وسطية الإسلام وسماحته - وهبة الزحيلي

وهبة الزحيلي

مقدمة

وسطية الإسلام وسماحته إعداد أد. وهبة بن مصطفى الزحيلي جامعة دمشق - كلية الشريعة بسم الله الرحمن الرحيم تقديم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. . وبعد: إن مقوِّمات رسالة الإسلام الخالدة إلى يوم القيامة القائمة على النزعة العالمية والخلود والخاتمية تتطلب المنهج الرصين والحكيم والنابع من منطق العقل الحصيف أو العقلانية، والحكمة، والاعتدال، والسماحة والتوازن، ومسايرة الفطرة الإنسانية، والواقع المعيشي، ومراعاة اختلاف الأمزجة والميول والنزعات والرغائب، وإقرار الأمن والسلام، والحرص على تطبيق العدل والمساواة والحرية، وصون الكرامة الإنسانية، وكل ما من شأنه الحفاظ على حقوق الإنسان، والإشادة بالبناء العقدي الراسخ والبعد عن كل عوامل الهدم والضعف والأساطير والخرافات.

والوصول إلى تحقيق هذه الغايات السامية يتطلب إدراك مفاهيم الإسلام في علاقته مع الأفراد والشعوب والأمم والدول على حد سواء، حتى لا تهتز الثقة بشريعة الوحي الإلهي المتمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية الثابتة، ويلمس كل إنسان أن المصلحة الحقيقية والتماس النجاح أو النجاة، والاطمئنان والراحة النفسية تتجسد كلها في الخطاب الإلهي التشريعي العقدي والتعبدي والتعاملي والأخلاقي والسلوكي والاقتصادي والإنساني، والفقه الحضاري القويم القائم على التجرد والموضوعية والتعادل في التبادل، والاستقرار والشمول، والواقعية المنسجمة مع المثل العليا القائمة على محبة الخير والإحسان، والتضحية والإيثار، والأخوة الإنسانية، والاعتقاد الحق، وترسيخ معالم المدنية والتحضر، وتوفير الشعور بالطمأنينة والإحساس بالسعادة الغامرة في عالم الدنيا والآخرة، ولا سيما في عصرنا الحاضر حيث يتعرض الإسلام وأهله لتحديات خطيرة، واتهامات مغرضة، وافتراءات وأباطيل في مظلة ما سموه مكافحة الإرهاب والعنف والتطرف، والإسلام منه براء. وهذا يتطلب إلقاء الضوء على أصول الإسلام الثلاثة في العلاقات الاجتماعية المحلية والدولية وهي:

* وسطية الإسلام. * وسماحة الإسلام. * ودعوته للحوار البنَّاء. وكل ما نريد تحقيقه هو إعلاء كلمة الحق والعدل، وصون حقوق المستضعفين، وقمع الظلم والتسلط، ومقاومة الانحراف وتشويه المفاهيم، بالإصغاء لنداء الوجدان والضمير، والعقل والحكمة، والعدالة المجردة، دون تعصب ولا تشتت، ولا إخفاء لمقاصد خبيثة، أو تبييت لنيات وبواعث نفعية، ولا اعتماد على منطق القهر، والقوة العسكرية، ومحاولة إخضاع الشعوب المستضعفة، وتسخيرها أو تركيعها لهيمنة النفوذ الخطير للصهيونية العالمية. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

وسطية الإسلام

وسطية الإسلام مفهومها، منشؤها، آفاقها، مبناها، أبعادها في ميدان الفقه الحضاري والعلاقات المتبادلة بين المسلمين وغيرهم. مفهوم الوسطية ومنشؤها الوسطية في اللغة بمعنى التوسيط وهو أن يجعل الشيء في الوسط، والوسط: اسم لما بين طرفي الشيء، وهو المعتدل، أو ما بين الجيد والرديء كما جاء في الصحاح للجوهري، وأوسط الشيء: أفضله وخياره، وأعدله، كما جاء في القاموس المحيط.

ومنه جاء استعمال هذا اللفظ في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ( [البقرة: 143] . أوضح الطبري (1) هذا التشبيه بقوله: كما هديناكم أيها المؤمنون بمحمد عليه السلام وبما جاءكم به من عند الله، فخصصناكم بالتوفيق لقبلة إبراهيم وملته، وفضلناكم بذلك على من سواكم من أهل الملل، كذلك خصصناكم، ففضلناكم على غيركم من أهل الأديان بأن جعلناكم أمة وسطاً. والوسط في كلام العرب: الخيار. ثم قال: وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء الذي هو بين الطرفين، ووصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلوا بالترهب وقيلهم (قولهم) في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به، ولكنهم - أي المسلمين- أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها. والخيار من الناس: عدولهم.

(1) تفسير الطبري 2، 5.

وقال في الكشاف (1) : ومثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم " أمة وسطاً " أي خياراً، وهي صفة بالاسم الذي هو وسط الشيء. وقيل: للخيار: وسط لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل، والأوساط محمية محوطة. وقال الرازي (2) : الوسط: هو العدل في قول جماعة بدليل الآية والخبر والشعر والنقل والمعنى، أما الآية فهي {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] ، والخبر: ما رواه القفال عن الثوري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أمة وسطاً» قال: عدلاً) وما رواه ابن السمعاني عن علي مرفوعاً: « (خير الأمور أوسطها) أو (أوساطها) » وفي رواية ابن عباس عند الديلمي مرفوعاً: «خير الأمور أوسطها» (3) . والشعر قول زهير: هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي العظائم والنقل كما قال الجوهري في الصحاح: (أمة وسطاً) أي عدلاً، والمعنى: أن المتوسط في الأخلاق يكون بعيداً عن طرفي الإفراط والتفريط، فكان معتدلاً فاضلاً. وأكد القرطبي تفسير الوسط بأنه العدل.

(1) 1 / 242. (2) تفسير الرازي 4 / 98. (3) حديث علي بسند فيه مجهول، وحديث ابن عباس عند الديلمي بلا سند.

