وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

يوسف النبهاني

تمهيد

تمهيد بقلم الدكتور محمّد عبد الرحمن شميلة الأهدل (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين، وبعد: لقد حظي تاريخ العظماء بالاهتمام البالغ على امتداد تاريخ الأمم الإنسانيّة، فدوّنت سيرهم وأخبارهم، ورصدت في جبين التّاريخ حياتهم وشمائلهم، وأضاءت في سماء المعالي أخلاقهم، وارتوى التّابعون من مناهلهم الرّويّة، ورأوا أنّ ذلك هو المنهج الأقوم، والسّبيل الّذي لا اعوجاج فيه. ولا مراء أنّ أعظم عظماء الإنسانيّة على الإطلاق، وأفضل المصطفين.. هو منقذ البشريّة من الضّلالة والعمى؛ من جعله الله تعالى الرّحمة المهداة، وختم به الرّسالات السّماويّة: أبو القاسم محمّد بن عبد الله، النّبيّ الأوّاه صلّى الله عليه وسلّم. فهو أولى أن تدوّن شمائله، وأن تقرع الأسماع صفاته الخلقيّة والخلقيّة، وسمته وهديه، وأمره ونهيه.

(2) لذلك دأب أولو العلم على تقييد ذلك كلّه، وعنوا منذ فجر تاريخ الدّعوة الإسلاميّة بكلّ ما يتّصل به صلّى الله عليه وسلّم من الأمور الشّرعيّة، أو الشّؤون العاديّة، وكان ذلك بطريقة استيعابيّة، وأسلوب استقصائيّ، بحيث إنّ هذه المعارف الوفيرة جلّت لنا تلك الشّخصية الفريدة، بكلّ خصائصها وسماتها، فكانت هذه العلوم منارا تتراءى في ضيائه الشّخصية المحمّديّة تزهو في حلل الكمال والجمال، وينبعث من تلك الذّات أريج الجلال والهيبة والعظمة، وكيف لا تكون كذلك، وقد حلّى التّنزيل الحكيم جيده بعقود المدح والتّكريم، فقال له: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. (3) ولأنّ الرّعيل الأول من الصّحب الكرام هم الجيل المثاليّ؛ لأنّهم خرّيجو مدرسة النّبوّة، الّذين تلقّفوا الفرقان غضّا طريّا من في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنّهم كانوا أشدّ الخلق هيبة له، وأكثرهم أدبا معه، وأعظمهم إجلالا له وتوقيرا.. من أجل ذلك لم يكونوا يرفعون أبصارهم إلى محيّاه هيبة وإجلالا، وإعظاما وإكبارا. وإذا تأمّلنا معظم أحاديث الشّمائل التي تحكي صفات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخلقيّة.. نجد أن رواتها من الصّحابة أحد اثنين:

إمّا من الصّحابة صغار الأسنان ممّن لم يكونوا يدركون تماما العظمة النبويّة، وما يجب له من الحقوق، فيدفعهم ذلك إلى الحملقة في الذّات المحمّديّة على وجه يمكّنهم من وصفها الوصف الدّقيق. وإمّا أن يكون من أولئك الّذين هم قريبو عهد بالإسلام، أو من الأعراب الّذين لم يفقهوا بعد اداب الإسلام، وما يجب عليهم تجاه الشخصيّة النّبويّة. (4) ولا مراء أنّ الصّحابة الكرام ما تركوا شيئا من أخبار المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.. إلا وقيدوه، ولا شيئا عن هيئته وسمته ولبسه وطعامه وشرابه وغير ذلك.. إلا ورووه، ولا صفة تكسب المحبة والاتّباع.. إلا وأذاعوها، ذلك لأنّ محبّته عليه الصّلاة والسّلام.. عبادة، والتّأسّي به.. علامة على تلك المحبّة. وقديما قيل: تعصي الحبيب وأنت تزعم حبّه ... إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع ولقد حملت المحبة الأكيدة الصّادقة أنس بن مالك اتّباع المحبوب فيما كان شرعا أو عادة، بل وفيما أملته الطبيعة البشريّة. ففي «الصّحيح» وغيره قال أنس: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتتبع الدّبّاء في القصعة فما زلت أحبّ الدّبّاء من يومئذ. وإذا كان هذا حالهم في شؤون العادات، فكيف يكون حالهم في أمور الشّرع والعبادات؟

لا شكّ أنّهم كانوا أشدّ تمسّكا بالهدي النّبويّ، وتطبيقه بحذافيره وكذلك كان الأمر. وهذا أبو أيّوب الأنصاريّ لما رأى رد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الطّعام الّذي فيه الثّوم، كره هذه الشّجرة وعاداها حتّى الممات، وما هذا إلّا لما أشرب قلبه من حبّ الصّادق المصدوق صلّى الله عليه وسلّم، فتولّد عن ذلك التّأسّي به في كلّ صغيرة وكبيرة. (5) وبناء على ذلك: فإنّ من لازم المحبّة.. الاتّباع الكامل، والاقتفاء الشّامل لمن جاءنا بالشّرع المطهّر، والتأسّي بشخصيّته في شؤون الحياة جميعها، هذا هو الاتّباع. أمّا من يزعم محبّته ويدّعي ذلك، وهو مخالف لسيرته، متراخ عن أمره، واقع في نهيه.. فهذا الصّنيع علامة على زيف دعواه، ودليل صريح على تخبّطه في ظلام العصيان، فالسفينة لا تجري على أرض يابسة. ترجو النّجاة ولم تسلك مسالكها ... إنّ السّفينة لا تجري على اليبس (6) وإذا كنّا في عصرنا الحاضر المتموّج بالغرائب والعجائب نشاهد كثيرا من المعنيّين بالتّراث يعرضون شمائل شخصيّات لا خلاق لها، وليس لها في ميزان الفضائل مثقال حبّة من خير، ويعظّمون اثارهم الّتي تركوها،

ويذيعون ذلك في الرّائي وغيره، ويثيرون الضّجيج الإعلاميّ حول هذه الشّخصيات؛ مع أنها ليس لها وزن، ولا قيمة أخلاقيّة، وقد تكون شخصيّة ملحدة، لا تؤمن بخالقها، وليس عندها ذرّة من إيمان.. ألا يجدر بنا معشر الأمّة الإسلاميّة أن نستعرض شمائل المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، ونكرّر ذكرها كلّما عنّت فرصة أو سنح وقت؟! فإنّ ذلك أدعى إلى حسن الاقتداء، وباعث على جميل الاقتفاء. وإذا كان المولى تقدست أسماؤه قد قال لرسوله صلّى الله عليه وسلّم على إثر ذكر سير المصطفين الأخيار: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ، فما أحرانا ونحن الخطّاؤون أن نستعرض شمائل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسمته، وهديه؛ فإنّ في ذلك تثبيتا لأفئدتنا، وازديادا لإيماننا، وتقوية لمحبّتنا، وإنارة لأفكارنا. لذلك كلّه.. فإنّ فنّ (الشّمائل المحمّديّة) الّذي يرسل الضّوء على صفاته البهيّة، ومحاسنه العليّة، وأخلاقه الزّكية.. من الفنون المباركة العظيمة، والعلوم الشريفة الثّمينة؛ لأنّه وسيلة من وسائل ازدياد الإيمان، وطريق مؤدّ إلى امتلاء القلب بتعظيمه ومحبّته، واقتفاء هديه وسنّته، وتعظيم شعائر ملّته، وفي ذلك السّعادة في الدّارين. هذا وإنّ من أجمع ما ألّف في الشّمائل، وأوسع ما وصلنا في هذا الباب كتاب: (وسائل الوصول إلى شمائل الرّسول صلّى الله عليه وسلّم) .. إذ هو سفر عظيم المقدار، كثير النّفع، متّسم بالاستيعاب، مشتمل على ما يصبو إليه الأحباب.

أشرقت من سطوره أنوار التّحقيق، وسالت من صفحاته أعذب الصّفات لسيّد السّادات صلّى الله عليه وسلّم. كيف لا، ومؤلّفه صاحب القلم السّيّال، والسّحر الحلال: أبو المحاسن يوسف بن إسماعيل النّبهانيّ، الّذي طارت بمؤلّفاته الرّكبان، ووقف نشاطه على خدمة السّيرة المحمّديّة والسنّة الغرّاء، وفاز بالشّرف المؤبّد، والأجر الّذي لا ينفد. وبعد: فإليكم أحبّاءنا الأكارم الشّمائل المحمّديّة، تتبختر في حللها القشيبة، وتشعّ منها الأنوار المحمّديّة، وتجلّي لنا أحاديثه الشّخصيّة الّتي اختارها الله تعالى لتكون أعظم هديّة إلى الإنسانيّة جمعاء، إنّها تكشف لنا عن سمات وهيئة صاحب اللّواء المحمود، والحوض المورود، والشّفاعة والجود، صلّى الله وسلّم عليه وعلى اله وصحبه ما ارتفع إلى السّماء أذان، وما لهج بكلمة التّوحيد مسلم. وقد دأبت دار المنهاج على إخراج التّراث الإسلاميّ سليما محقّقا، وحملت على عاتقها أمانة نشر العلم النّافع، ورفع لوائه؛ تبصيرا للنّاس، ومساهمة في نشر الدّعوة، وتقريبا للعلوم الشّرعية. والله تعالى من وراء القصد. د. محمّد عبد الرحمن شميلة الأهدل

ترجمة الشيخ يوسف بن إسماعيل بن النبهاني رحمه الله تعالى

ترجمة الشيخ يوسف بن إسماعيل بن النبهاني رحمه الله تعالى هو الأديب الشّاعر المفلق، العلّامة المتقن الورع، الحجّة التّقي العابد، المحبّ الصّادق، المتفاني في حبّ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، المكثر من مدائحه؛ تأليفا ونقلا ورواية وإنشاء وتدوينا. ناصر الدّين، أبو الفتوح وأبو المحاسن يوسف بن إسماعيل بن يوسف إسماعيل بن محمّد بن ناصر الدّين النّبهاني؛ نسبة لبني نبهان «1» . وكانت ولادته في قرية (اجزم) يوم الخميس سنة (1265 هـ) . حفظ القران على والده، وكان شيخا معمّرا بلغ الثمانين، وكان والده مراة للقدوة الصالحة، فقد كان يختم كل ثلاثة أيام ختمة، مع محافظة على ضروب الطاعات، واستغراق الأوقات في القربات، مما كان له أبلغ الأثر في تكوين هذا الناشئ الذي تغذى بلبان الهدى والتقى بين يدي والده الصالح، في تلك البيئة النقية الطاهرة.

_ (1) قوم من عرب البادية، نزلوا بقرية (اجزم) بصيغة فعل الأمر، وهي قرية واقعة في الجانب الشمالي من أرض فلسطين؛ تابعة لقضاء (حيفا) من أعمال (عكا) .

ولمّا أتمّ حفظ القران الكريم وحفظ بعض المتون.. أرسله والده إلى مصر- وكان عمره إذ ذاك سبع عشرة سنة- فالتحق بالأزهر الشريف في غرّة محرم الحرام سنة (1283 هـ) ، وجاور في رواق الشوام، ودأب على الدرس والتحصيل، وتلقّى العلم من كبار الأئمة وجهابذة علماء الأمة، وكان موفقا حسن الاختيار والاهتداء إلى الراسخين في العلم المحققين في المعقول والمنقول، الذين لا يشق لهم غبار أمثال: الشيخ إبراهيم السقا الشافعي (ت 1298 هـ) . والشيخ محمد الدمنهوري الشافعي (ت 1286 هـ) . والشيخ إبراهيم الزرو الخليلي الشافعي (ت 1287 هـ) . والشيخ أحمد الأجهوري الضرير الشافعي (ت 1293 هـ) . والشيخ عبد الهادي نجا الأبياري الشافعي (ت 1305 هـ) . والشيخ أحمد راضي الشرقاوي الشافعي. والشيخ مصطفى الإشراقي الشافعي. والشيخ صالح أجباوي الشافعي. والشيخ محمد العشماوي الشافعي. والشيخ محمد شمس الدين الأنبابي الشافعي (شيخ الجامع الأزهر) . والشيخ عبد الرحمن الشربيني الشافعي. والشيخ أحمد البابي الحلبي الشافعي.

- والشيخ شريف الحلبي الحنفي. والشيخ فخر الدين اليانيه وي الحنفي. والشيخ عبد القادر الرافعي الطرابلسي الحنفي (شيخ رواق الشوام) . والشيخ حسن العدوي المالكي (ت 1298 هـ) . والشيخ محمد روبه المالكي. والشيخ حسن الطويل المالكي. والشيخ محمد البسيوني المالكي. والشيخ يوسف البرقاوي الحنبلي (شيخ رواق الحنابلة) . رحمهم الله تعالى وجزاهم عن الأمة المحمدية أحسن الجزاء. ثم بدا لصاحب الترجمة أن يسافر من مصر ليساهم في خدمة الإسلام، وقد علا كعبه، وبزغ نجمه ورسخ في علمي المعقول والمنقول في أسلوب عال، هو السحر الحلال.. يخاله الناظر فيه سهلا وهو بعيد المنال.. فرجع في رجب سنة (1289 هـ) ، وأقام في مدينة عكا ينشر العلم، فأفاد المسلمين، وأعلى منار الدين. ثم في سنة (1292 هـ) رحل إلى الشام واجتمع على جماعة من العلماء؛ من أجلهم الإمام الفقيه المحدث البارع مفتي الشام السيد محمود أفندي الحمزاوي، فأجازه بإجازة مطولة بجميع مروياته بعد أن قرأ عليه في منزله بحضور جملة من طلبة العلم الشريف.

وجال في بلاد الشرق العربي ثم دخل الأستانة والموصل وحلب وديار بكر وشهرزور وبغداد وسامرّا وبيت المقدس والحجاز. وتقلد القضاء في ولايات الشام، حتى صار رئيسا في محكمة الحقوق العليا ببيروت وذلك سنة (1305 هـ) . وحج عام ألف وثلاثمئة وعشرة، ثم دخل الحجاز بعد ذلك وأقام بالمدينة المنورة مدة. وألف المؤلفات النافعة التي سارت بها الركبان وانتشرت في سائر البلدان، وقد فاقت على الستين كتابا في مختلف الفنون والعلوم.. وقد عظم ذكره بما صنف وابتكر، ونظم ونثر، وطبع ونشر، خصوصا في الجانب المحمدي الأعظم؛ فقد خدم السيرة المحمدية والجناب النبوي أرفع الخدمات ووقف حياته على ذلك، فنشر وكتب ما لم يتيسر لغيره في عصرنا هذا ولا عشر معشاره.. وذلك لإخلاصه رحمه الله تعالى.. ولما أحيل إلى المعاش.. شدّ أزره وشمر عن ساعد الجد، وأقبل على العبادة بهمة عالية وعزيمة صادقة، وقلب دائب على الذكر وتلاوة القران وكثرة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحيا ليله ونهاره بإقامة الفرائض ونوافل الطاعات، لا يفتر ولا يسأم، حتى عدّ ما يقوم به من خوارق العادات. وكانت أنوار العبادة وتعظيم السنة والعمل بها ظاهرة على وجهه المبارك.. ولم يزل على الحال المرضي حتى دعاه مولاه.. فأجابه ولباه..

وكانت وفاته في بيروت في أوائل شهر رمضان الكريم سنة (1350 هـ) عن عمر يناهز الخمس والثمانين، وهو قوي البدن، تام الصحة، مستوف لقراءة أوراده، وما اعتاده من الطاعات وأعمال الخير. أجزل الله ثوابه، وألحقنا به على الإيمان الكامل في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، بفضله ورحمته.. امين.

توطئة

توطئة لقد توافرت الدواعي لخدمة هذا الكتاب المبارك، لكونه من أجلّ ما ألف في شمائل سيد الأنام محمد صلى الله عليه واله وسلم، إلا أنه ينبغي لنا أن ننبه على ما يلي: 1- لقد أضربنا عن تخريج الأحاديث النبوية والأخبار والاثار المروية في هذا الكتاب.. وذلك لأمرين: أولهما: أن ذلك سيقطع متعة القراءة المركزة المتواصلة على القارئ، فالتخريج موضوع متخصص له رجاله وأهله. الأمر الثاني: إحالة القارئ الكريم إلى كتاب «منتهى السول» للشيخ عبد الله اللّحجي الذي شرح فيه هذا الكتاب «وسائل الوصول» أيما شرح، وفي أربعة مجلّدات ضخام؛ ويكفي أن نعلم أن اللحجي رحمه الله تعالى قد استغرق في تأليفه (25 سنة) ، فضبط عباراته، وشرح كلماته، وخرج أحاديثه، بتفصيل وبسط، مع إضافة فوائد، وتقييد شوارد، وكذلك بإتمام مباحثه، وتوسيع دائرته. 2- ولأننا نريد أن يستفيد الجميع من هذا الكتاب بحول الله وقوته.. ضبطنا الكتاب بالشكل الكامل، مع وضع علامات الترقيم المناسبة، وكذلك شرحنا العبارات الغريبة أو الغامضة حتى يستوعب المعنى، ويتضح المبنى.

هذا كله.. بالإضافة إلى أناقة الطبع، وحسن الإخراج. وعليه: فإن البداية لمن أراد التحليق عاليا في شمائل الرسول صلى الله عليه واله وسلم.. في كتابنا هذا «وسائل الوصول» ، والنهاية في «منتهى السول» للشيخ عبد الله بن سعيد اللحجي، وهو أيضا من منشورات دار المنهاج. وفي الختام: الله تعالى نسأل وهو صاحب الإحسان أن يتمم لنا الإحسان، وأن يشملنا بالغفران، وأن يصلح لنا كل شأن. وصلى الله على سيدنا محمد واله وصحبه ومن تبعهم بإحسان. الناشر في ربيع الأنور (1423 هـ)

صورة عن المخطوط المستعان به في إخراج الكتاب

صورة عن المخطوط المستعان به في إخراج الكتاب

راموز الورقة الأولى لمخطوطة مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة

راموز الورقة الأخيرة لمخطوطة مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة

وسائل الوصول إلى شمائل الرّسول صلى الله عليه وسلم تأليف الشّيخ العالم العلّامة المحدّث يوسف بن إسماعيل النّبهانيّ رحمه الله تعالى 1265 هـ- 1350 هـ

[مقدمة المؤلف]

[مقدمة المؤلف] بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله ربّ العالمين، حمدا يوافي نعمه، ويكافىء مزيده، ويضاهي كرمه. وأشهد ألاإله إلّا الله الملك الحقّ المبين، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدا عبده ورسوله سيّد الخلق أجمعين. اللهمّ؛ صلّ أفضل صلاة وأكملها، وأدومها، وأشملها، على سيّدنا محمّد عبدك الّذي خصّصته بالسّيادة العامّة، فهو سيّد العالمين على الإطلاق، ورسولك الّذي بعثته بأحسن الشّمائل وأوضح الدّلائل؛ ليتمّم مكارم الأخلاق. صلاة تناسب ما بينك وبينه من القرب الّذي ما فاز به أحد، وتشاكل ما لديكما من الحبّ الّذي انفرد به في الأزل والأبد. صلاة لا يعدّها ولا يحدّها قلم ولا لسان، ولا يصفها ولا يعرفها ملك ولا إنسان. صلاة تسود كافّة الصّلوات كسيادته على كافّة المخلوقات. صلاة يشملني نورها من جميع جهاتي في جميع أوقاتي، ويلازم ذرّاتي في حياتي وبعد مماتي. وعلى اله الأطهار، وأصحابه الأخيار، وسلّم تسليما كثيرا.

أمّا بعد: فقد خطر لي أن أجمع كتابا أجعله وسيلة لبلوغي من رضا الله تعالى ورسوله المرام، وذريعة للانتظام في سلك «1» خدّامه عليه الصّلاة والسّلام. ثمّ نظرت إلى قلّة علمي، وضعف فهمي، وكثرة ذنوبي، ووفرة عيوبي.. فأحجمت «2» إحجام من عرف حدّه فوقف عنده، ثمّ تخطّرت «3» سعة الكرم، وكوني من أمّة هذا النّبيّ الكريم.. فأقدمت إقدام الطّفل على الأب الشّفيق الحليم، بعد أن سمعت قول الله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] . فكم من أعرابيّ فدم «4» ، لا أدب له ولا فهم، ولا عقل له ولا علم، ولا كرم ولا حلم.. قابل جنابه الشّريف بما غضب له المكان والزّمان، وخاطبه بما عبس له وجه السّيف واحتدّ له لسان السّنان «5» فكان جوابه الإغضاء «6» ، والعفو عمّن أساء، بل أدناه وقرّبه، وما لامه وما أنّبه، بل

_ (1) أصل معناه: الخيط، ومقصوده بذلك التقرب إليه صلى الله عليه وسلّم حتى يكون معدودا من جملة خدامه. (2) أي: كففت عن ذلك وتوقفت. (3) أي: تذكرت. (4) أي: عييّ عن الكلام في ثقل ورخاوة وقلّة فهم. (5) هو نصل الرّمح. (6) أي: الإمساك وعدم المؤاخذة.

أفرغته أخلاقه المحمّديّة في قالب كيمياء بأيادي الإحسان «1» ، حتّى اضمحلّت حدّة ذلك الوحش وانقلبت حديدته جوهرة إنسان، فتبدّل بغضه بالحبّ، وبعده بالقرب، وحربه بالسّلم، وجهله بالعلم. واستحال إنسانا بعد أن كان ثعبانا، وصار حبيبا بعد أن كان ذيبا. فهذا وأمثاله من شواهد مكارم أخلاقه صلّى الله عليه وسلّم.. أطمعني بإمكان قبولي في جملة خدمه، ودخولي في عداد حشمه، ولا يبعد عن سعة كرم الله تعالى أن يهب لي إكراما لرسوله فوق ما أمّلته من الرّضا والقبول. وها أنا قد توكّلت عليه سبحانه، وقبضت قبضة من أثر الرّسول، فجمعت هذا الكتاب من اثاره في شمائله الشّريفة صلّى الله عليه وسلّم، وأدخلت فيه جميع الشّمائل الّتي رواها الإمام الحافظ أبو عيسى محمّد بن عيسى التّرمذيّ رضي الله تعالى عنه بعد حذف مكرّرها وأسانيدها، ولم أتقيّد بترتيبه وتبويبه، بل سلكت أسلوبا غير أسلوبه، وأضفت إليها من كتب الأئمّة الاتي ذكرهم أكثر منها بكثير، وألحقت بغريب الألفاظ ما تدعو إليه الحاجة من ضبط أو تفسير. فجاء كتابا حافلا ليس له في بابه نظير. وسمّيته: «وسائل الوصول إلى شمائل الرسول»

_ (1) المراد بذلك: تهذيب النفس باجتناب الرذائل واكتساب الفضائل.

وهذا بيان الكتب الّتي نقلته منها، ورويته عنها: 1- «كتاب الشّمائل» للإمام التّرمذيّ. 2- «المصابيح» للإمام البغويّ. 3- «الإحياء» للإمام الغزاليّ. 4- «الشّفا» للقاضي عياض. 5- «التهذيب» للإمام النّوويّ. 6- «الهدي النّبويّ» «1» للإمام محمّد ابن أبي بكر الشّهير بابن قيّم الجوزيّة. 7- «الجامع الصّغير» للإمام السّيوطيّ. 8- و «شرحه» للإمام العزيزيّ «2» . 9- «المواهب» للإمام القسطلّانيّ «3» . 10- «كشف الغمّة» للإمام الشّعرانيّ. 11- «طبقات الأولياء» «4» . 12- و «كنوز الحقائق» للإمام المناويّ.

_ (1) المسمّى: «زاد المعاد في هدي خير العباد» . (2) المسمّى: «السراج المنير شرح الجامع الصغير» . (3) المسمّى: «المواهب اللدنية بالمنح المحمدية» . (4) المسمّى: «الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية» ؛ وهو للإمام المناوي رحمه الله تعالى.

13- «حاشية الشّمائل» «1» لشيخ مشايخي، أستاذ الأستاذين، خاتمة العلماء العاملين: الشّيخ إبراهيم الباجوريّ رضي الله تعالى عنهم أجمعين. فهذه أصوله، لم يخرج عنها شيء منه. اللهمّ إلّا أن يكون ذلك في تفسير الغريب، فإنّي راجعت فيما لم أجده فيها كتب اللّغة، وذلك نزر يسير. وقد ذكرت في بعض «الشّمائل» اسم الصّحابيّ راوي الحديث والإمام المخرّج له، وفي بعضها اسم الصّحابيّ فقط، ولم أذكر في بعضها غير متن الحديث تابعا في جميع ذلك الأصول المذكورة. وقد رتّبته على مقدّمة «2» ، وثمانية أبواب، وخاتمة. المقدّمة تشتمل على تنبيهين: التّنبيه الأوّل: في معنى لفظ الشّمائل. والتّنبيه الثّاني: في الفوائد المقصودة من جمع شمائله صلّى الله عليه وسلّم.

_ (1) المسمّاة: «المواهب اللدنية على الشمائل المحمدية» . (2) بفتح الدال وكسرها معا.

الباب الأوّل: في نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأسمائه الشّريفة، وفيه فصلان: الفصل الأوّل: في نسبه الشّريف صلّى الله عليه وسلّم. الفصل الثّاني: في أسمائه الشّريفة صلّى الله عليه وسلّم. الباب الثّاني: في صفة خلقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما يناسبها من أوصافه الشّريفة، وفيه عشرة فصول: الفصل الأوّل: في جمال صورته صلّى الله عليه وسلّم، وما شاكلها. الفصل الثّاني: في صفة بصره صلّى الله عليه وسلّم واكتحاله. الفصل الثّالث: في صفة شعره صلّى الله عليه وسلّم وشيبه وخضابه، وما يتعلّق بذلك. الفصل الرّابع: في صفة عرقه صلّى الله عليه وسلّم ورائحته الطّبيعيّة «1» . الفصل الخامس: في صفة طيبه صلّى الله عليه وسلّم وتطيّبه. الفصل السادس: في صفة صوته صلّى الله عليه وسلّم. الفصل السّابع: في صفة غضبه صلّى الله عليه وسلّم وسروره.

_ (1) يعني: من غير أن يمسّ طيبا صلّى الله عليه وسلّم.

- الفصل الثّامن: في صفة ضحكه صلّى الله عليه وسلّم وبكائه وعطاسه. الفصل التّاسع: في صفة كلامه صلّى الله عليه وسلّم وسكوته. الفصل العاشر: في صفة قوّته صلّى الله عليه وسلّم. الباب الثّالث: في صفة لباس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفراشه وسلاحه، وفيه ستّة فصول: الفصل الأوّل: في صفة لباسه صلّى الله عليه وسلّم؛ من قميص وإزار ورداء وقلنسوة «1» وعمامة ونحوها. الفصل الثّاني: في صفة فراشه صلّى الله عليه وسلّم وما يناسبه. الفصل الثّالث: في صفة خاتمه صلّى الله عليه وسلّم. الفصل الرّابع: في صفة نعله صلّى الله عليه وسلّم وخفّه. الفصل الخامس: في صفة سلاحه صلّى الله عليه وسلّم. الفصل السّادس: كان من خلقه صلّى الله عليه وسلّم أن يسمّي سلاحه ودوابّه ومتاعه. الباب الرّابع: في صفة أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشربه ونومه، وفيه ستّة فصول:

_ (1) غشاء مبطن يستر الرأس، يقال لها في عرفنا: (طاقيّة أو كوفيّة) .

- الفصل الأوّل: في صفة عيشه صلّى الله عليه وسلّم وخبزه. الفصل الثّاني: في صفة أكله صلّى الله عليه وسلّم وإدامه «1» . الفصل الثّالث: فيما كان يقوله صلّى الله عليه وسلّم قبل الطّعام وبعده. الفصل الرّابع: في صفة فاكهته صلّى الله عليه وسلّم. الفصل الخامس: في صفة شرابه صلّى الله عليه وسلّم وقدحه. الفصل السّادس: في صفة نومه صلّى الله عليه وسلّم. الباب الخامس: في صفة خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحلمه، وعشرته مع نسائه، وأمانته وصدقه، وحيائه ومزاحه، وتواضعه وجلوسه، وكرمه وشجاعته، وفيه ستّة فصول: الفصل الأوّل: في صفة خلقه صلّى الله عليه وسلّم وحلمه. الفصل الثّاني: في صفة عشرته صلّى الله عليه وسلّم مع نسائه رضي الله تعالى عنهنّ. الفصل الثّالث: في صفة أمانته صلّى الله عليه وسلّم وصدقه. الفصل الرّابع: في صفة حيائه صلّى الله عليه وسلّم ومزاحه. الفصل الخامس: في صفة تواضعه صلّى الله عليه وسلّم وجلوسه.

_ (1) ما يساغ به الخبز ويصلح به الطعام جامدا كان أو سائلا.

- الفصل السّادس: في صفة كرمه صلّى الله عليه وسلّم وشجاعته. الباب السّادس: في صفة عبادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصلاته. وصومه، وقراءته، وفيه ثلاثة فصول. الفصل الأوّل: في صفة عبادته صلّى الله عليه وسلّم وصلاته. الفصل الثّاني: في صفة صومه صلّى الله عليه وسلّم. الفصل الثّالث: في صفة قراءته صلّى الله عليه وسلّم. الباب السّابع: في أخبار شتّى من أحوال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبعض أذكار وأدعية كان يقولها في أوقات مخصوصة، وثلاث مئة وثلاثة عشر حديثا من جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلّم، وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأوّل: في أخبار شتّى من أحواله صلّى الله عليه وسلّم. الفصل الثّاني: في بعض أذكار وأدعية كان يقولها صلّى الله عليه وسلّم في أوقات مخصوصة. الفصل الثّالث: في ثلاث مئة وثلاثة عشر حديثا من جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلّم.

الباب الثّامن: في طبّه صلّى الله عليه وسلّم، وسنّه ووفاته، ورؤيته في المنام، وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأوّل: في طبّه صلّى الله عليه وسلّم. الفصل الثّاني: في سنّه صلّى الله عليه وسلّم ووفاته. الفصل الثّالث: في رؤيته صلّى الله عليه وسلّم في المنام. الخاتمة: تشتمل على خمسين حديثا، أكثرها صحاح وحسان من أدعيته صلّى الله عليه وسلّم «1» . وأسأل الله العظيم ربّ العرش الكريم أن يجعل هذا الكتاب من أفضل الحسنات الجاري نفعها في الحياة وبعد الممات، بجاه نبيّه سيّد الرّسل الكرام، عليه وعليهم الصّلاة والسّلام.

_ (1) وهذه الأدعية منقسمة إلى قسمين: استعاذات، ودعوات، معتبرا فيها أول الحديث، فما كان استعاذة جعل في القسم الأول؛ وما كان دعاء جعل في القسم الثاني. وأفتتحها بالدعوات القرانية.

مقدمة الكتاب

مقدّمة الكتاب وهي تشتمل على تنبيهين

التنبيه الأول في معنى لفظ الشمائل

التنبيه الأوّل في معنى لفظ الشمائل هي في الأصل: الأخلاق والطّبائع. قال في «القاموس» : (الشّمال: الطّبع، والجمع: شمائل) اهـ وقال في «لسان العرب» : (مفردها: شمال؛ بكسر الشّين. قال جرير: ............... ... وما لومي أخي من شماليا «1» وقال صخر أخو الخنساء: أبا الشّتم إنّي قد أصابوا كريمتي ... وأن ليس إهداء الخنا من شماليا «2» وقال اخر «3» : هم قومي وقد أنكرت منهم ... شمائل بدّلوها من شمالي أي: أنكرت أخلاقهم) .

_ (1) والبيت بتمامه: ألم تعلما أنّ الملامة نفعها ... قليل ومالومي أخي من شماليا (2) الخنا: فاحش الكلام. (3) أي: لبيد بن ربيعة العامري.

ثمّ قال في مادّتها أيضا: (والشّمال: خليقة الرّجل «1» ، وجمعها: شمائل. وإنّها لحسنة الشّمائل، ورجل كريم الشّمائل؛ أي: في أخلاقه ومخالطته) اهـ وقد استعمل علماء الحديث الشّمائل في أخلاقه الشّريفة صلّى الله عليه وسلّم على أصلها، وفي أوصاف صورته الظّاهرة أيضا على سبيل المجاز فاعلم ذلك.

_ (1) أي: طبيعته وسجيّته.

التنبيه الثاني في الفوائد المقصودة من جمع شمائله صلى الله عليه وسلم

التنبيه الثاني في الفوائد المقصودة من جمع شمائله صلّى الله عليه وسلّم ليس المقصود من جمع شمائله صلّى الله عليه وسلّم مجرّد معرفة علم تاريخيّ تميل إليه النّفوس، وتجنح إليه القلوب، ويتحدّث به في المجالس، ويستشهد به على المقاصد، ونحو ذلك من الفوائد. وإنّما المقصود من جمع شمائله صلّى الله عليه وسلّم فوائد أخرى مهمّة في الدّين. منها: التّلذّذ بصفاته العليّة وشمائله الرّضيّة صلّى الله عليه وسلّم. ومنها: التّقرّب إليه صلّى الله عليه وسلّم، واستجلاب محبّته ورضاه بذكر أوصافه الكاملة وأخلاقه الفاضلة، كما يتقرّب الشّاعر إلى الكريم بذكر أوصافه الجميلة، وخصاله النّبيلة. ولا شكّ أنّ جمع شمائله صلّى الله عليه وسلّم ونشرها.. هو أفضل وأكمل من مدحه بالقصائد، وقد رضي عمّن مدحه بها ك: حسّان، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن زهير رضي الله تعالى عنهم، وكافأهم على ذلك.

فلا شكّ أنّه يرضى عمّن يعتني بجمع شمائله ونشرها صلّى الله عليه وسلّم. ومنها: تعرّضنا لمكافأته صلّى الله عليه وسلّم على إحسانه إلينا، وإنقاذه إيّانا من ظلمات الضّلال إلى أنوار الهدى، ومن الشّقاوة الأبديّة إلى السّعادة السّرمديّة، وهذه نعمة كبرى لا تمكن مقابلتها بشيء، ولا يقدر على مكافأته عليها إلّا الله تعالى. فجزاه الله تعالى عنّا أفضل ما جزى به مرسلا عمّن أرسل إليه، فإنّه أنقذنا به من الهلكة «1» ، وجعلنا من خير أمّة أخرجت للنّاس، دائنين بدينه الّذي ارتضى واصطفى به ملائكته، ومن أنعم عليه من خلقه، فلم تمس بنا نعمة ظهرت ولا بطنت نلنا بها حظّا في دين ودنيا، أو رفع بها عنّا مكروه فيهما، أو في أحد منهما.. إلّا ومحمّد صلّى الله عليه وسلّم سببها القائد إلى خيرها، والهادي إلى رشدها. وهذه العبارة من قوله: (.. فجزاه الله ... إلى اخرها) عبارة إمامنا الشّافعيّ رضي الله تعالى عنه نقلتها من «رسالته» «2» الّتي رواها عنه صاحبه الرّبيع بن سليمان رحمه الله تعالى. ومنها: أنّ معرفة شمائله الشّريفة تستدعي محبّته صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنّ الإنسان مجبول على حبّ الصّفات الجميلة ومن اتّصف بها، ولا أجمل ولا أكمل من صفاته صلّى الله عليه وسلّم.

_ (1) أي: الهلاك، وهو ظلمة الكفر. (2) المسماة ب «الرسالة» وهي في أصول الفقه.

فلا شكّ أنّ من يطّلع عليها ولم يكن مطبوعا على قلبه بطابع الضّلال.. يحبّ صاحبها صلّى الله عليه وسلّم بيقين، وبمقدار زيادة محبّته ونقصها تكون زيادة الإيمان ونقصه، بل رضا الله تعالى والسّعادة الأبديّة، ونعيم أهل الجنّة ودرجاتهم فيها، جميع ذلك يكون بمقدار محبّة العبد له صلّى الله عليه وسلّم زيادة ونقصا، كما أنّ سخط الله تعالى، والشّقاوة الأبديّة وعذاب أهل النّار ودركاتهم فيها.. يكون بمقدار بغضه صلّى الله عليه وسلّم، زيادة ونقصا. ومنها: اتّباعه والاقتداء به لمن وفّقه الله تعالى فيما يمكن به الاقتداء؛ كسخائه وحلمه، وتواضعه، وزهده، وعبادته، وغيرها من مكارم أخلاقه، وشرائف أحواله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك مستوجب لمحبّة الله تعالى الّتي فيها سعادة الدّارين. قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [ال عمران: 31] . جعلنا الله تعالى من المتّبعين له صلّى الله عليه وسلّم في شرعه القويم، وصراطه المستقيم، وحشرنا تحت لوائه، في زمرة أهل محبّته، عليه وعليهم الصّلاة والتّسليم.

الباب الأوّل في نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأسمائه الشّريفة وفيه فصلان

الباب الأول

الفصل الأوّل في نسبه الشريف صلّى الله عليه وسلّم هو سيّدنا محمّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابن عبد الله بن عبد المطّلب «1» بن هاشم «2» بن عبد مناف «3» بن قصيّ «4» بن كلاب «5» بن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر «6» بن مالك بن النّضر «7» بن كنانة بن

_ (1) واسمه: شيبة الحمد، وكنيته: أبو الحارث، سمي ب «عبد المطلب» لأن عمه المطلب جاء به إلى مكة رديفه، وهو بهيئة رثة، فكان يسأل عنه فيقول: (هو عبدي) ؛ حياء من أن يقول ابن أخي، فلما أدخل مكة وأصلح من حاله.. أظهر أنه ابن أخيه؛ فلذلك قيل له: «عبد المطلب» .. (2) واسمه: عمرو، وإنما قيل له: «هاشم» ؛ لأنه كان يهشم الثريد لقوته في الجدب. (3) واسمه: المغيرة، لقب بذلك لأن أمه حبّى أخدمته صنما عظيما لهم يسمى: «مناة» ، ثم نظر أبوه فراه يوافق عبد مناة بن كنانة، فحوله «عبد مناف» . (4) واسمه: مجمّع، ولقب بذلك لأنه بعد عن عشيرته في بلاد قضاعة حيث احتملته أمه فاطمة بنت سعد العذري في قصة طويلة. (5) واسمه: حكيم، ولقب ب «كلاب» لمحبته كلاب الصيد، فكان يجمعها. (6) واسمه: قريش، وإليه تنسب قبائل قريش. (7) واسمه: قيس، ولقب ب «النضر» لنضارة وجهه وإشراقه وجماله.

خزيمة بن مدركة «1» بن إلياس بن مضر بن نزار «2» بن معدّ بن عدنان. إلى هنا إجماع الأمّة، وما بعده إلى ادم لا يصحّ فيه شيء يعتمد «3» . وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا انتسب.. لم يجاوز في نسبته معدّ بن عدنان بن أدد، ثمّ يمسك ويقول: «كذب النّسّابون» ؛ قال الله تعالى وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [الفرقان: 38] . وهذا النّسب أشرف الأنساب على الإطلاق. فعن العبّاس رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم، ثمّ تخيّر القبائل فجعلني من خير قبيلة، ثمّ تخيّر البيوت فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا» . وعن واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل،

_ (1) واسمه: عمرو، ولقب ب «مدركة» لإدراكه كل عز وفخر كان في ابائه. (2) واسمه: خلدان، ولقب ب «نزار» لأنه لما ولد ونظر أبوه إلى نور محمد صلّى الله عليه وسلّم بين عينيه.. فرح فرحا شديدا ونحر وأطعم، وقال: إن هذا كله نزر أي قليل- لحقّ هذا المولود. فسمي: (نزارا) لذلك. (3) وقد اختلف فيما بين عدنان وإسماعيل اختلافا كثيرا، ومن إسماعيل إلى ادم متفق على أكثره، وفيه خلف يسير في عدد ابائه وكذلك في ضبط بعض الأسماء. وقد جمع السيد العلامة عمر بن علوي ابن أبي بكر الكاف، أسماء ابائه صلّى الله عليه وسلّم من عدنان إلى ادم مع نبذة يسيرة عنهم في كتاب أسماه «الصرح الممرد والفخر المؤبد لاباء سيدنا محمد» ، وقد صدر عن دار الحاوي- بيروت.

واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» . وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله اختار خلقه؛ فاختار منهم بني ادم، ثمّ اختار بني ادم فاختار منهم العرب، ثمّ اختار العرب فاختار منهم قريشا، ثمّ اختار قريشا فاختار منهم بني هاشم، ثمّ اختار بني هاشم فاختارني، فلم أزل خيارا من خيار، ألا من أحبّ العرب فبحبّي أحبّهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم» .

الفصل الثاني في أسمائه الشريفة صلى الله عليه وسلم

الفصل الثّاني في أسمائه الشريفة صلّى الله عليه وسلّم اعلم.. أنّ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسماء كثيرة. قال الإمام النّووي في «التّهذيب» : (قال الإمام الحافظ القاضي أبو بكر ابن العربّي المالكيّ في كتابه «عارضة الأحوذيّ في شرح التّرمذيّ» : قال بعض الصّوفيّة: لله عزّ وجلّ ألف اسم، وللنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ألف اسم) اهـ وعن جبير بن مطعم بن عديّ رضي الله تعالى عنه؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ لي أسماء، أنا محمّد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الّذي يمحو الله بى الكفر، وأنا الحاشر الّذي يحشر النّاس على قدميّ «1» ، وأنا العاقب الّذي ليس بعده نبيّ» . وعن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: لقيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في بعض طرق المدينة؛ فقال: «أنا محمّد، وأنا أحمد، وأنا نبيّ

_ (1) هكذا بتشديد الياء مع فتح الميم على التثنية، أو (قدمي) بكسر الميم وبتخفيف الياء على الإفراد، روايتان.

الرّحمة، ونبيّ التّوبة، وأنا المقفّي «1» ، وأنا الحاشر، ونبيّ الملاحم» . ومعنى (المقفّي) : المتّبع من قبله من الرّسل، وكان اخرهم وخاتمهم. و (الملاحم) هي: الحروب. ففي تسميته صلّى الله عليه وسلّم نبيّ الملاحم إشارة إلى ما بعث به من القتال بالسّيف. ولم يجاهد نبيّ وأمّته قطّ ما جاهد صلّى الله عليه وسلّم وأمّته. والملاحم الّتي وقعت وتقع بين أمّته وبين الكفّار.. لم يعهد مثلها قبله؛ فإنّ أمّته يقاتلون الكفّار في أقطار الأرض على تعاقب الأعصار إلى أن يقاتلوا الأعور الدّجّال. وفي «التّهذيب» : (سمّاه الله عزّ وجلّ في القران رسولا، نبيّا، أمّيّا، شاهدا، مبشّرا، نذيرا، داعيا إلى الله بإذنه، وسراجا منيرا، ورؤوفا رحيما، ومذكّرا، وجعله رحمة ونعمة وهاديا صلّى الله عليه وسلّم. قال: وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اسمي في القران: محمّد، وفي الإنجيل:

_ (1) بكسر الفاء على أنه اسم فاعل، أو (المقفّى) بفتحها على أنه اسم مفعول.

أحمد، وفي التّوراة: أحيد «1» ، وإنّما سمّيت أحيد لأنّي أحيد أمّتي عن نار جهنّم» . وزاد نقلا عن ابن عساكر: الفاتح، وطه، وياسين، وعبد الله، وخاتم الأنبياء. وقال القسطلّانيّ في «المواهب» ، والباجوريّ في «حاشية الشّمائل» : ذكر صاحب كتاب «شوق العروس وأنس النّفوس» ، وهو حسين بن محمّد الدّامغانيّ نقلا عن كعب الأحبار أنّه قال: اسم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عند أهل الجنّة: عبد الكريم، وعند أهل النّار: عبد الجبّار، وعند أهل العرش: عبد الحميد، وعند سائر الملائكة: عبد المجيد، وعند الأنبياء: عبد الوهّاب، وعند الشّياطين: عبد القهّار، وعند الجنّ: عبد الرّحيم، وفي الجبال: عبد الخالق، وفي البراري: عبد القادر، وفي البحار: عبد المهيمن، وعند الحيتان: عبد القدّوس، وعند الهوامّ: عبد الغياث، وعند الوحوش: عبد الرّزّاق، وعند السّباع: عبد السّلام، وعند البهائم: عبد المؤمن، وعند الطّيور: عبد الغفّار، وفي التّوراة: مؤذ مؤذ، وفي الإنجيل:

_ (1) بهمزة مضمومة ثم حاء مكسورة فمثناة تحتية ساكنة ثم دال مهملة، هكذا ضبطه بعضهم على وزن الفعل، فهو عربي. والمشهور ضبطه: (أحيد) بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وفتح المثناة التحتية، على وزن اسم التفضيل، وبه ضبطه البرهان في «المقتفى» . قال الشّمنّيّ: وهو المحفوظ وهو غير عربي.

طاب طاب، وفي الصّحف: عاقب، وفي الزّبور: فاروق، وعند الله: طه، وياسين، وعند المؤمنين: محمّد صلّى الله عليه وسلّم. وكنيته: أبو القاسم؛ لأنّه يقسم الجنّة بين أهلها. قوله: (مؤذ مؤذ) : نقل في «المواهب» عن السّهيليّ: أنّه بضمّ الميم، وإشمام الهمزة ضمّا بين الواو والألف، ممدودا. وقال: نقلته عن رجل أسلم من علماء بني إسرائيل، وقال معناه: طيّب طيّب) اهـ فيكون بمعنى الاسم الاخر وهو: (طاب.. طاب) . وأمّا الفاروق: فهو الّذي يفرّق بين الحقّ والباطل، وهو معنى اسم (البار قليط) «1» المذكور في «إنجيل يوحنّا» . وقد ألّف خاتمة الحفّاظ جلال الدّين السّيوطيّ رسالة سمّاها: «البهجة السّنيّة في الأسماء النّبويّة» جمع فيها نحو الخمس مئة. ونقل في «المواهب» عن كتاب «أحكام القران» لأبي بكر ابن العربيّ: أنّ لله تعالى ألف اسم، وللنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ألف اسم. قال القسطلّانيّ: (والمراد: الأوصاف، فكلّ الأسماء الّتي وردت أوصاف مدح، وإذا كان كذلك.. فله صلّى الله عليه وسلّم من كلّ وصف اسم.

_ (1) البار قليط، والبار قليط، والبار قليط، والبار قليط، ويروى أيضا بالفاء دون الباء؛ وهو: الذي يفرّق بين الحق والباطل. وقال التقي الشمنّي: وأكثر أهل الإنجيل على أن معناه: (المخلّص) .

ثمّ إنّ منها ما هو مختصّ به، أو الغالب عليه، ومنها ما هو مشترك. وكلّ ذلك بيّن بالمشاهدة لا يخفى. وإذا جعلنا له من كلّ وصف من أوصافه اسما.. بلغت أسماؤه ما ذكر، بل أكثر. قال: والّذي رأيته في كلام شيخنا- يعني الحافظ السّخاويّ- في «القول البديع» ، والقاضي عياض في «الشّفا» ، وابن العربيّ في «القبس» و «الأحكام» ، وابن سيّد النّاس وغيرهم.. يزيد على الأربع مئة، ثمّ سردها مرتّبة على حروف المعجم) . وذكر منها الإمام الجزوليّ في «دلائل الخيرات» مئتين وواحدا. وقال في «التّهذيب» : (وكنيته صلّى الله عليه وسلّم المشهورة: أبو القاسم، وكنّاه جبريل صلّى الله عليه وسلّم: أبا إبراهيم) . وأفضل أسمائه صلّى الله عليه وسلّم: محمّد. قال القسطلّانيّ: (وقد سمّاه الله تعالى بهذا الاسم قبل الخلق بألفي عام، كما ورد في حديث أنس رضي الله عنه. وروى ابن عساكر عن كعب الأحبار: أنّ ادم أوصى ابنه شيثا فقال: أي بنيّ؛ أنت خليفتي من بعدي، فخذها بعمارة التّقوى والعروة الوثقى، وكلّما ذكرت الله فاذكر إلى جنبه اسم محمّد، فإنّي رأيت اسمه مكتوبا على ساق العرش، ثمّ طفت السّماوات فلم أر فيها موضعا إلّا

ورأيت اسم محمّد مكتوبا عليه، وإنّ ربّي أسكنني الجنّة، فلم أر فيها قصرا ولا غرفة إلّا وجدت اسم محمّد مكتوبا عليه، ولقد رأيت اسم محمّد مكتوبا على نحور الحور العين، وعلى ورق قصب اجام الجنّة «1» ، وعلى ورق شجرة طوبى «2» ، وعلى ورق سدرة المنتهى، وعلى أطراف الحجب «3» ، وبين أعين الملائكة، فأكثر ذكره؛ فإنّ الملائكة تذكره في كلّ ساعاتها. قال حسّان بن ثابت رضي الله تعالى عنه: أغرّ عليه للنّبوّة خاتم ... من الله من نور يلوح ويشهد وضمّ الإله اسم النّبيّ إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذّن: أشهد وشقّ له من إسمه ليجلّه ... فذو العرش محمود وهذا محمّد وأمّا اسم أحمد: فقد قال الباجوريّ في «حاشيته» : هو في الأصل أفعل تفضيل، وسمّي بذلك لأنّه أحمد الحامدين لربّه؛ ففي «الصّحيح» : أنّه يفتح عليه يوم القيامة بمحامد لم يفتح بها على أحد قبله، وكذلك يعقد له لواء الحمد، ويخصّ بالمقام المحمود. وبالجملة: فهو أكثر النّاس حامديّة ومحموديّة، فلذلك سمّي أحمد ومحمّدا. ولهذين الاسمين الشّريفين مزيّة على سائر الأسماء، فينبغي

_ (1) جمع أجمة: الشجر الملتفّ؛ أي: على أغصان شجر الجنّة. (2) تأنيث الأطيب، شجرة في الجنّة. (3) الأستار التي في الجنة، أو المحلات التي لا يتجاوزها الرائي إلى ما وراءها.

تحرّي التّسمية بهما، فقد ورد في الحديث القدسيّ: «إنّي اليت على نفسي ألاأدخل النّار من اسمه أحمد، ولا محمّد» . ورواه الدّيلميّ عن عليّ رضي الله تعالى عنه: ما من مائدة وضعت فحضر عليها من اسمه محمّد أو أحمد.. إلّا قدّس الله ذلك المنزل في كلّ يوم مرّتين) اهـ

الباب الثّاني في صفة خلقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما يناسبها من أوصافه الشّريفة وفيه عشرة فصول

الباب الثاني في صفة خلقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يناسبها من أوصافه الشريفة

الفصل الأوّل في جمال صورته صلّى الله عليه وسلّم، وما شاكلها قال في «المواهب» : (اعلم أنّ من تمام الإيمان به صلّى الله عليه وسلّم.. الإيمان بأنّ الله تعالى جعل خلق بدنه الشّريف على وجه لم يظهر قبله ولا بعده خلق ادميّ مثله. ولله درّ الأبو صيريّ «1» حيث قال: فهو الّذي تمّ معناه وصورته ... ثمّ اصطفاه حبيبا بارئ النّسم منزّه عن شريك في محاسنه ... فجوهر الحسن فيه غير منقسم وقد حكى القرطبيّ رحمه الله تعالى في (كتاب الصّلاة) ، أنّه قال: لم يظهر لنا تمام حسنه صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنّه لو ظهر لنا تمام حسنه.. لما طاقت أعيننا رؤيته صلّى الله عليه وسلّم) اهـ كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حسن الجسم. رواه غير واحد. وروى التّرمذيّ عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: كان رسول الله

_ (1) هو محمد بن سعيد الصنهاجي صاحب نظم «البردة» المشهور نشأ في قرية «البوصير» وإليها ينسب فيقال: (البوصيري) ؛ ولذا فإنّ قوله: (الأبوصيري) منتقد. والله أعلم.

صلّى الله عليه وسلّم ليس بالطّويل البائن، ولا بالقصير، ولا بالأبيض الأمهق، ولا بالادم، ولا بالجعد القطط ولا بالسّبط. ومعنى (البائن) : الظّاهر طوله. و (الأمهق) : الشّديد البياض، الخالي عن الحمرة. و (الادم) : الأسمر. و (الجعد) : من في شعره التواء. و (القطط) : شديد الجعودة. و (السّبط) : مسترسل الشّعر. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا مربوعا «1» ، بعيد ما بين المنكبين، عظيم الجمّة إلى شحمة أذنيه. ومعنى (الرّجل) «2» : من في شعره تكسّر قليل. و (الجمّة) : مجتمع شعر الرّأس؛ وهي أكثر من الوفرة واللّمّة «3» . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شثن الكفّين والقدمين، ضخم الرّأس، ضخم الكراديس، طويل المسربة، إذا مشى تكفّأ تكفّؤا؛ كأنّما ينحطّ من صبب. ومعنى (شثن) : غليظ.

_ (1) وهو المتوسط بين الطويل والقصير. (2) الرّجل بفتح الراء وكسر الجيم، وقد يضم، وقد يفتح، وقد يسكّن. (3) الوفرة: ما بلغت شحمة الأذن، والجمّة: ما وصلت المنكب، واللّمة: ما بينهما.

و (الكراديس) - جمع كردوس- وهو: مجمع العظام كالرّكبة والمنكب. و (المسربة) : الشّعر الدّقيق الّذي كأنّه قضيب من الصّدر إلى السّرّة. و (التّكفّؤ) : الميل إلى سنن «1» المشي، وهو: ما بين يديه كالسّفينة في جريها. و (الصّبب) : المكان المنحدر من الأرض. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جعدا رجلا «2» ، ولم يكن بالمطهّم؛ ولا بالمكلثم، وكان في وجهه تدوير، أبيض مشرّب «3» ، أدعج العينين، أهدب الأشفار، جليل المشاش والكتد، أجرد، ذا مسربة، شثن الكفّين والقدمين، إذا مشى.. تقلّع كأنّما ينحطّ من صبب، وإذا التفت.. التفت معا، بين كتفيه خاتم النّبوّة. وهو خاتم النّبيّين، أجود النّاس صدرا، وأصدق النّاس لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من راه بديهة.. هابه، ومن خالطه معرفة.. أحبّه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله.

_ (1) مثلث السين وبضمتين؛ سنن وسنن وسنن وسنن. (2) الجعد: هو الشعر المتجعد والمتثني.. (3) مشرب بتخفيف الراء من الإشراب، وهو خلط لون بلون كأنه سقي به، أو (مشرّب) بالتشديد من التشريب، وهو مبالغة في الإشراب.

ومعنى (المطهّم) : البادن الكثير اللّحم «1» . و (المكلثم) : المدوّر الوجه. و (أدعج العينين) : شديد سوادهما. و (أهدب الأشفار) : طويل شعر الأجفان. و (المشاش) : رؤوس العظام. و (الكتد) : مجتمع الكتفين. و (أجرد) : غير أشعر. و (تقلّع) : مشى بقوّة. و (اللهجة) : الكلام. و (العريكة) : الطّبيعة. و (البديهة) : المفاجأة. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سهل الخدّين «2» ، ضليع الفم، سواء البطن والصّدر، أشعر المنكبين والذّراعين وأعالي الصّدر، طويل الزّندين، رحب الرّاحة، أشكل العينين، أحمر الماقي، منهوس العقبين. ومعنى (ضليع الفم) : واسعه، وهو ممدوح لدلالته على الفصاحة. و (أشكل العينين) : في بياضهما حمرة.

_ (1) أي: عظيم البدن بكثرة لحمه. (2) أي: غير مرتفع الوجنتين.

و (منهوس العقبين) : قليل لحمهما. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عظيم العينين، أهدب الأشفار، مشرّب العين بحمرة. وكان صلّى الله عليه وسلّم أبلج الحاجبين «1» ، كأنّ ما بينهما الفضّة المخلّصة. وكانت عيناه نجلاوين «2» ، أدعجهما «3» ، وكان في عينيه تمزّج من حمرة، وكان أهدب الأشفار حتّى تكاد تلتبس من كثرتها. وكان صلّى الله عليه وسلّم ضخم الرّأس واليدين والقدمين. وكان صلّى الله عليه وسلّم سهل الخدّين صلتهما «4» ، ليس بالطّويل الوجه، ولا المكلثم. وكان صلّى الله عليه وسلّم أحسن النّاس صفة وأجملها، كان ربعة إلى الطّول ما هو «5» ، بعيد ما بين المنكبين، أسيل الخدّين، شديد سواد الشّعر، أكحل العينين، أهدب الأشفار، إذا وطىء بقدمه.. وطىء بكلّها، ليس له أخمص «6» ، إذا وضع رداءه عن منكبيه.. فكأنّه سبيكة فضّة، وإذا ضحك.. يتلألأ.

