هريرة يقول فيما روى مسلم أنه كان يخدم النبي على ملء بطنه، وفرق بين من يقول إنه كان يخدم ومن يقول إنه كان يصاحب، وحسن الظن في هذه المواطن شر من سوئه، وما أظن أبا هريرة أقبل من اليمن مع من أقبل منها إلى النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا ليؤمن به ولا ليأخذ عنه الدين بل ليملأ بطنه عنده. هذا إسراف في التأويل وفي إساءة الظن. والمؤلف شديد على أبي هريرة شِدَّةً أخشى أنْ يكون قد أسرف فيها شيئاً. فنحن نسلِّمُ أنَّ أبا هريرة كان كثير الحديث عن النبي، وأنَّ عمر شَدَّدَ عليه في ذلك، وأنَّ بعض أصحاب النبي أنكروا بعض حديثه، وأنه أخذ كثيراً عن كعب الأحبار، وكان المؤلف يستطيع أنْ يُسَجِّلَ هذا كله تسجيلاً موضوعياً كما قال، ودون أنْ يقحم فيه غيظاً أو موجدة، فهو لا يكتب قصة ولا يكتب أدباً فيظهر شخصيته بما ركب فيها من الغضب والغيظ والموجدة، وإنما يكتب علماً يتَّصل بالدين، وأخص مزايا العلماء ولا سيما في هذا العصر أنهم ينسبون أنفسهم حين يكتبون العلم أنهم يبحثون ويُقَرِّرُونَ بعقولهم لا بعواطفهم. فمن الظلم لأبي هريرة أنْ يقال إنه لم يصاحب النبي إلاَّ ليأكل من طعامه والذي نعلمه أنه أسلم وصلى مع النبي وسمع منه بعض أحاديثه، فليقل فيه المؤلف أنه لم يصاحب النبي إلاَّ ثلاث سنين، وقد روى من الحديث أكثر مِمَّا روى المهاجرون الذين صحبوا النبي بمكة والمدينة، وأكثر من الأنصار الذين صاحبوا النبي منذ هاجر إلى المدينة حتى آثره الله بجواره، وهذا يكفي للتحفُّظ والاحتياط بإزاء ما يروى عنه من الحديث. وأخرى أريد أنْ أثبتها هنا هي أنَّ المؤلف يقول في حديثه الطويل عن أبي هريرة أنه لحرصه على الأكل ورغبته ي الطيبات كان يأكل عند معاوية ويصلِّي مع عَلِيٍّ ويقول: إنَّ الأكل مع معاوية أدسم أو بعبارة أدق إنَّ المضيرة عند معاوية أدسم - والمُضَيْرَةُ لون من الحلوى - وإنَّ الصلاة مع عَلِيٍّ أفضل.

وأريد أنْ أعرف كيف كان يجتمع لأبي هريرة أنْ يأكل عند معاوية، ويصلِّي مع عَلِيٍّ، وقد كان أحدهما في العراق والآخر في الشام، أو أحدهما في المدينة والآخر في الشام إلاَّ أنْ يكون قد فعل ذلك أثناء الحرب، إذن لاتَّهَمَهُ أحد الفريقين بالنفاق والتَجَسُّسِ. وإنما هذا كلام قيل في بعض الكتب وكان يجب على الأستاذ المؤلف أنْ يتحقَّق منه قبل أنْ يثبته. فهذا أيسر ما يجب على العلماء. وبعد ... فالمؤلف يطيل في تأكيد ما اتفقت عليه جماعة المسلمين من أنَّ الأحاديث التي يرويها الأفراد والآحاد كما يقول المُحَدِّثُونَ لا تفيد القطع وإنما تفيد الظن وحده ومن أجل ذلك لا يستدل المسلميون بهذه الأحاديث على أصول الدين وعقائده وإنما يستدلون بها أحياناً على الأحكام الفرعية في الفقه، وعلى فضائل الأعمال ويستعان بها على الترغيب في الخير والتخويف من الشر. وكل هذه الأحاديث التي اعتمد عليها المؤلف في المواضع التي ضربنا لها الأمثال إنما هي أحاديث رواها الأفراد والآحاد فهي لا تفيد قطعاً ولا يقيناً، فما باله يرغب عن الإفراط في الثقة بهذه الأحاديث، ثم يستدل بها هو ليتهم الناس بأشياء لا سبيل له إلى إثباتها. وملاحظة أخيرة أختم بها هذا الحديث الذي أراه على طوله موجزاً، وهي أنَّ المؤلف قد أخذ في كتابه وهو مؤمن فيما يظهر بأنه لن يظفر برضا الناس عنه ولن يظفر برضا فريق من رجال الدين خاصة، فعرَّض بهم أحياناً، واشتدَّ عليهم أحياناً أخرى، ووصفهم بالجمود حيناً وبالتقليد حيناً، وبالحشوية أحياناً، فأغرى هؤلاء الناس بنفسه وسلطهم على كتابه، وخيَّل إليهم أنه يبغضهم، ولا يراهم أهلاً للبحث القيِّم، والمحاولة لاستكشاف حقائق العلم، ولو أنه صبر حتى يخرج كتابه ويقرأه الناس، ويسمع رأيهم فيه ونقدهم له لكان هذا الصبر خيراً له وأبقى عليه. ويثني على جهوده بكلمات معدودة ثم يقول: «ولا بأس عليه من هذه

