يا صاحب الستين

علي بن دعجم

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إليه إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم. أما بعد: كنتُ قد ذكرت في رسالة سابقة بعنوان (يا ... ابن الأربعين) ما أخاطب بها نفسي ومن بلغ أربعين سنة أو جاوزها، وما ينبغي لنا في مثل تلك السن. ومما جاء في مقدمتها ما نصه (وكل واحد ابن لعامه الذي وصل إليه، كما هو مشتهر في لغة العرب، وكما جاء في الحديث المتفق عليه في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه: أنه أنزل عليه القرآن وهو: ابن أربعين سنة. أو يكون المرء أخا للعمر الذي هو فيه، كما قال سحيم ابن وثيل: أخو الخمسين مجتمعٌ أشُدِّي ... وتُجديني مداورةُ الشؤون وقد يكون المرء صاحبا للعمر الذي وصل إليه، إذا كان طاعنا في السن، وهذا مشتهر في اللغة، كصاحب الستين فأكثر وربما كان

صاحبا لها لأن الافتراق في الصحبة أكثر من النسب، وأسرع. وقد ساق ابنُ جرير بسنده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لقد أعذر الله صاحب الستين سنة، والسبعين» (¬1) والله أعلم. واليوم أخص صاحب الستين – فأكثر- برسالة مستقلة، فهو أولى بذلك لأسباب كثيرة سيأتي ذكر بعضها. واستجابة لطلب بعض الأحبة أوجه هذه الرسالة المختصرة إلى من بلغ الستين أو جاوزها، على أن من لم يبلغها وكان بين الستين والأربعين فإن الرسالتين مكملتان لبعضهما. وبلوغ الستين من الشيخوخة عند أهل العلم واللغة. ففي تحفة القارئ: سن الشباب خمس وثلاثون سنة، وسن الكهولة خمسون سنة، وسن الشيخوخة ستون سنة (¬2). فالشيخ هو الذي استبانت فيه السن وظهر عليه الشيب، وقيل: هو شيخ من خمسين إلى آخره، والجمع أشياخ وشيخان وشيوخ ومشايخ، وفي الحديث ذكر شيخان قريش: جمع شيخ كضيف وضيفان، والأنثى شيخة، وقد شاخ يشيخ شيخا، وشيخته: دعوته شيخا للتبجيل (¬3). ويقال لمن طعن في السن: الشيخ، وقد يعبر به فيما بيننا عمن ¬

_ (¬1) تفسير الطبري، (22/ 142) مكتبة الحلبي. (¬2) دليل الفالحين، (1/ 214) للصديقي الشافعي، دار الفكر بيروت. (¬3) لسان العرب، (3/ 31، 32) دار صادر بيروت.

يكثر علمه، لما كان من شأن الشيخ أن تكثر تجاربه ومعارفه، ويقال شيخ بين الشيخوخة (¬1). وأحب أن أبيّن – ابتداءً – أني لا أدعو صاحب الستين إلى اليأس والقنوط وترك الدنيا تماماً، بل أدعوه إلى مزيد اهتمام بما هو مقبل عليه (الآخرة)، أكثر من اهتمامه بما هو مدبر عنه (الدنيا). سائلا الله تعالى أن ينفع بها كاتبها وقارئها، والله تعالى أعلى وأعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. على بن سعيد بن حسين بن دعجم إبها – ص. ب.:2523 جمادي الأولى 1425هـ ¬

_ (¬1) الغريب في مفردات القرآن، مكتبة الأنجلو المصرية.

الستون لماذا؟!

الستون لماذا؟! لقد خص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الستين بالذكر كما سيأتي، لذلك حق على من قاربها، أو بلغها، أو جاوزها، أن يتأمل في هذه الآثار الواردة فيها. ولقد فطن سلفنا الصالح إلى أمر الستين فأولوها عناية زائدة خاصة بها، واستقبلوها خير استقبال، فهذا البخاري - رحمه الله - قد تكلم في صحيحه عن الستين عاما فقال: باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر لقوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37]، النذير يعني الشيب، ثم أورد بسنده حديثا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة». قال النووي: قال العلماء: معناه لم يترك له عذراً إذ أمهله هذه المدة، يقال: أعذر الرجل إذا بلغ الغاية في العذر (¬1). قال ابن منظور: وفي الحديث: «لقد أعذر الله إلى من بلغ من العمر ستين سنة» أي: لم يبق فيه موضعا للاعتذار حيث أمهله طول هذه المدة ولم يعتذر، يقال: أعذر الرجل إذا بلغ أقصى الغاية في العذر، وفي حديث المقداد: لقد أعذر الله إليك، أي: عذرك ¬

_ (¬1) رياض الصالحين ص 116، دار الفكر، دمشق.

وجعلك موضع العذر (¬1). قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين» وزاد عند ابن ماجة: «وأقل أمتي أبناء السبعين سنة» (¬2). والمعترك أي: موضع القتال، أو موضع الحرب، أو موضع العراك والمعاركة (¬3)، فكأن هذا السن ميدان حرب يكثر فيها الموت. وبوب النووي في رياض الصالحين: باب الحث على الازدياد من الخير في أواخر العمر، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}، قال ابن عباس – رضي الله عنهما – والمحققون: معناه أو لم نعمركم ستين سنة (¬4). قال الصديقي في شرح هذا الباب: (باب الحث) أي الحض، (على الازدياد) افتعال من الزيادة (من الخير) أي الطاعات والبر الموصلة إلى مرضاة الله – عز وجل -، (في أواخر العمر) لأنه أوان الختام، وبحسنه تحصل ثمرات الطاعات وبركات الحسنات. إلى أن قال: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ} هو استفهام توبيخ وتقرير، {مَا ¬

_ (¬1) لسان العرب، (4/ 546). (¬2) حسنه الألباني برقم (5457) في صحيح الجامع، المكتب الإسلامي بيروت. (¬3) لسان العرب، (10/ 464، 465) القاموس المحيط ص 1225 ط2 مؤسسة الرسالة بيروت. (¬4) رياض الصالحين ص 115، ومثله في حلية الأولياء، (8/ 51)، دار الكتاب العربي بيروت.

يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} ما موصولة، أي: المدة التي يتذكر فيها المتذكر، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة، أي تعميراً أو زمناً يتذكر فيه من تذكر {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} (¬1). وذلك لأن (من أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله إليه في العمر، أي بسط عذره على مواضع التملق به، وطلب العذر إليه، كما يقال لمن فعل ما نهي عنه ما حملك على هذا؟ فيقول: خدعني فلان، وغرني كذا، ورجوت كذا وخفت كذا) (¬2). قال الخطابي: أعذر إليه أي بلغ به أقصى العذر، ومنه قولهم: قد أعذر من أنذر، أقام عذر نفسه في تقديم نذارته، والمعنى: أن من عمره الله ستين سنة لم يبق له عذر، لأن الستين قريب من معترك المنايا، وهو سن الإنابة والخشوع وترقب المنية ولقاء الله تعالى (¬3). (والإنسان لا يزال في ازدياد إلى كمال الستين، ثم يشرع بعد هذا في النقص والهرم، كم قال الشاعر: إذا بلغ الفتى ستين عاماً ... فقد ذهب المسرة والفتاء لما كان هذا العمر الذي يعذر الله تعالى إلى عباده ويزيح به عنهم العلل، كان هو الغالب على أعمار هذه الأمة كما ورد بذلك الحديث عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) دليل الفالحين، (1/ 332). (¬2) فيض القدير للمناوي، (6/ 25) دار المعرفة، بيروت. (¬3) تفسير القرطبي، (14/ 352) دار الكتب المصرية.

«أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك» رواه الترمذي وابن ماجة (¬1). قال ابن بطال: إنما كانت الستون حدًّا لهذا لأنها قريبة من المعترك، وهي سن الإنابة والخشوع وترقب المنية، فهذا إعذار بعد إعذار لطفا من الله بعباده، حتى نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم، ثم أعذر إليهم فلم يعاقبهم إلا بعد الحجج الواضحة، وإن كانوا فطروا على حب الدنيا وطول الأمل لكنهم أمروا بمجاهدة النفس في ذلك ليمتثلوا ما أمروا به من الطاعة وينزجروا عما نهوا عنه من المعصية، وفي الحديث إشارة إلى أن استكمال الستين مظنة لانقضاء الأجل، وأصرحُ من ذلك ما أخرج الترمذي بسند حسن إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة – رضي الله عنهم – رفعه: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك». وقال بعض الحكماء الأسنان أربعة: سن الطفولة، ثم الشباب، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة، وهي آخر الأسنان وغالب ما يكون ما بين الستين والسبعين فحينئذ يظهر ضعف القوة بالنقص والانحطاط، فينبغي له الإقبالُ على الآخرة بالكلية لاستحالة أن يرجع إلى الحالة الأولى من النشاط والقوة، وقد استنبط منه بعض الشافعية أن من استكمل ستين فلم يحج مع القدرة فإنه يكون مصراً، ويأثم إن مات ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير، (3/ 890) دار الكتب العلمية، بيروت، والحديث صحيح، في صحيح الجامع برقم 1084.

