وظيفة الصورة الفنية في القرآن

عبد السلام أحمد الراغب

المقدمة

المقدمة كانت السليقة العربية الصافية تساعد أصحابها على إدراك ما في القرآن الكريم من جمال فني، وتصوير جميل، وتعبير معجز. واستمرت هذه السليقة ردحا من الزمن، إلى أن بدأت تفقد صفاءها، وقدرتها على تذوّق التعبير القرآني، وذلك نتيجة اتساع الفتوحات الإسلامية، ودخول الأجناس المختلفة في نسيج المجتمع الإسلامي، فبدأت حركة تفسير القرآن، وحركة الكشف عن مواضع الإعجاز فيه أيضا. وتنوّعت الدراسات القرآنية آنذاك، وسارت في مسارات عدة، أهمها تلك الدراسات التي ركزت على البلاغة والأساليب وطرائق التعبير، وتأتي في مقدمتها كتب الجاحظ والجرجاني والزمخشري، والخطابي والرماني والباقلاني وغيرهم. فقد رأت هذه الدراسات القيّمة أن «البيان» هو سرّ الإعجاز، وبه كان التحدي للعرب قديما فعجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، وما زال هذا التحدي إلى يوم الدين. وتعدّ «الصورة الفنية» قاعدة الأسلوب القرآني الأساسية، وأداته المفضّلة في التعبير عن المعاني المجردة، والحالات النفسية، والمواقف الإنسانية. وقد تحدّث العلماء في القديم عنها في كتبهم، ولكنها لم تحظ عندهم بدراسة متخصصة مستقلة، كما أن آراءهم حولها، لم تخرج عن الفهم الجزئي المحدود لها، إلى «الفهم الكلي» المدرك لخصائصها الفنية في النص كله.

وحين كثرت الدراسات المعاصرة حول «الصورة» نجد أن الأدباء والنقاد كرّسوا جهودهم على دراسة «الصورة الشعرية»، ولم يهتموا بدراسة الصورة القرآنية، على الرغم من روعة بنائها الفني، وإيقاعها الفريد، وقوة تأثيرها في النفوس، فجاءت هذه الدراسات التنظيرية للصورة قاصرة وناقصة بسبب هذا الإهمال لظاهرة التصوير في التعبير القرآني. وأستثني من هؤلاء الدارسين «سيد قطب» الذي خصص كتابا مستقلا لها عنوانه «التصوير الفني في القرآن» فكان بذلك أول من لفت الانتباه إلى ظاهرة الإعجاز في التصوير القرآني، ولكنه أيضا قصر دراسته على الجانب الفني دون الجانب الوظيفي لها، كما صرّح هو بذلك في مقدمة كتابه يقول: «إذ كان همي كله موجها إلى الجانب الفني الخالص» «1»، ويقول أيضا: «ولكننا إنما ننظر إليها هنا من الوجهة الفنية البحتة» «2». ولهذا رأيت ضرورة دراسة وظيفة الصورة أيضا، ولا سيما أن كتاب سيد قطب مضى على إصداره أكثر من نصف قرن تقريبا، وقد ظهرت في هذه الفترة دراسات نقدية قيّمة، يمكن الاستفادة منها في دراسة الصورة القرآنية. إن الصورة الفنية في القرآن تخاطب الكينونة الإنسانية مجتمعة بما فيها من عقل وحس ووجدان، وتعزف على أوتار النفس المتقابلة لتقيم التوازن بينها حتى ترتسم صورة الإنسان «النموذج» بأبعاده الفكرية، لهذا كان لا بدّ من دراسة الصورة الفنية دراسة سياقية، تتجاوز الخصائص الفنية للمفردة القرآنية، والتركيب إلى دراستها في «النسق» القرآني كلّه. وبذلك تتكامل دراسة الصورة من حيث «السياق والنسق» في تقديم المعنى المطلوب، والنموذج الإنساني المنشود، لتتحقق بذلك وحدة الصورة الفنية في وحدة النص. ويبرز نظام العلاقات في هذه الدراسة السياقية بصورة جلية واضحة، وأعني به نظام العلاقات التعبيرية والتصويرية والفكرية، فهو سرّ الإعجاز في التعبير والتصوير، كما أنه سرّ الإعجاز في خلق الإنسان وتكوينه، وخلق الكون وتصميمه. وقد حاولت في هذا الكتاب أن أوضح هذا النظام في التصوير الفني في القرآن،

_ (1) التصوير الفني في القرآن: ص 9. (2) المصدر نفسه: ص 242.

فوزّعت الوظيفة للصورة القرآنية إلى قريبة، وبعيدة، وأكّدت على الترابط، وقوة التلاحم بينهما. وقد استفدت في ذلك من حديث عبد القاهر الجرجاني عن «المعنى» و «معنى المعنى» «3». فالمعنى هو الذي يدرك من ظاهر اللفظ، و «معنى المعنى» هو المعنى الآخر المفهوم من المعنى الأول للفظ. وهكذا في وظائف الصورة أيضا، فالقريبة هي المفهومة من ظاهر التصوير الفني، والبعيدة هي ما ترمي إليه الصورة من الأفكار الدينية التي هي غاية التصوير الفني. وليست هذه الوظائف مفصولة بعضها عن بعض، بل هي متلاحمة كتلاحم الروح بالجسم، ولكنّ الفصل بينها في هذا البحث، جاء لتسهيل عرض المادة العلمية. وقد وزعت البحث على أبواب وفصول، فالباب الأول مخصص لدراسة طبيعة الصورة، ويعدّ هذا الباب مقدمة ضرورية لتحديد مفهوم الصورة، وعناصرها، وأنواعها، حتى يتضح منهج الدراسة، الذي سأسير عليه في هذا الكتاب. فبدأت في الفصل الأول، بعرض مفهوم الصورة عند القدماء، والمؤثرات التي أثرت في تحديده، فرأيت أن البلاغيين والنقاد، تأثروا بالمفسرين واللغويين والفلاسفة، في مفهومهم للصورة، فراحوا يركزون على «الشكل» ويضعون له القواعد والمقاييس، دون أن يربطوا ذلك بالنفس أو المضمون، فقصروا الصورة على الجملة، ولم يتجاوزوها إلى دراسة السياق في النص كله، فجاءت آراؤهم جزئية لا تخرج عن هذا الإطار الجزئي المحدود، إلى استخلاص الخصائص الفنية العامة للصورة، ووظائفها الكلية في نقل الفكر أو الرؤية. ثم انتقلت إلى النقاد المعاصرين، لأحدّد مفهومهم لها، فرأيت تباينا كبيرا، وغموضا عجيبا، واضطرابا ملحوظا في تحديد مصطلح الصورة، وذلك لاختلاف المذاهب الأدبية، وانطلاق كل ناقد من مذهب معين في دراستها. فحاولت جمع هذه الآراء في مفهوم موحّد للصورة يجمع بين القديم والحديث، سأسير عليه في دراستي. وفي الفصل الثاني، قمت بتوضيح خصوصية الصورة القرآنية، وتميّزها بعناصر تشكيلها

_ (3) دلائل الإعجاز: ص 263.

الفني، واعتمادها على الفكر الإسلامي بالدرجة الأولى في بنائها، فهو المحور الثابت الذي تدور من حوله بقية عناصر التشكيل الفني للصورة، مثل العاطفة والخيال واللغة ... وفي الفصل الثالث: قسمت أنواع الصورة إلى قسمين رئيسين: صورة مفردة، والأخرى سياقية. ويتفرع من هذين النوعين، صور جزئية أخرى، ترجع إلى هذين النوعين. فالصورة المفردة هي الصورة البلاغية، من تشبيه، واستعارة، وكناية، ومجاز مرسل، ومجاز عقلي. وهي الأنواع البلاغية، التي قصر القدماء الصورة عليها. والصورة السياقية، هي أعم وأشمل من الصورة المفردة، وتتضمن صورة المشهد، فاللوحة، فالكلية، ثم الصورة المركزية، التي ترجع إليها جميع الصور وبهذا يتوسّع مفهوم الصورة، لتكون قادرة على تحقيق وظيفتها الدينية، وهذه الأنواع للصورة تعتمد نظام العلاقات بينها، فالصورة المفردة، تنمو وتكبر في السياق، لتكوّن صورة المشهد، التي تقوم بدورها أيضا في التفاعل مع السياق لتكوين «اللوحة»، ثم تنمو هذه اللوحة المرسومة لتكوين الصورة الكلية للسورة الواحدة، ثم إن هذه الصور الكلية، تدور من حول الصورة المركزية في النص القرآني كله، لجلائها وإبرازها. تماما كما دارت عناصر التشكيل للصورة من حول «الفكر الإسلامي» المكوّن الأساسي لها، والذي أكسبها هذه الخصوصية، والتميّز. أما الباب الثاني، فقد عرضت فيه الوظائف القريبة للصورة القرآنية، ووزّعتها على فصول متعددة مراعيا، نمو الصورة في السياق، وانتقالها من الإطار الجزئي في التعبير عن المعاني المجردة، إلى الإطار الكلي، في ضرب الأمثال، وتصوير مشاهد الطبيعة، والتصوير القصصي، ورسم النماذج الإنسانية، وانتقالها أيضا من العالم المحسوس، إلى عالم الآخرة الغيبي، في نقلة واسعة في الحس والشعور والفكر والخيال .. فنظام العلاقات واضح في توزيع الفصول، أو في الوظائف القريبة للصورة، لتحقيق التأثير الديني في النفوس. كما هو واضح في كل فصل على حدة، وقد راعيت ذلك في تناولي لكل فصل بالتحليل والدراسة. ففي الفصل الأول عرضت تصوير المعاني الذهنية، والحالات النفسية، وحاولت أن أبرز

نظام العلاقات التصويرية والتعبيرية والفكرية فيه، فجمعت الصور في وحدات أو مجموعات مترابطة، لأداء المعاني، وربطتها بسياقها الواردة فيه. وأحيانا، كنت أتابع الصور في نموّها ودقتها في تصوير المعنى الواحد، لاستيفاء عناصر التصوير للمعنى من جميع جوانبه، كما سيتضح ذلك في الفصل المدروس. وهكذا سرت في الفصل الثاني، فجمعت الأمثال القرآنية في مجموعات أو وحدات، وبيّنت ما فيها من ترابط وتناسق في كل مجموعة أو وحدة على حدة، ثم ترابط المجموعة من الأمثال، مع غيرها، في حركة تفاعل سياقية لتوضيح الفكر أو الرؤية الدينية. وفي الفصل الثالث أيضا، عرضت تصوير مشاهد الطبيعة، ضمن نظام العلاقات التصويرية، فرتبت المشاهد في مجموعات متناسقة مترابطة، منها ما يتعلق بالسماء، ومنها ما يتعلق بالأرض، ومنها، ما يتعلق بالنبات والزروع وغير ذلك، وأبرزت ما بين هذه المشاهد الطبيعية، من تفاعل وتعاون، لإبراز الفكر الديني. وفي الفصل الرابع، تناولت تصوير الحوادث الواقعة، في زمن نزول القرآن، وركزت على نمو التصوير، مع حركة تطور الأحداث، وكيف رسمت الصورة الأحداث، من خلال التركيز على جوانب منها، لأن هدف التصوير ليس التسجيل التاريخي للأحداث، وإنما تحقيق العظة والاعتبار منها. لهذا أهملت الصورة ذكر أسماء الأشخاص، وتحديد الأزمنة والأمكنة وذلك حتى تكتسب الأحداث المصورة، وما صاحبها من توجيه ديني، صفة الشمول والبقاء. وفي الفصل الخامس: عرضت التصوير القصصي، وأبرزت نظام العلاقات، في توزيع حلقات القصة على سور القرآن المختلفة، وذلك لتحقيق الأغراض الدينية. فالقصة القرآنية، لا تعرض حلقاتها كاملة في سورة واحدة ما عدا قصة يوسف- بل توزّع على سور القرآن، حسب الإنسان التي تقتضيها، ضمن نظام العلاقات في الأسلوب القرآني. ولكن هذه الحلقات لو جمعت. من أنساقها الواردة فيها، لشكلت قصة مكتملة، بحلقاتها، وتكامل أحداثها، وأشخاصها، وتعتبر قصة يوسف نموذجا للقصة القرآنية في تكامل أحداثها وأشخاصها، وهي القصة الوحيدة، التي عرضت في سورة واحدة من بدايتها إلى نهايتها.

وفي الفصل السادس: تحدثت عن النماذج الإنسانية التي ترسمها الصورة، وهي نماذج خيرة للاقتداء والاحتذاء، ونماذج شريرة، للتحذير منها، والابتعاد عنها. وفي الفصل السابع: تناولت تصوير مشاهد القيامة، وعرضتها ضمن نظام العلاقات بين الصور، مرتبا هذه المشاهد حسب الأحداث الهائلة ليوم القيامة، فبدأت بتصوير النفخة، وما يعقبها من مشاهد كونية، في السماء والأرض، والجبال والبحار، ثم مشاهد خروج الناس من القبور ثم مشاهد الحشر، ثم مشاهد الحساب والميزان، ثم مشاهد النعيم، ومشاهد العذاب، وعرضت ما في مشاهد النعيم. من صور مترابطة تعتمد نظام العلاقات التصويرية، فتبدأ بتصوير مساحة الجنة، وأبوابها، وحراسها، وما يحيط بالمكان من أشجار وأنهار، ثم وفود أهل الجنة إليها، ثم تصوير ما في الجنة من أنواع النعيم الحسي والمعنوي، يشمل الطعام، والشراب، واللباس، والمجلس، والأثاث، والسمر، والأحاديث، وهكذا أيضا عرضت صور العذاب بنفس الطريقة التصويرية في النعيم، لكي تكون الصورتان متقابلتين في الأذهان، فتتضح الفروق في الثواب والعقاب. والباب الثالث، تناولت فيه الوظائف البعيدة، ووزّعتها على أربعة فصول: ففي الفصل الأول عرضت الوظيفة الفنية للصورة، وهي غرض مقصود من أغراض التصوير الفني في القرآن الكريم، لأن قضية الإعجاز في القرآن، تهدف إلى تحقيق غرض ديني، وهو إثبات أن هذا القرآن منزل من عند الله. لهذا تحدى القرآن العرب أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله، فعجزوا، فثبت الإعجاز في أسلوبه وبيانه، وبذلك يتلاحم الغرض الفني بالغرض الديني، لتحقيق الإعجاز في القرآن الكريم. وقد جعلت هذا الفصل أيضا يعتمد نظام العلاقات، في تشكيل الحروف، والكلمات، والجمل، والسياق العام، والإيقاع الموسيقى، والوحدة الفنية للصورة. وفي الفصل الثاني، وضحت أن الصورة القرآنية، لا تكتفي بإثارة المشاعر الإنسانية على نحو مبعثر، وإنما تثيرها، ضمن نظام خاص، لإقامة التوازن بين المشاعر المتقابلة، لبناء النفس الإنسانية، على أساس التوازن بين المشاعر المتناقضة. وفي الفصل الثالث انتقلت إلى الوظيفة العقلية، لأبيّن طريقة الصورة، في إيقاظ

وفي الختام:

العقل، لكي يستقبل الحقائق الدينية، كما أن الوظيفة العقلية، تسعى إلى مهمة أكبر، وهي تشكيل العقل على أسس جديدة، من التأمل والملاحظة في الكون المحسوس، لاستخلاص الحقائق أو القوانين المبثوثة فيه. وقد اعتمدت الصورة على الجدل، والقياس، والمناظرة، والتمثيل وغير ذلك، لتحقيق هذه الوظيفة ثم انتقلت في الفصل الرابع إلى الوظيفة الدينية التي هي الوظيفة الأساسية للصورة، وهي بمنزلة المحور الثابت الذي تدور من حوله جميع الوظائف الأخرى، وذلك لخصوصية النص القرآني، باعتباره كتابا منزلا من عند الله سبحانه. وفي الختام: أشكر زوجتي وأولادي الذين وفّروا لي ظروف الكتابة وأجواءها، كما أشكر الإخوة والأصدقاء جميعا الذين شجعوني على طباعة هذا الكتاب، وأسأل الله سبحانه أن يوفقنا لخدمة كتابه العزيز. إنه سميع مجيب.

الباب الأول طبيعة الصورة

الباب الأول طبيعة الصورة الفصل الأول: مفهوم الصّورة. الفصل الثاني: مقوّمات الصورة الفنيّة في القرآن الكريم. الفصل الثالث: أنواع الصّور في القرآن الكريم.

الفصل الأول مفهوم الصورة

الفصل الأول مفهوم الصورة أصبحت قضية «الصورة» من القضايا الأساسية في النقد العربي الحديث، لأنها متصلة اتصالا مباشرا بنظرية المعرفة الإنسانية، بجانبيها الفلسفي، والأدبي. بيد أن الصورة على الرغم من أهميتها في الدراسات الحديثة، وخطورتها في الوقت نفسه، فإنها ما زالت مصطلحا غامضا، ينظر إليها كل ناقد، من خلال رؤيته المعرفية، ومذهبه الأدبي. ومن هنا جاءت الدراسات النقدية متباينة في فهمها، كما جاءت تطبيقاتها في الشعر، مختلفة في مناهجها ونتائجها. على الرغم من أن مصطلح «الصورة» قديم في تراثنا الأدبي والفكري يرجع إلى استعمالات القرآن لهذا المصطلح بصيغ مختلفة، في سياق تكريم الإنسان، وتفضيله، وبيان ميزته على سائر المخلوقات، كما أن الجاحظ، قد لفت انتباه الأدباء والنقاد لهذا المصطلح، وأهميته في العمل الأدبي ولكن الدراسات البلاغية والنقدية، ضيّقت من مفهوم الصورة، وحصرتها في أنواع وأشكال لا تتعداها فأثّر هذا الفهم الجزئي، في تذوق النص القرآني، وما فيه من شمول، وتنوّع، وصل إلى حدّ الإعجاز للبشر، في تعبيره، وتصويره، وقوة تأثيره. وكان من المفترض لدى النقاد المعاصرين، أن يهتموا بدراسة الصورة القرآنية، لأنها تصلح نموذجا يحتذى في تناسق التعبير مع التصوير، وتناسق الصورة مع المعنى، أو الشكل مع المضمون، كما تصلح نموذجا أيضا لتنوع الصور، وتفاعلها مع السياق، حتى أصبح النص كله مجسّدا للفكرة الدينية المطلوبة.

أ - الصورة عند البلاغيين والنقاد القدماء:

ولكن النقاد المعاصرين أهملوا الصورة القرآنية في دراساتهم النقدية والأدبية، تنظيرا وتطبيقا، وفضّلوا قصرها على الصورة الشعرية فقط، فجاءت أحكامهم مقصورة على الشعر لا تتعداه إلى أجناس التعبير الأخرى، ولا تكتمل دراسة الصورة إلا بدراسة الصورة القرآنية أيضا لمعرفة ما فيها من خصوصية في التعبير والتصوير. إن الصورة القرآنية، لا يمكن أن تفهم من خلال الدراسات البلاغية القديمة لها فحسب وإنما لا بدّ من توسيع مفهوم الصورة القرآنية، لكي تستطيع استيعاب الفكر الإسلامي الذي تجسّده. لهذا سأحاول في هذا الفصل أن أدرس مفهوم الصورة بين القديم والحديث، وما وقعت فيه البلاغة القديمة من الفهم الجزئي للصورة، والتركيز على الشكل دون المضمون، نتيجة مؤثرات عدة، لأصل في النهاية إلى أن الدراسات القديمة، لا تستوعب كل الصور القرآنية، ولا تبرز خصوصيتها في بنائها الفني المعتمد على الفكر الديني، ووظيفتها الهادفة لتحقيق الغرض الديني من التصوير. لهذا لا بدّ من توسيع مفهومها لتستوعب هذا الفكر، وتقوم بإيصاله. كما أن الدراسات الحديثة للصورة، اقتصرت على الشعر، واضطربت في فهمها على الرغم من محاولة النقاد المعاصرين التوسيع من مفهومها، وقد قسمت هذا الفصل إلى فقرتين أساسيتين، أدرس في الأولى مفهوم الصورة عند القدماء وفي الأخرى مفهومها عند المعاصرين. أ- الصورة عند البلاغيين والنقاد القدماء: اهتم البلاغيون والنقاد العرب بدراسة الصورة، وتحليل أركانها، وبيان وظائفها. من خلال دراساتهم للأسلوب القرآني الذي اعتمد الصورة في التعبير عن أغراضه الدينية، والشعر العربي الذي حفل بها حتى لا تكاد تخلو قصيدة شعرية منها. ولكن آراءهم حول الصورة جاءت متأثرة بآراء اللغويين والمفسرين والفلاسفة الذين يحدّدون مدلول الكلمة في الشكل دون المضمون غالبا: ففي المعاجم العربية يدور مدلول كلمة الصورة حول الشكل الخارجي، فقد جاء في القاموس المحيط «الصورة بالضم: الشكل والجمع صور وصور، وقد صوّره فتصوّر، وتستعمل

الصورة بمعنى النوع والصفة ... » «1» ولفظ «الصورة» اسم مصدر من فعل رباعي «وقد صوّره فتصور» وقد ورد مصدر الفعل قياسيا بصيغة «تصوير». ووردت عين اللفظة واوا أو ياء بمعنى واحد، «قال الأزهري: ورجل صيّر شيّر أي حسن الصورة والشارة»، وقال ابن سيدة: الصورة في الشكل، ونقل عن الجوهري عن الكلبي في قوله تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ الأنعام: 73، ويقال هو جمع صورة مثل بسر وبسرة أي ينفخ في صور الموتى الأرواح. قال: وقرأ الحسن: (يوم ينفخ في الصور) بفتح الواو. وقد يراد بالصورة الوجه من الإنسان أو الهيئة من شكل وأمر وصفة «2». وقد وردت كلمة «الصورة» في القرآن الكريم ست مرات. بصيغ مختلفة، فذكرت بصيغة الماضي والجمع في قوله تعالى: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ غافر: 64، وبصيغة الماضي فقط، في قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ الأعراف: 11، وبصيغة المضارع، في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ آل عمران: 6. وبصيغة اسم الفاعل، في قوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ الحشر: 24. وبصيغة المفرد «صورة» في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ الانفطار: 6 - 7. وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن «الصورة» هي «الشكل». قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ أي أحسن أشكالكم «3». وقال القرطبي: خلقكم في أحسن صورة «4». ويرى الزمخشري أن الله خلق الإنسان على هيئة ميّزته عن سائر المخلوقات «5». فالصورة- عند هؤلاء المفسرين- تعني: الشكل الخارجي للإنسان، ولا تدل على الجانب المعنوي فيه، وإذا دققنا- نحن- في استعمالات مادة الصورة في القرآن الكريم واختلاف صيغها، نجد أنها وردت في صدد الحديث عن الإنسان، وفي سياق تذكيره بنعمة الله عليه

_ (1) القاموس المحيط: مادة صور. (2) لسان العرب مادة (صير) ومادة (صور). (3) تفسير القرآن الكريم: ابن كثير 4/ 106 (4) الجامع لأحكام القرآن: القرطبي 15/ 328. (5) الكشاف: الزمخشري 3/ 435.

في خلقه وتكوينه، وتمييزه عن سائر المخلوقات الأخرى، ولا يكون هذا التميّز عن سائر المخلوقات الأخرى بالشكل فحسب، وإنما أيضا بالعقل والإدراك والشعور. وبذلك يمكن أن نوسّع من مدلول استعمال الكلمة في القرآن ليشمل الشكل والمضمون معا. وهذا المفهوم ينسجم مع آيات أخرى في القرآن، تعدّ المشركين كالأنعام، لأنهم فقدوا ميّزة الإنسان، في الإدراك والتفكير، وإن كانوا في صورة الآدميين في الظاهر. ولكن المفسرين- على ما يبدو- كانوا ينطلقون في تفسير كلمة الصورة، من اللغة التي تدور دلالتها في المعاجم، حول الشكل الخارجي للأشياء. ونضيف إلى ذلك التأثر بالمفهوم الفلسفي اليوناني للصورة وبالذات الفلسفة الأرسطية، فقد عرف العرب كلمة الصورة بمعناها الفلسفي التي تفصل بين «الصورة والهيولى» والصورة هي الشكل، والهيولى هي المادة، فالمنضدة هيولاها الخشب والغراء، وصورتها هي التركيب المخصوص للخشب والغراء حتى يظهر في شكل معين «6». وقد دعم هذا الفصل بين الصورة والهيولى فكرة المعتزلة، التي تفصل بين اللفظ والمعنى، في تفسير القرآن الكريم كما أثر في الدراسات الأدبية والبلاغية أيضا «7». هذه المؤثرات اللغوية والدينية والفلسفية، وجّهت البلاغيين والنقاد، نحو التركيز على الشكل في دراسة الصورة، ويعدّ الجاحظ (ت 255 هـ) أول من لفت الانتباه إلى الصورة في العمل الأدبي بقوله: «فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير» «8». وقد أثارت هذه العبارة جدلا بين النقاد في تحديد مدلولها، فالدكتور كامل بصير يرى أن عبارة الجاحظ حول التصوير، تشمل اللفظ والمعنى معا، أو الشكل والمضمون. وهذا المفهوم- برأيه- يعدّ امتدادا لمدلولها في اللغة والقرآن، وقد حاول تأويل النصوص اللغوية والقرآنية، وتحميلها من الأفكار ما لا تحتمله، حتى يرجع مفهوم الصورة إلى أصول عربية، ونفي أي تأثر بالثقافات الأجنبية «9».

_ (6) الصورة في الشعر العربي: د. علي البطل ص 15. (7) الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي: د. جابر عصفور ص 347 وما بعدها. (8) كتاب الحيوان: الجاحظ ج 3 ص 131 - 132. (9) بناء الصورة الفنية في البيان العربي: د. كامل البصير ص 24 - 28.

والظاهر من عبارة الجاحظ؛ أنه ينحاز إلى الشكل في مفهومه للتصوير مقلّلا من أهمية المعنى، كما يرى الدكتور إحسان عباس «10». ولكن لماذا اتجه الجاحظ هذا الاتجاه الشكلي في التصوير مع أنه ليس من الشكليين في التطبيق؟ قد يكون هدف الجاحظ من عبارته المذكورة الرد على أستاذه النظّام الذي يقول «بالصرفة» في إعجاز القرآن فأراد الجاحظ أن يرجع الإعجاز إلى صياغة القرآن الكريم ونظمه، وليس لقانون «الصّرفة». أو لعله يريد أن يرد على النقاد الذين انصرفوا إلى متابعة الشعراء في «سرقات المعاني»، أو ربما يرجع السبب إلى الجاحظ نفسه الذي لم يكن يعجزه الموضوع أو المعنى، فأحس بأن المعنى مبذول في الطريق، وأن القيمة تكمن في الصياغة والتصوير، فالجاحظ لم يكن يدور في ذهنه أن يفضل الشكل على المضمون في عبارته هذه، أو أن تصبح هذه العبارة «نظرية» مطبقة عند البلاغيين من بعده، الذين انصرفوا إلى العناية بالصورة الشكلية على حساب المعاني والأفكار. ثم جاء قدامة بن جعفر (ت 337 هـ) فاتجه اتجاها شكليا، في فهم الصورة، متأثرا بالثقافة اليونانية وفلسفتها في الفصل بين «المادة والهيولى»، ويقيس الصورة الفنية في الشعر على الصورة في المواد المحسوسة، مكررا رأي الجاحظ في قياسها على المواد المحسوسة كالخشب والفضة وغيرهما، وكأن الصورة تعني تشكيل المادة في هيئة معينة يقول: «إن المعاني كلها معرضة للشاعر، وله أن يتكلم منها فيما أحب وآثر، من غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه. وإذ كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة، والشعر فيه كالصورة، كما يوجد في كل صناعة من أنه لا بد فيها من شيء موضوع يقبل تأثير الصورة فيها، مثل الخشب للنجارة والفضة للصياغة» «11». فقدامة في هذه العبارة لا يقدم مفهوما جديدا للصورة، وإنما يكتفي بالتركيز على الفصل بين المادة والصورة. فيعتبر «الصورة» تقابل «المادة»، وكأنها هيئة خارجية لها أو شكل، فهو يفصل بين الشكل والمضمون، ليطلق حرية الشاعر في اختيار المعاني التي يريد، طالما صحت الأشكال الخارجية للشعر. وهذا الفهم للصورة هو فهم الفلاسفة الذي يفصلون بين

_ (10) تاريخ النقد الأدبي عند العرب: د. إحسان عباس ص 98 - 99. (11) نقد الشعر: قدامة بن جعفر: ص 14.

المادة والصورة «12». فالعمل الأدبي- في طبيعته- لا يمكن أن يقرّ هذا الفصل بين الشكل والمضمون، فهما متلاحمان فيه كتلاحم الروح في الجسد. وقد قام عبد القاهر الجرجاني فيما بعد بالقضاء على هذه الثنائية في فهم الصورة، فربط بين الشكل والمضمون في نظريته المعروفة ب «نظرية النظم» وسوف أتحدث عنه بعد قليل. ويلتقط الرماني (ت 386 هـ) فكرة التصوير من الجاحظ، ويخطو بها خطوة أخرى، فيطوّرها من خلال تطبيقها على استعارات القرآن الكريم وتشبيهاته، ويصبح مفهوم «التصوير» أكثر تحديدا عنده. فالتصوير عند الرماني هو «تجسيد المعنويات في صورة المحسوسات التي ترى بالأبصار» «13». وتقوم الصورة البلاغية عنده بنقل المعنى المجرد إلى الحس العيني، فقوله تعالى: تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ الملك: 8 «الاستعارة أبلغ لأن مقدار شدة الغيظ على النفس محسوس» «14»، وقوله: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ آل عمران: 187، التعبير بالاستعارة أبلغ «لما فيه من الإحالة على التصور» «14»، وقوله: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ إبراهيم: 1، «والاستعارة أبلغ لما فيه من البيان بالإخراج إلى ما يدرك بالأبصار» «14». ويتحدث عن وجوه التشبيه الأربعة: فالأول: هو إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة. والثاني: إخراج ما لم تجر به عادة إلى ما جرت به العادة. والثالث: إخراج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بالبديهة. والرابع: إخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوة في الصفة «17». ويمكن حصر هذه الوجوه الأربعة للتشبيه في وجهين اثنين هما: تجسيد المعنوي في صورة حسية، والانتقال من صورة حسية إلى صورة حسية أكثر وضوحا. ويبدو أن الرماني قد توصّل في دراسته للإعجاز في القرآن إلى تميّز التشبيه والاستعارة

_ (12) تاريخ النقد الأدبي عند العرب: ص 189 وما بعدها. (13) الصورة بين القدماء والمعاصرين: الدكتور محمد إبراهيم عبد العزيز شادي. ص 18. (14) النكت في إعجاز القرآن: للرماني ص 80، 84، 85 (ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن). (17) المصدر السابق: ص 74 - 78.

فيه بهذه الوجوه التي ذكرها، بحيث يمكن اعتبارها مجتمعة سمات «الصورة القرآنية» «18». ولكن على الرغم من هذه الآراء القيمة، حول الصورة القرآنية، فإنها تظل تدور في إطارها الحسي والجزئي، لا تتعدى الآية القرآنية الواحدة المتضمنة للصورة، مكتفيا الرماني بالإشارة إلى جمال الاستعارة أو التشبيه دون أن يربط الصورة بالسياق الواردة فيه، أو يتجاوز الصورة البلاغية في الجملة إلى الصورة في السياق. كما أنه ظلّ يركّز على «الشكل» من خلال إلحاحه على «الصورة البصرية» في نماذجه التي وقف عندها. ويحيل كلّ أنواع الصور القرآنية إليها، علما بأن الصورة في القرآن أعمّ من ذلك وأشمل، فهي تربط بين المحسوس وغير المحسوس أو بين الصورة الحسية والمعنوية، فلا يمكن الفصل في الصورة القرآنية بين الحسي والمعنوي أو بين الصورة المفردة والسياق، أو بين الصورة والمعنى الديني. والإعجاز القرآني لا يرجع إلى هذه الصورة البلاغية الجزئية مفصولة عن سياقها فقط، وإنما يكمن الإعجاز التصويري في تشابك العلاقات بين الصورة الجزئية والكلية، ضمن بناء الصورة العام، كما سأوضح ذلك في الفصول القادمة، إن شاء الله. وقد أثّر الرماني في أبي هلال العسكري (ت 395 هـ) تأثيرا كبيرا، فنرى العسكري يأخذ فكرة الرماني أخذا حرفيا، ويتوقف عند الشواهد القرآنية نفسها تقريبا «19»، ولكنه يلحّ على «الصورة البصرية» أكثر من الرماني، ويرجع جمال الاستعارات في القرآن إلى إخراجها «ما لا يرى إلى ما يرى» «20». ففي قوله تعالى: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ آل عمران: 187، يقول: «حقيقته غفلوا عنه والاستعارة أبلغ لأن فيه إخراج ما لا يرى إلى ما يرى» «21»، وقوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ الإسراء: 29، يقول: «حقيقته لا تكونن ممسكا، والاستعارة أبلغ، لأن الغلّ مشاهد، والإمساك غير مشاهد، فصوّر له قبح صورة المغلول ليستدل به على قبح الإمساك» «22»،

_ (18) الصورة بين القدماء والمعاصرين: ص 20. (19) كتاب الصناعتين: لأبي هلال العسكري. ص 262 - 264. (20) المصدر السابق: ص 299. (21) المصدر السابق: ص 302. (22) المصدر السابق: ص 303.

وقوله تعالى: أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ هود: 80 يقول: «أي إلى معين، والاستعارة أبلغ، لأن الركن مشاهد، والمعين لا يشاهد» «23»، وقوله تعالى: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ الأعراف: 22 يقول: «أخرج ما لا يرى من تنقصهم بآيات القرآن إلى الخوض الذي يرى، وعبر عن فعل إبليس الذي لا يشاهد بالتدلّي من العلوي إلى سفل وهو مشاهد» «24». ويلاحظ في تحليل العسكري لآيات القرآن المذكورة إلحاحه على أفعال الرؤية والمشاهدة، لأنه يركّز على الصورة «البصرية» أكثر من الرماني، ولكن أبا هلال العسكري حاول الاجتهاد في فكرة «التصوير» الجاحظية مستخدما كلمة «الصورة مع فعلها» حين قال: «فصوّر له قبح صورة المغلول ... » ولا شكّ في أنه قد تأثّر بفكرة الجاحظ. كما استفاد من تحليل الرماني لآيات القرآن على ضوء فكرة التصوير، فألحّ على الجانب الحسي البصري في الاستعارة، ولكنه لم يستطع أن يخرج عن شواهد الرماني وأفكاره وأسلوبه في تحليل الآيات القرآنية، فظلّ يتعامل مع مفهوم الصورة بإطارها الشكلي والجزئي، فقصرها على الاستعارة والتشبيه فقط كالرماني، ولم يربطها بالمعنى والسياق، مع أن فكرة التصوير أعم وأشمل من التشبيه والاستعارة، إذا نظرنا إلى الأسلوب القرآني الذي يتخذ الصورة وسيلة للتعبير عن أعراضه الدينية بحيث يمكن أن يعدّ أسلوبه كله أسلوبا تصويريا ما عدا الآيات المتعلقة بالتشريع طبعا، هذه النظرة الشمولية للأسلوب القرآني التصويري، تثري مفهوم «الصورة الفنية» وتنقلها من إطارها الجزئي إلى مفهوم كلي شامل مرتبط بالسياق كله الذي يقوم على نظام العلاقات بين الصورة البلاغية المفردة، والصورة السياقية، وهذا ما حاول أن يقوم به الناقد الذوّاقة عبد القاهر الجرجاني. فقد حاول الجرجاني (ت 471 هـ) بعبقريته الفذّة، أن يصحّح المفاهيم النقدية الخاطئة من قبله، والتي قامت على الفصل بين اللفظ والمعنى. فنظرت على ضوء هذه الثنائية بين اللفظ والمعنى، إلى حصر الصورة في الشكل دون المضمون. فقام الجرجاني بربط الصورة بالصياغة أو النظم، والصياغة عنده متحدة بالمعنى ولا تنفصل عنه، فأي تغيير في الصياغة يتبعه تغيير في الصورة، لأن الصورة تفهم من خلال «النظم» يقول الجرجاني: «ومعلوم أن

_ (23) كتاب الصناعتين: ص 303. (24) المصدر السابق: نفس الصفحة.

سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة، وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير، والصوغ فيه، كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار. فكما أن محالا إذا أردت النظر في صوغ الخاتم، وفي جودة العمل ورداءته أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذي وقع فيه ذلك العمل وتلك الصنعة، كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام أن تنظر في مجرد معناه» «25». ويتضح من عبارته هذه أن الصياغة- عنده- تعني الصورة، والصورة تعني الصياغة أو النظم، ومعيار الجودة ليس في المادة المكونة للصورة، وإنما في التشكيل الفني للصورة، لأن الصورة هي التي تجعل الفضة خاتما أو سوارا «26». ويلاحظ أن الجرجاني ما زال يقيس الصورة في الكلام على الصورة في المواد المحسوسة، ولكنه يزيل اللبس الذي لحق بأقوال سابقيه حول الفصل بين اللفظ والمعنى، أو المادة والصورة، ويرى أن العلاقة بين الصورة ومادتها علاقة تفاعل وانصهار لتوليد المعنى المراد، فليس هناك ثنائية منفصلة بين اللفظ والمعنى وإنما هناك التفاعل لتوليد عنصر جديد ثالث هو «الصورة». فنحن- كما يرى الجرجاني- لا ننظر في صوغ الخاتم إلى مادته الذهبية أو الفضية المصنوع منها، وإنما ننظر إلى جودة صياغته. وقياسا على ذلك فإن جودة الكلام لا ترجع إلى معناه، بل ترجع إلى بلاغة نظمه، وجودة صياغته. ويوضّح الجرجاني طبيعة الصورة فهي «تمثيل وقياس» وهي أيضا إبراز للمعنويات في صور المرئيات يقول: «واعلم أن قولنا صورة إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا» «27». ويشعر الجرجاني بالخطوة الجديدة التي يضيفها إلى مفهوم الصورة ودور العقل في تشكيلها، فيلفت الانتباه إلى أن مصطلح الصورة قديم، أشار إليه الجاحظ من قبل. يقول الجرجاني: «وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئا نحن ابتدأناه فينكره منكر بل هو مستعمل

_ (25) دلائل الإعجاز: عبد القاهر الجرجاني. ص 254 - 255. (26) الصورة البلاغية عند عبد القاهر الجرجاني: الدكتور أحمد علي دهمان ج 1 ص 389 - 390. (27) دلائل الإعجاز: ص 508.

مشهور في كلام العلماء ويكفيك قول الجاحظ: إنما الشعر صياغة وضرب من التصوير» «28». والفرق واضح بين الجاحظ والجرجاني في مفهوم الصورة، فالجاحظ يعتبر الشعر ضربا من التصوير، بينما الجرجاني يعتبر الشعر تصويرا كله، لأن التصوير عند الجرجاني هو الهيئة التي تتشكل فيها المعاني حقيقية أو مجازية. وتصوير المعاني يعني نظمها على هيئة مخصوصة. ويهدف الجرجاني من ربطه الصورة بالسياق اللغوي أن يقضي على الثنائية بين اللفظ والمعنى، وما أثير من جدل نقدي حول تفضيل أحدهما على الأخر. فاختار الجرجاني اسما بديلا لهما هو «صور المعاني» ويعني بها الصورة التي تتشكل فيها المعاني. ويعرض الجرجاني للأنواع البيانية كالتشبيه والاستعارة والكناية، في كتابه «دلائل الإعجاز» ليثبت أن جمال هذه الأنواع لا يرجع إلى حسن ألفاظها وإنما يرجع إلى أنها «صور للمعاني» «29». ويتوسّع الجرجاني في مفهوم الصورة، فيرى أنها متعددة العناصر، فقد تعتمد على الأنواع البيانية المعروفة، وقد تعتمد على أشكال أخرى، كالتقديم والتأخير أو القصر أو الخبر أو الإنشاء ونحو ذلك «30»، ولكن الجرجاني يعتبر الأنواع البيانية كالتشبيه والتمثيل والاستعارة. أهم عناصر الصورة المكوّنة لها، فهي الأصول التي تدور المعاني حولها، وإليها يرجع محاسن الكلام غالبا يقول: «فإنّ هذه أصول كبيرة كان جلّ محاسن الكلام- وإن لم نقل كلها- متفرعة عنها وراجعة إليها، وكأنها أقطاب تدور عليها المعاني في متصرفاتها وأقطار تحيط بها من جهاتها» «31»، فالجرجاني لا يحصر الصورة في الأنواع البيانية المعروفة، وإنما يتوسّع في مدلولها، ويجعلها إطارا عاما تتشكّل فيه المعاني، وتظهر فيه كل الأساليب الفنية بيانية وغير بيانية «32». ويخصّص الجرجاني كتابه «أسرار البلاغة» للحديث عن عناصر تشكيل الصورة مثل التشبيه والاستعارة والتمثيل كما خصّص «دلائل الإعجاز» لربط الصورة بالصياغة أو النظم

_ (28) دلائل الإعجاز: ص 508. (29) المصدر السابق: ص 264 - 265. (30) الصورة بين القدماء والمعاصرين: ص 26. (31) أسرار البلاغة: عبد القاهر الجرجاني. ص 20. (32) الصورة بين القدماء والمعاصرين: ص 32.

كما بيّنا آنفا. فهو في «أسرار البلاغة» يتحدث عن «بناء الصورة» ودور العقل في تشكيلها أحيانا. فالاستعارة أنواع، منها ما يكون الشبه مأخوذا من الصور العقلية كاستعارة النور للبيان والحجة، والصراط للدين، وهذا اللون هو من صميم الاستعارة «33». كما يتحدث عن الصور الحسية في أثناء حديثه عن التشبيه والتمثيل والفروق بينهما، ويقف عند تفصيلات الصورة الحسية بأنواعها مثل اللون والهيئة والحركة، والصوت، والذوق، واللمس ... إلخ «34». ونحن نجد النقد الحديث يعنى بدراسة الصورة الحسية ودلالتها على اتجاه الشاعر أو الأدب، فهناك الشعراء يكثرون من الصور البصرية، وآخرون يميلون إلى الصور السمعية وهكذا. والجرجاني في حديثه عن الصور العقلية، والصور الحسية، كان قصده أن يبيّن عناصر تشكيل الصورة، وطريقة بنائها، فمرّة تعتمد الصورة على العقل في تشكيلها، وأخرى على الحواس المعروفة، ولم يكن الجرجاني يهدف إلى تقديم مفاهيم جديدة للصورة كما ذهب إلى ذلك الدكتور محمد إبراهيم شادي «35». ويرى الدكتور أحمد دهمان أن الجرجاني «لم يستخدم مصطلح الصورة استخداما واحدا في كتابيه، فأحيانا يشير به إلى التقديم الحسي للمعنى ممثلا بالاستعارة والكناية والتمثيل، وأحيانا يشير إلى الشكل العام للكلام وطريقة الصياغة» «36». وهذا الرأي الذي توصّل إليه الدكتور دهمان غير دقيق، لأن مفهوم الصورة عند الجرجاني واحد، وليس متعددا كما أشار الدكتور محمد شادي من قبل أو يدور حول مدلولين أو مصطلحين كما فهم الدكتور دهمان فنحن حين نقرأ تحليل الجرجاني لبعض آيات القرآن أو بعض الأشعار، لا نحس بهذه الازدواجية في مفهوم الصورة بل نحس بالمفهوم الواضح المميّز للصورة. ففي قوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً مريم: 4 نجد الجرجاني

_ (33) أسرار البلاغة: ص 49. (34) المصدر نفسه: ص 71 - 72. (35) الصورة بين القدماء والمعاصرين: ص 30. (36) الصورة البلاغية عند عبد القادر الجرجاني: ج 2 ص 626.

يحلّل الصورة وفق مفهومه لها في ربطها بالصياغة الفنية، ولا ينظر إليها من خلال ألفاظها المفردة، ويرى أن الناس يرجعون جمال هذه الصورة إلى الاستعارة دون سواها، ولم ينظروا إلى الصورة من خلال جمال النظم. فالإسناد الوارد في الصورة هو مصدر جمالها وحسنها، فلو قيل «واشتعل شيب الرأس» ما بقي للصورة هذا الحسن والجمال، ويعلّل الجرجاني سرّ الجمال في إسناد الاشتعال للرأس بأنه «يفيد مع لمعان الشيب في الرأس الذي هو أصل المعنى الشمول، وأنه قد شاع فيه وأخذه من نواحيه ... » «37». فالجرجاني يركّز على أن الصورة هي في النظم أو الصياغة، ليثبت أنّ الإعجاز في القرآن يرجع إلى نظمه وصياغته، وأنّ الاستعارة الواردة في الآية هي من عناصر تشكيل الصورة. فليس هناك مصطلحان للصورة عند الجرجاني في كتابيه، وإنما هو مصطلح واحد، وضّحه في كتابه الدلائل ثم خصّص كتابه الأسرار لتوضيح عناصر التصوير وأدواته. ولولا سيطرة قضية الألفاظ والمعاني عليه لتوصّل إلى قضايا نقدية أخرى متعلقة بالصورة، ولكنّ هذه القضية صرفته عن كثير مما كان وشيكا أن يصل إليه كما يقول سيد قطب عنه «38». وقد حاول الزمخشري (ت 538 هـ) أن يسير على طريقة الجرجاني في التصوير، فاستخدم مصطلحات عدّة: مثل التصوير والتمثيل والتخييل، وكلّها عنده تبرز المعاني المعقولة في صور حسية. وقد فسّر المعاني القرآنية والحقائق الدينية، على ضوء التصوير، فوضّح أن التشبيهات «إنما هي الطرق إلى المعاني المحتجبة في الأشياء، حتى تبرزها، وتكشف عنها، وتصورها للأفهام» «39». فدور التمثيل هو الكشف عن المعاني الغامضة، والتصوير بمنزلة التشكيل لها يقول: «لأن التمثيل مما يكشف المعاني، ويوضّحها، لأنه بمنزلة التصوير والتشكيل لها» «40». وهذه العبارة توهم أن التمثيل غير التصوير عنده، بينما هما مصطلحان لمعنى واحد،

_ (37) دلائل الإعجاز: ص 101. (38) التصوير الفني في القرآن: سيد قطب ص 31. (39) البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري: الدكتور محمد محمد أبو موسى. ص 403. (40) المصدر السابق: ص 404.

وهو تشكيل المعاني على هيئة مخصوصة. فالزمخشري يستخدم هذه المصطلحات المتعددة للصورة، لكي يحيط بوظائف الصورة في التشخيص والتجسيد والتخييل. ويبيّن الزمخشري قيمة الصورة في نقل المعاني الذهنية في صور حسية. فقوله تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لقمان: 22 يقول الزمخشري معلقا على هذا التصوير الحسي: «وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر، والاستدلال بالمشاهد المحسوس، حتى يتصوره السامع، كأنه ينظر إليه بعينيه، فيحكم اعتقاده، والتيقن به» «41». والمعاني عنده نوعان: المعاني المحققة، والمعاني المفروضة المتخيلة، فالمعاني المحققة هي التي لها وجود خارجي حسي، وتقوم الصورة بدورها في إبراز هذين النوعين من المعاني، فقوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ البقرة: 261 هو نموذج للمعاني المحققة، التي قامت الصورة الفنية بتوضيحها فهي «تصوير للأضعاف كأنها ماثلة بين عيني الناظر» «42». والمعاني المتخيلة أو المفروضة كقوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ الأحزاب: 72 المقصود بها «تصوير عظم الأمانة، وصعوبة أمرها، وثقل محملها، والوفاء بها» «43». فالزمخشري يسير في تفسيره «الكشاف» على ضوء مفهومه للتمثيل والتصوير، ويرجع بلاغة القرآن إلى أسلوبه التصويري في نقل المعاني المحققة والمتخيلة، ويلح في تحليله للصورة القرآنية، على الجانب البصري فيها ويتشابه في هذا مع الرماني وأبي هلال العسكري، ولكن الصورة القرآنية أوسع وأشمل من التقديم البصري، وحصرها فيه، تضيق لقدراتها المتنوعة والفنية «44». وجاء ابن الأثير (ت 637 هـ) فألحّ أيضا على الجانب البصري في الصورة، وأطلق هذا المصطلح على كل مرئي مشاهد من التشبيهات، كقوله تعالى مثلا:

_ (41) البلاغة القرآنية: ص 434. (42) الكشاف: الزمخشري 1/ 340. (43) المصدر السابق: 3/ 277. (44) الصورة الفنية في التراث البلاغي والنقدي: ص 297 - 298.

وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ الصافات: 48 - 49، وهذا التشبيه- عنده- من قبيل تشبيه صورة حسية بصورة حسية، وهناك أيضا تشبيه معنى بصورة كقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً النور: 39. وهذا عنده من أجود أنواع التشبيه، لأنه يعبر عن المعاني الذهنية بالصور المرئية المشاهدة «45». ويرى حازم القرطاجني (ت 684 هـ) أن الصورة الفنية هي استعادة لمدرك حسي بعد غيابه. فالمعاني تدرك من العالم المحسوس، وتكوّن لها صورا ذهنية، ثم تأتي الصورة الفنية، فتستشير هذه الصور الذهنية، بعد غياب المدرك الحسي عنها. يقول حازم: «إن المعاني هي الصور الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان، فكل شيء له وجود خارج الذهن، فإنه إذا أدرك، حصلت له صورة في الذهن تطابق ما أدركه منه، فإذا عبر عن تلك الصورة الذهنية الحاصلة عن الإدراك، أقام اللفظ المعبر به هيئة تلك الصور الذهنية في أفهام السامعين وأذهانهم» «46». ولكنّ مفهوم الصورة أخذ يضيق ويتحجّر على يد البلاغيين المتأخرين مثل السكاكي، والخطيب القزويني وشرّاح التلخيص، فأطلقوا مصطلح الصورة على بعض التشبيهات والاستعارات المركبة. يقول الخطيب القزويني: «وأما المجاز المركب فهو اللفظ المركب المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي تشبيه التمثيل للمبالغة في التشبيه، أي تشبيه إحدى صورتين منتزعتين من أمرين أو أمور أخرى ... ». وعلّق القزويني على «أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى» بقوله: «شبه صورة تردده في المبايعة بصورة تردد من قام ليذهب في أمر، فتارة يريد الذهاب، فيقدم رجلا، وتارة لا يريد، فيؤخر أخرى» «47». وهكذا انتهى مفهوم الصورة عند المتأخرين من البلاغيين إلى نوع من المجازات المركبة،

_ (45) المثل السائر: ابن الأثير ص 127. (46) منهاج البلغاء وسراج الأدباء: حازم القرطاجني. ص 18 - 19. (47) الإيضاح في علوم البلاغة: الخطيب القزويني. ص 312.

ب - الصورة في النقد الحديث

ولم ينظر هؤلاء إلى طبيعة اللغة العربية المصورة بمفرداتها وتراكيبها، واشتقاقاتها الغنية، التي تثير صورا فنية مؤثرة بل إنهم لم يتابعوا عبد القاهر الجرجاني، والزمخشري فيما توصّلا إليه، من مفهوم للصورة، يعدّ متقدما وذا قيمة إذا وضع في إطار عصرهما. إنّ مفهوم القدماء للصورة ظلّ مفهوما جزئيا لها، يدور في الإطار الحسي، بعيدا عن النظرة الكلية والشمولية للعمل الأدبي، وحتى كتب الإعجاز، تأثّرت باتجاه النقد العربي القديم، فاهتمت بالصورة المفردة أو الجزئية دون أن تهتم بالصورة الكلية للسياق، أو بالبناء العام للصورة في القرآن كله القائم على نظام العلاقات بين الصور الجزئية والكلية، والصور الحسية والنفسية. ثم إن وظائف الصورة الفنية عند القدماء جاءت أيضا متسمة بالجزئية نتيجة لمفهوم الصورة عندهم، فهي تهدف إلى الشرح والتوضيح أو التحسين أو التقبيح أو المبالغة أو الإقناع «48». ولم ينظروا إلى الصورة باعتبارها تحمل رؤية جديدة للواقع أو الحياة. إن الصورة القرآنية تحمل رؤية جديدة للحياة وتهدف إلى بناء الإنسان، وبناء الحياة على أسس دينية ولا يمكن أن ننظر إلى وظيفتها نظرة جزئية من خلال الصورة المفردة فقط، بل لا بد من نظرة شمولية للأسلوب القرآني كله حتى نفهم سرّ إعجازه، ونفهم وظيفة الصورة ضمن هذا الإطار العام والشامل. ب- الصورة في النقد الحديث كثرت الدراسات الأدبية والنقدية حول الصورة في العصر الحديث، تنظيرا وتطبيقا، وافتن الدارسون ببيان أهميتها، وأنواعها، ووظائفها. واختلفت مفاهيمهم حولها، تبعا لاختلاف المذاهب الأدبية. فمنهم من انطلق من التراث النقدي العربي لإثبات أن تراثنا النقدي، قد استوفى دراسة الصورة من جميع نواحيها «49»، ومنهم من اعتمد في دراستها على المفاهيم الأجنبية، فراح

_ (48) الصورة الفنية في التراث البلاغي والنقدي: ص 364 وما بعدها. (49) د. كامل حسن البصير في كتابه «بناء الصورة الفنية»، ود. محمد أبو موسى في «التصوير البياني».

يطبّق النظريات النقدية الأوربية على تراثنا الشعري «50»، ومنهم من جمع بين تراثنا القديم، والنظرة الحديثة لها «51». وعلى الرغم من كثرة الدراسات العربية والأوربية حول الصورة، فإن النقاد- عربا وأجانب- ما زالوا مختلفين في تحديد مفهومها، ويرجع هذا الاختلاف بينهم إلى تعدد دلالات مصطلح «الصورة» بين دلالة لغوية وذهنية، ونفسية، ورمزية، وبلاغية أو فنية. وتعدد مناهج دراستها، نتيجة لتعدد هذه الدلالات «52». وقد لاحظ كثير من النقاد غموض هذا المصطلح، وكثرة الاختلافات فيه، ولكنهم استعملوه، لأنه أفضل من غيره في مجال الدراسات الأدبية والنقدية «53». فهو مصطلح يدلّ على الأنواع البلاغية القديمة، ويضيف إليها مفاهيم عصرية جديدة. يقول الدكتور فائز الداية: «إنّ ما يدفعنا إلى تخيّر الصورة الفنية هو البحث عن الجدّة، التي تستمد ألقها من الينابيع النقدية الأصيلة، ومن ثم تغدو أهلا لإضافة خطوط عصرية إلى التكوين البلاغي النقدي» «54». ولكنّ بعض النقاد تحرّجوا من مصطلح الصورة، وفضّلوا مصطلح الاستعارة بديلا عنه. ومنهم الدكتور مصطفى ناصف الذي يعتبر مصطلح الصورة يرادف الاستعمال الاستعاري، لذلك فإنه يفضّل استعمال مصطلح الاستعارة بدلا من الصورة. يقول ناصف: «لفظ الاستعارة إذا حسن إدراكه قد يكون أهدى من لفظ الصورة» «55». وهذا الرأي يعدّ تكرارا لرأي الناقد «ريتشاردز» الذي رفض مصطلح الصورة لأنه مضطرب ومضلل، وذلك لارتباطه بدلالات لغوية، ونفسية، ويفضّل مصطلح الاستعارة عليه «56».

_ (50) د. نصرت عبد الرحمن في «الصورة الفنية في الشعر الجاهلي»، ود علي البطل في «الصورة في الشعر العربي»، ود. عبد القادر الربّاعي في «الصورة الفنية في النقد الشعري». (51) الدكتور أحمد بسام ساعي في «الصورة بين البلاغة والنقد». (52) مقدمة لدراسة الصورة الفنية: د. نعيم اليافي. ص 41 - 48. (53) الصورة في التشكيل الشعري: الدكتور سمير علي الدليمي. ص 54 وما بعدها. (54) جماليات الأسلوب: الدكتور فائز الداية. ص 13. (55) الصورة الأدبية: د. مصطفى ناصف ص 5. (56) مقدمة لدراسة الصورة الفنية: الدكتور نعيم اليافي. ص 48.

ولكن ما الصورة؟ وما طبيعتها؟

ويرى الدكتور نعيم اليافي أنّ مصطلح الاستعارة يثير مشكلات أكبر من مصطلح الصورة، ويرى أنّ الصورة أعم وأشمل من الاستعارة، لأنها تشمل جميع الأنواع البلاغية وتضيف إضافات جديدة «57». وقد استفاد مصطلح الصورة من الدراسات في علم النفس والجمال والنقد في إثراء مدلوله. ولكن ما الصورة؟ وما طبيعتها؟ اختلف النقاد المعاصرون في تعريفها، بحسب دلالاتها المختلفة. فبعض النقاد يعرّفها على ضوء علم النفس فيرى «برأي» أن الصورة «التذكر الواعي لمدرك حسي سابق» «58». وعلى ضوء هذا التعريف، تقوم الصورة باسترجاع الصور المختزنة في الذهن، بعد غياب المنبه الحسي، وتعتبر الحواس هي مادة الصورة، والمكوّنة لها، فالحواس تلتقط الموضوع الخارجي، وتختزنه في الذهن، ثم تأتي الصورة الفنية، فتستثير بها خيال المتلقي، الذي اختزن الصور الذهنية في ذاكرته. وقد قسمت الصورة بحسب الحواس المكوّنة لها، إلى صور بصرية، وسمعية، وشمية، وذوقية، ولمسية. لكن الصورة لا تكون حسية دائما، فقد تكون صورة نفسية بكاملها. يقول ميدلتون موري عن الصورة بأنها «قد تكون بصرية وقد تكون سمعية» أو «قد تكون بكاملها سيكولوجية» «59». لذلك جعلها الناقد ريتشاردز هي القوة المحركة للعواطف، يقول: «إن القوى المحركة للعواطف محصورة في الصورة» «60». وقد تحمّس الناقد عز الدين إسماعيل إلى هذا الاتجاه النفسي في دراسة الصورة، وفهمها، فعرّفها بقوله: «الصورة تركيبة عقلية تنتمي في جوهرها إلى عالم الفكرة أكثر من انتمائها إلى عالم الواقع» «61».

_ (57) مقدمة لدراسة الصورة الفنية: ص 49. (58) المصدر السابق: ص 43. (59) نظرية الأدب: رينيه ويليك وأوستن وارين. ص 195. (60) الصورة بين البلاغة والنقد: ص 28. (61) التفسير النفسي للأدب: د. عز الدين إسماعيل. ص 66.

ويتحدث عن طبيعة الصورة، ويعتبر الشعور هو الصورة، مردّدا قول هويلي: «إن الشعور ليس شيئا يضاف إلى الصور الحسية، وإنما الشعور هو الصورة، أي أنها الشعور المستقر في الذاكرة ... » «62». وهذا الفهم للصورة فيه غموض وإبهام، إذ كيف تكون الصورة هي الشعور، ثم بعد ذلك يمكن دراستها فنيا كما أنّ هذا الفهم للصورة على أساس علم النفس، يتجاهل العناصر الأخرى المكوّنة للصورة، فالصورة ليست شعورا فحسب، وإنما هي أيضا تتكوّن من الفكر والواقع وغيرهما. وبعض النقاد، يعتبر «الذهن» أساس الصورة. يقول أندريه بروتون: «إن الصورة إبداع خالص للذهن» «63». والدكتور عبد القادر الربّاعي يربط الصورة بالنشاط الذهني أو العقلي أو العقلي سواء في مفهومها العام أم في مفهومها التفصيلي، ففي مفهومها العام هي «أية هيئة تثيرها الكلمات الشعرية بالذهن» «64»، وفي مفهومها التفصيلي يجعلها «تركيبة عقلية تحدث بالتناسب أو بالمقارنة» «65». وهذا التعريف أيضا يجعل العقل هو المكوّن لها، ويتجاهل بقية المكوّنات الأخرى مثل العاطفة والإحساس والفكر والواقع واللغة. وقد أحسّ الدكتور نعيم اليافي بالقصور في تعريف الصورة، فحاول أن يجمع بين التعريفين السابقين لها، لأنه لاحظ أن الشعور وحده أو العقل وحده لا يمكن أن يرجع إليه تكوين الصورة، لهذا قال في تعريفها إنها «وحدة تركيبية، يلتمسها الشاعر في كل مكان، ويخلقها بجميع حواسه، وبكل قواه الذهنية والشعورية» «66». ولكنه أيضا وقع بما وقع فيه غيره من النقص والقصور في تعريف الصورة، لأنّ هناك عنصرا آخر في تشكيلها وهو «اللغة».

_ (62) التفسير النفسي للأدب: ص 71. (63) الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي والنقدي: الولي محمد. ص 16. (64) الصورة الفنية في النقد الشعري: ص 85. (65) المصدر السابق: ص 86. (66) مقدمة لدراسة الصورة الفنية: ص 49.

لذا نجد نقادا آخرين ربطوا تعريفها ب «اللغة»، فهي عندهم تشكيل لغوي، يشبه اللوحة الفنية المرسومة، ولكن قوام الصورة الكلمات يقول الناقد «سي دي لويس» عن الصورة إنها «رسم قوامه الكلمات» «67». ولكنّ هذا الناقد أحسّ بنقص تعريفه، واتجاهه نحو شكل الصورة دون مضمونها، فأضاف إلى تعريفه فيما بعد قوله: «هي رسم قوامه الكلمات المشحونة بالإحساس والعاطفة» «68». وبهذا التعريف الأخير يرتبط الشكل اللغوي، للصورة بمضمونها العاطفي. والدكتور علي البطل يرى أيضا أن الصورة تشكيل لغوي، ويضيف إلى هذا التشكيل مكوّنات أخرى للصورة، مثل الخيال والحواس والعقل يقول: «فالصورة تشكيل لغوي، يكوّنها خيال الفنان من معطيات متعددة، يقف العالم المحسوس في مقدمتها، فأغلب الصور مستمدة من الحواس، إلى جانب ما لا يمكن إغفاله من الصور النفسية والعقلية، وإن كانت لا تأتي بكثرة الصور الحسية» «69». واللغة- وحدها- لا تكفي لتشكيل الصورة لكونها لغة وإنما من تفاعلات اللغة وعلاقاتها بالسياق، فالسياق اللغوي هو الذي يمنح الصورة إيحاءاتها وظلالها وتأثيرها. ويبدو أن الدكتور البطل يعتبر التشكيل اللغوي كل شيء في الصورة، فهو مقياس جمالها، على الرغم من ملاحظته لدور الحواس والعقل والنفس في تشكيلها. يقول: «إن مصدر جمال الصورة لا يكون بما فيها من المجاز وإنما ينبع من كونها صورة فحسب» «70». وهو في هذا المقياس الجمالي متأثر ب «جان برتليمي» الذي يقول: «إن الصورة كمبدإ هي مصدر جمال الصورة» «71». ويقيد الدكتور عبد الإله الصائغ التشكيل اللغوي للصورة، بالتشكيل الجمالي لها يقول: «أما الصورة الفنية فهي تشكيل جمالي، تستحضر فيه لغة الإبداع الهيئة الحسية أو الشعورية للأجسام أو المعاني بصياغة جديدة، تمليها قدرة الشاعر، وتجربته، وفق تعادلية فنية بين

_ (67) الصورة الشعرية: سي دي لويس. ص 21. (68) المصدر السابق: ص 23. (69) الصورة في الشعر العربي: ص 30. (70) المصدر السابق: نفس الصفحة. (71) بحث في علم الجمال: جان برتليمي. ص 177.

طرفين هما المجاز والحقيقة دون أن يستبد طرف بآخر» «72». وهذا يعني أن الصورة ليست مجرد تشكيل لغوي بل هي تشكيل لغوي خاص، يقصد به التصوير والتأثير. هذه التعريفات المختلفة للصورة، يمكن التوفيق بينها، بحيث تبدو متكاملة، وليست متعارضة. أو هي مراحل متصلة في بناء الصورة وليست منفصلة حتى ينسب الفضل لأحدها دون الآخر. فالإنسان يشاهد الأشياء، وينفعل بها، ويدركها إدراكا حسيا. ثم ينشأ التصور عن الإدراك الحسي والتصور هو «استحضار صور المدركات الحسية عند غيبتها عن الحواس من غير تصرف فيها بزيادة أو نقص أو تغيير أو تبديل» «73». وهنا يتدخل الذهن في اختزان هذه الصور المسماة بالصور الذهنية. ثم الصورة الفنية هي «إبراز هذه الصور إلى الخارج بشكل فني» «74». فمرحلة التصور تقع بين الصورة الذهنية والصورة الفنية، وأداة التصوير الفكر فقط، أما أدوات الصورة فكثيرة منها الفكر والشعور واللغة ... فالصورة الفنية بأدواتها التصويرية المتعددة، تحرّك الصور الذهنية في مخيلة المتلقي، وهكذا تجتمع كل العناصر المكوّنة للصورة متآلفة ومتعاونة بعد أن بدت في تعريفات النقاد متباعدة متخالفة. وعلى ضوء هذا المفهوم للصورة، فقد اتسعت الصورة في النقد الحديث لتشمل كل تقديم حسي، يقول ناصف: «تستعمل كلمة صورة- عادة- للدلالة على كل ما له صلة بالتعبير الحسي» «75» حتى أصبحت الصورة تعني «أي إدراك حسي مسترجع» «76». فلم تعد الصورة- بهذا المفهوم الجديد لها- محصورة في الأنواع البلاغية بل «قد تخلو الصورة- بالمعنى الحديث- من المجاز أصلا فتكون عبارات حقيقية الاستعمال ومع ذلك فهي تشكّل صورة دالة على خيال خصب» «77».

_ (72) الصورة الفنية معيارا نقديا: الدكتور عبد الإله الصائغ: ص 159. (73) في النقد الأدبي: د. عبد العزيز عتيق 68. (74) نظرية التصوير الفني عند سيد قطب: د. صلاح الخالدي. ص 87. (75) الصورة الأدبية: ص 3. (76) مقدمة لدراسة الصورة الفنية: ص 71. (77) الصورة في الشعر العربي: ص 25.

ويرى الدكتور عبد الفتاح صالح نافع أننا «نجد كثيرا من الصور الجميلة الخصبة جاءت من استخدام عبارات حقيقية لا مجاز فيها ... » «78». فالعبارات الحقيقية ضمن السياق، قد توحي بدلالات متنوعة، تكون أبلغ من المجاز في موقعها، وضمن سياقها الواردة فيه، يقول الدكتور غنيمي هلال بهذا المعنى: «من وسائل التصوير والإثارة ما لا يدخل في الوجوه البلاغية التي ذكروها بحال» «79»، ويقول في موضع آخر: «فقد تكون العبارات حقيقية الاستعمال وتكون مع ذلك دقيقة التصوير، دالة على خيال خصب» «80». لهذا فإن الدكتور صلاح فضل يعتبر الوصف صورة، تقوم على التقديم الحسي فقط دون أن تعتمد على المجاز فقد علّق على أبيات ذي الرمة: عشية ما لي حيلة غير أنني ... بلقط الحصى والخط في الترب مولع بقوله: «فليس ثمة تشبيه ولا استعارة، ولا مجاز آخر، وبالرغم من ذلك ينجح الشاعر في تقديم تمثيل حسي نتردد في وصفه بأنه خيالي، إذ يمكن له أن يعتمد على تجربة واقعة، ويصفها بدقة، مما يجعل دور الخيال قاصرا على استحضارها وتمثيلها دون تكوينها الأصلي» «81». فالخيال في الصورة الوصفية يقتصر دوره على الاستحضار والتمثيل، لا البناء والتشكيل للصورة. ويبدو أن طبيعة اللغة العربية التصويرية، تساعد على التوسّع في مفهوم الصورة، فقد سمّاها العقاد «اللغة الشاعرة» لأنها «بنيت على نسق الشعر في أصوله الفنية والموسيقية، فهي في جملتها فن منظوم منسّق الأوزان والأصوات ... » «82». فهي بهذا المقياس «لغة معبرة مصوّرة، تقوم عباراتها بالدلالة على معانيها دلالة شعرية فنية موحية» «83»، فالتعبير الفني المتناسق بألفاظه وعباراته- ولو كان تعبيرا حقيقيا

_ (78) الصورة في شعر بشار بن برد: د عبد الفتاح نافع. ص 58 - 59. (79) النقد الأدبي الحديث: د. محمد غنيمي هلال. ص 250. (80) النقد الأدبي الحديث: ص 457. (81) علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته: د. صلاح فضل ص 236. (82) اللغة الشاعرة: عباس محمود العقاد. ص 8. (83) نظرية التصوير الفني عند سيد قطب: ص 30.

لا مجاز فيه- تصوير فني. يقول الدكتور علي إبراهيم أبو زيد: «فكأن في كل تعبير أدبي تصويرا فنيا، ينبعث من مقدرة الشاعر على تركيب عباراته، وتنسيق كلماته، وعلى قدرته في استنباط الإيحاء الفني الكامل في باطن الألفاظ وفي علاقاتها بعضها مع البعض، فيكسو التعبير جمالا فنيا» «84». ولكن الدكتور الولي محمد، يرفض التوسع في مفهوم الصورة، ويميّز بين الصورة الفنية والوصف، ويرى أن الصورة تخضع الشيء الملموس للتحويل بواسطة اللغة بينما لا نرى في الوصف أي تحويل للموصوف كما في الصورة. لذلك يعتبر الصورة شيئا زائدا على المعنى المراد توصيله، فإذا كانت غير زائدة، فهي ليست صورة برأيه «85». ويذكرنا هذا المفهوم للصورة برأي البلاغيين القدماء الذين اعتبروا الصورة شيئا زائدا على المعنى الأصلي بقصد التوضيح والبيان. فالصورة عند المعاصرين، تعددت مفاهيمها بتعدد فروع المعرفة كعلم النفس والفلسفة والنقد الأدبي. وكل ناقد يدرسها حسب مفهومه لها والذي يتفق مع مذهبه الأدبي، وفلسفته الخاصة. وتجاوزت الصورة المفهوم الجزئي لها القائم على البيت الواحد أو الجملة الواحدة، وأصبحت تشمل القصيدة كلها. فالصور الجزئية، مرتبطة بغيرها من الصور الأخرى، تتناسق معها، وتدور في إطار الصورة الكلية للقصيدة كلها. فالصور الجزئية تنمو وتتصاعد في القصيدة، حتى تستوفى الفكرة من جميع نواحيها. وبهذا المفهوم أصبحت الصورة أكثر تنوعا وشمولا من نظرة القدماء لها. ولكن النقاد المعاصرين قصروا دراساتهم على الصورة الشعرية، واستمدوا من النقد الأوربي، مقاييسهم في الحكم عليها غالبا. ولم يلتفت أحد منهم إلى الصورة الفنية في القرآن سوى سيد قطب الذي ألّف كتابه المشهور «التصوير الفني في القرآن» وقد مضى

_ (84) الصورة الفنية في شعر دعبل: د. علي أبو زيد ص 241. (85) الصورة في الخطاب البلاغي والنقدي: ص 19: 20.

على صدور كتابه نصف قرن تقريبا، وفي هذه الفترة، لم يصدر كتاب آخر حول الصورة القرآنية «86». ويلاحظ أن النقاد المعاصرين، تجاهلوا الصورة القرآنية في تنظيرهم للصورة، ولم يأخذوا بعين الاعتبار ظواهر التصوير الفني في القرآن الكريم، وما فيه من إيقاع موسيقي، وتشخيص، وتجسيم، لتقريب الحقائق الدينية. إنّ الصورة القرآنية صورة متميزة مؤثرة، وقد كشف القدماء جزءا بسيطا من جمالها دون أن يحيطوا بها. وكان من المفروض أن يتوقف المعاصرون عندها، حتى تكتمل دراساتهم حول الصورة الفنية في نقدنا المعاصر، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، فجاءت دراساتهم للصورة قاصرة على الشعر وغير مكتملة. إن القرآن الكريم قد استنفد الطاقات التصويرية للغة العربية في التعبير عن أغراضه الدينية، فجاءت صوره حية متحركة شاخصة، كما جاءت متنوّعة مشحونة بالمشاعر والانفعالات. وقد استطاع سيد قطب في كتابه (التصوير) أن يسبق النقاد المعاصرين إلى دراسة الصورة الفنية عموما، ودراسة الصورة القرآنية خصوصا. إذا عرفنا أنه أصدر كتابه عام 1945 م، وكان قبل ذلك يكتب مقالاته في مجلة المقتطف عن التصوير الفني في القرآن قبل إصدار كتابه بست سنوات «87». والصورة عنده- كما يلاحظ في تحليله للآيات القرآنية- هي كل تقديم حسي للمعنى، سواء أكان هذا التقديم الحسي يعتمد الأنواع البلاغية القديمة أم يتجاوزها إلى غيرها من العبارات الحقيقية التي تثير مخيلة المتلقي وإن لم تكن قائمة على المجاز. بهذا المفهوم، وجد سيد قطب أن أسلوب القرآن كلّه تصويري ما عدا آيات التشريع، وهذا الأسلوب التصويري هو سرّ إعجازه، فقد كان هذا الأسلوب المصوّر، مؤثرا في المؤمنين والكافرين على السواء «88».

_ (86) أصدر الدكتور عبد القادر حسين كتابه «القرآن والصورة البيانية» في هذه الفترة، ولكنه قصر الصورة على الأبحاث البلاغية القديمة. دون أن يستفيد من الدراسات الحديثة للصورة، فهو يكرّر أقوال البلاغيين القدماء حول الصورة البلاغية بأنواعها المعروفة. (87) نظرية التصوير الفني عند سيد قطب: ص 123 - 125. (88) التصوير الفني في القرآن: سيد قطب. ص 17.

وإذا كان التصوير قاعدة الأسلوب القرآني، فلا بد من دراسته على منهج جديد، لبيان الأصول العامة لهذا التصوير الفني، منهج يتجاوز دراسات القدماء، ولا يتجاهلها، لأنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى الخصائص العامة للجمال الفني سواء في القرآن أم في الأدب، لأنهم كانوا ينظرون إلى النصّ كأجزاء منفصلة، حتى غدا البيت الواحد، وحدة مستقلة عندهم، فلم ينظروا إلى العمل الفني نظرة كلية شاملة، ليدركوا العلاقة بين الصور الجزئية والصور الكلية، كذلك لم يركزوا على التأثير النفسي للصورة. وقد أدرك سيد قطب نوعين من الصور في القرآن، صور محسوسة، وصور متخيلة، فالصور المحسوسة هي المستمدة من عالم الحواس، والصور المتخيلة هي التي يقوم الخيال بتأملها ومتابعة أشكالها الفنية. وكما جعل «التصوير» قاعدة التعبير في القرآن، فإنه يجعل «التخييل الحسي» قاعدة التصوير. فالحس والخيال هما العنصران المكوّنان للصورة، وهذا ما يفهم من قوله: «يعبّر بالصورة المحسّة المتخيلة» «89». ويبدو أن الحس والخيال يتعاونان على رسم الصورة الفنية في القرآن، فتثير بذلك الحسّ والخيال لدى المتلقي فقوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً مريم: 4 صورة تثير في الخيال حركة تخيلية سريعة هي حركة الاشتعال التي تتناول الرأس في لحظة، وهي حركة تلمس الحس والخيال معا «90». وأحيانا تكون الصورة «متخيلة»، كقوله تعالى: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ الأعراف: 40 فصورة الجمل هنا وهو يحاول الدخول في ثقب الإبرة صورة متخيّلة، يتخيل الذهن محاولات الجمل اليائسة المتكررة دون فائدة «91». وأحيانا يكون التخييل بالتشخيص، وأحيانا بالتجسيم الفني. ويتوسّع سيد قطب في مفهوم الصورة لتشمل التعبيرات الحقيقية أيضا والألفاظ المصورة، فالصورة باللفظ ترسم «تارة بجرسه الذي يلقيه في الأذن، وتارة بظله الذي يلقيه في الخيال، وتارة بالجرس

_ (89) التصوير الفني في القرآن: ص 71. (90) المصدر السابق: ص 33. (91) المصدر السابق: ص 38.

والظل معا» «92». فقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ النساء: 72 فكلمة لَيُبَطِّئَنَّ ترسم صورة التباطؤ بجرسها دون الاعتماد على الأنواع البلاغية القديمة، فهي لفظة حقيقية، ولكنها ترسم صورة من إيقاعها الموسيقى، وتعثر اللسان في نطق حروفها حتى كأنه يشدّها شدّا، وهذا الجرس الموسيقى الثقيل للكلمة يتناسق مع تصوير الحركة النفسية المصاحبة لحركة التثاقل والتعثر لهؤلاء المقصودين بالتصوير «93». ويلاحظ أيضا تلاحم الشكل بالمضمون في الصورة القرآنية حيث «يتناسق فيها التعبير مع الحالة المراد تصويرها، فيساعد على إكمال معالم الصورة الحسية أو المعنوية» «94». ويقرن الصورة الجزئية بالصورة الكلية، وتناسق الصورة مع السياق الواردة فيه في أثناء حديثه عن «التناسق الفني» ويرى تناسق الصورة القرآنية مع إطارها وإيقاعها والجوّ العام للسياق. كما تحدث عن الصورة في المشهد، والصورة في اللوحة المرسومة «95». وكأنه يهدف إلى بيان الصورة الكلية المكونة من صور جزئية متحدة بعضها ببعض، وليست منفصلة كما فهمها القدماء، فهو يتحدث عن الصورة بمفهومها الحديث قبل أن تكتمل دراستها عند النقاد المعاصرين، فهو زائد من روّاد التنظير للصورة، لأنه لا يحصر الصورة القرآنية في مفهوم الجملة، كما فهمها القدماء، وإنما يتوسع فيها، مستفيدا من ثقافته الأدبية والنقدية الواسعة، في خدمة التصوير القرآني لبيان سماته وطرقه وأدواته، وسرّ إعجازه.

_ (92) التصوير الفني: ص 91. (93) المصدر السابق: ص 91. (94) المصدر السابق: ص 90. (95) المصدر السابق: ص 87 وما بعدها.

الفصل الثاني مقومات الصورة الفنية في القرآن الكريم

الفصل الثاني مقوّمات الصورة الفنية في القرآن الكريم إنّ الصورة الفنية في القرآن الكريم متميّزة بطبيعتها ووظيفتها، كما هي متميّزة بمواد تشكيلها أو مقوّماتها، ومقوّمات الصورة القرآنية تشكّل وحدة متماسكة لا تنفصل فيها بعض أجزائها عن بعض، بل هي نسيج واحد، تتلاحم فيه المقوّمات أو الأجزاء، ليؤدي كل جزء منها دوره في تشكيل الصورة ضمن النسق المعجز. وحين نفصل بين هذه المقوّمات هنا، فليس هدفنا تجزئة الصورة، وتقطيعها، أو تفضيل عنصر على آخر، وإنما الهدف هو تسهيل الدراسة النظرية لمعرفة طبيعة الصورة الفنية في القرآن، ومعرفة الوشائج القوية، التي تربط بين هذه المقوّمات للصورة. وأهم هذه المقوّمات للصورة القرآنية هو «الفكر الديني» فهو المكوّن الأساسي لها، والمحور الثابت الذي تدور بقية المقومات الأخرى من حوله، وضمن إطاره. حتى غدا هذا الفكر من أهمّ ما يميّز الصورة القرآنية عن غيرها من أنواع الصور الأدبية. والفكر الإسلامي معروض في الصور القرآنية بشكل منظم ومتكامل، ضمن أنساق تعبيرية مصورة، تبرز ملامحه وصفاته، فالله هو الخالق لكل شيء، والمخلوق بصفاته البشرية محتاج إلى خالقه. وتقوم الصورة بتحديد علاقة المخلوق بخالقه، فترسم حدودها ومجالاتها، ابتداء من المعرفة الإنسانية التي مصدرها الله سبحانه، فالإنسان خلق لا يعلم شيئا، ولكن الله سبحانه زوّده بأدوات المعرفة وأسبابها، ليكون هذا الإنسان متميّزا عن بقية المخلوقات وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ

وَالْأَفْئِدَةَ النحل: 78. ووَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ النساء: 113. وتقرن الصورة الحديث عن معرفة الإنسان بعلم الله، فالمعرفة الإنسانية ناقصة، والمعرفة الإلهية مطلقة وكاملة وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ الأنفال: 60. والأشياء لها وجود خارجي. مستقل عن إدراك الإنسان ومعرفته، فهي مخلوقة لله سواء أأدركها الإنسان أم لم يدركها. وهذه المخلوقات الخارجية قسمان: مخلوقات عالم الشهادة وهي تشمل كل ما يحيط بالإنسان في عالم الطبيعة، من نبات وجماد، وحيوان، وإنسان. وهذه المخلوقات واقعة تحت إدراك الإنسان، يدركها بحواسه المعروفة، وهناك مخلوقات غيبية، لا تقع تحت حواس الإنسان وإدراكه. والصورة القرآنية تستمد من العالمين المشهود وغير المشهود، مواد تشكيلها أو مقوّمات بنائها الفني وقد حضّ الله سبحانه الإنسان على التأمل في العالم المحسوس، وزوّده بالعقل لإدراكه، وفهم أسراره حتى يصل في النهاية إلى الخالق الذي أبدع هذا الكون، ولكن هذا الربط بين الموجودات الحسية والعقل البشري لا يعني أن نقيم التلازم التام بينهما فنعتبر الإدراك البشري هو المعيار لكل موجود، فهناك موجودات لا يدركها عقل الإنسان، مثل ماهية الذات الإلهية، وصفاتها، ولكنّ العقل يقرّ بوجودها وإن لم يدرك الماهيات «1». فالصورة القرآنية تركّز على الجوانب المفيدة للمعروفة الإنسانية. وتهمل ذكر المعرفة التي لا تفيد الإنسان في حياته فهي تصوّر لنا آثار الله في مخلوقاته، وبديع صنعه، ولا تتحدث عن ماهية الخالق، وتكتفي بأنه ليس كمثله شيء، لتبقى صورته مطلقة في ذهن الإنسان، كذلك في تصوير الملائكة والجن، تعرض للجوانب التي تخص الإنسان وتفيده في حياته. مع تصحيح تصوّره عن هذه المخلوقات الغيبية. ويشعر الإنسان- وهو يتابع صور القرآن، ويتأمل عرضها لعالم الشهادة، وعالم الغيب، بانجذاب إليها وتفاعل معها، لأنها صور تغذّي عقله بالمعرفة الحقّة، من مصدرها الأصيل، وتقدم له تفسيرا عن حياته التي يجهل مصدرها ونهايتها، وغايتها، وتفسيرا عن الكون والوجود والإنسان، على نحو منظم ومتناسق، بحيث يشعر الإنسان بوحدة كونية رائعة، من خلال وحدة المصدر الذي انبثق منه هذا الوجود، وهو الله سبحانه الخالق، ووحدة المصير

_ (1) مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي: د. عبد الرحمن بن زيد الزنيدي. ص 89.

والنهاية، حيث يرجع الإنسان إلى خالقه للحساب والجزاء. ولكن الصورة لا تغلّب الجانب الفكري على الجانب الفني، بحيث يبدو الفكر جافا وباردا، وكذلك لا تغلّب الجانب الفني على الفكري حتى لا تبدو الصورة فارغة جوفاء. بل نجد القرآن الكريم يتّخذ الصورة الفنية وسيلة للتعبير عن الأغراض الدينية أو الفكر الإسلامي. والفكر باعتباره مكوّنا للصورة القرآنية يقوّي من تأثيرها في المتلقي، وقد لاحظ النقاد أهمية الفكر في تشكيل الصورة الأدبية عموما. فعبد القاهر الجرجاني أدرك منذ القديم أهمية الفكر في تشكيل الصورة، ودور الصورة في إبرازه، وتوضيحه والتأثير في المتلقي، يقول الجرجاني: «إن شئت أرتك المعاني اللطيفة التي هي من خبايا العقل كأنها قد جسّمت حتى رأتها العيون ... » «2»، «ومن المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه كان نيله أحلى ... » «3». ثم إنّ هذا الفكر في الصورة القرآنية متصل بالواقع، ولا ينفصل عنه، فهو يعرف الإنسان بالواقع المحيط به، ويكشف له عن حقيقته، ويوضّح له دوره في هذا الواقع المعاش، وحتى حين تعرض الصورة القرآنية عالم الغيب أو الآخرة، فإن الانتقال من الحياة الدنيا إلى الحياة الأبدية في الآخرة يتمّ بشكل منطقي متدرّج، وذلك بربط عالم الغيب المستور، بعالم الشهادة، حتى يتدرّج العقل في إدراك هذه النقلة، من عالم محسوس إلى عالم غير محسوس، من خلال تقديم الأدلة والبراهين على ذلك. بهذه الصورة نفهم العلاقة الوثيقة بين الفكر والواقع، ضمن الصورة الفنية وخارجها في القرآن، فالفكر داخل الصورة ينسجم مع الواقع خارج الصورة ولا ينفصل عنه، لأن الموجودات الخارجية في الواقع المعاش ترجع في الأساس، كما يرجع الإنسان والحياة وكل شيء إلى مصدر واحد، وهو الله سبحانه الذي أوجد العالمين المشهود وغير المشهود، وبذلك يكون التواصل بين الصورة القرآنية والمتلقي أكثر فاعلية وتأثيرا من الصور الأدبية. لأن الصور الأدبية الأخرى تفقد هذه الخاصية التي تميّز الصورة القرآنية.

_ (2) أسرار البلاغة: ص 33 (3) المصدر السابق: ص 118.

وهي خاصيّة الربانية والإيجابية مع الواقع والحياة بالإضافة إلى التوازن القائم بين الدنيا والآخرة أو بين عالم الشهادة وعالم الغيب، وهذا التوازن قائم في حسّ المؤمن كما هو قائم في الصورة القرآنية بين الفكر والصورة أو بين الغرض الديني والغرض الفني. والمكون الثاني للصورة هو «الواقع»، وقد يكون الواقع أحداثا تقع وقت نزول القرآن، وقد يكون قصصا تروى، ونماذج ترسم بدقة وعناية. والصورة القرآنية في هذا كلّه تعبّر عن الحقيقة، ولا تبعد عنها، لأن الذي أوجد الأشياء هو الله سبحانه، وهو أعلم بما خلق، وهو الذي يخبرنا عن حقائق الأشياء، ليزوّد الإنسان بالمعرفة الصحيحة من خلال إثارته وجدانيا بالصور المرسومة. وبهذا تجمع الصورة القرآنية بين الحقيقة والفن، أو بين الصدق الفني والصدق الواقعي، وليس هناك انفصال بينهما في الصورة القرآنية كما هو معروف في الصورة الأدبية عند الشعراء. فالصورة القرآنية تمتاز بالصدق الواقعي، لأن الله هو الذي يخبرنا عن الواقع الذي خلقه، وهو أعلم بما خلق، فليس في الصورة القرآنية تلفيق واختراع كما عند الشعراء بل الحقيقة الواقعية المصوّرة بالبيان المشرق. والصدق الفني يكمن في «جمال العرض، وتنسيق الأداء، وبراعة الإخراج» «4»، أو هو «إبداع في العرض، وجمال في التنسيق، وقوة في الأداء» «5». وهذه ميزة الصورة القرآنية إذ أنها تعرض الحقيقة الواقعة بأسلوب فني مؤثر، دون أن تحيد عن الحقيقة أو تبتعد عنها وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً النساء: 87. وقد تعوّد كثير من الأدباء والشعراء أن يهتموا بالصدق الفني دون الصدق الواقعي، فركّزوا في أعمالهم الأدبية على النواحي الفنية بهدف التأثير في القراء، سواء أجاء هذا التأثير من صور حقيقية أم من صور ملفّقة، ظنّا منهم أن الاقتراب من الصدق الواقعي قد يضعف قصصهم ومشاهدهم، ويفقدها قيمتها التأثيرية، حتى زعم الدكتور محمد أحمد خلف الله في كتابه «الفن القصصي في القرآن الكريم» أن قصص القرآن وصوره ونماذجه من قبيل الصدق الفني، وليس لها دلالات واقعية «6».

_ (4) التصوير الفني في القرآن الكريم: ص 255. (5) المصدر السابق: ص 259. (6) انظر الفن القصصي في القرآن الكريم: ص 137 - 138.

وهذه فكرة باطلة، لأنها تشكّك في القصص القرآني، وأخباره، وتعتبرها من قبيل العرض الفني، وهي تدلّ على تأثّر صاحبها بالمفاهيم الأدبية في دراسته للأسلوب القرآني، وفاته أن يدرك خصوصية النص القرآني، وتميّز أسلوبه. إن الصورة القرآنية لا تبتعد عن الصدق الواقعي من أجل تحقيق أغراض فنية ممتعة، كما زعم محمد أحمد خلف الله، لأن القرآن ليس كتاب إمتاع فني، بل هو كتاب هداية للبشر، متميّز بأسلوبه الفني المعجز. وهذا يعني أن الصدق الفني يتمثّل في العرض الجميل للحقائق الواقعة، وهو بهذا يعطينا نموذجا لعرض الحقيقة الواقعة بأسلوب فني دون الإخلال بها أو الابتعاد عنها. ويتمثل الصدق الواقعي في كثرة الصور القرآنية المستمدة من عناصر الواقع، مثل السراب، والحجارة، والحمر المستنفرة، والعنكبوت، والخشب المسندة، والحمار، والكلب، والمهاد، والأوتاد، والعرجون، والصم، والبكم، والعمي، والرماد، والريح، والبحار، والأمطار، والسحاب، والنبات، واللؤلؤ والمرجان، وأعجاز النخل، والهشيم، والغثاء، والرميم، والجراد، والفراش، والعهن، والجبال، والجمال، والليل، والنهار، والنجوم، والسماء، والأرض، والظلّ والحرور ... إلخ». حتى إن صور النعيم والعذاب يوم القيامة، تستمد عناصرها من الواقع المألوف لدى الإنسان. فالواقعية إذا هي السمة البارزة في الصورة القرآنية، أما قوله تعالى إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ الصافات: 65. فهذه الصورة للشياطين كانت راسخة في أذهان الناس لمنتهى القبح والشر، فجاءت الصورة القرآنية تعتمد عليها في تشكيل صورة مفزعة، وبذلك تكون واقعيتها في رصيدها النفسي في الطباع والنفوس وإن لم يروها في العالم المحسوس «7». كما أن الصورة القرآنية تنقل لنا الأحداث الواقعة وقت نزول القرآن، بكل تفصيلاتها تصويرا حيا فيه اللمسات الفنية والنفسية، والتوجيهية. لأن القرآن جاء لبناء واقع جديد، وفق تصوّر إسلامي، وبناء هذا الواقع يقتضي هدم الواقع الجاهلي بكل أشكاله وصوره وأفكاره، وذلك

_ (7) انظر الحيوان للجاحظ: 6/ 212 - 213. وانظر الكشاف للزمخشري: 3/ 342.

بتصوير ما فيه من هبوط ودنس وبؤس للإنسان، ثم تصوير الواقع الإسلامي البديل، بكل آفاقه ومراميه. فالصورة القرآنية تتفاعل مع الواقع لتحقيق الهدم والبناء في الوقت نفسه، هدم الوثنية، وبناء صرح الإسلام، فهي صورة فنية تطرح بديلا عن واقع الجاهلية، وتقدّم نموذجا حيا للواقع الجديد، ومن خلال التفاعل الإيجابي بين الفكر الإسلامي والواقع، تبرز الصورة الفنية في القرآن متميّزة بتشكيلها الفني القائم على رؤية إسلامية واضحة للحياة والكون والإنسان. كما تبرز الواقعية في مواد الصورة الحسية، والأحداث الواقعة، والقصص الماضية ... والمكوّن الثالث هو «الخيال» وهو قوة تجمع بين الأشياء المتباعدة في نسق فني، يقرّب الأشياء المتباعدة ويصهرها في «الصورة» التي يحل فيها الانسجام بين الأشياء المتباعدة، والتوافق بين الأشياء المتنافرة. ويرجع أرسطو الخيال إلى الإحساس فيرى أن «المحسوس قد تغيب صورته عن الحس المشترك وتبقى صورته المتخيلة» «8»، وقد انتقل مفهوم أرسطو للخيال، وعلاقته بالإدراك الحسي إلى الفلاسفة المسلمين. فالفارابي يرى أن انطباع المحسوسات كانطباع نقش الخاتم على الشمع، فالإدراك يناسب الانتقاش وحفظ صور المحسوسات وظيفة الخيال «9». وابن سينا يشرح علاقة التخيل بالإحساس بقوله: «الشيء قد يكون محسوسا عند ما يشاهد ثم يكون متخيلا عند غيبته بتمثل صورته في الباطن» «10». وبناء على هذا فإن الخيال يستمد مادته من الواقع المحسوس، ولكنه لا يبقى في حدود الواقع الحسي بل يمتد إلى علاقات جديدة، في الصورة الفنية الموحية. التي تثير خيال المتلقي، وتدفعه إلى استحضار الصور الذهنية المختزنة في الذاكرة للواقع الحسي. ومصطلح «التخييل» انتقل من الفلسفة إلى البلاغة والنقد، فسيء الظن به عند العرب،

_ (8) الخيال مفهوماته ووظائفه: الدكتور عاطف جوده نصر ص 10. (9) المصدر السابق: ص 13. (10) المصدر السابق: ص 13.

لأن المترجمين لكتب أرسطو، ترجموا كلمة «فنطاسيا» مرة بالتخيّل ومرة بالتوهّم «11». حتى إن عبد القاهر الجرجاني قسم المعاني إلى عقلية وتخييلية، ووازن بينهما، واعتبر التخييلي مناقضا للحقيقي، وفضّل المعنى الحقيقي لأنه مدار الأحاديث النبوية وكلام الصحابة «12». ولكن الجرجاني أحسّ بالحرج والاضطراب أمام استعارات القرآن الكريم التي تعتمد التخييل، لذلك رأى أن سبيل الاستعارة هي «سبيل الكلام المحذوف، في أنك إذا رجعت إلى أصله وجدت قائله وهو يثبت أمرا عقليا صحيحا ويدعي دعوى لها سنح في العقل» «13». ولكن الاستعارة ووجوه البلاغة من مجاز وتشبيه تعتمد الخيال في عرض الحقيقة للإيحاء بها كما يقول الدكتور غنيمي هلال: «فوجوه البلاغة المختلفة هي من وسائل الإيحاء بالحقيقة عن طريق الخيال» «14». ويبدو أن الزمخشري كان أكثر فهما ودقة لمصطلح «التخييل» إذ استبعد منه كل دلالة على التوهم والخداع والكذب، ونظر إليه على أنه «تمثيل للمعاني المجردة، وطريقة من طرائق تجسيم المعنوي، وتصويره للحس» «15». فالتخييل طريقة فنية في التعبير، وقد ركّز حازم القرطاجني على أهميته ووظيفته في التعبير، وركّز على دوره في التأثير بالمتلقي، وتوجيه سلوكه، فهو عنده يهدف إلى التأثير النفسي «16». لذلك لم يتحرج سيد قطب من تخصيص فصل له بعنوان «التخييل الحسي» في كتابه «التصوير الفني في القرآن» «17»، لأنه يرى التخييل طريقة فنية في التعبير، واعتبره قاعدة التصوير الأساسية في القرآن الكريم. فالصورة القرآنية تثير خيال المتلقي، ليستقبل المعنى عن طريق الحس والوجدان والفكر

_ (11) الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي: ص 77. (12) المصدر السابق: ص 81. (13) المصدر السابق: ص 82 عن أسرار البلاغة: 253. (14) النقد الأدبي الحديث: ص 235. (15) الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي: ص 83. (16) المصدر السابق: ص 87. (17) التصوير الفني في القرآن: ص 71.

والشعور، إنها صورة فنية تثير المشاعر والانفعالات، كما تثير الخيال ليتابع أجزاء الصورة، ويتأملها، ويكونها في ذهن المتلقي. ففي قوله تعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ ... » إبراهيم: 18. يتخيل القارئ الرماد المتراكم الذي تذروه الريح في يوم عاصف، وتكاد كل لفظة في الآية تساعد على اكتمال التخييل الحسي في الصورة المرسومة. وقد يتخذ التخييل الحسي ألوانا من التشخيص والتجسيم أو الحركات السريعة المتوقعة يقول الله تعالى: «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ» الحج: 31. إنّ هذه الصورة تدفع الخيال لمتابعة الحركات السريعة، لسقوط هذا المشرك من السماء، وفي لمح البصر تخطفه الطير، أو ترميه الريح في مكان سحيق، بعيد عن الأنظار، ويترك للخيال أن يتأمل صورة خطف الطير له، وصورة تمزيقه قطعا، أو يتابع حركة سقوطه في مكان سحيق بعيد ... والمكوّن الرابع: هو العاطفة فهي التي تمدّ الصورة بنسخ الحياة والتأثير، وبدونها تصبح باردة جافة. لهذا اعتبرها الدكتور محمد زكي العشماوي هي كل شيء في الصورة: «والصورة بدون عاطفة فارغة» «18». فالتلاحم بين الصورة والعاطفة قوي واضح، فأي صورة فنية تثير في المتلقي استجابة شعورية، تختلف درجتها باختلاف الصورة وتأثيرها فيه لأن «القوى المحركة للعواطف محصورة بالصورة» كما يقول ريتشاردز «19». ولكنّ العاطفة ترتبط بالمكوّنات الأخرى للصورة، لتثير مشاعر المتلقي، وتحرره من الزمان والمكان معا ليعيش آفاق الصورة الشعورية والنفسية، وهذا ما عبر عنه «باوند» بقوله: «الصورة هي التي تعرض مركبا عقليا وعاطفيا في لحظة من الزمن» «20».

_ (18) فلسفة الجمال في الفكر المعاصر: د. محمد زكي العشماوي ص 95. (19) الصورة بين البلاغة والنقد: ص 28. (20) الصورة الفنية في النقد الشعري: ص 194 ولغة الشعر العربي الحديث: الدكتور السعيد الورقي ص 103.

فالصورة على قول باوند توحّد الأفكار والعواطف معا في مكان وزمان معينين، ولكن الصورة المعروضة في المكان والزمان لا تبقى في إطارها لدى المتلقي، وإنما تمنحه شعورا عاليا، يتخلص فيه من حدود الزمان والمكان للصورة في تشكيلها الأولي، لينتقل إلى حالة شعورية معادلة للحالة التي تصوّرها الصورة الفنية. وهذا الإحساس التي تولده الصورة في المتلقي هو «الإحساس بالنمو المفاجئ الذي نجده ونحن في حضرة روائع الفن العظيمة» «21». فقوة الصورة تكمن في قدرتها «على التأثير الانفعالي» «22». ويبدو أن تأثر المتلقي بالصورة يرجع بالإضافة إلى كونها حسية، إلى ارتباطها بالعاطفة الإنسانية لذلك فإن الإنسان يشعر بالتجاوب الداخلي مع الصور الفنية المثيرة للعواطف. لأنه يرى نفسه مصوّرة في الصورة المرسومة، فيرى فيها مشاعره وعالمه الداخلي، فتكشف له أسراره وغوامضه، فتحركه من داخله ليتجاوب ويتأثر بها. وقد بلغت الصورة القرآنية القمة في التأثير بالمتلقي، لأنها تثير الشعور الديني والشعور الإنساني معا فهي تهزّ أعماق الإنسان، لتوقظه على حقائق الحياة، وحقائق الوجود، عن طريق المشاهد المعروضة، والصور الشاخصة، والنماذج المرسومة، والأحداث الواقعة، والقصص الماضية، ليبلغ التأثر الوجداني مداه، وتتفتح منافذ النفس لاستقبال التأثير عبر الفكر والوجدان، والعقل والشعور معا. وتنفرد الصورة القرآنية بتصوير حقائق الحياة والكون والإنسان، وما وراء الحياة المنظورة من حياة أبدية في العالم الآخر، وقد بلغت بهذا التصوير لهذه الحقائق قمّة التأثير بالمتلقي، فآمن من آمن بالقرآن، وأعرض عنه المشركون استكبارا، مع إقرارهم بقوة تأثير الصور القرآنية فيهم. والمكوّن الخامس هو «اللغة» فهي وسيلة نقل الأفكار والعواطف، وقد تميّزت اللغة العربية عن غيرها من اللغات الأخرى بخصائص فنية أهلّتها لتكون لغة للقرآن الكريم، فهي من أكثر اللغات انسجاما مع التعبير الفني، وإثارة الأحاسيس الفنية والإنسانية، وتلاؤما مع

_ (21) لغة الشعر العربي الحديث: ص 104. (22) الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي والنقدي: ص 16.

المعايير الجمالية، ويظهر ذلك في تركيب حروفها ومفرداتها وعباراتها، فهي لغة التصوير الفني أو «لغة المجاز» «23» على رأي العقاد والمجاز هو أداة التصوير الفني. فالألفاظ ليست جامدة بل هي ألفاظ حية، لها ظلالها، وإيحاءاتها، وقد هيّأ التعبير القرآني للألفاظ نظاما ونسقا وجوا ملائما على أحسن ما يكون، فسمح للألفاظ بأن تشعّ وتوحي بالظلال والصور، وتتناسق مع الجو النفسي أو الشعوري العام الذي يرسمه، يقول الله تعالى: «يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا» الطور: 13. فالدعّ هو الدفع بالظهور، والمدفوع في النار يصدر صوتا قريبا من جرس العين الساكنة، لذلك فإن الصورة اختارت في تشكيلها اللغوي هذا الحرف بالذات، لتكون الصورة المرعبة توحي بهيئة مخصوصة وهي الدفع في الظهور رغم إرادتهم، كما تجسّم حالتهم النفسية وما هم عليه من خوف وفزع. فاللغة العربية لغة تصويرية، يظهر ذلك في الاستعمالات المجازية، والاستعمالات الحقيقية، فحين نقول: «تمايل الرجل» فإن هذا التعبير الحقيقي، يرسم صورة لرجل يترنّح يمينا وشمالا، وهذه الصورة مركبة من عبارة حقيقية، لا مجازية. فالصورة بمفهومها الجديد تساعد على استثمار اللغة، واستخراج خصائصها بوصفها مادة بنائية، تهدف من تركيب الكلمات والعبارات إلى بعث الصور الموحية عن طريق التعبير المجازي أو الحقيقي، بحيث تعود للكلمات قوة معانيها التصويرية «24» وقد لاحظ العقاد أن كثيرا من الألفاظ العربية ما زالت تحتفظ بمعناها الحقيقي مع شيوع معناها المجازي، وهذا الاقتران بين المعاني المجردة للألفاظ والمعاني المحسوسة كثير في اللغة العربية كما يقول العقاد «25». فمثلا كلمة «زكاة» تعني الزيادة والنمو، كما تعني الحسن واللياقة «26»، وقد تناول القرآن هذه المادة اللغوية، واستثمرها في الدلالة على معنى جديد، فأصبح المعنيان يتجاوران في ذهن المتلقي، يثيران فيه صور النماء الحسية والمعنوية معا، وهي صور غنية ومتنوّعة.

_ (23) اللغة الشاعرة: ص 26. (24) لغة الشعر العربي الحديث: ص 70. (25) اللغة الشاعرة: ص 26 - 31. (26) المعجم الوسيط: مادة زكو.

تتجاوز الحياة الدنيوية إلى صور النماء والزيادة في الآخرة، فالألفاظ في الصورة القرآنية تشعّ بالظلال التي تثير الخيال وتمتعه، والمقصود بها تلك الظلال «التي يخلعها وراء المعاني» «27»، ليبقى التخيل في متعة التأمل. وظلال الألفاظ ترجع إلى ما وراء الشعور، إلى تلك الصور المختزنة في الذاكرة والتي صاحبت الألفاظ في تاريخها الطويل، كذلك ترجع ظلالها إلى السياق الذي وضعت فيه. وظلال الألفاظ هي متعة الخيال، لأن الظلّ يلقى في الخيال كما يلقى الجرس الموسيقى في الأذن ولكنّ هذه الظلال للألفاظ لا يدركها إلّا «الحس البصير حينما يوجه إليها انتباهه، وحينما يستدعي صورة مدلولها الحسية» «28». إن الصورة القرآنية بلغت قمة الإعجاز في تشكيلها للغة، وتطويعها لأغراضها الدينية والفنية، وقد تجلّى ذلك في اللفظ الفصيح العذب، والمعنى المترابط، والنسق الموحي المصوّر، والإيقاع الموسيقى المتناسق مع جوّ الصورة ومعناها. والمكوّن السادس هو «الإيقاع» وهو مرتبط ببقية المكونات الأخرى، وللإيقاع دوره في تشكيل الصورة وتأثيرها في المتلقي. والإيقاع في الصورة القرآنية مكوّن واضح لها، فقد يكون الإيقاع فيها شديدا ملحوظا، أو هادئا لينا، وقد يكون سريعا خاطفا أو بطيئا متأنيا، حسب المعنى أو السياق العام. ففي سورة «الضحى» مثلا يسير الإيقاع هادئا ليّنا ليتناسق مع الصورة الفنية المرسومة من الإطار الهادئ في الضحى الطالع، والليل الساجي، وصورة اليتم والرضى في السورة كلها. ولكن الإيقاع في سورة «العاديات» يشتد ويقوى ويسرع، ويتضح ذلك في صورة الخيول العادية والضابحة والمغيرة بسرعة، وفي صورة بعثرة القبور، وتحصيل ما في الصدور. وفي سورة «الفلق» نلاحظ الإيقاع الثقيل الشديد، وهو واضح في صورة النفاثات في العقد، وصورة الحاسد والحسد ... ويتكون الإيقاع من أمور عدة، من مخارج الحروف، وصفاتها، وحركاتها، وتتابعها بنسق معين، أو تفرّقها، ومن الكلمات، فالجمل، والعبارات، أي أن جرس الحروف أولا يكوّن جرس

_ (27) النقد الأدبي: سيد قطب ص 70. (28) التصوير الفني في القرآن: ص 95.

الكلمات، ثم الكلمات في الجمل، تكوّن جرس العبارات، ومنها يتكوّن الإيقاع العام للصورة كما سأوضح ذلك في الوظيفة الفنية، إن شاء الله. فاللغة العربية إذن لغة تصويرية تجمع الكثير من النواحي الوجدانية والإيقاعية والتصويرية. ولا حرج من استعمال مصطلح «الإيقاع الموسيقى» في دراسة الأسلوب الفني في القرآن، لأن القرآن جاء بلغة العرب، ويجري وفق أساليبهم في التعبير، فهو معجز ببيانه الفني، والإيقاع جزء من الأسلوب الفني. وقد نلاحظ أن هذه المقوّمات للصورة، قد تشترك مع مقومات الصورة الأدبية عموما في الأصول التي تتشكل منها، ولكنّ مقومات الصورة القرآنية مختلفة تماما بعد ذلك عن مقومات الصورة الأدبية. لأن الصورة القرآنية تعتمد في تشكيلها على قاعدة دينية، وتنطلق منها في عملية التشكيل، وهذه القاعدة الدينية لمواد الصورة ملحوظة في الصورة القرآنية تشكيلا ووظيفة أيضا. ثم إن بقية مواد الصورة تنطلق من هذه القاعدة الدينية، وتطوف في أجوائها، ولا تتعداها إلى غيرها. فالفكر في الصورة القرآنية، ديني، والعاطفة دينية والخيال يطوف في أجواء دينية، ولا يتعدى هذه الأجواء، واللغة تؤدي معاني دينية، والصورة بموادها المشكّلة تهدف إلى تحقيق وظيفة دينية. فمقومات الصورة القرآنية مترابطة، متعاونة، تخضع للفكرة الدينية التي هي محورها الذي تدور من حوله. فقانون الترابط بين مقوّمات الصورة القرآنية هو إحدى ميّزات الصورة القرآنية، حيث نرى هذا الترابط لا يتوقف عند مقومات الصورة فقط، بل إنه يرتبط أيضا بأنواع الصور في القرآن، ويتناسق معها. لإبراز هذه الخصوصية المميّزة للصورة القرآنية عن الصورة الأدبية، فهذه المقومات للصورة التي تعتمد على أساس ديني، تنعكس في أنواع الصور القرآنية، فتبرز فيها الصور القرآنية ذات الطابع الديني الواضح المعالم والسمات، وهذا أمر ينسجم مع طبيعة النص القرآني، باعتباره كتابا منزلا من عند الله، يهدف إلى تحقيق أغراض دينية عن طريق الصورة الفنية. وبذلك يتلاحم الغرض الفني بالغرض الديني، لتحقيق الإعجاز في التصوير القرآني.

الفصل الثالث أنواع الصور في القرآن الكريم

الفصل الثالث أنواع الصور في القرآن الكريم الصورة القرآنية متميزة بمواد تشكيلها، كما هي متميّزة أيضا بأنواعها، ووظائفها. وبين موادها وأنواعها علاقة وارتباط، وقانون عام، يطبع كليهما بالطابع الديني الذي يميّز الصورة القرآنية. ويمكن أن نرجع الصورة القرآنية إلى نوعين أساسيين هما: الصورة المفردة أو الصورة البلاغية، وصورة النسق، ومن هذين النوعين تتفرع بقية الصور الأخرى. وأعني بالصورة المفردة، الصورة البلاغية المعروفة المكوّنة من التشبيه أو الاستعارة أو الكناية أو المجاز، وهذه الصورة مرتبطة بالجملة الواحدة غالبا، وهناك الصورة المرتبطة بالنسق أو السياق، وهي أعمّ من الأولى وأشمل، وبين الصورتين علاقة تفاعل وارتباط، فالصورة المفردة، تحكمها علاقات داخلية، تربط بين أجزائها لبناء تشكيلها أولا، كما تحكمها علاقات أخرى تربطها بالسياق القرآني، ومن ثم البناء العام للصورة الكلية. لذلك يمكن الوقوف عند الصورة المفردة أو البلاغية، لدراسة مكوّناتها، ومن ثمّ دراسة هذه الصورة البلاغية في علاقاتها مع الصور الأخرى، في نمو وامتداد، وصعود حتى تكوّن «صورة المشهد» ثم صورة «اللوحة» أو الصورة المركّبة من عدّة صور، ثم تتابع الصورة المركبة، في امتدادها ونموها وصعودها، لكي تكوّن «الصورة الكلّية» ضمن علاقات وأنساق فنية، وهذه الصورة الكلية، مكوّنة من السورة كلّها، فكلّ سورة في القرآن، تكوّن صورة «كلية» لها ملامحها الواضحة، وسماتها البارزة عن غيرها، ثم إنّ الصورة الكلية مرتبطة ب «الصورة المركزية» التي هي مصدر الصور كلّها، فمنها انبعثت وتناثرت بنظام وترتيب،

فتوزّعت هنا وهناك في النص القرآني، ولكنها تعود ثانية إلى مصدرها الذي انبثقت منه ضمن نظام العلاقات والروابط بين الصور. وهكذا يتم الانتقال من الصورة الجزئية، إلى الصورة الكلية، ومن الصورة المحدودة، إلى الصورة المطلقة وتعتبر «الصورة المركزية» التي تدور حول الألوهية هي أساس الصور الأخرى فبأمره سبحانه وجدت صور الحياة والكون والإنسان، لذا فإن الصورة المركزية هي مصدر قوة بقية الصور، فهي حاضرة في جميع الصور القرآنية، قد تكون ظاهرة للعيان، بصورة مباشرة، وقد تكون مضمرة، ولكنها مدركة عند تأمل أجزاء الصور وعلاقاتها وإيحاءاتها. ووظيفة الصور تكمن في توضيح الصورة المركزية، وإبرازها، وبيان قوتها، وجمالها، وجلالها، وقد تبدو أحيانا بعض الصور الجزئية شاردة، بعيدة عن الصورة المركزية، ولكن السياق يبرز الصورة المركزية وهي تمسك بالصورة الشاردة لتعيدها إلى سياقها المتفاعل مع الصور الأخرى، وبذلك ندرك قوة الروابط أو العلاقات في الصورة القرآنية، هذه الروابط التي تبدأ بالصورة المفردة وتفاعلها ونموها ضمن نظام العلاقات التصويرية، لتبلغ قمتها في «الصورة المركزية» وهذه العلاقات ملحوظة في حركة النمو الصاعد للصور القرآنية، وحركة الهبوط أيضا والتلاشي، حين تفنى جميع الصور والأشكال، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. وبذلك ندرك جمال الصورة القرآنية، وقوة تأثيرها في النفوس، لأنها صورة تعتمد على الإيحاء القوي النافذ عبر حركة نامية صاعدة، تمضي بالمتلقي من المحسوس إلى المجرد ومن المحدود إلى المطلق ومن الجزئي إلى الكلي، وهذا الانتقال عبر هذه الدوائر يحرك عقل الإنسان ووجدانه، ويعمّق وعيه بواقعه من خلال هذه الطاقة الإيحائية للصورة المركزية، وقوة تأثيرها في الإنسان المخلوق. إن جمال الصورة القرآنية، يرجع إلى هذا التناسق بين أجزاء الصورة المفردة. وتناسق الصورة المفردة مع النسق العام، ثم في تناسق هذا البناء الفني القائم على التصوير في الأسلوب القرآني. حيث تصبح الصورة المركزية هي أوضح صورة، يهدف القرآن إلى التعريف بها فكل خطوط الصور وفروعها، تتركّز في خدمتها لتكون أكثر إيحاء وتأثيرا في توجيه المتلقي

أ - الصورة المفردة:

شعوريا وعقليا وسلوكيا. ويتضح من هذا العرض، أن الحكم على الصورة القرآنية من خلال الصورة البلاغية فقط يعد ناقصا أو قاصرا، لأن هذه الصورة الجزئية مرتبطة بالبناء التصويري العام في الأسلوب القرآني، تستمد منه حيويتها، وقوتها، فالعلاقة بينها وبين الصور الأخرى علاقة تفاعل، وتبادل للتأثر والتأثير. ولكن ظروف البحث، تقتضي بأن أفصل بين نوعي الصور القرآنية، لتسهيل الدراسة، والوقوف على طبيعة كلّ منهما على حدة، وأبدأ بالصورة المفردة أو البلاغية. أ- الصورة المفردة: وهي الصورة البلاغية القديمة. وقد قام البلاغيون بجهد كبير في دراستها، ووضع القواعد لها، وقد توقفت دراساتهم البلاغية، عند جزئية صغيرة فيها، تدور حول محورين هما: المشبّه والمشبّه به، فاهتدوا إلى بعض العلاقات اللغوية التي يمكن أن تقوم بين هذين المحورين الأساسيين، وتوصّلوا إلى مجموعة من الأسماء التي حاولوا أن يحصروا «الصورة» فيها، فكان هناك التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز بنوعيه المرسل والعقلي وبعض فنون البديع المعنوي. ومعظم الدراسات البلاغية القديمة، تدرس الصورة المفردة. مجردة عن سياقها، فتبين خصائصها ووظائفها معزولة عن الصورة العامة للنص، وهذه الدراسات مفيدة لفهم طبيعة الصورة الجزئية، ولكن الاقتصار عليها، وحصر الجهود فيها، وجعلها معيارا للجمال، يضرّ بالفهم الكلي للنص القرآني، ويضعف من إدراك فكرته التي جاءت الصورة تعبّر عنها في لحمة متماسكة ونسيج فني موحّد. إن إهمال دراسة السياق أو العلاقات القائمة بين الصور يضعف من قيمة الصورة، وقد لاحظ ذلك عبد القاهر الجرجاني حين حاول ربط الصورة بالنسق في نظرية النظم، وهو ما يقوم به النقد الحديث من دراسة الصورة من خلال مفهوم النسق ضمن العلاقات المتعددة التي يقوم عليها النص. وليس معنى هذا أني أقلّل من جهود البلاغيين، أو أدعو إلى نبذها ودفنها، وإنما أريد أن

أوضّح أنهم قاموا بوضع الأسس والقواعد لعلم البلاغة، وفق ظروف عصرهم، وما فيه من أذواق ومقاييس. وجهودهم في هذا الميدان كبيرة، ويبقى علينا أن نتابع الخط الذي سلكوه، ونتدارك التقصير الذي وقعوا فيه، فنحاول إنقاذ البلاغة العربية من قواعد السكاكي والقزويني، تلك القواعد الصارمة الجافة، التي أفقدتها روحها وبهاءها وتأثيرها وجعلتها علما جافا، بعد أن كانت فنا قائما، ولا بدّ الآن من إعادتها من جديد إلى إطار الفن، لتصبح «فنون البلاغة» بدلا من «علوم البلاغة». وإذا كان البلاغيون قد وفقوا، عند الصورة الجزئية، فيجب علينا أن نتابع السير، ولا نتوقف في فهم الصورة، عند تلك الحدود الجزئية، بل نربط الصورة الجزئية بالنسق، فننظر إليها من خلال البناء التصويري العام، فتبدو فيه الصورة الجزئية لبنة من لبناته، تؤدي وظيفتها ضمن البناء العام أو الصورة الكلية. كما نربط الصورة بالشعور أو النفس، وبالفكرة، لأن الصورة الخالية منهما، صورة جافة باردة أو صورة مزركشة شكلية. فنحن ننطلق من البلاغة القديمة، ولكننا لا نتوقف عند حدودها، لأن الدراسات النقدية والبلاغية في تقدم مستمر في الكشف عن خصائص فن القول، والأسلوب التصويري المؤثر. بهذه النظرة الموضوعية، ننطلق في تقدير جهود البلاغيين القدماء، ونفهم البلاغة القديمة، ولا نجري وراء المتعصبين ضدها ممن تغذّوا بالأفكار الأوربية، ويريدون منّا أن ننسى تلك الجهود العظيمة، ونلقي بالبلاغة القديمة وراء ظهورنا، لأنها بزعمهم تثير مشاكل عدة مثل المشابهة، والبناء المنطقي، والرؤية الثنائية، والجمود «1». فالتشبيه- في رأي الدكتور نعيم اليافي- «قد جرّ على الفن الكثير من المساوئ أكثر مما جلب إليه الحسنات» «2»، لأنه برأيه «أقرب إلى التعبير الإشاري المباشر منه إلى التعبير المصور» و «أقرب إلى التعبير النثري»، ولأنه أيضا «يبقي اللغة في المستوى العادي» و «أبنية

_ (1) مقدمة لدراسة الصورة الفنية: ص 53 - 66. (2) تطور الصورة الفنية في الشعر الحديث: د. نعيم الباقي ص 54.

لا تكاد تختلف». والسبب في ذلك يرجع برأيه إلى طبيعة التشبيه ذاته، لأنه يقوم على الفصل بين المركبين المشبه والمشبه به، وإقامة المشابهة والعلاقة الذهنية بينهما «3». وهذه نظرة فيها مغالاة، لأن التشبيه أسلوب من أساليب البيان، استخدمه القرآن الكريم، وإذا كان البلاغيون قد قصّروا في فهمه، فلا يعني هذا نسفه من أساسه، والهجوم عليه. ويأخذ الدكتور مصطفى ناصف على العرب مغالاتهم في تقدير التشبيه، وإعلاء مكانته، ويرجع هذه الفتنة بالتشبيه إلى المنهج العربي المحافظ الذي يحفل بالروعة والجلال. كذلك يأخذ على النقاد العرب اهتمامهم بالجانب التقديري فيه، دون البحث في قيمته، وانصرافهم إلى وضع القواعد الصارمة، والتقسيمات العقلية التي تسوّي بين الدلالة الأدبية، والتعريفات المنطقية. ويرجع مصطفى ناصف نظرية التشبيه عند العرب إلى نظرية الفن القائمة على «التجريد» لذلك اهتم البلاغيون والنقاد بالتناظر والتقابل في التشبيه، بدافع التجريد المعروف في الزخارف الإسلامية والذي يكره الفراغ في الفن «4». ولكن الدكتور ناصف- على الرغم من هجومه على نظرية التشبيه عند العرب- كان منصفا في نظرته إلى الصورة القرآنية فقد أرجع قصور البلاغيين القدماء وضيق فهمهم للتشبيه إلى عدم استفادة العرب من الأسلوب القرآني في نظرتهم إلى التشبيه. فهم «لم يستلهموا روح القرآن في التصوير، ولو فعلوا، لأنكروا تعدد التشبيه وقلبه، والبعد والغرابة، والاستطراف، والمفاضلة بين البليغ وغير البليغ» «5». فالتفاوت كبير جدا بين «الصورة القرآنية» وأذواق البلاغيين والنقاد، الذين ظلّوا في إطار الصورة الجزئية الحسية، ولم يرتقوا في قواعدهم إلى آفاق الصورة القرآنية التي تجمع بين الحسية والنفسية، والجزئية والكلية ... والسبب- في رأي الدكتور عصام قصبجي- يرجع إلى «أن صلة النقاد بتقاليد الشعر الجاهلي كانت أعمق من صلتهم بالتصوير القرآني» «6». فعلى الرغم من أن القرآن الكريم كان مصدر العلوم الإسلامية، إلا أن النقد والنقاد

_ (3) تطور الصورة الفنية في الشعر الحديث: ص 52. (4) الصورة الأدبية: ص من 46 - 71. (5) المصدر السابق: ص 72. (6) نظرية المحاكاة في النقد العربي القديم: د. عصام قصبجي. ص 100.

كانوا يضعون مقاييسهم النقدية بعيدا عن روح الأسلوب القرآني، لذلك كانت العناية بالظواهر الحسية، في الصورة، والعلاقات العقلية، والقواعد الصارمة، التي انتهت إليها البلاغة القديمة. فقد نظر القدماء إلى التشبيه من خلال العلاقة بين المشبه والمشبه به، والتناسب الظاهري بينهما، وليس التناسب النفسي، واشترطوا التمايز بين الطرفين. ورفضوا فكرة التفاعل بينهما، وحرصوا على وضع الحدود والقواعد بينهما حتى لا يتم هذا الامتزاج أو هذا التفاعل. فقد رأى قدامة بن جعفر أن الشيء لا يشبه غيره من جميع الوجوه إذ لو «تشابها من جميع الوجوه ولم يقع بينهما تغاير البتة، اتحدا، فصار الاثنان واحدا» «7»، ويكرر أبو هلال العسكري، فكرة قدامة هذه لأنه «لو أشبه الشيء الشيء من جميع جهاته لكان هو هو» «8»، لذلك راح القدماء يكرسون جهودهم في البحث عن التناسب المنطقي بين طرفي التشبيه، والصفات المشتركة بينهما فإذا كان المشبه يشبه المشبه به في أكثر صفاته، اعتبر هذا التشبيه حسنا وجيدا. يقول ابن سنان: «الأحسن من التشبيه أن يكون أحد الشيئين يشبه الآخر في أكثر صفاته ومعانيه، وبالضدّ حتى يكون رديء التشبيه ما قلّ مشبهه بالمشبه به» «9». فنظرة القدماء للتشبيه. تركّز على المشابهة بين الطرفين، والتطابق الخارجي بينهما، دون البحث عن القيمة النفسية للأشياء كما يقول جابر عصفور «10». حتى إن المطابقة الخارجية بين طرفي التشبيه، أصبحت معيارا على صدق التشبيه وحسنه، بحيث لو عكس التشبيه، ظل التشبيه صحيحا. يقول ابن طباطبا: «فأحسن التشبيهات ما إذا عكس لم ينتقض، بل يكون كل شبه بصاحبه مثل صاحبه، ويكون صاحبه مثله مشتبها به صورة ومعنى» «11». وقد طبق ابن ناقيا البغدادي هذا المعيار على التشبيه الوارد في قوله تعالى:

_ (7) الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي: ص 192 عن نقد الشعر لقدامة ص 108. (8) كتاب الصناعتين: ص 262. (9) سر الفصاحة: ابن سنان الخفاجي ص 237. (10) الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي: ص 193. (11) عيار الشعر: ابن طباطبا ص 11.

وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ الرحمن: 24، وقال عنه بأنه حسن، لأنه يصح على العكس وقلب المشبه بالمشبه به «12». وقد نجد اختلافا قليلا عند الرّماني، في فهمه للتشبيه، لأنه اعتمد على القرآن الكريم في استشهاده له. فهو يتحدث عن التشبيه الحسي، والتشبيه النفسي، ويقصد بالتشبيه النفسي، ما كان طرفاه معنويين، وبالحسي ما كان طرفاه حسيين، لكنه لم يتعرض للتشبيه الذي يكون أحد طرفيه حسيا والآخر عقليا، لأنه كان مشغولا في رسالته الصغيرة حول الإعجاز بوضع القواعد الأساسية عن التوغل في الجزئيات الدقيقة. ويربط التشبيه ببقية أجزاء الكلام، ويركّز على وجه الشبه في إخراج الأغمض إلى الأوضح يقول الرماني: «والتشبيه البليغ إخراج الأغمض إلى الأظهر بأداة تشبيه مع حسن التأليف» «13». فهو يلاحظ ارتباط التشبيه، ببقية أجزاء الأسلوب، وهذا رأي له قيمته النقدية، لأنه يعد بذور فكرة النظم التي بلورها الجرجاني فيما بعد. كما أن الرماني يركّز على وجه الشبه في تحليله للشواهد القرآنية، ويدرك الدلالة النفسية للتشبيه أحيانا. ففي قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً النور: 39 يعلق الرماني على التشبيه بقوله: «ولو قيل يحسبه الرائي ماء ثم يظهر أنه خلاف ما قدر لكان بليغا، وأبلغ منه لفظ القرآن لأن الظمآن أشد حرصا عليه، وتعلق قلب به» «14». وقد توسّع عبد القاهر الجرجاني في شرح التشبيه فقسمه إلى نوعين: ما يدرك بدون تأويل، لوضوحه وسهولة إدراكه، كتشبيه الخد بالورد، وما يدرك بتأويل كتشبيه الحجة بالشمس ويفرق بين التشبيه والتمثيل، فيرى أن التمثيل هو ما يدرك بتأويل، وهو درجات أيضا، فمنه ما يقرب إدراكه، ويسهل فهمه مثل حجة كالشمس، ومنه ما يحتاج إلى التأمل لإدراكه كقولهم ألفاظ كالماء، ومنه ما يدق ويغمض ويحتاج إلى التفكير لإدراكه لخفائه، وهو

_ (12) الجمان في تشبيهات القرآن: ابن ناقيا البغدادي ص 315. (13) النكت في إعجاز القرآن: ص 75. (14) المصدر السابق: ص 75.

مقصور في إدراكه على خاصة الناس «15». ويركّز الجرجاني على الجانب العقلي في التشبيه من خلال تقسيمه له إلى ما يدرك بتأول، وما يدرك بدون تأول، وتفضيله «التمثيل» على التشبيه، لأنه يحتاج إلى جهد وتفكير عقلي لإدراكه، ويتضح ذلك أيضا في تعليله لجمال التشبيه القائم على الجمع بين المتباعدات، لأن الأشياء المشتركة في الجنس والنوع، تستغني بثبوت المشابهة فيها، أما الجمع بين المختلقات فإنه يقوم على مشابهة لها أصل في العقل ولكنها خفيفة لا يدركها إلا الخاصة «16». لهذا اعتبر «التفصيلات» في التشبيه، تدل على العمق، وإدراك العلاقات الدقيقة، ومعرفة النادر الذي لا يدرك إلا من قبل الخاصة. يقول الجرجاني: «وجملة القول إنك متى زدت في التشبيه على مراعاة وصف واحد أو جهة واحدة، فقد دخلت في التفصيل والتركيب، وفتحت باب التفصيل، ثم تختلف المنازل في الفضل بحسب الصورة في استفادك قوة الاستقصاء، أو رضاك بالعفو دون الجهد» «17». ويرجع الجرجاني إعجاب المتلقي بالتشبيه إلى الجمع بين المتباعدات فيه، لأنها تحدث في نفسه الدهشة والاستغراب والإعجاب يقول: «إذا استقريت التشبيهات وجدت التباعد بين الشيئين كلما كان أشد، كانت إلى النفوس أعجب، وكانت النفوس لها أطرب، وكان مكانها إلى أن تحدث الأريحية أقرب» «18». ولكن إعجاب المتلقي بالتشبيه لا يرجع إلى الجمع بين المتباعدات فقط كما ذهب الجرجاني، وإنما يرجع إلى شعوره بالمعرفة الجديدة التي تزيده خبرة، وفهما لحقائق الأشياء أيضا. وهكذا يجري القدماء في التشبيه وراء التطابق الشكلي، دون أن يتجاوزوه إلى التناسب النفسي فجاء إعجابهم ببيت ابن المعتر: انظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر منسجما مع نظرتهم الشكلية الحسية للتشبيه، فالتطابق في هذا البيت تطابق شكلي،

_ (15) أسرار البلاغة: ص 70 - 75 بتصرف. (16) المصدر السابق: ص 108 - 109. (17) المصدر السابق: ص 156. (18) المصدر السابق: ص 109.

وقد وفّق الشاعر فيه، ولكنه لم يوفّق في التطابق النفسي، لأن صورة الهلال في السماء تثير مشاعر إنسانية تختلف عن المشاعر التي تثيرها صورة الزورق الفضي المثقل بالعنبر التي تعبر عن حياة ابن المعتز المترفة. إن القواعد التي وضعها القدماء للتشبيه ضرورية ولكنها غير كافية، ضرورية لتحقيق الانسجام والتناسق بين عناصر الشكل الأدبي، وغير كافية، لأنها لا بدّ أن ترتبط بالشعور الذي يمنحها الحيوية والقوة وهذا ما تحققه الصورة القرآنية التي جمعت بين التناسق الشكلي، وبين التناسق النفسي، بحيث لا يمكن الفصل فيها بين الشكل والمضمون، أو بين العقل والشعور. ولو أن النقاد والبلاغيين القدماء استفادوا من طريقة القرآن التصويرية ما وقفوا عند التناسب الشكلي فقط في الصورة التشبيهية بل ربطوا بين الشكل والمضمون، ولم يفصلوا بينهما. يقول الدكتور مصطفى ناصف بهذا المعنى: «والمحقّق أن براعة المجاز القرآني لم تصوّر تصويرا مشرفا في عصر من العصور، وأن القرآن لم يتذوق تذوقا خالصا، ولو فعلوا لما قالوا: إن التشبيه الأدبي يقوم على المشاركة بين الأشياء في ظواهرها، وألوانها، وأقدارها ... » «19». وإذا تأملنا الصورة التشبيهية في القرآن، نلاحظ أنها تستمد عناصرها من عالم الإنسان والنبات والحيوان والجمال، فالمشبه به هو «السراب، والماء، والبحر، والظلمات، والرماد، والحجارة، والعهن، والجراد، والفراش، والهباء المنثور، والوردة، والمهل، وأعجاز النخل، والهشيم المحتظر، والعصف المأكول، والرميم، والغثاء، والمهاد، والأوتاد، والعرجون القديم، والنور، والصم، والبكم، والعمي، والحمار، والكلب، واللؤلؤ، والبنيان المرصوص، والريح، والسنبلة ... إلخ». وهذه الصور محسوسة، وعناصرها باقية على مر الأزمان، وهي متجددة ومتنوعة، وحيّة في النفوس، تتفاعل معها وتتأثر، وهي قريبة مدركة، كذلك فإن المشبه متنوع في الصورة فهو الحياة الدنيا، والأرض والسماء، والشمس، والقمر، والموج، والجبال، والأصنام،

_ (19) الصورة الأدبية: ص 86.

وأحوال الكافرين، وأعمالهم ... إلخ. ونضرب بعض الأمثلة من القرآن الكريم، لندرك التناسب الظاهري والتناسب النفسي معا في الصورة التشبيهية والتي كان يمكن للبلاغيين القدماء أن يستفيدوا منها في أثناء وضعهم للقواعد البلاغية، ولو فعلوا ذلك لتغيرت النظرة إلى البلاغة القديمة، وبقيت فنا قائما، ومعيارا نقديا لتقويم الأعمال الناجحة. يقول الله تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ يس: 39. فهذه الصورة التشبيهية، يلاحظ فيها التناسب الشكلي والتناسب النفسي معا، فتشبيه القمر في آخر الشهر بالعرجون القديم، غنيّ بالدلالات النفسية، والإيحاءات الشعورية، وليس مقصورا على المشابهة أو المطابقة في الشكل فحسب كما يرى القدماء، وإنما هناك التناسب النفسي بين المشبه والمشبه به أيضا. من ذلك أن العرجون القديم لا يلتفت إليه، كذلك القمر في آخر الشهر، ومنها أن كلا من القمر والعرجون القديم كان محط الاهتمام والأنظار في الماضي، العرجون لثمره، والقمر لضيائه، ومنها هذه النهاية لكل منهما، في الأفول والزوال والفناء بعد رحلة طويلة من العطاء والتعلّق بهما. فصورة القمر تثير في النفس المشاعر نفسها التي يثيرها العرجون القديم، من حيث النمو والتحوّل، ثم الزوال والعدم والتناسب في الشكل ملحوظ في هذا النمو والتحوّل بين طرفي التشبيه، كما أن التناسب النفسي ملحوظ أيضا في نمو المشاعر الإنسانية وتطورها، بحسب كل مرحلة لهما، وتبقى هناك وراء هذه الصورة الحسية، دلالة دينية. تلقي بها هذه الصورة في مخيلة القارئ. وهي أن صورة الإنسان في هذه الحياة تشبه هذه الصورة الحسية، في الكون والنبات في نموّها وتحوّلها من الضياء والعطاء إلى الأفول والزوال. ولا يقتصر التناسب الشكلي والنفسي في الصورة القرآنية على التشبيه المفرد. كما تقدم، وإنما هو سمة بارزة في أنواع التشبيه الأخرى، والصورة القرآنية عموما. يقول الله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى، فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ، وَما كانُوا مُهْتَدِينَ، مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ، أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ، يَكادُ الْبَرْقُ

يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ البقرة: 16 - 20. ففي هذه الآيات تشبيهان مركبان أو تمثيليان، ففي التشبيه الأول، يصور القرآن المنافقين وحيرتهم واضطرابهم وقلق نفوسهم، فقد كانوا في ظلمة الكفر فآمنوا ظاهرا، فأوقدت لهم نار، فأضاءت ولكنهم سرعان ما عادوا إلى ظلمات التخبط والكفر، فالتناسب في الصورة واضح بين ظلمة الظاهر، وظلمة باطن النفوس، فأسند ذهاب النور إلى الله، ليفيد معنى الإزالة الكاملة للضياء، ثم جمع «الظلمات» ثم قال لا يُبْصِرُونَ وذلك لتأكيد معنى كثافة الظلمات الظاهرية لتناسب ظلمات نفوسهم القاتمة. وفي التشبيه الثاني يصورهم بمن أحاط بهم صيّب من السماء، شديد كثيف، تحجب كثافته الرؤية، ثم فيه رعد، وبرق، يثيران الهول والفزع، فيحاولون إدخال أصابعهم كلها في آذانهم للهروب من صوت الرعود القاصفة، والصواعق النازلة. ثم يصوّر اضطرابهم وقلقهم من خلال رصد حركتهم السريعة كلما لمع البرق والتناسب الظاهري والنفسي ملحوظ في عناصر التشبيه، كما هو واضح في البناء والتركيب فكلمة (صيب) تفيد شدة الانصباب، كانصباب الهول فوق رءوسهم، وتصويرهم يحاولون إدخال الأصابع في آذانهم يعبر عن حالة نفسية خائفة مرتجفة. وفي قوله كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ تصوير لحالتهم النفسية التي تنتهز الفرصة للإفلات من الهول المرعب. والتعبير ب قامُوا في قوله وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا أدق في التصوير من وقفوا لأن قامُوا توحي بالرغبة في الإفلات والهروب والبقاء في حالة الاستعداد الدائم، انتظارا للفرصة كما أنها ملائمة لجوّ السياق المتحرك على عكس وقفوا فهي توحي بالجمود والثبات، والسياق كله حركة ملحوظة في انصباب الصيّب، ولمعان البرق، وحركة الأصابع في الآذان، ومحاولة الإفلات والهروب، بالإضافة إلى الحركة في داخل النفوس الخائفة في مثل هذا المشهد المخيف. وأحيانا يكون التناسب النفسي هو الرابط بين طرفي التشبيه، زيادة في تحريك الخيال، كقوله تعالى: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ الصافات: 64 - 65، فصورة الشجرة النابتة في أصل الجحيم صورة غريبة غير محسوسة، تناسبها صورة رءوس الشياطين.