الهنات» (1) التي أشرت إلى بعضها، فالذين يبرؤون من النقص والتقصير أو الهفوات أحياناً لا يكادون يوجدون، وصدق بشار حين قال: إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظئمت وأي الناس تصفو مشاربه طه حسين ... وأختم البحث بكلمة لابن خزيمة (2) يدافع فيها عن أبي هريرة ويبيِّنُ أصناف الطاعنين فيه، فتظهر من خلالها منزلة أبي هريرة ومكانته، وفي هذا مسك الختام. قال ابن خزيمة: «وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ فِي أَبِي هُرَيْرَةَ لِدَفْعِ أَخْبَارِهِ مَنْ قَدْ أَعْمَى اللَّهُ قُلُوبَهُمْ فَلاَ يَفْهَمُونَ مَعَانِيَ الأَخْبَارِ: - إِمَّا مُعَطِّلٌ جَهْمِيٌّ يَسْمَعُ أَخْبَارَهُ الَّتِي يَرَوْنَهَا خِلاَفَ مَذْهَبِهِمُ - الَّذِي هُوَ كَفْرٌ - فَيَشْتُمونَ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَيَرْمُونَهُ بِمَا اللَّهُ تَعَالَى قَدْ نَزَّهَهُ عَنْهُ تَمْوِيهًا عَلَى الرِّعَاءِ وَالسَّفِلِ، أَنَّ أَخْبَارَهُ لَا تَثْبُتُ بِهَا الْحُجَّةُ؟ - وَإِمَّا خَارِجِيٌّ، يَرَى السَّيْفَ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلاَ يَرَى طَاعَةَ خَلِيفَةٍ، وَلاَ إِمَامٍ إِذَا سَمِعَ أَخْبَارَ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلاَفَ مَذْهَبِهِمُ الَّذِي هُوَ ضَلاَلٌ، لَمْ يَجِدْ حِيلَةً فِي دَفْعِ أَخْبَارِهِ بِحُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ كَانَ مَفْزَعُهُ الْوَقِيعَةَ فِي أَبِي هُرَيْرَةَ!.

_ (1) أو بعد هذه الهنات لا بأس عليه!!؟. لقد أراد الدكتور طه حسين أنْ يُضَمِّدَ الجروح التي أحدثتها بعض سهام نقده، ويُكَفْكِفَ من دموع أبي ريَّةَ، ويُخَفِّفَ من آلامه، بعد أنْ أصابه في صميم فؤاده، وبَيَّنَ خطأه في لُبِّ موضوعه، بل في مخ عظمه، لقد أراد أنْ يمسح على رأسه بشيء من أدبه الرقيق اللطيف كعادته، ولكن أَنَّى يكون هذا؟؟ وأي شيء يجديه وقد كثرت الطعنات، ونزفت الدماء!!؟. (2) هو أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي (223 - 311 هـ)، أحد مشايخ شيوخ الحاكم. كان إمام نيسابور في عصره، جمع بين الفقه والاجتهاد، عالم بالحديث، رحل إلى بلاد كثيرة منها: العراق والشام والجزيرة ومصر، لقبه السبكي بإمام الأئمة، له مصنَّفات كثيرة تربو على [140]: " طبقات ابن السبكي ": 2/ 130.

- أَوْ قَدَرِيٌّ اعْتَزَلَ الإِسْلاَمَ وَأَهْلَهُ وَكَفَّرَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الأَقْدَارَ الْمَاضِيَةَ الَّتِي قَدَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَقَضَاهَا قَبْلَ كَسْبِ الْعِبَادِ لَهَا إِذَا نَظَرَ إِلَى أَخْبَارِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّتِي قَدْ رَوَاهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِثْبَاتِ الْقَدَرِ لَمْ يَجِدْ بِحُجَّةٍ تُؤَيِّدُ (1) صِحَّةَ مَقَالَتِهِ الَّتِي هِيَ كُفْرٌ وَشِرْكٌ، كَانَتْ حُجَّتُهُ عِنْدَ نَفْسِهِ أَنَّ أَخْبَارَ أَبِي هُرَيْرَةَ لاَ يَجُوزُ الاحْتِجَاجُ بِهَا!. - أَوْ جَاهِلٌ يَتَعَاطَى الْفِقْهَ وَيَطْلُبُهُ مِنْ غَيْرِ مَظَانِّهِ إِذَا سَمِعَ أَخْبَارَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَا يُخَالِفُ مَذْهَبَ مَنْ قَدِ اجْتَبَى مَذْهَبَهُ، واخْتَارَهُ (3) تَقْلِيدًا بِلاَ حُجَّةٍ وَلاَ بُرْهَانٍ تَكَلَّمَ (4) فِي أَبِي هُرَيْرَةَ، وَدَفَعَ أَخْبَارَهُ الَّتِي تُخَالِفُ مَذْهَبَهُ، وَيَحْتَجُّ بِأَخْبَارِهِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ إِذَا كَانَتْ أَخْبَارُهُ مُوَافِقَةً لِمَذْهَبِهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ هَذِهِ الْفَرَقِ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْبَارًا لَمْ يَفْهَمُوا مَعْنَاهَا أَنَا ذَاكِرٌ بَعْضُهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ... » (5). ...