قبل أن يحج بخلاف ما دون ذلك (¬1). ومن لم يكن في هذه السن على حال يرضاه الله تعالى – وقد دنا أجله ولم يبق إلا القليل – أو على أقل الأحوال يعزم عزما جازماً صادقا على التوبة والإنابة، فبالله متى ستكون هذه التوبة؟! إن الغالب أن المرء في هذه السن تضعف قواه، وتقل عزيمته، فحق عليه أن يستسلم لمولاه، ويستعتب بين يديه، فإنه الغفور الودود. قال القرطبي: جعل الستين غاية الإعذار لأن الستين قريب من معترك العباد، وهو سن الإنابة والخشوع والاستسلام لله، وترقب المنية ولقاء الله، ففيه إعذار بعد إعذار (¬2). وإذا بلغ ستين سنة وهو عمر التذكر والتوفيق الذي قال الله تعالى فيه: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} حببت إليه الإنابة أي الرجوع إليه لكونه مظنة انتهاء العمر غالباً (¬3). هذا وإن (في بلوغ العمر أربعين سنة استكمال الشباب واستجماع القوة وهو عمر تام ولا يزال بعده في نقصان وإدبار .. فإذا بلغ ستين سنة، وهو عمر التذكر والتوقف، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان يوم القيامة نودي أبناءُ الستين: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ ¬

_ (¬1) فتح الباري، (11/ 240) دار المعرفة بيروت. (¬2) القرطبي (7/ 277). (¬3) فيض القدير، (4/ 487).

مَنْ تَذَكَّرَ}» فإذا عمُر ستين سنة فقد جاء أوان التذكر، لأن الأربعين منتهى استتمام القوة، فإذا جاوز إلى ستين فقد أتى عليه عشرون سنة في النقصان وهو نصف الأربعين الذي هو منتهى القوة فقد افتقد من نفسه نصف القوة فلذلك صار حجة عليه فأوجب له حرمة بأن رزقه الإنابة إليه فيما يحب وهو التذكر، فإنه إذا تذكر رزقه الإنابة إليه في الطاعات، ولم يخذله حتى يصير عمره وبالاً وحجة عليه) (¬1). وبتصفح سريع لكثير من الإصدارات والمواقع الرسمية وشبه الرسمية، على شبكة الانترنت لأنظمة الخدمة المدنية وبعض المواقع العسكرية للدول العربية وغير العربية، فإن الغالب أن يحال الموظف للتقاعد عن الستين، والمرأة أقل أحياناً، ويمدد للبعض باستثناءات خاصة (¬2). ¬

_ (¬1) نوادر الأصول في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ص 79، للحكيم الترمذي، المكتبة العلمية بالمدينة النبوية. (¬2) انظر أيضا نظام التقاعد المدني والمذكرة الإيضاحية، في المملكة ص (18) مطابع الحكومة 1404هـ.

الستون في القرآن والسنة

الستون في القرآن والسنة لم يرد لفظ الستين عاماً صريحاً في القرآن الكريم، ولكن صرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما مر قريباً وكما سيأتي - بأن من بلغوا الستين عاما هم المعنيون بقوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} وكذلك فهم كثير من الصحابة - رضي الله عنهم - وكثير من العلماء بعدهم: أن التعمير المذكور في الآية يكون ببلوغ الستين. ورجح ابن حجر هذا المعنى للتعمير وأن ببلوغ الستين فقال عند شرح حديث البخاري: (وقوله: باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر لقوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}: واختلفوا أيضا في المراد بالتعمير في الآية على أقوال: أحدها: أنه أربعون سنة. والثاني: ست وأربعون سنة. والثالث: سبعون سنة. والرابع: ستون، وتمسك قائله بحديث الباب، وورد في بعض طرقه التصريح بالمراد فأخرجه أبو نعيم في المستخرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بلفظ: العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم ستون سنة: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} وأخرجه ابن مردويه.

الخامس: التردد بين الستين والسبعين، أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – بلفظ: «من عمُر ستين أو سبعين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر». وأصح الأقوال في ذلك: ما ثبت في حديث الباب – أي حديث البخاري – ويدخل في هذا حديثُ: «معترك المنايا مابين ستين وسبعين» (¬1). وبوب ابن حبان في صحيحه فقال: فصل في أعمار هذه الأمة ... ذكر الإخبار عما أمهل الله – جل وعلا – للمسلمين في أعمارهم واكتساب الطاعات ليوم فقرهم فاقتهم. ثم أورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من عمره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر»، ثم قال بعدها: الإخبار عن وصف العدد الذي به يكون عام أعمار الناس، وساق حديثا عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك» (¬2). وإذا بلغ ستين سنة وهو عمر التذكر والتوفيق الذي قال الله تعالى فيه: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} حببت إليه الإنابة أي الرجوع إليه لكونه مظنة انتهاء العمر غالباً (¬3)، وحديث: ¬

_ (¬1) فتح الباري (11/ 239) بتصرف يسير. (¬2) صحيح ابن حبان، (7/ 245 – 247). (¬3) فيض القدير، (4/ 457).

«إذا كان يوم القيامة نودي: أين أبناء الستين من السنين؟» وهو العمر الذي قال الله تعالى فيه في كتابه العزيز: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ} - ما مفعول مطلق أي تعميراً - {يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} أي أراد أن يتذكر، ومبدأ التذكر تمام العقل وهو بالبلوغ، والستون نهاية زمن التذكر، وما بعده هرم (¬1). قال ابن حجر: قوله: باب العمل الذي يبتغي به وجه الله تعالى، ثبتت هذه الترجمة للجميع، ثم أخذ في بيان المناسبة لترجمة من بلغ ستين سنة فقال: خشي المصنف أن يظن أن من بلغ الستين وهو مواظب على المعصية أن ينفذ عليه الوعيد، فأورد هذا الحديث المشتمل على أن كلمة الإخلاص تنفع قائلها، إشارة إلى أنها لا تخص أهل عمر دون عمر ولا أهل عمل دون عمل، قال: ويستفاد منه أن التوبة مقبولة ما لم يصل إلى الحد الذي ثبت النقل فيه أنها لا قبول معه وهو الوصول إلى الغرغرة، وتبعه ابن المنير فقال: يستفاد منه أن الأعذار لا تقطع التوبة بعد ذلك وإنما تقطع الحجة التي جعلها الله للعبد بفضله، ومع ذلك فالرجاء باقٍ .. أما معنى الإعذار في قوله - صلى الله عليه وسلم - «أعذر الله» فالإعذار: إزالة العذر، والمعنى أنه لم يبق له اعتذار، كأن يقول: لو مد لي في الأجل لفعلت ما أمرت به، يقال أعذر إليه إذا بلغه أقصى الغاية في العذر ومكنه منه، وإذا لم يكن له عذر في ترك الطاعة مع تمكنه منها بالعمر الذي حصل له فلا ينبغي له حينئذ إلا الاستغفار والطاعة والإقبال على الآخرة بالكلية، ونسبة ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (4/ 457)، (1/ 420).

الأعذار إلى الله مجازية، والمعنى أن الله لم يترك للعبد سبباً في الاعتذار يتمسك به، والحاصل أنه لا يعاقب إلا بعد حجة، وقوله: أخْر أجله، يعني أطاله حتى بلَّغه ستين سنة، وفي رواية معمر: «لقد أعذر الله إلى عبد أحياه حتى يبلغ ستين سنة أو سبعين سنة لقد أعذر الله إليه، لقد أعذر الله إليه ... » وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – بلفظ: «من أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله إليه في العمر» (¬1). ويكاد ينعقد إجماع المفسرين على أن التعمير المذكور في آية فاطر هو ببلوغ الستين قال الطبري: اختلف أهل التأويل في مبلغ ذلك فقال بعضهم: ذلك أربعون سنة، وقال آخرون: بل ذلك ستون سنة. وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان يوم القيامة نودي أين أبناء الستين؟ وهو العمر الذي قال الله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}» قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقد أعذر الله إلى صاحب الستين سنة والسبعين». وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من عمره الله ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر». وعن علي – رضي الله عنه – في قوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا ¬

_ (¬1) فتح الباري، (11/ 240 – 242).

يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} قال: العمر الذي عمركم الله به ستون سنة، وهو أشبه القولين بتأويل الآية. وقوله: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} اختلف أهل التأويل في معنى النذير فقال بعضهم: عني به محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وقرأ: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} [النجم:56]. وقيل: عنى به الشيب، فتأويل الكلام إذا: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} قال: العمر الذي عمركم الله به ستون سنة، وهو أشبه القولين بتأويل الآية. وقوله: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} اختلف أهل التأويل في معنى النذير فقال بعضهم: عني به محمدا - صلى الله عليه وسلم -، وقرأ: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} [النجم:56]. وقيل: عني به الشيب، فتأويل الكلام إذا: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ} يا معشر المشركين بالله من قريش من السنين {مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} من ذوي الألباب والعقول، واتعظ منهم من اتعظ وتاب من تاب، وجاءكم من الله منذر ينذركم ما أنتم فيه اليوم من عذاب الله، فلم تتذكروا مواعظ الله ولم تقبلوا من نذير الله الذي جاءكم ما أتاكم به من ربكم (¬1). ورجح ابن كثير نفس الاختيار عند قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}، فقال: (أي أو ما عشتم ¬

_ (¬1) تفسير الطبري، (22/ 141 - 142).

في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفع بالحق لا نتفعتم به في مدة عمركم. وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: (العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم في قوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} ستون سنة، فهذه الرواية أصح عن ابن عباس وهي الصحيحة في نفس الأمر أيضا لما ثبت في ذلك من الحديث) (¬1). والقرطبي يقول عن هذا السن: (فيه إعذار بعد إعذار الأول بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والموتان: في الأربعين والستين، قال علي وابن عباس وأبو هريرة – رضي الله عنهم – في تأويل قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} إنه ستون سنة. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في موعظته: «ولقد أبلغ من تقدم في الإنذار، وإنه لينادي منادٍ من قِبل الله تعالى أبناء الستين: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}». وقوله تعالى: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} وقرئ (وجاءتكم النذر) واختلف فيه فقيل: القرآن، وقيل: الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قاله زيد بن علي وابن زيد، وقال ابن عباس – رضي الله عنهما – وعكرمة وسفيان ووكيع والحسين بن الفضل والفراء والطبري: هو الشيب، وقيل: النذير الحمى، وقيل: موت الأهل والأقارب، وقيل: كمال العقل، والنذير بمعنى الإنذار) (¬2). ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير، (3/ 889). (¬2) تفسير القرطبي، (14/ 352 – 254).