فثبت أن الأمة الإسلامية متصفة بالعدالة، مما جعلها أهلاً لأداء الشهادة على الأمم الأخرى بأن رسلهم بلّغوهم رسالات ربهم، ورسولنا شاهد علينا بأنه بلغنا الرسالة، وأدى الأمانة. كما ثبت عند القائلين بتفسير الوسط من كل شيء خياره: أن الأمة الإسلامية معتدلة متوسطة في رسالتها وشريعتها، ومبادئها وقيمها، تلتزم الصراط السوي، وتلتزم منهج الاعتدال، وتتجه بإخلاص منقطع النظير لإصلاح الأمم والشعوب والأفراد بما يحقق لهم السعادة والنجاة، ويكفل لهم عز الدنيا، والفلاح في الآخرة، على أساس الجمع بين المثل العليا والواقع المشاهد، وهذا المعنى هو الأنسب لبحثنا. ثم إن اتصاف الأمة الإسلامية بالعدالة والخيرية يؤهلها لأن تكون أمة القيادة والتوجيه، لالتزامها شرف الكلمة والإحسان والعدل، والتوازن والاعتدال، ولصواب عقيدتها، وإحكام نظامها وشريعتها ومنهجها، بل موقعها في الأرض وتاريخها ومناخها، ولكون مكة المكرمة في مركز وسط الكرة الأرضية للعالم أجمع، فهي أمة الخير، وتملك ناصية الميزان، ورأيها المعتمد على وحي الله - تعالى - هو الرأي السديد في معالجة جميع القضايا والشؤون.

آفاق الوسطية

آفاق الوسطية للوسطية آفاق عديدة تجعل الحياة البشرية مزدانة بأوصاف الحق والخير والاعتدال أو الاتزان في معالجة مشكلات الحياة، ومظاهر الوسطية أو آفاقها ما يأتي: 1 - مسايرة أوضاع الفطرة الإنسانية: إن أساس مسايرة أوضاع الفطرة الإنسانية أو مراعاتها هو وسطية الشريعة الإسلامية في أحكامها الاعتقادية، والمنهجية والعملية، والخلقية، وممارسة العبادات بما يلائم طبيعة الإنسان وإمكاناته المزدوجة الجامعة بين حق الجسم وحق النفس أو الروح، ويحفظ التوازن دون إلحاق جور أو ضرر أو كبت أو إرهاق لجانب على جانب آخر، حتى وصف الإسلام بأنه " دين الفطرة " كما جاء في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] . 2- الإقرار بوجود النزعات والميول البشرية:

لا ينكر إنسان وجود الواقع النفسي والميول والعواطف والغرائز التي خلقها الله في البشر، وهذا يحتاج إلى الإشباع بالطرق السوية، دون الوقوع في الجوع والنهم أو التحرق والمعاناة، فمن تمتع باللذات المشروعة أو المباحة كان هادئ النفس مرتاح الضمير، ومن كابد الصراعات النفسية ولم يستجب لنداء الذات، كان قلقًا ومعذّبًا، ومن أسرف في اللذات والمشاعر وقع فريسة المرض والاضطراب والقلق.

لذا أباح الإسلام الزينة والتمتع بالطيبات، وحرَّم الفواحش، ورغّب في الزواج، فقال الله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} . . . . [الأعراف: 31 - 33] ففي هذه الآيات إباحة الزينة وتناول الطيبات وتحريم الفواحش. وقال سبحانه: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] وهو ترغيب شديد في الزواج والتزويج لكل من لا زوج له، لما فيه من الخير والعفة، وبقاء النوع الإنساني بإنجاب الذرية.

وقد نهى الإسلام عن الترهُّب فلا رهبانية في الإسلام، وندَّد برهبانية بعض النصارى، فقال الله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27] . ويمتاز الإسلام بأنه جمع في الترغيب بين العمل للدنيا والعمل للآخرة لتتحقق المصلحتان، وتتوافر المنفعتان، ولإكمال رسالة الدنيا وجعلها جسراً للآخرة، لأن متطلبات الحياة الدنيوية كثيرة، وتعمير الدنيا وتقدمها وتحضرها من مقاصد الخلق الإلهي، وذلك مثل الاستعداد بالإيمان والعمل الصالح للآخرة دار الخلود. قال الله تعالى في قصة قارون: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77] . 3- ضرورات بناء قاعدة الإيمان أو العقيدة:

الإيمان الصحيح منطلق كل عمل مثمر، وقاعدة قبول الأعمال الصالحة. وأصول الإيمان الستة: " الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره " تتآزر مع بعضها لتحقيق بناء شخصية المؤمن، وتكامل الذات، والتوصل إلى الغايات السامية والنفعية، في عالم الدنيا والآخرة. وقمة الإيمان: توحيد الله وتعظيمه، لأنه الخالق الرازق والمهيمن على شئون الكون، ومرجع الحساب والثواب والعقاب في الآخرة، مما يزرع في النفس إجلال الذات الإلهية ووجوب إرضاء الله وطاعته، والخوف من مخالفة أوامره ونواهيه، وكذا محبته وشكره وعبادته. وتعمل بقية عناصر الإيمان على تزويد الإنسان بطاقات اليقين والهيبة ودفعه إلى العمل الصالح في الدين والدنيا والآخرة. وعقيدة الإيمان في شريعة الإسلام بسيطة غير معقدة، وسهلة الفهم، وتتقبلها العقول بسرعة، وتريح النفس، وتحقق لها الطمأنينة وتجنّبها القلق والاضطراب، وتعينها على تجاوز مشكلات الحياة وتقلّباتها، بما فيها من خير وشر، وعزّ وذل، وغنى وفقر، وصحة ومرض، وقوة وضعف، ومتعة أو لذة وحرمان، وسلام أو أمان وحرب وخوف، وغير ذلك من ظواهر الحياة الاجتماعية والإنسانية.

ومن يُحْرَم أصول الإيمان هذه يتعرض لكثير من الهزات والأزمات، فيقدم على الانتحار أحياناً، أو يتعرض للقلق والاضطراب، والوقوع فريسة الأهواء والجهالة والغموض، والعمل دون هدف نبيل، أو الوصول لغاية شريفة أو مطلب معسول، ويكون أشبه بالهائم في الأرض، لا يدري فهم حقائق البدء والمسيرة والانتهاء. فيكون الإيمان بحسب أصول الإسلام طريق إسعاد وإنقاذ ونجاة وفلاح وعمران وبناء، وسمعة عالية وأثر عميق في التاريخ، وكل ذلك بفضل بساطة العقيدة الإسلامية ووسطية مفاهيمها ومداركها وغاياتها. ومن أهم مظاهر عقيدتنا ووسطيتها: تقرير حرية الإنسان في اختيار أفعاله ومسئوليته عن أعماله، في مظلة من القيود أو النواميس الكونية بحيث لا يستطيع اختراقها كالحياة والموت، والإقامة والارتحال، والقوة والضعف، والعز والذل، وكلٌّ ميسَّر لما خلق له، في نطاق المشيئة والإرادة الإلهية. فليس الإنسان مجبوراً ظاهراً وباطناً، ولا خالقاً لأفعاله، من غير تدخل خلق الله وإيجاده، لقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] .

