وحي القلم

الرافعي ، مصطفى صادق

المجلد الأول

المجلد الأول مقدمات مقدمة المؤلف ... مقدمة المؤلف: مصطفى صادق الرافعي: 1298-1356هـ/ 1881-1937م هو مصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي. ولد في "بهتيم" بمصر سنة 1881م من أب طرابلسي1 الأصل وأم حلبية. وأخذ علوم الدين عن أبيه، ثم دخل المدرسة الابتدائية وهو في نحو الثانية عشرة من عمره؛ وقد أصيب بالصمم وهو في الثلاثين من عمره, فكان يُكتب له ما يراد مخاطبته به. وفي سنة 1899 عين كاتبًا في محكمة "طلخا" الابتدائية، ثم نُقل إلى محكمة "إيتاي البارود" الشرعية، ثم إلى طنطا حيث نُقل إلى المحكمة الأهلية وتوفي سنة 1937م. خصّ الرافعي قسمًا كبيرًا من مقالاته للدفاع عن الإسلام ومصر والشرق. وكانت نزعته في كتاباته نزعة إسلامية شديدة فيها من التدين والاندفاع الشيء الكثير, وكان غزير الفكر، يملي عليه العقل والتدين كثيرًا من الحكم والمواعظ الخلقية ويوجهانه في كتاباته توجيهًا اجتماعيًّا. شعره نقي الديباجة على جفاف في أكثره, ونثره من الطراز الأول، إلا أنه لا يخلو من بعض الغموض. أما قصصه ففيه طرافة؛ ولكن فيه أيضًا بعض الثقل والضعف الفني. مؤلفاته: - ديوان شعر، في ثلاثة أجزاء. - تاريخ آداب العرب، ثلاثة أجزاء. - إعجاز القرآن والبلاغة النبوية. - تحت راية القرآن.

_ 1 طرابلس في شمال لبنان.

- رسائل الأحزان. - على السَّفُّود؛ وهو رد على العقاد. - وحي القلم، ثلاثة أجزاء. - ديوان النظرات. - السحاب الأحمر، في فلسفة الحب والجمال. - حديث القمر. - المعركة؛ في الرد على كتاب الدكتور طه حسين في الشعر الجاهلي. - المساكين. - أوراق الورد. وقد ألف محمد سعيد العريان كتابًا عن حياة الرافعي. ولمحمود أبي رية "رسائل الرافعي" وهي رسائل خاصة مما كان يبعث به إليه، اشتملت على كثير من آرائه في الأدب والسياسة ورجالهما.

نص كتاب الإستاذ الإمام

نص كتاب الأستاذ الإمام: ولدنا الأديب الفاضل مصطفى أفندي صادق الرافعي, زاده الله أدبًا. ما أثمر أدبك، ولله ما ضمِن لي قلبك، لا أقارضك ثناء بثناء، فليس ذلك شأن الآباء مع الأبناء، ولكني أعدك من خُلَّص الأولياء، وأقدم صفك على صف الأقرباء. وأسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفًا يمحق الباطل، وأن يُقيمك في الأواخر مقام حَسَّان في الأوائل, والسلام. 5 شوال سنة 1321* محمد عبده

_ * يوافق هذا التاريخ "1" من ديسمبر سنة 1903 للميلاد.

تصدير

تصدير: بقلم: محمد سعيد العريان " ... ربما عابوا السمو الأدبي بأنه قليل، ولكن الخير كذلك، وبأنه مخالف، ولكن الحق كذلك، وبأنه محير، ولكن الحسن كذلك، وبأنه كثير التكاليف، ولكن الحرية كذلك". الرافعي هذا كتاب، آخر كتاب أنشأه الرافعي، ففيه النفحة الأخيرة من أنفاسه، والنبضة الأخيرة من قلبه، والومضة الأخيرة من وجدانه ... أفرأيت الليل المطبق كيف تتروَّح نسماته الأخيرة بعبير الشجر وتتندَّى أزهاره في نسيم السحر؟ ألا وإنه إلى ذلك أول كتاب أنشأه على أسلوبه وطريقته، فقد عاش الرافعي ما عاش يكتب لنفسه وينشر لنفسه، لا يعنيه مما يكتب وينشر إلا أن يُحيل فكرة في رأسه أو لمحة في خاطره أو خفقة في قلبه, إلى تعبير في لسانه أو معنى في ديوانه، ولا عليه بعد ذلك أن يتأدى معناه إلى قارئه كما أراده أو يُغلق دونه، فلما اتصل سببه بمجلة "الرسالة"* رأى لقارئه عليه حقًّا أكثر من حق نفسه، فكان أسلوبه الجديد الذي أنشأ به الكتاب. على أن هذا الكتاب -وشأنه ما قدمت- يجمع كل خصائص الرافعي الأدبية متميزة بوضوح، فمن شاء فليقرَأه دون سائر كتبه، فسينكشف له الرافعي في سائر كتبه. والأديب الحق تستعلن نفسه بطريقتها الخاصة في كل زمان ومكان على اختلاف أحواله وما يحيط به.

_ * اتصل الرافعي بمجلة الرسالة قبيل موته بثلاث سنوات، وكان ذلك أول اشتغاله بالصحافة، فلم يكن له قبلها صلة "صحافية" بجريدة من الجرائد أو مجلة من المجلات، وقد كان لذلك أثره في أسلوبه من قبل ومن بعد إلى أسباب أخرى, وانظر "فترة جمام" و"عمله في الرسالة" و"نقلة اجتماعية" من كتابنا "حياة الرافعي".

والرافعي عند طائفة من قراء العربية أديب عَسِر الهضم، وهو عند كثير من هذه الطائفة متكلف لا يصدر عن طبع، وعند بعضهم غامض معمًّى لا تخلص إليه النفس، ولكنه عند الكثرة من أهل الأدب وذوي الذوق البياني الخالص، أديب الأمة العربية المسلمة، يعبر بلسانها، وينطق عن ذات نفسها، فما يعيب عليه عائب إلا من نقص في وسائله، أو كدرة في طبعه، أو لأن بينه وبين طبيعة النفس العربية المسلمة التي ينطق الرافعي بلسانها حجابًا يباعد بينه وبين ما يقرأ روحًا ومعنًى. فمن شاء أن يقرأ ما كتب الرافعي ليتذوق أدبه فيأخذ عنه أو يحكم عليه، فليستوثق من نفسه قبلُ، ويستكمل وسائله، فإن اجتمعت له أداته من اللغة والذوق البياني، وأحس إحساس النفس العربية المسلمة فيما تحب وما تكره وما يخطر في أمانيها؛ فذوقه ذوق وحكمه حكم، وإلا فليُسقط الرافعي من عداد من يقرأ لهم, أو فليسقط نفسه من عداد هذه الأمة. على أنه إذا حق لنا أن نرتب كتب الرافعي ترتيبًا يعين قارئه على تذوقه أو دراسة أدبه فإن "وحي القلم" في رأس هذا الثبت, هو آخر ما أنشأ ولكنه أول ما ينبغي أن يقرأ له، وإن البدء به لحقيق أن يعوِّد قارئه أسلوب الرافعي فيسلس له صعبه وينقاد. ذلك مجمل الرأي في أسلوب هذا الكتاب، على أن قارئه قد يقف منه عند مواضع فليسأل نفسه: كيف تأتَّى للرافعي أن يعالج موضوعه على هذا الوجه؟ وكيف تهيأ له ذلك المعنى؟ وأين ومتى اجتمعت له هذه الخواطر؟ وفي أي أحواله كان يكتب؟ وعلى أي نسق كان يؤلف موضوعه ويجمع أشتاته ويحشد خواطره ويصنف عبارته؟ ... ولست أرى من حقي أن أطيل القول هنا في هذا الكتاب وقد ذكرتُهُ في كتاب "حياة الرافعي"، وإن موضوع هذا الكتاب لهو الحقيق بالدرس والعناية. والكتاب كما يشعر به عنوانه، هو مجموعة فصول ومقالات وقصص، من وحي القلم وفيض الخاطر في ظروف متباينة، وأكثره ما كتبه لمجلة الرسالة بين سنتي 1934 و1937، ولكل فصل أو مقالة أو قصة من هذه المجموعة سبب أوحى إليه موضوعها وأملى عليه القول فيها، ولقد كان عليَّ أن أثبت عند رأس كل

موضوع منها باعثه وحادثته، لعل من ذلك نورًا يكشف عن معنى مغلق أو يوضح فكرة يكتنفها بعض الغموض، ولكن بعض الضرورات قد ألزمتني أن أقتصد في البيان هنا اكتفاءً بما بينته في موضعه, وأشرت إليه في هامش موضوعه. ولقد يقرأ القارئ بعض القصص في هذا الكتاب، فيسأل عن بعضها: أهذا حق يرويه أم باطل يدعيه؟ ويسأل عند بعضها: أهذا مما ينقل من مأثورات الأدب والتاريخ القديم، أم إنشاء مما يبدعه الخيال وتوشيه الصنعة؟ ثم يقرأ رأي الرافعي في القصة وكتاب القصة* فيقول: أين رأيه من حقيقته؟ وأين عمله من دعواه؟ ولهذه القصص حديث طويل، ولكن حسبي أن أقول: إن الرافعي -وإن هجر القصة ولم يحفل بها زمانًا- كانت القصة في أدبه, وفي طبعه. وكما قلت من قبل: إن هذا الكتاب يجمع كل خصائص الرافعي الأدبية متميزة بوضوح في أسلوبه، كذلك أقول هنا: إنه يجمع كل خصائصه العقلية والنفسية متميزة بوضوح في موضوعه، ففيه خلقه ودينه، وفيه شبابه وعاطفته، وفيه تزمته ووقاره، وفيه فكاهته ومرحه، وفيه غضبه وسخطه، فمن شاء أن يعرف الرافعي عرفان الرأي والفكرة والمعاشرة فليعرفه في هذا الكتاب. أما الجزء الثالث من هذا الكتاب فقد خلفه المؤلف -رحمه الله- على مكتبه قصاصات من صحف وصفحات من كتب ومجلات، فعاد كتابًا بين دفتين، وقد رتبت فصوله على ما بدا لي، إذ لم أجد فيما خلّف المؤلف من أوراق ما يشير إلى رأيه في ترتيبه، ولكن جمع أكثر مواده في غلاف وأودعه درج مكتبه إلى ميعاد، ثم عاجلته منيته. وقد جمعتُ ما قدرت عليه بعد، فأضفتُه إلى ما جمع المؤلف، ورتبت كل ذلك وهيأته للمطبعة فإن كان قد فاتني شيء مما ينبغي إضافته إلى ذلك الجزء, أو قصر بي الجهد عن ترتيبه على الوجه الأمثل، فمعذرة إلى قارئه. وللمؤلف في ذيل بعض الصحائف تعليقات، ولي تعليقات غيرها اقتضاها مكانها وموضوعها، فإذا رأى القارئ رمز التعليق في الصلب وفي الهامش نجمًا أو

_ * الجزء الثالث من وحي القلم.

نجومًا "*" "* *" فهو ما علقتُهُ، وإن كان الرمز رقمًا فهو مما علقه المؤلف -رحمه الله- لبيان معنى أو تفسير كلمة. وإن في الكتاب لفنًّا وفكرًا وبيانًا، وإن فيه لمواضع تقتضي البسط والتطويل في الحديث، وإن فيه لمذاهب في الإنشاء حقيقة بالدرس والنظر، ولكني أجتزئ من ذلك كله بالعرض دون البيان؛ لأدع لقارئه أن يقول ما يشاء ويحكم، ثم لأفسح المكان لمنشئ الكتاب أن يتحدث عن مذهبه في البيان وهو عليه أقدر. محمد سعيد العريان

صدر الكتاب

صدر الكتاب: البيان لا وجود للمقالة البيانية إلا في المعاني التي اشتملت عليها يقيمها الكاتب على حدود ويديرها على طريقة، مصيبًا بألفاظه مواقع الشعور، مثيرًا بها مكامن الخيال، آخذًا بوزن تاركًا بوزن لتأخذ النفس كما يشاء وتترك. ونقل حقائق الدنيا نقلًا صحيحًا إلى الكتابة أو الشعر, هو انتزاعها من الحياة في أسلوب وإظهارها للحياة في أسلوب آخر يكون أوفى وأدق وأجمل، لوضعه كل شيء في خاص معناه وكشفه حقائق الدنيا كشفة تحت ظاهرها الملتبس. وتلك هي الصناعة الفنية الكاملة؛ تستدرك النقص فتتمه، وتتناول السر فتعلنه، وتلمس المقيد فتطلقه، وتأخذ المطلق فتحده، وتكشف الجمال فتظهره، وترفع الحياة درجة في المعنى وتجعل الكلام كأنه وجد لنفسه عقلًا يعيش به. فالكاتب الحق لا يكتب ليكتب؛ ولكنه أداة في يد القوة المصورة لهذا الوجود، تُصوِّر به شيئًا من أعمالها فنًّا من التصوير. الحكمة الغامضة تريده على التفسير، تفسير الحقيقة؛ والخطأ الظاهر يريده على التبيين، تبيين الصواب؛ والفوضى المائجة تسأله الإقرار, إقرار التناسب؛ وما وراء الحياة، يتخذ من فكره صلة بالحياة؛ والدنيا كلها تنتقل فيه مرحلة نفسية لتعلو به أو تنزل. ومن ذلك لا يخلق الملهم أبدًا إلا وفيه أعصابه الكهربائية، وله في قلبه الرقيق مواضع مهيأة للاحتراق تنفذ إليها الأشعة الروحانية, وتتساقط منها بالمعاني. وإذا اختير الكاتب لرسالة ما، شعر بقوة تفرض نفسها عليه؛ منها سناد رأيه، ومنها إقامة برهانه، ومنها جمال ما يأتي به، فيكون إنسانًا لأعماله وأعمالها جميعًا، له بنفسه وجود ولد بها وجود آخر؛ ومن ثم يصبح عالمًا بعناصره للخير أو الشر كما يوجه؛ ويُلقَى فيه مثل السر الذي يلقى في الشجرة لإخراج ثمرها بعمل طبيعي يُرَى سهلًا كل السهل حين يتم، ولكنه صعب أي صعب حين يبدأ. هذه القوة التي تجعل اللفظة المفردة في ذهنه معنى تاما، وتحول الجملة الصغيرة

إلى قصة، وتنتهي باللمحة السريعة إلى كشف عن حقيقة، وهي تخرجه من حكم أشياء ليحكم عليها، وتدخله في حكم أشياء غيرها لتحكم عليه؛ وهي هي التي تميز طريقته وأسلوبه؛ وكما خُلق الكون من الإشعاع تضع الإشعاع في بيانه1. ولا بد من البيان في الطبائع الملهمة ليتسع به التصرف، إذ الحقائق أسمى وأدق من أن تعرف بيقين الحاسة أو تنحصر في إدراكها. فلو حُدَّت الحقيقة لما بقيت حقيقة، ولو تلبس الملائكة بهذا اللحم والدم أبطل أن يكونوا ملائكة؛ ومن ثم فكثرة الصور البيانية الجميلة، للحقيقة الجميلة، هي كل ما يمكن أو يتسنى من طريقة تعريفها للإنسانية. وأي بيان في خضرة الربيع عند الحيوان من آكل العشب، إلا بيان الصورة الواحدة في معدته؟ غير أن صور الربيع في البيان الإنساني على اختلاف الأرض والأمم، تكاد تكون بعدد أزهاره، ويكاد الندى يُنَضِّرها حسنًا كما ينضره. ولهذا ستبقى كل حقيقة من الحقائق الكبرى -كالإيمان, والجمال، والحب، والخير, والحق- ستبقى محتاجة في كل عصر إلى كتابة جديدة من أذهان جديدة. وفي الكتَّاب الفضلاء باحثون مفكرون تأتي ألفاظهم ومعانيهم فنًّا عقليًّا غايته صحة الأداء وسلامة النسق، فيكون البيان في كلامهم على ندرة كوخز الخضرة في الشجرة اليابسة هنا وهنا. ولكن الفن البياني يرتفع على ذلك بأن غايته قوة الأداء مع الصحة، وسمو التعبير مع الدقة، وإبداع الصورة زائدًا جمال الصورة. أولئك في الكتابة كالطير له جناح يجري به ويَدِفّ ولا يطير، وهؤلاء كالطير الآخر له جناح يطير به ويجري. ولو كتب الفريقان في معنى واحد لرأيت المنطق في أحد الأسلوبين وكأنه يقول: أنا هنا في معانٍ وألفاظ؛ وترى الإلهام في الأسلوب الآخر يطالعك أنه هنا في جلال وجمال, وفي صور وألوان. ودورة العبارة الفنية في نفس الكاتب البياني دورة خلق وتركيب، تخرج بها الألفاظ أكبر مما هي، كأنها شبّت في نفسه شبابًا؛ وأقوى مما هي، كأنما كسبت من روحه قوة؛ وأدل مما هي، كأنما زاد فيها بصناعته زيادة. فالكاتب العلمي تمر اللغة منه في ذاكرة وتخرج كما دخلت عليها طابع واضعيها؛ ولكنها من الكاتب البياني تمر في مصنع وتخرج عليها طابعه هو. أولئك أزاحوا اللغة عن مرتبة

_ 1 ثبت أن الإشعاع هو المادة التي صنع منها الكون.

سامية، وهؤلاء علوا بها إلى أسمى مراتبها؛ وأنت مع الأولين بالفكر، ولا شيء إلا الفكر والنظر والحكم؛ غير أنك مع ذي الحاسة البيانية لا تكون إلا بمجموع ما فيك من قوة الفكر والخيال والإحساس والعاطفة والرأي. وللكتابة التامة المفيدة مثل الوجهين في خلق الناس: ففي كل الوجوه تركيب تام تقوم به منفعة الحياة، ولكن الوجه المنفرد يجمع إلى تمام الخلق جمال الخلق، ويزيد على منفعة الحياة لذة الحياة، وهو لذلك وبذلك، يُرَى ويؤثّر ويعشَق. وربما عابوا السمو الأدبي بأنه قليل، ولكن الخير كذلك؛ وبأنه مخالف، ولكن الحق كذلك؛ وبأنه محير، ولكن الحسن كذلك، وبأنه كثير التكاليف، ولكن الحرية كذلك. إن لم يكن البحر فلا تنتظر اللؤلؤ، وإن لم يكن النجم فلا تنتظر الشعاع، وإن لم تكن شجرة الورد فلا تنتظر الورد، وإن لم يكن الكاتب البياني فلا تنتظر الأدب. مصطفى صادق الرافعي

اليمامتان

اليمامتان: جاء في تاريخ الواقدي "أن "المقوقس" عظيم القبط في مصر، زوج بنته "أرمانوسة" من "قسطنطين بن هرقل" وجهزها بأموالها حشمًا لتسير إليه، حتى يبني عليها في مدينة قيسارية1؛ فخرجت إلى بلبيس وأقامت بها ... وجاء عمرو بن العاص إلى بلبيس فحاصرها حصارًا شديدًا، وقاتل من بها، وقتل منهم زهاء ألف فارس، وانهزم من بقي إلى المقوقس، وأخذت أرمانوسة وجميع ما لها، وأخذ كل ما كان للقبط في بلبيس. فأحب عمرو ملاطفة المقوقس، فسير إليه ابنته مكرمة في جميع ما لها، "مع قيس بن أبي العاص السهمي"؛ فسُرَّ بقدومها ... ". هذا ما أثبته الواقدي في روايته، ولم يكن معنيًّا إلا بأخبار المغازي والفتوح، فكان يقتصر عليها في الرواية؛ أما ما أغفله فهو ما نقصه نحن: كانت لأرمانوسة وصيفة مولدة تسمى "مارية"، ذات جمال يوناني أتمته مصر ومسحته بسحرها، فزاد جمالها على أن يكون مصريا، ونقص الجمال اليوناني أن يكونه؛ فهو أجمل منهما، ولمصر طبيعة خاصة في الحسن؛ فهي قد تخمل شيئًا في جمال نسائها أو تشعث منه، وقد لا توفيه جهد محاسنها الرائعة؛ ولكن متى نشأ فيها جمال ينزع إلى أصل أجنبي أفرغت فيه سحرها إفراغًا، وأبت إلا أن تكون الغالبة عليه، وجعلته آيتها في المقابلة بينه في طابعه المصري، وبين أصله في طبيعة أرضه كائنة ما كانت؛ تغار على سحرها أن يكون إلا الأعلى. وكانت مارية هذه مسيحية قوية الدين والعقل، اتخذها المقوقس كنيسة حية لابنته، وهو كان واليًا وبطريركًا على مصر من قبل هرقل؛ وكان من عجائب صنع الله أن الفتح الإسلامي جاء في عهده، فجعل الله قلب هذا الرجل مفتاح القفل القبطي، فلم تكن أبوابهم تدافع إلا بمقدار ما تدفع، تقاتل شيئًا من القتال غير

_ 1 بلدة بفلسطين. وبلبيس هي المدينة المعروفة بمحافظة الشرقية بمصر.

كبير، أما الأبواب الرومية فبقيت مستغلقة حصينة لا تذعن إلا للتحطيم، ووراءها نحو مائة ألف رومي يقاتلون المعجزة الإسلامية التي جاءتهم من بلاد العرب أول ما جاءت في أربعة آلاف رجل، ثم لم يزيدوا آخر ما زادوا على اثني عشر ألفًا. كان الروم مائة ألف مقاتل بأسلحتهم -ولم تكن المدافع معروفة- ولكن روح الإسلام جعلت الجيش العربي كأنه اثنا عشر ألف مِدْفَع بقنابلها، لا يقاتلون بقوة الإنسان، بل بقوة الروح الدينية التي جعلها الإسلام مادة منفجرة تشبه الديناميت قبل أن يُعرَف الديناميت! ولما نزل عمرو بجيشه على بلبيس، جزعت مارية جزعًا شديدًا؛ إذ كان الروم قد أرجفوا أن هؤلاء العرب قوم جياع ينفضهم الجدب على البلاد نفض الرمال على الأعين في الريح العاصف؛ وأنهم جراد إنساني لا يغزو إلا لبطنه؛ وأنهم غلاظ الأكباد كالإبل التي يمتطونها؛ وأن النساء عندهم كالدواب يُرتبطْنَ على خَسْف؛ وأنهم لا عهد لهم ولا وفاء، ثَقُلت مطامعهم وخَفَّت أمانتهم؛ وأن قائدهم عمرو بن العاص كان جزَّارًا في الجاهلية، فما تدعه روح الجزار ولا طبيعته؛ وقد جاء بأربعة آلاف سالخ من أخلاط الناس وشذاذهم، لا أربعة آلاف مقاتل من جيش له نظام الجيش! وتوهمت مارية أوهامها، وكانت شاعرة قد درست هي وأرمانوسة أدب يونان وفلسفتهم، وكان لها خيال مشبوب متوقد يشعرها كل عاطفة أكبر مما هي، ويضاعف الأشياء في نفسها، وينزع إلى طبيعته المؤنثة، فيبالغ في تهويل الحزن خاصة، ويجعل من بعض الألفاظ وقودًا على الدم. ومن ذلك استُطير قلب مارية وأفزعتها الوساوس، فجعلت تندب نفسها, وصنعت في ذلك شعرًا هذه ترجمته: جاءك أربعة آلاف جزار أيتها الشاة المسكينة! ستذوق كل شعرة منك ألم الذبح قبل أن تُذبَحي! جاءك أربعة آلاف خاطف أيتها العذراء المسكينة! ستموتين أربعة آلاف مِيتة قبل الموت! قوني يا إلهي؛ لأغمد في صدري سكينًا يرد عني الجزارين! يا إلهي، قَوِّ هذه العذراء؛ لتتزوج الموت قبل أن يتزوجها العربي ... ! وذهبت تتلو شعرها على أرمانوسة في صوت حزين يتوجع؛ فضحكت هذه

وقالت: أنت واهمة يا مارية؛ أنسيت أن أبي قد أهدى إلى نبيهم بنت "أَنْصِنا"1، فكانت عنده في مملكة بعضها السماء, وبعضها القلب؟ لقد أخبرني أبي أنه بعث بها لتكشف له عن حقيقة هذا الدين وحقيقة هذا النبي؛ وأنها أنفذت إليه دسيسًا يُعلمه أن هؤلاء المسلمين هم العقل الجديد الذي سيضع في العالم تمييزه بين الحق والباطل، وأن نبيهم أطهر من السحابة في سمائها، وأنهم جميعًا ينبعثون من حدود دينهم وفضائله، لا من حدود أنفسهم وشهواتها؛ وإذا سلوا السيف سلوه بقانون، وإذا أغمدوه أغمدوه بقانون. وقالت عن النساء: لأن تخاف المرأة على عفتها من أبيها أقرب من أن تخاف عليها من أصحاب هذا النبي؛ فإنهم جميعًا في واجبات القلب وواجبات العقل، ويكاد الضمير الإسلامي في الرجل منهم, يكون حاملًا سلاحًا يضرب صاحبه إذا هم بمخالفته. وقال أبي: إنهم لا يغيرون على الأمم، ولا يحاربونها حرب المُلك؛ وإنما تلك طبيعة الحركة للشريعة الجديدة، تتقدم في الدنيا حاملة السلاح والأخلاق، قوية في ظاهرها وباطنها، فمن وراء أسلحتهم أخلاقهم؛ وبذلك تكون أسلحتهم نفسها ذات أخلاق! وقال أبي لها: إن هذا الدين سيندفع بأخلاقه في العالم اندفاع العصارة الحية في الشجرة الجرداء؛ طبيعة تعمل في طبيعة؛ فليس يمضي غير بعيد حتى تخضرّ الدنيا وترمي ظلالها؛ وهو بذلك فوق السياسات التي تشبه في عملها الظاهر الملفق ما يعد كطلاء الشجرة الميتة الجرداء بلون أخضر ... شتان بين عمل وعمل، وإن كان لون يشبه لونًا ... فاستروحت مارية واطمأنت باطمئنان أرمانوسة، وقالت: فلا ضير علينا إذا فتحوا البلد، ولا يكون ما نستضر به؟ قالت أرمانوسة: لا ضير يا مارية، ولا يكون إلا ما نحب لأنفسنا؛ فالمسلمون ليسوا كهؤلاء العلوج من الروم، يفهمون متاع الدنيا بفكرة الحرص عليه، والحاجة إلى حلاله وحرامه، فهم القساة الغلاظ المستكلِبون كالبهائم؛ ولكنهم يفهمون متاع الدنيا بفكرة الاستغناء عنه والتمييز بين حلاله وحرامه، فهم الإنسانيون الرحماء المتعففون.

_ 1 هي مارية القبطية التي أهداها المقوقس إلى النبي "صلى الله عليه وسلم" وكانت من "أنصنا" بالوجه القبلي.

قالت مارية: وأبيك يا أرمانوسة، إن هذا لعجيب! فقد مات سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم من الفلاسفة والحكماء، وما استطاعوا أن يؤدبوا بحكمتهم وفلسفتهم إلا الكتب التي كتبوها ... ! فلم يخرجوا للدنيا جماعة تامة الإنسانية، فضلًا عن أمة كما وصفتِ أنتِ من أمر المسلمين؛ فكيف استطاع نبيهم أن يخرج هذه الأمة وهم يقولون: إنه كان أميا؟ أفتسخر الحقيقة من كبار الفلاسفة والحكماء وأهل السياسة والتدبير؛ فتدعهم يعملون عبثًا أو كالعبث، ثم تستسلم للرجل الأمي الذي لم يكتب ولم يقرأ ولم يدرس ولم يتعلم؟ قالت أرمانوسة: إن العلماء بهيئة السماء وأجرامها وحساب أفلاكها، ليسوا هم الذين يشقون الفجر ويُطلعون الشمس؛ وأنا أرى أنه لا بد من أمة طبيعية بفطرتها يكون عملها في الحياة إيجاد الأفكار العلمية الصحيحة التي يسير بها العالم، وقد درست المسيح وعمله وزمنه، فكان طيلة عمره يحاول أن يوجد هذه الأمة، غير أنه أوجدها مصغرة في نفسه وحوارييه، وكان عمله كالبدء في تحقيق الشيء العسير؛ حسبه أن يثبت معنى الإمكان فيه. وظهور الحقيقة من هذا الرجل الأمي هو تنبيه الحقيقة إلى نفسها؛ وبرهانها القاطع أنها بذلك في مظهرها الإلهي. والعجيب يا مارية، أن هذا النبي قد خذله قومه وناكروه وأجمعوا على خلافه، فكان في ذلك كالمسيح، غير أن المسيح انتهى عند ذلك؛ أما هذا فقد ثبت ثبات الواقع حين يقع؛ لا يرتد ولا يتغير؛ وهاجر من بلده، فكان ذلك أول خُطا الحقيقة التي أعلنت أنها ستمشي في الدنيا، وقد أخذت من يومئذ تمشي1. ولو كانت حقيقة المسيح قد جاءت للدنيا كلها لها جرت به كذلك، فهذا فرق آخر بينهما. والفرق الثالث أن المسيح لم يأت إلا بعبادة واحدة هي عبادة القلب، أما هذا الدين فعلمت من أبي أنه ثلاث عبادات يشد بعضها بعضًا: إحداها للأعضاء, والثانية للقلب، والثالثة للنفس؛ فعبادة الأعضاء طهارتها واعتيادها الضبط؛ وعبادة القلب طهارته وحبه الخير؛ وعبادة النفس طهارتها وبذلها في سبيل الإنسانية. وعند أبي أنهم بهذه الأخيرة سيملكون الدنيا؛ فلن تُقهَر أمة عقيدتها أن الموت أوسع الجانبين وأسعدهما. قالت مارية: إن هذا والله لسر إلهي يدل على نفسه؛ فمن طبيعة الإنسان ألا تنبعث نفسه غير مبالية الحياة والموت إلا في أحوال قليلة، تكون طبيعة الإنسان

_ 1 انظر المقالات النبوية في صدر الجزء الثاني من هذا الكتاب.

فيها عمياء؛ كالغضب الأعمى، والحب الأعمى، والتكبر الأعمى؛ فإذا كانت هذه الأمة الإسلامية كما قلتِ منبعثة هذا الانبعاث، ليس فيها إلا الشعور بذاتيتها العالية, فما بعد ذلك دليل على أن هذا الدين هو شعور الإنسان بسموّ ذاتيته، وهذه هي نهاية النهايات في الفلسفة والحكمة. قالت أرمانوسة: وما بعد ذلك دليل على أنكِ تتهيئين أن تكوني مسلمة يا مارية! فاستضحكتا معًا وقالت مارية: إنما ألقيتِ كلامًا جاريتُكِ فيه بحسبه، فأنا وأنت كافرتان لا مسلمتان. قال الراوي: وانهزم الروم عن بلبيس، وارتدوا إلى المقوقس في "منف"، وكان وحي أرمانوسة في مارية مدة الحصار -وهي نحو الشهر- كأنه فكر سكن فكرًا وتمدد فيه؛ فقد مر ذلك الكلام بما في عقلها من حقائق النظر في الأدب والفلسفة، فصنع ما يصنع المؤلف بكتاب ينقحه، وأنشأ لها أخيلة تجادلها وتدفعها إلى التسليم بالصحيح لأنه صحيح، والمؤكد لأنه مؤكد. ومن طبيعة الكلام إذا أثر في النفس، أن ينتظم في مثل الحقائق الصغيرة التي تلقى للحفظ؛ فكان كلام أرمانوسة في عقل مارية هكذا: "المسيح بدء وللبدء تكملة، ما من ذلك بد. لا تكون خدمة الإنسانية إلا بذات عالية لا تبالي غير سموها. الأمة التي تبذل كل شيء وتستمسك بالحياة جبنًا وحرصًا لا تأخذ شيئًا، والتي تبذل أرواحها فقط تأخذ كل شيء". وجعلت هذه الحقائق الإسلامية وأمثالها تُعرّب هذا العقل اليوناني؛ فلما أراد عمرو بن العاص توجيه أرمانوسة إلى أبيها، وانتهى ذلك إلى مارية قالت لها: لا يجمل بمن كانت مثلك في شرفها وعقلها أن تكون كالأخِيذة، تتوجه حيث يُسار بها؛ والرأي أن تبدئي هذا القائد قبل أن يبدأكِ؛ فأرسلي إليه فأعلميه أنك راجعة إلى أبيك، واسأليه أن يُصحبك بعض رجاله؛ فتكوني الآمرة حتى في الأسر، وتصنعي صنع بنات الملوك! قالت أرمانوسة: فلا أجد لذلك خيرًا منك في لسانك ودهائك؛ فاذهبي إليه من قِبَلي، وسيصحبك الراهب "شطا"، وخذي معك كوكبة من فرساننا.

قالت مارية وهي تقص على سيدتها: لقد أديتُ إليه رسالتكِ فقال: كيف ظنها بنا؟ قلت: ظنها بفعل رجل كريم يأمره اثنان: كرمه، ودينه. فقال: أبلغيها أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- قال: "استوصوا بالقبط خيرًا؛ فإن لهم فيكم صهرًا وذمة" وأعلميها أننا لسنا على غارة نُغِيرها، بل على نفوس نُغَيِّرها. قالت: فصفيه لي يا مارية. قالت: كان آتيًا في جماعة من فرسانه على خيولهم العِراب، كأنها شياطين تحمل شياطين من جنس آخر؛ فلما صار بحيث أتبينه أومأ إليه الترجمان -وهو "وردان" مولاه- فنظرتُ، فإذا هو على فرس كُمَيْت أَحَمَّ1 لم يخلص للأسود ولا للأحمر، طويل العنق مشرف له ذؤابة أعلى ناصيته كطُرَّة المرأة، ذيَّال يتبختر بفارسه ويُحمحم كأنه يريد أن يتكلم، مُطَهَّم ... فقطعت أرمانوسة عليها وقالت: ما سألتك صفة جوده ... قالت مارية: أما سلاحه ... قالت: ولا سلاحه، صفيه كيف رأيته "هو"؟ قالت: رأيته قصير القامة علامة قوة وصلابة، وافر الهامة علامة عقل وإرادة، أدعج العينين ... فضحكت أرمانوسة وقالت: علامة ماذا؟ ... أبلج يُشرق وجهه كأن فيه لألاء الذهب على الضوء، أيِّدًا، اجتمعت فيه القوة حتى لتكاد عيناه تأمران بنظرهما أمرًا ... داهية كتب دهاؤه على جبهته العريضة يجعل فيها معنى يأخذ من يراه, وكلما حاولت أن أتفرس في وجهه رأيت وجهه لا يفسره إلا تكرر النظر إليه ... وتضرَّجت وجنتاها، فكان ذلك حديثًا بينها وبين عيني أرمانوسة.... وقالت هذه: كذلك كل لذة لا يفسرها للنفس إلا تكرارها ... فغضّت مارية من طرفها وقالت: هو والله ما وصفت، وإني ما ملأت عيني منه، وقد كدت أنكر أنه إنسان لما اعتراني من هيبته. قالت أرمانوسة: من هيبته أم عينيه الدعجاوين؟

_ 1 الكميت الأحم: هو الأحمر الضارب للسواد، لا يخلص لأحد اللونين، فإذا كان أحمر خالصًا قيل فيه: كميت مدمّى "بتشديد الميم الثانية وفتحها".

ورجعتْ بنت المقوقس إلى أبيها في صحبة "قيس"، فلما كانوا في الطريق وجبت الظهر، فنزل قيس يصلي بمن معه والفتاتان تنظران؛ فلما صاحوا: "الله أكبر ... " ارتعش قلب مارية، وسألت الراهب "شطا": ماذا يقولون؟ قال: إن هذه كلمة يدخلون بها صلاتهم، كأنما يخاطبون بها الزمن أنهم الساعة في وقت ليس منه ولا من دنياهم، وكأنهم يعلنون أنهم بين يدي من هو أكبر من الوجود؛ فإذا أعلنوا انصرافهم عن الوقت ونزاع الوقت وشهوات الوقت، فذلك هو دخولهم في الصلاة؛ كأنهم يمحون الدنيا من النفس ساعة أو بعض ساعة؛ ومحوها من أنفسهم هو ارتفاعهم بأنفسهم عليها؛ انظري، ألا تريْنَ هذه الكلمة قد سحرتهم سحرًا فهم لا يلتفتون في صلاتهم إلى شيء؛ وقد شملتهم السكينة، ورجعوا غير من كانوا، وخشعوا خشوع أعظم الفلاسفة في تأملهم1؟ قالت مارية: ما أجمل هذه الفطرة الفلسفية! لقد تعبت الكتب لتجعل أهل الدنيا يستقرون ساعة في سكينة الله عليهم فما أفلحت، وجاءت الكنيسة فهوَّلت على المصلين بالزخارف والصور والتماثيل والألوان؛ لتوحي إلى نفوسهم ضربًا من الشعور بسكينة الجمال وتقديس المعنى الديني، وهي بذلك تحتال في نقلهم من جوهم إلى جوها، فكانت كساقي الخمر؛ إن لم يعطك الخمر عجز عن إعطائك النشوة, ومن ذا الذي يستطيع أن يحمل معه كنيسة على جواد أو حمار؟ قالت أرمانوسة: نعم, إن الكنيسة كالحديقة؛ وهي حديقة في مكانها، وقلما توحي شيئًا إلا في موضعها؛ فالكنيسة هي الجدران الأربعة، أما هؤلاء فمعبدهم بين جهات الأرض الأربع. قال الراهب شطا: ولكن هؤلاء المسلمين متى فُتحت عليهم الدنيا وافتتنوا بها وانغمسوا فيها؛ فستكون هذه الصلاة بعينها ليس فيها صلاة يومئذ. قالت مارية: وهل تفتح عليهم الدنيا, وهل لهم قواد كثيرون كعمرو؟ قال: كيف لا تفتح الدنيا على قوم لا يحاربون الأمم, بل يحاربون ما فيها من الظلم والكفر والرذيلة، وهم خارجون من الصحراء بطبيعة قوية كطبيعة الموج في المد المرتفع؛ ليس في داخلها إلا أنفس مندفعة إلى الخارج عنها؛ ثم يقاتلون بهذه الطبيعة أممًا ليس في الداخل منها إلا النفوس المستعدة أن تهرب إلى الداخل!

_ 1 انظر مقالة "حقيقة المسلم" في الجزء الأول.

قالت مارية: والله لكأننا ثلاثتنا على دين عمرو. وانفتل قيس من الصلاة, وأقبل يترحَّل، فلما حاذى مارية كان عندها كأنما سافر ورجع؛ وكانت ما تزال في أحلام قلبها؛ وكانت من الحلم في عالم أخذ يتلاشى إلا من عمرو وما يتصل بعمرو. وفي هذه الحياة أحوال "ثلاث" يغيب فيها الكون بحقائقه؛ فيغيب عن السكران، والمخبول، والنائم؛ وفيها حالة رابعة يتلاشى فيها الكون إلا من حقيقة واحدة تتمثل في إنسان محبوب. وقالت مارية للراهب شطا: سَلْهُ: ما أَرَبُهم من هذه الحرب، وهل في سياستهم أن يكون القائد الذي يفتح بلدًا حاكمًا على هذا البلد؟ قال قيس: حسبك أن تعلمي أن الرجل المسلم ليس إلا رجلًا عاملًا في تحقيق كلمة الله، أما حظ نفسه فهو في غير هذه الدنيا. وترجم الراهب كلامه هكذا: أما الفاتح فهو في الأكثر الحاكم المقيم، الحرب فهي عندنا الفكرة وأما المصلحة تريد أن تضرب في الأرض وتعمل، وليس حظ النفس شيئًا يكون من الدنيا؛ وبهذا تكون النفس أكبر من غرائزها، وتنقلب معها الدنيا برُعونتها وحماقاتها وشهواتها كالطفل بين يدي رجل، فيهما قوة ضبطه وتصريفه, ولو كان في عقيدتنا أن ثواب أعمالنا في الدنيا لانعكس الأمر. قالت مارية: فسله: كيف يصنع "عمرو" بهذه القلة التي معه والروم لا يحصى عددهم؛ فإذا أخفق "عمرو" فمن عسى أن يستبدلوه منه؟ وهل هو أكبر قوادهم، أو فيهم أكبر منه؟ قال الراوي: ولكن فرس قيس تمطّر وأسرع في لحاق الخيل على المقدمة, كأنه يقول: لسنا في هذا. وفُتحت مصر صلحًا بين عمرو والقبط، وولى الروم مصعدين إلى الإسكندرية، وكانت مارية في ذلك تستقرئ أخبار الفاتح تطوف منها على أطلال من شخص بعيد؛ وكان عمرو من نفسها كالمملكة الحصينة من فاتح لا يملك إلا حبه أن يأخذها؛ وجعلت تذوي وشحب لونها وبدأت تنظر النظرة التائهة, وبان عليها أثر الروح الظمأى؛ وحاطها اليأس بجوِّه الذي يحرق الدم؛ وبدت مجروحة المعاني؛ إذ كان يتقاتل في نفسها الشعوران العدوان: شعور أنها عاشقة، وشعور أنها يائسة!

ورقت لها أرمانوسة، وكانت هي أيضًا تتعلق فتًى رومانيًّا، فسهرتا ليلة تديران الرأي في رسالة تحملها مارية من قبلها إلى عمرو كي تصل إليه، فإذا وصلت بلَّغت بعينيها رسالة نفسها. واستقر الأمر أن تكون المسألة عن مارية القبطية وخبرها ونسلها وما يتعلق بها مما يطول الإخبار به إذا كان السؤال من امرأة عن امرأة. فلما أصبحتا وقع إليها أن عمرًا قد سار إلى الإسكندرية لقتال الروم، وشاع الخبر أنه لما أمر بفسطاطه أن يقوض أصابوا يمامة قد باضت في أعلاه، فأخبروه فقال: "قد تحرمت في جوارنا، أَقِروا الفسطاط حتى تطير فراخها" فأقروه! ولم يمض غير طويل حتى قضت مارية نحبها، وحفظت عنها أرمانوسة هذا الشعر الذي أسمته نشيد اليمامة: على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها. تركها الأمير تصنع الحياة، وذهب هو يصنع الموت! هي كأسعد امرأة؛ ترى وتلمس أحلامها. إن سعادة المرأة أولها وآخرها بعض حقائق صغيرة كهذا البيض. على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها. لو سئلت عن هذا البيض لقالت: هذا كنزي. هي كأهنأ امرأة، ملكت ملكها من الحياة ولم تفتقر. هل أكلف الوجود شيئًا إذا كلفته رجلًا واحدًا أحبه! على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها. الشمس والقمر والنجوم، كلها أصغر في عينها من هذا البيض. هي كأرق امرأة؛ عرفت الرقة مرتين: في الحب، والولادة. هل أكلف الوجود شيئًا كثيرًا إذا أردت أن أكون كهذه اليمامة! على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها. تقول اليمامة: إن الوجود يحب أن يُرى بلونين في عين الأنثى؛ مرة حبيبًا كبيرًا في رَجُلها، ومرة حبيبًا صغيرًا في أولادها.

كل شيء خاضع لقانونه، والأنثى لا تريد أن تخضع إلا لقانونها. أيتها اليمامة، لم تعرفي الأمير وترك لكِ فسطاطه! هكذا الحظ: عدل مضاعف في ناحية، وظلم مضاعف في ناحية أخرى. احمدي الله أيتها اليمامة، أن ليس عندكم لغات وأديان، عندكم فقط: الحب والطبيعة والحياة. على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها. يمامة سعيدة، ستكون في التاريخ كهدهد سليمان. نُسب الهدهد إلى سليمان، وستُنسب اليمامة إلى عمرو. واهًا لك يا عمرو! ما ضر لو عرفتَ "اليمامة الأخرى"!

اجتلاء العيد

اجتلاء العيد: جاء يوم العيد، يوم الخروج من الزمن إلى زمن وحده لا يستمر أكثر من يوم. زمن قصير ظريف ضاحك، تفرضه الأديان على الناس؛ ليكون لهم بين الحين والحين يوم طبيعي في هذه الحياة التي انتقلت عن طبيعتها. يوم السلام، والبشر, والضحك، والوفاء، والإخاء، وقول الإنسان للإنسان: وأنتم بخير. يوم الثياب الجديدة على الكل؛ إشعارًا لهم بأن الوجه الإنساني جديد في هذا اليوم. يوم الزينة التي لا يراد منها إلا إظهار أثرها على النفس ليكون الناس جميعًا في يوم حب. يوم العيد؛ يوم تقديم الحلوى إلى كل فم لتحلو الكلمات فيه. يوم تعم فيه الناس ألفاظ الدعاء والتهنئة مرتفعة بقوة إلهية فوق منازعات الحياة. ذلك اليوم الذي ينظر فيه الإنسان إلى نفسه نظرة تلمح السعادة، وإلى أهله نظرة تبصر الإعزاز، وإلى داره نظرة تدرك الجمال، وإلى الناس نظرة ترى الصداقة. ومن كل هذه النظرات تستوي له النظرة الجميلة إلى الحياة والعالم؛ فتبتهج نفسه بالعالم والحياة. وما أسماها نظرة تكشف للإنسان أن الكل جماله في الكل! وخرجتُ أجتلي العيد في مظهره الحقيقي على هؤلاء الأطفال السعداء. على هذه الوجوه النضرة التي كبِرَت فيها ابتسامات الرضاع فصارت ضحكات. وهذه العيون الحالمة, الحالمة إذا بكت بكت بدموع لا ثقل لها. وهذه الأفواه الصغيرة التي تنطق بأصوات لا تزال فيها نبرات الحنان من تقليد لغة الأم.

وهذه الأجسام الغضَّة القريبة العهد بالضَّمَّات واللَّثَمات فلا يزال حولها جو القلب. على هؤلاء الأطفال السعداء الذين لا يعرفون قياسًا للزمن إلا بالسرور. وكل منهم مَلِك في مملكة، وظرفهم هو أمرهم الملوكي. هؤلاء المجتمعون في ثيابهم الجديدة المصبَّغة اجتماع قوس قزح في ألوانه. ثياب عملت فيها المصانع والقلوب، فلا يتم جمالها إلا بأن يراها الأب والأم على أطفالهما. ثياب جديدة يلبسونها, فيكونون هم أنفسهم ثوبًا جديدًا على الدنيا. هؤلاء السحرة الصغار الذين يُخرجون لأنفسهم معنى الكنز الثمين من قرشين, ويسحرون العيد فإذا هو يوم صغير مثلهم جاء يدعوهم إلى اللعب. وينتبهون في هذا اليوم مع الفجر، فيبقى الفجر على قلوبهم إلى غروب الشمس. ويُلقون أنفسهم على العالم المنظور، فيبنون كل شيء على أحد المعنيين الثابتين في نفس الطفل: الحب الخالص، واللهو الخالص. ويبتعدون بطبيعتهم عن أكاذيب الحياة, فيكون هذا بعينه هو قربهم من حقيقتها السعيدة. هؤلاء الأطفال الذين هم السهولة قبل أن تتعقد. والذين يرون العالم في أول ما ينمو الخيال ويتجاوز ويمتد. يفتشون الأقدار من ظاهرها؛ ولا يستبطنون كيلا يتألموا بلا طائل. ويأخذون من الأشياء لأنفسهم فيفرحون بها، ولا يأخذون من أنفسهم للأشياء كيلا يوجدوا لها الهم. قانعون يكتفون بالتمرة، ولا يحاولون اقتلاع الشجرة التي تحملها. ويعرفون كُنْهَ الحقيقة، وهي أن العبرة بروح النعمة لا بمقدارها. فيجدون من الفرح في تغيير ثوب للجسم، أكثر مما يجده القائد الفاتح في تغيير ثوب للمملكة. هؤلاء الحكماء الذين يشبه كل منهم آدم أول مجيئه إلى الدنيا،

حين لم تكن بين الأرض والسماء خليقة ثالثة معقدة من صنع الإنسان المتحضر. حكمتهم العليا: أن الفكر السامي هو جعل السرور فكرًا وإظهاره في العمل. وشعرهم البديع: أن الجمال والحب ليسا في شيء إلا في تجميل النفس وإظهارها عاشقة للفرح. هؤلاء الفلاسفة الذين تقوم فلسفتهم على قاعدة عملية، وهي أن الأشياء الكثيرة لا تكثر في النفس المطمئنة. وبذلك تعيش النفس هادئة مستريحة كأن ليس في الدنيا إلا أشياؤها الميسرة. أما النفوس المضطربة بأطماعها وشهواتها فهي التي تُبتلَى بهموم الكثرة الخيالية، ومَثَلها في الهم مَثَل طُفَيلي مغفل يحزن لأنه لا يأكل في بطنين. وإذا لم تكثر الأشياء الكثيرة في النفس، كثرت السعادة ولو من قلة. فالطفل يقلب عينيه في نساء كثيرات، ولكن أمه هي أجملهن وإن كانت شوهاء. فأمه وحدها هي هي أم قلبه، ثم لا معنى للكثرة في هذا القلب. هذا هو السر؛ خذوه أيها الحكماء عن الطفل الصغير! وتأملت الأطفال، وأثر العيد على نفوسهم، التي وسعت من البشاشة فوق ملئها؛ فإذا لسان حالهم يقول للكبار: أيتها البهائم، اخلعي أرسانَكِ ولو يومًا. أيها الناس، انطلقوا في الدنيا انطلاق الأطفال يوجدون حقيقتهم البريئة الضاحكة، لا كما تصنعون إذ تنطلقون انطلاق الوحش يوجد حقيقته المفترسة. أحرار حرية نشاط الكون ينبعث كالفوضى، ولكن في أدق النواميس. يثيرون السخط بالضجيج والحركة، فيكونون مع الناس على خلاف؛ لأنهم على وفاق مع الطبيعة. وتحتدم بينهم المعارك، ولكن لا تتحطم فيها إلا اللعب. أما الكبار فيصنعون المدفع الضخم من الحديد، للجسم اللين من العظم. أيتها البهائم، اخلعي أرسانَكِ ولو يومًا. لا يفرح أطفال الدار كفرحهم بطفل يولد؛ فهم يستقبلونه كأنه محتاج إلى عقولهم الصغيرة.

ويملؤهم الشعور بالفرح الحقيقي الكامن في سر الخلق، لقربهم من هذا السر. وكذلك تحمل السنة ثم تلد للأطفال يوم العيد؛ فيستقبلونه كأنه محتاج إلى لهوهم الطبيعي، ويملؤهم الشعور بالفرح الحقيقي الكامن في سر العالم لقربهم من هذا السر. فيا أسفا علينا نحن الكبار! ما أبعدنا عن سر الخلق بآثام العمر! وما أبعدنا عن سر العالم بهذه الشهوات الكافرة التي لا تؤمن إلا بالمادة! يا أسفا علينا نحن الكبار! ما أبعدنا عن حقيقة الفرح! تكاد آثامنا -والله- تجعل لنا في كل فرحة خَجْلَة. أيتها الرياض المنورة بأزهارها، أيتها الطيور المغردة بألحانها، أيتها الأشجار المصفقة بأغصانها، أيتها النجوم المتلألئة بالنور الدائم، أنتِ شتى؛ ولكنكِ جميعًا في هؤلاء الأطفال يوم العيد!

المعنى السياسي في العيد

المعنى السياسي في العيد: ما أشد حاجتنا نحن -المسلمين- إلى أن نفهم أعيادنا فهمًا جديدًا، نتلقاها به ونأخذها من ناحيته، فتجيء أيامًا سعيدة عاملة، تنبه فينا أوصافها القوية، وتجدد نفوسنا بمعانيها، لا كما تجيء الآن كالحة عاطلة ممسوحة من المعنى، أكبر عملها تجديد الثياب، وتحديد الفراغ، وزيادة ابتسامة على النفاق. فالعيد إنما هو المعنى الذي يكون في اليوم لا اليوم نفسه، وكما يفهم الناس هذا المعنى يتلقون هذا اليوم؛ وكان العيد في الإسلام هو عيد الفكرة العابدة، فأصبح عيد الفكرة العابثة؛ وكانت عبادة الفكرة جمعها الأمة في إرادة واحدة على حقيقة عملية، فأصبح عبث الفكرة جمعها الأمة على تقليد بغير حقيقة؛ له مظهر المنفعة وليس له معناها. كان العيد إثبات الأمة وجودها الروحاني في أجمل معانيه، فأصبح إثبات الأمة وجودها الحيواني في أكثر معانيه؛ وكان يوم استرواح من جِدِّها، فعاد يوم استراحة الضعف من ذله؛ وكان يوم المبدأ، فرجع يوم المادة! ليس العيد إلا إشعار هذه الأمة بأن فيها قوة تغيير الأيام، لا إشعارها بأن الأيام تتغير؛ وليس العيد للأمة إلا يومًا تعرض فيه جمال نظامها الاجتماعي، فيكون يوم الشعور الواحد في نفوس الجميع، والكلمة الواحدة في ألسنة الجميع؛ يوم الشعور بالقدرة على تغيير الأيام، لا القدرة على تغيير الثياب, كأنما العيد هو استراحة الأسلحة يومًا في شعبها الحربي. وليس العيد إلا تعليم الأمة كيف تتسع روح الجوار وتمتد، حتى يرجع البلد العظيم وكأنه لأهله دار واحدة يتحقق فيها الإخاء بمعناه العملي، وتظهر فضيلة الإخلاص مستعلنة للجميع، ويُهدي الناس بعضهم إلى بعض هدايا القلوب المخلصة المحبة؛ وكأنما العيد هو إطلاق روح الأسرة الواحدة في الأمة كلها. وليس العيد إلا إظهار الذاتية الجميلة للشعب مهزوزة من نشاط الحياة؛ وإلا

ذاتية للأمم الضعيفة؛ ولا نشاط للأمم المستعبدة. فالعيد صوت القوة يهتف بالأمة: اخرجي يوم أفراحك، اخرجي يومًا كأيام النصر! وليس العيد إلا إبراز الكتلة الاجتماعية للأمة متميزة بطابعها الشعبي، مفصولة من الأجانب، لابسة من عمل أيديها، معلنة بعيدها استقلالين في وجودها وصناعتها، ظاهرة بقوتين في إيمانها وطبيعتها، مبتهجة بفرحين في دورها وأسواقها؛ فكأن العيد يوم يفرح الشعب كله بخصائصه. وليس العيد إلا التقاء الكبار والصغار في معنى الفرح بالحياة الناجحة المتقدمة في طريقها، وترك الصغار يلقون درسهم الطبيعي في حماسة الفرح والبهجة، ويعلِّمون كبارهم كيف توضع المعاني في بعض الألفاظ التي فَرَغَتْ عندهم من معانيها، ويُبصّرونهم كيف ينبغي أن تعمل الصفات الإنسانية في الجموع عمل الحليف لحليفه، لا عمل المنابذ لمنابذه؛ فالعيد يوم تسلط العنصر الحي على نفسية الشعب. وليس العيد إلا تعليم الأمة كيف توجه بقوتها حركة الزمن إلى معنى واحد كلما شاءت؛ فقد وضع لها الدين هذه القاعدة لتُخرِّج عليها الأمثلة، فتجعل للوطن عيدًا ماليًّا اقتصاديًّا تبتسم فيه الدراهم بعضها إلى بعض، وتخترع للصناعة عيدها، وتوجد للعلم عيده، وتبتدع للفن مجالَي زينته، وبالجملة تنشئ لنفسها أيامًا تعمل عمل القواد العسكريين في قيادة الشعب، يقوده كل يوم منها إلى معنى من معاني النصر. هذه المعاني السياسية القوية هي التي من أجلها فُرض العيد ميراثًا دهريًّا في الإسلام، ليستخرج أهل كل زمن من معاني زمنهم فيضيفوا إلى المثال أمثلة مما يبدعه نشاط الأمة، ويحققه خيالها، وتقتضيه مصالحها. وما أحسب الجمعة قد فُرضت على المسلمين عيدًا أسبوعيًّا يشترط فيه الخطيب والمنبر والمسجد الجامع, إلا تهيئة لذلك المعنى وإعدادًا له؛ ففي كل سبعة أيام مسلمة يوم يجيء فيُشعر الناس معنى القائد الحربي للشعب كله. ألا ليت المنابر الإسلامية لا يخطب عليها إلا رجال فيهم أرواح المدافع، لا رجال في أيديهم سيوف من خشب1.

_ 1 انظر "قصة الأيدي المتوضئة" في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

الربيع

الربيع: خرجتُ أشهد الطبيعة كيف تُصبح كالمعشوق الجميل، لا يقدم لعاشقه إلا أسباب حبه! وكيف تكون كالحبيب، يزيد في الجسم حاسة لمس المعاني الجميلة! وكنتُ كالقلب المهجور الحزين وجد السماء والأرض، ولم يجد فيهما سماءه وأرضه. ألا كم آلاف السنين وآلافها قد مضت منذ أُخرج آدم من الجنة! ومع ذلك, فالتاريخ يعيد نفسه في القلب؛ لا يحزن هذا القلب إلا شعر كأنه طُرد من الجنة لساعته. يقف الشاعر بإزاء جمال الطبيعة، فلا يملك إلا أن يتدفق ويهتز ويطرَب. لأن السر الذي انبثق هنا في الأرض، يريد أن ينبثق هناك في النفس. والشاعر نبي هذه الديانة الرقيقة التي من شريعتها إصلاح الناس بالجمال والخير. وكل حُسن يلتمس النظرة الحية التي تراه جميلًا لتعطيه معناه. وبهذا تقف الطبيعة محتفلة أمام الشاعر، كوقوف المرأة الحسناء أمام المصور. لاحت لي الأزهار كأنها ألفاظ حب رقيقة مغشاة باستعارات ومجازات. والنسيم حولها كثوب الحسناء على الحسناء، فيه تعبير من لابسته. وكل زهرة كابتسامة، تحتها أسرار من معاني القلب المعقدة. أهي لغة الضوء الملون من الشمس ذات الألوان السبعة؟ أم لغة الضوء الملون من الخد؛ والشفة؛ والصدر؛ والنحر؛ والديباج؛ والحِلَى؟ وماذا يفهم العشاق من رموز الطبيعة في هذه الأزاهر الجميلة؟ أتشير لهم بالزهر إلى أن عمر اللذة قصير، كأنها تقول: على مقدار هذا؟

أتُعْلِمهم أن الفرق بين جميل وجميل، كالفرق بين اللون واللون، وبين الرائحة والرائحة؟ أتُنَاجيهم بأن أيام الحب صور أيام لا حقائق أيام؟ أم تقول الطبيعة: إن كل هذا؛ لأنكِ أيتها الحشرات لا تنخدعين إلا بكل هذا1؟ في الربيع تظهر ألوان الأرض على الأرض، وتظهر ألوان النفس على النفس. ويصنع الماء صنعه في الطبيعة؛ فتُخرج تهاويل النبات، ويصنع الدم صنعه فيُخرج تهاويل الأحلام, ويكون الهواء كأنه من شفاه متحابة يتنفس بعضها على بعض، ويعود كل شيء يلتمع؛ لأن الحياة كلها ينبض فيها عرق النور، ويرجع كل حي يغني؛ لأن الحب يريد أن يرفع صوته. وفي الربيع لا يضيء النور في الأعين وحدها، ولكن في القلوب أيضًا. ولا ينفذ الهواء إلى الصدور فقط، ولكن إلى عواطفها كذلك. ويكون للشمس حرارتان إحداهما في الدم. ويطغى فيضان الجمال كأنما يراد من الربيع تجربة منظر من مناظر الجنة في الأرض. والحيوان الأعجم نفسه تكون له لفتات عقلية فيها إدراك فلسفة السرور والمرح. وكانت الشمس في الشتاء كأنها صورة معلقة في السحاب. وكان النهار كأنه يضيء بالقمر لا بالشمس. وكان الهواء مع المطر كأنه مطر غير سائل. وكانت الحياة تضع في أشياء كثيرة معنى عبوس الجو. فلما جاء الربيع كان فرح جميع الأحياء بالشمس كفرح الأطفال, رجعت أمهم من السفر.

_ 1 ثبت أن ألوان الأزهار وعطرها وما في ظاهرها وباطنها, كل ذلك لاجتذاب الحشرات إليها كي تنقل اللقاح من زهرة إلى زهرة.

وينظر الشباب, فتظهر له الأرض شابَّة. ويشعر أنه موجود في معاني الذات أكثر مما هو موجود في معاني العالم. وتمتلئ له الدنيا بالأزهار، ومعاني الأزهار، ووحي الأزهار. وتُخرج له أشعة الشمس ربيعًا, وأشعة قلبه ربيعًا آخر. ولا تنسى الحياة عجائزها، فربيعهم ضوء الشمس. ما أعجب سر الحياة! كل شجرة في الربيع جمال هندسي مستقل. ومهما قطعتَ منها وغيرتَ من شكلها أبرزتها الحياة في جمال هندسي جديد كأنك أصلحتَها. ولو لم يبق منها إلا جذر حي أسرعت الحياة فجعلت له شكلًا من غصون وأوراق. الحياة الحياة, إذا أنت لم تفسدها جاءتك دائمًا هداياها. وإذا آمنت لم تعد بمقدار نفسك، ولكن بمقدار القوة التي أنت بها مؤمن. {فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ} [الروم: 50] . وانظر كيف يخلق في الطبيعة هذه المعاني التي تبهج كل حي، بالطريقة التي يفهمها كل حي. وانظر كيف يجعل في الأرض معنى السرور، وفي الجو معنى السعادة. وانظر إلى الحشرة الصغيرة كيف تؤمن بالحياة التي تملؤها وتطمئن؟ انظر انظر! أليس كل ذلك ردًّا على اليأس بكلمة: لا؟

عرش الورد

عرش الورد *: كانت جَلْوَة العروس كأنها تصنيف من حلم، توافت عليه أخيلة السعادة فأبدعت إبداعها فيه، حتى إذا اتسق وتم، نقلته السعادة إلى الحياة في يوم من أيامها الفردة التي لا يتفق منها في العمر الطويل إلا العدد القليل، لتحقق للحي وجود حياته بسحرها وجمالها، وتعطيه فيما يُنسَى ما لا يُنسى. خرج الحلم السعيد من تحت النوم إلى اليقظة، وبرز من الخيال إلى العين، وتمثل قصيدة بارعة جعلت كل ما في المكان يحيا حياة الشعر؛ فالأنوار نساء، والنساء أنوار، والأزهار أنوار ونساء، والموسيقى بين ذلك تتمّم من كل شيء معناه، والمكان وما فيه، وزن في وزن، ونغم في نغم، وسحر في سحر. ورأيت كأنما سُحرت قطعة من سماء الليل، فيها دارة القمر، وفيها نثرة من النجوم الزُّهْر، فنزلت فحلت في الدار، يتوضَّحْنَ ويأتلقْنَ من الجمال والشعاع، وفي حسن كل منهم مادة فجر طالع، فكُنَّ نساء الجلوة وعروسها. ورأيت كأنما سُحر الربيع، فاجتمع في عرش أخضر، قد رُصِّع بالورد الأحمر، وأقيم في صدر البَهْو ليكون منصة للعروس، وقد نسقت الأزهار في سمائه وحواشيه على نظمين: منهما مفصل ترى فيه بين الزهرتين من اللون الواحد زهرة تخالف لونهما؛ ومنهما مكدس بعضه فوق بعض، من لون متشابه أو متقارب، فبدا كأنه عش طائر ملكي من طيور الجنة أبدع في نسجه وترصيعه بأشجار سقى الكوثر أغصانها. وقامت في أرض العرش تحت أقدام العروسين، ربوتان من أفانين الزهر المختلفة ألوانه، يحملهما خَمْل من ناعم النسيج الأخضر على غصونه اللُّدْن تتهافت من رقتها ونعومتها.

_ * يصف المؤلف في هذه القطعة زفاف ابنته "وهيبة" إلى ابن عمها, وهي أول من تزوج من ولده, وانظر "عمله في الرسالة" من كتابنا "حياة الرافعي".

وعُقِدَ فوق هذا العرش تاج كبير من الورد النادر، كأنما نُزع عن مَفْرِق مَلِك الزمن الربيعي؛ وتنظر إليه يسطع في النور بجماله الساحر، سطوعًا يخيل إليك أن أشعة من الشمس التي ربَّت هذا الورد لا تزال عالقة به، وتراه يزدهي جلالًا، كأنما أدرك أنه في موضعه رمز مملكة إنسانية جديدة، تألفت من عروسين كريمين, ولاح لي مرارًا أن التاج يضحك ويستحي ويتدلل، كأنما عرف أنه وحده بين هذه الوجوه الحِسَان يمثل وجه الورد. ونُصَّ على العرش كرسيان يتوهج لون الذهب فوقهما، ويكسوهما طراز أخضر تلمع نضارته بِشْرًا، حتى لتحسب أنه هو أيضًا قد نالته من هذه القلوب الفَرِحة لمسة من فرحها الحي. وتدلت على العرش قلائد المصابيح، كأنها لؤلؤ تخلَّق في السماء لا في البحر، فجاء من النور لا من الدر؛ وجاء نورًا من خاصته أنه متى استضاء في جو العروس أضاء الجو والقلوب جميعًا. وأتى العروسان إلى عرش الورد، فجلسا جِلْسة كوكبين حدودهما النور والصفاء؛ وأقبلت العذارى يتخطَّرْنَ في الحرير الأبيض كأنه من نور الصبح، ثم وقفن حافَّات حول العرش، حاملات في أيديهن طاقات من الزّنبق، تراها عَطِرة بيضاء ناضرة حَيِيَّة، كأنها عذارى مع عذارى، وكأنما يحملن في أيديهن من هذا الزنبق الغض معاني قلوبهن الطاهرة؛ هذه القلوب التي كانت مع المصابيح مصابيح أخرى فيها نورها الضاحك. واقتعدت دَرَجَ العرش تحت ربوتي الزهر ودون أقدام العروسين, طفلة صغيرة كالزهرة البيضاء تحمل طفولتها، فكانت من العرش كله كالماسة المدلَّاة من واسطة العِقْد، وجعلت بوجهها للزهر كله تمامًا وجمالًا، حتى ليظهر من دونها كأنه غضبان مُنْزَوٍ لا يريد أن يُرَى. وكان ينبعث من عينيها فيما حولها تيار من أحلام الطفولة جعل المكان بمن فيه كأن له روح طفل بغتته مسرة جديدة. وكانت جالسة جِلْسة شِعْر تمثل الحياة الهنيئة المبتكرة لساعتها ليس لها ماضٍ في دنيانا. ولو أن مبدعًا افتَنّ في صنع تمثال للنية الطاهرة، وجيء به في مكانها، وأُخذت هي في مكانه لتشابها وتشاكل الأمر.

وكان وجودها على العرش دعوة للملائكة أن تحضر الزفاف وتباركه. وكانت بصغرها الظريف الجميل تعطي لكل شيء تمامًا، فيرى أكبر مما هو، وأكثر مما هو في حقيقته. كانت النقطة التي استعلنت في مركز الدائرة، ظهورها على صغرها هو ظهور الإحكام والوزن والانسجام في المحيط كله. لا يكون السرور دائمًا إلا جديدًا على النفس، ولا سرور للنفس إلا من جديد على حالة من أحوالها؛ فلو لم يكن في كل دينار قوة جديدة غير التي في مثله لما سُر بالمال أحد، ولا كان له الخطر الذي هو له؛ ولو لم يكن لكل طعام جوع يورده جديدًا على المعدة لما هنأ ولا مرأ؛ ولو لم يكن الليل بعد نهار، والنهار بعد ليل، والفصول كلها نقيضًا على نقيضه، وشيئًا مختلفًا -على شيء مختلف- لما كان في السماء والأرض جمال، ولا منظر جمال، ولا إحساس بهما؛ والطبيعة التي لا تفلح في جعلك معها طفلًا تكون جديدًا على نفسك, لن تفلح في جعلك مسرورًا بها لتكون هي جديدة عليك. وعرش الورد كان جديدًا عند نفسي على نفسي، وفي عاطفتي على عاطفتي، ومن أيامي على أيامي؛ نزل صباح يومه في قلبي بروح الشمس، وجاء مساء ليلته لقلبي بروح القمر؛ وكنت عنده كالسماء أتلألأ بأفكاري كما تتلألأ بنجومها؛ وقد جعلتني أمتد بسروري في هذه الطبيعة كلها، إذ قدرت على أن أعيش يومًا في نفسي؛ ورأيت وأنا في نفسي أن الفرح هو سر الطبيعة كلها، وأن كل ما خلق الله جمال في جمال، فإنه تعالى نور السموات والأرض، وما يجيء الظلام مع نوره، ولا يجيء الشر مع أفراح الطبيعة إلا من محاولة الفكر الإنساني خلق أوهامه في الحياة، وإخراجه النفس من طبائعها، حتى أصبح الإنسان كأنما يعيش بنفس يحاول أن يصنعها صناعة، فلا يصنع إلا أن يزيغ بالنفس التي فطرها الله. يا عجبًا! ينفر الإنسان من كلمات الاستعباد، والضَّعة، والذلة، والبؤس، والهم، وأمثالها، وينكرها ويردها، وهو مع ذلك لا يبحث لنفسه في الحياة إلا عن معانيها. إن يومًا كيوم عرش الورد لا يكون من أربع وعشرين ساعة، بل من أربعة وعشرين فرحًا؛ لأنه من الأيام التي تجعل الوقت يتقدم في القلب لا في الزمن، ويكون بالعواطف لا بالساعات، ويتواتر على النفس بجديدها لا بقديمها.

كان الشباب في موكب نصره، وكانت الحياة في ساعة صلح مع القلوب، حتى اللغة نفسها لم تكن تلقي كلماتها إلا ممتلئة بالطرب والضحك والسعادة، آتية من هذه المعاني دون غيرها، مصورة على الوجوه إحساسها ونوازعها، وكل ذلك سحر عرش الورد، تلك الحديقة الساحرة المسحورة، التي كانت النسمات تأتي من الجو ترفرف حولها متحيرة كأنما تتساءل: أهذه حديقة خُلقت بطيور إنسانية؛ أم هي شجرة ورد من الجنة بمن يتفيَّأْنَ ظلها ويتنسَّمْنَ شذاها من الحُور؛ أم ذاك منبع وردي عطري نوراني لحياة هذه المَلِكة الجالسة على العرش! يا نسمات الليل الصافية صفاء الخير، أسأل الله أن تنبع هذه الحياة المقبلة في جمالها وأثرها وبركتها من مثل الورد المبهج، والعطر المنعش، والضوء المحيِي؛ فإن هذه العروس المعتلية عرش الورد: هي ابنتي.

أيها البحر

أيها البحر *! إذا احتدم الصيف، جُعلتَ أنت أيها البحر1 للزمن فصلًا جديدًا يسمى "الربيع المائي". وتنتقل إلى أيامك أرواح الحدائق، فتنبت في الزمن بعض الساعات الشهية كأنها الثمر الحلو الناضج على شجره. ويوحي لونك الأزرق إلى النفوس ما كان يوحيه لون الربيع الأخضر، إلا أنه أرق وألطف. ويرى الشعراء في ساحلك مثل ما يرون في أرض الربيع، أنوثة طاهرة، غير أنها تلد المعاني لا النبات. ويحس العشاق عندي ما يحسونه في الربيع: أن الهواء يتأوَّه. في الربيع، يتحرك في الدم البشري سر هذه الأرض؛ وعند "الربيع المائي" يتحرك في الدم سر هذه السحب. نوعان من الخمر في هواء الربيع وهواء البحر، يكون منهما سكر واحد من الطرب. وبالربيعين الأخضر والأزرق ينفتح بابان للعالم السحري العجيب؛ عالم الجمال الأرضي الذي تدخله الروح الإنسانية كما يدخل القلب المحب في شعاع ابتسامة ومعناها. في "الربيع المائي" يجلس المرء, وكأنه جالس في سحابة لا في الأرض. ويشعر كأنه لابس ثيابًا من الظل لا من القماش؛ ويجد الهواء قد تنزه عن أن يكون هواء التراب.

_ * كتبها في مصيفه بالإسكندرية. 1 كتبنا في "أوراق الورد" رسالة عن البحر والحب, فيها أوصاف كثيرة للبحر.

وتخف على نفسه الأشياء، كأن بعض المعاني الأرضية انتُزعت من المادة. وهنا يدرك الحقيقة: أن السرور إن هو إلا تنبه معاني الطبيعة في القلب. وللشمس هنا معنى جديد ليس لها هناك في "دنيا الرزق". تشرق الشمس هنا على الجسم؛ أما هناك فكأنما تطلع وتغرب على الأعمال التي يعمل الجسم فيها. تطلع هناك على ديوان الموظف لا الموظف، وعلى حانوت التاجر لا التاجر، وعلى مصنع العامل، ومدرسة التلميذ، ودار المرأة. تطلع الشمس هناك بالنور، ولكن الناس -وا أسفاه- يكونون في ساعاتهم المظلمة. الشمس هنا جديدة، تثبت أن الجديد في الطبيعة هو الجديد في كيفية شعور النفس به. والقمر زاهٍ رَفَّاف من الحسن؛ كأنه اغتسل وخرج من البحر. أو كأنه ليس قمرًا، بل هو فجر طلع في أوائل الليل؛ فحصرته السماء في مكانه ليستمر الليل. فجر لا يوقظ العيون من أحلامها، ولكنه يوقظ الأرواح لأحلامها. ويلقي من سحره على النجوم فلا تظهر حوله إلا مستبهمة كأنها أحلام معلقة. للقمر هنا طريقة في إبهاج النفس الشاعرة، كطريقة الوجه المعشوق حين تقبِّله أول مرة. و"للربيع المائي" طيوره المغردة وفراشه المتنقل. أما الطيور فنساء يتضاحكن، وأما الفراش فأطفال يتواثبون. نساء إذا انغمسن في البحر، خُيِّل إليَّ أن الأمواج تتشاحن وتتخاصم على بعضهن. رأيت منهن زهراء فاتنة قد جلست على الرمل جلسة حواء قبل اختراع الثياب، فقال البحر: يا إلهي! قد انتقل معنى الغرق إلى الشاطئ. إن الغريق من غَرِق في موجة الرمل هذه. والأطفال يلعبون ويصرخون ويَضِجُّون كأنما اتسعت لهم الحياة والدنيا.

وخُيِّل إليهم أنهم أقلقوا البحر كما يقلقون الدار، فصاح بهم: ويحكم يا أسماك التراب! ورأيت طفلًا منهم قد جاء فوكز البحر برجله! فضحك البحر وقال: انظروا يا بني آدم!! أعلى الله أن يعبأ بالمغرور منكم إذا كفر به؟ أعلي أن أعبأ بهذا الطفل كيلا يقول: إنه ركلني برجله؟ أيها البحر، قد ملأتك قوة الله لتثبت فراغ الأرض لأهل الأرض. ليس فيك ممالك ولا حدود، وليس عليك سلطان لهذا الإنسان المغرور. وتجيش بالناس وبالسفن العظيمة، كأنك تحمل من هؤلاء وهؤلاء قشا ترمي به. والاختراع الإنساني مهما عظم لا يغني الإنسان فيك عن إيمانه. وأنت تملأ ثلاثة أرباع الأرض بالعظمة والهول، ردًّا على عظمة الإنسان وهوله في الربع الباقي؛ ما أعظم الإنسان وأصغره! ينزل في الناس ماؤك فيتساوون حتى لا يختلف ظاهر عن ظاهر. ويركبون ظهرك في السفن فيحن بعضهم إلى بعض حتى لا يختلف باطن عن باطن. تشعرهم جميعًا أنهم خرجوا من الكرة الأرضية ومن أحكامها الباطلة. وتفقرهم إلى الحب والصداقة فقرأ يريهم النجوم نفسها كأنها أصدقاء، إذ عرفوها في الأرض. يا سحر الخوف، أنت أنت في اللجة كما أنت أنت في جهنم. وإذا ركبك الملحد أيها البحر، فرجفتَ من تحته، وهدرتَ عليه وثُرْتَ به، وأريتَهُ رأي العين كأنه بين سماءين ستنطبق إحداهما على الأخرى, فتقفلان عليه, تركته يتطأطأ ويتواضع، كأنك تهزه وتهز أفكاره معًا، وتدحرجه وتدحرجها. وأطَرْتَ كل ما في عقله, فيلجأ إلى الله بعقل طفل. وكشفت له عن الحقيقة: أن نسيان الله ليس عمل العقل، ولكنه عمل الغفلة والأمن وطول السلامة.

ألا ما أشبه الإنسان في الحياة بالسفينة في أمواج هذا البحر! إن ارتفعت السفينة، أو انخفضت، أو مادت، فليس ذلك منها وحدها، بل مما حولها. ولن تستطيع هذه السفينة أن تملك من قانون ما حولها شيئًا، ولكن قانونها هي الثبات، والتوازن، والاهتداء إلى قصدها، ونجاتها في قانونها. فلا يَعْتبَنَّ الإنسان على الدنيا وأحكامها، ولكن فليجتهد أن يحكم نفسه.

في الربيع الأزرق "خواطر مرسلة"

في الربيع الأزرق *: خواطر مرسلة 1 ما أجمل الأرض على حاشية الأزرقين: البحر والسماء؛ يكاد الجالس هنا يظن نفسه مرسومًا في صورة إلهية. نظرتُ إلى هذا البحر العظيم بعينَيْ طفل يتخيل أن البحر قد مُلِئَ بالأمس، وأن السماء كانت إناء له، فانكفأ الإناء فاندفق البحر، وتسرحت مع هذا الخيال الطفلي الصغير فكأنما نالني رشاش من الإناء. إننا لن ندرك روعة الجمال في الطبيعة إلا إذا كانت النفس قريبة من طفولتها، ومرح الطفولة، ولعبها، وهذيانها. تبدو لك السماء على البحر أعظم مما هي، كما لو كنتَ تنظر إليها من سماء أخرى لا من الأرض. إذا أنا سافرت فجئت إلى البحر، أو نزلت بالصحراء، أو حللت بالجبل، شعرت أول وهلة من دهشة السرور بما كنت أشعر بمثله لو أن الجبل أو الصحراء أو البحر قد سافرتْ هي وجاءت إليّ. في جمال النفس يكون كل شيء جميلًا، إذ تلقي النفس عليه من ألوانها, فتنقلب الدار الصغيرة قصرًا لأنها في سعة النفس لا في مساحتها هي، وتعرف لنور النهار عذوبة كعذوبة الماء على الظمأ، ويظهر الليل كأنه معرض جواهر أقيم للحور

_ * كتبها في مصيفه بالإسكندرية. 1 هذه تسمية جديدة للمصيف على ساحل البحر, وقد شاع استعمالها بعد نشر هذه المقالة.

العين في السموات، ويبدو الفجر بألوانه وأنواره ونسماته كأنه جنة سابحة في الهواء. في جمال النفس ترى الجمال ضرورة من ضرورات الخليقة؛ ويكأن الله أمر العالم ألا يعبس للقلب المبتسم. أيام المصيف هي الأيام التي ينطلق فيها الإنسان الطبيعي المحبوس في الإنسان؛ فيرتد إلى دهره الأول، دهر الغابات والبحار والجبال. إن لم تكن أيام المصيف بمثل هذا المعنى، لم يكن فيها معنى. ليست اللذة في الراحة ولا الفراغ، ولكنها في التعب والكدح والمشقة حين تتحول أيامًا إلى راحة وفراغ. لا تتم فائدة الانتقال من بلد إلى بلد إلا إذا انتقلت النفس من شعور إلى شعور؛ فإذا سافر معك الهم فأنت مقيم لم تبرح. الحياة في المصيف تثبت للإنسان أنها إنما تكون حيث لا يُحفَل بها كثيرًا. يشعر المرء في المدن أنه بين آثار الإنسان وأعماله، فهو في روح العناء والكدح والنزاع؛ أما في الطبيعة فيحس أنه بين الجمال والعجائب الإلهية، فهو هنا في روح اللذة والسرور والجلال. إذا كنتَ في أيام الطبيعة فاجعل فكرك خاليًا وفرِّغه للنبت والشجر، والحجر والمَدَر، والطير والحيوان، والزهر والعشب، والماء والسماء، ونور النهار وظلام الليل، حينئذ يفتح العالم بابه ويقول: ادخل. لطف الجمال صورة أخرى من عظمة الجمال؛ عرفتُ ذلك حينما أبصرت قطرة من الماء تلمع في غصن، فخيل إليّ أن لها عظمة البحر لو صَغُر فعُلّق على ورقة. في لحظة من لحظات الجسد الروحانية حين يفور شِعر الجمال في الدم،

أطلتُ النظر إلى وردة في غصنها زاهية عطرة، متأنقة، متأنثة؛ فكدت أقول لها: أنت أيتها المرأة، أنت يا فلانة. أليس عجيبًا أن كل إنسان يرى في الأرض بعض الأمكنة كأنها أمكنة للروح خاصة؛ فهل يدل هذا على شيء إلا أن خيال الجنة منذ آدم وحواء، لا يزال يعمل في النفس الإنسانية؟ الحياة في المدينة كشرب الماء في كوب من الخزف؛ والحياة في الطبيعة كشرب الماء في كوب من البَلُّور الساطع؛ ذاك يحتوي الماء وهذا يحتويه ويبدي جماله للعين. وا أسفاه، هذه هي الحقيقة: إن دقة الفهم للحياة تفسدها على صاحبها كدقة الفهم للحب، وإن العقل الصغير في فهمه للحب والحياة، هو العقل الكامل في التذاذه بهما. وا أسفاه، هذه هي الحقيقة! في هذه الأيام الطبيعية التي يجعلها المصيف أيام سرور ونسيان، يشعر كل إنسان أنه يستطيع أن يقول للدنيا كلمة هزل ودعابة. من لم يُرزق الفكر العاشق لم ير أشياء الطبيعة إلا في أسمائها وشياتها، دون حقائقها ومعانيها، كالرجل إذا لم يعشق رأى النساء كلهن سواء، فإذا عشق رأى فيهن نساء غير من عرف، وأصبحن عنده أدلة على صفات الجمال الذي في قلبه. تقوم دنيا الرزق بما تحتاجه الحياة، أما دنيا المصيف فقائمة بما تلذه الحياة، وهذا هو الذي يغير الطبيعة ويجعل الجو نفسه هناك جو مائدة ظرفاء وظريفات. تعمل أيام المصيف بعد انقضائها عملًا كبيرًا، هو إدخال بعض الشعر في حقائق الحياة.

هذه السماء فوقنا في كل مكان، غير أن العجيب أن أكثر الناس يرحلون إلى المصايف ليروا أشياء, منها السماء. إذا استقبلتَ العالم بالنفس الواسعة رأيت حقائق السرور تزيد وتتسع، وحقائق الهموم تصغر وتضيق، وأدركت أن دنياك إن ضاقت فأنت الضيق لا هي. في الساعة التاسعة أذهب إلى عملي، وفي العاشرة أعمل كَيْت، وفي الحادية عشرة أعمل كيت وكيت؛ وهنا في المصيف تفقد التاسعة وأخواتها معانيها الزمنية التي كانت تضعها الأيام فيها، وتستبدل منها المعاني التي تضعها فيها النفس الحرة. هذه هي الطريقة التي تصنع بها السعادة أحيانًا، وهي طريقة لا يقدر عليها أحد في الدنيا كصغار الأطفال. إذا تلاقى الناس في مكان على حالة متشابهة من السرور وتوهمه والفكرة فيه، وكان هذا المكان معدًّا بطبيعته الجميلة لنسيان الحياة ومكارهها, فتلك هي الرواية وممثلوها ومسرحها1، أما الموضوع فالسخرية من إنسان المدينة ومدنية الإنسان. ما أصدق ما قالوه: إن المرئي في الرائي. مرضت مدة في المصيف، فانقلبت الطبيعة العروس التي كانت تتزين كل يوم إلى طبيعة عجوز تذهب كل يوم إلى الطبيب.

_ 1 يظن صديقنا العلامة الكبير الأمير شكيب أرسلان أن المسرح لدار التمثيل غير صحيح, وأن صوابها المزرح ولكن الصاحب بن عباد استعملها في قريب من معنى دار التمثيل, وأصلها من مرادفات نديّ القوم ومجتمعهم.

حديث قطين

حديث قِطَّين: جاء في امتحان شهادة إتمام الدراسة الابتدائية لهذا العام "1934" في موضوع الإنشاء ما يأتي: "تقابل قطان: أحدهما سمين تبدو عليه آثار النعمة، والآخر نحيف يدل منظره على سوء حاله؛ فماذا يقولان إذا حدَّث كل منهما صاحبه عن معيشته؟ ". وقد حار التلاميذ الصغار فيما يضعون على لسان القطين، ولم يعرفوا كيف يوجهون الكلام بينهما، وإلى أي غاية ينصرف القول في محاورتهما؛ وضاقوا جميعًا وهم أطفال, أن تكون في رءوسهم عقول السنانير؛ وأعياهم أن تنزل غرائزهم الطيبة في هذه المنزلة من البهيمية ومن عيشها خاصة، فيكتنهوا تدبير هذه القطاط لحياتها، وينفذوا إلى طبائعها، ويندمجوا في جلودها، ويأكلوا بأنيابها، ويمزقوا بمخالبها. قال بعضهم: وسخطنا على أساتذتنا أشد السخط، وعبناهم بأقبح العيب؛ كيف لم يعلِّمونا من قبل أن نكون حميرًا، وخيلًا، وبغالًا، وثيرانًا، وقردة، وخنازير، وفئرانًا، وقِطَطَة، وما هب ودب، وما طار ودرج، وما مشى وانساح؛ وكيف -ويحهم- لم يلقنونا مع العربية والإنجليزية لغات النهيق، والصهيل، والشحيج، والخُوار، وضحك القرد، وقُبَاع الخنزير، وكيف نصيء ونموء، ونلغط لغط الطير، ونَفُحّ فحيح الأفعى، ونَكِش كشيش الدبابات1، إلى ما يتم به هذا العلم اللغوي الجليل، الذي تقوم به بلاغة البهائم والطير والحشرات والهمج أشباهها؟ وقال تلميذ خبيث لأستاذه: أما أنا فأوجزت وأعجزت. قال أستاذه: أجدتَ وأحسنتَ، ولله أنت! وتالله لقد أصبت! فماذا كتبت؟ قال: كتبت هكذا: يقول السمين: ناوْ، ناوْ، ناوْ, فيقول النحيف: نوْ، ناوْ, نوْ, فيرد عليه

_ 1 هذه أصوات هذه الأجناس في اللغة.

السمين: نو، ناو، ناو, فيغضب النحيف ويكشر عن أسنانه، ويحرك ذيله ويصيح: نو، نو, نو؛ فيلطمه السمين فيخدشه ويصرخ: ناو, فيثب عليه النحيف ويصطرعان، وتختلط "النونوة" لا يمتاز صوت من صوت، ولا يبين معنى من معنى، ولا يمكن الفهم عنهما في هذه الحالة إلا بتعب شديد، بعد مراجعة قاموس القطاط! قال الأستاذ: يا بني، بارك الله عليك! لقد أبدعت الفن إبداعًا، فصنعت ما يصنع أكبر النوابغ، يُظهر فنه بإظهار الطبيعة وإخفاء نفسه، وما ينطق القط بلغتنا إلا معجزة لنبي، ولا نبي بعد محمد -صلى الله عليه وسلم- فلا سبيل إلا ما حكيت ووصفت، وهو مذهب الواقع، والواقع هو الجديد في الأدب؛ ولقد أرادوك تلميذًا هرًّا، فكنت في إجابتك هرًّا أستاذًا، ووافقت السنانير وخالفت الناس، وحققت للممتحنين أرقى نظريات الفن العالي، فإن هذا الفن إنما هو في طريقة الموضوع الفنية، لا في تلفيق المواد لهذا الموضوع من هنا وهناك، ولو حفظوا حرمة الأدب ورعوا عهد الفن لأدركوا أن في أسطرك القليلة كلامًا طويلًا بارعًا في النادرة والتهكم، وغرابة العبقرية، وجمالها وصدقها، وحسن تناولها، وإحكام تأديتها لما تؤدي1؛ ولكن ما الفرق يا بني بين "ناو" بالمد، و"نو" بغير مد؟ قال التلميذ: هذا عند السنانير كالإشارات التلغرافية: شَرْطة ونقطة وهكذا. قال: يا بني، ولكن وزارة المعارف لا تقر هذا ولا تعرفه، وإنما يكون المصحح أستاذًا لا هرًّا, والامتحان كتابي لا شفوي. قال الخبيث: وأنا لم أكن هرًّا بل كنت إنسانًا، ولكن الموضوع حديث قطين، والحكم في مثل هذا لأهله القائمين به, لا المتكلفين له، المتطفلين عليه؛ فإن هم خالفوني قلت لهم: اسألوا القطاط؛ أو لا فليأتوا بالقطين: السمين والنحيف، فليجمعوا بينهما، وليُحَرِّشوهما، ثم ليحضروا الرقباء هذا الامتحان، وليكتبوا عنهما ما يسمعونه، وليصفوا منهما ما يرونه، فوالذي خلق السنانير والتلاميذ والممتحنين والمصححين جميعًا, ما يزيد الهران على "نو، وناو"، ولا يكون القول بينهما إلا من هذا، ولا يقع إلا ما وصفتُ، وما بد من المهارشة والمواثبة بما في طبيعة القوي والضعيف، ثم فرار الضعيف مهزومًا، وينتهي الامتحان!

_ 1 هذا كلام تهكم كما هو ظاهر.

إن مثل هذا الموضوع يشبه تكليف الطالب الصغير خلق هرتين لا الحديث عنهما؛ فإن إجادة الإنشاء في مثل هذا الباب ألوهية عقلية تخلق خلقها السوي الجميل نابضًا حيًّا، كأنما وضعت في الكلام قلب هر، أو جاءت بالهر له قلب من الكلام وأين هذا من الأطفال في الحادية عشرة والثانية عشرة وما حولهما؛ وكيف لهم في هذه السن أن يمتزجوا بدقائق الوجود، ويداخلوا أسرار الخليقة، ويصبحوا مع كل شيء رهنًا بعلله، وعند كل حقيقة موقوفين على أسبابها؟ وقد قيل لهم من قبل في السنوات الخالية: "كن زهرة وصِفْ, واجعل نفسك حبة قمح وقُلْ". وإنما هذا ونحوه غاية من أبعد غايات النبوة أو الحكمة؛ إذ النبي تعبير إلهي تتخذه الحقيقة الكاملة لتنطق به كلمتها التي تسمى الشريعة، والحكيم وجه آخر من التعبير، تتخذه تلك الحقيقة لتلقي منه الكلمة التي تسمى الفن. وقد كان في القديم امتحان مثل هذا، لم ينجح فيه إلا واحد فقط من آلاف كثيرة؛ وكان الممتحن هو الله جل جلاله؛ والموضوع حديث النملة مع النمل، والناجح سليمان -عليه السلام: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} [النمل: 18، 19] . إن الكون كله مستقر بمعانيه الرمزية في النفس الكاملة؛ إذ كانت الروح في ذاتها نورًا، وكان سر كل شيء هو من النور، والشعاع يجري في الشعاع كما يجري الماء في الماء، وفي امتزاج الأشعة من النفس والمادة تجاوب روحاني هو بذاته تعبير في البصيرة وإدراك في الذهن، وهو أساس الفن على اختلاف أنواعه: في الكلمة والصورة، والمثال والنغمة؛ أي: الكتابة والشعر والتصوير والحفر والموسيقى. ومن ذلك لا يكون البيان العالي أتم إشراقًا إلا بتمام النفس البليغة في فضيلتها أو رذيلتها على السواء؛ فإن من عجائب السخرية بهذا الإنسان أن يكون تمام الرذيلة في أثره على العمل الفني، هو الوجه الآخر لتمام الفضيلة في أثره على هذا العمل؛ والنقطة التي ينتهي فيها العلو من محيط الدائرة هي بعينها التي يبدأ منها الانحدار إلى السفل؛ ومن ثم كانت الفنون لا تعتبر بالأخلاق، حتى قال علماؤنا: إن الدين عن الشعر بمعزل. فالأصل هناك سمو التعبير وجماله، وبلاغة الأداء وروعتها؛ ولا يكون السؤال الفني ما هي قيمة هذه النفس, ولكن ما طريقتها الفنية؟ وأي عجيب في ذلك؟ أليس لجهنم حق في كبار أهل الفن، كما للجنة حق في نوابغه؟ وإذا قالت الجنة: هذه

فضائلي البليغة. أفلا تقول الجحيم: وهذه بلاغة رذائلي؟ وكيف لعمري يستطيع إبليس أن يؤدي عمله الفني, ويصور بلاغته العالية إلا في ساقطين من أهل الفكر الجميل, وساقطات من أهل الجسم الجميل؟ لقد بعدنا عن القطين، وأنا أريد أن أكتب من حديثهما وخبرهما. كان القط الهزيل مرابطًا في زقاق، وقد طارد فأرة فانجحرت في شق، فوقف المسكين يتربص بها أن تخرج، ويؤامر نفسه كيف يعالجها فيبتزها، وما عقل الحيوان إلا من حرفة عيشه لا من غيرها. وكان القط السمين قد خرج من دار أصحابه يريد أن يفرج عن نفسه بأن يكون ساعة أو بعض ساعة كالقططة بعضها مع بعض، لا كأطفال الناس مع أهليهم وذوي عنايتهم، وأبصر الهزيل من بعيد فأقبل يمشي نحوه، ورآه الهزيل وجعل يتأمله وهو يتخلع تخلع الأسد في مشيته، وقد ملأ جلدته من كل أقطارها ونواحيها، وبسطته النعمة من أطرافه، وانقلبت في لحمه غلظًا، وفي عصبه شدة، وفي شعره بريقًا، وهو يموج في بدنه من قوة وعافية، ويكاد إهابه ينشق سمنًا وكدنة. فانكسرت نفس الهزيل، ودخلته الحسرة، وتضعضع لمرأى هذه النعمة مرحة مختالة. وأقبل السمين حتى وقف عليه، وأدركته الرحمة له، إذ رآه نحيفًا متقبِّضًا، طاوي البطن، بارز الأضلاع، كأنما همت عظامه أن تترك مسكنها من جلده لتجد لها مأوى آخر. فقال له: ماذا بك، وما لي أراك متيبسًا كالميت في قبره غير أنك لم تمت، وما لك أعطيت الحياة غير أنك لم تحيَ، أوليس الهر منا صورة مختزلة من الأسد، فما لك -ويحك- رجعت صورة مختزلة من الهر؛ أفلا يسقونك اللبن، ويطعمونك الشحمة واللحمة، ويأتونك بالسمك، ويقطعون لك من الجبن أبيض وأصفر، ويفتّون لك الخبز في المرق، ويُؤثرك الطفل ببعض طعامه، وتدللك الفتاة على صدرها، وتمسحك المرأة بيديها، ويتناولك الرجل كما يتناول ابنه؟ وما لجلدك هذا مغبرًّا كأنك لا تلطعه بلعابك، ولا تتعهده بتنظيف، وكأنك لم تر قط فتى أو فتاة يجري الدهان بريقًا في شعره أو شعرها، فتحاول أن تصنع بلعابك لشعرك صنيعهما؛ وأراك متزايل الأعضاء متفككًا حتى ضعُفتَ وجهدتَ، كأنه لا يركبك من حب النوم على قدر من كسلك وراحتك، ولا يركبك من حب الكسل على قدر من نعيمك ورفاهتك، وكأن جنبيك لم يعرفا طِنْفِسة ولا حَشِيَّة ولا وسادة ولا بساطًا ولا طرازًا، وما أشبهك بأسد أهلكه ألا يجد إلا العشب الأخضر

والهشيم اليابس، فما له لحم يجيء من لحم، ولا دم يكون من دم، وانحط فيه جسم الأسد، وسكنت فيه روح الحمار! قال الهزيل: وإن لك لحمة وشحمة، ولبنًا وسمكًا، وجبنًا وفتاتًا، وإنك لتقضي يومك تَلْطَع جلدك ماسحًا وغاسلًا، أو تتطرح على الوسائد والطنافس نائمًا ومتمددًا, أما والله لقد جاءتك النعمة والبلادة معًا، وصلحت لك الحياة وفسدت منك الغريزة، وأحكمت طبعًا ونقضت طباعًا، وربحت شبعًا وخسرت لذة، عطفوا عليك وأفقدوك أن تعطف على نفسك، وحملوك وأعجزوك أن تستقل، وقد صرت معهم كالدجاجة تُسَمَّن لتُذبح، غير أنهم يذبحونك دلالًا وملالًا. إنك لتأكل من خِوَان أصحابك، وتنظر إليهم يأكلون، وتطمع في مؤاكلتهم، فتشبع بالعين والبطن والرغبة ثم لا شيء غير هذا، وكأنك مرتبط بحبال من اللحم تأكل منها وتحتبس فيها. إن كان أول ما في الحياة أن تأكل فأهون ما في الحياة أن تأكل، وما يقتلك شيء كاستواء الحال، ولا يحييك شيء كتفاوتها؛ والبطن لا يتجاوز البطن ولذته لذته وحدها، ولكن أين أنت عن إرثك من أسلافك، وعن العلل الباطنة التي تحركنا إلى لذات أعضائنا، ومتاع أرواحنا، وتهبنا من كل ذلك وجودنا الأكبر، وتجعلنا نعيش من قِبَل الجسم كله، لا من قبل المعدة وحدها؟ قال السمين: تالله, لقد أكسبك الفقر حكمة وحياة، وأراني بإزائك معدومًا بزوال أسلافي مني، وأراك بإزائي موجودًا بوجود أسلافك منك. ناشدتك الله إلا ما وصفت لي هذه اللذات التي تعلو بالحياة عن مرتبة الوجود الأصغر من الشبع, وتستطيل بها إلى مرتبة الوجود الأكبر من الرضى؟ فقال الهزيل: إنك ضخم ولكنك أبله، أما علمت -ويحك- أن المحنة في العيش هي فكرة وقوة، وأن الفكرة والقوة هما لذة ومنفعة، وأن لهفة الحرمان هي التي تضع في الكسب لذة الكسب، وسعار الجوع هو الذي يجعل في الطعام من المادة طعامًا آخر من الروح، وأن ما عُدل به عنك من الدنيا لا تعوِّضك منه الشحمة واللحمة، فإن رغباتنا لا بد لها أن تجوع وتغتذي كما لا بد من مثل ذلك لبطوننا؛ ليوجد كل منهما حياته في الحياة, والأمور المطمئنة كهذه التي أنت فيها هي للحياة أمراض مطمئنة، فإن لم تنقص من لذتها فهي لن تزيد في لذتها، ولكن مكابدة الحياة زيادة في الحياة نفسها.

وسر السعادة أن تكون فيك القوى الداخلية التي تجعل الأحسن أحسن مما يكون، وتمنع الأسوأ أن يكون أسوأ مما هو، وكيف لك بهذه القوة وأنت وادع قار محصور من الدنيا بين الأيدي والأرجل؟ إنك كالأسد في القفص، صغُرت أَجَمَتُهُ ولم تزل تصغر حتى رجعت قفصًا يحده ويحبسه، فصغر هو ولم يزل يصغر حتى أصبح حركة في جلد؛ أما أنا فأسد على مخالبي ووراء أنيابي، وغَيْضَتي أبدًا تتسع ولا تزال تتسع أبدًا، وإن الحرية لتجعلني أتشمم من الهواء لذة مثل لذة الطعام، وأستروح من التراب لذة كلذة اللحم، وما الشقاء إلا خَلَّتان من خلال النفس: أما واحدة فأن يكون في شرهك ما يجعل الكثير قليلًا، وهذه ليست لمثلي ما دمت على حد الكَفَاف من العيش؛ وأما الثانية فأن يكون في طمعك ما يجعل القليل غير قليل، وهذه ليس لها مثلي ما دمتُ على ذلك الحد من الكفاف. والسعادة والشقاء كالحق والباطل، كلها من قِبَل الذات، لا من قبل الأسباب والعلل، فمن جاراها سَعِد بها، ومن عكسها عن مجراها فبها يشقَى. ولقد كنتُ الساعة أَخْتِل فأرة انجحرتْ في هذا الشق، فطمعتُ منها لذة وإن لم أُطعم لحمًا، وبالأمس رماني طفل خبيث بحجر يريد عقري فأحدث لي وجعًا، ولكن الوجع أحدث لي الاحتراس، وسأغشَى الآن هذه الدار التي بإزائنا، فأية لذة في السلة والخطفة والاستراق والانتهاب ثم الوثب شدًّا بعد ذلك؟ هل ذقت أنت بروحك لذة الفرصة والنهزة، أو وجدت في قلبك راحة المخالسة واستراق الغفلة من فأرة أو جُرَذ، أو أدركت يومًا فرحة النجاة بعد الرَّوَغان من عابث أو باغٍ أو ظالم؟ وهل نالتك لذة الظفر حين هوّلك طفل بالضرب، فهولته أنت بالعض والعقر، ففر عنك منهزمًا لا يلوي؟ قال السمين: وفي الدنيا هذه اللذات كلها وأنا لا أدري, هلم أتوحش معك، ليكون لي مثل نُكْرك ودهائك واحتيالك، فيكون لي مثل راحتك المكدودة، ولذتك المتعبة، وعمرك المحكوم عليه منك وحدك وسأتصدى معك للرزق أطارده وأواثبه، وأغاديه وأراوحه. فقطع عليه الهزيل وقال: يا صاحبي، إن عليك من لحمك ونعمتك علامة أسرك، فلا يلقانا أول طفل إلا أهوى لك فأخذك أسيرًا، وأهوى عليَّ بالضرب لأنطلق حرًّا، فأنت على نفسك بلاء، وأنت بنفسك بلاء عليّ. وكانت الفأرة التي انجحرتْ قد رأت ما وقع بينهما، فسرها اشتغال الشر

بالشر. وطالت مراقبتها لها حتى ظنت الفرصة ممكنة، فوثبت وثبة من ينجو بحياته ودخلت في باب مفتوح، ولمحها الهزيل، كما تلمح العين برقًا أومض وانطفأ. فقال للسمين: اذهب راشدًا، فحسبك الآن من المعرفة بنفسك وموضعها من الحياة، أن الوقوف معك ساعة هو ضياع رزق، وكذلك أمثالك في الدنيا، هم بألفاظهم في الأعلى وبمعانيهم في الأسفل.

بين خروفين

بين خروفين: "اجتمع ليلة الأضحى خروفان من أضاحي العيد، فتكلما؛ فماذا يقولان؟ ". هذا هو الموضوع الذي استخرجه أصغر أولادي "الأستاذ" عبد الرحمن، وسألني أن أكتب فيه للرسالة، وهو أصغر قرائها سنًّا، ترُفّ عليه النَّسمة الثالثة عشرة من ربيع حياته* بارك الله له فيها حاضرة ومقبلة. ولأستاذنا هذا كلمة هي شعاره الخاص به في الحياة، يحفظها لتحفظه، فلا يميل عن مدرجتها، ولا يخرج من معناها، وهي هذه الكلمة العربية: "كالفرس الكريم في مَيْعَة حضْرِه1، كلما ذهب منه شوط جاء شوط". فهو يعلم من هذا أن كرم الأصل في كرم الفعل، ولا يغني شيء منهما عن شيء؛ وأن الدم الحر الكريم يكون مضاعف القوة بطبيعته، عظيم الأمل بهذه القوة المضاعفة، نَزَّاعًا إلى السبق بمقدار أمله العظيم، مترفعًا عن الضعف والهُوَينا بهذا النزوع، متميزًا في نبوغ عمله وإبداعه باجتماع هذه الخصال فيه على أتمها وأحسنها. فمن ثم لا يرمي الحر الكريم إلا أن يبلغ الأمد الأبعد في كل ما يحاوله، فلا يألو أن يبذل جهده إلى غاية الطاقة ومبلغ القدرة، مستمدًّا قوة بعد قوة، محققًا السحر القادر الذي في نفسه، متلقيًا منه وسائل الإعجاز في أعماله، مرسلًا في نبوغه من توهج دمه أضواء كأضواء النجم، تُثبت لكل ذي عينين أنه النجم لا شيء آخر. ولما قدم إليَّ "الأستاذ" موضوعه في هذا الوزن المدرسي -وأظنه قد نزعته حاجة مدرسية إليه- قلت: حبا وكرامة. وها أنا ذا أكتبه منبعثًا فيه "كالفرس الكريم في ميعة حضره". ولعل الأستاذ حين يقرؤه لا يثوّر فيه علامات كثيرة بقلمه الأحمر! اجتمع ليلة الأضحى خروفان من الأضاحي في دارنا: أما أحدهما فكبش

_ * كان ذلك في عام 1934. 1 هذا كما يقال بالعامية: في عز جريه.

أقرن، يحمل على رأسه من قرنيه العظيمين شجرة السنين، وقد انتهى سِمَنه حتى ضاق جلده بلحمه، وسَحَّ بدنه بالشحم سَحًّا، فإذا تحرك خلته سحابة يضطرب بعضها في بعض، ويهتز شيء منها في شيء؛ وله وَافِرة1 يجرها خلفه جرا، فإذا رأيتها من بعيد حسبتها حملًا يتبع أباه؛ وهو أصوف، قد سبغ صوفه واستكثف وتراكم عليه، فإذا مشى تبختر فيه تبختر الغانية في حُلَّتها، كأنما يشعر مثل شعورها أنه يلبس مسرات جسمه لا ثوب جسمه؛ وهو من اجتماع قوته وجبروته أشبه بالقلعة، ويعلوها من هامته كالبرج الحربي فيه مدفعان بارزان, وتراه أبدًا مُصَعِّرًا خدًّا كأنه أمير من الأبطال، إذا جلس حيث كان شعر أنه جالس في أمره ونهيه، لا يخرج أحد من نهيه ولا أمره. وأما الآخر فهو جَذَع في رأس الحول الأول من مولده، لم يدرك بعد أن يُضحَّى، ولكن جيء به للقَرَم إلى لحمه الغض؛ فالأول أضحية وهذا أَكُولة؛ وذاك يتصدق بلحمه كله على الفقراء، وهذا يتصدق بثلثيه ويبقى الثلث طعامًا لأهل الدار. وكان في لينه وترجرجه وظرف تكوينه ومرح طبعه، كأنما يصور لك المرأة آنسة رقيقة متوددة. أما ذاك الضخم العاتي المتجبر الشامخ، فهو صورة الرجل الوحشي أخرجته الغابة التي تخرج الأسد والحية وجذوع الدوحة الضخمة، وجعلت فيه من كل شيء منها شيئًا يخاف ويتقى. وكان الجذع يثغو لا ينقطع ثُغاؤه، فقد أخذ من قطيعه انتزاعًا فأحس الوحشة، وتنبهت فيه غريزة الخوف من الذئب، فزادته إلى الوحشة قلقًا واضطرابًا، وكان لا يستطيع أن ينفلت، فهو كأنما يهرب في الصوت ويعدو فيه عدوًا. أما الكبش فيرى مثل هذا مسبة لقرنيه العظيمين، وهو إذا كان في القطيع كان كبشه وحاميه والمقدم فيه، فيكون القطيع معه وفي كنفه ولا يكون هو عند نفسه مع القطيع؛ فإذا فقد جماعته لم يكن في منزلة المنتظر أن يلحق بغيره ليحتمي به فيقلق ويضطرب، ولكنه في منزلة المرتقب أن يلحق به غيره طلبًا لحمايته وذماره، فهو ساكن رابط الجأش مغتبط النفس، كأنما يتصدق بالانتظار. فلما أدبر النهار وأقبل الليل، جيء للخروفين بالكلأ من هذا البرسيم يعتلفانه، فأحس الكبش أن في الكلأ شيئًا لم يدر ما هو، وانقبضت نفسه لما كانت

_ 1 ألية عظيمة, ويقال: كبش أليان, إذا كان عظيم الألية.

تنبسط إليه من قبل، وعرته كآبة من روحه، كأنما أدركت هذه الروح أنه آخر رزقه على الأرض، فانكسر وظهر على وجهه معنى الذبح قبل أن يذبح، وعاف أن يَطْعَم، ورجع كأول فطامه عن أمه لا يعرف كيف يأكل، ولا يتناول من أكله إلا أدنى تناول. وكأنما جثم الظلام على شحمه ولحمه؛ فإنه متى ثقل الهم على نفس من الأنفس، ثقل على ساعتها التي تكون فيها، فتطول كآبتها ويطول وقتها جميعًا. فأراد الكبش أن يتفرج مما به، وينفس عن صدره شيئًا، وكان الصغير قد أنس إلى المكان والظلمة، وأقبل يعتلف ويَخْضِم الكلأ، فقال له الكبش: أراك فارهًا يابن أخي، كأنك لا تجد ما أجد؛ إني والله أعلم علمًا لا تعلمه، وإني لأحس أن القدر طريقه علينا في هذه الليلة، فهو مصبحنا ما من ذلك بد. قال الصغير: أتعني الذئب؟ قال: ليته هو، فأنا لك به لو أنه الذئب؛ إن صوفي هذا درع من أظافره، وهو كالشبكة ينشب فيها الظفر ولا يتخلص، ومن قرنيَّ هذين تُرْس ورمح، فأنا واثق من إحراز نفسي في قتله، ومن أحرز نفسه من عدوه فذاك قتل عدوه، فإن لم يقتله فقد غاظه بالهزيمة، وذاك عند الأبطال فن من القتل. وهذا القرن الملتفّ الأعقد المذَرَّب كالسنان، لا يكاد يراه الذئب حتى يعلم أنه حاطمة عظامه، فيحدث له من الفزع ما تنحل به قوته، فما يواثبني إلا متخاذلًا، ولا يقدم علي إلا توهم الذئبية للخروفية، فإن أساس القوة والضعف كليهما في السوس والطبيعة، غير أنه لا يعلم أني خرجت من الخروفية إلى الجاموسية! فما يُعَلِّمه ذلك إلا بقر بطنه أو التطويح به من فوق هذا القرن، أقذفه قذفة عالية تلقيه من حاليق، فتدق عظامه وتحطم قوائمه! قال الصغير: فماذا تخشى بعد الذئب؟ إذا كانت العصا فهي إنما تضرب منك الصوف لا الظهر. قال الكبش: ويحك! وأي خروف يخشى العصا؟ ويه, إنما تكون عصا من يعلفه ويرعاه، فهي تنزل عليه كما تنزل على ابن آدم أقدار ربه، لا حطمًا ولكن تأديبًا أو إرشادًا أو تهويلًا؛ ومن قبلها النعمة، وتكون معها النعمة، وتجيء بعدها النعمة؛ أفبلغ الكفر ما يبلغ كفر الإنسان بنعمة ربه: إذا أنعم عليه أعرض ونأى بجانبه، وإذا مسه الشر انطلق ذا صراخ عريض؟

وكيف تراني "ويحك" أخشى الذئب أو العصا، وأنا من سلالة الكبش الأسدي؟ قال الصغير: وما الكبش الأسدي، وكيف علمت أنك من نَجْله، ولا علم لي أنا إلا هذا الكلأ والعلف والماء والمراح والمغدى؟ قال الكبش: لقد أدركت أمي وهي نعجة قَحْمة كبيرة، وأدركت معها جدتي وقد أفرط عليها الكبر حتى ذهب فمها، وأدركت معهما جدي وهو كبش هَرِم متقدد أعجف كأنه عظام مغطاة، فعن هؤلاء أخذت ورويت وحفظت: حدثتني أمي، عن أبيها، عن أبيه، قالت: إن فخر جنسنا من الغنم يرجع إلى كبش الفداء الذي فدى الله به إسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام- وكان كبشًا أبيض أقرن أعين، اسمه حَرير. "قال": واعلم يابن أخي أن مما انفردت أنا به من العلم فلم يدركه غيري، أن جدنا هذا كان مكسوا بالحرير لا بالصوف، فلذلك سمي حريرًا. "قالت أمي": والمحفوظ عند علمائنا أن ذاك هو الكبش الذي قربه هابيل حين قتل أخاه، لتتم البلية على هذه الأرض بدم الإنسان والحيوان معًا. "قالوا": فتُقبل منه وأُرسل الكبش إلى الجنة, فبقي يرعى فيها حتى كان اليوم الذي هم فيه إبراهيم أن يذبح ابنه تحقيقًا لرؤيا النبوة، وطاعة لما ابتلي به من ذلك الامتحان، وليثبت أن المؤمن بالله إذا قوي إيمانه لم يجزع من أمر الله, ولو جر السكين على عنق ابنه، وهو إنما يجرها على ابنه وعلى قلبه! "قالت": فهذا هو فخر جنسنا كله. أما فخر سلالتي أنا، فذاك ما حدثتني به جدتي، ترويه عن أبيها، عن جدها، وذاك حين توسمت فيّ مخايل البطولة، ورجَتْ أن أحفظ التاريخ. قالت: إن أصلنا من دمشق، وإنه كان في هذه المدينة رجل سَبَّاع، قد اتخذ شبل أسد فرباه وراضه حتى كبر، وصار يطلب الخيل، وتأذى به الناس، فقيل للأمير1: هذا السبع قد آذى الناس، والخيل تنفر منه وتجد من ريحه ريح الموت، وهو ما يزال رابضًا ليله ونهاره على سدة بالقرب من دارك. فأمر فجاء به السباع وأدخله إلى القصر، ثم أمر بخروف مما اتُّخذ في مطبخه للذبح،

_ 1 هذه القصة شهدها الأمير الأديب "أسامة بن منقذ" المتوفى سنة 584 للهجرة، وقصها في كتابه "الاعتبار"؛ والأمير المذكور في القصة هو "معين الدين أنر" وزير شهاب الدين محمود. وقد تصرفنا في عبارة القصة.

وأدخلوه إلى قاعة, وجاء السباع فأطلق الأسد عليه، واجتمعوا يرون كيف يسطو به ويفترسه. قالت جدتي: فحدثني أبي، قال: حدثني جدك، أن السباع أطلق الأسد من ساجوره1 وأرسله، فكانت المعجزة التي لم يفز بها خروف ولم تؤثر قط إلا عن جدنا، فإنه حسب الأسد خروفًا أجم لا قرون له، ورأى دقة خصره، وضمور جنبيه، ورأى له ذيلًا كالألية المفرغة الميتة، فظنه من مهازيل الغنم التي قتلها الجدب، وكان هو شبعان ريان، فما كذب أن حمل على الأسد ونطحه، فانهزم السبع مما أذهله من هذه المفاجأة وحسب جدنا سبعًا قد زاده الله أسلحة من قرنيه، فاعتراه الخوف وأدبر لا يلوي. وطمع جدنا فيه فاتبعه، وما زال يطارده وينطحه، والأسد يفر من وجهه ويدور حول البركة، والقوم قد غلبهم الضحك، والأمير ما يملك نفسه إعجابًا وفخرًا بجدنا. فقال: هذا سبع لئيم، خذوه فاخرجوه، ثم اذبحوه، ثم اسلخوه. فأخذ الأسد وذبح، وأعتق جدنا من الذبح، وكان لنا في تاريخ الدنيا: إنسانها وحيوانها أثران عظيمان؛ فجدنا الأول كان فداء لابن نبي، وجدنا الثاني كان الأسد فداءه! قال الصغير للكبش: قلت: الذبح، والفداء من الذبح؛ فما الذبح؟ قال الكبش: هذه السنة الجارية بعد جدنا الأعظم، وهي الباقية آخر الدهر؛ فينبغي لكل منا أن يكون فداء لابن آدم! قال الصغير: ابن آدم هذا الذي يخدمنا ويحتزّ لنا الكلأ، ويقدم لنا العلف، ويمشي وراءنا فنسحبه إلى هنا وههنا؟ تالله ما أظن الدنيا إلا قد انقلبت، أو لا، فأنت يا أخا جدي قد كبرت وخرفت! قال الكبش: ويحك يا أبله! متى تتحلل هذه العقدة التي في عقلك؟ إنك لو علمت ما أعلم لما اطمأنت بك الأرض، ولرجعت من القلق والاضطراب كحبة القمح في غربال يهتز وينتفض! قال الصغير: أتعني ذلك الغربال وذلك القمح وما كان في القرية، إذ تناولت ربة الدار غربالها تنفض به قمحها، فغافلتها ونطحت الغربال فانقلب عن يدها وانتثر الحب، فأسرعت فيه التقاطًا حتى ملأت فمي قبل أن تزيحني المرأة عنه؟

_ 1 الساجور: سلسلة الأسد والكلب ونحوهما.

فهز الكبش رأسه فعل من يريد الابتسام ولا يستطيعه، وقال: أرأيت حانوت القصّاب، ونحن نمر اليوم في السوق؟ قال: وما حانوت القصاب؟ قال: أرأيت ذلك السليخ من الغنم البيض المعلقة في تلك المعاليق، لا جلد عليها ولا صوف، وليس لها أرؤس ولا قوائم؟ قال الصغير: وما ذاك السليخ؟ إنه إن صح ما حدثتَني به عن أمك، فهذه غنم الجنة، تبيت ترعى هناك ثم تجيء إلى الأرض مع الصبح، وإني لمترقب شمس الغد، لأذهب فأراها وأملأ عيني منها. قال: اسمع أيها الأبله! إن شمس الغد ستشعر بها من تحتك لا من فوقك. لقد رأيت أخي مذ كنت جذعًا مثلك؛ ورأيت صاحبنا الذي كان يعلفه ويسمنه قد أخذه، فأضجعه، فجثم على صدره شرا من الذئب، وجاء بشفرة بيضاء لامعة، فجرها على حلقه، فإذا دمه يسخب ويتفجر، وجعل المسكين ينتفض ويَدْحَص برجليه، ثم سكن وبَردَ؛ فقام الرجل ففصل عنقه، ثم نخس في جلده ونفخه حتى تطبل ورجع كالقِربة التي رأيتها في القرية مملوءة ماء فحسبتها أمك؛ ثم شق فيه شقًّا طويلًا. ثم أدخل يده بين الجلد والصفاق، ثم كشطه وسَحَف الشحم عن جنبيه، فعاد المسكين أبيض لا جلد له ولا صوف عليه، ثم بقر بطنه وأخرج ما فيه، ثم حطم قوائمه، ثم شده فعلقه فصار سليخًا كغنم الجنة التي زعمت! وهذا -أيها الأبله- هو الذبح والسلخ! قال الصغير: وما الذي أحدث هذا كله؟ قال: الشفرة البيضاء التي يسمونها السكين! قال الصغير: فقد كانت الشفرة عند حلقه حيال فمه؛ فلماذا لم ينتزعها فيأكلها؟ قال الكبش: أيها الأبله الذي لا يعلم شيئًا ولا يحفظ شيئًا، لو كانت خضراء لأكلها! قال: وما خطب أن تجيء الشفرة على العنق, أفلم يكن الحبل في عنقك أنت فجعلتَ تجاذب فيه الرجل حتى أعييته، ولولا أني مشيت أمامك لما انقدتَ له؟ قال الكبش: ما أدري والله كيف أفهمك أن هذا كله سيجري عليك، فسترى أمورًا تنكرها، فتعرف ما الذبح والسلخ، ثم تصير أشلاء في القدور تُضرم عليها النار، فيأكلك ابن آدم كما تأكل أنت هذا الكلأ! قال الصغير: وماذا علي أن يأكلني ابن آدم، ألا تراني آكل العشب، فهل سمعت عودًا منه يقول: الرجل والسكين، والذبح والسلخ؟

قال الكبش في نفسه: لعمري إن قوة الشباب في الشباب أقوى من حكمة الشيوخ في الشيوخ، وما نَفْع الحكمة إذا لم تكن إلا رأيًا له ما يمضيه، كرأي الشيخ الفاني، يرى بعقله الصواب حين يكون جسمه هو الخطأ مركبًا في ضعفه غلطة على غلطة لا عضوًا على عضو؟ وهل الرأي الصحيح للعالم الذي نعيش فيه إلا بالجسم الذي نعيش به؛ وما جدوى أن يعرف الكبير حكمة الموت، وهو من الضعف بحيث تنكسر نفسه للمرض الهين، فضلًا عن المرض المعضل، فضلًا عن المرض المزمن، فضلًا عن الموت نفسه؛ وما خطر أن يجهل الشباب تلك الحكمة، وهو من قوة النفس بحيث لا يبالي الموت، فضلًا عن المرض؟ لو أُذن الشاب من الفتيان بيوم انقطاع أجله، وعلم أن مصبحه أو ممسيه, لأمدته نفسه بأرواح السنين الطويلة، حتى ليرى أن صبح الغد كأنما يأتي من وراء ثلاثين أو أربعين سنة؛ فما يتبينه إلا كالفكر المنسيّ مضى عليه ثلاثون سنة أو أربعون. ولو أذن الشيخ بيوم مصرعه، وأيقن أن له مهلة إلى تمام الحول، لطار به الذعر واستفرغه الوجل من ساعته؛ ورأى يومه البعيد أقرب إليه من الصبح، وابتلتْه طبيعة جسمه المختل بالوساوس الكثيرة، تجتلبها كما تجتلب الرياح صدوع المنزل الخرب. فذاك بالشباب يقبض على الزمن؛ فيعيش في اليوم القصير مثل العام رخيا ممدودا، فهو رابط جلد؛ وهذا بالكبر يقبض الزمن عليه فيعيش في العام الطويل مثل اليوم متلاحقًا آخره بأوله، فهو قلق طائر. ولا طبيعة للزمن إلا طبيعة الشعور به، ولا حقيقة للأيام إلا ما تضعه النفس في الأيام. ثم إن الكبش نظر فرأى الصغير قد أخذته عينه واستثقل نومًا، فقال: هنيئًا لمن كان فيه سر الأيام الممدودة. إن هذا السر هو كسرّ النبات الأخضر، لا يُقطع من ناحية إلا ظهر من غيرها ساخرًا هازئًا، قائلًا على المصائب: ها أنا ذا. فهذا الصغير ينام ملء عينيه والشفرة محدودة له، والذبح بعد ساعات قليلة؛ كأنما هو في زمنين؛ أحدهما من نفسه، فبه ينام، وبه يلهو، وبه يسخر من الزمن الآخر وما فيه وما يجلبه. إن الألم هو فهم الألم لا غير. فما أقبح علم العقل إذا لم يكن معه جهل النفس به وإنكارها إياه. حسب العلم والعلماء في السخرية بهم وبه هذه الحقيقة من النفس. أنا لو ناطحت كبشًا من قُروم الكباش، ووقفت أفكر وأدبر وأتأمل، وأعتبر شيئًا بشيء؛ ذهب فكري بقوتي، واسترخى عصبي، وتحلل غضبي كله،

وكان العلم وبالًا عليَّ؛ فإن حاجتي حينئذ إلى الروح وقواها وأسبابها أضعاف حاجتي إلى العلم. والروح لا تعرف شيئًا اسمه الموت، ولا شيئًا اسمه الوجع؛ وإنما تعرف حظها من اليقين، وهدوءها بهذا الحظ، واستقرارها مؤمنة ما دامت هادئة مستيقنة. وقد, والله, صدق هذا الجَذَع الصغير؛ فما على أحدنا أن يأكله الإنسان, وهل أكلنا نحن هذا العشب، وأكل الإنسان إيانا، وأكل الموت للإنسان, هل كل ذلك إلا وضع للخاتمة في شكل من أشكالها؟ يشبه, والله, إن أنا احتججت على الذبح واغتممت له، أن أكون كخروف أحمق لا عقل له، فظن إطعام الإنسان إياه من باب إطعامه ابنه وابنته وامرأته ومن تجب عليه نفقته! وهل أوجب نفقتي على الإنسان إلا لحمي؟ فإذا استحق له, فلعمري ما ينبغي لي أن أزعم أنه ظلمني اللحم إلا إذا أقررت على نفسي بديا أني أنا ظلمته العلف وسرقته منه. كل حي فإنما هو شيء للحياة أُعطِيَها على شرطها، وشرطها أن تنتهي، فسعادته في أن يعرف هذا ويقرر نفسه عليه حتى يستيقنه، كما يستيقن أن المطر أول فصل الكلأ الأخضر. فإذا فعل ذلك وأيقن واطمأن، جاءت النهاية متممة له لا ناقصة إياه، وجرت مع العمر مجرى واحدًا وكان قد عرفها وأعد لها. أما إذا حسب الحي أنه شيء في الحياة، وقد أعطِيَها على شرطه هو، من توهُّم الطمع في البقاء والنعيم، فكل شقاء الحي في وهمه ذاك, وفي عمله على هذا الوهم, إذ لا تكون النهاية حينئذ في مجيئها إلا كالعقوبة أنزلت بالعمر كله، وتجيء هادمة منغّصة، ويبلغ من تنكيدها أن تسبقها آلامها؛ فتؤلم قبل أن تجيء، شرًّا مما تؤلم حين تجيء! لقد كان جدي والله حكيمًا يوم قال لي: إن الذي يعيش مترقبًا النهاية يعيش معدًّا لها؛ فإن كان معدًّا لها عاش راضيًا بها، فإن عاش راضيًا بها كان عمره في حاضر مستمر، كأنه في ساعة واحدة يشهد أولها ويحس آخرها، فلا يستطيع الزمن أن ينغص عليه ما دام ينقاد معه وينسجم فيه، غير محاول في الليل أن يبعد الصبح، ولا في الصبح أن يبعد الليل. قال لي جدي: والإنسان وحده هو التعس الذي يحاول طرد نهايته, فيشقى شقاء الكبش الأخرق الذي يريد أن يطرد الليل, فيبيت ينطح الظلمة المتدجية على الأرض، وهو لحمقه يظن أنه ينطح الليل بقرنيه ويزحزحه!

وكم قال لي ذلك الجد الحكيم وهو يعظني: إن الحيوان منا إذا جمع على نفسه همًّا واحدًا، صار بهذا الهم إنسانا تعسا شقيا، يعطَى الحياة فيقلبها بنفسه على نفسه شيئًا كالموت، أو موتًا بلا شيء! وتحرك الصغير من نومه، فقال له الكبش: إنه ليقع في قلبي أنك الساعة كنت في شأن عظيم، فما بالك منتفخًا وأنت ههنا في المنحر لا في المرعى! قال الصغير: يا أخا جدي, لقد تحققت أنك هرمت وخرفت، وأصبحتَ تمج اللُّعاب والرأي! قال الكبش: فما ذلك, ويلك؟ قال: إنك قلت: إن هذا الإنسان غادٍ علينا بالشفرة البيضاء، ووصفتَ الذبح والسلخ والأكل؛ وأنا الساعة قد نمت فرأيت فيما أرى، أنني نطحت ذاك الرجل الذي جاء بنا إلى هنا، وهجتُ به حتى صرعته، ثم إني أخذت الشفرة بأسناني، فثلمته في نحره حتى ذبحته، ثم افتلذت منه مُضْغة فلكتها في فمي؛ فما عرفت والله فيما عرفت لَخَنًا ولا عَفَنًا في الكلأ هو أقبح مذاقًا منه! إن الإنسان يستطيب لحمنا، ويتغذى بنا، ويعيش علينا, فما أسعدنا أن نكون لغيرنا فائدة وحياة، وإذا كان الفناء سعادة نعطيها من أنفسنا، فهذا الفناء سعادة نأخذها لأنفسنا. وما هلاك الحي لقاء منفعة له أو منفعة منه إلا انطلاق الحقيقة التي جعلته حيًّا، صارت حرة فانطلقت تعمل أفضل أعمالها. قال الكبير: لقد صدقت والله، ونحن بهذا أعقل وأشرف من الإنسان؛ فإنه يقضي العمر آخذًا لنفسه، متكالبًا على حظها، ولا يعطي منها إلا بالقهر والغلبة والخوف. تعال أيها الذابح، تعال خذ هذا اللحم وهذا الشحم؛ تعال أيها الإنسان لنعطيك؛ تعال أيها الشحاذ!

الطفولتان

الطفولتان: "عصمت" بن فلان باشا طفل مترف يكاد ينعصر لينًا، وتراه يَرِف رفيفًا مما نشأ في ظلال العز، كأن لروحه من الرقة مثل ظل الشجرة حول الشجرة. وهو بين لِدَاته من الصبيان كالشوكة الخضراء في أملودها الريان، لها منظر الشوكة؛ على مجسَّة لينة ناعمة تُكَذِّب أنها شوكة إلا أن تيبس ونتوقَّح. وأبوه "فلان" مدير لمديرية كذا، إذا سُئل عنه ابنه قال: إنه مدير المديرية. لا يكاد يعدو هذا التركيب، كأنه من غرور النعمة يأبى إلا أن يجعل أباه مديرًا مرتين. وكثيرًا ما تكون النعمة بذيئة وَقَاحًا سيئة الأدب في أولاد الأغنياء، وكثيرًا ما يكون الغنى في أهله غنى من السيئات لا غير! وفي رأي "عصمت" أن أباه من علو المنزلة كأنه على جناح النسر الطائر في مسبحه إلى النجم، أما آباء الأطفال من الناس فهم عنده من سقوط المنزلة على أجنحة الذباب والبعوض! ولا يغدو ابن المدير إلى مدرسته ولا يتروح منها إلا وراءه جندي يمشي على أثره في الغدوة والروحة إذا كان ابن المدير، أي: ابن القوة الحاكمة، فيكون هذا الجندي وراء الطفل كالمَنْبَهة له عند الناس، تفصح شارته العسكرية بلغات السابلة جمعاء أن هذا هو ابن المدير. فإذا رآه العربي أو اليوناني، أو الطلياني أو الفرنسي، أو الإنجليزي أو كائن من كان من أهل الألسنة المتنافرة التي لا يفهم لسان منها عن لسان, فهموا جميعًا من لغة هذه الشارة أن هذا هو ابن المدير؛ وأنه من الجندي الذي يتبعه كالمادة من القانون وراءها الشرح! ولقد كان يجب لابن المدير هذا الشرف الصبياني. لو أنه يوم وُلد لم يولد ابن ساعته كأطفال الناس، بل وُلد ابن عشر سنين كاملة لتشهد له الطبيعة أنه كبير قد انصدعت به معجزة! وإلا فكيف يمشي الجندي من جنود الدولة وراء طفل فيتبعه ويخدمه وينصاع لأمره؛ وهذا الجندي لو كان طريد هزيمة قد فر في معركة من معارك الوطن، وأريد تخليده في هزيمته وتخليدها عليه بالتصوير, لما صُور

إلا جنديًّا في شارته العسكرية منقادًا لمثل هذا الطفل الصغير كالخادم؛ في صورة يكتب تحتها: "نفاية عسكرية! ". ليس لهذا المنظر الكثير حدوثه في مصر إلا تأويل واحد: هو أن مكان الشخصيات فوق المعاني، وإن صغرت تلك وجلَّت هذه؛ ومن هنا يكذب الرجل ذو المنصب، فيُرفع شخصه فوق الفضائل كلها؛ فيكبر عن أن يكذب فيكون كذبه هو الصدق، فلا ينكر عليه كذبه أي: صدقه! ويخرج من ذلك أن يتقرر في الأمة أن كذب القوة صدق بالقوة! وعلى هذه القاعدة يقاس غيرها من كل ما يخذل فيه الحق. ومتى كانت الشخصيات فوق المعاني السامية طفقت هذه المعاني تموج موجها محاولة أن تعلو، مكرهة على أن تنزل؛ فلا تستقيم على جهة ولا تنتظم على طريقة؛ وتقبل بالشيء على موضعه، ثم تكرّ كَرَّها فتدبر به إلى غير موضعه، فتضل كل طبقة من الأمة بكبرائها، ولا تكون الأمة على هذه الحالة في كل طبقاتها إلا صغارًا فوقهم كبارهم؛ وتلك هي تهيئة الأمة للاستعباد متى ابتُليتْ بالذي هو أكبر من كبارها؛ ومن تلك تنشأ في الأمة طبيعة النفاق يحتمي به الصغر من الكبر، وتنتظم به ألفة الحياة بين الذلة والصولة! وتخلَّف الجندي ذات يوم عن موعد الرواح من المدرسة، فخرج "عصمت" فلم يجده، فبدا له أن يتسكع في بعض طرق المدينة لينطلق فيه ابن آدم لا ابن المدير، وحن حنينه إلى المغامرة في الطبيعة، ولبسَت الطرق في خياله الصغير زينتها الشعرية بأطفال الأزقة يلعبون ويتهوشون ويتعابثون ويتشاحنون، وهم شتى وكأنهم أبناء بيت واحد مست بكل من كل رحم، إذ لا ينتسبون في اللهو إلا إلى الطفولة وحدها. وانساق "عصمت" وراء خياله، وهرب على وجهه من تلك الصورة التي يمشي فيها الجندي وراء ابن المدير، وتغلغل في الأزقة لا يبالي ما يعرفه منها وما لا يعرفه، إذ كان يسير في طرق جديدة على عينه كأنما يحلم بها في مدينة من مدن النوم. وانتهى إلى كَبْكَبَة من الأطفال قد استجمعوا لشأنهم الصبياني، فانتبذ ناحية

ووقف يصغي إليهم متهيبًا أن يقدم، فاتصل بسمعه ونظره كالجبان، وتسمع فإذا خبيث منهم يعلم الآخر كيف يضرب إذا اعتدى أو اعتُدي عليه، فيقول له: اضرب أينما ضربت، من رأسه، من وجهه، من الحلقوم، من مَرَاقّ البطن؛ قال الآخر: وإذا مات؟ فقال الخبيث: وإذا مات فلا تقل: إني أنا علمتك! وسمع طفلًا يقول لصاحبه: أما قلت لك: إنه تعلم السرقة من رؤيته اللصوص في السيما؟ فأجابه صاحبه: وهل قال له أولئك اللصوص الذين في السيما: كن لصًّا واعمل مثلنا؟ وقام منهم شيطان فقال: يا أولاد البلد، أنا المدير! تعالوا وقولوا لي: "يا سعادة الباشا، إن أولادنا يريدون الذهاب إلى المدارس، ولكنا لا نستطيع أن ندفع لهم المصروفات" فقال الأولاد في صوت واحد: "يا سعادة الباشا، إن أولادنا يريدون الذهاب إلى المدارس، ولكنا لا نستطيع أن ندفع لهم المصروفات" فرد عليهم "سعادته": اشتروا لأولادكم أحذية وطرابيش وثيابًا نظيفة، وأنا أدفع لهم المصروفات. فنظر إليه خبيث منهم وقال: يا سعادة المدير، وأنت فلماذا لم يشتر لك أبوك حذاء؟ وقال طفل صغير: أنا ابنك يا سعادة المدير، فأرسلني إلى المدرسة وقت الظهر فقط! وكان "عصمت" يسمع ونفسه تهتز وترف بإحساسها، كالورقة الخضراء عليها طل الندى، وأخذ قلبه يتفتح في شعاع الكلام كالزهرة في الشمس؛ وسَكِر بما يسكر به الأطفال حين تقدم لهم الطبيعة مكان اللهو معدا مهيأ، كالحانة ليس فيها إلا أسباب الشكر والنشوة، وتمام لذتها أن الزمن فيها منسي، وأن العقل فيها مهمل. وأحس ابن المدير أن هذه الطبيعة حين ينطلق فيها جماعة الأطفال على سجيتهم وسجيتها, إنما هي المدرسة التي لا جدران لها، وهي تربية الوجود للطفل تربية تتناوله من أدق أعصابه فتبدد قواه ثم تجمعها له أقوى ما كانت، وتفرغه منها ثم تملؤه بما هو أتم وأزيد وبذلك تكسبه نمو نشاطه، وتعلمه كيف ينبعث لتحقيق هذا النشاط، فتهديه إلى أن يبدع بنفسه ولا ينتظر من يبدع له، وتجعل خطاه دائمًا وراء أشياء جديدة، فتُسدده من هذا كله إلى سر الإبداع

والابتكار، وتلقيه العلم الأعظم في هذه الحياة، علم نَضْرة نفسه وسرورها ومرحها، وتطبعه على المزاج المتطلق المتهلل المتفائل، وتتدفق به على دنياه كالفيضان في النهر، تفور الحياة فيه وتفور به، لا كأطفال المدارس الخامدين، تعرف للواحد منهم شكل الطفل وليس له وجوده ولا عالمه، فيكون المسكين في الحياة ولا يجدها، ثم تراه طفلًا صغيرًا، وقد جمعوا له هموم رجل كامل! ودبَّت روح الأرض دبيبها في "عصمت" وأوحت إلى قلبه بأسرارها، فأدرك من شعوره أن هؤلاء الأغمار الأغبياء من أولاد الفقراء والمساكين، هم السعداء بطفولتهم، وأنه هو وأمثاله هم الفقراء والمساكين في الطفولة؛ وأن ذلك الجندي الذي يمشي وراءه لتعظيمه إنما هو سجن؛ وأن الألعاب خير من العلوم، إذ كانت هي طفلية الطفل في وقتها، أما العلوم فرجولة مُلزَقة به قبل وقتها توقره وتحوله عن طباعه، فتقتل فيه الطفولة وتهدم أساس الرجولة، فينشأ بين ذلك إلا إلى هذه ولا إلى هذه، ويكون في الأول طفلًا رجلًا، ثم يكون في الآخر رجلًا طفلًا. وأحس مما رأى وسمع أن مدرسة الطفل يجب أن تكون هي بيته الواسع الذي لا يتحرج أن يصرخ فيه صراخه الطبيعي، ويتحرك حركته الطبيعية، ولا يكون فيه مدرسون ولا طلبة، ولا حاملو العِصِيّ من الضباط؛ بل حق البيت الواسع أن تكون فيه الأبوة الواسعة، والأخوة التي تنفسح للمئات؛ فيمر الطفل المتعلم في نشأته من منزل إلى منزل إلى منزل، على تدريج في التوسع شيئًا فشيئًا، من البيت، إلى المدرسة، إلى العالم. وكان "عصمت" يحلم بهذه الأحلام الفلسفية، وطفولته تشب وتسترجل، ورخاوته تشتد وتتماسك؛ وكانت حركات الأطفال كأنها تحركه من داخله، فهو منهم كالطفل في السينما حين يشهد المتلاكمين والمتصارعين، يستطيره الفرح، ويتوثب فيه الطفل الطبيعي بمرحه وعنفوانه، وتتقلص عضلاته، ويتكشف جلده، وتجتمع قوته؛ حتى كأنه سيظاهر أحد الخصمين ويلكم الآخر فيكوره ويصرعه، ويفض معركة الضرب الحديدي بضربته اللينة الحريرية! فما لبث صاحبنا الغرير الناعم أن تخشَّن، وما كذب أن اقتحم، وكأنما أقبل على روحه الشارع والأطفال ولهوهم وعبثهم، إقبال الجو على الطير الحبيس المعلق في مسمار إذا انفرج عنه القفص؛ وإقبال الغابة على الوحش

القنيص إذا وثب وثبة الحياة فطار بها؛ وإقبال الفلاة على الظبي الأسير إذا ناوص فأفلت من الحِبالة. وتقدم فأدغم في الجماعة وقال لهم: أنا ابن المدير. فنظروا إليه جميعًا، ثم نظر بعضهم إلى بعض، وسَفَرت أفكارهم الصغيرة بين أعينهم، وقال منهم قائل: إن حذاءه وثيابه وطربوشه كلها تقول: إن أباه المدير. فقال آخر: ووجهه يقول: إن أمه امرأة المدير. فقال الثالث: ليست كأمك يا بعْطيطي ولا كأم جُعْلُص1! قال الرابع: يا ويلك لو سمع جعلص، فإن لكماته حينئذ لا تترك أمك تعرف وجهك من القفا! قال الخامس: ومن جعلص هذا؟ فليأت لأريكم كيف أصارعه، فأجتذبه فأعصره بين يدي، فأعتقل رجله برجلي، فأدفعه، فيتخاذل، فأعرُكه، فيخر على وجهه؛ فأسمّره في الأرض بمسمار! فقال السادس: ها ها! إنك تصف بأدق الوصف ما يفعله جعلص لو تناولك في يده! فصاح السابع: ويلكم! ها هو ذا, جعلص، جعلص، جعلص! فتطاير الباقون يمينًا وشمالًا كالورق الجاف تحت الشجر ضربته الريح العاصف, وقهقه الصبي من ورائهم، فثابوا إلى أنفسهم وتراجعوا. وقال المستطيل منهم: أما أني كنت أريد أن يعدو جعلص ورائي، فأستطرد إليه قليلًا أطمعه في نفسي، ثم أرتد عليه فآخذه كما فعل "ماشيست الجبار"2 في ذلك المنظر الذي شاهدناه. وقهقه الصبيان جميعًا! ثم أحاطوا "بعصمت" إحاطة العشاق بمعشوقة جميلة، يحاول كل منهم أن يكون المقرب المخصوص بالحظوة، لا من أجل أنه ابن المدير فحسب، ولكن من أجل أن ابن المدير تكون معه القروش. فلو وجدت القروش مع ابن زبال لما منعه نسبه أن يكون أمير الساعة بينهم إلى أن تنفد قروشه فيعود ابن زبال! وتنافسوا في "عصمت" وملاعبته والاختصاص به، فلو جاء المدير نفسه

_ 1 للعامة أسماء ونسب غريبة منها هذه. 2 بحار إيطالي كالمارد؛ عريض الألواح، وثيق التراكيب، يعجب الأطفال به أشد الإعجاب، وإذا شهدوه في السينما كاد تمثيله يشب بهؤلاء الأطفال إلى سن الرجولة في ساعة واحدة.

يلعب مع آبائهم ويركبهم ويركبونه، وهم بين نجار وحداد، وبناء وحمال، وحوذي وطباخ؛ وأمثالهم من ذوي المهنة المكسبة الضئيلة, لكانت مطامع هؤلاء الأطفال في ابن المدير، أكبر من مطامع الآباء في المدير. وجرت المنافسة بينهم مجراها، فانقلبت إلى ملاحاة، ورجعت هذه الملاحاة إلى مشاحنة، وعاد ابن المدير هدفًا للجميع يدافعون عنه وكأنما يعتدون عليه، إذ لا يقصد أحد منهم أحدًا بالغيظ إلا تعمد غيظ حبيبه، ليكون أنكأ له وأشد عليه! وتظاهروا بعضهم على بعض، ونشأت بينهم الطوائل، وأفسدهم هذا الغني المتمثل بينهم. ويا ما أعجب إدراك الطفولة وإلهامها! فقد اجتمعت نفوسهم على رأي واحد، فتحولوا جميعًا إلى سفاهة واحدة أحاطت بابن المدير، فخاطره أحدهم في اللعب فقمره، فأبى إلا أن يعلو ظهره ويركبه؛ وأبى عليه ابن المدير ودافعه، يرى ذلك ثَلْمًا في شرفه ونسبه وسطوة أبيه؛ فلم يكد يعتل بهذه العلة ويذكر أباه ليعرفهم آباءهم, هاجت حتى كبرياؤهم، وثارت دفائنهم، ورقصت شياطين رءوسهم؛ وبذلك وضع الغبي حقد الفقر بإزاء سخرية الغنى؛ فألقى بينهم مسألة المسائل الكبرى في هذا العالم وطرحها للحل! وتنفّشوا للصولة عليه، فسخر منه أحدهم، ثم هزأ به الآخر، وأخرج الثالث لسانه؛ وصدمه الرابع بمنكبه، وأفحش عليه الخامس؛ ولكزه السادس؛ وحثا السابع في وجهه التراب! وجهد المسكين أن يفر من بينهم فكأنما أحاطوه بسبعة جدران فبطل إقدامه وإحجامه، ووقف بينهم كما كتب الله, ثم أخذته أيديهم فانجدل على الأرض, فتجاذبوه يمرغونه في التراب! وهم كذلك إذ انقلب كبيرهم على وجهه، وانكفأ الذي يليه، وأزيح الثالث، ولطم الرابع، فنظروا فصاحوا جميعًا: "جعلص، جعلص! " وتواثبوا يشتدون هربًا. وقام "عصمت" ينتخل التراب من ثيابه وهو يبكي بدمعه، وثيابه تبكي بترابها! ووقف ينظر هذا الذي كشفهم عنه وشردتهم صولته، فإذا جعلص وعليه رَجَفَانٌ من الغضب، وقد تبرطمت شفته، وتقبض وجهه، كما يكون "ماشيست" في معاركه حين يدفع عن الضعفاء. وهو طفل في العاشرة من لدات "عصمت"، غير أنه محتنك في سن رجل

صغير؛ غليظ عَبْل شديد الجِبِلَّة متراكب بعضه على بعض1، كأنه جِنِّي متقاصر يهم أن يطول منه المارد، فأنس به "عصمت"، واطمأن إلى قوته، وأقبل يشكو له ويبكي! قال جعلص: ما اسمك؟ قال: أنا ابن المدير‍! قال جعلص: لا تبك يابن المدير. تعلم أن تكون جلدًا، فإن الضرب ليس بذُل ولا عار، ولكن الدموع هي تجعله ذلًّا وعارًا؛ إن الدموع لتجعل الرجل أنثى. نحن يابن المدير نعيش طول حياتنا إما في ضرب الفقر أو ضرب الناس، هذا من هذا؛ ولكنك غني يابن المدير، فأنت كالرغيف "الفينو" ضخم منتفخ، ولكنه ينكسر بلمسة، وحشوه مثل القطن! ماذا تتعلم في المدرسة يابن المدير إذا لم تعلمك المدرسة أن تكون رجلًا يأكل من يريد أكله؛ وماذا تعرف إذا لم تكن تعرف كيف تصبر على الشر يوم الشر، وكيف تصبر للخير يوم الخير، فتكون دائمًا على الحالتين في خير؟ قال عصمت: آه لو كان معي العسكري! قال جعلص: ويحك؛ لو ضربوا عنزًا لما قالت: آه لو كان معي العسكري! قال عصمت: فمن أين لك هذه القوة؟ قال جعلص: من أني أعتمل بيدي, فأنا أشتد وإذا جعت أكلت طعامي؛ أما أنت فتسترخي، فإذا جعت أكلك طعامك؛ ثم من أني ليس لي عسكري! قال عصمت: بل القوة من أنك لست مثلنا في المدرسة؟ قال جعلص: نعم، فأنت يابن المدرسة كأنك طفل من ورق وكراسات لا من لحم، وكأن عظامك من طباشير! أنت يابن المدرسة هو أنت الذي سيكون بعد عشرين سنة، ولا يعلم إلا الله كيف يكون، وأما أنا ابن الحياة، فأنا من الآن، وعلي أن أكون "أنا" من الآن! أنت. وهنا أدركهما العسكري المسخر لابن المدير، وكان كالمجنون يطير على

_ 1 أي: شديد فتل العضل, مكتنز اللحم.

وجهه في الطرق يبحث عن "عصمت"، لا حبًّا فيه، ولكن خوفًا من أبيه؛ فما كاد يرى هذا العَفَر على أثوابه حتى رنّت صفعته على وجه المسكين جعلص. فصعّر هذا خده، ورشق عصمت بنظره، وانطلق يعدو عدو الظليم! يا للعدالة! كانت الصفعة على وجه ابن الفقير، وكان الباكي منها ابن الغني! وأنتم أيها الفقراء، حسبكم البطولة؛ فليس غنى بطل الحرب في المال والنعيم، ولكن بالجراح والمشقات في جسمه وتاريخه.

أحلام في الشارع

أحلام في الشارع *1: على عتبة "البنك" نام الغلام وأخته يفترشان الرخام البارد، ويلتحفان جوا رخاميا في برده وصلابته على جسميهما. الطفل متكبكب في ثوبه كأنه جسم قُطّع ورُكمت أعضاؤه بعضها على بعض، وسجيت بثوب، ورمي الرأس من فوقها فمال على خده. والفتاة كأنها من الهزال رسم مخطط لامرأة، بدأها المصور ثم أغفلها إذ لم تعجبه. كتب الفقر عليها للأعين ما يكتب الذبول على الزهرة: إنها صارت قشًّا. نائمة في صورة ميتة، أو كميتة في صورة نائمة؛ وقد انسكب ضوء القمر على وجهها، وبقي وجه أخيها في الظل؛ كأن في السماء ملكًا وجه المصباح إليها وحدها، إذ عرف أن الطفل ليس في وجهه علامة هم؛ وأن في وجهها هي كل همها وهم أخيها. من أجل أنها أنثى قد خُلقت لتلد, خُلق لها قلب يحمل الهموم ويلدها ويربيها. من أجل أنها أعدت للأمومة، تتألم دائمًا في الحياة آلامًا فيها معنى انفجار الدم. من أجل أنها هي التي تزيد الوجود، يزيد هذا الوجود دائمًا في أحزانها. وإذا كانت بطبيعتها تقاسي الأم لا يطاق حين تلد فرحها، فكيف بها في الحزن! وكان رأس الطفل إلى صدر أخته، وقد نام مطمئنًا إلى هذا الوجود النسوي، الذي لا بد منه لكل طفل مثله، ما دام الطفل إذا خرج من بطن أمه خرج إلى الدنيا وإلى صدرها معًا.

_ * اقرأ قصة هذه المقالة في "عمله في الرسالة" من كتاب حياة الرافعي. 1 منظر طفل متشرد كان هو وأخته نائمين على عتبة "البنك".

ونامت هي ويدها مرسلة على أخيها كيد الأم على طفلها. يا إلهي! نامت ويدها مستيقظة! أهما طفلان؟ أم كلاهما تمثال للإنسانية التي شقيت بالسعداء فعوضها الله من رحمته ألا تجد شقيا مثلها إلا تضاعفت سعادتها به؟ تمثالان يصوران كيف يسري قلب أحد الحبيبين في الجسم الآخر، فيجعل له وجودًا فوق الدنيا، لا تصل الدنيا إليه بفقرها وغناها، ولا سعادتها وشقائها؛ لأنه وجود الحب لا وجود العمر؛ وجود سحري ليس فيه معنى للكلمات، فلا فرق بين المال والتراب، والأمير والصعلوك؛ إذ اللغة هناك إحساس الدم، وإذ المعنى ليس في أشياء المادة ولكن في أشياء الإرادة. وهل تحيا الألفاظ مع الموت، فيكون بعده للمال معنى وللتراب معنى؟ هي كذلك في الحب الذي يفعل شبيهًا بما يفعله الموت في نقله الحياة إلى عالم آخر، بيد أن أحد العالمين وراء الدنيا، والآخر وراء النفس. تحت يد الأخت الممدودة ينام الطفل المسكين، ومن شعوره بهذه اليد، خف ثقل الدنيا على قلبه. لم يبال أن نبذه العالم كله، ما دام يجد في أخته عالم قلبه الصغير, وكأنه فرخ من فراخ الطير في عشه المعلق، وقد جمع لحمه الغض الأحمر تحت جناح أمه، فأحس أهنأ السعادة حين ضيق في نفسه الكون العظيم، وجعله وجودًا من الريش. وكذلك يسعد كل من يملك قوة تغيير الحقائق وتبديلها، وفي هذا تفعل الطفولة في نشأة عمرها ما لا تفعل بعضه معجزات الفلسفة العليا في جملة أعمار الفلاسفة. وما صنع الذين جُنوا بالذهب، ولا الذين فُتنوا بالسلطة، ولا الذين هلكوا بالحب، ولا الذين تحطموا بالشهوات, إلا أنهم حاولوا عبثًا أن يَرْشُوا رحمة الله لتعطيهم في الذهب والسلطة والحب والشهوات ما نولَتْه هذا الطفل المسكين النائم في أشعة الكواكب تحت ذراع كوكب روحه الأرضي. ألا إن أعظم الملوك لن يستطيع بكل ملكه أن يشتري الطريقة الهنيئة التي ينبض بها الساعة قلب هذا الطفل.

وقفت أشهد الطفلين وأنا مستيقن أن حولهما ملائكة تصعد وملائكة تنزل! وقلت: هذا موضع من مواضع الرحمة، فإن الله مع المنكسرة قلوبهم، ولعلي أن أتعرض لنفحة من نفحاتها، ولعل ملكًا كريمًا يقول: وهذا بائس آخر، فيرفني بجناحه رفة ما أحوج نفسي إليها، تجد بها في الأرض لمسة من ذلك النور المتلألئ فوق الشمس والقمر. وظهر لي بناء "البنك" في ظلمة الليل من مرأى الغلامين, أسود كالحًا، كأنه سجن أقفل على شيطان يمسكه إلى الصبح، ثم يفتح له لينطلق معمرًا، أي: مخربًا, أو هو جسم جبار كفر بالله وبالإنسانية ولم يؤمن إلا بنفسه وحظوظ نفسه فمسخه الله بناء، وأحاطه من هذا الظلام الأسود بمعاني آثامه وكفره. يا عجبًا! بطنان جائعان في أطمار بالية يبيتان على الطَّوَى والهم، ثم لا يكون وسادهما إلا عتبة البنك! تُرَى من الذي لعن "البنك" بهذه اللعنة الحية؟ ومن الذي وضع هذين القلبين الفارغين موضعهما ذلك ليثبت للناس أن ليس البنك خزائن حديدية يملؤها الذهب، ولكنه خزائن قلبية يملؤها الحب؟ وقفتُ أرى الطفلين رؤية فكر ورؤية شعر معًا، فإذا الفكر والشعر يمتدان بيني وبين أحلامهما، ودخلت في نفسين مَضَّهما الهم واشتد عليهما الفقر، وما من شيء في الحياة إلا كادهما وعاسرهما؛ ونمت نومتي الشعرية. قال الطفل لأخته: هلمي فلنذهب من هنا فنقف على باب "السينما" نتفرج مما بنا، فنرى أولاد الأغنياء الذين لهم أب وأم. انظري ها هم أولاء يُرَى عليهم أثر الغنى، وتُعرف فيهم روح النعمة؛ وقد شبعوا. إنهم يلبسون لحمًا على عظامهم؛ أما نحن فنلبس على عظامنا جلدًا كجلد الحذاء؛ إنهم أولاد أهليهم؛ أما نحن فأولاد الأرض؛ هم أطفال، ونحن حطب إنساني يابس؛ يعيشون في الحياة ثم يموتون؛ أما نحن فعيشنا هو سكرات الموت، إلى أن نموت؛ لهم عيش وموت، ولنا الموت مكررًا. وَيْلِي على ذلك الطفل الأبيض السمين، الحسن البَزَّة، الأنيق الشاردة، ذاك الذي يأكل الحلوى أكل لص قد سرق طعامًا فأسرع يحدر في جوفه ما سرق؛ هو الغنى الذي جعله يبتلع بهذه الشراهة، كأنما يشرب ما يأكل، أو له حلق غير الحلوق؛ ونحن -إذا أكلنا- نغص بالخبز لا أدم معه، وإذا ارتفعنا عن هذه الحالة

لم نجد إلا البشيع من الطعام، وأصبناه عفنًا أو فاسدًا لا يَسُوغ في الحلق، فإذا انخفضنا فليس إلا ما نتقمَّم من قشور الأرض ومن حُتات الخبز كالدواب والكلاب؛ وإن لم نجد ومسنا العدم وقفنا نتحين طعام قوم في دار أو نُزُل، فنراهم يأكلون فنأكل معهم بأعيننا، ولا نطمع أن نستطعمهم وإلا أطعمونا ضربًا فنكون قد جئناهم بألم واحد فردونا بألمين، ونفقد بالضرب ما كان يمسك رمقنا من الاحتمال والصبر. هؤلاء الأطفال يتضوَّرون شهوة كلما أكلوا، ليعودوا فيأكلوا؛ ونحن نتضور جوعًا ولا نأكل، لنعود فنجوع ولا نأكل؛ وهم بين سمع أهليهم وبصرهم؛ ما من أَنَّة إلا وقعت في قلب، وما من كلمة إلا وجدت إجابة؛ ونحن بين سمع الشوارع وبصرها، أنين ضائع، ودموع غير مرحومة! - آه لو كبرتُ فصرت رجلًا عريضًا؟ أتدرين ماذا أصنع؟ - ماذا تصنع يا أحمد؟ - إنني أخنق بيدي كل هؤلاء الأطفال! - سوْءَة لك يا أحمد، كل طفل من هؤلاء له أم مثل أمنا التي ماتت، وله أخت مثلي؛ فما عسى ينزل بي لو ثكلتُك إذا خنقك رجل طويل عريض؟ - لا، لا أخنقهم؛ بل سأرضيهم من نفسي؛ أنا أريد أن أصير رجلًا مثل "المدير" الذي رأيناه في سيارته اليوم على حال من السطوة تعلن أنه المدير, أتدرين ماذا أصنع؟ - ماذا تصنع يا أحمد؟ - أرأيت عربة الإسعاف التي جاءت عند الظهر فانقلبت نعشًا للرجل الهرم المحطم الذي أغمي عليه في الطريق؟ سمعتهم يقولون: إن المدير هو الذي أمر باتخاذ هذه العربة، ولكنه رجل غُفل لم يتعلم من الحياة مثلنا، ولم تُحكمه تجارب الدنيا؛ فالذي يموت بالفجاءة أو غيرها لا يحييه المدير ولا غير المدير، والذي يقع في الطريق يجد من الناس من يبتدرونه لنجدته وإسعافه بقلوب إنسانية رحيمة، لا بقلب سواق عربة ينتظر المصيبة على أنها رزق وعيش. إن عربات الإسعاف هذه يجب أن يكون فيها أكل, ويجب أن تحمل أمثالنا من الطرق والشوارع إلى البيوت والمدارس؛ وإن لم يكن للطفل أم تطعمه وتُؤويه فلتُصنع له أم.

كل شيء أراه لا أراه إلا على الغلط، كأن الدنيا منقلبة أو مدبرة إدبارها، وما قط رأيت الأمور في بلادنا جارية على مجاريها؛ فهؤلاء الحكام لا ينبغي أن يكونوا إلا من أولاد صالحي الفقراء، ليحكموا بقانون الفقر والرحمة، لا بقانون الغنى والقسوة، وليتقحَّموا الأمور العظيمة المشتبهة بنفوس عظيمة صريحة قد نبتت على صلابة وبأس، وخلق ودين ورحمة؛ فإنه لا ينهزم في معركة الحوادث إلا روح النعمة في أهل النعمة، وأخلاق الدين في أهل اللين؛ وبهؤلاء لم يبرح الشرق من هزيمة سياسية في كل حادثة سياسية. إن للحكم لحمًا ودمًا هم لحم الحاكم ودمه, فإن كان صُلبًا خَشِنًا فيه روح الأرض وروح السماء فذاك، وإلا قتل اللين والترف الحكم والحاكم جميعًا. وهؤلاء الحكام من أولاد الأغنياء لا يكون لهم هم إلا أن يرفعوا من شأن أنفسهم، إذ السلطة درجة فوق الغنى, ومن نال هذه استشرف لتلك، فإذا جمعوهما كان منهما الخلق الظالم الذي يصور لهم الاعتداء قوة وسطوة وعلوا، من حيث عدموا الخلق الرحيم الذي يصور لهم هذه القوة ضعفًا وجبنًا ونذالة. إن أحدهم إذا حكم وتسلط أراد أن يضرب، ثم لم تكن ضربته الأولى إلا في المبدأ الاجتماعي للأمة، أو في الأصل الأدبي للإنسانية. يحرصون على ما به تمامهم، أي: على السلطة، أي: على الحكم، فيحملهم ذلك على أن يتكلفوا للحرص أخلاقه، وأن يجمعوا في أنفسهم أسبابه؛ من المداراة والمصانعة والمهاونة، نازلًا فنازلًا إلى دَرَك بعيد، فينشروا أسوأ الأخلاق بقوة القانون ما داموا هم القوة. - وماذا تريد أن يصنع أولاد الأغنياء يا أحمد؟ - أما أولاد الأغنياء فيجب أن يباشروا الصناعة والتجارة، ليجدوا عملًا شريفًا يصيبون منه رزقهم بأيديهم لا بأيدي آبائهم، فإنه والله لولا العمى الاجتماعي لما كان فرق بين ابن أمير متبطل في أملاك أبيه من القصور والضياع، وابن فقير متبطل في أملاك المجلس البلدي من الأزقة والشوارع. وابن الأمير إذا كان نجارًا أو حدادًا أصلح السوق والشارع بأخلاقه الطيبة اللينة، وتعففه وكرمه، فيتعلم سواد الناس منه الأمانة والصدق، إذ هو لا يكذب ولا يسرق ما دام فوق الاضطرار، ولا كذلك ابن الفقير الذي يضطره العيش أن يكون تاجرًا أو صانعًا، فتكون حرفته التجارة وهي السرقة، أو الصناعة وهي الغش، ويكون في الناس أكثر عمره مادة كذب وإثم ولصوصية.

- آه لو صرتُ مديرًا! أتدرين ماذا أصنع؟ - ماذا تصنع يا أحمد؟ - أعمد إلى الأغنياء فأردّهم بالقوة إلى الإنسانية، وأحملهم عليها حملًا، أصلح فيهم صفاتها التي أفسدها الترف واللين والنعمة, ثم أصلح ما أخَلَّ به الفقر من صفات الإنسانية بالفقراء، وأحملهم على ذلك حملًا، فيستوي هؤلاء وهؤلاء، ويتقاربون على أصل في الدم إن لم يلده آباؤهم ولده القانون. ألا إن سقوط أمتنا هذه لم يأت إلا من تعادي الصفات الإنسانية في أفرادها، فتقطع ما بينهم، فهم أعداء في وطنهم، وإن كان اسمهم أهل وطنهم. ومتى أُحكمت الصفات الإنسانية في الأمة كلها ودانى بعضها بعضًا؛ صار قانون كل فرد كلمتين، لا كلمة واحدة كما هو الآن. القانون الآن "حقي" ونحن نريد أن يكون "حقيا وواجبيا" وما أهلك الفقراء بالأغنياء، ولا الأغنياء بالفقراء, ولا المحكومين بالحكام, إلا قانون الكلمة الواحدة. أنا أحمد المدير, لست المدير بما في نفس أحمد، ولا بمعدته وبطنه، ولا بما يريد أحمد لنفسه وأولاده, كلا، أنا عمل اجتماعي منظم يحكم أعمال الناس بالعدل، أنا خُلُق ثابت يوجه أخلاقهم بالقوة، أنا الحياة الأم مع الحياة الأطفال الأخوة في هذا البيت الذي يسمى الوطن، أنا الرحمة, عندي الجنة ولكن عندي جهنم أيضًا ما دام في الناس من يعصي، أنا بكل ذلك لست أحمد، لكني الإصلاح. ها أنا ذا قد صرت مديرًا أعُس في الطريق بالليل وأتفقد الناس ونوائبهم. من أرى؟ هذا طفل وأخته على عتبة البنك في حياة كأهدامهما المرقعة، في دنيا تمزقت عليهما، قم يا بني، لا تُرَعْ إنما أنا كأبيك، تقول: اسمك أحمد, واسم أختك أمينة؟ تقول: إنك ما نمت من الجوع، ولكن مضمضت عينك بشعاع النوم؟ يا ولديّ المسكينين, بأي ذنب من ذنوبكما دقّتكما الأيام دقا وطحنتكما طحنا، وبأي فضيلة من الفضائل يكون ابن فلان باشا، وبنت فلان باشا في هذا العيش اللين يختاران منه ويتأنقان فيه، ما الذي ضر الوطن منكما فتموتا، وما الذي نفع الوطن منهما فيعيشا؟ إن كنتَ يا بني لا تملك لنفسك الانتصار من هذه الظليمة فأنا أملكها لك،

وإنما أنا المظلوم إلى أن تنتصر، وإنما أنا الضعيف إلى أن آخذ لك الحق. إلي يابن فلان باشا وبنت فلان باشا. يا هذا عليك أخاك أحمد ولتكن به حفيًّا، ويا هذه، عليك أختك الآنسة أمينة. أتأبيان، أنفرة من الإنسانية، وتمردًا على الفضيلة، أحقًّا بلا واجب، دائمًا قانون الكلمة الواحدة؟! خُلقتما أبيضين سخرية من القدر وأنتما في النفس من أحْبوشَة الزنج ومناكيد العبيد. ورفع أحمد يده. وكان الشرطي الذي يقوم على هذا الشارع، وإليه حراسة البنك، قد تَوَسَّنَهما1 ودخلته الريبة، فانتهى إليهما في تلك اللحظة، وقبل أن تنزل يد سعادة المدير بالصفعة على وجه ابن الباشا وبنت الباشا كان هذا الشرطي قد ركله برجله، فوثب قائمًا واجتذب أخته وانطلقا عَدْوَ الخيل من ألْهُوب السوط. وتمجدت الفضيلة كعادتها! أَنْ مسكينًا حلم بها.

_ 1 توسنهما: أتاهما نائمين.

أحلام في قصر

أحلام في قصر *: كان فلان ابن الأمير فلان يتنبل في نفسه بأنه مشتق ممن يضع القوانين لا ممن يخضع لها، فكان تَيَّاهًا صَلِفًا يشمخ على قومه بأنه ابن الأمير، ويختال في الناس بأن له جدا من الأمراء، ويرى من تجبره أن ثيابه على أعطافه كحدود الملكة على المملكة لأن له أصلًا في الملوك. وكان أبوه من الأمراء الذين وُلدوا وفي دمهم شعاع السيف، وبريق التاج، ونخوة الظفر، وعز القهر والغلبة؛ ولكن زمن الحصار ضرب عليه، وأفضت الدولة إلى غيره، فتراجعت فيه ملكات الحرب من فتح الأرض إلى شراء الأرض، ومن تشييد الإمارات إلى تشييد العمارات، ومن إدارة معركة الأبطال إلى إدارة معركة المال؛ وغبر دهره يملك ويجمع حتى أصبحت دفاتر حسابه كأنها "خريطة" مملكة صغيرة. وبعض أولاد الأمراء يعرفون أنهم أولاد أمراء، فيكونون من التكبر والغرور كأنما رضوا من الله أن يرسلهم إلى هذه الدنيا ولكن بشروط. وانتقل الأمير البخيل إلى رحمة الله، وترك المال وأخذ معه الأرقام وحدها يحاسب عنها، فورثه ابنه وأمر يده في ذلك المال يبعثره؛ وكانت الأقدار قد كتبت عليه هذه الكلمة: غير قابل للإحسان. فمحتها بعد موت أبيه، وكتبت في مكانها هذه الكلمة: جمع للشيطان. أما الشيطان فكان له عمل خاص في خدمة هذا الشاب، كعمل خازن الثياب لسيده، غير أنه لا يلبسه ثيابًا بل أفكارًا وآراء وأخيلة. وكان يجهد أن يُدخل الدنيا كلها إلى أعصابه ليخرج منها دنيا جديدة مصنوعة لهذه الأعصاب خاصة، وهي أعصاب مريضة ثائرة متلهبة لا يكفيها ما يكفي غيرها فلا تبرح

_ * انبعثت خواطر هذه المقالة في نفس الرافعي على أثر كتابته مقالة "أحلام في الشارع" السابقة ولكنه لم يكتبها إلا بعد زمان.

تسأل الشيطان بين الحين والحين: ألا تُوجد لذة جديدة غير معروفة؟ ألا يستطيع إبليس القرن العشرين أن يخترع لذة مبتكرة؟ ألا تكون الحياة إلا على هذه الوتيرة من صبحها لصبحها؟ كان الشاب كالذي يريد من إبليس أن يخترع كأسًا تسع نهرًا من الخمر، أو يجد له امرأة واحدة وفيها كل فنون النساء واختلافهن. وكان يريد من الشيطان أن يعينه في اللذة على الاستغراق الروحاني ويغمره بمثل التجليات القدسية التي تنتهي إليها النفس من حدة الطرب وحدة الشوق، وذلك فوق طاقة إبليس، ومن ثم كان معه في جهد عظيم حتى ضجر منه ذات مرة فهمّ أن يرفع يده عنه ويدعه يدخل إلى المسجد فيصلي مع بعض الأمراء الصالحين. وهؤلاء الفساق الكثيرو المال إنما يعيشون بالاستطراف من هذه الدنيا؛ فهمهم دائمًا الألذ والأجمل والأغلى؛ ومتى انتهت فيهم اللذة منتهاها ولم تجد عاطفتهم من اللذات الجديدة ما يسعدها، ضاقت بهم فظهرت مظهر الذي يحاول أن ينتحر؛ وذلك هو الملل الذي يُبتلون به. والفاسق الغني حين يمل من لذاته يصبح شأنه مع نفسه كالذي يكون في نفق تحت الأرض, ويريد هناك سماء وجوًّا يطير فيهما بالطيارة. قالوا: واعترض ابن الأمير ذات يوم شحاذ مريض قد أسن وعجز, يتحامل بعضه على بعض, فسأله أن يحسن إليه وذكر عوزه واختلاله، وجعل يبثه من دموعه وألفاظه. وكان إبليس في تلك الساعة قد صرف خواطر الشاب إلى إحدى الغانيات الممتنعات عليه، وقد ابتاع لها حلية ثمينة اشتط بائعها في الثمن حتى بلغ به عشرة آلاف دينار، فهو يريد أن يهديها إليها كأنها قدر من قادر. وقطع عليه الشحاذ المسكين أفكاره المضيئة في الشخص المضيء، فكان إهانة لخياله السامي. ووجد في نفسه غضاضة من رؤية وجهه، واشمأز في عروقه دم الإمارة، وتحركت الوراثة الحربية في هذا الدم. ثم ألقى الشيطان إلقاءه عليه، فإذا هو يرى صاحب الوجه القذر كأنما يتهكم به يقول له: أنت أمير يبحث الناس عن الأمير الذي فيه فلا يجدون إلا الشيطان الذي فيه. وليس فيك من الإمارة إلا مثل ما يكون من التاريخ في الموضع الأثري الخرب. ولن تكون أميرًا بشهادة عشرة آلاف دينار عند مُومِس، ولكن بشهادة هذا المال عند عشرة آلاف فقير. أنت أمير, فهل تثبت الحياة أنك أمير أو هذا معنى في

كلمة من اللغة؟ إن كانت الحياة فأين أعمالك، وإن اللغة فهذه لفظة بائدة تدل في عصور الانحطاط على قسط حاملها من الاستبداد والطغيان والجبروت، كأن الاستبداد بالشعب غنيمة يتناهبها عظماؤه، فقسم منها في الحاكم وقسم في شبه الحاكم يترجم عنه في اللغة بلقب أمير. ألا قل للناس أيها الأمير: إن لقبي هذا إنما هو تعبير الزمن عما كان لأجدادي من الحق في قتل الناس وامتهانهم. وكان هذا كلامًا بين وجه الشحاذ وبين نفس ابن الأمير في حالة بخصوصها من أحوال النفس، فلا جرم أهين الشحاذ وطرد ومضى يدعو بما يدعو. ونام ابن الأمير تلك الليلة فكانت خيالته1 من دنيا ضميره وضمير الشحاذ, فرأي فيما يرى النائم أن ملكًا من الملائكة يهتف به: ويلك! لقد طردتَ المسكين تخشى أن تنالك منه جراثيم تمرض بها، وما علمت أن في كل سائل فقير جراثيم أخرى تمرض بها النعمة؛ فإن أكرمته بقيت فيه، وإن أهنته نفضها عليك. لقد هلكت اليوم نعمتك أيها الأمير، واسترد العارية صاحبها، وأكلت الحوادث مالك فأصبحت فقيرًا محتاجًا تروم الكسرة من الخبز فلا تتهيأ لك إلا بجهد وعمل ومشقة؛ فاذهب فاكدح لعيشك في هذه الدنيا، فما لأبيك حق على الله أن تكون عند الله أميرًا. قالوا: وينظر ابن الأمير فإذا كل ما كان لنفسه قد تركه حين تركه المال، وإذا الإمارة كانت وهمًا فرضه على الناس قانون العادة، وإذا التعاظم والكبرياء والتجبر ونحوها إنما كانت مكرًا من المكر لإثبات هذا الظاهر والتعزز به. وينظر ابن الأمير، فإذا هو بعد ذلك صعلوك أبتر معدم رث الهيئة كذلك الشحاذ، فيصيح مغتاظًا: كيف أهملتني الأقدار وأنا ابن الأمير؟ قالوا: ويهتف به ذلك الملك: ويحك, إن الأقدار لا تدلل أحدًا، لا ملكًا ولا ابن ملك، ولا سوقيًّا ولا ابن سوقي، ومتى صرتم جميعًا إلى التراب فليس في التراب عظم يقول لعظم آخر: أيها الأمير.

_ 1 الخيالة: ما يتراءى للنائم من الأشباح في نومه.

قالوا: وفكر الشاب المسكين في صواحبه من النساء، وعندهن شبابه وإسرافه، ونفقاته الواسعة، فقال في نفسه: أذهب لإحداهن؛ وأخذ سَمْتَه إليها، فما كادت تعرفه عيناها في أسماله وبذاذته وفقره حتى أمرت به فجُر بيديه ودُفع في قفاه. ولكن دم الإمارة نزا في وجهه غضبًا، وتحركت فيه الوراثة الحربية، فصاح وأجلب واجتمع الناس عليه واضطربوا، وماج بعضهم في بعض. فبينا هو في شأنه حانت منه التفاتة فأبصر غلامًا قد دخل في غمار الناس، فدس يده في جيب أحدهم فنشل كيسه ومضى. قالوا: وجرى في وهم ابن الأمير أن يلحق بالغلام فيكبسه كبسة الشرطي وينتزع منه الكيس وينتفع بما فيه، فتسلل من الزحام وتبع الصبي حتى أدركه ثم كبسه وأخذ الكيس منه وأخرج الكنز، فإذا ليس فيه إلا خاتم وحجاب وبعض خرَزَات مما يتبرك العامة بحمله، ومفتاح صغير. فامتلأ غيظًا وفار دم الإمارة وتحركت الوراثة الحربية التي فيه. وألم الصبي بما في نفسه، وحدس على أنه رجل أَفَّاق متبطل، ولا نفاذ له في صناعة يرتزق منها، فرثى لفقره وجهله ودعاه إلى أن يعلِّمه السرقة وأن يأخذه إلى مدرستها. وقال: إن لنا مدرسة، فإذا دخلت القسم الإعدادي منها تعلمت كيف تحمل المكتل1 فتذهب كأنك تجمع فيه الخِرَق البالية من الدور حتى إذا سنحت لك غفلة انسللتَ إلى دار منها، فسرقت ما تناله يدك من ثوب أو متاع، ولا تزال في هذا الباب من الصنعة حتى تحكمه، ومتى حذقته ومهرت فيه انتقلت إلى القسم الثانوي. فصاح ابن الأمير: اغرب عني، عليك وعليك، أخزاك الله! ولعن الله الإعدادي والثانوي معًا. ثم إنه رمى الكيس في وجه الغلام وانطلق، فبينا هو يمشي وقد توزعته الهموم، أنشأ يفكر فيما كان يراه من المكدِّين، وتلك العلل التي ينتحلونها للكُدْية كالذي يتعامى والذي يتعارج والذي يحدث في جسمه الآفة؛ ولكن دم الإمارة اشمأز في عروقه وتحركت فيه الوراثة الحربية! وبَصُر بشاب من أبناء الأغنياء تنطق عليه النعمة فتعرض لمعروفه، وأفضى إليه بهمه، وشكا ما نزل به ثم قال: وإني قد أَمَّلتك وظني بك أن تصطفيني لمنادمتك أو تلحقني بخدمتك، وما أريد إلا الكَفَاف

_ 1 هو كالقفة يعمل من الخوص.

من العيش، فإن لم تبلغ بي، فالقليل الذي يعيش به المقل. وصعَّد فيه الشاب وصوَّب ثم قال له: أتحسن أن تلطُف في حاجتي؟ قال: سأبلغ في حاجتك ما تحب. قال الشاب: ألك سابقة في هذا؟ أكنت قَوَّادًا؟ أتعرف كثيرات منهن؟ فانتفض غضبًا وهَمَّ أن يبطش بالفتى لولا خوفه عاقبة الجريمة، فاستخذى ومضى لوجهه، وكان قد بلغ سوقًا فأمَّل أن يجد عملًا في بعض الحوانيت، غير أن أصحابها جعلوا يزجرونه مرة ويطردونه مرة، إذ وقعت به ظِنَّة التلصص، وكادوا يسلمونه إلى الشرطي فمضى هاربًا، وقد أجمع أن ينتحر ليقتل نفسه ودهره وإمارته وبؤسه جميعًا. قالوا: ومر في طريقه إلى مصرعه بامرأة تبيع الفُجْل والبصل والكُرَّاث، وهي بادنة وضيئة ممتلئة الأعلى والأسفل، وعلى وجهها مَسْحة إغراء، فذكر غَزَله وفتنته واستغواءه للنساء، ونازعته النفس، وحسب المرأة تكون له معاشًا ولهوًا، وظنها لا تعجزه ولا تفوته وهو في هذا الباب خرّاج ولّاج منذ نشأ. غير أن ما كاد يراودها حتى ابتدرته بلطة أظلم لها الجو في عينه ثم هرت في وجهه هريرًا منكرًا واستعْدَتْ عليه السابلة فأطافوا به وأخذه الصفح بما قدم وما حدث، وما زالوا يتعاورونه حتى وقع مغشيًّا عليه. ورأى في غشيته ما رأى من تمام هذا الكرب، فضُرب وحبس وابتلي بالجنون وأرسل إلى المارستان، وساح في مصائب العالم، وطاف على نكبات الأمراء والسوقة بما يعي وما لا يعي، ثم رأى أنه أفاق من الإغماء, فإذا هو قد استيقظ من نومه على فراشه الوثير. ويا ليت من يدري بعد هذا! أغدا ابن الأمير على المسجد وأقبل على الفقراء يحسن إليهم، أم غدا على صاحبته التي امتنعت عليه فابتاع لها الحلية بعشرة آلاف دينار؟ يا ليت من يدري! فإن الكتاب الذي نقلنا القصة عنه لم يذكر من هذا شيئًا, بل قطع الخبر عندما انقطع الصفع.

بنت الباشا

بنت الباشا *: كانت هذه المرأة وضَّاحة الوجه، زهراء اللون كالقمر الطالع، تحسبها لجمالها غذَّتْها الملائكة بنور النهار، وروَّتْها من ضوء الكواكب. وكانت بَضَّة مقسمة أبدع التقسيم، يلتف جسمها شيئًا على شيء التفافًا هندسيًّا بديعًا، يرتفع عن أجسام الغِيد الحِسان؛ أفرغ فيها الجمال بقدر ما يمكن إلى أجسام الدمى العبقرية التي أفرغ فيها الجمال والفن بقدر ما يستحيل. وكانت باسمة أبدًا ما يتلألأ الفجر، حتى كأن دمها الغزلي الشاعر يصنع لثغرها ابتسامتها، كما يصنع لخديها حمرتهما. ما لها جلست الآن تحت الليل مطرقة كاسفة ذابلة، تأخذها العين فما تشك أن هذا الوجه قد كان فيه منبع نور وغاض! وأن هذا الجسم الظمآن المعروق هو بقعة من الحياة أقيم فيها مأتم! ما لهذه العين الكحيلة تُذري الدمع وتسترسل في البكاء وتلج فيه، كأن الغادة المسكينة تبصر بين الدموع طريقًا تفضي منه نفسها إلى الحبيب الذي لم يعد في الدنيا؛ إلى وحيدها الذي أصبحت تراه ولا تلمسه، وتكلمه ولا يرد عليها؛ إلى طفلها الناعم الظريف الذي انتقل إلى القبر ولن يرجع، وتتمثله أبدًا يريد أن يجيء إليها ولا يستطيع، وتتخيله أبدًا يصيح في القبر يناديها: "يا أمي، يا أمي". قلبها الحزين يقطع فيها ويمزق في كل لحظة؛ لأنه في كل لحظة يريد منها أن تضم الطفل إلى صدرها؛ ليستشعره القلب فيفرح ويتهنأ إذ يمس الحياة الصغيرة الخارجة منه ولكن أين الطفل؟ أين حياة القلب الخارجة من القلب؟ لا طاقة للمسكينة أن تجيب قلبها إلى ما يطلب، ولا طاقة لقلبها أن يهدأ عما

_ * انظر خبر هذه القصة وحديث "الزبال الفيلسوف" في "عود على بدء" من كتابنا "حياة الرافعي".

يطلب؛ فهو من الغيظ والقهر يحاول أن يفجر صدرها، ويريد أن يدق ضلوعها؛ ليخرج فيبحث بنفسه عن حبيبه! مسكينة تترنّح وتتلوّى تحت ضربات مهلكة من قلبها، وضربات أخرى من خيالها، وقد باتت من هذه وتلك تعيش في مثل اللحظة التي تكون فيها الذبيحة تحت السكين. ولكنها لحظة امتدت إلى يوم، ويوم امتدت إلى شهر. يا ويلها من طول حياة لم تعد في آلامها وأوجاعها إلا طول مدة الذبح للمذبوح. ولو كان للموت قطار يقف على محطة في الدنيا، ليحمل الأحباب إلى الأحباب، ويسافر من وجود إلى وجود، وكانت هذه الأم جالسة في تلك المحطة منتظرة تتربص، وقد ذُهلت عن كل شيء، وتجردت من كل معاني الحياة، وجمدت جمود الانتقال إلى الموت؛ لما كانت إلا بهذه الهيئة في مجلسها الآن في شرفتها من قصرها؛ تطل على الليل المظلم وعلى أحزانها! هي فلانة بنت فلان باشا وزوجة فلان بك. ترادفت النعم على أبيها فيما يطلب وما لا يطلب، وكأنما فرغ من اقتراحه على الزمان واكتفى من المال والجاه، فلم يعجب الزمان ذلك، فأخذ يقترح له ويصنع ما يقترح، ويزيده على رغمه نعمًا تتوالى! وكان قد تقدم إلى خِطْبة ابنته شاب مهذب، يملك من نفسه الشباب والهمة والعلم، ومن أسلافه العنصر الكريم والشرف الموروث؛ ومن أخلاقه وشمائله ما يكاثر به الرجال ويفاخر. بيد أنه لا يملك من عيشه إلا الكفاف والقلة، وأملًا بعيدًا كالفجر وراء ليل لا بد من مصابرته إلى حين ينبثق النور. وتقدم صاحبنا إلى الباشا فجاءه كالنجم عاريًا؛ أي: في أزهى نورانيته وأضوئها. وكان قد علق الفتاة وعلقته، فظن عند نفسه أن الحب هو مال الحب، وأن الرجولة هي مال الأنوثة، وأن القلوب تتعامل بالمسرات لا بالأموال، ونسي أنه يتقدم إلى رجل ماليّ جعلته حقارة الاجتماع رتبة، أو إلى رتبة مالية جعلتها حقارة الاجتماع رجلًا, وأن كلمة "باشا" وأمثالها إنما تخلفت عن ذلك المذهب القديم: مذهب الألوهية الكاذبة التي انتحلها فرعون وأمثاله، ليتعبدوا الناس منها بألفاظ قلوبهم المؤمنة؛ فإذا قيل "إله" كان جواب القلب: "عز وجل"، "سبحانه".

ولما ارتقى الناس عن عبادة الناس، تلطفت تلك الألوهية ونزلت إلى درجات إنسانية، لتتعبد الناس بألفاظ عقولهم الساذجة؛ فإن قيل "باشا" كان جواب العقل الصغير: "سعادتلو أفندم! "1. نسي الشاب أنه "أفندي" سيتقدم إلى "باشا" وأعماه الحب عن فرق بينهما؛ وكان سامي النفس، فلم يدرك أن صغائر الأمم الصغيرة لا بد لها أن تنتحل السمو انتحالًا، وأن الشعب الذي لا يجد أعمالًا كبيرة يتمجد بها، هو الذي تُخترع له الألفاظ الكبيرة ليتلهى بها؛ وأنه متى ضعف إدراك الأمة لم يكن التفاوت بين الرجال بفضائل الرجولة ومعانيها، بل بموضع الرجولة من تلك الألفاظ؛ فإن قيل "باشا" فهذه الكلمة هي الاختراع الاجتماعي العظيم في أمم الألفاظ؛ ومعناها العلمي: قوة ألف فدان أو أكثر أو أقل؛ ويقابلها مثلًا في أمم الأعمال الكبيرة لفظ "الآلة البخارية" ومعناها العلمي قوة كذا وكذا حصانًا أو أقل أو أكثر2! نسي هذا الشاب أن "أمم الأكل والشرب" في هذا المشرق المسكين، لا تتم عظمتها إلا بأن تضع لأصحاب المال الكثير ألقابًا هي في الواقع أوصاف اجتماعية للمعدة التي تأكل الأكثر والأطيب والألذ، وتملك أسباب القدرة على الألذ والأطيب والأكثر. وتقدم "الأفندي" يتودد إلى "الباشا" ما استطاع، ويتواضع وينكمش، ولا يألوه تمجيدًا وتعظيمًا؛ ولكن أين هو من الحقيقة؟ إنه لم يكن عند الباشا إلا أحمق؛ إذ لم يعرف أن تقدمه إلى ذلك العظيم كان أول معانيه أن كلمة "أفندي" تطاولت إلى كلمة "باشا" بالسب علنًا! وانقبضوا عن "الأفندي" وأعرضوا عنه إعراضًا كان معناه الطرد؛ ثم جاء "البك" يخطب الفتاة. و"بك" مَنْبَهَة للاسم الخاطب، وشرف وقدر وثناء اجتماعي، وذكر شهير، وإرغام على التعظيم بقوة الكلمة، ودليل على الحرمات اللازمة للاسم لزوم السواد للعين، ولو لم يكن تحت "بك" رجل، فإن تحتها على كل حال "بك"! وأنعم

_ 1 هذه ألقاب وضعتها الدولة العثمانية البائدة, فأفسدت الناس بكبرياء الألفاظ الفارغة. وقد أرادت بها رفع الأعلى، فانتهى أمرها إلى سقوط الأعلى والأسفل. 2 انظر مقالة "البك والباشا" في الجزء الثاني.

له الباشا، ووصل يده بيد ابنته فألبسها وألبسته، وأعلمها أبوها أنه قد فحص عن البك فإذا هو "بك" قوة مائتي فدان. أما الأفندي فظهر من الفحص الهندسي الاجتماعي أنه "أفندي" قوة خمسة عشر جنيهًا في الشهر! وخَنَس الأفندي وتراجع منخزلًا، وقد علم أن "الباشا" إنما زوج لقبه قبل أن يزوج ابنته، وأنه هو لمن يملك مهر هذا اللقب إلا إذا ملك أن يبدل أسباب التاريخ الاجتماعي في الأمم الضعيفة، فينقل إلى العقل أو النفس ما جعلته "أمم الأكل والشرب" من حق المعدة، فلا يكون "باشا" إلا مخترع شرقي مفلس أو أديب عظيم فقير، أو من جرى هذا المجرى في سمو المعنى لا في سمو المال. وقدمت مائتا الفدان مهرها "الطيني" العظيم بما تعبيره في اللغة الطينية: ثمن عشرين ثورًا، ومثلها جاموسًا، ومثلها بغالًا وأحمِرَة، وفوقها مائة قنطار قطنًا، ومائة إردب قمحًا؛ ثم ذرة، ثم شعيرًا. والمجموع الطيني لذلك ألف جنيه، وعزَّى الباشا أنه مستطيع أن يقول للناس: إنها خمسة آلاف، اختزلتها الأزْمة قبحها الله! ثم زُفَّت "بنت الباشا" زفافًا طينيًّا بهذا المعنى أيضًا، كان تعبيره: أنه أنفق عليه ثمن ألف قنطار بصلًا، ومائة غَرارة من السماد الكيماوي، كأنما فرش بها الطريق! وطفِق الباشا يفاخر ويتمدح، ويتبذخ على الأفندي وأمثال الأفندي بالطين ومعاني الطين؛ فردت الأقدار كلامه، وجعلت مرجعه في قلبه، وهيأت لبنت الباشا معيشة "طينية" بمعنى غير ذلك المعنى. ومات الطفل؛ فردت هذه النكبة بنت الباشا إلى معاني انفرادها بنفسها قبل الزواج، وزادتها على انفرادها الحزن والألم؛ وألقت الأقدار بذلك في أيامها ولياليها التراب والطين. ولجَّ الحزن ببنت الباشا فجعلت لا ترى إلا القبر، ولا تتمنى إلا القبر، تلحق فيه بولدها؛ فوضعت الأقدار من ذلك في روحها معنى الطين والتراب. وأسقم الهم بنت الباشا وأذابها؛ فنقلت الأقدار إلى لحمها عمل الطين، في تحليله الأجسام وإذابتها تحت البِلَى.

وكان وراء قصرها حِوَاء1 يأوي إليه قوم من "طين الناس" بنسائهم وعيالهم، وفيهم رجل "زبال" له ثلاثة أولاد، يراهم أعظم مفاخره وأجمل آثاره، ولا يزال يرفع صوته متمدحا بهم, ويخترع لذلك أسبابا كثيرة لكي يسمعه جيرانه كل ليلة مفاخرًا، مرة بأحمد، ومرة بحسن، ومرة بعلي، وأعجب أمره أنه يرى أولاده هؤلاء متممين في الطبيعة لأولاد "الباشوات". وهو يحبهم حب الحيوان المفترس لصغاره؛ يرى الأسد أشباله هم صنعة قوته، فلا يزال يحوطهم ويتممهم ويرعاهم، حتى إنه ليقاتل الوجود من أجلهم؛ إذ يشعر بالفطرة الصادقة أنه هو وجودهم، وأن الطبيعة وهبت له منهم مسرات قلبه، ذلك القلب الذي انحصرت مسراته في النسل وحده، فصار الشعور بالنسل عنده هو الحب إلى نهاية الحب, وكذلك الزبال الأسد2. ومن سخرية القدر أن زبالنا هذا لم يسكن الحواء إلا في تلك الليلة التي جلست فيها بنت الباشا على ما وصفنا، وفي ضلوعها قلب يفتت من كبدها، ويمزق من أحشائها. وبينا تُناجي نفسها وتعجب من سخرية الأقدار بالباشا والبك، وتستحمق أباها فيما أقدم عليه من نبذ كفئها لعجزه عن مهر باشا، وإيثار هذا المهر الطيني، وتباهيه به أمام الناس، واندرائه بالطعن على من ليس له لقب من ألقاب الطين, بينا هي كذلك إذا بالزبال؛ كانس التراب والطين يهتف في جوف الليل ويتغنى: يا ليل، يا ليل، يا ليل ... ما تنجلي يا ليل القلب3 أهو راضي ... لك حمدي يا ربي من الهموم فاضي ... افرح لي يا قلبي يا دوب كدا يا دوب ... زي الحمام عايش

_ 1 الحواء: جماعة من البيوت كهذه العشش التي يسكنها الصعايدة في بعض الأحياء. 2 هذا الزبال شخصية حقيقية، لو قلنا بمذهب الرجعة لكان "أرسطو" رجع زبالًا ليتمم فلسفته. والكاتب يعرف الرجل ويبره أحيانًا وكان "حضرته" قد طلب إلينا أن نصنع له "موالًا" يتغنى به في "أوقات الصفاء" فوضعنا له الأغنية التي يراها القارئ بعد وهو يصدح بها في لياليه. وسنفرد لزبالنا هذا مقالًا خاصًّا إن شاء الله. 3 انظر الهامش السابق.

ما يِمْتِلِك غير تُوب ... طول عمره فيه نافش يا ليل، يا ليل، يا ليل ... ما تنجلي يا ليل إن قلت أنا فرحان ... ذا مين يكديني واكْتَرْ من السلطان ... فرحانْ أنا بابني بين السيوف يا ناس ... لِمَ انكسر سيفي وابن الغنى محتاس ... وأنا على كيفي يا ليل، يا ليل، يا ليل ... ما تِنْجلي يا ليل وابن الغنى فِ هموم ... والخالي خالي البال والفقر ما بيدوم ... وتدوم هموم المال يا طير, يا طير، يا طير ... الحر فوق اللوم والخير، جميع الخير ... لقمهْ، وعافيهْ، ونوم يا ليل، يا ليل، يا ليل ... ما تنجلي يا ليل ولم تختر الأقدار إلا زبالًا ترسل في لسانه سخريتها بذلك الباشا وبنت ذلك الباشا! وكسر قلب بكسر قلب ... وحطم نفس بحطم نفس ورب عز تراه أمسى ... كُنَاسة هُيئت لكنس

ورقة ورد

ورقة ورد *: "وضعنا كتابنا "أوراق الورد" في نوع من الترسل لم يكن منه شيء في الأدب العربي على الطريقة التي كتبناه بها، في المعاني التي أفردناه لها؛ وهو رسائل غرامية تطارحها شاعر فيلسوف وشاعرة فيلسوفة على ما بيناه في مقدمة الكتاب. وكانت قد ضاعت "ورقة ورد" وهي رسالة كتبها العاشق إلى صديق له، يصف من أمره وأمر صاحبته، ويصور له فيها سحر الحب كما لمسه وكما تركه. وقد عثرنا عليها بعد طبع الكتاب، فرأينا ألا ننفرد بها، وهي هذه:" كانت لها نفس شاعرة، من هذه النفوس العجيبة التي تأخذ الضدين بمعنى واحد أحيانًا؛ فيسرها مرة أن تحزنها وتستدعي غضبها، ويحزنها مرة أن تسرها وتبلغ رضاها، كأن ليس في السرور ولا في الحزن معانٍ من الأشياء ولكن من نفسها ومشيئتها. وكان خيالها مشبوبًا، يلقي في كل شيء لمعان النور وانطفاءه؛ فالدنيا في خيالها كالسماء التي ألبسها الليل، مُلئت بأشيائها مبعثرة مضيئة خافتة كالنجوم. ولها شعور دقيق، يجعلها أحيانًا من بلاغة حسها وإرهافه كأن فيها أكثر من عقلها؛ ويجعلها في بعض الأحيان من دقة هذا الحس واهتياجه كأنها بغير عقل. وهي ترى أسمى الفكر في بعض أحوالها ألا يكون لها فكر؛ فتترك من أمورها أشياء للمصادفة، كأنها واثقة أن الحظ بعض عشاقها. على أن لها ثلاثة أنواع من الذكاء، في عقلها وروحها وجسمها: فالذكاء في عقلها فهم، وفي روحها فتنة، وفي جسمها خلاعة. وكنت أراها مرحة مستطارة مما تطرب وتتفاءل، حتى لأحسبها تود أن يخرج

_ * انظر سبب إنشاء هذا الفصل في "عود على بدء" من كتاب حياة الرافعي.