ألا وإن من بلغ الستين لابد أنه قد مرَّ عليه الشيب والحمَّى وموت بعض الأهل والأقارب، وقد كمل عقله. أما السيوطي فقد أورد أحاديث كثيرة في نفس السياق مرجحاً هذا الاختيار بأحاديث قطعية الصحة كالتي عند البخاري وغيره وأحاديث صحت لغيرها، فقال: (وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردوية عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} قال ستين سنة. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والبيهقي في سننه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردوية والبيهقي في (شعب الإيمان) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا كان يوم القيامة قيل: أين أبناء الستين؟ وهو العمر الذي قال الله فيه: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}». وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري والنسائي والبزار وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه عن سهل بن سعد – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أعذر الله إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ ستين سنة». وأخرج عبد بن حميد والطبراني والروياني في الأمثال والحاكم وابن مردويه عن سهل بن سعد – رضي الله عنه – قال: قال

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا بلغ العبد ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر». وأخرج ابن جرير عن علي – رضي الله عنه – في الآية قال: العمر الذي عمرهم الله به ستون سنة. وأخرج الرامهرمزي في الأمثال عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من عمره الله ستين سنة، أعذر إليه في العمر» يريد: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ}. وأخرج الترمذي وابن المنذر والبيهقي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك». وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: العمر ستون سنة) (¬1). وقال به الشوكاني: أي: عمراً يتمكن من التذكر فيه من تذكر، فقيل: هو ستون سنة، وقال به جمع من الصحابة. وقال البيضاوي: والعطف على معنى {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ} فإنه للتقرير كأنه قال: عمرناكم وجاءكم النذير، قال ابن عباس – رضي الله عنهما – والمحققون من المفسرين: معناه أو لم نعمركم ستين سنة، ويؤيده الحديث الذي سنذكره) أول أحاديث الباب – إن شاء الله تعالى -. وعند ابن أبي حاتم عن عطاء مرفوعاً: «إذا كان يوم القيامة ¬

_ (¬1) الدر المنثور، (7/ 30 - 33) نشر محمد دمج.

قيل: أين أبناء الستين؟ وهو العمر الذي قال الله تعالى فيه: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ}». (وقيل: معناه) أو لم نعمركم (ثماني عشرة سنة) قال ابن الجوزي في (زاد المسير): قاله عطاء ووهب بن منبه وأبو العالية وقتادة، قال قتادة: طول العمر حجة، فنعوذ بالله أن نغتر بطول العمر، قد نزلت هذه الآية: وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة (¬1). وعند قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11] قال قتادة: المعمر من يبلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة (¬2). عن أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنبئكم بخياركم؟» قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: «خياركم أطولكم أعمارًا إذا سددوا» (¬3). وعن أنس – رضي الله عنه – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله»، قيل: كيف يستعمله؟ قال: «يوفقه لعمل صالح قبل الموت». ¬

_ (¬1) تفسير البيضاوي، ص 574، دار الجيل بيروت، وفتح القدير الشوكاني، (4/ 354) دار المعرفة بيروت. (¬2) تفسير القرطبي، (14/ 333) ابن كثير، (3/ 551) فتح القدير للشوكاني، (4/ 342) الدر المنثور (7/ 12). (¬3) رواه أبو يعلي بإسناد حسن، الترغيب والترهيب للمنذري، (6/ 73) دار الفكر بيروت.

وفي رواية لأحمد: «يوفقه لعمل صالح قبل الموت ثم يقبضه عليه» (¬1). وجاء في الحديث الصحيح عن عمرو بن الحمق رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أراد الله بعبد خيراً عسَّله»، قيل: وماعسله؟ قال: «يفتح له عملا صالحاً بين يدي موته حتى يرضى عنه جيرانه» أو قال: «من حوله». ومعنى عسَّله: بفتح العين والسين المهملتين من العسل وهو طيب الثناء، وقال بعضهم: هذا مثل، أي وفقه الله لعمل صالح يتحفه به كما يتحف الرجل أخاه إذا أطعمه العسل (¬2). قال الألباني: عسَّله بفتح العين والسين تخفف أو تشدد، أي: طيب ثناءه بين الناس (¬3). وفي حديث آخر قال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أراد الله بعبد خيرا عسله»، قيل: وما عسله؟ قال: «يفتح له عملا صالحا قبل موته، ثم يقبضه عليه» (¬4). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ألا أنبئكم بخيركم؟» قالوا: بلى، قال ¬

_ (¬1) الترغيب والترهيب، (6/ 71 - 73)، والحديث صحيح برقم (302) في صحيح الجامع، رواه الجامع، رواه الحاكم وقال: صحيح على شرطهما. (¬2) الترغيب والترهيب، (6/ 72) وسلسلة الأحاديث الصحيحة، (3/ 1114) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي وغيرهم. (¬3) صحيح الجامع (1/ 143) من الحاشية. (¬4) حديث صحيح في صحيح الجامع برقم (304).

الستون عند العلماء وأهل الفضل

- صلى الله عليه وسلم -: «خياركم أطولكم أعماراً، وأحسنكم أعمالاً» (¬1) وفي حديث آخر، قال - صلى الله عليه وسلم -: «خياركم: أطولكم أعماراً وأحسنكم أعمالاً» (¬2). * * * الستون عند العلماء وأهل الفضل تكلم الأخيار عن سن الستين، ووعظوا وذكروا، وخصوها - قولاً وعملاً - بما ينبغي لها. فمما يذكر عن عيسى بن مريم - عليهما السلام - أنه مر بمشيخة فقال: معاشر الشيوخ أما علمتم أن الزرع إذا أبيض ويبس واشتد فقد دنا حصاده؟ قالوا: بلى، قال: فاستعدوا فقد دنا حصادكم (¬3). ولقد ذكر عن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - أنه قال في مرض موته: إن مرض عضو مني فما أحصى صحتي، وما عوفيت منه أطول، أنا اليوم ابن ستين سنة، فرحم الله عبداً دعا لي بالعافية (¬4). ¬

_ (¬1) رواه أحمد ورواته رواة الصحيح، وابن حبان في صحيحه والبيهقي ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرطهم: الترغيب والترهيب (6/ 72). (¬2) وهو صحيح في صحيح الجامع برقم (3257). (¬3) حلية الأولياء (6/ 55،65). (¬4).حلية الأولياء (9/ 154)

وهذا (توبة بن الصمة وكان بالرقة، وكان محاسبا ًلنفسه فحسب يوماً فإذا هو ابن ستين سنة فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرين ألف يوم وخمسمائة يوم فصرخ وقال: يا ويلتي، ألقي المليك بواحد وعشرين ألف وخمسمائة ذنب، كيف وفي كل يوم ذنب؟! ثم خر مغشياً عليه فإذا هو ميت، فسمعوا قائلاً يقول: يا لك ركضةٌ إلى الفردوس الأعلى. فهكذا ينبغي للمرء أن يحاسب نفسه على الأنفاس وعلى معصية بالقلب والجوارح في كل ساعة، ولو رمى العبد بكل معصية حجرًا في داره لامتلأت داره في مدة يسيرة قريبة من عمره، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي والملكان يحفظان عليه ذلك {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} (¬1). قال إسماعيل بن عبيد الله: قال لي عمر بن عبد العزيز: يا إسماعيل كم أتت عليك من سنة؟ قلت: ستون سنة وشهور، قال: يا إسماعيل إياك والمزاح (¬2). قال الشاعر: والشيبُ يقطعُ من ذي اللهو شهوتَه ... ويُذْهب المزْحَ ممَّن كان مزَّاحاً ألا وإن خير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان يمازح أصحابه، ¬

_ (¬1) إحياء علوم الدين، (4/ 406) دار المعرفة بيروت، صفة الصفوة، (4/ 691) دار المعرفة بيروت. (¬2) حلية الأولياء، (5/ 342).

ولعل عمر بن عبد العزيز رحمه الله والشاعر يرميان إلى أن من بلغ هذه السن فعليه أن لا يستكثر من المزاح، بحيث يكون غالباً عليه، بل الأكمل له في هذا السن المتقدم الوقار والحلم، وغلبةُ الجد والخشوع وكثرة الذكر والاستغفار. وصدق الشاعر: ألا إن سفاه الشيخ لا حلم بعده وهذا المسيب بن نجبة بعد مقتل علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – يتقدم بعض أصحابه بالكلام فيقول بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه - صلى الله عليه وسلم -: أما بعد، فإنا قد ابتلينا بطول العمر والتعرض لأنواع الفتن، فنرغب إلى ربنا ألا يجعلنا ممن يقول له غداً {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} فإن أمير المؤمنين–رضي الله عنه – قال: العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة (¬1). أما أبو الشعثاء جابر بن زيد الذي قال عنه قتادة: بأنه أعلم أهل الأرض في زمانه، فإنه أتى أصحابه ذات يوم في مصلاهم وعليه نعلان خلقان فقال: مضى من عمري ستون سنة، نعلاي هاتان أحب إلي مما مضى منه إلا أن يكون خيراً قدمته (¬2). وعن الهيثم بن عدي قال: سمعت خويل بن محمد الأزدي وكان ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري، (3/ 390) دار المعرفة القاهرة. (¬2) البداية والنهاية، (9/ 94) مكتبة المعارف بيروت، حلية الأولياء، (3/ 88).