والإنسان فاعل مختار ضمن ظروف وأحوال محيطة به، فهو في شأنه وسط، وهو حر في حدود النظام الكوني العام، وما مثله إلا كمثل من يعيش في حديقة غنّاء واسعة يتمتع بكل ما فيها من خيرات ونعم وثمار وظلال، ويتجنب ما قد يكون فيها من مخاطر ومضار، ولكنه لا يستطيع تجاوز سور الحديقة. ويوضح ذلك مثال آخر فيما يفعله الإنسان فهو مباشر للفعل بإرادته وحريته، والله يهيئ له أسباب المباشرة، ويحقق له نتائج العمل، وينسب الله له فضيلة هذا العمل، ويمنحه القوة والعون على فعله، وله الثواب في الطاعة، وعليه العقاب في المعصية أو المخالفة، وهذا معنى قول الله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] ، وقوله عز وجل: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126] ، وقوله سبحانه: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160] . وندرك حينئذ معنى العمل وفائدة الدعاء وطلب التوفيق من الله تعالى.

وندرك أيضاً سر العمل وجدواه في الدنيا التي هي دار امتحان واختبار، ثم نهاية العمر أو الموت، وتحمل مسؤولية التكاليف الإلهية، والحساب عليها في الآخرة، وفي ذلك خير للفرد والجماعة، وكل ذلك مرتبط بحكمة إلهية عميقة ودقيقة، وإلا كان الوجود في الدنيا نقمة أو عبثاً أو ضياعاً، والله تعالى منزّه عن العبث، وعن الوجود الإنساني من غير هدف، وهذا ما قرره القرآن الكريم في آية: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] . 4- تشريع العبادات:

تتميز العبادات المفروضة ونوافلها في الإسلام من طهارة وصلاة وصيام وحج وزكاة ونحوها باليسر والسماحة، وقلة التكاليف، وسهولة الممارسة، والبعد عن التشدد والغلو والتنطع، وكون المشقة فيها معتادة، فضلاً عن فوائدها الجمة، وآثارها التهذيبية والاجتماعية، والتعبير بها عن عبودية الإنسان لله الخالق، فإن لله - تعالى - حقوقاً على عباده، بل إن الغاية الأصلية من الخَلْق الإلهي للبشرية هي عبادة الرب - تبارك وتعالى - كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .

إن الطهارة أول الأسس في حماية البيئة والنفس والتحرز عن المؤذيات والمضارّ. والصلاة بفرائضها الخمس: صلة بين العبد وربه، وتذكير بالواجبات والمسؤوليات واحترام قيمة الوقت وتهذيب النفس. والصوم: صحة وعافية، وتدريب على الصبر، وقوة الإرادة، وشحذ العزيمة، والترفع عن الماديات والتشبه بالملأ الأعلى من الملائكة، وانتصار على الأهواء والشهوات والمغريات. والزكاة لتحقيق التكافل الاجتماعي، والتعاون والتراحم، وعلاج ظواهر البؤس والفقر والعوز أو الحاجة، وتطهير المال وصونه من الضياع والسرقة. والحج يحقق منافع كثيرة أولها جمع المسلمين على قدم المساواة وتوحيد الله ووحدة الاتجاه والالتفاف حول مركز واحد وهو الكعبة المشرفة، وتربية الأخلاق بالاغتراب والسفر والاحتكاك بالآخرين. وهذه نقاط مضيئة ومثمرة لبناء الفرد والجماعة، والأمة والدولة، وتلك وسطية بنَّاءة أو إيجابية، وتربية ناجعة على الدوام، لا تقتصر على فترة زمنية سرعان ما يتناسى الإنسان آثارها ومراميها. 5- استقرار نظام الأسرة:

يحرص الإسلام على بناء الأسرة القوية المتماسكة الجادة المتعاونة لكونها الخلية الأولى للمجتمع، فالآباء والأجداد والأولاد والأحفاد يعملون كأنهم في معسكر تدريب فعَّال لتحقيق الكفاية الإنتاجية الذاتية، ورفد المجتمع ببناة الجيل الصاعد، وبقاء النوع الإنساني، وانطلاق هذه المؤسسة الصغيرة نحو تحقيق آفاق الحياة المنضبطة والسخية والقوية في آن واحد. ونظام الأسرة المسلمة القائم على التعاون والتراحم والتسلح بقيم الأخلاق الفاضلة بدءاً من الزواج حتى انتهاء الرابطة الزوجية بالطلاق الاضطراري أو الموت: نظام وسطي معتدل، يضم بين أجنحته إذا التزمت آداب الإسلام وروعيت ضوابط أحكامه وشرائعه كلَّ ما يحقق الخير والتقدم والسعادة، لقيامه على قواعد العدل والمساواة والحرية المنظمة، والضرورة أو الحاجة أو الحالات الاستثنائية التي لولاها لأصبحت الحياة الزوجية جحيماً لا يطاق.

ويشير لكل هذا بإيجاز قول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21] وقوله سبحانه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] وما المعروف إلا التوسط في المعاملة بحسب العرف والعادة الصحيحة، وضمن موازين الشرع.

وهذا يجعل الزواج من سنن الفطرة، ونظام الاجتماع والتمدن، وأنه مظهر إيجابي فعال للتعاون والعناية المشتركة والنفع المتبادل، ومصدر للسعادة والهناء والاستقرار، مع مراعاة الواقع المرير أحياناً للتخلص من زيجة تصبح خطراً أو باعثة على الفساد والشر والضرر والأذى، وذلك مع الحرص الشديد بقدر الإمكان على دوام هذه الرابطة والبعد عن هدمها، لذا سماها الإسلام بالميثاق الغليظ أي الشديد المؤكد الصلة أو العلاقة ووجوب الوفاء بالحقوق والواجبات فيها، في قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} (1) {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21] . 6- تكامل نظام المسؤولية المدنية والجنائية: المسؤولية عنوان التكريم الإنساني، لأن إهمال الإنسان وتعطيل قواه أمارة على الإهمال والتخلي والنبذ، والتقصير في القيام بالمسؤولية دليل على عدم المبالاة، وتحدي نظام المجتمع، والتجرد من الإنسانية.

(1) أي الصداق أو المهر الممنوح للزوجة.

وعماد المسؤوليات الدنيوية هو النظام المدني بتنظيم العقود والتصرفات والأنشطة الاقتصادية من إنتاج واستثمار وادخار وتوزيع، وتوجيه كل الأنشطة الصناعية والتجارية والخدمات نحو ما يحقق المصلحة العامة أو العليا للأمة. وأساس المعاملات في الإسلام: هو الحرية الاقتصادية المنظمة، والعدالة والمساواة وأداء الحقوق وتنفيذ الالتزامات، لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] والابتعاد عن إلحاق الجور والظلم والمساس بحقوق الآخرين أو أكل أموال الناس بالباطل، لقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] والأصل في العقود كالبيع والإيجار وكذا الشروط هو الإباحة، إلا ما صادم مقتضى العقد أو النص الشرعي، أو القواعد العامة كالربا والغرر والقمار والغش.