_ (1) في الأصل (يريد) وما أثبتناه أصوب. (2) هكذا في الأصل. (3) في الأصل (أخباره)، وما أثبتناه أكثر مناسبة للمعنى. (4) في الأصل (كلم). وما أثبتناه أصوب. (5) " مستدرك " الحاكم: ص 513، جـ 3.

خاتمة:

خاتمة: بعد هذا العرض لحياة أبي هريرة، عرفنا أنه من أسرة عربية يمنية، أسلم قديماً في اليمن على يد الطفيل بن عمرو، وكان يتتبع أخبار المسلمين، ويطمئن عنهم، ثم هاجر ليالي فتح خيبر، ولازم الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخدمه، وسعى ما بوسعه لإرضاء الله ورسوله، وتخلَّق بأخلاق النبي الكريم، وعرف الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه الذكاء والنشاط، فجعله عريف أهل الصُفَّة، وتمسَّك أبو هريرة بالسُنَّة الطاهرة، وكان شديداً في هذا، لا يخشى في الله لومة لائم، يحمل الناس على اتباعها بالحكمة والموعظة الحسنة، لا يفرِّق بين أمير وحقير، وغنيٍّ وفقير، ورأينا قُوَّتَهُ في الحق في موقفه من مروان بن الحكم حين رأى في بيته ما يخالف السُنَّة وحين تأخَّر مروان على الناس في صلاة الجمعة. وعرفنا حرصه الشديد على طاعة الله ورسوله، وخوفه من الزلل، حتى إنه خاف على نفسه العنت، - وهو شاب في مقتبل العمر، لا يجد طولاً يتزوَّج - فسأل رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هَلْ أَخْتَصِي؟»، أراد أنْ يضحِّي بشهوته وبنفسه إرضاء لله - عَزَّ وَجَلَّ - ... وعرفنا عبادته وورعه، وكثرة صيامه وقيامه، وزهده في الدنيا، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر. وعرفنا نشأته العصامية المشرفة، وصبره وتحمله الفاقة، وهو في كل هذا الإنسان الأَبِيِّ العفيف، كريم النفس عزيزها، لم تخفض الحاجة رأسه، ولم تغمض منَّة الأغنياء عينه، كان ضيف رسول الله والمسلمين، زهد في الدنيا فأحبه الله تعالى، واستغنى عما في أيدي الناس، فأحبه الناس، وعرفنا حُبَّهُ للرسول الكريم، وبذله وفناءه في خدمته، وعرفنا عظيم سروره بالإسلام والقرآن وبمحمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ورأينا أبا هريرة حين أنعم الله عليه، فكان أخا الفقراء والمساكين،

طيباً كريماً، مبسوط الكف، فياض اليد، حتى إنه كان أحياناً لا يبيت على مال يأتيه قبل أنْ يتصدَّق به، وكان يحب الكسب الطيب من عمله وجُهده. ثم عرفنا حقيقة ولايته البحرين لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وأدركنا أمانته وإخلاصه، وتجلَّى إباؤه وكرامة نفسه حين عرض عليه أمير المؤمنين الإمارة ثانية فأبى، ثم عرفنا موقفه من فتنة عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وكيف أبى أنْ ينقُض بيعة في عنقه، فكان يوم الدار يدافع عن أمير المؤمنين مع أعيان الصحابة وأولادهم. ثم عرفنا حياده التام في عهد عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وانتهينا إلى أنه لم يشترك في تلك الفتن والخلافات. وعرفنا أبا هريرة في إمارته على المدينة، فكان الأمير المتواضع، الذي لم ترفعه الإمارة عن إخوانه، ولم تنسه أنه مسؤول عن رعيته، فكان يخالطهم، ويجالسهم، مؤكداً للمسلمين زُهده فيها وفي الدنيا، حتى إنه كان يحمل حزمة الحطب على ظهره وهو أمير المدينة، يشق طريقه بين الناس. وعرفنا حُبَّهُ للجهاد في سبيل الله وحرصه عليه، وانتهينا إلى أنه شهد مع رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أواخر غزوة خيبر، كما شهد معه جميع الغزوات بعدها، وعرف فيه الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجُرأة، فأرسله في بعض البعوث والسرايا، وبعد وفاته - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قاتل المُرْتَدِّينَ، وشهد وقعة اليرموك، وإلى جانب هذا رأينا في أبي هريرة جانب المرح والمُزاح اللطيف المُسْتَحَبَّ، الذي يدخل السرور إلى نفوس إخوانه، إلى جانب منزلته ووقاره، وعرفنا فهمه لنفسية الأطفال، وعطفه عليهم، ورعايتهم وإسعادهم، بمؤاكلتهم حيناً، ومداعبتهم أحياناً. ولمسنا حُسن أخلاقه ونُبْلِهِ، وَبِرِّهِ بأمه، وحث الناس على التخلق بالأخلاق الفاضلة الحميدة، والعمل على التآخي والتعاون وصلة الأرحام، وتجلَّى لنا في مرضه حُبَّهُ للقاء الله - عَزَّ وَجَلَّ -، وخشيته منه، وعرفنا من وصيَّته قبل وفاته، زيادة حرصه على التسمك بالسُنَّة الطاهرة. وأما الحانب العلميّ من أبي هريرة فقد عرضنا ما يؤكد حرصه على طلب العلم، وتعلُّقه به، وحُبِّهِ لحديث الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،