الكون من قوانينه ويطيش؛ ثم أراها بعد متضورة مهمومة تحزن وتتشاءم، حتى لأظنها ستزيد الكون همًّا ليس فيه! وكانت على كل أحوالها المتنافرة جميلة ظريفة، قد تمت لها الصورة التي تخلق الحب، والأسرار التي تبعث الفتنة؛ والسحر الذي يميز روحها بشخصيتها الفاتنة كما تتميز هي بوجهها الفاتن. وكان حبي إياها حريقًا من الحب, فمثِّلْ لعينيك جسمًا تناول جلده مسٌ من لهب، فتسلَّع هذا الجلد1 هنا وهناك من سَلْخ النار، وظهر فيه من آثار الحروق لهب يابس أحمر كأنه عروق من الجمر انتشرت في هذا الجسم. إنك إن تمثلت هذا الوصف ثم نقلته من الجلد إلى الدم, كان هو حريق ذلك الحب في دمي! والحب -إن كان حبًّا- لم يكن إلا عذابًا؛ فما هو إلا تقديم البرهان من العاشق على قوة فعل الحقيقة التي في المعشوق، ليس حال منه في عذابه، إلا وهي دليل على شيء منها في جبروتها. ولقد أيقنتُ أن الغرام إنما هو جنون شخصية المحب بشخصية محبوبه، فيسقط العالم وأحكامه ومذاهبه مما بين الشخصيتين؛ وينتفي الواقع الذي يجري الناس عليه، وتعود الحقائق لا تأتي من شيء في هذه الدنيا إلا بعد أن تمر على المحبوب لتجيء منه، ويصبح هذا الكون العظيم كأنه إطار في عين مجنون لا يحمل شيئًا إلا الصورة التي جُن بها! وتالله لكأن قانون الطبيعة يقضي ألا تحب المرأة رجلًا يسمى رجلًا، وألا تكون جديرة بمحبها، إلا إذا جرت بينهما أهوال من الغرام تتركها معه كأنها مأخوذة في الحرب. تلك الأهوال يمثلها الحيوان المتوحش عملًا جسميًّا بالقتال على الأنثى، ثم ترق في الإنسان المتحضر فيمثلها عملًا قلبيًّا بالحب. أحببتها جهد الهوى حتى لا مزيد فيه ولا مطمع في مزيد، ولكن أسرار فتنتها استمرت تتعدد فتدفعني أن يكون حبي أشد من هذا؛ ولا أعرف كيف يمكن في الحب أشد من هذا؟

_ 1 أي: تشقق وتسلخ.

ولقد كنت في استغاثتي بها من الحب كالذي رأى نفسه في طريق السيل ففر إلى ربوة عالية, في رأسها عقل لهذا السيل الأحمق، أو كالذي فاجأه البركان بجنونه وغلظته فهرب في رقة الماء وحلمه، ولا سيل ولا بركان إلا حرقتي بالهوى وارتماضي من الحب. أما والله, إنه ليس العاشق هو العاشق، ولكن هي الطبيعة، هي الطبيعة في العاشق. هي الطبيعة, بجبروتها، وعسفها، وتعنتها. إذا استراح الناس جميعًا قالت للعاشق: إلا أنت! إذا عقل الناس جميعًا قالت في العاشق: إلا هذا. إذا برأت جراح الحياة كلها قالت: إلا جرح الحب! إذا تشابهت الهموم كالدمعة والدمعة، قالت: إلا هم العشق! إذا تغير الناس في الحالة بعد الحالة، قالت في الحبيب: إلا هو! إذا انكشف سر كل شيء، قالت: إلا المعشوق؛ إلا هذا المحجب بأسرار القلب! ولما رأيتها أول مرة، ولمسني الحب لمسة ساحر، جلست إليها أتأملها وأحتسي من جمالها ذلك الضياء المُسْكِر، الذي تُعربد له الروح عربدة كلها وقار ظاهر. فرأيتني يومئذ في حالة كغشية الوحي، فوقها الآدمية ساكنة، وتحتها تيار الملائكة يعبّ ويجري. وكنت أُلَقَّى خواطر كثيرة، جعلتْ كل شيء منها ومما حولها يتكلم في نفسي، كأن الحياة قد فاضت وازدحمت في ذلك الموضع تجلس فيه، فما شيء يمر به إلا مسته فجعلته حيا يرتعش، حتى الكلمات. وشعرتُ أول ما شعرت أن الهواء الذي تتنفس فيه يرق رقة نسيم السَّحَر، كأنما انخدع فيها فحسب وجهها نور الفجر! وأحسست في المكان قوة عجيبة في قدرتها على الجذب، جعلتني مبعثرًا حول هذه الفَتَّانة، كأنها محدودة بي من كل جهة. وخيل إلي أن النواميس الطبيعية قد اختلت في جسمي إما بزيادة وإما بنقص؛ فأنا لذلك أعظم أمامها مرة، وأصغر مرة.

وظننت أن هذه الجميلة إِنْ هي إلا صورة من الوجود النسائي الشاذّ, وقع فيها تنقيح إلهي لتظهر للدنيا كيف كان جمال حواء في الجنة. ورأيت هذا الحسن الفاتن يشعرني بأنه فوق الحسن؛ لأنه فيها هي؛ وأنه فوق الجمال والنضرة والمرح؛ لأن الله وضعه في هذا السرور الحي المخلوق امرأة. والتمست في محاسنها عيبًا، فبعد الجهد قلت مع الشاعر: إذا عِبْتُها شبهتُها البدر طالعًا ... ! ورأيتها تضحك الضحك المستحي, فيخرج من فمها الجميل كأنما هو شاعر أنه تجرأ على قانون. وتبسم ابتسامات تقول كل منها للجالسين: انظروها! انظروها! ويغمرها ضحك العين والوجه والفم, وضحك الجسم أيضًا باهتزازه وترجرجه في حركات كأنما يبسم بعضها ويقهقه بعضها. وتلقي نظرات جعل الله معها ذلك الإغضاء وذلك الحياء ليضع شيئًا من الوقاية في هذه القوة النسوية، قوة تدمير القلب. وهي على ذلك متسامية في جمالها حتى لا يتكلم جسمها في وساوس النفس كلام اللحم والدم، وكأنه جسم ملائكي ليس له إلا الجلال طوعًا أو كرهًا. جسم كالمعبد، لا يعرف من جاءه أنه جاءه إلا ليبتهل ويخشع. وتطالعك من حيث تأملت فكرة الحياة المنسجمة على هذا الجسم، تطلب منك الفهم وهي لا تُفهَم أبدًا, أي: تريد الفهم الذي لا ينتهي؛ أي: تطلب الحب الذي لا ينقطع. وهي أبدًا في زينة حسنها كأنها عروس في معرض جَلوتها؛ غير أن للعروس ساعة، ولها هي كل ساعة. أما ظَرَفها فيكاد يصيح تحت النظرات: أنا خائف، أنا خائف! ووجهها تتغالب عليه الرزانة والخفة، لتقرأ فيه العين عقلها وقلبها. وهي مثل الشعر، تُطرب القلب بالألم يوجد في بعض السرور، وبالسرور الذي يحس في بعض الألم.

وهي مثل الخمر، تحسب الشيطان مترقرقًا فيها بكل إغرائه! وكلما تناولت أمامي شيئًا أو صنعت شيئًا خلقتْ معه شيئًا؛ أشياؤها لا تزيد بها الطبيعة، ولكن تزيد بها النفس. فيا كبدًا طارت صُدُوعًا من الأسى! ورأيتُني يومئذ في حالة كغشية الوحي، فوقها الآدمية ساكنة، وتحتها تيار الملائكة يعب ويجري. يا سحر الحب! تركتني أرى وجهها من بعد هو الوجه الذي تضحك به الدنيا، وتعبس وتتغيظ وتتحامق أيضًا. وجعلتني أرى الابتسامة الجميلة هي أقوى حكومة في الأرض! وجعلتني يا سحر الحب؛ وجعلتني يا سحر الحب مجنونًا!

سمو الحب

سمو الحب *: صاح المنادي في موسم الحج: "لا يُفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح"1 وكذلك كان يفعل خلفاء بني أمية؛ يأمرون صائحهم في الموسم، أن يدل الناس على مفتي مكة وإمامها وعالمها، ليلقوه بمسائلهم في الدين، ثم ليمسك غيره عن الفتوى، إذ هو الحجة القاطعة لا ينبغي أن يكون معها غيرها مما يختلف عليها أو يعارضها، وليس للحجج إلا أن تظاهرها وتترادف على معناها. وجلس عطاء يتحين الصلاة في المسجد الحرام، فوقف عليه رجل وقال: يا أبا محمد، أنت أفتيت كما قال الشاعر: سل المفتي المكي: هل في تزاور ... وضمة مشتاق الفؤاد جُنَاح؟ فقال: معاذ الله أن يذهب التقى ... تلاصق أكباد بهن جراح! فرفع الشيخ رأسه وقال: والله ما قلت شيئًا من هذا، ولكن الشاعر هو نحلني هذا الرأي الذي نفثه الشيطان على لسانه، وإني لأخاف أن تشيع القالة في الناس، فإذا كان غد وجلست في حلقتي فاغد علي، فإني قائل شيئًا. وذهب الخبر يؤُجُّ كما تؤج النار، وتعالم الناس أن عطاء سيتكلم في الحب، وعجبوا كيف يدري الحب أو يحسن أن يقول فيه من غَبَر عشرين سنة فراشه المسجد، وقد سمع من عائشة أم المؤمنين، وأبي هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عباس بحر العلم. وقال جماعة منهم: هذا رجل صامت أكثر وقته، وما تكلم إلا خيل إلى الناس أنه يُؤيَّد بمثل الوحي، فكأنما هو نجي ملائكة يسمع ويقول، فلعل السماء موحية إلى الأرض بلسانه وحيًا في هذه الضلالة التي عمت الناس وفتنتهم بالنساء والغناء.

_ * انظر "عود على بدء" من كتاب حياة الرافعي. 1 ولد هذا الإمام سنة 27هـ وتوفي سنة 115. قالوا: ومات يوم مات وهو عند الناس أرضى أهل الدنيا.

ولما كان غد جاء الناس أرسالًا إلى المسجد، حتى اجتمع منهم الجمع الكثير. قال عبد الرحمن بن عبد الله أبي عمار: وكنت رجلًا شابًّا من فتيان المدينة، وفي نفسي ومن الدنيا ومن هوى الشباب، فغدوت مع الناس، وجئت وقد تكلم أبو محمد وأفاض، ولم أكن رأيته من قبل، فنظرت إليه فإذا هو في مجلسه كأنه غراب أسود، إذ كان ابن أمة سوداء تسمى "بركة" ورأيته مع سواده أعور أفطس أشل أعرج مفلفل الشعر، لا يتأمل المرء منه طائلًا، ولكنك تسمعه يتكلم فتظن منه ومن سواده -والله- أن هذه قطعة ليل تسطع فيها النجوم، وتصعد من حولها الملائكة وتنزل. قال: وكان مجلسه في قصة يوسف عليه السلام، ووافقته وهو يتكلم في تأويل قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} . قال عبد الرحمن: فسمعت كلامًا قدسيًّا تضع له الملائكة أجنحتها من رضى وإعجاب بفقيه الحجاز. حفظت منه قوله: عجبًا للحب! هذه ملكة تعشق فتاها الذي ابتاعه زوجها بثمن بخس؛ ولكن أين مُلكها وسطوة ملكها في تصوير الآية الكريمة؟ لم تزد الآية على أن قالت: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي} و {الَّتِي} هذه كلمة تدل على كل امرأة كائنة من كانت؛ فلم يبق على الحب مُلك ولا منزلة؛ وزالت الملكة من الأنثى! وأعجب من هذا كلمة {وَرَاوَدَتْهُ} وهي بصيغتها المفردة حكاية طويلة تشير إلى أن هذه المرأة جعلت تعترض يوسف بألوان من أنوثتها, لون بعد لون؛ ذاهبة إلى فن، راجعة من فن؛ لأن الكلمة مأخوذة من رَوَدَان الإبل في مشيتها؛ تذهب وتجيء في رفق. وهذا يصور حيرة المرأة العاشقة، واضطرابها في حبها؛ ومحاولتها أن تنفذ إلى غايتها؛ كما يصور كبرياء الأنثى إذ تختال وتترفق في عرض ضعفها الطبيعي كأنما الكبرياء شيء آخر غير طبيعتها؛ فمهما تتهالك على من تحب وجب أن يكون لهذا "الشيء الآخر" مظهر امتناع أو مظهر تحير أو مظهر اضطراب، وإن كانت الطبيعة من وراء ذلك مندفعة ماضية مصممة. ثم قال: {عَنْ نَفْسِهِ} ليدل على أنها لا تطمع فيه، ولكن في طبيعته البشرية، فهي تعرض ما تعرض لهذه الطبيعة وحدها، وكأن الآية مصرحة في أدب سام كل السمو، منزه غاية التنزيه بما معناه: "إن المرأة بذلت كل ما تستطيع في إغرائه

وتصبنيه، مقبلة عليه ومتدللة ومتبذلة ومنصبة من كل جهة، بما في جسمها وجمالها على طبيعته البشرية، وعارضة كل ذلك عرض امرأة خلعت -أول ما خلعت- أمام عينيه ثوب الملك". ثم قال: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} ولم يقل "أغلقت" وهذا يشعر أنها لما يئست، ورأت منه محاولة الانصراف، أسرعت في ثورة نفسها مهتاجة تتخيل القفل الواحد أقفالًا عدة، وتجري من باب إلى باب، وتضطرب يدها في الأغلاق، كأنما تحاول سد الأبواب لا إغلاقها فقط. {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} ومعناها في هذا الموقف أن اليأس قد دفع بهذه المرأة إلى آخر حدوده, فانتهت إلى حالة من الجنون بفكرتها الشهوانية، ولم تعد لا ملكة ولا امرأة، بل أنوثة حيوانية صرفة، متكشفة مصرحة، كما تكون أنثى الحيوان في أشد اهتياجها وغليانها. هذه ثلاثة أطوار يترقى بعضها من بعض، وفيها طبيعة الأنوثة نازلة من أعلاها إلى أسفلها. فإذا انتهت المرأة إلى نهايتها ولم يبق وراء ذلك شيء تستطيعه أو تعرضه بدأت من ثم عظمة الرجولة السامية المتمكنة في معانيها، فقال يوسف: {مَعَاذَ اللَّهِ} ثم قال: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23] ثم قال: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23] . وهذه أسمى طريقة إلى تنبيه ضمير المرأة في المرأة، إذ كان أساس ضميرها في كل عصر هو اليقين بالله، ومعرفة الجميل، وكراهة الظلم. ولكن هذا التنبيه المترادف ثلاث مرات لم يكسر من نزوتها، ولم يَفْثَأ تلك الحدة، فإن حبها كان قد انحصر في فكرة واحدة اجتمعت بكل أسبابها في زمن, في مكان, في رجل. فهي فكرة محتبسة كأن الأبواب مغلقة عليها أيضًا؛ ولذا بقيت المرأة ثائرة ثورة نفسها. وهنا يعود الأدب الإلهي السامي إلى تعبيره المعجز فيقول: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} [يوسف: 24] كأنما يومئ بهذه العبارة إلى أنها ترامت عليه، وتعلقت به، والتجأت إلى وسيلتها الأخيرة، وهي لمس الطبيعة بالطبيعة لإلقاء الجمرة في الهشيم! جاءت العاشقة في قضيتها ببرهان الشيطان يقذف به في آخر محاولته. وهنا يقع ليوسف -عليه السلام- برهان ربه كما وقع لها هي برهان شيطانها. فلولا برهان ربه لكان رجلًا من البشر في ضعفه الطبيعي. قال أبو محمد: وههنا ههنا المعجزة الكبرى؛ لأن الآية الكريمة تريد ألا

تنفي عن يوسف -عليه السلام- فحولة الرجولة، حتى لا يُظَن به، ثم هي تريد من ذلك أن يتعلم الرجال، وخاصة الشبان منهم، كيف يتسامون بهذه الرجولة فوق الشهوات، حتى في الحالة التي هي نهاية قدرة الطبيعة؛ حالة ملكة مطاعة فاتنة عاشقة مختلية متعرضة متكشفة متهالكة. هنا لا ينبغي أن ييأس الرجل، فإن الوسيلة التي تجعله لا يرى شيئًا من هذا, هي أن يرى برهان ربه. وهذا البرهان يؤوله كل إنسان بما شاء، فهو كالمفتاح الذي يوضع في الأقفال كلها فيفُضها كلها؛ فإذا مثل الرجل لنفسه في تلك الساعة أنه هو وهذه المرأة منتصبان أمام الله يراهما، وأن أماني القلب التي تهجس فيه ويظنها خافية إنما هي صوت عالٍ يسمعه الله؛ وإذا تذكر أنه سيموت ويقبر، وفكر فيما يصنع الثرى في جسمه هذا, أو فكر في موقفه يوم تشهد عليه أعضاؤه بما كان يعمل, أو فكر في أن هذا الإثم الذي يقترفه الآن سيكون مرجعه عليه في أخته أو بنته, إذا فكر في هذا ونحوه رأى برهان ربه يطالعه فجأة، كما يكون السائر في الطريق غافلًا مندفعًا إلى هاوية، ثم ينظر فجأة فيرى برهان عينه؛ أترونه يتردى في الهاوية حينئذ، أم يقف دونها وينجو؟ احفظوا هذه الكلمة الواحدة التي فيها أكثر الكلام, وأكثر الموعظة، وأكثر التربية، والتي هي كالدرع في المعركة بين الرجل والمرأة والشيطان، كلمة {رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} . قال عبد الرحمن بن عبد الله وهو يتحدث إلى صاحبه سهيل بن عبد الرحمن: ولزمتُ الإمام بعد ذلك، وأجمعتُ أن أتشبه به، وأسلك في طريقه من الزهد والمعرفة؛ ثم رجعت إلى المدينة وقد حفظتُ الرجل في نفسي كما أحفظ الكلام، وجعلت شعاري في كل نزعة من نزعات النفس هذه الكلمة العظيمة: {رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] ، فما ألممت بإثم قط، ولا دانيت معصية، ولا رَهِقني مطلب من مطالب النفس إلى يوم الناس هذا، وأرجو أن يعصمني الله فيما بقي، فإن هذه الكلمة ليست كلمة، وإنما هي كأمر من السماء تحمله، تمر به آمنًا على كل معاصي الأرض، فما يعترضك شيء منها، كأن معك خاتم المَلِك تجوز به. قال سهيل: فلهذا لقبك أهل المدينة "بالقس" لعبادتك وزهدك وعزوفك عن النساء، وقليل لك -والله- يا أبا عبد الله، فلو قالوا: ما هذا بشرًا إن هذا إلا ملك، لصدقوا.

قالت سَلَّامة جارية سهيل بن عبد الرحمن المغنية، الحاذقة الظريفة، الجميلة الفاتنة، الشاعرة القارئة، المؤرخة المتحدثة، التي لم يجتمع في امرأة مثلها حسن وجهها، وحسن غنائها، وحسن شعرها, قالت: واشتراني أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك بعشرين ألف دينار "عشرة آلاف جنيه" وكان يقول: ما يقر عيني ما أوتيت من الخلافة حتى أشتري سلامة؛ ثم قال حين ملكني: ما شاء بعدُ من أمر الدنيا فليفتني! قالت: فلما عُرضتُ عليه أمرني أن أغنيه، وكنت كالمخبولة من حب عبد الرحمن القس، حبًّا أراه فالقًا كبدي، آتيًا على حشاشتي. فذهب عني والله كل ما أحفظه من أصوات الغناء، كما يمسح اللوح مما كُتب فيه، وأنسيت الخليفة وأنا بين يديه، ولم أر إلا عبد الرحمن ومجلسه مني يوم سألني أن أغنيه بشعره فيَّ، وقولي له يومئذ: حبًّا وكرامة وعزاة لوجهك الجميل. وتناولت العود وجسسته بقلبي قبل يدي، وضربتُ عليه كأني أضرب لعبد الرحمن، بيد أرى فيها عقلًا يحتال حيلة امرأة عاشقة. ثم اندفعت أغني بشعر حبيبي: إن التي طرقتك بين ركائب ... تمشي بمِزْهرها وأنت حرام لتصيد قلبك، أو جزاء مودة ... إن الرفيق له عليك ذمام باتت تعللنا وتحسب أننا ... في ذاك أيقاظ، ونحن نيام وغنيته والله غناء والهة ذاهبة العقل كاسفة البال، ورددته كما رددته لعبد الرحمن، وأنا إذ ذاك بين يديه كالوردة أول ما تتفتح. وأنا أنظر إليه وأتبين لصوتي في مسمعيه صوتًا آخر. وقطعته ذلك التقطيع، ومددته ذلك التمديد، وصحت فيه صيحة قلبي وجوارحي كلها كما غنيت عبد الرحمن لكيما أؤدي إلى قلبه المعنى الذي في اللفظ والمعنى الذي في النفس جميعًا، ولكيما أسكره -وهو الزاهد العابد- سكر الخمر بشيء غير الخمر! وما أفقت من هذه إلا حين قطعت الصوت، فإذا الخليفة كأنما يسمع من قلبي لا من فمي وقد زلزله الطرب، وما خفي علي أنه رجل قد ألم بشأن امرأة، وخشيت أن أكون قد افتضحت عنده؛ ولكن غلبته شهوته، وكان جسدًا بما فيه يريد جسدًا لما فيه، فمن ثم لم ينكر ولم يتغير. واشتراني وصرت إليه، فلما خلونا سألني أن أغني, فلم أشعر إلا وأنا أغنيه بشعر عبد الرحمن: ألا قل لهذا القلب: هل أنت مبصر ... وهل أنت عن سلامة اليوم مقصر

إذا أخذت في الصوت كاد جليسها ... يطير إليها قلبه حين تنظر وأديته على ما كان يستحسنه عبد الرحمن ويطرب له، إذ يسمع فيه همسًا من بكائي، ولهفة مما أجد به، وحسرة على أنه ينسكب في قلبي وهو يصد عني ويتحاماني، وما غنيت: "وهل أنت عن سلامة اليوم مقصر" إلا في صوت تنوح به سلامة على نفسها, وتندب وتتفجع! فقال لي يزيد وقد فضحت نفسي عنده فضيحة مكشوفة: يا حبيبتي, من قائل هذا الشعر؟ قلت: أحدثك بالقصة يا أمير المؤمنين؟ قال: حدثيني. قلت: هو عبد الرحمن بن أبي عمار الذي يلقبونه بالقس لعبادته ونسكه، وهو في المدينة يشبه عطاء بن أبي رباح، وكان صديقًا لمولاي سهيل، فمر بدارنا يومًا وأنا أغني فوقف يسمع، ودخل علينا "الأحوص"1، فقال: ويحكم! لكأن الملائكة والله تتلو مزاميرها بحلق سلامة، فهذا عبد الرحمن القس قد شُغل بما يسمع منها، وهو واقف خارج الدار، فتسارع مولاي فخرج إليه ودعاه إلى أن يدخل فيسمع مني، فأبى! فقال له: أما علمت أن عبد الله بن جعفر، وهو من هو في محله وبيته وعلمه قد مشى إلى جميلة أستاذة سلامة حين علم أنها آلت ألِيَّة ألا تغني أحدًا إلا في منزلها؛ فجاءها فسمع منها، وقد هيأت له مجلسها، وجعلت على رءوس جواريها شعورًا مسدلة كالعناقيد، وألبستهن أنواع الثياب المصبغة، ووضعت فوق الشعور التيجان، وزينتهن بأنواع الحلى، وقامت هي على رأسه، وقام الجواري صفين بين يديه، حتى أقسم عليها فجلست غير بعيد، وأمرت الجواري فجلسن، ومع كل جارية عودها؛ ثم ضربن جميعًا وغنت عليهن، وغنى الجواري على غنائها، فقال عبد الله: ما ظننت أن مثل هذا يكون! وأنا أُقعدك في مكان تسمع من سلامة ولا تراها، إن كنتَ عند نفسك بالمنزلة التي لم يبلغها عبد الله بن جعفر! قالت سلامة: وكانت هذه والله -يا أمير المؤمنين- رقية من رقى إبليس؛ فقال عبد الرحمن: أما هذا فنعم. ودخل الدار وجلس حيث يسمع، ثم أمرني مولاي فخرجت إليه خروج القمر مشبوبًا من سحابه كانت تغطيه؛ فأما هو فما رآني

_ 1 هو الأحوص, الشاعر المعروف.

حتى علقت بقلبه، وسبح طويلًا طويلًا؛ وأما أنا فما رأيته حتى رأيت الجنة والملائكة، ومُتُّ عن الدنيا وانتقلت إليه وحده. قالت سلامة: وافتضحت مرة أخرى، فتنحنح يزيد, فضحكت وقلت: يا أمير المؤمنين، أحدثك أم حسبك؟ قال: حدثيني ويحك! فوالله لو كنتِ في الجنة كما أنتِ لأعدتِ قصة آدم مع واحد واحد من أهلها حتى يُطردوا جميعًا من حسنها إلى حسنك! فما فعل القس ويحك؟ قلت: يا أمير المؤمنين، إنه يدعى القس قبل أن يهواني. فقال يزيد: وهل عجب وقد فتنته أن يطرده "البطريق"؟ قلت: بل العجب وقد فتنتُه أن يصير هو البطريق! فضحك يزيد وقال: إيه، ما أحسب الرجل إلا قد دهي منك بداهية! فحدثيني فقد رفعت الغيرة؛ إني والله ما أرى هذا الرجل في أمره وأمرك إلا كالفحل من الإبل، قد تُرك من الركوب والعمل، ونعم وسمن للفحلة فَنَدَّ يومًا, فذهب على وجهه، فأقحم في مفازة، وأصاب مَرْتَعًا فتوحش واستأسد، وتبين عليه أثر وحشيته، وأقبل قبال الجن من قوة ونشاط ويأس شديد؛ فلما طال انفراده وتأبده عرضت له في البر ناقة كانت قد ندت من عَطنها، وكانت فارهة جسيمة قد انتهت سمنًا، وغطاها الشحم واللحم، فرآها البازل الصئول، فهاج وصال وهدر، يخبط بيده ورجله، ويُسمَع لجوفه دَوِيّ من الغليان، وإذا هي قد ألقت نفسها بين يديه! أما والله لو جعل الشيطان في يمينه رجلًا فحلًا قويًّا جميلًا، وفي شماله امرأة جميلة عاشقة تهواه؛ ثم تمطى متدافعًا ومد ذراعيه فابتعدا؛ ثم تراجع متداخلًا وضم ذراعيه فالتقيا؛ لكان هذا شأن ما بينك وبين القس! قلت: لا والله يا أمير المؤمنين؛ ما كان صاحبي في الرجال خَلًّا ولا خمرًا، وما كان الفحل إلا الناقة! وما أحسب الشيطان يعرف هذا الرجل، وهل كان للشيطان عمل مع رجل يقول: إني أعرف دائمًا فكرتي وهي دائمًا فكرتي لا تتغير. ذاك رجل أساسه كما يقول: {بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] ولقد تصنعتُ له مرة يا أمير المؤمنين، وتشكلت وتحليت وتبرجت، وحدثت نفسي منه بكثير، وقلت: إنه رجل قد غبر شبابه في وجود فارغ من المرأة، ثم وجد المرأة فيَّ وحدي. وغنيته يا أمير المؤمنين غناء جوارحي كلها، وكنت له كأني خرير ناعم يترجرج ويُنشَر

أمامه ويطوى. وجلست كالنائمة في فراشها وقد خلا المجلس، وكنت من كل ذلك بين يديه كالفاكهة الناضجة الحلوة تقول لمن يراها: "كلني! ". قال يزيد: ويحك ويحك! وبعد هذا؟ قلت: بعد هذا يا أمير المؤمنين، وهو يهواني الهوى البَرْح، ويعشقني العشق المصني, لم ير في جمالي وفتنتي واستسلامي إلا أن الشيطان قد جاء يرشوه بالذهب الذي يتعامل به! فضحك يزيد وقال: لا والله، لقد عرض الشيطان منك ذهبه ولؤلؤه وجواهره كلها، فكيف لعمري لم يفلح؛ وهو لو رشاني من هذا كله بدرهم لوجد أمير المؤمنين شاهد زور! قلت: ولكني لم أيأس يا أمير المؤمنين، وقد أردت أن أظهر امرأة فلم أفلح، وعملت أن أظهر شيطانة فانخذلت, وجهدت أن يرى طبيعتي فلم يرني إلا بغير طبيعة, وكلما حاولت أن أنزل به عن سكينته ووقاره رأيت في عينيه ما لا يتغير كنور النجم, وكانت بعض نظراته والله كأنها عصا المؤدب، وكأنه يرى في جمالي حقيقة من العبادة، ويرى في جسمي خرافة الصنم، فهو مقبل علي جميلة، ولكنه منصرف عني امرأة. لم أيأس على كل ذلك يا أمير المؤمنين، فإن أول الحب يطلب آخره أبدًا إلى أن يموت. وكان يكثر من زيارتي، بل كانت إلي الغدوة والروحة، من حبه إياي وتعلقه بي؛ فواعدته يومًا أن يجيء مني وأرى الليل أهله لأغنيه: "ألا قل لهذا القلب ... " وكنت لحنته ولم يسمعه بعد. ولبثت نهاري كله أستروح في الهواء رائحة هذا الرجل مما أتلهف عليه، وأتمثل ظلام الليل كالطريق الممتد إلى شيء مخبوء أعلل النفس به. وبلغت ما أقدر عليه في زينة نفسي وإصلاح شأني، وتشكلت في صنوف من الزهر، وقلت لأجملهن وهي الوردة التي وضعتها بين نهديَّ: يا أختي، اجذبي عينه إليك، حتى إذا وقف نظره عليكِ فانزلي به قليلًا أو اصعدي به قليلًا. قال يزيد وهو كالمحموم: ثم ثم ثم؟ قلت: يا أمير المؤمنين، ثم جاء مع الليل، وإن المجلس لخالٍ ما فيه غيري وغيره، بما أكابد منه وما يعاني منه فغنيته أحر غناء وأشجاه، وكان العاشق فيه يطرب لصوتي، ثم يطرب الزاهد فيه من أنه استطاع أن يطرب، كما يطيش الطفل ساعة ينطلق من حبس المؤدب.

وما كان يسوءني إلا أنه يمارس في الزهد ممارسة، كأنما أنا صعوبة إنسانية فهو يريد أن يغلبها، وهو يجرب قوى نفسه وطبيعته عليها؛ أو كأنه يراني خيال امرأة في مرآة، لا امرأة مائلة له بهواها وشبابها وحسنها وفتنتها، أو أنا عنده كالحورية من حور الجنة في خيال من هي ثوابه، تكون معه، وإن بينها وبينه من البعد ما بين الدنيا والآخرة، فأجمعتُ أن أحطم المرآة ليراني أنا نفسي لا خيالي، واستنجدت كل فتنتي أن تجعله يفر إلي كلما حاول أن يفر مني. فلما ظننتُني ملأت عينيه وأذنيه ونفسه وانصببت إليه من كل جوارحه، وهجت التيار الذي في دمه ودفعته دفعًا, قلت له: "أنت يا خليلي شيء لا يُعرف، أنت شيء متلفف بإنسان، ومن التي تعشق ثوب رجل ليس فيه لابسه؟ ". ورأيته والله يطوف عند ذلك بفكره، كما أطوف أنا بفكري حول المعنى الذي أردته. فملت إليه وقلت1: "أنا والله أحبك! ". فقال: "وأنا والله الذي لا إله إلا هو". قلت: "وأشتهي أن أعانقك وأقبلك! ". قال: "وأنا والله! ". قلت: "فما يمنعك؟ فوالله إن الموضع لخالٍ! ". قال: "يمنعني قول الله عز وجل: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] فأكره أن تحول مودتي لك عداوة يوم القيامة". إني أرى {بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] يا حبيبتي، وهو يمنعني أن أكون من سيئاتك وأن تكوني من سيئاتي، ولو أحببت الأنثى لوجدتك في كل أنثى، ولكني أحب ما فيك أنت بخاصتك، وهو الذي لا أعرفه ولا أنت تعرفينه، هو معناك يا سلامة لا شخصك. ثم قال وهو يبكي، فما عاد بعد ذلك يا أمير المؤمنين ما عاد بعد ذلك، وترك لي ندامتي وكلام دموعه؟ وليتني لم أفعل، ليتني لم أفعل، فقد رأى أن المرأة -في بعض حالاتها- تكشف وجهها للرجل، وكأنها لم تلق حجابها بل ألقت ثيابها.

_ 1 هذا نص كلامهما كما رواه صاحب الأغاني, إلى قوله: "يوم القيامة"؛ وهو كل القصة في كتابه.

قصة زواج وفلسفة المهر

قصة زواج * وفلسفة المهر: قال رسول عبد الملك: ويحك "يا أبا محمد" لكأن دمك والله من عدوك؛ فهو يفور بك لتلج في العناد فتقتل، وكأني بك والله بين سَبُعين قد فغرا عليك؛ هذا عن يمينك وهذا عن يسارك، ما تفر من حتف إلا إلى حتف، ولا ترحمك الأنياب إلا بمخاليبها. ههنا هشام بن إسماعيل عامل أمير المؤمنين، إن دخلته الرحمة لك استوثق منك في الحديد، ورمى بك إلى دمشق، وهناك أمير المؤمنين، وما هو والله إلا أن يطعم لحمك السيف يعض بك عض الحية في أنيابها السم؛ وكأني بهذا الجنب مصروعًا لمضجعه، وبهذا الوجه مضرجًا بدمائه، وبهذه اللحية معفرة بترابها، وبهذا الرأس محتزًّا في يد "أبي الزعيزعة" جلاد أمير المؤمنين، يلقيه من سيفه رمي الغصن بالثمرة قد ثقلت عليه. وأنت "يا سعيد" فقيه أهل المدينة وعالمها وزاهدها، وقد علم أمير المؤمنين أن عبد الله بن عمر قال فيك لأصحابه: "لو رأى هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لسَرَّه" فإن لم تكرم عليك نفسك فليكرم على نفسك المسلمون؛ إنك إن هلكت رجع الفقه في جميع الأمصار إلى الموالي؛ ففقيه مكة عطاء، وفقيه اليمن طاوس، وفقيه اليمامة يحيى بن أبي كثير، وفقيه البصرة الحسن، وفقيه الكوفة إبراهيم النخعي، وفقيه الشام مكحول، وفقيه خراسان عطاء الخراساني. وإنما يتحدث الناس أن المدينة من دون الأمصار قد حرسها الله بفقيهها القرشي العربي "أبي محمد بن المسيب" كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد علم أهل الأرض أنك حججت نيفًا وثلاثين حجة، وما فاتتك التكبيرة الأولى في المسجد منذ أربعين سنة، وما قمت إلا في موضعك من الصف الأول، فلم تنظر قط إلى قفا رجل في الصلاة؛ ولا وجد الشيطان ما يعرض لك من قبله في صلاتك ولا قفا رجل؛ فالله الله يا أبا محمد، إني والله ما أغشك

_ * انظر "قصص الرافعي" في "عود على بدء" من كتاب "حياة الرافعي".

في النصيحة؛ ولا أخدعك عن الرأي، ولا أنظر لك إلا خير ما أنظر لنفسي؛ وإن عبد الملك بن مروان من علمت؛ رجل قد عم الناس ترغيبه وترهيبه، فهو آخذك على ما تكره إن لم تأخذه أنت على ما يحب؛ وإنه والله يا أبا محمد، ما طلب إليك أمير المؤمنين إلا وأنت عنده الأعلى، ولا بعثني إليك إلا وكأنه يسعى بين يديك، رعاية لمنزلتك عنده، وإكبارًا لحقك عليه؛ وما أرسلني أخطب إليك ابنتك لولي عهده إلا وهو يبتذل نفسه ابتذالًا ليصل بك رحمه، ويوثق آصرته؛ وإن يكن الله قد أغناك أن تنتفع به وبملكه ورعًا وزهادة، فما أحوج أهل مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ينتفعوا بك عنده، وأن يكونوا أصهار "الوليد" فيستدفعوا شرا ما به عنهم غنى، ويجتلبوا خيرًا ما بهم غنى عنه، ولست تدري ما يكون من مصادر الأمور ومواردها. وإنك والله إن لججت في عنادك وأصررت أن تردني إليه خائبًا، لتهيجَنَّ قَرَم سيوف الشام إلى هذه اللحوم ولحمك يومئذ من أطيبها، ولأمير المؤمنين تارتان: لين وشدة؛ وأنا إليك رسول الأولى، فلا تجعلني رسول الثانية. وكان أبو محمد يسمع هذا الكلام وكأن الكلام لا يخلص إلى نفسه إلا بعد أن تتساقط معانيه في الأرض، هيبة منه وفرقًا من إقدامها عليه؛ وقد لان رسول عبد الملك في دهائه حتى ظن عند نفسه أنه ساغ من الرجل مساغ الماء العذب في الحلق الظامئ، واشتد في وعيده حتى ما يشك أنه قد سقاه ماء حميمًا فقطع أمعاءه؛ والرجل في كل ذلك من فوقه كالسماء فوق الأرض، لو تحول الناس جميعًا كَنَّاسين يثيرون من غبار هذه على تلك لما كان مرجع الغبار إلا عليهم، وبقيت السماء ضاحكة صافية تتلألأ. وقلّب الرسول نظره في وجه الشيخ، فإذا هو هو ليس فيه معنى رغبة ولا رهبة، كأن لم يجعل له الأرض ذهبًا تحت قدميه في حالة، ولم يملأ الجو سيوفًا على رأسه في الحالة الأخرى؛ وأيقن أنه من الشيخ العظيم كالصبي الغِرّ قد رأى الطائر في أعلى الشجرة فطمع فيه، فجاء من تحتها يناديه: أن انزل إلي حتى آخذك وألعب بك. وبعد قليل تكلم أبو محمد فقال: يا هذا، أما أنا فقد سمعت، وأما أنت فقد رأيت، وقد روينا أن هذه الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، فانظر ما جئتني أنت به، وقسه إلى هذه الدنيا كلها،

فكم -رحمك الله- تكون قد قسمت لي من جناح البعوضة؟ ولقد دُعيت من قبل إلى نيف وثلاثين ألفًا لآخذها، فقلت: لا حاجة لي فيها ولا في بني مروان، حتى ألقى الله فيحكم بيني وبينهم "وها أنا ذا اليوم أُدعى إلى أضعافها وإلى المزيد معها؛ أفأقبض يدي عن جمرة ثم أمدها لأملأها جمرًا؟ لا والله ما رغب عبد الملك لابنه في ابنتي، ولكنه رجل من سياسته إلصاق الحاجة بالناس ليجعلها مَقَادة لهم فيصرفهم بها؛ وقد أعجزه أن أبايعه؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيعتين، وما عبد الملك عندنا إلا باطل كابن الزبير، ولا ابن الزبير إلا باطل كعبد الملك، فانظر فإنك ما جئت لابنتي وابنه، ولكن جئت تخطبني أنا لبيعته. قال الرسول: أيها الشيخ، دع عنك البيعة وحديثها، ولكن من عسى أن تجد لكريمتك خيرًا من هذا الذي ساقه الله إليك؟ إنك لراعٍ وإنها لرعية وستسأل عنها، وما كان الظن بك أن تسيء رِعْيتها وتبخس حقها، وأن تعضلها وقد خطبها فارس بني مروان، وإن لم يكن فارسهم فهو ولي عهد المسلمين؛ وإن لم يكن هذا ولا ذاك فهو الوليد ابن أمير المؤمنين؛ وأدنى الثلاث أرفع الشرف فكيف بهن جميعًا، وهن جميعًا في الوليد؟ قال الشيخ: أما أني مسئول عن ابنتي، فما رغبت عن صاحبك إلا لأني مسئول عن ابنتي. وقد علمت أنت أن الله يسألني عنها في يوم لعل أمير المؤمنين وابن أمير المؤمنين وألفافهما لا يكونون فيه إلا وراء عبيدها وأوباشها ودعارها وفجارها1. يخرجون من حساب الفجرة إلى حساب القتلة، ومن حساب هؤلاء إلى الحساب على السرقة والغصب، إلى حساب أهل البغي، إلى حساب التفريط في حقوق المسلمين. ويخف يومئذ عبيدها وأوباشها ودعارها وفجارها في زحام الحشر، ويمشي أمير المؤمنين وابن أمير المؤمنين ومن اتصل بهما، وعليهم أمثال الجبال من أثقال الذنوب وحقوق العباد. فهذا ما نظرت في حسن الرعاية لابنتي، لو لم أضن بها على أمير المؤمنين وابن أمير المؤمنين لأَوْبَقتُ. لا والله ما بيني وبينكم عمل، وقد فرغت مما على الأرض فلا يمر السيف مني في لحم حي. ولما كان غداة غد جلس الشيخ في حلقته في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للحديث

_ 1 الضمير راجع إلى الدنيا.

والتأويل، فسأل رجل من عُرض المجلس، فقال: يا أبا محمد، إن رجلًا يلاحيني في صداق بنته ويكلفني ما لا أطيق. فما أكثر ما بلغ إليه صداق أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصداق بناته؟ قال الشيخ: روينا أن عمر "رضي الله عنه" كان ينهى عن المغالاة في الصداق, ويقول: "ما تزوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا زوَّج بناته بأكثر من أربعمائة درهم"1، ولو كانت المغالاة بمهور النساء مكرمة لسبق إليها رسول الله, صلى الله عليه وسلم. وروينا عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "خير النساء أحسنهن وجوهًا, وأرخصهن مهورًا". فصاح السائل: يرحمك الله يا أبا محمد، كيف يأتي أن تكون المرأة الحسناء رخيصة المهر، وحسنها هو يغليها على الناس؛ تكثر رغبتهم فيها فيتنافسون عليها؟ قال الشيخ: انظر كيف قلت, أهم يساومون في بهيمة لا تعقل، وليس لها من أمرها شيء إلا أنها بضاعة من مطامع صاحبها يغليها على مطامع الناس؟ إنما أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن خير النساء من كانت على جمال وجهها، في أخلاق كجمال وجهها، وكان عقلها جمالًا ثالثًا؛ فهذه إن أصابت الرجل الكفء، يسرت عليه، ثم يسرت، ثم يسرت؛ إذ تعتبر نفسها إنسانًا يريد إنسانًا، لا متاعًا يطلب شاريًا، وهذه لا يكون رخص القيمة في مهرها، إلا دليلًا على ارتفاع القيمة في عقلها ودينها؛ أما الحمقاء فجمالها يأبى إلا مضاعفة الثمن لحسنها، أي: لحمقها, وهي بهذا المعنى من شرار النساء، وليست من خيارهن. ولقد تزوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعض نسائه على عشرة دراهم وأثاث بيت، وكان الأثاث: رحى يد، وجرة ماء، ووسادة من أدم حشوها ليف. وأولم على بعض نسائه بمُدَّين من شعير، وعلى أخرى بمدين من تمر ومدين من سَوِيق, وما كان به -صلى الله عليه وسلم- الفقر، ولكنه يشرع بسنته ليُعلِّم الناس من عمله أن المرأة للرجل نفس لنفس، لا متاع لشاريه؛ والمتاع يقوَّم بما بُذل فيه إن غاليًا وإن رخيصًا، ولكن الرجل يقوم عند المرأة بما يكون منه؛ فمهرها الصحيح ليس هذا الذي تأخذه قبل أن تحمل إلى داره، ولكنه الذي تجده منه بعد أن تحمل إلى داره؛ مهرها معاملتها، تأخذ منه يومًا فيومًا، فلا تزال بذلك عروسًا على نفس رجُلها ما دامت في معاشرته. أما ذلك الصداق من الذهب والفضة، فهو صداق العروس الداخلة على الجسم لا على

_ 1 الدرهم: خمسة قروش.

النفس؛ أفلا تراه كالجسم يهلك ويبلى، أفلا ترى هذه الغالية -إن لم تجد النفس في رَجُلها- قد تكون عروس اليوم ومطلقة الغد؟! وما الصداق في قليله وكثيره، إلا كالإيماء إلى الرجولة وقدرتها, فهو إيماء، ولكن الرجل قبْل. إن كل امرئ يستطيع أن يحمل سيفًا، والسيف إيماء إلى القوة، غير أنه ليس كل ذوي السيوف سواء، وقد يحمل الجبان في كل يد سيفًا، ويملك في داره مائة سيف, فهو إيماء، ولكن البطل قبْلُ، ولكن البطل قبْلُ. مائة سيف يمهر بها الجبان قوته الخائبة، لا تغني قوته شيئًا، ولكنها كالتدليس على من كان جبانًا مثله. ويوشك أن يكون المهر الغالي كالتدليس على الناس وعلى المرأة، كي لا تعلم ولا يعلم الناس أنه ثمن خيبتها؛ فلو عقلت المرأة لباهت النساء بيسر مهرها، فإنها بذلك تكون قد تركت عقلها يعمل عمله، وكفت حماقتها أن تفسد عليه. فصاح رجل في المجلس: أيها الشيخ، أفي هذا من دليل أو أثر؟ قال الشيخ: نعم؛ أما من كتاب الله فقد قال الله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1] . فهي زوجُه حين تجده هو لا حين تجد ماله؛ وهي زوجه حين تتممه لا حين تنقصه، وحين تلائمه لا حين تختلف عليه؛ فمصلحة المرأة زوجة ما يجعلها من زوجها، فيكونان معًا كالنفس الواحدة، على ما ترى للعضو من جسمه؛ يريد من جسمه الحياة لا غيرها. وأما من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد روينا: "إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير". فقد اشترط الدين، على أن يكون مرضيًّا لا أي الدين كان؛ ثم اشترط الأمانة، وهي مظهر الدين كله بجميع حسناته, وأيسرها أن يكون الرجل للمرأة أمينًا، وعلى حقوقها أمينًا، وفي معاملتها أمينًا؛ فلا يبخسها ولا يُعْنتها، ولا يسيء إليها؛ لأن كل ذلك ثَلْم في أمانته؛ فإن ردت المرأة من هذه حاله وصفته من أجل المهر, تقدم إليها بالمهر من ليست هذه حاله وصفته، فوقعت الفتنة، وفسدت المرأة بالرجل، وفسد هو بها، وفسد النسل بهما جميعًا، وأهمل من لا يملك، وتعنست من لا تجد، ويرجع المهر الذي هو سبب الزواج سببًا في منعه، ويتقارب النساء والرجال على رغم المهر والدين والأمانة؛ فيقع معنى الزواج، ويبقى المعطل منه هو اللفظ والشرع.

هل علمت المرأة أنها لا تدخل بيت رجلها إلا لتجاهد فيه جهادها، وتبلو فيه بلاءها؟ وهل يقوم مال الدنيا بحقها فيما تعمل وما تجاهد، وهي أم الحياة ومنشئتها وحافظتها؟ فأين يكون موضع المال ومكان التفرقة في كثيره وقليله، والمال كله دون حقها؟ ولن يتفاوت الناس بالمال تختلف درجاتهم به، وتكون مراتبهم على مقداره، تكثر به مرة وتقل مرة, إلا إذا فسد الزمان، وبطلت قضية العقل، وتعطل موجب الشرع, وأصبحت السجايا تتحول, يملكها من يملك المال, ويخسرها من يخسره؛ فيكون الدين على النفوس كالدخيل المزاحم لموضعه، والمتدلي في غير حقه؛ وبهذا يرجع باطل الغني دِينًا يتعامل الناس معه، ودين الفقير بهرجًا لا يروج عند أحد؛ وليس هذا من ديننا، دين النفس والخلق، وإن ألف بعير يقنوها الرجل خالصة عليه، ثابتة له، لا تزيد في منزلة دينه قدر نملة ولا ما دونها. والحجران: الذهب والفضة, قد يكون شعاعهما في هذه الدنيا أضوأ من شمسها وقمرها، ولكنهما في نور النفس المؤمنة كحصاتين يأخذهما من تحت قدميه، ويذهب يزعم لك أنهما في قدر الشمس والقمر. وهلاك الناس إنما يُقضى بمحاولتهم أن يكونوا أناسًا بعيوبهم وذنوبهم؛ فهذا هو الإنسان المدبر عن الله وعن نفسه وعن جنسه؛ لا يكون أبوه أبًا في عطفه، ولا أمه أمًّا في محبتها، ولا ابنه ابنًا في بره، ولا زوجته زوجة في وفائها؛ وإنما يكونون له مهالك، كما روينا عن رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان يكون هلاك الرجل على يد زوجته وأبويه وولده؛ يعيرونه بالفقر، ويكلفونه ما لا يطيق؛ فيدخل المداخل التي يذهب فيها دينه فيهلك". وصاح المؤذن، فقطع الشيخ مجلسه وقام إلى الصلاة، ثم خرج إلى داره، فتلقته ابنته وعلى وجهها مثل نوره، قالت: يا أبت كنت أتلو الساعة قوله تعالى: {رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 201] فما حسنة الدنيا؟ قال: يا بنية، هي التي تصلح أن تذكر مع حسنة الآخرة، وما أراها للرجل إلا الزوجة الصالحة، ولا للمرأة ... وطُرق الباب، فذهب الشيخ يفتح، فإذا الطارق "عبد الله بن أبي وداعة"؛ وكان يجالسه ويأخذ عنه ويلزم حلقته، ولكنه فقده أيامًا؛ فدخل فجلس. قال الشيخ: "أين كنت؟ ".

قال: "تُوفيتْ أهلي فاشتغلتُ بها". قال الشيخ: "هلا أخبرتنا فشهدناها". ثم أخذ يفيض في الكلام عن الدنيا والآخرة؛ وشعر ابن أبي وداعة أن القبر ما يزال في قلبه حتى في مجلس الشيخ، فأراد أن يقوم، فقال "سعيد": "هل استحدثت امرأة غيرها؟ ". قال: "يرحمك الله، أين نحن من الدنيا اليوم، ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ ". قال الشيخ: "أنا.....". أنا، أنا، أنا. دوى الجو بهذه الكلمة في أذن طالب العلم الفقير، فحسب كأن الملائكة تنشد نشيدًا في تسبيح الله يَطِن ّلحنه: "أنا، أنا، أنا". وخرجت الكلمة من فم الشيخ ومن السماء لهذا المسكين في وقت واحد، وكأنها كلمة زوجته إحدى الحور العين. فلما أفاق من غشية أذنه, قال: "وتفعل؟ ". قال "سعيد": "نعم" وفسر "نعم" بأحسن تفسيرها وأبلغه؛ فقال: قم فادع لي نفرًا من الأنصار, فلما جاءوا حمد الله وصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- وزوجه على ثلاثة دراهم "خمسة عشر قرشًا". ثلاثة دراهم مهر الزوجة التي أرسل يخطبها الخليفة العظيم لولي عهده بثقلها ذهبًا لو شاءت. وغشَّى الفرح هذه المرة عيني الرجل وأذنيه، فإذا هو يسمع نشيد الملائكة يطن لحنه: "أنا، أنا، أنا". ولم يشعر أنه على الأرض، فقام يطير، وليس يدري من فرحه ما يصنع، وكأنه في يوم جاءه من غير هذه الدنيا يتعرف إليها بهذا الصوت الذي لا يزال يطن في أذنيه: "أنا، أنا، أنا". وصار إلى منزله وجعل يفكر: ممن يأخذ؟ ممن يستدين؟ فظهرت له الأرض خلاء من الإنسان، وليس فيها إلا الرجل الواحد الذي يضطرب صوته في أذنيه: "أنا، أنا، أنا". وصلى المغرب وكان صائمًا، ثم قام فأسرج، فإذا سراجه الخافت الضئيل يسطع لعينيه سطوع القمر، وكأن في نوره وجه عروس تقول له: "أنا، أنا، أنا".

وقدم عشاءه ليُفطر، وكان خبزًا وزيتًا، فإذا الباب يقرع؛ قال: من هذا؟ قال الطارق: سعيد. سعيد؟ سعيد؟ من سعيد؟! أهو أبو عثمان؛ أبو علي؛ أبو الحسن؟ فكر الرجل في كل من اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب؛ إلا الذي قال له: "أنا". لم يخالجه أن يكون هو الطارق، فإن هذا الإمام لم يطرق باب أحد قط، ولم ير منذ أربعين سنة إلا بين داره والمسجد. ثم خرج إليه، فإذا به سعيد بن المسيب، فلم تأخذه عينه حتى رجع القبر فهبط فجأة بظلامه وأمواته في قلب المسكين، وظن أن الشيخ قد بدا له، فندم، فجاءه للطلاق قبل أن يشيع الخبر، ويتعذر إصلاح الغلطة! فقال: "يا أبا محمد، لو ... لو ... لو أرسلتَ إليَّ لأتيتُك! ". قال الشيخ: "لأنت أحق أن تُؤتَى". فما صكّت الكلمة سمع المسكين حتى أَبْلَس الوجود في نظره، وغشي الدنيا صمت كصمت الموت، وأحس كأن القبر يتمدد في قلبه بعروق الأرض كلها! ثم فاء لنفسه، وقدر أن ليس محل شيخه إلا أن يأمر، وليس محله هو إلا أن يطيع، وأن من الرجولة ألا يكون معرّة على الرجولة، ثم نكَس وتنكَّس وقال بذِلة ومسكنة: "ما تأمرني؟ ". تفتحت السماء مرة ثالثة، وقال الشيخ: "إنك كنت رجلًا عزبًا فتزوجت، فكرهت أن تبيت الليلة وحدك؛ وهذه امرأتك! ". وانحرف شيئًا، فإذا العروس قائمة خلفه مستترة به، ودفعها إلى الباب وسلم وانصرف. وانبعث الوجود فجأة، وطن لحن الملائكة في أذن أبي وداعة: "أنا، أنا، أنا". دخلت العروس الباب وسقطت من الحياء، فتركها الرجل مكانها، واستوثق من بابه، ثم خطا إلى القصعة التي فيها الخبز والزيت، فوضعها في ظل السراج كي لا تراها؛ وأغمض السراج عينه ونشر الظل. ثم صعد إلى السطح ورمى الجيران بحصيات؛ ليعلموا أن له شأنًا اعتراه، وأن قد وجب حق الجار على الجار "وكانت هذه الحصيات يومئذ كأجراس التليفون اليوم" فجاءوه على سطوحهم وقالوا: "ما شأنك؟ ".

قال: "ويحكم! زوجني سعيد بن المسيب ابنته اليوم؛ وقد جاء بها الليلة على غفلة". قالوا: "وسعيد زَوَّجَكَ! أهو سعيد الذي زوجك! أزوجك سعيد؟ ". قال: "نعم". قالوا: "وهي في الدار؟ أتقول: إنها في الدار؟ ". قال: "نعم". فانثال النساء عليه من هنا وههنا حتى امتلأت بهن الدار. وغشيت الرجل غشية أخرى، فحسب داره تتيه على قصر عبد الملك بن مروان، وكأنما يسمعها تقول: "أنا، أنا، أنا". قال عبد الله بن أبي وداعة: "ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس وأحفظهم لكتاب الله تعالى، وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرفهم بحق الزوج. لقد كانت المسألة المعضلة تُعيي الفقهاء فأسألها عنها فأجد عندها منها علمًا". قال: ومكثت شهرًا لا يأتيني سعيد ولا آتيه، فلما كان بعد الشهر أتيته وهو في حلقته فسلمت، فرد علي السلام، ولم يكلمني حتى تفرق الناس من المجلس وخلا وجهه، فنظر إلي وقال: "ما حال ذلك الإنسان؟ ". أما ذلك "الإنسان" فلم يعرف من الفرق بين قصر ولي العهد ابن أمير المؤمنين، وبين حجرة ابن أبي وداعة التي تسمى دارًا! إلا أن هناك مضاعفة الهم، وهنا مضاعفة الحب. وما بين "هناك" إلى القبر مدة الحياة, ستخفت الروح من نور بعد نور، إلى أن تنطفئ في السماء من فضائلها. وما بين "هنا" إلى القبر مدة الحياة, تسطع الروح بنور على نور، إلى أن تشتغل في السماء بفضائلها. وما عند أمير المؤمنين لا يبقى، وما عند الله خير وأبقى. ولم يزل عبد الملك يحتال "لسعيد" ويرصد غوائله حتى وقعت به المحنة،

فضربه عامله على المدينة خمسين سوطًا في يوم بارد، وصب عليه جرة ماء، وعرضه على السيف، وطاف به الأسواق عاريًا في تَبَّان1 من الشعر، ومنع الناس أن يجالسوه أو يخاطبوه. وبهذه الوقاحة، وبهذه الرذيلة، وبهذه المخزاة، قال عبد الملك بن مروان: "أنا؟ ".

_ 1 التبان: ما يسمى اليوم "المايوه" أو لباس البحر. ذكره الجاحظ وقال: هو سروال قصير يلبسه الملاحون.

ذيل القصة وفلسفة المال

ذيل القصة وفلسفة المال: ذهب الناس يمينًا وشمالًا فيما كتبناه من خبر الإمام سعيد بن المسيب وتزويجه ابنته من طالب علم فقير، بعد إذ ضن بها أن تكون زوجًا لولي عهد أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان؛ وقد جعلت قلوب بعض النساء العصريات المتعلمات تصيح وتُوَلْوِل ... وحدثنا أديب ظريف أن إحداهن سألت عن عنوان عبد الملك بن مروان!. أفتُراها ستكتب إليه أنها تقبل الزواج من ولي عهده؟ على أن للقصة ذيلًا، فإن الطبيعة الآدمية لا عصر لها، بل هي طبيعة كل عصر؛ والفضيلة الإنسانية يبدأ تاريخها من الجنة، فهي هي لا تتجدد ولا تزال تلوح وتختفي؛ أما الرذيلة فأول تاريخها من الطبيعة نفسها، فهي هي لا تتغير ولا تزال تظهر وتستسرّ. لما زوج الإمام ابنته من ابن أبي وداعة، أخذها بنفسه إليه في يوم زوّجها منه، ومشى بها في طريق حصاه عنده أفضل من الدر، وترابه أكرم من الذهب. طارت الحادثة في الناس، واستفاض لهم قول كثير: {فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124] وقد قال جماعة منهم: تالله لئن انقطع الوحي، إن في معانيه بقية ما تزال تنزل على بعض القلوب التي تشبه في عظمتها قلوب الأنبياء؛ وما هذه الحادثة على الدنيا إلا في معنى سورة من السور قد انشقت لها السماء، ونزل بها جبريل يخفُق على أفئدة المؤمنين خفقة إيمان. {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] . وقال أناس منهم: أما والله لو تهيأ لأحدنا أن يكون لصا يسرق أمير المؤمنين، أو ابن أمير المؤمنين، لركب رأسه في ذلك، ما يردّه عن السرقة شيء؛ فكيف بمن تهيأ له الصهر والحسب، وجاءه الغنى يطرق بابه, ما باله يردّ كل ذلك ويخزي ابنته برجل فقير تعيش في داره بأسوأ حال؛ وكيف تثقل همته وتبطؤ وتموت، إذا

كان الدر والجوهر والذهب والخلافة، ثم ينبعث ويمضي لا يتلكأ عزمه، إذا كان العلم والفقر والدين والتقوى؟ وانتهى كلام الناس إلى الإمام العظيم، فلم يجئه إلا من الظن خفيًّا خفيًّا، كأنما هي أقوال حسبها ثقال عنه بعد خمسين وثلاثمائة وألف سنة "في زمننا هذا" حين يكون هو في معاني السماء، ويكون القائلون في معاني التراب النجس الذي نفضته على الشرق نعال الأوروبيين؟ قال الراوي: ولم يستطع أحد من الناس أن يواجه الإمام بشفة أو بنت شفة، لا مضيقًا عليه من قلبه ولا موسعًا، حتى كان يوم من أيام الجمعة, وقد مال الناس بعد الصلاة إلى حلقة الشيخ، وتقصفوا بعضهم على بعض، فغص بهم المسجد، وكان إمامنا يفسر قوله تعالى: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12] . قال الراوي: فكان فيما قاله الشيخ: إذا هُدي المرء سبيله كانت السبل الأخرى في الحياة إما عداء له، وإما معارضة، وإما ردًّا، فهو منها في الأذى، أو في معنى الأذى، أو عُرْضة للأذى. لقد وجد الطريق ولكنه أصاب العقبات أيضًا، وهذه حالة لا يمضي فيها الموفق إلى غايته، إلا إذا أعانه الله بطبيعتين: أولاهما العزم الثابت، وهذا هو التوكل على الله؛ والأخرى اليقين المستبصر، وهذا هو الصبر على الأذى. ومتى عزم الإنسان ذلك العزم، وأيقن ذلك اليقين؛ تحولت العقبات التي تصده عن غايته، فآل معناها أن تكون زيادة في عزمه ويقينه، بعد أن وُضعن ليكُنَّ نقصًا منهما؛ فترجع العقبات بعد ذلك وإنها لوسائل تعين على الغاية. وبهذا يبسط المؤمن روحه على الطريق، فما بد أن يغلب على الطريق وما فيها, ينظر إلى الدنيا بنور الله فلا يجد الدنيا شيئًا -على سعتها وتناقضها- إلا سبيله وما حول سبيله، فهو ماضٍ قدمًا لا يترادّ ولا يفتُر ولا يكل، وهذه حقيقة العزم وحقيقة الصبر جميعًا. ومن ثم لا تكون الحياة لهذا المؤمن مهما تقلبت واختلفت, إلا نفاذًا من طريق واحدة دون التخبط في الطرق الأخرى، ثم لا يكون العمر مهما طال إلا مدة صبر في رأي المؤمن. وعزيمة النفاذ وعزيمة الصبر، هما الضوء الروحاني القوي، الذي يكتسح

ظُلُمات النفس، مما يسميه الناس خمولًا ودَعَة وتهاونًا وغفلة وضجرًا ونحوها. قال: ولكن كيف يُعان المؤمن على هذه المعجزة النفسية؟ هنا يتبين إعجاز الآية الكريمة؛ فقد ذكر فيها التوكل ثلاث مرات، وافتتحت به وختمت؛ والتوكل هو العزم الثابت كما أوضحنا. وذكرت في الآية بين ذلك هداية المرء سبيله؛ وهذه الإضافة {سُبُلَنَا} تعين أنها هداية الإنسان إلى سبيل نفسه؛ أي: سبيله الباطني الذي هو مناط سعادته في الشعور بالسعادة1. ثم ذكر الصبر على أذى الناس، والأذى لا يقع إلا في حيوانية الإنسان، ولا يؤثر إلا فيها. فكأن الآية مصرحة أن نجاح المؤمن ونفاذه في الحياة لا يكونان أول الأشياء وآخرها إلا بثلاث: العزم الثابت، ثم العزم الثابت، ثم العزم الثابت, وأن الصبر ليس شيئًا يذكر، أو شيئًا يجدي، إن لم يكن صبرًا على أذى الحيوانية في أفظع وحشيتها؛ فالروح لا تؤذي الروح، ولكن الحيوان يؤذي الحيوان, وأن ما يقع من هذه الحيوانية فيسمى اعتداء من غيرك، ويسمى أذى لك، هو شيء ينبغي أن يجعله العزم فخرًا لقوة الاحتمال فيك، كما جعله البطش فخرًا للقدرة عند المعتدي. وبهذا يكون العزم قد فصل بين نفسك الروحية وبين شخصك الحيواني، ووهبك حقيقة الشعور، وصحح بمعاني روحيتك معاني حيوانيتك، وحينئذ ترى السعادة حق السعادة ما كان هداية لنفسك أو هداية بها، ولو انقلب في الشخص الحيواني منك أذًى وألمًا. ذلك صبر أولي العزم من الرسل. قال الراوي: وعند ذلك صاح رجل كان في المجلس دسه عامل الخليفة، ليسأل الشيخ سؤالًا على ملأ الناس، يكون كالتشنيع عليه والتشهير به؛ وقد مكر العامل فاختاره شيخًا كبيرًا أعقف، ليرحم الناس رقة عظمه وكبر سنه فلا يعرضون له بأذى، ثم ليكون صوته كأنه صوت الدهر من بعيد. قال الصائح: ذلك أيها الشيخ صبر أولي العزم من الرسل، أو صبر ابنتك على مكاره العيش مع ابن أبي وداعة، لا يجد إلا رُمْقة يُمسك بها الرَّمَق عليها، وقد كانت النعمة لها معرضة، فدفعتها إليه -زعمت- لتهلك به شخصها الحيواني، وتوكلت على الله وألقيت ابنتك في اليم؟ فتربّد وجه الشيخ وأطرق هُنَيَّات، ثم رفع رأسه وقال: أين المتكلم آنفًا؟

_ 1 سيأتي في كلام الإمام بسط لهذا المعنى.

فارتفع الصوت: ها أنا ذا. قال: ادن مني, فتقاعس الرجل كأنما تهيب ما فرَط منه. فاستدناه الثانية؛ فقام يتخطى الناس حتى وقف بإزائه ثم جلس؛ فقرأ الشيخ قوله تعالى: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم: 21] . ثم قال: أيها الرجل، لا تسمعني بأذنك وحدها, أرأيتَك1 لو سمعتَ خبرًا ليس في نفسك أصل من معناه، أو ورد عليك الخبر ونفسك عنه في شغل قد أهمها؛ أفكنت تنشط له نشاطك للخبر احتفلت له نفسك أو أصاب هوى منك أو رأيته موضع اعتبار؟ قال: لا. قال الشيخ: فإذا سمعت بأذنك وحدها فإنما سمعت كلامًا يمر بأذنك مرًّا، وإذا أردت الكلام لنفسك سمعت بأذنك ونفسك معًا؟ قال: نعم. قال الشيخ: فكل ما لا تنفرد به حاسة واحدة، بل تشارك فيه الحواس كلها أو أكثرها, لا يكون إلا موضع اهتمام للنفس؟ قال: نعم. قال الشيخ: فمن هنا يكثر الفرح والحزن كلاهما إذا شاركت فيهما الحواس فيأتي كل منهما كثيرًا مهما قل، وتزيد كل حاسة في اللذة لذة وفي الألم ألمًا، فتعمل النفس في ذلك أعمالًا تسحر بها، فيكون الشيء لصاحبه غير ما هو للناس، كالصوت الباكي أو الضاحك في لسان طفلك، تسمعه أنت منه بكل حواسك، فإذا أنت سمعت الصوت عينه من لسان رجل في الناس رأيته غير ذاك أكذلك هو؟ قال: نعم. قال الشيخ: أفيكون السرور بالغًا عجيبًا أكثر ما هو بالغ، حين يجد المال والغنى في الإنسان، أم حين يجد القوة النفسية وطبيعة المرح والرضى؟ قال: بل حين يجد في النفس ...

_ 1 أرأيتك بمعنى: أخبرني، تبقى تاؤه على حالها في الإفراد والتثنية والجمع ويسلط التغيير على الكاف: أرأيتك, أرأيتكما، أرأيتكم ... إلخ.

قال الشيخ: أرأيت الإنسان يكون سعيدًا بما يتوهم الناس أنه به غني سعيد، أم بشعوره هو وإن كان بعد فيما لا يتوهم الناس فيه الغنى والسعادة؟ قال: بل بشعوره. قال الشيخ: أفلا توجد في الدنيا أشياء من النفس تكون فوق الدنيا وفوق الشهوات والمطامع؛ كالطفل عند أمه، كل ما تعلق به من شيء وُزن به هو لا بغيره، وكان الاعتبار عليه لا على سواه، أتعرف أمًّا ترضى أن يُذبح ابنها في حجرها لِقاء أن يُملأ حجرها ذهبًا وإن كانت فقيرة معدمة؟ قال: لا. قال الشيخ: فإذا كانت النفس تشعر أكثر مما ترى؛ أفيذهب ما تراه فيما تشعر به، ويكون شعورها هو وحده الذي يلبس ما حولها ويصوره ويصرفه؟ قال: نعم. قال الشيخ: أفتعرف أن لكل نفس قوية من هذا العالم الذي نعيش فيه عالمًا آخر هو عالم أفكارها، وإحساسها، وفيه وحده لذات إحساسها وأفكارها؟ قال: نعم. قال الشيخ: أفرأيت المرأة إذا صح حبها أو فرحها أو عزمها، أرأيتها تكون إلا في عالم أفكارها؟ أرأيت كل ما يتصل برغبتها حينئذ يكون إلا من أشياء قلبها لا من أشياء الدنيا؟ أرأيتها لا تعيش في هذه الحالة إلا بالمعاملة مع قلبها الذي لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يجمع المال ولا يريد إلا الشعور فقط؟ قال: نعم هو ذاك. قال الشيخ: أرأيت إذا كان الإيمان قد وُلد ونشأ وترعرع في قلب المرأة، ألا يكون هو طفل قلبها؟ قال: نعم. قال الشيخ: أرأيت إذا كانت الخمر عند مُدمنها شيئًا عظيمًا، وكانت ضرورة من ضرورات وجوده الضعيف المختل، فلا يستقيم وجوده ولا سفه وجوده إلا بها؛ أفيلزم من ذلك أن تكون الخمر من ضرورات صاحب الوجود القوي المنتظم؟ قال: لا. قال الشيخ: أفموقن أنت لا بد من آخِر لأيام الإنسان ولياليه في هذه الدنيا, فينقطع به العيش؟

قال: نعم. قال الشيخ: أفيؤرخ الإنسان يومئذ بتاريخ معدته وما حولها، أم بتاريخ نفسه وما فيها؟ قال: بل بتاريخ نفسه. قال الشيخ: فإذا كنتَ صاحب حرب، وكنت بطلًا من الأبطال، ومِسْعَرًا من المساعير، وأيقنت الموت في المعركة؛ أيكون الحقيقي عندك في هذه الساعة هو الموت أم الحياة؟ قال: بل الحياة عندئذ وهْم وباطل. قال الشيخ: فتفرّ في تلك الساعة إلى الحياة ولذاتها في خيالك، أم تفر منها ومن لذاتها؟ قال: بل الفرار منها، فإن خيالها يكون خَبَالًا. قال الشيخ: ففي تلك الساعة التي هي عمر نفسك، وعمل نفسك، ورجاء نفسك؛ تستشعر اللذة في موتك بطلًا، أم تحس الكرب، والمقت من ذلك؟ قال: بل أستشعر اللذة. قال الشيخ: إذن فهي كبرياء الروح العظيمة على مادة التراب والطين في أي أشكالها ولو في الذهب. قال: هي تلك. قال الشيخ: إذن فبعض أشياء النفس تمحو في بعض الأحوال كل أشياء الدنيا، أو الأشياء الكثيرة من الدنيا. قال: نعم. قال الإمام: يرحمك الله؛ كذلك مُحي عندنا أمير المؤمنين وابن أمير المؤمنين، ومحي المال والغنى، ولم يكن ذلك عندنا إلا سعادة؛ ومن رحمة الله أن كل من هدي سبيله بالدين أو الحكمة، استطاع أن يصنع بنفسه لنفسه سعادتها في الدنيا، ولو لم يكن له إلا لقيمات؛ فإن السعة سعة الخلق لا المال، وإن الفقر فقر الخُلُق لا العيش. قال الراوي: ثم إن الإمام العظيم التفت إلى الناس وقال: أما إني -علم الله- ما زوجتُ ابنتي رجلًا أعرفه فقيرًا أو غنيًّا، بل رجلًا أعرفه بطلًا من أبطال

الحياة، يملك أقوى أسلحته من الدين والفضيلة. وقد أيقنتُ حين زوجتها منه أنها ستعرف بفضيلة نفسها فضيلة نفسه، فيتجانس الطبع والطبع, ولا مَهْنَأ لرجل وامرأة إلا أن يجانس طبعه طبعها، وقد علمتُ وعلم الناس أن ليس في مال الدنيا ما يشتري هذه المجانسة، وأنها لا تكون إلا هدية قلب لقلب يأتلفان ويتحابَّان. ثم قال الإمام: وأنا فقد دخلتُ على أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم1- ورأيتهن في دورهن يقاسين الحياة، ويعانين من الرزق ما شح دَرّه فلا يجيء إلا كالقطرة بعد القطرة، وهنّ على ذلك، ما واحدة منهن إلا هي ملكة من ملكات الآدمية كلها، وما فقرهن إلا كبرياء الجنة نظرتْ إلى الأرض فقالت: لا ... ! 2. يجاهدْنَ مجاهدة كل شريف عظيم النفس، همه أن يكون الشرف أو لا يكون شيء؛ ويرى الغافل أن مثلهن هالكات في تعب الجهاد، ويعلمن من أنفسهن غير ما يري ذلك المسكين, يعلمن أن ذلك التعب هو لذة النصر بعينها. كانت أنوثتهن أبدًا صاعدة متسامية فوق موضعها بهذه القناعة وبهذه التقوى، ولا تزال متسامية صاعدة، على حين تنزل المطامع بأنوثة المرأة دون موضعها، ولا تزال أنوثتها تنحدر ما بقيت المرأة تطمع؛ ورب ملكة جعلتها مطامع الحياة في الدَّرك الأسفل، وهي باسمها في الوهم الأعلى! وقد روينا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اطَّلعتُ في الجنة فإذا أقل أهلها النساء، فقلت: أين النساء؟ قال: شغَلَهن الأحمران: الذهب والزعفران" 3 أي: الطمع في الغنى والعمل له، والميل إلى التبرج والحرص عليه.

_ 1 توفي سعيد بن المسيب سنة إحدى وتسعين للهجرة أو حولها، وكان قد لقي جماعة من الصحابة وسمع منهم، ودخل على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخذ عنهن، وكان متزوجًا ابنة أبي هريرة الصحابي الجليل، وعنه أكثر روايته. 2 انظر مقالة: "درس من النبوة" في الجزء الثاني من هذا الكتاب. 3 هذان هما فتنة النساء في كل دهر، وهذا الحديث من المعجزات، فالذهب كناية عن المال والحلى وما كان من بابهما، أما الزعفران ففيها المعجزة؛ لأنها كناية مطلقة فهمها العرب دلالة على الثياب المصبغة، ونفهم منها نحن كل أنواع زينة النساء، من المساحيق والعطور, إلى "المودة" التي هي أصباغ معنوية لأشكال الثياب. وقد كان العرب يقولون: غمرت المرأة وجهها إذا طلته بالزعفران ليصفو لونها. ويقولون من ذلك: امرأة مغمرة، وتغمرت، أي: فعلت ذلك. "فالزعفران" كما ترى، كناية تدخل فيها "البودرة" والأدهان المختلفة، وكل ما أفسد وجه المرأة ليفسد حياتها الاجتماعية.

ونفس الأنثى ليست أنثى، ولكن شغلها بذلك التبرج وذلك الحرص وذلك الطمع هو يخصصها بخصائص الجسد، ويعطيها من حكمه، وينزلها على إرادته؛ وهذه هي المزلة، فتهبط المرأة أكثر مما تعلو، وتضعف أكثر مما تقوى، وتفسد أكثر مما تصلح. إن نفس الأنثى لرجل واحد، لزوجها وحده. رأيت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- فقيرات مقتورًا عليهن الرزق، غير أن كلا منهن تعيش بمعاني قلبها المؤمن القوي، في دار صغيرة فرشتها الأرض ولكنها من معاني ذلك القلب كأنها سماء صغيرة مختبئة بين أربعة جدران. إنهن لم يبتعدن عن الغنى إلا ليبعدن عن حماقة الدنيا التي لا تكون إلا في الغنى. أف أف! أتريدون أن أزوج ابنتي من ابن أمير المؤمنين فيخزيها الله على يدي، وأدفعها إلى القصر وهو ذلك المكان الذي جمع كل أقذار النفس ودَنَس الأيام والليالي؛ أَأُزوجها رجلًا تعرف من فضيلة نفسها سقوط نفسه، فتكون زوجة جسمه ومطلقة روحه في وقت معًا؟ ألا كم من قصر هو في معناه مقبرة، ليس فيها من هؤلاء الأغنياء رجالهم ونسائهم إلا جيف يبلي بعضها بعضًا! قال الراوي: وضج الناس لحمامة صغيرة قد جنحت من الهواء, فوقعت في حجر الشيخ لائذة به من مخافة، وجعلت تدف بجناحيها وتضطرب من الفزع، ومر الصقر على أثرها وقد أهوى لها، غير أنه تمطر ومرق في الهواء إذ رأى الناس. وتناولها الإمام في يده وهي في رجفتها من زلزلة الهواء، وكانت كالعروس مسرولة قد غابت ساقاها في الريش, وعلى جسمها من الألوان نمنمة وتحبير، ولها روح العروس الشابة يُهدونها إلى من تكره ويزفونها على قاتلها الذي يسمى زوجها. وأدناها الشيخ من قلبه، ومسح عليها بيده، ونظر في الهواء نظرة, وهو يقول: نجوتِ نجوتِ يا مسكينة!

زوجة إمام

زوجة إمام: جلس جماعة أصحاب الحديث في مسجد الكوفة، يتنظّرون قدوم شيخهم الإمام "أبي محمد سليمان الأعمش"1 ليسمعوا منه الحديث، فأبطأ عليهم؛ فقال منهم قائل: هلموا نتحدث عن الشيخ فنكون معه وليس معنا، فقال أبو معاوية الضرير: إلى أن يكون معنا ولسنا معه! فخطرت ابتسامة ضعيفة تهتز على أفواه الجماعة، لم تبلغ الضحك، ومرت لم تسمع، وكأنها لم تُرَ، وانطلقت من المباح المعفوّ عنه. ولكن أكبرها أبو عتاب منصور بن المعتمر. فقال: ويلك يا أبا معاوية! أتتندّر بالشيخ وهو منذ الستين سنة لم تفته التكبيرة الأولى في هذا المسجد، وعلى أنه محدث الكوفة وعالمها، وأقرأ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بالفرائض، وما عرفت الكوفةُ أعبد منه ولا أفقه في العبادة؟ فقال محمد بن جُحادة2: أنت يا أبا عتاب، رجل وحدك، تواصل الصوم منذ أربعين سنة، فقد يبستَ على الدهر، وأصبح الدهر جائعًا منك، وما برحت تبكي من خشية الله، كأنما اطلعت على سواء الجحيم، ورأيت الناس يتواقعون فيها وهي لهب أحمر يلتف على لهب أحمر، تحت دخان أسود يتضرب في دخان أسود؛ يتغامس الإنسان فيها وهي ملء السموات، فما يكون إلا كالذبابة أوقدوا لها جبلًا ممتدًّا من النار، ينطاد بين الأرض والسماء، وقد ملأ ما بينهما جمرًا وشُعَلًا ودخانًا، حتى لتتهارب السحب في أعلى السماء من حره، وهو على هوله وجسامته لحرق ذبابة لا غيرها، بيد أنها ذبابة تُحرق أبدًا ولا تموت أبدًا، فلا تزال ولا يزال الجبل! فصاح أبو معاوية الضرير: ويحك يا محمد! دع الرجل وشأنه؛ إن لله عبادًا متاعهم مما لا نعرف، كأنهم يأكلون ويشربون في النوم، فحياتهم من وراء حياتنا، وأبو عتاب في دنيانا هذه ليس هو الرجل الذي اسمه "منصور"، ولكنه العمل الذي يعمله "منصور". هل أتاكم خبر قارئ المدينة "أبي جعفر الزاهد؟ ".

_ 1 ولد هذا الإمام العظيم سنة 61 للهجرة، وتوفي سنة 148. 2 الجحادة هي الغرارة الممتلئة، فكانت أمه تشبه بها لضخامتها.

قال الجماعة: ما خبره يا أبا معاوية؟ قال: لقد توفي من قريب، فرُئي بعد موته على ظهر الكعبة؛ وسترون أبا عتاب -إذا مات- على منارة هذا المسجد! فصاح أبو عتاب: تَخَلَّل يا أبا معاوية؛ أما حفظت خبر ابن مسعود: "كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقام رجل، فوقع فيه رجل من بعده، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "تخلل" قال: "مم أتخلل؟ ما أكلت لحمًا؟ " قال: "إنك أكلت لحم أخيك! " ". فتقلقل الضرير في مجلسه، وتنحنح، وهَمْهَمَ أصواتًا بينه وبين نفسه, وأحس الجماعة شأنه، وقد عرفوا أن له شرًّا مبصرًا، كالذي كان فيه من المزح والدعابة، وشرًّا أعمى هذه بوادره؛ فاستلب ابن جحادة الحديث مما بينهما وقال: يا أبا معاوية، أنت شيخنا وبركتنا وحافظنا، وأقربنا إلى الإمام، وأمسنا به؛ فحدثنا حديث الشيخ كيف صنع في رده على هشام بن عبد الملك1، وما كان بينك وبين الشيخ في ذلك، فإن هذا مما انفردتَ أنت به دون الناس جميعًا، إذ لم يسمعه غير أذنيك، فلم يحفظه غيرك وغير الملائكة. فأسفر وجه أبي معاوية، وسُرِّيَ عنه، واهتز عطفاه، وأقبل عليهم بعفو القادر, وأنشأ يحدثهم, قال: إن هشامًا -قاتله الله- بعث إلى الشيخ: أن اكتب لي مناقب عثمان ومساوئ علي. فلما قرأ كتابه كانت داجنة إلى جانبه، فأخذ القرطاس وألقمه الشاة, فلاكته حتى ذهب في جوفها، ثم قال لرسول الخليفة: قل له: هذا جوابك! فخشي الرسول أن يرجع خائبًا فيقتله هشام، فما زال يتحمل بنا، فقلنا: يا أبا محمد, نجه من القتل. فلما ألححنا عليه كتب: "بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد يا أمير المؤمنين، فلو كانت لعثمان "رضي الله عنه" مناقب أهل الأرض ما نفعتك، ولو كانت لعلي "رضي الله عنه" مساوئ أهل الأرض ما ضرتك, فعليك بخُوَيِّصَة نفسك، والسلام". فلما فصل الرسول قال لي الشيح: إنه كان في خراسان محدث اسمه "الضحاك بن مزاحم الهلالي" وكان فقيه مكتب عظيم فيه ثلاثة آلاف صبي يتعلمون؛ فكان هذا الرجل إذا تعب ركب حمارًا ودار به في المكتب عليهم، فيكون إقبال الحمار على الصبي همًّا وإدباره عنه سرورًا. وما أرى الشيطان إلا قد

_ 1 بُويع هشام سنة 105 للهجرة، وتوفي سنة 125.

تعب في مكتبه وأعيا، فركب أمير المؤمنين ليدور علينا نحن يسألنا: ماذا حفظنا من مساوئ علي؟ قلت: فلماذا ألقمتَ كتابه الشاة, ولو غسلتَه أو أحرقتَه كان أفهم له وكان هذا أشبه بك؟ فقال: ويحك يا أبله! لقد شابت البلاهة في عارضيك؛ إن هشامًا سيتقطع منها غيظًا، فما يخفي عنه رسوله أني أطعمت كتابه الشاة، وما يخفي عنه دهاؤه أن الشاة ستبعره من بعد! قلت: أفلا تخشى أمير المؤمنين؟ قال: ويحك! هذا الأحول عندك أمير المؤمنين؟ أبما ولدته أمه من عبد الملك؟ فهبها ولدته من حائك أو حجام! إن إمارة المؤمنين يا أبا معاوية، هي ارتفاع نفس من النفوس العظيمة إلى أثر النبوة؛ كأن القرآن عرض المؤمنين جميعًا ثم رضي منهم رجلًا للزمن الذي هو فيه، ومتى أصيب هذا الرجل القرآني، فذاك وارث النبي في أمته وخليفته عليها، وهو يومئذ أمير المؤمنين، لا من إمارة الملك والترف، بل من إمارة الشرع والتدبير والعمل والسياسة. هذا الأحول الذي التف كدودة الحرير في الحرير، وأقبل على الخيل لا للجهاد والحرب، ولكن للهو والحَلْبَة، حتى اجتمع له من جياد الخيل أربعة آلاف فرس لم يجتمع مثلها لأحد في جاهلية ولا إسلام، وعمل الخز وقُطُف الخز، واستجاد الفرش والكسوة، وبالغ في ذلك وأنفق فيه النفقات الواسعة، وأفسد الرجولة بالنعيم والترف، حتى سلك الناس في ذلك سنته، فأقبلوا بأنفسهم على لهو أنفسهم, وصنعوا الخير صنعة جديدة بصرفه إلى حظوظهم، وتركوا الشر على ما هو في الناس، فزادوا الشر وأفسدوا الخير، ولم يعد الفقراء والمساكين عندهم هم والفقراء والمساكين من الناس، بل بطونهم وشهواتهم! ولقد كان الرجل من أغنياء المسلمين يقتصد في حظ نفسه ليسع ببره مائة أو مائتين أو أكثر من إخوانه وذوي حاجته، فعاد هذا الغني يتسع لنفسه ثم يتسع، حتى لا يكفيه أن يأكل رزقه مائة أو مائتين أو أكثر! إن هذا الإسلام يجعل أحسن المسرات أحسنها في بذلها للمحتاجين، لا في أخذها والاستئثار بها، فهي لا تضيع على صاحبها إلا لتكون له عند الله، وكأن الفقر والحاجة والمسكنة والإنفاق في سبيل الله, كأن هذه أرضون يغرس فيها الذهب والفضة غرسًا لا يؤتي ثمره إلا في اليوم الذي ينقلب فيه أغنى الأغنياء على

الأرض، وإنه لأفقر الناس إلى درهم من رحمة الله وإلى ما دون الدرهم؛ فيقال له حينئذ: خذ من ثمار عملك، وخذ ملء يديك! والسلطان في الإسلام هو الشرع مرئيًّا يتابعه، متكلمًا يفهمه الناس، آمرًا ناهيًا يطيعه الناس. ولقد رأى المسلمون هذا الأحول، وتابعوه وسمعوا له وأطاعوا؛ فمنعوا ما في أيديهم، فانقطع الرّفْد، وقل الخير، وشحت الأنفس، وأصبح خيرهم لبطنه وشهواته، وصار الزمان أشبه بناسه، والناس أشبه بمَلِكهم, وملكهم في شهواته "فقير المؤمنين" لا أمير المؤمنين! إن هذه الإمارة يا أبا معاوية، إنما تكون في قرب الشبه بين النبي ومن يختاره المؤمنون للبيعة. وللنبي جهتان: إحداهما إلى ربه، وهذه لا يطمع أحد أن يبلغ مبلغه؛ والأخرى إلى الناس، وهذه هي التي يقاس عليها "وهي كلها رفق ورحمة وعمل، وتدبير وحياطة وقوة، إلى غيرها مما يقوم به أمر الناس؛ وهي حقوق وتَبِعات ثقيلة تنصرف بصاحبها عن حظ نفسه، وبهذا الانصراف تجذب الناس إلى صاحبها. فإمارة المؤمنين هي بقاء مادة النور النبوي في المصباح الذي يضئ للإسلام، بإمداده بالقدر بعد القدر من هذه النفوس المضيئة. فإن صَلُح التراب أو الماء مكان الزيت في الاستضاءة، صلح هشام وأمثاله لإمارة المؤمنين! ويل للمسلمين حين ينظرون فيجدون السلطان عليهم بينه وبين النبي مثل ما بين دينين مختلفين. ويل يومئذ للمسلمين! ويل يومئذ للمسلمين! فلما أتم الضرير حديثه قال ابن جُحادة: إن شيخنا على هذا الجد ليمزح، وسأحدثكم غير حديث أبي معاوية، فقد رأيت الدنيا كأنما عرفت الشيخ ووقفت على حقيقته السماوية فقالت له: اضحك مني ومن أهلي. ولكن وقاره ودينه ارتفعا به أن يضحك بفمه ضحك الجهلاء والفارغين, فضحك بالكلمة بعد الكلمة من نوادره. لقد كنتُ عنده في مَرْضَته، فعاده "أبو حنيفة" صاحب الرأي، وهو جبل علم شامخ، فطوّل القعود مما يحبه ويأنس به، إذ كانت الأرواح لا تعرف مع أحبابها زمنًا يطول أو يقصر. فلما أراد القيام قال له: ما كأني إلا ثقلتُ عليك. فقال الشيخ: إنك لثقيل علي وأنت في بيتك! وضحك أبو حنيفة كأنه طفل يناغيه أبوه بكلمة ليس فيها معناها، أو أب داعبه طفله بكلمة فيها غير معناها.

وجاءه في الغداة قوم يعودونه، فلما أطالوا الجلوس عنده أخذ الشيخ وسادته وقام منصرفًا، وقال لهم: قد شفى الله مريضكم! فقال الضرير: تلك رَوْحَة من هواء دُنباوَند1، فإن أبا الشيخ كان من تلك الجبال، وقدم إلى الكوفة وأمه حامل؛ فوُلد هنا؛ فكأن في دمه ذلك النسيم تهب منه النفحة بعد النفحة في مثله هذه الكلمات المتنسمة؛ ثم هي روحه الظريفة الطيبة تلمس بعض كلامه أحيانًا، كما تلمس روح الشاعر بعض كلام الشاعر؛ وما رأيت أدق النوادر الساخرة وأبلغها وأعجبها يجيء إلا من ذوي الأرواح الشاعرة الكبيرة البعيدة الغور، كأنما النادرة من رؤية النفس حقيقتان في الشيء الواحد. والإمام في ذلك لا يسخر من أحد، إلا إذا كانت الأرض حين تخرج الثمرة الحلوة تسخر بها من الثمرة المرة. والعجيب أن النادرة البارعة التي لا تتفق إلا لأقوى الأرواح، يتفق مثلها لأضعف الأرواح؛ كأنها تسخر من الناس كما يسخرون بها فهذا "أبو حسن" معلم الكتاب، جاءه غلامان من صِبيته قد تعلق أحدهما بالآخر؛ فقال: يا معلم، هذا عص أذني. فقال الآخر: ما عضضتها، وإنما عض أذن نفسه. فقال المعلم: وتمكر بي يابن الخبيثة؟ أهو جَمَل طويل العنق حتى ينال أذن نفسه فيعضها! وطلع الشيخ عليهم وكأنما قرأ نفس أبي معاوية في وجهه المتفتح. ومن عجائب الحكمة أن الذي يُلمَح في عيني المبصر من خوالج نفسه، يُلمح على وجه الضرير مكبرا مجسما. وكان الشيخ لا يأنس بأحد أنسه بأبي معاوية؛ لذكائه وحفظه وضبطه، ولمشاكلة الظرف الروحي بينهما؛ فقال له: - "فيم كان أبو معاوية؟ ". - "كان أبو معاوية في الذي كان فيه! ". - "وما الذي كان فيه؟ ". - "هو ما تسأل عنه؟ ". - "فأجبني عما أسأل عنه". - "قد أجبتك! ". - "بماذا أجبت؟ ". - "بما سمعت! ".

_ 1 ناحية من رستاق الري في الجبال الثلجية, وهي بلاد العجم.

فقبَّض وجه الشيخ وقال: "أههنا وهناك معًا؟ لو أن هذا من امرأة غضبى على زوجها لكان له معنى، بل لا معنى له ولا من امرأة غضبى على زوجها. أحسب لولا أن في منزلي من هو أبغض إلي منكم ما خرجت؟ " فقال الضرير: "يا أبا محمد، كأننا زوجات العلم، فأيتنا التي حَظِيَتْ وبظيت". فغطى الجماعة أفواههم يضحكون، وتبسم الشيخ، ثم شرع يحدث فأفضى من خبر إلى خبر، وتسرح في الرواية حتى مر به هذا الحديث: عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن هلاك الرجال طاعتهم لنسائهم". قال الشيخ: كان الحديث بهذا اللفظ، ولم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم: "هلاك الرجل طاعته لامرأته"؛ فإن هذا لا يستقيم؛ إذ يكون بعض النساء أحيانًا أكمل من بعض الرجال، وأوفر عقلًا وأسد رأيًا، وقد تكون المرأة هي الرجل في الحقيقة عزمًا وتدبيرًا وقوة نفس، ويتلين الرجل معها كأنه امرأة. وكثير من النساء يكن نساء بالحلية والشكل دون ما وراءهما، كأنما هُيئن رجالًا في الأصل ثم خُلقن نساء بعد، لإحداث ما يريد الله أن يحدث بهن، مما يكون في مثل هذه العجيبة عملًا ذا حقيقتين في الخير أو الشر. وإنما عم الحديث ليدل على أن الأصل في هذه الدنيا أن تستقيم أمور التدبير بالرجال؛ فإن البأس والعقل يكونان فيهم خِلقة وطبيعة أكثر مما يكونان في النساء, كما أن الرقة والرحمة في خلقة النساء وطبيعتهن أكثر مما هما في الرجال، فإذا غلبت طاعة النساء في أمة من الأمم، فتلك حياة معناها هلاك الرجال، وليس المراد هلاك أنفسهم، بل هلاك ما هم رجال به، والحديد حديد بقوته وصلابته، والحجر حجر بشدته واجتماعه؛ فإن ذاب الأول أو تفلَّل، وتناثر الآخر أو تفتَّت، فذاك هلاكهما في الحقيقة، وهما بعد لا يزالان من الحجر والحديد. والمرأة ضعيفة بفطرتها وتركيبها، وهي على ذلك تأبى أن تكون ضعيفة أو تُقر بالضعف، إلا إذا وجدت رجلها الكامل، رجلها الذي يكون معها بقوته وعقله وفتنته لها وحبها إياه، كما يكون مثال مع مثال. ضع مائة دينار بجانب عشرة دنانير، ثم اترك للعشرة أن تتكلم وتدعي وتستطيل؛ قد تقول: إنها أكثر إشراقًا، أو أظرف شكلًا، أو أحسن وضعًا وتصفيفًا؛ ولكن الكلمة المحرَّمة هنا أن تزعم أنها أكبر قيمة في السوق! قال الشيخ: ومَنْ مِنَ النساء تصيب رجلها الكامل أو القريب من كماله

عندها، أي: طبيعته بالقياس إلى طبيعتها، كمال جسم مفصل لجسم تفصيل الثوب الذي يلبسه ويختال فيه؟ أما إن هذا من عمل الله وحده, كما يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، يبسط مثل ذلك للنساء في رجالهن ويقدر. فإذا لم تصب المرأة رجلها القوي -وهو الأعم الأغلب- لم تستطع أن تكون معه في حقيقة ضعفها الجميل، وعملت على أن يكون الرجل هو الضعيف، لتكون معه في تزوير القوة عليه وعلى حياته، وبهذا تخرج من حيزها؛ وما أول خروج النساء إلى الطرقات إلا هذا المعنى؛ فإن كثر خروجهن في الطريق، وتسكعْنَ ههنا وههنا، فإنما تلك صورة من فساد الطبيعة فيهن ومن إملاقها أيضًا. قال الشيح: وكأن في الحديث الشريف إيماء إلى أن بعض الحق على النساء أن ينزلن عن بعض الحق الذي لهن إبقاء على نظام الأمة، وتيسيرًا للحياة في مجراها؛ كما ينزل الرجل عن حقه في حياته كلها إذا حارب في سبيل أمته، إبقاء عليها وتيسيرًا لحياتها في مجراها. فصبر المرأة على مثل هذه الحالة هو نفسه جهادها وحربها في سبيل الأمة، ولها عليه من ثواب الله مثل ما للرجل يقتل أو يجرح في جهاده. ألا وإن حياة بعض النساء مع بعض الرجال تكون أحيانًا مثل القتل، أو مثل الجرح، وقد تكون مثل الموت صبرًا على العذاب! ولهذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمزوجة يسألها عن حالها وطاعتها وصبرها مع رجلها: "فأين أنت منه؟ " قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه! قال: "فكيف أنت له؟ فإنه جنتك ونارك". آه! آه! حتى زواج المرأة بالرجل هو في معناه مرور المرأة المسكينة في دنيا أخرى إلى موت آخر، ستحاسب عنده بالجنة والنار، فحسابها عند الله نوعان: ماذا صنعت بدنياك ونعيمها وبؤسها عليك؟ ثم ماذا صنعت بزوجك ونعيمه وبؤسه فيك؟ وقد روينا أن امرأة جاءت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، إني وافدة النساء إليك؛ ثم ذكرت ما للرجال في الجهاد من الأجر والغنيمة؛ ثم قالت: فما لنا من ذلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة للزوج، واعترافًا بحقه يعدل ذلك, وقليل منكن من يفعله! ". وقال الشيخ: تأملوا, اعجبوا من حكمة النبوة ودقتها وبلاغتها؛ أيقال في المرأة المحبة لزوجها المفتتنة به المعجبة بكماله: إنها أطاعته واعترفت بحقه؟ أَوَلَيس ذلك طبيعة الحب إذا كان حبًّا؟ فلم يبق إذن إلا المعنى الآخر، حين لا

تصيب المرأة رجلها المفصل لها، بل رجلًا يسمى زوجًا؛ وهنا يظهر كرم المرأة الكريمة، وههنا جهاد المرأة وصبرها، وههنا بذلها لا أخذها؛ ومن كل ذلك ههنا عملها لجنتها أو نارها. فإذا لم يكن الرجل كاملًا بما فيه للمرأة، فلتُبْقه هي رجلًا بنزولها عن بعض حقها له، وتركها الحياة تجري في مجراها، وإيثارها الآخرة على الدنيا، وقيامها بفريضة كمالها ورحمتها، فيبقى الرجل رجلًا في عمله للدنيا، ولا يُمسَخ طبعه ولا ينتكس بها ولا يَذِل، فإن هي بَذَأت وتسلطت وغلبت وصرَّفت الرجل في يدها, فأكثر ما يظهر حينئذ في أعمال الرجال من طاعتهم لنسائهم, إنما هو طيش ذلك العقل الصغير وجرأته، وأحيانًا وقاحته؛ وفي كل ذلك هلاك معاني الرجولة، وفي هلاك معاني الرجولة هلاك الأمة!! قال الشيخ: والقلوب في الرجال ليست حقيقة أبدًا، بطبيعة أعمالهم في الحياة وأمكنتهم منها، ولكن القلب الحقيقي هو في المرأة؛ ولذا ينبغي أن يكون فيه السمو فوق كل شيء إلا واجب الرحمة؛ ذلك الواجب الذي يتجه إلى القوي فيكون حبا، ويتجه إلى الضعيف فيكون حنانًا ورقة، ذلك الواجب هو اللطف؛ ذلك اللطف هو الذي يثبت أنها امرأة. قال أبو معاوية: وانفضّ المجلس، ومنعني الشيخ أن أقوم مع الناس، وصرف قائدي؛ فلما خلا وجهه قال: يا أبا معاوية قم معي إلى الدار, قلت: ما شأنك في الدار يا أبا محمد؟ قال: إن "تلك" غاضبة علي، وقد ضاقت الحال بيني وبينها، وأخشى أن تتباعد، فأريد أن تصلح بيننا صلحًا. قلت: فمم غضبها؟ قال: لا تسأل المرأة مم تغضب، فكثيرًا ما يكون هذا الغضب حركة في طباعها، كما تكون جالسة وتريد أن تقوم فتقوم، وتريد أن تمشي فتمشي! قلت: يا أبا محمد، هذا آخر أربع مرات1 تغضب عليك غضب الطلاق، فما يحبسك عليها والنساء غيرها كثير؟ قال: ويحك يا رجل! أبائع نساء أنا، أما علمت أن الذي يطلق امرأة لغير

_ 1 هذا هو التعبير الصحيح لمثل قول الناس: "هذه رابع مرة".

ضرورة ملجئة، هو كالذي يبيعها لمن لا يدري كيف يكون معها وكيف تكون معه؟ إن عمر الزوجة لو كان رقبة وضُربت بسيف قاطع لكان هذا السيف هو الطلاق! وهل تعيش المطلقة إلا في أيام ميتة؟ وهل قاتل أيامها إلا مطلقها؟ قال أبو معاوية: وقمنا إلى الدار، واستأذنت ودخلت على "تلك".

زوجة إمام بقية الخير

زوجة إمام بقية الخير: قال أبو معاوية الضرير: وكنت في الطريق إلى دار الشيخ، أُرَوِّئ في الأمر، وأمتحن مذاهب الرأي، وأقلبها على وجوهها، وأنظر كيف احتال في تأليف ما تنافر من الشيخ وزوجته؛ فإن الذي يسفر بين رجل وامرأته إنما يمشي بفكره بين قلبين، فهو مطفئ نائرة1 أو مسعرها، إذ لا يضع بين القلبين إلا حمقه أو كياسته، وهو لن يرد المرأة إلى الرأي إلا إذا طاف على وجهها بالضحك، وعلى قلبها بالخجل، وعلى نفسها بالرقة، وكان حكيمًا في كل ذلك؛ فإن عقل المرأة مع الرجل عقل بعيد، يجيء من وراء نفسها، من وراء قلبها. وجعلتُ أنظر ما الذي يفسد محل الشيخ من زوجته، ومثلت بينه وبينها، فما أخرج لي التفكير إلا أن حسن خلقه معها دائمًا هو الذي يستدعي منها سوء الخلق أحيانًا؛ فإن الشيخ كما ورد في وصف المؤمن: "هين لين كالجمل الأنُف 2، إن قيد انقاد، وإن أنيخ على صخرة استناخ"، والمرأة لا تكون امرأة حتى تطلب في الرجل أشياء, منها: أن تحبه بأسباب كثيرة من أسباب الحب؛ ومنها: أن تخافه بأسباب يسيرة من أسباب الخوف، فإذا هي أحبته الحب كله، ولم تخف منه شيئًا، وطال سكونه وسكونها، نفرت طبيعتها نفرة كأنها تنخيه وتذمره، ليكون معها رجلًا فيخيفها الخوف الذي تستكمل به لذة حبها، إذ كان ضعفها يحب فيما يحبه من الرجل، أن يقسو عليه الرجل في الوقت بعد الوقت، لا ليؤذيه ولكن ليخضعه؛ والآمر الذي لا يخاف إذا عُصي أمره، هو الذي لا يعبأ به إذا أطيع أمره. وكأن المرأة تحتاج طبيعتها أحيانًا إلى مصائب خفيفة، تؤذي برقة أو تمر

_ 1 النائرة: الغضب. 2 أي: المأنوف ويسميه العامة "المخزوم" وهو الذي عقر أنفه بالخشاش فيقاد منه, فيكون ذلولًا سمحًا.

بالأذى من غير أن تلمسها به؛ لتتحرك في طبيعتها معاني دموعها من غير دموعها؛ فإن طال ركود هذه الطبيعة، أوجدت هي لنفسها مصائبها الخفيفة، فكان الزوج إحداها. وهذا كله غير الجرأة أو البَذَاء فيمن يبغضن أزواجهن، فإن المرأة إذا فركت زوجها لمنافرة الطبيعة بينها وبينه، مات ضعفها الأنثوي الذي يتم به جمالها واستمتاعها والاستمتاع بها، وتعقد بذلك لينها أو تصلب أو استحجر، فتكون مع الرجل بخلاف طبيعتها، فينقلب سكرها النسائي بأنوثتها الجميلة عربدة وخلافًا وشرًّا وصخبًا، ويخرج كلامها للرجل وهو من البغض كأنه في صوتين لا في صوت واحد. ولعل هذا هو الذي أحسه الشاعر العربي بفطرته, من تلك المرأة الصخّابة الشديدة الصوت البادية الغيظ، فضاعف لها في تركيب اللفظ حين وصفها بقوله: صُلُبَّة الصيحة صَهْصَلِيقُها1 قال أبو معاوية: واستأذنت على "تلك"، ودخلت بعد أن استوثقت أن عندها بعض محارمها؛ فقلت: أنعم الله مساءكِ يا أم محمد. قالت: وأنت فأنعم الله مساءك. فأصغيتُ للصوت، فإذا هو كالنائم قد انتبه يتمطى في استرخاء، وكأنها تقبلني به وتردني معًا، لا هو خالص للغضب ولا هو خالص للرضى. فقلت: يا أم محمد، إني جائع لم ألم اليوم بمنزلي. فقامت فقربت ما حضر وقالت: معذرة يا أبا معاوية، فإنما هو جهد المقل، وليس يعدو إمساك الرمق. فقلت: إن الجوعان غير الشهوان؛ والمؤمن يأكل في معًى واحد2 ولم يخلق الله قمحًا للملوك وقمحًا غيره للفقراء. ثم سميتُ ومددتُ يدي أتحسس ما على الطبق، فإذا كِسَر من الخبز، معها شيء من الجزر المسلوق، فيه قليل من الخل والزيت؛ فقلت في نفسي: هذا بعض أسباب الشر؛ وما كان بي الجوع ولا سده، غير أني أردت أن أعرف حاضر الرزق في دار الشيخ، فإن مثل هذه القلة في طعام الرجل هي عند المرأة قلة من

_ 1 هذا من عجائب اللغة العربية، إذا زاد المعنى زادوا له في اللفظ. ورواية لسان العرب: ""شديدة" الصيحة" وليست بشيء، فليصححها من يقتني اللسان من القراء. 2 في بعض الأثر: "المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء". وهذا الحديث رمز عجيب لبهيمية من لا يرى الدنيا إلا الدنيا فقط.

الرجل نفسه؛ وكل ما تفقده من حاجاتها وشهوات نفسها، فهو عندها فقر بمعنيين: أحدهما من الأشياء، والآخر من الرجل. كلما أكثر الرجل من إتحافها كثر عندها، وإن أقل قل. وإنما خلقت المرأة بطنًا يلد، فبطنها هو أكبر حقيقتها، وهذه غايتها وغاية الحكمة فيها؛ لا جرم كان لها في عقلها معدة معنوية؛ وليس حبها للحلي والثياب والزينة والمال، وطماحها إليها، واستهلاكها في الحرص والاستشراف لها, إلا مظهرًا من حكم البطن وسلطانه؛ فذلك كله إذا حققته في الرجل لم تجده عنده إلا من أسباب القوة والسلطة، وكان فقده من ذرائع الضعف والقلة؛ فإذا حققته في المرأة ألفيته عندها من معاني الشبع والبطر، وكان فقده عندها كأنه فن من الجوع، وكانت شهوتها له كالقرم إلى اللحم عند من حُرِم اللحم؛ وهذا بعض الفرق بين الرجال والنساء؛ فلن يكون عقل المرأة كعقل الرجل لمكان الزيادة في معانيها "البطنية" فحُسبت لها الزيادة ههنا بالنقص هناك؛ فهن ناقصات عقل ودين كما ورد في الحديث. أما نقص العقل فهذه علته؛ وأما الدين فلغلبة تلك المعاني على طبيعتها كما تغلب على عقلها؛ فليس نقص الدين في المرأة نقصًا في اليقين أو الإيمان، فإنها في هذين أقوى من الرجل؛ وإنما ذاك هو النقص في المعاني الشديدة التي لا يكمل الدين إلا بها؛ معاني الجوع من نعيم الدنيا وزينتها، وامتداد العين إليها، واستشراف النفس لها؛ فإن المرأة في هذا أقل من الرجل؛ وهل لهذه العلة ما برحت تُؤْثر دائمًا جمال الظاهر وزينته في الرجال والأشياء، دون النظر إلى ما وراء ذلك من حقيقة المنفعة. قال أبو معاوية: وأريتُها أني جائع، فنهشت نهش الأعرابي، كيلا تفطن إلى ما أردت من زعم الجوع؛ ثم أحببت أن أستدعي كلامها وأستميلها لأن تضحك وتُسر، فأغير بذلك ما في نفسها، فيجد كلامي إلى نفسها مذهبًا؛ فقلت: يا أم محمد، قد تحرمت بطعامك، ووجب حقي عليك، فأشيري عليّ برأيك فيما أستصلح به زوجتي، فإنها غاضبة علي، وهي تقول لي: والله ما يقيم الفأر في بيتك إلا لحب الوطن, وإلا فهو يسترزق من بيوت الجيران. قالت: وقد أعدمت حتى من كسر الخبز والجزر المسلوق؟ الله منك! لقد استأصَلْتَها من جذورها؛ إن في أمراض النساء الحمى التي اسمها الحمى، والحمى التي اسمها الزوج. فقلت: الله الله يا أم محمد؛ لقد أيسرت بعدنا، حتى كأن الخبز والجزر

المسلوق شيء قليل عندك من فرط ما يتيسر؛ أَوَما علمت أن رزق الصالحين كالصالحين أنفسهم، يصوم عن أصحابه اليوم واليومين. وكأنك سمعت شيئًا من أخبار أمهات المؤمنين، أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونساء أصحابه -رضوان الله عليهم- فما خير امرأة مسلمة لا تكون بأدبها وخلقها الإسلامي كأنها بنت إحدى أمهات المؤمنين؟ أفرأيتِ لو كنت فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم؛ أفكان ينقلك هذا إلى أحسن مما أنت فيه من العيش؛ وهل كانت فاطمة بنت ملك تعيش في أحلام نفسها، أو بنت نبي تعيش في حقائق نفسها العظيمة؟ تقولين: إنني استأصلت أم معاوية من جذورها؛ فما أم معاوية وما جذورها؟ أهي خير من أسماء بنت أبي بكر صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد قالت عن زوجها البطل العظيم: تزوجني وما له في الأرض من مال ولا مملوك، ولا شيء غير فرسه وناضحه1، فكنت أعلف فرسه وأكفيه مؤنته وأسُوسه، وأدق النوى لناضحه وأعلفه، وأستقي الماء وأخرز غَربه2 وأعجن، وكنت أنقل النوى على رأسي من ثلثي فرسخ، حتى أرسل إلي أبو بكر بجارية، فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني. هكذا ينبغي لنساء المسلمين في الصبر والإباء والقوة، والكبرياء بالنفس على الحياة كائنة ما كانت، والرضا والقناعة ومؤازرة الزوج وطاعته، واعتبار ما لهن عند الله لا ما لهن عند الرجل، وبذلك يرتفعن على نساء الملوك في أنفسهن، وتكون المرأة منهن وما في دارها شيء، وعندها أن في دارها الجنة. وهل الإسلام إلا هذه الروح السماوية التي لا تهزمها الأرض أبدًا، ولا تذلها أبدًا، ما دام يأسها وطمعها معلقين بأعمال النفس في الدنيا، لا بشهوات الجسم من الدنيا؟ هل الرجل المسلم الصحيح الإسلام، إلا مثل الحرب يثور حولها غبارها، ويكون معها الشظف والبأس والقوة والاحتمال والصبر, إذ كان مفروضًا على المسلم أن يكون القوة الإنسانية لا الضعف، وأن يكون اليقين الإنساني لا الشك، وأن يكون الحق في هذه الحياة لا الباطل؟ وهل امرأة المسلم إلا تلك المفروض عليها أن تُمد هذه الحرب بأبطالها،

_ 1 النواضح: الإبل يستقى عليها، واحدها ناضح وسائقها النضّاح. 2 الغرب: الدلو العظيمة تتخذ من جلد الثور.

وعَتَاد أبطالها، وأخلاق أبطالها؛ ثم ألا تكون دائمًا إلا من وراء أبطالها؟ وكيف تلد البطل إذا كان في أخلاقها الضعة والمطامع الذليلة والضجر والكسل والبلادة؟ ألا إن المرأة كالدار المبنية، لا يسهل تغيير حدودها إلا إذا كانت خرابًا. فاعترضته امرأة الشيخ وقالت: وهل بأس بالدار إذا وُسِّعت حدودها من ضيق؟ أتكون الدار في هذا إلى نقصها أو تمامها؟ قال أبو معاوية: فكدت أنقطع في يدها، وأحببت أن أمضي في استمالتها، فتركتها هنيهة ظافرة بي، وأريتها أنها شدتني وثاقًا، وأطرقت كالمفكر؛ ثم قلت لها: إنما أحدثك عن أم معاوية لأبي معاوية؛ وتلك دار لا تملك غير أحجارها وأرضها, فبأي شيء تتسع؟ زعموا أنه كان رجل عامل يملك دُوَيرة قد التصقت بها مساكن جيرانه، وكانت له زوجة حمقاء، ما تزال ضيقة النفس بالدار وصغرها، كأن في البناء بناء حول قلبها, وكانا فقيرين، كأم معاوية وأبي معاوية؛ فقالت له يومًا: أيها الرجل، ألا توسع دارك هذه؛ ليعلم الناس أنك أيسرت وذهب عنك الضر والفقر؟ قال: فبماذا أوسعها وما أملك شيئًا، أَأُمسك بيميني حائطًا وبشمالي حائطًا فأمدهما أباعد بينهما؟ وهبيني ملكت التوسعة ونفقتها، فكيف لي بدور الجيران وهي ملاصقة لنا بيتَ بيت؟ قالت الحمقاء: فإننا لا نريد إلا أن يتعالم الناس أننا أيسرنا؛ فاهدم أنت الدار، فإنهم سيقولون: لولا أنهم وجدوا واتسعوا وأصبح المال في يدهم لما هدموا! قال أبو معاوية: وغاظتني زوجة الشيخ فلم أسمع لها همسة من الضحك لمثل الحمقاء، وما اخترعتُه إلا من أجلها تريد أن يذهب عملي باطلًا؛ فقلت: وهل تتسع أم معاوية من فقرها إلا منا كما اتسع ذلك الأعرابي في صلاحه؟ قالت: وما خبر الأعرابي؟ قلت: دخل علينا المسجد يومًا أعرابي جاء من البادية، وقام يصلي فأطال القيام والناس يرمقونه، ثم جعلوا يتعجبون منه، ثم رفعوا أصواتهم يمدحونه ويصفونه بالصلاح؛ فقطع الأعرابي صلاته وقال لهم: مع هذا إني صائم. قال أبو معاوية: فما تمالكت أن ضحكتْ، وسمعتْ صوت نفسها، وميزت فيه الرضى مقبلًا على الصلح الذي أتسبب له. ثم قلت:

وإذا ضاقت الدار فلِمَ لا تتسع النفس التي فيها؟ المرأة وحدها هي الجو الإنساني لدار زوجها، فواحدة تدخل الدار فتجعل فيها الروضة ناضرة متروحة باسمة، وإن كانت الدار قحطة مسحوتة ليس فيها كبير شيء؛ وامرأة تدخل الدار فتجعل فيها مثل الصحراء برمالها وقيظها وعواصفها، وإن كانت الدار في رياشها ومتاعها كالجنة السندسية؛ وواحدة تجعل الدار هي القبر. والمرأة حق المرأة هي التي تترك قلبها في جميع أحواله على طبيعته الإنسانية، فلا تجعل هذا القلب لزوجها من جنس ما هي فيه من عيشة: مرة ذهبًا، ومرة فضة، ومرة نحاسًا أو خشبًا أو ترابًا، فإنما تكون المرأة مع رجلها من أجله ومن أجل الأمة معًا؛ فعليها حقان لا حق واحد، أصغرها كبير. ومن ثم فقد وجب عليها إذا تزوجت أن تستشعر الذات الكبيرة مع ذاتها، فإن أغضبها الرجل بهفوة منه، تجافت له عنها، وصفحت من أجل نظام الجماعة الكبرى، وعليها أن تحكم حينئذ بطبيعة الأمة لا بطبيعة نفسها، وهي طبيعة تأبى التفرق والانفراد، وتقوم على الواجب، وتضاعف هذا الواجب على المرأة بخاصة. والإسلام يضع الأمة ممثلة في النسل بين كل رجل وامرأته، ويوجب هذا المعنى إيجابًا؛ ليكون في الرجل وامرأته شيء غير الذكورة والأنوثة، ويجمعهما ويقيد أحدهما بالآخر، ويضع في بهيميتهما التي من طبيعتها أن تتفق وتختلف، إنسانية من طبيعتها أن تتفق ولا تختلف. ومتى كان الدين بين كل زوج وزوجته، فمهما اختلفا وتدابرا وتعقدت نفساهما، فإن كل عقدة لا تجيء إلا ومعها طريقة حلها، ولن يُشادَّ الدين أحد إلا غلبه، وهو اليسر والمساهلة، والرحمة والمغفرة، ولين القلب وخشية الله؛ وهو العهد والوفاء، والكرم والمؤاخاة والإنسانية؛ وهو اتساع الذات وارتفاعها فوق كل ما تكون به منحطة أو ضيقة. قال أبو معاوية: فحق الرجل المسلم على امرأته المسلمة، هو حق من الله، ثم من الأمة، ثم من الرجل نفسه، ثم من لطف المرأة وكرمها، ثم مما بينهما معًا. وليس عجيبًا بعد هذا ما روينا عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد، لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن؛ لما جعل الله لهم عليهن من الحق". وهذه عائشة أم المؤمنين قالت: يا معشر النساء، لو تعلمن بحق أزواجكن عليكن، لجعلتِ المرأة منكن تمسح الغبار عن قدمي زوجها بحُرِّ وجهها.

قال أبو معاوية: وكان الشيخ قد استبطأني وقد تركتُه في فناء الدار، وكنت زوَّرت في نفسي كلامًا طويلًا عن فروته الحقيرة التي يلبسها، فيكون فيها من بَذَاذة الهيئة كالأجير الذي لم يجد من يستأجره، فظهر الجوع حتى على ثيابه. وقد مر بالشيخ رجل من المسودة1 وكان الشيخ في فروته هذا جالسًا في موضع فيه خليج من المطر، فجاءه المسود فقال: قم فاعبر بي هذا الخليج, وجذبه بيده فأقامه وركبه والشيخ يضحك. وكنت أريد أن أقول لأم محمد: إن الصحو في السماء لا يكون فقرًا في السماء، وإن فروة الشيخ تعرف الشيخ أكثر من زوجته، وإن المؤمن في لذات الدنيا كالرجل الذي يضع قدميه في الطين ليمشي، أكبر همه ألا يجاوز الطين قدميه. ولكن صوت الشيخ ارتفع: هل عليكم إذن؟ قال معاوية: فبدرت وقلت: باسم الله أدخل؛ كأني أنا الزوجة, وسمعت همسًا من الضحك؛ ودخل أبو محمد إلى جانبي، وغمزني في ظهري غمزة؛ فقلت: يا أم محمد, إن شيخك في ورعه وزهده ليشبعه ما يشبع الهدهد، ويُرويه ما يُروي العصفور، ولئن كان متهدمًا فإنه جبل علم، "ولا تنظري إلى عَمَش عينيه، وحُموشة ساقيه، فإنه إمام وله قَدْر"2. فصاح الشيخ: قم أخزاك الله، ما أردتَ إلا أن تعرفها عيوبي! قال أبو معاوية: ولكني لم أقم، بل قامت زوجة الشيخ فقبلت يده.

_ 1 الذين يلبسون السواد، وهم شيعة العباسيين. 2 ما بين القوسين هو الوارد في التاريخ، وعليه بنينا هذه القصة.

قبح جميل

قبح جميل: دخل أحمد بن أيمن "كاتب ابن طولون" البصرة، فصنع له مسلم بن عمران التاجر المتأدب صنيعًا دعا إليه جماعة من وجوه التجار وأعيان الأدباء، فجاء ابنا صاحب الدعوة وهما غلامان، فوقفا بين يدي أبيهما، وجعل ابن أيمن يطيل النظر إليهما، ويعجب من حسنهما وبَزَّتهما ورُوائهما، حتى كأنما أفرغا في الجمال وزينته إفراغًا، أو كأنما جاءا من شمس وقمر لا من أبوين من الناس، أو هما نبتا في مثل تهاويل الزهر من زينته التي تُبدعها الشمس، ويصقلها الفجر، ويتندى بها روح الماء العذب؛ وكان لا يصرف نظره عنهما إلا رجع به النظر، كأن جمالهما لا ينتهي فيما ينتهي الإعجاب به. وجعل أبوهما يسارقه النظر مسارقة، ويبدو كالمتشاغل عنه، ليدع له أن يتوسم ويتأمل ما شاء، وأن يملأ عينيه مما أعجبه من لؤلؤتيه ومخايلهما؛ بيد أن الحسن الفاتن يأبى دائمًا إلا أن يسمع من ناظره كلمة الإعجاب به، حتى لينطق المرء بهذه الكلمة أحيانًا، وكأنها مأخوذة من لسانه أخذًا، وحتى ليحس أن غريزة في داخله كلّمها الحُسن من كلامه فردت عليه من كلامها. قال ابن أيمن: سبحان الله؛ ما رأيت كاليوم قط دميتين لا تفتح الأعين على أجمل منهما؛ ولو نزلا من السماء وألبستْهما الملائكة ثيابًا من الجنة، ما حسبت أن تصنع الملائكة أظرف ولا أحسن مما صنعت أمهما. فالتفت إليه مسلم وقال: أحب أن تعوِّذهما. فمد الرجل يده ومسح عليهما، وعوَّذهما بالحديث المأثور، ودعا لهما، ثم قال: ما أراك إلا استجدت الأم فحسُن نسلك، وجاء كاللؤلؤ يشبه بعضه بعضًا، صغاره من كباره؛ وما عليك ألا تكون قد تزوجت ابنة قيصر فأولدتها هذين، وأخرجتهما هي لك في صيغتها الملوكية1 من

_ 1 تجيء هذه الكلمة في كتب الأدب والتاريخ على غير قاعدة النسب، وهو الأفصح في رأينا، ومن ذلك تسمية الإمام ابن جني كتابه: "التصريف الملوكي".

الحسن والأدب والرونق، وما أرى مثلهما يكونان في موضع إلا كان حولهما جلال الملك ووقاره، مما يكون حولهما من نور تلك الأم. فقال مسلم: وأنت على ذلك غير مصدق إذا قلت لك: إني أحب المرأة الجميلة التي تصف، وليس بي هوى إلا في امرأة دميمة هي بدمامتها أحب النساء إليّ، وأخفهن على قلبي، وأصلحهن لي، ما أعدل بها ابنة قيصر ولا ابنة كسرى. فبقي ابن أيمن كالمشدوه من غرابة ما يسمع، ثم ذكر أن من الناس من يأكل الطين ويستطيبه لفساد من طبعه، فلا يحلو السكر في فمه وإن كان مكررًا خالص الحلاوة؛ ورثى أشد الرثاء لأم الغلامين أن يكون هذا الرجل الجِلْف قد ضارَّها1 بتلك الدميمة أو تسرَّى بها عليها؛ فقال وما يملك نفسه: أما والله لقد كفرْتَ النعمة، وغدرت وجحدت وبالغت في الضر، وإن أم هذين الغلامين لامرأة فوق النساء، إذ لم يتبين في ولديها أثر من تغير طبعها وكدور نفسها، وقد كان يسعها العذر لو جعلتهما سَخْنة عين لك وأخرجتهما للناس في مساوئك لا في محاسنك، وما أدري كيف لا تندّ عليك، ولا كيف صلحت بمقدار ما فسدتَ أنت، واستقامت بمقدار ما التويتَ، وعجيب والله شأنكما! إنها لتغلو في كرم الأصل والعقل والمروءة والخلق، كما تغلو أنت في البهيمية والنزَق والغدر وسوء المكافأة. قال مسلم: فهو والله ما قلت لك، وما أحب إلا امرأة دميمة قد ذهبت بي كل مذهب، وأنستني كل جميلة في النساء، ولئن أخذت أصفها لك لما جاءت الألفاظ إلا من القبح والشَّوْهة والدَّمامة؛ غير أنها مع ذلك لا تجيء إلا دالة على أجمل معاني المرأة عند رجلها في الحظْوة والرضى وجمال الطبع؛ وانظر كيف يلتئم أن تكون الزيادة في القبح هي زيادة في الحسن وزيادة في الحب وكيف يكون اللفظ الشائه، وما فيه لنفسي إلا المعنى الجميل، وإلا الحس الصادق بهذا المعنى، وإلا الاهتزاز والطرب لهذا الحس؟ قال ابن أيمن: والله إن أراك إلا شيطانًا من الشياطين، وقد عجَّل الله لك من هذه الدميمة زوجتك التي كانت لك في الجحيم، لتجتمعا معًا على تعذيب تلك الحوراء الملائكية أم هذين الصغيرين، وما أدري كيف يتصل ما بينكما بعد هذا الذي أدخلت من القبح والدمامة في معاشرتها ومعايشتها، وبعد أن جعلتها لا تنظر

_ 1 المضارة: اتخاذ الضرة على الزوجة.

إليك إلا بنظرتها إلى تلك. أفبهيمة هي لا تعقل، أم أنت رجل ساحر، أم فيك ما ليس في الناس، أم أنا لا أفقه شيئًا؟ فضحك مسم وقال: إن لي خبرًا عجيبًا: كنت أنزل "الأبلة" وأنا مُتعيِّش1 فحملت منها تجارة إلى البصرة فربحت، ولم أزل أحمل من هذه إلى هذه فأربح ولا أخسر، حتى كثر مالي، ثم بدا لي أن أتسع في الآفاق البعيدة لأجمع التجارة من أطرافها، وأبسط يدي للمال حيث يكثر وحيث يقل، وكنت في مَيْعة الشباب وغُلوائه، وأول هجمة الفتوة على الدنيا، وقلت: إن في ذلك خلالًا؛ فأرى الأمم في بلادها ومعايشها، وأتقلب في التجارة، وأجمع المال والطرائف، وأُفيد عظة وعبرة، وأعلم علمًا جديدًا، ولعلني أصيب الزوجة التي أشتهيها وأصور لها في نفسي التصاوير، فإن أمري من أوله كان إلى علو فلا أريد إلا الغاية، ولا أرمي إلا للسبق، ولا أرضى أن أتخلف في جماعة الناس. وكأني لم أر في الأبلة، ولا في البصرة امرأة بتلك التصاوير التي في نفسي، فتأخذها عيني، فتعجبني، فتصلح لي، فأتزوج بها، وطمعت أن أستنزل نجمًا من تلك الآفاق أحرزه في داري؛ فما زلت أرمي من بلد إلى بلد حتى دخلت "بلخ"2 من أجلِّ مدن خراسان وأوسعها غَلَّة؛ تحمل غلتها إلى جميع خراسان وإلى خوارزم؛ وفيها يومئذ -كان- عالمها وإمامها "أبو عبد الله البلخي" وكنا نعرف اسمه في البصرة؛ إذ كان قد نزلها في رحلته وأكثر الكتابة بها عن الرواة والعلماء؛ فاستخفتني إليه نزِيَّة من شوقي إلى الوطن، كأن فيه بلدي وأهلي؛ فذهبت إلى حلقته، وسمعته يفسر قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "سوداء ولود خير من حسناء لا تلد". فما كان الشيخ إلا في سحابة، وما كان كلامه إلا وحيًا يوحى إليه. سمعت -والله- كلامًا لا عهد لي بمثله, وأنا من أول نشأتي أجلس إلى العلماء والأدباء، وأداخلهم في فنون من المذاكرة، فما سمعت ولا قرأت مثل كلام البلخي، ولقد حفظته حتى ما تفوتني لفظة منه، وبقي هذا الكلام يعمل في نفسي عمله، ويدفعني إلى معانيه دفعًا، حتى أتى علي ما سأحدثك به. إن الكلمة في الذهن لتوجد الحادثة في الدنيا. وقال ابن أيمن: اطو خبرك إن شئتَ، ولكن اذكر لي كلام البلخي، فقد تعلقتْ نفسي به.

_ 1 أي: متكسب ليعيش لا ليغتني؛ وهذا يسميه العامة "المتسبب". 2 موقعها اليوم في بلاد الأفغان.

قال: سمعت أبا عبد الله يقول في تأويل ذلك الحديث: أما في لفظ الحديث فهو من معجزات بلاغة نبينا -صلى الله عليه وسلم- وهو من أعجب الأدب وأبرعه، ما علمت أحدًا تنبه إليه؛ فإنه -صلى الله عليه وسلم- لا يرد السوداء بخصوصها، ولكنه كنّى بها عما تحت السواد؛ وما فوق السواد، وما هو إلى السواد، من الصفات التي يتقبَّحها الرجال في خِلْقة النساء وصورهن، فألطف التعبير ورق به، رفعًا لشأن النساء أن يصف امرأة منهن بالقبح والدمامة، وتنزيهًا لهذا الجنس الكريم، وتنزيهًا للسانه النبوي؛ كأنه -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن ذكر قبح المرأة هو في نفسه قبيح في الأدب، فإن المرأة أم أو في سبيل الأمومة؛ والجنة تحت أقدام الأمهات؛ فكيف تكون الجنة التي هي أحسن ما يُتخيل في الحسن تحت قدمي امرأة، ثم يجوز أدبًا أو عقلًا أن توصف هذه المرأة بالقبح. أَمَا إن الحديث كالنص على أن من كمال أدب الرجل إذا كان رجلًا ألا يصف امرأة بقبح الصورة البتة، وألا يجري في لسانه لفظ القبح وما في معناه، موصوفًا به هذا الجنس الذي منه أمه, أيود أحدكم أن يمزق وجه أمه بهذه الكلمة الجارحة؟ وقد كان العرب يفصلون لمعاني الدمامة في النساء ألفاظًا كثيرة؛ إذ كانوا لا يرفعون المرأة عن السائمة والماشية؛ أما أكمل الخلق -صلى الله عليه وسلم- فما زال يوصي بالنساء ويرفع شأنهن حتى كان آخر ما وصى به ثلاث كلمات، كان يتكلم بهن إلى أن تلجلج لسانه وخفي كلامه؛ جعل يقول: "الصلاة الصلاة, وما ملكت أيمانكم, لا تكلفوهم ما لا يطيقون؛ الله الله في النساء". قال الشيخ: كأن المرأة من حيث هي إنما هي صلاة تتعبد بها الفضائل، فوجبت رعايتها وتلقيها بحقها؛ وقد ذكرها بعد الرقيق؛ لأن الزواج بطبيعته نوع رق؛ ولكنه ختم بها وقد بدأ بالصلاة؛ لأن الزواج في حقيقته نوع عبادة. قال الشيخ: ولو أن أُمًّا كانت دميمة شوهاء في أعين الناس، لكانت مع ذلك في عين أطفالها أجمل من ملكة على عرشها؛ ففي الدنيا من يصفها بالجمال صادقًا في حسه ولفظه، لم يكذب في أحدهما؛ فقد انتفى القبح إذن، وصار وصفها به في رأي العين تكذيبًا لوصفها في رأي النفس، ولا أقل من أن يكون الوصفان قد تعارضًا فلا جمال ولا دمامة. قال الشيخ: وأما في معنى الحديث, هو -صلى الله عليه وسلم- يقرر للناس أن كرم المرأة

بأمومتها، فإذا قيل: إن في صورتها قبحًا، فالحسناء التي لا تلد أقبح منها في المعنى. وانظر أنت كيف يكون القبح الذي يقال: إن الحسن أقبح منه! فمن أين تناولت الحديث رأيته دائرًا على تقدير أن لا قبح في صورة المرأة, وأنها منزهة في لسان المؤمن أن توصف بهذا الوصف، فإن كلمات القبح والحسن لغة بهيمية تجعل حب المرأة حبا على طريقة البهائم، من حيث تفضُلها طريقة البهائم بأن الحيوان على احتباسه في غرائزه وشهواته، لا يتكذب في الغريزة ولا في الشهوة بتلوينهما ألوانًا من خياله، ووضعهما مرة فوق الحد، ومرة دون الحد1. فأكبر الشأن هو للمرأة التي تجعل الإنسان كبيرًا في إنسانيته، لا التي تجعله كبيرًا في حيوانيته، فلو كانت هذه الثانية هي التي يصطلح الناس على وصفها بالجمال فهي القبيحة لا الجميلة، إذ يجب على المؤمن الصحيح الإيمان أن يعيش فيما يصلح به الناس، لا فيما يصطلح عليه الناس؛ فإن الخروج من الحدود الضيقة للألفاظ، إلى الحقائق الشاملة، هو الاستقامة بالحياة على طريقها المؤدي إلى نعيم الآخرة وثوابها. وهناك ذاتان لكل مؤمن: إحداهما غائبة عنه، والأخرى حاضرة فيه، وهو إنما يصل من هذه إلى تلك، فلا ينبغي أن يحصر السماوية الواسعة في هذه الترابية الضيقة؛ والقبح إنما هو لفظ ترابي يشار به إلى صورة وقع فيها من التشويه مثل معاني التراب، والصورة فانية زائلة، ولكن عملها باقٍ؛ فالنظر يجب أن يكون إلى العمل؛ فالعمل هو لا غيره الذي تتعاوره ألفاظ الحسن والقبح. وبهذا الكمال في النفس، وهذا الأدب، قد ينظر الرجل الفاضل من وجه زوجته الشوهاء الفاضلة، لا إلى الشوهاء، ولكن إلى الحور العين. إنهما في رأي العين رجل وامرأة في صورتين متنافرتين جمالًا وقبحًا؛ أما في الحقيقة والعمل وكمال الإيمان الروحي، فهما إرادتان متحدتان تجذب إحداهما الأخرى جاذبية عشق، وتلتقيان معًا في النفسين الواسعتين، المراد بهما الفضيلة وثواب الله والإنسانية؛ ولذلك اختار الإمام أحمد بن حنبل عوراء على أختها، وكانت أختها جميلة، فسأل: من أعقلهما؟ فقيل: العوراء, فقال: زوجوني إياها. فكانت العوراء في رأي الإمام وإرادته هي ذات العينين الكحيلتين، لوفور عقله وكمال إيمانه.

_ 1 بسطنا هذا المعنى في كتابنا "السحاب الأحمر".

قال أبو عبد الله: والحديث الشريف بعد كل هذا الذي حكيناه يدل على أن الحب متى كان إنسانيًّا جاريًا على قواعد الإنسانية العامة، متسعًا لها غير محصور في الخصوص منها, كان بذلك علاجًا من أمراض الخيال في النفس، واستطاع الإنسان أن يجعل حبه يتناول الأشياء المختلفة، ويرد على نفسه من لذاتها، فإن لم يسعده شيء بخصوصه، وجد أشياء كثيرة تسعده بين السماء والأرض، وإن وقع في صورة امرأته ما لا يعد جمالًا، رأى الجمال في أشياء منها غير الصورة، وتعرّف إلى ما لا يخفى، فظهر له ما يخفى. وليست العين وحدها هي التي تؤامر في أي الشيئين أجمل، بل هناك العقل والقلب، فجواب العين وحدها إنما هو ثلث الحق. ومتى قيل: "ثلث الحق" فضياع الثلثين يجعله في الأقل حقًّا غير كامل. فما نكرهه من وجه، قد يكون هو الذي نحبه من وجه آخر، إذ نحن تركنا الإرادة السليمة تعمل عملها الإنساني بالعقل والقلب، وبأوسع النظرين دون أن أضيقهما {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] . فوثب ابن أيمن، وأقبل يدور في المجلس مما دخله من طرب الحديث ويقول: ما هذا إلا كلام الملائكة سمعناه منك يابن عمران. قال مسلم: فكيف بك لو سمعته من أبي عبد الله؛ إنه -والله- قد حبب إليَّ السوداء والقبيحة والدميمة، ونظرت لنفسي بخير النظرين، وقلت: إن تزوجت يومًا فما أبالي جمالًا ولا قبحًا، إنما أريد إنسانية كاملة مني ومنها ومن أولادنا، والمرأة في كل امرأة، ولكن ليس العقل في كل امرأة. قال: ثم إني رجعت إلى البصرة، وآثرت السكنى بها، وتعالم الناس إقبالي، وعلمت أنه لا يحسن بي المقام بغير زوجة، ولم يكن بها أجلّ قدرًا من جد هذين الغلامين، وكانت له بنت قد عضلها وتعرض بذلك لعداوة خُطَّابها؛ فقلت: ما لهذه البنت بد من شأن، ولو لم تكن أكمل النساء وأجملهن، ما ضن بها أبوها رجاوة أن يأتيه من هو أعلى. فحدثتني نفسي بلقائه فيها، فجئته على خلوة. فقطع عليه ابن أيمن، وقال: قد علمنا خبرها من منظر هذين الغلامين، وإنما نريد من خير تلك الدميمة التي تعشقتَها. قال: مهلًا فستنتهي القصة إليها, ثم إني قلت: يا عم، أنا فلان بن فلان

التاجر. قال: ما خفي عني محلك ومحل أبيك. فقلت: جئتُك خاطبًا لابنتك. قال: والله, ما بي عنك رغبة، ولقد خطبها إلي جماعة من وجوه البصرة وما أجبتهم، وإني لكاره إخراجها من حِضْني إلى من يقوِّمها تقويم العبيد. فقلت: قد رفعها الله عن هذا الموضع، وأنا أسألك أن تدخلني في عددك، وتخلطني بشملك. فقال: ولا بد من هذا؟ قلت: لا بد. قال: اغد علي برجالك. فانصرفت عنه إلى ملأ من التجار ذوي أخطار، فسألتهم الحضور في غد، فقالوا: هذا رجل قد رد من هو أثرى منك، وإنك لتحركنا إلى سعي ضائع. قلت: لا بد من ركوبكم معي. فركبوا على ثقة من أنه سيردهم. فصاح ابن أيمن، وقد كادت روحه تخرج: فذهبتَ، فزوجك بالجميلة الرائعة أم هذين؛ فما خبر تلك الدميمة؟ قال مسلم: يا سيدي قد صبرت إلى الآن، أفلا تصبر على كلمات تنبئك من أين يبدأ خبر الدميمة، فإني ما عرفتها إلا في العرس! قال: وغدونا عليه فأحسن الإجابة وزوجني، وأطعم القوم ونحر لهم، ثم قال: إن شئت أن تبيت بأهلك فافعل، فليس لها ما يحتاج إلى التلوم عليه وانتظاره. فقلت: هذا يا سيدي ما أحبه. فلم يزل يحدثني بكل حسن حتى كانت المغرب، فصلاها بي، ثم سبح وسبحت، ودعا ودعوت، وبقي مقبلًا على دعائه وتسبيحه ما يلتفت لغير ذلك. فأمضّني -علم الله- كأنه يرى أن ابنته مقبلة مني على مصيبة، فهو يتضرع ويدعو! ثم كانت العَتَمَة فصلاها بي، وأخذ بيدي فأدخلني إلى دار قد فُرشت بأحسن فرش، وبها خدم وجوارٍ في نهاية من النظافة؛ فما استقر بي الجلوس حتى نهض وقال: أستودعك الله، وقدم الله لكما الخير وأحرز التوفيق. واكتنفني عجائز من شمله، ليس فيهن شابة إلا من كانت في الستين, فنظرت فإذا وجوه كوجوه الموتى، وإذا أجسام بالية يتضامّ بعضها إلى بعض، كأنها أطلال زمن قد انقضّ بين يدي. فصاح ابن أيمن: وإن دميمتك لعجوز أيضًا؟ ما أراك يابن عمران إلا قتلتَ أم الغلامين!

قال مسلم: ثم جَلَوْن ابنته عليَّ وقد ملأن عيني هرمًا وموتًا وأخيلة شياطين وظلال قرود؛ فما كدت أستفيق لأرى زوجتي، حتى أسرعن فأرخين الستور علينا؛ فحمدت الله لذهابهن، ونظرت. وصاح ابن أيمن وقد أكله الغيظ: لقد أطلت علينا، فستحكي لنا قصتك إلى الصباح، قد علمناها ويلك، فما خبر الدميمة الشوهاء؟ قال مسلم: لم تكن الدميمة الشوهاء إلا العروس.... فزاغت أعين الجماعة، وأطرق ابن أيمن إطراقة من ورد عليه ما حيره, ولكن الرجل مضى يقول: ولما نظرتها لم أر إلا ما كنت حفظته عن أبي عبد الله البلخي، وقلت: هي نفسي جاءت بي إليها، وكأن كلام الشيخ إنما كان عملًا يعمل في ويديرني ويصرفني؛ وما أسرع ما قامت المسكينة فأكبت على يدي وقالت: "يا سيدي، إني سر من أسرار والدي، كتمه عن الناس وأفضى به إليك، إذ رآك أهلًا لستره عليه، فلا تَخْفِر ظنه فيك، ولو كان الذي يطلب من الزوجة حسن صورتها دون حسن تدبيرها وعفافها لعظمت محنتي، وأرجو أن يكون معي منهما أكثر مما قصَّر بي في حسن الصورة؛ وسأبلغ محبتك في كل ما تأمرني؛ ولو أنك آذيتَني لعددت الأذى منك نعمة، فكيف إن وسعني كرمك وسترك؟ إنك لا تعامل الله بأفضل من أن تكون سببًا في سعادة بائسة مثلي, أفلا تحرص يا سيدي، على أن تكون هذا السبب الشريف". ثم إنها وثبت فجاءت بمال في كيس، وقالت: يا سيدي، قد أحل الله لك معي ثلاث حرائر، وما آثرته من الإماء؛ وقد سوغتك تزويج الثلاث وابتياع الجواري من مال هذا الكيس، فقد وقفته على شهواتك، ولست أطلب منك إلا ستري فقط! قال أحمد بن أيمن: فحلف لي التاجر أنها ملكت قلبي ملكًا لا تصل إليه حسناء بحسنها؛ فقلت لها: إن جزاء ما قدمت ما تسمعينه مني: "والله, لأجعلنك حظي من دنياي فيما يُؤثِره الرجل من المرأة، ولأضربن على نفسي الحجاب، ما تنظر نفسي إلى أنثى غيرك أبدًا". ثم أتممت سرورها، فحدثتُها بما حفظتُه عن أبي عبد الله البلخي. فأيقنت -والله يا أحمد- أنها نزلت مني في أرفع

منازلها وجعلت تحسُن وتحسُن، كالغصن الذي كان مجرودًا، ثم وخزتْه الخضرة من هنا ومن هنا. وعاشرتها، فإذا هي أضبط النساء، وأحسنهن تدبيرًا، وأشفقهن علي، وأحبهن لي؛ وإذا راحتي وطاعتي أول أمرها وآخره؛ وإذا عقلها وذكاؤها يظهران لي من جمال معانيها ما لا يزال يكثر ويكثر، فجعل القبح يقل ويقل، وزال القبح باعتيادي رؤيته، وبقيت المعاني على جمالها؛ وصارت لي هذه الزوجة هي المرأة وفوق المرأة. ولما ولدت لي، جاء ابنها رائع الصورة، فحدثتْني أنها كانت لا تزال تتمنى على كرم الله وقدرته أن تتزوج وتلد أجمل الأولاد، ولم تدع ذلك من فكرها قط, وألَّف لها عقلها صورة غلام تتمثله وما برحت تتمثله؛ فإذا هي أيضًا كان لها شأن كشأني، وكان فكرها عملًا يعمل في نفسها، ويديرها ويصرِّفها. ورزقني الله منها هذين الابنين الرائعين لك، فانظر؛ أي معجزتين من معجزات الإيمان!

الطائشة

الطائشة 1: قال صاحبها وهو يحدثني من حديثها: كانت فتاة متعلمة، حلوة المنظر، حلوة الكلام، رقيقة العاطفة، مرهفة الحس، في لسانها بيان ولوجهها بيان غير الذي في لسانها، تعرف فيه الكلام الذي لا تتكلم به. ولها طبع شديد الطرب للحياة، مسترسل في مرحه، خفيف طَيَّاش، لو أثقلتَه بجبل لخف بالجبل؛ تحسبها دائمًا سكرى تتمايل من طربها، كأن أفكارها المرحة هي في رأسها أفكار وفي دمها خمر. وكان هذا الطبع السكران بالشباب والجمال والطرب يعمل عملين متناقضين؛ فهو دلال متراجع منهزم، وهو أيضًا جرأة مندفعة متهجمة. وهزيمة الدلال في المرأة إن هي إلا عمل حربي، مضمرة فيه الكرَّة والهجوم؛ وكثيرًا ما تُرَى فيها النظرة ذات المعنيين نظرة واحدة؛ بها تؤنبك المرأة على جراءتك معها، وبها أيضًا تَعذُلك على أنك لست معها أجرأ مما أنت! قلت: ويحك يا هذا! أتعرف ما تقول؟ قال: فمن يعرف ما يقول إذا أنا لم أعرف؟ لقد أحببت خمس عشرة فتاة؛ بل هن أحببْنَني وفرغن قلوبهن لي، ما اعتزت علي منهن واحدة، وقد ذهبن بي مذهبًا، ولكني ذهبت بهن خمسة عشر! قلت: فلا ريب أنك تحمل الوسام الإبليسي الأول من رتبة الجمرة, فكيف استهام بك خمس عشرة فتاة؛ أجاهلات هن، أعمياوات هن؟ قال: بل متعلمات مبصرات يرين ويدركن، ولا تخطئ واحدة منهن في فهم أن رجلًا وامرأة قصة حب, وما خمس عشرة فتاة؟ وما عشرون وثلاثون من فتيات هذا الزمن الحائر البائر، الذي كسَد فيه الزواج، ورق فيه الدين، وسقط الحياء، والتهبت

العاطفة, وانتشر اللهو، وكثرت فنون الإغراء, واصطلح فيه إبليس والعلم يعملان معًا؛ وأُطلقت الحرية للمرأة، وتوسعت المدارس فيما تُقدِّم للفتيات، وأظهرت من الحفاوة بهن أمرًا مفرطًا حتى أخذن منها ربع العلم؟ قلت: وثلاثة أرباع العلم الباقية؟ قال: يأخذنها مع الروايات والسينما. علم المدارس، ما علم المدارس؟ إنهن لا يصنعن به شيئًا إلا شهادات هي مكافأة الحفظ وإجازة النسيان من بعد؛ أما علم السينما والروايات فيصنعن به تاريخهن. ورب منظر يشهده في السينما ألف فتاة بمرة واحدة، فإذا استقر في وعيهن، وطافت به الخواطر والأحلام؛ سلبهن القرار والوقار فمثَّلْنَه ألف مرة بألف طريقة في ألف حادثة! يظنون أننا في زمن إزاحة العقبات النسائية واحدة بعد واحدة، من حرية المرأة وعلمها؛ أما أنا فأرى حرية المرأة وعلمها لا يوجدان إلا العقبات النسائية عقبة بعد عقبة. وقد كان عيب الجاهلة المقصورة في دارها أن الرجل يحتال عليها، فصار عيب المتعلمة المفتوح لها الباب أنها هي تحتال على الرجل؛ فمرة بإبداع الحيلة عليه، ومرة بتلقينه الحيلة عليها. والغريب في أمر هذا العلم أنه هو الذي جعل الفتاة تبدأ الطريق المجهول بجهل! قلت: وما الطريق المجهول؟ قال: الطريق المجهول هو الرجل، وإطلاق الحرية للفتاة أطلق ثلاث حريات: حرية الفتاة، وحرية الحب؛ والأخرى حرية الزواج، ولما انطلق ثلاثتهن معًا، تغير ثلاثتهن جميعًا إلى فساد واختلال. أما الفتاة فكانت في الأكثر للزواج، فعادت للزواج في الأقل وفي الأكثر للهو والغزل؛ وكان لها في النفوس وقار الأم وحرمة الزوجة، فاجترأ عليها الشبان اجتراءهم على الخليعة والساقطة؛ وكانت مقصورة لا تُنال بعيب ولا يتوجه عليها ذم، فمشت إلى عيوبها بقدميها، ومشت إليها العيوب بأقدام كثيرة, وكانت بجملتها امرأة واحدة، فعادت مما ترى وتعرف وتكابد كأن جسمها امرأة، وقلبها امرأة أخرى، وأعصابها امرأة ثالثة. وأما الحب، فكان حبًّا تتعرف به الرجولة إلى الأنوثة في قيود وشروط، فلما صار حرًّا بين الرجولة والأنوثة، انقلب حيلة تغترّ بها إحداهما الأخرى؛ ومتى صار

الأمر إلى قانون الحيلة، فقد خرج من قانون الشرف، ويرجع هذا الشرف نفسه كما نراه، ليس إلا كلمة يحتال بها. وأما الزواج، فلما صار حرا جاء الفتاة بشبه الزوج لا بالزوج, وضعُفت منزلته، وقل اتفاقه، وطال ارتقاب الفتيات له، فضعف أثره في النفس المؤنثة؛ وكانت من قبل لفظتا "الشاب، والزوج" شيئًا واحدًا عند الفتاة وبمعنى واحد، فأصبحتا كلمتين متميزتين؛ في إحداهما القوة والكثرة والسهولة، وفي الأخرى الضعف والقلة والتعذر؛ فالكل شبان وقليل منهم الأزواج؛ وبهذا أصبح تأثير الشباب على الفتاة أقوى من تأثير الشرف، وعاد يقنعها منه أخس برهاناته، لا بأنه هو مقنع، ولكن بأنها هي مهيأة للاقتناع. وفي تلك الأحوال لا يكون الرجل إلا مغفلًا في رأي المرأة, إذا هو أحبها ولم يكن محتالًا حيلة مثله على مثلها، ويظل في رأيها مغفلًا حتى يخدعها ويستزلها؛ فإذا فعل كان عندها نذلًا لأنه فعل, وهذه حرية رابعة في لغة المرأة الحرة والزواج الحر والحب الحر! وانظر -بعيشك- ما فعلت الحرية بكلمة "التقاليد"، وكيف أصبحت هذه الكلمة السامية من مبذوء الكلام ومكروهه حتى صارت غير طبيعية في هذه الحضارة، ثم كيف أحالتها فجعلتها في هذا العصر أشهر كلمة في الألسنة، يُتهكم بها على الدين والشرف وقانون العرف الاجتماعي في خوف المعَرَّة والدنيئة والتصاون من الرذائل والمبالاة بالفضائل؛ فكل ذلك "تقاليد". وقد أخذت الفتيات المتعلمات هذه الكلمة بمعانيها تلك، وأجرينها في اعتبارهن مكروهة وحشية، وأضفن إليها من المعاني حواشي أخرى، حتى ليكاد الأب والأم يكونان عند أكثر المتعلمات من "التقاليد" أهي كلمة أبدعتها الحرية، أم أبدعها جهل العصر وحماقته، وفجوره وإلحاده؟ أهي كلمة تعلقها الفتيات المتعلمات لأنها لغة من اللغة، أم لأنها من لغة ما يحببن؟ "تقاليد"؟ فما هي المرأة بدون التقاليد؟ إنها البلاد الجميلة بغير جيش، إنها الكنز المخبوء معرضًا لأعين اللصوص، تحوطه الغفلة لا المراقبة. هب الناس جميعًا شرفاء متعففين متصاونين؛ فإن معنى كلمة "كنز" متى تُركت له الحرية وأغفل من تقاليد الحراسة، أوجدت حريته هذه بنفسها معنى كلمة "لص". قال صاحبنا: أما الفتاة المحررة من "التقاليد" كما عرفتُها فهي هذه التي

أقص عليك قصتها، وهي التي جعلتني أعتقد أن لكل فتاة رشدين, يثبت أحدهما بالسن، ويثبت الآخر بالزواج. ولو أن عانسًا ماتت في سن الخمسين أو الستين لوجب أن يقال: إنها ماتت نصف قاصر! ولعل هذا من حكمة الشريعة في اعتبار المرأة نصف الرجل، إذ تمام شرفها الاجتماعي أن يكون الرجل مضمومًا إليها في نظام الاجتماع وقوانينه؛ فالزوج على هذا هو تمام رشد الفتاة بالغة ما بلغت. وأساس المرأة في الطبيعة أساس بدني لا عقلي، ومن هذا كانت هي المصنع الذي تُصنع فيه الحياة، وكانت دائمًا ناقصة لا تتم إلا بالآخر الذي أساسه في الطبيعة شأن عقله وشأن قوته. واعتبرْ ذلك بالمرأة تدرس وتتعلم وتنبُغ، فلو أنك ذهبت تمدحها بوُفُور عقلها وذكائها، وتقرظها بنبوغها وعبقريتها، ثم رأتك لم تلق كلمة ولا إشارة ولا نظرة على جسمها ومحاسنها؛ لتحول عندها كل مدحك ذمًّا، وكل ثنائك سخرية؛ فإن النبوغ ههنا في أعصاب امرأة تريد أن تعرف مع أسرار الكون أسرار كونها هي، هذا الكون البدني الفاتن، أو الذي تزعمه هي فاتنًا، أو الذي لا ترضاه ولا ترضى أن تكون صاحبته إلا إذا وجدت من يزعم لها أنه كون فاتن بديع، مزين بشمسه وقمره وطبيعته المتنضرة التي تجعل مسه مس ورق الزهر. مثل هذه إنما يكون الثناء عندها حينما يكون أقله باللسان العلمي ولغته، وأكثره بالنظر الفني ولغته. وهذا على أنها عالمة الجنس ونابغته، ودليل شذوذه العقلي، والواحدة التي تجيء كالفلتة المفردة بين الملايين من النساء؛ فكيف بمن دونها، وكيف بالنساء فيما هن نساء به؟ دع جماعة من العلماء يمتحنون هذا الذي بينت لك، فيأتون بامرأة جميلة نابغة, فيضعونها بين رجال لا تسمع من جميعهم إلا: ما أعقلها، ما أعقلها، ما أعقلها! ولا ترى في عيني كل منهم من أنواع النظر وفنونه إلا نظر التلميذ لمعلمة في سن جدته. فهذه لن تكون بعد قريب إلا في حالة من اثنتين: إما أن يخرج عقلها من رأسها، أو ... أو تخرج في وجهها لحية! "ما أعقلها! " كلمة حسنة عند النساء لا يأبينها ولا يذممنها، غير أن الكلمة البليغة العبقرية الساحرة، هي عندهن كلمة أخرى، هي: "ما أجملها! "؛ إن تلك تشبه الخبز القَفَار لا شيء معه على الخِوَان، أما هذه فهي المائدة مزينة كاملة بطعامها وشرابها وأزهارها وفكاهتها وضحكها أيضًا. وكأن العقل الإنساني قد غضب لمهانة كلمته وما عرَّها به النساء، فأراد أن

يثبت أنه عقل، فاستطاع بحيلته العجيبة أن يجعل لكلمة: "ما أعقلها" كل الشأن والخطر، وكل البلاغة والسحر، عند ... عند الطفلة.... تفرح الطفلة أشد الفرح، إذا قيل: ما أعقلها! فقلت لمحدثي: كأنك صادق يا فتى! لقد جلست أنا ذات يوم إلى امرأة أديبة لها ظرف وجمال، وجاءت كبريائي فجلست معنا, وكانت "التقاليد" كالحاشية لي؛ فعلمت بعد أنها قالت لصاحبة لها: "لا أدري كيف استطاع أن ينسى جسمي وأنا إلى جانبه، أذكِّره أني إلى جانبه! لكأنما كانت لقلبه أبواب يفتح ما شاء منها ويغلق". قال محدثي: فهذا هذا؛ إن إحساس المرأة بالعالم وما فيه من حقائق الجمال والسرور, إنما هو في إحساسها بالرجل الذي اختارتْه لقلبها، أو تهم أن تختاره، أو تود أن تختاره؛ ثم إحساسها بعد ذلك بالصور الأخرى من رجُلها في أولادها. وحياة المرأة لا أسرار فيها البتة، حتى إذا دخلها الرجل عرفت بذلك أن فيها أسرارًا، وتبينت أن هذا الجسم الآخر هو فلسفة لجسمها وعقلها. قال: وقد جلست مرة مع صاحبة القصة، وأنا مغضب أو كالمغضب, ثم تلاحينا وطال بيننا التلاحي؛ فقالت لي: أنت بجانبي وأنا أسأل: أين أنت؟ فإنك لست كلك الذي بجانبي! قال: ومذهبي في الحب، الكبرياء، كما قلت أنت, غير أنها الكبرياء التي تدرك المرأة منها أني قوي لا أني متكبر؛ كبرياء الرجل إما مهيب مرح يملك أفراح قلبها، وإما حزين مهيب يملك أحزان هذا القلب. إن المرأة لا تحب إلا رجلًا يكون أول الحسن فيه حسن فهمها له، وأول القوة فيه قوة إعجابها به، وأول الكبرياء فيه كبرياءها هي بحبه وكبرياءها بأنه رجل. هذا هو الذي يجتمع فيه للمرأة اثنان: إنسانها الظريف، ووحشها الظريف! قلت: لقد بعُدنا عن القصة, فما كان خبر صاحبتك تلك؟ قال: كانت صاحبتي تلك تعلم أني متزوج، ولكن إحدى صديقاتها أنبأتها بكبريائي في الحب، ووصفتني لها صفة الإحساس لا وصف الكلام؛ فكأنما تنبهت فيها طبيعة زَهْو الفتاة بأنها فتاة، وغريزة افتتان الأنثى بأن تكون فاتنة؛ فرأت في إخضاعي لجمالها عملًا تعمله بجمالها. ومتى كانت الفتاة مستخفة "بالتقاليد" كهذه الأديبة المتعلمة؛ رأيت كلمة

"الزوج" لفظًا على رجل كلفظ الحب عليه، فهما سواء عندها في المعنى, ولا يختلفان إلا في "التقاليد". وعرضت لي كما يعرض المصارع للمصارع؛ إذ كانت من الفتيات المغرورات، اللواتي يحسبن أن في قوتهن العلمية تيارًا زاخرًا لنهرنا الاجتماعي الراكد؛ فتاة تخرجت في مدرسة أو كلية، أو جاءت من أوروبا بالعالمية, أفتدري أية معجزة مصرية في هذا تباهي بها مصر؟ إن المعجزة أن هذه الفتاة صارت مدرسة، أو مفتشة، أو ناظرة في وزارة المعارف؛ أو مؤلفة كتب وروايات، أو محررة في صحيفة من الصحف. ولا يصغُرَنَّ عندك شأن هذه المعجزة، فهي -والله- معجزة ما دام يتحقق بها خروج الفتاة من حكم الطبيعة عليها، وبقاؤها في الاجتماع المصري امرأة بلا تأنيث، أو انقلابها فيه رجلًا بلا تذكير! وكيف لا يكون من المعجزات أن تأليف رواية قد أغنى عن تأليف أسرة؛ وأن فتاة تعيش وتموت وما ولدت للأمة إلا مقالات؟ فقلت: يا صاحبي، دع هؤلاء وخذ الآن في حديث الطائشة الخارجة على التقاليد، وقد قلت: إنها عرضت لك كما يعرضا لمصارع للمصارع. قال: عرضت لي تريد أن تصرِّفني كيف شاءت، فنبوت في يدها؛ فزادت إلى رغبتها إصرارها على هذه الرغبة، فالتويتُ عليها؛ فزادت إليهما خشية اليأس والخيبة، فتعسرت معها؛ فزادت إلى هذه كلها ثورة كبريائها, فلم أتسهل؛ فانتهت من كل ذلك بعد الرغبة الخيالية التي هي أول العبث والدلال، إلى الرغبة الحقيقية التي هي أول الحب والهوى؛ رغبة تعذيبي بها لأنها متعذبة بي. ثم ردَّتها الطبيعة صاغرة إلى حقائقها السلبية، فإذا الكبرياء فيها إنما كانت خضوعًا يتراءى بالعصيان وإذا الرغبة في تعذيب الرجل إنما كانت التماسًا لأن تنعم به، وإذا الإصرار على إخضاع الرجل وإذلاله إنما كان إصرارًا على تجرئته ودفعه أن يستبد ويملك؛ وردتها الطبيعة إلى هذه الحقيقة النسوية الصريحة التي بُنيت المرأة عليها, شاءت أم أبت، وهي أن تعاني وتصبر على ما تعاني! أما أنا فأحببتها حبا عقليا، وكان هذا يشتد عليها؛ لأنه إشفاق لا حب؛ وكانت إذا سألتني عن أمر ترتاب فيه، قالت: أجبني بلسان الصدق لا بلسان الشفقة. وكانت تقول: إن في عينيها بكاء لا تستطيع أن تزيله مع الدمع, وسيقتلها هذا البكاء الذي لا يبكى، وقد اتخذت لها في دارها خلوة سمتها: "محراب

الدمع! " قالت: لأنها تبكي فيها بكاء صلاة وحب، لا بكاء حب فقط! ثم طاشت الطيشة الكبرى! قلت: وما الطيشة الكبرى؟ قال: إنها كتبت إلي هذه الرسالة: "عزيزي رغم أنفي ... لقد أذللتني بشيئين: أحدهما أنك لم تذل لي، وجعلتني -على تعليمي- أشد جهلًا من الجاهلة؛ وقد نسيت أن المرأة المتعلمة تعرف ثم تعرف مرتين: تعرف كيف تخطئ إذا وجب أن تخطئ، وهذه هي المعرفة الأولى؛ أما المعرفة الثانية فتوهمها أنت، فكأني قلتُها لك". "اعلم -يا عزيزي رغم أنفي- أني إذا لم أكن عزيزتك رغم أنفك، فسآتي ما يجعلك سَلَفًا ومَثَلًا، وستكتب الصحف عنك أول حادث يقع في مصر عن أول رجل اختطفته فتاة! " "وبعد، فقد أرسلت روحي تعانق روحك، فهل تشعر بها؟ ". قال: فوجمتُ ساعة وتبينت لي خفتها، وظهر لي سَفَاهها وطيشها، فأسرعت إليها فجئتها فأجدها كالقاضي في محكمته، لا عقل له إلا عقل الحكم القانوني الذي لا يتغير، ولا إنسان فيه إلا الإنسان المقيد بمادة كذا إذا حدث كذا، والمادة كذا حين يكون وصف المجرم كذا! فقلت لها: أهذا هو العلم الذي تعلمتِهِ؟ ألا يكون علم المرأة خليقًا أن يجعل صاحبته ذات عقلين إذا كانت الجاهلة بعقل واحد؟ قالت: العلم؟ قلت: نعم، العلم. قالت: يا حبيبي، إن هذا العلم هو الذي وضع المسدس في يد المرأة الأوروبية لعاشقها، أو معشوقها! ثم أطرقت قليلًا وتنهدت وقالت: والعلم هو الذي جعل الفتاة هناك تتزوج بإرشاد الرواية التي تقرؤها ولو انقلب الزواج رواية, والعلم هو الذي كشف حجاب الفتاة عن وجهها، ثم عاد فكشف حياء وجهها، وأوجب عليها أن تواجه حقائق الجنس الآخر وتعرفها معرفة علمية, والعلم هو الذي جعل خطأ المرأة الجنسي معفوًّا عنه ما دام في سبيل مواجهة الحقائق لا في سبيل الهرب منها, والعلم هو الذي جعل المرأة مساوية للرجل،

وأكد لها أن واحدًا وواحدًا هما واحد وكلاهما أول. والعلم هو الذي عرى أجسام الرجال والنساء ببرهان أشعة الشمس, والعلم - يا عزيزي- هو العلم الذي محا من العالم لفظة "أمس" لا يعرفها وإن كانت فيها الأديان والتقاليد. قال صاحبها: فقلت لها: كأن العلم إفساد للمرأة! وكأنه تعليم معراتها ونقائصها، لا تعليم فضائلها ومحاسنها. قالت: لا، ولكن عقل المرأة هو عقل أنثى دائمًا، ودائمًا عقل أنثى؛ وفي رأسها دائمًا جو قلبها، وجو قلبها دائمًا في رأسها؛ فإذا لم تكن مدرستها متممة لدارها وما في دارها، تممت فيها الشارع وما في الشارع. العلم للمرأة؛ ولكن بشرط أن يكون الأب وهيبة الأب أمرًا مقررًا في العلم، والأخ وطاعة الأخ حقيقة من حقائق العلم، والزوج وسيادة الزوج شيئًا ثابتًا في العلم، والاجتماع وزواجره الدينية والاجتماعية قضايا لا ينسخها العلم. بهذا وحده يكون النساء في كل أمة مصانع علمية للفضيلة والكمال والإنسانية، ويبدأ تاريخ الطفل بأسباب الرجولة التامة؛ لأنه يبدأ من المرأة التامة. أما بغير هذا الشرط، فالمرأة الفلاحة في حجرها طفل قَذِر، هي خير للأمة من أكبر أديبة تخرج ذرية من الكتب. انظر يا عزيزي برغم أنفي، هذه رسالة جاءتني اليوم من صديقتي فلانة الأديبة الـ ... فاسمع قولها: "وأنا أعيش اليوم في الجمال؛ لأني أعيش في بعض خفايا الحبيب ... ". "وفي الحياة موت حلو لذيذ؛ عرفت ذلك حينما نسيت نفسي على صدره القوي، وحينما نسيت على صدره القوي صدري ... ". أسمعت يا عزيزي؟ إن كنت لَمَّا تعلم أن هذا هو علم أكثر الفتيات المتعلمات حين يكسد الزواج, فاعلمه. ومتى عمي الشعب والحكومة هذا العمى، فإن حرية المرأة لا تكون أبدًا إلا حرية الفكرة المحرَّمة! قلت لصاحبنا: ثم ماذا؟ قال: ثم هذا. ودس يده في جيبه فأخرج أوراقًا كتب فيها رواية صغيرة أسماها: "الطائشة".

الطائشة 2: وهذا محصل رواية "الطائشة"، نقلناه من خط الكاتب على مساق ما دوّنه في أوراقه، وعلى سرده الذي قص به الخبر؛ وقد أعطانا من البرهان ما نطمئن إليه أن هذه "الطائشة" هي من تأليف الحياة لا من تأليفه، وأنه لم يخترع منها حادثة، ولم يأتفك حديثًا، ولم يزدها بفضيلة، ولم يتنقصها بمعرة؛ ثم أشهد على قوله كتب صاحبته الأدبية المستهترة التي لا تبالي ما قالت ولا ما قيل فيها؛ وهذه الكتب رسائل: منها الموجز ومنها المستفيض، وهي بجملتها تنزل من الرواية منزلة الشروح المفننة، وتنزل الرواية منها منزلة اللُّمَع المقتضبة وكل ذلك يشبه بعضه بعضًا، فكل ذلك بعضه شاهد على بعض. قال كاتب "الطائشة": كنت رجلًا غَزِلًا ولم أكن فاسقًا، ولست كهؤلاء الشبان أُصيبوا في إيمانهم بالله فأُصيبوا في إيمانهم بكل فضيلة، وذهبوا يحققون المدينة فحققوا كل شيء إلا المدينة. ترى أحدهم شريفًا يأنف أن يكون لصًّا وأن يسمى لصًّا، ثم لا يعمل إلا عمل اللص في استلاب العفاف وسرقة الفتيات من تاريخهن الاجتماعي، وتراه نجدًا يستنكف أن يكون في أوصاف قاطع الطريق، ثم يأبى إلا أن يقطع الطريق في حياة العذارى وشرف النساء. أكثر أولئك الشبان المتعلمين يعرضون للفتيات المتعلمات بوجوه مصقولة تحتمل شيئين: الحب والصفع. ولكن أكثر هؤلاء المتعلمات يضعن القبلة في مكان الصفعة، إذ كان العلم قد حلل الغريزة التي فيهن فعادت بقايا لا تستمسك؛ وبصّرهن بأشياء تزيد قوة الحياة فيهن خطرًا، وتوحي إليهن وحيها من حيث يشعرن ولا يشعرن؛ وصور في أوهامهن صورًا محت الصور التي كانت في عقائدهن؛ وأخرجهن من السلب الطبيعي الذي حماهن الله به، فلهن العفة والحياء، ولكن ليس لهن ذلك العقل الغريزي الذي يجيء من الحياء والعفة؛ وكثيرات منهن يخشين العار

وسمته الاجتماعية ولكن خشية فقهاء الحِيَل الشرعية، قد أرصدوا لكل وجه من التحريم وجهًا من التحليل، فأصبح امتناع الإثم هو ألا تكون إليه حاجة. والعقل الذي به التفكير يكون أحيانًا غير العقل الذي به العمل؛ ففي بعض الجاهلات يكون عقل الحياء والعفة والشرف والدين, غريزة كغرائز الوحش، هي الفكرة وهي العمل جميعًا، وهي أبدًا الفكرة والعمل جميعًا لا تتغير ولا تتبدل، ولا يقع فيها التنقيح الشعري ولا الفلسفي. وما غريزة الوحش إلا إيمانه بمن خلقه وحشًا؛ وكذلك غريزة الشرف في الأنثى هي عندي حقيقة إيمانها بمن خلقها أنثى. وشرف المرأة رأس مال للمرأة، ومن ذلك كان له في أوهام العلم اشتراكية بحسبه تنظر فيه نظرها وتزيغ زيغها وتقضي حكمها؛ وأكثر من عرفت من المتعلمين والمتعلمات قد انتهوا بطبيعتهم العلمية إلى الرضى بهذه الاشتراكية، وإلى التسامح في كثير، وإلى وضع الاعتذار فيما لا يُقبل عذرًا، ومن ههنا كان بعض الجاهلات كالحصن المغلق في قمة الجبل الوعر، وكان بعض المتعلمات دون الحصن، ودون القمة، ودون الجبل، حتى تنزل إلى السهل فتراهنَّ ثمة. لقد غفلت الحكومات عن معنى الدين وحقيقته، فلو عرفت لعرفت أن الإنسانية لا تقوم إلا بالدين والعلم كليهما؛ فإن في الرجل إنسانًا عامًّا ونوعًا خاصًّا مذكرًا، وفي المرأة إنسانًا عامًّا كذلك ونوعًا خاصًّا مؤنثًا. والدين وحده هو الذي يصلح النوع بتحقيق الفضيلة وتقرير الغاية الأخلاقية، وهو الذي يحاجز بين الغريزتين، وهو الذي يضع القوة الروحية في طبيعة المتعلم؛ فإن كانت طبيعة التعليم قوية، كانت الروحية زيادة في القوة؛ وإن كانت ضعيفة كما هي الحال في هذه المدنية، لم تجمع الروحية على المتعلم ضعفين، يبتلي كلاهما الآخر ويزيده. فلان وفلان تعلقَّّا فتاتين جاهلة ومتعلمة؛ وكلتاهما قد صدت صاحبها وامتنعت منه؛ فأما الجاهلة فيقول "فلانها": إنها كالوحش، وإن صدودها ليس صدودًا حسب، بل هو ثورة من فضيلتها وإيمانها، فيها المعنى الحربي مجاهدًا متحفزًا للقتل. وأما المتعلمة فيقول "فلانها": إنها ككل امرأة، وإن صدودها ثورة، ولكن من دلالها ترضي به أول ما ترضي وآخر ما ترضي, كبرياء الجمال فيها لا الإيمان ولا الفضيلة. فكأنها إيحاء للطامع أن يزيد طمعًا أو يزيد احتيالًا.

وفلان هذا يقول لي: إن ضعفاء الإيمان من الشبان المتعلمين -وأكثرهم ضعفاء الإيمان- لو حققتَ أمرهم وبلوت سرائرهم، لتبينت أنهم جميعًا لا يرون قلب الفتاة المتعلمة إلا كالدار الخالية كُتب عليها: "للإيجار"! يقول كاتب "الطائشة": أما أنا, فقد صح عندي أن سياسة أكثر المتعلمات هي سياسة فتح العين حَذَرًا من الشبان جميعًا؛ وإغماض العين لواحد. وهذا الواحد هو البلاء كله على الفتاة، فإنها بطبيعتها تتقيد ولا تنفصل إلا مكرهة، وهو بطبيعته قيده لذته، فيتصل وينفصل؛ غير أنها لا بد لها من هذا الواحد، ففكرها المتعلم يوحي إليها بالحياة لا يجعل في ذلك موضعًا للنكير عندها، والحياة نصف معانيها النفسية في الصديق؛ فالأنوثة بغيره مُظلمة في حياتها، راكدة في طباعها، ثقيلة على نفسها، ما دام "الشعاع" لا يلمسها. والدين يأبى أن يكون ذلك الصديق إلا الزوج في شروطه وعهوده، كيلا تتقيد المرأة إلا بمن يتقيد بها؛ والعلم لا يأبى أن يكون الصديق هو الحب؛ والفن يوجب أن يكون هو الحب؛ وليس في الحب شروط ولا عهود، إلا وسائل تُختلق لوقتها، وأكثرها من الكذب والنفاق والخديعة؛ ولفظ الحب نفسه لص لغوي خبيث، يسرق المعاني التي ليست له وينفق مما يسرق. وليس من امرأة يخدعها عاشق إلا انكشف لها حبه كما ينكشف اللص حين يُمسَك. يقول كاتب "الطائشة": تلك فلسفة لا بد منها في التوطئة للكتابة عن "عزيزتي رغم أنفي". ومن كانت مثلها في أفكارها واستدلالها وحججها وطريقتها, كان خليقا بمن يكتب قصتها أن يجعل القصة من أولها مُسلَّحة. لقد تكارهت على بعض ما أرادت مني ما دام الحب "رغم أنفي"، وما دامت السياسة أن أداريها وأتبع محبتها؛ غير أني صارحتها بكلمة شمسية تلمع تحت الشمس، أنها الصداقة لا الحب، وأنما هو اللهو البريء لا غيره، وأن ذلك جهد ما أنا قوي عليه وفي به. قالت: فليكن، ولكن صداقة أعلى قليلًا من الصداقة, ولو من هذا الحب المتكبر الذي لا يصدق كيلا يكذب. إن هذا النوع من الحب يطيش بعقل

المرأة، ولكنه هو أول ما يستهيمها ويعجبها ويُورثها التياع الحنين والشوق. كتبت لي: "أنا لا أتألم في هواك بالألم، ولكن بأشياء منك أقلها الألم؛ ولا أحزن بالحزن، ولكن بهموم بعضها الحزن". "إنك صنعت لي بكاء ودموعًا وتنهدات، وجعلت لي ظلامًا منك ونورًا منك يا نهاري وليلي. تُرى ما اسم هذا النوع من الصداقة؟ اسمه الحب؟ لا. اسمه الكبرياء؟ لا. اسمه الحنان؟ لا. اسمه حبك أنت، أنت أيها الغامض المتقلب. ألا ترى ألفاظي تبكي، ألا تسمع قلبي يصرخ، بأي عدلك أو بأي عدل الناس تريد أن أحيا في عالم شمسه باردة. هذا قتل، هذا قتل". فكتبت إليها: "إن لم يكن هذا جنونًا, فإنه لقريب منه". فردت على هذه الرسالة: "أتكاتبني بأسلوب التلغراف؟ لو أهديت إلي عِقْدًا من الزمرد حباته بعدد هذه الكلمات لكنت بخيلًا، فكيف وهي ألفاظ؟ إني لأبكي في غمضة واحدة بدموع أكثر عددًا من كلماتك، وهي دموع من آلامي وأحزاني؛ وتلك ألفاظ من لهوك وعبثك! " "ما كان ضرك لو كتبت لي بضعة أسطر تنسخها من تلغرافات روتر, ما دمت تسخر مني؟ أأنت الشباب وأنا الكهولة، فليس لك بالطبيعة إلا الانصراف عني، وليس لي بالطبيعة إلا الحنين إليك؟ ". لا أدري كيف أحببتُها، ولا كيف دعتني إليها نفسي؛ ولكن الذي أعلمه أني تخادعت لها وقلت: إن المستحيل هو منع الشر، والممكن هو تخفيفه؛ ثم أقبلت أرثي لها، وأخفف عنها، وأقبلت هي تضاعف لي مكرها وخديعتها وكان الأمر بيننا كما قالت: "في الحب والحرب لا يكون الهجوم هجومًا وفيه رفق أو تراجع". إن المرأة وحدها هي التي تعرف كيف تقاتل بالصبر والأناة؛ ولا يشبهها في ذلك إلا دهاة المستبدين.

سألتني أن أهدي إليها رسمي؛ فاعتللت عليها بأن قلت لها: إن هذا الرسم سيكون تحت عينيك أنت رسم حبيب، ولكنه تحت الأعين الأخرى سيكون رسم متهم. وظننتني أبلغت في الحُجَّة وقطعتها عني؛ فجاءتني من الغد بالرد المفحم؛ جاءتني بإحدى صديقاتها لتظهر في الرسم إلى جانبي كأنني من ذوي قرابتها؛ فيكون الرسم رسم صديقتها، ويكون مهدى منها لا مني، وكأنني فيه حاشية جاءت من عمة أو خالة. وأصررت على الإباء، ونافرتني القول في ذلك، ترد علي وأرد عليها، وتغاضبنا وانكسرت حزنًا وذهبت باكية؛ ثم تسببت إلى رضاي فرضيت. حدثتني أن صديقتها فلانة الأدبية استطاعت أن تستزير صاحبها فلانًا في مخدعِها, في دارها، بين أهلها، منتصف الليل. قلت: وكيف كان ذلك؟ قالت: إنها تحمل شهادة, وهي تلتمس عملًا وقد طال عليها؛ فزعمت لذويها أنها عثرت في كتاب كذا على رقية من رقى السحر، فتريد أن تتعاطى تجربتها بعد نصف الليل إذا مُحق القمر؛ وأنها ستطلق البخور وتبقى تحت ضبابته إلى الفجر تُهمهم بالأسماء والكلمات. ثم إنها اتعدت وصاحبها ليوم، وأجافت باب دارها ولم تغلقه، وأطلقت البخور في مِجْمَر كبير أثار عاصفة من الدخان المعطر، وجعل مخدعها كمخدع عروس من ملكات التاريخ القديم؛ وبقي صاحبها تحت الضبابة يهمهم وتهمهم. ثم خرج في أغباش السَّحَر. هكذا قالت؛ وما أدري أهو خبر عن تلك الصديقة وفلانها، أم هو اقتراح علي أنا من "فلانتي" لأكون لها عفريت الضبابة؟ لم يخفَ عليها أن لَذْعة حبها وقعت في قلبي، وأن صبرها قد غلب كبريائي، وأن كثرة التلاقي بين رجل وامرأة يطمع أحدهما في الآخر. لا بد أن ينقل روايتهما إلى فصلها الثاني، ويجعل في التأليف شيئًا منتظرًا بطبيعة السياق. وإلحاح امرأة على رجل قد خلبها وجفا عن صلتها، إنما هو تعرضها للتعقيد الذي في طبيعته الإنسانية؛ فإن هي صابرته وأمعنت، فقلما يدعها هذا التعقيد من حل لمعضلتها. وبمثل هذه العجيبة كان تعقيدًا وكان غير مفهوم ولا واضح؛ وقد

ينقلب فيه أشد البغض إلى أشد الحب، وقد تعمل فيه حالة من حالات النفس ما لا يعمل السحر؛ وكذلك يقع للرجل إذا أحب المرأة فنبت عن مودته فعرض للتعقيد الذي في طبيعتها, وأمعن وثبت وصابر. رأت الجمرة الأولى في قلبي فأضرمت فيه الثانية، حين جاءتني اليوم بكتاب زعمت أن فلانًا أرسله إليها يطارحها الهوى ويبثها وَلَه الحنين والتياع الحب. ويقول لها في هذا الكتاب: "أنا لم أشرب خمرًا قط، ولكني لا أراني أنظر إلى مفاتنك ومحاسنك إلا وفي عيني الخمر، وفي عقلي السكر، وفي قلبي العربدة. جعلتِ لي -ويحك- نظرة سكير فيها نسيان الدنيا وما في الدنيا ما عدا الزجاجة". ويختمه بهذه العبارة: "آه, لو استطعت أن أجعل كلامي في نفسك ناعمًا، ساحرًا، مسكرًا، مثل كلام الشفة للشفة حين تقبلها! ". عند هذا وقع الشيء المنتظر في الفصل الثاني من الرواية، وخُتم هذا الفصل بأول قبلة على شفتي "الممثلة". قالت: هذه القبلة كانت "غلطة مطبعية"، ومضت تسميها كذلك، واستمرت المطبعة تغلط. وما علمت إلا من بعد أن ذلك الكتاب الذي استوقدت به غيرتي إنما كان من عملها ومكرها. وجاءتني اليوم بآبدة من أوابدها، قالت: أنت رجعي محافظ على التقاليد. قلت: لأني أرى هذه التقاليد كالصباح الذي يتكرر في كل يوم, وهو في كل يوم ضياء ونور. قالت: أو كالمساء الذي يتكرر, وهو في كل يوم ظلام وسَوَاد! قلت: ليس هذا إلي ولا إليك، بل الحكم فيه للنفع أو الضرر. قالت: بل هو إلى الحياة، والحياة اليوم عِلْمية أوروبية، والزمن حَثِيث في تقدمه، وأصحاب "التقاليد" جامدون في موضعهم قد فاتهم الزمن؛ ولذلك يسمونهم "متأخرين". أما علمت أن الفضيلة قد أصبحت في أوروبا زيًّا قديمًا، فأخذ المقص يعمل في تهذيبها، يقطع من هنا ويشق من هنا؟! اسمع أيها "المتأخر"، وتأمل هذا البرهان الأوروبي العصري:

أخبرتني صديقتي فلانة حاملة شهادة, أنها كانت في القطار بين الإسكندرية والقاهرة، وكانت معها فتاة من جيرتها تحمل الشهادة الابتدائية؛ فجمعهما السفر بشاب وسيم ظريف يشارك في الأدب، غير أنه رجعي "متأخر"، وصديقتي تعرف من كل شيء شيئًا، وتأخذ من كل فن بطرف؛ فجرى الحديث بينهما مجراه، وتركت الصديقة نفسها لدواعيها، وانطلقت على سَجِيَّتها الظريفة، ووضعت فن لسانها في الكلام فجعلت فيه روح التقبيل! ولم تبلغ إلى القاهرة حتى كانت قد سحرت ذلك "المتأخر" ووقعت من نفسه، ودفعته إلى الزمن الذي هو فيه, فلما همت بوداعه سألهما: أين تذهبان؟ فأغضَتْ صاحبة الشهادة الابتدائية، وأطرقت حياءً، ورأت في السؤال تهمة وريبة، فأنبتها الصديقة وأيقظتها من حيائها، وقالت لها: ألا تزالين شرقية متأخرة؟ إن لم يسعدنا الحظ أن تكون لنا حرية المرأة الأوروبية في المجتمع وفي أنفسنا؛ أفلا يسعنا أن تكون لنا هذه الحرية ولو في أنفسنا؟ ثم ردت على الشاب فأنبأته بمكانها وعنوانها، فأطمعه ردها، فسألها أن تتنزه معه في بعض الحدائق، فأبت صاحبة الابتدائية ولجت عمايتها الشرقية المتأخرة، ورأت في ذلك مسقطة لها، فلَوَت إلى دارها وتركتهما إنسانًا وإنسانًا لا فتى وفتاة؛ وتنزها معًا، وعرف الشاب الرجعي الحب، والخمر التي هي تحية الحب! ولم تستطع الفتاة الماكرة أن ترجع إلى دارها وهي سكرى كما زعمت للشاب, فأوت إلى فندق، وخُتمت روايتهما بإعراض من الشاب, أجابت هي عليه بقولها: ألا زلت "متأخرًا"؟ قالت "الطائشة": نعم يا عزيزي "المتأخر"، إن مذهب المرأة الحرة في الفرق بين الزوج وغير الزوج؛ إن الأول رجل ثابت، والآخر رجل طارئ. والثابت ثابت معها بحقه هو؛ والطارئ طارئ عليها بحقها هي. فإن كانت حرة فلها حقها. قال كاتب الطائشة: وهنا، هنا، هنا, كاد الشيطان يرفع الستار عن فصل ثالث في هذه الرواية، رواية "الطائشة". نقول نحن: وإلى هنا ينتهي نصف الرواية؛ أما النصف الآخر فيكاد يكون قصة أخرى اسمها: "الطائش والطائشة".

دموع من رسائل الطائشة

دموع من رسائل الطائشة 1: ورسائل هذه الطائشة إلى صاحبها، تُقرأ في ظاهرها على أنها رسائل حب، قد كتبت في الفنون التي يترسل بها العشاق؛ ولكن وراء كلامها كلامًا آخر، تُقرأ به على أنها تاريخ نفس ملتاعة لا تزال شعلة النار فيها تتنمَّى وترتفع؛ وقد فدحتها بظلمها الحياة إذ حصرتها في فن واحد لا يتغير، وأوقعتها تحت شرط واحد لا يتحقق، وصَرَّفتها بفكرة واحدة لا تزال تخيب. وأشد سجون الحياة فكرة خائبة يسجن الحي فيها، لا هو مستطيع أن يدعها، ولا هو قادر أن يحققها؛ فهذا يمتد شقاؤه ما يمتد ولا يزال كأنه على أوله لا يتقدم إلى نهاية؛ ويتألم ما يتألم ولا تزال تشعره الحياة أن كل ما فات من العذاب إنما هو بَدْء العذاب. والسعادة في جملتها وتفصيلها أن يكون لك فكر غير مقيد بمعنى تتألم منه، ولا بمعنى تخاف منه، ولا بمعنى تحذر منه؛ والشقاء في تفصيله وجملته انحباس الفكر في معاني الألم والخوف والاضطراب. وقد اخترنا من رسائل "الطائشة" هذه الرسالة المصورة التي يبرق شعاعها وتكاد تقوم مدة بإزاء نفسها كالمرآة بإزاء الوجه؛ وهي فيها عذبة الكلام من أنها مُرَّة الشعور، متسقة الفكر من أنها مختلة القلب، مسددة المنطق من أنها طائشة النفس؛ تلك إحدى عجائب الحب؛ كلما كان قَفْرًا ممحلًا اخضرت فيه البلاغة وتفنَّنت والتفت؛ وعلى قلة المتعة من لذاته تزيد فيه المتعة من أوصافه؛ ولكأن هذا

_ 1 نحن لم نخترع الطائشة، فهي فتاة متعلمة أديبة، وقد أحبت رجلًا متزوجًا فطاش بها الحب طيش الطفل إذا منع ما يطمع فيه، وتركها الحب عليلة لما بها ثم قضت. وكان بعض صواحبها يعذلنها ويرمينها بالتهمة، فكانت تقول: إنها منهن كالغائب المحكوم عليه، لا هو يملك دفاع الذنب، ولا الحاكم عليه يملك إثبات الذنب.

الحب طبيعة غريبة تُرْوَى بالنار فتخصب عليها وتتفتق بمعانيها، كما تروى الأرض بالماء فتخصب وتتغطى بنباتها؛ فإن رَوِيَ الحب من لذاته وبرد عليها، لم ينبت من البلاغة إلا أخفها وزنًا وأقلها معاني، كأول ما يبدو النبات حين يتفطر الثرى عنه، تراه فتحسبه على الأرض مَسْحَة لون أخضر؛ أو لم ينبت إلا القليل القليل كالتَّعَاشِيب1 في الأرض السَّبِخَة. إن قصة الحب كالرواية التمثيلية، أبلغ ما فيها وأحسنه وأعجبه ما كان قبل "العُقْدة"، فإذا انحلَّت هذه العقدة فأنت في بقايا مفسرة مشروحة تريد أن تنتهي، ولا تحتمل من الفن إلا ذلك القليل الذي بينها وبين النهاية. وهذه هي رسالة الطائشة إلى صاحبها: " ... ماذا أكتب لك غير ألفاظ حقيقتي وحقيقتك؟ يخيل إلي أن ألفاظ خضوعي وتضرعي متى انتهت إليك انقلبت إلى ألفاظ شجار ونزاع! أي عدل أن تلمسك حياتي لمسة الزهرة الناعمة بأطراف البَنَان، وتقذفني أنت قذف الحجر بملء اليد الصلبة متمطية فيها قوة الجسم؟ جعلتَني في الحب كآلة خاضعة تُدَار فتدور، ثم عبثتَ بها فصارت متمردة تُوقَّف ولا تقف؛ والنهاية -لا ريب فيها- اختلال أو تحطيم! وجعلت لي عالمًا؛ أما ليله فأنت والظلام والبكاء، وأما نهاره فأنت والضياء والأمل الخائب. هذا هو عالمي: أنتَ أنتَ! سمائي كأنها رقعة أطبقت عليها كل غيوم السماء، وأرضي كأنها بقعة اجتمعت فيها كل زلازل الأرض! لأنك غَيْمَة في حياتي، وزلزلة في أيامي. يا بُعْدَ ما بين الدنيا التي حولي, وبين الدنيا التي في قلبي! ما يجمل منك أن تُلزمني لوم خطأ أنت المخطئ فيه. سلني عن حبي أجبك عن نكبتي، وسلني عن نكبتي أجبك عن حبي! كان ينبغي أن تكون لي الكبرياء في الحب، ولكن ماذا أصنع وأنت منصرف

_ 1 أعشاب قليلة متفرقة هنا وهناك.

عني؟ ويلاه من هذا الانصراف الذي يجعل كبريائي رضًى مني بأن تنسى! فتنسى. ليس لي من وسيلة تعطفك إلا هذا الحب الشديد الذي هو يصدك، فكأن الأسباب مقلوبة معي منذ انقلبتَ أنت. ويخيل إلي من طغيان آلامي أن كل ذي حزن فعندني أنا تمام حزنه! ويخيل إلي أني أفصح من نطق بآه! عذابي عذاب الصادق الذي لا يعرف الكذب أبدًا أبدًا، بالكاذب الذي لا يعرف الصدق أبدًا أبدًا! كم يقول الرجال في النساء، وكم يصفونهن بالكيد والغدر والمكر، فهل جئت أنت لتعاقب الجنس كله في أنا وحدي؟ ما لكلامي يتقطع كأنما هو أيضًا مختنق؟ لشدَّ ما أتمنى أن أشتري انتصاري، ولكن انتصاري عليك هو عندي أن تنتصر أنت. إن المرأة تطلب الحرية وتَلِجّ في طلبها, ولكن الحياة تنتهي بها إلى يقين لا شك فيه هو أن ألطف أنواع حريتها في ألطف أنواع استعبادها! حتى في خيالي أرى لكَ هيئة الآمر الناهي أيها القاسي. لا أحب منك هذا، ولكن لا يعجبني منك إلا هذا! ويزيدك رفعة في عيني أنك تحاول قط أن تزيد رفعة في عيني. فالمرأة لا تحب الرجل الذي يعمل على أن يلفتها دائمًا ليرفع من شأنه عندها. إن الطبيعة قد جعلت الأنوثة "في الإنسان" هي التي تلفت إلى نفسها بالتصنع والتزيد، وعرض ما فيها وتكلف ما ليس فيها؛ فإن يصنع الرجل صنيعها فما هو في شيء إلا تزيين احتقاره! التزيد في الأنوثة زيادة في الأنثى عند الرجل، ولكن التزيد في الرجولة نقص في الرجل عند الأنثى! ارفع صوتك بكلماتي تسمع فيها اثنين: صوتك وقلبي.

ليست هي كلماتي لديك أكثر مما هو أعمالك لدي. وليس هو حبي لك أكبر مما هو ظلمك لي! ما أشد تَعْسي إذا كنتُ أخاطب منك نائمًا يسمع أحلامه ولا يسمعني! ما أتعس من تُبكيه الحياة بكاءها المفاجئ على ميت لا يرجع، أو بكاءها المألوف على حبيب لا يُنَال! ولكن, فلأصبر ولأصبر على الأيام التي لا طعم لها؛ لأن فيها الحبيب الذي لا وفاء له! إن المصاب بالعمى اللونيّ يرى الأحمر أخضر، والمصاب بعمى الحب يرى الشخص القَفْر كله أزهارًا. عمى مركب أن تكون أزهارًا من الأوهام ولها مع ذلك رائحة تعبق. وعمى في الزمن أيضًا أن ينظر إلى الساعة الأولى من ساعات الحب، فيرى الأيام كلها في حكم هذه الساعة. وعمى في الدم أن يشعر بالحبيب يومًا, فلا يزال من بعدها يحيي خياله ويغذِّيه أكثر مما يحيي جسم صاحبه. وعمى في العقل أن يجعل وجه إنسان واحد كوجه النهار على الدنيا، تظهر الأشياء في لونه، وبغير لونه تنطفئ الأشياء. وعمى في قلبي أنا، هذا الحب الذي في قلبي! ليس الظلام إلا فقدان النور، وليس الظلم في الناس إلا فقدان المساواة بينهم. وظلم الرجال للنساء عمل فقدان المساواة, لا عمل الرجال. كيف تسخر الدنيا من متعلمة مثلي، فتضعها موضعًا من الهوان والضعف بحيث لو سُئلت أن تكتب "وظيفتها" على بطاقة، لما كتبتْ تحت اسمها إلا هذه الكلمة: "عاشقة فلان"؟! وحتى في ضعف المرأة لا مساواة بين النساء في الاجتماع، فكل متزوجة وظيفتها الاجتماعية أنها زوجة؛ ولكن ليس لعاشقة أن تقول: إن عشقها وظيفتها. وحتى في الكلام عن الحب لا مساواة، فهذه فتاة تحب فتتكلم عن حبها, فيقال: فاجرة وطائشة. ولا ذنب لها غير أنها تكلمت؛ وأخرى تحب

وتكتم، فيقال: طاهرة عفيفة, ولا فضيلة فيها إلا أنها سكتَتْ. أول المساواة بين الرجال والنساء أن يتساوى الكل في حرية الكلمة المخبوءة. لا لا، قد رجعت عن هذا الرأي. إن القلق إذا استمر على النفس انتهى بها آخر الآمر إلى الأخذ بالشاذّ من قوانين الحياة. والنساء يُقلقْنَ الكون الآن مما استقر في نفوسهن من الاضطراب، وسيخرِّبْنَه أشنع تخريب. ويلٌ للاجتماع من المرأة العصرية التي أنشأها ضعف الرجل! إن الشيطان لو خُيِّر في غير شكله لما اختار إلا أن يكون امرأة حرة متعلمة خيالية كاسدة لا تجد الزوج! ويل للاجتماع من عذراء بائرة خيالية، تريد أن تفر من أنها عذراء! لقد امتلأت الأرض من هذه القنابل, ولكن ما من امرأة تفرط في فضيلتها إلا وهي ذنب رجل قد أهمل في واجبه. هل تملك الفتاة عِرْضها أو لا تملك؟ هذه في المسألة. إن كانت تملك، فلها أن تتصرف وتعطي؛ أو لا، فلماذا لا يتقدم المالك؟ هذه المدنية ستنقلب إلى الحيوانية بعينها؛ فالحيوان الذي لا يعرف النسب لا تعرف أنثاه العرض! وهل كان عبثًا أن يفرض الدين في الزواج شروطًا وحقوقًا للرجل والمرأة والنسل؟ ولكن أين الدين؟ وا أسفاه! لقد مَدَّنوه هو أيضًا! طالت رسالتي إليكَ يا عزيزي، بل طاشت، فإني حين أجدك أفقد اللغة، وحين أفقدك أجدها. ولقد تكلمتُ عن الدين؛ لأني أراكَ أنتَ بنصف دين! فلو كنت ذا دين كامل لتزوجت اثنتين! لا لا، قد رجعت عن الرأي. "طبق الأصل".