فالتناسب هنا بين الطرفين غير مدرك بالحواس، لأننا لا نعرف شيئا عن هذه الشجرة الغريبة التي تنبت في أصل الجحيم، وطلعها كأنه رءوس الشياطين، إنها شجرة مختلفة عن الأشجار الأخرى المعروفة، فهي شجرة غريبة ومنفّرة، فناسبتها صورة رءوس الشياطين الغريبة والمنفرة أيضا. ورءوس الشياطين غير مدركة بالحواس ولكن ما ترسب في النفس من كراهيتها، والنفور منها عند الناس، جعلها صالحة للتشبيه بها فالتناسب هنا بين الطرفين، تناسب نفسي، يستمد معينه من التخيل، والأثر النفسي الذي تتركه الصورة قوي الإيحاء، عميق الدلالة. وهذه الصورة ليست شكلية حسية، وإنما هي تخييلية ذات أثر نفسي. لهذا فهي تفتح آفاقا واسعة لخيال المتلقي، ليتصور ماهية الشجرة الغربية، ولا يهدأ خياله من تصورها حتى يبدأ بتصور «رءوس الشياطين» فيتحقق الغرض من التصوير في التخويف من عذاب الله. والقرآن الكريم مصدر ثري، للصورة الفنية التي تجمع بين التناسب الشكلي والتناسب النفسي معا، وهو مثال يحتذى في التصوير والتأثير، ولكن النقاد لم يستفيدوا منه في هذا المجال «لأنهم لم يجدوا في تقسيماتهم المنطقية التعميمية ما يصلح لخصوصيات القرآن الرفيعة، فظلت هذه الخصوصيات بمنأى عن أيديهم، وعن قواعدهم الصارمة» «20». وإذا انتقلنا إلى الاستعارة، نجد أنها تعتمد على المشابهة أيضا، ولكن المشابهة فيها لا تقوم على ثنائية ملحوظة كما في التشبيه، وإنما تعتمد على التفاعل القوي بين طرفي التشبيه إلى درجة الصهر في مركب جديد، نطلق عليه اسم «الاستعارة». لذلك يكون الخيال في الاستعارة نشيطا وكبيرا، وبخاصة في الاستعارة المكنية التي يكون فيها الانصهار أكبر من الاستعارة التصريحية، لأن «المكنية» تعتمد على التشخيص أو التجسيم بينما التصريحية تقوم على الاستبدال من لفظ لآخر. ولكنّ القدماء نظروا إليها من خلال العلاقة بين «الحقيقة والمجاز» «21»، فجاءت تعريفاتهم لها مشتركة في مفهومي «النقل والعلاقة أو المشابهة» «22»، فدارت أبحاثهم حولها من خلال

_ (20) الصورة بين البلاغة والنقد: ص 21. (21) انظر آراء العلماء في المجاز في كتاب «المجاز في البلاغة العربية: الدكتور مهدي صالح السامرائي. ص 143 - 163. (22) معجم المصطلحات البلاغية وتطورها: الدكتور أحمد مطلوب ج 1 ص 138 - 141.

هذين المفهومين، ومن خلال الأعراف اللغوية القائمة، والتناسب المنطقي. ولم يدركوا ما في الاستعارة من تداخل وتفاعل وصهر وإعادة تشكيل للمعنى «23»، باستثناء الجرجاني الذي نظر إليها من خلال مفهوم «الادّعاء» وليس من مفهوم النقل اللفظي، فقد رأى صعوبة تصور نقل الكلمة من معناها الأصلي، ونحن نقصد معناها في الوقت نفسه، لذلك استبعد «النقل» من مفهوم الاستعارة، وأكّد مفهوم «الادّعاء» فيها. يقول الجرجاني عن الاستعارة: «إنما هي ادّعاء معنى الاسم للشيء لا نقل الاسم عن الشيء» «24». فالجرجاني يرى أن الاستعارة تترجم المعنى، وليست تفاعلا لتشكيل المعنى الجديد، لذا حرص على التمايز والادعاء بين طرفي العلاقة والتناسب والمشابهة فنظر إليها كما نظر إلى التشبيه من خلال المنطق العقلي. وإذا كان التشبيه يقوم على القياس والمشابهة بين حدين واضحين، فإن الاستعارة تتجاوز هذه المشابهة لادعاء دخول المشبه في المشبه به، «فتضع اللفظ بحيث تخيل أن معك نفس الأسد والبحر والنور كي تقوي أمر المشابهة وتشدده» «25»، فالاستعارة- عنده- ليس نقلا للفظ عن معناه الأصلي، وإنما تخييل بأنه قد صار إلى غير جنسه، ولكن عبد القاهر رأى أن ادعاء دخول المشبه في المشبه به لا يقصد بهذا الادعاء أن المشبه يشبه المشبه به في كل شيء، وإنما في صفة معينة، وهذا يعني أن الجرجاني، عاد من جديد إلى رأي البلاغيين في نقل اللفظ عمّا وضع له في الأصل «26». فنظرة القدماء للاستعارة ظلّت تقوم على مفهوم «النقل» وثنائية المنقول منه والمنقول إليه، ولم ينظر إلى طرفي الاستعارة على أساس التفاعل بينهما، بحيث يقوم كلا الطرفين، بدورهما في الاستعمال الاستعاري. فالمستعار والمستعار له يجتمعان في لفظ الاستعارة، ولا يترك أو ينسى واحد لحساب الآخر عند الدكتور مصطفى ناصف الذي يرى أن الاستعارة وليدة التفاعل بين المستعار والمستعار له، لتوليد المعاني «27».

_ (23) الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي: ص 225 - 240. (24) دلائل الإعجاز: ص 437. (25) أسرار البلاغة: ص 210. (26) المصدر نفسه: 47 - 48. (27) الصورة الأدبية: ص 142.

ويوضّح طبيعة التفاعل بين الطرفين بقوله: «إن الاستعارة عبارة عن فكرتين اثنتين، عن شيئين مختلفين تعملان خلال كلمة أو عبارة واحدة، تساندهما معا، ومعنى هذه الكلمة أو العبارة هو الناتج عن تفاعلهما» «28». لذلك يصعب استخراج طرفي الاستعارة لما بينهما من تفاعل مستمر. وقد أدرك الزمخشري من قبل هذه الصعوبة فاختار مصطلح «التخييل» لكي يبقى على التفاعل المستمر بين طرفي الاستعارة «29». كذلك فإن الدكتور ناصف يرى صعوبة تحليل الاستعارة على أساس الطرفين المختلفين، لأن الطرفين فيها يتفاعلان حتى غدت «الاستعارة هي الحقيقة وأصبح تحليلها غير ممكن» «30». من هنا ندرك أن تقسيم الاستعارة إلى تقسيمات عقلية، أو تحليلها إلى أجزاء مكونة لها، أو إجرائها على طريقة القدماء من خلال الرؤية الثنائية للعلاقة بين الحقيقة والمجاز، كل ذلك يفقدها حيويتها وتأثيرها ويجردها من سياقها، وفاعليتها، ويجعلها جزئية مفككة، وهي في حقيقتها وحدة منسجمة، يتفاعل فيها المستعار والمستعار له، لتوليد المعنى المراد، فهي طريقة فنية مثيرة للخيال، والفكر والشعور وقد تميّزت استعارات القرآن بأنها تمزج بين حدّي الاستعارة، لتشكيل المعنى الجديد، كما أنها متنوعة تجري على ألوان مختلفة لاستفاد ما في اللغة من طاقة تصويرية. وقد يكون الاستعمال الاستعاري في القرآن، قريبا من الإدراك، لقرب الاستعمال الحقيقي للكلمة من الاستعمال المجازي. كقوله تعالى: وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً الأعراف: 168، والتقطيع في الآية هو التفريق، ولكن المعنيين متقاربان، يتفاعلان في الاستعمال الاستعاري للإيحاء بتقطيع الرواب الاجتماعية، التي كانت متلاحمة ومتماسكة، وتقطيع الروابط النفسية المصاحبة لتلك الروابط الاجتماعية. وكأن التقطيع هنا لإفادة استئصال الروابط الاجتماعية والنفسية المصاحبة لها. وقد يستعمل القرآن الكريم لفظ «مزّق» بدلا من قطّع، للإيحاء بالتمزيق الحسي أو المادي،

_ (28) نظرية المعنى في النقد العربي: د. مصطفى ناصف ص 86. (29) الصورة الأدبية: ص 87 - 88. (30) المصدر السابق: 133.

مع بقاء المعاناة النفسية بعد التمزيق والتفريق كقوله تعالى فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ سبأ: 19، فالتمزيق هنا يوحي بانتزاع القوم من الجسم الحي للجماعة، وشدة معاناتهم النفسية بهذا التمزيق، لأن روابط القربى والمودة قائمة وممتدة ولكن التمزيق هو الذي شق هذه الروابط، وفرّقها مع بقاء الروابط النفسية، وذلك للإيحاء بتعذيبهم نفسيا بهذا التمزيق والتفريق. فالاستعارة في القرآن، فيها التفاعل بين حدي الاستعارة، والتفاعل مع السياق الواردة فيه، لتحقيق التناسب الشكلي والنفسي في الصورة لذلك كان لفظ التمزيق هنا، ولفظ التقطيع في الآية الأولى، زيادة في الدقة في أداء المعنى، على الرغم من التقارب بين اللفظين، والقرآن الكريم يستثمر هذه الفروق اللغوية في التصوير الفني، لتحقيق أغراضه الدينية من خلال هذا التصوير الدقيق. وقد يعتمد الاستعمال الاستعاري على «التجسيم الفني» لأنه أكثر جاذبية، وأعمق تأثيرا، وأكثر إثارة للخيال، لذا يكثر القرآن الكريم من عرض المعاني في صور مادية مجسّمة، بحيث تراها العين، ويتملّاها الخيال. مثال ذلك قول الله تعالى: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً البقرة: 250، فالصبر وهو شيء معنوي يصبح مادة مجسمة، بحيث يفرغ في قلوب المؤمنين، فيزيل ما في نفوسهم من ألم وشدة وكرب وخوف. وفي قوله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ الأنبياء: 18، فالحق هنا يعرض في صورة مادية مجسّمة، يقذف به فوق الباطل، فيعلوه فيزيله، وبالمقابل فإن الباطل قد جسّم في صورة مادية محسوسة ولكنها صورة هشة هزيلة ضعيفة. سرعان ما تتهاوى أمام ضربات الحق في لحظة المواجهة. وقد تعتمد الاستعارة على التشخيص وهو خلع الحياة على الأشياء الجامدة، والظواهر الطبيعية، والانفعالات الوجدانية وتشخيص مظاهر الوجود، والمشاهد الطبيعة، يثير في النفس معاني الجمال والفن، لأن النفس تأنس بما حولها حين ترى الأشياء الجامدة، ناطقة شاخصة، ومن ذلك قوله تعالى: إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ الملك: 7، فالنار تعرض هنا حية شاخصة، تكظم غيظها، ولكنّ أنفاسها مسموعة في شهيقها وزفيرها، وحنقها على الكافرين، وغيظها منهم. والكواكب السيارة تعرض شخوصا متحركة في قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوارِ

الْكُنَّسِ، وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ التكوير: 15 - 18. فالتعبير القرآني يخلع الحياة على الكواكب السيارة فإذا هي ظباء رشيقة، تجري وتتحرك، وتختبئ في كناسها، ثم ترجع في جهة أخرى وهكذا هي في حركتها المنظورة، دائمة الظهور والاختفاء، والليل أيضا شخص يتحرك، يعسّ في الظلام، والصبح أيضا حي، يتنفس كما يتنفس الأحياء، ولكن عن الحركة والضياء والحياة. وقد يدخل عنصر «الترشيح» على الاستعارة، ليزيد من تفاعل حدّيها، وتناسي التشبيه بينهما، لتقوية المعنى المقصود كقوله تعالى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ التوبة: 109. ويلاحظ في هذه الصورة الاستعارية، أنه حين استعمل الجرف الهاري، في التعبير عن الباطل، رشّحه بقوله: فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ بمعنى أنه هوى به في أودية جهنم، فجاء بلفظ فَانْهارَ الذي هو للجرف ليصور أن المبطل أسس بنيانه، على شفا جرف من النار، فانهار به في جهنم مباشرة، دون فاصل بين تأسيس البنيان على الباطل وبين الانهيار في النار، لهذا جاء العطف بالفاء ليفيد التعقيب والترتيب بين المقدمة والنتيجة، أو بين الباطل والنار، وبهذا تتضح العلاقة الوثيقة بين الاثنين في التصوير والتعبير والتأثير. وقد تكون الاستعارة «تمثيلية» كقوله تعالى: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها آل عمران: 103. فقد كانوا قبل الهدى والإيمان، يطاردهم الموت، حتى يوشك أن يخطفهم، ويرميهم في العذاب، ولكن الله أنقذهم من هذا المصير بالإيمان والهدى. فقد صوّرهم القرآن قبل الإيمان على حافة النار، وكادوا يسقطون فيها، فجاء الإنقاذ بالإيمان في اللحظة المناسبة، والصورة مليئة بالدلالات المعنوية والفنية، حيث نلاحظ دقة التصوير في قوله عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ الذي يتسم بالحركة والحذر، والانفعالات الوجدانية في مثل هذا الموقف، بالإضافة إلى الدلالة على قرب النار من أهل الزيغ والضلال حيث لا يفصلهم عنها إلا حركة واحدة متوقعة، تهوي بهم في قعر جهنم. وقد تقع الاستعارة «في الحروف» وهذه الاستعارة كما يقول الدكتور محمد أبو موسى، تبعث صورا مستحسنة في التعبير، وتعطي التركيب عمقا وخصوبة في مدلوله. وهذا اللون

من الاستعارة لم يلتفت إليها كثير من البلاغيين قبل الزمخشري «31». ففي قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ البقرة: 5 صورة حية، واضحة المعالم، تعتمد على تمثيل حال المهتدي في ثباته وتمكنه من الحق ولزومه إياه، بالراكب على جواد، فاستعيرت هذه الهيئة للدلالة على حال المؤمنين، واكتفى التعبير القرآني باستخدام الحرف «على» الذي يوحي بالتمكن من الشيء والثبات عليه فالحرف هنا هو الذي يكوّن الصورة المرسومة في المخيّلة، وهذا كثير في الأسلوب القرآني ومنه قوله تعالى: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ الأعراف: 66، فحرف الجر «في» يفيد الظرفية، وتركيبه في هذا السياق يوحي بصورة حية للضال الذي انغمس في الغي والسفاهة حتى لا يكاد يبصر. وهكذا لاحظنا كيف أن الصورة القرآنية، مرتبطة بالسياق، الواردة فيه، لأداء الغرض الديني من وراء التصوير ولكن الصورة القرآنية ليست صورة شكلية وإنما هي فنية متولّدة من تفاعل عناصرها، وتلاحم الشكل بالمضمون، والفكر بالشعور، والغرض الفني بالغرض الديني، وهذا ما جعلها تكتسب هذه الخصوصية المتميزة في التعبير والتصوير والتأثير الديني. ونلاحظ هذا أيضا في الصورة القائمة على المجاز، والمجاز له أهمية في التعبير الفني، لارتباطه بالصورة وأنواعها، ولكنه أسيء فهمه حين وضع في مقابل الحقيقة، حتى أصبح للكلمة دلالة حقيقية لغوية، ودلالة مجازية فنية، عند القدماء، ولم يكتفوا بذلك بل قيّدوا الدلالة المجازية بالعلاقة والقرينة لتبقى الدلالة الحقيقية للكلمة، حماية للغة من العبث والفوضى التعبيرية. لهذا اختلف العلماء في ورود المجاز في القرآن الكريم، بين مؤيد ومعارض، بعد أن توهم المعارضون بأن المجاز قرين الكذب، ويناقض الحقيقة، وأن اللجوء إليه دليل العجز عن التعبير الحقيقي «32». والحق أن المجاز ظاهرة فنية في كل اللغات، وهو في اللغة العربية أوضح من غيرها، لأنّ العربية هي «لغة المجاز» كما يقول عنها العقاد «33»، ولكن المجاز لا يوضع في مقابل

_ (31) التصوير البياني: د. محمد أبو موسى. ص 223 - 224. (32) المجاز في البلاغة العربية: ص 143 وما بعدها. (33) اللغة الشاعرة: ص 26.

الحقيقة، وإنما هو طريقة خاصة في التعبير عن الحقيقة ذاتها وقد كانت كلمة «المجاز» تعني الطريقة في التعبير عند أبي عبيدة في أول نشأتها «34»، ولكنها وضعت فيما بعد في مقابل الحقيقة عند ما وضعت القواعد البلاغية الصارمة المعتمدة على الحدود المنطقية، والتقسيمات العقلية. فالمجاز هو طريقة فنية في التعبير عن الحقيقة، وهذه الطريقة، تثري اللغة، وتنمّيها، وتزيل عنها الرتابة التعبيرية كما أنها طريقة مثيرة لخيال المتلقي، ومؤثرة في نفسه، فهي تلفت المتلقي إلى خروج التعبير عن المألوف فتحرك خياله، وتنشط ذهنه، ليدرك العلاقات الجديدة في التعبير المجازي. وفي بحثي هذا لن أركّز على التمييز بين نوعي المجاز (المرسل والعقلي) ولن أبحث عن العلاقة في كليهما، حتى لا أقع بما انشغل به البلاغيون القدماء حتى أضاعوا جمال الصورة الفنية التي يرسمها المجاز بنوعيه، وإنما سأركز على طريقة المجاز في رسم صور فنية. حين عدل التعبير عن المألوف إلى تعبير تصويري، ولا يرجع ذلك إلى تقدير المحذوف حتى يصحّ الإسناد، وإنما إلى هذا التعبير الخاص المصوّر المتفاعل مع الفكرة والسياق، كما بينت في حديثي عن الاستعارة. فقوله تعالى: ... وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً نوح: 7. فالصورة هنا، مرتبطة بالسياق الواردة فيه، ومتفاعلة معه، لتصوير إعراض قوم نوح عن الدعوة، ورفضهم لها. فجاء هذا التجوز في الدلالة لكلمة «أصابعهم» للإيحاء بشدة إعراضهم، ومبالغتهم في ذلك إلى الحدّ غير المعقول، وهو محاولتهم إدخال الأصابع كلها في الآذان، وهي صورة تتناسق مع الصورة الأخرى اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا .... والصورة هنا تعتمد على نظام العلاقة بين الكلي والجزئي، ليظل القارئ في حركة انتقال من الجزئي إلى الكلي أو العكس، لتحريك خياله، وتنشيط ذهنه، كما أنها تخضع لنظام العلاقات السياقية الأخرى، من خلال ارتباطها بالصور الأخرى، لتتناسق معها في رسم مشهد الإعراض عن الحق، والكراهية له.

_ (34) المجاز في البلاغة العربية: ص 110 وما بعدها.

وفي قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ... النساء: 92 صورة فنية تقوم على الانتقال من الجزئي في سبيل الوصول إلى الكلي، من خلال نظام العلاقة بين الجزئي والكلي، ومن خلال نظام الأنساق التعبيرية الواردة ضمنه الصورة، فالجزئي هنا «الرقبة» توحي بالكلي، لأن المراد التخليص من قيود العبودية، والرقبة هي موضع أغلال العبودية، فاقتضى الاعتماد عليها في الصورة ويلاحظ في القرآن الكريم كثرة الصور المعتمدة على الجزئي للوصول إلى الكلي، ليظلّ خيال المتلقي يتنقل بينهما، في حركة ناشطة، تبعث المتعة والجمال للمتلقي، لأنه يظل يبحث عن هذه العلاقات بين الدالّ والمدلول، في الصورة، ثم ارتباط الصورة بسياقها العام وتناسقها معه. يقول الله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ البقرة: 195. إن هذه الصورة التي يرسمها المجاز هنا ذات دلالة دقيقة، لأن الأيدي هي أداة الإنفاق، أو الإمساك لذلك فإن التعبير القرآني بينى عليها صورة الهلاك، أو صورة النجاة. ثم هذه الصورة تتناسق مع السياق الواردة فيه، الذي يحضّ على الإنفاق، لهذا صوّر الشخص كلّه في هذا الجزء منه، وتوقّف على هذا الجزء مصير الكل، فالعلاقة إذا بين الدال والمدلول علاقة تفاعل وتأثر، فالأيدي تقود صاحبها إلى الهلاك في حالة الإمساك، كما تقود صاحبها إلى النجاة في حالة الإنفاق. فالصورة ليست في اللفظة، وفي استخدامها في غير ما وضعت له أصلا، وإنما هي في العلاقة بين الدال والمدلول من جهة، وبين ارتباط الدال والمدلول بالسياق العام للآية، وبذلك يتحرر المجاز المرسل من النظرة الجزئية، والعلاقة التبادلية بين حديه، ليصبح ضمن نظام العلاقة السياقية، فيشتد ارتباطه بالصورة الكلية التي يرسمها السياق، من هذه الصور الجزئية المرتبطة به. ويؤكد هذا الارتباط بين الدال والمدلول في المجاز من ناحية، والسياق من ناحية أخرى، كثرة تعبير القرآن عن الصلاة بجزء من أجزائها المهمة حسب ما يقتضيه السياق. مثل القيام والركوع والسجود. يقول الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا المزمل: 1 - 2، وكَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ العلق: 19، ووَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ

السَّاجِدِينَ الحجر: 97 - 98 ووَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ المرسلات: 48. فالتعبير بالدال قُمِ اللَّيْلَ على المدلول «الصلاة»، جاء متناسقا مع السياق، فالقيام هو أشق الأركان في صلاة الليل، لذلك كان التعبير به، ليقود إلى المدلول «الصلاة» فالمجاز ليس ألفاظا تحذف لمجرد الحذف، وإنما هو حركة متفاعلة مع السياق، فليست العلاقة بين الدال والمدلول علاقة لفظية فقط، أو علاقة تبادلية بين الألفاظ كما تعلمنا أن نقول، وإنما هي علاقة بنائية، يقتضيها السياق، وبذلك يسهم المجاز في إثراء المعنى وإبرازه، عن طريق مفاجأة المتلقي بالعلاقة الجديدة في التعبير، فيركّز اهتمامه على الدال، موضع الاهتمام في التعبير القرآني دون أن يهمل المدلول الذي هو حاضر في الذهن، لأنه مرتبط بالدال، ومتفاعل معه. وفي سياق تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والتسرية عنه، والتخفيف مما يعانيه من الأذى القولي والفعلي، كان التعبير بالسجود، متناسقا مع سياق القرب من الله، والخضوع له فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ وفي قوله: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ يتحدث السياق عن العرب الذين يأنفون الخضوع والانقياد لأمر الله فاقتضى هذا السياق، استعمال الدال «الركوع» الذي هو رمز الامتثال والخضوع، وهو في الوقت نفسه يقود إلى المدلول «الصلاة» لأنه مرتبط به بعلاقة وثيقة متلاحمة، كما أنه متفاعل مع السياق في الوقت نفسه إن هذا التنويع في الدوال للمدلول الواحد، يؤكد على نظام العلاقات في الصورة الفنية التي يقيمها السياق فالسياق القرآني هو الذي فرض هذا التنويع في الدوال مع بقاء المدلول الواحد «الصلاة» وهو تنويع يزيد المعنى وضوحا وتأثيرا ويجعل الصورة القرآنية بناء متحدا متناسقا وليس أجزاء منفصلة. فليست الصورة المجازية قائمة على مجرد حذف كلمة، أو استخدام جزء ليدل على الكل، وإنما هي صورة مكوّنة من العلاقة بين الدال والمدلول من جهة، والسياق الواردة فيه من جهة أخرى. والإجراء البلاغي للمجاز بصورته القديمة، لا يعطينا هذا المفهوم، لأنه ظلّ يركّز على النواحي الشكلية في الصورة دون أن ينفذ إلى البناء المعنوي لها. لهذا فإن الإجراء القديم للمجاز يعتمد على التقسيمات العقلية دون الالتفات للمعنى المراد، والسياق العام الوارد فيه المجاز، كما أنه لا يبرز خصوصية النص القرآني حين يفصله عن المعنى والسياق.

وقد تكون صورة الدال والمدلول حاضرة في الذهن، بحيث يذكّر الدال بالمدلول، والمدلول بالدال، لتجاورهما وملازمة أحدهما للآخر، حتى يصعب على المرء تصور أحدهما دون استحضار الآخر مثل «السحاب والسماء» في قول الله سبحانه وتعالى: يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً نوح: 11. فالسماء هي الدال، والسحاب هو المدلول، ويلاحظ شدة الارتباط والتجاور بين الاثنين عند ما ينظر الإنسان إلى السماء، لذلك كان استعمال الدال هنا بمثابة ذكر للمدلول، لأنه حاضر في الذهن بمجرد ذكر السماء ولكن استعمال كلمة «السماء» هنا جاءت متناسقة مع سياق الاستغفار للإيحاء بشمول رحمة الله وغيثه لكل المستغفرين، فكأن السماء كلها، قد أرسلت عليهم مدرارا بالإضافة إلى أن السماء توحي بالغيث المعنوي إلى جانب الغيث الحسي، ومصدر الاثنين السماء. وقد يكون «الزمن» هو الرابط بين الدال والمدلول. ففي قوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى طه: 74 استخدم كلمة «مجرما» في سياق يوم القيامة، وهي وصف له في الزمن الماضي، للإيحاء بأن صفة الإجرام تظل ملازمة له حتى يواجه العقاب عليها يوم القيامة. وهذا الامتداد في الزمن بدون انقطاع يجعل صورة الإجرام وصورة العقاب متلازمتين، حتى يرسخ العقاب مع الإجرام في الذهن وإذا كان الزمن الماضي يمتد نحو المستقبل، فإن المستقبل أيضا يتواصل مع الحاضر ليؤدي دلالته المعنوية المؤثرة فيظل المجرم في حياته كلها يحمل آثار المهانة والحسرة على ما فعل إلى أن يواجه العقاب في يوم الحساب. ويلاحظ أيضا أن التجاوز الزمني الذي تحمله الدلالة المجازية في الآية، يتناسق مع سياق يوم الحساب، حيث تتبدل الأشياء، ويتغير الزمن المألوف، فكأن السياق الزمني غير المألوف يوم القيامة، اقتضى أيضا تغيرا في الدلالة الزمنية للمجاز، وبذلك يكون التجاوز الزمني في الدلالة متناسقا مع الزمن غير المألوف في يوم القيامة. وهذا ما نلاحظه أيضا في قوله تعالى: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً يوسف: 36. فالتجاوز الزمني في الدلالة المجازية في الآية، بتناسق مع جوّ «الحلم» الوارد في السياق. فكما أن الزمن في الحلم يختلف عن الزمن المألوف في اليقظة، فكذلك التعبير

القرآني هنا يعتمد على التجاوز الزمني في الدلالة، ليعبر عن المستقبل بصورة الحاضر. كذلك يلاحظ في قوله تعالى على لسان نوح: وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً نوح: 26 - 27، فالتجاوز الزمني هنا في فاجِراً كَفَّاراً يتناسق مع دعوة نوح قومه ألف سنة إلا خمسين، وهذا الزمن الممتد في الدعوة، اقتضى هذا التجاوز الزمني الممتد أيضا إلى الزمن المستقبل في الصورة المرسومة. وإذا كانت نتائج الدعوة قليلة لا تكاد تذكر، فإن الدعاء يبدو في سياقه مقبولا، فكأن التجاوز الدلالي جاء ليثبت هذا المعنى، ويؤكّده، وهو إعراض قومه، وعدم إيمانهم بالدعوة على الرغم من هذه الجهود المبذولة في هذا الزمن الممتد. وهكذا يتحد الزمن الماضي بالمستقبل في صورة الإعراض لقوم نوح وكفرهم. ومن ذلك أيضا قوله تعالى: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ الذاريات: 28، وقوله تعالى: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ، فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ الصافات: 100 - 101. والتجاوز الزمني هنا في الدلالة المجازية، يتواصل مع الزمن الممتد في السياق، فإبراهيم قد كبر في السن، ومن شأن الوالد الكبير أن يفكر بمصير ولده الصغير، فاقتضى السياق التجاوز الزمني في الدلالة المجازية لطمأنة إبراهيم عليه السّلام على ولده بأنه سيكبر، ويبلغ مبلغ الرجال ويتصف بالعلم والحلم. وقد تكون العلاقة السياقية واضحة في الدلالة المجازية، كقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ البقرة: 194، فالعلاقة هنا بين الجزاء والاعتداء واضحة في السياق، وقد عبر عن الجزاء بالاعتداء ليبرز أهمية محاسبة الظالم، وعدم التهاون معه، كما يظهر الجزاء منسجما ومتناسقا مع السبب الموجب له. وفي قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً غافر: 13 تشعر الدلالة المجازية ل رِزْقاً بقوة السبب وهو الغيث المرتبط بأمر الله سبحانه، ولا تدخّل للبشر في حدوثه. وإذا كان الرزق مرتبطا به، ومتوقفا عليه، فإن الدلالة المجازية توحي بضرورة التعلّق بالله، واللجوء إليه، لأن بيده مصدر رزق الإنسان.

وقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها ... يوسف، 82، فالدال هنا القرية، والمدلول أهلها، وبين الدال والمدلول علاقة ارتباط وتفاعل، لأن ذكر القرية يذكّر مباشرة بالمدلول أهلها. وكذلك العير وأصحابها، ولكن الدلالة المجازية هنا لها قيمتها الفنية والفكرية، في إثبات أن السرقة عمّت وانتشرت حتى شملت القرية كلّها، لذلك عبّر ب «القرية» و «العير» للإيحاء بشمول الخبر، وشيوعه حتى لو سئلت الجمادات والحيوانات عنه لنطقت به. وهكذا تتجه دراسة الدلالة المجازية في القرآن من خلال العلاقة بين الدال والمدلول، وارتباطهما بالسياق العام للآيات، لأداء المعاني الدينية، وإنّ أيّ إجراء بلاغي، يفصل الصورة عن سياقها، يضرّ بفهم الصورة القرآنية وما فيها من إعجاز في التعبير والتصوير، ووحدة وانسجام وتناسق مع السياق، والغرض الديني المقصود من التصوير، وهذا ينطبق على دراسة التشبيه والاستعارة أيضا كما وضحنا سابقا، كما ينطبق أيضا على «المجاز العقلي» القائم على علاقة إسنادية ملحوظة في التعبير، فقوله سبحانه وتعالى: «عِيشَةٍ راضِيَةٍ» القارعة: 7 يقوم الإسناد المكون من الدال والمدلول في رسم صورة بديلة عن الإسناد الحقيقي «عيشة مرضية» للإيحاء بالرضا الملازم للعيشة، والمتحد بها، وكأن العيشة والرضا أصبحا شيئا واحدا، لا ينفصلان. بخلاف التعبير ب «عيشة مرضية» فإن الرضا يبدو منفصلا عنها، ومحدودا. وفي قوله تعالى: وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأنعام: 6 نلاحظ أن إدراك المدلول «المياه» يتم من خلال إسناد الجري للدال الْأَنْهارَ ولكن العلاقة قوية بين الدال والمدلول في الذهن، لما بينهما من التجاور والارتباط، والتعبير القرآني يستغل هذا الارتباط بين الاثنين، للإيحاء بأن الأنهار كلها تفيض مياها وخصبا ونماء. و «الكناية» أيضا من الصور البلاغية التي تقوم على الدال والمدلول معا، فهي تعبير غير مباشر عن المعنى ولا يمنع المدلول المقصود من التعبير من إرادة الدال القريب منها ولكنها تعتمد على إخفاء المدلول البعيد وستره بالدال القريب الذي يومئ للبعيد، ويوحي به، يقول عبد القاهر الجرجاني في تعريفها: «أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود فيومئ به إليه، ويجعله دليلا

عليه» «35». وقد كثرت هذه الصورة البلاغية في القرآن الكريم في التعبير عن الندم، والحسرة، والكرب، والأهوال، والإعراض، والعطاء، والشح، والإمساك، والجماع، والعفة، والطهر، وغير ذلك من المعاني المذكورة في القرآن الكريم. ومن ذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ الحج: 1 - 2. فالصورة الكنائية هنا تعبر عن ذهول الناس، وفزعهم من مشهد زلزال الساعة بحيث يبلغ الذهول مداه في فقد السيطرة على النفس والإدراك من هول المشهد وعنف الزلزلة، والتعبير بالمرضع والحامل، يمثل منتهى الذهول، وفقد السيطرة على الأعصاب. وقريب من هذا قوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ عبس: 34 - 37. ففي هذه الصورة نلاحظ فرار الانسان من أقرب الناس إليه، وانشغاله بنفسه عمّن سواه بخلاف الصورة الأولى، حيث رأينا الذهول من زلزلة الساعة أفقدهم الوعي والإدراك، من شدة المفاجأة. والصورتان تعبّران عن الهول والكرب، ولكنّ صورة الفرار تعقب الصورة الأولى المجسّدة للذهول وقت مفاجأة الساعة لهم. فالذهول أفقدهم الوعي. فتسمّروا واقفين جامدين، ثم انطلقوا هاربين كلّ يفكّر بنفسه ... وهكذا نلاحظ العلاقة بين الصور القرآنية لتأدية المعاني أو الحالات النفسية، ضمن نظام العلاقات السياقية الملحوظة في التعبير والتصوير على حدّ سواء. ونظام العلاقات المترابطة ملحوظ في بناء الكون والإنسان والحياة لتكوين الوحدة المنسجمة من هذه الأجزاء في النهاية، كذلك ملحوظ، في الصورة القرآنية القائمة على نظام العلاقات المترابطة بين الجوانب التعبيرية والتصويرية والفكرية، أو بين الصورة في بنائها، والصورة في وظيفتها. ويرجع الإعجاز الإلهي أيضا إلى نظام العلاقات المتناسقة في الخلق والتكوين، ونظام العلاقات المتناسقة في القول والتصوير في القرآن الكريم، لأن المصدر واحد وهو الله

_ (35) دلائل الإعجاز: ص 66.

ب - الصورة السياقية:

سبحانه وتعالى في الكون المنظور، والكتاب المقروء، وهذا ما أركّز عليه في كتابي، هذا إن شاء الله. ب- الصورة السياقية: وأقصد بها الصورة التي يؤلّفها السياق من مجموعة الصور الجزئية، ضمن نظام العلاقة بين الصور القرآنية. وقد وقفت الدراسات البلاغية القديمة، عند الصورة الجزئية، أو البلاغية ولم تتعدها إلى صورة السياق. كما وضحت آنفا جهودهم في ميدان الصورة الجزئية حين تحدثت عن الصورة المفردة. وحديثي الآن عن الصورة السياقية، ينسجم مع مفهوم الصورة بمعناها الحديث الذي يتسع للصورة البلاغية، ويتعداها إلى صورة السياق، مع ملاحظة أن الصورة السياقية قد تتكون من الصور الجزئية، وتبني عليها مشاهدها ولوحاتها الفنية، فبين النوعين من الصور علاقة تفاعل وارتباط، لأداء المعنى الديني المقصود. وهذه الصورة السياقية، تعبر عن نظام العلاقات المتشابك في الأسلوب القرآني، الذي يقوم على الصورة الجزئية النامية، والمتفاعلة. مع صور السياق، لتكوين الصورة الكلية التي تتجلى فيها أصول المعاني الدينية المصوّرة التي جاء القرآن الكريم لإقرارها كمبادئ أساسية للتصور الإسلامي. وتتنوع الصورة السياقية أيضا، فهي تبدأ من صورة «المشهد» فاللوحة، فالصورة الكلية ثم الصورة المركزية. وهذا التقسيم لأنواع الصور السياقية اجتهادي، فقد يسميها آخرون بمصطلحات أخرى، ولكن ما أثبته هنا يرجع إلى منهجي في الدراسة، وهو الكشف عن العلاقات المترابطة في الصورة القرآنية، التي تمتد أيضا لتشمل وظائف الصورة القرآنية التي هي أيضا قائمة على نظام العلاقات بين وظائف الصورة، لتتحد في النهاية في وظيفة موحّدة وهي الوظيفة الدينية كما أنّ أنواع الصورة القرآنية ترجع في النهاية إلى الصورة المركزية لإبرازها، وبيان فاعليتها وتأثيرها. ثم إن تقسيم الصورة القرآنية إلى هذه الأنواع، يرجع إلى طبيعة الصورة القرآنية التي تحمل فكرا خاصا تؤديه من خلال التصوير، فلا بد من أجل ذلك أن تتسع حدود الصورة،

ويتسع إطارها للتعبير عن هذا الفكر، وصورة المشهد الكامل قد تمتد إلى أكثر من آية، لتشمل آيات عدة، في أداء المعنى الديني. فنلاحظ في المشهد عدة علاقات، وعدة صور جزئية متناسقة في المشهد، ومتعاونة لأداء المعنى الديني المطلوب. وهذا ما نراه في تصوير الطبيعة، ضمن مشاهد حية شاخصة، وتصوير يوم القيامة أيضا في مشاهد حية. وسوف أتوقف عند ذلك بالتفصيل في حديثي عن وظائف الصورة وأكتفي هنا بمثال واحد على الصورة في المشهد، يقول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ، فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الأعراف: 57. فالمشهد المصور هنا لا يمكن الحكم عليه من خلال الدراسات البلاغية القديمة التي اهتمت بالصورة البلاغية بأنواعها المعروفة، وإنما لا بد من نظرة شاملة، لهذا السياق الذي يرسم مشهدا واضح المعالم، والعلاقات، ففي المشهد نرى إرسال الرياح، والسحاب المتحرّك، والمطر الهاطل، والنبات الطالع، والبلد الميت. وهذه الأطراف أو الأجزاء متفاعلة في داخل السياق لتكوين مشهد منظور، يؤدي وظيفة فنية ودينية معا. ونظام العلاقات بين عناصر المشهد المنظور واضحة في السياق، فالرياح تسوق السحاب الثقال، لتهطل الأمطار فوق الأرض المجدبة، فتنبت الزروع، وتخرج الثمار منها فالعلاقة بين عناصر المشهد قوية، إنها علاقة السبب بالمسبب، والمقدمة بالنتيجة، لإثبات معجزة الحياة بعد الموت، من خلال عرض المشهد الذي يضم صور الحياة في الكون المنظور. وصورة «اللوحة» تتألف من عدة مشاهد مختلفة، تؤدي، معنى مشتركا، وأثرا نفسيا واحدا. كقوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ، خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ، مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ القمر: 6 - 8. هنا نلاحظ عدة مشاهد مختلفة ولكنها مترابطة في السياق، مثل مشهد الجموع الخارجة من القبور، ثم مشهد الجراد المنتشر، والأبصار الخاشعة، والجري نحو الداعي للحشر. ومشهدهم الأخير الذي فيه كرب شديد ملحوظ في قولهم «هذا شيء عسر» وتنكيس رءوسهم وكأن هذه المشاهد ترسم لوحة متكاملة لحالهم يوم القيامة، ابتداء من خروجهم من القبور، وانتهاء بأثر اليوم الآخر في نفوسهم، وما فيه من كرب وشدة تجلّى في

أقوالهم في وصف ذلك اليوم. والغاية من التصوير هي التخويف من يوم الحساب، وهكذا نلاحظ كيف تتفاعل المشاهد في السياق، وفي داخل اللوحة الواحدة، للتعبير عن معنى الهول والشدة، وتحقيق الأثر النفسي المطلوب. وهذه الألوان من الصور كثيرة في القرآن الكريم، لمن يتأمل الأسلوب القرآني المعجز. ونحن لا نستطيع أن نحكم على هذه الصور، من خلال نظرة جزئية، لكل صورة على حدة، فهذا يمزّق الصورة إلى أجزاء متباعدة، لا تساعد على إدراك الصورة الفنية الموحّدة بإيقاعها الموحّد، وآثارها الموحّدة في النفوس. وتتعاون جميع الصور الفنية في السورة الواحدة، وتتفاعل مع الأنساق المختلفة، لتكوين «الصورة الكلية» في كل سورة. التي ترتبط هي أيضا بصورة أكبر، وهي «الصورة المركزية» المكوّنة من النص القرآني كله. وبذلك تتحقق وحدة الصورة القرآنية، في بنائها الفني، كما تتحقق أيضا في وحدة الفكر الذي تحمله، ووحدة الأثر النفسي الذي تحدثه في النفوس. وأكتفي ببعض الأمثلة من القرآن الكريم، التي يمكن أن نقيس عليها، في فهم نموّ الصورة القرآنية عبر السياق على النحو الذي ذكرته آنفا. ففي سورة الملك مثلا نلاحظ أن الصورة الكلية فيها هي «الملك والقدرة»، وقد بدأت الصورة بالإيحاء بها منذ مطلعها يقول الله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الملك: 1، ثم إذا تتبعنا الصور الفنية الأخرى، نلاحظ أنها تتوالى داخل الصورة، وتتفرّع من هذه الصورة الكلية، على نحو معجز، فتتفرّع أولا صورة الموت والحياة الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ الملك: 2، وهي صورة مألوفة مكرورة أمام أعين الناس، ولكن السياق هنا، يبرزها، ويدعو إلى التأمل فيها، للوصول إلى يد القدرة المالكة لها. ثم تتفرّع أيضا صورة السماء المزيّنة بالمصابيح وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ الملك: 5، وهي صورة حسية، فيها الجمال والإبداع والتناسق، تملأ حسّ الإنسان ووجدانه بمعاني الجمال والجلال، وهي تدل على القدرة والملك أيضا، وتوحي بهما، ثم تتوالى الصور المتفرّعة من الصورة الكلية مثل (صورة جهنم بشهيقها وزفيرها وخزنتها- وصورة العلم الالهي المحيط بالظاهر والمستور، وصورة القهر والاستعلاء من خلال السؤال عن النصير والمنجي من عذاب الله. وصورة الرزق المرتبط بالسماء، وصورة خلق السمع والأبصار

والأفئدة، وصورة الذرء في الأرض، وانتشار البشر عليها، وصورة الحشر المقابلة لصورة الذرء والانتشار، وصورة التفرد بعلم الآخرة وموعدها، وصورة الكافرين يوم العذاب، ثم تختم الصور بصورة الماء الغائر في الأرض قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ، وبذلك يتلاحم المطلع مع ختام الصورة في الإيحاء بصورة الملك القدرة لله عز وجل. فكل الصور الفرعية، وما تبعثه من إيحاء وظلال، وإثارة للخيال، ترجع إلى الصورة الكلية، فهي المحور الذي انطلقت منه، وتفرعت عنه، في حركة تشبه امتداد الأغصان في الشجرة الواحدة التي تتفرع من الجذع الواحد للشجرة. وهذه الحركة النامية للصور من أصل كلّي، وانتشارها على هذا النحو داخل سياق السورة الواحدة ضمن نظام العلاقات التعبيرية والتصويرية والفكرية، تظهر وحدة الصورة الفنية في القرآن، ووحدة النص القرآني، وتثبت أيضا إعجازه. لأن هذا القرآن الكريم لم ينزل جملة واحدة، وكذلك السورة لم ينزلها الوحي دفعة واحدة وإنما نزلت على فترات زمنية متباعدة ومع هذا التباعد الزمني في نزول السورة، ونزول القرآن، نلاحظ هذه الوحدة التصويرية المتناسقة وهذه الروابط والعلاقات بين الصور في داخل الأنساق. مما يعجز البشر عن مثله. فكل الصور الفرعية في سورة الملك هذه، تسير في حركة متدفّقة، لتفسّر المطلع المجمل في السورة، فتوضحه، وتبرز سماته. ثم إنّ كل الأضواء المشعّة للصور الفرعية وما فيها من إيحاءات، تسلّط على الصورة الكلية، لتكشف حقيقتها، وآثارها في العالم المنظور، والعالم الآخر غير المنظور. ثم إن هذه الصورة الكلية، مرتبطة بالصورة المركزية لتبرزها، وترسم ملامحها وسماتها، وعلى هذا النحو نفهم حركة الصورة الفنية في القرآن القائمة على نظام العلاقات السياقية. تتحرك ضمن دوائر صغرى أولا، ثم دوائر كبرى، ثم دائرة واحدة تستقطب كل الصور الجزئية والكلية وتجذبها نحوها، إنها صورة المركز. وفي سورة «الانشقاق» نلاحظ أن الصورة الكلية المرسومة فيها، هي الخضوع والاستسلام لأمر الله، وقد بدئت السورة بها، ويتمثل ذلك في صورة السماء والأرض وهما مستسلمتان لأمر الله بالانشقاق أو الامتداد، كذلك صورة الشفق، والليل، واتساق القمر، كلها صور تصبّ في الصورة الكلية الواردة في مطلع السورة ويقابل هذه الصور الكونية الخاضعة لله،

صورة إنسانية أيضا خاضعة مستسلمة لله، في حياتها وموتها، وكدّها وكدحها، فالخضوع لله سبحانه، يتمثل في الخلق والتكوين، كما يتمثل أيضا في النهاية والمصير. وبذلك يتم رسم الصورة الكلية من هذه الصور الجزئية المكوّنة لها عبر تفاعل الصور في السياق القرآني المعجز، لإبراز هذه الصورة الكلية، المرتبطة أيضا بالصورة المركزية. وفي سورة «الحجر» نلاحظ أن الصورة الكلية فيها هي إبراز طبيعة المكذبين، ودوافع تكذيبهم، وبيان مصيرهم. وكل الصور الواردة في هذه السورة، ترتبط بهذه الصورة الكلية وتتفاعل معها في داخل السياق التعبيري، لإبرازها، ورسم معالمها، وعلى الرغم من تنوّع الصور في السياق، فإنها ترجع في النهاية إلى الصورة الكلية، لتصبّ فيها إيحاءاتها، وهذا ما نراه في المشاهد القصصية، والمشاهد الكونية، ومشاهد القيامة، وفي التوجيهات التي تسبق وتعقب التعبير التصويري. ومطلع السورة يبدأ بالإنذار المخيف للمكذبين ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ليزيد الجوّ رهبة وتهويلا، ثم يبدأ بعرض مشاهد الكون في السماء وما فيها من بروج، والأرض الممدودة والجبال الراسية، والنبات الموزون، والرياح اللواقح، والماء والحياة والموت، والحشر للجميع. وكأنّ هذه المشاهد الكونية المصورة بمنزلة أدلة وبراهين، تنقض مزاعم المكذبين، وتردّ عليهم من خلال هذه الصور الحسية التي يرونها، ويتأثرون بها، ويبنون حياتهم عليها. ثم يلي ذلك قصة آدم وإبليس لإبراز عدو الإنسان الأول الذي يقف من وراء تكذيب المكذبين، فهم أتباعه وجنوده. ثم يعرض القرآن لمحات سريعة لقصص إبراهيم ولوط وشعيب وصالح، ويركّز التعبير على مصير المكذبين في تلك القصص الماضية، وفي هذه القصص المعروضة، إيحاء بمصير المشركين العرب كمصير أولئك الأقوام المكذبين في التاريخ، والذين كان العرب يعرفون أخبارهم، ويمرون بديارهم المدمّرة. وتدور الصورة الكلية في سورة «القصص» حول قوة الله وحمايته للمؤمنين، وإهلاكه الكافرين. وتبرز الصورة الكلية بكل ملامحها حية شاخصة، من خلال تصوير الأحداث والأشخاص.

فقوة فرعون الغاشمة، تقابلها قوة الله القادرة على كل شيء، من خلال حماية موسى الطفل الرضيع، وتربيته في قصر فرعون حتى يكون هلاك فرعون على يديه. على الرغم من حذره واحتياطه، وسنّه القوانين الجائرة في قتل الذكور، واستحياء الإناث، ولكن قدر الله نافذ لا محالة. فقوة الله تتدخل في كل مشاهد القصة لتحسم الأمر لصالح موسى، ثم في نهاية التصوير القصصي، يكون التدخّل الإلهي واضحا، ويتمثل في إغراق فرعون وجنوده، ونجاة موسى والمؤمنين معه. كذلك تتدخل القوة الإلهية في قصة قارون لتخسف به وبداره الأرض، كذلك نلمح القوة القادرة في المشاهد الكونية المعروضة، كما نلمحها في مشاهد القيامة المصورة وكذلك في مصارع الغابرين ... وكأن هذه الصور الجزئية بما فيها من أحداث ومشاهد وأشخاص تتفاعل داخل السياق، وتنمو لتشكل صورة كلية للسورة كلها تدور حول قوة الله وحمايته للمؤمنين، فيشعر المتلقي بأن الأمان لا يكون إلا بجوار كنف الله، وأن القوة الحقيقية في هذا الوجود هي قوته. وممّا يؤكد ما نقوله عن هذه الصورة الكلية المرسومة في السورة كلها، حذف مشهد السحرة من القصة فيها والتركيز على مشهد إغراق فرعون وجنوده بعد التكذيب مباشرة. حتى يقترن في ذهن المتلقي الإهلاك بعد التكذيب مباشرة، زيادة في توضيح قوة الله الفاعلة في الحياة والكون، والتي هي مدار الصورة الكلية وقد تتشابه الصور الكلية في سور القرآن الكريم، ولكنها لا تتماثل، جريا على طريقة القرآن التصويرية في تناول قضايا العقيدة والإيمان، بطرق شتى، زيادة في توضيحها، وترسيخها في الأذهان، وشدة تأثيرها في المتلقي من خلال تلوين الطرق التعبيرية والتصويرية، واللمسات الفنية الموحية، التي يقتضيها السياق فنحن نجد سورا عدة في القرآن الكريم، ترسم صورا كلية لليوم الآخر، ولكنّ الصورة الكلية على الرغم من تناولها لهذا الموضوع الواحد، فإنها، لا تتماثل في تصويره، والطرق التعبيرية المؤدية إلى تكوين هذه الصورة الكلية. فالصورة الكلية في سورة «النازعات» هي الآخرة، ومن هذه الصورة الكلية، تتفرّع بقية الصور الجزئية عبر الأنساق التعبيرية المختلفة، ولكنها مرتبطة بعلاقات متينة، تشدها إلى الصورة الكلية، وقد تقترب الصور منها حينا، وتبتعد حينا آخر، ولكنها تبقى مشدودة إليها ضمن نظام العلاقات التعبيرية التي يعتمدها القرآن الكريم في التصوير والتأثير.

ويلاحظ أن إطار الصورة يعتمد على الإثارة والغموض منذ اللحظة الأولى للتصوير، ليتناسب مع الصورة الكلية في خفائها، وإثارتها، ثم تجيء قصة موسى، لتوضح عاقبة المكذبين بها، ثم تجيء الصور الكونية لتوحي بالقوة والقدرة على بعث الأحياء بعد الإماتة، ثم تجيء صور الآخرة. معتمدة على ألفاظ ذات جرس قوي شديد للإيحاء بشدة أهوال القيامة مثل «الطامّة» وتختم السورة بتصوير تفاهة الدنيا إذا قورنت بالآخرة، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها النازعات: 46. وسورة «الحاقة» تدور صورتها الكلية حول القيامة أيضا، فتبدأ بصفة من صفاتها المؤكدة على ثبوتها ووقوعها، فهي متحققة الوقوع، وجرس «الحاقة» بوقعه الشديد يوحي بثبوتها وأحقيتها. ثم بعد هذا الإيحاء بالثبوت والوقوع. تبدأ بصور المكذبين بها، ثم مشاهد القيامة وصورها، منذ النفخة بالصور، ثم مشهد الناجي، ومشهد الهالك، في ذلك اليوم المخيف ... وهكذا تتلاحم الصور الجزئية في داخل السياق، وتتفاعل ضمن شبكة من العلاقات للإيحاء بالصورة الكلية أو بمعنى آخر، إن قمة البناء التصويري في السورة الواحدة يتجلى في الصورة الكلية التي هي بدورها مرتبطة بصورة أكبر وهي الصورة المركزية كما سأوضح بعد قليل. وقد لا يوحي اسم السورة، بصورتها الكلية. مثل سورة «العنكبوت» التي تدور صورتها الكلية حول «الإيمان والفتنة» وتعتمد السورة في بناء صورتها الكلية على مجموعة من الصور مثل تصوير قصص الأنبياء والتركيز فيها على تصوير ألوان الفتن والعقبات في طريق الإيمان، ثم تصوير القوى الكافرة المترصّدة لأهل الإيمان بصورة العنكبوت في ضعفه وهزاله على الرغم من خيوطه الممتدة والمتشابكة ولكنها ضعيفة واهنة، لا تصمد أمام المواجهة، ثم تصوير الحق القائم في صور كونية محسوسة في السماء والأرض، وربط الحقّ الذي جاءت به دعوة الرسل، للتأكيد على وحدة المصدر وهو الله في الكون والحياة والرسالات ... فالحق في الكون المنظور، هو الحق الذي جاء به الأنبياء أيضا. ثم يصوّر تناقض المشركين، فهم يعترفون بالله خالقا، ولكنهم يتخذون معه آلهة أخرى ... وهكذا يمكن أن ندرس الصورة الكلية في كل سورة قرآنية، للتأكيد على أن الصورة

القرآنية بناء موحّد له قاعدة وأركان، وعلاقات، وذروة. فالصور الجزئية في السياق، تتفاعل وتنمو، لتكوين الصورة الكلية، التي تتميز بملامحها الواضحة وإذا تشابهت أحيانا. فإن هذا التشابه يرجع إلى طبيعة المعاني الدينية التي تصوّرها في أصولها العامّة، ولكنها لا تتماثل في طرق التعبير والتصوير، والتفصيلات. والصورة المركزية، المقصود بها «الألوهية» «36»، وهذه الصورة تعتبر أساس الصور كلها في القرآن الكريم كما أن وظيفة الصورة القرآنية، هي الوصول إلى الصورة المركزية، لإبرازها، وبيان آثارها في الكون والحياة والإنسان، عبر نظام العلاقات والروابط بين الصور، بحيث يؤدي المحدود إلى المطلق، والجزئي إلى الكلي والمشهود إلى غير المشهود، والمرئي إلى الغيبي، فهذه الصورة تمثل نقطة البداية لانبثاق الصور عنها، صور الكون والحياة والإنسان بأشكالها وأنواعها المختلفة، كما تمثل أيضا نقطة العودة والرجوع إليها ضمن حركتين ملحوظتين في التعبير والتصوير، حركة البثّ والتوزّع والانتشار في أنساق الصور، وحركة التجمّع ثانية في أنساق تصويرية والعودة إلى نقطة البداية التي انبثقت منها صور الحياة المختلفة. وهذه الصورة تشكّل حضورا قويا في تركيب الصورة وبنائها، وفي حركتها ونموها، وفي تحقيق وظائفها أيضا وهذا الحضور القوي والملحوظ لها، ينسجم مع خصوصية النص القرآني، وتميّزه عن باقي النصوص الأخرى، لأنه كتاب منزل من عند الله سبحانه، فهو المتكلم فيه، والآمر الناهي ... ولهذا فإن النص القرآني كلّه مرتبط بالصورة المركزية تعبيرا وتصويرا وخطابا وتأثيرا، فهي المحور الذي تدور من حوله الصور القرآنية كلها، في حركة تشبه حركة الأفلاك حول محورها في السماء ضمن نظام القوانين والروابط بين الأفلاك بعضها ببعض، كذلك ضمن نظام العلاقات التعبيرية والتصويرية والفكرية في القرآن الكريم أيضا. فأول سورة في القرآن «الفاتحة» تبدأ بالصورة المركزية الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الفاتحة: 1 وآخر سورة فيه «الناس» تبدأ بها أيضا قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ .. الناس: 1، وهذا يؤكد ما

_ (36) ومصطلح الصورة المركزية فني بحت، مع ملاحظة تجريد الألوهية عن الشبيه والمثيل. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.

قلناه عن حضور الصورة المركزية في النص القرآني كله، لأنه كتاب الله، أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لهداية البشر إلى طريق الرشاد وقد يكون حضورها واضحا مكشوفا، وقد يكون مدركا من خلال تأمل علاقات الصور بعضها ببعض وحضور الصورة المركزية في بداية النص القرآني، وفي خاتمته أيضا، يكاد يكون ظاهرة عامة أيضا، في مطلع السورة وخاتمتها أيضا. فسورة آل عمران مثلا تبدأ بقوله: الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ آل عمران: 1 وتختم بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ آل عمران: 200، ثم تبدأ سورة النساء بما ختمت به سورة آل عمران: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ... النساء: 1، وتختم بقوله: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ النساء: 176. وسورة المائدة يرد في آيتها الأولى: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ المائدة: 1، وتختم ب لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ المائدة: 120، لتبدأ سورة الأنعام بما ختمت به سورة المائدة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ... الأنعام: 1، وتختم بقوله: وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ الأنعام: 165. وسورة الجاثية تبدأ بقوله: حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ الجاثية: 1، وتختم بقوله: وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الجاثية: 37، ثم تبدأ «الأحقاف» بعدها مباشرة من حيث انتهت الجاثية حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ الأحقاف: 1. كما يلاحظ أنها تعتمد المطلع ذاته الوارد في سورة الجاثية. وهكذا يمكن أن نتابع هذه الظاهرة في مطالع السور وخواتيمها في تأكيدها على الصورة المركزية والإيحاء بها، لتكون أول ما يستقبله القارئ للنص القرآني، وآخر ما يرسخ في ذهنه بعد نهاية تلاوته، كما هي أيضا في مطالع السور وخواتيمها أيضا. وبين المطلع والخاتمة، تنساب الصور وتتوزّع، دون أن تبتعد عن الصورة المركزية، فهي حاضرة في التعبير. في أساليب النداء، والضمائر، والأمر والنهي وغير ذلك كما هي حاضرة في التصوير. لذلك يمكن أن نعتبرها هي الصورة الكبرى التي يشكلها النص القرآني كله، ضمن نظام من العلاقات اللفظية والمعنوية، بحيث أن قارئ القرآن الكريم، يشعر بخصوصية الخطاب القرآني وأنه صادر من الخالق إلى المخلوق، حتى يظلّ المخلوق ضعيفا محتاجا إلى خالقه

ج - الصور المتقابلة:

الذي أوجده لحكمة يعلمها. فيشعر بالهيبة تحيط به وهو يقرأ القرآن الكريم، والخوف من الله سبحانه، والإقبال عليه. وقد يختلف حضور هذه الصورة من قارئ إلى قارئ آخر، حسب استجابته لهذا الخطاب القرآني وتفاعله معه. إنّ هذا القرآن الكريم معجز في تعبيره وتصويره. ومعجز في نظام العلاقات والروابط الذي يجمع التعبير والتصوير في سياق متفاعل متحرك، متناسق، ولا يمكن إدراك هذا الإعجاز إلا بنظرة شمولية كلية، تنظر إلى النص القرآني، على أنه وحدة منسجمة متناسقة، وتنظر إلى الصورة الفنية فيه ضمن إطار هذه النظرة الكلية الشاملة، حتى تتسع هذه الصورة لمعانيه الدينية أو الفكر الإسلامي الذي تحمله، ولا يكون ذلك باقتصار الصورة على مفهومها الجزئي ووظيفتها المحدودة المترتبة عليها، وإنما بتوسيع مفهوم الصورة، لتحمل هذا الفكر الناصع الذي يميّز الصورة القرآنية عن غيرها، ومن هنا كانت وظائف الصورة أيضا تقوم على نظام العلاقات، فهناك الوظائف القريبة، والوظائف البعيدة، وكلها تدور حول محور الوظيفة الدينية كما سأبيّن في الفصول القادمة. ج- الصور المتقابلة: وهي من الصور السياقية، وقد أفردتها هنا بالحديث، لأنها تشكّل ظاهرة فنية في السياق القرآني. هذا اللون من الصور كثير في القرآن الكريم، يهدف إلى تحريك الذهن، وتنشيط الخيال، من خلال هذه الصور المتقابلة والمتجاوزة في السياق. والتقابل بين الصور متنوّع، فقد تكون الصورتان حاضرتين، وقد تكون الصورة ماضية، تقابلها صورة حاضرة. أو العكس. وتكثر الصور المتقابلة في تصوير النعيم والعذاب يوم القيامة، كما سأبيّن ذلك في تصوير مشاهد القيامة ولكني هنا أكتفي بعرض نماذج لها. يقول الله تعالى في تصوير العذاب: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ، عامِلَةٌ ناصِبَةٌ، تَصْلى ناراً حامِيَةً، تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ، لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ... الغاشية: 1 - 7.

ويقول في تصوير النعيم في السياق نفسه مباشرة: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ، لِسَعْيِها راضِيَةٌ، فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ، لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً ... الغاشية: 8 - 11 الآيات. فالصورتان متقابلتان، متجاورتان في السياق، وهما صورتان حاضرتان للنعيم والعذاب يوم القيامة. وقد يعرض التقابل بين الصورتين سريعا خاطفا كقوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ الشورى: 29. فصورة البث والانتشار تقابلها صورة الجمع، تعرضان في سرعة خاطفة، على طريقة القرآن الكريم في الإثارة التخيلية، والتأثير الشعوري، حتى يستحضر الذهن هاتين الصورتين الكبيرتين في سياق واحد، وآية واحدة. فيظل الحشر والجمع ملازما لصورة بثّ الخلق وانتشارهم. وقد يكون التقابل في الصورتين مركبا من حالتين في كل صورة منهما كقوله تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ السجدة: 26 - 27. فالتقابل هنا بين المساكن الداثرة بعد الحياة والعمران، والأرض العامرة المنتجة بعد الموت والجدب. فصورة المساكن الداثرة، تستدعي استحضارها في حالة الحياة والعمران، ثم ما حلّ بها من دمار ثم صورة الأرض العامرة بالحياة، تستدعي استحضار حالتها أيام القحط والجدب، ثم توضع الصورة الأولى بحالتيها في مقابل الصورة الأخرى بحالتيها، لتحقيق الغرض الديني من هذا التقابل. وقد يكون التقابل بين صورة حاضرة، وأخرى ماضية كقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ يس: 77، فالنطفة صورة ماضية، تقابلها صورة حاضرة للإنسان المخاصم فالتقابل بين الصورتين، يحرّك الخيال لاستحضار صورة ماضي الإنسان في خلقه وتكوينه، ليضع صورته الماضية، مجاورة لصورته الحاضرة، وهو يخاصم ويعاند ولا يؤمن. وقد يكون التقابل بين صورة حاضرة في اليوم الآخر، وصورة ماضية في الدنيا، كأصحاب الشمال مثلا في قول الله سبحانه وتعالى: وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ، فِي

سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ، إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ الواقعة: 41 - 45، فصورة العذاب الحاضرة، تقابلها صورة النعيم والترف في الماضي. ويتضح مما تقدم في هذا الباب، أنّ البلاغة القديمة، كانت بلاغة جزئية شكلية، لا تتجاوز الجملة إلى السياق العام للنص كله، وترتّب على هذه النظرة الجزئية، أن وظائف الصورة، جاءت أيضا عند البلاغيين القدماء، مقصورة على هذا الجزء المحدود، لتوضيحه، وبيانه، وتحسينه أو تقبيحه، أو لإثباته والإقناع به ونحو ذلك، ولم تكن الصورة عندهم، تحمل رؤية للحياة، يبثّها الكاتب عبر صوره. وحتى الذين كتبوا في إعجاز القرآن، ظلّوا متأثرين باتجاه البلاغة القديمة، فداروا في داخل شواهد قرآنية معينة، يركّزون فيها، على النواحي الجزئية، لبيان ما فيها من جمال وإعجاز. باستثناء الجرجاني الذي حاول أن يخرج عن هذا الإطار الجزئي، ويربط الصورة بالسياق، وكاد الجرجاني أن ينجح في مهمته لولا أنه ظل منشغلا بالشّبه العقلي. وقضية اللفظ والمعنى التي كانت تلح عليه باستمرار وهو يحاول أن ينقلها من الجدلية الثنائية بين اللفظ والمعنى إلى نظرية جديدة تستوعب الاثنين معا. وهكذا وضعت القواعد البلاغية الصارمة. وطبقت على النماذج التي تتفق مع تلك القواعد الجزئية والعقلية وأهملت كثير من الصور الرائعة، لأنها لا تخضع لتلك القواعد ومقاييسها، فأهملت الصورة القرآنية في كتب النقد والنقاد، ولم يستلهمها النقاد حين وضعوا مقاييسهم للجودة، وكذلك اقتصرت كتب الإعجاز على أنواع محدودة من الصورة كالتشبيه والاستعارة والمجاز، وأهملت الصورة السياقية في تلك الدراسات القديمة. وفي العصر الحديث، حين توسّع مفهوم الصورة، نجد أن النقاد، أهملوا أيضا الصورة القرآنية فلم يعتمدوا عليها في تنظيراتهم للصورة، وفي وضع مقاييسهم لها، فظلت هذه الصورة المتميزة منسية على الرغم من أن سيد قطب قد لفت الانتباه إليها في الأربعينات من هذا القرن أي قبل أن يبدأ النقاد بدراساتهم حول الصورة الشعرية تنظيرا وتطبيقا.

وهكذا ظلّت الصورة القرآنية، تفهم كأجزاء متباعدة، في إطار جزئي محدد، حدّده البلاغيون والنقاد قديما مما أثر في مفهوم وظيفة الصورة أيضا. في القرآن الكريم. فكان لا بدّ من توسيع مفهومها، لتتسع للقيام بوظيفتها الدينية. لهذا بيّنت مقومات الصورة القرآنية. ووضحت ما في الصورة القرآنية من خصوصية وتميّز عن بقية الصور الأخرى، فالصورة القرآنية تقوم على التصور الإسلامي، فهذا هو المكوّن الأساسي لها، وهو الذي يكسبها هذه الخصوصية، والتميز، ثم إن هذا المكون الديني، يؤثر في بقية المكونات الأخرى فتغدو العاطفة المتولدة من الصورة دينية والخيال يطوف في أجواء دينية، وكذلك اللغة موظفة توظيفا جيدا لنقل المعاني الدينية، والواقع ينظر إليه من خلال هذا الفكر ويتفاعل معه وهكذا. هذه الخصوصية الفكرية في الصورة القرآنية، توسع من دائرة أنواع الصور القرآنية لكي تستوعب هذا الفكر، فكان لا بد من التفريق بين الصورة المفردة أو البلاغية والصور السياقية الأخرى. فالصورة الجزئية تحمل جزءا من المعنى المرتبط بالفكر، ولا تحمل الفكر كله، لهذا وجدنا أن الصورة الجزئية تتفاعل في داخل النص القرآني مع السياق والصور الأخرى لتجسيد هذا الفكر ويقوم النص القرآني كله، برسم ملامح هذا الفكر الديني، وتوضيح معالمه وسماته. من خلال اعتماده على الصور الفنية المتفاعلة في داخل السياق، لتجسيد هذا الفكر. هذه النظرة الكلية، للنص القرآني. تجعله وحدة منسجمة متناسقة، وتجعل الصورة أيضا متلاحمة متحدة ولا تمزّقها إلى أجزاء متباعدة. إن الصورة القرآنية تتسم بالوحدة والانسجام والتفاعل، لنقل هذا الفكر، فالصورة الجزئية، تتفاعل في داخل السياق لتكوّن صورة المشهد، ثم صورة المشهد، تتفاعل وتتوصل مع الصور الأخرى لتكوين صورة اللوحة، وهكذا تتفاعل الصور في السياق، لتكوين الصورة الكلية في السورة الواحدة. وهذه الصورة الكلية تبرز قضية فكرية دينية تعالجها السورة الواحدة. لها معالمها الواضحة، واتجاهها المتميز. ثم إن هذه الصورة الكلية، مرتبطة بالصورة المركزية التي هي مصدر الصور وإليها تعود

في النهاية بل إن الصور كلها في النص القرآني، تدور حول محورها لإبرازها، وإظهار معالمها، وآثارها في الحياة والكون والإنسان. فالصور القرآنية ليست متباعدة وإنما هي متواصلة، تقوم على نظام العلاقات والروابط، لنقل هذا الفكر الديني، وتجسيده في صور متحركة مؤثرة. لهذا فإن وظيفة الصورة القرآنية أيضا، تنسجم مع المكوّن الأساسي للصورة وأقصد به الفكر الديني كما تنسجم أيضا مع أنواع الصور التي تدور حول الصورة المركزية، لإبراز حقيقة الألوهية. وآثار الربوبية. فالوظيفة الأساسية للصورة دينية، ومن حول هذه الوظيفة الدينية تدور بقية الوظائف الأخرى ضمن نظام العلاقات والروابط بين الوظائف، كما سأبيّن في الفصل القادم.

الباب الثاني الوظائف القريبة للصورة الفنية في القرآن الكريم

الباب الثاني الوظائف القريبة للصّورة الفنّيّة في القرآن الكريم الفصل الأول: المعاني الذهنيّة والحالات النّفسيّة. الفصل الثاني: الأمثال القرآنيّة. الفصل الثالث: مشاهد الطبيعة. الفصل الرابع: الحوادث الواقعيّة. الفصل الخامس: القصص الماضية. الفصل السادس: النّماذج الإنسانيّة. الفصل السابع: مشاهد القيامة.

- بين يدي الباب:

- بين يدي الباب: تميّزت الصورة الفنية في القرآن الكريم بطابعها الديني، في تشكيلها المعتمد على الفكر الإسلامي، وأنواعها التي تدور حول الصورة المركزية، لبيان حقيقة الألوهية، وآثارها في الحياة والكون والإنسان كما بيّنا في الباب الأول. فالطابع الديني للصورة أكسبها خصوصية، وتميّزا في تشكيلها ووظيفتها أيضا، كما سنرى ذلك في هذا الباب الثاني. لأن القرآن الكريم نزل لهداية البشر، والتأثير فيهم، واتخذ الصورة وسيلة للتعبير عن أغراضه الدينية، وتحقيق التأثير في النفوس. والصورة هي وسيلة التعبير والتأثير في القرآن الكريم، لأنها تحوّل الموضوعات الدينية إلى مشاهد منظورة، وصور متحركة شاخصة، تنفذ إلى أعماق النفس البشرية من طرق شتى، عن طريق العقل والفكر، والحس والشعور، والخيال والوجدان. وبذلك يتّحد الغرض الديني بالغرض الفني في القرآن، ليصبح الإعجاز في التصوير الفني كالإعجاز في الخلق والتكوين، والإعجاز في التشريع أيضا، لأن المصدر واحد في كل ذلك، وهو الله سبحانه وتعالى. والغاية الأساسية للصورة في القرآن، هي تحقيق الوظيفة الدينية، فهي محور وظائف الصورة التي تدور كلّها من حولها، ولا تخرج عن إطارها. وأقصد بالوظيفة الدينية معناها الواسع الشامل، وليس معناها الضيّق المحدود، كما يتبادر للأذهان للوهلة الأولى، فالصورة القرآنية تحمل رؤية إسلامية للحياة والكون والإنسان، تجسّدها في صور ومشاهد، متفاعلة ومتناسقة مع السياق، لتحقيق الغرض الديني. فالصورة القرآنية تجسّد هذا الفكر الإسلامي، ولا تنفصل عنه، فهي صورة حقيقية له،

في بناء الإنسان والحياة على أسس دينية. لهذا قسمت وظيفة الصورة الفنية إلى قسمين هما، الوظائف القريبة، والوظائف البعيدة وأقصد بالوظائف القريبة، تصوير المعاني الذهنية والنفسية، والأمثال، والطبيعة، والحوادث الواقعة والقصص الماضية، والنماذج الإنسانية، ومشاهد القيامة. والوظائف البعيدة القرآنية هي: الوظيفة الفنية، والدينية، والنفسية، والعقلية. فوظيفة الصورة القرآنية، لا تهدف إلى تصوير المحسوسات من أجل التصوير فقط، بل إنها تريد تحقيق غرض ديني من وراء التصوير الحسي. فالوظائف البعيدة للصورة، تتراءى لنا من وراء الوظائف القريبة وإن كانت هذه الوظائف كلها ممتزجة، ومتداخلة، بحيث يصعب وضع الحدود والفواصل بينها. ولكن الدراسة التحليلية تقتضي مني هذا الفصل بين الوظائف القريبة، والبعيدة، لتحقيق الغرض من الدراسة، في معرفة وظيفة الصورة القرآنية، وطريقتها في تحقيق الغرض الديني من التصوير. وقديما لاحظ عبد القاهر الجرجاني بأن الصورة الفنية تنقلنا من «المعنى» إلى «معنى المعنى» يقول الجرجاني: «فها هنا عبارة مختصرة وهي أن تقول المعنى ومعنى المعنى، تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة، وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر» «1». وعباس محمود العقاد، يرى أيضا أن المجاز في اللغة العربية يتم به الانتقال منه إلى المعاني المجردة يقول: «ولا تسمى اللغة العربية- فيما نرى- بلغة المجاز لكثرة التعبيرات المجازية فيها، وإنما تسمى اللغة العربية بلغة المجاز، لأنها تجاوزت بتعبيرات المجاز حدود الصور المحسوسة، إلى حدود المعاني المجردة، فيستمع العربي إلى التشبيه، فلا يشغل ذهنه بأشكاله المحسوسة إلا ريثما ينتقل منه إلى المقصود من معناه، فالقمر عنده بهاء، والزهرة نضارة، والغصن اعتدال ورشاقة، والطود وقار وسكينة ... » «2». وإذا كانت الصورة القرآنية، تتناول المعاني الذهنية والحالات النفسية، ومشاهد الطبيعة والأمثال وغير ذلك من الوظائف القربية لها، فإنها لا تهدف إلى تصويرها لمجرد التصوير،

_ (1) دلائل الإعجاز: ص 263. (2) اللغة الشاعرة: ص 26.

وإنما لتنقلنا إلى الوظائف البعيدة وهي (معنى المعنى) على رأي الجرجاني، أو هي المعاني المجردة كما يرى العقاد. والوظائف البعيدة هي الأغراض الدينية المقصودة من وراء التصوير. والوظيفة الدينية هي محور الوظائف للصورة القرآنية، فهي هدف مقصود من التصوير. ونحن نلاحظ أن هذه الوظيفة الدينية، واضحة في الوظائف القريبة، أيضا، فالمعاني الذهنية المصورة والأمثال والطبيعة، والقصص ... كلها تنطلق من رؤية دينية واضحة المعالم والسمات، فهي الرابط القوي، الذي يشد الوظائف بعضها إلى بعض، لتتفاعل وتتناسق في توضيح الغرض الديني المقصود، ضمن نظام العلاقات المعتمد في الوظائف القريبة والبعيدة للصورة، كما كان معتمدا في تشكيلها الفني، وأنواعها المتناسقة. إن حركة نمو هذا الفكر الديني من خلال التصوير، تبدأ أولا من تصوير المعاني الذهنية والحالات النفسية، ثم تزداد حركته نموا ونشاطا من خلال ضرب الأمثال ومشاهد الطبيعة، ثم يتفاعل هذا الفكر مع الأحداث الواقعة المصوّرة كما يتفاعل مع الأحداث الماضية، من خلال التصوير قصص الأنبياء، ثم يتجسّد في النماذج الإنسانية المرسومة، ثم يأخذ بعدا زمانيا ممتدا، من خلال مشاهد القيامة المصورة. فينتقل من عالم المحسوسات إلى عالم الغيب ومن المحدود إلى غير المحدود ومن المنظور لغير المنظور، ولكن هذا الانتقال ليس مفاجئا وإنما يتمّ بالتدريج من الحسي إلى الغيبي، بل إن العالم الغيبي يعدّ استمرارا للعالم المحسوس. حيث ينتقل فيه الناس بأحوالهم وسلوكهم، ليلاقوا، نتائج أعمالهم، فالعلاقة قوية بين النتائج والأسباب أو بين الآخرة والدنيا، إنها علاقة النتيجة بالسبب، والغاية بوسيلتها. فالوظائف للصورة القرآنية متواصلة ومترابطة، لتوضيح الحقائق الدينية المطلوبة، من وراء الصور المحسوسة فيتضح في الوظائف البعيدة المرتبطة بالوظائف القريبة، طريقة بناء الإنسان، فكرا وشعورا وسلوكا، من خلال رؤية إسلامية، مجسّدة في الصورة الفنية. وبعد هذا التمهيد، يمكننا الآن أن نبدأ بدراسة الوظائف القريبة للصورة، لأنها وسيلتنا للوصول إلى الوظائف البعيدة.

الفصل الأول المعاني الذهنية والحالات النفسية

الفصل الأول المعاني الذهنية والحالات النفسية يتخذ القرآن الكريم الصورة وسيلة للتعبير عن معانيه الدينية، لأن الصورة أقوى تأثيرا في النفوس من التعبير المجرد، كما أنها تزيد من وضوح هذه المعاني في الأذهان، حين تعرض، في صور محسوسة، قريبة من الإدراك والفهم. وقد لاحظ البلاغيون القدماء، ما تقوم به الصورة من توضيح المعاني وبيانها، أكثر من التعبير المجرد المباشر. فالرّماني يرى أن بلاغة التشبيه تكمن في «الجمع بين شيئين بمعنى يجمعهما، يكسب بيانا فيهما» «1»، والاستعارة عنده أيضا، غرضها «الإبانة» «2»، لأنها تقوم على التشبيه. ويكرر أبو هلال العسكري ما قاله الرماني، فالتشبيه عنده «يزيد المعنى وضوحا ويكسبه تأكيدا» «3». والاستعارة غرضها «إمّا أن يكون شرح المعنى، وفضل الإبانة عنه، أو تأكيده، والمبالغة فيه، أو الإشارة إليه بالقليل من اللفظ، أو تحسين المعرض الذي يبرز فيه» «4». وابن سنان أيضا لا يخرج عن هذا المعنى إذ يقول في حسن التشبيه هو: «أن يمثل الغائب الخفي الذي لا يعتاد بالظاهر المحسوس المعتاد، فيكون حسن هذا لأجل إيضاح المعنى وبيان المراد» «5».

_ (1) النكت في إعجاز القرآن: ص 75. (2) المصدر السابق: ص 79. (3) كتاب الصناعتين: ص 265. (4) المصدر السابق: ص 295. (5) سر الفصاحة: 237.

ويرى الجرجاني أن بلاغة التشبيه ترجع إلى قدرته على إثبات المعنى، وتأكيده بقياسه على المعروف، لا بقياس المعروف على المجهول «6». ونظرة القدماء هذه لوظيفة الصورة، تنسجم مع مفهومهم الجزئي لها، والذي لا يتعدى الصورة المفردة، إن الصورة تحمل رؤية وفكرا، يمكن تلمّسها في القصيدة كلها، أو في النص كلّه، والصورة القرآنية اكتسبت هذه الخصوصية والتميّز، لأنها تحمل رؤية شاملة، للحياة والإنسان والكون، والنص القرآني كلّه، أو الصورة الفنية فيه، تحمل هذه الرؤية وتجسّدها، ضمن علاقات متفاعلة في داخل السياق. ولا شكّ أن الصورة توضّح هذا الفكر، وتبيّنه، ضمن رؤية كلية للصورة في داخل السياق، ولا يمكن تبيّن معالم هذا الفكر أو الرؤية الدينية، من خلال صورة جزئية دون النظر إلى علاقتها بالصور الأخرى، أو النص القرآني عموما. لهذا نقول: إن الصورة القرآنية لا تسعى إلى مجرد البيان والتوضيح للمعاني الدينية بل إلى تجسيدها والإقناع بها. لهذا نلاحظ أن الصورة حين تتناول المعاني الذهنية بالتصوير، تربطها بالسياق الواردة فيه، فتتنوّع الصور، بتنوّع الأنساق التعبيرية، وتكتسب هذه الصور إيحاءاتها وظلالها، من خلال علاقات السياق المتشابكة. فالمعاني الذهنية المرتبطة بالظواهر الكونية، تصوّر بصور مختلفة يقتضيها السياق، كالموج مثلا يقول الله تعالى: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ هود: 42. فضخامة الموج وارتفاعه، تصوّر بالجبال، وصورة الجبال مألوفة مشاهدة، توحي بضخامة الموج وارتفاعه، والسياق الواردة فيه يقتضي هذه الصورة دون غيرها، فقد ورد في السياق القرآني أن ابن نوح ردّ على نداء أبيه بقوله: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ هود: 42 - 43. فتصوير الموج هنا بالجبال، جاء محقّقا الغرض الديني في تأكيد الإغراق، كما أنه جاء متناسقا مع السياق، وحين يتغير السياق، نلاحظ أن الموج يصوّر ب «الظلل» ليوحي بالفزع والرهبة. يقول الله تعالى: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ ... لقمان: 32.

_ (6) الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي: ص 375.

فالسياق هنا كلّه خوف وفزع ورهبة، وهؤلاء الناس لا يعرفون ربهم إلا في الشدة، لهذا فإن صورة الموج هنا تصبح ظللا ترتفع فوق الرءوس، حتى تكاد تطبق عليهم لتفرقهم. وشبيه بهذا قوله تعالى في تخويف اليهود: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ الأعراف: 171. فصورة الظلة هنا، والظلل هناك، توحيان بالإحاطة والشمول للإطباق عليهم. وأحيانا تعرض نعم الله على عباده، في صور كونية محسوسة كقوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً، وَالْجِبالَ أَوْتاداً، وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً، وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً ... النبأ: 6 - 10. ولكن هذه الصور الحسية المألوفة، تتغير في يوم القيامة، فتصوّر بصور أخرى تتناسق مع يوم القيامة، فتعبر عن معان جديدة، وما في يوم القيامة من أهوال مخيفة. هذا التغير في الصور الكونية المحسوسة، فيه إيحاء للإنسان بأنّ النعم لا تدوم، وتدفعه إلى المقارنة بين هذه الصور الكونية في الدنيا، وصورتها في الآخرة، وما يصيبها من دمار وفناء، لتحقيق الأثر الديني المطلوب. يقول الله تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً، وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً، وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً النبأ: 18 - 20. فالجبال هنا سراب، وهو صورة وهمية. وفي سياق آخر يعبر عن زوال الجبال بصورة كثبان الرمل المهيل يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا المزمّل: 14، وهذه الصورة مرتبطة بجو السياق الواردة فيه، وكله يوحي بالثقل والتأني، ففي السورة ورد قوله: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا، إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً، وَأَقْوَمُ قِيلًا ... المزمل: 4 - 8. وفي سياق آخر تصوّر بالعهن وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ المعارج: 9، لتوحي بألوان الجبال المختلفة ويزيد هذه الصورة في موضع آخر بوصف العهن بالمنفوش وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ القارعة: 5، والصورة هنا تتناسق مع السياق المرتبطة به وفيه الفراش المبثوث، فاقتضى ذلك وصف العهن بالمنفوش أما صورة العهن بدون وصف فتتناسق مع صورة المهل. وتصوّر الجبال الزائلة في سياق آخر بصورة الهباء المنبث وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا الواقعة: 5 - 6، وصورة الهباء أضعف من العهن المنفوش. هذه الصور المتنوعة للجبال الزائلة، ليست من قبيل التكرار للمعنى الذهني الواحد،

وإنما هناك فروق دقيقة في المعاني، تؤديها الصور عبر الأنساق التي تقتضيها، وهذا يؤكد ما قلناه، ونقوله دوما، بأن الصورة القرآنية تعتمد على نظام العلاقات في التعبير والتصوير معا. ففي سورة المزمّل، لم يرد ذكر لوصف القيامة سوى رجفة الأرض والجبال، وجوّ السورة يوحي بالثقل والتأني، فجاء تصوير الجبال بالكثيب المهيل للإيحاء بقوة الرجفة للأرض، المؤثّرة في الجبال الثابتة، فتصبح رمالا متحركة، ويمكن اعتبار هذه الصورة، هي المرحلة الأولى لزوال الجبال يوم القيامة، ثم في سورة المعارج، نلاحظ ذكرا لعذاب الكافرين وطوله، فاقتضى السياق تصويرها بالعهن، لبيان تأثير ذلك اليوم في الصورة الحسيّة الصلدة، ثم تأتي الزيادة في الوصف «العهن المنفوش» لبيان ألوان الجبال، لكي تتناسق مع ألوان الفراش المبثوث. وفي سورة الواقعة نلاحظ تصويرا لشدة أهوال القيامة وما فيها من خفض ورفع، ورجّ الأرض وبسّ الجبال، فاقتضى هذا السياق تصويرها بالبهاء المنبث، وهو أضعف من العهن، ثم في سورة النبأ تصوّر بالسراب، يحسبه الناظر شيئا وهو لا شيء في حقيقة الأمر أي أن الجبال تزول ولا يبقى لها أثر. أمّا في الصور المتقدمة، فتثبت لها وجودا ضعيفا، فصورة الكثيب المهيل هي المرحلة الأولى في زوالها، حيث تؤثر رجّة الأرض فيها فتضعف من تماسكها، وتجعلها رمالا متحركة غير متماسكة، تتبعها صورة العهن الضعيفة الملونة، ثم تتبعها صور تناثرها كالهباء في الهواء، حتى تصبح في النهاية سرابا لا وجود لها، فهي صور متدرّجة، ترسم مراحل زوال الجبال بدقة وعناية. من خلال السياق الذي يقتضيها، حتى تكوّن في النهاية صورة متكاملة لها. فالصورة القرآنية كما اتضح من صورة الجبال المتعددة- صورة نامية، متفاعلة، مترابطة، وليست صورة مجزأة، مفصولة، عن سياقها، أو عن الصور الأخرى. ويصوّر الإيمان والهدى بصور النور والبصر والحياة، ويصوّر الكفر والضلال بصور الظلمات والعمى والموت وهي صور حسية مدركة، تتناسق مع الغرض الديني من التصوير. يقول تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ الرعد: 16، وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ فاطر: 19 - 22. اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ،

يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ البقرة: 257. وتدل هذه الصور الحسية، على أنّ الإيمان نور مضيء في قلب المؤمن، يجعله، يرى الحق، ويتفاعل معه، ويلتزم به، ليحيا حياة سعيدة متوازنة، أما الكافر، فإنه يتخبط في الظلمات، ظلمات الكفر والضلال، فكأنه ميت فاقد الحس فلا يبصر نورا ولا يسمع حقا. وترد هذه الصور متقابلة في السياق، فصورة الأعمى تقابلها صورة البصير، وصورة الظلمات تقابلها صورة النور، وصورة الموت تقابلها صورة الحياة وهذا التقابل في الصور، يوجّه الإنسان إلى الإيمان والهدى لأنه نور، وحياة، والإنسان يميل بفطرته للحياة والنور، ويكره الظلمات والموت، ويحب الإبصار، ويخشى العمى. ويلاحظ دقة التصوير للمعاني الدينية، في استخدام كلمة النور مفردة، وكلمة الظلمات في صيغة الجمع دائما. «وذلك للإشعار بتعدد طرق الضلال وتشعبها، والدلالة على وضوح طريق الحق وجلائه» «7». وهناك دلالة أبعد مما ذكرناه، وهي أن هذه الصور الحسية لمعاني الإيمان والكفر، تبين اختلاف الطبيعتين في كليهما، كاختلاف الموت والحياة، واختلاف الظلمات والنور، والعمى والبصر، والظل والحرور فالاختلاف بين الإيمان والكفر، اختلاف جوهري، في الأصل والطبيعة، وليس اختلافا في المظاهر والأشكال. ثم هناك العلاقة الوثيقة بين الإيمان والنور والبصر، والظل والحياة، والعلاقة القوية أيضا بين الكفر والعمى، والظلمة والحرور والموت. وبهذا يتضح الاختلاف بين الهدى والضلال، كالاختلاف الواضح بين هذه الصور الحسية لكل منهما، وهو اختلاف عميق وأصيل، يمتد إلى طبائع الناس، وأعماق النفوس، كالاختلاف الملحوظ في البصر والعمى، والظلمات والنور، والظل والحرور، والحياة والموت. ويصوّر هذا الاختلاف بين المؤمن والكافر، أو بين الهدى والضلال، في صورة أكثر تفصيلا وذلك في قوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ، وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ الأنعام: 122. فالصورة هنا، لا تكتفي بتوضيح الفوارق بين طبيعة الكفر، وطبيعة الإيمان، وإنما تمتد،

_ (7) من بلاغة النظم القرآني: الدكتور بسيوني عبد الفتاح فيود. ص 26.

لتبيّن أثر كل منهما في صاحبه، فالمؤمن هو الحي الذي يمشي في الناس بنور وهداية وبصيرة، عارفا طريقه في الحياة، ومحددا غايته فيها، أما الكافر فهو الميت الذي يعيش في ضلال وخداع، وتزيين لأعماله، وهو لا يدري أنه يتخبط في الظلمات، ولا يخرج منها. وقد توزّعت أجزاء الصورة هنا بتناسق عجيب للإيحاء بهذه المعاني الدينية، فالكفر تقابله الظلمات، والإيمان تقابله صورة النور الهادي المشعّ، والكافر تقابله صورة الميت، والمؤمن تقابله صورة الحياة. ثم يأتي التعقيب على التصوير بقوله: زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ليزيد المعنى وضوحا، والصورة بروزا، فالكافرون يعيشون في تزيين أعمالهم الباطلة، ليخدعوا أنفسهم ويخدعوا الآخرين، وهم في حقيقتهم يعيشون في تضليل وخداع. وتمتد الصورة في سياق آخر، ولكنها تتواصل مع الصور الأخرى في توضيح الفوارق بين من يؤمن بالوحي، ومن لا يؤمن به، وتجسّم هذه الفوارق في صورة حسية مدركة أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ الرعد: 19. فالمؤمنون هم المبصرون، لأنهم رأوا الحق فاتبعوه، والكافرون هم العمي، لأنهم لم يروا الحق مع وضوحه للأبصار وذلك لأنهم فقدوا حاسة الإبصار. ثم تأتي صورة أخرى في سياق آخر، لتضيف فارقا جديدا، بين المؤمن والكافر، فالمؤمن ينظر إلى بعيد لأنه يمشي باستقامة، والكافر قاصر النظر، ينظر إلى قريب، لأنه يمشي مكبا على وجهه فلا يتمكن من الرؤية البعيدة يقول الله تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ الملك: 22. ثم تأتي صورة أخرى لتوضّح أن الله يخرج المؤمنين من الظلمات إلى النور، وأن الطواغيت هم الذين يقودون الناس إلى الظلمات اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ ... البقرة: 256 - 257. فهذه الصورة أيضا تسهم في تفصيل صورة النور والظلام، وتضيف إليها معاني جديدة، زيادة على ما تقدم حتى يكتمل بناء الفكرة الدينية. وهكذا تتواصل الصور فيما بينها، وتتفاعل في داخل الأنساق ضمن نظام العلاقات بين الصور حتى تقوم كل صورة بدورها في الباء التصويري المجسّد للحقائق الدينية.

لذلك، لا بدّ من جمع الصور ضمن أنساقها الواردة فيها، والكشف عن تواصلها وروابطها، لكي نتبيّن دور كل صورة في نقل المعنى الديني ضمن مفهوم وحدة الفكر، ووحدة التصوير معا. ويصوّر عهد الله وميثاقه بصورة «الحبل» الحسية، يقول الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا، وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها آل عمران: 103. وقوله هنا وَاعْتَصِمُوا من قبيل ترشيح الصورة بالاعتصام، لأن الاعتصام، من المعاني المرتبطة بالحبل، والمعنى الذهني هنا ترسمه الصورة بالأيدي المتمسكة بعهد الله ودينه ومنهجه، والقلوب المتآلفة المتوحّدة على منهجه بعد أن كانت أشتاتا وفرقا، وذكر القلوب هنا له دلالته، وذلك للإيحاء بالروابط الروحية التي هي أساس الروابط الاجتماعية، ثم ترسم الصورة حالهم قبل الإيمان حين كانوا عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فأنقذهم الله من السقوط فيها. حين هداهم إلى التمسك بحبل الله الممتد، فتمت لهم النجاة من السقوط المرتقب في النار. وقريب من هذا قوله تعالى في تصوير اليهود ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ آل عمران: 112. تصوّر هنا الذلة والمسكنة بقبة مضروبة عليهم، لإفادة الإحاطة والشمول لهم، فهم لا يستطيعون الانفكاك منهما إلا بحبل من الله، وحبل من الناس، وذكر الحبل يتناسق مع صورة القبة المضروبة عليهم، ولكن التعبير لا يذكر القبة صراحة، وإنما يرمز لها بقوله «ضربت» للإيحاء بها. وأحيانا لا يذكر «الحبل» صراحة في التصوير، وإنما يذكر شيء من لوازمه وهو «النقض» زيادة في إخفاء الصورة، لإثارة الخيال، وتنشيطه كقوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ البقرة: 27. يقول الزمخشري في جمال هذه الطريقة التصويرية: «وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار، ثم يرمزوا إليه بذكر شيء من روافده، فينبهوا بتلك الرمزة على مكانه» «8».

_ (8) الكشاف: 1/ 268.

وقد تلجأ الصورة إلى التفصيل والتطويل في رسم المعنى الذهني، بقصد الزيادة في إيضاحه وبيانه، وتقوية عنصر التخييل والإثارة كقوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها، وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ النحل: 91 - 92. فالصورة لا تتوقف عند حدود نقل المعنى الذهني وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وإنما تتواصل في داخل السياق وتتفاعل، في نمو صاعد، لتصوّر لنا حالة من ينقض العهد بامرأة حمقاء ضعيفة الرأي والعزم، فهي تنسج غزلها، وتفتل خيوطه، ثم تنقض غزلها، وتتركه مرة أخرى منكوثا محلولا، وصورة المرأة هذه تمثّل العبث، وضعف الإرادة، فالإنسان القوي السوي، لا يرضى أن يكون حاله مثل هذه المرأة المصابة في عقلها وإرادتها، وسلوكها، فيعيش حياة عابثة بدون هدف أو غاية. وتصوّر العلاقة بين الرجل والمرأة بصورة كنائية، تجنبا للتعبير المباشر الذي لا يتناسب مع سمو الخطاب القرآني، وتهذيبا للنفوس، وإرشادا وتعليما للناس في مثل هذه المواطن التي يستهجن التصريح بها. فتصور العلاقة الزوجية ب «الملامسة، والمباشرة، والإفضاء، والمس، والرفث، والحرث والإتيان، والغشيان، والدخول، والاستمتاع، والقرب ... إلخ. وهذا التنويع في التصوير للمعنى الواحد، ليس من قبيل التكرار اللفظي، بل إنه يدل على نظام العلاقات بين الصور بعضها ببعض في تصوير المعاني الذهنية من وجهة، وتفاعل الصور مع السياق الواردة فيه من جهة أخرى. يقول الله تعالى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ ... النساء: 20 - 21. وصورة الإفضاء هنا وردت في سياق الطلاق والمهر، والسياق فيه ردع وزجر للزوج أن يستعيد ما أعطاه لزوجته من مهر بعد تلك المعاشرة الزوجية، لذلك جاءت هذه الصورة لتوحي بعمق العلاقة بين الزوجين، وهي علاقة حسية ومعنوية في الوقت نفسه، لذلك كان التعبير ب أَفْضى للإيحاء بالإفضاء الحسي والمعنوي معا، فجاء حذف المفعول هنا، للإيحاء بإفضاء المشاعر والعواطف أيضا، واستحضار صورة العلاقة الماضية، حتى يتم

ردع الزوج عن أخذ ما أعطى من مهر. وفي سياق آخر، تصوّر العلاقة بالملامسة وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً النساء: 43. فصورة الملامسة هنا مرتبطة بالوضوء والطهارة، وهذا السياق يقتضي الحيطة والاحتراز، لذلك كانت «الملامسة» هنا لتوحي بمجرد المخالطة للمرأة ولو مسّا. وصورة «الرفث» ترد في سياق الصيام، لتوحي باستهجان ما وقع منهم ليلة الصيام قبل تحليله بقول الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ البقرة: 187. وقد علل الزمخشري ذلك بقوله: «فإن قلت: لم كنّى عنه هاهنا بلفظ الرفث الدال على معنى القبح بخلاف قوله وقد أفضى بعضكم إلى بعض- فلما تغشاها، باشروهن، أو لامستم النساء دخلتم بهن، فأتوا حرثكم، من قبل أن تمسوهن، فما استمتعتم به منهنّ، ولا تقربوهن، قلت: استهجانا لما وجد منهم قبل الإباحة. كما سماه اختيانا لأنفسهم، فإن قلت: لم عدي الرفث بإلى؟ قلت: لتضمينه معنى الإفضاء» «9». ونلاحظ في الآية المذكورة آنفا ورود «الرفث، واللباس، والمباشرة، فكيف نفسر ذلك على ضوء التواصل مع السياق والتفاعل معه؟ هنا نلاحظ مجاورة الرفث لكلمة الصيام للإيحاء باستهجان ما وقع منهم قبل الإباحة في ليلة الصيام، ثم مجاورة «اللباس» للمباشرة، وكأنها تمهيد للخروج من سياق الاستهجان إلى سياق الاستحسان، فصورة اللباس توحي بقرب كل منهما من الآخر، وصورة المعاشرة تكون ابتغاء ما كتب الله ... وصورة «الحرث» تعبر عن العلاقة الزوجية وأهدافها السامية في استمرار الحياة، من خلال عملية الإنجاب والتوالد، وتحقيق المتعة المعنوية في الأولاد، وما يرتبط بهم من عواطف أبوية ومشاعر إنسانية بالإضافة إلى ما تعبر عنه من متعة حسية أيضا نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ البقرة: 223. فهذه الصورة تجمع بين الدلالة الحسية والدلالة المعنوية، فالصلة بين الزارع وحرثه،

_ (9) الكشاف: 1/ 338.

تشبه الصلة الشعورية بين الزوج وزوجته، كما أن أنواع النبات الطالع من حرث الزارع وبذره، تشبه حرث الزوج وما ينتج عنه من أولاد، مع ملاحظة التنوّع في الزروع في الأشكال والألوان، والأرض واحدة، والتنوّع في أشكال الأولاد وألوانهم وأمهم واحدة. كما أن حالة السعادة لدى الزارع في التنويع والتعمير والتكثير. تتشابه مع حالة الإنسان في ذلك. فالصورة تلامس الحس والنفس معا، في تعبير موجز مصوّر. وتعبر صور أخرى عن المعنى نفسه ولكن في سياق مختلف يقول تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ... البقرة: 222. والصور هنا تنقل المعنى أو الحكم الفقهي، بألفاظ رقيقة مهذبة، تجنح إلى التصوير والتلميح بدلا من التعبير المباشر الصريح. وفي حالة الاعتكاف في المساجد، ينهى عن المباشرة لهنّ، لا لأنه أذى وإنما للدلالة على حرمة الاعتكاف في المساجد، فاقتضى السياق النهي عن المباشرة وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ البقرة: 187. ويصور المعنى الواحد- أحيانا- بصورة واحدة متكررة. وفي أنساق مختلفة. ولكنها تقتضي هذه الصورة دون غيرها مثل تصوير العلاقة الزوجية ب «المس» كقوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ البقرة: 236، وقوله أيضا: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ البقرة: 237، وكذلك على لسان مريم في قوله تعالى: قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ آل عمران: 47. وتكرار هذه الصورة الكنائية، يقتضيها السياق الواردة فيه فالمرأة المطلقة يجب لها الصداق كاملا بأدنى درجات المعاشرة ولو مسّا، كما توحي به الصورة، وكذلك مريم تستبعد أن يكون لها ولد، ولم تكن هناك أدنى حدود المعاشرة. ويصوّر المعنى أيضا ب «التغشية» للتذكير بالملاطفة المطلوبة بين الزوجين فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ الأعراف: 189، وهذه الصورة ترد في سياق الالتقاء الأول، فاقتضى ذلك التذكير بالملاطفة ونحوها، كمقدمات للعلاقة بين الاثنين. وصورة الهجر في المضاجع، ترد في سياق نشوز المرأة وتعاليها على زوجها وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ النساء: 134.

فالصورة الحسية للنشوز، تعبر عن عصيان المرأة وتعاليها، فتأتي بعدها الصورة الكنائية، في الهجر في المضاجع، لتطامن من هذا التعالي الناشز، وتحدّ منه. وتعبر الصورة الكنائية عن كثير من المعاني الحياتية كقوله سبحانه وتعالى في وصف عيسى وأمه مريم: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ المائدة: 75، فقوله: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ كناية عن فضلات الطعام، لإثبات بشرية عيسى، ونفي الألوهية المزعومة عنه، ولكن الكناية لا تمنع أيضا من إرادة المعنى الأصلي. يقول الزمخشري في تفسيره للآية: « ... ثم صرّح ببعدهما عما نسب إليهما في قوله: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام، وما يتبعه من الهضم والنقض لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم ... كبقية الأجسام» «10». وقوله سبحانه في هذا المعنى أيضا ولكن بصورة كنائية أخرى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ النساء: 43، والغائط أصله ما انخفض من الأرض، والعرب تعبّر عن قضاء حاجتها بهذه الكناية، وقد وردت هذه الكناية في سياق الطهارة أما قوله: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ فقد وردت الكناية في سياق إثبات بشرية عيسى وأمه، وهكذا نلاحظ أن الاختلاف في الصور عن المعنى الواحد، يتبع السياق، ويتلاءم معه. كقوله تعالى أيضا: كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ المعارج: 39، فالكناية هنا عن الماء المهين، تلمس كبرياء المشركين لمسا خفيفا دون ذكر لفظة نابية، وقد وردت هذه الكناية ضمن سياق يقتضيها، فقد تحدث السياق عن استكبار المشركين، وطمعهم أن يدخلوا الجنة، وهم على كفرهم، فجاءت هذه الكناية، لتوحي بهوانهم وذلّهم، مقابل استكبارهم وكفرهم. وتعبر الصورة عن معنى التوجه إلى الله، والانقياد له ب «الوجه» لأن الوجه هو أشرف الأعضاء وهو رمز الكل بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ البقرة: 112، وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ... النساء: 125، وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لقمان: 22. فالتصوير بالوجه عن الذات فيه حثّ على التوجه إلى الله، والإقبال عليه، والتطلع إلى

_ (10) الكشاف: 1/ 635.

ما عند الله. وهذه المعاني يناسبها الوجه دون غيره، لأنه يحتوي على الأجزاء الهامة في الإنسان. لذلك جاء الأمر في قوله: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ الروم: 43، والمراد بذلك الاتجاه إلى الدين القيّم بجدّية واستقامة، كما توحي الصورة، بالإضافة إلى الدلالة على الاهتمام والتطلع والانتباه، وهي دلالات مرتبطة بالوجه دون غيره. لهذا كان التعبير بالوجه عن الذات الإنسانية. وهناك صور أخرى تعبر عن الإنسان في أنساق تقتضيها، كالعين والأذن، واليد، والقدم ... كقوله تعالى وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ البقرة: 195. فالأيدي ترمز إلى العطاء وقد وردت في سياق الإنفاق في سبيل الله، وقد ترمز الأيدي إلى البخل وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً الإسراء: 29. فالبخل يصوّر باليد المغلولة إلى العنق، والإسراف باليد المبسوطة التي لا تمسك شيئا، ثم تجسّم الصورة لكلّ من البخيل والمسرف، في صورة القاعد الحسير، الذي لا يتمكّن من متابعة شئون حياته، فالبخيل يمنعه بخله، من مزاولة شئون حياته، والمسرف ينتهي إلى الإفلاس، فلا يتمكن من متابعة حياته. وقد ترمز اليد إلى البطش والفتك كقوله تعالى: إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ المائدة: 11. ويعبر عن الثبات والاستقرار بالقدم كقوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ يونس: 2، وهذه الصورة الحسية توحي بطمأنينة المؤمنين وثباتهم، في سياق الإنذار والتخويف وساعات الحساب يوم القيامة، وإضافة القدم إلى صِدْقٍ وذكر عِنْدَ رَبِّهِمْ تزيدان من وضوح الصورة وثباتها في سياق يوحي بالقلق والاضطراب والخوف. وتعبر الصورة عن طيب النفس وسرورها بالعين، كقوله تعالى: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً مريم: 25، لأن العين هي التي ترى ما يسر النفس، ويدخل السرور إليها، فكأن الصورة الحسية هنا هي النفس كلّها، باعتبار العين هي الجزء الهام فيها، وفي هذه الصور الحسية، يتمّ استحضار الكلي ضمن نظام العلاقات بين الدال والمدلول في الصورة المجازية، كما وضحت ذلك بالتفصيل في مقومات الصورة الفنية، حين تحدثت عن تصوير الصلاة بجزء

من أجزائها، ويكون الجزء المذكور هو الجزء الهام، المتناسق مع السياق الذي يقتضيه. بالإضافة إلى موضوعات أخرى «11». كما تعبّر الصورة عن الترك والإعراض بصورة متحركة وهي النبذ وراء الظهور كقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ آل عمران: 187، وقوله أيضا: قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا هود: 92. فأهل الكتاب في الآية الأولى، يلقون كتاب الله وراء ظهورهم بهذه الصورة الشنيعة، استخفافا به وإعراضا عنه والكفار في الآية الثانية، يعرضون عن ربهم، ويتركونه وراء ظهورهم، وهم خلق من خلقه. ويكثر في القرآن الكريم التعبير عن معنى الاستبدال والاختيار، بصورة حسية مألوفة، هي «الشراء» في أنساق مختلفة، تقتضي هذه الصورة. كقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ البقرة: 16. فالمنافقون استبدلوا الضلالة بالهدى، وصورة الشراء المعبّرة عن هذا المعنى الذهني توحي بشدة حبهم للكفر والضلال، وبغضهم للهدى، لأن الإنسان يشتري ما يحبه، ويبيع ما يزهد فيه، ثم جاء قوله: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ من قبيل ترشيح الاستعارة كما يقول البلاغيون لتقوية الصورة الحسية، وزيادة التخييل في الذهن من خلال استحضار عملية البيع والشراء، وكما جرّت عليهم عملية البيع والشراء من خسران وهلاك. وقد لاحظ الزمخشري ما في هذه الصورة الحسية من رونق وبهاء وتحريك للخيال فقال: «فإن قلت: هب أن شراء الضلالة بالهدى وقع مجازا في معنى الاستبدال فما معنى ذكر الربح والتجارة كأن ثمّ مبايعة على الحقيقة؟ قلت: هذا من الصنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا، وهو أن تساق كلمة مساق المجاز، ثم تقفى بأشكال لها وأخوات إذا تلاحقن لم تر كلاما أحسن منه ديباجة وأكثر ماء ورونقا وهو المجاز المرشح» «12». وهناك مواضع أخرى تكررت فيها هذه الصورة الحسية، كقوله تعالى:

_ (11) يراجع فصل مقومات الصورة الفنية. (12) الكشاف: 1/ 192 - 193.

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ البقرة: 175، إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ آل عمران: 77، إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً آل عمران: 177، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ النساء: 44. إن تكرار هذه الصورة للدلالة على المعنى الذهني الواحد، توحي بالصفقة التجارية الخاسرة للكافرين، الذين استحبوا الضلالة على الهدى، وصورة الشراء مألوفة لأنها مستمدة من واقع الحياة العملية، وتكرارها، فيه تأكيد على معنى الخسران، وترسيخ لمفهوم الصفقة التجارية الخاسرة لهؤلاء الكافرين. وقد تمتد هذه الصورة في التعبير، لاستيفاء المعنى، والإيحاء بمعان جديدة كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ، وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ البقرة: 174. فالصورة المرسومة هنا، تنقل المعنى الذهني وهو كتمان الحق، من أجل مصالح دنيوية زائلة، فتجسّم الصورة المعنى الذهني، حتى يصبح محسوسا يباع ويشرى، ويقبض ثمنه، ويؤكل به، ولكن أين ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ؟ والتعبير ب يَأْكُلُونَ يتناسق مع السياق العام الذي يتحدث عن الطعام الحلال والحرام وهذه صورة مخيفة إذ ترسم لنا نارا مشتعلة في البطون تشويها، كما تشوي نار السعير جلودهم يوم القيامة، وهي صورة ممتدة، في الزمان والمكان، فتطوى الدنيا، ويستحضر من الآخرة «صورة النار» في سرعة خاطفة، لتعذيب هؤلاء على فعلتهم، زيادة في التصوير والتأثير في النفوس، وإلى جانب هذا العذاب الحسي، هناك العذاب المعنوي أيضا يجسّم في قوله: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ إلى جانب العذاب المادي وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وبذلك يذوق هؤلاء أنواع العذاب، جزاء على فعلتهم الشنيعة. وترد: «صورة الشراء» الحسية في سياق آخر جديد، يتحدث عن المؤمنين، لتكون الصورة هنا صورة رابحة، تقابل الصورة الخاسرة لأولئك في الآيات السابقة، يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي

بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التوبة: 111. وهذه الصورة رابحة مضيئة، تقابل الصورة السابقة القاتمة والخاسرة، وهذا الاختلاف بين الصورتين في الربح والخسارة، يرجع إلى اختلاف السياق، والسياق هنا يتحدث عن المؤمنين، فالصورة صفقة تجارية رابحة، وهناك في الآيات السابقة، كان السياق يتحدث عن غير المؤمنين، فكانت الصورة صفقة خاسرة. وترسم الصورة هنا كل أطراف البيع والشراء، والبائع والمشتري، والثمن، فالبائع هو المؤمن، والمشتري هو الله، والثمن الجنة ... ومن رحمة الله، أن جعل الله الإنسان مالكا لنفسه وماله، يتصرف فيهما بحرية واختيار وإرادة، ليقبض الثمن وهو الجنة، وإن كان الله هو المالك الحقيقي للأنفس والأموال، ولكن القرآن الكريم يصوّر الإنسان مالكا وبائعا وقابضا للثمن، لتكون الصورة ملائمة للواقع المنظور في الحياة، بدلا من تصوير الغيب المستور. وتزيد الصورة في «التخييل الحسي» في قوله: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ لتوحي بربح هذه البيعة إن تمّت الصفقة، وسلّمت الأنفس والأموال لله، وهي بيعة رابحة لا شك، لأن الثمن غال وهو الخلود في الجنة، بينما الأنفس والأموال إلى فناء، فالبيع في هذه الصفقة، هو بيع ما يفنى بما يبقى، وهذا هو الربح الحقيقي الذي توحي به الصورة الحسية، لتحقيق الغرض الديني من التصوير. وتتواصل هذه الصورة، مع صورة أخرى مرتبطة بها، وهي صورة التجارة الرابحة، والتجارة من ملائمات البيع والشراء، بل إنها تعدّ امتدادا طبيعيا لها في تصوير المعنى الذهني، وزيادة في تفصيلات الصورة الحسية للمعنى يقول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ... الصف: 10 - 11. وتعتمد هذه الصورة على عنصر الإثارة والتشويق. من خلال النداء، يعقبه الاستفهام المشوّق للجواب، واستحضار صورة التجارة الرابحة، وتحريك النفوس بها والتشويق إليها، وتوظيف هذه الصورة الذهنية، لتحقيق غرض ديني. وتتواصل هذه الصورة أيضا، في علاقات سياقية أخرى، لتدل على معان ذهنية، فالإنفاق

في سبيل الله، يعبر عنه، بصورة مألوفة، وهي «القرض»، وصورة القرض، تتواصل مع صورة البيع والشراء، وصورة التجارة الرابحة، فهي تنتمي إلى عالم المادة، والتعامل اليومي للإنسان، وتوظف هذه الصور الذهنية المستمدة من واقع الحياة، للتعبير عن المعاني الدينية، بصور مألوفة لدى المخاطب، ولها رصيد في ذهنه ونفسه لتحريك خياله، والتأثير في شعوره. قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ البقرة: 245. والصورة الحسية هنا، لا تعبّر عن نقل المعنى الذهني فقط، وإنما توحي بزيادته ونمائه أيضا. وذلك من خلال اللمسات التعبيرية والنفسية في تصوير المعنى الذهني، فالإنفاق قرض لله، وهو تعبير لطيف يوحي للإنسان بأنه يملك الأموال وينفقها بل ويقرضها لربه قرضا حسنا ناميا، وللخيال أن يتصور حركة الأموال النامية أضعافا مضاعفة، من خلال هذا «التجنيس» اللفظي يضاعفه وأضعافا، والصور الذهنية المختزنة للأموال بأنواعها، وحركة نمائها أو تكثيرها. وتمضي الصورة في تحقيق غرضها الديني، بتذكير الإنسان، بأنّ الله هو الذي يملك أرزاق العباد، وبيده قبضها وبسطها لمن يشاء، وكيف يشاء؟ وهاتان الصورتان للغنى والفقر، تتقابلان في التعبير والسياق، لتتواصلا أيضا مع صورة «الإقراض لله» لتقويتها وإنمائها في فكر الإنسان وشعوره، ثم تأتي صورة الرجوع إلى الله، لتثبت صورة الإقراض لله، وتدعمها بالتوجيه المطلوب، فهي تطهّر النفس من الشحّ، وتدفعها إلى الإنفاق في سبيل الله بسخاء. وهكذا تتواصل الصور في السياق، وتتفاعل. لتوضيح المعنى الذهني فيتناسق التعبير والتصوير، والغرض الديني والفني معا. وقد كثر ورود صورة الإقراض لله في الأسلوب القرآني، لأنها صورة حسية مستمدة من واقع حياة الناس، ولها رصيد في أذهانهم ونفوسهم، وهي تدلّ على المعنى الذهني، وتجسّمه، وتجعله محسوسا ملموسا، يؤثّر في الفكر والنفس والخيال. من ذلك قوله أيضا: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ التغابن: 17، أَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً المزمل: 20. وتعرض الأعمال في صورة حسية مجسّمة زيادة في إيضاحها وبيانها، وحركة التخييل الحسية فيها. ليتفاعل معها، الإنسان، ويتجاوب، جريا على طريقة القرآن الكريم في

تصوير المعاني الذهنية، وإحيائها في صور حسية، ومشاهد مرئية، لكي تؤثر في النفس الإنسانية، فأعمال الإنسان وذنوبه، تعرض في صورة الأحمال المثقلة للظهور. وذلك في قوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ... فاطر: 18. فالصورة هنا تبرز المعنى الذهني، في مشهد حي متحرك، كأننا نراه الآن، ونستحضره من عالم الغيب إلى العالم المنظور أمامنا، فكلّ إنسان يحمل على ظهره حمله من الأعمال والذنوب، وهو يسير في اتجاه الميزان لوزن هذا الحمل الثقيل، وتمضي الصورة في التخييل الحسي، وإحياء المشهد، فالإنسان يحمل حمله مهما ثقل على ظهره، ولا يحمله عنه غيره كما في الدنيا، ولو أنه دعا قريبا له ليساعده في حمله، فلن يجد مجيبا لندائه، لأن كل إنسان مشغول يوم القيامة بنفسه عمّن سواه، ولنا أن نتخيل المشهد المتحرك لجموع الناس وهم يحملون الأحمال على ظهورهم، ويتحركون في اتجاه الميزان والوزّان للحساب والجزاء. والصورة المرسومة هنا للأعمال، تقرّب لنا الغيب المستور، وكأنه مشهد منظور في الدنيا من قوّة التصوير، والتأثير. وتتواصل هذه الصورة في سياق آخر، لتوحي بأنّ الذنوب قد اكتسبها الإنسان بنفسه، وعليه أن يحمل تبعة ما اكتسبه. يقول الله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً النساء: 112. فالصورة هنا تجسّم الخطيئة والإثم والبهتان، في صور مادية محسوسة، لكي يتفاعل معها الإنسان، كما أن الخطيئة أو الإثم يغدو شيئا مكتسبا. فيه إغراء وجاذبية، ثم تمضي الصورة في التخييل بعد التجسيم، فيصبح الإثم شيئا ماديا محسوسا، يرمى به البريء، ثم تمضي أيضا الصورة في التخييل الحسي في قوله: فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً فصار البهتان والإثم حملين يحملان على الظهر، ليسير بهما صاحبهما في يوم الحساب باتجاه الميزان، ليحاسب على ما اكتسبه من خطيئة وإثم. وبذلك تتواصل الصورة في داخل السياق الواحد، كما تتواصل مع الصورة الأولى، والسياق مختلف، لتجسيد وحدة التصوير ووحدة التأثير الديني، وترابط المعاني الذهنية، لتمثيل وحدة الفكر الإسلامي أيضا. إن الصورة هنا، تترابط مع صور السياق الواردة، فيه أولا، ثم تترابط مع الصور الأخرى،

والأنساق أيضا. ضمن نظام العلاقات التعبيرية والتصويرية والفكرية في الأسلوب القرآني. وقد تكررت صورة الأعمال المجسّمة في الأحمال فوق الظهور في مواضع عدة من القرآن كقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ... النحل: 24 - 25، وقوله: وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا طه: 101، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ العنكبوت: 12 - 13، ومن ذلك أيضا قوله تعالى: وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ الانشراح: 2 - 3. وتصوّر المعاني الأخلاقية، في صور حسية أيضا، لأنها أبلغ في التأثير يقول الله سبحانه وتعالى: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ لقمان: 18 - 19. وصورة «تصعير الخد» الحسية، بحركتها وهيئتها، تنقل لنا معنى التكبر، بصورة كريهة منفرة. لما بين صورة المتكبر، وصورة «الصعر» في الإبل من تشابه وصلة، في الحركة والهيئة، والأثر الكريه المنفّر، فالصّعر في الأصل داء يصيب الإبل، فيجعلها تميل بأعناقها بهيئة منفّرة، وصورة المتكبر المائل بعنقه تشبه تلك الصورة الحسية في الإبل، وبذلك يغدو التكبر داء يصيب الإنسان، فيلوي عنقه خيلاء وتكبرا على عباد الله، فالعلاقة بين الصورتين واضحة في الحركة والهيئة، والسبب. ثم الصوت الهادئ يوحي بالأدب والثقة، والغلظة والارتفاع في الصوت سلوك مكروه، يصوره التعبير بصورة حسية منفّرة مضحكة تبعث الكراهية والاشمئزاز من هذه العادة الذميمة حين تقارن بصورة الحمير بأصواتها المنكرة. وهناك صورة أخرى للمتكبر، ترتبط بالصورة الأولى، وتتواصل معها وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا الإسراء: 37. فهذه الصورة بما فيها من إيحاء ضخم، يقصد بها مواجهة المتكبر بحقيقة نفسه العاجزة الضعيفة، فإذا كان المتكبر يرى في نفسه القوة والقدرة، ويتضخم عنده هذا الشعور، حتى تجسّم في سلوك مذموم، فتأتي هذه الصورة الحسية المعروضة أمامه، تتحدّاه صراحة، ليرى نفسه العاجزة من خلالها، فيظهر عجزه في خرق الأرض، وبلوغ

الجبال طولا، فيدرك حقيقة أمره، ويتواضع، ويلين جانبه للناس. وأبشع أنواع التكبّر، هو التكبّر عن دعوة الله، وقد رسمت الصورة القرآنية هؤلاء المتكبرين عن الإيمان بصورة تبعث على السخرية منهم. من خلال اللمسات النفسية والفنية المحركة للخيال، والمؤثرة في النفوس يقول الله تعالى في وصف واحد من هؤلاء: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى، أَوْلى لَكَ فَأَوْلى، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى، أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى القيامة: 31 - 40. هذه الصورة المضحكة للمتكبّر عن دعوة الله، وردت بعد مشهد الاحتضار، فهي ترتبط به، وتتواصل معه في التوجيه الديني ضمن سياق متفاعل متحرك بصوره، وتعبيراته، ومعانيه. فالتكبّر هنا يجسّم بحركة تمطّي الظهر، وامتداده، تعاجبا وتعاليا، والمتكبّر يقوم بهذه الحركة الكريهة، فيمطّ ظهره، ويمدّه، خيلاء وتكبرا، وأمام هذه الحركة الكريهة والمضحكة، التي ترسمها الصورة له، تأتي صورة نشأته الأولى، من مادة محتقرة، ثم ما مرّ به من مراحل النمو، حتى أصبح رجلا سويا لتذكيره بعجزه وضعفه، وقدرة الله عليه، وقدرته على بعثه وإحيائه بعد إماتته ... وقد يقترن التكبّر عن دعوة الله، بالمكر والتآمر ضد الدعوة، فيقتضي ذلك صورة مفصّلة ترسم التكبر والمتكبرين الماكرين، بالخطوط، والحركات، والهيئات، لتصوير دقائق أساليبهم، وخفايا تآمرهم. والصورة هنا تعرض في مشهد كامل حي شاخص، يقول الله تعالى في هؤلاء المتكبرين الماكرين: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ، الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ، ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ النحل: 26 - 29. فهؤلاء المتكبّرون حبكوا المؤامرات ضد الدعوة، وأحكموها بدقة وإتقان، ظنا منهم أنها تحميهم، فكانت هذه المؤامرات المحبوكة، هي سبب هلاكهم، والصورة ترسم هذا المعنى

الذهني في صورة بناء محكم، بقواعده وأركانه وسقفه، وهذه التفصيلات في تصوير البناء، توحي بالدقة والضخامة والإحكام، ثم بعد اكتمال تصوير البناء، بقواعده وأركانه وسقفه، حتى أصبح جاهزا للاحتماء به، والاختفاء في داخله، وبين جدرانه، جاء مشهد التدمير الكامل لهذا البناء المحكم، ويلاحظ أن مشهد تدميره، يرد مفصّلا ومتدرّجا، زيادة في الإيضاح والتأثير، وكأننا أمام مشهد معروض، نتابع خطوات التدمير، جزءا وراء جزء، ويبدأ مشهد التدمير من القواعد الأساسية التي يقام عليها البناء، ثم تتبعها حركة سقوط السقوف فوقهم لتدميرهم تدميرا كاملا. ثم يمتد التصوير في الزمان والمكان، لينتقل المشهد من الدنيا إلى الآخرة، في نقلة متصلة في السياق والتصوير ليكشف لنا عن مشهد هؤلاء المتكبرين يوم القيامة وما هم عليه من خزي ومذلّة، لتقابل صورتهم في الآخرة، صورتهم في الدنيا حين كانوا يتكبرون عن دعوة الله ويتعالون عليها. ثم يعود التصوير مرة أخرى إلى الدنيا، فيلتقط مشهد احتضارهم، ليرسم خزيهم ومهانتهم على الأرض أيضا، لتكون هذه الصورة الذليلة، قريبة جدا من صورة استكبارهم وعلوّهم، قريبة في الزمان والمكان أيضا، فهم ما زالوا أحياء في الدنيا، وعجزهم واضح، وذلّهم بيّن في ساعة الاحتضار، ثم يعود التصوير للآخرة ليختم بها المشهد، ويصورهم وهم في النار خالدين فيها أبدا. ويتركون هناك في جهنم، وينتهي التصوير والتعبير بهذه الخاتمة المخزية لهم. إن هذا المشهد الحي الشاخص الذي ترسمه الصورة بكل تفصيلاته، لهؤلاء المتكبرين مشهد يتفاعل فيه التصوير مع التعبير، لإيضاح التكبّر عن دعوة الله، والنهاية والمصير لهؤلاء المتكبرين. وفيه يظلّ الخيال نشطا متحركا لمتابعة مراحل التصوير المختلفة، ابتداء من تصوير البناء المحكم ثم مشهد تدميره، ثم مشهد القيامة لهؤلاء المتكبرين، ثم العودة إلى مشهد الاحتضار في هذا السياق المتفاعل الذي يقتضي هذه اللقطة النفسية والفنية، ثم الانتقال من جديد إلى مشهد القيامة، لأنها نهاية الرحلة للجزاء والعقاب. ليترك الصورة حرة طليقة، مثيرة للخيال، وهو يتابع أحوال المتكبرين، يصطلون بنيران جهنم. وتتواصل صورة التواضع مع صورة التكبر، عن طريق التقابل أو التضاد، لإبراز الفروق

بينهما، فالصورة تمثّل وحدة منسجمة، تتواصل الصور في داخل السياق ضمن نظام العلاقات، عن طريق التقابل أو التناظر أو التجاور في التعبير، حتى يتمّ بذلك نموّ المعاني الدينية وتفاعلها، فتكوّن في النهاية وحدة الرؤية الإسلامية للكون والحياة والإنسان. ويعبّر عن التواضع بصورة خفض الجناح، وهي تقابل تصعير الخد تكبّرا، ولكن صورة خفض الجناح صورة محبّبة، أمّا تصعير الخد، فصورة مكروهة منفرة. يقول الله تعالى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الشعراء: 315. فهذه الصورة الحسية، تجسّم معاني الرفق واللين والتواضع، لتكون محسوسة حاضرة في الأذهان دائما، ويلاحظ تناسق هذه الصورة الحسية، مع المعاني الذهنية المجردة، فالجناح هو وسيلة الارتفاع والانخفاض معا، وخفض الجناح يوحي بالهبوط والنزول من مكان مرتفع، لأن الطائر يضمّ جناحيه في لحظة الهبوط، ويخفضهما في حالة الارتفاع والطيران، يبسط جناحيه، ويحركهما، وهذه الصورة متناسقة مع صورة المتواضع، وصورة المتكبر معا، في حالتي الهبوط والارتفاع للطائر. فالمتكبّر، يرتفع ويتعالى، ويبسط جناحيه، ويحرك أطرافه للارتفاع والتعالي، وهي صورة الطائر في حالة الارتفاع والتحليق، والمتواضع يخفض جانبه للناس، ويضم أطرافه، في حركة متناسقة مع صورة الطائر، وقت هبوطه، وخفض جناحيه ... وهكذا تكشف الصورة عن حقيقة الإنسان، وما في نفسه من مشاعر متقابلة، وخطوط متوازية، ففيه استعداد للتكبّر والتعالي، وفيه أيضا استعداد للتواضع ولين الجانب، ومن خلال هذا التقابل بين الصورتين، تتّضح المعاني الحميدة، والمعاني الذميمة، ويتم توجيه الإنسان التوجيه الديني المطلوب، وفي هذا المعنى يقول الله تعالى في حضّ الأبناء على خفض الجناح للوالدين: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً الإسراء: 24. وترد هذه الصورة للدلالة على معنى آخر غير التواضع، ولكن في سياق مختلف أيضا كقوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ الأنفال: 61. وتصوير ميلهم إلى السلام ب «الجنوح» صورة معبّرة، تتواصل مع صورة خفض الجناح وإيحاءاتها، فلا يكفي في السلام مجرد ميلهم الداخلي، ما لم يتحول هذا الميل إلى واقع حي ملموس، يتمثّل في خفض الجناح، ولين الجانب. وهو ما توحي به صورة «الجنوح»

وتعبّر عنه، لأنها من المادة اللغوية نفسها، ومن ملازمات خفض الجناح، والاختلاف في الصيغة لا يغيّر من جوهر الصورة لأن التصوير للمعنى بالجنوح، يوحي بحركة جناح يميل إلى السلام، ويرخي جناحه برقّة ولين. وتنقل الصورة المعنى الذهني، وما يصاحبه من مشاعر وأحاسيس، كقوله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ البقرة: 81. فهذه الصورة، تعبّر عن المعنى وهو اقتراف الذنب، بلفظ «الكسب» للإيحاء بأن المذنب يقترف السيئة كأنّه يكسبها كسبا ماديا، ويضيفها إلى حسابه، وإيحاء آخر، وهو أن الذنب أو المعصية فيها إغراء وجاذبية تشدّ مقترفها إليها ولولا هذه الجاذبية والإغراء، ما أقدم على ارتكابها باندفاع وحماسة. فالتصوير الحسي هنا، تصوير واقعي، مجسّم، يتغلغل في أعماق النفس، ليصوّر ما فيها من مشاعر وقت ارتكاب المعصية بلفظة واحدة هي «كسب» ولكن الصورة هادفة، وليست تصويرا للواقع لإقراره، والاعتراف به وإنما لتوجيه هذا الواقع المنحرف والتحذير من ارتكاب المعاصي، لهذا جاءت صورة الخطيئة المحيطة بصاحبها، بعد صورة اكتساب المعصية، واستخدام لفظ «الخطيئة» يعدّ حكما صادرا على الذنب أو المعصية، ولو ظنّ صاحبها أنها كسب له، فهي خطيئة يعاقب عليها. وتصوّر الخطيئة، محيطة بصاحبها، والمذنب لا ينفك عنها، ولا يفلت من حصارها، فهو محبوس في داخلها، حتى تقضي عليه في النهاية. وهذه صورة تجسيمية للمعنى الذهني، لها وقعها في الحس والنفس معا أكثر من أي تعبير ذهني مجرد، لا يتجاوز تأثيره العقل أو الذهن، بينما هذه الصورة المجسّمة للخطيئة، تدخل إلى النفس، من منافذ شتّى، من الحس، والخيال، والذهن، والوجدان. وصورة الإحاطة، تكررت في الأسلوب القرآني في مواضع عدة، لتصوير المعاني الذهنية من ذلك قوله تعالى وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ الكهف: 42، والصورة هنا تعبر عن هلاك الثمر واستئصاله. وترد هذه الصورة في سياق آخر أيضا، لتعبر عن المعنى نفسه وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ البقرة: 19، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ العنكبوت: 54.

ولكنها توحي بظلال من خلال اختلاف الأنساق الواردة فيها، على الرغم من التواصل بين الصور، في التناسب المعنوي. فصورة إحاطة الله بالكافرين، توحي بالشمولية والقدرة، والتمكن من إهلاك الكافرين. وصورة جهنم المحيطة بهم أيضا توحي بالخوف والفزع، بمجرد أن يتصور الإنسان إحاطة جهنم بالكافرين، وهم في داخلها يحترقون. وتكثر أيضا صورة الانقلاب على العقبين في تصوير الارتداد النفسي والحسي معا كقوله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً آل عمران: 144. فالصورة هنا، تعبّر عن الارتداد بحركة حسية، حتى يغدو المعنى الذهني مشهدا منظورا، يجسّم المعنى الذهني، وما يصاحبه من حركة ارتداد داخلية أولا، تتمثّل في حركة حسية خارجية مرئية بعد ذلك. ووردت هذه الصورة في مواضع أخرى كقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ البقرة: 143، وكقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ آل عمران: 149، .. قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ المؤمنون: 66. وصورة «قطع الدابر» في التعبير عن الإهلاك والاستئصال، كثيرة في الأسلوب القرآني، وهي أيضا تمتد، للتواصل مع صورة حركة الانقلاب على الأعقاب، فبين الصورتين هذا التناسب الشكلي والمعنوي، في الأدبار والأعقاب، وفي التحقير والترذيل. يقول الله تعالى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الأنعام: 45. وصورة قطع الدابر توحي بالاستئصال الكامل. وكأن الظالمين يقفون في صفوف منتظمة، وعلى هيئة مخصوصة، فيأتي قطع دابرهم، أي آخرهم، للإيحاء بأنهم هلكوا جميعا. ومن ذلك قوله أيضا: وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الأعراف: 72، وقوله تعالى: وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ الأنفال: 7، ووَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ الحجر: 66. وقريب من هذه الصورة المستكرهة صورة تولّي الأدبار، في التعبير عن الهزيمة والفرار، يقول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ الأنفال: 15 - 16.

وتصوير الفرار من المعركة، بإعطاء الأدبار للأعداء، صورة قبيحة مستنكرة، في الحياة الإنسانية، وهي صورة أيضا تجلب غضب الله، وتنتهي بالمهزوم إلى جهنم وبئس المصير. فالصورة هنا ترسم الفرار من المعركة بهيئة كريهة، تثير في النفس قبح الهزيمة، فهي صورة كريهة في بدايتها، وكريهة في امتدادها، ومصاحبة غضب الله لها، وكريهة أيضا في خاتمتها. وهكذا تتناسق هذه المجموعة من الصور في الشكل الكريه، والأثر القبيح، في تصوير المعاني الذهنية وتوجيه الإنسان نحو المعاني السامية النبيلة. فتتواصل الصور في السياق، كما تتواصل المعاني فيما بينها أيضا، لبناء الرؤية الإسلامية، وبناء الإنسان وبناء الحياة. وتعبّر الصورة القرآنية عن طاعة الشيطان، والانقياد له، بصورة حسية متحركة وهي «اتباع خطوات الشيطان» قال تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ البقرة: 168. فهذه الصورة تجسّم المعنى، وتجعله واقعا محسوسا، وتجعل عدو الإنسان الشيطان، يقود الإنسان الضال إلى موارد هلاكه، والإنسان الضال، يقتفي أثره، خطوة خطوة، يطيعه، وينقاد إليه انقيادا أعمى. وهذه الصورة كثيرة الورود في القرآن، للدلالة على هذا المعنى، ولكننا قد نجد في بعض الأحيان تفصيلا فيها، لزيادة التحذير من الشيطان وأتباعه، كقوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة: 208 - 209. وصورة الشيطان هنا فيها حركة تخييلية حسية. يبدو فيها قائدا، يقود جموع الضالين، والحمقى يتبعونه، ويقتفون آثاره وخطواته، مع أنه عدو قديم للإنسان، أعلن صراحة عن دوره في إغوائه حسدا وحقدا. وتمضى الصورة في التخييل الحسي باستخدام لفظة «زللتم» التي ترسم زلّة الأقدام عن الطريق السوي، وسقوط أصحابها في هوة المعاصي ... ثم يأتي التعقيب على التصوير، متناسقا مع جوّ الصورة وإيحاءاتها فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. وتمتد صورة الشيطان في السياق القرآني، ليصبح الشيطان قرينا ملازما للإنسان الغافل عن الله، يقول تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ، حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ

فَبِئْسَ الْقَرِينُ، وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ الزخرف: 36 - 39. فالغافل عن ذكر الله، يصوّر هنا بصورة حسية بصرية وهي «العاشي» الذي لا يبصر، وطالما أنه لا يبصر طريقه، فإنه ينقاد للشيطان، ويطيعه طاعة عمياء، حتى يصبح له قرينا، يصدّه عن الهدى والنور. وتمتد الصورة في التفصيل، ويجسّم المعنى الذهني في مشهد حي شاخص، تراه الأبصار، وتستخدم الأفعال المضارعة «يصدونهم- يحسبون ... » لإحياء المشهد، وجعله حاضرا أمام العيون، فهذه الوسوسة الشيطانية مستمرة ملحوظة في المشهد المصوّر، ولكنّ العاشي لا يراها، لأنه ضعيف الرؤية، ويظلّ هؤلاء المخدوعون على حالهم وخداعهم لأنفسهم أنهم مهتدون، حتى يطويهم الموت، ويفاجئهم يوم القيامة، فيرى الضالون قرينهم الذي أضلّهم، فيتمنّون أن يكون بينهم وبينه بعد المشرقين، ثم يصدرون الحكم بأنفسهم عليه فَبِئْسَ الْقَرِينُ ولكن هذه الأمنية، وهذا الحكم الصادر منهم، لا يفيدانهم شيئا، فهم الآن يشتركون في العذاب كما اشتركوا في الدنيا في الضلال والكفر. فالشركة بين الشيطان وأتباعه ممتدة أيضا في العقاب والجزاء. فهذه الصورة لأتباع الشيطان، والانقياد له، تتواصل مع الصورة الأولى في اتباع خطواته، فهي تعدّ امتدادا للصورة الأولى، ويلاحظ اعتماد الصورة هنا على الحوار، لإحياء المشهد المجهول، وكأنه منظور، كما يلاحظ امتداد التصوير في الزمان والمكان، لتحقيق التأثير الديني، كما يلاحظ ترابط خاتمة الصورة مع مقدمة التصوير، فيسدل ستار المشهد على عذاب أتباع الشيطان مع قائدهم، كما بدأ المشهد باشتراكهم في الضلال والعمى عن الحق. وهؤلاء العاشون عن ذكر الله، هم الذين استحوذ عليهم الشيطان، فأنساهم ذكر الله كما قال تعالى فيهم اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ المجادلة: 19. وصورة استحواذ الشيطان عليهم، صورة كريهة، توحي باستيلائه عليهم، وامتلاكه لهم، وصورة الاستحواذ هذه تتواصل مع صورة اتباع خطوات الشيطان، وصورة العاشي عن ذكر الله، وتتفاعل هذه الصورة في تأدية المعاني الدينية ونقلها إلى المتلقي عن طريق الإيحاء بها.