وعرفنا وجوهاً مختلفة لتحمله الحديث عن الرسول الكريم فكان تارة يسأله، وأخرى يراه، وحيناً يعرف الرسول تطلُّعه إلى العلم فيُحَدِّثُهُ، وأحياناً يلازمه في حلقاته ومجالسه، وأكدت لنا سيرته فناءه في خدمة الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أجل حكمة يُعَلِّمُهُ إياها، وكان كل أمله أنْ يتعلَّم علماً لا ينساه أبداً، ودعا بذلك، وأمَّن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على دعائه، فحقق الله له ما تمنَّة، وشهد له رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحرصه على الحديث. ثم رأينا حرصه على تبليغ العلم ونشره، فعقد لذلك حلقات الحديث في الحجاز، والشام، والعراق، والبحرين ... وقد عرف الناس علمه، وفضله، وأمانته ومكانته، فكثروا عليه، ونهلوا من معينه، فكان يحدِّثهم في بيته وفي مسجد رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان يقوم فيهم في أوقات عينها لهم يحدِّثُهم ويفتيهم، وكان لا يترك فرصة تسنح لنشر العلم إلاَّ أفاد منها، ولم يبخل قط بتبليغ ما ينفع الناس في دينهم ودنياهم، وكان يحضُّهم على طلب العلم، كما أملى الحديث أحياناً على طلابه، كإملائه على همام بن منبه، وبشير بن نهيك ... وقد عرفنا إتقانه وضبطه ودقيق حفظه، فلم نستغرب كثرة حديثه، بعد أنْ عرفنا صُحبته وملازمته للرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحرصه على طلب العلم، وجُرأته في سؤال الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عما لا يسأله غيره، وقد شهد له الصحابة بذلك، كما شهد كثير منهم بأنه سمع ما لم يسمعوا، ولإتقانه وسعة علمه وحفظه، حدَّث عنه بعض الصحابة كأبي أيوب الأنصاري، وعبد الله بن عباس، وأنس بن مالك وغيرهم. وعرفنا أنه كان يحفظ علماً كثيراً نشر بعضه، وهو ما يلزم الأمَّة في جميع أحوالها، الخاصة والعامة، وأمسك عن نشر بعضه الآخر، وانتهينا إلى أنَّ العلم الذي لم ينشره لم يكن مِمَّا يتعلق بالأحكام والآداب والأخلاق، وإنما يتناول بعض أشراط الساعة، وبعض ما سيق للأمَّة من فتن، وما يليها من أمراء السوء. وأكدنا أنه كان حريصاً حذراً لا يُحَدِّثُ

إلاَّ بما يحتاج إليه الناس، لأنه كان يخشى أنْ يضع السامعون ما يُحَدِّثُ به في غير مواضعه، وعرفنا أنَّ علمه الغزير، وكثرة حديثه، وسعة إطلاعه، دعمها حفظه القوي، وضبطه وإتقانه ومذاكراته، وفصَّلنا أسباب ذلك الحفظ الخاصة بأبي هريرة. وَبَيَّنَّا أنه مع كثرة تحديثه ونشره العلم كيف حرص على حفظ السُنَّة وصيانتها من الكذب، وكيف كان يحض الناس على التمسك بالسُنَّة واحترامها وصيانتها عَمَّا يشوبه ا. ثم بَيَّنَّا أنَّ سعة علم أبي هريرة جعلته مرجعاً للناس نَيِّفاً وعشرين سَنَةً، يستفتونه فيفتيهم، ويسألونه فيجيبهم، وعرضنا نماذج من فتاواه، وبَيَّنَّا منزلة آرائه من آراء الصحابة وبعض الأئمة، وأكَّدنا أنه كان يقتدي في فتاواه بالرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحرص على تتبُّع حديثه وأحكامه وفتاواه. وأما بالنسبة لقضاء أبي هريرة، فإنا لم نعلم أنه ولي القضاء لأحد، ومع هذا لا بُدَّ أنه نظر في بعض القضايا حين ولي البحرين وإمارة المدينة، وعرضنا بعض ما يدل على أنه فصل في بعض القضايا. ثم ذكرنا شيوخه، ومن روى عنه، فقد روى عن الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الكثير الطيب، كما روى عن كبارالصحابة، وروى عنه نحو ثمانمائة رجل بين صاحب وتابع. وذكرنا عدة ما رُوِيَ عنه من الحديث، في " الكتب الستة "، و " موطأ الإمام مالك " و " مسند الإمام أحمد، وبَيَّنَّا أنَّ أحاديثه، تناولت معظم أبواب الفقه، ثم عرضنا نماذج من مروياته، مِمَّا أخرجه له الإمام مالك، والإمام أحمد، وأصحاب " الكتب الستة "، وتوخَّينا في ذلك تناول عدة أبواب من تلك الكتب. ثم ذكرت بعض من أثنى عليه قديماً وحديثاً، فكان موضع الثقة، والإجلال والاحترام والتقدير، مِمَّا أكد لنا منزلته وفضله، وبعد هذا عرفنا أصح الطرق عن أبي هريرة. وبعد هذا ناقشنا الشُبُهات، أثيرت حوله، وفوضناها جميعها بالحُجج والبراهين العلمية، وتبيِّنُ لنا من خلال المناقشة افتراء أهل الأهواء،