عباداً يقول: كأن خويلاً قد وقف للحساب فقيل له: يا خويل قد عمرناك ستين سنة فما صنعت فيها؟ فجمع نوم الليل مع قائلة النهار فإذا قطعة من عمري نوم، وجمعت ساعات أكلي فإذا قطعة من عمري قد ذهبت في الأكل، وجمعت ساعات وضوئي فإذا قطعة من عمري ذهبت فيه، ثم نظرت في صلاتي فإذا صلاة منقوصة وصوم مخرق، فما هو إلا عفو الله أو الهلكة (¬1). يقول القرطبي رحمه الله: إن الله تعالى خلق العبد حيا عالماً وبذلك كماله، وسلط عليه آفة النوم وضرورة الحدث ونقصان الخلقة إذا الكمال للأول الخالق سبحانه، فما أمكن الرجل من دفع النوم بقلة الأكل والسهر في طاعة الله فليفعل، ومن الغبن العظيم أن يعيش الرجل ستين سنة ينام ليلها فيذهب ثلثاه ويبقى له من العمر عشرون سنة، ومن الجهالة والسفاهة أن يتلف الرجل ثلثي عمره في لذة فانية ولا يتلف عمره بسهر في لذة باقية، عند الغني الوفي الذي ليس بعديم ولا ظلوم (¬2). يروى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: إن الله يحب ابن عشرين إذا كان شبه ابن الثمانين، ويبغض ابن الستين إذا كان شبه ابن عشرين (¬3). ولأن الغالب كما ذكر سابقا أن الستين عمر التقاعد الوظيفي، ¬

_ (¬1) صفة الصفوة (3/ 348). (¬2) تفسير القرطبي، (13/ 66). (¬3) الفردوس بمأثور الخطاب، (1/ 156).

الستون عند أهل الأمم الأخرى

فقد نظم شاعر موفق لما أحيل للتقاعد قصيدة منها: إن التقاعدَ فرصة ذهبية ... لزيادة الحسناتِ في الميزان إن التقاعد فرصة ذهبية ... لزيارة الإخوان والخِلان قال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتى عليك؟ قال: ستون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال له الفضيل: أتعرف تفسيره؟ قال الرجل: فسره لنا يا أبا علي، قال: فمن علم أنه عبد الله وأنه إليه راجع، فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول فليعد للسؤال جوابا، فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة، قال: ما هي؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى، فإنك إن أسأت فيما بقى أُخِذت بما مضى وما بقي (¬1). * * * الستون عند أهل الأمم الأخرى اهتمت كل الأمم بكبار السن على تفاوت، لكن اهتمام ¬

_ (¬1) حلية الأولياء (8/ 113) جامع العلوم والحكم، ص 360 دار الباز، مكة المكرمة.

الإسلام بهم كان أكبر، ورعايته بهم أظهر، وإن كان من قصور في هذا الأمر فهو من بعض المسلمين، وإلا فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال: «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم .... » (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ليس منا من لم يجل كبيرنا ....... » قول - صلى الله عليه وسلم - «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا». وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا» (¬2). وفي حديث قال عنه القرطبي: إنه ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أكرم شاب شيخاً لسِّنه إلا قيض الله له عند سنِّه من يكرمه» أي لأجل سنه لأجل أمر آخر «إلا قيض الله» أي سبب وقدر يقال: هذا قيض لهذا «من يكرمه عند سنِّه» مجازة له على فعله بأن يقدر له عمراً يبلغ به إلى الشيخوخة ويقدر له من يكرمه، ذكره الطيبي، وأصله قول ابن العربي: قال العلماء: فيه دليل على طول العمر لمن أكرم المشيخة (¬3). وقد دخل السرقسطي العربي مجلساً وقد أكل منه الكبر وشرب، وله هرولة في مشيه، فتغامز عليه الأحداث فأنشأ يقول (¬4): ¬

_ (¬1) رواه أبو داود، وحسنه الألباني برقم (2195) في صحيح الجامع. . (¬2) الأحاديث (5319 - 5321) من صحيح الجامع .. (¬3) تفسير القرطبي (17/ 241). (¬4) فيض القدير، (5/ 425).

داخله الصبا ومن بذخِ يا عائباً للشيوخ من أشرٍ اذكر إذا شئت أن تغشيهم ... جدك واذكر أباك يا ابن أخِ واعلم بأنَّ الشبابَ منسلخٌ ... عنك وما وزره بمنسلخِ من لا يعزُّ الشيوخَ لا بلغت ... يوماً به سنُّه إلى الشيخِ يقول المناوي: ترى الرجل يشتري عبداً فإذا أتت عليه ستون سنة فيقول: قد طالت صحبة هذا وعتق عندنا، فترفع عنه بعضُ العبودية وتخفف عنه في ضريبته، فإذا زادت مدة صحبته زيد رفقا وعطفاً، والعبد لا يخلو من تخليط وإساءة فمولاه لطول صحبته لا يمنعه رفقه ورفده ولا يتعبه فإذا شاخ أعتقه (¬1). ذكر ابن بطوطة عن بعض النصاري أنهم يبنون (المانستار) على مثل لفظ المارستان إلا أن نونه متقدمة وراءه متأخرة، وهو عندهم شبه الزاوية عند المسلمين ... فمنها المانستار الذي عمره الملك جرجيس والد ملك القسطنطينية وهو بخارج استنبول، ومنها ما نستاران يطيف بهما بيوت وأحدهما يسكنه العميان، والثاني يكسنه الشيوخ الذين لا يستطيعون الخدمة ممن بلغ الستين أو نحوها، ولكل واحد منهم كسوته ونفقته من أوقافٍ معينة لذلك، وفي داخل كل مانستار منها دويرة لتعبُّد الملك الذي بناه، وأكثر هؤلاء الملوك إذا بلغ الستين أو السبعين بني مانستاراً ولبس المسوح وهي ثياب الشعر، وقلد ولده الملك واشتغل بالعبادة حتى يموت. ¬

_ (¬1) فيض القدير (4/ 457).

الستون ... والشيب

ويحكي ابن بطوطة أيضاً عن أهل الصين ومبالغتهم في رعاية من كبر سنه فقال: ومن بلغ ستين سنة عدوه كالصبي فلم تجر عليه الأحكام، والشيوخ بالصين يعظمون تعظيما كثيرا، ويسمى أحدهم آطا ومعناه الوالد، والأمير الكبير قرطي) (¬1). ولما (خرج موسى عليه السلام في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل كانوا لا يعدون ابن العشرين لصغره ولا ابن الستين لكبره)، قال الإمام البغوي: (ولما دنا هلاك فرعون أمر الله تعالى موسى - عليه السلام - أن يسير ببني إسرئيل من مصر ليلاً، وخرج موسى عليه السلام في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل لا يعدون ابن العشرين لصغره ولا ابن الستين لكبره) (¬2). * * * الستون ... والشيب كنت قد ذكرت الشيب وأحكامه وكلام أهل العلم فيه في رسالة (يا ... ابن الأربعين) أعيد بعضه هاهنا مختصراً: جاء عند الإمام مالك رحمه الله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أول الناس رأى الشيب إبراهيم عليه السلام، فقال: يارب ما هذا؟ ¬

_ (¬1) رحلة ابن بطوطة ص 235، ص 422 دار الكتاب اللبناني المصري، بيروت القاهرة. (¬2) تفسير الطبري، (1/ 277) البغوي ص17، دار طيبة الرياض.

فقال الله تبارك وتعالى: هذا وقار يا إبراهيم (أي حلم ورزانة) فقال: رب زدني وقارا»، فالشيب ممدوح (¬1). قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تنتفوا الشيب، فإنه نور الإسلام، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نوراً يوم القيامة» (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة» (¬3). وزاد الحاكم في الكني: «ما لم يغيرها» (¬4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «الشيب نور المؤمن، لا يشيب رجل شيبة في الإسلام إلا كانت له بكل شيبة حسنة ورفع بها درجة» (¬5). وهذا شاعر لخص أثر كل شيبة تظهر على العقلاء من الناس، فقال: لقد جلَّ خطبٌ إن كان كلما ... بدت شيبة يعرى من اللهو مركب وللناس مع الشيب مذاهب: فمنهم من رضي به واطمأن إليه، وعده نذيرا، واستعد لما ¬

_ (¬1) ما بين الأقواس من شرح الزرقاني، (5/ 295) مكتبة الحلبي مصر. (¬2) حديث صحيح برقم (7340) في صحيح الجامع. (¬3) حديث صحيح برقم (6183) في صحيح الجامع. (¬4) الزيادة من شرح الزرقاني، (5/ 295). (¬5) حديث صحيح برقم (3642) في صحيح الجامع.