_ (1) أي: كان بين حاجبيه فرجة بيضاء دقيقة لا تتبيّن إلا لمتأمّل. (2) أي: واسعتين. (3) أي: شديد سواد حدقتهما. (4) أي: سائلهما من غير ارتفاع وجنتيه. (5) أي: هو يميل إلى الطول ميلا قليلا. (6) الأخمص: ما يتجافى من باطن القدم عن الأرض.

ومعنى (أسيل الخدّين) : ليس فيهما ارتفاع. و (الأكحل) : أسود أجفان العين خلقة. وكان صلّى الله عليه وسلّم شبح الذّراعين، بعيد ما بين المنكبين، أهدب أشفار العينين. ومعنى (شبح الذّراعين) : عريضهما ممتدّهما. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبل العضدين والذّراعين «1» ، وما تحت الإزار من الفخذين والسّاق، طويل الزّندين، رحب الرّاحتين، سائل الأطراف، كأنّ أصابعه قضبان الفضّة. وكان صلّى الله عليه وسلّم معتدل الخلق في السّمن، فبدن في اخر عمره، وكان مع ذلك لحمه متماسكا، يكاد يكون على الخلق الأوّل، لم يضرّه السّنّ. وكان صلّى الله عليه وسلّم أحسن النّاس وجها، وأحسنهم خلقا، ليس بالطّويل البائن، ولا بالقصير، بل كان ينسب إلى الرّبعة «2» إذا مشى واحده، ومع ذلك فلم يكن يماشيه أحد من النّاس وهو ينسب إلى الطّول.. إلّا طاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولربّما اكتنفه الرّجلان الطّويلان فيطولهما، فإذا فارقاه.. نسبا إلى الطّول؛ ونسب هو صلّى الله عليه وسلّم إلى الرّبعة.

_ (1) أي: ضخمهما. (2) الرّبعة: توسط القامة واعتدالها.

ويقول صلّى الله عليه وسلّم: «جعل الخير كلّه في الرّبعة» . وزاد ابن سبع في «الخصائص» : أنّه كان صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس.. يكون كتفه أعلى من جميع الجالسين. وكان صلّى الله عليه وسلّم فخما مفخّما، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذّب، عظيم الهامة «1» ، رجل الشّعر، إن انفرقت عقيقته.. فرقها، وإلّا.. فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره. أزهر اللّون، واسع الجبين، أزجّ الحواجب؛ سوابغ في غير قرن «2» ، بينهما عرق يدرّه الغضب، أقنى العرنين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمّله أشمّ، كثّ اللّحية، سهل الخدّين، ضليع الفم، أشنب، مفلّج الأسنان، دقيق المسربة، كأنّ عنقه جيد دمية في صفاء الفضّة، معتدل الخلق. بادن متماسك، سواء البطن والصّدر «3» ، عريض الصّدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، أنور المتجرّد «4» ، موصول ما بين اللّبّة والسّرّة بشعر يجري كالخطّ، عاري الثّديين والبطن ما سوى ذلك «5» ،

_ (1) أي: عظيم الرأس. (2) والمراد: أن حاجبيه قد سبغا حتى كادا يلتقيان ولم يلتقيا. والقرن غير محمود عند العرب ويستحبون البلج وهو الصحيح في صفته صلّى الله عليه وسلّم. (3) في بعض النسخ: سواء البطن والصدر. (4) والمعنى: أنه نير العضو المتجرّد عن الشعر أو عن الثوب. (5) وفي رواية: (ممّا سوى ذلك) ، وهي أنسب وأقرب؛ أي: سوى محل الشعر-

أشعر الذّراعين والمنكبين وأعالي الصّدر، طويل الزّندين. رحب الرّاحة، شثن الكفّين والقدمين، سائل الأطراف، خمصان «1» الأخمصين، مسيح القدمين ينبو عنهما الماء؛ إذا زال.. زال قلعا «2» ، يخطو تكفّيا ويمشي هونا، ذريع المشية، إذا مشى.. كأنّما ينحطّ من صبب، وإذا التفت.. التفت جميعا، خافض الطّرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السّماء، جلّ نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، ويبدر من لقيه بالسّلام. ومعنى (الفخم) : العظيم في نفسه. و (المفخّم) : المعظّم عند غيره. و (المشذّب) : الظّاهر الطّول مع نحافة. و (رجل الشّعر) : مسترسله. و (العقيقة) : شعر الرّأس. و (وفره) : جعله وفرة، وهي الشّعر النّازل عن شحمة الأذن إذا لم يصل إلى المنكبين. و (أزهر) : مشرق اللّون، نيّره. و (أزجّ الحواجب) : مقوّسها مع طول.

_ - المذكور، أما هو: ففيه الشعر الذي هو المسربة. والمعنى: لم يكن على ثدييه وبطنه صلّى الله عليه وسلّم شعر غير مسربته. (1) بضم الخاء وسكون الميم كعثمان، وبضمتين، فسكون. (2) بفتح أوله مع تثليث ثانيه، وضم أوله مع سكون ثانيه وفتحه.

و (السّوابغ) : الكاملات. و (أقنى العرنين) : طويل الأنف مع دقّة أرنبته «1» ، في وسطه بعض ارتفاع. و (الأشمّ) : مرتفع قصبة الأنف. و (الأشنب) : أبيض الأسنان مع بريق وتحديد فيها. و (المفلّج) : منفرج الثّنايا. و (الدّمية) : صورة من رخام ونحوه. و (البادن) : السّمين سمنا معتدلا. و (المتجرّد) : العضو العاري عن الشّعر. و (اللّبّة) : النّقرة الّتي فوق الصّدر. و (الرّحب) : الواسع. و (سائل الأطراف) : طويلها طولا معتدلا. و (خمصان الأخمصين) : متجافيهما عن الأرض. و (الأخمص) : الموضع الّذي لا يمسّ الأرض عند الوطء من وسط القدم. و (المسيح) : الأملس. و (ينبو) : يتباعد.

_ (1) أي: طرف الأنف.

و (إذا زال.. زال قلعا) : إذا مشى.. رفع رجليه بقوّة. و (ذريع المشية) : واسع الخطو خلقة لا تكلّفا. و (الملاحظة) : النّظر باللّحاظ؛ وهو: شقّ العين ممّا يلي الصّدغ. و (يسوق أصحابه) : يقدّمهم بين يديه. و (يبدر) : يبتدئ. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفلج الثّنيّتين، إذا تكلّم ريء «1» كالنّور يخرج من بين ثناياه. وكان صلّى الله عليه وسلّم أحسن البشر قدما. وعن ميمونة بنت كردم؛ قالت: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فما نسيت طول إصبع قدمه السّبّابة على سائر أصابعه. رواه الإمام أحمد وغيره. وكان صلّى الله عليه وسلّم في ساقيه حموشة. ومعنى (الحموشة) : الدّقّة، وهي محمودة في السّاقين. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمشي كأنّما يتقلّع من صخر، وينحدر من صبب، يخطو تكفّيا، ويمشي الهوينا بغير تبختر. ومعنى (الهوينا) : تقارب الخطا.

_ (1) على الأفصح، ويقال أيضا: رئي.

وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا مشى.. مشى مجتمعا؛ أي: قويّ الأعضاء، غير مسترخ في المشي. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مشى.. مشى أصحابه أمامه، وتركوا ظهره للملائكة. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا مشى.. لم يلتفت. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يلتفت وراءه إذا مشى، وكان ربّما تعلّق رداؤه بالشّجر فلا يلتفت حتّى يرفعوه عليه. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا مشى.. كأنّما يتوكّأ «1» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يمشي مشيا يعرف فيه أنّه ليس بعاجز ولا كسلان. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يطأ عقبه رجلان قطّ، إن كانوا ثلاثة.. مشى بينهم، وإن كانوا جماعة.. قدّم بعضهم. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا لبس نعليه.. بدأ باليمنى، وإذا خلع.. خلع اليسرى. وكان إذا دخل المسجد.. أدخل رجله اليمنى. وكان يحبّ التّيمّن في كلّ شيء أخذا وعطاء. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كأنّ الشّمس تجري في وجهه،

_ (1) والمراد: سعى سعيا شديدا.

ولا رأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كأنّما الأرض تطوى له، إنّا لنجهد أنفسنا، وإنّه لغير مكترث. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نورا، فكان إذا مشى في الشّمس والقمر.. لا يظهر له ظلّ. وكان وجهه صلّى الله عليه وسلّم مثل الشّمس «1» والقمر، وكان مستديرا. وعن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما قال: ما رأيت من ذي لمّة في حلّة حمراء.. أحسن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كأنّ الشّمس تجري في وجهه، وإذا ضحك.. يتلألأ في الجدر. وقالت أمّ معبد في بعض ما وصفته به رضي الله تعالى عنها: أجمل النّاس من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب. وعن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ليلة إضحيان؛ وعليه حلّة حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فلهو عندي أحسن من القمر. ومعنى (إضحيان) : مقمرة.

_ (1) في مزيد الإضاءة والإشراق، لكنه ليس مثلها في كونه لا يستطاع النظر إليه.

وسأل رجل البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما: أكان وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر. وكان لونه صلّى الله عليه وسلّم أزهر، ولم يكن بالأسمر، ولا بالشّديد البياض. ونعته عمّه أبو طالب فقال: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل وكان صلّى الله عليه وسلّم أزهر اللّون، كأنّ عرقه اللّؤلؤ، إذا مشى.. تكفّأ. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحسن النّاس وجها وأنورهم، لم يصفه واصف إلّا شبّهه بالقمر ليلة البدر. وكانوا يقولون: هو كما وصفه صاحبه أبو بكر الصّدّيق رضي الله تعالى عنه حيث يقول: أمين مصطفى للخير يدعو ... كضوء البدر زايله الغمام وكان صلّى الله عليه وسلّم أبيض كأنّما صيغ من فضّة، رجل الشّعر. وكان صلّى الله عليه وسلّم أبيض مليحا مقصّدا. ومعنى (المقصّد) : المتوسّط بين الطّول والقصر. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبيض مشربا بياضه بحمرة، وكان أسود الحدقة، أهدب الأشفار.

وكان صلّى الله عليه وسلّم أبيض مشربا بحمرة، ضخم الهامة، أغرّ أبلج، أهدب الأشفار. ومعنى (الأغرّ) : الصّبيح. و (الأبلج) : الحسن المشرق المضيء. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحسن عباد الله عنقا، لا ينسب إلى الطّول ولا إلى القصر، ما ظهر من عنقه للشّمس والرّياح فكأنّه إبريق فضّة مشرّب ذهبا، يتلألأ في بياض الفضّة وفي حمرة الذّهب. وكان صلّى الله عليه وسلّم من أحسن عباد الله شفتين وألطفهم ختم فم. وكان صلّى الله عليه وسلّم عريض الصّدر لا يعدو لحم بعض بدنه بعضا؛ كالمراة في استوائها، وكالقمر في بياضه. وكان له صلّى الله عليه وسلّم ثلاث عكن يغطّي الإزار منها واحدة. وعن أمّ هانىء رضي الله تعالى عنها قالت: ما رأيت بطن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا ذكرت القراطيس المثنيّة بعضها على بعض. وعن محرّش الكعبيّ رضي الله تعالى عنه قال: اعتمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الجعرانة ليلا فنظرت إلى ظهره كأنّه سبيكة فضّة. وفي «المواهب» : عن مقاتل بن حيّان: قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السّلام: «اسمع وأطع، يا ابن الطّاهرة البكر البتول، إنّي خلقتك من غير فحل فجعلتك اية للعالمين، فإيّاي فاعبد، وعليّ

فتوكّل، فسّر لأهل سوران «1» إنّي أنا الله الحيّ القيّوم الّذي لا أزول، صدّقوا النّبيّ الأمّيّ صاحب الجمل والمدرعة، والعمامة والنّعلين والهراوة، الجعد الرأس، الصّلت الجبين، المقرون الحاجبين، الأهدب الأشفار، الأدعج العينين، الأقنى الأنف، الواضح الخدّين، الكثّ اللّحية، عرقه في وجهه كاللّؤلؤ، وريح المسك ينفح منه، كأنّ عنقه إبريق فضّة» . قوله: (صلت الجبين) : واضحه. و (أدعج العينين) : شديد سواد العين. و (أقنى الأنف) : طويله مع دقّة أرنبته، في وسطه بعض ارتفاع. قال ابن الأثير: والصّحيح في صفة حواجبه صلّى الله عليه وسلّم أنّها سوابغ من غير قرن. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نظر وجهه في المراة.. قال: «الحمد لله الّذي سوّى خلقي فعدّله، وكرّم صورة وجهي فحسّنها، وجعلني من المسلمين» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا نظر في المراة.. قال: «الحمد لله الّذي حسّن خلقي وخلقي، وزان منّي ما شان من غيري» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أنا أشبه النّاس بادم صلّى الله عليه

_ (1) بالسريانية: بلّغ من بين يديك.

وسلّم، وكان أبي إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم أشبه النّاس بي خلقا وخلقا» . وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «عرض عليّ الأنبياء، فإذا موسى عليه السّلام ضرب من الرّجال كأنّه من رجال شنوءة. ورأيت عيسى ابن مريم [عليه السّلام] ، فإذا أقرب من رأيت به شبها عروة بن مسعود. ورأيت إبراهيم عليه السّلام، فإذا أقرب من رأيت به شبها صاحبكم؛ يعني نفسه. ورأيت جبريل عليه السّلام، فإذا أقرب من رأيت به شبها دحية» . ومعنى (ضرب) : نوع. و (شنوءة) : قبيلة من اليمن رجالها متوسّطون. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واسع الظّهر، ما بين كتفيه خاتم النّبوّة، وهو ممّا يلي منكبه الأيمن، فيه شامة سوداء تضرب إلى الصّفرة، حولها شعرات متواليات كأنّها من عرف فرس. وكان خاتمه صلّى الله عليه وسلّم غدّة حمراء مثل بيضة الحمامة. وعن بريدة بن الحصيب رضي الله تعالى عنه قال: جاء سلمان الفارسيّ رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قدم المدينة بمائدة عليها رطب، فوضعت بين يدي رسول الله صلّى الله عليه

وسلّم؛ فقال: «يا سلمان.. ما هذا؟» . فقال: صدقة عليك وعلى أصحابك. فقال: «ارفعها؛ فإنّا لا نأكل الصّدقة» . قال: فرفعها. فجاء الغد بمثله فوضعه بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال: «ما هذا يا سلمان؟» . فقال: هديّة لك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «أبسطوا» «1» . ثمّ نظر إلى الخاتم على ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فامن به. وكان لليهود «2» ، فاشتراه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكذا وكذا درهما على أن يغرس لهم نخلا فيعمل سلمان فيه حتّى يطعم، فغرس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النّخيل إلّا نخلة واحدة غرسها عمر، فحملت النّخل من عامها، ولم تحمل النّخلة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما شأن هذه النّخلة؟» . فقال عمر: يا رسول الله؛ أنا غرستها، فنزعها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فغرسها، فحملت من عامها.

_ (1) وفي رواية: انشطوا، أي: ميلوا للأكل معي، وفي أخرى: انشقّوا، أي: انفرجوا ليتسع المجلس. (2) يعني: أن سيدنا سلمان رضي الله تعالى عنه كان رقيقا لليهود.

الفصل الثاني في صفة بصره صلى الله عليه وسلم واكتحاله

الفصل الثّاني في صفة بصره صلّى الله عليه وسلّم واكتحاله كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرى باللّيل في الظّلمة كما يرى بالنّهار في الضّوء. وكان صلّى الله عليه وسلّم يرى من خلفه من الصّفوف كما يرى من بين يديه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يرى في الثّريّا «1» أحد عشر نجما. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يقعد في بيت مظلم حتّى يضاء له بالسّراج. وكان صلّى الله عليه وسلّم يعجبه النّظر إلى الخضرة والماء الجاري. وكان صلّى الله عليه وسلّم يعجبه النّظر إلى الأترجّ. وكان يعجبه النّظر إلى الحمام الأحمر «2» .

_ (1) الثريا- مصغّر ثروة-: منزل من منازل القمر فيه نجوم مجتمعة جعلت علامة، وحكي: أن الثريا اثنا عشر نجما لم يحقّق الناس منها غير ستة أو سبعة، ولم ير جميعها غير النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لقوة جعلها الله تعالى في بصره. (2) الحمام: التفّاح، وهو من باب الاستعارة، ولم يقل أحد من الشراح إن المراد به-

وأمّا اكتحال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقد كان صلّى الله عليه وسلّم إذا اكتحل.. جعل في عين اثنتين وواحدة بينهما؛ أي: جعل في كلّ عين مرودين، وواحد يقسم بينهما، فالمجموع وتر، وهو خمسة مراود. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اكتحل.. اكتحل وترا، وإذا استجمر «1» .. استجمر وترا. وكان له صلّى الله عليه وسلّم مكحلة يكتحل منها كلّ ليلة، ثلاثة في هذه، وثلاثة في هذه. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يفارقه في الحضر، ولا في السفر خمس: المراة، والمكحلة، والمشط، والسّواك، والمدرى. و (المدرى) : شيء يعمل من حديد أو خشب، على شكل سنّ من أسنان المشط وأطول منه، يسرّح به الشّعر المتلبّد، ويستعمله من لا مشط له. وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «اكتحلوا بالإثمد، فإنّه يجلو البصر، وينبت الشّعر» . قال الباجوريّ: المخاطب بذلك الأصحّاء، أمّا العين المريضة فقد

_ - الطير المعروف. فلينتبه. (1) أي: تبخر بنحو عود، وسمي التبحّر (استجمارا) ؛ لأن نحو العود يوضع على الجمر.

يضرّها الإثمد؛ وهو: حجر الكحل المعدنيّ المعروف، ومعدنه بالمشرق، وهو أسود يضرب إلى حمرة. وقال بعد قوله (يجلو البصر) : وهذا إذا اكتحل به من اعتاده، فإن اكتحل به من لم يعتده.. رمدت عينه.

الفصل الثالث في صفة شعره صلى الله عليه وسلم وشيبه، وخضابه، وما يتعلق بذلك

الفصل الثّالث في صفة شعره صلّى الله عليه وسلّم وشيبه، وخضابه، وما يتعلق بذلك كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل الشّعر حسنه، ليس بالسّبط ولا الجعد القطط «1» ، وكان إذا مشطه بالمشط.. يأتي كأنّه حبك الرّمل، وربّما جعله غدائر أربعا؛ يخرج كلّ أذن من بين غديرتين، وربّما جعل شعره على أذنيه؛ فتبدو سوالفه تتلألأ «2» . ومعنى (الغدائر) : الذّوائب، واحدتها غديرة. و (الحبك) - جمع حباك- ككتاب، وهي: الطريقة في الرّمل ونحوه. وكان شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دون الجمّة، وفوق الوفرة. وكان شعره صلّى الله عليه وسلّم يضرب إلى منكبيه، وكثيرا ما يكون إلى شحمة أذنيه.

_ (1) أي: أن شعره صلّى الله عليه وسلّم ليس نهاية في الجعودة؛ وهو: تكسّره الشديد؛ كشعر الحبش والزنوج، ولا نهاية في السبوطة؛ وهو عدم تكسّره أصلا؛ كشعر الهنود والجاوة، بل وسطا بينهما، و «خير الأمور أوساطها» . (2) سوالفه- جمع سالفة- وهي: صفحة العنق. وتتلألأ: تضيء وتتنوّر من وبيص الطّيب.

وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حسن الجسم، بعيد ما بين المنكبين، له شعر إلى منكبيه، وفي وقت إلى شحمتي أذنيه، وفي وقت إلى نصف أذنيه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون رؤوسهم، وكان يحبّ موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثمّ فرق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأسه. ومعنى (سدل الشّعر) : إرساله. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حسن السّبلة. ومعنى (السّبلة) : مقدّم اللّحية، وما انحدر منها على الصّدر. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثّ اللّحية، وكان يعفي لحيته ويأخذ من شاربه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يأخذ من لحيته الشّريفة، من عرضها وطولها. وكان صلّى الله عليه وسلّم يكثر تسريح لحيته. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يفارقه سواكه ولا مشطه، وكان ينظر في المراة إذا سرّح لحيته. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اهتمّ.. أكثر من مسّ لحيته. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اغتمّ.. أخذ لحيته بيده ينظر فيها. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا توضّأ.. خلّل لحيته بالماء.

وكان صلّى الله عليه وسلّم يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته، ويكثر اتّخاذ القناع. و (القناع) : خرقة توضع على الرّأس حين استعمال الدّهن لتقي العمامة والثّياب. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا ادّهن.. صبّ في راحته اليسرى، فبدأ بحاجبيه، ثمّ عينيه، ثمّ رأسه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ التّيامن في طهوره إذا تطهّر، وفي ترجّله إذا ترجّل، وفي انتعاله إذا انتعل، وفي شأنه كلّه. وكانت يده اليسرى لخلائه، وما كان من أذى. وإذا نام واضطجع.. اضطجع على جنبه الأيمن مستقبل القبلة. وكان صلّى الله عليه وسلّم يجعل يمينه لأكله وشربه ووضوئه وثيابه وأخذه وعطائه، وشماله لما سوى ذلك. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كنت أرجّل «1» رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا حائض. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يترجّل غبّا؛ أي: حينا بعد حين. وكان شيبه صلّى الله عليه وسلّم في الرّأس واللّحية شيئا قليلا، نحو سبع عشرة شعرة. وقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله؛ قد شبت؟! قال:

_ (1) أي: أسرح وأحسّن.

«شيّبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعمّ يتسائلون، وإذا الشّمس كوّرت» ؛ لاشتمال هذه السّور على بيان أحوال القيامة ممّا يوجب خوفه على أمّته صلّى الله عليه وسلّم. وسئل أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: هل خضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: نعم. وعن عبد الله بن محمّد بن عقيل قال: رأيت شعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند أنس بن مالك مخضوبا. وفي «الصّحيحين» من طرق كثيرة: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يخضب، ولم يبلغ شيبه أوان الخضاب، وإنّما خضب من كان عنده شيء من شعره بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم ليكون أبقى له. وفي «الصّحيحين» أيضا و «سنن أبي داود» : عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصفّر لحيته بالورس والزّعفران. وعن قتادة قال: قلت لأنس بن مالك: هل خضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: لم يبلغ ذلك، إنّما كان شيئا في صدغيه، ولكن أبو بكر رضي الله تعالى عنه خضب بالحنّاء والكتم. و (الكتم) : نبت فيه حمرة. وقال النّوويّ: المختار أنّه صبغه في وقت، وتركه في معظم الأوقات، فأخبر كلّ بما رأى، وهو صادق. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمر بتغيير الشّعر مخالفة للأعاجم.

وكان صلّى الله عليه وسلّم يتنوّر «1» في كلّ شهر، ويقلّم أظفاره في كلّ خمسة عشر يوما. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اطّلى بالنّورة.. ولي عانته وفرجه بيده. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اطّلى.. بدأ بعورته فطلاها بالنّورة، وسائر جسده أهله. وكان صلّى الله عليه وسلّم يقلّم أظفاره ويقصّ شاربه يوم الجمعة، قبل أن يروح إلى الصّلاة. وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر بدفن الشّعر والأظفار. وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر بدفن سبعة أشياء من الإنسان: الشّعر، والظّفر، والدّم، والحيضة «2» ، والسّنّ، والعلقة، والمشيمة. وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والحلّاق يحلقه، وأطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلّا في يد رجل.

_ (1) أي: يستعمل النّورة لإزالة الشعر، وهي من أملاح الكالسيوم والباريون. (2) خرقة الحيض.

الفصل الرابع في صفة عرقه صلى الله عليه وسلم ورائحته الطبيعية

الفصل الرّابع في صفة عرقه صلّى الله عليه وسلّم ورائحته الطبيعية روى مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه أنّه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثير العرق. وكان عرقه صلّى الله عليه وسلّم في وجهه كاللّؤلؤ، وأطيب من المسك الأذفر «1» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي.. ثقل لذلك، وتحدّر جبينه عرقا كأنّه جمان «2» ، وإن كان في البرد. وكان صلّى الله عليه وسلّم يأتي أمّ سليم فيقيل عندها، فتبسط له نطعا «3» فيقيل عليه، وكان كثير العرق، فكانت تجمع عرقه فتجعله في الطّيب، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يا أمّ سليم؛ ما هذا؟» . قالت: عرقك نجعله في طيبنا، وهو من أطيب الطّيب.

_ (1) الأذفر: شديد الرائحة. (2) أي: لؤلؤ. (3) النطع: - بفتح النون وكسرها مع فتح الطاء وسكونها، أربع لغات- وهو: بساط من أديم معروف.

وفي رواية قالت: يا رسول الله؛ نرجو بركته لصبياننا. قال: «أصبت» . وكان كفّه صلّى الله عليه وسلّم ألين من الحرير، وكانت رائحته كرائحة كفّ العطّار، مسّها صلّى الله عليه وسلّم بطيب أم لم يمسّها، وكان يصافح الرّجل فيظلّ يومه يجد ريحها، ويضع يده على رأس الصّبيّ فيعرف من بين الصّبيان بريحها على رأسه. وقال أنس: ما مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنهما: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسح خدّه، قال: فوجدت ليده بردا وريحا؛ كأنّما أخرجها من جؤنة «1» عطّار. وكان صلّى الله عليه وسلّم يعرف منه ريح الطّيب إذا أقبل. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يسلك طريقا فيتبعه أحد.. إلّا عرف أنّه قد سلكه من طيب عرفه «2» . وذكر إسحاق بن راهواه: أنّ تلك كانت رائحته بلا طيب صلّى الله عليه وسلّم. وعن أمّ عاصم امرأة عتبة بن فرقد السّلميّ قالت: كنّا عند عتبة أربع

_ (1) الجؤنة: شبه صندوق صغير مغشّى بجلد، يضع العطار فيها عطره. (2) العرف: رائحة الطّيب.

نسوة، فما منّا امرأة إلّا وهي تجتهد في الطّيب؛ لتكون أطيب من صاحبتها، وما يمسّ عتبة الطّيب إلّا أن يمسّ دهنا يمسح به لحيته، ولهو أطيب ريحا منّا، وكان إذا خرج إلى النّاس.. قالوا: ما شممنا ريحا أطيب من ريح عتبة، فقلت له يوما: إنّا لنجتهد في الطّيب، ولأنت أطيب ريحا منّا! فممّ ذلك؟! فقال: أخذني الشّرى «1» على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأتيته، فشكوت ذلك إليه، فأمرني أن أتجرّد، فتجرّدت عن ثوبي، وقعدت بين يديه، وألقيت ثوبي على فرجي، فنفث في يده، ثمّ مسح ظهري وبطني بيده، فعبق بي هذا الطّيب من يومئذ. رواه الطّبرانيّ في «معجمه الصّغير» . وروى أبو يعلى والطّبرانيّ قصّة الّذي استعان بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على تجهيز ابنته، فلم يكن عنده شيء، فاستدعاه بقارورة فسلت «2» له فيها من عرقه، وقال: «مرها فلتطّيّب به» ، فكانت إذا تطيّبات به شمّ أهل المدينة ذلك الطّيب، فسمّوا «بيت المطيّبين» .

_ (1) الشّرى: بثور صغار حمر حكّاكة مكربة. (2) أي: مسح بأصبعه.

الفصل الخامس في صفة طيبه صلى الله عليه وسلم وتطيبه

الفصل الخامس في صفة طيبه صلّى الله عليه وسلّم وتطيّبه عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم سكّة يتطيّب منها. ومعنى (السّكّة) : طيب مجموع من أخلاط، ويحتمل أن يكون وعاء. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأخذ المسك فيمسح به رأسه ولحيته. وكان صلّى الله عليه وسلّم يضمّخ رأسه بالمسك. وكان أنس لا يردّ الطّيب؛ وقال: إنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان لا يردّ الطّيب. وعن أبي عثمان النّهديّ رضي الله تعالى عنه؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أعطي أحدكم الرّيحان.. فلا يردّه؛ فإنّه خرج من الجنّة» . وعن أنس رضي الله عنه: كان أحبّ الرّياحين إليه صلّى الله عليه وسلّم الفاغية.

و (الفاغية) : زهر الحنّاء. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعجبه الرّيح الطّيّبة. وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ الطّيب والرّائحة الحسنة، ويستعملهما كثيرا، ويحضّ عليهما، ويقول: «حبّب إليّ من دنياكم: النّساء، والطّيب، وجعلت قرّة عيني في الصّلاة» . ورواية: «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث» .. لا أصل لها، ففي «المواهب» : قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: إنّ لفظ «ثلاث» لم يقع في شيء من طرقه، وزيادته تفسد المعنى، وكذلك قاله الوليّ العراقيّ في «أماليه» ، وعبارته: (ليست هذه اللّفظة: وهي (ثلاث) في شيء من كتب الحديث وهي مفسدة للمعنى؛ فإنّ الصّلاة ليست من أمور الدّنيا، وكذا صرّح به الزّركشيّ وغيره، كما حكاه شيخنا- يعني الحافظ السّخاويّ في «المقاصد الحسنة» - وأقرّه) اهـ وأنكره أيضا ابن القيّم. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبّ الطّيب ويكره الرّائحة الرّديئة.

الفصل السادس في صفة صوته صلى الله عليه وسلم

الفصل السادس في صفة صوته صلّى الله عليه وسلّم عن أنس رضي الله تعالى عنه: ما بعث الله نبيّا إلّا حسن الوجه، حسن الصّوت، وكان نبيّكم أحسنهم وجها، وأحسنهم صوتا. وكان صوت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبلغ حيث لا يبلغه صوت غيره. فعن البراء قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى أسمع العواتق «1» في خدورهنّ. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: جلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الجمعة على المنبر، فقال للنّاس: «اجلسوا» ، فسمعه عبد الله بن رواحة وهو في بني غنم، فجلس في مكانه. وقال عبد الرّحمن بن معاذ التّيميّ رضي الله تعالى عنه: خطبنا

_ (1) جمع عاتق؛ وهي: الشابة أول ما تدرك، وقيل: التي لم تبن من والديها، ولم تتزوج، وقد أدركت وشبّت. وخصّهنّ بالذكر لبعدهنّ واحتجابهنّ في البيوت، فسماعهنّ اية علوّ صوته زيادة على غيره.

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمنى، ففتح الله أسماعنا، حتّى إن كنّا لنسمع ما يقول ونحن في منازلنا. وعن أمّ هانىء رضي الله تعالى عنها قالت: كنّا نسمع قراءة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في جوف اللّيل عند الكعبة، وأنا على عريشي. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب.. اشتدّ غضبه وعلا صوته، كأنّه منذر جيش يقول: صبّحكم ومسّاكم.

الفصل السابع في صفة غضبه صلى الله عليه وسلم وسروره

الفصل السّابع في صفة غضبه صلّى الله عليه وسلّم وسروره كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا غضب.. يرى رضاه وغضبه في وجهه لصفاء بشرته. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا غضب.. احمرّت وجنتاه. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا غضب وهو قائم.. جلس، وإذا غضب وهو جالس.. اضطجع، فيذهب غضبه. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا غضب.. لم يجترئ عليه أحد إلّا عليّ. وكان صلّى الله عليه وسلّم أبعد الناس غضبا، وأسرعهم رضا. وكان صلّى الله عليه وسلّم يغضب لربّه عزّ وجلّ، ولا يغضب لنفسه. وكان ينفّذ الحقّ وإن عاد ذلك بالضّرر عليه وعلى أصحابه. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا كره شيئا.. عرف ذلك في وجهه. وأمّا سرور رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:

فقد كان صلّى الله عليه وسلّم إذا سرّ.. استنار وجهه كأنّه القمر. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سرّ.. فكأنّ وجهه المراة، وكأنّ الجدر يرى شخصها فيه.

الفصل الثامن في صفة ضحكه صلى الله عليه وسلم وبكائه وعطاسه

الفصل الثّامن في صفة ضحكه صلّى الله عليه وسلّم وبكائه وعطاسه [ضحك رسول الله ص] كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا افترّ «1» ضاحكا.. افترّ عن مثل سنا البرق إذا تلألأ، وعن مثل حبّ الغمام. وكان صلّى الله عليه وسلّم جلّ ضحكه التّبسّم. وعن عبد الله بن الحارث رضي الله تعالى عنه قال: ما رأيت أحدا أكثر تبسّما من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعن عائشة رضي الله [تعالى] عنها أنّها قالت: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قطّ مستجمعا ضاحكا حتّى أرى منه لهواته «2» . وعن عبد الله بن الحارث أيضا قال: ما ضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا تبسّما.

_ (1) افترّ: أبدى أسنانه حالة كونه ضاحكا. (2) جمع لهاة؛ وهي: اللّحمة المشرفة على الحلق. والمعنى: ما رأيته مستجمعا من جهة الضحك، أي: مطمئنا قاصدا للضحك الذي يغلب وقوعه للناس، بحيث يضحك ضحكا تاما، مقبلا بكليته على الضحك، إنما كان يبتسم، والتبسم أقل الضحك وأحسنه.

وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يحدّث حديثا إلّا تبسّم. وكان ضحك أصحابه صلّى الله عليه وسلّم عنده التبسّم من غير صوت، اقتداء به، وتوقيرا له، وكانوا إذا جلسوا عنده.. كأنّما على رؤوسهم الطّير. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا جرى به الضّحك.. وضع يده على فيه «1» . وكان صلّى الله عليه وسلّم من أضحك النّاس، وأطيبهم نفسا. وورد في أحاديث أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ضحك حتّى بدت نواجذه- أي: أضراسه- وإن كان الغالب من أحواله صلّى الله عليه وسلّم التبسّم فعن أبي ذرّ رضي الله [تعالى] عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّي لأعلم أوّل رجل يدخل الجنّة، واخر رجل يخرج من النّار، يؤتى بالرّجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، ويخبأ عنه كبارها، فيقال له: عملت يوم كذا.. كذا وكذا، وهو مقرّ لا ينكر، وهو مشفق من كبارها، فيقال: أعطوه مكان كلّ سيّئة عملها حسنة، فيقول: إنّ لي ذنوبا لا أراها ههنا» . قال أبو ذرّ: فلقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضحك حتّى بدت نواجذه.

_ (1) حتى لا يبدو شيء من باطن فمه، ولئلا يقهقه، وهذا كان نادرا.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّي لأعرف اخر أهل النّار خروجا، رجل يخرج منها زحفا، فيقال له: انطلق فادخل الجنّة. قال: فيذهب ليدخل فيجد الناس قد أخذوا المنازل، فيرجع فيقول: ربّ؛ قد أخذ النّاس المنازل، فيقال له: أتذكر الزّمان الّذي كنت فيه؟ فيقول: نعم، فيقال له: تمنّ. قال: فيتمنّى، فيقال له: فإنّ لك الّذي تمنّيته وعشرة أضعاف الدّنيا. قال: فيقول: أتسخر بي وأنت الملك» . قال: فلقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضحك حتّى بدت نواجذه. وعن عامر بن سعد بن أبي وقّاص قال: قال سعد رضي الله تعالى عنه: لقد رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ضحك يوم الخندق حتّى بدت نواجذه. قال: قلت: كيف كان ضحكه؟ قال: كان رجل معه ترس، وكان سعد راميا، وكان الرّجل يقول كذا وكذا بالتّرس يغطّي جبهته «1» ، فنزع له سعد بسهم، فلمّا رفع رأسه..

_ (1) أي: يفعل كذا وكذا بالترس، أي: يشير به يمينا وشمالا، والمراد بالقول هنا الفعل.

رماه فلم يخطئ هذه منه- يعني: جبهته- وانقلب الرّجل وشال برجله «1» ، فضحك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتّى بدت نواجذه. قال: قلت: من أيّ شيء ضحك «2» ؟ قال: من فعله بالرّجل «3» . وعن عليّ بن ربيعة قال: شهدت عليّا رضي الله تعالى عنه أتي بدابّة ليركبها، فلمّا وضع رجله في الرّكاب.. قال: باسم الله. فلمّا استوى على ظهرها.. قال: الحمد لله، ثمّ قال: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ [الزخرف: 13- 14] . ثمّ قال: الحمد لله (ثلاثا) ، والله أكبر (ثلاثا) ، سبحانك إنّي ظلمات نفسي فاغفرلي؛ فإنّه لا يغفر الذّنوب إلّا أنت. ثمّ ضحك. فقلت: من أيّ شيء ضحكت يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صنع كما صنعت ثمّ ضحك. فقلت: من أيّ شيء ضحكت يا رسول الله؟

_ (1) أي: صار أعلاه أسفله، وسقط على استه. وشال برجله: رفعها، والباء هنا للتعدية أو زائدة. (2) أي: من أجل أي سبب ضحك النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ هل من رمي سعد للرجل وإصابته؟ أو من رفعه لرجله وافتضاحه بكشف عورته؟ ولأجل هذا الاحتمال استفسر الراوي- وهو عامر- سعدا عن سبب ضحكه صلّى الله عليه وسلّم. (3) أي: ضحك صلّى الله عليه وسلّم من أجل رميه الرجل وإصابته؛ لا من رفعه لرجله وافتضاحه بكشف عورته، لأنه لا يليق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا ينبغي أن يضحك لهذا؛ بل لذاك.

بكاء رسول الله ص

قال: «إنّ ربّك ليعجب من عبده إذا قال: ربّ اغفر لي ذنوبي، يعلم أنّه لا يغفر الذّنوب أحد غيره» . [بكاء رسول الله ص] وأمّا بكاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فكان من جنس ضحكه، لم يكن بشهيق ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن تدمع عيناه حتّى تهملان «1» ، ويسمع لصدره أزيز، يبكي: رحمة لميّت، و: خوفا على أمّته وشفقة، و: من خشية الله تعالى، و: عند سماع القران، و: أحيانا في صلاة اللّيل. فعن عبد الله بن الشّخّير رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلّي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل «2» من البكاء. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقرأ عليّ» ، فقلت: يا رسول الله؛ أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: «إنّي أحبّ أن أسمعه من غيري» . فقرأت سورة النّساء حتّى بلغت: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41] . قال: فرأيت عيني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تهملان. وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: أخذ رسول الله صلّى الله

_ (1) تسيل دمعها. (2) المرجل: قدر من النحاس، وقيل: كل قدر يطبخ فيه، وسمي بذلك لأنه إذا نصب فكأنه أقيم على رجلين.

عليه وسلّم ابنة له صغيرة «1» تقضي «2» ، فاحتضنها فوضعها بين يديه، فماتت وهي بين يديه «3» وصاحت أمّ أيمن، فقال: - يعني: النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم-: «أتبكين عند رسول الله؟!» . أي: بكاء محظورا مقترنا بالصّياح دالّا على الجزع. فقالت: ألست أراك تبكي؟ قال: «إنّي لست أبكي، إنّما هي رحمة، إنّ المؤمن بكلّ خير على كلّ حال، إنّ نفسه تنزع من بين جنبيه؛ وهو يحمد الله عزّ وجلّ» . وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: شهدنا ابنة «4» لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورسول الله جالس على القبر، فرأيت عينيه تدمعان. وعن عائشة رضي الله عنها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبّل عثمان بن مظعون، وهو ميّت، وهو يبكي. هو أخوه من الرّضاعة «5» . وكانت عيناه صلّى الله عليه وسلّم كثيرة الدّموع والهملان. وكسفت الشّمس مرّة، فجعل صلّى الله عليه وسلّم يبكي في الصّلاة

_ (1) وهي: بنت بنته زينب، واسمها: أمامة. (2) تشرف على الموت. (3) أشرفت على الموت، ولم تمت حينئذ، بل عاشت بعده صلّى الله عليه وسلّم حتى تزوجها علي بن أبي طالب، ومات- رضي الله عنه- عنها. (4) وهي: أم كلثوم رضي الله عنها. (5) وهذه الجملة من قول المصنف رحمه الله.

عطاس رسول الله ص

وينفخ، ويقول: «يا ربّ؛ ألم تعدني ألاتعذّبهم وأنا فيهم، وهم يستغفرونك؟ ونحن نستغفرك يا ربّ» . [عطاس رسول الله ص] وأمّا عطاس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقد كان صلّى الله عليه وسلّم إذا عطس.. وضع يده أو ثوبه على فيه، وخفض بها صوته. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا عطس.. حمد الله، فيقال له: يرحمك الله، فيقول: «يهداكم الله ويصلح بالكم» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يكره العطسة الشّديدة في المسجد. وكان صلّى الله عليه وسلّم يكره رفع الصّوت بالعطاس. أمّا التّثاؤب: فقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكرهه من غيره، وقد حفظه الله تعالى منه، وما تثاءب نبيّ قطّ.

الفصل التاسع في صفة كلامه صلى الله عليه وسلم وسكوته

الفصل التّاسع في صفة كلامه صلّى الله عليه وسلّم وسكوته عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسرد كسردكم هذا، ولكن كان يتكلّم بكلام بيّن فصل، يحفظه من جلس إليه. وكان في كلامه صلّى الله عليه وسلّم ترتيل. وكان كلامه صلّى الله عليه وسلّم يحفظه كلّ من سمعه. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا تكلّم بكلمة.. أعادها ثلاثا حتّى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلّم عليهم.. سلّم عليهم ثلاثا. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس يتحدّث.. يكثر أن يرفع طرفه إلى السّماء. وكان صلّى الله عليه وسلّم يحدّث حديثا، لو عدّه العادّ.. لأحصاه. وكان صلّى الله عليه وسلّم طويل الصّمت. وكان صلّى الله عليه وسلّم كثير السّكوت، لا يتكلّم في غير حاجة، ويعرض عمّن تكلّم بغير جميل. وكان صلّى الله عليه وسلّم يخزن لسانه إلّا فيما يعنيه.

وكان صلّى الله عليه وسلّم نزر الكلام، سمح المقالة، يعيد الكلام مرّتين ليفهم. وكان صلّى الله عليه وسلّم كلامه كخرزات النّظم. وكان يعرض عن كلّ كلام قبيح، ويكني عن الأمور المستقبحة في العرف إذا اضطرّه الكلام إلى ذكرها. وكان صلّى الله عليه وسلّم يذكر الله تعالى بين كلّ خطوتين.

الفصل العاشر في صفة قوته صلى الله عليه وسلم

الفصل العاشر في صفة قوّته صلّى الله عليه وسلّم كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شديد البطش. وعن ابن إسحاق وغيره: أنّه كان بمكّة رجل شديد القوّة يحسن الصّراع، وكان النّاس يأتونه من البلاد للمصارعة فيصرعهم، فبينما هو ذات يوم في شعب من شعاب مكّة إذ لقيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: «يا ركانة؛ ألا تتّقي الله وتقبل ما أدعوك إليه؟» . فقال له: يا محمّد؛ هل من شاهد يدلّ على صدقك؟ فقال: «أرأيتك إن صرعتك، أتؤمن بالله ورسوله؟» . قال: نعم يا محمّد. فقال له: «تهيّأ للمصارعة» . فقال: تهيّأت. فدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذه، ثمّ صرعه. قال: فتعجّب ركانة من ذلك، ثمّ سأله الإقالة والعود، ففعل به ثانيا وثالثا، فوقف ركانة متعجّبا، وقال: إنّ شأنك لعجيب. وقد صارع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم جماعة غير ركانة، منهم أبو

الأسود الجمحيّ، وكان شديدا، بلغ من شدّته أنّه كان يقف على جلد البقرة، ويتجاذب أطرافه عشرة لينزعوه من تحت قدميه، فيتفرّى الجلد «1» ، ولم يتزحزح عنه، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المصارعة، وقال: إن صرعتني.. امنت بك، فصرعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يؤمن. وأمّا قوّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الجماع: فقد قال أنس رضي الله تعالى عنه: إنّه كان صلّى الله عليه وسلّم يدور على نسائه في السّاعة الواحدة من اللّيل والنّهار؛ وهنّ إحدى عشرة. وأخرج ابن منيع: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يطوف على تسع نسوة في ضحوة. وعن صفوان بن سليم مرفوعا: «أتاني جبريل بقدر فأكلت منها، فأعطيت قوّة أربعين رجلا في الجماع» . وعن طاووس ومجاهد: أعطي صلّى الله عليه وسلّم قوّة أربعين رجلا في الجماع. وفي رواية عن مجاهد: قوّة بضع وأربعين رجلا من أهل الجنّة. وعن زيد بن أرقم رفعه: «إنّ الرّجل من أهل الجنّة ليعطى قوّة مئة في الأكل والشّرب والجماع والشّهوة» .

_ (1) يتفرّى: ينشقّ ويتقطّع.

الباب الثّالث في صفة لباس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفراشه وسلاحه وفيه ستّة فصول

الباب الثالث في صفة لباس رسول الله صلى الله عليه وسلم وفراشه وسلاحه

الفصل الأوّل في صفة لباسه صلّى الله عليه وسلّم من قميص وإزار ورداء وقلنسوة وعمامة ونحوها قال القاضي عياض رحمه الله تعالى في «الشّفا» : (انظر سيرة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم وخلقه في المال.. تجده قد أوتي خزائن الأرض ومفاتيح البلاد، وأحلّت له الغنائم؛ ولم تحلّ لنبيّ قبله، وفتح عليه في حياته صلّى الله عليه وسلّم بلاد الحجاز واليمن وجميع جزيرة العرب وما دانى ذلك من الشّام والعراق، وجلب إليه من أخماسها وجزيتها وصدقاتها ما لا يجبى للملوك إلّا بعضه، وهادنه جماعة من ملوك الأقاليم فما استأثر بشيء منه، ولا أمسك منه درهما، بل صرفه في مصارفه، وأغنى به غيره، وقوّى به المسلمين، وقال: «ما يسرّني أنّ لي أحدا ذهبا يبيت عندي منه دينار، إلّا دينارا أرصده لدين» . وأتته دنانير مرّة، فقسمها، وبقيت منها بقيّة، فدفعها لبعض نسائه، فلم يأخذه نوم حتّى قام وقسمها، وقال: «الان استرحت» . ومات ودرعه مرهونة في نفقة عياله، واقتصر من نفقته وملبسه

ومسكنه على ما تدعوه إليه ضرورته، وزهد فيما سواه. فكان يلبس ما وجده، فيلبس في الغالب الشّملة، والكساء الخشن، والبرد الغليظ، ويقسم على من حضره أقبية «1» الدّيباج المخوّصة «2» بالذّهب، ويرفع لمن لم يحضر؛ إذ المباهاة في الملابس والتّزيّن بها.. ليست من خصال الشّرف والجلالة، وهي من سمات النّساء. والمحمود منها نقاوة الثّوب، والتّوسّط في جنسه، وكونه لبس مثله.. غير مسقط لمروءة جنسه. وفي «المواهب» : إنّ الجمال في الصّورة واللّباس والهيئة ثلاثة أنواع: منه ما يحمد، ومنه ما يذمّ، ومنه ما لا يتعلّق به مدح ولا ذمّ: فالمحمود منه: ما كان لله، وأعان على طاعة الله تعالى، وتنفيذ أوامره، والاستجابة له؛ كما كان صلّى الله عليه وسلّم يتجمّل للوفود، وهذا نظير لباس الة الحرب للقتال، ولباس الحرير في الحرب، والخيلاء فيه؛ فإنّ ذلك محمود إذا تضمّن إعلاء كلمة الله تعالى، ونصر دينه، وغيظ عدوّه. والمذموم منه: ما كان للدّنيا، والرّئاسة، والفخر والخيلاء، وأن يكون هو غاية العبد وأقصى مطلبه. وأمّا ما لا يحمد ولا يذمّ: فهو ما خلا عن هذين القصدين، وتجرّد عن الوصفين، وقد كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يضيّق بالاقتصار

_ (1) الأقبية- جمع قباء- وهو: المخيط من اللّباس. (2) المخوصة: المزيّنة.

على صنف من اللّباس بعينه، ولا يطلب النّفيس الغالي، بل يستعمل ما تيسّر. ثمّ قال «1» : روى أبو نعيم في «الحلية» عن ابن عمر مرفوعا: «إنّ من كرامة المؤمن على الله عزّ وجلّ.. نقاء ثوبه، ورضاه باليسير» . وله من حديث جابر: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم رأى رجلا وسخة ثيابه فقال: «أما وجد هذا شيئا ينقّي به ثيابه؟» . قال «2» : وكانت سيرته صلّى الله عليه وسلّم في ملبسه أتمّ وأنفع للبدن وأخفّ عليه؛ فإنّه لم تكن عمامته بالكبيرة الّتي يؤذي حملها ويضعفه ويجعله عرضة للافات، ولا بالصّغيرة الّتي تقصر عن وقاية الرّأس من الحرّ والبرد، وكذلك الأردية والأزر أخفّ على البدن من غيرها، ولم يكن صلّى الله عليه وسلّم يطوّل أكمامه ويوسّعها) اهـ وكان أحبّ الثّياب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبسه.. القميص. و (القميص) : اسم لما يلبس من المخيط الّذي له كمّان وجيب، يلبس تحت الثّياب، ولا يكون من صوف. كذا في «القاموس» . ولم يكن له صلّى الله عليه وسلّم سوى قميص واحد؛ فقد ورد عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت: ما رفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غداء لعشاء، ولا عشاء لغداء، ولا اتّخذ من شيء زوجين، ولا

_ (1) أي: القسطلاني في «المواهب» . (2) أيضا في «المواهب» .

قميصين ولا رداءين ولا إزارين، ولا زوجين من النّعال. وكان كمّ قميص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الرّسغ. و (الرّسغ) : مفصل ما بين الكفّ والسّاعد من الإنسان. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كمّه مع الأصابع. وكان قميصه صلّى الله عليه وسلّم فوق الكعبين، وكان كمّه مع الأصابع. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا لبس قميصا.. بدأ بميامنه. وعن قرّة بن إياس رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رهط من مزينة لنبايعه، وإنّ زرّ قميصه مطلق، قال: فأدخلت يدي في جيب قميصه، فمسست الخاتم «1» . وكان أحبّ الثّياب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحبرة- بوزن عنبة- برد يمانيّ محبّر؛ أي: مزيّن محسّن. وكان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بردان أخضران، فيهما خطوط خضر لا بحتا «2» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يعجبه الثّياب الخضر. وعن أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعليه حلّة حمراء كأنّي أنظر إلى بريق ساقيه. و (الحلّة) بالضّمّ: إزار ورداء، ولا تكون حلّة إلّا من ثوبين، أو

_ (1) أي: خاتم النبوة. (2) أي: لم يكن أخضر خالصا.

ثوب له بطانة. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكسو بناته خمر القزّ والإبريسم «1» . و (الخمر) - ك «كتب» ، جمع خمار- وهو: ما تغطّي به المرأة رأسها. وكان يتّبع الحرير من الثّياب.. فينزعه. وكان قيمة ثوبه صلّى الله عليه وسلّم عشرة دراهم. وعن قيلة بنت مخرمة رضي الله تعالى عنها قالت: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعليه أسمال «2» مليّتين. وقوله (مليّتين) - تصغير ملاءة- وهي: كلّ ثوب لم يضمّ بعضه إلى بعض بخيط، بل كلّه نسج واحد. وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خرج وهو يتوكّأ على أسامة رضي الله تعالى عنه، وعليه ثوب قطريّ قد توشّح به.. فصلّى بهم. و (قطريّ) : نسبة إلى القطر؛ وهو: نوع من البرود اليمانيّة تتّخذ من قطن، وفيه حمرة وأعلام مع خشونة.

_ (1) القزّ: هو ما يعمل منه الإبريسم، ولهذا قال بعضهم: القزّ والإبريسم مثل الحنطة والدقيق؛ فالإبريسم ما يؤخذ من القزّ كأخذ الدقيق من الحنطة. (2) الأسمال- جمع سمل- وهو: الثوب الخلق.

و (توشّح به) أي: وضعه فوق عاتقيه، أو خالف بين طرفيه وربطهما بعنقه. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات غداة وعليه مرط من شعر أسود. و (المرط) : كساء طويل واسع. وعن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لبس جبّة روميّة ضيّقة الكمّين. و (الجبّة) : ثوبان بينهما حشو، وقد تقال لما لا حشو له إذا كانت ظهارته «1» من صوف. وكان كمّه صلّى الله عليه وسلّم إلى الرّسغ، ولبس القباء «2» والفرجيّة، ولبس جبّة ضيّقة الكمّين في سفره. وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما: أنّها أخرجت جبّة طيالسة «3» كسروانيّة، لها لبنة ديباج، وفرجاها مكفوفان «4» بالدّيباج، قالت: هذه جبّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كانت عند عائشة رضي الله تعالى عنها، فلمّا قبضت.. قبضتها، وكان النّبيّ صلّى الله عليه

_ (1) ظهارته: ما يظهر للعين، بخلاف البطانة. (2) القباء: الثوب المشقوق من أمام؛ كالجبّة المعهودة. (3) طيالسة: نوع من الثياب لها علم. (4) وفي رواية: وفرجيها مكفوفين، وفي رواية: وفروجا مكفوفة. و (الفرج في الثوب) : الشق في أسفله من خلف وأمام.

وسلّم يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى نستشفي بها. ومعنى (اللّبنة) : رقعة في جيب القميص. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبس ما وجد؛ فمرّة شملة، ومرّة برد حبرة يمانيّة، ومرّة جبّة صوف، ما وجد من المباح لبس. و (الشّملة) : كساء صغير يؤتزر به. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: أخرجت إلينا عائشة رضي الله تعالى عنها كساء ملبّدا وإزارا غليظا؛ فقالت: قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذين. و (الكساء) : ما يستر أعلى البدن. و (الملبّد) : المرقّع. و (الإزار) : ما يستر أسفل البدن. و (غلظه) : خشونته. وكان له صلّى الله عليه وسلّم كساء ملبّد يلبسه ويقول: «إنّما أنا عبد، ألبس كما يلبس العبد» . وكان له صلّى الله عليه وسلّم كساء أسود، فوهبه، فقالت له أمّ سلمة: بأبي أنت وأمّي ما فعل ذلك الكساء الأسود؟ فقال: «كسوته» ، فقالت: ما رأيت شيئا قطّ أحسن من بياضك على سواده. وكان صلّى الله عليه وسلّم يتقنّع بردائه تارة ويتركه أخرى، وهو «1»

_ (1) أي: رداؤه صلّى الله عليه وسلّم.

الّذي يسمّى في العرف: الطّيلسان. وكان صلّى الله عليه وسلّم غالب ما يلبس هو وأصحابه ما نسج من القطن، وربّما لبسوا ما نسج من الصّوف والكتّان. ولبس صلّى الله عليه وسلّم الشّعر الأسود. ولبس مرّة بردة من الصّوف.. فوجد ريح الضّأن فطرحها. وكان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم سراويل، ولبس النّعل الّتي تسمّى: التّاسومة «1» . وكان له صلّى الله عليه وسلّم ملاءة مصبوغة بالزّعفران، تنقل معه إلى بيوت أزواجه، فترسلها من كان نائما عندها إلى صاحبة النّوبة، فترشّها بالماء، فتظهر رائحة الزّعفران، فينام معها فيها. وكانت له صلّى الله عليه وسلّم ملحفة مصبوغة بالزّعفران، وربّما صلّى بالنّاس فيها واحدها، وربّما لبس الكساء واحده وما عليه غيره. وكان صلّى الله عليه وسلّم ربّما صلّى باللّيل في الإزار، وارتدى ببعضه ممّا يلي هدبه، وألقى البقيّة على بعض نسائه، فيصلّي كذلك. وكانت ثيابه صلّى الله عليه وسلّم كلّها مشمّرة فوق الكعبين، وكان إزاره فوق ذلك إلى نصف السّاق، وكان قميصه مشدود الأزرار، وربّما حلّ الأزرار في الصّلاة وغيرها.

_ (1) التاسومة: ما له سير يستر بعض الأصابع مما يلي أصولها، وبعض ظهر القدم من تلك الجهة.