فلسفة الطائشة

فلسفة الطائشة: ... وهذا مجلس من مجالس "الطائشة" مع صاحبها، مما تسقطه من حديثها؛ فقد كان يكتب عنها ما تصيب فيه وما تخطئ، كما يكتب أهل السياسة بعضهم عن بعض إذا فاوض الحليف حليفه، أو ناكر الخصم خصمه؛ فإن كلام الحبيب والسياسي الداهية ليس كلام المتكلم وحده، بل فيه نطق الدولة, وفيه الزمن يُقبِل أو يُدبِر. وصاحب الطائشة كان يراها امرأة سياسية كهذه الدول التي تزعم صديقًا على الصداقة؛ لأنه في طريقها أو طريق حوادثها؛ وكان يسميها "جيش احتلال" إذ حطَّتْ في أيامه واحتلتها فتبوأت منها ما شاءت على رغمه، واستباحت ما أرادت مما كان يحميه أو يمنعه. وقد كان في مدافعته حبها واستمساكه بصداقتها كالذي رأى ظل شيء على الأرض, فيحاول غسله أو كنسه أو تغطيته. فهذا ليس مما يغسل بالماء، ولا يكنس بالمِكْنَسة، ولا يُغطَّى بالأغطية؛ إنما إزالته في إزالة الشبح الذي هو يلقيه، أو إطفاء النور الذي هو يثبته. في كل شيء على هذه الأرض سخرية، والسخرية من الحسن الفاتن الذي تقدسه، تأتي من اشتهاء هذا الحسن؛ فذاك إسقاطه سقوطًا مقدسًا, أو ذاك تقديسه إلى أن يسقط، أو هو جعل تقديسه بابًا من الحيلة في إسقاطه. لا بد من سُفْل مع العلو يكون أحدهما كالسخرية من الآخر؛ فإذا قال رجل لامرأة قد فتنته أو وقعت من نفسه: "أحبك" أو قالتها المرأة لرجل وقع من نفسها أو استهامها, ففي هذه الكلمة الناعمة اللطيفة كل معاني الوقاحة الجنسية، وكل السخرية بالمحبوب سخرية بإجلال عظيم. وهي كلمة شاعر في تقديس الجمال والإعجاب به، غير أنها هي بعينها كلمة الجزار الذي يرى الخروف في جماله اللحمي الدهني، فيقول: "سمين! ". لهذا يمنع الدين خلوة الرجل بالمرأة، ويحرم إظهار الفتنة من الجنس للجنس، ويفصل بمعاني الحجاب بين السالب والموجب، ثم يضع لأعين المؤمنين والمؤمنات

حجابًا آخر من الأمر بغضّ البصر، إذ لا يكفي حجاب واحد، فإن الطبيعة الجنسية تنظر بالداخل والخارج معًا؛ ثم يطرد عن المرأة كلمة الحب إلا أن تكون من زوجها، وعن الرجل إلا أن تكون من زوجته؛ إذ هي كلمة حيلة في الطبيعة أكثر مما هي كلمة صدق في الاجتماع، ولا يؤكد في الدين صدقها الاجتماعي إلا العَقْد والشهود لربط الحقوق بها، وجعلها في حياطة القوة الاجتماعية التشريعية، وإقرارها في موضعها من النظام الإنساني؛ فليس ما يمنع أن يكون العاشق من معاني الزوج، إما أن يكون من معنى آخر أو يكون بلا معنى فلا؛ وكل ذلك لصيانة المرأة، ما دامت هي وحدها التي تلد، وما دامت لا تلد للبيع. وفلسفة هذه الطائشة فلسفة امرأة ذكية مطلعة محيطة مفكرة، تبصر لكتب العقل والحوادث جميعًا، وقد أصبحت بعد سقطة حبها ترى الصواب في شكلين لا شكل واحد؛ فتراه كما هو في نفسه، وكما هو في أغلاطها. وقد أسقطنا في رواية مجلسها ما كان من مطارحات العاشقة، واقتصرنا على ما هو كالإملاء من الأستاذة. قال صاحب الطائشة: ذكرت لها "قاسم أمين" وقلت: إنها خير تلاميذه وتلميذاته, حتى لكأنها تجربة ثلاثين سنة لآرائه في تحرير المرأة. فقالت: إنما كان قاسم تلميذ المرأة الأوروبية، وهذه المرأة بأعيننا فما حاجتنا نحن إلى تلميذها القديم؟ قالت: وأبلغ من يرد على قاسم اليوم هي أستاذته التي شبت بها أطوار الحياة بعد، فقد أثبت قاسم -غفر الله له- أنه انحصر في عهد بعينه ولم يُتبع الأيام نظره، ولم يستقرئ أطوار المدنية؛ فلم يقدر أن هذا الزمن المتمدن سيتقدم في رذائله بحكم الطبيعة أسرع وأقوى مما يتقدم في فضائله، وأن العلم لا يستطيع إلا أن يخدم الجهتين بقوة واحدة، فأقواهما بالطبيعة أقواهما بالعلم، وكأن الرجل كان يظن أنه ليس تحت الأرض زلازل, ولا تحت الحياة مثلها. مزَّق البرقع وقال: "إنه مما يزيد في الفتنة، وإن المرأة لو كانت مكشوفة الوجه لكان في مجموع خَلْقها -على الغالب- ما يرد البصر عنها". فقد زال البرقع، ولكن هل قدر قاسم أن طبيعة المرأة منتصرة دائمًا في الميدان الجنسي بالبرقع وبغير البرقع، وأنها تخترع لكل معركة أسلحتها، وأنها إن كشفت برقع الخز فستضع في مكانه برقع الأبيض والأحمر؟

وزعم أن "النقاب والبرقع من أشد أعوان المرأة على إظهار ما تظهر, وعمل ما تعمل لتحريك الرغبة؛ لأنهما يخفيان شخصيتها فلا تخاف أن يعرفها قريب أو بعيد, فيقول: فلانة، أو بنت فلان، أو زوج فلان كانت تفعل كذا؛ فهي تأتي كل ما تشتهيه من ذلك تحت حماية البرقع والنقاب". فقد زال البرقع والنقاب، ولكن هل قدَّر قاسم أن المرأة السافرة ستلجأ إلى حماية أخرى، فتجعل ثيابها تعبيرًا دقيقًا عن أعضائها، وبدلًا من أن تُلبس جسمها ثوبًا يكسوه، تُلبسه الثوب الذي يكسوه ويزينه ويظهره ويحركه في وقت معًا، حتى ليكاد الثوب يقول للناظر: هذا الموضع اسمه ... وهذا الموضع اسمه ... وانظر هنا وانظر ههنا ... ما زادت المدنية على أن فككت المرأة الطيبة ثم ركبَّتها في هذه الهندسة الفاحشة! وأراد قاسم أن يعلمنا الحب لنربط به الزوج معنا، فلم يزد على أن جرَّأنا على الحب الذي فر به الزوج منا، وقد نسي أن المرأة التي تخالط الرجل ليعجبها وتعجبه فيصيرا زوجين, إنما تخالط في هذا الرجل غرائزه قبل إنسانيته، فتكون طبيعته وطبيعتها هي محل المخالطة قبل شخصيهما، أو تحت ستار شخصيهما؛ وهو رجل وهي امرأة، وبينهما مصارعة الدم ... وكثيرًا ما تكون المسكينة هي المذبوحة. وقد انتهينا إلى دهر يُصنع حُبه ومجالس أحبابه في "هوليود" وغيرها من مدن السينما، فإن رأى الشباب على الفتاة مظهر العفة والوقار قال: بلادة في الدم، وبلاهة في العقل، وثقل أي ثقل؛ وإن رأى غير ذلك قال: فجور وطيش، واستهتار أي استهتار, فأين تستقر المرأة ولا مكان لها بين الضدين؟ أخطأ قاسم في إغفال عامل الزمن من حسابه، وهاجم الدين بالعُرْف؛ وكان من أفحش غلطه ظنه العرف مقصورًا على زمنه، وكأنه لم يدر أن الفرق بين الدين وبين العرف، هو أن هذا الأخير دائم الاضطراب، فهو دائم التغير، فهو لا يصلح أبدًا قاعدة للفضيلة؛ وها نحن أولاء قد انتهينا إلى زمن العُرْي، وأصبحنا نجد لفيفًا من الأوروبيين المتعلمين، رجالهم ونسائهم، إذا رأوا في جزيرتهم أو محلتهم أو ناديهم رجلًا يلبس في حِقْوَيه تُبَّاتًا قصيرًا كأنه ورق الشجر على موضعه ذاك من آدم وحواء, إذا رأوا هذا المتعفف بخرقة؛ أنكروا عليه وتساءلوا بينهم: من؛ من هذا الراهب؟ ونسي قاسم -غفر الله له- أن للثياب أخلاقًا تتغير بتغيرها، فالتي تفرغ الثوب على أعضائها إفراغ الهندسة، وتلبس وجهها ألوان التصوير, لا تفعل ذلك إلا وهي قد تغير فهمها للفضائل؛ فتغيرت بذلك فضائلها، وتحولت من آيات دينية إلى آيات شعرية. وروح المسجد غير روح الحانة، وهذه غير روح المرقص، وهذه غير روح

المخدع، ولكل حالة تلبس المرأة لبسًا فتخفي منها وتبدي. وتحريك البيئة لتتقلب هو بعينه تحريك النفس لتتغير صفاتها. وأين أخلاق الثياب العصرية في امرأة اليوم, من تلك الأخلاق التي كانت لها من الحجاب؟ تبدلت بمشاعر الطاعة، والصبر، والاستقرار، والعناية بالنسل، والتفرغ لإسعاد أهلها وذويها, مشاعر أخرى، أولها كراهية الدار والطاعة والنسل؛ وحسبك من شرٍّ هذا أولُه وأخفُّه! كان قاسم كالمخدوع المغترّ بآرائه، وكان مصلحًا فيه روح القاضي، والقاضي بحكم عمله مقلد متبع، أليس عليه أن يسند رأيه دائمًا إلى نص لم يكن له فيه شأن ولا عمل؟ من ثَمَّ كثرت أغلاط الرجل حتى جعل الفرق بين فساد الجاهلة وفساد المتعلمة، أن الأولى "لا تكلف نفسها عناء البحث عن صفات الرجل الذي تريد أن تقدم له أفضل شيء لديها، هو نفسها، وعلى خلاف ذلك يكون النساء المتعلمات، إذا جرى القدر عليهن بأمر مما لا يحل لهن، لم يكن ذلك إلا بعد محبة شديدة يسبقها علم تام بأحوال المحبوب " ... " وشمائله وصفاته، فتختاره من بين مئات وألوف ممن تراهم في كل وقت "!!!! " وهي تحاذر أن تضع ثقتها في شخص لا يكون أهلًا لها، ولا تسلم نفسها إلا بعد مناضلة يختلف زمنها وقوة الدفاع فيها حسب الأمزجة "؟؟؟؟ " وهي في كل حال تستتر بظاهر من التعفف "؟؟؟؟ "1. أليس هذا كلام قاضٍ من القضاة المدنيين المتفلسفين على مذهب "لمبروزو" يقول لإحدى الفاجرتين: أيتها الجاهلة الحمقاء، كيف لم تتحاشي ولم تتستري فلا يكون للقانون عليك سبيل؟ وحتى في هذا قد أثبت قاسم أنه لا يعرف الأرنب وأذنيها2 وإلا فمتى كان في الحب اختيار، ومتى كان الاختيار يقع "فيما يجري به القدر" ومتى كان نظر العاشقة إلى الرجال نظرًا سيكولوجيًّا كنظر المعلمة إلى صبيانها, فتدرس الصفات والشمائل في مئات وألوف ممن تراهم في كل وقت لتصفيها كلها في واحد تختاره من بينهم؟ هذا مضحك! هذا مضحك! إليك خبرًا واحدًا مما تنشره الصحف في هذه الأيام: كفرار بنت فلان باشا خريجة مدرسة كذا مع سائق سيارتها؛ ففسِّرْ لي أنت كلام قاسم، وأفهمني كيف

_ 1 ص51 من كتاب "تحرير المرأة"، وهو كلام قاسم بنصه، وأكثر ما في هذا الكتاب هو في رأينا خلط وخبط. 2 يقول العرب: "فلان يعرف الأرنب وأذنيها" أي: يعرف الشيء بالعلامة التي تثبته ولا تتخلف.

يكون اثنان واثنان خمسة وعشرين؟ وكيف يكون فرار متعلمة أصيلة مع سائق سيارة هو محاذرة وضع الثقة فيمن لا يكون أهلًا لها؟ لقد أغفل قاسم حساب الزمن في هذا أيضًا، فكثير من المنكرات والآثام قد انحلَّ منها المعنى الديني، وثبت في مكانه معنى اجتماعي مقرر، فأصبحت المتعلمة لا تتخوف من ذلك على نفسها شيئًا، بل هي تقارفه وتستأثر به دون الجاهلة، وتلبس له "السواريه"، وتقدم فيه للرجال المهذبين مرة ذراعها، ومرة خصرها. أقرأت "شهرزاد"؟ إن فيها سطرًا يجعل كتاب قاسم كله ورقًا أبيض مغسولًا ليس فيه شيء يقرأ: قالت شهرزاد المتعلمة، المتفلسفة، البيضاء، البضَّة، الرشيقة، الجميلة؛ للعبد الأسود الفظيع الدميم الذي تهواه: "ينبغي أن تكون أسود اللون؛ وضيع الأصل؛ قبيح الصورة؛ وتلك صفاتك الخالدة التي أحبها"1. فهذا كلام الطبيعة لا كلام التأليف والتلفيق والتزوير على الطبيعة. قال صاحب الطائشة: فقلت لها: فإذا كان قاسم لا يرضيكِ، وكان الرجل مصلحًا دخلتْهُ روح القاضي، فخلط رأيًا صالحًا وآخر سيئًا، فلعل "مصطفى كمال" همكِ من رجل في تحرير المرأة تحريرًا مزق الحجاب والـ ... ؟ قالت: إن مصطفى كمال هذا رجل ثائر، يسوق بين يديه الخطأ والصواب بعصًا واحدة، ولا يمكن في طبيعة الثورة إلا هذا، ولا يبرح ثائرًا حتى يتم انسلاخ أمته. وله عقل عسكري كان يمكر به مكر الألمان، حين أكرههم الحلفاء على تحويل مصانع "كروب"، فحولوها تحويلًا يردها بأيسر التغيير إلى صنع المدافع والمهلكات. وليس الرجل مصلحًا البتة، بل هو قائد زهاه النصر الذي اتفق له، فخرج من تلك الحرب الصغيرة وعلى شفتيه كلمة: "أريد" وجعل بعد ذلك إذا غلِط غلطة أرادها منتصرة، فيفرضها قانونًا على المساكين الذين يستطيع أن يفرض عليهم، فيقهرهم عليها ولا يناظرهم فيها، ويأخذهم كيف شاء، ويدعهم كيف أحب؛ وبكلمة واحدة: هو مؤلف الرواية، والقانون نفسه أحد الممثلين. وحقده على الدين وأهل الدين هو الدليل على أنه ثائر لا مصلح, فإن أخص

_ 1 ص106 من "شهرزاد" للكاتب الدقيق صديقنا الأستاذ توفيق الحكيم، وقد كتبنا نحن في هذا المعنى وكشفنا عن سره في كتاب "أوراق الورد" ص51, 52 وفي غيره من كتبنا.

أخلاق الثورة حقد الثائرين، وهذا الحقد في قوة حرب وحدها، فلا يكون إلا مادة للأفعال الكثيرة المذمومة. والرجل يحتذي أوروبا ويعمل على أعمال الأوروبيين في خيرها وشرها، ويجعل رذائلهم من فضائلهم على رغم أنفهم، يتبرءون منها ويُلحقها هو بقومه، فكأنه يعتنف الآراء ويأخذها أخذًا عسكريًّا، ليس في الأمر إلا قوله "أريد" فيكون ما يريد. هو لم يحكم على شبر من أوروبا يجعله تركيًّا، ولكنه جعل رذائل أوروبا تتجنس بالجنسية التركية. وتالله, إنه لأيسر عليه أن يجيء بملائكة أو شياطين من المَرَدَة، ينفخون أرض تركيا فيَمُطونها مطًّا فيجعلونها قارة، من أن يكره أوروبا على اعتبار قومه أوروبيين بلبس قبعة وهدم مسجد. إنه لا يزال في أول التاريخ, وهذا الشعب الذي انتصر به لم تلده مبادئه، ولا أنشأه هدم العلماء؛ بل هو الذي ولدته تلك الأمهات، وأخرجه أولئك الآباء، وما كان يعوزه إلا القائد الحازم المصمم، فلما ظفر بقائده جاء بالمعجزة؛ فإذا فُتن القائد بنفسه وأبى إلا أن يتحول نبيًّا، فهذا شيء آخر له اسم آخر. ولنفرض "الأثير" كما يقول العلماء؛ لنستطيع أن نجعل مسألتنا هذه علمية، وأن نبحثها بحثًا علميًّا، فليكن مصطفى كمال هو اللورد كتشنر في إنجلترا؛ فيكسب اللورد كتشنر تلك الحرب العظمى لا حرب الدويلة الصغيرة، وينتصر على البراكين من الجيوش لا على مثل براميل النبيذ. ثم يستعز الرجل بدالَّته على قومه، ويدخله الغرور، فيتصنع لهم مرة، ويتزين لهم مرة، ثم يأتيهم بالآبدة فيسفه دينهم، ويريدهم على تعطيل شعائرهم وهدم كنائسهم؛ لأن هذا هو الإصلاح في رأيه. أفترى الإنجليز حينئذ يضوون إليه ويلتفون حوله ويقولون: قائدنا في الحرب، ومصلحنا في السلم, وقد انتصرنا به على الناس فسننتصر به على الله، وظفرنا معه بيوم من التاريخ فسنظفر معه بالتاريخ كله؟ أم تحسب كتشنر كان يجسر على هذا وهو كتشنر لم يتغير عقله؟ إنه -والله- ما يتدافع اثنان أن هدم كنيسة واحدة يومئذ لا يكون إلا هدم كتشنر وتاريخ كتشنر، ولكن العجز ممهَّد من تلقاء نفسه، والأرض المنخسفة هي التي يستنقع فيها الماء، فله فيها اسم ورسم؛ أما الجبل الصخري الأشم، فإذا صب هذا الماء عليه أرسله من كل جوانبه، وأفاضه إلى أسفل! 1.

_ 1 أفردنا مقالًا خاصًّا لهذا الإلحاد التركي الذبابي, فقد عثرنا في النسخة الخطية التي عندنا من "كليلة ودمنة" على فصل بديع عنوانه: "كفر الذبابة" تقرؤه، في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

قال صاحب الطائشة: فأقول لها: إذا كان هذا رأيكِ للنساء، فكيف لا ترين مثل هذا لنفسك؟ فتضعضعت لهذه الكلمة، ولَجْلَجَتْ قليلًا ثم قالت: أنت سلبتَني الرأي لنفسي، ووضعتَني في الحقيقة التي لا تتقيد بقانون الخير والشر. قلت: فإذا كانت كل امرأة تغلَط لنفسها في الرأي، وتنصَح بالرأي الصائب غيرها، فيوشك ألا يبقى في نساء الأرض فضيلة, ولا يعود في المدرسة كلها عاقل إلا الكتاب. فتضاحكت وقالت: لهذا يشتد ديننا الإسلامي مع المرأة، فهو يخلق طبائع المقاومة في المرأة، ويخلقها فيما حولها، حتى ليخيل إليها أن السماء عيون تراها، وأن الأرض عقول تُحصي عليها؛ وهل أعجب من أن هذا الدين يقضي قضاءً مبرمًا أن تكون ثياب المرأة أسلوب دفاع لا أسلوب إغراء، وأن يضعها من النفوس موضعًا يكون فيه حديثها بينها وبين نفسها كالحديث في "الراديو" له دوي في الدنيا، فيقيم عليها الحجاب، وغيرة الرجل، وشرف الأصل؛ ويؤاخذها بروح طبيعتها، فيجعل الهفوة منها كأنها جنين يكبر, ولا يزال يكبر حتى يكون عار ماضيها وخزي مستقبلها. هذه كلها حُجُب مضروبة لا حجاب واحد، هي كلها لخلق طبائع المقاومة، لتيسير المقاومة، ومتى جاء العلم مع هذه لم يكن أبدًا إطلاقًا، ولم يكن أبدًا إلا الحجاب الأخير كالسور حول القلعة؛ ولكن قبح الله المدنية وفنها؛ إنها أطلقت المرأة حرة، ثم حاطتها بما يجعل حريتها هي الحرية في اختيار أثقل قيودها لا غير. أنت محمل بالذهب، وأنت حر ولكن بين اللصوص؛ كأنك في هذا لست حرًّا إلا في اختيار من يجني عليك! لم تعد المرأة العصرية انتصار الأمومة، ولا انتصار الخُلُق الفاضل، ولا انتصار التعزية في هموم الحياة؛ ولكن انتصار الفن، وانتصار اللهو، وانتصار الخلاعة. قال صاحب الطائشة: فضحكتُ وقلت: وانتصاري! "طبق الأصل". تنبيه: ليست الطائشة كل النساء ولا كل المتعلمات، ونحن إنما نروي قصة هي في الدنيا؛ ليس فيها كلمة من المريخ ولا من زحل؛ فأما الصالح فيرى ويفهم، ولعله يصون بها نفسه؛ أما الفاسد فيرى ويعتبر ولعله يردّ بها نفسه. ومذهبنا دائمًا وجوب كشف الحقيقة، وإذا أردت أن تأخذ الصواب فخذه عمن أخطأ.

تربية لؤلؤية

تربية لؤلؤية: كتبتْ إليَّ سيدة فاضلة بما هذه ترجمته, منقولًا إلى أسلوبي وطريقتي: ... أما بعد, فهذا الذي كنا ظننا وظنت، فاقرأ الفصل الذي انتزعته لك من مجله* ... وستعرف منه وتنكر، وترى فيه النهار مبصرًا والليل أعمى ... وتجد فتاة اليوم على ما وقع بها من الظِّنَّة، وكثر فيها من أقوال السوء, لا تَشْمَس على الريبة ولا تريد أن تنتفي منها، بل هي تعمل لتحقيقها، وتبغي مع تحقيقها أن يتعالم الناس ذلك منها، وتريد مع هذين أن يطلقوا لها ما شاءت، ويسوِّغوها مقارفة الإثم، ويقروها على منكراتها. أمَا إنه إذا كانت أمهاتنا الجاهلات هن أمسنا الذاهب بلا فائدة، فإن فتياتنا المتعلمات هن يومنا الضائع بلا فائدة، غير أن الجاهلة لم تكن تكسَد ومعها الفضيلة، فأصبحت المتعلمة لم تكد تنفق ومعها الرذيلة، ولتاجر أمي طاهر الاسم تتحرك سوقه وتحيا, خير من تاجر متعلم نجس الاسم قد قامت سوقه وخَمَدَت، فما تتنفس من درهم ولا دينار. لقد احتذينا على مثال المرأة الأوروبية، فلما أحكمته المتعلمات منا، كُنَّ بين الشرق والغرب كالسَّبِخة النشَّاشة من الأرض، طرف لها بالفلاة وطرف بالبحر؛ فهي رمل في ماء في ملح، لا تخلص لفساد ولا صحة، فاعتبرْ هذه وهذه فستجدهما بحكاية واحدة أصلًا, وطبق الأصل. وقرأت الفصل الذي أومأتْ إليه السيدة، وكان في كتابها، فإذا هو لكاتبه تزعم "أنها ممن رفعن علم الجهاد لحرية المرأة"، وإذا في أوله: كتبت آنسة أديبة في عدد سابق من ... الأغر تقول: "أجل، لنفتش عن هذا الرجل كما يفتشون هم عن المرأة، فإن أخطأناهم أزواجًا فلن نخطئهم أصدقاء!!! ".

_ * مجلة الأسبوع المصرية 1934.

وكتب بعد هذا أديب فاضل، كما كتبتْ آنسة فاضلة ينحيان "كذا" هذا المنحى، ويطرقان نفس السبيل "كذا" التي اختطَتْها الآنسة الجريئة في غير حق، الثائرة في نَزَق. ثم قالت بعد ذلك: "قرأت مقال الآنسة الثائرة في حيوية صارخة!!!! فجزعت؛ لأن "قاسم أمين" عندما رفع علم الجهاد من أجل حرية المرأة، و"ولي الدين يكن" عندما جاهر بعده في سبيل السفور، و"هدى شعراوي" عندما رفعت صوتها عاليًا تطالب بحرية المرأة, ما ظنت وما ظن واحد من هذين الرجلين أن ثورة المرأة ستتطور إلى حد أن تقف آنسة مهذبة، تكشف عن رأسها تبكي وتستبكي سواها معها، من أجل الزواج". وأنا فلستُ أدري -والله- مم تعجب هذه الكاتبة، وإني لأعجب من عجبها، وأراها كالتي تكتب عبثًا وهزلًا وهوينًا، مظهرة الجد والقصد والغضب. أئن أطلق للنساء أن يثرن كما تقول الكاتبة، وجاهد فلان وفلان في هذه الثورة فأخذت مأخذها، فانطلقت لشأنها، فأوغلت في حريتها، فامتد بها أمدها شوطًا بعد شوط, ثم جاء خُلُق من أخلاق المرأة يُسفر سُفوره ويرفع الحجاب عن طبيعته ثائرًا هو أيضًا في غير مداراة ولا حذق ولا كياسة، يريد أن يقتحم طريقه ويسلك سبيله، ثم وقف على رغمه في الطريق منكسرًا مما به من اللفة والوثبة يتوجع، يتنهد، يتلذع بهذه المعاني وهذه الكلمات. أئن وقع ذلك جاءت كاتبة من كاتبات السفور تقول للمرأة: جرى عليك وكنت حرة، وتزعزعت وكنت ثابتة، وأفحشتِ وكنت عفيفة، وتعهرت وكنت طاهرة؟ أفلا تقول لها: سفَرَتْ أخلاقك إذ كنت سافرة بارزة، وضاع حياؤك إذ كنت مخلاة مهملة, وغلوت إذ كنت في المبالغة من البدء؟ أفلا تقول لها: لقد تلطفت فجئت بالمعنى المجازي لكلمة "العري"، ولقد أبدعت فكنت امرأة ظريفة اجتماعية مَخِيلة للشعر والفن، وحققت أن واجب الظريفة الجميلة إعطاء الفن غذاء من.... ومن.... ومن لحمها ... ؟ نعم, إن قاسم أمين "رحمه الله" لم يكن يظن ... ولكن أما كان ينبغي أن يظن أن بعض الصواب في الخطأ لا يجعل الخطأ صوابًا؟ بل هو أحرى أن يلبِّسه على الناس فيشبهه عليهم بالحق وما هو به، ويجعلهم يسكنون إليه ويأمنون جانبه فينتهي بهم يومًا إلى أن ينتسف خطؤه صوابه، ويغطي باطله على حقه, ثم تستطرق إليه عوامل لم تكن فيه من قبل، ولا كانت تجد إليه السبيل وهو خطأ محض،

فتمد له في الغيّ مدًّا. ثم تنتهي هي أيضًا إلى نهايتها، وتئول إلى حقائقها؛ فإذا كل ذلك قد داخل بعضه، وإذا الشر لا يقف عندما كان عليه، وإذا البلاء ليس في نوع واحد بل أنواع. ما يرتاب أحد في نية قاسم أمين، ولا نزعم أن له خَفِية سوء أو مضمر شر فيما دعا إليه من تلك الدعوة، ولكني أنا أرتاب في كفايته لما كان أخذ نفسه به وأراه قد تكلف ما لا يحسن، وذهب يقول في تأويل القرآن وهو لا ينفذ إلى حقائقه، ولا يستبطن أسرار عربيته، وكان مناظروه في عصره قومًا ضعفاء, فاستعلاهم بضعفهم لا بقوته، وكانت كلمة الحجاب قد انتفخت في ذهنه بعد أن أفرغت معانيها الدقيقة، فأخذها ممتلئة وجاء بها فارغة، وقال للنساء: غيرن وبدلن. فلما أطعنه وبدلن وغيرن، وجاء الزمن بما يفسر الكلمة من حقائقه وتصاريفه لا من خيالات المتخيل أو المتشيع, إذا معنى التغيير والتبديل هو ما رأيت، وإذا الحجاب الأول على ضلاله كان نصف الشر، وإذا المرأة التي ربحت الشارع هي التي خسرت الزوج! وإذا تلك الدعوة لم تكن نفيًا للحجاب عن المرأة، ولكن نفيًا للمرأة ذاتها وراء حدود الأسرة، كأنها مجرمة عوقبت على فساد سياستها؛ وهي قارة في بيتها ولكنها مع ذلك منفية من مستقبلها. كانوا يحتجون لنفي الحجاب بالفلَّاحات في سفورهن؛ وغفلوا أقبح الغفلة عن السبب الطبيعي في ذلك, وهو أن السفور إنما عمهن من كونهن لسن في المنزلة الاجتماعية أكثر من بهائم إنسانية مؤنثة؛ ومثل هذا السفور لا يكون على طبيعته تلك إلا في اجتماع طبيعي فطري أساسه الخلط في الأعمال لا التمييز بينها، والاشتراك في شيء واحد هو كسب القوت1 لا الانفراد بما فوق ذلك من أشياء النفس. ولستُ أرى هذه اللجاجة، أو "الحيوية الصارخة" التي ثارت بفتياتنا, إلا تمردًا من طبيعتهن على الأحوال الظالمة المتصرفة بها؛ ويحسبنه توسعًا من الطبيعة في الحرية، وطلبًا للعالم كله بعد الشارع، وللحقوق كلها بعد نبذ الحجاب؛ وهو في الحقيقة ليس إلا ثورة الطبيعة النسوية على خيبتها مما أصابت من الحرية والشارع والعالم والحقوق، ورغبة منها في أن تحد بحدودها ويؤخذ منها العالم كله بما فيه، وتعطى البيت وحده بما فيه.

_ 1 ولهذا لا يكاد يغتني الفلاح ولو أيسر الغنى، حتى يصون امرأته ويحجبها ويرتفع بمعناها في نفسه.

إذا أنت كشفت جذور الشجرة لتطلقها بزعمك من حجابها، وتخرجها إلى النور والحرية، فإنما أعطيتها النور، ولكن معه الضعف والحرية، ومعها الانتقاض؛ وتكون قد أخرجتها من حجابها ومن طبيعتها معًا؛ فخذها بعد ذلك خشبًا لا ثمرًا، ومنظر شجرة لا شجرة، لقد أعطيتها من علمك لا من حياتها، وجهلت أنها من أطباق الثرى في قانون حياتها، لا في قانون حجابها. أفليست كذلك جذور الشجرة الإنسانية؟ كل ما يتغير يسهل تغييره على من شاء، ولكن النتائج الآتية من التغيير لا تكون إلا حتمًا مقضيًّا كما يقضى، فلن يسهل تبديلها ولا تحويلها ولا ردها أن تقع. وقد أخطأ جماعة السفور، بل أنا أقول: إنهم جاءونا بالجاهلية الثانية، وإنهم طبُّوا للمرأة المسلمة كذلك الطب الذي أساسه الرائحة الزكية في البخور ... 1! وما هو الحجاب إلا حفظ روحانية المرأة للمرأة، وإغلاء سعرها في الاجتماع, وصونها من التبذل الممقوت؛ لضبطها في حدود كحدود الربح من هذا القانون الصارم، قانون العرض والطلب؛ والارتفاع بها أن تكون سلعة بائرة ينادى عليها في مدارج الطرق والأسواق: العيون الكحيلة، الخدود الوردية، الشفاه الياقوتية، الثغور اللؤلؤية، الأعطاف المرتجة، النهود الـ ... الـ ... أوليس فتياتنا قد انتهين من الكساد بعد نبذ الحجاب إلى هذه الغاية، وأصبحن إن لم ينادين على أنفسهن بمثل هذا فإنهن لا يظهرن في الطرق إلا لتنادي أجسامهن بمثل هذا؟ وهذه التي كتبت اليوم تطلبهم مخادنين إن أخطأتهم أزواجًا، وتفتش عليهم تفتيشًا بين الزوجات والأمهات والأخوات! هل تريد إلا أن تثب درجة أخرى في مخزيات هذا التطور، فتمشي في الطريق مشي الأنثى من البهائم طَمُوحًا مَطْرُوفة، تذهب عيناها هنا وههنا تلتمس من يخطو إليها الخطوة المقابلة؟ ما هو الحجاب الشرعي إلا أن يكون تربية عملية على طريقة استحكام العادة لأسمى طباع المرأة وأخصها الرحمة, هذه الصفة النادرة التي يقوم الاجتماع الإنساني على نزعها والمنازعة فيها ما دامت سنة الحياة نزاع البقاء، فيكون البيت اجتماعًا خاصًّا مسالمًا للفرد تحفظ المرأة به منزلتها، وتؤدي فيه عملها، وتكون مغرسًا للإنسانية وغارسة لصفاتها معًا.

_ 1 أي: طب الدجالين.

لقد رأينا مواليد الحيوان تولد كلها: إما ساعية كاسبة لوقتها، وإما محتاجة إلى الحضانة وقتًا قليلًا, لا يلبث أن ينفضي فتكدح لعيشها؛ إذ كانت غاية الحيوان هي الوجود في ذاته لا في نوعه، وكان بذلك في الأسفل لا في الأعلى. غير أن طفل المرأة يكون في بطنها جنينًا تسعة أشهر، ثم يولد ليكون معها جنينًا في صفاتها وأخلاقها ورحمتها أضعاف ذلك، سنة بكل شهر. فهل الحجاب إلا قصر هذه المرأة على عملها، لتجويده وإتقانه وإخراجه كاملًا ما استطاعت؟ وهل قصرها في حجابها إلا تربية طبيعية لرحمتها وصبرها، ثم تربية بعد ذلك لمن حولها برحمتها وصبرها؟ أعرف معلمة ذات ولد، تترك ابنها في أيدي الخدم بعد وصاة علمية سيكولوجية, وتمضي ذاهبة عن يمين الصباح ويمضي زوجها عن شماله. وقد رأيت هذا الطفل مرة، فرأيته شيئًا جديدًا غير الأطفال، له سمة روحانية غير سماتهم، كأنما يقول لي: إنه ليس لي أب وأم، ولكن أب رقم "1"، وأب رقم "2"! وقد كنتُ كتبت كلمة عن الحجاب الإسلامي قلت فيها: "ما كان الحجاب مضروبًا على المرأة نفسها، بل على حدود من الأخلاق أن تجاوز مقدارها أو يخالطها السوء أو يتدسس إليها؛ فكل ما أدى إلى هذه الغاية فهو حجاب، وليس يؤدي إليها شيء إلا أن تكون المرأة في دائرة بيتها، ثم إنسانًا فقط فيما وراء هذه الدائرة إلى آخر حدود المعاني". وهذا هو الرأي الذي لم يتنبه إليه أحد، فليس الحجاب إلا كالرمز لما وراءه من أخلاقه ومعانيه وروحه الدينية المعبدية، وهو كالصدفة لا تحجب اللؤلؤة ولكن تربيها في الحجاب تربية لؤلؤية؛ فوراء الحجاب الشرعي الصحيح معاني التوازن والاستقرار والهدوء والاطراد، وأخلاق هذه المعاني وروحها الديني القوي، الذي ينشئ عجيبة الأخلاق الإنسانية كلها؛ أي: صبر المرأة وإيثارها. وعلى هذين تقوم قوة المدافعة, وهذه القوة هي تمام الأخلاق الأدبية كلها، وهي سر المرأة الكاملة؛ فلن تجد الأخلاق على أتمها وأحسنها وأقواها إلا في المرأة ذات الدين والصبر والمدافعة. إنها فيها تشبه أخلاق نبي من الأنبياء. وقد مُحق الدين والصبر، وتراخت قوة المدافعة في أكثر الفتيات المتعلمات، فابتُلين من ذلك بالضجر والملل، وتشويه النفس؛ ووقع فيهن معنى كمعنى العَفَن في الثمرة الناضجة؛ وجهلن بالعلم حتى طبيعتهن، فما منهن من عرفت أن طبيعتها

سلبية في ذاتها، وأنه لا يشدها ويقيمها إلا الصفات السلبية، وملاكها الصبر فروعه وأصوله، وجمالها الحياء والعفة، ورمزها وحارسها والمعين عليها هو الحجاب وحده. إنه إن لم يكن في المرأة هذا فليست المرأة إلا بهذا. وما تخطئ المرأة في شيء خطأها في محاولة تبديل طبيعتها وجعلها إيجابية، وانتحالها صفات الإيجاب، وتمردها على صفات السلب، كما يقع لعهدنا؛ فإن هذا لن يتم للمرأة، ولن يكون منه إلا أن تعتبر هذه المرأة نقائض أخلاقها من أخلاقها، كما نرى في أوروبا، وفي الشرق من أثر أوروبا؛ فمن هذا تلقي الفتاة حياءها وتبذؤ وتفحش، إن لم يكن بالألفاظ والمعاني جميعًا فبالمعاني وحدها، وإن لم يكن بهذه ولا بتلك فبالفكر في هذه وتلك، وكانت الاستجابة لهذا ما فشا من الروايات الساقطة، والمجلات العارية؛ فإن هذه وهذه ليست شيئًا إلا أن تكون عِلْم الفكر الساقط. وعادت الفتاة من ذلك لا تبتغي إلا أن تكون امرأة رواية: إما فوق الحياة، وإما في حقائق جميلة تختارها اختيارًا وتفرضها فرضًا على القدَر! تنسى الحمقاء أنها أحد الطرفين، وليست الطرفين جميعًا؛ فتحاول أن تقرر للحياة الجديدة تأويلًا جديدًا لمعاني الشرف والكرامة والعرض والنسب وما إليها؛ فانسلخت من كل شيء، ثم لما أعجزها أن تنسلخ من غريزة الأنوثة طاشت طيشها الأخير، فانسلخت من إنسانية الغريزة. أما إن غلطة الرجل في المرأة لا تكون إلا من غلطة المرأة في نفسها. وهي قد أُعطيت في طبيعتها كل معاني حجابها؛ فإحساسها محتجب مختبئ أبدًا كأنه في إِتْب1 ومُلاءة وبرقع، وأفكارها طويلة الملازمة لها لا تكاد تتركها، كأنها منها في بيت؛ وطبيعة الحذر لا تبرحها كأنها الحارس الثابت في موضعه، القائم بسلاحه على حفظ هذا الجسم الجميل؛ وطول التأمل موكل بها كأن عمله مصاحبة وحدتها لتخفيفها على نفسها والترفيه منها؛ والدنيا حول المرأة بمذاهب أقدارها، ولكن لها دنيا في داخلها هي قلبها تذهب الأقدار فيه مذاهب أخرى؛ وضغطة الحياة طبيعية فيها، حتى لا يساورها هم من الهموم إلا صار كأنه من عادتها. والتي تمزقها الحياة كلما ولدت لا تكون الحياة إلا رحيمة بها إذا ضغطتها!

_ 1 الإتب هو بردة تشق فتلبس من غير كمين، وتسميه الريفيات "الملس".

فخروج المرأة من حجابها خروج من صفاتها، فهو إضعاف لها، وتضرية للرجال بها. وماذا تجدي عادة الحذر إذا أفسدتها عادة الاسترسال والاندفاع؟ فيكون حذرًا ليكون إغفالًا، ثم يكون إغفالًا ليعود الزلة والغلطة؛ ومتى رجع غلطة فهذا أول السقوط، ومبدأ الانقلاب والتحول. وليس الفرق بين امرأة نَفُور من الريبة، شَمُوس لا تُطلع الرجال ولا تطمعهم؛ وبين امرأة قَرور على الريبة، هَلُوك فاجرة, ليس الفرق إلا حجاب الحذر أسدل على واحدة، وانكشف عن أخرى. وإذا قرت المرأة في فضائلها، فإنما هي في حجابها ودينها، وإنما ذلك الحجاب ضابط حريتها الصحيحة، باعتبارها امرأة غير الرجل؛ فهو مسمى بالحجاب لاتصاله بالحرية وضبطه لها، ولكن الضعفاء الذين يعرفون ظاهرًا من الرأي لا يدركون مذهبه، ولا يحققون ما ينتهي إليه، وينفذون في حكمهم على الظاهر لا على البصيرة, هؤلاء لا يعرفون معنى الحجاب إلا في القماش والكساء والأبنية، كأن حجاب الأخلاق النسوية شيء يصنعه الحائك والباني والمستعبد، ولا تصنعه الشريعة والأدب والحياة الاجتماعية؛ فهم كما ترى حين يأتون بنصف العلم، يأتون بنصف الجهل. لم يخلق الله المرأة قوة عقل فتكون قوة إيجاب، ولكنه أبدعها قوة عاطفة لتكون قوة سلب؛ فهي بخصائصها والرجل بخصائصه؛ والسلب بطبيعته متحجب صابر هادئ منتظر، ولكنه بذلك قانون طبيعي تتم به الطبيعة. وينبغي أن يكون العلم قوة لصفات المرأة لا ضعفًا، وزيادة لا نقصًا؛ فما يحتاج العالم إذا خرج صوتها في مشاكله أن يكون كصوت الرجل صيحة في معركة, بل تحتاج هذه المشاكل صوتًا رقيقًا مؤثرًا محبوبًا مجمعًا على طاعته, كصوت الأم في بيتها. أيتها الفتاة، إن صدق الحياة تحت مظاهرها, لا في مظاهرها التي تكذب أكثر مما تصدق؛ فساعدي الطبيعة واحجُبي أخلاقكِ عن الرجل؛ لتعمل هذه الطبيعة فيه بقوتين دافعتين: منها ومنك، فيسرع انقلابه إليك وبحثه عنك؛ وقد يجد الفاسق فاسقات وبغايا، ولكن الرجل الصحيح الرجولة لن يجد غيرك. وإنما سفورك وسفور أخلاقك إفساد لتدبير الطبيعة، وتمكين للرجل نفسه أن يُرْجِف بكِ الظن، ويسيء فيك الرأي؛ وعقابك على ذلك ما أنت فيه من الكساد والبَوَار؛ عقاب الطبيعة لمستقبلك بالحرمان، وعقاب أفكارك لنفسك بالألم!

س. ا. ع

س. ا.ع 1: هؤلاء ثلاثة من الأدباء تجمعهم صفة العزوبة، ويحبون المرأة حبًّا خائفًا يقدم رِجْلًا ويؤخر أخرى؛ فلا يقبل إلا أدبر، ولا يعزم إلا انحل عزمه. بلغوا الرجولة وكأن ليست فيهم؛ وتمر بهم الحياة مرورها بالتماثيل المنصوبة، لا هذه قد وُلد لها ولا أولئك؛ وما برحوا يجاهدون ليحتملوا معاني وجودهم، لا ليطلبوا سعادة وجودهم، ويُمخرقون في شعوذة الحياة بالنهار على الليل، وبالليل على النهار، يحاولون أن يجدوا كالناس أيامًا وليالي، إذ لا يعرفون لأنفسهم من العزوبة إلا نهارًا واحدًا، نصفه أسود مقفر مظلم! فأما "س" فرجل "كشيخ المسجد" يكاد يرى حصير المسجد حيث وَطِئت قدماه من الأرض, ذو دين وتقوى، ما يزال ينقبض وينكمش ويتزايل حتى يرجع طفلًا في ثلاثين من عمره. وهو حائر بائر لا يتجه لشيء من أمر المرأة، وقد فقد منها مما يحل وما يحرم، ولا جرأة لنفسه عليه، فلا جرأة له على الموبقات، ولا يزين له الشيطان ورطة منها إلا امَّلس منها، فإن له ثلاثة أبواب مفتوحة للهرب: إذ يخشى الله، ويتوقى على نفسه، ويستحيي من ضميره. وأما "ا" فرجل مِعْزابة ولكنه كالإسفنجة، امتلأت حتى ليس فيها خلاء لقطرة، ثم عُصرت حتى ليس فيها بلال من قطرة؛ وقد بلغ ما في نفسه وقضى نهمته حتى مما أراد؛ ثم قلب الثوب. فإذا له داخلة ناعمة من الخز والديباج، وإذا هو "الرجل الصالح" العفيف الدَّخْلة، ما تنطلق له نفس إلى مأثم، ولا يعرف الشيطان كيف يتسبب لصلحه ومراجعته الود. وأما "ع" فهو كالأعرج؛ إذا مشي إلى الخير أو الشر مشي بطيئًا برجل واحدة، ولكنه يمشي.... وهو "ملك الشوارع" لا يزال فيها مقبلًا مدبرًا طَرَفًا من النهار وزُلَفًا من الليل؛ فإذا لم يكن في الشارع نساء ظن الشارع قد هرب من المدينة، وخرج من طاعته ... ولهذه الشوارع أسماء عنده غير أسمائها التي يتعارفها الناس

_ 1 هم الأصدقاء سعيد ... وأمين حافظ شرف وعبد الله عمار.

ويستدلون بها. فقد يكون اسم الشارع مثلًا: "شارع طه* الحكيم" ويسميه هو "شارع ماري". ويكون اسم الآخر: "شارع كتشنر" فيسميه "شارع الطويلة" ودرب اسمه "درب الملاح" واسمه عنده "درب المليحة" وهلم جرًّا ومسخًا. وإذا أراد صاحبنا هذا أن يسخر من الشيطان دخل المسجد فصلى، وإذا أراد الشيطان أن يسخر منه دحرجه في الشوارع! وافيتُ هؤلاء الثلاثة مجتمعين يتدارسون مقالة "تربية لؤلؤية"، يناقشونها بثلاثة عقول، ويفتشونها بست عيون؛ فأجمعوا على أن المرأة السافرة التي نبذت "حجاب طبيعتها" على ما بينته في تلك المقالة, إن هي إلا امرأة مجهولة عند طالبي الزواج، بقدر ما بالغت أن تكون معروفة، وأنها ابتعدت من حقيقتها الصحيحة، قدر ما اقتربت من خيالها الفاسد؛ وأتقنت الغلط ليصدقها فيه الرجل، فلم يكذبها فيه إلا الرجل؛ وجعلت أحسن معانيها ما ظهرت به فارغة من أحسن معانيها! وأردتُ أن أعرف كيف تنتصف الطبيعة من الرجل العَزَب للمرأة التي أهملها أو تركها مهملة ... وأين تبلغ ضرباتها في عيشه، وكيف يكون أثرها في نفسه، وكيف تكون المرأة في خائنة الأعين؛ فتسرحت مع أصحابنا في الكلام فنا بعد فن، وأزلت حِذَارهم الذي يحذرون، حتى أفضوا إلي بفلسفة عقولهم وصدورهم في هذه المعاني. قال "س": حسبي والله من الآلام وآلام معها شعوري بحرماني المرأة؛ فهو بلاء منعني القرار، وسلبني السكينة؛ وكأنه شعور بمثل الوحدة التي يعاقَب السجين لها مصروفًا عن الحياة مصروفة عنه الحياة؛ تجعله جدران سجنه يتمنى لو كان حجرًا فيها فينجو من عذاب إنسانيته الذليلة المجرمة، المحلَّى بينها وبينه توسعه مما يكره؛ شعور بالوحدة والعزلة حتى مع الناس وبين الأهل, فما في إلا عواطف خُرْس لا تستجيب لأحد ولا يجاوبها أحد في "ذلك المعنى". وتمام الذلة أن يجد العزب نفسه أبدًا مكرهًا على الحديث عن آلامه لكل من يخالطه أو يجلس إليه، كأنه يحمل مصيبة لا يُنفّس منها إلا كلامه عنها. وهذا هو السر في أنك لا تجد عزبًا إلا عرفته ثرثارًا لا تزال في لسانه مقالة عن معنى أو رجل أو امرأة، وأصبْتَه كالذباب لا يطير عن موضع إلا ليقع على موضع.

_ * ما يأتي هنا من أسماء الشوارع هو من شوارع طنطا. وفي شارع طه الحكيم كانت دار الرافعي.

ومع جَهْد الحرمان جهد شر منه في المقاومة وكف النفس؛ فذلك تعب يهلك به الآدمي، إذ لا يدعه يتقارّ على حالة من الضجر فيما تنازعه الطبيعة إليه، وهو كالمزع في أعصابه، يحسها تُشَد لتُقطَع، ودائمًا تشد لتقطع. وقد رَهِقني من ذلك الضنى النسوي ما عِيل به صبري وضعف له احتمالي؛ فما أراني يومًا على جِمَام من النفس، ولا ارتياح من الطبع؛ وكيف وفي القلب مادة همه، وفي النفس علة انقباضها، وفي الفكر أسباب مشغلته؟ وقد أوقدتْ سَوْرة الشباب نارها على الدم، تلتعج في الأحشاء؛ وتطير في الرأس، وتصبغ الدنيا بلون دخانها، وفي كل يوم يتخلف منها رماد هو هذا السواد الذي ران على قلبي. وما حال رجل عذابه أنه رجل، وذله أنه رجل؟ يلبس ثيابه الإنسانية على مثل الوحش في سلاسله وأغلاله، ويحمل عقلًا تسبه الغريزة كل يوم، وتراه من العقول الزُّيُوف لا أثر للفضيلة فيه؛ إذ هو مجنون بالمرأة جنون الفكرة الثابتة، فما يخلو إلى نفسه ساعة أو بعض ساعة إلا أخذته الغريزة مجترحًا جريمة فكر. وفي دون هذا ينكر المرء عقله؛ وأي عقل تُراه في رجل عزب يقع في خياله أنه متزوج، وأنه يأوي إلى "فلانة"، وأنها قائمة على إصلاح شبابه ونظام بيته، وأنه من أجلها كان عَزَوفًا عن الفحشاء بعيدًا من المنكر؛ وفاءً لها وحفاظًا لعهد الله فيها، وقد دَلَّهَتْه بفنونها التي يبتدعها فكره؛ وهي ساعة تؤاكله على الخِوَان، وساعة تضاحكه، ومرة تعابثه، وتارة تجافيه، وفي كل ذلك هو ناعم بها، يحدثها في نفسه، ويسمَر معها، ويتصنع لها؛ ويعاتبها أحيانًا في رقة، وأحيانًا في جفاء وغلظة, وقد ضربها ذات مرة. ألا إن فكرة المرأة عندي هي هذا الجنون الذي يرجع بي إلى عشرة آلاف سنة من تاريخ الدنيا، فيرمي بي في كهف أو غابة، فأراني من وراء الدهور كأني أبدأ الحياة منفردًا, وأجدني رجلًا عاريًا متوحشًا متأبدًا ليس من الحيوان ولا من الإنس، دنياه أحجار وأشجار، وهو حجر له نمو الشجر. لقد توزعت المرأة عقلي فهو متفرق عليها وهي متفرقة فيه، لا أستطيع والله أن أتصورها كاملة، بل هي في خيالي أجزاء لا يجمعها كل؛ هي ابتسامة، هي نظرة، هي ضحكة، هي أغنية، هي جسم، هي شيء، هي هي هي. أكل تلك المعاني هي المرأة التي يعرفها الناس، أم أنا لي امرأة وحدي؟ وإني على ذلك لأتخوف الزواج وأتحاماه؛ إذ أرى الشارع قد فضح النساء

وكشفهن؛ فما يُريني منهن إلا امرأة تُزهَى بثيابها وصنعة جمالها، أو امرأة كالهاربة من فضائلها؛ والبيت إنما يطلب الزوجة الفاضلة الصناع، تَخيط ثوبها بيدها فتباهي بصنعته قبل أن تباهي بلبسه، وتزهى بأثر وجهها في، لا بأثر المساحيق في وجهها. وإن مكابدة العفة، ومصارعة الشيطان، وتوهج القلب بناره الحامية، وإلمام الطَّيْرة الجنونية بالعقل, كل ذلك ومثله معه أهون من مكابدة زوجة فاسدة العلم أو فاسدة الجهل، أُبْتَلَى منها في صديق العمر بعدو العمر. إن أثر الشارع في المرأة هو سوء الظن بها، فهي تحسب نفسها معلنة فيه أنوثتها, وجمالها، وزينتها؛ ونحن نراها معلنة فيه سوء أدب، وفساد خلق، وانحطاط غريزة. ومن كان فاسقًا أساء الظن بكل الفتيات، ووجد السبيل من واحدة إلى قول يقوله في كل واحدة؛ ومن كان عفيفًا سمع من الفاسق فوجد من ذلك متعلقًا يتعلق به، وقياسًا يقيس عليه؛ والفتنة لا تصيب الذين ظلموا خاصة، بل تعم. آه لو استطعتُ أن أوقظ امرأة من نساء أحلامي! وقال "ا": لقد كانت معاني المرأة في ذهني صورًا بديعة من الشعر تستخفني إليها العاطفة، ولا يزال منها في قلبي لكل يوم نازية تَنْزُو. وكانت المرأة بذلك حديث أحلامي ونَجِيّ وساوسي، وكنت عفيف البنطلون1؛ ولكن النساء أيقظنني من الحلم، وفَجَعنني فيه بالحقيقة، ووضعن يدي على ما تحت ملمس الحية. ولو حدثتك بجملة أخبارهن، وما مارستُ منهن لتكرهت وتسخطت، ولأيقنت أن كلمة "تحرير المرأة" إنما كانت خطأ مطبعيًّا، وصوابها: "تجرير المرأة". فهؤلاء النساء أو كثرتهن, لم يُذِلن الحجاب إلا لتخرج واحدة مما تجهل إلى ما تريد أن تعرف، وتخرج الأخرى مما تعرف إلى أكثر مما تعرفه، وتخرج بعضهن من إنسانة إلى بهيمة. لقد عرفتُ فيمن عرفتُ منهن الخفيفة الطيّاشة، والحمقاء المتساقطة، والفاحشة ذات الريبة؛ وكل أولئك كان تحريرهن, أي: تحريرهن, تقليدًا للمرأة الأوروبية؛ تهالكن على رذائلها دون فضائلها، واشتد حرصهن على خيالها الروائي دون حقيقتها العلمية، ومن مصائبنا نحن الشرقيين أننا لا نأخذ الرذائل كما هي، بل نزيد عليها ضَعْفنا فإذا هي رذائل مضاعفة. كان الحلم الجميل في الحجاب وحده، وهو كان يُسَعِّر أنفاسي ويستطير قلبي، ويُرغمني مع ذلك على الاعتقاد أن ههنا علامة التكرم، ورمز الأدب، وشارة

_ 1 يقول العرب في الكناية عن العفة: وهو عفيف الإزار، وترجمتها في عصرنا ما رأيت.

العفة، وأن هذه المحصنة المخدَّرة -عذراء أو امرأة- لم تلق الحجاب عليها إلا إيذانا بأنها في قانون عاطفة الأمومة لا غيرها؛ فهي تحت الحجاب لأنه رمز الأمانة لمستقبلها، ورمز الفصل بين ما يحسن وما لا يحسن، ولأن وراءه صفاء روحها الذي تخشى أن يكدَّر، وثبات كيانها الذي تخشى أن يُزعزَع. قال حكيم لأولئك الذين يستميلون النساء بأنواع الحلى وصنوف الزينة والكُسوة الحسنة: "يا هؤلاء, إنكم إنما تعلمونهن محبة الأغنياء لا محبة الأزواج"، وأحكم من هذا قول الرجل الإلهي الصارم عمر بن الخطاب: "اضربوهن بالعُرى" فقد عُرف من ألف وثلاثمائة سنة أن تحرير المرأة هو تجريرها، وأنها لا تخرج لمصلحة أكثر مما تخرج لإظهار زينتها. فلو مُنعت الثياب الجميلة حبستها طبيعتها في بيتها, فماذا تقول الشوارع لو نطقت؟ إنها تقول: يا هؤلاء، إنما تعلمونهن معرفة الكثير لا معرفة الواحد! لقد -والله- أنكرت أكثر ما قرأت وسمعت من محاسنهن وفضائلهن وحياتهن، ولقد كان الحجاب معنى لصعوبة المرأة واعتزازها، فصار الشارع معنى لسهولتها ورخصها؛ وكان مع تحقق الصعوبة أو توهمها أخلاق وطباع في الرجل، فصار مع توهم السهولة أو تحققها أخلاق وطباع أخرى على العكس من تلك؛ ما زالت تنمي وتتحول حتى ألجأت القانون أخيرًا أن يترقى بمن لمس المرأة في الطريق من "الجنحة" إلى "الجناية". وتخنَّث الشبان والرجال، ضروبًا من التخنث بهذا الاختلاط وهذا الابتذال، وتحللت طباع الغَيْرة، فكان هذا سريعًا في تغيير نظرتهم إلى النساء، وسريعًا في إفساد اعتقادهم، وفي نقض احترامهم، فأقبلوا بالجسم على المرأة، وأعرضوا عنها بالقلب؛ وأخذوها بمعنى الأنوثة، وتركوها بمعنى الأمومة؛ ومن هذا قل طلاب الزواج، وكثر روّاد الخَنَا. ولقد جاءت إلى مصر كاتبة إنجليزية، وأقامت أشهرًا تخالط النساء المتحجبات وتدرس معاني الحجاب، فلما رجعت إلى بلادها كتبت مقالًا عنوانه: "سؤال أحمله من الشرق إلى المرأة الغربية" قالت في آخره: "إذا كانت هذه الحرية التي كسبناها أخيرًا، وهذا التنافس الجنسي، وتجريد الجنسين من الحجب المشوقة الباعثة التي أقامتها الطبيعة بينهما, إذا كان هذا سيصبح كل أثره أن يتولى الرجال عن النساء، وأن يزول من القلوب كل ما يحرك فيها أوتار الحب الزوجي, فما الذي

نكون قد ربحناه؟ لقد والله تُضطرنا هذه الحال إلى تغيير خططنا، بل قد نستقر طوعًا وراء الحجاب الشرقي؛ لنتعلم من جديد فن الحب الحقيقي". وقال "ع": لست فيلسوفًا، ولكن في يدي حقائق من علم الحياة لا تأتي الفلسفة بمثلها، وكتابي الذي أقرأ فيه هو الشارع. فاعلم أن العزاب من الرجال يتعلم بعضهم من بعض، وهم كاللصوص لا يجتمع هؤلاء ولا هؤلاء إلا على رذيلة أو جريمة. وحياة اللص معناها وجود السرقة، وحياة العزب معناها وجود البِغَاء والفسق. ومن حُكم الطبيعة على الجنسين أن الفاسق يباهي بإظهار فسقه قدر ما تخاف الفاسقة من ظهور أمرها, وهذه إشارة من الطبيعة إلى أن المرأة مسكينة مظلومة. فما ابتذال الحجاب، ولا استهتاك النساء إلا جواب على انتشار العزوبة في الرجال، وكيف يتحول الماء ثلجًا لولا الضغط نازلًا فنازلًا إلى ما دون الصفر؟ فهذا الثلج ماء يعتذر من تحوله وانقلابه بعذر طبيعي قاهر، له قوة الضرورة الملجئة، وكذلك المرأة المذالة أو الطامحة أو المتبذلة أو المتهتكة, ما صفاتهن إلا توكيد لأعذارهن. وكان على الحكومة أن تضرب العزوبة ضربة قانون صارم، فالعزب وإن كان رجلًا حرًّا في نفسه، ولكن رجولته تفرض للأنوثة حقها فيه؛ فمتى جحد هذا الحق، واستكبر عليه، رجع حاله مع المرأة إلى مثل شأن الغريم مع غريمه؛ ليس للفصل فيه إلا الدولة أو حكامها وقوتها التنفيذية. وإذا أُطلقت الحرية للرجال فصاروا كلهم أو أكثرهم أعزابًا، فماذا يكون إلا أن تمحى الدولة، وتسقط الأمة، وتتلاشى الفضائل؟ فالعزوبة من هذا جريمة بنفسها، ولا ينبغي أن تتربص بها الحكومة حتى تعم، بل يجب اعتبارها باعتبار الجرائم من حيث هي، ويجب تفسير كلمة "العزب" في اللغة بمثل هذا المعنى. إنها شخصية مذكَّرة ساخطة متمردة على حقوق مختلفة للمرأة والنسل والأمة والوطن. وما ساء رأي العزاب في النساء والفتيات إلا من كونهم بطبيعة حياتهم المضطربة لا يعرفون المرأة إلا في أسوأ أحوالها وأقبح صفاتها، وهم وحدهم جعلوها كذلك. إن لهم وجودًا محزنًا يستمتعون فيه، ولكنهم يَهلكون ويُهلكون به. هم والله

لأساتذة الدروس السافلة في كل أمة، وهم والله بغاة من الرجال في حكم البغايا من النساء، يجرون جميعًا مجرًى واحدًا. ومن هي البغيّ في الأكثر إلا امرأة فاجرة لا زوج لها؟ ومن هو العزب في الأكثر إلا رجل فاسق لا زوجة له؟ على أن مع المرأة عذر ضعفها أو حاجتها، ولكن ما عذر الرجل؟ ماذا تفيد الدولة أو الأمة من هذا العزب الذي اعتاد فوضى الحياة، وسيرها على نظامها، وتحققها على أسخف ما فيها من الخيال والحقيقة, وأي عزب يجد الاستقرار, أو تجتمع له أسباب الحياة الفاضلة وهو قد فقد تلك الروح التي تتم روحه، وتنقّحها، وتمسكها في دائرتها الاجتماعية على واجباتها وحقوقها، وتجيئه بالأرواح الصغيرة التي تشعره التبعة والسيادة معًا، وتمتد به ويمتد بها في تاريخ الوطن؟ كيف يعتبر مثل هذا موجودًا اجتماعيًّا صحيحًا وهو حي مختل في وجود مستعار، يقضي الليل هاربًا من حياة النهار، ويقضي النهار نافرًا من حياة الليل؛ فيقضي عمره كله هاربًا من الحياة، وكأنه لا يعيش بروحه كاملة، بل ببعضها، بل بالممكن من بعضها! أية أسرة شريفة تقبل أن يساكنها رجل عزب، وأية خادم عفيفة تطمئن أن تخدم رجلًا عزبًا؟ هذه هي لعنة الشرف والعفة لهؤلاء الأعزاب من الرجال! قال الراوي: وهنا انتفض "س" و"ا" وحاولا أن يقبضا على هذه اللعنة ويرداها إلى حلق "ع". ثم سألني ثلاثتهم أن أسقطها من المقال، بيد أني رأيت أن خيرًا من حذفها أن تكون اللعنة لأعزاب الرجال إلا "س" و"ا" و"ع".

استنوق الجمل

استنوق الجمل: قال الشاب: لا قِبَلَ لي بهذا التعب المعني الذي يسمونه "الزواج" فما هو إلا بيت ثقله على شيئين: على الأرض، وعلى نفسي؛ وامرأة همها في موضعين: في دارها، وفي قلبي؛ وما هو إلا أطفال يُلزمونني عمل الأيدي الكثيرة من حيث لا أملك إلا يدين اثنتين، وأتحمل فيهم رهقًا شديدًا كأنما أبنيهم بأيامي، وأجمع هموم رءوسهم كلها في رأس واحد هو رأسي أنا. يولد كل منهم بمعدة تهضم لتوها وساعتها، ثم لا شيء معها من يد أو رجل أو عقل إلا هو عاجز لا يستقل، متخاذل لا يطيق ولا يقدر. قال: وإذا كان أول الزواج أي: عسله وحلواه أنه امرأة تُذهب عزوبتي, فأنا وأمثالي ما نزال في عسل وحلوى ... ولكل وقت زواج، ولكل عصر أفكار، وما أسخف الليالي إذا هو ترادفت على ضرب واحد من أحلامها، فهذا يجعل النوم حكمًا بالسجن عشر ساعات! قال: وإذا أردت أن تستكشف القصة فاعلم أننا -نحن العزاب- قوم كرجال الفن؛ رذيلتهم فنية، وفضيلتهم فنية، فتلك وهذه بسبيل؛ وكل شيء في الفن هو لموضعه من الفن لا من غيره؛ فإذا قلتَ: هذا خالٍ من الفضيلة، عار من الأدب؛ وعبت الفن لذلك, فما هو إلا كعيبك وجه المرأة الجميلة لأنه خال من لحية! هات الظلام وسواده، فإنه لون كالنور وإشراقه، لا بد من كليهما؛ إذ المعنى الفني إنما يكون في تناسب الأشياء لا في الأشياء ذاتها؛ ويد الفني كيد الغني؛ هذه لا يقع فيها الذهب إلا ليعدد ثم يتعدد؛ وتلك لا تقع فيها المرأة إلا لتتعدد ثم تتعدد؛ وفي كل دينار قوة جديدة، وفي كل امرأة فن جديد. قال: ومذهبنا في الحياة أن نستمتع بها ضروبًا وأفانين؛ من أطاق لم يقتصر على نوعين، ومن قدر على نوعين لم يرض الواحد؛ ولو أن زوجة كانت من أشعة الكواكب أو من قطرات الندى، لثقل منها على حياتنا ما يثقل من الحديد والصَّوَّان؛ إذ هي لا تلد أشعة كواكب، ولا قطرات ندى؛ وحَسْب الجسد برأس واحد حِمْلًا.

قال: ومن الذي تعرض عليه الحياة سلامها وتحياتها وأشواقها في مثل رسالة غرام، ثم يدع هذا ويسألها غضبها وخصامها ولَجَاجتها في مثل قضية من قضايا المحاكم كل ورقة فيها تلد ورقة؟ ثم قال الشاب: لا تحسبن أن المرأة هي السافرة عندنا، ولكن اللذة هي السافرة؛ وما أحكم الشرع! أقول لك وأنا محامٍ يقرر الحقيقة: ما أحكم الشرع الذي لم يرخص في كشف وجه المرأة إلا لضرورة، فإن الواقع في الحياة أن هذا الكشف كثير ما يكون كنقْب اللص على ما وراء النقب؛ وإذا كُسر ما فوق القُفل من الخزانة المكتنز فيها الذهب والجوهر، فالباب الجديد كله سخرية وهُزُؤ من بعدُ! هذه عقلية شاب محام طُوي عقله على الكتب القانونية، وطوي قلبه على مثلها من غير القانونية, وليس يمتري أحد في أنها عقلية السواد من شبابنا المثقف الذي لبس الجلد الأوروبي. ومن البلاء على هذا الشرق أنه ما برح يناهض المستعمرين ويواثبهم، غافلًا عن معانيهم الاستعمارية التي تناهضه وتواثبه، جاهلًا أن أوروبا تستعمر بالمذاهب العلمية كما تستعمر بالوسائل الحربية؛ وتسوق الأسطول والجيش، والكتاب والأستاذ، واللذة والاستمتاع، والمرأة والحب. ولو أن عدوًّا رماك بالنار فاستطارت في ثيابك أو متاعك لما دخلك الشك أن عدوك هو النار حتى تفرغ من أمرها. فكيف -لعمري- غفل الشرقيون عن أخلاق نارية حمراء يأكلهم بها المستعمرون أكلًا كأنما ينضجونهم عليها ليكونوا أسهل مساغًا، وألين أَخْذًا، وأسرع في الهضم! لم أفهم أنا من كلام صاحبنا الشاب ومعانيه إلا أن أوروبا في أعصابه، وأما مصر ونساؤها ورجالها فعلى طرف لسانه لا تكون إلا صيحة، وليس بينه وبينها في الحياة عمل إلا من ناحية لذته بها، لا من ناحية فائدتها منه. وتلك المعاني كلها مشتق بعضها من بعض، ومرجعها إلى أصل واحد، كالأمراض التي تبتلي الجسم يُمهد شيء منها لشيء، ما دامت طبيعة هذا الجسم زائغة أو مختلة، أو متراجعة إلى الضعف، أو ذاهبة إلى الموت. وأولئك شبان وقف بهم الشباب موقف بَلَادة، فلا يخطو إلى الرجولة، ولا يكمل بنموه الاجتماعي كما يكمل الرجل الوطني؛ فمن ثم يكون خَوَّارًا لا يستطيع أن يحمل أثقالًا مع أثقاله، ويستوطئ العجز والخمول؛ فلا يكون إلا قاعد الهمة،

رَخْو العزيمة، قد استنام إلى أسباب عجزه وتخاذله، ولا يكون في بعض الاعتبار إلا كالمريض يعيش بمرضه حَمِيلة على ذويه، ضُجعة لا يمشي، نُومة لا ينتهض، مستريحًا لا يعمل. وبهذه المكسلة الاجتماعية في الشبان يبدأ الشعب يتحول من داخله فينصرف عن فضائله، ويتخذ في مكانها فضائل استعارة يقلد فيها قومًا غير قومه، ويجلبها لبيئة غير بيئته، ويقسرها على أن تصلح له وهي فساد، ويُكرهها على أن تنفعه وهي ضرر، وتلك حالة يغامر فيها الشعب بكيانه فلا تلبث أن تصدعه وتفرقه. ولو أن في السحاب مطرًا وغيثًا لما كان له في كل ساعة لون مصبوغ، ولو أن في الشباب دينًا لما صبغته تلك الأخلاق الفاسدة، وما ذهاب الحارس عن مكان إلا دعوة للصوص إليه، وهل كان الدين إلا واجبات وتبعات وقيودًا يراد من جميعها إعداد الإنسان لأمثالها في الاجتماع، حتى يقر في إنسانيته الصحيحة على النحو الذي يصلح له منفردًا, ويصلح له مجتمعًا؟ فليست الزوجة وحدها هي التي خسرت الشاب بل خسره معها الوطن والدين والفضيلة جميعًا، وبهذا انعكس وضعة من الجماعة، فوجب في رأيه أن تسخر الجماعة له، وأن يستقل هو بنفسه، وبهذا العكس, وهذا السقوط، وهذا الاستمتاع الذي يجد سعادته في نفسه؛ أصبح أولئك الشبان كأنما حقهم على المجتمع أن يقدم لهم بغايا لا زوجات, بغايا حتى من الزوجات! قَبَّح الله عصرًا يجهل الشاب فيه أن الرجل والمرأة في الوطن كلمتان تفسر الإنسانية إحداهما بالأخرى تفسيرًا إنسانيًّا دينيًّا بالواجبات والقيود والأحمال، لا بالأهواء والشهوات والانطلاق كما تفسر الحيوانية الذكر والأنثى. والنفس الدنيئة أو المنحطة في أخلاقها ومنازعها من الحياة لا تكون إلا دنيئة أو منحطة في أحلامها وأخيلتها الروحية، دنيئة كذلك في طاعتها إن قضت عليها الحياة بموضع الخضوع, دنيئة في حكمها إن قضت لها الحياة بمنزلة من السلطة. ولو تنبهت الحكومة لطردت من عملها كل موظف غير متأهل، فإنها إنما تستعمل شرًّا لا رجلًا يمنع الشر، وكل شاب تلك حاله هو حادثة ترتدف الحوادث وتستلزمها، وما يأتي السوء إلا بمثله أو بأسوأ منه. ليس للزواج معنى إلا إقرار طبيعة الرجل وطبيعة المرأة في طبيعة ثالثة تقوم بالاثنتين معًا، وهي طبيعة الشعب. فمن سقوط النفس ولؤمها ودناءتها أن يفر

الشاب القوي من تبعة الرجولة، فلا يحمل ما حمل أبوه من واجبات الإنسانية؛ ولا يقيم لوطنه جانبًا من بناء الحياة في نفسه وزوجه وولده، بل يذهب يجعل حظ نفسه فوق نفسه، وفوق الإنسانية والفضيلة والوطن جميعًا؛ ولا يعرف أن انفلاته من واجبات الزواج هو إضعاف في طبيعته لمعنى الإخلاص الثابت، والصبر الدائب، والعطف الجميل في أي أسبابها عرضت. ومن فُسُولة الطبع ولؤمه ودناءته أن يهرب هذا الجندي من ميدانه الذي فرضت عليه الطبيعة الفاضلة أن يجاهد فيه لأداء واجبه الطبيعي, متعللًا لفراره المخزي بمشقة هذا الواجب, وما عسى أن يعاني فيه كما يحتجّ الجبان بخوف الهلاك وعناء الحرب. ومن سقوط النفس أن يرضى الشبان كساد الفتيات, وبوارهن على الوطن؛ وأن يتواطئوا على نبذ هذه الأحمال، وإلقائها في طرق الحياة، وتركها لمقاديرها المجهولة. كأنهم -أصلحهم الله- لا يعلمون أن ذلك يضيع بأخواتهم بين الفتيات، ويضيع بوطنهم في أمهات الجيل المقبل، ويضيع بالفضيلة في تركهم حمايتها وتخليهم عن حمل واجباتها وهمومها السامية. إن الجمل إذا استنوق تخنث ولان وخضع، ولكنه يحمل؛ وهؤلاء إذا استنوقوا تخنثوا ولانوا وخضعوا وأبوا أن يحملوا. ومن سقوط النفس في الرجل النكس العاجز المقصر أن يحتج لعزوبته بعلمه وجهل الفتيات؛ أو تمدنه وزعمه أنهن لم يبلغن مبلغ الأوروبية، ولا يدري هذا المنحط النفس أن الزواج في معناه الإنساني الاجتماعي هو الشكل الآخر للاقتراع العسكري، كلاهما واجب حتم لا يُعتذر منه إلا بأعذار معينة، وما عداها فجبن وسقوط وانخذال ولعنة على الرجولة. ومن سقوط النفس أن يغنى الشاب عن الزواج لفجوره فيقره، ويُمكِّن له، وكأنه لا يعلم أنه بذلك يحطم نفسين، ويحدث جريمتين، ويجعل نفسه على الدنيا لعنتين. ومن سقوط النفس أن يغتر الشاب فتاة حتى إذا وافق غِرَّتها مكر بها وتركها بعد أن يلبسها عارها الأبدي؛ فما يحمل هذا الشاب إلا نفس لص خبيث فاتك، هو أبدًا عند من يسرقهم في باب الخسائر والنكبات، لا في باب الربح والمكسب؛ وعند المجتمع في باب الفساد والشر، لا في باب المصلحة والخير؛ وعند نفسه في باب الجريمة والسرقة، لا في باب العمل والشرف.

فسقوط النفس وانحطاطها هو وحده نكبة الزواج في أصلها وفروعها الكثيرة التي منها المغالاة والشطط في المهور, ومنها بحث الشاب عن الزوجة الغنية، وإهمال ذات الدين والأصل الكريم لفقرها، ومنها ابتغاء الزوجة رجلًا ذا جاه أو ثراء، وعزوفها عن الفاضل ذي الكَفَاف أو اليسير على غنى في رجولته وفضائله، كأنما هو زواج الدينار بالسبيكة، والسبيكة بالدينار، وكأن الطبيعة قد ابتُليت هي أيضًا بالسقوط، فأصبحت تعتبر الغنى والفقر، فتجعل في دم أولاد الأغنياء روح الذهب واللؤلؤ والماس، وتلقي في دم أولاد الفقراء روح النحاس والخشب والحجارة, على حين أن الجميع مستيقنون -لا يتدافع اثنان منهم- في أن الطبيعة لا تبالي إلا بوراثة الآداب والطباع. وأعظم أسباب هذا السقوط في رأيي هو ضعف التربية الدينية في الجنسين، وخاصة الشبان، ظنًّا من الناس أن الدين شأن زائد على الحياة، مع أنه هو لا غيره نظام هذه الحياة وقوامها في كل ما يتصل منها بالنفس. وليست المدنية الصحيحة -كما يحسب المفتونون- هي نوع المعيشة للحياة ومادتها، بل نوع العقيدة بالحياة ومعانيها؛ وإلى هذا ترمي كل مبادئ الإسلام، فإن هذا الدين القوي الإنساني لا يعبأ بزخارف كهذه التي تتلبّس بها المدنية الأوروبية القائمة على الاستمتاع، وفنون اللذات، وانطلاق الحرية بين الجنسين؛ فهذا بعينه هو التحطيم الإنساني الذي ينتهي بتهدم تلك المدنية وخرابها. وإنما يعبأ الإسلام بالعقيدة التي تنظّم الحياة تنظيمًا صحيحًا متساوقًا وافيًا بالمنفعة، قائمًا بالفضيلة, بعيدًا من الخلط والفوضى. ويقابل ضعف التربية الدينية مظهر آخر هو سبب من أكبر أسباب السقوط، وهو ضعف التربية الاجتماعية في المدرسة، وإلى هذا الضعف يرجع سبب آخر هو تخنث الطباع واسترسالها إلى الدعة والراحة، وفرارها من حمل التبعة "المسئولية" التي هي دائمًا أساس كل شخصية قائمة في موضعها الاجتماعي. وبذلك الضعف وذلك السقوط وُضعت المرأة البغِيّ العاهرة في الموضع الطبيعي للأم، ونزل الرجل السافل المنحط في المكان الطبيعي للأب، وتحللت قوى الوطن بانحراف عنصريه العظيمين عن طبيعتهما، وجعلت فضيلة الفتيات المسكينات تتأكل من طول ما أهملت، وأخذ سُوس الدم يتركها فضائل نَخِرة. ولا عاصم ولا دافع إلا قوة القانون وسطوته، ما دامت الفضيلة في حكم الناس وتصريفهم قد تركت مكانها للقوانين، وما دامت قوة النفس قد أخلت موضعها للقوة التنفيذية.

لقد قُتلت رُوحية الزواج، وهي على كل حال جريمة قتل، فمن القاتل يا صاحبنا المحامي؟ قال الشاب: هو كل رجل عزب. قلت: فما عقابه؟ فسكت, ولم يرجع إلي جوابًا. قلت: كأني بك قد تأهلت وخلاك ذم, فما عقابه؟ قال: إلى أن تبلغ الحكومة أو أن تعاقب هؤلاء العزاب، فليعاقبهم الشعب بتسميتهم "أرامل الحكومة" واحدهم: رجل أرملة حكومة. ثم قال: اللهم يسرها ولا تجعلني رجلًا بغلطتين: غلطة في نساء الأمة، وغلطة في ألفاظ اللغة.

أرملة حكومة

أرملة حكومة: "أرملة الحكومة" فيما تواضعنا عليه بيننا وبين قرائنا1 هو الرجل العزب، يكون مطيقًا للزواج، قادرًا عليه، ولا يتزوج؛ بل يركب رأسه في الحياة، ويذهب يموِّه على نفسه كذبًا وتدليسًا، وينتحل لها المعاذير الواهية، ويمتلق العلل الباطنة، يحاول أن يُلحق نفسه بمرتبة الرجل المتزوج من حيث يحط الرجل المتزوج إلى مرتبته هو؛ ويضيف شؤمه على النساء إلى هؤلاء النساء المسكينات، يزيدهن على نفسه شر نفسه، ويرميهن بالسوء وهو السوء عليهن، ويتنقصهن ومنه جاء النقص، ويعيبهن وهو أكبر العيب؛ لا يتذكر إلا الذي له، ولا يتناسى إلا الذي عليه، كأنما انقلبت أوضاع الدنيا، وتبدلت رسوم الحياة، فزالت الرجولة بتبعاتها عن الرجل إلى المرأة, وانفصلت الأنوثة بحقوقها من المرأة إلى الرجل، فوجب أن تحمل تلك ما كان يحمل هذا، فتُقدم ويقر وادعًا، وتتعب ويستريح، وتعاني الهموم السامية في الحياة الاجتماعية، ويعاني المخنث ابتساماته ودموعه، متكئًا في مجلسه النسيمي تحت جناح المِرْوحة. فأما المرأة فتشرف على هَلَكتها، وتخاطر بحاضرها ومستقبلها، وأما هو فيبقى من ثيابه في مثل الخِدْر المَصُون! "أرملة الحكومة" هو ذلك الشاب الزائف المبهرج، يُحسَب في الرجال كذبًا وزورًا؛ إذ لا تكمل الرجولة بتكوينها حتى تكمل بمعاني تكوينها, وأخص هذه المعاني إنشاء الأسرة والقيام عليها، أي: مغامرة الرجل في زمنه الاجتماعي ووجوده القومي، فلا يعيش غريبًا عنه وهو معدود فيه، ولا طُفيليًّا فيه وهو كالمنفي منه، ولا يكون مظهرًا لقوة الجنس القوي هاربة هروب الجبن من حمل ضعف الجنس الآخر المحتمي بها، ولا لمروءة العشير متبرئة تبرؤ النذالة من مؤازرة العشير الآخر

_ 1 انظر مقالة "استنوق الجمل" والتاء في "أرملة الحكومة" ليست للتأنيث، بل هي تاء جديدة في العربية، تزاد في هذه الكلمة خاصة واسمها تاء الهزؤ. ويا حبذا لو اصطلح النساء والفتيات والمتزوجون جميعًا على تسمية كل رجل عزب "أرملة الحكومة" فإن هذا الاسم إذا عم وشاع كان في معناه وفعله المطهر، حامضًا لغويًّا كحامض الفنيك!

المحتاج إليها؛ ولا يرضى لنفسه أن يكون هو والذل يعملان في نساء أمته عملًا واحدًا، وأن يصبح هو والكساد لا يأتي منهما إلا أثر متشابه، وأن يبيت هو والفناء في ظلمة واحدة كظلمات القبر، تنقل الأجداث إلى الدور، فتجعل البيت -الذي كان يقتضيه الوطن أن يكون فيه أب وأم وأطفال- بيتًا خاويًا كأنما ثُكل الأم والأطفال، وبقيت فيه البقية من هذا الرجل العزب الميت أكثر تاريخه! لقد رأيت بعيني أداة العزب وأثاثه في بيته، كأنما يقص عليه كل ذلك قصة شؤمه ووحدته، وكأنما يقول له الفرش والنجد والطراز: "بعني يا رجل وردني إلى السوق؛ فإني هنالك أطمع أن يكون مصيري إلى أب وأم وأولاد، أجد بهم فرحة وجودي، وأصيب من معاشرتهم بعض ثوابي، وأبلي تحت أيديهم وأرجلهم فأكون قد عملت عملًا إنسانيًّا. أما عندك، فأنت خشبة مع الخشب، وأنت خرقة بين الخرق, واسمع الكرسي, إنه يقول: أف, وأصغ إلى فراشك, إنه يقول: تف". شهد العزب -ورب الكعبة- على نفسه أنه مبتلى بالعافية، مستعبد بالحرية، مجنون بالعقل، مغلوب بالقوة، شقي بالسعادة، وشهدت الحياة عليه -ورب البيت- أنه في الرجولة قاطع طريق؛ يقطع تاريخها ولا يؤمنه، ويسرق لذاتها ولا يكسبها ويخرج على شرعها ولا يدخل فيه، ويعصي واجباتها ولا ينقاد لها. وشهد الوطن -والله- عليه أنه مخلوق فارغ كالواغل على الدنيا؛ إن كان نعمة بصلاحه، انتهت النعمة في نفسها لا تمتد؛ وإن كان بفساده مصيبة امتدت في غيرها لا تنقطع, وأنه شحاذ الحياة أحسن به الأجداد نسلًا باقيًا، ولا يحسن هو بنسل يبقى, وأنه في بلاده كالأجنبي، مهبطه على منفعة وعيش لا غيرهما؛ ثم يموت وجود الأجنبي بالنَّقْلة إلى وطنه، ويموت وجود العزب بالانتقال إلى ربه؛ فيستويان جميعًا في انقطاع الأثر الوطني، ويتفقان جميعًا في انتهاب الحياة الوطنية؛ وأن كليهما خرج من الوطن أبتر لا عَقِبَ له، ويذهبان معًا في لجج النسيان: أحدهما على باخرة، والآخر على النعش. جاءني بالأمس "أرملة حكومة" وهو مهندس موظف. ومعنى الهندسة الدقة البالغة في الرقْم والخط والنقطة وما احتمل التدقيق؛ ثم الحذر البالغ أن يختل شيء أو ينحرف، أو يتقاصر أو يطول، أو يزيد أو ينقص، أو يدخله السهو أو يقع فيه الخطأ؛ إذا كان الحاضر في العمل الهندسي إنما هو للعاقبة، وكان الخيال للحقيقة؛ وكان الخُرْق هنا لا يقبل الرُّقْعة. ومتى فصلت الأرقام الهندسية من

الورق إلى البناء مات الجمع والطرح والضرب والقسمة، ورجع الحساب حينئذٍ وهو حساب عقل المهندس؛ فإما عقل دقيق منتظم، أو عقل مأفون مختلّ. بيد أن المهندس -على ما ظهر لي- قد خلت حياته من الهندسة, وانتهى فيها من التحريف المضحك -حتى فيما لا يخطئ الصغار فيه- إلى مثل التحريف الذي قالوا: إنه وقع في الآية الكريمة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ} [الفاتحة: 5] فقد رووا أن إمام قرية من القرى في الزمن القديم كان يخطب أهل قريته ويصلي في مسجدها، فنزل به ضيف من العلماء فقال له الخطيب: إن لي مسائل في الدين لم يتوجه لي وجه الحق فيها، ولا أزال متحير الرأي، وكنتُ من زمن أتمنى أن ألقى بها الأئمة، فأريد أن أسألك عنها. قال العالم: سل ما أحببت. قال الخطيب: أشكل علي في القرآن بعض مواضع، منها في سورة الحمد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ} أي شيء بعده "تسعين أو سبعين"؟ أشكلت علي هذه فأنا أقرؤها: تسعين؛ أخذًا بالاحتياط! كذلك مهندسنا فيما أشكل عليه من حسابه للحياة، فهو عزب آخذًا بالاحتياط. قال وهو يحاورني: كيف تكلفني الزواج وتكرهني عليه، وتعنفني على العزوبة وتعيبني بها؛ وإنما أنت كالذي يقول: دع الممكن وخذ المستحيل؛ إن استحالة الزواج هي التي جعلتني عزبًا، والعزوبة هي التي جعلتني فاسدًا, وفي هذا الجو الفاسد من حياة الشباب، إما أن تكسد الفتاة، وإما أن تتصل بها العدوى. والعزب لا يأبى أن يقال فيه: إنه للنساء طاعون أحمر أو هواء أصفر؛ فهو والله مع ذلك موت أسود وبلاء أزرق. قلت: لقد هولت علي؛ فما مستحيلك يا هذا، ولم استحال عليك ما أمكن غيرك، وكيف بلغت مصر خمسة عشر مليونًا؟ أمن غير آباء خُلقوا، أو زُرعوا زرعًا في أرض الحكومة؟ اسمع -ويحك- ألا يكون الرجال قد أقبلوا وتراجعتَ، وتجلدوا وتوجعت، أو أقدموا وخنَسْتَ، واسترجلوا وتأنثت؟ قال: ليس شيء من هذا. قلت: فإن المسألة هي كيف ترى الفكرة، لا الفكرة نفسها، فما حملك على العزوبة وأنت موظف وظيفتك كذا وكذا دينارًا، وأنت مهندس يصدق عليك ما قالوه في الرجل المجدود: لو عمد إلى حجر لانفلق له عن رزق؟! قال: أليس مستحيلًا ثم مستحيلًا أن يجمع مثلي يده على مائة جنيه يدفعها

مهرًا؛ وإن طرقتُ -علم الله- بابًا إلا استقبلوني بما معناه: هل أنت معجزة مالية؟ هل أنت مائة جنيه؟ قلت: فإن عملك في الحكومة يُغِلّ عليك في السنة مائة وثمانين دينارًا, فلِمَ لا تعيش سنة واحدة بثمانين فتقع المعجزة؟ قال: "بكل أسف" لا يستطيع الرجل العزب أن يدخر أبدًا؛ فهو في كل شيء مبدد ضائع متفرق. قلت: فهذه شهادتك على نفسك بالسَّفَه والخُرْق والتبذير؛ تنفق ما يكفي عددًا وتضيق بواحدة، وماذا يرتئي مثلك في الحياة؟ أعند نفسه وفي يقينه أن يتأبد فيبقى عزبًا فهو ينفق ما جمع في شهوات حياته، ويتوسع فيها ضروبًا وألوانًا ليكون وهو فرد كأنه وهو في إنفاقه جماعة، كل منهم في موضع رذيلة أو مكان لهو؛ وكأن منه رجالًا هو كاسبهم وعائلهم، ينفق على هذا في القهوة، وعلى هذا في الحانة، وعلى ذلك في الملاهي، وعلى الرابع في المواخير، وعلى الخامس في المستشفى؟ إن كان هذا هو أصل الرأي عند العزب، فالعزب سفيه مجرم، وهو إنسان خَرِب من كل جهة إنسانية، وهو في الحقيقة ليس المتسع لنفقات خمسة، بل كأنه قاتل من أبناء وطنه؛ إذ كان بهذا مطيقًا أن يكون أبا ينفق على أبنائه، لا سفيهًا ينفق على شياطينه. فإن كان قد بني رأيه على أن يتعزب مدة ثم يتأهل، فهذا أحرى أن يعينه على حسن التدبير، وهو مَضْراة له على شهوة الجمع والادخار؛ إذ يكون عند نفسه كأنما يكدح لعياله وهو في سعة منهم بعد، وهم لا يزالون في صلبه على الحال التي لا يسألونه فيها شيئًا إلا أخلاقًا طيبة وهممًا وعزائم يرثونها من دمه فتجيء معهم إلى الدنيا متى جاءوا. إنما العزب أحد رجلين: رجل قد خرج على وطنه وقومه وفضائل الإنسانية، قاعدته: جُرَّ الحبل ما انجرَّ لك. وهذا داعر فاسق، مبذر مِتْلاف إن كان من المياسير، أو مريب دنيء حقير النفس إن كان من غيرهم ... ورجل غير ذلك، فهو في وثاق الضرورة إلى أن تطلقه الأسباب، ومن ثم فهو يعمل أبدًا للأسباب التي تطلقه, ويعرف أنه وإن لم يكن آهلًا فلا تزال ذمته في حق زوجة سيعولها، وفي حقوق أطفال يأبوهم، وواجبات ووطن يخدمه بإنشاء هذه الناحية الصغيرة من وجوده، والقيام على سياستها، والنهوض بأعبائها, فانظر ويحك أي الرجلين أنت؟

قال: فتريدني أن أقامر بتعب سنة وأنا بعد ذلك ما يُقدر لي، قد أشتري بتعب سنة من العمر تعب العمر كله؟ قلت: فهذه هي خسة الفردية، ودناءتها الوحشية في جنايتها على أهلها، وسوء أثرها في طباعهم وعزائمهم؛ فهي فردية تضرب فيهم العاطفة الاجتماعية ضرب التلف1، وتبتليهم بالخوف من التبعات حتى ليتوهم أحدهم أنه إن تزوج لم يدخل على امرأة، ولكن على معركة. وهي تصيبهم بالقسوة والغلظة؛ فما دام الواحد منهم واحدًا لنفسه، فهو في تصريف حكم الأَثَرة، وفي قانون الفتنة بأهواء النفس ومنافعها؛ كأنما يعامله الناس رجلًا كله مَعِدَة، أو هو فيهم قوة هضم ليس غير. قال: ولكن الزواج عندنا حظ مخبوء "لوتريَّة" والنساء كأوراق السحب، منهن ورقة هي التوفيق والغنى بين آلاف هن الفقر والخيبة المحققة. قلت: هل اعتدت أن تتكلم وأنت نائم؟ فلعلك الآن في نومة عقل، أو لا فأنت الآن في غفلة عقل. إن هذا المسكين الذي يمسح الأحذية ويشتري من تلك الأوراق لا يخلو منها؛ يعلم علمًا أكثر من اليقين أن عيشه هو من مسح الأحذية لا من الأخيلة التي في هذه الأوراق؛ فهو لا يعتد بها في كبير أمر ولا صغيره، وما يُنزلها في حساب رغيفه وثوبه إلا يوم يخالط في عقله فيتنزه أن يمسح أحذية الناس، ويرى أن عظيمًا مثله لا يمسح إلا أحذية الملائكة. أنت يا هذا مهندس، ولك بعض الشأن وبعض المنزلة، فهبك ارتأيت أنه لا يحسن بك أو لا يحسن لك إلا أن تتزوج بنت ملك من الملوك، فهذه وحدها هي عندك "النمرة الرابحة"، وسائر النساء فقر وخيبة، ما دام الأمر أمر رأيك وهواك؛ غير أنك إذا عرضت لتلك "النمرة الرابحة" لم تعرفك هي إلا صعلوكًا في الصعاليك، وأحمق بين الحمقى. إن تلك الأوراق تصنع صنعتها على أن تكون جملتها خاسرة إلا عددًا قليلًا منها؛ فإذا تعاطيت شراءها فأنت على هذا الأصل تأخذها، وبهذا الشرط تبذل فيها؛ وما تمتري أنت ولا غيرك أن القاعدة ههنا هي الخيبة، وشذوذها هو الربح؛ وليس في الاحتمال غير ذلك؛ ومن ثم فقد برئ إليك الحظ إن لم يصبك شيء منه؛ وأين هذا وأين النساء، وما منهن واحدة إلا وفيها منفعة تكثر أو تقل، بل

_ 1 يقال: ضربه ضرب التلف، أي: الضرب الذي يقتله ويتلفه.

الرجال للنساء هم أوراق السحب في اعتبارات كثيرة، ما دامت طبيعة اتصالهما تجعل المرأة هي في قوانين الرجل أكثر مما تجعل الرجل في قوانينها، وهل ضاعت امرأة إلا من غفلة رجل أو قسوته أو فُسُولته أو فجوره؟ قال المهندس: فإني أعلم الآن -وكنت أعلم- أن لا صلاح لي إلا بالزواج، وأن طريقي إلى الزوجة هو كذلك طريقي إلى فضيلتي وإلى عقلي. وتالله ما شيء أسوأ عند العزب ولا أكره إليه من بقائه عزبًا؛ غير أنه يكابر في المماراة كلما تحاقرت إليه نفسه، وكلما رأى أن له حالًا ينفرد بها في سخط الله وسخط الإنسانية. ولا مَكْذِبة، فقد والله أنفقتُ في رذائلي ما يجتمع منه مهر زوجة سرية تشتط في المهر وتغلو في الطلب، ولكن كيف بي الآن وما جبرني من قبل إصلاح، ولا أعانني اقتصاد، ومن لي بفتاة من طبقتي بمهر لا أتحمل منه رَهَقًا، ولا تتقاصر معه أموري، ولا تختل معيشتي؟ قلت: فإذا لم يحملك الحمار من القاهرة إلى الإسكندرية؛ فإنه يحملك إلى قليوب أو طوخ. وفي النساء إسكندرية، وفيهن شبرا، وقليوب، وطوخ؛ وما قرب وبعد، وما رخص وغلا. قال: ولكن بلدي الإسكندرية. قلت: ولكنك لا تملك إلا حمارًا ... وللمرأة من كل طبقة سعرها في هذا الاجتماع الفاسد؛ ولو تعاون الناس وصلُحوا وأدركوا الحقيقة كما هي، لما رأينا الزواج من فقر المهور كأنما يركب سلحفاه يمشي بها, ونحن في عصر القطار والطيارة، وقد كان هذا الزواج على عهد أجدادنا في عصر الحمار والجمل, كأنه وحده من السرعة في طيارة أو قطار. حين يفسد الناس لا يكون الاعتبار فيهم إلا بالمال، إذ تنزل قيمتهم الإنسانية ويبقى المال وحده هو الصالح الذي لا تتغير قيمته. فإذا صلحوا كان الاعتبار فيهم بأخلاقهم ونفوسهم، إذ تنحط قيمة المال في الاعتبار، فلا يغلب على الأخلاق ولا يسخرها. وإلى هذا أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله لطالب الزواج: "التمس ولو خاتَمًا من حديد" 1. يريد بذلك نفي المادية عن الزواج، وإحياء الروحية فيه، وإقراره في معانيه الاجتماعية الدقيقة، وكأنما يقول: إن كفاية الرجل في أشياء إن يكن منها

_ 1 انظر "قصة زواج، وفلسفة المهر".

المال فهو أقلها وآخرها. حتى إن الأخس الأقل فيه ليجزئ منه كخاتم الحديد؛ إذ الرجل هو الرجولة بعظمتها وجلالها وقوتها وطباعها، ولن يجزئ منه الأقل ولا الأخس مع المال، وإن ملء الأرض ذهبًا لا يُكمل للمرأة رجلًا ناقصًا؛ وهل تُتم الأسنان الذهبية اللامعة؛ يحملها الهَرِم في فمه؛ شيئًا مما ذهب منه؟ وما عسى أن تصنع قواطع الذهب الخالص وطواحنه لهذا المسكين بعد أن نطق تحاتّ أسنانه العظمية وتناثرها أنه رجل حَلَّ البِلَى في عظامه؟

رؤيا في السماء

رؤيا في السماء: قال أبو خالد الأحول الزاهد: لما ماتت امرأة شيخنا أبي ربيعة الفقيه الصوفي، ذهبتُ مع جماعة من الناس فشهدنا أمرها؛ فلما فرغوا من دفنها وسُوي عليها، قام شيخنا على قبرها، وقال: يرحمك الله يا فلانة؟! الآن قد شُفيتِ أنتِ ومرضتُ أنا، وعُوفيتِ وابتُليتُ، وتركتني ذاكرًا وذهبت ناسية، وكان للدنيا بك معنى، فستكون بعدك بلا معنى؛ وكانت حياتك لي نصف القوة، فعاد موتك لي نصف الضعف؛ وكنت أرى الهموم بمواساتك همومًا في صورها المخففة، فستأتيني بعد اليوم في صورها المضاعفة! وكان وجودك معي حجابًا بيني وبين مشقات كثيرة، فستخلص كل هذه المشاق إلى نفسي؛ وكانت الأيام تمر أكثر ما تمر رقتك وحنانك، فستأتيني أكثر ما تأتي متجردة في قسوتها وغلظتها. أما إني -والله- لم أُرزأ منكِ في امرأة كالنساء، ولكني رُزئت في المخلوقة الكريمة التي أحسست معها أن الخليقة كانت تتلطف بي من أجلها! قال أبو خالد: ثم استد مع الشيخ، فأخذت بيده ورجعنا إلى داره، وهو كان أعلم بما يعزي الناس بعضهم بعضًا، وأحفظ لما ورد في ذلك؛ غير أن للكلام ساعات تبطل فيها معانيه أو تضعف، إذ تكون النفس مستغرقة الهم في معنى واحد قد انحصرت فيه، إما من هول الموت، أو حب وقع فيه من الهول ظل الموت، أو رغبة وقع فيها ظل الحب، أو لجاجة وقع فيها ظل الرغبة. فكنت أحدثه وأعزيه، وهو بعيد من حديثي وتعزيتي؛ حتى انتهينا إلى الدار فدخلنا وما فيها أحد؛ فنظر يمنة ويسرة، وقلب عينيه ههنا وههنا، وحوقل واسترجع، ثم قال: الآن ماتت الدار أيضًا يا أبا خالد! إن البناء كأنما يحيا بروح المرأة التي تتحرك في داخله؛ وما دام هو الذي يحفظها للرجل، فهو في عين الرجل كالمُطْرَف1 تلبسه فوق ثيابها من فوق جسمها. وانظر كم بين أن ترى عيناك ثوب امرأة في يد الدلال في السوق، وبين أن تراه عيناك يلبسها وتلبسه! ولكنك يا أبا خالد لا تفقه من هذا

_ 1 المطرف: رداء من خز فيه نقوش تلبسه المرأة في دارها، وهو المسمى "الروب".

شيئًا، فأنت رجل آليت لا تقرب النساء ولا يقربنك، ونجوت بنفسك منهن وانقطعت بها لله؛ وكأن كل نساء الأرض قد شاركن في ولادتك فحرُمن عليك! وهذا ما لا أفهمه أنا إلا ألفاظًا، كما لا تفهم أنت ما أجد الساعة إلا ألفاظًا؛ وشتان بين قائل يتكلم من الطبع، وبين سامع يفهم بالتكلف. فقلت له: يا أبا ربيعة، وما يمنعك الآن وقد اطَّرَحت أثقالك وانبتت أسبابك من النساء, أن تعيش خفيف الظهر، وتفرغ للنسك والعبادة، وتجعل قلبك كالسماء انقشع غيمها فسطعت فيها الشمس؛ فإنه يقال: إن المرأة ولو كانت صالحة قانتة, فهي في منزل الرجل العابد مدخل الشيطان إليه، ولو أن هذا العابد كان يسكن في حسناته لا في دار من الطوب والحجارة لكانت امرأته كوَّة يقتحم الشيطان منها. ولقد كان آدم في الجنة، وبينها وبين الأرض سموات وأفلاك، فما منع ذلك أن تتعلق روح الأرض بالشيطان، فيتعلق الشيطان بحواء، وتتعلق هي بآدم؛ ومكر الشيطان فصوَّرها لهما في صيغة مسألة علمية، ومكرت حواء فوضعت فيها جاذبية اللحم والدم، فلم تعد مسألة علم ومعرفة، بل مسألة طبع ولجاجة. فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما. وهل اجتمع الرجل والمرأة من بعدها على الأرض إلا كانا من نَصَب الحياة وهمومها، وشهواتها ومطامعها، ومضارّها ومعايبها, في معنى {بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا} ؟ كلانا يا أبا ربيعة ممن لهم سَيْر بالباطن في هذا الوجود غير السير بالظاهر، وممن لهم حركة بالكفر غير الحركة بالجسم، فقبيحٌ بنا أن نتعلق أدنى متعلَّق بنواميس هذا الكون اللحمي الذي يسمى المرأة، فهو تَدَلٍّ وإسفاف منا. ولعلك تقول: "النسل وتكثير الآدمية" فهذا إنما كُتب على إنسان الجوارح والأعضاء، أما إنسان القلب فله معناه وحكم معناه؛ إذ يعيش بباطنه، فيعيش ظاهره في قوانين هذا الباطن، لا في قوانين ظاهر الناس. وإنه لشر كل ما نقلك إلى طبع أهل الجوارح وشهواتهم، فزين لك لما يزين لهم، وشغلك بما يشغلهم؛ فهذا عندنا -يرحمك الله- باب كأنه من أبواب المُجُون الذي ينقل الرجل إلى طبع الصبي. فاطمس يا أخي على موضعها من قلبك، وألقِ النور على ظلها؛ فالنور في قلب العابد نور التحويل إن شاء، ونور الرؤية إن شاء؛ يرى به المادة كما يريد أن تكون لا كما تكون. وأنت قد كانت فيك امرأة، فحوّلْها صلاة، واعمل بنورك عكس

ما يعمل أهل الجوارح بظلامهم، فقد تكون في أحدهم الصلاة فيحولها امرأة. قال أبو ربيعة: تالله إنه لرأي؛ والوَحْدة بعد الآن أروح لقلبي، وأجمع لهمي؛ وقد خلعني الله مما كنت فيه، وأخذ القبر امرأتي وشهواتي معًا، فسأعيش ما بقي لي فيما بقي مني, وزوال شيء في النفس هو وجود شيء آخر. ولقد انتهيتُ بالمرأة ومعانيها وأيامها إلى القبر، فالبدء الآن من القبر ومعانيه وأيامه. وتواثقا على أن يسيرا معًا في "باطن" الوجود! وأن يعيشا في عمر هو ساعة معدودة اللحظات، وحياة هي فكرة مرسومة مصورة. قال أبو خالد: ورأيتُ أن أبيت عنده وفاء بحق خدمته، ودفعًا للوحشة أن تعاوده فتدخل على نفسه بأفكارها ووساوسها. وكان قد غمرنا تعب يومنا، وأعيا أبو ربيعة، وخذلته القوة؛ فلما صلينا العشاء قلت: يا أبا ربيعة، أحب لك أن تنعَس فتُريح نفسك ليذهب ما بك، فإذا استجممتَ أيقظتُك فقمنا سائر الليل. فما هو إلا أن اضطجع حتى غلبه النعاس, وجلست أفكر في حاله وما كان عليه وما اجتهدت له من الرأي؛ وقلت في نفسي: لعلني أغريته بما لا قبل له به، وأشرت عليه بغير ما كان يحسن بمثله، فأكون قد غششته. وخامرني الشك في حالي أنا أيضًا، وجعلت أقابل بين الرجل متزوجًا عابدًا، وبين الرجل عابدًا لم يتزوج؛ وأنظر في ارتياض أحدهما بنفسه وأهله وعياله، وارتياض الآخر بنفسه وحدها؛ وأخذتُ أذهب وأجيء من فكر إلى فكر، وقد هدأ كل شيء حولي كأن المكان قد نام، فلم ألبث حتى أخذتني عيني فنمت واستثقلت كأنما شُددت شدًّا بحبال من النوم لم يجئ من يقطعها. ورأيت في نومي كأنها القيامة وقد بُعث الناس، وضاق بهم المحشر، وأنا في جملة الخلائق، وكأننا من الضغطة حَبّ مبثوث بين حَجَري الرَّحَى. هذا والموقف يغلي بنا غليان القِدْر بما فيها، وقد اشتد الكرب وجهدَنا العطش، حتى ما منا ذو كبد إلا وكأن الجحيم تتنفس على كبده، فما هو العطش بل هو السُّعَار واللهب يحتدم بهما الخوف ويتأجج. فنحن كذلك إذا ولدان يتخللون الجمع الحاشد، عليهم مناديل من نور، وبأيديهم أباريق من فضة وأكواب من ذهب، يملئون هذه من هذه بسلسال بَرُود عذب، رؤيته عطش مع العطش، حتى ليتلوَّى من رآه من الألم، ويتلعلع كأنما كُوي به على أحشائه.

وجعل الولدان يسقون الواحد بعد الواحد ويتجاوزون من بينهما، وهم كثرة من الناس؛ وكأنما يتخللون الجمع في البحث عن أناس بأعيانهم، ينضَحون غليل أكبادهم بما في تلك الأباريق من رَوْح الجنة ومائها ونسيمها. ومر بي أحدهم، فمددتُ إليه يدي وقلت: "اسقني, فقد يبست واحترقت من العطش! ". قال: "ومن أنت؟ ". قلت: "أبو خالد الأحول الزاهد". قال: "ألك في أطفال المسلمين ولد افترطتَه صغيرًا فاحتسبته عند الله؟ ". قلت: "لا". قال: "ألك ولد كبر في طاعة الله؟ ". قلت: "لا". قال: "ألك ولد نالتك منه دعوة صالحة جزاء حقك عليه في إخراجه إلى الدنيا؟ ". قلت: "لا". قال: "ألك ولد من غير هؤلاء ولكنك تعبت في تقويمه, وقمت بحق الله فيه؟ ". قلت: "يرحمك الله، إني كلما قلت "لا" أحسست "لا" هذه تمر على لساني كالمكواة الحامية". قال: "فنحن لا نسقي إلا آباءنا؛ تعبوا لنا في الدنيا، فاليوم نتعب لهم في الآخرة، وقدموا بين يديهم الطفولة، وإنما قدموا ألسنة طاهرة للدفاع عنهم في هذا الموقف الذي قامت فيه محكمة الحسنة والسيئة. وليس هنا بعد ألسنة الأنبياء أشد طلاقة من ألسنة الأطفال، فما للطفل معنى من معاني آثامكم يحتبس فيه لسانه أو يلجلج به". قال أبو خالد: فجُنَّ جنوني، وجعلتُ أبحث في نفسي عن لفظة "ابن" فكأنما مُسحت الكلمة من حفظي كما مسحت من وجودي؛ وذكرت صلاتي وصيامي وعبادتي، فما خطرتْ في قلبي حتى ضحك الوليد ضحكًا وجدت في معناه بكائي وندمي وخيبتي. وقال: يا ويلك! أما سمعت: "إن من الذنوب ذنوبًا لا تكفرها الصلاة ولا الصيام، ويكفرها الغم بالعيال" أتعرف من أنا يا أبا خالد؟ قلت: من أنت يرحمنا الله بك؟ قال: أنا ابن ذاك الرجل الفقير المُعيل، الذي قال لشيخك إبراهيم بن أدهم

العابد الزاهد: "طوبى لك! فقد تفرغت للعبادة بالعزوبة" فقال له إبراهيم: "لروعة تنالك بسبب العيال أفضل من جميع ما أنا فيه" وقد جاهد أبي جهاد قلبه وعقله وبدنه، وحمل على نفسه من مقاساة الأهل والولد حملها الإنساني العظيم، وفكر لغير نفسه، واغتم لغير نفسه، وعمل لغير نفسه، وآمن وصبر، ووثق بولاية الله حين تزوج فقيرًا، وبضمان الله حين أعقب فقيرًا؛ فهو مجاهد في سبل كثيرة لا في سبيل واحدة كما يجاهد الغزاة؛ هؤلاء يستشهدون مرة واحدة، أما هو فيستشهد كل يوم مرة في همومه بنا، واليوم يرحمه الله بفضل رحمته إيانا في الدنيا. أما بلغك قول ابن المبارك وهو مع إخوانه في الغزو: "أتعلمون عملًا أفضل مما نحن فيه؟ قالوا: ما نعلم ذلك. قال: أنا أعلم. قالوا: فما هو؟ قال: رجل متعفف على فقره، ذو عائلة قد قام من الليل، فنظر إلى صبيانه نيامًا متكشفين، فسترهم وغطاهم بثوبه؛ فعمله أفضل مما نحن فيه". يخلع الأب المسكين ثوبه على صِبْيته ليُدفئهم به ويتلقى بجلده البرد في الليل، إن هذا البرد -يا أبا خالد- تحفظه له الجنة هنا في حر هذا الموقف كأنما مؤتمنة عليه إلى أن تؤديه. وإن ذلك الدفء الذي شمل أولاده يا أبا خالد هو هنا يقاتل جهنم ويدفعها عن هذا الأب المسكين. قال أبو خالد: ويهُمّ الوليد أن يمضي ويدعني، فما أملك نفسي، فأمد يدي إلى الإبريق فأنشطه من يده، فإذا هو يتحول إلى عظم ضخم قد نشب في كفي وما يليها من أسَلَة الذراع1. فغابت فيه أصابعي، فلا أصابع لي ولا كف, وأبى الإبريق أن يسقيني وصار مُثْلَة بي، وتجسدت هذه الجريمة لتشهد علي، فأخذني الهول والفزع، وجاء إبريق من الهواء، فوقع في يد الوليد، فتركني ومضى. وقلت لنفسي: ويحك يا أبا خالد! ما أراك إلا محاسبًا على حسناتك كما يحاسب المذنبون على سيئاتهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله! وبلغتني الصيحة الرهيبة: أين أبو خالد الأحول الزاهد العابد؟ قلت: ها أنا ذا. قيل: طاوس من طواويس الجنة قد حُصَّ2 ذيله فضاع أحسن ما فيه! أين

_ 1 الأسلة: ما يلي الكف من الذراع إلى القسم المستغلظ منها. فالأسلة هي العظمة التي تشد عليها ساعة اليد. 2 حص ذيله: قطع وجذ.

ذيلك من أولادك؟ وأين محاسنك فيهم؟ أخُلقت لك المرأة لتتجنبها، وجعلت نسل أبويك لتتبرأ أنت من النسل؟ جئت من الحياة بأشياء ليس فيها حياة؛ فما صنعت للحياة نفسها إلا أن هربت منها، وانهزمت عن ملاقاتها؛ ثم تأمُلُ جائزة النصر على هزيمة! عملت الفضيلةُ في نفسك ونشأتك، ولكنها عقمت فلم تعمل بك. لك ألف ألف ركعة ومثلها سجدات من النوافل، ولخير منها كلها أن تكون قد خرجت من صلبك أعضاء تركع وتسجد. قتلت رجولتك، ووأدت فيها النسل، ولبثت طوال عمرك ولدًا كبيرًا لم تبلغ رتبة الأب! فلئن أقمت الشريعة، لقد عطلت الحقيقة، ولئنْ ... قال أبو خالد: ووقعتْ غُنَّة النون الثانية في مسمعي من هول ما خفت مما بعدها كالنفخ في الصور؛ فطار نومي وقمت فزعًا مشتت القلب، كمن فتح عينيه بعد غشية، فرأى نفسه في كفن في قبر سُد عليه! وما كدتُ أعي وأنظر حولي وقد برَق الصبح في الدار حتى رأيت أبا ربيعة يتقلب كأنما دحرجته يد، ثم نهض مستطار القلب من فزعه وقال: أهلكتَني يا أبا خالد، أهلكتني والله. قلت: ما بالك يرحمك الله! قال: إني نمت على تلك النية التي عرفت أن أجمع قلبي للعبادة، وأخلص من المرأة والولد، ومن المعاناة لهما في مَرَمَّة المعاش والتلفيق بين رغيف ورغيف، وأن أُعفي نفسي من لأوائهم وضرائهم وبلائهم، لأفرغ إلى الله وأقبل عليه وحده. وسألت الله أن يخير لي في نومي؛ فرأيت كأن أبواب السماء قد فُتحت، وكأن رجالًا ينزلون ويسيرون في الهواء يتبع بعضهم بعضًا، أجنحة وراء أجنحة؛ فكلما نزل واحد نظر إلي, وقال لمن وراءه: هذا هو المشئوم! فيقول الآخر: نعم هو المشئوم! وينظر هذا الآخر إلي ثم يلتفت لمن وراءه ويقول له: هذا هو المشئوم! فيقول الآخر: نعم هو المشئوم! وما زالت "المشئوم، المشئوم" حتى مروا؛ لا يقولون غيرها ولا أسمع غيرها، وأنا في ذلك أخاف أن أسألهم؛ هيبة من الشؤم، ورجاء أن يكون المشئوم

إنسانًا ورائي يُبصرونه ولا أُبصره. ثم مر بي آخرهم، وكان غلامًا فقلت له: يا هذا، من هو المشئوم الذي تومئون إليه؟ قال: أنت! فقلت: ولم ذاك؟ قال: كنا نرفع عملك في أعمال المجاهدين في سبيل الله، ثم ماتت امرأتك وتحزنت على ما فاتك من القيام بحقها، فرفعنا عملك درجة أخرى؛ ثم أُمرنا الليلة أن نضع عملك مع الخالفين الذين فروا وجبنوا! إن سمو الرجل بنفسه عن الزوجة والولد طيران إلى الأعلى, ولكنه طيران على أجنحة الشياطين! طيران بالرجُل إلى فُوَّهة البركان الذي في الأعلى!

بنته الصغيرة

بنته الصغيرة "1": فرغ أبو يحيى مالك بن دينار، زاهد البصرة وعالمها، من كتابة المصحف؛ وكان يكتب المصاحف للناس، ويعيش مما يأخذ من أجرة كتابته؛ تعففًا أن يطعم إلا من كسب يده, ثم خرج من داره وجهه المسجد، فأتاه فصلى بالناس صلاة العصر، وجلسوا ينتظرونه، واستوى هو قائمًا، فركع وسجد ما شاء الله حتى قضى نافلته، ثم انْفَتَلَ من صلاته فقام إلى أُسْطُوانته1 التي يستند إليها، وتحلَّق الناس حوله جموعًا خلف جموع خلف جموع، يذهب فيهم البصر مرة هنا ومرة هنا من كثرتهم وامتدادهم، حتى تغطى بهم المسجد على رحبه. ومد الإمام عينه فيهم ثم أطرق إطراقة طويلة، والناس كأن عليهم الطير مما سكنوا لهيبته، ومما عجبوا لخشوعه؛ ثم رفع الشيخ رأسه وقد تندَّت عيناه، فما نظر إليهم حتى كأنما اطَّلع على أرواحهم فجر رطب من سحر ذلك الندى. وبدر شاب حَدَث فسأله: ما بكاء الشيخ؟ وكان قريبًا يجلس من الإمام في سَمْت بصره2 فتأمله الشيخ طويلًا يقلب فيه الطرْف كالمتعجب، ولبث لا يجيبه كأنما عَقِد لسانه أو أخذته من نفسه حال، فما يثبت شيئًا مما يرى. وازداد الناس عجبًا؛ فما جربوا على الشيخ من قبلها حصرًا ولا عِيًّا، ولا قطعه سؤال قط، ولا تخلف عن جواب؛ وقالوا: إن له لشأنًا، وما بد أن تكون من وراء حُبْسَته شعاب في نفسه تهدر بسيلها وتعتلج؛ فما أسرع ما يلتقي السيل، فيجتمع، فيصوب إلى مجراه، فيتقاذف. وتبسم الإمام وقال: أما إني قد ذكرتُ ذكرى فبكيتُ لها، ورأيت رؤيا فتبسمت لها؛ أما الذكرى، فهل تعلمون أن هذا المسجد الذي يَفْهَق بهذا الحشد

_ 1 كان العلماء والرواة يجلسون إلى أساطين المسجد، وهي أعمدته، كما كان بالأزهر إلى عهد قريب. 2 أي: أمامه في الخط الذي يمتد فيه البصر.

العظيم، وتقع فيه المدينة لكل أذان وتطير, هل تعلمون أنه خلا قَطّ من الناس وقد وجبت الفريضة؟ قالوا: ما نعلمه. قال: فقد كان ذلك لعشرين سنة خلت في موت الحسن1، فقد مات عشية الخميس، وأصبحنا يوم الجمعة ففرغنا من أمره، وحملناه بعد صلاة الجمعة، فتبع أهل البصرة كلهم جنازته واشتغلوا به، فلم تُقَمْ صلاة العصر بهذا المسجد، وما تُرِكَتْ منذ كان الإسلام إلا يومئذ؛ ومثل الحسن لا تموت ساعة موته من عمر من شهدها، فذلك يوم عجيب قد لف نهاره البصرة كلها في كفن أبيض، فما بقيت في نفس رجل ولا امرأة شهوة إلى الدنيا، وفرغ كل إنسان من باطله، كما يفرغ من أيقن أن ليس بينه وبين قبره إلا ساعة؛ وظهر لهم الموت في حقيقة جديدة بالغة الروع لا يراها الأبناء في موت آبائهم وأمهاتهم، ولا الآباء والأمهات في موت من ولدوا، ولا المحب في موت حبيبه، ولا الحميم في موت حميمه؛ فإن الجميع فقدوا الواحد الذي ليس غيره في الجميع؛ وكما يموت العزيز على أهل بيت فيكون الموت واحدًا وتتعدد فيهم معانيه، كذلك كان موت الحسن موتًا بعدد أهل البصرة! ذاك يوم امتد فيه الموت وكبر، وانكمشت فيه الحياة وصغرت، وتحاقرت الدنيا عند أهلها، حتى رجعت بمقدار هذه الحفرة التي يلقى فيها الملوك والصعاليك والأخلاط بين هؤلاء وأولئك، لا يصغر عنها الصغير، ولا يكبر عنها الكبير؛ لا بل دون ذلك، حتى رجعت الدنيا على قدر جِيفة حيوان بالعَرَاء، تنكشف للأبصار عن شَوْهاء نجسة قد أَرَمَّت2 لا تطاق على النظر، ولا على الشم، ولا على اللمس؛ وما تتفجّر إلا عن آفة، وما تتفجر إلا لهوام الأرض. تلك هي الذكرى، وأما الرؤيا فقد طالعتني نفسي من وجه هذا الفتى، فأبصرتُني حين كنت مثله يافعًا مترعرعًا داخلًا في عصر شبابي، فكأنما انتبهت عيني من هذه النفس على فاتك خبيث كان في جناياته في أغلاله في سجنه، ومات طويلًا ثم بُعث! إني مخبركم عني بما لم تحيطوا به، فأرعوه أسماعكم، وأحضروه أفهامكم،

_ 1 هو الحسن البصري الإمام العظيم، وسيأتي وصفه، ولد سنة 15 للهجرة وتوفي سنة 110، وقد توفي مالك بن دينار شيخ هذه القصة في سنة 131، فيكون تاريخ القصة في سنة 130. 2 أرمت: بدأت تتعفن وتبلَى.

واستجمعوا له، فإنه كان غَيْب شيخكم، وأنا محدثكم به كيلا ييأس ضعيف، ولا يقنَط يائس، فإن رحمة الله قريب من المحسنين. لقد كنت في صدر أيامي شرطيًّا، وكنت في آنفة الحداثة من قبلها أتفتّى وأتشطّر، وكنت قويًّا معصوبًا في مثل جِبْلة الجبل من غلظ وشدة، وكنت قاسيًا كأن في أضلاعي جَندلة لا قلبًا، فلا أتذمم ولا أتأثم؛ وكنت مدمنًا على الخمر؛ لأنها روحانية من عَجَز أن تكون فيه روحانية، وكأنها إلهية يزوّرها الشيطان -لعنه الله- فيخلق بها للنفس ما تحب مما تكره، ويثيبها ثواب ساعة ليست في الزمن بل في خيال شاربها. وكأن جهل العقل نفسه في بعض ساعات الحياة، هو -في علم الشيطان وتعليمه- معرفة العقل نفسه في الحياة! فبينا أنا ذات يوم أجول في السوق، والناس يفورون في بيعهم وشرائهم، وأنا أرقب السارق، وأعد للجاني، وأتهيأ للنزاع, إذ رأيت اثنين يتلاحيان، وقد لَبَّب أحدهما الآخر، فأخذت إليهما، فسمعت المظلوم يقول للظالم: لقد سلبتني فرح بُنَيَّاتي، فسيدعون الله عليك فلا تصيب من بعدها خيرًا، فإني ما خرجت إلا اتباعًا لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خرج إلى سوق من أسواق المسلمين، فاشترى شيئًا، فحمله إلى بيته، فخص به الإناث دون الذكور؛ نظر الله إليه". قال الشيخ: وكنت عزبًا لا زوجة لي، ولكن الآدمية انتبهت في، وطمعت في دعوة صالحة من البُنَيَّات المسكينات، إذا أنا فرحتهن؛ ودخلتني لهن رقة شديدة, فأخذتُ للرجل من غريمه حتى رضي، وأضعفت له من ذات يدي لأزيد في فرح بناته, وقلت له وهو ينصرف: عهدٌ يحاسبك الله عليه، ويستوفيه لي منك، أن تجعل بناتك يدعون لي إذا رأيت فرحهن بما تحمل إليهن، وقل لهن: مالك بن دينار. وبتُّ ليلتي أتقلب مفكرًا في قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعانيه الكثيرة، وحثه على إكرام البنات، وأن من أكرم بناته كرُم على الله، وحرصه أن ينشأن كريمات فرحات؛ وحدثني هذا الحديث ليلتي تلك إلى الصبح، وفكرت حينئذ في الزواج، وعلمت أن الناس لا يزوجونني من طيباتهم ما دمت من الخبيثين؛ فلما أصبحت غدوت إلى سوق الجواري، فاشتريت جارية نفيسة، ووقعت مني أحسن موقع، وولدت لي بنتًا فشُغفتُ بها، وظهرتْ لي فيها الإنسانية الكبيرة التي ليست في، فرأيت بُعد ما بيني وبين صورتي الأولى، ورأيتها سماوية لا تملك شيئًا وتملك أباها وأمها، وليس لها من الدنيا إلا شِبَع بطنها وما أيسره، ثم لها بعد ذلك سرور نفسها كاملًا تشُب عليه أكثر مما تشب

على الرضاع؛ فعلمت من ذلك أن الذي تكتنفه رحمة الله يملك بها دنيا نفسه، فما عليه بعد ذلك أن تفوته دنيا غيره؛ وأن الذي يجد طهارة قلبه يجد سرور قلبه وتكون نفسه دائمًا جديدة على الدنيا؛ وأن الذي يحيا بالثقة تحييه الثقة؛ والذي لا يبالي الهم لا يبالي الهم به؛ وأن زينة الدنيا ومتاعها وغرورها وما تجلب من الهم, كل ذلك من صغر العقل في الإيمان حين يكبر العقل في العلم! كانت البنية بدء حياة في بيتي وبدء حياة في نفسي، فلما دبت على الأرض ازددت لها حبًّا، وألفتني وألفتها، فرُزقت روحي منها أطهر صداقة في صديق، تتجدد للقلب كل يوم، بل كل ساعة، ولا تكون إلا لمحض سرور القلب دون مطامعه، فتمده بالحياة نفسها لا بأشياء الحياة، فلا تزيد الأشياء في المحبة ولا تنقص منها، على خلاف ما يكون في الأصدقاء بعضهم من بعض واختلافهم على المضرة والمنفعة. قال الشيخ: وجهدتُ أن أترك الخمر فلم يأت لي ولم أستطعه؛ إذ كنت منهمكًا على شربها، ولكن حب ابنتي وضع في الخمر إثمها الذي وضعته فيها الشريعة، فكرهتها كرهًا شديدًا، وأصبحت كالمكره عليها، ولم تعد فيها نشوتها ولا رِيّها، وكانت الصغيرة في تمزيق أخيلتها أبرع من الشيطان في هذه الأخيلة، وكأنما جرتني يدها جرًّا حتى أبعدتني عن المنزلة الخمرية التي كان الشيطان وضعني فيها، فانتقلت من الاستهتار والمكابرة وعدم المبالاة إلى الندم والتحوب والتأثم، وكنت من بعدها كلما وضعت المسكر، وهممت به دَبَّت ابنتي إلى مجلسي؛ فأنظر إليها وتنتشر عليها نفسي من رقة ورحمة، فأرقُب ما تصنع، فتجيء فتجاذبني الكأس حتى تهرقها على ثوبي، وأراني لا أغضب، إذ كان هذا يَسُرها ويضحكها، فأسرّ لها وأضحك. ودام هذا مني ومنها، فأصبحت في المنزلة بين المنزلتين؛ أشرب مرة وأترك مرارًا، وجعلت أستقيم على ذلك، إذ كانت النشوة بابنتي أكبر من النشوة بالزجاجة، وإذ كنت كلما رجعت إلى نفسي وتدبرت أمري، أستعيذ بالله أن تعقل ابنتي معنى الخمر يومًا, فأكون قد نَجَّستُ أيامها، ثم أتقدم إلى الله وعلي ذنوبها فوق ذنوبي، ويترحم الناس على آبائهم وتلعنني إذ لم أكن لها كالآباء، فأكون قد وُجدتُ في الدنيا مرة واحدة وهلكت مرتين. ومضيت على ذلك وأنا أصلح بها شيئا فشيئا وكلما كبرت كبرت فضليتي، فلما تم لها سنتان، ماتت!

قال الراوي: وسكت الشيخ، فعلقتْ به الأبصار، ووقفت أنفاس الناس على شفاههم، وكأنما ماتت لحظات من الزمن لذكر موت الطفلة، وخامر المجلس مثل السكر بهذه الكأس المذهلة؛ ولكن الطفلة دبت من عالم الغيب كما كانت تصنع، وجذبت الكأس وأهرقتها، فانتبه الناس وصاحوا: ماتت فكان ماذا؟ قال الشيخ: فأكمدني الحزن عليها، ووهن جأشي، ولم يكن لي من قوة الروح والإيمان ما أتأسى به، فضاعف الجهل أحزاني، وجعل مصيبتي مصائب. والإيمان وحده هو أكبر علوم الحياة، يبصّرك إن عميت في الحادثة، ويهديك إن ضللت عن السكينة، ويجعلك صديق نفسك تكون وإياها على المصيبة، لا عدوها تكون المصيبة وإياها عليك، وإذا أخرجت الليالي من الأحزان والهموم عسكر ظلامها لقتال نفس أو محاصرتها، فما يدفع المال ولا ترد القوة ولا يمنع السلطان، ولا يكون شيء حينئذ أضعف من قوة القوي، ولا أضيع من حيلة المحتال، ولا أفقر من غنى الغني، ولا أجهل من علم العالم، ويبقى الجهد والحيلة والقوة والعلم والغنى والسلطان للإيمان وحده؛ فهو يكسر الحادث ويقلل من شأنه، ويؤيد النفس ويضاعف من قوتها، ويرد قدر الله إلى حكمة الله؛ فلا يلبث ما جاء أن يرجع، وتعود النفس من الرضا بالقدر والإيمان به، كأنما تشهد ما يقع أمامها لا ما يقع فيها. قال الشيخ: ورجعتُ بجهلي إلى شر مما كنت فيه، وكانت أحزاني أفراح الشيطان؛ وأراد -أخزاه الله- أن يفتَنَّ في أساليب فرحه، فلما كانت ليلة النصف من شعبان -وكانت ليلة جمعة، وكانت كأول نور الفجر من أنوار رمضان- سوَّل لي الشيطان أن أسكر سكْرة ما مثلها؛ فبت كالميت مما ثمِلت، وقذفتني أحلام إلى أحلام, ثم رأيت القيامة والحشر, وقد ولدت القبور من فيها, وسيق الناس وأنا معهم، وليس وراء ما بي من الكرب غاية؛ وسمعت خلفي زفيرًا كفحيح الأفعى، فالتفتُّ فإذا بتنين عظيم ما يكون أعظم منه؛ طويل كالنخلة السَّحُوق، أسود أزرق، يرسل الموت من عينيه الحمراوين كالدم، وفي فمه مثل الرماح من أنيابه، ولجوفه حر شديد لو زفر به على الأرض ما نبتت في الأرض خضراء، وقد فتح فاه ونفخ جوفه وجاء مسرعًا يريد أن يلتقمني، فمررت بين يديه هاربًا فزعًا؛ فإذا أنا بشيخ هرم يكاد يموت ضعفًا، فعذت به وقلت: أجرني وأغثني. فقال: أنا ضعيف كما ترى، وما أقدر على هذا الجبار، ولكن مر وأسرع، فلعل الله أن يسبب لك أسبابًا بالنجاة. فوليت هاربًا وأشرفت على النار وهي الهول الأكبر، فرجعت أشتد هربًا والتنين على أثري؛ ولقيت ذلك الشيخ مرة أخرى، فاستجرت به فبكى من الرحمة

لي وقال: أنا ضعيف كما ترى، وما أقدر على هذا الجبار، ولكن اهرب إلى هذا الجبل، فلعل الله يحدث أمرًا. فنظرتُ فإذا جبل كالدار العظيمة، له كُوًى عليها سُتُور، وهو يبرق كشعاع الجوهر؛ فأسرعت إليه والتنين من ورائي، فلما شارفت الجبل فُتحت الكوى, ورُفعت الستور، وأشرفت علي وجوه أطفال كالأقمار، وقرب التنين مني، وصرت في هواء جوفه وهو يتضرم علي، ولم يبق إلا أن يأخذني؛ فتصايح الأطفال جميعًا: يا فاطمة! يا فاطمة! قال الشيخ: فإذا ابنتي التي ماتت قد أشرفت علي، فلما رأت ما أنا فيه صاحت وبكت، ثم وثبت كرمية السهم، فجاءت بين يدي، ومدت إلي شمالها فتعلقت بها، ومدت يمينها إلى التنين فولى هاربًا، وأجلستني وأنا كالميت من الخوف والفزع، وقعدتْ في حجري كما كانت تصنع في الحياة، وضربت بيدها إلى لحيتي وقالت: يا أبت ... {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16] . فبكيت وقلت: يا بنية، أخبريني عن هذا التنين الذي أراد هلاكي. قالت: ذاك عملك السوء الخبيث، أنت قوَّيته حتى بلغ هذا الهول الهائل، والأعمال ترجع أجسامًا كما رأيت. قلت: فذاكالشيخ الضعيف الذي استجرت به ولم يجرني؟ قالت: يا أبت، ذاك عملك الصالح، أنت أضعفته فضعُف حتى لم يكن له طاقة أن يغيثك من عملك السيئ؛ ولو لم أكن لك هنا، ولو لم تكن اتبعت قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيمن فَرّح بناته المسكينات الضعيفات؛ لما كانت لك هنا شمال تتعلق بها، ويمين تطرد عنك. قال الشيخ: وانتبهت من نومي فزعًا ألعن ما أنا فيه، ولا أراني أستقر، كأني طريدة عملي السيئ؛ كلما هربت منه هربت به؛ وأين المهرب من الندم الذي كان نائمًا في القلب واستيقظ للقلب؟ وأمَّلت في رحمة الله أن أربح من رأس مال خاسر، وقلت في نفسي: إن يومًا باقيًا من العمر هو للمؤمن عمر ما ينبغي أن يستهان به؛ وصححت النية على التوبة, لأرجع الشباب إلى ذلك الشيخ الضعيف، وأسمّن عظامه، حتى إذا استجرت به أجارني ولم يقل: "أنا ضعيف كما ترى! ". وسألت فدُللت على أبي سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري، سيد البقية من التابعين؛ وقيل لي: إنه جمع كل علم وفن إلى الزهد والورع

والعبادة، وإن لسانه السحر، وإن شخصه المغناطيس، وإنه ينطق بالحكمة كأن في صدره إنجيلًا لم يُنزَّل، وإن أمه كانت مولاة لأم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانت ربما غابت أمه في حاجة فيبكي، "فترضعه أم سلمة تعلله بثديها فيدر غلته، فكانت بينه وبين بركة النبوة صلة". وغدوتُ إلى المسجد والحسن في حلقته يقص ويتكلم، فجلست حيث انتهى بي المجلس، وما كان غير بعيد حتى عرتني نَفْضة كنفضة الحمى، إذ قرأ الشيخ هذه الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16] ؛ فلو لفظتني الأرض من بطنها، وانشق عني القبر بعد الموت ما رأيت الدنيا أعجب مما طالعتني في تلك الساعة؛ وأخذ الشيخ يفسر الآية، فصنع بي كلامه ما لو بُعث نبي من أجلي خاصة لما صنع أكثر منه. وكلام الحسن غير كلام الناس، وغير كلام العلماء؛ فإنه يتكلم من قلبه ومن روحه ومن وجهه ولسانه، وناهيكم من رجل خاشع متصدع من خشية الله، لم يكن يرى مقبلًا إلا وكأنه أسير أمروا بضرب عنقه، وإذا ذُكرت النار فكأنها لم تخلق إلا له وحده؛ رجل كان في الحياة لتتكلم الحياة بلسانه أصدق كلماتها. فصاح صائح: يا أبا يحيى، التفسير! وصاح المؤذن: الله أكبر, فقطع الشيخ وقال: التفسير إن شاء الله في المجلس الآتي.

بنته الصغيرة

بنته الصغيرة "2": ... وجاء من الغد أبو يحيى مالك بن دينار إلى المسجد، فصلى بالناس، ثم تحول إلى مجلس درسه وتعكفوا حوله؛ وكانوا إلى بقية خبره في لهفة كأن لها عمرًا طويلًا في قلوبهم، لا ظمأ ليلة واحدة. وقال منهم قائل: أيها الشيخ، جعلت فداك، ما كان تأويل الحسن لتلك الآية من كلام الله تعالى؟ وكيف رجع الكلام في نفسك مرجع الفكر تتبعه، وأصبح الفكر عندك عملًا تحذو عليه، واتصل هذا العمل فكان ما أنت في ورعك و ... ؟ فقطع الإمام عليه وقال: هوِّن عليك يا هذا؛ إن شيخك لأهون من أن تذهب في وصفه يمينًا أو شمالًا، وقد روى لنا الحسن يومًا ذلك الخبر الوارد فيمن يُعذب في النار ألف عام من أعوام القيامة، ثم يدركه عفو الله فيخرج منها، فبكى الحسن وقال: "يا ليتني كنت ذلك الرجل! " وهو الحسن يا بني، هو الحسن....! فضج الناس وصاح منهم صائحون: يا أبا يحيى قتلتنا يأسًا. وقال الأول: إذا كان هذا فأوشك أن يعمنا اليأس والقنوط، فلا ينفعنا عمل، ولا نأتي عملًا ينفع. قال الشيخ: هونوا عليكم، فإن للمؤمن ظنين: ظنا بنفسه، وظنا بربه؛ فأما ظنه بالنفس فينبغي أن ينزل بها دون جَمَحَاتها ولا يفتأ ينزل؛ فإذا رأى لنفسه أنها لم تعمل شيئًا أوجب عليها أن تعمل، فلا يزال دائمًا يدفعها؛ وكلما أكثرت من الخير قال لها: أكثري. وكلما أقلت من الشر قال لها: أقلي. ولا يزال هذا دأبه ما بقي؛ وأما الظن بالله فينبغي أن يعلو به فوق الفترات والعلل والآثام، ولا يزال يعلو؛ فإن الله عند ظن عبده به، إن خيرًا فله وإن شرًّا فله. ولقد روينا هذا الخبر: "كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعًا وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُل على راهب فأتاه، فقال: إنه قتل تسعًا وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ قال: لا! فقتله فكمل به مائة! ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال له: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ قال: نعم؛ ومن يحول بينك وبين

التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا, فإن بها أناسًا يعبدون الله عز وجل، فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء. فانطلق، حتى إذا نصف الطريق أتاه ملك الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب؛ فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط. فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه حكمًا بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيهما كان أدنى فهو له. فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة! ". قال الشيخ: فهذا رجل لما مشى بقلبه إلى الله حسبت له الخطوة الواحدة، بل الشبر الواحد؛ ولو أنه طوف الدنيا بقدميه ولم يكن له ذلك القلب، لكان كالعظام المحمولة في نعش؛ قبرها في المشرق هو قبرها في المغرب، وليس لها من الأرض ولا للأرض منها إلا معنى واحد لا يتغير؛ هو أنه بجملته ميت، وأنها بجملتها حفرة. والإنسان عند الناس بهيئة وجهه وحليته التي تبدو عليه، ولكنه عند الله بهيئة قلبه وظنه الذي يظن به؛ وما هذا الجسم من القلب إلا كقشرة البيضة1 مما تحتها. فيا لها سخرية أن تزعم القشرة لنفسها أن بها هي الاعتبار عند الناس لا بما فيها، إذ كان ما تحويه لا يكون إلا فيها هي؛ ومن ثم تبعد في حماقتها فتسأل: لماذا يرميني الناس ولا يأكلونني؟ إن هذه الأخلاق الفاضلة في هذا الإنسان لا تجد تمام معناها إلا في حالة بعينها من أحوال القلب، وهي حالة خشوعه على وصفها الذي شرحته الآية الكريمة: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16] . فالأخلاق الفاضلة محدودة بالله والحق معًا، وهي كلها في خشوع القلب لهذين؛ فإن من القلب مخارج الحياة النفسية كلها. قال الشيخ: وأنا منذ حفظتُ عن الحسن تأويل هذه الآية، واستننت بها، مضيت أعيش من الدنيا في تاريخه قلبي لا في تاريخ الدنيا، وأدركت من يومئذ أن ليس حفظ القرآن حفظه في العقل، بل حفظه في العمل به؛ فإن أنت أثبت الآية منه، وكنت تعمل بغير معناها، وتعيش في غير فضيلتها، فهذا -ويحك- نسيانها

_ 1 قشرة البيضة العليا اليابسة تسمى القيض بفتح القاف وسكون الياء، والقشرة الداخلة الملتزقة بالبياض تسمى الغرقي بكسر الغين والقاف.

لا حفظها. وقد كان قومنا الأولون بمعانيه كالشجرة الخضراء النامية؛ فيها ورقها الأخضر وزهرها، وعلى ظاهرها حياة باطنها، فلما ثبت الناس على الشكل وحده، ولم يبالوا القلب وأحواله، أصبحوا كالشجرة اليابسة، عليها ورقها الجافّ، ليس في بقائه ولا سقوطه طائل. ما أصبحت ولا أمسيت منذ حفظت تفسير الآية إلا في حياة منها، وهذه الآية هي التي دلتني بمعانيها أن ليست الحياة الأرضية شيئًا إلا ثورة الحي على ظلم نفسه، يستكف عنها أكثر مما يستجر لها، والناس من شقائهم على العكس، يستجرون أكثر مما يستكفون، وإنما السعيد من وجد كلمات روحانية إلهية يعش قلبه فيهن، فذاك لا يعمل أعماله كما يأتي ويتفق، بل يحذو على أصل ثابت في نفسه، ويختار فيما يعمل أحسن ما يعمل، ومن ثم لا يكون جهاده مراغمة أو خضوعًا في سيل الوجود كالحيوان، بل في سبيل صحة وجوده؛ ولا يكون غرضه أن يلابس الحياة كما تأخذه هي وتدعه، بل أن يحيا في شرف الحياة على ما يأخذها هو ويدعها. إن الشقاء في هذه الدنيا إنما يجره على الإنسان أن يعمل في دفع الأحزان عن نفسه بمقارفته الشهوات، وبإحساسه غرور القلب؛ وبهذا يُبعد الأحزان عن نفسه ليجلبها على نفسه في صور أخرى! قال الشيخ: وكان مما حفظته من تفسير الحسن قوله: إن كل كلمة في الآية تكاد تكون آية، وليست الكلمة في القرآن كما تكون في غيره، بل السمو فيها على الكلام، أنها تحمل معنى، وتومئ إلى معنى، وتستتبع معنى؛ وهذا ما ليس في الطاقة البشرية، وهو الدليل على أنه {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1] 1. يقول الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16] .

_ 1 طريقتنا في اكتناه إعجاز القرآن، أن الكلمة الواحدة من كلماته لها جهات عدة؛ كما ترى فيما نشرحه من تفسير هذه الآية، وفيما جئنا به من تفسير آيات سبقت في المقالات الأخرى؛ فالبحث في فهم القرآن يجب أن يكون في اللفظة، ووجه اختيارها، وسياق تركيبها، وما تدل عليه في كل ذلك، وما يدل كل ذلك بها. وقد بسطنا هذا في كتابنا: إعجاز القرآن.

{أَلَمْ يَأْنِ} [الحديد: 16] هذه الكلمة حث، وإطماع، وجدال، وحجة؛ وهي في الآية تصرح أن خشوع القلب الذي تلك صفته هو كمال للإيمان، وأن وقت هذا الخشوع هو كمال العمر، وكيف يعرف المؤمن أنه "سيأنى" له أن يعيش ساعة أو ما دونها؟ إذن فالكلمة صارخة تقول: الآن الآن قبل ألا يكون آن. أي: البدار البدار ما دمت في نفَس من العمر؛ فإن لحظة بعد "الآن" لا يضمنها الحي. وإذا فني وقت الإنسان انتهى زمن عمله فبقي الأبد كله على ما هو؛ ومعنى هذا أن الأبد للمؤمن الذي يدرك الحقيقة، وإن هو إلا اللحظة الراهنة من عمره التي هي "الآن". فانظر -ويحك- وقد جُعل الأبد في يدك؛ انظر كيف تصنع به؟ تلك هي حكمة اختيار اللفظة من معنى "الآن" دون غيره، على كثرة المعاني. ثم قال: {لِلَّذِينَ آَمَنُوا} [الحديد: 16] وهذا كالنص على أن غير هؤلاء لا تخشع قلوبهم لذكر الله ولا للحق، فلا تقوم بهم الفضيلة، ولا تستقيم بهم الشريعة، وعالمهم وجاهلم سواء؛ لا يخشعان إلا للمادة؛ وكأن إنسانهم إنسان تُرابيّ، لا يزال يضطرب على مكر الليل والنهار بين طرفين من الحيوان: عيشه وموته؛ وما تقسو الحياة قسوتها على الناس إلا بهم، وما ترقّ رقتها إلا بالمؤمنين. وجعل الخشوع للقلوب خاصة، إذ كان خشوع القلب غير خشوع الجسم، فهذا الأخير لا يكون خشوعًا، بل ذلًّا، أو ضَعَة، أو رياء أو نفاقًا، أو "ما كان" أما خشوع القلب فلن يكون إلا خالصًا مخلصًا محض الإرادة. واشترط "القلب" كأنه يقول: إنما القلب أساس المؤمن، وإن المؤمن ينبع من قلبه لا من غيره، متى كان هذا القلب خاشعًا لله وللحق. فإن لم يكن قلبه على تلك الحال، نبع منه الفاسق والظالم الطاغية وكل ذي شر. ما أشبه القلب تتفرع منه معاني الخُلُق، بالحبة تنسرح منها الشجرة؛ فخذ نفسك من قلبك كما شئت؛ حلوًا من حلو، ومرًّا من مر. وخشوع القلب لله وللحق، معناه السموّ فوق حب الذات، وفوق الأَثَرة والمطامع الفاسدة؛ وهذا يضع للمؤمن قاعدة الحياة الصحيحة، ويجعلها في قانونين لا قانون واحد؛ ومتى خشع القلب لله وللحق، عظمت فيه الصغائر من قوة إحساسه بها، فيراها كبيرة وإن عمي الناس عنها، ويراها وهي بعيدة منه بمثل عين العُقَاب, يكون في لوح الجو ولا يغيب عن عينه ما في الثرى. وقد تخشع القلوب لبعض الأهواء خشوعًا هو شر من الطغيان والقسوة؛

فتقيد خشوع القلب "بذكر الله" هو في نفسه نفي لعبادة الهوى، وعبادة الذات الإنسانية في شهواتها. وما الشهوة عند المخلوق الضعيف إلا إله ساعتها, فيا ما أحكم وأعجب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يُشرَب الخمر حين يشربها وهو مؤمن". جعل نزع الإيمان موقوتًا "بالحين" الذي تقترف فيه المعصية؛ إذ لم يكن الله عند هذا الشقي هو إله ذلك "الحين". والخشوع لما "نزل من الحق" هو في معناه نفي آخر للكبرياء الإنسانية التي تفسد على المرء كل حقيقة، وتخرج به من كل قانون؛ إذ تجعل الحقائق العامة محدودة بالإنسان وشهواته لا بحدودها هي من الحقوق والفضائل. ويخرج من هذا وذلك تقرير الإرادة الإنسانية، وإلزامها الخير والحق دون غيرهما، وقهرها للذات وشهواتها، وجعلها الكبرياء الإنسانية كبرياء على الدنايا والخسائس، لا على الحقوق والفضائل؛ وإذا تقرر كل ذلك انتهى بطبيعته إلى إقرار السكينة في النفس، ومحو الفوضى منها, وجعل نظامها في إحساس القلب وحده؛ فيحيا القلب في المؤمن حياة المعنى السامي، ويكون نبضه علامة الحياة في ذاتها، وخشوعه لله وللحق علامة الحياة في كمالها. وقال: {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16] كأنه يقول: إن هذا الحق لا يكون بطبيعته ولا بطبيعة الإنسان أرضيا، فإذا هو ارتفع من الأرض وقرره الناس بعضهم على بعض، لم يجاوز في ارتفاعه رأس الإنسان، وأفسدته العقول؛ إذ كان الإنسان ظالمًا متمردًا بالطبيعة، لا تحكمه من أول تاريخ إلا السماء ومعانيها، وما كان شبيهًا بذلك مما يجيئه من أعلى, أي: بالسلطان والقوة؛ فيكون حقًّا "نازلًا" متدفعًا كما يتصوب الثقل من عال ليس بينه وبين أن ينفذ شيء. والخشوع لما نزل من الحق ينفي خشوعًا آخر هو الذي أفسد ذات البين من الناس، وهو الخشوع لما قام من المنفعة وانصراف القلب إليها بإيمان الطمع لا الحق. وبحمل الآية على ذلك الوجه يتحقق العدل والنَّصَفَة بين الناس؛ فيكون العدل في كل مؤمن شعورًا قلبيًّا، جاريًا في الطبيعة لا متكلفًا من العقل؛ وبهذا وحده يكون للإنسان إرادة ثابتة عن الحق في كل طريق، لا إرادة لكل طريق، وتستمر هذه الإرادة متسقة في نظامها مع إرادة الله، لا نافرة منها ولا متمردة عليها؛ وهذا ذلك يثبت القلب مهما اختلفت عليه أحوال الدنيا، فلا يكون من

إيمانه إلا سموه وقوته وثباته، وينزل العمر عنده منزلة اللحظة الواحدة، وما أيسر الصبر على لحظة! وما أهون شر "الآن" إن كان الخير فيما بعده. ألم يأن؛ ألم يأن؛ ألم يأن. قال الشيخ: وكان الحسن في معانيه الفاضلة هو هذه الآية بعينها؛ فما كانت حياته إلا إسلامية كهذا الكلام الأبيض المشرق الذي سمعته منه؛ شعاره أبدًا: "الآن قبل ألا يكون آن" وإمامه: "خذ نفسك من قلبك" وطريقته: "شرف الحياة لا الحياة نفسها". وكان يرى هذه الحياة كوقْعَة الطائر؛ هي جناحين مستوْفِزين أبدًا لعمل آخر هو الأقوى والأشد، فلا ينزلان بطائرهما على شيء إلا مطويين على قدرة الارتفاع به، ولا يكونان أبدًا إلا هَفْهافين خفيفين على الطيران؛ إذ كانا في حكم الجو لا في حكم الأرض. وآلة الوقوع والطيران بالإنسان شهواته ورغباته؛ فإن حطته شهوة لا ترفعه، فقد أوبقته وأهلكته وقذفت به ليؤخذ. لقد روينا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس"، وهذا ضرب من خشوع القلب المؤمن فيما يحل له: يدع أشياء كثيرة لا بأس عليه فيها لو أتاها؛ ليقوى على أن يدع ما فيه بأس، فإن الذي يترك ما هو له يكون أقوى على ترك ما ليس له. والنفس لا بد راجعة يومًا إلى الآخرة، وتاركة أداتها؛ فقِوام نظامها في الحياة الصحيحة أن تكون كل يوم كأنها ذهبت إلى الآخرة وجاءت. وتلك هي الحكمة فيما فرضته الشريعة الإسلامية من عبادة راتبة تكون جزءًا من عمل الحياة في يومها وليلتها. فإذا لم تكن النفس في حياتها كأنها دائمًا تذهب إلى مصيرها وترجع منه، طمسها الجسم وحبسها في إحدى الجهتين، فلم يبق لها فيه إلا أثر ضئيل لا يتجاوز النصح، كاعتراض المقتول على قاتله؛ يحاول أن يرد السيف بكلمة! وبذلك يتضاعف الجسم في قوته، ويشتد في صَوْلته، ويتصرف في شهواته، كأن له بطنين يجوعان معًا, فتستهلك شهوات المرء دينه, وتقذف به يمينًا وشمالًا، على قصد وعلى غير قصد، وتمضي به كما شاءت في مَدْرجة, مَدْرجة من الشر. ومثل هذا المسرف على نفسه لا يكون تمييزه في الدين، ولا إحساسه

بالخير، إلا كذلك السِّكِّير الذي زعموا أنه أراد التوبة، وكانت له جَرَّتان من الخمر، فلما اتعظ وبلغ في النظر إلى نفسه وحظ إيمانه، وأراد أن يطيع الله ويتوب, نظر إلى الجرتين ثم قال: أتوب عن الشرب من هذه حتى تفرغ هذه! قال الشيخ: ثم إني تبت على يد الحسن، وأخلصت في التوبة وصححتها، وعلمت من فعله وقوله أن حقيقة الدين هي كبرياء النفس على شرها وظلمها وشهواتها، وأن هذه الكبرياء القاتلة للإثم، هي في النفس أخت الشجاعة القاتلة للعدو الباغي: يفخر البطل الشجاع بمبلغه من هذه، ويفخر الرجل المؤمن بمبلغه من تلك؛ وأن خشوع القلب هو في معناه حقيقة هذه الكبرياء بعينها. وحدثتُ الحسن يومًا حديث رؤياي1، وما شُبه لي من عملي السيئ وعملي الصالح، فاستدمعت عيناه، وقال: إن البنت الطاهرة هي جهاد أبيها وأمها في هذه الدنيا، كالجهاد في سبيل الله، وإنها فوز لهما في معركة من الحياة، يكونان هما والصبر والإيمان في ناحية منها قَبِيلًا، ويكون الشيطان والهم والحزن في الجهة المناوحة قبيلًا آخر. إن البنت هي أم ودار، وأبواها فيما يكابدان من إحسان تربيتها وتأديبها وحياطتها والصبر عليها واليقظة لها, كأنما يحملان الأحجار على ظهريهما حجرًا حجرًا؛ ليبتنيا تلك الدار في يوم يوم إلى عشرين سنة أو أكثر، ما صحبته وما بقيت في بيته. فليس ينبغي أن ينظر الأب إلى بنته إلا على أنها بنته, ثم أم أولادها، ثم أم أحفاده؛ فهي بذلك أكبر من نفسها، وحقها عليه أكبر من الحق، فيه حرمتها وحرمة الإنسانية معًا؛ والأب في ذلك يقرض الله إحسانًا وحنانًا ورحمة، فحق على الله أن يوفيه من مثلها، وأن يضعف له. والبنت ترى نفسها في بيت أهلها ضعيفة كالمنقطعة وكالعالة، وليس لها إلا الله ورحمة أبويها؛ فإن رحماها, وأكرماها فوق الرحمة، وسَرَّاها فوق الكرامة، وقاما بحق تأديبها وتعليمها وتفقيهها في الدين, وحفظا نفسها طاهرة كريمة مسرورة مؤدبة؛ فقد وضعا بين يدي الله عملًا كاملًا من أعمالها الصالحة، كما وضعاه بين

_ 1 ذكرت الرؤيا في القسم الأول من هذه المقالة.

يدي الإنسانية. فإذا صارا إلى الله كان حقًّا لهما أن يجدا في الآخرة يمينًا وشمالًا يذهبان بينهما إلى عفو الله وكرمه، وكما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان له ابنة فأدبها فأحسن تأديبها، وغذّاها فأحسن غذاءها، وأسبغ عليها من النعمة التي أسبغ الله عليه؛ كانت له ميمنة وميسرة من النار إلى الجنة". فهذه ثلاث لا بد منها معًا، ولا تجزئ واحدة عن واحدة في ثواب البنت: تربية عقلها تربية إحسان، وتربية جسمها تربية إحسان وإلطاف، وتربية روحها تربية إكرام وإلطاف وإحسان. قال الشيخ: والله أرحم أن تضيع عنده الرحمة؛ والله أكرم أن يضيع الإحسان عنده، والله أكبر ... وهنا صاح المؤذن: الله أكبر. فتبسم الشيخ وقام إلى الصلاة.

الأجنبية

الأجنبية *: أحبها وأحبته، حتى ذهب بها في الحب مذهبًا قالت له فيه: "لو جاءني قلبي في صورة بشرية لأراه كما أحسه، لما اختار غير صورتك أنت في رقتك وعطفك وحنانك" وحتى ذهبت به في الحب مذهبًا قال لها فيه: "إن الجنة لا تكون أبدع فنًّا ولا أحسن جمالًا، ولا أكثر إمتاعًا -لو خُلقت امرأة يهواها رجل- إلا أن تكون هي أنتِ! " فقالت له: "ويكون هو أنت! ". وتدلَّهت فيه، حتى كأنما خَلَبَها عقلها ووضع لها عقلًا من هواه؛ فكانت تقول له فيما تبثه من ذات نفسها: "إن حب المرأة هو ظهور إرادتها متبرئة من أنها إرادة، مقرة أنها مع الحبيب طاعة مع أمر، مذعنة أنها قد سلمت كبرياءها لهذا الحبيب؛ لتراه في قوته ذا كبرياءين". وافتتن بها حتى أخذت منه كل مأخذ، فملأت نفسه بأشياء، وملأت عينه من أشياء، فكان يقول لها في نجواه: "إني أرى الزمن قد انتسخ مما بيني وبينك، فإنما نحن بالحب في زمن من نفسينا العاشقتين، لا يسمى الوقت ولكن يسمى السرور؛ وإنما نعيش في أيام قلبية، لا تدل على أوقاتها الساعة بدقائقها وثوانيها، ولكن السعادة بحقائقها ولَذَّاتها". وتحابَّا ذلك الحب الفني العجيب، الذي يكون ممتلئًا من الروحين يكاد يفيض وينسكب، وهو مع ذلك لا يبرح يطلب الزيادة، ليتخيل من لذتها ما يتخيل السكير في نشوته إذا طفحت الكأس، فيرى بعينيه أنها ستتسع لأكثر ما امتلأت به، فيكون له بالكأس وزيادتها سكر الخمر وسكر الوهم. وتحابا ذلك الحب الفَوَّار في الدم، كأن فيه من دورته طبيعة الفراق والتلاقي بغير تلاق ولا فراق؛ فيكونان معًا في مجلسهما الغزلي، جنبه إلى جنبها وفاها إلى فيه1

_ * انظر "الرافعي العاشق" من كتاب "حياة الرافعي". 1 تأويل هذا في باب "الحال" عند ظرفاء النحويين: متلاصقين متعانقين.

وكأنما هربت ثم أدركها، وكأنما فرت ثم أمسكها. وبين القبلة والقبلة هجران وصلح، وبين اللفتة واللفتة غضب ورضى. وهذا ضرب من الحب يكون في بعض الطبائع الشاذة المسرفة، التي أفرطت عليها الحياة إفراطها فيلف الحيوانية بالإنسانية، ويجعل الرجل والمرأة كبعض الأحماض الكيماوية مع بعضها؛ لا تلتقي إلا لتتمازج، ولا تتمازج إلا لتتحد ولا تتحد إلا ليبتلع وجود هذا وجود ذاك. وضرب الدهر من ضرباته في أحداث وأحداث؛ فأبغضته وأبغضها، وفسدت ذات بَيْنهما، وأدبر منها ما كان مقبلًا؛ فوثب كلاهما من وجود الآخر وثبة فزع على وجهه, أما هو فسَخِطها لعيوب نفسها، وأما هي ... وأما هي فتكرهته لمحاسن غيره! وانسربت أيام ذلك الحب في مساريها تحت الزمن العميق الذي طوى ولا يزال يطوي ولا يبرح بعد ذلك يطوي؛ كما يغور الماء في طباق الأرض. فأصبح الرجل المسكين وقد نزلت تلك الأيام من نفسه منزلة أقارب وأصدقاء وأحباء ماتوا بعضهم وراء بعض، وتركوه ولكنهم لم يبرحوا فكره، فكانوا له مادة حسرة ولهفة. أما هي ... أما هي فانشق الزمن في فكرها برَجَّة زلزلة، وابتلع تلك الأيام ثم التأم! فحدثنا "الدكتور محمد"* رئيس جماعة الطلبة المصريين في مدينة ... بفرنسا، قال: "وانتهى إلي أن صاحبنا هذا جاء إلى المدينة وأنه قادم من مصر، فتخالجني الشوق إليه، ونزعت إلى لقائه نفسي، وما بيننا إلا معرفتي أنه مصري قدم من مصر؛ وخيل إلي في تلك الساعة مما اهتاجني من الحنين إلى بلادي العزيزة، أن ليس بيني وبين مصر إلا شارعان أقطعهما في دقائق؛ فخففت إليه من أقرب الطرق إلى مثواه، كما يصنع الطير إذا ترامى إلى عشه فابتدره من قُطْر الجو. قال: وأصبتُه واجمًا يعلوه الحزن، فتعرفت إليه، فما أسرع ما ملأ من نفسي وما ملأت من نفسه. وكما يمّحي الزمان بين الحبيبين إذا التقيا بعد فرقة, يتلاشى المكان بين أهل الوطن الواحد إذا تلاقوا في الغربة. فدابت المدينة الكبيرة التي

_ * هو ولده الدكتور محمد الرافعي، وكان يدرس وقتئذ في جامعة ليون، وقد أنشأ من أجله هذه القصة لتكون رسالة إليه برأيه في موضوع بخصوصه.

نحن فيها، كأن لم تكن شيئًا؛ وتجلى سحر مصر في أقوى سَطْوته وأشدها فأخذَنا كلينا، فما استشعرنا ساعتئذ إلا أن أوروبا العظيمة كأنما كانت موسومة على ورقة، فطويناها وأحللنا مصر في محلها. وطغى علينا نازع الطرب طغيانًا شديدًا، فأرسلتُ من يجمع الإخوان المصريين، واخترت لذلك صديقًا شاعر الفطرة، فنزا به الطرب، فكان يدعوهم وكأنه يؤذن فيهم لإقامة الصلاة. وجاءوا يهرولون هرولة الحجيج، فلو نطقت الأرض الفرنسية التي مشوا عليها تلك المِشْية لقالت: هذه وطأة أسود تتخيل خيلاءها من بغي النشاط والقوة. ألا ما أعظمك يا مصر، وما أعظم تعنتك في هذا السحر الفاتن! أينبغي أن يغترب كل أهلك حتى يدركوا معنى ذلك الحديث النبوي العظيم: "مصر كنانة الله في أرضه" فيعرفوا أنكِ من عزتك معلقة في هذا الكون تعليق الكنانة في دار البطل الأروع؟ قال "الدكتور محمد": واجتمعنا في الدار التي أنزل فيها، فراع ذلك صاحبة مثواي1. فقلت لها: إن ههنا ليلة مصرية ستحتل ليلتكم هذه في مدينتكم هذه، فلا تجزعوا. ثم دعوتها إلى مجلسنا لتشهد كيف تستعلن الروح المصرية الاجتماعية برقتها وظرفها وحماستها، وكيف تفسر هذه الروح المصرية كل جميل من الأشياء الجميلة بشوق من أشواقها الحنانة، وكيف تكون هذه الروح في جو موسيقيّتها الطبيعية حتى تناجي أحبابها، فيجيء حديثها بطبيعته كأنه ديباجة شاعر في صفائها وحلاوتها ورنين ألفاظها؟ وقالت السيدة الظريفة: يا لها سعادة! سأتخذ زينتي، وأصلح من شأني، وأكون بعد خمس دقائق في مصر! قال الدكتور: وأخذنا في شأننا، وكان معنا طالب حسن الصوت، فقام إلى البيانة2 وغنى مقطوعة "طقطوقة" مصرية من هذه المقاطيع التي تطقطق فيها النفس، فجعل يمطل صوته بآه وآه ودار اللحن دورة تأوهت فيها الكلمات كلها. ثم اعتور البيانة طالب آخر فما شذ عن هذه السنة، وكان بعد الأول كالنائحة

_ 1 صاحبة المثوى هي ربة البيت الذي ينزل فيه الضيف ومن كان في حكمه، يقول العربي: من كانت صاحبة مثواك؟ فتطلق على صاحبة البنسيون. 2 البيانة: كلمة استعملناها في كتابنا "السحاب الأحمر" للبيانو، وتجمع على بيانات.

تجاوب النائحة! فمالت علي السيدة الفرنسية وأسرت إلي: أهاتان امرأتان أم رجلان؟ فقلت لها: إن هذا لحن تاريخي ذو مقطوعتين، كانت تتطارحه كيلوباترا وأنطونيو، وأنطونيو وكيلوباترا. فأعجبت المرأة أشد الإعجاب، وأكبرت منا هذا الذوق المصري أن نكرمها لوجودها في مجلسنا بألحان الملكة المصرية الجميلة، وطربت لذلك أشد الطرب، وملكها غرور المرأة، فجعلت تستعيد: "يا لوعتي يا شقاي يا ضنى حالي" وتقول: ما كان أرق كيلوباترا! ما كان أرق أنطونيو! يا لفتنة الحب الملكي! قال "الدكتور محمد": ثم خجلت والله من هذا الكلام المخنث، ومن تلفيقي الذي لفقته للمرأة المخدوعة، فانتفضت انتفاضة من يملؤه الغضب، وقد حمي دمه، وفي يده السيف الباتر، وأمامه العدو الوقح؛ وثُرت إلى البيانة فأجريت عليها أصابعي، وكأن في يدي عشرة شياطين لا عشر أصابع، ودوّى في المكان لحن: "اسلمي يا مصر" وجلجل كالرعد في قبة الدنيا، تحت طِبَاق الغيم، بين شرار البرق. فكأنما تزلزل المكان على السيدة الفرنسية وعلينا جميعًا وصرخ أجدادنا يزأرون من أعماق التاريخ: "اسلمي يا مصر"1. ولما قطعت التفت إليها في كبرياء تلك الموسيقى وعظمتها, وقلت لها: هذا هو غناؤنا نحن الشبان المصريين. ثم راجعنا صاحبنا الضيف، وأحفيناه بالمسألة، فقال بعد أن دافعنا طويلًا: إنه يحسن شيئًا من الموسيقى, وإن له لحنًا سيطارحنا به لنأخذه عنه. فطرنا بلحنه قبل أن نسمعه، وقلنا له: افعل متفضلًا مشكورًا, وما زلنا حتى نهض متثاقلًا، فجلس إلى البيانة وأطرق شيئًا، كأنه يسوي أوتارًا في قلبه، ثم دق يتشاجى بهذا الصوت: أضاع غدي من كان في يده غدي ... وحطمني من كان يجهد في سَبْكي! فإن كنت لا آسى لنفسي فمن إذن؟ ... وإن كنت لا أبكي لنفسي فمن يبكي؟ 2 قال "الدكتور محمد": فكان الغناء يعتلج في قلبه اعتلاجًا، وكانت نفسه تبكي فيه بكاءها وتغص من غُصّتها، وكأن في الصوت فكرًا حزينًا يستعلن في هم موسيقى، وخيل إلينا بين ذلك أن البيانة انقلبت امرأة مغنية تطارح هذا الرجل

_ 1 هذا هو النشيد الذي وضعناه على لسان سعد باشا زغلول، وهو اليوم النشيد الوطني لمصر كلها، يحفظه جميع الطلبة، والكشافة، والأندية الرياضية، وغيرها. 2 وضعنا هذين البيتين لبطل القصة، وكم لهذه القصة من أبطال!

عواطفها وأحزانها، فاجتمع من صوتهما أكمل صوت إنساني وأجمله وأشجاه وأرقه. فأطفنا به وقلنا له: لقد كتمْتَنا نفسك حتى نم عليها ما سمعنا، وما هذا بغناء، ولكنه هموم ملحنة تلحينًا، فلن ندعك أو تخبرنا ما كان شأنك وشأنها. فاعتل علينا ودافعنا جهده، فقلنا له: هيهات؛ والله لن نُفلتك وقد صرت في أيدينا، وإنك ما تزيد على أن تعظنا بهذه القصة؛ فإن أمسكت عنها فقد أمسكت عن موعظتنا، وإن بخلت فما بخلت بقصتك بل بعلم من علم الحياة نفيده منك؛ وأنت ترانا نعيش ههنا في اجتماع فاسد كأنه قصص قلبية، بين نساء لا يلبسن إلا ما يعري جمالهن، وفي رجال أفرطت عليهم الحرية، حتى دُخل فيها مخدع الزوجة! قال الدكتور: ونظرتُ فإذا الرجل كاسف قد تغير لونه وتبين الانكسار في وجهه، فألممت بما فينفسه، وعلمت أنه قد دهى في زوجة، من هؤلاء الأوروبيات، اللواتي يتزوجن على أن يكون مخدع المرأة منهن حرًّا أن يُأخذ ويُدع، ويغير ويبدل، ويقسم كلمة "زوج" قسمين وثلاثة وأربعة وما شاء. وكأنما مسست البارود بتلك الشرارة، فانفجرت نفس الرجل عن قصة ما أفظعها! قال: يا إخواني المصريين، قبل أن أنفُض لكم ذلك الخبر أسديكم هذه النصيحة التي لم يضعها مؤلف تاريخي لسوء الحظ، إلا في الفصل الأخير من رواية شقائي: إياكم إياكم أن تغتروا بمعاني المرأة، تحسبونها معاني الزوجة؛ وفرِّقوا بين الزوجة بخصائصها، وبين المرأة بمعانيها، فإن في كل زوجة امرأة، ولكن ليس في كل امرأة زوجة. واعلموا أن المرأة في أنوثتها وفنونها النسائية الفردية، كهذا السحاب الملون في الشفق حين يبدو؛ له وقت محدود ثم يمسخ مسخًا؛ ولكن الزوجة في نسائيتها الاجتماعية كالشمس؛ قد يحجبها ذلك السحاب، بيد أن البقاء لها وحدها، والاعتبار لها وحدها، ولها وحدها الوقت كله. لا تتزوجوا يا إخواني المصريين بأجنبية؛ إن أجنبية يتزوج بها مصري, هي مسدس جرائم فيه ست قذائف: الأولى: بَوار امرأة مصرية وضياعها بضياع حقها في هذا الزوج؛ وتلك جريمة وطنية فهذه واحدة.

والثانية: إقحام الأخلاق الأجنبية عن طباعنا وفضائلنا في هذا الاجتماع الشرقي، وتوهينه بها وصدعه وهي جريمة أخلاقية. والثالثة: دس العروق الزائغة في دمائنا ونسلنا؛ وهي جريمة اجتماعية. والرابعة: التمكين للأجنبي في بيت من بيوتنا، يملكه ويحكمه ويصرفه على ما شاء؛ وهي جريمة سياسية. والخامسة: للمسلم منا إيثاره غير أخته المسلمة، ثم تحكيمه الهوى في الدين، ما يعجبه وما لا يعجبه؛ ثم إلقاؤه السم الديني في نبع ذريته المقبلة، ثم صيرورته خِزيًا لأجداده الفاتحين الذين كانوا يأخذونهن سبايا، ويجعلونهن في المنزلة الثانية أو الثالثة بعد الزوجة؛ فأخذته هي رقيقًا لها، وصار معها في المنزلة الثانية أو الثالثة بعد1 ... وهذه جريمة دينية. والسادسة بعد ذلك كله: أن هذا المسكين يُؤثر أسفله على أعلاه ... ولا يبالي في ذلك خمس جرائم فظيعة. وهذه السادسة جريمة إنسانية! ما كنت أحسب يا إخواني، وقد رجعت بزوجتي الأوروبية إلى مصر، أني أحضرت معي من أوروبا آلة تصنع أحزاني ومصائبي! ولم يكن وعظني أحد بما أعظكم به الآن، ولا تنبهت بذكائي إلى أن الزوجة الأجنبية تثبت لي غربتي في بلادي! وتثبت علي أني غير وطني أو غير تام الوطنية، ثم تكون مني حماقة تثبت للناس أني أحمق فيما اخترت؛ ثم تعود مشكلة دولية في بيتي، يزورها أبناء جنسها ويستزيرونها رغم أنفي وفمي ووجهي كله! ويستطيلون بالحماية، ويستترون بالامتيازات، ويرفعون ستارًا عن فصل، ويُرخون ستارًا على فصل ... وأنا وحدي أشهد الرواية! إن الشيطان في أوروبا شيطان عالم مخترع. فقد زين لي من تلك الزوجة ثلاث نساء معًا: زوجة عقلية، وزوجة قلبية، وزوجة نفسية؛ ثم نَفَث اللعين في رَوْعي أن المرأة الشرقية ليس فيها إلا واحدة، وهي مع ذلك ليست من هؤلاء الثلاث ولا واحدة. قال الخبيث: لأنها زوجة الجسم وحده، فلا تسمو إلى العقل، ولا تتصل بالقلب، ولا تمتزج بالنفس؛ وأنها بذلك جاهلة، غليظة الحسن،

_ 1 يريد: بعد عشيقها.

خَشِنة الطبع، لا تكون مع المصري إلا كما تكون الأرض المصرية مع فلاحها. لعنة الله على ذلك الشيطان الرجيم العالم المخترع! وما علمت إلا من بعد أن هذه الشرقية الجاهلة الخشنة الجافية، هي كالمنجم الذي تِبْره في ترابه، وماسه في فحمه، وجوهره في معدنه؛ وأن صعوبتها من صعوبة العفة الممتنعة، وأن خشونتها من خشونة الحب المعتز بنفسه، وأن جفاءها من جفاء الدين المتسامي على المادة؛ وأنها بمجموع ذلك كان لها الصبر الذي لا يدخله العجز، وكان لها الوفاء الذي لا تلحقه الشبهة، وكان لها الإيثار الذي لا يفسده الطمع. هي جاهلة، ولها عقل الحياة في دارها، وغليظة الحس ولها أرق ما في الزوجة لزوجها وحده؛ وخشنة الطبع؛ لأنها تتنزه أن تكون ملمسًا ناعمًا لهذا وذاك وهؤلاء وأولئك ... لا كامرأة الحب الأوروبية، التي تجعل نفسها أنثى الفن، ويريد أن تعيش دائمًا مع زوجها الشرقي من التفضيل والإيثار والإجلال والإباحة, في كلمة "أنا" قبل كلمة "أنت" ... امرأة أنشأتها الحرب العظمى بأخلاق مخربة مد مرة تنفجر بين الوقت والوقت. عندنا يا إخواني تعدد الزوجات، يتهموننا به من عمى وجهل وسخافة. انظروا، هل هو إلا إعلان لشرعية الرجولة والأنوثة، ودينية الحياة الزوجية في أي أشكالها؛ وهل هو إلا إعلان بطولة الرجل الشرقي الأَنُوف الغيور، أن الزوجة تتعدد عند الرجل ولكن ... ولكن ليس كما يقع في أوروبا من أن الزوج يتعدد عند المرأة! يتهموننا بتعدد المرأة على أن تكون زوجة لها حقوقها وواجباتها -بقوة الشرع والقانون- نافذة مؤداة؛ ثم لا يتهمون أنفسهم بتعدد المرأة خليلة مخادنة ليس لها حق على أحد، ولا واجب من أحد، بل هي تتقاذفها الحياة من رجل إلى رجل، كالسكير يتقاذفه الشارع من جدار إلى جدار. لعنة الله على شيطان المدنية العالم المخترع المخنث، الذي يجعل للمرأة الأوروبية بعد أن يتزوجها الرجل الشرقي أصابع "أوتوماتيكية"، ما أسرع ما تمتد في نزوة من حماقاتها إلى رجلها بالمسدس، فإذا الرصاص والقتل؛ وما أسرع ما تمتد في نزوة من عواطفها إلى عاشقها بمفتاح الدار، فإذا الخيانة والعهر!! ماذا تتوقعون يا إخواني من تلك الرقيقة الناعمة، المتأنثة بكل ما فيها من أنوثة تكفي رجالًا لا رجلًا واحدًا، وقد ضعُفت روحية الأسرة في رأيها، وابتُذلت الروحية

في مجتمعها ابتذالًا، فأصبح عندها الزواج للزواج على إطلاقه، لا لتكون امرأة واحدة لرجل واحد مقصورة عليه؛ وبذلك عاد الزواج حقا في جسم المرأة دون قلبها وروحها؛ فإن كان الزوج مشئومًا منكوبًا لم يستطع أن يكون رجل قلبها, فعليه أن يدع لها الحرية لتختار زوج قلبها! ومعنى ذلك أن تكون هذه المرأة مع الزوج الشرعي بمنزلة المرأة مع فاسق؛ ومع الفاسق بمنزلة المرأة مع الزوج الشرعي! وإن كان الرجل منحوسًا مخيبًا، وكان قد بلغ إلى قلبها زمنًا ثم مله قلبها, فعليه أن يدع لها الحرية لتتنقل وتلذ بلذات الهوى، ويقول لها: شأنك بمن أحببتِ! فإن هذا المنحوس المخيب ليس عندها إنسانًا، ولكنه رواية إنسانية انتهى الفصل الجميل منها بمناظره الجميلة، وبدأ فصل آخر بحوادث غير تلك. فلمن يشهد الرواية أن يتبرم ما شاء، ويستثقل كما يشاء، ومتى شاء انصرف من الباب! امرأة هذه المدنية هي امرأة العاطفة؛ تتعلق باللفظ حين تُلبسه العاطفة من زينتها، وإن ضاع فيه المعنى الكبير من معاني العقل، وإن فاتت به النعمة الكبيرة من نعم الحياة. تقوى العاطفة فتجيء بها إلى رجل، ثم تقوى الثانية فتذهب بها مع رجل آخر! وتفيد نفسها إن شاءت وتُسرّح نفسها إن شاءت؛ وما بد من أن تبلو الحياة كما يبلوها الرجل وأن تخوض في مشاكلها؛ وإذا شاءت جعلت نفسها إحدى مشاكلها! ولا مندوحة من أن تتولى شأن نفسها بنفسها، فإذا خاست أو غدرت فكل ذلك عندها من أحكام نفسها، وكل ذلك رأي وحق، إذ كان محورها الذي تدور عليه هو عاطفتها وحرية هذه العاطفة، فمن هذا يقرر لها خطتها، ويملي عليها واجباتها، ويزوّر لها الأسماء على إرادته دون إرادتها، فيسمي لها نكد قلبها باسم فضيلة المرأة، وحرمان عاطفتها باسم واجب الزوجة الشريفة! ومنذ خَوَّله الحق أن يقرر وأن يملي! وهذا الشرقي العتيق المأفون الذي قبلها سافرة لا تعرف روحها ولا جسمها الحجاب؛ ما باله يريد أن يضرب الحجاب على عاطفتها، ويتركها محبوسة في شرفه وحقوقه وواجباته، وإن لم تكن محجوبة في الدار؟! ما علمت يا إخواني إلا من بعد، أن الزوجة الغربية قد تكون مع زوجها الشرقي كالسائحة مع دليلها. هيهات هيهات، إنه لن يمسكها عليه، ولن يكرهها على الوفاء له، إلا أن تكون حثالة يزهد فيها حتى ذباب الناس؛ فيأسها هو يجعل

هذا المسكين مطمعها، وهي مع ذلك لو خلطته بنفسها لبقيت منها ناحية لا تختلط، إذ ترى أمته دون أمتها، وجنسه دون جنسها؛ فما تسب أمة زوجها وبلاده بأقبح من هذا! أما والله إن الرجل الشرقي حين يأتي بالأجنبية لتلوين حياته بألوان الأنثى, لا يكون اختار أزهى الألوان إلا لتلوين مصائب حياته! وقد يكون هناك ما يشذ، ولكن هذه هي القاعدة. أما قصتي يا إخواني ... قال الدكتور محمد: قد حكيتَها "يرحمك الله".

قصيدة مترجمة عن الشيطان: لحوم البحر

قصيدة مترجمة عن الشيطان: لحوم البحر * لكأنما والله تمدد على سيف البحر في الإسكندرية شيطان مارد من شياطين ما بين الرجل والمرأة، يخدع الناس عن جهنم بتبريد معانيها, وقد امتلأ به الزمان والمكان؛ فهو يُرعش ذلك الرمل بذلك الهواء رعشة أعصاب حية؛ ويرسل في الجو نفخات من جرأة الخمر في شاربها ثار فعربد، ويُطلع الشمس للأعين في منظر حسناء عريانة ألقت ثيابها وحياءها معًا، ويرخي الليل ليغطي به المخازي التي خجل النهار أن تكون فيه. ولعمري إن لم يكن هو هذا المارد، ما أحسبه إلا الشيطان الخبيث الذي ابتدع فكرة عرض الآثام مكشوفة في أجسامها تحت عين التقي والفاجر؛ لتعمل عملها في الطباع والأخلاق؛ فسول للنساء والرجال أن ذلك الشاطئ علاج الملل من الحر والتعب، حتى إذا اجتمعوا، فتقاربوا، فتشابكوا، سول لهم الأخرى أن الشاطئ هو كذلك علاج الملل من الفضيلة والدين! وإن لم يكن اللعينان فهو الرجيم الثالث، ذلك الذي تألى أن يفسد الآداب الإنسانية كلها بفساد خُلُق واحد، هو حياء المرأة؛ فبدأ يكشفها للرجال من وجهها، ولكنه استمر يكشف ... وكانت تظنه نزع حجابها فإذا هو أول عُرْيها ... وزادت المرأة، ولكن بما زاد فجور الرجال؛ ونقصت، ولكن بما نقص فضائلهم؛ وتغيرت الدنيا وفسدت الطباع؛ فإذا تلك المرأة ممن يقرونها على تبذلها بين رجلين لا ثالث لهما: رجل فجر ورجل تخنث. هناك فكرة من شريعة الطبيعة هي عقل البحر في هؤلاء الناس، وعقل هؤلاء الناس في البحر؛ إذا أنت اعترضتَها فتبينتها فتعقبتها، رأيتها بلاغة من بلاغة

_ * كتبها في مصيفه بالإسكندرية.

الشيطان في تزيينه وتطويعه، وأصبت فكره مستقرًّا فيها استقرار المعنى في عبارته، آخذًا بمداخلها ومخارجها. وما كان الشيطان عَيِيًّا ولا غبيًّا، بل هو أذكى شعراء الكون في خياله، وأبلغهم في فطنته، وأدقهم في منطقه، وأقدرهم على الفتنة والسحر؛ وبتمامه في هذا كله كان شيطانًا لم تسعه الجنة إذ ليس فيها النار، ولم تُرضه الرحمة إذ ليس معها الغضب، ولم يعجبه الخضوع الملائكي إذ ليس فيه الكبرياء، ولم يخلص إلى الحقيقة إذ لا تحمل الحقيقة شعر أحلامه. وما أتى الشيطان أحدًا، ولا وسوس في قلب، ولا سوَّل لنفس، ولا أغوى من يغويه, إلا بأسلوب شعري ملتبس دقيق، يجعل المرء يعتقد أن اطِّراح العقل ساعة هو عقل الساعة، ويفسد برهانه مهما كان قويًّا؛ إذ يرتد به من النفس إلى أخيلة لا تقبل البرهانات، ويقطع حجته مهما كانت دامغة؛ إذ يعترضها بنزعة من النزعات توجهها كيف دار بها الدم, لا كيف دار بها المنطق. فكرة من شريعة الطبيعة، ظاهرها لبعض الأمر من الشمس والهواء والبحر وما لا أدري، وباطنها لبعض الأمر من فن الشيطان وبلاغته وشعره وما لا أدري؛ وما كانت الشرائع الإلهية والوضعية إلا لإقرار العقل في شريعة الطبيعة كي تكون إنسانية لإنسانها كما هي الحيوانية لحيوانها، وليجد الإنسان ما يحفظ به نفسه من نفسه التي هي دائمًا فوضى، ولا غاية لها لولا ذلك العقل إلا أن تكون دائمًا فوضى. وبالشرائع والآداب استطاع الإنسان أن يضع لكلمة الطبيعة النافذة عليه جوابًا, وأن يرى في هذه الطبيعة أثر جوابه؛ فكلمتها هي: أيها الإنسان، أنت خاضع لي بالحيواني فيك, وكلمته هي: أيتها الطبيعة, وأنت لي خاضعة بالإلهي فيَّ. والآن سأقرأ لك القصيدة الفنية التي نظمها الشيطان على رمل الشاطئ في الإسكندرية؛ وقد نقلتها أترجمها فصلًا بعد فصل عن تلك الأجسام عارية وكاسية، وعن معانيها مكشوفة ومغطاة، وعن طباعها بريئة ومتهمة، حتى اتسقت الترجمة على ما ترى: قال الشيطان: ألا إن البهيمة والعقلية في هذا الإنسان, مجموعهما شيطانية. ألا وإنه ما من شيء جميل أو عظيم إلا وفيه معنى السخرية به. هنا تتعرى المرأة من ثوبها، فتتعرى من فضيلتها.

هنا يخلع الرجل ثوبه، ثم يعود إليه فيلبس فيه الأدب الذي خلعه. رؤية الرجل لحم المرأة المحرمة نظر بالعين والعاطفة. يرمي ببصره الجائع كما ينظر الصقر إلى لحم الصيد. ونظر المرأة لحم الرجل رؤية فكر فقط. تُحوِّل بصرها أو تخفضه، وهي من قلبها تنظر. يا لحوم البحر! سلخك من ثيابك جزار! يا لحوم البحر! سلخك جزار من ثيابك. جزار لا يذبح بألم ولكن بلذة. ولا يَحِزّ بالسكين ولكن بالعاطفة. ولا يُميت الحي إلا موتًا أدبيًّا. إلى الهيجاء يا أبطال معركة الرجال والنساء. فهنا تلتحم نواميس الطبيعة, ونواميس الأخلاق. للطبيعة أسلحة العُرْي، والمخالطة، والنظر، والأنس، والتضاحك، ونزوع المعنى إلى المعنى. وللأخلاق المهزومة سلاح من الدين قد صَدِئ؛ وسلاح من الحياء مكسور! يا لحوم البحر! سلخك من ثيابك جزار. الشاطئ كبير كبير، يسع الآلاف والآلاف. ولكنه للرجل والمرأة صغير صغير، حتى لا يكون إلا خلوة. وتقضي الفتاة سنتها تتعلم، ثم تأتي هنا تتذكر جهلها وتعرف ما هو. وتمضي المرأة عامها كريمة، ثم تجيء لتجد هنا مادة اللؤم الطبيعي. لو كانت حجّاجة صوّامة، للعنتها الكعبة لوجودها في "إستانلي". الفتاة ترى في الرجال العريانين أشباح أحلامها، وهذا معنى من السقوط. والمرأة تسارقهم النظر تنويعًا لرجلها الواحد، وهذا معنى من المواخير. أين تكون النية الصالحة لفتاة أو امرأة بين رجال عريانين؟! يا لحوم البحر! سلخك من ثيابك جزار! هناك التربية، وهنا إعلان الإغفال والطيش.

وهناك الدين، وهنا أسباب الإغراء والزلل. هناك تكلف الأخلاق، وهنا طبيعة الحرية منها. وهناك العزيمة بالقهر يومًا بعد يوم، وهنا إفسادها بالترخص يومًا بعد يوم. والبحر يعلّم اللائي والذين يسبحون فيه كيف يغرقون في البر. لو درى هؤلاء وهؤلاء معرّة اغتسالهم معًا في البحر، لاغتسلوا من البحر. فقطرة الماء التي نجّستها الشهوات قد انسكبت في دمائهم. وذرة الرمل النجسة في الشاطئ، ستكبر حتى تصير بيتًا نجسًا لأب وأم. يا لحوم البحر! سلخك من ثيابك جزار! يجيئون للشمس التي تقوى بها صفات الجسم؛ ليجد كل من الجنسين شمسه التي تضعف بها صفات القلب. يجيئون للهواء الذي تتجدد به عناصر الدم؛ ليجدوا الهواء الآخر الذي تفسد به معاني الدم. يجيئون للبحر الذي يأخذون منه القوة والعافية؛ ليأخذوا عنه أيضًا شريعته الطبيعية: سمكة تطارد سمكة. ويقولون: ليس على المصيف حرج، أي: لأنه أعمى الأدب، وليس على الأعمى حرج. يا لحوم البحر! سلخك من ثيابك جزار! المدارس، والمساجد، والبِيَع، والكنائس، ووزارة الداخلية؛ هذه كلها لن تهزم الشاطئ. فأمواج النفس البشرية كأمواج البحر الصاخب، تنهزم أبدًا لترجع أبدًا. لا يهزم الشاطئ إلا ذلك "الجامع الأزهر"، لو لم يكن قد مُسخ مدرسة! فصرخة واحدة من قلب الأزهر القديم، تجعل هدير البحر كأنه تسبيح. وترد الأمواج نقية بيضاء1، كأنها عمائم العلماء.

_ 1 يرى بعضهم أن مثل هذا الوصف خطأ، وأن الصواب أن يقال "بيض"، ولسنا من هذا الرأي، وقد غلط فيه المبرد ومن تابعوه؛ لغفلتهم عن السير في بلاغة الاستعمال مرة في الوصف بالمفرد، ومرة في الوصف بالجمع.

وتأتي إلى البحر بأعمدة الأزهر للفصل بين الرجال والنساء. ولكني أرى زمنًا قد نقل حتى إلى المدارس روح "الكازينو"! يا لحوم البحر! سلخك من ثيابك جزار! "هنا على رغم الآداب، مملكة للصيف والقَيْظ، سلطانها الجسم المؤنث العاري. أجسام تعرض مفاتنها عرض البضائع؛ فالشاطئ حانوت للزواج! وأجسام تعرض أوضاعها كأنها في غرفة نومها في الشاطئ. وأجسام جالسة لغيرها، تحيط بها معانيها ملتمسة معانيه؛ فالشاطئ سوق للرقيق. وأجسام خَفِرة جالسة للشمس والهواء؛ فالشاطئ كدار الكفر لمن أُكره1. وأجسام عليلة تقتحمها الأعين فتزدريها؛ لأنها جعلت الشاطئ مستشفى. وأجسام خليعة أضافت من "إستانلي" وأخواتها إلى منارة الإسكندرية ومكتبة الإسكندرية, مزبلة الإسكندرية. كان جدال المسلمين في السفور، فأصبح الآن في العري. فإذا تطور، فماذا بقي من تقليد أوروبا إلا الجدال في شرعية جمع المرأة بين الزوج وشبه الزوج2؟ ". انتهى ما استطعت ترجمته، بعد الرجوع في مواضع من القصيدة إلى بعض القواميس الحية ... إلى بعض شبان الشاطئ.

_ 1 إشارة إلى الآية الكريمة: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} . 2 يسمى هذا في اللغة الضمد بفتح الضاد والميم، وهو أن يخاتل الرجل المرأة ولها زوج، ومنه قول الشاعر: تريدين كيما تضمديني وخالدًا ... وهل يجمع السيفان ويحك في غمد ومن هذا يقال في الرجل: ذاق الضماد "بكسر الضاد" أي: ذاق الطعم الذي وصفه أناتول فرانس.

قصيدة مترجمة عن الملك: احذري ... !

قصيدة مترجمة عن الملَك: احذري ... ! ترجمنا عن الشيطان قصيدة "لحوم البحر" وهذه ترجمة عن أحد الملائكة, رآني جالسًا تحت الليل وقد أجمعت أن أضع كلمة للمرأة الشرقية فيما تحاذره أو تتوجس منه الشر؛ فتَخَايل الملك بأضوائه في الضوء, وسنح لي بروحه، وبث فيّ من سره الإلهي، فجعلتُ أنظر في قلبي إلى فجر من هذا الشعر ينبُع كلمة كلمة, ويُشرق معنى معنى، ويستطير جملة جملة، حتى اجتمعت القصيدة وكأنما سافرتُ في حلم من الأحلام فجئتُ بها. وانطلق ذلك الملَك وتركها في يدي لغة من طهارته للمرأة الشرقية في ملائكيتها: احذري ... ! احذري أيتها الشرقية وبالغي في الحذر، واجعلي أخص طباعك الحذر وحده. احذري تمدن أوروبا أن يجعل فضيلتك ثوبًا يوسع ويضيق؛ فلُبس الفضيلة على ذلك هو لبسها وخلعها. احذري فنهم الاجتماعي الخبيث الذي يفرض على النساء في مجالس الرجال أن تؤدي أجسامهن ضريبة الفن. احذري تلك الأنوثة الاجتماعية الظريفة؛ إنها انتهاء المرأة بغاية الظَّرف والرقة إلى ... إلى الفضيحة. احذري تلك النسائية1 الغزلية؛ إنها في جملتها ترخيص اجتماعي للحرة أن ... أن تشارك البَغِيّ في نصف عملها.

_ 1 نحن نستعمل: النسائية والنسوية، وكلاهما عندنا صحيح، والاختيار في كل موضع للأفصح في موقعه.

أيتها الشرقية! احذري احذري! احذري التمدن الذي اخترع لقتل لقب الزوجة المقدس, لقب "المرأة الثانية". واخترع لقتل لقب العذراء المقدس، لقب "نصف عذراء". واخترع لقتل دينية معاني المرأة، كلمة "الأدب المكشوف". وانتهى إلى اختراع السرعة في الحب, فاكتفى الرجل بزوجة ساعة. وإلى اختراع استقلال المرأة، فجاء بالذي اسمه "الأب" من الشارع، لتلقي بالذي اسمه "الابن" إلى الشارع. أيتها الشرقية؛ احذري احذري! احذري, وأنتِ النجم الذي أضاء منذ النبوة، أن تقلدي هذه الشمعة التي أضاءت منذ قليل. إن المرأة الشرقية هي استمرار متصل لآداب دينها الإنساني العظيم. هي دائمًا شديدة الحفاظ, حارسة لحَوْزتها؛ فإن قانون حياتها دائمًا هو قانون الأمومة المقدس. هي الطهر والعفة، هي الوفاء والأنفة، هي الصبر والعزيمة، وهي كل فضائل الأم. فما هو طريقها الجديد في الحياة الفاضلة، إلا طريقها القديم بعينه. أيتها الشرقية! احذري احذري! احذري "ويحك" تقليد الأوروبية التي تعيش في دنيا أعصابها, محكومة بقانون أحلامها. لم تعد أنوثتها حالة طبيعية نفسية فقط، بل حالة عقلية أيضًا تشك وتجادل. أنوثة تفلسفت فرأت الزوج نصف الكلمة فقط, والأم نصف المرأة فقط. ويا ويل المرأة حين تنفجر أنوثتها بالمبالغة، فتنفجر بالدواهي على الفضيلة. إنها بذلك حرة مساوية للرجل، ولكنها بذلك ليست الأنثى المحدودة بفضيلتها. أيتها الشرقية! احذري احذري! احذري خجل الأوروبية المترجِّلة من الإقرار بأنوثتها.

إن خجل الأنثى يجعل فضيلتها تخجل منها. إنه يسقط حياءها ويكسو معانيها رجولة غير طبيعية. إن هذه الأنثى المترجلة تنظر إلى الرجل نظرة رجل إلى أنثى. والمرأة تعلو بالزواج درجة إنسانية، ولكن هذه المكذوبة تنحط درجة إنسانية بالزواج. أيتها الشرقية! احذري احذري! احذري تَهَوُّس الأوروبية في طلب المساواة بالرجل. لقد ساوتْه في الذهاب إلى الحلَّاق، ولكن الحلَّاق لم يجد في وجهها اللحية. إنها خُلقت لتحبيب الدنيا إلى الرجل، فكانت بمساواتها مادة تبغيض. العجيب أن سر الحياة يأبى أبدًا أن تتساوى المرأة بالرجل إلا إذا خسرته. والأعجب أنها حين تخضع، يرفعها هذا السر ذاته عن المساواة بالرجل إلى السيادة عليه. أيتها الشرقية! احذري احذري! احذري أن تخسري الطباع التي هي الأليق بأم أنجبت الأنبياء في الشرق. أم عليها طابع النفس الجميلة، تنشر في كل موضع جو نفسها العالية. فلو صارت الحياة غيمًا ورعدًا وبرقًا، لكانت هي فيها الشمس الطالعة. ولو صارت الحياة قَيْظًا وحَرُورًا واختناقًا، لكانت هي فيها النسيم يتخطَّر. أم لا تبالي إلا أخلاق البطولة وعزائمها؛ لأن جداتها ولدن الأبطال. أيتها الشرقية! احذري احذري! احذري هؤلاء الشبان المتمدنين بأكثر من التمدن. يبالغ الخبيث في زينته، وما يدري أن زينته معلنة أنه إنسان من الظاهر. ويبالغ في عرض رجولته على الفتيات، يحاول إيقاظ المرأة الراقدة في العذراء المسكينة! ليس لامرأة فاضلة إلا رجلها الواحد؛ فالرجال جميعًا مصائبها إلا واحدًا. وإذ هي خالطت الرجال، فالطبيعي أنها تخالط شهوات، ويجب أن تحذر وتبالغ. أيتها الشرقية! احذري احذري!