وتجسّم الصورة وسائل غواية الشيطان واستيلائه على قلوب أتباعه وعقولهم بقوله تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ، وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ، وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً الإسراء: 64. فوسائل الغواية مجسّمة بصورة المعركة فيها الأصوات والخيول والرجال والشيطان في معركة مع الإنسان، يستخدم كل الوسائل لغوايته وإضلاله، ويستخدم أسلوب الاستدراج، حتى يخرجه من حصونه، وقلاعه، ثم يستولى عليه بعد ذلك. يقول الزمخشري بهذا المعنى: «فإن قلت ما معنى استفزاز إبليس بصوته، وإجلابه بخيله ورجله قلت: هو كلام ورد مورد التمثيل. مثّلت حاله في تسلّطه على من يغويه بمغوار أوقع على قوم فصوّت بهم صوتا يستفزّهم من أماكنهم، ويقلقهم عن مراكزهم، وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم» «13». وتعبّر الصورة عن الموت، وما يتعلق به من المعاني، وكأنه شخص حاضر، يطارد الإنسان طوال حياته حتى يقبض عليه، يقول تعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ... الجمعة: 8. فالصورة ترسم الموت، شخصا حيا متحركا يطارد الإنسان، وهو يهرب منه في خوف وذعر، ويظلّ الموت يطارده، والإنسان يجري أمامه، حتى يلاقيه الموت أو يدركه، فالقرآن الكريم لم يقل إن الإنسان سيموت بتعبير مباشر، وإنما صوّر هذا المعنى الذهني في حركة الإنسان في الحياة، وهو يفرّ خائفا من الموت وهو يلاحظ ليمسك به في النهاية. ويترك للخيال أن يتابع حركة المطاردة هذه، ويقدّر ما تستغرقه من الزمن، قد يطول، وقد يقصر، ولكن نتيجة المطاردة معروفة فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ، ويرتبط مشهد الاحتضار بصورة الموت، فيصوّر تصويرا حيا مرهوبا يقول الله تعالى: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ، وَقِيلَ مَنْ راقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ القيامة: 26 - 30. فالمشهد هنا حي متحرك شاخص، تسهم الألفاظ في تصويره، ورسم دقائقه المفصّلة، فهذه الروح قد وصلت إلى المرحلة الأخيرة في الحلقوم، والحاضرون ينظرون لمشهد الميت لا مكروب، عاجزين عن ردّ الروح إليه، ولم يبق أمامهم إلا الرقية لعلّها تفيده، بينما الروح

_ (13) الكشاف: 2/ 456.

تواصل الخروج، ويشتد الكرب، وتصوّر شدّته بحركة التفاف الساق بالساق، على طريقة القرآن في تصوير المعاني، وهذه الروح تواصل الخروج وكأنّها تسير في طريق معلوم محدد، تساق إليه إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ فعنده ينتهي المطاف والمساق. ويتكرّر هذا المشهد في سياق آخر مع لمسة نفسية في قرب الله منه في تلك الساعة، مع تصوير عجز الناس عن مساعدته، لتكون صورة قرب الله منه، تقابل صورة بعد الناس عنه، وعجزهم أمام خروج الروح: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ الواقعة: 83 - 85، فالصورة توحي بالشدة واليأس والذهول، كما توحي بعجز البشر، عن إيقاف الروح المتجهة إلى ربّها، وتصوير الحضور الإلهي في هذه اللحظة، يضفي على الصورة رهبة وجلالا وتأثيرا في النفس. وإذا كانت نهاية الإنسان هي الموت، والمساق سيكون إلى الله وحده، فيجب الاهتمام بأمر العقيدة، وتربية الأبناء عليها وتوريثها للأجيال. وقد عبّرت الصورة عن توريث العقيدة، وكأنها شيء مادي محسوس يورّث للأبناء، في مشهد يعقوب حين حضرته الوفاة: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ البقرة: 133. وفي هذه الآية يجسّم الموت في صورة حسية، فيصوّر كأنه غائب، ينتظر قدومه في أي لحظة، فهو يحضر إلى يعقوب بعد غياب عنه، وهنا يبدأ تصوير مشهد الموت ليعقوب، ويعتمد التصوير على الحوار، لإحياء المشهد والزيادة في تأثيره وإيحائه. ويعرض فيه يعقوب مهتما بأمر العقيدة، فيحاور أبناءه في شأنها، ليطمئن على غرسه من بعده، فيكون جوابهم أنهم سيسيرون على خطا أبيهم، وأجدادهم في الالتزام بها. هذه الصور للموت، ليست منفصلة بعضها عن بعض، بل هي صور مترابطة، متواصلة، فكل صورة ترسم معنى يتعلق به، وتزيد الصورة الثانية على الأولى بعض اللمسات الفنية والنفسية، لتحقيق التأثير الديني، الذي هو غاية التصوير، ثم تأتي الصورة الثالثة، لتوضّح ضرورة الاهتمام، بتربية الأبناء على العقيدة، والاطمئنان عليهم قبل الموت. فالمعاني الذهنية، لا تعرض مجردة بأسلوب مباشر، وإنما يعبّر عنها بالصورة المحسوسة، لتكون أبلغ في التأثير في المتلقي. حتى القرآن الكريم، تخلع عليه الصفات الإنسانية على طريقة التصوير

الفني ليتفاعل معه الإنسان، ويتجاوب مع خطابه وتوجيهاته كقوله تعالى: يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ يس: 1 - 2. والحكمة صفة العاقل، ووصف القرآن بها في هذه الآية، ويخلع عليه صفة الحياة والحكمة على طريقة التصوير الفني، لإبراز حقيقة معنوية، وهي أن القرآن فيه الحكمة والموعظة، ولكن الصورة تجعل القرآن حكيما كلّه، لتوحي بشمول حكمه ومواعظه القرآن الكريم من أوله إلى آخره، بالإضافة إلى أن وصفه بالحكمة «يلقي عليه ضلال الحياة والإرادة، فكأنما هو كائن حي متصف بالحكمة في قوله وتوجيهه، وإنه لكذلك فيه روح وفيه حياة، وفيه حركة، وله شخصية ذاتية مميزة، وفيه إيناس وله صحبة يحسّ بها من يعيشون معه، ويحيون في ظلاله، ويشعرون له بحنين وتجاوب، كتجاوب الحي والحي، والصديق والصديق» «14». وتتواصل الصور الفنية في التعبير عن القرآن وكأنّه حي، على سبيل التشخيص كقوله تعالى: لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ سبأ: 31، فالقرآن ليس له يدان، ولكن هذه الصورة التشخيصية يراد بها التعبير عن قرب الكتب السماوية منه، واتصالها به، وكأنها بين يديه. وصورة النور هي الصورة الدالة عليه كقوله تعالى: وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا التغابن وقوله أيضا: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ المائدة: 15. فهو نور، لأنه يزيل الشبهات، ويهدي إلى الحقّ. ويعبّر عن قوة تأثيره في القلوب بصورة حسية وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً الجن: 19، وصورة لبدة الصوف معروفة في تجمّعها وتكتّلها، وتشابك خيوطها، وهي هنا تعبر عن تجمّع المشركين أو الجن حول الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي، ليستمعوا إلى تلاوة القرآن، وسحر بيانه، وقوة نظمه. ولكن أثر الدين في الإنسان، يجسّم في صورة حسية أخرى، للإيحاء بتلاحم الظاهر والباطن في سلوك الإنسان: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ البقرة: 138. فصورة صباغة الثوب الحسية، توحي بأن أثر الدين في الإنسان، ليس أثرا داخليا

_ (14) في ظلال القرآن: 5/ 2783.

فحسب، وإنما هو أثر خارجي محسوس، يظهر في سلوك الإنسان، كما يظهر أثر الصبغ في الأثواب. ويعبّر عن «التقوى» بصورة حسية مألوفة، لتكون ماثلة للعيان وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى البقرة: 197، فالصورة هنا تجسّم التقوى، وتجعلها مادة محسوسة، مثيرة للخيال، من خلال استحضار أنواع الزاد الحسي الذي تقابله صورة الزاد المعنوي، وإجراء المقارنة بينهما، وتفضيل الزاد المعنوي على الزاد الحسي، وهذه الصورة المجسّمة للتقوى، مرتبطة بالسياق الذي يتحدث عن الحج، وأجواء الحج أجواء روحانية باقية، فكأن الصورة الحسية للتقوى، توحي بضرورة المحافظة على روحانية الحج، والتزوّد من هذه الأجواء في رحلة الحياة الطويلة. والصبر، يجسّم في صورة حسية أيضا في قول الله عزّ وجلّ: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً البقرة: 250. فالصبر وهو شيء معنوي يصوّر بماء بارد يفرغ في قلوب المؤمنين، فيملؤها سلاما وهدوءا وطمأنينة في المواقف العصيبة. ومشاقّ الجهر بالدعوة، تجسّم في صورة الزجاجة المصدوعة فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الحجر: 94، وهذه الصورة الحسية، توحي بحقيقة الجهر بالدعوة، وما سيحدثه من صدع في قلوب الكافرين، وإنكار يظهر في قسمات وجوههم، كما أنّ الجهر بالدعوة، يحدث تمييزا أو شقا بين المؤمنين والكافرين، فلكلّ منهما طريقه المواجه للآخر، ولهذه المواجهة بين الفريقين أعباؤها ومشاقّها، ولا بدّ من تحمّل هذه المشاق في سبيل الجهر بالدعوة، وإبلاغها للناس. وهذه من إيحاءات الصورة المرسومة، بجرس اللفظ «اصدع»، وما فيه من قوة وشدة، يتناسق مع المعنى، ويوحي به. وتعبّر الصورة عن ظواهر كونية مرئية، وترسمها بدقة وعناية، لإحياء هذه الظواهر في الحس الغافل عنها، وتحقيق التأثير الديني من وراء تصويرها. فصورة الليل والنهار، وما بينهما من اتصال وثيق، وتعاقب مستمر، تعرض من خلال صورة السلخ الحسية وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ يس: 37. فصورة الانسلاخ، توحي باتصال الليل والنهار، مثل التصاق الجلد بالشاة، وظهور الليل المتدرّج أشبه بصورة سلخ جلد الشاة، فإذا تمّ الانسلاخ كاملا، انفصل أحدهما عن الآخر، وعمّ الظلام، أما قبل السلخ الكامل، فيلاحظ اتصال أحدهما بالآخر، وامتزاج اللونين

الضياء والظلام، وهذه حقيقة علمية، توحي بها الصورة، فحين يكون ظلام في جهة، يكون ضياء في الجهة الأخرى، وهكذا يتجاوز الضياء والظلام في الصورة، كما هما ملحوظان في الحركة الكونية على ظهر الأرض. وقد تعبّر الصورة عن المعاني الذهنية، بطريقة تهكمية ساخرة كقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ التوبة: 34، وقوله أيضا: ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ، ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ الدخان: 48 - 49، وقوله أيضا: قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ هود: 87. فالصورة هنا تعبّر عن أضدادها، فصورة التبشير بالعذاب، تعبّر عن الإنذار به، وصورة الإذاقة الحسية تعبّر عن التجرّع غير المستساغ، وصورة العزيز تعبّر عن الذليل المهان، وصورة الحليم الرشيد تعبّر عن الغوي السفيه. وقد يقترن تصوير المعاني الذهنية بالحركة، لتجسيم تلك المعاني بالخيال كقوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ البقرة: 198. فصورة الإفاضة هنا تعبّر عن نزول الحجاج من عرفات، والصورة بتشكيلها اللغوي أَفَضْتُمْ، توحي بالفيض أو الفيضان، أو كثرة الحجاج وقت نزولهم من عرفات، على شكل أفواج متتابعة، يجلّلها الوقار والخشوع، بعد تعرّضها لفيض الرحمة على عرفات. ويعبّر عن حركة الناس وتدافعهم في سياق آخر، بصورة الموج وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً الكهف: 99، فالصورة هنا، تعبر عن القلق والاضطراب والتدافع وهي ملائمة لحركة الناس يوم البعث من القبور أو حركة يأجوج ومأجوج عند انهدام السدّ. وإذا قارنا بين الصورتين أَفَضْتُمْ ويَمُوجُ فِي بَعْضٍ نلاحظ أن الحركة التصويرية في أَفَضْتُمْ توحي بالخشوع والنظام والسير في اتجاه واحد مرسوم، بينما في يَمُوجُ توحي بالفوضى والتدافع مثل حركة الأمواج المتلاطمة. وتجمع الصورة إلى جانب الحركة في نقل المعاني الذهنية، عنصر الصوت، لزيادة التأثير والإيحاء كقوله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ الأعراف: 154.

فهذه الصورة تعبّر عن هدوء موسى بعد ثورة الغضب، ولكنّ تصوير المعنى بالسكوت، له مغزاه، وإيحاؤه. فالتصوير لا ينقل المعنى فحسب، وإنما يرصد أيضا ما يصاحب الغضب من حركات وأصوات. ومن ذلك أيضا قوله تعالى في تصوير الروع يذهب ويجيء: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ هود: 74. فالصورة هنا تجعل الروع حيا شاخصا، يذهب ويجيء، وكذلك البشرى، كما كان هناك الغضب يصرخ ويسكت، ويثور ويسكن. إنها صور حية شاخصة، تتحوّل فيها المعاني إلى أشخاص يثورون ويغضبون، ويهدءون، ويذهبون، ويروحون، علي طريقة القرآن الكريم في إحياء المعاني في الذهن والخيال، ليتفاعل الإنسان معها على أنها أشخاص حيّة، وليست معاني ذهنية مجردة. وقد تقترن مع التصوير للمعاني الحركة واللون أيضا كقوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً مريم: 4، فالمعنى المراد، أنه كبر في السن وشاب، لكن المعنى الذهني يعرض في صورة حسية موحية ومؤثرة، فيها حركة الشيب في الرأس، مصوّرة من خلال حركة اشتعال النار، وهي حركة بطيئة متدرّجة، حتى تعمّ الرأس كلّه، كما تعمّ النار الأشياء المشتعلة، وفيها اللون أيضا، فلمعان الشيب يشبه لمعان النيران، فهذه الصورة الحسية، ترسم دقائق المعنى وتفاصيله في لونه وحركته وشموله للرأس كله. وتكثر الصور الحسية المستمدة من الأوزان والأحجام والأثقال لتجسيم المعاني الذهنية، لأنها صور مألوفة لها وقعها في النفس حين توضع في أنساق تقتضيها. كقوله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا المزمّل: 5، فثقل القول صورة مجسّمة تحيل المعنى الذهني إلى شيء محسوس، ليصبح التكليف المعنوي، ثقيلا ملموسا. كذلك يعبّر عن يوم القيامة وهو زمن معنوي بصورة حسية ذات وزن وثقل يقول تعالى: إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا الإنسان: 27، وهذه الصورة تعبّر عن شدّة ذلك اليوم، وثقله على النفوس، فهو ليس يوما عاديا وإنما هو يوم موزون بالأثقال لشدته وأهواله. وتتواصل هذه الصورة في السياق القرآني، بصيغ مختلفة، للتعبير عن المعاني الذهنية المتعددة. كقوله تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ

خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ الأعراف: 8 - 9. ففي الآية الأولى تصوير لكثرة الأعمال الصالحة، وثقلها في الميزان، تقابلها في الآية الثانية صورة أخرى تتواصل مع الأولى في السياق، عن طريق التضاد، لإبراز الفروق، بين الأعمال الثقيلة والخفيفة، والأعمال الصالحة والطالحة، وبين الفلاح والخسران. وهاتان الصورتان المتقابلتان في السياق القرآني هنا، تتواصلان أيضا في سياق آخر، مع زيادة في تصوير الجزاء والعقاب، المترتب على وزن الأعمال: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ، فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ، وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ، نارٌ حامِيَةٌ القارعة: 6 - 11. ويلاحظ هنا الإجمال في صورة الجزاء على الأعمال الصالحة فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ لتلقي في الحس والشعور والخيال ألوانا من العيش الرغيد، والرضا الهنيء. أما صورة العقاب، فقد جاءت أكثر تفصيلا وإثارة، فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ والتعبير بالأم يوحي بالملجإ والملاذ، فكما أن الأمّ تندفع نحو أولادها، لتحتضنهم بين ذراعيها كذلك النار الهاوية، التي تهوى العصاة، وتعشقهم، لأنّ «الهاوية»، من هوي يهوى فهي هاوية، تندفع إليهم في حب وهيام، وهذه الصورة. تبعث السخرية والتهكم من العاصين، أو أصحاب النار عموما، كما أنها توحي بالسقوط في المكان السحيق، ويتركها التعبير القرآني مجملة هكذا، لاستجاشة الشعور وإيقاظه لاستقبال ما بعده من وصف وتصوير وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ والسؤال يزيد من الإثارة، لمعرفة حقيقة هذه الأم الهاوية، فيأتي الجواب الحاسم الواضح بعد الإثارة والغموض، ليتعمّق الأثر الديني في أعماق الشعور والنفس. ومن ذلك أيضا تصوير دقّة الحساب يوم القيامة بصور حسيّة مجسّمة للمعنى في الوزن والحجم والثقل مثل: الفتيل، والنقير، وحبة الخردل، ومثقال الذرة. يقول الله تعالى: وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا الإسراء: 71، وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً النساء: 124، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها الأنبياء: 47، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ الزلزلة: 7 - 8. ويتواصل تصوير الأعمال في السياق القرآني، لإبراز الفروق بين الأعمال المبنية على الإيمان، والأعمال القائمة على الباطل، وبيان الأعمال المعتبرة عند الله، وهي أعمال المؤمنين،

والأعمال التي لا قيمة لها، وهي أعمال الكافرين لأنها تقوم على الباطل. وصورة «الحبوط» الحسية تعبر عن بطلان الأعمال للكافرين، وهي كثيرة الورود في التعبير القرآني للدلالة على هذا المعنى يقول الله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ... آل عمران: 22. ووَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ البقرة: 217. وذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ محمد: 28. ووَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ... المائدة: 5. وأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ التوبة: 17. ووَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ الأعراف: 147. والحبوط في الأصل اللغوي لها تعني انتفاخ بطن البعير من رعي نبات سام، يؤدي إلى الهلاك «15». وهنا نلاحظ العلاقة والتشابه بين المدلول الحسي للكلمة، وصورة أعمال الكافرين التي تكبر، وتنتفخ في المظهر، أو الشكل كانتفاخ بطن البعير، ولكن لا قيمة لهذا الانتفاخ، لأنه ناتج عن داء، والنهاية تكون هلاك البعير، كذلك بطلان أعمال الكافرين، لأن الأساس الذي بنيت عليه غير موجود، وهو الإيمان، فالإيمان وحده، هو الذي يمنح الأعمال قيمة عند الله ووزنا. وهكذا تستثمر الصورة الدلالة اللغوية للكلمة، للإيحاء بالمعاني الدينية، فالأعمال القائمة على الإيمان، هي الباقية والمفيدة، والأعمال النابتة من سموم الباطل، هي أعمال ضارة، ومهلكة لأصحابها يوم القيامة، وإن عظمت في الدنيا، وكبرت وانتفخت، فهذا لا يغيّر من حقيقتها شيئا ويمتدّ تصوير الأعمال في الأسلوب القرآني، في أنساق أخرى، وصور جديدة تلائمها، فهي هباء منثور في قوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً الفرقان: 23. وهنا تجسّم أعمال الكافرين في صورة «القدوم» وصورة نثرها في الهواء، ويظلّ الخيال

_ (15) القاموس المحيط: مادة حبط.

يتابع الحركة المصوّرة للأعمال في حركة القدوم، وحركة النثر معا، ويتابع أجزاء الأعمال بعد أن صارت هباء منثورا موزّعا في كل اتجاه ومكان، حتى لم يبق منها شيء، وكذلك أعمال الكافرين، لا قيمة لها عند الله، كما توحي بذلك الصورة المجسّمة. وتصور أعمال الكافرين الحسنة كائنات حية شاردة عن أصحابها، وعاقبة الشرود الضياع، فلا يستفيدون منها شيئا الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ محمد: 1، وأعمال الإنسان عموما. تعرض كأنها أشياء مادية محسوسة، فمرة تصوّر بكائنات بشرية تحضر الحساب مع أصحابها على طريقة «التشخيص» كقوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً آل عمران: 30. ومرة تصوّر حاضرة للحساب على طريقة «التجسيم» كقوله تعالى: وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً الكهف: 49، وأحيانا تصوّر الأعمال ودائع عند الله تسلّم لأصحابها يوم القيامة كقوله تعالى: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ البقرة: 110. والكافرون، لا يستفيدون من أعمالهم التي عملوها في طريق الخير، لأنها لم تعتمد على الإيمان، والإيمان كان بين أيديهم، ولكن الحواجز المعنوية حجبتهم عنه، وقد عبّرت الصورة عن هذه الحواجز التي منعتهم من الإيمان، وذلك في قوله تعالى: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ البقرة: 88. وصورة القلوب «غلف» توحي بسماكة الأغطية التي غطت قلوبهم، فأحكمت سدّها حتى لم يبق هناك منافذ للمعرفة والإدراك، لكي تستجيب لداعي الإيمان. وأحيانا تصوّر القلوب بالأبواب المقفلة بالأقفال لإحكام سدّها حتى لا تنفذ الدعوة إليها يقول تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها محمد: 24. وأحيانا يعبّر عن إعراضهم عن الإيمان بصور أخرى، تدلّ على تعطيلهم حواسهم التي هي منافذ الإدراك. يقول تعالى: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ فصلت: 5. فصورة الأغطية على القلوب، والصمم في الآذان، والحجاب على العيون، كلها حواجز مادية تمنع من الفهم والإدراك والمعرفة، والاستجابة لدعوة الإيمان. وبعد تعطيلهم حواسهم، أصبحوا هم والأنعام سواء، في عدم الوعي والإدراك، بل إنهم

أدنى منها وأحطّ لأنهم ملكوا هذه الحواس التي هي أدوات المعرفة والإدراك ولكنّهم عطّلوها. بينما الأنعام ليست كذلك. يقول تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ الأعراف: 179. فهذه صورة زرية لأولئك الذين يعيشون في غفلة، بعد تعطيل حواسهم، حتى صاروا كالأنعام، التي لا تعي ولا تدرك، بل إنهم أحط منها، لأنها لا تملك ما يملكون من وسائل المعرفة والإدراك. وتتواصل الصورة لهؤلاء في الأسلوب القرآني، وتمتد في أنساق أخرى، لتعرض في صور أخرى مرتبطة بالصورة الأولى «تعطيل الحواس» فهم قد أصبحوا أيضا في صورة الأموات، وإن كانوا ما زالوا أحياء. يقول الله تعالى: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ النمل: 80 - 81. فهم في صورة الموتى لا يشعرون، وفي صورة الصمّ لا يسمعون، وفي صورة العمي لا يبصرون، وهكذا تتلاحق الصور الحسية مجسّمة المعنى الذهني، لتعمّقه في الشعور، وتتراءى صورة المؤمنين الوضيئة من خلال تلك الصور القاتمة، فالمؤمنون هم الأحياء، لأنهم يسمعون، فيسلمون. ويتكرّر تصويرهم بالموتى، مع التهديد بالحشر يوم القيامة يقول تعالى: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ الأنعام: 36. ويصوّرون أيضا بالدوابّ تحقيرا لهم، وازدراء بهم. يقول تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ، إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ الأنفال: 21 - 22. وصورة الدوابّ تثير في الحس والخيال صورة الاستنكار من تعطيل الحواس، حتى أصبحوا لا يسمعون، ولا يستجيبون. كذلك نجد الإلحاح في تصوير المعرضين عن الإيمان، بصور العمي، والصم، والبكم، وكلّها صور تتناسق مع الصور السابقة، وتتعاون معها في تصوير الكافرين الذين عطّلوا حواسهم، فاستحقّوا هذه الصور المطابقة لحالهم. قال تعالى: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ

المائدة: 71، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ البقرة: 18، أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ الرعد: 19. ويمتد تصويرهم في مشهد حي شاخص، تبصرة العيون كأنه حاضر الآن، لتوضيح إصرارهم على الكفر واليأس من إيمانهم لأنهم مقمحون. يقول تعالى فيهم: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ، وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ يس: 8 - 9. فهؤلاء ليسوا في حالة تمكّنهم من رؤية الحق، على الرغم من قربه منهم، لأنهم محجوبون عنه بالموانع والسدود التي تمنعهم من رؤيته، فهم، لا ينظرون نظرة سوية إلى الأمام حتى يروه، كما أن حاسة الرؤية عندهم معطلة، فهم لا يبصرون، وكيف يبصرونه، وقد أقاموا من حولهم السدود والحواجز حتى لا يروه؟ يقول سيد قطب في تفسيره لهذه الآية: «يصوّرهم: أنهم مغلولون ممنوعون قسرا عن النظر، محال بينهم وبين الهدى والإيمان بالحواجز والسدود، فغطى على أبصارهم فلا يبصرون، إن أيديهم مشدودة بالأغلال إلى أعناقهم، موضوعة تحت أذقانهم، ومن ثم فإن رءوسهم مرفوعة قسرا لا يملكون أن ينظروا بها إلى الأمام ومن ثم فهم لا يملكون حرية النظر والرؤية وهم في هذا المشهد العنيف، وهم إلى هذا محال بينهم وبين الحقّ والهدى بسدّ من أمامهم، وسدّ من خلفهم، فلو أرخى الشدّ فنظروا لم تنفذ أبصارهم كذلك من هذه السدود، وقد سدّت عليهم سبيل الرؤية، وأغشيت أبصارهم بالكلال» «16». ولكنّ الزمخشري رأى أن «الأغلال واصلة إلى الأذقان، ملزوزة إليها» «17» لهذا فهي تمنعهم من طأطأة رءوسهم، حتى لا يروا أمامهم. وسواء أكانت الصورة المرسومة لهم تعني شدّ الأيدي بالأغلال إلى الأعناق، كما ذهب سيد قطب أم كانت الأغلال واصلة إلى الأذقان، كما قال الزمخشري، فإن النتيجة واحدة وهي أنهم مقمحون، أي أنّ رءوسهم مرفوعة إلى الأعلى، فلا يرون طريقهم لهذا السبب. والذي يعنينا هنا من الصورة هو وظيفتها، لا هيئتها، ووظيفة الصورة في هذا السياق

_ (16) في ظلال القرآن: 5/ 2959 - 2960. (17) الكشاف: 3/ 315.

تثبت أنهم لا ينظرون إلى آيات الله المبثوثة أمامهم، بسبب هذه الحواجز والسدود، التي أقاموها حولهم، حتى لا يروا الحقّ الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. ويمضي تصويرهم في التعبير القرآني، لرسم صورة أخيرة لهم، وهي صورة الختم على القلوب والأسماع والأبصار، يقول الله تعالى فيهم: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ البقرة: 7. فهم قد سدّوا كل المنافذ، وأغلقوها بإحكام وأختام حتى لا ينفذ النور إليها. وتتكرر صورة الختم هذه، بصورة أخرى تماثلها وهي الطبع على القلوب، فالطبع على القلوب هو الختم عليها «18». وهذه الصورة كثيرة أيضا في القرآن الكريم، للإيحاء بأنه لا جدوى من دعوتهم بعد طبع القلوب وختمها يقول الله تعالى: وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ التوبة: 93، أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ النحل: 108، أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ، وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ محمد: 16، وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ الأعراف: 100، كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ يونس: 74، وغير ذلك من الآيات. وإذا كانت الصورة هنا تعبّر عن شدة إغلاق منافذ الإدراك والمعرفة بالختم والطبع، فإنها تعبر في سياق آخر عن شدة العذاب، بوصفه بالغلظ، لتجسيمه، والإيحاء بشدته وعنفه كقوله تعالى: وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ هود: 58، وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ إبراهيم: 17، نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ لقمان: 24، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ فصلت: 50. كما وصف أيضا الميثاق بالغلظ، لتجسيمه في صورة محسوسة ذات سماكة وغلظ، للإيحاء بقوته وشدته كقوة الشيء المحسوس ذي السماكة. قال تعالى: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً النساء: 21، وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً النساء: 154، وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً الأحزاب: 7. ويعبّر عن الشدة والهلاك بصورة العقم الحسية، في سياق التدمير والموت، كقوله: وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ، ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ الذاريات: 41 - 42.

_ (18) صفوة التفاسير: الدكتور محمد علي الصابوني. 1/ 317.

وصورة العقم صورة معروفة، ولكنها كريهة منفّرة، لا يميل إليها الإنسان، ولا يحبّها، وهي هنا تعبّر عن شدة الدمار والهلاك بقصد التهديد والوعيد، فهذه الريح التي تشدّ الأبصار إليها في العادة، لأنها تحمل السحب والأمطار والخير والرزق، هي ريح عقيم، بخلاف ما يأملون ويتوقعون، فهي عقيم لا تحمل الحياة والأمطار بل تحمل الموت والدمار، وتتفاعل صورة العقم مع صورة الرميم في السياق هنا للإيحاء بانتهاء حياتهم، وتدمير مساكنهم، ويعبّر عن شدة التدمير بالميت الذي رمّ وتفتت عظامه فأصبح رميما وهكذا تتناسق صورة الميت الرميم، بصورة الريح العقيم للدلالة على قوة التدمير وشموله كل شيء. ويعبّر عن اليوم الآخر باليوم العقيم يقول الله تعالى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ الحج: 55، وتصوير اليوم هنا بالعقيم، يوحي بأنه يوم لا يعقبه يوم بعده وبذلك تكون الصورة الحسية هذه دالة على معنى اليوم الآخر «19». وما فيه من العذاب الدائم الذي لا يرجى منه خلاص أو مخرج، وبذلك توحي صورة العقم انقطاع أملهم في النجاة من العذاب العقيم. وهكذا تترابط الصورة في داخل السياق ضمن نظام العلاقات، لأداء المعاني الدينية المطلوبة. وتعبّر الصورة عن الصلة الوثيقة بين الكتب السماوية والقرآن الكريم بتصويرها «بين يديه» يقول الله تعالى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ البقرة: 97، ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ يوسف: 111. وقد تعبّر صورة بَيْنَ يَدَيْهِ على نزول المطر كقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ الأعراف: 57، أو للدلالة على قرب العذاب كقوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ سبأ: 46. وتضاف إليها لفظة وَلا مِنْ خَلْفِهِ للتعبير عن الإحاطة والشمول كقوله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ فصلت: 42، وهنا تفيد الصورة شمول النفي وعمومه على الكتاب كلّه.

_ (19) الكشاف: 3/ 19.

وقوله أيضا: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ طه: 110، وقوله: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ الأعراف: 17، ووَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا يس: 9، ووَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ فصلت: 25. وقريب من هذا أيضا في تصوير الإحاطة والشمول قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ المائدة: 66، يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ العنكبوت: 55، إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ الأحزاب: 10. وصورة «إطفاء النور بالأفواه» تتكرّر في السياق القرآني للدلالة على محاولات الكافرين اليائسة في محاربة الدعوة الإسلامية، والحدّ من انتشارها. كقوله تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ الصف: 8، وهذه الصورة الحسية تثير السخرية والاستهزاء، من هؤلاء الذين ينفخون بأفواههم نور الله المنتشر في كل مكان، فيرتدون خائبين خاسرين، بعد هذه المحاولات المضحكة، المعروفة النتائج. وقريب من هذه الصورة، صورة أخرى تتفاعل معها في التعبير عن تكذيب الرسل، والشك في دعوتهم، وما يصاحب هذا المعنى الذهني من مواقف وهيئات ساخرة وهي ردّ الأفواه بالأيدي. يقول الله تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ، وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ ... إبراهيم: 9. وحركة ردّ الأفواه بالأيدي، صورة مألوفة لدى الناس في الإسكات والمنع من الكلام، وهي تدلّ على سوء أدبهم، وسلوكهم مع أنبياء الله. وصورة «الخبيث والطيب» تعبّر عن الأشياء التي يحبّها الله سبحانه، والأشياء التي يكرهها، وصورة الخبيث في الحياة صورة كريهة منفّرة، وصورة الطيب محبّبة مطلوبة. وتتقابل الصورتان في السياق القرآني لتتضح الفوارق الكبيرة بين الصورتين في الدلالة والأثر، والمضمون والجوهر. يقول الله تعالى: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ المائدة: 100. فهذه الصورة للطيب والخبيث، صورة ممتدة في إيحائها، لتشمل كل المعاني المتعلقة بالمكاسب والأعمال والناس والعلوم ... فالخبيث مكروه مذموم، ولو كان طاغيا وكثيرا، والطيب

محبوب مرغوب وإن كان قليلا لذلك وصف الله سبحانه «الحلال» بأنه «طيب» قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً البقرة: 168، وصورة الحلال الطيّب صورة حسية ذوقية، تتسم بالعمومية، وهي متناسقة مع السياق الواردة فيه، سياق أمر الناس جميعا بأكل الطيبات، وتحرك الخيال كي يسرح في أنواع الطيبات التي أحلّها الله، وهي طيبات لا تحصى، ويترك الصورة مجملة دون تفصيل لأجزائها وأنواعها، لأنها صورة مألوفة لدى الناس. وفي مقابل صورة الطيبات الواردة صراحة بالتعبير، تأتي صورة «المحظورات» أو المحرّمات عن طريق التلويح بها، من خلال صورة أخرى وهي «صورة الشيطان»، وذلك لما بين الصورتين من اتصال وتواصل، فالشيطان هو الذي يدفع الإنسان إلى المحرمات، ويزينها له يقول تعالى بعد ذكر الطيبات مباشرة محذّرا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ البقرة: 168 - 169. فالشيطان هو الذي يأمر بالخبائث، والله سبحانه يأمر بالطيبات، وهكذا يتّضح من تقابل الصورتين الفارق الكبير بينهما من حيث مصدر الأمر بهما، وأثر كلّ من الصورتين في النفس البشرية أيضا. وتتواصل صورة الخبيث في السياق القرآني، لترسم خاتمة له في جهنم وبئس المصير، على سبيل التجسيم الفني يقول الله تعالى: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الأنفال: 37. فالخبيث هنا مجسّم في صورة أكوام من الأقذار الكريهة، تجمّع بعضها فوق بعض، ثم تقذف في النار، بدون اكتراث أو اهتمام، فهذه الصورة للخبيث أوقع في الحس والنفس من أي تعبير آخر، وهي تهدف إلى التنفير من الخبيث، من خلال هذه النهاية المرسومة له. وشتّان بين صورة الخبيث الكريهة التي تنتهي في النار، وبين صورة الطيب المحبوبة، التي تنتهي إلى الجنة. وهكذا تتفاعل الصور وتتواصل وتمتد، في رسم النهايات المؤثّرة لكلّ من الخبيث والطيب. حتى يظلّ المتلقي يتدرّج من صورة إلى صورة، فيصل إلى الصورة النهاية الموحية المؤثّرة التي ترتسم ملامحها وخطوطها في تلك النهاية الطبيعية لكل من الخبيث والطيب.

وقد تنقل المعاني الذهنية في صور حسية ضخمة، فيها غرابة وإثارة، كالتعبير عن أمانة التكليف، وحرية الاختيار الإنساني، في صورة كونية حيّة شاخصة، فيها غرابة وإيحاء. يقول الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها، وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا الأحزاب: 72. والصورة الكونية بضخامتها، تعبّر عن ضخامة الأمانة وعظمها، فهي متناسقة مع المعنى، وموحية به، ويبدو الإنسان كبيرا أيضا أمام هذه الصورة الكونية التي أشفقت من حمل الأمانة، وحملها هو، مع ما ركّب فيه من شهوات وأطماع. وتتّسم هذه الصورة المعبّرة عن المعنى الذهني بالحركة التخييلية، إذ إن الأمانة شيء مادي محسوس يعرض على السماوات والأرض والجبال على سبيل التجسيم، والسماوات والأرض والجبال، وهي صور كونية جامدة، تشخّص في كائنات حيّة تخاطب كما يخاطب الأحياء، فتدرك عظم الأمانة، وتشفق من حملها على طريقة القرآن في التشخيص. وذلك لإحياء المعنى الذهني، وإيضاحه، والتأثير فيه، فتبرز ضخامة الأمانة من خلال هذه الكتل الضخمة المشفقة من حمل الأمانة، ويبدو الإنسان الصغير في حجمه، كبيرا في مضمونه، لأنه وحده الذي حمل هذه المسئولية. ويترتّب على تحمّل الإنسان هذه الأمانة، ضخامة الثواب والعقاب أيضا، كما توحي بذلك هذه الصورة المتخيلة. ويوضّح الزمخشري في تفسيره هذه الصورة الغريبة بقوله «فإن عرض الأمانة على الجماد، وإباءه وإشفاقه محال في نفسه، غير مستقيم، فكيف صحّ بناء التمثيل على المحال؟ وما مثال هذا إلا أن تشبه شيئا والمشبه به غير معقول قلت: الممثل به في الآية مفروض، والمفروضات تتخيل في الذهن، كما المحققات مثلت حال التكليف في صعوبته، وثقل محمله، بحاله المفروضة لو عرضت على السماوات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها وأشفقن منها» «20». وهناك صور كثيرة من هذا النوع للدلالة على المعاني الذهنية، وهي واردة في الأنساق الملائكة لها ومن ذلك أيضا قوله تعالى في سياق الحديث عن تدمير فرعون وجنوده: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ الدخان: 29.

_ (20) الكشاف: 3/ 277.

فالصورة هنا تعبّر عن هلاك فرعون وقومه، دون أن يحزن عليهم أحد في الأرض ولا في السماء، ولكن هذا المعنى يعرض في صورة غير مألوفة، وهي نفي بكاء السماء والأرض عليهم وهذا معروف في أساليب العرب. فإذا مات الرجل عندهم قالوا فيه بكت السماء، والأرض وبكته الريح، وأظلمت له الشمس «وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه، ونفي ذلك عنهم في قوله تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ فيه تهكم بهم، وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده فيقال فيه بكت عليه السماء والأرض» «21». ولكنّ غرابة الصور السابقة لا ترجع إلى عناصر تشكيلها، بل ترجع إلى طريقة التعبير عن المعنى الذهني، كما بينّا في تحليلها. ولكن هناك صورا فنية، تعبّر عن المعاني الذهنية، بعناصر تشكيل غير محسوسة أو غريبة، يقتضيها السياق الواردة فيه كقوله تعالى فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ النمل: 10، وقوله أيضا: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ الصافات: 64 - 65. ولعل التصوير بهاتين الصورتين يرجع «إلى شهرة المشبه به، وكثرة تخيله، حتى ارتسمت في الخيال صورة له، تكاد تكون محسوسة، ففي الخيال صورة واضحة للجان تمثله سريع الحركة، لا يكاد يهدأ ولا يستقر، وفيه صورة بشعة مرعبة لرءوس الشياطين، وما يكمن بداخلها من إغراء تمثلها قبيحة منفرة» «22». وأحيانا تلجأ الصورة إلى المبالغة في نقل الحالات النفسية في الصدور كقوله تعالى في بني إسرائيل: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ البقرة: 93. فالصورة هنا ترسم حركة تخييلية للعجل يدخل في قلوبهم إدخالا عنيفا، بطريقة غريبة، ولكنّ هذه الصورة غير المألوفة، تتناسق مع حبّ اليهود للعجل وعبادتهم له، فهي تجسّم هذا الحب الشديد غير المألوف في صورة حسية غير مألوفة أيضا، فيها شدة وغلاظة، تناسب حبّهم الغليظ لعبادة العجل، وتتلاءم مع غلاظة طباعهم، أو مشاعرهم التي تحولت بسرعة من الإيمان إلى الكفر.

_ (21) الكشاف: 3/ 504. (22) من بلاغة النظم القرآني: 314.

ويلاحظ أن هذه الصورة تنقل لنا دقائق نفوسهم وما فيها من مشاعر وأحاسيس، إذ تجعل عبادة العجل مشروبا لذيذا، أشربوه بفعل فاعل دفعة واحدة، وأشربوه في القلوب دون غيرها لأنها موضع العواطف والحب. وهناك صور أخرى قريبة، من هذه الصور، في المبالغة والغرابة في التعبير عن المعاني الذهنية. كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ الأعراف: 40 المعنى الذهني هنا هو استحالة دخول الكافرين الجنة، ولكن هذا المعنى، لا يعرض عرضا مباشرا، وإنما تنقله لنا الصورة الفنية بتركيب فني يثير الغرابة والدهشة وهي استحالة دخول الجمل بضخامته في ثقب الإبرة، مهما حاول من جهد، وكرّر المحاولة، وهذه الصورة الغريبة في تشكيلها ملائمة تماما، لاستحالة دخول الكافرين الجنة، مهما حاولوا فهي محاولات يائسة كمحاولة الجمل اليائسة في ولوج سمّ الخياط، وتتفاعل هذه الصورة مع الصورة قبلها «لا تفتح لهم أبواب السماء» في السياق، للإيحاء بالرفض والاستحالة رفض قبول الكافرين، واستحالة دخولهم الجنة، وتترك الصورتان معنى الرفض ومعنى الاستحالة، ليستقرا في النهاية في أعماق النفس المتفاعلة مع التصوير الحسّي للمعنى في داخل السياق ضمن نظام العلاقة بين الصورتين في نقل المعنى الذهني. ومن ذلك أيضا قوله تعالى في التنفير من الغيبة: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ الحجرات: 12. فصورة أكل لحم الميت صورة غريبة مستكرهة، تتأذى منها النفوس، وتنفر من بشاعتها، ولكنّ الغرابة في الصورة مقصودة هنا، لنقل المعنى الذهني المستغرب، وهي ملائمة له، فالإنسان يغتاب أخاه، وهو غائب، والصورة ترمز لذلك بتناول لحم أخيه وهو ميت لا يشعر بما يقوله عنه. وتمثّل الغرابة في الصورة، الغرابة في المعنى الذهني، والمبالغة في التصوير تهدف إلى التنفير من هذه العادة البشعة، فالترابط بين التصوير والمعنى قوي بارز، فكما أن النفوس تتأذى بالغيبة كذلك تغرس الصورة في النفوس مشاعر النفور والكراهية من هذه الصفة الذميمة في الإنسان.

وقد تبعد الصورة في نقل المعنى، إلى جعل الممتنع محالا، على سبيل التخييل. كقوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ المجادلة: 22. يقول الزمخشري في توضيح هذه الصورة: «لا تجد قوما من باب التخييل، خيّل أن من الممتنع المحال أن تجد قوما مؤمنين يوالون المشركين، والغرض منه أنه لا ينبغي أن يكون ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال، مبالغة في النهي عنه، والزجر عن ملابسته، والتوصية بالتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراس من مخالطتهم ومعاشرتهم» «23». ويكثر في القرآن الكريم تصوير الحقّ بالقذيفة كقوله تعالى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ سبأ: 48، فالحق وهو شيء معنوي يصوّر بجسم مادي محسوس، على طريقة القرآن في تجسيم المعنويات، والله هو الذي يطلق هذه القذيفة، وهي قذيفة، تعرف طريقها ومسارها، فلا يقوى أحد على إيقافها أو منعها، فهي واضحة قوية، تصيب هدفها، لأن مطلقها هو «علّام الغيوب». وصورة القذيفة ترد في القرآن في مواضع عدّة، للدلالة على القوة والشدة في تصوير المعاني ومن ذلك قوله تعالى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ الأحزاب: 26، وقوله أيضا: وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها طه: 87، وقوله أيضا: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ الأنبياء: 18. وقريب من هذه الصورة في القوة والشدة، تجسيم المعنويات بصور مادية شديدة. كقوله تعالى: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ المائدة: 64، وهنا نلاحظ تصوير العداوة والبغضاء وكأنهما مادتان ثقيلتان يلقى بهما، فيحس المتلقي بثقلهما وشدة إلقائهما. ومن ذلك أيضا قول الله سبحانه وتعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ التوبة: 26. فالسكينة هنا مادة محسوسة، لها أثرها الملموس، في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي نفوس المؤمنين. وصورة «الضرب» الحسية تتكرّر أيضا في الأسلوب القرآني للدلالة على قوة المعاني الذهنية وشدّتها كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ... النساء: 94.

_ (23) الكشاف: 4/ 78.

والمعنى الذهني هنا هو الخروج للجهاد، ينقل في صورة حسية «ضربتم»، وهذه الصورة مرتبطة بالمعنى، لأن الجهاد فيه ضرب وطعن، كما أنها متناسقة مع سياق قتال الأعداء، وجوّ المعارك. ولكنّ هذه الصورة، ترد في سياق آخر، لتدلّ على السعي والحركة كقوله تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ النساء: 101. وقد تدلّ أيضا على الإحاطة والشمول كقوله تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ البقرة: 61، فكأن الذلّة والمسكنة هنا قبة مضروبة فوقهم، تحيط بهم، وتشملهم من جميع النواحي. وقد تعبّر هذه الصورة عن النوم أيضا وذلك في قوله تعالى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً الكهف: 11، فهي هنا توحي بثقل النوم وشدّته، حتى إن النائم منهم لا يسمع صوتا ولا حركة، وكأنه قد ضرب على سمعه بحجاب فلا يسمع بعد ذلك «24». وتتواصل هذه الصورة مع صورة الربط على القلوب، للإيحاء بالقوة والشدة في المعاني الذهنية المصوّرة كقوله تعالى: وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الكهف: 14. وهذه الصورة الحسية تثير في الذهن صورة الأوعية المشدودة بإحكام، للإيحاء بقوة القلوب، وشدّها، حتى تتحمّل أعباء الدعوة، والربط فيه قوة وشدة، وهو ملائم للسياق الذي يتحدث عن الجهر بالدعوة وتحمّل مشاقّها. وتتكرّر هذه الصورة الحسية أيضا، في تصوير قلب أم موسى، والربط عليه. وذلك في قوله تعالى: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ القصص: 10، والمعنى الذهني هنا هو أنها كادت تفقد صبرها، وينفلت تماسكها، ولكن الله قوّاها، وصبّرها، وقد عبّرت الصورة عن هذا المعنى بالربط على قلبها، وكأن قلبها قد انفلت كما ينفلت الشيء من عقدته، ثم جاء الربط ليقوي من قلبها ويعيد لها قوتها وتحمّلها. مثل الرباط الذي يمنع الشيء من الانفلات وإخراج ما فيه. ومن هذا أيضا قوله تعالى في موضع آخر: وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ الأنفال: 11، وقد تتجاوز الصورة نقل المعنى الذهني في إيحاءاتها، لتقوم بترسيخ

_ (24) الكشاف: 2/ 473.

قواعد العقيدة الدينية، وأصولها العامة. فتعبر الصورة عن الأرض الجرداء بلفظ «الميتة» وإنبات الزرع فيها ب «الإحياء» يقول الله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها الحديد: 17، وقوله: وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها البقرة: 164، وقوله سبحانه أيضا: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ العنكبوت: 63، وغير ذلك من الآيات الواردة كثيرا في الأسلوب القرآني. ويبدو أن تكرار هذه الصور الحسية، والإلحاح عليها في التعبير القرآني، يهدف إلى التركيز على فكرة إحياء الموتى، وتقريب صورة البعث من القبور إلى الأذهان، وقد ورد هذا الغرض صريحا في قوله تعالى: وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ ق: 11. وصورة الأرض الميتة، تقابل صورة الموتى في القبور، فكما أن الله يحيي الأرض بعد موتها، فتنبت الزروع والثمار، كذلك يخرج أجساد الموتى من الأجداث، وهكذا تتّضح حقيقة الحياة بعد الموت، من خلال هذا التصوير الحسي المدرك. وتصوير خلق البشر بالنبات، يرتبط أيضا بهذه الحقيقة الكونية وهي أن الله يحيي ويميت، والحياة والموت في الزروع والنبات، كما في المخلوقات أيضا. قال تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً نوح: 17. يقول الصابوني في تفسيره: «والمعنى خلقكم وأنشأكم من الأرض كما يخرج النبات، وسلّكم من تراب الأرض، كما يسلّ النبات منها، قال المفسرون: لما كان إخراجهم وإنشاؤهم إنما يتمّ بتناول عناصر الغذاء الحيوانية والنباتية المستمدة من الأرض، كانوا من هذه الجهة مشابهين للنباتات التي تنمو بامتصاص غذائها من الأرض، فلذا سمّى خلقهم، وإنشاءهم إنباتا ... » «25». فالصورة توحي بالعلاقة بين إنبات النبات، وإنشاء البشر، فكما أن النبات، يبدأ من العدم بذرة ثم ينمو ويكبر، ويثمر ثم يزول ويهلك، كذلك أطوار الإنسان، شبيهة بمراحل النبات، لذا تبدو صورة إحياء الموتى وبعثهم من القبور، صورة غير مستغربة، لأنها تعدّ صورة ممتدة، أو متواصلة مع صورة إحياء الأرض الميتة. كذلك نجد تصوير النوم بالوفاة، والاستيقاظ منه، ب «البعث» للإلحاح على هذه المعاني الدينية التي تشكّل أصول العقيدة، لتقريبها من الأذهان، من خلال هذه الصورة اليومية الملموسة. قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ

_ (25) صفوة التفاسير: 3/ 453.

لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى الأنعام: 60، ويلاحظ التناسب الخارجي والداخلي بين صورة النائم وصورة الميت، في السكون، وفقدان الإدراك في فترة النوم، وبين صورة الاستيقاظ وصورة البعث، في الحركة والعودة إلى الإدراك. وهذه الصورة المعبّرة عن النوم واليقظة. مألوفة عند جميع الناس، فهي بسيطة وواضحة ولكنّها عميقة في دلالتها على البعث بعد الموت، لذلك فإنّ الصورة تعتمد في تشكيلها على الفعل المضارع في «يتوفاكم» و «يبعثكم» لتدل على تكرار حدوث هذه الصورة، وتكرارها في حياة الإنسان، وهو غافل عنها، كما أن الفعل المضارع يحيي الصورة، ويجعلها حاضرة ظاهرة للعيان دائما، لندرك من خلالها فكرة الموت والحياة قريبة مكرّرة، تتواصل في الذهن مع صورة البعث من القبور للحساب والجزاء. وقد يقترن تصوير المعنى الذهني بالحالة أو الهيئة المصاحبة له كقوله تعالى: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ الحجر: 88. والصورة المرسومة هنا ترسم الهيئة المصاحبة للاهتمام بالمتاع الزائل على سبيل المبالغة، لأن العين لا تمتد، وإنما يمتد البصر، ولكنّ الصورة جعلت العين نفسها هي الممدودة، زيادة في التخييل الحسي، والتصوير النفسي، لحالة الاهتمام الزائد على المألوف في المتاع الزائل، والغرض من المبالغة في هذا التصوير هو حثّ الرسول صلى الله عليه وسلم على ألا يحفل به، ولا يلتفت إليه. وفي تصوير قوم عاد، نلاحظ أنه يصوّرهم مرة بقوله: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ، تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ القمر: 19 - 20، ومرّة يصوّر تدميرهم بقوله: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ الحاقة: 7. وهذا التنويع في تصوير معنى الإهلاك، مرتبط بتصوير الحالات والهيئات المصاحبة للمعنى، كما أن الصورة، تتفاعل مع السياق الواردة فيه، وتتناسق معه. فتصوير الإهلاك بأعجاز النخل المنقعر، يتناسق مع السياق الذي يتحدث عن بداية إهلاكهم، ومصرعهم فقد جاءتهم الريح الصرصر العاتية، تقتلعهم من الأرض، كاقتلاع أشجار النخل من جذورها، فترميهم أرضا أجسادا هامدة، كأشجار النخيل المنقعر، أي المنقلع من جذوره، والمرمي على الأرض. وهذه الصورة، توحي بسقوطهم على الأرض،

ولا تدلّ على إفنائهم، فما زالت بهم قوة، واكتفت اللقطة المصوّرة بهذا الجزء من مشهد إهلاك عاد، لأن السياق الواردة فيه هذه الصورة لم يتحدث عن الزمن الذي سخرت فيه الريح لتدميرهم. كما ورد ذلك في سياق الصورة الثانية يقول الله تعالى: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ، وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ الحاقة: 7، فهذه الصورة أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ وردت في سياق، يتحدث عن منتهى إهلاكهم وتدميرهم، لذلك كانت الصورة متفاعلة مع هذا السياق، ومتناسقة معه، فأجسادهم هنا فنيت، وتآكلت أجوافها، حتى صارت خاوية، تشبه أعجاز النخل الخاوية، والريح في هذا السياق، لم تكتف برميهم على الأرض، كما في الصورة الأولى «نخل منقعر» وإنما راحت تجوّف أجسادهم، حتى تجعلها خاوية من كل شيء، وصورة الأجساد الخاوية، تتناسق مع السياق العام للسورة، الذي يوحي بالشدة والقوة والعنف. فقد تحدثت السورة عن الحاقّة، والطاغية، وطغيان الماء، ودك الأرض والجبال وغير ذلك من الأوصاف الشديدة، التي تقتضي تصوير هلاك عاد بالنخل الخاوية. ويمكننا أن نقول بعد هذا: إن الصورة الثانية ترتبط بالصورة الأولى لهم، وتتواصل معها، فالنخل المنقعر، تصوير لبداية التدمير والإهلاك، ثم النخل الخاوية، هي الصورة الأخيرة للإهلاك والإفناء فالصورة الثانية، تكمل التصوير في الصورة الأولى، وليست منفصلة عنها. وهكذا تتكامل الصورة القرآنية، في السياق القرآني، لتأدية المعاني، بكل ما يصاحبها من هيئات وحالات، وخطوط، يقتضيها التصوير الفني، لتحقيق التأثير الديني. وقد يقترن تصوير المعاني الذهنية بالتحقير والإهانة، وهذا كثير في القرآن الكريم. كقول الله تعالى في تصوير تدمير ثمود بعد أن عقروا الناقة: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ القمر: 31، فصورة الهشيم المحتظر، تعبّر عن معنى إفنائهم وإهلاكهم، ولكن الصورة لا تعبر عن المعنى فقط، وإنما تعبّر أيضا عن الإهانة والتحقير لهم، عقابا على استكبارهم على دعوة الله، ومخالفتهم أمره، وصورة الهشيم تدلّ على إفنائهم، ولكنّ هذا الهشيم، هو هشيم الحظيرة الذي تدوسه الدوابّ وتروث عليه، تحقيرا لهم، وازدراء بهم.

ونظير ذلك أيضا صورة إهلاك أصحاب الفيل في قوله تعالى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ الفيل: 5، فصورة العصف المأكول تعبّر عن الإهلاك، وتعبر أيضا عن التحقير المصاحب لهذا الإهلاك، فالعصف وهو ورق الزروع أو التبن، أكلته الدواب وراثته، فالصورة توحي بالتحوّل من جنس الآخر وهؤلاء، قد فنيت أجسادهم، وتغيّرت، حتى أصبحت على هذه الصورة الكريهة المحتقرة التي يكنّى عنها القرآن الكريم، على طريقته التصويرية في أداء المعاني بالكنايات والإشارات الموحية. وعلى طريقة قوله تعالى: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ المائدة: 75، كما يقول الزمخشري «26». فالصورتان «هشيم المحتظر» و «العصف المأكول» تعبّران عن الإهلاك والإفناء للكافرين، ولكن لكلّ صورة منهما خصوصيتها، التي تميّزها عن الأخرى، وهذه الخصوصية في التصوير، جاءت كي تتلاءم مع السياق الواردة فيه، ولتدلّ أيضا على هيئة الكافرين بعد إهلاكهم، للإيحاء بالتحقير والازدراء لهم. فصورة الهشيم المحتظر توحي بأن أجسادهم، حطّمت وديست بالأقدام، كما تدوس الدوابّ الهشيم في الحظيرة، و «صورة العصف المأكول» توحي بإحراق أصحاب الفيل، وإفنائهم فناء كاملا، حتى أصبحوا مادة أخرى بعد الإحراق، كما يتحوّل ورق الزرع أو التبن إلى مادة أخرى بعد أن تأكله الدواب ولا يخفى ما في الصورتين من التحقير والترذيل لهؤلاء الكافرين إلى جانب تصوير المعنى الذهني كما قدمنا آنفا. وقد تتعاون الحركة والهيئة في تصوير المعنى الذهني، والحالة النفسية كقوله تعالى: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ المعارج: 36 - 37. جاء في الكشاف أن مهطعين تعني مسرعين مادي أعناقهم إلى الأمام، وعزين تعني فرقا شتى «27». هذه الصورة المرسومة لهم، وهم يستمعون القرآن، ويعجبون بما فيه من سحر وبيان، فيها الحركة والهيئة تتعاونان في رسم هذه الصورة الساخرة منهم، لأنهم لا يسمعون القرآن، للاهتداء والإيمان وإنّما للكيد والتآمر. وصورتهم وهم يسرعون، مادين أعناقهم

_ (26) الكشاف: 4/ 286. (27) المصدر السابق: 4/ 160.

إلى الأمام، للاستطلاع والدهشة مما يسمعون من بيان ساحر مؤثر، ترسم حركتهم الخفية في داخل الصدور، من خلال هذه الحركة الظاهرة لهم، وهم يتوزّعون شمالا ويمينا في جماعات متناثرة، حول الرسول صلى الله عليه وسلم في جنح الظلام وهو يتلو القرآن. فالصورة هنا، تعبّر عن المعنى الذهني في استماعهم القرآن، والحالة النفسية في إعجابهم ببيانه، ثم ترصد حركتهم وقت الاستماع، وهيئتهم وهم جماعات موزعة هنا وهناك، وتضفي على ذلك كلّه طابع السخرية منهم، لأنهم لا يستمعون من أجل أن يؤمنوا بل من أجل أن يتآمروا، ويستطلعوا فقط. وتجسّم الصورة حقد النفوس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حركة العيون المحدّقة بعنف وشدّة كقوله تعالى: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ... القلم: 51، فهذه الصورة المرسومة للكافرين بكل ما فيها من شدة وعنف، تعبّر عن حالات النفوس الحاقدة الحاسدة على رسول الله، وقد جسّمت هذه النفوس الشريرة في حركة العيون المحدّقة بنظرات شديدة كادت أن تزلّ بأقدام الرسول من على الأرض. كما يقول الزمخشري «28». وإذا كانت الصورة هنا قد غلب عليها تصوير ما في النفوس على تصوير المعنى الذهني، فليس معنى هذا أن الصور المتقدمة كانت خالية من ذلك، بل إنّ الصورة القرآنية، صورة متكاملة تعبّر عن العقل والنفس أو الفكر والشعور معا. ولكنّنا نرى أحيانا أن المعنى الذهني، يكون هو المقصود بالتصوير أولا، والمشاعر والأحاسيس تكون مصاحبة له. وأحيانا تكون الحالة النفسية هي المقصودة أولا، والمعنى الذهني مصاحبا لها ومن ذلك أيضا قوله تعالى في تصوير خوف المشركين من المواعظ الدينية وإعراضهم عنها فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ المدثر: 49 - 51. والصورة هنا ترسم خوفهم وإعراضهم في حركة حمر الوحش المذعورة والخائفة، تجري هاربة من الأسد الذي يطاردها، وهي صورة مجسّمة لحالة النفوس الخائفة والمضطربة، والتي فقدت السيطرة على أعصابها فولّت هاربة في كل ناحية. يقول الزمخشري: «وفي تشبيههم بالحمر مذمّة ظاهرة، وتهجين لحالهم بيّن، كما في قوله

_ (28) الكشاف: 4/ 148.

تعالى: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً وشهادة عليه بالبله وقلة العقل، ولا ترى مثل نفار حمير الوحش واطرادها في العدو إذا رابها رائب» «29». وتجسّم الصورة حقيقة الأعداء في مشهد حيّ متحرك، يضمّ صورا عدّة لنفوس الأعداء وما فيها من عداوة ونفاق ورياء وغيظ وحقد، وذلك في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ، قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ آل عمران: 118 - 120. فالصورة المرسومة هنا لأعداء المسلمين، واضحة بكل ملامحها وحركاتها وخطوطها، تجمع بين التصوير الحسّي، والتصوير النفسي في التعبير، والتصوير الحسي لأعداء المسلمين ظاهر في تحركاتهم الذاهبة الآئبة بالمكر والخديعة والتآمر، والتصوير النفسي، يكشف خفايا النفوس الباطنة، فوراء التظاهر بالمودة والصداقة نفوس حاقدة ماكرة، تعرّي الصورة حقيقة هؤلاء، وتزيل مظاهر الخداع عنهم، لتفضح حقائق نفوسهم وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ. ويلاحظ أن الصورة ترسم مشهدا، فيه مناظر عدة، منظر الرياء والنفاق للأعداء حين يلتقون بالمسلمين، ومنظر ثان حين يخلو بعضهم إلى بعض في الخفاء، ترسمه صورة حسية ناطقة عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ومنظر ثالث يفصّل في تصوير غيظهم، فهم يغتاظون منكم، إن مستكم الحسنة، ويفرحون إن أصابتكم المصيبة. ويوضّح أحمد بن المنير في هامشه على الكشاف الفرق بين تصوير الحسنة بالمس، والسيئة بالإصابة فيرى أن المس هو أقل تمكنا من الإصابة، وهو أقل درجاتها، فالأعداء كانوا يغتاظون من أدنى حسنة تصيب المسلمين ولو كانت مسّا خفيفا، وذلك لحقدهم وحسدهم، ولكنهم كانوا يفرحون إذا تمكنت المصيبة منهم «30».

_ (29) الكشاف: 4/ 188. (30) انظر هامش الكشاف: 1/ 459.

كذلك تجسّم الصورة مشاعر الخوف في نفوس المسلمين حين كانوا قلّة مضطهدة وذلك في قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ الأنفال: 26. فالحالة النفسية للمؤمنين، تجسّم في صورة الأيدي الممتدة إليهم لتخطفهم، وهم في حالة خوف وترقب وحذر. وهذه الصورة المجسّمة لحالة النفوس، كرّرت في القرآن الكريم يقول الله تعالى: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا القصص: 57. وقد تلجأ الصورة إلى تجسيم الخوف في هيئة الترقب والانتظار كقوله تعالى: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ القصص: 18، وهذه الصورة توحي بالقلق والاضطراب، وتوقع الشرّ في كلّ لحظة، وهي ترسم حركة وهيئة الخائف المترقب في لفظ واحد «يترقب». وصورة يعقوب المفجوع بولديه، تجسّم حالته النفسية، وما فيها من حزن، وهمّ وألم في صورة بياض عينيه الحسية. يقول تعالى: وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ يوسف: 84. والصورة توضح منتهى الحزن والألم النفسي، وقد ارتسم هذا الحزن الداخلي في صورة عينيه، ولكنه على الرغم من ظهور حزنه في عينيه، كان يكظم حزنه، ويخفي ألمه وصورة أم موسى النفسية بعد أن سمعت وقوع ولدها بيد فرعون، تختلف عن الصور النفسية المتقدمة وذلك في قوله تعالى: وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها القصص: 10. وهذه الصورة لفراغ القلب من كل صبر ووعي وإدراك، وكل المعاني الأخرى، التي تصيب الأم الوالهة، في ظروف مشابهة للظرف الذي مرت به أم موسى، تعبّر عنه صورة «فراغ القلب» الموحية بالجزع الشديد، الذي يطير له القلب، ويفرّغ من أي محتوى آخر. وهكذا تتواصل الصور في القرآن للتعبير عن الخوف في داخل النفوس، ولكنها لا تتماثل، فكل صورة تتميّز عن الأخرى، حسب السياق الواردة، فيه، وحسب الأشخاص والحالات والمواقف، كما أنها تتميّز بالإيحاءات المنبعثة منها، والملائكة لها وللسياق معا. فخوف المشركين يجسّم في حركة حمر الوحش المذعورة للإيحاء بالتحقير، وخوف المؤمنين حين كانوا قلّة يجسّم في حركة الأيدي الممتدة إليهم، لتخطفهم، للإيحاء بالقلة

والضعف في تلك المرحلة. وخوف موسى المطارد من فرعون يجسّم في هيئة الترصد، والترقب، للإيحاء بالحذر والحيطة. وخوف أم موسى على ولدها يجسّم في صورة فراغ القلب، للإيحاء بالأمومة الحانية الوالهة. وهكذا تتواصل الصور في تجسيم الحالات النفسية، وتتنوّع في تشكيلها، لتصوير هذه الدقائق في الحالات والأشخاص والمواقف، ولبعث الإيحاءات الملائمة لذلك كلّه، فليس هناك صور جاهزة تعبّر عن الحالة الواحدة، بصورة جاهزة مكررة، بل هناك الصور النامية المتجددة، الملائمة للفروق بين الأشخاص والمواقف والأنساق التعبيرية. وقد تتقابل رغبة النفوس وكرهها في التصوير، لإبراز الفوارق بين النفوس المؤمنة، والنفوس الكافرة. وذلك في قوله تعالى: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ القصص: 61. ففي هذه الآية نلاحظ الوعد الحسن مشخّصا في صورة كائن حيّ مرغوب في لقائه فَهُوَ لاقِيهِ والنفوس المؤمنة ترغب في لقاء الله، وتحبّ موعد اللقاء في اليوم الآخر، وصورة أخرى مقابلة للنفوس الكافرة، التي لا ترغب هذا اللقاء في اليوم الآخر، لذلك فهي تحضر إحضارا في ذلك اليوم، لتصوير كره نفوس هؤلاء للحساب، فيحضرون إليه رغم أنوفهم، وهذا ما يوحي به قوله: مِنَ الْمُحْضَرِينَ. وقد تلجأ الصورة أحيانا إلى الغرابة، في تشكيلها لتصوير ما يصيب النفوس من قنوت ويأس من وعد الله ونصره كقوله تعالى: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ الحج: 15. فهذه الصورة بما فيها من الغرابة، تعبّر عن نفس امتلأت غيظا وقنوطا من نصر الله، ومن كان هذا حاله فليفعل بنفسه ما شاء، فإنه لن يغيّر من الواقع شيئا مهما بذل من جهد، لإزالة ما يغيظه، ولو مدّ حبلا إلى السماء، وربط نفسه ثم قطعه، فإن هذه المحاولة لن ترفع الابتلاء والشدة عنه. هذه الصورة المتخيلة، لشخص علّق نفسه بحبل ممدود إلى السماء، ثم قطعه صورة شديدة، ذات إيحاء عميق، فهي توضّح أنّ امتلاء النفس بالغيظ، لا يغيّر الحقيقة الواقعة، بل إنّ المغتاظ يقتل نفسه بغيظه لذلك، لا بدّ من الاعتماد على الله، والثقة به، والاطمئنان

إلى وعده بالنصر، وتحمّل البلاء والشدائد، حتى يأذن الله برفع الابتلاء، وتحقيق النصر، وهذا ما توحي به الصورة. فهذه الصورة المتخيّلة، تعبّر عن الحالة النفسية لغيظ النفس، وما يصاحب ذلك من حركات غريبة يقوم بها المغتاظ القانط، تجسّم هذه الحالة النفسية وهي في ذروة الضيق والكرب، وما تقوم به من حركات غريبة لدفع الكرب والضيق، في هذه الصورة الغريبة أيضا بالإضافة إلى ما في الصورة من إيحاء بأن تدبير الله هو النافذ. وأن ليس للإنسان إلا الاحتمال والصبر، وإلّا فليقتل نفسه غيظا وكمدا على هذه الصورة المرسومة أمامه في التعبير القرآني. ولكنّ همّ الرسول صلى الله عليه وسلم من نوع آخر، فقد كان حريصا على إيمان قومه، لما يعرف من الحقّ، وقد بلغ به هذا الحرص أن راح يكلّف نفسه ما لا تطيق، من الضيق بإعراضهم عن دعوة الله وقد عبّرت الصورة عن هذه الحالة النفسية في قول الله تعالى: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ الشعراء: 3 - 4. فحسرة الرسول صلى الله عليه وسلم على تكذيب قومه، إلى حدّ قتله نفسه ألما وهمّا، مصوّرة في قوله باخِعٌ نَفْسَكَ وكلمة باخِعٌ تصوّر أقصى الدرجات في قتله نفسه غمّا وتأثرا، لعدم إيمانهم ثم جاءت الصورة التالية، لتخفّف عن رسول الله إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ وهذه الصورة الثانية، مرتبطة بالصورة الأولى في السياق ومتفاعلة معها، في التخفيف عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وبيان مهمته في الإبلاغ فقط، وترك الاختيار لهم بعد الإبلاغ والدعوة، لأنّ الله لو أراد أن يخضعهم قسرا، لأنزل هذه الآية من السماء فجعل أعناقهم محنية خاضعة إلى يوم القيامة، ولكنّ الله أراد أن يترك حرية الاختيار للإنسان لحكمة يعلمها، وكلّف الرسول بإبلاغهم فقط. وهذا المعنى يتناسق مع صورة عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأشفقن منها، ولكنّ الإنسان هو الذي حمل هذه الأمانة، ومسئولية الاختيار، وعليه أن يتحمّل ما يترتب على اختياره من نتائج. فالصور القرآنية متناسقة في تصوير المعاني، تهدف إلى بناء رؤية موحدة منسجمة للإنسان وأفعاله، وهي رؤية إسلامية واضحة في تناسق الصور على

الرغم من تباعدها في التعبير. وهذا يؤكد نظام العلاقات في التصوير والتعبير والتأثير، كما يؤكد أيضا وحدة الفكر المجسّد في التصوير، وتبقى في النهاية نفوس الكافرين هي نفوس ميتة، لأنها لم تعمر بالإيمان، فهي أشبه بالأرض البور الجرداء، الخالية من الحياة والنماء يقول الله تعالى في تصوير تلك النفوس: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ، وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً الفتح: 12. فهذا الظنّ السيئ، وتزيينه في قلوبهم، ينبع من قلوب «بور» كأرض بور ميتة لا حياة فيها ولا ثمار، فبين قلوبهم والأرض البور تشابه وصلة، فكلاهما لا حياة فيه، ولا خصب ولا نماء، وكلاهما أيضا يوحي بالهلاك والفناء. فصورة القلوب البور توحي بأن الإنسان إذا انقطع عن الإيمان بالله، كان ميتا كالأرض البور، وبالمقابل فإنّ الإيمان يجعل الإنسان حيا مثمرا ونافعا يقول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ الأنفال: 24. فصورة الحياة ترتبط بالاستجابة لله وللرسول، وهذا المعنى يلحّ عليه القرآن الكريم، ليرسّخه في الأذهان. فالإيمان فيه حياة العقول والقلوب والنفوس، وبدون الإيمان تكون صورة الموت في العقول والقلوب والنفوس. وبهذا التصوير تترسخ قواعد الفكر الإسلامي، وتتكامل الرؤية الدينية للحياة والإنسان والوجود. وهكذا لاحظنا في هذا الفصل أن الصورة الفنية تعبّر عن شتّى المعاني الذهنية والحالات النفسية، ضمن نظام العلاقات التصويرية والفكرية والتعبيرية، لتحقيق وحدة التصوير ووحدة التأثير، ووحدة المعاني وانسجامها وتكاملها في بناء رؤية إسلامية لشتى نواحي الحياة. كما أنّ الصورة القرآنية، تعبّر عن المعاني التي تخدش الحياء بصور كنائية تتلاءم مع سمو التعبير القرآني، كما أنها تستنفد كل الأساليب الفنية الحسية والمتخيلة في الدلالة على المعاني، كما أن الصورة القرآنية، تعبّر عن المعاني الذهنية، وما يصاحبها من مشاعر وحركات وهيئات ونحو ذلك حتى يتكامل تصوير المعنى، وترتسم معالمه ودقائقه في الأذهان. وهذه المعاني المصورة، متناسقة ومنسجمة، فليس فيها تعارض، لأنها تنطلق من رؤية

دينية واضحة المعالم والسمات، كما أن الصور المعبرة عن المعاني متناسقة ومترابطة، تتواصل مع المعاني على الرغم من تباعد التعبير. فالصورة القرآنية بناء متحد اللبنات أو الأجزاء، وهذه الوحدة في البناء التصويري تؤدي إلى وحدة البناء الفكري المجسّم في هذه الصور المعروضة. وإذا كانت الصورة في هذا الفصل قد عبّرت عن المعاني الذهنية والحالات النفسية، بألفاظ مختارة، وجمل معبّرة ... فإن هذه الصورة القرآنية تمتد وتتسع في التعبير عن المعاني بضرب الأمثال، وتصوير الأمثال، يمتد في السياق بصورة أكبر، ولكن التواصل بين الصور لا ينقطع فالوحدة التصويرية والفكرية من السمات البارزة في الصورة القرآنية، وإن تعددت وظائف الصورة، ولكنّ هذا التعدد لا يعني التباعد بين الصور وإنما يعني التكامل في رسم ملامح هذه الرؤية الإسلامية التي هي الهدف الأساسي من التصوير في القرآن.

الفصل الثاني الأمثال القرآنية

الفصل الثاني الأمثال القرآنيّة يعتمد تصوير الأمثال على مجموعة من العلاقات المتضافرة، التي تتواصل فيما بينها، لتكوين شبكة تصويرية، تقوم بدورها في التعبير عن القضايا الدينية، التي جاء القرآن الكريم، لترسيخها في الأذهان، وتعميقها في القلوب، والعلاقات النصيّة في الأمثال داخلية تربط الأمثال القرآنية، بعضها ببعض، بروابط تعبيرية وتصويرية وفكرية تكسبها خصوصية وتميّزا، عن الأمثال الجارية المعروفة عند العرب. وعلاقات خارجية، تربط الأمثال القرآنية، بالوظائف البعيدة للتصوير. وبذلك تترابط الوظائف للصورة وتتعاون، لتحقيق الوظيفة الدينية التي هي هدف التصوير الفني في القرآن. فالأمثال القرآنية تشكّل مجموعة تصويرية، لها طابعها المميّز، وطريقتها الخاصة في التعبير عن المعاني الدينية، بحيث يصبح التحوّل الأسلوبي فيها إيذانا، بتغيير وظيفة الصورة، وكسر السياق المألوف في التعبير والتصوير لإشعار المتلقّي بالانتقال إلى صور جديدة، أكبر من الصور التي تعبّر عن المعاني الذهنية والنفسية، كما تقدم في الفصل الأول، بالإضافة إلى ما تكسبه للنص، من حيوية، وتجديد في أنماط الصور المعبرة عن المعاني الدينية. والمثل في الأصل اللغوي يعني «الشبه» فهو تشبيه شيء بشيء آخر، ولكن لفظ المثل أوسع من لفظ التشبيه. يقول الراغب الأصبهاني: «المثل عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني أي معنى كان وهو أعمّ الألفاظ

الموضوعة للمشابهة» «1». فهو يشكّل صورة فنية أكبر من الصورة التشبيهية عموما. ويرى الزمخشري أن المثل في أصل كلام العرب يعني «المثل وهو النظير، يقال مثل ومثل ومثيل، كشبه وشبه وشبيه، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده مثل، ولم يضربوا مثلا ولا رأوه أهلا للتسيير، ولا جديرا بالتداول والقبول، إلا قولا فيه غرابة من بعض الوجوه، وقد استعير المثل للقصة أو الصفة، إذا كان لها شأن وفيها غرابة» «2». وهذا هو الرأي الذي قال به ابن منظور حيث عدّ المثل والمثل بمعنى واحد، ويراد بهما معنى التسوية يقول ابن منظور: «مثل كلمة تسوية يقال هذا مثله كما يقال شبهه وشبهه بمعنى، والمثل الشيء الذي يضرب لشيء مثلا فيجعل مثله» «3». فالمشابهة في المثل، قد تكون من عدة وجوه كما رأى الأصبهاني في رأيه المتقدم، وقد تكون المشابهة مساوية للنظير، كما ذهب إلى ذلك الزمخشري وابن منظور. لهذا كان المثل عند عبد القاهر الجرجاني يعني التشبيه التمثيلي، وهو نوعان: بسيط ومركب أما التمثيل البسيط فهو تشبيه مفرد بمفرد كقوله تعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هود: 24. وأما التمثيل المركب فهو يعتمد على أمور عدة «يجمع بعضها إلى بعض ثم يستخرج من مجموعها الشبه، فيكون سبيله سبيل الشيئين يمزج أحدهما بالآخر حتى تحدث صورة غير ما كان لهما في حال الإفراد، لا سبيل الشيئين يجمع بينهما وتحفظ صورتهما ومثال ذلك قوله عز وجل: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً الجمعة: 5» «4». ويرى الجرجاني أن التشبيه كلّما أوغل في كونه عقليا محضا كانت الحاجة إلى الجملة أكثر، ويستشهد على ذلك بقوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ ... الآية. ويعقب على ذلك بقوله: «ترى في هذه الآية عشر جمل إذا فصلت» «5».

_ (1) المفردات في غريب القرآن: الراغب الأصبهاني. ص 462. (2) الكشاف: 1/ 195. (3) لسان العرب: مادة مثل. (4) أسرار البلاغة: 80 - 81. (5) المصدر السابق: 87.

وقد يعني المثل معاني أخرى ذكرها العلماء، منها «الوصف» وقد ورد هذا المعنى في قول الزمخشري المتقدم وهو: «وقد استعير المثل للقصة أو الصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة» «6». والفيروزآبادي أورد للمثل عدة معان، هي الحجة والحديث والصفة، يقول: «والمثل محركة الحجة والحديث والصفة» «7»، وقد فهم الزركشي من ظاهر كلام اللغويين أن المثل هو الصفة «8» فقوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي وصف الجنة. وقوله تعالى في الصحابة مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ أي وصفهم فيها. وقد يراد بكلمة المثل: النموذج، أو نوع من الأنواع أو عمل من الأعمال أو سنة من سنن الله «9». كما أورد ابن منظور أيضا المثل بمعنى المثال في قوله: «والمثل ما جعل مثالا أي مقدارا لغيره يحذى عليه» «10»، وعلى ضوء هذا المعنى، يمكن أن نفهم المقصود بقوله تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الزمر: 27. فالتعميم هنا في لفظ المثل يراد به ذكر النماذج لكل نوع ليقاس عليها. فالله سبحانه ضرب أمثالا بقصص الأولين، وما جرى لهم من أحداث، فقصصهم أمثال ونماذج، يقاس عليها الأشباه والنظائر، بمقتضى التشابه بين أفراد النوع البشري، أو استمرار سنن الله في الكون والحياة. وقد حاول الزركشي وهو من المتأخرين، أن يترجم لأقوال سابقيه، ويجمع أقوالهم بقوله: «ولما كان المثل السائر فيه غرابة، استعير لفظ المثل للحال أو الصفة أو القصة، إذا كان لها شأن وغرابة» «11». وعلى ضوء هذه الآراء يمكن أن يكون المثل القرآني، قد استعير لكل شأن مهم أو حدث غريب أو قصة أريد بها العظة والعبرة، أو لكل وصف لم يعرفه العرب من قبل، أو لكلّ معنى

_ (6) راجع قول الزمخشري في الصفحة 156 من هذا الكتاب. (7) القاموس المحيط: مادة مثل. (8) البرهان في علوم القرآن: 1/ 490. (9) الأمثال القرآنية: عبد الرحمن حنبكة. ص 11. (10) لسان العرب: مادة مثل. (11) البرهان في علوم القرآن: 1/ 488 - 489.

لم يدرك فحواه إلا بتقريبه عن طريق الشبيه والنظير له. وبذلك تجتمع دلالات المثل القرآني في الشبيه، والنظير، والوصف، وفي الغرابة والسيرورة، والمثال أو النموذج. ويمتاز تصوير الأمثال في القرآن الكريم عن غيره من الأمثال الأدبية بأنه لم ينقل من حادثة معيّنة، أو متخيّلة، وإنما هو أسلوب قرآني مبتكر في أدائه، وطريقته، وغايته، فهو لا يحذو حذو غيره ولا يستقي من مورد سابق عليه كما هو معروف في الأمثال العربية بل هو كما يقول منير القاضي: «نوع آخر أسماه القرآن مثلا من قبل أن تعرف علوم الأدب المثل، ومن قبل أن تسمي به نوعا من الكلام المنثور، وتضعه مصطلحا له، بل من قبل أن يعرف الأدباء المثل بتعريفهم» «12». ويعتمد تصوير الأمثال على التصريح بلفظ المثل، مفردا أو مجموعا، وهو الاستعمال الشائع في الأسلوب القرآني، وقد يقدّر لفظ المثل، ويدلّ عليه حرف العطف، كقوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ البقرة: 19، أو قد يفهم من السياق كقوله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً الأعراف: 58. ولكن الأغلب في تصوير الأمثال، التصريح بلفظ المثل، وهذا ما سأعتمده في دراستي هذه. أما تقسيم الزركشي المثل القرآني إلى صريح وكامن، فليس تقسيما دقيقا، لأننا لو اعتبرنا ذلك ورحنا نستخرج الأمثال الكامنة، لاحتجنا إلى التأويل من ناحية، ولأن القرآن الكريم يصلح كلّه حكما وأمثالا، مما يبعدنا عن دلالة المثل القرآني، والغاية من ضربه للناس من ناحية أخرى وهذا ما وقع فيه الدكتور محمد جابر الفياض «13»، والأستاذ عبد الرحمن حبنكة «14»، في دراستهما للأمثال القرآنية وسيرهما على تقسيمها إلى صريحة، وكامنة، واضطرارهما إلى التأويل. ولا شكّ في أن الأمثال من أكثر التعابير شيوعا على ألسنة الناس، وأعمّها توضيحا للمعاني، وأعمقها تأثيرا في النفوس، لأنها تمتاز بالإيجاز وإصابة المعنى، وجودة التصوير. وقد تحدّث عبد القاهر الجرجاني عن تفضيل العقلاء لها على سائر الأساليب، موضحا

_ (12) الصورة الفنية في المثل القرآني: الدكتور محمد حسين علي الصغير. ص 68. (13) الأمثال في القرآن الكريم: د. محمد جابر الفياض. ص 207 - 215. (14) الأمثال القرآنية: ص 104 وما بعدها.

أثرها في النفس، قال الجرجاني: «واعلم أنّ ممّا اتفق العقلاء عليه: أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني أو برزت هي باختصار في معرضه، ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته، كساها أبهة، وأكسبها منقبة ورفع من أقدارها، وشبّ من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفا، وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفا، فإن كان مدحا كان أبهى وأفخم وأنبل في النفوس وأعظم ... وإن كان ذمّا كان مسّه أوجع» «15». كما أبرز الزمخشري عدة جوانب لأهمية الأمثال في التعبير. يقول: «ولضرب العرب الأمثال، واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي، في إبراز خبيّات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق، والمتوهم في معرض المتيقن، والغائب كأنه مشاهد، وفيه تبكيت للخصم الألد، وقمع لسورة الجامح الأبيّ، ولأمر ما أكثر الله في كتابه المبين وفي سائر كتبه أمثاله» «16». لهذا كان لتصوير الأمثال القرآنية تأثيرها القوي في ذم الكافرين واليهود والمنافقين، لأنها كانت جارية على طريقة العرب التصويرية، في ضرب الأمثال للأشباه والنظائر، وقد استغلّ هؤلاء تصوير الأمثال بالذباب والعنكبوت، ونحو ذلك، فراحوا يشكّكون في الأمثال القرآنية، ليحدّوا من انتشارها، وسيرورتها على ألسنة الناس. فجاءهم الرد القاطع في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها ... البقرة: 26، لأن معجزة الله سبحانه في الخلق من العدم، تتجلى في المخلوقات الصغيرة والكبيرة معا، فالإعجاز يكمن في سرّ الحياة، وليس في الضخامة والكبر للأشياء والمخلوقات. وضرب المثل بهذه المخلوقات الصغيرة، يهدف إلى بيان قدرة الله عز وجل، ولفت أنظار الناس ليتفكروا في هذه المخلوقات الصغيرة في حجمها، والحقيرة في شأنها، ولكنها معجزة في خلقها وتكوينها. ويعتمد تصوير الأمثال في أغلب الأحيان على كلمة «ضرب» بصيغ مختلفة، وهذه

_ (15) أسرار البلاغة: 92 - 93. (16) الكشاف: 1/ 195

الكلمة تحتمل دلالات عدة منها الشبه والنظير، والتمثل والتمثيل والمثال، كما تحتمل معنى التثبيت والاعتماد والوضع والذكر والسيرورة «17». ويبدو لي أن كلمة ضرب الواردة في تصوير الأمثال القرآنية، تحتمل كل تلك المعاني التي ذكرها العلماء والمفسرون والبلاغيون، وهذا من أسرار التعبير القرآني إذ اللفظة الواحدة تحتمل عدة دلالات معنوية. وقد تكون هذه اللفظة من قبيل إثارة الذهن، وتنبيهه إلى أمر ذي شأن، فهي بهذا المعنى وردت لتهيئة الأذهان لاستقبال تصوير المثل القرآني. وتصوير الأمثال القرآنية يسعى إلى تحقيق أغراض دينية عدّة، منها تقريب صورة الممثل له إلى ذهن المخاطب، أو لإقناعه بفكرة من الأفكار الدينية، أو لإقامة الحجة العقلية، أو للترغيب بأمر محمود، عن طريق تزيينه وتحسينه، أو للتخويف والتنفير من أمر مذموم، عن طريق تقبيحه وذمّه، أو لتعظيم الممثل له ومدحه، أو لتحقير الممثل له وذمّه وتوبيخه. وقد يحتوي تصوير المثل القرآني على أكثر من غرض ديني واحد، فقد يرد تصوير المثل بغرض تقريب صورة الممثل له إلى جانب أغراض أخرى مثل الإقناع والترغيب أو الترهيب. فتصوير الأمثال القرآنية يحقق أغراضا عدّة، قد تجتمع هذه الأغراض كلّها في المثل الواحد، أو بعضها. وعدم إدراكنا لها، لا يعني عدم وجودها بل لأننا لم ندرك بعد إيحاءات اللفظ القرآني المتعددة. والأمثال القرآنية، تعبّر عن القضايا الإنسانية العامة، التي لا تختلف من جيل لآخر، أو من مكان لآخر، كما تعبّر عن قضايا فكرية أساسية في حياة الإنسان، كقضية العقيدة، وقضية البعث بعد الموت، وغاية الوجود الإنساني وغير ذلك من القضايا الإسلامية. لذلك كتب للأمثال المصوّرة الخلود، بخلود القرآن الكريم، وبقي تأثيرها في القلوب قويا وفعّالا إلى يومنا هذا، فهي خاطبت الناس وقت نزول القرآن، بضرب الأمثال لهم، على طريقة الأساليب العربية في ضرب الأمثال لسيرورتها على الألسنة، وما زالت هذه الأمثال المصوّرة تخاطب الإنسان لأنها أمثال حيّة باقية متجددة، تعبّر عن قضايا الإنسان والحياة والوجود.

_ (17) انظر الصورة الفنية في المثل القرآني: ص 73 - 78، وما قاله العلماء في دلالتها.

فهي تدور حول الإنسان مؤمنا أو كافرا أو منافقا، وهذا التصنيف للبشر هو الأمثل وفق منهج الله سبحانه وتعالى. لذلك نلاحظ أن تصوير الأمثال يعبر عن هذه الفئات الثلاث، فئة مؤمنة ملتزمة بمنهج الله، وفئة كافرة ترفض منهج الله سبحانه، وفئة ثالثة منافقة، تظهر الإيمان وتبطن الكفر. وقد عني تصوير الأمثال بهذه الفئات، فرسم لكل فئة ملامحها، وخصائصها، ووضع أمام عينيها ثوابها وعقابها والغرض من هذا التصوير هو الهداية والإصلاح، وتبشير المؤمنين، وتحذير الكافرين والمنافقين ويمتد التصوير الفني ويتواصل في السياق القرآني، ليرسم «النماذج» لهذه الفئات الثلاث. نموذج المؤمن بصفاته وأخلاقه وسلوكه، ونموذج الكافر بصفاته وملامحه وفساده وحيرته وعناده، ونموذج المنافق في تأرجحه أو تردّده حيث لا يثبت على مبدأ أو هدف. ثم يتواصل تصوير الأمثال القرآنية في الأنساق التعبيرية المختلفة، للمقارنة بين أهل الإيمان وأهل الكفر، مستعيرا الفوارق بين النور والظلام، والحياة والموت، والكلمة الطيّبة والخبيثة، والبلد الطيّب، والأرض الميتة، وبذلك تتواصل الصور القرآنية ضمن العلاقات التصويرية والفكرية والتعبيرية، مع الصور القرآنية الواردة في التعبير عن المعاني الذهنية، كما تقدّم معنا ذلك في الفصل الأول «18». والأمثال القرآنية المصوّرة موزّعة على مجموعات سياقية، متفاعلة، ومترابطة، ومتحدة، بحيث تتميّز كل مجموعة منها، باتجاهها، أو روابطها الفكرية والتصويرية والتعبيرية، هذه الروابط أو العلاقات، توحّد هذه المجموعة، وتربط بين أجزائها أو عناصرها، لتكوّن منها وحدة متفاعلة ومنسجمة، ضمن مجموعة الأمثال الكليّة. فكلّ مجموعة تتفاعل مع غيرها، وتسير في حركتها السياقية، مشدودة بالروابط الفكرية والتصويرية والتعبيرية العامة للصورة القرآنية، التي تسير أيضا في حركة سياقية متفاعلة في النص القرآني كلّه، لتكوّن في النهاية الرؤية الإسلامية المتكاملة للحياة والإنسان والكون. ونبدأ بالمجموعة الأولى وهي تصوير الأمثال المرتبطة بالمؤمنين، يقول الله تعالى في

_ (18) راجع الفصل الأول من هذا الكتاب وما ورد فيه من صور النور والظلام، والحياة والموت، والطيب والخبيث، وما ترمز إليه هذه الصورة للمؤمن أو الكافر.

وصف المؤمنين: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ، فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً الفتح: 29. فتصوير المثل هنا يهدف إلى مدح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودور الرسول في تربيتهم، تربية روحية وسلوكية معا، وقد جسّدت هذه التربية النموذجية، بذكر أوصافهم في التوراة، دون الاعتماد على التشبيه، حتى لا يوحي التشبيه بمجرد المشابهة بين طرفيه، وإنما الصورة هنا توحي بحقيقتهم، وواقعهم العملي كما هو. وتتقابل الصفتان الشدّة والرحمة في شخصية المسلم، صفة الشدّة على الكفّار، والرحمة واللين بين المؤمنين، بالإضافة إلى السمة الأساسية وهي العبادة لله، والركوع والسجود له دون سواه. ويركّز التصوير في المثل على الصفات الحسية والمعنوية التي يتحلّى بها الصحابة، فسمات العبادة والإيمان واضحة في قسمات الوجوه والنواصي، وصفات الخير مجسّدة في سلوك عملي ظاهر، لأن النفس الصافية، يظهر أثرها في نقاء الشكل ووضاءته أيضا: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ فالعلاقة بين الظاهر والباطن قويّة واضحة، فلا يمكن أن نفصل بين باطن الإنسان وظاهره، أو بين سلوكه وعقيدته، فالسلوك الظاهر، يدلّ على جوهر الإنسان ومعدنه. وهكذا تتفاعل الصفات الحسية والمعنوية في تصوير المثل، وتترابط فيما بينها للإيحاء بهذا المعنى الذي يعدّ من قواعد الدين الأساسية. أما مثلهم في الإنجيل فجاء معتمدا على تشبيه الصحابة بالزرع النامي بسرعة عجيبة، وتهدف هذه الصورة إلى إبراز التفاف الصحابة حول الرسول صلى الله عليه وسلم، ومؤازرتهم له ومناصرتهم لدعوته، حتى قوي الإسلام، واشتد عوده، وتكاثرت الأمة الإسلامية، ونمت وترعرعت في كيان موحد، كالزرع الذي أخرج شطأه، فنمت أعواده الصغيرة على جانبيه، وتكاثرت وتآزرت حتى قوي الزرع، واستوى قائما شديدا. وصورة الزرع الحسية بمراحل نموه، تشبه صورة المؤمنين، ومراحل نموّهم من الضعف إلى القوة، ومن القلّة إلى الكثرة، حتى أصبح

لهم وجود قوي يتحدّى الرياح والعواصف، وهذا الوجود القوي يعجب الزرّاع الذين أسهموا في نموه ورعايته وحراسته ويغيظ الكفّار الذين لا يريدون أن يصبح للإسلام كيان قوي. يقول الزمخشري في تفسيره: «وهذا مثل ضربه الله لبدء أمر الإسلام، وترقيه في الزيادة إلى أن قوي واستحكم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام وحده، ثم قواه الله بمن آمن معه كما يقوي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها، ممّا يتولد منها حتى يعجب الزرّاع» «19». وبعد استكمال عناصر تصوير المثل، واستحضار صورة الممثل له في الذهن، حتى أصبح المثل مطابقا للممثل له، جاء التعقيب على هذا التصوير بقوله لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وكأن هذا التعقيب هو بمثابة توضيح الغرض من تصوير المثل، وهذه هي الطريقة المتبعة في تصوير الأمثال القرآنية فبعد تصوير المثل والانتهاء منه، يعود التعبير القرآني إلى الممثل له، ويتابع الكلام عنه، ويترك صورة المثل لتبرز القضايا الأساسية من تصويره. ومثل قرآني آخر يرتبط بهذه المجموعة من الأمثال. ويتفاعل معها في توضيح معالم المؤمنين وسماتهم، والمثل هنا يضرب للمؤمنين بالمؤمنين السابقين الذين تحمّلوا مسئولية الدعوة، فتعرّضوا للشدائد والمحن، وهم صابرون صامدون، دون انحراف عن الطريق السوي الذي رسمه الله لهم. يقول الله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ البقرة: 214. ويعتمد تصوير المثل على الاستنكار أولا من تصورهم أن يدخلوا الجنة، دون دفع الثمن في الصبر على الابتلاء والشدائد، أو دون أن يخضعوا لسنة الله في الابتلاء لتمحيص المؤمنين، وتنقية صفوفهم، ومعرفة مدى صبرهم على هذه الدعوة، ثم يستحضر المثل المصوّر في أذهانهم، صورة المؤمنين السابقين لهم الذين تعرّضوا لشتى أنواع الابتلاء من قتل وتشريد وتعذيب حتى زلزلوا زلزالا حسيا ومعنويا، ولكنهم ظلّوا متمسكين بالإيمان، لا يحيدون عنه. ويجسّم التصوير شمول المعاناة للرسول والمؤمنين معه، زيادة في إيضاح شدة الابتلاء، ثم يستمر التصوير للمعاناة الشاملة، فيجسّمها بالاستفهام «متى» التي توحي باستبطاء

_ (19) الكشاف: 3/ 551.

النصر، ومعاناة النفوس من هذا الإبطاء، كما أن التصوير يرسم أهوال الابتلاء النفسي والحسي معا بقوله: مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا ... كما رسمه من قبل في صورة الاستفهام الموحي. والزلزلة بجرسها الشديد، ترسم زلزلة الأجسام، وما تعرضت له من قتل وتعذيب، وزلزلة النفوس المصاحبة لزلزلة الأجسام، وشعورها باليأس وإبطاء نصر الله ... ثم يأتي التعقيب على التصوير بقوله: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ. وهو جواب على الاستفهام السابق وقد جاء مؤكّدا بمؤكّدات عدّة مثل ألا وإنّ، والجملة الاسمية الموحية بالثبات والاستقرار. وهذا التعقيب، يتناسق مع طريقة تصوير الأمثال القرآنية، حيث يترك المثل في نهاية التصوير، وتبرز القضايا الدينية التي يجب أن يتعلق بها المؤمن. فالنصر هو من عند الله سبحانه، وإضافة النصر إلى الله في التعبير القرآني لها دلالتها النفسية وأهدافها التربوية والتوجيهية التي يحرص المثل القرآني على ترسيخها وتوضيحها. والمجموعة الثانية للأمثال مرتبطة بالكافرين، وهي تتفاعل مع المجموعة الأولى عن طريق «التضاد» لإبراز الفوارق بين المجموعتين في النواحي الفكرية والشعورية والسلوكية. كما أنّ هذا التفاعل بالتضاد يبرز وحدة النص القرآني في التصوير والتأثير والتعبير بعلاقات مختلفة كالتضاد أو التناظر ونحوهما، وتصوير الأمثال في هذه المجموعة، يتضمن أدلة عقلية، على بطلان عقيدة الكفر، وزيف عبادة المشركين، وضياع أعمالهم، كما يبيّن عقيدة التوحيد، وأثرها في النفس الإنسانية والحياة البشرية، ويقيم الأدلة البرهانية على عقيدة التوحيد. وهذا التصوير للكفر والكافرين، يشغل حيّزا واسعا في الأمثال القرآنية، لأن قضية الإيمان والكفر هي القضية الأساسية، التي يعالجها القرآن الكريم بأساليب شتّى. وقد تنوّع تصوير الأمثال لهذه القضية، حتى استوفاها من جميع جوانبها، موضحا بطلان عقيدة الكفر وزيفها، وعجز آلهتهم المزعومة عن خلق الذباب الحقير، ولو كانوا مجتمعين عليه، يقول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ

الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ الحج: 73. وهذا التصوير للعجز عن خلق الذباب الحقير «يلقي في الحس ظلّ الضعف أكثر مما يلقيه العجز عن خلق الجمل والفيل دون أن يخلّ هذا بالحقيقة في التعبير» «20». ويتدرّج تصوير عجزهم عن خلق هذه الذباب، في السياق القرآني، ويتفاعل التصوير مع التعبير في داخل السياق، لإيضاح هذه الحقيقة فهذه الآلهة عاجزة عن خلق الذباب وهي منفردة، كذلك وهي مجتمعة، ويترك للخيال أن يستحضر صورة الآلهة المزعومة، تجتمع على خلق ذباب حقير، وترتدّ عنه عاجزة ضعيفة، وهذا التصوير لها، فيه منتهى التحقير والسخرية من هذه الآلهة الضعيفة العاجزة، ثم يمضي تصوير المثل لإبراز العجز في صورة أخرى، أكثر سخرية وإضحاكا وتحقيرا لهذه الآلهة، التي تعجز عن دفع الذباب عنها، أو في استرداد ما سلبها الذباب إياه، ويتابع الخيال هذه الحركة التخيلية للذباب، وهو يجتمع على هذه الآلهة المزعومة، وهي لا تقوى على ردّه، وصورة الذباب المجتمع فوقها توحي بالتحقير من شأنها، كما أن تصوير الآلهة وهي تطارد الذباب لاسترداد ما سلب منها، حركة تخيلية، توحي بالسخرية من هذه الآلهة العاجزة الضعيفة في جميع الحالات. وهكذا تتواصل الصور في داخل المثل الواحد، وتتفاعل في السياق، لإبراز الفكرة الأساسية، التي هي موضوع المثل. وبعد استكمال تصوير المثل جاء التعقيب بحكم عام يشمل الممثل والممثل له على السواء ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ وهذا التعقيب يعدّ الإطار العام لفكرة المثل وبيان فحواه. ويتواصل تصوير الأمثال في هذه المجموعة في رسم الملامح المميّزة لها، وكشف زيفها، وبطلان تصوراتها فهذه الآلهة المزعومة التي تعجز عن خلق الذباب الحقير، غير جديرة بالعبادة، وطلب الحماية منها، والذين يتوجّهون إليها بالعبادة، وطلب النصرة منها، يتعلقون بخيوط واهنة ضعيفة أوهن من خيوط العنكبوت يقول الله تعالى فيهم مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ العنكبوت: 41 - 43.

_ (20) في ظلال القرآن: 4/ 2444.

فهؤلاء الذين يتخذون من دون الله أولياء، طلبا للحماية والنصرة، أو لدفع الضر عنهم، هم أشبه بالعناكب، التي تنسج خيوطها الواهنة الضعيفة لتحتمي بها، فهم في ضعفهم، كالعناكب في ضعفها، وهم في تصوراتهم وأوهامهم، كالعناكب في احتمائها ببيوتها الواهية الضعيفة، فالممثل به هنا ينطبق تماما على الممثل له. فالاحتماء ببيت العنكبوت ضرب من الأوهام، كما أن اتخاذ أولياء من دون الله وهم من الأوهام. وبعد استكمال التصوير للمثل، عقب عليه بقوله: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ جريا على طريقة تصوير الأمثال القرآنية في ترك المثل بعد استكمال تصويره، والعودة لإبراز الفكرة الدينية الأساسية التي هي مغزى المثل وفحواه. وهنا عاد إلى الممثل، أي المشبه لتوضيح بطلان تصورات الذين يتخذون من دون الله أولياء، ثم يستمر التعبير القرآني بعد التعقيب على المثل بتوضيح الفكرة الدينية، والإلحاح عليها، لأنها المغزى أو الهدف من تصوير هذا المثل، وضربه للناس. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فالله يعلم أنّ ما يتخذونه من دونه من أولياء، لا تأثير لهم في الناس ولا في الحياة والذين لا يدركون هذا المغزى من تصوير المثل، لا يعقلون ولا يعلمون الحقائق من وراء تصوير الأمثال: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ. وهكذا يتفاعل التصوير والتعبير في توضيح الفكرة الدينية، وإبرازها للعيان، ضمن نظام العلاقات التصويرية والتعبيرية والفكرية في النسق القرآني المعجز. ويتواصل التصوير ضمن هذه المجموعة من الأمثال، بترابط الأمثال فيها، وتفاعلها، ونموّها لتكوين صورة مميّزة للكافرين، فهم أشبه بالبهائم التي لا تعي شيئا، لأنهم لا يدركون الحقائق المعروضة في تصوير الأمثال، فإذا كانوا لم يدركوا عجز آلهتهم، ولم يعرفوا أن الاحتماء بغير الله لا يفيد، فقد استحقّوا هذا الوصف بالبهائم، التي لا تعقل الوارد في قوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ البقرة: 171. فهذه الصورة البشعة تليق بالكافرين، الذين يسمعون الهدى، ولا يفهمونه، ولا ينتفعون به، فمثلهم كمثل البهائم التي تسمع صوت المنادي دون أن تعرف مراده، أو تدرك غاية النداء «21».

_ (21) الكشاف: 1/ 328.

والمنادي يشعر بالمرارة والخيبة، لأن هذا القطيع لا يعي ولا يستجيب له. وكيف يستجيب الكافرون لنداء الحقّ، وقد عطّلوا حواسهم جميعا، فأصبحوا صمّا بكما عميا، لا يعقلون، ولا يرجى منهم خير. وبعد استكمال تصوير المثل، عقّب عليه بحكم قوي على الممثل له وهم الكافرون وصوّرهم بقوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ وجاء في نهاية التعقيب قوله: فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ وهذا التعقيب الصريح هو المغزى من تصوير هذا المثل، والمغزى أيضا من التصوير في صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، وهكذا يتناسق التعقيب مع تصوير المثل المضروب ويتفاعل معه في توضيح حقيقة الكافرين الذين عطّلوا حواسهم، التي هي وسائل المعرفة والإدراك، فاستحقوا بذلك هذا التصوير في المثل المضروب لهم. ويمضي تصوير الأمثال لبيان تناقض المشركين في التصوّر والسلوك وذلك في قوله تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ، كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ الروم: 28. ويعتمد تصوير المثل هنا على واقع المشركين حيث كان لهم عبيد تحت أيديهم، لا يسوّونهم بأنفسهم، ومع ذلك هم ينسبون لله شركاء في ملكه، وهذا تناقض واضح، حين يجعلون لله شركاء في ملكه، في الوقت الذي لا يرضون لأنفسهم شركاء فيما يملكون. وتبرز عقيدة التوحيد من خلال الدليل البرهاني المستخلص من المثل المصوّر، هي العقيدة الصحيحة لهذا جاء التعقيب بعد التصوير كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. فالعقلاء هم الذين يرفضون التناقض في التصور والاعتقاد، ويؤمنون بعقيدة التوحيد، التي هي الحقيقة الواضحة في الكون والحياة. ويستمر التفاعل والترابط بين الأمثال المصوّرة، لبيان عاقبة الكفر أيضا، للتحذير والتخويف من سوء العاقبة يقول الله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ النحل: 112، وفي هذا المثل، تتفاعل صورتان في داخل السياق، صورة الرخاء والاستقرار والأمان، وصورة الخوف والفقر والحرمان، لتحقيق الأثر النفسي المطلوب في التخويف والتحذير، والصورة الثانية متولّدة من الصورة الأولى، ومرتبطة بها، بسبب كفران النعمة.

فهذه القرية التي ضربها الله مثلا، لكل قوم بطروا النعمة، وكفروا بالله المنعم، الذي أنعم عليهم بشتى أنواع النعيم، فاستحقوا بذلك الحرمان منها، والحرمان من الأمن والرخاء. فالعلاقة بين الحرمان والبطر علاقة وثيقة، في داخل السياق وخارجه، فكما ترتّب الحرمان على بطر النعمة في العلاقة السياقية الملحوظة في التعبير القرآني، كذلك يترتّب أيضا خارج السياق، حين يكون الحرمان واقعا ملموسا بعد أن يتجسّم البطر في سلوك محسوس أيضا. ويعتمد تصوير المثل على استعارة الإذاقة لمس الضر والشدة، وهي استعارة مألوفة لدى الناس، واستعير أيضا اللباس لما يغشى الإنسان من حالات الخوف الشديد الذي يحيط به من كل جانب إحاطة اللباس بلابسه، وبذلك يصبح المحسوس الملموس، مذاقا مطعوما. يقول الزمخشري في توضيح هذه الصورة: «فإن قلت: الإذاقة واللباس استعارتان فما وجه صحتهما؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار فما وجه صحة إيقاعها عليه؟ قلت: أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد، وما يحس الناس منها، فيقولون ذاق فلان البؤس والضر، وأذاقه العذاب، شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر البشع، وأمّا اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشي الإنسان والتبس به من بعض الحوادث، وأمّا إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف فلأنه لما وقع عبارة عمّا يغشى منهما، ويلابس فكأنه قيل فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف» «22»، ويوحي تصوير المثل على هذا النحو، بالإحاطة والشدة، لتحقيق الأثر النفسي في التخويف والإنذار من سوء عاقبة البطر، والكفر بنعم الله. ثم يأتي التعقيب على التصوير موضحا المغزى من المثل المضروب وذلك في قوله: بِما كانُوا يَصْنَعُونَ. فيعود من جديد إلى الممثل له وهم أهل القرية لربط العقاب الشديد بأسبابه الموجبة له. ويرى سيد قطب في تصوير المثل تداخل الحواس أو تراسلها في تحقيق الأثر الديني يقول: «ويجسّم التعبير الجوع والخوف، فيجعله لباسا، ويجعلهم يذوقون هذا اللباس ذوقا، لأن الذوق أعمق أثرا في الحس من مساس اللباس للجلد، وتتداخل في التعبير استجابات

_ (22) الكشاف: 2/ 431.

الحواس، فتضاعف مسّ الجوع والخوف لهم ولذعه وتأثيره، وتغلغله في النفوس، لعلهم يشفقون من تلك العاقبة التي تنتظرهم» «23». ويميل تصوير الأمثال إلى التنويع في بيان بطلان أعمال الكافرين، وخسرانهم في الآخرة كقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ إبراهيم: 18. فالصورة في هذا المثل القرآني تجسّم أعمال الكافرين بالرماد المتجمّع بعضه فوق بعض، ثم تأتيه الريح الشديدة في يوم عاصف، فنسفته، وبدّدت ذرّاته في كل اتجاه، حتى لم يبق منه شيء، وكذلك أعمال الكافرين ضائعة لا تفيدهم يوم القيامة مثل الرماد المتناثر لأنها لا تقوم على الإيمان الذي يمنح الأعمال قيمة وفائدة. وهناك أيضا تصوير لأعمال الكافرين الضائعة في مثل آخر، يقول تعالى: مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ آل عمران: 116 - 117. والصورة هنا مستمدة من الزروع في ضرب المثل لقوم أنفقوا أموالهم في أرض زراعية رعوها رعاية تامة بالزرع والمياه، حتى نما الزرع، ودنا وقت الحصاد، وهم فرحون مستبشرون يعلقون عليها الآمال، إذا ريح باردة فيها صرّ، تهلكه وتبيده، فتضيع كل جهودهم في تلك الأرض. فالصورتان في هذين المثلين، مترابطتان، في بيان ضياع أعمال الكافرين، والتركيز فيهما على تصوير الأعمال لا على الكافرين. كما يلاحظ أن الريح فيهما هي أداة التصوير في بعثرة الرماد، ونثره في كل اتجاه كما في المثل السابق، وهي أيضا أداة التدمير للزروع في هذا المثل. وفي مثلين آخرين، يركّز التصوير على شخصية الكافر، بما يتناسب مع السياق كقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ، أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ

_ (23) في ظلال القرآن: 4/ 2199.

اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ النور: 39 - 40. والتصوير هنا يعبر عن ضياع أعمال الكافرين في الآخرة، وعدم الآخرة، وعدم استفادتهم ممّا أنفقوه في طريق الخير، ولكن التصوير هنا، يركّز على شخصية الكافر، فيبرزها، ويلقي الضوء عليها إلى جانب تصوير الأعمال. فالأعمال كالسراب الخادع، يراه الظمآن من بعيد، فيظنه ماء، وهو بحاجة إليه، ليطفئ ظمأه فيجري نحوه مسرعا، ولكنه لا يجده كما ظنّ، وخاب أمله فيه، فيلقى ربّه ليحاسبه على أعماله، وبعد استكمال تصوير المثل لحالة الكافر الواهم المخدوع بما قدم من أعمال جاء التعقيب وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ لإبراز الغرض الديني من تصوير المثل، وهو بمثابة المغزى لهذا المثل. ثم عقّب على هذا المثل بمثل آخر، وإذا كان التصوير في المثل الأول، ركّز على السنا الكاذب، في السراب الخادع في الصحراء، فإنه في المثل الثاني، يركّز على ظلمات البحر اللجي، تتلاطم أمواجه، وتغطيه السحب الكثيفة، ويغطّيه أيضا ظلام الليل، حتى تنعدم الرؤية البصرية في هذه الظلمات المركّبة بحيث لو أخرج يده لم يكد يراها من هذا الظلام الشديد. ويبرز التقابل في المثلين بين عناصر التصوير، لاستيفاء تفصيلات المعنى، فالسراب في المثل الأول يوحي بالخراب والأوهام، والكافر يجري وراء السراب أو الأوهام، والظلمات المتراكمة من البحر والسحاب وظلام الليل توحي بانعدام الرؤية البصرية، والكفر ظلمات، يحجب ما أنفقته اليد في طريق الخير، فلا يستفيد الكافر منها. ويتناسق التعقيب على المثل مع جوّ التصوير بالظلام وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ فيتضح من خلاله أن نور الله، هو الوحيد الذي ينير طريق الإنسان في ظلمات الحياة المتراكمة كما صوّرها المثل القرآني الأخير. وأحيانا يلجأ تصوير الأمثال إلى الجمع بين المؤمنين والكافرين في مثل واحد، لإجراء الموازنة بينهما وإيضاح الفوارق الجوهرية بين الاثنين، مثل الفوارق بين النور والظلام، والحياة والموت. وهذا النوع من التصوير للأمثال يشكّل مجموعة ثالثة، لها علاقاتها السياقية، وروابطها المتصلة ببقية الأمثال المصورة. يقول الله تعالى في ذلك: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ

وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ الأنعام: 122. فالإيمان حياة، يحيي العقول والقلوب والأرواح، كالحياة في الأجساد، والكفر موت، يميت العقول والقلوب والأرواح، كالموت في الأجساد، والفوارق كبيرة بين الحياة والموت، وكذلك بين الإيمان والكفر ويتواصل التصوير في المثل القرآني المضروب، معتمدا على التقابل في إيضاح الفروق بين الإيمان والكفر، فيصوّر دين الله بالنور المضيء الذي ينير طريق المؤمنين به، فيسيرون في الحياة على وعي وبصيرة، أمّا الكفر فيصوّره بالظلمات التي يتخبط فيها الكافرون، ولا يخرجون منها. فالإيمان حياة، ودين الله نور، واتباع هذا الدين، يعني السير في الحياة بين الناس بالنور المضيء والوعي السديد، وهناك أيضا صورة مقابلة للكفر، فهو موت، والسير في طريق الكفر، هو السير في الظلمات والتخبط فيها طوال الحياة، بحيرة وقلق. ويعتمد تصوير المثل على إقامة التشابه بين الممثل به، والممثل له، حتى إنه ينزل الممثل به منزلة الممثل له، ويركّز عليه زيادة في توضيح طبيعة الممثل له، وزيادة في إبراز عناصر التصوير، وهي هنا النور والظلمات كما كانت هناك الحياة والموت، حتى يقيم التوازن في الأذهان بين النور والظلمات، وبين الحياة والموت فتتضح الفوارق البعيدة بين الإيمان والكفر من خلال هذه الموازنة بين العنصرين. ويستخلص الحكم باستحالة المساواة بين المؤمن والكافر، كاستحالة المساواة بين النور والظلمات، وبين الحياة والموت. ويكثر في القرآن الكريم تصوير الإيمان بالنور والحياة، وتصوير الكفر بالموت والظلمات، فهذه الصور تتواصل في النسق القرآني كلّه. كما يكثر تصوير المؤمن بالبصير والسميع، والكافر بالأعمى والأصمّ، وقد ورد هذا التصوير للفريقين في المثل القرآني التالي مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ هود: 24. ويتميّز تصوير المثل بالدقّة وصدق المشابهة بين الممثل والممثل له، وحسن التنسيق، والتنظيم في التقابل بين الصورتين الأعمى/ البصير/ الأصم، والسميع. ومن خلال هذا

التقابل بين الصورتين، تتّضح الفوارق الجوهرية بين المؤمنين والكافرين، ومن ثمّ استحالة المساواة بينهما بأي شكل من الأشكال. ويلجأ تصوير الأمثال أحيانا إلى أسلوب «الرمز» في إقامة الموازنة بين المؤمنين والكافرين، لبيان حقيقة أهل الإيمان، وحقيقة أهل الكفر والضلال، ولكنّ أسلوب الرمز المتبع في تصوير الأمثال ليس فيه غموض يحجب المعنى، وإنما هو نوع من الإخفاء الفني للمعنى، لتحريك العقول والأذهان للبحث عنه وكشفه. يقول الله تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ الرعد: 17. يقول الزمخشري في تحليل هذا المثل: «هذا مثل ضربه الله للحق وأهله، والباطل وحزبه كما ضرب الأعمى والبصير، والظلمات والنور مثلا لهما، فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزله من السماء فتسيل به أودية الناس، فيحيون به، وينفعهم أنواع المنافع، وبالفلز الذي ينتفعون به في صوغ الحلي منه واتخاذ الأواني، والآلات المختلفة، ولو لم يكن إلا الحديد الذي فيه البأس الشديد لكفى به، وأن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهرا، يثبت الماء في منافعه، وتبقى آثاره في العيون والآبار والحبوب والثمار التي تنبت به مما يدخر ويكنز، وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله، وانسلاخه على المنفعة بزبد السيل الذي يرمي به، وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب» «24». فالآية هذه تشتمل على مثلين يتفاعلان في السياق، لتوضيح المعنى الديني، على الرغم من الاختلاف في طبيعة التصوير في كلّ منهما، فالمثل الأول يستمد مادته التصويرية من مشاهد كونية مرئية، مشهد نزول الأمطار والسيول، وما يعلوها من زبد، والمثل الثاني مستمد من الصناعات. وفي كل من المثلين المضروبين ظواهر مشابهة للصراع بين الحق والباطل، ونتائج هذا الصراع في غلبة الحقّ على الباطل. وهذا التنويع في تصوير المثلين، يهدف إلى تقريب الفكرة الدينية من الناس جميعا على اختلاف بيئاتهم، سواء أكانت بيئة

_ (24) الكشاف: 2/ 356.

زراعية كما في المثل الأول، أم بيئة صناعية كما في المثل الثاني، وعناصر التصوير في كليهما، عناصر معروفة لدى كل إنسان في كل مكان، فهي عناصر باقية متجددة، لأنها صور ذهنية مختزنة في الذاكرة من عالم المحسوسات. إن الله سبحانه ضرب مثلا للحق في أصالته وثباته وبقائه وغلبته، كما ضرب مثلا للباطل في تفاهته وزواله، ليدرك الإنسان المخاطب، من خلال المثلين طبيعة الحق النافعة المفيدة، وطبيعة الباطل الفاسدة الهزيلة، ويضع أمام عينيه نهاية الصراع بينهما، وأن الغلبة للحق وأهله، والهزيمة للباطل وأعوانه فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ. ويتواصل تصوير الأمثال للإيمان والكفر، ويرمز إليهما بكلمتين: طيّبة وخبيثة، ويمثّلها بشجرتين من جنسهما أيضا، يقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ، أَصْلُها ثابِتٌ، وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها، وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ إبراهيم: 42 - 26. فالله سبحانه يضرب هذا المثل للناس، ليوضّح لهم حقيقة الإيمان الباقية والغالبة، وحقيقة الكفر الخبيثة الهزيلة، التي ليس لها جذور ولا استقرار. ويرغب الله بالكلمة الطيبة التي هي كلمة التوحيد، ويجسّمها في صورة الشجرة الطيبة القوية الجذور في الأرض، والباسقة الفروع في السماء، والدانية الثمار والعطاء، تقابلها صورة أخرى للكلمة الخبيثة، التي هي كلمة الكفر، يجسّمها في صورة شجرة خبيثة مجتثّة من فوق الأرض، فليس لها جذور ثابتة، ولا فروع باسقة ولا ثمار يانعة، والفوارق كبيرة بين الصورتين المتقابلتين، كالفوارق الجوهرية بين الكلمة الطيّبة والخبيثة. ويطول تصوير الشجرة الطيبة، لإبراز محاسنها، وجمالها، الذي يشمل الجذور والفروع، أو الباطن والظاهر، وآثارها الدائمة في الثمار الدانية من القطوف، كآثار الكلمة الطيبة الدائمة، وجمالها في روح الإنسان وسلوكه. أما تصوير الشجرة الخبيثة فجاء موجزا سريعا، اكتفى باجتثاثها من فوق الأرض، وترك بقية التفصيلات للخيال كي يستحضر عناصر التصوير ويكملها، فإذا كانت الشجرة

الخبيثة قد اجتثت لخبثها وقلة فائدتها فلم يبق هناك داع لذكر فروعها وأغصانها وثمارها بعد استئصال جذورها. ويوحي التصوير في المثل هنا بأن الإيمان هو الباقي، لأنه يمتد في جذوره إلى أعماق الفطرة الإنسانية، وهو ثابت خالد، لأنه يصل العبد بربه، وهنا نلاحظ حركة الامتداد في الأعماق، وحركة الامتداد في الآفاق، كما أنه مفيد ومثمر، وتظهر ثماره وفوائده في سلوك المؤمن وفكره وقوله. فهو دائم العطاء في الحياة، ثم إن الإيمان هو الباقي والمنتصر على الباطل، لأن الكفر مقطوعة جذوره، فليس له قرار أو ثبات بعد قطع جذوره. وهكذا تترابط الصور في أمثال هذه المجموعة بروابط فكرية وتصويرية، في رسم الحقّ في ثباته واستقراره وانتصاره، ورسم الباطل في هزاله واندحاره فالحقّ- كما ورد في تصويره- هو النور والحياة والماء النافع والشجرة الطيبة، والباطل هو الظلام والموت والزبد، والشجرة الخبيثة المجتثّة. والحق هو الباقي والمنتصر، لأنه نور وحياة ومفيد، وعميق الجذور في هذا الكون، والباطل زائل، لأنه ظلام عارض في الكون والحياة، وزبد طاف يذهب جفاء، ومقطوع الجذور، فلا أساس له في هذا الكون وهذه الحياة. ويترتّب على ذلك أن المؤمن هو السميع البصير، وهو الحيّ المنتصر، لأنه استخدم حواسه في معرفة الحق العميق الجذور في الكون والحياة، والكافر هو الأعمى والأصم، والميت، لأنه عطّل حواسه فلم يدرك الحق ولم يؤمن به. فالأمثال المصوّرة في هذه المجموعة، تعتمد على نظام العلاقات والروابط في تأدية المعاني، وتوضيح الرؤية الدينية للحياة والإنسان والكون، فهي ليست أمثالا منفصلة بل مترابطة ونامية لتكوين بناء فكري متكامل من خلال التصوير الفني في القرآن الكريم. ومن هذه المجموعة أيضا، تصوير المثل لعقيدة التوحيد، بالاعتماد على الموازنة أيضا في إيضاح الفروق بين التوحيد والشرك كقوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ النحل: 75 - 76.

والمثلان هنا مأخوذان من واقع الحياة الاجتماعية للعرب آنذاك، فقد كان لهم عبيد، لا يملكون شيئا، وليس لهم حرية التصرف، أو القدرة على فعل شيء إلا بأمر أسيادهم. والتصوير في المثل الأول يركّز على أنهم لا يسوون في حياتهم بين عبد مملوك لا يقدر على شيء، وبين سيّد حرّ، مالك متصرف في أمواله، ينفق منها سرا وجهرا، ويرفضون المساواة بينهما، ويأنفون من ذلك إذ كيف يسوّى بين العبد المملوك، والحرّ الطليق، ولكنهم يرضون بالتسوية بين سيد العباد ومالكهم وبين أحد من عبيده أو شيء آخر مما خلق، وهذا تناقض بيّن، لا يقول به العقلاء. والتصوير في المثل الثاني يركّز على أنهم أيضا لا يسوون في حياتهم بين رجل أبكم ضعيف بليد، لا يعود بخير، وبين رجل عاقل حصيف، متكلم آمر بالعدل، مستقيم على طريق الخير. ولكنهم يرضون بالتسوية بين الله سبحانه وتعالى وهذه الأصنام الجامدة البكم. فالمثلان يقيمان الأدلة والبراهين على عقيدة التوحيد، من واقع حياة العرب آنذاك، ويظهران تناقض المشركين في تصوراتهم واعتقاداتهم. ويتواصل هذا المثل مع مثل آخر يدور حول حقيقة التوحيد والشرك، والفروق بينهما من الناحية النفسية لكلّ من المؤمن والمشرك، يقول الله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الزمر: 29. والفرق كبير بين عبد مملوك لشركاء عدة، كل واحد يأمره بأمر، وهو موزّع بين أسياده المتخاصمين عليه، لا يدري كيف يرضي هؤلاء المتخاصمين جميعا، لذا فهو يعيش في قلق وحيرة وعذاب، وعبد آخر مملوك لسيد واحد، يتلقى منه أوامره، وينفذها، ويعرف ما يريده منه وما لا يريده، لذا فهو يعيش في توازن ووضوح. والتصوير في هذا المثل، مستمد أيضا من واقع الحياة العربية آنذاك، ويتضح من خلال تصوير المثل أن المؤمن يعيش في حياته، ينقاد إلى الله سبحانه، وحده دون سواه فمصدر التلقي عنده واحد، والسيد الذي يملكه واحد، بيده النفع والضر، والرزق والمنع، فهو يوحّد جهوده في كسب رضاه، والسير على منهجه، فيشعر بالراحة والاستقرار في عبوديته لله وحده دون سواه.

أما المشرك فيعيش في اضطراب وقلق وتمزق، لأنه موزّع الأهواء والاتجاهات بين الآلهة المتعددة التي اتخذها أربابا من دون الله. ثم جاء التعقيب المتناسق مع جوّ التصوير، وعقيدة التوحيد الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. فالصورة في أمثال هذه المجموعة، تتعاون، في رسم ملامح كلّ من المؤمنين والكافرين، لإيضاح الفوارق الجوهرية بين الفريقين، والتواصل مستمر في هذه الصورة، ضمن أنساق تعبيرية متفاعلة معها، كما أن الروابط الفكرية التي تجمعها تكاد تدور حول القضايا الأساسية للدين، مثل التوحيد، والشرك، والمؤمن، والكافر، والصراع بين الحق والباطل ونحو ذلك. ثم هناك مجموعة رابعة من الأمثال المصوّرة، ترسم ملامح المنافقين، وتكشف حقائق نفوسهم، وهي أمثال مترابطة فيما بينها في التصوير والتأثير. تشكّل مجموعة ضمن الأمثال القرآنية، لها علاقتها وأدواتها التصويرية، وروابطها الفكرية، ولكنها أيضا مرتبطة بالتصوير العام للأمثال القرآنية، يقول الله تعالى في المنافقين: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ، أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ، يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ البقرة: 17 - 20. وهنا نلاحظ تفاعل المثلين في السياق، عن طريق التجاور السياقي، والتماثل الفكري والنفسي للمنافقين، وتبرز الحالة النفسية للمنافقين مجسّمة في صورة المثل، حيّة ناطقة، تكشف عن حقائق نفوسهم المضطربة القلقة التي لا تثبت على مبدأ أو رأي، والظلمة الكثيفة، في التصوير، تجسّم ظلمة النفوس، وتتضافر الروابط التعبيرية، والروابط التصويرية، في تعتيم الصورة، ورسم كثافة الظلام فيها، حتى تتناسق مع صورة المنافقين المظلمة. وإسناد ذهاب النور إلى الله، واستخدام كلمة بِنُورِهِمْ بدلا من ضوئهم، وجمع «ظلمات» ثم قوله «لا يبصرون» كلها علاقات تعبيرية متفاعلة مع أدوات التصوير الأخرى، لزيادة

رسم الظلمة المحسوسة، الملائمة لظلمة النفوس، حتى إنّ هذه الظلمات أفقدتهم الرؤية الصحيحة للأشياء، فلم يعودوا يميّزون بين الحق والباطل، والهدى والضلال، لأنهم عطّلوا حواسهم التي توصلهم إلى الإدراك والمعرفة وفهم حقائق الأمور، فلا رجعة لهم بعد ذلك إلى الحق صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ، وهذا القول الأخير في تصويرهم، جاء تعقيبا على تصوير المثل، فبعد الانتهاء من المثل، عاد التصوير إلى المشبه لإبرازه وإيضاح حقيقته، حتى ترسخ صورة المشبه في الأذهان على هذه الحالة المصوّرة، وهذه طريقة التصوير في الأمثال القرآنية. يتمّ فيها التركيز على المشبه، لأنه المقصود من ضرب المثل ولا يخفى ما بين الممثل، والممثل له من المشابهة والمماثلة مجسّمة في صورة المثل المضروب. ثم عقّب على المثل الأول بمثل آخر، زيادة في الإيضاح والبيان، وتجسيم حقائق النفوس، وعطف المثل الثاني على الأول بحرف العطف «أو» التي تفيد هنا التسوية، وليس الشك، ومعنى التسوية، هو نتيجة تفاعل المثلين في السياق وتجاورهما فيه، لتحقيق هذا المعنى، فكأن المثلين يتواصلان، ويترابطان، ويتعاونان في رسم ملامح المنافقين، وكشف خفايا نفوسهم. ويتمّ التركيز في المثل الثاني على تصوير حركة المنافقين، المضطربة التي لا تثبت على مبدأ أو رأي. فهم في تيه واضطراب وقلق، وحركة متذبذبة، بين لقائهم للمؤمنين، وعودتهم لاتباع خطوات الشيطان، وبين ما يقولونه في لحظة، ثم يرتدون عنه فجأة، وبين إظهارهم الإيمان، وإضمارهم الكفر. وقد جسّمت هذه الحركة النفسية لهم، في الحركة التصويرية للمشهد المرسوم في الصيّب النازل والرعد القاصف، والبرق الخاطف، وإدخال الأصابع في الآذان، والخطوات الفزعة المتحفزة للإفلات فالصورة في المثل تجسّم الحالة النفسية للمنافق في صورة حسية متحركة تجمع كل عناصر التصوير لتحقيق التماثل والتشابه بين الممثل، والممثل له، لتحقيق الغرض الديني من وراء التصوير الفني. يقول الزمخشري في تفضيل المثل الثاني على الأول: «فإن قلت أي التمثيلين أبلغ؟ قلت: الثاني لأنه أدل على فرط الحيرة، وشدة الأمر وفظاعته، ولذلك أخّر، وهم يتدرّجون في

نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ» «25». ويستمر تصوير الأمثال في وصف المنافقين، في مثل قرآني آخر، يوضح دور المنافقين في التحالف مع اليهود ضد المسلمين، فقد قال المنافقون لليهود بأنهم سيقاتلون معهم المسلمين، وأغروهم بالحرب، ولكنّ المنافقين خذلوهم، وتركوهم وحدهم يواجهون المسلمين، فكان مثلهم كما قال الله تعالى فيهم: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ الحشر: 16، فالله ضرب هذا المثل لتصوير موقف المنافقين من اليهود، حين أغروهم بمقاومة المسلمين، ولكن موقف المنافقين تغيّر بسرعة، حين رأوا انتصار المسلمين على اليهود، وجلاء اليهود عن المدينة، فمثل الله حالهم بحال الشيطان مع الإنسان، فالشيطان يغري الإنسان باتباعه بطرق شتّى فإذا تمّ إغواؤه فضلّ عن السبيل وطغى وكفر، تملّص الشيطان منه، ونفض يديه من تحمّل مسئولية إضلاله، وتركه يواجه العذاب والهلاك وحده. وهذا ما حدث لليهود حين استجابوا لإغراءات المنافقين، وأعلنوا عداءهم للمسلمين طمعا في دعم المنافقين لهم دعما ماديا ومعنويا، ولكنّ المنافقين سرعان ما تملصوا من وعودهم حين جدّ الجدّ، وجلا اليهود عن المدينة، تبّرءوا منهم، وعادوا إلى إظهار الإسلام. والعلاقة قوية بين الممثّل والممثل له أو بين المنافقين والشيطان، فهم أولياؤه وأعوانه، يقومون بدور خطير في تهديم المجتمع الإسلامي من داخل الصفوف. والمثل المضروب لهم ينطبق على المشبه تماما فدورهم هو دور الشيطان نفسه، بكل مراحله المتدرّجة. وترتسم صورة المنافقين، واضحة بكل ملامحها واتجاهاتها من خلال الأمثال المصوّرة، وتتوضح حقائق نفوسهم المظلمة، وتذبذبهم بين هؤلاء وهؤلاء، ودورهم الخطير في التحالف مع أعداء الإسلام، لهدم المجتمع الإسلامي من داخل الصفوف. وتعاونت صور الأمثال في رسم هذه الملامح لهم، بدقة وعناية، لتحقيق الغرض الديني في التحذير من النفاق والمنافقين. وهناك مجموعة خامسة من الأمثال المصورة تدور حول أهل الكتاب، وهي أمثال قليلة كقول الله في اليهود مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الجمعة: 5. وقد اعتمد التصوير هنا على صورة الحمار دون غيره، تحقيرا لشأن اليهود، وذمّا لهم،

_ (25) الكشاف: 1/ 213.

لأن صورته تنطبق على المشبه. فاليهود حملوا التوراة في عقولهم وصدورهم ولكنّهم لم يستفيدوا بما جاء فيها من أفكار وأحكام، ودعوة إلى الإيمان برسول يأتي من بعد موسى، اسمه أحمد، فكان مثلهم كمثل الحمار، يحمل على ظهره كتبا نفيسة، وهو لا يدري ما فيها، ولا ينتفع منها، وليس له من حملها إلا التعب والنصب. فالمثل لا يصوّر اليهود بالحمار في حالة الإفراد، وإنما يمثّل حالتهم في حمل التوراة مع عدم الاستفادة منها، بصورة الحمار يحمل أسفارا، ولا ينتفع منها. فصورة المثل صورة مركبة وليست مفردة، وهو يجمع إلى جانب التصوير الموحي التحقير والترذيل لليهود، لذلك جاء التعقيب على المثل بقوله: بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ .... ومثل آخر يتعلق بالنصارى، وقد قال النصارى في عيسى كلاما كثيرا، لأنه ولد من غير أب، فمنهم من جعله إلها، ومنهم من جعله ابنا لله، وأثاروا الجدل حول ولادته من غير أب، علما بأنهم لم يجادلوا في خلق آدم، الذي خلق من غير أب ولا أم، فضرب المثل القرآني لهم لإقناعهم، وإقامة الحجة عليهم من خلال تصوير هذا المثل إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ آل عمران: 59. فالمثل هنا موجز واضح، يقيم الحجة على بشرية عيسى عليه السّلام، وينفي الشبهات حول معجزة ولادته، وينفي التصورات الباطلة حول ألوهيته. وذلك عن طريق التماثل بين المشبه والمشبه به، وربط المعجزة الصغرى بالمعجزة الكبرى، حتى تتضح حقيقة المشبه وهو عيسى. والمثل يوضّح أن منطق الإعجاز في الخلق من عدم، يختلف عن المنطق المعروف في التزاوج والتناسل، ويردّهم المثل هنا إلى التراب، وهو الأصل في تركيب البشر، وهذا هو الإعجاز، وهو ما يجب أن يقاس عليه عيسى في خلقه وتكوينه، فآدم خلق مباشرة دون قانون طبيعي وفق إرادة الله ومشيئته، كُنْ فَيَكُونُ وهذا سرّ الحياة الغامض الذي لا يعرفه إلا الله سبحانه، وعيسى يقاس بآدم وفق المشيئة والإرادة الإلهية، وإرادة الله في الخلق والإيجاد لا تخضع لقانون يعرفه الإنسان أو يتصوره، لأن الله هو واهب الحياة، وواضع القوانين لتسيير الكون والحياة، وإذا كان الإنسان في العصر الحديث قد اكتشف بعض القوانين المادية المبثوثة في الكون والحياة، فإن قانون الحياة فإن قانون الحياة هو فوق المادة، وليس أمام

الإنسان إلا التسليم لله في موضوع الحياة، لأنه يصعب إدراك ماهيتّها أو سرّها، لأنها بيد الله الخالق المصوّر، بهذا المنطق البدهي تعرض الصورة في المثل للقضايا الشائكة في عقيدة النصارى لتردهم إلى التصور الصحيح، والدين القويم. وقد استغلّ المشركون عقيدة النصارى الفاسدة في تأليه عيسى، لدعم عقيدة الشرك، فحين نزل قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ الأنبياء: 98، قال بعضهم للرسول صلى الله عليه وسلم: «أليست النصارى يعبدون المسيح، واليهود يعبدون عزيرا، وبنو فلان يعبدون الملائكة، فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم، فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم، وضحك المشركون» «26». فنزل قوله تعالى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ، وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ، إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ الزخرف: 57 - 59. فالمشركون جادلوا بالباطل، لأنهم يعرفون أن «ما» في قوله تعالى وَما تَعْبُدُونَ تستعمل لغير العاقل في أصل لغة العرب، فلا يدخل في سياق الآية عيسى وعزير والملائكة، وهذا دليل لغوي ينقض افتراءاتهم بالإضافة إلى دليل آخر وهو تنزيه الأنبياء عن ذلك. فعيسى عبد من عباد الله، أنعم الله عليه بالنبوة والرسالة، ومعجزة الولادة، ليكون دليلا على قدرة الله سبحانه، ومثلا واضحا على هذه القدرة الربانية على مدار الأزمان والأجيال. وهناك مجموعة سادسة من الأمثال المصوّرة تدور حول الحياة الدنيا، وصور هذه الأمثال مستمدة من الزروع والثمار والأشجار والنبات، لأنها أشياء محسوسة مدركة، لها تأثيرها في الإنسان الذي يدرك هذه المشاهد الطبيعية، في سرعة نموها وازدهارها وإثمارها، ثم في سرعة تحوّلها إلى الاصفرار والذبول والزوال، وهذه مشاهد محسوسة مدركة من قبل الناس على اختلاف بيئاتهم، ومداركهم. يقول الله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ يونس: 24.