وعن عبيد بن خالد رضي الله تعالى عنه قال: بينا أنا أمشي بالمدينة إذا إنسان خلفي يقول: «ارفع إزارك فإنّه أتقى وأبقى» ، فإذا هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله؛ إنّما هي بردة ملحاء، قال: «أما لك فيّ أسوة؟!» ، فنظرت فإذا إزاره إلى نصف ساقيه. ومعنى (ملحاء) : سوداء فيها خطوط بيض يلبسها الأعراب، ليست من الثّياب الفاخرة. و (الأسوة) : القدوة. وعن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه قال: كان عثمان بن عفّان رضي الله تعالى عنه يأتزر إلى أنصاف ساقيه، وقال: هكذا كانت إزرة «1» صاحبي؛ يعني النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وعن حذيفة بن اليمان رضي الله [تعالى] عنهما قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعضلة ساقي فقال: «هذا موضع الإزار، فإن أبيت.. فأسفل، فإن أبيت.. فلا حقّ للإزار في الكعبين» . وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: راني النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أسبلت إزاري فقال: «يا ابن عمر؛ كلّ شيء لمس الأرض من الثّياب في النّار» . وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما أسفل من الكعبين من الإزار.. في النّار» ، وهو محمول

_ (1) الإزرة: اسم لهيئة الاتّزار.

على ما ورد من قيد الخيلاء، فهو الّذي ورد فيه الوعيد. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرخي إزاره من بين يديه، ويرفعه من ورائه. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا استجدّ ثوبا.. سمّاه باسمه؛ قميصا، أو عمامة، أو رداء، ثمّ يقول: «اللهمّ؛ لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك من خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شرّه وشرّ ما صنع له» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا لبس ثوبا جديدا.. حمد الله تعالى، وصلّى ركعتين، وكسا الخلق «1» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا استجدّ ثوبا.. لبسه يوم الجمعة. وكان له صلّى الله عليه وسلّم برد يلبسه في العيدين والجمعة. وكان صلّى الله عليه وسلّم يلبس بردة حمراء في كلّ عيد. وكان له صلّى الله عليه وسلّم برد حبرة يلبسه في كلّ عيد. ومرّ عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالسّوق فرأى حلّة من سندس.. فقال: يا رسول الله؛ لو اتّخذت هذه للعيد، فقال: «إنّما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة» . وكانت الصّحابة رضي الله تعالى عنهم يلبسون ذكورهم الصّغار يوم العيد أحسن ما يقدرون عليه من الحليّ، والمصبّغات من الثّياب. وكان له صلّى الله عليه وسلّم ثوبان لجمعته خاصّة سوى ثيابه في غير

_ (1) الخلق: الثوب البالي، والمعنى: أنه يتصدق به.

لطيفة:

الجمعة، وربّما لبس الإزار الواحد ليس عليه غيره؛ يعقد طرفيه بين كتفيه، وربّما أمّ به النّاس على الجنائز، وربّما صلّى في بيته في الإزار الواحد ملتحفا به مخالفا بين طرفيه، ويكون ذلك الإزار هو الّذي جامع فيه يومئذ. وكان إذا قدم عليه الوفد.. لبس أحسن ثيابه، وأمر علية أصحابه بذلك. وكان رداؤه صلّى الله عليه وسلّم طوله ستّة أذرع، في ثلاثة وشبر. وكان إزاره أربعة وشبرا، في عرض ذراعين وشبر. ولبس صلّى الله عليه وسلّم الأبراد الّتي فيها خطوط حمر. وكان ينهى أصحابه عن لبس الأحمر الخالص. وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بالبياض من الثّياب؛ ليلبسها أحياؤكم، وكفّنوا فيها موتاكم؛ فإنّها من خير ثيابكم» . وفي «المواهب» : عن عروة: أنّ طول رداء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أربعة أذرع، وعرضة ذراعان وشبر. وفيها: لطيفة: قيل: لمّا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يبدو منه إلّا طيب.. كان اية ذلك في بدنه الشّريف أنّه لا يتّسخ له ثوب. قيل: ولم يقمل ثوبه.

وقال ابن سبع في «الشّفا» ، والسّبتيّ في «أعذب الموارد وأطيب الموالد» : لم يكن القمل يؤذيه تعظيما له وتكريما صلّى الله عليه وسلّم. ثمّ قال: ونقل الفخر الرّازيّ: إنّ الذّباب لا يقع على ثيابه قطّ، وإنّه لا يمتصّ دمه البعوض. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبس قلنسوة بيضاء. و (القلنسوة) : غشاء مبطّن يستر الرّأس. وكان صلّى الله عليه وسلّم يلبس القلانس تحت العمائم وبغير العمائم، ويلبس العمائم بغير القلانس، وكان يلبس القلانس اليمانيّة؛ وهنّ البيض المضرّبة «1» ، ويلبس القلانس ذوات الاذان في الحرب. وكان ربّما نزع قلنسوته، فجعلها سترة بين يديه وهو يصلّي، وربّما لم تكن العمامة، فيشدّ العصابة على رأسه وعلى جبهته. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اعتمّ.. سدل عمامته بين كتفيه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يدير العمامة على رأسه ويغرزها من ورائه، ويرسل لها ذؤابة بين كتفيه. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اعتمّ.. سدل عمامته بين كتفيه، وفي أوقات كان يضمّها ويرشقها، وأوقات لا يرخيها جملة.

_ (1) المضربة: المحشوّة.

وكان صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما يلتحي بالعمامة من تحت الحنك كطريق المغاربة. وكانت له صلّى الله عليه وسلّم عمامة تسمّى (السّحاب) ، فوهبها لعليّ رضي الله تعالى عنه، فربّما طلع عليّ فيها فيقول صلّى الله عليه وسلّم: «أتاكم عليّ في السّحاب» . وعن عليّ رضي الله تعالى عنه قال: عمّمني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعمامة سدل طرفها على منكبي، وقال: «إنّ الله أمدّني يوم بدر ويوم حنين بملائكة معمّمين هذه العمّة» . وقال: «إنّ العمامة حاجز بين المسلمين والمشركين» . وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يولّي واليا حتّى يعمّمه، ويرخي لها عذبة من جانب الأيمن نحو الأذن. وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكّة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء. وقال ابن حجر المكّيّ: اعلم أنّه لم يتحرّر- كما قاله بعض الحفّاظ- في طول عمامته صلّى الله عليه وسلّم وعرضها شيء. وكان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرقة، إذا توضّأ.. تمسّح بها. وكان منديله صلّى الله عليه وسلّم باطن قدميه.

الفصل الثاني في صفة فراشه صلى الله عليه وسلم وما يناسبه

الفصل الثّاني في صفة فراشه صلّى الله عليه وسلّم وما يناسبه كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فراش من أدم، حشوه ليف، طوله ذراعان أو نحوهما، وعرضه ذراع وشبر أو نحوه. وكان متقلّلا من أمتعة الدّنيا كلّها، وقد أعطاه الله تعالى مفاتيح خزائن الأرض كلّها.. فأبى أن يأخذها، واختار الآخرة عليها. وسئلت عائشة رضي الله تعالى عنها: ما كان فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيتك؟ قالت: من أدم، حشوه ليف. و (الادم) - جمع أديم على غير القياس- وهو: الجلد المدبوغ، ويجمع على: أدم. وعنها رضي الله تعالى عنها قالت: دخلت عليّ امرأة من الأنصار، فرأت فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قطيفة مثنيّة، فبعثت إليّ بفراش حشوه الصّوف، فدخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ما هذا يا عائشة؟!» ، قلت: يا رسول الله؛ فلانة الأنصاريّة دخلت فرأت فراشك فبعثت إليّ بهذا، فقال: «ردّيه يا عائشة، فو الله لو شئت لأجرى الله تعالى معي جبال الذّهب والفضّة» .

و (القطيفة) : دثار له خمل «1» . وسئلت حفصة رضي الله تعالى عنها: ما كان فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيتك؟ قالت: مسحا نثنيه ثنيتين فينام عليه، فلمّا كان ذات ليلة.. قلت: لو ثنيته أربع ثنيات لكان أوطأ له، فثنيناه له بأربع ثنيات، فلمّا أصبح.. قال: «ما فرشتموا لي اللّيلة؟» . قالت: قلنا: هو فراشك، إلّا أنّا ثنيناه بأربع ثنيات، قلنا: هو أوطأ لك، قال: «ردّوه لحالته الأولى؛ فإنّه منعتني وطأته صلاتي اللّيلة» . و (المسح) : كساء خشن من صوف يعدّ للفراش. ومعنى (أوطأ) : ألين؛ من وطؤ الفراش فهو وطيء، كقرب فهو قريب. وكان له صلّى الله عليه وسلّم عباءة تفرش له حيثما انتقل، تثنى طاقين تحته. وكان صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما ينام على الحصير واحده، ليس تحته شيء غيره. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو في غرفة كأنّها بيت حمّام، وهو نائم على حصير قد أثّر بجنبه، فبكيت، فقال: «ما يبكيك يا عبد الله؟» ، قلت: يا رسول الله؛ كسرى وقيصر يطؤون على الخزّ والدّيباج والحرير؛ وأنت

_ (1) الخمل: الهدب.

نائم على هذا الحصير، قد أثّر بجنبك. فقال: «فلا تبك يا عبد الله، فإنّ لهم الدّنيا ولنا الآخرة» . وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: حدّثني عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو على حصير، قال: فجلست فإذا عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثّر في جنبه، وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصّاع، وإذا إهاب معلّق، فابتدرت عيناي، فقال: «ما يبكيك يا ابن الخطّاب؟» . فقلت: يا نبيّ الله؛ وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثّر في جنبيك، وهذه خزائنك لا أرى فيها إلّا ما أرى، وذاك كسرى وقيصر في الثّمار والأنهار، وأنت نبيّ الله وصفوته وهذه خزائنك؟! قال: «يا ابن الخطّاب؛ أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدّنيا؟! أولئك قوم عجّلت لهم طيّباتهم في الدّنيا، وهي وشيكة الانقطاع، وإنّا قوم أخّرت لنا طيّباتنا في اخرتنا» . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرير مرمّل بالبرديّ، وعليه كساء أسود، وقد حشوناه بالبرديّ، فدخل أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما عليه، فإذا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نائم عليه، فلمّا راهما.. استوى جالسا، فنظرا، فإذا أثر السّرير في جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالا: يا رسول الله؛ ما يؤذيك خشونة ما نرى من فراشك وسريرك؛ وهذا كسرى وقيصر على فرش الدّيباج والحرير؟! فقال عليه الصّلاة والسّلام:

«لا تقولا هذا؛ فإنّ فراش كسرى وقيصر في النّار، وإنّ فراشي وسريري هذا عاقبته إلى الجنّة» . وما عاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مضجعا قطّ، إن فرش له.. اضطجع، وإلّا.. اضطجع على الأرض. ومعنى (مرمّل) : منسوج. و (البرديّ) : نبات. وتغطّى صلّى الله عليه وسلّم باللّحاف، قال عليه الصّلاة والسّلام: «ما أتاني جبريل وأنا في لحاف امرأة منكنّ.. غير عائشة» . وكان وساده الّذي يتّكىء عليه من أدم، حشوه ليف. وعن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم متّكئا على وسادة على يساره. وكان صلّى الله عليه وسلّم يصلّي على الحصير. وكان صلّى الله عليه وسلّم يصلّي على بساط. وكان صلّى الله عليه وسلّم يستحبّ أن تكون له فروة مدبوغة يصلّي عليها.

الفصل الثالث في صفة خاتمه صلى الله عليه وسلم

الفصل الثّالث في صفة خاتمه صلّى الله عليه وسلّم كان خاتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ورق، وكان فصّه حبشيّا. و (الورق) : الفضّة. و (الفصّ) : ما يكتب عليه اسم صاحبه. و (الحبشيّ) : منسوب إلى الحبش، فإنّه كان من جزع؛ وهو: خرز فيه بياض وسواد، أو من عقيق، ومعدنهما بالحبشة. ولم يرد عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه لبس خاتما كلّه عقيقا. وكان خاتمه صلّى الله عليه وسلّم من فضّة فصّه منه. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم اتّخذ خاتما من فضّة، فكان يختم به ولا يلبسه. وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يلبس خاتمه في يمينه. والتّختّم في اليسار ليس مكروها، ولا خلاف الأولى، بل هو سنّة لوروده في أحاديث صحيحة، لكن التّختّم في اليمين أفضل؛ لأنّ أحاديثه أصحّ. قاله الباجوريّ.

وكان صلّى الله عليه وسلّم يتختّم في يساره. وكان صلّى الله عليه وسلّم يجعل فصّ خاتمه ممّا يلي كفّه. وكان نقش خاتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (محمّد) سطر، و (رسول) سطر، و (الله) سطر. وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: لمّا أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكتب إلى العجم.. قيل له: إنّ العجم لا يقبلون إلّا كتابا عليه خاتم. فاصطنع خاتما، فكأنّي أنظر إلى بياضه في كفّه. وعن أنس أيضا: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كتب إلى كسرى، وقيصر، والنّجاشيّ، فقيل له: إنّهم لا يقبلون كتابا إلّا بخاتم، فصاغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاتما حلقته فضّة، ونقش فيه: (محمّد رسول الله) . وكان صلّى الله عليه وسلّم يختم الكتب ويقول: «الخاتم على الكتاب خير من التّهمة» . وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: اتّخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاتما من ذهب، فكان يلبسه في يمينه، فاتّخذ النّاس خواتيم من ذهب، فطرحه، وقال: «لا ألبسه أبدا» ، فطرح النّاس خواتيمهم. وعن ابن عمر أيضا: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم اتّخذ خاتما من فضّة، وجعل فصّه ممّا يلي كفّه، ونقش فيه محمّد رسول الله، ونهى أن ينقش أحد عليه.

وهو الّذي سقط من معيقيب في بئر أريس. و (معيقيب) : هو من أهل بدر، وكان يلي خاتم المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، والخلفاء من بعده. وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: اتّخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاتما من ورق، فكان في يده، ثمّ كان في يد أبي بكر، وفي يد عمر، ثمّ كان في يد عثمان حتّى وقع في بئر أريس، نقشه: محمّد رسول الله. قال الباجوريّ: (وفي وقوعه إشارة إلى أنّ أمر الخلافة كان منوطا به، فقد تواصلت الفتن، وتفرّقت الكلمة، وحصل الهرج «1» ، ولذلك قال بعضهم: كان في خاتمه صلّى الله عليه وسلّم ما في خاتم سليمان من الأسرار؛ لأنّ خاتم سليمان لمّا فقد.. ذهب ملكه، وخاتمه صلّى الله عليه وسلّم لمّا فقد من عثمان.. انتقض عليه الأمر، وحصلت الفتن الّتي أفضت إلى قتله، واتّصلت إلى اخر الزّمان) اهـ. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أشفق من الحاجة ينساها.. ربط في خنصره، أو في خاتمه الخيط. وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا دخل الخلاء.. نزع خاتمه.

_ (1) الهرج: القتل بين الفريقين.

وجاء رجل وعليه خاتم من شبه «1» . وفي رواية: من صفر؛ وهو: نوع من النّحاس كانت الأصنام تتّخذ منه، فقال: «ما لي أجد منك ريح الأصنام؟!» ، فطرحه، ثمّ جاء وعليه خاتم من حديد؛ فقال: «ما لي أرى عليك حلية أهل النّار؟!» ، فطرحه، وقال: يا رسول الله؛ من أيّ شيء أتّخذه؟ قال: «من ورق ولا تتمّه مثقالا» «2» .

_ (1) شبه وشبه- لغتان-: ضرب من النحاس كانت الأصنام تتخذ منه، وسمي بذلك لشبهه بالذهب لونا. (2) المثقال: هو زنة الدينار الإسلامي، ويساوي: (231، 4) غراما، أو: (46، 4) غراما.

الفصل الرابع في صفة نعله صلى الله عليه وسلم وخفه

الفصل الرّابع في صفة نعله صلّى الله عليه وسلّم وخفّه كان لنعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبالان مثنّى شراكهما. و (القبال) : هو زمام يوضع بين الأصبع الوسطى والّتي تليها، ويسمّى شسعا. وكان صلّى الله عليه وسلّم يضع أحد القبالين بين الإبهام والّتي تليها، والاخر بين الوسطى والّتي تليها. و (الشّراك) : السّير. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنّه كان يلبس النّعال السّبتيّة؛ وهي الّتي لا شعر عليها، وقال: إنّي رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبس النّعال الّتي ليس فيها شعر، ويتوضّأ فيها، فأنا أحبّ أن ألبسها. وعن عمرو بن حريث رضي الله تعالى عنه أنّه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي في نعلين مخصوفتين- أي: مخروزتين- ضمّ فيهما طاق إلى طاق. وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه

وسلّم نهى أن يأكل- يعني الرّجل- بشماله، أو يمشي في نعل واحدة. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا انتعل أحدكم.. فليبدأ باليمين، وإذا نزع.. فليبدأ بالشّمال، فلتكن اليمين أوّلهما تنعل واخرهما تنزع. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس يتحدّث.. يخلع نعليه. قال الباجوريّ: (كانت نعله صلّى الله عليه وسلّم مخصّرة، معقّبة، ملسّنة، كما رواه ابن سعد في «الطّبقات» ) . و (المخصّرة) : هي الّتي لها خصر دقيق. و (المعقّبة) : هي الّتي لها عقب، أي: سير من جلد في مؤخّر النّعل يمسك به عقب القدم. و (الملسّنة) : هي التي في مقدّمها طول على هيئة اللّسان. قال الحافظ الكبير زين الدّين العراقيّ رحمه الله تعالى في «ألفيّة السّيرة النّبويّة» على صاحبها أفضل الصّلاة والسّلام: ونعله الكريمة المصونه ... طوبى لمن مسّ بها جبينه لها قبالان بسير وهما ... سبتيّتان سبتوا شعرهما وطولها شبر وإصبعان ... وعرضها ممّا يلي الكعبان سبع أصابع وبطن القدم ... خمس، وفوق ذا فستّ فاعلم ورأسها محدّد وعرض ما ... بين القبالين اصبعان اضبطهما وهذه مثال تلك النّعل ... ودورها أكرم بها من نعل

فائدة: قال في «المواهب» : ذكر ابن عساكر تمثال نعله صلّى الله عليه وسلّم في جزء مفرد، وأفرده بالتّأليف أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن خلف السّلميّ الأندلسيّ، وكذا غيرهما. قال: ولم أثبتها اتّكالا على شهرتها، ولصعوبة ضبط تسطيرها إلّا على حاذق. ومن بعض ما ذكر من فضلها، وجرّب من نفعها وبركتها أنّ أبا جعفر أحمد بن عبد المجيد- وكان شيخا صالحا- أعطى مثالها لبعض الطّلبة، فجاءه وقال له: رأيت البارحة من بركة هذا النّعل عجبا؛ أصاب زوجتي وجع شديد كاد يهلكها فجعلت النّعل على موضع الوجع، وقلت: اللهمّ أرني بركة صاحب هذا النّعل.. فشفاها الله تعالى للحين. وقال أبو إسحاق: قال أبو القاسم بن محمّد: وممّا جرّب من بركته: أنّ من أمسكه عنده متبرّكا به.. كان له أمانا من بغي البغاة، وغلبة العداة، وحرزا من كلّ شيطان مارد، وعين كلّ حاسد، وإن أمسكته الحامل بيمينها وقد اشتدّ عليها الطّلق.. تيسّر أمرها بحول الله تعالى وقوّته. وما أحسن قول أبي بكر القرطبيّ رحمه الله تعالى: ونعل خضعنا هيبة لبهائها ... وإنّا متى نخضع لها أبدا نعلو فضعها على أعلى المفارق إنّها ... حقيقتها تاج وصورتها نعل

بأخمص خير الخلق حازت مزيّة ... على التّاج حتّى باهت المفرق الرّجل شفاء لذي سقم، رجاء لبائس ... أمان لذي خوف، كذا يحسب الفضل وعن بريدة رضي الله تعالى عنه: أنّ النّجاشيّ أهدى للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خفّين أسودين ساذجين، فلبسهما، ثمّ توضّأ ومسح عليهما. ومعنى (ساذجين) : لم يخالط سوادهما شيء اخر «1» . وعن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه قال: أهدى دحية للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خفّين، فلبسهما. وروى الطّبرانيّ في «الأوسط» عن الحبر «2» : قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد الحاجة.. أبعد المشي، فانطلق ذات يوم لحاجته، ثمّ توضّأ ولبس خفّه، فجاء طائر أخضر فأخذ الخفّ الاخر فارتفع به، ثمّ ألقاه، فخرج منه أسود سالخ- أي: حيّة- فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «هذه كرامة أكرمني الله بها. اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من شرّ من يمشي على بطنه، ومن شرّ من يمشي على رجليه، ومن شرّ من يمشي على أربع» .

_ (1) أو: غير منقوشين، أو: لا شعر عليهما. (2) الحبر: أي العالم، وهو الصحابي الجليل عبد الله بن عباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنهما. وسمي بذلك: لأنه يحبر في عبارته؛ أي يحسنها.

الفصل الخامس في صفة سلاحه صلى الله عليه وسلم

الفصل الخامس في صفة سلاحه صلّى الله عليه وسلّم عن ابن سيرين قال: صنعت سيفي على سيف سمرة بن جندب، وزعم سمرة أنّه صنع سيفه على سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان حنفيّا؛ نسبة لبني حنيفة؛ لأنّهم معروفون بحسن صنعة السّيوف. وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كانت قبيعة سيف «1» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من فضّة. و (القبيعة) - بوزن الطّبيعة-: ما على طرف مقبض السّيف، يعتمد الكفّ عليها لئلّا يزلق. وعن جعفر بن محمّد عن أبيه: كان نعل سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- أي: أسفله- وحلقته وقبيعته.. من فضّة. وقد كان له صلّى الله عليه وسلّم سيوف متعدّدة؛ فقد كان له: سيف يقال له: (المأثور) ؛ وهو أوّل سيف ملكه عن أبيه. وله سيف يقال له: (القضيب) .

_ (1) المراد بالسّيف هنا: (ذو الفقار) .

وله سيف يقال له: (القلعي) - نسبة إلى قلع- موضع بالبادية. وله سيف يقال له: (البتّار) . وسيف يدعى: (الحتف) . وسيف يدعى: (المخذم) «1» ، بكسر الميم. وسيف يدعى: (الرّسوب) «2» . وسيف يقال له: (الصّمصامة) «3» . وسيف يقال له: (اللّحيف) . وسيف يقال له: (ذو الفقار) «4» . و (الفقر) : الحفر.

_ (1) المخذم: القاطع. (2) الرسوب: الذي يمضي في المضروب فيه ويغوص فيه. (3) الصمصامة: السيف الصارم الذي لا ينثني. (4) ذو الفقار: سمي كذلك؛ لأنه كان في وسطه حفر صغار، أو في وسطه مثل فقرات الظهر. وهو من أشهر أسيافه صلّى الله عليه وسلّم، وكان لا يكاد يفارقه ودخل به مكة يوم الفتح وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد، وهو سيف سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، أهدته بلقيس مع ستة أسياف، ثم وصل إلى العاص بن منبه بن الحجاج المقتول كافرا ببدر، قتله علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، وأخذ سيفه منه، ثم صار إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر من الغنيمة، وكان هذا السيف لا يفارقه في حروبه كافة. ويقال: إنه صار لأمير المؤمنين علي ابن أبي طالب- كرم الله وجهه- في الجنة، ولعله: كان يأخذه منه في الحروب، أو أنه أعطاه له عند موته، وفيه قيل: لا فتى إلا علي ... ولا سيف إلا ذو الفقار

وقد ذكروا في معجزاته: أنّه صلّى الله عليه وسلّم دفع لعكّاشة «1» جذل «2» حطب؛ حين انكسر سيفه يوم بدر، وقال: «اضرب به» ، فعاد في يده سيفا صارما طويلا أبيض شديد المتن، فقاتل به، ثمّ لم يزل عنده يشهد به المشاهد إلى أن استشهد. ودفع صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله بن جحش يوم أحد- وقد ذهب سيفه- عسيب نخل «3» ، فرجع في يده سيفا. وكان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حربة يمشى بها بين يديه؛ فإذا صلّى.. ركزها بين يديه. وكان صلّى الله عليه وسلّم رايته سوداء، ولواؤه أبيض «4» . وعن الزّبير بن العوّام رضي الله تعالى عنه قال: كان على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد درعان، فنهض إلى الصّخرة؛ فلم يستطع، فأقعد طلحة تحته، وصعد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتّى استوى على الصّخرة، قال: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أوجب طلحة» - أي: فعل فعلا أوجب لنفسه بسببه الجنّة. وكان له صلّى الله عليه وسلّم سبعة أدرع؛ فقد كان له:

_ (1) بالتخفيف والتشديد وجهان. (2) جذل: أصل. (3) أي: عرجون نخلة. (4) الراية: العلم الكبير. واللّواء: العلم الصغير. فالراية: هي التي يتولاها صاحب الحرب ويقاتل عليها، واللّواء: علامة يتخذها الأمير تدور معه حيث دار.

درع تسمى: (ذات الفضول) ؛ سمّيت بذلك لطولها. ودرع تسمى: (ذات الوشاح) . ودرع تسمى: (ذات الحواشي) . ودرع تسمى: (فضّة) . ودرع تسمى: (السّغديّة) «1» ؛ قيل: هي درع سيّدنا داود الّتي لبسها لقتال جالوت. ودرع تسمى: (البتراء) «2» . ودرع تسمى: (الخرنق) . وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم دخل مكّة وعليه مغفر. و (المغفر) - بوزن منبر- زرد من حديد ينسج بقدر الرّأس يلبس تحت القلنسوة.

_ (1) السّغديّة: - ويقال: السّعدية، نسبة إلى السعد-: جبال معروفة. (2) سميت بذلك لقصرها.

الفصل السادس كان من خلقه صلى الله عليه وسلم أن يسمي سلاحه ودوابه ومتاعه

الفصل السّادس كان من خلقه صلّى الله عليه وسلّم أن يسمّي سلاحه ودوابّه ومتاعه كان اسم رايته: (العقاب) ، وكانت سوداء، ومرّة كان يجعلها صفراء، ومرّة بيضاء فيها خطوط سود. وكان اسم خيمته: (الكنّ) . وقضيبه «1» : (الممشوق) . واسم قدحه: (الرّيّان) . وركوته: (الصّادر) . وسرجه: (الرّاجّ) . ومقراضه: (الجامع) . وسيفه الّذي كان يشهد به الحروب: (ذو الفقار) . وكانت له أسياف أخر. وكانت له منطقة «2» من أدم «3» ، فيها ثلاث حلق من فضّة.

_ (1) غصن مقطوع من شجر جبال السّراة تتخذ منه القسي. (2) أي: حزام. (3) أي: من جلد.

وكان اسم جعبته «1» : (الكافور) . واسم ناقته: (القصواء) ؛ وهي الّتي يقال لها: (العضباء) «2» . وكان اسم بغلته: (دلدل) . واسم حماره: (يعفورا) «3» . واسم شاته الّتي كان يشرب لبنها: (غيثة) «4» . وفي حديث اخر: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيف محلّى، قائمته من فضّة، ونعله من فضّة، وفيه حلق من فضّة، وكان يسمى: (ذا الفقار) . وكان له قوس تسمى: (ذا السّداد) . وكانت له كنانة تسمى: (ذا الجمع) . وكان له درع موشّحة بنحاس تسمى: (ذات الفضول) . وكان له حربة تسمى: (النّبعاء) . وكان له مجنّ «5» يسمى: (الذّفن) «6» . وكان له فرس أشقر يسمى: (المرتجز) .

_ (1) الجعبة: الكنانة يجمع فيها نبله. (2) العضباء: المقطوعة الاذان أو المشقوقتها. (3) يعفور: اسم ولد الظبي؛ كأنه سمي بذلك لسرعته، أو تشبيها به في عدوه. (4) غيثة: وقيل غوثة، بواو بدل الياء. (5) أي: الترس. (6) وفي بعض النسخ بالقاف بدل الفاء.

وكان له فرس أدهم يسمى: (السّكب) . وكان له سرج يسمى: (الرّاجّ) . وكان له بغلة شهباء تسمى: (الدّلدل) . وكان له ناقة تسمى: (القصواء) . وكان له حمار يسمى: (يعفورا) . وكان له بساط يسمى: (الكزّ) . وكان له عنزة تسمى: (النّمر) . وكان له ركوة تسمى: (الصّادر) . وكان له مراة تسمى: (المدلّة) . وكان له مقراض يسمى: (الجامع) . وكان له قضيب شوحط «1» يسمى: (الممشوق) . وكان له صلّى الله عليه وسلّم ربعة «2» يجعل فيها المراة والمشط والمقراضين والسّواك. وكان له صلّى الله عليه وسلّم فرس يقال له: (اللّحيف) «3» .

_ (1) الشوحط: ضرب من شجر جبال السّراة تتخذ منه القسيّ. (2) ربعة: حقيبة يجعل فيها الأمتعة المذكورة وهي جلد كجؤنة العطار التي يجعل فيها الطيب. (3) وقيل: اللّحيف، وقيل: بالخاء، وقيل: بالجيم، وهو عند ابن الجوزي بالنون بدل اللام من النحافة.

وفرس يقال له: (الظّرب) «1» . وفرس يقال له: (اللّزاز) «2» . وكان له قصعة يقال لها: (الغرّاء) ؛ يحملها أربعة رجال. وكان له جارية تسمى: (خضرة) «3» .

_ (1) وقيل: الظّرب. (2) اللّزاز: سمي به لشدة تلززه أو اجتماع خلقه، والملزّز: المجتمع. ولزّ به الشيء: لزق به، كأنه يلتزق بالمطلوب لسرعته. (3) وقال المناوي وتبعه الحفني: الخضرة؛ بكسر الضاد.

الباب الرّابع في صفة أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشربه، ونومه وفيه ستّة فصول

الباب الرابع في صفة أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وشربه، ونومه

الفصل الأوّل في صفة عيشه صلّى الله عليه وسلّم وخبزه عن سماك بن حرب [رحمه الله تعالى] قال: سمعت النّعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما يقول: ألستم في طعام وشراب ما شئتم؟ لقد رأيت نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم وما يجد من الدّقل ما يملأ بطنه. و (الدّقل) : رديء التّمر. وكان أكثر طعام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: التّمر والماء. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كنّا ال محمّد نمكث شهرا ما نستوقد بنار، إن هو إلّا التّمر والماء. وفي رواية البخاريّ ومسلم: كانت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول لعروة: والله يا ابن أختي؛ إن كنّا لننظر إلى الهلال ثمّ الهلال ثمّ الهلال؛ ثلاثة أهلّة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نار. قال: قلت يا خالة؛ فما كان يعيّشكم؟ قالت: الأسودان؛ التّمر والماء، إلّا أنّه كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح «1» ، فكانوا يرسلون إلى

_ (1) منائح- جمع منيحة- وهي: العطيّة لفظا ومعنى.. وأصلها عطية الناقة أو الشاة.

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ألبانها، فيسقيناه. وعن أبي طلحة رضي الله تعالى عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجوع، ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن بطنه عن حجرين. وقال الإمام التّرمذيّ: ومعنى قوله (ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر) : وكان أحدهم يشدّ في بطنه الحجر من الجهد والضّعف الّذي به من الجوع. وفي كتاب «المواهب» : عن ابن بجير [رضي الله تعالى عنه] قال: أصاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم جوع يوما، فعمد إلى حجر، فوضعه على بطنه، ثمّ قال: «ألا ربّ نفس طاعمة ناعمة في الدّنيا.. جائعة عارية يوم القيامة، ألا ربّ مكرم لنفسه.. وهو لها مهين، ألا ربّ مهين لنفسه.. وهو لها مكرم» . وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ساعة لا يخرج فيها ولا يلقاه فيها أحد، فأتاه أبو بكر، فقال: «ما جاء بك يا أبا بكر؟» ، قال: خرجت ألقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنظر في وجهه، والتّسليم عليه، فلم يلبث أن جاء عمر فقال: «ما جاء بك يا عمر؟» ، قال: الجوع يا رسول الله، قال صلّى الله عليه وسلّم: «وأنا قد وجدت بعض ذلك» . فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم بن التّيّهان الأنصاريّ [رضي الله تعالى عنه]- وكان رجلا كثير النّخل والشّاء، ولم يكن له خدم- فلم يجدوه،

فقالوا لامرأته: «أين صاحبك؟» ، فقالت: انطلق يستعذب لنا الماء. فلم يلبثوا أن جاء أبو الهيثم بقربة يزعبها- أي: يملؤها- فوضعها، ثمّ جاء يلتزم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويفدّيه بأبيه وأمّه. ثمّ انطلق بهم إلى حديقته، فبسط لهم بساطا، ثمّ انطلق إلى نخلة فجاء بقنو «1» فوضعه، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أفلا تنقّيت لنا من رطبه؟!» ، فقال: يا رسول الله؛ إنّي أردت أن تختاروا من رطبه وبسره. فأكلوا وشربوا من ذلك الماء. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «هذا- والّذي نفسي بيده- من النّعيم الّذي تسألون عنه يوم القيامة؛ ظلّ بارد، ورطب طيّب، وماء بارد» . فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعاما، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا تذبحنّ لنا ذات درّ» ، فذبح لهم عناقا «2» ؛ أو جديا «3» ، فأتاهم بها فأكلوا. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «هل لك خادم؟» . قال: لا. قال: «فإذا أتانا سبي.. فأتنا» .

_ (1) الغصن من النخلة المسمّى بالعرجون. (2) وهي: أنثى المعز لها أربعة أشهر. (3) وهو: ذكر المعز ما لم يبلغ سنة.

فأتي صلّى الله عليه وسلّم برأسين «1» ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اختر منهما» . قال: يا رسول الله؛ اختر لي. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ المستشار مؤتمن، خذ هذا فإنّي رأيته يصلّي، واستوص به معروفا» . فانطلق أبو الهيثم إلى امرأته فأخبرها بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقالت امرأته: ما أنت ببالغ حقّ ما قال فيه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.. إلّا أن تعتقه. قال: فهو عتيق. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله لم يبعث نبيّا ولا خليفة.. إلّا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالا «2» ، ومن يوق بطانة السّوء فقد وقي، والمعصوم من عصمه الله تعالى» . وعن عتبة بن غزوان رضي الله تعالى عنه قال: لقد رأيتني وإنّي لسابع سبعة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ما لنا طعام إلّا ورق الشّجر، حتّى تقرّحت أشداقنا «3» ، فألتقطت بردة فقسمتها بيني وبين سعد بن

_ (1) يعني: أسيرين اثنين. (2) خبالا: فسادا. وفي هذا التعبير تنبيه على أن بطانة السوء يكفي فيها السكوت على الشر، وعدم النّهي عن الفساد. (3) أي: ظهر في جوانب أفواهنا قروح من خشونة ذلك الورق وحرارته.

مالك؛ فأتزرت بنصفها وأتزر سعد بنصفها، فما منّا من أولئك السّبعة أحد.. إلّا وهو أمير مصر من الأمصار، وستجرّبون الأمراء بعدنا. وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثون من بين ليلة ويوم ما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلّا شيء يواريه إبط بلال» . قال المصنّف في «جامعه» «1» : معنى هذا الحديث: أنّه إنّما كان مع بلال حين خرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من مكّة هاربا؛ ومع بلال من الطّعام ما يواريه تحت إبطه. وعن أنس أيضا: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يجتمع عنده غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلّا على ضفف. و (الضّفف) : كثرة أيدي الأضياف. فكان صلّى الله عليه وسلّم لا يجتمع عنده الخبز واللّحم في الغداء والعشاء؛ إلّا إذا كان عنده الأضياف فيجمعهما لأجلهم. وعن نوفل بن إياس الهذليّ [رحمه الله تعالى] قال: كان عبد الرّحمن ابن عوف رضي الله تعالى عنه لنا جليسا، وكان نعم الجليس، وإنّه انقلب بنا ذات يوم حتّى إذا دخلنا بيته.. دخل فاغتسل، ثمّ خرج وأتينا بصحفة «2» فيها خبز ولحم، فلمّا وضعت.. بكى عبد الرّحمن.

_ (1) أي: الترمذي في «الجامع الصحيح» . (2) هي إناء كالقصعة، وقيل: إناء مبسوط كالصحيفة.

فقلت: يا أبا محمّد؛ ما يبكيك؟. فقال: توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشّعير، فلا أرانا أخّرنا لما هو خير لنا. وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّه أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتمر؛ فرأيته يأكل وهو مقع من الجوع. ومعنى (الإقعاء) : التّساند إلى وراء. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يأخذ ممّا اتاه الله تعالى إلّا قوت عامه فقط، من أيسر ما يجد من التّمر والشّعير، ويضع سائر ذلك في سبيل الله عزّ وجلّ. وروى البخاريّ ومسلم: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعزل نفقة أهله سنة. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما رفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غداء لعشاء، ولا عشاء لغداء. وروى التّرمذيّ عن أنس [رضي الله تعالى عنه] : أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان لا يدّخر شيئا لغد. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا تغدّى.. لم يتعشّ، وإذا تعشّى.. لم يتغدّ. قال القسطلّانيّ في «المواهب اللّدنّيّة» : (قد استشكل كونه عليه الصّلاة والسّلام وأصحابه كانوا يطوون الأيّام جوعا؛ مع ما ثبت:

أنّه كان يرفع لأهله قوت سنة. وأنّه قسم بين أربعة أنفس من أصحابه ألف بعير ممّا أفاء الله عليه. وأنّه ساق في عمرته مئة بدنة؛ فنحرها وأطعمها المساكين. وأنّه أمر لأعرابيّ بقطيع من الغنم.. وغير ذلك. مع من كان معه من أصحاب الأموال؛ كأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة وغيرهم، مع بذلهم أنفسهم وأموالهم بين يديه. وقد أمر بالصّدقة فجاء أبو بكر بجميع ماله، وعمر بنصفه. وحثّ على تجهيز جيش العسرة؛ فجهّزهم عثمان بألف بعير ... إلى غير ذلك؟. وأجاب عنه الطّبريّ- كما حكاه في «فتح الباري» -: بأنّ ذلك كان منهم في حالة دون حالة؛ لا لعوز وضيق، بل تارة للإيثار، وتارة لكراهة الشّبع وكثرة الأكل. قال الحافظ ابن حجر: والحقّ أنّ الكثير منهم كانوا في حال ضيق قبل الهجرة حيث كانوا بمكّة، ثمّ لمّا هاجروا إلى المدينة كان أكثرهم كذلك، فواساهم الأنصار بالمنازل والمنائح، فلمّا فتحت لهم النّضير وما بعدها.. ردّوا عليهم منائحهم. نعم.. كان صلّى الله عليه وسلّم يختار ذلك مع إمكان حصول التّوسّع والتّبسّط في الدّنيا له؛ كما أخرج التّرمذيّ من حديث أبي أمامة: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «عرض عليّ ربّي ليجعل لي بطحاء مكّة

ذهبا، فقلت: لا يا ربّ، ولكن أشبع يوما وأجوع يوما، فإذا جعت.. تضرّعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت.. شكرتك وحمدتك» . وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم وجبريل على الصّفا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا جبريل؛ والّذي بعثك بالحقّ ما أمسى لال محمّد سفّة «1» من دقيق، ولا كفّ من سويق «2» » . فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدّة من السّماء أفزعته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمر الله القيامة أن تقوم؟» . قال: لا، ولكن أمر إسرافيل فنزل إليك حين سمع كلامك. فأتاه إسرافيل، فقال: إنّ الله تعالى قد سمع ما ذكرت فبعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض، وأمرني أن أعرض عليك: إن أردت أن أسيّر معك جبال تهامة زمرّذا وياقوتا، وذهبا وفضة.. فعلت، فإن شئت: نبيّا ملكا، وإن شئت نبيّا عبدا؟ فأومأ إليه جبريل أن تواضع. فقال: «بل نبيّا عبدا» (ثلاثا) . رواه الطّبرانيّ بإسناد حسن. ولله درّ الأبو صيريّ حيث قال: وراودته الجبال الشّمّ من ذهب ... عن نفسه فأراها أيّما شمم)

_ (1) قبضة. (2) دقيق الشعير المقلو، ويكون من القمح، والأكثر جعله من الشعير.

وأما خبز رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وأمّا خبز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبيت اللّيالي المتتابعة طاويا «1» هو وأهله؛ لا يجدون عشاء، وكان أكثر خبزهم خبز الشّعير. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما شبع ال محمّد صلّى الله عليه وسلّم من خبز الشّعير يومين متتابعين حتّى قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعن سليم بن عامر [رحمه الله تعالى] قال: سمعت أبا أمامة [الباهليّ] رضي الله تعالى عنه يقول: ما كان يفضل «2» عن أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبز الشّعير. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: ما رفع عن مائدته صلّى الله عليه وسلّم كسرة خبز حتّى قبض. وقد ورد عنها أيضا [رضي الله تعالى عنها] أنّها قالت: توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس عندي شيء يأكله ذو كبد إلّا شطر شعير في رفّ لي- أي: نصف وسق- فأكلت منه حتّى طال عليّ فكلته ففني «3» .

_ (1) طاويا: خالي البطن جائعا. (2) أي: ما كان يزيد عن كفايتهم، بل كان ما يجدونه لا يشبعهم في الأكثر. (3) زادت في رواية: (فياليتني لم أكله) . والبركة تكون في كيل الطعام عند البيع والشراء، أما عند الإنفاق فإن الكيل سبب لذهاب البركة، وفي هذا الأمر أسرار للبركة غفل عنها المسلمون اليوم.. والله المستعان.

وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأكل خبز الشّعير غير منخول، وربّما وقف في حلقه فلا يسيغه إلّا بجرعة من ماء. وعن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما أنّه قيل له: أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النّقيّ «1» يعني: الحوّارى؟ «2» فقال سهل: ما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النّقيّ حتّى لقي الله عزّ وجلّ. فقيل له: هل كانت لكم مناخل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: ما كانت لنا مناخل. قيل: كيف كنتم تصنعون بالشّعير؟ قال: كنّا ننفخه فيطير منه ما طار، ثمّ نعجنه. وفي رواية له: هل كانت لكم في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مناخل؟ فقال: ما رأى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم منخلا من حين ابتعثه الله تعالى حتّى قبضه الله تعالى. وقال أنس رضي الله تعالى عنه: ما أعلم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى رغيفا مرقّقا حتّى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطا بعينه حتّى لحق بالله. رواه البخاريّ.

_ (1) الخبز المنقّى من النخالة؛ أي: المنخول دقيقه. (2) هو ما حوّر من الدقيق بنخله مرارا، وهذه الزيادة التفسيرية من كلام الراوي.

و (الشّاة السّميط) : هي الّتي أزيل شعرها بالماء المسخّن، وشويت بجلدها، وهو من فعل المترفّهين. وعن قتادة [رحمه الله تعالى] ، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: ما أكل نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم على خوان، ولا في سكرّجة، ولا خبز له مرقّق. قال قتادة [رحمه الله تعالى] : كانوا يأكلون على هذه السّفر. و (الخوان) : هو مرتفع يهيّأ ليؤكل الطّعام عليه. و (السّكرّجة) : إناء صغير يوضع فيه الشيء القليل المشهّي للطّعام؛ كالسّلطة. و (السّفر) - جمع سفرة- وهي: ما يتّخذ من جلد مستدير ليؤكل عليه الطّعام. وعن مسروق [رحمه الله تعالى] قال: دخلت على عائشة رضي الله تعالى عنها، فدعت لي بطعام، وقالت: ما أشبع من طعام فأشاء أن أبكي إلّا بكيت. قال: قلت: لم؟ قالت: أذكر الحال الّتي فارق عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الدّنيا، والله ما شبع من خبز ولا لحم مرّتين في يوم. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: ما شبع ال محمّد صلّى الله عليه وسلّم من طعام ثلاثة أيّام تباعا حتّى قبض. رواه البخاريّ ومسلم.

وروى مسلم: ما شبع ال محمّد يومين من خبز البرّ إلّا وأحدهما تمر. وروى مسلم أيضا: عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لقد مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرّتين. وعنها رضي الله تعالى عنها قالت: ما شبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من خبز الشّعير يومين متتابعين حتّى قبض. وفي رواية عنها [رضي الله تعالى عنها] أيضا: ما شبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من خبز شعير يومين متواليين، ولو شاء.. لأعطاه الله عزّ وجلّ ما لا يخطر ببال. قال القسطلّانيّ في «المواهب» : (وقد تتبّعت هل كانت أقراص خبزه صلّى الله عليه وسلّم صغارا أم كبارا؟ فلم أجد في ذلك شيئا بعد التّفتيش. نعم.. روي أمره بتصغيرها في حديث عن عائشة رضي الله تعالى عنها، رفعته بلفظ: «صغّروا الخبز، وأكثروا عدده.. يبارك لكم فيه» . وكان شيخي العارف الرّبّانيّ إبراهيم المتبوليّ يصغّر أرغفة سماطه، كالشّيخ أبي العبّاس أحمد البدويّ والسّادات بني الوفاء. أعاد الله تعالى علينا من بركاتهم) .

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: خرج- تعني النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم- من الدّنيا ولم يملأ بطنه في يوم من طعامين، كان إذا شبع من التّمر.. لم يشبع من الشّعير، وإذا شبع من الشّعير.. لم يشبع من التّمر. قال القسطلّانيّ: (واعلم أنّ الشّبع بدعة ظهرت بعد القرن الأوّل. وقد روى النّسائيّ وابن ماجه وصحّحه الحاكم من حديث المقدام بن معدي كرب: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما ملأ ابن ادم وعاء شرّا من بطنه، حسب ابن ادم لقيمات يقمن صلبه، فإن غلبت الادميّ نفسه.. فثلث للطّعام، وثلث للشّراب، وثلث للنّفس» . قال القرطبيّ: لو سمع بقراط هذه القسمة لعجب من هذه الحكمة) . وعن الحسن رضي الله تعالى عنه قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «والله ما أمسى في ال محمّد صاع من طعام، وإنّها لتسعة أبيات» . والله ما قالها استقلالا لرزق الله سبحانه وتعالى، ولكن أراد أن تتأسّى به أمّته. وفي «الشّفا» للقاضي عياض رحمه الله تعالى: عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لم يمتلئ جوف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم شبعا قطّ، ولم يبثّ شكوى إلى أحد، وكانت الفاقة أحبّ إليه من الغنى، وإن كان ليظلّ جائعا يلتوي طول ليلته من الجوع فلا يمنعه صيام يومه، ولو شاء.. سأل ربّه جميع كنوز الأرض وثمارها، ورغد عيشها، ولقد كنت

أبكي رحمة له ممّا أرى به وأمسح بيدي على بطنه ممّا به من الجوع، وأقول: نفسي لك الفداء؛ لو تبلّغت من الدّنيا بما يقوتك؟ فيقول: «يا عائشة؛ ما لي وللدّنيا؟! إخواني من أولي العزم من الرّسل صبروا على ما هو أشدّ من هذا، فمضوا على حالهم، فقدموا على ربّهم، فأكرم مابهم، وأجزل ثوابهم، فأجدني أستحيي إن ترفّهت في معيشتي أن يقصّر بي غدا دونهم، وما من شيء هو أحبّ إليّ من اللّحوق بإخواني وأخلّائي» . قالت: فما أقام بعد شهرا حتى توفّي صلوات الله وسلامه عليه. ثمّ قال رحمه الله تعالى بعد ثلاث ورقات: كان داود عليه الصّلاة والسّلام يلبس الصّوف، ويفترش الشّعر، ويأكل خبز الشّعير بالملح والرّماد، ويمزج شرابه بالدّموع. وقيل لعيسى عليه الصّلاة والسّلام: لو اتّخذت حمارا؟ فقال: أنا أكرم على الله من أن يشغلني بحمار. وكان يلبس الشّعر ويأكل الشّجر؛ ولم يكن له بيت، أينما أدركه النّوم.. نام. وكان أحبّ الأسامي إليه أن يقال له: (يا مسكين) . وقيل: إنّ موسى [عليه الصّلاة والسّلام] لمّا ورد ماء مدين كانت ترى خضرة البقل في بطنه من الهزال. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لقد كان الأنبياء قبلي يبتلى أحدهم بالفقر والقمل، وكان ذلك أحبّ إليهم من العطاء إليكم» .

وقال مجاهد: كان طعام يحيى: العشب، وكان يبكي من خشية الله تعالى عزّ وجلّ، حتّى اتّخذ الدّمع مجرى في خدّه. وحكى الطّبريّ عن وهب: أنّ موسى عليه الصّلاة والسّلام كان يستظلّ بعريش، ويأكل في نقرة «1» من حجر، ويكرع فيها إذا أراد أن يشرب كما تكرع الدّابّة؛ تواضعا لله تعالى بما أكرمه من كلامه) اهـ

_ (1) أي: حفرة.

الفصل الثاني في صفة أكله صلى الله عليه وسلم وإدامه

الفصل الثّاني في صفة أكله صلّى الله عليه وسلّم وإدامه عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأكل بأصابعه الثّلاث؛ بالإبهام، والّتي تليها، والوسطى. ثمّ رأيته يلعق أصابعه الثّلاث قبل أن يمسحها؛ الوسطى، ثمّ الّتي تليها، ثمّ الإبهام. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكره أن يأكل الطّعام الحارّ حتّى تذهب فورة دخانه «1» . وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يأكل الطّعام الحارّ، ويقول: «إنّه غير ذي بركة، فأبردوه؛ فإنّ الله لم يطعمنا نارا» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يأكل بأصابعه الثّلاث، وربّما استعان بالرّابعة، ولم يكن يأكل قطّ بأصبعين، ويخبر أنّ ذلك من فعل الشّيطان. وكان صلّى الله عليه وسلّم يلعق الصّحفة بأصابعه، ويقول: «اخر الطّعام أكثر بركة» .

_ (1) أي: حدته وغليانه.

وكان [صلّى الله عليه وسلّم] يلعق أصابعه من الطّعام حتّى تحمرّ. وكان [صلّى الله عليه وسلّم] لا يمسح يده بالمنديل حتّى يلعق أصابعه واحدة واحدة، ويقول: «إنّه لا يدري في أيّ الطّعام البركة» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أكل الخبز واللّحم خاصّة.. غسل يديه غسلا جيّدا، ثمّ يمسح بفضل الماء على وجهه. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أكل من هذه اللّحوم شيئا.. فليغسل يده من ريح وضره «1» ، ولا يؤذي من حذاءه» . وكان أكثر جلوسه صلّى الله عليه وسلّم للأكل أن يجمع بين ركبتيه وبين قدميه؛ كما يجلس المصلّي، إلّا أنّ الرّكبة تكون فوق الرّكبة، والقدم فوق القدم. وكان صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّما أنا عبد اكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» . وعن أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمّا أنا فلا اكل متّكئا» . وروى ابن ماجه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يأكل الرّجل وهو منبطح على وجهه.

_ (1) الوضر: وسخ الدسم واللبن.

وأما إدام رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وأخرج ابن عديّ: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زجر أن يعتمد الرّجل على يده اليسرى عند الأكل. وأمّا إدام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقد كان صلّى الله عليه وسلّم لا يتورّع عن مطعم حلال؛ إن وجد تمرا دون خبز.. أكله، وإن وجد لحما مشويّا.. أكله، وإن وجد خبز برّ.. أكله، أو شعيرا.. أكله، وإن وجد حلوى، أو عسلا.. أكله، وإن وجد لبنا دون خبز.. أكله واكتفى به، وإن وجد بطّيخا، أو رطبا.. أكله. وكان صلّى الله عليه وسلّم يأكل ما حضر، ولا يردّ ما وجد. وعن زهدم الجرميّ [رحمه الله تعالى] قال: كنّا عند أبي موسى الأشعريّ رضي الله تعالى عنه، فأتي بلحم دجاج، فتنحّى رجل من القوم، فقال: ما لك؟ فقال: إنّي رأيتها تأكل شيئا، فحلفت أن لا اكلها. قال: ادن، فإنّي رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأكل لحم الدّجاج. وعن إبراهيم بن عمر بن سفينة، عن أبيه [رحمهما الله تعالى] ، عن جدّه سفينة [رضي الله تعالى عنه] مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: أكلت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحم حبارى. و (الحبارى) : طائر طويل العنق، في منقاره طول، رماديّ اللّون، شديد الطيران.

وكان صلّى الله عليه وسلّم يأكل لحم الدّجاج والطّير الّذي يصاد، وكان لا يشتريه ولا يصيده، ويحبّ أن يصاد له، فيؤتى به فيأكله. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لعائشة رضي الله تعالى عنها: «إذا طبختم قدرا.. فأكثروا فيها من الدّبّاء؛ فإنّها تشدّ قلب الحزين» . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأكل الثّريد باللّحم والقرع. وكان [صلّى الله عليه وسلّم] يحبّ القرع، ويقول: «إنّها شجرة أخي يونس» . وعن جابر بن طارق رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فرأيت عنده دبّاء يقطّع، فقلت: ما هذا؟ فقال: «نكثّر به طعامنا» . وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: إنّ خيّاطا دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لطعام صنعه. قال أنس: فذهبت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ذلك الطّعام، فقرّب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبزا من شعير، ومرقا فيه دبّاء، وقديد «1» . قال أنس: فرأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتتبّع الدّبّاء حوالي القصعة، فلم أزل أحبّ الدّبّاء من يومئذ.

_ (1) أي: لحم مملوح مجفف في الشمس.

قال النّوويّ: (فيه أنّه يستحبّ أن يحبّ المرء الدّبّاء، وكذلك كلّ شيء كان يحبّه صلّى الله عليه وسلّم) . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحبّ الحلواء والعسل. وكان أحبّ الشّراب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.. العسل. وكان أحبّ الشّراب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.. اللّبن. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا شرب اللّبن.. قال: «إنّ له دسما» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يشرب اللّبن خالصا تارة، وتارة مشوبا بالماء البارد. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أتي بلبن.. قال: «بركة» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يتمجّع التّمر باللّبن «1» ، ويسمّيهما: «الأطيبين» . وأكل صلّى الله عليه وسلّم التّمر بالزّبد «2» ، وكان يحبّه. وفي «الإحياء» : أنّه جاء عثمان بن عفّان رضي الله تعالى عنه بفالوذج، فأكل منه، وقال: «ما هذا يا أبا عبد الله؟» .

_ (1) يأكلهما معا، أو يأكل التمر ويشرب عليه اللّبن. (2) وهو ما يستخرج بالخض من لبن البقر والغنم. أما المستخرج من لبن الإبل فلا يسمى زبدا، بل يسمى: (حبابا) .

قال: بأبي أنت وأمّي، نجعل السّمن والعسل في البرمة «1» ، ونضعها على النّار، حتّى نغليه، ثمّ نأخذ مخّ الحنطة إذا طحنت، فنلقيه على السّمن والعسل في البرمة، ثمّ نسوطه «2» حتّى ينضج؛ فيأتي كما ترى. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ هذا الطّعام طيّب» . وذكر هذه القصّة في «المواهب» عن عبد الله بن سلام بوجه اخر، مع تسمية هذا الطّعام: الخبيص. وكان أحبّ الطّعام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اللّحم، ويقول: «إنّه يزيد في السّمع، وهو سيّد الطّعام في الدّنيا والآخرة، ولو سألت ربّي أن يطعمنيه كلّ يوم.. لفعل» . وعن عطاء بن يسار: أنّ أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها أخبرته أنّها قرّبت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جنبا مشويّا فأكل منه. وعن عبد الله بن الحارث قال: أكلنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شواء في المسجد. وعن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه قال: ضفت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة، فأتي بجنب مشويّ، ثمّ أخذ الشّفرة «3» ؛ فجعل يحزّ، فحزّ لي بها منه.

_ (1) البرمة: قدر من فخار. (2) أي: نحركه بالسوط. (3) الشفرة: السكين العريض العظيم.

قال: فجاء بلال يؤذنه بالصّلاة، فألقى الشّفرة، فقال: «ما له؟! تربت يداه» «1» . قال: وكان شاربه قد وفا «2» ، فقال له «3» : «أقصّه لك على سواك؟ أو: قصّه على سواك» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يأكل من الكبد إذا شويت. وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ من الشّاة الذّراع والكتف. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أتي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بلحم، فرفع إليه الذّراع- وكانت تعجبه- فنهس منها «4» . وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعجبه الذّراع، وسمّ في الذّراع، وكان يرى أنّ اليهود سمّوه. وعن أبي عبيدة رضي الله تعالى عنه قال: طبخت للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قدرا «5» ، وكان يعجبه الذّراع، فناولته الذّراع، ثمّ قال: «ناولني

_ (1) والمقصود منه: الزجر عن ذلك، لا حقيقة الدعاء بذلك، فإنه كره صلّى الله عليه وسلّم من سيدنا بلال رضي الله عنه إعلامه بالصلاة بحضرة الطعام، والصلاة بحضرة طعام تتوق إليه النفس.. مكروهة، مع ما في ذلك من إيذاء المضيف وكسر خاطره. مع ملاحظة أن وجوب الصلاة في أول الوقت وجوب موسع. (2) أي: كان شارب سيدنا بلال رضي الله عنه قد طال وأشرف على فمه. (3) أي: النبي صلّى الله عليه وسلّم. (4) أي: تناوله بأطراف أسنانه. (5) أي: شاة في قدر.