وتحاملهم السافر عليه، محاولين إضعاف مروياته، لأنه كان يروي ما يخالف أهواءهم. وتبيَّن لنا أيضاً أنَّ بعض الباحثين، لم يكونوا أمناء في نقلهم الأخبار، فحرَّفوا بعضها، واستشهدوا بالأخبار الضعيفة الواهية، ونسبوا بعض ما قيل فيه إلى غير قائليه، وزادوا على بعض الأخبار ما ليس فيها، إمعاناً في الإساءة إلى أبي هريرة، لإضعاف ثقة أهل السُنَّة به، ورفض مروياته. وصحَّحنا ما وقع من خطأ لبعض الباحثين في فهم بعض ما روي عنه، وبَيَّنَّا وجه الحق، وظهر لنا أنَّ جميع ما دار بينه وبين الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - لا يعدو باب المناقشة العلمية، والاستيثاق للحديث، حرصاً منهم جميعاً على حفظه، وتبيَّن لنا إقرار الصحابة له بحفظه وضبطه وإتقانه، كما تأكد لنا أنه لم يفهم أحد - من المنصفين - مِمَّا دار بينه وبين الصحابة طعناً في أبي هريرة أو غيره، بل ازددنا إيماناً براوية الإسلام، ووقفنا على حقيقة تاريخية علمية، حاول بعض أعداء الإسلام، وبعض أهل الأهواء إخفاءها وتشويهها، ولكن الله أبى إلاَّ أنْ يظهر الحق واضحاً جليًّا، يؤكد أنَّ أبا هريرة أكثر الصحابة حفظاً، ومن أحسنهم فضلاً وأخلاقاً، وقد حفظ على المسلمين دينهم، بحفظه وضبطه وإتقانه، فبقي أحد الأعلام الصحابة الرُواة، الذين ساهموا في حفظ الشريعة الحنيفية ونشرها، وَخَلَّدَ التاريخ ذكره في مصاف العلماء العظام، - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ -. ... تم الكتاب بعون الله وتوفيقه، فله الحمد في الابتداء والانتهاء. وصلى الله على سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين. محمد عجاج الخطيب

أهم المصادر والمراجع:

أهم المصادر والمراجع: 1 - القرآن الكريم. 2 - ابن حزم: للأستاذ محمد أبو زهرة، طبع مصر. 3 - أبو هريرة: لعبد الحسين شرف الدين العاملي. الطبعة الأولى - صيدا. 4 - الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة: لبد الدين الزركشي. بتحقيق محمد سعيد الأفغاني - طبع دمشق، المجمع العلمي. 5 - أخبار أهل الرسوخ في الفقه والتحديث بمقدار المنسوخ من الحديث: لابن الجوزي، طبع مصر، سنة 1322 هـ. 6 - الأدب المفرد: لمحمد بن إسماعيل البخاري، استوفى تخريج أحاديثه محب الدين الخطيب. المطبعة السلفية بالقاهرة، سنة 1379 هـ. 7 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب: لأبي يوسف بن عبد البر، بتحقيق علي محمد البجاوي، طبع بمطبعة نهضة مصر - بالفجالة. 8 - أسد الغابة في معرفة الصحابة: لعز الدين أبي الحسن بن الأثير الجزري، طبع القاهرة سنة 1286 هـ. 9 - الإصابة في تمييز الصحابة: لشهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. طبع مصر، سنة 1323 هـ. 10 - أصول التشريع الإسلامي: لفضيلة الأستاذ علي حسب الله، الطبعة الثانية، دار المعارف بالقاهرة 1379 هـ - 1959 م. 11 - أضواء على التاريخ الإسلامي: لفتحي عثمان، طبع دار الجهاد، سَنَة 1376 هـ - 1956 م. 12 - أضواء على السُنَّة المحمدية (*): لمحمود أبو رية، طبع دار التأليف بمصر 1377 هـ - 1958 م. 13 - أعلام الموقعين عن رب العالمين: لشمس الدين محمد بن أبي بكر (ابن قيم الجوزية) تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد - الطبعة الأولى، مطبعة السعادة 1374 هـ - 1955 م. 14 - الأعلام - لخير الدين الزركلي، الطبعة الثانية 1373 هـ - 1954 م. 15 - الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ: لمحمد بن عبد الرحمن السخاوي، طبع دمشق 1349 هـ. 16 - أقدم تدوين في الحديث النبوي: (صحيفة همام بن منبه) للدكتور محمد حميد الله، طبع المجمع العلمي العربي بدمشق 1372 هـ - 1953 م. 17 - الأموال: للقاسم بن سلاَّم، طبع مصر سَنَة 1353 هـ. 18 - البارع الفصيح في شرح الجامع الصحيح: لأبي البقاء محمد بن خلف الأحمدي، مخطوط دار الكتب المصرية.

_ (*) رجعنا إليه للرد على ما جاء في من شُبُهَاتٍ.