_ (26) صفوة التفاسير: 3/ 162.

والصورة في المثل القرآني هنا، ترسم الدنيا، وهي قائمة نضرة مغرية، وكذلك وهي فانية، والتقابل بين هاتين الحالتين للدنيا، أو الصورتين لها في المثل الواحد، يبرز نظام العلاقة بين الصورتين في السياق الواحد، وتفاعلهما معا، لإظهار المعنى، وتحريك الخيال وهو يتابع سرعة التحوّل في السياق من الصورة الأولى للدنيا، إلى الصورة الثانية. بشكل نام متحرك مثير، ويقوم الخيال بملء الفجوات لنموّ الصورة الأولى للدنيا بأطوارها أو مراحلها المختلفة، حتى تغيب في الصورة الثانية لها، وهي صورة الفناء، وتنطبع صورة الفناء بقوة في مخيلة الإنسان، ليدرك أن التعلّق بالدنيا وهي في صورتها الأولى مقبلة ومغرية ومتزيّنة هو نوع من الأوهام الخادعة، طالما أنها إلى زوال وفناء، وتطلّ الحقيقة الخالدة من وراء الدنيا الفانية، وهي حياة الخلود يوم القيامة وما فيه من نعيم دائم، وعذاب مقيم. وتتعاون العلاقات التعبيرية والتصويرية في إبراز الغاية من المثل المضروب، فالماء هو أصل الحياة، واختلاطه بالنبات، وجريانه في عروقه، يوحي بحب الناس للدنيا، وتغلغلها في قلوبهم، ثم تشخيص الدنيا، وجعلها كالعروس في زينتها وإغرائها، تفتن الناس بزخرفها ومظاهرها الخادعة، فيتعلق الناس بها، وينغمسون في لذائذها، ثم تحدث المفاجأة في غمرة الافتتان بها أَتاها أَمْرُنا فتصبح «حصيدا» ويترك للإنسان أن يتخيل مشهد الأرض الحصيد اليابسة الزائلة، ليذكر صورتها الأولى في نضارتها وزينتها، فيدرك أن زينتها خادعة، وأن حقيقتها فانية، وقوله: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ تأكيد على ذلك المعنى، وإيحاء بقصر مدة الصورة الأولى، وسرعة زوالها، وانمحائها، وصورة فناء الدنيا تلقي في الحس، احتقارها، وخداع مظاهرها، وتوجّه الإنسان إلى الحياة الباقية في الدار الآخرة، وهذا ما يهدف إليه تصوير المثل هنا. ويرتبط المثل الثاني للدنيا، بالمثل الأول بعدة روابط تعبيرية وتصويرية وفكرية، من أهمّها، اعتماد تصوير المثل على «الماء» واختلاطه بالنبات، وتغلغله في عروقه، للإيحاء بحب الناس للحياة الدنيا، ثم التماثل في نهاية تصوير الدنيا بين المثل الأول والثاني، في فناء الدنيا، والإيحاء بالدار الباقية، وقوة الله القادر على كل شيء. يقول الله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً

تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً الكهف: 45. في هذا المثل، يقرب الله سبحانه صورة الدنيا من الأذهان، موضحا حقيقتها، في سرعة تحوّلها وتبدّلها من الخضرة والنضارة، إلى الذبول والزوال، فيصوّرها في سرعة فنائها بسرعة فناء النبات. والمثل المضروب لها، قصير موجز، والتصوير فيه سريع خاطف، يتلاءم مع حال الدنيا في سرعة زوالها، فيلقي التصوير السريع ظلّ الفناء في ذهن الإنسان وحسّه، كي يستقر هناك بقوة وثبات. فالماء في تصوير المثل، ينزل من السماء، فيختلط بسرعة بنبات الأرض، وهذا ما توحي به الفاء العاطفة الدالة على الترتيب والتعقيب المباشر، ثم إنّ هذا الثبات لا يصوّر ناميا ومثمرا، ولكنه بسرعة خاطفة يصوّر «هشيما تذروه الرياح». فتصوير المثل يعتمد على جمل ثلاث في تصوير قصر الحياة الدنيا، وسرعة زوالها وقد تناسق التصوير مع التعبير في رسم قصر الحياة الدنيا، وسرعتها في الزوال والفناء، من خلال الماء النازل، واختلاطه بالنبات، والهشيم المتناثر في نهاية الصورة، وقد قامت الفاء العاطفة في تسريع حركة التصوير حتى يبلغ نهايته المؤثرة في فناء الدنيا وزوالها. وبعد أن تلقي صورة المثل ظلّها في النفس الإنسانية، يأتي التعقيب على المثل بقوله: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً ليرتبط الإنسان المخاطب بالقوة الإلهية القادرة على الإحياء والإماتة في كل حين. وهكذا يتواصل المثل المضروب، مع حركة الصورة القرآنية، في السياق القرآني، لتكوين الرؤية الإسلامية المتكاملة، عبر الصور المتجمّعة حول هذا المحور. والمثل الثالث للدنيا يتواصل مع المثلين السابقين لها، ضمن نظام العلاقات بين أمثال المجموعة، وتبرز عدة روابط، تربط هذا المثل بمجموعته، منها، الاعتماد على الماء كعنصر من عناصر التصوير، وكذلك النبات، في مراحل نموه، ونهايته، ولكنّ الجديد في المثل الثالث هو ذكر الدنيا بكل ما فيها من متع وإغراءات، مثل المال والأولاد، والتكاثر، والزينة، واللهو واللعب، ثم بعد ذلك ضرب المثل لها. يقول الله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي

الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ الحديد: 20. فالدنيا لعب ولهو، تستميل النفوس الضعيفة، وزينة خادعة، لأنها زائلة، وتفاخر بالأحساب والأنساب والأموال والأولاد، ولكنّ هذه الصور زائلة إذا قيست بالآخرة. ثم يأتي المثل مصوّرا حقيقتها الفانية، فيمثّلها بالمطر النازل من السماء، فينبت الزروع، حتى تنمو وتكبر وتتكاثر، فيعجب الزرّاع بهذه الزروع المتنوعة، ولكنّ هذه الزروع تصفرّ وتيبس وتتحطم في النهاية، وهذا هو حال الدنيا. ويقصد بالكفار هنا الزرّاع، لأنهم يكفرون الحبوب في التراب أي يسترونها، ولكن استخدام الكلمة هنا في السياق توحي بأن الكفار هم الذين يعجبون بالدنيا، ويغفلون عن حقيقتها الزائلة وبعد تصوير زوال الدنيا في المثل، يعقب على ذلك بذكر الآخرة باعتبارها دار البقاء والخلود وهذا التعقيب في نهاية المثل يتفاعل مع بدايته، عن طريق التضاد، للإيحاء بأن صور الدنيا المختلفة زائلة فانية، وما في الآخرة من صور النعيم هو الباقي الخالد. وبذلك تتقابل الصورتان في ذهن المخاطب، وتتفاعلان، لتحقيق الموعظة والعبرة، والأثر الديني الذي هو هدف تصوير المثل. وهناك أمثال قرآنية مصوّرة للإنفاق في سبيل الله وهي المجموعة السابعة، وهذه الأمثال مرتبطة بأمثال تصوير فناء الدنيا، ومعتمدة عليها، فالإحساس بالفناء يدفع الإنسان إلى الإنفاق، وعدم التعلّق أو التمسك بالدنيا. وأمثال هذه المجموعة، وردت متعاقبة في سياق واحد، وبينها علاقات، تشدّ بعضها إلى بعض، لتكوين وحدة منسجمة داخل المجموعة، متميّزة باتجاهها وملامحها، وصورها، بالإضافة إلى حركة ارتباطاتها بالمجموعة قبلها، واعتمادها عليها كقاعدة اساسية للإنفاق، بعد التأكيد على زوال الدنيا في المجموعة السابقة وتدور الأمثال المصورة في هذه المجموعة حول ضرورة الإنفاق لمواساة الفقراء والمساكين والإخلاص لله في ذلك، والتحذير من الإنفاق رياء أو مصحوبا بالمنّ والأذى للفقراء والمحتاجين، ووعد الله للمنفقين ابتغاء وجهه، بمضاعفة الأجر والثواب يوم القيامة. يقول الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ البقرة: 261.

والصورة في هذا المثل، تركّز على المشبه به، وتجمل في صورة المشبه، في قوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وتزيد من إيراد التفصيلات المرغّبة في الإنفاق، فالحبة الواحدة أنبتت سبع سنابل، ثم السنبلة الواحدة تحتوي على مائة حبة، فتتضاعف الحبة إلى سبعمائة ضعف. والتدرّج البطيء ملحوظ في تصوير المثل، لزيادة تشويق المخاطب، وترغيبه بالإنفاق، فيظلّ المخاطب، يتابع مشهد نموّ الحبة وهي تنمو وتكبر، كأنها أمام عينيه في مشهد محسوس جميل، مثير للخيال، ومشوّق للنفس، فتغدو الحبة سبع سنابل، ثم السنبلة الواحدة فيها مائة حبة، ثم يترك للخيال أن يتابع تضاعف الأجر، من خلال مضاعفة الحبة في المشهد المنظور، وليس المراد هنا حقيقة العدد، بل المقصود به التكثير والمضاعفة، لذلك آثر التعبير جمع الكثرة «سنابل» على «سنبلات» ليلقي التعبير ظلّ الكثرة في حس المخاطب وخياله، فيدفعه هذا إلى الإنفاق، طلبا للزيادة ومضاعفة الأجر. وقد تعاون التعبير والتصوير، على أداء المعنى، وتوضيحه، فاختيرت الحبّة لضرب المثل وقد تكون موجودة، أو متخيّلة على سبيل الفرض والتقدير ثم طوي المضاف في التعبير فلم يقل «كباذر حبة» حتى يظلّ الإنسان مشدودا إلى متابعة نموّ الحبة، وتكاثرها في المشهد المحسوس، وهذا الحذف للمضاف جعل التعبير موصولا، بين نمو الحبة وتكاثرها، وبين المنفقين في سبيل الله، فيظلّ الذهن يربط بينهما، ولا يشغل بسواهما. ثم يأتي التعقيب على المثل بقوله: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ فيزيد الصورة وضوحا، وإثارة للمشاعر الإنسانية ثم يأتي قوله: وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ متلائما مع جوّ تصوير المثل، فيفتح أمام الإنسان آفاقا رحبة لعطاء الله الواسع الذي لا ينفد. ويشترط في الإنفاق أن يكون في سبيل الله، غير مصحوب بالمنّ والأذى، حتى يتحقق الغرض منه في تهذيب نفس المنفق، وبثّ روح التعاون بين أفراد المجتمع الإسلامي. وقد ضرب الله سبحانه مثلين لنوعين من المنفقين، الأول ينفق ماله رياء، والثاني ينفق ماله ابتغاء مرضاة الله. وعرض هذين النموذجين في السياق، يهدف إلى توضيح الفوارق في النيات، وما يترتّب عليها من الثواب أو العقاب. يقول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً

لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ البقرة: 264. وفي هذا المثل أيضا، نلاحظ، نموّ الصورة، وتدرّجها في أداء المعنى، وهو بطلان الإنفاق القائم على الرياء أو الأذى، فبدأ المثل بتصوير المنّان بالمرائي الكافر، ثم جاء تصوير المثل لهذا المرائي الكافر. في نموّ متدرج، وتفاعل بين صورة المثل، وصورة المرائي، عن طريق المجاورة في السياق، والتماثل بين صورة المرائي، وصورة الممثل به هنا. فالمرائي يشبه صورة الزارع على صخرة صلدة ملساء، عليها تراب رقيق، وهو رمز للرياء المبطل للأعمال، فينزل المطر من السماء فيجرف هذه الطبقة الرقيقة من على الصخرة وما زرع فيها، لينكشف الصفوان حجرا صلدا غير قابل لامتصاص رحمة السماء، والحجر الصلد، هو قلب المرائي في قسوته، وعدم صلاحيته لامتصاص الخير، لهذا فإنّ إنفاق المرائي ضائع، كما يضيع الغيث الهاطل، فوق الصخر الأصم. وتعاقب الفاءات في التعبير «فمثله، فأصابه، فتركه» يوحي بسرعة إحباط هذا الإنفاق، وتلاشيه دون أن يمكث ولو وقتا قصيرا. وقد وحّدت الصورة في المثل بين المؤمن الذي يبطل صدقاته بالمنّ والأذى، والكافر الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر، لتماثلهما في النية من ناحية، ولزجر المؤمن وتحذيره من هذا السلوك المشين من ناحية أخرى. ثم يأتي التعقيب بقوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ على طريقة تصوير الأمثال القرآنية في التعقيب على المثل، بعد الانتهاء من تصويره، وبناء حكم عليه، لبيان المغزى من تصوير المثل، والتركيز على المشبه لتحذيره. ثم يعقبه بمثل آخر، للمنفق ابتغاء وجه الله، جريا على طريقة التصوير الفني في القرآن، في عرض الصور المتقابلة في السياق، لإيضاح الحقائق المصورة، وإدراك الفروق بين المعاني والصور، يقول الله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ البقرة: 265. والصورة في المثل هنا، جنة بربوة، في مكان مرتفع قليلا، حتى تبرز هذه الجنة أمام العيون فتراها، ولأن شجرها أجمل، وثمرها أطيب، فينزل عليها المطر من السماء، فتنمو

ويتضاعف ثمرها وإن لم يصبها الوابل، فيكفيها المطر القليل، وهو الطلّ لكي تنمو وتثمر، وتؤتي أكلها ضعفين، لطيب تربتها، وكرم مغرسها. والتصوير بالوابل والطلّ، يوحي بالإنفاق الكثير والقليل، فالإنفاق الخالص لوجه الله وإن قلّ يتضاعف أجره، كما توحي الصورة بذلك. ويرتبط هذا المثل قبله، ويتفاعل معه لإيضاح الفروق بين النموذجين، ويتمّ هذا التفاعل، عن طريق التماثل في عناصر التصوير، والتضاد في آثارها وإيحاءاتها. في الوقت نفسه. فالوابل الهاطل من السماء مكوّن أساسي في الصورتين، ولكن أثره مختلف فيهما، فهو هنا عامل نماء وحياة، لقابلية الربوة للخير، واستعدادها له، وهي تمثّل قلب المؤمن العامر بالإيمان والمستعد لبذل الخير والعطاء باستمرار، أما الوابل على الصفوان، فقد كشف جوهره المجدب وعدم نفعه لاستقبال الخير، ولو ستره وراء طبقة ترابية رقيقة التي تمثل عمل الخير في الظاهر، فالفروق واضحة في المثلين، فهنا جنة بربوة وثمار وأرض طيبة، وتربية صالحة للنماء والحياة والسماء تجود عليها بغيثها الكثير أو القليل، وهي تستقبله، فتفيض عطاء ونماء، وهناك حجر صلد، وتراب خادع، وتربة فاسدة، وموت وضياع. وتبرز الفوارق أيضا في ملامح النموذجين من خلال تصوير المثلين. ويتواصل المثل الأخير مع المثل الثاني في هذه المجموعة مع بعض اللمسات النفسية المؤثرة. يقول الله تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، وَأَصابَهُ الْكِبَرُ، وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ البقرة: 266. فالصورة في هذا المثل، تبرز إبطال العمل، أيّا كان صاحبه، مرائيا أو منّانا أو غير ذلك. وترسم الجنة بمشاهد تجذب الأنظار إليها في بداية المثل، ليزداد الألم والحسرة عليها في نهاية التصوير حيث نرى مشهد تدميرها بشكل مؤثر. فهي جنة من نخيل وأعناب، فيها الأنهار الجارية، والثمار المتنوّعة الأخرى، ويترك للخيال أن يستحضر صور الثمار الأخرى غير الأعناب والنخيل، ثم هذه الجنة استمرت في

نضارتها وعطائها، واشتدّ تعلّق صاحبها بها، لأنه كبر من ناحية، ولأن له ذرية ضعفاء من ناحية أخرى وبهذه اللمسات النفسية، يكون تصوير المثل قد بلغ ذروته في رسم المشاهد المحسوسة، والمشاعر الإنسانية الخفية، لكي يهيئ ذلك لاستقبال مشهد التدمير المفاجئ الذي يتجاوز تأثيره الحواس الظاهرة إلى أعماق النفوس، وهو مشهد سريع خاطف، مصوّر بتعاقب الفاءات العاطفة، لتحقيق التأثير السريع والعميق. ويعتبر الإيمان باليوم الآخر، من الروابط الأساسية في الأمثال المصوّرة، والصورة القرآنية عموما لأنه من أركان العقيدة الإسلامية. لذلك لا تخلو صورة قرآنية منه إمّا بالتصريح بذكره أو بالإيحاء به من خلال التصوير. وهناك مجموعة ثامنة من الأمثال المصورة، تدور حول اليوم الآخر، للإقناع به، وإيراد الأدلة والبراهين عليه. كقوله تعالى: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ يس: 78 - 79. فالصورة في هذا المثل، توضّح أنّ إعادة الحياة، مثل إيجادها من العدم أول مرة، والذي أوجدها من العدم، قادر على إعادتها من جديد، فليس هناك غرابة في ذلك، بل إن الإعادة بالمنطق البشري أهون من الإيجاد والتكوين من العدم، ولله المثل الأعلى. وهذا الدليل الواضح هو الذي سار عليه المثل القرآني، في الإقناع بفكرة اليوم الآخر يقول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الروم: 27. فالخلق الأول إنشاء وابتكار على غير مثال موجود، أما بعث الحياة من جديد، فإعادة لما كان موجودا. وهذا التصوير، هو لمجرد تقريب فكرة البعث بعد الموت من الأذهان، أمّا بالنسبة لله سبحانه فإنّ الإيجاد والإعادة سواء، لأنّ الأمرين مرتبطان بإرادة المشيئة «كن فيكون». وتتواصل صور اليوم الآخر من خلال الأمثال، لتقريبه من الأذهان يقول الله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ الرعد: 35. ويركّز التصوير في هذا المثل على الأنهار الجارية، لتقابل صورة الجفاف في ذهن

العربي القديم، مقابلة النقيض للنقيض، فتبدو صورة الأنهار الجارية، مقترنة بظلال العيش الرغيد أُكُلُها دائِمٌ فهي مستمرة العطاء والثمار، لا يعتريها التلف أو الانقطاع كما في الدنيا، وفكرة البقاء في الثمار، هي فكرة الخلود للإنسان في ذلك النعيم الدائم، والنفس تميل إلى ذلك الخلود، وتتشوق له. والظلّ الدائم يضفي على الصورة ظلالا ندية للحياة في اليوم الآخر، والظل الدائم مقصود بالتصوير ليقابل الظلّ الزائل في الدنيا، لأنه مرتبط بالزمن الفاني المتغيّر بحركة الشمس، والتصوير بالظلال له وقعة في نفس العربي القديم، الذي اعتاد حياة الصحراء بشمسها المحرقة، كما له جماله الأخّاذ في تظليل الصورة المرسومة لليوم الآخر. فالصورة في المثل، مثيرة للخيال، فيها الأنهار الجارية، تحت الأشجار الوارفة، والثمار الدانية الدائمة، والظلال الممتدة الباقية، بالإضافة إلى ما يوحيه هذا الجوّ الجميل، من حياة رغيدة، ولذائذ طيبة، ويأتي التعقيب على النعيم بقوله: تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا ثم جزاء الكافرين مختلف وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ. وهكذا تتقابل الصورتان في السياق، صورة الجنة المفصّلة للتشويق إليها، وصورة النار الموجزة لإيقاع الرهبة في النفوس. ويرتبط مثل آخر بهذا المثل، ولكنه أكثر تفصيلا لمشهد النعيم والعذاب يقول الله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ محمد: 47. وإذا قارنا بين المثلين نلاحظ أن المثل السابق جاء موجزا، يركز على فكرة الخلود الواضحة، في الظلال الدائمة، والثمار اليانعة المستمرة، لطمأنة النفس، وبعث الراحة فيها، بعد هذا التحوّل والانتقال إلى اليوم الآخر. والخلود يريح النفس، ويذهب عنها مشاعر القلق والخوف، وقد ورد هذا المثل في سياق يقتضي التركيز على فكرة الخلود في الآخرة، والفناء في الدنيا. فقد تحدث السياق عن الشرك فأراد الله سبحانه أن يوحي لهم بأن حياتهم فانية، والخلود في الآخرة إمّا في النعيم أو العذاب، أما هذا المثل المفصّل للنعيم والعذاب، فقد ورد في سياق يحثّ على قتال المشركين، فاقتضى ذلك تزيين الجنة للترغيب

فيها، والتخويف بالنار للابتعاد عنها. ويكثر في المثل الأخير أنواع النعيم فالأنهار أنواع من ماء ولبن وخمر وعسل، وكل نوع خالص من شوائب الدنيا، وما يعتوره من عوامل التغير والتحوّل. للإيحاء بأن العالم الآخر. عالم مختلف عن عالم الدنيا في جوهر نعيمه وإن تشابهت أوصافه الحسية به، أما خواص تركيبه، وطعومه فمختلفة عما هو مألوف في الدنيا، والتنوّع في الثمار كالتنوّع في الأنهار سواء بسواء. ويلاحظ التناسق البديع في التصوير في أنهار الشراب، من ماء وخمر، ولبن، وعسل، واقتضى التنسيق والتنظيم في الصورة أن يكون مشهد العذاب كذلك يعتمد على الماء الحميم الذي يقطّع الأمعاء، لتتضح الفوارق بين ماء وماء، ونعيم وعذاب، وإيمان وكفر وقد استغرب المشركون، حين نزل قوله تعالى في الملائكة الذين يحرسون النار: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ المدثر: 30، وأثاروا الشبهات حول هذا العدد القليل في حراسة النار أمام ملايين البشر. فرد الله عليهم هذه الشبهات موضحا أن هؤلاء الملائكة لا يعرف ماهيتهم إلا الله، ولا يعرف قدرتهم إلا الله، والعدد المثير للجدل، هو من قبيل الرموز فكل عدد سيثير الجدل أيضا يقول الله تعالى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً، وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ، وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ المدثر: 31. وقولهم: ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يوحي بأن الله قد ضرب لهم المثل، أو أنهم اعتبروا الحديث عن ملائكة النار مثلا لغرابته وندرته. فكان الرد عليهم بأن الله حدد طريق الهدى، وطريق الضلال، والحديث عن الملائكة وجنود الله، هو من الغيب المستور، البعيد عن إدراك البشر المحدود، فلا حاجة للخوض فيه. والمجموعة الأخيرة هي الأمثال القصصية، التي نصّ القرآن الكريم على أنها أمثال، وهي مترابطة بالروابط الفكرية والتصويرية والتعبيرية، لتمييز هذه الأمثال عن غيرها، وإعطائها الطابع الخاص بها، ولكنها أيضا تدور بعلاقاتها وروابطها، حول حركة الأمثال القرآنية، وتتحرك باتجاهها في تحقيق الغرض الديني من التصوير.

والأمثال القصصية في القرآن الكريم لا تميل إلى التفصيلات المملّة، وإنما تركّز على موضوعها الديني في التصوير الفني، والبناء القصصي، فلا نجد فيها أسماء الشخصيات والأماكن كما تعودنا في القصة، كأنها في تخطّيها للتصريح بالزمان والمكان وأسماء الأشخاص، تهدف إلى تأصيل النظرة الشمولية للفكرة الدينية، حتى يستوعب المثل المصور كل الأزمنة والأمكنة والأشخاص في إطاره المرسوم، وإذا ذكر المكان أحيانا فإنه يذكر مبهما منكّرا، لإفادة الشمول والعموم، باعتباره وعاء للحدث الجاري، وليس مقصودا لذاته، ولكن هذه الأمثال القصصية تمتاز بالصدق الواقعي، والبعد عن التصوير الأسطوري أو الخرافي. وتعتمد التنويع في تصوير الشخصيات، فقد تتناول شخصية واحدة، لإبراز معالمها وأفعالها كمثل الذي أتاه الله آياته فانسلخ منها، وقد تتناول شخصيتين متناقضتين، لإظهار الفكرة الدينية من خلال التناقض بين الشخصيتين في السلوك والتفكير، كمثل الحوار بين الكافر صاحب الجنتين، والمؤمن. وقد يتناول المثل سلوك طبقة اجتماعية كاملة، يظهر فكرها وسلوكها وبعدها عن منهج الله، كمثل أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون. وقد يضرب المثل بامرأتين في بيئتين مختلفتين، كمثل امرأة نوح وامرأة لوط الكافرتين في بيئة متدينة. أو كمثل امرأتين صالحتين هما امرأة فرعون في بيئة كافرة، ومريم ابنة عمران كنموذج للمرأة الصالحة الصابرة. يقول الله تعالى في مثل الذي انسلخ من آيات الله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ، وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ، وَاتَّبَعَ هَواهُ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ الأعراف: 175 - 177. والقصة المضروبة مثلا هنا، ليس فيها تحديد للزمان ولا للمكان، وليس فيها ذكر لاسم الشخص المذكور، لأن المثل يركّز على العبرة والعظة من القصة، ولا يحفل بمثل هذه الجزئيات، التي لا تخدم الغرض الديني من التصوير فالمثل يركّز على تصوير سلوك هذا الشخص، وأحوال نفسه، واتباعه هوى النفس وشهواتها، وسيره وراء خطوات الشيطان، وخلوده إلى الأرض الفانية، وتعلّقه بالدنيا الزائلة.

وتشبه حالته بحال الكلب اللاهث دائما، وهذه الصورة المحقّرة لشأنه، تماثل حالة الذي انسلخ من آيات الله بعد أن عرفها وآمن بها، فكما أن الكلب يلهث من الإعياء والجهد، ويلهث في الأمن والراحة أيضا، فكذلك هذا الشخص، كان ضيقا متبرما من تحمّل آيات الله، يلهث من التزامه بها، وحين انسلخ منها، ظلّت حالته كذلك، فالمماثلة واضحة بين الممثل، والممثل له. ويضرب المثل للقيم الإيمانية الثابتة، والقيم الدنيوية الزائلة، بقصة الرجلين والجنتين فأحد الرجلين يمثّل الغني الذي أبطرته النعمة، فنسي ربه، وكفر به، معتزا بما يملك من مال، والآخر يمثل الرجل المؤمن الفقير المعتز بإيمانه. وهذا المثل القرآني من الأمثال المطوّلة، يضم مشاهد الطبيعة المصوّرة، ومظاهر الثراء والغنى وأحوال النفوس في البطر والغنى. ومشهد التدمير والخراب في نهاية المثل المضروب. ويبدأ تصوير المثل أولا بمشهد الجنتين، وما فيهما من مظاهر الجمال والثراء، يقول الله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً، كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً، وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ الكهف: 32 - 34. والتصوير المفصّل للجنتين هنا، يقصد به بيان ثراء هذا الرجل الذي بطر نعمة الله عليه، فالجنتان مثمرتان، من أعناب، تحيط بهما أشجار النخيل، وبينهما الزروع والثمار، ويتوسطهما نهر جار فيكتمل تصوير هذا المشهد الطبيعي بكل ما فيه من جمال ومنفعة، وثراء. ولكن تصوير الطبيعة هنا، مرتبط بالله سبحانه الخالق، فهو الذي جعل لأحدهما جنتين، وهو الذي حفّهما بأشجار النخيل، وجعل بينهما زرعا، وفجّر خلالهما نهرا، فإسناد هذه الأفعال إلى الله هو إسناد حقيقي أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ كما أنّ هذا الإسناد، مرتبط بالغرض الديني من التصوير فالتعبير اللغوي، والتصوير الفني، يشتركان في رسم ملامح هذا الرجل الذي بطر نعمة الله عليه، وقابل ربه المنعم بالجحود والكفران. ثم ينتقل تصوير المثل من رسم مظاهر الثراء في الجنتين الجميلتين، وما توحيان به من حياة رغيدة ورخاء ودعة، إلى التركيز على القضايا الفكرية الأساسية التي هي غاية التمثيل.

فيبدأ المشهد الثاني بالحوار فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً، وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً الكهف: 34 - 36. ويتّضح في هذا المشهد فكر هذا الرجل الغني وسلوكه، ونفسيته، فهو يعتز بماله وأعوانه، ويخدش مشاعر صاحبه، ويجرح عواطفه، ويتطاول عليه بأمواله وأعوانه، ويمتد تطاوله على صاحبه بقوله ولسانه، ليستعرض أمامه جنته، ويزهو بها مفاخرا بثمارها وأشجارها وجمالها، حتى وصل إلى درجة التطاول على ربّه المنعم عليه بهاتين الجنتين، فنطق بكلمة سفيهة تعبر عن جهله وسوء تصوره للحياة ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ثم استمرّ في استعلائه على صاحبه، وتدرّج إلى النطق بكلمة الكفر صراحة وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ولم يتوقف عند هذا الحدّ المخزي بل ازداد غرورا بنفسه وماله قائلا: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً. ثم يبدأ المشهد الثالث بتصوير موقف المؤمن، من طغيان هذا الرجل وكفره: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا، لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً، وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً، فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً، أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً الكهف: 37 - 41. فالمؤمن بدأ بتذكيره أولا بالله سبحانه، الذي خلقه في أطوار مختلفة حتى أصبح رجلا سويا، وهذا التذكير بأصله المهين، وأطوار الضعف التي مرّ بها، يقصد بها التخفيف من غروره وبطره، وردّه إلى الحق والإيمان، كما أنّ عرض أطوار نموّه من تراب ثم من نطفة حتى أصبح رجلا يتناسق تماما، مع عرض أطوار نمو الزروع والثمار، والتي يدركها صاحبه لأنها مشاهد محسوسة يراها أمامه، وهذا العرض لأطوار الحياة، في الإنسان والزروع، يوحي بقدرة الله سبحانه في كل طور من الأطوار، حتى تكتمل استواء وعطاء في نهاية المطاف. وذكر «التراب» في السياق يوحي بأصل الجنتين قبل استوائهما خضرة وجمالا وثمارا، كما يوحي أيضا بالنهاية من التمثيل حين عادتا أيضا ترابا بعد التدمير الذي أنزل عليهما. ويلاحظ أن الرجل المؤمن بدأ بالرد على صاحبه، بتذكيره أولا بالله سبحانه لعله

يستيقظ من غفلته ثم تابع ذلك بالتوجيه والنصح حين لم يلمس تجاوبا من صاحبه، ويحمل النصح طابع التوبيخ وهذا ما نلاحظه في قوله وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ... ولكنه حين يئس من صاحبه، دعا على جنته بالخراب، فاستجاب الله دعاءه: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ، فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً، هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً الكهف: 42 - 44. ويختم المثل بمشهد الخراب والدمار، وهو يقابل مشهد الجنتين المثمرتين في أول المثل، ومشهد الألم والندم لصاحب الجنتين في نهاية المثل، يقابل صورته في المشهد الثاني حين كان مزهوا بها كافرا وجاحدا للنعمة. وهكذا تتقابل المشاهد في المثل الواحد، لرسم لوحة فنية، تجمع صورا متناقضة، وحالات متباينة، لتحقيق الغرض الديني من تصوير المثل. وهنالك مثل آخر مطوّل، يوضّح سلوك جماعة من البشر ضد دعوة الرسل يقول الله تعالى في مستهله: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ... يس: 13. ويمكن تقسيم هذا المثل القصصي إلى ثلاثة مشاهد. في المشهد الأول: تركيز على دعوة الرسل لأهل القرية، ورفض أهل القرية لهذه الدعوة. يقول الله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ، قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ، قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ، وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ، قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ، قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ يس: 13 - 19. فالمثل لا يذكر اسم القرية، ولا موقعها، وكذلك لم يذكر أسماء الرسل الذين أرسلوا إليها، على طريقة تصوير الأمثال في القرآن الكريم في التركيز على القضايا الفكرية والعقدية، لتحقيق الغرض الديني من المثل المصور. وذلك لإضفاء صفة الشمولية عليه، التي تنطبق على كل زمان ومكان، وكل جيل من الأجيال. والمثل يركّز على تعاقب الرسل على أهل القرية، وأهل القرية مصرّون على العناد والتكذيب بل إنهم لجؤوا إلى تهديد الرسل

بالرجم بالحجارة والعذاب الأليم، والرسل صابرون متفائلون يدعونهم إلى الله باستمرار على الرغم من التهديد. ثم يبدأ المشهد الثاني بمجيء رجل مؤمن من أقصى المدينة، يدعو قومه إلى الإيمان بالمرسلين، بأسلوب منطقي، وحجّة قوية، ولكن حياته تنتهي على أيديهم، كما يوحي به السياق، لتبدأ حياته الخالدة في ظل النعيم الدائم. يقول الله تعالى: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ، وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ، إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ، قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ، بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ يس: 20 - 27. فالرجل المؤمن ينصح قومه بالإيمان واتباع الرسل، ويبين لهم دليلا على صدق المرسلين، وهو أنهم لا يطلبون منهم أجرا، ثم حدثهم عن إيمانه، وأسبابه، وصوّر الإيمان لهم من دواعي الفطرة، ولكنهم قتلوه كما يوحي السياق، وينتقل السياق مباشرة إلى مشهد النعيم، والرجل المؤمن يتابع حديثه عن قومه ويتمنى لو يعلمون حقيقة ما آل إليه من التكريم والغفران. وهذا الانتقال في السياق من الدنيا إلى الآخرة أسلوب متّبع في التصوير القرآني، لربط الدنيا بالآخرة في ذهن المخاطب دائما. ثم ينتهي المثل بالمشهد الثالث وفيه ترى القوم خامدين بالصيحة الواحدة دون تفصيل: وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ، إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ، يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يس: 8 - 30. والمثل القصصي فيه حذف كثير، لتحريك الخيال ليملأ هذه الفجوات الفنية التي تدرك من سياق القصة، مثل قتلهم الرجل المؤمن، وإنزال جند من السماء لتدميرهم، وهم قوة مجهولة لم يذكر السياق صفاتهم وأدوارهم في القصة، ثم إهلاك القوم بالصيحة الواحدة، لإيقاع الرهبة في النفوس، والتحذير من تكذيب الرسل. ويربط تصوير المثل مشهد التدمير بمشهد التكذيب، لأنه نتيجة طبيعية له. وفي هذا إيحاء لكل المكذبين بالرسل أن يصيبهم ما أصاب أهل القرية من التدمير، والهلاك، فأصبحوا جثثا خامدة بلا أنفاس. والترابط واضح بين هذا المثل، والمثل الذي قبله في نهاية التصوير في المثل، فكلاهما

ينتهيان بمشهد التدمير والإهلاك، هناك تدمير للجنتين اللتين كانتا السبب في كفر صاحبهما وبطره وهنا تدمير القوم الكافرين بسبب تكذيبهم الرسل. كذلك كان هناك الرجل المؤمن يدعو صاحبه إلى تذكر نعمة الله عليه، والإيمان به، وهنا أيضا نلاحظ الرجل المؤمن يدعو قومه إلى الإيمان وينصحهم باتباع الرسل. فالروابط التصويرية والفكرية واضحة في المثلين، بالإضافة إلى الروابط التعبيرية في تخطي ذكر الزمان والمكان، وأسماء الأشخاص، هذه الروابط طبيعية ضمن هذه الأمثال، لأنها تشكل مجموعة مميّزة في الأمثال القرآنية باعتمادها على القصة كعنصر من عناصر إظهار المعاني الدينية. فالطابع القصصي فيها، يجعلها مجموعة مستقلة بروابطها وعلاقاتها التصويرية والحوارية، ولكنها أيضا تدور في اتجاه الأمثال القرآنية، حول الأغراض الدينية التي هي الوظيفة الأساسية للصورة الفنية في القرآن. وكما ضرب الله مثلا بالرجال، ضرب مثلا بالنساء، فضرب مثلا بامرأة نوح وامرأة لوط كنموذجين للخيانة الدينية في بيت النبوة والرسالة: قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ التحريم: 10. وهذا المثل يهدف إلى بيان أن الروابط الحقيقية هي روابط الإيمان وليس سواها، فكل إنسان مسئول عن عمله وتصرفه. وضرب الله أيضا مثلا بامرأة فرعون وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ التحريم: 11. وامرأة فرعون نموذج للمرأة الصالحة التي تخلّت عن كل مظاهر الملك والجاه والحياة الناعمة في القصور، وتبرأت من فرعون وعمله، وأعلنت ولاءها لله سبحانه، ورغبت فيما عنده من الثواب. وهذا المثل يتفاعل مع المثل السابق في السياق لبيان مسئولية الإنسان عن عمله، ثم عطف على مثل امرأة فرعون بمريم بنت عمران التي هي مثل الطهر والعفاف، والانقياد لله. يقول تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ التحريم: 12. وأختم هذا الفصل بمثل رائع ضربه الله لنوره لتقريبه إلى الأذهان في قوله: اللَّهُ نُورُ

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ، الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ النور: 35. فنور الله صاف طليق، لا تحدّه حدود، ولا تقيده قيود، فهو نور يملأ السماوات والأرض. ولكنّ هذه الصورة الطليقة الشفافة لنور الله، تقرّب من الإدراك البشري المحدود، بمثل محسوس. كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ... ويلاحظ في المثل التركيز على صفاء النور، وكماله، وذلك في نور المصباح، وزيته، والزجاجة التي تزيده تألقا حتى كأنها كوكب دريّ. وتعتمد الصورة في هذا المثل على التدرّج في رسم هذه اللوحة، والإطالة في عرضها، فتبدأ برسم مكان المصباح، ثم رسم زجاجته الدرّية، ثم رسم مشهد الشجرة المباركة التي تمد المصباح بالزيت، فهي شجرة لا تحجب عنها الشمس في الشروق ولا في الغروب، ثم رسم صورة الزيت الصافي الذي يضيء ولو لم تمسسه نار، فاجتمع في الصورة التمثيلية، صفاء الزيت، وصفاء نور المصباح، وصفاء الزجاجة التي تضاعف النور، وتزيده تألقا نُورٌ عَلى نُورٍ. وبعد الانتهاء من تصوير المثل عقب عليه بقوله يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ على طريقة القرآن الكريم في تصوير الأمثال، وذلك لإبراز المغزى من المثل، والتركيز عليه. فالأمثال- كما رأيناها- تشكّل صورة جديدة، في تأدية الأغراض الدينية، وهي أوسع من الصور المعبّرة عن المعاني الذهنية المجردة، لأن الأمثال المصورة تدور حول قضايا فكرية أساسية في الدين كالإيمان والكفر، والعالم الآخر، وتصنيف الناس إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين، وأهل كتاب ... إلخ، وهذه الموضوعات الكبيرة، تتسع لها صورة المثل، بعلاقاته وروابطه التصويرية والتعبيرية بحيث إن الأمثال تتوزّع على مجموعات متماثلة في موضوعها، أو اتجاهها، وتحكم كل مجموعة منها عدة روابط فكرية وتصويرية وتعبيرية. ولكنّ حركتها تظلّ في اتجاه حركة الأمثال القرآنية وتصبّ في مجراها العام، لتشكيل صور جديدة، لها خصوصيتها، وعلاقاتها المتفاعلة، مع حركة الأنساق في الأسلوب القرآني. فالتصوير في الأمثال، يرتبط أيضا بعلاقات وثيقة بالتصوير الفني في القرآن عموما،

ممّا يؤكّد على التواصل بين الصور القرآنية، وإن تباعدت أنساقها الواردة فيها. فصورة المؤمن هي صورة النور، والحياة، والسميع، والبصير، والشجرة الطيّبة، والأرض الخصبة، وتقابلها صورة الكافر، وهي الظلام، والموت، والأصم، والأعمى، والشجرة الخبيثة، والأرض الميتة المجدبة. ونلاحظ في تصوير الأمثال لأصناف الناس، أنه يبرز ملامح كل فئة أو صنف، ثم يوازن بين المؤمنين والكافرين، وبين عقيدة التوحيد والشرك، لإظهار الفوارق الجوهرية بين المؤمنين والكافرين، وبين التوحيد والشرك. ثم يضع أمام كل فريق من الناس نهايته ومصيره، وثوابه، وعقابه وهذا الاختلاف بين الناس يرجع إلى الاختلاف في تفسير الحياة، لهذا فإن تصوير المثل يمتد متواصلا مع الأمثال القرآنية، في تصوير الحياة الدنيا الزائلة، وتصوير الحياة الباقية في الدار الآخرة. ويعرض أمثالا قصصية للعظة والاعتبار، لبيان عاقبة التكذيب بالرسل. وهكذا تتواصل الأمثال المصورة، وتتّحد في أهدافها أو أغراضها الدينية، وتترابط فيما بينها لأداء هذه الأغراض، ضمن أنساق تعبيرية متفاعلة مع التصوير. ولكنّ الصورة القرآنية، لا تتوقف عند تصوير الأمثال، وإنما تتجاوزها إلى صور أكبر، إلى تصوير مشاهد الطبيعة المحسوسة، وهي مشاهد أكبر من الأمثال من حيث المكان والزمان، لأنها مشتملة عليها. فقد رأينا أن تصوير الأمثال اعتمد على الطبيعة في تشكيله الفني، ولكن تصوير مشاهد الطبيعة أيضا يرتبط بتصوير الأمثال، ضمن نظام العلاقات الفكرية والتصويرية والتعبيرية التي تحقق وحدة التصوير الفني في القرآن الكريم، ووحدة تأثيره الديني أيضا، وتتداخل مشاهد الطبيعة، مع الأمثال، ومشاهد القيامة، والقصص الماضية ... وتتفاعل معها في السياق لتحقيق الغرض الفني والديني معا، كما سنرى في الفصل القادم.

الفصل الثالث مشاهد الطبيعة

الفصل الثالث مشاهد الطبيعة ثمة علاقة وثيقة بين تصوير مشاهد الطبيعة، وتصوير الموضوعات الأخرى في القرآن الكريم، لأن الأسلوب القرآني، لا يعتمد في السياق على نمط واحد من التصوير، بل يعتمد على التنويع فيه، فينتقل من نمط تصويري إلى آخر، ضمن نظام العلاقات التعبيرية والتصويرية المتفاعلة داخل السياق، لتحقيق الأثر الديني والفني معا. ويحتلّ تصوير الطبيعة مكانة هامّة في التصوير الفني في القرآن، لأن هذا التصوير مرتبط بعالم المحسوسات أو عالم الشهادة بتعبير القرآن، وهو مجال المعرفة الإنسانية، لأن الحواس تقوم بالتقاط الصور المتفرّقة من مشاهد الطبيعة، وتضعها لدى العقل الإنساني الذي يفسّرها وينظّمها، ويعطي حكما عليها. لهذا فإن القرآن الكريم حفل بتصوير مشاهد الطبيعة، واتخذها وسيلة للمعرفة الدينية، ووسيلة أيضا للتأثير في النفس، التي تهتزّ بطبيعتها لهذه المشاهد المحسوسة، وتتفاعل معها، وليشبع حاسة الجمال الفطرية في الإنسان أيضا. ومن أجل تحقيق هذه الأغراض المتعددة، فإن الصورة تضفي على المشاهد الطبيعية الحياة والحركة، حتى تبدو حية شاخصة، مؤثرة في حس الإنسان ووجدانه، فيشعر بالتفاعل معها، لأنه لا يجد فيها مجرد مشاهد جامدة أو صامتة، بل يجدها شخوصا متحركة، مخلوقة لله، ومحكومة بقوانين الله. وبذلك يتم التوافق والانسجام بين الطبيعة والإنسان، لأن كليهما مخلوق لله، وكليهما محكوم بقوانين الله، فلا تعارض بين الطبيعة والإنسان، في التصوير الفني في القرآن، كما هو موجود في بعض الآداب العالمية، وإنما هناك التوافق والانسجام.

وتقوم الصورة الفنية بإبراز هذا التوافق، في ربط المشاهد بالله سبحانه، الذي خلق الإنسان أيضا، وربطها أيضا بحركة الإنسان على ظهر الأرض، للتأكيد على فكرة التوافق والانسجام، ونفي التعارض أو الصراع بين الاثنين. كما أنها لا تقف عند التصوير الخارجي للطبيعة فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى النفاذ إلى أعماقها، لكشف علاقاتها الخفية بين مشاهدها، وقدرة مبدعها، ورصد حركتها منذ وجودها إلى نهاية مصيرها في الزوال والفناء، فتتحد في هذه النهاية مع نهاية الإنسان، وفق النظرة الدينية للكون والإنسان والحياة. والثبات الملحوظ في مشاهد الطبيعة، ثبات محدود في إطار زمني مقدّر ومحدّد، وفق سنة الله، وسيعقب هذا الثبات في المشاهد المصورة، مشاهد الفناء والتحطّم، حين يتغيّر الزمن المحدود، إلى الزمن المطلق، في عالم الخلود، يوم القيامة. حين ذاك، تتحطّم مشاهد الطبيعة، ويفنى كل شيء في الوجود، لأن القوانين التي تحكم الطبيعة، وتقيم العلاقة بين أجزائها، تتغير بدخول يوم القيامة، ويحدث الانقلاب في مشاهد الطبيعة، والانفلات في النظام الكوني المحسوس، وتصبح مناظرها الجميلة ذكريات ماضية لعالم الدنيا الزائل. فالصورة القرآنية تطبع في حس الإنسان ظلّ التغيّر أو ظلّ الفناء للطبيعة، ولا تطبع ظلّ الخلود لها كما في الأعمال الأدبية الكثيرة. وبهذا يكون للطبيعة في القرآن، صورتان في الذهن، صورة لها في عالم الدنيا، وهي صورة جميلة زاهية متناسقة، وصورة أخرى تناقضها في عالم الآخرة، حين تشهد الطبيعة انفلاتا كونيا مرعبا يتناسب مع أهوال يوم القيامة وأحداثه. كما سنبين ذلك في الفصل الخاص بمشاهد القيامة. وبهذا يتمّ التواصل بين الصور القرآنية، الامتداد الزماني والمكاني فيها، عبر الانتقال من العالم المحسوس إلى غير المحسوس، ومن المحدود إلى المطلق. ولكنّ هذا لم يؤثر في تصوير الطبيعة ومشاهدها المتنوعة، من حيث التشابه بين الصورة والطبيعة المرئية، بل إنّ الصورة المرسومة لها في القرآن الكريم هي عين الطبيعة المحسوسة، مع إضفاء الطابع الديني على التصوير، فيزيد جمالها جمالا، لأنه «ما من شيء جميل غير الحقيقة» «1» كما يقول جان برتليمي.

_ (1) بحث في علم الجمال: ص 222.

كما تتسم صورها بالبساطة، وسهولة الإدراك لأنه «كلما كانت الخطوط والأشكال بسيطة ازداد الجمال، وازدادت القوة» «2». ويرجع جمال تصوير الطبيعة- بالإضافة إلى ما ذكرناه- إلى الحقيقة الإلهية، التي تظهر في شفافية المشاهد وإيحائها بالقدرة الإلهية المبدعة، وكأن هذه المشاهد المصورة لوحات فنية، لحقائق دينية تكمن وراء المشاهد المنظورة، فهي التي تضفي عليها الجمال والتناسب والتناسق والجاذبية. فالحقيقة الدينية هي هدف تصوير الطبيعة، تخرجها من داخل مناظر الطبيعة إلى المشاهد المصورة. أو بمعنى آخر، تخرجها من الكمون في المناظر المرئية إلى الظهور في المشاهد المصورة، وبذلك لا تغدو المشاهد مجرد أشكال أو تماثيل صامتة بل هي مشاهد حية شاخصة تدلّ على مبدعها وهو الله سبحانه. وحين يتفاعل المسلم معها، أو يتأثر بها، فلأنه يرى فيها مخلوقات لله، فيها الحياة والحركة، وينطبق عليها ما ينطبق على الأحياء من الفناء والزوال. ولا شك في أن الذي خلق الطبيعة هو أعلم بأسرارها وعلاقاتها، فحين يصوّر لنا الطبيعة في كتابه العزيز. فإن تصويره هو الأصدق والأدق من أي تصوير آخر لها، وقد أراد الله من تصويرها أن يلفت انتباه الإنسان إلى بديع خلقه، وقوة قدرته، ويوقظ الحواس والمشاعر والعقول، لإدراك ما وراء الطبيعة من حكمة وغاية. وليس هدفه تقديم الحقائق العلمية أو تصويرها لمجرد التصوير الفني، وإنما الهدف أن ينقل الإنسان من مظاهرها الخارجية إلى أعماقها وأسرارها والحكمة من خلقها، أي إلى بيان حقيقة الألوهية، وآثار الربوبية في هذا الكون المنظور. ولكنّ هذه المشاهد الطبيعية المصوّرة. هي وسيلتنا لمعرفة الحقائق الدينية المستترة. لهذا فإنّ «الإخلاص للمظاهر هو الشيء الوحيد الذي يسمح بأن نتعدى حدود المظاهر نفسها، وبأن نصل إلى الواقع على حقيقته نقصد كما يقول سيزان- إلى الطبيعة في أعماقها» «3». وهذا ما نراه في تصوير الطبيعة في القرآن، حيث تجمع الصورة بين الشكل الخارجي

_ (2) بحث في علم الجمال: ص 224. (3) المصدر نفسه: ص 267.

والمضمون الديني فتحقق، متعة الحس، ولذة النفس، وطلاقة الروح، وحرية الخيال حين يسبح في هذا الملكوت الكبير الذي خلقه الله سبحانه بتناسق عجيب، ونظام وانسجام. ويتعمد تصوير الطبيعة على نظام العلاقات أيضا، لتحقيق وحدة الصورة الفنية، ووحدة الأثر الديني. فالمشاهد المصورة، تترابط في السياق، عن طريق التناظر، أو التقابل، ويتفاعل فيها التعبير والتصوير، لتوضيح الرؤية الإسلامية، لهذا الكون البديع. فمشاهد السماء تضم النجوم، والشمس، والقمر، وحركة الأفلاك، ومشاهد الأرض تحيط بها مشاهد السماء، وتعاقب الليل والنهار، وفيها الجبال، والمياه، والأنهار، والبحار، والنبات، والأشجار، ومشاهد السحاب، والأمطار، والرياح ... إلخ. وبين هذه المشاهد علاقات سياقية، وروابط فكرية، وتصويرية تجعلها، كلّها تشكّل مجموعة موحّدة تدور في حركة متناسقة منسجمة في التصوير، كما هي في الواقع المنظور، وتسير في حركة تصويرية باتجاه وحدة الصورة القرآنية، ووظيفتها الدينية الأساسية. وهذه المشاهد الطبيعة، يراها الإنسان في الصباح والسماء، ولكنه لا يلتفت إليها غالبا، ولا يدرك اليد التي أبدعتها، لأن الإلف أو الاعتياد، بلّد حسه، وجمّد شعوره، فلم يعد يهتزّ حين يراها أو يلتفت إلى الخالق سبحانه الذي أبدعها. فجاءت الصورة لتحيي هذه المشاهد الطبيعة في حس الإنسان وشعوره، وكأنه يراها لأول مرة، وتعمل على إيقاظ حسّه، ليدرك ما وراء هذه المشاهد المحسوسة، من قوة خالقة لها، ومدبرة لشئونها، ومنظّمة لأجزائها، حتى تكون بهذا الجمال، وهذا الكمال. وإذا تأملنا تصوير الطبيعة في القرآن، نلاحظ أن السماء يكثر ورودها، مرتبطة بذكر الأرض معها غالبا. ويرجع ذلك إلى أن السماء تحيط بالأرض، فيراها الإنسان دائما، كما أنها تتسم بالضخامة والاتساع والجمال. مما يؤثر في حس الإنسان ووجدانه. يقول الله تعالى في وصف المساء والأرض: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ غافر: 57. فهذه الصورة الكونية الصخمة، المرسومة للسماء والأرض، تشغل مساحة واسعة في المكان، كما تحتل مكانة واسعة في الحس والشعور، وهي أكبر دليل على خلق الناس. وتتفاعل صورة السماوات والأرض في السياق، عن طريق التجاور في التعبير، والتقابل في

الحس، لكي تزداد الصورة ضخامة واتساعا في الحس والشعور والخيال. وإذا قارنا بين هذه الصورة الكونية الضخمة، والصورة البشرية، نلاحظ ضآلة البشر أمام خلق السماوات والأرض. وتمضي الصورة القرآنية في رسم المشاهد الكونية، وهي في حالة تسبيح لله الخالق، حتى تلقي في حسّ الإنسان الرهبة والخشوع أمام هذه المشاهد يقول الله تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ الإسراء: 44. وصورة هذا التسبيح الكوني على هذا النحو المثير «تدلّ على الصانع وعلى قدرته، وحكمته، فكأنها تنطق بذلك، وكأنها تنزه الله عز وجل مما لا يجوز عليه من الشركاء وغيرها» «4». فالصورة هنا، تبرز الطبيعة، وهي خاضعة لله، وملتزمة بقوانينه التي وضعها لها، فهي دائمة التسبيح له، من خلال هذا الخضوع لقوانينه الموضوعة. والسير على سننه الكونية. والتسبيح يضفي على المشهد الكوني، حياة وحركة، وكأنّ هذه المشاهد مخلوقات حيّة تنطق وتتكلم وتسبّح، وذلك لإحياء مشاهد الطبيعة في حس الإنسان وشعوره، كي يتجاوب معها في حركة التسبيح الكونية، ولا يشذ بمفرده عن هذا التسبيح الجماعي للكون من حوله. يقول الزمخشري في توضيح هذه الصورة: «فإن قلت: فما تصنع بقوله: وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، وهذا التسبيح مفقوه معلوم؟ قلت: الخطاب للمشركين وهم وإن كانوا إذا سئلوا عن خالق السماوات والأرض قالوا: الله إلا أنهم لما جعلوا معه آلهة مع إقرارهم، فكأنهم لم ينظروا ولم يقرّوا. لأن نتيجة النظر الصحيح، والإقرار الثابت، خلاف ما كانوا عليه، فإذا لم يفقهوا التسبيح ولم يستوضحوا الدلالة على الخالق. فإن قلت: من فيهن يسبحون على الحقيقة وهم الملائكة والثقلان، وقد عطفوا على السماوات والأرض فما وجهه؟ قلت: التسبيح المجازي حاصل في الجميع، فوجب الحمل عليه، وإلّا كانت الكلمة الواحدة في حالة واحدة محمولة على الحقيقة والمجاز» «5».

_ (4) الكشاف: 2/ 451، وفي صفوة التفاسير: «السماوات تسبح الله في زرقتها». انظر 2/ 161. (5) الكشاف 2/ 451.

ولكن أحمد بن المنير يردّ قول الزمخشري هذا، ويرى أن التسبيح هو على الحقيقة وليس مجازا «6». وأيّا كان، فإن الصورة ضخمة في إيحائها، ومثيرة للخيال الذي يتابع مشهد التسبيح الكوني الهائل، في آفاق السماء، وفي مساحات الأرض، وفي أنواع الزروع والنباتات والمخلوقات .. وذلك على طريقة القرآن المفضّلة في تصوير المشاهد الكونية وهي تنبض بالحياة والحركة. ومثل ذلك قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ، فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها فصلت: 11 - 12. يقول الزمخشري في توضيح هذه الصورة الكونية: «ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان، وامتثالهما، أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه، ووجدتا كما أرادهما، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع، إذا ورد عليه فعل الآمر المطاع، وهو من المجاز الذي يسمى تمثيلا، ويجوز أن يكون تخييلا، ويعني الأمر فيه على أن الله تعالى كلّم السماء والأرض، وقال لهما ائتيا شئتما ذلك أو أبيتماه، فقالتا: أتينا على الطوع لا على الكره، والغرض تصوير أثر قدرته في المقدورات لا غير» «7». وهذه هي طريقة القرآن الكريم في تصوير الجوامد، حية شاخصة، بإضفاء الصفات الإنسانية عليها، كي تكون أكثر إيحاء، وأشد تأثيرا في النفس الإنسانية. أما صورة السماء وهي دخان، فهي صورة غيبية، لا نعرف ماهيّتها، وإن كانت الصورة توحي بأن الكون الخارجي كان غازا، أو دخانا، وهو ما يسمى عند العلماء ب «السديم». يقول الدكتور أحمد زكي: «إن نظرية الخلق تقول: إن المجرة كانت من غاز وغبار ومن هذين تكونت بالتكثيف النجوم، وبقيت لها بقية، ومن هذه البقية كانت السدم، ولا يزال من هذه البقية منتشرا في هذه المجرة الواسعة، مقدار من غاز وغبار يساوي ما تكونت منه النجوم، ولا تزال النجوم تجرّ منه بالجاذبية إليها» «8».

_ (6) انظر الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال الوارد في هامش الكشاف: 2/ 451. (7) الكشاف: 3/ 445 - 446. (8) في ظلال القرآن: 5/ 3114. نقلا عن كتاب «مع الله في السماء» لأحمد زكي.

ثم تتواصل صور السماء مبنية بناء محكما، ومحبوكة حبكا دقيقا. على شكل طبقات بعضها فوق بعض، دون أن تعتمد في رفعها على عمد، كما اعتاد الإنسان أن يقوم البناء، كما أنها ضخمة واسعة. يقول الله تعالى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ الذاريات: 47. ثم أنها مرفوعة بغير عمد خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها لقمان: 10. كما أنها سبع سماوات شداد، وليست سماء واحدة وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً النبأ: 12. وهنّ على شكل طبقات بعضها فوق بعضها وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ المؤمنون: 17. وهي محبوكة، ومحكمة ومتناسقة التركيب، كتنسيق الزرد المحبوك المتداخل الحلقات، دون خلل أو عيب فيها: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ الذاريات: 7. وهكذا تتواصل صور السماء في السياق، مترابطة، متعاونة على رسم صورة لها متكاملة على شكل بناء ضخم متقن الصنع، جميل متناسق، وهو بناء لا يخضع لقوانين البناء المعروفة لدى الإنسان، وإنما هو يخضع لقوانين أخرى وضعها الله سبحانه لها. وقد جعلها الله فوق رءوس البشر سقفا مرفوعا ومحفوظا من السقوط يقول الله تعالى: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً، وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ الأنبياء: 32. وصورتها وهي كالسقف المرفوع، لها دلالتها القوية، على قدرة الله سبحانه، ولكنّ البشر على الرغم من هذه الصورة الكونية المحسوسة فوق رءوسهم، لا يفكرون في أبعاد هذه الصورة، ولا يدركون ما وراءها من إله قادر على كل شيء. فالصور الكونية تتضافر فيما بينها، وتتفاعل في السياق الواردة فيه، كي تحقق وظيفتها الدينية ويكفي أن يتصور الإنسان هذه الكتل الضخمة فوق رأسه، ليدرك قدرة الله عليه، ويرتعد خوفا من مخالفته، والابتعاد عن دينه. وقد ألحّ القرآن الكريم على تصوير هذه المشاهد الكونية الضخمة، ليقارن الإنسان بين خلقه، وبينها ليشعر أن خلقه أهون، وأصغر، من هذه المشاهد التي يراها فوقه. يقول الله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها النازعات: 27 - 28. فالصورة هذه توحي بضآلة خلق الإنسان إلى جانب هذه الصورة الكونية الضخمة،

المتجاوزة في التعبير لصورة الإنسان، لتحقيق هذا الغرض من التصوير. ويكون جواب الاستفهام معروفا بدون جدال، فهذه السماء أقوى في بنائها وضخامتها من خلق الإنسان، كما أن تصوير السماء بالبناء، يوحي بتماسكها وقوتها، وتناسقها، وهي دليل على قدرة الله، المتجلّية في الكتل الضخمة، كما هي في الكتل الصغيرة، فالإعجاز الإلهي واحد في الاثنين. ويلحّ القرآن الكريم على تصويرها فوق الرءوس، تمسك بها يد القدرة الإلهية، لإثارة مخيّلة الإنسان، وتحريك نفسه، لكي يستجيب لنداء الإيمان يقول تعالى: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ الحج: 65. وفي موضع آخر يصوّر إمساكه السماوات والأرض من أن تزولا إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا، وَلَئِنْ زالَتا، إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً فاطر: 41. وهي صورة ضخمة موحية، حين نتصوّر هذه الكتل العظيمة، تسبح في الفضاء بلا عمد، ولا أمراس تشدّها، ولكن الله وحده هو الذي يمسك بها جميعا، وهي تدور في مداراتها المرسومة لها إلى أجل معلوم. ويأتي التعقيب متناسقا مع جوّ التصوير إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً فهو يملك هذه القوة والقدرة ولكنه حليم، لا يسمح أن تطبق السماوات فوق الرءوس، ويمهل الناس ليوم الحساب، وهو غفور مع كل هذه العظمة والقدرة. وترتبط صورة السماء، بصورة الحياة على الأرض، فالسماء هي التي تمد الأرض بالماء والحرارة والضوء والرزق وغير ذلك. يقول الله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ البقرة: 22. فالتقابل في الصورة بين السماء والأرض، يظهر الصلة الوثيقة بينهما، وهي صلة تواصل وتكامل، حتى يحس الإنسان بقدرة الله عليه، في الأرض التي يقف عليها، والسماء المحيطة به وبالأرض جميعا. وهنا نلاحظ صورة أخرى مقترنة بصورة بناء السماء وهي صورة الماء النازل منها، والذي يعتبر مصدر الحياة. وبذلك تتوقف الحياة على الأرض على خيرات السماء، والرزق النازل منها، وهذا فيه تذكير للناس بأنّ حياتهم مرتبطة بجود السماء، وهي بين يديه سبحانه، وتذكير أيضا بفضله عليهم، ورزقه لهم، فرزق السماء مما لا يمكن للبشر أن يتحكموا فيه، فهم خاضعون، مستسلمون، لمشيئة الله وقوانينه، التي تسمح بهذا الجود

وهذا الرزق أن ينزل عليهم. وصورة السماء ليست عظيمة فحسب، وإنما هناك عنصر الجمال البارز فيها، وهو عنصر مقصود في التصوير أيضا فهي خالية من الخلل والعيوب. والقرآن الكريم يوجّه الأنظار إليها، لتأمل صورتها الجميلة المتناسقة المحكمة يقول تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ، وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ، وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ الملك: 3 - 5. فالجمال سمة بارزة في صورة السماء، وإدراك هذا الجمال، وما فيه من التناسب والتناسق والإحكام، يعد وسيلة لإدراك جمال الخالق سبحانه، وبيان قدرته وهيمنته على هذا الكون البديع. وتتسم هذه الصورة المعروضة بالتحدي للناظرين، أن يجدوا أي عيب في صورة السماء الجميلة، ومشهد السماوات، على هيئة الطباق المبنية، بعضها فوق بعض، متناسبة الأجزاء، ومحكمة وخالية من الخلل والعيوب، يدلّ على كمال خلق الله، والكمال في الخلق يعني الجمال. ومشهد الإنسان، وهو يطيل التأمل فيها، ويدقق النظر، ويفحص أجزاءها، ومعاودة هذا النظر مرة تلو أخرى، ثم ارتداده خاسئا، حسيرا، ضعيفا، عاجزا أن يجد أي خلل فيها أو عيب، دليل على عجز الإنسان، وإقراره بعظمة هذه المشاهد التي يراها. وهي دليل أيضا على القدرة الإلهية التي أبدعتها على هذا النحو من الكمال والجمال. وصورة السماء صورة قريبة مدركة، يدركها الإنسان الأمّي، والعالم أيضا مع اختلاف بين الاثنين في تفسير هذا الكمال، وهذا الجمال بحسب المدارك العقلية، والثقافة العلمية لكل منهما، ولكن أثر الصورة الكونية، في النفس الإنسانية، حقيقة ثابتة لا ينكرها أحد، وإن اختلفت التفسيرات في إدراك أبعادها العلمية. وبعد نفي الخلل والعيوب عن السماء، وهو بحدّ ذاته جمال، لأنه يدل على الإتقان في الصنع، يمتد التصوير ليرسم لنا مشهدا آخر للسماء وهي مزينة بالنجوم المضيئة من خلال الظلام، وهي صورة بديعة موحية ومؤثرة يقول تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ

وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ الملك: 5، فعنصر الجمال مقصود في التصوير أيضا، وقد دلّ عليه دخول المؤكّدات المتنوعة في بناء الصورة مثل اللام وقد، ونسبة الفعل إلى الله «زيّنّا». وهو جمال محفوظ محروس أيضا ويلحّ القرآن الكريم على صورة السماء المزينة بالنجوم في كثير من الآيات، كي تستمتع العين برؤيتها، وتشبع حاسة الجمال الفطرية في الإنسان، بالإضافة إلى دلالتها على القدرة الإلهية. من ذلك قوله تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ ق: 6. وقوله أيضا: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ، وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ، إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ الحجر: 16 - 17. فصورتها المعروضة، تجمع الضخامة والدقة والسعة، والزينة، كما تضيف صفة جديدة وهي الحفظ والحراسة من كل شيطان رجيم. فجمالها محروس من قبل الله عز وجل، وأخبارها الغيبية محفوظة، ولا سبيل إلى معرفتها، وصور الشهب الساقطة في الليل، صورة واقعية مألوفة لدى الناس، ولكنّ التصوير هنا يحمّلها معاني الحفظ والحراسة لعالم الغيب، حتى يقطع أساليب الخرافة والشعوذة في تصورات الناس الشائعة، وبذلك يتحرر العقل البشري من الأوهام والأساطير التي كانت شائعة قبل الإسلام، فالسماء محروسة حراسة شديدة، لحجب أسرار الغيب عن المخلوقات، فهناك الشهب الراجمة للشياطين، وما يقوله الكهان خرافة وباطل بعد هذه الشهب الحارقة. وهذه المعاني نراها مصوّرة في قوله تعالى أيضا بشكل مفصّل على لسان الجن لتكون أكثر إيحاء وتأثيرا: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً الجن: 8. وتركّز الصورة على رسم مشهد النجوم، وهي سارية متحركة، زيادة في توضيح جمالها وإيحائها، فهذا النجم الساري في السماء، يثقب الظلام بضيائه، ويترك للعين أن تستمتع بهذه اللوحة الفنية المتناسقة والجذابة، فيها الحركة، وامتداد المساحة، واللون المؤثر يقول تعالى: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ، وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ، النَّجْمُ الثَّاقِبُ، إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ الطارق: 1 - 4. فالصورة هنا بعناصرها السماء، والنجوم، والضياء، والظلام، وما فيها من حركة وحياة، لها قيمتها وأهميتها، فالله يقسم بهذه الصورة الكونية، والله سبحانه لا يقسم إلا بشيء

عظيم، وذي قيمة، لذلك عقّب على القسم بالاستفهام الموحي بالتفخيم والتعظيم، ثم صرّح بالمقصود بالطارق، وهو النجم الثاقب، والمراد به جنس النجم وليس نجما بعينه، كما يوحي السياق بذلك ثم جاء بالمقسم به إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ للدلالة على أن كل نفس عليها حافظ رقيب على أعمالها وخواطرها، يملك قدرة النفاذ إلى أعماقها المستورة، ومناطقها المظلمة، فيشق حجابها السميك الخارجي بقوة نفاذه كما يطرق هذا النجم الثاقب ظلام الليل، فيزيل ظلامه، وينفذ من خلاله. وتتجلى قدرة الله سبحانه في الصورة الكونية والصورة النفسية معا، وتتلاحم الصورة في إطارها مع مضمونها كما يتّحد الغرض الفني بالغرض الديني من خلال هذا التصوير المعجز. ويمتد تصوير حركة الكواكب في السماء، فترسم الصورة حركتها في ظهورها واختفائها، بمشهد حي شاخص، فيه الحركة الرشيقة، والإيحاء العميق، فهي في حركتها طالعة وغائبة، تشبه حركة الظباء الجارية على الأرض، التي تختبئ في كناسها، لتظهر من ناحية أخرى. يقول تعالى في وصفها: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ ... التكوير: 15 - 16. ثم إن هذه النجوم، مرتبطة بحياة الإنسان على الأرض، فهي هادية له في ظلمات البر والبحر، وكأنها قناديل للإضاءة فضلا من الله ونعمة على هذا الإنسان، يقول تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الأنعام: 97. وصورة القمر أكثر إثارة وجاذبية للإنسان منذ القديم، وقد أثار بحركته المتغيّرة، خيال الإنسان، وراح يسأل عن سرّ هذا التغيير في شكله، فيبدو هلالا، فبدرا، ثم يعود متدرّجا كما بدأ في صورته وهيئته، يقول تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ البقرة: 189 فعيون الصحابة رضوان الله عليهم، كانت تتابع مراحل نمو الهلال، وقد أدهشتهم هذه الصورة المتغيرة، وأثارت خيالهم، فراحوا يسألون عن ماهية الصورة المتغيرة ولكن الجواب لم يأت جوابا على الماهيّة، وإنما جاء موضحا وظيفة هذه الصورة المتغيرة، وأثرها في حياتهم، وهذا يسمى في البلاغة العربية القديمة بأسلوب الحكيم. لأنه ليس من وظيفة الصورة، تقديم معلومات علمية عن حركة الأفلاك في السماء،

وإنما هدفها توضيح الصلة بين حركة الأفلاك، وحركة الإنسان على الأرض، فهو يهتدي بها في ظلمات البر والبحر، وكذلك القمر بمراحل نموه، يرسم صورة زمانية ضرورية لحياة الإنسان، لتدبير شئونه الدينية والدنيوية في الحياة. ولكن هذا لا يمنع أن توحي الصورة بالحقائق العلمية من خلال ارتباط الصور بعضها ببعض، وطريقة التعبير عنها، كما رأينا في تصوير حركة ظهور النجوم واختفائها بحركة الظباء في كناسها، فهي تختفي من مكان، لتظهر في مكان آخر، وهذه حقيقة علمية توحي بها الصورة بالإضافة إلى ما فيها من جمال، ودلالة على قدرة الله المبدع. وكذلك حركة تغيّر القمر المصوّرة في مكان آخر، يقول الله تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ يس: 39. كذلك في تصوير حركة الشمس والقمر، متجاورين في السياق، ومختلفين في التعبير عنهما، للدلالة على دورهما في تشكيل الصورة الزمانية على الأرض، من خلال الصورة المكانية لهما، واختلاف تكوينهما أيضا. يقول الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ يونس: 5. فالشمس وصفت بالضياء، لأنّ نورها يصدر منها وليس من غيرها، فهي ضياء أو سراج متوهج. أما القمر، فنوره مكتسب من ضوء الشمس، لذلك يوصف دائما بالإنارة دون سواها. يقول الله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً الفرقان: 61. ويكثر في القرآن الكريم عرض صورة الشمس والقمر، متجاورين في التعبير، للدلالة على فوائدهما، وتسخيرهما للإنسان، وتوضيح الحقائق الدينية من خلالهما يقول تعالى: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لقمان: 29، فحركتهما المرئية، مستمرة إلى أجل محدد، ثم تتوقف عند ما يأذن الله، فحركة الشمس والقمر في السماء، كحركة الإنسان على الأرض، مرسومة ومحددة إلى أجل معلوم. وبذلك يتم الربط بين تصوير الطبيعة في القرآن، وحركة الإنسان على الأرض، لتحقيق الوظيفة الدينية من خلال هذا

التصوير الهادف. ويقسم الله بهما، لبيان قدرته في تنسيق حركتهما، بما يتوافق مع حياة الإنسان كقوله تعالى: وَالشَّمْسِ وَضُحاها، وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها الشمس: 1 - 2. وتؤكد الصورة على حقيقة الألوهية الخالدة من خلال مشهد الطبيعة المتغيّر، للرد على أولئك الذين يعبدون الكواكب والنجوم، بعد أن فتنوا بصورتها البديعة، وغابت عنهم حقيقتها الزائلة. فتعرض مشهدا لإبراهيم عليه السلام يقلّب وجهه في السماء، مستدلا بأفوال الكواكب والنجوم على إبطال عقيدة قومه، الذين كانوا يعبدونها، قال تعالى في تصوير هذا المشهد: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي. فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الأنعام: 75 - 79. فإبراهيم لم يكن شاكا بوجود ربه، وهو النبي المعصوم، وإنما أراد أن يتبع طريقة الاستدلال المتدرّجة، لإقناع قومه، ببطلان عقيدتهم الوثنية، فكان يقرّ مبدئيا بالمشهد الكوني الأخّاذ، ثم ينتقل إلى نفي الألوهية عنه، لأنه يتصف بالأفول والزوال، ومحال أن يغيب الخالق عن عباده ولو لحظة، كما أنه كان يعقّب على إثر كل مشهد كوني معروض، بالتوجيه الديني السديد حتى توصّل إلى أنّ هذه المشاهد الكونية محدثة، وأن وراءها محدثا وصانعا صنعها، ومدبرا دبّر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها «9». يقول الدكتور محمد علي الصابوني في تفسيره لقول إبراهيم هذا رَبِّي: «أي على زعمكم، قاله على سبيل الرد عليهم والتوبيخ لهم، واستدراجا لهم، لأجل أن يعرّفهم جهلهم وخطأهم في عبادة غير الله» «10». وتقترن صورة الأرض، بصورة السماء في وصف الطبيعة في القرآن، لما بين الصورتين

_ (9) الكشاف: 2/ 30 - 31. (10) صفوة التفاسير: 1/ 401.

من التقابل أو التناظر، والتواصل أيضا، فالسماء هي مصدر الحياة على الأرض، كما أنها مصدر الوحي، لذلك تصوّر الأرض دائما بحاجة إلى خيرات السماء، وعطاءاتها المادية والمعنوية. فالله سبحانه، هيّأ الأرض، كي تكون صالحة للحياة عليها، فهي على الرغم من أنها كروية ومتحركة، فإن الإنسان لا يشعر بحركتها، ولا يتأثر بشكلها الكروي، بل إن حركتها وشكلها الكروي، هما من الأسباب التي جعلتها مهيأة للحياة على ظهرها، وهذا من دلائل القدرة الإلهية الملحوظة في هذه المشاهد الكونية المحسوسة. يقول الله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ الزمر: 5، ويتضافر التعبير مع التصوير في رسم شكل الأرض، وحركتها، وطبيعتها، فلفظ (يكور) له دلالته القوية على حقيقة الأرض، وحركتها، فهو يثبت كرويتها ويرسم آثار كرويتها في مظاهر كونية أخرى في تعاقب الليل والنهار «فالجزء الذي يواجه الشمس من سطحها المكوّر يغمره الضوء ويكون نهارا، وكلما تحركت بدأ الليل يغمر السطح الذي عليه النهار، وهذا السطح المكور، فالنهار كان عليه مكوّرا، والليل يتبعه مكوّرا كذلك، وبعد فترة يبدأ النهار من الناحية الأخرى، يتكوّر على الليل، وهكذا في حركة دائبة، واللفظ يرسم الشكل، ويحدد الوضع، ويعين طبيعة الأرض وحركتها، وكروية الأرض، ودورانها يفسران هذا التعبير ... » «11». وقد رسمت للأرض صور عدّة، ولكنّ هذه الصور جميعا مترابطة ومتعاونة في بيان فضل الله على عباده في أن هيأها لاستقبال الحياة عليها، من ذلك قول الله تعالى في تصوير الأرض: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً نوح: 19، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ الغاشية: 20، أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً النبأ: 6، والَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً البقرة: 22، ووَ هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ الرعد: 3، وأَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً النمل: 61، ووَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها النازعات: 31، ووَ الْأَرْضِ وَما طَحاها الشمس: 6، وغير ذلك. فصورة الأرض، مفروشة، ومبسوطة، وممدودة، ومهاد، حتى يقرّ الإنسان عليها ويستقرّ، ثم صورة دحوها وطحوها، حتى تكون صالحة للزراعة والحياة، وهذا لا ينافي بأنها كروية

_ (11) في ظلال القرآن: 5/ 3038.

فقد ذهب كثير من العلماء المسلمين في القديم إلى القول بكرويتها كالآلوسي والرازي وأبي السعود. في تفاسيرهم المشهورة، وأما كونها مسطحة أو ممدودة أو مبسوطة، فإنما هي بالنسبة لعظمها وسمتها أو بالنسبة للناظرين إليها، فليس في القرآن الكريم ما يخالف الحقائق العلمية حول صورة الأرض الكروية «12». وصورة الأرض، كروية، ومتحركة، ونحن ثابتون عليها، تثير الخيال حين يتملّاها، ويسبح في آفاقها، وتوقظ الإنسان على حقيقة الألوهية القادرة على كل شيء، فقد اجتمعت في صورتها الحركة والثبات معا فهي كالناقة الذلول، يقول الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ الملك: 15. ولفظ ذَلُولٌ يوحي بحركتها وثبات الإنسان عليها، فهذه الأرض «التي نراها ثابتة مستقرة ساكنة هي دابة متحركة بل رامحة، راكضة، مهطعة، وهي في الوقت ذاته، ذلول، لا تلقي براكبها عن ظهرها، ولا تتعثر خطاها، ولا تخضّه، وتهزه، وترهقه، كالدابة غير الذلول، ثم هي دابة حلوب، مثلما هي ذلول» «13». وزيادة في تشخيصها قال: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها و «المشي في مناكبها مثل لفرط التذليل ومجاوزته الغاية» «14»، كما يقول الزمخشري. فإذا كان المشي في مرتفعاتها أو أطرافها مذلّلا، فلا يشعر الإنسان بحركتها، فالمشي في سهولها من باب أولى. ويضاف إلى صورة الأرض الذلول، صورة الأم الحنون، التي تضمّ بنيها، وتحتضنهم أحياء وأمواتا، يقول الله تعالى في ذلك: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً، أَحْياءً وَأَمْواتاً، وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ، وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ المرسلات: 25 - 28. والمراد بالكفت هو الجمع والضم، فهي تجمع البشر على ظهرها أحياء، وتضمهم في باطنها أمواتا «15». فالصورة التي يرسمها اللفظ الموحي، لهذه الأعداد الهائلة من البشر، يتجمعون على

_ (12) صفوة التفاسير: 3/ 553. (13) في ظلال القرآن: 6/ 3639. (14) الكشاف: 4/ 138. (15) صفوة التفاسير: 3/ 502.

ظهرها، وفي باطنها أيضا صورة ضخمة مثيرة للخيال، دالّة على القدرة الإلهية الممسكة بهذه الأرض، التي لا تنوء بما تحمله من هذه الأثقال، وكأنها تحمل البشر ودائع عندها إلى اليوم الموعود. ويضاف إلى الكتل البشرية التي تحملها، كتل الجبال الراسيات، وكتل المياه الجوفية أيضا. والعلاقة قوية بين هذه الصور ذات الأوزان، فالجبال، تحافظ على توازن الأرض، والسحب والثلوج، تتجمع فوق قمم الجبال، فتنحدر مساقط الماء العذب. وهكذا تتجاور الصور في السياق، ضمن نظام العلاقات الذي يربط بينها، ويوحّد أثرها في تحقيق الغرض الديني. ولولا الجبال لمادت الأرض واضطربت، يقول الله تعالى في بيان وظيفتها: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ لقمان: 10، وقوله أيضا: وَالْجِبالَ أَوْتاداً النبأ: 7. كما أن الصورة ترسم ألوان الجبال في لوحة بديعة متناسقة الألوان: يقول تعالى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ، وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ فاطر: 27. وقد تضم الصورة، مشاهد متعددة من الطبيعة في سياق واحد متناسق، كدليل على قدرة الله سبحانه قال تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ الغاشية: 17 - 20. وذكر الجمال هنا من سائر الحيوانات، اقتضاها التناسق بين أجزاء الصورة المرسومة، فالسماء المرفوعة، تقابلها الأرض المبسوطة، والجبال المنصوبة في الأرض المبسوطة، تلائمها الجمال المنصوبة السنام، وهكذا ترسم الصور مشاهد الطبيعة بالمساحات والمسافات والخطوط والأشكال، وتدعو الإنسان إلى تأمل هذه المشاهد المتناسقة التي تدلّ على خالقها المبدع. ومشهد تعاقب الليل والنهار من المشاهد الحسية العجيبة يدلّ على قدرة الله، ولكن الإنسان من كثرة إلفه لهذا المشهد، واعتياده له، فقد التأثر به، فتأتي الصورة في التعبير القرآني، لتحيي هذا المشهد في حس الإنسان وشعوره، ليدرك ما فيه من إعجاز إلهي في تدبيره وتصميمه. يقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لقمان: 29.

فالصورة الحسية هنا تبدأ ب أَلَمْ تَرَ لإحياء الصورة البصرية بالفعل المضارع المكوّن من فعل الرؤية ذاته. ثم تبدأ برسم حركة الدخول الوئيد لليل في النهار، أو النهار، أو النهار في الليل، للإيحاء بالظلال المصاحبة لدخول أحدهما في الآخر في المشهد الكوني، كما أن الصورة الزمانية لليل والنهار، مرتبطة بالشمس والقمر، فبحركتهما المنتظمة المتناسقة يتم تشكيل هذه الصورة الزمانية، وهذه الدقة في تصميم الكون، تعقبها دقة أيضا، في معرفة أعمال البشر. وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. وتتنوّع الصور الفنية في رسم حركة الليل والنهار، لتحقيق التأثير الديني يقول الله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ التكوير: 17 - 18. فصورة الليل وهو يعسّ في الظلام بحركة وئيدة بطيئة، صورة حية شاخصة، على طريقة القرآن في التشخيص، لتحقيق منتهى التأثير بهذه الصورة الشاخصة، ولفظ عَسْعَسَ بجرسه المؤلّف من مقطعين يوحي بهذه الحركة الهادئة البطيئة لدخول الليل، ويرسم الظلال الكونية المتدرجة المصاحبة لدخوله. وصورة الصبح أيضا تعتمد على التشخيص للمشهد الكوني، فهو يتنفس، كما يتنفس الأحياء ولكن عن الحركة والضياء. يقول الزمخشري: «فإن قلت ما معنى تنفس الصبح؟ قلت: إذا أقبل الصبح بإقباله روح ونسيم، فجعل ذلك نفسا له على المجاز» «16». ويعرضان أيضا في صورة شخصين يتسابقان في حلبة السباق، وكلّ منهما يحاول أن يدرك الآخر، ولكن دون جدوى، ويبقى هذا حالهما في سباق ومنافسة إلى يوم الدين. يقول تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً الأعراف: 54. فهذه الصورة الكونية تحاكي صورة الحياة على الأرض، وما فيها من سباق وصراع بين البشر، وخلع هذه الصفة المدركة، على المشهد الكوني، يجعله حيا شاخصا ومؤثرا، يتحرك باتجاه هدف مرسوم له في ساحة السباق المستمر، إلى يوم الدين حينئذ تتوقف الحركة، وينتهي السباق تماما، كحركة الإنسان على الأرض، وما فيها من سباق وصراع، تنتهي بانتهاء الحياة وهذا ما توحي به هذه الصورة الكونية الشاخصة. ويعبر عنهما أيضا بصورة التقليب الحسية كقوله تعالى: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ، إِنَ

_ (16) الكشاف: 4/ 224.

فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ النور: 44. وصورة تقليب الليل والنهار بهذا النظام المتعاقب بدقة ونظام، توقظ القلب، وتدفع الإنسان إلى التفكر بما فيها من دقة وتناسق مع حركة الشمس، دون أي خلل منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها إلى يوم النشور. وصورة انسلاخ النهار من الليل، تعبّر عن الحقيقة الكونية أدق تعبير، لأنّ النهار تلبّس بالليل ملتصقا به، ويد القدرة الإلهية هي التي تنزع النهار من الليل ليعمّ الظلام يقول تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ يس: 37. ويمتد تصوير تعاقب حركة الليل والنهار، بتصوير ما يعقب ذلك من ظلام أو ضياء، فترسم الصورة اللون في الظاهرتين، كما لمست الحركة من قبل يقول تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا الإسراء: 12. ومن خلال التقابل بين الصورتين، تظهر فوائد الليل المظلم في الراحة والسكون، والنهار المبصر في العمل والمعاش بالإضافة إلى معرفة الزمن الضروري لحياة الإنسان الدينية والدنيوية. ويلحّ القرآن الكريم على فوائد الظلمة والضياء للإنسان، فيعرض الليل والنهار في صور متعددة من ذلك قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً غافر: 61. وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً، وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً النبأ: 10 - 11، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً، وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً الفرقان: 47. فالليل لباس شامل، يحيط بظلمته الكون، وفي هذا الظلام سكن وراحة للإنسان بعد الكدّ والتعب، والنهار مبصر، ليس فيه ظلام، كي ينتشر فيه الناس طلبا للرزق والمعاش، ولكنّ الإنسان يغفل عن فوائد ذلك، لألفه واعتياده، وتبلّد حسّه، فتأتي صورة أخرى، ترسم الظاهرتين على نحو مختلف على سبيل التخييل، لطرق حس الإنسان بعنف، ليتأمل ويتدبّر هذا الكون البديع، المسخّر له، يقول تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ

بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ القصص: 71 - 73. وهذه من الصور العنيفة، التي هي أشبه بالمطارق على حسّ الإنسان المتبلّد ترسم استمرار صورة الليل أبدا، أو استمرار صورة النهار أبدا، وتطبع في مخيلة الإنسان إحدى هاتين الصورتين، وما يصاحبها من إيحاء ولون، لتخويف الإنسان من حدوث ذلك، ودفعه إلى التأمل في فضل الله عليه، ودقة بناء هذا الكون المحكم والمسخّر لهذا الإنسان الجحود، لذلك عقّب على الصورة التخييلية بالصورة الكونية المحسوسة، لبيان ما فيها من رحمة الله وفضله على عباده، ليسكنوا في الليل، ويعملوا في النهار. ويلاحظ في تركيب الصورة، الاعتماد على فعل أَرَأَيْتُمْ لإحياء الصورة في المخيلة، واستحضارها على الشكل المرسوم، وتكرار الاستفهام، الذي له جواب واحد لا غير، تركه في التعبير، لأنه واضح مفهوم، ورد في التعقيب عن طريق الإيحاء به، دون التصريح، للتأكيد على إقرار الإنسان بذلك. كما أن الجملة الشرطية في الصورتين حذف منها جواب الشرط زيادة في التخييل الزمني الممتد. والتشابه في بناء الصورتين من الناحية اللغوية، والتركيب، يتناسق مع الصورة الواحدة المرسومة في المخيّلة. فالصورة المتخيّلة واحدة، وبناؤها التعبيري يكاد يكون واحدا أيضا. ولكنه يلاحظ أنه عقّب على الضياء بقوله: أَفَلا تَسْمَعُونَ وعلى الليل بقوله: أَفَلا تُبْصِرُونَ لأن السمع- كما يقول الزمخشري- يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافع الضياء، ووصف فوائده، أما التعقيب على الليل ب أَفَلا تُبْصِرُونَ فلأن الناس، يبصرون منافع الظلام في السكون وغيره «17». وقد اعتمدت الصورة في التعقيب على أسلوب اللف والنشر، وهو أسلوب بلاغي معروف، وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فالليل لتسكنوا فيه، والنهار لتبتغوا من فضله ... ومشهد (الظل) مرتبط بحركته، بحركة الشمس، وهو مشهد جميل وندي، ترتاح إليه

_ (17) الكشاف: 3/ 189.

النفس، وتتجاوب مع حركته، وامتداداته، وما يرسمه من أشكال، يقول الله تعالى في تصوير الظلّ أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً الفرقان: 45 - 46. إن الصورة هنا ترسم لنا هذا المشهد الكوني بدقة متناهية، فحركة الظل بطيئة لطيفة حتى كأنه لا يتحرك، وهذا ملحوظ في إيقاع مَدَّ الظِّلَّ ثم كلمة ساكِناً تلقي بظلها على حركة الظلّ البطيئة، حتى كأنه ساكن، والصورة تجسّم حركته البطيئة، وتحرك الخيال لاستحضارها وتأملها، ومتابعة هذه الحركة من بدايتها إلى نهايتها، للوقوف على حركة هذا الكون البديع المتناسق في تصميمه، والمحكم في بنائه، وتبرز يد القدرة الإلهية، من خلال تصوير هذا المشهد المتناسق في حركته في الأرض، مع حركة الشمس في السماء، وتعتمد الصورة على الفعل المضارع أَلَمْ تَرَ على طريقة القرآن الكريم في استحضار المشهد، وإحيائه، وكأنه يعرض الآن أمام العيون، وتتابع حركته المتناسقة مع حركة الكون الكبير، والإلحاح على الخالق المبدع، لهذا المشهد المعروض فكلمة رَبِّكَ والضمائر العائدة عليه أيضا جَعَلْنَا قَبَضْناهُ إِلَيْنا تضفي هذه التعبيرات على الصورة المتحركة روحا جديدة، ومعنى دينيا، وبعدا فنيا، فتنتقل الصورة المتحركة للظل من نطاقها الأرضي المحدود، إلى آفاق كونية غير محدودة، فتشد الأنظار إلى هذا الكون العجيب في تصميمه وتنسيقه، فتبدو الأرض مرتبطة بحركة السماء، محتاجة إليها، متصلة بها في هذه المشاهد الكونية وإذا كانت الأرض مرتبطة بحركة الكون هذا الارتباط القوي، فمن باب أولى أن ترتبط أيضا بشرع الله المنزل على رسوله، حتى يتم التناسق أيضا بين حركة الإنسان، وحركة الأرض، في هذا التصميم الكوني البديع، وهذا ما تظهره الصورة المرسومة للظل حيث نرى يد الله، تمدّ الظلّ وتبسطه 7 ثم تقبضه قبضا يسيرا، فيرجع في النهاية إلى الله، وكأني أحسّ أن الصورة ترسم ظلّ الإنسان المتحرك على الأرض لفترة محدودة، ثم يغيب ويرجع إلى مولاه أيضا، وهذه من إيحاءات الصورة، ثم أليست البداية كانت من الله؟ فالعودة كذلك إليه. فالحركة إذا واحدة في الظل المنظور، كما هي في الإنسان، ويد الله متجلّية في تصميم هذا الكون كما هي ظاهرة في تكوين الإنسان. والإلحاح في الصورة على فناء المشاهد

الكونية وزوالها، يهدف إلى غرس فكرة الفناء في نفس الإنسان، لتحقيق الغرض الديني من التصوير أيضا. وصورة الماء العذب، صورة حسية مألوفة، ولكن الإنسان يغفل عن القدرة الإلهية التي أوجدت الماء الذي هو مصدر الحياة، فتعرض صورته المحسوسة هذه، وصورة أخرى له متخيلة، تقابلها لبيان فضل الله على الإنسان في توفير الماء العذب له، يقول تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ الواقعة: 68 - 70. وصورة الماء العذب المحسوسة، تقابلها صورته المالحة المتخيّلة، تتفاعلان في السياق عن طريق التجاور في التعبير، والتضاد في التخيل والتأثير، لتحقيق الغرض الديني من التصوير، وهو بيان فضل الله على عباده في إنزال الماء العذب من السحاب، ويترك للإنسان أن يتخيل الصورة الأخرى المحتملة فيما لو نزل الماء ملحا أجاجا ليدرك رحمة الله عليه. كما أنّ الصورة تعتمد على نظام العلاقات والروابط بين الصور، فالماء العذب، مرتبط بالمزن في السماء، والمزن أيضا مرتبطة بالبحار المالحة، لأنها تتكوّن منها بالتبخر، فيتمّ تقطيرها، فتحمل السحب المياه العذبة الصالحة لحياة الإنسان، وهذا ما يوحي به التعبير ب لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فالصورة للماء العذب، تتواصل ضمن نظام العلاقات السياقية، مع السحاب، والبحار، للإيحاء بهذه الحقائق العلمية، الدالة على القدرة الإلهية، الموجدة لهذه القوانين الطبيعية. لهذا يكثر تصوير السحاب في القرآن الكريم، في مشاهد بديعة موحية ومؤثرة، فترسم حركته في السماء، وهو ينتقل من مكان لآخر، ثم يتجمع بعضه فوق بعض، فيصبح ركاما ضخما كالجبال، فيتحرك وفق مشيئة الله، بهذه الكتل الضخمة، ثم ينزل منه الماء أو البرد يقول الله تعالى في تصوير حركته: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ، ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ النور: 43. ويعتمد التصوير هنا على الفعل أَلَمْ تَرَ على طريقة القرآن في إحياء المشهد، ثم يعرضه حيا ماثلا للعيون، وكأنها تراه الآن، ويجتمع في المشهد المعروض كل الأدوات

التصويرية، من حركة، وهيئة، ومساحة وخطوط وأشكال وألوان، فالسحاب يتحرّك، ويتجمّع على هيئات وأشكال ضخمة كالجبال، ويقطع هذه المساحات والمسافات، ثم يتمّ نزول المطر وفق مشيئة الله، على هيئة معروفة، فيتغيّر مسار الحركة الأفقية في المشهد المنظور، إلى حركة عمودية من الأعلى إلى الأسفل في المطر النازل، ويضاف إلى صورة المشهد نور البرق الخاطف، ليكتمل تصوير هذا المشهد الطبيعي من كل جوانبه، والإطالة في العرض الفني للمشهد هنا، تهدف إلى إبراز قدرة الله في كل لقطة تصويرية فيه. ثم إن صورة المشهد تشير إلى أن ما تراه العيون، قد يكون مصدر خير بنزول الأمطار على الأرض، أو مصدر هلاك بنزول البرد والسيول لتحطيم الزروع والثمار، حتى يظل الإنسان بين خوف ورجاء يتوجّه إلى الله بطلب الرحمة والخير منه سبحانه. يقول الله تعالى في تأكيد هذا المعنى أيضا هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً، وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ، وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ الرعد: 12 - 13. فالبرق الخاطف والرعد القاصف، والصواعق الحارقة، والسحاب الممطر، كلها مشاهد مألوفة ومحسوسة ولكنّ تصويرها هنا، يضفي عليها الرهبة والتأثير، فالبرق يرتبط بنزول المطر، وهو بمنزلة الإشارة الضوئية الدالة عليه، والمطر إما أن يكون خيرا نافعا، وإمّا أن يكون ضررا ماحقا، لذلك فالنفوس في حالة خوف وطمع، ثم تخلع الصورة على مشهد الرعد الحياة والحركة على سبيل التشخيص، فهو يسبح بحمد الله، بهذا الصوت المجلجل في الآفاق، فيتجاوب الكون معه، حتى الملائكة يدخلون في إطار الصورة، مع المشاهد المصورة، لزيادة جوّ الرهبة والخشوع، مع الصواعق الحارقة تصيب من يشاء، حتى يظلّ الإنسان بين خوف ورجاء أمام هذه المشاهد الطبيعية المصورة. ويصور السحاب أحيانا في حركته الجميلة في صفحة السماء على أنه مبشر بنزول المطر، كقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً، لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً، وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً الفرقان: 48 - 49. وفي هذا المشهد تتجلى قدرة الله في إرسال الرياح، ودفع السحاب، وإنزال المطر الذي هو مصدر الحياة للإنسان والحيوان على السواء.

وتلمس صورة المشهد القلوب والنفوس بقوله: بُشْراً التي تتوق للمطر، حين ترى مشهد السحاب في السماء وتصطبغ مشاهد الطبيعة المصورة، بأنداء الرحمة الإلهية، ثم وصف الماء ب طَهُوراً يزيد الصورة روحانية وشفافية، فالماء الطهور، يغسل وجه الأرض، ويحييها بعد موات، ويسقى الإنسان والحيوان، ووصف الأرض ب الْمَيْتَةَ وإحياء المطر لها، يهيئ الأذهان لقبول فكرة الحياة بعد الموت. فتصوير الطبيعة يحمل دلالات فكرية ونفسية وفنية، تتناسق مع حركة التصوير في النص القرآني كله لتحقيق وظيفته الدينية الأساسية. ومن ذلك أيضا قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ، فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ الأعراف: 56 - 58. فمشاهد الرياح والسحاب، والمطر، والنبات، كلها تدل على القدرة الإلهية، فهي مشاهد مترابطة ومتناسقة الأجزاء، يعتمد بعضها على بعض، في تكوين هذه اللوحة الفنية المرسومة للطبيعة، وهي لوحة غنية بالحقائق الدينية التي تطلّ من خلال هذه المشاهد الطبيعية، عن طريق الإيحاء أحيانا، والتصريح بها أحيانا كقوله: كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى. فتصوير الطبيعة، ليس لمجرد التصوير الفني بل لإبراز الحقائق الدينية من وراء التصوير، فرب الوجود واحد، وقدرته تظهر في المشاهد الطبيعية، كما تظهر في حياة الإنسان، فالحقيقة واحدة، وإن اختلفت الصور والأشكال. ولكنّ البشر يختلفون في إدراك حقيقة الألوهية وآثار الربوبية في الطبيعة والإنسان. تماما كما تختلف الأرض في استقبال خيرات السماء، وما يترتب على ذلك من نتائج وآثار لهذا جاء المثل، عقب تصوير الطبيعة، ليوضح اختلاف الناس في إدراك هذه المشاهد، وما يترتب عليه من نتائج. فهناك في الحياة الإنسانية الطيب والخبيث، والأرض أيضا نوعان: طيبة وخبيثة. فالإنسان الطيب، كالأرض الطيّبة يتأثر بالتوجيه القرآني، ويدرك ما وراء هذه المشاهد الطبيعية من إله قادر على كل شيء، فيؤمن به، وينمو الإيمان في قلبه، ويظهر على جوارحه سلوكا وعملا وعطاء، وأما الإنسان الخبيث فهو كالأرض الخبيثة، فهو لا يتأثر بالمشاهد، ولا بالمواعظ. يقول الزمخشري في بيان الغرض من التمثيل: «وهذا مثل لمن ينجع فيه الوعظ والتنبيه

من المكلفين، ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك» «18». وقد يطول تصوير مشهد السحاب والرياح والمطر، مع تجسيم الحالات النفسية المصاحبة له يقول تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ، فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ الروم: 48 - 51. فالصورة هنا ترسم مشهد السحاب منشورا وممدودا، في مساحات واسعة من السماء، ثم ترسمه متجمعا بعضه فوق بعض متراكما، والودق يخرج من خلاله، وأثر هذا المشهد الطبيعي في فرحة النفوس به، واستبشارها بالخير والنماء والرزق، ثم تنتقل الصورة إلى أثر المطر في إحياء الأرض بعد موتها وترتسم صورة الأرض مخضرة بالنبات، على مساحات واسعة، تقابل صورة مشهد السحاب الممدود على مسافات واسعة أيضا، كما تتقابل خطوط الصورة أيضا، في المطر النازل، والنبات الطالع وتتصل خطوط المشهدين في التصوير، اتصال السبب بالمسبب، فتبدو الأرض محتاجة إلى رحمة الله، كما هي بحاجة إلى وحي السماء، فاتصال الأرض بالسماء اتصال مادي ومعنوي، ولا يمكن الاقتصار على أحدهما دون الآخر، فكما هي بحاجة إلى المطر لتحقيق الحياة عليها في نبات الزروع والثمار، كذلك هي بحاجة إلى الوحي، لإرشاد العقول وهدايتها، لتحقيق الخير والحياة السعيدة. وفي نهاية التصوير، دعوة إلى التدبر في هذه المشاهد الطبيعة، لإدراك ما فيها من أدلة عقلية وحسيّة، على إحياء الله الموتى، وهي القضية العقدية، التي نلاحظها في تصوير مشاهد الطبيعة غالبا. ويمتزج الترغيب والترهيب في تصوير الطبيعة، من خلال عرض صورتين متقابلتين للسحاب، وتجسيم حالات النفوس أمام هاتين الصورتين، فالسحاب إما أن يكون مصدر خير ونماء، وإمّا أن يكون مصدر هلاك ودمار، لذلك فالنفوس فرحة بنزول الأمطار، مستبشرة بها، ولكن حين ترى السحاب مصفرّا، فهو نذير عذاب وهلاك، فتبدو النفوس يائسة كافرة، وهكذا تتقابل المشاهد في السياق الواحد، لتحقيق الخوف والرجاء. ويمتد

_ (18) الكشاف: 2/ 84.

تصوير مشهد الأمطار، وآثاره في الأرض، في إنبات الزرع، ويتواصل تصوير الأرض مخضرة مع صورة السحاب والأمطار، ضمن نظام العلاقات التصويرية، لبناء رؤية دينية لهذه المشاهد الطبيعية، وتفسيرها على ضوء هذه الرؤية. يقول تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ الحج: 63. ثم تفصّل الصورة خضرة الأرض، مع اختلاف ألوان الزروع والثمار. يقول تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها فاطر: 27. ويعتمد التصوير على الفعل أَلَمْ تَرَ لإحياء المشهد، والبدء في عرضه أمام العيون، ويرتسم مشهد الأرض، مخضرة بعد نزول المطر، وتتنوّع فيها ألوان الزروع والنبات، والثمار، مع أن المصدر واحد، وهو ماء السماء، للتأكيد على قدرة الله في تنويع الآثار، مع وحدة الأصل، وهذا التنويع ملحوظ أيضا في خلق الإنسان من ماء، واختلاف الناس في ألوانهم وأشكالهم، وأحجامهم، كاختلاف الزروع والثمار سواء بسواء. ويضاف إلى الألوان والأنواع في الزروع والثمار، صورة الزوجية لها، من ذكر وأنثى أيضا، يقول تعالى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى، كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى طه: 53 - 54، وقوله أيضا: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ الشعراء: 7 - 8. وصورة الزوجية في إخراج النبات هي ظاهرة عامة في بقية المخلوقات، تقابلها صورة الوحدانية للخالق سبحانه وتعالى، ووصف الزوج بأنه كريم، فيه إيحاء بتكريم خلق الله، ودلالة على قدرته وآثارها في الكون والحياة والإنسان. وقدرة الله ليست في إخراج النبات زوجيا فحسب، بل تظهر أيضا في تمهيد الأرض، وجعلها صالحة لذلك، يقول الله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها، أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها النازعات: 30 - 31. فالأرض مدحوة وممهدة لتكون معدة لإخراج المياه من جوفها، وإخراج النبات أيضا. وتصور الأرض قبل نزول المطر، بهامدة مرة، وخاشعة أخرى، ثم ترسم حركتها بعد نزول المطر عليها. يقول تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ الحج: 5.

وصورتها هامدة قبل نزول المطر، تتناسق مع السياق الواردة فيه، والذي يتحدث عن الإحياء بعد الموت، فهمود الأرض، كهمود الموتى في القبور، وإخراج الموتى، وإحياؤهم، يتلاءم مع تصوير الأرض هامدة، ثم ترسم حركة الحياة فيها بعد نزول المطر، فيهتز الجسم الهامد لاستقبال الحياة، فينمو فيه النبات، وينبت من كل زوج بهيج. وفي سياق العبادة، صوّرت الأرض خاشعة. يقول الله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ، إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فصلت: 39، فجوّ السياق قبلها كله عبادة، وصوّرت هنا ب خاشِعَةً كي تتناسق مع هذا الجوّ. وتربط الصورة بين رزق الإنسان في الأرض، وبين ماء السماء لإشعاره بحاجته إلى الله، وضرورة اللجوء إليه يقول تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ، فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ السجدة: 27. وتفصّل الصورة في طعام الإنسان، من بدايته الأولى، وتهيئة أسبابه، لربط الصورة بوظيفتها الدينية يقول تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ؟ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا، فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً عبس: 24 - 32، ويلاحظ عنصر المبالغة في التعبير، كي يتسق مع عرض نعم الله وفضله على عباده في توفير طعامهم فاستعلمت كلمة «صبّ» بدل أنزل، ثم أكّدها ب (صبا)، وكذلك شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا، وتكرار الألفاظ هنا يفيد إبراز قدرة الله في إنزال المطر بهذه الكثرة، وقدرته في شقّ الأرض، لإخراج النبات بهذه القوة. وبين المطر والنبات، علاقة واتصال، وكذلك بين السماء والأرض، فالأرض في تصوير الطبيعة في القرآن تعرض بحاجة إلى خيرات السماء المادية والمعنوية على حد سواء. ثم يلجأ التصوير إلى عرض مشاهد الطبيعة المترتبة على توفير الماء، وصلاحية الأرض للإنبات، فهناك النبات المختلف الألوان، والأعناب، والقضب أو الخضروات، وكذلك الزيتون والنخيل، والحدائق الضخمة الملتفة الأشجار، وكذلك الفواكه المتعددة الألوان، والمختلفة المذاق والطعوم، وكذلك توفير الطعام للدواب. وتنويع الصور، واختلافها في الأشكال والألوان، والأحجام، والطعوم، معروضة على هذا النحو المفصّل، للتأكيد على وحدة الأصل، الماء والأرض، والتنويع في الآثار والنتائج، وهو ما نجده دائما في تصوير الطبيعة، المتناسقة في ذلك مع صورة الحياة الإنسانية التي ترجع أيضا إلى وحدة الأصل، والتنويع في أشكال

وألوان البشر كما بيّنّا سابقا. والمشاهد الطبيعية المصورة، على الرغم من جمالها، وفائدتها للإنسان، فإنها زائلة، وليست باقية، على طريقة القرآن في تصوير الطبيعة، والتأكيد فيها على فكرة الفناء، حتى لا يتعلق الإنسان بها، وينسى الدار الآخرة الباقية. وهذا ما يوحي به قوله في التعقيب عليها بعد تصويرها مَتاعاً لَكُمْ .... ويتدرّج التصوير الفني في رسم هذه المناظر الطبيعية، في لوحة فنية متناسقة، فيبدأ برسم الصور القريبة مثل الحبّ، ثم العنب، وصورة الحبوب في السنابل ملتفة- ومنسّقة، مثل صورة الأعناب في عناقيدها ملتفة ومنسّقة مع اختلاف في الطعوم والأحجام. ثم الخضروات، تجاورها في السياق، لأنها كلها من ضروريات طعام الإنسان، ثم يرتفع التصوير في رسم الخطوط، فيرسم الزيتون والنخيل، والتجاور بينهما في اللوحة الفنية لأنهما أشجار متناسقة فيما بينها، بما تحمله من زيتون، ورطب. ثم يمتد التصوير في رسم الحدائق الكثيرة الأشجار، الجميلة المناظر، ثم في رسم أشجار الفواكه. ويترك للخيال أن يستحضر أنواعها وأشكالها وطعومها ... فالتصوير الفني البارز في هذه اللوحة الفنية المرسومة للطبيعة، بالخطوط والأشكال والألوان، يحقق غاية فنية في إشباع حاسة الجمال عند الإنسان، وإثبات إعجاز القرآن، من خلال هذا التصوير الأخّاذ المتناسق، ويحقّق أيضا، غاية دينية. في بيان فضل الله على عباده في توفير طعام الإنسان. وتوضيح قدرة الله في خلق الطبيعة المتنوعة بمناظرها، والمرتبطة أيضا بحياة الإنسان، وحركته على الأرض لتوفير احتياجاته. وصورة أخرى للطبيعة، تعرض في القرآن لإثبات قدرة الله، في الخلق والإيجاد، من مصدر واحد، وأشكال متنوعة ولكنها متناسقة ومنظمة. يقول تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ الرعد: 3 - 4. فهذه اللوحة الفنية المرسومة هنا بأشكالها، وأحجامها، وألوانها، وخطوطها، تظهر

قدرة الله في الخلق من مصدر واحد، ثم التنويع بعد ذلك في المظاهر. فالماء واحد، ولكنه ينبت الزروع والأشجار والثمار، والأرض واحدة، ولكن ما تنبته متنوّع في الثمار والأشجار والزروع، ثم هذا التنوّع في الثمار والزروع والأشجار، مؤلّف من زوجين اثنين، ذكر وأنثى، وبالتلاقح بينهما، يتمّ هذا التنويع والتكثير. ثم الأرض واحدة، ولكنها قد تكون صالحة للزراعة، وغير صالحة أو صالحة لنوع من الزروع والثمار والأشجار والأخرى غير صالحة، وقد تكونان متجاورتين في المكان مع كل هذا الاختلاف في القابلية للزراعة وعدمها. أو قد تكونان متجاورتين، ولكن الاختلاف بينهما في قابلية إحداهما لنوع دون الآخر. ثم هناك الشجرة الواحدة، ولكنها تعطي ثمارا متنوعة كالنخيل والأعناب، وهذا أيضا ينطبق على الحبوب والزروع. حتى في الشجرة الواحدة، والنوع الواحد، والثمر الواحد، نلاحظ فوارق في المذاق والطعوم ونحو ذلك. وهكذا تبرز قدرة الله في هذا التنويع والتكثير، مع وحدة الأصل، كما تبرز في تمهيد الأرض، وتثبيتها بالجبال الراسيات التي هي ذوات ألوان وأشكال، وأحجام، كذلك الأنهار تزيد من جمال اللوحة الفنية المرسومة هنا للدلالة على قدرة الله، وبديع خلقه، لمن يتفكر في ذلك ويتدبّر. وعنصر «الجمال» في الطبيعة يأسر العيون، ويمتع الخيال، ويريح النفس، وهو مقصود في تصويرها أيضا. يقول الله تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها ... النمل: 60. فليس المقصود بالتصوير هنا مجرد رسم حركة نزول الأمطار، وإنبات الزروع والثمار فقط، وإنما إنبات الحدائق ذاتَ بَهْجَةٍ الموحية بتأثير جمالها في النفوس أيضا. وهذا ما نراه أيضا في تصوير مشهد آخر أكثر تفصيلا يقول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً، وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ، وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ الأنعام: 99. فهذه اللوحة الفنية المرسومة للطبيعة بأشكالها وألوانها، وأنواعها وأحجامها، تظهر قدرة الله، وحسن تدبيره وإحكام تنسيقه لهذا الكون البديع.

والتصوير فيه تطويل وتفصيل، وتدرّج في رسم المشهد، لإظهار تناسقه، ومحاسنه من الجهات المتعددة. ضمن نظام العلاقات بين الصور المعروضة، ويبدأ عرض المشهد حيا شاخصا من إنزال المطر من السماء، لشدّ الأنظار إليها، لأنها هي المنبع والمصدر لكل شيء على سطح الأرض، ثم يبدأ استعراض آثار الأمطار في إنبات كل شيء، ويطيل التصوير في رسم حركة نمو النبات، فيبدأ غضّا أخضر، ثم ينمو ويكبر، فتخرج من هذا العود الأخضر السنابل المحمّلة بالحبوب، والحبوب في السنابل متراكبة بعضها فوق بعض بتنسيق وتنظيم، وصورة السنابل، ترتبط بصورة أخرى تجاورها في السياق، وتستدعيها في الخيال وهي صورة عناقيد الرطب في أشجار النخيل، وصورة عناقيد العنب أيضا. فهذه الصور الثلاث. تتجاور في السياق، وتتفاعل في الخيال بما تحمله من حبوب وثمار مصفوفة ومرتبة ترتيبا بديعا، ثم صورة شجرة الزيتون والرمان، تتجاوران في السياق، لأن شجرتهما متشابهة في الشكل والأوراق ولكنهما لا تتشابهان في الثمار والطعوم. وفي نهاية تصوير هذه المشاهد. تأتي الدعوة إلى تأملها، والتفكّر في هذه الثمار المصورة من وقت خروجها ونموها، إلى نضجها وإثمارها، وانتقال صورها من شكل لآخر، حسب مراحل نموها، وتغيّر ألوانها وأشكالها وحجومها وطعومها، ثم صورة الثمار فيها في النهاية مرسومة بأشكالها المتناسقة وهيئاتها الخاصة مثل صورة السنابل وعناقيد العنب، وعناقيد الرطب، وتوضع الأشكال المتشابهة في أنساق متجاورة، فتراكم الحبوب في السنابل مثل تراكم الحبوب في عناقيد العنب، وتراكم عناقيد الرطب، كما تتجاور أشجار الزيتون والرمان، وهكذا تتجاور الصور المتشابهة في أنساق التعبير والتصوير، مع اختلاف في مذاقها وطعومها. فالتركيز في تصوير هذا المشهد، على دقة التناسق والتنظيم في خلق الطبيعة، للدلالة على الله الخالق القادر على كل شيء. ويقترن تصوير الحدائق والأشجار في القرآن، بتصوير الينابيع والأنهار الجارية فيها، كي تكتمل اللوحة الفنية للطبيعة المرسومة، يقول تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ، وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ يس: 33 - 34.

وصورة الينابيع جميلة ومألوفة، وعرضها جاء ضمن المشاهد الطبيعية الأخرى. لمحاكاة الطبيعة وبيان ما فيها من جمال، وإظهار المعاني الدينية من خلالها. ويتدرّج التصوير في رسم المشهد من الأرض الميتة، إلى الأرض الحيّة، ثم يبدأ عرض مظاهر الحياة في الأرض. والتقابل بين الصورتين للأرض، يبرز الفوارق بين الحالتين، ويعمق فكرة الحياة والموت في ذهن الإنسان كي يكون مهيأ لقبول البعث بعد الموت، وهذا ما نلاحظه في تصوير مشاهد الأمطار النازلة على الأرض، ومشاهد النبات الطالع منها غالبا. ويتابع تصوير الطبيعة، مشهد الينابيع الجارية وسط الزروع، وما فيها من جمال ودلالة على القدرة الإلهية أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ الزمر: 21. ويمتزج في التصوير الغرض الفني بالغرض الديني، والصورة للطبيعة بالصورة الإنسانية، فالسماء هي أصل الخير والحياة على ظهر الأرض، فالماء النازل منها، هو مصدر تلك الحياة، فيجري الماء النازل، على شكل ينابيع، يسقي بذور الأرض، فتنمو، وتخرج النبات المتعدد الألوان، ثم ينمو هذا النبات ويكبر، ويتحوّل من صورة إلى أخرى، تماما كمراحل نمو الإنسان، حتى يصل إلى نهايته في الهلاك والزوال، فيتم بذلك تلاحم المشاهد الطبيعية بمراحل نموها المختلفة ونهايتها الفانية، مع المشاهد الإنسانية في مراحلها ونهايتها أيضا، للتأكيد على فناء المخلوقات، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ الرحمن: 27. وهذا الماء أيضا، كما صوّر جاريا في المشهد السابق، يصوّر ساكنا في جوف الأرض، وهذا منتهى الدقة في تصوير العلاقات بين الصور وامتداداتها في أنساق التعبير القرآني. يقول تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ، فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ، فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ، وَمِنْها تَأْكُلُونَ، وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ المؤمنون: 18 - 20. فالماء ينزل من السماء، فيسكن في الأرض، ويستقر حتى يتمّ الانتفاع به في الشرب والسقاية، وترتبط به صور النبات والأشجار بأنواعها، وهذه صورة مألوفة في الحياة،

ولكنّ القرآن يعرض صورة تخييلية، تقابل الصورة المألوفة، للفت انتباه الإنسان إلى فضل الله عليه، وهي صورة الماء الغائر في الأعماق وما يترتب على ذلك، من هلاك زرع الإنسان وطعامه بل حياته أيضا. وهذه صورة مخيفة، تعرض في السياق للتهديد والتخويف، فالله هو الذي جاء بالماء، وهو القادر على الذهاب به، ولكنّ رحمة الله بعباده، جعلت الماء متجمّعا في جوف الأرض للاستفادة منه. ويتضافر التعبير مع التصوير في إبراز هذه الرحمة بالعباد، فالماء ينزل بقدر من السماء، ولو أنزل كلّه لحدث الدمار والهلاك للإنسان وزرعه، ولكن يد الله تمسك بمياه السماء، فلا تنزل منها إلا بقدر معلوم حتى تتم الحياة والفائدة منها. ولفظ (بقدر) يوحي بالتهديد، ويثير مخيّلة الإنسان لاستحضار صورة إطلاق ماء السماء بلا مقدار لتدمير قوم نوح. وهي صورة مستدعاة من القصص التاريخي، كي يتم الترابط والتواصل بين الصور القرآنية، لتحقيق الغرض الديني من التصوير. ويتنوّع تصوير مشاهد المياه، فماء البحر، وماء النهر، يتشابهان من حيث الشكل، ويختلفان من حيث الطعم وتبرز قدرة الله في تسخيرهما، وتنويعهما، وفي حركة السفن الطافية فوقهما، يقول الله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ، لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فاطر: 12. ويلاحظ الإلحاح على فكرة التنويع مع أن الأصل واحد، فماء البحر والنهر، واحد في الشكل، ولكنه متنوّع في الطعوم بين حلو ومالح، والأسماك أيضا متنوعة في أشكالها وألوانها وطعومها مع أن أصلها واحد، وكذلك الحلي المستخرجة من أعماق البحار. وتلمس الصورة فارقا جوهريا بين البحر والنهر، يرجع إلى اختلاف كامن في خواصهما، وتمثّل هذا الاختلاف في الخواص في مشهد منظور للبحر والنهر، فيصب النهر، في مياه البحر، ولكن الماء العذب لا يمتزج بالماء المالح في البحار، فيبقى الحاجز بينهما، لا يسمح لأحدهما بالامتزاج بالآخر، يقول تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، وَلَهُ الْجَوارِ

الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ ... الرحمن: 19 - 24. ويقول أيضا: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ، هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً الفرقان: 53. ويكتمل تصوير مشهد البحار، بمشهد السفن والبواخر الجارية فوقها، بما تحمله من أثقال وأحمال ومشهد آخر ملتقط من أعماقها وهو مشهد اللؤلؤ والمرجان والجواهر الثمينة. ويتّضح من خلال هذا التصوير الفني، تسخير هذه البحار للإنسان بقدرة الله سبحانه وتعالى، وأحيانا تلجأ الصورة إلى تجميد مشهد السفن والبواخر على ظهر البحر، على سبيل التخييل، لإظهار قوانين الله المبثوثة في البحار، وفضل الله على الإنسان، يقول الله تعالى في ذلك: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ، إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ، فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ الشورى: 32 - 34. فالصورة هنا تبدأ برسم حركة السفن وهي جارية بأحمالها الثقال كالجبال، بتدبير الله وتسخيره، كما ترسمها في حالة متخيلة، وهي جامدة ثابتة في المشهد، لا تتحرك من مكانها، بعد توقيف الله لقوانينه، في تسييرها بدفع الرياح لها، أو بحسب قانون الطفو. في البحار، فتسقط محطمة، غارقة في أعماق البحار بسبب ذنوب ركابها. وفي هذا التصوير نلاحظ الحركة الأفقية للسفن، وهي الصورة المألوفة، ثم سكون الحركة وتجميدها كي تنطبع صورة قوانين الله من خلال تجميد الحركة في المشهد، ثم تتبعها حركة معاكسة في أعماق البحار للسفن وهي غارقة بركابها، لتحقيق الأثر النفسي من التصوير، مما هو مشاهد أحيانا من غرق السفن، وإغراق الركاب جميعا. ثم ننتقل من تصوير مشاهد الطبيعة الصامتة في السماء والأرض والجبال والبحار والأنهار والنباتات، والثمار والأشجار وغير ذلك وما رأينا فيها من دلالة على قدرة الله، وبديع صنعه، إلى تصوير مشاهد الطبيعة الصائتة وما فيها من المخلوقات العجيبة في أشكالها وألوانها، وأحجامها ... حتى يكتمل تصوير الطبيعة بمشاهدها الصامتة والصائتة معا، لبيان قدرة الله في الخلق والإبداع، وتحقيق الوظيفة الدينية من التصوير. فمخلوقات الله

في الكون متنوعة، فمنها الزواحف، والدواب، والطيور ... إلخ. قال تعالى في تصوير هذا التنويع في الخلق: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ النور: 45. فالصورة هنا تؤكد على الأصل الواحد من ماء، ثم التنوّع بعد ذلك في الأشكال والأحجام والألوان والأنواع، كي تظهر قدرة الله في تنويع الأصل الواحد، دلالة على المشيئة الإلهية، وتدبير الله وإحكام صنعه وإتقانه، ونفي فكرة المصادفة العابرة التي لا تتوافق مع هذا التنويع والتنسيق في مخلوقات الله، وهذا التقدير والتدبير لها. وفكرة التنويع من الأصل الواحد، تكاد تكون ظاهرة عامة في تصوير مشاهد الطبيعة، للتأكيد على عظمة الله وقدرته. ثم تعرض الصورة لنا، فوائد بعض هذه المخلوقات، مثل الأنعام، التي يستفيد الإنسان من لحومها وألبانها وأصوافها، كما أنها تتخذ أيضا وسائل ركوب، في البر، إلى جانب السفن في البحر: يقول الله تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ، وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ المؤمنون: 21 - 22. ولها منافع معنوية أيضا إلى جانب المنافع المادية يقول تعالى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ النحل: 5 - 8. فالصورة تعرض للمنافع المادية للأنعام، كما تعرض الفائدة الجمالية فيها أيضا، وتصوير المنافع بنوعيها، يلبي حاجات الإنسان الضرورية والفنية أو الجمالية معا، وربط الجمال، بالحاجة الضرورية للإنسان يجعله أيضا ضروريا في الحياة، ومقصودا فيها، لأنه يلبي حاجة فطرية في الإنسان. فالجمال مرسوم في صورة الأنعام في منظرين جميلين، منظرها وهي متآلفة متجمعة في مكان وأمان، ومنظرها وهي ترعى في حركة وسعي ونشاط. ومشهد القطعان من المشاهد المثيرة للخيال، والمحببة للنفس، فالخيال يتابع حركة

القطيع بأشكاله وألوانه، وأحجامه في حركة وانقياد للراعي، عبر مساحات من الطبيعة زاهية هي أيضا بألوان الزروع والثمار والأشجار، فيكتمل جمال تصوير الطبيعة، بتصوير هذه القطعان، لأنها مشاهد مترابطة في الطبيعة، كما هي مترابطة في التصوير. كذلك هناك الخيل والبغال والحمير مستعملة للركوب والزينة أيضا، فعنصر الجمال مقصود في تصوير الطبيعة، إلى جانب تصوير الضروريات للإنسان. «وهذه اللفتة، لها قيمتها في بيان نظرة القرآن، ونظرة الإسلام للحياة، فالجمال، عنصر أصيل في هذه النظرة، وليست النعمة هي مجرد تلبية الضرورات من طعام وشراب وركوب بل تلبية الأشواق الزائدة على الضرورات، تلبية حاسة الجمال، ووجدان الفرح والشعور الإنساني المرتفع على ميل الحيوان وحاجة الحيوان» «19». ولا تتوقف الصورة عند إمتاع العين من المناظر الحسية المعروضة بل تطلق الخيال كي يتصور مخلوقات لم تذكر هنا، ولكن أشير إليها بقوله وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ فتتحقق متعة الخيال من التصوير، كما تحققت متعة العين من تأمل المناظر الحسية المعروضة. وترسم هذه المشاهد بألوانها المختلفة، للتأكيد على عنصر الجمال من ناحية، والقدرة الإلهية المبدعة من ناحية أخرى يقول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ فاطر: 28. وتصوير هذه المشاهد بألوانها، يترابط مع تصوير مشاهد الثمار بألوانها، والجبال بألوانها أيضا. كما تقدم سابقا. وهذه المشاهد على الأرض، يقابلها مشهد الطيور تسبح في السماء في أسراب، أو فرادى، بألوانها الجذّابة، وحركتها المنتظمة، وهي تبسط أجنحتها بخفة ورشاقة، وتقبضهما كذلك. يقول الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ الملك: 19. وهذا المشهد للطير مشهد ممتع للأبصار حين تتملاه، وتتابعه فوقها في السماء، ومثير للخيال الذي يستحضر أشكالها وألوانها وأعدادها في حالة الطيران، وهي تبسط أجنحتها، وتقبضها بخفة دون أن تسقط، لأن الله سبحانه، يمسكها بقدرته التي وفّرت لها السنن

_ (19) في ظلال القرآن: 4/ 2161.

الكونية المساعدة لها على التحليق في السماء. هذه الطيور، وسائر الحيوانات الأخرى، عوالم وأمم، لها عاداتها ومجتمعاتها، ولغاتها، وخصائصها وقوانينها الخاصة بها، مما يدلّ على قدرة الله، في التنويع في مخلوقاته. يقول تعالى في الإشارة إلى ذلك وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ الأنعام: 38. وكلّ هذه العوالم أو المشاهد الطبيعية الصامتة والصائتة، تسبّح لله سبحانه وتعالى في مشهد كوني خاشع، يقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ الحج: 18. وهذه صورة ضخمة، توحي بالخضوع والعبودية لهذه المخلوقات لخالقها، فهو الذي وضع لها سننها لتسير عليها، وتخضع لها، وترسم الصورة مساحات واسعة لإطارها الممتد في السماوات والأرض، لتطبع في خيال الإنسان هذه المساحة الضخمة الممتدة لهذه المشاهد الصامتة والصائتة للطبيعة، وكلّها في حالة خشوع وتسبيح للخالق سبحانه، ويبرز بعض الناس خارجين عن إطار الصورة، حين لا ينقادون لله، فيظهرون شاذين في هذا الكون العريض، بين هذه المخلوقات الهائلة. وتجمع الصورة في داخل الإطار المنظور وغير المنظور، لإثبات عبودية الكون بما فيه لله سبحانه وتعالى. وأحيانا تكشف لنا الصورة شيئا من عالم الطير، وتعرض على لسان «الهدهد» مثلا حقائق العقيدة الصحيحة، بعد أن قام بجولة استطلاعية، فاكتشف قوما يسجدون للشمس، ولا يسجدون لله، يقول الله تعالى على لسان الهدهد، وهو في حضرة سليمان: وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ... النمل: 24. كما أن الصورة تلتقط لنا هذه اللقطة من عالم النمل العجيب في دابة وعمله وحركته ضمن مجموعات متعاونة، يقول الله تعالى على لسان النملة تخاطب مجتمع النمل: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ، فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ النمل: 18 - 19. فهذه الصور لعوالم النمل والطيور وغيرها، وما فيها من تجمعات، ولغات للتفاهم بينها،

تظهر عجائب قدرة الله في مخلوقاته، وتلفت انتباه الإنسان إلى أنه ليس وحده في هذا الكون، فهناك مخلوقات غيره، يراها ولها خصائصها وتجمعاتها ولغاتها، وكلها منقادة لله، وطائعة له. فهناك أيضا عالم النحل العجيب، في نظامه وخضوعه، وإنتاجه للشراب اللذيذ على الرغم من جسمه الهزيل. يقول تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ النحل: 68 - 69. وقد تعتمد الصورة على مشاهد الطبيعة في ضرب الأمثال ضرب المثل بالذباب على عجز الإنسان وبالكلب اللاهث، على الإنسان الذي يضيق بحمل الأمانة، فيلهث حين يلتزم بها، ويلهث أيضا حين ينسلخ منها، كما تقدم معنا في فصل (الأمثال القرآنية). وهناك إشارة إلى الجراد والقمّل في سياق تعذيب بعض الأمم الماضية بهما. كما أنّ بعض أسماء السور القرآنية مستمدة من الطبيعة المرئية مثل البقرة، والأنعام، والنمل، والنحل، والعنكبوت، عليهما السّلام والفيل. وهذه الأسماء تستدعي صورها الذهنية بمجرد ذكرها والنطق بها. وهكذا رأينا حشدا من المشاهد الطبيعية الصامتة والصائتة في هذا الفصل، وكلّها معروضة للدلالة على الألوهية، والوحدانية، وآثار الربوبية في الكون والحياة والإنسان. كما أن المشاهد المصورة، مترابطة ومتفاعلة في تحقيق الغرض الديني، فالسماء فيها النجوم، والقمر، والشمس، والكواكب، وتتناسق هذه المشاهد فيما بينها في السياق القرآني، وتعرض ضمن نظام العلاقات بين الصور كما رأينا في ترابط صورة الشمس والقمر، ثم مشاهد الأرض، وما فيها من نبات وزروع وثمار وأشجار مترابطة ومتناسقة، ومشاهد الأرض مرتبطة بغيث السماء دائما فكما أنها بحاجة إلى السماء ماديا، لقيام الحياة عليها، كذلك هي بحاجة إلى وحي السماء، معنويا ... وهكذا تتناسق المشاهد فيما بينها، وتترابط ضمن نظام العلاقات التصويرية والتعبيرية والفكرية لأداء الحقائق الدينية.

الفصل الرابع الحوادث الواقعية

الفصل الرابع الحوادث الواقعيّة رأينا في الفصول السابقة كيف انتقلت الصورة بالمتلقّي، من المعاني الذهنية الجزئية إلى صورة أكبر، في ضرب الأمثال، لتوضيح الحقائق الدينية الأساسية، ثم انتقلت إلى الصورة المحسوسة، في مشاهد الطبيعة، لتوظيف الإدراك الحسي، في معرفة ما وراء المشاهد المحسوسة، من قدرة إلهية، تجلّت في تصميم الكون وإبداعه، وتنسيق أجزائه. ثم تنتقل الصورة أيضا من المشاهد المنظورة، إلى الوقائع المعاشة وقت نزول القرآن الكريم، فتقوم بنقل الحدث، وتصويره، واستجاشة المشاعر نحوه، كي يبقى الحدث حيّا شاخصا، بكل ما صاحبه من مشاعر أو عواطف، وتوجيهات دينية. ولكنّ الصورة لا تعرض الحدث عرضا تاريخيا بتفصيلاته، وإنما تصوّره من خلال التركيز على نقطة فيه، لإبرازها، وإلقاء الأضواء عليها، لاستخلاص القيم الدينية الثابتة من خلالها، وإظهار قدرة الله، وحضوره، في تسيير الأحداث، وفق مشيئته وإرادته، مع إغفال الزمان والمكان وأسماء الأشخاص، لإضفاء سمة الشمول والعموم على تصوير الأحداث والوقائع، حتى تبقى صورة الأحداث حية ومؤثرة، يتفاعل معها المسلم ويستجيب للتوجيهات الدينية الواردة في ثناياها. في كل زمان ومكان. فالصورة، أعادت الأحداث والوقائع على الذين عاشوها، كي تكون وسيلة تربوية لهم من خلال الأحداث، والتوجيهات الدينية، التي رافقت تصويرها، كما أن الناس الذين لم يعايشوا تلك الأحداث، يستطيعون أن يعيشوا أجواءها، بكل ما فيها من معان ومشاعر وإيحاءات من خلال التصوير لها.

فنحن نرى «معركة بدر» مصورة من بداية خروج الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه لمواجهة المشركين، مع تجسيم حالات النفوس المتباينة في ساعة الخروج، يقول الله تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ، يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ الأنفال: 5 - 6. وتبدأ الصورة بعرض مشهد الخروج حيا شاخصا، بكل ما صاحبه من مشاعر، وكلمة مِنْ بَيْتِكَ توحي بالتجرد لله سبحانه، وترك الدنيا وراء الظهور، كما أنها ترسم مشهد الخروج من نقطة البداية، لاستحضار المشهد بكل إيحاءاته. ويشترك التعبير مع التصوير في إبراز الحقائق الدينية، فنحن نحس أن الآمر بالخروج هو الله، وهذا ما يؤكده إسناد فعل الخروج إلى الله كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ وفي هذا الإسناد دلالة على تسيير الله للأحداث وفق مشيئته، كما أن هذا الخروج هو لله سبحانه. فهو الآمر به، وتزيد كلمة «الحق» من توضيح غاية الخروج، وبذلك يتّحد في الصورة الحسي والمعنوي فالخروج حسي، والحق معنوي، وتستمر الصورة بعنصريها الحسي والمعنوي في رسم مشهد الخروج لمواجهة المشركين. ثم تجسّم الصورة الحالة النفسية الخائفة لبعض المسلمين في ساعة الخروج، والنفس بطبيعتها تكره الحرب وتنفر منها، وذلك في قوله وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ. وهذه الصورة ترسم حركة بعض المسلمين الحسية والنفسية معا، فهم يساقون سوقا للخروج، ونفوسهم كارهة له. وهذا التصوير يتسم بالصدق والواقعية، فالنفس تخاف من لمواجهة والحرب، ولكن صاحب العقيدة يتغلب على هذا الشعور. ويرسم الفعل المضارع حركتهم يُساقُونَ ببنائه للمجهول للتركيز عليهم في التصوير، وهم يتحركون مجبرين مسوقين في المشهد المعروض، ثم راح التصوير يرسم ملامح الوجوه المعبّرة عن يأس النفوس إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ فهم يائسون من نتيجة المعركة، ويرون موتهم فيها، وقد جسّم الشعور اليائس، في نظراتهم الزائغة الدالة على خوفهم واضطرابهم. فالصورة للحدث، تلمس الجانب الحسي، والجانب النفسي معا، لتحقيق الغرض الديني من التصوير، ثم تجسّم أيضا رغبات النفوس في قوله وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ الأنفال: 7.

فقد كانوا يتمنون العير، وليس النفير للقتال، لأن العير ليس في ملاقاتها شدة أو ابتلاء، على عكس النفير ذي الشوكة والحدة والقوة، فالصورة هنا تجسّم الفارق بين الإرادتين، ولكن الله كان يريد شيئا آخر، يريد أن يضرب قوة قريش المتغطرسة بهذه الفئة المؤمنة الضعيفة، ليكسر شوكة قريش، ويحدّ من معارضتها لهذا الدين، يقول تعالى: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ، وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ الأنفال: 7، والتصوير بقطع الدابر، يوحي بالاستئصال الكامل للكافرين، ويلاحظ في الصورة التركيز على قوة الله في الحدث، فالله هو الذي أخرج قريشا من مكة، وأخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من بيته مع أصحابه، وساق بعض المؤمنين سوقا إلى المواجهة، وهم كارهون لها، فتجمع الفريقان، في ساحة المعركة وجها لوجه، وتنقل الصورة لنا مواقع الفريقين وكأننا نشاهدها الآن يقول تعالى: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى، وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ الأنفال: 42. فالصورة هنا ترسم أرض المعركة بالكلمات، وتحدد موقع كل فريق، وموقع القافلة القريب من أرض المعركة وهذه الصورة هي بمثابة الإطار لها، وفي داخل هذا الإطار المكاني والزماني، وقعت أول معركة في الإسلام. فالمساحات الواسعة مرسومة بإيجاز، والمواقع مصورة من خلال قربها وبعدها من المشاهد العدوة الدنيا- العدوة القصوى- الركب أسفل من جهة البحر. ويلاحظ أن تصوير المواقع يتمّ من وجهة المسلمين أولا، فالعدوة الدنيا هي موقع المسلمين من جهة المدينة، والعدوة القصوى، تقابلها في الجهة الأخرى وهي موقع الكافرين، أمّا القافلة، فقد كانت تسير هناك بعيدا عن المكان. في الخط الساحلي، وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ. فالصورة هنا ترسم الأبعاد المكانية الحسية، كما رسمت من قبل الأبعاد النفسية والحسية لحركة المسلمين، ونحسّ بقوة الله، تدير هذه المعركة، فتحرك الفريقين للمواجهة، وتوزعهما في مواقعهما المتقابلة على أرض المعركة، مع تصوير قافلة قريش، تسير بعيدا عن أرض المعركة، لنفي أي شبهة دنيوية عن أهداف المعركة القائمة. ثم إنّ قوة الله أيضا كانت تقلّل كل فريق في عين الآخر، دفعا له لمواجهته يقول تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ

مَفْعُولًا الأنفال: 44. فالصورة للمعركة، ترسم بكل ما فيها من مواقع وحركات حسية، ومشاعر نفسية، تتجلى في تقليل كل فريق في عين الآخر، وأثر ذلك في نفسه، وطمعه في لقائه، لإنفاذ قدر الله في إحقاق الحق، وقطع دابر الكافرين. وتلحّ الصورة على تجسيم مشاعر المسلمين في لحظات المواجهة، بعد أن أيقنوا أنه لا بدّ منها، في مشهد حي شاخص فقد توجّهوا بالدعاء والاستغاثة، يقول تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ الأنفال: 9، والاستغاثة توحي بشدة إحساسهم بالضعف أمام قوة قريش ذات الشوكة، هذا الإحساس الداخلي نراه مجسّما في مشهد الاستغاثة الجماعي، في ساعة المواجهة، ويعتمد التصوير على الفعل المضارع تَسْتَغِيثُونَ لاستحضار المشهد وإحيائه، وجعله حاضرا محسوسا، ثم عطف عليه بالفعل الماضي إلى الحاضر بقصد تجسيمه أمام المخاطب، وبدء عرض المشهد كما وقع بعد ذلك، وهذه طريقة القرآن التصويرية في إحياء المشاهد قبل استعراضها فقد استجاب الله استغاثتهم، وأمدهم بالملائكة، وصورة هذا المدد غيبيّة، موحية تدل على أن الله معهم، وهو الذي يدير المعركة بنفسه، وما هم إلا ستار لقدر الله النافذ، وكان أثر هذا المدد الغيبي هو تطمين النفوس الخائفة، وتثبيت الأقدام المضطربة في المعركة، مع تصحيح التصور والاعتقاد بأن النصر هو من عند الله وليس من سواه. ثم تجسّم الصورة اطمئنان النفوس بعد ذلك، في مشهد شاخص يقول تعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ الأنفال: 11، وصورة النوم الغاشي للعيون، توحي بالاطمئنان بعد الفزع، ثم صورة الغيث الرّهام ينزل عليهم من السماء، توحي بتطهير أجسامهم بعد تطهير نفوسهم يقول تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ الأنفال: 11. فتوفّرت بذلك كل العوامل المعنوية الضرورية قبل مواجهة الأعداء، من شعور بالطمأنينة، والراحة والوعد بالدعم، وتثبيت الأقدام. وتلتقي صورة المطر الهاطل، بصورة المدد النازل، وتتحد الصورتان في دعم موقف المسلمين.