الذّراع» ، فناولته، ثمّ قال: «ناولني الذّراع» ، فقلت: يا رسول الله؛ وكم للشّاة من ذراع؟! فقال: «والذي نفسي بيده؛ لو سكتّ.. لناولتني الذّراع ما دعوت» . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما كانت الذّراع أحبّ اللّحم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكنّه كان لا يجد اللّحم إلّا غبّا «1» ، وكان يعجل إليها؛ لأنّها أعجلها نضجا. وكان أحبّ الشّاة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقدّمها. وعن عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ أطيب اللّحم لحم الظّهر» . وعن ضباعة بنت الزّبير رضي الله تعالى عنها: أنّها ذبحت في بيتها شاة، فأرسل إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أن أطعمينا من شاتكم» . فقالت: ما بقي عندنا إلّا الرّقبة، وإنّي لأستحي أن أرسل إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فرجع الرّسول، فأخبره بقولها. فقال: «ارجع إليها، فقل لها: أرسلي بها، فإنّها هادية الشّاة، وأقرب الشّاة إلى الخير، وأبعدها عن الأذى» . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أكل اللّحم.. لم يطأطئ رأسه إليه، بل يرفعه إلى فيه، ثمّ ينهسه انتهاسا «2» .

_ (1) أي: وقتا دون وقت. (2) ويجوز بالشين: ينهشه انتهاشا.

وأكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القديد؛ كما في حديث «السّنن» عن رجل قال: ذبحت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم شاة ونحن مسافرون، فقال: «أصلح لحمها» ، فلم أزل أطعمه منه إلى المدينة. وأكل صلّى الله عليه وسلّم لحم حمار الوحش. وأكل صلّى الله عليه وسلّم لحم الضّأن، وأكل صلّى الله عليه وسلّم لحم الجمال سفرا وحضرا. وأكل صلّى الله عليه وسلّم لحم الأرنب. وأكل صلّى الله عليه وسلّم من دوابّ البحر. وأكل صلّى الله عليه وسلّم الثّريد؛ وهو أن يثرد الخبز بمرق اللّحم، وقد يكون معه لحم. ومن أمثالهم: (الثّريد أحد اللّحمين) . وأكل صلّى الله عليه وسلّم الخبز بالزّيت. وعن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلوا الزّيت وادّهنوا به، فإنّه من شجرة مباركة» . وأكل صلّى الله عليه وسلّم السّلق «1» مطبوخا.

_ (1) السّلق: بقلة؛ وهو نبت له ورق طوال، يقال له: السّلك- بالكاف بدل القاف- وقوله: (مطبوخا) أي: بالشعير.

وأكل صلّى الله عليه وسلّم الخزيرة؛ وهي: ما يتّخذ من الدّقيق على هيئة العصيدة، لكنّه أرقّ منها «1» . وأكل صلّى الله عليه وسلّم الأقط «2» ؛ وهو: جبن اللّبن المستخرج زبده، وهو أشبه شيء بالكشك. وأكل صلّى الله عليه وسلّم الرّطب والتّمر والبسر «3» . وأكل صلّى الله عليه وسلّم الكباث؛ وهو: ثمر الأراك. وأكل صلّى الله عليه وسلّم الجبن. عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: أتي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بجبنة في تبوك، فدعا بسكّين فسمّى وقطع. وأمّا البصل: فروى أبو داود في «سننه» : عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها سئلت عن البصل فقالت: إنّ اخر طعام أكله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه بصل. والظّاهر أنّ هذا البصل كان مطبوخا، حتّى لم يبق له رائحة كريهة. ويدلّ على هذا قولها: (إنّ اخر طعام أكله فيه بصل) ، ولم تقل أكل البصل.

_ (1) الخزيرة: أن يؤخذ اللحم فيقطع قطعا صغارا ويصبّ عليه ماء كثير، فإذا نضج ذرّ عليه الدقيق. فإن لم يكن فيها لحم فهي: عصيدة. (2) بتثليث الهمزة مع سكون القاف، ويحرّك. وككتف، ورجل، وإبل. (3) البسر: هو البلح الطريّ.

وكان أحبّ الصّباغ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخلّ. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نعم الإدام الخلّ» . وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكّة على أمّ هانىء رضي الله تعالى عنها وكان جائعا، فقال لها: «أعندكم طعام اكله؟» ، فقالت: إنّ عندي لكسرا يابسة، وإنّي لأستحيي أن أقدّمها إليك. فقال: «هلمّيها» ، فكسّرها في ماء، وجاءته بملح، فقال: «ما من إدام؟» ، فقالت: ما عندي إلّا شيء من خلّ، فقال: «هلمّيه» . فلمّا جاءته به.. صبّه على طعامه؛ فأكل منه، ثمّ حمد الله عزّ وجلّ، وأثنى عليه، ثمّ قال: «نعم الإدام الخلّ، يا أمّ هانىء؛ لا يقفر بيت فيه خلّ» . وعن أمّ سعد رضي الله تعالى عنها قالت: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عائشة وأنا عندها، فقال: «هل من غداء؟» ، فقالت: عندنا خبز وتمر وخلّ، فقال: «نعم الإدام الخلّ، اللهمّ؛ بارك في الخلّ؛ فإنّه كان إدام الأنبياء قبلي، ولم يقفر بيت فيه خلّ» . وهذا مدح للخلّ بحسب الوقت- كما قاله ابن القيّم- لا لتفضيله على غيره، بل هو جبر لقلب من قدّمه له صلّى الله عليه وسلّم، وتطييبا لنفسه، لا تفضيلا له على غيره؛ إذ لو حضر نحو لحم أو عسل أو لبن.. لكان أحقّ بالمدح.

وبهذا علم أنّه لا تنافي بين هذا وبين قوله: «بئس الإدام الخلّ» . وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله تعالى عنه، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «فضل عائشة على النّساء.. كفضل الثّريد على سائر الطّعام» . وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: أولم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على صفيّة بتمر وسويق؛ وهو: ما يعمل من الحنطة، أو الشّعير. وعن سلمى زوج أبي رافع- مولى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم-: أنّ الحسن بن عليّ، وابن عبّاس وابن جعفر رضي الله تعالى عنهم.. أتوها، فقالوا: اصنعي لنا طعاما ممّا كان يعجب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويحسن أكله. فقالت: يا بنيّ؛ لا تشتهيه اليوم. قال: بلى، اصنعيه لنا. قال: فقامت، فأخذت شيئا من شعير، فطحنته، ثمّ جعلته في قدر، وصبّت عليه شيئا من زيت، ودقّت الفلفل والتّوابل، فقرّبته إليهم. فقالت: هذا ممّا كان يعجب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويحسن أكله. قوله (التّوابل) : هي أدوية حارّة يؤتى بها من الهند، وقيل: إنّها مركّبة من الكزبرة والزّنجبيل والكمّون.

ويؤخذ من هذا: أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان يحبّ تطييب الطّعام بما تيسّر وسهل، وأنّ ذلك لا ينافي الزّهد. وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال في غزوة الخندق: انكفيت- أي: انطلقت إلى امرأتي- فقلت: هل عندك شيء؟ فإنّي رأيت بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم جوعا شديدا. فأخرجت جرابا فيه صاع من شعير ولنا بهيمة داجن، فذبحتها، وطحنت الشّعير حتّى جعلنا اللّحم في البرمة، ثمّ جئته صلّى الله عليه وسلّم، وأخبرته الخبر سرّا، وقلت له: تعال أنت ونفر معك. فصاح: «يا أهل الخندق؛ إنّ جابرا صنع سورا «1» فحيّ هلا بكم» ، وقال: «لا تنزلنّ برمتكم، ولا تخبزنّ عجينتكم حتّى أجيء» . فلمّا جاء.. أخرجت له العجين؛ فبصق فيه، وبارك، ثمّ عمد إلى برمتنا، فبصق، وبارك، ثمّ قال: «ادعي خابزة فلتخبز معك، واغرفي من برمتكم، ولا تنزلوها» . والقوم ألف، فأقسم بالله لقد أكلوا حتّى تركوه، وانصرفوا، وإنّ برمتنا لتغطّ- أي: تغلي- كما هي، وإنّ عجيننا ليخبز كما هو. رواه البخاريّ ومسلم. وعن جابر أيضا قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا معه، فدخل على امرأة من الأنصار، فذبحت له شاة؛ فأكل منها، وأتته بقناع-

_ (1) أي: طعاما يدعو الناس إليها، أو: هو الطعام مطلقا.

أي: طبق من رطب- فأكل منه، ثمّ توضّأ للظّهر، وصلّى، ثمّ انصرف، فأتته بعلالة من علالة الشّاة «1» ، فأكل، ثمّ صلّى العصر، ولم يتوضّأ. وعن أمّ المنذر رضي الله تعالى عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه عليّ ولنا دوال «2» معلّقة. قالت: فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأكل، وعليّ معه يأكل. فقال صلّى الله عليه وسلّم لعليّ: «مه يا عليّ، فإنّك ناقه «3» » . قالت: فجلس عليّ والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يأكل. قالت: فجعلت لهم سلقا وشعيرا. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لعليّ: «من هذا فأصب؛ فإنّ هذا أوفق لك» . وعن عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه قال: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخذ كسرة من خبز، فوضع عليها تمرة وقال: «هذه إدام هذه» . وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يعجبه الثّفل.

_ (1) العلالة: بقية الشيء. (2) وهي كالعناقيد من بسر النخل تعلّق، كلّما أرطبت.. أكل منها على التدريج. (3) أي: قريب برء من المرض.

و (الثّفل) : ما بقي من الطّعام في أسافل القدر والقصعة والصّحفة ونحوها. وكان أحبّ الطّعام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الثّريد من الخبز، والثّريد من الحيس. و (الحيس) : التّمر مع السّمن والأقط، وقد يجعل عوض الأقط الدّقيق أو الفتيت، فيدلك الجميع حتّى يختلط. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبّ من الشّاة الذّراع والكتف، ومن القدر «1» الدّبّاء، ومن التّمر العجوة. ودعا في العجوة بالبركة، وكان يقول: «إنّها من الجنّة وهي شفاء من السّمّ والسّحر» . وكان أحبّ التّمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العجوة. وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ الزّبد والتّمر. وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ من البقول الهندباء، والشّمر «2» ، والرّجلة «3» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ القثّاء. وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ الجذب.

_ (1) أي: المطبوخ في القدر. (2) بقلة، منه نوع حلو يزرع ويؤكل ورقه وسوقه نيئا، ونوع اخر سكريّ يؤكل مطبوخا. (3) البقلة الحمقاء؛ التي تنبت على الطريق وفي مسيل الماء.

و (الجذب) : الجمّار؛ وهو: شحم النّخل، واحدته: جذبه. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكره أكل الكليتين؛ لمكانهما من البول. وكان لا يأكل من الشّاة سبعا: الذّكر، والأنثيين، والحيا- وهو الفرج- والدّم، والمثانة، والمرارة، والغدد. ويكره لغيره أكلها. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يأكل الجراد، ولا الكليتين. وكان صلّى الله عليه وسلّم يعاف الضّبّ، والطّحال، ولا يحرّمهما. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يأكل الثّوم ولا البصل، ولا الكرّاث؛ من أجل أنّ الملائكة تأتيه، وأنّه يكلّم جبريل. وما ذمّ صلّى الله عليه وسلّم طعاما قطّ؛ إن اشتهاه.. أكله، وإلّا.. تركه. وعن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يأتيني فيقول: «أعندك غداء» ، فأقول: لا، فيقول: «إنّي صائم» ، قالت: فأتاني يوما؛ فقلت: يا رسول الله؛ إنّه أهديت لنا هديّة، قال: «وما هي؟» ، قلت: حيس. قال: «أما إنّي أصبحت صائما» ، قالت: ثمّ أكل. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أتي بطعام.. سأل عنه: «أهديّة أم صدقة؟» ، فإن قيل صدقة.. قال لأصحابه: «كلوا» ، ولم يأكل. وإن قيل هديّة.. ضرب بيده فأكل معهم.

وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يأكل من هديّة حتّى يأمر صاحبها أن يأكل منها؛ للشّاة الّتي أهديت له «1» . وكان له صلّى الله عليه وسلّم لقاح «2» وغنم يتقوّت من ألبانها هو وأهله، وكان لا يحبّ أن تزيد على مئة، وإن زادت.. ذبح الزّائد. وكان له [صلّى الله عليه وسلّم] جيران لهم منائح، يرسلون له من ألبانها فيأكل منها ويشرب، وكان له صلّى الله عليه وسلّم سبعة أعنز منائح ترعاهنّ أمّ أيمن حاضنته صلّى الله عليه وسلّم. وكان صلّى الله عليه وسلّم يخرج كثيرا إلى بساتين أصحابه، فيأكل منها ويحتطب. وكان صلّى الله عليه وسلّم يجيب دعوة الحرّ والعبد، ويقبل الهديّة؛ ولو أنّها جرعة لبن، أو فخذ أرنب، ويكافئ عليها ويأكلها؛ ولا يأكل الصّدقة. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دعي لطعام وتبعه أحد.. أعلم به ربّ المنزل؛ فيقول: «إنّ هذا تبعنا، فإن شئت.. رجع» . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يأكل واحده. وكان أحبّ الطّعام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كثرت عليه الأيدي.

_ (1) أي: لأجل قصة الشاة المسمومة التي أهديت له يوم خيبر. (2) الناقة القريبة العهد بالولادة إلى ثلاثة أشهر.

وكان صلّى الله عليه وسلّم يكرّر على أضيافه، ويعرض عليهم الأكل مرارا. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها وعن والديها: لم يمتلئ جوف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم شبعا قطّ، وإنّه كان في أهله لا يسألهم طعاما ولا يتشهّاه، إن أطعموه.. أكل، وما أطعموه.. [قبله] ، وما سقوه.. شرب. وكان صلّى الله عليه وسلّم ربّما قام فأخذ ما يأكل بنفسه، أو يشرب. وعن سلمان رضي الله تعالى عنه قال: قرأت في «التّوراة» : إنّ بركة الطّعام الوضوء بعده، فذكرت ذلك للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأخبرته بما قرأت في التّوراة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بركة الطّعام الوضوء قبله والوضوء بعده» . والمراد بالوضوء هنا المعنى اللّغويّ؛ وهو: غسل الكفّين.

الفصل الثالث في ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم قبل الطعام وبعده

الفصل الثّالث في ما كان يقوله صلّى الله عليه وسلّم قبل الطعام وبعده كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا وضعت المائدة.. قال: «باسم الله، اللهمّ؛ اجعلها نعمة مشكورة تصل بها نعمة الجنّة» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا قرّب إليه طعام.. يقول: «باسم الله» ، فإذا فرغ.. قال: «اللهم؛ أطعمت وسقيت، وأغنيت وأقنيت «1» ، وهديت وأجتبيت، فلك الحمد على ما أعطيت» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا رفعت مائدته.. قال: «الحمد لله حمدا كثيرا طيّبا مباركا فيه، الحمد لله الّذي كفانا واوانا، غير مكفيّ ولا مكفور ولا مودّع ولا مستغنى عنه ربّنا» . وكان [صلّى الله عليه وسلّم] إذا فرغ من طعامه.. قال: «اللهمّ؛ لك الحمد، أطعمت وسقيت، وأشبعت وأرويت، فلك الحمد غير مكفور ولا مودّع ولا مستغنى عنك» . وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله

_ (1) أقنى: أرضى.

صلّى الله عليه وسلّم إذا فرغ من طعامه.. قال: «الحمد لله الّذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين» . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أكل أو شرب.. قال: «الحمد لله الّذي أطعم وسقى، وسوّغه وجعل له مخرجا» . وعن أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله تعالى عنه قال: كنّا عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوما فقرّب طعام، فلم أر طعاما أعظم بركة منه أوّل ما أكلنا، ولا أقلّ بركة في اخره. فقلنا: يا رسول الله؛ كيف هذا؟ قال: «إنّا ذكرنا اسم الله تعالى حين أكلنا، ثمّ قعد من أكل؛ ولم يسمّ الله تعالى، فأكل معه الشّيطان» . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يأكل الطّعام في ستّة من أصحابه، فجاء أعرابيّ فأكله بلقمتين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو سمّى.. لكفاكم» . وعنها رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أكل أحدكم فنسي أن يذكر الله تعالى على طعامه.. فليقل: باسم الله أوّله واخره» . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أكل عند قوم.. لم يخرج حتّى يدعو لهم، فكان يقول: «اللهمّ؛ بارك لهم وارحمهم» ، وكان يقول: «أفطر عندكم الصّائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلّت عليكم الملائكة» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أكل مع قوم.. كان اخرهم أكلا.

وروي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «إذا وضعت المائدة.. فلا يقوم الرّجل وإن شبع حتّى يفرغ [القوم] ؛ فإنّ ذلك يخجل جليسه، وعسى أن يكون له في الطّعام حاجة» . وعن عمر بن أبي سلمة- ربيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- أنّه دخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده طعام؛ فقال: «ادن يا بنيّ.، فسمّ الله تعالى، [وكل بيمينك] ، وكل ممّا يليك» . [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت] : كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أتي بطعام.. أكل ممّا يليه، وإذا أتي بالتّمر.. جالت يده [فيه] . وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة.. فيحمده عليها، أو يشرب الشّربة.. فيحمده عليها» .

الفصل الرابع في صفة فاكهته صلى الله عليه وسلم

الفصل الرّابع في صفة فاكهته صلّى الله عليه وسلّم كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأخذ الرّطب بيمينه، والبطّيخ بيساره؛ ويأكل الرّطب بالبطّيخ، وكان أحبّ الفاكهة إليه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يأكل الرّطب، ويلقي النّوى على الطّبق. وكان صلّى الله عليه وسلّم يأكل البطّيخ بالرّطب، ويقول: «يكسر حرّ هذا ببرد هذا، وبرد هذا بحرّ هذا» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يأكل البطّيخ بالخبز وبالسّكر، وربّما أكله بالرّطب، ويستعين باليدين جميعا. وأكل [صلّى الله عليه وسلّم] يوما الرّطب في يمينه، وكان يحفظ النّوى في يساره، فمرّت شاة، فأشار إليها بالنّوى، فجعلت تأكل من كفّه اليسرى وهو يأكل بيمينه حتّى فرغ، وانصرفت الشّاة. وعن أنس رضي الله تعالى عنه: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجمع بين الخربز والرّطب. و (الخربز) : البطّيخ الأصفر.

وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأكل القثّاء بالرّطب. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: أرادت أمّي معالجتي للسّمنة لتدخلني على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فما استقام لها ذلك حتّى أكلت الرّطب بالقثّاء، فسمنت عليه كأحسن سمنة. أخرجه ابن ماجه، ورواه النّسائيّ: بإبدال (التّمر) مكان (الرّطب) . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأكل القثّاء بالرّطب وبالملح. وكان أحبّ الفواكه الرّطبة إليه [صلّى الله عليه وسلّم] : الرّطب والعنب. وكان صلّى الله عليه وسلّم يأكل العنب خرطا؛ يرى رؤاله على لحيته كخرز اللّؤلؤ. ورؤاله: ماؤه الّذي يتقطّر منه. وعن الرّبيّع بنت معوّذ ابن عفراء رضي الله تعالى عنها قالت: بعثني معاذ بقناع «1» من رطب، وعليه أجر من قثّاء زغب «2» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ القثّاء، فأتيته به وعنده حلية قد قدمت عليه من البحرين، فملأ يده منها، فأعطانيه.

_ (1) أي: بطبق يهدى عليه. (2) صغار الريش أول ما يطلع نبته، ووصف به القثاء تشبيها لما عليه بالرّيش الصغير.

فائدة:

قوله (أجر) -[جمع جرو]- وهو: الصّغير من كلّ شيء. وهنا: الصّغير من القثّاء. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أتي بباكورة الثّمرة.. وضعها على عينيه، ثمّ على شفتيه، وقال: «اللهمّ؛ كما أريتنا أوّله.. فأرنا اخره» ، ثمّ يعطيه من يكون عنده من الصّبيان. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان النّاس إذا رأوا أوّل الثّمر.. جاؤوا به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإذا أخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.. قال: «اللهمّ؛ بارك لنا في ثمارنا، [وبارك لنا في مدينتنا] ، وبارك لنا في صاعنا، وفي مدّنا. اللهمّ؛ إنّ إبراهيم عبدك، وخليلك، ونبيّك، وإنّي عبدك، ونبيّك، وإنّه دعاك لمكّة، وإنّي أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك به لمكّة ومثله معه» . قال: ثمّ يدعو أصغر وليد يراه فيعطيه ذلك الثّمر. قال العلماء: وقد استجيبت دعوة الخليل لمكّة، والحبيب للمدينة، فصار يجبى إليهما من مشارق الأرض ومغاربها ثمرات كلّ شيء. وكان عليه الصّلاة والسّلام يأكل من فاكهة بلده عند مجيئها، ولا يحتمي عنها. فائدة: قال القسطلّانيّ: وهذا من أكبر أسباب الصّحّة، فإنّ الله سبحانه وتعالى بحكمته جعل في كلّ بلد من الفاكهة ما ينتفع به أهلها في وقته،

فيكون تناوله من أسباب صحّتهم وعافيتهم، ويغني عن كثير من الأدوية، وقلّ من احتمى عن فاكهة بلده خشية السّقم؛ إلّا وهو من أسقم النّاس جسما، وأبعدهم عن الصّحّة والقوّة. فمن أكل منها ما ينبغي، في الوقت الّذي ينبغي، على الوجه الّذي ينبغي.. كان له دواء نافعا.

الفصل الخامس في صفة شرابه صلى الله عليه وسلم وقدحه

الفصل الخامس في صفة شرابه صلّى الله عليه وسلّم وقدحه عن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت: كان أحبّ الشّراب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحلو البارد. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشرب العسل الممزوج بالماء البارد. وعن جابر: أنّه صلّى الله عليه وسلّم دخل على رجل من الأنصار- ومعه صاحب له- فسلّم، فردّ الرّجل وهو يحوّل الماء في حائطه، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن كان عندك ماء بات في شنّة، وإلّا.. كراعنا» ، فقال: عندي ماء بات في شنّ، فانطلق إلى العريش فسكب في قدح ماء، ثمّ حلب عليه من داجن [له] ؛ فشرب عليه الصّلاة والسّلام. و (الشّنّ) : الجلد البالي. و (الدّاجن) : ما يألف البيوت من الشّياه ونحوها. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا استنّ «1» .. أعطى السّواك

_ (1) من الاستنان، وهو: تنظيف الأسنان بدلكها بالسّواك.

الأكبر، وإذا شرب.. أعطى الّذي عن يمينه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يمصّ الماء مصّا، ولا يعبّ عبّا. وكان [صلّى الله عليه وسلّم] يدفع فضل سؤره إلى من على يمينه، فإن كان من على يساره أجلّ رتبة.. قال للّذي على يمينه: «السّنّة أن تعطى، فإن أحببت.. اثرتهم» . وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: دخلت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنا وخالد بن الوليد على ميمونة، فجاءتنا بإناء من لبن، فشرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنا على يمينه، وخالد عن شماله. فقال لي: «الشّربة لك، فإن شئت اثرت بها خالدا» . فقلت: ما كنت لأؤثر على سؤرك أحدا. ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أطعمه الله طعاما.. فليقل: (اللهمّ؛ بارك لنا فيه، وأطعمنا خيرا منه) ، ومن سقاه الله لبنا.. فليقل: (اللهمّ؛ بارك لنا فيه، وزدنا منه) . ثمّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس شيء يجزىء مكان الطّعام والشّراب غير اللّبن» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يشرب قاعدا، وكان ذلك عادته. رواه مسلم. وفي رواية له أيضا: أنّه [صلّى الله عليه وسلّم] نهى عن الشّرب قائما.

وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم شرب من زمزم وهو قائم. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يتحف الرّجل بتحفة.. سقاه من ماء زمزم. وكان صلّى الله عليه وسلّم يحمل ماء زمزم. وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي «1» رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشرب قائما وقاعدا. وعن النّزّال بن سبرة قال: أتي عليّ بكوز من ماء وهو في الرّحبة «2» ، فأخذ منه كفّا فغسل يديه، ومضمض، واستنشق، ومسح وجهه وذراعيه ورأسه، ثمّ شرب وهو قائم، ثمّ قال: هذا وضوء من لم يحدث، هكذا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعل. وعن كبشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل عليّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فشرب من في قربة معلّقة قائما، فقمت إلى فيها فقطعته- أي: قطعت فم القربة للتّبرّك والاستشفاء. ووقع مثل ذلك لأمّ سليم رضي الله تعالى عنها. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا ينفخ في طعام ولا شراب، ولا يتنفّس في الإناء.

_ (1) الجمهور على كتابته بالياء، وهو الفصيح عند أهل العربية، ويقع في كثير من كتب الحديث والفقه أو أكثرها بحذف الياء؛ وهي لغة. (2) المكان المتّسع؛ وهو هنا: رحبة الكوفة، وكان يجلس فيها للحكم أو للوعظ.

وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا شرب.. تنفّس ثلاثا، ويقول: «هو أهنأ، وأمرأ، وأبرأ» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا شرب.. تنفّس مرّتين، وربّما كان يشرب بنفس واحد حتّى يفرغ. وكان صلّى الله عليه وسلّم يشرب في ثلاثة أنفاس، وإذا أدنى الإناء إلى فيه.. سمّى الله تعالى، وإذا أخّره.. حمد الله تعالى. (يفعل ذلك ثلاثا) . وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يتنفّس في الإناء، بل ينحرف عنه. وأتوه مرّة بإناء فيه عسل ولبن، فأبى أن يشربه، وقال: «شربتان في شربة، وإدامان في إناء واحد؟!» ، ثمّ قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا أحرّمه، ولكنّي أكره الفخر والحساب بفضول الدّنيا [غدا] ، وأحبّ التّواضع [لربّي عزّ وجلّ] ؛ فإنّ من تواضع لله.. رفعه [الله] » . وكان يستعذب له صلّى الله عليه وسلّم الماء من بيوت السّقيا. وفي لفظ: يستسقى له الماء العذب من بئر السّقيا. قال ابن القيّم رحمه الله تعالى: ولم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشرب على طعامه؛ لئلّا يفسده، ولا سيّما إن كان الماء حارّا، أو باردا، فإنّه رديء جدّا. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا شرب الماء.. قال: «الحمد لله الّذي سقانا عذبا فراتا برحمته، ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا» .

وأما قدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وأمّا قدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقد روي عن ثابت قال: أخرج إلينا أنس بن مالك قدح خشب غليظا مضبّبا بحديد، فقال: يا ثابت؛ هذا قدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لقد سقيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهذا القدح الشّراب كلّه: الماء والنّبيذ، والعسل واللّبن. قال الباجوريّ: (قوله: (النّبيذ) - أي: المنبوذ فيه- وهو: ماء حلو يجعل فيه تمرات ليحلو. وكان ينبذ له صلّى الله عليه وسلّم أوّل اللّيل، ويشرب منه إذا أصبح يومه ذلك وليلته الّتي يجيء، والغد إلى العصر، فإن بقي منه شيء.. سقاه الخادم إن لم يخف منه إسكارا، وإلّا.. أمر بصبّه، وهو له نفع عظيم في زيادة القوّة) اهـ. وعند البخاريّ: من حديث عاصم الأحول قال: رأيت قدح النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عند أنس بن مالك- وكان قد انصدع- فسلسله بفضّة؛ قال: وهو قدح جيّد عريض من نضار. قال أنس: لقد سقيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذا القدح أكثر من كذا وكذا. [قال] : وقال ابن سيرين: إنّه كان فيه حلقة من حديد، فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضّة.. فقال أبو طلحة: لا تغيّرنّ شيئا صنعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتركه. ومعنى (النّضار) : الخالص من العود، ومن كلّ شيء، ويقال:

أصل ذلك القدح من شجر النّبع، وقيل: من الأثل. ولونه يميل إلى الصّفرة. وكان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدح قوارير يشرب فيه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يعجبه أن يتوضّأ من مخضب من صفر. و (المخضب) : إناء. و (الصّفر) : النّحاس الأصفر. وكان له صلّى الله عليه وسلّم قدح من عيدان «1» تحت سريره يبول فيه باللّيل. وكان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مطهرة من فخّار يتوضّأ ويشرب منها، وكان النّاس يرسلون أولادهم الصّغار الّذين عقلوا فيدخلون عليه صلّى الله عليه وسلّم فلا يدفعون، فإذا وجدوا في المطهرة ماء شربوا منه، ومسحوا على وجوههم، وأجسامهم، يبتغون بذلك البركة. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا صلّى الغداة.. [جاءه] خدم أهل المدينة بانيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء.. إلّا غمس يده فيه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يبعث إلى المطاهر فيؤتى بالماء فيشربه، يرجو بركة أيدي المسلمين.

_ (1) وهي: الطوال من النخل، والواحدة: عيدانة.

الفصل السادس في صفة نومه صلى الله عليه وسلم

الفصل السّادس في صفة نومه صلّى الله عليه وسلّم قال في «المواهب» : (كان عليه الصّلاة والسّلام ينام أوّل اللّيل، ويستيقظ في أوّل النّصف الثاني، فيقوم فيستاك، فيتوضّأ، ولم يكن يأخذ من النّوم فوق القدر المحتاج إليه منه، ولا يمنع نفسه من القدر المحتاج منه، وكان ينام على جنبه الأيمن؛ ذاكرا الله تعالى حتّى تغلبه عيناه، غير ممتلئ البطن من الطّعام والشّراب. قال: وكان عليه الصّلاة والسّلام ينام على الفراش تارة، وعلى النّطع تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى الأرض تارة. وكان فراشه [صلّى الله عليه وسلّم] أدما؛ حشوه ليف، وكان له مسح «1» ينام عليه) اهـ وكان صلّى الله عليه وسلّم ينام أوّل اللّيل ويحيي اخره. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا ينام حتّى يستنّ.

_ (1) المسح: فراش خشن غليظ.

وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يرقد من ليل ولا نهار فيستيقظ.. إلّا تسوّك. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا ينام.. إلّا والسّواك عند رأسه، فإذا استيقظ.. بدأ بالسّواك. وكان صلّى الله عليه وسلّم يستاك في اللّيل مرارا. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يرقد.. وضع يده اليمنى تحت خدّه، ثمّ يقول: «اللهمّ؛ قني عذابك يوم تبعث عبادك» (ثلاث مرّات) . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أخذ مضجعه من اللّيل.. وضع يده تحت خدّه، ثمّ يقول: «باسمك اللهمّ أحيا، وباسمك أموت» . وإذا استيقظ.. قال: «الحمد لله الّذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النّشور» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أخذ مضجعه من اللّيل.. قال: «باسم الله وضعت جنبي، اللهمّ؛ اغفرلي ذنبي، وأخسئ شيطاني، وفكّ رهاني، وثقّل ميزاني، واجعلني في النّديّ «1» الأعلى» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أخذ مضجعه.. قرأ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) حتى يختمها. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه

_ (1) النديّ: هم القوم المجتمعون في مجلس.

وسلّم إذا أوى إلى فراشه كلّ ليلة.. جمع كفّيه فنفث «1» فيهما وقرأ فيهما (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، و: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، و: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ، ثمّ مسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما رأسه ووجهه وما أقبل من جسده؛ يصنع ذلك ثلاث مرّات. وكان [صلّى الله عليه وسلّم] لا ينام حتّى يقرأ: (بني إسرائيل) «2» و: (الزّمر) . وكان صلّى الله عليه وسلّم لا ينام حتّى يقرأ: (ألم تنزيل) السّجدة، و: (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) . وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر نساءه إذا أرادت إحداهنّ أن تنام.. أن تحمد ثلاثا وثلاثين، وتسبّح ثلاثا وثلاثين، وتسبّح ثلاثا وثلاثين، وتكبّر ثلاثا وثلاثين. وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أوى إلى فراشه.. قال: «الحمد لله الّذي أطعمنا وسقانا وكفانا واوانا، فكم ممّن لا كافي له ولا مؤوي له» . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا تضوّر من اللّيل.. قال: «لا إله إلّا الله الواحد القهّار، ربّ السّماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفّار» . ومعنى (تضوّر) : تلوّى وتقلّب في فراشه.

_ (1) نفخ نفخا لطيفا بلا ريق. (2) ويقال لها: سورة الإسراء.

وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا تعارّ من اللّيل.. قال: «ربّ اغفر وارحم، واهد للسّبيل الأقوم» . ومعنى (تعارّ) : هبّ من نومه واستيقظ. وعن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا عرّس بليل.. اضطجع على شقّه الأيمن، وإذا عرّس قبيل الصّبح.. نصب ذراعه، ووضع رأسه على كفّه. ومعنى (التّعريس) : نزول القوم في السّفر اخر اللّيل. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن ينام وهو جنب.. توضّأ وضوءه للصّلاة، وإذا أراد أن يأكل أو يشرب وهو جنب.. غسل يديه ثمّ يأكل ويشرب. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن ينام وهو جنب.. غسل فرجه وتوضّأ. وكان صلّى الله عليه وسلّم تنام عيناه ولا ينام قلبه. ولذلك كان صلّى الله عليه وسلّم ينام حتّى ينفخ «1» ، ثمّ يقوم فيصلّي.

_ (1) وهو: إرسال الهواء من الفم بقوة؛ والمراد هنا: ما يخرج من النائم حين استغراقه في نومه.

الباب الخامس في صفة خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحلمه، وعشرته مع نسائه، وأمانته، وصدقه، وحيائه، ومزاحه، وتواضعه، وجلوسه، وكرمه، وشجاعته وفيه ستّة فصول

الباب الخامس في صفة خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم

الفصل الأوّل في صفة خلقه صلّى الله عليه وسلّم وحلمه [صفة خلق رسول الله ص] قال القاضي عياض في «الشّفا» : (قال وهب بن منبّه: قرأت في أحد وسبعين كتابا، فوجدت في جميعها: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أرجح النّاس عقلا، وأفضلهم رأيا. وفي رواية أخرى: فوجدت في جميعها: أنّ الله تعالى لم يعط جميع النّاس من بدء الدّنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله صلّى الله عليه وسلّم إلّا كحبّة رمل من بين رمال الدّنيا) . وذكر القسطلّانيّ في «المواهب» ، عن «عوارف المعارف» : (اللّبّ والعقل مئة جزء؛ تسعة وتسعون في النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وجزء في سائر المؤمنين. قال: ومن تأمّل حسن تدبيره للعرب الّذين هم كالوحش الشّارد، مع الطّبع المتنافر المتباعد، وكيف ساسهم واحتمل جفاهم، وصبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه، واجتمعوا عليه، وقاتلوا دونه أهليهم واباءهم وأبناءهم، واختاروه على أنفسهم، وهجروا في رضاه أوطانهم وأحبّاءهم، من غير ممارسة سبقت له، ولا مطالعة كتب يتعلّم منها سير

الماضين.. تحقّق له أنّه أعقل العالمين. ولمّا كان عقله عليه الصّلاة والسّلام أوسع العقول.. لا جرم اتّسعت أخلاق نفسه الكريمة اتّساعا، لا يضيق عن شيء) . كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلقه القران. قال الإمام الغزاليّ في «الإحياء» : (قال سعد بن هشام: دخلت على عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها، فسألتها عن أخلاق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقالت: أما تقرأ القران؟! قلت: بلى. قالت: كان خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القران. وإنّما أدّبه القران بمثل قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 199] . وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل: 90] . وقوله: وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان: 17] . وقوله: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 43] . وقوله: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: 13] . وقوله: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الحجرات: 12] ) .

وأمثال هذه التّأديبات في القران لا تنحصر. وهو صلّى الله عليه وسلّم المقصود الأوّل بالتّأديب والتّهذيب، ثمّ منه يشرق النّور على كافّة الخلق؛ فإنّه أدّب بالقران فتأدّب به، وأدّب الخلق به؛ ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» . ثمّ لمّا أكمل الله تعالى خلقه.. أثنى عليه فقال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] . ثمّ قال الغزاليّ: (وعن معاذ بن جبل، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله حفّ الإسلام بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال» . ومن ذلك: حسن المعاشرة، وكرم الصّنيعة، ولين الجانب، وبذل المعروف، وإطعام الطّعام، وإفشاء السّلام، وعيادة المريض المسلم؛ برّا كان أو فاجرا، وتشييع جنازة المسلم، وحسن الجوار لمن جاورت؛ مسلما كان أو كافرا، وتوقير ذي الشّيبة المسلم، وإجابة دعوة الطّعام، والدّعاء عليه، والعفو، والإصلاح بين النّاس، والجود، والكرم، والسّماحة، والابتداء بالسّلام، وكظم الغيظ، والعفو عن النّاس، واجتناب ما حرّمه الإسلام من اللهو، والباطل، والغناء، والمعازف كلّها، وكلّ ذي وتر، وكلّ ذي ذحل، والغيبة، والكذب، والبخل، والشّحّ، والجفاء، والمكر، والخديعة، والنّميمة، وسوء ذات البين، وقطيعة الأرحام، وسوء الخلق والتّكبّر، والفخر، والاختيال، والاستطالة، والبذخ، والفحش، والتّفحّش، والحقد، والحسد، والطّيرة، والبغي، والعدوان، والظّلم.

قوله وتر: (الوتر) : الثّأر. و (الذّحل) : الحقد والعداوة، والثأر أيضا. قال أنس رضي الله عنه: فلم يدع نصيحة جميلة إلّا وقد دعانا إليها وأمرنا بها، ولم يدع غشّا- أو قال: عيبا، أو قال: شيئا- إلّا حذّرناه ونهانا عنه، ويكفي من ذلك كلّه هذه الاية: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90] . وقال معاذ: أوصاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا معاذ؛ أوصيك باتّقاء الله، وصدق الحديث، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وترك الخيانة، وحفظ الجار، ورحمة اليتيم، ولين الكلام، وبذل السّلام، وحسن العمل، وقصر الأمل، ولزوم الإيمان، والتّفقّه في القران، وحبّ الآخرة، والجزع من الحساب، وخفض الجناح، وأنهاك أن تسبّ حكيما، أو تكذّب صادقا، أو تطيع اثما، أو تعصي إماما عادلا، أو تفسد أرضا.. وأوصيك باتّقاء الله تعالى عند كلّ حجر وشجر ومدر، وأن تحدث لكلّ ذنب توبة؛ السّرّ بالسّرّ، والعلانية بالعلانية» ) . فهكذا أدّب [صلّى الله عليه وسلّم] عباد الله، ودعاهم إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الاداب. وعن الحسن بن عليّ رضي الله تعالى عنه قال: سألت خالي هند بن

أبي هالة «1» - وكان وصّافا- عن حلية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا- فقال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخما، مفخّما، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر ... فذكر الحديث بطوله. قال الحسن: فكتمتها الحسين زمانا، ثمّ حدّثته فوجدته قد سبقني إليه، فسأله عمّا سألته عنه، ووجدته قد سأل أباه عن مدخله ومخرجه وشكله، فلم يدع منه شيئا. قال الحسين: فسألت أبي عن دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال: كان إذا أوى إلى منزله.. جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء؛ جزأ لله، وجزأ لأهله، وجزأ لنفسه. ثمّ جزّأ جزأه بينه وبين النّاس، فيردّ بالخاصّة على العامّة، ولا يدّخر عنهم شيئا. وكان من سيرته في جزء الأمّة إيثار أهل الفضل بإذنه، وقسمه على قدر فضلهم في الدّين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج؛ فيتشاغل بهم ويشغلهم في ما يصلحهم والأمّة، من مسألتهم عنه، وإخبارهم بالّذي ينبغي لهم، ويقول: «ليبلّغ الشّاهد منكم الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، فإنّه من أبلغ

_ (1) وهو أخو السيدة فاطمة الزهراء من أمها خديجة رضي الله تعالى عنهما.

سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها.. ثبّت الله قدميه يوم القيامة» ؛ لا يذكر عنده إلّا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره. يدخلون روّادا- أي: طلّابا- ولا يفترقون إلّا عن ذواق «1» ، ويخرجون أدلّة؛ يعني: على الخير. قال: فسألته عن مخرجه: كيف كان يصنع فيه؟ قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخزن لسانه إلّا فيما يعنيه، ويؤلّفهم ولا ينفّرهم، ويكرم كريم كلّ قوم ويولّيه عليهم، ويحذر النّاس ويحترس منهم؛ من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره ولا خلقه، ويتفقّد أصحابه، ويسأل النّاس عمّا في النّاس، ويحسّن الحسن ويقوّيه، ويقبّح القبيح ويوهّيه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغافل مخافة أن يغافلوا أو يميلوا، لكلّ حال عنده عتاد- أي: شيء معدّ ومهيّأ- لا يقصّر عن الحقّ ولا يجاوزه، الّذين يلونه من النّاس خيارهم، أفضلهم عنده أعمّهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة. قال: فسألته عن مجلسه. فقال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يقوم ولا يجلس إلّا على ذكر، وإذا انتهى إلى قوم.. جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، يعطي كلّ جلسائه بنصيبه، لا يحسب جليسه أنّ أحدا أكرم عليه منه. من جالسه أو فاوضه في حاجة.. صابره حتّى يكون هو المنصرف

_ (1) ذواق- من الذوق- وهو: إما حسي للأجساد كالطعام والشراب، أو معنوي للأرواح كالأدب والعلم والخير.

عنه، ومن سأله حاجة.. لم يردّه إلّا بها أو بميسور من القول. قد وسع النّاس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا وصاروا عنده في الحقّ سواء. مجلسه مجلس حلم وحياء، وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم ولا تنثى فلتاته «1» . متعادلين، بل كانوا يتفاضلون فيه بالتّقوى، متواضعين، يوقّرون فيه الكبير، ويرحمون فيه الصّغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يمضي له وقت في غير عمل لله عزّ وجلّ، أو فيما لا بدّ له من صلاح نفسه. وكان صلّى الله عليه وسلّم أحسن النّاس خلقا. وكان صلّى الله عليه وسلّم دائم البشر، سهل الخلق. وعرّفوا (حسن الخلق) بأنّه: مخالطة النّاس بالجميل، والبشر، واللّطافة، وتحمّل الأذى، والإشفاق عليهم، والحلم، والصّبر، وترك التّرفّع والاستطالة عليهم، وتجنّب الغلظة والغضب والمؤاخذة. وعن عليّ كرّم الله وجهه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجود النّاس كفّا، وأوسع النّاس صدرا، وأصدق النّاس لهجة، وأوفاهم ذمّة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة. من راه بديهة.. هابه، ومن خالطه معرفة.. أحبّه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله [صلّى الله عليه وسلّم] .

_ (1) أي: لا تشاع ولا تذاع. هذا في ظاهر اللفظ: والأولى جعل النفي منصبّا على الفلتات نفسها، لا وصفها.. فالمعنى: لا فلتات فيه أصلا. وهو من نفي الشيء بإيجابه، وهو من مستطرفات علم البيان.

وعن أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلم النّاس، وأورع النّاس، وأزهد النّاس، وأكرم النّاس، وأعدل النّاس، وأحلم النّاس، وأعفّ النّاس، لم تمسّ يده يد امرأة لا يملك رقّها، أو عصمة نكاحها، أو تكون ذات محرم منه صلّى الله عليه وسلّم. وعن أنس أيضا: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحسن النّاس، وأجود النّاس، وأشجع النّاس. وكان صلّى الله عليه وسلّم أرأف النّاس بالنّاس، وأنفع النّاس للنّاس، وخير النّاس للنّاس. وكان صلّى الله عليه وسلّم أصبر النّاس على أقذار النّاس. وعن خارجة بن زيد بن ثابت قال: دخل نفر على زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه فقالوا له: حدّثنا أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: ماذا أحدّثكم؟ كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي.. بعث إليّ فكتبته له، فكنّا إذا ذكرنا الدّنيا.. ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة.. ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطّعام.. ذكره معنا، فكلّ هذا أحدّثكم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟!. وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتناشدون الشّعر بين يديه أحيانا، ويذكرون أشياء من أمر الجاهليّة، ويضحكون، فيتبسّم هو إذا ضحكوا، ولا يزجرهم إلّا عن حرام.

وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكثر النّاس تبسّما وضحكا في وجوه أصحابه، وتعجّبا ممّا تحدّثوا به، وخلطا لنفسه بهم. ولربّما ضحك حتّى تبدو نواجذه. وكان ضحك أصحابه عنده التّبسّم؛ اقتداء به، وتوقيرا له. قالوا: وقد جاءه أعرابيّ يوما؛ وهو صلّى الله عليه وسلّم متغيّر اللّون ينكره أصحابه، فأراد أن يسأله، فقالوا: لا تفعل يا أعرابيّ، فإنّا ننكر لونه. فقال: دعوني، فو الّذي بعثه بالحقّ نبيّا؛ لا أدعه حتّى يتبسّم. فقال: يا رسول الله؛ بلغنا أنّ المسيح- يعني: الدّجّال- يأتي النّاس بالثّريد وقد هلكوا جوعا.. أفترى لي- بأبي أنت وأمّي- أن أكفّ عن ثريده تعفّفا وتنزّها حتّى أهلك هزالا، أم أضرب في ثريده حتّى إذا تضلّعت شبعا.. امنت بالله وكفرت به؟! قالوا: فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى بدت نواجذه. ثمّ قال: «لا، بل يغنيك الله بما أغنى به المؤمنين» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يتلطّف بخواطر أصحابه، ويتفقّد من انقطع منهم عن مجلسه، وكثيرا ما يقول لأحدهم: «لعلّك يا أخي وجدت منّي، أو من إخواننا شيئا» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا فقد الرّجل من إخوانه ثلاثة أيّام.. سأل عنه، فإن كان غائبا.. دعا له، وإن كان شاهدا.. زاره، وإن كان مريضا.. عاده.

وكان صلّى الله عليه وسلّم يقبل على أصحابه بالمباسطة؛ حتّى يظنّ كلّ منهم أنّه أعزّ عليه من جميع أصحابه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يعطي كلّ من جلس إليه نصيبه من البشاشة؛ حتّى يظنّ أنّه أكرم النّاس عليه. وعن عمرو بن العاصي رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقبل بوجهه وحديثه على أشرّ القوم يتألّفهم بذلك، فكان يقبل بوجهه وحديثه عليّ حتّى ظننت أنّي خير القوم. فقلت: يا رسول الله؛ أنا خير، أو أبو بكر؟ فقال: «أبو بكر» . فقلت: يا رسول الله؛ أنا خير، أم عمر؟! فقال: «عمر» . فقلت: يا رسول الله؛ أنا خير، أم عثمان؟ فقال: «عثمان» . فلمّا سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصدقني.. فلوددت أنّي لم أكن سألته. وكان صلّى الله عليه وسلّم يعطي كلّ من جلس إليه نصيبه من وجهه، حتّى كأنّ مجلسه وسمعه وحديثه ولطيف محاسنه وتوجّهه للجالس إليه. ومجلسه مع ذلك مجلس حياء وتواضع وأمانة.

قال تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [ال عمران: 159] . وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يواجه أحدا في وجهه بشيء يكرهه. وعن أنس رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنّه كان عنده رجل به أثر صفرة. قال: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يكاد يواجه أحدا بشيء يكرهه، فلمّا قام.. قال للقوم: «لو قلتم له يدع هذه الصّفرة» . قال الباجوريّ: (والمراد أنّه لا يكاد يواجه أحدا بمكروه غالبا، فلا ينافي ما ثبت عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أنّه قال: رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليّ ثوبين معصفرين فقال: «إنّ هذين من ثياب الكفّار، فلا تلبسهما» . وفي رواية: قلت: أغسلهما؟ قال: «بل أحرقهما» . ولعلّ الأمر بالإحراق محمول على الزّجر. وهذا يدلّ على ما عليه بعض العلماء من تحريم المعصفر، والجمهور على كراهته) اهـ وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يواجه أحدا بمكروه، ولا يتعرّض في وعظه لأحد معيّن، بل يتكلّم خطابا عامّا. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا بلغه عن الرّجل الشّيء.. لم يقل: «ما

بال فلان يقول؟!. ولكن يقول: «ما بال أقوام يقولون.. كذا وكذا؟!» . وكانت معاتبته صلّى الله عليه وسلّم تعريضا: «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى..؟!» ونحو ذلك. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا رأى إنسانا يفعل ما لا يليق.. لم يدع أحدا يبادر إلى الإنكار عليه حتّى يتثبّت في أمره، ويعلّمه الأدب برفق. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يأخذ بالقرف، ولا يقبل قول أحد على أحد. و (القرف) : التّهمة. وكان صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما يقول: «لا تبلّغوني عن أصحابي إلّا خيرا، فإنّي أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصّدر» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره.. قال: «بشّروا ولا تنفّروا، ويسّروا ولا تعسّروا» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا لقي أصحابه.. لم يصافحهم حتّى يسلّم عليهم. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا لقي أحدا من أصحابه.. صافحه، ثمّ أخذ بيده فشابكه، ثمّ شدّ قبضته عليها. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا لقيه أحد من أصحابه.. صافحه، ثمّ أخذ بيده فشابكه، ثمّ شدّ قبضته عليها. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا لقيه أحد من أصحابه فقام معه.. قام معه، ولم ينصرف حتّى يكون الرّجل هو الّذي ينصرف عنه، وإذا لقيه أحد من أصحابه فتناول يده.. ناوله إيّاها، فلم ينزع يده منه حتّى يكون

الرّجل هو الّذي ينزع يده منه، وإذا لقي أحدا من أصحابه فتناول أذنه- أي: ليكلّمه سرّا-.. ناوله إيّاها؛ ثمّ لم ينزعها عنه حتّى يكون الرّجل هو الّذي ينزعها عنه؛ أي: لا ينحّي أذنه عن فمه حتّى يفرغ الرّجل من حديثه. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا لقيه الرّجل من أصحابه.. مسحه ودعا له. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يدعوه أحد من أصحابه، أو غيرهم.. إلّا قال صلّى الله عليه وسلّم: «لبّيك» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يكنّي أصحابه ويدعوهم بالكنى، وبأحبّ أسمائهم؛ إكراما لهم، واستمالة لقلوبهم، ويكنّي من لم تكن له كنية، ويكنّي النّساء اللّاتي لهنّ الأولاد، واللّاتي لم يلدن؛ يبتدئ لهنّ الكنى، ويكنّي الصّبيان، فيستلين به قلوبهم. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا مرّ على الصّبيان.. سلّم عليهم، ثمّ باسطهم. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا قدم من سفر.. تلقّي بصبيان أهل بيته. وكان صلّى الله عليه وسلّم أرحم النّاس بالصّبيان والعيال. وكان صلّى الله عليه وسلّم يؤتى بالصّبيان فيبرّك عليهم، ويحنّكهم، ويدعو لهم. وكان صلّى الله عليه وسلّم يزور الأنصار، ويسلّم على صبيانهم، ويمسح رؤوسهم.

وعن يوسف بن عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنهما قال: سمّاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يوسف» ، وأقعدني في حجره، ومسح على رأسي. وكان صلّى الله عليه وسلّم يلاعب زينب بنت أمّ سلمة، ويقول: «يا زوينب؛ يا زوينب» (مرارا) . وكان صلّى الله عليه وسلّم يركب الحسن والحسين على ظهره، ويمشي على يديه ورجليه، ويقول: «نعم الجمل جملكما، ونعم العدلان أنتما» ، وربّما فعل ذلك بينهما، وهما على الأرض. ودخل الحسن- وهو صلّى الله عليه وسلّم قد سجد- فركب على ظهره، فأبطأ في سجوده حتّى نزل الحسن، فلمّا فرغ.. قال له بعض أصحابه: يا رسول الله؛ قد أطلت سجودك؟ قال: «إنّ ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله» ؛ أي: جعلني كالرّاحلة، فركب على ظهري. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي والحسن والحسين يلعبان ويقعدان على ظهره. وكان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد أخذ بيد الحسن بن عليّ، ووضع رجليه على ركبتيه وهو يقول: «ترقّ.. ترقّ، عين بقّه ... حزقّة حزقّه» . قال في «لسان العرب» : (وفي الحديث أنّ النّبيّ صلّى الله عليه

وسلّم كان يرقّص الحسن أو الحسين؛ ويقول: «حزقّة.. حزقّة، ترقّ عين بقّه» . (الحزقّة) : الضّعيف الّذي يقارب خطوه من ضعف، فكان يرقى حتّى يضع قدميه على صدر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن الأثير: ذكرها له على سبيل المداعبة والتّأنيس له. و (ترقّ) بمعنى: اصعد. و (عين بقّة) : كناية عن صغر العين) اهـ وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكرم أهل الفضل في أخلاقهم، ويتألّف أهل الشّرف بالإحسان إليهم، وكان يكرم ذوي رحمه، ويصلهم من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم. وكان صلّى الله عليه وسلّم يكرم بني هاشم. وكان صلّى الله عليه وسلّم من أشدّ النّاس لطفا بالعبّاس. وكان صلّى الله عليه وسلّم يجلّ العبّاس إجلال الولد للوالد. وكان صلّى الله عليه وسلّم يبدأ من لقيه بالسّلام، وإذا أخذ بيده.. سايره حتّى يكون ذلك هو المنصرف. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا ودّع رجلا.. أخذ بيده، فلا ينزعها حتّى يكون الرّجل هو الّذي يدع يده، ويقول: «أستودع الله دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك» . وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يجلس إليه أحد وهو يصلّي.. إلّا خفّف

صلاته وأقبل عليه فقال: «ألك حاجة؟» ، فإذا فرغ.. عاد إلى صلاته. وكان صلّى الله عليه وسلّم يكرم كلّ داخل عليه، حتّى ربّما بسط ثوبه لمن ليست بينه وبينه قرابة ولا رضاع، يجلسه عليه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يؤثر الدّاخل عليه بالوسادة التي تكون تحته فإن أبي أن يقبلها.. عزم عليه حتّى يقبل. وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: خدمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشر سنين، فما قال لي: «أفّ» قطّ، وما قال لشيء صنعته: «لم صنعته؟» ، ولا لشيء تركته: «لم تركته؟» . وعنه أيضا [رضي الله تعالى عنه] قال: خدمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا ابن ثمان سنين- خدمته عشر سنين- فما لامني على شيء قطّ، فإن لامني لائم من أهله.. قال: «دعوه، فإنّه لو قضي شيء.. كان» . وفي «المصابيح» : عن أنس [رضي الله تعالى عنه] أيضا: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أحسن النّاس خلقا، فأرسلني يوما لحاجة؛ فقلت: والله لا أذهب- وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فخرجت حتّى أمرّ على صبيان وهم يلعبون في السّوق؛ فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد قبض بقفاي من ورائي. قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: «يا أنيس؛ أذهبت حيث أمرتك؟» ، قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله. وعن أنس [رضي الله تعالى عنه] أيضا قال: كنت أمشي مع النّبيّ

صلّى الله عليه وسلّم وعليه برد نجرانيّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيّ فجبذه بردائه جبذة شديدة رجع نبيّ الله في نحر الأعرابيّ، حتّى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أثّرت فيه حاشية البرد من شدّة جبذته. ثمّ قال: يا محمّد؛ مر لي من مال الله الّذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ ضحك، ثمّ أمر له بعطاء. وكان صلّى الله عليه وسلّم هينا لينا، ليس بفظّ ولا غليظ. وعن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنّها قالت: لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاحشا، ولا متفحّشا، ولا صخّابا في الأسواق، ولا يجزي بالسّيّئة السّيّئة، ولكن يعفو ويصفح. و (الصّخب) : شدّة الصّوت. وفي «الإحياء» : قد وصفه الله تعالى في «التّوراة» قبل أن يبعثه فقال: (محمّد رسول الله عبدي المختار؛ لا فظّ، ولا غليظ، ولا صخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسّيّئة السّيّئة، ولكن يعفو ويصفح، مولده بمكّة، وهجرته بطابة، وملكه بالشّام، يأتزر على وسطه، هو ومن معه دعاة للقران والعلم، يتوضّأ على أطرافه) . وكذلك نعته في «الإنجيل» . وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يجفو على أحد، ولو فعل معه ما يوجب الجفاء.