بعده. ومنهم من لم يأبه به، ولم يمثل له أي شيء، أو يعني له أي معنى، وما كأنه نزل بساحته. وصنف آخر التفوا عليه، واحتالوا وسارعوا إلى إخفائه، بنتفه، أو صبغه بالسواد، أو تغيير لونه الحقيقي، ضجرًا به، وكرهاً له، أو تشاؤما منه، خصوصاً أنه إذا حلَّ تتابع. والمرء وإن أخفاه بطريقة أو أخرى، فإن الواقع والحقيقة لا يمكن إخفاؤهما. أما البستي - رحمه الله – فقد قطع الطريق على حيل النفوس والأعذار خصوصاً في هذا السن، فقال: ويا أخَا الشيب لو ناصحتَ نفسَك لم ... يكن لمثلكَ في الإسراف إمعانُ هب الشبيبة تُبدى عذر صاحبها ... ما عذر أشيب يستهويه شيطان وهذا شاعر قد صدق في وصف أثر الشيب على المسلم، فقال [بتصرف يسير) عُلقتَ يا كعبُ بعد الشيب فانيةً ... والشيب فيه عن الأهواء مزدجرُ فإن لم يكن الشيب زاجرًا عن الأهواء، فلم يكن حينئذ نذيرًا .. ولقد بوب مسلم في صحيحه على حكم الصبغ والخضاب

أبواباً، وساق أحاديث، منها: باب استحباب خضاب الشيب بصفرة أو حمرة وتحريمه بالسواد: عن جابر قال: أتى بأبي قحافة يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «غيروا هذا بشيء، واجتنبوا السواد» الثغامة: نبت أبيض الزهر والثمر. وقال: باب في مخالفة اليهود في الصبغ: وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن اليهود والنصاري لا يصبغون فخالفوهم». قال النووي: ومذهبنا استحبابُ خضاب الشيب للرجل والمرأة بصفرة أو حُمرة، ويحرم خضابه بالسواد على الأصح (¬1). قال ابن حجر رحمه الله: قوله - صلى الله عليه وسلم - «إن اليهود والنصاري لا يصبغون فخالفهوهم» يقتضي مشروعية الصبغ، والمراد به صبغ اللحية والرأس، ولا يعارض ما ورد من النهي عن إزالة الشيب، لأن الصبغ لا يقتضي الإزالة، ثم إن المأذون فيه مقيد لما أخرجه مسلم من حديث جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: غيروه، ولأبي داود وصححه ابن حبان من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – مرفوعا: «يكون قوم في آخر الزمان يخضبون كحواصل الحمام لا يجدون ريح الجنة» وإسناده قوي إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه وعلى تقدير ترجيح وقف فمثله لا يقال فيه بالرأي، فحكمه الرفع، ولهذا ¬

_ (¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، (14/ 80) دار إجياء التراث بيروت.

اختار النووي أن الصبغ بالسواد يكره كراهية تحريم» (¬1). وللجنة الدائمة للإفتاء برئاسة الشيخ ابن باز - رضي الله عنه - فتاوى في صبغ شعر الرأس واللحية، منها: إن تغيير الشيب بصبغ شعر الرأس واللحية بالحناء والكتم ونحوهما جائز بل مستحب، وتغييره بالصبغ الأسود لا يجوز (¬2). قال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا خطب أحدكم المرأة وقد خضب بالسواد فليعلمها». قال المناوي: أي والحال أنه (يخضب) شعره الأبيض (بالسواد) أي يغير لونه به وذلك جائز للجهاد ممنوع لغيره (فليعلمها) وجوبا (أنه) أي بأنه (يخضب) لأن النساء يكرهن الشعر الأبيض غالباً، لدلالته على الشيخوخة الدالة على ضعف القوى، فكتمه تدليس، إذ لو علمت أنه غير شاب ربما لم تدخل عليه ... رواه الترمذي والبيهقي وزاد بعد قوله: فليعلمها، (لا يغرنها) (¬3). وكان - صلى الله عليه وسلم - يتمثل بهذا البيث: كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً! أي زاجراً ورادعا، وإنما كان يتمثل به لأن الشيب نذير الموت، والموت يسن إكثار ذكره، لتتنبه النفس من سنة الغفلة، فيسن لمن ¬

_ (¬1) فتح الباري (6/ 499). (¬2) فتاوي اللجنة الدائمة (5/ 165 - 169) دار العاصمة الرياض. (¬3) فيض القدير (1/ 336).

بلغ سن الشيب أن يعاتب نفسه ويوبخها بإكثار التمثل بذلك (¬1). وذكر البخاري أن عمر - رضي الله عنه - سمع مولى بني الحسحاس يقول الشعر فدعاه، فقال: كيف قلت؟ فقال: ودع سليمي إن تجهزت غاديا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا قال: حسبك، صدقت ... صدقت (¬2). وصاغ آخر قريبا منه، فقال: أبى الشيبُ والإسلام أن ابتع الهوى ... وفي الشيب والاسلام للمرء وازع ولأبي إسحاق الألبيري: الشيب نبه ذا النهى فتنبها ... ونهى الجهول فما استفاق ولا انتهى فإلى متى ألهو وأفرح بالمنى ... والشيخ أقبح ما يكون إذا لها ما حسنه إلا التقى لا أن يرى ... صبَّاً بألحاظ الجآذر والمَهَا ولماذا كل هذا الهروب من المشيب مع أنه خير للمسلم، ¬

_ (¬1) فيض القدير، (5/ 203). (¬2) الأدب المفرد للبخاري ص 546، المطبعة العصرية، مشروع زايد الإمارات العربية المتحدة.

وذكرى وعظة؟! إن المشيب رداء الحلم والأدب ... كما الشباب رداء اللهو واللعب حتى شعراء الجاهلية رأوا في الشيب حكماً، فهذا النابغة يقول: على حين عاتبتُ المشيب على الصبا ... وقلت: ألما أصح، والشيب وازع؟ وهذا دريد بن الصمة يقول: صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ... فلما علاه قال للباطل: ابعد! وكان أبو حازم - رضي الله عنه - ينصح ابنه بأمور اقتنع بها، فأعلنها حكما لابنه، وللأجيال من بعده، فيقول: يا بني لا تقتد بمن لا يخاف الله بظهر الغيب، ولا يعف عن العيب، ولا يصلح عند الشيب (¬1). وهذه الأبيات لشاعر عرف دور الشيب فأحسن الروي: رأيت الشيب من نذر المنايا ... لصاحبه وحسبك من نذير وقائلةٍ تخضب يا حبيبي ... وسود شعر شيبك بالعبير فقلت لها: المشيبُ نذير عمري ¬

_ (¬1) حلية الأولياء، (3/ 230).

ولستُ مسودا وجه النذيرِ وهذا شاعر تمنى الشيب مبكراً، لفوائد عاينها، ولا يخلو الشيب من فوائد: تمنيت أن الشيب عاجل لمَّتِى ... وقرب مني في صباي مزاره لآخذ من عصر الشباب نشاطه ... وآخذ من عصر المشيب وقاره أنشد أبو عمر هلال بن العلاء: يا خاضب الشيب بالحناء تستره ... سل المليك له سترًا من النار لن يرحل الشيب عن دار أقام بها ... حتى يرحل عنها صاحب الدار وحكى ابن المنجم حال بعض من يخضب الشيب بالسواد، ولكن سرعان ما تبدو أصوله، فقال: وما خصبَ الناسُ البياض لقبحه ... وأقبحُ منه حين يظهر ناصلُه ولكنه مات الشبابُ فسودت ... على الرسم من حزن عليه منازله أما التميمي: فله قصيدة لابن الأربعين - هي لصاحب الستين أولى - فيقول (مع تصرف يسير).

وما شنآن الشيب من أجل لونه ... ولكنه حاد إلى البين مسرعُ إذا ما بدت منه الطليعة آذنتْ ... بأن المنايا خلفها تتطلع فإن قصها المقراض صاحت بأختها ... فتظهر يتلوها ثلاث وأربع وإن خضبت حال الخضاب لأنه ... يغالبُ صنع الله والله أصنع فيضحي كريش الديك فيه تلمع ... وأفظع ما تكساه ثوب ملمع إذا ما بلغت الأربعين فقل لمن ... يودك فيما تشتهيه ويسرع هلموا لنبكي قبل فرقة بيننا ... فما بعدها عيش لذيذ ومجمع وخل التصابي والخلاعة والهوى ... وأُمَّ طريق الحق فالحق أنفع وخذ جنة تنجي وزادًا من التُّقي ... وصحبه مأموم فقصدك مفزع وللأنصاري: والشيب يأمر بالعفافِ وبالتقى ... وإليه بأوي العقلُ حين يؤولُ

الستون في الأدب والشعر

وما أقبح التفريط في زمن الصبا ... فكيف به والشيب للرأس شاعل ترحل من الدنيا بزاد من التقى ... فعمرك أيام وهن قلائل انتهى، من رسالة (يا .. ابن الأربعين) بختصار وزيادة يسيرة. الستون في الأدب والشعر مما ينسب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قوله: بلوتُ صروف الدهر ستين حجة ... وجربت حاليه من العسر واليسر فلم أر بعد الدين خيرا من الغني ... ولم أر بعد الكفر شرا من الفقر وذكر ابن رجب هذا البيت: وإن المرء قد سار ستين حجة ... إلى منهل من ورده لقريب (¬1) ويذكر أن عراك بن مالك وأبا بكر بن حزم وعبيد الله ابن عبد الله بن عتبة كانوا يتجالسون بالمدينة زماناً، ثم إن ابن حزم صار إلى الإمارة فمر هو وعراك يوما بعبيد الله ولم يُسلما ولم يقفا به وكان ¬

_ (¬1) جامع العلوم والحكم، ص 360.

ضريراً فأخبر بذلك فأنشأ يقول (¬1). ألا أبلغا عني عراك بن مالك ... ولا تدعا أن تثنيا بأبي بكر لقد جعلت تبدو شواكل منكما ... كأنكما بي موقران من الصخر فكيف تريدان ابن ستين حجة ... على ما أتى وهو ابن عشرين أو عشر فمسا تراب الأرض، منها خلقتما ... وفيها المعاد والمصير إلى الحشر ولا تعجبا أن تؤتيا وتكلما ... فما خشي الأقوام شرا من الكبرِ فطاوعتما بي عاذلاً ذا معاكسة ... لعمري لقد أورى وما مثله يوري فلولا اتقاء الله من قيل فيكما ... للمتكما لوماً أحر من الجمرِ وكان مما قاله ابن خفاجة لما بلغ الستين من عمره: ألا ساجل دموعي يا غمامُ ... وطارحني بشجوك يا حمامُ فقد وفيتها ستينَ حولاً ¬

_ (¬1) التمهيد لابن عبد البر، (4/ 46) تحقيق محمد عطاء، دار الكتب العلمية بيروت.