ولفظ يُغَشِّيكُمُ والنُّعاسَ وأَمَنَةً تلقي ظلا لطيفا على الصورة المرسومة للحالة النفسية للمؤمنين، وتضيء التحوّل من الفزع والخوف إلى الطمأنينة والاستقرار، وهذا التقابل بين الصورتين النفسيتين، وما بينهما من تضاد وفروق، يوضح ما يفعله الله في النفوس من تبدلات بين لحظة وأخرى وفق مشيئته سبحانه. ويقوم الفعل المضارع يُغَشِّيكُمُ بإحياء المشهد، واستحضاره في الذهن، وكذلك فعل يُنَزِّلُ وصورة المطر الحسية، تتلاحم مع صورة الملائكة الغيبية، فتسكن النفوس لتوفّر الدعم المادي، المتمثل بوجود الماء، وتطمئن لوجود الدعم المعنوي، المتمثل في الإمداد بالملائكة، فتكون النتيجة قوة القلوب، وثبات الأقدام، وهما الشرطان الضروريان لتحقيق النصر فيما بعد. ثم يمضي التصوير للمعركة، بعد تصوير مقدماتها يقول تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ الأنفال: 12. ولا تعرض الصورة ماهية الملائكة، ولا كيفية اشتراكهم في المعركة، لأن هذا لا يهم في بيان الحقائق الدينية، ولا في تقرير النتائج، فالصورة تركّز على قوة الله التي تمدّ بهذه القوة الخفيّة ليشعر الإنسان بقوة الله الملموسة في توجيه الأحداث، وتقرير النتائج. وتلقي صورة الملائكة في حس المؤمن الخوف من الله، والتقرب إليه، وتطبع في قلوب الكافرين الفزع من هذه القوة الخفية المشاركة في المعركة. لذلك كان تركيز التصوير على فعل الملائكة في ضرب الأعناق، وضرب كل بنان، لأن هذا هو المفيد من تصوير الأحداث. وبعد عرض هذا المشهد للمعركة يأتي التعقيب عليه، على طريقة القرآن الكريم في التوجيه بعد التصوير لبيان المغزى يقول تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ الأنفال: 13. فضرب الأعناق وضرب البنان، كان بسبب كفرهم، واتخاذهم شقا معاديا لصف الإيمان. ثم يتحوّل التعبير لمخاطبة الكافرين مباشرة على طريقة الالتفات، للتهكم بهم، والسخرية منهم، يقول تعالى: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ الأنفال: 14. فالعذاب العاجل صار مذاقا في حلوقهم، يشعرون بآلامه ومرارته، وهو قبل العذاب الآجل، في النار يوم القيامة، ثم يأتي التوجيه من خلال التصوير في سياقه الملائم، فيخاطب

المؤمنين بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ الأنفال: 15 - 16. وهذه الصورة الحسية في تولية الأدبار من المعركة، صورة كريهة منفّرة، يقصد بها التحذير والترذيل، وقد وردت بعد تصوير الحدث للمعركة، لينقل المسلمين من الواقعة المحدودة إلى الفكرة الدائمة في أثناء ملاقاة العدو. ويحذّر المسلمين من الرياء، ويذكّرهم بمشاهد من معركة بدر، يقول تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ، وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ، إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ الأنفال: 47 - 49. فصورة قريش يوم بدر هي صورة البطر والرياء والمباهاة بالعدد والعدّة، وقد كانت هذه الصورة حاضرة في أذهان المسلمين، رأوها حين خرجت قريش بقوتها الضخمة لملاقاتهم، ولكن نتيجة هذه الصورة هي الهزيمة والإخفاق، وتصوير قريش على هذه الهيئة المتغطرسة، يهدف إلى تحذير المسلمين من هذه الصورة المعروفة النتيجة، وحث المسلمين على الارتباط بالله مصدر القوة والنصر. وهذا التذكير بالله، يأتي في سياقه الملائم، بعد تصوير الحادثة الواقعة التي ظلّت حاضرة في نفوسهم وذاكرتهم من خلال التصوير القرآني لها. ثم يتناول التصوير حقيقة غيبية للملائكة وهم يقبضون أرواح المشركين بسخرية وإذلال قال تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ، وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ، ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ الأنفال: 50 - 51. ويبدأ التصوير ب (لو) وهي حرف امتناع لامتناع، للدلالة على أن ذلك من الغيب، فتمتنع رؤية الملائكة وهم يضربون الوجوه والأدبار، لامتناع الرؤية البصرية لعالم الغيب، ثم يأتي الفعل المضارع تَرى لإحياء المشهد واستحضاره، ثم تتوالى الصورة الغيبية للملائكة

يقبضون أرواح المشركين، ويضربون وجوههم وأدبارهم، وتكاد الأفعال المضارعة المتكررة في التصوير، تحيي المشهد وتنقله من الغيب المجهول، إلى المشهد المنظور، ثم يتحوّل السياق من الإخبار بالغيب، إلى أسلوب الخطاب لكفار مكة وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ، والتهكم واضح في صورة إذاقة عذاب الحريق، وهي صورة مؤلمة للكافرين. وبعد تصوير هذا المشهد يأتي التعقيب عاما على معركة بدر ونتائجها، بإقرار حقيقة لسنة كونية من سنن الله وهي أخذ الكافرين بكفرهم، وتعذيبهم في الدنيا قبل الآخرة، وهذه سنة ماضية نفّذت في قريش يوم بدر، كما نفذت في فرعون وجنوده في القديم يقول تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... الأنفال: 52. وهكذا رأينا في تصوير معركة بدر أنه لم يقصد بالتصوير التسجيل التاريخي لها، وإنما تقرير الحقائق الدينية الثابتة من وراء التصوير، وتصحيح التصورات، ومعالجة النفوس في مثل هذه الوقائع، وإبراز القدرة الإلهية الفاعلة والمؤثّرة في توجيه الوقائع والأحداث، وبيان سنة الله الماضية في تقرير نتائج المعارك، وتربية النفوس بالأحداث الواقعة، لأنها تكون أوقع في الحس والشعور، لأنها تربية عملية ميدانية، وليست تربية نظرية، تقتصر على التوجيهات المجردة البعيدة عن الواقع. فالفكر الديني إذا يتفاعل مع الواقع، في تربية الفرد وإعداد الأمة، وهو فكر إيجابي، لأنه مرتبط بالواقع المعاش وهذا ما تجسّده الصورة في نقل الأحداث الواقعة. وهذه السماوات لتصوير الأحداث، تكاد تكون عامة في كل الأحداث التي تناولتها الصورة الفنية وإن اختلفت طريقة التصوير من معركة لأخرى، بحسب تغيّر الظروف والمواقف، وحالات النفوس إلا أن السمات العامة للتصوير، لا تكاد تخرج عما ذكرناه. ففي تصوير معركة «أحد» أيضا نلاحظ تقرير المبادئ الدينية من وراء التصوير، ومعالجة النفوس الضعيفة، وتربية الأمة الإسلامية بالأحداث وغير ذلك مما ذكرناه آنفا. وتبدأ الصورة باستحضار بداية مشهد المعركة يقول تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ آل عمران: 121. وتستعيد الصورة المشهد بوساطة الفعل المضارع تُبَوِّئُ فيستحضر الحدث من الزمن الماضي للزمن الحاضر حتى يشخصه في الأذهان، ثم نلاحظ البعد الزمني في المشهد في

قوله غَدَوْتَ إلى جانب البعد المكاني تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ فيرتسم جو المعركة بتحديد المواقع، وتحديد التوقيت الزمني لها أيضا، وهذا هو المشهد المنظور للصورة الحسية، وهناك وراء الصورة الحسية، الصورة الغيبيّة، تظهر من وراء المشهد المنظور وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. فالله حاضر المعركة، وكل معركة يسمع ويرى، ويعلم ما يدور في الحس والشعور، وهذه الحقيقة الدينية ملازمة لتصوير الأحداث لتعميق الارتباط بالله سبحانه في كل الأمور، وإبراز قدرة الله في الأحداث، كما هي ظاهرة في الكون والأحياء. وتجسّم الصورة خواطر النفوس لطائفة من المسلمين، همّت أن تبقى في المدينة، ولا تخرج مع المسلمين لقتال المشركين، وكان الهمّ مجرد خاطر لم يطلع عليه أحد، ولكن الله لا تخفى عليه خافية، يقول تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ آل عمران: 122. وتصوير خواطر النفوس هنا، فيه إشارة إلى حضور الله معهم، يشد على أيديهم، وينصرهم، وهذه طريقة القرآن الكريم في تصوير الأحداث، لتوجيه المؤمنين، وتسديد خطاهم. فالصورة القرآنية ليست مجرد تسجيل الأحداث، وإنما غايتها إحياء الأحداث، بكل ما صاحبها من حركات حسية ونفسية، لتوجيه المؤمنين نحو المبادئ الدينية الثابتة. وفي سياق تصوير معركة أحد، يستعرض مشاهد من معركة بدر وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ... آل عمران: 123، للتذكير بنصر الله لهم، وتذكيرهم بما صاحب معركة بدر من حقائق دينية، وسنن إلهية في النصر والهزيمة ليبقى المسلمون على صلة بهما، والتيقن بأن النصر بيد الله، فهو وحده، يقرر نتائج الأحداث، كما يقرر مصائر الأحياء. وقد أشيع في أثناء المعركة أن الرسول قد قتل، وقد أثّرت هذه الإشاعة في نفوس المسلمين، فنقلت الصورة هذا الجوّ النفسي، مع التوجيه نحو القواعد الدينية الثابتة يقول تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ آل عمران: 144. وقد جاءت الصورة تحمل معنى التهديد، فالرسول بشر، وينطبق عليه ما ينطبق عليهم من الموت أو القتل وهو رسول كبقية الرسل من قبله، فهم ليسوا مرتبطين، بحياته أو موته،

بل يرتبطون بالله الذي لا يموت، ودعوته الباقية. وقد جاءت الصورة تجسّم مشاعرهم في صورة حسية انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وحركة الانقلاب على الأعقاب حركة حسية، تعبر عن حركة نفسية داخلية، فقد أحس بعضهم أنه لا فائدة من الاستمرار بعد قتل الرسول أو موته، وكأن المعركة القائمة، هي بين أشخاص، وليست بين مبادئ. فجاءت الصورة بهذه الحركة الحسية المستنكرة، لتوحي لهم بأن المعركة ليست كذلك بل هي بين الإيمان والكفر، وهي معركة مستمرة، وإن مات الأشخاص، لأنهم يرتبطون بالله الحي الذي لا يموت لذلك جاء التعقيب بقوله: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً. فالله غني عن العباد، وهم المحتاجون إليه، وهكذا تؤدي الصورة وظيفتها الدينية من خلال تصوير الأحداث. وتلتقط الصورة الفنية حالة المسلمين النفسية والحسية وهم يفرون من أرض المعركة، فترسمها في مشهد حي متحرك يقول تعالى: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ آل عمران: 153. فالمشهد هنا، يعرض حركة هزيمة المسلمين في أحد، وهم مصعدون في الجبال هربا من المعركة، ونفوسهم خائفة مضطربة، وقد جسّمت الحالة النفسية لهم في هذه الحركة الحسية، وكأننا نراهم في المشهد الآن مصعدين في الجبل، لا يلتفت أحد وراءه، والرسول يدعوهم في أسفل الجبل إلى العودة، ولكنهم لا يسمعون نداءه لشدة فزعهم أو أن حالتهم النفسية المضطربة تمنعهم من إجابة دعائه. ويعتمد تصوير الحدث على الفعل المضارع تُصْعِدُونَ لإحياء المشهد، واستحضاره من الزمن الماضي إلى الحاضر كما أن الفعل تُصْعِدُونَ من الفعل الماضي أصعد، وهو يدل على الذهاب البعيد، بخلاف الفعل صعد. واختيار الفعل هنا يوحي بأنهم بلغوا مكانا بعيدا في الجبل العالي هاربين من المعركة، والخيال يتابع من خلال المشهد الحي الشاخص، حركتهم المضطربة في صعود الجبل،

ويتأمل صورتهم وهم موزّعون هنا وهناك عليه بشكل يدل على الفزع والاضطراب، وما يصاحب حركة الهروب من أصوات ونظرات فزعة وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ فترتسم ظلال الخوف والفزع على الصورة، بحركاتها، وهيئاتها وخطوطها. والعنصر البارز في هذا المشهد، هو عنصر الحركة، لأنه يلائم جوّ الهزيمة، لهذا كان الاعتماد في التصوير على الفعلين المضارعين، تصعدون- تلوون. ثم في دقة اختيار فعل تُصْعِدُونَ من الفعل أصعد، للدلالة على الصعود البعيد وليس القريب كي يتناسق التصوير مع المعنى المرصود. وتقابل حركة الفرار، حركة الثبات في أسفل الجبل، في أرض المعركة للرسول صلى الله عليه وسلم. وهكذا نلاحظ في تصوير مشهد الهزيمة حركة مضطربة في الجبل، وحركة ثابتة في أسفل الجبل، وخوفا وأمانا في الوقت نفسه، لتوضيح الفوارق في الطباع والحالات النفسية في مثل هذه الظروف والأوضاع. ثم تتحوّل الصورة لرسم مشهد آخر لهؤلاء الفارين، بعد أن تابوا إلى الله وعفا عنهم، وهو مشهد مغاير للسابق، فيه الطمأنينة، والهدوء لتلك النفوس، يقول الله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ آل عمران: 154. فالصورة إذا تجسّم النفس البشرية، في حالة خوفها وفزعها، كما رأينا في المشهد السابق، وفي حالة هدوئها واطمئنانها أيضا. كما ترى في هذا المشهد، لأن صورة النعاس الغاشي للعيون توحي بذلك. وهناك طائفة أخرى، لا تهتم إلا بمصالحها الدنيوية، وسلامتها، فهؤلاء كانوا يرون أنهم عرّضوا أنفسهم للقتل في تلك المعركة الخاسرة برأيهم، وأكثروا الجدال، في هذا الأمر، وأخفوا حقيقة أنفسهم، فجاء القرآن الكريم وفضحهم بقوله: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ آل عمران: 154، فهؤلاء قد امتلأت نفوسهم كراهية للحرب، لأنهم يرون أنهم عرّضوا أنفسهم للموت فيها، فجاء توضيح حقيقة الحياة والموت، وقدر الله النافذ في الآجال في صورة موحية ومؤثرة، يقول تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ آل عمران: 154.

وذات الصدور، كناية عن الأسرار الملازمة للصدور، فالله يعرف أسرار النفوس، ويعرف ما وراء الاحتجاج على المعركة من أسرار وهواجس، يكشفها لأصحابها أولا، وللناس جميعا ثانيا، لأنهم قد يمرون بمثل هذه الأحداث فتجيش صدورهم بمثل هذه الأوهام حول المعركة مع الباطل. والحقيقة المصورة هنا، أن الموت قدر الله النافذ لا محالة، وله موعد محدد، لا يتقدم ولا يتأخر، لهذا فإن المعركة لا تقدّم أجل الإنسان، كما أن التقاعس عنها لا يؤخره عن موعده المرسوم. وقد صوّرت هذه الحقيقة بقوله: لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وصورة المضجع الذي هو مكان الراحة والاسترخاء، يتحوّل هنا إلى قبر لصاحبه، الذي كتب عليه القتل حسب الأجل المرسوم له. ثم تعود الصورة من جديد، لتلمس طائفة الفارين، وتربط هزيمتهم، بوساوس الشيطان، حتى يرتدع المؤمنون عن الفرار يوم الزحف، فالشيطان هو الذي استزلّهم ليتبعوه فارّين من المعركة. يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ... آل عمران: 155. وصورة الشيطان غير محسوسة، ولكنّ أثرها محسوس مجسّد في حركة الفرار من المعركة. وكلمة اسْتَزَلَّهُمُ ترسم بجرسها صورة حية للشيطان، وهو يجرّ قدم المقاتل لتزلّ زلة، تتبعها زلّات حتى ينقاد أخيرا لخطوات الشيطان، فيتبعه في حركة الفرار من المعركة. والفعل في صيغته الطلبية، يوحي بطريقة الشيطان في الوسوسة، بشكل متدرّج، حتى يقع الإنسان في مصيدته أخيرا. وهكذا توظّف هذه الصورة المجهولة بمالها من رصيد نفسي في قلب المسلم، ورصيد تاريخي وديني، في عداوة الشيطان للإنسان في معالجة النفوس التي اضطربت وانهزمت حتى يعيدها من جديد إلى طريق الاستقامة على منهج الله سبحانه. والصورة في غزوة الأحزاب، تعرض بداية المعركة ونهايتها، قبل عرض التفصيلات والمواقف، حتى يتّضح أثر القدرة الإلهية في تلك المعركة، وفضل الله على المؤمنين، يقول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً الأحزاب: 9. فالصورة هنا ترسم لنا بداية المعركة ونهايتها بكلمات موجزة، فقد جاء جنود، والتنكير

في كلمة جنود يفيد العموم والشمول، للإيحاء بالجنود الآخرين الذين انكشفوا في أثناء المعركة من اليهود والمنافقين، بالإضافة إلى التهويل والتضخيم الملحوظ في تنكير الكلمة وتقابل صورة الجنود الضخمة، صورة الملائكة الغيبية، وصورة الريح الكونية، وتتلاحم الصورتان الحسية وغير الحسية في دعم موقف المسلمين، وتدمير الكافرين. ثم يبدأ تصوير تفصيلات المعركة بما فيها من مواقف، ومشاعر. يقول تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً الأحزاب: 10 - 11. وبعد تصوير الموقف الخارجي العام، وإحاطة المشركين بالمدينة من كل جانب، أخذ التصوير يجسّم لنا الحالات النفسية للمؤمنين، فبدأ برسم ذلك في ملامح الوجوه والعيون، في زوغان الأبصار، الدالة على شدة الخوف والفزع، وتماثل هذه الصورة الحسية البصرية، صورة أخرى للقلوب، وهي تضطرب وتخفق، وتخرج عن مستواها الطبيعي إلى مرحلة الزوغان أيضا. وتلمس الصورة أيضا حركة الأذهان، في مثل هذه المواقف وما يدور فيها من تصورات وأوهام في تقويم الحدث أو المعركة وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا فالصورة هنا لا تترك جانبا من جوانب تأثير الموقف في النفوس إلا وشخّصته وأظهرته للعيان، فاجتمعت الصورة البصرية، والصورة الذهنية، والصورة النفسية، للدلالة على موقف الكرب الشديد والضيق الخانق. وبعد هذا التفصيل، تلجأ الصورة إلى رسم الموقف العام للمسلمين تجاه الخطر الخارجي المحدق بالمدينة بصورة زلزال شديد هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً. وهو زلزال حسّي يتمثّل في تحالف المشركين مع اليهود والمنافقين، وزلزال نفسي، يتمثّل في اضطراب النفوس تجاه الموقف العام للمعركة. وتلقى الأضواء التصويرية على مواقف المنافقين والمخذلين من داخل الصفوف، لزرع البلبلة في صفوف المسلمين، وبث الريبة في وعد الله لهم، يقول تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً الأحزاب: 12. ولم يتوقف المنافقون عند حدّ الأقاويل بل راحوا يدعون إلى الانسحاب من المعركة، زيادة في إضعاف المسلمين، وتوهين عزيمتهم.

يقول الله تعالى: وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً الأحزاب: 13. وتصوير البيوت عورة مكشوفة للأعداء وفيها الأطفال والنساء، يؤثر في النفوس ويزيد في التخذيل والتثبيط، ولكن الله يكشف ما وراء ذلك من حقيقة نفوس المنافقين من حبّ للفرار من المعركة وهزيمة المسلمين. ثم ترسم الصورة ملامح المنافقين، وتكشف عن جبنهم ونقضهم للعهد يقول تعالى: وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا الأحزاب: 15. فالمنافقون في الحرب جبناء، وفي السلم، متكبّرون، سليطو اللسان: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ، أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ الأحزاب: 19. ونلاحظ هنا صورتين متناقضتين لهم، صورة نفسية مجسمة في حركة حسية، وهي دوران العيون من شدة الخوف والفزع، ثم قورنت هذه الحركة بحركة العيون عند سكرات الموت، لرسم منتهى الفزع وذروة الخوف، واعتماد الصورة على الفعل المضارع تَدُورُ يجعلها حاضرة شاخصة، وكأننا نرى حركة العيون وهي تدور يمينا وشمالا، بحركة مثيرة للسخرية والضحك، وهي حركة مشابهة لحركة العيون عند الموت، عند ما يفقد الإنسان السيطرة على أعصابه، فيظهر ما في نفسه من خوف على عينيه دفعة واحدة، فتدور في حركة سريعة مضحكة. ولكنّ هؤلاء الجبناء تتغير صورتهم بانجلاء الخطر، وشعورهم بالأمان، فيبدءون بالادعاء والانتفاخ، وهنا تبرز صورة أخرى حسية تتمثل في سلاطة اللسان، وهي صورة تعتمد على الحركة أيضا بشدة وعنف. وهذه الصورة الحسية، تعبر عن الحقد والكراهية، ومرض النفوس. وصورة أخرى للمنافقين، تعبر عن جبنهم الشديد، وهي قوله: يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا الأحزاب: 20. فقد ظلّوا خائفين حتى بعد هزيمة الأحزاب، لأنهم ما زالوا لا يصدقون بهزيمة الأحزاب، فهم يرتعشون بخوف وفزع، ويا لها من صورة ساخرة مضحكة لهؤلاء الجبناء، الذين يستمر

فزعهم حتى بعد انجلاء الخطر. ويتواصل تصوير المنافقين بصور عدة، زيادة في إيضاح طبيعتهم الجبانة يقول تعالى: وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ الأحزاب: 20. وصورتهم هنا وهم قاعدون في البادية بعيدا عن المعركة، يتلقفون الأخبار، تتواصل مع الصور الأخرى لهم، وتترابط ضمن نظام العلاقات التصويرية لكشف حقيقة هذا النموذج الجبان المتحالف مع المشركين واليهود ضد المسلمين. وترسم الصورة أثر المعركة في المؤمنين، لإظهار الفوارق بين نموذج الإيمان، ونموذج النفاق، يقول تعالى: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً الأحزاب: 22. إن هذه الصورة بما فيها من إيمان وثبات وطمأنينة وتسليم لله، تقابل صورة الجبن والخوف ودوران العيون في الأحداق في الموقف العصيب. والتقابل هنا عن طريق التضاد، يظهر الفوارق بين النموذجين، ويهدف إلى تربية الأمة بالأحداث من خلال تجسيم انفعالاتها، والتعقيب عليها بالتوجيهات الدينية الملائكة لها، وإبراز قدرة الله في الأحداث، والتأثير في نتائجها. ثم يختم تصوير المعركة بقوله تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً الأحزاب: 25. هذه هي صورة المشركين، وهم منهزمون، يأكل الغيظ أكبادهم، لأنهم أخفقوا في تحقيق أهدافهم، ويلاحظ في التعبير إسناد الفعل «رد» إلى الله الفاعل الحقيقي، فكل ما تمّ في المعركة من بدايتها إلى نتيجتها كان بفعل الفاعل الحقيقي وهو الله، وهذا ما تبرزه الصورة وتؤكده من خلال رصد الأحداث. أمّا حلفاء المشركين فقد حلّ بهم القتل والأسر أيضا، يقول تعالى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً الأحزاب: 26. فالعنصر البارز في تصوير الأحداث هو المعنى الديني، فهو المحور الذي ينطلق منه تصوير الحدث، وهذه سمة بارزة في تصوير الحوادث الواقعية في القرآن الكريم، لخصوصية

النص القرآني، باعتباره كتاب هداية للبشر، منزّلا من عند الله، لبيان الألوهية، وآثار الربوبية في الكون والحياة والإنسان. لذلك كانت بيعة الرضوان في صلح الحديبية هي مبايعة لله، وردت في صورة حسية موحية. يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ الفتح: 10. فالصورة القرآنية لا تنفك عن غرضها الديني على الرغم من أنها تصوّر حادثة واقعة، فالأيدي المبايعة لرسول الله، يد الله فوقها تباركها وتدعمها. فالله هو الذي نصر المؤمنين في بدر، وهو الذي أمدهم بالملائكة لتحقيق ذلك، وهو الذي حاسبهم على تقصيرهم في أحد، وهو الذي ردّ المشركين بغيظهم في يوم الخندق، والمبايعة له في صلح الحديبية. لذلك فإن الله يدعوهم إلى التجرد له في المعارك أو الحوادث الأخرى، وحين أعجبتهم كثرتهم يوم حنين عاقبهم على ذلك يقول تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ التوبة: 25 - 26. فالصورة في هذا النص ترسم لنا المعركة بكلّ مراحلها ووقائعها الحسية والشعورية، ولقد كان للشعور الداخلي بالإعجاب بكثرة العدد أثره في الصورة الحسية للمعركة، فقد انقلبت صورتها إلى هزيمة منكرة بعد أن ظنّ المسلمون أن الكثرة وحدها هي التي تقرّر نتيجة المعركة، فجاء الدرس القاسي لهم، ليعودوا إلى التصور الصحيح في ربط الأحداث بالله سبحانه، فهو المؤثر فيها، والمقرر لنتيجتها ويجسّم ضيق نفوس المسلمين وشعورهم بالاختناق بصورة حسية وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ... وهذه الصورة النفسية المعبّرة عن الاختناق النفسي الشديد، جاءت موازية لشعور الإعجاب في بداية المعركة، حتى يغسل الشعور بالاختناق، الشعور بالإعجاب، ويزيله من ساحة النفس، لتعود لصفائها وتجردها لله. ثم أتبعها بصورة حسية مجسّمة للصورة النفسية المتمثلة في ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ وقد أزالت هذه الصورة المحسوسة، كل مشاعر الإعجاب بالكثرة، وأزالته من النفوس بالواقع المحسوس.

ثم بعد ذلك تدخّل الله سبحانه ليغيّر اتجاه المعركة ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ والسكينة شيء معنوي، يجسّمها بصورة مادية محسوسة، فتنزل من عند الله، وكأنهم يلمسونها لمسا محسوسا، فتطمئن النفوس الخائفة بذلك، كما أنّ الله أنزل مع السكينة جنودا من عنده، وهذه الصورة غيبية، لا نعرف ماهيّتها، ولا طريقة اشتراكها في المعركة، تدخل في عناصر تصوير الحوادث كما رأينا سابقا دون تفصيل لها. لأن الغاية منها هي إبراز قدرة الله في تقرير نتائج المعركة وهذا ما نراه واضحا في تصوير الحوادث والمعارك، وتقرير النتائج. وفي غزوة «تبوك» لا يختلف تصويرها، عن الخط العام في تصوير الحوادث الواقعية في القرآن، في التركيز على بعض النقاط البارزة فيها، لمعالجتها من خلال الرؤية الدينية الثابتة. ففي تصوير هذه الغزوة يتمّ التركيز على الضعف واتخاذ الأعذار لعدم الخروج للقتال، كما تسلّط الأضواء المصوّرة على الثلاثة الذين تخلّفوا عن الغزوة دون عذر، وعلى المنافقين وأقوالهم ومعاذيرهم. يقول تعالى في فضح المنافقين: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ التوبة: 49. وصورتهم هنا وهم يتساقطون في الهاوية، فتتلقاهم جهنم فور سقوطهم وتحيط بهم من كل جانب، صورة لها مغزاها، فهذا الاستئذان بلا مبرر، هو السقوط في الهاوية، كما أن الصورة توحي بما ينتظرهم من عذاب يوم القيامة. وترسم الصورة لهم مشهدا مخزيا، يدلّ على شدة جبنهم، يقول تعالى فيهم: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ التوبة: 56 - 57. فهؤلاء جبناء، ونفوسهم واهنة ضعيفة، جسّمتها الصورة في حركة حسية سريعة، ترسمهم، وهم يحاولون الاندساس في إنفاق تحت الأرض أو مغارات ليختبئوا فيها من شدة خوفهم وفزعهم، كما أنهم لا يندسّون فيها ببطء وإنما في سرعة الفرس الجموح أيضا، زيادة في تسريع الحركة التخييلية المعبرة عن جبنهم وخوفهم. وتتواصل صور المنافقين الدالة على جبنهم في السياق القرآني المصوّر لهذه المعركة،

وتتعاون هذه الصور فيما بينها على توضيح حقيقتهم من جميع الجوانب فهم رضوا بأن يكونوا مع العجزة والأطفال والنساء في القعود عن المعركة دلالة على سقوط همتهم، يقول تعالى: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ التوبة: 93. كما أنهم فقدوا الإحساس لأن قلوبهم مطبوعة ومغلقة: وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ التوبة: 93، ويحلفون الأيمان الكاذبة لسوء أخلاقهم: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ التوبة: 95. فهم- بهذه الأفعال القذرة- رجس، وجزاؤهم جهنم على أفعالهم إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ التوبة: 95. وهناك طائفة من المؤمنين، لا يملكون نفقة الجهاد، وقد أذن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبقوا في المدينة، ولكنهم كانوا متألمين ومتأثرين لعدم خروجهم مع رسول الله، وقد جسّمت الصورة صدق نفوسهم وشدة تأثرهم بفيض الدموع، يقول تعالى فيهم: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ التوبة: 92. فهذه الصورة تعبر عن شدة التأثر والصدق حيث إن «العين جعلت كأنّ كلّها دمع فائض» «1» كما يقول الزمخشري، وهناك أيضا الثلاثة الذين تخلفوا بدون عذر، وهم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وقصتهم مذكورة في كتب السيرة والتفسير، يقول الله تعالى في تصوير حالتهم: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ التوبة: 118. والصورة هنا تجسّم حالتهم النفسية، وكما كانوا فيه من ضيق وكرب، بسبب تخلّفهم عن المعركة، فالأرض على سعتها تضيق بهم، وتأخذ بخناقهم، فلا يجدون فيها إلا الضيق والكرب، حتى نفوسهم. أيضا ضاقت عليهم، فشعروا بالاختناق في أعلى مداه، فهم لا يجدون سرورا ولا أنسا بعد مقاطعة المجتمع الإسلامي لهم، فالأرض تضغط عليهم من الخارج، ونفوسهم تضغط عليهم من الداخل، وليس لمثل حالتهم إلا الله سبحانه، وبعد هذا الكرب الخانق، يأتي الفرج، وتنقشع غمتهم.

_ (1) الكشاف: 2/ 208.

ونلاحظ هنا فارقا عما سبق في التوجيه والتربية، من خلال تصوير النفوس تجاه الأحداث وأثرها في نفوسهم، فالمحاسبة شديدة في غزوة تبوك، لأنها وقعت في وقت متأخر من الدعوة الإسلامية، وقد بلغت التربية مرحلتها النهائية في النضج والاكتمال التي لا يقبل فيها التقصير أو التهاون. أما الحوادث الأخرى غير القتالية التي كانت تقع في المجتمع الإسلامي آنذاك، فلا يختلف تصويرها أيضا عما ذكرناه سابقا من حيث التركيز على بعض الظواهر أو المشاهد أو الحالات النفسية ... إلخ لإبراز الحقائق الدينية من خلالها مثل الإسراء والمعراج، وحديث الإفك، وتحويل القبلة، والمرأة التي ظاهرها زوجها، ومسجد الضرار ونحو ذلك. ونحن لا نريد حصر الحوادث، وطريقة تصويرها، لأن ذلك يبعدنا عن عملنا في وظيفة الصورة من ناحية، ولأن هذا العمل يحتاج إلى بحث مستقل أيضا لكثرة هذه الحوادث الواقعة وقت نزول القرآن من ناحية أخرى لهذا سنقف عند بعضها، لبيان طبيعة الصورة، في تناول هذه الأحداث، ونقلها إلينا، كما وقفنا عند أبرز الغزوات في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم نقف عندها كلّها فيما سبق. ونبدأ بحادثة الإسراء والمعراج يقول الله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الإسراء: 1. والصورة المرسومة هنا تنقل الحدث من الغيب المجهول، إلى المشهد المنظور، وتبدأ عرض الحدث بالتسبيح لله وهو مناسب لجوّ الإسراء وما فيه من إعجاز أو خوارق للعادة، ثم تبدأ بتحديد الزمان والمكان لهذا الحادث الغيبي، وكلمة لَيْلًا متضمنة في قوله أَسْرى لأن السرى لا يكون إلا في الليل، ولكن ذكر لَيْلًا هنا يضفي على الصورة ظلا من الهدوء والسكون زيادة في توضيح الزمان. ويترك للإنسان أن يتصور هذه الحركة السارية في الليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، في سكون الليل ويد الله تحمل عبده ورسوله من مكان إلى آخر، فيشعر بالهيبة والجلال، أمام قوة الله القادر على كل شيء، كما أن ربط المسجد الحرام بالمسجد الأقصى، في هذه الحادثة، يرمز إلى أن الإسلام هو خاتم الأديان السماوية. وتكتفي

الصورة بهذه الكلمات القليلة، ولا تزيد في التفصيلات لأنّ هذا الحدث من عالم الغيب فلا مجال للخوض فيه. ثم جاء التعقيب بقوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وكلمة السميع ترتبط بالتسبيح الصاعد إليه وكلمة البصير ترتبط أيضا بجوّ الرحلة في الظلام الساجي، وبذلك يتناسق تصوير الحدث مع التعقيب عليه. وترتبط حادثة المعراج بالإسراء، فهي أيضا صورة من عالم الغيب، نؤمن بها ولا نبحث عن تفاصيل الصورة ومن رحمة الله بالمسلمين أن صوّر لهم هاتين الحادثتين، وأطلعهم عليهما، ليكونوا على ثقة برسولهم وبمصدر تلقيه الوحي من السماء. يقول تعالى في معراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى السماء «2» أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى، ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى النجم: 12 - 18. وهذه الصورة غيبية شفافة، ليس فيها تحديد أو تفصيل، خص الله بها الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون واثقا من المصدر الذي يتلقى منه الوحي، وليكون شاهدا للبشر على حقيقة ما رأى من العالم غير المنظور. ولا مجال للحديث في الصورة الغيبية، لأنها تستمد عناصر تشكيلها من عالم غير محسوس. مثل سدرة المنتهى، وجنة المأوى- وجبريل، والآيات الكبرى، وكلّها مكوّنات غيبية غير محسوسة. ويبقى الأثر الذي تحدثه الصورة في النفوس، وهو شدة ارتباط الأرض بالسماء، فكل ما يحدث فيها هو بأمر الله، وهو مطلع عليه. وبذلك تلقي هذه الصورة الغيبية ظل الرهبة والخوف والمراقبة الدائمة لله سبحانه وتعالى. وهذا ما نراه مؤكدا في تصوير الحوادث عامة. وقصة المرأة التي ظاهرها زوجها وتشتكي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وتحاوره، تؤكّد أيضا ما ذكرناه من اطلاع الله على أفعال عباده، وأقوالهم ومشاعرهم فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، يقول الله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ المجادلة: 1. وهذه الصورة المجملة للحادثة تدلّ على حضور الله سبحانه مع الناس، وما يصيبهم من مشكلات، وتدلّ على رعايته وتوجيهه لكل حدث في الأرض، صغير أو كبير، وهي أيضا

_ (2) صفوة التفاسير: 3/ 273 - 274.

صورة فريدة لهذا الاتصال بين الأرض والسماء، فالله هنا يسمع شكوى امرأة، ويقرر حكما شرعيا ثابتا من خلال حادثتها وهو «حكم الظهار». ونلاحظ في الصورة الإلحاح على حضور الله، فهو قد سمع قولها وجدالها، وسمع أيضا شكواها، وسمع الحوار الدائر بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعقب على تصوير الحادثة بأنه سميع وبصير في نفس الوقت، فهو يسمع كل ما يحدث، ويراه أيضا. ويمتاز تصوير الحوادث بالصدق والواقعية بالإضافة إلى ما ذكرناه من سمات. ففي قصة عبد الله بن أم مكتوم الأعمى، حين جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يعلمه، وكان الرسول مشغولا مع كبار قريش يدعوهم إلى الإسلام، فعبس في وجهه، وأعرض عنه. نرى هذه الحادثة مصوّرة في القرآن الكريم، بكل ما فيها من إعراض، وعتاب، وتوجيه. يقول تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى، وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى، وَهُوَ يَخْشى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى، كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ ... عبس: 1 - 11. ويعتمد تصوير الحادثة على أسلوب الغائب في البداية، إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذكر في سياق فيه عبوس وإعراض، كما أن الصورة تجسّم شعور رسول الله في تلك اللحظة بالعبوس والإعراض، ثم يلتفت بعد ذلك إلى مخاطبته مباشرة مع التوجيه، وتشتد لهجة العتاب، حتى تبلغ ذروتها في كلمة الردع والزجر «كلا». ومن أشد الحوادث التي عصفت ببيت النبوة «حديث الإفك» وقد صوّر القرآن الكريم ذلك بصدق وأمانة لإبراز الحقائق الدينية من خلال تصويره، يقول تعالى: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ النور: 15. هذه الصورة، ترسم حركة الألسنة والأفواه هنا لأنها آلة الحديث ووسيلته، كما أن التركيز عليها يوحي بإلقاء الحديث ورميه باستهتار وخفّة، دون تثبّت أو شعور بأثر الكلمة والأفعال المضارعة المكررة في الصورة، تحيي المشهد، وتستحضره من الماضي إلى الحاضر، لتسلّط الأضواء عليه، وتبرز الحقائق من خلاله، وتحذر من هذا السلوك غير المسئول في المجتمع الإسلامي. ثم تربط الصورة بين هذا المشهد لهؤلاء الناس الذين تداولوا حديث الإفك بالشيطان،

فهم في سلوكهم المشين هذا يتبعون خطا الشيطان، يقول تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ النور: 21. فالشيطان هو الذي يقودهم في هذا الحديث الآثم، وهم يترسمون خطاه فيه، وكان الأجدر بهم أن ينفروا من وساوس الشيطان، واتباع خطواته، وإيراد صورة الشيطان في تصوير الحدث، تنفّر المؤمن من الخوض في مثل هذا الحديث، وكلّ حديث آخر لا علم له به. ثم يشتد التصوير المحذّر لأولئك الذين أثاروه يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ النور: 23 - 24. ونلاحظ هنا تجسيم الأقوال الآثمة في صورة مادية هي الرمي بالسهام يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ ... وصورة رمي السهام على المحصنات المؤمنات وهن غافلات عما يجري حولهن، توحي ببشاعة هؤلاء الرماة الجناة الذي يروّجون لهذا الحديث الآثم. ثم يأتي التحذير عن طريق التصوير يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ .... فهؤلاء لهم عذاب عظيم يوم القيامة، وتقوم جوارحهم بالشهادة عليهم بما ارتكبوه من إشاعة هذا الحديث الباطل، وحواسهم التي استخدموها في الترويج هي نفسها التي ستشهد عليهم. وأحيانا يلجأ التصوير إلى بيان أثر الحدث في النفوس، ثم يعود متدرجا لتصوير بداياته، كما نرى في تصوير حادثة «تحويل القبلة» من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام. يقول الله تعالى في ذلك: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ البقرة: 142. فالصورة تبدأ في نقل الحدث، من أثره في نفوس اليهود، ويوصفون بالسفهاء، لاحتجاجهم على ذلك، لأنهم كانوا يستغلون اتجاه المسلمين إلى الأقصى في دعم عقيدتهم المحرّفة، فحين تحوّل المسلمون إلى الكعبة، لم يبق بين أيديهم حجة، يرفعونها في وجه الإسلام لدعم ديانتهم. وصورة امتلاك الله لكل الجهات المشرق والمغرب، صورة ضخمة موحية بهذه الملكية غير المحدودة والجهات كلها لله، والاعتراض في غير محله بعد ذلك. ثم يتدرّج التصوير عائدا إلى بيان الحكمة الإلهية من وراء الاتجاه إلى الأقصى أولا

يقول تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ البقرة: 143. فقد أراد الله اختيار العرب الذين كانوا يقدسون المسجد الحرام، فجاء الاتجاه إلى المسجد الأقصى لتجريد المؤمنين من كل ما يلتبس في النفوس من العادات القديمة أولا، ثم ليدرّب المؤمنين على الطاعة لله، رغم أعرافهم وتقاليدهم التي ألفوها من تقديس للمسجد الحرام، وليعلم من يطيع الأوامر ممن ينقلب على عقبيه أخيرا. فلما تجردت النفوس لله واتجهت حيث أمرها الله، جاء الأمر بالتحوّل إلى الكعبة استجابة لتضرّع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى في تصوير تضرّع الرسول من أجل ذلك: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ... البقرة: 144. وتعتمد الصورة على الفعل المضارع نَرى لإحياء المشهد وجعله شاخصا حاضرا، وهو في صيغة الجمع يوحي بالتعظيم لله سبحانه لأنه هو الذي يرى، كما أن الصورة تعتمد على المصدر تَقَلُّبَ ولا تعتمد على الفعل للإيحاء باستمرار الحدث، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان دائم التضرع والدعاء لكي يلبي الله رغبته في التوجه إلى الكعبة قبلة إبراهيم عليه السّلام، ولكن الصورة لا تصرّح بذلك، ولا تذكر بماذا كان يدعو حتى أجيب طلبه. ويصوّر القرآن الكريم أيضا «مسجد الضرار» الذي بناه المنافقون في المدينة، ليتخذوه مقرا للتآمر والكيد، ضد المسلمين، وسموه «مسجدا» زيادة في التمويه وإخفاء أغراضهم في انتظار عدو الله الفاسق، لمقاتلة المسلمين كما ورد ذلك مفصلا في كتب التفسير «3»، وقد أمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم بهدمه. يقول الله تعالى مصورا نيات المنافقين من بنائه، وأثر هدمه في نفوسهم: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ التوبة: 109. والفارق كبير بين البناءين، بناء يعتمد على قاعدة قوية من الحق والإيمان والتقوى، وهو مسجد قباء، وبناء آخر يعتمد على قاعدة رخوة ضعيفة من الباطل والنفاق وهو مسجد الضرار. ويصور القرآن مسجد الضرار وهو مبني على شفا جرف هار، فهو يهتز ويتأرجح لأنه

_ (3) انظر صفوة التفاسير: 1/ 561. والكشاف: 2/ 213.

على حافة الهاوية، وتربته رخوة أيضا، وبلمحة خاطفة انهار في نار جهنم. يقول الزمخشري: «فإن قلت: فما معنى قوله فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ؟ قلت: لما جعل الجرف الهائر مجازا عن الباطل قيل: فانهار به في نار جهنم على معنى فطاح به الباطل في نار جهنم إلّا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو الجرف، وليصور أن المبطل كأنه أسس بنيانا على شفا جرف من أودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهوى في مقرها» «4». ثم يصور القرآن أثر هدمه في نفوس بناته المنافقين لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ التوبة: 110. وبعد هدم الصورة الحسية للنفاق، تبقى الصورة النفسية في الكيد والنفاق والتآمر، حتى تقطع قلوبهم وتمزّقها أيضا، وتلقى في النار، كما انهار بناؤهم في النار. وتتقابل الصورة الحسية للنفاق، والصورة النفسية عن طريق التماثل والتشابه، لتحذير المسلمين من صور النفاق المحسوسة، والصور الخفية غير المحسوسة. وهكذا نلاحظ من تصوير الحوادث التي وقفنا عندها، أن الصورة القرآنية في نقل الحوادث والوقائع تهمل ذكر أسماء الأشخاص، وتركّز على تصوير النفوس والطباع، لتجعلها نماذج ماثلة في الأذهان دائما. كما أن الصورة لا تذكر التفصيلات لكل حدث، وإنما تركّز على الحقائق الدينية الثابتة، وتربط الحوادث بقدر الله النافذ كما أنها تجسّم المشاعر الإنسانية تجاه الأحداث، وتلقي الأضواء على خفايا النفوس، وتتخذ من هذا التصوير وسيلة للتوجيه ومعالجة النفوس، وتربية الأمة بالأحداث وصقلها، وإعدادها حتى تكون في النهاية على منهج الله سلوكا وفكرا وتصورا وشعورا. وبذلك ترتبط الصورة هنا، بالصور القرآنية الأخرى ضمن نظام العلاقات الفكرية والتعبيرية والتصويرية لتحقيق وحدة الرؤية الدينية لكل القضايا، والأحداث في هذه الحياة.

_ (4) الكشاف: 2/ 215.

الفصل الخامس القصص الماضية

الفصل الخامس القصص الماضية رأينا في الفصل السابق كيف تناولت الصورة الحوادث الواقعة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، مركّزة على بعض الجوانب فيها، وذلك لإظهار الحقائق الدينية من خلالها. ولكن الصورة لا تتوقف عند الحوادث الواقعة في زمن نزول القرآن الكريم، وإنما تتجاوز ذلك، للتعبير عن الحوادث الماضية، الممتدة في الزمان والمكان، عبر تاريخ البشرية الطويل، وذلك لإبراز موقف البشرية من دعوة الرسل، وإظهار الحقائق الدينية من خلال التصوير القصصي. وذلك لأن القصة من أكثر الأساليب الفنية تأثيرا في النفوس، يرى فيها الإنسان، ما يراه في حياته من أحداث، وأشخاص، وصراع، وحوار. فسحرت بذلك النفوس، وأسرت القلوب. وقد يرجع التشويق في القصة إلى تعدد مشاهدها، وتنوّع حوادثها، وتباين أشخاصها، وطريقتها الفنية في حبك الأحداث، ونموّها، وتصوير شخصياتها من النواحي النفسية والجسمية والسلوكية والفكرية، ونشاط الخيال في ملء فجواتها الفنية بين المشاهد، والمشاركة الوجدانية لبعض الشخصيات، وانفعال القارئ بالمواقف والحوادث حين يتخيل نفسه وسط هذه الأحداث والصراع. لهذا كانت القصة هي الأسلوب المفضّل لدى الإنسان في القديم والحديث. والقرآن الكريم يراعي هذا الميل الفطري للإنسان نحو القصة، فيتّخذها وسيلة فنية، لتحقيق أغراضه الدينية.

لذا نجد كثرة القصص في القرآن الكريم، إلى جانب الأساليب الأخرى، تتفاعل معها، وتتواصل في نقل الحقائق الدينية. والقصة في القرآن الكريم تتميّز عن غيرها من القصص الفنية، بموضوعها الديني، وأسلوبها الرفيع الملائم لسمو القرآن الكريم، وأشخاصها، وحوادثها ... فهي قصة فنية ذات هدف ديني بحت، ولكنها تفي بكل العناصر الفنية للقصة «1». فقصص الأنبياء والرسل، تهدف إلى تحقيق غرض ديني من عرضها في القرآن، ولكن هذا الغرض الديني لم يخلّ بالجانب الفني فيها، بل إن الجانب الفني قد وظّف توظيفا دقيقا في سرد هذه القصص لتحقيق هذا الغرض. وهي قصص تاريخية، ولا يمكن التشكيك فيها لقوله تعالى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ يوسف: 111. والفن في هذه القصص، يكمن في صدق تصوير الأحداث، والدقة في عرضها، وإحياء مشاهدها. وليس الفن فيها اختلاقا أو تخيلا لأحداث لم تقع بقصد تحقيق التأثير النفسي للعظة والعبرة، كما زعم ذلك الدكتور محمد أحمد خلف الله في كتابه «الفن القصصي في القرآن» «2». وحين تهمل القصة تحديد الزمان والمكان، وأسماء الأشخاص والتعريف بهم، فإن ذلك يرجع إلى خصوصية القصة القرآنية، ذات الهدف الديني، فهي لا تهدف إلى التأريخ للأحداث، أو الإمتاع الفني المجرد، بل إنها ترمي إلى بيان رسالة الله للبشر، وموقف الناس منها على مدار التاريخ، لذلك فإنها: «ليست عملا فنيا مستقلا في موضوعه، وطريقة عرضه، وإدارة حوادثه، كما هو الشأن في القصة الفنية الحرة التي ترمي إلى أداء غرض فني طليق- إنما هي وسيلة من وسائل القرآن الكثيرة إلى أغراضه الدينية. والقرآن كتاب دعوة دينية قبل كل شيء، والقصة إحدى وسائله لإبلاغ هذه الدعوة وتثبيتها» «3». ومن الخطأ أن ننظر إلى القصة في القرآن، من خلال المقاييس الفنية المستخلصة من

_ (1) انظر «القصة في القرآن» في كتاب التصوير الفني في القرآن. ص 143 وما بعدها. (2) الفن القصصي في القرآن الكريم: الدكتور محمد أحمد خلف الله. ص 28. (3) التصوير الفني في القرآن: ص 143.

القصة الفنية الطليقة، لأن القصة القرآنية متميّزة بغرضها الديني، وخاضعة له «ولكن هذا الخضوع الكامل للغرض الديني، ووفاءها بهذا الغرض تمام الوفاء لم يمنع بروز الخصائص الفنية في عرضها، ولا سيما خصيصة القرآن الكبرى في التعبير وهي التصوير» «4». فالهدف الديني هو الغاية من القصة في القرآن، وليس التأريخ، لهذا لا نجد فيها تحديدا للأزمنة والأمكنة التي وقعت فيها الأحداث، كما لا نلاحظ عناية في تصوير السمات الحسية للشخصيات، وذكر أسمائهم. بل إن الأحداث في القصة، لم ترد في سياق واحد مجتمعة- ما عدا قصة يوسف- وإنما جاءت موزّعة في أنساق تعبيرية تقتضيها، لتحقيق الغرض الديني منها. ولكن هذه الحلقات الموزّعة للقصة الواحدة مترابطة ومتناسقة ومتكاملة، بحيث لو جمعناها، لتكوّنت القصة متكاملة بأحداثها وأشخاصها وهذا ما يؤكد قيام القصة في القرآن على نظام العلاقات التصويرية والتعبيرية والفكرية. حتى تتكون من ذلك كلّه قصة متكاملة ذات نسيج موحّد، شأنها في ذلك شأن الصورة القرآنية عامة، كما رأينا في الفصول السابقة، ونؤكّده فيما يأتي من فصول قادمة في هذا الكتاب إن شاء الله. وقد أثّر الغرض الديني للقصة في بنائها الفني وتركيبها، وطريقة عرضها، وطولها وقصرها، ورسم شخصياتها. وتأثير الغرض الديني نلاحظه أولا في تكرار القصة، لتحقيق الغرض الديني، والتأثير النفسي، ولكن التكرار لا يتناول القصة بأكملها من بدايتها إلى نهايتها، وإنما يلتقط منها حلقة من حلقاتها بقصد الإشارة إلى موضع الاعتبار فيها، ضمن سياق يقتضيه، مثل قصة «موسى» عليه السّلام التي تعدّ من أكثر القصص تكرارا في القرآن الكريم، وذلك لأن موسى عليه السلام قريب عهد بالرسالة المحمدية، وقصته حاضرة في أذهان العرب آنذاك، والمشابهة بين موقف فرعون من موسى وموقف العرب من رسول الله واضحة، وهي موحية بالنصر لدعوة الله في نهاية المطاف، على الرغم من كل الجهود التي بذلها فرعون، لإيقافها، وكذلك ستكون النتيجة بالنسبة للعرب مماثلة لإهلاك فرعون وجنوده. كذلك فإن وجود اليهود في مجتمع المدينة المنورة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، يقتضي توضيح

_ (4) التصوير الفني: ص 143.

طبيعتهم، وتعريف المسلمين بأساليبهم الماكرة لكي يحذروهم. ثانيا: في طريقة عرض القصة لأحداثها. فأحيانا يبدأ العرض من الحلقة الأولى للقصة إذا كانت فيها عظة واعتبار، كقصة آدم وعيسى مثلا. وقد تعرض حلقتها المتأخرة مثل قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب. ثالثا: في طول القصة وقصرها، فالطول والقصر يتبعان أيضا الغرض الديني، ويخضعان له. فقصة موسى عليه السلام ترد مفصّلة من بدايتها إلى نهايتها، فتبدأ من ولادته ثم نشأته في بيت فرعون ثم فراره إلى مدين، ثم عودته إلى مصر لدعوة فرعون وقومه ثم في نهاية فرعون وجنوده بالموت غرقا. كذلك قصة «يوسف» مكتملة بأحداثها وأشخاصها، مفصّلة بحلقاتها، في سورة واحدة. وهناك قصص موجزة، ورد منها ما يتعلق بالرسالة فقط، وموقف الناس منها. مثل قصة هود- وصالح ولوط وشعيب. وقصص أخرى موجزة جدا كقصة زكريا، وأيوب، ويونس. وهناك قصص يشير إليها ولا يروي شيئا عنها مثل قصة إدريس، واليسع، وذا الكفل. رابعا: في إهمال تصوير الجانب الحسي للشخصية، وكذلك تصوير المكان وتحديده، وكذلك تحديد الزمان إلى آخر ما هنالك من ظواهر تأثير الغرض الديني في بناء القصة وتركيبها وطولها وقصرها «5». بالإضافة إلى التوجيهات الدينية الصريحة الواردة في أثناء عرض القصة، أو في التعقيب عليها، ولكن خضوع القصة للغرض الديني، لم يؤثر في بنائها الفني، وتصويرها للأحداث والأشخاص، وتصوير العواطف والانفعالات البشرية. فالعناصر الفنية متوفرة في القصة القرآنية، تشدّ القارئ إليها، والتفاعل مع أحداثها وحوارها، ولكن هذه العناصر الفنية، تنبع من طبيعة القصة القرآنية، وليس من خارجها، فلا تقاس بمقاييس القصة الفنية المعروفة في النقد الحديث، لأن لها خصوصية في موضوعها وأسلوبها وطريقة بنائها بما يتوافق مع أغراضها الدينية، وهي في النهاية تحقّق

_ (5) انظر التصوير الفني: ص 155 وما بعدها.

التأثير الوجداني من خلال توفير عناصر فنية فيها. وقد اعتمدت القصة على التنويع في أسلوب العرض للأحداث، فمرّة تبدأ بإعطاء موجز عن الأحداث لتهيّئ الأذهان، وتشوّقها إلى العرض المفصّل بعد ذلك كقصة أصحاب الكهف. ومرّة تضع مغزى القصة، أو نهايتها قبل العرض المفصّل، كما في قصة يوسف حيث نلاحظ أن أحداثها المفصّلة، جاءت بمنزلة تفسير لرؤيا يوسف في بداية القصة. وأحيانا تعرض القصة بعد مقدمات. كقصة مريم. وقد يشير أحيانا ببعض الألفاظ لبداية العرض، ثم يترك القصة تعبر عن نفسها كقصة إبراهيم وإسماعيل في بناء الكعبة. وكما تنوّعت طرق العرض للأحداث، تنوّعت أيضا طرق «الإثارة الفنية»، وذلك بالاعتماد على عنصر المفاجأة المؤثّر في النفوس. فقد تكون المفاجأة لبطل القصة والقرّاء معا، كما في قصة «موسى والرجل الصالح» في سورة الكهف، وقصة مريم، وقد تكون لأبطال القصة وليس للقراء، لأنهم يعرفون السرّ مسبقا مثل «قصة أصحاب الجنة». وغالبا ما يكون ذلك لتحقيق السخرية والتهكم. وقد تكون المفاجأة موزّعة بين البطل والقراء في مواضع مختلفة مثل قصة عرش بلقيس. كذلك هناك الفجوات الفنية متروكة بين المشهد والمشهد ليقوم الخيال بملء هذه الفجوات. ولا يخفى ما في هذه الفجوات بين المشاهد القصصية من إثارة للخيال، ومتعة فنية. وهذه الخصائص الفنية متبعة في القصة القرآنية التي ترمي إلى تحقيق أغراض دينية، فهي تهمل مشاهد، وتركّز على مشاهد معينة، يكون فيها الغرض الديني واضحا. فقصة يوسف عليه السلام مثلا. مليئة بالمشاهد ترك بين مشهد ومشهد فجوات فنية، لإثارة الخيال، وتحريكه، ليملأ هذه المشاهد بما يتفق مع السرد القصصي. ويعد التصوير الفني للأحداث والشخصيات أهم العناصر الفنية في القصص القرآني، فهو الذي يقوم بنقل الحوادث، ويجسّم العواطف والمشاعر الإنسانية، ويصوّر الشخصيات، فيجعل القصة حية شاخصة بأحداثها وأشخاصها، وليست مجرد قصة تروى. يقول محمد يوسف نجم في دور التصوير في القصة: «والصورة البيانية المشرقة لها

أ - تصوير الأحداث

خطرها في تقويم العمل الأدبي عامة، أمّا في القصة، فإن لها شأنا آخر، إذ يجب أن تكون وظيفيّة أي أن تجمع بين الفائدة القصصية، والروعة البيانية» «6». والصورة القرآنية، تحقق هذه الوظيفيّة التي أشار إليها الدكتور محمد يوسف نجم في عبارته الآنفة الذكر. فهي تؤدي أغراضا دينية في تصوير القصص كإثبات الوحي والرسالة، ووحدة الرسل، ووحدة الرسالة السماوية، والمواقف المتشابهة للناس من دعوة الرسل، وانتصار دعوة الله في نهاية المطاف، بتدمير الكافرين ... الخ في الوقت الذي تؤدي وظيفة فنية أيضا، وبتلاحم الغرض الديني والغرض الفني، يتحقق الأثر النفسي الذي يعدّ «الطاقة المحركة فيها» «7» كما يقول محمد يوسف نجم. فتصوير الأحداث والشخصيات والمشاعر الإنسانية، يؤدي إلى تحقيق هذا الأثر النفسي الذي يبقى في النفوس بعد قراءة القصص القرآني. ويصعب الوقوف على جميع القصص القرآني الواردة في القرآن، لغزارتها، فهي تحتاج إلى عمل آخر مستقل ويكفينا هنا أن نقف على وظيفة الصورة في رسم الأحداث والشخصيات والعواطف الإنسانية، لأن هذا هو بحثنا في هذا الكتاب. وسوف أتوقّف عند بعض القصص، لكي أوضّح وظيفة الصورة من خلالها، حسب الفقرات الآتية: أ- تصوير الأحداث تعتبر الأحداث عنصرا هاما من عناصر القصة، وهي مرتبطة بعنصر آخر، هو «الشخصيات»، فهما العنصران البارزان في كل قصة، إذ لا يمكن أن نتصور أشخاصا بلا أحداث تجري في حياتهم، ولا أحداثا بلا أشخاص، ولكن يلاحظ في القصة القرآنية غلبة أحد العنصرين على الآخر أحيانا. فقد تبرز الأحداث فيها، ويشتد التركيز عليها، لأنها هي موضع العظة والاعتبار، ولكن هذا لا يعني خلوّها من العنصر الآخر مهما كان. والأحداث في القصة القرآنية، ذات طبيعة خاصة، تظهر فيها قدرة الله سبحانه،

_ (6) فن القصة: محمد يوسف نجم، ص 115. (7) فن القصة: 14.

وأثرها في حياة الإنسان. وتصوير الأحداث في القصة يعتمد على عرض قضية الإيمان والكفر منذ فجر البشرية، ويعاد عرض هذه القضية في كل قصص القرآن، لأنها هي القضية الأساسية في الأديان جميعا. فالبشرية تنحرف عن الفطرة، وتضلّ، وتكفر بالله الذي خلقها، فيرسل الله الرسل لهداية البشر، ولكنّهم لا يستجيبون لدعوة الرسل، ويقفون موقفا منكرا للحق المبين، ويستمرّ الرسل في دعوتهم، ويصرّ الكافرون على كفرهم، ويحاربون رسل الله حربا مادية ومعنوية، فتبدأ مرحلة المواجهة بين أهل الإيمان والكفر، فيتدخل الله سبحانه، فينصر رسله، ويدمّر الكافرين. وتكاد هذه الأحداث أن تقع لكل رسول مع قومه، كما يصوّرها القرآن، والغاية من تصوير هذه الأحداث على هذه النحو أن يوضح للمشركين ما جرى لأسلافهم المكذبين بالرسل من دمار وهلاك، وينذرهم عاقبة كفرهم، مثل عاقبة أسلافهم المكذبين، وفيها تطمين للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، بأن الله معهم، وأن النصر لهم في النهاية. وتصوير الأحداث في القصة متنوّع، فأحيانا تعرض الأحداث بشكل موجز وسريع في قصص مختلفة لأن الغاية هي إثبات وحدة الرسل والرسالات. فنحن نجد في سورة «الصافات» مجموعة من الأحداث القصصية المتوالية، عرضت بإيجاز وسرعة، لتحقيق أغراض دينية، وهي تدور حول وحدة الرسل والرسالات، وموقف الناس على مختلف الأجيال والبيئات من دعوة الرسل، ثم نتائج التكذيب هي التدمير للمكذبين، وهذا ما نراه في قصة نوح وإبراهيم وإسماعيل، وموسى وهارون، وإلياس، ولوط، ويونس، وتنفرد قصة يونس بإيمان قومه، وهي معروضة في هذا السياق، لبيان عاقبة المؤمنين إلى جانب عاقبة المكذبين وعرض هذه الأحداث بهذه السرعة الخاطفة، مثير لمخيلة الإنسان، ليستحضر هذه الأحداث، ويتفاعل معها ويتصور موقعه فيها، بعد أن اتّضحت له العواقب لأهل الإيمان، والكفر. ويبدأ تصوير الأحداث في هذه السورة بقصة نوح عليه السلام لأنه يعد الأب الثاني للبشرية، ويلاحظ تركيز التصوير على حدث الطوفان، لأنه حاضر في ذاكرة الناس، فإحياء صورة الطوفان من أجل تحقيق التأثير الديني، يقول تعالى: وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ،

وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ، وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ الصافات: 75 - 82. فالأحداث معروضة هنا من نهايتها تقريبا، حين يئس نوح من قومه، فدعا عليهم، فأغرقهم الله، ويسدل الستار على الأحداث بإغراقهم دون تفصيل. وكأن تصوير الأحداث على هذا النحو السريع، قصد به تطمين الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، بأن الله يستجيب له دعاءه في اللحظة المناسبة، وأن القوة الفاعلة في الكون والحياة هي قوة الله، وأن الله ينصر دعوته والمؤمنين بها. كما أنّ تكريم الله لأنبيائه واضح في التعبير والتصوير على حدّ سواء، فالله قريب من رسوله، يستجيب دعاءه، وينجيه، وأهله والمؤمنين معه، وبقاء ذريته من بعده، وتكريمه بالسلام والإحسان والإيمان، وإغراق أعدائه. والتصوير للأحداث على إيجازه، يترك للخيال أن يستحضر بقية الأحداث، من خلال بعض الإيحاءات فالدعاء يوحي بما قبله من أحداث ودعوة وتكذيب وعناد، والطوفان يوحي بالسفينة كما جاء ذلك مصوّرا في آيات أخرى. ويطول تصوير الأحداث في قصة إبراهيم، ضمن هذا الشريط السريع، لأن إبراهيم عليه السلام جدّ العرب فكأن القرآن الكريم أراد من وراء هذا التصوير أن يضع أمامهم قصة جدهم إبراهيم، ودعوته إلى التوحيد، ونبذ عبادة الأصنام، وذلك لدفع العرب إلى الاقتداء بجدهم الذي يزعمون الانتساب إليه. فيسلّط الضوء على الألوهية الجديرة بالعبادة من خلال حوار إبراهيم مع أبيه وقومه يقول تعالى: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ، أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ، فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ الصافات: 85 - 87. وعلى عقيدة التوحيد، وعجز آلهتهم المزعومة بقوله: فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ، ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ، فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ. قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ، قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ، فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ ... الصافات: 91 - 98. فالأحداث هنا موجزة، وتترك بقية الأحداث لإيحاءات التصوير والتعبير، ويتمّ التركيز

هنا على موضع العظة والاعتبار، في تصوير عجز الأصنام بصورة ساخرة مضحكة، فهي حجارة صمّاء، لا تنفع ولا تضر، وليس فيها مقوّمات الحياة من نطق وطعام، فكيف تستجيب لدعائهم، فما كان من إبراهيم إلا أن حطّمها. وتسليط الأضواء على الأصنام هنا، يشابه ما كان يواجهه الرسول صلى الله عليه وسلم من تمسك قومه بعبادة الأصنام، ورفضهم لدعوته. وحالة العرب في انحطاط تفكيرهم حين يتوجهون لهذه الحجارة، يشبه حالة قوم إبراهيم، وموقف الرسول صلى الله عليه وسلم هو موقف إبراهيم. فالأحداث تثبت وحدة الرسل، ووحدة دعوتهم إلى التوحيد، وموقف الناس من دعوة الله على مدار التاريخ. ولكن نهاية الأحداث توضح نجاة إبراهيم من النار، وفي ذلك تطمين للمؤمنين بأن الله معهم، ولن يتركهم لأعدائهم إن أخلصوا النية واتّبعوا منهجه. ويستمر تصوير الأحداث في قصة إبراهيم مع ولده إسماعيل، ليكون نموذجا لطاعة الأحفاد لأمر الله وانقيادهم لدعوة التوحيد. ثم يأتي بعد ذلك تصوير أحداث موسى وهارون مع فرعون وجنوده بإيجاز شديد، ويكتفي بهذا السياق بنجاة موسى وهارون وقومهما، ونصرهم على عدوهم فرعون، يقول تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ، وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ، وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ، وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الصافات: 114 - 122. ويتوالى تصوير الأحداث بإيجاز شديد، وتشابه في التعبير أحيانا، وتركيز على قضية التوحيد، وتدمير المكذبين يقول تعالى: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ، أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ ... الصافات: 123 - 125. ويقول تعالى في لوط وقومه: وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ، ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ، وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ الصافات: 133 - 138. فالحوادث المصورة متشابهة في دعوة الرسل إلى التوحيد، وتكذيب قومهم، وعاقبة التكذيب هي التدمير، ولكنّ القصة الوحيدة المعروضة ضمن هذه القصص، تخالف سير

الحوادث فيها هي قصة يونس. فقد آمن بيونس قومه، بعد معاناته الشديدة من تكذيبهم، وفراره منهم، وابتلاع الحوت له، وعفو الله عنه، وعودته إلى دعوة قومه حتى آمنوا به، يقول تعالى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ الصافات: 147 - 148. وتوحي قصة يونس ضمن هذا السياق، بأن الرسول مكلّف بتبليغ الرسالة السماوية على الرغم من تكذيب قومه، وأن الصبر على آلام الدعوة، قد يؤتي ثماره في النتائج، كما حدث ليونس عليه السّلام. وقد أثر الغرض الديني في القصص حتى في بنائها اللغوي، وتركيبها. فنحن نلاحظ التشابه في الصياغة في ختام كل قصة بقوله تعالى: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الصافات: 78 - 81، وبهذه الصياغة ختمت قصة إبراهيم وموسى وهارون وإلياس وهذه الصياغة توحي بتكريم الله رسله، المؤمنين المحسنين، وبامتداد الذكر الحسن لهم في الآخرين. وغالبا، تعرض أحداث القصة، موزّعة على حلقات في سور مختلفة، حسب ما يقتضيه السياق من التركيز على جانب من الجوانب الدينية الواردة في حلقة من حلقاتها. فقصة نوح مثلا موزّعة الحلقات على سور متعددة مثل نوح، الصافات، يونس، هود، الأعراف، العنكبوت. وقد بيّنا أن قصة نوح في سورة الصافات، قد عرضت من نهايتها باختصار شديد ضمن مجموعة من القصص الممتدة في الزمان والمكان، لبيان وحدة الرسالات السماوية، وتكريم الله أنبياءه، وعاقبة الكفر. وفي سورة نوح، نلاحظ تفصيلا أكثر للأحداث، لإبراز ضخامة الجهد المبذول في دعوة قومه، وضآلة المحصول النهائي للدعوة. ويعتمد تصوير الحوادث على أسلوب الدعاء، ومن خلال دعاء نوح، تتوالى الأحداث التي مرت بها الدعوة. وكأنّ هذا الأسلوب يوحي بأن نوحا يقدم لربه سبحانه، خلاصة عن الأحداث التي مرّ بها مع قومه ويركّز تصوير الأحداث، على دعوته لهم في الليل والنهار، ولكنهم ازدادوا فرارا منه ومن دعوته، وقد صوّر الفرار بوضع الأصابع في الآذان مرة، وتغطية الرءوس والوجوه مرة أخرى.

فقد ظلّوا على كفرهم وعنادهم، ولم يفدهم تنويع أسلوب الدعوة بين الجهرية والسرية، ولا أسلوب الترغيب في إغداق السماء عليهم إن آمنوا، والإمداد بالأموال والبنين والرزق الوفير في الجنات والأنهار، كذلك لم يفكّروا في المشاهد الكونية أمامهم، في السماوات الطباق، والقمر المنير، والسراج الوهّاج، والأرض المبسوطة، والفجاج المسلوكة، ولا في آيات خلقهم وإنشائهم، بل ظلوا معاندين مصرين على عبادة آلهتهم، ودّ، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسرا. ثم نلاحظ ارتفاع نبرة المناجاة، بعد تصوير كفرهم وعنادهم، وبلغت ذروتها في دعاء نوح عليهم، لأن كفرهم تجاوزهم إلى ذريّاتهم، فأصبحوا يورّثونه أبناءهم، وانقطع الأمل في هدايتهم بعد هذه السنين الطويلة من الدعوة، ولم يبق إلا عقابهم، فاستجاب الله دعاء نوح فأغرقهم، ولكن مشهد الإغراق في هذه السورة يعرض سريعا خاطفا ضمن المناجاة النفسية، والدعاء الخاشع، يقول تعالى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً نوح: 25. وفي سورة الأعراف، يدخل «الحوار» عنصرا من عناصر التصوير، لإحياء المشاهد القصصية، وترك الكافرين يعبّرون عن أنفسهم لفضحهم، وبيان مدى ضلالهم، ووقاحتهم في مخاطبة رسل الله، وبيان عاقبة تكذيبهم. ويركز تصوير الأحداث، على إبراز قضية التوحيد، يقول تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ، أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ... الأعراف: 59 - 62، إلى أن يقول فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ الأعراف: 64. كذلك يعتمد تصوير الأحداث لقصة نوح في سورة «الشعراء» على الحوار أيضا، مع إضافة أشياء جديدة لم ترد في الحوار السابق، فقد دعا قومه إلى الطاعة والتقوى، وأعلن أنه لا يطلب أجرا منهم، ولكنهم رفضوا دعوته لأنّ أتباعه من الفقراء، فطلبوا منه أن يطردهم، وحين رفض طلبهم، لجؤوا إلى تهديده، يقول تعالى: قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ الشعراء: 116، فدعا عليهم، فكانوا من المغرقين، يقول تعالى: قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ، فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي

الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ الشعراء: 116 - 120. وهنا نلاحظ أن الحوار في القرآن الكريم متنوّع، فقد يكون بين اثنين مثل حوار إبراهيم مع أبيه، وموسى مع فرعون وقد يكون بين واحد، وجماعة، مثل حوار نوح مع قومه. ولكن حلقة التحدي الأخير بين نوح وقومه، ترد في سورة أخرى هي سورة «يونس»، فقد تحداهم نوح في هذه السورة أن ينفذوا تهديدهم له بالقتل، وأن يستعينوا أيضا بآلهتهم في تنفيذ ذلك، زيادة في التهكم والسخرية من اعتقاداتهم الباطلة. يقول تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ يونس: 71. وكانت النتيجة أن كذّبوه، فأغرقوا جميعا، قال تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ يونس: 73. وتصوير النتيجة جاء سريعا خاطفا، ليدل على سرعة العقاب بعد التكذيب مباشرة والفلك تدلّ على وجود الطوفان. وتصوير الطوفان يرد مفصّلا في سورة أخرى، هي سورة «هود»، إلى جانب تصوير الأحداث الأخرى، فيبدأ تصوير الأحداث من أول القصة بقوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ هود: 25، ثم ينتقل مباشرة إلى كلام نوح على النحو الآتي: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ هود: 25، وهذا الانتقال السريع في التعبير، يحيي الأحداث، ويجعلها، كأنها حاضرة، معروضة في مشهد، وليست أحداثا ماضية تروى، ثم يتوالى تصوير الأحداث عن طريق الحوار المتبادل بين نوح وقومه، ويتضح من الحوار أن نوحا كان يدعوهم إلى توحيد الألوهية، ويخوّفهم عذاب يوم أليم، ولكنهم رفضوا دعوته، لأنه بشر مثلهم، وهو ما قالته قريش أيضا فيما بعد لرسول الله، وكذلك طلبوا طرد الفقراء من حوله وهو الطلب نفسه الذي طلبته قريش أيضا، ولكنه لم يستجب لهم، ثم إنهم أظهروا ضجرهم من دعوته لهم إلى التوحيد فتحدوه ساخرين أن يأتيهم بالعذاب الموعود، تماما كما كانت قريش تفعل برسول الله، وتهدده، وتسخر منه، وتتحداه أن يأتي بالعذاب. وهذا يثبت وحدة الرسالة السماوية، ومواقف الناس منها، وأساليبهم في معارضتها، وكأن تصوير هذه الأحداث، يهدف إلى بيان سنة الله أو منهجه في دعوة الرسل، ومواقف

الناس منها، ليزداد الرسول والمؤمنون معه اطمئنانا أنهم يسيرون على منهج الله في التبليغ والابتلاء، ولكنّ النتيجة هي النصر والتمكين بإذن الله. ويستغرق مشهد الدعوة والإنذار والجدل في توحيد الألوهية الآيات من 25 - 35. ثم يبدأ المشهد الثاني من الأحداث بتقرير مصيرهم بالإغراق، عقابا على تكذيبهم، فيؤمر نوح بصنع سفينة للنجاة، وكانوا كلّما مرّوا به، سخروا منه، يقول تعالى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ، وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ... هود: 37 - 38. ويلاحظ اعتماد التصوير على الفعل المضارع وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ، لإحياء الحدث، وكأنه حاضر ماثل في الخيال يتملّاه الآن، وقومه المتكبرون يمرون به ساخرين من عمله. ثم ينتقل تصوير الأحداث إلى مشهد آخر حيث نرى فيه نوحا يحمل في السفينة من كل زوجين اثنين، ويحمل أهله ومن آمن معه، وكانوا قلّة، يقول تعالى: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ... هود: 40. وصورة فوران التنور، صورة غيبية، لا نعرف ماهيّتها، ولكنها كانت مجرد علامة على بدء تعذيبهم بالإغراق. ثم ينتقل التصوير إلى مشهد السفينة، وهم راكبون فيها، وهي تشق أمواجا ضخمة كالجبال، وهذا التصوير يوحي بشدة الهول، وضخامة السيول، وغزارة الأمطار، ويترك للخيال أن يتابع مشهد السفينة وركابها وسط هذه الأهوال المادية والنفسية، أهوال في مشاهد الطبيعة، وأهوال نفسية مجسّمة في مناداة نوح ولده وسط هذه الأمواج، أن ينضم إلى ركاب السفينة المؤمنين، ولكنه لم يستجب فكان مع المغرقين، يقول تعالى: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ، قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ هود: 42 - 43. والتصوير هنا دقيق وموح فهو يشمل الأهوال الحسية الممثلة في أمواج كالجبال، وأهوال نفسية أيضا ممثّلة في خوف الوالد على ولده، والمشهد المرسوم حي شاخص، يعتمد على الفعل المضارع وَهِيَ تَجْرِي على طريقة القرآن في استحضار الحدث من الماضي إلى

الحاضر، ثم يبدأ استعراضه كأنه ماثل أمام العيون الآن، والحركة التصويرية السريعة في إغراق ولد نوح، بعد رفضه نداء أبيه له وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ، والانتقال من أسلوب النداء بين نوح وولده، ثم فجأة يأتي الفعل الماضي وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ ليرسم سرعة حركة الموج في إغراقه، حتى غدا ماضيا، بعد أن كان حاضرا في النداء مع أبيه، والعطف بالفاء فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ يؤكد سرعة الإغراق بين حركة الموج، وسرعة ابتلاعه. ثم يتوجه الخطاب الإلهي إلى الأرض فتؤمر بابتلاع المياه والسيول، وإلى السماء بالإقلاع عن المطر، وهذا على طريقة القرآن الكريم في تشخيص الأشياء الجامدة وبعث الحياة فيها، زيادة في قوة التصوير والتأثير. والإيحاء بالقدرة الإلهية المالكة لهذا الكون بأرضه وسمائه، ثم يخيّم السكون على الأرض بعد حركة الطوفان المدمرة والمرعبة، وترسو سفينة نوح على الجودي في مشهد تصويري رائع، عقب هذا الفوران والطوفان في الأرض والسماء، وداخل النفوس أيضا، ولا يهتم التصوير برسم ملامح الوجوه، وحالات النفوس، وسط هذه الأهوال، لأن هذا متروك للخيال أن يستحضره من خلال تصوير الأهوال المرعبة، فالتصوير هنا يركّز على الأحداث دون الأشخاص بقصد التخويف والتأثير من سوء عاقبة تكذيب الرسل. وترد أيضا حلقة من حلقات القصة في سورة «العنكبوت» التي تتعلق بطول مدة دعوته، وضخامة الجهود التي بذلها في سبيل هداية قومه، ولكن محصول هذه الدعوة كان ضئيلا إذا قورن بطول المدة، وضخامة الجهود التي بذلت في هذا السبيل يقول الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ، فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ العنكبوت: 14 - 15. وهكذا تتكامل حلقات أحداث القصة من خلال هذه السور المتعددة، لتحقيق أغراضها الدينية من خلال الأنساق التعبيرية التي تقتضيها من ناحية، وكي يكون قارئ القرآن على صلة بأحداث القصة، متفاعل معها، ومع التوجيهات الدينية المصاحبة لها من ناحية أخرى. فهذه الحلقات ليست قصصا مستقلة، وإنما هي حلقات قصة واحدة، وأحداث واحدة، لهذا فإننا نجد الترابط فيما بينها، والعلاقات التصويرية التي تشد الحلقة إلى الأخرى، حتى تتكون القصة المتكاملة بكل أحداثها، وحلقاتها، وأشخاصها، وإيحاءاتها الدينية والفنية.

وهذه هي طريقة القرآن الكريم في تصوير الأحداث القصة غالبا، تعرض في حلقات موزّعة على السور، حسب نظام العلاقات التعبيرية، والتصويرية والفكرية. في الأسلوب القرآني. وقصة «إبراهيم» عليه السّلام أيضا نراها موزّعة على السور التالية: العنكبوت- الأنبياء- الشعراء- البقرة- هود. ففي كل سورة من هذه السور، نجد تصويرا لأحداث حلقة من حلقات القصة. ففي سورة العنكبوت، نلاحظ التركيز على تصوير عقيدة التوحيد، ونبذ عبادة الأصنام، والإطالة في عرض هذه الحلقة، من الأحداث، لأن إبراهيم عليه السّلام يعدّ جدّ العرب، ولكن تصوير أحداث هذه الحلقة يظهر سوء الجزاء الذي قوبل به إبراهيم، فقد كان يدعوهم إلى التوحيد بالحجة والمنطق، ولكنهم قابلوه بأسلوب القتل حرقا في النار، يقول تعالى: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ ... العنكبوت: 24، ولكن مشهد النار يعرض هنا موجزا جدا، ليعرض في حلقة أخرى في سورة أخرى. وهذه الحلقة من قصته هنا، تتناسق مع قصة نوح قبلها من حيث الدعوة إلى التوحيد، وسوء مقابلة قومه له، ورفضهم دعوته. وفي سورة «الأنبياء» تبدأ الأحداث بتصوير رشد إبراهيم عليه السّلام، ورجاحة عقله، وقوة حجته وأسلوبه الحكيم في دعوة قومه وأبيه إلى عقيدة التوحيد، وقد عرض ذلك بالاعتماد على أسلوب الحوار بين إبراهيم وأبيه وقومه، فقد دعاهم إلى الإيمان، واستنكر عليهم عبادة الأصنام، وقد قدموا له حجة واهية في سبب عبادتهم لها، وهي أنهم يقلّدون آباءهم وأجدادهم في ذلك. وهذا يدلّ على جمود أذهانهم وعقولهم، لذلك ركّز إبراهيم في جوابه عليهم أن التقليد لا يكون في الضلال، ودعاهم إلى تفتيح عقولهم، ونبذ التقليد الأعمى وذلك بلفت حواسهم إلى الصور الكونية أمامهم في السماوات والأرض، ثم أعلن لهم أنه سيفعل شيئا ضد آلهتهم، ليوقظ عقولهم المتحجّرة. ثم ينتقل تصوير الأحداث إلى مشهد الأصنام المحطّمة، وهذا المشهد هو الدليل الحسي على بطلان عبادتها، لأنها لم تستطع أن تحمي نفسها، فكيف تحمي غيرها؟ ولكن عقولهم

المتحجرة لم تدرك ما وراء تحطيم الأصنام من دلالات فكرية ودينية، فراحوا يسألون عن الفاعل، ولم يلتفتوا إلى الحقيقة المحسوسة من وراء تحطيمها، وهذا يوحي بمنتهى الجمود والتحجر الذهني، لهذا حين سألوا إبراهيم عن الفاعل. ردّ عليهم بسخرية لاذعة من تصوراتهم، وطريقة معالجتهم للأمور، فطلب منهم أن يسألوها عن الفاعل. فشعروا بالخيبة، ومرارة السخرية في داخل نفوسهم، ولكنّ هذه المراجعة للنفس لم تطل فسرعان ما أجابوه أن أصنامهم لا تنطق. يقول تعالى في تصويرهم: ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ الأنبياء: 65. وحركة النكوس المصورة هنا تدل على خواء الرءوس من العقول والتفكير السليم. ويتضح ذلك في استدلالهم بحجة تظهر بطلان عبادة الأصنام، فهي حجة عليهم، وليست لهم كما يريدون. ويشتد إبراهيم عليهم، في عبادتهم لآلهة صمّ، لا تنفع ولا تضر، ولكنهم بدلا من أن يدركوا حقيقة الألوهية، فيؤمنوا بالله الواحد. أخذتهم العزة بالإثم، وأعلنوا تمسكهم بها، ولجؤوا إلى أسلوب التهديد، وهو أسلوب من لا يملك قوة الحجة والإقناع، يقول الله تعالى في ذلك: قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ، قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ... الأنبياء: 68 - 69. ونجد حلقة جديدة في قصة إبراهيم تعرض في سورة «الشعراء» وهي تصوير مقومات العقيدة على لسان إبراهيم وحواره مع قومه، وعرضه لصفات الله في الخلق والهداية، والإطعام والسقاية، والابتلاء والشفاء والإماتة والإحياء، وغفران الذنوب، وتذكيره باليوم الآخر، وما فيه من نعيم وعذاب، وهذا الجزء جديد، لم يعرض في أثناء تصوير أحداث قصة إبراهيم، وفي سياق التذكير بالآخرة يعرض علينا مشهدا من مشاهد القيامة، وهو حدث لم يقع، ولكنه يعرضه في سياق الأحداث، وكأنه قد وقع فعلا، وفيه نرى المشركين مع أصنامهم يواجهون مصيرهم في النار، بعد أن تكشفت لهم حقيقة الأصنام، فتركوا يواجهون عاقبة شركهم وكأنهم صاروا إليه فعلا. يقول تعالى في ذلك: وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ، فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ، قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ،

تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ، وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ الشعراء: 92 - 99. وهذه الحلقة الجديدة ملائمة للجوّ العام في تصوير الأحداث، وتصوير الأصنام وعقيدة الشرك، فهي ترسم النهاية المتوقعة للمشركين مع أصنامهم في النار. كما أنّ حلقة بناء إبراهيم للبيت مع ولده إسماعيل ترد في سورة البقرة، متناسقة مع الموضوع الواردة فيه والجوّ العام للسورة. يقول تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ... البقرة: 127 - 129. كما يعرض فيها حلقة أخرى جديدة في القصة وهي حوار إبراهيم مع الملك الكافر حول قدرة الله على الإماتة والإحياء يقول تعالى في تصوير هذا الحدث: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ البقرة: 258. فهذه الحلقة تعتمد على أسلوب المناظرة بين إبراهيم وهذا الكافر، ويتّضح منها قدرة إبراهيم عليه السّلام على سوق البراهين المفحمة، والأدلة المقنعة، إذ سرعان ما انتقل إبراهيم من دليل إلى أخر، حين رأى خصمه، قد حاول التضليل وإيهام الآخرين عن حقيقة الإماتة والإحياء، فجاءه إبراهيم بدليل آخر، من الكون المنظور، ليظهر الحقيقة الموضوعية التي لا يمكن لخصمه أن يدّعي امتلاكها، كما فعل في الدليل الأول، لهذا كانت النتيجة هي ظهور الحقيقة للجميع التي لا تقبل الجدل فيها «8». كذلك نلاحظ أن ما جرى بين إبراهيم مع الملائكة الذين جاءوا في صورة ضيوف، هذه الحلقة من قصته تعرض في سورة «هود». وقد أحضر إبراهيم لهم عجلا مشويا، على عادة العرب في إكرام الضيوف، ولكن ضيوفه لم يتناولوا الطعام، فأيديهم واقفة لا تمتد إليه، على الرغم من صورتهم المشابهة للبشر، فانتابه شعور الخوف منهم، فصرّحوا له بحقيقتهم، وبالمهمة الموكلة لهم في تدمير قوم لوط، وبشروه بإسحاق ويعقوب من امرأته العجوز ... وهكذا تبرز قدرة الله من خلال

_ (8) انظر مفهوم المناظرة في كتاب مقدمة في نظرية الأدب العربي الإسلامي: للدكتور حسين صديق. ص 261 وما بعدها.

تصوير الحدث في الإماتة والإحياء، وتتمثّل صورة الإماتة في تدمير قوم لوط، وصورة الإحياء في البشارة بالذرية الطيّبة الممتدة. وهكذا تتكامل مشاهد الأحداث أو الحلقات لقصة إبراهيم عليه السّلام، من خلال المواضع التي وردت فيها، حسب ما يقتضيه التعبير والسياق، حتى يتحقق الغرض الديني، من تصوير أحداثها الموزّعة على تلك السور، ولكنّ الترابط بين الأحداث ملحوظ، فكل حدث يكمل الآخر، حتى يتكامل بناء القصة الفنية بكل أحداثها وأشخاصها وإيحاءاتها كما بينّا ذلك في هذا الاستعراض لها. وقصة «موسى» عليه السّلام أيضا لا تخرج عمّا ذكرناه، من توزيع حلقاتها على سور القرآن الكريم «النازعات- طه- الشعراء- القصص ... إلخ». ويبدأ تصوير الأحداث في سورة «النازعات» من مناداة الله موسى بالواد المقدس، إلى خاتمة الأحداث في إغراق فرعون وجنوده. وبين هذه البداية وهذه النهاية وما بينهما من المدى الطويل، والحوادث الضخام تعرض الأحداث في آيات معدودة وسريعة، بما يناسب جوّ السورة وإيقاعها السريع، يقول الله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً، اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى، فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى، فَكَذَّبَ وَعَصى، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى، فَحَشَرَ فَنادى. فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى النازعات: 15 - 26. ويبدأ تصوير الأحداث هنا بالتمهيد الموحي هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى فهو حديث معروف، يجري على الألسنة، وبعد التمهيد، وتهيئة الأذهان لسماع أخبار ما جرى، يبدأ عرض الأحداث، بالنداء العلوي، المتضمن تكليف موسى بحمل الرسالة السماوية، وتعليمه طريقة دعوة فرعون باللين والتذكير، والإبلاغ. ثم ينتقل التصوير للأحداث لمشهد المواجهة مع فرعون، ويترك فجوات فنية بين المشهدين ليقوم الخيال باستحضارها من مواضعها أو أنساقها القرآنية الأخرى، وهذه طريقة قرآنية في تصوير الأحداث، عامة في القصص القرآني، لتحقيق الغرض الديني من سرد أحداث القصة في أنساق تستدعيها. ولكن فرعون لم يستجب لدعوة موسى على الرغم من الآية الكبرى أو المعجزة التي جاء بها موسى، ولم تذكر هنا وذكرت في مواضع أخرى مثل معجزة العصا، واليد البيضاء.

وأصرّ فرعون على ادّعاء الألوهية، ومواجهة موسى بالسحرة، ثم ينتهي المشهد بأخذ فرعون وجنوده وإهلاكهم جميعا. فتصوير الأحداث يمر في شريط سريع، يتمثل في توالي الأفعال: فَكَذَّبَ وَعَصى، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى، فَحَشَرَ فَنادى، فَقالَ ... والجمل القصيرة الخاطفة، لتسريع الأحداث لكي تتناسق مع جو السورة السريع. ونرى في سورة «طه» تفصيلا في تصوير الأحداث، يبدأ بمشهد موسى بالفلاة مع النداء العلوي يأمره بالتوحيد، والعبادة، ويذكره بالساعة ثم يجري على يديه المعجزات الحسية في عصاه ويده، لتطمينه بها في أثناء مواجهة فرعون، ثم يكلف معه أخاه هارون بالرسالة، ويتخوّف موسى وهارون من بطش فرعون، ويذكّره برعايته له حين كان طفلا. ثم يمضي تصوير الأحداث إلى مشهد المواجهة مع فرعون، وما جرى بينهما من جدل وحوار، حول العقيدة والإيمان، ثم تصوير مشهد موسى والسحرة، والإطالة في عرضه، لأنه مشهد التحدي، ينتهي بإيمان السحرة أمام الجموع المحتشدة، فيلجأ فرعون إلى أسلوبه في تهديدهم بالقتل ولكنهم لم يبالوا بتهديده، ثم تصوير مشهد إغراق فرعون وجنوده، وانتصار موسى والمؤمنين معه. يقول تعالى في ختام القصة بإهلاك فرعون: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ طه: 78. وفي سورة الشعراء، نجد تفصيلا مشابها لما في سورة طه، فتبدأ الأحداث من مشهد النداء الإلهي أيضا، ثم مواجهة موسى فرعون بالرسالة، والخوارق في العصا واليد البيضاء، ثم التآمر على موسى، وجمع السحرة في يوم الزينة، ثم إغراء فرعون السحرة بمضاعفة الأجر إن تفوّقوا على موسى، ثم مشهد التحدي بين موسى والسحرة وإيمان السحرة، وتهديد فرعون لهم، ثم جمع فرعون جنوده لقتال موسى والمؤمنين معه، ثم نهاية فرعون بالموت غرقا في البحر مع جنوده، ونجاة موسى والمؤمنين معه. ولكن هذه الأحداث على الرغم من التشابه بينها وبين الأحداث الواردة في سورة طه فإننا كما يقول سيد قطب: «لا نجد تكرارا في عرض القصة أبدا على كثرة ما عرضت في سور القرآن، لأن هذا التنويع في اختيار الحلقات التي تعرض، ومشاهد كل حلقة، والجانب

الذي يختار من كل مشهد، وطريقة عرضه كل أولئك يجعلها جديدة في موضع متناسقة مع هذا الموضع» «9». ويؤكد هذا القول أيضا ما نراه في سورة «القصص» من تركيز على تصوير أحداث ولادة موسى، والإطالة في عرض هذه الحلقة من القصة، لأنها تبرز قدرة الله في حمايته ورعايته، منذ الولادة، وتؤكّد أيضا على أن الشرّ لا جذور له، وأنه يحمل بذور فنائه، مهما طال أمد بقائه، أو اتّخذ الوسائل التي تؤمّن له الاستمرار والبقاء. وهذا المعنى كان يحتاجه المؤمنون في مكة وهم يواجهون بطش قريش وصلفها، فيزيدهم إيمانا وثقة في الانتصار على الباطل مهما طال أمده، لأن الله معهم يرعاهم ويحميهم كما حمى موسى ورعاه من بطش فرعون يقول تعالى في ذلك: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ ... القصص: 7 - 8. وفي سورة «الأعراف» تعرض حلقات جديدة من القصة مثل تعذيب بني إسرائيل على يد فرعون يقول تعالى: وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ ... الأعراف: 127. وتصوير أخذ الله فرعون وجنوده بأنواع من العذاب الحسي مثل السنين الشديدة، ونقص الثمار، والطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم. قال تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ ... الأعراف: 133. وتصوير أحداث أخرى بعد إغراق فرعون وجنوده، واستخلاف موسى وقومه المؤمنين. مثل مجاوزتهم البحر، ورؤيتهم قوما يعبدون الأصنام، وطلبهم أن تكون لهم آلهة مثلهم، ثم تصوير مناجاة موسى ربه، وطلبه رؤيته، واندكاك الجبل في أثناء تجلّي الله عليه، وسقوط موسى مغشيا عليه ثم تلقيه الألواح، ثم تصوير اتخاذ اليهود عجلا يعبدونه من دون الله، ثم عودة موسى وأخذه برأس أخيه وشدّه بعنف، وهارون يهدئ من انفعاله، ثم سكوت غضب موسى، وأخذه الألواح واختيار سبعين رجلا من صفوتهم، ثم تصوير نعم الله على

_ (9) في ظلال القرآن: 5/ 2589.

موسى وقومه، مثل تفجير العيون من الصخر الأصم، وتظليل الغمام لهم في الصحراء المحرقة، وإنزال الغذاء اللذيذ من المنّ والسلوى، وكلها معجزات غيبيّة، تدلّ على فضل الله عليهم، ولكن اليهود جحدوا هذه النعم كما هي طبيعتهم دائما، حين أبوا أن يدخلوا المدينة على هيئة محددة، فبدّلوا وعصوا، فاستحقوا العذاب من السماء، يقول تعالى في عذابهم: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ الأعراف: 162، فالسماء كما كانت مصدر النعم، هي مصدر العذاب أيضا. ثم تصوير احتيالهم على النصوص، وتأويلها بما يتفق مع أهوائهم، فمسخهم الله قردة وخنازير كل هذه الأحداث، حلقات جديدة من القصة تعرض هنا، مترابطة مع الحلقات الأخرى، لتكوّن قصة موسى، في بنائها الموحّد. والقصة الوحيدة التي عرضت كاملة هي قصة «يوسف» من حيث بناؤها الفني المكتمل بحوادثها التاريخية المتسلسلة وشخصياتها المتبانية والكثيرة، والصراع، والمنافسة، والحبكة القصصية الممثلة في نمو الأحداث حتى تصل إلى ذروة التعقيد أو العقدة القصصية، ثم في انفراج الأحداث نحو الحل، بالإضافة إلى عنصر الحوار، ودوره في تصوير الشخصيات، والعواطف البشرية، وعنصر التشويق، والمفاجأة أو الإثارة الفنية. وتبدأ الأحداث بالتمهيد لها برؤيا يوسف إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ... يوسف: 4. والتمهيد للقصة طريقة متبعة في كثير من القصص القرآني، وبعد هذا التمهيد، تبدأ أحداث القصة متوالية في مشاهد قصصية متلاحقة، بينها فجوات فنية، مقصودة ليملأها الخيال، ويستمتع باستحضارها في مواضعها. وتبدأ الأحداث من مشهد يوسف الصبي، يقص رؤياه على أبيه، وأبوه يطلب منه أن يكتم هذه الرؤيا عن إخوته. ثم يبدأ المشهد الثاني بإخوة يوسف، يتآمرون عليه حسدا وغيرة. ثم في المشهد الثالث، نرى أن المؤامرة ضده قد حبكت، واستطاعوا أن يحتالوا على أبيهم لاصطحابه، وفي المشهد الرابع نرى تنفيذ المؤامرة بإلقائه في الجب، وتبدأ محنة يوسف في أهوال الجب وظلامه، ولك أن تتخيل حالته النفسية والحسية وهو في قاعه العميق وحيدا.

وفي الخامس. نرى إخوة يوسف يواجهون أباهم بعد تنفيذ مؤامرتهم ولجؤوا إلى الكذب في إقناع أبيهم أنه أكله الذئب، واستدلوا بقميصه الملطخ بدم. وفي المشهد السادس نرى السيارة، يلتقطونه من الجب، ويذهبون به إلى مصر، ولك أن تتخيل مدى الدهشة التي أصابت السيّارة، حين أخرجت دلاء الماء صبيا من قاع الجب، وملامح الوجوه آنذاك. ثم يبدأ المشهد السابع في بيت العزيز، الذي يتعرض فيه لمحنة الإغراء بعد أن اكتمل شبابه جسما وعقلا، ولكن الله يخرجه سليما من المحنة، إذ انكشف للعزيز أن قميصه قدّ من دبر، وهذا دليل براءته من الخيانة للعزيز. ثم تتوالى الأحداث بتناقل نسوة المدينة الخبر، ويتحدثن به في مجالسهن، وتسمع امرأة العزيز ذلك ويبدأ المشهد الثامن باجتماع النسوة عندها، وخروج يوسف عليهن، فلما رأين جماله قطعن أيديهنّ من شدة الإعجاب والتأثر بالجمال. وتعترف امرأة العزيز أمامهن أنها راودته، بعد أن رأت تأثرهن بجماله أيضا، ولكنه لم يستجب، ولجأت إلى التهديد بالسجن، وفضّل يوسف السجن على الانحراف والخيانة. فالصورة تتناول هذه الأحداث بكل الصدق والواقعية، ولكنها لا تزيّن الانحراف باسم الواقعية، أو تعنى بالأوصاف المثيرة للشخصيات والهيئات والمواقف، وإنما تعرض الأحداث لتسليط الأضواء على الجوانب الإنسانية، وسمو الإنسان بمشاعره وسلوكه عن الوقوع في الرذيلة والمجون، لتوجيه هذه الأحداث، لتحقيق الأغراض الدينية من وراء التصوير القصصي. ويبدأ المشهد التاسع بدخوله السجن، وفي السجن يدعو إلى توحيد الله، وعبادته، ويعبّر الرؤيا لصاحبيه، ثم يحمّل أحدهم أن يذكره عند الملك، ولكن الشيطان ينسيه ذلك، لتزداد معاناته في السجن. ولكن عناية الله تدرك يوسف من جديد، فيرى الملك رؤيا، ويعجز الملأ عن تفسيرها، وهنا يفسّر رؤيا الملك، ويصدق تفسيره لها، ويطلب الملك يوسف، ولكنه يطلب منه أولا أن يتحقق من خبر النسوة حتى يثبت براءته، وهنا تعترف امرأة العزيز بأنها هي التي راودته وهو بريء فيخرج من السجن، ليصبح مسئولا كبيرا في الدولة، يدير الشئون الاقتصادية فيها. ثم يأتيه إخوته ويبدأ بذلك المشهد العاشر، فيعرفهم وهم له منكرون، ويحتال عليهم

ليحضروا له أخاه فيرجع إخوته إلى أبيهم، ويقنعونه أن يرسل معهم الأخ المطلوب، ويوافق أبوهم بعد تردد، وحين يلتقي يوسف بأخيه، يعترف له بأنه أخوه، ويبدأ المشهد الحادي عشر، بذلك، ويحتال مرة أخرى عليهم ليبقي أخاه عنده، فجعل السقاية في رحل أخيه، ويعود إخوة يوسف بدونه إلا كبيرهم فقد رفض العودة بدونه أو يأذن له أبوه بذلك. ثم يبدأ المشهد الثاني عشر، بعودة إخوته إليه من جديد وهنا يسألهم يوسف عما فعلوه بيوسف من قبل، وتنكشف الحقيقة، ويعرفون أنه يوسف، ويندمون على فعلتهم، ويبدأ المشهد الثالث عشر بعودة إخوة يوسف إلى أبيهم بقميصه فألقوه على وجهه فارتد بصيرا، ثم يبدأ المشهد الرابع عشر بعودة الأب والأبناء إلى يوسف، واستقباله لهم، وتذكيره أباه برؤياه التي تحقّقت في هذه الخاتمة للأحداث. فالقصة مبنية بإحكام من حيث البناء القصصي، فهي ذات موضوع واحد، وحبكة قصصية محكمة وشخصية يوسف هي الشخصية الرئيسة فيها، وتدور الأحداث من حولها، وهي ذات غرض واضح فعناية الله ترافق يوسف منذ أن كان صبيا، وفي الجبّ، وفي قصر العزيز، وفي السجن، وأن هذه العناية الإلهية به جاءت نتيجة استقامته وتقواه، فالاستقامة والتقوى تؤديان إلى التمكين في الأرض. ونلاحظ أن بين تصوير الأحداث القصصية كثيرا من الفجوات الفنية المتروكة قصدا ليملأها الخيال بنفسه، فمثلا يحذف من تصوير الأحداث، سنوات الرخاء في عهده، وإدارة يوسف لجهاز الدولة، كذلك لم تذكر سنوات الجدب، واكتفي بالإيحاء إليها، من خلال مجيء إخوة يوسف إلى مصر طلبا للطعام، كذلك لا نجد تصويرا للملك وحاشيته ونحو ذلك. وأحيانا يلجأ تصوير الأحداث إلى الاعتماد على الصور العنيفة، والإيقاع الشديد، والألفاظ الضخمة، لتحقيق التخويف، والتأثير الديني ونجد ذلك غالبا في تصوير مشاهد تدمير الكافرين. يقول الله تعالى في تصوير تدمير قوم نوح: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ، فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ

كُفِرَ، وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ القمر: 9 - 17. فصورة الطوفان هائلة مروّعة، تغمر الأرض كلّها، حتى كأن السماء أبواب مفتوحة يتدفّق منها الماء المنهمر. ولا ينزل بقدر، كما في الحالات الطبيعية، وبذلك نلاحظ تواصل هذه الصورة مع صورة المطر المنزل بقدر عن طريق التضاد، لإظهار الفروق بين الحالتين، والموقفين «10». وتعتمد الصورة هنا في رسم الهول على الفعل (فتحنا) الماضي ويسند فيها إلى الفاعل الحقيقي، لأنه هو الذي يملك هذا الكون بما فيه. ثم أَبْوابَ السَّماءِ تزيد الصورة وضوحا وهؤلاء من خلال الجمع للاسم وتقابل هذه الصورة المروّعة في السماء، صورة الأرض التي تماثلها أيضا في هولها وضخامتها، فالأرض كلّها فجّرت عيونا، ولم تفجّر فيها العيون. وهكذا ترتسم صورة الطوفان في الأذهان، من خلال صورة السماء والأرض المحيطتين بالبشر من فوقهم ومن تحتهم، وسفينة نوح لا تذكر هنا باسمها، وإنما توصف بأنها ذات ألواح ودسر أي مسامير، وذلك لفخامتها وتعظيم أمرها وسط الطوفان، فهي تجري برعاية الله وحمايته، كذلك لكي تتناسق الألفاظ الضخمة للسفينة، مع الجو العام للصورة الذي يميل إلى تضخيم الهول. ويلاحظ أنّ التصوير يعتمد على الأفعال الماضية في رسم مشهد الطوفان «كذبت- كذبوا- قالوا- فدعا- ففتحنا- فجرنا- فالتقى- حملناه- تركناها ... » لأن الحدث وقع في الماضي، ولكن التصوير يلجأ إلى الفعل المضارع ضمن هذا المشهد، في رسم حركة السفينة وسط الطوفان تَجْرِي بِأَعْيُنِنا لإحياء صورتها واستحضار عناية الله بها وبركابها المؤمنين، وسط هذه الأهوال. وإبراز صورتها من خلال هذا المشهد، لكي تحقق الصورة غرضها الديني في إنذار المكذبين، وتبشير المؤمنين. وبالطريقة التصويرية نفسها يتم تصوير تدمير عاد أيضا، يقول الله تعالى: كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ، إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ، تَنْزِعُ

_ (10) انظر صورة المطر المنزل بقدر في فصل «مشاهد الطبيعة» من هذا الكتاب.

النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ القمر: 18 - 22. ويبدأ تصوير مشهد تدميرهم، ببيان سببه أولا، وهو التكذيب، ثم يعقب عليه مباشرة بالاستفهام عن عذابهم، وذلك لتهويله وتضخيمه، وإثارة الخوف في النفوس مما حلّ بهم. ثم بدأ بتصوير تدمير عاد بهذا المشهد المرعب السريع الخاطف، والإيقاع الملائم برنينه القوي الشديد المتناسق مع جوّ التدمير والعذاب. فالريح الصرصر الباردة العاتية، كانت تنزعهم نزعا من على الأرض، وتلقي بهم جثثا هامدة، وكأنهم أعجاز نخل محطمة، مقلوعة من جذورها. وتكرار الاستفهام في نهاية هذا المشهد، يبعث الخوف والفزع من مخالفة أمر الله، وقد ورد هذا الأسلوب الاستفهامي في بداية المشهد، وفي نهايته، لتحقيق هذا الغرض الديني. وكذلك تصوير تدمير ثمود، يقول الله سبحانه وتعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ، فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ، أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ، سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ، إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ، فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ، إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ القمر: 23 - 32. وعلّة التدمير أيضا هي التكذيب، فيذكر في المشهد التكذيب أولا ثم يعقبه التدمير مباشرة. وقد اعتمد التصوير أولا على أسلوب الحكاية، لأحداث ماضية، ثم يلتفت فجأة ليتحدث عما سيكون من أحداث، وكأنها حاضرة معروضة أمامنا الآن سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ، وهذه طريقة القرآن التصويرية في إحياء الصورة الماضية، وبعثها من خلال الحركة والحياة فيها، وهذه الطريقة الفنية في عرض القصة الماضية، تحقّق غرضها الديني، بشكل أكبر مما لو عرضت كأخبار ماضية مروية. وصورتهم كهشيم المحتظر بعد الصيحة الواحدة، توحي بالتدمير الكامل، ومع التدمير التحقير والاستهانة بهم، لأن الهشيم هو الأعواد اليابسة المحطمة المهشمة الذي تطؤه

الدواب في الحظيرة «11». وكذلك تصوير قوم لوط أيضا في هذا النسق القرآني، يقول الله تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ، نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ، وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ، وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ، وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ، فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ القمر: 33 - 40. وسبب التدمير هو التكذيب أيضا، ولكن التدمير هنا هو بالريح الحاملة للحجارة الحاصبة. ثم يبدأ التفصيل بعد هذا الإجمال، فالنبي لوط قد أنذرهم عاقبة المنكر الشاذ، ولكنهم شكّوا بإنذاره، بل إنهم حاولوا الاعتداء على ضيوفه أيضا، عندئذ طمس الله عيونهم، فلم يروا أحدا ثم ينتقل التصوير للأحداث من الماضي إلى الحاضر الملموس، على طريقة القرآن التصويرية، في إحياء المشاهد لتكون أبلغ في الاعتبار والعظمة، والتأثير في النفوس فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ ويكرر هذه الآية، لتحقيق الغرض الديني من التصوير. يقول الزمخشري في فائدة التكرار: «فإن قلت ما فائدة تكرير قوله: فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ قلت: فائدته أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ادّكارا واتعاظا، وأن يستأنفوا تنبها، واستيقاظا إذا سمعوا الحث على ذلك، والبعث عليه وأن يقرع لهم العصا مرات، ويقعقع لهم الشنّ تارات، لئلا يغلبهم السهو، ولا تستولي عليهم الغفلة، وهكذا حكم التكرير، كقوله فبأيّ آلاء ربكما تكذّبان- عند كل نعمة عدها في سورة الرحمن، وقوله ويل يومئذ للمكذبين، عند كل آية أوردها في سورة المرسلات، وكذلك في الأنباء والقصص في أنفسها، لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب، مصوّرة للأذهان مذكورة غير منسية في كل أوان» «12». كذلك تصوير تدمير قوم شعيب بسبب تكذيبهم أيضا. يقول تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ الشعراء: 189. فقد استظلوا بسحابة، من شدة الحرّ الخانق، فكانت هي الصاعقة التي دمّرتهم، وهم تحتها.

_ (11) الكشاف: 4/ 40. (12) المصدر السابق: 4/ 40 - 41.

يقول الله تعالى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ هود: 94 - 95. وقد يجمع تصوير الأحداث، مشاهد متعددة، لتدمير أقوام مختلفين، لتحقيق التأثير الديني، كقوله تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ، فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ، وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ، فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ، وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ، فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً، إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ الحاقة: 4 - 12. وعلة التدمير لثمود وعاد هي التكذيب بالقارعة أي القيامة، وسميت بذلك لشدة وقع أهوالها على الآذان والقلوب، كما أن اللفظة هنا بجرسها الشديد مناسبة لتصوير التدمير، ثم يبدأ تفصيل مشاهد التدمير، فثمود أهلكت بصيحة واحدة طوتها من الوجود، ووصف الصيحة بالطاغية، يوحي بشدة التدمير المجاوز للحدّ المعروف، ثم حذف الموصوف وأبقى الصفة «الطاغية» لأنها مناسبة للإيقاع الفاصلة أيضا، فتحقق بذكرها غرض معنوي وآخر فني، وتدمير عاد، مفصّل أكثر، فقد أهلكوا بالريح الشديدة، وهي عاتية لتناسب عتوّ عاد وجبروتها، ويتناول التصوير مشهدهم بعد التدمير بالريح العاتية، وهم صرعى لا حركة فيهم أشبه بأعجاز النخل الخاوية، الساقطة على الأرض، لخواء أجوافها، وتآكلها ... ويطول تصوير هذا المشهد بما فيه من هول ورعب، لتحقيق التأثير النفسي. وصورتهم وهم صرعى، توحي بالسكون بعد زمجرة الريح الصرصر، فالتصوير إذا اعتمد في البداية على الصورة المتحركة، ثم أعقبها بالصورة الصامتة لعرض آثار التدمير في الإنسان في قوله: فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى والطبيعة أيضا كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ بل إنه جعل صورة الإنسان المدمّر تشبه صورة النخل المقعّر المتآكل، فقد جمع بينهما في التصوير والتعبير، كما جمعتهما قوة التدمير أيضا. ويمرّ التصوير في هذا النص مرورا سريعا بمشهد تدمير فرعون وجنوده، وقوم لوط، ثمّ يتوقف عند مشهد الطوفان، والسفينة الجارية فيه، بعناية الله، للإيحاء بتدمير قوم نوح

أيضا، وكأن الطوفان صار علما على قوم نوح في ذاكرة الناس، فاستغنى عن ذكر نوح في هذا الشريط التصويري السريع. ويلاحظ أن صورة نجاة نوح، تتحوّل إلى صورة حاضرة للمخاطبين، ليصبحوا هم الناجين، ويخاطبهم التعبير على أنهم هم الناجون من الطوفان المدمّر، وكأن نجاة آبائهم هي نجاة لهم أيضا، لأنهم سبب وجودهم فكان «حمل آبائهم منّة عليهم، وكأنهم هم المحمولون» «13» في السفينة الناجية التي أصبحت عبرة وعظة في تاريخ البشرية لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ الحاقة: 12، وتصوّر البشرية الحاضرة، من نسل الناجين من الغرق والطوفان، صورة ذهنية مختزنة في ذاكرة البشرية تتعظ بها على الدوام، إن وعت وأدركت الحقائق، وسمعت لتوجيه القرآن وآياته. وأحيانا تعتمد الأحداث على التصوير الهادئ، وكأنه قصّ عادي، ولكن بتعبير معجز، مع ملاحظة الحركات الحسية المعبّرة عن الحركة النفسية في أثناء التصوير. كقوله تعالى: وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ، وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ، قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ، فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ، قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ، قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ القصص: 22 - 28. فالتصوير هنا هادئ لين، يعتمد على الفعلين المضارعين «يسقون وتذودان» في المشهد الأول، وذلك لإحياء الأحداث من الماضي البعيد، إلى الحاضر القريب المشاهد، وهما فعلان يصوران الحركة المصاحبة للحدث بدقة، ويتمثّل الخيال صورة الجموع وهم يستقون، وصورة البنتين «تذودان» عن بعد ويحذف من المشهد صورة القطيع، حتى لا يتشتت الذهن

_ (13) الكشاف: 4/ 150.

في متابعة المشاهد الجانبية للحدث، وتسلّط الأضواء التصويرية على «يسقون وتذودان» لأن الصورتين للسقاية والذود هما اللتان أثارتا موسى وحرّكتا عواطفه، وهما توحيان بما سيقع من أحداث لموسى، لذا نجد موسى يتقدم في المشهد ويسألهما سؤالا معبرا عن شدة تأثره بصورة السقاية الجائرة ما خَطْبُكُما؟ فيأتي الجواب مصورا أنوثتهما بما فيها من ضعف وحياء لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ ولفظة يَصْدُرُ توحي برجوع الرعاء من حيث أتوا، وهي مقصودة في التعبير لتصوير مشهد الرعاة العائدين بعد السقاية. وقد استخدمت هذه اللفظة أيضا في تصوير رجوع الناس إلى ربهم يوم القيامة، يقول تعالى يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ الزلزلة: 6. لأن مشهد السقاية عارض، كذلك مشهد الدنيا لذلك اقتضى التعبير استخدام لفظة يَصْدُرُ دون غيرها للدلالة على المعنى، وهذا من روائع التصوير والتعبير الموحي بالمشاهد والمعاني المختلفة. وزادت البنتان في جوابهما وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ لاستدرار العطف والحنان. ثم يأتي المشهد الثاني بعد أن سقى لهما فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ وهذه الصورة موحية بالمعاني، فموسى منهوك القوة بعد عملية السقاية، والجهد المبذول فيها، فآوى إلى الظل، مسترخيا مستبردا بنداوته، وهي صورة متواصلة مع الصور قبلها، ومترابطة بها. كما أنها توحي بشدة الحرّ، والتزاحم على المياه في الصحراء، ثم يطلّ الشعور الديني، من خلال ضراعة موسى لربه، وتصوير حالته رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ .... ثم يأتي المشهد الثالث، وفيه تصوير لإحداهن، جاءته تمشي على استحياء وهو جالس في الظلّ، إنه مشهد حي شاخص، مألوف، والصورة تلمس حركة الأنثى، كما تلمس انفعالها وحياءها تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ والفعل المضارع يحيي المشهد وكأنه حاضر، وترسم خطواتها البطيئة المعبرة عن حركة الحياء الداخلية حتى كأننا نراها في المشهد، وما هي عليه من الخفر والاستحياء. والحياء يظهر أيضا في قولها: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا وهو قول هادئ صريح ليس فيه التواء أو زيادة، وفيه تركيز على أن الأب هو الذي يدعوه لإعطائه أجر السقاية، وليس لشيء آخر ويستجيب موسى. وهنا نلاحظ أن موسى يعرض مباشرة

أمام أبيها، وتطوي الصورة مسافات الطريق، واصطحاب موسى للفتاة إلى بيت أبيها، جريا على طريقة القرآن التصويرية في التركيز على اللقطات الموحية بالغرض الديني. ثم يبدأ تصوير المشهد الرابع وما جرى من حوار بين موسى والأب، ويبرز موسى الغريب الطريد فيه من خلال إخبار أبيها بقصته مع فرعون ويظهر الأب شجاعا كريما ثم في المشهد الخامس نلاحظ إعجاب إحدى البنتين بموسى، من خلال طلبها استئجاره، ووصفها له بالقوي الأمين، ويفطن أبوها لرغبتها، فيلبيها لها كما يوحي المشهد، كذلك فإن موسى يظهر في المشهد بالمستسلم الموافق لكل الشروط في العمل والزواج، وهي حالة الطريد المطلوب في حادثة قتل. ونلاحظ هنا أن تصوير الأحداث يميل إلى الهدوء، ليناسب المواقف والحركات والأشخاص. وهكذا رأينا ألوانا من تصوير الأحداث، فهناك الأحداث الموزّعة على حلقات في سور القرآن المختلفة، تصوّر ضمن السياق الواردة فيه، وبالجزء المتناسق مع الأغراض الدينية المتفاعلة مع السياق، لأن أحداث القصة القرآنية، لا تذكر في موضع واحد غالبا، وهذا ما يقتضيه نظام العلاقات التعبيرية والتصويرية والفكرية في الأسلوب القرآني. والقصة الوحيدة التي وردت في موضع واحد هي قصة يوسف، وقد تكاملت بأحداثها، وأشخاصها وموضوعها وهي تعدّ نموذجا للقصة الفنية في القرآن الكريم. ولو أننا جمعنا حلقات كل قصة وردت في القرآن لرأيناها قصة متكاملة في بنائها وأحداثها وأشخاصها أيضا، وأعطتنا هذه الصورة الفنية التي نراها في سورة يوسف مع ملاحظة اختلاف الموضوعات والأحداث والأشخاص بين قصة وأخرى. كما لاحظنا في تصوير الأحداث، ترك الفجوات الفنية بين مشهد وآخر، ليقوم الخيال بدوره في ملئها. ويشتد تصوير الأحداث أحيانا، كما رأينا في مشاهد تدمير الأقوام المكذبين، ويلين أو يهدأ أحيانا أخرى، كما رأينا في تصوير الأحداث في قصة موسى في قرية مدين، مع تصوير الحركات الحسية والنفسية المصاحبة للأحداث. والمواقف والطبائع البشرية. والانفعالات الإنسانية.

ب - تصوير الشخصيات:

ب- تصوير الشخصيات: ويرتبط تصوير الشخصيات بالأحداث، كما يرتبط بالغرض الديني، فهو الهدف الأساسي من التصوير الفني. وقد حفلت القصة في القرآن، بالشخصيات، من الرجال والنساء، والرجال فيها إمّا أنبياء، كنوح وهود وصالح وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وشعيب، ولوط، وموسى، وزكريا، ويحيى وعيسى ... إلخ. وإما ملوك ووزراء، مثل فرعون وهامان، وإما أشخاص عاديون، وهم كثيرون أيضا. والسمة البارزة في تصوير الشخصيات هي، إهمال التصوير الحسي للشخصية، فلا يذكر الطول واللون أو الملامح الأخرى المميّزة لكل شخصية. وذلك من تأثير خضوع القصة القرآنية للغرض الديني. وهذا هو الغالب في تصوير الشخصيات، ولكننا أحيانا قد نلاحظ بعض الإشارات الدالّة على الجانب الحسي في الشخصية، مثل قول الفتاة لأبيها في وصف موسى إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ والقوة هنا، هي القوة البدنية التي لاحظتها الفتاة في موسى عند ما سقى لهما وسط هذه الجموع من الرعاة. إلى جانب صفة أخرى غير حسية وهي الأمانة، وهي صفد خلقية. وبذلك يجتمع في وصف موسى الجانب الحسي والمعنوي معا. كذلك نلاحظ الإشارة الصريحة إلى لكنة في لسان موسى في قوله تعالى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي طه: 27 - 28، وكذلك الإشارة الصريحة إلى قوة جسم طالوت: قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ البقرة: 247، وهنا أيضا الجمع بين الجانب الحسي والمعنوي في شخصية طالوت. وأحيانا يعتمد الإيحاء للدلالة على الجانب الحسي، مثل الإيحاء بجمال يوسف في قوله: فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ يوسف: 31. وأحيانا تهمل الشخصيات، لتبرز الأحداث في القصة، كما رأينا في مشاهد تدمير ثمود وعاد. أو لإبراز العظة والاعتبار في الحياة والموت، كقوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ

خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ، قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ، فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ البقرة: 259. ومثل ذلك أيضا قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ البقرة: 243. فهؤلاء لم تفدهم حركة الهروب الجماعية من الموت، الذي تحقّق بفعل الأمر «موتوا» فانطبعت به صورة الموتى الجماعية، لتحقيق الاعتبار، وحذف من التعبير «فماتوا» لأنّ السياق يدلّ على ذلك في قوله: ثُمَّ أَحْياهُمْ. فالقصة حين تريد التأثير بالأحداث، تخفي حينئذ أسماء الأشخاص غالبا، لتحقيق التأثير الديني في العظة والاعتبار من تصوير القصة. وحين تهدف القصة إلى تصوير تاريخ الرسل، وموقف الناس منهم، فإنها غالبا تذكر أسماء الأشخاص كما رأينا في قصة نوح، وإبراهيم، وموسى ويوسف وغيرهم. ولكن التركيز لا يكون على الشخصيات لذواتهم، وإنما، لتصوير أفكار الدعوة، وما لاقاه الرسل من تكذيب أقوامهم، وهذا ينسجم مع الهدف الديني للقصة القرآنية. والشخصيات في القصة القرآنية، تتّحد في الدعوة إلى التوحيد، ونبذ عبادة غير الله حتى تحقق القصة أغراضها الدينية في التأكيد على وحدة الرسل، والديانات السماوية والشخصية في القصة مرتبطة بالأحداث، فإذا طالت القصة، وكثرت أحداثها، اتضحت معالم الشخصية بصورة أكبر، وإذا قصرت القصة، وقلّت أحداثها فإن الأمر يكون عكس ما قلناه. فشخصية موسى واضحة المعالم والسمات، تتمحور حول شدّة بأسه وقوته. وقد رسم الله سبحانه هذه الملامح في قوله: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ القصص: 15، وهذه السمة نراها أيضا حين أخذ برأس أخيه هارون، وشدّه بعنف وقوة وغضب، كما نراها أيضا في صحبته للرجل الصالح، فلم ينتظر أن يخبره

عن سرّ تصرفاته، وإنما اندفع يحتجّ عليه، مخالفا بذلك شرط الصحبة المأخوذ عليه «14». وشخصية «آدم» تمثّل شخصية الإنسان الضعيفة أمام الإغراء له بالخلود، يقول تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ ... الأعراف: 20. وشخصية «نوح» قويّة التحمّل والصبر، أو شديدة بصورة عامة، ويتضح ذلك في قوة تحمّله لأعباء الدعوة هذه المدّة الطويلة، على الرغم من المحصول الضئيل الذي جناه. كما يتضح في دعائه على قومه بعد أن يئس منهم، قال تعالى: وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً نوح: 26 - 27. وشخصية إبراهيم، تتسم بالحلم، والتسامح والهدوء، وقوة المنطق والحجة. وقد اتضح ذلك في أسلوب دعوته لقومه، وحواره مع أبيه، ومخاطبة قومه بعد تحطيم الأصنام ... أما شخصية «يوسف» فقد رسمها القرآن الكريم بجوانبها الحسية والعقلية والعاطفية وقد ظهرت هذه السمات، متدرّجة مع نموّ الأحداث وتطورها. وقد ابتدأ القرآن بتصوير هذه الشخصية منذ بداية القصة حين كان يوسف صغير السن يقصّ على أبيه رؤياه، وكان محسودا من قبل إخوته لمكانته من أبيهم، وهذه المكانة عند الأب، اكتسبها من صفات معينة، توفرت في شخصيته، ولم تتوفّر في بقية الإخوة. وحين يكبر يوسف، تبرز سمات العلم والحكمة والحصافة في شخصيته، وبدأ يتصرّف تصرّفا يدل على هذه السمات في شخصيته، وهو أيضا جميل الصورة إلى حدّ الفتنة، حتى إن امرأة العزيز وقعت في حبّه، وكذلك أعجبت به نسوة المدينة حين رأينه، وهو أيضا رجل مستقيم وأمين، لم يخن سيده في أهله، وهو حريص، حكيم، ينتهز الفرص المناسبة للدعوة، وتبرئة نفسه، كما أنه حصيف يعرف كيف يصل إلى غايته، ويتضح ذلك في طريقته في استقدام أخيه والاحتفاظ به، ثم في طريقة إدارته لشئون الدولة، حتى حقّق الرخاء الاقتصادي لبلده، ثم إنه مطيع لوالديه، بارّ بهما، ومتسامح مع إخوته على الرغم مما فعلوه به، وهو بالدرجة الأولى، مطيع لربه، مستقيم على شرعه، لا يحيد عنه، والاستقامة والتقوى أوصلتاه إلى هذا التمكين في الأرض.

_ (14) الكهف: 60 - 78.

وهكذا نلاحظ أن شخصية يوسف مرسومة بجانبيها الحسي والمعنوي معا، فاكتملت أبعاد شخصيته عقلا، وجسما، وعاطفة، كما رأينا في تصوير أحداث قصته. وبالنسية لشخصية المرأة، فإن التصوير الفني، لا يعنى بالصفات الحسية لها، لأنها لا تخدم الغرض الديني من القصة، لذلك، لا نجد الاهتمام أيضا بذكر أسماء النساء باستثناء مريم، لأن ذكرها ينسجم مع الغرض الديني من القصة، فهي لا تذكر لذاتها بل لما تحمله من حقائق دينية، ممثّلة في دورها في قصة عيسى. وبقية النساء يذكرن بأسماء أزواجهن مثل امرأة نوح، وامرأة لوط، وامرأة عمران، وامرأة فرعون وإذا كانت المرأة عذراء، اكتفي بذكر كلمة «امرأة» دون إضافة، مثل بلقيس ملكة سبأ عبّر عنها بقوله: امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ النمل: 23. وكذلك في قصة موسى في قرية مدين وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ القصص: 23 فمريم يصرح باسمها، لدفع التصورات الباطلة عن ولادة عيسى، والتأكيد على بشريته، بولادته من مريم من غير أب. كمعجزة آدم من غير أب ولا أم. وشخصية المرأة في القصة القرآنية ثانوية، وليست أساسية فيها، ولكن القرآن يعنى بتصوير الأمومة من خلالها، وذلك واضح في موقف امرأة فرعون من موسى. يقول تعالى في ذلك: وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ القصص: 9. والنساء أيضا أنواع، فهناك المرأة المندفعة المنحرفة، وهناك المرأة ذات الخفر والحياء. فامرأة العزيز تمثّل المرأة المندفعة، التي تندفع وراء غرائزها، يقول الله تعالى فيها: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ... يوسف: 23، وهي أيضا ماكرة محتالة، يقول تعالى في ذلك: وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ ... يوسف: 25. كما يلاحظ مكرها واندفاعها وراء غرائزها، حين جمعت النسوة عندها، وأمرت يوسف أن يخرج عليهن، لتثبت لهنّ أنها معذورة بحبه، فتحوّلت العاذلات لها إلى عواذر لتصرفها، وحين رأت إعجابهن به أيضا، صرّحت بحبها له، ورغبتها فيه، وأتبعت ذلك بالتهديد ... ولكنها أيضا حين عرفت يوسف وما يتسم به من نبوة واستقامة وتقوى، اعترفت بذنبها

أمام الملك، وبرّأت يوسف. وتقابل هذه الشخصية المندفعة نحو غرائزها، شخصية أخرى تتسم بالخفر والحياء، وهي ابنة شعيب. يقول تعالى في وصفها: فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ القصص: 25، وربما تكون هي التي أعجبت به، وطلبت من أبيها أن يستأجره لقوته وأمانته: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ القصص: 26. فالقرآن الكريم يرسم طبيعة المرأة الأنثوية، وما فيها من ضعف وانفعال، وتباين النساء في ذلك. حتى إنّ «بلقيس» الملكة، هي امرأة بطبيعتها الأنثوية المستحبة، فهي تدفع الحرب بالملاطفة الأنثوية، والحيلة الذكية، وذلك حين ردّت على كتاب سليمان بإرسال هدية إليه. فشخصيتها هي شخصية الأنثى التي تكره الحرب وتحبّ السلام، وتتصرف كأي أنثى، فتهيئ الرجل بالهدية، لتليين موقفه، ولكن سليمان عليه السلام يردّ هديتها، ويدرك أنها لا تريد الحرب، فيقابلها بشخصية الرجل، ثم يقوم سليمان بتحضير المفاجآت لها، لإثارة انتباهها، فيحضر عرشها، وينكّره، ويجعل الصرح من قوارير، ولكن ملكة سبأ لا تسلّم لسليمان من أول مفاجأة حين رأت عرشها حاضرا أمامها، على الرغم من إعجابها بذلك، فأخفت مشاعرها لتظهر فجأة بعد المفاجأة الثانية، فاستسلمت له، وآمنت بالله رب العالمين. يقول تعالى: قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ النمل: 44. وذكر سليمان في سياق إيمانها يدلّ على إعجابها به، وحبّها له. ويصوّر القرآن الكريم امرأة إبراهيم العجوز، تستغرب أن تلد وزوجها شيخ كبير أيضا. وقد جاء هذا الاستغراب في أعلى صوره، وذروة الانفعال الأنثوي ملحوظ في التعبير، يقول تعالى: قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ هود: 72. وهناك شخصية امرأة عمران المتدينة التي نذرت ما في بطنها محررا، وشخصية مريم المتسمة بالعفاف والطهر وخوف الفضيحة، كما صوّرها القرآن، حين جاءها الملك في صورة بشر، فاستعاذت بالله إن كان تقيا، فهي لا تدرك أن يكون لها ولد من غير زواج ولا بغاء. قال تعالى: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا، قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا مريم: 17 - 18، وهكذا نلاحظ أن تصوير شخصيات النساء فيه توضيح للطبيعة

ج - تصوير العواطف والانفعالات:

الأنثوية، وما فيها من عاطفة وانفعال وضعف، كما أنّ الشخصيات النسائية متباينة، فهناك المرأة المنحرفة، والمرأة المستقيمة والشابة، والعجوز، وهناك ذات الحياء، وعديمة الحياء .. ولكن القرآن لا يسلّط الأضواء على لحظات الضعف والانحراف إلا بمقدار ما يخدم الوظيفة الدينية للتصوير. ج- تصوير العواطف والانفعالات: ويرتبط تصوير العواطف والانفعالات، بتصوير الشخصيات ... وقد وقفت عند دور الصورة في نقل الحالات النفسية وتجسيمها في الفصل الأول، ولكن الحديث هنا مرتبط بالتصوير القصصي الذي يشمل الحوادث، والشخصيات، والعواطف والانفعالات، وقصة «يوسف» غنيّة بأحداثها وأشخاصها، وانفعالاتها، وعواطفها، نتوقّف عندها لإثبات ظاهرة التصوير للعواطف والانفعالات في القصة، لتكون نموذجا تطبيقيا، يمكن أن يقاس عليه في دراسة القصص الأخرى. فامرأة العزيز تهيم حبا بيوسف بعد أن بلغ أشدّه، واكتملت ملامح الرجولة والجمال فيه، فراودته عن نفسه، ولكنه أبى واستعصم. قال تعالى في تصوير حالتها النفسية: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ، وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ، وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ ... يوسف: 23. وتكاد ترتسم عاطفتها الثائرة في كل لفظة من ألفاظ التعبير، وإيحاءات التصوير، فلفظ «راودته» يفيد الإلحاح، وتكرار المراودة، ثم «غلّقت» يفيد إحكام غلق الأبواب، ثم «في بيتها» يفيد الخلوة ثم هَيْتَ لَكَ يوحي بمنتهى ضعفها واستسلامها. فهي لم تكتف بالطلب وتكراره، ولكنها هذه المرة هيأت كلّ الأجواء لتنفيذ طلبها، فغلّقت الأبواب وأتبعت ذلك بالدعوة الصريحة في ضعف الأنثى واستسلامها «هيت لك». ويرسم القرآن الكريم خفقان القلوب واضطرابها في مشهد حي شاخص، نراها تطارده في البيت الخالي كالمحمومة وهو يهرب منها، حتى ألفيا سيدها لدى الباب وهي على هذه الحالة من الهيجان والانفعال، يقول تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ. وهذا التصوير يقصد به تصوير انفعالات جديدة، في مثل هذه الحالات والظروف

المفاجئة، وفعلا تحوّلت امرأة العزيز من النقيض إلى النقيض، وحاولت أن تظهر بمظهر الطهر والعفاف وتتهم يوسف بالخيانة. وعنصر المفاجأة في وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ يثير انفعالات جديدة لدى كل من يوسف، وامرأة العزيز بالإضافة إلى العزيز. كذلك نلاحظ تصوير العواطف والانفعالات قويا في مشهد النسوة المجتمعات عند امرأة العزيز ورؤيتهن جمال يوسف فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ يوسف: 31. فالإعجاب تجاوز النفس إلى حركة حسّية ظهرت في تقطيع الأيدي، وإطلاق عبارات الإعجاب. كذلك نلاحظ عاطفة الأبوة متمثلة في يعقوب وفي بياض عينيه من كثرة الدموع حزنا على فقد ولديه، يقول تعالى: وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ. كذلك نلاحظ، عاطفة الأخوة، ويمثّلها موقف يوسف من أخيه خاصة، وإخوته عامة. وعاطفة الحسد، أو غيظ الحاسدين، ممثلة في إخوته. وعاطفة البرّ بالوالدين، ويمثّلها يوسف. ونجد في قصة «مريم» التصوير أيضا لانفعالاتها الشديدة، حين اقتحم خلوتها الملك. في صورة بشر، فاستعاذت بالله منه إن كان تقيا، ثم إنّ ذروة انفعالها تصوّر في تمنيها الموت على الحياة حين عرفت أنه ملك، وأنه مأمور من الله بذلك، وأنه سيكون لها ولد قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا مريم: 23. وغير ذلك من الأمثلة الواردة في القرآن الكريم، اكتفينا بما مضى من الشواهد، في إثبات وظيفة الصورة في نقل الأحداث، والعواطف والانفعالات. ورسم الشخصيات، ضمن نظام العلاقات التعبيرية والفكرية والتصويرية في الأسلوب القرآني. فالتصوير القصصي، يتسع أكثر للتعبير عن الحقائق الدينية الثابتة، لماله من امتدادات في الزمان والمكان، والأشخاص، حتى يمكن أن نستخلص من خلاله نماذج إنسانية تحتذى في الفكر والسلوك، والعقيدة، والشعور، والثبات ونحو ذلك. مما سنقف عنده في الفصل القادم.