احذري؛ فإن في كل امرأة طبائع شريفة متهورة؛ وفي الرجال طبائع خسيسة متهورة. وحقيقة الحجاب أنه الفصل بين الشرف فيه الميل إلى النزول، وبين الخسة فيها الميل إلى الصعود. فيكِ طبائع الحب، والحنان، والإيثار، والإخلاص، كلما كبرتِ كبرتْ. طبائع خطرة، إن عملتْ في غير موضعها؛ جاءت بعكس ما تعمله في موضعها. فيها كل الشرف ما لم تنخدع، فإذا انخدعت فليس فيها إلا كل العار. أيتها الشرقية! احذري احذري! احذري كلمة شيطانية تسمعينها: هي فنية الجمال أو فنية الأنوثة. وافهميها أنت هكذا: واجبات الأنوثة وواجبات الجمال. بكلمة يكون الإحساس فاسدًا، وبكلمة يكون شريفًا. ولا يتسقّط الرجل امرأة إلا في كلمات مزينة مثلها. يجب أن تتسلح المرأة مع نظرتها، بنظرة غضب ونظرة احتقار. أيتها الشرقية! احذري احذري! احذري أن تُخدَعي عن نفسك؛ إن المرأة أشد افتقارًا إلى الشرف منها إلى الحياة. إن الكلمة الخادعة إذ تقال لك، هي أخت الكلمة التي تقال ساعة إنفاذ الحكم للمحكوم عليه بالشنق. يغترّونكِ بكلمات الحب والزواج والمال، كما يقال للصاعد إلى الشنَّاقة1: ماذا تشتهي؟ ماذا تريد؟ الحب؟ الزواج؟ المال؟ هذه صلاة الثعلب حين يتظاهر بالتقوى أمام الدجاجة. الحب؟ الزواج؟ المال؟ يا لحم الدجاجة! بعض كلمات الثعلب هي أنياب الثعلب. أيتها الشرقية! احذري احذري.

_ 1 كلمة "المشنقة" ليست عربية، ولكنّ لها وجهًا في الاشتقاق، غير أن كسرة ميمها تجعلها ثقيلة، وكان اسمها قديمًا "الشناقة"، ذكرها ياقوت في معجم الأدباء، وهي أفصح وأخف، فلعل الشناقة بعد هذا تشنق المشنقة.

احذري السقوط؛ إن سقوط المرأة لهوله وشدته ثلاث مصائب في مصيبة: سقوطها هي, وسقوط من أوجدوها، وسقوط من تُوجدهم! نوائب الأسرة كلها قد يسترها البيت، إلا عار المرأة. فيد العار تقلب الحيطان كما تقلب اليد الثوب, فتجعل ما لا يُرى هو ما يُرى. والعار حكم ينفذه المجتمع كله، فهو نفي من الاحترام الإنساني. أيتها الشرقية! احذري احذري! "لو كان العار في بئر عميقة لقلبها الشيطان مئذنة, ووقف يؤذن عليها. يفرح اللعين بفضيحة المرأة خاصة، كما يفرح أب غني بمولود جديد في بيته. واللص، والقاتل، والسكير، والفاسق، كل هؤلاء على ظاهر الإنسانية كالحر والبرد. أما المرأة حين تسقط, فهذه من تحت الإنسانية هي الزلزلة. ليس أفظع من الزلزلة المرتجة تشق الأرض، إلا عار المرأة حين يشق الأسرة. أيتها الشرقية! احذري احذري! ".

الجمال البائس "1"

الجمال البائس *: "1" "وكيف يُشعَب صدع الحب في كبدي"، كيف يشعب صدع الحب؟ لعمري ما رأيت الجمال مرة إلا كان عندي هو الألم في أجمل صوره وأبدعها؛ أتُراني مخلوقًا بجرح في القلب؟ ولا تكون المرأة جميلة في عيني، إلا إذا أحسست حين أنظر إليها أن في نفسي شيئًا قد عرفها، وأن في عينيها لحظات موجهة، وإن لم تنظر هي إلي. فإثبات الجمال نفسه لعيني، أن يثبت صداقته لروحي باللمحة التي تدل وتتكلم: تدل نفسي وتتكلم في قلبي. كنت أجلس في "الإسكندرية" بين الضحى والظهر، في مكان على شاطئ البحر، ومعي صديقي الأستاذ "ح"** من أفاضل رجال السلك السياسي، وهو كاتب من ذوي الرأي، له أدب غَضّ ونوادر وظرائف؛ وفي قلبه إيمان لا أعرف مثله في مثله، قد بلغ ما شاء الله قوة وتمكنًا، حتى لأحسب أنه رجل من أولياء الله قد عُوقب فحُكم عليه أن يكون محاميًا، ثم زيد الحكم فجعل قاضيًا، ثم ضُوعفت العقوبة فجعل سياسيًا. وهذا المكان ينقلب في الليل مسرحًا ومرقصًا وما بينهما, فيتغاوى فيه الجمال والحب، ويعرض الشيطان مصنوعاته في الهزل والرقص والغناء1، فإذا دخلته في النهار رأيت نور النهار كأنه يغسله ويغسلك معه، فتحس للنور هناك عملًا في نفسك.

_ * انظر قصة صاحبة الجمال البائس في "عود على بدء" من كتاب حياة الرافعي. ** الأستاذ حافظ عامر "بك". 1 انظر مقالة "لو ... " في الجزء الثاني، فقد كتبت عن هذا المسرح بعينه.

ويُرى المكان صدرًا من النهار كأنه نائم بعد سهر الليل، فما تجيئه من ساعة بين الصبح والظهر، إلا وجدته ساكنًا هادئًا كالجسم المستثقل نومًا؛ ولهذا كنت كثيرًا ما أكتب فيه، بل لا أذهب إليه إلا للكتابة. فإذا كان الظهر أقبل نساء المسرح ومعهن من يطارحهن الأناشيد وألحانها, ومن يُثقفهن في الرقص، ومن يُروِّيهن ما يمثلن إلى غير ذلك مما ابتلتهن به الحياة لتُساقط عليهن الليالي بالموت ليلة بعد ليلة. وكن إذا جئن رأينَني على تلك الحال من الكتابة والتفكير، فينصرفن إلى شأنهن، إلا واحدة كانت أجملهن*، وأكثر هؤلاء المسكينات يظهرن لعين المتأمل كأن منهن مثل العنز التي كُسر أحد قرنيها، فهي تحمل على رأسها علامة الضعف والذلة والنقص، ولو أن امرأة تتبدد حينًا فلا تكون شيئًا، وتجتمع حينًا فتكون مرة شيئًا مقلوبًا، وأخرى شكلًا ناقصًا، وتارة هيئة مشوهة؛ لكانت هي كل امرأة من هؤلاء المسكينات اللواتي يمشين في المسرّات إلى المخاوف، ويعشن ولكن بمقدمات الموت، ويجدن في المال معنى الفقر، ويتلقَّين الكرامة فيها الاستهزاء، ثم لا يعرفن شابًّا ولا رجلًا إلا وقعت عليهن من أجله لعنة أب أو أم أو زوجة. وتلك الواحدة التي أومأتُ إليها كانت حزينة متسلبة1, فكأنما جذبها حزنها إلي، وكانت مفكرة فكأنما هداها إلي فكرها، وكانت جميلة فدلها علي الحب، وما أدري -والله- أي نفسينا بدأت فقالت للأخرى: أهلًا. ورأيتها لا تصرف نظرها عني إلا لترده إلي، ولا ترده إلا لتصرفه؛ ثم رأيتها قد جال بها الغزل جولة في معركته, فتشاغلتُ عنها لا أُريها أني أنا الخصم الآخر في المعركة. بيد أني جعلت آخذها في مطارح النظر، وأتأملها خلسة بعد خلسة في ثوبها الحريري الأسود، فإذا هو يشُب لونها2 فيجعله يتلألأ، ويظهر وجهها بلون البدر في تِمّه، ويبديه لعيني أرق من الورد تحت نور الفجر. ورأيت لها وجهًا فيه المرأة كلها باختصار، يشرق على جسم بَضّ ألين من

_ * يعني راقصة هناك اسمها "بنوتشيا". 1 يقال: تسلبت المرأة, إذا أحدت، أي: لبست ثياب الحداد. 2 يزيده ويظهره ويجعله أحفل بالجمال.

خَمْل النعام، تعرض فيه الأنوثة فنها الكامل؛ فلو خُلق الدلال امرأة لكانتها. وتلوح للرائي من بعيد كأنها وضعت في فمها "زر ورد" أحمر منضمًّا على نفسه. شفتان تكاد ابتسامتهما تكون نداء لشفتيْ محب ظمآن! أما عيناها فما رأيت مثلهما عيني امرأة ولا ظبية؛ سوادهما أشد سوادًا من عيون الظباء؛ وقد خُلقتا في هيئة تثبت وجود السحر وفعله في النفس؛ فهما القوة الواثقة أنها النافذة الأمر، يمازجها حنان أكثر مما في صدر أم على طفلها؛ وتمام الملاحة أنهما هما بهذا التكحيل، في هذه الهيئة، في هذا الوجه القمري. يا خالق هاتين العينين! سبحانك سبحانك! قال الراوي: وأتغافل عنها أيامًا؛ وطال ذلك مني وشق عليها، وكأني صغرت إليها نفسها، وأرهقتها بمعنى الخضوع، بيد أن كبرياءها التي أبت لها أن تُقدِم، أبت عليها كذلك أن تنهزم. وأنا على كل أحوالي إنما أنظر إلى الجمال كما أستنشي العطر يكون متضوعًا في الهواء: لا أنا أستطيع أن أمسه ولا أحد يستطيع أن يقول: أخذت مني. ثم لا تدفعني إليه إلا فطرة الشعر والإحساس الروحاني، دون فطرة الشر والحيوانية1, ومتى أحسست جمال المرأة أحسست فيه بمعنى أكبر من المرأة، أكبر منها؛ غير أنه هو منها. قال الراوي: فإني لجالس ذات يوم وقد أقبلتُ على شأني من الكتابة، وبإزائي فتى رَيِّق الشباب، في العمر الذي ترى فيه الأعين بالحماسة والعاطفة، أكثر مما ترى بالعقل والبصيرة، ناعم أملد تم شبابه ولم تتم قوته، كأنما نكصت الرجولة عنه إذ وافته فلم تجده رجلًا ... أو تلك هي شيمة أهل الظَّرف والقصف من شبان اليوم: ترى الواحد منهم فتعرف النضج في ثيابه أكثر مما تعرفه في جسمه، وتأبى الطبيعة عليه أن يكون أنثى فيجاهد ليكون ضربًا من الأنثى! إني لجالس إذا وافت الحسناء فأومأتْ إلى الفتى بتحيتها، ثم ذهبتْ فاعتلَت المنصة مع الباقيات، ورقصت

_ 1 بسطنا هذا المعنى في المقدمة الثانية لكتابنا "أوراق الورد" وفي مواضع كثيرة من هذا الكتاب، فلم نتوسع فيه هنا.

فأحسنت ما شاءت، وكأن في رقصها تعبيرًا عن أهواء ونزعات تريد إثارتها في رجل ما, فقلت لصاحبنا الأستاذ "ح": إن كلمة الرقص إنما هي استعارة على مثل هذا، كما يستعرْنَ كلمة الحب لجمع المال؛ ولا رقص ولا حب إلا فجور وطمع. ثم إنها فرغَتْ من شأنها فمرت تتهادى حتى جاءت فجلست إلى الفتى ... فقال الأستاذ "ح" وكان قد ألمّ بما في نفسها: أتُراها جعلته ههنا محطة؟ قال الراوي: أما أنا فقلت في نفسي: لقد جاء الموضوع ... وإني لفي حاجة -أشد الحاجة- إلى مقالة من المكحولات، فتفرغت لها أنظر ماذا تصنع، وأنا أعلم أن مثل هذه قليلًا ما يكون لها فكر أو فلسفة؛ غير أن الفكر والفلسفة والمعاني كلها تكون في نظرها وابتساماتها وعلى جسمها كله. وكان فتاها قد وضع طربوشه على يده؛ فقد انتهينا إلى عهد رجع حكم الطربوش فيه على رأس الشاب الجميل، كحكم البرقع على وجه الفتاة الجميلة. فأسفر ذاك من طربوشه، وأسفرت هذه من نقابها. قال الراوي: فما جلستْ إلى الفتى حتى أدنت رأسها من الطربوش، فاستنامت إليه، فألصقت به خدها. ثم التفتت إلينا التفاتة الخِشْف المذعور استروح السَّبُع1 ووجد مقدماته في الهواء، ثم أرخت عينيها في حياء لا يستحي. وأنشأت تتكلم وهي في ذلك تسارقنا النظر، كأن في ناحيتنا بعض معاني كلامها. ثم لا أدري ما الذي تضاحكتْ له، غير أن ضحكتها انشقت نصفين، رأينا نحن أجملهما في ثغرها. ثم تزعزعت في كرسيها كأنما تهم أن تنقلب؛ لتمتد إليها يد فتمسكها أن تنقلب. ثم تساندت على نفسها، كالمريضة النائمة تتناهض من فراشها فيكاد يَئِنّ بعضها من بعضها، وقامت فمشت، فحاذتنا، وتجاوزتنا غير بعيد، ثم رجعت إلى موضعها متكسرة كأن فيها قوة تعلن أنها انتهت. قال الراوي: ونظرتُ إليها نظرة حزن؛ فتغضبت واغتاظت، وشاجرت هذه النظرة من

_ 1 الخشف: ولد الغزال، يطلق على الذكر والأنثى. واستروح السبع أي: وجد ريحه في الهواء قبل أن يراه، وكذلك طبيعة الحيوان.

عينيها الدَّعْجَاوين بنظرات متهكمة، لا أدري أهي توبخنا بها، أم تتهمنا بأننا أخذنا من حسنها مجانًا؟ فقلتُ للأستاذ "ح"، وأنا أجهر بالكلام ليبلُغها: أما ترى أن الدنيا قد انتكست في انتكاسها، وأن الدهر قد فسد في فساده، وأن البلاء قد ضُوعف على الناس، وأن بقية من الخير كانت في الشر القديم فانتُزعت؟ قال: وهل كان في الشر القديم بقية خير وليس مثلها في الشر الحديث؟ قلت: ههنا في هذا المسرح قِيَان لو كانت إحداهن في الزمن القديم، لتنافس في شرائها الملوك والأمراء سراة الناس وأعيانهم، فكان لها في عَهَارة الزمن صون وكرامة، وتتقلب في القصور فتجعل لها القصور حرمة تمنعها ابتذال فنها لكل من يدفع خمسة قروش، حتى لرُذَّال الناس وغوغائهم وسَفَلتهم؛ ثم هي حين يُدبِر شبابها تكون في دار مولاها حميلة على كرم يحملها، وعلى مروءة تعيش بها. وقديمًا أخذت سلَّامة الزرقاء في قبلتها لؤلؤتين بأربعين ألف درهم، تبلغ ألفي جنيه. فهل تأخذ القينة من هؤلاء إلا دَخِينة1 بمليمين؟ قال الأستاذ "ح": ما أبعدك يا أخي عن "بورصة" القبلة وأسعارها, ولكن ما خبر اللؤلؤتين؟ قال الراوي: كانت سلامة هذه جارية لابن رَامين2، وكانت من الجمال بحيث قيل في وصفها: كأن الشمس طالعة من بين رأسها وكتفيها؛ فاستأذن عليها في مجلس غنائها الصيرفي الملقب بالماجن، فلما أذنت له، دخل فأقعى بين يديها، ثم أدخل يده في ثوبه فأخرج لؤلؤتين، وقال: انظري يا زرقاء جُعلتُ فداك. ثم حلف أنه نُقد فيهما بالأمس أربعين ألف درهم. قالت: فما أصنع بذاك؟ قال: أردت أن تعلمي. ثم غنت صوتًا وقالت: يا ماجن هبهما لي, ويحك. قال: إن شئت -

_ 1 الدخينة وضعناها للسيجارة، وجمعها: الدخائن. 2 سلامة هذه اشتراها جعفر بن سليمان بثمانين ألف درهم "4000 جنيه"، كما اشترى جارية أخرى يقال لها: ربيحة، بمائة ألف درهم.

والله- فعلت. قالت: قد شئت. قال: واليمين التي حلفتُ بها لازمة لي إن أخذتهما إلا بشفتيك من شفتيّ. قال الراوي: ورأيتها قد أذنت لي، وأنصتت لكلامي، وكأنما كانت تسمعني أعتذر إليها، واستيقنتْ أن ليس بي إلا الحزن عليها والرثاء لها، فبدت أشد حياء من العذراء في أيام الخِدْر. ثم قلت: نعم كان ذلك الزمن سفيهًا، ولكنها سفاهة فن لا سفاهة عربدة وتصعلك كما هي اليوم. فنظرت إلي نظرة لن أنساها؛ نظرة كأنها تدمع، نظرة تقول بها: ألستُ إنسانة؟ فلم أملك أن قلت لها: تعالي تعالي. وجاءت أحلى من الأمل المعترض سنحت به الفرصة، ولكن ماذا قلت لها وماذا قالت؟

الجمال البائس "2"

الجمال البائس: "2" جاءت أحلى من الأمل المعترض سنحت به فرصة؛ وعلى أنها لم تَخْطُ إلينا إلا خطوة وتمامها، فقد كانت تجد في نفسها ما تجده لو أنها سافرت من أرض إلى أرض، ونقلها البعد النازح من أمة إلى أمة. يا عجبًا! إن جلوس إنسان إلى إنسان بإزائه، قد يكون أحيانًا سفرًا طويلًا في عالم النفس. فهذه الحسناء تعيش في دنيا فارغة من خِلال كثيرة: كالتقوى، والحياء، والكرامة، وسمو الروح، وغيرها؛ فإذا عرض لها من يشعرها بعض هذه الخلال، وينتزعها من دنيا اضطرارها وأخلاق عيشها ولو ساعة؛ فما تكون قد وجدت شخصًا، بل كشفت عالَمًا تدخله بنفس غير النفس التي تدبّرها في عالم رزقها. ولا أعجب من سحر الحب في هذا المعنى؛ فإن العاشق ليكون حبيبه إلى جانبه، ثم لا يحس إلا أنه طوى الأرض والسموات ودخل جنة الخلد في قبلة. جلست إلينا كما تجلس المرأة الكريمة الخَفِرة, تعطيك وجهها وتبتعد عنك بسائرها، وتُريك الغصن وتخبأ عنك أزهاره. فرأيناها لم تستقبل الرجل منا بالأنثى منها كما اعتادت؛ بل استقبلت واجبًا برعاية، وتلطفًا بحنان، وأدبًا من فن بأدب من فن آخر؛ وكان هذا عجيبًا منها؛ فكلمها في ذلك الأستاذ "ح" فقالت: أما واحدة, فإننا نتبع دائمًا محبة من نجالسهم، وهذه هي القاعدة. وأما الثانية, فإننا لا نجد الرجل إلا في الندرة؛ وإنما نحن مع هؤلاء الذين يتسوَّمون بسيما الرجال، كحيلة المحتال على غفلة المغفل؛ وهم معنا كالقدرة بالثمن ما يشتريه الثمن، ليسوا علينا إلا قهرًا من القهر؛ ولسنا عليهم إلا سلبًا من السلب، مادة مع مادة، وشر على شر؛ أما الإنسانية منا ومنهم فقد ذهبت أو هي ذاهبة. قال "ح": ولكن. فلم تدعه يستدرك بل قالت: "إن "لكن" هذه غائبة الآن, فلا تجيء في

كلامنا, أتريد دليلًا على هذا الانقلاب؟ إن كل إنسان يعلم أن الخط المستقيم هو أقرب مسافة بين نقطتين؛ ولكن كل امرأة منا تعلم أن الخط المعوج هو وحده أقرب مسافة بينها وبين الرجل. قالت: فإذا وجدتْ إحدانا رجلًا بأخلاقه لا بأخلاقها, ردتها أخلاقه إلى المرأة التي كانت فيها من قبل، وزادتها طبيعتها الزَّهْو بهذا الرجل النادر، فتكون معه في حالة كحالة أكمل امرأة، بيد أنه كمال الحلم الذي يستيقظ وشيكًا؛ فإن الرجل الكامل يكمل بأشياء، منها وا أسفا! منها ابتعاده عنا. ثم قالت: وصاحبك هذا منذ رأيته، رأيته كالكتاب يشغَل قارئه عن معاني نفسه بمعانيه هو. وضحكتُ أنا لهذا التشبيه، فمتى كان الكتاب عند هذه كتابًا يشغل بمعانيه؟ غير أني رأيتها قد تكلمت واحتفلت، وأحسنت وأصابت؛ فتركتها تتحدث مع الأستاذ "ح"، وغبت عنهما غيبة فكر؛ وأنا إذا فكرت انطبق علي قولهم: خَلِّ رجلًا وشأنه, فلا يتصل بي شيء مما حولي. وكان كلامها يسطع لي كالمصباح الكهربائي المتوقد، فقدّمها فكرها إلي غير ما قدمتها إلي نفسها، ورأيت لها صورتين في وقت معًا، إحداهما تعتذر من الأخرى. وكنت قبل ذلك بساعة قد كتبت في تذكرة خواطري هذه الكلمة التي استوحيتها منها؛ لأضعها في مقالة عنها وعن أمثالها، وهي: إذا خرجت المرأة من حدود الأسرة وشريعتها، فهل بقي منها إلا الأنثى مجردة تجريدها الحيواني المتكشف، المتعرض للقوة التي تناله أو ترغب فيه؟ وهل تعمل هذه المرأة عند ذلك إلا أعمال هذه الأنثى؟ "وما الذي استرعاها الاجتماع حينئذ فترعاه منه وتحفظه له، إلا ما استرعى أهلُ المال أهلَ السرقة! إن الليل ينطوي على آفتين: أولئك اللصوص، وهؤلاء النساء". وكيف ترى هذه المرأة نفسها إلا مشوهة ما دامت رذائلها دائمًا وراء عينيها، وما دام بإزاء عينيها دائمًا الأمهات والمحصنات من النساء، وليس شأنها، من شأنهن؟ إن خيالها يحرز في وعيه صورتها الماضية من قبل أن تزِلّ؛ فإذا خلت إلى نفسها كانت فيها اثنتان، إحداهما تلعن الأخرى، فترى نفسها من ذلك على ما ترى. "وهي حين تطالع مرآتها لتتبرج وتحتفل في زينتها، تنظر إلى خيالها في المرآة بأهواء الرجال لا بعيني نفسها؛ ولهذا تبالغ أشد المبالغة؛ فلا تُعنَى بأن تظهر

جميلة كالمرأة، بل مثمرة كالتاجر, وتكسُّبها بجمالها يكون أول ما تفكر فيه؛ ومن ذلك لا يكون سرورها بهذا الجمال إلا على قدر ما تكسب منه؛ بخلاف الطبع الذي في المرأة، فإن سرورها بمسحة الجمال عليها هو أول فكرها وآخره". "إن الساقطة لا تنظر في المرآة -أكثر ما تنظر- إلا ابتغاء أن تتعهد من جمالها ومن جسمها مواقع نظرات الفجور وأسباب الفتنة، وما يستهوي الرجل وما يفسد العفة عليه؛ فكأن الساقطة وخيالها في المرآة، رجل فاسق ينظر إلى امرأة، لا امرأة تنظر إلى نفسها". ذهبتُ أفكر في هذه الكلمة التي كتبتُها قبل ساعة، ولم أستطع أن ألمس في هذه القضية وجه القاضي؛ فدخلتني رقة شديدة لهذا الجمال الفاتن، الذي أراه يبتسم وحوله الأقدار العابسة؛ ويلهو وبين يديه أيام الدموع؛ ويجتهد في اجتذاب الرجال والشبان إلى نفسه، والوقت آتٍ بالرجال والشبان الذين سيجتهدون في طرده عن أنفسهم. وتغشّاني الحزن، ورأتْ هي ذلك وعرفتْه؛ فأخرجتْ منديلها المعطر ومسحت وجهها به، ثم هزته في الهواء، فإذا الهواء منديل معطر آخر مسحت به وجهي. وقال الأستاذ "ح": آه من العطر! إن منه نوعًا لا أستنشيه مرة إلا ردني إلى حيث كنتُ من عشرين سنة خلت، كأنما هو مسجل بزمانه ومكانه في دماغي. فضحكت هي وقالت: إن عطرنا نحن النساء ليس عطرًا, بل هو شعور نُثبته في شعور آخر. فقلت أنا: لا ريب أن لهذه الحقيقة الجميلة وجهًا غير هذا. قالت: وما هو؟ قلت: إن المرأة المعطرة المتزينة، هي امرأة مسلحة بأسلحتها. أفي ذلك ريب؟ قالت: لا. قلت: فلماذا لا يسمى هذا العطر بالغازات الخانقة الغرامية؟ فضحكت فنونًا؛ ثم قالت: وتسمى "البودرة" بالديناميت الغرامي. ونقلني ذلك إلى نفسي مرة أخرى، فأطرقت إطراقة؛ فقالت: ما بك؟ قلت: بي كلمة الأستاذ "ح"، إنها ألهبت في قلبي جمرة كانت خامدة. قالت: أو حركت نقطة عطر كانت ساكنة! فقلت: إن الحب يضع روحانيته في كل أشيائه، وهو يغير الحالة النفسية للإنسان، فتتغير بذلك الحالة للأشياء في وهم المحب. "فعطر كذا" مثلًا هو

نوع شذيّ من العطر، طيب الشَّمِيم، عاصف النشوة، حادّ الرائحة؛ لكأنه ينشر في الجو روضة قد مُلئت بأزهاره تُشم ولا تُرى؟ وإنه ليجعل الزمن نفسه عَبِقًا بريحه, وإنه ليُفعم كل ما حوله طيبًا، وإنه ليسحر النفس فيتحول فيها. وهنا ضحكت وقطعت علي الكلام قائلة: يظهر لي أن "عطر كذا" هاجر أو مخاصم. قلت: كلا، بل خرج من الدنيا وما انتشقتُ أَرَجه مرة إلا حسبته ينفَح من الجنة. فما أسرع ما تلاشى من وجهها الضحك وهيئته، وجاءت دمعة وهيئتها, ولمحت في وجهها معنى بكيت له بكاء قلبي. جمالها، فتنتها، سحرها، حديثها، لهوها؛ آه حين لا يبقى لهذا كله عين ولا أثر، آه حين لا يبقى من هذا كله إلا ذنوب، وذنوب، وذنوب! وأردنا أنا و"ح" بكلامنا عن الحب وما إليه، ألا نُوحشها من إنسانيتنا، وأن نَبُل شوقها إلى ما حُرمته من قدرها قدر إنسانة فيما نتعاطاه بيننا. والمرأة من هذا النوع إذا طمعت فيما هو أغلى عندها من الذهب والجوهر والمتاع؛ طمعت في الاحترام من رجل شريف متعفف، ولو احترام نظرة، أو كلمة. تقنع بأقل ذلك وترضى به؛ فالقليل مما لا يدرك قليله، هو عند النفس أكثر من الكثير الذي ينال كثيره. ومثل هذه المرأة، لا تدري أنت: أطافت بالذنب أم طاف الذنب بها؟ فاحترامها عندنا ليس احترامًا بمعناه، وإنما هو كالوُجُوم أمام المصيبة في لحظة من لحظات رهبة القدر, وخشوع الإيمان. وليست امرأة من هؤلاء إلا وفي نفسها التندم والحسرة واللهفة مما هي فيه، وهذا هو جانبهن الإنساني الذي يُنظر إليه من النفس الرقيقة بلهفة أخرى، وحسرة أخرى، وندم آخر. كم يرحم الإنسان تلك الزوجة الكارهة المرغمة على أن تعاشر من تكرهه، فلا يزال يغلي دمها بوساوس وآلام من البغض لا تنقطع! وكم يرثي الإنسان للزوجة الغيور، يغلي دمها أيضًا ولكن بوساوس وآلام من الحب! ألا فاعلم أن كل مَنْ مثل هذه الحسناء تحمل على قلبها مثل هم مائة زوجة كارهة مرغَمة مستعبَدة، يخالطه مثل هم مائة زوجة غيور مكابدة منافسة؛ ولقد تكون المرأة منهن في العشرين من سنها وهي مما يكابد قلبها في السبعين من عمر قلبها أو أكثر. وهذه التي جاءتنا إنما جاءتنا في ساعة منا نحن لا منها هي، ولم تكن معنا لا في زمانها ولا في مكانها ولا في أسبابها، وقد فتحت الباب الذي كان مغلقا في

قلبها على الخفَر والحياء، وحولت جمالها من جمال طابعه الرذيلة، إلى جمال طابعه الفن، وأشعرت أفراحها التي اعتادتها روح الحزن من أجلنا، فأدخلت بذلك على أحزانها التي اعتادتها روح الفرح بنا. من ذا الذي يعرف أن أدبه يكون إحسانًا على نفس مثل هذه ثم لا يحسن به1؟ تتجدد الحياة متى وجد المرء حالة نفسية تكون جديدة في سرورها. وهذه المرأة المسكينة لا يعنيها من الرجل من هو, ولكن كم هو ... لم تر فينا نحن الرجل الذي هو "كم"، بل الذي هو "من". وقد كانت من نفسها الأولى على بعد قصي كالذي يمد يده في بئر عميقة ليتناول شيئًا قد سقط منه؛ فلما جلستْ إلينا، اتصلت بتلك النفس من قرب؛ إذ وجدت في زمنها الساعة التي تصلح جسرًا على الزمن. قال الراوي: كذلك رأيتها جديدة بعد قليل، فقلت للأستاذ "ح": أما ترى ما أراه؟ قال: وماذا ترى؟ فأومأت إليها وقلت: هذه التي جاءت من هذه. إن قلبها ينشر الآن حولها نورًا كالمصباح إذا أضيء، وأراها كالزهرة التي تفتحت؛ هي هي التي كانت، ولكنها بغير ما كانت. فقالت هي: إني أحسبك تحبني؛ بل أراك تحبني؛ بل أنت تحبني, لم يخف علي منذ رأيتك ورأيتني. قلت: هبيه صحيحًا، فكيف عرفته ولم أصانعك، ولم أتملق لك، ولم أزد علي أن أجيء إلى هنا لأكتب؟ قالت: عرفته من أنك لم تصانعني، ولم تتملق لي، ولم تزد على أن تجيء إلى هنا لتكتب. قلت: ويحك، لو كُحلت عين "الميكرسكوب" لكانت عينك. وضحكنا جميعًا؛ ثم أقبلت على الأستاذ "ح" فقلت له: إن القضايا إذا كثر ورودها على القاضي جعلت له عينًا باحثة.

_ 1 في كتابنا "السحاب الأحمر" فصل طويل عنوانه "الربيطة"، كتبناه في مثل موضوع "الجمال البائس"، غير أنه بمنحى آخر ومعانٍ أخرى. والربيطة هي الكلمة العربية التي تقابل كلمة MAITRESSE يريد بها الأوروبيون المرأة البغي ترتبط بأجر في دار الرجل لتحل محل الزوجة.

قال الراوي: وأنظر إليها، فإذا وجهها القمري الأزهر قد شَرِق لونه، وظهر فيه من الحياء ما يظهر مثله على وجه العذراء المخدّرة إذا أنت مسستها برِيبة1؛ فما شككت أنها الساعة امرأة جديدة قد اصطلح وجهها وحياؤها، وهما أبدًا متعاديان في كل امرأة مكشوفة العفة. وذهبت أستدرك وأتأول، فقلت لها: ما ذلك أردتُ، ولا حَدَست على هذا الظن، وإنما أنا مشفق عليك متألم بك، وهل يعرض لك إلا الطبقة النظيفة من المجرمين والخبثاء وأهل الشر؛ أولئك الذين أعاليهم في دور الخلاعة والمسارح، وأسافلهم في دور القضاء والسجون؟ فقالت: أعترف بأنك لم تحسن قلب الثوب، فظهر لكل عين أنه مقلوب، لكنك تحبني وهذا كافٍ أن ينهض منه عُذْر! قال الأستاذ "ح": إنه يحبك، ولكن أتعرفين كيف حبه؟ هذا باب يضع عليه دائمًا عدة من الأقفال. قالت: فما أيسر أن تجد المرأة عدة من المفاتيح. قال: ولكنه عاشق ينير العشق بين يديه؛ فكأنه هو وحبيبته تحت أعين الناس: ما تطمع إلا أن تراه، وما يطمع إلا أن يراها، ولا شيء غير ذلك؛ ثم لا يزال حسنها عليه ولا يزال هواه إليها، وليس إلا هذا. قالت: إن هذا لعجيب. قال: والذي هو أعجب أن ليس في حبه شيء نهائي، فلا هجر ولا وصل؛ ينساك بعد ساعة، ولكنك أبدًا باقية بكل جمالك في نفسه. والصغائر التي تُبكي الناس وتتلذع في قلوبهم كالنار ليجعلوها كبيرة في همهم ويطفئوها وينتهوا منها ككل شهوات الحب, تبكيه هو أيضًا وتعتلج في قلبه، ولكنها تظل عنده صغائر ولا يعرفها إلا صغائر؛ وهذا هو تجبره على جَبَّار الحب. قال الراوي: ونظرت إليها ونظرت، وعاتبت نفس نفسًا في أعينهما، وسألت السائلة وأجابت المجيبة، ولكن ماذا قلت لها وماذا قالت؟

_ 1 أي: لأنها ظنت أنه يقول: إنها اعتادت الرجال.

الجمال البائس "3"

الجمال البائس: "3" قال الراوي: نظرت إليها ونظرت: أما هي، فَرَنت إلي في سكون، وكانت نظرتها معاتبة طويلة التملق والتوجع, وفيها الانكسار والفُتور، وفيها الاسترخاء والدلال. وبينا كان طَرْفها ساجيًا فاترًا كأنه ينظر أحلامه، إذ حدَّدَتْه إلي فجأة ونظرت نظرة مدهوش، فبدت عيناها فزعتين ولكن في وجه مطمئن. ثم لم تكد تفعل حتى ضيقت أجفانها وحدّقت النظر متلألئًا بمعانيه، فبدت عيناها ضاحكتين ولكن في وجه متألم. ثم ابتسمت بوجهها وعينيها معًا، وأتمت بذلك أجمل أساليب المرأة الجميلة المحبوبة في اعتراضها على من تحبه، وجدالها مع فكره، وكسر حجته في كبريائه، وانتزاع الفكرة المستقلة من نفسه. وأما أنا؛ فكان نظري إليها ساكنًا متألمًا يقر أنه عجز عن جواب عينيها, وسيبقى عاجزًا عن جواب عينيها. إن وجهها هو الابتسام وروح الابتسام، وجسمها هو الإغراء وروح الإغراء، وفنها هو الفتنة وروح الفتنة, وهي بهذا كله هي الحب وروح الحب؛ غير أن فهمها على حقيقتها في الناس يجعل ابتسامها عداوة من وجهها، وإغراءها جريمة لجسمها، وفنها رذيلة في جمالها؛ وهي بهذا كله هي الشقاء وروح الشقاء. أما أني أحب فنَعَمْ ونِعِمَّا، بل أراه حبًّا فالقًا كبدي، وليس يخلو فؤادي أبدًا من سوالف حب مضى؛ وأما أني أسترذل في الحب وأمتهن فضيلتي وأنزل بها، فلا وأبدًا. إن ذلك الحب هو عندي عمل فني من أعمال النفس، ولكن الفضيلة هي النفس ذاتها؛ الحب أيام جميلة عابرة في زمني؛ أما الفضيلة فهي زمني كله؛ وذلك

الجمال هو قوة من جاذبية الأرض في مدتها القصيرة، ولكن الفضيلة جاذبية السماء في خلودها الأبدي. على أنه لا منافرة بين الحب والفضيلة في رأيي، فإن أقوى الحب وأملأه بفلسفة الفرح والحزن، لا يكون إلا في النفس الفاضلة المتورعة عن مقارفة الإثم. وههنا يتحول الحب إلى ملكة سامية في إدراك معاني الجمال، فيكون الوجه المعشوق مصدر وحي للنفس العاشقة؛ وبهذا الوحي والاستمداد منه ينزل المحب من المحبوب منزلة من يرتفع بالآدمية إلى الملائكية1؛ ليتلقى النور منها فنًّا بعد فن، والفرح معنًى بعد معنى، والحزن السماوي فضيلة بعد فضيلة. فهذا الحب هو طريقة نفسية لاتساع بعض العقول المهيأة للإلهام، كي تحيط بأفراح الحياة وأحزانها، فتبدع للدنيا صورة من صور التعبير الجميلة التي تثير أشواق النفس؛ كأن كل محل وحبيبته من هؤلاء الملهمين، هما صورة جديدة من آدم وحواء، في حالة جديدة من معنى ترك الجنة، لإيجاد الصورة الجديدة من الفرح الأرضي, والحزن السماوي. والخطر في الحب ألا يكون فيه خطر, فهو حينئذ نداء الجنس، لا يكون إلا دنيئًا ساقطًا مبذولًا، فلا قيمة له ولا وحي فيه؛ إذ يكون احتيالًا من عمل الغريزة جاءت فيه لابسة ثوبها النوراني من شوق الروح لتخدع النفس الأخرى فيتصل بينهما، حتى إذا اتصل بينهما خلعت الغريزة هذا الثوب واستعلنت أنها الغريزة، فانحصر الحب في حيوانيته، وبطلت أشواقه الخيالية أجمع. قال الراوي: وعرفت الحسناء هذا كله من عَرْضها نظرة وتلقيها نظرة غيرها، فقالت للأستاذ "ح": أما أن يكون مع أثر الشعر والفكر في الجمال ودعوى الحب، أثر الزهد في الجسم الجميل وادعاء الفضيلة؛ فإن بعيدًا أن يجتمعا. قال "ح": وأين تُبعدينه -ويحك- عن هذه المنزلة؟ إني لأعرف من هو أعجب من هذا!! قالت: وماذا بقي من العجب فتعرفه؟

_ 1 نحن لا ننسب للملائكة إلا على خلاف القاعدة المقررة في علم الصرف، ونرى أن مخالفة القاعدة هي القاعدة في هذه اللفظة, وفي ألفاظ أخرى.

قال: أعرف متزوجًا، أحب أشد الحب وأَمَضّه، حتى استهام وتدلّه، فكان مع هذا لا يكتب رسالة إلى حبيبته حتى يستأذن فيها زوجته، كيلا يعتدي على شيء من حقها. وزوجته كانت أعرف بقلبه وبحب هذا القلب، وهي كانت أعلم أن حبه وسُلْوانه إنما هما طريقتان في الأخذ والترك بين قلبه وبين المعاني، تارة من سبيل المرأة وجمالها، وتارة من سبيل الطبيعة ومحاسنها. فتنهّدت وقالت: يا عجبًا! وفي الدنيا مثل هذا الزوج الطاهر، وفي الدنيا مثل هذه الزوجة الكريمة؟ ثم إنها وَجَمَتْ هُنَيْهَةً تجتمع في نفسها اجتماع السحابة، ثم استدمعتْ، ثم أرسلت عينيها تبكي؛ فبدرت أنا أُرَفِّه عنها حتى كفكفت من دمعها، وكأن "ح" قد وخزها في قلبها وخزة أليمة بذكره لها الزوجة, ثم الزوجة الطاهرة، ثم الطاهرة حتى في وسوسة شيطان الغيرة. ارتفع ثلاث مرات بالزوجة، لترى هذه المسكينة أنها سافلة ثلاث مرات, وكأنه بهذا لم يكلمها، بل رسم لها صورتها في عيشها المخزي, وقال لها: انظري. ويا ما كان أجملها يترقرق الدمع في عينيها الفاتنتين الكحيلتين، فيبث منهما حزنًا يخيل لمن رآه، أنه من أجلها سيُحزن الوجود كله! ليس البكاء من هاتين العينين بكاء عند من يراه إذا كان من العاشقين، بل هو فن الحزن يضع جمالًا جديدًا في فن الحسن. وأكاد أعجب كيف وجد الدمع مكانًا بين المعاني الضاحكة في وجهها، لو لم يكن هذا الدمع قد جاء ليُظهر على وجهها الفن الآخر من جمال المعاني الباكية. وسألتها: ما الذي خامر قلبكِ من كلام الأستاذ "ح" فأبكاكِ، وأنت كما أرى يتألق النور على جدران المكان الذي تَحُلّين به، فيظهر المكان وكأنه يضحك لك؟ فتشكَّكت لحظة ثم قالت: أبك ما تقول أم أنت تتهكم بي؟ قلت: كيف يخطر لك هذا وأنا أحترم فيك ثلاث حقائق: الجمال، والحب، والألم الإنساني؟ قالت: لا تثريب عليك1 ولكن صور إلي ببلاغتك كيف أحببتك وأنت غير متحبب إلي، وكيف جادلت نفسي فيك وداورتها، وكلما عزمت انحل عزمي؟ فهذا

_ 1 أي: لا عتب عليك.

ما لا أكاد أعرف كيف وقع، ولكنه وقع. هذه قطرة من الماء الصافي العذب، فضع عليها "الميكرسكوب" يا سيدي، وقل لي ماذا ترى؟ قلت: إنك تخرجين من السؤال سؤالًا, فما الذي خامر قلبك من كلام "ح" فبكيت له؟ قالت: إذن فليست هي قطرة من الماء، بل تلك دمعة من دموعي، فضع عليها الميكرسكوب يا سيدي. قال الراوي: وكانت حزينة كأنها لم تسكت عن البكاء إلا بوجهها، وبقيت روحها تبكي في داخلها. فأراد الأستاذ "ح" أن يستدرك لغلطته الأولى فقال: إنك الآن تسألينه حقًّا من حقوقك عليه، فكل امرأة يحبها هي عروس قلمه ولها على هذا القلم حق النفقة. فضحكت نوعًا من الضحك الفاتر، كأنما ابتكره ثغرها الجميل لساعة حزنها؛ ونظرتْ إليّ، فقلت: إن كان الأمر من نفقة العروس على القلم, فما أشبه هذا "بلا شيء" جُحا. فضحكتْ أظرف من قبل، وخيل إلي أن ثغرها انطبق بعد افتراره على قبلة أفلتت منه, فأمسكها من آخرها. ثم قالت: ما هو "لا شيء" جحا؟ قلت: زعموا أن جحا ذهب يحتطب، وحمل فوق ما يطيق، فبَهَظَه الحِمْل وبلغ به المشقة، ثم رأى في طريقه رجلًا أبله فاستعان به، فقال الرجل: كم تعطيني إذا أنا حملت عنك؟ قال: أعطيك "لا شيء". قال: رضيت. ثم حمل الأبله وانطلق معه حتى بلغ الدار، فقال: أعطني أجري, قال جحا: لقد أخذته. واختلفا: هذا يقول: أعطني، وهذا يقول: أخذت؛ فلبَّبه الرجل1 ومضى يرفعه إلى القاضي، وكانت بالقاضي لُوثة، وعلى وجهه رَوْءَة الحُمْق2 تخبرك عنه قبل أن يخبرك عن نفسه، فلما سمع الدعوى قال لجحا: أنت في الحبس أو تعطيه "اللا شيء".

_ 1 أخذ بتلابيبه. 2 اللوثة "بضم اللام": مَسّ من الجنون، وتكون أيضًا بمعنى الحمق، وروءة الحمق: علاماته، وهي معروفة في علم الفراسة.

قال جحا في نفسه: لقد احتجت لعقلي بين هذين الأبلهين؛ ثم إنه أدخل يده في جيبه وأخرجها مطبقة، وقال للرجل: تقدم وافتح يدي, فتقدم وفتحها. قال جحا: ماذا فيها؟ قال الرجل: "لا شيء". فقال له جحا: خذ "لا شيئك" وامض, فقد برئت ذمتي. قالوا: فذهب الرجل يحتج، فقال له القاضي: مَهْ! أنت أقررت أنك رأيت في يده "لا شيء"، وهو أجرك فخذه ولا تطمع في أزيد من حقك! وضحكتْ وضحكنا، ثم قالت: أنا راضية أن أكون عروس القلم، فليُجْرِ علي القلم نفقتي، وليُصوِّرْ لي كيف أحببت، وكيف آمرت نفسي وجادلتها؟ قلت: لا أتكلم عنكِ أنتِ ولا أستطيعه. بيد أنني لو صنفت رواية يكون فيها هذا الموقف، لوضعت على لسان العاشقة هذا الكلام تحدث به نفسها. تقول: كيف كنت وكيف صرت؟ لقد رأيتني أعاشر مائة رجل فأخالطهم في شتى أحوالهم، وأصرفهم في هواي، وكلهم يجهد جهده في استمالتي، وكلهم أهل مودة وبذل، وما منهم إلا جميل مخلص، قد أَنِق وتجمل وراع حسنه؛ كأنما هرب إلي في ثياب عرسه ليلة زفافه، وترك من أجلي عروسًا تبكي وتصيح بوَيْلها. ثم أنا مع ذلك مغلقة القلب دونهم جميعًا: أَصْدُقُهم المودة والصحبة، وأكذبهم الحب والهوى؛ فلست أحبهم إلا بما أنال منهم، ولست أتحبب إليهم إلا ما أُنَوِّلهم مني، وهم بين عقلي وحيلتي رجال لا عقول لهم، وأنا بين أهوائهم وحماقاتهم امرأة لا ذات لها. ثم أرى بغتة رجلًا فردًا, أكاد أنظر إليه وينظر إلي حتى يضع في قلبي مسألة تحتاج إلى الحل. وأرتاع لذلك فأحاول تناسيه والإغضاء عنه، فتلِجّ المسألة في طلب حلها، وتشغَل خاطري، وتتمدد في قلبي؛ وهو هو المسألة. فأفزع لذلك وأهتم له، وأجهد جهدي أن أكون مرة حازمة بصيرة، كرجال المال في حق الثروة عليهم؛ ومرة قاسية عنيدة، كرجال الحرب في واجبها عندهم؛ ومرة خبيثة منكرة، كرجال السياسة في عملها بهم؛ ولكني أرى المسألة تلين لي وتتشكَّل معي وتحتمل هذه الوجوه كلها، لتبقى حيث هي في قلبي؛ فإنه هو هو المسألة.

وأغتم لذلك غمًّا شديدًا، وأراني سأسقط بعد سقوطي الأول وأقبح منه؛ إذ الحياة عندنا قائمة بالخداع، وهذا يُفسده الإخلاص؛ وبالمكر، وهذا يعطله الوفاء؛ وبالنسيان، وهذا يبطله الحب؛ وإذ عواطفنا كلها متجردة لغرض واحد، هو كسب المال وجمعه وادخاره؛ وفضيلتنا عملية لا تُتخيَّل، حسابية لا تختل؛ فيستوي عندنا الرجل بلغ جماله القمر في سمائه، والرجل بلغت دَمَامته الذباب في أقذاره؛ والحب معنا هو: كم في كم ويبقى ماذا, أو كما يقول أهل السياسة: هو "النقطة العملية في المسألة". ولكن المسألة التي في قلبي لا ترى هذا حلًّا لها؛ لأنه هو هو المسألة. فيزيد بي الكرب، ويشتد علي البلاء، وأحتال لقلبي وأُدَبِّر في خنقه، وأذهب أقنعه أن الرجل إذا كان شريفًا لم يحب المرأة الساقطة؛ إذ يُعاب بصُحْبتها والاختلاف إليها، فإذا كان ساقطًا لم تحبه هي، فإنما هو صيدها وفريستها، وموضع نِقْمتها من هذا الجنس؛ وأشرف على قلبي في المَلَامة والتعذيل فأقول له: ويحك يا قلبي! إن المرأة منا إذا تفتح قلبها لحبيب، تفتح كالجرح لينزف دماءه لا غير. فيقتنع القلب ويجمع على أن ينسى، وأن يرجع عن طلبه الحب؛ وأرى المسألة قد بطلت وكان بطلانها أحسن حل لها، وأنام وادعة مطمئنة، فيأتي هو في نومي ويدخل في قلبي، ويعيد المسألة إلى وضعها الأول، فما أستيقظ إلا رأيته هو هو المسألة. فأتناهى في الخوف على نفسي من هذا الحب، وأراه سجنها وعقابها، وقهرها وإذلالها، فأقول لها: ويلك يا نفسي! إنما همك في الحياة وسائل الفوز والغَلَب، فأنتِ بهذا عدوة مسماة في غفلة الرجال صديقة، وقد وُضعت في موضع تعيشين فيه بإهانات من الرجال، يسمونها في نذالتهم بالحب؛ فأنت عدوة الرجال بمعنى من الدهاء والخبث، وعدوة الزوجات بمعنى من الحقد والضغينة، وعدوة البغايا أيضًا بمعنى من المغالبة والمنافسة، وكل ما يستطيع الدهاء أن يعمله فهو الذي علي أنا أن أعمله، فماذا أصنع وأنا أحب؟ وكيف أنجح وأنا أحب؟ ولكن النفس تجيبني على كل هذا بأن هذا كله بعيد عن المسألة, ما دام هو هو في المسألة. قال الراوي: وكانت كالذاهلة مما سمعتْ، ثم قالت: ألك شيطان في قلبي؟ فهذا كله هو الذي حدث في سبعة أيام. قال "ح": ولكن كيف يقع هذا الحب؟ وهَبْكَ صنفت تلك الرواية، ووضعت

على لسان العاشقة ذلك الكلام، فبماذا كنت تُنطقها في وصف حبها وما اجتذبها من رجل فاز بقلبها ولم يداورها، بعد مائة رجل كلهم داورها ولم يفز منهم أحد؟ أتكون في وجه هذا الرجل أنوار كتباشير الصبح تدل على النهار الكامن فيه؟ قالت هي: نعم نعم. بماذا كنت تنطقها؟ قلت: كنت أضع في لسانها هذا الكلام تجيب به عاذلة تعذلها: تقول: لا أدري كيف أحببته، ولكن هذه الشخصية البارزة منه جذبتني إليه، وجعلت الهواء فيما بيني وبينه مفعمًا بالمغناطيس مصدره، ومعناه هو، ولا شيء فيه إلا هو. عرضتْه لي شخصيته ظاهرًا لأن جواب شخصيته في، وأصبح في عيني كبيرًا لأن جواب شخصيتي فيه، ومن ذلك صارت أفكاري نفسها تزيده كل يوم ظهورًا, وتزيدني كل يوم بَصَرًا، وأعطاه حقُّه في الكمال عندي حقَّه في الحب مني؛ وبتلك الشخصية التي جوابها في نفسي، أصبح ضرورة من ضرورات نفسي. قال الراوي: ولما رأيتها في جوي كنسيمه وعاصفته، أردتها على قصتها وشأنها، فماذا قلت لها وماذا قالت؟

الجمال البائس "4"

الجمال البائس: "4" قلت لها: إن قلبي وقلبك يتجاليان1 في هذه الساعة ويتباكيان؛ أتدرين ماذا يقول لك قلبي؟ إنه ليقول عني: أعزز علي بأن تكوني ههنا، وأن تتألف منك هذه القصة التي تبدأ بالوصمة وتنتهي بالاستخذاء، فتنطلق المرأة في متالفها ومهاويها ليبلغ بها القدر ما هو بالغ؛ وليس إلا الضرورة وسطوتها بها، والإذلال ومهانته لها، والاجتماع وتهكمه عليها، والابتذال واستعباده إياها؛ ومهما يأتِ في القصة من معنى فليس فيها معنى الشرف؛ ومهما يكن من موقف فليس فيها موقف الحياء؛ ومهما يجر من كلام فليس فيها كلمة الزوجة، وأعزز علي بأن أرى المصباح الجميل المشبوب الذي وُضع ليضيء ما حوله، قد انقلب فجعل يُحرق ما حوله؛ وكان يتلألأ ويتوقد، فارتد يتسعَّر ويتضرم ويجني ما يتصل به، وسقط بذلك سقطة حمراء. أفتدرين ماذا يقول لي قلبك؟ إنه يقول عنك: يا بؤسنا من نساء! لقد وضعنا وضعًا مقلوبًا، فلا تستقيم الإنسانية معنا أبدًا، وكل شيء منقلب لنا متنكر؛ والشفقة علينا تنقلب من تلقاء نفسها تهكمًا بنا؛ فنبكي من شفقة بعض الناس، كما نبكي من ازدراء بعض الناس. يا بؤسنا من نساء! قالت: صدقتَ، وكذلك تنقلب أسباب الحياة معنا أسبابًا للمرض والموت؛ فاليقظة ليس لها عندنا النهار بل الليل، والصَّحْو لا يكون فينا بالوعي بل بالسُّكْر، والراحة لا تكون لنا في السكون والانفراد، بل في الاجتماع والتبذل؛ وماذا يرُدُّ على امرأة من واجباتها السهر والسكر والعربدة، والتبذل، وتدريب الطباع

_ 1 أي: يتكاشفان, ويجلو كلاهما للآخر ويوضح.

بالوقاحة، وتَضْرِيَة النفس على الاستغواء، والتصدي بالجمال للكسب من رذائل الفساق وأمراضهم، والتعرض لمعروفهم بأساليب آخرها الهوان والمذلة, واستماحتهم بأساليب أولها الخداع والمكر؟ إن حياة هذه هي واجباتها، لا يكون البكاء والهم إلا من طبيعة من يحياها، وكثيرًا ما نعالج الضحك لنفتح لأنفسنا طُرُقًا تتهارب فيها معاني البكاء؛ فإذا أثقلنا الهم وَجَلَّ عن الضحك وعجزنا عن تكلف السرور، خَتَلنا العقل نفسه بالخمر؛ فما تسكر المرأة منا للسكر أو النشوة، بل للنسيان، وللقدرة على المرح والضحك، ولإمداد محاسنها بالأخلاق الفاجرة، من الطيش والخلاعة والسفه وهَذَيان الجمال الذي هو شعره البليغ, عند بلغاء الفساق. قال الأستاذ "ح": أهذا وحاضر الغادة منكن هو الشباب والصبى والجمال وإقبال العيش، فكيف بها فيما تستقبل؟ قالت: إن المستقبل هو أخوف ما نخافه على أنفسنا، وليس من امرأة في هذه الصناعة إلا وهي معدة لمستقبلها: إما نوعًا من الانتحار، وإما ضربًا من ضروب الاحتمال للذل والخسف؛ وليس مستقبلنا هذا كمستقبل الثمار النضرة إذا بقيت بعد أوانها، فهو الأيام العفنة بطبيعة ما مضى، بلى إن مستقبل المرأة البغيّ هو عقاب الشر. قال "ح": هذا كلام ينبغي أن تعلمه الزوجات؛ فالمرأة منهن قد تتبرم بزوجها وتضجر وتغتم، وتزعم أنها معذبة؛ فتتسخط الحياة، وتندب نفسها؛ ثم لا تعلم أنه عذاب واحد برجل واحد، تألفه، فتعتاده، فتُرزق من اعتياده الصبر عليه، فيسكن بهذا نِفَارها؛ وتلك نعمة واجبها أن تحمد الله عليها، ما دام في النساء مثل الشهيدات، تتعذب الواحدة منهن فنونًا من العذاب بمائة رجل، وبألف رجل، وهم مع ذلك يبتلون روحها بعددهم من الذنوب والآثام. وقد تستثقل الزوجة واجباتها بين الزوج والنسل والدار، فتغتاظ وتشكو من هذه الرجرجة اليومية في الحياة؛ ثم لا تعلم أن نساء غيرها قد انقلبت بهن الحياة في مثل الخسف بالأرض. وقد تجزع للمستقبل وتنسى أنها في أمان شرفها، ثم لا تعلم أن نساء يترقبن هذا الآتي كما يترقب المجرم غد الجريمة، من يوم فيه الشرطة والنيابة والمحكمة وما وراء هذا كله.

فقلت: وهناك حقيقة أخرى فيها العزاء كل العزاء للزوجات، وهي أن الزوجة امرأة شاعرة بوجود ذاتها، والأخرى لا تشعر إلا بضياع ذاتها. والزوجة امرأة تجد الأشياء التي تتوزع حبها وحنان قلبها، فلا يزال قلبها إنسانيًّا على طبيعته، يفيض بالحب، ويستمد من الحب؛ والأخرى لا تجد في هذا شيئًا، فتنقلب وحشية القلب، يفيض قلبها برذائل، ويستمد من رذائل؛ إذ كان لا يجد شيئًا مما هيأته الطبيعة ليتعلق به من الزوج والدار والنسل. والزوجة امرأة هي امرأة خالصة الإنسانية، أما الأخرى فمن امرأة ومن حيوان ومن مادة مهلكة. وتمام السعادة أن النسل لا يكون طبيعيًّا مستقرًّا في قانونه إلا للزوجات وحدهن؛ فهو نعمتهن الكبرى، وثواب مستقبلهن وماضيهن، وبركتهن على الدنيا؛ ومهما تكن الزوجة شقية بزوجها، فإن زوجها قد أولدها سعادتها، وهذه وحدها مزية ونعمة؛ أما أولئك فليس لهن عاقبة1؛ إذ النسل قلب لحالتهن كلها؛ وهو غنى إنساني، ولكنه عندهن لا يكون إلا فقرًا؛ وهو رحمة، ولكنها لا تكون إلا لعنة عليهن وعلى ماضيهن. وقد وضعت الطبيعة في موضع حب الولد الجديد من قلوبهن، حب الرجل الجديد، فكانت هذه نقمة أخرى. قال "ح": أتريد من الرجل الجديد من يكون عندهن الثاني بعد الأول، أو الثالث بعد الثاني، أو الرابع بعد الثالث؟ قلت: ليس الجديد عليهن هو الواحد بعد الواحد إلى آخر العدد، ولكنه الرجل الذي يكون وحده بالعدد جميعًا؛ إذ هو عندهن يشبه الزوج في الاختصاص وفي شرف الحب، فهو الحبيب الشريف الذي تتعلقه إحداهن وتريد أن تكون معه شريفة, ولكنه من نقمة الطبيعة أن ممن وجدته منهن لا تجده إلا لتعاني ألم فقده. يا عجبًا! كل شيء في الحياة يلقي شيئًا من الهم أو النكد أو البؤس على هؤلاء المسكينات، كأن الطبيعة كلها ترجمهن بالحجارة. قالت هي: وليست الحجارة هي الحجارة فقط، بل منها ألفاظ تُرجَم بها المسكينة كألفاظك هذه, وكتسمية الناس لها "بالساقطة"؛ فهذه الكلمة وحدها صخرة لا حجر.

_ 1 يقال: ليس له عاقبة، أي: ليس له نسل وعقب.

ثم تنهدت وقالت: من عسى يعرف خطر الأسرة والنسل والفضيلة كما تعرفها المرأة التي فقدتها؟ إننا نحسها بطبيعة المرأة، ثم بالحنين إليها، ثم بالحسرة على فقدها، ثم برؤيتها في غيرنا؛ نعرفها أربعة أنواع من المعرفة إذا عرفتها الزوجة نوعًا واحدًا, ولكن هل ينصفنا الرجال وهم يتدافعوننا؟ هل يرضون أن يتزوجوا منا؟ قلت: ولكن الأسرة لا تقوم على سواد عيني المرأة وحمرة خديها، بل على أخلاقها وطباعها؛ فهذا هو السبب في بقاء المرأة الساقطة حيث ارتطمت؛ وهي متى سقطت كان أول أعدائها قانون النسل. ومن ثم كانت الزلة الأولى ممتدة متسحبة إلى الآخر؛ إذ الفتاة ليست شخصًا إلا في اعتبارها هي، أما في اعتبار غيرها فهي تاريخ للنسل، إن وقعت فيه غلطة فسد كله وكذب كله فلا يوثق به. وهذه الزلة الأولى هي بدء الانهيار في طباع رقيقة متداخلة متساندة، لا يقيمهما إلا تماسكها جملة؛ وما لم يتماسك إلا بجملته فأول السقوط فيه هو استمرار السقوط فيه؛ ولهذا لا يعرف الناس جريمة واحدة تعد سلسلة جرائم لا تنتهي، إلا سقطة المرأة؛ فهي جريمة مجنونة كالإعصار الثائر يلفّها لفًّا؛ إذا تتناول المرأة في ذاتها، وترجع على أهلها وذويها، وترعى إلى مستقبلها ونسلها؛ فيهتكها الناس هي وسائر أهلها من جاءت منهم ومن جاءوا منها. والمرأة التي لا يحميها الشرف لا يحميها شيء، وكل شريفة تعرف أن لها حياتين إحداهما العفة، وكما تدافع عن حياتها الهلاك, تدافع السقوط عن عفتها؛ إذ هو هلاك حقيقتها الاجتماعية؛ وكل عاقلة تعرف أن لها عقلين تحتمي بأحدهما من نزوات الآخر، وما عقلها الثاني إلا شرف عرضها. قال الأستاذ "ح": إن هذه هي الحقيقة، فما تسامح الرجال في شرف العرض إلا جعلوا المرأة كأنها بنصف عقل, فاندفعت إلى الطيش والفجور والخلاعة، أرادوا ذلك أم لم يريدوه. قلت: وهذا هو معنى الحديث: "عفوا تعف نساؤكم" فإن عفاف المرأة لا تحفظه المرأة بنفسها، ما لم تتهيأ لها الوسائل والأحوال التي تعين نفسها على ذلك؛ وأهم وسائلها وأقواها وأعظمها، تشدد الرجال في قانون العِرْض والشرف. فإذا تراخى الرجال ضعُفت الوسائل، ومن بين هذا التراخي وهذا الضعف تنبثق حرية المرأة متوجهة بالمرأة إلى الخير أو الشر، على ما تكون أحوالها

وأسبابها في الحياة. وهذه الحرية في المدنية الأوروبية قد عودت الرجال أن يغضوا ويتسمحوا، فتهافت النساء عندهم، تنال كل منهن حكم قلبها ويخضع الرجل. على أن هذا الذي يسميه القوم حرية المرأة، ليس حرية إلا في التسمية، أما في المعنى فهو كما ترى: إما شرود المرأة في التماس الرزق حين لم تجد الزوج الذي يعولها أو يكفيها ويقيم لها ما تحتاج إليه، فمثل هذه هي حرة حرية النكد في عيشها؛ وليس بها الحرية، بل هي مستعبَدة للعمل شر ما تستعبد امرأة. وإما طلاق المرأة في عَبَثَاتها وشهواتها, مستجيبة بذلك إلى انطلاق حرية الاستمتاع في الرجال، بمقدار ما يشتريه المال، أو تعين عليه القوة، أو يسوغه الطيش، أو يجلبه التهتك، أو تدعو إليه الفنون؛ فمثل هذه هي حرة حرية سقوطها؛ وما بها الحرية، بل يستعبدها التمتع. والثالثة حرية المرأة في انسلاخها من الدين وفضائله، فإن هذه المدنية قد نسخت حرام الأديان وحلالها بحرام قانوني وحلال قانوني، فلا مَسْقَطَة للمرأة ولا غَضَاضة عليها قانونًا ... فيما كان يُعدّ من قبلُ خزيًا أقبح الخزي وعارًا أشد العار؛ فمثل هذه هي حرة حرية فسادها، وليس بها الحرية، ولكن تستعبدها الفوضى. والرابعة غَطْرَسة المرأة المتعلمة، وكبرياؤها على الأنوثة والذكورة معًا؛ فترى أن الرجل لم يبلغ بعد أن يكون الزوج الناعم كقفاز الحرير في يدها، ولا الزوج المؤنث الذي يقول لها: نحن امرأتان, فهي من أجل ذلك مطلقة مخلاة كيلا يكون عليها سلطان ولا إِمْرة؛ فمثل هذه حرة بانقلاب طبيعتها وزيغها، وهي مستعبدة لهوسها وشذوذها وضلالتها. حرية المرأة في هذه المدنية أوّلها ما شئت من أوصاف وأسماء، ولكن آخرها دائمًا إما ضياع المرأة, وإما فساد المرأة. والدليل على التواء الطبيعة في المدنية، استواء الطبيعة في البادية؛ فالرجال هناك قوَّامون على النساء، والنساء بهذا قوَّامات على أنفسهن؛ إذ ينتقمون للمنكر انتقامًا يفور دمًا؛ وبهذه الوحشية يقررون شرف العرض في الطبيعة الإنسانية، ويجعلونه فيها كالغريزة، فيحاجزون بين الرجال والنساء أول شيء بالضمير الشريف الذي يجد وسائله قائمة من حوله.

قال الراوي: وغطت وجهها بيديها, وقالت: إنك لا تزال ترجم بالحجارة, إن فيك متوحشًا. قلت: بل متوحشة. إنكِ أنتِ قد تكلمتِ فيَّ، فجمالك الذي يضع الإنسان في ساعة مجنونة ليمتعه بطيشها، قد وضعنا نحن في ساعة مفكرة وأمتعنا بعقلها؛ وإذا قلت: جمالك، فقد قلت: وحيك، إذ لا جمال عندي إلا ما فيه وحي. أَمَا قلتِ: إنك لو خُيرت في وجودك لما اخترتِ إلا أن تكوني رجلًا نابغة يكتب ويفكر ويتلقى الوحي من الوجوه الجميلة؟ فدقت صدرها بيدها وقالت: أنا؟ أنا لم أقل هذا. ثم أفكرت لحظة وقالت: إذا كنت أنت تزعم أنني قلته، فأظن أنني قلته. قال "ح": رجل؛ ويكتب؛ ويفكر؛ ولم تقل هي شيئًا من هذا؟ أربع غلطات شنيعة من فساد الذوق. قالت: بل قل: أربع غلطات جميلة من فن الذوق؛ إن الرجل الظريف القوي الرجولة، يجب عليه أن يغلط إذا حدث المرأة. قال "ح": لتضحك منه؟ قالت: لا، بل لتضحك له. قلتُ: فلي إليك رجاء. قالت: إن صوتك يأمر، فقل. فماذا قلت لها وماذا قالت؟

الجمال البائس "5"

الجمال البائس: "5" قلت لها: إن كلمة الكفر لا تكون كافرة إذا أُكره عليها من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان، وكلمة الفجور أهون منها وأخف وزنًا وشأنا، ثم لا تكون إلا فاجرة أبدًا، إذ لا إكراه على هذه الدعارة إكراهًا لا خيار فيه. وما أول الدعارة إلا أن تمد المرأة طرفها من غير حياء، كما يمد اللص يده من غير أمانة. ومن اضطُرّ إلى الكفر استطاع أن يخبأ محراب المسجد في أعماقه فيصلي ثمة، ولكن الفجور لا يترك في النفس موضعًا لدين ولا إيمان؛ إذ هو دائب في إثارة الغرائز الطبيعية الحيوانية المسترسلة بلا ضابط، فيجعل المرأة تحيا بعيدة عن ضميرها؛ فيُضعف منها أول ما يضعف آثار الآداب والأخلاق، فيهلك فيها أول ما يهلك إحساسها بمعنى المرأة الإنسانية وشعورها بمجد هذا المعنى. فإذا انتهت المرأة إلى هذا، لم يكن لها مبدأ ولا عقيدة إلا أن على غيرها أن يتحمل عواقب أعمالها، وهذه بعينها هي حالة المجنون جنون عقله؛ أفلا تكون المرأة حينئذ مجنونة جنون جسمها؟ فساءها ذلك وبان فيها، ولكنها أمسكت على ما في نفسها؛ والمرأة من هؤلاء لا يمشي أمرها في الناس ولا يتصل عيشها، إلا إذا كثرت طباعها كثرة ثيابها، فهي تخلع وتلبس من هذه وتلك لكل يوم ولكل حالة ولكل رجل؛ فينبعث منها الغضب وهي في أنعم الرضى، كما ينبعث الرضى وهي في أشد الغيظ، كأن لم تغضب ولم ترض لأنها ليست لأحد ولا لنفسها. وتُساير غضبها ثم قالت: كأن كلامك أن لك رجاء إلي، فأنا أحب, أحب أن أعلم. قلت: وأنا كذلك أحب, أحب أن أعلم.

فضحكت وسُرِّي عنها، وثبتت على شفتيها ابتسامة لو جاء مَلَك من السماء ليضع في ثغرها ابتسامة أجمل منها، لما وجد أجمل منها. ثم قالت: تحب أن تعلم ماذا؟ قلت: أحب أن أعلم منك قصة هذه الحياة ما كان أولها؟ قالت: لقد قضيتَ من حكمك فينا، ولكنك أخطأت، فلكل ليل مظلم كوكبه؛ والكوكب الوقاد المعلق فوق ليل المرأة منا هو إيمانها؛ نعم إنه ليس كإيمان الناس في واجباته، لكنه كإيمان الناس في تعزيته، والله ربنا وربكم! قلت: لو أُطيع الله بمعصيته لاستقام لك هذا, وإنما أَنْ تصفي الإيمان الأول الذي كان عملًا، فصار ذكرى، فصارت الذكرى أملًا، فظننتِ الأمل هو الإيمان. قالت: ثم إننا جميعًا مكرهات على هذه الحياة، فما نحن إلا صرعى المصادمة بين الإرادة الإنسانية وبين القدر. قلت: ولكن لم تهفُ واحدة منكن في غلطتها الأولى وهي مستكرهة على غلطة؛ بل هي راغبة في لذة، أو مبادرة لشهوة، أو طالبة لمنفعة. قالت: هذا أحد الوجهين؛ أما الآخر فالتماس الرزق وصلاح العيش؛ فالرجل مع الرجل رأس ماله قوته، وعمله بقوته؛ ولكن المرأة مع الرجل رأس مالها أنوثتها وعمل أنوثتها. وفي الوجه الأول -وجه اللذة والمنفعة- تحتال كلمة الفجور على المرأة بكلمات رقيقة ساحرة، منها الحب والزواج والسعادة، فتستسلم المرأة مضطرة ليقع شيء من هذا. وفي الوجه الثاني -وجه الرزق والعيش- تحتال الكلمة الخبيثة الفاجرة على المرأة المسكينة المستضعفة بكلمات رهيبة قاتلة، منها الجوع والفقر والشقاء، فتسقط المرأة مضطرة خِيفة أن يقع شيء من هذا؛ وفي أحد الوجهين يكون الرجل هو الفاجر لفساد آدابه، وفي الوجه الآخر يكون الفاجر هو المجتمع لفساد مبادئه. قلت: أنا لا أنكر أن المرأة إذا سقطت في هذه المدنية، لم تقع أبدًا إلا في موضع غلطة من غلطات القوانين؛ وآفة هذه القوانين أنها لم تُسن لمنع الجريمة أن تقع، ولكن للعقاب عليها بعد وقوعها, وبهذا عجزت عن صيانة المرأة وحفظها، وتركتها لقانون الغريزة الوحشي في هؤلاء الوحوش الآدميين، الذين يأخذهم السُّعَار من هذه الرائحة التي لا يعرفونها إلا في اثنين: المرأة الجميلة والذهب. فما

ألجأت المرأة حاجتها أو فقرها إلى أحدهم ورأى عليها جمالًا، إلا ضربه ذلك السعار؛ فإن استخفَّتْ بنَزَوَاته وتعسرت عليه، طردها إلى الموت، ومنعها أن تعيش من قِبَله؛ وإن صلحت له وتيسرت، آواها هي وطرد شرفها. وبخلاف ذلك الدين؛ فإنه قائم على منع الجريمة وإبطال أسبابها، فهو في أمر المرأة يُلزم الرجل واجبات، ويُلزم المجتمع واجبات غيرها، ويُلزم الحكومة واجبات أخرى: أما الرجل فينبغي له أن يتزوج، ويتحصن، ويغار على المرأة، ويعمل لها؛ وأما المجتمع فيجب عليه أن يتأدب، ويستقيم، ويعين الفرد على واجبات الفضيلة، ويتدامج ويشد بعضه بعضًا؛ وأما الحكومة فعليها أن تحمي المرأة، فتعاقب على إسقاطها عقاب الموت والألم والتشهير؛ لتقيم من الثلاثة حُرَّاسًا جبابرة، من لا يخش الله خشيها؛ فليس يمكن أبدًا أن يكون في ديننا موضع غلطة تسقط فيه المرأة. قال الأستاذ "ح": صدقْتَ، فالحقيقة التي لا مِرَاء فيها، أن فكرة الفجور فكرة قانونية؛ وما دام القانون هو أباحها بشروط، فهو هو الذي قررها في المجتمع بهذه الشروط؛ ومن هذا التقرير يُقدم عليها الرجل والمرأة كلاهما على ثقة واطمئنان؛ ومن ثم تأتي الجرأة على اندفاع الناس إلى ما وراء حدود القانون، ومن هذا الاندفاع تأتي الساقطة بآخر معانيها وأقبح معانيها. وتقرير سيادة المرأة في الاجتماع الأوروبي، وتقديمها على الرجال، والتأدب معها؛ كل ذلك يجعل جراءة السفهاء عليها جراءة متأدبة، حتى كأن المتحكِّك منهم في امرأة يقول لها: من فضلك كوني ساقطة, أما هنا فجراءة السفهاء جراءة ووقاحة معًا، وذلك هو سرها. القانون كأنما يقول للرجال: احتالوا على رضى النساء، فإن رضين الجريمة فلا جريمة؛ ومن هذا فكأنه يعلمهم أن براعة الرجل الفاسق إنما هي في الحيلة على المرأة وإيقاظ الفطرة في نفسها، بأساليب من المَلَق والرياء والمكر، تتركها عاجزة لا تملك إلا أن تذعن وترضى؛ وبهذا ينصرف كل فاجر إلى إبداع هذه الأساليب التي تُطلق تلك الفطرة من حيائها، وتُخرِجها من عفتها، "تطبيقًا للقانون". ولا سيادة في اجتماعنا للمرأة، ولكن القانون جعلها سيدة نفسها، وجعلها فوق الآداب كلها، وفوق عقوبة القانون نفسه إذا رضيت؛ إذا رضيت ماذا؟

قلت: فإذا كان القانون هنا في مسألتنا هذه يعدل بالظلم، ويحمي الفضيلة بإطلاق حرية الرذيلة؛ فهو إنما يُفسد الدين، ويَصرف الناس عن خوف الله إلى خوف ما يخاف من الحكومة وحدها؛ وبهذا لا يكون عمله إلا في تصحيح الظاهر من الرجل والمرأة، ويدع الباطن يُسر ما شاء من خبثه وحيلته وفساده؛ فكأنه ليس قانونًا إلا لتنظيم النفاق وإحكام الخديعة؛ فلا جرم كان قانونًا لحالة الجريمة لا للجريمة نفسها؛ فإذا أُخذت المرأة ملايَنة ورضى فهذا فجور قانوني. وإن كانت الملاينة هي عمل الحيلة والتدبير، وإن كان الرضى هو أثر الخداع والمكر، وإن ضاعت المرأة وسقطت، وذهب شرفها باطلًا، وألحقه الناس بما لا يكون من توبة إبليس فلا يكون أبدًا. أما إذا أخذت المرأة مكارَهة وغَصْبًا، فهذه هي الجريمة في القانون؛ ويسميها القانون جريمة الاعتداء على العرض، وهي بأن تسمى جريمة العجز عن إرضاء المرأة، أحق وأولى. على أن المسكينة لم تؤخذ في الحالتين إلا غصبًا، ولكن اختلفت طريقة الرجل الغاصب؛ فإن كلتا الحالتين لم تَتَأدَّ بالمرأة إلا إلى نتيجة واحدة، هي إخراجها من شرفها، وحرمانها حقوق إنسانيتها في الأسرة، وطردها وراء حدود الاعتبار الاجتماعي، وتركها ثمة مُخَلَّاة لمجاري أمورها، فلا يتيسر لها العيش إلا من مثل الرجل الفاجر، فلا تكون لها بيئة إلا من أمثاله وأمثالها, كما يجتمع في الموضع الواحد أهل المصير الواحد، على طريقة القطيع في المجزرة. فقالت هي: الحق أن هذه الجريمة أولها الحب؛ وهي لا تقع إلا من بين نقيضين يجتمعان في المرأة معًا: كبر حبها إلى ما يفوت العقل، وصغر عقلها إلى ما ينزل عن الحب. والمرأة تظل هادئة ساكنة رزينة، حتى تصادفها اللِّحاظ النارية من العين المقدَّرة لها، فلا يكون إلا أن تملأها نارًا ولهبًا؛ ولتكن المرأة من هي كائنة، فإنها حينئذ كمستودع البارود، يَهُول عظمه وكبره، وهو لا شيء إذا اتصلت به تلك الشرارة المهاجمة. وليست حراسة المرأة شيئًا يؤبه به أو يعتد به أو يسمى حراسة، إلا إذا كانت كالتحفظ على مستودع البارود من النار؛ فيستوي في وسائلها الخوف من الشرارة الصغيرة، والفزع من الحريق الأعظم؛ فيُحتاط لاثنيهما بوسائل واحدة في قدر واحد, واعتبار واحد.

وإذا تُركت المرأة لنفسها تحرسها بعقلها وأدبها وفضلها وحريتها، فقد تُرك لنفسه مستودع البارود تحرسه جدرانه الأربعة القوية. والرجال يعلمون أن للمرأة مظاهر طبيعية، من الخُيَلاء والكبرياء والاعتداد بالنفس والمباهات بالعفة؛ لكن هؤلاء الرجال أنفسهم يعلمون كذلك، أن هذا الظاهر مخلوق مع المرأة كجلد جسمها الناعم، وأن تحته أشياء غير هذه تعمل عملها وتصنع البارود النسائي الذي سينفجر. قلت: إذا كان هذا, فقبَّح الله هذه الحرية التي يريدونها للمرأة. هل تعيش المرأة إلا في انتظار الكلمة التي تحكمها بلطف، وفي انتظار صاحب هذه الكلمة؟ قالت: إنه هذا حق لا ريب فيه، وأوسع النساء حرية أضيعهن في الناس؛ وهل كالمومس في حريتها في نفسها؟ ولكن يا شؤمها على الدنيا! إنها هي بعينها كما قلت أنت حرية المخلوق الذي يُترك حرا كالشريد، لتجرب فيه الحياة تجاريبها. وماذا في يد المرأة من حرية هي حرية القدر فيها؟ قلت: ولهذا لا أرجع عن رأيي أبدًا, وهو أنه لا حرية للمرأة في أمة من الأمم، إلا إذا شعر كل رجل في هذه الأمة بكرامة كل امرأة فيها، بحيث لو أُهينت واحدة ثار الكل فاستفادوا لها، كأن كرامات الرجال أجمعين قد أُهينت في هذه الواحدة؛ يومئذ تصبح المرأة حرة لا بحريتها هي، ولكن بأنها محروسة بملايين من الرجال. فضحكت وقالت: "يومئذ"! هذا اسم زمان أو اسم مكان؟ قال الأستاذ "ح": ولكنا أبعدنا عن قصة هذه الحياة، ما كان أولها؟ قالت: إن الشبان والرجال عِلْم يجب أن تعلمه الفتاة قبل أوان الحاجة إليه؛ ويجب أن يقر في ذهن كل فتاة، أن هذه الدنيا ليست كالدار فيها الحب، ولا كالمدرسة فيها الصداقة، ولا كالمحل الذي تبتاع منه منديلًا من الحرير أو زجاجة من العطر، فيه إكرامها وخدمتها. وأساس الفضيلة في الأنوثة الحياء؛ فيجب أن تعلم الفتاة أن الأنثى متى خرجت من حيائها وتهجَّمت، أي: توقَّحت، أي: تبذَّلت، استوى عندها أن تذهب يمينًا أو تذهب شمالًا، وتهيأت لكل منهما ولأيهما اتفق؛ وصاحبات

اليمين في كَنَف الزوج وظِلّ الأسرة وشرف الحياة، وصاحبات الشمال ما صاحبات الشمال. قلت: هذا هذا, إنه الحياء، الحياء لا غيره؛ فهل هو إلا وسيلة أعانت الطبيعة بها المرأة لتسمو على غريزتها متى وجب أن تسمو، فلا تلقى رجلًا إلا وفي دمها حارس لا يغفل. وهل هو إلا سلب جمعته الطبيعة إلى ذلك الإيجاب الذي لو انطلق وحده في نفس المرأة لاندفعت في التبرج والإغراء، وعرض أسرار أنوثتها في المعرض العام؟ قالت: ذاك أردت، فكل ما تراه من أساليب التجميل والزينة على وجوه الفتيات وأجسامهن في الطرق، فلا تعدنه من فَرْط الجمال، بل من قلة الحياء. واعلم أن المرأة لا تخضع حق الخضوع في نفسها إلا لشيئين: حيائها وغريزتها. قلت: يا عجبا! هذا أدق تفسير لقول تلك المرأة العربية: "تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها". فإن اختضعت المرأة للحياء كفَّت غريزتها. قالت: ... وجعلها الحياء صادقة في نفسها وفي ضميرها، فكانت هي المرأة الحقيقية الجديرة بالزوج والنسل وتوريث الأخلاق الكريمة وحفظها للإنسانية. قلتُ: ومن هذا يكون الإسراف في الأنوثة والتبرج أمام الرجال كذبًا من ضمير المرأة. قالت: ومن أخلاقها أيضًا؛ ألا ترى أن أشد الإسراف في هذه الأنوثة وفي هذا التبرج لا يكون إلا في المرأة العامة؟ قلت: والمرأة العامة امرأة تجارية القلب. فكأن المسرفة في أنوثتها وتبرجها، هذه سبيلها, فهي لا تُؤمَن على نفسها. قالت: قد تؤمن على نفسها، ولكنها أبدًا مُومِس الفكر في الرجال، فيوشك ألا تؤمن؛ وهي رهن بأحوالها وبما يقع لها، فقد يتقدم إليها الجريء وقد لا يتقدم، ولكنها بذلك كأنها معلنة عن نفسها أنها "مستعدة ألا تؤمن". قال "ح": لكن يقال: إن المرأة قد تتبرج وتتأنث لترى نفسها جميلة فاتنة، فيعجبها حسنها، فيسرها إعجابها. قالت: هذا كالقول: إن أستاذ الرقص الذي رأيتَهُ هنا، ينظر إلى نفسه كما ينظر رجل إلى راقصة تتأوّد وتهتز وتترجرج. إن هذا الرَّقَّاص فيه الحركة الفنية كما هي

حركة ليس غير؛ فهو كالميزان أو القياس أو أي آلات الضبط؛ أما فتنة الحركة وسحرها ومعناها من المرأة الفاتنة في وهم الرجل المفتون بها؛ فهذا كله لا يكون منه شيء في أستاذ الرقص؛ وإن كان أستاذ الرقص. إن أجمل امرأة تَبصُق بفمها على وجهها في المرآة، إذا محي الرجل من ذهنها، أو لم يطل بعينيه من وراء عينيها، أو لم تكن ممتلئة الحواس به، أو بإعجابه، أو بالرغبة في إعجابه؛ فمهما يكن من جمال هذه فإنها لا ترى وجهها حينئذ إلا كالدنيا إذا خلت من العدل. قلتُ: ولكنا أُبعدنا عن "قصة هذه الحياة ما كان أولها؟ ". قالت: سأفعل ذلك لموضعك عندي: إن قصتي في الفصل الأول منها هي قصة جمالي؛ وفي الفصل الثاني هي قصة مرض العذراء؛ وفي الفصل الثالث هي قصة الغفلة والتهاون في الحراسة؛ وفي الفصل الرابع هي قصة انخداع الطبيعة النسوية المبنية على الرقة وإيجاد الحب وتلقيه والرغبة في تنويعه أنواعًا للأهل والزوج والولد؛ ثم في الفصل الخامس هي قصة لؤم الرجل: كان محبًّا شريفًا يقسم بالله جهد أيمانه، فإذا هو كالمزوّر والمحتال واللص وأمثالهم ممن لا يُعرَفون إلا بعد وقوع الجريمة. ثم سكتتْ هُنَيْهة، فكان سكوتها يتم كلامها. وقال "ح": فما هو مرض العذراء الذي كان منه الفصل الثاني في الرواية؟ قالت: كل عذراء فهي مريضة إلى أن تتزوج؛ فيجب أن يُعْلِمها أهلها أن العلاج قد يكون مسمومًا؛ وينبغي أن يَحُوطوها بقريب من العناية التي يحاط المريض بها، فلا يُجعل ما حوله إلا ملائمًا له، ويُمنع أشياء وإن أحبها ورغب فيها، ويُكره على أشياء وإن عافها وصَدَف عنها. قال "ح": فيكون القانون الاجتماعي تصديقًا للقانون الديني من أن الذكورة هي في نفسها عداوة للأنوثة، وأن كل رجل ليس ذا رَحِم مَحْرَم1 يجب أن يكون مرفوضًا إلا في الحالة الواحدة المشروعة، وهي الزواج. قالت: فتكون المشكلة الاجتماعية هي: من ذا يُرغم الذكورة على هذه الحالة الواحدة المشروعة كيلا تضيع الأنوثة؟

_ 1 يقال: ذو رحم محرم, أي: لا يحل للمرأة، كأبيها وأخيها ... إلخ.

قال: ولكن إذا كان سقوط الفتاة هو جناية "الزواج المزور"، فما عسى أن يكون سقوط بعض المتزوجات؟ قالت: هو جناية "الزواج المنقَّح" ... تريد أنفسهن الخبيثة تنقيح الزوج؛ والمومسات أشرف منهن، إذ لا يعتدين على حق ولا يَخُنَّ أمانة. ورفَّ على وجهها في هذه اللحظة شعاع من الشمس كان على جبينها كصفاء اللؤلؤ، ثم تحول على خدها كإشراق الياقوت؛ ورأتْني أتأمله، فقالت: أنا منتشية بحظي في هذه الساعات؛ وهذا الشعاع إنما جاء يختم نورها. ثم كانت السخرية العجيبة أنها لم تتم كلمة النور حتى جاء حظها الحقيقي من حياتها ... وهو رجل يتحظاها؛ كلما أخذته عينها ابتسمت له ابتسامًا من الذل، لو لم تجعله هي ابتسامًا لكان دموعًا؛ ثم وقفت وما تتماسك من الهم، كأنها تمثال "للجمال البائس"؛ ثم حَيَّت وسَلَّمت ووَدَّعت؛ وبعد "واوات" أخرى مشت ساكنة, ومرآها يضج ويبكي. فوداعًا يا أوهام الذكاء التي تلمس الحقائق بقوة خالقة تزيد فيها! ووداعًا يا أحلام الفكر التي تضع مع كل شيء شيئًا يغيره! ووداعًا يا حبها.

عروبة اللقطاء ...

عروبة اللُّقَطاء *: جلستُ على ساحل الشاطبي في "إسكندرية" أتأمل البحر، وقد ارتفع الضحى، ولكن النهار لَدْن ناعم رطيب كأن الفجر ممتد فيه إلى الظهر. وجاءت عربة اللقطاء فأشرفت على الساحل، وكأنها في منظرها غَمَامة تتحرك, إذ تعلوها ظُلَّة كبيرة في لون الغيم. وهي كعربات النقل، غير أنها مسورة بألواح من الخشب كجوانب النعش تُمسك من فيها من الصغار أن يتدحرجوا منها إذ هي تدرج وتتقلقل. ووقفتْ في الشارع لتُنزل ركبها إلى شاطئ البحر؛ أولئك ثلاثون صغيرًا من كل سفيج لقيط ومنبوذ، وقد انكمشوا وتضاغطوا إذ لا يمكن أن تُمط العربة فتسعهم، ولكن يمكن أن يُكبَسوا ويتداخلوا حتى يشغل الثلاثة أو الأربعة منهم حيز اثنين. ومن منهم إذ تألم سيذهب فيشكو لأبيه ... ؟ وترى هؤلاء المساكين خليطًا ملتبسًا يشعرك اجتماعهم أنهم صيد في شبكة لا أطفال في عربة، ويدلك منظرهم البائس الذليل أنهم ليسوا أولاد أمهات وآباء، ولكنهم كانوا وساوس وآباء وأمهات. هذه العربة يجرها جوادان أحدهما أدهم والآخر كُمَيْت1, فلما وقفت لَوَى الأدهم عنقه والتفت ينظر: أيفرغون العربة أم يزيدون عليها؟ أما الكميت فحرك رأسه وعلك لجامه كأنه يقول لصاحبه: إن الفكر في تخفيف العبء الذي تحمله يجعله أثقل عليك مما هو، إذ يضيف إليه الهم، والهم أثقل ما حملت نفس؛ فما دمت في العمل فلا تتوهمن الراحة، فإن هذا يوهن القوة، ويخذل النشاط، ويجلب السأم؛ وإنما روح العمل الصبر، وإنما روح الصبر العزم.

_ * كتبها في مصيفه بسيدي بشر سنة 1935. 1 الأدهم: الأسود, والكميت: الأحمر.

ورآهم الأدهم يُنزلون اللقطاء، فاستخفه الطرب، وحرك رأسه كأنما يسخر بالكميت وفلسفته، وكأنما يقول له: إنما هو النزوع إلى الحرية، فإن لم تكن لك في ذاتها، فلتكن لك في ذاتك، وإذا تعذرت اللذة عليك، فاحتفظْ بخيالها، فإنه وصلتك بها إلى أن تمكن وتتسهل؛ ولا تجعلن كل طباعك طباعًا عاملة كادحة، وإلا فأنت أداة ليس فيها إلا الحياة كما تريدك، وليكن ذلك طبعا شاعرا مع هذه الطباع العاملة، فتكون لك الحياة كما تريدك وكما تريدها. إن الدنيا شيء واحد في الواقع؛ ولكن هذا الشيء الواحد هو في كل خيال دنيا وحدها. وفي العربة امرأتان تقومان على اللقطاء؛ وكلتاهما تزوير للأم على هؤلاء الأطفال المساكين؛ فلما سكنت العربة انحدرت منهما واحدة وقامت الأخرى تناولها الصغار قائلة: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة ... إلى أن تم العدد وخلا قفص الدجاج من الدجاج! ومشى الأطفال بوجوه يتيمة، يقرأ من يقرأ فيها أنها مستسلمة، مستكينة، معترفة أن لا حق لها في شيء من هذا العالم، إلا هذا الإحسان البخس القليل. جاءوا بهم لينظروا الطبيعة والبحر والشمس، فغفل الصغار عن كل ذلك وصرفوا أعينهم إلى الأطفال الذين لهم آباء وأمهات. وا كبدي! أضنى الأسى كبدي؛ فقد ضاق صدري بعد انفساحه, ونالني وجع الفكر في هؤلاء التعساء، وعرتْني منهم علة كدَسّ الحمى في الدم؛ وانقلبتُ إلى مثواي، والعربة وأهلها ومكانها وزمانها في رأسي. فلما طاف بي النوم طاف كل ذلك بي، فرأيتني في موضعي ذاك، وأبصرت العربة قد وقفت، وتحاور الأدهم والكميت؛ فلما أفرغوها وشعر الجوادان بخفتها التفتا معًا، ثم جمعا رأسيهما يتحدثان! قال الكميت: كنت قبل هذا أجر عربة الكلاب التي يقتلها الشرطة بالسم، فآخذ الموت لهذه الكلاب المسكينة، ثم أرجع بها مَوْتَى؛ وكنت أذهب وأجيء في كل مراد ومضطرب من شوارع المدينة وأزقَّتها وسِكَكها، ولا أشعر بغير الثقل الذي أجره؛ فلما ابتُليتُ بعربة هؤلاء الصغار الذين يسمونهم اللقطاء، أحسست ثقلًا آخر وقع في نفسي

وما أدري ما هو؟ ولكن يخيل إلي أن ظل كل طفل منهم يُثقل وحده عربة. قال الأدهم: وأنا فقد كنت أجر عربة القُمامة والأقذار، وما كان أقذرها وأنتنها، ولكنها على نفسي كانت أطهر من هؤلاء وأنظف؛ كنت أجد ريحها الخبيثة ما دمت أجرها؛ فإذا أنا تركت العربة استروحت النسيم واستطعمت الجو، أما الآن فالريح الخبيثة في الزمن نفسه، كأن هذا الزمن قد أروح وأنتن منذ قُرنتُ بهؤلاء وعربتهم. قال الكميت: إن ابن الحيوان يستقبل الوجود بأمه, إذ يكون وراءها كالقطعة المتممة لها، ولا تقبل أمه إلا هذا، ولا يصرفها عنه صارف، فتُرغم الوجود على أن يتقبل ابنها، وعلى أن يعطيه قوانينه؛ أما هؤلاء الأطفال فقد طردهم الوجود منه كما طرد الله آباءهم وأمهاتهم من رحمته؛ وقد هُديتُ الآن إلى أن هذا هو سر ما نشعر به؛ فلسنا نجر للناس ولكن للشياطين. وهنا وقف على حُوذيّ العربة صديق من أصدقائه فقال: من هؤلاء يا أبا علي؟ قال الحوذي: هؤلاء هؤلاء يا أبا هاشم. قال أبو هاشم: سبحان الله, أما تترك طبعك في النكتة يا شيخ؟ قال الحوذي: وهل أعرفهم أنا؟ هم بضاعة العربة والسلام, اركبوا يا أولاد، انزلوا يا أولاد, هذا كل ما أسمع. قال أبو هاشم: ولكن ما بالك ساخطًا عليهم، كأنهم أولاد أعدائك؟ قال الحوذي: ليت شعري من يدري أي رجل سيخرج من هذا الطفل، وأية امرأة ستكون من هذه الطفلة؟ انظر كيف تعلقت هذه البنت وعمرها سنتان، في عنق هذا الولد الذي كان من سنتين ابن سنتين1, لا أراني أحمل في عربتي أطفالًا كالأطفال الذين تحملهم العربات إلى أبواب دورهم؛ فإن هؤلاء اللقطاء يُحمَلون إلى باب الملجأ، وهو باب للحارات والسكك لا يأخذ إلا منها، فلا يرسل إلا إليها. أنا -والله- يا أبا هاشم، ضيق الصدر، كاسف البال من هذه المهنة؛ ويخيل إلي أني لا أحمل في عربتي إلا الجنون والفجور والسرقة والقتل والدعارة والسكر وعواصف وزوابع.

_ 1 تعبير بالنكتة على طريقة ظرفاء البلديين من أمثال "أبي علي"، والمراد أنه ابن أربع سنوات.

قال أبو هاشم: ولكن هؤلاء الأطفال مساكين، ولا ذنب لهم. قال الحوذي: نعم لا ذنب لهم، غير أنهم هم في أنفسهم ذنوب؛ إن كل واحد من هؤلاء إن هو إلا جريمة تثبت امتداد الإثم والشر في الدنيا؛ ولدتهم أمهاتهم لِغَيَّة1. فقطع صاحبه عليه وقال: هل وَلَدْنَهم إلا كما تلد سائر الأمهات أولادهن؟ قال: نعم، إنه عمل واحد، غير أن أحواله في الجهتين مختلفة لا تتكافأ؛ وهل تستوي حال من يشتري المتاع، ومن يسرق المتاع؟ ههنا باعث من الشهوة قد عجز أن يسمو سموه -وما سموه إلا الزواج- فتسفَّل وانحط، ورجع فسقًا، وعاد أوله على آخره. كان أوله جُرْمًا فلا يزال إلى آخره جرْمًا، ولا يزال أبدًا يعود أوله على آخره؛ فلما حملت المرأة وفاءت إلى أمرها، وذهب عنها جنون الرجل والرجل معًا؛ انطوت للرجال على الثأر والحقد والضغينة؛ فلا يكون ابن العار إلا ابن هذه الشرور أيضًا. والأمهات يُعددن لأجنّتهن الثياب والأكسية قبل أن يولدوا، ويهيئن لهم بالفكر آمالًا وأحلامًا في الحياة، فيكسبنهم في بطونهن شعور الفرح والابتهاج، وارتقاب الحياة الهنيئة، والرغبة في السمو بها؛ ولكن أمهات هؤلاء يعددن لهم الشوارع والأزقة منذ البدء، ولا تترقب إحداهن طول أشهر حملها أن يجيئها الوليد، بل أن يتركها حيًّا أو مقتولًا؛ فيُورثنهم بذلك وهم أجنة شعور اللهفة والحسرة والبغض والمقت، ويطبعنهم على فكرة الخطيئة والرغبة في القتل، فلا يكون ابن العار إلا ابن هذه الرذائل أيضًا. وتظل الفاسقة مدة حملها تسعة أشهر في إحساس خائف، مترقب، منفرد بنفسه، منعزل عن الإنسانية، ناقم، متبرم، متستر، منافق؛ فلو كان السفيح من أبوين كريمين لجاء ثعبانًا آدميًّا فيه سمه من هذا الإحساس العنيف. ومتى ألقت الفاسقة ذا بطنها2 قطعته لتوه من روابط أهله وزمنه وتاريخه ورمت به ليموت؛ فإن هلك فقد هلك، وإن عاش لمثل هذه الحياة فهو موت آخر شر من ذلك؛ ومهما يتوله الناس والمحسنون، فلا يزال أوله يعود على آخره؛ مما في دمه

_ 1 ولدته لغية أي: من سفاح, وضده: لرشده بفتح الراء. 2 أي: وضعت وولدت، وهو تعبير عربي بليغ.

وطباعه الموروثة؛ ولا يبرح جريمة ممتدة متطاولة، ولا ينفك قصة فيها زانٍ وزانية، وفيها خطيئة ولعنة. فهؤلاء -كما رأيت- أولاد الجرأة على الله، والتعدي على الناس، والاستخفاف بالشرائع، والاستهزاء بالفضائل؛ وهم البغض الخارج من الحب، والوقاحة الآتية من الخجل، والاستهتار المنبعث من الندامة؛ وكل منهم مسألة شر تطلب حلها أو تعقيدها من الدنيا، وفيهم دماء فوَّارة تجمع سمومها شيئًا فشيئًا كلما كبروا سنة فسنة. قال أبو هاشم: ألا لعنة الله على ذلك الرجل الفاسق الذي اغتر تلك المرأة فاستزلها وهَوَّرها في هذه المهواة, أكان حق الشهوة عليه أعظم من حق هذا الآدمي. أما كان ينبغي أن يكون هذا الآخر هو الأول في الاعتبار، فيعلم أن هذا اللقيط المسكين هو سبيله إلى صاحبته، وهو البلاغ إلى ما يحاوله منها؛ فيكون كأنما دخل بين الاثنين ثالث يراهما ... فلعلهما يستحيان. قال الحوذي الفيلسوف: لعنة الله على ذلك الرجل، ولعنات الله كلها، ولعنات الملائكة والناس أجمعين على تلك المرأة التي انقادت له واغترت به. إن الرجل ليس شيئًا في هذه الجريمة، فقد كانت بصقة واحدة تغرقه، وكانت صفعة واحدة تهزمه، وكان مع المرأة الحكومة والشرائع والفضائل، ومعها جهنم أيضًا. ألم تعلم الحمقاء أن الرجل الذي ليس زوجًا لها ليس رجلًا معها، وأن الشريعة لو أيقنت أنه رجل لما حرمت عليها أن تخالطه؟ إنه ليس الرجل هو الذي ساور هذه المرأة، بل مادة الحياة التي رأت في المرأة مستودعها، فتريد أن تقتحم إلى مقرها عنوة أو خداعًا أو رضى أو كما يتفق؛ إذ كان قانون هذه المادة أن توجد، ولا شيء إلا أن توجد؛ فلا تعرف خيرًا ولا شرًّا، ولا فضيلة ولا رذيلة. لأيهما يجب التحصين: أللصاعقة المنقضّة, أم للمكان الذي يُخشَى أن تنقض عليه؟ لقد أجابت الشريعة الإسلامية: حصنوا المكان, ولكن المدنية أجابت: حصنوا الصاعقة! وكانت المرأتان المصاحبتان لجماعة اللقطاء تتناجيان، فقالت الكبرى منهما: يا حسرتا على هؤلاء الصغار المساكين! إن حياة الأطفال فيما فوق مادة الحياة، أي: في سرورهم وأفراحهم؛ وحياه هؤلاء البائسين فيما هو دون مادة الحياة، أي: في وجودهم فقط.

وكِبَر الأطفال يكون منه إدخالهم في نظام الدنيا، وكِبَر هؤلاء إخراجهم من "الملجأ" وهو كل النظام في دنياهم، ليس بعده إلا التشريد والفقر وابتداء القصة المحزنة. فقالت الصغرى: ولِمَ لا يفرحون كأولاد الناس، أليست الطبيعة لهم جميعًا، وهل تجمع الشمس أشعتها عن هؤلاء لتضاعفها لأولئك؟ قالت الأخرى: الطبيعة؟ تقولين الطبيعة؟ إنك يا ابنتي عذراء لم تبدأ في حياتك حياة بعد، ولم تجاوبي بقلبك القلب الصغير الذي كان تحت قلبك تسعة أشهر؛ وإنما أنتِ مع هؤلاء "موظفة" لا تعرفين منهم إلا جانب النظام وقانون الملجأ. لقد ولّدتُ يا ابنتي خمسة أطفال، وبالعين البليغة التي أنظر بها إليهم أنظر إلى هؤلاء، فما أراهم إلا منقطعين من صلة القلب الإنساني. يعبس لهم حتى الجو، ويظلم عليهم حتى النور؛ ويبدو الطفل منهم على صغره كأنه يحمل الغم المقبل عليه طول عمره. يا لهفي على عود أخضر ناعم رَيَّان كان للثمر فقيل له: كن للحطب! الفرح يا ابنتي هو شعور الحي بأنه حي كما يهوى، ورؤيته نفسه على ما يشاء في الحياة الخاصة به. وهؤلاء اللقطاء في حياة عامة قد نزعت منها الأم والأب والدار، فليس لهم ماضٍ كالأطفال، وكأنهم يبدءون من أنفسهم لا من الآباء والأمهات. قالت الصغيرة: ولكنهم أطفال. قالت تلك: نعم يا ابنتي هم أطفال، غير أنهم طردوا من حقوق الطفولة كما طردوا من حقوق الأهل. وحسبك بشقاء الطفل الذي لم يعرف من حنان أمه إلا أنها لم تقتله، ولا من شفقتها إلا أنها طرحته في الطريق. إن الطبيعة كلها عاجزة أن تعطي أحدهم مكانًا كالموضع الذي كان يتبوءوه بين أمه وأبيه. ليس الأطفال يا ابنتي إلا صورًا مبهمة صغيرة من كل جمال العالم، تفسرها أعين ذويهم بكل التفاسير القلبية الجميلة؛ فأين أين العيون التي فيها تفسير هذه الصور اللقيطة؟ ألا لعنة الله والملائكة والناس أجمعين على أولئك الرجال الأنذال الطغام

الذين أولدوا النساء هؤلاء المنبوذين! يزعمون لأنفسهم الرجولة، فهذه هي رجولتهم بين أيدينا، هذه هي شهامتهم، هذه هي عقولهم، هذه هي آدابهم! عجبًا، إن سيئات اللصوص والقَتَلة كلها يُنسى ويتلاشى، ولكن سيئات العشاق والمحبين تعيش وتكبر. أكان ذنب المرأة أنها صادقة فصدَّقَتْ، وأنها مخلصة فأخلصت، وأنها رقيقة فلانت، وأنها محسنة فرحمت، وأنها سليمة القلب فانخدعت؟ وا كبدي للمسكينة! هل انخدعتْ إلا من ناحية الأمومة التي خُلقت لها؟ هل انخدعت إلا الأم التي فيها؟ وهل خدعها من ذلك اللئيم إلا الأب الذي فيه؟ وا كبدي لمن تُفجَع بالنكبة الواحدة ثلاث فجائع: في كرامتها التي ابتُذلت، وفي الحبيب الذي تبرأ منها، وفي طفلها الذي قطعته بيدها من قلبها وتركته لما كُتب عليه! إن هذا لا يعوضه في الطبيعة إلا أن يكون لكل رجل من أولئك الأنذال ثلاث أرواح، فيُقتل ثلاث مرات: واحدة بالشنق، والثانية بالحرق، والثالثة بالرجم بالحجارة. وكان اللقطاء قد تبعثروا على الساحل جماعات وشتّى، فوقف أحدهم على طفل صغير يلعب بما بين يديه، وأمه على كَثَب منه، وهي تتلهى بالمخرَّم تتلوى فيه أصابعها. فنظر الطفل إلى اللقيط, وأومأ إلى جماعته ثم قال له: أأنتم جميعًا أولاد هاتين المرأتين أم إحداهما؟ قال اللقيط: هما المراقِبَتان؛ وأنت أفليست هذه التي معك مراقبة؟ قال الطفل: ما معنى مراقبة؟ هذه ماما! قال الآخر: فما معنى ماما؟ هذه مراقبة. قال الطفل: وكلكم أهل دار واحدة؟ قال: نحن في الملجأ، ومتى كبرنا أخذونا إلى دورنا. فقال الطفل: وهل تبكي في الملجأ إذا أردت شيئًا ليعطوك؛ ثم تغضب إذا أعطوك ليزيدوك؟ وهل يسكتونك بالقرش والحلوى؟ والقُبْلة على هذا الخد وعلى

هذا الخد؟ إن كان هذا فأنا أذهب معكم إلى الملجأ؛ فإن أبي قد ضربني اليوم، وقد أمر "ماما" ألا تعطيني شيئًا إذا بكيت، ولا تزيدني إذا غضبت، ولا.... وهنا صاحت المراقبة الصغيرة: تعال يا رقم عشرة ... فلوى اللقيط المسكين وجهه، وانصاع وأدبر. "ومشى الأطفال بوجوه يتيمة، يقرأ من يقرأ فيها أنها مستسلمة، مستكينة، معترفة أن لا حق لها في شيء من هذا العالم إلا هذا الإحسان البخس القليل".

الله أكبر

الله أكبر *: جلستُ وقد مضى هَزِيع من الليل، أهيئ في نفسي بناء قصة أديرها على فتى كما أحب ... وخبيث داعر، وفتاة كما أحبَّتْ ... عذراء متماجنة؛ كلاهما قد درس وتخرج في ثلاثة معاهد: المدرسة، والروايات الغرامية، والسينما. وهو مصري مسلم، وهي مصرية مسيحية. وللفتى هَنَات وسيئات لا يتنزه ولا يتورع؛ وهو من شبابه كالماء يغلي، ومن أناقته بحيث لم يبق إلا أن تلحقه تاء التأنيث, وقد تشعبت به فنون هذه المدنية، فرفع الله يده عن قلبه لا يبالي في أي أوديتها هلك؛ وهو طلب نساء، دأبه التَّجْوال في طرقهن، يتبعهن ويتعرض لهن، وقد أَلِفَتْهُ الطرق حتى لو تكلمت لقالت: هذا ضرب عجيب من عربات الكَنْس! وللفتاة تبرُّج وتهتُّك، يعبث بها العبث نفسه، وقد أخرجتها فنون هذا التأنث الأوروبي القائم على فلسفة الغريزة، وما يسمونه "الأدب المكشوف" كما يصوره أولئك الكتاب الذين نقلوا إلى الإنسانية فلسفة الشهوات الحرة عن البهائم الحرة. فهي تبرز حين تخرج من بيتها، لا إلى الطريق، ولكن إلى نظرات الرجال؛ وتظهر حين تظهر، مصوّرة لا بتلوين نفسها مما يجوز وما لا يجوز، ولكن بتلوين مرآتها مما يعجب وما لا يعجب. وكلا اثنيهما لا يقيم وزنًا للدين، والمسلم والمسيحي منهما هو الاسم وحده؛ إذ كان من وضع الوالدين "رحمهما الله! "؛ والدين حرية القيد لا حرية الحرية؛ فأنت بعد أن تقيد رذائلك وضَرَاوتك وشرك وحيوانيتك, أنت من بعد هذا حر ما وسعتك الأرض والسماء والفكر؛ لأنك من بعد هذا مكمل للإنسانية، مستقيم على طريقتها؛ ولكن هب حمارًا تفلسف وأراد أن يكون حرًّا بعقله الحماري؛ أي: تقرير المذهب الفلسفي الحماري في الأدب، فهذا إنما يبتغي إطلاق حريته، أي: تسليط حماريته الكاملة على كل ما يتصل به من الوجود. وتمضي قصتي في أساليب مختلفة تمتحن بها فنون هذه الفتاة شهوات هذا

_ * كتبها في الأسبوع الأخير من رمضان.

الفتى، فلا يزال يمشي من حيث لا يصل، ولا تزال تمنعه من حيث لا تردّه؛ وما ذلك من فضيلة ولا امتناع، ولكنها غريزة الأنوثة في الاستمتاع بسلطانها، وإثباتها للرجل أن المرأة هي قوة الانتظار، وقوة الصبر؛ وأن هذه التي تحمل جنينها تسعة أشهر في جوفها، تمسك رغبتها في نفسها مدة حمل فكري إذا هي أرادت الحياة لرغبتها؛ ليكون لوقوعها وتحققها مثل الميلاد المفرح. ولكن الميلاد في قصتي لا يكون لرذيلة هذه الفتاة، بل لفضيلتها؛ فإن المرأة في رأيي -ولو كانت حياتها محدودة من جهاتها الأربع بكبائر الإثم والفاحشة- لا يزال فيها من وراء هذه الحدود كلها قلب طبيعته الأمومة، أي: الاتصال بمصدر الخلق، أي: كل فضائل العقيدة والدين؛ وما هو إلا أن يتنبه هذا القلب بحادث يتصل به فيبلغ منه، حتى تتحول المرأة تحول الأرض من فصلها المقشعرّ المجدب، إلى فصلها النضر الأخضر. ففي قصتي تذعن الفتاة لصاحبها في يوم قد اعترتها فيه مخافة، ونزل بها هم، وكادتها الحياة من كيدها؛ فكانت ضعيفة النفس بما طرأ عليها من هذه الحالة. وتخلو بالفتى وفكرها منصرف إلى مصدر الغَيْب، مؤمِّل في رحمة القدَر؛ ويخلبها الشاب خلابة رُعُونته وحبه ولسانه، فيعطيها الألفاظ كلها فارغة من المعاني، ويقر بالزواج وهو منطوٍ على الطلاق بعد ساعة؛ فإذا أوشكت الفتاة أن تُصرَع تلك الصرعة دوَّى في الجو صوت المؤذن: "الله أكبر! ". وتُلسَع الفتاة في قلبها، وتتصل بهذا القلب روحانية الكلمة، فتقع الحياة السماوية في الحياة الأرضية، وتنتبه العذراء إلى أن الله يشهد عارها، ويفجؤها أنها مقدمة على أن تفسد من نفسها ما لا يصلحه المستحيل فضلًا عن الممكن، وترنو بعين الفتاة الطاهرة من نفسها إلى جسم بَغِيّ ليست هي تلك التي هي؛ وتنظر بعين الزوجة من صاحبها إلى فاسق ليس هو ذاك الذي هو؛ ويحكي لها المكان في قلبها المفطور على الأمومة, حكاية تثور منها وتشمئزّ؛ ويصرخ الطفل المسكين صرخته في أذنها قبل أن يولد ويلقى في الشارع! الله أكبر! صوت رهيب ليس من لغة صاحبها ولا من صوته ولا من خسته، كأنما تُفرِغ السماء فيه ملء سحابة على رجس قلبها فتُنْقِيه حتى ليس به ذرة من دنسه الذي ركبه الساعة. كان لصاحبها في حس أعصابها ذلك الصوت الأسود، المنطفئ، المبهم، المتلجلج مما فيه من قوة شهواته؛ للمؤذن صوت آخر في

روحها؛ صوت أحمر، مشتعل كمعمعة الحريق، مجلجل كالرعد، واضح كالحقيقة فيه قوة الله! سمعت صوت السلسلة وقعقعتها تُلوَى وتشَد عليها، ثم سمعت صوت السلسلة بعينها يُكسَر حديدها ويتحطم. كانت طهارتها تختنق فنفذت إليها النسمات؛ وطارت الحمامة حين دعاها صوت الجو، بعد أن كانت أَسَفَّت حين دعاها صوت الأرض. طارت الحمامة؛ لأن الطبيعة التفتت فيها لفتة أخرى. ويكرر المؤذن في ختام أذانه: "الله أكبر الله أكبر! " فإذا ... وتبلد خاطري، فوقفت في بناء القصة عند هذا الحد، ولم أدر كيف يكون جواب "إذا" فتركت فكري يعمل عمله كما تلهمه الواعية الباطنة، ونمت. ورأيت في نومي أني أدخل المسجد لصلاة العيد وهو يعج بتكبير المصلين: "الله أكبر الله أكبر! " ولهم هدير كهدير البحر في تلاطمه. وأرى المسجد قد غص بالناس فاتصلوا وتلاحموا؛ تجد الصف منهم على استوائه كما تجد السطر في الكتاب: ممدودًا محتبكًا ينتظمه وضع واحد، وأراهم تتابعوا صفا وراء صف، ونسقا على نسق، فالمسجد بهم كالسنبلة ملئت حبًّا ما بين أولها وآخرها؛ كل حبة هي في لِفّ من أهلها وشملها، فليس فيهن على الكثرة حبة واحدة تميزها السنبلة فضل تمييز، لا في الأعلى ولا في الأسفل. وأقف متحيرًا متلددًا ألتفت ههنا وههنا، لا أدري كيف أخلص إلى موضع أجلس فيه؛ ثم أمضي أتخطى الرقاب أطمع في فُرْجة أقتحمها وما تنفرج، حتى أنتهي إلى الصف الأول؛ وأنظر إلى جانب المحراب شيخًا بادِنًا يملأ موضع رجلين، وقد نفح منه ريح المسك، وهو في ثياب من سندس خُضْر؛ فلما حاذيته جمع نفسه وانكمش، فكأنما هو يُطوَى طيًّا، ورأيت مكانًا وسعني فحططت فيه إلى جانبه، وأنا أعجب للرجل كيف ضاق ولم أضيق عليه، وأين ذهب نصفه الضخم وقد كان بعضه على بعضه زِيَمًا على زِيَم1 وامتلاء على امتلاء. وجعلت أحدس عليه ظني، فوقع في نفسي أنه مَلَك من ملائكة الله قد تمثل في الصورة الآدمية فاكتتم فيها لأمر من الأمر.

_ 1 أي: كتلًا على كتل، والزيم: المتفرق من اللحم.

وضج الناس: "الله أكبر الله أكبر! " في صوت تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، غير أن الناس مما أَلِفوا الكلمة ومما جهلوا من معناها, لا يسمعونها إلا كما يسمعون الكلام؛ أما الذي إلى جانبي فكان ينتفض لها انتفاضة رجَّتني معه رجًّا، إذ كنت ملتصقًا به مناكبًا له؛ وكأن المسجد في نفضه إيانا كان قطارًا يجري بنا في سرعة السحاب، فكل ما فيه يرتج ويهتز. ورأيت صاحبي يذهل عن نفسه، ويتلألأ على وجهه نور لكل تكبيرة، كأن هناك مصباحًا لا يزال ينطفئ ويشتعل؛ فقطعتُ الرأي أنه من الملائكة. ثم أقيمت الصلاة وكبَّر أهل المسجد، وكنت قرأت أن بعضهم صلى خلف رجل من عظماء النفوس الذين يعرفون الله حق معرفته؛ قال: فلما كبر قال: "الله" ثم بهت وبقي كأنه جسد ليس به روح من إجلاله الله تعالى؛ ثم قال: "أكبر" يعزم بها عزمًا، فظننت أن قلبي قد انقطع من هيبة تكبيره. قلت أنا: أما الذي إلى جانبي، فلما كبر مد صوته مدًّا ينبثق من روحه ويستطير، فلو كان الصوت نورًا لملأ ما بين الفجر والضحى. وعرفت -والله- من معنى المسجد ما لم أعرف، حتى كأني لم أدخله من قبل، فكان هذا الجالس إلى جانبي كضوء المصباح في المصباح؛ فانكشف لي المسجد في نوره الروحي عن معانٍ أدخلتني من الدنيا في دنيا على حِدَة. فما المسجد بناء ولا مكانًا كغيره من البناء والمكان، بل هو تصحيح للعالم الذي يموج من حوله ويضطرب؛ فإن في الحياة أسباب الزيغ والباطل والمنافسة والعداوة والكيد ونحوها، وهذه كلها يمحوها المسجد إذ يجمع الناس مرارًا في كل يوم على سلامة الصدر، وبراءة القلب، وروحانية النفس؛ ولا تدخله إنسانية الإنسان إلا طاهرة منزهة مسبغة على حدود جسمها من أعلاه وأسفله شعار الطهر الذي يسمى الوضوء، كأنما يغسل الإنسان آثار الدنيا عن أعضائه قبل دخوله المسجد. ثم يستوي الجميع في هذا المجسد استواءً واحدًا، ويقفون موقفًا واحدًا، ويخشعون خشوعًا واحدًا، ويكونون جميعًا في نفسية واحدة؛ وليس هذا وحده، بل يَخِرّون إلى الأرض جميعًا ساجدين لله؛ فليس لرأس على رأس ارتفاع، ولا لوجه على وجه تمييز؛ ومن ثم فليس لذات على ذات سلطان. وهل تحقق الإنسانية وَحْدَتها في الناس بأبدع من هذا؟ ولعمري أين يجد العالم صوابه إلا ههنا؟

فالمسجد هو في حقيقته موضع الفكرة الواحدة الطاهرة المصححة لكل ما يزيغ به الاجتماع. هو فكر واحد لكل الرءوس؛ ومن ثم فهو حل واحد لكل المشاكل، وكما يُشق النهر فتقف الأرض عند شاطئيه لا تتقدم، يقام المسجد فتقف الأرض بمعانيها الترابية خلف جدرانه لا تدخله. وما حركة في الصلاة إلا أولها "الله أكبر" وآخرها "الله أكبر"؛ ففي ركعتين من كل صلاة إحدى عشرة تكبيرة يجهر المصلون بها بلسان واحد؛ وكأني لم أفطن لهذا من قبل، فأي زمام سياسي للجماهير وروحانيتها أشد وأوثق من زمام هذه الكلمة التي هي أكبر ما في الكلام الإنساني؟ ولما قُضيت الصلاة سلمتُ على المَلَك وسلم عليَّ، ورأيته مقبلًا محتفيًا، ورأيتني أثيرًا في نفسه، وجالت في رأسي الخواطر فتذكرت القصة التي أريد أن أكتبها؛ وأن المؤذن يكرر في خاتمة أذانه: "الله أكبر الله أكبر" فإذا ... وقلت: لأسألَنّه، وما أعظم أن يكون في مقالتي أسطر يُلهمها ملك من الملائكة! ولم أكد أرفع وجهي إليه حتى قال: " ... فإذا لطمتان على وجه الشيطان، فولى مدبرًا ولم يُعقِّب؛ ووضعت الكلمة الإلهية معناها في موضعه من قلب الفتاة، فَلَأْيًا بلأي ما نجت. إن الدين في نفس المرأة شعور رقيق، ولكنه هو الفولاذ السميك الصلب الذي تصفح به أخلاقها المدافعة. الله أكبر! أتدري ماذا تقول الملائكة إذا سمعت التكبير؟ إنها تنشد هذا النشيد: بين الوقت والوقت من اليوم, تدق ساعة الإسلام بهذا الرنين: الله أكبر الله أكبر، كما تدق في موضع ليتكلم الوقت برنينها. الله أكبر! بين ساعات وساعات من اليوم ترسل الحياة في هذه الكلمة نداءها, تهتف: أيها المؤمن! إن كنت أصبت في الساعات التي مضت، فاجتهد للساعات التي تتلو؛ وإن كنت أخطأت، فكفر وامح ساعة بساعة؛ الزمن يمحو

الزمن، والعمل يغير العمل, ودقيقة باقية في العمر هي أمل كبير في رحمة الله. بين ساعات وساعات, يتناول المؤمن ميزان نفسه حين يسمع: الله أكبر؛ ليعرف الصحة والمرض من نيته, كما يضع الطبيب لمريضه بين ساعات وساعات ميزان الحرارة. اليوم الواحد في طبيعة هذه الأرض عمر طويل للشر، تكاد كل دقيقة بشرها تكون يومًا مختومًا بليل أسود؛ فيجب أن تقسم الإنسانية يومها بعدد قارات الدنيا الخمس؛ لأن يوم الأرض صورة من الأرض, وعند كل قسم: من الفجر, والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء تصيح الإنسانية المؤمنة منبهة نفسها: الله أكبر، الله أكبر! بين ساعات وساعات من اليوم يعرض كل مؤمن حسابه، فيقوم بين يدي الله ويرفعه إليه. وكيف يكون من لا يزال ينتظر طول عمره فيما بين ساعات وساعات الله أكبر؟ بين الوقت والوقت من النهار والليل تدوي كلمة الروح: الله أكبر, ويجيبها الناس: الله أكبر؛ ليعتاد الجماهير كيف يقادون إلى الخير بسهولة، وكيف يحققون في الإنسانية معنى اجتماع أهل البيت الواحد؛ فتكون الاستجابة إلى كل نداء اجتماعي مغروسة في طبيعتهم بغير استكراه. النفس أسمى من المادة الدنيئة، وأقوى من الزمن المخرب، ولا دين لمن لا تشمئز نفسه من الدناءة بأَنَفَة طبيعية، وتحمل هموم الحياة بقوة ثابتة. لا تضطربوا؛ هذا هو النظام. لا تنحرفوا؛ هذا هو النهج. لا تتراجعوا؛ هذا هو النداء. لن يكبر عليكم شيء ما دامت كلمتكم: الله أكبر!

في اللهب ولا تحترق

في اللهب ولا تحترق *: أفي الممكن هذا؟ لَعُوب حسنة الدَّلّ، مُفَاكهة مُدَاعبة، تحيي ليلها راقصة مغنية؛ حتى إذا اعتدل الليل ليمضي، وانتبه الفجر ليقبل, انكفأت إلى دارها فنَضَتْ وَشْيها، وخرجت من زينتها، وخلعت روحًا ولبست روحًا، وقالت: اللهم إليك، ولبيك اللهم لبيك. ثم ذهبت فتوضأت وأفاضت النور عليها، وقامت بين يدي ربها تصلي! هي حسناء فاتنة، لو سطع نور القمر من شيء في الأرض لسطع من وجهها. وما تراها في يوم إلا ظهرت لك أحسن مما كانت، حتى لتظن أن الشمس تزيد وجهها في كل نهار شُعَاعة ساحرة، وأن كل فجر يترك لها في الصبح بريقًا ونضرة من قطرات الندى. وتحسب أن لها دمًا يطعم فيما يطعم أنوار الكواكب، ويشرب فيما يشرب نسمات الليل. وإذا كانت في وشيها وتطاريفها وأصباغها وحلاها لم تجدها امرأة، ولكن جمرة في صورة امرأة؛ فلها نور وبَصِيص ولهب، وفيها طبيعة الإحراق. إن الذي وضع على كل جمال ساحر في الطبيعة خاتم رهبة، وضع على جمالها خاتم قرص الشمس. فإن رأيتها بتلك الزينة في رقصها وتثنيها، قلت: هذه روضة مُفَتنَّة اشتهت أن تكون امرأة فكانت، وهذا الرقص هو فن النسيم على أعضائها. وهي متى نفذت إلى البقعة المجدبة من نفسك أنشأتْ في نفسك الربيع ساعة أو بعض ساعة.

_ * انظر قصة هذه الراقصة وما كان من شأنها وشأنه في "عمله في الرسالة" من كتاب "حياة الرافعي".

وتنسجم أنغام الموسيقى في رشاقتها نغمة إلى حركة؛ لأن جسمها الفاتن الجميل هو نفسه أنغام صامتة تُسمَع وتُرَى في وقت معًا. وتنسكب روحها الظريفة بين الرقص والموسيقى، لتُخرج لك بظرفها صراحة الفن من إبهامين، كلاهما يعاون الآخر. وهي في رقصها إنما تفسر بحركات أعضائها أشواق الحياة وأفراحها وأحزانها، وتزيد في لغة الطبيعة لغة جسم المرأة. وكأن الليل والنهار في قلبها؛ فهي تبعث للقلوب ما شاءت ضوءًا وظلمة. وهي إلى القِصَر، غير أنك إذا تأملت جمالها وتمامها، حسبتها طالت لساعتها. وإلى النحافة، غير أنك تنظر فإذا هي رابية كأن بعضها كان مختبئًا في بعض. ويخيل إليك أحيانًا في فن من فنون رقصها أن جسمها يتثاءب برعشة من الطرب، فإذا جسمك يهتز بجواب هذه الرعشة، لا يملك إلا أن يتثاءب ... ويُجَنّ رقصها أحيانًا، ولكن لتحقق بجنون الحركة أن العقل الموسيقي يُصرِّف كل أعضاء جسمها. ومهما يكن طيش الفن في تأودها ولفتتها ونظرتها وابتسامها وضحكها, ففي وجهها دائمًا علامة وقار عابسة تقول للناس: افهموني. ولما رأيتها شهد قلبي لها بأن على وجهها مع نور الجمال نور الوضوء؛ وأنها متحرزة ممتنعة في حصن من قلبها المؤمن، يبسط الأمن والسلامة على ظاهرها؛ وأن لها عينًا عذراء لا تحاول التعبير، لا سؤالًا ولا جوابًا ولا اعتراضًا بينهما؛ وأن قوة جمالها تستظهر بقوة نفسها، فيكون ما في جمالها شيئًا غير ما في النساء؛ شيئًا عبقريًّا بالغ القوة، يكف الدواعي ويحسم الخواطر، ويرغم الإعجاب أن يكون ذُهولًا وحيرة، ويكره الحب أن يرجع مَهَابة واحتشامًا. والرواية كلها في باطنها تظهر على ضوء من مصباح قلبها، وما وجهها إلا الشاشة البيضاء لهذه "السينما"، وهل يكون على الوجه إلا أخيلة القلب أو الفكر؟ وعندي أن المرأة إذا كان لها رأي ديني ترجع إليه، وكان أمرها مجتمعًا في هذا الرأي، وكانت أخلاقها محشودة له، مُتَحَفِّلة به, فتلك هي الياقوتة التي تُرمى في اللهب ولا تحترق، وتظل مع كل تجربة على أول مجاهدتها؛ إذ يكون لها في طبيعة تركيبها الياقوتي ما تهزم به طبيعة التركيب الناري.

وليس من امرأة إلا وقد خلق الله لها طبيعة ياقوتية، هي فطرتها الدينية التي فيها, إن بقيت لها هذه بقيت معها تلك؛ ولكنها حين تنخلع من هذه الفطرة تخذلها الفطرة والطبيعة معًا؛ فيجعل الله عقابها في عملها، ويَكِلها إلى نفسها؛ فإذا هي مقبلة على أغلاطها ومساوئها بطرق عقلية إن كانت عالمة، وبطرق مفضوحة إن كانت جاهلة. وما بد أن تستسر بطباع إما فاسدة وإما فيها قوة الاستحالة إلى الفساد؛ ويرجع ضميرها الخالي محاولًا أن يمتلئ من ظاهرها، بعد أن كان ظاهرها هو يمتلئ من ضميرها، وتصبح المرأة بعد ذلك في حكم أسباب حياتها، مصرفة بهذه الأسباب، خاضعة لما يصرفها؛ ويُذهب الدين وينزل في مكانه الشيطان؛ ويزول الاستقرار ويحل في محله الاضطراب، وتنطفئ الأشعة التي كانت تذيب الغيوم وتمنعها أن تتراكم، فإذا الغيوم ملتف بعضها على بعض؛ وتُخذَل القوة السامية التي كانت تنصر المرأة على ضعفها فتنصرها بذلك على أقوى الرجال؛ فإذا المرأة من الضعف إلى تَهَافُت، تغلبها الكلمة الرقيقة، وتغترّها الحيلة الواهنة، وتوافق انخداعها كل رغبة مزينة، ويستذلها طمعها قبل أن يستذلها الطامع فيها؛ ولتكن بعد ذلك من هي كائنة أصلًا وحسبًا وتهذيبًا وعقلًا وأدبًا وعلمًا وفلسفة، فلو أنها امرأة من "الأسمنت المسلح" لتفتَّتَتْ بالطبيعة التي في داخلها، ما دامت الطبيعة متوجهة إلى الهدم بعد أن فقدتْ ما كان يُمسكها أن تهدم وأن تنهدم. لقد رَقَّ الدين في نسائنا ورجالنا, فهل كانت علامة ذلك إلا أن كلمة: "حرام، وحلال" قد تحولت عند أكثرهم وأكثرهن إلى "لائق، وغير لائق" ثم نزلت عند كثير من الشبان والفتيات إلى "معاقب عليه قانونًا، ومباح قانونًا" ثم انحطت آخرًا عند السواد والدَّهْماء إلى "ممكن، وغير ممكن"؟ قالت الياقوتة، أعني الراقصة: أخذني أبي من عهد الطفولة بالصلاة، وأثبت في نفسي أن الصلاة لا تصح بالأعضاء إن لم يكن الفكر نفسه طاهرًا يصلي لله مع الجسم، فإن كانت الصلاة بالجسم وحده لم يزدد المرء من روح الصلاة إلا بُعْدًا. وقر هذا في نفسي واعتدته، إذ كنت أتعبد على مذهب الإمام الشافعي "رضي الله عنه"، فأصحح الفكر، وأستحضر النية في قلبي، وأنحصر بكلي في هذا الجزء الطاهر قبل أن أقول: "الله أكبر"؛ وبذلك أصبح فكري قادرًا على أن يخلع الدنيا متى شاء ويلبسها، وأن يخرج منها ثم يعود إليها؛ ونشأت فيه القوة المصممة التي

تجعله قادرًا على أن ينصرف بي عما يُفسد روح الصلاة في نفسي، وهي سر الدين وعماده. ويا لها حكمة أن فرض الله علينا هذه الصلوات بين ساعات وساعات، لتبقى الروح أبدًا إما متصلة أو مهيأة لتتصل. ولن يعجز أضعف الناس مع روح الدين أن يملك نفسه بضع ساعات، متى هو أقر اليقين في نفسه أنه متوجه بعدها إلى ربه، فخاف أن يقف بين يديه مخطئًا أو آثمًا؛ ثم هو إذا ملك نفسه إلى هذه الفريضة ذكر أن بعدها الفريضة الأخرى، وأنها بضع ساعات كذلك، فلا يزال من عزيمة النفس وطهارتها في عمر على صيغة واحدة لا يتبدل ولا يتغير، كأنه بجملته -مهما طال- عمل بضع ساعات. قالت الياقوتة: ورأيت أبي يصلي، وكذلك رأيت أمي، فلا تكاد تلم بي فكرة آثمة إلا انتصبا أمامي، فأكره أن أستلئم إليهما فأكون الفاسدة وهما الصالحان, واللئيمة وهما الكريمان؛ فدمي نفسه -ببركة الدين- يحرسني كما ترى. قلت: فهذا الرقص؟ قالت: نعم، إنه قُضي علي أن أكون راقصة، وأن ألتمس العيش من أسهل طرق وألينها وأبعدها عن الفساد، وإن كان الفساد ظاهرها؛ أريد: الرقص، أو الخدمة في بيت، أو العمل في السوق. وأنا مطيقة لحريتي في الأولى، ولكني لن أملكها في الأخيرتين ما دام علي هذا الميسم من الحسن؛ وكم من امرأة متحجبة وهي عارية الروح، وكم من سافرة وروحها متحجبة؛ إن كنت لا تعلم هذا فاعلمه؛ وليس السؤال ما سألت، بل يجب أن يكون وضعه هكذا: هل ما ترى هو في ثيابي فقط، أو هو في ثيابي ونفسي؟ ها أنت ذا تغلغل نظرتك في عيني إلى المعاني البعيدة، فهل ترى عيني راقصة؟ قلت: لا والله، ما أرى عينَيْ راقصة، ولكن عيني مجاهد في سبيل الله ... ! فاستضحكت وقالت: بل قل: عيني مجاهد يهزم كل يوم شيطانًا أو شياطين. إني لأرقص وأغني، ولكن أتدري ما الذي يحرزني من العاقبة، ويحميني من وباء هذا الجمهور المريض النفس؟ فاعلم أني لا أشعر بالجمهور ولا بروح المسرح، إلا كما أشعر بروح المقبرة والمشيعين إليها؛ فهيهات بعد ذلك هيهات! ومن هذا لا أحس بقلوبهم ولا بشهواتهم، وما أنا بينهم إلا كالتي تؤدي عملًا فنيًّا

على مَلَأ من الأساتذة الممتحنين، والنَّظَّارة يحكمون لها أو عليها؛ فهي في فكرة الامتحان, وهم لأنفسهم فيما شاءوا. ولست أنكر أن أكثرهم، بل جميعهم، يخطئ في طريقة تناوله السيَّال الكهربائي المنبعث من نفسي، ولكن لا علي، فهذا السيال نفسه ينبعث مثله من الزهر، ومن القمر والكواكب، ومن كل امرأة جميلة تمشي في الطريق، ومن كل جميل في الطبيعة، وحتى من الأمكنة والبقاع إذا كان لإنسان فيها ذكريات قديمة، أو نبهت ببعض معانيها بعض معانيه؟ قالت الياقوتة: فأنا كما ترى؛ أضطرب وجوهًا من الاضطراب في جذب الناس ودفعهم معًا، وإذا سلمت المرأة من أن يغلبها الطمع على فكرها، سلمت من أن يغلبها الرجل عن فضيلتها. وفي النساء حواس مغناطيسية كاشفة منبهة خُلقت فيهن كالوقاية الطبيعية، لتسلم بها المرأة من أن تخطر عفتها لغرض، أو تغرر بنفسها لإنسان، فإنك لتكلم المرأة، وتزين لها ما تزين، وهي شاعرة بما في نفسك، وكأنها ترى ما في قلبك ينشأ ويتدرج تحت عينيها، وكأنه في وعاء من الزجاج الرقيق الصافي تحمله على كفك يشفّ ويفضح، لا في قلب من لحم ودم تخفيه بين جنبيك فيُطوى ويُكتم. وليس يبطل هداية هذه الحاسة في المرأة إلا طمعها المادي في المال والمتاع والزينة؛ فإن هذا الطمع هو القوة التي يغلب بها الرجل المرأة، فبنفسها غَلَبَها! وإذا تبذل طمع امرأة في رجل فهي مومس، وإن كانت عذراء في خدرها. ويا عجبًا! إن وجود الطبيعة في النفس غير الشعور بها؛ فليس يُشعر المرأة بتمام طبيعتها النسائية إلا الزينة والمتاع وما به المتاع والزينة؛ فكأن الحكمة قد وقتها وعرَّضتها في وقت معًا، لتكون هي الواقية أو المخطرة لنفسها، فبعملها تُجزى، ومن عملها ما تضحك وتبكي. قالت الياقوتة: ولذا أخذتُ نفسي ألا أطمع في شيء من أشياء الناس، وسخوتُ عن كل ما في أيديهم؛ فما يتكرمون علي إلا بهلاكي، وحسبي أن يبقى لعينَيْ قلبي ضوءهما المبصر. وأنا أعتمد على شهامة الرجل، فإن لم أجدها علمتُ أني بإزاء حيواني إنساني، فأتحذره حذري من مصيبة مقبلة. وإذا جاءني وقح خلق الله وجهه الحسن مسبة له، أو خلقه هو مسبة لوجهه القبيح، ذكرت أني بعد ساعة أو ساعات أقوم إلى الصلاة، فلا يزداد مني إلا بعدًا وإن كان بإزائي، فأُغلظ له وأتسخط، وأظهر الغضب وأصفعه صفعتي.

قلت: وما صفعتك؟ قالت: إنها صفعة لا تضرب الوجه ولكن تُخجله. قلت: وما هي؟ قالت الياقوتة: هي هذه الكلمة؛ أما تعرف يا سيدي أني أصلي وأقول "الله أكبر" فهل أنت أكبر؟ أأقيم لك البرهان على صَغارك وحقارتك، أأنادي الشرطي؟! تختنق بالرقص وتنتعش بالصلاة, وفي كل يوم تختنق وتنتعش. ولكني لا أزال أقول: أفي الممكن هذا؟ أفي المترادف شرعًا: رقصتْ وصلتْ؟

المشكلة

المشكلة *: قالت لي صاحبة "الجمال البائس"1 فيما قالت: إن المرأة الجميلة تخاطب في الرجل الواحد ثلاثة: الرجل، وشيطانه، وحيوانه. فأما الشيطان فهو معنا وإن لم نكن معه, وأما الحيوان فله في أيدينا مقادة من الغباوة، ومقادة من الغريزة، إذا شمس في واحدة أصحب في الأخرى وانقاد؛ ولكن المشكلة هي الرجل تكون فيه رجولة. نعم, إن المشكلة التي أعضلت على الفساد هي في الرجل القوي الرجولة يعرف حقيقة وجوده وشرف منزلته؛ ولهذا أوجب الإسلام على المسلم أن يكون بين الوقت والوقت في اليوم خارجًا من صلاة. وإنما الرجولة في خلال ثلاث: عمل الرجل على أن يكون في موضعه من الواجبات كلها قبل أن يكون في هواه؛ وقبوله ذلك الموضع بقبول العامل الواثق من أجره العظيم، والثالثة: قدرته على العمل والقبول إلى النهاية. ولن تقوم هذه الخلال إلا بثلاث أخرى: الإدراك الصحيح للغاية من هذه الحياة؛ وجعل ما يحبه الإنسان وما يكرهه موافقًا لما أدرك من هذه الغاية؛ والثالثة: القدرة على استخراج معاني الألم فيما أحب وكره على السواء. فالرجولة على ذلك هي إفراغ النفس في أسلوب قوي جزل من الحياة، متساوق في نمط الاجتماع، بليغ بمعاني الدين، مصقول بجمال الإنسانية، مسترسل ببلاغة وقوة وجمال إلى غايته السامية. ولهذه الحكمة أسقطت الأديان من فضائلها مبدأ إرضاء النفس في هواها، فلا معاملة به مع الله في إثم أو شر؛ وأسقطه الناس من قواعد معاملتهم بعضهم مع

_ * تقرأ قصة صاحب هذه المشكلة وما كان من خبره وخبر صاحبته في "عود على بدء" من كتاب "حياة الرافعي" وللقصة تمام لم ينشر بعد. 1 مرت مقالات "الجمال البائس" في هذا الجزء.

بعض، فلا يقوم به إلا الغش والمكر والخديعة، وكل خارج على شريعة أو فضيلة أو منفعة اجتماعية، فإنما ينزع إلى ذلك إرضاء لنفسه وإيثارًا لها وموافقة لمحبتها وتوفية لحظها؛ وعمله هذا الذي يلبسه الوصف الاجتماعي الساقط ويسميه باسمه في اللغة، كالرجل الذي يرضي نفسه أن يسرق ليغتني، فإذا أعطى نفسه رضاها فهو اللص؛ وكالتاجر في إرضاء طمعه هو الغاشّ، وكالجندي في إرضاء جبنه هو الخائن، وكالشاب في إرضاء رذيلته هو الفاسق، وهلم جرًّا وهلم جرجرة. وأما بعد، فالقصة في هذه الفلسفة قصة رجل فاضل مهذب قد بلغ من العلم والشباب والمال، ثم امتحنته الحياة بمشكلة ذهب فيها نوم ليله وهدوء نهاره حتى كَسَفت باله وفرّقت رأيه، وكابد فيها الموت الذي ليس بالموت، وعاش بالحياة التي ليست بالحياة. قال: فقدتُ أمي وأنا غلام أحوج ما يكون القلب إلى الأم، فخشي علي أبي أن أستكين لذلة فقدها فيكون في نشأتي الذل والضراعة، وكبر عليه أن أحس فقدها إحساس الطفل تموت أمه فيحمل في ضياعها مثل حزنها لو ضاع هو منها؛ فعلمني هذا الأب الشفيق أن الرجل إذا فقد أمه كان شأنه غير شأن الصبي؛ لأن له قوة وكبرياء؛ وألقى في رُوعي أني رجل مثله، وأن أمه قد ماتت عنه صغيرًا فكان رجلًا مثلي الآن. وكان من بعدها إذا دعاني قال: أيها الرجل, وإذا أعطاني شيئًا قال: خذ يا رجل, وإذا سألني عن شأني قال: كيف الرجل؟ وقل يوم يمر إلا أسمعنيها مرارًا، حتى توهمت أن معي رجلًا في عقلي خلقته هذه الكلمة. وتمام الرجل بشيئين: اللحية في وجهه، والزوجة في داره، فتجيء الزوجة بعد أن تظهر اللحية لتكون كلتاهما قوة له، أو وقارًا, أو جمالًا، أو تكون كلتاهما خشونة، أو لتكونا معًا سوادين في الوجه والحياة. أما اللحية لي أنا أيها الرجل الصغير, فليس في يد أبي ولا في حيلته أن يجيء بها، ولكن الأخرى في يده وحيلته؛ فجاءني ذات نهار وقال لي: أيها الرجل! إن فلانة مسماة عليك1 منذ اليوم, فهي امرأتك فاذهب لترى فيك رجلها.

_ 1 هذا هو التعبير العربي الصحيح لقولهم قبل العقد: "مخطوبة لفلان".

وفلانة هذه طفلة من ذوات القربى، فأفرحني ذلك وأبهجني؛ وقلت للرجل الذي في عقلي: أصبحت زوجًا أيها الرجل. وكان هذا الرجل الجاثم في عقلي هو غروري يومئذ وكبريائي، فكنت أقع في الخطأ بعد الخطأ وآتي الحماقة بعد الحماقة، وكنت طفلًا ولكن غروري ذو لحية طويلة. ونشأتُ على ذلك: صُلْب الرأي معتدًّا بنفسي، إذا هممت مضيت، وإذا مضيت لا ألْوِي، وما هو إلا أن يخطر لي الخاطر فأركب رأسي فيه، ولأن تُكسَر لي يد أو رجل أهون علي من أن يكسر لي رأي أو حكم؛ وأكسبني ذلك خيالًا أكذب خيال وأبعده، يخلط علي الدنيا خلطًا فيدعني كالذي ينظر في الساعة وهي اثنا عشر رقمًا لنصف اليوم الواحد، فيطالعها اثني عشر شهرًا للسنة. وترامت حريتي بهذا الخيال فجاوزت حدودها المعقولة، وبهذه الحرية الحمقاء وذلك الخيال الفاسد، كذبت علي الفكرة والطبيعة. ولست جميل الطلعة إذا طالعت وجهي، ولكني مع ذلك معتقد أن الخطأ في المرآة, إذ هي لا تظهر الرجل الوضيء الجميل الذي في عقلي, ولست نابغة، ولكن الرجل الذي في عقلي رجل عبقري؛ وهذا الذي في عقلي رجل متزوج؛ فيجب علي أنا الطفل أن أكون رزينًا رزينًا كوالد عشرة أولاد في المدارس العليا. وذهبتُ بكل ذلك أرى فلانة زوجتي، فأغلقتِ الباب في وجهي واختبأتْ مني، فقلت في نفسي: أيها الرجل، إن هذا نشوز وعصيان، لا طاعة وحب. وساءني ذلك وغمني وكبر علي، فأضمرت لها الغدر، فثبتت بذلك في ذهني صورة "الباب المغلق"، وكأنه طلاق بيننا لا باب. قال: ثم شب الرجل فكان بطبيعة ما في نفسه كالزوج الذي يترقب زوجته الغائبة غيبة طويلة: كل أيامه ظمأ على ظمأ، وكل يوم يمر به هو زيادة سنة في عمر شيطانه. وكان قد انتهى إلى مدرسته العالية، وأصبح رجل كتب وعلوم وفكر وخيال؛ فعرضت له فتاة كاللواتي يعرضن للطلبة في المدارس العليا، ما منهن على صاحبها إلا كالخيبة في امتحان. بيد أن "الرجل" لم يعرف من هذه الفتاة إلا أوائل المرأة, ولم يكد يستشرف لأواخرها حتى سُميت على غيره، فخُطبت، فزُفت؛ زُفت بعد نصف زوج إلى زوج.

وعرف الرجل من الفلسفة التي درسها أنه يجب أن يكون حرًّا بأكثر مما يستطيع، وبأكثر من هذا الأكثر, فقالها بملء فيه، وقال للحرية: أنا لكِ وأنتِ لي. قالها للحرية، فما أسرع ما ردّت عليه الحرية بفتاة أخرى. نقول نحن: وكان قد مضى على "الباب المغلق" تسع سنوات، فصار منهن بين الشاب وبين زوجته العقلية تسعة أبواب مغلقة؛ ولكنها مع ذلك مسماة له، يقول أهله وأهلها: "فلان وفلانة". وليس "الباب المغلق" عندهم إلا الحياء والصيانة، وليست الفتاة من ورائه إلا العفاف المنتظر؛ وليس الفتى إلا ابن الأب الذي سمى الفتاة له وحبسها على اسمه؛ وليست القربى إلا شريعة واجبة الحق, نافذة الحكم. وعند أهل الشرف، أنه مهما يبلغ من حرية المرء في هذا العصر فالشرف مقيد. وعند أهل الدين، أن الزواج لا ينبغي أن يكون كزواج هذا العصر قائمًا من أوله على معاني الفاحشة. وعند أهل الفضيلة، أن الزوجة إنما هي لبناء الأسرة, فإن بلغ وجهها الغاية من الحسن أو لم يبلغ، فهو على كل حال وجه ذو سلطة وحقوق "رسمية" في الاحترام؛ لا تقوم الأسرة إلا بذلك، ولا تقوم إلا على ذلك. وعند أهل الكمال والضمير، أن الزوجة الطاهرة المخلصة الحب لزوجها، إنما هي معامَلة بين زوجها وبين ربه؛ فحيثما وضعها من نفسه في كرامة أو مهانة، وضع نفسه عند الله في مثل هذا الموضع. وعند أهل العقل والرأي، أن كل زوجة فاضلة، هي جميلة جمال الحق؛ فإن لم توجب الحب، وجبت لها المودة والرحمة. وعند أهل المروءة والكرم، أن زوجة الرجل إنما هي إنسانيته ومروءته؛ فإن احتملها أعلن أنه رجل كريم، وإن نبذها أعلن أنه رجل ليس فيه كرامة. أما عند الشيطان "لعنه الله" فشروط الزوجة الكاملة ما تشترطه الغريزة: الحب، الحب، الحب! قال الشاب: وإذا أنا لم أتزوج امرأة تكون كما أشتهي جمالًا، وكما يشتهي فكري علمًا، كنت أنا المتزوج وحدي وبقي فكري عزبًا. وقد عرفت التي تصلح لي بجمالها وفكرها معًا، وتبوأت في قلبي وأقمت في قلبها؛ ثم داخلت

أهلها، فخلطوني بأنفسهم، وقالوا: شاب وعزب, ومتعلم وسَرِيّ, فلم يكن لدارهم "باب مغلق"، حتى لو شئت أن أصل إلى كريمتهم في حرام وصلت، ولكني رجل يحمل أمانة الرجولة. أما الفتاة فلست أدري -والله- أفيها جاذبية نجم، أم جاذبية امرأة؟ وهل هي أنثى في جمالها، أو هي الجمال السماوي أتى ينقح الفنون الأرضية لأهل الفن؟ إذا التقينا قالت لي بعينيها: هنا أنا ذي قد أرخيت لك الزمام، فهل تستطيع فرارًا مني؟ ونلتصق فتقول لي بجسمها: أليست الدنيا كلها هنا، فهل في المكان مكان إلا هنا؟ ونفترق فتحصر لي الزمن كله في كلمة حين نقول: غدًا نلتقي. كلامها كلام متأدب، ولكنه في الوقت نفسه طريقة من الخلاعة، تلفتك إلى فمها الحلو؛ والحركة على جسمها حركة مستحية، ولكنها في الوقت عينه كالتعبير الفني المتجسم في التمثال العاري. إنها -والله- قد جعلت شيطاني هو عقلي؛ أما هذا العقل الذي ينصح ويعظ ويقول: هذا خير وهذا شر, فهو الشيطان الذي يجب أن أتبرأ منه. قال: وألم الأب بقصة فتاه، ويحسبها نزوة من الشباب يخمدها الزواج، فيقول في نفسه: إن للرجل نظرتين إلى النساء: نظرة إليهن من حيث يختلفْنَ، فتكون كل امرأة غير الأخرى في الخيال والوهم والمزاج الشعري؛ ونظرة إليهن من حيث يتساوين في حقيقة الأنوثة وطبيعة الاحترام الإنساني، فتكون كل امرأة كالأخرى ولا يتفاوتن إلا بالفضيلة والمنفعة, ويقرر لنفسه أن ابنه رجل متعلم ذو دين وبصر، فلا ينظر النظرة الخيالية التي لا تقنع بامرأة واحدة، بل لا تزال تلتمس محاسن الجنس ومفاتنه، وهي النظرة التي لا يقوم بها إلا بناء الشعر دون بناء الأسرة، ولا تصلح عليها المرأة تلد أولادًا لزوجها، بل المرأة تلد المعاني لشاعرها. ثم احتاط في رأيه، فقدر أن ابنه ربما كان عاشقًا مفتونًا مسحورًا، ذا بصيرة مدخولة وقلب هواء وعقل ملتات، فيتمرد على أبيه ويخرج عن طاعته، ويحارب أهله وربه من أجل امرأة، بيد أنه قال: إنه هو والده، وهو رباه وأنشأه في بيت فيه الدين والخلق والشهامة والنجدة، وإن محاربة الله بامرأة لا تكون إلا عملًا من أعمال البيئة الفاسدة المستهترة، حين تجمع كل معاني الفساد والإباحة والاستهتار في كلمة "الحرية". وقال: إن البيئة في العهد الذي كان من أخلاقه الشرف والدين

والمروءة والغيرة على العرض، لم يكن فيها شيء من هذا؛ ولم يكن الأبناء يومئذ يعترضون آباءهم فيمن اختاروهن؛ إذ النسل هو امتداد تاريخ الأب والابن معًا، والأب أعرف بدنياه وأجدر أن يكون مبرأ من اختلاط النظرة، فيختار للدين والحسب والكمال، لا للشهوة والحب وفنون الخلاعة؛ ولا محل للاعتراض بالعشق في باب من أبواب الأخلاق، بل محله في باب الشهوات وحدها. ثم جزم الأب أن الولد الذي يجيء من عاشقين، حري أن يرث في أعصابه جنون اثنين وأمراضهما النفسية وشهواتهما الملتهبة؛ ولهذا وقف الشرع في سبيل الحب قبل الزواج لوقاية الأمة في أولها؛ ولهذا يكثر الضعف العصبي في هذه المدنية الأوروبية وينتشر بها الفساد، فلا يأتي جيل إلا وهو أشد ميلًا إلى الفساد من الجيل الذي أعقبه. ولم يكد ينتهي الأب إلى حيث انتهى الرأي به، حتى أسرع إلى "الباب المغلق" يهيئ للزفاف ويتعجل لابنه المطيع نكبة ستجيء في احتفال عظيم. قال الشاب: وجُن جنوني؛ وقد كان أبي من احترامي بالموضع الذي لا يلقى منه، فلجأت إلى عمي أستدفع به النكبة، وأتأيد بمكانه عند أبي؛ وبثثته حزني وأفضيت إليه بشأني، وقلت له فيما قلت: افعلوا كل شيء إلا شيئًا ينتهي بي إلى تلك الفتاة، أو ينتهي بها إلي؛ وما أنكر أنها من ذوات القربى، وأن في احتمالي إياها واجبًا ورجولة، وفي ستري لها ثوابًا ومروءة، وخاصة في هذا الزمن الكاسد الذي بلغت فيه العذارى سن الجدات. ولكن القلب العاشق كافر بالواجب والرجولة، والثواب والمروءة، وبالأم والأب؛ فهو يملك النعمة ويريد أن يملك التنعم بها؛ وكل من اعترضه دونها كان عنده كاللص. قال: قبح الله حبًّا يجعل أباك في قلبك لصًّا أو كاللص. قلت: ولكني حر أختار من أشاء لنفسي. قال: إن كنت حرًّا كما تزعم، فهل تستطيع أن تختار غير التي أحببتها؟ ألا تكون حرًّا إلا فينا نحن وفي هدم أسرتنا؟ قلت: ولكني متعلم، فلا أريد الزواج إلا بمن ... فقطع علي وقال: ليتك لم تتعلم، فلو كنت نجارًا أو حدادًا أو حُوذيًّا، لأدركت بطبيعة الحياة أن الذين يتخضعون للحب وللمرأة هذا الخضوع، هم

الفارغون الذين يستطيع الشيطان أن يقضي في قلوبهم كل أوقات فراغه. أما العاملون في الدين، والمغامرون في الحياة، والعارفون بحقائق الأمور، والطامعون في الكمال الإنساني، فهؤلاء جميعًا في شغل عن تربية أوهامهم، وعن البكاء للمرأة والبكاء على المرأة؛ ونظرتهم إلى هذه المرأة أعلى وأوسع؛ وغرضهم منها أجل وأسمى؛ وقد قال نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا الله في النساء" أي: انظروا إليهن من جانب تقوى الله؛ فإن المرأة تقدم من رجلها على قلب فيه الحب والكراهة وما بينهما، ولا تدري أي ذلك هو حظها؛ ولو أن كل من أحب امرأة نبذ زوجة، لخربت الدنيا ولفسد الرجال والنساء جميعًا. وهذه يا بني أوهام وقتها وعمل أسبابها، وسيمضي الوقت وتتغير الأسباب, وربما كان الناضج اليوم هو المتعفن غدًا، وربما كان الفج هو الناضج بعد؟ وَهَبْكَ لا تحب ذات رحمك ثم أكرمتها وأحسنت إليها وسترتها، أفيكون عندك أجمل من شعورها أنك ذو الفضل عليها؟ وهل أكرم الكرم عند النفس إلا أن يكون لها هذا الشعور في نفس أخرى؟ إن هذا يا بني إن لم يكن حبا فيه الشهوة، فهو حب إنساني فيه المجد. ووقعت المشكلة وزُفت المسكينة؛ فكيف يصنع الرجل بين المحبوبة والمكروهة؟ 1.

_ 1 "رجاء إلى القراء": هذه القصة واقعة، وقد بنى الرجل بامرأته وهو في الشهر الذي لا اسم له عنده, وإن كان اسمه عند الناس "شهر العسل" فماذا يرى له القارئ من الرأي؟ وماذا ترى القارئة لهذه العروس اللابسة أكفانها في عين الرجل؟

المشكلة 2

المشكلة "2": لما فرغت من مقالات "المجنون"1 وأرسلت الأخيرة منها، قلت في نفسي: هذا الآخر هو الآخر من المجنون وجنونه، ومن الفكر في تخليطه ونوادره؛ غير أنه عاد إلي أخلاطًا وأضغاثًا فكأني رأيته في النوم يقول لي: اكتب مقالًا في السياسة. قلت: ما لي وللسياسة وأنا "موظف" في الحكومة، وقد أخذت الحكومة ميثاق الموظفين, لِمَا عرفوا من نقد أو غَمِيزة ليكتُمُنَّه ولا يبينونه؟! فقال: هذه ليست مشكلة, وليس هذا يصلح عذرًا، والمخرج سهل والتدبير يسير والحل ممكن. قلت: فما هو؟ قال: اكتب ما شئت في سياسة الحكومة، ثم اجعل توقيعك في آخر المقال هكذا: "مصطفى صادق الرافعي؛ غير موظف بالحكومة". فهذه طريقة من طرق المجانين في حل المشاكل المعقدة، لا يكون الحل إلا عقدة جديدة يتم بها اليأس ويتعذر الإمكان، وهي بعينها طريقة ذلك الطائر الأبله الذي يرى الصائد فيُغمض عينه ويلوي عنقه ويخبأ رأسه في جناحه؛ ظنًّا عند نفسه أنه إذا لم ير الصائد لم يره الصائد، وإذا توهم أنه اختفى تحقق أنه اختفى؛ وما عمله ذاك إلا كقوله للصياد: إني غير موجود هنا ... على قياس "غير موظف". وقد كنت استفتيت القراء في "المشكلة"، وكيف يتقي صاحبها على نفسه، وكيف تصنع صاحبتها؛ فتلقيتُ كتبًا كثيرة أهدت إلي عقولًا مختلفة؛ وكان من عجائب المقادير أن أول كتاب ألقي إلي منها كتاب مجنون "نابغة" كنابغة القرن العشرين، بعث به من القاهرة، وسمى نفسه فيه "المصلح المنتظر" وهذه عبارته بحرفها ورسمها كما كُتبتْ وكما تُقرأ؛ فإن نشر هذا النص كما هو، يكون أيضًا نصًّا على ذلك العقل كيف هو؟

_ 1 بعد أن كتبنا الفصل الأول من "المشكلة" واستفتينا القراء في آخره، انتظرنا مدة، وكتبنا في هذه المدة مقالات "المجنون" فانظرها في الجزء الثاني.

قال: "إن هذا الكون تعبت فيه آراء المصلحين، وكتب الأنبياء زهاء قرون عديدة، ودائمًا نرى الطبيعة تنتصر. ولقد نرى الحيوان يعلم كيف يعيش بجوار أليفه، والطير كيف يركن إلى عش حبيبته، إلا الإنسان. ولقد تفنن المشرِّعون في أسماء: العادات والتقاليد والحميَّة والشرف والعِرْض، وإن جميع هذه الأشياء تزول أمام سلطان المادة, فما بالكم بسلطان الروح؟ ورأيي لهذا الشاب ألا يطيع أباه ولو ذهب إلى ما يسموه الجحيم "كذا" إذا كان بعد أن يعيش الحياة الواحدة التي يحياها ويتمتع بالحب الواحد المقدر له، ما دام قلبه اصطفاها وروحه تهواها؛ ولو تركتْهُ بعد سنين قليلة لأي داعٍ من دواعي الانفصال "كذا". وهذا ليس مجرد رأي مجرب، وإنما هو رأي أكبر عقل أنجبته الطبيعة حتى الآن! وسينتصر على جميع من يقفون أمامه، والدليل أن هذا المقال سيشار إليه في مجلة "الرسالة" وهذا الرأي سيعمل به، وصاحب هذا الرأي سيخلد في الدنيا، وسيضع الأسس والقوانين التي تصلح لبني الإنسان مع سمو الروح بعد أن أفسدت أخلاقه عبادة المال. إن الإنسان يحيا حياة واحدة فليجعلها بأحسن ما تكون، وليمتع روحه بما تمتع به جميع المخلوقات سواه. وإلى الملتقى في ميدان الجهاد". "المصلح المنتظر" انتهى. وهذا الكتاب يحل "المشكلة" على طريقة "غير موظف" فليعتقد العاشق أنه غير متزوج فإذا هو غير متزوج، وإذا هو يتقلب فيما شاء؛ وتسأل الكاتب ثم ماذا؟ فيقول لك: ثم الجحيم. وإنما أوردنا الكتاب بطوله وعرضه؛ لأننا قرأناه على وجهين، فقد نبهتنا عبارة "أكبر عقل أنجبته الطبيعة حتى الآن" إلى أن في الكلام إشارة من قوة خفية في الغيب، فقرأناه على وحي هذه الإشارة وهديها، فإذا ترجمة لغة الغيب فيه: "ويحك يا صاحب المشكلة، إذا أردت أن تكون مجنونًا أو كافرًا بالله وبالآخرة فهذا هو الرأي. كن حيوانًا تنتصر فيه الطبيعة والسلام! ". تلك إحدى عجائب المقادير في أول كتاب ألقي إلي؛ أما العجيبة الثانية فإن آخر كتاب تلقيته كان من صاحبة المشكلة نفسها؛ وهو كتاب آية في الظرف وجمال

التعبير وإشراق النفس في أسرارها، يمور مَوْر الضباب الرقيق من ورائه الأشعة، فهو يحجب جمالًا ليُظهر منه جمالًا آخر؛ وكأنه يعرض بذلك رأيًا للنظر ورأيًا للتصور، ويأتي بكلام يُقرأ بالعين قراءة وبالفكر قراءة غيرها؛ ولفظها سهل، قريب قريب، حتى كأن وجهها هو يحدثك لا لفظها؛ ومادة معانيها من قلبها لا من فكرها، وهو قلب سليم مُقْفَل على خواطره وأحزانه، مسترسل إلى الإيمان بما كُتب عليه استرساله إلى الإيمان بما كُتب له، فما به غرور ولا كبرياء ولا حقد ولا غضب، ولا يَكْرُثه ما هو فيه. ومن نَكَد الدنيا أن مثل هذا القلب لا يُخلق بفضائله إلا ليُعاقَب على فضائله؛ فغلظة الناس عقاب لرقته، وغدرهم نكاية لوفائه، وتهوُّرهم رد على أَنَاته، وحُمْقهم تكدير لسكونه, وكذبهم تكذيب للصدق فيه. وما أرى هذا القلب مأخوذًا بحب ذلك الشاب ولا مستهامًا به لذاته، وإنما هو يتعلق صورًا عقلية جميلة كان من عجائب الاتفاق أن عرضتْ له في هذا الشباب أول ما عرضت على مقدار ما؛ وسيكون من عجائب الاتفاق أيضًا أن يزول هذا الحب زوال الواحد إذا وُجدت العشرة، وزوال العشرة إذا وجدت المائة، وزوال المائة إذا وجد الألف. وبعد هذا كله, فصاحبة المشكلة في كتابها كأنما تكتب في نقد الحكومة على طريقة جعل التوقيع: "فلان غير موظف بالحكومة" وهي فيما كتبت كالنهر الذي يتحدَّر بين شاطئيه, مدعيًا أنه هارب من الشاطئين مع أنه بينهما يجري: تحب صاحبها وتلقاه؛ ثم هي عند نفسها غير جانية عليه ولا على زوجته. فليت شعري عنها، ما عسى أن تكون الجناية بعد زواج الرجل غير هذا الحب وهذا اللقاء؟! ونحن معها كأرسطاطاليس مع صديقه الظالم حين قال له: هبنا نقدر على محاباتك في ألا تقول: إنك ظالم؛ هل تقدر أنت على ألا تعلم أنك ظالم؟ ورأيها في "المشكلة" أن ليس من أحد يستطيع حلها إلا صاحبها، ثم هو لا يستطيع ذلك إلا بطريقة من طريقتين: فإما أن تكون ضحية أبيها وأبيه -تعني زوجته- ضحيته هو أيضًا، ويستهدف لما يناله من أهله وأهلها، فيكون البلاء عن يمينه وشماله، ويكابد من نفسه ومنهم ما إن أقله ليذهب براحته وينغّص عليه الحب والعيش، "قالت": وإما أن يضحي بقلبه وعقله وبي. وهذا كلام كأنها تقول فيه: إن أحدًا لا يستطيع حل المشكلة إلا صاحبها،

غير مستطيع حلها إلا بجناية يذهب فيها نعيمه، أو بجنون يذهب فيه عقله. فإن حَلَّها بعد ذلك فهو أحد اثنين: إما أحمق أو مجنون ما منهما بد. ولسان الغيب ناطق في كلامها بأن أحسن حل للمشكلة هو أن تبقى بلا حلّ، فإن بعض الشر أهون من بعض. والعجيبة الثالثة أن "نابغة القرن العشرين"1 جاء زائرًا بعد أن قرأ مقالات "المجنون"، فرأى بين يدي هذه الكتب التي تلقيتُها وأنا أعرضها وأنظر فيها لأتخير منها، فسأل فخبَّرتُه الخبر؛ فقال: إن صاحب هذه المشكلة مجنون, لو امتحنوه في الجغرافيا وقالوا له: ما هي أشهر صناعة في باريس؟ لأجابهم: أشهر ما تعرف به باريس أنها تصنع "البودرة" لوجه حبيبتي. قلت: كيف يرتد هذا المجنون عاقلًا؟ وما علاجه عندك؟ قال: وَجِّهْ في طلب "ا. ش"* ليجيء، فلما جاء قال له: اكتب: جلس "نابغة القرن العشرين" مجلسه للإفتاء في حل المشكلة فأفتى مرتجلًا: "إن منطق الأشياء وعقلية الأشياء صريحان في أن مشكلة الحب التي يعسر حلها ويتعذر مجاز العقل فيها، ليست هي مشكلة هذا العاشق أكرهوه على الزواج بامرأة يحملها القلب أو لا يحملها، وإنما هي مشكلة إمبراطور الحبشة يريدون إرغامه أن يتزوج إيطاليا، ويذهبون يزفونها إليه بالدبابات والرشاشات والغازات السامة". "ولو لم يكن رأس هذا العاشق المجنون فارغًا من العقل الذي يعمل عمل العقل، إذن لكانت مجاري عقله مطردة في رأسه، فانحلت مشكلته بأسباب تأتي من ذات نفسها أو ذات نفسه؛ غير أن في رأسه عقل بطنه لا عقل الرأس، كذلك الشَّرِه البخيل الذي طبخ قِدْرًا وقعد هو وامرأته يأكلان، فقال: ما أطيب هذه القدر لولا الزحام. قالت امرأته: أي زحام ههنا, إنما أنا وأنت؟! قال: كنت أحب أن أكون أنا والقدر فقط". "فعقل النَّهِم في رأس هذا كعقل الشهوة في رأس ذاك؛ كلاهما فاسد التقدير لا يعمل أعمال العقول السليمة؛ ويريد أحدهما أن تبطل الزوجة من أجل رطل من اللحم، ويريد الآخر مثل ذلك في رطل من الحب.

_ 1 هو لقب المجنون، فانظر مقالاته في الجزء الثاني. * هو الأديب أمين حافظ شرف، ويأتي له ذكر في مقالات المجنون.

وإذا فسد العقل هذا الفساد ابتلى صاحبه بالمشاكل الصبيانية المضحكة: لا تكون من شيء كبير، ولا يكون منها شيء كبير؛ وهي عند صاحبها لو وُزنت كانت قناطير من التعقيد؛ ولو كِيلت بلغت أرادبّ من الحيرة؛ ولو قِيست امتدت إلى فراسخ من الغموض. هاتان المرأتان: "الحبيبة والزوجة"، إما إن تكونا جميعًا امرأتين، فالمعنى واحد فلا مشكلة؛ وإما ألا تكونا امرأتين، فالمعنى كذلك واحد فلا مشكلة؛ وإما أن تكون إحداهما امرأة والأخرى قردة أو هِرْدة، وههنا المشكلة. "حاشية: الهردة من أوضاع نابغة القرن العشرين في اللغة، ومعناها: الأنثى ليست من إناث الأُناسيّ ولا البهائم". فإن زعم العاشق أن زوجته قردة فهو كاذب، وإن زعم أنها الهردة فهو أكذب؛ والمشكلة هنا مشكلة كل المجانين، ففي مخه موضع أفرط عليه الشعور فأفسده، وأوقع بفساده الخطأ في الرأي، وابتلاه من هذا الخطأ بالعمى عن الحقيقة، وجعل زوجته المسكينة هي معرض هذا العمى وهذا الخطأ وهذا الفساد؛ ولا عيب فيها؛ لأنها من زوجها كالحقيقة التي يتخبط فيها المجنون مدة جنونه، فتكون مَجْلَى هذيانه ومَعْرِض حماقاته، وهي الحقيقة غير أنه هو المجنون. فإن كانت هذه الحقيقة مسألة حسابية استمر المجنون مدة جنونه يقول للناس: خمسون وخمسون ثلاثة عشر، ولا يصدق أبدًا أنها مائة كاملة؛ وإن كانت مسألة علمية قضى المجنون أيامه يشعل التراب ليجعله بارودًا ينفجر ويتفرقع ولا يدخل في عقله أبدًا أن هذا تراب منطفئ بالطبيعة؛ وإن كانت مسألة قلبية استمر المجنون يزعم أن زوجته قردة أو هردة، ولا يشعر أبدًا أنها امرأة. فإن صح أن هذا الرجل مجنون فعلاجه أن يُربط في المارستان، ثم يجيء أهله كل يوم بزوجته فيسألونه: أهذه امرأة أم قردة أم هردة؟ ثم لا يزالون ولا يزال حتى يراها امرأة، ويعرفها امرأته، فيقال له حينئذ: إن كنت رجلًا فتخلق بأخلاق الرجال. أما إن كان الرجل عاقلًا مميزًا صحيح التفكير ولكنه مريض مرض الحب، فلا يرى "النابغة" أشفى لدائه ولا أنجع فيه من أن يستطب بهذه الأشفية واحدًا بعد واحد حتى يذهب سقامه بواحد منها أو بها كلها: الدواء الأول: أن يجمع فكره قبل نومه فيحصره في زوجته، ثم لا يزال يقول: زوجتي، زوجتي، حتى ينام. فإن لم يذهب ما به في أيام قليلة فالدواء الثاني. الدواء الثاني: أن يتجرع شربة من زيت الخروع كل أسبوع, ويتوهم كل

مرة أنه يتجرعها من يد حبيبته، فإن لم يشفه هذا فالدواء الثالث. الدواء الثالث: أن يذهب فيبيت ليلة في المقابر، ثم ينظر نظره في أي المرأتين يريد أن يلقى الله بها وبرضاها عنه وبثوابه فيها؛ وأيتهما هي موضع ذلك عند الله تعالى، فإن لم يبصر رشده بعد هذا فالدواء الرابع. الدواء الرابع: أن يخرج في "مظاهرة" فإذا فُقئت له عين أو كُسرت له يد أو رجل، ثم لم تحل حبيبته المشكلة بنفسها, فالدواء الخامس. الدواء الخامس: أن يصنع صنيع المبتلى بالحشيس والكوكايين، فيذهب فيسلم نفسه إلى السجن ليأخذوا على يده فينسى هذا الترف العقلي؛ ثم ليعرف من أعمال السجن جد الحياة وهزلها، فإن لم ينزع عن جهله بعد ذلك فالدواء السادس. الدواء السادس: أنه كلما تحرك دمه وشاعت فيه حرارة الحب، لا يذهب إلى من يحبها، ولا يتوخى ناحيتها، بل يذهب من فوره إلى حَجَّام يحجمه؛ ليطفئ عنه الدم بإخراج الدم؛ وهذه هي الطريقة التي يصلح بها مجانين العشاق، ولو تبدلوا بها من الانتحار لعاشوا هم وانتحر الحب. قال "نابغة القرن العشرين": "فإن بطلت هذه الأشفية الستة، وبقي الرجل جَمُوحًا لا يُرد عن هواه فلم يبق إلا الدواء السابع. الدواء السابع: أن يُضرب صاحب المشكلة خمسين قناة يُصك بها1 واقعة منه حيث تقع من رأسه وصدره وظهره وأطرافه، حتى ينهشم عظمه، وينقصف صلبه، وينشدخ رأسه، ويتفرى جلده؛ ثم تطلى جراحه وكسوره بالأطلية والمراهم، وتوضع له الأضمدة والعصائب ويترك حتى يبرأ على ذلك: أعرج متخَلِّعًا مبعثر الخَلْق مكسور الأعلى والأسفل، فإن في ذلك شفاءه التام من داء الحب إن شاء الله". قلنا: فإن لم يشفه ذلك ولم يصرف عنه غائلة الحب؟ قال: فإن لم يشفه ذلك فالدواء الثامن. الدواء الثامن: أن يعاد علاجه بالدواء السابع.

_ 1 القناة: هي العصا الغليظة التي يقال لها "الشومة". والصك خاص في ضرب الرأس، ولكن لما كانت عظام صاحب المشكلة مقصودة في هذا العلاج, فقد جاز استعمال الصك في الجسم كله كما رأيت.

المشكلة 3

المشكلة "3": أما البقية من هذه الآراء التي تلقيتها فكل أصحابها متوافقون على مثل الرأي الواحد، من وجوب إمساك الزوجة والإقبال عليها، وإرسال "تلك" والانصراف عنها، وأن يكون للرجل في ذلك عزم لا يتقلقل ومضاء لا ينثني، وأن يصبر للنَّفْرة حتى يستأنس منها فإنها ستتحول، ويجعل الأناة بإزاء الضجر فإنها تُصلحه، والمروءة بإزاء الكره فإنها تحمله، وليترك الأيام تعمل عملها فإنه الآن يعترض هذا العمل ويعطله، وإن الأيام إذا عملت فستغير وتبدل؛ ولا يُستقَل القليل تكون الأيام معه، ولا يُستكثَر الكثير تكون الأيام عليه. والعديد الأكبر ممن كتبوا إلي، يحفظون على صاحب المشكلة ذلك البيان الذي وضعناه على لسانه في المقال الأول، ويحاسبونه به، ويقيمون منه الحجة عليه، ويقولون له: أنت اعترفت وأنا أنكرت، وأنت رددت على نفسك، وأنت نصبت الميزان, فكيف لا تقبل الوزن به؟ وقد غفلوا عن أن المقال من كلامنا نحن، وأن ذلك أسلوب من القول أدرناه ونحلناه ذلك الشاب؛ ليكون فيه الاعتراض وجوابه، والخطأ والرد عليه؛ ولنُظهر به الرجل كالأبله في حيرته ومشكلته؛ تنفيرًا لغيره عن مثل موقفه، ثم لنحرك به العلل الباطنة في نفسه هو، فنصرفه عن الهوى شيئًا فشيئًا إلى الرأي شيئًا فشيئًا، حتى إذا قرأ قصة نفسه قرأها بتعبير من قلبه وتعبير آخر من العقل، وتَلَمَّح ما خفي عليه فيما ظهر له، واهتدى من التقييد إلى سبيل الإطلاق، وعرف كيف يخلص بين الواجب والحب اللذين اختلطا عليه وامتزجا له امتزاج الماء والخمر. وبذلك الأسلوب جاءت المشكلة معقدة منحلَّة في لسان صاحبها، وبقي أن يُدفع صاحبها بكلام آخر إلى موضع الرأي. وكثير من الكتاب لم يزيدوا على أن نبهوا الرجل إلى حق زوجته، ثم يدعون الله أن يرزقه عقلًا, وقد أصاب هؤلاء أحسن التوفيق فيما أُلهموا من هذه الدعوة، فإنما جاءت المشكلة من أن الرجل قد فقد التمييز وجُنّ بجنونين:

أحدهما في الداخل من عقله، والثاني في الخارج منه؛ فأصبح لا يبالي الإثم والبغض عند زوجته إذا هو أصاب الحظوة والسرور عند الأخرى؛ فتعدى طوره مع المرأتين جميعًا، وظلم الزوجة بأن استلب حقها فيه، وظلم الأخرى بأن زادها ذلك الحق فجعلها كالسارقة والمعتدية. وقد تمنى أحد القراء من فلسطين1 أن يرزقه الله مثل هذه الزوجة المكروهة كراهة حب، ويضعه موضع صاحب المشكلة؛ ليثبت أنه رجل يحكم الكره ويصرفه على ما يشاء، ولا يرضى أن يحكمه الحب وإن كان هو الحب. وهذا رأي حَصِيف جيد، فإن العاشق الذي يتلعب الحب به ويصده عن زوجته، لا يكون رجلًا صحيح الرجولة، بل هو أسخف الأمثلة في الأزواج، بل هو مجرم أخلاقي يَنْصِب لزوجته من نفسه مثال العاهر الفاسق؛ ليدفعها إلى الدعارة والفسق من حيث يدري أو لا يدري؛ بل هو غبي؛ إذ لا يعرف أن انفراد زوجته وتراجعها إلى نفسها الحزينة ينشئ في نفسها الحنين إلى رجل آخر؛ بل هو مغفل، إذ لا يدرك أن شريعة السن بالسن والعين بالعين، هي بنفسها عند المرأة شريعة الرجل بالرجل. والمرأة التي تجد من زوجها الكراهية لا تعرفها أنها الكراهة إلا أولَ أولَ؛ ثم تنظر فإذا الكراهة هي احتقارها وإهانتها في أخص خصائصها النسوية، ثم تنظر فإذا هي إثارة كبريائها وتحدِّيها، ثم تنظر فإذا هي دَفْع غريزتها أن تعمل على إثبات أنها جديرة بالحب، وأنها قادرة على النقمة والمجازاة؛ ثم تنظر فإذا برهان كل ذلك لا يجيء من عقل ولا منطق ولا فضيلة، وإنما يأتي من رجل ... رجل يحقق لها هي أن زوجها مغفل, وأنها جديرة بالحب. وكأن هذا المعنى هو الذي أشارت إليه الأديبة "ف. ز" وإن كانت لم تبسطه، فقد قالت: "إن صاحب هذه المشكلة غبي، ولا يكون إلا رجلًا مريض النفس مريض الخُلُق، وما رأيت مثله رجلًا أبعد من الرجل, ومثل هذا هو نفسه مشكلة, فكيف تحل مشكلته؟ إنه من ناحية زوجته مغفل، لا وصف له عندها إلا هذا؛ ومن جهة حبيبته خائن، والخيانة أول أوصافه عندها.

_ 1 هذه الآراء التي سننقلها قد تصرفنا في جميعها بالعبارة، ولكنا لم نخرج عما يرمي إليه صاحب الرأي وما أقام رأيه عليه.

وهذا الزوج يسمم الآن أخلاق زوجته ويفسد طباعها، وينشئ لها قصة في أولها غباوته وإثمه، وسيتركها تتم الرواية فلا يعلم إلا الله ما يكون آخرها. ويمثل هذا الرجل أصبح المتعلمات يعتقدن أن أكثر الشبان إن لم يكونوا جميعًا، هم كاذبون في ادعاء الحب، فليس منهم إلا الغواية؛ أو هم محبون يكذب الأمل بهم على النساء، فليس منهم إلا الخيبة. قالت: "وخير ما تفعله صاحبة المشكلة أن تصنع ما صنعته أخرى لها مثل قصتها, فهذه حين علمت بزواج صاحبها قذفتْ به من طريق آمالها إلى الطريق الذي جاء منه، وأنزلته من درجة أنه كل الناس إلى منزلة أنه ككل الناس، ونبهت حزمها وعزيمتها وكبرياءها، فرأته بعد ذلك أهون على نفسها من أن يكون سببًا لشقاء أو حسرة أو هم، وابتعدت بفضائلها عن طريق الحب الذي تعرف أنه لا يستقيم إلا لزوجة وزوجها، فإذا مشت فيه امرأة إلى غير زواج، انحرف بها من هنا، واعوج لها من هنا، فلم ينته بها في الغاية إلا أن تعود إلى نفسها وعليها غباره، وما غبار هذا الطريق إلا سواد وجه المرأة". وقد جهد الرجل بصاحبته أن تتخذه صديقًا، فأبت أن تتقبل منه برهان خيبتها, وأظهرت له جَفْوة فيها احتقار، وأعلمته أن نكث العهد لا يخرج منه عهده، وأن الصداقة إذا بدأت من آخر الحب تغير اسمها وروحها ومعناها، فإما أن تكون حينئذ أسقط ما في الحب، أو أكذب ما في الصداقة. ثم قالت الأديبة: "وهي كانت تحبه، بل كانت مستهامة به، غير أنها كانت أيضًا طاهرة القلب، لا تريد في الحبيب رجلًا هو رجل الحيلة عليها فتُخدَع به، ولا رجل العار فتُسب به؛ وفي طهارة المرأة جزاء نفسها من قوة الثقة والاطمئنان وحسن التمكن؛ وهذا القلب الطاهر إذا فقد الحب لم يفقد الطمأنينة، كالتاجر الحاذق إن خسر الربح لم يفلس؛ لأن مهارته من بعض خصائصها القدرة على الاحتمال، والصبر للمجاهدة". قالت: "فعلى صاحبة المشكلة التي عرفت كيف تحب وتجل، أن تعرف الآن كيف تحتقر وتزدري".وللأديبة "ف. ع" رأي جَزْل مسدد؛ قالت: "إنها هي قد كانت يومًا بالموضع الذي فيه صاحبة المشكلة، فلما وقعت الواقعة أَنِفت أن تكون لصة قلوب، وقالت في

نفسها: إذا لم يُقْدَر لي، فإن الله هو الذي أراد، وإني أستحي من الله أن أحاربه في هذه الزوجة المسكينة! ولئن كنت قادرة على الفوز، إن انتصاري عليها عند حبيبي هو انتصارها علي عند ربي، فلأخسر هذا الحب لأرابح الله برأس مال غزير خسرته من أجله، لأُبْقِ على أخلاق الرجل ليبقى رجلًا لامرأته، فما يسرني أن أنال الدنيا كلها وأهدم بيتًا على قلب، ولا معنى لحب سيكون فيه اللؤم بل سيكون ألأم اللؤم. قالت: وعلمتُ أن الله "تعالى" قد جعلني أنا السعادة والشقاء في هذا الوضع ليرى كيف أصنع، وأيقنت أن ليس بين هذين الضدين إلا حكمتي أو حمقي، وصح عندي أن حسن المداخلة في هذه المشكلة هو الحل الحقيقي للمشكلة. قالت: "فتغيرت لصاحبي تغيرًا صناعيًّا، وكانت نيتي له هي أكبر أعواني عليه، فما لبث هذا الانقلاب أن صار طبيعيًّا بعد قليل, وكنت أستمد من قلب امرأته إذا اختانني الضعف أو نالني الجزع، فأشعر أن لي قوة قلبين. وزدتُ على ذلك النصح لصاحبي نصحًا ميسرًا قائمًا على الإقناع وإثارة النخوة فيه وتبصيره بواجبات الرجل، وترفّقت في التوصل إلى ضميره لأثبت له أن عزة الوفاء لا تكون بالخيانة وبينت له أنه إذا طلق زوجته من أجلي فما يصنع أكثر من أن يقيم البرهان على أنه لا يصلح لي زوجًا؛ ثم دللته برفق على أن خير ما يصنع وخير ما هو صانع لإرضائي أن يقلدني في الإيثار وكرم النفس، ويحتذيني في الخير والفضيلة، وأن يعتقد أن دموع المظلومين هي في أعينهم دموع، ولكنها في يد الله صواعق يضرب بها الظالم. قالت: "وبهذا وبعد هذا انقلب حبه لي إكبارًا وإعظامًا، وسما فوق أن يكون حبًّا كالحب؛ وصار يجدني في ذات نفسه وفي ضميره كالتوبيخ له كلما أراد بامرأته سوءًا أو حاول أن يغض منها في نفسه. واعتاد أن يكرمها فأكرمها، وصلحت له نيته فاتصل بينهما السبب، وكبرت هذه النية الطيبة فصارت ودًّا، وكبر هذا الود فعاد حبًّا، وقامت حياتهما على الأساس الذي وضعته أنا بيدي، أنا بيدي. أما أنا". وكتب فاضل من حلوان: "إن له صديقًا ابتُلي بمثل هذه المشكلة فركب رأسه, فما رده شيء عن الزواج بحبيبته، وزُف إليها كأنه ملك يدخل إلى قصر خياله؛ وكان أهله يعذلونه ويلومونه ويخلصون له النصح ويجتهدون في أمره جهدهم، إذ

يرون بأعينهم ما لا يرى بعينه، فكان النصح ينتهي إليه فيظنه غِشًّا وتلبيسًا، وكان اللوم يبلغه فيراه ظلمًا وتحاملًا، وكان قلبه يترجم له كل كلمة في حبيبته بمعنى منها هي لا من الحقائق، إذ غلبت على عقله فبها يعقل، وذهبت بقلبه فبها يحس، واستبدت بإرادته فلها ينقاد؛ وعادت خواطره وأفكاره تدور عليها كالحواشي على العبارة المغلقة في كتاب؛ واستقرت له فيها قوة من الحب، وأمرها إذا أرادت شيئًا أن تقول له كن ... ". ثم مضت الليلة بعد الليلة، وجاء اليوم بعد اليوم، والموج يأخذ من الساحل الذَّرَّة بعد الذرة والساحل لا يشعر، إلى أن تصرمت أشهر قليلة، فلم تلبث الطبيعة التي ألفت الرواية وجعلتها قبل الزواج رواية الملك والملكة، وقصة التاج والعرش، وحديث الدنيا وملك الدنيا, لم تلبث أن انتقلت على فجأة, فأدارت الرواية إلى فصل السخرية ومنظر التهكم، وكشفت عن غرضها الخفي وحلت العقدة الروائية. قال: "ففرغ قلب المرأة من الحب، وظمئ إلى السكر والنشوة مرة أخرى من غير هذه الزجاجة الفارغة, وبرد قلب الرجل، وكان الشيطان الذي يتسعّر فيه نارًا شيطانًا خبيثًا، فتحول إلى لوح من الثلج له طول وعرض". وجَدَّت الحياة وهزل الشيطان، فاستحمق الرجل نفسه أن يكون اختار هذه المرأة له زوجة، واستجهلت المرأة عقلها أن تكون قد رضيت هذا الرجل زوجًا، وأنكرها إنكارًا أوله الملالة، وأنكرته إنكارًا آخر أوله التبرم؛ وعاد كلاهما من صاحبه كإنسان يكلف إنسانًا أن يخلق له الأمس الذي مضى! "وضربت الحياة ضربة أو ضربتين, فإذا أبنية الخيال كلها هدم هدم، وإذا الطبيعة مؤلفة الرواية, قد ختمت روايتها وقوضت المسرح، وإذا الأحلام مفسرة بالعكس: فالحب تأويله البغض، واللذة تفسيرها الألم، و"البودرة" معناها الجير. وتغير كل ما بينهما إلا الشيطان الذي بينهما، فهو الذي زوج, وهو بعينه الذي طلق". وكتب أديب من بغداد يقول: "إنه كان في هذا الموضع القَلِق موضع صاحب المشكلة، وإن ذات قرباه التي سميت عليه كانت ملفَّفَة له في حُجُب عدة لا في حجاب واحد، وقد وُصفت له باللغة, وفي اللغة: ما أحسن وما أجمل وما

أظرف، وكأنها ظبي يتلفت، وكأنها غصن يميل، وكأن سنة وجهها البدر! ". قال: "وشُبِّهت له بكل أدوات التشبيه، وجاءوا في أوصافها بمذاهب الاستعارة والمجاز، فأخذها قصيدة قبل أن يأخذها امرأة، وكان لم ير منها شيئًا, وكانت لغة ذوي قرابته وقرابتها كلغة التجارة في ألسنة حُذَّاق السماسرة, ما بهم إلا تنفيق السلعة, ثم يُخلون بين المشتري وحظه". قال: فرسخ كلامهم في قلبي, فعقدت عليها، ثم أعرست بها، ونظرت فإذا هي ليست في الكلمة الأولى ولا الأخيرة مما قالوا ولا فيما بينهما, ثم تعرفت فإذا هي تكبرني بخمس عشرة سنة. ورأيت اتضاع حالها عندي فأشفقت عليها، وبتُّ الليلة الأولى مقبلًا على نفسي أؤامرها وأناجيها، وأنظر في أي موضع رأي أنا؛ وتأملت القصة، فإذا امرأة بين رحمة الله ورحمتي، فقلت: إن أنا نزعت رحمتي عنها ليوشكن الله أن ينزع رحمته عني، وما بيني وبينه إلا أعمالي؛ وقلت: يا نفسي، {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان: 16] . وإنما أتقدم إلى عفو الله بآثام وذنوب وغلطات, فلأجعل هذه المرأة حسنتي عنده، وما علي من عمر سيمضي وتبقى منه هذه الحسنة خالدة مخلدة. إنها كانت حاجة النفس إلى المتاع فانقلبت حاجة إلى الثواب، وكانت شهوة فرجعت حكمة، وكنت أريد أن أبلغ ما أحب فسأبلغ ما يجب. ثم قلت: اللهم إن هذه امرأة تنتظرها ألسنة الناس إما بالخير إذا أمسكتها، وإما بالشر إذا طلقتها، وقد احتمت بي؛ اللهم سأكفيها كل هذا لوجهك الكريم! قال: ورأيتُني أكون ألأم الناس لو أني كشفتها للناس وقلت: انظروا, فكأنما كنت أسأت إليها فأقبلت أترضَّاها، وجعلت أمازحها وألاينها في القول، وعدلت عن حظ نفسي إلى حظ نفسها1، واستظهرت بقوله تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} واعتقدت الآية الكريمة أصح اعتقاد وأتمه، وقلت: اللهم اجعلها من تفسيرها. قال: فلم تمض أشهر حتى ظهر الحمل عليها، فألقى الله في نفسي من الفرح ما لا تعدله الدنيا بحذافيرها، وأحسست لها الحب الذي لا يقال فيه: جميل ولا قبيح؛ لأنه من ناحية النفس الجديدة التي في نفسها "الطفل". وجعلت أرى لها في

_ 1 استوفينا بيان هذه المعاني في مقالة: "قبيح جميل".

قلبي كل يوم مداخل ومخارج دونها العشق في كل مداخله ومخارجه، وصار الجنين الذي في بطنها يتلألأ نوره عليها قبل أن يخرج إلى النور، وأصبحت الأيام معها ربحًا من الزمن, فيه الأمل الحلو المنتظر. قال: "وجاءها المخاض، وطرَّقتْ بغلام؛ وسمعتُ الأصوات ترتفع من حجرتها: ولد! ولد! بشروا أباه. فوالله لكأن ساعة من ساعات الخلد وقعت في زمني أنا من دون الخلق جميعًا وجاءتني بكل نعيم الجنة؛ وما كان ملك العالم -لو ملكته- مستطيعًا أن يهبني ما وهبتني امرأتي من فرح تلك الساعة؛ إنه فرح إلهي أحسست بقلبي أن فيه سلام الله ورحمته وبركته، ومن يومئذ نطق لسان جمالها في صوت هذا الطفل. ثم جاء أخوه في العام الثاني، ثم جاء أخوهما في العام الثالث؛ وعرفت بركة الإحسان من اللطف الرباني في حوادث كثيرة، وتنفست علي أنفاس الجنة وفسرت الآية الكريمة نفسها بهؤلاء الأولاد, فكان تفسيرها الأفراح، والأفراح، والأفراح". ويرى صديقنا الأستاذ "م. ح. ح" أن صاحب المشكلة في مشكلة من رجولته لا من حبه؛ فلو أن له ألف روح لما استطاع أن يعاشر زوجته بواحدة منها, إذ هي كلها أرواح صبيانية تبكي على قطعة من الحلوى ممثلة في الحبيبة, ولو عرف هذا الرجل فلسفة الحب والكره؛ لعرف أنه يصنع دموعه بإحساسه الطفلي في هذه المشكلة؛ ولو أدرك شيئًا لأدرك أن الفاصل بين الحب والكره منزوع من نفسه؛ إذ الفاصل في الرجل هو الحزم الذي يوضع بين ما يجب وما لا يجب. إنه ما دام بهذه النفس الصغيرة, فكل حل لمشكلته هو مشكلة جديدة، ومثله بلاء على الزوجة والحبيبة معًا، وكلتاهما بلاء عليه، وهو بهذه وهذه كمحكوم عليه أن يُشنَق بامرأة لا بمشنقة. هذا عندي ليس بالرجل ولا بالطفل إلى أن يثبت أنه أحدهما؛ فإن كان طفلًا فمن السخرية به أن يكون متزوجًا، وإن كان رجلًا فليحل هو المشكلة بنفسه، وحلها أيسر شيء؛ حلها تغيير حالته العقلية. ونحن نعتذر للباقين من الأدباء والفضلاء الذين لم نذكر آراءهم، إذ كان الغرض من الاستفتاء أن نظفر بالأحوال التي تشبه هذه الحادثة، لا بالآراء والمواعظ والنصائح. أما رأينا ففي البقية الآتية.

المشكلة 4

المشكلة "4": صاحب هذه المشكلة رجل أعور العقل, يرى عقله من ناحية واحدة، فقد غاب عنه نصف الوجود في مشكلته, ولو أن عقله أبصر من الناحيتين لما رأى المشكلة خالصة في إشكالها، ولوجد في ناحيتها الأخرى حظًّا لنفسه قد أصابه، ومذهبًا في السلامة لم يخطئه؛ وكان في هذه الناحية عذاب الجنون لو عذبه الله به، وكان يصبح أشقى الخلق لو رماه الله في الجهة التي أنقذه منها، فتهيأت له المشكلة على وجهها الثاني. ماذا أنت قائل يا صاحب المشكلة لو أن زوجتك هذه المسكينة المظلومة التي بنيت بها، كانت هي التي أُكرهتْ على الرضى بك، وحُملت على ذلك من أبيها، ثم كنت أنت لها عاشقًا، وبها صبًّا، وفيها مُتَدَلِّهًا؛ ثم كانت هي تحب رجلًا غيرك، وتصبو إليه، وتفتتن به، وقد احترقت عشقًا له؛ فإذا جلوها عليك رأتك البغيض المقيت، ورأتك الدميم الكريه، وفزعت منك فزعها من اللص والقاتل؛ وتمد لها يدك فتتحاماها تحاميها المجذوم أو الأبرص، وتكلمها فتُحَمّ بردًا من ثقل كلامك، وتفتح لها ذراعيك فتحسبهما حبلين من مشنقتين، وتتحبب إليها فإذا أنت أسمج خلق الله عندها، إذ تحاول في ندالة أن تحل منها محل حبيبها؛ وتقبل عليها بوجهك فتراه من تقذّرها إياك، واشمئزازها منك، وجه الذبابة مكبَّرًا بفظاعة وشناعة في قدر صورة وجه الرجل، لتتجاوز حد القبح إلى حد الغَثَاثة، إلى حد انقلاب النفس من رؤيته، إلى حد القيء إذا دنا وجهك من وجهها؟! ماذا أنت قائل يا صاحب المشكلة لو أن مشكلتك هذه جاءت من أن بينك وبين زوجتك "الرجل الثاني" لا المرأة الثانية؟ ألست الآن في رحمة من الله بك، وفي نعمة كفت عنك مصيبة، وفي موقف بين الرحمة والنعمة يقتضيك أن ترقُب في حكمك على هذه الزوجة المسكينة حكم الله عليك؟

تقول: الحب والخيال والفن. وتذهب في مذاهبها، غير أن "المشكلة" قد دلت على أنك بعيد من فهم هذه الحقائق، ولو أنت فهمتها لما كانت لك مشكلة، ولا حسبت نفسك منحوس الحظ محرومًا، ولا جهلت أن في داخل العين من كل ذي فن عينًا خاصة بالأحلام كيلا تعمى عينه عن الحقائق. الحب لفظ وهمي موضوع على أضداد مختلفة: على بركان وروضة، وعلى سماء وأرض، وعلى بكاء وضحك، وعلى هموم كثيرة كلها هموم، وعلى أفراح قليلة ليست كلها أفراحًا؛ وهو خداع من النفس يضع كل ذكائه في المحبوب, ويجعل كل بلاهته في المحب، فلا يكون المحبوب عند محبه إلا شخصًا خياليًّا ذا صفة واحدة هي الكمال المطلق، فكأنه فوق البشرية في وجود تام الجمال ولا عيب فيه، والناس من بعده موجودون في العيوب والمحاسن. وذلك وهم لا تقوم عليه الحياة ولا تصلح به، فإنما تقوم الحياة على الروح العملية التي تضع في كل شيء معناه الصحيح الثابت؛ فالحب على هذا شيء غير الزواج، وبينهما مثل ما بين الاضطراب والنظام؛ ويجب أن يفهم هذا الحب على النحو الذي يجعله حبًّا لا غيره، فقد يكون أقوى حب بين اثنين إذا تحابَّا هو أسخف زواج بينهما إذا تزوجا. وذو الفن لا يفيد من هذا الحب فائدته الصحيحة إلا إذا جعله تحت عقل لا فوق عقله، فيكون في حبه عاقلًا بجنون لطيف, ويترك العاطفة تدخل في التفكير وتضع فيه جمالها وثورتها وقوتها؛ ومن ثم يرى مجاهدة اللذة في الحب هي أسمى لذاته الفكرية، ويعرف بها في نفسه ضربًا إلهيًّا من السكينة يُوليه القدرة على أن يقهر الطبيعة الإنسانية ويصرفها ويبدع منها عمله الفني العجيب. وهذا الضرب من السموّ لا يبلغه إلا الفكر القوي الذي فاز على شهواته وكَبَحَها وتحملها تغلي فيه غليان الماء في المِرْجَل ليخرج منها ألطف ما فيها، ويحولها حركة في الروح تنشأ منها حياة هذه المعاني الفنية؛ وما أشبه ذا الفن بالشجرة الحية: إن لم تضبط ما في داخلها أصح الضبط، لم يكن في ظاهرها إلا أضعف عملها. ومثل هذا الفكر العاشق يحتاج إلى الزوجة حاجته إلى الحبيبة، وهو في قوته يجمع بين كرامة هذه وقدسية هذه؛ لأن إحداهما توازن الأخرى، وتعدلها في الطبع، وتخفف من طغيانها على الغريزة، وتمسك القلب أن يتبدد في جوه الخيالي.