وجعل المعاملات قائمة أو مبنية على أساس التعادل في التبادل دون تقصير أو إهمال أو إكراه، أو تدليس أو غش أو غبن ونحو ذلك من مفسدات العقود: دليل واضح على الوسطية والتوفيق بين الواقع، وآفاق المستقبل، وحماية المجتمع من التنازع والاختلاف، لأن الاختلاف أو التنازع في المعاملة يؤدي إلى الوهن والضعف في الأمة وزرع الأحقاد والارتباك، وهزّ الثقة بين المتعاملين، لذا قال الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] . وهذا دليل الوسطية والاعتدال، لتحقيق مصلحة الأمة والدولة والأفراد.

وكذلك المسؤولية الجنائية من أجل حفظ الأمن والحفاظ على نظام التدين، والأرواح أو الأنفس، والعقول، والأنساب أو الأعراض، والأموال، فَيُعَاقَبُ الزناة واللصوص ورماة العفيفات بالفاحشة والمحاربون والسكارى بالعقوبات الزاجرة أو الرادعة المناسبة لشدة الجريمة وخطورتها، كما يعاقب القتلة أو سفاكو الدماء والمفسدون والمخربون على أساس من العدل والمماثلة أو المساواة، لإطفاء حزازات النفوس ومنع عادة الأخذ بالثأر. يشير إلى ذلك قول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] ويكون العفو عن جرائم الحدود قبل رفعها إلى القضاء، وكذا بعد الادعاء أمام القضاء في القصاص مجاناً أو إلى الدية هو الأفضل والأقرب إلى رضوان الله، لقوله تعالى في العفو عن الدية: {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (أو " إلا أن يتصدقوا " [النساء: 92] أي يتصدق أهله على القاتل، وسمي العفو عن الدية صدقة حثاً عليها، وفي حديث الشيخين: «كل معروف صدقة» .

وهذا التخيير بين عقوبة القصاص والدية والعفو مما تميزت به شريعتنا للدلالة على الوسطية والاعتدال، فقد شرع القصاص وحده في الديانة اليهودية، والعفو وحده في الديانة المسيحية، ثم جاء النظام الإسلامي جامعاً بين المزايا كلها، لإبقاء صنائع المعروف والمودة والفضيلة، وتقليل تطبيق العقوبة، وجعله هو الشائع بين الناس. 7- اعتبار تأثير البواعث والنيات: قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} . . [البينة: 5] . وقد ثبت في السنة النبوية المشهورة فيما أخرجه الشيخان " البخاري ومسلم " عن عمر (أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» ومنه استنبطت قاعدة المعاملات: "الأمور بمقاصدها ". واعتبر الباعث السيئ في بيوع الآجال وزواج التحليل وبيع العنب لعاصره خمراً، وبيع السلاح في الفتنة ونحو ذلك سبباً عند جمهور العلماء لإفساد العقود وتحريمها، فيكون أساس الأعمال وتحقيق الثوابت هو النية الطيبة والإخلاص في العمل.

وإعمال هذه الأصول في الحياة العملية يحقق التوازن والاعتدال والتوسط في الأمور، ويمنع التحايل على شرع الله وقواعده الكلية، ويجنّب من الوصول إلى غايات غير مشروعة، لمصادمتها مقاصد الشريعة، وهو ما يعرف بمبدأ " سد الذرائع ". وذلك لأن الشريعة تحرص على نقاء الظاهر والباطن، وتطارد الانحراف بذرائع وأسباب ووسائل مشبوهة أو مصادمة لأصل التشريع وغاياته الرشيدة، وتجعل الإخلاص والنقاء هو محور العمل، كما أن النتائج المتحققة غير المشروعة تعد دليلاً على سوء النية، وخبث الباعث أو الدافع. ومن المعلوم أن مقاومة الفساد مطلب أساسي في شرعة الله تعالى، فإذا انتشر وباء الفساد، قضى على الإيجابيات ومناهج الإصلاح وصادر الدعوة إلى الخير والفضيلة، وذلك يوجب مراعاة هذه الاعتبارات الذاتية، وتفعيل منهج الوسطية. 8- ترسيخ مجالات العلاقات الدولية:

الإسلام مستمد من السلام، فالله هو السلام، والجنة هي دار السلام، وتحية الإسلام السلام، وتحية الله والملائكة لأهل الجنة هي السلام: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24] والمسلمون مطالبون بتعميم السلام، ومحاربة الإرهاب غير المشروع لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208] ؛ وقوله سبحانه: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61] وقوله عز وجل: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] . والأصل " القاعدة العامة " في علاقات المسلمين بغيرهم هو السلم لا الحرب، والباعث على القتال هو العدوان، وإقرار الحرب مع النهي عن الاعتداء إنما هو للضرورة ودفع العدوان ومقاومة الغاصبين والمحتلين وطردهم من ديار المسلمين والمستضعفين والمظلومين، لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] .

وحينئذ يكون لزاماً التفرقة بين الإرهاب بالمعنى المطلق أو المفهوم الغربي الشامل لحق المقاومة أو الدفاع، وبين الجهاد المشروع أو المقاومة للمحتلين لطرد الأعداء والغاصبين، فالمعنى الأول فيه خلط بين المفاهيم وتسويغ تسلط الظلمة والمستكبرين على المستضعفين، والمعنى الثاني حق وعدل وشرف وكرامة بل واجب. فالإرهاب المحظور: هو كل اعتداء على الآخرين، أو عمل عنيف وراءه دافع سياسي، أيا كانت وسيلته. فهو عمل غير مشروع في دوافعه ومناهجه وأساليبه وغاياته. وهذا يشمل وقائع الإرهاب المحلي في بعض البلاد العربية ولا سيما في مكة المكرمة والرياض، لأنه إفساد وتخريب وتدمير، فيجب ملاحقة مثل هؤلاء الإرهابيين وتخليص الوطن من شرهم. أما المقاومة أو الدفاع عن الحقوق والبلاد والأوطان فهي مشروعة، بل واجبة، لطرد الظلمة والمعتدين والمتسلطين على الضعفاء واسترداد الحقوق المغتصبة، مثلما يفعل الغربيون في العراق والصهاينة في فلسطين المحتلة.