ذكر بعض من مات وهو في الستين

ونادتني ورائي هل أمام فيا شرخ الشباب ألا لقاء ... يبل به على ظميءٍ أوام وياظل الشباب وكنت تندى ... على أفياء سرحتك السلام ولخص هذا الشاعر خاتمة كبير السن سفيه العقل، فقال: وليس لمرءٍ بعد ما شابَ رأسه ... نجاحٌ بإتيان السَّفاهِ ولا عذرُ ذكر بعض من مات وهو في الستين وإن كان هذا الأمر لا يعني شيئا محدداً، ولكن أذكره استئناسا، على أن أغلب الناس - كما هو مشاهد ومنقول - يعيشون بين الستين إلى السبعين لحكم عظيمة. قال الترمذي الحكيم: الأصل العشرون: في حكمة قصر أعمار هذه الأمة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عمر أمتي من ستين إلى سبعين»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين ... ثم قصر أعمارهم لئلا يتلبسوا بالدنيا إلا قليلاً ولا يتدنسوا، فإن القرون الماضية كانت أعمارهم وأجسادهم وأرزاقهم على الضعف، كان أحدهم يعمر ألف سنة وجسمه ثمانون باعا ... فمنها وبطروا واستكبروا وأعرضوا عن الله عز وجل فصب الله عليهم سوط عذاب، ... ثم لم يزل الناس ينقصون في الخلق والخلق والأجل والرزق إلى أن صارت هذه

الأمة آخر الأمم حتى يأخذوا من الدنيا أرزاقا قليلة بأجساد كمال، في مدة قصيرة حتى لا يأشروا ولا يبطروا، فهذا تدبير من الله عز وجل رحمة لهذه الأمة، ثم ضوعفت لهم الحسنات فجعلت الحسنة الواحدة بعشرة إلى سبعمائة إلى ما لا يعلمه من التضعيف إلا الله تعالى، وأيدوا باليقين، وأعطوا ليلة القدر .... » (¬1). وجاء في التحفة: (باب ما جاء في فناء أعمار هذه الأمة ما بين الستين إلى سبعين ... قوله: عمر أمتي من ستين سنة إلى سبعين، قيل: معناه: عمر أمتي ابتداؤه إذا بلغ ستين سنة وانتهاؤه سبعون سنة وقل من يجوز سبعين، وهذا محمول على الغالب بدليل شهادة الحال فإن منهم من لم يبلغ ستين سنة ومنهم من يجوز سبعين ذكره الطيبي رحمه الله. وقال القارئ: (فالظاهر أن المراد به أن عمر الأمة من سن المحمود الوسط المعتدل الذي مات فيه غالبُ الأمة ما بين العددين منهم سيد الأنبياء وأكابر الخلفاء كالصديق والفاروق والمرتضى وغيرهم من العلماء والأولياء مما يصعب فيه الاستقصاء) (¬2). روى ابن جرير عن أسلم رضي الله عنه مولى عمر رضي الله عنه أنه قال: توفي عمر وهو ابن ستين سنة، قال الواقدي: وهذا أثبت الأقاويل عندنا (¬3). ¬

_ (¬1) نوادر الأصول في أحاديث الرسول، ص 28، 29. (¬2) تحفة الأحوذي (6/ 623) دار إحياء التراث بيروت. (¬3) البداية والنهاية، (7/ 139).

عياض بن غنم رضي الله عنه، من المهاجرين الأولين شهد بدرًا وما بعدها وكان سمحا جوادا شجاعا، وهو أول من جاز درب الروم غازيا واستنابه أبو عبيدة رضي الله عنه بعده على الشام فأقره عمر عليها إلى أن مات عن ستين سنة. وكذلك عبد الله بن مظعون رضي الله عنه، الذي شهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مات وهو ابن ستين سنة. وخالد بن الوليد رضي الله عنه، عاش ستين سنة وقتل جماعة من الأبطال ومات على فراشه فلا قرت أعين الجبناء (¬1). وأسامة بن زيد رضي الله عنهما، مات بالمدينة في آخر خلافة معاوية رضي الله عنه، وهو ابن ستين سنة (¬2). وتوفيت حفصة رضي الله عنها وهي يومئذ ابنة ستين سنة (¬3). وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، مات عن ستين سنة (¬4). والأوزاعي مات وله ستون سنة قال عبد الرحمن بن مهدي: ما كان بالشام أحد أعلم بالسنة منه (¬5). ومسلم ابن الحجاج النيسابوري الحافظ، أحد أركان الحديث ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء (3/ 354)، (1/ 163) (1/ 367) مؤسسة الرسالة بيروت. (¬2) المستدرك على الصحيحين (3/ 688). (¬3) صفوة الصفوة (2/ 40). (¬4) سبيل السلام (1/ 129) دار الجيل بيروت. (¬5) طبقات الفقهاء (1/ 71).

محاذير في هذا السن، لابد من التصريح بها

وصاحب الصحيح، مات وله ستون سنه (¬1). يقول ابن كثير عن محمود بن سبكتكين: الملك العادل الكبير المرابط المؤيد المنصور، صاحب بلاد غزنة ومالك تلك الممالك الكبار وفاتح أكثر بلاد الهند قهرا، وكاسر أصنامهم وأوثانهم وهنودهم وسلطانهم، مات وله من العمر ستون سنة - رحمه الله -. وكذلك عن ابن القيم: ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه، وكانت له طريقة في الصلاة، يطيلها جدا ويمد ركوعها وسجودها، وله من التصانيف الكبار والصغار شيء كثير، وكمل له من العمر ستون سنة -رحمه الله - (¬2). * * * محاذير في هذا السن، لابد من التصريح بها هذه بعض المحاذير التي لا تنبغي في هذا السن بالذات، والتصريح بها أولى من التلميح أو التعميم، وذك لوجودها عند البعض ... قيل لحكيم: أي شيء أشد؟ قال: دنو أجل وسوء عمل (¬3). 1 - كثرة المزاح والكلام فيما لا ينفع في الآخرة والاشتهار به، ¬

_ (¬1) شذرات الذهب (1/ 145) لابن العماد، المكتب التجاري للطباعة بيروت. (¬2) البداية والنهاية (12/ 27) (14/ 235). (¬3) فيض القدير (1/ 557).

أو كثرة القصص والأخبار الدنيوية قليلة الفائدة والتي زاحم حفظها حفظ القرآن والسنة، فتجد أحدهم يحفظ مئات القصص والأخبار والاشعار التي لن تنفعه في الآخرة يوم عرض الأعمال، فتمنى الواحد زيادة حسنة أو نقص سيئة، ولكن هيهات، بل إنه ربما لا يحفظ جزءا من القرآن أو بعض الأحاديث أو شيئا من سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصالحين في كل زمان ومكان. 2 - بذل الشهادة لكل من طلبها دون تأكد أو تثبت، وربما كانت بمقابل مالي أو معنوي في غير حق وبر، بل ربما شهادة زور أو قول زور يختم به حياته بما يغضب الله، ويلحق بهذا المحذور: الأيمان الكاذبة (الغموس) على أمر من أمور الدنيا كبير أو صغير. 3 - التصابي والتجمل المبالغ فيه، لدرجة الوقوع في محظورات شرعية كحلق اللحية أو التخفيف الشديد منها، أو الصبغ بالسواد وغيرها من الأمور التي لا تحسن بالشاب المسلم فكيف بالشيخ الكبير، ولينظر بأي حال يريد أن يلقى الله وهو عليه في هيئته ومنظره ومخبره، فإنه (يُبعث كل عبدٍ على ما ماتَ عليه) رواه مسلم. قال هشام بن الحكم الثقفي: كان يقال: خمسة أشياء تقبح بالرجل: الفتوة في الشيوخ، والحرص في القراء، وقلة الحياء في ذوي الأحساب، والبخل في ذوي الأموال، والحدة في السلطان (¬1). ¬

_ (¬1) شعب الإيمان (6/ 40).

4 - التعلق بالشهوات والإكثار من المباحات، كالتوسع في المناكح والمطاعم والمشارب والنوم الكثير نهاراً، والسهر ليلاً على ملهيات ومشغلات عن الله تعالى وعن معالي الأمور، قال المعري: جني ابن ستين على نفسه ... بالولد الحادث ما لا يحب تقول عرسُ الشيخ في نفسها ... لا كنتَ ياشر خليل صحب ما يصنع الشيخ بالعذراء يملكها؟ ... كجوزة بين فكي أدرد خرف إن رام يكسرها بالسن تثلمه ... وكسرها راحة للهائم الدنف 5 - صحبة من لا تزيد صحبته إلا نقصا ممن لا يذكر إلا بالدنيا وملذاتها وحطامها الزائل، ولقد أمر الله تعالى بصحبة الصادقين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] قال الطبري: وكونوا في الدنيا من أهل ولاية الله وطاعته تكونوا في الآخرة مع الصادقين في الجنة، يعني مع من صدق الله الإيمان به (¬1). ونهى - صلى الله عليه وسلم - عن صحبة غير المؤمن فقال: «لا تصاحب إلا مؤمنا» (¬2). وقال الإمام طاووس رحمه الله لابنه: يا بني صاحب العقلاء ¬

_ (¬1) تفسير الطبري (11/ 62). (¬2) حسنه الألباني برقم (7218) في صحيح الجامع.