19 - البداية والنهاية: لأبي الفداء عماد الدين إسماعيل (ابن كثير)، مطبعة السعادة بالقاهرة 1351 هـ - 1932 م. 20 - تأويل مختلف الحديث: لعبد الله بن مسلم (ابن قتيبة الدينوري)، مطبعة كردستان العلمية بمصر، سَنَةَ 1326 هـ. 21 - تاريخ الإسلام: للدكتور حسن إبراهيم حسن، مطبعة لجنة البيان العربي بالقاهرة، الطبعة الرابعة، سَنَة 1957 م. 22 - تاريخ الإسلام: للحافظ شمس الدين الذهبي، مكتبة القدسي بالقاهرة، سَنَة 1367 هـ - 1947 م. 23 - تاريخ الأمم والملوك: لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، طبع مصر 1357 هـ - 1939 م. 24 - تاريخ بغداد: لأبي بكر أحمد بن علي (الخطيب البغدادي) طبع مصر: 1349 هـ - 1931 م. 25 - تاريخ جُرجان: لأبي القاسم حمزة بن يوسف بن إبراهيم السهمي، طبع الهند. 26 - تاريخ دمشق: لعلي بن الحسن هبة الله (ابن عساكر)، مخطوط دار الكتب المصرية، النسخة التيمورية، المجلد (37 و 47) تحت الرقم (تاريخ تيمورية: 1041). 27 - التاريخ الكبير: وهو (تهذيب تاريخ ابن عساكر) لعبد القادر بدران، طبع دمشق، مطبعة روضة الشام، 1329 هـ. 28 - تدريب الراوي: لجلال الدين السيوطي، بتحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، مكتبة القاهرة بمصر، الطبعة الأولى، 1379 هـ - 1959 م. 30 - تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل: لعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، طبع الهند، سَنَةَ 1952 م. 31 - تهذيب التهذيب: لشهاب الدين أحمد بن علي (ابن حجر) العسقلاني، الطبعة الأولى بالهند، حيدر آباد، سنة 1325 هـ. 32 - توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار: لمحمد بن إسماعيل الأمير الحسني الصنعاني بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة الخانجي بالقاهرة، الطبعة الأولى 1326 هـ. 33 - تيسير الوصول: لعبد الرحمن (ابن الديبع) الشيباني، طبع مصطفى الحلبي، 1352 هـ - 1934 م. 34 - جامع بيان العلم وفضله: لأبي عمر يوسف بن عبد البر، مصر، إدارة المطبعة المنيرية. 35 - الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: للخطيب البغدادي. مخطوط - دار الكتب المصرية. 36 - الجرح والتعديل: لعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، طبع الهند، سَنَة 1371 هـ - 1952 م. 37 - الجمع بين رجال الصحيحين: لمحمد بن طاهر المقدسي، طبع الهند، سَنَة 1323 هـ. 38 - جمهرة أنساب العرب: لأبي محمد علي بن سعيد بن حزم الأندلسي بتحقيق ليفي بروفنسال. دار المعارف بمصر. 39 - حِلية الأولياء وطبقات الأصفياء: لأبي نعيم الأصبهاني، طبع مصر سَنَة 1351 هـ - 1932 م. 40 - ذخائر المواريث: للشيخ عبد الغني النابلسي، طبع مصر، سَنَة 1352 هـ - 1934 م.

41 - رسالة أبي داود إلى أهل مكة: لأبي داود السجستاني، بتحقيق الشيخ محمد زاهد الكوثري. 42 - روضة العقلاء ونزهة الفضلاء: للحافظ أبي حاتم البُستي. طبع مصر سَنَة 1328 هـ. 43 - الرد على الجهمية (رد الدارمي على بشر المريسي): لعثمان بن سعيد الدارمي، مطبعة أنصار السُنَّة المحمَّدية بالقاهرة سَنَة 1358 هـ. 44 - الرسالة: للإمام محمد بن إدريس الشافعي بتحقيق أحمد محمد شاكر، الطبعة الأولى 1358 هـ - 1940 م، مطبعة مصطفى البابي الحلبي. 45 - الروض الباسم في الذبِّ عن سُنَّة أبي القاسم: لمحمد بن إبراهيم الوزير اليماني، المطبعة المنيرية بمصر. 46 - الرياض المستطابة في جملة من روى في الصحيحين من الصحابة: ليحيى العامري اليمني، طبع الهند، سَنَة 1303 هـ. 47 - سنن ابن ماجه: لمحمد بن يزيد بن ماجه القزويني، بتحقيق الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، طبع مصر. 48 - سنن أبي داود: للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، طبع مصر سَنَة 1371 هـ - 1952 م. مصطفى البابي الحلبي. 49 - سنن الترمذي: لأبي عيسى بن سورة الترمذي، بتحقيق العلاَّمة أحمد محمد شاكر. طبعة البابي الحلبي، الطبعة الأولى: سَنَة 1356 هـ - 1937 م. 50 - سنن النسائي: بحاشية السِنْدِي لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، المطبعة الميمنية، سَنَة 1312 هـ. 51 - السنن الكبرى: لأحمد بن الحسين البيهقي، طبع الهند - حيدر آباد. 52 - السُنَّة قبل التدوين: لمحمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة مصر 1383 هـ - 1963 م. 53 - السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي: للدكتور مصطفى السباعي، دار العروبة بالقاهرة، سَنَة 1380 هـ - 1961 م. 54 - سير أعلام النبلاء: لشمس الدين الذهبي، الجزء (1 و 2 و 3)، طبع دار المعارف بالقاهرة، وبقية الأجزاء مخطوطة في دار الكتب المصرية. 55 - سيرة النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لعبد الملك بن هشام بتحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية بالقاهرة، سَنَة 1356 هـ - 1937 م. 56 - شذرات الذهب: لابن العماد الحنبلي، طبع القدسي بالقاهرة، سَنَة 1350 هـ. 57 - شرح الأربعين النووية: ليحيى بن شرف النووي، الطبعة الثانية شركة الشمرلي بمصر. 58 - شرح مسلَّم الثبوت: (فواتح الرحموت) لعبد العلي محمد اللكنوي، طبع الهند. 59 - شرح نهج البلاغة: لعز الدين أبي حامد الشهير بابن أبي الحديد بتحقيق نور الدين شرف الدين، والشيخ محمد خليل الزين. بيروت - دار الفكر. 60 - شرف أصحاب الحديث، للخطيب البغدادي، مخطوط دار الكتب المصرية. 61 - شروط الأئمة الستة: للحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي. طبع مصر، مكتبة القدسي، سَنَة 1357 هـ.