وأساس هذه التفرقة قول الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8 - 9] . إن نداء الإسلام في الأسرة الدولية واضح المعالم لقيامه على مبدأ التعاون والتفاهم، والتزام شرعة الحق والعدل، كما جاء تحديده وبيان منهجه في القرآن الكريم: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] . وهذا مَعْلَم آخر مهم جداً في تقرير وسطية الإسلام واعتداله ولا سيما في ظروفنا المعاصرة. 9- إحكام النظام الاقتصادي:

إن معالم النظام الاقتصادي الإسلامي القائم على أساس التوازن والاعتدال والوسطية بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي بارزة وواضحة ومشهورة. فهو العدل الوسط بين النظامين المذكورين، فنظامنا يقوم على أساس الحرية الاقتصادية، للحديث النبوي: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» (1) فلكل فرد حق الكسب الحر، ما لم يصادم الشرع كتجارة الخمور والمخدرات والخنازير وصناعة الأوثان، أو يلحق ضرراً بالأمة والمجتمع كالمراقص والملاهي، لأن " دفع المضار مقدم على جلب المصالح " و " درء المفاسد مقدم على جلب المصالح " و " يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام ".

(1) أخرجه الجماعة إلا البخاري عن جابر بن عبد الله ((منتقى الأخبار مع نيل الأوطار 5 / 164) المطبعة العثمانية المصرية.

ويقرر الإسلام بنظام الملكية الشخصي أو الفردي، لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] ، {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} . . . [النساء: 6] ما لم يكن التملك من مصدر محظور شرعاً كالربا والميسر والاحتكار والسرقة والمصادرة والغش والإكراه والتدليس والغبن مع التغرير ونحو ذلك، وما لم تصبح الملكية سبيلاً للسلطان المطلق والظلم. ويقر الإسلام بحقوق المجتمع أو الجماعة أو الدولة بجوار حقوق الأفراد، حفاظاً على المصلحة العامة وتضامن المجتمع، فللجماعة حق في أموال الأفراد عن طريق فرض الزكاة، وتحقيق التكافل الاجتماعي، وتوفير حقوق وحاجيات الدفاع عن الأوطان، وفرض الضرائب العادلة المحققة للمصلحة العامة، وكفاية الفقراء، وإيجاب الوفاء بالنذور، والكفارات، وإخراج صدقات الفطر في رمضان قبيل صلاة عيد الفطر، وتوزيع الأضاحي في عيد الأضحى، والإنفاق على الأقارب.

ولا يسمح الإسلام بأن تطغى مصلحة الفرد على مصلحة المجتمع، ولا أن تطحن مصلحة الدولة مصلحة الفرد. ويجوز في الإسلام التملك الجبري أو نزع الملكية للصالح العام كتوسعة مسجد أو طريق أو بناء مصنع، أو ثكنة عسكرية. وحق العمل وتوفير فرصه، وتحقيق التكافؤ بين الفرص، وإنهاء البطالة حق مقرر لكل إنسان. ولا يصح جعل الملكية الخاصة سبباً لإضرار الآخرين، كما لا يجوز شرعاً التعسف في استعمال الحق، للحديث النبوي: «لا ضرر ولا ضرار» (1) . ويمكن تقييد الملكية وتحديد سقف أعلى لها أو حظرها للمصلحة العامة، لأن طاعة ولي الأمر واجبة، وله سلطة تقييد المباح عند جماعة من الفقهاء، لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وأولو الأمر في المعرفة هم العلماء، وفي السياسة هم الأمراء والولاة والحكام.

(1) أخرجه مالك في الموطأ مرسلاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه، وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده وابن ماجة والدارقطني في سننيهما مسنداً عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه.

وأساس النظام الاقتصادي الإسلامي: مراعاة الحق والعدل والمساواة وإشاعة عاطفة التراحم والمودة والإحسان والتكافل، دون تظالم ولا اغتصاب ولا اعتداء على الحقوق المشروعة. ويهدف هذا النظام لتحقيق الرخاء للجميع، ومحاربة الفقر والجهل والمرض والتخلف. 10- تشييد نظام الحكم الصالح: إن من أهم خصائص نظام الحكم في الإسلام إقامة العدل والمساواة في الحقوق والواجبات، والشورى في القضايا العامة، ومنع الظلم والتعدي والاستبداد، والاحتكام إلى شرع الله فيما تقرر في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة. ومما لا شك فيه أن ملازمة هذه الخصائص وتفعيلها ومراعاتها في مجال التطبيق يحمي الأمة من كل آفات الانحراف والضياع والضعف والتفكك والتفرقة، ويجعل الأمة والدولة قوية رصينة، تحمي الحمى، وتدفع الاعتداء، وتمحو مظاهر التخلف، وتحقق تقدم الحياة والمدنية، وتبني الحضارة الجامعة للمادة والروح أو وسائل الرقي المادي والترفع أو السمو الروحي، على أساس من التفوق العلمي والصناعي والتقني. وواضح أن هذا كله هو منهج الوسطية والاستقرار والبعد عن كل أسباب الاضطراب والمشكلات الخاصة والعامة.

11- اتباع النظام الأصلح في التربية والتعليم: التربية في الإسلام نظام فذ فريد قائم على الحكمة والوسطية والاعتدال وترقية المشاعر والوجدانات، وتنمية المدارك والمعارف، والقيم الروحية والأخلاقيات والإنسانية، دون أن تطغى الماديات على الروحانيات، ولا يقتصر على الروحانيات والوجدانيات. وهذا يتفق مع الطبيعة الإنسانية المتزنة، ويحقق الخير للإنسان، دون تقييد لحريته، إلا بالقدر الضروري الذي تمليه المصلحة، ودون إهمال لوسائل التأديب اللازمة بحذر، ومع العناية بتزكية النفس والخلُق، وتنمية الجسد والمعارف والنزعة الاجتماعية، مع جعل كل ذلك نابعاً من أصول الإيمان أو الاعتقاد الصائب، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9 - 10] أي أهملها. وحينئذ ينشأ الأولاد أو الجيل نشأة متوازنة معتدلة وسوية، تحقق أغراض الحياة المختلفة ومصلحة الأمة. 12- استمرار الدعوة والإرشاد:

الدعوة إلى الإسلام وإرشاد الآخرين هو المحك الحيوي الحساس في نجاح الداعية وبناء الأجيال، وتصحيح مسيرة المجتمع، وذلك على نحو يتسم بالتعقل والوعي والحكمة وفهم نفوس الآخرين، وإدراك مدى صلاحية الأساليب المستعملة، وتحقيق أهداف الوحي الإلهي، والتفاعل مع الآخرين، وتهيئة النفوس للقبول، وإدراك وملاحظة أهمية الشفافية والحساسية في تعامل الدعاة مع الناس جميعاً، مسلمين أو غير مسلمين، وتوافر الأسوة الحسنة للداعية، واقتران القول مع الفعل والتطبيق، والاتصاف بصفة الحلم والأناة، والصبر واللطف، وترك اليأس، والتسلح بالعلم والمعرفة الكافيين، وملاحظة الأصالة والمعاصرة أو الحداثة، وفهم طبائع الشعوب، ومعرفة رصيد الأديان الأخرى، والعادات والتقاليد الشائعة. وحينئذ يتحقق للدعوة إلى الله منهج الوسطية المطلوب في الإسلام وهو ما وضع أساسه القرآن الكريم في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125] .