الفصل السادس النماذج الإنسانية

الفصل السادس النماذج الإنسانيّة يعتمد تصوير النماذج، على الفن القصصي غالبا، لأن القصة بأحداثها وأشخاصها، وبنائها الفني، ترسم صورا إنسانية متفاعلة مع الأحداث والمواقف والطباع والمشاعر، ولهذه الصور الإنسانية صفة الشمول والديمومة، حتى ترتقي، لتصبح نماذج مكررة، غير محدودة بزمان ومكان، وأشخاص، كما في القصة، وإنما هي مبادئ وأفكار ممثّلة في النماذج المكررة التي لها صفة الديمومة والشمول. وقد ترسم هذه النماذج مباشرة، بالألفاظ الموحية، واللمسة الفنية السريعة الخاطفة، كما سنرى بعد قليل، بدون الاعتماد على القصة الفنية. والصورة حين تقوم برسم هذه النماذج، فإنها تهدف إلى التنويع في وظائفها، لتحقيق التأثير الديني، الذي هو غاية التصوير الأساسية، لأن طبيعة الإنسان، تتأثّر بالنماذج الإنسانية، فتندفع إلى محاكاتها أو الابتعاد عنها. وقبل أن نتوغّل في تصوير النماذج الإنسانية في القرآن الكريم، علينا أولا أن نحدد مدلول كلمة «النماذج» من الناحية اللغوية والأدبية. فقد ذكر «الفيروزآبادي» أن معنى النموذج، بفتح النون هو «مثال الشيء». وقال إن الكلمة «معرّبة» و «الأنموذج» لحن. ولكن العلماء تعقّبوه. ولم يوافقوا قوله. وقالوا: «هذه دعوى لا تقوم عليها حجة، فما زالت العلماء قديما وحديثا يستعملونه من غير نكير، حتى إن الزمخشري، وهو من أئمة اللغة سمّى كتابه في النحو «الأنموذج» والنووي في المنهاج عبّر به في قوله «أنموذج المتماثل» ولم يتعقبه أحد من الشرّاح» «1».

_ (1) انظر القاموس المحيط: ص 266 - المادة نفسها- وانظر التعليق في هامش الصفحة.

وإذا انتقلنا إلى دلالة الكلمة في الأدب، نجد أنها ترتبط بمعناها اللغوي المحدد بمثال الشيء. فقد عرّف الدكتور محمد يوسف نجم النماذج البشرية بقوله: «أما النموذج البشري فهو تجسيم مثالي لسجيّة من السجايا، أو لنقيصة من النقائص أو لطبقة أو مجموعة خاصة من الناس وهو يحوي جميع صفاتها، وخصائصها الأساسية» «2». فهي تعني تجسيم الصفات أو العواطف والمشاعر في الشخصيات الأدبية المصورة، بحيث تغدو الشخصيات نابضة بالحياة والحركة «3». فالأديب حين يقوم بتصوير الأبعاد النفسية والفكرية والسلوكية للشخصية، وتتكامل هذه الأبعاد، وتتضح معالمها في الشخصية، تصبح «نموذجا» أكثر إقناعا، وأظهر صدقا من نظائره في الواقع المشاهد «4». ويتوقف نجاح الأديب في ذلك، على قدرته في تصوير ملامح الشخصية بأبعادها الثلاثة، حتى تصبح «نموذجا» للكمال أو النقص، حسب ما يريده الكاتب لنموذجه أن يكون. وعدّته في ذلك هي عرض المواقف. والأحداث، لتصوير موقف الشخصية إزاء هذه الأحداث أو المواقف، معتمدا في تصويره على الصدق الفني، في إقناع القارئ لا على الصدق الواقعي. لهذا يقوم بجمع الجزئيات المتفرقة أو التفصيلات، لتساعده في صياغة الشخصية المتكاملة التي قد لا نجد لها مثيلا في عالم الواقع من حيث عمق الدلالة، وإثارة الشعور أو الفكر، سموا أو إسفافا «5». وعلى ضوء ذلك، فإن النماذج في الأدب، تستمد من الواقع، ولكنها تبدو في العمل الأدبي أجمل مما هي عليه في الواقع، بقصد الإثارة أو التشويق الفني، والتأثير سلبا أو إيجابا بهذه النماذج. أما النماذج الإنسانية في القرآن الكريم، فهي أرقى من النماذج الأدبية، مهما أوتي للنماذج الأدبية القدرة على التصوير الفني، لأن الله سبحانه هو أعلم بالإنسان من الإنسان نفسه، فحين يصوّر لنا في كتابه نموذجا إنسانيا، فإن تصويره هذا يكشف أعماق النفس

_ (2) فن القصة: ص 105. (3) الأدب المقارن: حسن جاد حسن. ص 164. (4) النماذج الإنسانية في الدراسات الأدبية: د. محمد غنيمي هلال. ص 7. (5) المصدر السابق: ص 9.

الإنسانية، ويوضح خفاياها وأسرارها، لأنه هو خالقها، وهو أعلم بها. وتختلف النماذج في القرآن، عن النماذج الأدبية من عدة وجوه منها: أنّ النماذج في القرآن تعتمد على الفكرة غالبا، متمثّلة في شخص معيّن، تصدق عليه. ومن خلال تصويره، وإبراز ملامحه، تصبح الفكرة في الشخص «نمطا معيّنا» لأفراد من الناس مثل نماذج المؤمن، والكافر، والمنافق، فهذه النماذج بدأت من فكرة دينية، تجمّعت من حولها مجموعة من الصفات المميّزة لكل شخصية، حتى أصبحت نموذجا مكررا، لكل شخصية تشابه هذا النموذج في فكره وسلوكه وشعوره. أما في الأدب، فالنماذج تبدأ من شخص، ثم ينتهي تصوير أبعاده النفسية والفكرية والسلوكية كي تصبح نموذجا لنمط معيّن من البشر. على أن النماذج القرآنية، لا تبدأ من الفكرة الدينية فحسب، فهناك نماذج تبدأ أيضا من «شخص» معيّن، ثم ينتهي من خلال تصويره ليصبح نموذجا لنمط معين من البشر. مثل «فرعون» الذي أصبح نموذجا لكل متجبر متسلّط، في فكره وسلوكه، وشعوره. كذلك لا تعتمد النماذج القرآنية على ذكر الجزئيات والتفصيلات المكوّنة للنموذج، وإنما تعتمد على اللمحة الخاطفة، والإشارة الموحية، فإذا بالنموذج حيّ شاخص واضح القسمات والملامح. يقول سيد قطب عن طريقة القرآن في تصوير النماذج إنه «رسمها في سهولة ويسر، واختصار فما هي إلا جملة أو جملتان حتى يرتسم النموذج الإنساني شاخصا من خلال اللمسات، وينتفض مخلوقا حيّا خالد السمات» «6». وتتسم هذه النماذج القرآنية بالشمولية، ولا تتقيّد بزمان ومكان محددين، بل تشمل جميع الناس، باختلاف طبقاتهم وفئاتهم. وهذا ينسجم مع النص القرآني الذي يخاطب الإنسان في كل عصر وجيل. وتتميّز نظرة القرآن الكريم بنظرته الواقعية للإنسان، فهو ينظر إليه من خلال طبيعته المزدوجة، التي تقبل السمو والتحليق، كما تقبل الهبوط والتدني، ففي النفس الإنسانية هذه الخطوط المتقابلة، فيها القوة والضعف، والسمو والهبوط، والهدى والضلال، والشجاعة

_ (6) التصوير الفني: 216.

والخوف ... إلخ. ويصوّر لنا القرآن هذه الطبيعة الإنسانية، ويبرزها من خلال النماذج المصورة، وهدفه ليس تصوير الإنسان ملاكا، أو شيطانا بل تصوير هذه الطبيعة فيه، لتوجيه استعداداته نحو الخير والصلاح. فالإنسان بإمكانه أن يستغل طاقاته في العمل والبناء المثمر، ضمن إطار الواقع المعاش، دون أن يخلّ ذلك بطبيعته الإنسانية في السمو والهبوط، والصواب والخطأ. والنماذج القرآنية، تختلف عن النماذج الأدبية في ذلك، فالقرآن حين يصوّر هذه الطبيعة البشرية لا يزيّن نقاط الضعف والانحراف فيه، بل يبرز استعداداته نحو السمو والاستقامة والهدى، ضمن الغرض الديني من التصوير لهذه النماذج. وقد عرض القرآن الكريم حياة الإنسان كاملة، منذ بداية خلقه في عالم الغيب، حين خلق الله آدم، ثم هبوطه إلى الأرض، ثم تطور حياة الإنسان، على الأرض، وعلاقته مع نفسه ومع الآخرين وموقفه من ربه، ومن دعوة الرسل. وقد هيّأ بهذا العرض الطويل والدقيق لحياة الإنسان، بروز النماذج الإنسانية في القرآن بكثرة وغزارة. فهناك نماذج مؤمنة وكافرة ومنافقة، ونماذج تمثل القوة، وأخرى تمثّل الضعف، ونماذج من الرجال، وأخرى من النساء، ثم هناك نماذج الجنس البشري كلّه، ونماذج تمثل طبقة، أو فئة من الناس، ونماذج ترسمها القصص التاريخية، أو الأمثال، ونماذج ترسمها الكلمات والصور فهذه النماذج المرسومة وغيرها، هي نماذج مصوّرة، لتحقيق الغرض الديني، وليست لمجرد التصوير الأدبي. لذلك يمكن أن نقول إن النماذج القرآنية، هي نماذج أفكار ومبادئ، لتجسيد المعاني الدينية في صورة أشخاص، يتحركون على أرض الواقع، بكل سماتهم، وملامحهم الواضحة من خلال التصوير الفني لهم. وتقف نماذج الأنبياء في قمة النماذج القرآنية، فكرا وسلوكا وشعورا، بحيث لا يمكن قياسهم بغيرهم، فهم صفوة البشر، اصطفاهم الله لتبليغ رسالاته. وهذا الاصطفاء جاء لتوفّر صفات فيهم، لا تتوفّر في غيرهم، ولكن هذه النماذج المتميّزة عن بقية النماذج هي نماذج إنسانية أيضا، فيها كل الخصائص، أو الصفات الإنسانية، في صورتها المثالية، فقد عصمهم الله سبحانه وتعالى، وجعلهم معجزته البشرية، كما كان القرآن معجزته البيانية.

بعد هذا ننتقل إلى الحديث عن هذه النماذج الإنسانية في القرآن الكريم، لندرك التواصل أو الترابط بين الصور الفنية في تحقيق الأغراض الدينية. فقد بدأ القرآن الكريم من أول سورة فيه «البقرة» بتقسيم الناس إلى فئات ثلاث: مؤمنة وكافرة ومنافقة. وهذا التقسيم للناس ليس مألوفا في علم التاريخ والاجتماع، وإنما هو تقسيم جديد، يعتمد على قاعدة أساسية، وهي موقف الناس من العقيدة الإسلامية، ثم راح القرآن بعد ذلك يرسم صورا لهذه الفئات الثلاث، محددا معالم كل فئة لتعرف بها، في الفكر والشعور والسلوك، حتى غدت كل فئة من هذه الفئات نمطا مألوفا في الحياة البشرية، كل نمط يعدّ نموذجا حيّا لمجموعة من البشر، نموذجا مكرّرا في كل زمان ومكان، لا تكاد تخرج البشرية عن هذه النماذج الثلاثة إلى يومنا هذا. وقد رسم القرآن الكريم هذه النماذج، بكلمات قليلة، وعبارات موحية، فإذا بها تنتفض من خلال التصوير والتعبير صورا، ونماذج نابضة بالحياة والحركة، دقيقة السمات لأشخاص معروفين مكررين، بهذه المعالم الواضحة والسمات الدقيقة. ويبدأ القرآن برسم صورة للمؤمنين أولا محدّدا أبرز سماتهم وملامحهم، فأصبحوا بهذه الملامح المصوّرة، نماذج مكررة في كل جيل وزمان، قال تعالى: الم، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ البقرة: 1 - 5. فهذه صورة وضيئة للمؤمنين المتقين، صورة توضّح ملامح هذا النموذج الفريد بين البشر، فترتبط صورتهم بصورة حسية مرئيّة من خلال قيامهم بالفرائض المحسوسة، وصورة غيبية، من خلال إيمانهم بالغيب واليوم الآخر، هذه الثنائية في التصوير بين الحسي وغير الحسّي، تمثّل مجمل التصور الإسلامي في نظرته إلى الإنسان ذي الطبيعة المزدوجة المكوّنة من مادة وروح، والحياة أيضا باعتبارها دنيوية وأخروية. كما أنّ هذه الثنائية تعتبر من خصائص الصورة الفنية في القرآن التي تجمع بين الحسّي وغير الحسي. فالصورة هنا ترسم هذا النموذج، وتحدّد معالمه، ليكون نموذجا يحتذى في عالم الواقع

والحياة، كما أنها تفتح الآفاق الممتدة، أمام التفكير أو التصوّر الإنساني، ليسرح في عالم الغيب المجهول بما فيه من إيحاء، ومفاجأة، فيظلّ الإنسان مشدودا إلى اليوم الآخر، في ضبط أفعاله وأقواله ومشاعره، وفق منهج الله المرسوم. وتتناسق عناصر الصورة، وتتكامل في رسم هذا النموذج، فيعتمد التصوير أولا على الشعور الممتد للتقوى، الذي ينمو في داخل النفوس، ويكبر حتى تنبثق منه أعمال وأفعال ظاهرة، وبذلك تتوحّد المشاعر والأفعال، وتتلاحم في نسيج محكم في تصوير النموذج لتحقيق الغرض الديني. فالتقوى شعور داخلي، يقوّيه الإيمان بالغيب، وينمّيه في داخل النفس، ثم العبادة تقوّيه أيضا وتزيد من الإيمان بالغيب، فإذا تمّ ذلك، فإن هذا الشعور الكامن، يجسّد في صورة الإنفاق المادية، التي هي دليل على شعور التقوى الداخلي، والدليل الملموس، على الشعور المستور، ثم يمتد الشعور بالتقوى ليتجاوز الذات، إلى الشعور بالأخوة الإنسانية، والأخوة الإيمانية ممثّلة في الإيمان بالرسل جميعا، ويكتمل هذا الشعور الداخلي باليقين في الآخرة. ويسهم التشكيل اللغوي في رسم أبعاد هذا النموذج، فاسم الموصول هنا يعرّف بصلته الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، ولكنّ الانتقال هنا من الاسم الموصول إلى صلته، هو انتقال من المجهول إلى المجهول أيضا. وبذلك يتناسب البناء اللغوي مع الأثر المعنوي الذي تسعى إليه الصورة هنا. ثم تختم صورة النموذج، بالتمكّن والثبات على هذه الصفات أو هدى الله أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وتكرار المسند إليه هنا، يزيد من وضوح معالم النموذج، ويحقّق الغرض الديني من تصويره. ويلاحظ هنا أن القرآن الكريم يكتفي بتحديد الملامح الأساسية للنموذج، حتى تكون الأساس في التفريق بينه وبين النماذج الأخرى من أول سورة في القرآن، ثم تمتد ملامح هذا النموذج في القرآن كلّه، مفصّلة على نحو أكثر في بقية سور القرآن، وكأنّ الملامح هنا إجمال، يتبعه تفصيل بعد ذلك، وهذا يدلّ على وحدة التصوير الفني في القرآن الذي يقوم على نظام العلاقات بين الصور، ممتدة في الأنساق التعبيرية في النص كله، ولكنها تتجمّع بعد هذا التفريع، وتلتقي خيوطها من جديد، في هذه الملامح الأساسية المحدّدة للنموذج.

فهناك نماذج للمؤمنين، متفرّعة من هذا النموذج، ولكنّها مرتبطة فيه، ومتواصلة مع ملامحه وسماته. فنموذج المؤمن هنا، يتفرّع إلى نماذج للمؤمنين، لأنهم يتفاوتون في الصفات والملامح، ولكنّهم يلتقون جميعا في الملامح الأساسية المحدّدة لنموذج المؤمن في أول سورة البقرة. فهناك المؤمن المتجرد لله، يبيع كل شيء في سبيل مرضاة ربّه. ترسمه الصورة، وتحدّد معالمه، ليصبح نموذجا يحتذى. يقول تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ البقرة: 207. وهناك نموذج المؤمن الشجاع، الذي نراه في قوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ آل عمران: 173. ونموذج آخر للمؤمنين، يتمثّل في أولئك الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع، يقول تعالى فيهم: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ، تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ السجدة: 15 - 17. فمشاعر هذا النموذج مجسّمة في صورة محسوسة، تتمثّل في حركة الجسد ساجدا لله، وحركة اللسان مسبّحا أيضا، ثم يرسم القرآن مشهدا مؤثّرا لهم، يجمع بين الصورة الحسية والصورة النفسية. فهذا النموذج فريد بين البشر، يهجر مضجعه اللذيذ في وقت راحته ورقاده. ليتوجّه إلى ربّه في ساعات الليل، وهو نموذج فريد أيضا في مشاعره، وصلته بربه، يجمع بين الرجاء والخوف. وبين الصورة المحسوسة، والصورة النفسية، صلة وتواصل في السياق، فهذه المشاعر الخائفة، هي التي دفعتهم إلى هجر المضاجع في زمن الراحة والدّعة. فالصورة النفسية لهم، تجسّم في صورة حسية متحركة يَدْعُونَ رَبَّهُمْ .. وصورة حسية متحركة أخرى، هي «تتجافى جنوبهم عن المضاجع» والمضاجع، تدعو الجنوب إلى الاسترخاء والدّعة، وإسناد الفعل إلى الجنوب، يوحي بما في التجافي عن المضاجع من مشقّة للأجسام.

وهذه الصفات النادرة، يناسبها الجزاء المذخور عند الله سبحانه، ولكنّ الجزاء هنا يرمز إليه بقوله: مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ فهو جزاء تقرّ به العيون وتسرّ، ولكنه محجوب في التعبير والتصوير، لكي يتناسق مع جوّ عبادتهم في الليل، حيث لا يطلع عليهم أحد إلا الله، وكأنّ هذه الصلاة المستورة في جنح الظلام، يناسبها جزاء خاص مستور أيضا. وتصوير نماذج المؤمنين، لا يعني تجاهل الطبيعة البشرية فيهم، بما فيها من قوة وضعف، ولكن تصوير النموذج لا يركّز على لحظات الضعف البشري، ليقرّها، ويزيّنها، وإنما يعرضها في السياق ليعالجها، ويوجّه الإنسان إلي مجاوزتها، يقول تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ آل عمران: 133 - 136. ويبدأ رسم هذا النموذج بحركة حسية، تدعو إلى السرعة طلبا للمغفرة، ووصولا إلى الجنة الواسعة، بشرط تحقيق التقوى. ثم يبدأ القرآن برسم صفات المتقين، ويتمثّل ذلك في الإنفاق، في السراء والضراء، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس، والتوبة والاستغفار، وعدم الإصرار على الذنب. وهذه الصفات للنموذج، قسم منها يرجع إلى علاقته بالناس، وقسم آخر يرجع إلى علاقته مع ربه وهذا يعني تلاحم صلة النموذج بربه وبالناس أيضا. فصورته ممتدة في علاقته بربه، وعلاقته مع مجتمعه، فهو لا يقتصر على جانب دون الآخر، بل هو متواصل مع مجتمعه في الإنفاق وكظم الغيظ، والعفو عن الناس، كما هو متواصل مع ربه في الاستغفار والتوبة هكذا يصوّر القرآن نموذج المؤمن، وهو يربّيه ويهذّبه، ويحرّك مشاعره للصعود والارتقاء، فاتحا أمامه باب الرجاء، ثم يأتي الجزاء في نهاية التصوير للنموذج متناسقا مع بداية تصويره له، وكأنّ الجنة الواسعة بمنزلة الإطار الخارجي، والنموذج هذا في داخل هذا الإطار المرسوم والمحدّد. وهناك نماذج كثيرة خيّرة، وطيّبة، يرسمها القرآن الكريم، ويحدّد سماتها ومعالمها،

فهناك نموذج الكريم في قوله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ الحشر: 9. فهذا النموذج ينفق ويعطي، على الرغم من حاجته إلى ما ينفقه، ولكنه يؤثر غيره عليه، وهذه آفاق إنسانية من التجرد عن الذات في سبيل إنقاذ الآخرين. وهناك بالمقابل نموذج الفقير المتعفّف، يقول تعالى: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً البقرة: 273. وهذا النموذج في الأصل للمهاجرين، ولكنّه ينطبق على أيّ نموذج آخر في كل زمان، تتوفّر فيه هذه الصفات المميّزة المرسومة لهذا النموذج، فهو الذي تمنعه كرامته من أن يسأل الناس، ويضطر إلى أن يتجمّل أمام الناس، حتى لا يظهر فقيرا محتاجا، فمظهره يدلّ على غناه، ولكنّ واقعه خلاف ذلك، والإنسان البصير يدرك الفقر من خلال قسمات الوجوه، التي لا يمكن إخفاؤها، والنموذج يحاول أيضا أن يخفيها عن الأعين، ويدفعها بكل ما يستطيع، حياء وتعففا عما في أيدي الناس. وهناك نماذج كثيرة يرسمها القرآن لأناس طيبين، كرماء، شجعان، أتقياء، ومخلصين، وهي نماذج مرسومة للترغيب في الاقتداء بها. وهناك نماذج أخرى لأناس فاسدين، وشريرين، يتمثّلون في نموذج «الكافر»، وهو نموذج يرسمه القرآن، ليقابل نموذج المؤمن، لتوضيح الفروق بينهما. وهذه الطريقة التصويرية رأيناها أيضا في الفصول السابقة، التي أكّدت أيضا على قضية الإيمان والكفر، بصور مختلفة، وأساليب شتى، وهذا التنويع في التصوير، يزيد قضية الإيمان والكفر وضوحا وجلاء، ولكنّها هنا تعرض في صورة نماذج بشرية أيضا، لاستيفاء هذه القضية الأساسية من جميع جوانبها. يقول الله تعالى في وصف نموذج الكافر: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ البقرة: 6 - 7. فهذا النموذج ترسم ملامحه الأساسية، بعد نموذج المؤمن في أول سورة البقرة، لتتّضح الفوارق الجوهرية بين النموذجين من أول النص القرآني.

وقد رأينا في نموذج المؤمن، تفتّح حواسه، وإيمانه بالله سبحانه، وباليوم الآخر .. ولكنّ نموذج الكافر، قد عطّل حواسه، فتوقفت عنده وسائل المعرفة والإدراك، فلم يعد يدرك غاية وجوده في الحياة، أو يؤمن بربه، لأن أدوات الإدراك والمعرفة معطّلة. فالقلوب هنا مختومة فلا يصل الهدى إليها، والأبصار مطموسة فلا ترى النور، والأسماع مسدودة، فلا تسمع الحق. ومن كان هذا حاله، فلا يرجى منه خير، ولا ينفع معه إنذار وتوجيه. وهكذا يرتسم نموذج الكافر بصورته المظلمة الجامدة، ثم تتوالى صور الكافر في القرآن متفرّعة كلّها من هذا الأصل، الذي تنبثق منه لاستكمال صورته بكل تفصيلاتها وجزئياتها. وهذا كما قلنا يؤكّد نظام العلاقات بين الصور في الأسلوب القرآني. فنحن نجد صورة أخرى للكافرين مرسومة للتحقير في قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ محمد: 12. وقد استحقّوا هذه الصورة المحقّرة لشأنهم، لأنهم عطّلوا أدوات المعرفة والإدراك لديهم، فلم يعد لهم إلا هذه الحياة المادية، في الطعام والشراب، التي هي أقرب إلى صورة الدواب منها إلى صورة الإنسان المكرّم بخصائصه الإنسانية المميزة له عن باقي المخلوقات. ويرسم القرآن الكريم نموذجا للكافر في قوله: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ الجاثية: 23. فهذا النموذج خاضع لهواه، منقاد له، خضوع العبد لمولاه، فلا يرى الأشياء إلا من خلال أهوائه ورغباته وشهواته، حتى استحوذ عليه هذا الهوى، فعطّل حواسه، فأصبحت مختومة، لا تدرك الحقائق كما هي. وحين يتخذ الإنسان هواه إلها يخضع له، ويختم على حواسه فلا يدرك الأشياء، يستحق وصفه بالأنعام يقول تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا الفرقان: 43 - 44. وفي تصوير هذا النموذج إضافة جديدة، وهي تصويرهم بالأنعام التي لا تعقل ولا تسمع،

حتى يوضّح أن هذا النموذج من الناس لا جدوى من هدايته، لأنه غير قابل للهداية، وغير صالح لها، لأنه فقد أدوات استقبال الهدى في التعقل والاستماع، والعلّة في ذلك كلّه هي اتّباع الهوى، والخضوع له. وحين يتخذ الإنسان الهوى إلها، فإن نفسه تتفلّت من الموازين الضابطة لشهوات النفس، بل إنها تخضع لهذه الشهوات، وتتخذها إلها معبودا. والتعبير القرآني يعتبر هذا النموذج أحطّ من الأنعام، لأن الأنعام تؤدي وظائفها الغريزية التي أودعها الله فيها، بينما الإنسان يعطّل وظائف حياته التي زوّده الله بها. وهناك نموذج آخر لا يكتفي باتباع الهوى بل يصدّ غيره عن الهدى والإيمان، يقول الله تعالى فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ لقمان: 6 «7». وهذا النموذج موجود في كل جيل أيضا، يتّخذ أساليب عدة للصدّ عن سبيل الله، ويفني عمره ووقته وماله في سبيل إضلال غيره، ويسميها القرآن «لهوا» تهوينا من شأنها، وتحقيرا لها. ثم يصوّر القرآن الكريم، هذه النماذج للكافرين، في صورة جماعية ضمن مشهد واحد، يجمعهم جميعا يقول تعالى: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً آل عمران: 176. وهذا المشهد حيّ شاخص، يصوّر حركة الكافرين، وهم مسرعون في طريق الكفر، ماضون فيه، وكأنّهم يسعون إلى غاية، يريدون أن يصلوا إليها، فهم في حلبة السباق، يسرع كلّ منهم قبل الآخر، حتى يصل إلى النهاية قبل غيره، ولك أن تتأمل هذه الجموع تتسارع، وتتدافع في هذا الطريق، وكأنّها تأمل أن تحصل على جائزة في نهاية السباق. وهذه الحركة الحسية السريعة، تعبر عن حركة نفسية في داخل الصدور، ولكنّ القرآن الكريم، يضع صورة مقابلة، توقف الحركة السريعة في طريق الكفر إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً فتتلاشى صورة الكفر بما فيها من سرعة واندفاع، لهزالها وضعفها أمام الصورة المقابلة لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً.

_ (7) هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث- كما ورد في بعض الروايات- وكان يشتري أساطير الفرس ثم يجلس في طريق الذاهبين لسماع القرآن محاولا جذبهم إليه وصدّهم عن ذكر الله.

ولكنّ هذه الصورة الجماعية للكافرين، ليست متّحدة في داخل صفوفها، وإن اتّحدت في حركتها الخارجية في طريق الكفر، فهم أحزاب وجماعات، متناحرة، كل حزب بما لديهم فرحون. يقول تعالى: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ المؤمنون: 53. وهذه صورة حيّة، لأهل الكفر، جماعات، وأحزابا، يرسمها التعبير القرآني، فيجعلها نماذج مكررة في كل زمان ومكان، فقد تنازع هؤلاء الأمر بينهم حتى مزّقوه تمزيقا، ثم مضى كل حزب بالقطعة التي مزّقها بيده، فرحا بها، لا يفكر بما فعله من تمزيق الأمر الواحد، لأنه أغلق تفكيره في غمرة شعور الفرح الطافح على كل شيء. هذا هو نموذج مكرّر لجماعات الكفر، وما تقوم به من أدوار في التمزيق والتفريق، ترسمه الصورة القرآنية بحركة حسية خارجية، تتمثّل في تمزيق الأمر زبرا، كما ترسم المشاعر الداخلية بكلمات قلائل كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فتغدو هذه السمات للنموذج واضحة متجدّدة في كل زمان ومكان. وأحيانا يجمع السياق بين نموذج الإيمان، ونموذج الكفر، ويقابل بينهما، لإجراء المقارنة، وتوضيح الفروق بينهما، يقول تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ البقرة: 212. فالدنيا في نظر الكافر هي الأساس، لذا فهي مغرية، ومزيّنة في عينيه، وهي المقياس لكلّ الأشياء والتفاضل بين الناس، فهو متعلّق بها، لأنها فرصته الوحيدة، ويتجاوز ذلك إلى السخرية من المؤمنين، الذين يختلفون معه في النظر إليها، فالمؤمنون يزنون الأمور بميزان الإيمان، الذي هو المعيار الباقي، لهذا فإنهم يكونون الأعلى يوم القيامة. أمّا نموذج النفاق، فهو مصوّر أيضا، في أوائل سورة البقرة، لبيان سماته الأساسية من أول القرآن، حتى تكون أساسا، لبقية صفاته الأخرى المرسومة في بقية سور القرآن. وصورة نموذج النفاق وردت أطول من صورة نموذج المؤمن والكافر، لأنّ صورة المؤمن صافية واضحة، مستقيمة، محدّدة السمات، وصورة الكافر مظلمة معتمة في اتجاهها. أما صورة المنافقين ففيها التواء وغموض، فهي بحاجة إلى توضيح أكثر، حتى تعرف سماتها المميّزة لها، فقد رأينا صورتهم في فصل «الأمثال المصورة» فد عطّلوا حواسّهم في

المثل الأول مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ .. البقرة: 17 - 18 «8». وحركتهم المضطربة المتذبذبة بين المؤمنين والكافرين في المثل الثاني أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ... البقرة: 19. فبالإضافة إلى ظلمة نفوسهم، وحركتهم المضطربة في المجتمع، هناك صفة أخرى لهم، هي «الجبن» والجبن صفة ذميمة، تفسّر أسباب مواقفهم الملتوية، ونفوسهم المتلوّنة، التي لا تثبت على مبدأ أو رأي. فهذا النموذج، ظاهره يعجب، ويخدع، وباطنه جبان، يقول تعالى فيهم: وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ المنافقون: 4. ونموذج المنافقين مثال للبلاهة والخوف، وعدم الانتفاع منه، ويتمثّل هذا النموذج في الأجسام الضخمة، التي تعجب في مظهرها الخارجي، ولكنها في حقيقتها خالية من الروح، وأيّ مضمون مفيد، كذلك يتمثّل في الأقوال المنمّقة، التي تسمع وتطرب، ولكنها لا تحتوي على أساس ترتكز عليه. فالمنافقون في المجتمع أشبه بالأخشاب المسندة إلى جدار، كالتماثيل بلا حركة ولا موقف، لأن نفوسهم مهزوزة، يحسبون كل صيحة عليهم، تفضحهم وتكشف سرّهم. ويلاحظ دقة التصوير في قوله: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ للدلالة على عدم الانتفاع بهذا النموذج. يقول الزمخشري في ذلك: «فإن قلت ما معنى قوله «كأنهم خشب مسندة؟ قلت شبّهوا في استنادهم وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير بالخشب المسندة إلى الحائط، ولأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع، وما دام متروكا فارغا غير منتفع به أسند إلى الحائط فشبّهوا به في عدم الانتفاع» «9». وصورة أخرى لهذا النموذج، تتمثّل في التلوّن بكل لون، حسب الظروف والمواقف. يقول تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ

_ (8) انظر الفصل الثاني من هذا الكتاب، فيه توضيح لحقيقة المنافقين. (9) الكشاف: 4/ 109.

النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا، مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ النساء: 142 - 143. فهذا النموذج مخادع، يقوم إلى الصلاة رياء، ويتضح الشعور الداخلي هذا، في حركة الكسل والتباطؤ، إذا قام إلى الصلاة. فالسمة البارزة لهذا النموذج هي التلوّن بكل لون، حسب الموقف الذي هو فيه، أو الظرف المحيط به، فهو متذبذب في مواقفه وأقواله وسلوكه، لا يثبت على رأي أو مبدأ، لجبنه، وخواء فكره وروحه، وقد يكون هذا النموذج، فصيح اللسان، بليغ الكلام، إن تكلم في التقوى والإيمان، ولكنّ باطنه خلاف ذلك، يقول تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ، وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ، وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ البقرة: 204 - 206. فهذا النموذج يتناقض ظاهره مع باطنه، فهو يجيد الكلام، ويحسن سبكه وحبكه، ليؤثّر في الناس، ويتظاهر بالطيب والأخلاق والإيمان، ولكنّه في حقيقته ألدّ الخصام. فلو وجد فرصة سانحة لأفسد أهل الأرض، وأهلك كل بذور الخير في الأجيال اللاحقة، وهذا ما يوحي به التعبير ب «أهلك الحرث والنسل» وهذا يدلّ على سوء باطنه، وكثرة شروره، وخطورة دوره في المجتمع الإسلامي وزيادة في توضيح صورته وإبطال ادعائه، فإن هذا النموذج لا يقبل النصح والتوجيه، لأنه يرى نفسه أكبر من ذلك، فهو مدّع أيضا بالإضافة إلى أنه متناقض. وتوضع عاقبة هذا النموذج بعد رسم ملامحه، للتحذير منه، والتنفير من هذه الصفات «فحسبه جهنم وبئس المهاد» ونموذج النفاق ضعيف الرأي، لا يتحمّل المسئولية في الالتزام بمبدإ أو رأي، يقول تعالى في وصف هذا النموذج: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ التوبة: 127. فهو حين يرى الحقّ في الآيات المنزلة، ينسلّ في حركة خفية، وهيئة مثيرة للريبة، وتبادل النظرات مع أقرانه، بإشارات مفهومة بينهم، وخرجوا كلّهم هاربين بصمت وحذر. ونموذج المتخاذل عن الجهاد، يرسمه القرآن الكريم بقوله: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً، وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً النساء: 72 - 73.

فالمتخاذل يبطئ عن الخروج إلى الجهاد، وربّما يبطّئ غيره أيضا، لأنّه يؤثر السلامة، وينتظر نتيجة المعركة. فإن رأى هزيمة المسلمين، عدّ نفسه محظوظا في تقاعسه، وإن رأى أنهم انتصروا راح يطلق الأمنيات كي يفوز بالغنائم. والصورة ترسم حركة المتخاذل من خلال جرس الكلمة الشديد المتعثر لَيُبَطِّئَنَّ فهي ترسم حركة التثاقل الحسية بكل التواءاتها وعثراتها، وهذه الحركة الحسية، تعبر عن حالة نفسية مريضة، تؤثر السلامة، وترغب في الغنيمة في الوقت نفسه. وهناك نموذج من الناس ينظر إلى الدين من خلال الربح والخسارة، يقول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ الحج: 11. فهذا النموذج يمسك بطرف من الدين، ولا يأخذه كلّه، فهو يعبد الله وكأنّه على حرف أي «على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه» كما يقول الزمخشري «10». فإن وجد أن الدين يجلب له المنفعة فرح واطمأنّ. وإن أصابه ابتلاء في الدين، ارتدّ منقلبا على وجهه، لأنه غير متمكّن منه ولا ثابت عليه. «والتعبير القرآني يصوّره في عبادته لله على (حرف) غير متمكن من العقيدة ولا متثبت في العبادة، يصوّره في حركة جسدية متأرجحة قابلة للسقوط عند الدفعة الأولى، ومن ثم ينقلب على وجهه عند مسّ الفتنة، ووقفته المتأرجحة تمهّد من قبل لهذا الانقلاب» «11». وصنف آخر من الناس متكبّر متعجرف، ترسمه الصورة في نموذج متكرر، يقول تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ، ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ الحج: 8 - 9. وصورة العجرفة الممقوتة مرسومة بحركة ثانِيَ عِطْفِهِ مائل مزورّ بجنبه عن الآخرين وهذه العجرفة تدفعه إلى الجدال، لا عن بينة وعلم بل عن جهل، فهو يتعالى بهذه الصورة الحسية ليغطي جهله وغباءه، وقصور فهمه. وحركة العجرفة المتمثّلة في ثاني عطفه، نراها مكرّرة في هذا النموذج، وهي من أبرز

_ (10) الكشاف: 3/ 7. (11) في ظلال القرآن: 4/ 2412.

سماته، ولكنّ الله لم يترك هذا المتكبر على عجرفته، بل وضع له صورة مقابلة في الخزي في الدنيا، ثم يمتد هذا الخزي، في صورة عذاب الحريق الحسية يوم القيامة. وهناك صنف «الأغبياء» الذين لا يفقهون ما يسمعون، ترسمهم الصورة في قول الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً محمد: 16، وهناك أيضا نموذج الضال الهالك، الذي يرى سلوكه حسنا، ويغترّ به، يقول تعالى في هذا الصنف من الناس: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فاطر: 8. فهذا النموذج يرى سلوكه السيئ حسنا، لأن الشيطان يزيّنه له، ويغريه به، ويضلّه عن حقيقته السيئة. وصنف من الناس يتسم بالمكابرة والعناد، ولو رأى الحق أمامه محسوسا ملموسا. يقول تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ الأنعام: 7. وصورة أخرى لهذا النموذج المكابر المعاند نراها في قوله تعالى: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ الحجر: 14 - 15. فلو صعد هذا النموذج إلى السماء من باب مفتوح، ورأى الحقيقة لظلّ على عناده في الإنكار، لأنه سيقول: إنه مسحور، وليس ما يراه حقيقة، وهذا النموذج يثير الاحتقار والسخرية من طريقته في العناد والمكابرة، حتى لو رأى دليلا أمامه لأنكره. لأنه محجوب عن رؤية الحقيقة بغطاء المكابرة المسدل على وجهه. ونموذج من الناس. صاحب ادّعاء عريض في أيام الرخاء، ولكنّه في أيام الشدّة والمحنة متخاذل جبان، يقول تعالى في هذا الصنف من الناس: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ العنكبوت: 10. وهناك أيضا نماذج من أهل الكتاب، يقول الله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ آل عمران: 75. فنحن نجد هنا نموذجين من أهل الكتاب، نموذج أمين، ونموذج آخر خبيث مخادع

وخائن يماطل في ردّ الحقوق إلى أصحابها، بل إنه يفلسف سلوكه الذميم بأن الله أباح له هذا التعامل مع الآخرين. وكلمة «قنطار» توحي بالكثرة والضخامة، لتوضيح أمانة النموذج الأول، وكلمة «دينار» توحي بالقلّة، لتقابل الكثرة في النموذج الأول، وتوضّح الفارق بين النموذجين، وقوله: ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً تؤكّد مماطلة النموذج الثاني وخيانته، لأن كلمة قائِماً توحي بالملازمة الشديدة له، ثم زاد هذه الملازمة توضيحا وتأكيدا بتقديم الجار والمجرور على متعلقه عَلَيْهِ قائِماً. ونموذج آخر لأهل الكتاب، هو نموذج المخادع. يقول الله تعالى فيه: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ آل عمران: 72. وهناك أيضا نموذج الحريص على الحياة الدنيا، متمسك بها بأيّ شكل من الأشكال يقول تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ البقرة: 96. وهذا النموذج في الأساس ينطبق على اليهود، الذين يحرصون على أيّ حياة كانت، وتنكير «حياة» هنا يفيد التحقير. فهم حريصون على حياة كريمة أو ذليلة، المهم أن تكون حياة فحسب، وينطبق هذا الوصف أيضا على بعض الناس، في حرصهم على حياة بأيّ شكل كان، وهذا الصنف فيه طبيعة اليهود، والحرص على حياة، يدفع إلى التضحية بالمبادئ والأخلاق أحيانا في سبيل التمسك بأي نوع من الحياة. ونتيجة هذا الحرص، يتمنّى هذا النموذج الأعمار الطويلة، دون أن يفكر، فيما عمل في هذه الحياة، وما حصاده منها، لذلك فإنّ امتداد أعمار هذا النموذج لن تفيده في زحزحته من العذاب، وجرس كلمة «الزحزحة» يرسم صورة النموذج وهو يحاول الزحزحة من العذاب المحيط به. وكما رسمت الصورة نماذج العقيدة، رسمت أيضا نماذج الجنس البشري كلّه، بما فيه من خصائص فالإنسان مفطور على الإيمان، ولكنّ الشهوات تحجب هذه الفطرة، ولا تنكشف هذه الفطرة على حقيقتها إلا في الشدّة. يقول تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ

ما كانُوا يَعْمَلُونَ يونس: 12. فهذا نموذج للجنس البشري، نراه مكررا في كل زمان ومكان، فهو لا يلجأ إلى ربه إلا في الشدة، فحين يصاب بابتلاء، يتضرع إلى الله على صور مختلفة، قائما أو قاعدا أو مستلقيا، لا ينساه، يطلب منه دفع الضرّ عنه، فإذا استجاب له، فأزال عنه ضرّه، تغيّر موقفه من ربه، وعاد إلى غفلته وجحوده، ومضى في دنياه مستهترا عابثا، ناسيا ما مرّ به من كرب شديد. وتصوير النموذج، يتناسق مع الحالة النفسية له، فهو يطيل التصوير لحالته وقت الشدة، ويعرضه على أشكال مختلفة، وهو يدعو ربه، لبيان خوفه من أن تكون حياته قد انتهت، فهو لذلك يلحّ بالدعاء باستمرار، كما أن إطالة التصوير هنا، ترسم الفوارق له في الحالتين فهو متضرع خائف في الشدة، ومستهتر عابث في الرخاء، لذلك نلاحظ التصوير السريع الخاطف لحالته في الرخاء يوحي به اللفظ «مرّ» وكأنّه كان مقيّدا، ثم انفلت من قيده فراح مسرعا كما أن اللفظ «مرّ» يوحي بعدم الاكتراث بما ألمّ به من ضرّ، ونكرانه للجميل. ونموذج آخر للإنسان، يلتقي مع النموذج الأول في تذكره الله في الشدة، ونسيانه في الرخاء، لكنّ هذا النموذج يزيد على ذلك، أيضا، سمة الادّعاء والتبجّح، يقول تعالى: فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ الزمر: 49. فالنموذج هنا لا يكتفي بنسيان ربه الذي كشف عنه ضرّه، وإنما يزداد ادّعاء وتبجحا في الرخاء، فينسب ما حصل عليه من النعمة إلى نفسه، فيقابل ربّه المنعم عليه بالجحود والتبجّح. ونموذج آخر من البشر، يلجأ أيضا إلى ربه وقت الشدة، ولكنه حين يكشف ضرّه، يعود إلى عبادة الشركاء. يقول تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ الزمر: 8. وهذه صورة حقيقية للنفس البشرية، تشعر بضعفها في وقت الشدة، ولكنّها تشعر بالقوة في الرخاء. وصورة هذا النموذج المتناقض مع أهواء النفس يتقلّب بتقلباتها، ويطمس فطرته التي استيقظت في الشدة، صورة تدلّ على الجحود والالتواء واضطراب النفس،

حين تخلو من العقيدة التي تقيم التوازن النفسي ... وتحقّق الطمأنينة والثبات للإنسان. ونموذج آخر، أكثر تفصيلا في تقلّباته بين الشدة والرخاء، وتغيّر مواقفه. يقول تعالى: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ، وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى، فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ، وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ فصلت: 49 - 51. فهذا النموذج كثير التقلّب في مواقفه ومشاعره، فهو كثير الإلحاح في طلب الخير، وإن مسّه الشرّ، مجرد مسّ خفيف، ركبه الهمّ والقنوط، وفقد الأمل، فإن منّ الله عليه من جديد، فأزال همّه، وأغرقه بنعمته، جحد نعمة ربه، ونسبها لنفسه، ثم تضخّم عنده الشعور بالذات، فأثّر في اعتقاده، فأنكر الآخرة، أو حسب نفسه بأنه سيكون محظوظا أيضا عند ربه. وهكذا تحوّل هذا الإنسان الضعيف إلى إنسان بطر بالنعمة، فمدّع، فمنكر ليوم القيامة، وإن مسّه الشرّ من جديد، عاد إلى الدعاء والإلحاح في طلبه «فذو دعاء عريض». وهكذا حاله دائما في تقلباته، بين لجوء إلى ربه، وادّعاء وإنكار، وهذه صور مكرورة، نراها في كثير من الناس. ويقترن أحيانا تصوير هذا النموذج بمشاهد دالة على قدرة الله، للتذكير والتهديد يقول تعالى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يونس: 21 - 23. فكثير من الناس هذا حالهم، فإذا زالت الشدة عنهم، عادوا إلى المكر والخداع، ولكنّ الله أقدر على إبطال مكرهم، فالملائكة يدوّنون أفعالهم إلى يوم الحساب. ثم ترسم الصورة مشهدا مطوّلا لهذه النماذج من الناس، مستمدّا من الطبيعة المحسوسة،

ليكون أبلغ أثرا في النفوس. فهذه السفينة تتحرك في البحر هادئة، بريح طيبة ندية رخية، تدفعها بهدوء وأمان، وكأنّ هذه السفينة هي الحياة، رمز إليها بالسفينة، والبشر هم ركّابها، يعيشون على ظهرها برخاء وأمان أيضا، وهم فرحون بها، سعيدون بهذه الأجواء الهادئة الآمنة، ثم تحدث المفاجأة غير المتوقعة، فتهبّ العاصفة المدمّرة، فتضطرب حركتها، ويضطرب ركابها خائفين، والأمواج تعلو وتهبط لإغراقها بمن عليها، في هذه اللحظات، توجّه الناس بالدعاء مخلصين، وانكشفت الفطرة على حقيقتها، من تحت الأوهام والأهواء، فاستجاب الله لهم، وهدأت العاصفة، وهدأت السفينة لتسير في حركتها الطبيعية، ولكنّ هؤلاء حين استقروا على الأرض نسوا ما مرّ بهم من ضيق وهم على ظهر السفينة، وما عاهدوا عليه الله من الشكر إن أنجاهم ... فالمشهد هنا يجسّم المشاعر الإنسانية لهذا النموذج، في حالتي الشدة والرخاء، لتتضح سمات هذا الصنف من الناس، في تعامله مع ربه بشكل متناقض، لكنّ التهديد يأتي في أعقاب التصوير بأنّ هذه النماذج من البشر، لن تفلت من الحساب عمّا تعمله في الحياة. وأحيانا يلمس التصوير الفني طبيعة الإنسان، بكلمات قليلة، فيرتسم النموذج واضح القسمات والصفات كقوله تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ الأنبياء: 37. وتتمثّل هذه العجلة فيه في سرعة النسيان للضرّ الذي أصابه يقول تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ هود: 10. فهو قاصر عجول، سريع في نسيان أيام الشدة والضر، قاصر في فهم النعمة التي لا تدوم، لذلك فإنه فرح، متباه بها، لا يدرك أنها إلى زوال. وبكلمات قلائل أخرى تصور حقيقة الجنس البشري أيضا في نموذج مكرّر: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً المعارج: 19 - 21. وترسم الصورة نموذجا لكثير من الناس، هذا النموذج يحب الحمد والثناء على شيء لم يفعله لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ آل عمران: 188. وفريق آخر من الناس يؤثر التقليد على التفكير، وهذا نموذج مكرّر نراه على الدوام، قال تعالى: قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا المائدة: 104، وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا

عَلَيْها آباءَنا الأعراف: 28. وهناك نماذج لكثير من الناس، يعتزون بالأموال والأولاد، ويجعلونها غايتهم في الحياة، ويتحوّل هذا الشعور الداخلي إلى سلوك اجتماعي في كثير من الأحيان. وقد رأينا نموذج هذا الإنسان في صاحب الجنتين الذي آتاه الله أولادا وأموالا، فطغى وكفر بنعمة الله، وعدّ المال والولد، كل شيء في الحياة فراح يقول مفتخرا: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً الكهف: 34 «12». ونجد في القصص القرآني كثيرا من النماذج الإنسانية المصوّرة أدق تصوير. ففرعون، نموذج للطغيان والاغترار بالقوة والسلطة، وقد تجاوز الحدّ في الطغيان إلى درجة التأليه، وفرض عبادته على الناس، وسنّ القوانين الجائرة، يذبّح الأبناء ويستحيي النساء، وعلة هذا الطغيان هي أنه فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ الزخرف: 54. كما أنّ أسلوبه في محاربة موسى، يعدّ نموذجا مكررا في كل زمان ومكان، قال له فرعون بجبروت وطغيان مهدّدا له بالسجن إن عبد غيره، وتوجّه إليه. قال تعالى على لسانه: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ الشعراء: 29. كما أنه حاول تشويه صورة موسى في أذهان الناس، فاتهمه بالسحر، ليصرف الناس عن رسالته، وحين لم تنفع كل الأساليب لوقف دعوة الله، لجأ فرعون إلى الأسلوب الأخير، وهو محاولة قتل موسى. ففرعون يعدّ نموذجا بشريا مكررا بأسلوبه، وفكره، وشعوره، رسمت ملامحه وصفاته وهو في ذروة قوته وسلطته، وأسلوبه في التعامل مع الناس من منطق القوة والسلطة، ثم في أسلوبه في التعامل مع الحق ودعاته، فهو يرفض أيّ حق يأتيه، لأنه يرى فيه تهديدا لسلطته، فهو لا يخضع للحق كالآخرين، بل يريد أن يخضع له أشخاصا ومبادئ، وهذا هو أبشع الطغيان يتمثّل في قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي. و «النمرود» نموذج آخر للطغيان، فقد ادّعى الألوهية، ولجأ إلى أسلوب التضليل حين ناظره إبراهيم ولكنّ إبراهيم حين أفحمه بالدليل الكوني المعجز، لجأ إلى أسلوب التهديد بالقتل والإحراق. وهناك أيضا نماذج للأبوة، والأمومة، والأخوة، والزوجية معروضة ضمن إطار الوظيفة

_ (12) انظر فصل الأمثال: ص 190 وما بعد، من هذا الكتاب.

الدينية للصورة، لإعطاء العلاقات الإنسانية بعدا إيمانيا بالإضافة إلي تصوير الطبيعة البشرية في تلك العلاقات. فهناك نماذج ثلاثة للأبوة في القرآن الكريم، نجد فيها تصوير هذه العاطفة الأبوية الإنسانية من خلال العقيدة التي هي الرابطة الأساسية بين البشر. فقصة نوح مع ولده، تمثّل هذه العلاقة الأبوية في أبعادها الإنسانية، فهو نموذج للأب الحاني على ولده، يخاف عليه من الغرق، فيناديه مناداة الأب الخائف على ولده الضائع الذي يحيط به الخطر، وحين غرق ولده، ولم يستجب لنداء أبيه، استمرت عاطفة الأبوة، ولم تتوقف. فقد لجأ نوح إلى ربه خوفا عليه من عذاب يوم القيامة، عسى أن ينقذه هناك إن لم يفلح في إنقاذه من الغرق في الدنيا، فكان الجواب صريحا من الله سبحانه وتعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ، إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ هود: 46، فنوح عليه السّلام نموذج للأبوة الوفيّة بأبنائها في جميع الظروف، حتى في تلك المواقف التي يكون فيها الأبناء، عاقّين لآبائهم، ولكنّ هذا النموذج المثالي، يتمسك في النهاية بالمبادئ إلى جانب تلك العواطف الإنسانية. وإبراهيم عليه السلام، يعدّ نموذجا للأبوّة، وابنه إسماعيل نموذج للبنوة المطيعة. وهذا النموذج مرتبط بالله، في أعلى صور الخضوع لأمر الله في كل الظروف والأحوال، وعدم نسيانه وسط العواطف الإنسانية بين الأب وابنه. ويعقوب، نموذج للأب الذي امتحن بفقد ولده «يوسف». فنماذج الأبوة، تظهر فيها هذه العاطفة الأبوية، واضحة في السلوك والتصرفات والأقوال ولكنها مقيّدة بالإيمان والطاعة لله سبحانه وتعالى. ونموذج الأمومة، يتمثّل في أم موسى، التي قلقت على ولدها، وخافت عليه من بطش فرعون، حتى غابت عن وعيها، وفقدت القدرة في ضبط عواطفها المكبوتة، يقول الله تعالى فيها: وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها ... القصص: 10. وهي في هذا نموذج لكل أم تمرّ بمثل هذه الظروف. ونموذج البنوة الطائعة يتمثّل في «إسماعيل»، ونموذج العقوق للأبوين يتمثّل في ولد نوح وأبناء يعقوب. ونموذج الأخوة، نراه في إخوة يوسف الذين حسدوه، وهمّوا بقتله، ولكنّ هذه العاطفة

منعتهم، فاكتفوا بإلقائه في الجبّ، كما أنّهم ندموا في النهاية وشعروا بخطئهم في نهاية القصة ويتمثّل نموذج الأخوة المثالية في يوسف المتسامح مع إخوته، وفي موسى وهارون وهي أخوة متعاونة في الدعوة، ونشر رسالة السماء. وهناك نماذج من النساء، نموذج الزوجة الفاسدة تتمثّل في امرأة نوح، وامرأة لوط فهما لم تتأثرا ببيت النبوة، لفسادهما، وسوء تقديرهما للأمور. ونموذج آخر امرأة فرعون، تمثّل المرأة الصالحة في بيئة الكفر والضلال، وظلّت متمسكة بإيمانها، ولم تتأثر بأجواء الفساد في القصور. وامرأة عمران، نموذج للمرأة المتدينة في البيئة المتدينة أيضا. وامرأة العزيز، نموذج للمرأة المترفة، المندفعة وراء غرائزها في جزء من قصة يوسف. وامرأة أبي لهب نموذج المرأة المتعاونة مع زوجها على الشرّ ومحاربة دعوة الله. ويبرز في القصص القرآني «الأنبياء» في أعلى صورة للنماذج الإنسانية، نماذج فريدة في التاريخ البشري، اصطفاهم الله، لحمل رسالته، وتبليغها للناس، فهم نماذج إنسانية مثالية، حقّق الله فيهم معجزاته أيضا، من حيث الجمع بين الصفات الإنسانية، والتميّز بالرسالة فهم بشر، ينطبق عليهم كلّ صفاتهم الإنسانية، ولكنهم متميّزون بهذه الرسالة التي حملوها. ويقف الرسول صلّى الله عليه وآله على رأس هذه النماذج الإنسانية، في صورته الإنسانية الكاملة، فهو نموذج الإنسان الكامل في أقواله وأفعاله وسلوكه، كان يحمّل نفسه ما لا تطيقه في سبيل هداية قومه، وإنقاذهم من الهلاك. يقول الله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ الأنبياء: 107، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ القلم: 4، فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً الكهف: 6. ونوح عليه السلام نموذج لقوة التحمل والصبر النموذجي في دعوته لقومه ألف سنة إلا خمسين عاما، قضاها في دعوة قومه سرا وجهارا، متمثّلا ما أمره الله به، وهو صبر طويل، وتحمّل كثير في سبيل نشر الدعوة ولكنّ بشريته ظهرت في مناداته ابنه، بدافع الأبوة الصادقة. وإبراهيم عليه السلام نموذج للحكمة والهدوء، فقد دعا أباه إلى الإيمان بحكمة وهدوء،

وكذلك دعا قومه بالأسلوب نفسه، وكذلك في حواره مع النمرود، ولكن بشريته ظهرت مع صفات النبوة، في استغفاره لأبيه، وفي سؤاله عن الإحياء والإماتة، ليطمئن قلبه. وموسى عليه السلام نموذج لسرعة التأثر، فحين استصرخه رجل من قومه، ناصره على عدوه، وكذلك حين ناداه الله في الواد المقدس، اشتد تأثره بمشهد المناجاة، فطلب من ربه أن يراه. وحين رأى مشهد السحرة وقوة سحرهم فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى طه: 67، وتأثّر حين رأى قومه يعبدون العجل من بعده، وبلغ به التأثر أن أخذ برأس أخيه، وشدّه إليه بعنف وقوة. وتظهر سرعة التأثر فيه، في صحبته للرجل الصالح، حيث لم يستطع صبرا على ما يراه من أفعال، فاندفع محتجا عليه، قبل أن يوضّح له الرجل الصالح تفسيرا لما يراه من أفعال، لا تقبل على ظاهرها. فالرسالة لا تلغي الطبيعة الإنسانية في النبي، وإنما تجعل الإنسانية فيه سامية مثالية، من حيث العصمة، والالتزام بالدعوة قولا وفعلا، وسلوكا وشعورا. وهكذا نرى أن الصورة ترسم النماذج الإنسانية بقصد التأثير، وهي نماذج خيّرة، وأخرى شرّيرة، نماذج للاقتداء، ونماذج للابتعاد عنها والتنفير منها، وبهذا تتحقق الوظيفة الدينية من خلال تصوير النماذج القرآنية.

الفصل السابع مشاهد القيامة

الفصل السابع مشاهد القيامة ترتبط مشاهد القيامة بالصور السابقة، ضمن نظام العلاقات التصويرية والتعبيرية والفكرية في الأسلوب القرآني. فلا تكاد تخلو صورة من الإشارة إلى القيامة، تصريحا أو تلميحا، لأن الإيمان باليوم الآخر يعدّ قضية أساسية في العقيدة الإسلامية، بل إن الإيمان بالله يقتضي الإيمان باليوم الآخر، فهو الأساس الذي يقوم عليه الدين عقيدة وشريعة ونظاما. من هنا تدفقت الصور القرآنية، تصبّ في مجراه، لتثبته، وتوضحه، وتقرّ به من الأذهان، وتعدّ صور اليوم الآخر، من أوسع صور القرآن، امتدادا في الزمان والمكان، وأكثرها غزارة وإثارة فتبدو الحياة في مشاهده، ليست هذه الحياة فقط، التي تمثّل عمر الإنسان الفاني، على ظهر هذه الأرض المحدودة، بل هناك حياة ممتدة في الزمان والمكان، في عالم اليوم الآخر الغيبي، الذي لا نعرف عنه شيئا إلا من خلال هذه المشاهد المصوّرة له، لتقريبه من الأذهان. فالحياة ممتدة في الزمان، لتشمل حياة الإنسان المحدودة في الدنيا، ثم حياته الأخرى في يوم القيامة، حيث تكون الحياة هناك دائمة خالدة، ولا نعرف شيئا عن ذلك الخلود، وطبيعة الزمان سوى ما أخبرنا الله به من أن الحياة الدنيا تبدو بالقياس إلى الآخرة ساعة من نهار. كما أن الحياة ممتدة في المكان، لتشمل هذه الأرض التي نعيش عليها، ومكانا آخر واسعا لا ندري أبعاده في اليوم الآخر، إمّا في جنة عرضها السماوات والأرض، وإمّا في نار

تسع هؤلاء الناس منذ ملايين السنين. كذلك هناك، عالم الموت، وعالم الآخرة، ووجود الإنسان يمتدّ في العالمين، وهذا كلّه من أنباء الغيب المحجوب عن الإنسان، ولكن القرآن الكريم، يصوّر هذه العوالم، وحياة الإنسان فيها تصويرا يقرّبها من ذهن الإنسان، حتى لا يرهقه في التخمين والخيال، فأخبرنا أن القوانين التي تحكم عالم الدنيا والآخرة مختلفة، من حيث الزمان والمكان، والطعام والشراب وغير ذلك. فالقوانين التي وضعها الله للدنيا، تنتهي بزوالها، لتبدأ قوانين إلهية أخرى، تحكم مسيرة الحياة والإنسان والكون، تتناسب مع العالم الآخر. لهذا يصعب على الإنسان أن يتصور ذلك العالم الأخروي، إلا من خلال تصوير القرآن له، لأن الإنسان محكوم بقوانين الدنيا المحدودة، فلا يقوى المحدود على تصور المطلق، كما لا يحتمل الإنسان المحدود تصور المطلق، لأنه فوق طاقاته، واستعداداته، وما عليه إلا التسليم لله في الغيب المجهول، عصمة للعقل البشري من التخبط في التصورات بلا طائل، ولكن العقل البشري، يدرك أنه لا بدّ من نهاية للحياة الدنيا، ولا بدّ لهذه النهاية من بداية أخرى، لأنه يستحيل أن يقبل العقل أن تكون حياة الإنسان كحياة بقية الحيوانات والحشرات، تنتهي بالموت فقط، وإلّا ما معنى تميّز الإنسان عنها بالعقل، والقدرة على اختيار طريقه والقدرة على الإبداع وتعمير الحياة. فمن مقتضيات تميّزه في الدنيا، أن يكون موته أيضا متميّزا في البعث والنشور، حتى تبقى فكرة التميّز للجنس البشري، مقبولة عقليا. كما أن العقل لا يقبل أن تنتهي حياة البشر نهاية متساوية في الموت والفناء، دون أن يكون هناك قصاص من الظالمين والأشرار، فالعدل يقتضي أن تكون هناك حياة أخرى لإقامة الموازين، لمحاسبة البشر، على ضوء الاختيار الممنوح للإنسان، فالاختيار يقتضي المسئولية، والمسئولية تتطلب الحساب والجزاء. فالصورة القرآنية، تقدم لنا إجابات وافية لكل الأسئلة الفطرية، التي تلحّ على ذهن الإنسان، من أين جاء؟ وإلى أين ينتهي؟ وتعرض ذلك في مشاهد خلق الإنسان، وحياته، ومشاهد موته، ثم مشاهده في يوم القيامة. إمّا في الجنة وإمّا في النار.

وهكذا ترتسم صورة الإنسان واضحة بسيطة، منذ خلقه وحتى نهايته، وامتداد حياته في عالم الجزاء والحساب، وهذا التصوّر يضفي على حياة الإنسان أملا ممتدا، وحيوية فائضة، وعملا جادا مثمرا، انتظارا للجزاء في عالم الخلود والبقاء. ومن رحمة الله سبحانه، أن أرى الإنسان، حياته الممتدة في العالم الآخر في مشاهد مصوّرة، يرى فيها نفسه وعمله معا، فالمؤمن الذي يسير على منهج الله، يرى مشهده في الجنة، فيشعر بالراحة والطمأنينة لنهاية حياته المرسومة في مشهد الجنة. أما الكافر الذي حارب الله ورسوله، فيرى مشهده في النار فيعرف عقوبة تكذيبه، وكفره. وبهذه المشاهد المصورة، تتحقّق العدالة الإلهية، لأنّ الله سبحانه عرّف الإنسان وهو ما زال في الدنيا، مشهد حياته في الآخرة، وما ينتظره من ثواب أو عقاب، لكي يختار طريقه على بيّنة ووضوح. ومن أجل تحقيق هذا الغرض الديني، فإن المشاهد المصوّرة للعالم الآخر، تعرض متصلة بالعالم الدنيوي دون فاصل في التعبير والتصوير، للمواقف الإنسانية، والانفعالات البشرية. فيبدأ المشهد غالبا في الدنيا، وينتهي بتصوير مشهد في الآخرة، أو العكس، حتى يتحقّق الأثر النفسي، فيشعر الإنسان بقرب الآخرة، من خلال هذا الاتصال بين المشهدين في التصوير. يقول تعالى عن استعداد الإنسان للهداية أو الضلالة: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً، إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً، إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً ... الإنسان: 4 - 5. فالسياق يتحدث عن استعداد الإنسان لشكر الله أو للكفر به، وبمناسبة الحديث عن كفره، ينتقل السياق مباشرة إلى مشهد من مشاهد القيامة، لبيان عاقبة الكفر وهي تقييد الكافرين بالسلاسل والأغلال، ورميهم في السعير. ثم استعرض مشهد الأبرار في النعيم وأطال في تصويره. وهكذا تترابط الصور، وتتواصل في السياق الواحد، كما يتواصل العالمين المحسوس وغير المحسوس أيضا، تتفاعل الصور كلّها في السياق، لتوليد الأثر المطلوب في اتصال العالمين، واتصال الحياتين، هذا الاتصال يتمّ فجأة بلا مقدمات، ولا فواصل، حتى يبقى

الإنسان مستعدا دائما لهذا الانتقال المفاجئ، ويحسب حسابه على الدوام. وأحيانا يكون المشهد من مشاهد القيامة، ولكنه ينتقل فجأة إلى مشهد في الدنيا، لربط العالمين أيضا وربط النتيجة بأسبابها الموصلة إليها. يقول تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ، كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ .. الذاريات: 15 - 18. وغالبا تعرض مشاهد النعيم، ومشاهد العذاب، متقابلة، وهذه السمة البارزة في مشاهد القيامة، حتى تتمّ المقارنة بينهما، لإيضاح الفروق في الجزاء بحسب اختلاف الأعمال في الدنيا. وهذا التقابل يهدف إلى الترغيب والترهيب، يقول تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ ... الكهف: 29 - 31. ونلاحظ هنا الفوارق بين حياة الظالمين، وحياة المؤمنين في الآخرة، وهي تعدّ امتدادا للفوارق بينهما في الدنيا، فكرا وسلوكا وشعورا. فالظالمون كانوا في الدنيا في نعيم وعيش رغيد، وهم في الآخرة يحيط بهم العذاب الحسي، في شيّ الوجوه بالنار، وشرب الحميم الغسّاق الذي يحرق البطون والحلوق، عقابا على أفعالهم في الدنيا. وتختلف حياة المؤمنين في الآخرة، فهم في ألوان من النعيم المحسوس في جنات وأنهار، وألوان من الشراب اللذيذ ... وتحفل هذه المشاهد بالصور الحسية المتقابلة في السياق، والمتفاعلة فيما بينها للتأثير في الحس والشعور. وتدور هذه الصور الحسية للنعيم والعذاب، حول الطعام والشراب واللباس والمسكن، والمجلس، والمناخ، والأصحاب وغير ذلك مما هو مألوف لدى الإنسان، لتكون هذه الصور للنعيم أو العذاب أبلغ تأثيرا في النفس، وأقرب إلى التصور والخيال الإنساني. فهي صور حسية تشمل الصور اللمسية، والذوقية، والبصرية، والسمعية، والشميّة،

والصور النفسية أيضا ... فتصوير مشاهد القيامة، يشمل الحس والنفس، ليكون التأثير فيهما قويا أيضا، كما سنرى ذلك في استعراضنا لهذه المشاهد في هذا الفصل. كما نلاحظ التدرّج في تصوير المشاهد، وارتباط هذه المشاهد المصوّرة بعضها في بعض، ضمن نظام العلاقات التصويرية والتعبيرية والفكرية. فتبدأ المشاهد برسم أهوال. يوم القيامة، وموعدها المفاجئ والنفخ في الصور، والانقلابات الكونية الهائلة في الأرض والسماء، وصور الحشر، والحساب، ثم الجنة والنار وما فيهما من نعيم أو عذاب. حتى تكتمل صورة القيامة في الأذهان بوضوح وجلاء. فهذه المشاهد مترابطة ومتناسقة في التعبير والتصوير، كي تحقّق الغرض الديني، وتأثيره في النفوس وهي طويلة ومفصّلة، لتعميق الإيمان باليوم الآخر، وإقراره في العقول والنفوس، كما تتسم بالتهويل والرعب، لتحقيق هذا التأثير الديني. يقول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ الحج: 1 - 2. ويبدأ المشهد برسم حركة الزلزلة العنيفة للساعة، المؤثّرة في النفوس البشرية، حتى إنّ حركة الناس تضطرب من قوة الزلزلة وهولها، ويصور هذا الهول المرعب المؤثر، في المرضعات والحوامل، وترنّح الناس. فالمرضعة ذاهلة عن رضيعها، والحامل واضعة حملها، والناس يبدون كالسكارى، ترنّحا وتمايلا. وقد عبّر عن الذهول، وانقطاع الروابط القوية في ذلك المشهد، باختيار صورة المرضعة الذاهلة عن رضيعها، والحامل التي تضع حملها، من عنف الحركة، وهي زلزلة حسية كونية، تعقبها زلزلة نفسية، مرسومة في هذه الصور التي بينّاها. حتى إنّ الولدان يبدون شيبا من أهوال القيامة: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً المزمل: 17. والهول هذا يخفض أقواما ويرفع آخرين: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ، خافِضَةٌ رافِعَةٌ الواقعة: 1 - 3.

ثم إن صورة الهول مرسومة في أسماء هذا اليوم الواردة في القرآن، وهذه الأسماء هي في حقيقتها صفات لذلك اليوم، فكلّ اسم يرسم بجرسه صورة من أهواله وأحواله. ف «القيامة» تصوّر قيام الناس من القبور و «الساعة» تصوّر قربها الزمني، وكأنها هذا الوقت المحدود و «البعث» تصوّر بعث الناس من جديد، وما يرافق ذلك من حركات وهيئات وذهول و «القارعة» لأنها تقرع القلوب والآذان بالأهوال و «الصاخّة» تصخّ الآذان من شدّة وقعها وتأثيرها، «الطامّة» تطمّ الأشياء والمخلوقات جميعا وتعمّهم، وتعلوهم بأهوالها وأحوالها. وكذلك بقية أسماء القيامة مثل: «الواقعة، والغاشية، والحاقة، والحساب، والفصل ... » إلخ. فهذه الأسماء أو الصفات الكثيرة تدلّ على عظم شأن ذلك اليوم، يقول القرطبي: «وكلّ ما عظم شأنه تعددت صفاته، وكثرت أسماؤه ... فالقيامة لما عظم أمرها، وكثرت أهوالها، سمّاها الله تعالى في كتابه بأسماء عديدة، ووصفها بأوصاف كثيرة» «1». وتبدأ الصورة برسم هولها من خلال حجب موعدها عن البشر، فهي مفاجأة لهم يقول تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها، فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها، إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها، إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها النازعات: 42 - 46. فالصورة لهولها وضخامتها وأثرها، مرسومة بلفظ «مرساها» وكأنها سفينة قادمة، تسير في لجّة البحر المجهول، نحو مكان رسوّها ومستقرّها، وهذه الصورة متحركة مرسومة وهي قادمة، ولكنّ وصولها مجهول لنا، وهذا يضفي على الصورة ضخامة وهولا من خلال موعدها المجهول، وحركة القدوم السريعة في طريق كلّه أهوال، وأمواج واضطرابات. واستخدام «أيّان» في السؤال عن موعدها، يزيد الصورة هولا وضخامة، وكذلك قوله: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها. حتى الرسول صلّى الله عليه وآله لا يعرف موعدها أيضا. ولكنّها تأتي مباغتة الناس، وبذلك يقترن الهول بالمباغتة، لتضخيم أثرها في النفوس. فتبدو الدنيا قصيرة هزيلة إلى جانب صورتها الضخمة المباغتة: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها، فهذه الدنيا بكلّ ما فيها من أعمار مديدة، وأزمان وأحداث، ومتاع، هي بالقياس إليها عشية أو ضحاها، وكأنها جزء من نهار، وليست نهارا كاملا.

_ (1) اليوم الآخر: للدكتور عمر سليمان الأشقر. الجزء الثاني. ص 30.

يقول الزمخشري في بيان إضافة الضحى إلى العشيّة: «فإن قلت: كيف صحّت إضافة الضحى إلى العشية؟ قلت: لما بينهما من الملابسة لاجتماعهما في نهار واحد، فإن قلت: فهلّا قيل: إلا عشيّة أو ضحى وما فائدة الإضافة؟ قلت: الدلالة على أن مدة لبثهم كأنها لم تبلغ يوما كاملا ولكن ساعة منه عشيته أو ضحاه، فلما ترك اليوم أضافه إلى عشيته فهو كقوله: لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ الأحقاف: 35» «2». ثم تمضي الصورة في رسم هولها، من حجب موعدها حتى على الرسول، إلى توضيح أثرها في وجوه الكافرين، الذين كذّبوا بها. يقول تعالى: قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ الملك: 24 - 27. وتتقابل صورتان في هذا السياق، صورة انتشار الخلق في الحياة، تعقبها صورة تجميع لهذا الخلق المنتشر، وترتسم آثار الإنكار للبعث في وجوه الكافرين، في مشهد معروض في السياق، وكأنّه حاضر الآن، لأن الساعة بمقاييس الزمان المحدود، الذي يخضع له البشر غائبة، ولكنّها بالنسبة لله حاضرة واقعة، لأن علم الله فوق الزمان والمكان، وهو محيط بكل شيء، فمتى شاء، كشف الستار عنها فرأوها رأي العين، كما يرونها في تصوير هذا المشهد المقروء، بدون فاصل بين العالمين الدنيوي والأخروي. كما ترسم الصورة أثرها في القلوب أيضا يقول تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ غافر: 18. فهي آزفة، قريبة، وكأنّها زاحفة نحو الناس، وحين يرونها بأعينهم، ويرون أهوالها، يشتد خفقان القلوب، حتى تصل إلى الحلوق من شدة الاضطراب والخفقان، وهذه الصورة تعبّر عن شدة الكرب، ومنتهى الضيق، وغيظ النفوس، ويزيد هذه الصورة هولا ورعبا، تقطّع الروابط الاجتماعية، وانشغال الإنسان بنفسه عمّن سواه. وتمضي الصورة القرآنية في رسم الأهوال، بتقطع الروابط الاجتماعية بين الناس، حتى إنّ الوالد ينسى ولده والابن أباه من شدة الأهوال: وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ

_ (2) الكشاف: 4/ 217.

وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ لقمان: 33. فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ عبس: 33 - 37. فالصاخّة بجرسها الشديد، الذي يصخّ الآذان، ترسم مشهدا مرعبا لذلك اليوم، نرى فيه حركة الفرار الجماعيّة، وتقطع الروابط الاجتماعية، وهذه الحركة تجسّم الحالة النفسية المضطربة والخائفة وتفكير الإنسان، بنجاته، وانشغاله بذلك عن أقرب الناس إليه. ثم تستمر الصورة في رسم ملامح الوجوه. التي تدلّ على خفايا النفوس، فوجوه المؤمنين مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ عبس: 38 - 39، وبشر الوجوه وسرورها دليل على هدوء النفوس المؤمنة، واطمئنانها، وتقابلها صورة مغايرة لوجوه الكافرين عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ عبس: 40 - 41، فهي وجوه منكسرة ذليلة، مغبّرة بالحزن والهمّ والحسرة. وهكذا تتقابل الصور في السياق الواحد، لكشف الحقائق، وبيان الفروق بين الناس. وتبدأ مشاهد القيامة، بمشهد النفخة في الصور، وهي صورة غيبيّة، تعرض في صورة حسية سمعية تصعق كلّ شيء فتميته، وتوقف حركته، وتنهي وجوده. وهي علامة على انتهاء العالم المحسوس عالم الدنيا، بكلّ ما فيه من متاع، ومخلوقات وقوانين فتنطبع في ذهن الإنسان من خلال هذه الصورة السمعية. فناء الحياة، وهلاك المخلوقات وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ الرحمن: 27. ويبدأ بعد ذلك العالم الأخر، بقوانينه الجديدة التي وضعها الله سبحانه، تتناسب مع فكرة الخلود في الجنة أو النار. وهذه الصورة، لا نعرف كيفيتها، ولا ما هو الصور، ولا ندرك مدى هذه النفخة، لأن القرآن الكريم لا يهتمّ بتصوير ماهيّة الأشياء، وإنما يهتمّ بتصوير آثارها، وما يترتب على ذلك من أحداث وأعمال. وهذه الطريقة في التصوير، تنسجم مع خصوصية النص القرآني، باعتباره كتاب هداية للبشر، قبل كلّ شيء. والنفخة تأتي مباغتة إيذانا بالعالم الآخر، والناس غافلون في الحياة الدنيا وما فيها من متاع، يقول تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً

وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ، قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ، إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ، فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يس: 48 - 54. والتصوير الفني يرسم هنا مشاهد متعددة، مترابطة في السياق، ومتفاعلة أيضا، لتحقيق الأثر الديني منها. ويعرض القرآن مشهد المكذبين، وهم يتساءلون باستنكار وشكّ عن ذلك اليوم، وكأنّه مشهد حيّ حاضر من خلال الفعل المضارع «يقولون» على طريقة القرآن في إحياء المشاهد واستحضارها. وفجأة ينتقل السياق إلى مشهد الصيحة المباغتة لهم، وهم على هذه الحالة من الجدل والخصام والاستنكار، فنراهم في هذا المشهد أمواتا لا يتحركون، وصورة عجزهم في هذا المشهد، تقابل صورة استنكارهم، واعتزازهم بأنفسهم، فهم عاجزون بعد الصيحة حتى عن الرجوع إلى أهليهم، أو كتابة توصية لهم، وهذا الانتقال المفاجئ من مشهد الحياة إلى مشهد الفناء، يوحي بقرب الفناء ومباغتة الساعة لهم، وهم غافلون عنها، في الجدل والمخاصمة والشك. وحتى لا يطول انطباع مشهد الفناء في الأذهان، فيعتقد هؤلاء، أنّ النهاية هذا الفناء، أعقبه بمشهد آخر متصل بالمشهد السابق، وهو مشهد الخروج من القبور، بعد النفخة الثانية في الصور. ونراهم في مشهد الخروج من القبور في حيرة واضطراب، وصورتهم هنا تخالف صورتهم في المشهد الأول حين كانوا في الدنيا يجادلون ويخاصمون، فهم الآن يدعون على أنفسهم بالهلاك، لقد أيقنوا وقوع ما كانوا يكذّبون به، ورأوا أمامهم حقيقة الحساب، وصدق وعد الله. والسياق لا يترك سؤالهم بلا جواب مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا. وإنما يأتيهم الجواب المباشر هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ بدون فواصل بين الاستفهام والجواب، حتى ينطبع الجواب في الذهن، بعد ملامسة الحس والشعور بصورة الفناء، وصورة البعث من القبور. ثم تأتي الصيحة الأخيرة للحشر والحساب، وتجميع الناس بعد الخروج في مشهد الإحضار للحساب وهم كارهون كما يوحي بذلك لفظ مُحْضَرُونَ، وهكذا تتواصل المشاهد

في النسق القرآني، وتترابط، لإيضاح الحقائق الدينية، وتحقيق الأثر النفسي. ويكتمل التصوير الفني بالمشهد الأخير. ضمن نظام العلاقات التعبيرية والفكرية، إذ بدأ التصوير بمشهد التكذيب، ثم نقل هؤلاء المكذبين إلى مشهد موتهم، ثم نقلهم سريعا إلى مشهد بعثهم من القبور، ثم أحضرهم بسرعة خاطفة للحشر وللحساب. وقد يلجأ القرآن الكريم إلى تصوير ساعة الاحتضار قبل النفخة في الصور، ثم يتبعها بالمشاهد الأخرى المتصلة بها كقوله تعالى: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ المؤمنون: 99 - 103. وتبدأ الصورة هنا برسم مشهد الاحتضار، لإبراز عجز الإنسان وضعفه في ساعة الموت، وإعلانه توبته بعد فوات الأوان، فيكون الجواب عليه ب «كلا» ردعا له وزجرا، لأن توبته جاءت متأخرة عن موعدها. ثم تمضي الصورة في رسمه بعد الموت وهو في عالم البرزخ الذي لا نعرف عنه شيئا سوى أنه فترة مكوثه في القبر إلى يوم البعث، وصورة البرزخ، مرعبة مخيفة، حين يتصور الإنسان نفسه في ظلمة القبر وحيدا، ينتظر موعد الخروج منه، للحساب والجزاء. ثم تستمر الصورة فترسم مشاهد القيامة، فتبدأ بالنفخة في الصور إيذانا بانتهاء عالم الدنيا، وبداية أهوال القيامة في الكون والإنسان، وتقطيع الروابط الاجتماعية المعروفة ويخيّم السكون على مشهد الوجود الإنساني وَلا يَتَساءَلُونَ، ثم تعرض مشاهد الحساب مجسّمة في صورة الميزان، على طريقة القرآن في التجسيم الفني، لتحقيق التأثير النفسي. وينقسم الناس حينذاك إلى مفلحين، وخاسرين، ولا ثالث لهما. وتقترن أحداث كونية هائلة بالنفخة في الصور، كقوله تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ الحاقة: 13 - 16. فالنفخة الواحدة، تجعل الأرض مدكوكة، والجبال كذلك، والسماء الضخمة واهية ضعيفة، وهنا نلاحظ تأثير الصورة السمعية المتمثّلة في النفخة، في الكتل والأحجام في المشاهد الكونية الضخمة، في السماء والأرض والجبال، وهذه الصور المرعبة تلقي في حس الإنسان

الخوف والفزع حين يتصوّر حاله حين تحمل الأرض بما فيها ومن عليها، وتدكّ دكّة واحدة مع الجبال والسماء. وهي صورة توحي بالأهوال والأحوال المرعبة في ذلك اليوم، كما توحي بقدرة الله المالكة للأرض والسماء، يحركها كيف يشاء، ويبرز الإنسان ضعيفا ضئيلا من خلال هذه المشاهد الكونية المدكوكة والواهية. وترسم الصورة حركة الناس واضطرابهم في أثناء هذا المشهد الكوني المخيف، وبعد النفخة الثانية من القبور، وتجسّم هذا الاضطراب النفسي في حركة الأمواج الحسية الموحية بالتدافع والمدّ والجزر، أو الإقدام والإحجام. يقول تعالى: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ الكهف: 99. وبينما هم في هذا المشهد الهائج المائج، ينفخ في الصور للحشر والحساب وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً الكهف: 99، ويبدو أن النفخة، صورة صوتية شديدة، ومؤثّرة في الحياة والكون والإنسان، وقد صور القرآن شدّتها وتأثيرها في أهل السماء وأهل الأرض معا. قال تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ النمل: 87. وأحيانا يعبّر عن تأثيرها بالصّعق، قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ الزمر: 68. ويعبر القرآن عن النفخة بالنقر في الناقور، قال تعالى: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ، فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ المدثر: 8 - 9، ويوحي النقر بالناقور بشدّة الصوت، وتردد صداه في الكون بقوة وعنف، ليلائم ذلك اليوم العسير، الذي تختنق فيه النفوس، وتبلغ فيه القلوب الحناجر. فالصورة السمعية هنا توحي بالصدى المصاحب للصوت الشديد، وهذا يعني أن الصور مترابطة في رسم المشهد، ونقل تفصيلاته، وما يصاحبه من آثار في النفوس، وفي جنبات الكون أيضا. ويعبّر أيضا عن النفخة الأولى بالراجفة، والنفخة الثانية بالرادفة، يقول تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ، أَبْصارُها خاشِعَةٌ، يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ، أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً، قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ، فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ النازعات: 6 - 14.

وقد وصفت النفخة الأولى بالراجفة، لأنّها تحدث في الأرض والجبال اضطرابا ورجفانا «3». ثم تمضي الصورة في بيان أثر الرادفة، وهي النفخة الثانية في الكافرين، فتلمس القلوب الواجفة، والأبصار الشاخصة من شدة الموقف، ثم تزيد من إحياء المشهد بالاعتماد على الحوار، فتدعهم يتكلمون عن أنفسهم، وتظهر حوارهم الشاك باليوم الآخر، من خلال تصوير مشهد من مشاهده، لإثارة الضحك على هؤلاء الأغبياء المكذبين به. فهم كانوا يستبعدون بعث الموتى بعد أن تبلى العظام، وها هم أولاء يبعثون، وتعرض أقوالهم الماضية المكذبة تهكما وسخرية منهم، ويوضعون في السياق هنا بين الراجفة والرادفة، وبين الزجرة الواحدة، حتى تبدو تفاهة أقوالهم، وضآلتهم في ذلك المشهد العنيف. ويصاحب هذه الصورة السمعية العنيفة، صورة الانقلاب الكونية، بكلّ ما فيها من كتل ضخمة، وأجرام عظيمة وهي صورة حسية في الكتل والأحجام والأجسام، تصاحب النفخة في الصور، وهي صورة صوتية، عنيفة أيضا. فكلّ المؤثّرات التصويرية، تستخدم في التعبير القرآني، بصرية، وسمعية، للإيحاء بالهول والشدة والفزع، فالشمس مكوّرة، قد انطفأت وزالت، والنجوم مظلمة قد خبا ضوؤها وانطفأ، وانطفاء الضوء يوحي ببدء مرحلة كونية جديدة، في عالم آخر جديد، وكأنّ هذه الإنارات الكونية كانت موقوتة بالدنيا زالت بزوالها، والجبال منسوقة متناثرة والنوق الحبالى المرغوب فيها تصبح معطّلة، لا تجد من يهتمّ بها من شدة الهول، والوحوش، تخرج من أوكارها، وتتجمّع من كل ناحية، وتتسمّر في مكانها بلا حركة، والبحار ملتهبة مسجورة، والنفوس مقرونة بأشباهها الصالح مع الصالح، والفاجر مع الفاجر، والموءودة تسأل في هذا السياق الكوني الضخم، للإيحاء بضخامة جريمتها المنكرة، والأعمال في صحف منشورة مكشوفة، والسماء مكشوطة مزالة، ثم هناك الجحيم المسعّرة، أمام العيون، والجنة مقرّبة كذلك. يقول تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ، وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ، وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ، وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ، وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ، وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ، وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ، وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ، وَإِذَا الْجَنَّةُ

_ (3) انظر الكشاف: 4/ 212. وصفوة التفاسير 3/ 514.

أُزْلِفَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ التكوير: 1 - 14. فالأهوال مرسومة في هذه المشاهد المتعددة، بالألوان، والأشكال والهيئات، والحركات. منها الصور الضوئية المظلمة «الشمس المكوّرة، والنجوم المطفأة، والصورة المتحركة في الجبال المسيّرة، تقابلها صورة متحركة مقيدة في النوق المهملة، والوحوش الذاهلة المتجمّدة في مكانها، والصور الحرارية في البحار الملتهبة، والصور النفسية المجسّمة في إهمال النوق المرغوبة، ونشر الصحف، وإحضار الأعمال، وجمع النفوس بأشباهها «4». فكلّ الصور المألوفة، تتحوّل إلى صور غير مألوفة، فتتحطم صورتها في ذهن الإنسان، بين ما يراه في الكون المشهود، وبين ما يتخيّله في اليوم المرعب، من انفلات نظام الكون، وبداية نظام جديد، حيث نرى في انقلاب المشهد الكوني تسعير الجحيم، وتقريب الجنة، إشعارا بيوم الحساب والجزاء، وهما صورتان غير محسوستين من عالم الغيب، تختم بهما المشاهد، ويتضح الغرض من تغيير نظام الحياة عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ. والطابع العام في تصوير هذه المشاهد، هو تغيير المألوف المعتاد للإيحاء بالأهوال. لهذا نجد تكوير الشمس، وانكدار النجوم، وتسيير الجبال، وتسجير البحار، وكشط السماء، بينما نجد في مشاهد أخرى تغيير المألوف والمعتاد في إهمال النوق الحبالى وعدم الاهتمام بها، والوحوش النافرة تتقيد حركتها فلا تنطلق كالعادة. والنفس البشرية تفزع من الصور غير المألوفة، وترتاح وتطمئن للصور المستقرة المألوفة. من هنا جاء تصوير هذه المشاهد، معتمدا على غير المألوف، لتحقيق التأثير النفسي المطلوب في تخويف الإنسان من اليوم الآخر، ودفعه إلى التفكير قبل معصية أوامر الله، لأن الأعمال ستحضر للحساب. ويلاحظ اعتماد التصوير على الأفعال الماضية المبنية للمجهول، لأنّ هذه الأحداث متحقّقة الوقوع، فعبّر عنها بالماضي، للإيحاء بذلك، كما أن بناءها للمجهول، يتناسق مع جوّ الهول المرسوم في هذه المشاهد، والفعل الماضي الوحيد الذي جاء مبنيا للمعلوم هو عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ للتأكيد على مسئولية الإنسان عن عمله. وهكذا يتناسق التعبير مع التصوير، ضمن نظام العلاقات، في رسم المشاهد، للإيحاء بالحقائق الدينية. ويبقى السؤال حول عرض الموءودة هنا ضمن هذه المشاهد وسؤالها عن

_ (4) صفوة التفاسير: 3/ 524. وقيل المراد قرن الأجساد بالأرواح.

ذنبها هي، ولا يسأل وائدها وقد أجاب الزمخشري عن ذلك بقوله: «سؤالها وجوابها تبكيت لقاتلها، نحو التبكيت في قوله تعالى لعيسى- أأنت قلت للناس إلى قوله سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق» «5». وتتكرر مشاهد الانقلاب الكوني في ذلك اليوم، ولكنّ هذا التكرار من قبيل تنويع المشاهد المصوّرة، وليس من قبيل التكرار للشيء نفسه، ففي كل مشهد معاد، نلاحظ صورا جديدة، وإضافات أخرى، تتفق مع الغرض الديني المقصود، والسياق الواردة فيه. فالمشاهد، مترابطة متناسقة، يكمل بعضها الآخر، ضمن نظام العلاقات التصويرية والفكرية والتعبيرية، وليس تكرارا بدون فائدة. يقول تعالى: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ، وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ الانفطار: 1 - 5. وتترابط الصور هنا في هذا السياق، وتتفاعل فيما بينها في رسم الحركة والهيئة المنقلبة والمرعبة. فالسماء مشقوقة، والقبور كذلك، تتشقق عن الأجساد، والكواكب، مبعثرة متناثرة، والقبور كذلك مبعثرة، تنثر الأجساد من جوفها، والبحار متفجرة، وحركة الانفجار، مترابطة مع حركة انفجار القبور، وبعثرة ما فيها، فبين هذه الصور الكونية المرعبة، ترابط وتواصل ضمن السياق للإيحاء بالأهوال والأحوال المخيفة، وهي بمنزلة الطوارق على الحس، لإيقاظه، وتهيئته لاستقبال الفكرة الدينية المطلوبة في قوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ. وتتواصل الصور والمشاهد في رسم أهوال ذلك اليوم، مع إضافات جديدة في كل مشهد معروض، لإيضاح الحقائق الدينية، وزيادة التأثير في النفوس، يقول الله تعالى: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ، وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ، وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ، وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ، لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ فالنجوم المطموسة، مترابطة مع صورتها المنكدرة في سورة التكوير، ضمن نظام العلاقات التصويرية، لبيان مراحل زوالها، فكأن مرحلة الانكدار في ضوئها، تسبق مرحلة الانطماس، وو هكذا نفهم الصور في المشاهد القرآنية، فهي مترابطة، ويكمل بعضها الآخر، في رسم الحقائق، وتصوير المتغيرات فيها بدقة متناهية، وليست من قبيل

_ (5) الكشاف: 4/ 222.

التكرار، فكلّ صورة لها إيحاؤها، ودلالتها في رسم المشهد الكوني، حتى تكتمل الرؤية الأخيرة في زوال المشاهد الكونية المألوفة. وكذلك صورة السماء المنفرجة، مترابطة مع صورتها المتشققة، وصورتها المكشوطة، فالسماء المبنية بإحكام وليس فيها فروج أو انشقاق، كما ورد تصويرها في مشاهد الطبيعة فيما سبق، تبدأ في أحداث يوم القيامة بتفكك بنائها، وحدوث فروج فيها، ثم تبدو هذه الفرج في مشهد الانشقاق المتكامل، ثم تعقبها، صورة الكشط والإزالة التامة، فلا تبقى هناك سماء. فالصور مترابطة في رسم المشهد، وكلّ صورة ترسم مرحلة من مراحل تغيّر المشهد الكوني، وهذا يدلّ على دقّة التصوير والتعبير، في رسم المشاهد الكونية، في كلّ أحوالها، ومراحلها، لتكوين الرؤية النهائية لها. وكذلك في صورة الجبال أيضا، كما وقفنا عندها في تصوير المعاني المجردة. وهذا الترابط بين الصور، يؤكّد وحدة التصوير الفني في القرآن الكريم، كما يؤكّد وحدة الرؤية للحياة والكون والإنسان، ويثبت الإعجاز في القرآن الكريم، وهو ما نحاول إثباته في هذا الكتاب إن شاء الله. ونلاحظ هنا في هذه المشاهد، إضافة جديدة، وهي صورة الرسل، الذين حدّد لهم يوم الفصل، لتقديم نتائج دعواتهم. ويتعاون التعبير، مع التصوير أيضا في رسم الأهوال، ويتضح ذلك في الاستفهام المهول والمعظم لذلك اليوم لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ثم جاء الجواب لِيَوْمِ الْفَصْلِ فهو يوم القضاء بين البشر، ثم يتكرر الاستفهام وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ المرسلات: 14 من أجل هذا الغرض في التهويل والتعظيم. ثم جاء التهديد للمكذبين عقب التهويل والتعظيم في سياق يقتضيه فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. وتتواصل صورة انشقاق السماء، في رسم لونها الأحمر السائل أيضا في ذلك اليوم المرهوب يقول تعالى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ الرحمن: 37. فهي مشقوقة كوردة حمراء سائلة، كدهن الزيت كما قال في موضع آخر: «كالمهل» وهو درديّ الزيت «6».

_ (6) الكشاف: 4/ 48.

وأحيانا يجمع القرآن الكريم بين السماء والأرض، ويقيم الروابط بينهما عن طريق التضاد، لإظهار المشاهد الكونية المتغيّرة والهائلة، قال تعالى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ، وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ الانشقاق: 1 - 5. فالسماء والأرض هنا تسمعان وتطيعان، وتنقادان لله في الانشقاق والامتداد والاتساع وكأنهما كائنات حيّة، على طريقة القرآن الكريم في تشخيص الجوامد، وجعلها حيّة شاخصة، لإظهار قدرة الله، وتأثير فعله في هذه الكتل الكونية الضخمة، ورسم آثار الهول والفزع في هذا الكون المنظور. وقد تلمس الصورة ضمن هذه المشاهد الكونية المتغيرة، الصورة البشرية المتحركة للحساب، قال تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً، يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً، وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً، وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً النبأ: 17 - 20. وتتلاقى هنا صورة الكون المتغيّر، بصورة البشر المتحرّك، لزيادة التأثير، والإيحاء بأهوال القيامة. وقد يشتد التصوير لهذه المشاهد، برسم حركة عنيفة شديدة، لمظاهر التغيّر، والانقلاب الكوني الهائل. قال تعالى: كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا، وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى، يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ... الفجر: 21 - 24. فتصوير الأرض مدكوكة مستوية، بهذا العنف، وهذا التأكيد اللفظي المكرّر، يزيد من الأهوال، حين يتصور الإنسان نفسه عليها، وهي تدكّ هذا الدكّ العنيف، حينئذ، تتضح الحقائق، وتزال الأوهام من ذهن الإنسان، فيتمنّى أن يكون قد استعدّ لهذا اليوم المخيف. ويتواصل تصوير الأرض في ذلك اليوم، برسم شدّة اضطرابها، وقد اعتاد الإنسان الاستقرار عليها، وهي صور توحي بضعف الإنسان أمام هذه الصور الكونية المتغيّرة، وتزيد من التأثير في حسه وشعوره، يقول تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها، وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها، يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ الزلزلة: 1 - 8. وصورة الأرض ترجف، وتمتد أو تزلزل، وتخرج ما في باطنها من الأجساد والأشياء، صورة مكررة في القرآن الكريم، لتخويف الإنسان، وإشعاره بأن الاستقرار عليها محدود،

وليس دائما. وهي صور مترابطة مع الصور الأخرى في إيضاح الحقائق الدينية الثابتة وتكوين الرؤية الإسلامية المتكاملة للحياة والإنسان والكون. ولكن الجديد، هو موقف الإنسان المشدوه المبهور، من هذه الزلزلة العنيفة، وقد اعتادها مستقرة، ويجسّم التعبير حالته النفسية الخائفة، بهذا الاستفهام «ما لها» وكأنّ التعبير القرآني، يرسم صورة الزلزلة الحسية، وآثارها في الزلزلة النفسية أيضا. ثم تتواصل الصور في داخل السياق، وتتفاعل في إيضاح الحقائق الدينية، فما يكاد ينتهي سؤال الاستفهام وما فيه من حيرة واستغراب، إلا ويرى الإنسان نفسه أمام مشهد آخر للأرض، وهو مشهد الحشر للحساب والجزاء، وخروج الناس من القبور في ذعر وخوف، واضطراب ليروا أعمالهم مجسّمة حاضرة على طريقة القرآن الكريم في تجسيم المعنويات في صور محسوسة، فالأعمال حاضرة هنا ومرئية، وهي توزن بالميزان الدقيق، حتى الذرة في حجمها الصغير، توزن في هذا الميزان إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وتترابط الصور في داخل السياق، في حركة متفاعلة نامية لإيضاح الحقيقة الدينية، والمغزى من التصوير. فتبدأ الصورة بحركة الزلزلة في الأرض تتبعها حركة إخراج ما فيها من أجساد، تتبعها حركة الحيرة والاستغراب، ثم تتبعها حركة العودة إلى الله للحساب والجزاء، ثم تنتهي الحركة وتتوقف عند هذا الميزان الدقيق للأعمال. ثم يمضي التصوير الفني في القرآن، ليوضّح طبيعة الأعمال الموزونة، منها الثقيلة، ومنها الخفيفة، ونتائج هذه الأعمال الموزونة، إمّا في الجنة، وإمّا في النار، وذلك في قوله تعالى: الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ، وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ، يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ، فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ، وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ، نارٌ حامِيَةٌ القارعة: 1 - 11. فالصورة كلها أهوال مرعبة، من مطلعها إلى خاتمتها، وترتسم الأهوال في التصوير والتعبير معا، فالقارعة، بجرسها الشديد، وتكرار الاستفهام أيضا، يضخم من هذه الأهوال المرسومة، ثم في حركة الناس كالفراش المبثوث، وصورة الجبال المنفوشة، والأعمال الموزونة، ونتائج الأعمال، وختام السورة بالنار الحامية، يتناسق مع مطلع القارعة المخيف.

وتتفاعل صورة الناس، وصورة الجبال، مع جوّ الأعمال الموزونة، فالناس بأحجامهم وأثقالهم، كالفراش انتشارا وخفة، والجبال الراسية الثقيلة، منفوشة كالصوف، فليس في هذا المشهد المرسوم قيمة إلا للأعمال الموزونة، التي تحدّد مصائر البشر، فهي التي تبرز في المشهد، وتركّز عليها أضواء التصوير. ويركّز التصوير القرآني على قصر الحياة الدنيا، إذا قيست بالآخرة وأهوالها. والتركيز على الزمن المحدود للدنيا، والتأكيد على قصره، يحقّق الغرض الديني من التصوير والتأثير. يقول تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ ... يونس: 45. وتتلاحق الصور القرآنية، في رسم مشاهد الحشر، بعد رسم المشاهد الكونية الهائلة، فترسم ملامح الوجوه في ذلك اليوم. فالمجرمون يحشرون زرق الوجوه، من شدة الكرب والهمّ فتبدو الدنيا، ومدة حياتهم فيها ضئيلة زمانا ومكانا. ويتضاءل كلّ ما فيها من ملذات ومتاع، فتبدو قليلة القيمة، والاعتبار، قصيرة المدة، من شدة الأهوال التي يرونها. قال تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً، يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً، نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً طه: 102 - 104. فمشهد حشر الناس مكشوف، والحقائق صارت مكشوفة أيضا واضحة للعيان، كما أن الكون أصبح مكشوفا، فلا غطاء في السماء، ولا التواء في الأرض، حين ذاك، يخيّم الهول والرعب على الناس، ويظهر ذلك في حديثهم الخافت، وكلامهم الهامس، وأبصارهم الخاشعة، وحركتهم المضطربة. يقول تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً طه: 108. وقوله أيضا: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً طه: 111. وقوله أيضا: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ، خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ المعارج: 43. ففي المحشر، يعود البشر فرادى، بلا أنساب، ولا أحساب، كما خلقهم الله أول مرة فرادى، يقول تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً،

وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً الكهف: 47 - 48، فالهول هنا يرتسم في مشهد الجبال المسيّرة، والأرض المكشوفة بلا نتوء ولا جبال، والحشر الجامع للبشر، العرض الكامل لهم، أمام الله سبحانه للحساب والجزاء، ويترك للخيال أن يستحضر صورة الحشر للبشر، على امتداد الزمان والمكان، ليدرك أهوال ذلك اليوم، ويعرف نفسه وسط هذه الجموع الحاشدة، وهو يتجه إلى الحساب. وتجمع الصورة أحيانا مشهد الحشر، ومشهد إنكاره، لتحقيق الغرض الديني في التأثير في النفوس كقوله تعالى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا، أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ، ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا، ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا، ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا مريم: 66 - 70. ويتجاور هنا في السياق، مشهد إنكار البعث، ومشهد الحشر، لبيان عاقبة الإنكار في الإلقاء في النار، وصورتهم وهم جاثون على الركب أمام النار، ينتظرون دورهم في إلقائهم فيها، صورة حسية مرعبة فيها تعذيب نفسي لهم قبل العذاب الحسي، كما أنها توحي باحتقارهم، وهوانهم. ثم هناك حركة الانتزاع القوية التي تأخذ الواحد تلو الآخر من مشهد الجاثين، لإلقائه في النار ويكفي الإنسان خوفا وهلعا أن يتصور مشهد الجثوّ على الركب، ينتظر دوره، لا يعرف متى ينتزع من مشهد الجاثين ليصبح من ضمن المحترقين في النار. كما يحشر الجن، ومن والاهم من الإنس، ثم يدور الحوار بينهم، وكل واحد يتهم الآخر، ثمّ يعترفون بذنبهم حين لا ينفع الندم: قال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها الأنعام: 128. والمشهد حي شاخص، يجمع الجن والإنس، وكأنه حاضر أمامنا الآن من خلال الحوار الحي، فيبدأ المشهد بأسلوب الغائب، ثم ينتقل إلى الخطاب وهذا الانتقال يجعل الحدث المستقبل حاضرا كأنه مشاهد، ويزيد من حيويته، وتأثيره في النفوس. لأن النفوس لا تتعامل معه على أنه مستقبل بعيد وإنما هو حاضر تراه العيون.

وعرض الشياطين هنا، يظهر دورهم في إغواء البشر، واستمتاعهم بهذا الإغواء والإضلال، كما أن البشر استمتعوا بدنياهم، وغفلوا عن آخرتهم. ويصوّر القرآن، «الشركاء» محشورين مع المشركين، فكما كانوا مشتركين في الضلال، فهم الآن مشتركون في المصير أيضا. للسخرية والتهكم من عبادة المشركين. يقول الله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ، فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ يونس: 28 - 29. فالقرآن الكريم هنا يصوّر مهانة الكافرين، وحسرتهم على ما فاتهم، وضلالهم في عبادة الأصنام، ويتهكم عليهم، وليس هذا فحسب، فهناك أيضا حشرهم على وجوههم، زيادة في إهانتهم. وقد طمست جوارحهم فأصبحوا عميا وبكما وصما، جزاء تعطيلهم هذه الحواس في الدنيا، فالآن يسحبون على وجوههم وسط زحام المحشر، ثم تكون نتيجتهم في النار. يقول تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً الإسراء: 97. وتطوى الدنيا في هذا المشهد، ليعرضوا وكأنّهم حاضرون على هذه الصورة، وهم يسحبون على الوجوه، على طريقة القرآن في إحياء المشاهد ليوم القيامة، لتؤثّر في النفوس قبل مجيء ذلك اليوم الموعود. وزيادة في تحقير الكافرين يوم الحشر، فهم يحشرون كالقطيع يحبس أوّلهم على آخرهم، ليتلاحقوا ويجتمعوا. قال تعالى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ فصلت: 19. وتتلاحق صور الحشر في مشاهد كأنها حاضرة، لزيادة التأثير من ذلك قوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ، خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ، يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ القمر: 6 - 7. وصورة الجراد، تقرب مشهد الجموع المحشورة، بكثرتها، وانتشارها، وهي تحث خطاها، نحو الداعي الذي يدعوها إلى شيء لا تعرف عنه شيئا، ولكن الأهوال في المحشر، ترتسم على محيّا الوجوه، فتبدو الأبصار خاشعة من شدة الهول والكرب والفزع، وتجسّم معاناة

الناس في قوله تعالى على لسانهم هذا يَوْمٌ عَسِرٌ القمر: 8. في هذا المشهد، يبرز الظالم من بين الجموع، يعضّ على يديه حسرة وندما: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا، يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي، وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا الفرقان: 27 - 29. فالظالم لا يعضّ على يد واحدة، بل على كلتا يديه زيادة في تصوير الكرب، وتجسيم حالته النفسية. والناس ليسوا سواء في مشهد الحشر والزحام، فالمؤمنون مكرمون، يحشرون في وفود إلى الرحمن، دلالة على تكريمهم والترحيب بهم، والمجرمون يساقون كالقطيع إلى جهنم، تحقيرا لهم، واستهانة، بهم يقول تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً، وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً مريم: 85 - 86. وشتان بين هاتين الصورتين المتقابلتين، صورة الوفد المكرّم، وصورة القطيع المحتقر، الذي يساق ليرد من جهنم وردا، وأيّ ورد هذا الذي يكون من حميم وغسّاق. ويصوّر القرآن الكريم في هذه المشاهد، صورة الرسل، وهم يعرضون على الله، لتقديم نتائج دعواتهم، وثمار محاصيلهم، والله يعلم ذلك، ولكن زيادة في تقريب يوم القيامة من الأذهان، وإقامة الحجة على البشر يقول تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ المائدة: 109. والسؤال والجواب في هذه المشاهد العظيمة، لإثبات صدق الرسول، وإقامة الحجة على المكذبين به، على رءوس الأشهاد، ليدخلوا النار عن استحقاق، بحجة وبيان وشهود. كذلك يوجّه السؤال للمكذبين، لتحقيرهم وتأنيبهم، وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ القصص: 66. والصورة هنا ترسم الذهول عليهم، كما تلقي ظلّ العمى الممتد، الذي يصاحبهم من الدنيا إلى الآخرة، لربط النتائج بالأسباب، زيادة في التبكيت، والتعذيب، لذا ظلّوا صامتين، من شدة الذهول والخوف، جامدين من رهبة السؤال في ذلك الموقف العصيب. وبينما الرسل يدلون بشهادتهم، وكذلك الملائكة، والكافرون لا يؤذن لهم بكلام، والصمت يخيّم على الجميع في مشهد الحشر العظيم، يقطع المشركون صمتهم، حين يرون شركاءهم،

فيشيرون نحوهم وهم يقولون: رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ النحل: 86 فتردّ عليهم مباشرة: إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ النحل: 86. وهكذا أصبحت الحجة قائمة واضحة، من الرسل والملائكة والشركاء، فاستحقّوا أنواع العذاب بسبب كفرهم. ويصوّر القرآن الكريم، مشهد الحساب، بكلّ ما فيه من وزن وميزان، وشهود، وأعمال جاهزة وحاضرة للميزان، ووزّان عادل. لتقريب صورة الحساب من الذهن البشري، وزيادة التأثير فيه، عن طريق تجسيمها في صور محسوسة، متناسقة ومترابطة ضمن نظام العلاقات التصويرية، لإيضاح الحقائق الدينية. ويتنوّع تصوير مشهد الحساب، فأحيانا يعرض مجملا، في لمحة خاطفة سريعة ولكنها موحية ومؤثرة. كقوله تعالى: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ الزمر: 69. فالمشهد هنا موجز وسريع، فيه الرسل والشهداء حاضرون، والناس مجموعون مع أعمالهم، ينتظرون الحكم عليهم، والله هو القاضي العادل في مشهد الحساب، وهذا ما يوحي به قوله: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها. فالموقف كلّه رهبة، وجلال، فيقضى بينهم، وهم لا يظلمون. والمشهد كلّه هيبة وجلال، لأنّ الله هو الذي يقضي بين الخلائق، وهذا ما نراه مؤكّدا في مشاهد القيامة غالبا. كقوله أيضا: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ البقرة: 210. ويعتمد تصوير المشهد هنا، على الاستفهام والفعل المضارع لإحياء المشهد، وجعله شاخصا حاضرا، ثم فجأة نلمح مجيء الله في ظلل من الغمام والملائكة، وهي صورة غيبية معروضة في المشهد، لا نبحث عن كيفيّتها، ولكننا نرى آثارها في القضاء بين البشر، ورجوع الأمور إلى الله، ويتمّ الحساب بسرعة خاطفة في جملة مؤلفة من كلمتين وَقُضِيَ الْأَمْرُ. ولكنّ هذا الإجمال في تصوير مشهد الحساب، نراه مفصّلا في أنساق أخرى، تتعاون

الصور فيه، وتترابط في توضيح صورة ذلك اليوم، وما يتم فيه من مشاهد وأهوال، ولا يمكن تكوين صورة عن اليوم الآخر، من خلال مشهد واحد معروض، بل لا بد من ربط الصور في المشاهد، وضمّ المشاهد بعضها إلى بعض، لمعرفة ما وراءها من حقائق دينية مصوّرة. فنلاحظ أحيانا، تصوير كتاب الأعمال المدوّنة، وعرضه في مشاهد متعددة، لتحقيق التأثير الديني كقوله تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً الكهف: 49. فالكتاب هنا حيّ شاخص، قد أحصى الأعمال صغيرها وكبيرها، والأعمال مجسّمة حاضرة، كما أنّ آثار الكتاب في نفوس المجرمين، مرسومة في أقوالهم المستغيثة في ذلك الموقف الرهيب. والفائزون هم الذي يتلقون كتابهم بيمينهم يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا، وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا الإسراء: 71 - 72. فالناس هنا، في مشهد الحشر، جماعات وأمم، كلّ جماعة أو أمّة، لها عنوانها، وكتابها، أو نبيّها، أو دينها «7»، تعرف من خلاله، زيادة في إقامة الحجة على البشر، على رءوس الأشهاد. ونلاحظ التقابل بين نموذجين من البشر، نموذج، يتلقى كتابه بيمينه، وهذا هو الفائز، يقرأ كتابه باطمئنان والنموذج الآخر هو الأعمى، وصورة العمى في الآخرة، هي امتداد لعماه في الدنيا عن رؤية الحق والهدى، لهذا فهو يحشر على هذه الصورة وسط هذا الزحام الشديد، لا يجد من يساعده، فهو يتخبّط في مشهد الحشر، تعجيلا في عقوبته، قبل أن يلقى في النار. ويصوّر القرآن الكريم، عرض الناس في المحشر، في صفوف منظمة وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا الكهف: 48. وصورة الصفوف المنظمة، مناسبة للموقف الجليل، ومثيرة للخيال، وهو يتأمل أعداد

_ (7) الكشاف: 2/ 459، والظلال: 4/ 2241. وفي صفوة التفاسير الإمام هنا هو كتاب عمل الإنسان 2/ 170.

البشر من أول خلق الإنسان إلى الحساب، وهم يقفون على هذه الهيئة، استعدادا، لتلقي سجل أعمالهم. والخزي مرسوم على وجوه الكافرين، والسرور واضح في قسمات وجوه المؤمنين، والله يواجه الكافرين والمجرمين بذنوبهم، ويضع أمامهم سجل أعمالهم الدقيق. في هذا المشهد، تلازم الأعمال أصحابها، ولا تفارقهم يقول تعالى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً، يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً الإسراء: 13 - 14. فالأعمال حاضرة مجسّمة في صورة كتاب، مكشوف أمام الخلائق، بعد أن كان مستورا عن أعين الناس في الدنيا، وزيادة في توضيح الصورة، جعله ملازما لصاحبه، ملازمة الطائر لصاحبه. وهذه صورة عميقة الدلالة في الحس والشعور توحي بأن الإنسان، لا يستطيع الإفلات من أعماله، مهما حاول ذلك، ولك أن تتأمل صورة الإنسان في ذلك المشهد، وهو يحاول الإفلات من طائره، وهو يطارده في كل مكان، وفي أي اتجاه، وما يعانيه من هذه الملازمة أو المطاردة، لأنه يعرف مضمون كتابه، وما قدم في الدنيا من أعمال. وزيادة في إثارة الألم والندم، يتوجّه الخطاب مباشرة إلى الإنسان اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً وهذا الانتقال إلى أسلوب الخطاب، يجعل المشهد حيا حاضرا، وكأن قراءة الكتاب مطلوبة في الدنيا قبل الآخرة، وبذلك يتضافر التعبير مع التصوير في تحقيق التأثير النفسي. وتجسيم الأعمال على هذا النحو، وجعلها حاضرة الحساب، لمواجهة أصحابها بها. له أعمق الأثر في النفس الإنسانية، حتى إنّ الإنسان المذنب، يتمنى أن يكون بعيدا عن أعماله، تفصل بينهما المسافات الشاسعة يقول تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً آل عمران: 30. ومن شدة الكرب، وأهواله، يتمنى الكافر العدم على الحياة، حتى لا يحاسب، ولا يواجه بأعماله. يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً النبأ: 40. كما يصوّر القرآن كل أمة جاثية على ركبها، استعدادا لنشر الكتب والصحف وَتَرى كُلَ

أُمَّةٍ جاثِيَةً، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ الجاثية: 28. وتتواصل الصور في رسم مشاهد تسلّم كتب الأعمال، وتنويع المشاهد، برسم حركات وهيئات وآثار في النفس والوجوه. فالمؤمن يتسلم كتابه بيمينه من الأمام، تكريما له وحفاوة به، وهو فرح مسرور يقول تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً، وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً الانشقاق: 7 - 9. ويستمرّ تصويره بعد تسلّمه كتابه، فهو مسرور بما يقرأ فيه من أعمال صالحة قادته إلى عيشة راضية. يقول تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ .. الحاقة: 19 - 21. وأمّا الكافر فإنه يتلقى كتابه بشماله ومن وراء ظهره، تحقيرا له وإذلالا، قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ، فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً، وَيَصْلى سَعِيراً الانشقاق: 10 - 12. وقوله أيضا: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ، وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ، ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ، خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ الحاقة: 25 - 31. وهنا تجسّم الأعمال أيضا، في صورة مادية محسوسة، تحيي المشهد المعروض، وتعمق أثره في الحس والشعور، وتتفاعل الصورتان فيه، صورة الماضي، وصورة الحاضر للكافر، وتتواصل الصورتان بين الماضي والحاضر، لإبراز الفروق بين الصورتين، فهو الآن يدعو على نفسه بالهلاك والموت، حتى لا يلاقي الحساب والعقاب، وتصويره وهو يتمنّى الموت، يعبّر عن منتهى ألمه وعذابه. وقد قال المتنبي في هذا المعنى: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا. ثم تعرض صورته في الماضي حين كان صاحب مال وسلطان وقوة، لزيادة حسرته وألمه، أنه أنفق حياته فيما لا يفيد، وكذلك ربط حاضره بماضيه المظلم، حتى يتضح العقاب على الأعمال الماضية، ثم يشتد المشهد بحركة الأخذ العنيفة، وربطه، وإلقائه في النار. ويشخّص أحيانا كتاب الأعمال، وتضفى عليه الصفات الإنسانية، زيادة في إحياء المشهد، والتأثير فيه، كقول الله سبحانه تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ

ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ الجاثية: 29. فكتاب الأعمال، حيّ شاخص، ينطق، ويتكلم بما يحتويه من أعمال الإنسان المدوّنة، وتدوين الأعمال أو نسخها متفاعلة في السياق، مع نطق الكتاب بها يوم القيامة، فالدنيا للتدوين والتسجيل، والآخرة للشهادة والنطق بالأحكام. والتصوير ينوّع في رسم المشاهد، فمرّة يلمس الإنسان وحالته عند ما يتلقى كتابه، ومرّة يلمس الكتاب المدوّن ويشخّصه، ويجعله حاضرا ينطق ويتكلم ويشهد على صاحبه، وهذا من قبيل تنويع الصور، لإبراز الحقائق الدينية، واستيفائها، واستخدام الأساليب الفنية المتعددة، لتحقيق التأثير النفسي، ويمضي تصوير الإنسان وهو مسوق للحساب، ومعه سائق وشهيد، وكأنّه يساق إلى المحكمة المعروفة، ليسمع رأي القضاء في ما فعله هذا الإنسان، وهذا كلّه من قبيل تقريب يوم القيامة من الأذهان من خلال الصور المألوفة لدى البشر، في مثل هذه الحالات والظروف. يقول تعالى: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ق: 21، ثم يتوجّه الخطاب للإنسان مباشرة لتحقيق الغرض الديني من تصوير هذا المشهد لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ق: 22، ثم يتقدّم الملك الموكل به، بتقديم سجلّ أعمال الإنسان إلى المحكمة وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ ق: 23، وتترك الصورة بعد ذلك تفصيلات أخرى متعلقة بالمشهد، يستحضرها الخيال، فيراجع سجل الأعمال بنفسه، ثم ينتظر الحكم عليها، ولكنّ المشهد لا يبرز الحكم مباشرة، ولكنه يوحي به من خلال النتيجة، إمّا في النعيم وإمّا في العذاب. وهذه الطريقة في التصوير، تجعل الإنسان، يتفاعل مع المشهد، ويكمل بعض تفصيلاته بنفسه، لتحقيق الغرض الديني والتأثير النفسي في المشهد المعروض. وتتواصل الصور، وتترابط في رسم مشهد الحساب، بكلّ ما فيه من أعمال مجسّمة، ووزن، ووزّان، وميزان، وسائق، وشهود، لتحقيق التأثير الديني من خلال هذا التصوير لليوم الآخر. والميزان، دقيق، يزن الذرّة، وكان المفسرون يعرّفونها بأنها الهباءة المتناثرة التي ترى في

ضوء الشمس، لأنها أصغر شيء يمكن أن يتصوروه آنذاك، ولكن العلم الحديث، يراها الآن أصغر من ذلك بكثير، فهي لا ترى بالعين المجردة، ولا بالمجهر إلا بعد تكبيرها آلاف المرات. فهذا الميزان لا مثيل له في الدنيا، ذاك الذي يزن الذرة، ولكن قلب المؤمن يستشعر وزن الخير، ووزن الشر وإن تناهى في الصغر، وتوارى عن العيون، وفي يوم القيامة تجسّم الأعمال، وتوزن بالميزان، ليجازى صاحبها عليها. وهذا التجسيم للأعمال ووزنها، يدفع الإنسان إلى عمل الخير وإن قلّ، والبعد عن عمل الشر بتاتا يقول تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ الزلزلة: 7 - 8. وأحيانا يزن الميزان حبة الخردل الصغيرة المعروفة لدى الناس بذلك وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ الأنبياء: 47. وتمتد صورة حبة الخردل، وتوضع في إطار كوني، وعلم الله يحيط بها، ويحضرها في أي مكان كانت، وعلى أيّ شيء وقفت، ليزداد التأثر النفسي، بالعدل الإلهي، ودقة الحساب يوم القيامة. قال تعالى: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لقمان: 16. ثم توضع الأعمال في الميزان، وتوزن، فإمّا أن تكون ثقيلة، ويفلح صاحبها ويفوز بالجنة، وإمّا أن تخفّ في الميزان، فيخسر صاحبها، ويهلك في النار. قال تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ الأعراف: 8 - 9. وثقل الموازين أو خفّتها، وكذلك الميزان، والوزن، قضايا غيبيّة، بعيدة عن إدراك الإنسان، ولكنّ تصويرها على هذا النحو، يقرّبها من الذهن، ويجعل الإنسان يدرك العدل الالهي المطلق. وزيادة في تصوير العدل الإلهي، فإن الحواس تقوم بالشهادة على الإنسان نفسه. وصورة الحواس الشاهدة والناطقة، صورة مخيفة، لأنها صورة صادقة وشهادتها دامغة، وحجة

على صاحبها، لأنّ هذه الحواس ملازمة للإنسان عند ما اقترف الآثام والذنوب. يقول تعالى: حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ، وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ، فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ... فصلت: 20 - 24. فهذه الصورة مثيرة ومخيفة، يتّحد فيها الزمان والمكان، والأعمال الظاهرة والمستترة، ما يعرفه الإنسان وما ينساه .. فكلّ حياة الإنسان على امتداد الزمان والمكان، والأعمال الخفية والظاهرة، تعرض من خلال شهادة الحواس الملازمة للإنسان، والتي كانت هي الأداة المنفّذة لتلك الأعمال. وتبرز قدرة الله سبحانه في إقامة الحجة على الإنسان من نفسه أيضا، بالإضافة إلى شهادة الملكين، وشهادة الرسل، ومراقبة الله له، الذي يعلم السرّ وأخفى. ويعتمد تصوير مشهد الشهادة على الحوار، لإحيائه وجعله حاضرا، وزيادة تأثيره في النفس. وقد أجري الحوار مباشرة مع الجلود، لأنها تشمل جميع الحواس الأخرى، وهي أكثر دلالة على صدق الشهادة وعموميتها لأن الإنسان قد يعيش بدون سمع، أو بدون بصر، لكنه لا يعيش بدون هذا الجلد الذي هو بمنزلة الوعاء للروح وبقية الحواس، لهذا نابت الجلود في الحوار عن بقية الحواس، لإقامة الحجة على الإنسان، ولهذا جسّمت آثار هذه الشهادة في نفس الإنسان في الاستفهام المعبّر عن الاستغراب والدهشة لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟ ثم عرضت حقائق العقيدة من خلال هذا الحوار المصوّر، فبرزت قدرة الله في نطق الحواس وشهادتها، وحوارها مع أصحابها. وتكشف الصورة عن جهل الإنسان بحقيقة الألوهية، حين ظنّ أنه يمكن أن يخفي أعماله ويسترها، وهذا الظن أو السلوك، هو الذي يردي صاحبه في النار، وهكذا يتقرّر العدل الإلهي، من خلال تصوير مشهد الحساب، ويتحقّق الغرض الديني منه. وبعد شهادة الحواس، والرسل والملكين، وسجل الأعمال، والوزن، والميزان، لا يقبل الاعتذار لأنّ زمان الندم قد فات وحان يوم الجزاء على الأعمال.

لهذا يصوّر القرآن الكريم على سبيل الافتراض، رفض قبول فدية من الإنسان مهما كانت كبيرة حتى يسدّ الأبواب على الكافرين، فلا يفكّروا في مثل هذه المواقف أن يفتدوا أنفسهم، كما كانوا يفعلون في الدنيا. يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ آل عمران: 91. بل إن القرآن الكريم يضاعف من التصوير التخييلي، فيفترض أن لهم ما في الأرض جميعا، ومثله معه، وحاولوا الاقتداء به، ما قبل منهم ذلك إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ المائدة: 36. والمجرم أيضا يودّ لو يفدي نفسه بأعزّ الناس إليه. يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ المعارج: 11 - 14. وصورة الفداء، تتواصل مع الصور الأخرى، في رسم الأهوال والفزع لأولئك الكافرين، ورغبتهم في النجاة بأي وسيلة بالفداء، أو الندم، أو التوبة، أو الأمنيات، ولكن موعد ذلك قد فات، فاليوم الآخر هو للجزاء ثوابا أو عقابا على الأعمال. ولم يبق لهؤلاء إلا اتهام أسيادهم، الذين أضلّوهم، لتحميلهم مسئولية كفرهم وضلالهم، وهي المحاولة الأخيرة لهم، للإفلات من العذاب. ويصوّر القرآن الكريم مشاهد للأتباع والمتبوعين، وهم يتحاورون، ويتعاتبون، ويلقي كلّ منهم المسئولية على الآخر، ولكنّ النتيجة لهم معا، هي القذف في النار. وهذه المشاهد، تعرض أمامهم حيّة حاضرة، وهم ما زالوا في الدنيا، يرون صورتهم ممتدة في اليوم الآخر، فيرون أسيادهم، يتملّصون منهم، ويتهربون، ليتركوهم وحدهم في مواجهة الحساب والعذاب. وتتواصل هذه المشاهد، مع المشاهد الأخرى في إيضاح الحقائق الدينية، وتقريب اليوم الآخر من الإدراك البشري من خلال صور مألوفة لدى الإنسان. وتتسم كثير من مشاهد الأتباع والمتبوعين بالسخرية والتهكم، لتحقيق التأثير الديني، يقول تعالى موجها السؤال للكافرين للسخرية منهم: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ، قالُوا وَهُمْ فِيها

يَخْتَصِمُونَ، تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ، وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ، فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ، فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الشعراء: 92 - 102. فهذا المشهد المعروض هنا هو من مشاهد القيامة، ولكنّ القرآن يعرضه وكأنه حاضر الآن، فيوجّه السؤال المباشر لهم، ويتكرر السؤال، ويترك الجواب بدون تحديد، لأنه مفهوم من السياق، ثم الأفعال المضارعة، ساعدت على استحضار المشهد، وبعث الحياة فيه «تعبدون، ينصرونكم، ينتصرون، يختصمون ... » ويزيد الحوار من حيوية المشهد، وتأثيره في النفوس قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ .... وتعرض الحقائق الدينية، على ألسنتهم، بعد أن اتضحت لهم، وانكشفت، فمساواة هذه الآلهة بالله رب العالمين، ضلال وشرك، وكذلك الانقياد للمجرمين، ثم في اليوم الآخر لا تنفع إلا الأعمال، فليست هناك شفاعة أو صديق حميم، يساعد صديقه، ولم تبق إلا الأمنيات التي فات أوانها، زيادة في إظهار ألمهم وحسرتهم. ويلاحظ هنا كبكبة الأتباع والمتبوعين في النار، مع إبليس وجنوده أيضا، لأن إبليس هو الذي يوسوس للإنسان، ويغويه بالضلال. وذكر إبليس هنا، يوحي بأنهم أتباع الشيطان، الذي هو عدو الإنسان الأول. وتعرض الصورة مشهدا آخر للأتباع والمتبوعين، والمتبوعون هذه المرة هم الشياطين، والأتباع من الإنس، وينشأ بينهم الجدال والخصام، واتهام كل فريق للآخر، وتتضح الحقائق، والطبائع، من خلال الحوار الدائر بين الفريقين يقول تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ، قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ، قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ، فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ، فَأَغْوَيْناكُمْ، إِنَّا كُنَّا غاوِينَ، فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ الصافات: 27 - 33. فالشياطين ضالّون بطبيعتهم، لهذا فهم يقومون بدور إغواء الإنسان لتضليله عن الطريق السوي، والإنسان، ليس ضالا بطبعه، ولكنه مستعدّ له، حين يعطّل حواسه، ويغفل عن ربه، فجريمته لا تقل عن جريمة الشيطان، لهذا اشترك الأتباع والمتبوعون في المصير في النار، كما كانوا مشتركين في الدنيا في الضلال والفساد. والمتبوعون قد يكونون من البشر أيضا، يقومون بالدور نفسه الذي تقوم به الشياطين

في الإضلال والإفساد ويصوّر القرآن الأتباع والمتبوعين في مشهد حيّ شاخص، وهم في حالة خصام وجدال وحوار، وكلّ فريق يحمّل الآخر مسئولية كفره وضلاله، ويستمر الحوار والجدل بينهما بلا فائدة يقول تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ، وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ، وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ سبأ: 31 - 33. فالصورة هنا ترسم مشهد الأتباع والمتبوعين، وتعرضه وكأنه حاضر الآن بالاعتماد على فعل الرؤية «المضارع» من بداية المشهد، لاستحضاره حيا شاخصا، ويزيد الحوار من حيوية المشهد، وحضوره، وتأثيره في النفس، فيرى فيه الأتباع والمتبوعون صورتهم حقيقة واقعة، بكل ما فيها من تفاصيل دقيقة، وأدوار ومواقف، وأهداف في الدنيا. فالمتبوعون يقومون بدور خبيث في إضلال الأتباع، ويسلكون كلّ سبيل لتحقيق ذلك، ويستمرون بالتضليل في الليل والنهار بمكر ودهاء، لتحقيق إضلال الأتباع عن الحقيقة، لينقادوا إليهم. وتتعرّى صورة المتبوعين، أمام الأتباع وهم ما زالوا في الدنيا، ليتخلّصوا من هذه التبعية قبل فوات الأوان، لأن المعاذير في مشهد يوم القيامة لا تفيد، وكذلك إلقاء التبعة على المتبوعين أيضا. فها هي ذي الأغلال والسلاسل تطوّق أعناق الكافرين أتباعا ومتبوعين جزاء بما كانوا يعملون. وهذا الجزاء للمتبوعين على ما قاموا به من أدوار في تضليل أتباعهم، والأتباع لأنهم لم يستخدموا عقولهم حين انقادوا للمتبوعين هذا الانقياد الأعمى الضال. وتلمس الصورة الفنية حالة الأتباع الضعيفة، وقصورهم في فهم الحقائق والمواقف والأهداف. يقول تعالى: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً، فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا

مِنْ مَحِيصٍ إبراهيم: 21. فما زال الأتباع- في هذا المشهد- على غبائهم وسذاجتهم، وانقيادهم للمتبوعين، اعتقادا منهم أنّ المتبوعين يملكون قدرة فائقة على دفع العذاب عنهم، ولكنّ الصورة لا تترك هؤلاء الذيول الضعاف على تصوراتهم في أسيادهم كما كانوا في الدنيا يفعلون ويعتقدون، فها هم أولاء أمامهم عاجزون ضعفاء مثلهم أيضا. ويكرّر القرآن الكريم تصوير مشهد الأتباع والمتبوعين، وما يدور بينهم من حوار واتهام وخصام، وذلك لأهمية الدور الذي يقوم به المتبوعون في الدنيا بإضلال أتباعهم عن الطريق المستقيم. يقول تعالى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ، إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ، وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ البقرة: 165 - 167. والتركيز في هذا المشهد، على إبراز تبرؤ المتبوعين من أتباعهم، يوم القيامة، وتمني الأتباع أن يعودوا إلى الدنيا، بعد أن عرفوا حقيقة متبوعيهم لكي يتبرءوا منهم أيضا. وهذا المشهد من مشاهد القيامة، يعرض على الأتباع، وهم ما زالوا في الدنيا، ليحذرهم من هذا الانقياد المعروفة عواقبه، فهم ما زالوا يملكون تحقيق أمنيتهم في التبرؤ من متبوعيهم. وهذه طريقة القرآن الكريم في تصوير المشهد قبل وقوعه بما فيه من مواقف، وحقائق، ولمسات نفسية، لتحقيق الغرض الديني منه. كما أن هذه المشاهد، تبرز اتصال الدنيا بالآخرة، إذ ينتقل الناس بأحوالهم ومواقفهم واعتقاداتهم وأفعالهم، وأدوارهم إلى اليوم الآخر، ليحاسبوا على ذلك كلّه، ويواجهوا نتائج أعمالهم. فصورة الإنسان في مشاهد القيامة، هي امتداد لحياته في الدنيا، بلا فواصل بين الدنيا والآخرة حتى يبقى اليوم الآخر قريبا من حسّه وشعوره، فيكون مستعدا له، وحذرا من وقوعه المفاجئ، ويقف الشيطان من وراء الأتباع والمتبوعين، يدفع الأتباع ويغويهم بالانقياد، ويغري المتبوعين بتضليل الأتباع والضعفاء، ثم ينفض يديه هو أيضا يوم القيامة

من ذلك كله، قال تعالى: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ .. إبراهيم: 22. ويطيل القرآن الكريم في تصوير العذاب بالنار، بعد تصوير مشاهد الحساب، حتى تتّضح نتائج الأعمال، وطبيعة العقاب والثواب. فيصوّر النار تصويرا حسيا مرعبا، فيذكر خزنتها، وأبوابها، وسعتها، وحرّها، ودخانها، ووقودها من الناس والحجارة، ويذكر صورا من العذاب المخيف، مثل نضج الجلود، والصهر، واللفح، وتسويد الوجوه، والسّحب عليها أيضا، والقيود، والسلاسل، والأغلال، والمطارق. كما يصور طعام أهل النار، وشرابهم ولباسهم، وغير ذلك من الصور الحسية المرعبة، التي تهدف إلى التخويف من عذاب الله، والتأثير في الإنسان، حتى يستقيم على منهج الله، ويبتعد عن مخالفته. ويبدأ القرآن الكريم بتصوير صفة النار، ووقودها من الناس والحجارة فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ البقرة: 24. والجمع بين الحجارة والكافرين في وقودها، إشارة إلى أن الكافرين، حين عطّلوا حواسهم غدوا كالحجارة قسوة وجمودا، فجاء هذا الجمع، وهذا التفاعل بين الصورة الآدمية، والصورة الكونية، في تصوير هولها، وشدتها، فهي تشعل الأجسام وتنضجها، وتصهر الأحجار، وتذيبها. لذلك، فإن تباهي الكفار بالأموال والأولاد لا يفيد، لأنهم وقود النار. قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ آل عمران: 10. فالكافرون، حين عطّلوا حواسهم، تجردوا من صفاتهم الإنسانية، فصاروا أشبه بالأشياء الجامدة، توقد بها النار مع الحجارة والحطب ونحوهما. كما أنّ القرآن يخوّف المؤمنين بها، ويرسم لهم طريق النجاة من عذابها، فعليهم أن يحموا أنفسهم أولا منها وذلك بالالتزام بأوامر الله وهم أيضا مسئولون عن أهليهم، حتى لا يكونوا من وقودها. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ

شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ التحريم: 6. وتصوير الملائكة خزنة النار ب «غلاظ شداد» يتناسب مع صورة النار الغليظة الشديدة. وهي من حيث المكان، ممتدة أيضا، حتى يلائم ذلك وقودها المخيف يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ، وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ق: 30. والصورة هنا تعتمد على التشخيص، حتى يتفاعل الإنسان مع هذه الصورة المرعبة، ويتغلغل تأثيرها في نفسه ويتخيّل الإنسان هذه النار الممتدة مكانا وزمانا، لتتسع لملايين العاصين والكافرين، وهي لا تضيق بهم بل تقول على سبيل التشخيص: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ. ولها أبواب توصد على أهل النار، فلا يفلتون من عذابها: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ، لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ، لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ الحجر: 43 - 44. فالنار- كما توحي به الصورة- دركات، وكل قسم له بابه المحدد أو المقسوم. والمنافقون في الدرك الأسفل منها إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ النساء: 145. ويصوّر القرآن، شدّة حرّها، وعنفها، وغيظها، وزفيرها وارتفاع نيرانها. قال تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً، إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً، وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً، لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً الفرقان: 11 - 14. وصورة النار هنا حيّة شاخصة، معروضة في مشهد مثير ومخيف، ويتمّ استعراضها بشكل مطوّل في المشهد، وتضفي عليها الحياة والحركة، لزيادة التأثير في النفوس، فالمكذبون بالساعة قادمون، من بعيد، وهي في انتظارهم، قد سعّرت، وأجّجت، وحين تراهم، تزداد اشتعالا وزفيرا. ثم تجسّم معاناتهم فيها بدعائهم على أنفسهم بالهلاك من شدة لسعها وحرقها. فالصورة ترسم مشهدها الخارجي، من خلال صوت النيران المشتعلة التي شخّصت في الغيظ والزفير، ثم رسم مشهدها من الداخل وهي تتحرق لرؤية المكذبين، وتشتاق إليهم، ثم مشهد المكذبين في داخلها مقيدين في مكان ضيق منها، زيادة في تعذيبهم، ثم جسّمت معاناتهم، بهذا الصراخ والدعاء بالهلاك، ومشهدهم وهم يدعون بالهلاك على أنفسهم، يقابل مشهدهم حين كانوا في الدنيا يكذبون بها.

وهكذا تتكامل عناصر التصوير، من الخارج والداخل للمشهد المرعب. كما يضاف عنصر السخرية من المكذبين، حين يجابون على دعائهم بالهلاك، بأنّ الهلاك الواحد لا يكفي، ولكن ادعوا هلاكا كثيرا مكررا لأنه لا يفيد شيئا. ويشترك خزنة النار، في زيادة تعذيب المكذبين، وذلك بتذكيرهم بموقفهم من الرسول المنذر لهم. قال تعالى: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ، تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ .. الملك: 6 - 8. وتكثر الصور التشخيصية للنار، لزيادة أثرها في النفوس فهي كما يقول سيد قطب: «في هذا المشهد حيّة متحركة يلقى إليها الذين كفروا كما يلقون إلى الغول، فتتلقاهم بشهيق وهي تفور، يملأ نفسها الغيظ حتى لتكاد جوانبها تتفجر من الحقد، إنه مشهد مروّع، تضطرب له القلوب، وتقشعر لهوله الجلود، وبينما هم في فزع من هذه الغول، التي تتميّز من الغيظ، وهي تتلقفهم بشهيق وهي تفور، نسمع خزنتها وحراسها، يتلقون كل فوج مدفوع بسؤال واحد مكرور، فكلّهم ذو شأن واحد مكرور: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ والجواب في ذلّ الاعتراف وخجل الانكسار: بلى قد جاءنا نذير فكذبنا .. » «8». ثم إنهم يعترفون، بأنهم قد عطّلوا حواسهم فلم يستجيبوا لدعوة الرسول وبعد هذا الاعتراف، يكون جوابهم فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ. ويتواصل التصوير للنار، ليرسم دخانها الخانق، وشرارها المخيف. فدخانها يتصاعد في ثلاث شعب وهي ليست ظليلة بل خانقة، كما أن شرارها المتطاير منها كالقصر، ضخامة، وكالجمالات تناثرا في كل مكان. قال تعالى: انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ، لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ، إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ، كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ المرسلات: 29 - 34. فالصورة هنا أيضا تقرب المشهد الغيبي، وتجعله حاضرا، على طريقة القرآن في تصوير مشاهد القيامة. فالقيامة هنا كأنّها حاضرة، لذلك جاء فعل الأمر بالانطلاق إليها، للاطلاع على ما فيها من أهوال «انطلقوا» ويكرّر فعل الأمر بالانطلاق، لرؤية هذا المشهد

_ (8) مشاهد القيامة: سيد قطب. ص 208.