تنسب إليهم وإن لم تكن منهم، ولا تصاحب الجهال فتنسب إليهم (¬1). 6 - كثرة الأسفار والرحلات غير المفيدة، وأشد من ذلك المحرمة أو التي تؤدي إلى محرم في مثل ما يسمى بالسياحة الخارجية والسفر إلى بلاد الإباحية والانحلال الخلقي لتمتيع ناظريه أو ما هو أسوأ من ذلك، أو أن يبرر لنفسه بأنه يعوض ما فاته كما يخدعه الشيطان. 7 - زيادة الهلع والقلق على أمور المعاش، خصوصا إذا كان ذلك بعد انخفاض في موارده المالية بسبب التقاعد أو غيره، وليوقن بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها» (¬2). وليحذر البخل والشح حال صحته واستطاعته وبالذات في آخر حياته، ولما سئل - صلى الله عليه وسلم - عن أي الصدقة أفضل؟ قال: «أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم» وفي لفظ: «وأنت حريص تأمل الغنى» أي قاربت الروح الحلقوم، والشح: بخل مع حرص، والتصدق في الحياة وفي الصحة أفضل منه بعد الموت (أي بالوصية) وفي المرض، لأنه في حال الصحة يصعب عليه إخراج المال غالبا، لما يخوفه به الشيطان ¬

_ (¬1) حلية الأولياء، (4/ 13). (¬2) رواه ابن حبان في صحيحة، وقريب منه عند الحاكم والبيهقي وصححه الالباني برقم (7192) في صحيح الجامع.

ما ينبغي لصاحب الستين فما فوق

ويزين له من إمكان طول العمر والحاجة إلى المال (¬1). 8 - البدء في مشاريع ضخمة تستهلك وقته وجهده دون مشاركة أحد من أبناءه له في التنفيذ أو المتابعة بل لقد سمعتُ كثيرا من الآباء يشكو أبناءه: أنهم لا يساعدونه في شيء من تلك الأعمال وإنما قام بها من أجلهم، حتى إن بعضهم لما يئس من مساعدتهم قام بتصفيتها بأقل من تكلفتها الحقيقية نادماً على ما أضاع فيها من جهود وأوقات، عازماً على الاستمتاع بما بقي من طاقته وماله فيما يحب هو. * * * ما ينبغي لصاحب الستين فما فوق إن المرء المسلم ينبغي له أن يكون على ما يحبه الله تعالى في كل وقت، شابا كان أو شيخاً، لكن الأمر أكثر تأكيدا في حق كبير السن. لقد ذهب أكثر العمر في شأن الدنيا ولم يبق إلا القليل جداً من العمر فلنجعله أو أكثره في شأن الآخرة، فإنها والله الحياة الحقيقية كما قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] والمعنى: (لهي دار الحياة التي لا موت ¬

_ (¬1) فتح الباري (3/ 285)، (5/ 374) والحديث متفق عليه.

فيها، ولا تنغيص يشوبها كما يشوب الحياة الدنيا) (¬1). ولأن الغالب (أن الشيخ قد حفظ العلوم والتجارب الكثيرة ومارس الأمور ودربها وكثرت تجاربه، وهذه الأحوال تعينه على وجوه الفكر وقوة النظر، فقامت مقام النقصان الحاصل بسبب ضعف البدن والقوى) (¬2). فإن المطلوب منه تجاه الآخرين: بذلُ الرأي الحسن والمشورة الصادقة والتعليم النافع لمن دونه، فذلك منتظر منه أكثر من غيره. أما تجاه نفسه: فالاجتهاد في الذكر والاستغفار وألوان العبادة وملء الوقت بها مطلوب أكثر ممن هو دونه في السن. ولئن كان يطلب كل ذلك ممن بلغ هذا العمر فإنه لا يعني التبتل وترك الدنيا تماماً، فإن ذلك مخالف للفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولكن المطلوب مزيد عناية بأمر الآخرة الباقية، والتخفف من الدنيا العاجلة الفانية. جاء عند البخاري أن - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنتين: في حب الدنيا، وطول الأمل». وقال: «يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنتان: حب المال وطول العمر» وعند مسلم: «يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان: الحرص على المال والحرص على العمر». ¬

_ (¬1) زاد المسير، (3/ 142)، المكتب الإسلامي. (¬2) الروح، ص 208 - 209، دار الندوة الجديدة بيروت.

قال النووي: معنا أن قلب الشيخ كامل الحب للمال. محتكم في ذلك كاحتكام قوة الشاب في شبابه. وقال: والتعبير بالشاب إشارة إلى كثرة الحرص وبعد الأمل الذي هو في الشباب أكثر وبهم أليق، لكثرة الرجاء عادة عندهم في طول أعمارهم ودوام استمتاعهم ولذاتهم في الدنيا. قال القرطبي: في هذا الحديث كراهة الحرص على طول العمر وكثرة المال وأن ذلك ليس بمحمود. وقال غيره: الحكمة في التخصيص بهذين الأمرين: أن أحب الأشياء إلى ابن آدم نفسه فهو راغب في بقائها فأحب لذلك طول العمر، وأحب المال لأنه من أعظم الأسباب في دوام الصحة التي ينشأ عنها غالبا طول العمر، فكلما أحس بقرب نفاد ذلك اشتد حبه له ورغبته في دوامه (¬1). ويستغرب أن يكون في بعض من بلغ هذا السن من لا زال معرضا سادراً، لكن وعيده عند الله عظيم ما لم يتب، خصوصا من أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه: «لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر» رواه مسلم. وفي حديث آخر: «أشيمط زان» (¬2). ¬

_ (¬1) فتح الباري، (11/ 241). (¬2) صحيح الجامع، (3067).

قال القاضي عياض عن مثل هؤلاء: (سببه أن كل واحد منهم التزم المعصية المذكورة مع بعدها منه وعدم ضرورته إليها وضعف دواعيها عنده، وإن كان لا يعذر أحد بذنب، لكن لما لم يكن إلى هذه المعاصي ضرورة مزعجة ولا دواع معتادة أشبه إقدامُهم عليها المعاندة والاستخفاف بحق الله تعالى وقصد معصيته لا لحاجة غيرها، فإن الشيخ لكمال عقله وتمام معرفته بطول ما مر عليه من الزمان، وضعف أسباب الجماع والشهوة للنساء واختلال دواعيه لذلك عنده ما يريحه من دواعي الحلال في هذا ويخلى سره منه فكيف بالزنا الحرام؟ .... ) (¬1). ويذكر أن الربيع بن خثيم كان بالأهواز ومعه صاحب له فنظرت إليه امرأة فتعرضت له، فدعته إلى نفسها فبكى الشيخ، فقال صاحبه: ما يبكيك؟ قال: إنها لم تطمع في شيخين إلا رأت شيوخاً مثلنا (¬2). قال المعري: وكم شيوخٍ غدوا بيضا مفارقُهم ... يسبحون، وباتوا في الخنا سبحا ألا فليتق الله كل مسلم وصاحب الستين – فأكثر – أولى بتقواه والاستعداد للقائه. ¬

_ (¬1) شرح صحيح مسلم، (2/ 117). (¬2) حلية الأولياء، (2/ 116).

الخاتمة

الخاتمة قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بخواتيهما» [رواه البخاري]. قال المناوي عند شرح هذا الحديث: فعلى الخاتمة سعادة الآخرة وشقاوتها (¬1). جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: «من طال عمره وحسن عمله»، قال: فأي الناس شر؟ قال: «من طال عمره وساء عمله». وعن عبد الله بن بسر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خير الناس من طال عمره وحسن عمله» (¬2). قال قتادة: اعلموا أن طول العمر حجة، فنعوذ بالله أن نعير بطول العمر، قد نزلت هذه الآية: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة (¬3). فمن عمره الله تعالى إلى أن بلغ الستين فأكثر، فليجعله كما مر معنا (سن الإنابة والخشوع وترقب المنية ولقاء الله تعالى)، و (عمر التذكر والتوفيق). وختاماً أوجز أموراً ينبغي على المسلم الذي بلغه الله هذا العمر ¬

_ (¬1) فيض القدير، (2/ 231). (¬2) الحديث الأول رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والطبراني بإسناد صحيح والحاكم والبيهقي في الزهد وغيره، وحديث عبد الله بن بسر رواه الترمذي وقال: حديث حسن، الترغيب والترهيب (6/ 72). (¬3) تفسير ابن كثير، (3/ 888).

أن يأتي بها ويحرص عليها منها: 1 - أن يكثر من أن يدعو الله تعالى ببعض ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - بما يناسب هذه المرحلة، مثل: «اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي» (¬1)، فإنه لا يدري: أيهما خير له، الموت أم الحياة؟ وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم اجعل أوسع رزقك على عند كبر سني، وانقطاع عمري» قال المناوي: أي إشرافه على الانقطاع والرحيل من هذه الدار، فإن الإنسان عند الشيخوخة قليل القوة ضعيف الكد عاجز عن السعي فإذا وسع الله عليه رزقه حين ذلك كان عونا له على العبادة (¬2). 2 - أن يكثر من الذكر الاستغفار عن خطئه وتقصيره فلا ينبغي له حينئذ إلا الاستغفار والطاعة والإقبال على الآخرة بالكلية (¬3). وكما قال الشاعر: دعْ عنك ما قد فاتَ في عهد الصبا ... واذكر ذنوبكَ وابكِها يا مُذْنِبُ ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) فيض القدير، (2/ 125) والحديث راه الحاكم وحسنه الألباني (1266) صحيح الجامع. (¬3) فتح الباري، (11/ 240).