وكان صلّى الله عليه وسلّم يقبل معذرة المعتذر إليه، ولو فعل ما فعل. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اذاه أحد.. يعرض عنه، ويقول: «رحم الله أخي موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يرى اللّعب المباح فلا ينكره، وترفع عليه الأصوات بالكلام الجافي، فيحتمله ولا يؤاخذ. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سئل أن يدعو على أحد.. عدل عن الدّعاء عليه ودعا له. وما ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده امرأة ولا خادما قطّ ولا غيرهما؛ إلّا أن يكون في الجهاد. قال أنس رضي الله تعالى عنه: كان الخادم إذا أغضبه.. يقول صلّى الله عليه وسلّم: «لولا خشية القصاص يوم القيامة.. لأوجعتك بهذا السّواك» . ولمّا كسرت رباعيته «1» صلّى الله عليه وسلّم وشجّ وجهه يوم أحد.. شقّ ذلك على أصحابه شديدا، وقالوا: لو دعوت عليهم، فقال: «إنّي لم أبعث لعّانا؛ ولكن بعثت داعيا ورحمة، اللهمّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون» . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلّى الله

_ (1) هي: السّنّ التي بين الثنية والنّاب.

عليه وسلّم منتصرا من مظلمة ظلمها قطّ ما لم ينتهك من محارم الله شيء، فإذا انتهك من محارم الله شيء.. كان من أشدّهم في ذلك غضبا. وما خيّر بين أمرين إلّا اختار أيسرهما؛ ما لم يكن إثما، فإن كان إثما.. كان أبعد النّاس منه. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يغضب لنفسه، ولا ينتقم لها، وإنّما يغضب إذا انتهكت حرمات الله عزّ وجلّ؛ فحينئذ يغضب، ولا يقوم لغضبه شيء حتّى ينتصر للحقّ، وإذا غضب.. أعرض وأشاح. والقريب والبعيد والقويّ والضّعيف.. عنده في الحقّ سواء. قوله (أشاح) أي: أعرض بوجهه. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: استأذن رجل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا عنده، فقال: «بئس ابن العشيرة» ، أو «أخو العشيرة» . ثمّ أذن له، فلمّا دخل.. ألان له القول. فلمّا خرج.. قلت: يا رسول الله؛ قلت ما قلت، ثمّ ألنت له القول؟ فقال: «يا عائشة؛ إنّ من شرّ النّاس من تركه النّاس، أو ودعه النّاس اتّقاء فحشه» . قال في «المواهب» : (هذا الرّجل هو عيينة بن حصن الفزاريّ، وكان يقال له: (الأحمق المطاع) . وقد كانت منه في حياة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبعده أمور تدلّ على

ضعف إيمانه، فيكون ما وصفه به عليه الصّلاة والسّلام من علامات النّبوّة. وأمّا إلانة القول بعد أن دخل.. فعلى سبيل الائتلاف والمداراة. وهي مباحة، وربّما استحسنت بخلاف المداهنة. والفرق بينهما أنّ المداراة: بذل الدّنيا لصلاح الدّنيا أو الدّين، أو هما معا. والمداهنة: بذل الدّين لصلاح الدّنيا. والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنّما بذل له من دنياه حسن عشرته والرّفق في مكالمته، ومع ذلك فلم يمدحه بقول، فلم يناقض قوله فيه فعله، فإنّ قوله فيه حقّ، وفعله معه حسن عشرة، وقد ارتدّ عيينة في زمن الصّدّيق وحارب، ثمّ رجع وأسلم، وحضر بعض الفتوح في عهد عمر رضي الله تعالى عنه) اهـ وقال ابن الأثير في كتابه «أسد الغابة» ، في اخر ترجمة مخرمة بن نوفل رضي الله تعالى عنه: (روى النّضر بن شميل قال: حدّثنا أبو عامر الخزّاز، عن أبي يزيد المدنيّ، عن عائشة قالت: جاء مخرمة بن نوفل، فلمّا سمع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم صوته.. قال: «بئس أخو العشيرة» . فلمّا جاء.. أدناه، فقلت: يا رسول الله؛ قلت له ما قلت «1» ، ثمّ ألنت له القول؟

_ (1) أي: لأجله وفي شأنه، لا أنه خاطبه مباشرة؛ لفساد المعنى.

فقال: «يا عائشة؛ إنّ من شرّ النّاس من تركه النّاس اتّقاء فحشه» . أخرجه الثّلاثة. قال: وكان مخرمة هذا من المؤلّفة قلوبهم، وكان في لسانه فظاظة، وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتّقي لسانه) اهـ والظّاهر أنّ ما ذكره ابن الأثير من أنّ صاحب هذه القصّة هو مخرمة بن نوفل هو الصّحيح، أو: تكّررت. وعن الحسن بن عليّ [رضي الله تعالى عنه] قال: قال الحسين: سألت أبي عن سيرة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في جلسائه.. فقال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخّاب ولا فحّاش، ولا عيّاب، ولا مشاحّ، يتغافل عمّا لا يشتهي؛ ولا يؤيس منه، ولا يجيب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك النّاس من ثلاث: كان لا يذمّ أحدا، ولا يعيبه؛ ولا يطلب عورته، ولا يتكلّم إلّا فيما رجا ثوابه، وإذا تكلّم.. أطرق جلساؤه كأنّما على رؤوسهم الطّير، فإذا سكت.. تكلّموا، لا يتنازعون عنده الحديث، ومن تكلّم عنده.. أنصتوا له حتّى يفرغ، حديثهم عنده حديث أوّلهم، يضحك ممّا يضحكون منه، ويتعجّب ممّا يتعجّبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته حتّى أن كان أصحابه ليستجلبونهم، ويقول: «إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها.. فارفدوه» «1» .

_ (1) ارفدوه: أعينوه على حاجته وساعدوه حتى يصل إليها.

حلم رسول الله ص

ولا يقبل الثّناء إلّا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتّى يجوز «1» فيقطعه بنهي، أو قيام. [حلم رسول الله ص] وأمّا حلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقد كان صلّى الله عليه وسلّم أحلم النّاس، وأرغبهم في العفو مع القدرة، حتّى أتي بقلائد من ذهب أو فضّة، فقسمها بين أصحابه، فقال أعرابيّ: ما أراك تعدل، قال: «ويحك فمن يعدل عليك بعدي؟!» ، فلمّا ولّى.. قال: «ردّوه عليّ رويدا» . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقبض للنّاس يوم [حنين] «2» ، من فضّة في ثوب بلال، فقال له رجل: يا رسول الله؛ اعدل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ويحك؛ فمن يعدل إذا لم أعدل؟! فقد خبت إذا وخسرت إن كنت لا أعدل» . فقام عمر فقال: ألا أضرب عنقه؟ فإنّه منافق. فقال: «معاذ الله أن يتحدّث النّاس أنّي أقتل أصحابي» . وقسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قسمة، فقال رجل من الأنصار: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى. فذكر ذلك للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.. فاحمرّ وجهه وقال: «رحم الله أخي موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» .

_ (1) أي: يتجاوز الحد أو الحق. (2) في نسخة: خيبر.

وبال أعرابيّ في المسجد بحضرته، فهمّ به أصحابه، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزرموه» ؛ أي: لا تقطعوا عليه البول. ثمّ قال له: «إنّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول والخلاء» . وفي رواية: «قرّبوا ولا تنفّروا» . وجاء أعرابيّ يطلب منه شيئا، فأعطاه صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ قال له: «احسنت إليك؟» . قال الأعرابيّ: لا، ولا أجملت. فغضب المسلمون، وقاموا إليه. فأشار إليهم أن كفّوا. ثمّ قام ودخل منزله، وأرسل إلى الأعرابيّ وزاده شيئا، ثمّ قال له: «احسنت إليك؟» . قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا. فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يديّ حتّى يذهب من صدورهم ما فيها عليك» . قال: نعم. فلمّا كان الغد أو العشيّ.. جاء فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ هذا الأعرابيّ قال ما قال، فزدناه فزعم أنّه رضي ذلك، أكذلك؟» . قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا.

فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ مثلي ومثل هذا الأعرابيّ كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه فاتّبعها النّاس؛ فلم يزيدوها إلّا نفورا فناداهم صاحب النّاقة: خلّوا بيني وبين ناقتي، فإنّي أرفق بها وأعلم، فتوجّه لها صاحب النّاقة بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض فردّها هونا هونا حتّى جاءت واستناخت وشدّ عليها رحلها واستوى عليها، وإنّي لو تركتكم حيث قال الرّجل ما قال فقتلتموه دخل النّار» . وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كنت مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعليه برد غليظ الحاشية، فجذبه أعرابيّ بردائه جبذة شديدة حتّى أثّرت حاشية البرد على صفحة عاتقه، ثمّ قال: يا محمّد؛ أحمل لي على بعيريّ هذين من مال الله الّذي عندك، فإنّك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك. فسكت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثمّ قال: «المال مال الله، وأنا عبده» ، ثمّ قال: «ويقاد منك يا أعرابيّ «1» ما فعلت بي» . قال: لا. قال: «لم؟» ، قال: لأنّك لا تكافئ بالسّيّئة السّيّئة. فضحك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى الاخر تمر. وروى الطّبرانيّ وابن حبّان والحاكم والبيهقيّ عن زيد بن سعنة- وهو كما قال النّوويّ رحمه الله تعالى: أجلّ أحبار اليهود الّذين أسلموا- أنّه

_ (1) أي: أتجازى على ترك أدبك.

قال: لم يبق من علامات النّبوّة شيء إلّا وقد عرفته في وجه محمّد صلّى الله عليه وسلّم حين نظرت إليه، إلّا اثنتين لم أخبرهما «1» منه: 1- يسبق حلمه جهله، 2- ولا تزيده شدّة الجهل عليه إلّا حلما. فكنت أتلطّف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله، فابتعت منه تمرا إلى أجل، فأعطيته الثّمن، فلمّا كان قبل محلّ «2» الأجل بيومين أو ثلاثة.. أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه [على عنقه] ، ونظرت إليه بوجه غليظ، ثمّ قلت: ألا تقضيني يا محمّد حقّي؟! [فو الله] إنّكم يا بني عبد المطّلب مطل. فقال عمر: أي عدوّ الله؛ أتقول لرسول الله ما أسمع، فو الله لولا ما أحاذر [فوته] «3» .. لضربت بسيفي رأسك. ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينظر إلى عمر بسكون وتؤدة، وتبسّم. ثمّ قال: «أنا وهو كنّا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر؛ أن تأمرني بحسن [الأداء] ، وأن تأمره بحسن [التّباعة] ، اذهب به يا عمر؛ فاقضه حقّه وزده عشرين صاعا مكان ما روّعته» . ففعل. فقلت: يا عمر؛ كلّ علامات النّبوّة قد عرفتها في وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حينما نظرت إليه، إلّا اثنتين لم أختبرهما: يسبق

_ (1) في نسخة: لم أجدهما. (2) أي: وقت. (3) وهو: بقاء الصلح بين المسلمين وبين قومه.

حلمه جهله، ولا يزيده شدّة الجهل [عليه] إلّا حلما، فقد اختبرتهما، فأشهدك أنّي قد رضيت بالله ربّا؛ وبالإسلام دينا، وبمحمّد صلّى الله عليه وسلّم نبيّا. قال القاضي عياض في «الشّفا» : (وحسبك ما ذكرناه ممّا في «الصّحيح» والمصنّفات الثّابتة، ممّا بلغ متواترا مبلغ اليقين: من صبره على مقاساة قريش، وأذى الجاهليّة، ومصابرة الشّدائد الصّعبة معهم، إلى أن أظفره الله تعالى عليهم- يعني: بفتح مكّة- وحكّمه فيهم وهم لا يشكّون في استئصال شأفتهم «1» ، وإبادة خضرائهم- أي: إهلاك جماعتهم- فما زاد على أن عفا وصفح، وقال: «ما تقولون أنّي فاعل بكم؟» ، قالوا: خيرا؛ أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال: «اذهبوا؛ فأنتم الطّلقاء» . وقال أنس رضي الله تعالى عنه: هبط ثمانون رجلا من التّنعيم صلاة الصّبح ليقتلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخذوا، فأعتقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً [الفتح: 24] . وقال [صلّى الله عليه وسلّم] لأبي سفيان- وقد سبق إليه بعد أن جلب عليه الأحزاب، وقتل عمّه وأصحابه ومثّل بهم، فعفا عنه، ولاطفه في القول- وقال: «ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم ألاإله

_ (1) أي: إزالتهم من أصلهم.

إلّا الله؟!» ، فقال: بأبي أنت وأمّي، ما أحلمك، وأوصلك، وأكرمك) . وقال الإمام النّوويّ في «التهذيب» : (قد جمع الله سبحانه وتعالى له صلّى الله عليه وسلّم كمال الأخلاق، ومحاسن الشّيم، واتاه علم الأوّلين والاخرين، وما فيه النّجاة والفوز؛ وهو أمّيّ لا يقرأ ولا يكتب، ولا معلّم له من البشر، واتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين، واختاره على جميع الأوّلين والاخرين، وأعطاه مفاتيح خزائن الأرض كلّها؛ فأبى أن يأخذها، واختار الآخرة عليها، وكان كما وصفه الله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] اهـ

الفصل الثاني في صفة عشرته صلى الله عليه وسلم مع نسائه رضي الله تعالى عنهن

الفصل الثّاني في صفة عشرته صلّى الله عليه وسلّم مع نسائه رضي الله تعالى عنهن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا خلا بنسائه.. ألين النّاس، وأكرم النّاس، ضحّاكا بسّاما. وكان صلّى الله عليه وسلّم من أفكه النّاس. قال المناويّ: (أي: من أمزحهم إذا خلا بنحو أهله) . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: حدّث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة نساءه حديثا، فقالت امرأة منهنّ: كأنّ الحديث حديث خرافة. فقال: «أتدرون ما خرافة؟ إنّ خرافة كان رجلا من عذرة، أسرته الجنّ في الجاهليّة، فمكث فيهم دهرا، ثمّ ردّوه إلى الإنس، فكان يحدّث النّاس بما رأى من الأعاجيب، فقال النّاس: (حديث خرافة) » . وكان صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما يقبّل عرف ابنته فاطمة الزّهراء،

وكان صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما يقبّلها في فمها أيضا. و (العرف) : أعلى الرأس، ويطلق على الرّقبة. وكان صلّى الله عليه وسلّم مع أصحابه وأزواجه كواحد منهم، وكان حسن المعاشرة. وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول: كنت إذا هويت شيئا.. تابعني صلّى الله عليه وسلّم عليه. وكنت إذا شربت من الإناء.. أخذه فوضع فمه على موضع فمي وشرب، وكان ينهش فضلتي من اللّحم الّذي على العظم، وكان يتّكئ في حجري ويقرأ القران. وحدّثت عائشة رضي الله تعالى عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحديث أمّ زرع؛ وهو: أنّ إحدى عشرة امرأة تعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهنّ شيئا، فوصفت كلّ واحدة زوجها، فكانت أحسنهنّ وصفا لزوجها وأكثرهنّ تعدادا لنعمه عليها: زوجة أبي زرع. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كنت لك كأبي زرع لأمّ زرع» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يسرّب «1» إلى عائشة رضي الله تعالى عنها بنات الأنصار يلعبن معها. وكان صلّى الله عليه وسلّم يريها الحبشة؛ وهم يلعبون في المسجد، وهي متّكئة على منكبه.

_ (1) يسرّب: يرسل.

وروي: أنّه صلّى الله عليه وسلّم سابقها، فسبقته، ثمّ سابقها بعد ذلك، فسبقها وقال: «هذه بتلك» . وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّهم كانوا يوما عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيت عائشة رضي الله تعالى عنها، إذ أتي بصحفة خبز ولحم من بيت أمّ سلمة، فوضعت بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «ضعوا أيديكم» ، فوضع نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم [يده] ، ووضعنا أيدينا، فأكلنا وعائشة تصنع طعاما عجّلته، وقد رأت الصّحفة الّتي أتي بها، فلمّا فرغت من طعامها.. جاءت به فوضعته، ورفعت صحفة أمّ سلمة فكسرتها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلوا باسم الله؛ غارت أمّكم» . ثمّ أعطى صحفتها أمّ سلمة؛ فقال: «طعام مكان طعام، وإناء مكان إناء» . رواه الطّبرانيّ في «الصّغير» . وهو عند البخاريّ بلفظ: كان صلّى الله عليه وسلّم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمّهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت الّتي [النّبيّ] في بيتها يد الخادم، فسقطت الصّحفة فانفلقت، فجمع صلّى الله عليه وسلّم فلق الصّحفة، ثمّ جعل يجمع فيها الطّعام الّذي كان في الصّحفة ويقول: «غارت أمّكم» ، ثمّ حبس الخادم، حتّى أتي بصحفة من عند الّتي هو في بيتها، فدفع الصّحفة إلى الّتي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت الّتي كسرت. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أتيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بخزيرة طبختها له، وقلت لسودة والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بيني

وبينها؛ فقلت لها: كلي، فأبت، فقلت لها: كلي، فأبت، فقلت لها: لتأكلين، أو لألطّخنّ بها وجهك، فأبت، فوضعت يدي في الخزيرة فلطخت بها وجهها، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. و (الخزيرة) : لحم يقطع قطعا صغارا، ويصبّ عليه ماء كثير، فإذا نضج ذرّ عليه الدّقيق. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا غضبت عائشة.. عرك بأنفها وقال: «يا عويش؛ قولي: اللهمّ ربّ محمّد اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلّات الفتن» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أتي بهديّة قال: «اذهبوا بها إلى بيت فلانة، فإنّها كانت صديقة لخديجة- رضي الله تعالى عنها- إنّها كانت تحبّ خديجة» . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة رضي الله تعالى عنها لما كنت أسمعه يذكرها، وإن كان ليذبح الشّاة فيهديها إلى خلائلها، واستأذنت عليه أختها فارتاح لها، ودخلت عليه امرأة فهشّ لها وأحسن السّؤال عنها، فلمّا خرجت قال: «إنّها كانت تأتينا أيّام خديجة، وإنّ حسن العهد من الإيمان» . قال القسطلّانيّ: (وهكذا كانت أحواله عليه الصّلاة والسّلام مع أزواجه، لا يأخذ عليهنّ ويعذرهنّ، وإن أقام عليهنّ قسطاس عدل أقامه من غير قلق، ولا غضب. وبالجملة: فمن تأمّل سيرته عليه الصّلاة والسّلام مع أهله وأصحابه

وغيرهم من الفقراء، والأيتام، والأرامل، والأضياف، والمساكين.. علم أنّه قد بلغ من رقّة القلب ولينه الغاية الّتي لا مرمى وراءها لمخلوق، وإنّه كان يشدّد في حدود الله وحقوقه ودينه؛ حتّى قطع يد السّارق ... إلى غير ذلك) .

الفصل الثالث في صفة أمانته صلى الله عليه وسلم وصدقه

الفصل الثّالث في صفة أمانته صلّى الله عليه وسلّم وصدقه كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم امن النّاس، وأصدقهم لهجة منذ كان. قال تعالى: مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 21] . أكثر المفسّرين على أنّه محمّد صلّى الله عليه وسلّم. وكانت تسمّيه قريش قبل نبوّته: (الأمين) . ولمّا اختلفوا عند بناء الكعبة فيمن يضع الحجر.. حكّموا أوّل داخل عليهم، فإذا بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم داخل، وذلك قبل نبوّته، فقالوا: (هذا محمّد الأمين.. قد رضينا به) . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «والله إنّي لأمين في السّماء، أمين في الأرض» . وورد أنّ أبا جهل قال للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنّا لا نكذّبك، وما أنت فينا بمكذّب، ولكن نكذّب بما جئت به. فأنزل الله فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] .

وقيل: إنّ الأخنس بن شريق لقي أبا جهل يوم بدر فقال له: يا أبا الحكم؛ ليس هنا غيري وغيرك يسمع كلامنا، تخبرني عن محمّد: صادق، أم كاذب؟ فقال أبو جهل: والله إنّ محمّدا لصادق، وما كذب محمّد قطّ. وسأل هرقل عنه صلّى الله عليه وسلّم أبا سفيان فقال: هل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. وقال النّضر بن الحارث لقريش: قد كان محمّد فيكم غلاما حدثا؛ أرضاكم فيكم «1» ، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتّى إذا رأيتم في صدغيه الشّيب وجاءكم بما جاءكم به.. قلتم ساحر؟! لا والله ما هو بساحر. وفي حديث عليّ رضي الله عنه- في وصفه عليه الصّلاة والسّلام-: أصدق النّاس لهجة.

_ (1) أي: ترضون أفعاله وأحواله.

الفصل الرابع في صفة حيائه صلى الله عليه وسلم ومزاحه

الفصل الرّابع في صفة حيائه صلّى الله عليه وسلّم ومزاحه [حياء رسول الله ص] عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشدّ حياء من العذراء في خدرها. وكان إذا كره شيئا.. عرف في وجهه. وكان صلّى الله عليه وسلّم أشدّ النّاس حياء، لا يثبّت بصره في وجه أحد. وكان صلّى الله عليه وسلّم يكنّي عمّا اضطرّه الكلام إليه ممّا يكره. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد الحاجة.. أبعد. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد الحاجة.. لم يرفع ثوبه حتّى يدنو من الأرض. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل المرفق.. لبس حذاءه وغطّى رأسه. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما رأيت فرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قطّ.

مزاح رسول الله ص

[مزاح رسول الله ص] وأمّا مزاح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقد كان صلّى الله عليه وسلّم يمزح مع النّساء والصّبيان وغيرهم، ولا يقول إلّا حقّا. وكان صلّى الله عليه وسلّم من أفكه النّاس مع صبيّ. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا مزح.. غضّ بصره. وكان صلّى الله عليه وسلّم فيه دعابة قليلة. وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال له: «يا ذا الأذنين» ؛ يعني: يمازحه «1» . وعن أنس [رضي الله تعالى عنه] أيضا قال: إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليخالطنا حتّى يقول لأخ لي: «يا أبا عمير؛ ما فعل النّغير؟» . قال أبو عيسى التّرمذيّ: وفقه هذا الحديث: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يمازح. وفيه: أنّه كنّى غلاما صغيرا فقال له: «يا أبا عمير» . وفيه: أنّه لا بأس أن يعطى الصّبيّ الطّير ليلعب به- أي: لعبا لا عذاب فيه- وإلّا.. حرم تمكينه منه؛ للنّهي عن تعذيب الحيوان. وإنّما قال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا عمير؛ ما فعل

_ (1) أي: يا صاحب الأذنين السميعتين الواعيتين الضابطتين لما سمعتا.

النّغير» .. لأنّه كان له نغير يلعب به، فمات، فحزن الغلام عليه، فمازحه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا أبا عمير؛ ما فعل النّغير» . و (النّغير) : طائر كالعصفور، أحمر المنقار. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قالوا: يا رسول الله؛ إنّك تداعبنا، فقال: «نعم، غير أنّي لا أقول إلّا حقّا» . وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّ رجلا استحمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «إنّي حاملك على ولد ناقة» ، فقال: يا رسول الله؛ ما أصنع بولد النّاقة؟! فقال: «وهل تلد الإبل إلّا النّوق؟!» «1» . وعن أنس أيضا رضي الله تعالى عنه: أنّ رجلا من أهل البادية- وكان اسمه زاهرا «2» - وكان يهدي إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هديّة من البادية، فيجهّزه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يخرج، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ زاهرا باديتنا؛ ونحن حاضرته» ، وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّه، وكان رجلا دميما، فأتاه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوما، وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال من هذا؟ أرسلني، فالتفت فعرف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فجعل لا يألو

_ (1) المقصود أنه صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يحمله على راحلة كبيرة، وهي بالأصل ولد الناقة فلو تدبر الرجل اللفظ لما قال ذلك. (2) ابن حرام الأشجعي.

ما ألصق ظهره بصدر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين عرفه، فجعل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من يشتري هذا العبد؟» ، فقال: يا رسول الله؛ إذن والله تجدني كاسدا، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لكن عند الله لست بكاسد» ، أو قال: «أنت عند الله غال» . و (الدّميم) : قبيح الوجه. وعن زيد بن أسلم رضي الله تعالى عنه: أنّ رجلا «1» كان يهدي للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم العكّة «2» من السّمن والعسل، فإذا جاء صاحبه يتقاضاه.. جاء به إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: أعط هذا حقّ متاعه، فما يزيد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على أن يتبسّم، ويأمر به فيعطى. وفي رواية: كان لا يدخل المدينة طرفة «3» إلّا اشترى منها، ثمّ جاء فقال: يا رسول الله؛ هذا هديّة لك، فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه.. جاء به، فيقول: أعط هذا الثّمن، فيقول: «ألم تهده لي؟!» ، فيقول: ليس عندي، فيضحك ويأمر لصاحبه بثمنه. وعن الحسن رضي الله تعالى عنه قال: أتت عجوز «4» النّبيّ صلّى الله

_ (1) هو عبد الله الملقب ب (حمار) بلفظ الحيوان المعروف. (2) انية السمن أصغر من القربة. (3) أي: ما يستملح ويعجب. (4) قيل: إنها صفية بنت عبد المطلب، أم الزبير بن العوام رضي الله عنهما.

عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله؛ ادع الله أن يدخلني الجنّة، فقال: «يا أمّ فلان؛ إنّ الجنّة لا يدخلها عجوز» . قال: فولّت تبكي، فقال: «أخبروها أنّها لا تدخلها وهي عجوز؛ إنّ الله تعالى يقول: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً. فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً. عُرُباً أَتْراباً» [الواقعة: 35- 37] .

الفصل الخامس في صفة تواضعه صلى الله عليه وسلم وجلوسه واتكائه

الفصل الخامس في صفة تواضعه صلّى الله عليه وسلّم وجلوسه واتكائه [تواضع رسول الله ص] كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشدّ النّاس تواضعا، وأسكنهم من غير كبر، وأبلغهم من غير تطويل، وأحسنهم بشرا، لا يهوله شيء من أمر الدّنيا. وكان صلّى الله عليه وسلّم متواضعا في غير مذلّة. وعن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تطروني كما أطرت النّصارى ابن مريم، إنّما أنا عبد فقولوا: (عبد الله ورسوله) » . و (الإطراء) : هو مجاوزة الحدّ في المدح. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يدفع عنه النّاس، ولا يضربوا عنه. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يأتيه أحد من حرّ ولا عبد، ولا أمة ولا مسكين.. إلّا قام معه في حاجته. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يستكبر عن إجابة الأمة والمسكين. وكان صلّى الله عليه وسلّم يكثر الذّكر ويقلّ اللّغو، ويطيل الصّلاة

ويقصر الخطبة، وكان لا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين والعبد حتّى يقضي له حاجته. وعن أنس رضي الله تعالى عنه: كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتنطلق به حيث شاءت. وعن أنس أيضا رضي الله تعالى عنه: أنّ امرأة جاءت إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت له: إنّ لي إليك حاجة، فقال: «اجلسي في أيّ طرق المدينة شئت أجلس إليك» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا صلّى بالنّاس الغداة أقبل عليهم بوجهه فقال: «هل فيكم مريض أعوده؟» ، فإن قالوا: لا.. قال: «فهل فيكم جنازة أتبعها؟» ، فإن قالوا: لا.. قال: «من رأى منكم رؤيا يقصّها علينا» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعتقل الشّاة، ويجيب دعوة المملوك على خبز الشّعير. وكان صلّى الله عليه وسلّم يعود مرضى المساكين الّذين لا يؤبه لهم، ويخدمهم بنفسه صلّى الله عليه وسلّم، وكان صلّى الله عليه وسلّم يجيب من دعاه؛ من غنيّ أو فقير أو شريف، ولا يحتقر أحدا. وكان صلّى الله عليه وسلّم يجيب إلى الوليمة، ويشهد الجنائز. وكان صلّى الله عليه وسلّم يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم. وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه

وسلّم يعود المرضى، ويشهد الجنائز ويركب الحمار، ويجيب دعوة العبد. وكان يوم نبي قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف وعليه إكاف. و (الخطام) : الزّمام. و (الإكاف) : البرذعة «1» . وعن أنس أيضا رضي الله تعالى عنه: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يدعى إلى خبز الشّعير والإهالة السّنخة، فيجيب، ولقد كان له درع عند يهوديّ فما وجد ما يفكّها حتّى مات. و (الإهالة السّنخة) وفي رواية: الزّنخة؛ هي: الدّهن المتغيّر الرّيح من طول المكث. وعن أنس أيضا رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو أهدي إليّ كراع.. لقبلت، ولو دعيت عليه.. لأجبت» . وعنه أيضا [رضي الله تعالى عنه] قال: حجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على رحل رثّ، وعليه قطيفة لا تساوي أربعة دراهم، فقال: «اللهمّ؛ اجعله حجّا لا رياء فيه ولا سمعة» . و (القطيفة) : كساء له خمل. هذا.. وقد فتحت عليه الأرض، وأهدى في حجّه ذلك مئة بدنة.

_ (1) أي: ما يوضع على الحمار ليركب عليه، كالسرج للفرس.

ولمّا فتحت عليه مكّة ودخلها بجيوش المسلمين.. طأطأ على رحله رأسه حتّى كاد يمسّ قادمته «1» ؛ تواضعا لله تعالى. وكان صلّى الله عليه وسلّم يركب ما يمكنه، فمرّة فرسا، ومرّة بعيرا، ومرّة بغلة، ومرّة حمارا، ومرّة يمشي راجلا حافيا، بلا رداء ولا قلنسوة، ليعود المرضى في أقصى المدينة. وكان صلّى الله عليه وسلّم يركب الحمار عريا، ليس عليه شيء. وركب صلّى الله عليه وسلّم الفرس مسرجة تارة، وعريانة أخرى، وكان يجري بها في بعض الأحيان. وكان صلّى الله عليه وسلّم يخرج إلى العيد ماشيا، ويرجع ماشيا. وكان صلّى الله عليه وسلّم يتوكّأ إذا مشى. وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: جاءني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس براكب بغل ولا برذون «2» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يردف خلفه عبده أو غيره، وتارة يردف خلفه وقدّامه، وهو في الوسط. ولمّا قدم صلّى الله عليه وسلّم مكّة استقبله أغيلمة بني عبد المطّلب، فحمل واحدا بين يديه، واخر خلفه. وعن قيس بن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنهما قال: زارنا

_ (1) أي: مقدمة رحله. (2) البرذون: الفرس الأعجمي.

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا أراد الانصراف.. قرّب له سعد حمارا وطّأ عليه بقطيفة، فركب صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ قال سعد: يا قيس؛ اصحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال قيس: فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اركب» ، فأبيت، فقال: «إمّا أن تركب، وإمّا أن تنصرف» ، فانصرفت. وفي رواية أخرى: «اركب أمامي؛ فصاحب الدّابّة أولى بمقدّمها» . وفي «المواهب» : (عن المحبّ الطّبريّ: أنّه صلّى الله عليه وسلّم ركب حمارا عريا إلى قباء «1» ، وأبو هريرة معه، قال: «يا أبا هريرة؛ أأحملك؟» ، قال: ما شئت يا رسول الله، قال: «اركب» ، فوثب أبو هريرة ليركب فلم يقدر، فاستمسك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوقعا [جميعا] ، ثمّ ركب صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ قال: «يا أبا هريرة؛ أأحملك؟» ، قال: ما شئت يا رسول الله، فقال: «اركب» ، فلم يقدر أبو هريرة على ذلك، فتعلّق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوقعا جميعا، فقال: «يا أبا هريرة؛ أأحملك؟» ، فقال: لا، والّذي بعثك بالحقّ لا رميتك ثالثا. وذكر الطّبريّ أيضا: أنّه عليه الصّلاة والسّلام كان في سفر وأمر أصحابه بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول الله؛ عليّ ذبحها، وقال اخر: يا رسول الله؛ عليّ سلخها، وقال اخر: يا رسول الله؛ عليّ

_ (1) يؤنث ويذكر، ويمدّ ويقصر، ويصرف ويمنع، والأفصح: التذكير والصرف مع المدّ.

طبخها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليّ جمع الحطب» ، فقالوا: يا رسول الله؛ نكفيك العمل، فقال: «قد علمت أنّكم تكفوني، ولكن أكره أن أتميّز عليكم، فإنّ الله سبحانه وتعالى يكره من عبده أن يراه متميّزا بين أصحابه» ) . وقال في «الشّفا» : (عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه [قال] : وفد وفد النّجاشيّ، فقام النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يخدمهم، فقال له أصحابه: نكفيك، قال: «إنّهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وأنا أحبّ أن أكافئهم» . ولمّا جيء بأخته من الرّضاعة الشّيماء في سبايا هوازن، وتعرّفت له.. بسط لها رداءه، وقال لها: «إن أحببت أقمت عندي مكرمة محبّة، أو متّعتك ورجعت إلى قومك» ، فاختارت قومها، فمتّعها «1» . وقال أبو الطّفيل رضي الله تعالى عنه «2» : رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأنا غلام، إذ أقبلت امرأة حتّى دنت منه، فبسط لها رداءه، فجلست عليه، فقلت: من هذه؟ قالوا: أمّه الّتي أرضعته. وعن عمرو بن السّائب: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان جالسا يوما، فأقبل أبوه من الرّضاعة «3» ، فوضع له بعض ثوبه، فقعد

_ (1) أي: أعطاها زادا ومالا. (2) عامر بن واثلة الكناني. (3) وهو: الحارث بن عبد العزى رضي الله عنه.

عليه. ثمّ أقبلت أمّه «1» ، فوضع لها شقّ ثوبه من جانبه الاخر، فجلست عليه. ثمّ أقبل أخوه من الرّضاعة «2» ، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأجلسه بين يديه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يبعث إلى ثوبية- مولاة أبي لهب- مرضعته بصلة وكسوة، فلمّا ماتت.. سأل: «من بقي من قرابتها؟» ، فقيل: لا أحد) . وكان صلّى الله عليه وسلّم يستفتح ويستنصر بصعاليك المسلمين «3» . وكان له صلّى الله عليه وسلّم عبيد وإماء، وكان لا يرتفع عليهم في مأكل ولا ملبس. وكان صلّى الله عليه وسلّم يأكل مع خدمه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يجلس مع الفقراء. وكان صلّى الله عليه وسلّم يواكل الفقراء والمساكين، ويفلي ثيابهم «4» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يخيط ثوبه، ويخصف نعله «5» ، ويعمل ما يعمل الرّجال في بيوتهم «6» .

_ (1) أي: حليمة السعدية رضي الله عنها. (2) وهو: عبد الله بن الحارث بن عبد العزى رضي الله عنهما. (3) أي: بدعاء فقرائهم لقربه من الإجابة. (4) أي: يزيل ما فيها من القمل. (5) أي: يخرز طاقا على طاق. (6) من الاشتغال بمهنة الأهل والنفس؛ إرشادا للتواضع وترك التكبّر.

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّه قيل لها: ماذا كان يعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيته؟ قالت: كان بشرا من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه. وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أوسع النّاس خلقا، وكان إذا دخل بيته يكون أكثر عمله فيه الخياطة، وكان يصنع كما يصنع احاد النّاس، يشيل هذا، ويحطّ هذا، ويقمّ البيت، ويقطّع اللّحم، ويعين الخادم. وكان صلّى الله عليه وسلّم يركب الحمار، ويخصف النّعل، ويرقع القميص، ويلبس الصّوف، ويقول: «من رغب عن سنّتي.. فليس منّي» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يعقل البعير، ويعلف ناضحه، ويأكل مع الخادم، ويعجن معها، ويحمل بضاعته من السّوق. و (النّاضح) : البعير يستقى عليه، ثمّ استعمل في كلّ بعير. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: دخلت السّوق مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاشترى سراويل وأخذه، فذهبت لأحمله، فقال: «صاحب الشّيء أحقّ بشيئه أن يحمله» . وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: لم يكن شخص أحبّ إليهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: وكانوا إذا رأوه.. لم يقوموا؛ لما يعلمون من كراهته لذلك.

جلوس رسول الله ص

[جلوس رسول الله ص] وأمّا جلوس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فعن خارجة بن زيد رضي الله [تعالى] عنه قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أوقر النّاس في مجلسه؛ لا يكاد يخرج شيئا من أطرافه «1» . وكان مجلسه صلّى الله عليه وسلّم مجلس حلم وحياء، وأمانة وصيانة، وصبر وسكينة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، يتعاطفون فيه بالتّقوى، ويتواضعون، ويوقّر الكبار، ويرحم الصّغار، ويؤثرون المحتاج، ويحفظون الغريب، ويخرجون أدلّة على الخير. قوله: (لا تؤبن فيه الحرم) أي: لا تذكر فيه النّساء بقبيح، ويصان مجلسه عن الرّفث، وما يقبح ذكره. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجلس بين أصحابه كأنّه أحدهم، فيأتي الغريب فلا يدري أيّهم هو حتّى يسأل عنه. فطلب أصحابه منه أن يجلس مجلسا رفيعا ليعرفه الغريب فقال: «افعلوا ما بدا لكم» ، فبنوا له دكّانا من طين، فكان يجلس عليها. و (الدّكّان) - كالدّكّة-: المكان المرتفع يجلس عليه، وهو المسطبة. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس.. جلس إليه أصحابه حلقا حلقا. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يتنخّم نخامة إلّا وقعت في كفّ رجل من

_ (1) أي: أطراف بدنه؛ كرجليه.

أصحابه، فيدلك بها وجهه وجلده. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا توضّأ.. كادوا يقتتلون على وضوئه؛ أي: الماء الّذي يتوضّأ به. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا تكلّموا عنده.. يخفضون أصواتهم، وإذا نظروا إليه.. لا يحدّون النّظر؛ تعظيما له صلّى الله عليه وسلّم. وكان صلّى الله عليه وسلّم يتخوّل «1» أصحابه بالموعظة. وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس في المسجد.. احتبى بيديه. قوله: (احتبى) الاحتباء: أن يجلس على ألييه ويضمّ رجليه إلى بطنه بنحو عمامة يشدّها عليهما وعلى ظهره. و (اليدان) بدل عمّا يحتبي به؛ من نحو عمامة. وكان أكثر جلوسه: أن ينصب ساقيه جميعا، ويمسك بيديه عليهما شبه الحبوة. وكان لا يعرف مجلسه صلّى الله عليه وسلّم من مجالس أصحابه؛ لأنّه كان حيث انتهى به المجلس جلس. وما رئي صلّى الله عليه وسلّم قطّ مادّا رجليه يضيّق بهما على أصحابه؛ إلّا أن يكون المكان واسعا. وكان أكثر جلوسه صلّى الله عليه وسلّم إلى القبلة. وعن قيلة بنت مخرمة رضي الله تعالى عنها: أنّها رأت رسول الله

_ (1) أي: يتعهد أصحابه بالنصائح المفيدة؛ حينا بعد حين؛ مخافة السامة عليهم.

صلّى الله عليه وسلّم في المسجد، وهو قاعد القرفصاء، قالت: فلمّا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المتخشّع في الجلسة.. أرعدت من الفرق. قوله: (القرفصاء) هي: أن يجلس على ألييه، ويلصق فخذيه ببطنه، ويضع يديه على ساقيه، وهي: جلسة المحتبي. وقيل: أن يجلس على ركبتيه منكبّا، ويلصق بطنه بفخذيه، ويتأبّط كفّيه. و (الفرق) : الخوف. وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أتي صلّى الله عليه وسلّم برجل فأرعد من هيبته صلّى الله عليه وسلّم، فقال له صلّى الله عليه وسلّم: «هوّن عليك، فلست بملك، إنّما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد» ، فنطق الرّجل بحاجته، فقام صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا أيّها النّاس؛ إنّي أوحي إليّ أن تواضعوا، ألا فتواضعوا حتّى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد، وكونوا عباد الله إخوانا» . وعن عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنهما: أنّه رأى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مستلقيا في المسجد، واضعا إحدى رجليه على الاخرى. وروى أبو داود بسند صحيح: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا صلّى الفجر.. تربّع في مجلسه حتّى تطلع الشّمس حسناء؛ أي: بيضاء نقيّة. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يقوم من مجلس إلّا قال: «سبحانك اللهمّ وبحمدك، لا إله إلّا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» ، وقال:

اتكاء رسول الله ص

«لا يقولهنّ أحد حيث يقوم من مجلسه.. إلّا غفر له ما كان منه في ذلك المجلس» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس مجلسا، فأراد أن يقوم.. استغفر عشرا إلى خمس عشرة، وروى ابن السّنّيّ: عشرين مرّة. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا انصرف.. انحرف بجانبه. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا قام.. اتّكأ على إحدى يديه. [اتّكاء رسول الله ص] وأمّا اتّكاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فعن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متّكئا على وسادة على يساره. وعن أبي بكره رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أحدّثكم بأكبر الكبائر؟» ، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين» ، قال: وجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- وكان متّكئا- قال: «وشهادة الزّور» ؛ أو: «قول الزّور» . قال: فما زال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقولها حتّى قلنا: ليته سكت.

الفصل السادس في صفة كرمه صلى الله عليه وسلم وشجاعته

الفصل السّادس في صفة كرمه صلّى الله عليه وسلّم وشجاعته [كرم رسول الله ص] عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أنّه قال: ما سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا قطّ فقال: (لا) . وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يسأل شيئا إلّا أعطاه، ثمّ يعود على قوت عامه فيؤثر منه، حتّى لربّما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شيء. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يكاد يسأل شيئا إلّا فعله. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يكاد يقول لشيء: (لا) ، فإذا هو سئل فأراد أن يفعل.. قال: (نعم) . وإن لّم يرد أن يفعل.. سكت. وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجود النّاس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان حتّى ينسلخ فيأتيه جبريل فيعرض عليه القران، فإذا لقيه جبريل.. كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجود بالخير من الرّيح المرسلة. وعن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه: أنّ رجلا جاء إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسأله أن يعطيه، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما عندي شيء، ولكن ابتع عليّ؛ فإذا جاءني شيء.. قضيته» . فقال

عمر: يا رسول الله؛ [قد أعطيته] ، فما كلّفك الله ما لا تقدر عليه. فكره صلّى الله عليه وسلّم قول عمر. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله؛ أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالا. فتبسّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعرف في وجهه البشر لقول الأنصاريّ، ثمّ قال: «بهذا أمرت» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا جاءه مال.. لم يبيّته، ولم يقيّله؛ أي: إذا جاءه اخر النّهار.. لم يمسكه إلى اللّيل، أو أوّل النّهار.. لم يمسكه إلى وقت القيلولة، بل يعجّل قسمته. وكان صلّى الله عليه وسلّم أسخى النّاس، لا يبيت عنده دينار ولا درهم، وإن فضل شيء ولم يجد من يعطيه له، وفجأه اللّيل.. لم يأو إلى منزله حتّى يبرأ منه إلى من يحتاج إليه. وأتاه صلّى الله عليه وسلّم رجل فسأله، فأعطاه غنما سدّت ما بين جبلين، فرجع إلى قومه وقال: أسلموا، فإنّ محمّدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. وأعطى [صلّى الله عليه وسلّم] غير واحد مئة من الإبل. وأعطى [صلّى الله عليه وسلّم] صفوان مئة ثمّ مئة ثمّ مئة. وهذه كانت حاله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يبعث، وقد قال له ورقة بن نوفل: إنّك تحمل الكلّ وتكسب المعدوم، وقالت له خديجة

رضي الله تعالى عنها: أبشر؛ فو الله لا يخزيك الله أبدا، إنّك لتصل الرّحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضّيف، وتعين على نوائب الحقّ. و (الكلّ) هنا: الثّقل من كلّ ما يتكلّف؛ كما في «لسان العرب» . وأعطى [صلّى الله عليه وسلّم] العبّاس رضي الله تعالى عنه ما لم يطق حمله. وحمل إليه [صلّى الله عليه وسلّم] تسعون ألف درهم، فوضعت على حصير، ثمّ قام إليها يقسمها، فما ردّ سائلا حتّى فرغ منها. ولمّا قفل [صلّى الله عليه وسلّم] من حنين وجاءت الأعراب يسألونه حتّى اضطرّوه إلى شجرة فخطفت رداءه، فوقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «أعطوني ردائي؛ لو كان لي عدد هذه العضاه نعما.. لقسمته بينكم، ثمّ لا تجدوني بخيلا، ولا كذّابا، ولا جبانا» . و (العضاه) : شجر له شوك، واحدها: عضاهة. وردّ [صلّى الله عليه وسلّم] على هوازن سباياها، وكانوا ستّة الاف. وفي «المواهب» : (ذكر ابن فارس في كتابه في «أسماء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم» «1» : أنّه في يوم حنين جاءته امرأة؛ فأنشدت شعرا تذكّره أيّام رضاعته في هوازن، فردّ عليهم ما أخذ وأعطاهم عطاء كثيرا حتّى قوّم ما أعطاهم ذلك اليوم، فكان خمس مئة ألف ألف.

_ (1) أي: كتابه المؤلّف في ذكر أسماء النبي صلّى الله عليه وسلّم.

شجاعة رسول الله ص

قال ابن دحية: وهذا نهاية الجود الّذي لم يسمع بمثله في الوجود) . وعن عائشة رضي الله [تعالى] عنها: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يقبل الهديّة ويثيب عليها. وأتته صلّى الله عليه وسلّم امرأة ببردة، فقالت: يا رسول الله؛ أكسوك هذه؟ فأخذها صلّى الله عليه وسلّم محتاجا إليها، فلبسها، فراها عليه رجل من الصّحابة فقال: يا رسول الله؛ ما أحسن هذه! فاكسنيها، فقال: «نعم» ، فلمّا قام عليه الصّلاة والسّلام.. لامه أصحابه، وقالوا: ما أحسنت حين رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخذها محتاجا إليها، ثمّ سألته إيّاها، وقد عرفت أنّه لا يسأل شيئا فيمنعه. رواه البخاريّ. وكان صلّى الله عليه وسلّم رحيما، وكان لا يأتيه أحد إلّا وعده وأنجز له؛ إن كان عنده. [شجاعة رسول الله ص] وأمّا شجاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقد كان صلّى الله عليه وسلّم أنجد النّاس وأشجعهم. قال عليّ رضي الله تعالى عنه: لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو [أقرب] إلى العدوّ. وكان من أشدّ النّاس يومئذ بأسا. وقال أيضا [رضي الله تعالى عنه] : كنّا إذا حمي «1» البأس ولقي القوم

_ (1) في نسخة: احمرّ.

القوم.. اتّقينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فما يكون أحد أقرب إلى العدوّ منه. وقيل: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قليل الكلام، قليل الحديث، فإذا أمر النّاس بالقتال.. تشمّر. وكان [صلّى الله عليه وسلّم] من أشدّ النّاس بأسا، وكان الشّجاع هو الّذي يقرب منه في الحرب؛ لقربه من العدوّ. وقال عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما: ما لقي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كتيبة إلّا كان أوّل من يضرب. وقالوا: وكان قويّ البطش. ولمّا غشيه المشركون.. نزل عن بغلته، فجعل يقول: «أنا النّبيّ لا كذب، أنا ابن عبد المطّلب» ، فما رئي يومئذ أحد أشدّ منه. وسأل رجل البراء رضي الله تعالى عنه: أفررتم يوم حنين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟! قال: نعم، لكنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يفرّ، كان هوازن رماة، وإنّا لمّا حملنا عليهم انكشفوا؛ فأكببنا على الغنائم، فاستقبلتنا بالسّهام. ثمّ قال: ولقد رأيته على بغلته البيضاء- وأبو سفيان بن الحارث اخذ بلجامها- وهو يقول: «أنا النّبيّ لا كذب، أنا ابن عبد المطّلب» ، فما رئي يومئذ أحد كان أشدّ منه. وعن العبّاس رضي الله تعالى عنه قال: لمّا التقى المسلمون والكفّار.. ولّى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلّى الله عليه

وسلّم يركّض بغلته نحو الكفّار، وأنا اخذ بلجامها أكفّها إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان اخذ بركابه. وقد كان أبيّ بن خلف يقول للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين افتدى يوم بدر: عندي فرس أعلفها كلّ يوم فرقا من ذرة أقتلك عليها، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أنا أقتلك إن شاء الله تعالى» . فلمّا راه يوم أحد شدّ أبيّ على فرسه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاعترضه رجال من المسلمين، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هكذا؛ أي: خلّوا طريقه، وتناول الحربة من الحارث بن الصّمّة [رضي الله تعالى عنه] ؛ فانتفض بها انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشّعراء عن ظهر البعير إذا انتفض. ثمّ استقبله النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مرارا- وقيل: بل كسر ضلعا من أضلاعه- فرجع إلى قريش يقول: قتلني محمّد. وهم يقولون: لا بأس بك. فقال: لو كان ما بي بجميع النّاس لقتلهم، أليس قد قال: «أنا أقتلك» ؟! والله لو بصق عليّ.. لقتلني. فمات بسرف في قفولهم إلى مكّة. و (الفرق) : مكيال يسع [ستّة عشر] رطلا؛ كلّ رطل مئة وثلاثون درهما «1» . و (الشّعراء) : ذباب أحمر- وقيل: أزرق- يقع على الإبل فيؤذيها أذى شديدا.

_ (1) أي أن الفرق يعادل (6500) غراما. أما الدرهم فيعادل (125، 3) غراما.

وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أحسن النّاس، وأجود النّاس، وأشجع النّاس. ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق النّاس قبل الصّوت، فاستقبلهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد سبق النّاس إلى الصّوت، وهو يقول: «لن تراعوا.. لن تراعوا» ، وهو على فرس لأبي طلحة عري، ما عليه سرج، والسّيف في عنقه، فقال: «لقد وجدته بحرا» . وهذا الفرس اسمه: (المندوب) . وفي رواية للبخاريّ: إنّ أهل المدينة فزعوا مرّة، فركب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فرسا لأبي طلحة كان يقطف، فلمّا رجع.. قال: «وجدنا فرسكم هذا بحرا» ، فكان بعد لا يجارى. قوله (بحرا) البحر: الفرس الجواد الواسع الجري. و (يقطف) : يقال قطف الفرس في مشيه: إذا تضايق خطوه. و (القطوف من الدّوابّ وغيرها) : البطيء.

الباب السّادس في صفة عبادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصلاته، وصومه، وقراءته وفيه ثلاثة فصول

الباب السادس في صفة عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاته، وصومه، وقراءته

الفصل الأوّل في صفة عبادته صلّى الله عليه وسلّم وصلاته قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا أتقاكم لله تعالى، وأشدّكم له خشية» . وفي «صحيح البخاريّ» : «إنّي لأعلمكم بالله، وأشدّكم له خشية» . وفيه: عن أبي هريرة رضي الله [تعالى] عنه: «لو تعلمون ما أعلم.. لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» . وفي «صحيح مسلم» : عن أنس رضي الله [تعالى] عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «والّذي نفس محمّد بيده، لو رأيتم ما رأيت.. لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» . قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: «رأيت الجنّة والنّار» . وعن المغيرة بن شعبة وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما قالا: صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى انتفخت قدماه، فقيل له: أتتكلّف هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟! قال: «أفلا أكون عبدا شكورا؟!» .

قال الباجوريّ: (واستشكل هذا قديما وحديثا.. بأنّه صلّى الله عليه وسلّم لا ذنب عليه؛ لكونه معصوما. وأحسن ما قيل فيه: أنّه من باب (حسنات الأبرار.. سيّئات المقرّبين) ، إذ الإنسان لا يخلو عن تقصير، من حيث ضعف العبوديّة مع عظمة الرّبوبيّة، وإن كان صلّى الله عليه وسلّم في أعلى المقامات وأرفع الدّرجات في عباداته وطاعاته. وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» . ولذلك قيل: المغفرة قسمان: مغفرة للعوامّ، وهي: مسامحتهم من الذّنوب. ومغفرة للخواصّ، وهي: مسامحتهم من التّقصير) اهـ وعن الأسود بن يزيد [رحمه الله تعالى] قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باللّيل فقالت: كان ينام أوّل اللّيل، ثمّ يقوم، فإذا كان من السّحر.. أوتر، ثمّ أتى فراشه، فإذا كان له حاجة.. ألمّ بأهله، فإذا سمع الأذان.. وثب، فإن كان جنبا.. أفاض عليه من الماء، وإلّا.. توضّأ وخرج إلى الصّلاة. وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أنّه بات عند ميمونة أمّ المؤمنين وهي خالته رضي الله تعالى عنها قال: فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في طولها، فنام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتّى إذا انتصف اللّيل، أو قبله بقليل،

أو بعده بقليل.. فاستيقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجعل يمسح النّوم عن وجهه، ثمّ قرأ العشر الايات الخواتيم من سورة (ال عمران) ؛ أي: الّتي أوّلها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى اخر السّورة ثمّ قام إلى شنّ معلّق فتوضّأ منها، فأحسن الوضوء، ثمّ قام يصلّي. قال عبد الله بن عبّاس: فقمت إلى جنبه، فوضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده اليمنى على رأسي، ثمّ أخذ بأذني اليمنى ففتلها- وفي رواية: فأخذ بأذني؛ فأدارني عن يمينه- فصلّى ركعتين، ثمّ ركعتين، ثمّ ركعتين، ثمّ ركعتين، ثمّ ركعتين، ثمّ ركعتين (ستّ مرّات) ، ثمّ أوتر، ثمّ اضطجع حتّى جاءه المؤذّن، فقام فصلّى ركعتين خفيفتين، ثمّ خرج فصلّى الصّبح. وفي «الصحيح» : عن أنس [رضي الله تعالى عنه] : أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يتوضّأ عند كلّ صلاة. وعن ابن عبّاس أيضا «1» [رضي الله تعالى عنه] ؛ قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصلّي من اللّيل ثلاث عشرة ركعة. وعن عائشة رضي الله عنها: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا لم يصلّ باللّيل؛ منعه من ذلك النّوم، أو غلبته عيناه.. صلّى من النّهار ثنتي عشرة ركعة.

_ (1) غير مناسب الإتيان به هنا بعد حديث أنس، إذ يوهم أن حديث أنس من حديث ابن عباس، ومحل الحديث- والله أعلم- بعد حديث بيتوتته صلّى الله عليه وسلّم عند ميمونة رضي الله تعالى عنها.

وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا قام أحدكم من اللّيل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين» . وعن زيد بن خالد الجهنيّ رضي الله تعالى عنه أنّه قال: لأرمقنّ صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتوسّدت عتبته، أو فسطاطه، فصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعتين خفيفتين، ثمّ صلّى ركعتين طويلتين.. طويلتين.. طويلتين. ذكر لفظ «طويلتين» ثلاث مرّات؛ للتّأكيد مبالغة في طولهما. ثمّ صلّى ركعتين وهما دون اللّتين قبلهما، ثمّ صلّى ركعتين؛ وهما دون اللّتين قبلهما، ثمّ صلّى ركعتين؛ وهما دون اللّتين قبلهما، ثمّ صلّى ركعتين؛ وهما دون اللتين قبلهما، ثمّ أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة. وعن أبي سلمة بن عبد الرّحمن- رحمه الله تعالى- أنّه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها: كيف كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رمضان؟ فقالت: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليزيد في رمضان، ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة؛ يصلّي أربعا لا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ، ثمّ يصلّي أربعا لا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ، ثمّ يصلّي ثلاثا. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: قلت: يا رسول الله؛ أتنام قبل أن توتر؟ فقال: «يا عائشة؛ إنّ عينيّ تنامان، ولا ينام قلبي» .