والرجل الكامل المفكر المتخيل إذا كان زوجًا وعَشِق، أو كان عاشقًا وتزوج بغير من يهواها، استطاع أن يبتدع لنفسه فنًّا جميلًا من مسرات الفكر لا يجده العاشق ولا يناله المتزوج؛ وإنه ليرى زوجته من الحبيبة كالتمثال جَمَد على هيئة واحدة، غير أنه لا يُغفِل أن هذا هو سر من أسرار الإبداع في التمثال، إذ تلك هيئة استقرار الأسمى في سموه؛ فإن الزوجة أمومة على قاعدتها، وحياة على قاعدتها؛ أما الحبيبة فلا قاعدة لها، وهي معانٍ شاردة لا تستقر، وزائلة لا تثبت، وفنها كله في أن تبقى حيث هي كما هي، فجمالها يحيا كل يوم حياة جديدة ما دامت فنًّا محضًا، وما دام سر أنوثتها في حجابه. ومتى تزوج الرجل بمن يحبها انهتك له حجاب أنوثتها فبطل أن يكون فيها سر، وعادت له غير من كانت، وعاد لها غير من كان؛ وهذا التحول في كل منهما هو زوال كل منهما من خيال صاحبه؛ فليس يصلح الحب أساسًا للسعادة في الزواج، بل أَحْرِ به إذا كان وَجْدًا واحتراقًا أن يكون أساسًا للشؤم فيه؛ إذ كان قد وضع بين الزوجين حدًّا يعين لهما درجة من درجة في الشغف والصبابة والخيال، وهما بعد الزواج متراجعان وراء هذا الحد ما من ذلك بد، فإن لم يكن الزوج في هذه الحالة رجلًا تام الرجولة، أفسدت الحياة عليه وعلى زوجته صبيانية روحه؛ فالتمس في الزوجة ما لم يعد فيها، فإذا انكشف فراغها ذهب يلتمسه في غيرها، وكان بلاء عليها وعلى نفسه وعلى أولاده قبل أن يولدوا؛ إذ يضع أمام هذه المرأة أسوأ الأمثلة لأبي أولادها، ويفسد إحساسها فيفسد تكوينها النفسي؛ وما المرأة إلا حسها وشعورها1. فالشأن هو في تمام الرجولة وقوتها وشهامتها وفحولتها، إن كان الرجل عاشقًا أو لم يكنه. وما من رجل قوي الرجولة إلا وأساسه ديانته وكرامته؛ وما من ذي دين أو كرامة يقع في مثل هذه المشكلة ثم تُظلم به الزوجة أو يحيف عليها أو يفسد ما بينه وبينها من المداخلة وحسن العشرة، بَلْه أن يراها كما يقول صاحب المشكلة "مصيبة" فيجافيها ويبالغ في إعناتها ويشفي غيظه بإذلالها واحتقارها. وأي ذي دين يأمن على دينه أن يهلك في بعض ذلك, فضلا عن كل ذلك؟ وأي ذي كرامة يرضى لكرامته أن تنقلب خسة ودناءة ونذالة في معاملة امرأة هو لا غيره ذنبها؟

_ 1 هذا كله من بعض الحكمة في أن الإسلام لا يبيح اختلاط الزوجين قبل العقد، إذ لا يعرف الدين الإسلامي من الزوجين إلا أسرة يجب أن تبنى بما يبنيها، وتصان بما يصونها، وقد أشرنا إلى الحكمة الأخرى في المقالة الأولى من المشكلة.

إن أساس الدين والكرامة ألا يخرج إنسان عن قاعدة الفضيلة الاجتماعية في حل مشكلته إن تورَّط في مشكلة؛ فمن كان فقيرًا لا يسرق بحجة أنه فقير، بل يكدّ ويعمل ويصبر على ما يعانيه من ذلك؛ ومن كان محبًّا لا يَستزِلّ المرأة فيسقطها بحجة أنه عاشق؛ ومن كان كصاحب المشكلة لا يظلم امرأته فيمقتها بحجة أنه يعشق غيرها؛ وإنما الإنسان من أظهر في كل ذلك ونحو ذلك أثره الإنساني لا أثره الوحشي، واعتبر أموره الخاصة بقاعدة الجماعة لا بقاعدة الفرد. وإنما الدين في السمو على أهواء النفس؛ ولا يتسامى امرؤ على نفسه وأهواء نفسه إلا بإنزالها على حكم القاعدة العامة، فمن هناك يتسامى، ومن هناك يبدو علوه فيما يبلغ إليه. وإذا حل اللص مشكلته على قاعدته هو فقد حلها، ولكنَّه حل يجعله هو بجملته مشكلة للناس جميعًا، حتى ليرى الشرع في نظرته إلى إنسانية هذا اللص أنه غير حقيق باليد العاملة التي خُلقت له فيأمر بقطعها. وعلى هذه القاعدة, فالجنس البشري كله ينزل منزلة الأب في مناصرته لزوجة صاحب المشكلة والاستظهار لها والدفاع عنها، ما دام قد وقع عليها الظلم من صاحبها، وهذا هو حكمها في الضمير الإنساني الأكبر، وإن خالف ضمير زوجها العدوّ الثائر الذي قطعها من مصادر نفسه ومواردها. أما حكم الحبيبة في هذا الضمير الإنساني فهو أنها في هذا الموضع ليست حبيبة, ولكنها شَحَّاذة رجال. لسنا ننكر أن صاحب هذه المشكلة يتألم منها ويتلذع بها من الوَقْدة التي في قلبه؛ بيد أننا نعرف أن ألم العاقل غير ألم المجنون، وحزن الحكيم غير حزن الطائش؛ والقلب الإنساني يكاد يكون آلة مخلوقة مع الإنسان لإصلاح دنياه أو إفسادها؛ فالحكيم من عرف كيف يتصرف بهذا القلب في آلامه وأوجاعه، فلا يصنع من ألمه ألمًا جديدًا يزيده فيه، ولا يُخرِج من الشر شرًّا آخر يجعله أسوأ مما كان. وإذا لم يجد الحكيم ما يشتهي، أو أصاب ما لا يشتهي، استطاع أن يخلق من قلبه خلقًا معنويًّا يُوجده الغنى عن ذلك المحبوب المعدوم، أو يوجده الصبر عن هذا الموجود المكروه؛ فتتوازن الأحوال في نفسه وتعتدل المعاني على فكره وقلبه؛ وبهذا الخلق المعنوي يستطيع ذو الفن أن يجعل آلامه كلها بدائع فن1. وما هو فكر الحكماء إلا أن يكون مصنعًا تُرسَل إليه المعاني بصورة فيها الفوضى

_ 1 استوفينا هذه المعاني في كثير مما كتبنا، وبعضها في مقالات "الجمال البائس".

والنقص والألم؛ لتخرج منه في صورة فيها النظام والحكمة واللذة الروحية. يعشق الرجل العامي المتزوج، فإذا الساعة التي أوبقته في المشكلة قد جاءته معها بطريقة حلها: فإما ضرب امرأته بالطلاق، وإما أهلكها باتخاذ الضرة عليها، وإما عذبها بالخيانة والفجور؛ لأن بعض العبث من الطبيعة في نفس هذا الجاهل هو بعينه عبث الطبيعة بهذا الجاهل في غيره، كأن هذه الطبيعة تُطلق مدافعها الضخمة على الإنسانية من هذه النفوس الفارغة. وليس أسهل على الذكر من الحيوان أن يحل مشكلة الأنثى حلا حيوانيا كحل هذا العامي، فهو ظافر بالأنثى أو مقتول دونها ما دام مطلقًا مخلًّى بينه وبينها؛ والحقيقة هنا حقيقته هو، والكون كله ليس إلا منفعة شهوانية؛ وأسمى فضائله ألا يعجز عن نيل هذه المنفعة. ثم يعشق الرجل الحكيم المتزوج فإذا لمشكلته وجه آخر, إذ كان من أصعب الصعب وجود رجل يحل هذه المشكلة برجولة، فإن فيها كرامة الزوجة وواجب الدين وفيها حق المروءة، وفيها مع ذلك عبث الطبيعة وخداعها وهَزْلها الذي هو أشد الجد بينها وبين الغريزة؛ وبهذا كله تنقلب المشكلة إلى معركة نفسية لا يحسمها إلا الظفر، ولا يعين عليها إلا الصبر, ولا يفلح في سياستها إلا تحمل آلامها، فإذا رُزق العاشق صبرًا وقوة على الاحتمال فقد هان الباقي, وتيسرت لذة الظفر الحاسم، وإن لم يكن هو الظفر بالحبيبة؛ فإن في نفس الإنسان مواقع مختلفة وآثارًا متباينة للذة الواحدة، وموقعٌ أرفعُ من موقع، وأثرٌ أبهجُ من أثر؛ وألذ من الظفر بالحبيبة نفسها عند الرجل الحكيم الظفر بمعانيها، وأكرم منها على نفسه كرامة نفسه. وإذا انتصر الدين والفضيلة والكرامة والعقل والفن، لم يبق لخيبة الحب كبير معنى ولا عظيم أثر، ويتوغل العاشق في حبه وقد لَبِسَتْهُ حالة أخرى كما يكظم الرجل الحليم على الغيظ. فذلك يحب ولا يطيش، وهذا يغتاظ ولا يغضب. والبطل الشديد البأس لا ينبغ إلا من الشدائد القوية، والداهية الأريب لا يخرج إلا من المشكلات المعقدة، والتقيّ الفاضل لا يُعرَف إلا بين الأهواء المستحكمة. ولعمري إذا لم يستطع الحكيم أن ينتصر على شهوة من شهوات نفسه، أو يبطل حاجة من حاجاتها، فماذا فيه من الحكمة، وماذا فيه من النفس؟ وما عَقَّد "المشكلة" على صاحبها بين زوجته وحبيبته، إلا أنه بخياله الفاسد قد أفسد القوة المصلِحَة فيه، فهو لم يتزوج امرأته كلها ... وكأنه لا يراها أنثى

كالنساء، ولا يُبصر عندها إلا فروقًا بين امرأتين: محبوبة ومكروهة؛ وبهذا أفسد عينه كما أفسد خياله؛ فلو تعلّم كيف يراها لرآها، ولو تعودها لأحبها. إنه من وهمه كالجواد الذي يشعر بالمَقَادة في عنقه؛ فشعوره بمعنى الحبل وإن كان معنًى ضئيلًا عطّل فيه كل معاني قوته، وإن كانت معاني كثيرة. وما أقدرك أيها الحب على وضع حبال الخيل والبغال والحمير في أعناق الناس! وقد بقي أن نذكر، توفيةً للفائدة، أنه قد يقع في مثل هذه المشكلة من نقصَت فحولته من الرجال، فيدلِّس على نفسه بمثل هذا الحب، ويبالغ فيه، ويتجرَّم على زوجته المسكينة التي ابتُليتْ به، ويختلق لها العلل الواهية المكذوبة، ويبغضها كأنه هو الذي ابتُلي بها، وكأن المصيبة من قِبَلها لا من قِبَله؛ وكل ذلك لأن غريزته تحولت إلى فكره، فلم تعد إلا صورًا خيالية لا تعرف إلا الكذب. وقد قرر علماء النفس أن من الرجال من يكره زوجته أشد الكره إذا شعر في نفسه بالمهانة والنقص من عجزه عنها. فهذا لا يكون رجلًا لامرأته إلا في العداوة والنقمة والكراهية وما كان من باب شفاء الغيظ، وامرأته معه كالمعاهَدة السياسية من طَرَف واحد, لا قيمة ولا حرمة؛ وإذا أحب هذا كان حبه خياليًّا شديدًا؛ لأنه من جهة يكون كالتعزية لنفسه، ومن جهة أخرى يكون غيظًا لزوجته، وردًّا بامرأة على امرأة.

فهرس المحتويات

فهرس المحتويات: 3 مقدمة 7 نص كتاب الأستاذ الإمام 9 تصدير 13 صدر الكتاب 16 اليمامتان 26 اجتلاء العيد 30 المعنى السياسي في العيد 32 الربيع 35 عرش الورد 39 أيها البحر! 43 في الربيع الأزرق خواطر مرسلة 47 حديث قطين 54 بين خروفين 63 الطفولتان 71 أحلام في الشارع 78 أحلام في قصر 83 بنت الباشا 89 ورقة ورد 94 سمو الحب 103 قصة زواج وفلسفة المهر 113 ذيل القصة وفلسفة المال 121 زوجة إمام 130 زوجة إمام بقية الخير 137 قبح جميل 146 الطائشة "1" 154 الطائشة "2" 161 دموع من رسائل الطائشة 166 فلسفة الطائشة 173 تربية لؤلؤية 180 س. ا. ع 187 استنوق الجمل 193 أرملة حكومة 200 رؤيا في السماء 207 بنته الصغيرة "1" 214 بنته الصغيرة "2" 222 الأجنبية 231 قصيدة مترجمة عن الشيطان 231 لحوم البحر 236 قصيدة مترجمة عن الملك 236 احذري! 241 الجمال البائس "1" 247 الجمال البائس "2" 253 الجمال البائس "3" 260 الجمال البائس "4" 266 الجمال البائس "5" 274 عروبة اللقطاء 282 الله أكبر 288 في اللهب ولا تحترق 294 المشكلة "1" 301 المشكلة "2" 307 المشكلة "3" 314 المشكلة "4"

المجلد الثاني

المجلد الثاني الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام ... بسم الله الرحمن الرحيم الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام: كما تطلع الشمس بأنوارها فتفجر ينبوع الضوء المسمى النهار، يولد النبي فيوجد في الإنسانية ينبوع النور المسمى بالدين. وليس النهار إلا يقظة الحياة تحقق أعمالها، وليس الدين إلا يقظة النفس تحقق فضائلها. والشمس خلقها الله حاملة طابعه الإلهي، في عملها للمادة تحول به وتغير، والنبي يرسله الله حاملا مثل ذلك الطابع في عمله تترقى فيه وتسمو. ورعشات الضوء من الشمس هي قصة الهداية للكون في كلام من النور، وأشعة الوحي في النبي هي قصة الهداية لإنسان الكون نور من الكلام. والعامل الإلهي العظيم يعمل في نظام النفس والأرض بأداتين متشابهتين: أجرام النور من الشموس والكواكب، وأجرام العقل من الرسل والأنبياء. فليس النبي إنسانا من العظماء يقرأ تاريخه بالفكر معه المنطق، ومع المنطق الشك، ثم يدرس بكل ذلك على أصول الطبيعة البشرية العامة، ولكنه إنسان نجمي يقرأ بمثل "التلسكوب" في الدقة، معه العلم، ومع العلم الإيمان، ثم يدرس بكل ذلك على أصول طبيعته النورانية وحدها. والحياة تنشئ علم التاريخ, ولكن هذه الطريقة في درس الأنبياء -صلوات الله عليهم- تجعل التاريخ هو ينشئ علم الحياة، فإنما النبي إشراق إلهي على الإنسانية، يقومها في فلكها الأخلاقي، ويجذبها إلى الكمال في نظام هو بعينه صورة لقانون الجاذبية في الكواكب. ويجيء النبي فتجيء الحقيقة الإلهية معه في مثل بلاغه الفن البياني، لتكون أقوى أثرًا، وأيسر فهما، وأبدع تمثيلًا، وليس عليها خلاف من الحس. وهذا هو الأسلوب الذي يجعل إنسانًا واحدًا فن الناس جمعيًا، كما تكون البلاغة فن لغة بأكملها، وهو الشخص المفسر إذا تعسفت الناس الحياة لا يدرون أين يؤمون منها،

ولا كيف يتهدون فيها، فتضطرب الملايين من البشرية اضطرابها فيما تنقبض عنه وتتهالك فيه من أطماع الدنيا، ثم يخلق رجل واحد ليكون هو التفسير لما مضى وما يأتي، فتظهر به حقائق الآداب العالية في قالب من الإنسان العامل المرئي, أبلغ مما تظهر في قصة متكلمة مروية. وما الشهادة للنبوة إلا أن تكون في نفس النبي أبلغ نفوس قومه، حتى لهو في طباعه وشمائله طبيعة قائمة وحدها، كأنها الوضع النفساني الدقيق الذي ينصب لتصحيح الوضع المغلوط للبشرية في عالم المادة وتنازع البقاء. وكأن الحقيقة السامية في هذا النبي تنادي الناس: أن قابلوا على هذا الأصل وصححوا ما اعترى أنفسكم من غلط الحياة وتحريف الإنسانية. ومن ثم فنبي البشرية كلها من بعث بالدين أعمالا مفصلة على النفس أدق تفصيل وأوفاه بمصلحتها، فهو يعطي الحياة في كل عصر عقلها العملي الثابت المتجدد المتغير تنظم به أحوال الطبيعة على قصد وهدى، وهذه هي حقيقة الإسلام في أخص معانيه، لا يغني عنه في ذلك دين آخر، ولا يؤدي تأديته في هذه الحاجة أدب ولا علم ولا فلسفة، كأنما هو نبع في الأرض لمعاني النور، بإزاء الشمس نبع النور في السماء. وكل ذلك تراه في نفس محمد صلى الله عليه وسلم، فهي في مجموعها أبلغ الأنفس قاطبة، لا يمكن أن تعرف الأرض أكمل منها، ولو اجتمعت فضائل الحكماء والفلاسفة والمتألهين وجعلت في نصاب واحد -ما بلغت أن يجيء منها مثل نفسه صلى الله عليه وسلم. ولكأنما خرجت هذه النفس من صيغة كصيغة الدرة في محارتها، أو تركيب كتركيب الماس في منجمه، أو صفة كصفة الذهب في عرقه، وهي النفس الاجتماعية الكبرى، من أين تدبرتها رأيتها على الإنسانية كالشمس في الأفق الأعلى تنبسط وتضحى. وتلك هي الشهادة له صلى الله عليه وسلم بأنه خاتم الأنبياء، وأن دينه هو دين الإنسانية الأخير، فهذا الدين في مجموعه إن هو إلا صورة تلك النفس العظيمة في مجموعها: صلابته بمقدار الحق الإنساني الثابت، لا بمقدار الإنسان المتغير الذي يكون عند سبب جبلًا صلدًا يشمخ، وعند سبب آخر ماء عذبا يجري. وهو دين يعلوا بالقوة ويدعو إليها، ويريد إخضاع الدنيا وحكم العالم، ويستفرغ همه في ذلك، لا لإعزاز الأقوى وإذلال الأضعف، ولكن للارتفاع

بالأضعف إلى الأقوى، وفرق ما بين شريعته وشرائع القوة، أن هذه إنما هي قوة سيادة الطبيعة وتحكمها، أما هو فقوة سيادة الفضيلة وتغلبها، وتلك تعمل للتفريق، وهو يعمل للمساواة، وسيادة الطبيعة، وعملها للتفريق هما أساس العبودية, وغلبة الفضيلة وعملها للمساواة هما أعظم وسائل الحرية. ومن هنا كان طبيعيا في الإسلام ما جاء به من أنه لا فضيلة إلا وهو يطبع عليها صورة الجنة بنعيمها الخالد، ولا رذيلة إلا وهو يضع عليها صورة النار الأبدية وقودها الناس والحجارة، فلا تنظر العين المسلمة إلى أسباب الحياة نظرة الفكر المنازع: يحرص على ما يكون له ويشره إلى ما ليس له، ويمكر الحيلة، ويبدع وسائل الخداع، ويزيد بكل ذلك في تعقيد الدنيا, بل نظرة القلب المسالم: يخلع الدنيا ويسخو بكل مضنون فيها، فيعف عن كثير، ويعرف الإنسانية ويطمع في غاياتها العليا، فيعفو عن كثير، ويدرك أن الحلال وإن حل فوراءه حسابه، وأن الحرام وإن غر ليس إلا تعلل ساعة ذاهبة ثم من ورائه عقاب الأبد. ويخرج من ذلك أن يكون أكبر أغراض الإسلام هو أن يجعل من خشية الله -تعالى- قانون وجود الإنسان على الأرض، فمن أي عطفيه التفت هذا الإنسان وجد على يمنته ويسرته ملكين من ملائكة الله يكتبان أعماله بخيرها وشرها، فهو كالمتهم المستراب به في سياسة النفس: لا يمشي خطوة إلا بين جاسوسين يحصيان عليه حتى أسباب النية، ويجمعان منه حتى نزوات الكبد، ويترجمان عنه حتى معاني النظر. وإذا قامت هذه المحكمة الملائكية وتقررت في اعتبار النفس، قام منها على النفس شرع نافذ هو قانون الإرادة المميزة، تريد الحسنات وتعمل لها، وتخشى السيئات وتنفر منها، فإذا معاني الجسد يحكم بعضها بعضا، لا لتحقيق الحكومة والسلطة، ولكن لتحقيق الخير والمصلحة، وإذا نواميس الطبيعة المجنونة في هذا الحيوان، قد نهضت إلى جانبها نواميس الإرادة الحكيمة في الإنسان، وإذا كل صغيرة وكبيرة في النفس هي من صاحبها مادة تهمة عند قاضيها في محكمتها، وإذا كل ما في الإنسان وما حول الإنسان لا يراد منه إلا سلام النفس في عاقبتها، وإذا معنى السلام هو المعنى الغالب المتصرف بالإنسانية في دنياها. وكل أعمال الإسلام وأخلاقه وآدابه، فتلك هي غايتها، وهذه هي فلسفتها، لا يقررها للإنسانية حسب، بل يغرسها في الوراثة غرسا بالاعتياد والمران الدائم، لتكون علما وعملًا، فتمكن لسلام النفس بين الأسلحة المسددة إليها من ضرورات الحياة، في أيدي الأعداء المتألبة عليها من شهوات الغريزة.

فليس يعم السلام إلا إذا عم هذا الدين بأخلاقه فشمل الأرض أو أكثرها؛ فإن قانون العالم حينئذ يصبح منتزعا من طبيعة التراحم، فإما انتسخ به قانون التنازع الطبيعي، وإما كسر من شرته؛ ويولد المولود يومئذ وتولد معه الأخلاق الإنسانية. تقرير معنى الدواء لكل أعمال النفس حتى مثقال الذرة من الخير والشر، وضبط ذلك برياضة عملية دائمة مفروضة على الناس جميعًا -هذا هو أساس العقيدة الإسلامية؛ ولا صلاح للإنسانية بغيره يردها إلى سبيل قصدها، فإن من ذلك تكون الصفة العقلية التي تغلب على المجتمع، وتجانس بين أفراده, فتوجه الإنسانية كلها نحو الممكن من كمالها، ولا تزال توجهها نحو ما هو أعلى، وتحكم فاسدها بصالحها، وتأخذ عاصيها بمطيعها، وتجعل الشرف الإنساني غرضها الأول، لأن الله الحق غرضها الأخير؛ فيصبح المرء -وهذا دينه- كلما تقدم به العمر كمل فيه اثنان: الإنسان، والشريعة. ولا يعود طالب السعادة النفسية في الدنيا كالمجنون يجري وراء ظله ليمسكه؛ فلا يدرك في الآخرة شيئا غير معرفته أنه كان في عمل باطل وسعي ضائع. والإسلام يحرص أشد الحرص وأبلغه على تقرير ذلك المعنى الإلهي العظيم، لا بالمنطق، ولكن بالعمل؛ ثم في النفس وعواطفها، لا في العقل وآرائه؛ ثم على وجه التعميم، دون الاستثناء والخصوص؛ وذلك هو سر مشقته على النفس بما يفرضه عليها؛ فإن فلسفته أن هذه النفس هي أساس العالم، وأن النظام الخلقي هو أساس النفس، وأن العمل الدائم هو أساس النظام، وأن روح العمل الدائم تكون فيما يشق بعض المشقة ولا يبلغ العسر والحرج، كما تكون فيما يسهل بعض السهولة ولا يبلغ الكسل والإهمال. وللنفس وجهان: ما تعلن، وما تسر؛ ولا صدق لإعلانها حتى يصدق ضميرها، ولا صلاح لجهرها حتى يصلح السر فيها، ولا يكون الإنسان الاجتماعي فاضلا بمشهده حتى يكون كذلك بغيبه. وللعالم كذلك وجهان: حاضره الذي يمر فيه، وآتيه الذي يمتد له؛ ولا يفلح حاضر منقطع لا يورث ما بعده كما ورث ما قبله، وما حاضر الإنسانية إلا جزء من عمل الناس في استمرار فضائلهم باقية نامية. وللنظام أيضًا وجهان: نظام الرغبة على الطاعة والاطمئنان لها، ونظام الرغبة

على الخشية والنفرة منها. ولا يستقيم شأن ليس أساسه الطاعة في النفس، ولا يستمر نظام عليه خلاف من فكر العامل به. وللعمل الدائم طريقتان: إحداهما طريقة الجاد يعمل للعاقبة يستيقنها، فلا يجد مما يشق عليه إلا لذة المغالبة للنصر: كل مرارة من قبله هي حلاوة فيه من بعد, ولا يعرف للمحنة يبتلى بها إلا معناها الحقيقي وهو إيقاظ نفسه، فيصبح الصبر عنده كصبر المحب على أشياء ممن تحبه؛ صبر فيه من السحر ما يكسو الحرمان في بعض الأحيان خيال الاستمتاع، ويذيق النفس في العجز عن بعض أغراضها, لذة كلذة إدراكه. تلك هي فلسفة الإسلام؛ لا قوام للأمر فيها ولا مساك له إلا بتقرير معنى الدوام لكل أعمال النفس، ووضع طابع الجنة على أعمال الجنة، وطابع النار على أعمال النار -وحياطة كل فرد من الناس حياطة رياضية عملية بين الساعة والساعة، بل بين الدقيقة والدقيقة، بما يكلف من أعمال جسمه وحواسه، ثم أعمال قلبه ونيته-وتعظيم الشخصية الروحية دون الشخصية المادية، فلا يحاول كل إنسان أن يجعل بطنه في حجم مملكة أو مدينة أو قرية، بما ينتقص من حقوق غيره؛ بل تتسع ذاتية كل فرد بما يجب له على المجتمع من الواجبات الإنسانية؛ وبهذا لا بغيره تعين مقاييس الأخلاق في الأرض بالمصلحة لا باللذة؛ فلا يقع الخطأ ولا التزوير، وتنحل المشكلة الاجتماعية ما دامت الحياة لا تجد من أهلها كل ساعة عقدًا فيها. والاستيلاء بذلك المعنى على العقل والعاطفة هو وحده الطريقة لإنشاء طبيعة الخير في الناس على نسقها الطبيعي، كما أنه هو وحده الطريقة لتطهير التاريخ الإنساني من أوبائه الاقتصادية، التي جعلته كأنما هو تاريخ الأسنان والأضراس، وتركت الناس يهدم بعضهم بعضا، كما يهدم الجار حائط جاره ليوسع بيته. وأساس العمل في الإسلام إخضاع الحياة للعقيدة، فتجعلها العقيدة أقوى من الحاجة، فيكون الفقير معدما ويتعفف، ويكون الغني موسرا ويتصدق، ويكون الشره طامعا ويمسك، ويكون القوي قادرًا ويحجم، وكما قال العربي في تحقيق ناموس الأنفة والحمية وغلبته على الناموس الاقتصادي: "تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها".

تريد الإنسانية امتدادًا غير امتدادها التجاري في الأرض، وتحتاج إلى معنى يقود إنسانها غير الحيوان الذي فيه؛ وإذا قاد الغراب قومًا فإنما هو -كما قال شاعرنا- يمر بهم على جيف الكلاب ... والإنسانية اليوم في مثل ليل حوشي مظلم اختلط بعضه في بعض، وليست معاني الإسلام إلا الإشراق الإلهي على هذه الكثافة المادية المتراكمة، وإذا رفع المصباح لم تجد الظلام إلا وراء الحدود التي تنتهي إليها أشعته. وقد علمنا من طبيعة النفس أن إنسانية الفرد لا تعظم وتسمو وتتخيل وتفرح فرحها الصادق وتحزن حزنها السامي, إلا أن تعيش في محبوب؛ فإنسانية العالم لا تكون مثل ذلك إلا إذا عاشت في نبيها الطبيعي، نبي أخلاقها الصحيحة وآدابها العالية ونظامها الدقيق؛ وأين تجد هذا المحبوب الأعظم إلا في محمد ودين محمد؟ وعجيب أن يجهل المسلمون حكمة ذكر النبي العظيم خمس مرات في الأذان كل يوم، ينادى باسمه الشريف ملء الجو؛ ثم حكمة ذكره في كل صلاة من الفريضة والسنة والنافلة, يهمس باسمه الكريم ملء النفس! وهل الحكمة من ذلك إلا الفرض عليهم ألا ينقطعوا عن نبيهم ولا يوما واحدًا من التاريخ, ولا جزءًا واحدا من اليوم؛ فيمتد الزمن مهما امتد والإسلام كأنه على أوله، وكأنه في يومه لا في دهر بعيد؛ والمسلم كأنه مع نبيه بين يديه تبعثه روح الرسالة، ويسطع في نفسه إشراق النبوة، فيكون دائما في أمره كالمسلم الأول الذي غير وجه الأرض؛ ويظهر هذا المسلم الأول بأخلاقه وفضائله وحميته في كل بقعة من الدنيا مكان إنسان هذه البقعة، لا كما نرى اليوم؛ فإن كل أرض إسلامية يكاد لا يظهر فيها إلا إنسانها التاريخي بجهله وخرافاته وما ورث من القدم؛ فهنا المسلم الفرعوني، وفي ناحية المسلم الوثني، وفي بلد المسلم المجوسي، وفي جهة المسلم المعطل ... وما يريد الإسلام إلا نفس المسلم الإنساني. أيها المسلم! لا تنقطع عن نبيك العظيم، وعش فيه أبدًا، واجعله مثلك الأعلى؛ وحين تذكره في كل وقت فكن كأنك بيد يديه؛ كن دائما كالمسلم الأول؛ كن دئما ابن المعجزة.

حقيقة المسلم

حقيقة المسلم *: لا يعرف التاريخ غير محمد صلى الله عليه وسلم رجلًا أفرغ الله وجوده في الوجود الإنساني كله؛ كما تنصب المادة في المادة، لتمتزج بها فتحولها، فتحدث منها الجديد، فإذا الإنسانية تتحول به وتنمو، وإذا هو صلى الله عليه وسلم وجود سار فيها فما تبرح هذه الإنسانية تنمو به وتتحول. كان المعنى الآدمي في هذه الإنسانية كأنما وهن من طول الدهر عليه، يتحيفه ويمحوه ويتعاوره بالشر والمنكر؛ فابتعث الله تاريخ العقل بآدم جديد بدأت به الدنيا في تطورها الأعلى من حيث يرتفع الإنسان على ذاته، كما بدأت من حيث يوجد الإنسان في ذاته؛ فكانت الإنسانية دهرها بين اثنين: أحدهما فتح لها طريق المجيء من الجنة، والثاني فتح لها طريق العودة إليها, كان في آدم سر وجود الإنسانية، وكان في محمد سر كمالها. ولهذا سمي الدين "بالإسلام"؛ لأنه إسلام النفس إلى واجبها، أي إلى الحقيقة من الحياة الاجتماعية؛ كأن المسلم ينكر ذاته فيسلمها إلى الإنسانية تصرفها وتعتملها في كمالها ومعاليها؛ فلا حظ له هو من نفسه يمسكها على شهواته ومنافعه، ولكن للإنسانية بها الحظ. وما الإسلام في جملته إلا هذا المبدأ, مبدأ إنكار الذات و"إسلامها" طائعة على المنشط والمكره لفروضها وواجباتها؛ وكلما نكصت إلى منزعها الحيواني، أسلمها صاحبها إلى وازعها الإلهي؛ وهو أبدًا يروضها على هذه الحركة ما دام حيا؛ فينتزعها كل يوم من أوهام دنياها، ليضعها ما بين يدي حقيقتها الإلهية, يروضها على ذلك كل يوم وليلة خمس مرات مسماة في اللغة خمس صلوات، لا

_ * كتبها لجماعة الكشاف المسلم في بيروت في ذكرى المولد النبوي الشريف. وانظر "فترة جمام" و"عود على بدء" من كتاب حياة الرافعي.

يكون الإسلام إسلامًا بغيرها؛ فلا غرو كانت الصلاة بهذا المعنى كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم وهي عماد الدين. بين ساعات وساعات في كل مطلع شمس من حياة المسلم صلاة، أي إسلام النفس إلى الإرادة الاجتماعية الشاملة1 القائمة على الطاعة للفرض الإلهي، وإنكار لمعانيها الذاتية الفانية التي هي مادة الشر في الأرض، وإقرارها لحظات في حيز الخير المحض البعيد عن الدنيا وشهواتها وآثامها ومنكراتها، ومعنى ذلك كله تحقيق المسلم لوجود روحه؛ إذا كانت أعمال الدنيا في جملتها طرقا تتشتت فيها الأرواح وتتبعثر، حتى تضل روح الأخ عن روح أخيه فتنكرها ولا تعرفها! وهذا الوجود الروحي هو مبعث الحالة العقلية التي جاء الإسلام ليهدي الإنسانية إليها, حالة السلام الروحاني الذي يجعل حرب الدنيا المهلكة حربا في خارج النفس لا في داخلها، ويجعل ثروة الإنسان مقدرة بما يعامل الله والإنسانية عليه؛ فلا يكون ذهبه وفضته ما كتبت عليه الدول: "ضرب في مملكة كذا"، ولكن ما يراه هو قد كتب عليه "صنع في مملكة نفسي"؛ ومن ثم لا يكون وجوده الاجتماعي للأخذ حسب، بل للعطاء أيضا، فإن قانون المال هو الجمع، أما قانون العمل فهو البذل. بالانصراف إلى الصلاة وجمع النية عليها، يستشعر المسلم أنه قد حطم الحدود الأرضية المحيطة بنفسه من الزمان والمكان، وخرج منها إلى روحانية لا يحد فيها إلا بالله وحده. وبالقيام في الصلاة، يحقق المسلم لذاته معنى إفراغ الفكر السامي على الجسم كله، ليمتزج بجلال الكون ووقاره، كأنه كائن منتصب مع الكائنات يسبح بحمده. وبالتولي شطر القبلة في سمتها الذي لا يتغير على اختلاف أوضاع الأرض، يعرف المسلم حقيقة الرمز للمركز الثابت في روحانية الحياة؛ فيحمل قلبه معنى الاطمئنان والاستقرار على جاذبية الدنيا وقلقها. وبالركوع والسجود بين يدي الله، يشعر المسلم نفسه معنى السمو والرفعة على كل ما عدا الخالق من وجود الكون.

_ 1 هذه هي حكمة صلاة الجماعة والحث عليها وكونها أفضل من غيرها وأن الثواب الأكبر فيها وحدها.

وبالجلسة في الصلاة وقراءة التحيات الطيبات، يكون المسلم جالسًا فوق الدنيا يحمد الله ويسلم على نبيه وملائكته ويشهد ويدعو. وبالتسليم الذي يخرج به من الصلاة، يقبل المسلم على الدنيا وأهلها إقبالا جديدًا من جهتي السلام والرحمة. هي لحظات من الحياة كل يوم في غير أشياء هذه الدنيا؛ لجمع الشهوات وتقييدها بين وقت وآخر بسلاسلها وأغلالها من حركات الصلاة، ولتمزيق الفناء خمس مرات كل يوم عن النفس؛ فيرى المسلم من ورائه حقيقة الخلود، فتشعر الروح أنها تنمو وتتسع. هي خمس صلوات، وهي كذلك خمس مرات يفرغ فيها القلب مما امتلأ به من الدنيا، فما أدق وأبدع وأصدق قوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت قرة عيني في الصلاة" 1. لم يكن الإسلام في حقيقته إلا إبداعا للصيغة العلمية التي تنتظم الإنسانية فيها؛ ولهذا كانت آدابه كلها خراسا على القلب المؤمن، كأنها ملائكة من المعاني؛ وكان الإسلام بها عملًا إصلاحيًا وقع به التطور في عالم الغريزة، فنقله إلى عالم الخلق، ثم ارتقى بالخلق إلى الحق، ثم سما بالحق إلى الخير العام؛ فهو سمو فوق الحياة بثلاثة طبقات، وتدرج إلى الكمال في ثلاث منازل، وابتعاد عن الأوهام بمسافة ثلاث حقائق. وبتلك الأعمال والآداب كانت الدنيا المسلمة التي أسسها النبي صلى الله عليه وسلم دنيا أسلمت طبيعتها، فأصبحت على ما أراد المسلمون لا ما أرادت هي؛ وكأنها قائمة بنواميس من أهليها، لا على أهليها؛ وكان الظاهر أن الإسلام يغزو الأمم بالعرب ويفتتحها، ولكن الحقيقة أن إقليما من الدنيا كان يحارب سائر أقاليم الأرض بالطبيعة الأخلاقية الجديدة لهذا الدين. وكأن الله -تعالى- ألقى في رمال الجزيرة روح البحر، وبعثها بعثة الإلهي لأمره، فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو نقطة المد التي يفور البحر منها، وكان المسلمون أمواجه التي غسلت بها الدنيا.

_ 1 كان محمد صلى الله عليه وسلم يستبطئ الصلاة وقد جاء وقتها، من شدة شوقه إليها فيقول: " أرحنا بها يا بلال" , ولا أفصح ولا أدق في تصوير نفسيته صلى الله عليه وسلم وأشواق روحه العالية من قوله: "أرحنا بها". فهذا كمال الاتصال بينه وبين خالقه.

لهذا سمع المسلمون الأولون كلام الله -تعالى- في كتابه، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لا كما يسمعون القول، ولكن كما يتلقون الحكم النافذ المقضي؛ ولم يجدوا فيه البلاغة وحدها، بل روعة أمر السماء في بلاغة؛ واتصلوا بنبيهم، ثم بعضهم ببعض، لا كما يتصل إنسان بإنسان، بل كما تتصل الأمواج بقوة المد، ثم كما يمد بعضها بعضا في قوة واحدة. وحققوا في كماله صلى الله عليه وسلم وجودهم النفسي؛ فكانوا من زخارف الحياة وباطلها في موضع الحقيقة الذي يرى فيه الشيء لا شيء. ورأوا في أرادته صلى الله عليه وسلم النقطة الثابتة فيما يتضارب من خيالات النفس؛ فكانوا أكبر علماء الأخلاق على الأرض، لا من كتب ولا علم ولا فلسفة، بل من قلب نبيهم وحده. وعرفوا به صلى الله عليه وسلم تمام الرجولة؛ ومتى تمت هذه الرجولة تمامها في إنسان رجعت له الطفولة في روحه، وامتلك تلك الطبيعة التي لا يملكها إلا أعظم الفلاسفة والحكماء فأصبح كأنما يمشي في الحياة إلى الجنة بخطوات مسددة لا تزيغ ولا تنحرف، فلا شر ولا رذيلة؛ ودنياه هي الدنيا كلها بشمسها وقمرها، يملكها وإن لم يملك منها شيئا، ما دامت في قلبه طبيعة السرور، فلا فقر ولا غنى مما يشعر الناس بمعانيه، بل كل ما أمكن فهو غنى كامل، إذ لم تعد القوة في المادة تزيد بزيادتها وتنقص بنقصها، بل القوة في الروح التي تتصرف بطبيعة الوجود، وتدفع قوى الجسم بمثل دوافع الطفولة النامية المتغلبة، حتى لتجعل من النور والهواء ما يؤتدم به مع الخبز القفار، كما يؤتدم باللحم وأطايب الأطعمة1. وبذلك لا تتسلط ضرورة على الجسم -كالجوع والفقر والألم ونحوها- إلا كان تسلطها كأنه أمر من قوة في الوجود إلى قوة في هذا الجسم, أن تظهر لتعمل عملها المعجز في إبطال هذه الضرورة. وهذا الجنس من الناس كالأزهار على

_ 1 عن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على "أم هانئ" وكان جائعًا، فقال لها: "أعندك طعام آكله؟ " فقالت: "إن عندي لكسرا يابسة، وإني لأستحيي أن أقدمها إليك" فقال: "هلميها! "، فكسرها في ماء، وجاءته بملح، فقال: "ما من إدام؟ " فقالت: "ما عندي إلا شيء من خل". فقال "هلميه! " فلما جاءت به صبه على طعامه فأكل منه، ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "نعم الإدام الخل يا أم هانئ، لا يقفر بيت فيه خل" اهـ.

أغصانها الخضر؛ لو قالت شيئا لقالت: إن ثروتي في الحياة هي الحياة نفسها، فليس لي فقر ولا غنى، بل طبيعة أو لا طبيعة. ولقد كان المسلم يضرب بالسيف في سبيل الله, فتقع ضربات السيوف على جسمه فتمزقه؛ فما يحسها إلا كأنها قبل أصدقاء من الملائكة يلقونه ويعانقونه! وكان يبتلى في نفسه وماله، فلا يشعر في ذلك أنه المرزأ المبتلى يعرف فيه الحزن والانكسار، بل تظهر فيه الإنسانية المنتصرة كما يظهر التاريخ الظافر في بطله العظيم أصيب في كل موضع من جسمه بجراح، فهي جراح وتشويه وألم، وهي شهادة النصر! ولم تكن أثقال المسلم من دنياه أثقالًا على نفسه, بل كانت له أسباب قوة وسمو؛ كالنسر المخلوق لطبقات الجو العليا، ويحمل دائما من أجل هذه الطبقات ثقل جناحيه العظيمين. وكانت الحقيقة -التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم مثلهم الأعلى، وأقرها في أنفسهم بجميع أخلاقه وأعماله- أن الفضائل كلها واجبة على كل مسلم لنفسه، إذ إنها واجبة بكل مسلم على غيره، فلا تكون في الأمة إلا إرادة واحدة متعاونة، تجعل المسلم وما هو روح أمته تعمل به أعمالها هي لا أعماله وحدها. المسلم إنسان ممتد بمنافعه في معناه الاجتماعي حول أمته كلها، لا إنسان ضيق مجتمع حول نفسه بهذه المنافع؛ وهو من غيره في صدق المعاملة الاجتماعية كالتاجر من التاجر؛ تقول الأمانة لكليهما: لا قيمة لميزانك إلا أن يصدقه ميزان أخيك. ولن يكون الإسلام صحيحا تماما حتى يجعل حامله مثلا من نبيه في أخلاق الله؛ فما هو بشخص يضبط طبيعته؛ يقهرها مرة وتقهره مرارًا؛ ولكن طبيعة تضبط شخصها فهي قانون وجوده. لا يضطرب من شيء، وكيف يضطرب ومعه الاستقرار؟ لا يخاف من شيء، وكيف يخاف ومعه الطمأنينة؟ لا يخشى مخلوقا، وكيف يخشى ومعه الله؟ أيها الأسد! هل أنت بجملتك إلا في طبيعة مخالبك وأنيابك؟

وحي الهجرة

وحي الهجرة *: إن التاريخ ليتكلم بلغة أوسع من ألفاظه إذا قرأه من يقرؤه على أنه بعض نواميس الوجود، صورت فيها النفس الإنسانية كيف اعتورت أغرضها، وكيف مدت في نسقها، وكيف تغلغلت في مسالكها، وما تأتي لها فجرت به مجراها، وما دفعها فانحدرت منه إلى مقارها، فهو ليس بكلام تستقبله تقرأ فيه، ولكنه أحوال من الوجود تعترضها فتغير عليك حسك بإلهامها وأحلامها، وتتناولها من ناحية فتتناولك من الأخرى؛ فإذا الكلمة من ورائها معنى، من ورائه طبيعة، من ورائها سبب وحكمة؛ وإذا كل حادثة فيها إنسانيتها وإلهيتها معا، وإذا الوجود في ذهنك كالساعة ترسم لك حد الثانية بخطرتين، وحد الدقيقة من عدد محدود من الثواني، وحد الساعة إلى حد اليوم؛ وإذا البيان في نفسك من كل هذه الحواشي، وإذا التاريخ فيا تقرؤه مفنن في ظاهره وباطنه يفيء عليك من ألفاظه ومعانيه بظلال هي صلتك أنت أيها الحي الموجود بأسرار ما كان موجودًا من قبل. كذلك قرأت بالأمس تاريخ الهجرة النبوية في كتاب أبي جعفر الطبري لأكتب عنه هذه الكلمة، فلم أكن -علم الله- في كتاب ولا في حكاية، بل في عالم انبثق في نفسي مخلوقا تأما بأهله، وحوادث أهله، وأسرار أهله جميعًا، كما يرى المحب حبيبه, لا يكون الجميل في محل إلا امتلأ مكانه بعاشقه، فهو مكان من النفس، لا من الدنيا وحدها، وفيه الحياة كما هي في الوجود بمظهر المادة، وكما هي في الحب بمظهر الروح. وتلك حالة من القراءة بالروح والكتابة بالروح، متى أنت سموت إليها رأيت فيها غير المعنى يخرج معنى، ومن لا شيء تخلق الأشياء، لأنك منها اتصلت بأسرار نفسك، ومن نفسك اتصلت بأسرار فوقها؛ فيصبح التاريخ معك فن الوجود الإنساني على الوجه الذي أفضت به الحكمة إلى الحياة لتستمر بالنفس الإنسانية،

_ * أولى مقالاته في الرسالة، أنشأها للعدد السنوي الخاص بالهجرة.

لا فن علم الناس على الوجه الذي أفضت به الحوادث مما بين الحياة والموت. نشأ النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، واستنبئ على رأس الأربعين من سنه، وغبر ثلاث عشرة سنة يدعو الله من قبل أن يهاجر إلى المدينة، فلم يكن في الإسلام أول بدأته إلى رجل وامرأة وغلام: أما الرجل فهو هو صلى الله عليه وسلم، وأما المرأة فزوجه خديجة، وأما الغلام فعلي ابن عمه أبي طالب. ثم كان أول النمو في الإسلام بحر وعبد: أما الحر فأبو بكر، وأما العبد فبلال، ثم اتسق النمو قليلا قليلا ببطء الهموم في سيرها، وصبر الحر في تجلده؛ وكأن التاريخ واقف لا يتزحزح، ضيق لا يتسع، جامد لا ينمو؛ وكأن النبي صلى الله عليه وسلم أخو الشمس, يطلع كلاهما وحده كل يوم. حتى إذا كانت الهجرة من بعد، فانتقل الرسول إلى المدينة, بدأت الدنيا تتقلقل، كأنما مر بقدمه على مركزها فحركها؛ وكانت خطواته في هجرته تخط في الأرض، ومعانيها تخط في التاريخ؛ وكانت المسافة بين مكة والمدينة، ومعناها بين المشرق والمغرب. لقد كان في مكة يعرض الإسلام على العرب كما يعرض الذهب على المتوحشين, يرونه بريقا وشعاعًا ثم لا قيمة له، وما بهم حاجة إليه، وهو حاجة بني آدم إلا المتوحشين, وكانوا في المحادة والمخالفة الحمقاء، والبلوغ بدعوته مبلغ الأوهام والأساطير, كما يكون المريض بذات صدره مع الذي يدعوه في ليلة قارة إلى مداواة جسمه بأشعة الكواكب؛ وكانت مكة هذه صخرًا جغرافيا يتحطم ولا يلين، وكأن الشيطان نفسه وضع هذا الصخر في مجرى الزمن ليصد به التاريخ الإسلامي عن الدنيا وأهلها. وأوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذب وأهين، ورجف به الوادي يخطو فيه على زلازل تتقلب، ونابذه قومه وتذامروا فيه، وحض بعضهم بعضا عليه، وانصفق عنه عامة الناس وتركوه إلا من حفظ الله منهم؛ فأصيب كبيرا باليتم من قومه، كما أصيب صغيرًا باليتم من أبويه. وكان لا يسمع بقادمه من العرب له اسم وشرف، إلا تصدى له فدعاه إلى الله وعرض نفسه عليه؛ ومع ذلك بقيت الدعوة تلوح وتختفي كما يشق البرق منسحابة على السماء, ليس إلا أن يرى ثم لا شيء بعد أن يرى!

فهذا تاريخ ما قبل الهجرة في جملة معناه، غير أني لم أقرأه تاريخا، بل قرأت فيه فصلا رائعا من حكمة إلهية، وضعه الله كالمقدمة لتاريخ الإسلام في الأرض؛ مقدمة من الحوادث والأيام تحيا وتمر في نسق الرواية الإلهية المنطوية على رموزها وأسرارها، وتظهر فيها رحمة الله تعمل بقسوة، وحكمة الله تتجلى في غموض؛ فلو أنت حققت النظر لرأيت تاريخ الإسلام يتأله في هذه الحقبة، بحيث لا تقرؤه النفس المؤمنة إلا خاشعة كأنها تصلي، ولا تتدبره إلا خاضعة كأنها تتعبد. بدأ الإسلام في رجل وامرأة وغلام، ثم زاد حرا وعبدا؛ أليست هذه الخمس هي كل أطوار البشرية في وجودها، مخلوقة في الإنسانية والطبيعة، ومصنوعة في السياسة والاجتماع؛ فها هنا مطلع القصيدة، وأول الرمز في شعر التاريخ. ولبث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة لا يبغيه قومه إلا شرا، على أنه دائب يطلب ثم لا يجد، يعرض ثم لا يقبل منه، ويخفق ثم لا يعتريه اليأس، ويجهد ثم لا يتخونه الملل، ويستمر ماضيا لا يتحرف، ومعتزما لا يتحول؛ أليست هذه هي أسمى معاني التربية الإنسانية أظهرها الله كلها في نبيه، فعمل بها وثبت عليها، وكانت ثلاث عشرة سنة في هذا المعنى كعمر طفل ولد ونشأ وأحكم تهذيبه بالحوادث، حتى تسلمته الرجولة الكاملة بمعانيها من الطفولة الكاملة بوسائلها؟ أفليس هذا فصلا فلسفيا دقيقا يعلم المسلمين كيف يجب أن ينشأ المسلم, غناه في قلبه، وقوته في إيمانه، وموضعه في الحياة موضع النافع قبل المنتفع، والمصلح قبل المقلد؛ وفي نفسه من قوة الحياة ما يموت به في هذه النفس أكثر ما في الأرض والناس من شهوات ومطامع؟ ثم أليست تلك العوامل الأخلاقية هي هي التي ألقيت في منبع التاريخ الإسلامي ليعب منها تياره؛ فتدفعه في مجراه بين الأمم، وتجعل من أخص الخصائص الإسلامية في هذه الدنيا, الثبات على الخطوة المتقدمة وإن لم تتقدم، وعلى الحق وإن لم يتحقق؛ والتبرؤ من الأثرة وإن شحت عليها النفس، واحتقار الضعف وإن حكم وتسلط، ومقاومة الباطل وإن ساد وغلب، وحمل الناس على محض الخير وإن ردوا بالشر، والعمل للعمل وإن لم يأت بشيء، والواجب للواجب وإن لم يكن فيه كبير فائدة، وبقاء الرجل رجلا وإن حطمه كل ما حوله؟ ثم هي هي البرهانات القائمة للدهر قيام المنارة في الساحل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تثبت ببرهان الفلسفة وعلوم النفس أنه روح وغاياتها المحتومة بالقدر،

لا جسم ووسائله المتغلبة بالطبيعة؛ ولو كان رجلا ابتعثته نفسه، لتمحل الحيل لسياسته، ولأحدث طمعا من كل مطمع، ولركد مع الحوادث وهب، ولما استمر طوال هذه المدة لا يتجه وهو فرد إلا اتجاه الإنسانية كلها كأنما هو هي. ولو هو كان رجل الملك أو رجل السياسة، لاستقام والتوى، ولأدرك ما يبتغي في سنوات قليلة، ولأوجد الحوادث يتعلق عليها، ولما أفلت ما كان موجودًا منه يتعلق به، ولما انتزع نفسه من محله في قومه وكان واسطة فيهم، ولا ترك عوامل الزمن تبعده وهي كانت تدنيه. قالوا: إن عمه أبا طالب بعث إليه حين كلمته قريش فقال له: يابن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا لي: كذا وكذا، فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء1، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال: "يا عماه، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته". ثم استعبر صلى الله عليه وسلم فبكى. يا دموع النبوة! لقد أثبت أن النفس العظيمة لن تتعزى عن شيء منها بشيء من غيرها كائنا ما كان، لا من ذهب الأرض وفضتها، ولا من ذهب السماء وفضتها إذا وضعت الشمس في يد والقمر في الأخرى. وكل حوادث المدة قبل الهجرة على طولها لست إلا دليل ذلك الزمن على أنه زمن نبي، لا زمن ملك أو سياسي أو زعيم؛ ودليل الحقيقة على أن هذا اليقين الثابت ليس يقين الإنسان الاجتماعي من جهة قوته، بل يقين الإنسان الإلهي من جهة قلبه؛ ودليل الحكمة على أن هذا الدين ليس من العقائد الموضوعة التي تنشرها عدوى النفس للنفس؛ فها هو ذا لا يبلغ أهله في ثلاث عشرة سنة أكثر مما تبلغ أسرة تتوالد في هذه الحقبة؛ ودليل الإنسانية على أنه وحي الله بإيجاد الإخاء العالمي والوحدة الإنسانية. أفلم يكن خروجه عن موطنه هو تحققه في العالم؟ ثلاث عشرة سنة, كانت ثلاثة عشر دليلًا تثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس رجل ملك، ولا سياسة، ولا زعامة؛ ولو كان واحدا من هؤلاء لأدرك في قليل؛ وليس مبتدع شريعة من نفسه، وإلا لما غبر في قومه وكأنه لم يجدهم وهم حوله؛ وليس

_ 1 أي نشأ له رأي جديد فيه، وهذا كما يقولون: رجع عن رأيه.

صاحب فكرة تعمل أساليب النفس في انتشارها؛ ولو كان لحملهم على محضها وممزوجها؛ وليس رجلا متعلقا بالمصادفات الاجتماعية، ولو هو كان لجعل إيمان يوم كفر يوم؛ وليس مصلح عشيرة يهذب منها على قدر ما تقبل منه سياسة ومخادعة، ولا رجل وطنه تكون غايته أن يشمخ في أرضه شموخ جبل فيها، دون أن يحاول ما بلغ إليه من إطلاله على الدنيا إطلال السماء على الأرض، ولا رجل حاضره إذا كان واثقا دائما أن معه الغد وآتيه، وإن أدبر عنه اليوم وذاهبه؛ ولا رجل طبيعته البشرية يلتمس لها ما يلتمس الجائع لبطنه، ولا رجل شخصيته يستهوي بها ويسحر، ولا رجل بطشه يغلب به ويتسلط، ولا رجل الأرض في الأرض، ولكن رجل السماء في الأرض. هذه هي حكمة الله في تدبيره لنبيه قبل الهجرة, قبض عنه أطراف الزمن، وحصره من ثلاث عشرة سنة في مثل سنة واحدة، ولا تصدر به الأمور مصادرها كي تثبت أنها لا تصدر به، ولا تستحق به الحقيقة لتدل على أنها ليست من قوته وعمله. وكان صلى الله عليه وسلم على ذلك -وهو في حدود نفسه وضيق مكانه- يتسع في الزمن من حيث لا يرى ذلك أحد ولا يعلمه، وكأنما كانت شمس اليوم الذي سينتصر فيهن -قبل أن تشرق على الدنيا بثلاث عشرة سنة -مشرقة في قلبه صلى الله عليه وسلم. والفصل من السنة لا يقدمه الناس ولا يؤخرونه، لأنه من سير الكون كله؛ والسحابة لا يشعلون برقها بالمصابيح، ومع النبي من مثل ذلك برهان الله على رسالته، إلى أن نزل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] فحل الفصل، وانطلقت الصاعقة، وكانت الهجرة. تلك هي المقدمة الإلهية للتاريخ، وكان طبيعيا أن يطرد التاريخ بعدها، حتى قال الرشيد للسحابة وقد مرت به: أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك!

فلسفة القصة

فلسفة القصة ... فلسفة قصة *: ماتت خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ومات عمه أبو طالب في عام واحد، في السنة العاشرة من النبوة، فعظمت المصيبة فيهما عليه، إذ كان عمه هذا يمنعه من أذى قريش, ويقوم دونه فلا يخلصون إليه بمكروه؛ وكان أبو طالب من قريش كالعقيدة السياسية, هي بطبيعتها قوة نافذة على قوة القبيلة؛ فمن ثم كان هو وحده المشكلة النفسية المعقدة التي تعمل قريش جاهدة في حلها، وقامت المعركة الإسلامية الأولى بين إرادتهم وإرادته، وهم أمة تحكمهم الكلمة الاجتماعية التي تسير عنهم في القبائل؛ وتاريخهم ما يقال في الألسنة من معاني المدح والذم، فيخشون المقالة أكثر مما يخشون الغارة، وقد لا يبالون بالقتلى والجرحى منهم، ولكنهم يبالون بالكلمات المجروحة. فكان من لطيف صنع الله للإسلام، وعجيب تدبيره في حماية نبيه صلى الله عليه وسلم, وضع هذه القوة النفسية في أول تاريخ النبوة, تشتغل بها سخافات قريش، وتكون عملا لفراغهم الروحي، وتثير فيهم الإشكال السياسي الذي يعطل قانونهم الوحشي إلى أن يتم عمل الأسباب الخفية التي تكسر هذا القانون، فإن المصنع الإلهي لا يخرج أعماله التامة العظيمة إلا من أجزاء دقيقة. أما خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فكانت في هذه المحنة قلبا مع قلبه العظيم، وكانت لنفسه كقوله "نعم" للكلمة الصادقة التي يقول لها كل الناس "لا"؛ وما زالت المرأة الكاملة المحبوبة هي التي تعطي الرجل ما نقص من معاني الحياة, وتلد له المسرات من عواطفها كما تلد من أحشائها فالوجود يعمل بها عملين عظيمين: أحدهما زيادة الحياة في الأجسام، والآخر إتمام نقصها في المعاني. ويموت أبي طالب وخديجة، أفرد النبي صلى الله عليه وسلم بجسمه وقلبه، ليتجرد من الحالة التي يغلب فيها الحس، إلى الحالة التي تغلب فيها الإرادة، ثم ليخرج من أيام

_ * أنشأها لعدد الهجرة سنة 1355هـ.

الاستقرار في أرضه، إلى الأيام المتحركة به في هجرته، ثم لينتهي بذلك إلى غاية قوميته الصغيرة المحدودة، فيتصل من ذلك بأول عالميته الكبرى. وأراد الله -تعالى- أن يبدأ هذا الجليل العظيم من أسمى خلال الجلال والعظمة، ليكون أول أمره شهادة بكماله، فكانت الحسنة فيه بشهادة السيئة من قومه، فحلمه بشهادة رعونتهم، وأناته بدليل طيشهم، وحكمته ببرهان سفاهتهم؛ وبذلك ظهر الروحاني روحانيا في المادة. قالوا: فنالت منه قريش، ووصلوا من أذاه إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياة عمه، حتى نثر بعضهم التراب على رأسه، كأنما يعلمونه أنه أهون عليهم من أن يكون حرا، فضلا عن أن يكون عزيزًا، فضلا عن أن يكون نبيا؛ قالوا: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته تغسل عنه التراب وهي تبكي! كانت تبكي إذ لا تعلم أن هذا التراب على رأس النبي العظيم هو شذوذ الحياة الأرضية الدنيئة, في مقابلة إنسانها الشاذ المنفرد، هذه القبضة من التراب الأرضي قبضة سفيه، تحاول رد الممالك الإسلامية العظيمة أن تنشأ نشأتها وتعمل عملها في التاريخ، فهي في مقدارها وسخافتها ومحاولتها، كعقل قريش حينئذ في مقداره وسخافته ومحاولته. أما النبي صلى الله عليه وسلم فقال لبنته: "يا بنية لا تبكي، فإن الله مانع أباك". حسبت ذلك هوانا وضيعة، فأعلمها أن قبضة من التراب لا تطمر النجم، وأن هذه الحثوة الترابية لا تسمى معركة أثارتها الخيل فجاءت بنتيجة، وأن ساعة من الحزن في يوم، لا يحكم بها على الزمن كله، وأن هذه النزوة التي تحركت الآن هي حمق الغباوة: قوتها نهايتها. "يا بنية لا تبكي فإن الله مانع أباك". أي ليس للنبي كبرياء ينالها الناس أو يغضون عنها فيأتي الدمع مترجما عن المعنى الإنساني الناقص مثبتا أنه ناقص، إنما هي النبوةك قانونها غير ما اعتادت النفس من أفراح وأحزان، وهي النبوة: تجعل المختار لها غير محدود بجسده الضعيف، بل حدوده الحقائق التي فيها قوتها، فهو في منعة الواقع الذي لا بد أن يقع، فلو أمكن أن يحذف يوم من الزمن أو يؤخر عن وقته، أمكن أن يؤخر النبي أو يحذف. "يا بنية لا تبكي إن الله مانع أباك" لا -والله- ما يقول هذه الكلمة إلا نبي

وسع التاريخ في نفسه الكبيرة قبل أن يوجد هذا التاريخ في الدنيا، فكلمته هي الإيمان والثقة إذ يتكلم عن موجود. تراب ينثره سفيه على رأس النبي! ويحك يا حقارة المادة؛ إن ارتفاعك لعنة، إن ارتفاعك لعنة. قالوا: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف، يلتمس من ثقيف النصر والمنعة له من قومه، فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادتهم وأشرافهم، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاءهم له من نصرته والقيام معه في الإسلام على من خالفه من قومه، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط1 لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد صلى الله عليه وسلم إلى ظل حبلة من عنب فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من السفهاء. فلما اطمأن صلى الله عليه وسلم في مجلسه قال: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس؛ يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، لا حول ولا قوة إلا بك". ألا ما أكمل هذه الإنسانية التي تثبت أن قوة الخلق هي درجة أرفع من الخلق نفسه, فهذا فن الصبر لا الصبر فقط، وفن الحلم ولا الحلم وحده. قوة الخلق هي التي تجعل الرجل العظيم ثابتا في مركز تاريخه لا متقلقلا في تواريخ الناس، محدودا بعظائم شخصيته الخالدة لا بمصالح شخصه الفاني، ناظرا في الحياة إلى الوضع الثابت للحقيقة لا إلى الوضع المتغير للمنفعة. وما كان أولئك الأشراف وسفهاؤهم وعبيدهم إلا معاني الظلم، والشر،

_ 1 الحائط: البستان، وجمعه حوائط.

والضعف، تقول للنبي العظيم الذي جاء يمحوها ويديل منها: إننا أشياء ثابتة في البشرية. لم يكن منهم الأشراف والسفهاء والعبيد، بل كان منهم العسف، والرق، والطيش، تسخر ثلاثتها من نبي العدل، والحرية، والعقل، فما تسخر إلا من نفسها. صغائر الحياة قد أحاطت بمجد الحياة، لتثبت الصغائر أنها الصغائر، وليثبت المجد أنه المجد. كان الفريقان هما الفكرتين المتعاديتين أبدا على الأرض: إحداهما عش لتأكل وتستمتع وإن أهلكت، والأخرى عش لتعمل وتنفع الناس وإن هلكت. كانت الأقدار تبادي هذا الروح الواسع بذلك الروح الضيق، لينطلق الواسع من مكانه ويستقبل الدنيا التي عليه أن ينشئها. فأولئك الأشراف والسفهاء والعبيد إن هم إلا الضيق، والركود، وذل العيش، حول السعة الروحية، والسمو، وطهارة الحياة. وقف المعنى السماوي بين معاني الأرض، ولكن نور الشمس ينبسط على التراب فلا يعفره التراب، وما هو بنور يضيء أكثر مما هو قوة تعمل بالعناصر التي من طبيعتها أن تحول، في العناصر التي من شأنها أن تتحول. وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أولئك المستهزئين قوة أخرى, هي القدرة التي تعمل بهذا النبي للعالم كله، وبهذه القدرة لم ينظر النبي إلى قريش وصولتهم عليه إلا كما ينظر إلى شيء انقضى، فكان الوجود الذي يحيط به غير موجود، وكانت حقيقة الزمن الآتي تجعل الزمن الحاضر بلا حقيقة. وإلى هذه القدرة توجه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الدعاء البليغ الخالد، يشكو أنه إنسان فيه الضعف وقلة الحيلة، فينطق الإنساني فيه بالشطر الأول من الدعاء يذكر انفراده وآثار انفراده، ويتوجع لما بينه وبين إنسانية قومه، ثم ينطق الروحاني فيه بعد ذلك إلى آخر الدعاء متوجها إلى مصدره الإلهي قائلا أول ما يقول: "إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي". ولعمري لو نطقت الشمس تدعو الله لما خرجت عن هذا المعنى ولا زادت على قوله: "أعوذ بنور وجهك" تلتمس من مصدر النور الأزلي حياطة وجودها الكامل. ولق هزئوا من قبل بالمسيح "عليه السلام" فقال للساخرين منه: ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته. وبهذا رد عليهم رد من انسلخ منهم، وقال لهم قول

من ليس له حكم فيهم، وأخذهم بالشريعة الأدبية لا العملية؛ إذ كان "عليه السلام" كالحكمة الطائفة ليست لكل قلب ولا لكل عقل، ولكنها لمن أعد لها؛ وشريعته أكثرها في التعبير وأقلها في العمل، ولم تجئ بالقوة العاملة فلم يكن بد من أن تضع الموعظة في مكان السيف، وأن تكون قائمة على النهي أكثر مما هي قائمة على الأمر، وأن تكون كشمس الشتاء الجميلة: لا تغلي بها الأرض، وإنما عملها أن تمهد هذه الأرض لفصل آخر. أما نبينا صلى الله عليه وسلم فلم يجب المستهزئين, إذ كانت القوة الكامنة في بلاد العرب كلها كامنة فيه، وكان صدره العظيم يحمل للدنيا كلمة جديدة لا تقبل الدنيا أن تعامله عليها إلا بطريقتها الحربية؛ فلم يرد رد الشاعر الذي يريد من الكلمة معناها البليغ، ولكنه سكت سكوت المشترع الذي لا يريد من الكلمة إلا عملها حين يتكلم؛ وكان في سكوته كلام كثير في فلسفة الإرادة والحرية والتطور, وأن لا بد أن يتحول القوم، وأن لا بد أن يتفطر هذا الشجر الأجرد عن ورق جديد أخضر ينمو بالحياة. لم يتسخط ولم يقل شيئا, وكان كالصانع الذي لا يرد على خطأ الآلة بسخط ولا يأس، بل بإرسال يده في إصلاحها. قالوا: ورأى ابنا ربيعة، عتبة وشيبة ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من السفهاء، فتحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس، فقالا له: خذ قطفا من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه، ففعل عداس ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وضع يده قال: "بسم الله" ثم أكل؛ فنظر عداس إلى وجهه ثم قال: -والله- إن هذا لكلام ما يقوله أهل هذه البلدة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن أي البلاد أنت يا عداس وما دينك؟ ". قال: أنا نصراني وأنا رجل من أهل نينوى. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ ". قال: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال صلى الله عليه وسلم "ذاك أخي, كان نبيا وأنا نبي". فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه ورجليه. يا عجبا لرموز القدر في هذه القصة!

لقد أسرع الخير والكرامة والإجلال فأقبلت تعتذر عن الشر والسفاهة والطيش، وجاءت القبلات بعد كلمات العداوة. وكان ابنا ربيعة من ألد أعداء الإسلام، وممن مشوا إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم من أشراف قريش يسألونه أن يكفه عنهم أو يخلي بينهم وبينه، أو ينازلوه وإياه حتى يهلك أحد الفريقين, فانقلبت الغريزة الوحشية إلى معناها الإنساني الذي جاء به الدين، لأن المستقبل الديني للفكر لا للغريزة. وجاءت النصرانية تعانق الإسلام وتعزه، إذ الدين الصحيح من الدين الصحيح، كالأخ من أخيه، غير أن نسب الإخوة الدم ونسب الأديان العقل. ثم أتم القدر رمزه في هذه القصة، بقطف العنب سائغا عذبا مملوءًا حلاوة؛ فباسم الله كان قطف العنب رمزًا لهذا العنقود الإسلامي العظيم الذي امتلأ حبا كل حبة فيه مملكة.

فوق الآدمية الإسراء والمعراج

فوق الآدمية * الإسراء والمعراج: من أعجب ما اتفق لي أني فرغت من تسويد هذا المقال ثم أردت نقله، فتعسر علي وصرفت عنه بألم شديد اعتراني، ونالني منه ثقلة في الدماغ؛ ثم كشفه الله بعد يوم فراجعت الكتابة، فإذا قلمي ينبعث بهذه الكلمات: كيف يستوطئ المسلمون العجز، وفي أول دينهم تسخير الطبيعة؟ كيف يستمهدون الراحة، وفي صدر تاريخهم عمل المعجزة الكبرى؟ كيف يركنون إلى الجهل، وأول أمرهم آخر غايات العلم؟ كيف لا يحملون النور للعالم ونبيهم هو الكائن النوارني الأعظم؟ قصة الإسراء والمعراج هي من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هذا النجم الإنساني العظيم؛ وهو النور المتجسد لهداية العالم في حيرة ظلماته النفسية؛ فإن سماء الإنسان تظلم وتضيء من داخله بأغراضه ومعانيه. والله -تعالى- قد خلق للعالم الأرضي شمسا واحدة تنيره وتحييه وتتقلب عليه بليله ونهاره، بيد أنه ترك لكل إنسان أن يصنع لنفسه شمس قلبه وغمامها وسحائبها وما تسفر به وما تظلم فيه. ولهذا سمي القرآن نورا لعمل آدابه في النفس، ووصف المؤمنون بأنهم {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد: 12] ، وكان أثر الإيمان والتقوى في تعبير القرآن الكريم أن يجعل الله للمؤمنين نورًا يشمون به. وقد حار المفسرون في حكمة ذكر "الليل" في آية "الإسراء" من قوله -تعالى-: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1] . فإن السرى في لغة العرب لا يكون إلا ليلًا.

_ * أنشأها برأي صديقه الأستاذ محمود أبو ريه.

والحكمة هي الإشارة إلى أن القصة قصة "النجم" الإنساني العظيم الذي تحول من إنسانيته إلى نوره السماوي في هذه المعجزة، ويتمم هذه العجيبة أن آيات "المعراج" لم تجئ إلا في سورة: "والنجم". وعلى تأويل أن ذكر "الليل" إشارة إلى قصة النجم، تكون الآية برهان نفسها، وتكون في نسقها قد جاءت معجزة من المعجزات البيانية؛ فإذا قيل: إن نجما دار في السماء، أو قطع ما تقطعه النجوم من المسافات التي تعجز الحساب، فهل في ذلك من عجيب؟ وهل فيه شك أو نظر أو تردد؟ وهل هو إلا من بعض ما يسبح الله بذكره؟ وهل يكون إلا آية اتصلت بالآيات التي نراها اتصال الوجود بعضه ببعض؟ وأنا ما يكاد ينقضي عجبي من قوله تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1] . مع أن الألفاظ كما ترى مكشوفة واضحة، ويخيل إليك أن ليس وراءها شيء، ووراءها السر الأكبر؛ فإنها بهذه العبارة نص على إشراف النبي صلى الله عليه وسلم فوق الزمان والمكان يرى بغير حجاب الحواس مما مرجعه إلى قدرة الله لا قدرة نفسه؛ بخلاف ما لو كانت العبارة: "ليرى من آياتنا" فإن هذا يجعله لنفسه في حدود قوتها وحواسها وزمانها ومكانها، فيضطرب الكلام، ويتطرق إليه الاعتراض ولا تكون ثم معجزة. وتحويل فعل "الرؤية" من صيغة إلى صيغة كما رأيت، هو بعينه إشارة إلى تحويل الرائي من شكل إلى شكل كما ستعرفه، وهذه معجزة أخرى يسجد لها العقل؛ فتبارك الله منزل هذا الكلام! وإذا كان صلى الله عليه وسلم نجمًا إنسانيًا في نوره، فلن يأتي هذا إلا من غلبة روحانيته على مادته؛ وإذا غلبت روحانيته كانت قواه النفسية مهيأة في الدنيا لمثل حالتها في الأخرى؛ فهو في هذه المعجزة أشبه بالهواء المتحرك. فقل الآن: أيعترض على الهواء إذا ارتفع بأنه لم يترفع في طيارة؟ ومن ثم كان الإنسان إذا سما درجة واحدة في ثبات قواه الروحية، سما بها درجات فوق الدنيا وما فيها، وسخرت له المعاني التي تسخر غيره من الناس، ونشأت له نواميس أخلاقية غير النواميس التي تتسلط بها الأهواء. ومتى وجد الشيء من الأشياء كانت طبائع وجوده هي نواميسه؛ فالنار مثلا إذا هي تضرمت أوجدت الإحراق فيما يحترق، فإن وضع فيها ما لا يحترق أبطل نواميسها وغلب عليها.

وكل معجزة تحدث فهذا هو سبيلها في إيجاد النواميس الخاصة بها وإبطال النواميس المألوفة، وبهذا يقال: إنها خرقت العادة. ومن النور نور لا يشف له غير الهواء، ومنه أشعة "رونتجن" التي تشف لها الجدران والحجب؛ فهذه معجزة في ذاك. والنبي لا يكون نبيا حتى يكون في إنسانه إنسان آخر بنواميس تجعله أقرب إلى الملائكة في روحانيتها، وما ينزل إنسانه الظاهر من الإنسان الباطن فيه إلا منزلة من يتلقي ممن يعطي؛ فذاك الباطن هو للحقائق التي لا تحملها الدنيا، وهذا الظاهر لما يمكن أن يبلغ إليه الكمال في المثل الإنسان الأعلى، ولولا ذلك الباطن ما استطاع نبي من الأنبياء أن يحمل هموم أمة كاملة لا تضنيه ولا تغيره ولا تعجزه. فحقيقة النبوة أنها قوة من الوجود في إنسان مختار جاءت تصلح الوجود الإنساني به لتقر في هذه الحيوانية المهذبة مثلها الأعلى، بدلالتها على طريقها النفسي مع طريقها الطبيعي، فيكون مع الانحطاط الرقي، ومع النقص الكمال، ومع حكم الغريزة التحكم في الغريزة، ومع الظلمة المادية الإشراق الروحاني. وما المعجزات إلا شأن تلك القوة الباطنة لا شأن إنسانها الظاهر، ومن الذي ينكر أن قوى الوجود هي في نفسها إعجاز للعقل البشري؟ وهل ينكر اليوم أحد شأن هذه القوة في "الراديو" حين مسته فجعلت الكلمة التي ترسل بين الشرق والغرب، كالكلمة بين اثنين يتحدثان في مجلس واحد؟ ونحن نرى معجزات التنويم المغناطيسي وما يبصره النائم وما يسمعه، وما ينكشف له مما وراء الزمان والمكان؛ وليس التنويم شيئا إلا تسليط الذات الباطنة بقواها الروحية العجيبة، على الذات الظاهرة المقيدة بحواسها المحدودة، فتطغى عليها، فتصبح الحواس مطلقة شائعة في الوجود بمقدار ما فيها من قواه لا بمقدار ما فيها من قوة شخصها. وعلى نحو من ذلك يتصل الرجل الروحاني بذاته الباطنة، فيوقع شخصه الظاهر في الاستهواء، فينكشف له الوجود، ويبصر ما يقع على البعد، ويرى ما هو آت قبل أن يأتي؛ وما الكون في هذه الحالة إلا كالمعشوق يقول لعاشقه الذي وقع في قلبه الحب: قد آتيتك نورًا تنظر به جمالي. وفي علماء عصرنا من يفكر في الصعود إلى القمر، وفيهم من يعمل

للمخاطبة مع الأفلاك، وفيهم من تقع له العجائب في استحضار الأرواح وتسخيرها؛ وكل ذلك أول البرهان الكوني الذي سيلزم العلم فيضطره في يوم ما إلى الإقرار بصحة الإسراء والمعراج. ونحن قبل أن نبدي رأينا في القصة نلم بها إلمامة موجزة؛ فقد اختلفت فيها الأحاديث ووقع فيها تخليط كثير، فجاءت فنونا وأنواعا من طرق شتى، حتى جمعها بعضهم في جزأين1، وما تحتمل كل ذلك ولا بعضه، ولكن روح الرواية في ذلك الزمن كانت كروح الصحافة في هذا العصر: متى فارت فورها استحدثت من كل عبارة عبارة أخرى، وعلى هذه الطريقة تخرج من العبارتين عبارة ثالثة، فيكون الأصل معنى واحد وإذا هو يمد من يمينه ويساره. ولا يرون بذلك بأسا؛ فإنهم يشدون به الرأي، ويضاعفون منه اليقين، ويزيدون ضوءًا في نور المعنى، وما داموا قد أثبتوا الأصل واستيقنوه، فلا حرج أن يؤيد القول بعضه بعضا, باجتهاد في عبارة, واستنباط من أخرى, وزيادة في الثالثة مما هو بسبيل منها، على نحو ما نرى من فن الرواية القصصية؛ إذ تتعدد الأساليب والعبارات مختلفة متنوعة، وليس تحتها إلا حقيقة واحدة لا تختلف، والقصص الديني في هذه اللغة العربية فن كامل قائم بنفسه, ولا يبدع العقل والخيال والعاطفة أقوى منه ولا أعجب ولا أغرب. هذا في متن القصة، أما في واقعتها فقد اختلفوا اختلافًا آخر: هل كان الإسراء والمعراج يقظة أو منامًا؟ وبالروح وحدها، أو بالروح والجسم معا؟ وإنما ذكرنا هذا الخلاف لأنه الدليل القاطع على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر بشيء من ذلك, فلم يعين لهم وجها من هذه الأوجه، والحكمة في ذلك أن عقولهم لم تكن تحتمل الإدراك العلمي الذي أساسه ما عرف اليوم من أمر الكهرباء والأثير. والخلاصة التي تتأدى من القصة: أنه صلى الله عليه وسلم كان مضطجعًا، فأتاه جبريل، فأخرجه من المسجد، فأركبه البراق، فأتى بيت المقدس، ثم دخل المسجد فصلى فيه، ثم عرج به إلى السموات، فاستفتحها جبريل واحدة واحدة، فرأى فيها من آيات ربه، واجتمع بالأنبياء -صلوات الله عليهم- وصعد في سماء بعد سماء إلى سدرة المنتهى، فغشيها من أمر الله ما غشيها، فرأى صلى الله عليه وسلم مظهر الجمال الأزلي، ثم زج به في النور فأوحى الله إليه ما أوحى.

_ 1 قال الذهبي: إن الحافظ عبد الغني جمع أحاديث الإسراء في جزأين.

أما وشي القصة وطرازها فباب عجيب من الرموز الفلسفية الإنسانية التي يرمز بها إلى تجسيد الأعمال في هذه الحياة: تكون تعبا وتقع فائدة، أو تلتمس منفعة وشهوة وتقع مضرة وحماقة، ثم تفنى من هذه وتلك الصورة الزمنية التي توهمها أصحابها، وتخلد الصور الأبدية التي جاءت بها حقائقها. ومن هذه الرموز البديعة قوله: "فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فأخذت اللبن، فقال جبريل: أخذت الفطرة". وأنه مر على قوم يزرعون ويحصدون في كل يوم، كلما حصدوا عاد كما كان؛ فسأل: "ما هذا؟ " , قال جبريل: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله، تضاعف لهم الحسنة سبعمائة ضعف. ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت كما كانت ولا يفتر عنهم من ذلك شيء؛ فقال: "ما هذا؟ " , قال جبريل: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة. ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدر، ولحم آخر نيئ في قدر خبيث، فجعلوا يأكلون من النيئ الخبيث ويدعون النضيج؛ فقال: "ما هؤلاء؟ " ,قال جبريل: هذا الرجل تكون عنده المرأة الحلال الطيب فيأتي امرأة خبيثة، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا فتأتي رجلا خبيثا. ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها، فقال: "ما هذا يا جبريل؟ " , قال: هذا الرجل تكون عليه أمانات الناس لا يقدر على أدائها وهو يريد أن يحمل عليها. ثم رأى نساء معلقات بثديهن؛ فسأل، فقال جبريل: هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم. ونحن على الرأي الذي عليه جمهور العلماء: من أن الإسراء والمعراج كانا بالجسم والروح معا على التأويل الذي سنبينه؛ ويثبت ذلك قوله -تعالى- في سورة "والنجم": {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] . فلا يكون البصر يزيغ ويطغى إلا في الجسم، ولا ينتفي عنه ذلك إلا وهو في الجسم. ولم يتنبه أحد من المفسرين إلى المعنى المعجز العجيب في قوله: {وَمَا طَغَى} [النجم: 17] ؛ فذلك نص على أنه كان يرى بجسم قد تحول عن الطبيعة الآدمية المحدودة فليس فيه منها شيء؛ إذ لا يكون طغيان البصر إلى من تسلط الخيال عليه بأهواء الجسم التي لا يستقيم بها حكم على حقيقته, فما زاغ البصر بكونه مقيد الحاسة، ولا طغى بكونه مطلق الخيال، بل كان كما يريه الله من آياته، أي كان حقيقة كونية في غير حالتها الأرضية الناقصة.

والذين قالوا: إن الإسراء والمعراج كانا رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وسلم احتجوا لذلك بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] . وقد خلط المفسرون في هذا أيضا، وإنما كان التعبير بلفظ "الرؤيا" -وهي التي تكون منامًا- لنفي تأثير الحواس على الرائي، وإثبات أن الطبيعة الآدمية بجملتها كانت فيه كالنائمة عن حياتها الأرضية بحقائقها وأخيلتها معا، فليس نائما كالنائم، ولا مستيقظا كالمستيقظ. وفي أساس القصة جبريل والبراق، وهما القوة الملائكية والقوة الطبيعية، أو الروح الملائكي، والروح الطبيعي، ولم يوصف البراق بأنه دابة إلا رمزًا، إذ لا يأتي للعرب أن يفهموا ما يراد منه؛ وعندنا أنه سمي البراق من البرق، وما البرق إلا الكهربائية، وهذا هو المراد منه؛ فتلك قوة كهربائية متى نبضت جمعت أول العالم بآخره؛ وهذه هي الحكمة في أن آية الإسراء لم تذكر أنه كان محمولا على شيء، إذ لم يكن محمولا إلا على روح الأثير. وما دامت القوة الملائكية والقوة الطبيعية قد سخرتا له صلى الله عليه وسلم فلا معنى لأن يكون ذلك للروح دون الجسم، بل اجتماعهما معا في القصة دليل على أن سر المعجزة إنما كان في تيسير ملاءمة جسمه الشريف لهاتين الحالتين؛ فيتحول في صورة كونية ملائكية بين سر الملك وسر الطبيعة، وحينئذ لا تجري عليه أحكام الحواس ولا أحكام المادة. ومن الممكن أن تتحول الأجسام إلى حالتها الأثيرية في بعض الأحوال الخارقة، وبهذا يعلل طي الأرض لبعض الروحانيين, وتعلل خوارق كثيرة مما يحدث في استحضار الأرواح لهذا العهد، ومما يأتيه فقراء الهند، ومما كان يصنعه "هوديني" الأمريكي: إذ كانوا يغللونه بالسلاسل والقيود ثم يرونه طليقا؛ ويحسبونه في السجون المحصنة يقوم عليها الحراس وتمسكه فيها الأبواب والجدران ثم يجدونه في بعض الفنادق. وليس للعقل أن ينكر شيئا من هذه ونحوه، فإن تركيب الطبيعة رد عليه، ونقصه هو رد على نفسه، والمستحيل على الأعمى هو أيسر الممكنات على المبصر. فأنت ترى أن ذكر البراق والملك في أساس قصة الإسراء والمعراج هو صلة القصة بالمعجزة، وهو عينه صلتها بالبرهان؛ ولو لم يكونا فيها لما كان لها تفسير.

والقصة بعد ذلك تثبت أن هذا الوجود يرق وينكشف ويستضيء كلما سما الإنسان بروحه، ويغلظ ويتكاثف ويتحجب كلما نزل بها، وهي من ناحية النبي صلى الله عليه وسلم قصة تصفه بمظهره الكوني في عظمته الخالدة كما رأى ذاته الكاملة في ملكوت الله، ومن ناحية كل مسلم من أتباعه هي كالدرس في أن يكون لقلب المؤمن معراج سماوي فوق هذه الدنيا، ليشهد ببصيرته أنوار الحق، وجمال الخير، وتجسد الأعمال الإنسانية في صورها الخالدة؛ فيكون بتدبره القصة كأنما يصعد إلى السماء وينزل؛ فيستريح إلى الحقائق الأساسية لهذه الحياة، فيدفع عن نفسه بذلك تعقد الأخيلة الذي هو أساس البلاء على الروح. ومتى استنار القلب كان حيا في صاحبه، وكان حيا في الوجود كله. ومتى سلمت الحياة من تعقيد الخيال الفاسد لم يكن بين الإنسان وبين الله إلا حياة هي الحق والخير، ولم يكن بينه بين الناس إلا حياة هي الرحمة والحب.

الإنسانية العليا

الإنسانية العليا *: من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم إنه كان متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، طويل السكت، لا يتكلم في غير حاجة، ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة وإن دقت لا يذم منها شيئا, ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها، فإذا تعدى الحق لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها؛ وكان خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه ولا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه، ولا يطوي عن أحد من الناس بشره، قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق سواء؛ يحسن الحسن ويقويه، ويقبح القبيح ويوهيه، معتدل الأمر غير مختلف؛ وكان أشد الناس حياء، لا يثبت بصره في وجه أحد، له نور يعلوه كأن الشمس تجري في وجهه، لا يؤيس راجيه, ولا يخيب عافيه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول؛ أجود الناس بالخير1. صلى الله وسلم على صاحب هذه الصفات التي لا يجد الكمال الإنساني مذهبا عنها ولا عن شيء منها، ولا يجد النقص البشري مساغا إليها ولا إلى شيء منها؛ ففيها المعنى التام للإنسانية، كما أن فيها المعنى التام للحق، ومن اجتماع هذين يكون فيها المعنى التام للإيمان. هي صفات إنسانها العظيم، وقد اجتمعت له لتأخذ عنه الحياة إنسانيتها العالية؛ فهي بذلك من برهانات نبوته ورسالته. ولو جمعت كل أوصافه صلى الله عليه وسلم ونظمتها بعضها إلى بعض، واعتبرتها بأسرارها العلمية لرأيت منها كونا معنويا دقيقا قائما بهذا الإنسان الأعظم، كما يقوم هذا

_ * انظر صفحة 241 من حياة الرافعي. 1 جمعنا هذه الأوصاف من روايات مختلفة، وجعلناها كالحديث الواحد.

الكون الكبير بسننه وأصول الحكمة فيه، ولأيقنت أن هذا النبي الكريم إن هو إلا معجم نفسي حي ألفته الحكمة الإلهية بعلم من علمها، وقوة من قوتها، لتتخرج به الأمة التي تبدع العالم إبداعا جديدًا، وتنشئه النشأة المحفوظة له في أطوار كماله. ولن ترى في الإنسانية أسمى من اجتماع هذه الصفات بعضها إلى بعض وإني لأكاد كلما تأملتها أحسب هذا السمو قضاء وقدرًا بإنسان على الإنسانية كلها. وهي دليل على أنه الإنسان الذي خلق للدنيا لا لنفسه؛ فهو لا ينمو بما يكون على الناس من الحق، ولكن بما يكون للناس عليه من الواجبات، كأنما هو حقيقة كونية تعيش عيشها، فما تكون في الوجود إلا لتقرر وجودها هي، ولا تنتهي حين تنتهي بذاتها إلا لتبدأ معانيها في غيرها، فهو صلى الله عليه وسلم إنسان غرس في التاريخ غرسا ليكون حدا لزمن وأولا لزمن بعده، وما كانت حياته تلك إلا طريقة غرسه، وهو أبدًا قائم في مكانه الاجتماعي، إذ كان الزمن كلما تقدم زاد في إثباته، وقد أصبح في الدنيا كأنه جهة من الجهات لا إنسان من الناس، فلن يتغير أو يمحى إلا إذا تغير أو محي المشرق والمغرب. ونحن حين نقرأ تلك الصفات وما فاضت به كتب الشمائل من أمثالها، لا نقرؤها أوصافا ولا حلية، بل نراها صفحة إلهية مصنفة أبدع تصنيف وأدقه، ومن وراء تأليفها تفسير طويل لا يهتدي الفكر البشري لأحسن منه ولا أصح ولا أكمل؛ فقد اجتمعت تلك الصفات في إنسانها اجتماع الأجزاء في المسألة الرياضية, لا ينبغي أن تزيد أو تنقص، إذ كان في مجموعها ما وجد له مجموعها. ويكاد الارتباط بين أجزاء المسألة يكون هو بعينه صورة للارتباط بين أجزاء تلك الصفات الشريفة؛ فإن كل جزء منها موضوع وضعا لا يتم الكل إلا به، حتى لا موضع فيها لقلة أو كثرة؛ وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "أدبني ربي فأحسن تأديبي"، وأنت إذا دققت في هذا الحديث أدركت من معناته أن هناك طبيعة أخلاقية مفردة تجرى على قانونها الذي وضعه الله لها وأحكمها به. وأعجب ما يدهشنا من مجموع صفاته صلى الله عليه وسلم أن فيها دليلًا بينا على أنه مخلوق خلقة متميزة بنفسها، كخلقة القلب الإنساني: نظامه حياته وحياته نظامه، وكأنما اعترته حالة نفسية كالتي تعتري القلب في استشعار الخطر فتخرجه من طبيعته إلى أقوى منها، فلا يزال يمد أعضاء الجسم بمدد لا ينفد من القوة والصبر، يجعل الحياة فيها على أضعافها كأنها حياة كانت مخبوءة وظهرت بغتة؛ وفي هذه الحالة تتجه غرائز النفس كلها إلى جهة واحدة كأنها مقدرة بميزان، مضبوطة بقياس؛

فترجع على تناقضها واختلافها متعاونة يؤازر بعضها بعضا، وكان قانونها الطبيعي أن تتجاذب وتتساقط وتفسر الواحدة منها عمل الأخرى, فيجيء بها الشيء وضده معا: كالصدق والكذب، والطمع والقناعة، والشهوات الثائرة والخمود الساكن، إلى آخر ما تعد من هذه الغرائز؛ ولكنها في استعشار الخطر تكون كالأشباه لا كالأضداد، فيشد بعضها بعضا، ويتم النقيض منها نقيضه، وتجري كلها في قانون واحد: هو الدفاع بأجزائها عن مجموعها؛ فترى النازع منها وإنه لمستقر في أشد من القيد، وكأن فيه غير طبيعته. وهل ينبئك مجموع صفاته صلى الله عليه وسلم إلا أنه يعيش معيشة القلب إذا اختلف ما حوله وفجأته بغتات الوجود فتجاوز أن يكون منبعا للحياة إلى أن يكون حافظا للحياة في منبعها؟ وتلك الحالة -كما مر بك- تجعل وجود الإنسان هو وجود إرادته وعقله، لا وجود شهواته وغرائزه؛ وكذلك عاش نبينا صلى الله عليه وسلم فهو مدة حياته في وجود إرادته لا غيرها، حتى ليس عليه سبيل لغميزة أو لائمة، كأنه خلق تشده نية مستيقظة قد نبهها ما ينبه النفس من الغرر والخطر, ولعل هذا الشعور في نفسه صلى الله عليه وسلم هو التفسير لقوله: "نية المؤمن خير من عمله". إلى أحاديث كثيرة مما يجري في معنى هذه الكلمة الجامعة؛ يريد بها: أن نية المؤمن لا تنطوي إلا على الخير الكامل، فهو -ما دامت نيته على صلاحها وسره على إخلاصه- لا يعد اليسير من الشر يسيرا، ولا يرى الكثير من الخير كثيرًا؛ فالأصل القائم في تلك النية المؤمنة ألا يبدأ الشر كي لا يوجد، وألا ينتهي الخير كي لا يفنى؛ فالمؤمن من ذلك على الخير والكمال أبدًا، في حين أن عمله بطبيعته الإنسانية يتناول الخير والشر جميعا، ثم لا يكون إلا عملا إنسانيا على نقص واضطراب والتواء. وقد لا يستطيع المؤمن أن يأتي الخير في بعض أحواله، ولكنه يستطيع دائما أن ينويه ويرغب فيه ويعزم عليه, ليحقق ضميره في كل ما يهم به؛ ويحصر أفكاره في قانون نيته المؤمنة. وهذا هو الأساس في علم الأخلاق، لا أساس من دونه. والنية من بعد هي حارس العمل؛ فكل إنسان يستطيع أن يذعن وأن يأبى، ومن ثم تكون هذه النية ردا ومدافعة من ناحية, واستجابة ومطاوعة من الناحية الأخرى؛ فهي على الحقيقة متى صلحت كانت استقلالا تاما للإرادة، وكانت مع ذلك ضبطا لهذه الإرادة على حال واحدة هي التي ينتظم بها قانون المبدأ السامي.

ثم إنه لا ضابط لصحة العمل واستقامته إلا النية الصحيحة المستقيمة؛ فالتزوير والتلبيس كلاهما سهل ميسور في الأعمال، ولكنهما مستحيلان في النية إذا خلصت. وهي كذلك ضابط للفضائل توجه القلوب على اختلافها وتفاوتها اتجاها واحدًا لا يختلف؛ فيكون طريق ما بين الإنسان والإنسان, من ناحية الطريق ما بين الإنسان وبين الله. وأشواق الروح بطبيعتها لا تنتهي، فيعارضها الجسم بجعل حاجاته غير منتهية؛ يحاول أن يطمس بهذه على تلك، وأن يغلب الحيوانية على الروحانية، فإذا كانت النية مستيقظة كفته وأماتت أكثر نزعاته، ووضعت لكل حاجة حدا ونهاية؛ وبذلك تجرع النية إلى أن تكون قوة في النفس يخرج بها الإنسان عن كثير مما يحده من جسمه، ليخرج بذلك عن كثير مما يحده من معاني الأرض. وهي بعد هذا كله تحمل الإنسان أن ينظر إلى واجبه كأنه رقيب حي في قلبه, لا يرائيه ولا يجامله, ولا يخدع من تأويل, ولا يغر بفلسفة ولا تزيين، ولا يسكته ما تسول النفس, ولا يزال دائما يقول للإنسان في قلبه: إن الخطأ أكبر الخطأ أن تنظم الحياة من حولك وتترك الفوضى في قلبك. وجملة القول في معاني النية أنها قوة تجعل باطن الجسم متساوقا مع ظاهره، فتتعاون الغرائز المختلفة في النفس تعاونا سهلا طبيعيا مطردا، كما تتعاون أعضاء الجسم على اختلافها في اطراد وسهولة وطبيعة. وكل صفات النبي صلى الله عليه وسلم -مما ذكرناه وما لم نذكره- متى اعتبرت بذلك الأصل الذي بيناه انتظمها جميعا، فجاء بعضها تمامًا على بعض في نسق رياضي عجيب، وظهرت حكمة كل منهما واضحة مكشوفة، ورأيتها في مجموعها تصف لك عمرا هندسيا دقيقا قد بلغ الغاية من الكمال والروعة والدقة، لا يعد جزء منه جزءًا، بل كله أجزاؤه، وأجزاؤه كله؛ كالوضع الهندسي: إما أن يكون بكله، وإما ألا تكون فيه الهندسة كلها. وليس مجموع تلك الصفات في معناه إلا صنعة الإنسان صنعة جديدة تخرجه موجودًا من ذات نفسه، وتكسرت القالب الأرضي الذي صب فيه وتفرغه في مثل قالب الكون، فإذا هو غير هذا الإنسان الضيق المنحصر في جسمه ودواعي

جسمه، فلا تخضعه المادة، ولا يؤتى من سوء نظره لنفسه, ولا تغره الدنيا، ولا يمسكه الزمان؛ إذ كانت هذه هي صفات المستعبد بأهوائه لا الحر فيها، والخاضع بنفسه لا المستقبل بها، والمقبور في إنسانيته لا الحي فوق إنسانيته، ومثل هذا المستعبد الخاضع المقبور لا وجود له إلا في حكم حواسه، فعمله ما يعيش به لا ما يعيش من أجله، ويتصل بكل شيء اتصالا مبتورًا ينتهي في هوى من أهواء الحيوان الذي فيه. ومن المقابلة العجيبة أن يكون في الإنسان الاجتماعي حيوان، تقابله الحكمة في الحيوان الأليف بإنسان, وحكمها واحد ومنطقهما لا يختلف. فلو أنك سألت حيوان الأعصاب عن صاحبه الإنسان لقال لك: هو غلتي ومزرعتي. ولو سألت كلبا عن حبه صاحبه ومبلغ هذا الحب في نفسه لما زاد في جوابه على أنه يحبه حب اللقمة والعظمة. ومتى كان الإنسان في حكم حواسه لم تعد الأشياء عنده كما هي في نفسها بمعانيها الطبيعية المحدودة، وانقلبت كما هي في وهمه بمعان متفاوتة مضطربة، فلا يشعر المرء بائتلاف الوجود وتعاونه، ولكن باختلافه وتناقضه، فمن ثم لا تكون أسباب اللذة إلا من أسباب الإثم، ويدخل في كل حب بغض، وفي كل رغبة طمع، وفي كل خير شر، وفي كل صريح خبيء، وهلم جرا، إذ لا بد من هذا كله متى غلب الفاني على الباقي، ولا بد من كل هذا في تمثيل رواية الحواس الخادعة التي أساسها التغير والتقلب، حتى لكأن النفس غنما تعيش بها في ظاهر من الحياة لا في الحياة نفسها. وهذا الخداع جاعل كل شيء من أشياء النفس لا يبدأ إلا لينتهي، ثم لا ينتهي إلا ليبدأ؛ فما تزال هذه النفس طامعة فيما لا تناله، ولا يزال من ذلك مصدر لآلامها الحسية؛ ثم إذا هي نالت منالتها سئمت، فلا يزال من ذلك مصدر آخر لآلامها المعنوية، ولن يجيء الصحيح من غير الصحيح، فالكون كله ليس إلا كذبا في النفس الكاذبة بحواسها. ولذا كان أخص أوصافه صلى الله عليه وسلم راجعا إلى خروجه من سلطان نفسه، فلا يغضب لها، ولا يطلقها من الدنيا فيما تذمه أو تمدحه، ولا يحب فيها، ولا يبغض من أجلها، ولا يهاونها، ولا يستلين لها في مأكل وملبس، ولا يأخذها إلا من ناحية الإيمان بالله والإيمان بالإنسانية؛ فأفراحها أحزانها، وآمالها أشواقها، وأملاكها

أعمالها، وحسابها في طبيعتها، وحوادثها من العقل لا من الحواس، وعظمتها إثبات ذاتها في غيرها، لا إثبات غيرها في ذاتها، وغايتها في الباقي لا الزائل، وفي الخالد لا الفاني، وما دام الحاضر متحركا فهو طارئ عابر أوشك أمور الدنيا زوالًا، والعمل له على مقداره في قلة لبثه وهوان أمره، والاهتمام أبدًا بما وراءه لا به. فأول النفس النية العاملة لآخرتها، وآخر النفس ما تؤدي إليه أعمال هذه النية؛ فليس في إنسان الدنيا إلا إنسان العالم الآخر، وبهذا يقدر صمته وكلامه، وحركته وسكونه، وما يأتي وما يدع، وما يحب وما يكره، إذ كل شيء منه على ذلك الاعتبار إنما هو صورة الحقيقة العاملة فيه. وجماع الأمر ألا يكون مستقبل الإنسان علامة استهزاء بجانب ماضيه، ولا علامة استفهام، ولا علامة إنكار. وتدل صفات النبي صلى الله عليه وسلم باجتماعها وتساوقها على حقيقة عظمى لم يتنبه إليها أحد؛ وهي أن جميع خصائصه النفسية مرهفة متيقظة، وهذا مما يندر وقوعه وإمكانه؛ فإن الرجل من الناس ليكون حيا بالحياة، ولكن جوانب كثيرة من نفسه قد طاح بها الموت، أو هي مريضة وذلك أول الموت؛ أو غافلة وذلك شبه الموت؛ أما الحي العظيم فهو الذي يحيا بأكثر خصائص نفسه، وأما الحي الأعظم فهو الذي يحيا بجميع خصائصها، تملؤه الحياة فيملأ الحياة، ويتمدد السر فيه ليريه حقائق الأشياء ويهديه ويدله، فيكون بنفسه رؤية للناس وهداية ودلالة؛ ومثل هذا يعظم ثم يعظم حتى ليرى الفرق بينه وبين غيره كالفرق بين نور لبس اللحم والدم، وبين تراب لبس الدم واللحم. وذلك لا يكاد يتفق إلا في مراتب أعلاها الامتياز في النبوة، ثم تدنو إلى النبوة؛ ثم تنزل إلى الامتياز في الحكمة؛ ثم تهبط إلى عبقرية الشعر. فأكبر الشعراء قاطبة كالنبي في معناه إلا أنه نبي صغير, وإلا أنه في حدود قلبه. وهذه القوى الثلاث هي التي أبدعتها الحكمة الإلهية لتحويل الحياة والسمو بها؛ فالشاعر يستوحي الجمال إذا تأله الجمال في قلبه، والحكيم يستوحي الحقيقة إذا تألهت في نفسه، والنبي يستوحي الألوهية نفسها. "كان صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان" ولكنها أحزان النبوة تكسو الحياة فرح النفس الكبيرة؛ وهو فرح كله حزن وتأمل، وفكرة وخشوع, وطهر وفضيلة؛ وما فرح

أعظم الشعراء بطرب الوجود وجمال الموجودات إلا شيء قليل من حزن النبي. "وكان دائم الفكرة ليست له راحة" إذ هو مكلف أن يصنع الإنسان الجديد وينفخ الآدمية فيه. وفكرة النبي هي معيشته بنفسه مع الحقائق العليا، إذ لا يرى أكثرها تعيش في الناس، وهي الفردية واستقلالها وسموها؛ لأنها إطاقة النفس الكبيرة لوحدتها، بخلاف الأنفس الضعيفة التي لا تطيقها، فدأبها أبدًا أن تبحث عما تستعبد له، أو تنسى ذاتها فيه، أو تستريح إليه من ذاتها. ومتى كانت النفس فارغة كان تفكيرها مضاعفة لفراغها، فهي تفر منه إلى ما يلهيها عنه؛ ولكن العظيم يعيش في امتلاء نفسه؛ وعالمه الداخلي تسميه اللغة أحيانا: الفكرة؛ وتسميه أحيانا: الصمت. "وكان صلى الله عليه وسلم طويل السكت لا يتكلم في غير حاجة" ومن الصمت أنواع: فنوع يكون طريقة من طرق الفهم بين المرء وبين أسرار ما يحيط به؛ ونوع يغشى الإنسان العظيم ليكون علامة على رهبة السر الذي في نفسه العظيمة؛ ونوع ثالث يكون في صاحبه طريقة من طرق الحكم على صمت الناس وكلامهم؛ ونوع رابع هو كالفصل بين أعمال الجسد وبين الروح في ساعة أعمالها؛ ونوع خامس يكون صمتا على دوي تحته يشبه نومًا ساكنًا على أحلام جميلة تتحرك. على هذا النمط يجب أن تفسر كل أوصافه صلى الله عليه وسلم، فهي بمجموعها طابع إلهي على حياته الشريفة، يثبت للدنيا بكل برهانات العلم والفلسفة أنه الإنسان الأفضل، وأنه الأقدر، وأنه الأقوى.

سمو الفقر في المصلح الاجتماعي الأعظم "1"

سمو الفقر * في المصلح الاجتماعي الأعظم "1" كان النبي صلى الله عليه وسلم على ما يصف التاريخ من الفقر والقلة، ولكنه كان بطبيعته فوق الاستغناء، فهو فقير لا يجوز أن يوصف بالفقر، ولا تناله المعاني النفسية التي تعلو بعرض من الدنيا وتنزل بعرض، فما كانت به خلة تحدث هدما في الحياة فيرممها المال، ولا كان يتحرك في سعي ينفق فيه من نفسه الكبيرة ليجمع من الدنيا، ولا كان يتقلب بين البعيد والقريب من طمع أدرك أو طمع أخفق، ولا نظر لنفسه في الحسبة والتدبير ليتدبر معيشته فيختلبها ذهبًا أو فضة، ولا استقر في قلبه العظيم ما يجعل للدينار معنى الدينار ولا للدرهم معنى الدرهم؛ فإن المعنى الحي لهذا المال هو إظهار النفس رابية متجسمة في صورة تكبر في قدر من السعة والغنى؛ والمعنى الحي للفقر من المال هو إبراز النفس ضئيلة منزوية في صورة تصغر على قدر من الضيق والعسرة. إن فقره صلى الله عليه وسلم كان من أنه يتسع في الكون لا في المال, فهو فقر يعد من معجزاته الكبرى التي لم يتنبه إليها أحد إلى الآن, وهو خاص به ومن أين تدبرته رأيته في حقيقة معجزة تواضعت وغيرت اسمها، معجزة فيها الحقائق النفسية والاجتماعية الكبرى, وقد سبقت زمنها بأربعة عشر قرنا، وهي اليوم تثبت بالبرهان معنى قوله صلى الله عليه وسلم في صفة نفسه: "إنما أنا رحمة مهداة". نحن في عصر تكاد الفضيلة الإنسانية فيه تلحق بالألفاظ التاريخية التي تدل على ما كان قديمًا, بل عادت كلمة من كلمات الشعر تراد لتحريك النسيم اللغوي الراكد في الخيال، كما تقول: السحاب الأزرق، والفجر الأبيض، والشفق

_ * انظر صفحتي 235، 241 من حياة الرافعي.

الأحمر، والتطاريف الوردية على ذيل الشمس. وأصبح الناس ينظر أكثرهم إلى أكثرهم بأعين فيها معنى وحشي لو لمس لضرب أو طعن أو ذبح. وعملت المدنية أعمالها فلم تزد على أن أخرجت الشكل الشعري لإنسانها الفني متهافتا ترفا، ونعمة، وافتتانا بين ذلك من أيسر الحلال إلى الفظيع المتفاحش في الإباحة؛ فكأنما وضعت المدنية عقلا في وحش، فجاء وقد زاغت فيه الطبيعة من ناحيتين؛ ثم قابلته بالشكل الوحشي لإنسانها الفقير، فكأنما نزعت عقلا من إنسان، فجاء وقد ضلت فيه الطبيعة من ناحيتين؛ وكان مع الأول سرف الهوى بالطبيعة، وكان مع الثاني بالطبيعة سرف الحماقة. وقد أصبح من تهكم الحياة بأهلها أن يكون الفقير فقيرًا وهو يعلم أن صناعته في المدنية عمل الغني للأغنياء ... وأن يكون الغني غنيا وهو يعلم أن عمله في المدنية هو صنعة الفقر لضميره! وخرجت من هذا وذاك مسائل جديدة في فلسفة المعايشة الإنسانية التي يسمونها "الاجتماع"؛ إلى أسئلة كثيرة لو ذهبنا نعدها ونصفها لطال بنا القول، وكلها عاملة على نزع الشعور العقلي من الحياة لتظهر أسخف مما هي، وأقبح ممن كانت؛ حتى أصبحت الشمس تطلع تمحو ليلا عن المادة وتلقى ليلا على النفس، في حين أن الدين والإنسانية لا يعملان غير بث هذا النور العقلي في الأشياء والمعاني لتظهر الحياة مضيئة ملتمعة، فتصبح أوضح مما هي في نفسه، وأجمل مما هي في الطبيعة. في مثل هذه النزعات المتقاتلة التي صعدت بالفلسفة ونزلت، وجعلت من العلم في صدر الإنسانية ملء سماء من الغيوم بسوادها ورعدها وصواعقها، وتركت العالم يضج ضجيجه المزعج في قلب كل حي حتى لتذاع الهموم إلى قلوب الناس إذاعة الأصوات إلى أسماعهم في "الراديو" ... في مثل هذا البلاء الماحق تتلفت الإنسانية إلى التاريخ تسأله درسا من الكمال الإنساني القديم تطب منه لهذه الحماقات الجديدة، ولو علمت لعلمت أن درس هذا العصر في علاج مشاكله الإنسانية هو "محمد" صلى الله عليه وسلم، الذي لن يبلغ أحد في وصفه الاجتماعي ما بلغ هو في قوله: "إنما أنا رحمة مهداة". هذا المصلح الاجتماعي الأعظم يلقى فقره اليوم درسا على الدنيا العلمية الفلسفية، لا من كتاب ولا فكر, ولكن بأخلاقه وعمله وسيرته؛ إذ ليس المصلح من فكر وكتب، ووعظ وخطب، ولكنه الحي العظيم الذي تلتمسه الفكرة العظيمة

لتحيا فيه، وتجعل له عمرا ذهنيا يكون مصرفا على حكمها، فيكون تاريخه ووصفه هو وصف هذه الفكرة وتاريخها. وما كان محمد صلى الله عليه وسلم إلا عمرا ذهنيا محضا، تمر فيه المعاني الإلهية لتظهر للناس إلهية مفسرة، وكل حياته صلى الله عليه وسلم دروس مفننة مختلفة المعاني، ولكنها في جملتها تخاطب الإنسان على الدهر بهذه الجملة: أيها الحي، إذا كانت الحياة هنا فلا تكن أنت هناك؛ أي إذا كانت الحياة في الحقيقة فلا تكن أنت في الكذب، وإذا كانت الحياة في الرجولة البصيرة فلا تكن أنت في الطفولة النزقة، فإن الرجل يعرف ويدرك، فهو بذلك وراء الحقيقي؛ ولكن الطفل يجهل ولا يعرف الدنيا إلا بعينه، فهو وراء الوهم، ومن ثم طيشه ونزقه، وإيثاره كل عاجل وإن قل، وعمله أن تكون حياته النفسية الضئيلة في مثل توثب أعضاء جسمه, حتى كأنه يلعب بظاهره وباطنه معا. أيها الحي، إذا كانت الحياة هنا فلا تكن أنت هناك؛ أي الحياة في ذاتك الداخلية وقانون كمالها، فإذا استطعت أن تخرج للأرض معنى سماويا من ذاتك فهذا هو الجديد دائما في الإنسانية، وأنت بذلك عائش في القريب القريب من الروح، وأنت به شيء إلهي؛ وإذا لم تستطع وعشت في دمك وأعصابك فهذا هو القديم دائما في الحيوانية، وأنت بذلك عائش في البعيد البعيد من النفس, وأنت به شيء أرضى كالحجر والتراب. هنا: أي في الإرادة التي فيك وحدك. ولا هناك: أي في الخيال الذي هو في كل شيء، وهنا، في أخلاقك وفضائلك التي لا تدفعك إلى طريق من طرق الحياة إلا إذا كان هو بعينه طريقا من طرق الهداية والحكمة؛ وليس هناك، في أموالك ومعايشك التي تجعلك كاللص مندفعا إلى كل طريق متى كان هو بعينه طريقا إلى نهبة أو سرقة. هنا، في الروح، إذ تشعر الروح أنها موجودة، ثم تعمل لتثبت أنها شاعرة بوجودها، ماضية إلى مصيرها، منتهية بجسدها إلى الموت الإنساني على سنة النفس الخالدة، وليس هناك في الحس، إذ يتعلق الحس بما يتقلب على الجسم، فهو مهتاج لشعوره بوشك فنائه فلا يحدث إلا الألم إن نال أو لم ينل، وهو منته بجسمه إلى الموت الحيواني بين آكل ومأكول على سنة الطبيعة الفانية. أيها الحي، إذا كانت الحياة هنا فلا تكن أنت هناك. إن الحكيم الذي ينظر إلى ما وراء الأشياء فيتعرف أسرارها، لا تكون له حياة الذي يتعلق بظاهرها ولا أخلاقه ولا نظرته؛ هذا الأخير هو في نفسه شيء من

الأشياء له مظهر المادة وخداعها عن الحقيقة؛ وذلك الأول هو نفسه سر من الأسرار له روعة السر وكشفه عن الحقيقة، ولهذا كان في حياة الأنبياء والحكماء ما لا يطبقه الناس ولا يضبطونه إذا تكلفوه، بل ينخرق عليهم فيكون منه العجز والغلط، ويحدث من الغلط الزلل. ونظرة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوجود نظرة شاملة مدركة لحقيقة اللانهاية، فيرى بداية كل شيء مادي هي نهايته في التو واللحظة، فلا وجود له إلا عارضا مارا، فهو في اعتباره موجود غير موجود، مبتدئ منته معا؛ وبذلك تبطل عنده الأشياء المادية وتأثيرها، فلا تتصل بنفسه العالية إلا من أضعف جهاتها، ويجد لها الناس في حياتهم الشجرة والفرع والثمرة، وما لها عنده هو جذر ولا فرع؛ وبهذا لم يفتنه شيء ولم يتعلق به شيء. وكانت الدنيا تطول الناس وتتقاصر عنه، وكانت منقطعة النماء وهو ذاهب في نموه الروحي، وكأنما هو صورة أخرى من آدم "عليه السلام"؛ فكلاهما لمس بنفسه الحياة جديدة خالية مما جمع فيها الزمن وأهله من طمع وشره، وجاء آدم ليعطي الأرض ناسها من صلبه، وجاء محمد ليعطي الناس قوانينهم في فضائله؛ فآدم بشخصه هو دنيا بعثت لتتسع، ومحمد بشخصه هو دنيا بعثت لتنتظم. وماذا يفهم من الفلسفة الأخلاقية النبوية العظيمة؟ يفهم منها أن الشهوات خلقت مع الإنسان تتحكم فيه، لينقلب بها إنسانًا يتحكم فيها؛ وأن الإنسان الصحيح الذي لم تزوره الدنيا يجب أن يكون ذا روح يمتد فيفيض عن غايات جسمه إلى ما هو أعلى فأعلى حتى يصبح في حكم النور وانطلاقه وحريته، ولا ينكمش فيحصره جسمه في غاياته وضروراته فيرتد إلى ما هو أسفل أسفل حتى يعود في حكم التراب وأسره وعبوديته. فالفقر وما إليه، والزهد وما هو بسبيل منه، والانصراف عن الشهوات والرذائل كل ذلك إن هو إلا تراجع النفس العالية إلى ذاتها النورانية حالا بعد حال، وشيئا بعد شيء، لتضيء على المادة فتكشف حقائقها الصريحة فلا تباليها ولا تقيم لها وزنًا. فبينما الناس يرون الأموال والشهوات مادة حياة وعمل وشعور، تراها هي مادة بحث ومعرفة واعتبار ليس غير؛ وبهذا تكون النفس العظيمة في الدنيا كأستاذ المعمل, تدخل المادة إلى معمله وهي مادة وفكرة، وتخرج منه وهي حقيقة ومعرفة، وعلى أي أحوالها فهي إنما تحس في ذلك المعمل بأصابع علمية دقيقة ليس فيها الجمع ولا الحرص، ولكن فيها الذهن والفكر؛ وليس لها طبيعة الرغبة والغفلة، ولكن طبيعة الانتباه

والتحرز، وليست في أسر المادة، ولكن المادة في أسرها ما شاءت. ولا يسمى فقره صلى الله عليه وسلم زهدا كما يظن الضعفاء ممن يتعلقون على ظاهر التاريخ ولا يحققون أصوله النفسية؛ وأكثرهم يقرأ التاريخ النبوي بأرواح مظلمة تريهم ما ترى العين إذا ما اختلط الظلام ولبس الأشياء فتراءت مجملة لا تفصيل لها، مفرغة لا تبيين فيها؛ وما بها من ذلك شيء, غير أنها تتراءى في بقية من البصر ولا تغمرها. وهل الزهد إلا أن تطرد الجسم عنك وهو معك، وتنصرف عنه وهو بك متعلق؟ فتلك سخرية ومثلة، وفي رأيي تشويه للجسم بروحه، وقد تنعكس فتكون من تشويه الروح بجسمها؛ فليس يعلم إلا الله وحده, أذاك تفسير لإنسانية الزاهد بالنور، أم هو تفسير بالتراب. ولقد كان صلى الله عليه وسلم يملك المال ويجده، وكان أجود به من الريح المرسلة، ولكنه لا يدعه يتناسل عنده، ولا يتركه ينبت في عمله، وإنما كان عمله ترجمة لإحساسه الروحي، فهو رسول تعليمي، قلبه العظيم في القوانين الكثيرة من واجباته، وهو يريد إثبات وحدة الإنسانية، وأن هذا الإنسان مع المادة الصامتة العمياء مادة مفكرة مميزة، وإن الدين قوة روحية يلقى بها المؤمن أحوال الحياة فلا يثبت بإزائها شيء على شيئيته، إذ الروح خلود وبقاء، والمادة فناء وتحول، ومن ثم تخضع الحوادث للروح المؤمنة وتتغير معها، فإن لم تخضع لم تخضعها، وإن لم تتغير الروح بها؛ وأساس الإيمان أن ما ينتهي لا ينبغي أن يتصرف بما لا ينتهي. ما قيمة العقيدة إلا بصدقها في الحياة، وأكثر ما يصنع هذا المال: إما الكذب الصراح في الحياة، وإما شبهة الكذب، ولهذا تنزه النبي صلى الله عليه وسلم عن التعلق به، وزاده بعدا منه أنه نبي الإنسانية ومثلها الأعلى، فحياته الشريفة ليست كما نرى في الناس: إيجادًا لحل مسائل الفرد وتعقيدا لمسائل غيره، ولا توسعا من ناحية وتضييقا من الناحية الأخرى، ولا جمعا من هنا ومنعا من هناك؛ بل كانت حياته بعد الرسالة منصرفة إلى إقرار التوازن في الإنسانية، وتعليم الجميع على تفاوتهم واختلاف مراتبهم كيف يكون لهم عقل واحد من الكون؛ وبهذا العقل الكوني السليم ترى المؤمن إذا عرض له الشيء من الدنيا يفتنه أو يصرفه عن واجبه الإنساني أبت نفسه العظيمة إلا أن ترتفع بطبيعتها، فإذا هو في قانون السمو، وإذا المادة في قانون الثقل؛ فيرتفع وتتهاوى ويصبح الذهب -وإنه ذهب- وليس فيه عند المؤمن إلا روح التراب.

سمو الفقر في المصلح الاجتماعي الأعظم "2"

سمو الفقر في المصلح الاجتماعي الأعظم "2" قالت عائشة "رضي الله عنه": لم يمتلئ جوف النبي صلى الله عليه وسلم شبعا قط، وإنه كان في أهله لا يسألهم طعاما ولا يتشهاه؛ إن أطعموه أكل، وما أطعموه قبل، وما سقوه شرب. وقالت: ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين متى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعنها: كنا آل محمد نمكث شهرًا ما نستوقد بنار، إن هو إلا التمر والماء. وقالت: ما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم قط غداء لعشاء، ولا عشاء لغداء ولا اتخذ من شيء زوجين؛ لا قميصين، ولا ردائين، ولا إزارين, ولا زوجين من النعال. ويروى عنها، قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عندي شيء يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير في رف لي. وقالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعا من شعير. وعن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة وأهله طاويا لا يجدون عشاء، وإنما كان خبزهم الشعير. وعن الحسن، قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "والله ما أمسى في آل محمد صاع من طعام، وإنها لتسعة أبيات! " والله ما قالها استقلالا، ولكن أراد أن تتأسى به أمته. وعن ابن مجير قال: أصاب النبي صلى الله عليه وسلم جوع يومًا، فعمد إلى حجر فوضعه على بطنه, ثم قال: "ألا رب نفس طاعمة ناعمة في الدنيا، جائعة عارية يوم القيامة؛ ألا رب مكرم نفسه وهو مهين لها؛ ألا رب مهين نفسه، وهو مكرم لها".

وخير صلى الله عليه وسلم أن يكون له مثل "أحد" ذهبًا فقال: "لا يا رب؛ أجوع يومًا فأدعوك، وأشبع يوما فأحمدك". وكان يقول في دعائه ويكثر منه: "اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين". هذا هو سيد الأمة، يمسكه في الحياة نبيا عظيما ما يخرج غيره منها ذليلا محتقرا، وكأنما أشرق صفاء نفسه على تراب الأرض فرده أشعة نور، على حين يلقى الناس على هذا التراب من ظلام أنفسهم فلا يبقى ترابا بل يرجع ظلامًا، فكأنهم إذ يمشون عليه يطئون المجهول بخوفه وروعته؛ ثم لا يستقر ظلاما بل يرجع آلاما، فكأنهم ينبتون على المرض لا على الحياة؛ ثم لا يثبت آلاما بل يتحول فورة وتوثبا تكون منه نزوات الحمق والجنون في النفس. هؤلاء الذين تعيش أنفسهم في التراب، ويتمرغون بأخلاقهم فيه، ينقلبون على الحياة من صنع التراب ناسا دودًا كطبع الدود لا يقع في شيء إلا أفسده أو قذره؛ أو قوما سوسا كطبع السوس لا ينال شيئا إلا نخره أو عابه، فهم يوقعون الخلل في نظام أنفسهم، فإذا هي طائشة تخيل لهم كأنما اختلت نواميس الدنيا، وكأن الله قبضهم وبسط غيرهم، وشغلهم وفرغ من عداهم، وابتلاهم على مسكة الرزق1 بالشهوة المسعورة التي لا تتحقق، فضربهم بالمجاهدة التي لا تنقطع؛ وأنعم على غيرهم في بسطة الرزق بالشجرة المسحورة التي لا تقطع منها ثمرة إلا نبت غيرها في مكانها. إن ما وصفناه من فقر النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يكن له عتيد حاضر، وأنه لم يجعل نفسه في هم المال، ولا جعلته نفسه في هم الفقر، وأنه لقي الحياة حاملا لا محمولًا، واستقر فيها هادئًا لا مضطربا, كل ذلك إنما يثبت للدنيا أنه خلق وبعث وعاش ليكون درسًا عمليا في حل المشكلات الاجتماعية، يعلم الناس أنها لا تتعقد بطبيعتها، ولكن بطبائعهم فيها، ولا تستمر بقوتها، ولكن بإمداد قواهم لها؛ ولا تغلب بصولتها، ولكن بجزعهم منها؛ ولا تعضل من ذات نفسها، ولكن من سوء أثرهم عليها وسوء نظرهم لأنفسهم ولها.

_ 1 مسكة الرزق: ضد بسطة الرزق، أي الضيق والسعة.

فإذا قرأت الأحاديث التي أسلفناها فلا تقرأها زهدًا وتقللا، ولا فقرا وجوعا، ولا اختلالا وحاجة، كما تترجمها نفسك أو تحسها ضرورتك؛ بل انظر فيها واعتبرها بنفسه هو صلى الله عليه وسلم، ثم اقرأها شريعة اجتماعية مفصلة على طبيعة النفس، قائمة على أن تأخذ نفس الإنسان من قوى الدنيا عناصرها الحيوية، لتعطي الحياة من ذلك قوة عناصرها. والحياة العاملة غير الحياة الوادعة، هما ذكر وأنثى؛ فأما الأولى فهي ما وصفنا وحكينا، وأما الثانية فهي تغلل النعمة، وإطلاق قانون التناسل في المال ينمي بعضه بعضا، وينبت بعضه على بعض، ثم إقامة الحياة على الزينة ومقوماتها، وقيام الزينة على الخداع وطباعه، فيقبل المرء من دنياه على ما هو جدير أن يصرفه عنها، ويحب منها ما كان ينبغي أن يباغضه فيها، وكل ما رأيت وعلمت في رجل، قوته القوة فهو هناك؛ وكل ما علمت ورأيت في أنثى، قوتها الضعف فهو هنا. فالسواد الذي تراه في فقره صلى الله عليه وسلم هوالسواد الحي؛ سواد الليل حول الروح النجمية الساطعة؛ وذلك التراب هو التراب الحي؛ تراب الزرع تحت النضرة والخضرة؛ وتلك الحاجة الجسمية هي الحاجة الحية الدافعة إلى حرية النفس؛ وذلك الإقلال من فهم اللذاة هو الإقلال الحي الذي يزيد قوة فهم الجمال في السماء والأرض وما بينهما، وذلك الضيق في حيز المتاع للحاسة هو الضيق الحي الذي يوسع حيز المتاع للروح. وبالجملة فذلك النقص من المادة لم يكن إلا لنفي النقص عن الفضيلة، وذلك الاحتقار للعرض الفاني الزائل هو المعنى الآخر لتقديس الخالد الباقي. فليس هناك خبز الشعير، ولا الجوع، ولا رهن الدرع عند اليهودي، كلا، كلا، بل هناك حقيقة نفسية عقلية، ثابتة متزنة، قائمة بعناصرها السامية: من اليقين والعقل والحكمة، إلى الرفق والحلم والتواضع. تخبر هذه الدنيا العلمية الفلسفية المفكرة أن ذلك النبي العظيم هو الرجل الاجتماعي التام بأخلاقه وفضائله، وهو الذي بعث لتنقيح غريزة تنازع البقاء، وكسر هذه الحيوانية، وقمع نزواتها، وإماتة دواعيها، والسمو بخواطرها؛ فهو بنفسه صورة الكمال الذي بعث لتحقيقه وإثبات أنه الممكن لا الممتنع، والحقيقي لا الخيالي. ليس هناك درع مرهونة في ثلاثين صاعًا، ولا الفقر ولا خبز الشعير، كلا، كلا، بل هناك تقرير أن النصر في معركة الحياة لا يأتي من المال والثراء والمتاع،

ولكن من المعاناة والشدة والصبر؛ وأن التقدم الإنساني لا يباع بيعا، ولا يؤخذ هونا؛ بل هو انتزاع من الحوادث بالأخلاق التي تتغلب على الأزمات ولا تتغلب الأزمات عليها، وأن هذا المال وهذه الشهوات -في حقائق الحياة ومصائرها- ككنوز الأحلام, لا تكون كنوزا إلا في مواضعها من أرض الغفلة والنوم، فلا لذة منها إلا بمقدار خفيف من هذه الغفلة. وليس إلا الأحمق أو المخذول أو الضائع هو الذي يقطع العمر نائما أبدًا ليظل مالكا أبدا لهذه الكنوز، وهو يعلم أنه لا بد مستيقظ، وأنه متى انتبه في آخرته لم يجد منها شيئًا "ووجد الله عنده فوفاه حسابه". كلا، كلا، ليس هناك فقر ولا جوع وما إليهما، بل هناك وضع هذه الحقيقة؛ ينبغي أن تجد نفسك، وموضع نفسك، وإيمان نفسك، وعزة نفسك. فإذا أدركت ذلك ورفعت نفسك إلى موضعها الحق، وأقررتها فيه، وحبستها عليه، وحددتها بالإنسانية من ناحية وبالله من الناحية المقابلة, رأيت إذن أن قيمتك الصحيحة في أن تكون وسيلة تعطي وتعمل لتعطي، لا غاية تأخذ وتعمل لتأخذ، ومهما ضيق عليك فإنما أنت كالشجرة الطيبة تأخذ ترابا وتصنع حلاوة. وما قط نبتت شجرة في مكانها لتأكل وتشرب وتختزن السماد والتراب وتحصنهما وتمنعهما عن غيرها، ولو قد فعلت ذلك شجرة لكان هلاكها فيما تفعل، إذ تحاول أن تضاعف فائدتها من قانون العالم، فيكون طمعها سريعًا في إفساد الصلة بينهما، فلا يجد القانون فيها نظامه، ومن ثم لا تجد في القانون نظامها، فيهلكها الذي كان يحييها، وتستعبد لحظ نفسها، فيفقدها ذلك حرية الحياة التي كانت لها في نفسها. يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن بكل خير على كل حال، إن نفسه تنزع من بين جنبيه وهو يحمد الله عز وجل". فهذا هو أسمى قانون اجتماعي يمكن أن تظفر به الإنسانية، وما يأتي لها ذلك إلا إذا أصبحت تلك المعاني التي أومأنا إليها شعورًا اجتماعيا عاما مقررا في النفس، قائما فيها على إيمان راسخ بأن الفرد هو صورة المجتمع لا صورة نفسه وحدها، وأن الناس كحب القمح في السنبلة، ليس لجميعه إلا قانون واحد، فموضع كل حبة من السنبلة هو ثروتها، علت أو سفلت، وكثر ما تأخذه أو قل؛ وإذا كان أساس الحياة في الحبة منها أن تجد قوامها وكفايتها من مادة الأرض، فتمام الحياة فيها أن يغمرها النور من حولها، وأن يستمر النور من حولها يغمرها.

فالحبة من السنبلة بكل خير على كل حال، إنها لتنزع وما بها أنها نزعت، ولكنها أدت ما تؤدي، وانقطعت من قانون لتتصل بقانون غيره، وما اغتنت ولا افتقرت، ولا أكثرت ولا أخفت بل حققت موضعها، فإنها ما نبتت لتبقى، وما نمت إلا لينقطع نماؤها، وكذلك المؤمن الصحيح الإيمان الصادق النظر في الحياة, هو أبدًا في قانون آخرته، فهو أبدًا في عمل ضميره. والناس في هذه الحياة كحشد عظيم يتدفق من مضيق بين جبلين ينفذ إلى الفضاء؛ فإذا هم أدركوا جميعا أنهم مفضون إلى هذه النهاية مروا آمنين وكان في يقينهم السلامة، وفي صبرهم الوقاية، وفي نظامهم التوفيق، وفي تعاونهم الحياة؛ فهم بكل خير على كل حال، ما دام هذا قانون جميعهم؛ فأيما رجل شذ منهم فاضطرب فطاش، هلك وأهلك من حوله، ومن عكس منهم موضعه ونكص على عقبيه، أهلك من حوله وهلك، والموت أشقى الموت هنا في هذا المضيق بين الجبلين, اعتبار الحاضر حاضرًا فقط، والضجر منه، وجعل كل إنسان نفسه غاية، والحياة أهنأ الحياة, اعتبار الحاضر بما رواءه، والصبر على شدته، وجعل الإنسان نفسه وسيلة. فذلك معنى خبز الشعير، والقلة والضيق, ورهن الدرع عند يهودي من سيد الخلق وأكملهم، ومن لو شاء لمشى على أرض من الذهب، فهو صلى الله عليه وسلم يعلم الإنسانية أن الرجل العظيم النفس لا يكون في الحياة إلا ضيفا نازلًا على نفسه. ومن معاني ذلك الفقر العظيم أن خبز الشعير هو رمز من رموز الحياة على التحلل من خلق الأثرة، والبراءة من هوى الترف؛ ورهن الدرع رمز آخر على التخلص من الكبرياء والطمع؛ والعسرة رمز ثالث على مجاهدة الملل الحي الذي يفسد الحياة كما يفسد بعض النبات النبات. ومجموع هذه الرموز رمز بحاله على وجوب الإيقاظ النفسي للأمة العزيزة التي تقود أنفسها بمقاساة الشدائد ومجاهدة الطباع، لتكون في كل فرد مادة الجيش, وليصلح هذا الجيش قائدًا للإنسانية. على أنه صلى الله عليه وسلم حث على طلب اليسار، والتغلل من الأعمال الشريفة بالغلة والمال، فقال: "إنك إن تدع عيالك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس". ورأى عابدًا قد انقطع للعبادة حتى أكلت نفسه جسمه، ووصفوا له من زهده وعبادته، فقال: صلى الله عليه وسلم: "من يعوله؟ " قالوا: كلنا نعوله. فقال: "كلكم خير

منه". إلى أحاديث كثيرة مروية، هي تمام القانون الأدبي الاجتماعي في الدنيا، تثبت أن الحي إن هو إلا عمل الحي. ولكن حين يكون سيد الأمة وصاحب شريعتها رجلا فقيرًا، عاملا مجاهدًا، يكدح لعيشه، ويجوع يوما ويشبع يوما، فلم يقلب يده في تلاد من المال يرثه، ولم يجمعهما على طريف منه يورثه, فذلك هو ما بيناه وشرحناه، وذلك كالأمر نافذا لا رخصة فيه، على ألا يتخذ الغني من الفقير عبدا اجتماعيا لفقر هذا ولمال ذاك؛ بل هي المساواة النفسية لا غيرها وإن اختلفت طبقات الاجتماع، والأكرم هو الأتقى لله بمعنى التقوى، والأقوم بالواجب على معنى الواجب، والأكفأ للإنسانية في معاني الإنسانية. فقر ذلك السيد الأعظم ليس فقرًا، بل هو كما رأيت, ضبط السلطة الكائنة في طبيعة التملك، لقيام التعاون الإنساني على أساسه العملي؛ هو المحاجزة العادلة بين المصالح الاقتصادية الطاغية, يمنع أن تأكل مصلحة مصلحة فتهلك بها، ويوجب أن تلد المصلحة مصلحة لتحيا بها. والنبي الفقير العظيم هو في التاريخ من وراء كل هذه المعاني، كالقاضي الجالس وراء مواد القانون. صلى الله عليه وسلم.

درس من النبوة

درس من النبوة: قالوا: إنه لما نصر الله -تعالى- رسوله ورد عنه الأحزاب وفتح عليه قريظة والنضير1، ظن أزواجه صلى الله عليه وسلم أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم؛ وكن تسع نسوة: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة، وصفية، وميمونة، وزينب، وجويرية؛ فقعدن حوله وقلن: يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل، والإماء والخول، ونحن ما تراه من الفاقة والضيق ... وآلمن قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأن يعاملهن بما تعامل به الملوك وأبناء الدنيا أزواجهم؛ فأمره الله -تعالى- أن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن من تخييرهن في فراقه، وذلك قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا 2، وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28، 29] . قالوا: وبدأ صلى الله عليه وسلم بعائشة -وهي أحبهن إليه- فقال لها: "إني ذاكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك". قالت: ما هو؟ فتلا عليها الآية, قالت: أفيك استأمر أبوي؟ بل أختار الله -تعالى- ورسوله. ثم تتابعن كلهن على ذلك، فسماهن الله "أمهات المؤمنين"، تعظيما لحقهن، وتأكيدًا لحرمتهن، وتفضيلا لهن على سائر النساء. هذه هي القصة كما تقرأ في التاريخ وكما ظهرت في الزمان والمكان، فلنقرأها نحن كما هي في معاني الحكمة, وكما ظهرت في الإنسانية العالية؛ فسنجد لها غورًا بعيدًا، ونعرف فيها دلالة سامية، ونتبين تحقيقا فلسفيا دقيقا للأوهام والحقائق.

_ 1 هما حيان من أحياء اليهود بالمدينة، وكان ذلك في آواخر سنة خمس للهجرة. 2 السراح: الطلاق, ومتعة الطلاق: ما تعطاه المطلقة وهو يختلف حسب السعة والإقتار.

وهي قبل كل هذا ومع كل هذا تنطوي على حكمة رائعة لم يتنبه لها أحد، ومن أجلها ذكرت في القرآن الكريم، لتكون نصا تاريخيا قاطعا يدافع به التاريخ عن هذا النبي العظيم في أمر من أمر العقل والغريزة، فإن جهلة المبشرين في زمننا هذا، وكثيرا من أهل الزيغ والإلحاد، وطائفة من قصار النظر في التحقيق يزعمون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم إنما استكثر من النساء لأهواء نفسية محضة وشهوات كالشهوات؛ ويتطرقون من هذا الزعم إلى الشبهة، ومن الشبهة إلى سوء الظن، ومن سوء الظن إلى قبح الرأي؛ وكلهم غبي جاهل؛ فلو كان الأمر على ذلك أو على قريب منه أو نحو من قريبه، لما كانت هذه القصة التي أساسها نفي الزينة وتجريد نسائه جميعا منها، وتصحيح النية بينه وبينهن على حياة لا تحيا فيها معاني المرأة، وتحت جو لا يكون أبدًا جو الزهر ... وأمره من قبل ربه أن يخيرهن جميعا بين سراحهن فيكن كالنساء ويجدن ما شئن من دنيا المرأة, وبين إمساكهن فلا يكن معه إلا في طبيعة أخرى تبدأ من حيث تنتهي الدنيا وزينتها. فالقصة نفسها رد على زعم الشهوات، إذ ليست هذه لغة الشهوة، ولا سياسة معانيها، ولا أسلوب غضبها أو رضاها، وما ههنا تمليق، ولا إطراء، ولا نعومة، ولا حرص على لذة، ولا تعبير بلغة الحاسة؛ والقصة بعد مكشوفة صريحة ليس فيها معنى ولا شبه معنى من حرارة القلب, ولا أثر ولا بقية أثر من ميل النفس, ولا حرف أو صوت حرف من لغة الدم. وهي على منطق آخر غير المنطق الذي تستمال به المرأة، فلم تقتصر على نفي الدنيا وزينة الدنيا عنهن، بل نفت الأمل في ذلك أيضا إلى آخر الدهر، وأماتت معناه في نفوسهن، بقصر الإرادة منهن على هذه الثلاثة: الله في أمره ونهيه، والرسول في شدائده ومكابدته، والدار الآخرة في تكاليفها ومكارهها, فليس هنا ظرف، ولا رقة، ولا عاطفة، ولا سياسة لطبيعة المرأة، ولا اعتبار لمزاجها، ولا زلفى لأنوثتها، ثم هو تخيير صريح بين ضدين لا تتلون بينهما حالة تكون منهما معا، ثم هو عام لجميع زوجاته لا يستثنى منهن واحدة ولا أكثر. والحريص على المرأة والاستمتاع بها لا يأتي بشيء من هذا، بل يخاطب في المرأة خيالها أول ما يخاطب، ويشبعه مبالغة وتأكيدًا، ويوسعه رجاء وأملًا، ويقرب له الزمن البعيد، حتى لو كان في أول الليل وكان الخلاف على الوقت، لحقق له أن الظهر بعد ساعة.

وبرهان آخر؛ وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج نساءه لمتاع مما يمتع الخيال به، فلو كان وضع الأمر على ذلك لما استقام ذلك إلا بالزينة وبالفن الناعم في الثوب والحلية والتشكل كما نرى في الطبيعة الفنية، فإن الممثلة لا تمثل الرواية إلا في المسرح المهيأ بمناظره وجوه ... وقد كانت نساؤه صلى الله عليه وسلم أعرف به؛ وها هو ذا ينفي الزينة عنهن ويخيرهن الطلاق إذا أصررن عليها. فهل ترى في هذا صورة فكر من أفكار الشهوة؟ وهل ترى إلا الكمال المحض؟ وهل كانت متابعة الزوجات التسع إلا تسعة برهانات على هذا الكمال؟ وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يلقي بهذه القصة درسا مستفيضا في فلسفة الخيال وسوء أثره، على المرأة في أنوثتها، وعلى الرجل في رجولته؛ وأن ذلك تعقيد في الشهوات يقابله تعقيد في الطبع، وكذب في الحقيقة ينشأ عنه كذب في الخلق، وأنه صرف للمرأة إلى حياة الأحلام والأماني والطيش والبطر والفراغ، وتعويدها عادات تفسد عاطفتها، وتضيف إليها التصنع فتضعف قوتها النفسية القائمة على إبداع الجمال من حقيقتها لا من مظهرها، وتحقيق الفائدة من عملها لا من شكلها. وكل محاسن المرأة هي خيال متخيل ولا حقيقة لشيء منها في الطبيعة، وإنما حقيقتها في العين الناظرة إليها فلا تكون امرأة فاتنة إلا للمفتون بها ليس غير. ولو ردت الطبيعة على من يشبب بامرأة جميلة فيقول لها: هذه محاسنك وهذه فتنتك وهذا سحرك وهذا وهذا؛ لقالت له الطبيعة: بل هذه كلها شهواتك أنت1. وبهذا يختلف الجمال عند فقد النظر؛ فلا يفتن الأعمى جمال الصورة ولا سحر الشكل ولا فراهة المنظر، وإنما يفتنه صوت المرأة ومجستها ورائحتها. فلا حقيقة في المرأة إلا المرأة نفسها؛ ولو أخذت كل أنثى على حقيقتها هذه لما فسد رجل ولا شقيت امرأة، ولا انتظمت حياة كل زوجين بأسبابها التي فيها. وذلك هو المثل المضروب في القصة. يريد النبي صلى الله عليه وسلم ليعلم أمته أن حيف الغريزة على العقل إفساد لهذا العقل، وأنه متى أخذت المرأة لحظ الغريزة واختيارها، كانت حياتها استجابة لجنون الرجل، وملأتها معاني التزيد والتصنع؛ فيوشك أن ينقلها هذا عن طبيعتها السامية التي

_ 1 بسطنا هذا المعنى في كثير مما كتبناه، وخاصة في كتاب: "السحاب الأحمر".

أكثرها في الحرمان والإيثار والصبر والاحتمال، ويردها إلى أضداد هذه الصفات، فيقوم أمرها بعد على الأثرة والمصلحة والتفادي والضجر والتبرم والإلحاح والإزعاج، ويضعف معنى السلب الراسخ في نفسها من أصل الفطرة؛ فيتبدل حياؤها، وفي الحياء ردها عن أشياء؛ ويقل إخلاصها، وفي الإخلاص رد لها عن أشياء أخرى؛ ويكثر طمعها، وفي قناعتها محاجزة بينها وبين الشر. وبهذا ونحوه يفسد ما بين الرجل والمرأة المتصنعة؛ فإذا كثر المتصنعات لا يكون من النساء مشاكل فقطن بل تكون من حلول المشاكل معهن مشاكل أخرى. ولباب هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم يجعل نفسه في الزواج المثل الشعبي الأكمل كما هو دأبه في كل صفاته الشريفة، فهو يريد أن تكون زوجاته جميعًا كنساء فقراء المسلمين، ليكون منهن المثل الأعلى للمرأة المؤمنة العاملة الشريفة التي تبرع البراعة كلها في الصبر والمجاهدة والإخلاص والعفة والصراحة والقناعة، فلا تكون المرأة زينة تطلب زينة لتتم بها في الخيال، ولكن إنسانية تطلب كمالها الإنساني لتتم به في الواقع. وهذه الزينة التي تتصنع بها المرأة تكاد تكون صورة المكر والخداع، والتعقد، وكلما أسرفت في هذه أسرفت في تلك، بل الزنية لوجه المرأة وجسمها سلاح من أسلحة المعاني: كالأظافر والمخالب والأنياب، غير أن هذه لوحشية الطبيعة الحية المفترسة، وتلك الوحشية الغريزة الحية التي تريد أن تفترس. ولا تنكر المرأة نفسها أن الزينة على جسمها ثرثرة طويلة تقول وتقول وتقول. وإنما يكون أساس الكمال الإنساني، في الإنسان العامل المجاهد: لا يحصر نفسه في شيء يسمى متاعا أو زينة، ولا يقدر نفسه بما يجمع لها أو بما يجمع حولها، ولا يعتد ما يكون من ذلك إلا كالتعبير من عمل الشهوات عن الشهوات. ونبينا صلى الله عليه وسلم هو الغاية في هذا. دخل عليه مرة عمر بن الخطاب، فإذا هو على حصير وعليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه. قال عمر: وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، وإذا إهاب معلق1، فابتدرت عيناي، فقال: "ما

_ 1 كيس من جلد كان يتخذه العرب وعاء.

يبكيك يابن الخطاب؟ ", قال عمر: يا نبي الله، وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزائنك لا أرى فيها ما أرى، وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزائنك1؟ وجاء مرة من سفر فدخل على ابنته فاطمة "رضي الله عنها" فرأى على بابها سترا وفي يديها قلبين من فضة2، فرجع؛ فدخل عليها أبو رافع وهي تبكي، فأخبرته برجوع أبيها، فسأله في ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: "من أجل الستر والسوارين". فلما أخبرها أبو رافع هتكت الستر3 ونزعت السوارين فأرسلت بهما بلالا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: قد تصدقت به، فضعه حيث ترى. فقال لبلال: "اذهب فبعه وادفعه إلى أهل الصفة" 4. فباع القلبين بدرهمين ونصف "نحو ثلاثة عشر قرشا". وتصدق به عليهم. يا بنت النبي العظيم! وأنت أيضًا لا يرضى لك أبوك حلية بدرهمين ونصف وإن في المسلمين فقراء لا يملكون مثلها. أي رجل شعبي على الأرض كمحمد صلى الله عليه وسلم، فيه للأمة كلها غريزة الأب، وفيه على كل أحواله اليقين الذي لا يتحول, وفيه الطبيعة التامة التي يكون بها الحقيقي هو الحقيقي. يا بنت النبي العظيم! إن زينة بدرهمين ونصف، لا تكون زينة في رأي الحق إذا أمكن أن تكون صدقة بدرهمين ونصف؛ إن فيها حينئذ معنى غيره معناها؛ فيها حق النفس غالبا على حق الجماعة، وفيها الإيمان بالمنفعة حاكمًا على الإيمان بالخير؛ وفيها ما ليس بضروري قد جار على ما هو الضروري؛ وفيها خطأ من الكمال إن صح في حساب الحلال والحرام لم يصح في حساب الثواب والرحمة. تعالوا أيها الاشتراكيون فاعرفوا نبيكم الأعظم؛ إن مذهبكم ما لم تحيه فضائل الإسلام وشرائعه, إن مذهبكم لكالشجرة الذابلة تعلقون عليها الأثمار تشدونها بالخيط ... كل يوم تحلون، وكل يوم تربطون، ولا ثمرة في الطبيعة.

_ 1 الروايات من مثل هذا كثيرة عنه صلى الله عليه وسلم، وقد بسطنا فلسفة هذه المعاني في مقال" سمو الفقر". 2 القلب "بالضم": سوار من الفضة غير ملوي، هو الذي يقال له اليوم "الغويشة" وهو خفيف. 3 أي مزقته؛ وكذلك رأى مرة سترًا على باب عائشة رضي الله عنها فهتكه، وقال: "كلما رأيته ذكرت الدنيا, أرسلي به إلى آل فلان". 4 الصفة: الغرفة، وأهل الصفة: هم فقراء المهاجرين ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه؛ فكانوا يأوون إلى موضع مظلل في مسجد المدينة يسكنونه.

ليست قصة التخيير هذه مسألة من مسائل الغنى والفقر في معاني المادة, ولكنها مسألة من مسائل الكمال والنقص في معاني الروح؛ فهي صريحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم أستاذ الإنسانية كلها؛ واجبه أن يكون فضيلة حية في كل حياة، وأن يكون عزاء في كل فقر، وأن يكون تهذيبا في كل غنى، ومن ثم فهو في شخصه وسيرته القانون الأدبي للجميع. وكأنه صلى الله عليه وسلم يريد ليعلم الأمة بهذه القصة أن الجماعات لا تصلح بالقوانين والشرائع والأمر والنهي، ولكن بعمل عظمائها، في الأمر والنهي؛ وأن الحاكم على الناس لا ينبغي أن يحكم إلا إذا كان في نفسه وطبيعته يحس فتنة الدنيا إحساس المتسلط لا الخاضع، ليكون أول استقلاله استقلال داخله. فليس ذلك فقرًا ولا زهدا كما ترى في ظاهر القصة، ولكنها جرأة النفس العظمى في تقرير حقائقها العملية. وتنتهي القصة في عبارة القرآن الكريم بتسمية زوجاته صلى الله عليه وسلم: "أمهات المؤمنين" بعد أن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة؛ وعلماء التفسير يقولون: إن الله تعالى كافأهن بهذه التسمية؛ وليس ذلك بشيء ولا فيه كبير معنى، وإنما تشعر هذه التسمية بمعنى دقيق هو آية من آيات الإعجاز؛ فإن الزوجة الكاملة لا تكمل في الحياة ولا تكمل الحياة بها إلا إذا كان وصفها مع رجلها كوصف الأم, ترى ابنها بالقلب ومعانيه، لا بالغريزة وحظوظها؛ فكل حياة حينئذ ممكنة السعادة لهذه الزوجة، وكل شقاء محتمل بصبر، وكل جهد فيه لذته الطبيعية، إذ يقوم البيت على الحب الذي هو الحب الخالص لا المنفعة، وتكون زينة الحياة وجود الحي نفسه لا وجود المادة، وتبنى النفس على الوفاء الطبيعي كوفاء الأم، وذلك خلق لا يعسر عليه في سبيل حقيقته أن يتغلب على الدنيا وزينتها. وآخر ما نستخرج من القصة في درس النبوة هذه الحكمة: بحسب المؤمن إذا دخل داره أن يجد حقيقة نفسه الطيبة، وإن لم يجد حقيقة كسرى ولا قيصر.

شهر للثورة فلسفة الصيام

شهر للثورة * فلسفة الصيام: لم أقرأ لأحد قولا شافيا في فلسفة الصوم وحكمته، أما منفعته للجسم، وأنه نوع من الطب له، وباب من السياسة في تدبيره؛ فقد فرغ الأطباء من تحقيق القول في ذلك؛ وكأن أيام هذا الشهر المبارك إن هي إلا ثلاثون حبة تؤخذ في كل سنة مرة لتقوية المعدة وتصفية الدم وحياطة أنسجة الجسم؛ ولكنا الآن لسنا بصدد من هذا، وإنما نستوحي تلك الحقيقة الإسلامية الكبرى التي شرعت هذا الشرع لسياسة الحقائق الأرضية الصغيرة، عاملة على استمرار لفكرة الإنسانية فيها، كي لا تتبدل النفس على تغير الحوادث وتبدلها، ولكيلا تجهل الدنيا معاني الترقيع إذا أتت على هذه الدنيا معاني التمزيق. من معجزات القرآن الكريم أنه يدخر في الألفاظ المعروفة في كل زمن، حقائق غير معروفة لكل زمن، فيجليها لوقتها حين يضج الزمان العلمي في متاهته وحيرته، فيشغب على التاريخ وأهله مستخفا بالأديان، ويذهب يتتبع الحقائق، ويستقصي في فنون المعرفة، ليستخلص من بين كفر وإيمان دينا طبيعيا سائغًا، يتناول الحياة أول ما يتناول فيضبطها بأسرار العلم، ويوجهها بالعلم إلى غايتها الصحيحة، ويضاعف قواها بأساليبه الطبيعية، ليحقق في إنسانية العالم هذه الشيئية المجهولة التي تتوهمها المذاهب الاجتماعية ولم يهتد إليها مذهب منها ولا قاربها؛ فما برحت سعادة الاجتماع كالتجربة العلمية بين يدي علمائها؛ لم يحققوها ولم ييأسوا منها، وبقيت تلك المذاهب كعقارب الساعة في دورتها؛ تبدأ من حيث تبدأ ثم لا تنتهي إلا إلى حيث تبدأ. ويضطرب الاشتراكيون في أوربا وقد عجزوا عجز من يحاول تغيير الإنسان بزيادة ونقص في أعصابه؛ ولا يزال مذهبهم في الدنيا مذهب كتب ورسائل؛ ولو

_ * كتبها في شهر رمضان سنة 1353هـ وانظر "عود على بدء" من كتاب حياة الرافعي.

أنهم تدبروا حكمة الصوم في الإسلام، لرأوا هذا الشهر نظاما عمليا من أقوى وأبدع الأنظمة الاشتراكية الصحيحة؛ فهذا الصوم فقر إجباري تفرضه الشريعة على الناس فرضا ليتساوى الجميع في بواطنهم، سواء منهم من ملك المليون من الدنانير, ومن ملك القرش الواحد، ومن لم يملك شيئا؛ كما يتساوى الناس جميعا في ذهاب كبريائهم الإنسانية بالصلاة التي يفرضها الإسلام على كل مسلم؛ وفي ذهاب تفاوتهم الاجتماعي بالحج الذي يفرضه على من استطاع. فقر إجباري يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح، أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون, وحين يتعاطفون بإحساس الألم الواحد لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة. ولو حققت لرأيت الناس لا يختلفون في الإنسانية بعقولهم، ولا بأنسابهم، ولا بمراتبهم، ولا بما ملكوا؛ وإنما يختلفون ببطونهم وأحكام هذه البطون على العقل والعاطفة، فمن البطن نكبة الإنسانية، وهو العقل العملي على الأرض؛ وإذا اختلف البطن والدماغ في ضرورة، مد البطن مده من قوى الهضم فلم يبق ولم يذر. ومن ههنا يتناوله الصوم بالتهذيب والتأديب والتدريب، ويجعل الناس فيه سواء؛ ليس لجميعهم إلا شعور واحد وحس واحد وطبيعة واحدة؛ ويحكم الأمر فيحول بين هذا البطن وبين المادة، ويبالغ في إحكامه فيمسك حواشيه العصبية في الجسم كله يمنعها تغذيتها ولذتها حتى نفثة من دخينة1. وبهذا يضع الإنسانية كلها في حالة نفسية واحدة تتلبس بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح يعلم الرحمة ويدعو إليها، فيشبع فيها بهذا الجوع فكرة معينة هي كل ما في مذهب الاشتراكية من الحق, وهي تلك الفكرة التي يكون عنها مساواة الغني للفقير من طبيعته، واطمئنان الفقير إلى الغني بطبيعته؛ ومن هذين: "الاطمئنان والمساواة"، يكون هدوء الحياة بهدوء النفسين اللتين هما السلب والإيجاب في هذا الاجتماع الإنساني؛ وإذا أنت نزعت هذه الفكرة من الاشتراكية بقي هذا المذهب كله عبثا من العبث في محاولة جعل التاريخ الإنساني تاريخا لا طبيعة له.

_ 1 الدخينة كلمة وضعناها للسيجارة، وجمعها دخائن.

من قواعد النفس أن الرحمة تنشأ من الألم، وهذا بعض السر الاجتماعي العظيم في الصوم، إذ يبالغ أشد المبالغة، ويدقق كل التدقيق، في منع الغذاء شبه الغذاء عن البطن وحواشيه مدة آخرها آخر الطاقة؛ فهذه طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس، ولا طريقة غيرها إلا النكبات والكوارث؛ فهما طريقتان كما ترى: مبصرة وعمياء وخاصة وعامة، وعلى نظام وعلى فجأة. ومتى تحققت رحمة الجائع الغني للجائع الفقير، أصبح للكلمة الإنسانية الداخلية سلطانها النافذ، وحكم الوازع النفسي على المادة؛ فيسمع الغني في ضميره صوت الفقير يقول: "أعطني" ثملا يسمع منه طلبا من الرجاء، بل طلبا من الأمر لا مفر من تلبيته والاستجابة لمعانيه، كما يواسي المبتلى من كان في مثل بلائه. أية معجزة إصلاحية أعجب من هذه المعجزة الإسلامية التي تقضي أن يحذف من الإنسانية كلها تاريخ البطن ثلاثين يوما في كل سنة, ليحل في محله تاريخ النفس1؟ وأنا مستيقن أن هناك نسبة رياضية هي الحكمة في جعل هذا الصوم شهرًا كاملًا من كل اثني عشر شهرًا، وأن هذه النسبة متحققة في أعمال النفس للجسم, وأعمال الجسم للنفس؛ كأنه الشهر الصحي الذي يفرضه الطب في كل سنة للراحة والاستجمام وتغيير المعيشة، لإحداث الترميم العصبي في الجسم, ولعل ذلك آت من العلاقة بين دورة الدم في الجسم الإنساني وبين القمر منذ يكون هلالًا إلى أن يدخل في المحاق؛ إذ تنتفخ العروق وتربو في النصف الأول من الشهر، كأنها في "مد" من نور القمر ما دام هذا النور إلى زيادة، ثم يراجعها "الجزر" في النصف الثاني حتى كأن للدم إضاءة وظلاما، وإذا ثبت أن للقمر أثرا في الأمراض العصبية، وفي مد الدم وجزره2، فهذا من أعجب الحكمة في أن يكون الصيام شهرًا قمريا دون غيره. وفي ترائي الهلال ووجوب الصوم لرؤيته معنى دقيق آخر، وهو -مع إثبات رؤية الهلال وإعلانها- إثبات الإرادة وإعلانها، كأنما انبعث أول الشعاع السماوي في التنبيه الإنساني العام لفروض الرحمة والإنسانية والبر.

_ 1 أفسد ضعف النفوس هذا المعنى، فما يحقق الناس "تاريخ البطن" كما يحققونه في شهر رمضان، وهم يعرضون البطن في الليل ما منعوه في النهار، حتى جعلوا الصوم تغييرا لمواعيد الأكل ... ولكن الصوم على ذلك لم يحرمهم فوائده. 2 قال الجاحظ في "الحيوان": "ولزيادة القمر حتى يصير بدرًا، أثر بين في زيادة الدماء والأدمغة وجميع الرطوبات".

وهنا حكمة كبيرة من حكم الصوم، وهي عمله في تربية الإرادة وتقويتها بهذا الأسلوب العملي، الذي يدرب الصائم على أن يمنع باختياره من شهواته ولذة حيوانيته، مصرا على الامتناع، متهيئا له بعزيمته، صابرًا عليه بأخلاق الصبر, مزاولا في كل ذلك أفضل طريقة نفسية لاكتساب الفكرة الثابتة ترسخ لا تتغير ولا تتحول، ولا تعدو عليها عوادي الغريزة. وإدراك هذه القوة من الإرادة العملية منزلة اجتماعية سامية، هي في الإنسانية فوق منزلة الذكاء والعلم، ففي هذين تعرض الفكرة مارة مرورها، ولكنها في الإرادة تعرض لتستقر وتتحقق. فانظر في أي قانون من القوانين، وفي أية أمة من الأمم, تجد ثلاثين يوما من كل سنة قد فرضت فرضا لتربية إرادة الشعب ومزاولته فكرة نفسية واحدة بخصائصها وملابساتها حتى تستقر وترسخ وتعود جزءا من عمل الإنسان، لا خيالًا يمر برأسه مرا. أليست هذه هي إتاحة الفرصة العملية التي جعلوها أساسا في تكوين الإرادة؟ وهل تبلغ الإرادة فيما تبلغ، أعلى من منزلتها حين تجعل شهوات المرء مزعنة لفكره، منقادة للوازع النفسي فيه، مصرفة بالحس الديني المسيطر على النفس ومشاعرها. أما -والله- لو عم هذا الصوم الإسلامي أهل الأرض جميعا، لآل معناه أن يكون إجماعا من الإنسانية كلها على إعلان الثورة شهرًا كاملا في السنة، لتطهير العالم من رذائله وفساده، ومحق الأثرة والبخل فيه، وطرح المسألة النفسية ليتدارسها أهل الأرض دراسة عملية مدة هذا الشهر بطوله، فيهبط كل رجل وكل امرأة إلى أعماق نفسه ومكامنها، ليختبر في مصنع فكره معنى الحاجة ومعنى الفقر، وليفهم في طبيعة جسمه -لا في الكتب- معاني الصبر والثبات والإرادة، وليبلغ من ذلك وذلك درجات الإنسانية والمواساة والإحسان، فيحقق بهذه وتلك معاني الإخاء والحرية والمساواة. شهر هو أيام قلبية في الزمن؛ متى أشرفت على الدنيا قال الزمن لأهله: هذه أيام من أنفسكم لا من أيامي، ومن طبيعتكم لا من طبيعتي، فيقبل العالم كله على حالة نفسية بالغة السمو، يتعهد فيها النفس برياضتها على معالي الأمور ومكارم الأخلاق, ويفهم الحياة على وجه آخر غير وجهها الكالح، ويراها كأنما أجيعت من طعامها اليومي كما جاع هو، وكأنما أفرغت من خسائسها وشهواتها كما فرغ هو، وكأنما ألزمت معاني التقوى كما ألزمها هو, وما أجمل وأبدع أن تظهر الحياة

في العالم كله -لو يوما واحدًا- حاملة في يدها السبحة! فكيف بها على ذلك شهرًا من كل سنة؟ إنها -والله- طريقة عملية لرسوخ فكرة الخير والحق في النفس؛ وتطهير الاجتماع من خسائس العقل المادي؛ ورد هذه الطبيعة الحيوانية المحكومة في ظاهرها بالقوانين، والمحررة من القوانين في باطنها إلى قانون من باطنها نفسه يطهر مشاعرها، ويسمو بإحساسها، ويصرفها إلى معاني إنسانيتها، ويهذب من زياداتها، ويحذف كثيرا من فضولها، حتى يرجع بها إلى نحو من براءة الطفولة، فيجعلها صافية مشرقة بما يجتذب إليها من معاني الخير والصفاء والإشراق؛ إذ كان من عمل الفكرة الثابتة في النفس أن تدعو إليها ما يلائمها ويتصل بطبيعتها من الفكر الأخرى. والنفس في هذا الشهر محتبسة في فكرة الخير وحدها، فهي تبني بناءها من ذلك ما استطاعت. هذا على الحقيقة ليس شهرًا من الأشهر، بل هو فصل نفساني كفصول الطبيعة في دورانها؛ ولهو -والله- أشبه بفصل الشتاء في حلوله على الدنيا بالجو الذي من طبيعته السحب والغيث، ومن عمله إمداد الحياة بوسائل لها من بعدها إلى آخر السنة، ومن رياضته أن يكسبها الصلابة والانكماش والخفة، ومن غايته إعداد الطبيعة للتفتح عن جمال باطنها في الربيع الذي يتلوه. وعجيب جدا أن هذا الشهر الذي يدخر في الجسم من قواه المعنوية فيودعها مصرف روحانيته، ليجد منها عند الشدائد مدد الصبر والثبات والعزم والجلد والخشونة، عجيب جدا أن هذا الشهر الاقتصادي هو من أيام السنة كفائدة 8.30 في المائة؛ فكأنه يسجل في أعصاب المؤمن حساب قوته وربحه فله في كل سنة زيادة 8.30 من قوته المعنوية الروحانية. وسحر العظائم في هذه الدنيا إنما يكون في الأمة التي تعرف كيف تدخر هذه القوة وتوفرها لتستمدها عند الحاجة، وذلك هو سر أسلافنا الأولين الذين كانوا يجدون على الفقر في دمائهم وأعصابهم ما تجد الجيوش العظمى اليوم في مخازن العتاد والأسلحة والذخيرة. كل ما ذكرته في هذا المقال من فلسفة الصوم؛ فإنما استخرجته من هذه الآية الكريمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}

[البقرة: 183] . وقد فهمها العلماء جميعا على أنها معنى "التقوى" أما أنا فأولتها من "الاتقاء"؛ فبالصوم يتقى المرء على نفسه أن يكون كالحيوان الذي شريعته معدته، وألا يعامل الدنيا إلا بمواد هذه الشريعة؛ ويتقي المجتمع على إنسانيته وطبيعته مثل ذلك، فلا يكون إنسان مع إنسان كحمار مع إنسان, يبيعه القوة كلها بالقليل من العلف. وبالصوم يتقي هذا وهذا ما بين يديه وما خلفه، فإن ما بين يديه هو الحاضر من طباعه وأخلاقه، وما خلفه هو الجيل الذي سيرث من هذه الطباع والأخلاق، فيعمل بنفسه في الحاضر, ويعمل بالحاضر في الآتي1. وكل ما شرحناه فهو اتقاء ضرر لجلب منفعة، واتقاء رذيلة لجلب فضيلة، وبهذا التأويل تتوجه الآية الكريمة جهة فلسفية عالية، لا يتأتى البيان ولا العلم ولا الفلسفة بأوجز ولا أكمل من لفظها؛ ويتوجه الصيام على أنه شريعة اجتماعية إنسانية عامة؛ يتقي بها الاجتماع شرور نفسه؛ ولن يتهذب العالم إلا إذا كان له مع القوانين النافذة هذا القانون العام الذي اسمه الصوم، ومعناه "قانون البطن". ألا ما أعظمك يا شهر رمضان! لو عرفك العالم حق معرفتك لسماك: "مدرسة الثلاثين يومًا".

_ 1 يفسر القرآن بعضه بعضًا، ومن معجزاته في هذا التأويل الذي استخرجناه أن يؤيده بالآية الكريمة في سورة "يس": {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ويشير إلى هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الصوم جنة -بضم الجيم- فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم". الجنة: الوقاية يتقي بها الإنسان، والمراد أن يعتقد الصائم أنه قد صام ليتقي شر حيوانيته وحواسه، فقوله: "إني صائم، إني صائم"؛ أي إنني غائب عن الفحش والجهل والشر؛ إني في نفسي ولست في حيوانيتي.

ثبات الأخلاق

ثبات الأخلاق: لو أنني سئلت أن أجمل فلسفة الدين الإسلامي كلها في لفظين، لقلت: إنها ثبات الأخلاق, ولو سئل أكبر فلاسفة الدنيا أن يوجز علاج الإنسانية كله في حرفين، لما زاد على القول: إنه ثبات الأخلاق، ولو اجتمع كل علماء أوروبا ليدرسوا المدينة الأوربية ويحصروا ما يعوزها في كلمتين لقالوا: ثبات الأخلاق. فليس ينتظر العالم أنبياء ولا فلاسفة ولا مصلحين ولا علماء يبدعون له بدعا جديدًا؛ وإنما هو يترقب من يستطيع أن يفسر له الإسلام هذا التفسير، ويثبت للدنيا أن كل العبادات الإسلامية هي وسائل عملية تمنع الأخلاق الإنسانية أن تتبدل في الحي فيخلع منها ويلبس، إذا تبدلت أحوال الحياة فصعدت بإنسانها أو نزلت؛ وإن الإسلام يأبى على كل مسلم أن يكون إنسان حالته التي هو فيها من الثروة أو العلوم، ومن الارتفاع أو الضعة، ومن خمول المنزلة أو نباهتها؛ ويوجب على كل مسلم أن يكون إنسان الدرجة التي انتهى إليها الكون في سموه وكماله، وفي تقلبه على منازله بعد أن صفي في شريعة بعد شريعة، وتجربة بعد تجربة، وعلم بعد علم. انتهت المدنية إلى تبدل الأخلاق بتبدل أحوال الحياة، فمن كان تقيا على الفقر والأملاق وحرمه الإعسار فنون اللذة، ثم أيسر من بعد؛ جاز له أن يكون فاجرا على الغنى وأن يتسمح لفجوره على مد ما يتطوح به المال، وإن أصبح في كل دينار من ماله شقاء نفس إنسانية أو فسادها. ومن ولد في بطن كوخ، أو على ظهر الطريق، وجب أن يبقى أرضا إنسانية؛ كأن الله -سبحانه- لم يبن من عظامه ولحمه وأعصابه إلا خربة آدمية من غير هندسة ولا نظام ولا فن, ثم يقابله من ولد في القصر أو شبه القصر فله حكم آخر، كأن الله -سبحانه- قد ركب من عظمه ودمه وتكوينه آية هندسية وأعجوبة فن، وطرفة تدبير، وشيئا مع شيء، وطبقة على طبقة. ولكن الإسلام يقرر ثبات الخلق ويوجبه وينشئ النفس عليه، ويجعله في حياطة المجتمع وحراسته، لأن هناك حدودًا في الإنسانية تتميز بحدود في الحياة،

ولا بد من الضبط في هذه وهذه، حتى لا يكون وضع إلا وراءه تقدير، ولا تقدير إلا معه حكمة، ولا حكمة إلا فيها مصلحة؛ وحتى لا تعلو الحياة ولا تنزل إلا بمثل ما ترى من كفتي ميزان شدتا في علاقة تجمعهما وتحركهما معا، فهي بذاتها هي التي تنزل بالنازل لتدل عليه، وتشيل بالعالي لتبين عنه؛ فالإسلام في المدنية وهو مدنية هذه المدنية. إنها لن تتغير مادة العظم واللحم والدم في الإنسان فهي ثابتة مقدرة عليه، ولن تتبدل السنن الإلهية التي توجدها وتفنيها فهي مصرفة لها قاضية عليها، وبين عمل هذه المادة وعمل قانونها، فيها تكون أسرار التكوين, وفي هذه الأسرار تجد تاريخ الإنسانية كله سابحا في الدم. هي الغرائز تعمل في الإنسانية عملها الإلهي، وهي محددة محكمة على ما يكون من تعاديها واختلاف بينها، وكأنها خلقت بمجموعها لمجموعها؛ ومن ثم يكون الخلق الصحيح في معناه قانونا إليها على قوة كقوة الكون وضبط كضبطه. وبهذه القوة وهذا الضبط يستطيع الخلق أن يحول المادة التي تعارضه إذا هو اشتد وصلب، ولكنه يتحول معها إذا هو لان أو ضعف، فهو قدر إلا أنه في طاعتك، إذ هو قوة الفصل بين إنسانيتك وحيوانيتك، كما أنه قوة المزد بينهما، كما أنه قوة التعديل فيهما، وقد سوغ القدرة على هذه الأحوال جميعا، ولولا أنه بهذه المثابة لعاش الإنسان طول التاريخ قبل التاريخ، إذ لن يكون له حينئذ كون تؤرخ فضائله أو رذائله بمدح أو ذم. فلا عبرة بمظهر الحياة في الفرد، إذ الفرد مقيد في ذات نفسه بمجموع هو للمجموع وليس له وحده, فإنك ترى الغرائز دائبة في إيجاد هذا الفرد لنوعه بسنن من أعمالها، ودائبة كذلك في إهلاكه في النوع نفسه بسنن أخرى؛ فليس قانون الفرد إلا أمرا عارضا كما ترى؛ وبهذا يمكن أن يتحول الفرد على أسباب مختلفة، ثم تبقى الأخلاق التي بينه وبين المجموع ثابتة على صورتها. فالأخلاق على أنها في الأفراد، هي في حقيقتها حكم المجتمع على أفراده؛ فقوامها بالاعتبار الاجتماعي لا غير. وحين يقع الفساد في المجمع عليه من آداب الناس، ويلتوي ما كان

مستقيما، وتشتبه العالية والسافلة، وتطرح المبالاة بالضمير الاجتماعي، ويقوم وزن الحكم في اجتماعهم على القبيح والمنكر، وتجري العبرة فيما يعتبرونه بالرذائل والمحرمات، ولا يعجب الناس إلا ما يفسدهم، ويقع ذلك منهم بموقع القانون ويحل في محل العادة؛ فهناك لا مساك للخلق السليم على فرد، ولا بد من تحول الفرد في حقيقته؛ إذ كان لا يجيء أبدًا إلا متصدعا في كل مظاهره الاجتماعية، فأينما وقع من أعمال الناس جاء مكسورًا أو مثلوما، وكأنه منتقل من عالم إلى عالم ثان بغير نواميس الأول. وما شذ من هذه القاعدة إلا الأنبياء وأفراد من الحكماء؛ فأما أولئك فهم قوة التحويل في تاريخ الإنسانية؛ لا يبعث أحدهم إلا ليهيج به الهيج في التاريخ، ويتطرق به الناس إلى سبل جديدة كأنما تطردهم إليها العواصف والزلازل والبراكين، لا شريعته ومبادئه وآدابه، وأما الحكماء الناضجون فهم دائما في هذه الإنسانية أمكنة بشرية محصنة لحفظ كنوزها وإحرازها في أنفسهم، فلهم في ذات أنفسهم عصمة ومنعة كالجبال في ذات الأرض. الأخلاق في رأيي هي الطريقة لتنظيم الشخصية الفردة على مقتضى الواجبات العامة، فالإصلاح فيها إنما يكون من عمل هذه الواجبات، أي من ناحية المجتمع والقائمين على حكمه. وعندي أن للشعب ظاهرا وباطنًا، فباطنه هو الدين الذي يحكم الفرد، وظاهره هو القانون الذي يحكم الجميع، ولن يصلح للباطن المتصل بالغيب إلا ذلك الحكم الديني المتصل بالغيب مثله؛ ومن هنا تتبين مواضع الاختلال في المدنية الأوربية الجديدة؛ فهي في ظاهر الشعب دون باطنه، والفرد فاسد بها في ذات نفسه إذا هو تحلل من الدين، ولكنه مع ذلك يبدو صالحا منتظما في ظاهره الاجتماعي بالقوانين وبالآداب العامة التي تفرضها القوانين، فلا يبرح هازئا من الأخلاق ساخرا بها؛ لأنها غير ثابتة فيه، ثم لا تكون عنده أخلاقًا يعتد بها إلا إذا درت بها منافعه، وإلا فهي ضارة إذا كانت منها مضرة، وهي مؤلمة إذا حالت دون اللذات. ولا ينفك هذا الفرد يتحول لأنه مطلق في باطنه غي مقيد إلا بأهوائه ونزعاته، وكلمتا الفضيلة والرذيلة معدومتان في لغة الأهواء والنزعات؛ إذ الغاية المتاع واللذة والنجاح، وليكن السبب ما هو كائن. وبهذا فلن تقوم القوانين في أوربا إذا فني المؤمنون بالأديان فيها أو كاثرهم الملحدون، وهم اليوم يبصرون بأعينهم ما فعلت عقلية الحرب العظمى في طوائف

منهم قد خربت أنفسهم من إيمانهم فتحولوا ذلك التحول الذي أومأنا إليه، فإذا أعصابهم بعد الحرب ما تزال محاربة مقاتلة ترمي في كل شيء بروح الدم والأشلاء والقبور والتعفن والبلى ... وانتهت الحرب بين أمم وأمم، ولكنها بدأت بين أخلاق وأخلاق. وقديما حارب المسلمون، وفتحوا العالم، ودوخوا الأمم؛ فأثبتوا في كل أرض هدي دينهم وقوة أخلاقهم الثابتة، وكان وراء أنفسهم في الحرب ما هو من ورائها في السلم، وذلك بثبات باطنهم الذي لا يتحول، ولا تستخفه الحياة بنزقها، ولا تتسفه المدنيات فتحمله على الطيش. ولو كانوا هم أهل هذه الحرب الأخيرة بكل ما قذفت به الدنيا، لبقيت لهم العقلية المؤمنة القوية، لأن كل مسلم فإنما هو وعقليته في سلطان باطنه الثابت القار على حدود بينة محصلة مقسومة، تحوطها وتمسكها أعمال الإيمان التي أحكمها الإسلام أشد إحكام بفرضها على النفوس منوعة مكررة: كالصلاة والصوم والزكاة، ليمنع بها تغيرا ويحدث بها تغيرا آخر، ويجعلها كالحارسة للإرادة ما تزال تمر بها وتتعهدها بين الساعة والساعة1. إنما الظاهر والباطن كالموج والساحل؛ فإذا جن الموج فلن يضيره ما بقي الساحل ركينا هادئًا مشدودًا بأعضاده في طبقات الأرض. أما إذا ماج الساحل ... فذلك أسلوب آخر غير أسلوب البحار والأعاصير؛ ولا جرم ألا يكون إلا خسفا بالأرض والماء وما يتصل بهما. في الكون أصل لا يتغير ولا يتبدل، هو قانون ضبط القوة وتصريفها وتوجيهها على مقتضى الحكمة. ويقابله في الإنسان قانون مثله لا بد منه لضبط معاني الإنسان وتصريفها وتوجيهها على مقتضى الكمال. وكل فروض الدين الإسلامي وواجباته وآدابه، إن هي إلا حركة هذا القانون في عمله؛ فما تلك إلا طرق ثابتة لخلق الحس الأدبي، وتثبيته بالتكرار، وإدخاله في ناموس طبيعي بإجرائه في الأنفس مجرى العادة، وجعله بكل ذلك قوة في باطنها، فتسمى الواجبات والآداب فروضا دينية؛ وما هي في الواقع إلا عناصر تكوين النفس العالية، وتكون أوامر وهي حقائق2.

_ 1 فصلنا هذا المعنى في كثير من مقالاتنا: كمقالة "حقيقة المسلم"، و"فلسفة الصوم" وغيرها. 2 هذا هو الذي ضل عنه مصطفى كمال ومن شايعوه، ومن قلدوه، ومن انخدعوا فيه ولو فهمه حق الفهم لجدد تركيا وجدد العالم الإسلامي كله، ولكن الرجل غريب عن هذه المعاني قصير النظر، فما زاد على أن جدد ثوبا وقبعة.

ومن ذلك أرانا نحن الشرقيون نمتاز على الأوربيين بأننا أقرب منهم إلى قوانين الكون؛ ففي أنفسنا ضوابط قوية متينة إذا نحن أقررنا مدنيتهم فيها, وهي بطبيعتها لا تقبل إلا محاسن هذه المدنية, سبقناهم وتركنا غبار أقدامنا في وجوههم، وكنا الطبقة المصفاة التي ينشدونها في إنسانيتهم الراهنة ولا يجدونها، ونمتاز عنهم من جهة أخرى بأننا لم ننشئ هذه المدنية ولم تنشئنا، فليس حقا علينا أن نأخذ سيئاتها في حسناتها، وحماقتها في حكمتها، وتزويرها في حقيقتها؛ وأن نسيغ منها الحلوة والمرة، والناضجة والفجة؛ وإنما نحن نحصلها ونقتبسها ونرتجع منها الرجعة الحسنة؛ فلا نأخذ إلا الشيء الصالح مكان الشيء قد كان دونه عندنا وندع ما سوى ذلك؛ ثم لا نأخذ ولا ندع إلا على الأصول الضابطة المحكمة في أدياننا وآدابنا؛ ولسنا مثلهم متصلين من حاضر مدنيتهم بمثل ماضيهم، بيد أن العجب الذي ما يفرغ عجبي منه، أن الموسومين منا بالتجديد لا يحاولون أول وهلة وآخرها إلا هدم تلك الضوابط التي هي كل ما نمتاز به، والتي هي كذلك كل ما تحتاج إليه أوروبا لضبط مدنيتها، ويسمون ذلك تجديدًا، ولهو بأن يسمى حماقة وجهلا أولى وأحق. أقول ولا أبالي: إننا ابتلينا في نهضتنا هذه بقوم من المترجمين قد احترفوا النقل من لغات أوروبا، ولا عقل إلا عقل ما ينقلونه: فصنعتهم الترجمة من حيث يدرون أو لا يدرون صنعة تقليد محض ومتابعة مستعبدة، وأصبح عقلهم -بحكم العادة والطبيعة- إذا فكر انجذب إلى ذلك الأصل لا يخرج عليه ولا يتحول عنه. وإذا صح أن أعمالنا هي التي تعملنا -كما يقول بعض الحكماء- فهم بذلك خطر أي خطر على الشعب وقوميته وذاتيته وخصائصه، ويوشك إذا هو أطاعهم إلى كل ما يدعون إليه أن ... أن يترجموه إلى شعب آخر. إن أوروبا ومدنيتها لا تساوي عندنا شيئا إلا بمقدار ما تحقق فينا من اتساع الذاتية بعلومها وفنونها، فإنما الذاتية وحدها هي أساس قوتنا في النزاع العالمي بكل مظاهره أيها كان؛ ولها وحدها، وباعتبار منها دون سواها، نأخذ ما نأخذه من مدنية أوروبا ونهمل ما نهمل؛ ولا يجوز أن نترك الثبت في هذا ولا أن نتسامح في دقة المحاسبة عليه.

فالمحافظة على الضوابط الإنسانية القوية التي هي مظاهر الأديان فينا، ثم إدخال الواجبات الاجتماعية الحديثة في هذه الضوابط لربطها بالعصر وحضارته, ثم تنسيق مظهر الأمة على مقتضى هذه الواجبات والضوابط، ثم العمل على اتحاد المشاعر وتمازجها لتقويم هذا المظهر الشعبي في جملته بتقويم أجزائه, هذه هي الأركان الأربعة التي لا يقوم على غيرها بناء الشرق. والإلحاد والنزعات السافلة وتخانيث المدنية الأوروبية التي لا عمل لها إلا أن تظهر الخطر في أجمل أشكاله ... ثم الجهل بعلوم القوة الحديثة وبأصول التدبير وحياطة الاجتماع وما جرى هذا المجرى، ثم التدليس على الأمة بآراء المقلدين والزائفين والمستعمرين لمحق الأخلاق الشعبية القوية وما اتصل بذلك، ثم التخاذل والشقاق وتدابر الطوائف وما كان بسبيلها, تلك هي المعاول الأربعة التي لا يهدم غيرها بناء الشرق. فليكن دائما شعارنا -نحن الشرقيين- هذه الكلمة: أخلاقنا قبل مدنيتهم.

قلت لنفسي وقالت لي

قلت لنفسي وقالت لي ... 1: قلت لنفسي: ويحك يا نفس! ما لي أتحامل عليك؛ فإذا وفيت بما في وسعك أردت منك ما فوقه وكلفتك أن تسعي؛ فلا أزال أعنتك من بعد كمال فيما هو أكمل منه، وبعد الحسن فيما هو الأحسن؛ وما أنفك أجهدك كلما راجعك النشاط، وأضنيك كلما ثابت القوة؛ فإن تكن لك هموم فأنا أكبرها، وإذا ساورتك الأحزان فأكثرها مما أجلب عليك. أنت يا نفس سائرة على النهج، وأنا أعتسف بك أريد الطيران لا السير، وأبتغي عمل الأعمار في عمر، وأستحثك من كل هجعة راحة بفجر تعب جديد، وكأني لك زمن يماد بعضه بعضا، فما يبرح ينبثق عليك من ظلام بنور ومن نور بظلام؛ ليهيئ لك القوة التي تمتد بك في التاريخ، من بعد، فتذهبين حين تذهبين ويعيش قلبك في العالم ساريا بكلمات أفراحه وأحزانه. وقالت لي النفس: أما أنا فإني معك دأبا كالحبيبة الوفية لمن تحبه؛ ترى خضوعها أحيانا هو أحسن المقاومة؛ وأما أنت فإذا لم تكن تتعب ولا تزال تتعب فكيف تريني أنك تتقدم ولا تزال تتقدم؟ ليست دنياك يا صاحبي ما تجده من غيرك، بل ما توجده بنفسك؛ فإن لم تزد شيئا على الدنيا كنت أنت زائدًا على الدنيا؛ وإن لم تدعها أحسن مما وجدتها فقد وجدتها وما وجدتك؛ وفي نفسك أول حدود دنياك وآخر حدودها. وقد تكون دنيا بعض الناس حانوتًا صغيرًا، ودنيا الآخر كالقرية الململمة2، ودنيا بعضهم كالمدينة

_ 1 كتبت في ساعة ضجر، من هذه الساعات الطارئة على الروح، يخيل للمرء فيها أنه هو وحده العالم كله وحده؛ ذاك في وجود نفسه خاصة، والآخر في وجود الطبيعة كلها. 2 أي الصغيرة تقوم بالدور القليلة المجتمعة.

الكبيرة؛ أما دنيا العظيم فقارة بأكملها، وإذا انفرد امتد في الدنيا فكان هو الدنيا. والقوة يا صاحبي تغتذي بالتعب والمعاناة؛ فما عانيته اليوم حركة من جسمك، ألفيته غدًا في جسمك قوة من قوى اللحم والدم. وساعة الراحة بعد أيام من التعب، هي في لذتها كأيام من الراحة بعد تعب ساعة. وما أشبه الحي في هذه الدنيا ووشك وانقطاعه منها، بمن خلق ليعيش ثلاثة أيام معدودة عليه ساعتها ودقائقها وثوانيها؛ أفتراه يغفل فيقدرها ثلاثة أعوام، ويذهب يسرف فيها ضروبا من لهوه ولعبه ومجونه، إلا إذا كان أحمق أحمق إلى نهاية الحمق؟ اتعب تعبك يا صاحبي، ففي الناس تعب مخلوق من عمله، فهو لين هين مسوى تسوية؛ وفيهم تعب خالق عمله، فهو جبار متمرد له القهر والغلبة، وأنت إنما تكد لتسمو بروحك إلى هموم الحقيقة العالية، وتسمو بجسمك إلى مشقات الروح العظيمة؛ فذلك يا صاحبي ليس تعبا في حفر الأرض، ولكنه تعب في حفر الكنز. اتعب يا صاحبي تعبك؛ فإن عناء الروح هو عمرها؛ فأعمالك عمرك الروحاني، كعمر الجسم للجسم؛ وأحد هذين عمر ما يعيش، والآخر عمر ما سيعيش. قلت لنفسي: فقد مللت أشياء وتبرمت بأشياء. وإن عمل التغيير في الدنيا لهو هدم لها كلما بنيت، ثم بناؤها كلما هدمت؛ فما من شيء إلا هو قائم في الساعة الواحدة بصورتين معا؛ وكم من صديق خلطته بالنفس يذهب فيها ذهاب الماء في الماء، حتى إذا مر يوم، أو عهد كاليوم, رأيت في مكانه إنسانًا خياليا كمسألة من مسائل النحاة فيها قولان ... ! فهو يحتمل في وقت واحد تأويل ما أظن به من خير، وما أتوقع به من شر! وكم من اسم جميل إذا هجس في خاطري قلت: آه، هذا الذي كان ... ! اما -والله- إن ثياب الناس لتجعلهم أكثر تشابها في رأي النفس، مما تجعلهم وجوههم التي لا تختلف في رأي العين, وإني لأرى العالم أحيانا كالقطار السريع منطلقا بركبه وليس في من يقوده، وأرى الغفلة المفرطة قد بلغت من هذا الناس مبلغ من يظن أنه حي في الحياة كالموظف تحت التجربة، فإذا قضى المدة قيل له: ابدأ من الآن. كأنه إذا عاش يتعلم الخير والشر، ويدرك ما يصلح وما لا يصلح، وانتهى من عمره إلى النهاية المحدودة رجع من بعدها يعيش منتظما على استواء واستقامة، وفي إدراك وتمييز. مع أن الخرافة نفسها لم تقبل قط أن يعد منها

في أوهام الحياة أن رجلا بلغ الثمانين أو التسعين وحان أجله فأصبحوا لم يجدوه ميتا في فراشه؛ بل وجدوه مولودًا في فراشه ... ! وقالت لي النفس: وأنت ما شأنك بالناس والعالم؟ يا هذا ليس لمصباح الطريق أن يقول: "إن الطريق مظلم" إنما قوله إذا أراد كلاما أن يقول: "ها أنذا مضيء". والحكيم لا يضجر ولا يضيق ولا يتململ، كما أنه لا يسخف ولا يطيش ولا يسترسل في كذب الوهم؛ فإن هذا كله أثر الحياة البهيمية في هذه البهيمة الإنسانية، لا أثر الروح القوية في إنسانها، والحيوان هو الذي يجوع ويشبع لا النفس, وبين كل شيئين مما يعتور الحيوانية -كالخلو والامتلاء، واللذة والألم- تعمل قوى الحيوان أشياءها الكثيرة التي تتسلط بها على النفس، لتحطها من مرتبة إلى أن تجعلها كنفوس الحيوان؛ ولهذا كان أول الحكمة ضبط الأدوات الحيوانية في الجسم، كما توضع اليد العالمة على مفاتيح القطار المنطلق يتسعر مرجله ويغلي. اعمل يا صاحبي عملك؛ فإذا رأيت في العاملين من يضجر فلا تضجر مثله، بل خذ اطمئنانه إلى اطمئنانك، ودعه يخلو وتضاعف أنت. إنه ليوشك أن يكون في الناس "كالبنوك"؛ هذه مستودعات للمال تحفظه وتخرج منه وتثمره، وتلك مستودعات للفضائل تحفظها وتخرج منها وتزيدها، إفلاس رجل من أهل المال، هو إطلاق النكبة مسدسها على رجل تقتله؛ ولكن إفلاس "بنك" هو إطلاق النكبة مدفعها الكبير على مدينة تدمرها. قلت لنفسي: فما أشد الألم في تحويل هذا الجسد إلى شبه روح مع الروح! تلك هي المعجزة التي لا توجد في غير الأنبياء، ولكن العمل لها يجعلها كأنها موجودة. والأسد المحبوس محبوسة فيه قوته وطباعه؛ فإن زال الوجود الحديدي من حوله أو وهنت ناحية منه، انطلق الوحش، والرجل الفاضل فاضل ما دام في قفصه الفكري, وهو ما دام في هذا القفص فعليه أن يكون دائما نموذجا معروضا للتنقيح الممكن في النفس الإنسانية؛ تصيبه السيئة من الناس لتختبر فيه الحسنة، وتبلوه الخيانة لتجد الوفاء، ويكرثه البغض ليقابله بالحبن وتأتيه اللعنة لتجد المغفرة؛ وله قلب لا يتعب فيبلغ منزلة إلا التعب ليبلغ منزلة أعلى منها، وله فكر كلما جهد فأدرك حقيقة كانت الحقيقة أن يجهد فيدرك غيرها. وقالت لي النفس: إن من فاق الناس بنفسه الكبيرة كانت عظمته في أن يفوق

نفسه الكبيرة؛ إن الشيء النهائي لا يوجد إلا في الصغائر والشر، أما الخير والكمال وعظائم النفس والجمال الأسنى، فهذه حقائق أزلية وجدت لنفسها؛ كالهواء يتنفسه كل الأحياء على هذه الأرض ولا ينتهي، ولا يعرف أين ينتهي؛ وكما ينبعث النور من الشمس والكواكب إلى هذه الأرض يشبه أن تكون تلك الصفات منبعثة إلى النفوس من أنوار الملائكة، وبهذا كان أكبر الناس حظا منهم هم الأنبياء المتصلين بتلك الأنوار. ومن رحمة الله أن جعل في كل النفوس الإنسانية أصلا صغيرًا يجمع فكرة الخير والكمال وعظائم النفس والجمال الأسنى، وقد تعظم فيه هذه الصفات كلها أو بعضها، وقد تصغر فيه بعضها أو كلها: ألا وهو الحب. لا بد أن تمر كل حياة إنسانية في نوع من أنواع الحب، من رقة النفس ورحمته، إلى هوى النفس وعشقها. وإذا بلغ الحب أن يكون عشقا، وضع يده على المفاتيح العصبية للنفس، وفتح للعظائم والمعجزات أبوابها؛ حتى أنه ليجعل الخرافة الفارغة معجزة دقيقة ويملأ الحياة بمعان لم تكن فيها من قبل، ويصبح سر هذا الحب لا ينتهي؛ إذ هو سر لا يدرك ولا يعرف. اجهد جهدك يا صاحبي، فما هو قفصك الفكري ذلك الشعاع الذي يحبسك، ولكنه صقل النفس لتتلقى الأنوار، ولا بد للمرآة من ظاهر غير ظاهر الحجر لتكون به مرآة. قلت لنفسي: فما أشده مضضا أعانيه! إن أمري ليذهب فرطًا1. أكلما ابتغيت من الحياة مرحا أطرب له وأهتز، جاءتني الحياة بفكرة أستكد فيها وأدأب؟ أهذا السرور الذي لا يزال يقع بين الناس هو الذي لا يكاد يقع لي؟ وهل أنا شجرة في مغرسها: تنمو صاعدة بفروعها، ونازلة بجذورها, غير أنها لا تبرح مكانها؟ أو أن تمثال على قاعدته: لا يتزحزح عنها إلا ساعة لا يكون تمثالا، ولا يدعها حتى تدعه معاني العظمة التي نصب لها؟ قالت لي النفس: ويحك! لا تطلب في كونك الصغير ما ليس فيه؛ إن الناس لو ارتفعوا إلى السماء وتقلبوا فيها كما يسيح أهل قارة من الأرض في قارة غيرها،

_ 1 أي مجاوزًا فيه عن الحد.

وابتغوا أن يحملوا معهم مما هناك تذكارًا صغيرًا إلى الأرض, لوجدوا أصغر ما هنالك أكبر من الأرض كلها؛ فأنت سائح في سماوات. أنت كالنائم: له أن يرى وليس له أن يأخذ شيئا مما يرى إلا وصفة، وحكمته، والسرور بما التذ منه، والألم بما توجع له. لن تكون في الأرض شجرة برجلين تذهب هنا وهناك، ولكن الشجرة ترسل أثمارها يتناقلها الناس، وهي تبدع الثمار إبداع المؤلف العبقري ما يؤلفه بأشد الكد وأعظم الجهد، مطلقة ضميرها في الفكرة الصغيرة، تعقدها شيئا شيئا، ثم تعود عليها بالزيادة، ولا تزال كل وقت تعود عليها حتى تستفرغ أقصى القوة؛ ثم يكون سرورها في أن تهب فائدتها، لأنها لذلك وجدت. إن في الشجرة طبيعية صادقة لا شهوة مكذوبة؛ فالحياة فيها على حقيقتها، وأكثر ما تكون الحياة في الإنسان على مجازها؛ وشرط المجاز الخيال والمبالغة والتلوين؛ ولكن متى اختار الله رجلا فأقر فيه سرا من أسرار الطبيعة الصادقة، ووهب له العاطفة القادرة التي تصنع ثمارها -فقد غرسه شجرة في منبتها لا مفر ولا مندوحة، وقد يخيل له ضعف طبيعته البشرية أحيانا أن نضرة المجد التي تعلوه وتتألق كشعاع الكوكب، هي تعبه وضجره، أو أثر انخذاله وألمه ومسكنته؛ وهذا من شقاء العقل؛ فإنه دائما يضيف شيئا إلى شيء, ويخلط معنى بمعنى، ولا يترك حقيقة على ما هي؛ كأن فيه ما في الطفل من غريزة التقليد؛ والعقل لا يرى أمامه إلا الإلهية، فهو يقلدها في مداخلة الأشياء بعضها في بعض، لإيجاد الأسرار بعضها من بعض. ومن ثم كانت الحقيقة الصريحة الثابتة مدعاة للملل العقلي في الإنسان، لا يكاد يقيم عليها أو يتقيد بها، فما نال شيئا إلا ليطمع في غيره، وما فاز بلذة إلا ليزهد فيها، وأجل ما أحبه الإنسان أن يناله، فإذا ناله وقع فيه معنى موته، وبدأ في النفس عمرا آخر من حالة أخرى، أو مات لم يبدأ؛ فلا بد لهذا الإنسان مع كل صواب من جزء من الخطأ، فإن هو لم يجد خطأ في شيء ائتفك لنفسه1 الخطأ المضحك في شبه رواية خيالية. إنه لشعر سخيف بالغ السخافة أن يتخيل الغريق مفكرًا في صيد سمكة

_ 1 كذب واخترع، ومنه حديث الإفك.