62 - شروط الأئمة الخمسة: للحافظ أبي بكر محمد بن موسى الحازمي، طبع مكتبة القدسي سَنَة 1357 هـ. 63 - صحيح البخاري: بحاشية السِنْدِي لمحمد بن إسماعيل البخاري، طبع دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة. 64 - صحيح ابن حبان: لأبي حاتم محمد بن حبان البُستي، طبع دار المعارف سَنَة 1952 م. 65 - صحيح مسلم: بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، طبع دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة 1375 هـ - 1956 م. 66 - صحيح مسلم بشرح النووي: للإمام يحيى بن شرف الدين النووي، المطبعة المصرية بالقاهرة، سَنَة 1349 هـ. 67 - ضُحى الإسلام: لأحمد أمين، مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة، الطبعة الخامسة سَنَة 1956 م. 68 - الطبقات الكبرى: لمحمد بن سعد كاتب الواقدي، مطبعة بريل بليدن، سَنَة 1322 هـ. 69 - العقد الفريد: لأحمد بن محمد بن عبد ربه بتحقيق محمد سعيد العريان، الطبعة الثانية، مطبعة الاستقامة بالقاهرة 1372 هـ - 1953 م. 70 - العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ: لصالح بن مهدي، طبع مصر سَنَة 1328 هـ. 71 - العواصم من القواصم: لأبي بكر بن العربي، بتحقيق محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية بالقاهرة، سَنَة 1371 هـ. 72 - فتح الباري لشهاب الدين (ابن حجر) العسقلاني: مطبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة، سَنَة 1378 هـ - 1959 م. 73 - الفصل في الملل والأهواء والنحل: لابن حزم. 74 - قبول الأخبار ومعرفة الرجال: لأبي القاسم عبد الله بن أحمد البلخي. مصوَّر، دار الكتب المصرية. 75 - الكامل في التاريخ: لعلي بن محمد عز الدين (ابن الأثير) الجزري. المطبعة المنيرية بالقاهرة، سَنَة 1348 هـ. 76 - كتاب العلم: لعبد الغني بن عبد الواحد المقدسي. مخطوط، المكتبة الظاهرية بدمشق. 77 - الكفاية في علم الرواية: للخطيب البغدادي، طبع الهند، سَنَة 1357 هـ. 78 - لسان العرب: لأبي الفضل محمد بن مكرم المعروف بابن منظور الإفريقي، الطبعة الأولى، سَنَة 1302 هـ. 79 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: لنور الدين الهيثمي، طبع القدسي بالقاهرة، سَنَة 1353 هـ. 80 - المحدث الفاصل بن الراوي والواعي: للحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي، مصور دار الكتب المصرية. 81 - مختصر كتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول: لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل (أبو شامة)، طبع مصر ضمن مجموعة، سَنَة 1328 هـ. 82 - المستدرك على الصحيحين: لأبي عبد الله (الحاكم) النيسابوري، طبع حيدر آباد: سَنَة 1341 هـ.

83 - مسند الإمام أحمد: للإمام أحمد بن حنبل الشيباني، بتحقيق العلاَّمة أحمد محمد شاكر، طبع دار المعارف بالقاهرة. 84 - مسند إسحاق بن راهويه: مخطوط دار الكتب المصرية تحت رقم (2522 حديث). 85 - معجم قبائل العرب القديمة والحديثه: للأستاذ عمر رضا كحالة، المطبعة الهاشمية بدمشق، سَنَة 1368 هـ - 1949 م. 86 - مقدمة التمهيد: لأبي عمر يوسف بن عبد البر، مخطوط، مصوَّرة معهد المخطوطات بالجامعة العربية. 87 - المنتقى من منهاج الاعتدال: لتقي الدين أحمد بن تيمية. اختصره الذهبي من منهاج السُنَّة بتحقيق محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية بالقاهرة، سَنَة 1374 هـ. 88 - الموطأ - للإمام مالك بن أنس، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، طبع مصر. عيسى الحلبي، سَنَة 1370 هـ. 89 - الموافقات في أصول الشريعة: لأبي إسحاق الشاطبي بشرح الشيخ عبد الله دراز، المكتبة التجارية بالقاهرة. 90 - ميزان الاعتدال: للحافظ شمس الدين الذهبي، مطبعة السعادة بالقاهرة، الطبعة الأولى، سَنَة 1325 هـ. 91 - نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب: لأبي العباس أحمد القلقشندي، تحقيق إبراهيم الأبياري، الطبعة الأولى بالقاهرة، سَنَة 1959 م. 92 - نور اليقين: لمحمد الخضري بك، طبع دار الأدب العربي بالقاهرة، الطبعة الثانية عشرة سَنَة 1374 هـ - 1955 م. ***