وعن عائشة أيضا رضي الله تعالى عنها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي من اللّيل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة، فإذا فرغ منها.. اضطجع على شقّه الأيمن. وعن عائشة أيضا [رضي الله تعالى عنها] قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي من اللّيل تسع ركعات. أي: في بعض الأوقات. وعن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما: أنّه صلّى مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من اللّيل، قال: فلمّا دخل في الصّلاة.. قال: «الله أكبر ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة» . قال: ثمّ قرأ (البقرة) ، ثمّ ركع؛ فكان ركوعه نحوا من قيامه، وكان يقول: «سبحان ربّي العظيم، سبحان ربّي العظيم» ، ثمّ رفع رأسه؛ فكان قيامه نحوا من ركوعه، وكان يقول: «لربّي الحمد، لربّي الحمد» ، ثمّ سجد؛ فكان سجوده نحوا من قيامه، وكان يقول: «سبحان ربّي الأعلى، سبحان ربّي الأعلى» ، ثمّ رفع رأسه فكان ما بين السّجدتين نحوا من السّجود، وكان يقول: «ربّ اغفر لي، ربّ اغفر لي» حتّى قرأ (البقرة) ، و (ال عمران) ، و (النّساء) ، و (المائدة) ، أو (الأنعام) ؛ أي: أنّه صلّى أربع ركعات قرأ في الأولى: (البقرة) ، وفي الثّانية: (ال عمران) ، وفي الثّالثة: (النّساء) ، وفي الرّابعة: (المائدة) أو (الأنعام) . والشّكّ فيهما من شعبة راوي هذا الحديث.

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باية من القران ليلة. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: صلّيت ليلة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يزل قائما حتّى هممت بأمر سوء. قيل له: وما هممت به؟ قال: هممت أن أقعد وأدع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي جالسا فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين- أو أربعين- اية.. قام فقرأ وهو قائم، ثمّ ركع وسجد، ثمّ صنع في الرّكعة الثّانية مثل ذلك. وعن عبد الله بن شقيق [رحمه الله تعالى] قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في تطوّعه؟ فقالت: كان يصلّي ليلا طويلا قائما، وليلا طويلا قاعدا، فإذا قرأ وهو قائم.. ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو جالس.. ركع وسجد وهو جالس. وعن حفصة [رضي الله تعالى عنها] زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي في سبحته- أي: نافلته قاعدا، ويقرأ بالسّورة ويرتّلها حتّى تكون أطول من أطول منها «1» . وعن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت: والّذي نفسي بيده،

_ (1) أي حتى يصير وقت قراءة السورة القصيرة- كالأنفال مثلا- لاشتمالها على الترتيل والوقوف عند معاني الايات أطول من الوقت الذي تقرأ فيه السورة الطويلة كالأعراف- في الأحوال العادية.

ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى كان أكثر صلاته قاعدا، إلّا المكتوبة. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يدع قيام اللّيل، وكان إذا مرض أو كسل.. صلّى قاعدا. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: صلّيت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعتين قبل الظّهر، وركعتين بعده، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته. وعن حفصة رضي الله تعالى عنها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي ركعتين خفيفتين حين يطلع الفجر. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يدع ركعتي الفجر في السّفر ولا في الحضر، ولا في الصّحّة ولا في السّقم. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: حفظت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثماني ركعات: ركعتين قبل الظّهر، وركعتين بعده، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء. قال ابن عمر: وحدّثتني حفصة بركعتي الغداة، ولم أكن أراهما من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وعن معاذة [رحمها الله تعالى] قالت: قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها: أكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصلّي الضّحى؟ قالت: نعم.. أربع ركعات، ويزيد ما شاء الله عزّ وجلّ.

وعن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي الضّحى ستّ ركعات. وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصلّي الضّحى حتّى نقول لا يدعها، ويدعها حتّى نقول لا يصلّيها. وعن أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يدمن أربع ركعات عند زوال الشّمس، فقلت: يا رسول الله؛ إنّك تدمن هذه الأربع ركعات عند زوال الشّمس؟ فقال: «إنّ أبواب السّماء تفتح عند زوال الشّمس، فلا ترتج حتّى يصلّى الظّهر، فأحبّ أن يصعد لي في تلك السّاعة خير» ؛ قلت: أفي كلّهنّ قراءة؟ قال: «نعم» ، قلت: هل فيهنّ تسليم فاصل؟ قال: «لا» . ومعنى (لا ترتج) : لا تغلق. وعن أمّ هانىء رضي الله تعالى عنها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل بيتها يوم فتح مكّة فاغتسل، فسبّح- أي: صلّى ثمان ركعات ما رأيته صلّى الله عليه وسلّم صلّى صلاة قطّ أخفّ منها، غير أنّه كان يتمّ الرّكوع والسّجود. وعن أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخفّ النّاس صلاة في تمام. وعن أبي واقد اللّيثيّ رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله

عليه وسلّم أخفّ النّاس صلاة على النّاس، وأطول النّاس صلاة لنفسه. وعن عبد الله بن سعد رضي الله تعالى عنه قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الصّلاة في بيتي، والصّلاة في المسجد؟ قال: «قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد، فلأن أصلّي في بيتي أحبّ إليّ من أن أصلّي في المسجد؛ إلّا أن تكون صلاة مكتوبة» ؛ أي: لتحصل البركة للبيت وأهله، وتنزل الملائكة، وليذهب عنه الشّيطان. وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اشتدّ البرد.. بكّر بالصّلاة، وإذا اشتدّ الحرّ.. أبرد بالصّلاة. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يكون في المصلّين إلّا كان أكثرهم صلاة، ولا يكون في الذّاكرين إلّا كان أكثرهم ذكرا. وعن حذيفة رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا حزبه- وفي رواية: حزنه- أمر.. صلّى؛ أي: إذا نزل به همّ، وأصابه غمّ. وعن أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل منزلا.. لم يرتحل منه حتّى يصلّي فيه ركعتين. وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ أن يليه المهاجرون والأنصار في الصّلاة؛ ليحافظوا عنه. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يفارق مصلّاه سواكه ومشطه.

وروى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والتّرمذيّ، والنّسائيّ، وابن ماجه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا انصرف من صلاته.. استغفر (ثلاثا) ، ثمّ قال: «اللهمّ؛ أنت السّلام، ومنك السّلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» .

الفصل الثاني في صفة صومه صلى الله عليه وسلم

الفصل الثّاني في صفة صومه صلّى الله عليه وسلّم عن عبد الله بن شقيق [رحمه الله تعالى] قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن صيام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قالت: كان يصوم حتّى نقول قد صام- أي: داوم الصّوم- فلا يفطر، ويفطر حتّى نقول قد أفطر- أي: داوم الإفطار- فلا يصوم. قالت: وما صام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شهرا كاملا منذ قدم المدينة.. إلّا رمضان. وسئل أنس رضي الله تعالى عنه عن صوم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: كان يصوم من الشّهر حتّى نرى ألايريد أن يفطر منه، ويفطر حتّى نرى ألايريد أن يصوم منه شيئا، وكنت لا تشاء أن تراه من اللّيل مصلّيا إلّا رأيته مصلّيا، ولا نائما إلّا رأيته نائما. وعن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: ما رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصوم شهرين متتابعين إلّا شعبان ورمضان. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لم أر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم في شهر أكثر من صيامه في شعبان، كان يصوم شعبان إلّا قليلا، بل كان يصومه كلّه.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم من غرّة كلّ شهر ثلاثة أيّام، وقلّما كان يفطر يوم الجمعة «1» . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتحرّى صوم الإثنين والخميس. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «تعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس، فأحبّ أن يعرض عملي وأنا صائم» . وعن أبي هريرة [رضي الله تعالى عنه] أيضا قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكثر ما يصوم الإثنين والخميس، فقيل له.. فقال: «الأعمال تعرض كلّ إثنين وخميس؛ فيغفر لكلّ مسلم.. إلّا المتهاجرين «2» ، فيقول: أخّروهما [حتّى يصطلحا] » . وعن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكثر صومه السّبت والأحد «3» ، ويقول: «هما يوما عيد المشركين فأحبّ أن أخالفهم» . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النّبيّ صلّى الله عليه

_ (1) لكنه صلّى الله عليه وسلّم كان يضمه إلى الخميس أو السبت؛ فلا يخالف هذا حديث النهي عن إفراده بالصوم. (2) أي: المسلمين المتقاطعين. (3) أي: معا؛ لأنّ إفرادهما كيوم الجمعة مكروه.

وسلّم يصوم من الشّهر السّبت والأحد والإثنين، ومن الشّهر الاخر الثّلاثاء والأربعاء والخميس. وعن معاذة [رحمها الله تعالى] قالت: قلت لعائشة: أكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر؟ قالت: نعم، قلت: من أيّها كان يصوم؛ أي: من أيّ أيّامه؟ قالت: كان لا يبالي من أيّها صام؛ أي: من أوّله، ومن وسطه، ومن اخره. وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يدع صوم أيّام البيض في سفر ولا حضر. و (أيّام البيض) : اليوم الثّالث عشر من الشّهر، والرّابع عشر، والخامس عشر. وسمّيت بيضا؛ لأنّ القمر يطلع فيها من أوّلها إلى اخرها. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان عاشوراء «1» يوما تصومه قريش في الجاهليّة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصومه، فلمّا قدم المدينة.. صامه وأمر بصيامه، فلمّا افترض رمضان.. كان رمضان هو الفريضة، وترك عاشوراء، فمن شاء.. صامه، ومن شاء.. تركه. وعن عليّ رضي الله [تعالى] عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصوم يوم عاشوراء، ويأمر به. وعن حفصة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه

_ (1) هو اليوم العاشر من المحرّم.

وسلّم يصوم تسع ذي الحجّة ويوم عاشوراء، وثلاثة أيّام من كلّ شهر: أوّل إثنين من الشّهر، والخميس، والإثنين من الجمعة الاخرى. وعن جابر رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعجبه أن يفطر على الرّطب ما دام الرّطب، وعلى التّمر إذا لم يكن رطب، ويختم بهنّ، ويجعلهنّ وترا؛ ثلاثا، أو خمسا، أو سبعا. وعن أنس رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبّ أن يفطر على ثلاث تمرات، أو شيء لم تصبه النّار. وعن أنس [رضي الله تعالى عنه] أيضا: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفطر على رطبات قبل أن يصلّي، فإن لم يكن رطبات.. فتمرات، فإن لم يكن تمرات.. حسا حسوات من ماء. وعن أنس [رضي الله تعالى عنه] أيضا قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر عند قوم.. قال: «أفطر عندكم الصّائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وتنزّلت عليكم الملائكة» . وعن ابن الزّبير رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر عند قوم.. قال: «أفطر عندكم الصّائمون، وصلّت عليكم الملائكة» . وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر.. قال: «ذهب الظّمأ، وابتلّت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى» .

وعن معاذ بن زهرة [رحمه الله تعالى] : كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر.. قال: «اللهمّ؛ لك صمت، وعلى رزقك أفطرت» . وعن معاذ رضي الله تعالى عنه «1» قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر.. قال: «الحمد لله الّذي أعانني فصمت، ورزقني فأفطرت» . وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر.. قال: «اللهمّ؛ لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، فتقبّل منّي إنّك أنت السّميع العليم» . وعن علقمة [رحمه الله تعالى] قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها: أكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخصّ من الأيّام شيئا؟ قالت: كان عمله ديمة «2» ، وأيّكم يطيق ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطيق؟ وعن عائشة أيضا رضي الله تعالى عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعندي امرأة، فقال: «من هذه؟» ، قلت: فلانة؛ لا تنام اللّيل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم من الأعمال ما تطيقون؛ فو الله لا يملّ [الله] حتّى تملّوا» ، وكان أحبّ ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الّذي يدوم عليه صاحبه.

_ (1) وهو معاذ بن زهرة التابعي المعروف، وكان ينبغي هنا الترحم لا الترضي، كما هي عادة المؤلف- رحمه الله تعالى- في الترضي على الصحابة والترحم على من بعدهم. (2) أي: دائما.

وعن أبي صالح [رحمه الله تعالى] «1» قال: سألت عائشة وأمّ سلمة رضي الله [تعالى] عنهما: أيّ العمل كان أحبّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قالتا: ما ديم عليه، وإن قلّ. وروى البخاريّ: عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّه كان أحبّ الدّين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما داوم عليه صاحبه.

_ (1) واسمه: ذكوان السمان والزيات.

الفصل الثالث في صفة قراءته صلى الله عليه وسلم

الفصل الثّالث في صفة قراءته صلّى الله عليه وسلّم عن عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة، فاستاك، ثمّ توضّأ، ثمّ قام يصلّي، فقمت معه، فبدأ فاستفتح (البقرة) ، فلا يمرّ باية رحمة.. إلّا وقف فسأل، ولا يمرّ باية عذاب.. إلّا وقف فتعوّذ، ثمّ ركع فمكث راكعا بقدر قيامه، ويقول في ركوعه: «سبحان ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة» ، ثمّ سجد بقدر ركوعه، ويقول في سجوده: «سبحان ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة» ، ثمّ قرأ (ال عمران) ، ثمّ سورة سورة. يفعل مثل ذلك في كلّ ركعة. وعن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرّ باية خوف.. تعوّذ، وإذا مرّ باية رحمة.. سأل، وإذا مرّ باية فيها تنزيه الله.. سبّح. وعن أبي ليلى رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرّ باية فيها ذكر النّار.. قال: «ويل لأهل النّار، أعوذ بالله من النّار» .

وعن يعلى بن مملك [رحمه الله تعالى] : أنّه سأل أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها: عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا هي تنعت قراءة مفسّرة حرفا حرفا. وعن قتادة [رحمه الله تعالى] قال: قلت لأنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: كيف كانت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: مدّا. وعن أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقطّع قراءته؛ يقول: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ، ثمّ يقف، ثمّ يقول: «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» ، ثمّ يقف، وكان يقرأ: «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» «1» . وعن عبد الله بن قيس [رحمه الله تعالى] قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها: عن قراءة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أكان يسرّ بالقراءة أم يجهر؟ قالت: كلّ ذلك قد كان يفعل؛ قد كان ربّما أسرّ، وربّما جهر. فقلت: الحمد لله الّذي جعل في الأمر سعة. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأ من اللّيل.. رفع طورا، وخفض طورا. وعن أمّ هانىء رضي الله تعالى عنها قالت: كنت أسمع قراءة النّبيّ

_ (1) أي بالألف؛ أحيانا، وهي قراءة متواترة مشهورة، كما أنّ قراءة (ملك) بدون ألف متواترة أيضا.

صلّى الله عليه وسلّم باللّيل، وأنا على عريشي. وعن معاوية بن قرّة [رحمه الله تعالى] قال: سمعت عبد الله بن مغفّل رضي الله تعالى عنه يقول: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على ناقته يوم الفتح وهو يقرأ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 1- 2] . قال: فقرأ ورجّع «1» . قال: وقال معاوية بن قرّة: لولا أن يجتمع النّاس عليّ.. لأخذت لكم في ذلك الصّوت، أو قال: اللّحن. وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: كان قراءة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ربّما سمعها من في الحجرة، وهو في البيت؛ أيّ: كان إذا قرأ في بيته.. ربّما يسمع قراءته من في حجرة البيت من أهله، ولا يتجاوز صوته إلى ما وراء الحجرات. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأ: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى.. قال: «بلى» ، وإذا قرأ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ.. قال: «بلى» . وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى.. قال: «سبحان ربّي الأعلى» . وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه

_ (1) أي: ردّد صوته بالقراءة.

وسلّم إذا تلا: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.. قال: «امين» ؛ حتّى يسمع من يليه من الصّفّ الأوّل. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يقرأ القران في أقلّ من ثلاث «1» . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا ختم.. جمع أهله ودعا. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا ختم.. يقرأ من أوّل القران خمس ايات.

_ (1) أي: لا يقرؤه كاملا في أقل من ثلاثة أيام؛ لأنها أقل مدة يمكن فيها تدبره وترتيله، هذا كله في تفهم معانيه. أما الثواب على قراءته: فحاصل لمن قرأه سواء فهمه أم لا، للتعبّد بلفظه بخلاف غيره من الأذكار.. فلا ثواب فيه إلا إن فهمه ولو بوجه.

الباب السّابع في أخبار شتّى من أحوال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعض أذكار وأدعية كان يقولها في أوقات مخصوصة وثلاث مئة وثلاثة عشر حديثا من جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلّم وفيه ثلاثة فصول

الباب السابع في أخبار شتى من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم

الفصل الأوّل في أخبار شتى من أحواله صلّى الله عليه وسلّم في «الشّفا» للقاضي عياض رحمه الله تعالى: (ولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مختونا، مقطوع السّرّة. وقد روي عن أمّه امنة أنّها قالت: ولدته نظيفا ما به قذر. وفي حديث عكرمة، عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أنّه صلّى الله عليه وسلّم نام حتّى سمع له غطيط «1» ، فقام فصلّى، ولم يتوضّأ. قال عكرمة: لأنّه صلّى الله عليه وسلّم كان محفوظا. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يتغوّط.. انشقّت الأرض فابتلعت غائطه وبوله، وفاحت لذلك رائحة طيّبة. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنّك تأتي الخلاء فلا نرى منك شيئا من الأذى؟! فقال لها: «يا عائشة؛ أو ما علمت أنّ الأرض تبتلع ما يخرج من الأنبياء، فلا يرى منه شيء» . وقال قوم من أهل العلم بطهارة هذين الحدثين منه صلّى الله عليه

_ (1) وهو صوت يخرج مع نفس النائم.

وأما ريقه الشريف صلى الله عليه وسلم:

وسلّم، وشاهد هذا أنّه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن منه شيء يكره، ولا غير طيّب. ومن هذا حديث عليّ رضي الله [تعالى] عنه: غسّلت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذهبت أنظر ما يكون من الميت، فلم أجد شيئا، فقلت: طبت حيّا وميتا. وسطعت منه ريح طيّبة لم يجدوا مثلها قطّ. ومثله قال أبو بكر حين قبّل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد موته. ومنه شرب مالك بن سنان دمه يوم أحد، ومصّه إيّاه، وتسويغه صلّى الله عليه وسلّم ذلك له، وقوله: «لن تصيبه النّار» . ومثله شرب عبد الله بن الزّبير دم حجامته، وقال له عليه الصّلاة والسّلام: «ويل لك من النّاس، وويل لهم منك» ، ولم ينكره. وقد روي نحو من هذا عنه صلّى الله عليه وسلّم في امرأة شربت بوله، فقال لها: «لن تشتكي وجع بطنك أبدا» . ولم يأمر واحدا منهم بغسل فم، ولا نهاه عن عوده) اهـ ملخّصا. وأمّا ريقه الشّريف صلّى الله عليه وسلّم: فقد بصق في بئر دار أنس، فلم يكن في المدينة بئر أعذب منها. وأتي بدلو من ماء فشرب من الدّلو، ثمّ صبّ في البئر، ففاح منها مثل رائحة المسك. رواه أحمد وابن ماجه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يوم عاشوراء يدعو برضعائه ورضعاء ابنته

فاطمة فيتفل في أفواههم؛ ويقول للأمّهات: «لا ترضعنهنّ إلى اللّيل» ، فكان ريقه يجزيهم. رواه البيهقيّ. ودخلت عليه عميرة بنت مسعود هي وأخواتها يبايعنه- وهنّ خمس- فوجدنه يأكل قديدا، فمضغ لهنّ قديدة فمضغنها، كلّ واحدة قطعة، فلقين الله وما وجد لأفواههنّ خلوف. رواه الطّبرانيّ. و (الخلوف) : تغيّر رائحة فم الصّائم. ومسح صلّى الله عليه وسلّم بيده الشّريفة بعد أن نفث فيها من ريقه على ظهر عتبة- وكان به شرى- فما كان يشمّ أطيب منه رائحة. رواه الطّبرانيّ. وأعطى الحسن لسانه؛ وكان قد اشتدّ ظمؤه، فمصّه حتّى روي. وروى القاضي عياض في «الشّفا» بسنده إلى عبد الله بن أبي الحمساء: (قال: بايعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ببيع قبل أن يبعث، وبقيت له بقيّة، فوعدته أن اتيه بها في مكانه، فنسيت، ثمّ ذكرت بعد ثلاث، فجئت، فإذا هو في مكانه. فقال: «يا فتى؛ لقد شققت عليّ، أنا هنا منذ ثلاث أنتظرك» . وعن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها، قالت: كان أبغض الأشياء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الكذب. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اطّلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة.. لم يزل معرضا عنه حتّى يحدث توبة.

وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أتى باب قوم.. لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: «السّلام عليكم.. السّلام عليكم» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه الفيء «1» .. قسمه في يومه، فأعطى الاهل حظّين، وأعطى العزب حظّا. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أتي بالسّبي.. أعطى أهل البيت جميعا؛ كراهية أن يفرّق بينهم. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه رجل فرأى في وجهه بشرا.. أخذ بيده. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع بالاسم القبيح.. حوّله إلى ما هو أحسن منه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يتفاءل ولا يتطيّر. وكان يحبّ الاسم الحسن. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا وجد الرّجل راقدا على وجهه ليس على عجزه شيء.. ركضه برجله، وقال: «هي أبغض الرّقدة إلى الله تعالى» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر بالباه، وينهى عن التّبتّل نهيا شديدا؛ أي: يأمر بالتّزوّج وينهى عن تركه.

_ (1) المراد به هنا: ما يشمل خراج الأرض، وما أخذ من الكفار بلا قتال.

وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر من أسلم أن يختتن، وإن كان ابن ثمانين سنة. وكان صلّى الله عليه وسلّم يضمّر الخيل «1» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يكره الشّكال من الخيل. قال العزيزيّ: فسّره في بعض طرق الحديث عند مسلم: بأن يكون في رجله اليمنى وفي يده اليسرى بياض، أو في يده اليمنى ورجله اليسرى. وكرّهه لكونه كالمشكول، لا يستطيع المشي. وقيل: يحتمل أن يكون جرّب ذلك الجنس فلم يكن فيه نجابة. وقال بعض العلماء: إذا كان مع ذلك أغرّ.. زالت الكراهة. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا صعد المنبر.. سلّم. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب.. قال: «أمّا بعد» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب.. يعتمد على عنزة؛ أو عصا. و (العنزة) : العصا الصّغيرة. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يعود مريضا إلّا بعد ثلاث. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يضيف الخصم إلّا وخصمه معه.

_ (1) هو أن يعلف الفرس حتى يسمن، ثم يردّه إلى القلّة ليشتد لحمه، وقيل: هو أن يقلّل علف الفرس مدة ويدخل بيتا مغلقا ويجلّل ليعرق ويجف عرقه فيجفّ لحمه، فيقوى على الجري.

وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر بالهديّة؛ صلة بين النّاس. وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر بقطع المراجيح «1» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ هذه السّورة: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) . وكان صلّى الله عليه وسلّم يحثّ على الصّدقة، وينهى عن المسألة. وكان صلّى الله عليه وسلّم يسمر عند أبي بكر اللّيلة في الأمر من أمور المسلمين. وكان صلّى الله عليه وسلّم يعجبه الرّؤيا الحسنة. وكان صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اشتدّي أزمة تنفرجي» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يبيع ويشتري، ولكن كان شراؤه أكثر. واجر نفسه قبل النّبوّة في رعاية الغنم، ولخديجة في سفر التّجارة. واستدان برهن، وبغير رهن، واستعار، وضمن، ووقف أرضا كانت له. وحلف في أكثر من ثمانين موضعا، وأمره الله تعالى بالحلف في ثلاثة مواضع، في قوله تعالى: قُلْ إِي وَرَبِّي، وقوله تعالى: قُلْ بَلى وَرَبِّي، وقوله: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ.

_ (1) يعني: الأراجيح، والترجّح: التذبذب بين شيئين، وعلى هذا فالأرجوحة: الة معروفة يلهو بها العجم أيام النيروز تلهّيا عن الغموم التي تراكمت على قلوبهم من رين الذنوب وكره لهم أن يتزيّوا بزيّ من اشترى الحياة الدنيا بالاخرة، فلا خلاق له هناك.

وكان صلّى الله عليه وسلّم يستثني في يمينه تارة، ويكفّرها تارة، ويمضي فيها تارة أخرى. ومدحه بعض الشّعراء فأثاب عليه، ومنع الثّواب في حقّ غيره، وأمر أن يحثى في وجوه المدّاحين التّراب. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا حلف.. قال: «والّذي نفس محمّد بيده» . وكان صلّى الله عليه وسلّم أكثر أيمانه: «لا ومصرّف القلوب» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اجتهد في اليمين.. قال: «لا والذي نفس أبي القاسم بيده» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يحلف: «لا ومقلّب القلوب» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا حلف على يمين.. لا يحنث؛ حتّى نزلت كفّارة اليمين. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا استراث الخبر؛ أي: استبطأه.. تمثّل ببيت طرفة: ........... ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد «1» وكان صلّى الله عليه وسلّم يتمثّل بهذا البيت:

_ (1) وصدر البيت: ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا.........

كفى بالإسلام والشّيب للمرء ناهيا.......... وأصل هذا الشّطر «1» : كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا........ ولكنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم تمثّل به على الوجه المذكور. قال تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ صلّى الله عليه وسلّم. وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ أن يسافر يوم الخميس. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد سفرا.. أقرع بين نسائه، فأيّتهنّ خرج سهمها خرج بها معه. وكان صلّى الله عليه وسلّم يتخلّف في المسير، فيزجي الضّعيف ويردف، ويدعو لهم. ومعنى (يزجي الضّعيف) : يسوقه سوقا رفيقا. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا قدم من سفر.. بدأ بالمسجد، فصلّى فيه ركعتين، ثمّ يثنّي بفاطمة، ثمّ يأتي أزواجه. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يطرق أهله ليلا «2» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبّ أن يخرج إذا غزا يوم الخميس. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يودّع الجيش.. قال: «أستودع الله دينكم، وأمانتكم، وخواتيم أعمالكم» .

_ (1) يعني: موزونا. (2) أي: لا يقدم عليهم من سفر ولا غيره في الليل على غفلة.

وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا بعث سريّة أو جيشا.. بعثهم من أوّل النّهار. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا بعث أميرا قال: «أقصر الخطبة، وأقلّ الكلام، فإنّ من البيان لسحرا» «1» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد غزوة.. ورّى بغيرها. وكان صلّى الله عليه وسلّم يعجبه أن يلقى العدوّ عند الزّوال «2» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يكره رفع الصّوت عند القتال. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا خرج يوم العيد في طريق.. رجع في غيره. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي.. نكّس رأسه، ونكّس أصحابه رؤوسهم، فإذا أقلع عنه.. رفع رأسه. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل رمضان.. أطلق كلّ أسير، وأعطى كلّ سائل. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل [شهر] رمضان شدّ مئزره، ثمّ لم يأت فراشه حتّى ينسلخ. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل رمضان.. تغيّر لونه، وكثرت

_ (1) في نسخة: (فإنّ من الكلام سحرا) . (2) في نسخة: (عند زوال الشمس) .

صلاته، وابتهل في الدّعاء، وأشفق لونه؛ أي: تغيّر وصار كلون الشّفق. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل العشر الأخير من رمضان.. شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا كان مقيما.. اعتكف العشر الأواخر من رمضان، وإذا سافر.. اعتكف من العام المقبل عشرين. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا كانت ليلة الجمعة.. قال: «هذه ليلة غرّاء، ويوم أزهر» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا جاء الشّتاء.. دخل البيت ليلة الجمعة، وإذا جاء الصّيف.. خرج ليلة الجمعة. قال العزيزيّ: الظّاهر أنّ المراد ما اعتاده النّاس من دخولهم البيوت في الشّتاء، والخروج منها في الصّيف.

الفصل الثاني في بعض أذكار وأدعية كان يقولها صلى الله عليه وسلم في أوقات مخصوصة

الفصل الثّاني في بعض أذكار وأدعية كان يقولها صلّى الله عليه وسلّم في أوقات مخصوصة كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سأل الله تعالى.. جعل باطن كفّيه إليه، وإذا استعاذ.. جعل ظاهرهما إليه. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أصابته شدّة فدعا.. رفع يديه حتّى يرى بياض إبطيه. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا رفع يديه في الدّعاء.. لم يحطّهما حتّى يمسح بهما وجهه. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا ذكر أحدا فدعا له.. بدأ بنفسه. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دعا لرجل.. أصابته الدّعوة، وولده وولد ولده. وكان صلّى الله عليه وسلّم أكثر دعائه: «يا مقلّب القلوب؛ ثبّت قلبي على دينك» ، فقيل له في ذلك؟ قال: «إنّه ليس ادميّ إلّا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله؛ فمن شاء.. أقام، ومن شاء.. أزاغ» . وكان صلّى الله عليه وسلّم أكثر دعوة يدعو بها: «ربّنا؛ اتنا في الدّنيا

حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النّار» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يتعوّذ من جهد البلاء، ودرك الشّقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء. وكان صلّى الله عليه وسلّم يتعوّذ من خمس: من الجبن، والبخل، وسوء العمر، وفتنة الصّدر، وعذاب القبر. وكان [صلّى الله عليه وسلّم] يتعوّذ من الجانّ، وعين الإنسان.. حتّى نزلت المعوّذتان، فأخذ بهما وترك ما سواهما. وكان صلّى الله عليه وسلّم يتعوّذ من موت الفجاءة، وكان يعجبه أن يمرض قبل أن يموت. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أصبح وإذا أمسى.. يدعو بهذه الدّعوات: « (اللهمّ؛ إنّي أسألك من فجاءة الخير، وأعوذ بك من فجاءة الشّرّ) ؛ فإنّ العبد لا يدري ما يفجؤه إذا أصبح وإذا أمسى» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أصبح وإذا أمسى.. قال: «أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وملّة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أصابه غمّ أو كرب.. يقول: «حسبي الرّبّ من العباد، حسبي الخالق من المخلوقين، حسبي الرّازق من المرزوقين، حسبي الّذي هو حسبي، حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله لا إله إلّا هو عليه توكّلت وهو ربّ العرش العظيم» .

وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أهمّه الأمر.. رفع رأسه إلى السّماء وقال: «سبحان الله العظيم» ، وإذا اجتهد في الدّعاء.. قال: «يا حيّ يا قيّوم» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل به همّ أو غمّ.. قال: «يا حيّ يا قيّوم؛ برحمتك أستغيث» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يدعو عند الكرب: «لا إله إلّا الله العظيم الحليم، لا إله إلّا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلّا الله ربّ السّماوات السّبع وربّ الأرض وربّ العرش الكريم» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا راعه شيء.. قال: «الله.. الله ربّي لا شريك له» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أمرا.. قال: «اللهمّ؛ خر لي واخترلي» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل به أمر.. فوّض الأمر فيه إلى الله عزّ وجلّ، وتبرّأ من الحول والقوّة، وسأله الهدى واتّباعه، وسأله البعد عن الضّلالة. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا جاءه أمر يسرّ به.. خرّ ساجدا شكرا لله تعالى. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا خرج من بيته.. قال: «باسم الله، التّكلان على الله، لا حول ولا قوّة إلّا بالله» . رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه.

وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا خرج من بيته.. قال: «باسم الله، توكّلت على الله، اللهمّ؛ إنّا نعوذ بك من أن نزلّ أو نضلّ، أو نظلم أو نظلم، أو نجهل أو يجهل علينا» . روته أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل المسجد.. قال: «أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم؛ من الشّيطان الرّجيم» . وقال: «إذا قال ذلك.. حفظ منه سائر اليوم» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل المسجد.. يقول: «باسم الله، والسّلام على رسول الله، اللهمّ؛ اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك» . وإذا خرج.. قال: «باسم الله، والسّلام على رسول الله، اللهمّ؛ اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك» . روته فاطمة الزّهراء رضي الله تعالى عنها. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل المسجد.. قال: «باسم الله، اللهمّ؛ صلّ على محمّد، وأزواج محمّد» . رواه أنس رضي الله تعالى عنه. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل السّوق.. قال: «باسم الله، اللهمّ؛ إنّي أسألك من خير هذه السّوق وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها، اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك أن أصيب يمينا فاجرة، أو صفقة خاسرة» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل الخلاء.. قال: «اللهمّ؛ إنّي

أعوذ بك من الرّجس النّجس، الخبيث المخبث، الشّيطان الرّجيم» . وإذا خرج.. قال: «الحمد لله الّذي أذاقني لذّته، وأبقى فيّ قوّته، وأذهب عنّي أذاه» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل الجبّانة «1» .. يقول: «السّلام عليكم أيّتها الأرواح الفانية، والأبدان البالية، والعظام النّخرة الّتي خرجت من الدّنيا وهي بالله مؤمنة، اللهمّ؛ أدخل عليهم روحا منك وسلاما منّا» . قوله: (الأرواح الفانية) أي: الفانية أجسادها. و (الرّوح) : السّعة. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا مرّ بالمقابر.. قال: «السّلام عليكم أهل الدّيار من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، والصّالحين والصّالحات، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا فرغ من دفن الميت.. وقف عليه فقال: «استغفروا لأخيكم، وسلوا له التّثبيت؛ فإنّه الان يسأل» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا شيّع جنازة.. علا كربه، وأقلّ الكلام، وأكثر حديث نفسه. وكان صلّى الله عليه وسلّم ينهى النّساء عن اتّباع الجنائز.

_ (1) محل الدفن؛ سمي به لأنه يجبن ويفزع عند رؤيته.

وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا عزّى.. قال: «يرحمه الله ويؤجركم» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا هنّأ.. قال: «بارك الله لكم، وبارك عليكم» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل على مريض يعوده.. قال: «لا بأس، طهور إن شاء الله تعالى» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقتهم.. قال: «اللهمّ؛ صلّ على ال فلان» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد سفرا.. قال: «اللهمّ؛ بك أصول، وبك أحول، وبك أسير» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا غزا.. قال: «اللهمّ؛ أنت عضدي، وأنت نصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا قفل من غزو، أو حجّ، أو عمرة.. يكبّر على كلّ شرف من الأرض ثلاث تكبيرات، ثمّ يقول: «لا إله إلّا الله واحده لا شريك له، له الملك وله الحمد؛ وهو على كلّ شيء قدير، ائبون «1» ، تائبون، عابدون، ساجدون، لربّنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب واحده» .

_ (1) أي: راجعون.

وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل رجب.. قال: «اللهمّ؛ بارك لنا في رجب وشعبان، وبلّغنا رمضان» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع المؤذّن.. قال مثل ما يقول؛ حتّى إذا بلغ (حيّ على الصّلاة.. حيّ على الفلاح) .. قال: «لا حول ولا قوّة إلّا بالله» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع المؤذّن يتشهّد.. قال: «وأنا.. وأنا» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع المؤذّن قال: (حيّ على الفلاح) .. قال: «اللهمّ؛ اجعلنا مفلحين» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا نظر إلى البيت.. قال: «اللهمّ؛ زد بيتك هذا تشريفا وتعظيما وتكريما وبرّا ومهابة» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا رأى ما يحبّ.. قال: «الحمد لله الّذي بنعمته تتمّ الصّالحات» ، وإذا رأى ما يكره.. قال: «الحمد لله على كلّ حال، ربّ أعوذ بك من حال أهل النّار» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع صوت الرّعد والصّواعق.. قال: «اللهمّ؛ لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع الرّعد.. قال: «سبحان الّذي يسبّح الرّعد بحمده» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا رأى المطر.. قال: «اللهم؛ صيّبا نافعا» .

وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا سال السّيل.. قال: «اخرجوا بنا إلى هذا الوادي الّذي جعله الله طهورا، فنتطهّر منه، ونحمد الله عليه» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اشتدّ الرّيح الشّمأل «1» .. قال: «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من شرّ ما أرسلت بها» «2» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اشتدت الرّيح.. قال: «اللهمّ؛ اجعلها لقحا لا عقيما» ؛ أي: حاملا للماء كاللّقحة من الإبل «3» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا عصفت الرّيح.. قال: «اللهمّ؛ إنّي أسألك خيرها وخير ما فيها؛ وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها، وشرّ ما أرسلت به» . روته عائشة رضي الله تعالى عنها. وروى ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا هاجت ريح.. استقبلها بوجهه، وجثا على ركبتيه، ومدّ يديه، وقال: «اللهمّ؛ إنّي أسألك خير هذه الرّيح وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما أرسلت به، اللهمّ؛ اجعلها رحمة، ولا تجعلها عذابا، اللهمّ؛ اجعلها رياحا، ولا تجعلها ريحا» «4» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا رأى الهلال.. قال: «هلال خير

_ (1) الشمأل: مقابل الجنوب. (2) في نسخة: (فيها) . (3) أي: الناقة من الإبل القريبة العهد بالنتاج. (4) لأنّ الرياح معتدلة، وتأتي بالخير، أما الريح فهي شديدة، وتأتي بالعذاب.

ورشد، امنت بالّذي خلقك» (ثلاثا) . ثمّ يقول: «الحمد لله الّذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا رأى الهلال.. قال: «اللهمّ؛ أهلّه علينا باليمن والإيمان والسّلامة والإسلام، ربّي وربّك الله» . وفي رواية: «بالأمن» بدل «اليمن» . وكان اخر كلامه صلّى الله عليه وسلّم: «الصّلاة ... الصّلاة، اتّقوا الله فيما ملكت أيمانكم» . وكان اخر ما تكلّم به صلّى الله عليه وسلّم أن قال: «قاتل الله اليهود والنّصارى؛ اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يبقينّ دينان بأرض العرب» . وكان اخر ما تكلّم به صلّى الله عليه وسلّم: «جلال ربّي الرّفيع، فقد بلّغت» ، ثمّ قضى.

الفصل الثالث في ثلاث مئة وثلاثة عشر حديثا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم

الفصل الثّالث في ثلاث مئة وثلاثة عشر حديثا من جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلّم وهي على عدد الرّسل الكرام، وأهل بدر شموس الإسلام. اخترتها من «الشّفا» للقاضي عياض، و: «المواهب اللّدنّيّة» للعلّامة القسطلّانيّ، و: «الجامع الصغير» و: «الدّرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة» كلاهما للحافظ السّيوطيّ، و: «كنوز الحقائق» و: «طبقات الأولياء» كلاهما للعلّامة المناويّ. ومن المعلوم عند النّاس كافّة، موافقين ومخالفين، مسلمين وغير مسلمين.. أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفصح النّاس على الإطلاق، ولم يخالف في ذلك أحد. وهاكها مرتّبة على الحروف «1» :

_ (1) من أراد الوقوف على تخريج الأحاديث فإنّا نحيله إلى كتاب «منتهى السّول على وسائل الوصول» للشيخ عبد الله بن سعيد اللّحجي رحمه الله تعالى، ويقع في أربعة مجلدات ضخام وهو من منشورات دارنا دار المنهاج. فإن فيه الغنية إن شاء الله تعالى.

(حرف الهمزة)

(حرف الهمزة) قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: 1- «أوتيت جوامع الكلم» . 2- «اتّق الله فيما تعلم» . 3- «اتّق الله في عسرك ويسرك» . 4- «اتّقوا مواضع التّهم» . 5- «أتمّكم عقلا.. أشدّكم لله خوفا» . 6- «اجتنبوا الخمر؛ فإنّها مفتاح كلّ شرّ» . 7- «الأجر على قدر النّصب» «1» . 8- «أجملوا في طلب الدّنيا؛ فإنّ كلّا ميسّر لما خلق له» «2» . 9- «الإحسان: أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه.. فإنّه يراك» . 10- «اختلاف أمّتي رحمة» . 11- «اخزن لسانك إلّا من خير» . 12- أخلص العمل.. يجزك منه القليل» .

_ (1) يعني: على قدر المشقّة. (2) في نسخة: (فإنّ كلا ميسّر لما كتب له منها) .

13- «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» . 14- «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي» . 15- «إذا أراد الله بعبد خيرا.. فقّهه في الدّين، وزهّده في الدّنيا، وبصّره بعيوب نفسه» «1» . 16- «إذا أسأت.. فأحسن» «2» . 17- «إذا لم تستح.. فاصنع ما شئت» «3» . 18- «إذا نزل القضاء.. عمي البصر» «4» . 19- «ارحموا ترحموا» . 20- «ازهد في الدّنيا.. يحبّك الله، وازهد فيما في أيدي النّاس.. يحبّك النّاس» . 21- «استعينوا على الحاجات بالكتمان؛ فإنّ كلّ ذي نعمة محسود» . 22- «استعينوا على كلّ صنعة بأهلها» . 23- «استفت قلبك وإن أفتاك النّاس وأفتوك» . 24- «أسلم.. تسلم» .

_ (1) في نسخة: (وبصّره عيوبه) . (2) كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «أتبع السّيّئة الحسنة تمحها» . (3) الأمر للتهديد والتوبيخ. (4) أي: غطّي عنه نور العقل حتى لا يرى بنوره المنافع فيطلبها، ولا المضارّ فيجتنبها.

25- «اسمح.. يسمح لك» . 26- «أصحابي كالنّجوم «1» ؛ فبأيّهم اقتديتم اهتديتم» . 27- «أعجل الأشياء عقوبة.. البغي» . 28- «أعدى عدوّك.. نفسك الّتي بين جنبيك» . 29- «أعظم النّاس خطايا.. أكثرهم خوضا في الباطل» . 30- «أعظم النّاس خطايا «2» .. اللّسان الكذوب» . 31- «أعمى العمى.. الضّلالة بعد الهدى» . 32- «اعمل بوجه «3» واحد.. يكفك الوجوه كلّها» . 33- «أفضل الأعمال «4» .. سرور تدخله على مسلم» . 34- «أفضل الأعمال.. العلم بالله تعالى» . 35- «أفضل الجهاد.. أن تجاهد نفسك وهواك» . 36- «افتضحوا فاصطلحوا» «5» . 37- «أفضل الدّين.. الورع» . 38- «أفضل الصّدقة.. جهد المقلّ، وابدأ بمن تعول» .

_ (1) أي: في الهداية؛ لأنّ كلا منهما يهتدى به. (2) في نسخة: (أعظم الخطايا) . (3) في نسخة: (اعمل لوجه) . (4) أي: بعد الفرائض. (5) من الأمثال السائرة التي في معناها: (تعالوا نقتبح ساعة ونصطلح) .

39- «أفضل النّاس.. أتقاهم لله، وأوصلهم للرّحم» . 40- «أفلح من رزق لبّا» . 41- «الاقتصاد في النّفقة «1» .. نصف المعيشة، والتّودّد إلى النّاس نصف العقل، وحسن السّؤال نصف العلم» . 42- «الله في عون العبد.. ما دام العبد في عون أخيه المسلم» . 43- «أمت أمر الجاهليّة إلّا ما حسّنه الإسلام» . 44- «أمرنا أن نكلّم النّاس على قدر عقولهم» . 45- «إنّ الله تعالى بعثني رحمة مهداة، بعثت برفع أقوام وخفض اخرين» . 46- «إنّ الله تجاوز لأمّتي عن النّسيان، وما أكرهوا عليه» . 47- «إنّ الله جعل الحقّ على لسان عمر وقلبه» . 48- «إنّ الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم» . 49- «إنّ الله يحبّ معالي الأمور، ويكره سفسافها» . 50- «إنّ الله يحبّ الرّفق في الأمر كلّه» . 51- «إنّ الله ينزل الرّزق على قدر المؤونة» «2» .

_ (1) أي: التوسط في الإنفاق. (2) وهو من المشهور على الألسنة؛ ومعناه: أنّ الله يعين الإنسان على قدر ما يحتاج إليه من المؤونة، بحسب حاله وما يناسبه.

52- «إنّ أخسر النّاس صفقة.. من أذهب اخرته بدنيا غيره» . 53- «إنّ الدّين يسر، ولن يشادّ الدّين أحد إلّا غلبه» . 54- «إنّ الصّبر عند الصّدمة الأولى» «1» . 55- «إنّك لن تدع لله شيئا.. إلّا عوّضك الله خيرا منه» . 56- «إنّكم لن تسعوا النّاس بأموالكم.. فسعوهم بأخلاقكم» . 57- «إنّ لصاحب الحقّ مقالا» . 58- «إنّما الأعمال بالنّيّات» . 59- «إنّما البيع عن تراض» . 60- «إنّما العلم بالتّعلّم، وإنّما الحلم بالتّحلّم» «2» . 61- «إنّما المرء بخليله، فلينظر المرء من يخالل» . 62- «إنّ من البيان لسحرا» . 63- «أنا مدينة العلم، وعليّ بابها» . 64- «أنت ومالك لأبيك» . 65- «أن تفعل الخير خير لك» . 66- «أنزلوا النّاس منازلهم» .

_ (1) أي: إنّ الصّبر الكامل المحبوب.. عند زمن ابتداء المصيبة وشدتها، بخلاف زمن اخرها؛ فإنه وإن كان فيه ثواب إلا أنه دون الأول؛ لأنّ اخر المصيبة يهون الأمر شيئا فشيئا، فيحصل له التسلّي. (2) أي: بحمل النّفس عليه.

(حرف الباء)

67- «انظري أين أنت منه، فإنّما هو جنّتك ونارك» ؛ يعني: الزّوج. 68- «أنهاكم عن قيل، وقال، وكثرة السّؤال» . 69- «ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» . 70- «الإسلام حسن الخلق» . 71- «الإسلام يجبّ ما قبله، والهجرة تجبّ ما قبلها» . 72- «الإسلام يعلو ولا يعلى» . 73- «إيّاك ودعوة المظلوم» . 74- «إيّاك وقرين السّوء، فإنّك به تعرف» . 75- «إيّاك والخيانة، فإنّها بئست البطانة» «1» . 76- «إيّاك وما يسوء الأذن» «2» . 77- «إيّاكم وخضراء الدّمن؛ المرأة الحسناء في المنبت السّوء» . 78- «الإيمان نصفان؛ فنصف في الشّكر، ونصف في الصّبر» . (حرف الباء) 79- «البرّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطّلع عليه النّاس» .

_ (1) أي: بئس الشيء الذي يستبطنه من أمره، ويجعله صفة لازمة له. (2) وهو نهي عن الغيبة.

(حرف التاء)

80- «برّوا اباءكم.. تبرّكم أبناؤكم، وعفّوا.. تعفّ نساؤكم» . 81- «بعثت بمداراة النّاس» «1» . 82- «البلاء موكّل بالمنطق» «2» . 83- «البيّنة على المدّعي، واليمين على من أنكر» . (حرف التّاء) 84- «ترك الشّرّ صدقة» . 85- «تعرّف إلى الله في الرّخاء.. يعرفك في الشّدّة، واعلم أنّ ما أخطأك.. لم يكن ليصيبك، وما أصابك.. لم يكن ليخطئك، واعلم أنّ النّصر مع الصّبر، وأنّ الفرج مع الكرب، وأنّ مع العسر يسرا» . 86- «تعس عبد الزّوجة» .

_ (1) كلين الكلام، وخفض الجناح، وترك الإغلاظ عليهم، والقيام لمن يحصل له حقد إذا لم يقم له، وذلك من أسباب الألفة واجتماع الكلمة، وانتظام الأمر، ولهذا قيل: من لانت كلمته.. وجبت محبته، وحسنت أحدوثته، وظمئت القلوب إلى لقائه، وتنافست في مودته. والمداراة غير المداهنة؛ فالمداراة بذل الدنيا لسلامة الدين، والمداهنة بذل الدين لسلامة الدنيا. (2) يعني: أنّ العبد في سلامة ما سكت، فإذا تكلّم.. عرف ما عنده بمحنة النطق، فيتعرّض للخطر أو للظفر؛ ولذا قال صلّى الله عليه وسلّم لسيّدنا معاذ رضي الله تعالى عنه: «أنت في سلامة ما سكتّ، فإذا تكلّمت.. فلك أو عليك» .

(حرف الثاء)

87- «تمسّكوا بالعروة الوثقى؛ قول: (لا إله إلّا الله) » . 88- «تهادوا تحابّوا» . (حرف الثّاء) 89- «ثلاث من كنّ فيه.. وجد حلاوة الإيمان «1» : 1- أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما، 2- وأن يحبّ المرء لا يحبّه إلّا لله، 3- وأن يكره أن يعود في الكفر- بعد إذ أنقذه الله منه- كما يكره أن يلقى في النّار» . 90- «ثلاث من كنّ فيه حاسبه الله حسابا يسيرا، وأدخله الجنّة برحمته: 1- تعطي من حرمك، 2- وتعفو عمّن ظلمك، 3- وتصل من قطعك» . 91- «ثلاث منجيات: 1- خشية الله تعالى في السّرّ والعلانية، 2- والعدل في الرّضا والغضب، 3- والقصد «2» في الفقر والغنى. وثلاث مهلكات: 1- هوى متّبع، 2- وشحّ مطاع، 3- وإعجاب المرء بنفسه» .

_ (1) أي: التلذّذ بالطاعة؛ وتحمّل المشقّة في سبيل رضا الله عزّ وجلّ ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وإيثار ذلك على عرض الدنيا. (2) أي: التوسط في الإنفاق.

(حرف الجيم)

(حرف الجيم) 92- «الجار قبل الدّار، والرّفيق قبل الطّريق» . 93- «الجماعة رحمة، والفرقة عذاب» «1» . 94- «جفّ القلم بما أنت لاق» «2» . 95- «الجنّة تحت أقدام الأمّهات» «3» . 96- «الجنّة تحت ظلال السّيوف» «4» . (حرف الحاء) 97- «حبّ الدّنيا.. رأس كلّ خطيئة» . 98- «الحبّ في الله والبغض في الله من أفضل الأعمال» . 99- «حبّك الشّيء يعمي ويصمّ» . 100- «الحرب خدعة» .

_ (1) أي: لزوم جماعة المسلمين موصل إلى الرحمة أو سبب لها، والفرقة عن جماعة المسلمين؛ بأن لا ينصرهم ببدنه أو اعتقاده.. سبب للعذاب. (2) أي: نفذ المقدور بما كتب في اللوح المحفوظ، فبقي القلم الذي كتب به جافّا لا مداد فيه؛ لفراغ ما كتب به. (3) يعني: أنّ برّ الأم سبب لدخول الجنة. (4) يعني: أنّ الجهاد سبب لدخول الجنة.

(حرف الخاء)

101- «الحسب.. المال، والكرم.. التّقوى» . 102- «حسبك بالصّحّة والسّلامة داء قاتلا لابن ادم» «1» . 103- «حفّت الجنّة بالمكاره، وحفّت النّار بالشّهوات» . 104- «الحكمة ضالّة المؤمن» «2» . 105- «الحلال بيّن والحرام بيّن» . (حرف الخاء) 106- «خذ الحكمة، ولا يضرّك من أيّ وعاء خرجت» . 107- «خصلتان لا يجتمعان إلّا في مؤمن: السّخاء، وحسن الخلق» . 108- «خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل، وسوء الخلق» . 109- «الخلق كلّهم عيال الله، وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله» . 110- «خير الأمور.. أوساطها» .

_ (1) لأنّ ذلك يدعوه إلى الغرور وارتكاب الشرور، ويورثه البطر والعجب، وينسيه الآخرة، ويحبب إليه الدنيا، و (حب الدنيا رأس كلّ خطيئة) ، وإذا أحبّ الله عبدا.. ابتلاه ليسمع تضرّعه. وهذا لا ينافي طلب العافية المأمور به في كثير من الأحاديث الشريفة؛ لأنّ المطلوب العافية السليمة العاقبة ممّا ذكر. (2) فإذا وجدها.. فهو أحقّ بها.

(حرف الدال)

111- «خير الرّزق.. ما لا يطغيك ولا يلهيك» . 112- «خير العمل.. أن تفارق الدّنيا ولسانك رطب من ذكر الله» . 113- «خيركم.. خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» . 114- «خيركم.. خيركم لأهلي من بعدي» . 115- «خير النّاس.. أنفعهم للنّاس» . (حرف الدّال) 116- «الدّالّ على الخير.. كفاعله، والدّالّ على الشّرّ.. كفاعله» «1» . 117- «الدّعاء.. مخّ العبادة» . 118- «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإنّ الصّدق.. طمأنينة، وإنّ الكذب.. ريبة» . 119- «الدّنيا.. سجن المؤمن «2» وجنّة الكافر «3» » . 120- «الدّنيا.. عرض حاضر، يأكل منها البرّ والفاجر، والآخرة.. وعد صادق، يحكم فيها ملك عادل، يحقّ الحقّ ويبطل

_ (1) يعني: في حصول الثواب أو العقاب. (2) بالنسبة لما أعدّ له في الآخرة من النعيم المقيم. (3) بالنسبة لما أمامه من عذاب الجحيم.

(حرف الذال)

الباطل، فكونوا أبناء الآخرة، ولا تكونوا أبناء الدّنيا، فإنّ كلّ أمّ يتبعها ولدها» . 121- «الدّنيا.. كلّها متاع «1» ، وخير متاعها: المرأة الصّالحة» . 122- «الدّنيا.. مزرعة الآخرة» . 123- «دوروا مع كتاب الله حيثما دار» . 124- «الدّين.. النّصيحة» . 125- «دين المرء.. عقله، ومن لا عقل له لا دين له» «2» . (حرف الذّال) 126- «ذكر الله.. شفاء القلوب» . 127- «الذّنب لا ينسى، والبرّ لا يبلى «3» ، والدّيّان لا يموت.. فكن كما شئت» «4» .

_ (1) أي: شيء يتمتاع به. أي: ينتفع به أمدا قليلا. (2) لأنّ العقل هو الكاشف عن مقادير العبوديّة، ومحبوب الله ومكروهه، وهو الدليل على الرّشد، والنّاهي عن الغيّ؛ فالعاقل من عقل عن الله عزّ وجلّ أمره ونهيه فأطاعه بما أمر، وانزجر عمّا نهاه؛ فتلك علامة العقل. (3) يعني: أنّ الخير والفضل لا ينقطع ثوابه ولا يضيع. (4) وفي رواية: اعمل ما شئت كما تدين تدان.

(حرف الراء)

128- «ذهب حسن الخلق بخير الدّنيا والآخرة» «1» . 129- «ذو الوجهين «2» لا يكون عند الله وجيها» . (حرف الرّاء) 130- «رأس الحكمة.. مخافة الله» . 131- «رأس الدّين.. الورع» . 132- «رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالى.. التّودّد إلى النّاس» . 133- «رحم الله عبدا قال خيرا.. فغنم، أو سكت.. فسلم» . 134- «رضيت لأمّتي ما رضي الله لها» «3» . 135- «رياض الجنّة.. المساجد» . (حرف الزّاي) 136- «زر غبّا «4» .. تزدد حبّا» .

_ (1) وذلك لعظيم فضله. (2) هو الذي يأتي كلّ قوم بما يرضيهم، خيرا كان أو شرّا. (3) في نسخة: (رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أمّ عبد) . (4) أي: وقتا بعد وقت، بغير دوام.

(حرف السين)

(حرف السّين) 137- «السّعيد.. من وعظ بغيره» . 138- «السّفر.. قطعة من العذاب» . 139- «سيّد القوم.. خادمهم» . 140- «السّيوف.. مفاتيح الجنّة» . (حرف الشّين) 141- «الشّاهد.. يرى ما لا يرى الغائب» . (حرف الصّاد) 142- «الصّبر.. خير مركب» . 143- «الصّبر.. مفتاح الفرج، والزّهد.. غنى الأبد» . 144- «الصّلاة.. عماد الدّين» . 145- «الصّلاة.. مفتاح كلّ خير، والنّبيذ.. مفتاح كلّ شرّ» . 146- «صوموا.. تصحّوا» .

(حرف الضاد)

(حرف الضّاد) 147- «ضالّة المؤمن.. العلم» . (حرف الطّاء) 148- «طاعة المرأة.. ندامة» . 149- «طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب النّاس» . 150- «طوبى لمن طال عمره وحسن عمله» . (حرف الظّاء) 151- «ظهر المؤمن.. حمى؛ إلّا بحقّه» «1» . (حرف العين) 152- «العدة.. دين» «2» .

_ (1) أي: محميّ، معصوم من الإيذاء. (2) روي بلفظ: «العدة دين، ويل لمن وعد ثمّ أخلف، ويل ثمّ ويل له» .

(حرف الغين)

153- «العزلة.. سلامة» . 154- «العرق.. دسّاس» «1» . 155- «عفو الملوك.. أبقى للملك» . 156- «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه» «2» . 157- «العين.. حقّ» «3» . (حرف الغين) 168- «الغنى.. غنى النّفس، والفقر.. فقر النّفس» . (حرف الفاء) 159- «الفتنة.. نائمة، لعن الله من أيقظها» . 160- «فعل المعروف.. يقي مصارع السّوء» . 161- «في كلّ ذات كبد حرّى.. أجر» «4» .