3 - أن يزيد من علمه اشرعي لمعرفة مراد الله تعالى، ويستدرك ما فاته، فإنه «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» (¬1). ولا أحصي عدد المرات التي سمعت فيها الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله يقول عند شرحه هذا الحديث: ... إن من معاني هذا الحديث أن (من لم يرد الله به خيرا لا يفقهه في الدين). وهذا يشمل كل أحد حتى كبير السن، فإن العلم ليس له سن معين، بل الأمر كما قال الإمام أحمد: مع المحبرة إلى المقبرة، وكان يقول: عن المحابر في أيدي طلاب العلم: هذه سرج الإسلام (¬2). ولما قيل لعبد الله بن المبارك: إلى متى تطلب العلم؟ قال: حتى الممات إن شاء الله (¬3). ويقول الغزالي: فلا يزيد كبر السن للجاهل إلا جهلاً، فالعلم ثمرة العقل وهي غريزة ولا يؤثر الشيب فيها. وقال أيوب السختياني: أدركت الشيخ ابن ثمانين سنة يتبع الغلام يتعلم منه. وقيل لابي عمرو بن العلاء: أيحسن من الشيخ أن يتعلم من الصغير؟ فقال: إن كان الجهل يقبح به، فالتعلم يحسن به (¬4). ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) تلبيس إبليس، ص 329، دار الكتب العلمية بيروت. (¬3) جامعُ بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، (1/ 406). (¬4) إحياء علوم الدين (1/ 143، 144).

4 - أن يوجه قلبه وهمه إلى الدار الآخرة، حيث لم يبق إلا القليل، وليس بمقبول منه أفعال الشباب وفتوتهم، ولا أعنى أنه يهجر الدنيا ويتركها تماما ولكن كما ذكر سابقا، ينبغي له الإقبال على الآخرة بالكلية لاستحالة أن يرجع إلى الحالة الأولى من النشاط والقوة. وها هو الجاحظ يستنكر على شيخ لم يقدر لهذه المرحلة حق قدرها، فيقول: أترجو أن تكونَ وأنت شيخٌ ... كما قد كنتَ أيام الشباب لقد كذبتْكَ ليسَ ثوبٌ ... خليقٌ كالجديدِ من الثيابِ 5 - أن يكتب وصيته وماله وما عليه، كما جاء في الحديث المتفق عليه: «ما حقُّ امرئ مسلم له شيءٌ يريد أن يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته عند رأسه» ولكن عليه أن لا يجوز بأن يزيد أو ينقص في وصيته عما شرعه الله تعالى كأن يخص أحد الورثة بشيء أو يحرم آخرين، أو يوصي بأكثر من الثلث من ماله صدقة بعد موته لقوله - صلى الله عليه وسلم - لسعد رضي الله عنه: «والثلث كثير» (¬1) أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - «إن الرجل ليعمل بطاعة الله أو المرأة ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضارَّان في الوصية فتجب لهما النار». ¬

_ (¬1) رواه البخاري.

والحديث (فيه وعيد شديد وزجر بليغ وتهديد لأن مجرد المضارة في الوصية إذا كانت من موجبات النار بعد العبادة الطويلة في السنين المتعددة، بلا شك أنها من أشد الذنوب لأن الله سبحانه قد قيد ما شرعه من الوصية بعدم الضِّرار، فتكون الوصية المشتملة على الضرر مخالفة لما شرعه الله تعالى وما كان كذلك فهو معصية، وقد تقدم قريبا عن ابن عباس مرفوعا وموقوفا بإسناد صحيح أن وصية الضرر من الكبائر، وذلك مما يؤيد معنى الحديث فما أحق وصية الضرار بالإبطال) (¬1). والمضارة هي إيصال الضرر بالحرمان أو بما يعد في الشرع نقصاناً إلى بعض من لا يستحق لولا هذه الوصية (¬2). 6 - أن يكثر من صلة الأرحام، وتعويض ما قصر فيه تجاههم فيما سلف، والإحسان إليهم لعل الخاتمة تنسي ما قبلها من تقصير أو إساءة. 7 - أن يعمل على التحلل ممن أخطأ في حقهم بغيبة أو تعد على حقوق مالية أو معنوية قبل أن لا ينفعه مال ولا بنون. 8 - أن يحرص على المكسب الحلال والمطعم والمشرب والملبس «أطيب مطعمك تستجب دعوتك» (¬3). ¬

_ (¬1) الحديث رواه أحمد والترمذي وحسنه وأبو داود وابن ماجة: نيل الأوطار، (6/ 37) للشوكاني، مكتبة الباز بمكة المكرمة. (¬2) عون العبود، (8/ 49). (¬3) رواه ابن مردوية والطرباني، تفسير ابن كثير (1/ 204).

9 - أن يرسم لنفسه برنامجاً يومياً في الزيادة من الذكر والعبادة يستثمر فيه ما بقي من عمره – خصوصا الأوقات الفاضلة – بحيث لا يتراجع عن هذا البرنامج، ويجاهد نفسه أن لا يتركه، بل يزيد عليه، والأصل أن هذا حال المسلم في كل سن، لكن من وصل إلى هذا السن بها أولى. وأسوق هنا المعالم الأساسية في البرنامج اليومي لرجل صالح عايشته، وسمعت من جيرانه وبعض أقاربه: *الاستيقاظ قبل الفجر بزمن كافٍ ليصلي ما شاء الله له أن يصلي، ثم يوقظ أهل بيته عند الأذان ويذهب لصلاة الفجر، وبعدها يبقى في مصلاه ذاكرا حتى تطلع الشمس وترتفع فيصلي ركعتين رغبة في أجر حجة وعمرة تامة (¬1) كما صح عنه - صلى الله عليه وسلم -. *الذهاب للمسجد قبل الأذان لقراءة القرآن وصلاة الرواتب والنوافل، وليكون في ميمنة الصف الأول خلف الإمام كما هو حاله دائماً. *صيام يومي الاثنين والخميس أو أحدهما من كل أسبوع. *الصلاة من الضحى ما ييسر الله له. *صلاة المغرب في مسجد فيه محاضرة أو درس علميٌّ ثلاث مرات في الأسبوع، وفي باقي أيام الأسبوع ربما بقي في المسجد القريب من بيته حتى ينتهي من صلاة العشاء في قراءة القرآن والذكر، لأنه قد تيقن أن المرء «إذا صلى لم تزل الملائكة تصلي ¬

_ (¬1) رواه الترمي وهو في صحيح الجامع برقم (6222)، ولمسلم قريب منه.

عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة» (¬1). *في بعض أيام الجمع يبقى في الجامع من صلاة الفجر إلى أن ينتهي من صلاة الجمعة، فإن لم يتيسر له ذلك فلا يفوته التفرغ التام للذكر آخر ساعةٍ من نهار الجمعة. *وهو يختم القرآن تلاوة كل شهر عدة مرات، ويكاد يختمه حفظاً، وهو لا يحدث بذلك ولكن القريبين منه يلحظون ذلك في استدلالاته، وعند فتحه على إمام نسي أو أخطأ في القراءة في الصلاة من أي موضع من القرآن. *لا يفوته أن يتصدق كل يوم ولو بشيء يسير، وربما اجتمع له في بعض الأيام الصدقة والصوم وعيادة المريض واتباع جنازة لعله ينال ما وعد به الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة» [رواه مسلم]. *وهكذا يكرر هذا الأعمال العظيمة أو أكثرها، فقد وجد فيها متعا لا يذوقها ولا يعرفها إلا من عاش مثلها، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة). مع ملاحظة أنه لم يترك متابعة أمور أبنائه وبيته، ولكنه يفوض ويدرب أبناءه ويشرف عليهم، ويباشر أمور معاشه سويعات قليلة ¬

_ (¬1) متفق عليه.

ضحى وبعد العصر، لكن قلبه معلق بالمساجد والدار الآخرة. (¬1) وهو وغيره من الأخيار يعلمون أن أحسن الكلام كلام الله في كل شأن، فلم يترك الدنيا كلية بل اهتدي بقوله سبحانه وتعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77]. قال الحسن عندها: ما أحل الله لك منها، فإن لك فيه غنى وكفاية. وقال أيضا: قدم الفضل، وأمسك ما يبلغك. وقال الحسن وقتادة: معناه لاتضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه، ونظرك لعاقبة دنياك. قال ابن العربي: وأبدع ما فيه عندي قول قتادة: ثم قال القرطبي: ويا ما أحسن هذا (¬2). قال الإمام مسلم (باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، قوله - صلى الله عليه وسلم - «إذا مات الانسانُ انقطع عمله إلا من ثلاثة: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» قال العلماء: معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته وينقطع تجدد الثواب له، ¬

_ (¬1) تهذيب مدارج السالكين لابن القيم، عبد المنعم العزي، ص (245) وزارة العدل بالإمارات. (¬2) تفسير القرطبي (20/ 113) تفسير القرطبي (13/ 314) وقريبا منه عند ابن كثير (3/ 636).

إلا في هذه الأشياء الثلاثة لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه، العلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية وهي الوقف) (¬1). وأخيراً ليحرص صاحب الستين على أن يستمر عمله بعد موته بإحدى الثلاثة الأمور أو كلها التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (¬2). والحمد لله أولا وآخرا وظاهراً وباطناً، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. * * * ¬

_ (¬1) شرح صحيح مسلم: (11/ 85). (¬2) رواه مسلم وغيره.

§1/1