محتويات الكتاب:

محتويات الكتاب: الموضوع ------------------------------------------------------------------------ الصفحة مقدمة الطبعة الثالثة ......................................................................... 3 مقدمة الطبعة الأولى ......................................................................... 5 تمهيد، وفيه: العرب ورسالة الإسلام ...................................................................... 11 حول السُنَّة .................................................................................. 17 السُنَّة ومكانتها من القرآن الكريم ......................................................... 22 عدالة الصحابة .............................................................................. 30 حفظ السُنَّة وانتشارها ...................................................................... 35 - الإمام البخاري ............................................................................ 53 - الإمام مسلم ............................................................................... 55 - الإمام أبو داود ............................................................................ 57 - الإمام الترمذي ............................................................................ 57 - الإمام النسائي ............................................................................ 58 - الإمام ابن ماجه .......................................................................... 60 الباب الأول: أبو هريرة (63 - 155) الفصل الأول: (6 - 102) - نسبه والتعريف به ...................................................................... 67 - هيئته وأوصافه الجسمية ............................................................... 68 - نشأته قبل الإسلام ....................................................................... 68 - إسلامه وهجرته ......................................................................... 68 - إسلام أمه ............................................................................... 71

الموضوع ------------------------------------------------------------------------ الصفحة ملازمته رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ............................................... 72 التزام أبي هريرة السُنَّة وورعه ............................................................. 73 فقره وعفافه .................................................................................. 80 كرم أبي هريرة ............................................................................... 84 ولايته في عهد عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - .................................................... 86 أبو هريرة وفتنة عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ................................................ 86 أبو هريرة في عهد عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ................................................ 89 أبو هريرة أمير المدينة ..................................................................... 91 أبو هريرة والجهاد في سبيل الله ............................................................ 93 مرح أبي هريرة ومُزاحه .................................................................... 95 مرض أبي هريرة ............................................................................ 99 وفاته ........................................................................................ 100 أسرته ....................................................................................... 102 الفصل الثاني: حياته العلمية (103 - 155) بين يدي الفصل ............................................................................ 105 حرصه على الحديث ........................................................................ 106 أمله: علم لا ينسى ......................................................................... 109 مجالسه ونشره الحديث .................................................................... 110 كثرة حديثه وسعة علمه .................................................................... 117 حفظ أبي هريرة ............................................................................. 124 حضه على صيانة الحديث من الكذب ...................................................... 127 ابو هريرة والقرآن الكريم .................................................................. 127 أبو هريرة والفتوى ........................................................................ 128

الموضوع ------------------------------------------------------------------------ الصفحة أبو هريرة والقضاء .......................................................................... 132 شيوخه ومن روى عنه ...................................................................... 133 عدة ما روى عنه من الحديث ............................................................... 136 نماذج من مروياته .......................................................................... 138 1 - مما أخرجه الإمام مالك في الموطأ .................................................... 139 2 - مما أخرجه الإمام أحمد ................................................................ 140 3 - مما رواة الإمام البخاري ............................................................... 141 4 - مما رواه الإمام مسلم .................................................................. 142 5 - مما رواه الإمام أبو داود ............................................................... 144 6 - مما رواه الإمام الترمذي ............................................................... 145 7 - مما رواه الإمام النسائي ............................................................... 146 8 - مما رواه الإمام ابن ماجه ............................................................. 147 أصح الطرق عن أبي هريرة ............................................................... 148 الثناء على أبي هريرة ..................................................................... 149 الباب الثاني: الرد على الشُبه التي أثيرت حول أبي هريرة (157 - 257) أبو هريرة وبعض الباحثين .............................................................. 159 مقدمة كتاب (أبو هريرة) لعبد الحسين ................................................ 160 1 - اسمه ونسبه ......................................................................... 167 2 - نشأته وإسلامه ...................................................................... 169 3 - على عهد النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .......................................... 173 4 - على عهد الخليفتين ................................................................. 174 5 - على عهد عثمان .................................................................... 178 6 - على عهد عَلِيٍّ ...................................................................... 179

الموضوع ------------------------------------------------------------------------ الصفحة 7 - على عهد معاوية ....................................................................... 181 أولاً: هل تشيَّع أبو هريرة للأمويين؟ ..................................................... 182 ثانياً: هل وضع أبو هريرة الأحاديث كذباً على الرسول؟ ................................ 185 8 - كمية حديثه ............................................................................. 201 موقف الصحابة من أبي هريرة ............................................................. 211 [أ] أبو هريرة وعمر بن الخطاب: ....................................................... 212 [ب] أبو هريرة وعثمان بن عفان: ...................................................... 216 [ج] أبو هريرة وعَلِيٌّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: ............................ 217 [د] أبو هريرة وعائشة: ................................................................. 219 [هـ] أبو هريرة وعبد الله بن عمر: ..................................................... 228 [و] أبو هريرة وابن عباس: ............................................................ 231 [ز] أبو هريرة والزبير بن العوام: ...................................................... 232 [ح] أبو هريرة ومروان بن الحكم: ..................................................... 233 هل كان أبو هريرة تلميذاً لكعب الأحبار؟ ................................................. 246 خاتمة ....................................................................................... 258 أهم المصادر والمراجع ..................................................................... 263 محتويات الكتاب ............................................................................ 268

§1/1