_ (1) أي: دخّال؛ لأنه ينزع في خفاء ولطف. (2) أي: على صاحبها ضمان. (3) يعني: الضرر الحاصل عنها ثابت وجوديّ مقضيّ به في الوضع الإلهيّ، لا شبهة في تأثيره في النفوس والأموال. (4) حرّى: من الحرّ، والمراد: حرارة الحياة، وفي رواية: «كلّ كبد رطبة» - أي: -

(حرف القاف)

(حرف القاف) 162- «القريب.. من قرّبته المودّة، وإن بعد نسبه» . 163- «قل: امنت بالله.. ثمّ استقم» . 164- «قلّة العيال.. أحد اليسارين» . 165- «قل الحقّ، وإن كان مرّا» . 166- «قليل تؤدّي شكره.. خير من كثير لا تطيقه» . 167- «القناعة.. كنز لا يفنى» . 168- «قيّد.. وتوكّل» . (حرف الكاف) 169- «كفى بالمرء إثما.. أن يضيّع من يقوت» «1» . 170- «كفى بك إثما.. ألاتزال مخاصما» . 171- «كفى بالدّهر واعظا، وبالموت مفرّقا» . 172- «كلّ ات.. قريب» .

_ - حيّة- يعني: رطوبة الحياة. والمعنى: إنّ في سقي كلّ ذي كبد حرّى أجرا عاما، مخصوص بحيوان محترم، وهو ما لم يؤمر بقتله. (1) أي: من يلزمه قوته ونفقته، ولا سيما الزوجة.

173- «كلّ الصّيد في جوف الفراء» «1» . 174- «كلّكم.. راع، وكلّكم مسؤول عن رعيّته» . 175- «كلّ المسلم.. على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعرضه» . 176- «كلّ معروف.. صدقة» . 177- «كلّ مؤذ.. في النّار» . 178- «كلّ.. ميسّر لما خلق له» . 179- «كلّموا النّاس.. بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون» . 180- «كما تدين.. تدان» . 181- «كما تكونوا.. يولّى عليكم» . 182- «كن في الدّنيا كأنّك غريب، أو عابر سبيل، وعدّ نفسك من أهل القبور» .

_ (1) الفراء: حمار الوحش، وهذا في الأصل مثل عربي قديم، قاله أحد العرب لمّا تأخّر صيده عن صيد رفقائه، ثم اصطاد حمار وحش فكان أكبر من صيد رفقائه، فكأنه يقول: إنّ الحمار الوحشي من أعظم ما يصاد وكل صيد دونه. وسبب قول النبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم هذا المثل ما ورد أنّه صلّى الله عليه وسلّم أذن لقرشيّ وأخّر أبا سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه. ثم أذن له فقال: ما كدت أن تأذن لي حتى كدت أن تأذن لحجارة الجلهمتين قبلي، وبكى. فقال له صلّى الله عليه وسلّم: «وما أنت وذاك يا أبا سفيان؟! إنّما أنت كما قال الأوّل: كلّ الصّيد في جوف الفراء» .

(حرف اللام)

183- «الكيّس.. من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز.. من أتبع نفسه هواها، وتمنّى على الله الأمانيّ» . (حرف اللّام) 184- «لدوا «1» للموت، وابنوا للخراب «2» » . 185- «لست من الباطل، ولا الباطل منّي» . 186- «ليس الخبر.. كالمعاينة» «3» . (حرف الميم) 187- «ماء زمزم.. لما شرب له» . 188- «ما امن بالقران.. من استحلّ محارمه» . 189- «ما أعطي عبد شيئا.. شرّا من طلاقة في لسانه» . 190- «ما تشاور قوم.. إلّا هدوا» . 191- «ما جمع شيء إلى شيء.. أحسن من حلم إلى علم» .

_ (1) أي: توالدوا. (2) واللام هنا لام العاقبة، فهو تسمية للشيء باسم عاقبته، ونبّه بذلك على أنه لا ينبغي للمرء أن يا بني من المساكن إلا ما تقتضيه الضرورة. (3) وفي رواية كالعيان، وكلاهما بمعنى المشاهدة.

192- «ما خاب.. من استخار، ولا ندم.. من استشار، ولا عال.. من اقتصد» «1» . 193- «ما راه المسلمون حسنا.. فهو حسن عند الله» . 194- «ما ضاق مجلس بمتحابّين» . 195- «ما قلّ وكفى.. خير ممّا كثر وألهى» . 196- «ما كان الرّفق في شيء.. إلّا زانه» . 197- «ما كان الفحش في شيء.. إلّا شانه» . 198- «ما هلك امرؤ.. عرف قدره» «2» . 199- «ما هو بمؤمن.. من لا يأمن جاره بوائقه» . 200- «مت مسلما ولا تبال» . 201- «المجالس.. بالأمانة» «3» . 202- «محرّم الحلال.. كمحلّ الحرام» «4» . 203- «المرء.. كثير بأخيه» .

_ (1) أي: ما افتقر من توسط في النفقة على عياله. (2) يعني: أن من عرف مقدار نفسه ونزّلها منزلتها.. نجا في الدنيا والآخرة من الهلاك، ومن تعدى طوره فتكبّر، ورفع نفسه فوق حدّه.. هلك. (3) أي: يجب حفظ ما يقع في المجالس من قول أو فعل؛ فلا يشيع أحد حديث جليسه. (4) يعني: في الإثم.

204- «مداراة النّاس.. صدقة» «1» . 205- «المرء.. مع من أحبّ» . 206- «المستشار.. مؤتمن» . 207- «المسلم.. أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه» . 208- «المسلم.. من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر.. من هجر ما حرّم الله» . 209- «مع كلّ فرحة.. ترحة» «2» . 210- «مفتاح الجنّة.. لا إله إلّا الله» . 211- «ملاك الدّين.. الورع» . 212- «المكر والخديعة.. في النّار» . 213- «من أبطأ به عمله.. لم يسرع به نسبه» . 214- «من اتّقى الله.. كلّ لسانه، ولم يشف غيظه» . 215- «من اتّقى الله.. وقاه كلّ شيء» . 216- «من أحبّ أن يعلم منزلته عند الله.. فلينظر منزلة الله عنده» . 217- «من أحبّ دنياه.. أضرّ باخرته، ومن أحبّ اخرته.. أضرّ بدنياه؛ فاثروا ما يبقى على ما يفنى» .

_ (1) يعني: لين الجانب لهم، والتلطف في معاشرتهم. (2) أي: جرت عادة الله بأنّ كلّ سرور يعقبه حزن؛ لئلا تسكن نفوس العقلاء إلى نعيمها.

218- «من أحبّ شيئا.. أكثر من ذكره» . 219- «من أحبّ قوما.. حشره الله في زمرتهم» . 220- «من أحبّ لقاء الله.. أحبّ الله لقاءه» . 221- «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه «1» .. فهو ردّ» . 222- «من أرضى النّاس بسخط الله.. وكله الله إلى النّاس» . 223- «من أطاع الله.. فاز» . 224- «من أعان ظالما.. سلّطه الله عليه» . 225- «من بثّ «2» .. لم يصبر» . 226- «من بورك له في شيء.. فليلزمه» . 227- «من تأنّى.. أصاب أو كاد، ومن عجل.. أخطأ أو كاد» . 228- «من تشبّه بقوم.. فهو منهم» . 229- «من تعلّق بشيء.. وكل إليه» . 230- «من حسن إسلام المرء.. تركه ما لا يعنيه» . 231- «من رتع حول الحمى.. يوشك أن يواقعه» . 232- «من رضي بقسمة الله.. استغنى» . 233- «من رضي عن الله.. رضي الله عنه» .

_ (1) في نسخة: (منه) . (2) أي: من أذاع ونشر وشكا مصيبته للنّاس.

234- «من سرّته حسنته وساءته سيّئته.. فهو مؤمن» . 235- «من صمت.. نجا» «1» . 236- «من ضمن لي ما بين لحييه «2» ، وما بين رجليه «3» ضمنت له على الله الجنّة» . 237- «من عمل بما علم.. ورّثه الله علم ما لم يعلم» . 238- «من غشّنا.. فليس منّا» . 239- «من فارق الجماعة شبرا.. فقد خلع ربقة الإسلام» . 240- «من كثّر سواد قوم.. فهو منهم» . 241- «من كنت مولاه.. فعليّ مولاه» . 242- «من لا يرحم.. لا يرحم» . 243- «من لم يكن ذئبا.. أكلته الذّئاب» «4» . 244- «من مزح.. استخفّ به» . 245- «من نوقش الحساب.. عذّب» . 246- «منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا» .

_ (1) أي: من سكت عن النطق بما لا ثواب فيه.. نجا من العقاب والعتاب يوم الماب. (2) المراد: اللسان، وما يتأتى به النطق. (3) المراد: الفرج، وترك صلّى الله عليه وسلّم التصريح به استهجانا واستحياء؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم أشدّ حياء من العذراء في خدرها. (4) الحديث مقيد باخر الزمان، حيث يغلب الشر ويقل الخير وأهله، فعلى المؤمن حينئذ الحذر من أن يصيبه الضرر.

(حرف النون)

247- «المؤمن.. مراة المؤمن» . 248- «المؤمن.. من أمنه النّاس على أنفسهم وأموالهم» . 249- «المؤمن.. يسير المؤنة» . 250- «المؤمنون كرجل واحد» . 251- «من كان اخر كلامه (لا إله إلّا الله) .. دخل الجنّة» . (حرف النّون) 252- «النّاس بزمانهم.. أشبه منهم بابائهم» «1» . 253- «النّاس.. كأسنان المشط» . 254- «النّاس.. معادن في الخير والشّرّ» . 255- «نحن.. أهل بيت لا يقاس بنا أحد» . 256- «نحن.. بنو عبد المطّلب سادات أهل الجنّة» . 257- «النّدم.. توبة» . 258- «النّساء.. حبائل الشّيطان» «2» .

_ (1) من قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال ملا علي القاري رحمه الله تعالى: الأظهر والأشهر أنه من قول سيدنا علي ابن أبي طالب رضي الله عنه. (2) أي: مصائده، والمراد: أنهنّ الات للشيطان يتوصّل بهنّ إلى إغواء الفسقة، ولا سيما المتبرجات منهنّ.

(حرف الهاء)

259- «نعم الصّهر.. القبر» «1» . 260- «نيّة المؤمن.. خير من عمله» . (حرف الهاء) 261- «الهديّة.. تعور عين الحكيم» «2» . 262- «هما.. جنّتك ونارك» يعني: الوالدين. 263- «الهمّ.. نصف الهرم» «3» . (حرف الواو) 264- «وجدت النّاس.. اخبر تقله» ؛ يعني: جرّب تكره. 265- «الواحدة.. خير من جليس السّوء» . 266- «الودّ والعداوة.. يتوارثان» . 267- «الورع.. سيّد العمل» .

_ (1) لأنه ستر للعورة، وكفاية للمؤونة. (2) أي: تصيره أعور لا يبصر إلا بعين الرّضا فقط، وتعمي عين السّخط، ولهذا كان دعاء السّلف رحمهم الله تعالى: اللهمّ لا تجعل لفاجر عندي نعمة، يرعاه بها قلبي. (3) أي: لأنّ الهمّ يورث الضعف والأسقام.

(حرف اللام ألف)

268- «الولد.. ثمرة القلب» . 269- «الولد.. مبخلة، مجبنة، محزنة» «1» . 270- «الولد.. للفراش «2» ، وللعاهر.. الحجر» «3» . 271- «ويل للشّاكّين في الله» . (حرف اللّام ألف) 272- « (لا إله إلّا الله) .. كنز من كنوز الجنّة» . 273- «لا إيمان.. لمن لا أمانة له» . 274- «لا تجتمع أمّتي.. على ضلالة» . 275- «لا تختلفوا.. فتختلف قلوبكم» «4» . 276- «لا تسبّوا الدّنيا.. فإنّها مطيّة المؤمن» . 277- «لا تصحب.. إلّا مؤمنا، ولا يأكل طعامك.. إلّا تقيّ» . 278- «لا خير.. في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له» . 279- «لا ضرر.. ولا ضرار» .

_ (1) أي: يحمل والديه على ذلك خشية عليه. (2) أي: لصاحب الفراش؛ زوجا كان أو سيّدا، ما لم ينفه بلعان. (3) أي: لا حظ للزاني من ذلك إلا الحدّ. (4) أي: لا يتقدم بعضكم على بعض في الصّلاة؛ لأنّ تقدم البعض على البعض مظنّة للكبر المفسد للقلوب.

280- «لا طاعة لمخلوق.. في معصية الخالق» . 281- «لا عقل كالتّدبير، ولا ورع كالكفّ، ولا حسب.. كحسن الخلق» . 282- «لا فقر.. أشدّ من الجهل، ولا مال.. أعزّ من العقل، ولا وحشة.. أشدّ من العجب» . 283- «لا يجني على المرء.. إلّا يده» «1» . 284- «لا يحلّ لمسلم.. أن يروّع مسلما» . 285- «لا يزال الرّجال بخير.. ما لم يطيعوا النّساء» . 286- «لا يشكر الله.. من لا يشكر النّاس» . 287- «لا يغني حذر.. من قدر» . 288- «لا يلدغ المؤمن.. من جحر مرّتين» . 289- «لا يكون الرّجل من المتّقين.. حتّى يدع ما لا بأس فيه، حذرا ممّا به بأس» . 290- «لا يؤمن أحدكم.. حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه» . 291- «لا يؤمن أحدكم.. حتّى يكون هواه تبعا لما جئت به» . 292- «لا يؤمن عبد.. حتّى يكون قلبه ولسانه سواء» .

_ (1) لأنه يذنب، فيعاقب من الله تعالى. فكأنه المعاقب لنفسه؛ لتسببه في إيصال العقاب لها.

(حرف الياء)

(حرف الياء) 293- «يا ابن ادم؛ ارض من الدّنيا.. بالقوت؛ فإنّ القوت لمن يموت كثير» . 294- «يا أبا بكر؛ ما ظنّك باثنين الله ثالثهما» . قاله له في الغار. 295- «يا أبا ذرّ؛ جدّد السّفينة، فإنّ البحر عميق» «1» . 296- «يا أنس؛ أطب كسبك.. تستجب دعوتك» . 297- «يا حرملة؛ ائت المعروف واجتنب المنكر» . 298- «يا حبّذا كلّ ناطق عالم، وكلّ مستمع واع» . 299- «يا حذيفة؛ عليك بكتاب الله» . 300- «يا عبادة؛ اسمع وأطع في عسرك ويسرك» . 301- «يا عقبة؛ صل من قطعك، وأعط من حرمك» . 302- «يا عليّ؛ لا ترج إلّا ربّك، ولا تخف إلّا ذنبك» . 303- «يا عمرو؛ نعمّا بالمال الصّالح للرّجل الصّالح» . 304- «يا عمّ رسول الله؛ أكثر من الدّعاء بالعافية» ، قاله للعبّاس.

_ (1) شبّه الأعمال الصّالحة بالسفينة، وشبّه يوم القيامة بالبحر العميق؛ لما فيه من أهوال، بحيث لا ينجيه منه إلّا السفينة السليمة المتينة، أمّا غيرها.. فيخشى عليه الهلاك، وهذا من أبدع الكلام وأحسن الاستعارة.

305- «يا فاطمة؛ كوني له أمة.. يكن لك عبدا» «1» . 306- «يبصر أحدكم القذى في عين أخيه.. وينسى الجذع في عينه» » . 307- «يسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا» . 308- «اليمين الفاجرة تدع الدّيار بلاقع» «3» . 309- «اليوم.. الرّهان، وغدا.. السّباق، والغاية.. الجنّة، والهالك.. من دخل النّار» . 310- «يا أيّها النّاس؛ ألا تستحيون؟! تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون» . 311- «يا أيّها النّاس؛ أفشوا السّلام، وأطعموا الطّعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا والنّاس نيام.. تدخلوا الجنّة بسلام» . 312- «يا معاذ» ، قال: لبّيك يا رسول الله وسعديك. قال:

_ (1) أي: كوني لزوجك مطيعة؛ كطاعة الأمة لسيّدها.. يكن لك موافقا منقادا كانقياد العبد لسيّده. (2) القذاة: ما يقع في العين والماء والشراب من نحو تراب وتبن ووسخ، وهذا مثل ضرب لمن يرى الصغير من عيوب الناس ويعيرهم به، وفيه من العيوب ما نسبته إليه كنسبة الجذع إلى القذاة، وذلك من أقبح القبائح، فرحم الله من حفظ قلبه ولسانه ولزم شأنه، وكفّ عن عرض أخيه، وأعرض عما لا يعنيه. (3) البلاقع- جمع بلقع- وهي: الأرض القفراء التي لا شيء فيها، والمراد: أن الحالف كاذبا يفتقر، ويذهب ما في بيته من الرزق، وقيل: هو أن يفرق الله شمله، ويغير عليه ما أولاه من نعمه.

«يا معاذ» ، قال: لبّيك يا رسول الله وسعديك، قال: «يا معاذ» ، قال: لبّيك يا رسول الله وسعديك، (ثلاثا) ، قال: «ما من عبد يشهد ألاإله إلّا الله، وأنّ محمّدا عبده ورسوله صدقا من قلبه.. إلّا حرّمه الله على النّار» . قال: يا رسول الله؛ أفلا أخبر بها النّاس فيستبشروا؟ قال: «إذا يتّكلوا» . فأخبر بها معاذ- عند موته- تأثّما. رواه الشّيخان: البخاريّ ومسلم. قوله: (تأثّما) أي: خوفا من الإثم في كتم هذا العلم.

الباب الثّامن في طبّه صلّى الله عليه وسلّم وسنّه، ووفاته، ورؤيته في المنام وفيه ثلاثة فصول

الباب الثامن في طبه صلى الله عليه وسلم وسنه، ووفاته، ورؤيته في المنام

الفصل الأوّل في طبه صلّى الله عليه وسلّم كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اشتكى.. نفث على نفسه بالمعوّذات، ومسح عنه بيده. قوله: (المعوّذات) يعني: المعوّذتين، والإخلاص «1» . وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اشتكى.. رقاه جبريل؛ قال: باسم الله يبريك، من كلّ داء يشفيك، ومن شرّ حاسد إذا حسد، وشرّ كلّ ذي عين. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا اشتكى.. اقتمح كفّا من شونيز، وشرب عليه ماء وعسلا. ومعنى (اقتمح) أي: استفّ. و (الشّونيز) : الحبّة السّوداء. وكان صلّى الله عليه وسلّم يشرب العسل بالماء على الرّيق. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا أصابه رمد، أو أحدا من أصحابه.. دعا بهؤلاء الكلمات: «اللهمّ؛ متّعني ببصري، واجعله الوارث منّي،

_ (1) فهو من باب التغليب.

وأرني في العدوّ ثأري، وانصرني على من ظلمني» . قال في «لسان العرب» : (وفي الحديث في دعاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «اللهمّ؛ أمتعني «1» بسمعي وبصري، واجعلهما الوارث منّي» . قال ابن شميل: أي أبقهما معي صحيحين سليمين حتّى أموت. وقيل: أراد بقاءهما وقوّتهما عند الكبر وانحلال القوى النّفسانيّة، فيكون السّمع والبصر وارثي سائر القوى، والباقيين بعدها. ثمّ قال: وفي رواية: «واجعله الوارث منّي» ، فردّ الهاء إلى الإمتاع، فلذلك وحّده) اهـ وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا حمّ.. دعا بقربة من ماء، فأفرغها على قرنه، فاغتسل. و (القرن) : الرّأس. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا يصيبه قرحة «2» ولا شوكة.. إلّا وضع عليها الحنّاء. وفي «الصّحيحين» : عن أبي حازم: أنّه سمع سهل بن سعد يسأل عمّا دووي به جرح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد؟ فقال: جرح وجهه، وكسرت رباعيته، وهشّمت البيضة «3» على رأسه، وكانت فاطمة بنت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم تغسل الدّم، وكان عليّ ابن أبي طالب

_ (1) وفي رواية: متّعني. (2) خراج في البدن. (3) أي: الخوذة.

رضي الله تعالى عنه يسكب عليها بالمجنّ «1» ، فلّما رأت فاطمة الدّم لا يزيد إلّا كثرة.. أخذت قطعة [من] حصير فأحرقتها، حتّى إذا صارت رمادا ألصقتها بالجرح، فاستمسك الدّم. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحتجم على هامته، وبين كتفيه، ويقول: «من أهراق «2» من هذه الدّماء.. فلا يضرّه أن لا يتداوى بشيء لشيء» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يحتجم في رأسه، ويسمّيها «3» : أمّ مغيث. وكان صلّى الله عليه وسلّم يحتجم في الأخدعين والكاهل «4» ، وكان يحتجم لسبع عشرة، وتسع عشرة، وإحدى وعشرين. و (الأخدعان) : عرقان في جانبي العنق. وكان صلّى الله عليه وسلّم يكتحل كلّ ليلة، ويحتجم كلّ شهر، ويشرب الدّواء كلّ سنة. وفي «الصّحيحين» : عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم احتجم وأعطى الحجّام أجره.

_ (1) المجنّ: الترس. (2) أي: أراق. (3) أي: الحجامة. (4) الكاهل: هو مقدّم أعلى الظهر مما يلي العنق، وهو الثلث الأعلى، وفيه ستّ فقرات، وقيل: ما بين الكتفين.

استطراد:

وفي «الصّحيحين» أيضا: عن أنس رضي الله تعالى عنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حجمه أبو طيبة؛ فأمر له بصاعين من طعام، وكلّم مواليه، فخفّفوا عنه من ضريبته «1» ، وقال: «خير ما تداويتم به.. الحجامة» . وروى ابن ماجه في «سننه» : أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا صدّع.. غلّف رأسه بالحنّاء، ويقول: «إنّه نافع بإذن الله تعالى من الصّداع» . وذكر أبو داود في «سننه» : أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم استعط «2» . استطراد: قد خطر لي أن أذكر هنا جملة أحاديث من طبّه صلّى الله عليه وسلّم الّذي وصفه لغيره؛ لتتمّ بذلك الفائدة. وجلّها من «الهدي النّبويّ» للعلّامة ابن القيّم: روى مسلم في «صحيحه» : عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «لكلّ داء.. دواء، فإذا أصيب دواء الدّاء.. برأ بإذن الله عزّ وجلّ» .

_ (1) وهي: الخراج المضروب عليه. (2) أي: استعمل السّعوط؛ بأن استلقى على ظهره وقطر في أنفه ما تداوى به ليصل إلى دماغه، ليخرج ما فيه من الداء بالعطاس.

وفي «الصّحيحين» : عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنزل الله من داء.. إلّا أنزل له شفاء» . وفي «مسند الإمام أحمد» : عن أسامة بن شريك رضي الله تعالى عنه قال: كنت عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله؛ أنتداوى؟ قال: «نعم؛ يا عباد الله، تداووا، فإنّ الله عزّ وجلّ لم يضع داء.. إلّا وضع له شفاء، غير داء واحد» ، قالوا: وما هو؟ قال: «الهرم» . وفي لفظ: «إنّ الله تعالى لم ينزل داء.. إلّا أنزل له شفاء؛ علمه من علمه، وجهله من جهله» . وفي «المسند» و «السّنن» : عن أبي خزامة قال: قلت: يا رسول الله؛ أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتّقيها.. هل تردّ من قدر الله شيئا؟ قال: «هي من قدر الله» . وذكر البخاريّ في «صحيحه» : عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: إنّ الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم. وفي «السّنن» : عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الدّواء الخبيث. وفي «صحيح مسلم» : عن طارق بن سويد الجعفيّ رضي الله تعالى عنه: أنّه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الخمر؟ فنهاه، أو كره

أن يصنعها، فقال: إنّما أصنعها للدّواء، فقال: «إنّ ذاك ليس بدواء؛ ولكنّه داء» . وفي «السّنن» : أنّه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الخمر تجعل في الدّواء؟ فقال: «إنّها داء، وليست بالدّواء» . ويذكر عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «من تداوى بالخمر.. فلا شفاه الله تعالى» . وروى البخاريّ: عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّه كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أتى مريضا، أو أتي به.. قال: «أذهب الباس ربّ النّاس، اشف وأنت الشّافي، لا شفاء إلّا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما» . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أخذ أهله الوعك.. أمر بالحساء فصنع، ثمّ أمرهم فحسوا. وكان يقول: «إنّه ليرتو فؤاد الحزين، ويسرو عن فؤاد السّقيم، كما تسرو إحداكنّ الوسخ بالماء عن وجهها» . وقوله: (الوعك) : هو الحمّى، أو ألمها. و (الحساء) - بالفتح والمدّ-: طبيخ يتّخذ من دقيق وماء ودهن. و (يرتو) : يشدّ ويقوّي. و (يسرو) : يكشف الألم ويزيله. وفي «السّنن» عنها [رضي الله تعالى عنها] أيضا: «عليكم بالبغيض

النّافع: التّلبين» . قالت: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا اشتكى أحد من أهله.. لم تزل البرمة على النّار حتّى ينتهي أحد طرفيه- يعني: يبرأ- أو يموت. وعنها [رضي الله تعالى عنها] أيضا: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قيل له: إنّ فلانا وجع.. لا يطعم الطّعام، قال: «عليكم بالتّلبينة، فأحسوه إيّاها» ، ويقول: «والّذي نفسي بيده؛ إنّها تغسل بطن أحدكم كما تغسل إحداكنّ وجهها من الوسخ» . و (التّلبين والتّلبينة) : الحساء الرّقيق الّذي هو في قوام اللّبن. قال الهرويّ: سمّيت تلبينة؛ لشبهها باللّبن لبياضها ورقّتها، وهذا هو الغذاء النّافع للعليل، وهو الرّقيق النّضيج، لا الغليظ النّيء، وإذا شئت أن تعرف فضل التّلبينة.. فاعرف فضل ماء الشّعير، فإنّها حساء يتّخذ من دقيق الشّعير. وفي «الصّحيحين» : عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «التّلبينة: مجمّة «1» لفؤاد المريض؛ تذهب ببعض الحزن» . وروى التّرمذيّ وابن ماجه: عن عقبة بن عامر الجهنيّ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تكرهوا مرضاكم على الطّعام والشّراب؛ فإنّ الله عزّ وجلّ يطعمهم ويسقيهم» .

_ (1) مجمّة أو مجمّة لفؤاد المريض؛ أي: مريحة.

وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرض أحد من أهل بيته.. نفث عليه بالمعوّذات. وفي «الصّحيحين» : عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الحمّى- أو شدّة الحمّى- من فيح جهنّم، فابردوها بالماء» . وقد ذكر أبو نعيم وغيره: من حديث أنس رضي الله تعالى عنه، يرفعه إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حمّ أحدكم.. فليرشّ عليه الماء البارد ثلاث ليال من السّحر» . وفي «السّنن» لابن ماجه: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، يرفعه إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «الحمّى كير «1» من كير جهنّم، فنحّوها عنكم بالماء البارد» . وفي «المسند» وغيره: عن سمرة رضي الله تعالى عنه، يرفعه إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «الحمّى قطعة من النّار، فأبردوها عنكم بالماء البارد» . وفي «السّنن» : من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: ذكرت الحمّى عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسبّها رجل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسبّها؛ فإنّها تنفي الذّنوب، كما تنفي النّار خبث الحديد» .

_ (1) الكير: جهاز من جلد أو نحوه يستخدمه الحداد وغيره للنفخ في النار لإذكائها.

وروى التّرمذيّ في «جامعه» : من حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أصاب أحدكم الحمّى؛ فإنّ الحمّى قطعة من النّار، فليطفئها عنه بالماء، فليستقبل «1» نهرا جاريا ليستقبل جرية الماء، فيقول: (باسم الله، اللهمّ؛ اشف عبدك، وصدّق رسولك) بعد صلاة الصّبح قبل طلوع الشّمس، فليغتمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيّام، فإن لم يبرأ في ثلاث.. فخمس، فإن لم يبرأ في خمس.. فسبع، فإن لم يبرأ في سبع.. فتسع؛ فإنّها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله تعالى» . وفي «الصحيحين» : عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه: أنّ رجلا أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّ أخي يشتكي بطنه- وفي رواية: استطلق بطنه- فقال: «اسقه عسلا» ، فذهب، ثمّ رجع، فقال: قد سقيته عسلا؛ فلم يغن عنه شيئا؟ وفي لفظ: فلم يزده إلّا استطلاقا (مرّتين أو ثلاثا) - كلّ ذلك يقول له: «اسقه عسلا» ، فقال له في الثّالثة أو الرّابعة: «صدق الله، وكذب بطن أخيك» ، ثمّ سقاه، فبرأ بإذن الله تعالى. وفي «سنن ابن ماجه» : عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا: «من لعق العسل ثلاث غدوات كلّ شهر.. لم يصبه عظيم من البلاء» . وفي أثر اخر: «عليكم بالشّفاءين: العسل، والقران» .

_ (1) في نسخة: (فليستنقع) .

وعن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الطّاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل، وعلى من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض.. فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها.. فلا تخرجوا منها فرارا منه» . وروي هذا الحديث عن عبد الرّحمن بن عوف أيضا رضي الله تعالى عنه. وفي «سنن أبي داود» مرفوعا: «إنّ من القرف التّلف» . قال ابن قتيبة: (القرف) مداناة الوباء، ومداناة المرضى. وفي «صحيح البخاريّ» : عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الشّفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكيّة نار. وأنهى أمّتي عن الكيّ» . وفي «سنن ابن ماجه» : عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما مررت ليلة أسري بي بملأ.. إلّا قالوا: يا محمّد؛ مر أمّتك بالحجامة» . ورواه التّرمذيّ: عن ابن عبّاس بلفظ: «عليك بالحجامة يا محمّد» . وقد روي عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «خير ما تداويتم به.. الحجامة والفصد» . وفي حديث: «خير الدّواء.. الحجامة والفصد» . وروى التّرمذيّ في «جامعه» : عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما

يرفعه: «إنّ خير ما تحتجمون فيه يوم سابع عشرة، أو تاسع عشرة، ويوم إحدى وعشرين» . وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا: «من احتجم يوم الأربعاء، أو يوم السّبت؛ فأصابه بياض، أو برص.. فلا يلومنّ إلّا نفسه» . وروى الدّارقطنيّ من حديث نافع [رحمه الله تعالى] قال: قال لي عبد الله بن عمر: تبيّغ بي الدّم «1» ، فأبغني حجّاما، ولا يكن صبيّا، ولا شيخا كبيرا، فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الحجامة.. تزيد الحافظ حفظا، والعاقل عقلا، فاحتجموا على اسم الله، ولا تحتجموا يوم الخميس، والجمعة، والسّبت، والأحد. واحتجموا يوم الإثنين، وما كان من جذام ولا برص إلّا نزل يوم الأربعاء» . وقد روى أبو داود في «سننه» : من حديث أبي بكرة رضي الله تعالى عنه: أنّه كان يكره الحجامة يوم الثلاثاء. وقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يوم الثّلاثاء.. يوم الدّم، وفيه ساعة لا يرقأ» . وروى التّرمذيّ في «جامعه» وابن ماجه في «سننه» : عن أسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بماذا كنت تستمشين؟» ، قالت: بالشّبرم، قال: «حارّ..

_ (1) أي: هاج بي الدم وغلب، وذلك حين تظهر حمرته في البدن.

حارّ» ، ثمّ قالت: استمشيت بالسّنى. فقال: «لو كان شيء يشفي من الموت.. كان السّنى» . و (الشّبرم) : قشر عرق شجرة. وفي «سنن ابن ماجه» : عن عبد الله بن أمّ حرام [رضي الله تعالى عنه]- وكان ممّن صلّى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القبلتين- قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «عليكم بالسّنى والسّنّوت، فإنّ فيهما شفاء من كلّ داء، إلّا السّامّ» ، قيل: يا رسول الله؛ وما السّامّ؟ قال: «الموت» . و (السّنى) : نبت حجازيّ، أفضله المكّيّ. واختلف في معنى (السّنّوت) على أقوال «1» ، وأقربها إلى الصّواب: أنّه العسل الّذي يكون في زقاق السّمن. وروى التّرمذيّ: عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «تداووا من ذات الجنب بالقسط البحريّ والزّيت» . و (ذات الجنب) : ورم حارّ يحدث في الغشاء المستبطن للأضلاع، وأ لم يشبهه يعرض في نواحي الجنب.

_ (1) قيل: إنه الزبد، وقيل: الجبن، وقيل: الطلاء الخاثر مع الزنجبيل، وقيل: عصارة التمر المطبوخ وما يطبخ في التمر والعنب، وقيل: حب يشبه الكمون، وقيل: الكمون الكرماني، وقيل الرازيانج، وهو الشمار أو الشمر.

و (القسط البحريّ) هو: العود الهنديّ «1» . وفي «الصّحيحين» : أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «خير ما تداويتم به: الحجامة، والقسط البحريّ، ولا تعذّبوا صبيانكم بالغمز من العذرة» «2» . وفي «السّنن والمسند» عن جابر بن عبد الله [رضي الله تعالى عنهما] قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عائشة رضي الله تعالى عنها- وعندها صبيّ يسيل منخراه دما- فقال: «ما هذا؟» ، قالوا: به العذرة، أو: وجع في رأسه، فقال: «ويلكنّ؛ لا تقتلن أولادكنّ، أيّما امرأة أصاب ولدها عذرة، أو وجع في رأسه.. فلتأخذ قسطا هنديّا، فتحكّه بماء، ثمّ تسعطه إيّاه» ، فأمرت عائشة رضي الله تعالى عنها فصنع ذلك للصّبيّ فبرأ. و (العذرة) : تهيّج في الحلق من الدّم. وقيل: قرحة تخرج فيما بين الأذن والحلق، وتعرض للصّبيان غالبا. و (القسط البحريّ) : هو العود الهنديّ، وهو الأبيض منه، وفيه منافع عديدة، وكانوا يعالجون أولادهم بغمز اللهاة «3» ، وبالعلاق؛ وهو

_ (1) وهو العود الذي يتبخّر به، ويجلب من الهند. (2) العذرة: وجع في الحلق يصيب اللوزتين بالالتهاب. والغمز: أن يدخل نحو الأصبع في حلق المريض ويضغط محل الوجع، فينفجر منه دم أسود. (3) اللحمة التي في أقصى الحلق.

شيء يعلّقونه على الصّبيان، فنهاهم صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، وأرشدهم إلى ما هو أنفع للأطفال وأسهل عليهم. و (السّعوط) : ما يصبّ في أنف الإنسان وهو مستلق على ظهره، وبين كتفيه ما يرفعهما؛ لينخفض رأسه فيتمكّن السّعوط من الوصول إلى دماغه، ويستخرج ما فيه من الدّاء بالعطاس. وقد مدح النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم التّداوي بالسّعوط فيما يحتاج إليه فيه. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمر أن يسترقى من العين. وروى مسلم في «صحيحه» : عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «العين حقّ، ولو كان شيء سابق القدر.. لسبقته العين» . وفي «سنن أبي داود» : عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان يؤمر العائن فيتوضّأ، ثمّ يغتسل منه المعين. قال الزّهريّ: يؤمر الرّجل العائن بقدح، فيدخل كفّه فيه، فيتمضمض، ثمّ يمجّه في القدح، ثمّ يغسل وجهه في القدح، ثمّ يدخل يده اليسرى، فيصبّ على كفّه اليمنى في القدح، ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على كفّه اليسرى، ثمّ يدخل يده اليسرى، فيصبّ على مرفقه الأيمن، ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على مرفقه الأيسر، ثمّ يدخل يده اليسرى، فيصبّ على قدمه اليمنى، ثمّ يدخل يده اليمنى، فيصبّ على قدمه اليسرى ثمّ يدخل يده اليسرى، فيصبّ على ركبته اليمنى، ثمّ

يدخل يده اليمنى، فيصبّ على ركبته اليسرى، ثمّ يغسل داخلة إزاره «1» ، ولا يوضع القدح في الأرض، ثمّ يصبّ على رأس الرّجل الّذي تصيبه العين من خلفه صبّة واحدة. وممّا يدفع إصابة العين: قول: (اللهمّ بارك عليه) . وقول: (ما شاء الله لا قوّة إلّا بالله) .

_ (1) أي الطرف المتدلّي الذي يلي حقوه الأيمن، وقيل: إنّ المراد ما يلي جسده من الإزار.

الفصل الثاني في سنه صلى الله عليه وسلم ووفاته

الفصل الثّاني في سنّه صلّى الله عليه وسلّم ووفاته [سن رسول الله ص] عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: مكث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمكّة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، وبالمدينة عشرا، وتوفّي وهو ابن ثلاث وستّين. وفي رواية عنه [رضي الله تعالى عنه] : أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفّي وهو ابن خمس وستّين. وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفّاه الله تعالى على رأس ستّين سنة. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مات وهو ابن ثلاث وستّين سنة. وعن جرير بن حازم الأسديّ [رحمه الله تعالى] عن معاوية رضي الله تعالى عنه: أنّه سمعه يخطب، قال: مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن ثلاث وستّين، وأبو بكر وعمر، وأنا ابن ثلاث وستّين سنة. قوله: (أنا ابن ثلاث وستّين) المراد: أنّه كان كذلك وقت تحديثه بهذا الحديث، ولم يمت فيه، بل عاش حتّى بلغ نحو ثمانين سنة.

وفاة رسول الله ص

[وفاة رسول الله ص] وأمّا وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: اخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كشف السّتارة يوم الإثنين، فنظرت إلى وجهه كأنّه ورقة مصحف «1» ، والنّاس خلف أبي بكر، فكاد النّاس أن يضطربوا، فأشار إلى النّاس: أن اثبتوا وأبو بكر يؤمّهم، وألقى السّجف، وتوفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من اخر ذلك اليوم. و (السّجف) : السّتارة. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كنت مسندة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى صدري- أو قالت: إلى حجري- فدعا بطست؛ ليبول فيه «2» ، ثمّ بال، فمات صلّى الله عليه وسلّم. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا أنّها قالت: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بالموت، وعنده قدح فيه ماء، وهو يدخل يده في القدح، ثمّ يمسح وجهه بالماء، ثمّ يقول: «اللهمّ؛ أعنّي على سكرات الموت» . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا قالت: لا أغبط أحدا بهون موت بعد الّذي رأيت من شدّة موت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أيضا قالت: لمّا قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.. اختلفوا في دفنه، فقال أبو بكر: سمعت من

_ (1) وهو كناية عن الجمال البارع وحسن البشرة، وصفاء الوجه واستنارته. (2) إناء من نحاس مستدير، يغسل فيه. معرب (تشت) .

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا ما نسيته؛ قال: «ما قبض الله نبيّا إلّا في الموضع الّذي يحبّ أن يدفن فيه، ادفنوه في موضع فراشه» . وعن عائشة أيضا وابن عبّاس [رضي الله تعالى عنهم] : أنّ أبا بكر قبّل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد ما مات. وعن عائشة أيضا رضي الله تعالى عنها: أنّ أبا بكر دخل على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته، فوضع فمه بين عينيه، ووضع يديه على ساعديه، وقال: وا نبيّاه، وا صفيّاه، وا خليلاه. وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: لمّا كان اليوم الّذي دخل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة.. أضاء منها كلّ شيء، فلمّا كان اليوم الّذي مات فيه.. أظلم منها كلّ شيء، وما نفضنا أيدينا من التّراب، وإنّا لفي دفنه حتّى أنكرنا قلوبنا. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الإثنين. وعن محمّد الباقر رضي الله تعالى عنه- وهو من التّابعين- قال: قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الإثنين، فمكث ذلك اليوم، وليلة الثّلاثاء، ودفن من اللّيل. وعن سالم بن عبيد رضي الله تعالى عنه- وكانت له صحبة- قال: أغمي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرضه، فأفاق، فقال: «حضرت الصّلاة؟» ، فقالوا: نعم، فقال: «مروا بلالا فليؤذّن، ومروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» .

قال: ثمّ أغمي عليه، فأفاق، فقال: «حضرت الصّلاة؟» ، فقالوا: نعم، فقال: «مروا بلالا فليؤذّن، ومروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» . فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: إنّ أبي رجل أسيف- أي: حزين- إذا قام ذلك المقام.. بكى، فلا يستطيع، فلو أمرت غيره. قال: ثمّ أغمي عليه، فأفاق، فقال: «مروا بلالا فليؤذّن، ومروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس، فإنّكنّ صواحب- أو صواحبات- يوسف» ؛ أي: مثلهنّ في إظهار خلاف ما يبطنّ. قال: فأمر بلال فأذّن، وأمر أبو بكر فصلّى بالنّاس، ثمّ إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجد خفّة فقال: «انظروا لي من أتّكىء عليه» ، فجاءت بريرة ورجل اخر؛ فاتّكأ عليهما، فلمّا راه أبو بكر ذهب لينكص؛ فأومأ إليه أن يثبت مكانه حتّى قضى أبو بكر صلاته. ثمّ إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبض، فقال عمر: والله؛ لا أسمع أحدا يذكر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبض إلّا ضربته بسيفي هذا. قال: وكان النّاس أمّييّن؛ لم يكن فيهم نبيّ قبله، فأمسك النّاس. فقالوا: يا سالم؛ انطلق إلى صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فادعه، فأتيت أبا بكر رضي الله تعالى عنه- وهو في المسجد- فأتيته أبكي دهشا؟ فلمّا راني.. قال لي: أقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قلت: إنّ عمر يقول: لا أسمع أحدا يذكر أنّ رسول الله صلّى الله عليه

وسلّم قبض.. إلّا ضربته بسيفي هذا، فقال لي: انطلق، فانطلقت معه، فجاء هو والنّاس قد دخلوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا أيّها النّاس؛ أفرجوا لي، فأفرجوا له، فجاء حتّى أكبّ عليه ومسّه فقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] . ثمّ قالوا: يا صاحب رسول الله؛ أقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: نعم، فعلموا أن قد صدق. قالوا: يا صاحب رسول الله؛ أيصلّى على رسول الله؟ قال: نعم، قالوا: وكيف؟ قال: يدخل قوم، فيكبّرون ويصلّون، ويدعون، ثمّ يخرجون، ثمّ يدخل قوم، فيكبّرون ويصلّون، ويدعون، ثمّ يخرجون، حتّى يدخل النّاس. قالوا: يا صاحب رسول الله؛ أيدفن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: نعم، قالوا: أين؟ قال: في المكان الّذي قبض الله فيه روحه، فإنّ الله لم يقبض روحه إلّا في مكان طيّب، فعلموا أن قد صدق. ثمّ أمرهم أن يغسّله بنو أبيه. واجتمع المهاجرون يتشاورون، فقالوا: انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار ندخلهم معنا في هذا الأمر، فقالت الأنصار: منّا أمير، ومنكم أمير، فقال عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه: من له مثل هذه الثّلاثة؟ ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] من هما؟.

قال: ثمّ بسط يده فبايعه، وبايعه النّاس، بيعة حسنة جميلة. قال الباجوريّ: (الفضيلة الأولى: كونه أحد الاثنين في قوله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ [التوبة: 40] . الفضيلة الثّانية: إثبات الصّحبة في قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ [التوبة: 40] . فسمّاه الله (صاحبه) ، فمن أنكر صحبته.. كفر؛ لمعارضته القران. الفضيلة الثّالثة: إثبات المعيّة في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] . فثبوت هذه الفضائل له.. يؤذن بأحقّيّته بالخلافة) . وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: لمّا وجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من كرب الموت ما وجد.. قالت فاطمة رضي الله [تعالى] عنها: وا كرباه، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا كرب على أبيك بعد اليوم؛ إنّه قد حضر من أبيك ما ليس بتارك منه أحدا، الموافاة يوم القيامة» . قال الإمام الغزاليّ في «الإحياء» : (قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: دخلنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيت أمّنا عائشة رضي الله تعالى عنها حين دنا الفراق، فنظر إلينا، فدمعت عيناه صلّى الله

عليه وسلّم، ثمّ قال: «مرحبا بكم، حيّاكم الله، اواكم الله، نصركم الله، وأوصيكم بتقوى الله، وأوصي بكم الله، إنّي لكم منه نذير مبين؛ ألاتعلوا على الله في بلاده وعباده، وقد دنا الأجل، والمنقلب إلى الله، وإلى سدرة المنتهى، وإلى جنّة المأوى، وإلى الكأس الأوفى، فاقرؤوا على أنفسكم وعلى من دخل في دينكم بعدي منّي السّلام ورحمة الله» . وروي: أنّه صلّى الله عليه وسلّم قال لجبريل عليه السّلام عند موته: «من لأمّتي من بعدي؟» ، فأوحى الله تعالى إلى جبريل: أن بشّر حبيبي أنّي لا أخذله في أمّته، وبشّره أنّه أسرع النّاس خروجا من الأرض إذا بعثوا، وسيّدهم إذا جمعوا، وأنّ الجنّة محرّمة على الأمم، حتّى تدخلها أمّته، فقال [صلّى الله عليه وسلّم] : «الان قرّت عيني» . وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نغسّله بسبع قرب من سبعة ابار، ففعلنا ذلك، فوجد راحة، فخرج، فصلّى بالنّاس، واستغفر لأهل أحد، ودعا لهم، وأوصى بالأنصار، فقال: «أمّا بعد: يا معشر المهاجرين؛ فإنّكم تزيدون، وأصبحت الأنصار لا تزيد على هيئتها الّتي هي عليها اليوم، وإنّ الأنصار عيبتي الّتي أويت إليها «1» ، فأكرموا كريمهم- يعني: محسنهم- وتجاوزوا عن مسيئهم» . ثمّ قال [صلّى الله عليه وسلّم] : «إنّ عبدا خيّر بين الدّنيا وبين ما

_ (1) أي: موضع سرّي.

عند الله.. فاختار ما عند الله» ، فبكى أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وظنّ أنّه يريد نفسه. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «على رسلك يا أبا بكر، سدّوا هذه الأبواب الشّوارع في المسجد، إلّا باب أبي بكر؛ فإنّي لا أعلم امرأ أفضل عندي في الصحبة من أبي بكر» . قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فقبض صلّى الله عليه وسلّم في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري «1» ، وجمع الله بين ريقي وريقه عند الموت، فدخل عليّ أخي عبد الرّحمن وبيده سواك، فجعل ينظر إليه، فعرفت أنّه يعجبه ذلك، فقلت له: اخذه لك؟ فأومأ برأسه- أي: نعم- فناولته إيّاه، فأدخله في فيه، فاشتدّ عليه، فقلت: أليّنه لك؟ فأومأ برأسه- أي: نعم- فليّنته، وكان بين يديه ركوة ماء، فجعل يدخل فيها يده ويقول: «لا إله إلّا الله، إنّ للموت لسكرات» ، ثمّ نصب يده يقول: «الرّفيق الأعلى.. الرّفيق الأعلى» . فقلت: إذا- والله- لا يختارنا. وروى سعيد بن عبد الله، عن أبيه [رحمهما الله تعالى] قال: لمّا رأت الأنصار أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يزداد ثقلا.. أطافوا بالمسجد، فدخل العبّاس رضي الله تعالى عنه على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأعلمه بمكانهم وإشفاقهم.

_ (1) السّحر: الصدر. والنّحر: موضع القلادة من الصدر.

ثمّ دخل عليه الفضل [رضي الله تعالى عنه] فأعلمه بمثل ذلك. ثمّ دخل عليه عليّ رضي الله تعالى عنه فأعلمه بمثله، فمدّ يده، وقال: «ها» فتناولوه، فقال: «ما يقولون؟» ، قالوا: يقولون: نخشى أن تموت. وتصايح نساؤهم لاجتماع رجالهم إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فثار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فخرج متوكّئا على عليّ والفضل، والعبّاس أمامه، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم معصوب الرّأس يخطّ برجليه، حتّى جلس على أسفل مرقاة من المنبر، وثاب النّاس إليه، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: «أيّها النّاس؛ إنّه بلغني أنّكم تخافون عليّ الموت، كأنّه استنكار منكم للموت؟! وما تنكرون من موت نبيّكم؟ ألم أنع إليكم، وتنعى إليكم أنفسكم؟! هل خلّد نبيّ قبلي فيمن بعث.. فأخلّد فيكم؟ ألا وإنّي لاحق بربّي، ألا وإنّكم لاحقون به. وإنّي أوصيكم بالمهاجرين الأوّلين خيرا، وأوصي المهاجرين فيما بينهم؛ فإنّ الله عزّ وجلّ قال: وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [العصر: 1- 3] ... إلى اخرها. وإنّ الأمور تجري بإذن الله، فلا يحملنّكم استبطاء أمر على استعجاله، فإنّ الله عزّ وجلّ لا يعجل لعجلة أحد، ومن غالب الله.. غلبه، ومن خادع الله.. خدعه

فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [محمد: 22] . وأوصيكم بالأنصار خيرا، فإنّهم الّذين تبوّؤوا الدّار والإيمان من قبلكم؛ أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم في الثّمار؟! ألم يوسّعوا عليكم «1» في الدّيار؟! ألم يؤثروكم على أنفسهم وبهم الخصاصة؟!. ألا.. فمن ولّي أن يحكم بين رجلين.. فليقبل من محسنهم، وليتجاوز عن مسيئهم. ألا.. ولا تستأثروا عليهم. ألا.. وإنّي فرط «2» لكم، وأنتم لاحقون بي. ألا.. وإنّ موعدكم الحوض، حوضي أعرض ممّا بين بصرى الشّام وصنعاء اليمن، يصبّ فيه ميزاب الكوثر ماء، أشدّ بياضا من اللّبن، وألين من الزّبد، وأحلى من الشّهد «3» ، من شرب منه.. لم يظمأ أبدا، حصباؤه اللّؤلؤ، وبطحاؤه المسك، من حرمه في الموقف غدا.. حرم الخير كلّه. ألا.. فمن أحبّ أن يرده عليّ غدا.. فليكفف لسانه ويده إلّا مما «4» ينبغي. فقال العبّاس: يا نبيّ الله؛ أوص بقريش.

_ (1) في نسخة: (لكم) . (2) أي: سابق. (3) الشهد: العسل في شمعه. (4) في نسخة: (فيما) .

فقال: «إنّما أوصي بهذا الأمر قريشا؛ والنّاس تبع لقريش، برّهم لبرّهم، وفاجرهم لفاجرهم «1» ، فاستوصوا- ال قريش- بالنّاس خيرا. يا أيّها النّاس؛ إنّ الذّنوب تغيّر النّعم وتبدّل القسم، فإذا برّ النّاس.. برّهم أئمّتهم، وإذا فجر النّاس «2» .. عقّوهم. قال الله تعالى: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» [الأنعام: 129] . وروى ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: «سل يا أبا بكر» . فقال: يا رسول الله؛ دنا الأجل؟ فقال: «قد دنا الأجل، وتدلّى» . فقال: ليهنك يا نبيّ الله ما عند الله، فليت شعري عن منقلبنا؟ فقال: «إلى الله، وإلى سدرة المنتهى، ثمّ إلى جنّة المأوى، والفردوس الأعلى، والكأس الأوفى، والرّفيق الأعلى، والحظّ والعيش المهنّا» . فقال: يا نبيّ الله؛ من يلي غسلك؟ قال: «رجال من أهل بيتي؛ الأدنى فالأدنى» . قال «3» : يا رسول الله؛ فيم نكفّنك؟ قال: «في ثيابي هذه، وفي حلّة يمانية، وفي بياض مصر» .

_ (1) في نسخة: (برّهم تبع لبرّهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم) . (2) في نسخة: (وإذا فجروا) . (3) في نسخة: (قلنا) .

فقال: كيف الصّلاة عليك منّا؟ وبكينا، وبكى ... ثمّ قال: «مهلا غفر الله لكم، وجزاكم عن نبيّكم خيرا. إذا غسّلتموني وكفّنتموني.. فضعوني على سريري هذا، في بيتي هذا على شفير قبري، ثم اخرجوا عنّي ساعة- فإنّ أوّل من يصلّي عليّ الله عزّ وجلّ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب: 43] . ثمّ يأذن للملائكة في الصّلاة عليّ، فأوّل من يدخل عليّ من خلق الله ويصلّي عليّ.. جبريل، ثمّ ميكائيل، ثمّ إسرافيل، ثمّ ملك الموت مع جنود كثيرة، ثمّ الملائكة بأجمعها صلّى الله عليهم أجمعين، ثمّ أنتم؛ فادخلوا عليّ أفواجا، فصلّوا عليّ أفواجا؛ زمرة زمرة، وسلّموا تسليما، ولا تؤذوني» بتزكية ولا صيحة ولا رنّة، وليبدأ منكم الإمام، وأهل بيتي الأدنى.. فالأدنى، ثمّ زمرة النّساء، ثمّ زمرة الصّبيان. قال: فمن يدخلك القبر؟ قال: «زمر من أهل بيتي ... الأدنى فالأدنى مع ملائكة كثيرة لا ترونهم؛ وهم يرونكم، قوموا فأدّوا عنّي إلى من بعدي» . وقال عبد الله بن زمعة [رضي الله تعالى عنه] : جاء بلال [رضي الله تعالى عنه] في أوّل شهر ربيع الأوّل، فأذّن بالصّلاة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مروا أبا بكر يصلّي بالنّاس» . فخرجت فلم أر بحضرة الباب إلّا عمر في رجال ليس فيهم أبو بكر،

_ (1) في نسخة: (ولا تؤذنوا) .

فقلت: قم يا عمر فصلّ بالنّاس، فقام عمر، فلمّا كبّر- وكان رجلا صيّتا سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صوته بالتّكبير.. فقال: «أين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك، والمسلمون» قالها ثلاث مرّات: «مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» ، فقالت عائشة رضي الله [تعالى] عنها: يا رسول الله؛ إنّ أبا بكر رجل رقيق، إذا قام في مقامك غلبه البكاء. فقال: «إنّكنّ صويحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» . قال: فصلّى أبو بكر بعد الصّلاة الّتي صلّى عمر. فكان عمر يقول لعبد الله بن زمعة بعد ذلك: ويحك، ماذا صنعت بي؟ والله لولا أنّي ظننت أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمرك.. ما فعلت، فيقول عبد الله: إنّي لم أر أحدا أولى بذلك منك. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: وما قلت ذلك ولا صرفته عن أبي بكر إلّا رغبة به عن الدّنيا، ولما في الولاية من المخاطرة والهلكة إلّا من سلّم الله، وخشيت أيضا ألايكون النّاس يحبّون رجلا صلّى في مقام النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو حيّ أبدا- إلّا أن يشاء الله- فيحسدونه، ويبغون عليه، ويتشاءمون به، فإذا الأمر أمر الله، والقضاء قضاء الله تعالى، وعصمه الله تعالى من كلّ ما تخوّفت عليه من أمر الدّنيا والدّين. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فلمّا كان اليوم الّذي مات فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.. رأوا منه خفّة في أوّل النّهار؛ فتفرّق عنه الرّجال إلى منازلهم وحوائجهم مستبشرين، وأخلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالنّساء، فبينا نحن على ذلك- لم نكن على مثل

حالنا في الرّجاء والفرح قبل ذلك- قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اخرجن عنّي؛ هذا الملك يستأذن عليّ» . فخرج من في البيت غيري، ورأسه في حجري، فجلس، وتنحّيت في جانب البيت، فناجى الملك طويلا، ثمّ إنّه دعاني؛ فأعاد رأسه في حجري، وقال للنّسوة: «ادخلن» ، فقلت: ما هذا بحسّ جبريل عليه السّلام؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أجل يا عائشة؛ هذا ملك الموت، جاءني فقال: إنّ الله عزّ وجلّ أرسلني، وأمرني أن لا أدخل عليك إلّا بإذن، فإن لم تأذن لي.. أرجع، وإن أذنت لي.. دخلت، وأمرني ألاأقبضك حتّى تأمرني، فماذا أمرك؟ فقلت: «اكفف عنّي، حتّى يأتيني جبريل عليه السّلام، فهذه ساعة جبريل» . قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فاستقبلنا بأمر لم يكن له عندنا جواب؛ ولا رأي، فوجمنا وكأنّما ضربنا بصاخّة- أي: بصيحة- ما نحير إليه شيئا، وما يتكلّم أحد من أهل البيت؛ إعظاما لذلك الأمر، وهيبة ملأت أجوافنا. قالت: وجاء جبريل في ساعته فسلّم، فعرفت حسّه، وخرج أهل البيت، فدخل فقال: إنّ الله عزّ وجلّ يقرأ عليك السّلام، ويقول: كيف تجدك؟ وهو أعلم بالّذي تجد منك، ولكن أراد أن يزيدك كرامة وشرفا، وأن يتمّ كرامتك وشرفك على الخلق، وأن تكون سنّة في أمّتك، فقال: «أجدني وجعا» . فقال: أبشر، فإنّ الله تعالى أراد أن يبلّغك ما أعدّ لك، فقال:

«يا جبريل؛ إنّ ملك الموت استأذن عليّ..» وأخبره الخبر. فقال جبريل: يا محمّد؛ إنّ ربّك إليك مشتاق، ألم يعلمك الّذي يريد بك؟! لا والله ما استأذن ملك الموت على أحد قطّ ولا يستأذن عليه أبدا، ألا إنّ ربّك متمّ شرفك، وهو إليك مشتاق. قال: «فلا تبرح إذا حتّى يجيء» . وأذن للنّساء، فقال: «يا فاطمة؛ أدني» ، فأكبّت عليه، فناجاها، فرفعت رأسها وعيناها تدمع «1» ؛ وما تطيق الكلام، ثمّ قال: «أدني منّي رأسك» ، فأكبّت عليه، فناجاها، فرفعت رأسها؛ وهي تضحك وما تطيق الكلام، وكان الّذي رأينا منها عجبا، فسألتها بعد ذلك.. فقالت: أخبرني، وقال: «إنّي ميّت اليوم» ، فبكيت، ثمّ قال: «إنّي دعوت الله أن يلحقك بي في أوّل أهلي، وأن يجعلك معي» فضحكت. وأدنت ابنيها منه فشمّهما «2» . قالت: وجاء ملك الموت، واستأذن؛ فأذن له، فقال الملك: ما تأمرنا يا محمّد؟ قال: «ألحقني بربّي الان» ، فقال: بلى؛ من يومك هذا، أما إنّ ربّك إليك مشتاق، ولم يتردّد عن أحد تردّده عنك، ولم ينهني عن الدّخول على أحد إلّا بإذن غيرك، ولكنّ ساعتك أمامك. وخرج. قالت: وجاء جبريل فقال: السّلام عليك يا رسول الله؛ هذا اخر ما

_ (1) في نسخة: (تذرفان) . (2) في نسخة: (وأدنت ابنتها منه فشمّها) .