13- التلاؤم مع مقتضيات المعاصرة ومتطلبات الفقه الحضاري: الإسلام بالمعنى الخالد هو الذي يجمع بين الأصالة بالمحافظة على دلالات النصوص التشريعية، والمعاصرة المنسجمة مع مراعاة المصالح ودرء المفاسد، وفهم الوقائع، وملاحظة مقتضيات العادات والأعراف الصحيحة لا الفاسدة. وتمتاز النصوص التشريعية في الإسلام بالمرونة والسعة واستيعاب المستجدات والمسائل الطارئة. وهذا يمهد بيسر وسهولة لممارسة الاجتهاد المطلوب على يد أهل الحل والعقد لمجابهة التحديات وإدراك المشكلات، ومحاولة التوفيق بين أهدافها وضغوطها وبين مقاصد الشريعة القائمة على رعاية المصالح العامة ومقاومة المفاسد والمضار.

والاجتهاد في الشريعة يتطلب أهلية معينة أو كفاءة محددة كأي اختصاص علمي آخر، والمجتهد دقيق النظر والخبرة، فعليه أن يتوصل لما يراعي مصالح الناس في كل زمان ومكان بحيث يحقق ما يعرف بمدلول الفقه الحضاري، الجامع بين الالتزام بضوابط الشريعة الإلهية، ومقتضيات الواقع والمصلحة الزمنية والمكانية، وحتى لا يبادر الناس إلى تطبيق ما هو غريب عن الإسلام، وحتى تظل الهيمنة في الاستيعاب والنظر والإدراك والسلوك لمعطيات الإسلام الأصيلة لأن الإسلام هو دين الحق، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9] . ومعالم الفقه الحضاري تتمثل في منهج الوسطية في مراعاة قواعد الإيمان والإسلام، وعالمية الشريعة، وخلود التشريع وخاتميته، ولا بد من إدراك هذا التلازم بين العقيدة والشريعة، والعبادة، والأخلاق والسلوك، والمعاملة الرشيدة والصحيحة.

فليس من الفقه الحضاري غض النظر عن معطيات الحياة المعاصرة ومستجداتها في نظام التعامل والعلاقات والأنظمة الدولية، والأعراف السائدة، ولكن لا بد من البحث عن البديل المقبول، وتنزيل الوقائع الجديدة على الأصول والنصوص الشرعية، لا تعطيلها أو تجاوزها، فلا يتورط أحد مثلاً بإباحة الربا أو الفوائد المصرفية، وإنما يشجع على تنمية روح التعاون والاستثمار المشترك، ولا داعي لبحث ما يتعلق بالرق والاسترقاق، لأن الإسلام وإن سكت عن تحريمه فقد كان أول من أيقظ الضمير العالمي لإدراك مفاسده وشذوذه وأضراره على الكرامة الإنسانية.

سماحة الإسلام

سماحة الإسلام الإسلام سمح سهل مرن معتدل متوسط بين الإفراط والتفريط، وليس الإسلام متشدداً ضيقاً حرجاً، فلا إعنات ولا مشقة ولا إحراج في تعاليم الإسلام وأحكامه كلها، سواء منها أحكام العقائد أو العبادات والمعاملات ونظام الأسرة وجميع التكاليف الشرعية، وكذلك مبادئ الاقتصاد في الكسب والادخار والتوزيع والإنفاق تقوم على التوسط بين الإسراف والتبذير، وبين الشح والبخل والتقصير. والأخلاق والسلوكيات فيه أيضاً وسط، تتميز بالسماحة والتخفيف واليسر، وترك التنطع والتشدد، والغلظة والاستكبار، لذا لم يُمدح نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام بمثل ما مدح بصفة الخلق والرحمة، فقال الله تعالى عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وقال - سبحانه - واصفاً رسالته ومهامه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] . وهذه أمثلة من نصوص الشريعة المطهرة تبين خاصيتها في السماحة واليسر (1) :

(1) نظرية الضرورة الشرعية للباحث: ص 39 - 41.

فمن القرآن الكريم قول الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] ، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] . قال الشاطبي (1) : إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع، أي اليقين، وقد سمّى الله هذا الدين الحنيفية السمحة، لما فيه من التسهيل والتيسير. ومن السنة النبوية الشريفة أحاديث كثيرة ثابتة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: «بعثت بالحنيفية السمحة» (2) ، «إن هذا الدين يُسْر، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا» (3) أي اقصدوا السداد من الأمر وهو الصواب، واطلبوا المقاربة وهي القصد في الأمر الذي لا غلو فيه ولا تقصير، وأبشروا بالنجاة وتحقيق الغايات. وفي حديث آخر تضمن خطاباً عاماً للصحابة الكرام: «يسّروا ولا تعسروا، وبشّروا ولا تنفروا» (4) .

(1) الموافقات 1 / 240. (2) أخرجه أحمد في مسنده من حديث جابر وأبي أمامة رضي الله عنهما، والديلمي في مسند الفردوس من حديث عائشة رضي الله عنها. (3) أخرجه البخاري والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه. (4) أخرجه البخاري ومسلم.

ومن الأمثلة العملية في الشريعة على ملازمة اليسر والسماحة: تشريع الرخص، أي الأحكام الاستثنائية كرخص القصر والجمع في الصلاة، والفطر في رمضان في حالة السفر والمرض، وتناول المحرَّمات حالة الاضطرار. وفي خطاب القرآن للمشركين غاية الحيدة والتجرد، والاعتدال والسماحة والاحتكام إلى المنطق، قال الله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] ، {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} [سبأ: 32] ، {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71] .

وخطاب أهل الكتاب من اليهود والنصارى أرفق وأدق وألطف، فكل الآيات تناديهم بهذا الوصف: أَهْلِ الْكِتَابِ وكانت كتب ورسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وأمراء العالم مقترنة بهذه الآية الكريمة: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] .