رآها ... ولكن هذا من أبلغ البلاغة عند العقل الذي يبحث عن وهم يضيفه إلى هذه الحقيقة ليضحك منها، كما يبحث لنفسه أحيانا في أجمل حقائق اللذة عن ألم يتألم به ليعبس فيه! قلت لنفسي: فهل ينبغي لي أن أحرق دمي لأني أفكر, وهل أظل دائما بهذا التفكير كالذي ينظر في وجه حسناء بمنظار مكبر؛ لا يريه ذلك الوجه المعشوق إلا ثقوبا وتخريما كأنه خشبة نزعت منها مسامير غليظة ... ! فلا يجد المسكين هذه الحقيقة إلا ليفقد ذلك لجمال؟ وهل بد من الشبه بين بعض الناس وبين ما ارتصد له من عمل يحيا به؛ فلا يكون الحوذي حوذيا إلا لشبه بين نفسه وبين الخيل والبغال والحمير؟ وقالت لي النفس: إن فأس الحطاب لا تكون من أداة الطبيب؛ فخذ لكل شيء أداته، وكن جاهلا أحيانا، ولكن مثل الجهل الذي يصنع لوجه الطفل بشاشته الدائمة، فهذا الجهل هو أكبر علم الشعور الدقيق المرهف، ولولاه لهلك الأنبياء والحكماء والشعراء غما وكمدا، ولكانوا في هذا الوجود، على هذه الأرض، بين هذه الحقائق, كالذي قيد وحبس في رهج تثيره القدم والخف والحافر, لا يتنفس إلا الغبار يثار من حوله إلى أن يقضى عليه. اجهل جهلك يا صاحبي في هذه الشهوات الخسيسة؛ فإنها العلم الخبيث الذي يفسد الروح، واعرف كيف تقول لروحك الطفلة في ملائكيتها حين تساورك الشهوات, هذا ليس لي؛ هذا لا ينبغي لي. إن الروح الكبيرة هي في حقيقتها الطفل الملائكي. وعلم خسائس الحياة يجعل للإنسان في كل خسيسة نفسا تتعلق بها، فيكون المسكين بين نفسين وثلاث وأربع، إلى ثلاثين وأربعين كلهن يتنازعنه، فيضيع بهذه الكثرة, ويصبح بعضه بلاء على بعض، وتشغله الفضول، فيعود لها كالمزبلة لما ألقي فيها، ويمحق في نفسه الطبيعية حس الفرح بجمال الطبيعة، كما يمحق في المزبلة معنى النظافة ومعنى الحس بها. هذه الأنفس الخيالية في هذا الإنسان المنكود، هي الأرواح التي ينفخها في مصائبه، فتجعلها مصائب حية تعيش في وجوده وتعمل فيه أعمالها، ولولاها لماتت في نفسه مطامع كثيرة، فماتت له مصائب كثيرة.

انظر بالروح الشاعرة، تر الكون كله في سمائه وأرضه انسجاما واحدا ليس فيه إلا الجمال والسحر وفتنة الطرب، وانظر بالعقل العالم, فلن ترى في الكون كله إلا مواد علم الطبيعة والكيمياء. ومدى الروح جمال الكون كله؛ ومدى العقل قطعة من حجر، أو عظمة من حيوان، أو نسيجة من نبات، أو فلذة من معدن، وما أشبهها. اجهل جهلك يا صاحبي؛ ففي كل حسن غزل بشرط ألا تكون العاشق الطامع، وإلا أصبت في كل حسن هما ومشغلة! قلت لنفسي: إلى الآن لم أقل لك ذلك المعنى الذي كتمته عنك. وقالت لي النفس: وإلى الآن لم أقل لك إلا جواب ذلك الذي كتمته عني.

الانتحار "1"

الانتحار * "1" حدث المسيب بن رافع الكوفي قال: بينا أنا يومًا في مسجد الكوفة، ومعي سعيد بن عثمان، ومجاهد، وداود الأزدي وجماعة, أقبل فتى فجلس قريبا منا، وكان تلقاء وجهي، لا أمد نظري إلى انطلق في سمته ووقف عليه، وكنا نتحدث فرأيته يتسمع إلى حديثنا؛ فلما تكلم سعيد -وكان خافت الصوت من علة به، وكنا نسميه النملة الصخابة- رأيت الفتى يتزحف قليلا قليلا حتى صار بحيث يقع في سماعه حسيس نملتنا. وكان سعيد يقول: اجتزت أنا والشعبي1 أمس بعمران الخياط، فمازحه الشيخ فقال له: عندنا حب2 مكسور، تخيطه؟ قال: نعم، إن كان عندك خيط من ريح! فقلت أنا: فاذهب فجئنا بالمغزل الذي يغزل الهواء لنصنع لك الخيط. قال مجاهد:" هذا ليس بشيء في تنادر شيخنا وما يتفق له؛ أخبرني أن رجلا جاءه في مسألة، فدخل عليه البيت وهو جالس مع امرأته، فقال الرجل: أيكما الشعبي؟ فأومأ الشيخ إلى امرأته وقال: هذه! قال المسيب: وضحكنا جميعا، وأخذ نظري الغلام فإذا هو ناكس حزنا وهما، وكأنه لا يتسمع إليها ليسمع، بل ليشغل نفسه عن شيء فيها، فتتوزع خواطره، فيتبدد اجتماعها على همه بصوت من هنا وصوت من هنا، كما يفعل

_ * انظر سبب إنشائه هذه المقالات الست في "عود على بدء" من كتاب "حياة الرافعي". 1 هو الإمام العظيم "عامر بن شراحيل الشعبي" توفي سنة 103 للهجرة أو حولها. عن بعض وثمانين سنة، وكان في عصره أحد العلماء الأربعة في الإسلام: سعيد بن المسيب في المدينة "ذكرناه في قصة زواج"، الحسن البصري في البصرة "ذكرناه في قصة بنته الصغيرة"، ومكحول في الشام، والشعبي هذا في الكوفة، وكان يشبه في زمانه ابن عباس في زمانه. 2 الحب "بكسر الحاء": هو الزبر، يستقطر الماء من أسفله فيخرج صافيا، ويقال لرشحه: قطر حب.

المحزون في مغالبة الحزن ومدافعته، يشغل عنه بصره وقلبه وسمعه جميعا، فيكون الحزن فيه وكأنه بعيد منه. فقلت في نفسي: أمر أمات الضحك في هذا الفتى وكسر حدته وشبابه، ثم تحولت إليه وقلت: رأيتك يا بني مقبلا علينا كالمنصرف عنا؛ فما بالك لم تضحك وقد ضحكنا جميعًا؟ قال: إليك عني يا هذا؛ فأين من الضحك وأنا على شفير القبر، وروح التراب مالئ عيني في كل ما أرى، وكأن حفرتي ابتلعت الدنيا التي أنا فيها لتأخذني فيها، وأنا الساعة ميت حي؛ رجل في الدنيا ورجل في الآخرة! قلت: فأعلمني ما بك يا بني، فلقد احتسبت ولدا لي كان في مثل سنك وشبابك ولم أرزق غيره، فقلبي بعده مريض به، يتوسمه مفرقا في لداته، متوهما أن وجوههم تجمعه بملامحه؛ فأنا من ذلك أحبهم جميعا وأطيل النظر إليهم والتأمل في وجوههم، ولست أدرى أحدا منهم إلا كان له ولقلبي حديث! فإن رأيته حزينا مثلك تقطعت له من إشفاق ورحمة, وطالعني فتاي في مثل همه وحزنه وإنكساره؛ فيعود قلبي كالعين التي غشاها الدمع، تحمل أثر الحزن ومعناه وسره؛ فبثني ما تجد يا بني، فلعل لي سببا إلى كشف ضرك أو إسعافك بحاجتك؛ ولعلك تكون قد حزنت من أمر قريب المتناول هين المحاولة، لم يجعله عندك كبيرا أنه كبير, ولكن أنك أنت صغير. قال الفتى: مهلا يا عم، فإن ما نزل بنا مما تنقطع عنده الحيلة ولا تنقاد فيه الوسائل، ولا علاج منه إلا بالموت يأخذنا ويأخذه. قلت: يا بني, هذه كلمة ما أحسب أحدًا يقولها إلا من أخذ للقتل بجنايته ولم يعف أهل الدم، فهل جنيت أو جنى أبوك على أحد؟ قال: إن الأمر قريب من قريب، فإني تركت أبي الساعة مجمعًا على إزهاق نفسه، وقد أغلق عليه الدار واستوثق من الباب! قال المسيب: فكأنما لدغتني حية بهذه الكلمة، وأكبرت أن يكون رجل مسلم يقتل نفسهن فتناهضت، ولكن الغلام أمسك بي وقال: إنه لا يزال حيا، وسيقتل نفسه متى أظلم الليل وهدأت الرجل. قلت: الحمد لله، إن في النور عقلا، ولكن ما الذي صار به إلى ما قلت، وكيف تركته لقدره وجئت؟ قال الفتى: إنه قال لي: يا ولدي، ليس لك أب بعدي، فإن أردت

اللحاق بي فارجع مع الليل لنسلم أنفسنا، وإن آثرت الحياة فارجع مع الصبح لتسلمني إلى غاسلي! قلت: أفآمن أنت ألا يكون أبوك قد أخرجك عنه لأن عينك تمسك يديه وترده عما يهم به، حتى إذا خلا وجهه منك أزهق نفسه؟ قال: لم أدعه حتى أقسم أن يحيا إلى الليل، وحتى أقسمت أن أرجع لأموت معه؛ فإن لم تمسكه يمينه أمسكه انتظاري، وقد فرغت الحياة منا فلم يبق إلا أن نفرغ منها؛ ومن كان فيما كنا في ثم انحدر إلى ما انحدرنا إليه، لم ير الناس من نفسه ضعة ولا استكانة، وإنما خرجت لأسأل هذا الإمام "الشعبي" وجها من الرأي فيمن يقتل نفسه إذا ضاقت عليه الدنيا، ونزلت به النازلات، وتعذر القوت، واشتد الضر، وتدلت به المسكنة إلى حضيضها، وألجئ إلى أحوال دقته دق الرحى لما تدور عليه، ولم يعد له إلا رأي واحد في معنى الدنيا, هو أنه مكذوب مزور على الدنيا. قلت: يا بني، فإني أراك أديبا، فمن أبوك؟ قال: هو فلان التاجر، ظهر ظهور القمر ومحق محاقه، وهو اليوم في أحلك الليالي وأشدها انطماسا؛ جهده الفقر، ويا ليته كان الفقر وحده، بل انتهكته العلل، وليتها لم تكن إلا العلل مع الفقر، بل أخذ الموت امرأته فماتت هما به وبي، ولم يكن له غيري وغيرها، وكان كل من ثلاثتنا يحيا للاثنين الآخرين، فهذا ما كان يجعل كلا منا لا يفرغ إلا امتلأ، ولما ذهبت الأم ذهبت الحقيقة التي كنا نقاتل الأيام عنها، وكانت هي وحدها ترينا الحياة بمعناها إن جاءتنا الحياة فارغة من المعنى، وكنا من أجلها نفهم الأيام على أنها مجاهدة البقاء؛ أما الآن فالحياة عندنا قتل الحياة! قلت: يا بني، فإنك -والله- مع أدبك لحكيم، وإني لأنفس بك على الموت، فكيف ردتك حياة أمك عن قتل نفسك ولا تردك حياة أبيك؟ قال: لو بقى أبي حيا لبقيت، ولكن الدهر قد انتزع منه آخر ما كان يملك من أسباب القوة، حين أخذ القلب الشفيق الذي كان يجعله يرتعد إذا فكر في الموت, فهو الآن كالذي يحارب عن نفسه تلقاء عدو لا يرحمه؛ إن عجز عن عدوه فالرأي قتل نفسه ليستريح من تنكيل العدو به. قال المسيب بن رافع: وأدركت أن الفتى يريد من سؤال الشيخ تحلة يطمئن

إليها أن يموت مسلما إذا قتل نفسه كالمضطر أو المكره، فأشفقت أن أكسر نفسه إذا أنا حدثته أو أفتيته؛ وقلت: هذا مريض يحتاج العلاج لا الفتيا؛ وكان إمامنا "الشعبي" حكيما لحنا فطنا، سفر ين أمير المؤمنين "عبد الملك" وعاهل الروم، فحسدنا العاهل أن يكون فينا مثله. وقلت: لعل الله يحدث به أمرا. فأخذت بيد الفتى إليه، ومشيت أكلمه وأرفه عن نفسه. وقلت له: أما تدري أنك حين فرغت من سرور الحياة فرغت من غرروها أيضا, وأنا الزاهد المنقطع في عرعرة الجبل ينظر من صومعته إلى الدنيا، ليس بأحكم ولا أبصر ممن ينظر من آلامه إلى الدنيا؟ يا بني: إن الزاهد يحسب أنه قد فر من الرذائل إلى فضائله، ولكن فراره من مجاهدة الرذيلة هو في نفسه رذيلة لكل فضائله. وماذا تكون العفة والأمانة والصدق والوفاء والبر والإحسان وغيرها، إذا كان فيمن انقطع في صحراء أو على رأس جبل؟ أيزعم أحد أن الصدق فضيلة في إنسان ليس حوله إلا عشرة أحجار؟ وايم الله إن الخالي من مجاهدة الرذائل جميعًا، لهو الخالي من الفضائل جميعًا. يا بني: إن من الناس من يختارهم الله فيكونون قمح هذه الإنسانية؛ ينبتون ويحصدون ويطحنون ويعجنون ويخبزون، ليكونوا غذاء الإنسانية في بعض فضائله. وما أرك أنت وأباك إلا من المختارين، كأن في أعراقكم دم نبي يقتل أو يصلب! قال المسيب: وانتهينا إلى دار الشعبي، فطرقت الباب، وجاء الشيخ ففتح لنا، وسلمنا وسلم، ثم بدرت فقلت: يا أبا عمرو، إن أبا هذا كان من حاله كيت وكيت، فترادفت عليه المصائب، وتوالت النكبات، وتواترت الأسقام ... ثم اقتصصت ما قال ابنه حرفا حرفا، ثم قلت؛ وإنه الآن موشك أن يزهق نفسه وسيتبعه ابنه هذا؛ وقد "هداه الله إليك فجاء يسلك, أيموت مسلما من ألجئ وأكره واضطر واستضاق واختل، فتحسى سما فهلك، أو توجأ بحديدة فقضى، أو ذبح نفسه بنصل فخفت، أو حز في يده بسكين فما رقأ دمه حتى مات، أو اختنق في حبل ففاضت نفسه، أو تردى من شاهق فطاح! وأدرك الشيح معنى قولي: "هداه الله إليك" ومعنى ما أكثرت من الألفاظ المرادفة على القتل وما استقصيت من وجوهه؛ فعلم أن لم أسأله الفتيا والنص، ولكني سألته الحكمة والسياسة؛ فقال: هذا -والله- رجل كريم، أخذته الأنفة وعزة النفس, وما أنا الساعة بمعزل عن همه, فنذهب نكلمه والله المستعان. ومشينا ثلاثتنا، فلما شارفنا الدار قال الفتى: إنه لا يفتح لي إذا رآكما، وربما

استفز بنفسه فأزهقها، وسأتسور الحائط وأتدلى ثم أفتح لكما فتدخلان وأنا عنده. ودخلنا، فإذا رجل كالمريض من غير مرض، خوار مسلوب القوة، انزعج قلبه إلى الموت وما به جرأة، وإلى الحياة وما به قوة؛ وصغر إليه نفسه أنها أصبحت في معاملة الناس كالدرهم الزائف لا يقبله أحد، وثابر عليه داء الحزن فأضناه وتركه روحا تتقعقع في جلدها، فهي تهم في لحظة أن تثب وتندلق. وسلم الشيخ وأقبل بوجهه على الرجل، ثم قال: "بسم الله الرحمن الرحيم، {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177] ". فقطع عليه الرجل وقال كالمحنق: أيها الشيخ، قد صبرنا حتى جاء ما لا صبر عليه؛ وقد خلونا من معاني الكلام كله؛ فما نقدر عليها إلا لفظة واحدة نملك معناها، هي أن ننتهي! ومد الشيخ عينه فرأى كوة مسدودة في الجدار، فقال لي: افتح هذه ودع الهواء يتكلم معنا كلامه. فقمت إليها فعالجتها حتى فتحتها، ونفذ منها روح الدنيا، وقال الشيح للرجل: أصغ إلي، فإذا أنا فرغت من الكلام فشأنك بنفسك. أعلمت أن رجلا من المسلمين قد مرض، فأعضل مرضه فأثبته على سريره ثلاثين سنة لا يتحرك، وطوى فيه الرجل الذي كان حيا ونشر منه الرجل الذي سيكون ميتا، فبقي لا حيا ولا ميتا ثلاثين سنة؟ قال الرجل: وفي الدنيا من يعيش على هذا الحال ثلاثين سنة؟ قال الشيح: صحيح الكلام واسأل. أيصبر على هذه الحال ثلاثين سنة ولا يقول: "جاء ما لا صبر عليه" وأي شيء لا صبر عليه عند الرجل المؤمن الذي يعلم أن البلاء مال غير أنه لا يوضع في الكيس بل في الجسم؟ أفتدري من كان الصابر ثلاثين سنة على بلاء الحياة والموت مجتمعين في عظام ممدودة على سريرها؟ إنه إمامنا "عمران بن حصين الخزاعي"1 الذي أرسله عمر بن الخطاب يفقه أهل البصرة, وتولى قضاءها، وكان الحسن البصري يحلف بالله ما قدمها خير لهم من عمران بن حصين. ولقد دخلت عليه أنا وأخوه "العلاء"، فرأيناه مثبتا على سرير الجريد كأنما شد بالحبال وما شد إلا بانتهاك

_ 1 توفي سنة 53 من الهجرة.

عصبه وذوبان لحمه ووهن عظامه، فبكى أخوه، فقال: لم تبكي؟ قال: لأني أراك على هذه الحال العظيمة؟ قال: لا تبك، فإن أحبه إلى الله تعالى أحبه إلي. ثم قال: إن هذه الأرض تحمل الجبال فلا يشعر موضع منها بالجبل القائم عليه، إذ كان تماسك الأرض كلها قد جعل لكل موضع منها قوة الجميع، ولولا هذا لدك الجبل موضعه وغار به؛ وكذلك يحمل المؤمن مثل الجبال من البلاء على أعضائه لا ينكسر لها ولا يتهدم؛ إذ كانت قوة روحه قوة في كل موضع، فالبلاء محمول على همة الروح لا على الجسم، وهذا معنى الخبر: "إن المؤمن بكل خير على كل حال، إن روحه لتنزع من بيه جنبيه وهو يحمد الله عز وجل". ثم قال: ولكن ذاك هو المؤمن، فمن آمن بالله فكأنما قال له: "امتحني! " وكيف تراك إذا كنت بطلا من الأبطال مع قائد الجيش, أما تفرض عليك شجاعتك أن تقول للقائد: "امتحني وارم بي حيث شئت! " وإذا رمى بك فرجعت مثخنا بالجراح ونالك البتر والتشويه، أتراها أوصافا لمصائبك, أم ثناء على شجاعتك؟ ثم قال: إذا لم يكن الإيمان بالله اطمئنانا في النفس على زلازلها وكوارثها، لم يكن إيمانا، بل هو دعوى بالفكر أو اللسان لا يعدوهما، كدعوى الجبان أنه بطل، حتى إذا فجأه الروع أحدث في ثيابه من الخوف. ومن ثم كان قتل المؤمن نفسه لبلاء أو مرض أو غيرهما كفرا بالله وتكذيبا لإيمانه، وكان عمله هذا صورة أخرى من طيش الجبان الذي أحدث في ثيابه! والإيمان الصحيح هو بشاشة الروح، وإعطاء الله الرضى من القلب, ثقة بوعده ورجاة لما عنده، ومن هذين يكون الاطمئنان، وبالبشاشة والرضى والثقة والرجاء، يصبح الإيمان عقلا ثانيا مع العقل، فإذا ابتلي المؤمن بما يذهب معه الصبر ويطيش له العقل، وصار من أمره في مثل الجنون, برز في هذه الحالة عقله الروحاني وتولى سياسة جسمه حتى يفيق العقل الأول. ويجيء الخوف من عذاب الله ونقمته في الآخرة، فيغمر به خوف النفس من الفقر أو المرض أوغيرهما فيقتل أقواهما الأضعف، ويخرج الأعز منهما الأذل. فالاطمئنان بالإيمان هو قتل الخوف الدنيوي بالتسليم والرضى، أو تحويله عن معناه بجعل البلاء ثوابا وحسنات، أو تجريده من أوهامه باعتبار الحياة سائرة بكل ما فيها إلى الموت؛ وهو بهذا عقل روحاني له شأن عظيم في تصريف الدنيا، يترك النفس راضية مرضية، تقول لمصائبها وهي مطمئنة: نعم. وتقول لشهواتها وهي مطمئنة: لا.

وما الإنسان في هذا الكون؟ وما خيره وشره؟ وما سخطه ورضاه؟ إن كل ذلك إلا كما ترى قبضة من التراب تتكبر وقد نسيت أنه سيأتي من يكنسها! قال الشيخ: وانظر, أما تبتلى الشجرة الخضراء في بعض أوقاتها بمثل ما يبتلى به الإنسان؟ غير أن لها عقلا روحانيا مستقرا في داخلها يمسك الحياة عليها ويتربص حالا غير الحال؛ ومهما يكن من أمر ظاهرها وبلائه فالسعادة كلها في داخلها، ولها دائما ربيع على قدرها حتى في قر الشتاء. فالعقل الروحاني الآتي من الإيمان، لا عمل له إلا أن ينشئ للنفس غريزة متصرفة في كل غرائزها، تكمل شيئا وتنقص من شيء، وتوجه إلى ناحية وتصرف عن ناحية؛ وبهذه الغريزة تسمو الروح فتكون أكبر من مصائبها وأكبر من لذاتها جميعا. وتلك الغريزة هي نفسها معنى الرضى بالقدر خيره وشره, وهي تأتي بالتأويل لكل هموم الدنيا، فتضع في النكبات معاني شريفة تنزع منها شرها وأذاها للنفس؛ وليست المصيبة شيئا لولا تأذي النفس بها، وإذا وقع التأويل في معاني النكبات أصبحت تعمل عمل الفضائل، وتغيرت طبيعتها فيعود الفقر بابا من الزهد، والمرض نوعا من الجهاد، والخيبة طريقا من الصبر، والحزن وجها من الرجاء، وهلم جرا. والنفس وحدها كنز عظيم، وفيها وحدها الفرح والابتهاج لا في غيرها، وما لذات الدنيا إلا وسائل لإثارة هذا الفرح وهذا الابتهاج، فإن وجدا مع الفقر بطلت عزة المال وأصبح حجرا من الحجر؛ والبلبل يتغرد بحنجرته الصغيرة ما لا تغني فيه آلات التطريب كلها. وفي النفس حياة ما حولها، فإذا قويت هذه النفس أذلت الدنيا، وإذا ضعفت أذلتها الدنيا!. قال المسيب: ثم سكت الشيخ قليلا، وكنت أرى الرجل كأنما يغتسل بكلامه، وقد أشرق وجهه وتنضر وانقلب على روحه التي كان منصرفا عنها، فعادت مصائبه تضغط روحا لينة كما تضغط اليد على الماء، وأيقن أن النكبة كلها هي أن ينظر الإنسان إلى الحياة بعين شهواته, فينكب أول ما ينكب في صبره ويقينه. ثم قال الشيخ: ولقد رأيت بعيني رأسي معجزة "العقل الروحاني" وكيف يصنع؛ رأيت عروة بن الزبير1 وهو شيخ كبير، عند الوليد بن عبد الملك، وقد

_ 1 توفي سنة 93 للهجرة.

وقعت في رجله الأكلة: فأشاروا عليه بقطعها لا تفسد جسده كله، فدعي له من يقطعها فلما جاء قال له: نسقيك الخمر حتى لا تجد لها ألما، فقال عروة: لا أستعين بحرام الله على ما أرجو من عافية! قال: فنسقيك المرقد. فقال عروة: ما أحب أن أسلب عضوا من أعضائي وأنا لا أجد ألم ذلك فأحتسبه! ثم دخل رجال أنكرهم عروة، فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: يمسكونك، فإن الألم ربما عزب معه الصبر، قال: أرجو أن أكفيكم ذلك من نفسي! قال الشيخ: فانظر أيها الضعيف الذي يريد قتل نفسه كيف صنع عروة، وكيف استقبل البلاء، وكيف صبر وكيف احتمل، إنه انصرف بحسه إلى النفس فانبسطت روحه عليه، وأخذ يكبر ويهلل ليبقى مع روحه وحدها، وخرج من دنيا ظاهره إلى دنيا باطنه، وغمرت حواسه وأعصابه بالنور الإلهي من معنى التكبير والتهليل، فقطع القاطع كعبه بالسكين وهو لا يلتفت، حتى إذا بلغ العظم وضع عليها المنشار ونشرها وعروة في التكبير والتهليل، ثم جيء بالزيت مغليا في مغارف الحديد فحسم به مكان القطع، فغشي على عروة ساعة ثم أفاق وهو يمسح العرق عن وجهه، ولم يسمع منه في كل هذه الآلام الماحقة أنة ولا آهة، ولم يقل قبلها ولا بعدها ولا بين ذلك: "جاء ما لا صبر عليه! ". قال المسيب: وأرهف بأس الرجل الضعيف وقوي جأشه، وانبعث فيه الروح إلى عمر جديد، ونشأ له اليقين من عقله الروحاني، وعرف أن ما لا يمكن أن يدرك، يمكن أن يترك. وجاء هذا العقل الروحاني فمر بالمنشار على اليأس الذي كان في نفسه فقطعه، فما راعنا إلا أن وثب الرجل قائما يقول: الله أكبر من الدنيا، الله أكبر من الدنيا. ثم أكب على يد الشيخ وهو يقول: صدقت؛ "إن كل ذلك إلا كما ترى قبضة التراب تتكبر، وقد نسيت أنه سيأتي من يكنسها! ". ماذا يصنع الإنسان إذا غلط في مسألة من مسائل الدنيا إلا أن يتحرى الصواب، ويجتهد في الرجوع إليه، ويصبر على ما يناله في ذلك؟ وماذا يصنع الإنسان إذا غلطت في مسألة؟

الانتحار "2"

الانتحار "2" قال المسيب بن رافع: وقام الشعبي إلى الرجل فاعتنقه فرحا بما آل أمره إليه، بعد إذ رأى النور يجري على لونه ويترقرق في ديباجته، كأنما وقع الصلح بين وجهه وبين الحياة. ثم قال له: نعم أخو الإسلام أنت، فاستعذ بالله من خذلانه، فإنه ما خذلك إلا وضعك نفسك بإزاء الله تعارضه أو تجاريه في قدرته، فيكلك إلى هذه النفس، فتنتهي بك إلى العجز، وينتهي العجز بك إلى السخط، ومتى كنت عاجزا ساخطًا، محصورا في نفسك موكولا إلى قدرتك، كنت كالأسد الجائع في الفقر، إذا ظن أن قوته تتناول خلق الفريسة؛ فيدعو ذلك إلى نفسك اليأس والانزعاج والكآبة؛ وأمثالها من هذه المهلكات تقدح في قلبك الشك في الله، وتثبت في روعك شر الحياة، وتهدي إلى خاطرك حماقات العقل، وتقرر عندك عجز الإرادة؛ فتنتهي من كل ذلك ميتا قد أزهقتك نفسك قبل أن تزهقها! ولو كنت بدل إيمانك بنفسك قد آمنت بالله حق الإيمان، لسلطك الله على نفسك ولم يسلطها عليك؛ فإذا رمتك المطامع بالحاجة التي لا تقدر عليها، رميتها من نفسك بالاستغناء الذي تقدر عليه؛ وإذا جاءتك الشهوات من ناحية الرغبة المقبلة، جئتها من ناحية الزهد المنصرف، وإذا ساورتك كبرياء الدنيا أذللتها بكبرياء الآخرة. وبهذا تنقلب الأحزان والآلام ضروبا من فرح الفوز والانتصار على النفس وشهواتها، وكانت فنونا من الخذلان والهم، وتعود موضع فخر ومباهاة، وكانت أسباب خزي وانكسار، "وعزيمة الإيمان إذا هي قويت حصرت البلاء في مقداره، فإذا حصرته لم تزل تنقص من معانيه شيئا شيئا، فإذا ضعفت هذه العزيمة جاء البلاء غامرًا متفشيا يجاوز مقداره بما يصحبه من الخوف والروع، فلا تزال معانيه تزيد شيئا فشيئا بما فيه وبما ليس فيه. وللإيمان ضوء في النفس ينير ما حولها فتراه على حقيقته الفانية وشيكا أن

يزول؛ فإذا انطفأ هذا الضوء انطمست الأشياء، فتتوهمها النفس أوهاما متباينة على أحوالها المختلفة؛ كما يرى الأعمى بوهمه، لا عينه مع الأشياء تكون في طبيعتها، ولا أشياؤه عند عينه تكون في حقيقتها. قال المسيب: وكان الشمس قد طفلت للمغيب؛ فقال الإمام للرجل: قم فتوضأ وأسبغ الوضوء، وسأعلمك أمرا تنتفع به في دينك ودنياك: فإذا قمت إلى وضوئك فأيقن في نفسك واعزم في خاطرك على أن في هذا الماء سرا روحانيا من أسرار الغيب والحياة, وأنه رمز للسماء عندك، وأنك إنما تتطهر به من ظلمات نفسك التي امتدت على أطرافك؛ ثم سم الله تعالى مفيضا اسمه القادر الكريم على الماء وعلى نفسك معا، ثم تمثل أنك غسلت يديك مما فيهما ومما تتعاطاه بهما من أعمال الدنيا، وأنك آخذ فيهما من السماء لوجهك وأعضائك؛ وقرر عند نفسك أن الوضوء ليس شيئا إلا مسحة سماوية تسبغها على كل أطرافك، ليشعر بها جسمك وعقلك؛ وأنك بهذه المسحة السماوية تستقبل الله في صلاتك سماويا لا أرضيا. فإذا أنت استشعرت هذا وعملت عليه وصار عادة لك، فإن الوضوء حينئذ ينزل من النفس منزلة الدواء، كلما اغتممت أو تسخطت أو غشيك حزن أو عرض لك وسواس، فما تتوضأ على تلك النية إلا غسلت الحياة وغسلت الساعة التي أنت فيها من الحياة1. وترى الماء تحسبه هدوءا لينا لين الرضى، وإذا هو ينساب في شعورك وفي أحوالك جميعا. قال المسيب: وقمت أنا فجددت وضوئي على هذه الصفة بتلك النية، فإذا أنا عند نفسي مستضيء بروح نجمية لها إشراق وسناء، وإذا الوضوء في أضعف معانيه هو ما علمنا من أنه الطهارة والنظافة، أما في أقوى معانيه فهو إفاضة من السماء فيها التقديس والتزكية وغسل الوقت الإنساني مما يخالطه كلما مرت ساعات، وابتدؤه للروح كالنبات الأخضر ناضرا مطولًا مترطبا بالماء. ثم صلى بنا الشيخ, وأمرني بالمبيت مع الرجل، كأنما خشي البدوات أن تبدو له فتنقص عزمه، أو هو زادني عليه لأغير شخصه وأبدل وحدته التي كان فيها، أو كأن الشيخ لم يأمن على الرجل أن يكون إنسانه الروحي قد تنبه بأكمله فوضعني كالتنبيه له.

_ 1 هذه في رأينا حكمة تكرار الوضوء وتلك هي أسراره عندنا.

جاءنا العشاء من دار الشيخ فطعمنا، ثم قام الرجل فتوضأ وصلينا العتمة وجلسنا نتحدث، فاستنابه نبأه، فقال: مهلا. ثم نهض فتوضأ الثالثة وقال: تالله ما أعرف الوضوء بعد اليوم إلا ملامسة بين السماء والنفس، وما أعرف وقته من الروح إلا كساعة الفجر على النبات الأخضر. قال المسيب: وأصبحنا فغدونا على الإمام، ثم لزمني الرجل في بعض أموري، ثم وافينا المسجد صلاة العصر لحضور درس الشيخ؛ وكان الناس كالحب المتراصف على العنقود، لا أدري من ساقهم وجمعهم، كأنما علمت الكوفة أن رجلا مسلما كفر بالله كفرة صلعاء وأنه سيحضر درس الشيخ, وسيحضر الشيخ من أجله، فهبت الرياح الأربع تسوق أهلها إلى المسجد من أقطارها. وجلس الشيخ مجلس الحديث فقال: روينا أن رجلا كانت به جراحة، فأتى قرنا له فأخذ مشقصا1 فذبح به نفسه, فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم, وترك جنازته مطرودة تقتحم متلفة الآخرة كما اقتحمت متلفة الدنيا. روينا في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعن نفسه يطعن نفسه في النار, والذي يقتحم يقتحم في النار". روينا عنه صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة". روينا عنه صلى الله عليه وسلم: "كان رجل به جراح فقتل نفسه، فقال الله: بدرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة". قال الشعبي: يقول الله: "بدرني عبدي بنفسه ... " أي بدرني وتأله فجعل نفسه إله نفسه، فقبضها وتوفاها، فكان ظالمًا. بدرني وتأله في آخر أنفاسه لحظة ينقلب إلي، فكان مع ظلمه مغرورًا أحمق! بدرني وتأله حين ضاق, فهور نفسه في الموت من عجزه أن يمسكها في الحياة، فكان عاجزًا مع ظلمه وغروره وحمقه! بدرني وتأله على جهله بسر الحياة وحكمتها، فلم يستح هذا المخلوق الظالم المغرور في حمقه وعجزه وجهله، ولم يستح أن يجيئني في صورة إله.

_ 1 القرن "بفتحتين": جعبة النشاب. والمشقص: سهم فيه نصل عريض.

بدرني وتأله، فطبع نفسه طابعها الأبدي من غي وتمرد وسفاهة، وأرسلها إلى مقتولة يردها علي. بدرني وتأله كأنما يقول: إن له نصف الأمر ولي النصف: أنا أحييت وهو أمات! بدرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة! قال الشعبي: وإنما تحرم الجنة على من يقتل نفسه، إذ ينقلب إلى الله وعلى روحه جناية يده ما تفارقها إلى الأبد, فهو هناك جيفة من الجيف مسمومة أبدًا, أو مخنوقة أبدًا، أو مذبوحة أبدًا، أو مهشمة أبدًا يقول الله له: أنت بدرتني بنفسك، وجريت معي في القدر مجرى واحدًا، فستخلد نفسك في الصورة التي هي من عملك، وما قتلت إلا حسناتك. قال الشعبي: ولو عرف قاتل نفسه أنه سيصنع من نفسه جيفة أبدية، فمن ذا الذي يعرف أنه إذا فعل كذا وكذا تحول حمارًا وبقي حمارًا، فيرضى أن يتحول ويسرع ليتحول؟ من ذلك نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنازة ذلك الرجل الذي قتل نفسه، كما ينظر إلى ذبابة توجهت بالسب إلى الشمس والكواكب والأفلاك كلها، ثم جاءته تقول له: اشهد لي. قال الشيخ: ومم يقتل الإنسان نفسه؟ أما أن الموت آت لا ريب فيه ولا مقصر لحي عنه، وهو الخيبة الكبرى تلقى على هذه الحياة؛ فما ضرر الخيبة الصغيرة في أمر من أمور الحياة؟ إن المرء لا يقتل نفسه من نجاح بل من خيبة، فإن كانت الخيبة من مال فهي الفقر أو الحاجة، وإن كانت من عافية فهي المرض أو الاختلال، وإن كانت من عزة فهي الذل أو البؤس، وإن كانت مما سوى ذلك -كالنساء وغيرهن- فهي العجز عن الشهوة أو التخيل الفاسد، وليس يخيب الإنسان إلا خيبة عقل أو إرادة، وإلا فالفقر والحاجة والمرض والاختلال والذل والبؤس، والعجز عن الشهوة وفساد التخيل، كل ذلك موجود في الناس، يحمله أهله راضين به صابرين عليه، وهو الغبار النفسي لهذه الأرض على نفوس أهلها. ويا عجبا! إن العميان هم بالطبيعة أكثر الناس ضحكا وابتسامًا وعبثًا وسخرية، أفتريدون أن تخاطبكم الحياة بأفصح من ذلك؟

ليست الخيبة هي الشر، بل الشر كله في العقل إذا تبلد فجمد على حالة واحدة من الطمع الخائب، أو في الإرادة إذا وهنت فبقيت متعلقة بما لم يوجد. أفلا ترون أنه حين لا يبالي العقل ولا الإرادة لا يبقى للخيبة معنى ولا أثر في النفس، ولا يخيب الإنسان حينئذ، بل تخيب الخيبة نفسها؟ لهذا يأبى الإسلام على أهله الترف العقلي والتخيل الفاسد، ويشتد كل الشدة في أمر الإرادة، فلا يترخص في شيء يتعلق بها، ولا يزال ينميها بأعمال يومية تشد منها لتكون رقيبة على العقل حارسة له، فإن للعقل أمراضًا كثيرة يقيس فيها درجات من الطيش حتى يبلغ الجنون أحيانًا؛ فكانت الإرادة عقلا للعقل؛ هي لينه إذ تصلب، وهي حركته إذا تبلد، وهي حلمه إذ طاش، وهي رضاه إذا سخط. الإرادة شيء بين الروح والعقل فهي بين وجودين؛ ولهذا يكون بها الإنسان بين وجودين أيضا، فيستطيع أن يعيش وهو في الدنيا كالمنفصل عنها، إذ يكون في وجوده الأقوى وجود روحه، وأكبر همه نجاحه في هذا الوجود. وهذا النجاح لا يأتي من المال، ولا تحققه العافية، ولا تيسره الشهوات، ولا يسنيه التخيل الفاسد؛ ولا يكون من متاع الغرور، ولا مما عمره خمسون سنة أو مائة سنة، بل يأتي مما عمره الخلود ومما هو باق أبدًا في معانيه من الخير والحق والصلاح؛ فههنا يعين المرض بالصبر عليه مما لا تعين الصحة، ويفيد الفقر بحقائقه ما لا تفيد الثروة؛ وهنا يكون العقل الإنساني عاملا أكثر مما هو متخيل، وقانعا أكثر مما هو طامع؛ ههنا لا موضع لغلبة الشهوة، ولا كبرياء النفس، ولا حب الذات؛ وهذه الثلاث هي جالبة الشقاء على الإنسان حتى في أحوال السعادة, وبدونها يكون الإنسان هانئا حتى في أحوال الشقاء. بالإرادة المؤمنة القوية ينصرف ذكاء المؤمن إلى حقائق العالم وصلاح النفس بها، وبغير هذه الإرادة ينصرف الذكاء إلى خيال الإنسان وفساد الإنسان. وإذا انصرف الذكاء إلى حقائق الدنيا كان العقل سهلا مرنا مطواعا، واستحال عليه أن يفهم فكرة قتل النفس أو يقرها، فإن هذه الفكرة الخبيثة لا تستطرق إلى العقل إلا إذا تحجر وانحصر في غرض واحد قد خاب وخابت فيه الإرادة ففرغت الدنيا عنده. ولو أن امرأ تم عزمه على قتل نفسه ثم صابر الدنيا أيامًا، لانفسح عزمه أو رك؛ إذ يلين العقل في هذه المدة نوعا ما، ويجعل الصبر بينه وبين المصيبة مسافة

ما، فتتغير حالة النفس هونا ما؛ فالصبر كالتروح بالهواء على العقل الذي يكاد يختنق من احتباسه في معنى واحد مقفل من جوانبه "ومثل العقل في هذه الحال مثل القائم في إعصار لفه بالتراب لفا وسد عليه منافذ الهواء، وحبسه في هذا التراب الملتف حبس الحشرة في جوف القصبة؛ فهو على اليقين أنها حالة ساعة طارئة من الزمن لا حالة الزمن؛ وأن الهواء الذي جاء بهذا الهم هو الذي يذهب بهذا الهم. وكما أن الأرض هي شيء غير هذا الإعصار الثائر منها، فالحياة كذلك هي أمر آخر غير شقائها. قال الإمام: وفي كتاب الله آيتان تدلان على أنه كتاب الدنيا كلها، إذ وضع لهذه الدنيا مثالين: أحدهما المثال الروحي للفرد الكامل، والآخر المثال الروحي للجماعة الكاملة. أما الآية الأولى فهي قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21] . وأما الثانية فهي قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] . ففي رجاء الله واليوم الآخر يتسامى الإنسان فوق هذه الحياة الفانية، فتمر همومها حوله ولا تصدمه، إذ هي في الحقيقة تجري من تحته فكأن لا سلطان لها عليه، وهذه الهموم تجد في مثل هذه النفس قوى بالغة تصرفها كيف شاءت، فلا يجيء الهم قوة تستحق ضعفا، بل قوة تمتحن قوة أخرى أو تثيرها لتكون عملا ظاهرا يقلده الناس وينتفعون منه بالأسوة الحسنة, والأسوة وحدها هي علم الحياة. وقد ترى الفقير من الناس تحسبه مسكينا، وهو في حقيقته أستاذ من أكبر الأساتيذ يلقي على الناس دروس نفسه القوية. وفي رجاء الله واليوم الآخر يبطل أكبر أسباب الشر في الناس، وهو نظر الإنسان لمن هو أحظى منه بفتنة الدنيا نظرا لا يبعث إلا الحقد والسخط، فينظر المؤمن حينئذ إلى ما في الناس من الخبر والصلاح والإيمان والحق والفضيلة, وهذه بطبيعتها لا تبعث إلا السرور والغبطة، ومن جعلها في تفكيره أبطل أكثر الدنيا من تفكيره، وبها تسقط الفروق بين الناس عاليهم ونازلهم، كالرجل الفقير

العالم إذا قدم على الغني العالم؛ جمع بينهما الاتفاق العقلي وسقط ما عداه. وفي رجاء الله واليوم الآخر يعيش الإنسان عمره الطويل أو القصير كأنه في يوم يصبح منه غاديا على الحشر والحساب؛ فهو متصل بالخلود غير معني إلا بأسبابه، وبهذا تكون أمراضه وآلامه، ومصائبه ليست مكاره من الدنيا، بل هي تلك المكاره التي حفت الجنة بها؛ ولا يضره الحرمان لأنه قريب الزوال، ولا يغره المتاع لأنه قريب الزوال أيضا. وفي رجاء الله واليوم الآخر يسود الإنسان على نفسه، ومن كان سيد نفسه كان سيد ما حولها يصرفه بحكمه، ومن كان عبد نفسه صرفه بحكمه كل ما حوله. قال الشعبي: وأما المثال الروحي للجماعة الكاملة، فهو في وصف المؤمنين بأنهم "رحماء بينهم"؛ فهذا هذا، ما أحسبه يحتاج إلى بسط وبيان. إن أكثر ما يضيق به الإنسان يكون من قبل من حوله ممن يعايشهم ويتصل بهم لا من قبل نفسه، فإذا قام اجتماع أمة على أنهم "رحماء بينهم" تقررت العظمة النفسية للجميع على السواء؛ ومن كانوا كذلك لم يحقروا الفقير بفقره, ولم يعظموا الغني لغناه، وإنما يحقرون ويعظمون لصفات سامية أو حقيرة. وبين هؤلاء يكون الفقير الصابر أعظم قدرا من الغني الشاكر، وإعظام الناس لفضيلة الفقير هو الذي يجعل فقره عند نفسه شيئا ذا قيمة في الإنسانية. ومتى تصححت آراء الجماعة في هذه المعاني المؤلمة للناس بطل ألمها واستحالت معانيها، وصار لا يبلى معنى من معاني الحياة في إنسان إلا وضع إيمانه معنى جديدًا في مكانه، وتصبح الفضيلة وحدها غاية النفس في الجميع، وبذلك يصبر الفرد على مصائبه، لا بقوته وحده، ولكن بجميع القوى التي حوله. أفلا ترون أن إعجاب الناس بالشجاعة وتعظيمهم صاحبها يضع في ألم السلاح لذة يحسها لحم الشجاع البطل؟ قال المسيب بن رافع: فقام رجل من المجلس، فقال: أيها الشيخ، وإذا فسد الناس وغلظت قلوبهم، وتقطعت بينهم الأسباب، ولم يعودوا "رحماء بينهم", وشمتوا بالفقير، وتهزءوا بالمبتلى وطرحوه في ألسنتهم كما يطرح الشاعر في لسانه رجلا يهجوه لا يكف عنه -فما عسى أن يصنع المسكين حينئذ وكل شيء يدفعه إلى قتل نفسه؟

وقال الشعبي: ههنا الرجاء في الله واليوم الآخر، وهو شعور لا يشترى بمال، ولا يلتمس من أحد، ولا يعسر على من أراده، والفقير والمبتلى وغيرهما إنما يصنع كل منهم مثاله السامي؛ فالصبر على هذا العنت هو صبر على إتمام المثال، وإذا وقع ما يسوءك أو يحزنك فابحث فيه عن فكرته السامية، فقلما يخلو منها، بل قلما يجيء إلا بها1. قال المسيب: فقام آخر فقال: وكيف يصنع امرؤ آلت أحوال الدنيا إلى ما يخيفه، أو بلغ الهم مبلغه من قلبه فهم أن يقتل نفسه؟ قال الشعبي: فليجعل الخوف خوفين: أحدهما خوفه عذاب الله خالدًا مخلدًا فيه أبدًا؛ فيذهب الأقوى بالأضعف، وإذا ابتلي فليضم إلى نفسه من هو أشد بلاء منه؛ ليكون همه أحد همين، فيذهب الأثقل بالأخف. إن الإنسان ونفسه في هذه الحياة كالذي أعطي طفلا نزقا طياشا عارما متمردًا ليؤدبه ويحكم تربيته وتقويمه فيثبت بذلك أنه أستاذ، فيعطي أجر صبره وعمله، ثم يضيق الأستاذ بالطفل ساعة فيقتله، أكذلك التأديب والتربية؟

_ 1 في كتابنا "المساكين" كلام كثير في هذه المعاني.

الانتحار "3"

الانتحار "3": قال المسيب بن رافع: وكان الإمام قد شغل خاطره بهذه القصة فأخذت تمد مدها في نفسه، ومكنت له من معانيها بمقدار ما مكن لها في همه، وتفتق بها ذهنه عن أساليب عجيبة يتهيأ بعضها من بعض كما يلد المعنى العنى. فلما قال الرجلان مقالهما آنفا وأجابهما بتلك الحكمة والموعظة الحسنة, انقدح له من كلامهما وكلامه رأي فقال: يا أهل الكوفة: أنشدكم الله والإسلام أيما رجل منكم ضاق بروحه يومًا فأراد إزهاقها إلا كشف لأهل المجلس نفسه وصدقنا عن أمره؛ ولا يجدن في ذلك ثلبا ولا عابًا، فإنما النكبة مذهب من مذاهب القدر في التعليم, وقد يكون ابتداء المصيبة في رجل هو ابتداء الحكمة فيه لنفسه أو لغيره؛ وما من حزين إلا وهو يشعر في بعض ساعات حزنه أنه قد غيبت فيه أسرار لم تكن فيه، وهذا من إبانة الحقيقة عن نفسها وموضعها كما لألأ في سيف بريقه. وعقل الهم عقل عظيم، فلو قد أريد استخراج علم يعلمه الناس من اللذات والنعم؛ لكان من شرح هذا العلم من الحمير والبغال والدواب ما لا يكون مثله ولا قرابه في العقلاء، ولا تبلغه القوى الآدمية في أهلها؛ يبد أنه لو أريد علم من البؤس والألم والحاجة لما وجد شرحه إلا في الناس، ثم لا يكون الخاص منه إلا في الخاصة منهم. وما بان أهل النعمة ولا غمروا المساكين في تطاولهم بأعناقهم إلا من أنهم يعلون أكتاف الشياطين؛ فالشيطان دابة الغني الذي يجهل الحق عليه في غناه ويحسب نفسه مخلى لشهواته ونعيمه؛ كما هو دابة العالم الذي يجهل الحق عليه في علمه، ويزعم نفسه مخلى لعقله أو رأيه، وما طال الطويل بذلك ولا عن ذلك قصر القصير، وهل يصح في الرأي أن يقال هذا أطول من هذا لأن الأول فوق السلم والآخر فوق رجليه؟

قال المسيب: فقام شيخ من أقصى المجلس وأقبل يتخطى الرقاب والناس ينفرجون له حتى وقف بإزاء الإمام؛ وتفرسته وجعلت عيني تعجمه، فإذا شيخ تبدو طلاقة وجهه شبابا على وجهه، أبلج الغرة متهلل عليه بشاشة الإيمان وفي أساريره أثر من تقطيب قديم، ينطق هذا وذاك أن الرجل فيما أتى عليه من الدهر قد كان أطفأ المصباح الذي في قلبه مرة ثم أضاءه. وعجبت أن يكون مثل هذا الشيخ قد هم بقتل نفسه يوما، وأنا أرى بعيني نفسه هذه منبثقة في الحياة انبثاق النخلة السحوق. وتكلم هذا الرجل فقال: أما إذ ناشدتنا الله والإسلام وميثاق العلم ووحي الأقدار في حكمتها، فإني محدثك بخبري على وصفه ورصفه: أملقت منذ ثلاثين سنة ووقف بي من الدهر ما كان يجري، وأصبحت في مزاولة الدنيا كعاصر الحجر يريد أن يشرب منه، وعجزت يدي حتى لظفر دجاجة في نبشها التراب عن الحبة والحشرة أقدر مني؛ وطرقتني النوائب كأنما هي تساكنني في داري، وأكلني الدهر لحما ورماني عظامًا، فما كان يقف علي إلا كلاب الطريق؛ ولي يومئذ امرأة أعقبت منها طفلا، ويلزمني حقهما وأستطيعه، وكان بيننا حب فوق المعاشرة والألفة قد تركني من امرأتي هذه كالشاعر الغزل من صاحبته، غير أن الشعر في دمي لا في لساني. فلما نهكتني المصائب وتناولتني من قريب ومن بعيد، قلت للمرأة ذات يوم وقد شحبت وانكسر وجهها وتقبض من هزاله: وايم الله يا فلانة لو جاز أن يؤكل لحم الآدمي لذبحت نفسي لتأكلي وتدري على الصبي، ولقد هممت أن أركب رأسي وأذهب على وجهي لتفقداني فتفقدا شؤمي عليكما؛ ولكن ردني قلبي، وهو حبسني في هذه الدنيا الصغيرة التي بينكما، فليس لي من الأرض مشرق ولا مغرب إلا أنت وهذا الصبي. ولست أدري -والله- ما نصنع بالحياة وقد كنا من نباتها الأخضر فرجعنا من حطبها اليابس؛ وعادت الشمس لا تغذوها بل تمتص منها ما بقي، ولا تستضيء لها، ولكن تستوقد عليها. إن من فقد الخير ووقع في الشر، حري أن يكون قد أصاب خيرًا عظيما إذا قتل نفسه فخلص من الشر والخير جميعا، لا يكدي ولا ينجح، ولا يألم ولا يلذ؛ وكما أنكرته الدنيا فلينكرها. أما إنه إن كان القبر فالقبر ولكن في بطن الأرض لا على ظهرها كحالنا؛ وإن كان الموت فالموت ولكن بمرة واحدة وفي شيء واحد لا كهذا الذي نحن فيه أنواعًا أنواعًا، قد ماتت أيامنا، وتركنا نعيش كالموتى لا أيام

لهم، وزاد علينا الموتى في النعمة والراحة أنهم لا يتطفلون على أيام غيرهم فيطردوا عن يوم هذا ويوم ذاك. قال: فاستعبرت المرأة باكية، ولما فرغت من كلام دموعها قالت: كأنك تريد أن تفجعنا فيك؟ قلت: ما عدوت ما في نفسي؛ ولكن هل بقي في من تفجعين فيه؟ أما ذهب مني ذاك الذي كان لك زوجا وكاسبا، وجاء الذي هو همك وهم هذا الصبي من رجل كالحفرة لا تنتقل من مكانها وتأخذ ولا تعطي؟ أم والله لكأني خلقت إنسانا خطأ، حتى إذا تبين الغلط أريد إرجاعي إلى الحيوان فلم يأت لا هذا ولا ذاك، وبقيت بينهما؛ يمر الناس بي فيقولون: إنسان مسكين. وأحسب لو نطقت الكلاب لقالت عني: كلب مسكين. يا عجبا! عجبا لا ينتهي! أصبحت الدنيا في يدنا من العجز واليأس كأنما هي بعرة نجهد في تحويلها ياقوتة أو لؤلؤة. فقالت المرأة: والله لئن حييت على هذا إن هذا لكفر قبيح، ولئن مت عليه إنه لأقبح وأشد. فقلت لها: ويحك وماذا تنظر العين المبصرة في الظلام الحالك إلا ما تنظر العمياء؟ قالت: ولم لا تنظر كما ينظر المؤمن بنور الله؟ قلت: فانظري أنت وخبريني ماذا ترين. أترين رغيفًا؟ أترين إدامًا؟ أترين دينارًا؟ قالت: والله إني لأرى كل ذلك وأكثر من ذلك. أرى قمرا سيكشف هذه السدفة المظلمة إن لم يطلع فكأن قد. قال: فغاظتني المرأة ورأيتها حينئذ أشد علي بقلة ذات عقلها من قلة ذات يدي؛ ولولا حبي إياها ورحمتي لها لأوقعت بها. واستحكم في ضميري أن أزهق نفسي وأدعها لما كتب لها. وقلت: إن جبن المرأة هو نصف إيمانها حين لا يكون نصف عقلها، وللقدر يد ضعيفة على النساء تصفعهن وتمسح دموعهن، وله يد أخرى على الرجال ثقيلة تصفع الرجل وتأخذ بحلقه فتعصره. قال: وكنت قد سمعت قول الجاهلية في هذه الخليقة؛ أرحام تدفع، وأرض

تبلع. فحضرني هذا القول تلك الساعة وشبه لي، واعتقدت أن هذا الإنسان شيء حقير في الغاية من الهوان والضعة: حملته أمه كرها، وأثقلت به كرها، ووضعته كرها؛ وهو من شؤمه عليها إذا دنا لها أن تضع لم يخرج منها حتى يضربها المخاض فتتقلب وتصيح وتتمزق وتنصدع؛ وربما نشب فيها فقتلها، وربما التوى فيبقر بطنها عنه. وإذا هي ولدته على أي حاليها من عسر وتطريق بمثل المطارق المحطمة، أو سراح ورواح كما يتيسر؛ فإنما تلده في مشيمة ودماء وقذر من الأخلاط كأنما هو خارج من جرح، ثم تتناوله الدنيا فتضعه من معانيها في أقبح وأقذر من ذلك كله. ثم يستوفي مدته فيأخذه القبر فيكون شرا عليه في تمزيقه وتعفينه وإحالته. قال: وحضرني مع كلمة الجاهلية قول ذلك الجاهل الزنديق الذي يعرف "بالبقلي" إذ كان يزعم أن الإنسان كالبقلة، فإذا مات لم يرجع، وقلت لنفسي: إنما أنت بقلة حمقاء ذواية في أرض نشاشة1، فقتلها ملح أرضها أكثر مما أحياها. قال: وثرت إلى المدية أريد أن أتوجأ بها, فتبادرني المرأة وتحول بيني وبينها، وأكاد أبطش بها من الغيظ، وكانت روح الجحيم تزفر من حولي لو سمعوا سمعوا لها شهيقا وهي تفور؛ فما أدري أي ملك هبط بوحي الجنة في لسان امرأتي. قلت لها: إنها عزمة مني أن أقتل نفسي. قالت: وما أريد أن أنقضها ولست أردك عنها وستمضيها. قلت: فخلي بين نفسي وبين المدية. قالت: كلنا نفس واحدة أنا وأنت والصبي فلنقض معا؛ وما بنفسي عن نفسك رغبة ولا تدع الصبي يتيما يصفعه من يطعمه، ويضربه ابن هذا وابن ذاك إذ لا يستطيع أن يقول في أولاد الناس أنا ابن ذلك ولا ابن هذا. قلت: هذا هو الرأي. قالت: فتعال اذبح الطفل. قال المسيب بن رافع: وما بلغ الرجل في قصته إلى ذبح صغيره حتى ضج الناس ضجة منكرة؛ وتوهم كل أب منهم أن طفله الصغير ممدد للذبح وهو ينادي أباه ويشق حلقه بالصراخ: يا أبي يا أبي؛ أدركني يا أبي.

_ 1 الأرض النشاشة: هي السبخة التي فيها الملح والماء.

أما الإمام فدمعت عيناه وكنت بين يديه فسمعته يقول: إنا لله، كيف تصنع جهنم حطبها؟ وأنا فما قط نسيت هذه الكلمة، وما قط رأيت من بعدها كافرًا ولا فاسقًا فاعتبرت أعماله إلا كان كل ذلك شيئًا واحدًا هو طريقة صنعته حطبًا ... كأن الشيطان لعنه الله يقول لأتباعه: جففوه. وكانت هنيهات، ثم فاء الناس ورجعوا إلى أنفسهم وصاحوا بالمتكلم: ثم ماذا؟ قال الرجل: ففتحت عيني وقلبي معًا ورمقت الطفل المسكين الذي لا يملك إلا يديه الضعيفتين؛ ونظرت إلى مجرى السكين من حلقه وإلى محزها في رقبته اللينة؛ ورأيته كأنما تفرق بصره من الفزع على كل جهة، ورأيته يتضرع لي بعينيه الباكيتين ألا أذبحه، ورأيته يتوسل بيديه الصغيرتين كأنه عرف أنه مني أمام قاتله، ثم خيل إلي أنه يتلوى وينتفض ويصرخ من ألم الذبح تحت يد أبيه؛ تحت يد أبيه التعس. يا ويلتاه! لقد أخذني ما كان يأخذني لو تهدمت السماء على الأرض، وحسبت الكون كله قد انفجر صراخًا من أجل الطفل الضعيف الذي ليس له إلا ربه أمام القاتل. فهرولت مسرعًا وتركت الدار والمرأة والصبي وأنا أقول يا أرحم الراحمين. يا من خلق الطفل عالمه أمه وأبوه وحدهما وباقي العالم هباء عنده. يا من دبر الرضيع فوهبه ملكا ومملكة وغنى وسرورًا وفرحا، كل ذلك في ثدي أمه وصدرها لا غير يا إلهي! أنسني مثل هذا النسيان، وارزقني مثل هذا الرزق، واكفلني بمثل هذا التدبير فإني منقطع إلا من رحمتك انقطاع الرضيع إلا من أمه. قال الرجل: ولقد كنت مغرورًا كالجيفة الراكدة تحسب أنها هي تفور حين فارت حشراتها. ولقد كنت أحقر من الذباب الذي لا يجد حقائقه, ولا يلتمسها إلا في أقذر القذر. وما كدت أمضي كما تسوقني رجلاي حتى سمعت صوتا نديا مطلولا يرجع ترجيع الورقاء في تحنانها وهو يرتل هذه الآية: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] .

قال: فوقفت أسمع وماذا كنت أسمع؟ هذه شعل لا كلمات، أحرقت كل ما كان حولي ولمست مصباح روحي المنطفئ فإذا هو يتوهج، وإذا الدنيا كلها تتوهج في نوره، وارتفعت نفسي عن الجدب الذي كنت فيه وكأنما لفتني سحابة من السحب، ففي روحي نسيم الماء البارد ورائحة الماء العذب. لعن الله هذا الاضطراب الذي يبتلى الخائف به. إننا نحسبه اضطرابا وما هو إلا اختلاط الحقائق على النفس وذهاب بعضها في بعض، وتضرب الشر في الخير والخير في الشر حتى لا يبين جنس من جنس، ولا يعرف حد من حد، ولا تمتاز حقيقة من حقيقة. وبهذا يكون الزمن على المبتلى كالماء الذي جمد لا يتحرك ولا يتساير. فيلوح الشر وكأنه دائما لا يزال في أوله ينذر بالأهوال، وقد يكون هوله انتهى أو يوشك. قال الرجل: وكنت أرى يأسي قد اعترى كل شيء، فامتد إلى آخر الكون وإلى آخر الزمن؛ فلما سكن ما بي إذا هو قد كان يأس يوم أو أيام في مكان من الأمكنة؛ أما ما وراء هذه الأيام وما خلف هذا المكان، فذلك حكمة حكم الشمس التي تطلع وتغيب على الدنيا لإحيائها، وحكم الماء الذي تهمي السماء به ليسقي الأرض وما عليها، وحكم استمرار هذه الأجرام السماوية في مدارها ولا تمسكها ولا تزنها إلا قوة خالقها. أين أثر الإنسان الدنيء الحقير في كل ذلك؟ وهل الحياة إلا بكل ذلك؟ وما الذي في يد الإنسان العاجز من هذا النظام كله فيسوغ له أن يقول في حادثة من حوادثه إن الخير لا يبتدئ وإن الشر لا ينتهي؟ تعتري المصائب هذا الإنسان لتمحو من نفسه الخسة والدناءة، وتكسر الشر والكبرياء، وتفثأ الحدة والطيش؛ فلا يكون من حمقه إلا أن يزيد بها طيشا وحدة، وكبرياء وشرًا، ودناءة وخسة، فهذه هي مصيبة الإنسان لا تلك. المصيبة هي ما ينشأ في الإنسان من المصيبة. قال: ورددت الآية الكريمة في نفسي لا أشبع منها، وجعلت أرتلها أحسن ترتيل وأطربه وأشجاه؛ فكانت نفسي تهتز وترج كأنما هي تبدأ تنظيم ما فيها لإقرار كل حقيقة في موضعها بعد ذلك الاختلاط والاضطراب. صبر النفس مع الذين يمثلون روحانيتها تمثيلا دائما بالغداة والعشي، وعلى نور الحياة وظلامها، يريدون وجه الله الذي سبيله الحب لا غيره من مال أو متاع.

وتقييد العينين بهذا المثل الأعلى كما يكون الأمر في الجمال والحب؛ والربط على الإرادة كيلا تتفلت فتسف إلى حقائر الدنيا المسماة هزءا وتهكما زينة الدنيا، تلك التي تشبه حقائق الذباب العالية ... فتكون قذرة نجسة، ولكنها مع ذلك زينة الحياة لهذا الخلق الذبابي. تلك -والله- هي أسباب السعادة والقوة. أما المصائب كلها، فهي في إغفال القلب الإنساني عن ذكر الله. قال: ولما صحت توبتي، وقوي اليقين في نفسي، كبرت روحي واتسعت، وانبعثت لها بواعث من غير حقائق الذباب, وأشرق فيها الجمال الإلهي ساطعا من كل شيء، وكان الصبح يطلع علي كأنه ولادة جديدة، فأنا دائما في عمر طفل، وجاءني الخير من حيث أحتسب ولا أحتسب، وكأنما نمت فانتبهت غنيا وعمل القلب الحي في الزمن الحي. ولقد أفدت من الآية طبيعة لم تكن في، ولا يثبت معها الشر أبدًا، فأصبح من خصالي أن أرى الحاضر كله متحركا يمر بما فيه من خيره وشره جميعًا، وأستشعر حركته مثلما ترى عيناي من قطار الإبل يهتز تحت رحاله وهو يغذ السير. لم أبعد قليلا وأنا أمشي مطمئنا تائبا متوكلا حتى دعاني رجل ذو نعمة ومروءة وجاه، وكأنما كلمه قلبه أو كلمه وجهي في قلبه فاستنبأني، وبثثته حالي واقتصصت قصتي. فقال: سيحييك الله بالطفل الذي كدت تقتله فارجع إلى دارك. ثم وجه إلي دنانير وقال: اتجر بهذه على اسم الله وبركته فسينمو فيها طفل من المال يبلغ أشده. وقد صدق إيمانه وإيماني، فبارك لي الله ونما طفل المال وبلغ وجاوز إلى شبابه. قال المسيب: وجلس الرجل وكان كالخطيب على المنبر، فقال الإمام: ما أشبه النكبة بالبيضة تحسب سجنا لما فيها وهي تحوطه وتربيه وتعينه على تمامه، وليس عليه إلا الصبر إلى مدة، والرضى إلى غاية، ثم تنقف البيضة فيخرج خلقا آخر. وما المؤمن في دنياه إلا كالفرخ في بيضته، عمله أن يتكون فيها، وتمامه أن ينبثق شخصه الكامل فيخرج إلى عالمه الكامل.

الانتحار "4"

الانتحار "4": قال المسيب بن رافع: ومد الإمام عينه وقد رفع له شخص من المجلس؛ ثم جلى بنظره كأنما يتطلع إلى عجيبة كالحق إذا بطل، والصدق إذا كذب، ثم رد بصره علي كأنه يعجبني من عجبه؛ ثم سجا طرفه كأنما أنكر رأي عينيه فهو يلتمس رأي قلبه. وتبينت في وجهه انقباضا خيل إلي أن الشيطان جاءه بهذا الرجل يفحمه به يريه كيف يجعل أحد المؤمنين الصالحين يتحمس في دينه ليرجع بعد ذلك أصلا لا غنى عنه في إنشاء قصة كفر! هذا هو ضيفنا "أبو محمد البصري"* يتخوض الناس ليجيء فيحدثنا حديثه في قتل نفسه والإثم بربه؛ فلو قيل لي: إن قوس السماء بأحمره وأصفره وأزرقه وأخضره, قد وقع إلى الأرض واصطبغ من ألوانه أوحالًا وأقذارًا؛ لكان هذا كهذا في تعاظمه وإنكاره والعجب منه؛ فأبو محمد من الرجال الحمس1 الذين لو كفر أحدهم ثم قيل: "إنه كفر"، لقصر اللفظ أن يبلغ الحقيقة أو يصف شنعتها، كما يقصر لفظ الجنون عن وصف حكيم تألى أن يعمل عملا يخرج به من الكون، فلا يبقى في أرض ولا سماء ولا تناله يد الله! إن في لفظ الكفر مع ذاك، وفي لفظ الجنون مع هذا, شيئا من نفاق العقل وتأدبه في أداء المعنى الأخرق الذي لا يشبهه جنون ولا كفر. ونعوذ بالله من خذلانه؛ فلقد يكون الرجل المؤمن في تشدده وإيغاله في الدين كالذي يصنع حبلا يفتله فتلا شديدًا فيمره على طاق بعد طاق، ليكون أشد له وأقوى، ثم يجاذبه الشيطان حبله، فإذا هو كان في الوهن مثل العنكبوت اتخذت

_ * يعني المؤلف بأن محمد البصري هذا صديقنا الأستاذ "م" ومن أجله أنشأ هذه المقالات وقد سبقت إشادتنا إلى حادثته وخبره وما فعل بنفسه. فانظر كل ذلك في موضعه من كتابنا "حياة الرافعي", وأكثر ما يأتي في هذا الفصل على لسان "أبي محمد البصري" فهو من قوله بحروفه إلا قليلًا من قليل. 1 أي المتحمسين في دينهم.

بيتا في سقف حداد؛ فرأته يصب الحديد المصهور يجعله سلسلة حلقة في حلقة، فذهبت تحكيه وترسل من لعابها خيطا في خيط تزعمه سلسلة. إن مع كل مؤمن شيطانه يتربص به، فلهذا ينبغي للمؤمن أن يكون في كل ساعة كالذي يشعر أنه لم يؤمن إلا منذ ساعة، فهو أبدًا محترس متهيئ متجدد الحواس مرهفها يستقبل بها الدنيا جديدة على نفسه بين الفترة والفترة، ومن هذا حكمة أن يؤذن المؤذن, وأن تقام الصلاة مرارًا في اليوم، فكلما بدأ وقت قال المؤمن: الآن أبدأ إيماني أطهر ما كان وأقوى. وقال الإمام: هيه يا أبا محمد! فقال البصري وقد رأى الكراهة في وجه الإمام: لا يفزعنك أيها الشيخ؛ فإن الله -تعالى- قد يجعل ما يحبه هو فيما نكره نحن؛ وليس للأقدار لغة فتجري على ألفاظنا؛ وقد نسمي النازلة تنزل بنا خسارًا وهي ربح، أو نقول مصيبة جاءت لتبديل الحياة، ولا تكون إلا طريقة تيسرت لتبديل الفك. إنما لغة القدر في شيء هي حقيقة هذا الشيء حين تظهر الحقيقة؛ وكأين من حادثة لا تصيب امرأ في نفسه إلا لتقع بها الحرب بين هذه النفس وبين غرائزها، فتكون أعمال الطبيعة المعادية أسبابا في أعمال العقل المنتصر. وكثير من هذا البلاء الذي يقضي على الإنسان، لا يكون إلا وسائل من القدر يرد بها الإنسان إلى عالم فكره الخاص به؛ فإن هذه الدنيا عالم واحد لكل من فيها، ولكن دائرة الفكر والنفس هي لصاحبها عالمه وحده. والسعيد من قر في عالمه هذا واستطاع أن يحكم فيه كالملك في مملكته، نافذ الأمر في صغيرتها وكبيرتها؛ والشقي من لا يزال ضائعا بين عوالم الناس، ينظر إلى هذا الغني، وإلى ذاك المجدود وإلى ذلك الموفق؛ وهو في كل هذا كالأجنبي في غير بلده وغير قومه وغير أهله، إذا كل شيء يصبح أجنبيا عن الإنسان ما دام هو أجنبيا عن نفسه. لقد كنت ضالا عن نفسي وعالمها، فكنت في هذه الدنيا أستشعر شعور اللص، أشياؤه هي أشياء الناس جميعًا؛ واللص ينظر إلى أموال الناس بعيني شاعر متحبب كلف، وهي تنظر إليه بعيني مقاتل متربص حذر. كنت والله إن ضقت بالناس أو وسعتهم؛ رأيت في ذلك معنى من ضيق اللص وسعته؛ هو على أي حاليه لا ينظر في أعماق نفسه إلا شخصا متواريا تحت الظلام يتسلل في خشية وحذر.

وكنت نزقا حديد الطبع سريع البادرة؛ ومن فقد عالم نفسه وكان في مثل اللص الذي ذكرت؛ فإن هذه الطباع تكون هي أسلحته يدفع بها أو يعتدي. وما قط تمكن إنسان من نفسه وأحاط بها ونفذ فيها تصرفه؛ إلا كان راضيا عن كل شيء إذ يتصل من كل شيء بجهته السامية لا غيرها، حتى في اتصاله بأعدائه من الناس وأعدائه من الأشياء؛ فما يرى هؤلاء ولا هؤلاء إلا امتحانا لفضائله وإثباتها لها. وقد يكن عدوك في بعض الأمور عينا لك في رؤية نفسك؛ ففيه بركة هذه الحاسة ونعمتها. ولو نحن كنا مسلمين إسلام نبينا صلى الله عليه وسلم، وإسلام المقتدين به من أصحابه, لأدركنا سر الكمال الإنساني، وهو أن يقر الإنسان في عالم نفسه ويجعل باطنه كباطن كل شيء إلهي، ليس فيه إلا قانونه الواحد المستمر به إلى جهة الكمال، المرتفع به من أجل كماله عن دوافع غيره؛ فنظر الإنسان إلى نقص غيره هو أول نقصه. والمؤمن كالغصن؛ إن أثمر فتلك ثمار نفسه، وإن عطل لم يشحذ ولم يحسد واستمر يعمل بقانونه. ولقد نشأت في مغرس كريم، على صورة من الحياة تشبه صورة الثمرة الحلوة، اجتمع لها من طبيعة مغرسها ومرتبتها ما تتعين به من حلاوة ونكهة ومذاق، فلما عقلت وعرفت الناس بعد فجاريتهم وخالطتهم، رأيتني منهم كالتفاحة ملقاة في البصل، وكانت التفاحة حمقاء فزادت حمقا، وكانت جديدة فزادت جدة، وظنت أن الحكمة قد مسخت في الدنيا وبدلت إذ خلقت البصلة بعد أن خلقت التفاحة، وما علمت الخرقاء أن الكمال في هذه الحياة مجموع نقائص، وأن للجمال وجهين: أحدهما الذي اسمه القبح؛ لا يعرف هذا إلا من هذا؛ وأن البصلة لو أدركت ما يريد الناس من معناها ومعنى التفاحة لسمت نفسها هي التفاحة، وقالت عن هذه أنها هي البصلة! ولما رأت تفاحتي أنها عاجزة أن تجعل الشجر كله في مثل مرتبتها ومغرسها, قالت: إن الأمر أكبر من طبيعتي، وما دام سر الكون مغلقا فلا تعريف له إلا أنه سر مغلق، وليبق كل شيء في طبيعة نفسه، فعلى هذا يصلح كل شيء ولو في نفسه وحدها. قال أبو محمد: ولكن بقيت وحشة الدنيا وجفوتها، إذا لم أكن اهتديت إلى عالمي، ولا تأكدت عقيدتي بنفسي؛ فكان كل ما حولي منبجسا في روحي بشره، وكانت الدنيا بهذا كالمتطابقة في رأيي على معنى واحد، وزادني أني كنت رجلا

عزبًا متعففا؛ وما أشبه فراغ الرجولة من المرأة بفراغ العقل من الذكاء؛ هذا هو العقل البليد، وتلك هي الرجولة البليدة! والمرأة تضاعف معنى الحياة في النفس, فلا جرم كان الخلاء منها مضاعفة لمعنى الموت؛ علم هذا من علم وجهله من جهل، فكنت أعيش من الكون في فراغ ميت، وكنت أحس في كل ما حولي وحشة عقلية تشعرني أن الدنيا غير تامة؛ وكيف تتم في عيني دنيا أراها غير الدنيا التي في قلبي؟ وعرفت أن كل يوم يمضي على الرجل العزب المتعفف لا يمضي حتى يهيئ فيه مرض يوم آخر، ومن هذه الأيام المريضة المتهالكة، تعد الحياة انتقامها من هذا الحي الذي نقض آيتها وافتأت عليها، وجعل نفسه كالإله لا زوجة له ولا صاحبة! وايم الله إن الشيطان لا يفرح بالرجل الزاني وبالمرأة الزانية ما يفرح بالرجل العزب وبالمرأة العزباء، لأنه في ذينك رذيلة في أسلوبها، أما في هذين فالشيطان رذيلة في أسلوب فضيلة! هناك يلم الشيطان ويمضي، وهنا يأتي الشيطان ويقيم! وقد عشت ما عشت بقلب مغلق وعقل مفتوح؛ وليتني كنت جاهلًا مغلقا عقله، وكان قلبي مفتوحا لأفراح هذا الكون العظيم! ومضت أيامي يضرب بعضها في بعض، ويمرض بعضها بعضًا حتى انتهت منتهاها، وجاء اليوم المدنف الهالك الذي سيموت. أصبحت فقلت لنفسي: كم تعيشين ويحك في أحكام جسد مختل لا تصدق أحكامه، وما أنت معه في طبيعتك ولا هو معك في طبيعته؛ ففيم اجتماعكما إلا على بلائي ونكدي؟ لم تصطلحا قط على واجب ولا لذة، ولا حلال ولا حرام؛ فأنتما عدوان لا هم لكليهما إلا إفساد المسرة التي تعرض للآخر. وما أدري بمن يسخر الشيطان منكما؟ فالعابد الذي يوسوس باللذات يتمنى اقترافها، كالفاجر الذي يواقعها ويقتحمها! ويحك يا نفس! إني رأيت هذه الدنيا الخرقاء لم تقدم لي إلا رغيفا وقالت: املأ بهذا بطنك وعقلك وعينيك وأذنيك ومشاعرك. آه، آه! ممكن واحد معه أربع مستحيلات1؛ إن هذا لا يلبثني أن يذهب مني بالأربعة التي تمسكني على الحياة: الأمل والعقل والإيمان والصبر.

_ 1 الرغيف يملأ البطن فهذا هو الممكن ولكن عمله في الباقيات مستحيل.

لقد استوى في هذه الكآبة صغير همي وكبيره، وما أراني إلا قد أشرفت على الهلكة التي لا باقية لها، فإن وجهي المتكلح المتقبض يدل مني على أعصاب متحضرة نهكتها أمراضها ووساوسها، وإنما وجه الإنسان في قطوبه أو تهلله هو وجهه ووجه دنياه تعبس أو تبتسم. وتالله لقد عجزت عن كفاح الدنيا بهذه الأعصاب المريضة الواهنة؛ فإن حبالة الصيد -صيد الوحش- لا تكون من خيط الإبرة! وأراني أصبحت كإنسان حجري ليس في طبيعته الالتواء إلى يمين الحياة ويسارها؛ ويخيل إلي من صلابتي أني الأسد، ولكني أسد من حجر، لا تفرض قوته الفرار منه على أحد! قال أبو محمد: ورأيت نفسي في هذا الحوار كالميتة، لا تجيب ولا تعترض ولا تنكر، وكنت أظنها تراودني على الحياة أو تردني عن غوايتي؛ فملأني سكونها جزعا، وأيقنت أن الشيطان بيني وبينها، وأنه أخذ بمنافذها، فأردت الصلاة فثقلت عنها ورأيتني لا أصلح لها، بل خيل إلي أني إذا قمت إلى الصلاة فإنما قمت لأتهزأ بالصلاة! وجعل الشيطان يأخذني عن عقلي ويردني إليه، ثم يأخذني ويردني، حتى توهمت أني جننت وكأنما كان يريد اللعين بقية إيماني يجاذبني فيها وأجاذبه، فلم ألبث أن مسني خبال وألقيت هذه البقية في يديه! ثم أفقت إفاقة سريعة، فرأيت "المصحف" يرقبني قريب، فعذت به وعطفت عليه وقلت له: امنع الضربة عن قلبي. بيد أني أحسست أنه خصمي في موقفي لا ظهيري؛ كأني جعلته مصحفا عند زنديق، فكان كل إيماني الذي بقي لي في تلك اللحظة أني ضعفت عن حمل المصحف كما ثقلت عن الصلاة، فبقي الطاهر طاهرًا والنجس نجسا. ولم تكن نفسي في ولا كنت فيها؛ وفرأيت الدنيا على وجه لا أدري ما هو، غير أنه هو ما يمكن أن يكون معقولا من تخاليط مجنون تركه عقله من ساعة: بقايا شعور ضعيف، وبقايا فهم مريض، تتصاغر فيهما الدنيا، ويتحاقر بهما العقل. فملا انتهيت إلى هذا لم أعقل ما عملت وكانت الموسى قد أصابت من يدي عرقا ناشزًا منتبرًا، ففار الدم وانفجرت منه مثل الينبوع ضرب عنه الصخر فانشق فانبثق. وتحققت حينئذ أنه الموت فنظرت فرأيت ...

قال المسيب راوي القصة: وتجهم وجه الرجل فأطرق وسكت، وكان على وجهه شفق محمر فأظلم بغتة عندما قال: "فنظرت فرأيت". وارتج المسجد بصيحة واحدة: فرأيت ماذا؟ رأيت ماذا؟ وبعثت الصحية أبا محمد فقال: رأيت ثلاثة وجوه أشرفت من المصحف تنظر إلي كالعاتبة، وكان أوسطها كالقمر الطالع، لو تمثلت آيات الجنة كلها وجهًا لكانته في نضرته وبشاشته، وغمغمت الوجوه الثلاثة بكلمات لم أسمع منها شيئا، ولكن نظرها إلي كان يؤدي لي معانيها، وكأنها تقول: "أكذلك المؤمن ... ؟ ". ثم غابت وتخلت عني وبرزت ثلاثة وجوه أخرى، كأنها نقائض تلك، وأعوذ بالله من أوسطها، لو تمثلت آيات الجحيم كلها وجها لكانته في نكره وهوله، وخيل إلي أن الوجه الأصغر منها وجه سورة من سور المصحف، ففكرت، فوقع لي مما قام في نفسي من اللعنة أنها: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] . وطمس الظلام هذه الرؤيا وتغيمت الدنيا، فأيقنت أن آثامي قد أقبلت علي ظلمة بعد ظلمة، والتمع شيء أحمر، فنظرت فإذا الدم يتخايل في عيني كأنه شعل تتلوى، فجزعت أشد الجزع، وحسبتها طرائق ممتدة لروحي تذهب بها إلى الجحيم. وماتت كل خواطري بعد ذلك إلا فكرة واحدة بقيت حية تأكل في قلبي أكل النار، وهي: "كيف تجرأت فوضعت بيني وبين الله حمقي؟ ". ويقولون: إن أختي قد رأتني أتشحط في دمي فصاحت، وجاء الناس على صوتها، وكان فيهم طبيب، فبعد لأي ما، استطاع حبس الدم، واحتال حيلته حتى أسف الجرح دواء وضمده؛ فجعلت أثوب نفسا بعد نفس، وراجعت قليلًا قليلًا. ثم طافت الحياة على عيني ففتحتها، فإذا الأشياء تبدو لي وليس فيها حقائق ولا معان، كأنها تتخلق جديدة تحت بصري، وكأنها خارجة لساعتها من يد الله! وتماثلت شيئا بعد ساعات، فأحسست أن نفسي قد رجعت إلي ساخرة مني تقول: كيف رأيت عمل العقل أيها العاقل؟ وبدأت الحياة تتجدد، فأقسمت بيني وبين نفسي أن أجدد إيماني بالله، ولم أكد أفعل حتى أحسست أن قوة الوجود كلها مستقرة في روحي، وخيل إلي أني أنا وحدي القوي على هذه الأرض قوة جبالها وصخورها، على حين كان جسمي ممددا كالميت لا يتماسك من الضعف!

فأيقنت حينئذ ما أعرفه قط من الدنيا ولم أشعر به قط في الحياة ولم يأتني به علم ولا فكر؛ أيقنت أنها معجزة الإيمان الجديد الغض، المتصل بالله لتوه كإيمان الأنبياء دون أن تلمسه شهوة، أو تعترضه خاطرة، أو تكدره ذرة واحدة من فكر أرضي دنس. قال المسيب: ثم جلس المتحدث، وكان الناس في آخر كلامه كأنما غادروا الدنيا ساعة، ورجعوا إليها على مثل حالته ومثل إيمانه، فسكت الإمام ولم يتكلم، ليدع كل نفس تكلم صاحبها.

الانتحار "5"

الانتحار "5": قال المسيب بن رافع: وأطرق الناس قليلا بعد خبر "أبي محمد البصري"، إذ كان كل منهم قد جمع باله لما سمع، وأخذ يحدس، في نفسه ويراجعها الرأي، وكان المجلس قد امتد بنا منذ العصر وما يكاد النهار يشعرنا بإدباره، حتى اعترضت في شمسه الغبرة التي تعتريها إذا دنت أن تغرب، وكان إلى يساري فتى ريان الشباب، حسن الصورة، وضيء مشرق، له هيئة وسمت، أقبل على الأيام، وأقبلت الأيام عليه. فسمعني أطن على أذن "مجاهد الأزدي"؛ وكنت أعرفه شاعرًا في كلامه وشاعرًا في قلبه؛ فقلت له: إنه لم يبق من النهار يا مجاهد إلا مثل صبر المحب دنا له الموعد؛ ولم يبق من الشمس إلا مثل ما تتلفف صاحبته، تأخذ عليها ثوبها وغلائلها، ولكن بعد أن تسقطها من هنا ومن هنا، لترى جمال جسمها هنا وهنا! فاهتز الفتى لهذه الكلمات، وسالت الرقة في أعطافه، وقال: يا عم، أما ترى ما بقي من النهار كأنه وجه باك مسح دموعه وليس حوله إلا كآبة الزمن؟ قلت: كأن لك خبرا يا فتى، فإن كان شأنك مما نحن فيه فقصه علينا وعللنا به سائر الوقت إلى أن تجب الشمس، ولعلك طائر بنا طيرة فوق الدنيا. قال: فمه؟ قلت: تقوم فتتكلم، فإني أرى لك لسانا وبيانًا. قال: أويحسن أن أتكلم في المسجد عن صرعة الحب وصريعه، وعاشقة وعاشق؟ فبادر مجاهد فقال: ويحك يا فتى! لقد تحجرت واسعًا؛ إن المؤمن ليصلي بين يدي الله وكتاب سيئاته في عنقه منشور مقروء. وهل أوقات الصلاة إلا ساعات قلبية لكل يوم من الزمن، تأتي الساعة مما قبلها كما تأتي توبة القلب مما عمل الجسم؟ إنما يتلقي المسجد من يدخله لساعته التي يدخله فيها، ولو أنه حاسبه عن

أمس وأول منه وما خلا من قبل، لطرده من العتبة! إن المسجد يا بني إنما يقول لداخله: ادخل في زمني ودع زمنك، وتعال إلي أيها الإنسان الأرضي، لتتحقق أن فيك حاسة من السماء، وجئني بقلبك وفكرك، ليشعرا ساعة أنهما في لا فيك1. ولسنا الآن يا بني في متحدث كندي القوم يتطارحون فيه أخبارهم، بل نحن في مجلس عالم تكلمت فيه رقبة هذا ورقبة هذا بما سمعت؛ فقم أنت فاذكر علم قلبك وقص علينا خبر طيش الحب والشباب الذي يشبه الكلام فيه أن يكون كلاما عن الصعود إلى القمر والقبض من هناك على البرق! قال المسيب: فانتهض الفتى، ورأيت مجاهدًا يتنهد كأنما انصدعت كبده, فقلت: ما بالك؟ قال: إن شبابي قد مر علي الساعة فنسمت منه في بردة هذا الفتى، ثم فقدته فقدا ثانيا فهرمت هرما ثانيًا، وجاءني الحزن من إحساسي بأني شيخ, حزن من هم أن يدخل باب حبيب ثم رد! وتحدث الفتى، فإذا هو يدير بين فكيه لسان شاعر عظيم، يتكلم كلامه بنفسين: إحداهما بشرية تصنع المعنى واللفظ، والأخرى علوية فيها النار والنور. قال: إن لي قصة أيها الشيخ، لم يبق منها إلا الكلام الذي دفنت فيه معانيها؛ وقد تأتي القصة من أخبار القلب مفعمة بالآلام والأحزان، ولا يراد بآلامها وأحزانها إلا إيجاد أخلاق للقلب يعيش بها ويتبدل. والذي قدر عليه الحب لا يكون قد أحب غيره أكثر مما يكون قد تعلم كيف ينسى نفسه في غيره, وهذه كما هي أعلى درجات الحب؛ فهي أعلى مراتب الإحسان. ومتى صدق المرء في حبه كانت فكرته فكرتين: إحدهما فكرة، والأخرى عقيدة تجعل هذه الفكرة ثابتة لا تتغير؛ وهذه كما هي طبيعة الحب فهي طبيعة الدين. ولا شيء في الدنيا غير الحب يستطيع أن ينقل إلى الدنيا نارا صغيرة وجنة صغيرة، بقدر ما يكفي عذاب نفس واحدة أو نعيمها، وهذه حالة فوق البشرية. والفضائل عامتها تعمل في نقل الإنسان من حيوانيته، وقد لا تنقل إلا أقله ويبقى في الحيوانية أكثره: ولكن الحب الصادق يقتلع الإنسان من حيوانيته بمرة واحدة، بيد أنه لا يكون كذلك إلا إذا قتله بآلامه؛ فهو كأعلى النسك والعبادة.

_ 1 ستأتي فلسفة المسجد في مقالات أخرى مما يجمع هذا الكتاب، وانظر مقالة "الله أكبر".

كان خبري أني دعيت يوما إلى ما يدعى لمثله الشباب في مجلس غناء وشراب، يا له من مجلس! وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] ، والبعوضة في قصتي أنا كانت امرأة نصرانية؛ قينة فلان المغنية الحاذقة المحسنة المتأدبة، تحفظ الخبر وتروي الشعر، وتتكلم بألفاظ فيها حلاوة وجهها، وتخلق النكتة إذا شاءت خلق الزهرة المتفتحة عليها، سقيط الندى، وتجد بالحديث ما شاءت وتهزل، فتجعل للكلام عقلا وشهوة تضاعف بهما من تحدثه في شهواته وعقله! وستجري في قصتها ألفاظ القصة نفسها، لا أتأثم من ذلك ولا أتذمم؛ فقد ذكر الله الخمر ولم يقل: "الماء الذي فيه السكر"، ووصف الشيطان ولم يقل: "الملك الذي عمل عمل المرأة الحسناء في تكبرها"، وذكر الأصنام بأنها الأصنام، ولم يسمها: "حاملة السماء التي يصنعها الإنسان بيديه" وحكاية ما بين الرجل والمرأة هي كلام يقبل بعضه بعضا ويلتزم ويتعانق! قال المسيب: فتبسم إمامنا ونظرت عيناه تسألان سؤالا. أما مجاهد الأزدي فكان من هزة الطرب كأنه على قتب بعير، وقال: لله دره فتى، إن هذا لبيان كحيل العين. ثم قال الفتى: وذهبت إلى المجلس وقد جعلته هذه المغنية من حواشيه وأطرافه كأنه تفسير لها هي. أما هي فجعلت نفسها تفسيرا لكلمة واحدة هي: "اللذة". قال المسيب: وطرب مجاهد طربا شديدًا، وسمعته يخافت بصوته يقول: "لله درها امرأة؛ هذه، هذه عدوة الحور العين! ". ثم قال الفتى: وتطرب جماعة أهل المجلس إلى الشرب، وما ذقت خمرا قط, ولن أتذوقها ولو شربها الناس جمعيا، ولن أذوقها ولو انقطع الغيث ولم تمطر السماء إلا خمرًا؛ فإني مذ كنت يافعا رأيت أبي يشربها، وكانت أمي تلومه فيها وتشتد في تعنيفه وتحتدم، وكانا يتشاحنان فينالها بالأذي ويندرئ عليها بالسب وفحش القول. وسكر مرة وغلبه السكر حتى ثارت أحشاؤه، فذرعه القيء فتوهمني وعاء، وجاء إلي وأنا جالس فأمسك بن وقاء في حجري، حتى أفرغ جوفه؛ وثارت أمي لتنتزعه وأنشأت تعالجه عني فتصارع جنونه وعقلها حتى كفأته على وجهه كالإناء؛ فالتوى كالحية بطنا لظهر، واستجمع كالقنفذ في شوكه، ثم

لكزها برجله أسفل بطنها فانقلبت، وأصاب رأسها إجانة1 العجين فتثلم تثليم الإناء كأنما شدخ ضربا بحجر، دماغها على الأرض أمام عيني، ورأيتها لم تزد على أن دفعت بإحدى يديها في الهواء، وضمت بالأخرى إلى صدرها، تتوهم أنها تحميني وتدفعه عني؛ ثم سكنت، ولو لم تمت من الشجة في رأسها لماتت من الضربة في بطنها. قال المسيب: وأطرق الفتى هنيهة وأطرق الناس معه؛ فرفع مجاهد صوته وقال: رحمها الله! فقال الناس جميعا: رحمها الله. ثم قال الفتى: وكان عامة من في المجلس يعرفون ذلك مني، ويعرفون أنه لو ساغ لإنسان أن يشرب دم أمه ما شربت أنا الخمر، فقالوا للمغنية: إن هذا لا يدخل في ديواننا2 فنظرت إلي، وهربت أنا من نظرتها بإطراقة؛ ثم قالت: تشرب على وجهي؟ فقلت لها: إن وجهك يقول لي: لا تشرب, فتضاحكت وقالت: أهو يقول لك غير ما يقول لهؤلاء؟ فهربت من كلامها بإطراقة أخرى، ووصلت الإطراقتان ما بيني وبين قلبي؛ وتنبه فيها مثل حنو الأم على طفلها إذا آذته بلسانها فأطرق ساكتا يشكوها إلى قلبها! والتفتت لمن حضر وقالت لهم: لست أطيب لكم ولا تنتفعون بي إلا أن تشربوا لي وله ولأنفسكم، وانحط عليهم الساقي، فشربوا أرطالا وأرطالا، وهي بين ذلك تغنيهم وقد أقبلت عليهم وخلا وجهها لهم من دوني تخالسني النظرة بعد النظرة. فوسوس لي شيطاني أن تشدد مع هذه بمثل عزمتك مع الخمر فإنما هما شيء واحد، ولكني كنت أحد النظر إليها، فمرة أوامقها نظرة المحب للحبيب، ومرة أغضي عنها بنظرة لا تنظر؛ وكأني بذلك كنت آخذها وأدعها، وأصلها وأهجرها. فقالت لي كالمنكرة علي: ما بالك تنظر إلي هكذا؟ ولكن هيئة وجهها جعلت المعنى: لا تنظر إلي إلا هكذا! وأسرع الشراب في القوم وأفرط عليهم السكر؛ فبقيت لي وحدي وبقيت لها وحدها؛ ثم تناولت عودها وضمته إليها ضما شديدا أكثر من الضم, وألمسته

_ 1 هي ما يعجن فيه العجين وتغسل فيه الثياب، وقد يوضع فيها الماء ليتوضأ منه، وتتخذ من حجر أو خزف أو غيرهما. 2 تعبير قديم كانوا يريدون به الشرب كأنه ديوان ملك.

صدرها، ونهديها، ثم رنت إلي بمعنى، فما شككت أنها ضمت لي أنا والعود، ثم غنت هذا الصوت: ألا قاتل الله الحمامة عدوة ... على الغصن ماذا هيجت حين غنت فما سكتت حتى أويت لصوتها ... وقلت ترى هذه الحمامة جنت وما وجد أعرابية قذفت بها ... صروف النوى من حيث لم تك ظنت إذا ذكرت ماء العضاه وطيبه ... وبرد الحمى من بطن خبت أرنت بأكثر مني لوعة غير أنني ... أجمجم أحشائي على ما أجنت وغنته غناء من قلب يئن، وصدر يتنهد، وأحشاء لا تخفي ما أجنت؛ وكانت ترتفع بالصوت ثم كأنما يهمي الدمع على صوتها، فيرتعش ويتنزل قليلا قليلا، حتى يئن أنين الباكية، ثم يعتلج في صدرها مع الحب، فيتردد عاليا ونازلا، ثم يرفض الكلام في آخره دموعا تجري. قال المسيب: فنظر إلي مجاهد وقال: عدوة الجنة -والله- هذه يا أبا محمد، لا تقبل الجنة من يكون معها، تقول له: كنت مع عدوتي! ثم قال الفتى: وكان القوم قد انتشوا، فاعتراهم نصف النوم وبقي نصف اليقظة في حواسهم، فكل ما رأوه منا رأوه كأحلام لا وجود لها خلف أجفانهم المثقلة سكرا ونعاسًا، ووثبت المغنية فجاءت إلى جنبي والتصقت بي، وأسرع الشيطان فوسوس لي: أن احذر فإنك رجل صدق، وإذا صدقت في الخمر فلا تكذبن في هذه، ولئن مسستها إنها لضياعك آخر الدهر! فعجبت أشد العجب أن يكون شيطاني أسلم وأعنت عليه كما أعين الأنبياء على شياطينهم. ولكن اللعين مضى يصدني عن المرأة دون معانيها، وكان مني كالذي يدني الماء من عيني القتيل المتلهب جوفه ثم يجعله دائما فوت فمه، ولقد كنت من الفحولة بحيث يبدو لي من شدة الفورة في دمي وشبابي أن أجمع في جسمي رجلا عدة، ولكن ضربني الشيطان بالخجل فلم أستطع أن أكون رجلا مع هذه المرأة. وعجبت هي لذلك وما أسرع أن نطق الشيطان على لسانها بالموعظة الحسنة! فقالت أحببتك ما لم أحب أحدًا، وأحببت خجلك أكثر منك، فما يسرني

أن تأثم في فتدخل النار بحبي، ولو أنك ابتعتني من مولاي؟ فقلت: بكم اشتراك؟ قالت: بألف دينار! قلت: وأين هي مني وأنا لو بعت نفسي ما حصلت لي؟ فتمم الشيطان موعظته، وقالت وأشارت إلى قلبها: إن قلبي هذا قبلك غنيا كنت أو فقيرا، وأحس بك وحدك حب العذارء أول ما تحب، وأنا -كما تراني- أعيش في السيئات كالمكرهة عليها، فسأعمل على أن تكون أنت حسنتي عند الله، أذهب إليه حاملة في قلبي حبي إياك وعفتي عنك، ولئن كانت عفة من لا يشتهي ولا يجد تعد فضيلة كاملة، إن عفة من يجد ويشتهي لتعد دينا بحاله، ولا يزال حبي بكرًا، ولا أزال في ذلك عذراء القلب، وهؤلاء قد نزعوا الحياء عني من أجل أنفسهم، فألبسنيه أنت من أجلك خاصة؛ وإن قوة حبي كالذي سيتألم بك ويتعذب منك لطول ما يصبر عنك، ستكون هي بعينها قوة لفضيلتي وطهارتي. ثم تناولت عودها وسوته وغنت: فلو أنا على حجر ذبحنا ... جرى الدميان بالخبر اليقين1 وجعلت تتأوه في غنائها كأنها تذبح ذبحا، ثم وضعت العود جانبا وقالت: ما أشقاني! إذا اتفقت لي ساعة زواجي في غير وقتها فجاءت كالحلم يأتي بخيال الزمن فلا يكون فيه من الأشياء إلا خيال الأشياء. ثم سألتني: ما بالك لم تشرب الخمر ولم تدخل في الديوان؟ فبدر شيطاني المؤمن وساق في لساني خبر أمي وأبي، فانتضحت عيناها باكية وتم لها رأي في كرأيي أنا في المسكر؛ وكان شيطانها بعد ذلك شيطانا خبيثا مع أصحابها، وبطريقا زاهدا معي أنا وحدي! ورأيتها لا تجالسني إلا متزايلة كالعذراء الخفرة إذا انقبضت وغطت وجهها، وصارت تخافني لأنها تحبني، وهيبني الشيطان إليها فعادت لا ترى في الرجل الذي هو تحت عينيها الثيبتين, ولكن القديس الذي تحت قلبها البكر. ولم يعد جمالي هو الذي يعجبها ويصبيها، بل كان يعجبها مني أني صنعة فضيلتها التي لم تصنع شيئا غيري. وانطلق الشيطان بعد ذلك في وفيها بدهائه وحنكته وبكل ما جرب في النساء

_ 1 كانت العرب تزعم أنه إذا قتل اثنان فجرى دمياهما طريق واحد ثم التقيا، حكم عليهما أنهما كانا متحابين، فإن لم يلتقيا حكم عليهما أنهما كانا متشانئين. وما أجملها خرافة وأشعرها.

والرجال من لدن آدم وحواء إلى يومي ويومها! فكان يجذبني إليها أشد الجذب, ويدفعها عني أقوى الدفع، ثم يغريني بكل رذائلها ولا يغريها هي إلا بفضائلي، وألقى منها في دمي فكرة شهوة مجنونة متقلبة، وألقى مني في دمها فكرة حكمة رزينة مستقرة. وكنت ألقاها كل يوم وأسمع غناءها؛ فما هو بالغناء ولكنه صوت كل ما فيها لكل ما في، حتى لو التصق جسمها بجسمي وسار البدن البدن، وهمس الدم للدم، لكان هو هذا الغناء الذي تغنيه. وأصبحت كلما استقمت لحبها تلوث علي؛ إذ لست عندها إلا الأمل في المغفرة والثواب، وكأنما مسخت حبلا طوله من هنا إلى الجنة لتتعلق به. وعاد امتناعها مني جنونا دينيا ما يفارقها، فابتلاني هذا بمثل الجنون في حبها من كلف وشغف. وانحصرت نفسي فيها، فرجعت معها أشد غباوة من الجاهل ينظر إلى مد بصره من الأفق فيحكم أن ههنا نهاية العالم، وما ههنا إلا آخر بصره وأول جهله. وانفلت مني زمام روحي، وانكسر ميزان إرادتي، واختل استواء فكري، فأصبحت إنسانا من النقائض المتعادية أجمع اليقين والشك فيه، والحب والبغض له، والأمل والخيبة منه، والرغبة والعزوف عنها، وفي أقل من هذا يخطف العقل، ويتدله من يتدله. ثم ابتليت مع هذا اللمم بجنون الغيظ من ابتذالها لأصحابها وعفتها معي، فكنت أتطاير قطعا بين السماء والأرض، وأجد عليها وأتنكر لها، وهي في كل ذلك لا تزيدني على حالة واحدة من الرهبانية؛ فكان يطير بعقلي أن أرى جسمها نارًا مشتعلة، ثم إذا أنا رمته استحال ثلجا، وقرحت الغيرة قلبي وفتتت كبدي من عابدة الشيطان مع الجميع، الراهبة مع رجل واحد فقط! ورجعت خواطري فيها مما يعقل وما لا يعقل؛ فكنت أرى بعضها كأنه راجع من سفر طويل عن حبيب في آخر الدنيا، وبعضها كأنه خارج من دار حبيب في جواري، وبعضها كأنه ذاهب بي إلى المارستان! ورأيتنا كأننا في عالمين لا صلة بينهما، ونحن معا قلبا إلى قلب، فذهب هذا بالبقية التي بقيت من عقلي، ولم أر لي منجاة إلا في قتل نفسي لأزهق هذا الوحش الذي فيها. وذهبت فابتعت شعيرات من السم الوحي الذي يعجل بالقتل، وأخذتها في كفي وهممت أن أقمحها وأبتلعها، فذكرت أمي، فظهرت لخيالي مشدوخة الرأس في هيئة موتها، وإلى جانبها هذه المرأة في هيئة جمالها، وثبتت على عيني هذه

الرؤيا، وأدمنت النظر فيها طويلا فإذا أنا رجل آخر غير الأول، وإذا المرأة غير تلك، وطغت عبرة الموت على شهوة الحياة فمحتها، وصح عندي من يومئذ أن لا علاج من هذا الحب إلا أن تقرن في النفس صورة امرأة ميتة إلى صورة المرأة الحية، وكلما ذكرت هذه جيء لها بتلك، فإذا استمر ذلك فإن الميتة تميتها في النفس وتميت الشهوة إليها، ما من ذلك بد، فليجربه من شك فيه. وانفتح لي رأي عجيب، فجعلت أتأمل كيف آمن شيطاني ثم كفر بعد، على أن شيطانها هي كفر في الأول ثم آمن في الآخر؟ فوالله ما كنت إلا غبيا خامد الفطنة، إذ لم يسنح لي الصواب حتى كدت أزهق نفسي وأخسر الدنيا والآخرة؛ فإن الشيطان -لعنه الله- إنما ردني عن الفاحشة وهي ذنب واحد، ليرميني بعدها في الذنوب كلها بالموت على الكفر! ورد إلي هذا الخاطر ما عزب من عقلي. ومن ابتلي ببلاء شديد يزلزل يقينه ثم أبصر اليقين، جاء منه شخص كأنما خلق لساعته؛ فلعنت شيطاني واستعذت بالله من مكره، وألقيت السم في التراب وغيبته فيه، وقلت لنفسي: ويحك يا نفس! إن الحياة تعمل عملا بالحي، أفترضين أن تعمل الحياة بأبطالها ورجالها ما عرفت وما علمت، ثم يكون عملها بك أنت القعود ناحية والبكاء على امرأة؟ أيتها النفس، ما الفرق بين سرقة لحم من دكان قصاب، وبين سرقة لحم امرأة من دار أبيها، أو زوجها، أو مولاها؟ أيتها النفس، إن إيمان أسلافنا معنا؛ إن الإسلام في المسلم. قال المسيب: وهنا طاش مجاهد واستخفه الطرب، فصاح صيحة النصر: الله أكبر! وجاوبه أهل المسجد في صيحة واحدة: الله أكبر! ولم يكد يهتف بها الناس حتى ارتفعت صيحة المؤذن لصلاة المغرب. الله أكبر.

الانتحار "6"

الانتحار "6" تتمة: قال المسيب بن رافع: وانفض مجلس الشيخ، ودرجت بعده أعوام في عدة الشهور من حمل المرأة، بلغت فيها أمور الناس مبلغها من خير الدنيا وشرها، مما أعرف وما لا أعرف؛ ودخلت البصرة أنا ومجاهد الأزدي، نسمع الحسن1 ونأخذ عنه؛ فإنا لسائران يوما في سكة بني سمرة، إذ وافقنا الفتى صاحب النصرانية مقبلا علينا، وكنا فقدناه تلك المدة، فأسرع إليه مجاهد فالتزمه وقال: مرحبا بذي نسب إلى القلب. وسلمت بعده وعانقته، ثم أقبلنا نسأله، فقلت له: ما كان آخر أولك؟ قال مجاهد: بل ما كان آخر أولها هي؟ فضحك الرجل وقال: النصرانية تعني؟ قال: آخرها من أولها كهذا مني؛ وأومأ إلى ظله في الأرض ممدودًا مشبوحا مختلطا غير متميز؛ كأنه ثوب منشور ليس فيه لابسه، وكنا في الساعة التي يصير فيها ظل كل شيء مثليه فهو مزج المسخ بالمسخ. قال مجاهد: ما أفظ جوابك وأثقله يا رجل! كأنك والله تاجر لا صلة له بالأشياء إلا من أثمانها؛ فنظره إلى فراهة الدابة من الدواب وإلى فراهة الجارية من الرقيق سواء. قال الرجل: فأنا والله تاجر، وأنا الساعة على طريق الإيوان2 الذي يلتقي فيه تجار العراق والشام وخراسان، وقد ضربت في هذه التجارات وحسنت بها حالي وتأثلت منها، غير أن قلب التاجر غير التاجر، فليس يزن ولا يقبض، ولا يبيع ولا يشتري. أما "تلك" فأصبحت نسيانا ذهب لسبيله في الزمن!

_ 1 الحسن البصري: الإمام العظيم. 2 هذه الكلمة خير ما يعبر بها عن "البورصة"، وكذلك كانوا يستعملونها.

قال مجاهد: فكيف كنت تراها وكيف عدت تنظر إليها؟ قال: كنت أنظر إليها بعيني وأفكاري وشهواتي، فكانت بذلك أكثر من نفسها ومن النساء، وكانت ألوانا ما تنقضي، فلما دخل بيني وبينها الزمن والعقل، أبعدها هذا عن قلبي وأبعدها ذاك عن خيالي؛ فنظرت إليها بعيني وحدهما، فرجعت امرأة ككل امرأة، وبنزولها من نفسي هذه المنزلة، رجعت أقل من نفسها ومن النساء، وهذه القلة فيما عرفت لا تصيب امرأة عند محبها إلا فعلت بجمالها مثل ما تفعله الشيخوخة بجسمها، فأدبرت به ثم أدبرت واستمرت تدبر! وأنت فإذا أبصرت امرأة شيخة قد ذهبت التي كانت فيها. وأخطرت في ذهنك نية مما بين الرجال والنساء، فهل تراك واجدًا الشهوة والميل إلا النفرة والمعصية؟ إن هذا الذي كان الحب والهوى والعشق، هو بعينه الذي صار الإثم والذنب والضلالة؟ قال مجاهد: كأنك لما ذهبت تقتل نفسك من حبها قتلتها هي في نفسك؟ قال: يا رحمة قد رحمت بها نفسي يومئذ! أما -والله- إن الذي يقتل نفسه من حب امرأة لغبي. ويحه! فليتخلص من هذا الجزء من الحياة لا من الحياة نفسها. وقد جعل الله للحب طرفين: أحدهما في اللذة، والآخر في الحماقة؛ ما منهما بد، فهذا الحب يلقي صاحبه في الأحلام ويغشي بها على بصره، ثم إن هو اتجه بطرفه السعيد إلى حظه المقبل واتفقت اللذة للمحب، أيقظته اللذة من أحلامه؛ وإن اتجه الحب بطرفه الشقي إلى حظه المدبر، وقعت الحماقات فنونا شتى بين الحبيبين وفعلت آخرا فعل اللذة، فأيقظت العاشق من أحلامه أيضا. وهذا تدبير من الرحمة في تلك القوة المدمرة المسماة الحب، أفلا يدل ذلك على أن اللذة وهم من الأوهام ما دام تحققها هو فناءها؟ خذ عني يا مجاهد هذه الكلمة: "ليس الكمال من الدنيا ولا في طبيعتها، ولا هو شيء يدرك، ولكن من عظمة الكمال أن استمرار العمل له هو إدراكه". قال مجاهد: لقد علمت بعدنا علما، فمن أين لك هذا وعمن أخذت؟ قال: عن السماء! قال: ويلك! أين عقلك؟ فهل نزل عليك الوحي؟ قال الرجل: لا، ولكن تعاليا معي إلى الدار فأحدثكما.

قال المسيب: وذهبنا معه؛ فأتينا بطعام نظيف فأكلنا، وأشعرتنا الدار أن ربها قد وقع فيما شاء من دنياه وتواصلت عليه النعمة؛ فلما غسلنا أيدينا قال مجاهد: هيه يا أبا ... يا أبا من؟ قال: أبو عبيد. قال: هيه يا أبا عبيد. فأفكر الرجل ساعة ثم قال: عهدكما بي منذ تسع في مجلس الإمام الشعبي بالكوفة؛ وقد كنت في بقية من النعمة أتجمل بها، وكانت تمسكني على موضعي في أعين الناس؛ فما زالت تلك البقية تدق وتنفض حتى نكد عيشي ووقعت في الأيام المقعدة التي لا تمشي بصاحبها، وانقلب الزمن كالعدو المغير جاء ليصطلم ويخرب ويفسد، فأثر في أقبح آثاره، فبعت ما بقي لي وتحملت عن الكوفة إلى البصرة، وقلت: إن لم تتغير حالي تغيرت نفسي، ولا أكون في البصرة قد انتهيت إلى الفقر، بل أكون قد بدأت من الفقر كما يبدأ غيري, وأدع الماضي في مكانه وأمضي إلى ما يستقبلني. فالتمست رفقة فالتأمنا عشرين رجلًا، فلما كنا الطريق، سلبنا اللصوص وحازوا القافلة وما تحويه، ونجوت أنا راكبا فرسي وعمري، وأدركت حينئذ أن الحياة وحدها ملك عظيم، وأنها هي الأداة الإلهية، والباقي كله هو من أنفسنا لأنفسنا والأمر فيه هين والخطب يسير. وقلت: لو أن اللصوص قد مروا بنا كما يمر الناس بالناس لما نكبونا، ولكنهم عرضوا لنا عروض اللص للمال والمتاع لا للناس، فوضعوا فينا الأيدي الناهبة؛ ومن هذا أدركت أن ليس الشر إلا حالة يتلبس بها من يستطيع أن يتخلص منها. فإذا كان ذلك فأصل السعادة في الإنسان ألا يعبأ بهذه الحالات متى عرضت له، وهو لا يستطيع ذلك إلا إذا، تمثل الشر كما يراه واقعا في غيره؛ فالمرأة العفيفة إذا عرضت لها حالة من الفجور، ونظرت إلى نفسها وحظ نفسها، فقد تعمى وتزل؛ ولكنها إذا نظرت إلى ذلك في غيرها وإلى أثره على الفاجرة، كانت كأنما زادت على نفسها نفسا أخرى تريها الأشياء مجردة كما هي في حقائقها. قال: ومضيت على وجهي تتقاذفني البقاع والأمكنة, وأنا أعاني الأرض والسماء، وأخشى الليل والنهار، وأكابد الألم والجوع، حتى دخلت البصرة دخول البعير الرازح، قطع الصحراء تأكل منه ولا يأكل منها، فأنضاه السفر وحسره الكلال وتحته الثقل الذي يحمله، فجاء ببنية غير التي كان قد خرج بها. وكانت أيامي هذه عمرا كاملا من الشقاء، جعلتني أوقن أن هؤلاء الناس في الحياة إن هم إلا

كالدواب تحت أحمالها؛ لا تختار الدابة ما تحمل ولا من تحمل، ولا يترك لها مع هذا أن تختار الطريق ولا مدة السير؛ وليس للدابة إلا شيئان: صبرها وقوتها، إن فقدتهما هلكت، وإن وهنا فيها كان ضعفها بحسب ذلك. إن هناك أوقاتا من الشقاء والبؤس تقذف بالإنسان وراء إنسانيته وإنسانية البشر جميعا، لا تبالي كيف وقع وفي أي واد هلك، فلا ينفع الإنسان حينئذ إلا أن يعتصم بأخلاق الحيوان في مثل رضاه الذي هو أحكم الحكمة في تلك الحال، وصبره الذي هو أقوى القوة، وقناعته التي هي أغنى الغنى، وجهله الذي هو أعلم العلم، وتوكله الذي هو إيمان فطرته بفطرته، لا يبالي الحيوان مالا ولا نعيما، ولا متاعا ولا منزلة، ولا حظا ولا جاها، ولن تجد حمار الملك يعرف من الملك أكثر مما يعرف حمار السقاء من السقاء، ولعلك لو سألتهما وأطاقا الجواب لقال لك الأول: إن الذي فوق ظهري ثقيل مقيت بغيض؛ ولقال لك الثاني: إن الذي يركبه خفيف سهل سمح! ولكن بلاء الإنسان إنه حين يطوحه البؤس والشقاء وراء الإنسانية، لا ينظر لغير الناس، فيزيده ذلك بؤسا وحسرة، ويمحق في نفسه ما بقي من الصبر, ويقلب رضاه غيظا، وقناعته سخطا، ويبتليه كل ذلك بالفكرة المهلكة أعجزها أن تهلك أحدًا فلا تجد من تدمره غير صاحبها؛ فإذا هي وجدت مساغا إلى الناس فأهلكت وعاثت وأفسدت، فجعلت صاحبها إما لصا أو قاتلا أو مجرما، أي ذلك تيسر! قال: وكنت أعرف في البصرة فلانا التاجر من سراتها ووجوه أهلها، فاستطرقته؛ فإذا هو قد تحول إلى خراسان، وليس يعرفني أحد في البصرة ولا أعرف أحدًا غيره، فكأنما نكبت مرة ثانية بغارة شر من تلك، غير أنها قطعت علي في هذه المرة طريق أيامي، وسلبتني آخر ما بقي لنفسي، وهو الأمل! ورأيت أنه ما من نزولي إلى الأرض بد، فأكون فيها إنسانا كالدابة أو الحشرة: حياتها ما اتفق لا ما تريد أن يتفق؛ وأنه لا رأي إلا أن أسخر من الشهوات فأزهد فيها وأنا القوي الكريم، قبل أن تسخر هي مني إذ جئتها وأنا الطامع العاجز! وفي الأرض كفاية كل ما عليها ومن عليها، ولكن بطريقتها هي لا بطريقة الناس؛ وما دامت هذه الدنيا قائمة على التغيير والتبديل وتحول شيء إلى شيء،

فهذا الظبي الذي يأكله الأسد لا تعرف الأرض أنه قد أكل ولا أنه افترس ومزق، بل هو عندها قد تحول قوة في شيء آخر ومضى؛ أما عند الناس فذلك خطب طويل في حكاية أوهام من الخوف والوجل، كما لو اخترعت قصة خرافية تحكيها عن أسد قد زرع لحما, فتعهده فأنبته فحصده فأكله، فذهب الزرع يحتج على آكله، وجعل يشكو ويقول: ليس لهذا زرعتني أنت، وليس لهذا خرجت أنا تحت الشمس، وليس من أجل هذا طلعت الشمس علي وعليك! والإنسان يرى بعينيه هذا التغيير واقعا في الإنسانية عامتها وفي الأشياء جميعها؛ فإذا وقع فيه هو ضج وسخط، كأن له حقا ليس لأحد غيره، وهذا هو العجيب في قصة بني آدم، فلا يزال فيها على الأرض كلمات من الجنة لا تقال هنا ولا تفهم هنا؛ بل محل الاعتراض بها حين يكون الإنسان خالدًا لا يقع فيه التغيير والتبدليل. ومن هذا كان خيال اللذة في الأرض هو دائما باعث الحماقة الإنسانية. قال أبو عبيد: وذهبت أعتمل بيدي وجسمي على آلام من الفاقة والضر، ومن الخيبة والإخفاق، ومن إلجاء المسكنة، وإحواج الخصاصة؛ فلقد رأيتني وإن يدي كيد العبد، وظهري كظهر الدابة، ورجلي كرجل الأسير، وعنقي كعنق المغلول، ويطلع قرص الشمس على الدنيا ويغيب عنها وما أعتمل إلا بقرص من الخبز، ولقد رأيتني أبذل في صيانة كل قطرة من ماء وجهي سحابة من العرق حتى لا أسأل الناس، ويا بؤسا لي إن سألت وإن لم أسأل! وما كان يمسكني على هذه الحياة المرمقة، تأتي رمقا بعد رمق في يوم يوم -إلا كلام الشعبي- الذي سمعته في مسجد الكوفة، وقوله فيمن قتل نفسه؛ فكان كلامه نورا في صدري يشرق منه كل يوم مع الصبح صبح لإيماني. ولكن بقيت أيام نعمتي الأولى ولها في نفسي ضربان من الوجع كالذي يجده المجروح في جرحه إذا ضرب عليه، فكان الشيطان لا يجد منفذا إلي إلا منها. وفقدت الصديق وعونه، فما كان يقبل على صديق إلا في أحلامي من وراء الزمن الأول! قال مجاهد: والحبيب؟ فتبسم الرجل وقال: إذا فرغت الحياة من الذي هو أقل من الممكن، فكيف يكون فيها الذي هو أكثر من الممكن؟ إن جوع يوم واحد يجعل هذه الحياة حقيقة جافية لا شعر فيها، ويترك الزمن وما فيه ساعة واحدة معطرة, والبؤس يقظة مؤلمة في القلب الإنساني تحرم عليه الأحلام، وما الحب من أوله إلى آخره إلا أحلام القلوب بعضها ببعض!

قال أبو عبيد: وتضعضعت لهذه الحياة المخزية وأبرمتني أيامها، وحملت في الميت والحي، ورأيت الشيطان -لعنه الله- كأنما اتخذني وعاء مطرحا على طريقه يلقي فيه القمامة، وظهر لي قلبي في وساوسه كالمدينة الخربة ضربها الوباء، فأعمر ما فيها مقبرتها؛ وعاد البؤس وقاح الوجه لا يستحيي، فلا أراه إلا في أرذل أشكاله وأبردها، ولقد يكون البؤس لبعض الناس على شيء من الحياء فيأتي في أسلوب معتذر كالمرأة الدميمة في نقابها. وقلت لنفسي: ما هو -والله- إلا القتل، فهذا عمر أراه كالأسير أقيم على النطع وسل عليه السيف، فما ينتقم منه المنتقم بأفظع من تأخير الضربة، وما يرحمه الراحم بأحسن من تعجيلها! وبت أؤامر هذه النفس في قتلها وأحدثها حديث الموت، فسددت رأيي فيه وقالت: ما تصنع بجسم كالمتعفن أصبح كالمقبور لا أيام له إلا أيام انقراضه وتفتيته؟ بيد أني ذكرت كلام "الشعبي" في ذلك المجلس وأنا أحفظه كله، فجعلت أهذه1 ما أترك منه حرفا، واتخذته متكلما مع نفسي لا كلاما، كنت كلما غلبني الضعف رفعت به صوتي وأصغيت كما أصغي إلى إنسان يكلمني فرأيت الشيطان بعد ذلك كاللص إذا طمع في رجل ضعيف منفرد، ثم لما جاءه وجد معه رجلا ثانيا قويا فهرب! قال أبو عبيد: ونالني روح من الاطمئنان وجدت له السكينة في قلبي فنمت، فإذا الفزع الأكبر الذي لا ينساه من سمع به، فكيف الذي رآه بعينيه؟ رأيتني ميتا في يد غاسله يقلبه ويغسله كأنه حرقة؛ ثم حملت على النعش كأن الحاملين قد رفعوني يقولون: انظروا أيها الناس كيف يصير الناس؛ ثم صلى علي الإمام الشعبي في مسجد الكوفة، ثم دليت في قعر مظلمة وهيل التراب علي، وتركت وحيدًا وانصرفوا! وما أدري كم بقيت على ذلك ثم رأيت كأنما نفخ في الصور وبعثرت الأموات جميعا، فطرنا في الفضاء، وكانت النجوم غبارًا حولنا كتراب العاصفة في العاصفة، وإذا نحن في عرصات القيامة وفي هول الموقف! وتوجهت بكل شعرة في جسمي إلى الرجاء في رحمة الله؛ ورأيت أعمالي

_ 1 الهذ: الإسراع في القراءة.

رؤية أحزنتني، فهي كمدينة عظيمة كل أهلها صعاليك إلا قليلا من المستورين، أرى منهم الواحد بعد الواحد في الساعة بعد الساعة ندروا وتبعثروا وضاعوا كأعمالي الصالحة! وذكرت أني كدت أقتل نفسي فرارًا بها من العمر المؤلم؛ فنظرت فإذا الزمن قد ظهر في أبديته، ورجع الماضي حاضرا بكل ما حوى كأنه لم يمض، وإذا عمري كله لا يكاد يبلغ طرفة عين من دهر طويل، فحمدت الله أن لم أفتد ألم اللحظة القصيرة القصيرة، بعذاب الأبد الخالد الخالد الخالد. وجيء على أعين الخلق بأنعم أهل الدنيا وأكثرهم لذات في تاريخ الدنيا كله، فصاح صائح: هذا أنعم من كان على الأرض منذ خلقها الله إلى أن طواها. ثم غمس هذ المنعم في النار غمسة خفيفة كنبضة البرق، وأخرج إلى المحشر، وقيل له والناس جميعا يسمعون: هل ذقت نعيما قط؟ قال: لا والله. ثم جيء بأتعس أهل الأرض وأشدهم بؤسا منذ خلقت الأرض، فغمس في الجنة غمسة أسرع من النسيم تحرك ومر، ثم أخرج إلى المحشر وقيل له: هل ذقت بؤسا قط؟ قال: لا والله. وسمعنا شهيق جهنم وهي تفور تكاد تميز من الغيظ؛ فأيقنت أن لها نفسا خلقت من غضب الله، وخرج منها عنق عظيم هائل، لو تضرمت السماء كلها نارا لأشبهته، فجعل يلتقط صنفا صنفا من الخلق، وبدأ بالملوك الجبابرة فالتقطهم مرة واحدة كالمغناطيس لتراب الحديد؛ وقذف بهم إلى النار، ثم انبعث فالتقط الأغنياء المفسدين فأطارهم إليها؛ ثم جعل يأخذ قوما قوما، وقد ألجمني العرق من الفزع؛ ثم طرت أنا فيه، ونظرت، فإذا أنا محتبس في مظلمة نارية كالهاوية، ليس حولي فيها إلا قاتلو أنفسهم. ولو أن بحار الأرض جعل فيها البحر فوق البحر فوق البحر، إلى أن تجتمع كلها فيكون العمق كبعد ما بين الأرض والسماء، ثم تسجر نار تلظى، لكانت هي الهاوية التي نحن في أعماقها؛ وكنت سمعت من إمامنا الشعبي: أن عصاة المؤمنين الموحدين إذا ماتوا على إيمانهم كانوا في النار أحياء وجوارحهم موتى، لأن هذه الجوارح قد أطاعت الله وسبحته فكرمت بذلك حتى على جنهم، ثم يعذبون عذابا فيه الرحمة، ثم يخرجون وينتظرهم إيمانهم على باب النار، فكان إلى جانبي رجل قتل نفسه، فسمع قائلا من بعيد يقول لمؤمن: اخرج فإن إيمانك ينتظرك. فصاح الذي إلى جانبي: وأنا، أفلا ينتظرني إيماني؟ فقيل له: وهل جئت به؟

ورأيت رجلا ذبح نفسه يريد أن يصرخ يسأل الله الرحمة، فلا يخرج الصوت من حلقه، إذ كان قد فراه وبقي مفريا! وأبصرت آخر قد طعن في قلبه بمدية، فهو هناك تسلخ الزبانية قلبه تبحث هل فيه نية صالحة, فلا تزال تسلخ ولا تزال تبحث! ورأيت آخر كان تحسى من السم فمات ظمآن يتلظى جوفه، فلا تزال تنشأ له في النار سحابة رؤية تبرق بالماء، فإذا دنت منه ورجاها، انفجرت عليه بالصواعق ثم عادت تنشأ وتنفجر! وقال رجل: إنما كنت مجنونا ضعيفا عاجزًا فأزهقت نفسي. فنودي: أوما علمت أن الله يحاسبك على أنك عاقل لا مجنون، وقوي لا ضعيف، وقادر لا عاجز؟ كنت تعقل بالأقل أنك ستموت، وكنت تقوى على أن تصبر، وكنت تقدر أن تترك الشر. وقال رجل عالم قد حز في يده بسكين فمات: "لم يكن الكمال من الدنيا ولا في طبيعتها ولا هو شيء يدرك"، فصرخ فيه صوت رهيب: "ولكن من عظمة الكمال أن استمرار العمل له هو إدراكه! ". قال أبو عبيد: ثم انتصب بإزائي شيطان مارد أحمر، يلتمع التماع الزجاج فيه الخمر، فقام في وجهي وقال: بماذا جئت إلى هنا يا عدو الخمر؟ فما كان إلا أن سمعت النداء: شفعت فيك الخمر التي لم تشربها، اخرج، إن إيمانك ينتظرك. فصحت: الحمد لله! وتحرك بها لساني، فانتبهت. لقد علمت أن الصبر على المصائب نعمة كبرى لا ينعم الله بها إلا في المصائب.

وحي القبور

وحي القبور *: ذهبت في صبح يوم عيد الفطر أحمل نفسي بنفسي إلى المقبرة، وقد مات لي من الخواطر موتي لا ميت واحد؛ فكنت أمشي وفي جنازة بمشيعيها؛ من فكر يحمل فكرًا، وخاطر يتبع خاطرًا، ومعنى يبكي، ومعنى يكبى عليه. وكذلك دأبي كلما انحدرت في هذه الطريق إلى ذلك المكان الذي يأتيه العيون بدموعها، وتمشي إليه النفوس بأحزانها، وتجيء فيه القلوب إلى بقاياها. تلك المقابر التي لا ينادى أهلها من أهليهم بالأسماء ولا بالألقاب، ولكن بهذا النداء: يا أحبابنا، يا أحزاننا! ذهبت أزور أمواتي الأعزاء وأتصل منهم بأطراف نفسي، لأحيا معهم في الموت ساعة أعرض فيها أمر الدنيا على أمر الآخرة، فأنسى وأذكر، ثم أنظر وأعتبر، ثم أتعرف وأتوسم، ثم أستبطن مما في بطن الأرض، وأستظهر مما على ظهرها. وجلست هناك أشرف من دهر على دهر، ومن دنيا على دنيا، وأخرجت الذاكرة أفراحها القديمة لتجعلها مادة جديدة لأحزانها؛ وانفتح لي الزمن الماضي فرأيت رجعة الأمس، وكأن دهرًا كاملًا خلق بحوادثه وأيامه، ورفع لعيني كطما ترفع الصورة المعلقة في إطارها. أعرف أنهم ماتوا، ولكني لم أشعر قط إلا أنهم غابوا؛ والحبيب الغائب لا يتغير عليه الزمان ولا المكان في القلب الذي يحبه مهما تراخت به الأيام؛ وهذه هي البقية الروح إذا امتزجت بالحب في روح أخرى: تترك فيها ما لا يمحى لأنها هي خالدة لا تمحى. ذهب الأموات ذهابهم ولم يقيموا في الدنيا، ومعنى ذلك أنهم مروا بالدنيا ليس غير، فهذه هي الحياة حين تعبر عنها النفس بلسانها لا بلسان حاجتها وحرصها.

_ * أنشأها في صبيحة يوم العيد وانظر "عود على بدء" من كتاب حياة الرافعي.

الحياة مدة عمل، وكأن هذه الدنيا بكل ما فيها من المتناقضات، إن هي إلا مصنع يسوغ كل إنسان جانبا منه، ثم يقال له: هذه الأداة فاصنع ما شئت، فضيلتك أو رذيلتك. جلست في المقبرة، وأطرقت أفكر في هذا الموت. يا عجبا للناس! كيف لا يستشعرونه وهو يهدم من كل حي أجزاء تحيط به قبل أن يهدمه هو بجملته؛ وما زال كل بنيان من الناس به كالحائط المسلط عليه خرابه، يتأكل من هنا ويتناثر من هناك! يا عجبا للناس عجبا لا ينتهي! كيف يجعلون الحياة مدة نزاع وهي مدة عمل، وكيف لا تبرح تنزو النوازي بهم في الخلاف والباطل، وهم كلما تدافعوا بينهم قضية من النزاع فضربوا خصما بخصم وردوا كيدا بكيد، جاء حكم الموت تكذيبا قاطعا لكل من يقول لشيء: هذا لي؟ أما -والله- إنه ليس أعجب من السخرية بهذه الدنيا من أن يعطى الناس ما يملكونه فيها لإثبات أن أحدًا منهم لا يملك منها شيئًا، إذا يأتي الآتي إليها لحما وعظما، ولا يرجع عنها الراجع إلا لحما وعظما، وبينهما سفاهة العظم واللحم حتى على السكين القاطعة. تأتي الأيام وهي في الحقيقة تفر فرارها؛ فمن جاء من عمره عشرون سنة فإنما مضت هذه العشرون من عمره. ولقد كان ينبغي أن تصحح أعمال الحياة في الناس على هذا الأصل البين، لولا الطباع المدخولة والنفوس الغافلة، والعقول الضعيفة, والشهوات العارمة؛ فإنه ما دام العمر مقبلا مدبرا في اعتبار واحد، فليس للإنسان أن يتناول من الدنيا إلا ما يرضيه محسوبا له ومحسوبا عليه في وقت معا؛ وتكون الحياة في حقيقتها ليست شيئا إلا أن يكون الضمير الإنساني هو الحي في الحي. وما هي هذه القبور؟ لقد رجعت عند أكثر الناس مع الموتى أبنية ميتة؛ فما قد رأوها موجودة إلا لينسوا أنها موجودة؛ ولولا ذلك من أمرهم لكان للقبر معناه الحي المتغلغل في الحياة إلى بعيد؛ فما القبر إلا بناء قائم لفكرة النهاية والانقطاع؛ وهو في الطرف الآخر رد على البيت الذي هو بناء قائم لفكرة البدء والاستمرار؛ وبين الطرفين المعبد وهو بناء لفكرة الضمير الذي يحيا في البيت وفي القبر، فهو على الحياة والموت كالقاضي بين خصمين يصلح بينهما صلحا أو يقضي.

القبر كلمة الصدق مبنية متجسمة، فكل ما حولها يتكذب ويتأول، وليس فيها هي إلا معناها لا يدخله كذب ولا يعتريه تأويل. وإذا ماتت في الأحياء كلمة الموت من غرور أو باطل أو غفلة أو أثرة، بقي القبر مذكرا بالكلمة شارحا لها بأظهر معانيها، داعيا إلى الاعتبار بمدلولها، مبينا بما ينطوي عليه أن الأمر كله للنهاية. القبر كلمة الأرض لمن ينخدع فيرى العمر الماضي كأنه غير ماضي، فيعمل في إفراغ حياته من الحياة1 بما يملؤها من رذائله وخسائسه، فلا يزال دائبا في معاني الأرض واستجماعها. والاستمتاع بها، يتلو في ذلك تلو الحيوان ويقتاس به، فشريعته جوفه وأعضاؤه، وترجع بذلك حيوانيته مع نفسه الروحانية، كالحمار مع الذي يملكه ويعلفه، ولو سئل الحمار عن صاحبه من هو؟ لقال: هو حماري. القبر على الأرض كلمة مكتوبة في الأرض إلى آخر الدنيا، معناها أن الإنسان حي في قانون نهايته، فلينظر كيف ينتهي. إذا كان الأمر كله للنهاية، وكان الاعتبار بها والجزاء عليها، فالحياة هي الحياة على طريقة السلامة لا غيرها، طريقة إكراه الحيوان الإنساني على ممارسة الأخلاقية الاجتماعية، وجعلها أصلا في طباعه، ووزن أعماله بنتائجها التي تنتهي بها، إذ كانت روحانيته في النهايات لا في بداياتها. في الحياة الدنيا يكون الإنسان ذاتا تعمل أعمالها؛ فإذا انتهت الحياة انقلبت أعمال الإنسان ذاتا يخلد هو فيها؛ فهو من الخير خالد في الخير، ومن الشر هو خالد في الشر؛ فكأن الموت إن هو إلا ميلاد للروح من أعمالها؛ تولد مرتين: آتية وراجعة. وإذا كان الأمر للنهاية فقد وجب أن تبطل من الحياة نهايات كثيرة، فلا يترك الشر يمضي إلى نهايته بل يحسم في بدئه ويقتل في أول أنفاسه، وكذلك الشأن في كل ما لا يحسن أن يبدأ، فإنه لا يجوز أن يمتد: كالعداوة والبغضاء، والبخل والأثرة، والكبرياء والغرور، والخداع والكذب؛ وما شابه هذه أو شابهها، فإنها كلها انبعاث من الوجود الحيواني وانفجار من طبيعته؛ ويجب أن يكون لكل منها في الإرادة قبر كي تسلم للنفس إنسانيتها إلى النهاية.

_ 1 أي من إنسانية الحياة.

يا من لهم في القبو أموات! إن رؤية القبر زيادة في الشعور بقيمة الحياة، فيجب أن يكن معنى القبر من معاني السلام العقلي في هذه الدنيا. القبر فم ينادي: أسرعوا أسرعوا، فهي مدة لو صرفت كلها في الخير ما وفت به؛ فكيف يضيع منها ضياع في الشر أو الإثم؟ لو ولد الإنسان ومشى وأيفع وشب واكتهل وهرم في يوم واحد، فما عساه كان يضيع من هذا اليوم الواحد؟ إن أطول الأعمار لا يراه صاحبه في ساعة موته إلا أقصر من يوم. ينادي القبر: أصلحوا عيوبكم، وعليكم وقت لإصلاحها؛ فإنها إن جاءت إلى هنا كما هي، بقيت كما هي إلى الأبد، وتركها الوقت وهرب. هنا قبر، وهناك قبر، وهنالك القبر أيضًا؛ فليس ينظر في هذا عاقل إلا كان نظره كأنه حكم محكمة على هذه الحياة كيف تنبغي وكيف تكون. في القبر معنى إلغاء الزمان، فمن يفهم هذا استطاع أن ينتصر على أيامه، وأن يسقط منها أوقات الشر والإثم، وأن يميت في نفسه خواطر السوء؛ فمن معاني القبر ينشأ للإرادة عقلها القوي الثابت؛ وكل الأيام المكروهة لا تجد لها مكانًا في زمن هذا العقل, كما لا يجد الليل محلا في ساعات الشمس. ثلاثة أرواح لا تصلح روح الإنسان في الأرض إلا بها: روح الطبيعة في جمالها، وروح المعبد في طهارته، وروح القبر في موعظته.

عروس تزف إلى قبرها "1"

عروس تزف إلى قبرها * "1": كان عمرها طاقة أزهار تسمى أيامًا. كان عمرها طاقة أزهار ينتسق فيه اليوم بعد اليوم كما تنبت الورقة الناعمة في الزهرة إلى ورقة ناعمة مثلها. أيام الصبا المرحة حتى في أحزانها وهمومها؛ إذ كان مجيئها من الزمن الذي خص بشباب القلب، تبدو الأشياء في مجاري أحكامها كالمسحورة؛ فإن كانت مفرحة جاءت حاملة فرحين، وإن كانت محزنة جاءت بنصف الحزن. تلك الأيام التي تعمل فيها الطبيعة لشباب الجسم بقوي مختلفة: منها الشمس والهواء والحركة، ومنها الفرح والنسيان والأحلام! وشبت العذراء وأفرغت في قالب الأنوثة الشمسي القمري، واكتسى وجهها ديباجة من الزهر الغض، وأودعتها الطبيعة سرها النسائي الذي يجعل العذراء فن جمال لأنها فن حياة، وجعلتها تمثالا للظرف, وما أعجب سحر الطبيعة عندما تجمل العذراء بظرف كظرف الأطفال الذين ستلدهم من بعد! وأسبغت عليها معاني الرقة والحنان وجمال النفس؛ وما أكرم يد الطبيعة عندما تمهر العذراء من هذه الصفات مهرها الإنساني! وخطبت العذراء لزوجها، وعقد له عليها في اليوم الثالث من شهر مارس في الساعة الخامسة بعد الظهر. وماتت عذراء بعد ثلاث سنين، وأنزلت إلى قبرها في اليوم الثالث من شهر مارس في الساعة الخامسة بعد الظهر!

_ * هي زوج ولده سامي. وانظر خبره وخبرها في "عود على بدء" من كتاب "حياة الرافعي".

وكانت السنوات الثلاث عمر قلب يقطعه المرض، يتنظّرون به العرس، وينتظر بنفسه الرمس! يا عجائب القدر! أذاك لحن موسيقي لأنين استمر ثلاث سنوات، فجاء آخره موزونا بأوله في ضبط ودقة؟ أكانت تلك العذراء تحمل سرًا عظيمًا سيغير الدنيا، فردت الدنيا عليها يوم التهنئة والابتسام والزينة، فإذا هو يوم الولولة والدموع والكفن؟ 2- واها لك أيها الزمن! من الذي يفهمك وأنت مدة أقدار؟ واليوم الواحد على الدنيا هو أيام مختلفة بعدد أهل الدنيا جميعا، وبهذا يعود لكل مخلوق سر يومه، كما أن لكل مخلوق سر روحه، وليس إليه لا هذا ولا هذا. وفي اليوم الزمني الواحد أربعمائة مليون يوم إنساني على الأرض! ومع ذلك يحصيه عقل الإنسان أربعا وعشرين ساعة؛ يا للغباوة! وكل إنسان لا يتعلق من الحياة إلا بالشعاع الذي يضيء المكان المظلم في قبله، والشمس بما طلعت عليه لا تستطيع أن تنير القلب الذي لا يضيئه إلا وجه محبوب. وفي الحياة أشياء مكذوبة تكبر الدنيا وتصغر النفس، وفي الحياة أشياء حقيقية تعظم بالنفس وتصغر بالدنيا؛ وذهب الأرض كله فقر مدقع حين تكون المعاملة مع القلب. أيتها الدنيا؛ هذا تحقيرك الإلهي إذا أكبرك الإنسان! ويا عجبا لأهل السوء المغترين بحياة لا بد أن تنتهي! فماذا يرتقبون إلا أن ننتهي؟ حياة عجيبة غامضة؛ وهل أعجب وأغمض من أن يكون انتهاء الإنسان إلى آخرها هو أول فكره في حقيقتها؟ فعندما تحين الدقائق المعدودة التي لا ترقمها الساعة ولكن يرقمها صدر المحتضر ... عندما يكون ملْك الملوك جميعا كالتراب لا يشتري شيئا ألبتة. ماذا يكون أيها المجرم بعدما تقترف الجناية، ويقوم عليك الدليل، وترى حولك الجند والقضاة، وتقف أمام الشريعة والعدل؟

أعمالنا في الحياة هي وحدها الحياة، لا أعمارنا، ولا حظوظنا، ولا قيمة للمال، أو الجاه، أو العافية، أو هي معا إذا سلب صاحبها الأمن والقرار! والآمن في الدنيا من لم تكن وراءه جريمة لا تزال تجري وراءه، والسعيد في الآخرة من لم تكن له جريمة تطارده وهو في السماوات. كيف يمكن أن تخدع الآلة صاحبها وفيها "العداد"؛ ما تتحرك من حركة إلا أشعرته فعدها؟ وكيف يمكن أن يكذب الإنسان ربه وفيه القلب؛ ما يعمل من عمل إلا أشعره فعده؟ 3- ورأيت العروس قبل موتها بأيام. أفرأيت أنت الغنى عندما يدبر عن إنسان ليترك له الحسرة والذكرى الأليمة؟ أرأيت الحقائق الجميلة تذهب عن أهلها فلا تترك لهم إلا الأحلام بها؟ ما أتعب الإنسان حين تتحول الحياة عن جسمه إلى الإقامة في فكره! وما هي الهموم والأمراض؟ هي القبر يستبطئ صاحبه أحيانا فينفض في بعض أيامه شيئا من ترابه! رأيت العروس قبل موتها بأيام، فيالله من أسرار الموت ورهبتها! فرغ جسمها كما فرغت عندها الأشياء من معانيها! وتخلى هذا الجسم عن مكانه للروح تظهر لأهلها وتقف بينهم وقفة الوداع! وتحول الزمن إلى فكر المريضة؛ فلم تعد تعيش في نهار وليل، بل في فكر مضيء أو فكر مظلم! يا إلهي! ما هذا الجسم المتهدم المقبل على الآخرة؛ هو تمثال بطل تعبيره، أم تمثال بدأ تعبيره؟ لقد وثقت أنه الموت، فكان فكرها الإلهي هو الذي يتكلم؛ وكان وجهها كوجه العابد عليه طيف الصلاة ونورها. والروح الإنسانية متى عبرت لا تعبر إلا بالوجه. ولها ابتسامة غريبة الجمال؛ إذ هي ابتسامة آلام أيقنت أنها موشكة أن تنتهي! ابتسامة روح لها مثل فرح السجين قد رأى سبحانه واقفا في يده الساعة يرقب الدقيقة والثانية ليقول له: انطلق!

ودخلت أعودها فرأت كأنني آت من الدنيا, وتنسمت مني هواء الحياة، كأنني حديقة لا شخص! ومن غير المريض المدنف، يعرف أن الدنيا كلمة ليس لها معنى أبدًا إلا العافية, من غير المريض المشفي على الموت، يعيش بقلوب الناس الذين حوله لا بقلبه؟ تلك حالة لا تنفع فيها الشمس ولا الهواء ولا الطبيعة الجميلة، ويقوم مقام جميعها للمريض أهله وأحباؤه! وكان ذووها من رهبة القدر الداني كأنهم أسرى حرب أجلسوا تحت جدار يريد أن ينقض! وكانت قلوبهم من فزعها تنبض نبضا مثل ضربات المعاول. وباقتراب الحبيب المحتضر من المجهول، يصبح من يحبه في مجهول آخر، فتختلط عليه الحياة بالموت، ويعود في مثل حيرة المجنون حين يمسك بيده الظل المتحرك ليمنعه أن يذهب وتعروه في ساعة واحدة كآبة عمر كامل، تهيئ له جلال الحس الذي يشهد به جلال الموت! وحانت ساعة ما لا يفهم، ساعة كل شيء، وهي ساعة اللاشيء في العقل الإنساني! فالتفتت العروس لأبيها تقول: "لا تحزن يا أبي", ولأمها تقول: "لا تحزني يا أمي". وتبسمت للدموع كأنما تحاول أن تكلمها هي أيضا، تقول لها: "لا تبكي! " وأشفقت على أحيائها وهي تموت، فاستجمعت روحها ليبقى وجهها حيا من أجلهم بضع دقائق! وقالت: "سأغادركم مبتسمة فعيشوا مبتسمين، سأترك تذكاري بينكم تذكار عروس". ثم ذكرت الله وذكرتهم به، وقالت "أشهد أن لا إله إلا الله". وكررتها عشرا! وتملأت روحها بالكلمة التي فيها نور السماوات والأرض، ونطقت من حقيقة قلبها بالاسم الأعظم الذي يجعل النفس منيرة تتلألأ حتى وهي في أحزانها. ثم استقبلت خالق الرحمة في الآباء والأمهات وفي مثل إشارة وداع من مسافر انبعث به القطار، ألقت إليهم تحية من ابتسامتها وأسلمت الروح! 4- يا لعجائب القدر! مشينا في جنازة العروس التي تزف إلى قبرها طاهرة

كالطفلة ولم يبارك لها أحد! فما جاوزنا الدار إلا قليلا حتى أبصرت على حائط في الطريق إعلانا قديما بالخط الكبير الذي يصيح للأعين، إعلانا قديما عن "رواية" هذا هو اسمها: "مبروك". واخترقنا المدينة وأنا أنظر وأتقصى، فلم أر هذا الإعلان مرة أخرى! واخترقنا المدينة كلها، فلما انقطع العمران وأشرفنا على المقبرة، إذا آخر حائط عليه الإعلان: "مبروك".

موت أم

موت أم *: رجعت من الجنازة بعد أن غبرت قدمي ساعة في الطريق التي ترابها تراب وأشعة، وكانت في النعش لؤلؤة آدمية محطمة، هي زوجة صديق طحطحتها الأمراض ففرقتها بين علل الموت، وكان قلبها يحييها فأخذ يهلكها، حتى إذا دنا أن يقضي عليها رحمها الله فقضى فيها قضاءه، ومن ذا الذي مات له مريض بالقلب ولم يره من قلبه في علته كالعصفورة التي تهتلك تحت عيني ثعبان سلط عليها سموم عينيه! كانت المسكينة في الخامسة والعشرين من سنها، أما قلبها ففي الثمانين أو فوق ذلك؛ هي في سن الشباب وهو متهدم في سن الموت. وكانت فاضلة تقية صالحة، لم تتعلم ولكن علمها التقوى والفضيلة, وأكمل النساء عندي ليست هي التي ملأت عينيها من الكتب فهي تنظر إلى الحياة نظرات تحل مشاكل وتخلق مشاكل ولكنها تلك التي تنظر إلى الدنيا بعين متلألئة بنور الإيمان تقر في كل شيء معناه السماوي، فتؤمن بأحزانها وأفراحها معا، وتأخذ ما تعطى من يد خالقها رحمة معروفة أو رحمة مجهولة، هذه عندي تسمى امرأة، ومعناها المعبد القدسي، وتكون الزوجة، ومعناها القوة المسعدة، وتصير الأم، ومعناها التكملة الإلهية لصغارها وزوجها ونفسها. ومهما تبلغ المرأة من العلم فالرجل أعظم منها بأنه رجل، ولكن المرأة حق المرأة هي تلك التي خلقت لتكون للرجل مادة الفضيلة والصبر والإيمان، فتكون له وحيا وإلهامًا وعزاء وقوة، أي زيادة في سروره ونقصا من آلامه. ولن تكون المرأة في الحياة أعظم من الرجل إلا بشيء واحد، هو صفاتها التي تجعل رجلها أعظم منها.

_ * هي زوج صديقنا الأستاذ حسنين مخلوف. وانظر "عمله في الرسالة" من كتاب "حياة الرافعي".

ومشيت من البيت الذي ألبسته الميتة معنى القبر، إلى القبر الذي ألبس الميتة معنى البيت وأنا منذ مشيت في جنازة أمي "رحمها الله" لا أسير في هذه الطريق مع الأحياء، ولكن مع الموتى، فأتبع من الميت صديقا ليس رجلا ولا امرأة، لأنه من غير هذه الدنيا؛ وأمشي في ساعة ليست ستين دقيقة، لأنها خرجت من الزمن؛ ولا أرى الطريق من طرق الحياة، لأنني في صحبة ميت؛ وتصبح للأرض في رأيي جغرافية أخرى عمي الناس عنها لشدة وضوحها، كالألوهية خفيت من شدة ما ظهرت. يقولون: إن ثلاثة أرباع الأرض يغمرها البحر، أما أنا فأرى في تلك الساعة أن ثلاثة أرباع الأرض لا يغمرها البحر الذي وصفوا، ولكن خضم آخر زخار متضرب، هو ذلك البحر الترابي العظيم المسمى "المقبرة". يقولون: إن الحياة هي ... هي ماذا -ويحكم- أيها المغرورون؛ أفلا ترون هذه الصلة الدائمة بين بطن الأم وبطن الأرض؟ لعمري كيف تجعل هذه الحياة للناس قلوبا مع قلوبهم فيحس المرء بقلب، ويعمل بقلب آخر؛ يعتقد ضرر الكذب ويكذب، ويعرف معرفة الإثم ويأثم، ويوقن بعاقبة الخيانة ثم يخون؛ ويمضي في العمر منتهيا إلى ربه, ما في ذلك شك, ولكنه في الطريق لا يعمل إلا عمل من قد فر من ربه. هبت الريح في السحر على روضة غناء فطابت لها، فعقدت عقدتها أن تتخذ لها بيتا في ذلك المكان الطيب لتقيم فيه. يا لها حكمة من التدبير! تزعم الريح الإقامة على حين كل وجودها هو لحظة مرورها، وتحلم بالقرار في البيت وهي لا تملك بطبيعتها أن تقف. يا لها حكمة سامية، لا يسكنها من المعنى إلا أسخف ما في الحمق! همد الحي وانطفأت عيناه، ولكنه تحرك في تاريخه مما ضيق على نفسه أو وسع، وأصبح ينظر بعين من عمله إما مبصرة أو كالعمياء؛ فلو تكلم يصف الحياة الدنيا لقال: إن هذه النجوم على الأرض مصابيح مأتم أقيم بليل. وما أعجب أن يجلس أهل المأتم في المأتم ليضحكوا ويلعبوا! ولو نطق الموتى لقالوا: أيها الأحياء، إن هذا الحاضر الذي يمر فيكون ماضيكم في الدنيا، هو بعينه الذي يكون مستقبلكم في الآخرة، لا تزيدون فيه ولا

تنقصون. وإن الدنيا تبدأ عندكم من الأعلى إلى الأدنى, من العظماء إلى الفقراء؛ ولكنها تنقلب في الآخرة فتبدأ من الفقراء إلى العظماء؛ وأنتم ترسمونها بخطوط المطامع والحظوظ، ويرسمها الله بخطوط الحرمان والمجاهدة؛ إن التام على الأرض من تم بمتاعها ولذاتها، ولكن التام في السماء من تم بنفسه وحدها. يا أسفا! لن يقول الميت للحي شيئا، ومن يدري؟ لعلنا ونحن نلحد للموتى وننزلهم في قبورهم، يرون بأرواحهم الخالدة أننا نحن موتاهم المساكين، وأننا مدفونون في القبر الذي يسمونه "الكرة الأرضية" وهل الكرة الأرضية من اللانهاية إلا حفرة برجل نملة لتدفن فيها نملة. الحياة ... أتريد أن تعرفها على حقيقتها؟ هي المبهمات الكثيرة التي ليس لها في الآخر إلا تفسير واحد, حلال أو حرام. ورجعنا مع الصديق إلى بيته، وله خمسة أطفال صغار لو أنهم هم الذين انتزعوا من أمهم لترك كل واحد على قلبها مثل المكواة المحمى عليها في النار إلى أن تحمر؛ ولكن أمهم هي التي نزعت منهم، فكان بقاؤهم في الحياة تخفيفا لسكرة الموت عليها. وغشيتها الغشية فماتت وهي تضحك، إذ تراهم نائمين تحت جناح الرحمة الإلهية الممدود، وقالت: إنها تسمع أحلامهم. وكانوا هم عقلها في ساعة الموت! تبارك الذي جعل في قلب الأم دنيا من خلقه هو، ودنيا من خلق أولادها! تبارك الذي أثاب الأم ثواب ما تعاني، فجعل فرحها صورة كبيرة من فرح صغارها! وجاء أكبر الأطفال الخمسة، وكأنه ثمانية أرطال من الحياة لا ثمانية أعوام من العمر؛ جاء إلينا كما يجيء الفزع لقلوب مطمئنة، إذ كان في عينيه الباكيتين معنى فقد الأم! وطغت عليه الدموع فتناول منديله ومسحها بيده الصغيرة، ولكن روحه اليتيمة تأبى إلا أن ترسم بهذه الدموع على وجهه معاني يتمها! وظهر الانكسار في وجهه يعبر ببلاغة أنه قد أحس حقيقة ضعفه وطفولته بإزاء المصيبة التي نزلت به، وجلس مستسلما تترجم هيئته معاني هذه الكلمة: "رفقا بي! ".

ثم تطير من عينيه نظرات في الهواء، كأنما يحس أن أمه حوله في الجو ولكنه لا يراها! ثم يرخي عينيه في إغماضة خفيفة، كأنما يرجو أن يرى أمه في طويته! ولا يصدق أنها ماتت، فإن صوتها حي في أذنيه لا يزال يسمعه من أمس! ثم يعود إلى وجهه الانكسار والاستسلام، ويتململ في مجلسه، فينطق جسمه كله بهذه الكلمة" يا أمي! ". أحس -ولا ريب- أنه قد ضاع في الوجود، لأن الوجود كان أمه. ولمس خشونة الدنيا منذ الساعة، بعد أن فقد الصدر الذي فيه وحده لين الحياة, لأن فيه قلب أمه وروحها. وشعر بالذل ينساب إلى قلبه الصغير؛ لأن تلك التي كان يملك فيها حق الرحمة قد أخذت منه وتركته بلا حق في أحد؛ وليس لأحد أمان! ولبسته المسكنة، لأن له شيئا عزيزًا أصبح وراء الزمان فلن يصل إليه! ولبسته المسكنة، لأنه صار وحده في المكان كما هو وحده في الزمان! وارتسم على وجهه التعجب، كأنه يسأل نفسه:"إذا لم تكن أمي هنا، فلماذا أنا هنا؟ ". ثم تغرغرت عيناه فيخرج منديله ويمسح دمعه بيده الصغيرة، ولكن روحه اليتيمة تأبى إلا أن ترسم بهذه الدموع على وجهه معاني يتمها! ونهض الصغير ولم ينطق بذات شفة؛ نهض يحمل رجولته التي بدأت منذ الساعة! انتهت -أيها الطفل المسكين- أيامك من الأم؛ فهذه الأيام السعيدة التي كنت تعرف الغد فيها قبل أن يأتي معرفتك أمس الذي مضى؛ إذ يأتي الغد ومعك أمك! وبدأت -أيها الطفل المسكين- أيامك من الزمن، وسيأتي كل غد محجبا مرهوبا؛ إذ يأتي لك وحدك، ويأتي وأنت وحدك! الأم ... يا إلهي! أي صغير على الأرض يجد كفايته من الروح إلا في الأم؟

قصة أب

قصة أب *: حدثني المسكين فيما حدث وهو يصف ما نزل به قال: رأيت الناس قد أنعم الله عليهم أن يكونوا آباء فنسأ بالولد في آثارهم. ومد بالنسل في وجودهم، وزاد منه في أرواحهم أرواحًا، وضم به إلى قلوبهم قلوبا، وملأ أعينهم من ذلك بما تقر به قرة عين كانت لم تجد ثم وجدت، فهم بهؤلاء الأطفال يملكون القوة التي ترجعهم أطفالا مثلهم في كل ما يسرهم، فيكبر الفرح في أنفسهم وإن كان في ذات نفسه ضئيلا صغيرًا، ويعظم الأمل في أشيائهم وإن كان هو عن شيء حقير لا يؤبه له. وتلك حقيقة من حقائق السعادة لا أسمى ولا أعظم منها إلا الحقيقة الأخرى, وهي القوة التي يتحول بها الكون في قلب الوالدين إلى كنز من الحب والرحمة وجمال العاطفة، وبسحر من ابتسامة طفل أو طفلة، أو بكلمة منهما أو حركة، على حين لا يتحول مثل ذلك ولا قريبا منه بمال الدنيا، ولا بملك الدنيا. رأيت الناس قد أنعم الله عليهم أن يكونوا آباء، ولكنه ابتلاني بأن أكون أبا، وأخرج لي من أفراح قلبي أحزان قلبي! ولقد كنت كرجل ملك دارًا يستمتع بها، فتمنى أن يشرع1 في جانب منها غرفة يزخرفها، فلما تم له ذلك وبلغ المقترح، انهدمت الدار وبقيت الغرفة قائمة!. عمرك الله، أيشعر هذا الرجل في نكبته بالغرفة أم بالدار؟ وهل تراه زاد أو نقص؟ ويا ليتهما بيت وغرفة من بيت؛ فإن الحجارة تحيا بالبناء إذا ماتت بالهدم، ولكن من ذا يحيي الزوجة ماتت بعد أو ضعت بكرها الأول والآخر! إنها طفلة ولدت وكأنما أخرجت من تحت الردم، إذ ولدت تحت ماض من

_ * هو الصديق الأديب عبد الله عمار. وانظر "عمله في الرسالة" من كتاب "حياة الرافعي". 1 أي يفتح غرفة إلى الشارع.

الحياة منهدم، وهل فرق بيين هذا وبين أن تكون أمها قد ولدتها في الصحراء ثم أكرهت أن تدعها وحدها في ذلك القفر تصرخ وتبكي! فالمسكينة على الحالين منقطعة أول ما انقطعت من حنان الأم ورحمتها. طفلة ولدت صارخة، لا صرخة الحياة، ولكن صرخة النوح والندب على أمها. صرخة حزينة معناها: ضعوني مع أمي ولو في القبر! صرخة ترتعد، كأن المسكينة شعرت أن الدنيا خالية من الصدر الذي يدفئها! صرخة تتردد في ضراعة، كأنها جملة مركبة من هذه الكلمات: "يا رب ارحمني من حياة بلا أم! ". قال المسكين وهو يبكي امرأته: ولما ضربها المخاض، ضاعفت قوتها من شعورها أنها ستكون بعد قليل مضاعفة بمولودها، وستكون روحين لا روحا واحدة، وتلد لي الحياة والحب الإلهي معا، وتأتي لقلبي بمثل طفولته الأولى التي يستحيل أن تأتي الرجل إلا من زوجه. كل ذلك ضاعف قواها ساعة وشد منها؛ ولكن ما أسرع ما تبينت أنه الموت، إذ عضلت وعسر خروج مولودها. وجاءها الجراحى بمبضعه، وكأنها رأته ذابحا لا طبيبا، فجعلت تعبر بعينيها، إذ لم تملك في آلامها القاتلة غير لغة هاتين العينين. كانت بنظرة تبكي علي وعلى بؤسي، وبأخرى تبكي على بؤس مولودها وشقائه؛ وبنظرة تودعني، وبأخرى تدعو الله لي جزاء ما أحسنت إليها؛ وبنظرة تتوجع لنفسها، وبأخرى تتألم من أنها تراني أكاد أجن. نظرات نظرات ... يا إلهي! لقد خيل إلي أن ملك الموت واقف بين عشرين مرآة تحيط به، فأنا أراه موتا متعددا لا موتًا واحدًا، وكل نظرة من عيني زوجتي إلي كانت منها هي نظرة، وكانت عندي أنا مرآة الروح للروح. ولكنها لم تنس أنها تموت لوضع مولودها، وأن هذه الآلام الدموية الذابحة هي الوسيلة لأن تترك لي بقية حية منها؛ فيا للرحمة والحنان والحب! لقد ابتسمت لي وهي تموت؛ وهي تلد؛ وهي تذبح!

ليست رحمة المرأة المحبة خيالا إلا إذا كانت حرارة الشمس التي تحيي الدنيا خيالا أيضا؛ إن هذا القلب النسوي المستقر فوق أحشاء تحمل الجنين صابرة راضية فرحة بآلامها، وتغذوه وتقاسمه حياة نفسها، هذا القلب يحمل الحب أيضا صابرًا فرحًا بآلامه، ويغذوه ويقاسمه حياة نفسه. وللرحمة الإلهية أدلة كثيرة تدل الإنسان عليها دلالات مختلفة؛ فالشمس تدل عليها بالضوء الذي تطعمه الحياة، والهواء يدل عليها بالضوء الذي تتنفسه الحياة، والماء يدل عليها بالضوء الذي تشربه الحياة، وهكذا إلى أن يأتي في الآخر قلب المرأة فيدل على رحمة الله بالحب الذي تقوم به الحياة. ابتسامة الحب غالبت زفرات الموت التي تعتلج من تحتها حتى غلبتها، وأعادت الحياة لحظة إلى وجه زوجتي لأراها آخر ما أراها في صورة المحبة لي، فكان كل جمال نفسها منتشرا على ذلك الوجه، وظهرت فيه روحها وعواطفها تودعني وداعا حزينا متبسما يتكلم؛ يتكلم بعجزه عن الكلام. ابتسامة لا ريب أن فيها أشياء ليست من جمال هذه الدنيا ولا من حقائقها؛ فكأنما التمعت بأشعة من الخلد ترف رفيفها على وجه الحبيب ليظهر ساعة الموت أن حبه أقوى من الموت. قال المسكين: ونثر الطبيب ذا بطنها فكانت طفلة، وما كانت زوجتي تقترح أن يكون الجنين غيرها، بل كان مستيقنة أنها تضعها أنثى، وصنعت لها ثيابها، ووشتها بزينة الأنوثة، وعرضت أسماء البنات فاختارت اسمها أيضا، وكنت أكره ذلك منها وأريد ولدًا لا بنتًا، فكانت تغايظني بعملها وإصرارها غيظ دعابة لا غيظ جفاء. ومضت لا تذكر إلا بنتها مدة الحمل، ولا تتكلم إلا عن بنتها وقد كنت أعجب لذلك؛ فلما قضى الله فيها قضاءه، علمت أن ذلك أمر من أمر الروح، فكان الإلهام فيه أنها على باب قبرها، وأنها لن ترى طفلتها، ولن تعيش لها، فعاشت أيام الحمل مع ذكراها, تضم ثيابها إلى صدرها وتحملها على يدها، وتناغيها وتقبلها، وتأخذها من الوهم وتردها إليه؛ وكذلك نعمت المسكينة بالمسكينة! لك الله يا معجزة الرحمة، يا نفس الأم!

ولما قيل: ماتت. جعل يكلمني المتكلم ولا أعقل؛ فإن الكلمة التي تأتي بالمصيبة المتوقعة طال ارتقابها، لا تأتي بمعان لغوية كغيرها من الكلام، بل بأسلحة تضرب في النفس وفي العقل، وتثخنهما جراحا وفتكا. وجعلني موتها كأني ميت يحمل نفسه، ما حوله إلا المشيعون، وأحسست كأن قوة أخذت بإحدى رجلي فوضعتها في الآخرة وتركت الثانية في الدنيا، ولحقني من الجزع ما الله عالم به، ووجدت أحرق الوجد، وبكيت أحر البكاء؛ وجعلت أفكاري تنحدر من رأسي إلى حلقي فأختنق بها ثم لا ينفس عني إلا الدمع، كأن أعضائي اختلت مما ضغطني من الحزن، فأنا أتنفس برئتيّ وعينيّ. بموتها شعرت بها؛ ولعله من أجل ذلك لا يشعر الإنسان بلذة الحب كاملة إلا في آلام الحب وحدها، وكانت في حياتها تضع من روحها في سروري، وهذا هو سر المرأة المحبوبة؛ يجد محبها في كل سرور لمحات روحانية؛ وكذلك فعلت بعد موتها، فجعلت روحها في أحزاني؛ ولولا أن روحها في أحزاني لقتلتني المصيبة. وكنت أدلف وراء النعش وقد بطل في نفسي الشعور بالدنيا، وكان الناس يمشون حولي بما فيهم من الحياة، وكانوا ذاهبين إلى المقبرة على أنهم سائرون كما يذهبون إلى كل مكان؛ أما أنا فكنت أمشي بما في من الحب منكسرًا منخذلًا متضعضعًا، لأني وحدي سائر وراء ما لا يلحق. وثقل الناس على قلبي، ورجع كل أمرهم عندي إلى العيب والنقيصة، إذ كان لي عقل طارئ من الحالة التي أنا فيها ليس مثله لأحد منهم، وكنت وحدي المصاب بينهم، فكنت وحدي بينهم العاقل. أنا أمشي لأنتهي إلى آخر مصيبتي، وهم يمشون لينتهوا إلى آخر الطريق؛ وشتان ما نحن وشتان! ولما رأيت قبرها ابتدرت عيناني تنظران بالدموع لا بالنظر، ورأيت التراب كأنه غيوم ملونة بألوان السحب الداكنة تتهيأ في سمائها تحت الظلام لتخفي كوكبا من الكواكب؛ وظهر لي القبر كأنه فم الأرض يخاطب الإنسان بحزم صارم، يخاطب الفقير والغني، والضعيف والقوي، والملوك والصعاليك: "أن كل قوة تنزع هنا". قال المسكين: وكما يجد الإنسان في أيام المطر رائحة النسيم المبتل بالماء، كنت أستروح في رجعتي إلى الدار رائحة نسيم مبتل بالدموع، وحضرت المأتم

وعزاني الناس، فكنت فيهم كالمأسور بينهم: لا أتمنى إلا أن يدعوني فأنجو على وجهي، ولا أرى إلا أنهم يجرعونني الوجود غصصًا كما تجرعت الفقد غصة غصة؛ إلى أن تفرقوا مع سواد الليل فانكفأت إلى الدار، فإذا كل شيء قد تغير ولمسه الموت لمسة، وإذا الدار نفسها كالعين المقروحة من آثار البكاء: ما ثم شيء إلا ليطالعني بأن مسراتي قد ماتت! ولاح الصبح لعيني الساهرتين صبحا فاترا تبينت فيه الخجل، كأنه يقول: "لم أطلع لك" فانسللت من البيت، وذهبت أمشي في دنيا هي الكآبة المضيئة سخرت الأقدار منها بإظهارها في هذا الضوء مظهر وجه العجوز المتصابية في زينة لا تزيدها إلا قبحًا! ومضيت على وجهي لا غاية لي، أضرب في كل جهة كأنما أريد أن أهرب من نفسي! وما خطر لي قط أني يوم جديد، بل كنت عند نفسي لا أزال. أمس، وتغير عندي الزمان والمكان: فأحدهما ساعة موت لا تترك ما فيها، والآخر قبر ميتة لا يرد ما فيه. آه من الوقت الذي ينتهي فيه الموجود ليعذبنا بالتذكر أنه كان موجودًا. قال المسكين ثم أعادتني قدماي إلى البيت لأرى طفلتي -وما كنت رأيتها- ولقد كانت ولادتها أول الحياة لها، وأول الحياة لي أيضا، إذ لولاها لانتحرت غير شك. يا ويلتا! لم تلتق عيني بعين الطفلة حتى انفجرت تبكي. أتبكين لي يا ابنتي أم علي؟ أهذا بكاؤك أيتها المسكينة، أم هو صوت قلبك اليتيم؟ أصوتك أنت، أم هي روح أمك تصرخ ترثي لي، وتتوجع لفرط ما قاسيت! يا ابنتي، إنما أنت الحقيقة الصغيرة التي خرجت لي من كل تلك الخيالات الشعرية الجميلة، خيالات الأيام السعيدة التي مرت! يخلق المواليد من اللحم والدم! وأراك أنت يا مسكينة، خلقت من اللحم والدم والدموع! بقية حياة ماتت! فهل معنى ذلك إلا أنك بقية موت يحيا؟ مسكينة، مسكينة؛ لو أن نواميس العالم متغيرة لشيء لتغيرت من أجل بؤسك

فردت لك الأم، ولكنها لن تتغير، وما بكاؤنا وآلامنا وتعاستنا إلا تراث الحياة في أجسامنا الأرضية، كل ذلك طبيعة ولكن بقعة أنظف من بقعة، وأراك يا ابنتي كالبيت الذي هدم أول ما بني يملؤه ترابه! لن تتغير النواميس، فلن تجدي عطف الأم، ولكن لن يتغير قلبي أيضا، فلن تحرمي عطف الأب. وإذا صبر الناس على الحياة فمن أجلك يا مسكينة! من أجل ضعفك وانقطاعك سأعاني الصبر لك، وأعاني الصبر لي, وأعاني الصبر عن أمك، سأصبر على الصبر نفسه! يا ابنتي! يا ابنتي! لماذا وضعتك الأقدار من هذه الحياة في الناحية التي ليس فيها إلا قبر مظلم مقفل على أمك، وأب مسكين مقفل على آلامه؟ قال المسكين: وهكذا كُتبت من أهل البؤس والهم، فلم أتزوج إلا لتصنع لي حبيبتي دموعي، ثم لم تمت إلا بعد أن تركت لي حبيبة أخرى ستظل زمنا طويلا تصنع لي دموعي!

السمكة

السَّمكة: حدث أحمد بن مسكين الفقيه البغدادي قال: حصَلْت في مدينة "بلخ" سنة ثلاثين ومائتين، وعالمها يومئذ شيخ خراسان أبو عبد الرحمن1 الزاهد صاحب المواعظ والحكم؛ وهو رجل قلبه من وراء لسانه، ونفسه من وراء قلبه، والفلك الأعلى من وراء نفسه، كأنه يلقى عليه فيما زعموا. وكان يقال له عندهم: "لقمان هذه الأمة"؛ لما يعجبهم من حكمه في الزهد والموعظة، وقد حضرت مجالسه وحفظت من كلامه شيئا كثيرا، كقوله: من دخل في مذهبنا هذا "يعني الطريق" فليجعل على نفسه أربع خصال من الموت: موت أبيض، وموت أسود، وموت أحمر، وموت أخضر؛ فالموت الأبيض الجوع، والموت الأسود احتمال الأذى، والموت الأحمر مخالفة النفس، والموت الأخضر طرح الرقاع بعضها على بعض "يعني لبس المرقعة والخلق من الثياب". وقلت يوما لصاحبه وتلميذه "أبي تراب" وجاريته في تأويل هذا الكلام: قد فهمنا وجه التسمية في الموت الأخضر ما دامت المرقعة خضراء؛ فما الوجه في الأبيض والأسود والأحمر؟ فجاء بقول لم أرضه، وليس معه دليل، ثم قال: فما عندك أنت؟ قلت: أما الجوع فيميت النفس عن شهواتها ويتركها بيضاء نقية، فذلك الموت الأبيض؛ وأما احتمال الأذى فهو احتمال سواد الوجه عند الناس، فهو الموت الأسود؛ وأما مخالفة النفس فهي كإضرام الناس فيها، فذاك الموت الأحمر. قال أحمد بن مسكين: وكنت ذات نهار في مسجد "بلخ" والناس متوافرون ينتظرون "لقمان الأمة" ليسمعوه، وشغله بعض الأمر فراث عليهم، فقالوا: من يعظنا إلى أن يجيء الشيخ؟ فالتفت أبو تراب وقال: أنت رأيت الإمام أحمد بن حنبل، ورأيت بشرا الحافي وفلانا وفلانًا، فقم فحدث الناس عنهم،

_ 1 هو حاتم بن يوسف شيخ خراسان وواعظها، توفي سنة 237 للهجرة.

فإنما هؤلاء وأمثالهم هم بقايا النبوة. ثم أخذ بيدي إلى الأسطوانة التي يجلس إليها إمام خرسان فأجلسني ثمة وقعد بين يدي. وتطاولت الأعناق، ورماني الناس بأبصارهم، وقالوا: البغدادي! البغدادي! وكأنما ضوعفت عندهم بمجلسي مرة وبنسبتي مرة أخرى, فقلت في نفسي: والله ما في الموت الأحمر والأخضر ولا الأسود موعظة، ولو لبس عزرائيل قوس قزح لأفسد شعر هذه الألوان معناه، وإنما يجب أن يكون كما يجب أن يكون؛ ولا موعظة في كلام لم يمتلئ من نفس قائله، ليكون عملا فيتحول في النفوس الأخرى عملا ولا يبقى كلاما؛ وإنه ليس الوعظ تأليف القول للسامع يسمعه، لكنه تأليف النفس لنفس أخرى تراها في كلامها، فيكون هذا الكلام كأنه قرابة بين النفسين، حتى كأن الدم المتجاذب يجري فيه ويدور في ألفاظه. وكنت رأيت رؤيا "ببلخ" تتصل بقصة قائمة في بغداد، فقصصتها عليهم، فكانت القصة كما حكيتها: أني امتحنت بالفقر في سنة تسع عشرة ومائتين؛ وانحسمت مادتي وقحط منزلي قحطا شديدًا جمع علي الحاجة والضر والمسكنة، فلو انكمشت الصحراء المجدبة فصغرت ثم صغرت حتى ترجع أذرعا في أذرع، لكانت هي داري يومئذ في محلة باب البصرة من بغداد. وجاء يوم صحراوي كأنما طلعت شمسه من بين الرمل لا من بين السحب، ومرت الشمس على دراي في بغداد مرورها على الورقة الجافة المعلقة في الشجرة الخضراء؛ فلم يكن عندنا شيء يسيغه حلق آدمي، إذ لم يكن في الدار إلا ترابها وحجارتها وأجذاعها، ولي امرأة ولي منها طفل صغير، وقد طوينا على جوع يخسف بالجوف خسفا كما تهبط الأرض، فلتمنيت حينئذ لو كنا جرذانا فنقرض الخشب! وكان جوع الصبي يزيد المرأة ألما إلى جوعها، وكنت بهما كالجائع بثلاثة بطون خاوية. فقلت في نفسي: إذا لم تأكل الخشب والحجارة فلنأكل بثمنها. وجمعت نيتي على بيع الدار والتحول عنها، وإن كان خروجي منه كالخروخ من جلدي: لا يسمى إلا سلخا وموتًا؛ وبت ليلتي وأنا كالمثخن حمل من معركة؛ فما يتقلب إلا على جراح تعمل فيه عمل السيوف والأسنة التي عملت فيها. ثم خرجت بغلس لصلاة الصبح، والمسجد يكون في الأرض ولكن السماء

تكون فيه، فرأيتني عند نفسي كأني خرجت من الأرض ساعة. ولما قضيت الصلاة رفع الناس أكفهم يدعون الله "تعالى"، وجرى لساني بهذا الدعاء: "اللهم بك أعوذ أن يكون فقري في ديني، أسألك النفع الذي يصلحني بطاعتك، وأسألك بركة الرضا بقضائك، وأسألك القوة على الطاعة والرضا يا أرحم الراحمين". ثم جلست أتأمل شأني، وأطلت الجلوس في المسجد كأني لم أعد من أهل الزمن فلا تجري علي أحكامه، حتى إذا ارتفع الضحى وابيضت الشمس جاءت حقيقة الحياة، فخرجت أتسبب لبيع الدار، وابنعثت وما أدري أين أذهب، فما سرت غير بعيد حتى لقيني "أبو نصر الصياد" وكنت أعرفه قديما، فقلت: يا أبا نصر! أنا على بيع الدار؛ فقد ساءت الحال وأحوجت الخصاصة، فأقرضني شيئا يمسكني على يومي هذا بالقوام من العيش حتى أبيع الدار وأوفيك. فقال: يا سيدي! خذ هذا المنديل إلى عيالك، وأنا على أثرك لاحق بك إلى المنزل. ثم ناولني منديلا فيه رقاقتان بينهما حلوى، وقال: إنهما والله بركة الشيخ. قلت: وما الشيخ وما القصة؟ قال: وقفت أمس على باب هذا المسجد وقد انصرف الناس من صلاة الجمعة، فمر بي أبو نصر بشر الحافي1 فقال: ما لي أراك في هذا الوقت؟ قلت: ما في البيت دقيق ولا خبز ولا درهم ولا شيء يباع. فقال: الله المستعان! احمل شبكتك وتعال إلى الخندق؛ فحملتها وذهبت معه، فلما انتهينا إلى الخندق قال لي: توضأ وصل ركعتين. ففعلت، فقال: سم الله -تعالى- وألق الشبكة. فسميت وألقيتها، فوقع فيها شيء ثقيل، فجعلت أجره فشق علي؛ فقلت له: ساعدني فإني أخاف أن تنقطع الشبكة, فجاء وجرها معي، فخرجت سمكة عظيمة لم أر مثلها سمنا وعظما وفراهة. فقال: خذها وبعها واشتر بثمنها ما يصلح عيالك. فحملتها فاستقبلني رجل اشتراها، فابتعت لأهلي ما يحتاجون إليه، فلما أكلت وأكلوا ذكرت الشيخ فقلت أهدي له شيئا، فأخذت هاتين الرقاقتين وجعلت بينهما هذه الحلوى، وأتيت إليه فطرقت الباب، فقال: من؟ قلت: أبو نصر! قال: افتح وضع ما معك في الدهليز وادخل. فدخلت وحدثته بما صنعت فقال: الحمد لله على

_ 1 هو الزاهد العظيم بشر بن الحارث المعروف بالحافي، توفي سنة 327 للهجرة وكان واحد الدنيا في ورعه وتقواه؛ وقيل له: "الحافي" لأنه كان في حداثته يمشي إلى طلب العلم حافيًا، إجلالًا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم.

ذلك. فقلت: إني هيأت للبيت شيئا وقد أكلوا وأكلت ومعي رقاقتان فيهما حلوى. قال: يا أبا نصر! لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة! اذهب كله أن وعيالك. قال أحمد بن مسكين: وكنت من الجوع بحيث لو أصبت رغيفا لحسبته مائدة أنزلت من السماء، ولكن كلمة الشيخ عن السمكة أشبعتني بمعانيها شبعا ليس من هذه الدنيا، كأنما طعمت منها ثمرة من ثمار الجنة؛ وطفقت أرددها لنفسي وأتأمل ما تفتق الشهوات على الناس، فأيقنت أن البلاء إنما يصيبنا من أننا نفسر الدنيا على طولها وعرضها بكلمات معدودة, فإذا استقر في أنفسنا لفظ من ألفاظ هذه الشهوات، استقرت به في النفس كل معانيه من المعاصي والذنوب، وأخذت شياطين هذه المعاني تحوم على قلوبنا، فنصبح مهيئين لهذه الشياطين، عاملين لها، ثم عاملين معها، فتدخلنا مداخل السوء في هذه الحياة، وتقحمنا في الورطة بعد الورطة, وفي الهلكة بعد الهلكة. وما هذه الشياطين إلا كالذباب والبعوض والهوام، ولا تحوم إلا على رائحة تجذبها، فإن لم تجد في النفس ما تجتمع عليه، تفرقت ولم تجتمع، وإذا ألمت الواحدة منها بعد الواحدة لم تثبت. فلو أننا طردنا من أنفسنا الكلمات التي أفسدت علينا رؤية الدنيا كما خلقت. لكان للدنيا في أنفسنا شكل آخر أحسن وأجمل من شكلها، ولكانت لنا أعمال أخرى أحسن وأطهر من أعمالنا. فالشيخ لم يكن في نفسه معنى لكلمة "التلذذ" وبطرده من نفسه هذا اللفظ الواحد، طرد معاني الشر كلها، وصلح له دينه، وخلصت نفسه للخير ومعاني الخير. ولو أن رجلا وضع في نفسه امرأة يعشقها، لصارت الدنيا كلها في نفسه كالمخدع, ما فيه إلا المرأة وحدها بأسبابها إليه وأسبابه إليها. وقد كنت سمعت في درس شيخنا أحمد بن حنبل هذا الحديث: "لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات". فما فهمت -والله- معناه إلا من كلمة الشيخ في السمكة, وقد علمنيها هذا الصياد العامي؛ فالشياطين تنجذب إلى المعاني، والمعاني يوجدها اللفظ المستقر في القلب استقرار غرض أو شهوة أو طمع؛ فإذا خلا القلب من هذه المعاني؛ فقد أمن منازعتها له وشغلها إياه، فيصبح فوقها لا بينها؛ ومتى صار القلب فوق الشهوات

ولم يجد من ألفاظها ما يعميه ويعترض نظره إلى الحقائق، انكشفت له هذه الحقائق فانكشف له الملكوت؛ فإذا وقع بعد في واحدة من اللذات ولو "كالرقاقتين والحلوى"، استعلت الأشياء عليه فحجبته، وعاد بينها أو تحتها، وعمي عمى اللذة؛ والحجاب على البصر كأنه تعليق العمى على البصر. وكنت لا أزال أعجب من صبر شيخنا أحمد بن حنبل وقد ضرب بين يدي المعتصم بالسياط حتى غشي عليه1 فلم يتحول عن رأيه؛ فعلمت الآن من كلمة السمكة أنه لم يجعل من نفسه للضرب معنى الضرب، ولا عرف للصبر معنى الصبر الآدمي؛ ولو هو صبر على هذا صبر الإنسان لجزع وتحول، ولو ضرب ضرب الإنسان لتألم وتغير؛ ولكنه وضع في نفسه معنى ثبات السنة وبقاء الدين، وأنه هو الأمة كلها لا أحمد بن حنبل, فلو تحول لتحول الناس، ولو ابتدع لابتدعوا؛ فكان صبره صبر أمة كاملة لا صبر رجل فرد، وكان يضرب بالسياط ونفسه فوق معنى الضرب، فلو قرضوه بالمقاريض ونشروه بالمناشير لما نالوا منه شيئا؛ إذ لم يكن جسمه إلا ثوبا عليه، وكان الرجل هو الفكر ليس غير. هؤلاء قوم لا يرون فضائلهم فضائل, ولكنهم يرونها أمانات قد ائتمنوا عليها من الله لتبقى بهم معانيها في هذه الدنيا؛ فهم يزرعون في الأمم زرعا بيد الله، ولا يملك الزرع غير طبيعته، وما كان المعتصم وهو يريد شيخنا على غير رأيه وعقيدته إلا كالأحمق يقول لشجرة التفاح: أثمري غير التفاح. قال أحمد بن مسكين: وأخذت الرقاقتين وأنا أقول في نفسي: لعن الله هذه الدنيا! إن من هوانها على الله أن الإنسان فيها يلبس وجهه ما يلبس نعله. فلو أن إنسان كانت له نظرة ملائكية ثم اعترض الخلق ينظر في وجوههم. لرأى عليها وحولا وأقذارًا كالتي في نعالهم أو أقذر أو أقبح، ولعله كان لا يرى أجمل الوجوه التي تستهيم الناس وتتصباها من الرجال والنساء، إلا كالأحذية العتيقة. ولكني أحسست أن في هاتين الرقاقتين سر الشيخ، ورأيتهما في يدي كالوثيقتين بخير كثير؛ فقلت: على بركة الله. ومضيت إلى دراي، فلما كنت في

_ 1 كان هذا في سنة 219 وقد أرادوا الإمام العظيم على القول بخلق القرآن فلم يقل به، فأفتى القاضي ابن أبي دؤاد بقتله وشغب عليه. ثم ضرب بين يدي المعتصم، فلما صمم ولم يجب أطلقه المعتصم وندم على ضربه.

الطريق لقيتني امرأة معها صبي، فنظرت إلى المنديل وقالت: يا سيدي، هذا طفل يتيم جائع ولا صبر له على الجوع، فأطعمه شيئا -يرحمك الله- ونظر إلي الطفل نظرة لا أنساها؛ حسبت فيها خشوع ألف عابد يعبدون الله تعالى منقطعين عن الدنيا؛ بل ما أظن ألف عابد يستطيعون أن يروا الناس نظرة واحدة كالتي تكون في عين صبي يتيم جائع يسأل الرحمة. إن شدة الهم لتجعل وجوه الأطفال كوجوه القديسين، في عين من يراها من الآباء والأمهات، لعجز هؤلاء الصغار عن الشر الآدمي وانقطاعهم إلا من الله والقلب الإنساني، فيظهر وجه أحدهم وكأنه يصرخ بمعانيه يقول: يا رباه يا رباه! قال أحمد بن مسكين: وخيل إلي حينئذ أن الجنة نزلت إلى الأرض تعرض نفسها على من يشبع هذا الطفل وأمه, والناس عمي لا يبصرونها، وكأنهم يمرون بها في هذا الموطن مرور الحمير بقصر الملك؛ لو سئلت فضلت عليه الإصطبل الذي هي فيه. وذكرت امرأتي وابنها وهما جائعان مذ أمس، غير أني لم أجد لهما في قلبي معنى الزوجة والولد, بل معنى هذه المرأة المحتاجة وطفلها، فأسقطتهما عن قلبي ودفعت ما في يدي للمرأة وقلت لها: خذي وأطعمي ابنك، ووالله ما أملك بيضاء ولا صفراء، وإن في داري لمن هو أحوج إلى هذا الطعام؛ ولولا هذه الخلة بي لتقدمت فيما يصلحك، فدمعت عيناها، وأشرق وجه الصبي، ولكن طم على قلبي ما أنا فيه فلم أجد للدمعة معنى الدمعة، ولا للبسمة معنى البسمة. وقلت في نفسي: أما أنا فأطوي إن لم أصب طعاما، فقد كان أبو بكر الصديق يطوي ستة أيام، وكان ابن عمر يطوي، وكان فلان وفلان ممن حفظنا أسماءهم وروينا أخبارهم؛ ولكن من للمرأة وابنها بمثل عقدي ونيتي؟ وكيف لي بهما؟ ومشيت وأنا منكسر منقبض، وكأني نسيت كلمة الشيخ: "لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة". فذكرتها وصرفت خاطري إليها وشغلت نفسي بتدبرها وقلت: لو أني أشبعت ثلاثة بجوع اثنين لحرمت خمس فضائل1 وهذه الدنيا محتاجة إلى الفضيلة، وهذه الفضيلة محتاجة إلى مثل هذا العمل، وهذا العمل محتاج إلى أن يكون هكذا، فما يستقيم الأمر إلا كما صنعت.

_ 1 يريد جوعه، وجوع امرأته، وجوع ابنه، ثم شبع هذه المرأة، وشبع ابنها، فهذه خمس فضائل.

وكانت الشمس قد انبسطت في السماء وذلك وقت الضحى الأعلى، فملت ناحية وجلست إلى حائط أفكر في بيع الدار ومن يبتاعها، فأنا كذلك إذ مر أبو نصر الصياد وكأنه مستطار فرحًا، فقال: يا أبا محمد، ما يجلسك ههنا وفي دارك الخير والغنى، قلت: سبحان الله! من أين خرجت السمكة يا أبا نصر؟ قال: إني لفي الطريق إلى منزلك، ومعي ضرورة القوت أخذتها لعيالك، ودراهم استدنتها لك، إذا رجل يستدل الناس على أبيك أو أحد من أهله, ومعه أثقال وأحمال، فقلت له: أنا أدلك. ومشيت معه أسأله عن خبره وشأنه عند أبيك. فقال: إنه تاجر من البصرة، وقد كان أبوك أودعه مالا من ثلاثين سنة، فأفلس وانكسر المال ثم ترك البصرة إلى خراسان، فصلح أمره على التجارة هناك، وأيسر بعد المحنة، واستظهر بعد الخذلان، وأقبل جده بالثراء والغنى؛ فعاد إلى البصرة, وأراد أن يتحلل، فجاءك بالمال وعليه ما كان يربحه في هذه الثلاثين سنة، وإلى ذلك طرائف وهدايا. قال أحمد بن مسكين: وأنقلب إلى داري فإذا مال جم وحال جميلة! فقلت: صدق الشيخ: "لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة"! فلو أن هذا الرجل لم يلق في وجهه أبا نصر، في هذه الطريق، في هذا اليوم، في هذه الساعة، لما اهتدى إلي؛ فقد كان أبي مغمورًا لا يعرفه أحد وهو حي؛ فكيف به ميتا من وراء عشرين سنة؟ وآليت ليعلمن الله شكري هذه النعمة؛ فلم تكن لي همة إلا البحث عن المرأة المحتاجة وابنها، فكفيتهما وأجريت عليهما رزقا، ثم اتجرت في المال، وجعلت أربه بالمعروف والصنيعة والإحسان وهو مقبل يزداد ولا ينقص، حتى تمولت وتأثلت. وكأني قد أعجبتني نفسي، وسرني أني قد ملأت سجلات الملائكة بحسناتي، ورجوت أن أكون قد كتبت عند الله في الصالحين، فنمت ليلة فرأيتني في يوم القيامة والخلق يموج بعضهم في بعض، والهول هول الكون الأعظم على الإنسان الضعيف، يسأل عن كل ما مسه من هذا الكون. وسمعت الصائح يقول: يا معشر بني آدم! سجدت البهائم شكرًا لله أنه لم يجعلها من آدم. ورأيت الناس وقد وسعت أبدانهم فهم يحملون أوزارهم على ظهورهم مخلوقة مجسمة، حتى لكأن الفاسق على ظهره مدينة كلها مخزيات!

وقيل: وضعت الموازين. وجيء بي لوزن أعمالي، فجعلت سيئاتي في كفة وألقيت سجلات حسناتي في الأخرى، فطاشت السجلات ورجحت السيئات، كأنما وزنوا الجبل الصخري العظيم الضخم بلفافة من القطن. ثم جعلوا يلقون الحسنة بعد الحسنة مما كانت أصنعه فإذا تحت كل حسنة شهوة خفية من شهوات النفس: كالرياء والغرور وحب المحمدة عند الناس وغيرها، فلم يسلم لي شيء, وهلكت عني حجتي، إذ الحجة ما يبينه الميزان، والميزان لم يدل إلا على أني فارغ. وسمعت الصوت: ألم يبق لي شيء؟ فقيل: بقي هذا. وأنظر لأرى ما هذا الذي بقي، فإذا الرقاقتان اللتان أحسنت بهما على المرأة وابنها! فأيقنت أني هالك؛ فلقد كنت أحسن بمائة دينار ضربة واحدة فما أغنت عني، ورأيتها في الميزان مع غيرها شيئا معلقا، كالغمام حين يكون ساقطا بين السماء والأرض: لا هو في هذه ولا هو في تلك. ووضعت الرقاقتان، وسمعت القائل: لقد طار نصف ثوابهما في ميزان أبي نصر الصياد. فانخذلت انخذالا شديدا، حتى لو كسرت نصفين لكان أخف علي وأهون. بيد أني نظرت فرأيت كفة الحسنات قد نزلت منزلة ورجحت بعض الرجحان. وسمعت الصوت: ألم يبق له شيء؟ فقيل: بقي هذا. وأنظر ما هذا الذي بقي، فإذا جوع امرأتي وولدي في ذلك اليوم! وإذا هو شيء يوضع في الميزان، وإذا هو ينزل بكفة ويرتفع بالأخرى حتى اعتدلتا بالسوية. وثبت الميزان على ذلك فكنت بين الهلاك والنجاة. وأسمع الصوت: ألم يبق له شيء؟ فقيل: بقي هذا. ونظرت فإذا دموع تلك المرأة المسكينة حين بكت من أثر المعروف في نفسها، ومن إيثاري إياها وابنها على أهلي، ووضعت غرغرة عينيها في الميزان ففارت، فطمت كأنها لجة، من تحت اللجة بحر؛ وإذا سمكة هائلة قد خرجت من اللجة وقع في نفسي أنها روح تلك الدموع، فجعلت تعظم ولا تزال تعظم، والكفة ترجح ولا تزال ترجح، حتى سمعت الصوت يقول: قد نجا! وصحت صيحة انتبهت لها, فإذا أنا أقول: "لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة! ".

الزاهدان "2"

الزاهدان * "2": قال أحمد بن مسكين: انتشر حديث السمكة في أهل "بلخ"، واستفاض بينهم، وكنت قصصته عليهم يوم السبت، فلما دار السبت من أسبوعه لقيني شيخهم حاتم بن يوسف "لقمان الأمة" ومعه صاحبه أبو تراب، فقال: يا أحمد! لكأنك في هذه المدينة قمر طلع بليل فلا يعظ الناس في يوم السبت غيرك؛ ومن سمع فكأنه عاين، وليس على ألسنة أهل بلخ منذ تحدثت إلا بشر وابن حنبل، ولا على بال أحد منهم إلا موعظتك وحديثك. والكلام عن الصالحين في مثل ما وصفت وحكيت قرب من حقائقهم، وسمو إلى معانيهم، وليس في القول باب له موقع كموقع القصة عن هؤلاء الذين يخلقهم الله في البشرية خلق النور: يضيء ما حوله من حيث يرى، ويعمل فيما حوله من حيث لا يرى، وفي ظاهره الجمال والمنفعة. وفي باطنه القوة والحياة. ولست أقول لك: اذهب فحدث الناس، ولكني أقول: اذهب فأعط الناس عقلا من الحديث. قال ابن مسكين: فلما صلينا العصر، قدمني أبو تراب فجلست في مجلسي ذاك، وهتف الناس يريدون الحديث عن بشر الحافي وما سقط لي من أخباره، على الطريقة التي حدثتهم بها من قبل، فابتدأت بذكر موته -رحمه الله- وأن يومه كأنما اجتمع له أهل خمس وسبعين سنة1، إذ خرجت جنازته بعد صلاة الصبح، فلم يحصل في قبره إلا في الليل مما احتشد في طريقه من الخلق، حتى لكأن في نعشه سرا من أسرار الجنة يطالعهم به الموت فخرجوا ينظرون إليه، وكانوا يصيحون في جنازته: هذا -والله- شرف الدنيا قبل شرف الآخرة.

_ * هذا هو الفصل الثاني من قصة السمكة. 1 مات "رحمه الله" عن خمس وسبعين سنة.

ثم قلت: حدثني حسين المغازلي1: أن بشرا -رحمه الله- كان لا يأكل إلا الخبز تورعا عن الشبهات واكتفاء لضرورة الحياة بالأقل والأيسر، وكاني يقول في ذلك يد أقصر من يد، ولقمة أصغر من لقمة. وسئل مرة: بأي شيء تأكل الخبز؟ فقال: أذكر العافية فأجعلها إدامًا. وقد أعانه على ذلك أن لم يتزوج، وكان يرى هذا نقصا في نفسه حتى فضل الإمام أحمد بن حنبل بأشياء: منها أنه له أهلًا؛ غير أنه قيل له ذات يوم: لو تزوجت تم نسكك، فقال: أخاف أن تقوم الزوجة بحقي ولا أقوم بحقها، فكانت هذه النية في نفسه أفضل من زواجه. وكان مع هذا لا يؤاكل أحدًا، ولا يسعى إلى لقاء أحد، حتى أنه لما رغب في مؤاخاة الزاهد العظيم "معروف الكرخي"، أرسل إليه "الأسود بن سالم" وكان صديقا لهما، فقال لمعروف: إن بشر بن الحارث يريد مؤاخاتك وهو يستحيي أن يشافهك بذلك، وقد أرسلني إليك يسألك أن تعقد له فيما بينه وبينك أخوة يحتسبها ويعتد بها؛ إلا أن يشترط فيها شروطا: أولها أنه لا يحب أن يشتهر ذلك، وثانيها ألا يكون بينك وبينه مزاورة ولا ملاقاة، فقال معروف: أما أنا فإذا أحببت أحدًا لم أحب أن أفارقه ليلا ولا نهارا، وأزوره في كل وقت، وأوثره على نفسي في كل حال؛ وأنا أعقد لبشر أخوة بيني وبينه، ولكني أزوره متى أحببت، وآمره بلقائي في مواضع نلتقي فيها إذا هو كره زيارتي. قال حسين المغازلي: وكان هذا كله من أمر بشر معروفا في بغداد، لا يجهله أحد من أهلها، إذ لم يكن لبغداد إمام غيره وغير ابن حنبل؛ فما كان أكثر عجبي حين كنت عنده يوما وقد زاره "فتح الموصلي"، فقام فجاء بدراهم ملء كفه ودفعها إلي وقال: اشتر لنا أطيب ما تجد من الطعام، وأطيب من ما تجد من الحلوى، وأطيب ما تجد من الطيب، وما قال لي مثل ذلك قط، وهو الذي رأى الفاكهة يوما فقال: ترك هذه عبادة! وهو القائل لأبي نصر الصياد: لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة2. فذهبت فاشتريت وانتقيت وتخيرت، ثم وضعت الطعام بين أيديهما، فرأيته يأكل معه وما رأيته أكل مع غيره، ورأيته منبسطا إليه وما لي عهد كان بانبساطه إلى

_ 1 نسبة إلى عمل المغازل، وكان حسين هذا صديقا لبشر، وكان بشر يعمل المغازل ويعيش من ثمنها، ومن كلامه لابن اخته عمر: يا بني، اعمل بيدك؛ فإن أثره في الكفين أحسن من أثر السجدة بين العينين. هكذا كانوا رحمهم الله. 2 مر هذا في مقال "السمكة".