أنزل فيه إلى الأرض أبدا، طوي الوحي وطويت الدّنيا، وما كان لي في الأرض حاجة غيرك، وما لي فيها حاجة إلّا حضورك، ثمّ لزوم موقفي. لا والّذي بعث محمّدا بالحقّ؛ ما في البيت أحد يستطيع أن يحير إليه في ذلك كلمة «1» ، ولا يبعث إلى أحد من رجاله لعظم ما يسمع من حديثه، ووجدنا وإشفاقنا. قالت: فقمت إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتّى أضع رأسه بين ثدييّ، وأمسكت بصدره، وجعل يغمى عليه حتّى يغلب، وجبهته ترشح رشحا ما رأيته من إنسان قطّ، فجعلت أسلت ذلك العرق «2» ، وما وجدت رائحة شيء أطيب منه، فكنت أقول له إذا أفاق: بأبي أنت وأمّي، ونفسي وأهلي؛ ما تلقى جبهتك من الرّشح؟ فقال: «يا عائشة؛ إنّ نفس المؤمن تخرج بالرّشح، ونفس الكافر تخرج من شدقيه «3» كنفس الحمار» . فعند ذلك ارتعنا، وبعثنا إلى أهلنا، فكان أوّل رجل جاءنا- ولم يشهده- أخي، بعثه إليّ أبي، فمات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يجيء أحد، وإنّما صدّهم الله عنه؛ لأنّه ولّاه جبريل وميكائيل، وجعل إذا أغمي عليه.. قال: «بل الرّفيق الأعلى» ، كأنّ الخيرة تعاد عليه، فإذا أطاق الكلام.. قال: «الصّلاة.. الصّلاة؛ إنّكم لا تزالون

_ (1) أي: يعيدها. (2) أي: أزيله وأمسحه. (3) في نسخة: (شدقه) .

متماسكين ما صلّيتم جميعا، الصّلاة.. الصّلاة» ، كان يوصي بها حتّى مات؛ وهو يقول: «الصّلاة.. الصّلاة» . قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين ارتفاع الضّحى، وانتصاف النّهار يوم الإثنين. قالت فاطمة رضي الله تعالى عنها: ما لقيت من يوم الإثنين، والله لا تزال الأمّة تصاب فيه بعظيمة. وقالت أمّ كلثوم [رضي الله تعالى عنها]- يوم أصيب عليّ كرّم الله وجهه بالكوفة- مثلها: ما لقيت من يوم الإثنين، مات فيه جدّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفيه قتل عمر، وفيه قتل أبي، فما لقيت من يوم الإثنين. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لمّا مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.. اقتحم النّاس حين ارتفعت الرّنّة «1» وسجّي «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بثوبي؛ فاختلفوا، فكذّب بعضهم بموته، وأخرس بعضهم، فما تكلّم إلّا بعد البعد، وخلّط اخرون؛ فلاثوا الكلام بغير بيان، وبقي اخرون معهم عقولهم، وأقعد اخرون؛ فكان عمر بن الخطّاب فيمن كذّب بموته، وعليّ فيمن أقعد، وعثمان فيمن أخرس، فخرج عمر على النّاس؛ وقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يمت، وليرجعنّه الله عزّ وجلّ، وليقطّعنّ أيدي وأرجل رجال من

_ (1) أي: صوت البكاء. (2) أي: غطّي.

المنافقين يتمنّون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم الموت، إنّما واعده الله عزّ وجلّ كما واعد موسى؛ وهو اتيكم. وفي رواية أنّه قال: يا أيّها النّاس؛ كفّوا ألسنتكم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنّه لم يمت، والله لا أسمع أحدا يذكر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد مات.. إلّا علوته بسيفي هذا. وأمّا عليّ: فإنّه أقعد فلم يبرح في البيت. وأمّا عثمان: فجعل لا يكلّم أحدا؛ يؤخذ بيده فيجاء به، ويذهب به. ولم يكن أحد من المسلمين في مثل حال أبي بكر والعبّاس، فإنّ الله عزّ وجلّ أيّدهما بالتّوفيق والسّداد، وإن كان النّاس لم يرعووا إلّا بقول أبي بكر، حتّى جاء العبّاس فقال: والله الّذي لا إله إلّا هو؛ لقد ذاق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الموت، ولقد قال الله له وهو بين أظهركم: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر: 30- 31] . وبلغ أبا بكر الخبر- وهو في بني الحارث بن الخزرج- فجاء، ودخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنظر إليه، ثمّ أكبّ عليه، فقبّله، ثمّ قال: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله؛ ما كان الله ليذيقك الموت مرّتين، فقد- والله- توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ثمّ خرج إلى النّاس فقال: أيّها النّاس؛ من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات، ومن كان يعبد ربّ محمّد فإنّه حيّ لا يموت. قال الله

تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [ال عمران: 144] . فكأنّ النّاس لم يسمعوا هذه الاية إلّا يومئذ. وفي رواية: أنّ أبا بكر رضي الله تعالى عنه لمّا بلغه الخبر.. دخل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلّي على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعيناه تهملان، وغصصه ترتفع كقصع الجرّة. و (الجرّة- بالكسر-) : ما تخرجه الإبل من كروشها، فتجترّه. و (قصعها) : إخراجها مستقيمة من غير تقطيع وشدّة مضغ. وهو في ذلك «1» جلد الفعل والمقال، فأكبّ عليه، فكشف عن وجهه، وقبّل جبينه وخدّيه، ومسح وجهه وجعل يبكي ويقول: بأبي أنت وأمّي ونفسي وأهلي، طبت حيّا وميتا، انقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء، فعظمت عن الصّفة، وجللت عن البكاء، وخصّصت حتّى صرت مسلاة «2» ، وعمّمت حتّى صرنا فيك سواء، ولولا أنّ موتك كان اختيارا منك؛ لجدنا لحزنك بالنّفوس، ولولا أنّك نهيت عن البكاء؛ لأنفدنا عليك ماء العيون «3» . فأمّا ما لا نستطيع نفيه عنّا.. فكمد وادّكار محالفان لا يبرحان، اللهمّ

_ (1) في نسخة: (وهو مع ذلك) . (2) أي: بحيث يتسلّون بك أي: يروّحون بك عن نفوسهم. (3) في نسخة: (ماء الشّؤون) ؛ وكلاهما بمعنى.

فأبلغه عنّا، اذكرنا يا محمّد- صلّى الله عليه وسلّم- عند ربّك، ولنكن من بالك، فلولا ما خلّفت من السّكينة.. لم يقم أحد لما خلّفت من الوحشة، اللهمّ أبلغ نبيّك عنّا، واحفظه فينا. وعن ابن عمر [رضي الله تعالى عنهما] أنّه لمّا دخل أبو بكر رضي الله تعالى عنه البيت وصلّى وأثنى.. عجّ أهل البيت عجيجا سمعه أهل المصلّى؛ كلّما ذكر شيئا.. ازدادوا، فما سكّن عجيجهم إلّا تسليم رجل على الباب صيّت جلد؛ قال: السّلام عليكم يا أهل البيت كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ [ال عمران: 185] . إنّ في الله خلفا من كلّ أحد، ودركا لكلّ رغبة، ونجدة من كلّ مخافة، فالله فارجوا، وبه فثقوا، فاستمعوا له وأنكروه، وقطعوا البكاء، فلمّا انقطع البكاء.. فقد صوته؛ فاطّلع أحدهم فلم ير أحدا، ثمّ عادوا فبكوا، فناداهم مناد اخر، لا يعرفون صوته: يا أهل البيت؛ اذكروا الله، واحمدوه على كلّ حال.. تكونوا من المخلصين، إنّ في الله عزاء من كلّ مصيبة، وعوضا من كلّ رغيبة، فالله فأطيعوا، وبأمره فاعملوا. فقال أبو بكر: هذا الخضر واليسع عليهما السّلام؛ قد حضرا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. واستوفى القعقاع بن عمرو [رضي الله تعالى عنه] حكاية خطبة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال: قام أبو بكر في النّاس خطيبا حيث قضى النّاس

عبراتهم بخطبة جلّها الصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فحمد الله، وأثنى عليه على كلّ حال، وقال: أشهد ألاإله إلّا الله واحده، صدق وعده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب واحده، فلله الحمد واحده. وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، وخاتم أنبيائه، وأشهد أنّ الكتاب كما نزل، وأنّ الدّين كما شرع، وأنّ الحديث كما حدّث، وأنّ القول كما قال، وأنّ الله هو الحقّ المبين. اللهمّ؛ فصلّ على محمّد عبدك، ورسولك، ونبيّك، وحبيبك، وأمينك وخيرتك، وصفوتك.. بأفضل ما صلّيت به على أحد من خلقك. اللهمّ؛ واجعل صلاتك، ومعافاتك، ورحمتك، وبركاتك.. على سيّد المرسلين، وخاتم النّبيّين وإمام المتّقين، محمّد قائد الخير، وإمام الخير، ورسول الرّحمة. اللهمّ؛ قرّب زلفته، وعظّم برهانه، وكرّم مقامه، وابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأوّلون والاخرون، وانفعنا بمقامه المحمود يوم القيامة، واخلفه فينا في الدّنيا والآخرة، وبلّغه الدّرجة والوسيلة في الجنّة. اللهمّ؛ صلّ على محمّد، وعلى ال محمّد، وبارك على محمّد، وعلى ال محمّد، كما صلّيت وباركت على إبراهيم؛ إنّك حميد مجيد. يا أيّها النّاس؛ إنّه من كان يعبد محمّدا.. فإنّ محمّدا قد مات، ومن

كان يعبد الله.. فإنّ الله حيّ لم يمت، وإنّ الله قد تقدّم إليكم في أمره فلا تدعوه جزعا؛ فإنّ الله عزّ وجلّ قد اختار لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم ما عنده على ما عندكم، وقبضه إلى ثوابه، وخلّف فيكم كتابه وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، فمن أخذ بهما.. عرف، ومن فرّق بينهما.. أنكر. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النساء: 135] . ولا يشغلنّكم الشّيطان بموت نبيّكم، ولا يفتننّكم عن دينكم، وعاجلوا الشّيطان بالخير تعجزوه، ولا تستنظروه فيلحق بكم ويفتنكم. وقال ابن عبّاس: لمّا فرغ أبو بكر من خطبته.. قال: يا عمر؛ أنت الّذي بلغني أنّك تقول: (ما مات نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم؟!) أما ترى أنّ نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم قال يوم كذا: كذا وكذا، ويوم كذا: كذا وكذا، وقال الله تعالى في كتابه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] . فقال: والله؛ لكأنّي لم أسمع بها في كتاب الله قبل الان لما نزل بنا، أشهد أنّ الكتاب كما نزل، وأنّ الحديث كما حدّث، وأنّ الله حيّ لا يموت، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وصلوات الله على رسوله، وعند الله نحتسب رسوله صلّى الله عليه وسلّم. ثمّ جلس إلى أبي بكر. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لمّا اجتمعوا لغسله.. قالوا: والله ما ندري كيف نغسّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ أنجرّده عن ثيابه كما نصنع بموتانا، أم نغسّله في ثيابه؟

قالت: فأرسل الله عليهم النّوم حتّى ما بقي منهم رجل إلّا واضع لحيته على صدره نائما، ثمّ قال قائل لا يدرى من هو: غسّلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليه ثيابه؛ فانتبهوا، ففعلوا ذلك، فغسّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قميصه؛ حتّى إذا فرغوا من غسله.. كفّن. وقال عليّ كرّم الله وجهه: أردنا خلع قميصه فنودينا: لا تخلعوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثيابه، فأقررناه، فغسّلناه في قميصه كما نغسّل موتانا مستلقيا، ما نشاء أن يقلب لنا منه عضو لم يبالغ فيه.. إلّا قلب لنا حتّى نفرغ منه، وإنّ معنا لحفيفا في البيت كالرّيح الرّخاء، ويصوّت بنا: ارفقوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنّكم ستكفون. فهكذا كانت وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يترك سبدا ولا لبدا «1» إلّا دفن معه. قال أبو جعفر: فرش لحده بمفرشه وقطيفته، وفرشت ثيابه الّتي كان يلبس يقظان على القطيفة والمفرش، ثمّ وضع عليها في أكفانه. فلم يترك بعد وفاته مالا، ولا بنى في حياته لبنة على لبنة، ولا وضع قصبة على قصبة؛ ففي وفاته عبرة تامّة، وللمسلمين أسوة حسنة) اهـ وعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: أنّه سمع رسول الله صلّى الله

_ (1) السّبد: القليل من الشعر. واللّبد: الصّوف. والمراد: أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يترك من المال قليلا ولا كثيرا.

عليه وسلّم يقول: «من كان له فرطان من أمّتي.. أدخله الله تعالى بهما الجنّة» ، فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فمن كان له فرط من أمّتك؟ قال: «ومن كان له فرط يا موفّقة» ، قالت: فمن لم يكن له فرط من أمّتك؟ قال: «فأنا فرط لأمّتي، لن يصابوا بمثلي» . و (الفرط- في الأصل-) : السّابق من القوم المسافرين ليهيّئ لهم الماء والكلأ وما يحتاجونه، والمراد به هنا: الصّغير الّذي يموت قبل أحد أبويه؛ فإنّه يشبهه في تهيئة ما يحتاج إليه يوم القيامة من المصالح. وعن عمرو بن الحارث- أخي جويرية أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنهما- قال: ما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا سلاحه وبغلته وأرضا جعلها صدقة. وروى كثير من الصّحابة رضي الله تعالى عنهم قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركناه صدقة» .

الفصل الثالث في رؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام

الفصل الثّالث في رؤيته صلّى الله عليه وسلّم في المنام عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من راني في المنام.. فقد راني، فإنّ الشّيطان لا يتمثّل بي» . وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من راني في المنام.. فقد راني، فإنّ الشّيطان لا يتصوّر- أو قال لا يتشبّه- بي» . وعن يزيد الفارسيّ [رحمه الله تعالى]- وكان يكتب المصاحف- قال: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المنام زمن ابن عبّاس، فقلت لابن عبّاس: إنّي رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في النّوم، فقال ابن عبّاس: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «إنّ الشّيطان لا يستطيع أن يتشبّه بي، فمن راني في النّوم.. فقد راني» ، هل تستطيع أن تنعت هذا الرّجل الّذي رأيته في النّوم؟ قال: نعم، أنعت لك رجلا بين الرّجلين؛ جسمه ولحمه أسمر إلى البياض، أكحل العينين، حسن الضّحك، جميل دوائر الوجه، قد ملأت لحيته ما بين هذه إلى هذه؛ قد ملأت نحره. فقال ابن عبّاس: لو رأيته في اليقظة.. ما استطعت أن تنعته فوق هذا.

وعن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من راني- يعني في النّوم- فقد رأى الحقّ» . وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من راني في المنام.. فقد راني، فإنّ الشّيطان لا يتخيّل بي» . قال: «ورؤيا المؤمن جزء من ستّة وأربعين جزا من النّبوّة» . وقوله [صلّى الله عليه وسلّم] : (من راني في المنام فقد راني) قال الباجوريّ: أي: من راني في حال النّوم.. فقد راني حقّا، أو.. فكأنّما راني في اليقظة. فهو على التّشبيه والتّمثيل؛ وليس المراد رؤية جسمه الشّريف وشخصه المنيف، بل مثاله على التّحقيق. وقوله [صلّى الله عليه وسلّم] : (فإنّ الشّيطان لا يتمثّل بي) أي: لا يستطيع ذلك؛ لأنّه سبحانه وتعالى جعله صلّى الله عليه وسلّم محفوظا من الشّيطان في الخارج، فكذلك في المنام، سواء راه على صفته المعروفة أو غيرها على المنقول المقبول عند ذوي العقول، وإنّما ذلك يختلف باختلاف حال الرّائي، كالمراة الصّقيلة ينطبع فيها ما يقابلها؛ فقد راه «1» جمع بأوصاف مختلفة، ومثله في ذلك جميع الأنبياء والملائكة. كما جزم به البغويّ في «شرح السّنّة» . وكذلك حكم القمرين والنّجوم والسّحاب الّذي ينزل فيه الغيث، فلا يتمثّل الشّيطان بشيء منها.

_ (1) في نسخة: وقد يراه.

ونقل ابن علّان: إنّ الشّيطان لا يتمثّل بالله تعالى كما لا يتمثّل بالأنبياء، وهذا هو قول الجمهور. وقال بعضهم: يتمثّل بالله، فإن قيل: كيف لا يتمثّل بالنّبيّ ويتمثّل بالله على هذا القول؟ أجيب: بأنّ النّبيّ بشر، فلو تمثّل به لالتبس الأمر، والباري جلّ وعلا منزّه عن الجسميّة والعرضيّة؛ فلا يلتبس الأمر بتمثّله به؛ كما في «درّة الفنون في رؤية قرّة العيون» «1» . ولا تختصّ رؤية النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالصّالحين، بل تكون لهم ولغيرهم. وحكي عن بعض العارفين- كالشّيخ الشّاذليّ وسيّدي عليّ وفا-: أنّهم رأوه صلّى الله عليه وسلّم يقظة، ولا مانع من ذلك، فيكشف لهم عنه صلّى الله عليه وسلّم في قبره، فيروه بعين البصيرة، ولا أثر للقرب؛ ولا للبعد في ذلك، فمن كرامات الأولياء: خرق الحجب لهم، فلا مانع عقلا ولا شرعا أنّ الله تعالى يكرم وليّه؛ بأن لا يجعل بينه وبين الذّات الشّريفة ساترا ولا حاجبا) اهـ وقد بسطت الكلام على رؤية النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في كتابي «أفضل الصّلوات على سيّد السّادات» فمن شاء الزّيادة فليرجع إليه.

_ (1) كتاب مختصر في الرؤية؛ للشيخ العلامة المؤرخ عبد الرحمن بن علي البسطامي الحنفي المتوفى سنة (858 هـ) .

الخاتمة

الخاتمة تشتمل على سبعين حديثا، أكثرها صحاح وحسان من أدعيته صلّى الله عليه وسلّم. وقد ذكرت في الخطبة أنّها خمسون، وظهرت لي الزّيادة بعد فزدتها، وذكرت أسماء مخرّجيها برمز «الجامع الصّغير» ؛ لأنّ أكثرها موجودة فيه، وفي «كتاب المصابيح» . وقد قسمتها قسمين: الأوّل: استعاذات. والثّاني: دعوات. معتبرا أوّل الحديث: إن كان استعاذة.. جعلته في القسم الأوّل، وإن كان دعاء.. جعلته في القسم الثّاني، وافتتحتها بالدّعوات القرانيّة؛ لأنّها كلام الله تعالى. وتقدّم أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان خلقه القران، وهي خارجة عن العدد المذكور. رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 127] . رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ [البقرة: 201] . رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [البقرة: 250] .

سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285] . رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [البقرة: 286] . رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ال عمران: 8] . رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ [ال عمران: 16] . رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ [ال عمران: 53] . رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [ال عمران: 147] . رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ [ال عمران: 191] . رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ [ال عمران: 193] . رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ [ال عمران: 194] . رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الأعراف: 23] . رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ [الأعراف: 89] .

رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ [الأعراف: 126] . رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [يونس: 85- 86] . رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ [هود: 47] . فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف: 101] . رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ. رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ [إبراهيم: 40- 41] . رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ [نوح: 28] . ورَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً [الإسراء: 24] . رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً [الإسراء: 80] . رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً [الكهف: 10] . قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه: 25- 26] . رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] . أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء: 83] . لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87] . رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ [الأنبياء: 89] .

رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [الأنبياء: 112] . رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ [المؤمنون: 29] . رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون: 94] . وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون: 97- 98] . رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون: 109] . رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون: 118] . رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً. إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً [الفرقان: 65- 66] . رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [الفرقان: 74] . رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ. وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء: 83- 85] . وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 87- 89] . رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ [الشعراء: 169] . رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل: 19] . رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص: 16] .

رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24] . رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ [العنكبوت: 30] . رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 100] . رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الأحقاف: 15] . رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10] . رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الممتحنة: 4- 5] . رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم: 8] . رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [نوح: 28] . 1- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بوجهك الكريم واسمك العظيم؛ من الكفر والفقر» (طب؛ عن عبد الرّحمن ابن أبي بكر [رضي الله تعالى عنهما] ) . 2- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والهرم، والقسوة والغافلة والعيلة، والذّلّة والمسكنة، وأعوذ بك من الفقر والكفر، والفسوق والشّقاق، والنّفاق والسّمعة والرّياء، وأعوذ بك من الصّمم والبكم والجنون والجذام، والبرص وسيّء الأسقام» . (ك، هق؛ عن أنس [رضي الله تعالى عنه] ) .

3- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع، ونفس لا تشبع، ومن الجوع فإنّه بئس الضّجيع، ومن الخيانة فإنّها بئست البطانة، ومن الكسل والبخل والجبن، ومن الهرم، وأن أردّ إلى أرذل العمر، ومن فتنة الدّجّال وعذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات. اللهمّ؛ إنّا نسألك قلوبا أوّاهة مخبتة منيبة في سبيلك. اللهمّ؛ إنّا نسألك عزائم مغفرتك ومنجيات أمرك، والسّلامة من كلّ إثم، والغنيمة من كلّ برّ، والفوز بالجنّة، والنّجاة من النّار» . (ك؛ عن ابن مسعود [رضي الله تعالى عنه] ) . 4- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم والمغرم، ومن فتنة القبر وعذاب القبر، ومن فتنة النّار وعذاب النّار، ومن شرّ فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر، ومن فتنة المسيح الدّجّال. اللهمّ؛ اغسل عنّي خطاياي بالماء والثّلج والبرد، ونقّ قلبي من الخطايا كما ينقّى الثّوب الأبيض من الدّنس، وباعد بيني وبين خطاياي؛ كما باعدت بين المشرق والمغرب» (ق، ت، ن، هـ؛ عن عائشة [رضي الله تعالى عنها] ) . 5- اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من التّردّي والهدم، والغرق والحرق، وأعوذ بك أن يتخبّطني الشّيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا، وأعوذ بك أن أموت لديغا» . (ن، ك؛ عن أبي اليسر [رضي الله تعالى عنه] ) .

6- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من زوال نعمتك وتحوّل عافيتك، وفجاءة نقمتك وجميع سخطك» . (م، د، ت؛ عن ابن عمر [رضي الله تعالى عنهما] ) . 7- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء» . (ت، طب؛ ك؛ عن عمّ زياد بن علاقة [رضي الله تعالى عنه] ) . 8- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من شرّ سمعي، ومن شرّ بصري، ومن شرّ لساني، ومن شرّ قلبي، ومن شرّ منيّي» . (د، ك؛ عن شكل [رضي الله تعالى عنه] ) . 9- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من يوم السّوء، ومن ليلة السّوء، ومن ساعة السّوء، ومن صاحب السّوء، ومن جار السّوء في دار المقامة» . (طب؛ عن عقبة بن عامر [رضي الله تعالى عنه] ) . 10- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» . (م، 4؛ عن عائشة [رضي الله تعالى عنها] ) . 11- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من شرّ ما عملت؛ ومن شرّ ما لم أعمل» . (م، د، ن، هـ؛ عن عائشة [رضي الله تعالى عنها] ) . 12- «اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من الفقر والقلّة والذّلّة، وأعوذ بك من أن أظلم، أو أظلم» . (د، ن، هـ، ك؛ عن أبي هريرة [رضي الله تعالى عنه] ) .

13- «اللهمّ؛ ربّنا وربّ كلّ شيء.. أنا شهيد أنّك أنت الرّبّ واحدك لا شريك لك. اللهمّ؛ ربّنا وربّ كلّ شيء.. أنا شهيد أنّ محمّدا صلّى الله عليه وسلّم عبدك ورسولك. اللهمّ؛ ربّنا وربّ كلّ شيء.. أنا شهيد أنّ العباد كلّهم إخوة. اللهمّ؛ ربّنا وربّ كلّ شيء.. اجعلني مخلصا لك وأهلي في كلّ ساعة في الدّنيا والآخرة، يا ذا الجلال والإكرام» . (ن، حب؛ عن أبي أمامة [رضي الله تعالى عنه] ) . 14- «اللهمّ؛ أنت ربّي لا إله إلّا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرّ ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي؛ فاغفر لي، فإنّه لا يغفر الذّنوب إلّا أنت» . (خ؛ عن شدّاد بن أوس [رضي الله تعالى عنه] ) . 15- «اللهمّ؛ إنّي ظلمات نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذّنوب إلّا أنت.. فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنّك أنت الغفور الرّحيم» . (ق، حم، 4؛ عن أبي بكر الصّدّيق [رضي الله تعالى عنه] ) . 16- «اللهمّ؛ اغفر لي ذنبي كلّه، دقّه وجلّه، وأوّله واخره، وعلانيته وسرّه» . (م، د؛ عن أبي هريرة [رضي الله تعالى عنه] ) . 17- «اللهمّ؛ إنّي أسألك العفّة والعافية في دنياي وديني، وأهلي ومالي.

اللهمّ؛ استر عورتي وأمّن روعتي، واحفظني من بين يديّ ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي؛ وأعوذ بك أن أغتال من تحتي» . (البزّار؛ عن ابن عبّاس [رضي الله تعالى عنهما] ) . 18- «اللهمّ؛ ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمّد صلّى الله عليه وسلّم.. نعوذ بك من النّار» . (طب، ك؛ عن والد أبي المليح [رضي الله تعالى عنه] ) . 19- «اللهمّ؛ إنّك لست بإله استحدثناه، ولا بربّ ابتدعناه، ولا كان لنا قبلك من إله نلجأ إليه ونذرك، ولا أعانك على خلقنا أحد فنشركه فيك؛ تباركت وتعاليت» . (طب؛ عن صهيب [رضي الله تعالى عنه] ) . 20- «اللهمّ؛ إنّك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سرّي وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، وأنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقرّ المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذّليل، وأدعوك دعاء الخائف الضّرير؛ من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عبرته، وذلّ لك جسمه، ورغم لك أنفه. اللهمّ؛ لا تجعلني بدعائك شقيّا، وكن بي رؤوفا رحيما؛ يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين» . (طب؛ عن ابن عبّاس [رضي الله تعالى عنهما] ) . 21- «اللهمّ؛ إليك أشكو ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على النّاس، يا أرحم الرّاحمين.

إلى من تكلني؟ إلى عدوّ يتجهّمني؟! أم إلى قريب ملّكته أمري؟! إن لم تكن ساخطا عليّ فلا أبالي، غير أنّ عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الكريم الّذي أضاءت له السّماوات والأرض، وأشرقت له الظّلمات، وصلح عليه أمر الدّنيا والآخرة.. أن تحلّ عليّ غضبك، أو تنزل عليّ سخطك، ولك العتبى حتّى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلّا بك» . (طب؛ عن عبد الله بن جعفر [رضي الله تعالى عنهما] ) . 22- «اللهمّ؛ إنّي أسألك من الخير كلّه عاجله واجله؛ ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشّرّ كلّه عاجله واجله؛ ما علمت منه وما لم أعلم. اللهمّ؛ إنّي أسألك من خير ما سألك به عبدك ونبيّك، وأعوذ بك من شرّ ما عاذ به عبدك ونبيّك. اللهمّ؛ إنّي أسألك الجنّة وما قرّب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النّار وما قرّب إليها من قول أو عمل، وأسألك أن تجعل كلّ قضاء قضيته لي خيرا» . (هـ؛ عن عائشة [رضي الله تعالى عنها] ) . 23- «اللهمّ؛ إنّي أسألك باسمك الطّاهر الطّيّب، المبارك الأحبّ إليك، الّذي إذا دعيت به.. أجبت، وإذا سئلت به.. أعطيت، وإذا استرحمت به.. رحمت، وإذا استفرجت به.. فرّجت» . (هـ؛ عن عائشة [رضي الله تعالى عنها] ) . 24- «اللهمّ؛ لك الحمد كالّذي نقول وخيرا ممّا نقول، اللهمّ؛ لك صلاتي ونسكي، ومحياي ومماتي، وإليك مابي، ولك ربّ تراثي.

اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من عذاب القبر، ووسوسة الصّدر، وشتات الأمر. اللهمّ؛ إنّي أسألك من خير ما تجيء به الرّياح، وأعوذ بك من شرّ ما تجيء به الرّيح» . (ت، هب؛ عن عليّ [رضي الله تعالى عنه] ) . 25- «اللهمّ.. إنّي أسألك الثّبات في الأمر، وأسألك عزيمة الرّشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك لسانا صادقا، وقلبا سليما، وأعوذ بك من شرّ ما تعلم، وأسألك من خير ما تعلم، وأستغفرك ممّا تعلم، إنّك أنت علّام الغيوب» . (ت، ن؛ عن شدّاد ابن أوس [رضي الله تعالى عنه] ) . 26- «اللهمّ؛ لك أسلمت، وبك امنت، وعليك توكّلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت. اللهمّ؛ إنّي أعوذ بعزّتك لا إله إلّا أنت أن تضلّني، أنت الحيّ القيّوم الّذي لا يموت، والجنّ والإنس يموتون» . (م؛ عن ابن عبّاس [رضي الله تعالى عنهما] ) . 27- «اللهمّ؛ عافني في بدني. اللهمّ؛ عافني في سمعي. اللهمّ؛ عافني في بصري. اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من الكفر والفقر. اللهمّ؛ إنّي أعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلّا أنت» . (د، ك؛

عن أبي بكرة [رضي الله تعالى عنه] ) . 28- «اللهمّ؛ اجعلني من الّذين إذا أحسنوا.. استبشروا، وإذا أساؤوا.. استغفروا» . (هـ، هب؛ عن عائشة [رضي الله تعالى عنها] ) . 29- «اللهمّ؛ ارزقني حبّك، وحبّ من ينفعني حبّه عندك. اللهمّ؛ ما رزقتني ممّا أحبّ.. فاجعله قوّة لي فيما تحبّ، وما زويت عنّي ممّا أحبّ.. فاجعله فراغا لي فيما تحبّ» . (ت؛ عن عبد الله بن يزيد الخطميّ [رضي الله تعالى عنه] ) . 30- «اللهمّ؛ اغفر لي ذنبي، ووسّع لي في داري، وبارك لي في رزقي» . (ت؛ عن أبي هريرة [رضي الله تعالى عنه] ) . 31- «اللهمّ؛ إنّي أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمري، وتلمّ بها شعثي، وتصلح بها غائبي، وترفع بها شاهدي، وتزكّي بها عملي، وتلهمني بها رشدي، وتردّ بها ألفتي، وتعصمني بها من كلّ سوء. اللهمّ؛ أعطني إيمانا ويقينا ليس بعده كفر، ورحمة أنال بها شرف كرامتك في الدّنيا والآخرة. اللهمّ؛ إنّي أسألك الفوز في القضاء، ونزل الشّهداء، وعيش السّعداء، والنّصر على الأعداء. اللهمّ؛ إنّي أنزل بك حاجتي، فإن قصّر رأيي، وضعف عملي.. افتقرت إلى رحمتك، فأسألك يا قاضي الأمور، ويا شافي الصّدور؛

كما تجير بين البحور.. أن تجيرني من عذاب السّعير، ومن دعوة الثّبور، ومن فتنة القبور. اللهمّ؛ ما قصر عنه رأيي، ولم تبلغه نيّتي، ولم تبلغه مسألتي من خير وعدته أحدا من خلقك، أو خير أنت معطيه أحدا من عبادك.. فإنّي أرغب إليك فيه، وأسألكه برحمتك يا ربّ العالمين. اللهمّ؛ يا ذا الحبل الشّديد، والأمر الرّشيد.. أسألك الأمن يوم الوعيد، والجنّة يوم الخلود، مع المقرّبين الشّهود، والرّكّع السّجود، الموفين بالعهود، إنّك رحيم ودود، وإنّك تفعل ما تريد. اللهمّ؛ اجعلنا هادين مهتدين، غير ضالّين ولا مضلّين، سلما لأوليائك وعدوّا لأعدائك، نحبّ بحبّك من أحبّك، ونعادي بعداوتك من خالفك. اللهمّ؛ هذا الدّعاء وعليك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التّكلان. اللهمّ.. اجعل لي نورا في قلبي، ونورا في قبري، ونورا بين يديّ، ونورا من خلفي، ونورا عن يميني، ونورا عن شمالي، ونورا من فوقي، ونورا من تحتي، ونورا في سمعي، ونورا في بصري، ونورا في شعري، ونورا في بشري، ونورا في لحمي، ونورا في دمي، ونورا في عظامي. اللهمّ؛ أعظم لي نورا، وأعطني نورا، واجعل لي نورا. سبحان الّذي تعطّف بالعزّ وقال به، سبحان الّذي لبس المجد وتكرّم به، سبحان الّذي لا ينبغي التّسبيح إلّا له، سبحان ذي الفضل والنّعم،

سبحان ذي المجد والكرم، سبحان ذي الجلال والإكرام» . (ت، طب، هق؛ عن ابن عبّاس [رضي الله تعالى عنهما] ) . 32- «اللهمّ؛ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا تنزع منّي صالح ما أعطيتني» . (البزّار؛ عن ابن عمر [رضي الله تعالى عنهما] ) . 33- «اللهمّ؛ اجعلني شكورا، واجعلني صبورا، واجعلني في عيني صغيرا، وفي أعين النّاس كبيرا» . (البزّار؛ عن بريدة [رضي الله تعالى عنه] ) . 34- «اللهمّ؛ احفظني بالإسلام قائما، واحفظني بالإسلام قاعدا، واحفظني بالإسلام راقدا، ولا تشمت بي عدوّا، ولا حاسدا. اللهمّ؛ إنّي أسألك من كلّ خير خزائنه بيدك، وأعوذ بك من كلّ شرّ خزائنه بيدك» . (ك؛ عن ابن مسعود [رضي الله تعالى عنه] ) . 35- «اللهمّ؛ انفعني بما علّمتني، وعلّمني ما ينفعني، وزدني علما. الحمد لله على كلّ حال، وأعوذ بالله من حال أهل النّار» . (ت، هـ، [ك] ؛ عن أبي هريرة [رضي الله تعالى عنه] ) . 36- «يا حيّ يا قيّوم؛ برحمتك أستغيث» . (ت؛ عن أنس [رضي الله تعالى عنه] ) . 37- «اللهمّ؛ افتح مسامع قلبي لذكرك، وارزقني طاعتك، وطاعة رسولك، وعملا بكتابك» . (طس؛ عن عليّ [رضي الله تعالى عنه] ) .

38- «اللهمّ؛ اجعلني أخشاك حتّى كأنّي أراك، وأسعدني بتقواك، ولا تشقني بمعصيتك، وخر لي في قضائك، وبارك لي في قدرك، حتّى لا أحبّ تعجيل ما أخّرت؛ ولا تأخير ما عجّلت. واجعل غناي في نفسي، وأمتعني بسمعي وبصري، واجعلهما الوارث منّي، وانصرني على من ظلمني، وأرني فيه ثأري، وأقرّ بذلك عيني» . (طس؛ عن أبي هريرة [رضي الله تعالى عنه] ) . 39- «اللهمّ؛ اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمّن سواك» . (ت؛ عن عليّ [رضي الله تعالى عنه] ) . 40- «اللهمّ؛ اجعل أوسع رزقك عليّ عند كبر سنّي وانقطاع عمري» . (ك؛ عن عائشة [رضي الله تعالى عنها] ) . 41- «اللهمّ؛ إنّي أسألك إيمانا يباشر قلبي؛ حتّى أعلم أنّه لا يصيا بني إلّا ما كتبت لي، وأرضني من المعيشة بما قسمت لي» . (البزّار؛ عن ابن عمر [رضي الله تعالى عنهما] ) . 42- «اللهمّ؛ إنّي أسألك عيشة نقيّة، وميتة سويّة، ومردّا غير مخزيّ «1» ولا فاضح» . (طب، ك، البزّار، عن ابن عمر [رضي الله تعالى عنهما] ) . 43- «اللهمّ؛ أصلح لي ديني الّذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي الّتي فيها معاشي، وأصلح لي اخرتي الّتي فيها معادي، واجعل

_ (1) أي: غير مذلّ، ولا موقع في بلاء.

الحياة زيادة لي في كلّ خير، واجعل الموت راحة لي من كلّ شرّ» . (م؛ عن أبي هريرة [رضي الله تعالى عنه] ) . 44- «اللهمّ؛ إنّي أسألك الهدى والتّقى، والعفاف والغنى» . (م، ت، هـ؛ عن ابن مسعود [رضي الله تعالى عنه] ) . 45- «اللهمّ؛ اجعل حبّك أحبّ الأشياء إليّ، واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطع عنّي حاجات الدّنيا بالشّوق إلى لقائك، وإذا أقررت أعين أهل الدّنيا من دنياهم.. فأقرر عيني من عبادتك» . (حل؛ عن الهيثم بن مالك الطّائيّ [رضي الله تعالى عنه] ) . 46- «اللهمّ؛ إنّي أسألك الصّحّة، والعفّة، والأمانة، وحسن الخلق، والرّضا بالقدر» . (طب؛ عن ابن عمرو [رضي الله تعالى عنهما] ) . 47- «اللهمّ؛ إنّي أسألك التّوفيق لمحابّك من الأعمال، وصدق التّوكّل عليك، وحسن الظّنّ بك» . (حل؛ عن الأوزاعيّ والحكيم؛ عن أبي هريرة [رضي الله تعالى عنه] ) . 48- «اللهمّ؛ إنّي أسألك صحّة في إيمان، وإيمانا في حسن خلق، ونجاحا يتبعه فلاح، ورحمة منك وعافية، ومغفرة منك ورضوانا» . (طس، ك؛ عن أبي هريرة [رضي الله تعالى عنه] ) . 49- «اللهمّ؛ الطف بي في تيسير كلّ عسير، فإنّ تيسير كلّ عسير عليك يسير، وأسألك اليسر والمعافاة في الدّنيا والآخرة» . (طس؛ عن أبي هريرة [رضي الله تعالى عنه] ) .

50- «اللهمّ؛ اعف عنّي؛ فإنّك عفوّ كريم» . (طس؛ عن أبي سعيد [رضي الله تعالى عنه] ) . 51- «اللهمّ؛ إنّي عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، في قبضتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكلّ اسم هو لك سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القران العظيم نور صدري، وربيع قلبي، وجلاء حزني، وذهاب همّي» . (ابن السّنّيّ؛ عن أبي موسى الأشعريّ [رضي الله تعالى عنه] ) . 52- «اللهمّ؛ احرسني بعينك الّتي لا تنام، واكنفني بكنفك الّذي لا يرام، وارحمني بقدرتك عليّ؛ فلا أهلك وأنت رجائي، فكم من نعمة أنعمت بها عليّ قلّ لك بها شكري، وكم من بليّة ابتليتني قلّ لك بها صبري، فيا من قلّ عند نعمته شكري؛ فلم يحرمني، ويا من قلّ عند بلائه «1» صبري؛ فلم يخذلني، ويا من راني على الخطايا؛ فلم يفضحني، يا ذا المعروف الّذي لا ينقضي أبدا، ويا ذا النّعمة الّتي لا تحصى عددا.. أسألك أن تصلّي على محمّد وعلى ال محمّد، وبك أدرأ في نحور الأعداء والجبّارين. اللهمّ؛ أعنّي على ديني بالدّنيا، وعلى اخرتي بالتّقوى، واحفظني فيما غبت عنه، ولا تكلني إلى نفسي فيما حضرته.

_ (1) في نسخة: (بليّته) .

يا من لا تضرّه الذّنوب، ولا ينقصه العفو.. هب لي ما لا ينقصك، واغفر لي ما لا يضرّك؛ إنّك أنت الوهّاب. أسألك فرجا قريبا، وصبرا جميلا، ورزقا واسعا، والعافية من البلايا، وأسألك تمام العافية، وأسألك دوام العافية، وأسألك الشّكر على العافية، وأسألك الغنى عن النّاس، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم» . (الدّيلميّ؛ عن جعفر الصّادق؛ عن أبيه؛ عن جدّه) [رضي الله تعالى عنهم] ) . 53- «اللهمّ؛ طهّر قلبي من النّفاق، وعملي من الرّياء، ولساني من الكذب، وعيني «1» من الخيانة؛ فإنّك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور» . (الحكيم، خط؛ عن أمّ معبد الخزاعيّة [رضي الله تعالى عنها] ) . 54- «ربّ؛ أعنّي ولا تعن عليّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، وامكر لي ولا تمكر عليّ، واهدني، ويسّر الهدى لي، وانصرني على من بغى عليّ. ربّ؛ اجعلني لك شاكرا، لك ذاكرا، لك راهبا، لك مطواعا، لك مخبتا، إليك أوّاها منيبا. ربّ؛ تقبّل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبّت حجّتي، واهد قلبي، وسدّد لساني، واسلل سخيمة صدري» «2» . (ت، د، هـ؛ عن ابن عبّاس [رضي الله تعالى عنهما] ) .

_ (1) تصح بالتثنية والإفراد. (2) أي: أخرج ما في صدري من الحسد والكبر وغيرهما من الأخلاق الرديئة.

55- «اللهمّ؛ أغنني بالعلم، وزيّنّي بالحلم، وأكرمني بالتّقوى، وجمّلني بالعافية» . (ابن النّجّار؛ عن ابن عمر [رضي الله تعالى عنهما] ) . 56- «اللهمّ؛ اغفر لي ذنوبي وخطاياي كلّها. اللهمّ؛ أنعشني، واجبرني، واهدني لصالح الأعمال والأخلاق؛ فإنّه لا يهدي لصالحها، ولا يصرف سيّئها إلّا أنت» . (طب؛ عن أبي أمامة [رضي الله تعالى عنه] ) . 57- «اللهمّ؛ إنّي أسألك علما نافعا، ورزقا طيّبا، وعملا متقبّلا» . (حم، هـ؛ عن أمّ سلمة [رضي الله تعالى عنها] ) . 58- «اللهمّ؛ بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق.. أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفّني إذا علمت الوفاة خيرا لي. اللهمّ؛ وأسألك خشيتك في الغيب والشّهادة، وأسألك كلمة الإخلاص في الرّضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرّة عين لا تنقطع، وأسألك الرّضا بالقضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذّة النّظر إلى وجهك، والشّوق إلى لقائك، في غير ضرّاء مضرّة، ولا فتنة مضلّة. اللهمّ؛ زيّنّا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين» . (ن، ك؛ عن عمّار بن ياسر [رضي الله تعالى عنهما] ) . 59- «اللهمّ؛ أنت خلقت نفسي، وأنت توفّاها، لك مماتها

ومحياها، إن أحييتها.. فاحفظها، وإن أمتّها.. فاغفر لها. اللهمّ؛ إنّي أسألك العافية» . (م؛ عن ابن عمر [رضي الله تعالى عنهما] ) . 60- «اللهمّ؛ اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به منّي. اللهمّ؛ اغفر لي خطيئتي «1» وعمدي، وهزلي وجدّي، وكلّ ذلك عندي. اللهمّ؛ اغفر لي ما قدّمت وما أخّرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدّم وأنت المؤخّر، وأنت على كلّ شيء قدير» . (ق؛ عن أبي موسى [رضي الله تعالى عنه] ) . 61- «اللهمّ؛ اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولّني فيمن تولّيت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شرّ ما قضيت، فإنّك تقضي ولا يقضى عليك، وإنّه لا يذلّ من واليت، تباركت ربّنا وتعاليت» . (4، هق؛ عن الحسن بن عليّ [رضي الله تعالى عنهما] ) . 62- «اللهمّ؛ إنّك سألتنا من أنفسنا ما لا نملكه إلّا بك. اللهمّ؛ فأعطنا منها ما يرضيك عنّا» . (ابن عساكر؛ عن أبي هريرة [رضي الله تعالى عنه] ) . 63- «اللهمّ؛ زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنّا، وأعطنا ولا

_ (1) في نسخة: (خطئي) .

تحرمنا، واثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وأرض عنّا» . (ت، ك؛ عن عمر [رضي الله تعالى عنه] ) . 64- «اللهمّ؛ أصلح ذات بيننا، وألّف بين قلوبنا، واهدنا سبل السّلام، ونجّنا من الظّلمات إلى النّور، وجنّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. اللهمّ؛ بارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا، وأزواجنا وذرّيّاتنا، وتب علينا؛ إنّك أنت التّوّاب الرّحيم، واجعلنا شاكرين لنعمك، مثنين بها «1» ، قابلين لها، وأتمّها علينا» . (طب، ك؛ عن ابن مسعود [رضي الله تعالى عنه] ) . 56- «اللهمّ؛ إنّا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسّلامة من كلّ إثم، والغنيمة من كلّ برّ، والفوز بالجنّة، والنّجاة من النّار» . (ك؛ عن ابن مسعود [رضي الله تعالى عنه] ) . 66- «اللهمّ؛ اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلّغنا به جنّتك، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدّنيا، ومتّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوّتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منّا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدّنيا أكبر همّنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلّط علينا من لا يرحمنا» . (ت، ك؛ عن ابن عمر [رضي الله تعالى عنهما] ) .

_ (1) أي: عليها.

67- «اللهمّ؛ أحسن عاقبتنا في الأمور كلّها، وأجرنا من خزي الدّنيا وعذاب الآخرة» . (حم، حب، ك؛ عن بسر بن أرطأة [رضي الله تعالى عنه] ) . 68- «يا وليّ الإسلام وأهله.. ثبّتني به حتّى ألقاك» . (طب؛ عن أنس [رضي الله تعالى عنه] ) . 69- «اللهمّ؛ إنّي أسألك خير المسألة؛ وخير الدّعاء، وخير النّجاح، وخير العمل، وخير الثّواب، وخير الحياة، وخير الممات، وثبّتني وثقّل موازيني، وحقّق إيماني، وارفع درجتي، وتقبّل صلاتي، واغفر خطيئتي، وأسألك الدّرجات العلى من الجنّة. امين. اللهمّ؛ إنّي أسألك فواتح الخير، وخواتمه وجوامعه، وأوّله واخره، وظاهره وباطنه، والدّرجات العلى من الجنّة. امين. اللهمّ؛ إنّي أسألك خير ما اتي، وخير ما أفعل، وخير ما أعمل، وخير ما بطن، وخير ما ظهر، والدّرجات العلى من الجنّة. امين. اللهمّ؛ إنّي أسألك أن ترفع ذكري، وتضع وزري، وتصلح أمري، وتطهّر قلبي، وتحصّن فرجي، وتنوّر قلبي، وتغفر لي ذنبي، وأسألك الدّرجات العلى من الجنّة. امين. اللهمّ؛ إنّي أسألك أن تبارك لي في سمعي، وفي بصري، وفي روحي، وفي خلقي، وفي خلقي، وفي أهلي، وفي محياي، وفي مماتي، وفي عملي، وتقبّل حسناتي، وأسألك الدّرجات العلى من الجنّة. امين» . (ك، طب؛ عن أمّ سلمة [رضي الله تعالى عنها] ) .

70- «يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظّنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيّره الحوادث، ولا يخشى الدّوائر، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه اللّيل وأشرق عليه النّهار، ولا تواري منه سماء سماء، ولا أرض أرضا، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره.. اجعل خير عمري اخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيّامي يوم ألقاك فيه» . (طب؛ عن أنس [رضي الله تعالى عنه] ) . الثّلاثة الأخيرة من «الحصن الحصين» . وصلّى الله على نبيّنا محمّد.. كلّما ذكره الذّاكرون، وغفل عن ذكره الغافلون. وصلّى عليه في الأوّلين والاخرين.. أفضل وأكثر وأزكى ما صلّى على أحد من خلقه. وزكّانا بالصّلاة عليه.. أفضل ما زكّى أحدا من أمّته بصلاته عليه. والسّلام عليه ورحمة الله وبركاته، وجزاه الله عنّا.. أفضل ما جزى مرسلا عمّن أرسل إليه. والحمد لله ربّ العالمين على جميع نعمه، ما علمت منها وما لم أعلم، ولا سيّما نعمة الإيمان والإسلام، وتوفيقه لجمع هذا الكتاب. وأسأله سبحانه أن ينفعني به وكلّ من نظر فيه من المسلمين نفعا

عظيما، يصاحبنا في الدّنيا، ويلازمنا في البرزخ، ولا يفارقنا يوم الدّين؛ بجاه خير الوسائل إليه، وأقرب المقرّبين لديه، حبيبه الأكرم، ورسوله الأعظم: سيّدنا محمّد سيّد المرسلين صلّى الله عليه وعليهم، وعلى الهم وأصحابهم الكرام. ونجز ذلك في شهر رجب من السّنة التّاسعة بعد الثّلاث مئة «1» وألف من هجرته عليه الصّلاة والسّلام.

_ (1) في الأصل: مئتين، وهو خطأ.

محتوى الكتاب تمهيد بقلم الدكتور محمد عبد الرحمن الأهدل 7 ترجمة النبهاني رحمه الله 13 توطئة 19 وسائل الوصول إلى شمائل الرسول مقدمة المؤلف 27 مقدمة الكتاب وهي تشتمل على تنبيهين 37 التنبيه الأول: في معنى لفظ الشمائل 39 التنبيه الثاني: في الفوائد المقصودة من جمع شمائله صلى الله عليه وسلم 41 الباب الأوّل: في نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأسمائه الشّريفة، وفيه فصلان 45 الفصل الأوّل: في نسبه الشّريف صلّى الله عليه وسلّم 47 الفصل الثّاني: في أسمائه الشّريفة صلّى الله عليه وسلّم 50 الباب الثّاني: في صفة خلقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وما يناسبها من أوصافه الشّريفة، وفيه عشرة فصول 57 الفصل الأوّل: في جمال صورته صلّى الله عليه وسلّم، وما شاكلها 59 الفصل الثّاني: في صفة بصره صلّى الله عليه وسلّم واكتحاله 76 الفصل الثّالث: في صفة شعره صلّى الله عليه وسلّم، وشيبه، وخضابه، وما يتعلّق بذلك 79 الفصل الرّابع: في صفة عرقه صلّى الله عليه وسلّم ورائحته الطّبيعيّة 84

- الفصل الخامس: في صفة طيبه صلّى الله عليه وسلّم وتطيّبه 87 الفصل السّادس: في صفة صوته صلّى الله عليه وسلّم 89 الفصل السّابع: في صفة غضبه صلّى الله عليه وسلّم وسروره 91 الفصل الثّامن: في صفة ضحكه صلّى الله عليه وسلّم وبكائه وعطاسه 93 الفصل التّاسع: في صفة كلامه صلّى الله عليه وسلّم وسكوته 100 الفصل العاشر: في صفة قوّته صلّى الله عليه وسلّم 102 الباب الثّالث: في صفة لباس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفراشه وسلاحه، وفيه ستّة فصول 105 الفصل الأوّل: في صفة لباسه صلّى الله عليه وسلّم؛ من قميص وإزار ورداء وقلنسوة وعمامة ونحوها 107 الفصل الثّاني: في صفة فراشه صلّى الله عليه وسلّم، وما يناسبه 120 الفصل الثّالث: في صفة خاتمه صلّى الله عليه وسلّم 124 الفصل الرّابع: في صفة نعله صلّى الله عليه وسلّم وخفّه 128 الفصل الخامس: في صفة سلاحه صلّى الله عليه وسلّم 132 الفصل السادس: كان من خلقه صلّى الله عليه وسلّم أن يسمّي سلاحه ودوابّه ومتاعه 136 الباب الرّابع: في صفة أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وشربه، ونومه. وفيه ستّة فصول 141 الفصل الأوّل: في صفة عيشه صلّى الله عليه وسلّم وخبزه 143 الفصل الثّاني: في صفة أكله صلّى الله عليه وسلّم وإدامه 158 الفصل الثّالث: في ما كان يقوله صلّى الله عليه وسلّم قبل الطّعام وبعده 176 الفصل الرّابع: في صفة فاكهته صلّى الله عليه وسلّم 179 الفصل الخامس: في صفة شرابه صلّى الله عليه وسلّم وقدحه 183 الفصل السّادس: في صفة نومه صلّى الله عليه وسلّم 189

الباب الخامس: في صفة خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحلمه، وعشرته مع نسائه، وأمانته، وصدقه، وحيائه، ومزاحه، وتواضعه، وجلوسه، وكرمه وشجاعته. وفيه ستّة فصول 193 الفصل الأوّل: في صفة خلقه صلّى الله عليه وسلّم وحلمه 195 الفصل الثّاني: في صفة عشرته صلّى الله عليه وسلّم مع نسائه رضي الله تعالى عنهنّ 222 الفصل الثّالث: في صفة أمانته صلّى الله عليه وسلّم وصدقه 227 الفصل الرّابع: في صفة حيائه صلّى الله عليه وسلّم ومزاحه 229 الفصل الخامس: في صفة تواضعه صلّى الله عليه وسلّم وجلوسه 234 الفصل السّادس: في صفة كرمه صلّى الله عليه وسلّم وشجاعته 246 الباب السّادس: في صفة عبادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصلاته، وصومه، وقراءته. وفيه ثلاثة فصول 253 الفصل الأوّل: في صفة عبادته صلّى الله عليه وسلّم وصلاته 255 الفصل الثّاني: في صفة صومه صلّى الله عليه وسلّم 265 الفصل الثّالث: في صفة قراءته صلّى الله عليه وسلّم 271 الباب السّابع: في أخبار شتّى من أحوال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعض أذكار وأدعية كان يقولها في أوقات مخصوصة، وثلاث مئة وثلاثة عشر حديثا من جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلّم. وفيه ثلاثة فصول 275 الفصل الأوّل: في أخبار شتّى من أحواله صلّى الله عليه وسلّم 277 الفصل الثّاني: في بعض أذكار وأدعية كان يقولها صلّى الله عليه وسلّم في أوقات مخصوصة 287 الفصل الثّالث: في ثلاث مئة وثلاثة عشر حديثا من جوامع كلمه صلّى الله عليه وسلّم 296

الباب الثّامن: في طبّه صلّى الله عليه وسلّم، وسنّه ووفاته، ورؤيته في المنام. وفيه ثلاثة فصول 327 الفصل الأوّل: في طبّه صلّى الله عليه وسلّم 329 الفصل الثّاني: في سنّه صلّى الله عليه وسلّم ووفاته 344 الفصل الثّالث: في رؤيته صلّى الله عليه وسلّم في المنام 368 الخاتمة: تشتمل على خمسين حديثا، أكثرها صحاح وحسان من أدعيته صلّى الله عليه وسلّم 373 الفهرس

§1/1