من مظاهر اليسر والسماحة وآلياته في أصول الشريعة

ومظاهر اليسر والسماحة وآلياته كثيرة في أصول الشريعة، لا بد من ملاحظتها والانطلاق منها في الدعوة الخيرة الشاملة إلى الإسلام، وأهمُّها ما يأتي: 1- الاستفادة من الجسور المشتركة بين الأديان: الجسور المشتركة بين الإسلام وما سبقه من الأديان كثيرة وغنية، يمكن الانطلاق منها في شرعنا والتحاكم إليها للتوصل إلى ما يبرز سماحة الإسلام وسموه في الدعوة إلى وحدة الصف، والوقوف أمام التيارات الإلحادية أو العلمانية أو المادية أو غيرها من نزعات الفلسفة الوضعية، فيكون الخطاب الديني لهؤلاء أقوى وأنفذ وأحكم. فالأديان الثلاثة " الإسلام واليهودية والمسيحية " تؤمن بالذات الإلهية، وبرسالة الرسل الكرام، وبالكتب السماوية، وبالملائكة الأطهار، وباليوم الآخر يوم الثواب والحساب. والوصايا الأخلاقية العشر مقررة في هذه الأديان: لا تزن، ولا تسرق، لا تقتل نفساً، لا تكذب. . . إلخ. ومنهج الحرام والحلال في الأحكام واحد، للدلالة على وجود النظام الديني القائم على تحقيق وإشاعة نزعة الخير والمصلحة، ومقاومة نزعة الشر والمفسدة.

والرسالة القرآنية الخاتمة تصرح بمهمة تصديق القرآن الكريم لما سبقه في آيات كثيرة منها: {الم} {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران: 1 - 4] . ولكن تظل للقرآن الهيمنة على ما تقدمه من الشرائع، لمصلحة البشرية جمعاء، في تشريع الأفضل والأحكم والأخلد، ولتصحيح ما وقع فيه أتباع الديانتين السابقتين من أخطاء وانحرافات وتأويلات وتحريفات، فقال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المائدة: 48] .

والأديان في أصولها الصحيحة ودعوتها إلى الإيمان الحق والعدل والخير واحدة، والاختلاف إنما هو في الفروع والجزئيات مراعاة لتقدم العقل البشري وتطور الإنسانية، بشرط وحدة الاعتقاد، وصحة الإيمان، وما أحكم وأدق هذا الإخبار والتعبير القرآني وهو قول الله (: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13] . وتنحصر علاقة المسلمين بغيرهم في ضوء هذا المفهوم في شطرين: الأول: الإقرار والتصديق بكل ما صح نزوله على الأنبياء والرسل السابقين من الصحف والكتب الإلهية. الثاني: تصحيح ما وقعت فيه الكتب الحالية المتداولة من انحراف عن وحدة الهدي الإلهي في العقيدة والنظام التشريعي. 2- كون التكاليف بقدر الاستطاعة:

من أبرز خصائص الإسلام: قلة تكاليفه في العبادات وغيرها، فدائرة المباح فيه أوسع بكثير من دائرة الحرام، ومنها جعل التكليف بحسب الوسع والطاقة، أو القدرة والاستطاعة لينسجم الإنسان مع التكاليف الإلهية بيسر وسهولة، ويبادر إلى أدائها وتطبيقها بصفة دائمة دون مشقة ولا إحراج، وأساس ذلك قول الله سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . وكذلك ما نجده في السنة النبوية من وصايا وتوجيهات تزجر الناس عن المغالاة في العبادة، والامتناع من الطيبات، منها: «يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل» (1) ، «إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، فإنّ المنبتّ لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى» (2) أي إن المنقطع عن الرفقة لا يقطع المسافة، ويهلك دابته التي أرهقها. «هلك المتنطعون» (3) أي المتعمقون المتشددون في غير موضع الشدة. كل هذا يرشدنا إلى أن الإسلام يلتزم في تشريعه مبدأ الاقتصاد في الطاعات والاعتدال في القربات. 3- نبذ التعصب الديني والمذهبي:

(1) أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عائشة رضي الله عنها. (2) أخرجه البزار عن جابر رضي الله عنه، وهو ضعيف بهذا اللفظ، واللفظ الصحيح ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنس رضي الله عنه: «إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق» . (3) أخرجه أحمد في مسنده، ومسلم وأبو داود عن ابن مسعود رضي الله عنه.

اقتضت حكمة الله جل جلاله أن يوجد الاختلاف بين الناس في الملل والنحل والمذاهب والاعتقادات والأديان لمعرفة الحق من الباطل، ولإقرار الحرية وترك الاختيار والإرادة للإنسان، ولإظهار مدى جهاد أو مجاهدة الإنسان نفسه، وإبراز دوره في التمييز، وإعمال عقله وفكره وقناعته في اعتقاده وتفضيله الدين الحق، وإيثاره الرأي السديد والصائب. قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 99 - 100] . وهذا دليل واضح على ضرورة التسامح في التعامل والنظرة السامية إلى واقع الناس، وترك الاعتراض عليهم إلا في حدود الدعوة الهادئة والمنطقية إلى الله - تعالى - وقرآنه عن بينة ورشد وقناعة.

وهو دليل أيضاً على ترك التعصب الديني الكريه، والترفع عن الأحقاد، لأن الإنسان لا يصح له أن يتجاوز السنن الإلهية، وعليه أن يرضى بما رضي الله تعالى، فليس للداعية التسرع بتكفير الآخرين، لأنه سلوك منفِّر ومبعد، كما ليس لأي مسلم إيذاء مشاعر الآخرين أو الاستعلاء عليهم، أو احتقارهم أو محاولة الاعتداء عليهم أو التنكيل بهم، حتى مع أشد الناس كفراً وهم المشركون الوثنيون، لقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] أي إن سب الآلهة الباطلة أمام أتباعها مدعاة لسب الإله الحق، فيمنع ذلك سداً للذرائع. 4- منع الإكراه في الدين: الحرية الاعتقادية متروكة لكل إنسان في شرعة القرآن، لا بمعنى إقرار الضالين والكافرين على كفرهم، وإنما بمعنى ترك كل محاولات الإكراه أو الإجبار على تغيير المعتقد أو الدين أو المذهب، لأن ذلك لا ينفع ولا يفيد شيئاً، فإنه سرعان ما يزول ظرف الإكراه يعود الإنسان إلى ما كان عليه، ولأن توفير سبل الهداية وأسباب الانشراح للإسلام بيد الله تعالى.