المخيف، وإحياء المشهد بهذه الحركة التخييلية. ثم يبدأ استعراض المشهد وما فيه من صور مرعبة للنار، فدخانها كثيف متصاعد، في شعب ثلاث، وشرارها متطاير بكتل ضخمة، يتناثر هنا وهناك. وضخامة الدخان، وضخامة الشرر المتطاير، يعبران عن ضراوة النار وشدّتها. ثم تركّز الصورة، على رسم هذه الظلل المحيطة بهم من كل اتجاه، يقول تعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ الزمر: 16. وهناك صور أخرى للنار، مرتبطة بالصور السابقة، ومتناسقة معها، في رسم ضراوة النار وشدتها وهولها فهي مهاد، وفراش، وغواش في الوقت نفسه. يقول الله تعالى في ذلك: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ الأعراف: 41. فالصورة هنا تجعل النار مهادا، على سبيل السخرية، لأنّ هذا المهاد محرق وليس مريحا، كما تعودوا في صورة الفراش المريح، ثم إنها غطاء يغشاهم من فوقهم، وبذلك تكتمل صورة إحاطة النار بهم. وتعرض الصورة ألوانا من العذاب في جهنّم من ذلك إنضاج الجلود، وتبديلها بجلود أخرى، لكي يبقى العذاب دائما. قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ .. النساء: 56. وصورة إنضاج الجلود، مرعبة مخيفة، بمجرد استحضارها في الخيال، وما يتم في عملية الإنضاج من تقليب على النار، وإذابة لها، وما يصاحبها من أصوات وآلام .. حتى إذا تمّ إنضاجها وانتهت بدلت جلودا غيرها، وهكذا يستمر عرض الصورة في المشهد المرعب بشكل متكرر ليزداد التأثير بها في الحس والشعور واختيار الجلود هنا في التعذيب، لأنها مركز الإحساس بالألم، وتكرار تبديلها، يوحي بتكرار الألم واستمرار العذاب، كما أنّ الجلود هي وعاء الحواس الأخرى وهي شاملة للجسم كلّه. ويعتمد التصوير على الجملة الشرطية، في تكرار عرض مشهد العذاب، من خلال أداة الشرط «كلّما» وهناك أيضا صبّ الحميم فوق الرءوس، فيصهر الأمعاء، وما حوته البطون ومقامع الحديد، وثياب من نار، قال تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُ

مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ، وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ الحج: 19 - 21. والصورة ترسم الرعب والفزع لهذا العذاب الحسي المؤلم، من خلال تفصيل ثياب من نار، ومقامع الحديد، وصبّ الحميم فوق الرءوس. ويضاف إلى العذاب الحسي، عذاب معنوي، مجسّم في حركة محاولة الخروج من هذا الكرب والغمّ، وأذاقتهم عذاب الحريق، تهكما وسخرية منهم. وهذه الصورة مستمرة أيضا، تعتمد على الجملة الشرطية بأداتها «كلما» الدالة على ذلك، في رسم حركة متخيّلة لأهل النار، والنار تضربهم بلهبها، فترفعهم، حتى إذا كانوا في أعلاها، ضربوا بالمقامع من حديد فهووا إلى أسفلها من جديد، وهكذا يستمر العذاب «9» بنوعيه الحسي والمعنوي. ولون آخر من العذاب هو لفح الوجوه بالنار، أو تقليبها، أو سحبها، والوجه أكرم ما في الإنسان، فحين يتناول العذاب هذا الجزء، فالمراد بذلك، تحقير شأن أهل النار، لأن هذه الوجوه لم تعرف السجود لخالقها، فهي لا تستحق التكريم. فأهل النار يحشرون على وجوههم عميا وصما وبكما، تهوينا لشأنهم، وإذلالا لهم: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً الإسراء: 97. ففي الصورة، يجتمع ألوان من العذاب مثل السحب على الوجوه وهم عمي وصم وبكم، زيادة في إهانتهم واحتقارهم بالإضافة إلى حرقهم بالنار المستمرة التي لا تخبو. والسحب على الوجوه أيضا للمجرمين إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ القمر: 47 - 48. والسحب على الوجوه في الآخرة. يقابل استكبارهم في الدنيا على دعوة الله. ويضاف إلى العذاب الحسي في السحب على الوجوه، عذاب معنوي حين يقال لهم على سبيل التهكم والسخرية ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ. وتزداد هذه الصورة تفصيلا بإدخال عناصر أخرى في تشكيلها، حتى تتضح هيئتهم

_ (9) الكشاف: 3/ 9.

وهم يسحبون، كما تسحب الدواب، تطوّق أعناقهم بالأغلال، وأقدامهم بالسلاسل، ثم يسحبون على هذه الصورة في الحميم، الذي سبق تصويره بأنه يذيب الجلود، وما في البطون من أمعاء، ثم يربطون ويحبسون في النار، يقول تعالى في ذلك: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ، فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ غافر: 70 - 72. ولفظ يُسْجَرُونَ غنيّ بالدلالات الموحية بإهانتهم وتحقيرهم. فهو يوحي بربطهم، وسجرهم، كما تسجر الكلاب إلى الساجور «10». وأيضا من سجر التنور إذا ملأه بالوقود، فهم مسجورون بالنار، مملوءة بها أجوافهم، كما قال الزمخشري «11». وأيضا يسجرون أي يوقدون ويحرقون فيها «12». وتتنوّع الصور، في الدلالة علي العذاب، ضمن نظام العلاقات بين الصور، فهناك السحب على الوجوه، وأيضا كبّ الوجوه في النار، وربما تكون كبكبة الوجوه أولا، ثم سحبها على هذه الهيئة، فالصورتان تتفاعلان وتترابطان في الدلالة على شدة العذاب. قال تعالى: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ النمل: 90. والفعل (كبت) يصوّر بجرسه حركة الكبّ العنيفة على الوجوه، من شدة الهول والفزع. كما أن النار تلفح هذه الوجوه دائما، كما تلفح الظهور، دلالة على شمولها لهم، وإحاطتها بهم، وهم يحاولون ردّها، بدون فائدة، قال تعالى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ الأنبياء: 39. وتلمس الصورة لون الوجوه، بعد لفحها، قال تعالى: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ المؤمنون: 104. والوجوه الكالحة، تجسّم معاناة النفوس، من هذا اللفح بالنار، لأنّ الوجوه، تعبّر عن خفايا النفوس. ويقترن مع لفح الوجوه، التقييد بالأصفاد، واللباس القابل للاشتعال، زيادة في تصوير العذاب، يقول تعالى وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ، سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ، وَتَغْشى

_ (10) في القاموس المحيط الساجور: خشبه تعلّق في عنق الكلب. القاموس مادة سجر. (11) الكشاف: 3/ 436. (12) صفوة التفاسير: 3/ 110.

وُجُوهَهُمُ النَّارُ إبراهيم: 49 - 50. والصورة تعتمد علي التخييل الحسي، فالأردية من قطران قابل للاشتعال، بالإضافة إلى سواده وتلطيخه، كما أنهم مقيدون بالأصفاد، إمّا مثنى مثنى أو بتقييد اليدين مع الرجلين، حتى يتمّ غشيان النار وجوههم وهم عاجزون عن ردّها. وهناك صورة أخرى لعذاب الوجوه في النار، وهي تقليبها عليها، حتى تنضج، يقول تعالى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا الأحزاب: 66. فالصورة المتخيلة للوجوه تقلّب في النار، لتشملها من كل الجوانب، تثير الفزع في النفوس، ولا غرابة أن نلمس تأثيرها في أصحابها أولا في المشهد المعروض، حين انطلقت عبارات التمنّي والحسرة من أفواههم بعد فوات الأوان. وتكمل الصورة تعذيب الوجوه، برسم لونها الأسود، كأنّما هي قطعة من الليل من شدّة سوادها، يقول الله تعالى: كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يونس: 27. فالصورة حسية، ولكنها تعبر عن حالة نفسية كثيبة، كما أن الليل قد جسّم، فصار مادة محسوسة، قد مزّق إلى قطع سود، تلتصق على وجوه الكافرين، للإيحاء بشدة السواد. وتربط الصورة بين لون الوجوه في الآخرة، وبين الأعمال في الدنيا، حتى يكون اللون في الآخرة علامة بارزة على الأعمال، تشهيرا بأصحابها على رءوس الأشهاد. قال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ آل عمران: 106. فصور تعذيب الوجوه، ليست من قبيل التكرار، بل من قبيل تنويع العذاب، فهي صور مترابطة ضمن نظام العلاقات، لكي تحقق وظائفها النفسية والدينية والفنية. ويكثر تصوير أهل النار مقيدين بالسلاسل والأغلال، للإيحاء بعدم إفلاتهم من العذاب، وملازمته لهم، بالإضافة إلى تحقيرهم، وبيان عجزهم، يقول الله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً الإنسان: 4، وقوله أيضا: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ .. غافر: 70 - 71. وزيادة في تقريب العذاب من الأذهان، فقد عرضت مجموعة من الصور الحسية في

مشاهد مخيفة عن طعام أهل النار، وشرابهم، ولباسهم. وصور الطعام هي الزقّوم، والضريع، والغسلين. وهذه الصور مرتبطة بأعمال المعذبين، فمنهم من يكون طعامه الزقوم، ومنهم الضريع أو الغسلين، فالعذاب أيضا طبقات «13». يقول الله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ، عامِلَةٌ ناصِبَةٌ، تَصْلى ناراً حامِيَةً، تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ، لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ الغاشية: 1 - 7. ويعتمد التصوير من بداية المشهد المعروض، على الاستفهام لإثارة الذهن، ودفعه إلى تأمل الصور المرعبة المعروضة في مشهد العذاب، ويتبع الاستفهام بالغاشية وهي من صفات القيامة، لأنها تغشى الناس بأهوالها وأحوالها المفزعة، ثم يبدأ باستعراض صور العذاب، بالتفصيل، للتأثير والتخويف من عذاب الله. فالنفوس مكروبة مختنقة، وقد جسّمت حالتها في صورة الوجوه الذليلة المرهقة، وقد تعبت من كثرة السحب والجرّ في الجحيم، والشراب الكاوي من الحميم الذي يذيب البطون والأمعاء، والطعام الشائك السام والقاتل. وقد اجتمعت في العذاب أنواع من الصور اللمسية في الاصطلاء بالنار، والذوقية في الطعام والشراب، والنفسية في استمرار العذاب والمعاناة. فالصورة تلحّ على العذاب الحسّي للأبدان في الطعام والشراب والنار، كما تلحّ على العذاب المعنوي في الخزي المرسوم على ملامح الوجوه الذليلة المرهقة من كثرة العذاب وأنواعه واستمراره. وطعام «الزقّوم» من أشد أنواع العذاب. وقد صوّر الله غرابة هذا الطعام. من خلال شجرة الزقوم الغريبة في منبتها في أصل الجحيم، والغريبة في شكلها التي تشبه رءوس الشياطين. والغريبة في قوة تأثيرها في بطون الكافرين. قال تعالى في ذلك: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ، إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ، فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ، ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ، ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ الصافات: 62 - 68. والصورة لطعام الزقّوم، ترسم بالخطوط والهيئات والحركات، لتحقيق الأثر النفسي.

_ (13) صفوة التفاسير: 3/ 552. والكشاف: 4/ 246.

فشجرة الزقّوم تنبت في الجحيم ولا تحترق، ثم طلعها غريب، كغرابة رءوس الشياطين، وهذه الرءوس للشياطين غير مرئية، لكن المخيّلة تستحضر صورتها المفزعة، لهذا بنيت الصورة على أثرها المحسوس في النفوس، ثم يترك للخيال أن يتابع الكافرين، وهم يأكلون الزقّوم أو رءوس الشياطين، ثم تمضي الصورة في رسم الحركة التخييلية الحسّية بعد أن رسمت هول المكان، وأصل الشجرة وشكل ثمارها، فالكافرون يأكلون من هذه الثمار الغريبة فتنتفخ بطونهم منها، وتشاك حلوقهم، فيشربون عليها ماء ساخنا حميما، فيتراكم العذاب عليهم، عذاب النار والطعام والشراب. وفي موضع آخر، تلمس الصور الفنية أثر طعام الزقّوم في البطون، فتغلي أجواف آكليها، فيندفعون يطلبون الماء، فلا يجدون إلا شرب الحميم الكاوي أيضا للبطون، فيشربون منه شرب الهيم بلا ارتواء، قال تعالى في بيان ذلك: لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ، فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ، فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ، فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ الواقعة: 52 - 55، وقوله أيضا: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ، طَعامُ الْأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ الدخان: 43 - 44. وشرب الحميم يقطع الأمعاء وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ محمد: 15. وهكذا تتكامل صورة الزقوم، من خلال تصوير شجرتها، وثمارها، وآثارها في البطون، وهي صور مترابطة في تحقيق التخويف من عذاب الله، وهي مقترنة مع صورة الحميم، ومتفاعلة معها، في حرق البطون وتقطيع الأمعاء. والطعام الآخر هو الغسلين أو الغساق، وهما بمعنى واحد، ويقصد ما سال من جلود أهل النار عند احتراقهم فيها مثل القيح والصديد وغير ذلك. قال تعالى: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ الحاقة: 35 - 37، وقوله أيضا: هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ ص: 57 - 58. أمّا شرابهم فهو الحميم الساخن، الذي يقطع الأمعاء وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ. كما أنّ أثره يمتد إلى الوجوه فيشويها من شدة حرارته المتصاعدة وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً الكهف: 29. أو أنّ شرابهم من الصديد وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ، يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ إبراهيم: 16 - 17. وأمّا لباسهم فمن نار أيضا: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ

رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ .. الحج: 19. أو من قطران قابل للاشتعال وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ، سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ .. إبراهيم: 49 - 50. وهذه الصور الحسية، وما بينها من علاقات وروابط، ترسم أشد أنواع العذاب، وأقصى درجاته، لتقريب صورته من أذهان الناس، ويبقى عذاب الله أشد وأقسى من هذه الصور التقريبية. فنار الله تتحرق وتتلظى، وتنزع الجلود نزعا عنيفا. كسلخ جلود الشياه كَلَّا إِنَّها لَظى وهناك مشاهد للمعذبين في النار، تكشف عن شدّة معاناتهم، وحوارهم وخصامهم، ويأسهم من الخروج، ومحاولتهم التوسط، لتخفيف العذاب، ولو يوما واحدا. قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ، قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ غافر: 49 - 50. ويكشف الستار في هذا المشهد عن أهل النار، وهم يتضرعون، ولا يستجاب لهم، ويذكرون بماضيهم في الدنيا، حين كذبوا بالرسل، ويسدل عليهم بعد تيئيسهم وتوبيخهم. ويكشف الستار عن مشهد آخر لهم وهم يائسون، يتمنّون الهلاك والموت، بل يطلبون من مالك خازن النار أن يقضي الله عليهم بالموت ليرتاحوا من العذاب، ولكنهم لا يجابون أيضا: قال تعالى: وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ الزخرف: 77. كما أنّهم في حالة تخاصم، وتبادل الاتهامات، والشتائم، وتمنّى أحدهم للآخر عذابا مضاعفا، قال الله تعالى: هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ، قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ، قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ ص: 59 - 61. وهم أذلاء، يستنجدون بأهل الجنة في مشهد موح فيه تذكير بماضيهم، وترذيل لأفعالهم قال تعالى: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ الأعراف: 50.

وبهذا المشهد يكتمل تصوير أهل النار، وما هم عليه من ألوان العذاب، فلا خروج، ولا إفلات، ولا تخفيف من العذاب، بل هو عذاب دائم خالد، في نار حامية، كثيفة الدخان، تحرق الأجساد، وتكويها. وهكذا رأينا كيف تكمل الصور بعضها بعضا في رسم أهوال النار، ابتداء من سعتها وأبوابها الموصدة، ووقودها الناس والحجارة، وشدة حرّها وزفيرها وكثافة دخانها الخانق، وضخامة شرارها المتطاير، وإحاطتها بأهلها إحاطة تامة، وإغلاق أبوابها عليهم، وتقييدهم بالسلاسل والأغلال والأصفاد، وأذاقتهم أنواعا من العذاب، مثل إنضاج الجلود، ولفح الوجوه وتقليبها، وسحبها، وطعام الزقوم، وشرب الحميم، ومقامع الحديد، وانتهاء بمجالس أهل النار ومشاهدهم فيها كما بينا مما يؤكد نظام العلاقات بين الصور في تحقيق وظائف الصورة. وتقابل مشاهد العذاب في النار، مشاهد النعيم في الجنة، وهي مشاهد حية شاخصة، وكأنّها حاضرة. وصور النعيم أيضا تسير على نظام العلاقات، لتحقيق وظيفة الصورة الدينية كما بيّنا سابقا. وهي مستمدّة من مألوف الناس، وما تعارفوا عليه من أنواع النعيم، كما كانت في مشاهد العذاب أيضا، ولكن القرآن الكريم يرقى بهذه الصور الحسية، فيجعلها متشابهة في الظاهر مع النعيم الحسي في الدنيا فحسب، بيد أن مذاقاتها وطعومها مختلفة. ويبدأ تصوير مشاهد النعيم، بفتح الآفاق أمام الخيال ليتصوّر ما شاء من أنواع النعيم وألوانه، وذلك حين يستره، ولا يظهره في التعبير إلا عن طريق الإيحاء به، كقوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ السجدة: 17. فهو نعيم تقرّ به العيون، ويترك للخيال أن يستحضر أنواعه، وتلتذّ النفس بالتشوّق إليه، وكأنّ الصورة هنا تريد الإيحاء من هذا الإجمال بأنه نعيم لا مثيل له، ولكنّ الصورة فصلّت في أنواع هذا النعيم في مواضع أخرى. ابتداء من تصوير سعة الجنة، وأبوابها، وأنهارها. وجمالها، وطعام أهلها، وشرابهم ولباسهم، ومجالسهم، وانتهاء بمشاهد اطلاعهم على أهل النار وحوارهم معهم. وقد رسمت الصورة مساحة واسعة للجنة، من خلال ما يدركه عقل الإنسان من المساحات

الواسعة، قال تعالى: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ الحديد: 21. وهذه المساحة الواسعة، تتلاءم مع أنواع النعيم، الذي لا نظير له فيها، وبذلك تتسع مساحة الجنة في حسّ الإنسان وشعوره، وتتضاءل الدنيا بما فيها من ملذّات ومتاع. ثم ترسم الصورة أبوابها، وخزنتها من الملائكة. زيادة في التكريم والترحيب بأهلها، قال تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ، وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الزمر: 73 - 74. والسوق هنا، هو سوق مراكبهم إلى دار الكرامة والرضوان، لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين فشتان ما بين سوق المؤمنين إلى الجنة زمرا، وسوق الكافرين إلى النار زمرا «14». ومشهد أهل الجنة حافل بالحركة والحفاوة والترحيب، ومشاعر السرور، والفرحة، وعبارات الثناء والتكريم، فالملائكة يستقبلونهم بكلمات الترحيب، والتذكير بماضيهم طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ، ومشاعر السرور مجسّمة في صورة الدعاء: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ. والحركة المصوّرة، تبدأ من مشهد إقبالهم نحو الجنة على هيئة وفود، وجماعات، ثم تستمر عند أبواب الجنة حين تفتح لهم، مع عبارات السلام والثناء من الملائكة، ثم تستمرّ حركة المشهد بعد دخولهم الجنة، فتجسّم مشاعرهم في صورة دعاء وحمد لله، بعد أن تبوّأ كل واحد مكانه فيها، واطمأن، واستقر. ويجتمع الآباء والأزواج والذرية في مشهد النعيم، وتشاركهم أيضا الملائكة في هذا السرور. قال سبحانه وتعالى: أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها، وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ الرعد: 23 - 24. وذكر الأقارب والأحباب في المشهد، يلامس المشاعر والقلوب، ويوحي بالعمل الصالح الذي يجمعهم كلّهم في مشهد النعيم.

_ (14) صفوة التفاسير: 3/ 89. والكشاف: 3/ 411.

وهو مشهد حيّ يعرض كأنّه حاضر. نراه في حركة دخول الملائكة من كل باب، وهم يلقون التحية والسلام، ويذكرونهم بما كان منهم من صبر على العمل الصالح. ومن نعم الجنة، كثرة الأنهار الجارية فيها، وهي أنهار متنوّعة. يقول تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى، وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ محمد: 15. فالشراب يناسب كل الأذواق، والله أعلم بما يفضله البشر من أنواع النعيم الحسي. لذلك جاء هذا التنويع في الشراب ليلبي رغبات البشر، ويستثير فيهم شوقهم إلى الجنة. والمشهد هنا كلّه أشربة، وهي أنهار أيضا، لتوحي بالكثرة والوفرة، والديمومة وعدم الانقطاع. ولكنّ هذه الأشربة، وإن كانت معروفة لدى الناس في الدنيا، طعمها مختلف، ونوعها أجود، ثم تضاف أنواع الثمرات، إلى مشهد الشراب، ليكتمل النعيم الحسي، وقد تركت الثمرات مجملة بدون تفصيل لاستثارة الخيال، كي يستحضر أنواعها، وطعومها، وألوانها وأشكالها. وهناك النعيم المعنوي إلى جانب النعيم الحسي، ويتمثّل في المغفرة من الله. وإلى جانب أنهار الجنة، هناك العيون الكثيرة. قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ الحجر: 45، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ المرسلات: 41، فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ الرحمن: 50، فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ الرحمن: 66، إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً، عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ، يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً الإنسان: 5 - 6، عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ المطففين: 28، عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا الإنسان: 18. وهذا التنويع للعيون، يقصد به مراعاة، مراتب أهل الجنة، من ناحية، وحثّ الإنسان، واستثارة عاطفته لهذا النعيم الخاص، من ناحية أخرى. كما أنّ الصورة، تناولت «بناء الجنة» على شكل غرف حينا، وقصور ضخمة، أو مساكن، حينا آخر، قال تعالى: وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ التوبة: 72، وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ سبأ: 37، أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا، وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً الفرقان: 75. وهي غرف مبنية بعضها فوق بعض على شاكلة القصور لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ الزمر: 20.

وهناك الخيام المعروفة لدى العرب أيضا حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ الرحمن: 72. فبناء الجنة، يوافق كل الأذواق لدى البشر، حضره، وبدوه، كما يشبع حاسة الجمال لدى الإنسان. فهي غرف مبنية بعضها فوق بعض، والخيال يتملّى صورتها على هذا الشكل الجميل، ويسرح بما فيها من أنواع الزينة والنعيم. وهذه الصورة للنعيم تقابل صورة العذاب في صورة ظلل النار من فوقهم ومن تحتهم. فالصورتان متقابلتان من حيث هيئة البناء وشكله، ولكنه للكافرين بناء من نار وظل ودخان، وللمؤمنين بناء محكم جميل على شكل طوابق، تمتع النظر والخيال. ثم يصوّر القرآن الكريم أشجار الجنة، وأنواعها، وثمارها، ففيها أشجار العنب والنخل والرمان والفاكهة، كما فيها أشجار السدر والطلح. يقول الله تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً، حَدائِقَ وَأَعْناباً النبأ: 31 - 32. فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ الرحمن: 69، وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ، وَماءٍ مَسْكُوبٍ، وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ، لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ الواقعة: 27 - 33، وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ الواقعة: 20، وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ المرسلات: 42. فالصور هذه حسية مألوفة لدى الإنسان في الدنيا، وقد ذكرت هنا في نعيم الآخرة، لتقريب الصورة من الأذهان ولو أن الله خاطب الإنسان بصور لا يعرفها ما كان للجنة هذا التأثير في النفوس. ولكن ثمار الجنة، لا تشبه الثمار في الدنيا إلا من حيث الشكل والاسم، وأما طعومها فمختلفة، يقول الله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ البقرة: 25. وتشابه الثمار في المظهر، مع اختلاف طعومها، يحقّق المفاجأة العزيزة لأهل الجنة من حيث لا يتوقعون، مع شيء من المداعبة، لأهل النعيم، تزيدهم سرورا وشعورا بلذة هذا النعيم، بالإضافة إلى إبراز مظاهر قدرة الله سبحانه في وضع الفروق بين المتشابه، وتعدد الأنواع، والمظهر متقارب «15».

_ (15) مشاهد القيامة: 234.

وترسم الصورة أشجار الجنة بأغصانها، وفروعها، وألوانها، وثمارها الدانية، وما يصاحبها من ظلال ظليلة، حتى تكتمل صورة جمال أشجارها، مع حركة ظلالها الممدودة، وتتناسق مع جمال بنائها والأنهار، والعيون الجارية فيها. يقول الله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، ذَواتا أَفْنانٍ الرحمن: 46 - 48. وقوله في لون أشجارها الشديدة الخضرة: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، مُدْهامَّتانِ الرحمن: 62 - 64. وقوله في قطوفها الدانية: وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا الإنسان: 14، وفي ظلّها الظليل يقول تعالى: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ الواقعة: 30، وقوله أيضا: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ المرسلات: 41. ومنظر الظلال جميل مبهج للنفوس، ومريح لها، وهو يقابل هنا صورة الظلل الخانقة للنار. وهذا التصوير لمساحة الجنة، وبنائها، وقصورها وغرفها وخيامها، وحدائقها وأشجارها وأنهارها وعيونها، وثمارها الدانية، وظلالها الممتدة، هو تصوير خارجي للمكان، ثم يمضي تصوير الجنة من الداخل وما فيها من ألوان النعيم، تشمل طعام أهل الجنة، وشرابهم، ولباسهم، وزينتهم، ومجالسهم وزوجاتهم ونحو ذلك. حتى يكتمل تصوير النعيم من الخارج والداخل، في صور فنية موحية ومؤثرة. فالطعام متنوّع، حسب ما تشتهي النفوس يقول الله تعالى: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ الزخرف: 71، وقوله أيضا: وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ الواقعة: 21. والشراب كذلك متنوع أيضا. يقول تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً الإنسان: 5، وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا الإنسان: 17، وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ المطففين: 27. وهذه صور حسية ذوقية، تقابل الصور الذوقية لأهل النار، لإيضاح الفروق بين ألوان النعيم، وأنواع العذاب. ومن أنواع الشراب في الجنة «الخمر» ولكنها خمرة خالية من العيوب، والآثار السيئة.

وشتان بين خمرة الدنيا التي تذهب العقول، وتصدع الرءوس، وبين خمرة الجنة الصافية الرائقة الخالية من هذه الآفات، يقول تعالى فيها: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضاءَ، لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ الصافات: 45 - 47. وهي مختومة، ورائحتها كالمسك يقول تعالى: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، خِتامُهُ مِسْكٌ المطففين، 25 - 26. وأواني الطعام والشراب، من ذهب أو فضة، زيادة في التكريم والتنعّم، يقول تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ الزخرف: 71، وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا، قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً الإنسان: 15 - 16. وهذه صور حسية بصرية، تشبع رغبة النفوس في تذوق الجمال الحسي، تضاف إلى الصور الذوقية في الطعام والشراب. والأواني أيضا متنوعة منها الأكواب والأباريق والكئوس، يقول تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ، بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ الواقعة: 17 - 18. وثياب أهل الجنة من الحرير الزاهي الألوان، كما يتحلّون بأساور الذهب والفضة واللؤلؤ. يقول تعالى: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ الحج: 23. وقوله أيضا: وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً الإنسان: 21. ولون الثياب خضر من سندس وإستبرق يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً الكهف: 31. عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ، وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ الإنسان: 21. كما أن هناك أنواعا أخرى من النعيم، معروضة في صورة حسية مترفة. فأماكن الجلوس، مفروشة بالسجاجيد، والبسط، والوسائد، وفيها السرر المرفوعة الراقية، وهي مفروشة بتناسق وانسجام وجمال حتى تدخل السرور إلى النفوس، وتمتع الأبصار قال تعالى: فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ الغاشية: 13 - 16. مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ الرحمن: 54، مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ الطور: 20، ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ، عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ، مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ الواقعة: 13 - 16.

وصورة الخدم لأهل الجنة، توحي بالإكرام والإعزاز لهم، وتزيد من ألوان النعيم. قال تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ، بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ الواقعة: 17 - 18. فهي حركة دائبة. في خدمة أهل الجنة، والتطواف بهم، لتلبية رغباتهم. وهؤلاء الخدم كأنهم اللؤلؤ المنثور وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً الإنسان: 19. وهناك أيضا الحور العين كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ الدخان: 54. وترسم الصورة جمال الحوريات، فهنّ سود العيون (حور عين) وهنّ متقاربات في السنّ، خلقهن الله كواعب أترابا. إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً حَدائِقَ وَأَعْناباً وَكَواعِبَ أَتْراباً النبأ: 31 - 33. وخلقهن عربا أبكارا إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً، فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً، عُرُباً أَتْراباً الواقعة: (35 - 37). وقد صورهنّ القرآن في جمالهنّ وصفائهنّ باللؤلؤ المكنون: وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ الواقعة: 22 - 23، وتوحي صورة اللؤلؤ المكنون أنهنّ مصونات ولسن متبذلات. ويصورهنّ القرآن أيضا بالياقوت والمرجان، بالإضافة إلى الجمال المعنوي فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ الرحمن: 56 - 58. وهناك حور عين في الخيام أيضا: حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ الرحمن: 72. ونساء الجنة يختلفن عن نساء الدنيا فهنّ مطهرات وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ البقرة: 25. فهذه الصور الحسية للنعيم، صور تقريبية، لأنها تعبّر عن أقصى ما يدركه العقل الإنساني من النعيم المادي، لذلك جاءت هذه الصور من النوع المألوف لدى الإنسان، حتى تشوّقه إلى الجنة، والعمل لها. وفي مقابل وجوه أهل النار السود الذليلة، وجوه أهل الجنة الناعمة الراضية وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ الغاشية: 8 - 9. وتجسّم قسمات الوجوه النفوس المطمئنة بنعيم الجنة تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ المطففين: 24. ولكنّ القرآن الكريم، لا يقيد النعيم الأخروي في إطار هذه الصور المعروضة، وإنما يفتح

عقل الإنسان، وخياله للمزيد من هذا النعيم. وهذا النعيم المادي، يختلف عن نعيم الدنيا من حيث الطعوم وغيرها من ناحية، ولأنّه يقدّم للإنسان بدون جهد منه من ناحية أخرى، بالإضافة إلى خلود هذا النعيم، وعدم انقطاعه. وهناك أيضا النعيم المعنوي ويتمثّل في مجالس أهل الجنة، وما فيها من سمر وسرور، وأحاديث، وتزاور، قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ، وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ، لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ الحجر: 45 - 48. فأهل الجنة متحابّون، أصفياء، لا غلّ في صدورهم، ومجالسهم، كلّها سرور ونعيم، ليس فيها لغو الحديث، ولا الكذب، مما كان يكدّر مجالس الدنيا، أو ممّا هو معروف عن مجالس أهل النار. قال تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً النبأ: 35 - 36. وهناك النعيم الأكبر، وهو لذّة القرب من الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ القمر: 54 - 55. ويصوّر القرآن الكريم، مشاهد من مجالس أهل الجنة، وما يدور بينهم من أحاديث، وتذكّر الماضي في الدنيا زيادة في المتعة والنعيم. قال تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ، قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ، إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ الطور: 25 - 28. ومشهد أهل الجنة هنا، وهم يتبادلون الأحاديث والذكريات بهدوء وحبّ، يقابل مشهد أهل النار، وهم في خصام وجدال واتهام وشتائم ... وهذه طريقة القرآن الكريم في المقابلة بين مشاهد النعيم ومشاهد العذاب، حتى يتحقّق الغرض الديني من التصوير. ويصوّر القرآن الكريم، مشهدا لأحد أهل الجنة، وهو يقصّ على أصحابه ذكرياته الماضية في الدنيا، وأنّه كان له قرين يكذب بالحساب، فأحبّ أن يعرف أخباره، فاطّلع فرآه في سواء الجحيم، يقول تعالى: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ، قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ، إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ، يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ، قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ،

فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ، قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ، وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ، أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ، إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ الصافات: 50 - 61. فهذا المشهد، يصوّر حديث أهل الجنة الهادئ السامر، يتحدثون عن ماضيهم بكل ما فيه من صور ذهنية مختزنة في ذاكرتهم عن أشخاص معينين، ومواقف، وأحداث. والمشهد حيّ شاخص، فيه الحوار الدائر بين الأشخاص، وفيه الذكريات، والحركة، والانتقال من مشهد النعيم إلى مشهد العذاب، كذلك فيه الحوار الدائر، بين صديقين في الدنيا، أحدهما من أهل الجنة والآخر من أهل النار، فيه تذكير بالمواقف والأفكار. وهذا المشهد يكشف عن مجالس أهل الجنة الهادئة وما فيها من سمر وطمأنينة، ويرفع الستار عن المشهد، وفيه واحد منهم يقصّ على أصحابه ماضيه، وذكرياته مع صديق له، ثم فجأة ينتقل المشهد إلى صاحبه في النار، ثم يبدأ الحوار بين رجل الجنة وقرينه. وتتّضح المواقف، والحقائق ثم يسدل الستار. ويصوّر القرآن مشاهد الحوار بين أهل الجنة وأهل النار، لتوبيخ أهل النار وتبكيتهم، وإظهار نعمة الله على أهل الجنة، يقول تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الأعراف: 44. كما يعرض القرآن الكريم صورة لأهل الجنة وهم يسخرون من أهل النار. قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ، وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ، وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ، فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ المطففين: 29 - 36. وهنا يتقابل مشهدان، مشهد الماضي، وفيه يعرض موقف المجرمين من أهل الإيمان وسخريتهم منهم، واتهامهم بالضلال والغباء ونحو ذلك وعرض هذا المشهد الماضي في مشاهد القيامة والإطالة فيه، يقصد به تذكير المجرمين بأفعالهم وأقوالهم. وفي المشهد الثاني المقابل، تتغيّر فيه صورة الماضي فالمؤمنون هم الذين يسخرون من المجرمين، ويضحكون

من أهل الجحيم. والتقابل بين المشهدين، له أثره في التوجيه، والتأثير الديني. وبعد هذا الاستعراض المطوّل لمشاهد القيامة، يمكننا القول بأن الصورة الفنية، قد رسمت تلك المشاهد بدقّة وعناية، معتمدة على التصوير المتدرّج، والمترابط. ضمن نظام العلاقات بين الصور أو المشاهد. وقد شكّلت هذه المشاهد في النهاية بناء محكما ونسيجا موحدا وتصميما متميزا، ضمن الأسلوب القرآني ولكنّها ليست معزولة عن أنساق الصور الأخرى، بل هي متفاعلة معها، ومترابطة بها. ضمن نظام العلاقات التصويرية والتعبيرية والفكرية، الذي هو القاعدة التي يقوم عليها الأسلوب القرآني. ثم إن هذه المشاهد تكوّن، وحدة مترابطة، ضمن الأسلوب القرآني أيضا. فإذا أعدنا النظر فيها، نلاحظ أنها بدأت بتصوير النفخة في الصور، إيذانا بالانتقال إلى عالم جديد، يختلف في قوانينه عن عالم الدنيا. وبعد هذه الإشارة أو العلامة على انتهاء الدنيا، تبدأ الصورة برسم مشاهد الفناء لعالم الدنيا، بأرضه وسمائه، وجباله، وبحاره، وشمسه، ونجومه، وما فيه من مخلوقات أيضا. ولكنّ مشاهد الفناء الكونية والإنسانية، لم تطل، حتى لا تنطبع صورة الفناء طويلا في ذهن الإنسان، فيعتقد أنه النهاية للعالم، وإنما تبدأ مشاهد حياة جديدة، بنفخة في الصور جديدة، تصاحبها حركة خروج، وانبعاث من القبور، ثم حركة انتشار وفوضى، تعقبها حركة تجمّع، في صفوف منتظمة في مشاهد الحشر، للحساب والجزاء. ثم تبدأ الصورة برسم مشاهد الحساب، بما فيه من وزن وميزان وأعمال حاضرة وشهود وحاكم، ثم يقضى بين الناس، بعد استعراض سجل أعمال الإنسان، وإقامة الحجة عليه من نفسه وحواسه، التي تشهد عليه مع شهادة الملكين والرسل، وسجل أعماله. ثم يتوزّع الناس حسب أعمالهم، إما إلى الجنة، وإمّا إلى النار ثم يبدأ تصوير مشاهد الجنة، من خارجها أولا، فترسم مساحتها الواسعة، وما في هذه المساحة من أشجار، وأنهار، وحدائق وعيون، ثم يقترب التصوير من بناء الجنة، فيرسم أبوابها، وحرّاسها وشكل هذا البناء الشاهق، على شكل غرف بعضها فوق بعض، أو قصور،

ثم ينفذ التصوير إلى رسم الجنة من داخلها فينقل لنا مشاهد النعيم في الطعام والشراب واللباس والزينة، والأثاث، ومجالس أهل الجنة وما فيها من سمر وأحاديث، وذكريات، ثم يرسم مشاهد حوار أهل الجنة مع أهل النار. فالمشاهد للنعيم مترابطة، تستوفي أقصى ما يتصوره الإنسان من أنواع النعيم اللذيذ. ويسير تصوير مشاهد النار، على النسق نفسه، فتعرض متقابلة مع مشاهد الجنة، لإبراز الفروق بين الاثنين. فيبدأ تصوير النار، برسم مساحتها الواسعة أيضا، وخزنتها الغلاظ، وأبوابها، ووقودها من الناس والحجارة، وحرّها، ودخانها، وشرارها المتطاير الضخم. ثم يبدأ تصوير عذابها من داخل النار، فترسم مشاهد العذاب المخيف مثل إنضاج الجلود، والصهر، واللفح وتسويد الوجوه، وتقليبها على النار، وسحبها، كذلك الربط بالسلاسل والأغلال والأصفاد، والضرب بالمقامع من حديد. كما ترسم الصورة طعام أهل النار من الزقوم، والصديد، والقيح، وشرابهم من الحميم، والغسّاق، ولباسهم من نار. كما ترسم مشاهد أهل النار وهم فيها يتخاصمون، ويتبادلون الاتهامات والشتائم، ويتوسطون لدى خزنة النار بأن يخفف الله عنهم يوما واحدا من العذاب، ثم يتوسطون لدى مالك خازن النار، أن يطلب من الله أن يهلكهم ليستريحوا من العذاب، ثم مشاهد وهم يتوسطون أهل الجنة أن يفيضوا عليهم بعض أنواع النعيم ... وهكذا. فالمشاهد للنعيم والعذاب، تسير في خط متقابل، لتحقيق الغرض الديني في الترغيب والترهيب. لأن هذه المشاهد، تعرض على الإنسان، وهو ما زال في الدنيا، وبإمكانه أن يختار نهاية لحياته على بصيرة، ومعرفة بالعواقب والنتائج لأعماله في الدنيا.

الباب الثالث الوظائف البعيدة للصورة الفنية في القرآن الكريم

الباب الثالث الوظائف البعيدة للصّورة الفنّيّة في القرآن الكريم الفصل الأول: الوظيفة الفنّيّة. الفصل الثاني: الوظيفة النّفسيّة. الفصل الثالث: الوظيفة العقليّة. الفصل الرابع: الوظيفة الدينيّة.

- بين يدي الباب:

- بين يدي الباب: ترتبط هذه الوظائف، بالوظائف القريبة، وتتلاحم معها، ضمن نظام العلاقات بين وظائف الصورة الفنية في القرآن الكريم، لإيضاح الحقائق الدينية أو الرؤية الإسلامية المتكاملة للكون والحياة والإنسان. وهو ما عبّر عنه الجرجاني ب «معنى المعنى»، إذ ندرك من الصور المعروضة معنى، ثم يوصلنا هذا المعنى، إلى معنى آخر، وهو ما نعني به الوظائف البعيدة. وقد عبّر العقاد عنها بالمعاني المجردة، المستخلصة من الصور المجازية. كما بيّنا سابقا في الباب الثاني. ويتّضح في الوظائف البعيدة، منهج القرآن الكريم في بناء الإنسان الذي هو هدف الخطاب في النص القرآني وهذا المنهج التربوي لبناء الإنسان فكرا وسلوكا وشعورا، يعتمد على التصوير الفني الذي هو القاعدة الأساسية في الأسلوب القرآني. وتعتبر الوظيفة الدينية هي المحور الذي تدور من حوله الوظائف القريبة، والبعيدة للصورة الفنية في القرآن الكريم، وقد أكسبت هذه الوظيفة النص القرآني. وحدة وترابطا وانسجاما وتأثيرا. فهي تشدّ جميع الوظائف إليها بنظام العلاقات التصويرية والتعبيرية والفكرية، وتتجمّع جميع الصور بأنواعها، ووظائفها، لتحقيق هذا الغرض الديني.

الفصل الأول الوظيفة الفنية

الفصل الأول الوظيفة الفنيّة تتميز الصورة الفنية في القرآن الكريم، بأسلوبها، وموضوعها، ومواد تشكيلها، ووظائفها. فهي صورة «مكثّفة» للأفكار الدينية، ولكن هذا التكثيف للأفكار الدينية، لم يؤثر في بنائها الفني بل إن بناءها الفني يعدّ الوسيلة المفضّلة، للتعبير عن الأغراض الدينية المتعددة. وبذلك تجمع الصورة القرآنية بين الوظيفة الفنية، والوظيفة الدينية، في نسيج موحّد، مقصود في التعبير القرآني، لأنّ الله سبحانه أراد من خلال البناء الفني للقرآن، أن يحقّق غرضا دينيا، وهو إعجازه للبشر، فكما أنّ الإعجاز الإلهي ملحوظ في الكون والحياة والإنسان، فهو، أيضا ظاهرة مقروءة في كلامه، وهو القرآن الكريم. فوظائف الصورة القرآنية، متداخلة، تعتمد على العلاقات، والروابط فيما بينها، لتشكيل بناء تصويري واحد، وإن تعددت فيه الأنظمة، والعلاقات التي تربط بين لبناته، فهذا مما يزيد في صفاته الجمالية أو الفنية. وتبدو الصورة القرآنية بتشكيلاتها ووظائفها، بنية واحدة، قائمة على أنظمة وقوانين متعددة هي التي تعطيها شكلها المكتمل في النهاية. هذا النظام الدقيق المتناسق بين أجزاء الصورة، ووظائفها، يشبه نظام الكون في بنائه، وتناسقه، فهو يرجع إلى أجزاء مكوّنة له، وهذه الأجزاء محكومة بنظام القوانين والعلاقات، المتناسقة، التي تتآزر فيما بينها، لإعطاء هذا البناء شكله النهائي. كالوردة الجميلة، ترجع إلى مجموعة من الأنظمة المكوّنة لها، والتي تعاونت، فيما بينها، لإعطائها هذا الشكل الجميل والمؤثر في النفس، ففيها- مثلا- اللون والرائحة، والشكل

المتناسق بين أجزائها، وفيها الحياة السارية في خلاياها، كل ذلك يكسبها شكلا مكتملا، يحدث الأثر الجمالي في النفس الإنسانية. والصورة في القرآن الكريم، تعتمد النظام نفسه في بنائها المكتمل، وفي أداء وظيفتها الدينية في النهاية، لأنّ القرآن كلام الله، وهو الذي بنى الكون والحياة والإنسان، وفق أنظمة متعددة، أو قوانين متناسقة، كذلك الصورة في بنائها ووظيفتها، تعتمد نظام العلاقات أو القوانين المكوّنة لها. فتبدأ من العلاقات الجزئية للحروف المكوّنة للكلمات، ثم تتسع في علاقات الكلمات في الجمل، ثم في نظام الجمل واتساقها مع المعنى والسياق العام، حتى نصل إلى البناء النهائي للصورة تشكيلا ووظيفة. وما يقال عن الإعجاز في الكون والحياة والإنسان، الكامن في نظام العلاقات والروابط، لتحقيق الوظائف، يقال أيضا عن الصورة الفنية في القرآن الكريم. ولكنّ عناصر البناء في الصورة الفنية، غير عناصر البناء في الكون والحياة والإنسان، وإن كان النظام المتّبع هو النظام نفسه، لأن المصدر واحد فيها جميعا، وهو الله سبحانه وتعالى. وقد ساعدت «اللغة العربية» في بناء الصورة الفنية في القرآن الكريم، لأنها لغة تصويرية، في طبيعتها، وهي من أكثر اللغات انسجاما مع تصوير الحالات النفسية والذهنية، والمواقف الإنسانية، والمقاييس الجمالية. فهي بحروفها وألفاظها، وتراكيبها كنز مذخور، للتعبير الفني أو التصوير الجمالي. لهذا اعتبرها عباس محمود العقاد لغة فنية لأنها «في جملتها فن منظوم منسّق الأوزان والأصوات» «1» فحروف الأبجدية المعروفة، قد استوفت المخارج الصوتية كلّها «فليس هناك مخرج صوتي واحد ناقص في الحروف العربية» «2»، وهي أوفر عددا في أصوات المخارج من غيرها من لغات العالم «التي لا تلتبس ولا تتكرّر بمجرد الضغط عليها» «3».

_ (1) اللغة الشاعرة: ص 8. (2) المصدر السابق: ص 9 - 10. (3) المصدر السابق: ص 9.

فاللغة العربية- بهذه الاعتبارات وغيرها- كما يقول العقاد: «لغة إنسانية ناطقة يستخدم فيها جهاز النطق الحي أحسن استخدام، يهدي إليه الافتنان في الإيقاع الموسيقى، وليس هنا أداة صوتية ناقصة، تحس بها الأبجدية العربية» «4». وقد قسمت هذه الحروف الأبجدية، حسب مخارجها الصوتية، وأعطيت صفات للتمييز فيما بينها، حسب الأصوات المنبعثة منها. وقد روعي في ترتيب حروفها حسب المخارج الصوتية، التناسب الموسيقى الفني، فيما بين الحروف المتقاربة فهي حروف متناسبة في مخرجها، وجرسها وشكلها ونسقها، مثل الباء والتاء والثاء ومثل الحاء والخاء، والدال والذال، وهكذا في بقية الحروف كما يرى العقاد «5». بالإضافة إلى هذا التقسيم الصوتي للحروف الأبجدية، هناك تقسيم صوتي آخر، يراعي صفات الحروف الصوتية، وما تصدره من إيقاعات موسيقية مختلفة، يمكن أن نسميها «موسيقى الحروف»، فهناك حروف الاستعلاء، وحروف الصفير، والتفشّي، والإصمات، أو حروف الإطباق أو الاستفال أو الهمس. ولكلّ خاصية من هذه الحروف صوت تصدره، وينتج عن هذا التنويع في أصوات الحروف نغمات موسيقية أو إيقاعات لها تأثيرها في النفس. هذه الروابط الفنية أو الخصائص للحروف، ميزة اللغة العربية، التي اختارها الله لغة لكتابه العزيز، قبل أن تؤلّف من مجموعها الكلمات الحاملة للمعاني، وقبل أن تنظم الكلمات ضمن روابط السياق الأخرى. وبهذا يتّضح أن روابط البناء الكلي للصورة، تبدأ أولا من المادة الأولية وهي «الحروف»، ولا يتوقف بناء الصورة على طبيعة الحروف أو خصائصها، وإنما أيضا على العلاقة فيما بينها في تأليف الكلمات، لتحقيق الانسجام والتناسق بينها. وحين ترتبط الحروف بعضها ببعض، وتتآلف في الكلمة محقّقة الانسجام الكامل، فإن هذا الانسجام يعدّ اللبنة الأولى في بناء الصورة المنسجمة والموحية بالمعنى.

_ (4) اللغة الشاعرة: ص 10 (5) المصدر نفسه: 10 - 11.

وقد تحدّث النقاد القدامى عن فكرة «انسجام الحروف في الكلمات»، ووضعوا لها القواعد أو المقاييس التي تحقّق الانسجام فيما بينها. ويعدّ «الرمّاني» أول من تحدّث عن فكرة «التلاؤم» في الحروف في الأسلوب القرآني. موضّحا أثر ذلك في النفس. والتلاؤم بين الحروف، هو نقيض التنافر، وهو على مراتب، والقرآن الكريم في أعلاها يقول الرمّاني في ذلك: «والمتلائم في الطبقة العليا القرآن كلّه، وذلك بيّن لمن تأمله» «6». ويعلّل الرمّاني التلاؤم بين الحروف بقوله: «والسبب في التلاؤم، تعديل الحروف في التأليف، فكلّما كان أعدل، كان أشدّ تلاؤما، وأمّا التنافر، فالسبب فيه ما ذكره الخليل من البعد الشديد أو القرب الشديد ... وكلاهما صعب على اللسان، والسهولة من ذلك في الاعتدال، ولذلك وقع في الكلام الإدغام والإبدال والفائدة في التلاؤم حسن الكلام في السمع، وسهولته في اللفظ، وتقبل المعنى له في النفس لما يرد عليها من حسن الصورة، وطريق الدلالة» «7». فالتلاؤم- عنده- يرجع إلى التقارب أو التباعد في مخارج الحروف، ولكن بشرط الاعتدال في الحالتين، فليس قربا شديدا في المخارج، ولا تباعدا شديدا أيضا، فإذا تحقق هذا الاعتدال فإنّ التلاؤم يلاحظ في سهولة مخارج الحروف، وهذا ما نراه في الأسلوب القرآني فليس فيه لفظة مستكرهة أو ثقيلة، أو متنافرة الحروف. ولكنّ الرمّاني لم يورد شواهد من القرآن على ما يقول، لأنه- على ما يبدو- يرى أن القرآن كلّه شاهد أو دليل على صحة قوله، فلا حاجة إلى إيراد الأمثلة، للشيء الواضح في رسالة صغيرة عن الإعجاز في القرآن. ويبقى للرمّاني فضل الحديث عن التلاؤم بين الحروف، وبيان تأثيره في الأذن والنفس معا، على الرغم من أنه لم يدعم رأيه بالشواهد التي تقويه. وقد امتدح الناقد محمد زغلول سلام رأي الرمّاني هذا قائلا: «وملاحظة الرمّاني لصلة الجمال اللفظي بسهولة حركة اللسان جديدة بالإشارة، إذ خرج الرماني عن حدود

_ (6) النكت: ص 88. (7) المصدر السابق: ص 88 أيضا.

الأقوال إلى التجربة والملاحظة وقديما ذكر اللغويون اللفظ الوحشي، واللفظ الوعر، ولم يذكروا سببا للوحشية ولا للوعورة، وجاء الرماني ليعلّل سبب التنافر والتلاؤم، وسلامة اللفظ، ورقته، وطلاوته، ولعلّه قد استعان بدراسة الخليل ليوضّح صلة حركات اللسان بجمال اللفظ، وتمتّ هذه الملاحظة إلى ما ظهر في علم الجمال حديثا من قولهم بأن الجمال يرجع في ناحية من نواحيه إلى رشاقة الحركات والاقتصاد في الجهد العضلي» «8». وقد اتّخذ ابن سنان الخفاجي من تباعد مخارج الحروف مقياسا فنيا لمعرفة فصاحة اللفظة، وسهولة نطقها، ويقارنها بأثر الألوان في العين، وحسن منظرها، فكلّما تباعدت الألوان، كانت أحسن منظرا من الألوان المتقاربة وكذلك تباعد مخارج الحروف هو المقياس في فصاحة الكلمة وحسنها يقول: «الأول أن يكون تأليف اللفظة من حروف متباعدة المخارج وعلة هذا واضحة، وهي أن الحروف التي هي أصوات تجري في السمع مجرى الألوان من البصر، ولا شكّ أن الألوان المتباينة، إذا جمعت كانت في المنظر أحسن من الألوان المتقاربة» «9». فابن سنان يعتمد في ترتيب الحروف على مخارج نطقها، ويطبق نظرته على ضوء ذلك، ابتداء من الحلق حتى الشفة، ولكنه لم يطبّق هذه النظرة على اللفظة القرآنية، واكتفى بتلاؤمها وسهولتها، كما فعل الرمّاني. ويرى شوقي ضيف أن ابن سنان قد استفاد في نظرته هذه من علم التجويد يقول: «وأكبر الظنّ أنه انتفع في ذلك كلّه مما كتبه علماء تجويد القرآن من مباحث قيّمة» «10». وقد ردّ ابن الأثير على ابن سنان نظرته تلك إلى الألفاظ، فرأى أن حاسة السمع هي المقياس في جمال اللفظة إذ نرى كلمات متقاربة في مخارجها، ولكنها حسنة رائعة في الآذان، كالجيم والياء والشين، فهي حروف متقاربة المخارج، وتسمّى ثلاثتها «الشجرية»، وإذا تألفت في الكلمة كان وقعها حسنا ومحمودا مثل لفظة «جيشان» «11». ويبدو أن هناك علاقات أخرى بين الحروف غير مخارجها، وهي «صفات الحروف» من

_ (8) أثر القرآن في تطور النقد العربي: د. محمد زغلول سلام. ص 241 - 242. (9) سر الفصاحة: ابن سنان. ص 66. (10) البلاغة تطور وتاريخ: د. شوقي ضيف ص 152. (11) المثل السائر: 1/ 152.

شدة ورخاوة، وجهر وهمس وغير ذلك. فحرف الياء حرف ليّن رخو، وحرف الجيم شديد، وحرف الجيم أيضا مجهور، والشين مهموس، واختلاف صفات الحروف هي التي جعلت «كلمة جيش» سهلة النطق، عذبة الوقع على الأذن. فالتلاؤم لا يرجع إلى مخارج الحروف فقط، وإنما يرجع إلى صفاتها أيضا، كما يرى ذلك مصطفى صادق الرافعي في العصر الحديث. فقد تحدّث الرافعي عن إعجاز النظم الموسيقى في القرآن، وأرجع ذلك «لترتيب حروفه باعتبار من أصواتها ومخارجها، ومناسبة بعض ذلك لبعضه، مناسبة طبيعية في الهمس والجهر، والشدة، والرخاوة، والتفخيم، والترقيق، والتغشي، والتكرير» «12». فتشكيل الصورة، يبدأ من إقامة الروابط والعلاقات، بين مخارج الحروف وصفاتها، لإكسابها صفة السهولة والعذوبة والفصاحة. ثم هناك أيضا «حركات الحروف» التي لها قيمة في إحكام الروابط بين الحروف، لتوظيفها في أداء المعنى. وثقل الحروف ذوات المخارج الواحدة أو المتقاربة، إذا فصلت بحرف أو بحركة، فإنّها تخفّ بذلك، ويزول ثقلها في النطق، يقول إبراهيم أنيس في ذلك: «لمعرفة ثقل الحروف في تواليها يجب أن نذكر دائما أن المجاورة بين الحرفين، يجب أن تكون مباشرة، فلا يفصل بينهما بحرف أو بحركة» «13». فحركات الحروف إضافة إلى صفاتها، ومخارجها، كلها روابط وعلاقات ملحوظة في بناء الكلمة، ثم بناء الصورة، فنحن لا نجد في العربية كلمة متطابقة في مخارجها، وصفاتها، وحركاتها. وهذا التنويع في بناء الحروف، يحقّق وحدة صوتية متناغمة ومنسجمة للكلمة، ويكسبها قيمة جمالية. فالانسجام أو التناسق بين الحروف في الكلمة القرآنية، يرجع إلى مخارجها، وصفاتها، وحركاتها المتنوّعة، ومن مجموع هذه العلاقات الصوتية، تتكوّن النغمة الموسيقية للكلمة،

_ (12) إعجاز القرآن: مصطفى صادق الرافعي. ص 215. (13) موسيقى الشعر: د. إبراهيم أنيس. ص 28.

أو الإيقاع الموسيقى لها. وهذا الإيقاع الموسيقى للكلمة، مرتبط بالمعنى. وقد بلغ القرآن الكريم، حدّ الإعجاز، في الإيقاع الموسيقى للكلمات، ودلالته على المعنى الديني، وارتباطه بالصورة الفنية المرسومة. يقول الرافعي عن أصوات الحروف «إنّما تنزل منزلة النبرات الموسيقية المرسلة في جملتها كيف اتفقت، فلا بد لها مع ذلك من نوع في التركيب، وجهة من التأليف، حتى يمازج بعضها بعضا ويتألف منها شيء مع شيء، فتتداخل خواصها، وتجتمع صفاتها ويكون منها اللحن الموسيقى، ولا يكون إلا من الترتيب الصوتي الذي يثير بعضه بعضا على نسب معلومة، ترجع إلى درجات الصوت، ومخارجه وأبعاده» «14». وترتبط موسيقى الحروف بما فيها من علاقات متشابكة، مخارجها، وصفاتها وحركاتها، بنظام تكوين الكلمة المفردة، وهو نظام أكبر من نظام تآلف الحروف، وانسجامها. ونظام المفردات في العربية، متميّز عن سائر اللغات في العالم، يضاف إلى ما قلناه عن ميزة العربية في حروفها وتفوّقها بها على سائر اللغات، من حيث استيفاؤها لجهاز النطق الإنساني، ونظام الصفات الصوتية، ونظام الحركات في تكوين حروفها، وهذا يدلّ على غناها في التوقيعات الصوتية، أو النغمات الموسيقية الصادرة عنها. وما يقال عن تكوين الحروف، يقال أيضا عن تكوين الكلمات، لأن الناحية الموسيقية في مفردات العربية ظاهرة «كظهورها في الحروف المتفرقة أو أظهر، لأنها تضيف الموسيقية في القواعد والموسيقية في المعاني إلى الموسيقية الملحوظة في مجرد النطق أو السماع بغير معنى يتم به التخاطب بين المتكلمين» «15». وتعتمد المفردات العربية في تركيبها الفني على «الوزن»، فهو قوام التفرقة بين أقسام الكلام في اللغة العربية، فالفرق بين الكلمة ومشتقاتها هو فرق بين أفعال وأسماء وصفات، وأفراد وجموع، وهو كلّه قائم على الفرق بين وزن ووزن، وقياس صوتي، وقياس مثله، إنه يتوقف على اختلاف الحركات والنبرات أي على اختلاف النغمة الموسيقية في الأداء، كما يقول العقاد «16».

_ (14) إعجاز القرآن: ص 213 - 214. (15) اللغة الشاعرة: ص 11. (16) المصدر السابق: ص 12.

وهذه السمة الفنية في العربية، بلغت حدّا معجزا في القرآن الكريم، من حيث، جودة مفرداته، وجمال تصويره وعذوبة إيقاعه، ودقّة معانيه. يقول الله تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا الطور: 13. فالدعّ هو الدفع بالظهور، والمدفوع في النار، يصدر صوتا قريبا من جرس العين الساكنة، فيما يشبه الصراخ والعويل، لذلك فإنّ الصورة هنا تبنى من صوت الحرف أولا، للدلالة على تلك الصورة المرعبة بهيئتها، وصوتها، وحالة المدفوع النفسية. فجرس الكلمة، رسم لنا هذه الصورة الحسية والنفسية، بكل ما فيها من هيئة وحركة وصوت، ثم إنّ تكرار جرس الكلمة في السياق، ولّد إيقاعا موسيقيا شديدا، يتناسق، مع شدّة يوم القيامة وأهواله. ونموذج آخر للتركيب الفني للكلمات القرآنية، وما فيه من إيحاءات غنيّة، منبعثة من وزن الكلمة، وحركاتها .. قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ التوبة: 38. فلفظة اثَّاقَلْتُمْ توحي بالثقل من خلال وزنها على عكس كلمة «تثاقلتم» فهي توحي بالخفّة، لاختلاف الوزن بين الكلمتين. وقد استثمر القرآن الكريم، هذه الخاصيّة في اللغة العربية، في رسم صورة المتثاقل عن الجهاد، وشدّة الروابط الأرضية التي تقعده، وتقيّد من حركته، وتمنعه من الخروج للجهاد، فكان هذا الاعتماد على كلمة اثَّاقَلْتُمْ الموحية بالشدة، وثقل الروابط الدنيوية المانعة من الجهاد، كما أنّها ترسم بجرسها صورة المتثاقل، والحركة المتدرّجة له في القعود، حتى ينتهي إلى التشبث بالحياة بقوة وعنف، كما يوحي بذلك المقطع الأخير من الكلمة «تم». ويضاف إلى ما ذكرناه من خصائص فنية للغة العربية، أنها تحتفظ بالدلالة الحسية للفظ مع الدلالة المجازية، وهذا يكسب اللفظ ثروة فنية، وقدرة على الإيحاء بالمعنى الحسي والمجازي معا «17». وكثير من صور القرآن، تعتمد على مفردات منقولة من حالة حسية إلى حالة معنوية، حتى تلمس الحس والخيال معا كقوله تعالى: سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ

_ (17) اللغة الشاعرة: 13 - 14.

بِما كانُوا يَصْدِفُونَ الأنعام: 157. والصدف- في الأصل- ميل في الحافر أو الخفّ في الفرس أو البعير، يجعله يميل في سيره ولا يستقيم «18». والقرآن الكريم يستخدم هذا اللفظ بدلالته الحسية الأصلية، ودلالته المنقول إليها، لكي يصوّر حال الذين يعرضون عن الحق، ويصدفون عنه، لآفة أصابتهم، فجعلتهم يسيرون في الحياة بانحراف وميل. فهذه اللفظة، ترسم صورة لأولئك المنحرفين عن الحق، فيها الهيئة والحركة، من خلال اقترانها في الذهن بمعناها الحسي. و «الصّعر» - في الأصل اللغوي- داء في البعير، يلوي عنقه منه، ثم انتقلت اللفظة من دلالتها الحسية إلى دلالة معنوية، وهي الميل بالوجه تهاونا وكبرا «19». ويستثمر القرآن الكريم هذه اللفظة بدلالتها الحسية والمعنوية معا، في التحذير من صورة المتكبر المتعالي على الناس بحركة وجهه، وهيئة سيره، ونبرة صوته. ومثل ذلك لفظ «حبط» من حبطت الناقة إذا رعت نباتا ساما، فأكثرت منه، فانتفخت بطنها، فماتت بسبب هذا الداء، ثم انتقل اللفظ من دلالته الحسية إلى دلالته المعنوية فيقال: حبط عمله إذا بطل «20». وقد استخدمت هذه اللفظة في تصوير أعمال الكافرين، التي كبرت وانتفخت، وظنّ أصحابها أنّ أعمالهم العظيمة تفيدهم، وما دروا أن هذه الضخامة في الأعمال هي مجرد انتفاخ كاذب يؤدّي إلى الهلاك، لأنه لا يقوم على الإيمان. وكلمة لِباسٌ التي استخدمت في تصوير العلاقة بين الرجل والمرأة في قوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ .. البقرة: 187 هي في دلالتها الحسية تدل على الثوب الذي يستر الجسم، ثم تطورت دلالة اللفظة، لتحمل دلالات مجازية أخرى كقولهم: «لبّس الحقّ بالباطل، والتبس عليه الأمر، ولابست فلانا حتى عرفت دخلته أي خالطته والتبست عليه الأمور، وفي أمره

_ (18) انظر القاموس المحيط: مادة صدف. (19) القاموس المحيط: مادة صعر (20) القاموس المحيط: مادة حبط.

لبس ولبسة بالضم إذا لم يكن واضحا، وفيه ملتبس: مستمتع وفلان قد لبس الناس أي عاش معهم .. ولكل زمان لبسة أي حالة يلبس عليها من شدة أو رخاء ولبست فلانا على ما فيه أي احتملته وقبلته .. ولبست على كذا أذني إذا سكتّ عليه ولم تتكلم وتصاممت عنه، ويقال لباس التقوى الحياء» «21». واستخدام هذه اللفظة في القرآن الكريم، توحي بالمعنى الحسي والمعنى المجازي معا، فهي تدل على طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة من جانبها المادي، وجانبها المعنوي أيضا بما فيها من عشرة وستر، واستمتاع ومعايشة على الشدة والرخاء والاحتمال والحياء، وغير ذلك، وكلّها معان تحتملها لفظة لغوية واحدة. كذلك نلاحظ دقّة اختيار الألفاظ في بناء الصورة، للدلالة على المواقف والحالات والمعاني. كقوله تعالى مثلا: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ، وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ يوسف: 23، فالفعل «راود» من الفعل الثلاثي «راد يرود» وهو بمعنى الذهاب والمجيء المتكرر، و «الرود» الطلب ومنه الإرادة التي هي المشيئة «22». وقد اعتمد تصوير الموقف بين يوسف وامرأة العزيز على هذا الفعل بكل ما يحمله من دلالات متنوعة، يغني الصورة بالإيحاءات الثريّة، منها إرادة امرأة العزيز، وتصميمها على تنفيذ طلبها- فراحت تكرّر الطلب، من يوسف وتلحّ عليه في الذهاب والإياب. ثم الفعل غَلَّقَتِ بجرسه الشديد، يوحي بإحكام إغلاق الأبواب، بشدّة وعنف، لاستكمال بناء الصورة والإيحاء بحالة المرأة المحمومة، وكأننا نسمع صدى الأبواب المغلقة من جرس اللفظة «غلّقت» ثم تلاشي الصدى بعد ذلك في أنحاء المكان، وهذا لا يكون فيما لو قال «أغلقت» لأنّ أغلقت أخفّ وقعا من غلّقت، كما أنّ فعل «أغلقت» يوحي بالهدوء والاستقرار، بينما الموقف أو الحالة توحي بالهيجان والاضطراب. ثم يأتي التعبير ب هَيْتَ لَكَ ليكمل تصوير المشهد بكلّ ما فيه من حركات وأصوات ونعومة وإغراء كنعومة هذا التعبير هَيْتَ لَكَ ورقّته. وبذلك يكتمل بناء الصورة من خلال مادتها اللغوية المتنوّعة في دلالتها، والمتنوّعة في

_ (21) راجع أساس البلاغة: للزمخشري. مادة لبس. (22) القاموس المحيط: مادة رود.

إيقاعاتها للدلالة على المعاني والحالات النفسية والمواقف. فالدقّة في اختيار المفردات بأشكالها المحسوسة، ودلالاتها الفنية، تمتع الخيال والأبصار، والأسماع، وتدخل إلى النفس من منافذ شتّى، وهذا هو الإعجاز في التعبير القرآني، يبدأ من تكوين الحروف فالكلمات، فالجمل، فالسياق، فالنص كلّه، على نحو مترابط ومتناسق، كلّ حلقة فيه مرتبطة بالأخرى، ضمن نظام العلاقات والروابط حتى نصل إلى بناء الصورة الكلية، ثم الصورة المركزية التي عندها، يكون، قد وصلت الصورة إلى ذروة البناء أو قمّة التصميم الفني المعماري. والقرآن الكريم يرسم بجرس الكلمات صورة فنية، لها إيحاؤها وتأثيرها في النفس، على ضوء ما ذكرناه من نظام الحروف من حيث المخارج والصفات والحركات. كقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً النور: 43. فكلمة يُزْجِي بجرسها الموسيقى، ترسم حركة السحاب البطيئة في السماء، وما فيها من امتدادات رخية متطاولة، بخلاف ما لو استعمل كلمة «دفع أو ساق». فكلمة يُزْجِي تبدأ بالياء وتختم بها أيضا، والياء حرف لين رخو، كما أن الزاي حرف من حروف الصفير والهمس، والجيم من حروف الشدة والجهر، ولكن ترتيبها في الكلمة، بين الزاي والياء، وحركة الكسر عليها خفّفت من شدّتها، وجعلتها متناسقة مع ما قبلها وما بعدها. فهذه الكلمة بتنويع حروفها من حيث المخارج والصفات، وتنويع حركاتها، وتأليفها من مقطعين «يز- وجي». جعل إيقاعها رخيا ممتدا كرخاوة حركة السحاب، وامتداده في السماء. وفي قوله تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها ... الشمس: 11. فكلمة «بطغواها» بإيقاعها الموسيقى، ترسم الطغيان الذي قد بلغ منتهاه، وذلك من خلال تأليف الكلمة من ثلاثة مقاطع «طغ- وا- ها» وهي مقاطع تجعل الكلمة، تملأ الفم عند النطق بها. بالإضافة إلى أنّ تعدّد المقاطع فيها، يزيد من مدة عرض الصورة. ولفظ فَدَمْدَمَ في قوله تعالى: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها الشمس: 15 فيه إيقاع شديد يناسب جوّ التدمير لقوم ثمود. اللفظة مؤلّفة من مقطعين «دم/ دم» أو من

مقطع متكرر، للإيحاء بجوّ التدمير، بما فيه من أحداث متكررة حتى يتحقّق التدمير الكامل في النهاية. وتطويل المقاطع في بعض المفردات القرآنية، أو كثرة حروفها، تكون مقصودة أحيانا لاستيفاء المعنى المصوّر، وذلك باستنفاد ما في الكلمة من طاقات تعبيرية وتصويرية دالّة على المعنى. والتطويل في المفردة الواحدة، يزيد من زمن عرض الصورة أمام العيون، ويزيد أيضا من تأثيرها في النفوس. فطول الكلمة مقطعا وحروفا، يوسّع من دائرة الصورة مكانا وزمانا، يقول جان برتيليمي في هذا المعنى: «وقد عرّف أو غسطين الموسيقى بأنها علم الحركة، والحركة تضمّ الزمن إن هي ضمّت فكرة العدد» «23». ويقول أيضا: «فالموسيقى فن تجميع النغمات بطريقة تبعث السرور إلى الأذن» «24». فالطول والقصر يرتبط بالمعنى المراد تصويره أو بالحالة أو الموقف. كقوله تعالى: أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ هود: 28، وقوله أيضا: فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ الحجر: 22، وقوله أيضا: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ الأعراف: 182، وأيضا: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ البقرة: 137، وأيضا لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ النور: 55، وقد قام الرافعي بتحليل هذه الظاهرة في المفردات القرآنية تحليلا صوتيا ضمن نظام العلاقات بين الحروف مخرجا وصفة وحركة. فكلمة لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ مؤلفة من عشرة حروف ولكنّها رشيقة عذبة، وقد جاءت عذوبتها، من تنوع مخارج الحروف، ومن نظم حركاتها، فإنها بذلك صارت في النطق كأنّها أربع كلمات إذ تنطق على أربعة مقاطع. وكلمة فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ مؤلّفة من تسعة أحرف، وهي ثلاثة مقاطع وقد تكرّرت فيها الياء والكاف، وتوسّط بين الكافين هذا المدّ الذي هو سرّ الفصاحة في الكلمة كلّها، وبهذا اكتسبت هذه الألفاظ الطويلة في بنائها حلاوة وعذوبة وخفّة كما يقول الرافعي «25».

_ (23) بحث في علم الجمال: ص 353. (24) المصدر السابق: نفس الصفحة. (25) إعجاز القرآن: 229.

وإذا انتقلنا من البناء الشكلي للكلمة إلى مضمونها، فإنّنا نلاحظ أن هذا التكوين الصوتي طولا وقصرا مرتبط بالمعاني والأغراض المراد تصويرها. فقوله: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ كلمة سَنَسْتَدْرِجُهُمْ توحي بجرسها الصوتي الطويل المقاطع بطول غفلتهم وعدم إيمانهم. وفي كلمة أَنُلْزِمُكُمُوها إيحاء بالإكراه والثقل المناسب لمعنى رفضهم الآيات، وعدم تقبلهم لها، ونطق الكلمة يرسم هذا الاستكراه للآيات، واستثقال الكافرين لها. كما هو مستكره ثقيل في جرس اللفظ نفسه. بالإضافة إلى ما في الكلمة من اختزال للمفعولين في لفظ واحد وهما الكفار والآيات. وهكذا يمكن أن نتلمّس المعاني من خلال بناء المفردات المطوّلة، والمفردات القصيرة، من حيث تنويع حروفها، وتنويع صفاتها وحركاتها أيضا. فالمفردات القرآنية مرتبطة بالمعاني الدينية، لذلك فهي تطول أحيانا وتقصر، وأحيانا ترقّ وتشفّ، وأحيانا تشتد وتعنف. كقوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فكلمة نهر بجرسها الموسيقى ترسم ظلال اليسر والنعمة والطمأنينة. واللفظ ناعم هادئ، ملائم لهذه المعاني المرسومة من إيقاعه أيضا في ذلك المكان الآمن الهادئ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ. وقد يشتدّ إيقاع اللفظ ويقوى، للإيحاء بالمعنى الشديد، كالتعبير عن يوم القيامة ب «الحاقّة والصاخّة والطامّة وغير ذلك». وكلّها ألفاظ شديدة الوقع على الأذن، قوية الجرس، تناسب أهوال القيامة وشدائدها. وقوة الجرس وشدّته، ملحوظة في بناء الكلمة المعتمد على حرف ممدود بالألف «حا- صا- طا» ثم إيقاع المدّ على حرف مشدّد، بعد هذا الارتفاع في حركة المدّ، فهذا الوقوع على الحرف المشدّد يزيد من شدة الإيقاع وقوته ثم وجود التاء في نهاية اللفظ، والتي تنطق هاء ساكنة عند الوقف توحي بانتهاء الشدّة عند السكون الملحوظ في نهاية اللفظة «الحاقّة- الصاخّة- الطامّة». وهذا يعني أن الجرس اللفظي يرتبط أيضا بحركات الحروف، ومدودها بالإضافة إلى ما ذكرناه حول مخارجها وصفاتها. فمن مجموع هذه العلاقات المتشابكة والمتآزرة في اللفظ الواحد، ويتألّف الجرس اللفظي، بالإضافة إلى الجرس الداخلي للكلمة المرتبط بدلالتها على المعنى. وقد انتبه «يحيى العلوي» في كتابه «الطراز» إلى ورود كلمات في القرآن بصيغ الجمع

دون المفرد مثل أكواب وألباب، وأصواف. ولكنه لم يعلّل هذه الظاهرة تعليلا علميا على ضوء الجمال الصوتي للتعبير القرآني «26». وقد حاول مصطفى صادق الرافعي أن يقوم بتحليل هذه الظاهرة الصوتية في التعبير القرآني. فورود كلمة «الألباب» بصيغة الجمع دون كلمة «اللبّ» المفردة «لأن لفظ الباء شديد مجتمع، ولا يفضي إلى هذه الشدة إلا من اللام الشديدة المسترخية، فلمّا لم يكن ثمّ فصل بين الحرفين، يتهيّأ منه هذا الانتقال على نسبة بين الرخاوة والشدة، تحسن اللفظة مهما كانت حركة الإعراب فيها نصبا أو رفعا أو جرا، فأسقطها من نظمه بتة على سعة ما بين أوله وآخره ولو حسنت على وجه من تلك الوجوه لجاء بها حسنة رائعة، وهذا على أن فيه لفظة (الجبّ) وهي في وزنها ونطقها، لولا حسن الائتلاف بين الجيم والباء من هذه الشدّة في الجيم المضمومة» «27». ومثل ذلك لفظة «الكوب» لم تستعمل إلا في صيغة الجمع «أكواب» وعكس ذلك لفظة «الأرض» التي لم تذكر مجموعة في القرآن الكريم. وحين اقتضى السياق القرآني جمعها أخرجها على صورة رائعة معجزة تحقّق الغرض من الجمع بدون ذكر لفظ «الأرضين» وذلك في قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ الطلاق: 12، لأنّ الإيقاع الموسيقى يختلّ ويضطرب بذكر لفظ الجمع «28». وسيد قطب يربط الإيقاع الموسيقى للألفاظ بالحالة النفسية، أو المعنى المراد تصويره، فليست حركات الكلمة، ومدودها، مجرد إيقاع موسيقي، يتردّد صداه في التعبير القرآني دون غرض أو فائدة معنوية، بل إنه يقوم بوظيفة أساسية في جلاء المعنى، وتوضيحه عبر هذه المؤثرات الصوتية، ففي قوله تعالى: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ فاطر: 34. يقول سيد قطب: «فالجو كلّه يسر وراحة ونعيم، والألفاظ مختارة لتتّسق بجرسها

_ (26) الطراز: 3/ 47 - 48. (27) إعجاز القرآن: ص 232. (28) المصدر السابق: ص 233.

وإيقاعها مع هذا الجوّ الحاني حتى «الحزن» بالتسهيل والتخفيف .. والإيقاع الموسيقى للتعبير هادئ ناعم رتيب» «29». وفي قوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا .. مريم: 88 - 90. يقول أيضا: «إنّ جرس الألفاظ وإيقاع العبارات ليشارك ظلال المشهد في رسم الجو، جوّ الغضب والغيرة والانتفاض» «30». وعلى هذا النهج، يسير سيد قطب في تحليل النصوص القرآنية في كتبه، مستخدما مصطلح الجرس والإيقاع في الحديث عن الجانب الصوتي في المدود والحركات، وفي الألفاظ عموما. وهو يربط الإيقاع الموسيقى للألفاظ بالمعنى المراد، والحالة النفسية، والجوّ العام للسياق، وهذا منهج سليم، لأن الإيقاع الموسيقى في القرآن لم يقصد لذاته، لمجرد التنغيم. والإطراب بهذه النبرات الصوتية المنغّمة بل هو وسيلة لتصوير المعاني الدينية. ويضيف العقاد إلى ما ذكرناه «الحركة الإعرابية» التي تكسب المفردة القرآنية، قيمة فنية، لأن الحركات الإعرابية، تزيد من وضوح النغمات الموسيقية للمفردات أيضا. يقول العقاد: «فإن هذه الحركات والعلامات تجري مجرى الأصوات الموسيقية، وتستقرّ في مواضعها المقدورة، على حسب الحركة والسكون في مقاييس النغم والإيقاع .. ولها بعد ذلك مزية تجعلها قابلة للتقديم والتأخير .. لأنّ علامات الإعراب، تدلّ على معناها كيفما كان موقعها من الجملة المنظومة» «31». وبهذا تنتقل المفردات من الروابط الخاصة بها، إلى الروابط السياقية أيضا، فيرتبط إيقاعها المنفرد بالإيقاع السياقي المنسّق في التعبير كلّه، فتتمّ به العلاقة بين الإيقاع الكامل للمعنى التام المراد تصويره، فيتناسق الإيقاع بنغماته أو توقيعاته مع المعنى بكلّ جزيئاته. فالألفاظ وحدها على الرغم من تنوّع علاقاتها البنائية، لا تكفي لتصوير المعنى، ما لم

_ (29) في ظلال القرآن: 5/ 2944 - 2945. (30) المصدر نفسه 4/ 2320 - 2321. (31) اللغة الشاعرة: 16.

توضع في السياق الملائم لها. وقد بسط عبد القاهر الجرجاني ذلك في نظرية «النظم» التي أشرنا إليها في الباب الأول. والسياق هذا الذي يمنح القوة للألفاظ، ويظهر كنوزها المشعّة بالصور والظلال والإيقاع العام. ف «حين تتجمّع الكلمات في الجمل، وفي العبارات، تكتسب جرسا موسيقيا آخر، زيادة على ما كان لها من موسيقى فردية» «32». كما أنّ الألفاظ: «لا تستطيع أن تعطي دلالتها كاملة إلا في هذا النسق، وتستمد العبارة دلالتها في العمل الأدبي من مفردات الدلالة اللغوية للألفاظ، ومن الدلالة المعنوية الناشئة عن اجتماع الألفاظ، وترتيبها في نسق معيّن، ثم من الإيقاع الموسيقى الناشئ من مجموعة إيقاعات الألفاظ متناغما بعضها مع بعض ثم من الصور والظلال التي تشعّها الألفاظ متناسقة في العبارة» «33». ويمتدّ نظام العلاقات السياقية، ليشمل نظام «الفواصل» القرآنية، فهي تعتمد على «التنويع» ولا تأتي على نسق واحد. فمنها الطويلة، والمتوسطة، ومنها القصيرة، كما أن رويّها يختلف في السور القرآنية وحتى في السورة الواحدة غالبا، لتبتعد الفاصلة القرآنية عن مظنّة السجع المعتمد على النظام الموحّد في حركة حرفه الأخير. والفاصلة في القرآن، كالقافية في الشعر، لها دورها الإيقاعي في نهاية كل آية، ولكنّ وظيفتها ليست إيقاعية فنية فحسب، وإنما هي مناسبة للمعنى، تزيد في وضوحه وجلائه، وهي ملائمة للسياق، كما أنّها تحكم المعنى في نهاية السياق، وتقوّيه من خلال إيقاعها الموسيقى الخاص. وقد أكّد الرمّاني قديما على الفارق بين الفاصلة والسجع بقوله: «الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع، توجب حسن إفهام المعاني، والفواصل بلاغة، والأسجاع عيب، وذلك لأنّ الفواصل تابعة للمعاني، وأمّا الأسجاع فالمعاني تابعة لها» «34».

_ (32) الأصول الفنية للأدب: عبد الحميد حسن. ص 40. (33) النقد الأدبي أصوله ومقوماته: سيد قطب ص 41. (34) النكت: ثلاث رسائل في الإعجاز. ص 89 - 90.

فهي تابعة للمعاني، ومرتبطة بها، لهذا أكسبت النص القرآني قوة موسيقية مؤثّرة، عبر النغم الموسيقى في نظمه وإيقاعه ثم في نهاية آياته، مع ارتباط الإيقاع الموسيقى بالمعنى العام الذي لا ينفك عنه بل هو وسيلة من وسائل إيضاحه وإبرازه، ومتمم له، في تأثيره في النفوس. لأن الإيقاع الموسيقى يدخل إلى النفس عبر الحس السمعي، فيعمّق الإحساس بالمعنى. كما أنّ الذهن منفذ من منافذ المعنى، ولكنّه ليس المنفذ الوحيد له، فالإيقاع يشترك مع الذهن في توصيل المعنى ويزيد عليه في قوة التأثير في النفس. لذلك كان للقرآن الكريم هذا الجمال الصوتي المؤثّر الذي جعله كما يقول ابن قتيبة: «متلوّا لا يملّ على طول التلاوة، ومسموعا لا تمجّه الآذان، وغضّا لا يخلق من كثرة الترداد» «35». وهذا ما توصّل إليه علماء الجمال اليوم في الإحساس الصوتي بالجمال، لأنّ الجمال الصوتي يعتمد «على انسجام الأنغام في تردد رتيب، لا تملّه الآذان، غير نشاز، فتنفر منه الآذان، وتتأذى به، متسق مع ما ينبعث في النفس من هزّات داخلية، فيتمّ التوافق بين النغم الخارجي والداخلي» «36». وقد حرص العلماء منذ القديم، على تسمية نهاية الآيات بالفواصل، تمييزا لها عن الأسجاع، كما لاحظنا ذلك في قول الرمّاني المتقدم. والدافع إلى ذلك، هو تنزيه القرآن الكريم عن سجع الكهان، وعمّا علق بتاريخ السجع من التكلف والتقعّر. ولكن «الفرّاء» لم يجد حرجا من القول بوجود السجع في القرآن. فقد رأى أنّ السجع هو السبب في حذف الضمير من كلمة «قلى» الواردة في سورة الضحى، لكي ينسجم مع بقية نهايات الآيات. يقول الفرّاء في تعليل حذف الكاف: «يريد ما قلاك، فألغيت الكاف، كما تقول أعطيتك، وأحسنت، ومعناه وأحسنت إليك، فتكتفي بالكاف من إعادة الأخرى، ولأنّ رءوس الآيات بالياء فاجتمع فيه ذلك» «37».

_ (35) أثر القرآن في تطور النقد العربي: ص 243. (36) المصدر السابق: 244. (37) معاني القرآن: الفرّاء ص 3/ 271.

ويبدو أن حذف الكاف في «قلى» ليس من أجل التناسب الشكلي فقط بين رءوس الآيات، كما قال الفرّاء، وإنما هناك تناسب معنوي أيضا، وهو كراهية إيقاع فعل الكراهية على الضمير العائد على الرسول صلى الله عليه وسلم، تشريفا لقدره، وبيانا لمنزلته عند الله سبحانه. وقد حاولت الدكتورة عائشة عبد الرحمن في تفسيرها البياني أن تردّ على الفرّاء، الذي أرجع السجع في القرآن للإيقاع الشكلي، فتناولت بعض السور القصار بالدراسة والتحليل، لإثبات التناسب المعنوي في الفواصل القرآنية. ففي تفسيرها البياني لسورة «الهمزة» وقفت تعلّل، استعمال كلمة «الأفئدة» بدلا من القلوب الواردة في قوله تعالى: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ الهمزة: 6 - 7. قرأت أن كلمة الْأَفْئِدَةِ لم تستعمل هنا مراعاة لنسق الفاصلة فحسب، وإنما لتخليص الأفئدة من حس العضوية، التي تدخل على دلالة لفظ القلوب، فيما ألف العرب من لغتهم، ولا يزال استعمال القلب بمعناه العضوي جاريا في اللغة دون استعمال الفؤاد بهذا المعنى «38». فاستعمال «الأفئدة» يوحي بتجاوز العذاب الحسي إلى العذاب النفسي، وهذا تصوير منتهى العذاب وبذلك تحقق الفاصلة التناسب المعنوي في تصوير العذاب إلى جانب التناسب الموسيقى للإيقاع. والزمخشري منذ القديم لاحظ تناسق الفاصلة القرآنية مع السياق المعنوي، وفسّرها على ضوء المعنى السابق لها. ففي تفسيره لقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ الأنعام: 97 - 98. يقول الزمخشري: «فإن قلت: لم قيل (يعلمون) مع ذكر النجوم، ويفقهون مع ذكر إنشاء بني آدم؟ قلت: كان إنشاء الإنس من نفس واحدة، وتصريفهم بين أحوال مختلفة، ألطف وأدق صنعة وتدبيرا، فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة، وتدقيق نظر مطابقا له» «39».

_ (38) التفسير البياني: د. عائشة عبد الرحمن. 2/ 181. (39) الكشاف: 2/ 39.

فالفاصلة إذا مرتبطة بالمعنى قبلها، ولا تنفكّ عنه، ضمن روابط السياق. ولكنّ علاقتها المعنوية قد تكون واضحة، وقد تكون خفيّة. وهي في الحالتين موجودة، لأنّ الأسلوب القرآني يعتمد على نظام العلاقات المعنوية والفنية. ونظام العلاقات هذا هو سرّ من أسرار إعجازه، كالإعجاز الكوني القائم على هذه العلاقات المتناسقة حتى ترتبط أجزاؤه، ولا تتصادم أو تنفلت. وقد حاول الدكتور حفني محمد شرف أن يضع يده على نظام الروابط والعلاقات بين الفاصلة، والسياق المعنوي للآيات، فرأى أن القرآن الكريم يستعمل كلمة «يعلمون» في سياق يتحدث عن أمور ترجع إلى العقل وحده، وأمّا حين يتحدث عن أمور مرتبطة بالحواس، فإنّه يستخدم كلمة يشعرون «40». ويمكن أن نلاحظ الفارق بين نظرة الزمخشري، ونظرة الدكتور حفني، فالزمخشري قصر تفسير الفاصلة على الآية الواردة فيها، ضمن المعنى المراد، دون أن يحاول أن يتوصّل إلى قاعدة عامة لاستخدام الفواصل، كما فعل حفني محمد شرف. وتقوم الفاصلة أحيانا بزيادة توضيح المعنى، كقوله تعالى: وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ النمل: 80، فالفاصلة مُدْبِرِينَ قد تبدو زائدة، ذكرت لمراعاة النسق الموسيقى دون المعنى، لأن ولّوا، تدلّ عليها، ولكن التأمل في المعنى يظهر أن مُدْبِرِينَ توحي بالإعراض الكلي عن سماع دعوة الحقّ وكلمة وَلَّوْا لا تدلّ على ما تدل عليه الفاصلة، لأن التولي قد يكون بجانب دون آخر، فيتولّى بوجهه مثلا، وهو يسمع بأذنيه، ولكن هؤلاء الكافرين أعرضوا كلية عن سماع خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إنهم أتبعوا الإعراض عنه، بحركة الإدبار الموحية بالازدراء والاستخفاف، فالفاصلة هنا تتمّم المعنى، وتجعله تولّيا بالكلية، كما أنها تصوّر المعنى بصورة ساخرة مضحكة فيها تحقير لهؤلاء الذين لا يسمعون كلمات الحق والهدى. والفواصل القرآنية نوعان- كما يقول الرماني- فهناك الفواصل المعتمدة على الحروف المتجانسة كقوله تعالى: طه، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى طه: 1 - 3. وكقوله: وَالطُّورِ، وَكِتابٍ مَسْطُورٍ الطور: 1 - 2، والفواصل المعتمدة على الحروف المتقاربة كالميم والنون: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ الفاتحة: 2 - 3، وكالدال مع الياء ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ .. «41».

_ (40) الإعجاز البياني بين النظرية والتطبيق: د. حنفي محمد شرف. ص 224. (41) النكت: ص 90.

وقد حاول سيد قطب أيضا أن يستخرج نظاما للفواصل القرآنية، تسير عليه من خلال ارتباطها بالمعنى المراد، ومراعاتها للنغمة الموسيقية في السورة. فرأى أن الفواصل تقصر غالبا في السور القصار، وتتوسّط أو تطول في السور المتوسطة والطوال، ويشتد التماثل والتشابه بينها في السور القصار، ويقلّ غالبا في السور الطويلة «42». ويضيف إلى الفاصلة القرآنية مصطلح «القافية» ويقصد بها اعتماد الفاصلة على حرف معين، لزيادة التنغيم أو الإيقاع الموسيقى في الفاصلة. فالفاصلة هي الكلمة الأخيرة في نهاية الآية، يضاف إليها، الحرف المعتمد عليها فيها. وسيد قطب هنا متأثّر بدراسته الأدبية للشعر في مصطلح «القافية»، فإذا كنّا قد اخترنا مصطلح «الفاصلة» لنبعد القرآن الكريم عن مظنّة السجع، وسجع الكهان، فكيف نقول مرة أخرى «قافية الفاصلة»؟ وأرى أن نبحث عن مصطلح آخر غير القافية المرتبطة في أذهاننا بالشعر العربي، يكون متناسقا مع مصطلح «الفاصلة». وقد حاول سيد قطب أن يطبّق نظرته تلك حول نظام تنويع الفاصلة في السورة الواحدة. فرأى أن هذا التنويع في «القوافي» فيها ليس لمجرد التنويع، وإنما يرتبط بالسياق المعنوي للفاصلة. ففي سورة مريم، تبدأ بقصة زكريا ويحيى ثم قصة مريم وعيسى، وكانت الفاصلة في السرد القصصي واحدة وهي «خفيّا- شقيّا- شرقيا- سويّا- تقيّا- نبيّا- حيّا- شقيّا .. » «43». وحين ينتهي السرد القصصي تتغير الفاصلة القرآنية، والحرف المعتمدة عليه فيصبح بحرف النون أو بحرف الميم وقبلهما مد طويل، كقوله تعالى: ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مريم: 34، وكأنّ هذه الآيات- كما يقول سيد قطب- تصدر حكما بعد نهاية القصة، ولهجة الحكم تقتضي إيقاعا موسيقيا آخر غير الإيقاع الموسيقى الاستعراضي في القصة الذي كلّه انسياب، واسترسال، وبمجرد الانتهاء من إصدار الحكم على القصة

_ (42) التصوير الفني: ص 107. (43) سورة مريم: الآيات من 2 - 32.

عاد إلى النظام الأول في الفاصلة نفسها، والحرف المعتمدة عليه، لأنّه عاد إلى السرد القصصي من جديد. يقول تعالى وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا مريم: 41. وهذه الملاحظات على الرغم من قيمتها إلا أنها تبقى ذوقية، لا تعتمد على رؤية منهجية في تحليل الظاهرة لأننا نلاحظ أن الآيات ظلّت على نظام الفاصلة نفسها في موضوع آخر كقوله تعالى: إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا ... مريم: 58. وقد أدرك سيد قطب صعوبة ما يسير عليه في الاستنباط، فاعترف بأن ما توصّل إليه، لا يفسّر إلا بعض المواضع التي ورد فيها تنويع الفواصل، وبعضها الآخر ظلّ مجهولا لم يدركه يقول: «وقد تبيّن لنا في بعض المواضع سرّ هذا التغيّر، وخفي علينا السرّ في مواضع أخرى، فلم نرد أن نتمحل له لنثبت أنه ظاهرة عامة كالتصوير والتخييل والتجسيم والإيقاع» «44». ولا نريد أن نطيل أكثر من ذلك في دراسة الفاصلة، لكن يكفينا أن نركّز على ارتباطها بالصورة الفنية المرسومة من خلال نظام العلاقات التصويرية والفنية في رسم المشاهد والصور، فهي بإيقاعها الموسيقى الجلي في نهايات الآيات، واتساقها مع المعنى، تشترك في تكوين الإيقاع الموسيقى المصاحب للصورة الفنية. وقد بلغ القرآن في هذا الجانب، قمة التصوير، وروعة التعبير المتناسق. كقوله تعالى في تصوير طوفان نوح: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ، قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ، وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ هود: 42 - 44. فالفاصلة هنا مرتبطة بالمعنى قبلها، ومتناسقة معه فقوله الْكافِرِينَ وردت عقب تصوير هول الطوفان المدمّر للكافرين، والْمُغْرَقِينَ في سياق قول ابن نوح سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ فكانت الفاصلة لتأكيد إغراقه مع الكافرين والظَّالِمِينَ جاءت في نهاية تصوير الطوفان، وإقلاع المطر واستواء السفينة على الجودي، فكانت الفاصلة بمنزلة رسم

_ (44) التصوير الفني: 108.

لنهاية مشهد الكافرين الذي ظلموا أنفسهم بكفرهم، فاستحقّوا هذه النهاية. كما أنّ الفاصلة متناسقة مع الجوّ العام للمشهد، الذي يرسم نهاية الطوفان في السماء، والأرض، والسفينة والكافرين، كما أنّها مناسبة للإيقاع الموسيقى العام في الآيات، بكلّ ما فيه من تموّج عميق وواسع مرسوم بالخطوط والمسافات والأبعاد من خلال تكوين الحروف، وجرس الكلمات، ونظم الجمل، والسياق العام للمشهد. فالإيقاع يعلو ويهبط، متناسقا مع حركة المشهد في علوّ المياه وهبوطها، ونزول الأمطار وهطولها وارتفاع الأمواج، وانخفاضه، وارتفاع السفينة وانخفاضها أيضا، ولكن الإيقاع المتموّج يتدفّق نحو الفاصلة، فيرطمها، وبعد حركة الارتطام بها، يتوقف عندها في سكون وهدوء، في حركة متسقة مع حركة المياه الهائجة في الطوفان المدمّر، وهذا ما نلاحظه في الفاصلة الأولى حيث طمّهم الطوفان وغيّبهم وحوّل حركتهم إلى سكون دائم، وكذلك في فاصلة الظالمين والمغرقين. فالفاصلة متّسقة مع المعنى العام للجوّ المصوّر، كما أنّها مرتبطة بحركة الإيقاع الموسيقى في الصورة، فتؤدي دورها في التصوير، كما أدّته في التعبير أيضا. وترتبط الصورة أيضا ب «الحركة» بالإضافة إلى الإيقاع الموسيقى. والحركة من مقوّمات الصورة، وسمة من سماتها، وهي ملحوظة في تصوير المعاني الذهنية، والحالات النفسية، وفي التصوير القصصي، والأمثال، والحوادث، ومشاهد القيامة. ففي الحركة يتجلى الجمال الصوتي، والجمال البصري معا، وقد تميّزت الصورة القرآنية بذلك، فهي تحيل المعاني الذهنية، والمشاهد والانفعالات النفسية إلى مشاهد حيّة، متحركة متجددة، وكأنّها أشخاص يتحركون ويتكلمون، وليست صورا فنية مرسومة بألفاظ وكلمات، وذلك ليزداد التفاعل النفسي مع المشاهد المصوّرة، والمعاني، والحالات النفسية، حتى يظنّ القارئ أنّها الحياة التي يعيشها بكلّ ما فيها من حركة وأشخاص وحوار، حتى المشاهد الكونية الصامتة يخلع عليها صفة الحياة والحركة فتصوّر حية ناطقة مشخّصة. يقول تعالى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فصلت: 11. إنّ الحركة هي مظهر من مظاهر الحياة والكون، وهي سمة من سمات الصورة في القرآن الكريم، فهي مظهر كوني كما أنّها مظهر فني، من هنا نلاحظ تأثيرها في النفس الإنسانية.

وقد لاحظ بعض القدماء، عنصر الحركة في الصورة، مثل ابن قتيبة الذي ألمح إلى شدّة الانزلاق من قوة الأبصار المحدقة، وذلك في قوله وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ القلم: 51، فقال في تعليقه على الآية «يريد أنهم ينظرون إليك بالعداوة نظرا شديدا، يكاد يزلقك من شدّته أي يسقطك» «45». ولكنّ تعليق ابن قتيبة هذا لا يعدو الإشارة العابرة لعنصر الحركة، فهو لم يدرسها من جانبها الفني وارتباطها بالحركة النفسية، وما في صدور الكافرين من حقد وعداوة، ارتسمت في حركة العيون، والنظرات المحدّقة العنيفة. فكلمة لَيُزْلِقُونَكَ تربط بين الحركة الحسية والنفسية معا. ويتوقف الرمّاني أيضا عند لفظ وَزُلْزِلُوا في قوله تعالى: مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا البقرة: 214، وعلّق عليها بقول «وهذا مستعار، وزلزلوا أبلغ من كل لفظ، كان يعبر به عن غلظ ما نالهم، ومعنى حركة الإزعاج فيها، إلا أن الزلزلة أبلغ وأشد» «46». ولكنّ الرمّاني أيضا لم يتوسّع في ربط الحركة الحسية بالحركة النفسية المضطربة التي تدل عليها حركة الزلزال الحسية بعنفها وشدتها، واضطرابها، بحيث لا يمكن اختيار كلمة أخرى موضعها للدلالة على الحركة المضطربة، وشدتها ونتائج الحركة في النفوس، وتآكلها، وانهيارها. ويلحظ الرمّاني أيضا الحركة الخفيّة في قوله تعالى: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ الأعراف: 22. فيقول معلقا عليها: «وحقيقته صيرهما إلى الخطيئة بغرور، والاستعارة أبلغ، لإخراجه ما يحس من التدلي من علو إلى سفل» «47». فالرمّاني صاحب ذوق رفيع وحس مرهف، فهو يلتقط الجانب الفني في الصورة، ويوضحه توضيحا موجزا، ولكنه لا يتعدى موضع الشاهد الذي يتحدث عنه. ولا يفصل في شرح الحركة وارتباطها بجمال الصورة، ولا ارتباطها بالنفس والشعور. شأنه في ذلك شأن غيره من القدماء الذين يكتفون بالنظرة الجزئية، والإشارة العابرة لموضع الإعجاز.

_ (45) تأويل مشكل القرآن: ابن قتيبة. ص 129. (46) النكت: ص 83. (47) المصدر نفسه: ص 83.

ولكنّ الباقلاني يخطو خطوة فنية في تحليل الحركة في الصورة القرآنية في قوله تعالى: قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ الشعراء: 50. يقول الباقلاني في تعليقه عليها «وممّا يصوّر لك الكلام الواقع في الصفة تصوير ما في النفس، وتشكيل ما في القلب حتى تعلمه وكأنك مشاهده» «48». فهو يرى هنا أنّ الحركة في الصورة المرسومة، تعبّر عن الحالة النفسية أو الانفعالات الوجدانية بحركة الانقلاب الحسية، حتى تغدو الحالات النفسية، وكأنّها مشاهد منظورة فيها الحركة المتجددة. ورؤية الباقلاني هذه لها قيمتها الفنية إذا وضعناها في إطار العصر الذي قيلت فيه، فهو تحدّث عن «الحركة» بلغة النقد الحديث الذي يعتبر قوة الحركة في نقل المشاعر الداخلية وتجسيمها في مشاهد مرئية. ولكن هذه الرؤية المتقدمة تظلّ جزئية، لا تتعدى الشاهد المدروس إلى تحليل الظاهرة الفنية في التصوير القرآني. وهذا ما تحقّق في العصر الحديث على يد سيد قطب الذي استفاد من آراء القدماء، واطلاعه في النقد الحديث، فصاغ آراء القدماء هذه بلغة النقد المعاصر، بعد أن جعلها ظاهرة فنية في الصورة القرآنية. فقد لاحظ سيد قطب أن «الحركة» سمة عامة في التصوير القرآني وأنه «قليل من صور القرآن هو الذي يعرض صامتا ساكنا لغرض فني يقتضي الصمت والسكون، أمّا أغلب الصور ففيها حركة مضمرة أو ظاهرة، حركة يرتفع بها نبض الحياة، وتعلو بها حرارتها، وهذه الحركة ليست مقصورة على القصص والحوادث ولا على مشاهد القيامة، ولا صور النعيم والعذاب أو صور البرهنة والجدل بل إنّها تلحظ كذلك في مواضع أخرى لا ينتظر أن تلحظ فيها» «49». ويطلق على الحركة مصطلح «التخييل الحسي» لبثّ الحياة في شتى الصور القرآنية. ويورد الأمثلة من القرآن، لدعم فكرته هذه، ويدلّ تحليله لها، على ذوق أدبي رفيع،

_ (48) إعجاز القرآن: الباقلاني. ص 244. (49) التصوير الفني: ص 72.

وحسّ نقدي مرهف، وقدرة على الإحاطة بالنصوص، والنظرة الشمولية لخصائص التعبير القرآني «50». يقول الله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ يونس: 22. فالحركة بارزة في المشهد المعروض، وكأنّه واقع مشهود، وتتمثّل في حركة السير في البر والبحر، وحركة السفن في البحار بقدرة الله، ثم حركة السفن البطيئة أيضا في دفع الريح الطيّبة لها، وتصوير الريح ب «الطيبة» يجسّم مشاعر النفوس في البحار، ثم حركة أخرى سريعة مدمرة وهي الريح العاصف، يضاف إليها حركة الأمواج الشديدة علوا وانخفاضا، تقابلها حركة الاضطراب في داخل النفوس. وهكذا تحيا الصورة بالحركة بنوعيها الحسي والنفسي. كما أنّ الحركة نلمسها أيضا في تصوير المعاني الذهنية، فالهدى والضلال يجسّمان في النور والظلمات ثم تبدأ الحركة الحسية بعد التجسيم الفني يقول تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ البقرة: 257. ففي الصورة تجسيم للظلمات والنور، ثمّ حركة خروج للمؤمنين والكافرين، ولكنّ المؤمنين يخرجون من الظلمات ويدخلون في النور والكافرين يخرجون من النور، ويدخلون في الظلمات. وقد تتعدد «ألوان الحركة» مع وحدة الرسم والتصوير، وهذا التعدد يهدف إلى التنويع في التصوير وبثّ الحياة في الصورة، وكسر طوق الرتابة الواحدة في عرض المشاهد. كقوله تعالى في تصوير الطبيعة: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ

_ (50) انظر التصوير الفني: ص 72 وما بعدها.

قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً، نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ، وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ الأنعام: 95 - 99. والحركة بارزة في كل جزئية من جزئيات هذه المشاهد، فحركة الحب والنوى وهو يفلق الأرض، تتبعها حركة أخرى في إخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي، وهذه حركة حسية في الطبيعة المنظورة، تثبّت حركة الحياة والموت في الحس والشعور لدى الإنسان، وتجعلها من البدهيات. ثم تنتقل الحركة من الأرض إلى السماء، فنلاحظ حركة الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم، ثم تنتقل الحركة من الصور الكونية إلى الصورة الإنسانية، فحركة النسل الممتدة مع وحدة مصدرها «نفس واحدة» ثم تتبعها حركة الماء النازل من السماء، والنبات الطالع من الأرض، ثم تنويع الحركة في النبات الطالع، في النخل والأعناب والزيتون والرمان، وتتناسق الحركة في النسل مع حركة النبات الطالع بنزول الماء عليه. ثم التنويع في ألوان البشر، وأشكالهم وهيئاتهم وحجومهم، يماثله تنويع أيضا في النبات بالألوان والأشكال والأحجام، والطعوم. فهذا التنويع في الحركة يضفي على الصورة حيوية وتأثيرا، ويجعلها تمتد إلى داخل النفوس، فتحرّكها لتأمل هذه المشاهد الطبيعية المتحركة، التي تدلّ على قدرة الله في الخلق من أصل واحد مع مراعاة التنويع فيه. والحركة قد تكون هادئة بطيئة، كحركة الليل في قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ الفجر: 4، وقوله أيضا: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً الأعراف: 54. وقد تكون سريعة خاطفة كقوله تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ الحج: 31. فحركة السقوط من السماء سريعة، تتبعها حركة سريعة خاطفة ملحوظة في حرف العطف الفاء، ثم حركة أخرى تعقبها بسرعة، وهي قذف الريح. فهذه الحركات السريعة الخاطفة، تساعد على رسم المشهد بكل ما فيه من شدة وعنف.

وقد تكون خفيّة لا تكاد تظهر لكنها موجودة مثال ذلك في قوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً مريم: 4، فحركة الشيب خفيّة لا تظهر جليّة إلا بعد مرور السنين. وقد تكون الحركة متخيّلة غير محسوسة كقوله سبحانه وتعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ البقرة: 168، فحركة خطوات الشيطان، تتبعها حركة الإنسان، مقتفيا خطواته، حركة متخيلة، تساعد على رسم المشهد للشيطان وهو يقود أتباعه إلى الضلال. وهناك «الظلال» المصاحبة للصورة بالإضافة إلى الإيقاع والحركة. وقد ساعدت اللغة العربية باشتقاقاتها المختلفة على إغناء الجانب الدلالي للألفاظ، والإيحاء بالمعاني من وراء الدلالة اللغوية للكلمة. وقد قام الزمخشري بالربط بين الصيغة اللغوية، ودلالتها النفسية في الصورة الفنية. ففي قوله تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ الحج: 2. يرى الزمخشري أن كلمة «مرضعة» أكثر إيحاء ودلالة من «مرضع» فالمرضعة تدل على إرضاع طفلها وقت وقوع الحدث، ولكنّها لشدّة الهول في ذلك اليوم تذهل عن طفلها الرضيع، فتنزع ثديها بعد أن ألقمته إياه من شدّة اندهاشها لما ترى. وأما المرضع فهي لا تدل على الإرضاع وقت وقوع الحدث، وإن كانت في الأصل هي مرضع «51». فالزمخشري لا يتوقف عند الدلالة اللغوية للاسم المؤنث، بل يلاحظ ما بين الاسمين من فروق في ظلال المعاني، والإيحاء بها من وراء الدلالة اللغوية، وهذه الظلال مقصودة في أثناء تصوير المشهد لاستحضارها أيضا معه في رسم الأهوال والأحداث في يوم القيامة. ويعلّل الزمخشري بحسّه المرهف استخدام كلمة «الحيوان» في قوله تعالى: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ العنكبوت: 64، فرأى أنها تزيد من إيضاح المعنى، فتدلّ على الحركة وتوحي بالمبالغة في معنى الحياة «52». ويلاحظ أنّ الزمخشري يربط ظلال المعاني بالصيغة اللغوية أو أوزانها واشتقاقها. ولكنّ سيد قطب في العصر الحديث يربط الظلال للمعاني بدلالتها الحسية يقول:

_ (51) الكشاف: 3/ 4. (52) المصدر نفسه: 3/ 211.

«وللألفاظ كما للعبارات ظلال خاصة، يلحظها الحس البصير، حينما يوجّه إليها انتباهه، وحينما يستدعي صورة مدلولها الحسية» «53». فقوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ الأعراف: 175، فكلمة انسلخ بدلالتها الحسية، تلقي بظلها في الخيال، فترسم صورة الإنسان الذي ينسلخ عن آيات الله بعد أن لازمته والتصقت به، التصاق الجلد، فهو يجد مشقة في عملية الانسلاخ منها وهذا ما توحي به ظلال الصورة الحسية لعملية انسلاخ الجلد. كما أنّ «اللون» أيضا يساعد على رسم الصورة، إلى جانب ما ذكرناه، لأن اللون له أثره في النفس الإنسانية فترتاح إليه، أو تنفر منه، يقول تعالى في وصف البقرة: إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ البقرة: 69. واختلاف الألوان دليل على قدرة الله، وبديع صنعه، قال تعالى: وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ النحل: 13، وقوله أيضا: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ الروم: 22. وتبرز الصورة، وحدة الأصل مع التنويع في الألوان، لإثبات القدرة الإلهية، كما نرى في خلق الإنسان، وكذلك في النبات، يقول تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فاطر: 27 - 28. فاختلاف الألوان ملحوظ في الإنسان والحيوان والنبات والجماد مع رجوع كلّ منها إلى أصل واحد. كما نجد عناية الصورة برسم الألوان المتدرّجة، وتغيّرها، كقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ الزمر: 21. وفي تدرّج الألوان، وامتزاج بعضها ببعض ألوان جديدة، فألوان الزروع المختلفة تتدرّج في النهاية إلى اللون الأصفر، وهو علامة على نهايتها، كما أن ألوان البشر تذبل وتنتهي في ساعات الاحتضار إلى اللون نفسه إيذانا بانتهاء حياة الإنسان، كما كان الصفار نهاية النبات، فاللون هنا يحقّق غرضا فنيا في تناسقه مع الألوان الأخرى في تدرّجها، وغرضا

_ (53) التصوير الفني: ص 95.

دينيا في تصوير نهاية الحياة. واختلاف الألوان أيضا في العسل مع وحدة المصدر له يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ النحل: 69. ويركّز القرآن الكريم على الجمع بين الليل والنهار، لإظهار التضاد في اللونين الأبيض والأسود في الصورة المرسومة لهما. وما في اللونين من آيات دالّة على قدرة الله، فالليل سكن وراحة، واللون الأسود يتناسب مع السكون والراحة في الليل، والنهار معاش وحركة ويناسب ذلك لون آخر هو الأبيض، لكي تتمّ الحياة بهذا التناسق أو الترابط بين حركة الإنسان، وحركة الكون من حوله. وإذا كان اللونان الأبيض والأسود، في الصورة الكونية، رمزا للسكون في الليل، والحركة في النهار فإن التضاد بينهما رمز أيضا في الآخرة لأهل الجنة، وأهل النار. كما بيّنّا في مشاهد الجنة والنار كما أن اللون يدخل كعنصر من عناصر تصوير نعيم أهل الجنة يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ، بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ الصافات: 45 - 46، وقوله أيضا: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً الإنسان: 20 - 21. ويدخل أيضا في تصوير العذاب، في صورة النار يقول تعالى: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ، كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ المرسلات: 32 - 33. فالصورة هنا تجمع بين اللون والحجم الضخم في وصف شرر جهنم المتطاير. وهناك علاقة أكبر من العلاقات السابقة في الصورة الفنية، وهي «التخييل الحسي». وهذا العنصر يعدّ قاعدة التصوير الفني في القرآن الكريم، والسمة المميّزة له. فالقرآن الكريم «يعبر بالصورة المحسّة المتخيّلة» «54» عن أغراضه الدينية. والتخييل الحسي في الصورة لا ينفصل عن بقية العلاقات الأخرى مثل الإيقاع والحركة والظلال واللون فكل هذه العلاقات مترابطة، لكي تحقّق الوظيفة الفنية للصورة، وبذلك يجتمع فيها جمال الإيقاع والحركة وجمال التخيّل أيضا. ونضرب مثالا على ذلك بقوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً مريم: 4.

_ (54) التصوير الفني: ص 71.

فجمال هذه الصورة لا يرجع إلى الاستعارة فحسب بل يرجع أيضا إلى جمال نظمها، وجمال التخييل الحسي فيها، ويظهر ذلك في إسناد الفعل «اشتعل» إلى الرأس، وهو في الأصل للشيب، وبين الشيب والرأس علاقة وتلازم، وبذلك تحقّق الصورة الاشتعال للشيب في المعنى، والاشتعال للرأس في اللفظ بالإضافة إلى ما يوحيه الإسناد من العموم والشمول للرأس كلّه وقد عمّه الشيب من نواحيه جميعا. والصورة تدع الخيال أيضا يشارك في تأمل صورة اشتعال الرأس بالشيب، من خلال حركة الاشتعال المضمرة، وما فيها من لمعان لون الشيب، وبذلك تلامس الصورة حس الإنسان كما تثير خياله. وقد يتّخذ التخييل الحسي طابع «التشخيص» وهو خلع الحياة على الظواهر الكونية والأشياء الجامدة والانفعالات الوجدانية. فيتحول الوجود إلى أشكال حية، أو أشخاص متحركة لكي يتفاعل معها الإنسان، ويتجاوب مع الحقائق المبثوثة فيها، فتحدث الصلة القوية بين مظاهر الوجود، والإنسان، وهذه الصلة بينهما تكمن في الحياة السارية في كليهما، فلا يحدث التصادم بين الإنسان وهذا الوجود، بل تحدث الألفة والمودة، لأنها ألفة الحياة، ومودة الأحياء. وهكذا نلاحظ أن الطريقة التصويرية في القرآن تعتمد على تشخيص الليل والنهار وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ التكوير: 17 - 18، ووَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ الفجر: 4، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً الأعراف: 54، فالليل والنهار فيهما الحركة والحياة، فالليل مرة شخص يعسّ في الظلام، ومرة شخص يسري أو يسافر فيه، ومرة ثالثة، مدرك عاقل يطارد النهار ويسابقه وينافسه ليلحق به. أما الصبح فهو شخص حيّ يتنفس كما يتنفس الأحياء، ولكنّه يتنفّس عن الحركة والحياة والضياء. والأرض والسماء مخلوقتان مطيعتان مطيعتان للخالق سبحانه، يدعوهما، فتجيبان: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فصلت: 11. والنار مخلوقة حيّة لها صفات الأحياء سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ الملك: 7 - 8، وهي أيضا تسأل وتجيب يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ

مَزِيدٍ ق: 30. وهي قويّة تنزع الجلود من الأجسام الآدمية، وتدعو الكفار إليها نَزَّاعَةً لِلشَّوى، تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى، وَجَمَعَ فَأَوْعى المعارج: 16 - 18. وظلّها حي، لا يستقبل أهل النار استقبال الكريم وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ الواقعة: 43 - 44. وهذه الصور التشخيصية وغيرها، تتمتع بقدرة على «التكثيف» والإيجاز كما يقول الدكتور مصطفى ناصف «55». كما أنّ التشخيص يحمل شحنات نفسية أو عاطفية مثيرة، تحرّك الوجدان، بالإضافة إلى إثارته الخيال من خلال مفاجأته، بتعبير مجازي يخرج عن المألوف اللغوي، ويدفعه إلى البحث عن العلاقات بين المعنى اللغوي والمعنى المجازي، لاكتشاف المقصود. وبهذا تتحقق المتعة والإثارة في التعبير المشخّص وقد لاحظ الدكتور مصطفى ناصف أن «التجسيم والتشخيص يتعمقان بناء اللغة، وضمائرها، وأفعالها وصفاتها، التي ترد علينا ورودا طبيعيا لا شية فيه من صنعة أو أناقة» «56». فالتشخيص والتجسيم سمتان فنيتان في الصورة القرآنية. والتجسيم الفني أنواع، فمنه ما يعتمد على تجسيم الأمور المعنوية، كتجسيم أعمال الكافرين في صورة رماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، فبعثرته يمينا وشمالا، وذلك في قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ إبراهيم: 18. وقد يكون تجسيما لحالات نفسية، كقوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ غافر: 18. وقد يكون تجسيما لحالة عقلية، كقوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ البقرة: 7. والبلاغيون القدماء لاحظوا تشبيه الأمر المعنوي بالمحسوس على وجه التشبيه والتمثيل

_ (55) الصورة الأدبية: ص 136. (56) المصدر السابق: ص 136.

في حديثهم عن أقسام التشبيه بحسب طرفيه «57». وإن لم يسمّوا هذا اللون من التشبيه بمصطلح «التجسيم». والتجسيم الفني، له أثره في النفس، لأنه يحوّل المعنويات إلى محسوسات، والنفس تتأثر بالمحسوس أكثر من تأثرها بالمعنى المجرد، وبذلك يدخل التجسيم ضمن علاقات الصورة وروابطها الفنية. وهناك نوع آخر من العلاقات، بين الصورة الفنية، وبين مطلع السورة نفسها، وهذه العلاقة بين المطلع والصورة، تحقّق الوحدة الفنية للصورة، على صعيد السورة كلها. فنحن نلاحظ كأنّ مطلع السورة، يعدّ مدخلا لجوّ الصورة الفنية أو مفتاحا لها. ولا أقصد مطالع السور المعتمدة على الحروف الأبجدية، بل أقصد تلك التي تعتمد على التصوير أيضا ويطلق عليها سيد قطب مصطلح «الإطار» ولكنّ مصطلح الإطار أقرب إلى التصوير الضوئي منه إلى التصوير الفني ثم إنّه يصرف الذهن إلى الاهتمام بشكل الصورة، وإهمال مضمونها. وأكثر ما تتضح هذه الظاهرة الفنية في السور القصار، حيث تكون الافتتاحية للسورة على علاقة وثيقة مع الصورة الفنية المرسومة في داخل السورة. وكأنّ هذه الافتتاحية تهيئ الذهن للدخول في جوّ الصورة الفنية، والتحليق في أجوائها الفنية بما فيها من إيقاع وظلال، وألوان، وحركة، وحياة، وخيال. بحيث تشكّل هذه العلاقات الداخلية للصورة مع الافتتاحية نسيجا موحدا، يحقّق الوظيفة الدينية للصورة. وقد تكون «الافتتاحية» مفردة، وأحيانا تكون متنوّعة أو متعددة، وهذا الإفراد في الافتتاحية أو التنويع فيها، مرتبط بجوّ الصورة الفنية. كما أن التنويع في الافتتاحية يعتمد على العلاقات المتوازنة التي تمتد إلى أجزاء الصورة، وجوّها وما فيها من صور متقابلة أيضا. مثلا سورة «العاديات» تعتمد على مطلع واحد، تجتمع فيه عناصر التصوير من حركة ولون وإيقاع في وحدة فنية منسجمة، يقول تعالى: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً، فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً، إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ

_ (57) القرآن والصورة البيانية: د. عبد القادر حسين ص 54 - 55.

لَشَهِيدٌ، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ، أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ، إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ العاديات: 1 - 11، فصورة الخيول الضابحة القادحة بحوافرها، والمغيرة في الصباح، والمثيرة للغبار، والمفزعة للعدو، تتّخذ مطلعا ممهّدا للذهن، لتأمل صورة الإنسان الجحود الكنود، الشحيح، المحب للمال، وبين صورة الإنسان والمطلع علاقة وارتباط. فالإنسان في حركته السريعة لجحود نعمة ربه، وحركته اللاهثة وراء المال، تشبه حركة الخيول السريعة في جريها، الضابحة بأصواتها، القادحة بحوافرها، والمثيرة للغبار من حولها، فكما أنّ صورة الخيول تشبه حركة الإنسان في الدنيا، كذلك تشبه علاج هذا المرض فيه، وذلك بتذكيره، ببعثرة القبور، وتحصيل ما في الصدور يوم القيامة. فنلاحظ امتداد المطلع بجوّه المعفّر بالغبار والتراب، وحركة نبش الأرض بحوافر الخيل، ليصل إلى حركة بعثرة القبور، وحركة البعثرة تتمّ من الداخل إلى الأعلى، كذلك حوافر الخيل تنبش التراب من تحت حوافرها بحركة شديدة عنيفة مماثلة في اتجاهها، لحركة بعثرة القبور. وحركة تحصيل ما في الصدور شديدة أيضا. مرتبطة بالشدة والعنف في المطلع، كما أنّ حركة التحصيل تتمّ من الداخل إلى الخارج، وكذلك حركة حوافر الخيول في نبشها الأرض من الداخل إلى الخارج أيضا. وبعد هذه الحركة العنيفة في المطلع وجوّ الصور، تأتي الخاتمة هادئة بعد العنف، مستقرة بعد الحركة السريعة وكأنها اللازمة الباقية إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ. وإذا أخذنا سورة «النبأ» وهي أكبر من السورة السابقة، نلاحظ أن الوحدة الفنية في التصوير واضحة فيها. فكلّ الصور فيها، مشدودة إلى صورة المطلع التي هي المحور الذي تشكّلت من حوله الصور الأخرى ويبدأ المطلع بالاستفهام عَمَّ يَتَساءَلُونَ، عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ .. النبأ: 1 - 2، وذلك لإثارة الذهن، وتهيئته لاستقبال النبأ العظيم وهو يوم القيامة. ثم بعد ذلك ينتقل التعبير إلى الواقع الحسي أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً .. النبأ: 6 - 7، فصور الأرض المهاد، والجبال الأوتاد، والنوم السبات، والليل الساتر، والنهار المعاش، والسماوات الشداد والسراج الوهاج، والمطر الثجّاج، والنبات الطالع، والجنات الألفاف، كلها تعرض هنا كدلائل وبراهين على النبأ العظيم الوارد في المطلع. ثم يعود السياق إلى مشاهد مصوّرة، لأحداث النبأ العظيم، فيبدأ بالنفخة في الصور

إيذانا بانتهاء العالم المحسوس، وبداية عالم غير محسوس، وهو النبأ العظيم، ثم تعرض مشاهد العذاب، ومشاهد النعيم وتختم السورة بتمني الكافر العدم على الحياة وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً النبأ: 40. فالوحدة الفنية بارزة في وحدة الموضوع، وترتيب الأفكار والصور في شريط واحد معروض بتدرّج وتسلسل حتى النهاية ضمن نظام العلاقات الواضح في التعبير والتصوير، ثم تأتي الخاتمة تتناسق مع المطلع في الحديث عن النبأ العظيم، فهي تظهر أثر النبأ العظيم في نفس الجاحد، وتمنيه أن يكون جمادا حتى لا يحاسب. وبين المطلع والخاتمة تتدفق الصور في وحدة وانسجام، في شريط متحرك مؤثر في النفوس، حتى إذا وصلنا إلى النهاية، نكون قد وصلنا إلى ذروة بناء الصورة، وقمة هذا البناء، في وحدة تصميم يجمع بين التعبير والتصوير، ليحقق الغرض الديني والفني معا. وسورة «الرحمن» تبدأ بمطلع «الرحمن»، ثم تنساب الصور كلّها لعرض آيات الرحمن في تعليم القرآن وخلق الإنسان، وتعليمه البيان، ثم آياته في الصور الكونية في الشمس والقمر، والنجم والشجر، والسماء المرفوعة والميزان، والأرض، وما يرتبط بها من فاكهة ونخل وحب وريحان، ثم آياته في الجن والإنس، ثم آياته في المشرقين، والمغربين، والبحرين، والبرزخ بينهما .. وكلها صور حسية، تعرض لإبراز قدرة الرحمن والتعريف به. وبعد أن تمّ استعراض المشاهد المحسوسة، يعرض مشاهد زوالها، وهذه المشاهد للفناء تقابل المشاهد الأولى لها ومقابل مشاهد الفناء، البقاء المطلق للرحمن. ثم تعرض مشاهد القيامة لتوضيح ما بعد الفناء من عالم آخر، ويبدأ هذا العالم بمشاهد كونية مخيفة. ثم تعرض مشاهد العذاب مفصّلة، وكذلك مشاهد النعيم، ليبلغ التأثير مداه. ثم يأتي ختام التصوير بقوله: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ الرحمن: 78. ويلاحظ هذا الترابط بين المطلع والختام، وقد تدفّقت الصور بينهما بنظام أيضا وترابط. فكل صورة جزئية، ترتبط بصورة أخرى، حتى تتكوّن من هذه الصور، صورة كلية واضحة الآثار في القدرة على الإماتة والإحياء، والعقاب والثواب.

ويلاحظ تجميع الصور المحسوسة وعرضها أولا وهي شاخصة حيّة، ثم عرضها، وهي فانية زائلة، وفي تصوير الفناء للكون والحياة، تسلّط الأضواء على الباقي المطلق المالك لهذا الكون والحياة والإنسان، وهو الله سبحانه. وفي ظلّ فناء الكون تعرض مشاهد القيامة، ليكون الفناء بداية لحياة الخلود في الآخرة وبذلك تتحقق الوحدة الفنية في التصوير مطلعا وخاتمة ووسطا، فكل الصور تتدفق ضمن نظام الروابط أو العلاقات، في تسلسل دقيق، وتصميم محكم، ليكون التصوير وسيلة لتحقيق الغرض الديني. وقد يكون المطلع متعددا ومتنوّعا، ولكنّه يراعي نظام العلاقات المتوازنة بين الصور. كقوله تعالى: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ، وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ، إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ، فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ، إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ، يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ، فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ، وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ، إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَما هُوَ بِالْهَزْلِ، إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً، فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً الطارق: 1 - 17. فصورة النجم الثاقب للظلام، صورة كونية مألوفة، تمهّد الذهن، لصورة الرقيب على كل نفس والذي يطّلع على أسرار النفوس، ويثقب حجبها وأستارها السميكة، كما يثقب النجم الظلام. ثم يمتد المطلع بصورة النجم الثاقب إلى صورة خلق الإنسان، فيوحي بالحركة نفسها في رسم حركة الماء الدافق وخروجه من المجهول إلى المنظور في خلق الإنسان وتكوينه. ثم مطلع آخر في مقطع جديد وهو صورة المطر النازل من السماء، وصورة النبات الطالع من الأرض، ترتبطان أيضا بصورة النجم الثاقب في اختراق الحجب، والخروج من المجهول إلى المعلوم. وكأنّ هذا التنويع في المطالع وما فيها من مظاهر القدرة الإلهية، تمهّد لفهم ما وراء صورة الإنسان، من قدرة أبدعته على هذه الصورة المكرّمة. وفي سورة الليل نلاحظ تنويعا في المطلع فقط، يشدّ أجزاء الصورة إليه، في تلاحم دقيق، يقول تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى، وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، إِنَّ سَعْيَكُمْ

لَشَتَّى، فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى ... الليل: 1 - 10. ويعتمد المطلع هنا على الصورة البديعية القائمة على التضاد بين الليل والنهار، وما فيهما من لونين مختلفين الأبيض والأسود، وهذا التضاد في المطلع يمتد إل بقية الصور الأخرى بكل مشاهدها وأجزائها. فينتقل التضاد من الصورة الكونية في الليل والنهار إلى الصورة الإنسانية في الذكر والأنثى ثم يمتد التضاد في صورة الأفعال الإنسانية، فهناك صورة المنفق، وصورة البخيل، وما يترتب على الصورتين من جزاء مختلف أيضا. ثم تمتد ثنائية التضاد إلى الآخرة والأولى، وما بين الآخرة والدنيا من اختلاف، ثم يبدأ تفصيل الاختلاف بين الآخرة والدنيا من حيث أفعال البشر فهناك الأشقى والأتقى. ونلاحظ نظام العلاقات بين المطلع والصور الأخرى، فالعلاقة المتضادة بين الأبيض والأسود تمتد إلى الذكر والأنثى، ثم إلى الأشقى والأتقى، ثم إلى الجنة والنار. فالوحدة الفنية بارزة بوضوح هنا ابتداء من المطلع وحتى الختام. وبين المطلع والخاتمة علاقات ووشائج وكما يترابط شريط الصور المعروض، يترابط أيضا ألفاظا وجملا وإيقاعا وظلالا وحركة وألوانا، حتى يتكامل رسم الصورة البديعية القائمة على التضاد لإظهار الفروق بين طرفيها. ومن خلال هذه الثنائية التصويرية والتعبيرية، ترتسم صورة الإنسان، واضحة المعالم بنموذجيه الأشقى والأتقى، والفوارق بين النموذجين هي الفوارق بين اللونين في المطلع «الليل والنهار» وقد تجلت الوحدة الفنية للصورة في وحدة الموضوع، ووحدة الأثر النفسي، ووحدة الإيقاع الهادئ الرضي المنسجم مع تصوير الثنائية في الألوان، والإنسان والكون، والأفعال. ووحدة الصورة نتلمّسها أيضا في القطبين المتنافرين من الأبيض والأسود، اللذين تفرّعا إلى أجزاء متنافرة، كل جزء يرجع إلى مصدره، فيتآلف معه ويتحد، ويتنافر مع الجزء الآخر ويبتعد وتمتد الأجزاء في الزمان والمكان إلى اليوم الآخر، ويبقى التنافر بين القطبين قائما، وذلك حتى تحقق الصورة غرضها الديني من خلال هذا الغرض الفني المقصود أيضا. وتختم الصورة بنموذج الأتقى، لأنه النموذج الذي يراد إبرازه في التصوير ليكون قدوة للاحتذاء والاقتداء.

ويمكن القول إن كل سورة من سور القرآن، تشكّل صورة كلية لها معالمها، وفروعها في بقية السورة بحيث يمكن إرجاع كلّ الصور المفردة والسياقية إليها، كما بيّنا في فصل أنواع الصورة القرآنية. فالصورة الكلية في سورة الواقعة هي اليوم الآخر، وقد بدأت الصورة الكلية واضحة منذ المطلع بذكر صفة من صفاتها، ثم تبدأ هذه الصورة الكلية بالتفرّع إلى صور جزئية عن يوم القيامة وما فيه من أهوال وتمييز بين نماذج البشر، السابقين، وأصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، مع صور حسية مفصّلة لكل نموذج حتى يرى نهايته مرسومة فيها، وكأن الدنيا هي الماضية، والآخرة هي الواقعة المشاهدة وتأتي الصور الأخرى كدلائل على وقوع البعث بعد الموت، من خلال عرض صور تدل على قدرة الله، في خلق الإنسان، وإنبات الزرع، وإنزال الماء العذب، وإخراج النار من الشجر الأخضر، وكلها صور تعرض كدلائل على قدرة الله على البعث بعد الإماتة، ثم يأتي مشهد الاحتضار، حين تبلغ الروح الحلقوم لتصوير عجز الإنسان، أمام القدرة الإلهية، ويقف جميع الناس عاجزين عن ردّ الروح إليه بعد خروجها إلى بارئها. ثم تختم السورة بالتسبيح، بعد تأكيد خبر يوم القيامة، وبذلك يرتبط الختام بالمطلع، كما ترتبط الصور كلّها به، بحيث تشكّل مجموع الصور «صورة كلية» لليوم الآخر، صورة مميزة المعالم والمشاهد. في موضوعها، ومعانيها، وإيقاعها، وألوانها. إنّ هذه الوحدة الفنية في التصوير والتعبير، سرّ من أسرار الإعجاز في القرآن، لأنّ هذا القرآن لم ينزل دفعة واحدة على رسول الله، بل نزل منجّما، على امتداد ثلاث وعشرين سنة تقريبا ونجد هذه الوحدة الفنية للصورة على الرغم من اختلاف زمان النزول ومكانه، فهذا دليل على أن هذا القرآن الكريم من عند الله يضاف إلى الدلائل الأخرى. ثم إننا إذا جمعنا الآيات التي هي موضوع واحد، وقد ذكرت في سور متعددة لرأينا أيضا أنّها تكوّن صورة واحدة، متكاملة، تتسم بالوحدة، وهذه أيضا من دلائل الإعجاز تضاف إلى الصورة الكلية التامة في السورة الواحدة «58». ثم إنّ هذه الصورة الكلية في كل سورة، مشدودة إلى الصورة المركزية في القرآن كلّه وهي صورة قدرة الخالق، التي هي مصدر كلّ شيء، وإليها يرجع كلّ شيء، وبذلك تتحقّق

_ (58) الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم: د. محمد محمود حجازي. ص 54.

الوحدة والانسجام بين سور القرآن الكريم، في ترتيبها، وموضوعها، وصورها. كما أنّنا نلاحظ أن «الفاتحة» تعتبر كالمقدمة للقرآن الكريم، وقد أجملت القضايا الدينية الأساسية فهي تتحدث عن الله وصفاته واليوم الآخر، والتوجه إلى الله بالعبادة، والاستعانة به، والاستقامة على دينه وهذه موضوعات كلية جاء القرآن ليقررها، ويرسخها في الأذهان، ثم ما جاء بعد هذه المقدمة، يعدّ من قبيل التفصيل لموضوعاتها الكلية. لهذا سميت الفاتحة ب «أم الكتاب» أي: الأصل فيه. كما أنّ القرآن يبدأ بالحمد لله، وينتهي بقوله «رب الناس» وما بين مطلعه وخاتمته، تتدفق المعاني والصور مرتبطة بالألوهية والربوبية، لإيضاح آثار القدرة الإلهية. فالوحدة والتلاحم ملحوظ في آيات القرآن وسوره، كما أن الوحدة ملحوظة أيضا في الصورة الفنية فيه، حيث إن الصورة الفنية فيه كالبنية الحية، تنمو وتتسع، حتى يكتمل البناء الفني في صورة «كلية» تدور من حول الصورة المركزية» فتوضح صفاتها، ومعانيها، وأفعالها، وآثارها. ثم إنّ الوظيفة الفنية للصورة، وصلت حدّا معجزا للبشر إذ ليس في مقدور البشر أن يأتوا بمثل صور القرآن في التعبير عن المعاني، تصويرا، وأداء، وتناسقا وإيقاعا، وحركة، وتأثيرا. وقد تحدّى القرآن العرب بذلك فعجزوا، وأقروا بعجزهم وقصورهم عن مجاراته أو الإتيان بمثله تعبيرا وتصويرا، وهم أهل فصاحة وبيان، وألفاظه وتعبيراته مألوفة لديهم، ولكنّ تعابيره وصوره حية شاخصة ومؤثرة. وقد امتازت طريقته التصويرية بأنها تعرض الحقيقة، وتدور في إطارها، ولا تتعداها، وتكشف جوانبها وكل ارتباطاتها، بشمولية ليس فيها تعقيد أو غموض، وواقعية ليس فيها جمود. كما أن الصورة الفنية في القرآن ليست موزّعة الأجزاء، كلّ يعمل في اتجاه، وإنما هي متلاحمة العناصر ضمن نظام العلاقات التعبيرية والتصويرية والفكرية. والوظيفة الفنية، بكلّ ما فيها من علاقات وروابط فنية تسير مع الوظائف الأخرى في اتجاه الوظيفة الدينية، لتدعمها، وتقوّيها لأنها هي الأساس من التصوير. وكلّ الوظائف تدور من حولها كما تدور الأفلاك من حول الشمس في حركة موزونة متناسقة. كذلك فإن حركة الوظيفة الفنية بعلاقاتها المتشابكة تدور حول الوظيفة الدينية، بنظام موزون، وتناسق وترابط.