أحد. وقد كنت أخبرته في ذلك النهار بخبر أحمد بن حنبل, علمته من إدريس الحداد: فإنه لما زالت المحنة بعد أن ضرب بين يدي المعتصم وصرف إلى بيته، حمل إليه مال كثير من سروات بغداد وأهل الخير فيها، فرد جميع ذلك ولم يقبل منه قليلا ولا كثيرا، وهو محتاج إلى أيسره، وإلى الأقل من أيسره، وإلى الشيء من أقله، فجعل عمه إسحاق يحسب ما ورد ذلك اليوم، فكان خمسين ألف دينار، فقال له الإمام: يا عم، أراك مشغولا بحساب ما لا يفيدك. قال: قد رددت اليوم كذا وكذا ألفا وأنت محتاج إلى حبة من دانق. فقال الإمام: يا عم، لو طلبناه لم يأتنا، وإنما أتانا لما تركناه. قال المغازلي: فنمت تلك الليلة وأنا أفكر في صنيع الشيخ، وقد تعلق خاطري به: كيف انقلبت الحال معه، وأي شيء هذا الحال؟ وجعلت أكد ذهني لأعرف الحقيقة العقلية التي سلطت عليه هذه الضرورة فتسلط النعيم على نفسه، وأنا أعلم أن للقوم علوما روحانية ليست في الكتب، فمنها ما لا يتعلمونه إلا من الفقر، ومنها ما لا يتعلمونه إلا من البلاء، ومنها، ومنها؛ ولكن ليس منها ما يتعلمونه من اللذات والشهوات؛ وذهب قلبي إلى أوهام كثيرة ليس في جميعها طائل ولا بها معرفة، حتى غلبتني عيناي، وأنا من وهج الفكر نائم كالمريض، وقد ثقل رأسي واختلط فيه ما يعقل بما لا يعقل. فرأيت أول ما رأيت ملكا جبارا يحكم مدينة عظيمة, وقد أطلق المنادي في جمع كل أطفال مدينته، فجيء بهم من كل دار، ثم رأيته قد جلس على سريره وفي يده مقراض عظيم، قد اتخذه على هيئة نصلين عريضين لو وضعت بينهما رقبة لفصلاها عن جسمها، فكان هذا الجبار يتناول الطفل من أولئك فيضع أصابع إحدى قدميه في شقي المقراض فيقرضها، فإذا هي تتناثر أسرع مما يقرض المقص الخيط، ثم يرمي بالطفل مغشيا عليه، ويتناول غيره فيبتر أصابعه، والأطفال يصرخون، وأنا أرى كل ذلك ولا أملك إلا غيظي على هذا الجبار من حيث لا أستطيع أن أمضي فيه هذا الغيظ فأقرض عنقه بمقراضه. ثم رأيته يأخذ طفلا صغيرًا، فلما جاءت قدم الطفل بين شقي المقراض صاح: يا رب، يا رب، فإذا المقراض يلتوي فلا يصنع شيئا، وكأن فيه حجرًا صلدا لا قدما رخصة. فتميز الجبار من الغيظ وقال: من هذا الطفل؟ فسمعت هاتفا يهتف: هذا بشر الحافي! لا يبلغ تاج ملك في الأرض أن يكون لقدمه الحافية نعلا عند الله!

وكان إلى يميني رجل يتوضأ وجهه صلاحا وتقوى، فقلت له: من هذا الطاغية؟ ولم اتخذ المقراض لأقدام الأطفال خاصة؟ فقال: يا حسين! إن هذا الجبار هو ذل العيش, وهذا وسمه لأهل الحياة على الأرض، يحقق به في الإنسان معنى البهيمة أول ما يدب على الأرض, حتى كأنه ذو حافر لا ذو قدم. قلت: فما بال هذا الطفل لم يعمل فيه المقراض؟ قال: إن لله عبادًا استخصهم لنفسه، أول علامته فيهم أن الذل تحت أقدامهم، وهم يجيئون في هذه الحياة لإثبات القدرة الإنسانية على حكم طبيعة الشهوات التي هي نفسها طبيعة الذل؛ فإذا اطرح أحدهم للشهوات وزهد فيها، واستقام على ذلك في عقد نية وقوة إرادة، فليس ذلك بالزاهد كما يصفه الناس، ولكنه رجل قوي اختارته القدرة ليحمل أسلحة النفس في معاركها الطاحنة، كما يحمل البطل الأروع أسلحة الجسم في معاركه الدامية: هذا يتعلم منه فن، وذلك يتعلم منه فن آخر، وكلاهما يرمى به على الموت لإيجاد النوع المستعز من الحياة، فأول فضائله الشعور بالقوة، وآخر فضائله إيجاد القوة. قال المغازلي: وضرب النوم على رأسي ضربه أخرى، فإذا أنا في أرض خبيثة داخنة، قد ارتفع لها دخان كثيف أسود يتضرب بعضه في بعض وجعلت أرى شعلا حمرا تذهب وتجيء كأنها أجسام حية، فوقع في وهمي أن هؤلاء هم الشياطين: إبليس وجنوده، وسمعت صارخا يقول: يا بشرى! فلتبك السماء على الأرض، لقد أكل بشر الحافي من أطيب الطعام وأطيب الحلوى بعد أن استوي عنده حجرها ومدرها، وذهبا وفضتها! فعارضه صائح أسمع صوته ولا أرى شخصه: ويلك يا زلنبور1! إن هذا شر علينا من عامة نسكه وعبادته؛ فهذا -ويحك- هو الزهد الأعلى الذي كان لا يطيقه بشر؛ إنه إعنات سلطه على نفسه، فإني دفعت هذا "المغازلي" الأعمى القلب ليزين له ما فعل أحمد من حنبل من رده خمسين ألف دينار على حاجته، زهدًا، وورعا، وقوة عزم، ونفاذ إرادة؛ وقلت: عسى أن تتحرك في نفسه شهوة الزهد فيحسد أو يغار، أو تعجبه نفسه فيكون لي من ذلك لمة بقلبه فأوسوس له، فإنا نأتي هؤلاء من أبواب الثواب كما نأتي غيرهم

_ 1 هذا اسم بعض ولد إبليس فيما يروى، وفي بعض النسخ التي بأيدينا أنه خنزب لا زلنبور.

من أبواب المعاصي، ونتورع مع أهل الورع كما نتسخف مع أهل السخف؛ ولكن الرجل رجل وفيه حقيقة الزاهد، فقد أعطي القوة على جعل شهوات نفسه أشخاصًا حية يعاديها ويقاتلها، فإذا أنا جعلت شهوته في اللذة قتل اللذة، وإذا جعلتها في الكآبة قتل الكآبة، وليس الزاهد العابد هو الذي يتقشف ويتعفف، ويتخفف ويتلفف، فإن كثيرًا ما تكون هذه هي أوصاف الذل والحمق، ويكون لها عمل العبادة وفيها إثم المعصية. ولكن الزاهد حق الزاهد من أدار في هذه الأشياء عينا قد تعلمت النظر بحقه والإغضاء بحقه؛ فهذا لا يخطئ معنى الشر إن لبسناه عليه في صورة الخير ولا معنى الخير إن زورناه في صورة الشر، وبذلك يضع نفسه في حيث شاء من المنزلة، لا في حيث شاءت الدنيا أن تضعه من منازلها الدنيئة. وما أكل بشر هذه الطيبات إلا ليبادر بها وسوستي ويردني عن نفسي وعن اللمة بقلبه، فلو أنه أعجبه زهد ابن حنبل ونظر من ذلك إلى زهد نفسه لحبط أجره؛ فبهذه الطيبات علاج نفسه علاج مريض، وقد غير على جوفه طعاما بطعام، كما يبدل على جلده ثوبا بثوب؛ ولا شهوة للجلد في أحدهما. قال المغازلي: وثقل النوم علي ثقلة أخرى، فرأيتني في واد عظيم، وفي وسطه مثل الطود من الحجارة قد ركم بعضها على بعض، ورأيتني مع بشر أقص عليه خبر أحمد بن حنبل؛ فقال: انظر -ويحك- إن الناس يسمونها خمسين ألف دينار، وهي هنا في وادي الحقائق خمسون ألف حجر لو أصابت أحمد لقتلته ولكانت قبره آخر الدهر. إن المال يا بني هو ما يعمله المال لا جوهره من الذهب والفضة، فإذا كنت بمفازة ليس فيها من يبيعك شيئا بذهبك. فالتراب والذهب هناك سواء؛ والفضائل هي ذهب الآخرة؛ فهنا تجدد بالمال دنياك التي لا تبقى أكثر من بقائك، وهناك تجدد بالفضائل نفسك التي تخلد بخلودها. ومعنى الغنى معنى ملتبس على العقول الآدمية لاجتماع الشهوات فيه، فحين يرد أحمد بن حنبل خمسين ألفا، يكون هذا المعنى قد صحح نفسه في هذا العمل وجها من التصحيح. قال حسين المغازلي: وغطني النوم في أعماقه غطة أخرى؛ فإذا أنا في

المسجد في درس الإمام أحمد، وهو يحدث بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا عظمت أمتي الدنيار والدرهم، نزع منها هيبة الإسلام، وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حرموا بركة الوحي" , وهم أن يتكلم في تفسيره1 ولكنه رآني فأمسك عنه وأقبل علي فقال: يا حسين! إذا اجتزأ شيخك بالرغيف فهذا عنده هو قدر الضرورة؛ فإن أكل الطيبات فقد عرضت حال جعلت هذه الطيبات عنده هي قدر الضرورة؛ وفي هذه النفوس السماوية لا يكون الجزء الأرضي إلا محدودًا، فلا يكون محصوله إلا ما ترى من قدر الضرورة. ولما صغر الجزء الأرضي في نفوس المسلمين الأولين ملكوا الأرض كلها بقوة الجزء السماوي فيها، إذ كانت إرادتهم فوق الأطماع والشهوات، وكانت بذلك لا تذل ولا تضعف ولا تنكسر؛ فالآدمية كلها تنتهي إلى بعض صور، وهؤلاء هم الذين محلهم في أعلاها. يا حسين! ألا وإن رد خمسين ألف دينار هو كذلك قدر الضرورة. قال حسين: وذهبت أعترض على الإمام بما كان في نفسي من أن هذا المال وإن لم يكن من كسبه، فقد كان يتحول في يده عملا من أعمال الخير؛ وأنسيت أن هذه الصدقات هي أوساخ الناس وأقذار نفوسهم، فلم أكد أفتح فمي حتى رأيت الكلام يتحول طينا في فمي ليذكرني بهذا المعنى؛ وكدت أختنق فانتفضت أتنفس، فطار النوم والحلم.

_ 1 سيأتي تفسيره في مجلس آخر من مجالس ابن مسكين.

إبليس يعلم "3"

إبليس يعلم *1 "3": قال أحمد بن مسكين: ودار السبت الثالث, وجلست مجلسي للناس وقد انتظمت حلقتهم؛ فقام رجل من عرض المجلس فقال: إن الحسن بن شجاع البلخي تلميذ الإمام أحمد بن حنبل2، كان منذ قريب يحدثنا بأحاديث عن الشيطان، حفظنا منها قوله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره في سفره". وكان الحسن يقول في تأويله: إن شيطان الكافر دهين سمين كاس، وشيطان المؤمن مهزول أشعث أغبر عار. فهل يأكل الشيطان ويدهن ويلبس ليكون له أن يجوع مع المؤمن ويعرى ويتشعث ويغبر؟ قال ابن مسكين: فقلت في نفسي: لا حول ولا وقوة إلا بالله! ما أرى السائل إلا شيطان هذا السائل؛ فإن إبليس إذا أراد أن يسخر من العالم ويسمعه طنزه وتهكمه3، حرك من يسأله عنه ما هو وكيف هو؛ كأنما يقول له: تنبه -ويحك- على معناي، فأنت تتكلم وأنا أعمل، وأنت صورة من الرد علي، ولكني حقيقة من الرد عليك، وما أنت في محاربتك لي بالوعظ إلا كالذي يريد أن يضرب عنق عدوه بمائة اسم وضعت للسيف. قال: وكنت قد سمعت خبرًا عجيبا عن أبي عامر قبيصة بن عقبة الكوفي المحدث الحافظ الثقة أحد شيوخ أحمد بن حنبل4؛ وهو الرجل الصالح العابد الذي كان يقال له: "راهب الكوفة"؛ ومن زهده وعبادته واحتباس نفسه في داخله

_ * انظر الفصلين السابقين. 1 داعبنا إبليس "لعنه الله" مداعبة ثقيلة في كتابة هذا المقال، وسنقتص للقراء حكاتيه في مقالة: "دعابة إبليس". 2 توفي ابن شجاع هذا سنة 244هـ، وكان من حفاظ "بلخ". 3 الطنز: التهزؤ والتهكم، ولعل منه كلمة "طظ" عند العامة. 4 توفي سنة 215هـ.

كأنما جسده جدار بين نفسه وبين الدنيا، فقلت -والله- لأغظين الشيطان بهذا الخبر، فإن أسماء الزهاد والعباد والصالحين هي في تاريخ الشياطين كأسماء المواقع التي تنهزم فيها الجيوش، وما الرجل العابد إلا صاحب الغمرات مع الشيطان، وكأنه يحتمل المكاره عن أمة كاملة بل عن البشرية كلها حيث كانت من الأرض، فالناس يحسبونه قد تخلى من الدنيا ويظنون الترك أيسر شيء، وما علموا أن الزهد لا يستقيم للزاهد حتى يجعل جسمه كأنه نوع نظام آخر غير نظام أعضائه؛ ولا أشق من المعاني التي هي عند الناس أضعف الضعف؛ ولو أن ملكا عظيما تعب في جمع الدنيا وفتح الممالك حتى حيزت له جوانب الأرض، لكان علمه هذا هو الوجه الآخر لتعب الزاهد في مجاهدة هذه الدنيا وتركها. قال أحمد بن مسكين: وقصصت عليهم القصة فقلت: كان أبو عامر قبيصة بن عقبة كثير الفكر في الشيطان، يود لو رآه وناقله الكلام؛ وكان يتدبر الأحاديث التي صح ورودها فيه، ويفسر معنى الشيطان بأنه الروح الحي للخطأ على الأرض؛ والخطاء يكون صوابا محولا عن طريقته وجهته، ولهذاكان إبليس في الأصل ملكا من الملائكة وتحول عن طبيعته حين خلق آدم عليه السلام، أي وجد في الكون روح الخطأ حين وجد فيه الروح الذي سيخطئ. فلما هبط آدم من الجنة وحرمها هو وزوجه وذريته، كان إبليس لعنه الله هو معنى بقاء هذا الحرمان واستمراره على الدهر، فكأن هذه الآدمية أخرجت من الجنة، وأخرجت معها قوة لا تزال تصدها عنها، ليضطربا في الكفاح مليا من زمن هو عمر كل إنسان، وهذا هو العدل الإلهي: لم يعرف آدم حق الجنة، فعوقب ألا يأخذها إلا بحقها، وأن يقاتل في سبيل الخير قوة الشر. وبات أبو عامر ذات ليلة يفكر في هذا ونحوه بعد أن فرغ من صلاته وقراءته، ثم هوم فكان بين اليقظة والنوم، وذلك حين تكون العين نائمة والعقل لا يزال منتبها، فكأن العين متراجعة تبصر من تحت أجفانها بصرًا يشاركها فيه العقل. فرأى شيخنا أبو عامر صورة إبليس جاءه في زي رجل زاهد، حسن السمت طيب الريح، نظيف الهيئة، وكاد يشبه عليه لولا أنه قد عرفه من عينيه، فإن عيني الكاذب تصدقان عنه، وقد علم الله أن الكاذب آدمي قفر كالمتاهة من الأرض، فجعل عينيه كالعلامات لمن خاض الفلاة.

وظهر الشيطان زاهدًا عابدًا تقيا نقيا كأنه دين صحيح خلق بشرًا، فصرخ فيه أبو عامر: عليك لعنة الله! أمعصية في ثوب الطاعة؟ قال إبليس: يا أبا عامر! لو لم تقل المعصية: إنها طاعة لم يقارفها أحد. وهل خلقت الشهوات في نفس الإنسان وغريزته إلا لتقريب هذه المعاصي من النفس، وجعل كل منها طاعة لشيء ما؛ فتقع المعصية بأنها طاعة لا بأنها معصية؟ أوَلا ترى يا أبا عامر أن الحيلة محكمة في الداخل من الجسم أكثر مما هي محكمة في الخارج عنه، وأنه لولا أن هذا الباطن بهذا المعنى وهذا العمل لما كان لظاهر الوجود كله في الإنسان معنى ولا عمل؟ قال الشيخ: عليك لعنة الله! فما أرى الموت قد خلق إلا ردا عليك أنت، ليتبين الناس أنك الممتلئ الممتلئ، ولكنك الفارغ الفارغ؛ بل كل شهواتك سخرية منك ورد عليك، فلا طعم للذة من لذاتك إلا وهي تموت، وإنما تمام وجودها ساعة تنقضي؛ ومتى قالت اللذة: قد انتهيت. فقد وصفت نفسها أبلغ الوصف. قال إبليس: يا أبا عامر، ولكن اللذة لا تموت حتى تلد ما يبقيها حية، فهي تلد الحنين إليها، وهو لا يسكن حتى يعود لذة تنقضي وتلد. قال الشيخ: معاني التراب، معاني التراب؛ كل نبتة فيها بذرتها، ولكن عليك لعنة الله لماذا جئتني في هذه الصورة؟ قال إبليس: لأني لا ألبس إلا محبة القلب الآدمي، ولولا ذلك لطردتني القلوب كلها وبطل عملي فيها، وهل عملي إلا التلبيس والتزوير؛ أفتدري يا أبا عامر أني لا أعتري الحيوان قط. قال الشيخ: لأن الحيوان لا ينظر إلى الشيء إلا نظرة واحدة، هي نظره وفهمه معا، فلا محل للتزوير مع هذه النظرة الواحدة؛ وصدق الله العظيم: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221، 222] . فأنت أيها الشطيان التزوير، والتزوير موضعه الكذب؛ فمن لم يكذب في الفكر ولا في النظر ولا في الفهم ولا في الرجاء، فليس لك عنده عمل. قال إبليس: يا أبا عامر! وهل ترى رحمك الله أعجب وأغرب وأدعى إلى الهزء والسخرية من أن أعظم العقلاء الزهاد العباد، هو في جملة معانيه حيوان ليس له إلا نظرة واحدة في كل شيء؟ قال الشيخ: عليك وعليك ... ؛ إن الحيوان شيء واحد، فهو طبيعة مسخرة

بنظامها، ولكن الإنسان أشياء متناقضة بطبيعتها، فألوهيته أن يقر النظام بين هذه المتناقضات، كأنما امتحن فأعطى من جسمه كونا فيه عناصر الاضطراب، وحوله عناصر الاضطراب، ثم قيل له دبره. فضحك إبليس. قال الشيخ: مم ضحكت لعنك الله؟ قال: ضحكت من أنك أعلمتني حقيقة الإبليسية، فالزهاد هم الصالحون لأن يكونوا أعظم الأبالسة. قال الشيخ: عليك لعنة الله، فما هي تلك الحقيقة التي زعمت؟ قال إبليس: والله يا أبا عامر، ما غلا إنسان في زعم التقوى والفضيلة إلا كانت هذه هي الإبليسية؛ وسأعلمك يا أبا عامر حقيقة الزهد والعبادة. فلا تقل: إنها ألوهية تقر النظام بين متناقضات الإنسان ومتناقضات الطبيعة. قال الشيخ: وتسخر مني لعنك الله؟ فمتى كنت تعلم الحقيقة والفضيلة؟ قال إبليس: أوَلم أكن شيخ الملائكة؟ فمن أجدر من شيخ الملائكة أن يكون عالمها ومعلمها؟ قال: عليك لعنة الله؛ فما هي حقيقة الزهد والعبادة؟ قال إبليس: حقيقتها يا أبا عامر، هي التي أعجزتني في نبيكم. قال الشيخ: صلى الله عليه وسلم؛ فما هي؟ قال إبليس: هي ثلاث بها نظام النفس, ونظام العالم، ونظام اللذات والشهوات؛ أن تكون لك تقوى، ثم يكون لك فكر من هذه التقوى، ثم يكون لك نظر إلى العالم من هذا الفكر. ما اجتمعت هذه الثلاث في إنسان إلا قهر الدنيا وقهر إبليس. فإن كانت التقوى وحدها -كتقوى أكثر الزهاد والرهبان- فما أيسر أن أجعل النظر منها نظر الغفلة والجبن والبلادة والفضائل الكاذبة، وإن كان الفكر وحده -كفكر العلماء والشعراء- فما أهون أن أجعل النظر به نظر الزيغ، والإلحاد والبهمية والرذائل الصريحة. قال الشيخ: صدق الله العظيم: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] . قال إبليس: يا أبا عامر! ما يضرني والله أن أفسر لك، فإن قارورة من الصبغ

لا تصبغ البحر، وأنا أعد الزهاد والعلماء المصلحين فأضع في الناس بجانب كل واحد منهم مائة ألف امرأة مفتونة، ومائة ألف رجل فاسق، ومائة ألف مخلوق ظالم، فلو أنك صبغت البحر بملء قارورة حمراء لما صبغت البحر الإنساني بالزاهد والمصلح، ما دام المصلح شيئا غير السيف، وما دام الزاهد شيئا غير الحاكم. قال الشيخ: لعنك الله من شيطان عارم، فإذا وضعت المصلح بين مائة ألف فاسد، فهل هذه إلا طريقة شيطانية لإفساده؟ قال إبليس: ومائة ألف امرأة فتانة مفتونة يا أبا عامر، كل واحدة تحسب جسمها ... فصرخ الشيخ: اغرب عني عليك لعنة الله! قال إبليس: ولكن الآية الآية يا أبا عمر. لقد لقيت المسيح وجربته وهو كان تفسيرها. قال الشيخ: عليه السلام! وعليك أنت لعنة الله! فكيف قال؟ وكيف صنع؟ قال إبليس: ألقيت به جائعا في الصحراء لا يجد ما يطعمه، ولا يظن أنه يجد، ولا يرجوا أن يظن؛ ثم قلت له: إن كنت روح الله وكلمته كما تزعم فمر هذا الحجر ينقلب خبزًا، فكان تقيا، فتذكر فإذا هو مبصر، فقال: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، فمثل هذا لو مات جوعا لم يتحول، لأن الموت إتمام حقيقته السامية فوق هذه الدنيا، ولو ملئت له الدنيا خبزًا وهو جائع لم يتحول؛ لأن له بصرا من فوق الخبز إلى حقيقته السماوية؛ ليس بالخبز وحده يحيا؛ بل بمعان أخرى هي إشباع حقيقته السماوية التي لا شهوة لها. ثم ارتقيت به إلى ذروة جبل وأريته ممالك الخافقين، كشفتها كلها لعينيه وقلت له: هذا كله لك إذا أنت سجدت لي. فكان متقيا، فتذكر فإذا هو مبصر: أبصر حقيقة الخيال الذي جسمته له، وعلم أن الشيطان يعطي مثل معاني هذه الممالك في جرعة خمر، كما يعطيها في ساعة لذة، كا يعطيها في شفاء غيظ بالقتل والأذى؛ ثم لا يبقى من كل ذلك باق غير الإثم، ولا يصح منه صحيح إلا الحرام. ومن ملك الدنيا نفسها لم يبق لها إذا بقيت فهي خيال في جرعة الحياة، كما هي خيال في جرعة الخمر. يا أبا عامر؛ إن هذا النظر، الذي وراءه التذكر، الذي وراءه التقوى، التي وراءها الله, هذا وحده هو القوة التي تتناول شهوات الدنيا فتصفيها أربع مرات حتى

تعود بها إلى حقائقها الترابية الصغيرة التي آخرها القبر، وآخر وجودها التلاشي. فالبصر الكاشف الذي يجرد الأشياء من سحرها الوهمي، هذا هو كل السر. قال الشيخ: لعنك الله؛ فكيف مع هذا تفتن المؤمن؟ قال إبليس: يا أبا عامر، هذا سؤال شيطاني, تريد -ويحك- أن تحتال على الشيطان؟ ولكن ما يضرني أن أفسرها لك. ليس الإيمان هو الاعتقاد ولا العمل، ولو كان من هذين لما شق على أحد ولصلحت الدنيا وأهلها؛ إنما الإيمان وضع يقين خفي يكون مع الغريزة في مقرها، ويصلح أن يكون في مقرها لتصدر عنه أعمال الغريزة، وهذا اليقين لا يصلح كذلك إلا إذا كان يقينا ثابتا بما هو أكبر من الدنيا، فيرجع إليه الإنسان فيتذكر فيبصر. هناك ميراث من الآخرة للمؤمن، فاليقين بهذا الميراث هو سر الإيمان. والعمل الشيطاني لا يكون إلا في إفساد هذا اليقين ومعارضة الخيال العظيم الذي فيه بالحقائق الصغيرة التي تظهر للمغفل عظيمة، كما تشب نار أكبر من قرص الشمس ثم يقال للأبله: انظر بعينيك، فيصدق أنها أكبر من الشمس. ومتى صغر هذا اليقين وكانت الحقائق الدنيوية أكبر من النفس؛ فأيسر أسباب الحياة حينئذ يفسد المعتقد ويسقط الفضيلة؛ وبدرهم واحد يوجد اللص حينئذ. أما إذا ثبت اليقين فالشيطان مع الإنسان يصغر ثم يصغر، ويعجز ثم يعجز. حتى ليرجع مثل الدرهم إذا طمع الطامع أن يجعل الرجل الغني الكثير المال لصا من اللصوص بهذا الدرهم. قال الشيخ: لعنك الله! فإن لم تستطع إفساد هذا اليقين فكيف تصنع في فتنة المؤمن؟ قال إبليس: يا أبا عامر، إن لم أستطع إفساد اليقين زدته يقينا فيفسد، واستحسان الرجل لأعماله السامية قد يكون هو أول أعماله السافلة؛ وبأي عجيب يكون الشيطان إلا بمثل هذا؟ قال أحمد بن مسكين: وغضب الشيخ، فمد يده فأخذ فيها عنق إبليس وقد رآه دقيقا، ثم عصره عصرا شديدًا يريد خنقه؛ فقهقه الشيطان ساخرًا منه. ويتنبه الشيخ، فإذا هو يشد بيده اليمنى على يده اليسرى.

الدنيا والدرهم "4"

الدنيا والدرهم "4": قال أحمد بن مسكين: وأزف ترحلي عن "بلخ"، وتهيأت للخروج، ولم يبق من مدة مقيلي بها إلا أيام يجيء فيها السبت الرابع، وكان قد وقعت مماراة بيني وبين مفتي "بلخ" أبي إسحاق إبراهيم بن يوسف الباهلي1 تلميذ أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة، ويزعمون أنه شحيح على المال، وأنه يتغلله من مستغلات كثيرة2، فكأنما غشيته غمامتي، فهو لا يرى أن أتكلم في الزهد، ويحسب هذا الزهد تماوت العباد، ونفض الأيدي من الدنيا، وسوء المصاحبة لما ينعم الله به على العبد، وخذلان القوة في البدن، وما جرى هذا المجرى من تزوير الحياة بالأباطيل التي زعم أنها أباطيل الطاعات وما أقربها من أباطيل المعصية. ولم يكن هذا المفتي قد سمعني ولا حضر مجلسي, ولولا الذي لم يعرفه من ذلك لقد كان عرف. وجادلته فرأيته واهن الدليل، ضعيف الحجة، يخمن تخمين فقيه، وينظر إلى الخفايا من حقائق النفوس نظر صاحب النص إلى الظاهر، كأن الحقيقة إذا ألقيت على الناس مضت نافذة كفتوى المفتي, ويزعم أن الوعظ وعظ الفقهاء، يقولون: هذا حرام، فيكون حراما لا يقارفه أحد، وهذا حلال, فيكون حلالا لا يتركه أحد، وهو كان بعيدًا عن حقيقة الوعظ ومداخله إلى النفس وسياسته فيها، ولا يعرف أن الحقيقة كالأنثى, إن لم تزين بزينتها لم تستهو أحدًا؛ وأن الموعظة إن لم تتأد في أسلوبها الحي كانت بالباطل أشبه، وأنه لا يغير النفس إلا النفس التي فيها قوة التحويل والتغيير، كنفوس الأنبياء ومن كان من طريقة روحهم، وأن هذه الصناعة إنما هي وضع نور البصيرة في الكلام، لا وضع القياس الحجة،

_ 1 توفي مفتي بلخ هذا سنة 339هـ. 2 المستغلات: أصول الأموال، وتغلل واستغل بمعنى.

وأن الرجل الزاهد الصحيح الزهد، إنما هو الحياة تلبسها الحقيقة لتكون به شيئا في الحياة والعمل. لا شيئا في القول والتوهم، فيكون إلهامها فيه كحرارة النار في النار؛ من واتاها أحسها. ولعمري، كم من فقيه يقول للناس: هذا حرام. فلا يزيد هذا الحرام إلا ظهورًا وانكشافًا ما دام لا ينطق إلا نطق الكتب، ولا يحسن أن يصل بين النفس والشرع، وقد خلا من القوة التي تجعله روحا تتعلق الأرواح بها وتضعه بين الناس في موضع يكون به في اعتبارهم كأنه آت من الجنة منذ قريب، راجع إليها بعد قريب. والفقيه الذي يتعلق بالمال وشهوات النفس، ولا يجعل همه إلا زيادة الرزق وحظ الدنيا -هو الفقيه الفاسد الصورة في خيال الناس، يفهمهم أول شيء ألا يفهموا عنه؛ إذ حرصه فوق بصيرته، وله في النفوس رائحة الخبز، وله معنى: خمس وخمس عشرة1, وكأن دنياه وضعت فيه شيئا فاسدًا غريبًا يفسد الحقيقة التي يتكلم بها؛ ولست أدري ما هو هذا الشيء، ولكني رأيت فقهاء يعظون ويتكلمون على الناس في الحرام والحلال وفي نص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم لم أجد لكلامهم نفعا ولا ردًا، إذ يلهمون الناس بأرواحهم غير المعنى الذي يتكلمون فيه؛ وتسخر الحقيقة منهم -على خطرهم وجلال شأنهم- بذات الأسلوب الذي تسخر به من لص يعظ لصا آخر فيقول له: لا تسرق. قال ابن مسكين: فلما دار يوم السبت أقبل الناس على المسجد أفواجًا، وكانوا قد تعالموا إزماعي الرحيل عن بلدهم, وجاء "لقمان الأمة" في أشياعه وأصحابه، وجاء أبو إسحاق المفتي في جماعته؛ واستقر بي المجلس فنفذت الناس بنظري، فكأنهم من كثرتهم نبات غطى الأرض، فأذكرني هذا شيخنا السري بن مغلس السقطي2، وكان قد لزم دراه في بغداد لا يخرج منها ولا يراه إلا من قصد إليه، وهممت أن أجعل الموعظة في شرح كلمته المشهورة: "لا تصح المحبة بين اثنين حتى يقول أحدهما للآخر: يا أنا". وما نقلوه عنه من أنه قال مرة

_ 1 يريد أنه في هذا الدنيا "عملية حسابية" وفي أيام ضعفة الدين يكون الفقه استخراج الدراهم من النصوص. 2 السقط: رديء المتاع "روبابيكيا"، وبائعه السقطي. وهذا الإمام العظيم كان أوحد أهل زمانه في الورع، وله كلام إلهي مشرق، وقد توفي عن سن عالية في سنة 253هـ.

لبعض أصحابه: منذ ثلاثين سنة وأنا في الاستغفار من قولي: "الحمد لله". فقال صاحبه: وكيف ذلك؟ قال: وقع ببغداد حريق، فاستقبلني رجل فقال: نجا حانوتك. فقلت: الحمد لله فأنا نادم من ذلك الوقت على ما قلت؛ إذ أردت لنفسي خيرًا من الناس! قال ابن مسكين: ولكني أحببت أن أكلم المفتي ومال المفتي؛ فحدثتهم حديث معرفتي بالسري: أني سمعت يوما "غيلان الخياط" يقول: إن السري كان اشترى كرلوز1 بستين دينارًا، وأثبته في رزنامجه2 وكتب أمامه: ربحه ثلاثة دنانير3؛ فلم يلبث أن غلا السعر فبلغ تسعين دينارًا؛ فأتاه الدلال الذي كان اشترى له فقال: أريد ذلك اللوز. قال الشيخ: خذه. قال: بكم؟ فقال: بثلاثة وستين دينارًا. وكان الدلال رجلا صالحا، فقال للشيخ: إن اللوز قد صار الكر بتسعين. فقال السري: ولكني عقدت بيني وبين الله عقدا لا أحله، فلست أبيع إلا بثلاثة وستين دينارًا، فقال الدلال: وأنا قد عقدت بيني وبين الله عقدا لا أحله، ألا أغش مسلما، فلست أشتري منك إلا بتسعين؛ فلا الدلال اشترى منه، ولا السري باعه ... ! قال أحمد بن مسكين: فلما سمعت ذلك لم تكن لي همة إلا أن ألقى الشيخ وأصحبه، وآخذ عنه، فلم أعرج على شيء حتى كنت في المسجد الذي يصلي فيه، فأجده في حلقته وعنده ممن كانت أعرفهم: عبد الله بن أحمد بن حنبل، وإدريس الحداد، وعلي بن سعيد الرازي، وحوله خلق كثير وهو فيهم كالشجرة الخضراء بين الهشيم تعلوه نضرة روحه، وكأنما يمده بالنور عرق من السماء، فهو يتلألأ للعين؛ ولا يملك الناظر إليه إلا أن يحسن في ذات نفسه أنه الأدنى، من رؤيته في ذات نفسه أن هذا هو الإنسان الأعلى. ورأيت على وجهه آلاما تمسحه مسحة الأشواق لا مسحة الآلام، آثار ما يجده في روحه القوية، لا كآلام الاس التي هي آثار الحرمان في أرواحهم الواهنة الضعيفة فلا تمسح وجوههم إلا مسحة الغم والكآبة. وما يخطئ النظر في تمييز آلام السماء على هذه الوجوه السعيدة من آلام الأرض في الوجوه الأخرى، فإن الأولى تتندى على روح الناظر بمثل الطل إذا

_ 1 الكر "بضم الكاف": مكيال عظيم يقدرون به في الحساب، وهو أربعون إردبًا مصريًا. 2 أي دفتر حسابه. 3 خمسة في المائة.

قطره الفجر، والأخرى تتثور في روحه كما تهيج الغبرة إذا ضربت الريح الأرض. كان الشيخ في وجود فوق وجودنا؛ فلا تتلون له الأشياء ولا تعدو عنده ما هي في نفسها، ولا يحمل الشيء له إلا معناه من حيث يصلح أو لا يصلح، ومن حيث ينبغي أو لا ينبغي، فإنما تتلون الأشياء عند ما يضع الشيطان عينه في عين الناظر إليها؛ وإنما تزيد وتنقص في القلب عندما يكون روح الشيطان في القلب؛ وإنما يشتبه ما ينبغي وما لا ينبغي عندما يأتي الشيء من جهتين: جهته من طبيعته هو، وجهته من طبيعتنا نحن. وبهذا قد يجمع الإنسان المال ثم لا يجد في المال معنى الغنى، وقد تتفق أسباب النعيم ولا يكون منها إلا الذل. وكم من إنسان يجد وكأنه لم يجد إلا عكس ما كان يبغي، وآخر لم يجد شيئا ووجد بذلك راحته. قال ابن مسكين: وما كان أشد عجبي حين تكلم الشيخ، فقد أخذ يجيب عما في نفسي ولم أسأله، كأن الذي في فكري قد انتقل إليه؛ فروى الحديث: $"إذا عظمت أمتي الدينار والدرهم، نزع منها هيبة الإسلام؛ وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حرموا بركة الوحي". ثم قال في تأويله: إن ملك الوحي ينزل بالأمر والنهي ليخضع صولة الأرض بصولة السماء، فإذا بقي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بقي عمل الوحي إلا أنه في صورة العقل، وبقيت روحانية الدنيا إلا أنها في صورة النظام، وكان مع كل خطأ تصحيحه؛ فيصبح الإنسان بذلك تنفيذًا للشريعة بين آمر مطاع ومأمور مطيع، فيتعامل الناس على حالة تجعل بعضهم أستاذا لبعض، وشيئا منهم تعديلا لشيء، وقوة سندًا لقوة فيقوم العزم في وجه التهاون، والشدة في وجه التراخي، والقدرة في وجه العجز؛ وبهذا يكونون شركاء متعاونين، وتعود صفاتهم الإنسانية وكأنها جيش عامل يناصر بعضه بعضًا، فتكون الحياة مفسرة ما دامت معانيها السامية تأمر أمرها وتلهم إلهامها، وما دامت ممثلة في الواجب النافذ على الكل. والناس أحرار متى حكمتهم هذه المعاني، فليست حقيقة الحرية الإنسانية إلا الخضوع للواجب الذي يحكم، وبذلك لا بغيره يتصل ما بين الملك والسوقة، وما بين الأغنياء والفقراء، اتصال الرحمة في كل شيء، واتصال القسوة في التأديب وحده. فبركة الوحي إنما هي جعل القوة الإنسانية عملا شرعيًّا لا غير. أما تعظيم الأمة للدنيا والدرهم، فهو استعباد المعاني الحيوانية في الناس

بعضها لبعض، وتقطع ما بينهم من التشابك في لحمة الإنسانية، وجعل الكبير فيهم كبيرًا وإن صغرت معانيه، والصغير فيهم صغيرا وإن كبر في المعاني، وبهذا تموج الحياة بعضها في بعض، ولا يستقيم الناس على رأي صحيح، إذ يكون الصحيح والفاسد في ملك الإنسان لا في عمل الإنسان، فيكنز الغني مالا ويكنز الفقير عداوة، كأن هذا قتل مال هذا، وكأن أعمالا قتلت أعمالا، وترجع الصفات الإنسانية متعادية، وتباع الفضائل وتشترى، ويزيد من يزيد ولكن في القسوة، وينقص من ينقص ولكن في الحرية، وتكون المنفعة الذاتية هي التي تأمر في الجميع وتنهى، ويدخل الكذب في كل شيء حتى في النظر إلى المال، فيرى كل إنسان كأنما درهمه وديناره أكبر قيمة من دينار الآخر ودرهمه، فإذا أعطي نقص فغش، وإذا أخذ زاد فسرق؛ وتصبح النفوس نفوسا تجارية تساوم قبل أن تنبعث لفضيلة، وتماكس إذا دعيت لأداء حق، ويتعامل الناس في الشرف على أصول من المعدة لا من الروح، فلا يقال حينئذ: إن رغيفين أكثر من رغيف واحد. كما هي طبيعة العدد، بل يقال: إن رغيفين أشرف من رغيف، كما هي طبيعة النفاق. أما التجارة -وهي التفسير الظاهر لمعاني النفوس- فتصبح بين الغش والضرر والمماكرة، وتكون يقظة التاجر من غفلة الشاري، وتفسد الإرادة فلا تحدث إلا آثارها الزائغة. وما التاجر في الأمة القوية إلا أستاذ لتعليم الصدق والخلق في الموضع المتقلب، فكلمته كالرقم من العدد لا يحتمل أزيد ولا أنقص مما فيه، ويمتحن بالدنيا والدرهم أشد مما يمتحن العابد بصلاته وصيامه، وقد شهد رجل عند عمر بن الخطاب في قضية، فقال له عمر: ائتني بمن يعرفك. فأتاه برجل أثنى عليه خيرًا، فقال له عمر: أنت جاره الأدنى الذي يعرف مدخله ومخرجه؟ قال: لا. قال: فكنت رفيقه في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا. قال: فعاملته بالدينار والدرهم الذي يستبين به ورع الرجل؟ قال: لا. قال عمر: أظنك رأيته قائما في المسجد يهمهم بالقرآن، يخفض رأسه طورًا ويرفعه أخرى؟ قال: نعم. قال: فاذهب فلست تعرفه! وإنما التاجر صورة من ثقة الناس بعضهم ببعض، وإرادة الخير واعتقاد الصدق، وهو في كل ذلك مظهر توضع اليد عليه كما تجس اليد مرض المريض وصحته.

فإذا عظمت الأمة الدينار والدرهم، فإنما عظمت النفاق والطمع والكذب والعداوة والقسوة والاستعباد؛ وبهذا تقيم الدنانير والدراهم حدودًا فاصلة بين أهلها، حتى لتكون المسافة بين غني وفقير كالمسافة بين بلدين قد تباعد ما بينهما. وإنما هيبة الإسلام في العزة بالنفس لا بالمال، وفي بذل الحياة لا في الحرص عليها، وفي أخلاق الروح لا في أخلاق اليد، وفي وضع حدود الفضائل بين الناس لا في وضع حدود الدراهم، وفي إزالة النقائص من الطباع لا في إقامتها، وفي تعاون صفات المؤمنين لا في تعاديها، وفي اعتبار الغنى ما يعمل بالمال لا ما يجمع من المال، وفي جعل أول الثروة العقل والإرادة، لا الذهب والفضة. هذا هو الإسلام الذي غلب الأمم، لأنه قبل ذلك غلب النفس والطبيعة.

دعابة إبليس

دعابة إبليس *1: أما إني سأقص هذا الحكاية كما اتفقت، لا أزينها بخيال، ولا أتزيد فيها بخبر، ولا أولد لها معنى؛ فإنما هي حكاية خبث الخبيث, فنها حذقه ودهاؤه، ورقتها غلظته وشره، ومعانيها بلاؤه ومحنته؛ وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، والله المستعان. لما فكرت في وضع مقالة "إبليس" من أحاديث "ابن مسكين"، وأدرت رأيي في نهجها وحدودها ومعانيها، جعل فكري يتقطع في ذلك، يهذب ويجيء كأن بيني وبينه منازعة، أو كأن في نفسي شيئا يثنيني ويقطعني عن العزم؛ وخيل إلي حينئذ أن "إبليس" هذا منفعة من المنافع, وأنه هو قانون الطبيعة الذي نص مادته الأولى: ما أعجبك فهو لك. ونص مادته الأخيرة: ما احتجت إليه فثمنه أن تقدر على أخذه. وهجس في نفسي هاجس أن "إبليس" قائم في لفظ الحرية كما هو قائم في لفظ الإثم، وأنه إن يكن في قلوب الفساق فهو أيضا في أدمغة الفلاسفة وإن كان في سقوط أهل الرذيلة إلى الرذيلة، فهو كذلك في سمو أهل الفن إلى الفن. قال الهاجس: وإن "إبليس" أيضًا هو صاحب الفضيلة العملية في هذا العصر المادي، فهو من ثم حقيق أن يلقبوه "صاحب الفضيلة". ولكني لم أحفل بهذه الوساوس ولم أعج على شيء منها، واستعنت الله وأمضيت نيتي على الكتابة، وأخذت أقلب الموضوع، وأنبه فكري له، وأستشرف لما يؤدي إليه النظر، وأتطلع لما يجيء به الخاطر، وألتمس ما أبني عليه الكلام كما هي عادتي؛ فلم يقع لي شيء ألبته، كأنما ذهب أول ابتداء الموضوع فلا أول له ولا سبيل إلى اقتحامه، وكأنه من وراء العلم فلا يبلغ إليه، وكأنه من التعذر كمحاولة تصوير حماقة الحياة كلها في كلمة. وإبليس كلمة فيها حماقة الحياة كلها.

_ * انظر "عود على بدء" من كتاب "حياة الرافعي". 1 الدعابة: المزاح واللعب، وكل ما سيرد في هذه المقالة فهو صحيح لم نخترع منه شيئا.

ومن عادتي في كتابة هذه الفصول التي تنشرها "الرسالة"1، أن أدع الفصل منها تقلبه الخواطر في ذهني أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس، وأترك أمره للقوة التي في نفسي، فتتولد المعاني من كل ما أرى وما أقرأ، وتنثال من ههنا وههنا، ويكون الكلام كأنه شيء حي أريد له الوجود فوجد. ثم أكتب نهار الجمعة، ومن ورائه ليل السبت وليل الأحد كالمدد من وراء الجيش إذا نالتني فترة أو كنت على سفر أو قطعني عن الكتابة شيء مما يعرض. وفي أسبوع إبليس "لعنه الله"، مرت الأيام الثلاثة وفيها ثلاثة ألوان: ضجر لا روح فيه، وكسل لا نشاط معه، واضطراب لا مساك له، وأطلت التفكير يوم الخميس، فكانت تعتريني خواطر مضحكة, فيعرض لي مرة أن أصور إبليس امرأة ليكون إبليس الجميل, وتارة أتوهم أن إبليس يريد أن يكون شيخا كبعض رجال الدين الذين لا تزال تطلع على خائنة منهم، ليقال إبليس التقي المصلي, وحينا أظن أنه يريد أن يكون كاتبا مؤلفا شهيرا ليقال إبليس المفكر المصلح, وخطر لي أخيرًا أنه يريد أن يكون حاكمًا ملحدًا فاجرًا، ليكون إبليس التام لا إبليس الناقص. ولما ذهبت الأيام الثلاثة باطلًا، خيل إلي أن إبليس "أخزاه الله" يسألني عن المقالة: إلى أي شيء انقلبت؟ فشق ذلك علي واغتممت به، غير أني اطمأننت إلى يوم الجمعة وأن وراءه ليلتين. وكانت قد غربت شمس الخميس، فقلت: فلأخرج لأتفرج مما بي، وعسى أن أجمع نفسي للتفكير إذا جلست في الندي، ولعله يقع ما أستوحيه أو ينفتح لي باب في القراءة. وخرجت، فلم أجاوز الدار حتى ابتدرني من هبط عليه الخبر من القاهرة أن نسيبا لنا من العظماء توفي أخوه اليوم. فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ ضاع يوم الجمعة. إذ لا بد من السفر لتشييع الجنازة وحضور المأتم ثم قلت: لعل في هذا السفر استجماما ونشاطًا فأستدرك الأسبوع كله في يومين، وإنما الاستكثار بالقوة لا بالزمن، ولا يد لإبليس في الموت والحياة، فليس إلا اطراحه وقلة المبالاة به، وإنما هي خطرات من وساوسه. وأصبحت في القاهرة، ومشيت في الجنازة قبل الظهر مسيرة ساعة كاملة؛

_ 1 مجلة الرسالة، وكل مقالات هذا الجزء والجزء الأول كتبت لها ونشرت فيها، إلا فصولا قليلة.

وكانت الشمس ساطعة تتلألأ، وأنا مثقل بثياب الشتاء وكنت أتوقع أن يكون اليوم من أيام الريح المجنونة، فلما انتهينا إلى الصحراء، هبت الريح هبوبًا لينا، ثم زفت فكانت إلى الشدة ما هي؛ ولكنها ماضية تسفي الرمل في الأعين فيأخذ في أجفاني أكال وتهييج، وليس معي شيء أتقيها به؛ غير أني شغلت فكري برؤية المقابر، وجعلتها في نفسي كالمقالة المكتوبة سطرا وراء سطر، وقلت: ههنا الحقيقة في أول تفسيرها، وغير المفهوم في الحياة يفهم هنا. ثم رجعت مندى الجسم بالعرق وعلي نضح منه، وكان القميص من الصوف، وبصدري أثر من النزلة الشعبية، وإذا تندى الصوف وجب نزعه وإلا فهي العلة ما منها بد. ثم لم تكن إلا ساعة حتى انخرقت الريح وجعلت تعصف وبرد الجو، فأيقنت أنه الزكام، وقلت في نفسي: هذا باب على حدة، والمقالة ذاهبة لا محالة، فسيتخلف الذهن ويتبلد؛ والشيطان كريم في الشر يعطي من غير أن يسأل. وثقل ذلك علي فكان الغم به علة جديدة، بيد أني لم أزل أرجو الفرصة في أحد اليومين: السبت والأحد. وقلت: إن من البلاء الفكر في البلاء، ولعل من السلامة الثقة بالسلامة؛ فإذا نبهت العزيمة رجوت أن يتغلغل أثرها في البدن كله فيكون علاجا في الدم يحدث به النشاط ويرهف منه الطبع وتجم عليه النفس. وفي قوة العصب كهربائية لها عملها في الجسم إذ أحسن المرء بعثها في نفسه وأحكم إفاضتها وتصريفها على طريقة رياضية؛ ولهي الدواء حين يعجز الدواء، وهي القوة حين تخذل القوة. فاعتزمت وصممت، واحتلت على الإرادة، وتكثرت من أسباب الثقة وترصدت لها السوانح العقلية التي تسنح في النفس، وقلت لإبليس: اجهد جهدك، فما تذهب مذهبا إلا كان لي مذهب. ولكن اللعين أخطر في ذهني قول القائل يسخر فيه من ذلك الكاتب البغدادي1. لو قيل كم خمس وخمس لاغتدى ... يوما وليلته يعد ويحسب ويقول معضلة عجيب أمرها ... ولئن فهمت لها لأمري أعجب

_ 1 قيل هذا الشعر في وصف مروان الكاتب، وهو رجل من بغداد، وكان كاتبا على الخراج فسخر منه الشاعر بهذا الأسلوب البديع.

خمس وخمس ستة أو سبعة ... قولان قالهما الخليل وثعلب ثم أجمعت الرجوع من يومي إلى "طنطا"، لأتقي البرد بعلاجه إن نالني أثره, وكان علي وقت إلى أن يقوم القطار، فذهبت فقضيت واجبا من زيارة بعض الأقارب في ضاحية "الجيزة"، ثم ركبت الترام الذي أعلم أنه ذاهب إلى محطة سكة الحديد. وجلست أفكر في إبليس ومقالته، والترام ينبعث في طريقه نحو ثلث الساعة، حتى بلغ الموضع الذي ينعرج منه إلى المحطة وهو بحيال "جمعية الإسعاف"، حيث تنشعب طرق أخرى؛ وكنت منصرفا إلى التفكير مستغرقًا فيه، طائف النظارت على الجو، فما راعني إلا اختلاف منظر الطريق، وأنتبه، فإذا الترام يمرق مروق السهم في تلك السبيل الصاعدة إلى "الجيزة" من حيث جئت. فلعنت الشيطان وتلبثت حتى وقف هذا الترام، فغادرته ورجعت مهرولا إلى ذلك المنشعب، فصادفت تراما آخر، فوثبت إليه كأني أحمل إليه حملًا، ودفعت الأجرة، وانطلق، فإذا هو منصب في تلك الطريق عينها الذاهبة إلى الجيزة من حيث جئت, ولا أستطيع الانحدار منه وهو منطلق، فتسخطت ولعنت الشيطان مرة أخرى، ورأيت أن عبثه قد ترادف؛ فلما سكن الترام رجعت مهرولًا إلى ذلك المنشعب ولم يبق من الوقت غير قليل. وأنظر ثم، فإذا ترام وراء ترام، وإذا قد وقعت حادثة لإحدى السيارات واجتمع الناس وسدت الطريق، فجعلت أغلي من الغيظ، ولعنت هذا الدعابة الخبيث. وأذكرني اللعين نادرة الأعرابي الذي عضه ثعلب، فأتى راقيا، فقال له الراقي: ما عضك؟ فاستحي أن يقول: ثعلب، وقال: كلب. فلما ابتدأ الرجل برقية الكلب، قال له الأعرابي: واخلط بيها شيئا من رقية الثعالب. ثم إني لم أر بدا من بلوغ المحطة على قدمي لأتم على عزيمتي في مراغمة اللعين، فأسرعت أطوي الأرض وكأنما أخوض في أحشائه وكان بصدري التهاب فهاج بي، غير أني تجلدت واتسعت لاحتماله وبلغت حيث أردت. ثم ذهبت ألتمس في القطار عربة خاصة أعرفها، كانت من عربات الدرجة الأولى فجعلوها في الثانية يرفهون بها بعض الترفيه على طائفة من المسافرين؛ وأصبت فيها مكانا خاليا كأنما كان مهيأ لي بخاصة, فانحططت فيه إلى جانب رجل أوروبي أحسبه

ألمانيا لتفاوت خلقه وعنجهيته؛ وجلست أنفس عن صدري، ثم أقبلت أسخر من إبليس ونكايته، وجعلت أتعجب مما اتفق من هذا التدبير. وتحرك القطار وانبعث، وكان الأوروبي إلى جانبي مما يلي النافذة وقد تركها مفتوحة، فأحسست الهواء ينصب منها كالماء البارد وأنا متند بالعرق؛ وترقبت أن يغقلها الرجل فلم يفعل، فصابرته قليلا فإذا هو ساكن مطمئن يتروح بالهواء وكأنما يشربه، وتأملته فإذا شيخ في حدود الستين أو فوقها، غير أنه على بقية من قوة مصارع في اكتناز عضله واجتماع قوته ووثاقة تركيبه، فأيقنت أن الهوء من حاجته، وهممت أن أنبهه أو أقوم أنا فأغلق النافذة، ولو شئت أن أفعل ذلك فعلت، غير أن الشيطان "أخزاه الله" وسوس لي: أن هذا رجل أجنبي غربي، وأنت مصري شرقي، فلا يحسن بك أن تعلمه وتعلم الحاضرين أمامكما أنك أنت الأضعف على حين أنه هو الأسن، وكيف لا تقوم لما يقوم له وقد كنت تباكر الماء البارد في صميم الشتاء، وكنت لا تلبس في أشد أيام البرد غير ثياب الصيف، وكنت تحمل كذا وكذا ثقلا للرياضة، وتعاني كذا وكذا من ضروب القوة، وكنت تلوي بيديك عود الحديد، وكنت وكنت. فتذممت -والله- مما خطر لي؛ وأنفت أن أنبه الرجل، ورأيت عملي هذا ضعفا وفسولة، ولم أعبأ بالهواء ولا بالعرق ولا بالنزلة الشعبية ولا بالزكام، وتركت الأوروبي وشأنه، وأقبلت على كتاب كان في يدي، وتناسيت أن هذه النافذة جهة من تدبير إبليس؛ وكان القطار مزدحما بالراجعين من المعرض الزراعي الصناعي، وبعض الناس وقوف فلا مطمع في مكان آخر. ولبثت ساعة ونصف ساعة في تيار من هواء "فبراير" ينصب انصبابا، ويعصف عصفًا، وكأني أسبح منه في نهر تحت ظلمة الليل الماطر، والناس معجبون بي وبالأوروبي، وهذا الأوروبي معجب بي أكثر منهم، وقد رأى مكاني وعرف موضعي، وكان إلى يميني مجلس بقي خاليا ولم يقدم أحد على أن يجلس فيه خوفا من الهواء ومن الرجل الأوروبي. ثم تراءيت أنوار محطة "طنطا"، ولم يبق من هذه المحنة غير دقيقتين فوالله الذي لا يحلف بغير اسمه -عز وجل- لقد كان إبليس رقيعا جلفا باردا ثقيل المزاج؛ إذ لم أكد أتهيأ للقيام حتى رأيت الرجل الأوروبي قد مد يده فأغلق النافذة.

ورجعت إلى داري وأنا أقول: ثم ماذا يا إبليس؛ ثم ماذا أيها الدعبب1 وحاولت بجهدي أن أكتب أو أقرأ فلم أتحرك لشيء من ذلك، وكانت الساعة العاشرة ليلًا، فصليت وأويت إلى مضجعي. ثم أصبحت يوم السبت، فإذا كتاب من الأستاذ صاحب "الرسالة": أنه سيطبع عددين معا فيريد لهما مقالتين، إذ تغلق المطبعة في أيام عيد الأضحى. وكان أملي في المقالة الواحدة مخذولا مما قاسيت، فكيف لي باثنتين؟ واختلط في نفسي هم بهم، وما يفسد علي أمري شيء مثل الضيق، فإذا تضايقت كنت غير من كنت؛ ولكني تيقظت وتنبهت وأملت العافية مما أجده من ثقلة البرد وضعفته، وأحدثت طمعا في النشاط إذ جلست للكتابة في الليل، فإني بالنهار أعمل للحكومة. فلما كان الليل لم أجد أمري على ما أحب، وجلست متفترا معتلا، وثقل رأسي من ضربة النافذة، وتسلط علي ظن المرض والعجر عن الكتابة، وانتقض الأمر كله فرأيتني أشق على نفسي بلا طائل، فكان من صواب التدبير عندي أن أستجم بالنوم ثم أنهض في السحر للكتابة, فأوصيت من يوقظني؛ وحررنا الساعة المنبهة على تمام الثانية بعد منتصف الليل. وأحسست أني جائع، وأن معدتي مشحوذة، ونسيت كل ما أعرف من الطب؛ وجاءوني بشواء وحلوى وما بينهما، فحططت فيه ولففت الآخر بالأول، ثم قمت أريد النوم، فإذا الطعام كان أشد علي من نافذة القطار، وكان الذي في الفكر من المقالة أثقل من الذي في المعدة من الطعام، وساء الهضم في الدماغ والبطن جميعا. وجعلت أتناوم وأرخي أعضائي وأتوهم الكرى وأستدنيه بكل ما أعرف من وسيلة، ثم لا أزداد على ذلك إلا أرقا، وتمرد الفكر، وأحسست رأسي يكاد ينفجر، وصرت أتململ ولا أتقار، وتوهمت أن لو كان لي عقلان ما استطعت كتابة المقالة عن إبليس لعنه الله؛ وأذكرني الخبيث نادرة مضحكة: أن رجلا كان يركب حمارًا ضعيفا، وكان يبعثه فلا ينبعث، فجعل يضربه، فقيل له: ارفق به. فقال: إذا لم يقدر يمشي فلم صار حمارًا؟

_ 1 الدعبب والمداعب والدعابة "بتشديد العين": كلها بمعنى.

وقذفت بنفسي من الفراش ونظرت في الساعة، فإذا هي موشكة أن تبلغ الثانية ولم أحس الرقاد بعد، فأسرعت إلى المنبهة وحررتها على تمام الساعة الرابعة صباحا، وأيقنت أن الشيطان يرهقني طغيانا وكيدا، فطفقت ألعنه، وما أحسبه إلا قد رأى اللعن مدحا فهو يستزيدني. ثم رجعت أحاول النوم، فما كان هذا الليل إلا شيئا واحدًا أوله آخره إلى أن طلع الفجر. وجاء يوم الأحد وهو يوم عطلة الأوروبيين، فما أشد عجبي إذ تركني فيه إبليس كأنهم لا يدعون له وقتا في هذا اليوم. والآن يزين لي الخبيث أن أختم هذه المقالة بـ ... بـ ... ولكن لا. لا.

الشيطان

الشيطان *: قال الشيخ أبو الحسن بن الدقاق: كان شيخي أبو عبد الله محمد الأزهري العجمي "رضي الله عنه" رجلا صاحب آيات وخوارق مما فوق العقل، كأنما هو سر من الأسرار الجارية في هذا الكون، قد بلغ بنفسه رتبة النجم في أفقه البعيد؛ ففيه أهواء الإنسان وشهواته وطباعه، إلا أنها كنوز النجم في تألقه ولألائه من إشراق روحه وصفائها، وقد ارتفع بآدميته فوق نفسها؛ فاصبح في الناس ومعه سماؤه, يجعلها بين قلبه وبين الدنيا. والرجل إذا بلغ هذا المبلغ كان حيا كالميت ساعة احتضاره؛ ينظر إلى كل ما في الحياة نظرة من يترك لا من يأخذ، ومن يعتبر لا من يغتر، ومن يلفظ لا من يتذوق، ومن يدرك السر لا من يتعلق بالظاهر؛ ويرى الشهوات كأنها من لغة لا يعرفها، فهي ألفاظ فيها معاني أهلها لا معانيه, وإنما تلبس كلماتنا معانيها من أنفسنا. وفي النفوس مثل الهشيم: إذا وقعت فيه المعاني المشتعلة استطار حريقا وتضرم، وفيها على المجاهدة مثل الماء؛ فإذا خالطته تلك المعاني انطفأت به وخمدت. وقد سألت الشيخ مرة: كيف تحدث الكرامات والخوارق للإنسان؟ فقال: يا ولدي إن الإنسان من الناس المحجوبين يتصرف في جسمه ولا يكاد يملك لروحانيته شيئا، فإذا أبلى في المجاهدة ووقع في قلبه النور، تصرف في روحانيته ولا يكاد يملك لجسمه شيئا، فمن أطاق أن ينسلخ من بشريته، واتسعت ذاته في معاني السماء بمقدار ما ضاقت من معاني الأرض، وكان معدا لأن يتحقق في روحانيته، معانا على ذلك بطبيعة فوق الاعتدال, فقد شاع في الكون، وأصاب له وجها ومذهبا إلى تلك القوة التي تهدم في العالم وتبني، وتفرق وتجمع، وتنقل الصور بعضها إلى بعض؛ فإن الكون كله جوهر واحد هو النور، حتى الجبل هو نور صخري، وحتى البحر هو نور مائي، وحتى الحديد

_ * انظر "عود على بدء" من كتاب "حياة الرافعي".

والذهب والتراب، كل ذلك نور1 صرفته القدرة الإلهية تصريفها المعجز، فكان، على ما نرى: ظاهرا مخيل يلائم نقصنا وعجزنا، وحقيقة قارة على غير ما نرى. ومن ذا يعقل أن الصخر نور متجمد إذا لم يكن له إلا عقل عينه وحواسه؟ ومن ذا يطيق أن يفهم بحواسه وعينه قول الله -تعالى-: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] ؟ فالجبال جامدة ثابتة، غير أنها تمر بأرضها وتموج في نفسها؛ ومتى تأذن الله أن ينكشف نور كلامه للعقل الإنساني، فستكون هذه الآية علما جديدًا في الأرض، يثبت أن السحاب والجبل مادة واحدة وصنع واحد. ويا لها سخرية بالإنسان وجهله! فإنه إذ كانت الحقيقة غير ما نرى، فكل شيء في الدنيا هو رد على النظر الإنساني، ويكاد الجبل العظيم يكون كلمة عظيمة تقول للإنسان: "كذبت! ". فالشأن في الخوارق والكرامات راجع إلى القدرة أن يسلط الإنسان الروحاني ما فيه من سر النور على ما في بعض الأشياء من هذا السر، وتلك هي طاعة بعض الكون لمن ينصرف عن المادة ويتصل بخالقها. فإذا بقي في الرجل الروحاني شيء من أمر جسمه يقول: "أنا ... " لم يكن في الرجل من تلك القدرة ذرة؛ فإن هو حاول أن يخرق العادة، أبى الكون أن يعرفه إلا كما يعرف حجرا ملقى يحاول أن يتصرف بالجبل الذي هو منه فينقله أو يزحزحه أو يزلزله. ولا خير على الأرض مطلقا إلا وهو أخذ من حقوق هذه الـ"أنا ... " في إنسانها، ولا شر على الأرض مطلقا إلا وهو إضافة حقوق إليها؛ فحين لا يبقى لها حق في شيء عند نفسها، يجب لها الحق عندئذ على كل شيء. وهذه هي الكرامة؛ تكرم الخليقة من أكرمه الخالق. فمن أراد أن تتصل نفسه بالله، فلا يكن في نفسه شيء من حظ نفسه، ولا يؤمن إيمان هؤلاء العامة: يكون إيمانهم بالله فكرة تذكر وتنسى، أما عملهم فهو إيمانهم الراسخ بالجسم وشهواته يذكر ولا ينسى. وأنت ترى رجال الروح يأكلون ويشربون ويلبسون، ولكن هذا كله ليس فيه ذرة من أرواحهم، على خلاف غيرهم من الناس؛ فهؤلاء كل أرواحهم في مطاعمهم ومناعمهم، ومن ثم لا يجري الشيطان من الأولين إلا في مجار ضيقة.

_ 1 كلمة "النور" هذه هي التي يعبر عنها اليوم بالكهرباء، وقد ثبت أن الكون كله هو هذه الكهرباء متجمدة على ما شاء الله أن تكون.

أشد الضيق لا يكاد ينفذ منها إلى فكر أو شهوة أو حلم من أحلام الدنيا، أما الآخرون فالشيطان فيهم هو تيار الدم، يعب عبابه في الأسفل والأعلى. قال أبو الحسن: وكنا يومئذ في دمشق، فنبهني كلام الشيخ عن الشيطان إلى ما قرأته عن كثيرين ممن رأوا الشيطان أو حاوروه أو صارعوه؛ فقلت للشيخ: إن من حقك علي أن أسألك حقي عليك، وما في نفسي أحب إلي ولا أعجب من أن أرى الشيطان وأكلمه وأسمعه؛ وأنت قادر أن تنقلني إليه كما نقلتني إلى ما دخلت بي عليه من عوالم الغيب. قال الشيخ: وماذا يرد عليك أن ترى الشيطان وتكلمه؟ قلت: سبحان الله! لا يجدي علي شيئا إلا أن أسخر منه. قال الشيخ: فإني أخشى يا ولدي، أن يكون الشيطان هو الذي يريد أن تراه وتسمعه ... ! قلت: فإني فأريد أن أسأله عن سره، فيكون علمًا لا سخرية. قال: لو كشف لك عن سره لما كان شيطانا، فإنما هو شيطان بسره لا بغيره. قلت: فأريد أن أرى الشيطان لأكون قد رأيت الشيطان! قال الشيخ: لا حول ولا قوة إلا بالله! لو كنت يا أبا الحسن بأربع أرجل لهربت من الشيطان بثلاث منها وتركته يجرك من واحدة! قلت: يا سيدي، فلو كنت حمارًا لبطل عمل الشيطان في أرجلي الأربع كلها؛ إذ لا حاجة به إلى إغواء حمار! فتبسم الشيخ وقال: ولا بد أن ترى الشيطان وتكلمه؟ قلت: لا بد. قال: إنه هو يقولها، فقم! قال أبو الحسن: وكان الشيخ إذا مشى إلى أمر خارق بقيت معه غائبا عن الحس، كأنه يبطل مني ما أنا به أنا، فأصبح ظلا آدميا معلقا به. ولا تقع الخوارق إلا لمن وجد القوة المكملة لروحه، وهذه القوة تستمد من الشيخ الواصل، فلا بد من إمام يأخذ عن إمام، كأنها سلسلة نفسية متميزة في الأرض، فتتغير الواحدة منها بالواحدة، إذ تقع في جوها فتورق وتثمر؛ كالشجرة: جو يكسوها، وجو يذبلها، وجو يسلبها سلبا؛ وكذلك تفعل النفس إذا كان لها جو.

وخرجنا من دمشق وأنا خلف الشيخ كالمحمول، فرأيتنا وقد أشرفنا على بناء عظيم، ورأيت أقوامًا يتلقون الشيخ ويسلمون عليه ويتبركون بمقدمه؟ فأنكرتهم نفسي ووجدت منهم وحشة، فالتفت إلي الشيخ وقال: هؤلاء من الجن، وما إليهم قصدنا، فلا تشتغل بما ترى واشتغل بي. ثم ننتهي إلى البناء العظيم، فتستقبلنا طائفة أخرى، ويدخلون الشيخ وأنا خلفه، ويمرون بنا على دنيا مخبوءة تعجز الوصف، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت؛ فيقولون: هذه كنوز سليمان وذخائره، ويطوفون بالشيخ يعرضونها عليه كنزا كنزًا، فرأينا ثم نعيما وملكا كبيرًا، ثم انتهينا آخرًا إلى مغارة خسيفة كأنها عرق من عروق جسم الأرض، يتفجر منها دوي كالرعد القاصف، إلا أنه في السمع كخوار الثور، إلا أنه ثور خيل إلي أن رأسه في قدر جبل عظيم، يتعلق به غبغب1 في قدر جبل آخر، على جسم يسد الخافقين، فخواره كأنه صراخ الأرض، وإذا أنا بأقبح مكان منظرًا، وأنتنه ريحا، كأنه سجن بناؤه من الجيف. فقلت: ما هذا؟ قالوا: هذا سجن إبليس، وهو هنا في هذه المغارة منذ زمن سليمان عليه السلام. قلت: أفمسجون هو؟ قالوا: وإنه مع ذلك موقر بأمثال الجبال حديدا يربض به في محبسه، فلا يتزحزح ولا يتحلحل. قلت: وإنه مع ذلك قد ملأ الدنيا فسادًا، فكيف به لو كان طليقا؟ قالوا: فلو أنه كان طليقا لاستحوذ على الناس كافة؛ فيجتمع أهل الأرض على شهوة واحدة لا شيء غيرها، فيبطل مع هذه الشهوة الواحدة كل تدبير بينهم، فلا تقوم لهم سياسة، ولا يكون بينهم وازع؛ فيرجعون كالكلاب أصابها الكلب وهاج بها، فأنيابها في لحمها، لا يزال يعض بعضها بعضا، فليس لجميعها إلا عمل واحد يسلمها إلى الهلاك، ويصبح ظهر الأرض أعرى من سراة أديم. وإنما يصلح الناس باختلاف شهواتهم وتنافرها وتنازعها: فبعضها يحكم بعضا، وشيء منها يزع شيئان ومن تخلص من نزوة قمع بها نزوة أخرى؛ كالمتزوج المحصن؛ يحكم بالجلد والرجم على من ليست له امرأة فزنا؛ وكالغني الواجد؛ يحكم على اللص الذي لم يجد فسرق، وهلم جرًا.

_ 1 غبغب الثور وغببه: ما تثنى من لحم ذقنه من أسفل.

وما ينشأ الناس في ثلاثة أعمار، فيشبون ويكتهلون ويهرمون، إلا لتختلف شهواتهم وتختلف مقادير الرغبة فيها، فتتحقق من ثم تلك الحكمة الإلهية في التدبير ويجد الشرع محله بينهم، كما يجد العصيان بينهم محله. ولو أن أمة كلها أطفال أو كهول أو شيوخ، لبادت في جيل واحد؛ وإنه ليس أسمج من الرذيلة تكون وحدها في الأرض إلا الفضيلة تكون وحدها، فلا بد من شيء يظهر به شيء غيره كالضد والضد؛ والمعركة إذا انتصر كل من فيها كانت هزلا وكانت شيئا غير المعركة. قال أبو الحسن: وقلت لهم: فإذا كان الشيطان سجينا قد ربضت به أثقاله، حتى لهو في سجن من سجن مبالغة في كفه والتضييق عليه, فكيف يفتن الناس في أرجاء الأرض ويوسوس في قلوبهم، حتى لهو يد بين كل يدين، وحتى لهو العين الثلاثة لعيني كل إنسان؟ قالوا: إن في روحه النارية قوة تفصل منها وتنتشر في الأرض، كشعاع الشمس من الشمس: هذه كرة نارية ميتة معلقة على الأجسام مرصدة لها، وتلك كرة نارية حية معلقة على النفوس مرصدة لها، وبهذه وتلك عمار الدنيا وأهل الدنيا. قلت: لعلكم أردتم أن تقولوا: خراب الدنيا وأهل الدنيا. فغلطتم، فكان ينبغي أن يجيء بدل الغلط ... فقال أحدهم: يا أبا الحسن، خرق الثوب المسمار، جاز هنا لأمن اللبس أن يكون المفعول به -وهو الثوب- مرفوعا وفاعله -وهو المسمار- منصوبًا، هل جئت -ويحك- تطلب النحو أو تطلب الشيطان؟ قال أبو الحسن: فقطعني الجني -والله- وأخجلني، ونظرت خلسة إلى الشيخ أراه كيف يسخر مني، فإذا الشيخ وقد املس فلا أراه، وإذا أنا وحدي بين الجن وبإزاء هذا الساخر وضعت عينه في جبهته وشق فمه في قفاه ... ! فسري عني وزال ما أجده، وقلت في نفسي: الآن أبلغ أربي من الشيطان ويكون الأمر على ما أريد، فلا أجد من أحتشم ولا تقطعني هيبة الشيخ! ووقع هذا الخاطر في نفسي، فاستعذت بالله ولعنت الشيطان وقلت: هذا أول عبثه بي وجعله إياي من أهل الرياء، كأن لي شأنا في حضور الشيخ وشأنا في غيابه، وكأني منافق أعلن غير ما أسر، وقلت: إنا لله! كدت يا أبا الحسن تتشيطن!

ثم هممت أن أنكص على عقبي، فقد أيقنت أن الشيخ إنما تخلى عني لأكون هنا بنفسي لا به، وما أنا هنا إلا به لا بنفسي، فيوشك إذا بقيت في موضعي أن أهلك! بيد أن المغارة انكشفت لي فجأة فما ملكت أن أنظر؛ ونظرت فما ملكت أن أقف، ووقفت أرى، فإذا دخان قد هاج فارتفع يثور ثورانه حتى ملئ المكان به، ثم رق ولطف. واستضرمت منه نار عظيمة لها وهجان شديد يتضرم بعضها في بعض، ويسمع من صوتها معمعة قوية، ثم خمدت. وانفجر في موضعها كالسد المنبثق من ماء كثيف أبيض أصفر أحمر، كأنه صديد يتقيح في دم، ثم غاض. وتنبعت في مكانه حمأة منتنة جعلت تربو وتعظم حتى خفت أن تبتلعني وأذهب فيها، فسميت الله -تعالى- فغارت في الأرض. ثم نظرت فإذا كلب أسود محمر الحماليق، هائل الخلقة مستأسد، قد وقف على جيفة قذرة غاب فيها خطمه يعب مما تسيل به. فقلت: أيها الكلب، أأنت الشيطان؟ وأنظر فإذا هو مسخ شائه كأنه إنسان في بهيمة قد امتزجا وطغى منهما شيء على شيء، وأما وجهه فأقبح شيء منظرًا، تحسبه قد لبس صورة أعماله. ونطق فقال: أنا الشيطان! قلت: فما تلك الجيفة؟ قال: تلك دنياكم في شهواتها، وأنا ألتقم قلب الفاسق أو الآثم منكم، كما ألتقم دودة من هذه الجيفة. قلت: عليك لعنة الله وعلى الفاسقين والآثمين، فكيف كنت دخانا، ثم انقلبت نارًا، ثم رجعت قيحا، ثم صرت حمأة، ثم كنت كلبا على جيفة؟ قال: لا تلعن الفاسقين والآثمين، فإنهم العباد الصالحون بأحد المعنيين، وأنت وأمثالك عباد صالحون بالمعنى الآخر، أليس في الدنيا حياء ووقاحة؟ فأولئك يا أبا الحسن هم وقاحتي أنا على الله! أنا منكم في زهدكم حرمان الحرمان، وفقر الفقر، ولقد أهلكتموني بؤسا؛ غير أني معهم لذة اللذة، وشهوة الشهوة، وغنى الغنى، لا تتم لذة في الأرض، ولا تحلو لذائقها وإن كانت حلالًا،

إلا إذا وضعت أنا فيها معنى من معانيّ أو وقاحة من وقاحتي! حتى لأجعل الزوجة لزوجها مثل الشعر البليغ إذا استعار لها معنى مني، وكل ما فسدت به المرأة فهو مجازي واستعارتي لها أجعلها به بليغة. وأنتم يا أبا الحسن تقطعون حياتكم كلها تجاهدون إثم ساعة واحدة من حياة عبادي، فانظر -رحمك الله- لئن كانت ساعة من حياتهم هي جهنمكم أنتم، فكيف تكون جهنم هؤلاء المساكين؟ إنك رأيتني دخانا لأني كذلك أنبعث في القلب الإنساني، فمتى تحركت فيه حركة الشر كنت كالاحتيال لإضرام النار بالنفخ عليها؛ فمن ثم أكون دخانا، فإذا غفل عني صاحب القلب تضرمت في قلبه نارا تطلب ما يطفئها؛ ثم يواقع الإثم والمعصية ويقضي نهمته فأبرد عن قلبه، فيكون في قلبه مثل الحرق الذي برد فتأكل موضعه فتقيح، ثم يختلط قيح أعماله بمادته الترابية الأرضية، فينقلب هذا المسكين حمأة إنسانية لا تزال تربو وتنفخ كما رأيت. قلت: أعوذ بالله منك! أفلا تعرف شيئا يرد عن القلب وأنت دخان بعد؟ فقهقه اللعين وقال: ما أشد غفلتك يا أبا الحسن، إذ تسأل الشيطان أن يخترع التوبة! أما لو أن شيئا يخترع التوبة في الأرض لاخترعها القبر الذي يدفن فيه بعضكم بعضا كل طرفة عين من الزمن، فتنزلون فيه الميت المسكين قد انقطع من كل شيء وتتركونه لآثامه، وحساب آثامه، والهلاك الأبدي في آثامه، ثم تعودون أنتم لاقتراف هذه الآثام بعينها. قلت: عليك وعليك أيها اللعين؛ ولكن ألا يتبدد هذا الدخان إذا ضربته الريح أو انطفأ ما تحته! قال: أوه! لقد أوجعتني كأنما ضربتني بحبل من نار، إن نبيكم عرفها ولكنكم أغبياء؛ تأخذون كلام نبيكم كأنما هو كلام لا عمل، وكأنه كلام إنسان في وقته كلام النبوة للدهر كله وللحياة كلها؛ ولهذا غلبت أنا الأنبياء على الناس، فإني أضع المعاني التي تعمل، لا الحكمة المتروكة لمن يعمل بها ومن لا يعمل. أتدري يا أبا الحسن، لماذا أعجزني أسلافكم الأولون مثل: عمر وأبي بكر؟ حتى كان إسلامهم من أكبر مصائبي، فتركوني زمانا -وأنا الشيطان- أرتاب في أني أنا الشيطان؟ قلت: لماذا؟

قال: أراك الآن لم تلعن، فلست قائلها إلا إذا ترحمت علي. قلت: عليك وعليك من لعنات الله! قل لماذا؟ قال: أسائل ويأمر؟ وطفيلي ويقترح؟ لا بد أن تترحم! قلت: يرحمنا الله منك! قل لماذا؟ قال: وهذه لعنة في لفظة رحمة؛ لا، إلا تترحم علي أنا إبليس الرجيم! قلت: فيغني الله عن علمك؛ لقد ألهمتنيها روح النبي صلى الله عليه وسلم: إن النبوة كانت هي بأعمالها وصفاتها تفسيرا للألفاظ على أسمى الوجوه وأكملها، فكأن روح النبي صلى الله عليه وسلم لتلك الأرواح كالأم لأبنائها؛ وقد رأوه لا يغضب لنفسه ولا لحظ نفسه، وذلك لا يستقيم إلا بالقصد في أمر النفس، وجعل ناحية الإسراف فيها إسرافًا في العمل لسعادة الناس. وكلما ارتد الإنسان لنفسه وحظوظها ارتد إليك -أيها اللعين- وأقبل على شقاء نفسه، وكلما عمل لسعادة غيره ابتعد عنك -أيها الرجيم- وأقبل على سعادة نفسه، وترك الغضب وحظوظ النفس هو الصبر على حوادث العمر كله، كصبر المسافر إن كان عزيمة مدة الطريق كلها، وإلا كان فسادًا في القوة ووقع به الخذلان. فهذا الصبر المعتزم المصمم، الذي يوطن به الرجل نفسه أن يكون رجلا إلى الآخر, هو تعب الدنيا، ولكنه هو روح الجنة مع الإنسان في الدنيا. والمؤمن الصابر رجل مقفل عليه بأقفال الملائكة التي لا يقتحمها الشيطان ولا تفتحها مصائب الدنيا؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره في سفره" , كأن يقول: لو لم يصبر المسافر دائبا معتزما مدة سفره كلها لما أنضى بعيره، ولو لم يصبر المؤمن مدة حياته كلها لما أنضى شيطانه. فصاح الشيطان: أوه، أوه! ولكن قل لي يا أبا الحسن: ما صبر رجل مؤمن قوي الإيمان، قد استطاع بقوة إيمانه أن يفيق من سكر الغنى، فتخلص من نزوات الشياطين الذهبية الصغيرة التي تسمونها الدنانير؛ وقد أردته على أن يكذب، فرأى الإيمان أن يصدق؛ وجهدت به أن يغضب، فرأى الحكمة أن يهدأ؛ وحاولت منه أن يطمع، فرأى الراحة أن يرضى؛ وسولت له أن يحسد، فرأى الفضيلة ألا يبالي، وأخذ لنفسه من كل شيء في الحياة بما يثق أنه الإيمان والصبر والهدوء والرضا والقناعة؛ وأحاط نفسه من هذه الأخلاق بالسعادة القلبية واجتزأ بها؛ وقصر نظره على الحقيقة، ووجد الجمال في نفسه الطيبة الصافية؛ وأجرى ما يؤلمه وما يسره

مجرى وحدًا؛ ونظر العمر كله كأنه يوم واحد يرقب مغرب شمسه؛ وأخذ من إرادته قوة أنسته ما لم تعطه الدنيا، فلم يحفل بما أعطت الدنيا وما منعت؛ وعاش على فقره بكل ذلك كما يعيش المؤمن في الجنة, هذا في قصر من لؤلؤة أو ياقوتة أو زبرجدة، وذاك في قصر من الحكمة أو من الإيمان أو من العقل. قال الشيطان: فلما أعجزني صلاحا ورضى وصبرًا وقناعة وإيمانا واحتسابا، وكان رجلا عالما فقيها سولت له أن يخرج إلى المسجد ليعظ الناس فينتفعوا به، ويبصرهم بدينهم, ويتكلم في نص كلام الله؛ فعقد المجلس ووعظ، وانصرفوا وبقي وحده. فجاءت امرأة تسأله عن بعض ما يحتاج إليه النساء في الدين من أمر طبيعتهن؛ وكانت امرأة جزلة غضة رابية، يهتز أعلاها وأسفلها، وتمشي قصيرة الخطو مثاقلة كالمتضايقة من حمل أسرار جمالها وأسرار بدنها الجميل؛ فبعض مشيتها يقظة وبعضها نوم فاتر تخالطه اليقظة؛ ولا يراها الرجل الفحل التام الفحولة إلا رأى الهواء نفسه قد أصبح من حولها أنثى، مما تعصف به ريحها العطرة عطر زينتها وجسمها. وكان الواعظ قد ترمل من أشهر، وكانت المرأة قد تأيمت من سنوات؛ فلما رآها غض طرفه عنها؛ ولكنها سألته بألفاظها العذبة عن أمور هي من أسرار طبيعتها، وسألته عن طبيعتها بألفاظها؛ فسمع منها مثل صوت البلور، يتكسر بعضه على بعض. وتحدثت له وكأنها تتحدث فيه: فسمع بأذنه ودمه، ثم كان غض عينه أقوى لرؤية قلبه وجمع خواطره. ورأى صوتها يشتهي؛ وعانقته رائحتها العطرية النفاذة؛ وأحاطته بجو كجو الفراش؛ وعادت أنفاسها كأنها وسوسة قبل؛ وصارت زفراتها كالقدر إذا استجمعت غليانًا؛ وطلعت في خياله عريانة كما تطلع للسكران من كأس الخمر حورية عريانة، لها جسم يبدو من اللين والبضاضة والنعمة كأنه من زبد البحر؟ قال أبو الحسن: وكنت كالنائم، فما شعرت إلا بصوت كصك الحجر بالحجر، لا كتكسر البلور بعضه على بعض، وسمعت شيخي يقول: أفسقت؟

تاريخ يتكلم

تاريخ يتكلم *: أيعرف القراء أن في الأحلام أحلاما هي قصص عقلية كاملة الأجزاء محكمة الوضع متسقة التركيب بديعة التأليف، تجعل المرء حين ينام كأنه أسلم نفسه إلى "شركة من الملائكة"، تسيح به في عالم عجيب كأنما سحر فتحول إلى قصة؟ إن يكن في القراء من لا يعلم هذا فليعلمه مني؛ فإني كثيرا ما أكتب وأقرأ في النوم؛ وكثيرا ما يلقي علي من بارع الكلام، وكثيرا ما أرى ما لو دونته لعد من الخوارق والمعجزات. وهذه القصة التي أرويها اليوم، كانت المعجزة فيها أني مشيت في التاريخ كما أمشي في طريق ممتدة؛ فتقدمت إلى أهل سنة 395 للهجرة وما يليها، فعشت معهم وتخبرت من أخبارهم، ثم رجعت إلى زمني لأقص ما رأيته على أهل سنة 1353** أمسيت البارحة كالمغموم في أحوال ثقيلة على النفس ما تنطلق النفس لها، أولها سوء الهضم؛ ومتى كان البدء من هنا لم تكن الحركة في النفس إلا دائرة: تذهب ما تذهب ثم لا تنتهي إلا في سوء الهضم عينه، فجلست في الندى الذي أسمر فيه أحيانا، فكان لجوه وزن أحسسته كما يحس الغائص في الماء ثقل الماء عليه؛ ودخنت الكركرة1 فلم تكن هواء ودخانا يتروح، بل كانت من ثقلها كالطعام يدخل على الطعام؛ ونظرت ناحية فأخذت عيني رجلا فيلي الخلقة، منطاد البطن كأنما نفخ بطنه بالآلات، يحمل منه مقدار أربعة من بطون البدينات الحوامل

_ * يعني بهذه المقالة والتي بعدها "كفر الذبابة" تركيا الحديثة وزعيمها المغفور له وانظر "عود على بدء" من كتاب "حياة الرافعي". ** تاريخ إنشائه هذه المقالة. 1 الكركرة: اسم وضعناه "للشيشة" أو النارجيلة، أخذا من صوتها، كما صنع العرب في تسميتهم "القطا" أخذا من صوت هذا الطير، وكما هي طريقتهم؛ وتجمع الكركرة: كراكير، بالياء للخفة.

كل منهن في الشهر التاسع من حملها, وكان معي إلى كل هذه البلاء خمس صحف يومية أريد قراءتها! ثم جئت إلى الدار والمعركة حامية في أعصابي؛ وما كان سوء الهضم منومة فيدعو إلى النوم، فدخلت بيت كتبي وأردت كتابا أي كتاب تناله يدي، فخرج لي كتاب في خرافات الأولين وأساطيرهم وهذيانهم وسوء هضمهم العقلي, كالكلام عن أدونيس وأرطاميس وديونيس وسميراميس وإيسيس وأتوبيس وأثرغتيس, فاستعذت بالله وقلت: حتى الكتب لها في الليلة أعصاب قد نالتها الثقلة والألم؟ وبات الليل يقظان معي، وبقيت متململا أتقلب حتى أخذ الصداع في رأسي، فانقلب التعب نومًا، وجاء من النوم تعب آخر، وقذفت إلى عالم الأحلام في قنبلة تستقر بي حيث تريد لا حيث أريد. ورأيتني في قوم لا أعرف منهم أحدا قد اجتمعوا جماهير، وسمعت قائلا منهم يقول: "الساعة يمر مولانا العالي" فقلت لمن يليني: "من يكون مولانا العالي؟ " قال: "أوَ أنت منهم؟ " قلت: ممن؟ " فألهاه عن جوابي تشوف الناس وانصرافهم إلى رجل أقبل راكبا حمارًا أشهب؟ فصاحوا "القمر القمر"1 ورفع الرجل الذي يناكبني صوته يقول: "البركات والعظمات لك يا مولانا العالي". قلت: إنا لله! لقد وقعت في قوم من الزنادقة، يعارضون "التحيات الصلوات والطبيات لله"؛ ثم مر صاحب الحمار بحذائي، وغمزه الرجل علي، فقال: ما بالك لا تقول مثله؟ قلت: أعوذ بالله من كفر بعد إيمان، فكأنما أراد أن يلطمني فرفع يده، فصحت فيه: كما أنت -ويلك- وإلا قبضت عليك وأسلمتك للبوليس، وشكوتك إلى النيابة، ورفعتك إلى محكمة الجنح! قال: ماذا أسمع؟ الرجل مجنون فخذوه! وأحاط بي جماعة منهم، ولكنه ترجل عن حماره وأخذ بيدي ومشينا، فقلت: من أنت يا هذا؟ قال: أراك من غير هذا البلد؛ أما تعرف الحاكم بأمر الله؟ فأنا هو. قلت: انظر -ويحك- ما تقول. فما أظنك إلا ممرورا؛ لقد كتبت أمس كتابا إلى مجلة "الرسالة" أرخته 13 من ذي

_ 1 القمر: اسم ذلك الحمار، وسيمر ذكره في القصة.

الحجة سنة 1353 و18 من مارس سنة 1935، وأرسلت به مقالة "الخروفين"1. قال: ماذا أسمع؟ نحن الآن في سنة 395؛ فالرجل مجنون، أولا فأنت أيها الرجل من معجزاتي، لقد جئت بك من التاريخ، فسترى وتكتب، ثم تعود إلى التاريخ فتكون من معجزاتي، وتقص عني وتشهد لي! قلت: فإني أعرف أعمالك إلى أن قتلت في سنة 411! قال: أوَإله أنت فتخلق ست عشرة سنة بحوادثها؟ لقد كدت من أفنك وغباوتك تفسد علي دعوى المعجزة! وهاج الصداع في رأسي، وبلغ سوء الهضم حده، واشتبكت سينات إيسيس وأتوبيس إلخ بسين إبليس، ومرت بين كل هذا حوادث الطاغية المعتوه المتجبر، فرأيته يبتدع في كل وقت بدعا، ويخترع أحكاما يكره الناس على أن يعملوا بها، ويعاقبهم على الخروج منها، ثم يعود فينقض أمره ويعاقب على الأخذ به، كان الذي نقض غير الذي أبرم، وكأنه حين يتبلد فيعجزه أن يخترع جديدًا يجعل اختراعه إبطال اختراعه. ورأيته كأنما يعتد نفسه مخ هذه الأمة، فلا بد أن يكون عقلا لعقولها، ثم لا بد أن يستعلي الناس ويستبد بهم استبداد الشريعة في أمرها ونهيها، فكانت أعماله في جملتها هي نقص أعمال الشريعة الإسلامية، وظن أنه مستطيع محو ذلك العصر من أذهان الناس وقتل التاريخ الإسلامي بتاريخ قاتل سفاك. وسول له جنونه أنه خلق تكذيبا للنبوة؛ ثم أفرط عليه الجنون فحصل في نفسه أنه خلق تكذيبا للألوهية؛ وفي تكذيبه للنبوة والألوهية يحمل الأمة بالقهر والغلبة على ألا تصدق إلا به هو؛ وفي سبيل إثباته لنفسه صنع ما صنع، فجاء تاريخه لا ينفي ألوهية ولا نبوة، بل ينفي العقل عن صاحبه، وجاء هذا التاريخ في الإسلام ليتكلم يوما في تاريخ الإسلام. رأيتني أصبحت كاتبا لهذا الحاكم، فجعلت أشهد أعماله وأدون تاريخه، وأقبلت على ما أفردني به وقلت في نفسي: لقد وضعتني الدنيا موضعا عزيزا لم يرتفع إليه أحد من كتابها وأدبائها، فسأكتب عن هذا الدهر بعقل بينه وبين هذا الدهر 968 سنة صاعدة في العلم.

_ 1 مرت هذه المقالة في الجزء الأول.

ودونت عشرة مجلدات ضخمة انتبهت وأنا أحفظها كلها، فإذا هي جمل صغيرة، جعل الحلم كل نبذة منها سفرا ضخما كما يخيل للنائم أنه عاش عمرًا طويلا وأحدث أحداثًا ممتدة، على حين لا تكون الرؤيا إلا لحظة. وهذه هي المجلدات التي قلت: إن التاريخ يتكلم بها في التاريخ. المجلد الأول: ابتلي هذا الطاغية بنقيصتين: إحداهما من نفسه، والأخرى من غيره، فأما التي من نفسه فإني أراه قد خلق وفي مخه لفافة عصبية من يهودية جده رأس هذه الدعوة؛ فهو الحاكم بن العزيز بن المعز بن القاسم المهدي عبيد الله، ويقولون: إن عبيد الله كان ابن امرأة يهودية من حداد يهودي، فاتفق أن جرى ذكر النساء في مجلس الحسين بن محمد القداح، فوصفوا له تلك المرأة اليهودية، وأنها آية في الحسن، وكان لها من الحداد ولد، فتزوجها الرجل وأدب ابنها وعلمه، ثم عرفه أسرار الدعوة العلوية وعهد إليه بها. ومن بعض اللفائف العصبية في المخ ما ينحدر بالوراثة مطبوعا على خيره أو شره، لا يد للمرء فيه ولا حيلة له في دفعه أو الانتفاء منه، فيكون قدرًا يتسلسل في الخلق ليحدث غاياته المقدورة، فمتى وقع في مخ الإنسان فالدنيا به كالحبلى ولا بد أن تتمخض عنه. هذه اللفافة اليهودية في مخ هذا الطاغية ستحقق به قول الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} [المائدة: 82] فهو لن يكون العدو للإسلام دون أن يكون الأشد في هذه العداوة، ولن يكون فيها الأشد حتى يفعل بها الأفاعيل المنكرة. وما أرى هذه المآذن القائمة في الجو إلا تخرق بمنظرها عينه من بغضه للإسلام وانطوائه على عداوته، فويل لها منه! وأما النقيصة الثانية فقد ابتلي بقوم فتنوه بآرائهم ومذهبهم، وهم حمزة بن علي، والأخرم، وفلان، وفلان ... وقد لفقوا للدنيا مذهبا هو صورة عقولهم الطائشة, لا يجيء إلا للهدم، ثم لا يضع أول معاوله إلا في قبة السماء ليهدمها! ولو أنا جمعت هذا المذهب في كلمة واحدة لقلت: هو حماقة حمقاء تريد إخراج الله من الوجود لإدخال الله في بعض الطغاة! ويتلقبون في مذهبهم بهذه الألقاب: العقل، الإرادة، الإمام، قائم الزمان، علة العلل!

المجلد الثاني: أظهر الطاغية أن الله يؤيد به الإسلام، ليتألف الجند والشعب ويستميلهم إليه، وكان في ذلك لئيم الكيد، دنيء الحيلة، يهودي المكر، فأمر بعمارة المدارس للفقه والتفسير والحديث والفتيا، وبذل فيها الأموال، وجعل فيها الفقهاء "والمشايخ"، وبالغ في إكرامهم، والتوسعة عليهم، والتخضع لهم، ودخل في ظلال العمائم. وأحضر لنفسه فقيهين مالكيين "اثنين لا واحد" يعلمانه ويفقهانه، وكان أشبه بمريد مع شيخ الطريقة يتسعد به ويتيمن؛ أشرف ألقابه أنه خادم العمامة الخضراء، وأسعد أوقاته اليوم الذي يقول له فيه الشيخ: رأيتك في الرؤيا ورأيت لك! وكانت هذه المعاملة الإسلامية الكريمة من هذا الطاغية هي بعينها ربا اللفافة اليهودية في مخه؛ تصلح بإقراض مائة، وفيها نية الخراب بالستين في المائة! فإنه ما كاد يتمكن من الناس ويعرف إقبالهم عليه وثقتهم به، حتى طلبت اللفافة اليهودية رأس المال والربا، فأمرهم بهدم تلك المدارس وإخرابها، وأبطل العيدين وصلاة الجمعة، وقتل الفقهاء وقتل معهم فقيهيه وأستاذيه، وعاد كالمريد المنافق مع شيخ الطريقة، يقول في نفسه: إن هناك ثلاثة تعمل عملا واحد في الصيد: الفخ، والعمامة، واللحية! إن هذا الطاغية ملك حاكم، يستطيع أن يجعل حماقته، شيئا واقعًا، فيقتل علماء الدين بإهلاكهم، ويقتل مدارس الدين بإخرابها، ولو شاء لاستطاع أن يشنق من المسلمين كل ذي عمامة في عمامته، ويبلغ من كفره أن يتبجح ويرى هذا قوة، ولا يعلم أنه لهوانه على الله قد جعله الله كالذبابة التي تصيب الناس بالمرض، والبعوضة التي تقتل بالحمى، والقملة التي تضر بالطاعون، فلو فخرت ذبابة، أو تبجحت قملة أو استطالت بعوضة لجاز له أن يظن طنينه في العالم. وهل فعل أكثر مما تفعل؟ قد أودى بأناس يقوم إيمانهم على أن الموت في سبيل الحق هو الذي يخلدهم في الحق، وأن انتزاعهم بالسيف من الحياة هو الذي يضعهم في حقيقتها، وأن هذه الروح الإسلامية لا يطمسها الطغيان إلا ليجلوها. إنه -والله- ما قتل ولا شنق ولا عذب، ولكن الإسلام احتاج في عصره هذا إلى قوم يموتون في سبيله، وأعوزه ذلك النوع السامي من الموت الأول الذي كان حياة الفكر ومادة التاريخ، فجاءت القملة تحمل طاعونها!

لقد أحياهم في التاريخ، أما هم فقتلوه في التاريخ، وجاءهم بالرحمة من جميع المسلمين، أما هم فجاءوه باللعنة من المسلمين جميعًا! المجلد الثالث: يرى هذا الطاغية أن الدين الإسلامي خرافة وشعوذة عن النفس، وأن محو الأخلاق الإسلامية العظيمة هو نفسه إيجاد أخلاقه، وأن الإسلام كان جريئا حين جاء فاحتل هذه الدنيا؛ فلا يطرده من الدنيا إلا جراءة شيطان كالذي توقح على الله حين قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] . ولهذا أمر الناس بسب الصحابة، وأن يكتب ذلك على حيطان المساجد والمقابر والشوارع! أخزاه الله! أهي رواية تمثيلية يلصق الإعلان عنها في كل مكان؟ ولو سمع لسمع المساجد والمقابر والشوارع تقول: أخزاه الله! المجلد الرابع: هذا الفاسق لا يركب إلا حمارًا أشهب يسميه: "القمر"، وقد جعل نفسه محتسبا لغاية خبيثة؛ فهو يدور على حماره هذا في الأسواق ومعه عبد أسود، فمن وجده قد غش أمر الأسود فـ ... ! ووقف هو ينظر ويقول للناس: انظروا ... ! ومن غلبة الفسوق على نفسه وعلى شيعته أن داعيته "حمزة بن علي" نوه بالحمار في كتابه وأومأ إليه بالثناء، لخصال: منها أن ... ! وكتب حمزة هذا في بعض رسائله؛ أن ما يرتكبه أهل الفساد بجوار البساتين التي يمر بها "الفاسق" من المنكر والفحشاء, إنما يرتكب في طاعته ... ! هذه طبيعة كل حاكم فاسق ملحد، يرى في نفسه رذائله عريانة، فلا يكون كلامه وعمله وفكره إلا فحشا يتعرى؛ وإن في هذا الرجل غريزة فسق بهيمية متصلة بطور الحيوان الإنساني الأول؛ فما من ريب أن في جسمه خلية عصبية مهتاجة، ما زالت تسبح بالوراثة في دماء الأحياء، متلففة على خصائصها، حتى استقرت في أعصاب هذا الفاسق، فانفجرت بكل تلك الخصائص. ولست أرى أكثر أعماله ترجع في مردها إلا إلى طغيان هذه الغريزة فيه؛ فهو يحاول هدم الإسلام، لأنه دين العفة ودين صون المرأة، يلزمها حجاب عفتها وإبائها، ويمنعها الابتذال والخلاعة، ويعينها أن تتخلص ممن يشتهيها، ولو كان الحاكم. إنه يمقت هذا الدين القوي، كما يمقت اللص القانون؛ فهو دين يثقل

على غريزته الفاسقة، ولكل غريزة في الإنسان شعور لا مهنأ لها إلا أن يكون حرًا حتى في التوهم؛ وهل يعجب السكير شيء أو يرضيه أو يلذه، كما يعجبه أن يرى الناس كلهم سكارى، فينتشي هو بالخمر، وتسكر غريزته برؤية السكر؟ وما زال رأي الفساق في كل زمن أن الحرية هي حرية الاستمتاع، وأن تقييد اللذة إفساد للذة. المجلد الخامس: يزعم الطاغية أنه يعز قومه، وما أراه يعزهم، لكنه يمتحن ذلهم وضعفهم وهوانهم على الأمم؛ يتجرأ شيئا فشيئا، متنظرا ما يتسهل، مترقبا ما يمكن؛ وهو يرى أن أخلاقنا الإسلامية هي أمواتنا دفنوا أنفسهم فينا؛ فمن ذلك يهدم الأخلاق ويظن عند نفسه أنه يهدم قبورًا لا أخلاقًا. ولقد سخر منه المصريون بنكتة من ظرفهم البديع، وجاءوه من غريزته، فصنعوا امرأة من الورق الذي يشبه الجلد، وألبسوا خفها وإزارها، حتى لا شك من رآها أنها آدمية، ثم وضعوا في فيها قصة وأقاموها في طريقه؛ فلما رآها عدل إليها وأخذ من يدها القصة وقرأها، فإذا فيها سب له ولآبائه، وسخرية من جنونه ورعونته المضحكة؛ فغضب وأمر بقتل المرأة، فكانت هذه سخرية أخرى حين تحقق أنها من الورق، وأخذته النكتة الظريفة بمثل البرق والرعد؛ فاستشاط وأمر عبيده السودان بتحريق الدور ونهب ما فيها وسبي النساء والفجور بهن؛ حتى جاء الأزواج يشترون زوجاتهم من العبيد، بعد أن طارت الزوبعة السوداء في بياض الأعراض. اندلعت ثورة الفجور في المدينة، لا من العبيد، ولكن من الحيوان العتيق المستقر في هذا الطاغية. المجلد السادس: وهذه رعونة من أقبح رعوناته، كأن هذا الحيوان لا يحسب نساء الأمة كلها إلا نساءه، فيأمرهن بأمر امرأته، وكأن النساء في رأيه إن هن إلا استجابات عصبية تطلق وترد. إن لموجة الفسق في الغريزة الطاغية جزرا ومدا يقعان في تاريخ الفساق؛ فهذا الطاغية قد جزرت فيه الموجة، فأمر أن يمنع النساء من الخروج ليلا ونهارًا،

لا تطأ أرض المدينة قدم امرأة، وأمر الخفافين ألا يصنعوا لهن الأخفاف والأحذية؛ ولما علم أن بعض النساء خرجن إلى الحمامات هدم الحمامات عليهن! ولو مدت الموجة في تفسق الفاسق لفرض على النساء الخروج والاتصال بالرجال والتعرض للإباحة. إن الصلاح والفساد كلاهما فساد ما لم يكن الصلاح نظافة في الروح وسموا في القلب. المجلد السابع: يزعم الطاغية أنه سيهدم كل قديم؛ وإني لأخشى -والله- أن يأمر الناس في بعض سطوات جنونه: أن كل من كان له أب أو أم بلغ الستين فليقتله, لتخلص الأمة من قديمها الإنساني! كأنه لا يعرف أنه إنما يتسلط على أيام معاصريه لا على التاريخ؛ ويحكم على طاعة قومه وعصيانهم لا على قلوبهم وطباعهم وميراثهم من الأسلاف؛ فما هو إلا أن يهلك حتى ينبعث في الدنيا شيئان: نتن رمته في بطن الأرض، ونتن أعماله على ظهر الأرض. إن هذا الرجل المسلط، كالغبار المستطار لا يكنس إلا بعد أن يقع. ولقد رأى المأفون أن أكل الناس الملوخيا الخضراء والفقاع، والترمس والجرجير، والزبيب والعنب, هوى قديم في طباع الناس، فنهى عن كل ذلك، لا يباع ولا يؤكل، وظهر على أن جماعة باعوا أشياء منها فضربهم بالسياط, وأمر فطيف بهم في الأسواق، ثم ضرب أعناقهم؛ كأن الذي يحمل الملوخيا الخضراء على رأسه ليبيعها يلبس عمامة خضراء. أهذا -ويحه- تجديد في الأمة، أم تجديد في المعدة؟ المجلد الثامن: لا يرضى الطاغية إلا أن يمحق روحانية الأمة كلها، فلا يترك شيئا روحانيا له في أعصاب الناس أثر من الوقار، وبمن يستظهر -ويله- إذا محقت رواحانية الأمة وأشرفت نزعتها الدينية على الانحلال؟ كأنه لا يعلم أن حقيقة الوجود لأمة من الأمم إنما تستمد من إيمانها بالمثل الأعلى الذي يدفعها في سلمها إلى الحياة بقوة، كما يدفعها في حربها إلى الموت بقوة؛ وكأنه لا يعلم أن التاريخ كله تقرره في الأرض بضعة مبادئ دينية.

هذا الحاكم الأخرق هو عندي كالذي يقول لنفسه: لم أستطع أن أفتح دولة، فلأفتح دولة في مملكتي, لقد أمر بهدم الكنائس والبيع، حتى بلغ ما هدم منها ثلاثين ألفا ونيفا. أي مجنون أسخف جنونا من هذا الذي يحسب النفوس الإنسانية كالأخشاب؛ تقبل كلها بغير استثناء أن تدق فيها المسامير؟ سيعلم إذا نشبت حرب بينه وبين دولة أخرى، أنه كسر أشد سيوفه مضاء حين كسر الدين! المجلد التاسع: هذه هي الطامة الكبرى؛ فلا أدري كيف أكتب عنها؛ لقد تطاول المجنون إلى الألوهية فادعاها، وصار يكتب عن نفسه: باسم الحاكم الرحمن! ولو كان أغبى الأغبياء في موضعه لاتقى شيئا، لا أقول تقوى الدين والضمير، ولكن تقوى النفاق السياسي، فكان يحمل الناس على أن يقولوا عنه: "أبانا الذي في الأرضين! ". وإلا فأي جهل وخبط، وأي حمق وتهور، أن يكون إله على حمار، وإن كان اسم حماره القمر! المجلد العاشر: سيأخذه الله بامرأة؛ ولكل شيء آفة من جنسه؛ لقد بلغ من وقاحة غريزته أن ائتفك أخته الأميرة "ست الملك"، ورماها بالفاحشة، وهي من أزكى النساء وأفضلهن، واتهمها بالأمير "سيف الدين بن الدواس" وقد علمت أنها تدبر قتله، وأنها اجتمعت لذلك بسيف الدين. فسأمسك عن الكتابة في هذا المجلد، وأدع سائره بياضا حتى أذهب إليهما فأعينهما بما عندي من الرأي، ثم أعود لتدوين ما يقع من بعد. ورأيت أني اجتمعت بهما واطمأنا إلي، فأخذنا ندير الرأي: قالت الأميرة لسيف الدين فيما قالته: "والرأي عندي أن تتبعه غلمانًا يقتلونه إذا خرج في غد إلى جبل المقطم، فإنه ينفرد بنفسه هناك! ". فقلت أنا: "ليس هذا بالرأي ولا بالتدبير".

قالت: "فما الرأي والتدبير عندك؟ ". قلت: "إن لنا علما يسمونه "علم النفس"، لم يقع لعلمائكم، وقد صح عندي من هذا العلم أن الرجل طائش الغريزة مجنونها، وأن الأشعة اللطيفة الساحرة التي تنبث من جسم المرأة هي التي تنفجر في مخه مرة بعد مرة؛ فإذا خبت هذه الأشعة، وبطلت الغريزة، بطلت دواعي أعماله الخبيثة كلها، وكف عن محاولته أن يجعل الأمة مملوءة من غرائز جسمه وشهواته، لا من فضائلها ودينها. فلو أخذتم برأيي وأمضيتموه فإنه سينكر أعماله إذا عرضها على نفسه الجديدة، وبهذا يصلح ما أفسد، وتكون حياته قد نطقت بكلمتها الصحيحة كما نطقت بكلمتها الفاسدة، فإذا ... ". قال الأمير: "فإذا ماذا؟ ". قلت: "فإذا خصي ... ". فضحكت ست الملك ضحكة رنت رنينًا. قلت: "نعم إذا خصي هذا الحاكم". فغلبها الضحك أشد من الأول، ورمتني بمنديل لطيف كان في يدها أصاب وجهي، فانتبهت وأنا أقول: "نعم إذا خصي هذا الحاكم ... ".

كفر الذبابة *: قال كليلة1 وهو يعظ دمنة ويحذره ويقضي حق الله فيه؛ وكان دمنة قد داخله الغرور وزهاه النصر، وظهر منه الجفاء والغلظة، ولقي الثعالب من زيغه وإلحاده عنتا شديدًا. ... وعلم يا دمنة أن ما زعمته من رأيك تام لا يعتريه النقص، هو بعينه الناقص الذي لم يتم؛ والغرور الذي تثبت به أن رأيك صحيح دون الآراء، لعله هو الذي يثبت أن غير رأيك في الآراء هو الصحيح. ولو كان الأمر على ما يتخيل كل ذي خيال، لصدق كل إنسان فيما يزعم، ولو صدق كل إنسان فيما يزعم، لكذب كل إنسان، وإنما يدفع الله الناس بعضهم ببعض، ليجيء حق الجميع من الجميع، ويبقى الصغير من الخطأ صغيرًا فلا يكبر, ويثبت الكبير من الصواب على موضعه لا ينتقص، ويصح الصحيح ما دامت الشهادة له، ويفسد الفاسد ما دامت الشهادة عليه، وما مثل هذا إلا مثل الأرنب والعلماء. قال دمنة: وكيف كان ذلك؟ قال: زعموا أن أرنبا سمعت العلماء يتكلمون في مصير هذه الدنيا، ومتى يتأذن الله بانقراضها، وكيف تكون القارعة؛ فقالوا: إن في النجوم نجومًا مذنبة، لو ألتف ذنب أحدها على جرم أرضنا هذه لطارت هواء كأنها نفخة النافخ، بل أضعف منها كأنها زفرة صدر مريض، بل أوهى كأنها نفثة من شفتين. فقالت الأرنب: ما أجهلكم أيها العلماء! قد والله خرفتم وتكذبتم واستحمقتم؛ ولا تزال الأرض بخير مع ذوات الأذناب؛ والدليل على جهلكم هو هذا؛ قالوا: وأرتهم ذنبها ... !

_ * انظر "عود على بدء" من كتاب" حياة الرافعي". 1 كليلة ودمنة هنا أسلوب من أساليب الرافعي، يعمد إليه حين يريد تقرير المعاني بالتمثيل والمحاورة. وانظر مقالة "فلسفة الطائشة" في الجزء الأول.

قال كليلة: وكم من مغرور ينزل نفسه من الأنبياء منزلة هذه الأرنب من أولئك العلماء؛ فيقول: كذبوا وصدقت أنا، وأخطئوا حميعًا وأصبت، والتبس عليهم وانكشف لي، وهم زعموا وأنا المستيقن. ثم لا دليل له إلا مثل دليل الأرنب الخرقاء من هنة تتحرك في ذنبها. وكان يقال: إنه لا يجاهر بالكفر في قوم إلا رجل هان عليهم فلم يعبئوا به، فهو الأذل المستضعف، أو رجل هانوا عليه فلم يعبأ بهم، فهو الأعز الطاغية، ذاك لا يخشونه فيدعونه لنفسه وعليه شهادة حمقه، وهذا يخشونه فيتركون معارضته وعليه شهادة ظلمه، وما شر من هذا إلا هذا. وقالت العلماء: إن كنت حاكمًا تشنق من يخالفك في الرأي، فليس في رأسك إلا عقل اسمه الحبل؛ وإن كنت تقتل من ينكر عليك الخطأ، فليس لك إلا عقل اسمه الحديد؛ وإن كنت تحبس من يعارضك بالنظر، ففيك عقل اسمه الجدار؛ أما إن كنت تناظر وتجادل، وتقنع وتقتنع، وتدعو الناس على بصيرة ولا تأخذهم بالعمى ففيك العقل الذي اسمه العقل. قال كليلة: وأنا يا دمنة، فلو كنت قائدًا مطاعًا، وأميرًا متبعًا، لا يعصى لي أمر، ولا يرد علي رأي، ولا ينكر مني ما ينكر من المخلوق إذا أخطأ، ولا يُقال لي دائمًا إلا إحدى الكلمتين: أصبت, ثم هي دائما أصبت؛ ولا يلقاني أحد من قومي بالكلمة الأخرى، رهبة من سخطي، رهبة الجبناء، أو رغبة في رضاي رغبة المنافقين، وزعموا أنهم على ذلك قد صحت نياتهم وخلص لي باطنهم جميعًا, فلو كنت وكانوا على هذا، لأحالني نقصهم إلى نقص العقل بعد كماله، وردتني فسولتهم إلى فسولة الرأي بعد جودته، فأخلق بي أن أعتبر وضعهم إياي في موضع الآلهة، هو إنزالهم إياي في منزلة الشياطين؛ وإلا كنت حقيقا أن يصيبني ما أصاب العنز التي زعموا لها أنها أنثى الفيل. قال دمنة: وكيف كان ذلك؟ قال: زعموا أنه كان في إحدى خرائب الهند جماعة من العظماء، وكان فيها عضرفوط كبير1، فملكته الجماعة وذهبت تأتمر على أمره وتنتهي. فمر بهذه الخربة.

_ 1 العظاء: جمع عظاءة وعظاية، وهي هذه الدويبة التي يقال لها "السحلية"، والعضرفوط ضرب من العظاء يكون أكبر منها.

فيل جسيم من الفيلة الهندية العظيمة، لم يحس بالعظاء، ولم يميز فرقا بين هذه الأمة من الحشرات وبين الحصى منثورا يلتمع في الأرض هنا وهنا؛ قالوا فغضب العضرفوط"، وكان قائدا عظيما، ثم تدبر أمر الفيل ينظر كيف يصنع في مدافعته، وكيف يحتال في هلاكه، فرآه لا يتحرك إلا بأقدامه ينقلها واحدة واحدة؛ فقدر عند نفسه أنه لو أزال قدم الفيل عن الأرض زال الفيل نفسه؛ فجاء فاعترض الطريق، ودب دبيبه؛ فلما رفع الفيل قدمه اهتبل هذه الغفلة منه. واندس تحتها، فاندس مقبورا في التراب! ثم إن العظاء افتقدت أميرها. فلما مضى الفيل لسبيله ورأت ما نزل بها، نفرت إلى أحجارها، واستكنت فيها ترتقب وتتربص، فدخلت إلى الخربة عنز جعلت تتقمم منها وترتع فيها، ورأتها العظاء فاجتمعن يأتمرن ... فقال منها قائل: هذه أنثى الفيل. فسألت عظاية منهن: وأين النابان العظيمان؟ قالت الأولى: إن الإناث دون الذكورة في خلقها، الأنثى هي الذكر مقلوبا أو مختصرا أو مشوهًا، ولذلك هن يقلبن الحياة أو يختصرنها أو يشوهنها، أفلا ترين النابين العظيمين البارزين في ذلك الفيل الجسيم، كيف نبتا صغيرين منقلبين فوق رأس أنثاه؟ فقالت واحدة: إن جاز قولك في الرأي فأين الخرطوم؟ قالت الأخرى: هو هذه الزنمة المتدلية من حلقها، وذلك خرطوم على قدر أنوثة الأنثى ... ! قالوا: ثم اجتمع رأيهن على أن يملكن أنثى الفيل هذه؛ وأن يهبن لها الخربة وأمتها. وسمعت الماعزة كلامهن فقالت في نفسها: لا جرم أن تكون العنز فيلة في أمة من العظاء، فقد قالت العلماء: إنه لا كبير إلا بصغير، ولا قوي إلا بضعيف، ولا طاغية إلا بذليل؛ وإن العظمة إن هي إلا شهادة الحقارة على نفسها، وإنه رب عظيم طاغية متجبر ما قام في الناس إلا كما تقوم الحيلة، ولا عاش إلا كما يعيش الكذب، ولا حكم إلا كما يحكم الخداع، وهذه الدنيا للمحظوظ كأنها دنيا له وحده، فمتى جاءت إليه فقد جاءت، ولو أنها أدبرت عنه من ناحية لرجعت من ناحية أخرى، ليثبت الحظ أنه الحظ. وتقدم العظاء إلى العنز، فقلن لها: أيتها الفيلة العظيمة، إن قرينك العظيم قد مس أميرنا العضرفوط بقدمه فيغبه تحت سبع أرضين، وأنت أنثاه وسيدته، فقد اخترناك ملكة علينا، ووهبنا لك الخربة وما فيها.

قالت العنز: فإني أتهب منكن هذه الهبة، ونعما صنعتن؛ غير أن بينكن وبيني ما بين العظاية والفيل. وما بين الحصاة والجبل، فإذا أنا قلت، فأنا قلت؛ وإذا أنا أمرت، فأنا أمرت؛ وإذا أنا فعلت، فأنا فعلت. هنا في هذه الأمة كلها "أنا" واحدة ليس معها غيرها؛ لأن ههنا في هذه الرأس دماغ فيلة، وفي هذا الجسم قوة فيلة، وفي الخربة كلها فيلة واحدة؛ فلا أعرفن منكن على الصواب والخطأ إلا الطاعة طاعة الأعمى للبصير. ألا وإن أول الحقائق أنني فيلة وأنكن عظاء؛ ومتى بدأ اليقين من هنا سقط الخلاف من بيننا وبطل الاعتراض منكن، وقوتي حق لأنها قوة, وباطلي كذلك حق لأنه من قوتي؛ وقد قال أسلافنا حكماء الفيلة: إن القوي بين الضعفاء مشيئة مطلقة، فهو مصلح حتى بالإفساد، حكيم حتى بالحماقة، إمام حتى بالخرافة، عالم حتى بالجهالة نبي حتى بالشعوذة ... ! قالوا: وتنكر عليها عظاية صالحة عالمة كانت ذات رأي ودين في قومها، وكن يسمينها: "العمامة"، لبياضها وصلاحها وطهارتها، فقالت: ولا كل هذا أيتها الفيلة، لقد تخرصت غير الحق؛ فإنك تحكمينا من أجلنا لا من أجلك، وما قولك إلا كلمات تحققها أعمالنا نحن؛ فلك الطاعة فيما يصلحنا، وما كان من غيره فهو رد عليك، ورأيك شيء ينبغي أن تكون معه آراؤنا، لتتبين الأسباب أسباب الموافقة والمخالفة، فنأخذ عن بينة ونترك عن بينة؛ وقد كان يقال في قديم الحكمة: إنه يجب على من يقدم رأيا للأمة الحازمة كي تأخذ به، أو يضع لها شرعا ليحملها عليه، أو يسن لها سنة لتتبعها إنه يجب على هذا المتقدم لتحويل الأمة أو تحريرها أن يتقدم لأهل الشورى وفي رأسه الرأي، وفي عنقه حبل؛ ثم يتكلم برأيه ويبسطه ويدفع عنه، ويجادلهم ويجادلونه؛ فإن كان الرأي حقا أخذوا الرأي، وإن كان باطلا أخذوا الحبل فشنقوا فيه هذا المتهور. وفي ديننا أن الطاعة في المعصية معصية أخرى؛ ولقد كان لنا عضرفوط بحاثة في الأديان دراسة لكتبها علامة نقاب؛ فكان مما علمنا: أن المخلوق مبني على النقص إذا هو ماض إلى الفناء، فيجب ألا يتم منه شيء إلا بمقدار، وألا تكون القوة فيه إلا بمقدار؛ ولهذا كان العقل التام في الأرض وهو مجموع العقول العظيمة كلها، وكان أتم الآراء وأصحها ما أثبتت الآراء نفسها أنه أصحها وأتمها. فلا الدين اتبعت أيتها الفيلة، ولا اتبعت فينا العقل، وليس إلا هذا "التفيل" الكاذب. فلما سمعت العنز ذلك تنقشت وغضبت، وقالت: إياكم وهذه الترهات من ألسنتكم، وهذه الأباطيل في عقولكم؛ لا أسمعن منكم كلمة الدين ولا كلمة

الأنبياء والعضافيط ... فذلك وحي غير وحيي أنا؛ وإذا كان غير وحيي أنا فأنا لست فيه، وإذا لم أكن أنا فيه فهو لا يصلح للحكم الذي شرطه أن الدولة ليس فيها إلا أنا واحدة. وذلك إن لم يجعلكم غرباء عني جعلني غريبة عنكم، ما بد من إحدى الغربتين، فهو أول القطيعة، والقطيعة أول الفساد، وما دام في الدين أمر غير أمري، ونهي غير نهيي، وتحليل وتحريم لا يتغيران على مشيئتي, فأنا مجنونة إن رضيت لكم هذا ... ! فضحكت "العمامة" وقالت للماعزة: بل قولي: أنا مجنونة بـ"أنا"؛ أفلا يجوز وأنت خلق من الخلق أن يعتري عقلك شيء مما يعتري القول؟ ولسنا ننكر أنك قوية الرأي في ناحية القوة، حسنة التدبير في ناحية الشجاعة، متجاوزة المقدار في ناحية الحزم والحرص على مصالح الدولة؛ ولكن ألم يقل الحكماء: إن الزيادة المسرفة في جهة من العقل، تأتي من النقص المتحيف لجهة أخرى؛ وإنه رب عقل كان تماما عبقريا في أمور، لأنه ضعيف أبله في غيرها؛ يحسن في تلك ما لا يحسنه أحد، ويحكم منها ما لا يحكمه أحد، ثم يغلط في الأخرى ما لا يغلط أحد فيه؟ قالوا: فجاشت العنز وفارت من الغضب فورة الجبار، وخيل إليها من عمى الغيظ أنها ذهبت بين الأرض والسماء، وأن زنمتها امتد منها خرطوم طويل، وأن قرنيها انبعج منها نابان عظيمان؛ وقالت: ويحكم! خذوا هذه "العمامة" فاشنقوها؛ فإنها كما قالت؛ تقدمت إلينا بالرأي والحبل ... ! وكان في العظاء ضعاف ومهازيل وجبناء، ومأكولون بكل آكل؛ فتشبح1 لهم أن أنثى الفيل هذه ستخلقهم فيلة إن هم أطاعوها؛ فإذا مردوا عليها فإنها من صرامة البأس بحيث تجعل كل ظلف من أظلافها جبلا فوقهم كأنه ظلة فتسوخ بهم الأرض. ثم أنهم انخزلوا وتراجعوا، وأخذت "العمامة" الصالحة فشنقت، وخمد الرأي من بعدها، وانقطع الخلاف والدين والعقل الحر؛ وأقبلت دولة العظاء على العنز تجرر أذيالها. قالوا: واغترت الماعزة وأحست لها وجودًا لم يكن، وعرفت لنفسها وهي ماعزة نابهة شأن الفيل القوي، فلجت في عمايتها وكفرت بجنسها، وقالت: لم يخلقني الله فيلة وخلقت نفسي؛ فأنا لا هو ...

_ 1 أي خيل إليهم وتمثل.

وثبت عندها أنها ليست بعنز وإن أشبهتها كل عنز في الدنيا؛ وذهبت تقلد وتعيش على مذاهب الفيلة بين العظاء، فإذا مشت ارتجت وتخطرت كأنها بناء يتقلقل، وإذا اضطجعت أنذرت الأرض أن تتمسك لا تدكها بجنبها ... ! ومر ذلك الفيل بهذا الخراب مرة أخرى، فلاذت العظاء كلهن بالفيلة.. وتأهبت هذه للقتال، وتحصفت في المبارزة والمناجزة ... "والمعانزة" فنصبت قرنيها، وحركت زنمتها، وطأطأت، وشدت أظلافها في الأرض، وثبتت قوائمها، وصلبت عظامها، ونفشت شعرها، وتشوكت كالقنفذ، وأصرت بكل ذلك إصرارها، وكانت عنزا نطيحة منذ كانت تتبع أمها وتتلوها، فكيف بها وقد تفيلت؟ ثم إنها ثبتت في طريق الفيل ليرى بعينيه هذا الهول الهائل ... فأقبل فمد خرطومه، فنالها به، فلفها فيه، فقبضه، فرفعه، فطوحها، فكأنما ذهبت في السماء ... ! وتهاربت العظاء ولذن بأجحارهن، ثم غدون على رزقهن، فإذا جيفة العنز غير بعيد، فدببن عليها وارتعين فيها، وعلمن أنها كانت ماعزة فيلها جنونها، وأدركن أن الكذب على الحقائق قد جعل الله له حقائق أخرى تقتله، وأن من غلب أمة العظاء على أمرها فليست الأيام والليالي عظاء فيغلبها؛ وأن تغيير المخلوقات، إنما يكون بتحويل باطنا لا بتحويل ظاهرها، وأن الإناء الأحمر يريك الماء محمرا والماء في نفسه لا حمرة فيه، حتى إذا انكسر الإناء ظهر كما هو في نفسه؛ وكل ما يخفي الحق هو كهذا الإناء: لون على الحق لا فيه؛ ثم أيقن أن محاولة إخراج أمة كاملة من نزاعات ماعزة مأفونة، هي كمحاولة استيلاء الفيل من الماعزة ... ! قال كليلة: واعلم يا دمنة أنه لولا أن هذه العنز الحمقاء قد كفرت كفر الذبابة، لما أخذها الله أخذ الذبابة. قال دمنة: وكيف كان ذلك؟ قال: زعموا أنه ذبابة سوداء كانت من حمقى الذبان، قدرت الحماقة عليها أبدية، فلو انقلبت نقطة حبر في دواة لما كتبت بها إلا كلمة سخف. ووقعت هذه الذبابة على وجه امرأة زنجية ضخمة، فجعلت تقابل بين نفسها وبين المرأة، وقالت: إن هذا لمن أدل الدليل على أن العالم فوضى لا نظام فيه، وأنه مرسل كيف يتفق على ما يتفق, عبثا في عبث، ولا ريب أن الأنبياء قد كذبوا الناس,

إذ كيف يستوي في الحكمة خلقي "أنا" وخلق هذه الذبابة الضخمة التي أنا فوقها؟ ثم نظرت ليلة في السماء، فأبصرت نجومها تتلألأ وبينها القمر، فقالت: وهذا دليل آخر على ما تحقق عندي من فوضى العالم، وكذب الأديان، وعبث المصادفات، فما الإيمان بعينه إلا الإلحاد بعينه، ووضع العقل في شيء هو إيجاد الألوهية فيه، وإلا فكيف يستوي في الحكمة وضعي "أنا" في الأرض ورفع هذا الذبان الأبيض ويعسوبه الكبير1 إلى السماء؟ ثم إنها وقعت في دار فلاح، فجعلت تمور فيها ذهابا وجيئة، حتى رجعت بقرة الفلاح من مرعاها، فبهتت الذبابة وجمدت على غرتها من أول النهار إلى آخره, كأنها تزاول عملا؛ فلما أمست قالت: وهذا دليل أكبر الدليل على فوضى الأرزاق في الدنيا، فهاتان ذبابتان قد ثقبتا ثقبين في وجه هذه البقر واكتنتا فيهما تأكلان من شحمها فتعظمان سمنا؛ والناس من جهلهم بالعلم الذبابي يسمونها عينين. وأنا قضيت اليوم كله أخمش وأعض وألسع لأثقب لي ثقبا مثلهما فما انتزعت شعرة؛ فهل يستوي في الحكمة رزقي "أنا" ورزق هاتين الذبابتين في وجه البقرة؟ ثم إنها رأت خنفساء تدب دبيبها في الأرواث والأقذار؛ فنظرت إليها وقالت: هذه لا تصلح دليلا على الكفر؛ فإني "إنا" خير منها؛ "أنا" لي أجنحة وليس لها، "وأنا" خفيفة وهي ثقيلة؛ وما كأنها إلا ذبابة قديمة من ذباب القرون الأولى، ذلك الذي كان بليدا لا يتحرك فلم تجعل له الحركة جناحا2. ثم إنها أصغت فسمعت الخنفساء تقول لأخرى وهي تحاورها: إذا لم يجد المخلوق أنه كما يشتهي فليكفر كما يشتهي؛ يا ويحنا! لم لم نكن جاموسا كهذا الجاموس العظيم، وما بيننا وبينه فرق إلا أنه وجد من ينفخه ولم نجد؟ فقالت الذبابة: إن هذا دليل العقل في هذه العاقلة، ولعمري إنها لا تمشي مثاقلة من أنها بطيئة مرهقة بعجزها، ولكن من أنها وقور مثقلة بأفكارها، وهي الدليل على أني "أنا" السابقة إلى كشف الحقيقة! وجعلت الذبابة لا يسمع من دندنتها إلا، أنا، أنا، أنا، أنا ... من كفر إلى كفر غيره، إلى كفر غيرهما؛ حتى كأن السماوات كلها أصبحت في معركة مع ذبابة.

_ 1 اليعسوب: أمير النحل والذبان ونحوهما، خيل للذبابة أن القمر أمير هذا الذباب الأبيض. 2 إشارة إلى أن الوظيفة تخلق العضو كما زعموا.

ثم جاءت الحقيقة إلى هذا الإلحاد الأحمق تسعى سعيها؛ فبينا الذبابة على وجه حائط، وقد أكلت بعوضة أو بعوضتين، وأعجبتها نفسها، فوقفت تحك ذراعها بذراعها, دنت بطة صغيرة قد انفلقت عنها البيضة أمس، فمدت منقارها فالتقطتها. ولما انطبق المنقار عليها قالت: آمنت أنه لا إله إلا الذي خلق البطة!

يا شباب العرب

يا شباب العرب! *: يقولون: إن في شباب العرب شيخوخة الهمم والعزائم، فالشبان يمتدون في حياة الأمم وهم ينكمشون. وإن اللهو قد خلف بهم حتى ثقلت عليهم حياة الجد، فأهملوا الممكنات فرجعت لهم كالمستحيلات. وإن الهزل قد هون عليهم كل صعبة فاختصروها؛ فإذا هزءوا بالعدو في كلمة فكأنما هزموه في معركة ... وإن الشباب منهم يكون رجلا تامًا، ورجولة جسمه تحتج على طفولة أعماله. ويقولون: إن الأمر العظيم عند شباب العرب ألا يحملوا أبدًا تبعة أمر عظيم. ويزعمون أن هذا الشباب قد تمت الألفة بينه وبين أغلاطه، فحياته حياة هذه الأغلاط فيه. وأنه أبرع مقلد للغرب في الرذائل خاصة؛ وبهذا جعله الغرب كالحيوان محصورًا في طعامه وشرابه، ولذاته. ويزعمون أن الزجاجة من الخمر تعمل في هذا الشرق المسكين عمل جندي أجنبي فاتح ... ويتواصون بأن أول السياسة في استعباد أمم الشرق، أن يترك لهم الاستقلال التام في حرية الرذيلة ... ويقولون: إنه لا بد في الشرق من آلتين للتخريب: قوة أوروبا، ورذائل أوروبا. يا شباب العرب! بمن غيركم يكذب ما يقولون ويزعمون على هذا الشرق المسكين؟ من غير الشباب يضع القوة بإزاء هذا الضعف الذي وصفوه لتكون جوابا عليه؟

_ * أنشأها في إبان ثورة فلسطين لحقها سنة 1936.

من غيركم يجعل النفوس قوانين صارمة، تكون المادة الأولى فيها: قدرنا لأننا أردنا؟ ألا إن المعركة بيننا وبين الاستعمار معركة نفسية، إن لم يقتل فيها الهزل قتل فيها الواجب! والحقائق التي بيننا وبين هذا الاستعمار إنما يكون فيكم أنتم بحثها التحليلي، تكذب أو تصدق. الشباب هو القوة؛ فالشمس لا تملأ النهار في آخره كما تملؤه في أوله. وفي الشباب نوع من الحياة تظهر كلمة الموت عنده كأنها أخت كلمة النوم. وللشباب طبيعة أول إدراكها الثقة بالبقاء، فأول صفاتها الإصرار على العزم. وفي الشباب تصنع كل شجرة من أشجار الحياة أثمارها؛ وبعد ذلك لا تصنع الأشجار كلها وإلا خشبا ... يا شباب العرب! اجعلوا رسالتكم: إما أن يحيا الشرق عزيزًا، وإما أن تموتوا. أنقذوا فضائلنا من رذائل هذه المدينة الأوروبية، تنقذوا استقلالنا بعد ذلك، وتنقذوه بذلك. إن هذا الشرق حين يدعو إليه الغرب؛ "يدعو لمن ضره أقرب من نفعه؛ لبئس المولى ولبئس العشير". لبئس المولى إذا جاء بقوته وقوانينه، ولبئس العشير إذا جاء برذائله وأطماعه. أيها الشرقي! إن الدينار الأجنبي فيه رصاصة مخبوءة، وحقوقنا مقتولة بهذه الدنانير. أيها الشرقي! لا يقول لك الأجنبي إلا ما قال الشيطان: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22] . يا شباب العرب! لم يكن العسير يعسر على أسلافكم الأولين، كأن في يدهم مفاتيح من العناصر يفتحون بها. أتريدون معرفة السر؟ السر أنهم ارتفعوا فوق ضعف المخلوق، فصاروا عملا من أعمال الخالق.

غلبوا على الدنيا لما غلبوا في أنفسهم معنى الفقر، ومعنى الخوف، والمعنى الأرضي. وعلمهم الدين كيف يعيشون باللذات السماوية التي وضعت في كل قلب عظمته وكبرياءه. واخترعهم الإيمان اختراعا نفسيا، علامته المسجلة على كل منهم هذه الكلمة: لا يذل. حين يكون الفقر قلة المال، يفتقر أكثر الناس، وتنخذل القوة الإنسانية، وتهلك المواهب. ولكن حين يكون فقر العمل الطيب، يستطيع كل إنسان أن يغتني، وتنبعث القوة وتعمل كل موهبة. وحين يكون الخوف من نقص هذه الحياة وآلامها، تفسر كلمة الخوف مائة رذيلة غير الخوف. ولكن حين يكون نقص الحياة الآخرة وعذابها، تصبح الكلمة قانون الفضائل أجمع. هكذا اخترع الدين إنسانه الكبير النفس الذي لا يقال فيه: انهزمت نفسه. يا شباب العرب! كانت حكمة العرب التي يعملون عليها: اطلب الموت توهب لك الحياة. والنفس إذا لم تخش الموت كانت غريزة الكفاح أول غرائزها تعمل. وللكفاح غريزة تجعل الحياة كلها نصرا، إذ لا تكون الفكرة معها إلا فكرة مقاتلة. غريزة الكفاح يا شباب، هي التي جعلت الأسد لا يسمن كما تسمن الشاة للذبح. وغذا انكسرت يوما، فالحجر الصلد إذا ترضرضت منه قطعة كانت دليلا يكشف للعين أن جميعه حجر صلد.

يا شباب العرب! إن كلمة "حقي" لا تحيا في السياسة إلا إذا وضع قائلها حياته فيها. فالقوة القوة يا شباب! القوة التي تقتل أول ما تقتل فكرة الترف والتخنث. القوة الفاضلة المتسامية التي تضع للأنصار في كلمة "نعم" معنى نعم. القوة الصارمة النفاذة التي تضع للأعداء في كلمة "لا" معنى لا. يا شباب العرب اجعلوا رسالتكم: إما أن يحيا الشرق عزيزا، وإما أن تموتوا.

لو ... ! : رأيتني جالسا في مسرح هزلي بمدينة إسكندرية، كما يجلس القاضي في جريمة يحمل أهلها بين يديه آثامهم وأعمالهم، ويحمل هو عقله وحكمه. وقد ذهبت لأرى كيف يتساخف أهل هذه الصناعة؛ فكان حكمي أن السخافة عندنا سخيفة جدًا ... رأيتهم هناك ينقدون العيوب بما ينشئ عيوبا جديدة، ويسبحون بأيديهم سباحة ماهرة؛ ولكن على الأرض لا في البحر، وتكاد نظرتهم إلى الحقيقة الهزلية تكون عمى ظاهرا عما هي به حقيقة هزلية؛ ولا غاية لهم من هذا التمثيل إلا الرقاعة والإسفاف والخلط والهذيان، إذا كان هذا هو الأشبه بجمهورهم الذي يحضرهم، وكان هو الأقرب إلى تلك الطباع العامية البليدة التي اعتادت من تكلف الهزل ما جعلها هي في ذات نفسها هزلا يسخر منه. ولا أسخف من تكلف النكتة الباردة قد خلت من المعنى، إلا تكلف الضحك المصنوع يأتي في عقبها كالبرهان على أن في هذه النكتة معنى. فالفن المضحك عند هؤلاء، إنما هو السخف الذي يوافقون به الروح العامية الضئيلة الكاذبة المكذوب عليها، التي يبلغ من بلاهتها أحيانا أن تضحك للنكتة قبل إلقائها، لفرط خفتها ورعونتها، وطول ما تكلفت واعتادت، فما ذلك الفن إلا ما ترى من التخليط في الألفاظ، والتضريب بين المعاني، وإيقاع الغلط في المعقولات، ثم لا ثم بعد هذا، فلا دقة في التأليف، ولا عمق في الفكرة، ولا سياسة في جمع النقائض، ولا نفاذ في أسرار النفس، ولا جد يؤخذ من هزلية الحياة، ولا عظمة تستخرج من صغائرها، ولا فلسفة تعرف من حماقاتها. والفرق بعيد بين ضحك هو صناعة ذهن لتحريك النفس، وشحذ الطبع، وتصوير الحقيقة صورة أخرى، وبين ضحك هو صناعة البلاهة للهو والعبث، والمجانة لا غير.

وكان معي قريب من أذكياء الطلبة المتخصصين للآداب الإنجليزية، فلم نلبث إلا يسيرا حتى جاء ثلاثة من ضباط الأسطول الإنجليزي، فجلسوا بحذائنا صفا تلوح عليهم مخايل الظفر، ولهم وقار البطولة، وفيهم أرواح الحرب، وهم يبدون في ثيابهم البيض المطراة1 كأنهم ثلاثة نسور هبطت من الغمام إلى الأرض، فلأعينها نظرات تدور هنا وهناك تنكر وتعرف. وأعجبني أن أراهم في هذا المكان الهزلي الممتلئ بالضعفاء، كأنهم ثلاث حقائق بين الأغلاط، أو ثلاث أغلاط كبيرة ... وكان أبدع ما أراه على هيئة وجوههم وأسر له، تواضع هذا الاستعداد الحربي وتحوله إلى استعداد للسخرية ... ثم تأملتهم طويلًا؛ فإذا صرامة وشهامة، وسكينة ووداعة، وحسن سمت وحلاوة هيئة في جلسة رزينة متوقرة، لا يشبهها في حس النفس التي تعرف معاني القوة إلا وضع ثلاثة مدافع مصوبة. وجعلت أقلب عيني في الناس الموجودين وملامحهم وهيئاتهم، ثم أرجع البصر إلى هؤلاء الثلاثة، فأرى المصري كالمقتنع بأنه محدود بمدينة أو قرية لا يعرف لنفسه مكانا في غيرهما، فهو من ثم لا يرحل ولا يغامر، ولا تتقاذفه الدنيا؛ وأرى الإنجليزي كالمقتنع بأن كل مكان في العالم ينتظر الإنجليز. وخيل إلي والله أن رجلا من هؤلاء الإنجليز الأقوياء المعتدين بأنفسهم لا يهاجر من بلاده إلا ومعه نفسه واستقلاله، وتاريخه وروح دولته، وطبيعة أرضه؛ فهو مستيقن أن الله لا يرزقه رزقا أي الرزق كان على ما يتفق، بل رزقا إنجليزيا: أي فيه كفايته. ورأيت شيئا عجيبا من الفرق بين طابع السلم على وجوه، وبين طابع الحرب على وجوه أخرى؛ ففي تلك معاني السهولة والملاينة والحرص على مادة الحياة، وفي هذه معاني العزم والمقاومة والحرص على مجد الحياة لا على مادتها. وتبينت أسلوبين من الأساليب الاجتماعية: أحدهما في فرد قد بنى أمره على أن أمة تحمله، فهو يعيش بأضعف ما فيه, والآخر في فرد قد وضع الأمر على أنه هو يحمل أمة فلا يدع في نفسه قوة ضاعفها.

_ 1 أي المكوية؛ والكلمة العربية التي استعملت قديما في معنى "المكوجي" هي: المطري "بتشديد الراء".

وعرفت وجهين من وجوه التربية السياسية: أحدهما بالطنطنة، والتهويل والصراخ، واستعارة ألفاظ غير الواقع للواقع، وتحميل الألفاظ غير ما تحمل؛ والآخر بالهدوء الذي يقهر الحوادث، والصبر الذي يغلب الزمن، والعقيدة التي تفرض أعمالها العظيمة على صاحبها وتجعل أعظم أجره عليها أن يقوم بها. وميزت بين أثرين من آثار الأرض في أهلها: أحدهما في المصري السمح الوادع الألوف الحيي الذي هو كرم الطبيعة، والآخر في الإنجليزي العسر المغامر النفور الملح على الدنيا كأنه تطفل الطبيعة. وألقى ابن العم الذي كان معي سمعه إلى هؤلاء الضباط، وهم من فلاسفة الرأي على ما يظهر من حديثهم، ثم نقل إلي عنهم، فقال كبيرهم: لقد فرغت من بحثي الذي وضعته في فلسفة خمول الشرقيين، وأفضيت منه إلى حقائق عجيبة، أظهرها وأخفاها معا أن أمة من هذه الأمم لا يمكن للأجنبي فيها، ولا تثقل وطأته عليهم، ولا يطول ثواؤه في أرضهم، ولا يحتلها من يطمع فيها، ما لم يكن سادتها وأمراؤها وكبراؤها كأنهم فيها دولة محتلة. وهؤلاء الكبراء هم آفة الشرق؛ فمن أعظم واجباتنا أن نزيد في تعظيمهم، وأن نمد لهم في المال والجاه، ونبسط لهم اليمين والشمال، ونوهمهم أن عظمتهم هكذا ولدت فيهم وهكذا ولدوا بها من أمهاتهم كما ولدوا بأيديهم وأرجلهم. وخاصة عظماء رجال الأديان المفتونين بالدنيا؛ فإننا نصنع بغرور الجميع وسخافاتهم وحرصهم وطمعهم أشياء اجتماعية ذات خطر لا يصنع لنا مثلها إلا الشياطين ومن لنا بالحكم على الشياطين؟ وهذا ما تنبه له "غاندي" ذلك المهزول الهندي الذي تقوم دنياه بأربعة شلنات، ولا يزن أكثر من بضعة أرطال من الجلد والعظم، ولا بطش عنده ولا قوة فيه، وهو مع ذلك جبار سماوي في يده البرق والرعد يرى ويسمع في أرجاء الدنيا. قال ضابط اليمين: وبصناعة الكبرياء هذه الصناعة يكون رجل الشعب من هؤلاء الشرقيين رجل تقليد بالطبيعة، ورجل ذل بالحالة، ورجل خضوع بالجملة؛ فليس في نفسه أنه سيد نفسه ولا سيد غيره، بل أكبر معانيه أن غيره سيد عليه فيكون معه دائما خيال استعباده. وتكلم ضابط اليسار: ولكن المترجم لم يميز أقواله، لأن ثلاث عشرة امرأة كن

يصرخن في الرواية الهزلية بلحن طويل يقلن في أوله: "عاوزين رجالة تدلعنا ... " وكانت الموسيقى تصرخ معهن وتولول كأنها هي أيضا امرأة محرومة ... ثم أرهف المترجم أذنه فقال كبيرهم: إن لهؤلاء الشرقيين ست حواس: الخمس المعروفة، وحاسة الخمول الذي خدعتهم عنه الطبيعة البليدة فسموه الترف والهزل واللهو؛ والأمة الأوروبية التي تحتل بلاد شرقية تجد فيها لصغائر الحياة جيشا أقوى من جيشها؛ فعشرة آلاف جندي بعتادهم وآلاتهم، لا يصنعون شيئلا إلا الاستفزاز والتحدي وإثبات أنهم غاصبون؛ ولكن ما أنت قائل في عشرة آلاف مكان كهذا المسرح براقصاته ومومساته وخموره ورواياته، وبهؤلاء الرجال المخنثين الهزليين الرقعاء الذين هم وحدهم معاهدة سياسية ناجحة بيننا وبين شباب الأمة؟ قال ضابط اليمين: نعم إن فن الاحتلال فن عسكري في الأول، ولكنه فن أخلاقي في الآخر؛ ولهذا يجب تعيين نقطة اتجاه للشباب تكون مضيئة لامعة جذابة مغرية؛ ولكنه في ذات الوقت محرقة أيضا، وهذه هي صناعة إهلاك الشباب بالضوء الجميل، وما على السياسي الحاذق في الشرق إلا أن يحمي الرذيلة، فإن الرذيلة ستعرف له صنيعه وتحميه. فتكلم ضابط اليسار، ولكن صوته ذهب في عشرين صوتا من رجال المسرح ونسائه يصيحون جميعًا: "يا حلوة يا خفافي، يا مجننة الشبان ... ". ولما ألممت بحوار الضباط الثلاثة قلت لصاحبي: استأذن لي عليهم أكلمهم. ففعل وعرفني إليهم، وترجم لهم مقالة "يا شباب العرب" وكان يحملها. فكأنما رماهم منها بالجيش والأسطول. ثم قلت لكبيرهم: لست أنكر أن الإنجليزي لو دخل جهنم لدخلها إنجليزيا. ولا أجحد أن له في الحياة مثل هداية الحيوان، لأنه رجل عملي؛ دليل منفعته أنها منفعته وحسب، ثم لا دليل غير هذا ولا يقبل إلا هذا. فإذا قال الشرقي: حقي، وقال الإنجليزي: منفعتي، بطلت الأدلة كلها، ورأى الشرقي أنه مع الإنجليزي كالذي يحاول أن يقنع الذئب بقانون الفضيلة والرحمة. وقد عرفنا أن في السياسة عجائب، منها ما يشبه أن يلقى إنسان إنسانا فيقول له: يا سيدي العزيز، بكل احترام أرجوا أن تتلقى مني هذه الصفعة ...

وفي السياسة مواعيد عجيبة، منها ما يشبه غرس شجرة للفقراء والمساكين، والتوكيد لهم بالأيمان أنها ستثمر رغفانا مخبوزة, ثم بعد ذلك تطعم فتثمر الرغفان المخبوزة حشوها اللحم والإدام. وفي السياسة محاربة المساجد بالمراقص, ومحاربة الزوجات بالمومسات، ومحاربة العقائد بأساتذة حرية الفكر، ومحاربة فنون القوة بفنون اللذة، ولكن لو فهم الشباب أن أماكن اللهو في كل معانيها ليست إلا غدرا بالوطن في كل معانيه! ولو عرف الشباب أن محاربة اللهو هي أول المعركة السياسة الفاصلة! ولو أدرك الشباب أن أول حق الوطن عليه أن يحمل في نفسه معنى الشعب لا معنى نفسه! ولو رجع الدين الإسلامي كما هو في طبيعته آلة حربية تصنع من الشباب رجال القوة! ولو علم الشباب أن روح هذا الدين ليست: اعتقد ولا تعتقد, ولكن افعل ولا تفعل. ولو أيقن الشباب أن فرائض هذا الدين ليست إلا وسائل علمية لامتلاء النفس بمعاني التقديس! ولو فهم الشباب أن ليس في الكون إلا هذه المعاني تجعل النفس فوق المادة وفوق الخوف وفوق الذل وفوق الموت نفسه! ولو بحث الشباب النفس الإنجليزية القوية ليعرف بالبرهان أنها نصف مسلمة فكيف بها لو كانت مسلمة؟ وكان المترجم ينقل إليهم كلامي، فما بلغت إلى حيث بلغت، حتى شد الضابط على يدي وهزها؛ فنظرت، فإذا أنا قد كنت نائمًا بعد سهرة طويلة في ذلك المسرح، وإذا يد المترجم نفسه هي التي تهزني لأنتبه ...

في محنة فلسطين أيها المسلمون

في محنة فلسطين أيها المسلمون! : نهضت فلسطين تحل العقدة التي عقدت لها بين السيف، والمكر، والذهب. عقدة سياسية خبيثة، فيها لذلك الشعب الحر قتل, وتخريب، وفقر. عقدة الحكم الذي يحكم بثلاثة أساليب: الوعد الكذب، والفناء البطيء، ومطامع اليهود المتوحشة. أيها المسلمون! ليست هذه محنة فلسطين، ولكنها محنة الإسلام، يريدون ألا يثبت شخصيته العزيزة الحرة. كل قرش يدفع الآن لفلسطين، يذهب إلى هناك ليجاهد هو أيضًا. أولئك إخواننا المجاهدون؛ ومعنى ذلك أن أخلاقنا هي حلفاؤهم في هذا الجهاد. أولئك إخواننا المنكوبون؛ ومعنى ذلك أنهم في نكبتهم امتحان لضمائرنا نحن المسلمين جميعا. أولئك أخواننا المضطهدون؛ ومعنى ذلك أن السياسة التي أذلتهم تسألنا نحن: هل عندنا إقرار للذل؟ ماذا تكون نكبة الأخ إلا أن تكون اسما آخر لمروءة سائر إخوته أو مذلتهم؟ أيها المسلمون! كل قرش يدفع لفلسطين، يذهب إلى هناك ليفرض على السياسة احترام الشعور الإسلامي. ابتلوهم باليهود يحملون في دمائهم حقيقتين ثابتتين: من ذل الماضي وتشريد الحاضر.

ويحملون في قلوبهم نقمتين طاغيتين: إحداهما من ذهبهم، والأخرى من رذائلهم. ويخبئون في أدمغتهم فكرتين خبيثتين: أن يكون العرب أقلية، ثم أن يكونوا بعد ذلك خدم اليهود. في أنفسهم الحقد، وفي خيالهم الجنون، وفي عقولهم المكر، وفي أيديهم الذهب الذي أصبح لئيما لأنه في أيديهم. أيها المسلمون! كل قرش يدفع لفلسطين، يذهب إلى هناك ليتكلم كلمة ترد إلى هؤلاء العقل. ابتلوهم باليهود يمرون مرور الدنانير بالربا الفاحش في أيدي الفقراء. كل مائة يهودي على مذهب القوم يجب أن تكون في سنة واحدة مائة وسبعين. حساب خبيث يبدأ بشيء من العقل، ولا ينتهي أبدًا، وفيه شيء من العقل. والسياسة وراء اليهود، واليهوء وراء خيالهم الديني، وخيالهم الديني هو طرد الحقيقة المسلمة. أيها المسلمون! كل قرش يدفع لفلسطين، يذهب إلى هناك ليثبت الحقيقة التي يريدون طردها. يقول اليهود: إنهم شعب مضطهد في جميع بلاد العالم. ويزعمون: أن من حقهم أن يعيشوا أحرارًا في فلسطين، كأنها ليست من جميع بلاد العالم. وقد صنعوا للإنجليز عظيما لا يسبح في البحار، ولكن في الخزائن ... وأراد الإنجليز أن يطمئنوا في فلسطين إلى شعب لم يتعود قط أن يقول: أنا. ولكن لماذا كنستكم كل أمة من أرضها بمكنسة أيها اليهود؟ أجهلتم الإسلام؟ الإسلام قوة كتلك التي توجد الأنياب والمخالب في كل أسد.

قوة تخرج سلاحها بنفسها، لأن مخلوقها عزيز لم يوجد ليؤكل، ولم يخلق ليذل. قوة تجعل الصوت نفسه حين يزمجر، كأنه يعلن الأسدية العزيزة إلى الجهات الأربع. قوة وراءها قلب مشتعل كالبركان، تتحول فيه كل قطرة دم إلى شرارة دم ولئن كانت الحوافر تهيئ مخلوقاتها ليركبها الراكب، إن المخالب والأنياب تهيئ مخلوقاتها لمعنى آخر. لو سئلت ما الإسلام في معناه الاجتماعي؟ لسألت: كم عدد المسلمين؟ فإن قيل: ثلاثمائة مليون. قلت: فالإسلام هو الفكرة التي يجب أن يكون لها ثلاثمائة مليون قوة. أيجوع إخوانكم أيها المسلمون وتشبعون؟ إن هذا الشبع ذنب يعاقب الله عليه. والغني اليوم في الأغنياء الممسكين عن إخوانهم، وهو وصف الأغنياء باللؤم لا بالغنى. كل ما يبذله المسلمون لفلسطين، يدل دلالات كثيرة، أقلها سياسة المقاومة. كان أسلافكم أيها المسلمون يفتحون الممالك. فافتحوا أنتم أيديكم ... كانوا يرمون بأنفسهم في سبيل الله غير مكترثين، فارموا أنتم في سبيل الحق بالدنانير والدراهم. لماذا كانت القبلة في الإسلام إلا لتعتاد الوجوه كلها أن تتحول إلى الجهة الواحدة؟ لماذا ارتفعت المآذن إلا ليعتاد المسلمون رفع الصوت في الحق؟ أيها المسلمون! كونوا هناك. كونوا هناك مع إخوانكم بمعنى من المعاني. لو صام العالم الإسلامي كله يوما واحدًا وبذل نفقات هذا اليوم الواحد لفلسطين لأغناها.

لو صام المسلمون كلهم يوما واحدًا لإعانة فلسطين، لقال النبي مفاخرًا الأنبياء: هذه أمتي! لو صام المسلمون جميعا يومًا واحد لفلسطين، لقال اليهود اليوم ما قاله آباؤهم من قبل: إن فيها قومًا جبارين ... أيها المسلمون! هذا موطن يزيد فيه معنى المال المبذول فيكون شيئا سماويًا. كل قرش يبذله المسلم لفلسطين، يتكلم يوم الحساب يقول: يا رب، أنا إيمان فلان!

قصة الأيدي المتوضئة

قصة الأيدي المتوضئة: قال راوي الخبر: ذهبت إلى المسجد لصلاة الجمعة؛ المسجد يجمع الناس بقلوبهم ليخرج كل إنسان من دنيا ذاته، فلا يفكر أحد أنه أسمى من أحد؛ ولقد يكون إلى جانبك الصانع أو الأجير أو الفقير أو الجاهل، وأنت الرئيس أو العظيم أو الغني أو العالم، فتنظر إليه وإلى نفسك فتحس كأن خواطرك متوضئة متطهرة، وترى كلمة الكبرياء قد فقدت روحها، وكلمة التواضع قد وجدت روحها؛ وتشعر بالنفس المجتمعة قد نصبت الحرب للنفس المنفردة؛ ولو خطر لك شيء بخلاف ذلك رأيت الفقير إلى جانبك توبيخا لك، ونظرت إليه ساكتا وهو يتكلم في قلبك، وشعرت بالله من فوقكما، واستعلنت لك روح المسجد كأنها تهم بطردك منه، وخيل إليك أن الأرض ستلطم وجهك إذا سجدت عليها، وأيقنت من ذات نفسك أن لست هناك في دنياك وليس صاحبك في دنياه، وإنما أنتما هناك في إنسانية ميزانها بيد الله وحده؛ فلا تدري أيكما الذي يخف وأيكما الذي يثقل1. قال: والعجيب أن هذا الذي لا يجهله أحد من أهل الدين، يعرفه بعض علماء الدين على وجه آخر، فتراه في المسجد يمشي مختالا، قد تحلى بحليته، وتكلف لزهوه، فلبس الجبة تسع اثنين، وتطاول كأنه المئذنة، وتصدر كأنه القبلة، وانتفخ كأنه ممتلئ بالفروق بينه وبين الناس، وهو بعد كل هذا لو كشف الله تمويهه لانكشف عن تاجر علم بعض شروطه على الفضيلة أن يأكل بها، فلا يجد دنيا ذاته إلا في المسجد، فهو نوع من كذب العالم الديني على دينه. قال الراوي: وصعد الخطيب المنبر وفي يده سيفه الخشبي يتوكأ عليه؛ فما استقر في الذروة حتى خيل إلي أن الرجل قد دخل في سر هذه الخشبة، فهو يبدو كالمريض تقيمه عصاه، وكالهرم يمسكه ما يتوكأ عليه؛ ونظرت فإذا هو كذب

_ 1 استوفينا الكلام عن فلسفة المسجد في مقالات كثيرة.

صريح على الإسلام والمسلمين، كهيئة سيفه الخشبي في كذبها على السيوف ومعدنها وأعمالها. وتالله ما أدري كيف يستحل عالم من علماء الدين الإسلامي في هذا العصر، أن يخطب المسلمين خطبة جمعتهم وفي يده في هذا السيف علامة الذل والضعة والتراجع والانقلاب والإدبار والهزل والسخرية والفضيحة والإضحاك؛ ومتى كان الإسلام يأمر بنجر السيوف من الخشب ونحتها وتسويتها وإرهاف حدها الذي لا يقطع شيئا، ثم وضعها في أيدي العلماء يعتلون بها ذؤابة كل منبر، لتتعلق بها العيون، وتشهد فيها الرمز والعلامة، وتستوحي منها المعنوية في الدينية التي يجب أن تتجسم لترى؟ أفي سيف من الخشب معنوية غير معنى الهزل والسخافة، وبلاهة العقل وذلة الحياة، ومسخ التاريخ الفاتح المنتصر، والرمز لخضوع الكلمة وصبيانية الإرادة؟ قال: وكان تمام الهزء بهذا السيف الخشبي الذي صنعته وزارة أوقاف المسلمين، أنه في طول صمصامة عمرو بن معد يكرب الزبيدي فارس الجاهلية والإسلام1، فكان إلى صدر الخطيب، ولولا أنه في يده لظهر مقبضه في صدر الرجل كأنه وسام من الخشب ... قال: وكان الخطيب إذا تكلف وتصنع وظهر منه أنه قد حمي وثار ثائره، ارتج وغفل عن يده، فتضطرب فيها قبضة السيف فتلكزه في صدره كأنما تذكره أن في يده خشبة لا تصلح لهذه الحماسة2. قال: وخطب العالم على الناس، وكان سيفه الخشبي يخطب خطبة أخرى: فأما الأولى فهي محفوظة معروفة ولا تنتهي حتى ينتهي أثرها، إذ هي كالقراءة لإقامة الصلاة؛ وكانت في عهد الأول كالدرس لإقامة شأن من شئون الاجتماع والسياسة، فبينها وبين حقيقتها الإسلامية مثل ما بين هذا السيف من الخشب وبين حقيقته الأولى، وأما الخطبة الثانية فقد عقلتها أنا عن تلك الخشبة وكتبتها، وهذه هي عبارتها: ويحكم أيها المسلمون! لو كنت بقية من خشب سفينة نوح التي أنقذ فيها

_ 1 كان طول الصمصامة سبعة أشبار وافية وعرضها شبر. 2 القاعدة الشرعية: أن البلد الذي يفتح بالسيف يخطب فيه بالسيف. ولما ضعف المسلمون السيف منهم وأطاعهم الخشب ... !

الجنس البشري، لما كان لكم أن تضعوني هذا الموضع؛ وما جعلكم الله حيث أنتم إلا بعد أن جعلتموني حيث أنا، تكاد شرارة تذهب بي وبكم معا، لأن في وفيكم المادة الخشبية والمادة المتخشبة. ويحكم! لو أنه كان لخطيبكم شيء من الكلام الناري المضطرم، لما بقيت الخشبة في يده خشبة، وكيف يمتلئ الرجل إيمانًا بإيمانه، وكيف يصعد المنبر ليقول كلمة الدين من الحق الغالب، وكلمة الحياة من الحق الواجب, وهو كما ترونه قد انتهى من الذل إلى أن فقد السيف روحه في يده؟ أيها المسلمون! لن تفلحوا وهذا خطيبكم المتكلم فيكم، إلا إذا أفلحتم وأنا سيفكم المدافع عنكم, أيها المسلمون غيروه وغيروني. قال راوي الخبر: ولما قضيت الصلاة ماج الناس إذ انبعث فيهم جماعة من الشبان يصيحون بهم يستوقفونهم ليخطبوهم؛ ثم قام أحدهم فخطب، فذكر فلسطين وما نزل بها، وتغير أحوال أهلها، ونكبتهم وجهادهم واختلال أمرهم، ثم استنجد واستعان، ودعا الموسر والمخف إلى البذل والتبرع وإقراض الله تعالى؛ وتقدم أصحابه بصناديق مختومة، فطافوا بها على الناس يجمعون فيها القليل والأقل من دراهم هي في هذه الحال دراهم أصحابها وضمائرهم. قال: وكان إلى جانبي رجل قروي من هؤلاء الفلاحين الذين تعرف الخير في وجوههم، والصبر في أجسامهم, والقناعة في نفوسهم، والفضل في سجاياهم؛ إذ امتزجت بهم روح الطبيعة الخصبة فتخرج من أرضهم زروعا ومن أنفسهم زروعا أخرى, فقال لرجل كان معه: إن هذا الخطيب خطيب المسجد قد غشنا وهؤلاء الشبان قد فضحوه؛ فما ينبغي أن تكون خطبة المسلمين إلا في أخص أحوال المسلمين. قال: ونبهني هذا الرجل الساذج إلى معنى دقيق في حكمة هذه المنابر الإسلامية؛ فما يريد الإسلام إلا أن تكون كمحطات الإذاعة، يلتقط كل منبر أخبار الجهات الأخرى ويذيعها في صيغة الخطاب إلى الروح والعقل والقلب، فتكون خطبة الجمعة هي الكلمة الأسبوعية في سياسة الأسبوع أو مسألة الأسبوع، وبهذا لا يجيء الكلام على المنابر إلا حيا بحياة الوقت، فيصبح الخطيب ينتظره الناس في كل جمعة انتظار الشيء الجديد؛ ومن ثم يستطيع المنبر أن يكون بينه وبين الحياة عمل.

قال: وخيل إلي بعد هذا المعنى أن كل خطيب في هذه المساجد ناقص إلى النصف، لأن السياسة تكرهه أن يخلع إسلاميته الواسعة قبل صعوده المنبر، وألا يصعد إلا في إسلاميته الضيقة المحدودة بحدود الوعظ هو مع ذلك نصف وعظ ... فالخطبة في الحقيقة نصف خطبة، أو كأنها أثر خطبة معها أثر سيف ... قال: وأخرج القروي كيسه فعزل منه دراهم وقال: هذه لطعام أتبلغ به ولأوبتي إلى البلد، ثم أفرغ الباقي في صناديق الجماعة؛ واقتديت أنا به فلم أخرج من المسجد حتى وضعت في صناديقهم كل ما معي؛ ولقد حسبت أنه لو بقي لي درهم واحد لمضى يسبني ما دام معي إلى أن يخرج عني. قال الراوي: ثم دخلت إلى ضريح صاحب المسجد أزوره وأقرأ فيه ما تيسر من القرآن، فإذا هناك رجال من علماء المسلمين، اثنان أو ثلاثة "الشك في ثالثهم لأنه حليق اللحية". ثم توافى إليهم آخرون فتموا سبعة؛ ورأيتهم قد خلطوا بأنفسهم صاحب "اللالحية", فعلمت أنه منهم على المذهب الشائع في بعض العصريين من العلماء والقضاة الشرعيين، أحسبهم يحتجون بقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] ؛ وكل امرئ فإنما تبصره مرآته كيف يظهر في أحسن تقويم، أبلحية أم بلا لحية؟ وأدرت عيني في وجوههم، فإذا وقار وسمت ونور لم أر منها شيئا في وجه صاحب "اللالحية"؛ وأنا فما أبصرت قط لحية رجل عالم أو عابد أو فيلسوف أو شاعر أو كاتب أو ذي فن عظيم، إلا ذكرت هذا المعنى الشعري البديع الذي ورد في بعض الأخبار، من أن لله "تعالى" ملائكة يقسمون: والذي زين بني آدم باللحي. وكان من السبعة رجل ترك لحيته عافية على طبيعتها؛ فامتدت وعظمت حتى نشرت حولها جوا روحانيًا من الهيبة تشعر النفس الرقيقة بتياره على بعد، فكان هذا أبلغ رد على ذلك. قال؛ وأنصت الشيوخ جميعًا إلى خطب الشبان، وكانت أصوات هؤلاء جافية صلبة حتى كأنها صخب معركة لا فن خطابة، وعلى قدر ضعف المعنى في كلامهم قوي الصوت؛ فهم يصرخون كما يصرخ المستغيث في صيحات هاربة بين السماء والأرض.

فقال أحد الشيوخ الفضلاء: لا حول ولا قوة إلا بالله! جاء من الخبر: "تعس عبد الدنيا تعس عبد الدرهم". والله ما تعس المسلمون إلا منذ تعبدوا لهذين حرصا وشحا؛ {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] ، ولو تعارفت أموال المسلمين في الحوادث لما أنكرتهم الحوادث. فقال آخر: وفي الحديث: "إن الله يحب إغاثة اللهفان"، ولكن ما بال هؤلاء الشبان لا يوردون في خطبهم أحاديث مع أنها هي كلمات القلوب؟ فلو أنهم شرحوا للعامة هذا الحديث: "إن الله يحب إغاثة اللهفان" لأسرع العامة إلى ما يحبه الله. قال الثالث: ولكن جاءنا الأثر في وصف هذه الأمة: "إنها في أول الزمان يتعلم صغارها من كبارها، فإذا كان آخر الزمان تعلم كبارهم من صغارهم". فنحن في آخر الزمان، وقد سلط الصغار على الكبار يريدون أن ينقلوهم عن طباعهم إلى صبيانية جديدة. قال الراوي: فقلت لصديق معي: قل لهذا الشيخ: ليس معنى الأثر ما فهمت، بل تأويله أن آخر الزمان سيكون لهذه الأمة زمن جهاد واقتحام، وعزيمة ومغلبة على استقلال الحياة؛ فلا يصلح لوقاية الأمة إلا شبابها المتعلم القوي الجريء، كما نرى في أيامنا هذه، فينزلون من الكبار تلك المنزلة؛ إذ تكون الحماسة متممة لقوة العلم. وفي الحديث: "أمتي كالمطر: لا يدري أوله خير أم آخره". قال الراوي: ولم يكد الصديق يحفظ عني هذا الكلام ويهم بتبليغه، حتى وقعت الصيحة في المكان؛ فجاء أحد الخطباء ووقف يفعل ما يفعله الرعد: لا يكرر إلا زمجرة واحدة؛ وكان الشيوخ الأجلاء قد سمعوا كل ما قيل، فأطرقوا يسمعونه مرة رابعة أو خامسة؛ وفرغ الشباب من هديره فتحول إليهم وجلس بين أيديهم متأدبا ومتخشعا ووضع الصندوق المختوم. فقال أحد الشيوخ: لم يخف علينا مكانك، وقد بذلتم ما استطعتم؛ فبارك الله فيك وفي أصحابك. وسكت الشاب، وسكت الشيوخ، وسكت الصندوق أيضا ... ثم تحركت النفس بوحي الحالة؛ فمد أولهم يده إلى جيبه، ثم دسها فيه، ثم عيَّث فيه قليلا1؛ ثم ... ثم أخرج الساعة ينظر فيها.

_ 1 أي بحث بأصابعه.

وانتقلت العدوى إلى الباقين، فأخرج أحدهم منديله يتمخط فيه، وظهرت في يد الثالث سبحة طويلة, وأخرج الرابع سواكا فمر به على أسنانه، وجر الخامس كراسة كانت في قبائه، ومد صاحب اللحية العريضة أصابعه إلى لحيته يخللها؛ أما السابع صاحب "اللالحية"، فثبتت يده في جيبه ولم تخرج، كأن فيها شيئا يستحيي إذا هو أظهره، أو يخشى إذا هو أظهره من تخجيل الجماعة. وسكت الشاب، وسكت الشيوخ، وسكت الصندوق أيضًا ... قال الراوي: ونظرت فإذا وجوههم قد لبست للشاب هيئة المدرس الذي يقرر لتلميذه قاعدة قررها من قبل ألف مرة لألف تلميذ، فخجل الشاب وحمل صندوقه ومضى ... أقول أنا: فلما انتهى الراوي من "قصة الأيدي المتوضئة"، قلت له: لعلك أيها الراوي استيقظت من الحلم قبل أن يملأ الشيوخ الأجلاء هذا الصندوق، وما ختم عقلك هذه الرواية بهذا الفصل إلا بما كددت فيه ذهنك من فلسفة تحول السيف إلى خشبة، ولو قد امتد بك النوم لسمعت أحدهم يقول لسائرهم: بمن ينهض إخواننا المجاهدون وبمن يصولون؟ لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جاهل سخي أحب إلى الله من عالم بخيل". ثم يملئون الصندوق ...

نجوى التمثال

نجوى التمثال 1: أيها المفترش الصخرة يشد ذارعيه أقوى الشد كأنما يريد أن يقتلع الصخرة فيهما، متناهضا بصدره ليدل علة أنه وإن ربض فإن الوثبة في يديه، متمطيا بصلبه ليشير إلى جسمه الهادئ إلى معانيه المفترسة، مقعيا على ذنبه ومتحفزا بسائره كأنه قوة اندفاع تهم أن تنفلت من جاذبية الأرض. وأنت أيتها الهيفاء تمثل الإنسانية المتمدنة في نحافتها وهي كهذه الإنسانية ضاربة بذراعي أسد في غلظ مدفعين ... حكيمة في النظر كأنما تمد في سرائر الأمم نظرة المتأمل، ولكن يدها كيد الحكمة السياسية على تركيب عقلي تحته المخالب ... ساكنة كأنها تمثال السلام على أنها في جوار الأسد كالسلام بين الشعوب؛ تلمح فيه إنسان العالم ووحش العالم ... يا أبا الهول! أأنت جواب عن ذلك اللغز القديم الذي هو كلام لا يتكلم وسكوت لا يسكت. والذي أشار برأس الإنسان على جسم الليث أنه قوة عمياء كالضرورة ولكنها مبصرة كالاختيار. والذي أخرج من فني الغريزة والعقل فنا ثالثًا لا يزال في الأرض ينتظر المرأة التي تلد إنسانًا عظامه من الحجر؟ وأنت يا مصر: أواقفة ثمة للشرح والتفسير، تقولين للمصري: إن أجدادك يسألونك من

_ 1 تمثال نهضة مصر الذي صنعه المثال مختار رمزًا لهذه النهضة، وهو أبو الهول متحفزًا تقف إلى جانبه امرأة.

آلاف السنين بهذا الرمز: ألا معجزة من القوة تمط عضلات الحجر؟ ألا بسطة من العلم تجعلك أيها المصري وكأنك رأس لجسم الطبيعة؟ ألا فن جديد ترفع به أبا الهول في الجو فتزيده على قوة الوحش وذكاء الإنسان خفة الطير؟ أم تقولين للمصري: إن أجدادك يوصونك بهذا الرمز أن تكون كالظهر الأسدي لا يركب مطاه، وكالرأس الإنساني لا تقيد حريته، وكالربضة الجبلية لا تسهل إزاحتها، وكالإبهام المركب من غامضين لا يتيسر به عبث العابث، وكالصراحة المجتمعة من عنصر واحد لا يغلط في حقيقتها أحد؟ أم تقولين يا مصر: إن تفسير أبي الهول الأول أن النهضة المصرية إنما تكون يوم تخرج البلاد من يصنع أبا الهول الثاني؟ تمثال النهضة أم صفحة من الحجر قد صور الشعب فكره عليها، ودون فيها إحساسه بتاريخه، ووصف بها إدراكه حياة المعاني السامية؟ أم هو كتابة فصل من التاريخ بقلم الحياة وعلى طريقة من بلاغتها، خشيت عليه الفناء فدونته في أسلوب من أساليب البقاء الحجري الصلد؟ أم ذاك يوم من أيام الأمة أحاله الفن من زمن إلى مادة؛ ومن معنى إلى حس، ومن خبر إلى منظر، وكانوا يتكلمون عنه فجعله الفن يتكلم عن نفسه؟ أم هو تعبير عن تلك المعاني التي خلقتها نفوس هذا الجيل تخاطب به النفوس الآتية لتتمم عليها، وتضيف فيه إلى المعنى سر المعنى، وتضع الكلمة الإنسانية على لسان الطبيعة تتكلم بالتمثال كما تتكلم بالجيل؟ أم تركيب سياسي إذا فسرته اللغة كان معناه أن الثابت إذا احتاج إلى من يثبته ... فلن يمحوه من ينكره، وأن الظاهر إن احتاج إلى من يدل عليه ... فلن يخفيه من لا يراه؟ بل أراك لا هول فيك يا أبا الهول الجديد. أفذاك من رقة داخلتك ورحمة جاءتك من مس يده المرأة؟ أم الهول اليوم قد أصبح في العقل والعاطفة ومد العين النسائية إلى بعيد؟

أم لا يتم في هذه المدينة رأس رجل وجسم سبع إلا ... إلا بأنامل امرأة؟ ألا من يعلمني أهذه المرأة منك هي تهذيب للإنسان والوحش أم تكملة عليهما؟ ألا من يأتيني بالحكمة فيك من وضع الرجل القوي رأسا ولا جسم، والأسد المفترس جسما ولا رأس، ثم لا يكمل دونهما إلا المرأة وحدها. إنما كنت يا أبا الهول لغز الصمت، فلما أضيفت المرأة إليك أصبحت لغز النطق ... فيا للهول!

فاتح الجو المصري

فاتح الجو المصري 1: يا طير المثل الأعلى! لقد انفلت من رذيلة الخوف وتركتها في التراب موطئ القدم، وقلت لها: ويحك، لقد آن للشباب المصري؛ فهو مغامس في ماء الصواعق2، متطوح في اللجة الأزلية التي تغوص فيها الكواكب3، يطير بروح الشرارة، ويهبط بروح الغيث، ويلجم الجو ويسرجه، ويتعلم كيف يشوي عدوه في عين الشمس. وكنت بطلا مغامرًا فخطوت في طريق الملائكة بهذه الفضيلة وحملك الجو؛ ولو أنك خفت وكنت على جناحي جبريل لا على طيارة، لخاف جبريل على جناحيه من حطمة هذا المعنى الترابي الطاغية الذي يحكم على الأحياء بالموت بلا موت، لأنه الذل والخضوع والرذيلة. وحملك الجو إلى قبة السماء، وهنالك نظر العالم فرأى لمصر الناهضة علمها الإنساني يتنفس تحت الكواكب. وحملك الجو إلينا، فلما رفعنا رؤوسنا لنراك، رفعناها في الوقت بين شعوب الأرض. وضربت يا جناح مصر في الهواء، وأعنان السماء4 مملوءة بالزعزع والهوجاء والعاصف، والسماء في فصلها المكفهر الذي تخلع فيه كل ساعة وتلبس وتمزق5 وتطوي، فزدت بجرأتك في براهين القضية المصرية برهان قوة المخاطرة، وأضفت إلى منطقها وضعا جديدًا مفحما من روح التضحية.

_ 1 كتبت في أول طيار مصري قدم إلى مصر من أوروبا على طيارته، في شهر فبراير سنة 1930، وهو الطيار صدقي وطيارته فائزة، وكان مقدمه يوما مشهودًا. 2 كناية عن السحاب. 3 كناية عن أجواز الفضاء. 4 نواحيها، جمع عنان "بالفتح". 5 كناية عن طبيعة الشتاء، من الغيم والصحو وما بينهما.

وطرت بين حياة وموت فجعلتهما يستويان في اعتقادك؛ إذ وصلت فكرة الموت بسر الإيمان، والحياة بسر العزيمة. وكنت رجل أمتك بإنكار ذات نفسك من أجلها. واتسعت للتاريخ بوضعك عمرك المحدود على الطيارة، وقذفك بها وبه في مسبح الأجل. وتجردت للأدبية لتعطي بلادك: إما شهيد مجد في الآخرة، وإما شهادة فخر في الدنيا. وكنت على طيارتك الصغيرة المتطاردة تحت الريح، وحولك روح الهرم الأكبر القائم بإرادة مصر وكأنه مسمار مدقوق في كرة الأرض بين القطب والقطب. وأنت يا "فائزة" يا هذه الصغيرة الخارجة من مال صاحبها وجهده وعزيمته كما تخرج القوة من ضعف، أعلمت إذ أنت ترتفعين وتهبطين بين السحب كما تتواثب الفراشة على النور في روضة مزهرة، وإذا أنت تفتقين وتحوكين في ملاءة السحاب كأنك بمحركك الدوار تنسجين في السماء بمغزل، وإذ أنت بين صفق الرياح الهوج1، تحت السماء المدججة2، في كبة الشتاء3، كأنك مناظرة تجري بين العزيمة في الإنسان والعزيمة في الطبيعة، وإذ أنت بين ذئاب الأعاصير، ونمور السحاب4 وسباع الغيم ذوات اللبدة الكثيفة المتشعثة، كأنك بصوتك وأزيزك تطلقين على وحوش الجو مدفعًا رشاشًا يتركها صرعى. وإذ تراك الريح فتقول عنك: ريح صنعها الإنسان. ويراك النجم فيقول: نجم أفلت من النظام الأرضي. وتراك الملائكة فتقول: ويحك يابن آدم، كأنك بما خلقه العقل تطمع منا في سجدة أخرى كالتي سجدناها لآدم يوم خلقه الله. أعلمت إذ أنت كذلك يا "فائزة"، أن التاريخ المصري سيحولك من

_ 1 اضطراب الرياح المتقلبة. 2 المتغيمة. 3 كبة الشتاء: شدته ودفعته. 4 يقال: ريح متذئبة؛ إذا كانت تجيء من هنا مرة ومن هنا مرة كما يساور الذئب، فوضعنا من هنا كلمة ذئاب الرياح، والنمر من السحاب: قطع صغار متدان بعضها من بعض، تشبيها بجلد النمر، فوضعنا منها نمور السحاب.

طيارة إلى آية كآية بدء الخلق، لأن فيك بدء الطيران في مصر؟ سلاما يا فاتح الجو المصري، لقد أجالت الأيام قداحها فخرجت القرعة عليك، وأوحى إليك الواجب آية: بسم الله مصعدها ومجراها. وطرت فإذا أنت بها عابر فوق الحاضر لتجيئنا من جانب المستقبل. وهبطت علينا كأنك في بريد السماء كتاب مجد حي للوطنية الظافرة. بل كتاب قصة رائعة ألفتها العواصف من فنين: ثورة الجو وثورة نفسك المصرية. وحكتها في صوتين: زفيف الطيارة وصرخة ضميرك الوطني. وجعلتها فصلين: أنت والمجهول. ألا حسبك مجدًا أن يحيا الشعب كله بضعة أيام في قصتك! فعلى مهد الجو، وفي حرير الشعاع، وتحت كلة السحاب ولد لمصر يوم تاريخي. وخرجت التهانئ التي طال احتباسها في القلوب المصرية لا يفرج عنها لأن سجانها ظلم السياسة. واتجهت أفراح شعب كامل إلى الفتى الجريء الذي رمت به همته فوق هاوية الموت فتخطاها. وتلقى شعور الأمة رسوله المقدام الذي لم يكن له ملجأ في خطاره إلا شعوره بهذه الأمة. وارتج الوادي كله كأنه غمد يتقلقل حين يسل منه السيف. ثم أهديت كلمة مصر لابنها الذي كتب في جوها الكلمة السماوية الأولى. وكانت ساعة تلاشى عندها الزمن فارتفعت منه أربعة آلاف سنة وهتف معنا الفراعنة: بوركت يا "صدقي". لله درك أيما ابن عزيمة! كأنما كشفت أهاويل الوحي وهبطت في سحابة مجلجلة إن لم تحمل كتابا منزلا فكأنما حملت شخصا منزلا. ولعلك رسول الغيم العابس لهذا الجو المصري الذي يضحك دائما ضحكة الفيلسوف الساخر في حين أصبحت الحياة قوة لا فلسفة ...

ولعلك مبعوث البرق والرعد لهذا السكون النائم الذي يطوي كل يوم في طي النسيان ما حدث في اليوم الذي قبله ... ولعلك نبي الجدية والمرارة لهذه الحلاوة النيلية المفرطة التي كاد منها الشعب أن يكون سكر أخلاق يذاب ويشرب ... ولعلك تفسير مصحح لعقيدتنا المغلوطة في القضاء والقدر، أن القضاء أن تقدم بلا خوف، وأن القدر أن تثق بلا مبالاة. أما -والله- لقد غمرت الشعب بموجة هواء جديدة جئت بها في جناحيك، ونفخت روح طيارتك المجيدة في القلوب فجعلتها كلها ترفرف كأن لك في ضلوع كل مصري طيارة.

أجنحة المدافع المصرية

أجنحة المدافع المصرية 1: استجنحي2 يا مدافع مصر وطيري، إن المجد يطلب منا إنسانه البرقي. لقد مدت لغة القوة في هذا العصر مدها حتى أصبح الطيران بعض معاني المشي، ولم يعد العالم يدري كيف تكون الصورة الأخيرة التي يستقر فيها معنى إنسانه. فلتتمجد مصر بإنسانها البرقي الذي تخرج النار بيده من أعراض السحاب، وتفرقع في أصابعه هزات الرعد، ويجعل في قبة السماء صلصلة وجلجلة، ويحمل الاسم المصري إلى معلق النجم، فيضع له هناك التعريف الناري الذي وضعته الدول العظمى لأسمائها. ولتتمجد مصر بإنسانها البرقي الذي يشعرها حقيقة العلو العالي، والعمق العميق، والسعة التي لا تحد؛ ويزيد في معاني أحيائنا معنى جديدا لأحياء السحب، وفي معاني أمواتنا معنى جديدًا لموتى الكواكب. إنسان برقي يتمم بشجاعته في السماء بطولة فلاحنا الإنسان الشمسي في الأرض، ويعلو بكبرياء مصر في ذروة العالم، فتظهر طياراتها العظيمة قدرة في الجو كما ظهرت آثارها العظيمة قدرة في الثرى. إنها مصر، مصر القادرة التي سحرت القدم بقوتها وفنها، فبقي فيها على حاله وجلالته، وانهزم الدهر عنه كأنه قوة على قوة الزمن نفسها. فاستجنحي يا مدافع مصر وطيري. إن المجد يطلب منا إنسانه البرقي. ولما فتح السجل ذات صباح لتكتب مصر أسماء الفوج الأول من نسورها الحربيين، صاح مجدها الخالد من أعماق التاريخ:

_ 1 كتبت في احتراق أول طيارة حربية مصرية في قدومها إلى مصر من أوروبا، وقد احترق فيها الشهيدان: "حجاج ودوس"، وذلك في شهر ديسمبر سنة 1933. 2 أي اتخذي الأجنحة، ولم تأت الكلمة في اللغة بهذا المعنى، ولكنا استعملناها فيه قياسًا على كلامهم.

"أضرمي الشعلة الآدمية الأولى يا مصر، وافتحي القبر الجوي الأول، وألحدي فيه من عنصريك المسلمين والأقباط، وضعي الحياة في أساس الحياة، واستقبلي عصرك الجديد بأذان المسجد ودق الناقوس ليباركه الله، وليتلق الشعب أول طياريه بقلوب فيها روح المعركة، وأكباد عرفت مس النار؛ ولا ينظرن إلى طياراته الأول إلا بعد أن ينظر النعشين فيرى مجد الموت في سبيل الوطن، فتسطع نظراته ببريق الكبرياء، ولمعة العزيمة، وشعاع الإيمان؛ ويتألق فيها النور السماوي الذي يجعل الناس في بعض ساعاتهم وكواكب نور صلاة الشعب على موتاه الشهداء". واستجاب القدر لصوت المجد، فالتج الظلام في وضح الصبح، وانطفأ سراج النهار في قبة الفلك، وأطبقت نواحي الجو إطباق ليلة تساقطت أركانها وأقبل الضباب يعترض اعتراض جبل عائم يتذبذب في بحر، واستأرض السحاب فتخلى عن طبيعته السماوية الرقيقة، وتذامرت العناصر على القتال يحض بعضها بعضا، وتغشت السماء بوجه الموت: كلح فاربد وانتفخ، وتكسرت فيه الغضون كل غضن كسفة ظلام، وعاد أوسع شيء أضيق شيء، فكان الفضاء كصدر المحتضر؛ ليس معه إلا عمر ساعة وأنفاسها. وابتدرت إلى مجد الموت الطيارة المصرية الأولى؛ وكان فيها إنكليزيان يقودانها فأباها الموت، فذهبت فانتحرت أسفا وتردت متحطمة، وانسل الرجلان من مخالب الردى، وكانا في الطيارة كورقتين من النبت في فم جرادة همت تقضمهما ... وتستبق الثانية فإذا فيها وديعة الكرم من عنصري مصر: "حجاج ودوس"1 وكان سرا من أسرار مصر اجتماعهما في مداحض الغمام ومزالقه، ليكونا هدية مصر الأولى إلى مجدها الحربي، ثم ليكونا هدية المجد إلى إحساس هذا الشعب يحس منهما العالم المنطوي له في مستقبل النصر. واعتسفت طيارة الشهيدين طريق الفناء ومتاهة الحياة، فذهبت عنها معارف الأرض، وعميت عليها معالم السماء، وخرجت من تصريف أيدي البطلين إلى تصريف أجلهما، وأصبحت كأنها تطير في الأنفاس الباقية لهما؛ فما تتقدم ولا تتأخر؛ ولم تكن طيارة تحملهما، بل جناحا ممدودًا من رحمة الله.

_ 1 هما فؤاد حجاج، وشهدي دوس؛ وكان في الطيارة الأخرى التي تحطمت المستر بليت، والمستر سميث.

ثم اجترها الموت إلى غور، فانحطت من الهواء جانحة كالطائر يطلب ملجأ في العاصفة، ثم انتهضت واثبة، وتمطرت منقلبة، فاشتعلت فاستعرت فأنضجت راكبيها، رحمهما الله! وكثيرًا ما يكون منظر الحزن في الحياة هو انهماك الحياة في عمل جديد تبدع منه السرور والقوة. احتراق البطلان لتتسلم مصر في نعشيهما رمادًا لن يبني تاريخ العزة الوطنية إلا به. فاستجنحي يا مدافع مصر وطيري. إن المجد يطلب منا إنسانه البرقي. صنعت النار الآدمية الحقيقة، ووضعت لنا الاسم البديع الذي نطلقه على طيارينا الأبطال، فلا تسموهم نسور الجو، ولكن سموهم "جمرات الجو". صنعت نارنا الحقيقة، وأوحت إلينا أن نستبدل من أنفسنا حالة بحالة، وأن نفاجئ شعورنا الحالم فنصدمه بالآلام اليقظة المرة، وأن نغير قاعدة الحياة في التربية المصرية فلا تكون: العيش العيش، ولكن القوة القوة. صنعت النار الحقيقة، وأثبتت لنا أن الحياة إن هي إلا أداة للحي، وليس الحي أداة للحياة، فليتصرف بها على قوانين الروح وآمالها فيسمو تسمو، ولا يدعها تتصرف على مذاهب أقدار المادة وتصاريفها فيذلها وتذله. وفي قانون الروح: لا قمية لعالم الأشياء إلا كما تصلح لنا؛ وفي قانون المادة وضغطة الحياة: كما تصلح لنا وكما نصلح لها ... بلى، قد صنعت النار الآدمية الحقيقة، وأعطتنا قصة الحرية كاملة في معنى واحدة: وهو أن هذه الحرية لعاشقيها كأجمل الجميلات للمتنافسين عليها: جمالها متوحش، وخلاعتها مفترسة، وظرفها سفاك للدم. فاستجنحي يا مدافع مصر وطيري. إن المجد يطلب منا إنسانه البرقي. وإلى السماء يا "جمرات الجو"، فإذا استويتم على السحاب، فليست الطيارة ثم طيارة، بل حقيقة حية عاملة للمجد، فلتحمل معناها المصري من بطلها المصري. وإذا سبحتم في مهبط القدر، فليس الطيار ثم طيارًا، بل حياة عبقرية أرسلتها مصر تستنزل للحياة أقدارًا سعيدة.

وإذا خضتم في المعرك الضنك تتبعثر فيه الآجال على الرياح، فليس الجسم المصري هناك من لحم ودم، بل ناموسا طبيعيا ماضيا إلى غاية. وإذا تقاذفتم في بحر الشمس، فأنتم هناك على شباك طرحتموها لصيد أيام مضيئة تلتمع في تاريخ مصر. وإذا نفذتم من أقطار السماوات، فانظروها بأعينكم معالي مصر، وافهموها بقلوبكم ذاتية الوطن المصري تعلو وتعلو ولا تزال أبدًا تعلو. إنما الطيارة وسلاحها وطيارها تأليف من الإنسانية والعناصر، معناه في العزيمة "لا بد". ومتى هدرت الطيارة هديرها فإنما تقول للبطل منكم: هلم من عال إلى أعلى، إلى أكثر علوا، إلى أقصى حدود الواجب على النفس حين يأخذ الواجب الكل وحين تعطي النفس الكل. فاستجنحي يا مدافع مصر وطيري. إن المجد يطلب منا إنسانه البرقي.

الطماطم السياسي

أحاديث الباشا الطماطم السياسي: كان "م" باشا* رحمه الله داهية من دهاة السياسة المصرية، يلتوي مرة في يدها التواء الحبل، ويستوي في يدها مرة استواء السيف, ولا يرى أبدًا إلا منكمشا متحرزا كأن له عدوا لا يدري أين هو ولا متى يقتحم عليه، ولكنه كغيره من الرؤساء الذين كانوا آلات للكذب بين طالب الحق وغاصب الحق, يعرف أن عدوه كامن في أعماله. وكان ذكيا أريبا، غير أن ملابسته للسياسة الدائرة على محورها، جعلت نصف ذكائه من الذكاء ونصفه من المكر؛ فكان في مراوغته كأن له ثلاثة عقول: أحدها مصري, والآخر إنجليزي، والثالث خارج من الحالين. وبهذا تقدم وعاش أثيرًا عند الرؤساء من الإنجليز، واستمرت مجاريه مطردة لديهم حتى بلغوا به إلى الوزارة، إذ كان حسن الفهم عنهم، سريع الاستجابة إليهم؛ يفهم معنى ألفاظهم، ومعنى النية التي تكون وراء ألفاظهم، ومعنى آخر يتبرع هو به لألفاظهم ... فكان هو وأمثاله في رأي تلك السياسة القديمة، رجالا كالأفكار: يوضع أحدهم في مكانه من الحكم كما توضع صيغة الشك لإفساد اليقين، أو صيغة الوهم لتوليد الخيال، أو صيغة الهوى لإيجاد الفتنة. وكان صديقي "فلان" -رحمه الله- صاحب سره "السكرتير"، وقد وثق به الباشا حتى أنه كان يعالنه بما في نفسه، ويبثه همومه وأحزانه، ويرى فيه دنيا حرة يخرج إليها كلما ضاقت به دنيا وظيفته، ويستعير منه اليقين أحيانا بأنه لا يزال مصريا لم يتم بعد تحويله في الكرسي ...

_ * انظر "عود على بدء" من كتاب "حياة الرافعي".