وهذا ما قرره القرآن الكريم صراحة في قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256] والآية محكمة باقية على مفهومها، وتقرر شرعاً دائماً كما صرح بذلك أغلب المفسرين (1) ويؤكد ذلك آية أخرى في معناها: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} . . . [الكهف: 29] وليس هذا بمعنى التخيير، وإنما هو تهديد ولوم بعد ظهور الأدلة الواضحة والقاطعة على أحقية الإسلام بالاتباع، ومع ذلك فإن المصلحة في هذا التهديد إنما هي للإنسان، ولكن دون مصادمة حريته. هذا. . ولم يثبت في تاريخ الإسلام أن المسلمين مارسوا الإكراه على الدين مع غير المسلمين، كما صرح أرنولد في كتابه " الدعوة إلى الإسلام ". 5- مقاومة كل أنواع التطرف والغلو في البلاد التي لا عدوان فيها على المسلمين:

(1) تفسير الطبري 3 / 10، البحر المحيط لأبي حيان 2 / 281، تفسير القرطبي 3 / 280، أحكام القرآن لابن العربي 1 / 233.

تبين مما تقدم أن الإسلام والانتصار لقضاياه والدفاع عن مبادئه ومحاولة نشر عقيدته، والترويج لنظامه وشرائعه، لا يكون على الإطلاق بارتكاب السلوك الإجرامي والإفساد والتخريب والتدمير، أو الانطلاق من معايير التشدد والغلو والتطرف الغريبة عن روح الإسلام ومنهجه في الدعوة، والمجافية للأصول الحضارية والمدنية، لأن هذا السلوك الشائن لا يحقق أي هدف، وإنما يزرع الرعب والخوف بين الآمنين، ويلحق الضرر والأذى بالمصلحة العامة العليا للأمة، وتكون الخسارة محققة للجميع. فلقد أدركنا في هذا البحث حرص الإسلام على السماحة والاعتدال والاتزان، والقصد في الاعتقاد والأفعال والطاعات.

وحبذا لو توافرت الضمانات المناسبة لممارسة الحوار والبيان والمشورة من الدول التي تبتلى بهذه التصرفات الشاذة، لاجتثاث جذور هذه المشكلات الإرهابية الخطيرة، والعودة إلى مسيرة الجماعة، وهذا هو دور العلماء والمرشدين لا السياسيين الذين يعتمدون على سياسة البطش والقمع فقط، دون إفساح المجال لسماع مطالب هؤلاء المتطرفين، وقد نجحت " مصر" بفضل جهود علمائها في التخلص من ظاهرة " التكفير والهجرة " من طريق الإقناع وبيان أحكام الشريعة وإيراد آيات القرآن والوصايا النبوية في هذا الشأن. ولا ننسى أن ما تمارسه المقاومة الوطنية في فلسطين والعراق وكشمير وكوسوفو والبوسنة والهرسك والشيشان ونحوها لا يعد في شرع الله ودينه تطرفاً ولا إرهاباً، وإنما هو ممارسة لحق مشروع بالدفاع عن الوطن الإسلامي والعربي، بل واجب لدحر العدوان والاستعمار والاستكبار الغربي والشرقي والصهيوني، فهو في الواقع إرهاب من الدولة المعتدية، ورد الفعل عليه لا يسمى إرهاباً.

وهذا يعني ضرورة التفرقة بين الإرهاب الذي هو كل اعتداء بغير حق لدوافع سياسية، وبين المقاومة التي هي نمط من الجهاد والدفاع بالقدر الممكن، لأن طرد الغاصب واجب شرعي، أما سلوك المسلم أو المنتمي للإسلام الذي يضر ببلده ووطنه ففعله خيانة وجريمة.

دعوة الإسلام للحوار

دعوة الإسلام للحوار لم ينتشر الإسلام ونظامه في المشارق والمغارب إلا بفضل الحوار الهادف الذي يعني قبول التكافؤ بين مختلف الشعوب والأمم. فبالحوار والإقناع وإعطاء التصور الصحيح للإسلام، ومحاولة نقاش الآخرين واحترامهم، تحقق انتصار الإسلام، وتم قبول دعوته السامية القائمة على البساطة والاعتقاد الصحيح، والتزام حقوق الإنسان، ولا سيما العمل بمقتضى العدالة والمساواة والحرية والإخاء الإنساني والمرونة. ومنهج الإسلام هو اتباع طريقة الحوار التام أو السوي الذي يقصد به الكشف عن الحقيقة المجردة، وتحقيق المصادقة بين المتحاورين. ولا فرق بين الحوار المحلي في داخل الدولة مع بعض المتطرفين، أو الحوار الخارجي أو الدولي بين المسلمين وغيرهم من الشعوب والأمم من أتباع المذاهب والأديان الأخرى، لتحقيق رسالة الاستخلاف في الأرض، وتحقيق النجاح في نشر الدعوة الإسلامية، فالإسلام كله دعوة دائمة للحوار مع أهل الأديان الأخرى، وهو أيضاً دعوة خالصة لحوار الحضارات لبيان زيف الحضارة المادية وانطلاقها من الماديات فقط، وإثبات صحة منهج الحضارة الإسلامية القائمة على مراعاة الماديات والروحانيات معاً.

والحوار أجدى على الإسلام والمسلمين من التقاطع والتدابر والانعزال، أو العزلة أو الانغلاق والعنصرية فهو يحقق المصلحة الإسلامية، بنشر الدعوة بطريق هادئ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية مع المشركين، ولأن الحوار دليل على الثقة بالنفس والمبدأ، ولأن الإسلام كما عرفنا دين التسامح والتوازن والاعتدال، ولا يقر ما يسمى بالإرهاب الفكري والحربي إلا للضرورة لقمع عدوان المعتدين، واستخلاص الحقوق المغتصبة من الظلمة الغاصبين. كما أن الإسلام في تكوين عقيدته وغرس الإيمان في النفس الإنسانية يعتمد على العقل والحكمة، والعلم وموازينه، وتبادل الآراء المفيدة لإظهار الحقيقة، وإيثار المصلحة، وتوفير مناخ السعادة، والابتعاد عن الهرطقة والسفسطة والجدل العقيم. ولا يغمط الإسلام ثقافة الآخرين ومعارفهم وتجاربهم، لكنه يصحح المعوج منها أو الضارّ، ويوجه الناس للخير دون إجبار. ولا ينكر في الإسلام تفاوت المدارك والثقافات والنزعات، فيكون الإسلام الذي هو رحمة شاملة للعالمين طريق إنقاذ ونجاة، وإرساء لمعالم الحكمة والاعتدال، بالحوار المفيد والنقاش الهادئ. ولدينا دعوتان قرآنيتان للحوار:

الأولى: فيما بين المسلمين أنفسهم وفيما بينهم وبين غيرهم، في قول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125] . الثانية: أسلوب الحوار مع أهل الكتاب (اليهود والنصارى) بصفة خاصة: وذلك في الآية الكريمة: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46] . وعلى العكس من ذلك فإن غير المسلمين هم أعداء الحوار البنّاء، كما ورد في آيات قرآنية كثيرة، منها: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف: 56] ومنها: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج: 8] . والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

§1/1