الفصل الثاني الوظيفة النفسية

الفصل الثاني الوظيفة النفسيّة تؤثّر الصورة الفنية في القرآن الكريم في النفس الإنسانية، وتثير الانفعالات المختلفة، من خوف ورجاء وحبّ وكره، وإقدام وإحجام ... لأنّ الله الذي أنزل القرآن الكريم، هو الذي خلق الإنسان، وهو أعلم بما يؤثر فيه، ويحرك نفسه لكي تستجيب. وقد لاحظ النقاد تأثير الصورة في النفس، حتى إنّ الناقد رتشاردز حصر تحريك العواطف والمشاعر بها حين قال: «القوى المحركة للعواطف محصورة بالصورة» «1». وتقاس قوة الصورة- كما يقول سي دي لويس- بمقدار إثارتها لعواطفنا، واستجابتنا لها «2». ويعلّل جميل صليبا هذا التأثير للصورة على ضوء علم النفس، فيرى أنّ الصورة في الأساس هي «بقاء أثر الإحساس في النفس بعد زوال المؤثر الخارجي» «3» فحين يعاد هذا الإحساس في الصورة الفنية تكون «عظيمة الأثر في إدراك العالم الخارجي» «4». والقرآن الكريم نفسه تحدّث عن أثر الصورة في النفس، وذلك في قوله تعالى: إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ البقرة: 69. والسرور حالة نفسية متولّدة من تأثير صورة اللون فيها. وكقوله تعالى: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ الزخرف: 71. والتذاذ العين بالصورة

_ (1) الصورة بين البلاغة والنقد: ص 28. (2) الصورة الشعرية: ص 44. (3) علم النفس: جميل صليبا ص 340. (4) المصدر السابق: ص 346.

الحسية يكون مصحوبا بحالة شعورية من شدة تأثير الصورة فيها. وكقوله أيضا: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ، وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ الأحزاب: 52. والإعجاب تعبير عن أثر الصورة في النفس. وكقوله تعالى عن نسوة يوسف: فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ يوسف: 31. ويبقى السؤال لماذا كان للصورة الفنية هذا التأثير في النفس الإنسانية؟. وقد حاول عبد القاهر الجرجاني أن يجيب عن هذا السؤال، حين أرجع ذلك إلى الفطرة الإنسانية أولا، التي تميل إلى اكتشاف المجهول أو المستور، يقول الجرجاني: «من المركوز في الطباع والراسخ في غرائز العقول أنه متى أريد الدلالة على معنى، فترك أن يصرح به، ويذكر باللفظ الذي هوله في اللغة، وعمد إلى معنى آخر، فأشير به إليه، وجعل دليلا عليه كان للكلام بذلك حسن ومزية لا يكونان إذا لم يصنع ذلك وذكر بلفظه صريحا» «5». فاللفظ المجرد لا يحدث في النفس ما تحدثه الصورة من تأثير، لأنه يقرّر المعنى بأسلوب مباشر مألوف، بينما الصورة فإنّها تثير شوقا لدى الإنسان لمعرفة هذا التعبير غير المباشر. وهذا الشوق لديه، يدفعه إلى إعمال الفكر، وبذل الجهد لمعرفة المقصود، وبذلك تتحقق له متعة اكتشاف المعنى المستور يقول عبد القاهر: «ومن المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلى، وبالمزية أولى، فكان موقعه من النفس أجل وألطف، وكانت به أضن وأشغف» «6». كما يلاحظ الجرجاني ميل النفس إلى المعرفة الحسية، على المعرفة الفكرية المجردة. يقول: «أنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفي إلى جلي، وتأتيها بصريح بعد مكني، وأن تردها في الشيء تعلمها إياه إلى شيء آخر هي بشأنه أعلم، وثقتها به في المعرفة أحكم، نحو أن تنقلها عن العقل إلى الإحساس، وعما يعلم بالفكر إلى ما يعلم بالاضطرار والطبع، لأن العلم المستفاد من طرق الحواس أو المركوز فيها من جهة الطبع

_ (5) دلائل الإعجاز: ص 444. (6) أسرار البلاغة: ص 118.

وعلى حد الضرورة، يفضل المستفاد من جهة النظر والفكر في القوة والاستحكام وبلوغ الثقة فيه غاية التمام» «7». لذلك كانت الصورة «أشد العناصر المحسوسة تأثيرا في النفس، وأقدرها على تثبيت الفكرة والإحساس فيها» «8». ويضيف الجرجاني أيضا قوة تأثير الصورة في النفس إذا أعقبت المعاني فالتمثيل عنده إذا جاء في أعقاب المعاني «كسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشبّ من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها .. » «9». كما أن النفس تزداد تعلقا بالصورة إذا تباعدت أطرافها يقول الجرجاني: «التباعد بين الشيئين كلما كان أشد كانت إلى النفوس أعجب، وكانت النفوس لها أطرب» «10». لأن طبيعة النفس تميل إلى الشيء «إذا ظهر من مكان لم يعهد ظهوره منه، وخرج من موضع ليس بمعدن له» «11». ويرى أبو هلال العسكري أن الصورة «تفعل في نفس السامع ما لا تفعله الحقيقة» «12». وقد توسّع الفخر الرازي في شرح فكرة الجرجاني حول متعة النفس بالصورة إذا نيلت بعد طلب، وتحدث عنها ضمن حديثه عن أسباب استعمال المجاز، وعدّد من هذه الأسباب، ما سمّاه (تلطيف الكلام) وشرحه بقوله: «وأما تلطيف الكلام فهو أن النفس إذا وقفت على تمام المقصود لم يبق لها شوق إليه، فأما إذا عرفته من بعض الوجوه دون البعض، فإن القدر المعلوم يشوقها إلى تحصيل العلم بما ليس بمعلوم، فتحصل لها بسبب علمها بالقدر الذي علمته لذة، وبسبب حرمانها من الباقي ألم فتحصل هناك لذات وآلام متعاقبة، واللذة إذا حصلت عقيب الألم كانت أقوى، وشعور النفس بها أتم وإذا عرفت هذا فنقول إذا عبر عن الشيء باللفظ الدال عليه على سبيل الحقيقة حصل كمال العلم به فلا تحصل اللذة القوية.

_ (7) أسرار البلاغة: 102. (8) الصورة بين البلاغة والنقد: 28. (9) أسرار البلاغة: 92 - 93. (10) المصدر السابق: 109. (11) المصدر السابق: 110. (12) كتاب الصناعتين: 296.

أمّا إذا عبّر عنه بلوازمه الخارجية وعرف لا على سبيل الكمال فتحصل الحالة المذكورة التي هي كالدغدغة النفسانية، فلأجل هذا كان التعبير عن المعاني بالعبارات المجازية ألذ من التعبير عنها بالألفاظ الحقيقية» «13». فالإنسان يتأثّر بالصورة، ويتفاعل معها، لأنها تقديم حسي للمعنى، ولأنّ المعنى لا يدرج دفعة واحدة بل يتمّ إدراكه بتدرّج وبطء، وهذا ما يثير الإنسان، ويدفعه إلى تأمل الصورة مرات ومرات. فيظلّ مشدودا إليها، متنقلا من التعبير المجازي إلى المعاني المجردة، ومن الاستعارة إلى أصلها أو من المشبه به إلى المشبه، ولا يتم ذلك إلا بشيء من الاستدلال الذي يقوّي الذهن وينشطه لمعرفة علاقات المشابهة أو التناسب بين أطراف الصورة من ناحية وبين الصورة ووظائفها من ناحية أخرى. ولكي يحقّق المتلقي ذلك، لا بدّ أن يبذل الجهد، حتى تنكشف له طبيعة الصورة ووظيفتها، فإذا تمّ له كشف ذلك تحقّق التأثير فيه. وتتميّز الصورة القرآنية عن غيرها من الصور الأدبية، أنها تثير الشعور الديني إلى جانب الشعور الإنساني، فهي تهزّ أعماق الإنسان لتوقظه على حقائق الحياة والوجود، والإنسان، وتثيره من خلال المشاهد المعروضة والصور المشخّصة، والنماذج الإنسانية المرسومة، والأحداث الواقعة، والقصص الماضية، ومشاهد القيامة والطبيعة، حتى يبلغ التأثر الوجداني مداه الواسع والعميق، فتتفتح منافذ النفس لتستقبل هذا التأثير عبر الفكر والوجدان، والعقل والشعور معا. فإثارة المتلقي بحقائق الحياة مما تنفرد به الصورة القرآنية، لأنها ليست صورة شكلية، خالية من المضمون، أو أنها تسعى إلى التأثير العابر بل إنها توضّح للإنسان حقائق أساسية في حياته. لهذا كان للصورة القرآنية هذا التأثير في نفوس المؤمنين والكافرين على السواء، لأنها صورة فنية تهدف إلى غرض ديني. وقد أحسّ العرب بقوة تأثير القرآن في النفوس، واستحواذه على القلوب، من خلال

_ (13) المحصول في علم الأصول: 1/ 251 - 252، وفي المزهر للسيوطي: 1/ 361 والصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي: ص 361.

طريقته التصويرية للحقائق الدينية، فاستجاب له المؤمنون، وأعرض عنه المشركون استكبارا مع إقرارهم بتأثيره فيهم. وليس هدف الصورة القرآنية التأثير في النفوس فقط، كما تفعل الصورة الأدبية عموما، بل إنها تقوم بالإضافة إلى التأثير في النفوس، بتجميع هذه المؤثرات النفسية، ضمن علاقات متوازنة أو وشائج لبناء النفس الإنسانية، وصياغة الإنسان وفق التصور الإسلامي. فالوظيفة النفسية، تتعدى التأثير النفسي إلى بناء النفس، ضمن نظام الصورة الفنية وما فيها من علاقات ووشائج تعزف كلها، على أوتار النفس البشرية، فتجعلها تتجاوب معها تجاوبا كليا، وفق المنهج القرآني في تربية النفوس، وتهذيبها، وصقلها. فتخاطب الصورة الإنسان بما فيه من طبيعة مزدوجة، من مادة وروح. كما خلقه الله سبحانه، وتركّز في خطابها على النفس والحس معا، ولا تهمل جانبا على حساب الجانب الآخر، لكي تكون ملائمة لتلك الطبيعة البشرية المزدوجة. وقد لاحظنا في دراستنا التحليلية لوظائف الصورة العنصر الحسي والمعنوي فيها، حيث لم نجد انفصالا بينهما، بل هما خطان متوازنان، فيها، ومتلازمان أيضا. فالتوازن بين الحسي والمعنوي ملحوظ في بناء الصورة القرآنية، كما هو ملحوظ في وظائفها أيضا. والنفس الإنسانية فيها اتجاهات متقابلة فيها الخوف والرجاء، والحب والكره، والإيجابية والسلبية، والواقعية والخيالية، والفردية، والجماعية، والصعود والهبوط، والالتزام والانحراف، والتقوى والفجور .. هكذا خلقها الله سبحانه، فيها هذه الاتجاهات أو الاستعدادات المتقابلة والمتجاورة، لكي يتناسق ذلك مع مسئولية اختيار الإنسان، والأمانة التي تحملها، يقول تعالى في تأكيد هذه الاستعدادات: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها الشمس: 7 - 10، وقوله أيضا: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ البلد: 10، وقوله أيضا: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً الإنسان: 3، فالصورة تؤدي وظيفتها النفسية في مخاطبة هذه الاتجاهات المتقابلة في النفس، وهذه المشاعر المتناقضة، وتبني مشاهدها على ضوء ذلك، لكي تحقق تأثيرا قويا فيها، وتقيم توازنا بين هذه الاتجاهات أو المشاعر الانسانية

المتأصّلة، وتبني الإنسان المتوازن بمشاعره وعواطفه لأنه هو الهدف الأساسي للصورة الوظيفية. وقد تميّزت الصورة القرآنية، بوظيفتها النفسية، التي تخاطب فطرة الإنسان، وما أودعه الله فيها من هذه المشاعر المتقابلة والمتناقضة، وتوجيه الإنسان، كي يقيم التوازن بين مشاعره، فلا يغلّب جانبا على الآخر، حتى لا تضطرب حياته. تحرك الصورة القرآنية، هذه المشاعر، وتهز هذه الأوتار النفسية المختلفة، في لحن متوازن متناسق فلا يطغى شعور على شعور، أو اتجاه على آخر. فتخاطب هذه المشاعر المتأصّلة في فطرته، وتلبي حاجاتها، وترويها بما يناسبها، ويهذّبها، لتعمل مع المشاعر الأخرى في خط متوازن، لبناء النفس المتوازنة، والإنسان المتوازن فمشاعر «الخوف والرجاء» فطرية في النفس الإنسانية، وهي متقابلة فيها ومتجاورة، تخاطبها الصورة القرآنية، فتحركها، وتبعثها من كوامنها لتهذّبها، وتضعها في خطها الصحيح. لأن هذه المشاعر لها تأثيرها في سلوك الإنسان وحياته، فلا بدّ من تقويمها، وإقامة التوازن بينها حتى تستقيم حياة الإنسان السلوكية والنفسية. فالإنسان مثلا يخاف من الموت، بفطرته، ولكن هذا الخوف إذا تغلّب على الشعور المقابل له في الرجاء بالحياة والأمل فيها، فإن حركة الإنسان في الحياة تتوقّف وتجمد. لذا نلاحظ أن الصورة القرآنية، تحرر النفس من المخاوف الفاسدة، فتجعله مقدرا محددا، والمخاوف منه، لا تغيّر من حقيقته شيئا. يقول تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ آل عمران: 185، فالموت هو الأجل المحتوم لكل إنسان، فلا يفيد الهرب منه قال تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ آل عمران: 154. وصور العذاب في اليوم الآخر، تهدف إلى تخويف الإنسان من عذاب الله، وتحريره من الخوف من سواه، لأن الله وحده هو الذي يملك الكون والحياة والإنسان. والتركيز على الصور الحسية للعذاب، وسيلة من وسائل التخويف كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ النساء: 56. ويجتمع العذاب الحسي والمعنوي في الصورة فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ

يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ، وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ الحج: 19 - 22. وقد يغلب العذاب المعنوي في الصورة على العذاب الحسي إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ... الحج: 1 - 2. وقد ترتقي الصورة إلى نوع خاص من العذاب المعنوي كقوله تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ أل عمران: 77. هذا التنويع في تصوير العذاب يقصد به إثارة مشاعر الخوف بدرجاته، ومستوياته المتعددة، فالناس يتأثّرون عموما عن طريق الحواس، لذلك كان التصوير الحسي للعذاب، لتحقيق التخويف منه، ثم هناك التأثر بالصور المعنوية أيضا وهي لا تقل في التخويف عن مثيلاتها من الصور الحسية. فالتنويع في الصور جاء ليشمل جميع المؤثّرات في النفس بمستوياتها، ودرجاتها. ولكنّ الصورة القرآنية لا تكتفي بالتخويف، وإنما تعرض صورا مقابلة للنعيم، لبعث مشاعر الأمل والرجاء وبذلك تقيم الصورة، المشاعر المتوازنة بين الخوف والرجاء، أو الترغيب والترهيب في داخل النفس الإنسانية. لذلك، نلاحظ تقابل صور النعيم والعذاب في السياق الواحد. وكما قلنا في مشاعر الخوف نقول في مشاعر الرجاء أيضا، فالصورة تضع هذه المشاعر في الاتجاه الصحيح فحين تعرض الصورة للمتاع الدنيوي، لا ترفضه أو تنفر منه، وإنما تدعو إلى الاقتصاد فيه، وعدم الانغماس في لذات الدنيا الزائلة، ونسيان الآخرة، فتعرض عليه مشاهد من نعيم الآخرة الباقي حتى يقابل الإنسان بين المتاع الفاني، والمتاع الباقي، يقول الله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ .. آل عمران: 14 - 15. فصورة متاع الدنيا، تقابلها صورة المتاع في الآخرة. وذلك لتوجيه آمال الإنسان نحو متاع الآخرة الباقي، فهو أحقّ أن تتجه إليه مشاعر الأمل والرجاء، لأنّ متاع الآخرة باق،

ونعيمها خالد، بينما متاع الدنيا إلى فناء وكما كانت صور العذاب، للتخويف، وإثارة مشاعر الرهبة، كذلك صور النعيم تقابلها لبعث مشاعر الرجاء وذلك لإقامة التوازن بين مشاعر الخوف والرجاء، فلا يطغى أحدهما على الآخر. والتصوير الحسي للنعيم يلامس مشاعر الرجاء في النفس، ويحركها، ويثيرها، لتقوى في هذا الاتجاه، يقول تعالى: عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ، مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ، لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ، وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ، وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ، وَحُورٌ عِينٌ، كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ الواقعة: 15 - 24. ولكنّ التصوير الحسي للنعيم يمتزج بالنعيم المعنوي، كقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ عبس: 38 - 39، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا مريم: 96. وصورة الود بين الله وعباده توحي بأروع أنواع المتاع الأخروي. وهكذا نلاحظ التنويع في تصوير النعيم ليشمل النعيم الحسي والمعنوي معا، لأنّ الإنسان تعتريه حالات تستهويه فيها الحسيات، وحالات يميل فيها إلى المعنويات، فكانت الصورة الفنية تلبي هذه الحالات الإنسانية أو هذه الأشواق والآمال. وقد اتّخذت الصورة منهج التوازن في بعث مشاعر الخوف والرجاء في النفس الإنسانية من خلال المشاهد المتقابلة للنعيم والعذاب. ويتكرّر هذا الأسلوب التصويري في بعث مشاعر الخوف والرجاء في جميع موضوعات القرآن حتى تتعمق المعاني الدينية في أعماق النفس، فتصبح قوة داخلية، وطاقة نفسية، توجّه الإنسان نحو عمل الخير، واجتناب الشر. وحين تتوازن مشاعر الخوف والرجاء في النفس الإنسانية يكون الإنسان في الاتجاه الصحيح في الحياة. وصور الإنفاق المختلفة التي وقفنا عندها في فصل الأمثال، تهدف إلى الترغيب في الإنفاق والتحذير من البخل والإمساك. والترغيب والترهيب أسلوبان تربويان، لتهذيب النفوس، وصقلها.

ففي الإنفاق طمأنينة نفسية للفقراء والضعفاء، وترغيب للأغنياء، ببعث مشاعر الرجاء والأمل فيهم من خلال تصوير مضاعفة الإنفاق لهم أضعافا مضاعفة مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ البقرة: 261. وتحذير الأغنياء من الإمساك والبخل، كما ورد ذلك في تصوير الجنة التي أصابها إعصار فيه نار فاحترقت أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ ... البقرة: 266. فهذه الصور للإنفاق والإمساك، تبعث مشاعر الأمل والرجاء، والخوف والرهبة أيضا في النفس، وتقيم التوازن بين الإنفاق والإمساك، حتى لا ترجح كفة على أخرى، لأن الحياة لا تقوم إلا بالتوازن بينهما، والشدّ في شعور واحد دون الآخر، أو التركيز عليه، يؤدي إلى قطعه في داخل النفس وتمزيق الكيان الإنساني الذي فطره الله على هذه المشاعر المتقابلة ودور الصورة فيها هو في إقامة التوازن بينها، من خلال تحريكها، وبعثها، لتكون في الاتجاه الصحيح لها. كذلك نلاحظ صورة المنفق المخلص لله في إنفاقه، توضع في مقابل صورة المنفق المرائي المنّان. حتى تتضح الفروق بين النموذجين، والترغيب أيضا بالاقتداء بالنموذج الأول، والتحذير من النموذج الثاني المرائي. ومعظم صور القرآن الكريم تعزف على هذين الوترين النفسيين، لتهذيب مشاعر الإنسان، وبناء نفسه لأن الطريق لبناء سلوك الإنسان، يبدأ أولا من البناء النفسي المتوازن. والتصوير القصصي في القرآن يعزف أيضا على وتري الخوف والرجاء، فهناك التخويف من مصائر المكذبين الذين عاقبهم الله في الدنيا مثل عاد وثمود وقوم لوط، وقوم نوح وغيرهم، وهناك أيضا بعث مشاعر الأمل والرجاء في القلوب المؤمنة التي ترى في قصة موسى مثلا، أملا في النصر والتمكين، ودحر الباطل وهلاكه. وبذلك تتحرر القلوب من مشاعر الخوف من قوى الأرض، وتتعلق بقوة الله التي لا تغلب، وتتجه النفس الإنسانية إلى

خالقها خوفا ورجاء، لأنه وحده الذي يملك الحياة والموت، والتأثير والكون، فكل خوف من سواه زائف، وكل رجاء في غيره باطل، فتنطلق النفس الإنسانية للعمل في طريق الخير، بعد أن تحررت من كل المؤثرات الأرضية، والقيم الفاسدة. وهناك أيضا شعوران في النفس الإنسانية هما «الحب والكره» وهما شعوران مؤثّران في حياة الإنسان وسلوكه يحددان مستقبله ومصيره. لهذا فإنّ الصورة تركز على هذين الشعورين، وتعزف على وتريهما المتقابلين، ليعملا في الاتجاه الصحيح. فحبّ الإنسان لذاته وأملاكه حبّ فطري، بل إنّ هذا الحبّ هو الدافع للتعمير والبناء الحضاري. ولكن حبّ الذات قد يطغى على الإنسان، فينسيه حقيقة وجوده، وغايته في الحياة، فيختل مبدأ التوازن بين الدنيا والآخرة. وهنا لا بدّ من تقويم هذا الحب، وتهذيبه، حتى يكون في الاتجاه الصحيح له. فركّزت الصورة على فناء الدنيا بما فيها من لذّات وأملاك ومتاع، وبقاء الآخرة دار الخلود اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ الحديد: 20. فالصورة هنا تلامس الأشياء المحبوبة لدى الإنسان في الدنيا، فتقرّها، ولا تحاربها، إذا بقيت في إطار الحب الفطري، بحيث لا تطغى صور الحياة الدنيا على الفطرة، فتطمسها، وتنسيها حقيقتها الزائلة. فالصورة، تؤكّد الحبّ الفطري لهذه الأشياء بقوله: أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ولكنها تعرض حقيقة هذه الصور المحبوبة الزائلة أيضا، حتى لا يتعلق بها الإنسان ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً قد يطول هذا الحب للأشياء الفانية، كما توحي بذلك «ثمّ» التي هي للتراخي الزمني، ولكن مهما طال وامتد، فإن نهايته معروفة وهي ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً. وترتقي الصورة في مخاطبة النفس الإنسانية، وتخاطب شعور الحب لديه، وتوجهه إلى الحبّ الباقي الخالد وهو «حب الله» وتعزف على هذا الوتر النفسي بنغمة جديدة.

فالله هو الذي خلق الكون والحياة والإنسان، وخلق عالم الدنيا والآخرة، وبيده مصائر البشر، وكل شيء بيديه، فحين تتجه إليه النفس، فإنها تتجه إلى حب الباقي الخالد. وبذلك تتوحّد قوى النفس، ولا تتمزّق هنا وهناك، في مشاعر الحب، وتتجمّع ضمن الكيان الموحّد الذي تخاطبه الصورة أيضا. وفي وحدة النفس، ووحدة الكيان، ووحدة الاتجاه نحو الله، قوة للإنسان في الحياة، لأنّ أهداف الحياة محددة، والوسائل مرسومة، والمشاعر مضبوطة. وهناك شعور «الكره» أيضا يقابل شعور الحب. والصورة تخاطب هذا الشعور وتحرّكه، وتبعثه، لتضعه في إطاره الصحيح في كره الشر، مجسّما في صورة «الشيطان». فالشيطان هو عدو الإنسان، وهو المسئول عن إغوائه وإغرائه، كي ينحرف ويضل. وكما توحّدت مشاعر الحب في «حب الله» تتوحّد مشاعر الكره «في بغض الشيطان وكرهه» فهو الذي يوسوس للإنسان بالأفكار الشريرة، والأعمال الفاسدة المضرّة. لذا فإن النفس يجب أن تكون يقظة من وساوس الشيطان، حذرة من أساليبه. لأن الحرب قائمة بين الإنسان والشيطان منذ ولادته وإلى يوم القيامة. وقد عرض القرآن صورة العداوة بين الإنسان والشيطان في القرآن الكريم في أثناء خلقه لآدم وأمره الملائكة بالسجود له، ورفض الشيطان أن يسجد لآدم. .. ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ... الأعراف: من 11 - 12. فهذه صورة غيبية، بعناصرها، وحوارها، وزمانها، ومكانها، وقد أطلع الله الإنسان عليها لحكمة أو غاية تربوية، ليوضح له عدوّه الأول، وطريقته في الإغواء والإضلال، ليكون على حذر من أساليبه الملتوية، ووساوسه الخفيّة. فالشيطان يدفع الإنسان في طريق الشرّ، لأنه عدو له، ويبعده عن طريق الخير، والإنسان فيه الاستعداد للخير والشر، والطاعة والعصيان، والهدى والغواية، والصواب والخطيئة. والشيطان يغري الإنسان حتى يخضعه لشروره وغوايته، ووسوسته داخلية خفيّة، لا نعرف كيفيتها، ولكننا ندرك آثارها في النفس، فهو مصدر الشر، لذا فإنه يستحق مشاعر الكره

من الإنسان. وتجمّع الصورة مشاعر الكره في النفس، وتفرغها في الشيطان، وما يتعلق به من أفعال وشرور وجنود وأتباع. فتطمئن النفس وترتاح، وتتوحّد قوى النفس في محاربة قوى الشرّ في النفس والحياة. وتخاطب الصورة الفطرة الإنسانية، وما فيها من «طاقة الواقع وطاقة الخيال» «14» اللتين لا يقوم الكيان الإنساني إلا بهما. فكل طاقة لها عملها ونشاطها، ولها مجالها، وأجواؤها، ولا بدّ من إشباع هاتين الطاقتين بما يحتاجان إليه من الغذاء، كل طاقة على حدة، ثم إقامة التوازن بينهما في النفس الإنسانية في النهاية، حتى يكون الكيان الإنساني بدوره على أكمل وجه، بحيث لا تطغى طاقة الواقع على طاقة الخيال، فيصبح مادة لا روح فيها، كما هو اتجاه الواقعية في العصر الحديث. التي تهمل الجانب الروحي في الإنسان، وتجعل القيمة للمادة فقط، فهي التي تتحكم في الإنسان والحياة، وكانت هذه الواقعية ردة فعل على الرومانسية المفرطة في الخيال والبعد عن واقع الإنسان وما ركّب فيه من طبيعة مزدوجة «مادة وروح» فأغرقت الرومانسية في الخيالات المريضة، والأوهام الفاسدة التي أفسدت الحياة الإنسانية، وشوّهت جمالها. كما أغرقت الواقعية في الالتصاق بالواقع، على حساب الخيال الإنساني، حتى تحول الأدب الواقعي إلى صورة منسوخة عن الواقع، ليس فيه إشباع لمخيّلة الإنسان. أما الصورة القرآنية فإنها تخاطب الطبيعة البشرية المزدوجة «مادة وروح» وما يتفرّع منهما من مشاعر واتجاهات، متقابلة في النفس الإنسانية، تثيرها الصورة القرآنية، وتحركها من كوامنها ولا تكتفي بإثارتها فقط لتعمل بدون نظام أو انضباط، وإنما تثيرها لتستجيب أولا ثم تتوازن ثانيا في الكيان الإنساني، فتعمل هذه الاتجاهات متوازنة ثم يظهر هذا التوازن النفسي في سلوك الإنسان بما يليق بكرامة الإنسان وسيادته في هذا الكون. لذا رأينا كيف قامت الصورة بتصوير الواقع المحسوس بأرضه وسمائه، وجباله وسحابه، وأمطاره، ونباته وأشجاره وثماره ... إلخ. كما قامت بتصوير الأحداث الواقعة التي كان يمرّ بها المسلمون، ورصدتها بدقّة، لكي تجعل الواقع المعاش، واقعا مصوّرا، تبقى صورته ماثلة

_ (14) منهج التربية الإسلامية: محمد قطب ص 148.

في خيال الإنسان بعد نهاية الأحداث، بكلّ ما صاحبها من مشاعر، وتوجيهات وإيحاءات نفسية. كذلك استمدّت الصورة القرآنية عناصرها أو مادتها من الواقع المحسوس، لأنّها عناصر باقية ومؤثّرة، فوجدنا كثرة صور النباتات والزروع، والسراب ... إلخ. وأحيانا تستمدّ مادتها من عناصر غير محسوسة، لإثارة الطاقة التخيلية، لدى الإنسان كما رأينا في شجرة الزقوم التي تشبه رءوس الشياطين، وتصوير عصا موسى «تهتز كأنها جان»، وتصوير نعيم الآخرة، والعذاب، بصور حسية، لتقريبه من ذهن الإنسان، ولكن هذه الصور الحسية تثير مخيّلة الإنسان لتصوّر ما في الجنة من نعيم، وما في النار من عذاب أليم. وكذلك نلاحظ أنّ الصور الحسية، تعنى بتصوير جمال الأشياء، لإثارة المخيّلة، فالسماء تزينها الكواكب وصورة الظلال المتحركة الممتدة، وصور النباتات والثمار المتنوعة، وصور النعيم كلّها صور لا تقف عند إشباع الحاجات النفسية الضرورية للإنسان، وإنما تنتقل إلى إشباع الحاسة الجمالية أيضا عن طريق إثارة الخيال، ليتمتع بالصور المرسومة، التي تلقي ظلالها الموحية في النفس والخيال معا. وهذه الصور لا تهدف إلى مجرد إمتاع الخيال دون غاية دينية، بل هي وسيلة فنية لتحقيق غرض ديني كقوله تعالى تعقيبا على صورة السماوات والأرض: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ آل عمران: 191. فالصورة القرآنية تؤثّر في النفس، ثم تبنيها بناء متكاملا متوازنا، بالاعتماد على الصور الحسية والمتخيّلة فتشبع الفطرة من الواقع والخيال، وتدفعها إلى العمل من خلال هذا التوازن بين الطاقتين. كذلك تشبع الصورة الجانب الحسي، والمعنوي في الإنسان بما يتلاءم مع طبيعته المزدوجة من مادة وروح. فتشبع حواسه من خلال الصور الحسية المعروضة لآيات الله في الكون والحياة. وكما تخاطب الجانب الحسي فيه، وتوقظه، تخاطب الجانب المعنوي وتظهره أيضا، حتى تبقى الفطرة الإنسانية بهذا التوازن بين الحسي والمعنوي.

فتستمتع الطاقة الحسية للإنسان بالتصوير الحسي للحقائق الدينية، كما تستمتع الطاقة المعنوية له من خلال امتزاج الحسي بالمعنوي في الصورة القرآنية. وهذه ميزة الصورة القرآنية، فهي ليست صورة شكلية بل هي صورة لها وجهان، وجه حسي يقابله وجه معنوي. وهما متلاحمان ممتزجان لتلبية الطاقة الحسية والمعنوية في الإنسان. والطاقة المعنوية هي ميزة الإنسان عن بقية المخلوقات، تمنحه القدرة على الإدراك والتفكير والعمل. والصورة تشبع هذا الجانب في الإنسان، بعرض حقائق الحياة والوجود، وحقائق الدين والإيمان والعقيدة، وحين تتشبع النفس بالعقيدة والإيمان والعبادة، تقوى وتنشط للعمل في الحياة. فهذه الطاقة المعنوية قوة إيجابية للإنسان، تدفعه للعمل في الحياة بحماسة وعزيمة، والتعامل مع الواقع على أسس الإيمان، ولا تجعل الإنسان سلبيا في مواقفه من الحياة والواقع. وفرق كبير بين الخضوع للواقع بما فيه، وبين التعامل معه، لإصلاحه وتوجيهه، وتعميره وبذلك يرتبط الحسي بالمعنوي في النفس والحياة معا، فهما متلازمان في الطبيعة البشرية المزدوجة من مادة وروح وأيّ خلل بين الحسي والمعنوي في الكيان الإنساني يؤدي إلى تدميره، وإخراجه من صورته الإنسانية إلى صورة أخرى. كما ورد ذلك في تصوير الذي انسلخ من آيات الله، وأخلد إلى الأرض، متّبعا هواه وشهواته. يقول تعالى فيه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ، وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ الأعراف: 175 - 176. وإذا استعرضنا الصور القرآنية نلاحظ فيها امتزاج الحسي بالمعنوي، في مخاطبة فطرة الإنسان، كقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى الرعد: 2. فالصورة الكونية الحسية، تتجاور في التعبير مع الصورة الغيبية، لكي يتمّ مخاطبة

الفطرة الإنسانية بما تدركه الحواس، وما لا تدركه، لتنمو الطاقة الحسية والطاقة المعنوية في الإنسان. ثم إنّ الصور الحسية، تدفع الإنسان إلى التأمل والتفكير بهذا الكون المحسوس، لمعرفة أسراره، والوصول من خلاله إلى خالقه سبحانه وتعالى، فالله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ الأنعام: 103. كما أنّ الصورة الحسية في القرآن ليست منفصلة عن وظيفتها الدينية التي تغذّي الطاقة المعنوية فيه، يقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ النور: 43 - 44. فالصورة هنا تلحّ على الجانب الحسّي بفعل الرؤية الحسي أَلَمْ تَرَ ولكنها تجعل العبرة هي المقصودة من هذه الصور الحسية لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ لتنمي الجانب المعنوي الموجود في فطرة الإنسان ثم إن الصورة لا تفصل بين المحسوس والغيبي في تشكيلها، فنحن نلاحظ التصريح بأن الله هو الذي جعل هذه الصور الكونية تعمل وفق إرادته وقوانينه. وأساس غذاء الجانب المعنوي في الإنسان هو «الإيمان بالله» لأنّ الإنسان مادة وروح، وغذاء الروح هو الإيمان حتى تستقيم حياة الإنسان وتتوازن، كما هي طبيعته، وفطرته. وعالم الغيب واسع مديد، يقابل العالم المحسوس أيضا. وكما صوّر القرآن عالم الدنيا بما فيه من صور ومشاهد، كذلك صوّر لنا عالم الغيب بما فيه من صور ومشاهد مثل الملائكة والجن، والقيامة بأهوالها، والجنة بنعيمها، والنار بعذابها .. وكلّها صور تخاطب فطرة الإنسان بجانبيها الحسي والمعنوي. فالصورة القرآنية تمزج في خطابها للنفس الإنسانية بين الحسي والمعنوي، ولا تفصل بينهما، لأنه لا يمكن الفصل بين المادة والروح في كيان الإنسان، كذلك لا يمكن الفصل بين العنصر الحسي والنفسي في الصورة. وهي تمتدّ لترسم صورا غيبية لمخلوقات موجودة، ولكنّها غير محسوسة، مثل الملائكة

والجن، لتشعر الإنسان، باتساع هذا الكون المخلوق لله، وكثرة مخلوقات الله، منها المعروفة، ومنها المستورة، وأنه ليس وحده في هذا الوجود، فتتسع بذلك النفس، وتنطلق الروح في تلك الآفاق الممتدة إلى ما وراء المحسوس الفاني، وتستشرف ما فيه من أسرار. وتعرض الصورة مشهدا للملائكة كلّه سمو وطهر، لإشعار الإنسان بوجود قوى خيّرة في هذا الوجود يقول تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ غافر: 7. ففي هذا المشهد ألفة واتصال بين هذا العالم في السماء، وبين المؤمنين على الأرض، وهؤلاء الملائكة محبوبون من المؤمنين لطهرهم وسموهم وطاعتهم لربهم، واستغفارهم للمؤمنين، بينما صورة الشيطان مكروهة لأنها صورة شرّيرة. بهذا يشعر الإنسان بوجود قوى خيّرة في الكون، تناصره، وتحبّه، وتقف معه، فتتجاوب قوى الخير في السماء والأرض، وهناك، قوى الشر، ممثلة في الشيطان وجنوده، وهذه قوى شريرة، لها أتباعها من الإنس أيضا، يتجاوبون معها، وينفذون أوامرها، وهذه قوى يجب أن يحذرها الإنسان ويبتعد عنها. هكذا تسير الصورة ضمن منهج تربوي هادف، لبناء الإنسان، من خلال إقامة التوازن بين مشاعره، ثم في تجسيد هذا التوازن في سلوكه أيضا. وصورة انتهاء العالم المحسوس، وبداية عالم غير محسوس، صورة مؤثّرة في النفس، كما أنّها تعطي للحياة آفاقا جديدة، وقيمة وامتدادا، واتساعا في التصور، ومساحة واسعة في النفس، وضبطا للدوافع والغرائز. وتتخذ الصورة من المحسوس وسيلة لبلوغ ذلك العالم غير المحسوس، فهي تعرض لنا عالم الآخرة بصور محسوسة لتقريبه من الإدراك والتصور، أو أنها تجعل الآخرة امتدادا للدنيا بتداخل الصور والمشاهد بين العالمين. ثم إنّ موعد انتهاء الدنيا غيب مجهول، يجعل الإنسان مستعدا دائما للرحيل عنها. والصورة تنقل لنا هذا الغيب المجهول في صورة قدوم السفينة، ليظلّ الإنسان في حالة انتظار واستعداد يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها، فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها النازعات: 42 - 43.

ويتكرر تصوير الساعة بالسفينة القادمة في آية أخرى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً الأعراف: 187. فهذه الصورة للغيب المجهول، تخاطب فطرة الإنسان في معرفة المجهول، وتجيبه على سؤاله بالتهويل لأمرها أَيَّانَ مُرْساها باستعمال أيّان، والتهويل في التصوير من خلال تصويرها بالسفينة، وما يحيط بها من أمواج وأهوال، فتخاطب هذه الصورة الفطرة بجانبيها الحسي والمعنوي لبلوغ التأثير مداه فيها، وتترك موعدها مجهولا، وزمان رسوّها مستورا حتى يظلّ الإنسان مشدودا، مستعدا لها. ومثل هذه الصور، تزيد من مساحة التأثير في النفس، وتنمّي الجانب المعنوي في الإنسان، ويتحوّل بعد ذلك إلى سلوك واستقامة في الحياة، وبذلك يلتقي الحسي بالمعنوي في النفس والحياة معا. ولكنّ الصورة القرآنية حين تخاطب فطرة الإنسان أو الطبيعة المزدوجة فيه، لا يعني هذا أنها تخاطب النزعة الفردية، على حساب النزعة الجماعية، كما يتّضح لأول وهلة من حديثنا السابق عن الجانب الحسي والمعنوي، والحب والكره، والخوف والرجاء، والمحسوس وغير المحسوس، وإنما تقيم علاقات وثيقة بين الإنسان وغيره، لأن الفردية والجماعية، اتجاهان بارزان في النفس أيضا، وتعتمد كل المشاعر أو الاتجاهات المتقابلة على قاعدة التوازن الأساسية التي تعزف عليها الصورة، حتى أصبح «التوازن» من سمات الصورة القرآنية. فهي لا تثير المشاعر فقط، وتتركها لتعمل في اتجاهات متناقضة، مؤثّرة في النفس الإنسانية والسلوك الاجتماعي، كما نرى ذلك في الصور الأدبية، بل تقيم التوازن بينها أيضا وهذا ينسجم مع وظيفة الصورة الدينية، لأنّ الصورة القرآنية دينية، تحمل رؤية وفكرا ومنهجا، وقد عرض ذلك كله بالأسلوب التصويري الموحي لأنه أكثر تأثيرا في النفس. فالصورة تخاطب النزعة الفردية في الإنسان، من خلال تصوير مسئولية الإنسان عن عمله وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ يس: 13، ولكن هذا الشعور الفردي، شعور إيجابي، وليس شعورا سلبيا فالمؤمن الذي يتصل بربه اتصالا حقيقيا، ويمتلئ قلبه بحبه، فإنه أيضا

يمتلئ حبا للناس والتعاون معهم على الخير والعمل المثمر. وقد صوّر القرآن هذا التعامل الاجتماعي بين الصحابة، وما فيه من حبّ وإيثار وعطاء وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ الحشر: 9. كما أنّ وحدة الصف، بتراصّ أفراده وتعاونهم صورة يحبها الله سبحانه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ الصف: 4. وصور الإنفاق كلّها صور توثق الصلة بين النزعة الفردية والجماعية، وتقيم التوازن بينهما. كما أن التصوير القصصي في القرآن يرسم نماذج إنسانية في أداء الواجب الاجتماعي، وأعلى هذه النماذج الأنبياء الذين كانوا يقومون بدور كبير في هداية الناس، وإصلاح المجتمع. وعرض هذه الصور في القرآن توحي للإنسان بواجبه تجاه الناس، أو تجاه مجتمعه. وبذلك تؤدي الصورة وظيفتها النفسية في صياغة الإنسان وبنائه بناء سليما متكاملا. فالوظيفة النفسية تتعدى التأثير النفسي المحدود، إلى تجميع هذه الاتجاهات النفسية، وإقامة الروابط بينها، وتوحيدها على قاعدة التوازن النفسي، بحيث تتحقّق الوحدة في داخل النفس فتتوحّد هذه المشاعر أو الاتجاهات، لتسير في اتجاه واحد مرسوم. وبهذا تتحقّق وحدة النفس وتوازنها، واستقامتها، ولا تبقى مجرد مشاعر مبعثرة أو اتجاهات متناقضة؛ فتتناسق حركة النفس، مع حركة الكون والحياة، وفق منهج الله. وهذه ميزة الصورة القرآنية التي تؤدي وظيفتها ضمن وحدة الغرض الديني، ووحدة الطريق المستقيم، فلا تبقى النفس ممزّقة الاتجاهات فيها، كلّ يشدّها في اتجاه دون الآخر فتظل في قلق واضطراب وحيرة. فالتوازن النفسي في الكيان الإنساني الموحّد، هو هدف الوظيفة النفسية في الصورة القرآنية، ولكنها تصل إلى هدفها هذا عبر وسائل شتى، للتأثير والإثارة النفسية، ولكنّ هذه المشاعر المثارة بالصورة تتوحّد، في اتجاهات متوازنة، لتعمل عملها بانضباط ونظام. وتنطلق الصورة القرآنية في هذا من طبيعة الإنسان المزدوجة، وتميّزه عن بقية المخلوقات بالقدرة على الاستجابة الشعورية، مع ضبطها، والتحكم في توازنها.

وإن هذه الوحدة في داخل النفس، بين المشاعر المتقابلة، ضمن الكيان الموحّد للإنسان، هي الوظيفة النفسية للصورة. لقد تميّزت الصورة القرآنية بوظيفتها النفسية، في أهدافها ووسائلها، وتأثيرها. قد تلتقي الصورة القرآنية بالصورة الأدبية من حيث التأثير في النفس، لأنّ كليهما يقوم على التصوير ولكنهما يفترقان بعد ذلك. فالصورة القرآنية، لا تكتفي بمجرد التأثير في النفس، كما هو حال الصورة في الأدب، بل تحمل رؤية وفكرا، لبناء الإنسان. لذا تسعى الصورة القرآنية إلى شمول التأثير جميع الاتجاهات النفسية أو المشاعر، والعمل على تكاملها وتوازنها، ثم إنها لا تكتفي ببناء النفس الإنسانية مستقلة عن مجتمعها، بل تقيم العلاقة بين النفس المتوازنة، والمجتمع من حولها، فتبثّ فيها روح الإيجابية للعمل، ثم تصل في النهاية إلى رسم النموذج الإنساني المتوازن في نفسه وسلوكه وحياته، وهو ليس إنسانا سلبيا كما في الأدب الرومانسي، وليس إنسانا آليا كما في الأدب الواقعي. بل هو إنسان إيجابي متوازن، وبذلك تحقّق الصورة وظيفتها الدينية في النهاية من خلال تحقيق وظيفتها النفسية.

الفصل الثالث الوظيفة العقلية

الفصل الثالث الوظيفة العقليّة تخاطب الصورة في القرآن الكريم الكينونة الإنسانية، بما فيها من حس وعقل ونفس، وتلبّي حاجات هذه الكينونة بالغذاء المناسب لها، بتناسق وترابط، حتى لا يطغى جانب على آخر. فهي تخاطب الحس الإنساني، وتلبّي حاجته بالمشاهد المحسوسة، وتتّخذها وسيلة للمعرفة الدينية. وتخاطب النفس، وتعزف على خطوطها المتقابلة، لبناء الإنسان المتوازن، وفق التصور الإسلامي. وتخاطب العقل، وتوقظه بأساليب شتّى كالجدل، والحوار، والمناظرة، ولفت انتباهه إلى الكون والحياة والإنسان، ليتأمل، ويتفكر، ويتدبّر ... ولكن ليس معنى هذا أنّ الصورة تخاطب كلّ جانب في الإنسان على حدة، بل إنّها تخاطب الكينونة موحّدة بما فيها من عقل وحس ونفس. وبذلك يتهيّأ الإنسان لاستقبال الخطاب القرآني، وتتفتح منافذ المعرفة لديه. والعقل من أكبر نعم الله على الإنسان، به تميّز عن بقية المخلوقات، وعن طريقه تمكن من تسخير المادة لتحقيق حياته وسعادته، وهو أيضا أحد منافذ المعرفة، لأنه وسيلة الإدراك والتمييز بين الأشياء. وقد خاطب القرآن الكريم عقل الإنسان، وحثّه على التأمل والتفكير، حتى يصل إلى المعرفة الحقّة في الإيمان بالله، وتوحيده. ولكنّ العقل وحده يضلّ الطريق، إن لم يعتمد

على هدي الوحي، فالعقل له مجاله المحدود، وهو ما يقع عليه نظر الإنسان، ويقع تحت حواسه، أما ما عدا ذلك فلا بدّ من الاهتداء بالوحي، لمعرفة ما وراء المحسوس من عالم الغيب. والقرآن كتاب دعوة وهداية، واجه البشر وقت نزوله بحقائق دينية، وجادل خصومه من المشركين وأهل الكتاب، ولكن طريقته في الجدل، لم تكن ذهنية باردة، أو فلسفية معقدة. إنّما اتخذ الصورة وسيلة لعرض حقائق العقيدة والإيمان، لأن الصورة تخاطب الفطرة البشرية، والبداهة العقلية، والحواس البشرية. لذلك كان للقرآن هذا التأثير القوي في العقول والقلوب حين أنزل، وما زال هذا التأثير له، لكل من يقرؤه، ويتدبّر ما فيه، ويتذوق طريقته الفنية في تصوير الحقائق الدينية. إنّ القرآن تناول قضايا كبيرة في الفكر الإنساني مثل الخالق، والوجود، والكون والحياة والإنسان والبعث بعد الموت وغير ذلك، واستطاع أن يحوّل هذه القضايا الفكرية من إطارها الفلسفي المعقّد، إلى إطار البداهة الإنسانية، بفضل طريقته المتميّزة في التصوير الفني. هذه الطريقة التصويرية للمعاني الدينية، لا تخاطب العقل وحده، وإنما تخاطب العقل والحس والنفس معا من خلال مشاهد الطبيعة، والأمثال، والقصص، ومشاهد القيامة، والنماذج المرسومة ... إلخ. فحرّك القرآن العقول بهذه الصور المعروضة، وأيقظ الحواس، على البداهة العقلية، فتفتّحت البصيرة لإدراك الحقائق الدينية، واستجابت الفطرة لندائه، بعد أن أزيل عنها ركام الأوهام وقد حملت الصورة القرآنية كثيرا من الأدلة العقلية، لإثبات العقيدة، وترسيخها في النفوس. وخاطبت بها الفطرة الإنسانية لأنها مجبولة على الإيمان، ولكن هذا الإيمان بالله، قد يغيب تحت ركام الأوهام، ويخفت نوره إن قليلا أو كثيرا بفعل المؤثرات الخارجية «1». فقضية وجود الله، قضية فطرية، متأصّلة في النفس الإنسانية، ولكنّها قد تضمر وتغيب بفعل المؤثرات الخارجية، والجهل والأوهام والهوى، ولكنّ هذه الفكرة تنبعث فجأة من تحت الركام عند «أعتى الملاحدة حينما تضمحل هذه المؤثرات» «2».

_ (1) مصادر المعرفة: ص 390 - 391. (2) المصدر السابق: 393.

واختيار الصورة الفنية للتعبير عن الحقائق الدينية، يدلّ على قدرتها في تقريب هذه المعاني المجردة، وقوة تأثيرها في النفوس، وإقناعها للعقول. لأنّها تعبّر عن القضايا الفكرية في صور محسوسة قريبة من الإنسان، يفهمها الإنسان ببداهة ودون تعقيد. وتصوير المعنويات أو المعقولات في صور حسية، يزيل خفاءها وغموضها، ويجعلها حية شاخصة مدركة من قبل الإنسان العادي والمتعلم على حد سواء. وقد اعتمدت الصورة، لتحقيق وظيفتها العقلية. على مشاهد الطبيعة باعتبار هذه المشاهد محسوسة مدركة واستخلصت منها (الاستدلال) على القضايا الدينية، لإقرارها، وترسيخها في الإنسان والإنسان يميل بطبعه إلى المعرفة الحسية، ويتجاوب معها، أكثر من المعرفة الذهنية المجردة. وقد تحدّث الجرجاني عن أثر الصورة في نقل المعرفة عن طريق الحواس، واعتبرها أكثر تأثيرا من المعرفة المكتسبة عن طريق الذهن يقول عبد القاهر: «لأن العلم المستفاد من طرق الحواس أو المركوز فيها من جهة الطبع وعلى حد الضرورة يفضل المستفاد من جهة النظر والفكر في القوة والاستحكام وبلوغ الثقة فيه غاية التمام» «3». فالصورة عند الجرجاني تقوم بوظيفتها العقلية في نقل المعنوي إلى شيء محسوس، وما يدرك بالفكر إلى ما يدرك بالطبع، وبذلك تحقق قوة الاستدلال العقلي، بتحويل ما يستفاد بالعقل المجرد إلى مدرك حسي، يكون أكثر وضوحا وإقناعا. واعتماد طريقة التصوير هذه تتناسب مع طبيعة القرآن باعتباره كتاب دعوة وهداية، فهو يجادل خصومه، لإقناعهم والتأثير فيهم، وليس هدفه نقل المعرفة العقلية المجردة، ومجادلة الخصوم بها فهو يخاطب الإنسان، لإقناعه بالحقائق الدينية، والتأثير فيه، لكي يستجيب للتوحيد، ويؤمن بالله. والقضية الأساسية هي (وجود الله) وقد تضمنت الصورة الفنية كثيرا من البراهين والأدلة على وجود الله وفق منهج عقلي ينسجم مع القرآن باعتباره كتاب دعوة وهداية. والصور الكونية المعروضة في القرآن، حافلة بالأدلة العقلية، لمن تأمّلها، وتفكر فيها وهي قد عرضت بهذه الكثرة لتحقيق هذا الغرض في إيقاظ العقل على ما في هذا الكون

_ (3) أسرار البلاغة: ص 102.

من تناسق وإحكام. فالتوافق في خلق الكون، على صور متناسقة، مع خلق الإنسان، وتناسق حركة الكون مع حركة الإنسان خير دليل على الخالق سبحانه. وقد قسّم ابن رشد الاستدلال بالكون إلى نوعين: دليل العناية، ودليل الاختراع. يقول: «ويتمثّل الأول في الاستدلال بهذا الكون وما فيه من عوالم من جهة خلقه بعد أن لم يكن، وإيجاده فإنه دليل على الخالق الحكيم، ويتمثل الثاني في الاستدلال بالتنظيم المحكم لهذا الكون واطراد نواميسه دون اختلال، وموافقة جميع الموجودات لوجود الإنسان على الفاعل الحكيم» «4». ونحن نجد في القرآن تركيزا علي الصور الكونية ومشاهد الطبيعة، لأنها تحمل الأدلة العقلية التي تثبت وجود الله، ومن ذلك قوله: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ الأعراف: 185. ومن الصور المتضمنة دليل العناية بالإنسان قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً، وَالْجِبالَ أَوْتاداً، وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً، وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً، وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً، وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً، وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً، وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً، لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً، وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً النبأ: 6 - 16. فالصور الحسية هنا قريبة من الإدراك والفهم، فالأرض ممهّدة، والجبال راسية، والزوجية في الخلق، والنوم سبات، والليل ساتر، والنهار معاش، والسماوات طباق محكمة، والشمس ساطعة، والأمطار هاطلة من السماء، والنبات طالع من الأرض ... كلها صور مدركة مألوفة تحرّك العقل وتدفعه إلى التأمل فيما وراءها من حكمة إلهية، وعناية ربانية في خلقها. وقوله أيضا: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً الفرقان: 61، وقوله أيضا: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا، فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا، وَعِنَباً وَقَضْباً، وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا، وَحَدائِقَ غُلْباً، وَفاكِهَةً وَأَبًّا، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ عبس: 24 - 32. وهناك أمثلة كثيرة تصلح أدلة وشواهد على دليل العناية.

_ (4) مصادر المعرفة: 397. ومناهج الجدل في القرآن الكريم: د. زاهر الألمعي: ص 136.

ومن الصور الحسية المتضمنة دليل الاختراع قوله تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ الغاشية: 17 - 20. وقوله تعالى أيضا: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ غافر: 57. وقوله أيضا: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ ... الطارق: 5 - 6. وقوله أيضا: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ .. لقمان: 10 - 11. وهناك صور أخرى كثيرة تؤكّد دلالة الاختراع والإبداع في خلق الله، مما يثبت وجوده. وقد يجتمع في الصورة الدلالتان معا كقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ القصص: 71 - 72. فهذه الصور الكونية بدلالتي العناية والاختراع على تعبير ابن رشد، يدركها عامة الناس، ولكن إدراك العلماء لا يتوقّف عند هذا الإدراك والاستدلال البسيط على وجود الله، وإنما يتعمق العلماء في فهم الصور الكونية، لمعرفة حقائقها وقوانينها، فيقوى الاستدلال عندهم باكتشاف هذه القوانين الإلهية الخفية التي تسيّر هذا الكون بدقة وتناسق وإحكام. وهناك الصور المستمدة من الطبيعة، وعالم الحيوان، تتضمن أدلة عقلية تثبت وجود الله، فالحيوانات متنوّعة، ومصدرها واحد، والتنوّع في خلقها وتكوينها وأجهزتها، ونظام تكاثرها، كما أنها تختلف في فوائدها وألوانها وحياتها وغير ذلك. فهذا التنوّع أو التمايز في الحيوانات لم يكن مصادفة، وإنما هو دليل على الله. الخالق سبحانه، وقد قامت الصورة بلفت الأذهان إلى أنواع الحيوانات كدليل على الصانع المبدع وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ .. النور: 45، ولفت الانتباه إلى عالم الحيوان المتنوّع والمختلف وَما مِنْ دَابَّةٍ

فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ الأنعام: 38. وتحريك العقل إلى تأمّل قوانين الله المبثوثة في الكون والتي تمكّن الطيور من التحليق أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ الملك: 19. وتكثر الصور المستمدة من عالم النبات، وما فيه من عجائب وقوانين دقيقة. فالحبة توضع في الأرض فتربو وتنمو وتشق التربة، وتمتد بجذورها في باطن الأرض، وتمتد بساقها فوق سطحها. ثم عالم النبات يختلف في شكله ونوعه، وطعمه، ولونه، ورائحته، وكلّها تسقى بماء واحد، وتزرع في تربة واحدة، ولكنّ النبات يتنوّع، وكذلك الثمار، مثلها كمثل الإنسان في خلقه من ماء ثم التنوّع في الأشكال والألوان والأحجام. فمبدأ الحياة قائم على وحدة الأصل، ثم التنوّع في الأشكال والألوان والأحجام والطعوم وهذه الظاهرة في الصور الحسية المعروضة أكبر دليل على الله الخالق. قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ الأنعام: 141. والإشارة في بعض الصور المتجاورة، إلى قانون السببية، فصورة الثمار أو النبات مرتبطة بنزول الأمطار أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها فاطر: 27، وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ الرعد: 4. ويكثر اعتماد القرآن على الصور الكونية في إيراد الأدلة العقلية على وجود الخالق. فالسماوات بغير عمد، أو أمراس تمسكها، كما هو مألوف عند الناس، في تشييد البناء والعمران، وكذلك الأرض، ثم حركة الأفلاك، وحركة الأرض، ودقة قوانين الحركة في الصور الكونية، وارتباطها بما يتفق مع حركة الإنسان على الأرض، فلا يصطدم بعضها ببعض، ولا تؤثر حركتها في حركة الإنسان الثابتة على الأرض، ودور هذه الحركة الكونية في تعاقب الليل والنهار، وتكوين الفصول والأيام والشهور، بدقة متناهية، وحسابات مضبوطة. قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها الرعد: 2، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ النحل: 12.

كذلك صورة الرياح بأنواعها الحارة والباردة، والبطيئة والشديدة، والعقيم والممطرة، والرياح اللواقح .. ودقة القوانين الإلهية التي تسيّرها، ومن ذلك قوله تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ الحجر: 22، وغير ذلك من الآيات. كذلك صور السحاب والمطر والرعد والبرق، ودقة قوانين الله التي تحكمها، وتسيّرها. قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ، يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ النور: 43 - 44. وصورة الأرض الممهدة، وما فيها من بحار وأنهار وجبال ووديان وصخور، يقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ .. فاطر: 27 - 28. أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ النمل: 61. فهذه الصور الحسية- وغيرها- تحضّ الإنسان على إمعان التفكر فيها، لإدراك ما فيها من أسرار وقوانين لم توجد مصادفة، وإنما بتدبير الله ومشيئته. وكأن هذه الصور تشير إلى مبدأ «العلّية»، الذي يقول بأنه لا يمكن أن يحدث شيء دون أن يكون هناك سبب أو علّة لحدوثه، تصلح أن تكون تفسيرا حقيقيا له «5». وهي تدعو إلى التعرف على الكون لفهم أسراره وقوانينه، للاستفادة منها في حياة الإنسان، فأحيانا علاقة الصور بعضها ببعض، وتجاورها في السياق- تكون معتمدة على قانون السببية، فصورة الأمطار الهاطلة، تتبعها مباشرة صورة النبات الطالع. والإشارة إلى مسألة الكميات، والمقادير، والعدد، والوزن، والإحصاء. كقوله تعالى: وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ المزمل: 20، وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ الحجر: 19. وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ

_ (5) مصادر المعرفة: 325

رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ الإسراء: 12. فهذه الصور تتضمن الأدلة العقلية على وجود الله، لأن العقل لا يقبل أن يوجد شيء من غير موجد أوجده، فالشيء الموجود لا بدّ له من موجد. كما أن هذه الصور الحسية، وإلحاحها على التدبر في الكون المحسوس، فتحت الطريق أمام المسلمين للعلم التجريبي، يقول محمد إقبال: «والقرآن يصرح بوجود مصدرين للمعرفة هما الطبيعة والتاريخ، وروح الإسلام تتجلى في أحسن صورها، وهي تفتح طريق البحث في هذين المصدرين كما جاء في الآيات التي تذكر الشمس والقمر وامتداد الظل، واختلاف الليل والنهار والألسن والألوان، وتداول الأيام بين الناس، وهذه الدعوة إلى عالم الحس والاستشهاد به هي التي انتهت بالمسلمين إلى الاتجاه التجريبي العام، وجعلت منهم آخر الأمر واضعي أساس العلم الحديث» «6». ويعتمد إبراهيم عليه السّلام على الصورة الكونية في مناظرته للنمرود، فيورد الدليل، ثم ينتقل إلى دليل آخر لإفحام خصمه بدليل لا يقبل المغالطة فيه. يقول تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ... البقرة: 258. فهذه الصورة القائمة على المناظرة، تحمل أدلة عقلية، وبراهين وحجج على وجود الله. فإبراهيم عليه السّلام يعتمد على صورة الإماتة والإحياء التي لا يقدر عليها إلا الله، ولكن النمرود غالط في هذا الدليل، وصرفه عن حقيقته في الخلق من العدم إلى ظاهره، ولم يشأ إبراهيم أن يجادله في مغالطته، وبيان فساد استنتاجه في فهم دلالة الصورة المعجزة، وفضّل أن ينتقل إلى دليل آخر، مستمد من الصورة الكونية التي لا تقع ضمن سلطة النمرود، وهي حجة عقلية ساطعة مفهومة للعوام والخواص، وهي أشد إقناعا وإفحاما. لذلك كان التعقيب على الاحتجاج بالصورة الكونية هو عجز النمرود، وإفحامه بالدليل، وظهور الحقيقة الساطعة للعيون، والمفحمة للعقول، فجاء قوله: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ بتصوير حالة الاندهاش من قوة الدليل العقلي، والحجة الدامغة للخصم.

_ (6) تجديد الفكر الديني في الإسلام: محمد إقبال. ص 146.

وهناك مناظرة أخرى لإبراهيم مع عبدة الكواكب والنجوم، فاستدل إبراهيم على وجود الله من خلال الصور الكونية، واستدل من حدوثها على بطلان عبادتها، لأنها حادثة، وكل حادث بحاجة إلى محدث ينتهي إليه، وإلّا أدى الدور المتسلسل في القول بالمحدث التالي إلى ما لا نهاية، وهذا ممتنع عقلا. يقول تعالى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الأنعام: 75 - 79. فإبراهيم يسوق الأدلة العقلية بحيث يوافق الخصم فيما يرى ويجاريه في المبدأ، حتى يظهر له بطلان اعتقاده من خلال إبراز الأفول والزوال للصور الحسية المحدثة، وكونها لا تصلح أن تكون آلهة لهذه العلة وهي الحدوث والأفول، ثم يتوصل مع الخصم في النهاية إلى المخالفة في الاعتقاد بالنجوم والتوصّل إلى حقيقة الألوهية. وإبراهيم لم يكن شاكّا، وإنما أراد إقامة الحجة وإقناع الخصم، فسلك منهج مجاراة الخصم فيما يعتقد لإقامة الدليل القاطع عليه، من خلال الموافقة في العبارة على طريق الإلزام للخصم وهذه طريقة بليغة في المناظرة، قوية الحجة والبرهان. فإبراهيم كان في مقام المناظرة مع قومه، كما قال بذلك ابن كثير والرازي والقرطبي والزمخشري وأبو السعود «7». كذلك نلاحظ أنّ الصورة تعتمد على (دليل التمانع) في إثبات عقيدة التوحيد، عن طريق الاستدلال بنظام الكون المحكم، وعدم اختلاله أو تصادمه، وقد يسمى هذا الدليل (بقياس الخلف) «8»، وهو إثبات المطلوب بإثبات نقيضه «9». ومن ذلك قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا الأنبياء: 22.

_ (7) صفوة التفاسير: 1/ 402 الهامش. (8) مصادر المعرفة: ص 210 - 211. (9) مناهج الجدل في القرآن: ص 71.

وقوله أيضا: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ المؤمنون: 91. فالصورة الأولى تلفت أنظار الإنسان إلى بناء الكون بإحكام ونظام دون اختلال أو اضطراب، وهذه الصورة المحكمة تدل على أن الله واحد، لأنه لو كان هناك أكثر من إله لأدى ذلك إلى اختلال في الصورة الكونية المحكمة، لاختلاف الإرادتين وتناقضهما، وهذا الاختلاف يؤدي إلى الفساد في بناء الكون، والإخلال بنظامه، وحين لا نرى هذا الفساد في الكون والحياة فإن هذا دليل الوحدانية، ونفي لتعدد الآلهة. والصورة الثانية ترسم حركة مضحكة في المخيّلة، على افتراض وجود آلهة متعددة، فكل إله يذهب بمخلوقاته، بعيدا عن الآخر، وتلقي الصورة ظلّ استحالة وقوع ذلك لانتفاء الاختلال في الكون والحياة. ثم ترسم صورة أخرى للآلهة المتعددة، يعلو بعضهم فوق بعض، وصراع الآلهة على المخلوقات وانحياز الخلق كل إلى إلهه الخاص به. ويلاحظ هنا أن الصورة المرسومة تقود الإنسان إلى التسليم بحقيقة التوحيد، من خلال افتراض المحال، وبيان فساد هذا الافتراض في حال وقوعه. فالصورة تؤكّد على توحيد الألوهية، وافتراض آلهة متعددة محال، لما يلزم منه من المحال «10». فالقرآن الكريم، يعتمد التصوير الفني في إثبات عقيدة التوحيد، ومخاطبة العقل البشري من خلال الصورة المرسومة لتحقيق التأثير الوجداني أيضا. يقول الدكتور محمد عبد الله دراز في أدلة القرآن على العقيدة إنها «تجمع بين العمق والوضوح والدقة. اقرأ قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ. وانظر كيف يكون الاستدلال والتهويل والاستعظام في هذه الكلمات القليلة! بل الدليل نفسه جامع بين عمق المقدمات اليقينية، ووضوح المقدمات المسلمة، ودقة التصوير، لما يعقب التنازع من الفساد الرهيب، فهو برهان خطابي وشعري معا، وهذا ما لا نجده في كتب الحكمة النظرية» «11».

_ (10) مناهج الجدل في القرآن: ص 76. (11) النبأ العظيم: د. محمد عبد الله دراز ص 116.

ويعرض القرآن صورا حسية متعددة، تدعو إلى التفكر والتأمل، وإقرار عقيدة التوحيد يقول تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ، أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ، أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ النمل: 59 - 64. فهذه الصور بأنواعها المتعددة تخاطب الحس والعقل، والفكر والوجدان، وتلمس النفس، لإقرار عقيدة التوحيد في النفوس. وتعتمد الصورة في تحريك العقل وإيقاظه، وإقامة الحجة والبرهان على أسلوب الاستفهام المتكرر المثير للذهن، والدافع إلى الإقرار بهذه المقدمات البرهانية الواردة في الاستفهام، لأنها حقائق ثابتة، تصلح أن تكون مقدمات ليقر المخاطب بها، ويعترف بالله خالقا ورازقا ومدبرا، «وهذا النوع من أحسن جدل القرآن بالبرهان، فإن الجدل إنما يشترط فيه أن يسلم الخصم بالمقدمات، أو أن تكون البيّنة معروفة، فإذا كانت بيّنة معروفة كانت برهانية» «12». فهذه الأسئلة المتكررة في الصور المعروضة بمنزلة مقدمات للوصول إلى عقيدة التوحيد، التي هي النتيجة لتلك المقدمات. والقرآن الكريم يطرح الأسئلة، ولا يصرّح بالجواب، لأنه من البداهة بعد هذه الصور المتلاحقة بحيث لا يحتاج إلى تصريح، فهو مستقر في داخل العقول والنفوس. وهذه هي طريقة القرآن في تصوير عقيدة التوحيد، يخاطب العقل والوجدان معا من خلال اعتماده على الصورة الفنية. واعتماد الصورة على الاستفهام المثير للذهن، والمحرك للعقل كثير في القرآن الكريم،

_ (12) مناهج الجدل في القرآن: ص 69.

لإقامة الحجة والبرهان كقوله سبحانه وتعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ البلد: 8 - 10، وكقوله تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ يس: 81. ويعتمد القرآن الكريم في الاستدلال على (القياس التمثيلي)، والمراد به إلحاق أحد الشيئين بشيء آخر فيقيس المستدل الأمر الذي يتبنّاه على أمر معروف، عند من يخاطبه، أو على أمر بدهي لا تنكره العقول «13». والأمثال القرآنية من هذا النوع، فهي تعتمد منهجا عقليا في الاستدلال على الموضوعات الدينية التي تقررها، وهي أقوى حجة، وأقرب فهما. وعلة ذلك كما يقول قدامة: «لأن الخبر في نفسه إذا كان ممكنا فهو يحتاج إلى ما يدل عليه وعلى صحته، والمثل مقرون بالحجة، ألا ترى أن الله عز وجل لو قال لعباده: إني لا أشرك أحدا من خلائقي في ملكي، لكان ذلك قولا محتاجا إلى أن يدل على العلة فيه، ووجه الحكمة في استعماله، فلما قال: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ الروم: 28 كانت الحجة من تعارفهم مقرونة بما أراد أن يخبرهم به من أنه لا شريك له في ملكه من خلقه، لأنهم عالمون أنهم لا يقرون أحدا من عبيدهم على أن يكون فيما ملكوه مثلهم بل يأنفون من ذلك، ويدفعونه، فإن الله عز وجل أولى بأن يتعالى عن ذلك» «14». وقال الأصبهاني (ت 351 هـ): «وفي ضرب الأمثال تبكيت للخصم الشديد الخصومة وقمع لسورة الجامح الأبي، فإنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثر في وصف الشيء في نفسه، ولذلك أكثر الله تعالى في كتابه، وفي سائر كتبه الأمثال» «15». وقد أشار القرآن الكريم إلى قوة الدليل العقلي بالأمثال يقول الله تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً الفرقان: 33. فالأمثال تعدّ من أقوى طرق الاستدلال، والموازنة العقلية في إثبات الحقائق الدينية وإقامة الحجة والبرهان على الخصوم.

_ (13) مناهج الجدل في القرآن: 72. (14) نقد النثر: قدامة بن جعفر. ص 75 (منسوب إليه) (15) الإتقان: للسيوطي: 4/ 39.

لهذا اعتمد القرآن أحيانا على الأمثال في إثبات البعث بعد الموت، لأنّ الأمثال تتضمن أدلّة عقلية قاطعة في إثبات هذه القضية. يقول الله تعالى: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ... يس: 78 - 79. فالمثل يضع أمام الإنسان المنكر للبعث صورته الأولى في الخلق، وما فيها من قدرة وإعجاز، فالقادر على الخلق على غير مثال ابتداء، قادر على الإعادة بداهة، بل إن الإعادة تبدو أهون من الابتداء في الخلق على غير مثال، وهذا هو الاستدلال الأول. ثم هناك استدلال آخر بمظاهر الطبيعة، فصورة النار المشتعلة من الشجر الأخضر، دليل على قدرة الله في الجمع بين المتضادات مثل الماء والنار، وهذا دليل عقلي آخر على قضية البعث بعد الموت التي تبدو في ذهن المنكرين لها من المتضادات المستبعدة، ولكن القرآن يقربها بالصورة المحسوسة لاشتعال النار في الشجر الأخضر. وبذلك ينتفي الاستبعاد، وتتحقق القدرة الإلهية في الخلق والإماتة ثم في البعث والنشور. ثم جاء بدليل عقلي أكبر، فلفت العقل الإنساني إلى هذه الصورة الكونية الضخمة في خلق السماوات والأرض، وما فيها من كواكب ونجوم، وأسرار وعجائب، وما في الأرض من جبال وسهول وبحار ورياح ... إلخ. فالمثل هنا يخاطب العقل بالأدلة البدهية، والبراهين المنطقية، فأقام عليه الحجة أولا من نفسه، ثم انتقل به إلى دليل من الطبيعة في اشتعال النار من الشجر الأخضر، ثم انتقل به إلى دليل أكبر مستمد من هذا الكون الواسع. إنّ هذا الاستدلال على قضية البعث بعد الموت يعدّ من أقوى الاحتجاج العقلي، حيث تحوّلت القضايا الكبيرة والمعقدة إلى قضايا مدركة ومصورة للناس. وأحيانا تعرض هذه القضية على شكل محاورة أيضا بين مؤمن وكافر في إطار من الاستدلال العقلي. قال تعالى: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا الكهف: 37. فالحوار بين الاثنين يكشف عن إنكار الكافر للبعث بعد الموت، فيردّ عليه المؤمن بوضع صورة خلقه من العدم، ثم يصوّر له مراحل نموه، ليظهر له قدرة الله سبحانه.

وفي ذكر التراب إيحاء بخلق الإنسان من العدم، وأيضا بنهايته إلى التراب. ولو فكر الإنسان بخلقه من العدم، ثم ما مرّ به من أطوار في خلقه وتكوينه قبل أن يصبح رجلا سويا ما أنكر قدرة الله على بعثه من جديد. وفي قضية عيسى عليه السّلام يعتمد القرآن أيضا على القياس التمثيلي. قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ... آل عمران: 59. فالصورة تخاطب عقل الإنسان ببداهة ويسر، دون اللجوء إلى الأساليب الفلسفية الجامدة فتجعل خلق عيسى كخلق آدم، كلاهما معجز، بل إنّ خلق آدم أكثر استغرابا ومع ذلك لم تثر حول خلقه الشبهات، ولم يقل أحد بألوهيته. ويتضح من هذه المقايسة أو الموازنة أن الإعجاز في الخلق واحد، في آدم وعيسى وسائر البشر، فالله يخلق كيف يشاء بدون أب ولا أم كآدم، ومن أم بلا أب كعيسى، وخلق الناس من أب وأم كما هو معروف عندهم. وقد تستمد مادة المقايسة من واقع المشركين، فيضرب المثل عليها ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ الروم: 28. فهم لا يسوّون عبيدهم بأنفسهم في أملاكهم، والقياس العقلي يقتضى أيضا ألا يرتضوا لربهم شريكا في ملكه. فهم متناقضون في تصورهم للأمور، ينسبون لله الشركاء، وهم يأنفون من الشركاء في أملاكهم. فالصورة تعقد المشابهة بين واقعهم الرافض لمساواة العبيد لهم في أملاكهم، وبين اتخاذهم مع الله شركاء، فيتضح في القياس التمثيلي فساد تصورهم وتناقضهم. كما تعتمد الصورة على (قياس المساواة) «16» في إثبات قضية البعث. فإعادة الخلق بعد الموت تقاس على بداية الخلق من العدم كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ الأعراف: 29، كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ الأنبياء: 104. كما تعتمد الصورة في إثبات هذه القضية على مشاهد من الطبيعة، وحركة إنبات

_ (16) مناهج الجدل: 28

النبات من الأرض الميتة وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ق: 9. فكما أن النبات ينمو من الأرض الصلبة، فكذلك يبعث الإنسان منها من جديد، وتعود له صورته وشكله كما تعود للأشجار أوراقها بعد تساقطها. إن هذه الصور المحسوسة من عالم النبات والأمطار، تعرض لإثبات قضية فكرية معقدة، ولكن تصويرها بما يحس ويشاهد من صور النمو في النباتات والثمار تجعلها من البدهيات العقلية. وهذه هي طريقة القرآن في مخاطبة العقل لإقناعه بالقضايا الدينية، يخاطبه بمنطق الفطرة الكامنة فيه، والصورة هي وسيلة التأثير في فطرته ووجدانه، والوسيلة لإقناعه أيضا، وتلجأ الصورة القرآنية للإقناع بفكرة البعث بعد الموت، بربط صورة النبات بالأرض الميتة وربط صورة الإنسان بالخلق من تراب. وتترك للعقل أن يقارن بين الصورتين، ويتفكر فيهما، ليستدل ويستنبط، ويتوصل إلى القناعة بالفكرة بأسلوب بسيط واضح. قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الحج: 5 - 6. فالأدلة العقلية واضحة في صورة نشأة الإنسان من عدم، وأطوار خلقه، وما فيها من قدرة وإعجاز، وفي صورة الأرض الهامدة التي تحيا بمجرد ملامسة المياه لها، فينمو فيها النبات ويكبر. إنها صور مألوفة، تحرك العقول على حقائق الحياة، وحقيقة البعث بعد الموت، حتى تبدو بدهية مدركة من خلال هذه الصور المعروضة. ويلحّ القرآن الكريم في الاستدلال على قضية البعث بعد الموت بالصور الحسية المستمدة من عالم الإنسان ومشاهد الأرض، حتى تصبح هذه القضية مدركة ومن البدهيات المسلّمة. كقوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها،

وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ، وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ، وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ، وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ، وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ الروم: 19 - 24. يعرض القرآن الكريم في هذه الآيات صورا محسوسة متنوعة، يخاطب بها عقول الناس، لتقريب صورة البعث بعد الموت، والاستدلال بهذه الصور على إمكانية الحياة بعد الممات، وإقامة الحجة على الخصوم والمعاندين لهذه القضية من الواقع المحسوس. فيخاطب عقولهم وقلوبهم من خلال طريقة القرآن التصويرية التي تؤدي وظيفتها الدينية بلغة الفن والجمال لتحقيق التأثير الوجداني، فتبدو القضايا الفكرية التي تعبر عنها الصور هينة بسيطة، تتغلغل إلى العقول والقلوب بيسر دون جهد أو تعقيد أو جدل ذهني جاف. فصورة الحياة والإماتة ملحوظة كل يوم في الإنسان والأشياء والنباتات. فصورة خلق الإنسان من العدم، صورة للحياة من العدم، وصورة إحياء الأرض الميتة بالنبات دليل على إخراج الموتى من القبور. ثم تأتي صورة الإنسان في نشأته من تراب، ثم صورة البشر بعد ذلك في انتشارهم في الحياة بأشكالهم وألوانهم وأحجامهم، تدلان على قدرة الله وإعجازه. وتبدو صورة إحياء الموتى بدهية معقولة أمام صورة خلق الإنسان من عدم، ثم صورة البشر المنتشرين. ثم يضع القرآن صورة كونية ضخمة إلى جانب الصورة الإنسانية المتقدمة، للاستدلال بها وإقامة الحجة والبرهان على قضية البعث. ثم هناك الدليل اليومي على قدرة الله في الإماتة والإحياء يمرّ بها كل مخلوق، فصورة النوم فيها همود، وانقطاع وسكون كصورة الموتى، ثم تعقبها حركة الاستيقاظ وفيها حياة وحركة ونشاط، ثم هناك أيضا صورة الأرض الجرداء الميتة التي تحيا بالمطر، فتنبت الزروع والثمار.

فالقرآن الكريم يعرض هذه الصور، لتقوم بوظيفتها في مخاطبة عقل الإنسان، والتأثير في وجدانه لذلك جاءت الفواصل القرآنية في التعقيب على هذه الصور بقوله: «يتفكرون- للعالمين- يسمعون» وختمت ب «يعقلون». ويصور القرآن الكريم الأصنام جامدة صمّا، ليلفت انتباه الانسان العاقل إلى أن عبادتها باطلة لأنها تفقد مقومات الحياة، وبالتالي تفقد القدرة على النفع أو الضر. يقول تعالى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ الأعراف: 195. ويصور القرآن أصنامهم عاجزة عن خلق ذباب ولو تعاونوا على ذلك. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ الحج: 73. فالصورة هنا تخاطب العقل الذي ضلّ وتاه عن الحقيقة، وذلك بعرض صورة الأصنام أمام عينيه، ليتأمّلها ويدرك حقيقتها، فهي عاجزة عن خلق أي شيء ولو كان ذبابا، بل إنها أعجز من أن ترد الذباب عنها، أو تسترد ما سلبه منها. وكما يصور القرآن الكريم عجز الأصنام، معتمدا على الاستدلال المنطقي، والبرهان العقلي. فإنه يدعو أيضا إلى استخدام العقل في حقيقة الجهود المبذولة في عبادة من لا يملك ضرا ولا نفعا. قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ العنكبوت: 41. فالعنكبوت تنسج خيوطها لتحمي نفسها، ولكنّ جهودها ضائعة، لأن بيتها هذا واه ضعيف والاحتماء به ضرب من الوهم. وكذلك المشركون في عبادتهم للأصنام، لا تفيدهم ولا تحميهم، فهي خيوط العنكبوت، في أوهامها وضعفها. والاستدلال هنا مستمد من واقع الحياة المحسوسة، لإثبات وهم المشركين في عبادة الأصنام، وضعف هذه العبادة لأنها تقوم على أساس واه واهم. وبذلك تؤدي الصورة وظيفتها العقلية، من خلال الصور الكونية الموحية بالتدبير والنظام

والإحكام والصور الحسية، المؤثرة في النفس والحس، والمثيرة أيضا للفكر والعقل. وطريقة القرآن التصويرية تؤدي وظيفتها بمخاطبة العقل والوجدان معا، لإقناع العقل بالحجة والتأثير في الوجدان. وهذه الطريقة التصويرية في التعبير عن القضايا الدينية أفضل من طريقة الفلاسفة المعتمدة على الأقيسة المنطقية بمقدماتها الطويلة، والتجريدية الجافة، والتي تقدم المعرفة العقلية البحتة المحصورة في الخاصة دون العامة. بينما طريقة القرآن التصويرية، تخاطب العقل والقلب معا، وتهدف إلى الإقناع والتأثير، لأنها تخاطب الفطرة الإنسانية. وبذلك تتحول القضايا الفكرية إلى حقائق بدهية، بينما الفلاسفة يحوّلون الحقائق إلى قضايا معقدة يكثر فيها الجدل الذهني بلا فائدة. يقول أبو عبد الله الرازي: «لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن» «17». وطريقة تصوير الحقائق الدينية أو الفكرية، تنسجم مع القرآن الكريم باعتباره كتاب دعوة وهداية للناس جميعا، والناس يختلفون في مداركهم وقدراتهم وثقافتهم، فاقتضى ذلك أن يختار القرآن طريقة تؤدي إلى تحقيق دعوة الناس جميعا، وذلك بمخاطبة فطرتهم من خلال الاعتماد على الصور المحسوسة. فتميزت طريقته التصويرية بأنها تخاطب العقل والوجدان معا، فتعطي العقل دليلا مقنعا وتغرس في القلب إيمانا راسخا. كما أن الصورة تقوم أيضا بوظيفة بناء عقل الإنسان، وتشكيله من خلال حثّه على التأمل في الكون، واستخدام طاقته العقلية في اكتشاف أسراره وقوانينه. كما تضع بين يديه ربط النتائج بأسبابها من خلال الصور التي تحدثنا عنها في هذا الفصل. وتدعوه إلى اعتماد حواسه في اكتساب المعرفة بالإضافة إلى الوحي الذي يمده بمعرفة ما وراء المحسوسات. فالإنسان الذي تخاطبه الصورة القرآنية وتبنيه، هو إنسان عاقل مفكر، متدبر في هذا

_ (17) مصادر المعرفة: ص 401.

الكون يدرك قوانينه وأسراره، ويجول بفكره فيه، ولكن هذا العقل الإنساني ليس وحده مصدر المعرفة وإنما هناك أيضا الوحي، وبذلك تكتمل المعرفة الإنسانية بالجمع بين ثمار العقل، ووحي السماء. فيتحرك العقل في مجاله المحسوس المنظور، ولا يضيع طاقته وجهوده في البحث عن ما وراء المحسوس، حتى لا يضيع ويتشتت، ويأخذ ذلك من المصدر الثاني للمعرفة وهو الوحي.

الفصل الرابع الوظيفة الدينية

الفصل الرابع الوظيفة الدينيّة هذه الوظيفة هي المحور الثابت الذي تدور من حوله الوظائف الأخرى للصورة، بنوعيها القريبة والبعيدة، لأنّ طبيعة الصورة الفنية في القرآن الكريم، فكرية، تحمل رؤية دينية، وليست صورة شكلية تزيينية مجردة عن الغرض. فهي تخاطب الإنسان بحقائق الدين، وتسعى إلى إقناعه والتأثير فيه. وهذه الوظيفة الدينية، تنبثق من طبيعة النص القرآني ذاته، باعتباره كتاب هداية للبشر، متميّز بمصدره الرباني، وحقائقه الدينية، وأسلوبه المعجز. وقد استحق الإنسان هذا التكريم بإنزال هذا الكتاب المعجز، لأن الإنسان أيضا متميّز عن بقية المخلوقات الأخرى، في صورته واستعداداته وقدراته الذهنية والعقلية والروحية. لهذا أعلن الله سبحانه عن مولده أمام الملأ الأعلى، وأمر الملائكة أن يسجدوا له، إشعارا لهم بتميّزه في الحياة، ودوره في تحمل أمانة التكليف، ومسئولية الاختيار والإرادة دون سائر المخلوقات الأخرى. وقد خلقه الله من طبيعة مزدوجة «من مادة وروح» انبثقت منها استعدادات مختلفة أو طاقات متعددة، متقابلة في كيانه الموحد، تعمل كلها بنشاط وحيوية، فتؤهله إمّا للصعود إلى الأعلى، والسمو بمشاعره وأفكاره وسلوكه، وإمّا للهبوط إلى الأدنى أيضا. ففيه القابلية للخير والشر، والهدى والضلال، والاستقامة والانحراف .. هذه الطبيعة المزدوجة، مرتبطة أو متناسقة مع تحمّله الأمانة، ومسئولية الاختيار بين الخير والشر.

وساعده الله في اختيار الخير ب «الفطرة» الأصلية في كيانه، وهي فطرة تدعوه إلى الخير والإيمان، ولكن هذه الفطرة يعلوها ركام الأهواء والشهوات، فتختفي وراء هذا الركام الثقيل، وتظل تنتظر انتفاضها من تحت ركام الجهل والغواية والأهواء، لتوجه الإنسان نحو الخير والهدى والإيمان، ومن أجل مساعدة الإنسان على الاختيار، أنزل الله القرآن الكريم، يخاطب به فطرة الإنسان، من خلال اعتماده على الصورة الفنية، الأداة المفضلة في أسلوبه المعجز. فخاطب الفطرة بمشاهد الطبيعة، والأمثال، والأحداث الواقعة، والقصص الماضية، ومشاهد القيامة، والنماذج الإنسانية .. وكلها تهدف إلى تحقيق الأغراض الدينية من وراء التصوير الفني لها. فالوظيفة الدينية هي الأساس لكل الوظائف الأخرى، وهي التي تميّز الصورة الفنية في القرآن الكريم عن الصورة في الأدب. فالصورة في القرآن تحمل فكرا دينيا، واضح المعالم والسمات، يكسب الصورة التي تحمله وحدة وانسجاما مع بقية الوظائف، أو هي الرباط المتين الذي يشدّ الوظائف بعضها إلى بعض ضمن نظام العلاقات والوشائج الذي تقوم عليه الصورة، وهذا ما يضفي عليها شمولا وتوازنا وإيجابية وواقعية، وهي تصوّر الحقائق الدينية، وتخاطب بها عقل الإنسان ووجدانه، فتحاول إقناعه والتأثير فيه. وهذه الصورة هي الأداة المناسبة لمخاطبة الكينونة الإنسانية، بما فيها من طاقات عقلية وحسية ونفسية، واستعدادات واتجاهات، لأنها تدخل إلى الفطرة والنفس الإنسانية، بلغة فنية موحية. فيها التصوير الموحي، والإيقاع المؤثر، والإيحاء المعبر، والحركة، والظلال، والألوان، المصاحبة للصورة. وقد بلغت الصورة في القرآن حدا معجزا تشكيلا ووظيفة. والقضية الأساسية في القرآن الكريم هي «قضية الألوهية» فقد جاء القرآن الكريم ليعرّف الإنسان، بخالقه، وخالق الوجود، والكون والحياة، ويعرّفه، بصفاته، وأفعاله، وقدرته وآثار قدرته، في الحياة والإنسان والكون. من هنا نلاحظ أن الصورة القرآنية تركّز على هذه القضية «الألوهية» فتوضحها، وتبرز آثارها، في مشاهد الطبيعة، والأمثال، والقصص، والحوادث، ومشاهد القيامة ... كما تعنى

بإبراز آثارها في الإنسان منذ نشأته ونموه، وأطوار هذا النمو، وسلوكه، وتاريخه الطويل، وعلاقته بربه، وبالرسل، كما تعنى برسم نماذجه المتعددة، وتغطي الصورة الإنسانية مساحة واسعة من الصورة الفنية في القرآن الكريم، لأن الإنسان هو المقصود بهذا الخطاب القرآني. فقضية الألوهية هي نقطة الارتكاز الأساسية لجميع الموضوعات والأغراض الدينية والصور الفنية والصورة الإنسانية المعروضة في القرآن ليست مفصولة عن موضوع «الألوهية»، فالله سبحانه يخاطب الإنسان بالحقائق الدينية، عن طريق التصوير الفني لها، للتأثير فيه، وإقناعه بأنّ هذا القرآن منزل من عند الله، وإعجاز القرآن، دليل على ذلك. وهذا يعني أن الوظيفة الفنية مرتبطة هي الأخرى بهذه الوظيفة الدينية للصورة. وتؤكد الصورة الفنية في القرآن بكل مشاهدها المرسومة، أن هذا الوجود راجع كله بما فيه إلى «الله» الذي صدر عنه أولا، وإليه يعود في النهاية. والمساحات التي ترسمها الصورة في الفكر والشعور، مساحات واسعة في الزمان والمكان، ابتداء من الله الخالق وفي العودة إليه للحساب. فهي تصوّر الكون، ودقائق الحياة، ودقائق الوجود، ما تدركه الحواس، وما لا تدركه الحواس، كما تصور الإنسان تصويرا دقيقا يشمل خلقه، وتكوينه، ودوافعه، وعواطفه، وسلوكه، وتاريخه، وعلاقته بربه، وحياته في الدنيا، وأنماط سلوكه فيها، وامتداد حياته في الآخرة، وجزاءه على عمله ثوابا وعقابا. فالصورة، توضّح حقيقة الألوهية، وآثارها في الكون والحياة والإنسان، كما توضّح حقيقة العبودية، في انقياد الكون والحياة والإنسان، لهذه الألوهية المهيمنة على الوجود كله. فهناك «الألوهية» تقدّم في أجمل صورة وعاها الإنسان تجمع بين الجمال والجلال، في الأسماء، والصفات، والأفعال. و «العبودية» المتمثلة في الكون والحياة والإنسان، وخضوع هذه الحقائق الثلاث لله سبحانه. فالله هو الخالق لكل شيء، والقادر علي كل شيء، والمهيمن على خلقه، فلا يقع شيء إلا بأمره وعلمه، وهو المتصرّف في ملكه، وهو المطّلع على كل شيء فيه ظاهره وباطنه، وهو واحد لا شريك له، ولا مثيل، ولا نظير، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار،

وإليه ترجع الأمور، ويرجع الخلق للحساب والجزاء. هذه صورة «الألوهية» كما تتضح في القرآن الكريم، تعرض ببساطة ووضوح، دون تعقيد أو غموض، فليس فيها شيء مما أصاب انحرافات الديانات الأخرى، فهي تهزّ أعماق الإنسان، لأنها تدرك بلا كدّ أو إرهاق ذهني، تخاطب بها الفطرة، فتستجيب لها. يقول الله سبحانه وتعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ الإخلاص: 1 - 4. فحقيقة الألوهية هي «التوحيد» تصوّر هنا بوضوح وصفاء، من خلال الاعتماد على أسلوبي الإثبات والنفي، والمدركات الحسية القريبة من الأفهام، فتبلغ بذلك أجمل تصوّر للألوهية وأروعه وأعظمه. ولكنّ الفطرة قد تنحرف في تصورها عن الألوهية، كما وقع للنصارى واليهود، وقد صوّر لنا القرآن هذا الانحراف بقول الله جلّ وعلا: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ التوبة: 30. وصورة قولهم بالأفواه صورة حسية يستحضرها القرآن على طريقته التصويرية لكي تصبح مسموعة ومرئية حتى يدرك الإنسان بشاعتها، كما أنها توحي بأن هذا قول بالأفواه ولا رصيد له من الواقع. وقد يقابل القرآن الكريم بين الصورتين المتناقضتين عن الألوهية، كقوله تعالى: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ يونس: 68. فالمقابلة بين الصورتين- على ما بينهما من تباين- يقصد بها تحريك العقل ليدرك حقيقة الألوهية بصورة صحيحة. فالصورة الفاسدة المرسومة في أذهان النصارى واليهود عن الألوهية، تنطلق من تصوّر الألوهية من خلال الطبيعة البشرية المحتاجة إلى الامتداد في الأولاد، ولم يدرك هؤلاء الفارق بين صورة الخالق، وصورة المخلوق، فحقيقة الألوهية باقية خالدة، والبقاء أو الخلود في غنى عن الأولاد، بينما الإنسان الفاني بحاجة إلى الأولاد ليشعر بالامتداد عبر أولاده.

والخلود دليل القوة والقدرة، والفناء دليل الضعف والحاجة، لذلك نجد الله سبحانه يرسم لنفسه صورة مطلقة منزهة، في الغنى المطلق، والملك المطلق لما في السماوات والأرض. هذه الصورة المطلقة والمنزّهة عن الشبيه والمثيل في الغنى والملك والقدرة، تنسف الصورة الفاسدة المشوّهة في أذهان اليهود والنصارى عن الألوهية. وقد جادل القرآن العرب جدلا تصويريا، لإثبات عقيدة التوحيد، وبيان زيف عبادة الأوثان، فرسم للأصنام صورة زريّة فهي حجارة لا تدرك ولا تبصر ولا تسمع، جامدة لا تتحرك: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها الأعراف: 195. وصورة الأصنام وهي على هذه الحالة الجامدة الفاقدة لمقوّمات الحياة، تتناسق مع صورة العرب الذين يعبدونها، بعد أن عطّلوا هم حواسهم أيضا، فأصبحوا في جمودهم كالحجارة الجامدة التي يعبدونها. ويناقش القرآن قضية تعدد الآلهة، بأسلوبه التصويري، مبينا فسادها، من خلال رسم صورة مضحكة للآلهة المتعددة: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ .. المؤمنون: 91. ويتخذ من نظام الكون المحكم دليلا على فساد فكرة تعدد الآلهة، وذلك في قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا. فصورة الآلهة المتعددة تجاورها وتلازمها، صورة كونية مضطربة ومختلفة، وبالمقابل فإن صورة الكون المحكم والمتناسق يوحي بالوحدانية لله سبحانه وتعالى. هكذا تعرض قضية توحيد الألوهية بيسر وبداهة، دون تعقيد أو جدل فلسفي غامض. فالأدلة على الوحدانية كثيرة، وهي في الكون المحكم، والحياة المتناسقة معه. ونظرة واحدة يلقيها الإنسان في الكون والحياة، تكفيه للتوصّل إلى الألوهية الحقّة. كما يصور القرآن عجز الأصنام بصورة ساخرة محقرة لعبادتها، وذلك في قوله: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ... الحج: 73. كما أن القرآن الكريم، يرسم صورة للألوهية الحقّة، يقرّبها من ذهن الإنسان، ليملأ بها

قلبه وشعوره وفكره، ولا يتركه للأوهام، والتصورات الخاطئة المنحرفة، وهي صورة تجريدية تنزيهية، تنطلق من القاعدة الأساسية وهي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ الشورى: 11 فتبتعد بذلك عن الشبيه والمثيل. يقول الله تعالى في ذلك: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ الفتح: 10 وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ البقرة: 115 وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ هود: 7 وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ الزمر: 67 وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا الفجر: 22 اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ النور: 36. الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً الفرقان: 59. وهي صورة توحي بالهيبة والجمال والجلال، لذلك حين طلب موسى الرؤية، خرّ صعقا ولم يتحملها، يقول تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً الأعراف: 143. ولكن البشر ينعمون في جنة الخلد بهذا الجمال الإلهي وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ القيامة: 22 - 23. وترتبط جميع الصور القرآنية بأسماء الله، وصفاته، وأفعاله، ضمن نظام العلاقات التعبيرية والتصويرية والفكرية. وأسماء الله وصفاته، توحي بالكمال المطلق، والجمال والجلال. فالله هو الخالق والمدبر، والقادر والمهيمن، والمتصرف، وهو واحد، صمد، لا شريك له في ملكه وهو رحيم، ورحمن، ورءوف، وقهّار .. والقرآن الكريم مرة يوجّه القلب البشري نحو أسمائه وصفاته، ومرة نحو آياته وأفعاله في الكون والحياة. وقد قسّم الدكتور نذير حمدان أسماء الله إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الأسماء الجمالية، مثل الرحمن، الرحيم، السلام، القدوس، الغفار، الرزاق، اللطيف، الحليم، الكريم ... والقسم الثاني: الأسماء الجلالية، مثل المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، القهار، القابض، الباسط ...

والقسم الثالث: الأسماء التي تجمع بين الجمالية والجلالية، مثل الحكيم، الوكيل، العدل، الخبير ... «1» وهذه الأسماء الجمالية والجلالية، تعرض في الصور الفنية، لتبلغ أسمى الكمال وأعلاه وهي ترد في التعبير والتصوير، وفي التعقيب على التصوير والتعبير، في الفواصل القرآنية كقوله تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ الأنعام: 101. وقد تدور الآية كلها حول تقريب صورة الألوهية من الأذهان كقوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ البقرة: 255. ويعتمد التصوير هنا على التجريد والتنزيه، فيبدأ بأجل الأسماء وهو «الله» ثم تعرض صفات الله بأسلوب جميل متناسق. وأسلوب القصر «إلا هو» يزيد من وضوح الوحدانية في الأذهان، ثم عدّد صفات الله بصور تنفي عنه الشبيه والمثيل، فهو الحي حياة مطلقة أزلية تليق بجلاله، والقيوم القائم على كل شيء والمتصرف فيه، والمدبّر للأمور، والأرزاق ... وتؤكد الصورة على التجريد والتنزيه، فتنفي عنه النوم نفيا مطلقا بنوعيه الخفيف والعميق، لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ وهذه الصورة تقريبية، تؤكد قيامه على كل شيء في الحياة، واطلاعه عليه. كما أنه مالك للسماوات والأرض وما فيهن، ثم إنه لا شريك له في ملكه مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ فهو واحد أحد، فرد صمد. كما أنه يحيط علمه كل شيء، وهو علم مطلق، والإنسان، مكشوف أمام ربه في سلوكه وشعوره، ثم تأتي الصورة الأخرى للدلالة على هيمنته على الكون في سياق التجريد المطلق وَسِعَ كُرْسِيُّهُ توحي بالملك والسلطان، ثم صورة أخرى وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما توحي بالقدرة المطلقة المنزهة عن الجهد والتعب في حفظ السماوات والأرض. ثم يأتي التعقيب، مؤكدا علوه وعظمته، وهذا التعقيب متناسق مع جوّ الصورة التجريدية

_ (1) الظاهرة الجمالية في القرآن: د. نذير حمدان. ص 243 - 248.

للألوهية، وبذلك تتناسق الصورة تعبيرا وتصويرا وتعقيبا في الدلالة على الألوهية الحقّة البعيدة عن الشبيه والمثيل، كما صوّرها القرآن الكريم دائما. ويركّز التصوير القرآني على أسماء الله وصفاته وأفعاله، في كل سياق، وكل مناسبة، ليشعر الإنسان بحضور الله معه، ومراقبته له، واطلاعه عليه، فيستقيم ولا ينحرف. يقول تعالى يصوّر قربه من عباده: إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ هود: 61، ويقترض من عباده: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ الحديد: 11، وهو يصلّي على المؤمنين هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ الأحزاب: 43، وهو أيضا أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ المدثر: 56، يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ المائدة: 54، فعلاقة الله بعباده، علاقة قرب، وحب، ورحمة ومغفرة .. ولكنه شديد على الظالمين حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ، فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا .. الأنعام: 44 - 45، وينتقم من المجرمين إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ السجدة: 22. والذين يبتعدون عن الإيمان يستحقون الختم على حواسهم: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ البقرة: 7، وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة. والصور الفنية كلها يلحظ فيها هذا الحضور الإلهي في أفعال البشر، والتصرف في حياتهم، وأرزاقهم وهذا الحضور الإلهي يبعث الرهبة في القلوب، فيشعر الإنسان بضعفه وعجزه أمام قوة الله وجبروته، لذلك كان القرآن حين يتلى على المشركين يزلزل قلوبهم خوفا وهلعا، ويزيد المؤمنين خوفا وخشية، وقدرة الله تبرز في كل شيء في هذا الكون المحكم البديع، وقد كثرت الصور الكونية المرسومة في القرآن، للدلالة على القدرة المطلقة، وإشعار الإنسان بها، من ذلك: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ، وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ البقرة: 164. فهذه الآيات وغيرها تشعر الإنسان بعظمة الله وقدرته، من خلال الصور الكونية المعروضة فيتجه الإنسان إلى ربه مؤمنا ومسبّحا وطائعا. لأن الكون كلّه من حوله منقاد وطائع ومسبح لله تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ الإسراء: 44.

وهذا التسبيح الكوني ليس مستغربا، لأن الوجود كلّه لله، فهو المالك له، والمتصرف فيه. وهو الخالق له هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ الحديد: 4. إن القرآن الكريم بهذه الصور الحسية والمعنوية والمعنوية ينشئ عقيدة، ويبني تصورا للحياة والإنسان والكون، تصورا ربانيا صافيا بعيدا عن انحراف التصورات والعقائد، وتعقيدات الفلاسفة والمتكلمين. ويصوّر علم الله المطلق، ويقارنه بعلم الإنسان المحدود، وأنّى للمحدود أن يحيط بغير المحدود قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً الكهف: 109. وقريب من هذا التصوير قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لقمان: 27. فالتصوير هنا ينتزع من مشاهدات الناس، ومعلوماتهم لتقريب علم الله إلى تصورهم، فالأشجار والأقلام والبحار والمداد تنفد لأنها محدودة، ويبقى علم الله لأنه غير محدود. إنه علم مطلق كامل. أمام هذه الصورة الضخمة في أبعادها، وظلالها، وحقيقتها، تبدو صورة الخلق والبعث مدركة بيسر وبداهة، لذا جاء بعد ذلك قوله تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ لقمان: 28. ويصوّر القرآن الحضور الإلهي مع الإنسان واطلاعه على سره وجهره، لبعث الخشية في نفسه إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ آل عمران: 5. فالكون كله أرضه وسماؤه ملكه، فهو المتصرف فيه، ويد القدرة تمسك به، ومن في الأرض والسماء هم خلقه، فهم لا يخفون عليه، يعلم سرهم ونجواهم، بل إن الصورة ترسم علما مطلقا وهو ما يلحظ في تنكير كلمة «شيء» لتفيد العموم لكل شيء. ويصوّر القرآن علم الله بغير المنظور أيضا، وهو الغيب: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ فصلت: 47.

فالساعة أمر مجهول، والثمرات في أكمامها لا ترى، والحمل مستور، ولكن ذلك كله مكشوف أمام علم الله، ويترك للخيال أن يستحضر صورة الساعة بأهوالها، والثمرات في أكمامها، والأجنة في الأرحام للإيحاء بعلم الله المطلق. ويلاحظ أن القرآن يقرب صورة الساعة بوضعها في سياق مع الصور المحسوسة، ليقرّبها من الأذهان، ويوحي بقدومها ومجيئها، كخروج الثمار من أكمامها، والأحمال من أرحامها، خروج من الغيب المستور، إلى الواقع المنظور. وصور أخرى لعلم الله يعجز الخيال عن متابعتها، كقوله تعالى: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ سبأ: 2. وكذلك علمه الشامل بدقائق الأشياء يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لقمان: 16. ويصور علمه الشامل لما في الصدور يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ غافر: 19. كذلك يصور علم الله مجسّما في كتاب ليدركوا شموله ودقّته: لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ سبأ: 3. وهذا التصوير لعلم الله، وتجسيمه في كتاب، يبعث الخوف في النفس والحذر من مخالفة أمر الله، ويشعر الإنسان بحضور الله معه ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ .. المجادلة: 7، ومهما حاول الإنسان أن يستخفي منه، فإنه محيط به، يقول تعالى في المشركين: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ هود: 5 - 6. فهؤلاء المشركون قاموا بحركة عابثة في الاستخفاء والاستتار، ونسوا أن الله معهم في السر والعلن، حتى إنه يعلم أحوالهم، حين يكونون وحدهم في جنح الظلام الساتر، بل إنه يعلم أسرار صدورهم. وتضمّ الصورة أيضا رزق العباد، فهو بيده أيضا يضاف إلى علمه المحيط بهم. كما أن قدرته تمسك كل شيء في الأرض والسماء. حتى يشعر الإنسان بقوة الله، وقدرته عليه بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ البقرة: 117.

فالصور الفنية في القرآن تبرز أسماء الله وصفاته وأفعاله، وقدرته، وآثار ذلك في الكون والحياة والإنسان، وإمساكه بالسماوات والأرض ومن فيهن، وعلمه المحيط، وأرزاق البشر بيديه ومصائرهم إليه، وحسابهم عليه. كل هذه الصور المرسومة في القرآن توجه القلب البشري نحو ربه، الذي خلقه، ودبّر أمره، وبيده حياته وموته. فالله هو الباقي، وما سواه إلى فناء. وكل المخلوقات لا تملك أمرها، ولا التصرف بشئونها بمعزل عن خالقها سبحانه. فالصور تهدف إلى توجيه الإنسان نحو ربه، ليؤمن به، ويطيعه، ويلتزم بدينه فكرا وشعورا وسلوكا. وإحساس الإنسان بحضور الله معه، يزيده خشية وتقوى، وضبطا لسلوكه في الحياة. وهذا الحضور الإلهي في النص القرآني واضح بيّن، لا يحتاج إلى تأكيد، لأنه منزل من عند الله فهو المتكلم فيه، يحدث الإنسان، ويخاطبه خطابا مباشرا، ونرى ذلك من أول القرآن إلى آخره، واضحا في نظم القرآن وتأليفه، وصوره، وفي تنويع الضمائر، والجمل والأساليب وفي الأمثال، والقصص، ومشاهد القيامة ... إلخ. فهو كتاب منزل من عند الله، ليعرّف البشر، بنفسه، وخلقه، وقدرته، وصفاته، وأفعاله والحكمة من خلقهم، ويحذرهم من مخالفة أمره، لأنهم في النهاية راجعون إليه للحساب. وعرض أسماء الله وصفاته وأفعاله لها دور كبير في تكوين الشخصية المسلمة، من نواحيها العقلية والعاطفية والسلوكية. يقول الدكتور نذير حمدان عن أهمية أسماء الله وصفاته: «وتبدو هذه الأهمية بالآثار الفكرية العقدية، وبالسلوك الإنساني المستقيم وأخيرا بالتصور الجمالي في تربية المسلم» «2» وكما أدت الصورة وظيفتها الدينية بتقريب صورة الألوهية من الذهن، وبيان حقيقتها القائمة على التوحيد، والتجريد المطلق، والتنزيه الكامل، وبيان صفاتها، وأفعالها وآثار قدرتها في الكون والحياة والإنسان. تقوم الصورة أيضا بتوضيح العبودية لله، وهي تشمل الكون والحياة والإنسان. كما توضّح الصورة العلاقة القوية بين الألوهية والعبودية، فعند هاتين القضيتين تلتقي جميع الصور القرآنية في نسيج محكم، وتصميم بديع للتصوير الفني الهادف.

_ (2) الظاهرة الجمالية: ص 277.

وترسم الصورة حياة الإنسان من نشأته إلى مماته، ثم في امتداد حياته في العالم الآخر، وكأنّ الصورة تقدم تفسيرا للإنسان عن نشأته وحياته ومصيره، ولا تتركه للأوهام والظنون، كما تفسّر له الكون من حوله، والحياة، وهذه قضايا تلحّ على ذهن الإنسان، ويطلب أجوبة للأسئلة التي في ذهنه، فتقدم الصورة رؤية صحيحة للكون والحياة والإنسان، تتسم بالشمول والعمق والواقعية، والإيجابية والتوازن. فبين الكون والإنسان والحياة، روابط قوية، تلتقي جميعها في خط واحد هو «العبودية» وهذه العبودية في الكون والحياة والإنسان، تقابلها «الألوهية»، وبين الألوهية والعبودية، علاقات وروابط هي علاقة المخلوق بخالقه، والعبد بربه فهذا الكون بما فيه من أرض وسماء، وبحار وجبال، ورياح وسحاب، وأشجار وثمار ... إلخ مخلوق لله ومنقاد له، كما بيّنّا ذلك في مشاهد الطبيعة. وصور الأحياء تلتقي في «العبودية» لله، وترجع إلى نفس المصدر الذي انبثق منه الكون. وتشغل صورة الإنسان مساحة أوسع في التصوير، ابتداء من خلقه، ومرورا بمراحل نموه ونشأته وحياته وسلوكه وتاريخه مع الرسل والأنبياء، وموقفه من دعوة الله، وامتدادا بعد وفاته في العالم الآخر. وهي الصورة الوحيدة الممتدة هذا الامتداد في الزمان والمكان، لتوضيح نهاية الإنسان وحسابه على أعماله، ونتائج الحساب في الجنة أو النار، وتنتهي صورة الإنسان فيهما بحسب عمله. ويلاحظ أن صورة الإنسان في الآخرة، هي امتداد لصورته في الدنيا، لأن الدنيا للعمل، والآخرة للجزاء للإنسان نفسه. فالصورة الفنية في القرآن تتسم بالشمول والعمق والامتداد، ضمن نظام العلاقات التصويرية والتعبيرية والفكرية. فصورة الإنسان، ممتدة في العالمين المحسوس وغير المحسوس، ومرتبطة بالروابط القوية بين العالمين ارتباط الأسباب بنتائجها. كما أنّ الصور كلها تتجمّع، وتتّحد لأداء الوظيفة الدينية، كما تتّحد مشاعر الإنسان في الكيان الموحد لكي تستجيب لهذا الخطاب القرآني.

فالكون صور دائرية متحركة محكومة بنظام العلاقات بين أجزائه، فكل صورة فيه تحكم بعلاقات خاصة، ثم إن هذه الصور الجزئية تمتد عبر العلاقات والروابط مع الصور الأخرى، لتعمل معها ضمن إطار العلاقات التي تشدها نحو الصورة الكبرى، التي تجمعها، وهي صورة العبودية. كذلك، فإن صورة العبودية تمتد إلى صورة الألوهية وهي صورة المركز التي منها صدر كل شيء، وإليها يعود كل شيء. وما نقوله عن وحدة الصور الكونية، نقوله أيضا عن صور الحياة وصورة الأحياء، فالوحدة في الصورة هي النهاية لكل تصوير. فكل الصور الجزئية تعتمد على نظام العلاقات مع المعنى والسياق، والصور المجاورة، وهي لبنة في بناء كبير، ينطبق عليها ما ينطبق عليه من قواعد وأنظمة وعلاقات. فالصورة لوحدها لبنة، لها قواعدها وعلاقاتها الداخلية، ولكنها تعمل لأداء وظيفة، ومن هنا ترتبط بغيرها ضمن نظام العلاقات بين لبنات البناء الواحد، وهذا يحقق في النهاية، وحدة التصميم في الصورة بناء ووظيفة. ووظيفة الصورة القرآنية دينية في الأساس، ترجع إليها كل الوظائف. وهذه الوظيفة الدينية تظهر في الصور الجزئية أولا، ولكن المعنى الديني في الصورة الجزئية ينمو ويكبر ويتسع بنمو الصور ضمن نظام العلاقات، حتى تتكوّن الرؤية الإسلامية المتكاملة. فمثلا صورة الإنفاق تحقق غرضا دينيا في الحث على الإنفاق ومضاعفة أجره، ولكن هذه الوظيفة الدينية للصورة الجزئية مرتبطة بغيرها من الصور، ضمن نظام العلاقات بين وظائف الصور لتكوين وظيفة دينية كلية، تصلح أساسا لفهم الحياة والكون والإنسان، أو تصلح أن تكون قاعدة لكل الصور تنطلق منها لأداء الوظيفة الدينية في النهاية. وهذا يدل على وحدة الصورة الفنية وشمولها، وتكاملها، كما يدل على شمولية الوظائف وتكاملها. فهي ليست وظائف مبعثرة، كل وظيفة تعمل في اتجاه، وتؤثر في الجانب الآخر وإنّما الوظائف تسير ضمن هندسة بديعة، فيها العلاقات والروابط لتقوم بدورها في إبراز وحدة التصميم في التصوير الفني في القرآن. وبذلك تكون وحدة التصميم في التصوير القرآني، متناسقة مع وحدة التصميم في الكون والإنسان والحياة.

فالكون تصميم موحد، يعتمد على العلاقات والروابط بين أجزائه، كل هذه العلاقات تعمل بتناسق لإظهار وحدة التصميم فيه. والإنسان أيضا في تكوينه يعتمد نظام العلاقات بين أعضائه، كل جزء له وظيفة متناسقة مع الأخرى، وتتحد هذه الأجزاء أو الأعضاء لتكوّن وحدة التصميم في خلق الإنسان ليؤدي وظيفته في الحياة. فالإعجاز واحد في الكون والإنسان والقرآن، إنه إعجاز يضاف إلى أسرار الإعجاز الأخرى يكمن في نظام العلاقات التصويرية والفكرية والتعبيرية. لذلك يتأثر الإنسان بالقرآن، لأنه في رأيي، يشعر بالوحدة في داخل نفسه، والوحدة في الكون، والمصدر، والمصير، والتصوير .. فلا يظلّ الإنسان قلقا مشتتا في فكره وشعوره واتجاهه، وإنما يشعر بالوحدة في داخل نفسه وخارجها، فيكتسب قوة ذاتية تدفعه إلى العمل والبناء والتعمير. كما أنه لا يشعر بالانفصام بين فكره وشعوره، أو بين عقيدته وسلوكه. فالإنسان المؤمن يشعر بقوة حين يرجع فكره وشعوره وسلوكه إلى مصدر واحد هو الله الذي هو المصدر نفسه الذي يرجع إليه الكون والحياة، فيشعر بقوة الارتباط بخالقه، وهكذا أصبحت كل القضايا الفكرية واضحة ومفهومة في ذهن الإنسان، وعلى أساسها كان خطاب الإنسان بالقرآن لتوضيح هذه الحقائق الدينية في الكون والحياة والإنسان وأداته المفضّلة في التعبير عنها هي الصورة الفنية.

نتيجة وخاتمة

نتيجة وخاتمة كان هدفي من هذا الكتاب، توضيح أن الصورة في القرآن، صورة هادفة، تحمل رؤية إسلامية للحياة والكون والإنسان. فالصورة الفنية في القرآن تسعى إلى بناء الإنسان فكرا وعقلا وشعورا وسلوكا. من هنا كان هذا التنويع في وظائفها، لتحقيق هذا الغرض الديني من التصوير. وقد لاحظنا أن دراسة الصورة القرآنية، تقتضي التوسّع في مفهوم الصورة، حتى تكون قادرة على حمل هذا الفكر، وتوضيحه، من خلال الترابط بين الصور في السياق القرآني. فبينت أن مفهوم القدماء للصورة كان محدودا، في الأنواع البلاغية، كما أنه كان جزئيا، لا يتجاوز بلاغة الجملة إلى السياق، والنص كله، ضمن رؤية شمولية له، تفسّر صوره، وتقيم العلاقات فيما بينها. وقد تأثّر القدماء بنظرة اللغويين في توضيح معنى «الصورة» وقصرها على الشكل، كما تأثروا بالمفسرين أيضا والفلاسفة، في الفصل بين شكل الصورة ومضمونها، فجاءت جهودهم البلاغية مكرّسة على «الشكل» ووضع القواعد أو المقاييس له. باستثناء الجرجاني والزمخشري اللذين حاولا أن يطوّرا في مفهوم الصورة، وينقلاها إلى إطار السياق، ولكن محاولاتهما تلك ظلّت تدور في إطار عصرهما وظروفهما. ثم انتقلت إلى تبيان مفهوم الصورة عند المعاصرين، وتعريفاتهم لها، ومناهجهم في

دراساتها. ويرجع هذا الاختلاف، إلى المذاهب الأدبية، التي ينطلق منها كل ناقد. ولكنّ المعاصرين، توسعوا في مفهومها، ونقلوها إلى إطار السياق، غير أنهم أهملوا دراسة الصورة القرآنية فلم يدخلوها في ضمن دراساتهم النظرية للصورة، من هنا كانت أعمالهم ناقصة، لأنه لا يمكن أن نكوّن مفهوما للصورة في نقدنا المعاصر، دون أن ندرس الصورة القرآنية، ونبيّن تميّزها عن الصورة الأدبية في التشكيل والوظيفة، ما عدا سيد قطب الذي درس الصورة القرآنية من جانبها الفني، فأكثر من مصطلحاته مثل الإطار، واللون، والظل ونحو ذلك. فكان لا بدّ من إكمال عمله بدراسة وظيفة الصورة أيضا، حتى تكتمل دراستها من ناحية التشكيل الفني، والوظيفة الدينية الأساسية لها. ثم انتقلت إلى وظائف الصورة القريبة، فلاحظت الترابط بينها، فهي تبدأ من تصوير المعاني، ثم تنمو إلى وظيفة أكبر في تصوير الأمثال، ثم تتسع إلى تصوير مشاهد الطبيعة المحسوسة، ثم تنتقل من المشاهد المنظورة إلى الأحداث الواقعة، ثم تنتقل منها إلى التصوير القصصي، فتمتد زمانا ومكانا في عصور التاريخ السحيقة، لتحقيق العظة والعبرة بتلك الأحداث، وموقف الناس من دعوة الرسل. ثم تنتقل إلى رسم النماذج التي ترتفع عن الزمان والمكان، فتصبح نماذج لكل عصر وزمان. ثم تنتقل الصورة نقلة كبيرة واسعة، من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة وما فيه من أحداث وحساب وخلود. فالترابط بين هذه الوظائف القريبة واضح بيّن، لتحقيق التأثير الديني، من خلال هذا التنويع في الوظائف، والانتقال بالمتلقي من مشهد لآخر، ومن زمان لآخر، ومن محسوس لغير المحسوس. كما بينت في كل فصل، اعتماد التصوير على نظام العلاقات التصويرية والفكرية والتعبيرية. ففي تصوير المعاني الذهنية، حاولت أن أجمع الصور في وحدات مترابطة لأداء المعاني الذهنية ونمو الصور في داخل كل وحدة أو مجموعة، لتصوير دقائق المعاني، كما ركّزت

على ربط الصور بسياقها، حتى تتضح الحقائق الدينية المصورة. وهذا ما التزمت به في تصوير الأمثال أيضا، وفي تصوير مشاهد الطبيعة، والتصوير القصصي، ومشاهد القيامة، فوصلت إلى أن نظام العلاقات التصويرية والتعبيرية والفكرية يحقّق وحدة النص القرآني، ووحدة التصوير فيه، ثم وحدة التصميم في النهاية. ونظام العلاقات، هو سرّ الإعجاز في الكون، والإنسان، كما هو سرّ الإعجاز في القرآن الكريم أيضا. ثم وضحت ترابط الوظائف القريبة بالوظائف البعيدة، وبينت أنها جميعا تدور حول الوظيفة الدينية، فهي المحور الثابت الذي يشد الوظائف إليه. كما لاحظت أن الصور كلها تدور من حول «الصورة المركزية». ثم انتقلت إلى الوظائف البعيدة، وما بينها من ترابط، لتحقيق الوظيفة الدينية. وركّزت في الوظيفة الفنية على نظام العلاقات في تكوين الحروف والكلمات والجمل والسياق، حتى أدّى ذلك، إلى الوحدة الفنية في الصورة الكلية. ثم انتقلت إلى الوظيفة النفسية حيث توصلت إلى أن الصورة القرآنية، لا تكتفي بالتأثير في النفوس بل تبني النفس الإنسانية أيضا من خلال بعث المشاعر المتوازنة فيها. ثم انتقلت إلى الوظيفة العقلية، فوجدت أن الصورة تعمل على تشكيل عقل الإنسان من خلال إلحاحها على تأمل المشاهد المحسوسة، واعتماد الملاحظة للمحسوسات وسيلة للمعرفة الدينية، ثم تأكيدها على السببية، أو بعض الأدلة العقلية، أو المناهج الجدلية مثل المناظرة، وقانون المساواة ونحو ذلك. ثم ختمت البحث بالوظيفة الدينية التي هي أساس الوظائف كلها. فبينت أن القرآن نزل على رسول الله، ليعرّف الإنسان بخالقه، وأسمائه وصفاته وأفعاله وآثار قدرته. وهذه المعرفة الدينية، لا تتوقف عند المعرفة الذهنية بل تتحوّل إلى إيمان وسلوك وفكر والتزام. إذا لم تكن الصورة مجردة عن الغرض بل كانت تحمل رؤية إسلامية، لا يمكن اكتمالها إلا باكتمال الصور، وضمّها بعضها إلى بعض ضمن نظام العلاقات التصويرية والتعبيرية

والفكرية، حتى تكتمل في وحدة التصميم أو البناء فيصبح القرآن معجزا في تصميمه القائم على العلاقات، كما أن الكون محكم في تصميمه، لأنه يقوم على النظام نفسه، وكذلك الإنسان والحياة، لأن المصدر واحد وهو الله، والإعجاز فيهما واحد، إعجاز في الكون المنظور، وإعجاز في كلام الله المقروء.

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع - القرآن الكريم. - الإتقان: للسيوطي- تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم- مطبعة الحسيني- القاهرة 1967 م. - أثر القرآن في تطور النقد العربي: للدكتور محمد زغلول سلام- ط 3 - دار المعارف بمصر. - الأدب المقارن: حسن جاد حسن- طبعة دار الجمهورية- 1965 م. - أسرار البلاغة: لعبد القاهر الجرجاني- دار المعرفة- بيروت- لبنان. - أسرار التكرار في القرآن: محمود بن حمزة الكرماني- تحقيق عبد القادر أحمد عطا- دار الاعتصام- القاهرة. - الأصول الفنية للأدب: عبد الحميد حسن- ط 2 - مكتبة الأنجلو المصرية- القاهرة- 1964 م. - الإعجاز البلاغي: للدكتور محمد أبو موسى- ط 1 - مطابع المختار- مصر- 1984 م/ 1405 هـ. - الإعجاز البياني بين النظرية والتطبيق: الدكتور حفني محمد شرف- ط 1 - المجلس الأعلى للشئون الإسلامية القاهرة. - إعجاز القرآن: للباقلاني- تحقيق أحمد صقر- ط 1 - دار المعارف- القاهرة 1963 م. - الأمثال في القرآن الكريم: للدكتور محمد جابر الفياض- ط 1 - دار الشئون الثقافية العامة بغداد 1988 م. - الأمثال القرآنية: للأستاذ عبد الرحمن حسن حبنكة- ط 1 - دار القلم- دمشق- 1980 م. - الإيضاح في علوم البلاغة: للخطيب القزويني- ط 1 - دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان- 1985 م.

- بحث في علم الجمال: جان برتليمي- ترجمة الدكتور أنور عبد العزيز- دار نهضة مصر- القاهرة- 1970. - براعة الاستهلال في فواتح القصائد والسور: للدكتور محمد بدري عبد الجليل- ط 2 - المكتب الإسلامي- بيروت 1984 م. - البرهان في علوم القرآن: للزركشي- تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم- إحياء الكتب العربية- القاهرة- 1957 م. - البلاغة تطور وتاريخ: للدكتور شوقي ضيف- ط 1 - دار المعارف- القاهرة 1965 م. - بلاغة الخطاب وعلم النص: للدكتور صلاح فضل- سلسلة عالم المعرفة العدد 164 - الكويت- 1992. - بلاغة العطف في القرآن الكريم: للدكتور عفت الشرقاوي- دار النهضة العربية- بيروت- 1981 م. - البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري: للدكتور محمد محمد أبو موسى- ط 2 - مكتبة وهبة- القاهرة 1988 م. - بناء الصورة الفنية في البيان العربي: للدكتور كامل حسن بصير- مطبعة المجمع العلمي العراقي- بغداد- 1987 م. - تاريخ النقد الأدبي عند العرب: للدكتور إحسان عباس- ط 1 - مؤسسة الرسالة- بيروت- 1971 م. - تأويل مشكل القرآن: لابن قتيبة- تحقيق الدكتور أحمد صقر- ط 1 - دار إحياء الكتاب العربية- القاهرة 1952. - تجديد الفكر الديني في الإسلام: محمد إقبال- ترجمة عباس محمود العقاد- مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر- القاهرة. - التصوير البياني: للدكتور محمد أبو موسى- ط 2 - دار التضامن- القاهرة 1980 م. - التصوير الفني في القرآن: لسيد قطب- ط 10 - دار الشروق- 1988 م/ 1408 هـ. - تطور الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث: للدكتور نعيم اليافي- منشورات اتحاد الكتاب العرب- سوريا.

- التفسير البياني: للدكتورة عائشة عبد الرحمن- ط 3 - دار المعارف- القاهرة- 1968 م. - التفسير النفسي للأدب: للدكتور عز الدين إسماعيل- ط 4 - دار العودة- بيروت- 1988 م. - تفسير القرآن الكريم: لابن كثير- دار المعرفة- بيروت- لبنان- 1983 م. - الجامع لأحكام القرآن: للقرطبي- تحقيق أحمد عبد العليم البردوني- مطبعة دار الكتب المصرية- القاهرة. - جماليات الأسلوب: للدكتور فائز داية- ط 2 - دار الفكر المعاصر- بيروت- 1990 م/ 1411 هـ. - الجمان في تشبيهات القرآن: لابن ناقيا البغدادي- تحقيق أحمد مطلوب- وزارة الثقافة والإعلام- بغداد- 1968 م. - الحيوان: للجاحظ- تحقيق عبد السلام هارون- مطبعة مصطفى البابي الحلبي- القاهرة- 1948 م. - خصائص التراكيب: للدكتور محمد أبو موسى- ط 2 - دار التضامن- القاهرة- 1980 م. - الخيال مفهوماته ووظائفه: للدكتور عاطف جوده نصر- الهيئة المصرية للكتاب- القاهرة- 1984 م. - دلائل الإعجاز: عبد القاهر الجرجاني- تحقيق محمود شاكر- مكتبة الخانجي- القاهرة. - سر الفصاحة: ابن سنان الخفاجي- تحقيق عبد المتعال الصعيدي- مكتبة صبيح- القاهرة- 1969 م. - سورة الرحمن وسور قصار: للدكتور شوفي ضيف- ط 2 - دار المعارف- القاهرة. - صفوة التفاسير: للدكتور محمد علي الصابوني- ط 3 - دار القرآن الكريم- بيروت- 1981 م. - الصورة الأدبية: للدكتور مصطفى ناصف- ط 1 - دار مصر للطباعة- القاهرة- 1958 م.

- الصورة بين البلاغة والنقد: للدكتور أحمد بسام ساعي- ط 1 - المنارة للطباعة- 1984/ 1404 هـ. - الصورة بين القدماء والمعاصرين: للدكتور محمد إبراهيم عبد العزيز شادي- ط 1 - مطبعة السعادة- القاهرة- 1991 م. - الصورة البلاغية عند عبد القاهر الجرجاني: للدكتور أحمد دهمان- ط 1 - دار طلاس- دمشق- 1986 م. - الصورة الشعرية: تأليف سي- دي لويس- ترجمة د. أحمد نصيف الجنابي وغيره- وزارة الثقافة العراقية- 1982 م. - الصورة الشعرية في الكتابة الفنية: للدكتور صبحي البستاني- ط 1 - دار الفكر- بيروت- 1986 م. - الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي والنقدي: تأليف الولي محمد. - الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي: للدكتور جابر عصفور- دار المعارف- القاهرة. - الصورة الفنية في الشعر الجاهلي: للدكتور نصرت عبد الرحمن- ط 2 - مكتبة الأقصى- الأردن- 1982. - الصورة الفنية في شعر دعبل الخزاعي: للدكتور على أبو زيد- ط 2 - دار المعارف بمصر- 1983 م. - الصورة الفنية في النقد الشعري: للدكتور عبد القادر الربّاعي- ط 1 - دار العلوم- السعودية- 1984 م. - الصورة الفنية معيارا نقديا: للدكتور عبد الإله الصائغ- ط 1 - دار الشئون الثقافية- بغداد- 1987 م. - الصورة الفنية في المثل القرآني: للدكتور محمد حسين الصغير- دار الرشيد- بغداد- 1981 م. - الصورة في التشكيل الشعري: للدكتور سمير علي الدليمي- ط 1 - دار الشئون الثقافية- بغداد- 1990 م.

- الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري: للدكتور علي البطل- ط 1 - دار الأندلس- بيروت- 1980 م. - الصورة في شعر بشار بن برد: للدكتور عبد الفتاح صالح نافع- دار الفكر- عمان- 1983 م. - الطراز: ليحيى بن حمزة العلوي- ط 1 - دار الكتب الخديوية- القاهرة- 1914 م. - الظاهرة الجمالية: نذير حمدان- ط 1 - دار المنارة- السعودية- 1991 م. - علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته: للدكتور صلاح فضل- ط 2 - الهيئة المصرية للكتاب- 1985 م. - علم النفس: جميل صليبا- ط 3 - دار الكتاب اللبناني- 1972 م. - عيار الشعر: لابن طباطبا- تحقيق طه الحاجري ومحمد زغلول سلام- المكتبة التجارية- القاهرة- 1956 م. - فكرة إعجاز القرآن: نعيم الحمصي- ط 2 - مؤسسة الرسالة- بيروت- 1980 م. - فلسفة الجمال: للدكتور محمد علي أبو ريان- دار المعرفة الجامعية- الإسكندرية- 1989 م. - فلسفة الجمال في الفكر المعاصر: للدكتور محمد زكي العشماوي- دار النهضة العربية- بيروت- 1981 م. - فلسفة المجاز: للدكتور لطفي عبد البديع- ط 2 - النادي الأدبي بجدة- العدد 32 - 1986 م/ 1406 هـ. - فن القصة: للدكتور محمد يوسف نجم- دار الثقافة- بيروت- لبنان. - الفن القصصي في القرآن الكريم: للدكتور محمد أحمد خلف الله- ط 4 - مكتبة الأنجلو المصرية- القاهرة- 1972 م. - في ظلال القرآن: لسيد قطب- ط 9 - دار الشروق- بيروت- 1980 م/ 1400 هـ. - في النقد الأدبي: للدكتور عبد العزيز عتيق- ط 2 - دار النهضة- بيروت- 1972 م. - القاموس المحيط: للفيروزآبادي- مؤسسة الرسالة- ط 2 - بيروت- 1987 م. - القرآن والصورة البيانية: للدكتور عبد القادر حسين- ط 2 - عالم الكتب- بيروت-

1985 م. - كتاب الصناعتين: لأبي هلال العسكري- ط 2 - دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان 1981 م/ 1401 هـ. - الكشاف: للزمخشري- مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده- مصر- 1972 م/ 1392 هـ. - اللغة الشاعرة: لعباس محمود العقاد- المكتبة العصرية- بيروت- لبنان. - لغة الشعر العربي الحديث: للدكتور السعيد الورقي- ط 2 - دار المعارف- القاهرة- 1983 م. - اللغة الفنية: مجموعة من المؤلفين- تعريب الدكتور محمد حسن عبد الله- دار المعارف- القاهرة. - المثل السائر: لابن الأثير- تحقيق الدكتور أحمد الحوفي والدكتور بدوي طبانة- ط 2 - دار النهضة- القاهرة- 1959/ 1962 م. - المجاز في البلاغة العربية: للدكتور مهدي صالح السامرائي- ط 1 - مكتبة دار الدعوة- سورية- 1974 م. - مشاهد القيامة في القرآن: سيد قطب- ط 7 - دار الشروق- بيروت- 1983 م/ 1403 هـ. - مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي: للدكتور عبد الرحمن الزنيدي- ط 1 - مكتبة المؤيد- السعودية 1992 م/ 1412 هـ. - معاني القرآن: للفرّاء- تحقيق عبد الفتاح شلبي- ط 1 - الهيئة المصرية للكتاب- 1972 م. - معجم المصطلحات البلاغية وتطورها: للدكتور أحمد مطلوب- ثلاثة مجلدات- المجمع العلمي العراقي- بغداد 1983 م. - المعجم الوسيط: جزءان- إصدار مجمع اللغة العربية- القاهرة. - مفتاح العلوم: للسكاكي- ط 1 - دار الكتب العلمية- بيروت 1983/ 1403 هـ. - المفردات في غريب القرآن: للراغب الأصبهاني- تحقيق محمد كيلاني- مطبعة

مصطفى البابي الحلبي- القاهرة 1961 م. - مقدمة في نظرية الأدب العربي الإسلامي: للدكتور حسين الصدّيق- منشورات جامعة حلب- 1993 م/ 1414 هـ. - مقدمة لدراسة الصورة الفنية: للدكتور نعيم اليافي- وزارة الثقافة- دمشق 1982 م. - مناهج الجدل في القرآن الكريم: للدكتور زاهر الألمعي- مطابع الفرزدق. - من أساليب القرآن: للدكتور إبراهيم السامرائي- ط 1 - مؤسسة الرسالة- بيروت 1983 م. - من بلاغة النظم القرآني: للدكتور بسيوني عبد الفتاح فيود- ط 1 - مطبعة الحسين- القاهرة- 1992 م. - مناهج البلغاء وسراج الأدباء: لحازم القرطاجنيّ- تحقيق محمد الحبيب الخوجة- دار الكتب الشرقية- تونس- 1966 م. - منهج التربية الإسلامية: لمحمد قطب- ط 13 - دار الشروق- بيروت- 1992/ 1412 هـ. - موسيقى الشعر: للدكتور إبراهيم أنيس- ط 4 - مكتبة الأنجلو المصرية- القاهرة- 1972 م. - النبأ العظيم: للدكتور محمد عبد الله دراز- ط 2 - دار القلم- 1390 هـ. - نظرية الأدب: رينيه ويليك، وأوستن دارين- ترجمة محيي الدين صبحي- ط 3 - المؤسسة العربية- 1985 م. - نظرية التصوير الفني عند سيد قطب: للدكتور صلاح الخالدي- ط 2 - دار المنارة- السعودية- 1989 م/ 1409 هـ. - نظرية المحاكاة في النقد العربي القديم: للدكتور عصام قصبجي- ط 1 - دار القلم- دمشق- 1980 م. - نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة: للدكتور راجح عبد الحميد الكردي- ط 1 - مكتبة المؤيد- السعودية- 1992/ 1412 هـ. - نظرية المعنى في النقد العربي: للدكتور مصطفى ناصف- ط 2 - دار الأندلس-

بيروت- 1981 م/ 1401 هـ. - النظم الفني في القرآن: تأليف عبد المتعال الصعيدي- المطبعة النموذجية- مصر. - النقد الأدبي أصوله ومناهجه: سيد قطب- دار الشروق- بيروت. - النقد الأدبي الحديث: للدكتور محمد غنيمي هلال- دار الثقافة- بيروت- لبنان- 1973 م. - نقد الشعر: قدامة بن جعفر- تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي- مكتبة الكليات الأزهرية- 1963 م. - نقد النثر: قدامة بن جعفر- تحقيق كمال الدين مصطفى- مطبعة السعادة- القاهرة 1963 - (منسوب له). - النكت في إعجاز القرآن: للرماني- تحقيق محمد خلف الله ومحمد زغلول سلام- ضمن ثلاث رسائل في الإعجاز- دار المعارف- مصر. - النماذج الإنسانية في الدراسات الأدبية: للدكتور محمد غنيمي هلال- طبعة معهد الدراسات العليا- 1962 م. - الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم: للدكتور محمد محمود حجازي- مطبعة المدني- القاهرة- 1970 م. - اليوم الآخر: للدكتور عمر سليمان الأشقر- ط 5 - دار النفائس- الأردن- 1994 م.

الفهرس

الفهرس المقدمة 7 الباب الأول: طبيعة الصّورة 15 الفصل الأول: مفهوم الصورة 17 أ- الصورة عند البلاغيين والنقاد القدماء 18 ب- الصورة في النقد الحديث 31 ولكن ما الصورة؟ وما طبيعتها؟ 33 الفصل الثاني: مقوّمات الصورة الفنية في القرآن الكريم 43 الفصل الثالث: أنواع الصور في القرآن الكريم 55 أ- الصورة المفردة 57 ب- الصورة السياقية 79 ج- الصور المتقابلة 88

الباب الثاني: الوظائف القريبة للصّورة الفنّيّة في القرآن الكريم 93 - بين يدي الباب 95 الفصل الأول: المعاني الذهنية والحالات النفسية 99 الفصل الثاني: الأمثال القرآنيّة 155 الفصل الثالث: مشاهد الطبيعة 199 الفصل الرابع: الحوادث الواقعيّة 235 الفصل الخامس: القصص الماضية 259 أ- تصوير الأحداث 264 ب- تصوير الشخصيات 289 ج- تصوير العواطف والانفعالات 294 الفصل السادس: النماذج الإنسانيّة 297 الفصل السابع: مشاهد القيامة 321 الباب الثالث: الوظائف البعيدة للصّورة الفنّيّة في القرآن الكريم 375 - بين يدي الباب 377 الفصل الأول: الوظيفة الفنيّة 379 الفصل الثاني: الوظيفة النفسيّة 417

الفصل الثالث: الوظيفة العقليّة 437 الفصل الرابع: الوظيفة الدينيّة 457 خاتمة ونتيجة 471 المصادر والمراجع 475 الفهرس 483

§1/1