فحدثني الصديق بعد موت هذا الباشا قال: إنه دعاه يوما ليفاتحه الرأي في أمر من أموره، ثم قال له: إن الرئيس الإنجليزي غير مطمئن إليك لأن حقيقة من الحقائق الصريحة ظاهرة على وجهك، فأنت تنظر إليه وكأنك تقول له بعينيك: إنك مصري مستقل. قال صاحب السر: لئن كان ذلك ما يغضبه إن الخطب لهين، فلست أنظر إليه بعد اليوم إلا من وراء نظارة سوداء ... فضحك الباشا وقال: يا بني، هذا الإنجليزي عندنا كالشيطان: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] ، ووالله يا بني إني لأشد أنفة منك، وإن صدري لشجي مما أنا فيه من هذا الكرب، ولكننا -نحن الشرقيين- قد ضعنا منذ فقدنا الشخصية الاجتماعية. أتراك تفهم شيئا لو قلت لك: رجل، أسد، جبل، مدينة، أسطول؟ إن تركيبنا الاجتماعي شيء كهذا الكلام: فيه من ضخامة اللفظ بقدر ما فيه من انحلال المعنى واضمحلاله. ولكل كلمة إذ أفردت معنى صحيح يقوم بها وتقوم به، غير أنه يتحول في الجملة إلى معنى كلا معنى. أصبح الشرقي يعيش في أمته على قاعدة أنه منفرد لا صلة بينه وبين الأطراف لا في الزمان ولا في المكان، ونسي معنى الحديث الشريف: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا". فماذا كان يريد أعظم المصلحين الاجتماعيين من قوله: "كأنك تعيش أبدًا"؟ إلا أن يقرر لأمته أن الفرد ينبوع الأجيال المقبلة كلها، فليعمل لها ولنفسه كأنها موقوفة عليه وكأنه مستمر فيها. هذه حكمة إسلامية دقيقة، عندنا نحن لفظها ولسنا نعرف معناها، وعند الإنجليز معناها ولا يعرفون لفظها، أهم المسلمون أم نحن؟ وعلى قاعدة الانفراد انفراد كل شيء؛ فآثر الشرقي حياته على وطنه، وقدم لذته على واجبه، وتعامل بالمال في مواضع المعاملة بالأخلاق؛ وكان طبيعيا مع هذا أن يختصر الدين اختصارًا يجعله مقدارا بين مقدارين، فلا هو دين ولا هو غير دين؛ وبذلك يناسب فرديته ويقعد تحت حكمه وهو خارج عليه؛ فترى الرجل من هذه الملايين يؤمن بالله وهو يحلف به كذبا على درهم، ويصلي ويفجر في يوم واحد، ويتعبد في نفسه ويخون سواه في وقت معا. ومتى كانت الحالة النفسية للأمة هي هذه الفردية ومصالحها ودواعيها،

كان الكذب أظهر خلال هذه الأمة، إذ هو انفراد الكاذب بحظه ومصلحته وداعيته؛ ولا يكذب عليك إلا من يرجو أن تكون مغفلا، أو من قدر في نفسه أن المعاملة العامة في الأمة هي على قاعدة المغفلين ... ويكذبون في هذا أيضا فيسمونه حذاقا وبراعة "وشطارة". وإذا عم الكذب فشا منه الهزل؛ فكل كاذب هازل، وهل يجد الكاذب وهو يكذب إلا إذا كان مجنونًا؟ ومن الهزل ضرب هو المباسطة بالكذب، ومنه ضرب من كذب الحقائق، ومنه من كذب الخيال، وكيفما درات الحال لا تجده إلا كذبًا. ومتى صار الكذب أصلا يعمل عليه، تقرر عند الناس أن الكلام أنما يقال ليقال فقط. أفلست ترى الرجلين إذا أخبر أحدهما صاحبه بالخبر فيه شيء من الغرابة أو البعد، لا يكلمه الآخر أول ما يتكلم إلا أن يسأله: صحيح؟ صدق؟ ولا أضر على الأمة من هذه العقيدة -عقيدة أن الكلام يقال ليقال فقط- فإنها هي طابع الهزل على أخلاق الأمة، وعلى كل أحوالها، وعلى حكومتها أيضًا. ومن الهزل والكذب ترانا مبالغين في كل شيء، حتى ليكون لنا الواحد كالآحاد في غيرنا فنجعله مائة بصفرين، نجيء بأحدهما من اعتيادنا الكذب على الحقيقة، ونجيء بالآخر من حقيقة إفلاسنا. هذه مبالغة خطرة، وأخطر ما فيها أننا بها نريد المبالغة في الدلالة على الأشياء، فتنقلب مبالغة في الدلالة علينا نحن، وعلى كذب طباعنا، وعلى فوضى العقل فينا. نعم وحتى تثبت أننا لا عزم لنا، من كونها مبالغة لا تدقيق في معناها؛ وأن لا صبر لنا، من أنها لا ثبات لحقيقتها المهزومة؛ وأن لا شدة لنا في طلب الحق، لأننا بها من أهل الغفلة في وصف الحق؛ وأننا لا نتمثل العواقب إذ نرسل الكلام إرسالا ولا نخشى ما يكون من عاقبته. وأيسر ما يفهم من هذه المبالغات التي أصبحت طريقة من طرق الشعب في التعبير، أن هذا الشعب لا يصلح في شيء إلا بالحكومة، فهو نفسه كالمبالغة، والحكومة له كالتصحيح؛ وهذه هي العلة في أن الشعب الكذوب يلجأ إلى حكومته في كل كبيرة وصغيرة في العمل، كما أنها هي العلة في أن حكومته تكذب عليه بكل صغيرة وكبيرة في السياسة. ومن أثر الكذب الشعبي والمبالغة الشعبية، ما نراه من اهتمام كل فرد بما يقول الناس عن أعماله، فيديرها على ذلك وإن قلت منفعتها، وإن فسدت

حقيقتها، وإن جلبت عليه من الضرر في ماله ونفسه ما هي جالبة؛ فقاعدتهم هي هذه: ليس الشأن في الحياة للعمل في نفسه، ولكن فيما يقال عنه؛ فإن لم يقل شيء فلا تعمل شيئا ... هذه يا بني أمة لا يكون حكامها إلا مبالغات أيضا ... قال صاحب السر: وراتفع من الطريق صوت بائع ينادي على سلعته: أحسن من التفاح يا طماطم. فضحك الباشا وقال: هكذا يقولون لنا عن الطماطم السياسي العفن: إنه ليس تفاحا وحسب، بل هو أحسن من التفاح. إن الأمة لن تكون في موضعها إلا إذا وضعت الكلمة في موضعها، وإن أول ما يدل على صحة الأخلاق في أمة كلمة الصدق فيها، والأمة التي لا يحكمها الصدق لا تكون معها كل مظاهر الحكم إلا كذبا وهزلا ومبالغة.

البك والباشا

البك والباشا: وحدثني صاحب سر "م" باشا قال: جاء يوما إلى زيارة الباشا رجل دخل علي متهللا مشرق الوجه كأنه مضاء من داخله بشمعة ... ويترنح عطفاه كأنما تهزه أسرار عظمته؛ ويمشي متخلعا كالمرأة الجميلة التي أثقلها لحمها وأثقلتها المعاني الكثيرة من أعين الناظرين إليها، وعلى شفتيه خيال من فكرة هؤلاء الكبراء والمغرورين الذين لا يأمر أحدهم رجلا صغيرًا إلا ليعلمه أنه هو كبير، فيكون في الأمر شيئان: الأمر واللؤم؛ وأقبل علي في هيئة شامخة لو نطقت لقالت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} . سبح الله الذي خلق في الأسد شعرة جبارة خرج منها الأسد كله. سبحان الله ولا إله إلا الله. هذا "فلان باشا" الذي قرأت في الصحف أمس أنهم أنعموا عليه برتبة الباشوية؛ خلقه الله من تراب وحولت الرتبة هذا التراب الذي فيه إلى ذهب خالص ... ينظر إلي وبرغمه أن تقف عيناه علي وعلى الحائط، ولا تجد نفسه المزهوة سبيلا إلى التعبير عن الرتبة إلا هذا الازدراء المنبعث من شخصه العظيم لمن لم يكن كشخصه. ما بين أمس واليوم زاد هذه الزيادة الآدمية، أو كأنما كانت صورته خطوطًا فقط فوضعت فيها الألوان ... "باشا"! هذه الباء وهذه الألف وهذه الشين الممدودة ليست حروفا خارجة من الأبجدية العامة؛ فإن الأبجدية قد تجعل الباء في بليد مثلا، والألف في أبله، والشين الممدودة في شاهد زور مثلا مثلا ... بل تلك حروف من حروف الدولة، منتزعة من قوة قادرة على أن تجعل لحياة صاحبها من الشكل ما يسبغه الفن على الحجر من شكل تمثال ينصب للتعظيم. قال: وكنت أعرف هذا الرجل، وهو رجل أمي لا يحسن إلا كتابة اسمه كما تكتب الدجاجة في الأرض ... فكانت الرتبة عليه كإطلاق لفظ الحديقة على صخرة من الصخور الصلدة؛ وهذا مما يحتمله المجاز بعلاقة ما؛ ولكن الذي لا يسوغ في المجاز، ولا في مبالغات الاستعارة، ولا في خرافات المستحيل، أن تزعم الصخرة

للناس أن لفظ الحديقة الذي أطلق عليها قد أنبت فيها أشجار الحديقة ... قال صاحب السر: واستأذنت له على الباشا فسهل له الإذن وقال: هذا رجل أصبح كالورقة المبصومة بخاتم الدولة، فلتكن ما هي كائنة فإن لها اعتبارها، ثم تلقاه تلقي الهازل المتهكم وقال له: أهنئك بالنحوي ... مباركون يا باشا. وأقبل عليه وبسط له وجهه. وكان في الباشا دعابة ظريفة يعرف بها، وهو كثير النوادر والملح، وله خصيصة عجيبة، فيكون بين يديه كدس من الأوراق التي تعرض عليه ينظر فيها ويقرؤها ويتدبرها، وفي في ذلك يستمع إلى محدثه ويراجعه ويرد عليه، فيصرف الناس والأوراق في وقت واحد، ويستعمل ناحيتين من فكره استعمالا واحدًا لا يخل بالإصابة في شيء من هذه ولا من تلك. ثم قال للباشا الحديث وعينه إلى ما بين يديه: هذه أوراق سرقة ثور عظيم، فكم يساوي الثور العظيم الآن؟ قال صاحبنا الذكي الفطن: إذا كان من الثيران التي تعرض في المعارض وتنال المداليات الذهبية فقد يبعد سعره ويغالي به. قال الباشا: نعم نعم، إن من الثيران ثيرانا ينعم عليها بالأوسمة، ولكن هذا الثور الذي سألتك عنه يا باشا هو ثور محراث لا ثور معرض ... قال الآخر: إذا كان ثور محراث فمثله كثير فلا يكون ثورا عظيما كما قلت وليست له إلا قيمة مثله. قال الباشا: أراني أخطأت، ولعن الله العجلة، فهذه أوراق سرقة حمار! قال صاحب السر: وانصرفت عنهما بأوراقي، وقد رأيت يد الباشا مملوءة لصاحبنا بتحيات كلها صفعات؛ فلم يكن إلا يسير حتى خرج مبتهجا يميد السرور بعطفيه. ثم دعاني الباشا ودفع إلي بطاقة بالحاجة التي جاء فيها الرجل، ثم قال: يا ليت لنا في ألقاب الدولة لقب "رحمه الله" ... ينعم به على مثل هذا. أتدري يا بني أن هذه الرتب وهذه الألقاب لم تكن في القديم إلا كوضع علامة الشر على أهل الشر ليهابهم الناس، حتى كأنما يكتب على أحدهم من لقب بك أو باشا: ملحق بالدولة ...

وكان الشعب أميا جاهلا لا يستطيع الإدراك ولا يحسن التمييز، فكانت الألقاب كالقوانين الشخصية الموضوعة في صيغة موجودة مفهومة متعينة الدلالة، وكان كل من يحمل لقبا من الحكومة يستطيع أن يقول للناس: لقد وضعت الحكومة كلمة الأمر في شفتي ... وكأن اللقب إعلان من الحكومة المستبدة لشعبها الجاهل: إنه هذا البك والباشا من يحق له أن يحترم. من الهزل أن يشتري اسم النصر الحربي أو يوهب أو يعار؛ وأقبح منه في باب الهزل أن ينعم على مثل هذا الأمي بلقب باشا. وأنا أعرف أنه قد بذل في سبيله ما بذل، وأضاع ما أضاع، فكأن الذين منحوه إياه لم يفعلوا شيئا إلا وضع توقيعهم على أخذ الثمن. ولقد أصبح الرجل تحت تأثير الكلمة العظيمة مخبولا بسحرها الوهمي، فحسب ذلك إدخالا له في وظيفة كل حاكم، وإشراكا له في الحكم متى اقتضته مجاري أموره وأحواله، أو حاجات أسبابه وأتباعه؛ وها هو ذا قد جاء يطلب حقه، فإن مثله لا يفهم من لقب "باشا" إلا أن الحكومة قد سوغت سلطته الظهور والعمل، فمدت باعه وقوت أمره ونوهت باسمه لمصالحها وعمالها؛ فهو عند نفسه قد التحم منذ اليوم بالنسب الحكومي، وفي كلمة واحدة، هو قد ولد من بطن الحكومة ... ألا ترى أن الشعب لو استرد سلطته الكاملة، وأن الناس لو أيقنوا أن الألقاب ألفاظ فارغة من الأمر والنهي والوسيلة والشفاعة، لما بقي من يعبأ بها، ولكان حاملها هو أول من يسخر منها؟ فهي إذن شعبذة1 من الحكومة وتضليل في مثل هذا الرجل الأمي، وهي ضرب من التهويل والمبالغة في سواه من الكبراء والعظماء، كأن الوزير الذي يقلب بالباشا، يجعل فيه لقبه وزيرين، وكأن مثل هذا الأمي المغفل، يجعل فيه لقبه شخصًا، آخر غير الأمي المغفل. أنا قلما رأيت رجلا يحتاج إلى ألقاب يتعظم بها إلا وهو لا يستحقها، وقلما رأيت رجلا يستحقها إلا وهو لا يحتاج إليها؛ فأين يكون موضع هذه الرتب والألقاب؟

_ 1 الشعبذة والشعوذة بمعنى واحد.

ساكنو الثياب

ساكنو الثياب: قال صاحب سر "م" باشا: وجاءني يوما اثنان من شيوخ الدين من ذوي هيئاتهم وأصحاب المنزلة فيهم، كلاهما هامة وقامة، وجبة وعمامة، ودرجة من الإمامة؛ ولهما نسيم ينفخ عطرا حسبته من ترويح أجنحة الملائكة؛ وعليهما من الوقار كظل الشجرة الخضراء في لهب الشمس تفيء به يمنة ويسرة، فتوجهت إليهما بنظري، وأقبلت عليهما بنفسي، ووضعت حواسي كلها في خدمتهما؛ وقلت: هؤلاء هم رجال القانون الذي مادته الأولى القلب. ما أسخف الحياة لولا أنها تدل على شرفها وقدرها ببعض الأحياء الذين نراهم في عالم التراب كأن مادتهم من السحب، فيها لغيرهم الظل والماء والنسيم، وفيها لأنفسهم الطهارة والعلو والجمال؛ يثبتون للضعفاء أن غير الممكن ممكن بالفعل، إذ لا يرى الناس في تركيب طباعهم إلا الإخلاص وإن كان حرمانًا، وإلا المروءة وإن كانت مشقة، وإلا محبة الإنسانية وإن كانت ألما، وإلا الجد وإن كان عناء، وإلا القناعة وإن كانت فقرًا. هؤلاء قوم يؤلفون بيد القدرة، فهم كالكتب قد انطوت على حقائقها وختمت كما وضعت، لا تستطيع أن تخرج للناس من حقيقة نصف حقيقة ولا شبه حقيقة ولا تزويرا على حقيقة. وما أعجب أمر هذه الحياة الإنسانية القائمة على النواميس الاقتصادية! فالسماء نفسها تحتاج فيها إلى سماسرة لعرض الجنة على الناس بالثمن الذي يملكه كل إنسان وهو العمل الطيب. قال: ونظرت إلى الشيخين على اعتبار أنهما من بقية النبوة العاملة فيها شريعة نفسها. تلك الشريعة التي لا تتغير ولا تتبدل كيلا يتغير الناس ولا يتبدلوا. ثم سألتهما عن حاجتهما، فإذا أحدهما قد عمل أبياتا من الشعر جاء يمدح بها

الباشا ليزدلف إليه؛ فقلت في نفسي: "ما أشبه حجل الجبال1 بألوان صخرها! " هذا عالم دنيا يحدها من الشرق الرغيف، ومن الغرب الدينار، ومن الشمال الجاه، ومن الجنوب الشيطان. ثم نشر ورقة في يده وأخذ يسرد على القصيدة، وهي على روي الهاء، وتنتهي أبياتها: ها. ها. ها. فكان يقرؤها شعرًا -أو كما يسميه هو شعرًا- وكنت أسمعها أنا قهقهة من الشيطان الذي ركب أكتاف هذا العالم الديني: ها. ها. ها. ها ... قال صاحب السر: وأدخلتهما على الباشا، فوقف المداح يمدح بقصيدته، وأخذت لحيته الوافرة تهتز في إنشاده كأنها منفضة ينفض بها الملل عن عواطف الباشا ... وكان للآخر صمت عامل في نفسه كصمت الطبيعة حين تنفطر البذرة في داخلها، إذ كانت الحاجة حاجته هو، وإنما جاء بصاحبه رافدا وظهيرًا يحمل الشمس والقمر والليث والغيث، لتتقلب الأشياء حول الممدوح فيأخذه السحر، فيكون جواب الشمس على هذه اللغة أن تضيء يوم الشيخ، وجواب القمر أن يملأ ظلامه، وجواب الليث أن يفترس عدوه، وجواب الغيث أن يهطل على أرضه. والباشا لا يدع ظرفه ودعابته، وكان قد لمح في أشداق العالم المتشاعر أسنانا صناعية، فلما فرغ من نظمه الركيك قال له: يا أستاذ، أحسبني لا أكون إلا كاذبا إذا قلت لك: لا فض فوك. ثم ذكر الآخر حاجته: وهي رجاؤه أن يكون عمدة القرية من ذوي قرابته لا من ذوي عداوته. فقال له الباشا: ولقريتكم أيضًا أبو جهل؟ ولما انصرفا قال لي الباشا: لأمر ما جعل هؤلاء القوم لأنفسهم زيا خاصا يتميزون به في الناس، كأن الدين باب من التحرف والتصرف، بعض آلته في ثيابه؛ فهؤلاء يسكنون الجبب والقفاطين وكأنها دواوينهم لا ثيابهم ... قد أفهم لهذا معنى صحيحًا إذا كان كل رجل منهم محصورًا في واجبات عمله كالجندي في معاني سلاحه، فيكون التعظيم والتوقير لثوب العالم الديني

_ 1 هذا مثل عربي، والحجل: الطائر المعروف، يكون في الجبل من لون صخره للعلة المقررة في التاريخ الطبيعي.

كأداء التحية للثوب العسكري: معناه أن في هذا الثوب عملا ساميا أوله بيع الروح وبذل النفس وترك الدنيا في سبيل المجتمع؛ هذا ثوب الموت يفرض على الحياة أن تعظمه وتجله، وثوب الدفاع تجب له الطاعة والانقياد، وثوب القوة ليس له إلا المهابة والإعزاز في الوطن. ولكن ماذا تصنع الجبة اليوم؟ إنها تطعم صاحبها ... أثر الجيش معروف في دفاع الأمم العدوة عن البلاد، فأين أثر جيش العلماء في دفاع المعاني العدوة عن أهل البلاد، وقد احتلت هذه المعاني وضربت وتملكت وتركت هذا العالم الديني في ثوبه كالجندي المنهزم؛ يحمل من هزيمته فضيحة ومن ثوبه فضيحة أخرى؟ أنت يا بني قد رأيت "الشيخ محمد عبده" وعرفته؛ فرحم الله هذا الرجل، ما كان أعجب شأنه! لكأنه -والله- سحابة مطوية على صاعقة, ولو قلت إنه قد كان بين قلبه ورأسه طريق لبعض الملائكة. لأشبه أن يكون هذا قولا. كان يزورني أحيانا فأراني مرغما على أن أقدم له مجلسين أحدهما قلبي. وكان له وجه يأمر أمرًا، إذ لا تراه إلا شعرت به يرفعك إلى حقيقة سامية1. رجل نبت على أعراق فيها إبداع المبدع العظيم الذي هيأه لرسالته، فعواصفه كالعطر في شجرة العطر الشذية، وشمائله كجمال السماء في زرقة السماء الصافية، وعظمته كروعة البحر في منظر البحر الصاخب. وكثيرا ما كان يتعجب من هذا أستاذه "السيد جمال الدين الأفغاني" فيسأله مندهشا: بالله قل لي: ابن أي ملك أنت؟ لم يكن ابن ملك ولا ابن أمير، ولكنه ابن القوات الروحية العاملة في هذا الكون؛ فهي أعدته، وهي ألهمته، وهي أنطقته، وهي أخرجته في قومه إعلانا غير كتمان، ومصارحة غير مخادعة، وهي جعلت فيه أسدية الأسد، وهي ألقت في كلامه تلك الشهوة الروحية التي تذاق وتحب، كالحلاوة في الحلوى. هذا هو العالم الديني: لا بد أن يكون ابن القوات الروحية، لا ابن الكتب وحدها، ولا بد أن يخرج بعمله إلى الدنيا، لا أن يدخل الدنيا تحت سقف الجامع ... وأنا فما ينقضي عجبي من هؤلاء العلماء الذين هم بقايا تتضاءل بجانب

_ 1 وصفنا الشيخ "رحمه الله" في كتابنا "السحاب الأحمر" واستلهمنا روحه فصلا طويلا تجده هناك.

الأصل، يبحثون في سنن النبي صلى الله عليه وسلم: كيف كان يأكل ويشرب ويلبس ويمشي ويتحدث؛ كأنهم من الدنيا في قانون المائدة، وآداب الولائم، ورسوم المجتمعات؛ أما تلك الحقيقة الكبرى، وهي كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يقاتل ويحارب لهداية الخلق، وكيف كان يسمو على الدنيا وشهواتها؟ وكيف كان بطباعه القوية الصريحة تعديلا فعالا في هذه الإنسانية للنواميس الجائزة؟ وكيف كان يحمل الفقر ليكسر به شرة النواميس الاقتصادية التي تقضي بجعل الأخلاق أثرا من آثار السعة والضيق، فتخرج من الغني متعففا ومن الفقير لصا؟ وكيف استطاع صلى الله عليه وسلم بفقره السامي أن يحول معنى الغنى في نفوس أصحابه، فيجعله ما استغنى عنه الإنسان من شهوات الدنيا وترك، لا ما نال منها وجمع؟ أما هذا ونحوه من حقائق النبوة العاملة في تنظيم الحياة، فقد أهملوه، إذ هو لا يوجد في الكتب وشروحها وحواشيها، ولكن في الحياة وأثقالها وأكدارها؛ وبذلك أصبح شيوخنا من الأمة في مواضع لم يضعهم فيها الدين ولكن وضعتهم فيها الوظيفة. ألا ليتهم يكتبون على أبواب الأزهر هذه الحكمة: سئل بعض العرب: بم ساد فلان فيكم؟ قالوا: احتجنا إلى عمله واستغنى عن دنيانا ...

الأخلاق المحاربة

الأخلاق المحاربة: وحدثني صاحب سر "م" باشا بهذا الحديث قال: كنا في ثورة سنة 1919 سنة الهزاهز والفتن، وقد تفاقمت الثورة، وأخذ الشباب يعمل ويفكر فيما يستطيع أن يعمل، وما يجب أن يعمل؛ وكان السخط العام هو ميراث الوقت، فكانت قلوب الشعب تلهم واجباتها إلهامًا، إذ لم يكن في هذه القلوب كلها إلا لذعة الدم تعين اتجاه أعمالها وتحدده. كانت الثورة زلزلة وقعت في التاريخ، فجاءت تحت زمن راكد لا يتغير إلا بأن ينسف، ولا ينسفه إلا مادة إلهية كالحركة الكونية التي تخرج اليوم الجديد من القديم؛ فكان القدر يعمل بأيدي الإنجليز عملا مصريا، ويعمل بأيدي المصريين عملا آخر. وتعلم الشعب من دفن شهدائه كيف يستنبت الدم فينبت به الحرية، وكيف يزرع الدمع فيخرج منه العزم، وكيف يستثمر الحزن فيثمر له المجد. وكان رصاص الإنجليز يصيب هدفين معا: فيصرع شهداءنا، ويقتل الموت السياسي الذي احتل معهم هذه البلاد. وقد أنعموا على الشعب بالصدمة الأولى، فنشبت المعركة التي تقاتل فيها الأخلاق القومية لتنتصر؛ وشعرت مصر في جهادها بأنها مصر، فالتمس روحها التاريخي رمزه العظيم في الأمة ليظهر فيه عاتيا جبارًا؛ فكان هذا الرمز الجليل العظيم هو سعد زغلول. قال صاحب السر: وكان الطلبة قد غدوا من أول النهار يتظاهرون، وقد جعلتهم الثورة كالأرواح تخلصت من الموت بالموت فلا تخشاه ولا تباليه، واستقلت عن العقل بتحولها إلى شعور محض، وخرجت عن القوانين كلها إلا القانون الخفي الذي لا يعلم ما هو. كانوا في معاني قلوبهم لا في غيرها، فلست تراهم إلا عظماء في عظمة

المبدأ الذي ينتصرون له، أقوياء في قوة الإيمان الذي يعملون به، أجلاء في جلال الوطن الذي يحيون ويموتون في سبيله. وكانوا في الشعب هم خيال الأمة العامل المدرك، وشعورها الحي المتوثب، وقواها البارزة من أعماقها، وأملها الزاحف ليقهر الصعوبة. يفادون بأنفسهم الغالية ويؤثرون عليها، وليس في أحد منهم ذاته ولا أغراض شخصه، فما أجل وما أعظم! وما أروع وما أسمى! أيتها الحياة! هل فيك أشرف من هذه الحقيقة إلا حقيقة النبوة؟ قال: وكان أخي هو زعيم هؤلاء الطلبة في مدينتنا؛ قوي على الزعامة وفي بها؛ يحمل قلبا كالجمرة الملتهبة، وله صوت بعيد تحسب الرعد يقعقع به. إذا مشى في جهاده كان كل ما على الأرض ترابا تحت قدميه، لا يمشي إلا محتقرا هذه الدنيا وما فيها، غير مقدس منها إلا دينه ووطنه؛ وسلاحه أن كل شيء فيه هو سلاح على الظلم وضد الظلم. وكان في ذلك اليوم يقود "المظاهرة"، وحوله جماعة من خالصته وصفوة إخوانه، يمشون في الطليعة تحت جو متقد كأن فيه غضب الشباب، عنيف كأنما امتزج به السخط الذي يفورون به، رهيب كأنه متهيء لينفجر؛ فلما بلغوا موضعا من الطريق ينعطفون عنده انصب عليه المدفع الرشاش ... قال: فإني لجالس بعد ذلك في الديوان إذ دخل علي أخي هذا ينتفض غضبا كأن المعاني تنبعث من جسده لتقاتل، ورأيت له عينين ينظر الناظر فيهما إلى النار التي في قلبه؛ فخشيت أن يكون القوم أطلقوا عليهم الجنون والرصاص معا. واستنبأته خبر أصحابه فقال: إن الذين كانوا حوله وقعوا يتشحطون في دمائهم، فوقف هو شاخصًا إليهم كأنه ميت معهم، وقد أحس كأنما خلع عن جسمه نواميس الطبيعة، فلا يعرف ما هي الحياة ولا ما هو الموت؛ وكان الرصاص يتطاير من حوله كأن أرواح الشهداء تتلقاه وتبعثره لا يناله بسوء. قال: وما أنس لا أنس ما رأيته في تلك الساعة بين الدنيا والآخرة؛ فلقد رأيت بعيني رأسي الدم المصري يسلم على الدم المصري، ويسعى إليه فيعانقه عناق الأحباب.

ثم قال: أين هذا الباشا؟ وما باله لم يصنع شيئا في الاحتياط لهذه الفورة؟ يكاد الخزي -والله- يكون في هذه الوظائف على مقدار المرتب ... قال صاحب السر: ولم يتم كلمته حتى خرج علينا الباشا متكسر الوجه من الحزن قد تغرغرت عيناه، فأخذ بيد أخي إلى غرفته وتبعتهما، ثم قال: هونا ما يا بني، إن العلة فيكم أنتم يا شباب الأمة، فكل ما ابتلينا أو نبتلى به هو مما يستدعيه خمولكم وتستوجبه أخلاقكم المتخاذلة؛ إننا من غيركم كالمدافع الفارغة من ذخيرتها؛ لا تصلح إلا شكلا، وبهذه العلة كان عندنا شكل الحكومة لا الحكومة. أتدري يا فتى ما هي الحكومة الصحيحة في مثل حالتنا؟ هي أن تحكموا أنتم في الشعب حكومة أخلاقية نافذة القانون، فتضبطوا أخلاق النساء والرجال، وتردوها كلها أخلاقًا محاربة لا تعرف إلا الجد والكرامة وصرامة الحق؛ وإلا فكما تكونون يولى عليكم ... هذا وحده هو الذي يعيد الأجانب إلى رشدهم وإلى الحقيقة، فما أراهم يعاملوننا إلا كأننا ثياب معلقة ليس فيها لابسوها ... كيف يتصعلك المصري للأجنبي لو أن في المصري حقيقة القوة النفسية؟ أترى بارجة حربية تتصعلك لزورق صيد جاء يرتزق؟ إن في بلادنا المسكينة الأجانب، وأموال الأجانب، وغطرسة الأجانب؛ لا لأن فيها الاحتلال، كلا, بل لأن فيها ضعف أهلها، وغفلة أهلها، وكرم أهلها ... بعض هذا يا بني شبيه ببعض، وإلا فما هو كرم الشاة الضعيفة إلا لذة لحمها؟ نريد لهذا الشعب طبيعة جدية صارمة، ينظر من خلالها إلى الحياة فيستشعر ذاته التاريخية المجيدة فيعمل في الحياة بقوانينها؛ وهذا شعور لا تحدثه إلا طبيعة الأخلاق الاجتماعية القوية التي لا تتساهل من ضعف، ولا تتسمح من كذب، ولا تترخص من غفلة. والحقيقة في الحياة كالحقيقة في المنطق؛ إذا لم يصدق البرهان على كل حالاتها، لم يصدق على حالة من حالاتها؛ فإذا كنا ضعفاء كرماء، أعزاء، سادة على التاريخ القديم، فنحن ضعفاء فقط ... إن الكبراء في الشرق كله لا يصلحون إلا للرأي، فلا تسوموهم غير هذا، فهم قد تلقوا الدرس من أغلاطهم الكثيرة، وبهذا لن تفلح حكومة سياسية في

الشرق الناهض ما لم يكن شبابها حكومة أخلاقية يمدها من نفسه ومن الشعب في كل حادثة بالأخلاق المحاربة. يا بني! إن القوي لو اتفق مع الضعيف على كلمة واحدة لا تتغير، لكان معناها للأقوى أكثر مما هو للأضعف؛ فإن هذا القوي الذي يعمل مع الضعيف يكون فيه دائما شخص آخر مختف، هو القوي الذي يعمل مع نفسه. هكذا هي السياسة؛ أما في الإنسانية فلا، إذ يكون الحق دائما بين اثنين أقوى من اثنين.

خضع يخضع

خضع يخضع: وقال صاحب سر "م" باشا فيما حدثني به: جاء ذات يوم قنصل "الدولة الفلانية" من هذه الدول الصغيرة؛ التي لو علم الذباب في بلادها أن في مصر امتيازات أجنبية، لطمعت كل ذبابة أن يكون لها في بلادنا اسم الطيارة الحربية ... ورأيته قد دخل علي شامخًا باذخًا متجبرًا، كأنه قبل أن يجيء إلى هذا الديوان لمقابلة الحاكم المصري قد تكلم في "التلفون" مع إسرافيل يأمره أن يكون مستعدًا للنفخ في الصور. جني صعلوك من رعايا دولته على مصري، فأخذ كما يؤخذ أمثاله، وقضى ساعة أو ساعتين بين أيدي المحققين يسألونه الأسئلة الهينة اللينة التي تحيط بتعريفه في أوروبا ... فزعم القنصل أنه كان يجب أن يكون حاضرًا يشهد التحقيق، لأن جناية أجنبي على مصري تقع أجنبية ... فلها شأن ورعاية وامتياز، وادعى أن المحققين ضايقوا المجرم وعاسروه وتجهموه بالكلام، ولهذا جاء يحتج. ورأيته جلس متوقرا كأنما يشعر في نفسه أنه أثقل من مدفع ضخم، لأن في نفسه وهم القوة؛ وخيل إلي أنه موضعه بين السقف والأرض؛ إذ يحمل في رأسه فكرة أنه الأعلى، وكانت له هيئة صريحة في أن الأجنبي المقيم هنا ليس هو كل الأجنبي، بل لا تزال منه بقية تتممها دولته، وفي الجملة كان الرجل كلمة واضحة مفسرة تنطق بأن للقانون المصري قانونا يحكمه في بلاده! وأنا قد درست القانون الدولي، وعرفت ما هي الامتيازات وما أصلها، وهي لا تعدو كرم الأرنب التي زعموا أنها كانت تملك حمارًا تركبه وترتفق به، فسألتها أرنب أخرى أن تردفها خلفها، فلما اندفع بهما الحمار استوطأته، فقالت لصاحبته: يا أختي، ما أفره حمارك! ثم سكتت مدة وأعجبها الحمار فقالت: يا أختي، ما أفره حمارنا. وكنا -نحن الشرقيين- من الضعف والغفلة؛ بحيث لم نبلغ مبلغ الأرنب في

حكمتها وتدبيرها وحذرها، فإنها أسرعت ودفعت صاحبتها وقالت لها: انزلي -ويلك- قبل أن تقولي: ما أفره حماري. قال: غير أني في تلك الساعة نسيت القانون الدولي وكنت في إلهام مصريتي وحدها، فنظر لي ظهورا بينا أن لا شيء أسمه القانون الحق في هذه الدنيا؛ ولكن هناك اتفاقا بين كل خضوع وكل تسلط، وهو قانون هاتين الحالتين بخصوصهما. وأسرعت إلى الباشا فأنبأته، وأسرع الباشا فغير وجهه، وتبسط، وتهلل، وتهيأ بهذا لاستقبال القادم العزيز، كأنه أخص محبيه يتطلع إلى مؤانسته، وقد جاء يزوره في داره, ثم دخل القنصل، ولم أسمع مما دار بينهما إلا الكلمة الأولى، وهي قول الباشا: لنبدأ يا سيدي من الآخر ... وكانت في الباشا موهبة عجيبة في اختلاب الأجانب خاصة، يديرهم بلباقة كالخاتم في إصبعه؛ حتى قال لي أحدهم: إن لهذا الباشا حاسة زائدة، لو سميت حاسة الإرضاء لكان هذا اسمها الطبيعي، وإنه يعمل بها كما يعمل المفكر بتفكيره، فهو يبتكر الأساليب الغربية التي يصعد ويهبط بها ميزان الحرارة النفيسة, وإن جليسه يكاد يشعر من مهارته في التمثيل أن في جو المكان ستار يرفع وستارًا يسدل بين الفصول. فما لبث القنصل أن خرج بغير الوجه الذي دخل به، ولكنه عبس في وجهي أنا وتكره لي كأنه أصغر شأني؛ فازدرتني عينه، فوثبت إلى رأسه فكرة الامتيازات. وهذه القوة الظالمة "الامتيازات"؛ لو أنها كانت قوة قاهرة نافذة، وأعين بها طفيلي ليقتحم دور الناس آمنا مطمئنا؛ لاستحي هذا الطفيلي أن يأكل بها؛ إذ تجمع عليه التطفل والمقت معا، ولو قيل لحسام بتار: إن لك امتيازا على بعض السيوف ألا تقارعك، وإنك محمي أن تنالك سطوتها إذا قارعتها, لأنف أن يسمى سيفا بهذا، فإن القوة الظالمة التي يعيرونه إياها، ليست إلا مهانة لشرف القوة العادلة التي هي فيه. قال صاحب السر: ووصفت للباشا هيئة القنصل التي انصرف بها، وتقطيبه في وجهي، وقلت له: إن الذبابة وقعت في صحفتي أنا من هذه الوليمة ... فضحك بملء فيه، ثم قال:

ستبطل هذه الامتيازات، وليس بيننا وبين نهايتها إلا أن ينتهي الشعب إلى حقيقته القومية، فما تركها في مكانتها إلا نزول الشعب عن مكانته، وتالله لكأن هؤلاء الأجانب يسألوننا بهذه الامتيازات: أين مكانكم في بلادكم؟ أتدري ما قاله هذا القنصل حين تجاذبنا الحديث فيها، بعد أن وضعت نفسي منه في موضع المحامي الذي يخذله الدليل، فيحاول أن يستنزل كرم القضاة بعرض بؤس المتهم على شفقتهم، ليستعطف القانون الذي في أيديهم بالقانون الذي في أنفسهم؟ إنه قال: لا يلومن الشرقيون إلا أنفسهم، فهم علموا الأجانب أن نتف ريش الطير أول أكله. وهذه الامتيازات إن هي إلا معاملة بيننا وبين طبيعة الخضوع في الشعب، نعم إنها مضرة ومعرة، وظلم وقسوة؛ ولكنها على ذلك طبيعية في الطبيعة؛ فما دام هذا الشعب لين المأخذ، فإن هذا يوجد له من يأخذه؛ وما دامت الكلمة الأولى في معجم لغته السياسة هي مادة "خضع يخضع"، فهذه الكلمة تحمل في معناها الواحد ألف معنى، منها: ظلم يظلم، وركب يركب، وملك يملك، واستبد يستبد، ودجل يدجل، وخدع يخدع؛ فهل يكثر أن يكون منها للأجانب امتاز يمتاز؟ قال صاحب السر: ثم زم الباشا فمه وسكت: ففهمت الكلمات التي انطبق فمه عليها وإن لم يتكلم بها، ثم غلبه الضحك فقال: والله يا بني لو أن برغوثا طمر من ثوب صعلوك أجنبي، فوقع في ثوب صعلوك وطني، فتقاتلا فقبض عليهما، فأخذا لما رضي برغوث الأجنبي أن يحاكم إلى في المحاكم المختلطة ... ثم سكت الباشا مرة أخرى كأنه يقول كلام آخر لا يجوز نشره، ثم قال: يا بني، إن الأجانب لا يضعون الحمل إلا على من يحمل؛ فإذا نحن توخينا مرادهم أرادوا لأنفسهم لا لنا؛ وإذا وافقنا لهم غرضا جعلوه كالدينار فيه مائة قرش، وأبوا إلا أن نصارفهم عليه بمائة. هم -ويحك- يمتازون في معاملتنا لا في سطور القوانين والمعاهدات، فلنبطل هذه المعاملة يبطل هذا الامتياز. إن الحق يا بني استحقاق لا دعوى؛ وهذا التنازع على الحياة يجعل وسائله الطبيعية الانتزاع والمطالبة والتجرد له والدأب فيه والإصرار عليه, وكل الأقوياء يعلمون أن موضع الاعتدال بين غصب الحق وبين استرداده موضع لا مكان له في الطبيعة والأجنبي يعتمد علينا نحن في جعله أكبر منا وأوفر حرمة؛ فإذا أسقط

الشعب هذه الامتيازات من فكره وروحه وأعصابه، وثارت فيه كبرياء الوطنية فاستنكف من الاستحذاء، ونفر من الاختضاع، وأبي إلا أن يعلن كرامته، وصرف اهتمامه إلى حقوق هذه الكرامة، وأصر ألا يعامل أجنبيا يرى لنفسه امتيازًا على وطني، وقرر ذلك في نفسه، ومكنه في روعه، وأجمع عليه إجماعه على الدين, إذا جاءت "إذا" هذه بشرطها من الشعب، جاء جواب الشرط من الأجانب بنزولهم عن الامتيازات وانحلت المشكلة. إننا يا بني لا نملك ضغط السياسة، ولكنا نملك ما هو أقوى؛ نملك ضغط الحياة. لهم الامتياز بأنهم أجانب عنا، فليكن لنا الامتياز الآخر بأننا أجانب عنهم في المعاملة، مثلا بمثل، وما يفل الحديد إلا الحديد. يقولون: النظام الاقتصادي والمال الأجنبي. ولكن أرأيت المال في يد الأجنبي إلا مالًا وتدبيرًا وسلطة وسيادة، من أنه في يد الوطني دين وإسراف ورق وذل؟ لم يظهر لي إلا الساعة إن من حكمة تحريم الربا في شريعتنا الإسلامية، وقاية الأمة كلها في ثروتها وضياعها ومستغلاتها، وحماية الشعب وملوكه من الإسراف والتخرق والكرم الكاذب، ورد الاستعمال الاقتصادي، وشل النفوذ الأجنبي. أما لو أننا كتبنا من الأول على أبواب "البنك العقاري" وأبواب ذريته: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} [البقرة: 276] فهل كانت تقرأ هذه الكلمات الثلاث على أبواب تلك البنوك الأجنبية إلا هكذا: "محال خالية للإيجار"؟

فلنتعصب

فلنتعصب: وقال صاحب سر "م" باشا: جاءني يوما صحفي إنجليزي من هؤلاء الكتاب المتعصبين الذين تطلقهم إنجلترا كما تطلق مدافعها؛ غير أن هذه للبارود والرصاص والقنابل وأولئك للكذب والتهم والمغالطات. وهو أذن وعين ولسان وقلم لجريدة إنجليزية كبيرة، معروفة بثقل وطأتها على الشرق والإسلام؛ وتصلح بإفساد، وتداوي الحمى بالطاعون، وتعمل في نهضة الشرقيين واستقلالهم ما يشبه قطع ثدي الأم وهو في شفتي رضيعها المسكين. ودخل علي هذا الكاتب في الساعة التي خرج فيها من غرفتي صاحب جريدة أسبوعية في مدينتنا، كان قد نفخ الضفدع ليجعلها ثورًا، فحول صحيفته إلى جريدة يومية، وهو لا يجد مادتها ولا يستطيع أسبابها، إلا أنه كدأب الناس عندنا كان يحسب الكذب في العمل سهلا مهلا1 كالكذب في القول، فلم يتعاظمه الأمر العظيم، واقترض لعمله كل ألفاظ النجاح من اللغة ... وظن عند نفسه أنه سيخوف بجريدته الكبراء والأعيان والمياسير حتى يغلب على جميعهم، ويشرك أصابعه مع أصابعهم في استخراج ما يحتاج إليه من جيوبهم؛ فلم تعش جريدته إلا أياما وأتلف ما جمع، ورهن فيها داره التي لا يملك غيرها؛ وعلم آخرا أن الذي يكذب فيسمي الخروف جملا، لا يقبل منه أن يكذب على الكذب نفسه، فيزعم أن الناقة هي التي نتجت هذه الخروف ... ولما انقلبت هذه الجريدة يومية كان الباشا هو ملجأ الرجل ووزره، وكان لكل يوم في الجريدة أخبار عن الباشا لا تقع في الدنيا ولا تجمع من الحوادث، ولكن تقع في ذهن الكاتب، وتجمع من صناديق الحروف؛ حتى قال لي الباشا مرة: إن اسمي قد أصبح موظفا في هذه الجريدة لجمع الاشتراك ...

_ 1 هذا الاستعمال مما وضعناه نحن وليس في اللغة، وهو من باب الاتباع كقولهم: حسن بسن، وشيطان ليطان ... إلخ.

وتحرى هذا الصحفي أن يستأذن يوما على الباشا وفي مجلسه حشد عظيم من السراة والأعيان والعمد، وكان جمعهم لأمر، فما هو إلا أن دخل الصحفي حتى ابتدره الباشا بهذا السؤال: يا أستاذ، ما هي تلغرافات أوروبا عن الحوداث التي ستقع غدا؟ فضج المجلس بالضحك، وفقد المسكين بهذه النكتة وأربعين دينارًا كان يؤمل أن يخرج بها، وأعلن الباشا في أظرف إعلان وأبلغه كذب الرجل ونفاقه وإسفافه، وإنه من رجال الصحافة المدورة تدوير الرغيف. قال: ونظرت إلى الصحفي الإنجليزي نظرة أكشفه بها، فإذا أول الفرق بينه وبين أمثاله عندنا شعوره أن بلاده قد ربته "للخارج"، فهو عند نفسه كأنه إنجليزي مرتين؛ ويأتي من ذلك إحساسه بعزة المالك وقوة المستعمر، فلا يكون حيث يكون إلا في صراحة الأمر النافذ، أو غموض الحيلة المبهمة؛ ويستحكم بهذا وذاك طبعه العملي، فهو بغريزته مقاتل من مقاتلة الفكر، يلتمس ميدانه بين القوى المتضاربة لا يبالي أن يكون فيه الموت ما دام فيه العمل؛ وبهذا كله تراه نافد البصيرة قائما على سواء الطريق، لأن الإنجليزي الباطن فيه يوجه الإنجليزي الظاهر منه ويسانده؛ وفي أعماق الاثنين تجد إنجلترا، وليس غير إنجلترا. ثم تفرست في الرجل أريد كنهه وحقيقته، فإذا له نفس مفتوحة مقفلة معا، كغرف الدار؛ الواحدة يفتح بعضها لما فيه كيما يرى، ويقفل بعضها على ما فيه كيلا يرى. وله وجه عملي يكاد يحاسبك على نظراتك إليه؛ تدور في هذا الوجه عينان قد اعتادتا وزن الأشياء والمعاني؛ يتلألأ في هاتين العينين شعاع النفس القوية الممرنة، قد نفت الثقة بها نصف هموم الحياة عن صاحبها، تمد هذه النفس طبيعة مؤمنة بأن أكبر سرورها في أعمالها، فواجبها في الحياة أن تعمل كل ما يحسن بها وكل ما يحسن منها. لقد خيل إلي، وأنا أنظر إلى نفسية هذا الإنجليزي أن كلمة الخيبة عند هؤلاء الإنجليز غير كلمة الخيبة عندنا -نحن الشرقيين- فإن خيبة النفس لا تتم معانيها أبدًا في النفس العاملة الدائبة, التي يشعرها الواجب أنه شيء إلهي لا يخيب، وأن ما يرفض على هذه الأرض من العمل الطيب لا يرفض في السماء.

وكأن الرجل قد أدرك غرضي بملكته الصحافية الدقيقة، فأجابني عن السؤال الذي لم أسأله، وقال لي مبتدئًا: إن أساسنا الشخصية وحاسة الواجب؛ وإن فيكم أنتم كل شيء إلا هذين؛ فأخلاقنا تظهر دائما في العمل، وأخلاقكم تظهر دائما في الكلام الفارغ؛ ونحن نطلب الحقيقة، وأنتم تطلبون الألفاظ، حتى أنه لو خسر المصري ألف دينار، ثم أعلن أنها مائة فقط، وصدق الناس أنها مائة؛ لكان عند نفسه كأنه ربح تسعمائة ... قال صاحب السر: واستأذنت له على الباشا فسهل ورحب؛ ثم هممت بالانصراف عنهما، ولكن الإنجليزي قال: يا باشا! إنه قد تمكن في روعي أن صاحب سرك هذا متعصب ديني، وقد علمت أنه ابن فلان القاضي الشرعي، فطربوشه ابن العمامة؛ ولقد كان ينظر إلي، وكأنه يتأمل من أين يذبحني ... فضحك الباشا وقال لي: يا فلان إن هذا الكاتب من تلاميذ برناردشو، فهو كأستاذه يجعل لكل حقيقة ذنبا كذيل الهر، ثم يمسكها منه فإذا هي تعض وتتلوى ... والتفت بعد ذلك إلى الإنجليزي ثم قال له: جاءني كتابك فإذا كنت تريد رأيي فيما تسميه التعصب الديني عند المسلمين، فعجيب أن تضعوا أنتم الغلطة ثم تسألونا نحن فيها! إنك لتعلم أن هذا التعصب الكذب الذي أكثرتم الكلام فيه, إنما هو لفظ من ألفاظ السياسة الأوروبية، أرسلتموه إلينا ليقاتل لفظ التعصب الحقيقي؛ ومن قبل هذا اخترعتم لفظة "الأقليات"، وأجريتموها في لغتكم السياسية، لتجعلوا بها لتعصبنا الوطني شكلا آخر غير شكله فتفسدوه علينا بهذه المادة المفسدة؛ وبذلك تضربون اليد اليمنى من غير أن تلمسوها، إذ تضربونها بشل اليد اليسرى. إن الإسلام في نفسه عدو شديد على التعصب الذي تفهمونه، فهو يقول لأهله في كتابه العزيز: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] . فإذا كان العدل في هذا الدين عدلا صارمًا، وحقا محضا لا يميز بشيء ألبته، لا ذات النفس التي فيها اشتهاء الدم، ولا أصلها من الأبوين اللذين جاءت منهما وراثة الدم، ولا أطرافها من الأقربين الذين يلتفون حول نسب الدم إذا كان هذا، فأين في هذا العدل محل الظلم؟

لعلك تشير إلى هذه الرعونة التي تعرفها في الأغمار والأغفال من العامة، فهذه ليست من أثر الدين، بل هي أثر الجهل بالدين؛ إن هذا ليس تعصبا، بل هو معنى من معاني الحمية النفسية الخرقاء لم تجدوا أنتم له لفظًا، وكان أقرب الألفاظ إليه عندكم هو التعصب، فأطلقتموه عليه للمعنى الذي في نفسه والمعنى الذي في أنفسكم. ألا فاعلم أن إسلام العامة اليوم هو كالدعوى المقبولة شكلا والمرفوضة بعد ذلك. قال الإنجليزي: ولكن لهؤلاء العامة علماء دينيين يدبرونهم من ورائهم. وهم عندكم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم أي منبع الفكرة وقوتها. قال الباشا: غير أن هؤلاء قد أصبحوا كلهم أو أكثرهم لا يندس فيهم عرق من تلك الوراثة، وذلك هو الذي بلغ بنا ما ترى؛ فالقوم إلا قليلا منهم كالأسلاك الكهربائية العطلة؛ لا فيها سلب ولا إيجاب؛ ولو أن هؤلاء العلماء كانت فيهم كهرباء النبوة؛ لكهربوا الأمم الإسلامية في أقطارها المختلفة. إذن لقام في وجه الاستعمار الأوروبي أربعمائة مليون مسلم جلد صارم شديد، متظاهرين متعاونين، قد أعدوا كل ما استطاعوا من قوة العلم، وقوة النفس، وهم لو قذف كل منهم بحجرين لردموا البحر. أتريد معنى التعصب في الإسلام؟ إنه بعينه كتعصب كل إنجليزي للأسطول؛ فهو تشابك المسلمين في أرجاء الأرض قاطبة، وأخذهم بأسباب القوة إلى آخر الاستطاعة، لدفع ظلم القوة بآخر ما في الاستطاعة. وهو بذلك يعمل عملين: استكمال الوجود الإسلامي، والدفاع عن كماله. وإذا أنت ترجمت هذا إلى معناه السياسي، كان معناه إصرار جميع المسلمين على نوع الحياة وكرامتها، لا على استمرار الحياة ووجودها فقط. وذلك هو مبدؤكم أنتم أيها الإنجليز, لا تقبلون إلا حياة السيادة والحكم والحرية، فأنتم مسلمون في هذا المبدأ لو عدلتم. أليس من البلاء أن المسلمين اليوم لا يدرس بعضهم بلاد بعض إلا على الخريطة ... ومع أن الحج لم يشرع في دينهم إلا لتعويدهم دراسة الأرض في الأرض نفسها لا في الورق، ثم ليكون من مبادئهم العملية أن العالم مفتوح لا مقفل؟ إن التعصب في حقيقته هو إعلان الأمة أنها في طاعة الشريعة الكاملة، وأن

لها الروح الحادة لا البليدة، وأن أساسها في السياسة الاحترام الذاتي لا تقبل غيره، وأن أفكارها الاجتماعية حقائق ثابتة لا أشكال نظرية، وأن مبدأها هو الحق ولا شيء غير الحق، وأن قاعدتها {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} . فالهداية أولا والهداية آخرًا؛ الهداية في القوة، والهداية في السياسة، والهداية في الاجتماع. فقل لي بحياتك وحياة إنجلترا أيعاب ذلك على المسلمين إلا بالألفاظ التي يعيب اللص بها أهل الدار لأنهم يحكمون في وجهه إقفال الباب؟ قال: فوجم الإنجليزي حتى ذهل عن نفسه وصاح: إذا كان هذا فلنتعصب، فلنتعصب.

وزن الماضي

وزن الماضي: وقال صاحب سر "م" باشا: إني لجالس ذات يوم وفي يدي كتاب لبعض المتفلسفة من ملاحدة أوروبا الذين يريدون أن يفهموا ما لا يفهم؛ وكان الباشا قد رآني مرة أنظر فيه وأتدبر مسائله الغامضة، فقال لي: يا بني! إن أحد الكلاب كان شاعرًا فيلسوفا، فنظر ليلة في النجوم فراعته وحيرته؛ فآلى أن يفهمها بعقله وفرغ لدرسها مدة طويلة، ثم وضع فيها كتابا نفيسا ضخما، كان أعظم كتب الفلسفة وأشدها غموضا عند الكلاب، وكان اسمه: العظام المبعثرة فوقنا1. قال: فأنا جالس أقرأ هذا الكلام الذي لا صحيح فيه إلا أنه غير صحيح. إذ دخل علي كاتب متفلسف ملحد من هؤلاء المدخولين في عقولهم، المفتونين بأوروبا ومذاهبها وعلوياتها وسفلياتها ... وهو يكتب في الصحف، ويؤلف الرسائل، وقد جاء يستصرخ الباشا على فلاح شاركه في زراعة أرضه، فزرعه الفلاح فيها وحصده، ودهاه بكيده، وابتلاه بغلظته، وتهدده بالنقمة. وكان هذا الفلاح الساذج الغرير قد سبقه إلي وعرفه لي تعريفا قاموسيا محيطا من مادة كفر يكفر ... ثم قال بعد ذلك: إنه "بياع كلام" يصدق ويكذب حسب الطلب ... والذمة نفسها ليست عنده إلا "عملية حسابية"؛ وهو في أقوى جهاته لا ينفع الدنيا بما تنفعها به البهيمة من أضعف جهاتها. أما الكاتب فيقول عن هذا الفلاح: إنه لا يدري أهو يتم بهائمه أم بهائمه هي التي تتمه، وإن الذي يرفع القضية على مثل هذا المخلوق إلى محكمة لا يكون إلا كالذي يقعقع بالعصا على جحر فيه الحية السامة. ورأى المتفلسف الكتاب على يدي، فتهلل واستبشر وقال لي: هذا نسب بيننا ... فأدركت من كلمته هذه جملته وتفصيله، وخيل إلي أني أرى فيه نفسه

_ 1 لا ريب أن المؤلف قد بحث في كتاب "الوسائل العلمية" للانتفاع بهذه العظام المبعثرة.

الشرقية كالمرأة المطلقة ... فقلت له: أنا اشتريت هذا الكتاب من أوروبا، ولكني لم أشتر منها دماغي. وكلمته أستخرج ما عنده؛ فإذا هو في قومه وتاريخ قومه كالسائح في بلاد أجنبية؛ يفتح لها عينه ولا يفتح لها قلبه. وكان جريئا في كلامه مع الباشا: يطرد القول حيث شاء حقا وباطلا، ثم لا إسناد لرأيه ولا تثبيت لحجته إلا قول فلان ورأي فلان، كأن في رأسه عقلا شحاذًا ... ثم ذكر آخر الأمر ما جاء له، فخجله الباشا وقال: هذه مسألة ككل مسائلك؛ تحتاج إلى رأي فيلسوف أوروبي ... وأعرض عنه ولم يدخل في شيء من أمره. ولما انصرف قال الباشا: يحسب هذا نفسه عالمًا، وهو صعلوك علمي ... وإنما يكون دماغه وأدمغة أمثاله عند الفلاسفة والعلماء الذين يذكرونهم كما تكون سلة المهملات عند الصحافيين. إن هذا الرجل يتم ضعف عقله في الرأي بقوة عناده فيه، ليجعل له ثبات الحقيقة فيظن حقيقة، كأن خضخضة الماء باليد في وعاء صغير ينقل إلى هذا الوعاء طبيعة الموج؛ وعند أمثال هذا المفتون من الصعاليك العلميين، أنك إذا تناولت مسألة فأخطأت فيها خطأ جريئا، فقد جعلتها بخطئك الجريء مسألة من العلم ... وأنك إذا عاندت فثبت الخطأ في وجه الناقدين سنة، كان حقيقة مدة سنة ... هم مفتونون زائغون، ومن فتنتهم أنهم يرون البعد بينهم وبين أهل الفضائل الشرقية، كالبعد بين العالم والجاهل، ولو حققوا لرأوه بعدا في الغرائز لا في العقل، أي كالبعد بين الفجور وما أشبه الفجور، وبين التقوى وما أشبه التقوى. زعم الأحمق أن خصمه الفلاح رجل راسخ في الماضي، كأنه باق في أمس لم ينتقل منه، مع أن أمس قد انقطع من الزمن، ثم خرج من ذلك إلى أن الأمة يجب أن تنبذ ماضيها، ثم ادعى أن الإسلام يتعصب للماضي. هذه ثلاث كلمات تخرج منها الرابعة التي سكت عنها1. وأنا لو شئت أن أسخر من مثل هذا الصعلوك العلمي، لما وجدت في

_ 1 الرابعة التي يستلزمها هذا السياق المنطقي: هي تجرد الأمة من الدين، وذلك ما يعمل له بعض الصعاليك العلميين.

أساليب السخرية أبلغ من أن أبعث إليه بقارورة فارغة وأقول له: املأها لي من آراء الفلاسفة. يغفل هذا وأمثاله عن أن الدين الإسلامي لا يعرف الماضي بمعنى ما مضى على إطلاقه؛ بل هو يشترط فيه ألا يخالف العقل ولا العلم، وألا يناقض الهداية؛ {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] , وفي الآية الأخرى: {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104] , {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان: 21] , وفي الرابعة: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 23، 24] . فانظر كيف صور ما نسميه اليوم بالجمود في قوله: "حسبنا"، وكيف صور ما نسميه بالرجعية في قوله "نتبع"، وتأمل كيف رفض الجمود والرجعية معا في العلم والعقل والهداية، أي في آثارها من العلوم المخترعات والفضائل الإنسانية، وكيف أبطل في تلك الثلاث الاحتجاج بالماضي بهذا الأسلوب الدقيق العالي، وهو قوله في كل آية، أولو، أولو. لم يغيرها؛ بل كررها بلفظها أربع مرات. فالمعجز هنا مجيء الآيات بهذه الصورة المنطقية لإسقاط حجتهم، ونفي معنى التقديس عن الماضي فيهن؛ إذ كان العلم دائم التغير، وكان العقل دائم التجديد والإبداع، وكانت الهداية شديدة على الطبيعة الحيوانية التي هي ماضي النفس؛ فكأنها جديدة على النفس عند كل شهوة. إن الإنسان بماضيه وحاضره كأنه مقسوم قسمين، يقول أحدهما: أريد أن أكون. ويقول الآخر: أنا قد كنت. فالإسلام بهذه الآيات قد أوجب وزن الكلمتين في كل زمن بما هو الأصح، وبما هو الأنفع، وبما هو الأهدى؛ وباشتراطه الهداية في جميعها أشار إلى أن الكمال النفسي للفرد يجب أن يكون مرتبطا بالكمال الإنساني للجنس. وهذا معنى عجيب، وأعجب منه ما ترى من أن الإسلام قد أصلح فكرة الماضي، فنقلها من معنى الآباء والأجداد للناس، إلى المعاني التي هي كالآباء والأجداد لإنسانية الناس. والأخذ "بالأهدى" في اجتماع أمة من الأمم، إنما هو بعينه ناموس الترقي والتطور.

ومن أدق الأسرار قوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 23] فكلمة "أمة" هذه لم يعرفها أحد على حقيقتها، ولم تفسرها إلا علوم هذا الزمن، فهي المشاعر النفسية التي يتكون منها مزاج الشعب، وفيها يستقر الماضي؛ كأن الآية قد عبرت بآخر ما انتهى إليه علماء النفس؛ من أن الإنسان ابن أبويه وابن شعبه أيضًا. فالتعصب في الإسلام هو للعلم النافع، وللمجد الصحيح، وللهداية الباعثة على الكمال؛ وتعصب الجيل لمثل هذا في ماضيه، هو في اسمه تعصب، غير أنه في معناه إنما هو العمل لتسليم مجد الأمة إلى الجيل التالي.

المعجم السياسي

المعجم السياسي: وحدثني صاحب سر "م" باشا قال: كنا في سنة 1920، وهي بنت سنة 1919 1؛ وقد اجتمعت الأمة على مقاطعة لجنة "ملنر" لا تكلمها، فجعلت السكوت ثورة، وأعلن الشعب أن كلمته في لسان الوفد ينطق الوفد بها نطق النبي بما يوحى إليه، فما يكون لأحد غيره أن يقولها، ولا أن يقول أوحي إلي، وأبى اللورد ملنر أن يصدق أن للمصريين إجماعا يعتد به، وأنهم دخلوا في السياسة دخولًا ثابتًا فرسخوا فيها، وأنهم أصبحوا مع الإنجليز كالإنجليز الذين يقولون عن أنفسهم في مثلهم السائر: ينبغي أن نكون أحرارًا مثل أعمالنا. وزعم اللورد لنفسه، أن هذه الأحزاب المصرية لا يتفق منها اثنان أبدًا إلا كان بينهما ثالث يختلفان عليه، وهو الطمع في مناصب الحكم؛ واستخراج من ذلك أن المصري والمصري كشقي المقراض؛ لا يتحركان في عمل إلا على تمزيق شيء بينهما؛ فإن لم يكن بينهما "الشيء" لم يكن منهما شيء. وذهب الرجل يتظنى ويحدس على ما يخيل له الظن، وقد حسب أن إنجلترا يحق لها أن تقول في المصريين ما يقول الله في خلقه كما ورد في الأثر: "إنما يتقلبون في قبضتي". وكما تقول اليوم لأهل فلسطين من العرب: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19] , وكان اللورد هذا رجلا ممارس المشاكل السياسية، دخالا فيها، داهية من دهاة القوم، له في قلبه عينان وأذنان غير ما في وجهه كحذاق السياسيين؛ وهو يعرف أن سياسة قومه لا تدخل في شيء إلا دخول الإبرة بخيطها في الثوب، إن خرجت هي تركت الخيط وقد جمع وشد ... فأراد أن يمتحن مذهب المصريين في إجماعهم على الاستقلال، وقدر أنه واجد من الفلاحين عونا له ومادة لمكره السياسي، وحسب الوفد صورة جديدة من طبقة "الباشوات" القديمة، ينزلون من الشعب منزلة اليد التي تمسك القيد، من الرجل التي فيها القيد، ويضعون

_ 1 سنة الثورة المصرية، وقد مر وصفها في مقالة "الأخلاق المحاربة".

معنى كلمة الحاجة في كلمة السياسة، ويقولون: الوطن وهم يريدون الجاه، ويقيمون الشعب كالسلم ينتصب قائما ليحمل أرجلهم الصاعدة عليه. فجاء اللورد إلى مصر، فوجد الأمة كلها قد حذرت منه وتيقظت له، حتى نصحه رشدي باشا بأنه لن يجد في مصر هرة تفاوضه؛ ولكنه كان مستيقنا أن أذن السياسة الإنجليزية "كالرديو" لصوتين: صوت الدنانير وصوت الجماهير، فمر في البلاد يرسم على الهواء علامات استفهام، وانصفق عنه الناس وأهملوه، وكان يسير في دائرة الصمت التي مركزها أبو الهول، فبدأ وظل يبدأ حتى انتهى وما زال يبدأ ... وساح في البلاد سياحة طويلة، وكأنه لم يسافر إلا من شفة أبي الهول السفلى إلى شفته العليا. قال صاحب السر: وجاء الورد لمقابلة الباشا، فمر علي مرور كتاب مقفل: لا أعرف منه إلا العنوان؛ غير أنه رجل بمقدار الرجل الذي يخالف أمة كاملة تكاد تحسبه مطويا على زوبعة، وترى له قوتين تحس من أثرهما الرهبة والإعجاب، وإذا تأملته قلت إن اللطف والظرف أضعف شمائله، وإن الدهاء والحلية أقوى مواهبه. فلما لقيت الباشا من الغد، سألني: كيف رأيت اللورد ملنر؟ فقلت: والله يا باشا إنه كالضرورة؛ ما يتمناها أحد ولكنها تجيء. فضحك الباشا وقال: يا ليت لنا -نحن الشرقيين- كل يوم ضرورة تصنع ما صنع اللورد؛ إنه كشف لنا في ذات أنفسنا عن حقيقة من أسمى الحقائق السياسية, وهي أن الشعب الذي يصر ولا يزال يصر يجعل الإغراء لا يغري والخوف لا يخيف. ويا ليت الأمم الشرقية تتعلم هذا الصمت السياسي عن مجاوبة الكلمة الاستعمارية أحيانًا؛ فإن صمت الأمة المصرية عن جواب "ملنر" كان معناه أن قدرة الأمة هي المتكلمة كلامها بذا الصمت، تعلن للعالم أن الواجب الشعبي قد وضع قفله على كل فم. وقد فسر اللورد هذا السكوت بتفسيره السياسي، فأدرك منه أن في الشعب أنفة وحمية وقوة، وأن حساب الضمير الوطني أصبح لهذه الأفئدة كالحساب الإلهي للنفوس المؤمنة: كلاهما مستعلن يخاف ويتقي، وكلاهما كلمة محرمة. أية معجزة هذه التي جعلت كلمة الأجنبي تتخذ في أذهان أمة كاملة شكل قائلها، فاجتمعت لها البلاد على معنى الرفض، وأصبح كل فرد يعرف محله من الكل،

وخضعت الطبائع بجملتها لقانون العزة القومية، الذي يلزمها ألا تخضع للأجنبي؟ إن الأمم بعض مسائل نفسية كهذه المسألة؛ فلو أن لنا خمسة دروس سياسية مختلفة كدرس "ملنر"، لكانت لنا في الإيمان الوطني كالصلوات الخمس. والآن تعلمت الأمة أن الشعب العزيز هو الذي ينظر في فض مشاكله إلى الحل وإلى طريقة الحل أيضا، وقد كان "ملنر" هو أول أساتذتنا في تعليمنا الطريقة. وهذا الدرس يجب أن يكون درسًا للشرق كله، فإن السياسة الاستعمارية قائمة فيه على خداع الطريقة في حل مشاكله، فيحلونها ويعقدونها في نص واحد؛ ويثبت الكلام الذي يتفقون عليه أن المراد منه زوال الخلاف، ويثبت العمل بعد ذلك أن المراد كان زوال المقاومة. وفي السياسة الأوروبية موافقات دميمة كالنساء المشوهات، فإذا عرضوا واحدة منها على من يريدون أن يزوجوه ... فأباها وفتح لها عينيه بكل ما فيهما من قوة الإبصار، أعفوه منها وقالوا له: سنأتيك بالجميلة، ثم يذهبون بها إلى معهد التجميل اللغوي، فيصقلونها ويصبغونها، ويضعون لها أحمر السياسة وأبيضها، ثم يعرضونها جديدة على صاحبهم ذاك، وما صنعوا ما به صارت الدميمة غير دميمة، ولكن ما به رجع غير الأعمى كالأعمى. ولهم عقول عجيبة في اختراع الألفاظ، حتى لتكون شدة الوضوح في عبارة، هي بعينها الطريقة لإخفاء الغموض في عبارة أخرى. وكثيرًا ما يأتون بألفاظ منتفخة تحسب جزلة بادنة قد ملأها معناها، وهي في السياسة ألفاظ حبالى، تستكمل حملها مدة ثم تلد. ولهم من بعض الكلمات السياسية، كما لهم من بعض الرجال السياسيين؛ فيكون الرجل من دهاتهم رجلا كالناس، وهو عندهم مسمار دقوه في أرض كذا أو مملكة كذا، ويكون اللفظ لفظا كاللغة، وهو مسمار دقوه في وثيقة أو معاهدة. ثم ضحك الباشا وقال: إن أرضنا تخرج القطن، وسياستنا تخرج ألفاظًا كالقطن: لا توضع في المغزل إلا مدت وتحولت. وإذا ذهبنا نخالفهم في التأويل والتفسير، لم نجد عندنا المعجم السياسي الذي يملي النص، أتدري يا بني ما هو المعجم السياسي؟ أما إنه لو كان كتابا يألف من مليون كلمة، لذهبت كلها عبثا وباطلا وهراء، ولكنه ذلك المعجم الحي، ذلك المعجم الذي يتألف من مليون جندي ...

اللسان المرقع

اللسان المرقع: وقال صاحب سر "م" باشا: جاء "حضرة صاحب السعادة" فلان لزيارة الباشا؛ وهو رجل مصري ولد في بعض القرى، ما نعلم أن الله "تعالى" ميزه بجوهر غير الجوهر، ولا طبع غير الطبع، ولا تركيب غير التركيب، ولا زاد في دمه نقطة زهو، ولا وضعه موضع الوسط بين فنين من الخليقة. غير أنه زار فرنسا، وطاف بإنجلترا، وساح في إيطاليا، وعاج على ألمانيا، ولون نفسه ألوانا، فهو مصري ملون. ومن ثم كان لا يرى في بلاده وقومه إلا الفروق بين ما هنا وبين ما هناك. فما يظهر له دين قومه إلا مقابلا لشهوات أحبها وغامر فيها، ولا لغة قومه إلا مقرونة بلغة أخرى ود لو كان من أهلها، ولا تاريخ قومه إلا مغمى عليه كالميت بين تواريخ الأمم. هو كغيره من هؤلاء المترفين المنعمين: مصري المال فقط، إذ كانت أسبابهم ومستغلاتهم في مصر؛ عربي الاسم لا غير، إذ كانت أسماؤهم من جناية أهليهم بالطبيعة؛ مسلم ما مضى دون ما هو حاضر؛ إذ كان لا حيلة في أنسابهم التي انحدروا منها. هو كغيره من هؤلاء المترفين المنعمين المفتونين بالمدنية, لكل منهم جنسه المصري ولفكره جنس آخر. قال: وكان حضرة صاحب السعادة يكلم الباشا بالعربية التي تلعنها العربية، مرتفعا بها عن لغة الفصيح ارتفاعا منحطا ... نازلا بها عن لغة السوقة نزولا عاليا ... فكان يرتضخ لكنة أعجمية، بينا هي في بعض الألفاظ جرس عال يطن، إذا هي في لفظ آخر صوت مريض يئن، إذا هي في كلمة ثالثة نغم موسيقى يرن. ورأيته يتكلف نسيان بعض الجمل العربية ليلوي لسانه بغيرها من الفرنسية، لا تطرفا ولا تملحا ولا إظهارًا لقدرة أو علم، ولكن استجابة للشعور الأجنبي الخفي المتمكن في نفسه. فكانت وطنية عقله تأبى إلا أن تكذب وطنية لسانه، وهو بإحداهما زائف على قومه، وبالأخرى زائف على غير قومه.

فلما انصرف الرجل قال الباشا: أف لهذا وأمثال هذا! أف لهم ولما يصنعون! إن هذا الكبير يلقبونه "حضرة صاحب السعادة"، ولأشرف منه -والله- رجل قروي ساذج يكون لقبه "حضرة صاحب الجاموسة" ... نعم إن الفلاح عندنا جاهل علم، ولكن هذا أقبح منه جهلا، فإنه جاهل وطنية. ثم إن الجاموسة وصاحبها عاملان دائبان مخلصان للوطن؛ فما هو عمل حضرة "صاحب اللسان المرقع" هذا؟ إن عمله أن يعلن برطانته الأجنبية أن لغة وطنه ذليلة مهينة، وأنه متجرد من الروح السياسي للغة قومه؛ إذ لا يظهر الروح السياسي للغة ما، إلا في الحرص عليها وتقديمها على سواها. كان الواجب على مثل هذا ألا يتكلم في بلاده إلا بلغته، وكان الذي هو أوجب أن يتعصب لها على كل لغة تزاحمها في أرضها، فترك هذا وهذا وكان هو المزاحم بنفسه؛ فهو على أنه "حضرة صاحب سعادة"، لا ينزل نفسه من اللغة القومية إلا منزلة خادم أجنبي في حانة. أتدري ما هو سر هؤلاء الكبراء وهؤلاء السراة الذين يطمطمون إذا تكلموا فيما بينهم؟ أنهم عندنا طبقات: أما واحدة: فإنهم يصنعون هذا الصنيع منجذبين إلى أصل راسخ في طباعهم، مما تركه الظم والاستبداد والحمق في زمن الحكم التركي؛ فهم يبدون جوهر نفوسهم لأعينهم وأعين الناس، كأنه اللغة الأجنبية فيما بينهم علامة الحكم والسلطة واحتقار الشعب واستمرار ذلك الحمق في الدم ... وهم بها يتنبلون. وأما طبقه، فإنهم يتكلفون هذا مما في نفوسهم من طباع أحدثها النفاق والخضوع والذل السياسي في عهد الاحتلال الإنجليزي؛ فاللغة الأجنبية بينهم تشريف واعتبار، كأنهم بها من غير الشعب المحكوم الذي فقد السلطة، وهم بها يتمجدون. وأما جماعة، فإنهم يتعمدون هذا يريدون به عيب اللغة العربية وتهجينها، إذ اتخذوا من عداوة هذه اللغة طريقة انتحلوها ومذهبا انتسبوا إليه، وفيهم العالم بعلوم أوروبا، والأديب بأدب أوروبا؛ وذلك من عداوتهم للدين الإسلامي، إذ جعل هذه اللغة حكومة باقية في بلادهم مع كل حكومة وفوق كل حكومة؛ وهم يزدرون هذا الدين ويسقطون عن أنفسهم كل واجباته. وهؤلاء قد خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، إذ يغلون في مصريتهم غلوا قبيحا ينتهي بهم إلى سفه الآراء، وخفة الأحلام، وطيش النزعات، فيما يتصل بالدين الإسلامي وآدابه ولغته. وما أرى الواحد منهم إلا قد غطى

وصفه من حيث هو رقيع، على وصفه من حيث هو عالم أو أديب أو ما شاء. إن هذا لمقت {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 35] . ومن أثر تلك الفئات الثلاث نشأت فئة رابعة، تحول فيهم ذلك الخلط من الكلام إلى طريقة نفسية في النفس؛ فهم يقحمون في كتابتهم وحديثهم الكلمات الأجنبية، ويحسبون عملهم هذا تظرفا ومعابثة ومجونا، على أنه هو الذي يظهر لعين البصير مواضع القطع التاريخي في نفوسهم، وأماكن الفساد القومي في طبيعتهم، وجهات التحلل الديني في اعتقادهم، وهؤلاء يكتب أحدهم: "النرفزة" وهو قادر أن يقول الغضب, "والفلير" وهو مستطيع أن يجعل في مكانها المغازلة، "وسكالنس" وهو يعرف لفظة أنواع وألوان، وهكذا وهكذا؛ ولا -والله- أن تكون المسافة بين اللفظين إلا المسافة بعينها بين قلوبهم ورشد قلوبهم. وما برح التقليد السخيف لا يعرف له بابا يلج منه إلى السخفاء إلا باب التهاون والتسامح؛ ونحن قوم ابتلينا بتزوير العيوب على أنفسنا وعدها في المحاسن والفضائل، من قلة ما فينا من الفضائل والمحاسن، وبهذه الطبيعة المعكوسة نحاول أن نقتبس من مزايا الأوروبيين، فلا نأخذ أكثر ما نأخذ إلا عيوبهم، إذ كانت هي الأسهل علينا، وهي الأشكل بطبعنا الضعيف المتسامح المتهاون. ومن هذا تجد مشاكلنا الاجتماعية -على أنها أهون وأيسر من مشاكل الأوروبيين، وعلى أن في ديننا وآدابنا لكل مشكلة حلها- تجدها هي علينا أصعب وأشد، لأننا ضعفاء ومتخاذلون ومقلدون ومفتونون، وكل ذلك من شيء واحد, وهو أن أكثر كبرائنا هم أكبر بلائنا. قال صاحب السر: ثم ضحك الباشا ضحكته الساخرة وقال: كيف تصنع أمة يكون أكثر العاملين هم أكبر العاطلين، إذ يعملون ولكن بروح غير عاملة.

سر القبعة

سر القبعة" وحدثني صاحب سر "م" باشا، قال: نجمت في مصر حركة بعقب أيام البدعة التركية، حين لم تبق لشيء هناك قاعدة إلا القاعدة الواحدة التي تقررها المشانق. فمن أبى أن يخلع العمامة عن رأسه خلعوا رأسه؛ ومن قال: "لا" انقلبت" "لا" هذه مشنقة فعلق فيها. وكانت فكرة اتخاذ القبعة في تركيا غطاء للرأس، قد جاءت بعد نزعات من مثلها كمات يجيء الحذاء في آخر ما يلبس اللابس، فلم يشك أحد أنها ليست قبعة على الرأس أكثر مما هي طريقة لتربية الرأس المسلم تربية جديدة، ليس فيها ركعة ولا سجدة؛ وإلا فنحن نرى هذه القبعة على رأس الزنجي والهمجي، وعلى رأس الأبله والمجنون، فما رأيناها جعلت الأسود أبيض، ولا عرفناها نقلت همجيا عن طبعه، ولا عم أحد أنها أكملت العقل الناقص أو ردت العقل الذاهب، أو انقلبت آلة لحل مشكلات الرأس البليد، أو غصبت الطبيعة شيئا وقالت: هذا لحاملي دون حامل الطربوش والعمامة. وقد احتجوا يومئذ لصاحب تلك البدعة أنه لا يرى الوجه إلا المدنية، ولا يعرف المدنية إلا مدنية أوروبا، فهو يمتثلها كما هي في حسانتها وسيئاتها، وما يحل وما يحرم وما يكون في حاجة إليه وما يكون في غنى عنه؛ حتى لو أن الأوروبيين كانوا عورا بالطبيعة، لجعل هو قومه عورا بالصناعة ليشبهوا الأوروبيين. نعم إنها حجة تامة لولا نقص قليل في البرهان، يمكن تلافيه بإخراج طبعة جديدة من كتب الفتوح العثمانية، يظهر فيها الخلفاء العظام والأبطال المغاوير الذين قهروا الأوروبيين لابسين قبعات، ليشبهوا الأوروبيين. قال صاحب السر: وتهور في هذه الضلالة رهط من قومنا، وأخذوا يدعون إلى التقبع في مصر احتذاء لتركيا، وذهب بعضهم إلى سعد باشا "رحمه الله" يطلب رأيه، فكان رأيه "لا" بمد الألف ... وعهد إلي بعضهم أن أسأل الباشا، فقال: ويحهم! ألا يخجلون أن نكون -نحن المصريين- مقلدين للتقليد نفسه؟ إن

هذه بدعة تنحط عندنا درجة عن الأصل، فكأنها بدعتان1. ثم ضحك الباشا وقال: كان في القديم رجل سمع أن البصل بالخل نافع للصفراء، فذهب إلى بستان يملكه وقال لوكيله: ازرع لي بصلا بخل ... هكذا يريدون من القبعات؛ أن تخرج لهم تركا بأوروبيين. ليست هذه القبعة في تركيا هي القبعة، بل هي كلمة سب للعرب ورد على الإسلام، ضاقت بها كل الأساليب أن تظهرها واضحة بينة، فلم يف بها إلا هذا الأسلوب وحده. وهي إعلان سياسي بالمناوأة والمخالفة والانحراف عنا واطراحنا. فإن الذي يخرج من أمته لا يخرج منها وهو في ثيابها وشعارها؛ فبهذا انفتح لهم باب الخروج في القبعة ودون غيرها مما يجري فيه التقليد أو يبدعه الابتكار؛ وإلا فأي سر في هذه القبعات، ومتى كانت الأمم تقاس بمقاييس الخياطين؟ ههنا سيف أراد أن يكون مقصا فعمل أولا ما يعمل الحسام البتار، فأجاد وأبدع وأكبره الناس وأعظموه؛ ثم صنع ما يصنع المقص، فماذا عساه يأتي به إلا ما ينكره الأبطال والخياطون جميعًا؟ أكتب علينا أن نظل دهرنا نبحث في التقليد الأعمى، وألا يحيا الشرقي إلا مستعبدا ينتظر في كل أموره من يقول له: اشرع لي؟ إن بحثنا فلنبحث في زي جديد نتميز به، فتكون القوى الكامنة فينا وفي طبيعة أرضنا وجونا هي التي اخترعت لظاهرها ما يجعله ظاهرها. كما يخرج زور الأسد لبدة الأسد. غاية في المنفعة والجمال والملائمة. أنا ألبس ما شئت، ولكني عند القبعة أجد حدا تقف إليه ذاتيتي الفردية، فلا أرى ثمة موضع انفراد ولكن موضع مشاكلة، ولا أعرف صفة منفعة لي بل صفة حقيقة مني، ويعترضني من هناك المعنى الذي يصير به النوع إلى الجنس. والواحد إلى الجماعة وما دمت مسلما أصلي وأركع وأسجد، فالقبعة نفسها تقول لي: دعني فلست لك. وهؤلاء الرجال الذين لبسوها في مصر، إنما اشتقوها من المصدر نفس المصدر الذي يخرج منه التهتك في النساء، وكلاهما منزع من المخالفة، وكلاهما

_ 1 الأصل تقليد تركيا لأوروبا، وهذه بدعة؛ فتقليدنا لتركيا بدعة أسخف من الأول.

ضد من صفة اجتماعية تقوم بها فضيلة شرقية عامة. وليس يعدم قائل وجها من القول في تزيين القبعة، ولا مذهبا من الرأي في الاحتجاج لها، غير أن المذاهب الفلسفية لا يعجزها أن تقيم لك البرهان جدلا محضا على أن حياء المرأة وعفتها إن هما إلا رذيلتان في الفن ... وإن هما إلا مرض وضعف، وإن هما إلا كيت وكيت، ثم تنتهي الفلسفة إلى عدهما من البلاهة والغفلة، وما الغفلة والبلاهة إلا أن تريد فلسفة من فلسفات الدنيا أن تقحم في كتاب الصلاة مثلا فصلا في ... في ... في الدعارة. لا يهولنك ما أقرر لك: من أن القبعة الأوروبية على رأس المسلم المصري، تهتك أخلاقي أو سياسي أو ديني أو من هذه كلها معا، فإنك لتعلم أن الذين لبسوها لم يلبسوها إلا منذ قريب، بعد أن تهتكت الأخلاق الشرقية الكريمة وتحلل أكثر عقدها، وبعد أن قاربت الحرية العصرية بين النقائض حتى كادت تختلط الحدود اللغوية، فحرية المنفعة مثلا تجعل الصادق والكاذب بمعنى واحد، فلا يقال: إلا أنه وجد منفعته فصدق، ووجد منفعته فكذب؛ وعند الحرية العصرية أنه ما فرق بين اللفظين وجعل لكل منهما حدودًا إلا جهل القدماء، وفضيلة القدماء، ودين القدماء. وهذه الثلاثة: الجهل والفضيلة والدين، هي أيضا في المعجم اللغوي الفلسفي الجديد مترادفات لمعنى واحد، هو الاستعباد أو الوهم أو الخرافة. ومتى أزيلت الحدود بين المعاني، كان طبيعيا أن يلتبس شيء بشيء وأن يحل معنى في موضع معنى غيره، وأصبح الباطل باطلا بسبب وحقا بسبب آخر، فلا يحكم الناس إلا مجموعة من الأخلاق المتنافرة، تجعل كل حقيقة في الأرض شبهة مزورة عند من لا تكون من أهوائه ونزعاته، فيحتاج الناس بالضرورة إلى قوة تفصل بينهم فصلا مسلحا، فيكسبون القانون بمدنيتهم قوة همجية تضطره أن يعد للوحشية الإنسانية، وتدفع هذه الوحشية أن تعد له. ومن اختلاط الحدود تجيء القبعة على رأس المسلم، وما هي إلا حد يطمس حدا، وفكرة تهزم فكرة، ورذيلة تقول لفضيلة: ها أنذا قد جئت فاذهبي. ما هو الأكبر من شيئين بينهما لتعيين الصغر؛ وما هو الأصغر من شيئين لا حد بينهما لتعيين الكبر؟ إنها الفوضى كما ترى ما دام الحد لا موضع له في التمييز ولا مقر له في العرف ولا فصل به في العادة؛ ومن هنا كان الدين عند أقوام أكبر كلمات الإنسانية في عامة لغاتها وأملأها بالمعنى، وكان عند آخرين

أصغرها وأفراغها من المعنى، وما كبر عند أولئك إلا من أنه يسع الاجتماع الإنساني وهو محدود بغاياته العليا، وما صغر عند هؤلاء إلا بأن الاجتماع لا يسعه فلا حد له، وكأنه معنى متوهم لا وجود له إلا في أحرف كلمته. فجماعة القبعة لا يرون لأنفسهم حدا يحدونها به من أخلاقنا أو ديننا أو شرقيتنا، وقد مرقوا من كل ذلك وأصبحوا لا يرون في زينا الوطني ما فيه من قوة السر الخفي الذي يلهمنا ما أودعه التاريخ من قوميتنا ومعاني أسلافنا. وأنا أعرف أن منا قومًا يرى أحدهم في ظن نفسه أنه قانون من قوانين التطور؛ فهو فيما يلابسه لا ينظر إلى أنه واحد من الناس، بل واحد من النواميس ... ومن هنا الثقل والدعوى الفارغة، وما هو أكبر من الثقل وفراغ الدعوى. وإنه لحق أن يكون بعض الناس أنبياء، ولكن أقبح ما في الباطل أن يظن كل إنسان نفسه نبيا. واعلم أنه كثيرًا مما يزينونه للشرقي من رذائل المدنية الأوروبية، إن هو إلا منطق شهواته في جملته، ولقد تسمع الجائع يتكلم عن الطعام، فترى كلامًا تحته معان ومعان لا يعدها غير الجائع إلا حماقة ساعتها.

سعد زغلول

سعد زغلول: وقال صاحب سر "م" باشا: ألقى إلي الباشا ذات يوم أن "سعدا" مصبحنا زائرًا1، وكانت بين الرجلين خاصة وأسباب وطيدة. وللباشا موقع أعرفه من نفس سعد كما أعرف الشعلة في بركانها؛ أما سعد فكان قد انتهى إلى النهاية التي جعلته رجلا في إحدى يديه السرح وفي الأخرى المعجزة، فهو من عظماء هذه البلاد كقاموس اللغة من كلمات اللغة, يرد كل مفرد إليه في تعريفه، ولا تصح الكلمة عند أحد إلا إذا كانت فيه الشهادة على صحتها. وجاءنا سعد غدوة، فأسرعت إلى تقبيل يده قبلة لا تشبهها القبلات، إذ مثلت لي من فرحها كأنها كانت منفية ورجعت إلى وطنها العزيز حين وضعت على تلك اليد. إن الرجل العظيم إذا كان بارا بأبيه عارفا قدره مدركا عظمته، يشعر حين يقبل يد أبيه كأنه يسجد بروحه سجدة لله على تلك اليد التي يقبلها، ويجد في نفسه اتصالا كهربائيا بين قلبه وبين سر وجوده، ويخصه العالم بلمسة كأن قبلته نبضت في الكون, وكل هذا قد أحسسته أنا في تقبيلي يد سعد، وزدت عليه شعوري بمثل المعنى الذي يكون في نفس البطل حين يقبل سيفه المنتصر. وضحك لي سعد باشا ضحكته المعروفة، التي يبدأها فمه، وتتمها عيناه، ويشرحها وجهه كله، فتجد جوابها في روحك كأنه في روحك ألقاها. والرجل من الناس إذا نظر إلى سعد وهو يبتسم، رأى له ابتسامة كأنها كمال يتواضع، فيحس كأن شيئا غير طبيعي يتصل منه بشيء طبيعي، فينتعش ويثب في وجوده الروحي وثبة عالية تكون فرحًا أو طربًا أو إعجابًا أو خشوعًا أو كلها معا. غير أن الرجل من الحكماء إذا تأمل وجه سعد، وهو يضحك ضحكته المطمئنة المتمكنة من معناها المقر أو المنكر أو الساخر أو أي المعاني -حسب نفسه يرى

_ 1 يقال: صبحه "بتشديد الباء"، أي جاءه صبحًا.

شكلا من القول لا من الضحك، وظهرت له تلك الابتسامة الفلسفية متكلمة، كأنها مرة تقول: هذا حقيقي. ومرة تقول: هذا غير حقيقي. إن سعدا العظيم كان رجلا ما نظر إليه وطني إلا بعين فيها دلائل أحلامها، كأنما هو شخص فكرة لا شخص إنسان؛ فإذا أنت رأيته كان في فكرك قبل أن يكون في نظرك؛ فأنت تشهده بنظرين: أحدهما الذي تبصر به، والآخر ذاك الذي تؤمن به. عبقري كالجمرة الملتهبة لا تحسبه يعيش بل يحترق ويحرق؛ ثائر كالزلزلة فهو أبدًا يرتج وهو أبدًا يرجع ما حوله؛ صريح كصراحة الرسل، تلك التي معناها أن الأخلاق تقول كلمتها. رجل الشعب الذي يحس كل مصري أنه يملك فيه ملكا من المجد. وقد بلغ في بعض مواقفه مبلغ الشريعة، فاستطاع أن يقول للناس: ضعوا هذا المعنى في الحياة، وانزعوا هذا المعنى من الحياة. قال صاحب السر: وانقضت الزيارة وخرج سعد والباشا إلى يساره، فلما رجع من وداعه قال لي: والله يا بني لكأنما زاد هذا الرجل في ألقاب الدولة لقبا جديدًا، ثم ضحك وقال: أتدري ما هو هذا القلب؟ قلت: فما هو يا باشا؟ قال: والله يا بني ما من "باشا" في هذه الدولة يكون إلى جانب سعد، إلا وهو يشعر أن رتبته "نصف باشا". هذا رجل قد بلغ من العظمة مبلغا تصاغر معه الكبير، وتضاءل العظيم، وتقاصر الشامخ، نعم حتى ترك أقوامًا من خصومه العظماء، كفلان وفلان، وإن الواحد منهم ليلوح للشعب من فراغه وضعفه وتطرحه، كأنه ظل رجل لا رجل. وقد أصبح قوة عاملة لا بد من فعلها في كل حي تحت هذا الأفق، حتى كأن معاني نفسه الكبيرة تنتشر في الهواء على الناس، فهو قوة مرسلة لا تمسك، ماضية لا ترد، مقدورة لا يحتال لها بحيلة. هذا وضع إلهي خاص لا يشبهه أحد في هذه الأمة، كميدان الحرب لا تشبهه الأمكنة الأخرى؛ فقد غامر سعد في الثورة العرابية، وخرج منها، ولكنها هي لم تخرج منه، بل بقيت فيه؛ بقيت فيه تتعلم القانون والسياسة، وتصلح أغلاطها، ثم

ظهرت منه في شكلها القانوني الدقيق، وبهذا تراه يغمر الرجال مهما كانوا أذكياء، لأن فيه ما ليس فيهم، وتراهم يظهرون إلى جانبه أشياء ثابتة في معانيها، أما هو فتراه من جميع نواحيه يتلاطم كالأمواج العاتية. وتلك الثورة هي التي تتكلم في فمه أحيانا فتجعل لبعض كلماته قوة كقوة النصر، وشهرة كشهرة موقعة حربية مذكورة. ولما كان هو المختار ليكون أبا للثورة, حرمته القدرة الإلهية النسل، وصرفت نزعة الأبوة فيه إلى أعماله التاريخية، ففيها عنايته وقلبه وهمومه، وهي نسل حي من روحه العظيمة، ويكاد معها يكون أسدًا يزأر حول أشباله، ولن يذكر السياسيون المصريون مع سعد، ولن يذكر سعد نفسه إذا انقلب سياسيا، فإن المكان الخالي في الطبيعة الآن هو مكان رجل المقاومة لا رجل السياسة، وهذا هو السبب في أن سعدًا يشعر الأمة بوجوده لذة كلذة الفوز والانتصار، وإن لم يفز بشيء ولم ينتصر على شيء؛ فاطمئنان الشعب إلى زعيم المقاومة، هو بطبيعته كاطمئنان حامل السلاح إلى سلاحه. وسعد وحده هو الذي أفلح في أن يكون أستاذ المقاومة لهذه الأمة؛ فنسخ قوانين، وأوجد قوانين، وحمل الشعب على الإعجاب بأعماله العظيمة، فنبه فيه قوة الإحساس بالعظمة فجعله عظيما، وصرفه بالمعاني الكبيرة عن الصغائر، فدفعه إلى طريق مستقبله يبدع إبداعه فيه. إن هذا الشرق لا يحيا بالسياسة ولكن بالمقاومة ما دام ذلك الغرب بإزائه؛ والفريسة لا تتخلص من الحلق الوحشي إلا باعتراض عظامها الصلبة القوية في هذا الحلق. وكم في الشرق من سياسي كبير يجعلونه وزيرًا، فتكون الوظيفة هي الوزير لا نفس الوزير، حتى لو خلعوا ثيابه على خشبة ونصبوها في كرسيه، لكانت أكثر نفعا منه للأمة، بأنها أقل شرًّا منه. يا بني، كل الناس يرضون أن يتمتعون بالمال والجاه والسيادة والحكم، فليست هذه هي مسألة الشرق، ولكن المسألة: من هو النبي السياسي الذي يرضى أن يصلب؟

حماسة الشعب

حماسة الشعب: وحدثني سر "م" باشا قال: لما رجع سعد باشا من أوروبا في سنة 1921، كانت الأمة في استقباله كأنها طائر مد جناحيه، لا خلاف لشيء منه على شيء منه، بل كله هو كله؛ وكانت المعارضة في الاستحالة يومئذ كاستحالة وجود رقعة في ريش الطائر. على أن ثوب السياسة المصرية كثير الرقع دائما بالجديد والخلق، فرقعة من المعارضين, وأخرى من المتعنتين، وثالثة من المتخاذلين، ورابعة من المعادين، وخامسة وسادسة وسابعة من الحاسدين والمنافسين والمختلفين لشهوة الخلاف؛ ورقاع بعد ذلك مما نعلم وما لا نعلم، فإن من العجيب أن هذا الجو الذي لا يتقلب إلا بطيئا، يتقلب أهله بسرعة؛ وهذه الطبيعة التي لا تكاد تختلف، لا يكاد أهلها يتفقون. ولكن سعدا "رحمة الله" رجع من أوروبا رجعة الكرامة لأمة كاملة، ففاز بأنه لم يخسر شيئا من الحق، وانتصر بأنه لم يهزم، ودل على ثباته بأنه لم يتزعزع، وذهب صولة ورجع صولة وعزيمة؛ فكان إيمان الشعب هو الذي يتلقاه، وكانت الثورة هي التي تحتفل به، وبطلت العلل كلها فلم يجد الاعتراض شيئا يعترض عليه، واتفقت الأسباب فاجتمعت الكلمة، وظهر سعد كأنه روح الأمة متمثلًا في قدرة، حاكما بقوة، متسلطا بيقين. نعم لم ينتصر البطل، ولكن الأمة احتفت به لأنه يمثل فيها كمالا من نوع آخر هو سر الانتصار؛ فكانت حماسة الشعب في ذلك اليوم حماسة المبدأ المتمكن؛ يظهر شجاعة الحياة، وفورة العزائم، وفضيلة الإخلاص، وشدة الصولة، وعناد التصميم؛ ويثبت بقوة ظاهره قوة باطنه، وكان فرح الأمة عنادا سياسيا يفرح بأنه لا يزال قويا لم يضعف، وكان ابتهاجها مجدًا يشعر بأنه لا يزال وافرًا لم ينتقص، وكان الإجماع ردا على اليأس، وكانت الحماسة ردا على الضعف. انبعثت صولة الحياة في الشعب كله، وابتدأ المستقبل من يومئذ، فلو نزلت

الملائكة من السماء في سحابة مجلجلة يسمع تسبيحهم ليؤيدوا سعدًا, لما زادوه شيئا؛ فقد كان محله من القلوب كأنه العقيدة, وكان التصديق مبذولا له كأنه الكلمة الأخيرة, وكانت الطاعة موقوفة عليه كأنه الباعث الطبيعي، وكان البطل في كل ذلك يشبه نبيا من قبل أن كلا منهما صورة كاملة للسمو في أفكار أمة. قال صاحب السر: ورجع الباشا من القاهرة وقد رأى من مسامحة النفوس، وصحة العهد، واجتماع الكلمة، وإعداد الشعب للمراس والمعاناة، فقال: تالله لقد أثبت "سعد" للدنيا كلها أن مصر الجبارة متى شاءت بنت الرجال على طريقة الهرم الأكبر في العظمة والشهرة والمنزلة والقوة. ولقد صنع هذا الرجل العظيم ما تصنع حرب كبيرة، فجمع الأمة كلها على معنى واحد لا يتناقض، ودفعها بروح قومية واحدة لا تختلف، وجعل عرق السياسة يفور كما يفور العرق المجروح بالدم. إن هذه الأمة بين شيئين لا ثالث بينهما: إما الحزم إلى الآخر وإما الإضاعة. ولا حزم إلا أن يبقى الشعب كما ظهر اليوم طوفانا حيا، مستوي الطبيعة، مندفع الحركة، غامرًا كل ما يعترضه، إلى أن يقضي الأمر ويقول أعداؤنا: يا سماء أقلعي. هكذا يعمل الوطن مع أهله كأنه شخص حي بينهم، حين يستوي الجميع في الثقة، ويتآزر الجميع في الأمل، ويشترك الجميع في العطف الروحي، ولا يبقى لجماعة منهم حظ في رغبة غير الرغبة الواحدة للجميع، وهكذا يعمل الوطن بأهله حين يعمل مع أهله. كان أعداؤنا يحسبوننا ذبابا سياسيا لا شأن له إلا بفضلات السياسة، ولا عمل له في أزهارها وأثمارها وعطرها وحلواها؛ فأسمعهم الشعب اليوم طنين النحل، وأراهم إبر النحل، ليعلموا أن الأزهار والأثمار والعطر والحلوى هي له بالطبيعة. وكانوا يتخرصون أن مذهبنا في الحياة لمصلحة المعاش فقط، وأن المصري، حاكما أو محكوما، لا يمد آماله الوطنية إلى أبعد من مدة عمره سبعين أو ثمانين سنة، فإذا أطلقوا أيدينا في حاضر الأمة أطلقنا أيديهم في مستقبلها. ومن ثم طمعوا أن يكون الحق الناقص في نفسه حقا تماما في أنفسنا لهذه العلة؛ وحسبوا أن السياسي المصري لا يتجرأ أن يقول ما يقوله السياسي الأوروبي من أنه لا يخشى الموت ولكن يخشى العار, فإنه إذا مات مات وحده، وإذا جلب العار جلبه على نفسه وعلى أمته

وعلى تاريخ أمته، بيد أن سعدا قالها؛ وفي مثل هذا يكون قول "لا" معركة. وها هي ذي معركة اليوم التاريخية، فإن الذرات الحية التي تخلق من دمائنا -نحن المصريين- قد ثارت في هذه الدماء، في هذا النهار، تعلن أنها لا ترضى أن تولد مقيدة بقيود. أتدري ماذا عرضوا على سعد؟ إنهم عرضوا عليه ما يشبه في السخرية طاحونة تامة الأدوات والآلات من آخر طراز، ثم لا تقدم لها إلا حبة قمح واحدة لتطحنها ... نتيجة تسخر من أسبابها، وأسباب تهزأ بالنتيجة. إن أوروبا لا تحترم لا من يحملها على احترامه، فما أرى للسياسيين في هذا الشرق عملا أفضل ولا أقوى ولا أرد بالفائدة من إحياء الحماسة في كل شعب شرقي، ثم حياطتها وحسن توجيهها؛ فهذه الحماسة الشعبية الدائمة القوية البصيرة، هي قوة الرفض لما يجب أن يرفض، وقوة التأييد، لما يجب أن يقبل، وهي بعد ذلك وسيلة جمع الأمر، وإحكام الشأن، وإقرار العزيمة في الأخلاق، وتربية الثقة بالنفس، وبها يكون إذكاء الحس وتعويده إدراك الأعمال العظيمة، والتحمس لها، والبذل فيها. وما علة العلل فينا إلا ضعف الحماسة الشعبية في الشرق، وسوء تدبيرها، وقبح سياستها؛ وإنا لنأخذ عن الأوروبيين من نظامهم وأساليبهم وسياستهم وعلومهم وفنونهم؛ فنأخذ كل ذلك بروحنا الفاترة في خمول وإهمال وتواكل وتفرد بالمصلحة واستبداد بالرأي، فإذا دينارهم في أيدينا درهم، وإذا نحن وإياهم في الشيء الواحد كالنحلة والذبابة على زهرة ... ليست لنا حماسة الحياة، وبهذا تختلف أعمالنا وأعمالهم، وذلك هو السر أيضا في أن أكثر حماستنا كلامية محضة؛ إذ يكون الصراخ والصياح والتشدق ونحوها من هذه المظاهر الفارغة تنقيحا للطبيعة الساكنة فينا، وتنويعا منها بغير أن نجهد في التنقيح والتنويع. ومن هذا كانت لنا أنواع من الكلام ينطلق اللسان فيها للخروج من الصمت لا غير ... ومنه كثير من هذا الهراء السياسي الذي يدور في المجالس والأحزاب والصحف. إن حماسة الشعب لا تكون على أعدائه فقط؛ بل على معايبه أيضًا، وعلى ضعفه بخاصة، والشعب الفاتر في حماسته لو نال حقين مغصوبين لعاد فخسر أحدهما أو كليهما، أما الشعب المتحمس القوى في حماسته، فلو غصب حقين ونال أحدهما لعاد فابتز الآخر.

الجمهور

الجمهور: وقال صاحب سر "م" باشا: كان من بعض عملي في الحكومة سنة 1922 أن أراقب الحركات والسكنات، وأبث العيون والأرصاد، وأعرف المضطرب والمنقلب في أيام الفتن ونوازل المحنة، محافظة على الأمن، ومبادرة لما يتوقع؛ فكنت كالمرصد المهيأ بآلاته لتدوين حركات الزلازل. وانتهى إلينا يوما أن راجفة من هذه الزلازل سترجف بفلان من أهل الرأي الحر؛ الذي يستقل ولا يتابع، وينتقد ولا يحابي، ويصرح ولا يجمجم، وأن قوما ثوروا عليه الغبار الآدمي من العامة وأشباه العامة، وأنهم يتحينون الوقت لتوجيه المكيدة له في شكلها المفترس من هذا الجمهور الناقم. أما فلان هذا فرجل سياسي عنيد أضاع الحق كله لأنه لا يرضى بنصف الحق ... وكلمته في السياسة كأنما تلقى على لسانه من الغيب؛ فلا يتحول عنها ولا يملك أن يتكلم إلا بما يتكلم؛ وقد ذهب بصوته أنه في قوم لا يسمعون إلا ما أرادوا، فهو بينهم كالحق المغلوب؛ لا يموت لأنه غير باطل، ثم لا يحيا لأنه لا ينتصر. وقد كان رجلا كالمصباح الوهاج فألقوا عليه الغطاء، فإذا هو في طبيعته ويبدو للناس بغير طبيعته، وتركه رأيه الحر الصريح كالنبي المكذوب يرد صدقه؛ لا لأنه غير صدق، ولكن لأنه غير مستطاع، أو غير ملائم. ومن آفاتنا -نحن الشرقيين- أننا نستمرئ العداوة، وننقاد لأسبابها، ونتطاوع لها تطاوع الصغار بأنفسهم لما في أنفسهم؛ كأن المستبدين الذين كانوا في تاريخنا قد انتقلوا إلى طبائعنا؛ فرد الفكر على الفكر في مناقشة تجري بيننا لا يكون من دفع الحقيقة للحقيقة، ولكن من رد الاستبداد على الاستبداد، ومن توثب الطغيان على الطغيان؛ فهو الثلب؛ والطعن والتجريح، وهو الجفوة والخصومة واللدد، وهو المنازعة والعنف والتحامل؛ وهو بهذه وتلك شر وفساد وسقوط. والجدال بين العقلاء يبعث الفكر فينتهي إلى الحق، ولكنه فينا نحن يهيج الخلق فينتهي إلى الشر، والرد على عظيم منا كأنه يرد على منزلته في الناس لا على منزلته

في الرأي، وكشف الخطأ عندنا تعبير بالخطأ لا تبصير بالصواب، واستلاب الحجة من صاحبها وإفسادها عليه كاستلاب الملك من مالكه وطرده منه ... ومن ثم كان الدفاع بالمكابرة أصلا من أصول الطبيعة فينا، وكان الاضطهاد حجة للحجة العاجزة، وكان الإعنات دليلا للدليل الذي لا ينهض بنفسه، ومتى اعتبر كل إنسان نفسه إمبراطورًا على الحق ... فلا جرم لا ترد كلمة على كلمة إلا بحرب. قال صاحب السر: وكبر الأمر على الباشا، فجمع رؤوس المؤتمرين بذلك الرجل الحر، وأخذ يقلبهم تقليبه بين التودد والملاطفة، وقال لهم فيما قال: إن فضيلة الجمهور هي التي تضمن تربية الفضيلة وحفظها وغلبتها على الرذائل، وإن كل صحيح يكون فاسدًا إذا لم يكن الجمهور صحيحا، وإن غير العقلاء هم الذين يقبلون الحقيقة في يوم ثم يرفضونها هي ذاتها في يوم آخر، فإن ذهبت تجادلهم وتحتج عليهم بأنهم قبلوها, قالوا: هذا كان أمس ... فكأنما الفاصل بين زمنين يجعل الشيء الواحد ضدين. ثم سألهم: ما هو ذنب الرجل؟ فقال منهم قائل: إنه خارج علينا في الرأي. فقال الباشا: إن المعنى في أنه يخالفكم هو أنكم أنتم تخالفونه؛ فقد تكافأت الناحيتان، وخلاف بخلاف؛ فما الذي جعل لكم حق رده عن الرأي دون أن يكون له مثل هذا الحق في ردكم أنتم؟ قالوا: إننا الكثرة. قال الباشا: يا أصدقائي، إن خوف الكثرة من رأي فرد أو أفراد هو أسوأ المعنيين في تفسير رأيها هي؛ وعشرة جنيهات لا تعبأ بالجنيه الواحد. فإنها تستغرقه؛ بيد أن هذه ليست حال عشرة قروش يا أصدقائي ... نعم إن قطع الخلاف ضرورة من ضرورات الوطنية، ولكن إذا كان الأمر في ظاهره وباطنه كالخلاف في أيهما أطول: العصا أو المئذنة؟ فذلك جدال محسوم من نفسه بلا جدال. إن أساس انخذالنا -نحن الشرقيين- في قلوبنا، إذ لا نعتبر المعاني العامة إلا من جهة أنها قائمة بالرجال، ثم لا نعتبر الرجال إلا من ناحية ما في أنفسنا منهم، ثم لا نعتبر أنفسنا إلا من جهة ما يرضينا أو يغضبنا، وقد لا يغضبنا إلا الحق والجد، وقد لا يرضينا إلا الباطل والتهاون، ولكنا لا نبالي إلا ما نرضى وما نغضب. لستم أحرارًا في أن تجعلوا غيركم غير حر، فإن يكون الرأي الذي يعارضكم

رأيا حقا وتركتم منابذته فقد نصرتم الحق؛ وإن يكن باطلا فإظهاره باطلا هو برهان الحق الذي أنتم عليه؛ ولن تجردوا أحدًا من اختيار الرأي إلا إذا تجردتم أنتم من اختيار العدل، فإن فعلتم فهذه كبرياء ظالمة، تدعي أنها الحق، ثم تدعي لنفسها حكمة، فقد كذبت مرتين. اسمعوا أيها السادة: قامت بين اثنين من فلاسفة الرأي مناظرة في صحيفة من الصحف، وتساجلا في مقالات عدة، فلما عجز أضعفهما حجة وكعمه الجدال، كتب مقالته الأخيرة فجاءت سقيمة، فلم ترضه فبيتها ونام عنها على أنه يرسلها من الغداة بعد أن يردد نظره فيها ويصحح آراءه بالحجج التي يفتح بها عليه. قالوا: فلما نام تمثلت له المقالة في أحلامه جسما حيا موهونا مترضضا، مخلوعا من هنا مكسورا من هناك، مجروحا مما بينهما؛ ثم كلمته فقالت له: ويحك أيها الأبله! إن أردت أن تغلب صاحبك وتسكته عنك، فاحمل مقالتك إلى رأسه في العصا لا في الجريدة ... قال صاحب السر: وضحك القوم جميعا، وأذعنوا وانصرفوا مقتنعين، قد خلصت دخلتهم لذلك الرجل الحر وتنصلوا من جريمة كانت في أيديهم، وما جاء الباشا بمعجز من القول، ولكن تصويره للمسألة كان حلا لها في نفوسهم. فلما أدبروا تنفس الباشا كأنما خرج من البحر وكان يتعاطى إنقاذ غريق ويعاني فيه حتى نجا؛ ثم قال لي: إن هذا كان جوابا عن شيء في أنفسهم، ولكنه هو سؤال عن شيء في أنفسنا: ما الذي يجعل الناس عندنا يخشون المعارضة في الرأي الوطني حتى أنهم ليجازون عليها بهذه العقوبة الشعبية المنكرة؟ وما بالهم لا يعطون الرأي حكمه وحقيقته، بل يعطونه من حكم أنفسهم وحقائقها وشهواتها المتقلبة، حتى لترجع الفروق الضعيفة المتجانسة في أبناء الوطن الواحد وكأنها من الخلاف والمباينة فروق جنسية كالتي تكون بين إنسان من أمة، وإنسان من أمة أخرى تعاديها. قلت: إن رأي الكثرة قانون يا باشا. قال: هذا صحيح، ولكن بشرطين لا بشرط واحد: الأول ألا يخرج الرأي على القانون، والثاني ألا تكون الحقيقة في الرأي الذي يناقضه؛ ومحاولة إكراه المعارضة نقص للشرطين معا؛ ثم إن أساس الوطنية سلامة القلوب وصفاء النيات، واستواء الموافق والمخالف في هذا الحكم، ومتى وقع الخلاف بين اثنين وكانت

النية صادقة مخلصة، لم يكن اختلافهما إلا من تنوع الرأي، وانتهيا إلى الاتفاق بغلبة أقوى الرأييين، وما من ذلك بد. الحقيقة يا بني أن الجماهير الشرقية ليست في تربيتها من الجماهير السياسية التي يعتد بها، إذ لا تزال في أول عمرها السياسي، وبهذا السبب وحده كان اختلاف الكبراء في السياسة لا يشبهه إلا الخصمين بغير شهود ولا قاض نافذ الحكم، فهو نزاع قوة تفوز بوسائلها، لا نزاع حق يستعلي بأدلته. وهذه المجالس النيابية الشرقية كلها صور ممثلة جافة، منقطعة النماء من أسبابها، كالفرع المقطوع من الشجرة، وإنما يتنضر الفرع ويثمر أثماره إذا قام بشجرته لا بنفسه، وما شجرة الفرع السياسي إلا الجمهور السياسي. فسبيل الإصلاح في كل مملكة شرقية أن ينهض أهل الرأي من كل مدينة فيها بين عالم وأديب ومحام وسري، ومن كان بسبيل من هؤلاء، فيجعلوا لمدينتهم دار ندوة للاجتماع والبحث والمشورة، وقول "نعم" بالحجة وقول "لا" بالحجة. ثم يعلنون ذلك في جمهورهم وينزلون منه منزلة الأستاذ والأب والصديق في تعليمه وهدايته وإرشاده؛ وتتصل هذه الدور في كل مملكة بعضها ببعض، وتنتهي بالمجالس النيابية. وبغير ذلك لا يملأ الفراغ الذي نراه خاويا بين الشعب والحكومة، وبين الكبراء والجماهير، وإنما أكثر مصائبنا من هذا الفراغ؛ فهو الذي يضيع فيه ما يضيع فيه، ويختفي ما يختفي. منا قوم موظفون في الحكومة؛ لكن أين القوم الذين تكون الحكومة نفسها موظفة عندهم؟ "اعتذار": بهذا المقال انتهت أحاديث الباشا؛ فقد أنبأنا صاحب السر أنه سيكتم السر ...

المجنون "1"

المجنون * "1": جاء يمشي هادئا يتخيل في مشيته، ويرجف بين الخطوة والخطوة كأنه من كبره يشعرك أن الأرض مدركة أنه يمشي فوقها ... ولا ينقل قدمه إذا خطا حتى ينهض برأسه يحركه إلى أعلى، فما تدري أهو يريد أن يطمئن إلى أن رأسه معه ... أم يخيل إليه أن هذا الرأس العظيم قد وضع على جسمه في موضع راية الدولة، فهو يهزه هز الراية ... وأخذته عيني وليس بيني وبينه إلا طول غرفة وعرضها, فإذا هو زائغ البصر كأنما وقع في صحراء يقلب عينه في جهاتها متحيرًا مترددا، ثم كأنما رفع له في أقصاها جبل فأخذ إلى ناحيته ... ورحبت به، وأجلسته إلى جانبي، فأخذ يستعرف إلي بذكر اسمه وجماعته وبلده، لا يزيد على ذلك شيئا، كأنه عنترة بني عبس, لأرضه من طبيعتها جغرافيا، ومن اسمه جغرافيا حدة ... فلما رآني لا أثبته معرفة قال: "إن بك نسيانًا". قلت: وكثيرا ما أنسى غير أن اسمك ليس من هذه الأسماء التي تذكر بتاريخ. قال: "هذه غلطة الجرائد ... ومهما تنسى من شيء فلا تنس أنك أستاذ "نابغة القرن العشرين"1. فسرحت فيه نظري، فإذا أنا بمجنون ظريف أمرد أهيف, يكاد برخاوته وتفككه لا يكون رجلا، ويكاد يبدو امرأة بجمال عينيه وفتورهما. وتوسمت فإذا وجه ساكن منبسط الأسارير ممسوح المعاني، ينبئ بانقطاع صاحبه مما حوله، كأن دنياه ليست دنيا الناس، ولكنها دنيا رأسه ...

_ * انظر حديث هذا المجنون وخبره في "عود على بدء" من كتاب "حياة الرافعي". 1 هذا الشاب المجنون من الأذكياء، وكان قد انتهى إلى مدرسة المعلمين الأولية، ثم خولط في عقله فتركها؛ وكل ما يمر في هذا المقال بين قوسين فهو بنصه من كلامه.

وتأملت فإذا طفولة متلبدة قد ثبتت في هذا الوجه لتخرج من بين الرجل والطفل مجنونا لا هو طفل ولا رجل. وتفرست فإذا آثار معركة بادية في هذه الصفحة، قتلاها أفكار المسكين وعواطفه. وتبينت فإذا رجل مسترخ، متفتر البدن، حائر النفس، كأنه قائم لتوه من النوم فلا تزال في عينه سنة، وكأنه يتكلم من بقايا حلم كان يراه. وخيل إلي من هذا الخمول في هذا الشاب، أن عليه جوا من تثاؤبه، وأن المكان كله يتثاءب، فتثاءبت ... فلما رأى ذلك مني ضحك وقال: إن "نابغة القرن العشرين" رجل مغناطسي عظيم؛ فها هو ذا قد ألقى عليك النوم ... وحسبك فخرا أن تكون أستاذه وأخاه وثقته، "فليس على ظهرها اليوم أديب غيري وغيرك ... ". قلت في نفسي: إنا لله، ما يعتقد الرجل أن على ظهرها مجنونا غيره وغيري، وكأنما ألم بذلك فقال: لست مجنونًا؛ ولكني كنت في البيمارستان ... قلت: أهو البيمارستان الذي يسمى مستشفى المجاذيب؟ قال: لا؛ إن هذا الذي تسميه أنت، هو هو مستشفى المجاذيب؛ أما الذي سميته أنا فهو مستشفى فقط ... وذكرت عندئذ أن من المجانين قوما ظرفاء يدخلهم الفساد في عقولهم من ناحية فكرة ملازمة لا تبرح، فلا يكون جنونهم جنونا إلا من هذا الوجه، وسائر أحوالهم كأحوال العقلاء، غير أنهم بذلك طياشون متقلبون، إذا ازدهي لم يطقه الناس من زهوه وكبريائه وتنطعه، كأنه واحد الدنيا في هذ الفكرة، وكأن بينه وبين الله أسرارًا، ويظن عند نفسه أنه أعقل الناس في أرقى طبقات عقله، وما جنونه إلا في هذه الطبقة وحدها. ومثل هذا لا بد له ممن يستجيب لهذيانه كيما يحرك فيه خفته وطيشه وزهوه، وليكون عنده الشاهد على هذا الوجود الخيالي المبدع الذي لا يوجد إلا في عقله المختل, فإذا هو ظفر بمن يحاسنه، أو يصانعه، أو يجاريه، حسبه مذعنا مؤمنا مصدقا، فلا يدعه من بعدها ويتعلق به أشد التعلق، ويراه كأنه في ملكه ... فيتخذه صفيا وهو يعتقد أنه رقيق، وقد يزعمه أستاذه ليفهمه من ذلك بحساب عقله ... أنه تلميذه.

وخشيت أن يكون "نابغة القرن العشرين" لم يسمني أستاذه إلا بحساب من هذا الحساب، فهو سيعطي الأستاذية حقها، ولكن كما هو حقها في لغة جنونه ... فأصبح في رأيه تلميذه وصنيعته، ومحدث هذيانه، وثقته وملجأه، والمحامي من ورائه. قلت في نفسي: إذا أنا تركته جالسا كان هذا المجلس مثابته من بعد، فلا يعرف له محلا غيره، ويصبح كما يقال في تعبير القانون "محله المختار"، فيتطرأ إلي لسبب ولغير سبب، ويقع في أوقاتي وقوع السهو لا حساب عليه، ويضيع فيه ما يضيع، فأجمعت أن أصرفه راضيا باليأس، وقد انتهت نفسه من معرفتي، وانتهى عقله إلى الرأي أني لا أصلح له أستاذا، لا بحسابه هو ولا بحساب الناس. فقلت له: ظني بك أنك أستاذ نفسك، ولا يحسن بنابغة القرن العشرين أن يكون له في القرن العشرين أستاذا؛ وأراك قد فرغت للأدب، أما أنا فمشغول بأعمال وظيفتي، وقد جاء من العمل ما تراه، وتكاد لا تفي به الساعات الباقية من الوقت و ... فقطع علي وقال: إن الوقت ليس في الساعة؛ والدليل أني أعطلها فيتعطل الوقت، ولا يكون فيها يوم ولا ساعة ولا ثانية ولا دقيقة. فقلت: ولكنك إذا عطلتها لم تتعطل الشمس التي تعين منازل النهار، فسيمر الظهر ويحين العصر و ... قال: ويأتي غد، وإنما أنا معك اليوم فقط ... ويجب أن تغتبط بأنك أستاذ "نابغة القرن العشرين"، فقد قرأت الكثير في الأدب وقرأتك، فما كان لي رأي إلا رأيته لك ... ولا صحت عندي نظرية إلا رأيتك قد أبديتها، وأنا لا أعتقد أدبا في مصر إلا ما توافينا عليه معا "ولا أسلم جدلا، ولا جدلا أسلم أن في مصر أدباء ينالون مني شيئا, فهو أنا وأنا هو"1, ولئن لم يذعنوا "لنابغة القرن العشرين" فليعلمن أنهم "وقعوا مني موقع نملة على صخرة ... هذا من جهة، ومن جهة أريد سجائر وليس معي ثمنها". فتهللت واستبشرت، وقلت له: هذا قرش فهلم فاشتر به دخائنك، وفي رعاية الله، ثم استويت للقيام، ولكنه لم يقم؛ بل تمكن في مجلسه ...

_ 1 ما بين القوسين هو كلامه بنصه كما نبهنا إلى ذلك، والباقي ترجمناه نحن عن معانيه، وأكثر ما يأتي فهذه سبيله.

وكرهت أن أتغير له وما أشك أنه في هذا صحيح التمييز؛ فما أسرع ما قال: إن "نابغة القرن العشرين" فتى قوي الإرادة؛ فإذا هو لم يصبر عن التدخين ساعات فما هو بصبور ... وإذا لم يثبت لك هذا الأمر عن معاينة ... فما أعطيته حقه. فقلت في نفسي: لقد غرست الرجل من حيث أردت اقتلاعه، وأيقنت أنه من عقلاء المجانين الذين تتغير فيهم العاطفة أحيانا فتلهمهم آيات من الذكاء لا يتفق مثلها إلا لنوابغ المنطق؛ وذكرت "بهلول" المجنون الذي حكوا عنه أن إبراهيم الشيباني مر به وهو يأكل خبيصًا1 فقال له: أطعمني. قال: ليس هو لي، إنما هو لعاتكة بنت الخليفة بعثته إلي لآكله لها ... وقالوا: إنه مر بسوق البزازين فرأى قوما مجتمعين على باب وكان قد نقب، فنظر فيه وقال: أتعلمون من عمل هذا؟ قالوا: لا. قال: فأنا أعلم. فقالوا: هذا مجنون يراهم بالليل ولا يتحاشونه، فألطفوا به لعله يخبركم. ثم قالوا: أخبرنا. قال: أنا جائع. فجاءوه بطعام سني وحلواء؛ فلما شبع قام فنظر في النقب وقال: هذا عمل اللصوص ... وكانت مجلة "الرسالة" في يد "نابغة القرن العشرين"، فوصل الكلام بها وقال: إنه يقرأ كل مقالاتي، وإنه وإنه، وإنها وإنها. قلت: فما استحسنت منها؟ قال: "مقالة السيما" ... فقلت: متى كان آخر عهدك برؤية السيما؟ قال: أمس. قلت: فأنا لم أكتب مقالا عن السيما، ولكنك أعجبت بما رأيت أمس فتحول ما رأيته حلما في مقالة. فأعجبه هذا التأويل وقال: بمثل هذا أنا "نابغة القرن العشرين"، فأقرأ مقالتك في الغيب من قبل أن تكتبها ... قلت: إنك تكثر أن تقول عن نفسك "نابغة القرن العشرين"، وهذا يحصر نبوغك في قرن بعينه؛ فلو قطعت الكلمة وقلت: "نابغة القرن"، لصح أن تكون نابغة القرن التاسع عشر والثامن عشر، وما قبلهما وما بعدهما. فرأيت به شدهة كأنه يفكر في جنونه، ثم أفاق وقال: لا. لا؛ وإن هاهنا موضع

_ 1 طعام كانوا يتخذونه من التمر والسمن.

نظر، فلو رضيت بنابغة القرن فقط، لجاء من يقول: إني نابغة قرن خروف ... فقلت في نفسي: حمأة مدت بماء1، وإن هذه الوساوس لا تنفك تعرو هذا المسكين ما وجد من يكلمه؛ والأفكار في ذهنه مجتمعه مختلطة مسترسلة كأنها ثورة من الكلام لا نظام لها، فلأسكت عنه ولأتشاغل بما بين يدي. وسكت وأعرضت عنه؛ فجعل طائفه يعتريه، وكأن السكوت قد سلط أفكاره عليه، وكأنها أخذت تصيح به في رأسه كما يصيح غلمان الطرق بالمجنون، لا يزالون به حتى يحردوه ويفقدوه البقية من صبره وعقله معا. فغضب "نابغة القرن العشرين" ونقله الغضب إلى حالة زمهرت فيها عيناه2، وكلح وجهه حتى خفت أن يثور به الجنون، فأقبلت عليه وتعللت بسؤاله: ألك إخوة؟ ألم ينبغ فيهم نابغة؟ قال: إن له أخا يعذبه، ويوقع به ضربا، ويعلله بالسلاسل، ويشده "بأمراس كتان إلى صم جندل"، وأنه أنزل به العذاب ما لو أنزله بحجر لتألم. قلت: فأنت في حاجة إلى راحة، ويحسن بك أن تأوي إلى مكان تتمدد فيه. قال: إني منصرف وسأجلس في ندي كذا3 "هذا من جهة، ومن جهة ليس معي ثمن القهوة". قلت: فهذا قرش تدفعه ثمنا لها، فاذهب فاستمتع بها وبالتدخين وبالراحة في ذلك الندى، فالمكان ههنا كثير الضجيج والحركة. واستوفزت للقيام؛ ولكنه لم يتحلحل من مجلسه. ثم قال: أراك الآن مستبصرًا أني "نابغة القرن العشرين" بعينه. قلت: بل بعينيه اليمنى واليسرى معًا ... قال: لا. لا؛ إنك نسيت أن العرب تقول في التوكيد: عينه ونفسه وذاته. "أي أنا نابغة القرن العشرين بعينه ونفسه وذاته، فليس غيري نابغة القرن العشرين". وكادت نفسي تخرج غيظا، ولكني رأيت الحلم على مثل هذا يجري مجرى

_ 1 هذا مثل في معنى زاد الطين بلة، والحمأة إذا مدها الماء زادت واتسعت. 2 أي لمعت غضبا. 3 نحن نستعمل الندي لمكان القهوة.

الصدقة؛ وقلت: إن أدباء المجانين كثيرًا ما يتفق لهم الإبداع الطريف إذا عللوا شيئا، كذلك القاص الذي كان يقص على العامة سيرة يوسف -عليه السلام- فقال لهم فيما قال: إن الذئب الذي أكل يوسف كان اسمه كذا، فردوا عليه: إن يوسف لم يأكله الذئب. قال: فهذا هو اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف. فقلت للمجنون: فما العلة عندك في أن العرب لم يقولوا في التوكيد: عينه وأذنه وأنفه وفمه ويده ورجله؟ فنظر نظرة في الفضاء ثم قال: ليسوا مجانين فيخلطوا هذا الخلط، وإلا وجب أن يقولوا مع ذلك: وعمامته وثوبه ونعله وبعيره وشاته ودراهمه. "هذا من جهة، ومن جهة ليس معي أجرة السيارة إلى بلدي وهي قرشان". قلت: هذه هي أجرة السيارة وصحبتك السلامة، ونهضت واقفًا؛ ولكنه لم يتحرك. ثم قال: إنك لم تعرف بعد "أني أقول الشعر في الغزل والنسيب والمدح والهجاء والفخر؛ وأني في الخطابة قس بن ساعدة أو أكثم بن صيفي، وأني صخر لا ينفجر ... يابس لا ينعصر، لست كالحجاج بل كعمر". قلت: هذا شيء يطول بيننا ولا حاجة لك بهذه البراهين كلها، فقد آمنت أنك نابغة القرن العشرين في الأدب والشعر والخطابة والترسل. قال: والفلسفة؟ قلت: والفلسفة وكل معقول ومنقول؛ وقد انتهينا على ذلك. قال: ولكنك تحسبني مجنونا أو ممرورًا "كما حسبتني الجرائد التي زعمت أن اختفائي في البيمارستان كان لجنوني الفكري أو لذكائي الطبيعي، وهو الأصح ... فبين لهذه الجرائد أني خرجت، وأني سأطبع الأدب بطابع جديد". قلت: ولكني لست مراسل جرائد. قال: "فاجعلني رسالة وراسلها عني أو أكتب لك أنا ما ترسله، وما جئتك إلا لهذا؛ ويجب أن تلحقني بجريدة كبيرة، وهذه الجرائد تعرفني كلها، وقد تناولتني من جميع النواحي الأدبية؛ فضلا عن أني كاتب فذ، وخطيب فذ، وشاعر فذ, وهذا قليل من كثير، فهل أعول عليك في صلتي بالجرائد أو لا؟ ". قلت: إنك تعرفهم ويعرفونك، وقد بلوتهم وبلوا منك، فلست في حاجة إلي عندهم.

قال: إنهم يخشون بأسي، وقد حسبوني مجنونًا استهوته الشياطين؛ وما علموا أن شيطان الشعر هو الذي استهواني، كما أن شيطان الحب هو الذي استهواك ... هذا من جهة، ومن جهة ليس معي ثمن الغداء، ولا أكلفك شيئا ... ". قلت: فهذا قرش للغداء في مطعم الشعب، وهم الآن يتغذون ويوشك إذا أبطأت أن توافقهم وقد استنفدوا الطعام، وأنت لا تجهل أن القرش في مطعم الشعب هو قرشان في القيمة. قال: صدقت؛ يوشك أن أوافقهم وقد فرغوا من طعامهم وغسلوا الآنية. فلأبق هذا للعشاء وسأطوي إلى الليل. قلت: فمعك الآن ثمن الدخان، والقهوة، والغداء، وأجرة السيارة إلى بلدك. وقد كان نابغة القرن الثالث للهجرة واسمه "طاق البصل"1 يغني بقيراط ولا يسكت إلا بدانق. هذا من جهة، ومن جهة فخذ هذا القرش ثمنا لسكوتك وانصرف. فشق ذلك عليه وقام مغضبا وتنفست بعده الصعداء الطويلة ... وفتحت النافذة واستقبلت الهواء النقي وأخذت في رياضة التنفس العميق، ثم زاغت عيني إلى الباب؛ فإذا "نابغة القرن العشرين" مقبل مع نابغة قرن آخر ...

_ 1 هذا مجنون من مجانين الكوفة في القرن الثالث.

المجنون "2"

المجنون "2": رأيت المجنونين يدخلان معا، فكأنما سدا الباب وسوياه بالبناء وتركا الغرفة حائطا مصمتا لا باب فيه، مما اعتراني من الضيق والحرج، وقلت في نفسي: إنه لا مذهب للعقل بين هذين إلا أن يعين كلاهما على صاحبه، فأرى أن أدعهما وأكون أنا أصرفهما؛ ويا ربما جاء من النوادر في اجتماع مجنونين ما لا يأتي مثله من عقلين يجتمعان على ابتكاره؛ غير أني خشيت أن أكون أنا المجنون بينهما, ثم لا آمن أن يثب أحدهما بالآخر إذا خطرت به الخطرة من شيطانه، فرأيت أن يكون لي ظهير عليهما، إن لم يحق به العون فلا أقل من أن يطول به الصبر ... وكان إلى قريب مني الصديق "ا. ش"* فأرسلت في طلبه. أما هذا المجنون الثاني الذي جاء به "نابغة القرن العشرين" فقد رأيته من قبل، وهو كالكتاب الذي خلطت صحفه بعضها في بعض فتداخلت وفسد ترتيبها، وانقلب بذلك العلم الذي كان فيها جهلا وتخليطا، يثب الكلام بعد كل صفحة إلى صفحة غريبة لا صلة لها بما قبلها ولا ما بعدها. وهو طالب أزهري كان أكبر همه أن يصير حافظا كالحفاظ الأقدمين من الرواة والفقهاء، فجعل يستظهر كتابا بعد كتاب ومتنا بعد متن؛ وكانت له أذن واعية، فكل ما أفرغ فيها من درس أو حديث أو خبر، نزل منها كالنقر على آلة كاتبة، فينطبع في ذهنه انطباع الكتابة: لا تمحى ولا تنسى. ثم التاث هذه اللوثة وهو يحفظ متنا في فقه الشافعي "رضي الله عنه"، فغبر سنين يتحفظه، كلما انتهى إلى آخره نسيه من أوله؛ فيعود في حفظه وربما أثبت منه الشيء بعد الشيء ولكنه إذا بلغ الآخر لم يجد معه الأول؛ فلا يزال هذا دأبه لا

_ * هو الصديق أمين حافظ شرف.

يمل ولا يجد لهذا العناء معنى، ولا يزال مقبلا على الكتاب يجمعه، ثم لا يزال الكتاب يتبدد في ذاكرته. وترك المعهد الذي هو فيه وتخلى في داره للحفظ، وأجمع ألا يدع هذا المتن أو يحفظه، كأن فيه الموضع الذي فارقه عقله عنده، وبذلك رجع المسكين آلة حفظ ليس لها مساك؛ وأصبح كالذي يرفع الماء من البحر، ثم يلقيه في البحر، لينزح البحر ... وجاء "ا. ش" فقلت له، وأومأت إلى المجنون الأول: هذا نابغة القرن العشرين. قال: وهل انتهى القرن العشرون فيعرف من نابغته؟ فقلت: للمجنون: أجبه أنت. فسأله: وهل بدأ القرن الواحد والعشرون؟ قال: لا. قال: فإن هذا الذي إلى جانبي نابغة القرن الواحد والعشرين ... فكما جاز أن يكون هو نابغة قرن لم يبدأ، جاز أن أكون أنا نابغة قرن لم ينته. قلت: ولكنك زدت المشكلة تعقيدا من حيث توهمت حلها؛ فكيف يكون معك في آن وبينك وبينه خمس وستون سنة؟ فنظر نظرة في الفضاء، وهو كلما أراد شيئا عسيرًا نظر إلى اللاشيء. ثم قال: هذه الأمور لا تشتبه إلا على غير العاقل ... وكيف لا يكون بيني وبينه خمس وستون سنة وأنا أتقدمه في النبوغ بأكثر من علم العلماء في خمس وستين سنة؟ قلت للآخر: أكذلك؟ قال: مما حفظناه عن الحسن: أدركنا قوما لو رأيتموهم لقلتم: مجانين. ولو أدركوكم لقالوا: شياطين. فضحك الأول وقال: إنه تلميذي. قال الثاني: لقد صدق فهو أستاذي، ولكنه حين ينسى لا يذكره غيري ... قلت: لا غرو "فمما حفظناه" عن الزهري: إذا أنكرت عقلك فاقدحه بعاقل ... فغضب نابغة القرن العشرين وقال: ويح لهذا الجاهل، الأحمق، الجاحد للفضل، مع جنونه وخبله، أيذكرني وهو منذ كذا وكذا سنة يحفظ متنا واحدا لا

يمسكه عقله إلا كما يمسك الماء الغرابيل؟ صدق -والله- من قال: عدو عاقل خير, خير, خير, فقال الثاني: خير من صديق جاهل، ها أنا ذا قد ذكرتك من نسيان، وها أنت ذا رأيت. فضحك النابغة وقال: ولكني لم أرد أن أقول هذا، بل أريد أن أؤلف كلاما آخر ... عدو عاقل خير، خير، خير، خير من مجنون جاهل ... ورأيت أن في التقاء مجنونين شيئا طريفا غير جنونهما، وصح عندي أن المجنون الواحد هو المجنون؛ أما الاثنان فقد يكون من اجتماعهما وتحاورهما فن ظريف من التمثيل، إذا وجدا من يصرفهما في الحديث، ويستخرج ما عندهما، ويستكشف منهما قصتهما العقلية ... ولم أكن أعرف أن "نابغة القرن العشرين" من المجانين الذين لهم أذن في غير الأذن، وعين في غير العين، وأنف بغير الأنف؛ إذ تتلقى أدمغتهم أصواتا وأشباحا وروائح من ذات نفسها لا من الوجود، وتدركها بالتوهم لا بالحاسة، فتتخلق هواجسهم خلقا بعد خلق، وتخطر الكلمة من الكلام في ذهن أحدهم فيخرج منها معناها يتكلم في دماغه أو يمشي أو يلاطفه أو يؤذيه أو يفعل أفعالا أخرى. وبينا أنا أدير الرأي في إخراج فصل تمثيلي من الحوار بين هذين المجنونين1، إذ قال "نابغة القرن العشرين": صه، إن جرس "التلفون" يدق. قال "ا. ش": لا أسمع صوتا، وليس ههنا "تلفون". فاغتاظ المجنون الآخر وقال: إنك تتقحم على النوابغ ولست من قدرهم، وما عملك إلا أن تنكر؛ والإنكار، ويلك، أيسر شيء على المجانين وأشباه المجانين، والعامة وأشباه العامة؛ وقد أنكرت نبوغه آنفا، وأراك الآن تنكر "تلفونه" ... قال "ا. ش": وأين "التلفون" وهذه هي الغرفة بأعيننا؟ فضحك "نابغة القرن العشرين" وقال: صه -ويحك- لقد خلطت علي؛ إن الجرس يدق مرة أخرى، وأنا لا أريد أن أكلمها حتى يطول انتظارها، وحتى تدق ثلاث مرات، وأخشى أن تكون قد دقت الثالثة وذهب رنينها في صوتك ولغطك ...

_ 1 سيأتي هذا الفصل التمثيلي في مقال آخر.

قال المجنون الآخر: هي صاحبته التي يهواها وتهواه؛ وقد استهامها وتيمها وحيرها وخبلها، حتى لا صبر لها عنه؛ فوضعت له تلفونا في رأسه ... قال "النابغة": وهذا التلفون لا يسمعني صوتها فقط، بل هو ينشقني عطرها أيضًا. وقد تكلمني فيه الملائكة أحيانًا، وأنا ساخط على هذه الحبيبة فإنها غيور تخشى سطواتها على اللائي تغار منهن، ولولا ذلك لكلمتني في هذا التلفون إحدى الحور العين ... قلنا: أو تغار منها الحور العين؟ قال المجنون الثاني: بل الأمر فوق ذلك، فإن الحور العين يشتمنها ويلعنها؛ "فمما حفظناه" هذا الحديث: "لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذه قاتلك الله؛ فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا". قال "نابغة القرن العشرين": ويلي على المجنون إنه يريد أن يخلو له موضعي فهو يتمنى هلاكي وانتقالي وشيكا في هذه الدنيا. وهو يقول بغير علم لأنه أحمق ليس له عقدة من العقل، فيزعم أنها تؤذيني، ولو هي آذتني لغضبت قبل ذلك، ولو غضبت لرفعت التلفون. صه إن الجرس يدق. قال ا. ش: إن للنوابغ لشأنا عجبا، ففي مديرية الشرقية رجل نابغة ماتت زوجته وتركت له غلاما، فتزوج أخرى وهو يعيش في دار أبيه. فلما كان عيد الأضحى سأل أباه مالا يبتاع به الأضحية فلم يعطه. وهو رجل يحفظ القرآن، فذكر إبراهيم "عليه السلام" ورؤياه في المنام أنه يذبح ابنه، فخيل إليه أن هذا باب إلى النبوة، وأن الله قد أوحى إليه، فأخذ الغلام في صبيحة العيد وهم بذبحه، ولولا أن صرخ الغلام فأدركه الناس فاستقنذوه ... قال "نابغة القرن العشرين": هذا مجنون وليس بنابغة؛ بل هذا من جهلاء المجانين؛ بل هو مجنون على حدته. وقد رأيته في البيمارستان في حين كنت أنا في المستشفى ... فكان يزعم أنه ائتمر في ذبح غلامه بإرادة الله. ولو كانت إرادة الله لنفذت بالذبح، ولو كان الأمر وحيا لنزل عليه من السماء كبش يذبحه ... وهكذا أنا في المنطق "نابغة القرن العشرين". ثم إنه أشار إلى المجنون الثاني وقال: وأنا أتقدم هذا في النبوغ بأكثر من علم العلماء في خمس وستين سنة كاملة.

قلت: ولكنك ذكرت هذا من قبل فلم عدت فيه الآن؟ قال: إن السبب قد تغير فتغير معنى الكلام؛ وقد بدا لي أنه يتمنى هلاكي ليكون هو نابغة القرن العشرين. فمعنى الكلام الآن؛ أنه لو عاش خمسا وستين سنة "يحفظ المتن" لما بلغ مبلغي من العلم. هذا رجل نصفه ميت جنونا موتا حقيقيا، ونصفه الآخر ميت جهلًا بالموت المعنوي. قال ا. ش: حسبه أن يقلدك تقليد العامي لإمامه في الصلاة وعسى ألا تستكثر عليه هذا فإنه تلميذك. قال المجنون الثاني "مما حفظناه": لو صور العقل لأضاء معه الليل، ولو صور الجهل لأظلم معه النهار ... ونابغة القرن العشرين هذا لا يعرف كيف يصلي، فقد وقف منذ أيام يصلي بالشعر ... ولما رأيته ناسيا فذكرته ونبهته أن الصلاة لا تجوز بالشعر، التفت إلي وهو راكع فسبني وشتمني وصرخ في وقال: ما شأنك بي؟ هل أنا أصلي لك أنت؟ فغضب "النابغة" وقال: والله إن تحسبونني إلا مجنونا فتريدون أن يقلدني هذا الأحمق الذي ليس له رأي يمسكه. ولولا ذلك لما اعتقدتم أن تقليدي من السهل الممكن، ولعرفتم أن نابغة القرن العشرين نفسه لم يستطع تقليد نابغة القرن العشرين. قلنا: هذا عجيب، وكيف كان ذلك؟ فضحك وقال: لا أعدكم من الأذكياء إلا إذا عقلتم كيف كان ذلك؟ قال ا. ش: هذا لم يعرف مثله فكيف نعرفه؟ ولم يتوهمه أحد، فكيف نتوهمه؟ قال: لو لم تكن أستاذ نابغة القرن العشرين لما عرفتها؛ وهذا نصف الصواب؛ وما دمت أستاذي، فلو أننا اختلفنا في رأي لكان خلافك لي صوابا لأنه منك، وكان خلافي لك صوابا لأنه مني؛ فأنت "غير مخطئ" وأنا مصيب، وإذا أسقطنا كلمة "غير" أظل أنا مصيبا وتكون أنت مخطئا ... أنا لم أر "نابغة القرن العشرين" في الرؤيا، ولكني رأيته في المرآة عند الحلاق ... ورأيته يقلدني في كل شيء حتى في الإشارة والقومة والقعدة ولكني صرخت فيه وسببته ففتح فمه، ثم خافني ولم يتكلم ... وأومأ إلى المجنون الآخر وقال: وأنا أتقدم هذا في النبوغ بأكثر من علم العلماء في خمس وستين سنة.

قال ا. ش: لقد قلتها مرتين كلتاهما بمعنى واحد، فما معناك في هذه الثالثة؟ قال: هذا الغر يزعم أني لا أعرف كيف أصلي، ويستدل لذلك بأني صليت بالشعر وأني شتمته وأنا راكع؛ ولو كان عاقلًا لعلم أن شتمي إياه وأنا راكع ثواب له ... ولو كان نابغة لعلم أن الشعر كان في مدح دولة النحاس باشا وأولي النهى. قلنا: ولكن الشعر على كل حال لا تجوز به الصلاة ولو في مدح دولة النحاس باشا. قال: لم أصل به، ولكن خطر لي وأنا أصلي أني نسيت القصيدة فأردت أن أتحقق أني لم أنسها ... فإذا أنا نابغة القرن العشرين في الحفظ، وهي ستة أبيات. لا كهذا المعتوه الذي صبر على المتن صبر الغريب على الغربة الطويلة، ومع ذلك لم يحفظه. قال ا. ش: فأمل علينا هذا الشعر. فأملى عليه1: يا حليف السهد قل لي ... أين من في الدهر خال إن تكن تهوى غزالا ... أكحل العينين مال أنا أهواها ولكن ... لا سبيل إلى الوصال منذ ولت قلت مهلا ... منذ غابت في خيال أنا مجنون بليلى ... ليل يا ليلى تعال قلنا: ولكن ليس هذا مدحًا، فضحك وقال: أردت أن تعرفوا أني أقول في الغزل، أما المديح فهو: شغف الورى بمناصب وأماني ... وشغفت يا نحاس بالأوطان حسبوا الحياة تفاخرا وتنعما ... وحسبتها لله والأوطان ثم أرتج عليه فسكت. قال المجنون الآخر: إنها ستة أبيات، وقد نسيت أربعة، ولست أريد أن أذكرك. فقال "النابغة": أظنه قد حان وقت الصلاة وأريد أن أصلي ... ونظر إلى اللاشيء في الفضاء، ثم قال. والبيت الآخير: لا أبتغي في المدح غير أولي النهى ... أو صادق2 أو شوقي أو مطران

_ 1 هذا شعره بحروفه كما أملاه. 2 فسر "صادق" بأنه أستاذ نابغة القرن العشرين.

ثم أمر ا. ش. أن يقرأ عليه الشعر فقرأه، فقال: أحسنت، انظر إلى فوق. فنظر، ثم قال: انظر إلى تحت. فنظر ثم سكت. قال ا. ش: وبعد؟ قال: وبعد فإن الناس ينظرون إما إلى فوق وإما إلى تحت ... وكان الضجر قد نال مني، فرجوت ا. ش. أن يلبث معهما وأذنت لنابغة القرن العشرين أن يلقاني في الندي وانصرفت ... قال ا. ش وهو ينبئني: فما غبت عنا حتى أخذ المجنون يشكو ويتوجع ويقول: لقد حاق بي الظلم، وإن "الرافعي" رجل عسوف ظالم، لأني أكتب له كل مقالاته التي ينشرها في "الرسالة" ... وأجمع نفسي لها، وأجهد في بيانها، وأذيب عقلي فيها، وهو مستريح وادع، وليس إلا أن ينتحلها ويضع توقيعه عليها، ويبعث بها إلى المجلة، ثم هو يقبض فيها الذهب وينال الشهرة، ولا يدفع لي عن كل مقالة إلا قرشين1 ... قال ا. ش: فما يمنعك أن ترسل أنت هذه المقالات إلى المجلة فتقبض فيها الذهب؟ قال: إن هناك أسرارًا أنا محصنها وكاتمها، ولا ينبغي أن يعلمها أحد فإنها أسرار ... قال له: فدع "الرافعي" واكتب لي أنا هذه المقالات، وأنا أعطيك في كل مقالة ذهبين لا قرشين. قال: هذه أسرار ولا أستطيع أن أكتب إلا للرافعي، لأن "نابغة القرن العشرين" لا يجوز أن يدعي كلامه إلا أستاذ نابغة القرن العشرين، ولو ادعاه غيره لكان هذا حطا من قدر نابغة القرن العشرين، وهذا بعض الأسرار لا كل الأسرار. قلت: ثم جاء المجنونان في العشية إلى الندي.

_ 1 لا يزال هذا المسكين منذ تسعة أشهر يدعي أنه هو الذي يكتب لنا هذه المقالات، غير أنه رفع القيمة أخيرًا؛ فجعلها عشرين قرشًا ...

المجنون "3"

المجنون "3": وكنا في الندي ثلاثة: أنا وا. ش, وس. ع*؛ وقد هيأت تدبيرا توافقنا عليه لتحريك هذين المجنونين، وتدوين ما يجيء منهما. فلما أقبلا تحفينا بهما وألطفناهما، وقمنا ثلاثتنا ببسطهما وإكرامهما، حتى حسبا أن في كلمة "مجنون" معنى كلمة أمير أو أميرة ... ورأيت في عيني "نابغة القرن العشرين" -وهو أعين أنجل1- ما لو ترجمته لما كانت العبارة عنه إلا أنه يعتقد أن له نفسا أنثى أعشقها أنا ... فكان مسددا فكه اللسان، تستملح له النادرة، وتستظرف منه الحركة. ولما تمكن منه الغرور، واحتاج الجنون كما يحتاج الجمال إلى كبريائه إذ حاطته الأعين, أدار بصره في المكان، ثم قال: أف لكم ولما تصبرون عليه من هذا الندي في ضوضائه ورعاعه وغوغائه. إن هؤلاء إلا أخلاط وأوشاب وحثالة. هذا الجالس هناك. هذا الواقف هنالك. هذا المستوفز. هذان المتقابلان. هؤلاء المتجمعون. هذا كله خيال حقيقة في رأسي. ما هي؟ ما هي؟ هذا التصايح المنكر. هذا الضرب بحجارة النرد. هذه الزحمة التي انغمسنا فيها. هذا المكان الهائج من حولنا، هذا كله خيال حقيقة في رأسي. هي، هي، هي. فانزعج المجنون الآخر، ووقع في تهاويل خياله، ونظر إلينا تدور عيناه، وتوجس شرًا، ثم زاغ بصره إلى الباب، واستوفز وجمع نفسه للقيام؛ فلما رأى صاحبه ما نزل به، قهقه وأمعن في الضحك وقال: إنما خوفته الصبيان والضرب ليثبت لكم أنه مجنون ... فحرد الآخر واغتاظ وجعل يتمتم بينه وبين نفسه. قال "النابغة": ما كلام تطن به طنين الذبابة أيها الخبيث؟

_ * س ع هو الصديق سعيد العريان. 1 أي واسع العين أنجلها، وقد مر وصفه في المقالة الأولى.

قال: "مما حفظناه": أن من علامات الأحمق أنه إذا استنطق تجلف، وإذا بكى خار، وإذا ضحك نهق. كما فعلت أنت الساعة، تقول: هاء، هوء، هيء ... فتغير وجه "النابغة"، ونظر إليه نظرة منكرة، وهم أن يقتحم عليه، وقال: أيها المجنون، لماذا تضطرني إلى أن أجيبك جواب مجنون ... لا نجوت إن نجوت مني! فأسرع ا. ش، وأمسك به؛ واعترض من دونه س. ع، وقال له: أنت بدأته والبادئ أظلم. قال: ولكن -ويحه- كيف قال هذا؟ كيف لم يقل إلا هذا؟ كيف لم يجد إلا هذا يقوله؟ أنابغة القرن العشرين أحمق، وقد أوحده الله في القرن العشرين؟ لهممت -والله- أن أكسر الذي فيه عيناه؛ فما يقول إلا أني أحمق القرن العشرين ... قلت: إن كان هذا هو الذي أغضبك منه؛ ففي الحديث الشريف: "ليس من أحد إلا وفيه حمقة، فبها يعيش". والحياة نفسها حماقة منظمة تنظيما عاقلا؛ وما يقبل الإنسان على شيء من لذاتها إلا هو مقبل على شيء من حماقاته، وأمتع اللذة ما طاش فيه العقل وخرج من قانونه؛ ولولا هذا الحمق في طبيعة الإنسان لما احتمل طبيعة الحياة، أليس يخيل إليك أن أكثرك غائب عن الدنيا وأقلك حاضر فيها، وأن يقظتك الحقيقية إنما هي في الحلم وما يشبه الحلم، كأنك خلقت في كوكب وهبطت منه إلى كوكبنا هذا، فما فيك للأرض ولا فيها لك إلا القليل يلتئم بعضه ببعضه، وأكثركما متنافر أو متناقض أو متراجع؟ قال: بلى. قلت: فهذا القليل هو الحمقة التي بها تعيش، وهو أرضية الأرض فيك؛ أما سماوية السماء فبعيدة لا تحتملها طبيعة الأرض؛ ولهذا يعيش أهل الحقيقة عيش المجانين في رأي المغرورين الذي غرتهم الحياة الفانية، أو المخدوعين الذين خدعتهم الظواهر الكاذبة؛ فكلما أتوا عملا من الأعمال السامية انتهى إلى الحمقى معكوسا أو محولا أو معدولا به؛ ولعل هذا أصح تفسير للحديث الشريف: "أكثر أهل الجنة البله". قال المجنون الآخر: "مما حفظناه": أكثر أهل الجنة البله.

فقال "النابغة": المصيبة فيك أنك أنت هو أنت؛ ألا فلتعلم أنك من بلهاء البيمارستان لا من بله الجنة ... قلت: ثم إن الموت لا بد آت على الناس جميعا، فيسلبهم كل ما نالوه من الدنيا، ويلحق من نال بمن لم ينل؛ فمن ذا الذي يسر بأن ينال ما لا يبقى له، إلا أن يكون سروره من حماقته؟ ومن ذا الذي يحزن على أن يفوته ما لا يبقى له، إلا أن يكون حزنه حماقة أخرى؟ وأي شيء في الحب بعد أن ينقضي الحب إلا أنه كان حماقة ضربت في الحواس كلها ملأت النفس؛ ثم ملأت النفس حتى فاضت على الزمن؛ ثم فاضت على الزمن حتى خبلت العاشق تخبيلا لذيذا تصغر فيه الأشياء وتكبر, ويجعل الواقع في النفس غير الواقع في دنياها؟ يشبه كل عاشق حبيبته بالقمر, فهب القمر سمع هذا وفهمه وعناه أن يجيب عنه، فماذا عساه يقول إلا أن يعجب من هذا الحمق في هذا التشبيه؟ فهدأ "النابغة" وسكن غضبه وقال: صدقت، ولهذا أنا لا أشبه حبيبتي بالقمر. قلت: فبماذا تشبهها؟ قال: لا أقول لك حتى أعلم بماذا تشبه أنت حبيبتك. قلت: وأنا كذلك لا أشببها بالقمر. قال: فبماذا تشبهها؟ قلت: حتى أعلم بماذا تشبه أنت ... قال: هذا لا يرضى منك وأنت أستاذ "نابغة القرن العشرين"، ولك حبائب كثيرات عدد كتبك، وقد أعجبتني منهن تلك التي في "أوراق الورد"، وأظنك أحببتها في شهر مايو من سنة ... من سنة ... قال المجنون الآخر: من سنة 1935؛ ها أنا ذا قد نبهتك. قال: يا ويلك! إن "أوراق الورد" ظهرت من بضع سنين, إنما أنت من بلهاء البيمارستان لا من بله أوراق الورد ... ماذا كنت أقول؟ قال ا. ش: كنت تقول: هذا لا يرضى منك ولك حبائب كثيرات. قال: نعم، لأنك إذا شبهت واحدة منهن بالقمر، انتهى القمر وفرغ التشبه فيظل الأخريات بلا قمر ... ثم إن كلمة القمر لا تعجبني، فلونها أدكن مغبر1

_ 1 الدكنة: لون بين الحمرة والسواد.

يضرب أحيانا إلى السواد ... فإذا عشقت زنجية فههنا محل التشبيه بالقمر ... أما البيض الرعابيب فتشبيههن بالقمر من فساد الذوق. قال س. ع: وللألفاظ ألوان عندك؟ قال: لو كنت نابغة لأبصرت في داخلك أخيلة من الجنة؛ ألم يقل أستاذنا آنفا عن "نابغة القرن العشرين": إنه هبط من كوكب إلى كوكب؟ ففي كوكبنا الأول يكون لنا سمع ملون؛ وحس ملون نسمع قرع الطبل أزرق، ونفخ البوق أحمر، ورنين النغم الحلو أخضر1، والوجود كله صور ملونة، سواء منه ما يرى وما يحس، وما هو مستخف وما هو ظاهر. ثم أومأ إلى المجنون الآخر وقال: واسم هذا الأبله كلفظ الحبر, لا أسمعه إلا أسود. وسكت "النابغة" وسكتنا؛ فقال له س. ع: ما لك لا تتكلم؟ قال: لأني أريد السكوت. قال: فلماذا تريد السكوت؟ قال: لأني لا أريد أن أتكلم. وتحرك في نفسه الغيظ من المجنون الآخر, فرمى بعينه الفضاء ينظر اللاشيء وقال: إذا أصبح كل النساء ذوات لحى أصبح هذا عاقلا ... فدق الآخر برجله دقات معدودة؛ فثار "النابغة" وقال: من هذا يشتمني؟ قال: س. ع: لم يشتمك أحد، هذا خفق رجل على الأرض. قال: بل شتمني هذا الخبيث، وسمعي لا يكذبني أبدًا، وأنا رجل ظنون، أسيء الظن بكل أحد، وعلامة الحازم "العاقل" سوء ظنه بالناس. فهبه مكما قلت قد خفق بنعله، أو خبط برجله؛ فهو ما يعني من ذلك، وأنا أسمع ما يعنيه, لقد طفح الشعر على قلبي فلا بد لي من هجائه، ولا بد لي أن أذبحه ولو بالكلام، فإني إذا هجوته رأيت دمه في كلماتي، وأريد أن أجعله كالعنز التي كانت عندنا وذبحناها. ثم انتزع قلم س. ع، وقال: هذه هي السكين. ولكن أسألك يا أستاذي أن تذبحه أنت بكلمتين وتصف له جنونه، فقد عزب عني الشعر ... إن خفقة رجل

_ 1 هذا واقع وليس من الخيال؛ فبعض الناس يسمعون الأصوات ويحسون الأشياء ملونة؛ وعلماء الأمراض العصبية يعرفون هذا ويعللونه بأنه صور ذهنية قد لبسها مؤثر من المؤثرات فهو يصبغها.

على الأرض تستطير الأرانب فزعًا؛ فينفرن إلى أجحارهن ويتهاربن، وما كانت أبيات الشعر في ذهني إلا أرانب. أنتم لا تعرفون أن من كان حصيفا ثبيتا مثلي، كان دقيق الحس؛ ومن كان فدما غبيا مثل هذا، كان بليد الحس غليظا كثيفًا؛ فإذا أنا استشعرت البرد رأيتني قد سافرت إلى القطب الشمالي؛ أما هذا المجنون فهو إذا استشعر بردا سافر إلى عباءته أو لحافه ... إذ هو لا يعرف جغرافيا، ولا يدري ما طحاها. قلت: هذا منك أظرف من نادرة أبي الحارث. قال: وما نادرة أبي الحارث؟ وهل هو نابغة؟ قلت: جلس يتغدى مع الرشيد وعيسى بن جعفر، فأتي بخوان عليه ثلاثة أرغفة، فأكل أبو الحارث رغيفه قبلهما، والرشيد ملك عظيم, لا يأكل أكل الجائع، وإنما هو التشعيث من هنا وهناك؛ فكان رغيفه لا يزال باقيا؛ فصاح أبو الحارث فجأة: يا غلام، فرسي. ففزع الرشيد وقال: ويلك ما لك؟ قال: أريد أن أركب إلى هذا الرغيف الذي بين يديك ... قال "النابغة": ولكن فرقا بين أبي الحارث وبين "نابغة القرن العشرين"، فإن من العجائب أني ربما نظرت إلى الرجل وهو يأكل فأجد الشبع، حتى كأنه يأكل ببطني لا ببطنه، ولكن من العجائب أن هذا لا يتفق لي أبدا حين أكون جائعا ... أما هذا المجنون الذي أمامنا، فربما أبصر الحمار على ظهره الحمل، فيشعر كأن الحمل على ظهره هو لا على ظهر الحمار. قال الآخر: "مما حفظناه" أنه سرق لأعرابي حمار، فقيل له أسرق حمارك؟ قال: نعم، وأحمد الله. فقيل له: على ماذا تحمده؟ قال: على أني لم أكن عليه حين سرق ... فأنا إذا رأيت حمارًا مثقل الظهر، حمدت الله على أن الحمل لم يكن علي، لا كما يقول هذا. ثم دق برجله دقات ... فاستشاط "النابغة" وقال: أسمعتم كيف يقول إني مجنون، ثم لا يكتفي بهذا بل يقول إني حمار على ظهره الحمل؟ قلت: ينبغي أن تتكافا، وهذا لا يعيبك منه ولا يعيبه منك، فإن من تواضع "النوابغ" أن يشعروا ببؤس الحيوان، فإذا شعروا ببؤسه دخلتهم الرقة له، فإذا دخلتهم الرقة صار خيال الحمل حملا على قلوبهم الرقيقة؛ وقد يصنعون أكثر من ذلك: حكى الجاحظ عن ثمامة قال: كان "نابغة" يأتي ساقية لنا سحرًا؛ فلا يزال

يمشي مع دابته ذاهبا وراجعا في شدة الحر أيام الحر، وفي البرد أيام البرد، فإذا أمسى توضأ وقال: اللهم اجعل لنا من هذا الهم فرجا ومخرجا، فكان كذلك إلى أن مات! قال المجنون الآخر: "مما حفظناه": ثمرة الدنيا السرور، ولا سرور للعقلاء، فلو لم يكن هذا أعقل العقلاء لما محق سروره في الدنيا هذا المحق إلى أن مات غما، رحمه الله! قال: س. ع: فاعف الآن عن صاحبك ولا تذبحه بالهجاء. قال: لقد ذكرتني من نسيان، وهذا المجنون يرى نسياني من مرض عقلي، وكان الوجه -لو تهدى إلى الحقيقة- أن يراه شذوذا في العقل، أي نبوغا عظيما كنبوغ ذلك الفيلسوف الذي أراد أن يتثبت في كم من الزمن تسلق البيضة؛ فأخذ بيده الساعة وبيده الأخرى بيضة، ثم نسي نسيان النبوغ، فألقى الساعة في الماء على النار، وثبتت عينه على البيضة ينظر فيها على أنها هي الساعة. ولو قد رآه هذا الأبله لزعمه مجنونا كما يزعمني، فإن المجانين يرون العقلاء مرضى بمواهبهم وأعمالهم التي يعملونها. وأنا فليس تهيجني شيء ما تهيجني كلمات ثلاث: أن يقال لي: مجنون، أو أبله، أو أحمق. فمن رغب في صحبتي فليتجنب هذه الثلاث كما يتجنب الكفر والكفر والكفر ... قال ا. ش: فإذا قيل لك مثلا. مثلا. أي على التمثيل: مغفل. فحك رأسه قليلا وقال: لا، هذه ليست من قدري1. قلت: فبعض الكلمات إذا قطعت عندك غيرت الحقائق، كذلك القرن الذي قطع فرد البقرة فرسا؟ قال: وكيف كان ذلك؟ قلت: زعموا أن أعرابيا خرج إخوته يشترون خيلا، فخرج معهم فجاء بعجل يقوده؛ فقيل له: ما هذا؟ قال: فرس اشتريته. قالوا: يا مائق هذه بقرة، أما ترى قرنيها؟

_ 1 نص عبارته: "دي مش أدى".

فرجع إلى منزله فقطع قرنيها، ثم قادها إليهم وقال لهم: قد أعدتها فرسا كما تريدون. قال "النابغة": هذا غير بعيد، فقد رأيتنا حين ذبحنا العنز وكسرنا قرنيها أعدناها كلبة سوداء، فتقذرتها وعفت لحمها ولم أطعم منها. ثم أومأ إلى الآخر وقال: هذا لا يدري ما طحاها، وهو مثل العنز: تحسب قرنيها للقتال والنطاح ومنهما تمسك للذبح؛ فقل في هذا يا أستاذ "نابغة القرن العشرين". قلت للآخر: أيرضيك أن أقول في المعنى لا فيك أنت؟ قال: نعم. فكتبت هذه الأبيات على ما يريد النابغة: قل لعنز ناطحاها ... لقتال سلحاها ما لها قد طرحاها ... في يدين ذبحاها؟ شيمة مني نحاها ... عقل غر فلحاها ليس يدري ما طحاها ... بل يرى شمس ضحاها حجرا مثل رحاها ... ويرى الليل محاها ظلما طالت لحاها وسر "النابغة" وازدهى، وجعل يقول: طالت لحالها، طالت لحاها، وما كان هذا إلا السرور الأصغر؛ أما سروره الأكبر فمجيء ساعي "البريد المستعجل" إلى الندي، وفي يده رسالة عنوانها: نابغة القرن العشرين فلان، بندي كذا. وجعل الرجل يهتف بالعنوان يسأل عن صاحبه؛ فتطاولت أعناق الناس، ورفعوا أبصارهم ينظرون إلى "نابغة القرن العشرين" وقد مد يده يتناول الرسالة وكأنه ملك من القدماء أسقط له كتاب بالفتح العظيم ويضم دولة إلى دولته. ثم ترك الرسالة بين أصابعه يقلبها ولا يفضها ونحن في دهشة من أمره؛ فنظر فيها المجنون وقال له: هذا عجيب يا أخي، كيف هذا؟ إن هذا لا يصدق؛ إنك لم تلقها في صندوق البريد إلا منذ ساعة ...

المجنون "4"

المجنون "4": ضاق "نابغة القرن العشرين" بحمق المجنون الآخر؛ ورآه داهية دواه، كلما تعاقل أو تحاذق لم يأت له ذلك إلا بأن يكشف عن جنونه هو؛ فلا يبرح يجرعه الغيظ مرة بعد مرة، ولا يزال كأنه يسبه في عقله، فأراد أن يحتال لصرفه عن المجلس، فدفع إليه الرسالة التي جاء بها "البريد المستعجل" وقال له: خذ هذه فاذهب فألقها في دار البريد، فسيجيء بها الساعي مرة أخرى، ثم تذهب الثانية فتلقيها، ويعود فيجيء بها، وتكون أنت تذهب ويكون هو يجيء، فنضحك منه ويضحكون. قال س. ع: ولكن كم يذهب هذا وكم يجيء ذاك؟ فغمزه "النابغة" بعينه أن اسكت؛ فتغافل س. ع، وقال: كم تريد أن يجيء الساعي ليهتف بنابغة القرن العشرين؟ قال المجنون الآخر: هذا هو الرأي، فلست قائما حتى أعرف كم مرة أذهب؛ فإن الساعي لا يجيء إلا راكبا، وأنا لا أذهب إلا راجلا، وإن لي رجلي إنسان لا رجلي دابة ... قال "النابغة": سبحان الله؟ بقليل من الجنون يخرج من الإنسان مجنون كامل مستلب العقل. بيد أنه لا يأتي النابغة إلا من كثير وكثير، ومن النبوغ كله بجميع وسائله وأسبابه على تعددها وتفرقها وصعوبة اجتماعها لإنسان واحد "كنابغة القرن العشرين"، فهو الذي توافت إليه كل هذه الأسباب، وتوازنت فيه كل تلك الخلال. إنه ليس الشأن في العلم ولا في التعليم؛ ولكنما الشأن في الموهبة التي تبدع الابتكار، كموهبة "نابغة القرن العشرين"، فبها تجيء أعماله منسجمة دالة بنفسها على نفسها؛ ومتميزة مع كونها منسجمة دالة بنفسها على نفسها، متلائمة مع كونها متميزة دالة بنفسها على نفسها ... هذا س. ع، كان الأول بين خريجي مدرسة دار العلوم، مدرسة الأدب

والعربية، والمنطق والتحذلق، وبلاغة اللسان وصحة النظر؛ وهو يعرف أن الكتاب يلقى في البريد وعليه طابع واحد، فيصل إلى غايته بهذا الطابع، ثم يرى بعيني رأسه أربعة طوابع على هذه الرسالة المعنونة باسم "نابغة القرن العشرين"، فلا يدرك بعقله أن معنى ذلك أن من حق هذه الرسالة أن تصل إلي أنا أربع مرات. فطرب المجنون الآخر، واهتز في مجلسه، وصفق بيديه، وقال: "مما حفظناه" هذا الحديث: "يحاسب الله الناس على قدر عقولهم". فلا تؤاخذ س. ع، فإن مدرسة دار العلوم تعلمهم: "فيها قولان"، وفيها ثلاثة أقوال, وفيها أربعة أوجه، ولكنها لا تعلمهم فيها أربعة طوابع ... ثم التفت إلى س. ع، وقال له: لا عليك، فأنا صاحبه وخليطه، وحامل علمه وراوية أدبه، وأكبر دعاته وثقاته، وما علمت هذه الحكمة منه إلا في هذه الساعة. قال ا. ش: فإذا كان هذا، فإن لقائل أن يقول: لماذا لم يضع على كتابه عشرة من الطوابع، فيجيء به الساعي عشر مرات. قال "النابغة": وهذا أيضا؟ "وما شر الثلاثة أم عمرو بصاحبك الذي لا تصحبين"؛ إن الشمعة في يد العاقل تكون للضوء فقط، ولكنها في يد المجنون للضوء ولإحراق أصابعه، كم الساعة الآن؟ قلنا: هي التاسعة. قال: ومتى ينصرف أهل هذا الندي؟ قلنا: لتمام الثانية عشرة. قال: فإذا كان الساعي يتردد في كل ساعة مرة، فهي أربع مرات إلى أن ينفض المجتمعون هنا، وبين ذلك ما يكون قد ذهب قوم عرفوا "نابغة القرن العشرين"، وجاء قوم غيرهم فيعرفونه، وأما بعد ذلك فلا يجد الساعي هنا أحدا؛ فلا تكون فائدة من مجيئه. فصفق المجنون الآخر وقال: هذا وأبيك هو التهدي إلى وجه الرأي وسداده، وهذا هو الكلام الرصين الذي يقوم على أصول الحساب والجغرافيا ... "ومما حفظناه" هذا الحديث: "لا مال أعود من العقل". فأربعة طوابع، لأربع مرات، في أربع ساعات؛ وما عدا هذا فإسراف وتبذير؛ ولا مال أعود من العقل.

ورضي "النابغة" عن صاحبه وقال له: لئن كانت فيك ضعفة إن فيك لبقية تعقل بها ... ثم أخذ منه الرسالة ودسها في ثوبه. قلنا: ولكن ألا تفضها لنعرف ما فيها؟ فضحك وقال: أئن جاريتكم في باب المطايبة والنادرة، وجاريت هذا الأبله في باب جنونه وحمقه تحسبون أن الأمر على ذلك، وأن الرسالة فارغة إلا من عنوانها، وأن نابغة القرن العشرين هو أرسلها إلى نابغة القرن العشرين، كما قال سعد باشا: "جورج الخامس يفاوض جورج الخامس"؟ لحق -والله- أن العقل الكبير الذي يأبى الصغائر، هو الذي تأتي منه الصغائر أحيانا لتثبت أنه عقل كبير، وهكذا تسخر الحقيقة من كبار العقول "كنابغة القرن العشرين" ... فغضب المجنون الآخر وهم أن يتكلم, فقال له "النابغة": أنت كاذب فيما ستقوله. قلنا: ولكنه لم يقل شيئا بعد، فكما يجوز أن يكون كاذبا يجوز أن يكون صادقا. قال: وسيخطئ في رأيه الذي يبديه. قلنا: ولم يبد شيئا من رأيه. قال: ولا يعرف الحقيقة التي سيتكلم عنها. قلنا: ويحك، أدخلت في عقل الرجل أم تعلم الغيب؟ قال: لا هذا ولا ذاك، ولكنه قياس منطقي يتوهم اطراده. إنه سيقول: إني مجنون ... فأخرج الآخر لسانه ... قال "النابغة": تبا لك، لقد رأيت الكلمة في لسانك كأنها مكتوبة بحروف المطبعة. ويحك يا مرقعان1، ألا تعرف أن لك دماغا مخروقا تسقط منه أفكارك قبل أن تتكلم بها، ولولا أنه مخروق لحفظت المتن! إن كل تخطئة لي منك هي اعتراف لي منك بصواب. فنظر الآخر إليه نظرة كان تفسيرها في حواجبه، إذ مط حواجبه2 ورقصها. فقال "النابغة": ونظراته خبيثة ملحة الطعم، مزعوقة كماء البحر المر أخذ من البحر وأضيف إلى ملحه الطبيعي ملح، أكاد أتهوع من هذه النظرة فأقيء. الآن فهمت معنى قولهم: "ملحة في عين الحسود". فإن الملح لا يغلبه إلا الملح، كالحديد بالحديد يفلح، هاتوا كأسا من معتقة الخمر، ثم لينظر فيها

_ 1 المرقعان والمرقع: الأحمق الذي يتمزق عليه رأيه فلا يجتمع له. 2 هما حاجبان. ولكن هذا الأسلوب هو الأفصح هنا، وهو كثير في العربية.

الخبيث هذه النظرة، فإن الخمر لا بد مستحيلة "شربة ملح إنجليزي" ... هذا الأبله ثقيل الدم كأن دمه مأخوذ من مستنقع ... أهذا الذي لا يستطيع أن يقول لشيء في الدنيا: هو لي، إلا الفقر والجنون والخرافة, يكذب ما في الرسالة التي جاء بها البريد المستعجل، ولا يصدق أنها مرسلة إلى نابغة القرن العشرين من صاحب السمو الأمير؟ هذا الذاهب العقل هو كالجبان المنقطع في وحشة القفر، في ظلام الليل: إذا توجس حركة ضعيفة انقلبت في وهمه قصة جريمة ماؤها الرعب وفيها القتل والذبح؛ ولهذا يخشى ما في الرسالة التي جاءت من صديقي صاحب السمو. هاؤم اقرءوا الرسالة. وفضضنا الغلاف، فإذا ورقتان ممهورتان بتوقيع أمير معروف، إحداهما صك بألف جنيه تدفع "لنابغة القرن العشرين"، والثانية أمر بالقبض على المجنون الآخر ... وإرساله إلى المارستان ... وذهبت أصلح بينهما صلحا فقلت: إن في الحديث الشريف: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ مر به رجل، فقال بعض القوم: هذا مجنون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: $"هذا مصاب؛ إنما المجنون المقيم على معصية الله". فقال صاحب المتن: "مما حفظناه" إنما المجنون المقيم على معصية الله. قلت: وليس فيكما مقيم على معصية الله. قال المجنون: "مما حفظناه": وليس فيكما مقيم على معصية الله. قلت: هذا ليس من الحديث ولكنه من كلامي ... قال "النابغة": أنبأتكم أن هذا الأبله يضل في داره كما يضل الأعرابي في الصحراء؛ وإن الأسطول الإنجليزي لو استقر في ساقية يدور فيها ثور، لكان ذلك أقرب إلى التصديق من استقرار العقل في رأس هذا الأبله؟ فاحتدم الآخر وهم أن يقول: "مما حفظناه"، ولكني أسكته وقلت "للنابغة": إنك دائما في ذروة العالم، فلا غرو أن ترى المحيط الأعظم ساقية. "والنوابغ" هم في أنفسهم نوابغ، ولكنهم في رأي الناس مرضى بمرض الصعود الخيالي إلى ذروة العالم. ومن هذا يكون المجانين هم المرضى بمرض النزول الحقيقي إلى حضيض الآدمية؛ فهناك يعملون فتكون أفكارهم من أعمالهم، ثم تكون عقولهم من

أفكارهم، فيكون هذا هو الجنون في عقولهم، وذلك معنى الحديث: "إنما المجنون المقيم على معصية الله". قال "النابغة": لعمري إن هذا هو الحق؛ فنبوغ العقل مرض من أمراض السمو فيه؛ فالشاعر العظيم مجنون بالكون الذي يتخيله في فكره، والعاشق مجنون بكون آخر له عينان مكحولتان؛ والفيلسوف مجنون بالكون الذي يدأب في معرفته؛ ونابغة القرن العشرين مجنون ... لا. لا. قد نسينا ا. ش، فهو مجنون، وس. ع فهو مجنون. وكل الناس مجنون بليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاك ومن حق ليلى ألا تقر لهم، إذ هي لا تقر إلا لنابغة القرن العشرين وحده؛ وما أعجب سحر المرأة في الكون النفساني للرجال! أما في الكون الحقيقي فهي أنثى كإناث البهائم ليس غير. وأعقل الرجال من كان كالحمار أو الثور أو غيرهما من ذكور البهائم. فالحمار لا يعرف الحمارة إلا أنها حمارة، والثور لا يعرف البقرة إلا أنها بقرة؛ ولا ينظمون شعرًا، ولا يكتبون "أوراق الورد" ... وإناث البهائم أمَّات1 لا غير، ولكن العجيب أن ذكورتها ليست آباء؛ فهذه الذكورة طفيلية في الدنيا، والطفيلي لا يأكل إلا بحيلة يحتال بها، فيكون صاحب نوادر وأضاحيك وأكاذيب. ولهذا كان عشق الرجال للنساء ضروبا من الخداع والأكاذيب والأضاحيك والحيل والغفلة والبلاهة؛ وإذا نظرنا إليه من أوله فهو عشق، أما آخره فهو آخر الحيلة والأكذوبة، وهو قول الطفيلي: قد شبعت وقد رويت ... ويحكم، أين أول الكلام؟ قلنا: أوله ما أعجب سحر المرأة في الكون النفساني للرجال! قال: نعم هذا هو. إنه سحر لا أعجب منه في هذا الكون النفساني إلا سحر الذهب؛ فلو مسخت المرأة الجميلة شيئا من الأشياء لكانت سبيكة ذهبية تلمع؛ ولهذا يوجد الذهب اللصوص في الدنيا، وتوجد المرأة الجميلة لصوصا آخرين، فيجب أن يصان الذهب وأن تصان المرأة. قلت: ولكن أليس من المال فضة، وهي توجد اللصوص كالذهب؟ قال: نعم، وفي النساء كذلك فضة، وفيهن النحاس؛ ولو أنت ألقيت ريالا

_ 1 يقال في غير العاقل: أمات، وفي العاقل: أمهات.

في الطريق لأحدثت معركة يختصم فيها رجلان، ثم لا يذهب بالريال إلا الأقوى، ولو كنت قرشا لتضارب عليه طفلان، ثم لا يفوز به إلا من عض الآخر ... ولكن "فورد" الغني الأمريكي العظيم الذي يجمع يده على أربعمائة مليون جنيه، لا يتكلم عن القرش؛ و"نابغة القرن العشرين" الذي يملك "ليلى"، لا يتكلم عن غيرها من قروش النساء ... قلت: فإني أحسبك أعلمتني أن اسمها فاطمة لا ليلى. قال: هل يستقيم الشعر إذا قلت: وكل الناس مجنون بفاطمة، وفاطم لا تقر لهم؟ قلت: لا. قال: إذن فهي "ليلى" ليستقيم الشعر ... أما حين أقول: أفاطم مهلا بعض هذا التدلل، فهي فاطمة ليصح الوزن. قلت: يشبه -والله- ألا يكون اسمها ليلى ولا فاطمة؛ وإنما هي تسمى حسب الوزن والبحر، فاسمها فعولن أو مفاعلتن. ثم قلنا له: فما رأيك في الحب، فإنه ليقال: إنك أعشق الناس وأغزل الناس؟ قال: إن ذلك ليقال "وهو الأصح"، ثم أطرق يفكر. وبدا عليه أنه مدهوش ذاهب العقل، كأنه من قلبه على مسافة أبعد من المسافة التي بينه وبين عقله. وخيل إلي أن النساء قد حشرن جميعا في رأسه، ومرت كل واحدة تعرض مفاتنها وغزلها، وتلائم هذيانه بهذيان من جمالها، فهو يرى ويسمع ويعرض ويتخير. ثم اضطرب كالذي يحاول أن يمسك بشيء أفلت منه؛ فلم ينبهه إلا قول المجنون الآخر: "مما حفظناه" أن أعرابية سئلت عن العشق فقالت: إنه داء وجنون. قال: اسكت يا ويلك لقد أطفأت الأنوار بكلمتك المجنونة. كان في رأسي مرقص عظيم تسطع الأنوار فيه بين الأحمر والأخضر والأبيض؛ وترقص فيه الجميلات من الطويلة والقصيرة والممشوقة والبادنة، فجئت بالداء والجنون -قبحك الله- فأخرجتني عنهن إليك. أحسب أنك لو انتحرت لصلح العالم أو صلحت أنا على الأقل ... فإذا أردت أن تشنق نفسك فأنا آتيك بالحبل الذي كنت مقيدا فيه أي الحبل الذي عندي في الدار ... على أن رأسك الفارغ مشنوق فيك وأنت لا تدري. قال الآخر: ما أنت منذ اليوم إلا في شنقي وتعذيبي أو في شنق عقلي "على

الأصح". "ومما حفظناه" قول الأحنف بن قيس: إني لأجالس الأحمق ساعة فأتبين ذلك في "عقلي". فلم يرعنا إلا قيام المجنون مسلحا بحذائه في يده ... وهو حذاء عتيق غليظ يقتل بضربة واحدة؛ فحلنا بينهما وأثبتناه في مكانه. وقلنا: هذا رجل قد غلب على عقله فلا يدري ما يقول؛ فإذا هو دل على أنه مجنون، أفلا تدل أنت على أنك عاقل؟ ما سألناك في انتحاره وجنونه، بل سألناك رأيك في الحب؛ وما نشك أنك قد أطلت التفكير ليكون الجواب دقيقا، فإنك "نابغة القرن العشرين"، فانظر أن يكون الجواب كذلك. قال: نعم إن العاقل إذا ورد عليه السؤال أطال الفكر في الجواب، فاكتب يا فلان "س. ع": "جلس نابغة القرن العشرين مجلس الإملاء مرتجلا فقال1: قصة الحب هي قصة آدم، خلق الله المرأة من ضلعه. فأول علامات الحب أن يشعر الرجل بالألم كأن المرأة التي أحبها كسرت له ضلعا ... وكل قديم في الحب هو قديم بمعنى غير معقول، وكل جديد فيه هو جديد بمعنى غير مفهوم؛ فغير المعقول وغير المفهوم هو الحب. والجمرة الحمراء إذا قيل إنها انطفأت وبقيت جمرة فذلك أقرب إلى الصدق من بقاء الحب حيا بمعناه الأول إذا انطفأ أو برد. والعاشق مجنون. وجنونه مجنون أيضًا، فهو كالذي يرى الجمرة منطفئة، ويرى مع ذلك أنها لا تزال حمراء، ثم يمعن في خياله فيراها وردة من الورد ... وإذا سألته أن يصف الجمال الذي يهواه كان في ذلك أيضا مجنون الجنون، كالذي يرى قمر السماء أنه قد تفتت وتناثر ووقع في الروضة، فكان نثاره هو الياسمين الأبيض الجميل الذكي ... والمجنون يرى الدنيا بجنونه والعاقل يراها بعقله؛ ولكن العاشق المخبول لا ينظر من يهواه إلا بقية من هذا وبقية من ذلك، فلا يخلص مع حبيبه إلى جنون ولا عقل. "والمجهول" إذا أراد أن يظهر في دماغ بشري لم يسعه إلا أحد رأسين: رأس المجنون ورأس العاشق ...

_ 1 هذا نص عبارته حين يريد التخليط.

ولا صعوبة في الحكم على شيء بأنه خير أو شر إلا حين يكون الخير والشر امرأة معشوقة. أما أوصاف الشعراء والكتاب للجمال والحب فهي كلها تقليد قد توسعوا فيه؛ والأصل أن ثورًا أحب بقرة فكان يقول لها: يا نجمة القطب التي نزلت من السماء لتدور في الساقية كما درات في الفلك. قال "النابغة": هذا رأيي في حب العاشقين؛ أما حبي أنا "نابغة القرن العشرين" فيجمعه قولك: فل، ورد، زهر ... قلنا ما هذه الألغاز؟ وهل للحب متن كقولهم: حروف القلقلة يجمعها قولك "قطب جد"، وحروف الزيادة يجمعها قولك "سألتمونيها"؟ فتضاحك "النابغة"، وقال: تكاثرت الظباء على خراش، فلكيلا ننسى ... إن كل حرف هو بدء اسم، الفاء فاطمة، واللام ليلى، والواو وردة، والراء رباب، والدال دلال، والزاي زكية, والهاء هند، والراء رباب ... قلنا: رباب قد مضت في "ورد". قال: كنا تهاجرنا مدة ثم اصطلحنا بعد هند ... قلت: هكذا "النوابغ" فإن رجلا أديبا كانت كنيته "أبا العباس" فلما "نبغ" صيرها "أبا العير"1 وفتق له نبوغه أن يجعلها تاريخا يعرف منها عمره. قالوا فكان يزيد فيها كل سنة حرفا حتى مات وهي هكذا: أبو العير طرد طيل طليري بك بك بك ...

_ 1 العير: الحمار وتكنى بعض الحمقى "أبو البقر" قياسًا على "أبو العير".

المجنون "5"

المجنون "5": م إن "نابغة القرن العشرين" استخفه الطرب لذكر صواحبه وجميلاته من فاطمة إلى رباب؛ ومن طبع المجنون أنه إذا كذب صدق نفسه، فإن قوة الضبط في عقله إما معدومة وإما مختلة؛ وكل وجه تخيل منه خيالا فهو وجه من وجوه العلم عنده، إذ كان عالمه أكثره في داخله لا في العالم، فإذا توهم أو أحس أو شعر، فإنما يكون ذلك بطريقته هو لا بطريقة الناس العقلاء؛ فليس يحتمل عقله إلا فكرة واحدة تمضي منفردة بنفسها مستقلة بمعناها كأنها قدر غالب على جميع أفكاره الأخرى، فلا شأن لها بالواقع، ولا شأن للواقع بها، وإنما هي تحقق معناها كما تخطر له، لا كما تتمثل فيما حوله. فبين كل مجنون وبين ما حوله دماغه المتدجي بالغيوم العقلية، لا تزال تعرض له الغيمة بعد الغيمة من اختلال بعض المراكز العصبية فيه، وفساد أعمالها بهذا الاختلال، وقيام الطبيعة فيها على هذا الفساد. ومن ذلك تنقلب الكلمة من الكلام، وإنها لحادثة تامة في عقل المجنون كالقصة الواقعة لها زمان ومكان وبدء ونهاية، لا يخامره فيها الشك، ولا يعتريها التكذيب؛ وكيف وهي قائمة في ذهنه من وراء سمعه وبصره قيام الحقيقة في الأبصار والأسماع؟ ولحواس المجنون جهتان في العمل، لأنها بين كونين؛ أحدهما الكون الخرب الذي في دماغه؛ وفي هذا يقول "نابغة القرن العشرين": إن في داخل عينيه منظارًا يرى به الأشياء في غير حقائقها، أي في حقائقها ... وحدثنا الدكتور محمد الرافعي قال: إن في دار المجانين بمدينة ليون بفرنسا نابغة كنابغة القرن العشرين، ذكرت أمامه قيصرة روسيا وخبر مقتلها، فأحفظه هذا وأرمضه وقال يا ويحهم! كذبوا عليها وعلي، فسأله الدكتور: وكيف ذلك؟ قال: كان من خبر القيصرة أنها رأتني فأحبتني، وعلمت من كل وجه يمكن

أن يعلم منه قلبها أني أنا رجلها لا القيصر؛ فما زالت بعدها تناكد القيصر وتلتوي عليه ولا تصلح له في شيء حتى يئس منها فطلقها، فحملت كنوزها وجلاها ولجأت إلى حبيبها، ثم تبعتها نفس القيصر ولم يطق العيش بعدها فانتحر ... ثم طلبها الشيوعيون لما معها من كنوز، فأخفاها هو في مكان حريز لا يعلمه إلا هو؛ ثم إنه هو لا يصل إلى هذا المكان الذي أحرزها فيه إلا إذا نام ... كيلا يراه أحد من الشيوعيين فيتعقبه فيعلم مقرها؛ ولهذا كان من الحكمة أن ينسى المكان إذا استيقظ ... فقد يزل مرة فيخبر به أو يغلبه الشوق مرة على "عقله" ... فيذهب إليه؛ فعسى أن يراه من ينم بذلك، فتفتضح الحبيبة وتؤخذ منه. قال: وإن القيصرة هي تحتاط أيضا مثل ذلك فتراسله كل يوم باللاسلكي رسائل تقع من الجو في دماغه فيقرؤها وحده، وإن أخوف ما يخافه أن يغلبها جنون الحب يوما فتطيش طيش المرأة، فتزوره في هذا المارستان ... فقد تقتل إذا رآها الشيوعيون. قال الدكتور: وهاك "نابغة" آخر ثبت في ذهنه أن امرأة من أجمل النساء قد استهامت به وأنها مبتلاة في حبها إياه بجنون الغيرة، وقد تناهت فيه حتى أنها لتقتل نفسها إذا علمت أن لصاحبها هوى في امرأة أخرى. وخبلته هذه الفكرة، فاعتقد أن حبيبته من جنون غيرتها واقعة بين السلامة والتلف؛ ثم توهم ذات يوم أن واشيا قد أعلمها أن النساء افتتن به؛ فطار صوابها، فهي آتية إليه في المارستان لتوبخه وتشفي غيظها منه، ثم تنتحر أمام عينيه ... وأدار "النابغة" الفكر في إقناعها لتعلم أنه لم يخنها بالغيب ... فلم يهتد إلى مقنع تستيقن به المرأة أن لا أرب للنساء فيه إلا أن ... ففعل وجب خصيتيه بيده ليقدمهما برهانا أنه لها وحدها ... قلنا: وطرب "نابغة القرن العشرين" لذكر صواحبه وجميلاته، فجعل يترنم بهذا الشعر: قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ... ما لذة العيش إلا للمجانين فقال المجنون الآخر: "مما حفظناه": ما لذة "الخبز" إلا للمجانين ... فضحك "النابغة" وقال: ما أسخفك من أحمق. إذا كان هذا هو المعنى فقل: ما لذة "الكعك". ألم أقل لكم إن هذا الأبله لو تهجأ كلمة خبز قال: إنها ل. ح. م. ولو تهجأ كلمة لحم لقال: ف. و. ل.

إنه طفل عمره ثلاثون سنة وفيه دائما غضب الطفل ونزقه وحماقته، وفيه كذلك سرور الطفل وطيشه وأحلامه؛ غير أنه ليس فيه عقل الطفل ... وهو من الضعف، وشدة الحاجة إلى العناية في حياطته وسياسته والبر به كطفل صغير بحيث يخيل إلي أحيانا أنني أمه. قلنا: وتنسى في هذه الحالة أنك رجل؟ قال: وأنتم كذلك تتهمونني بالنسيان، وهو شرعا جهة ملزمة للحكم بالجنون فما النسيان إلا الكلمة الأخرى لمعنى ضعف العقل؛ وضعف العقل هو اللفظ الآخر لمعنى جنوني؛ وقد أعلمتكم ما أكره من الكلام. قلت: لا، النسيان لا يكون منك نسيانا بمعناه في المجانين، بل بمعناه فيك أنت من تواثب الأفكار النابغة وتزاحمها في تواردها على العقل، فإذا تواثبت وتزاحمت كان أمرها إلى أن ينسى بعضها بعضا، فلا ينطلق منها إلا القوي النابغ حق نبوغه، فيجيء كالمنقطع مما قبله؛ فيحسب ذلك نسيانا وما هو به. وقد تصطلح الأفكار في هذه المعركة الذهنية إذا كان النابغة مسرورًا محبورا يرقص طربًا ... فيكون أمرها إلى أن تجيء كلها معا على اختلاف معانيها وتناقضها؛ فيحسب ذلك ضربا من الذهول عند من يجهل العلة "النبوغية"؛ وعذره جهل هذه العلة، وهي في دلالة العقل ليست نسيانا ولا ذهولا. قال: فأعلمني كيف نسيان المجانين، فقد خفي على أن أدرك هذا الأمر العجيب فيهم، ولست أدري كيف يفوتهم ما استدنى لهم من الفكر بعد أن يكون قد استقر وحصل في عقولهم؟ قلت: لا يكون النسيان تهمة بالجنون إلا في أحوال ثلاث، جاءت بكلها الرواية الصحيحة المحفوظة: فأما الأولى: فما يروى عن رجل كان سريا غنيا وعمر حتى أدركه الخرف؛ فجاءه كاتبه يوما يستعينه على تجهيز أمه وقد ماتت، فدفع إلى غلام له دنانير يشتري بها كفنا، ودنانير أخرى يتصدق بها على القبر، ثم قال لغلام آخر؛ امض إلى صاحبنا وغاسل موتانا فلان فادعه يغسلها. قال الكاتب: فاستحييت منه وقلت: يا سيدي ابعث خلف فلانة وهي جارة لنا تغسلها. قال: يا فلان: ما تدع عقلك في حزن ولا فرح. كيف ندخل عليها من لا نعرفه؟ قال الكاتب: نعم تأذن بذلك. قال: لا -والله- ما يغسلها إلا فلان.

فضاق الكاتب بهذا الحمق وقال: يا سيدي كيف يغسل رجل امرأة؟ قال: وإنما أمك امرأة؟ والله لقد أنسيت ... وأما الحالة الثانية: فما يروى عن رجل كان نائما في ليلة باردة فخرجت يده من الفراش فبردت، فأدناها إلى جسده وهو نائم فأحس بردها فأيقظته، فانتبه فزعا فقبض عليها بيده الأخرى وصاح: اللصوص. اللصوص ... هذا اللص قد قبضت عليه، أدركوني لئلا تكون في يده حديدة يضربني بها، فجاءوا بالسراج فوجدوه قابضا بيده على يده وقد نسي أنها يده ... وأما الثالثة: فهي رواية عن رجل قد ورث نصف دار، ففكر طويلا كيف تخلص الدار كلها له ثم اهتدى إلى الوسيلة؛ فذهب إلى رجل وقال له: أريد أن أبيعك حصتي من الدار وأشتري بثمنها النصف الباقي لتصير الدار كلها لي. قال "النابغة": لعمري إن هذا لهو الجنون، وما يذكر مع هؤلاء مجنون المتن ولا "غيره". فقال الآخر: تالله لولا أن "نابغة القرن العشرين" يرفع نفسه عن الجنون لجاء في الجنون بما يذهل "العقول". ثم نظر فإذا النابغة يتحفز له ... فأسرع يقول: "مما حفظناه": كن حذرا كأنك غر، وكن ذاكرا كأنك ناس. فهذا هو نسيان نابغة القرن العشرين، نسيان حكماء لا نسيان مجانين. قال "النابغة": ولكن قد فسد قول الشاعر: ما لذة العيش إلا للمجانين؛ فما بقيت مع الجنون لذة. قلت: إن الشاعر لا يريد المجانين الذين هم مجانين بالمرض، وإنما يريد العشاق المجانين بالجمال؛ وجنون العاشق في هذا الباب كعيوب العظماء من أهل الفن، وهي عيوب تدافع عن نفسها بحسنات العظمة، فليست كغيرها من العيوب. قال: فيجب أن أصنع بيتا آخر يفسر ذلك الشعر ليستقيم لي التمثل به، ثم فكر وهمهم، ثم كتب في ورقة ثم طواها وقال: اصنع أنت أول، وسأئتمن س. ع. على شعري ودفع إليه الورقة: فنظرت وقلت: يجب أن يكون الشعر هكذا:

قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ... ما لذة العيش إلا للمجانين العقل إن حكم العشاق أثقل من ... فقر تحكم في رزق المساكين ونشر س. ع. الورقة فإذا فيها: قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ... ما لذة العيش إلا للمجانين إن العيوب عن المجنون دافعة ... بأنه نابغ في القرن العشرين وضحكنا جميعا؛ فقال النابغة: أبعدك الله يا س. ع. إن من ائتمن المجنون على سر وقال له اكتمه فكأنما قال له: انشره ... ثم قال: وددت -والله- أن يكون س. ع. هذا "نابغة"، ولكني سأجعله نابغة، فقد صار له علي حق الصديق وهو حق لا أضيعه ولا أخل به. فإذا احتجت يا س. ع. إلى خطاب رنان تلقيه في حفل عظيم، أو قصيدة تمدح بها وزير المعارف، فالجأ إلي فإني ملجأ لك. ومتى انتحلت شعري كنت عند الناس المتنبي أو البحتري. أو ابن الرومي، فإن هؤلاء القدامى لم ينفعهم إلا أنني لم أكن فيهم، ولما لم أكن فيهم أعجبوا الناس إذ إنني لم أكن فيهم ... قلنا فما حكمك عليهم في الأدب؟ قال: إذا حكمت عليهم فقد جعلت نفسي بينهم، فمن الطبيعي ألا يعجبني منهم أحد. إن "نابغة القرن العشرين" لا يقول لمعنى هذا أحسن، فإنه هو فوق الأحسن، ولا يقول عن نابغة هذا أشهر، فإنه هو فوق الأشهر. قلت: كأن الدنيا تحت قدميك وأنت فيها الزاهد العظيم الذي لا يقول في حسن هذا أحسن لأنه فوق الشهوة، ولا في نعيم هذا أطيب لأنه فوق الطمع، ولا في مال هذا أكثر لأنه فوق الحرص. وأحسبك لو كنت ترعى غنما لكنت الحقيق في عصرنا بقول تلك الراعية الزاهدة: أصلحت شأني بيني وبينه فأصلح بين الذئب والغنم. قال: وكيف ذلك؟ قلت: حكي عن بعض الصالحين أنه فكر ذات ليلة فقال في نفسه: يا رب! من زوجتي في الجنة؟ فأري في منامه ثلاث ليال أنها جارية سوداء في أرض كذا, فجاء تلك الأرض فسأل عن الجارية، فقال له رجل: ما هذا؟ تسأل عن جارية سوداء مجنونة كانت لي فأعتقتها؟ قال: وماذا رأيتم من جنونها؟ قال: كانت تصوم النهار فإذا أعطيناها فطورها تصدقت به، وكانت لا تهدأ الليل ولا تنام فضجرنا منها.

قال: فأين هي؟ قال ترعى غنما للقوم في الصحراء. فذهب إلى الصحراء فإذا هي قائمة في صلاتها، ونظر إلى الغنم فإذا ذئب يدلها على المرعى وذئب يسوقها. فملا فرغت من صلاتها سلم عليها فأنبأته أنه زوجها في الجنة وأنبأها أنه بشر بها؛ ثم سألها ما هذه الذئاب مع الأغنام؟ قالت: نعم أصلحت شأني بيني وبينه فأصلح بين الذئب والغنم. قال "النابغة": هذا كذب لأنه عجيب، وهو عجيب لأنه كذب. قلت: وأي عجيب في هذا؟ إن الذئب والشاة، والأسد والغزال، والثعبان والعصفور، وكل آكل ومأكول من الأحياء، لو هي دخلت في دائرة الصلاة الحقيقية لانتظمت كلها صفا واحدًا يركع ويسجد. فهذه الجارية نشرت روح الصلاة والتقوى على كل ما حولها من قلبها الطاهر المطمئن بالإيمان فوقع الذئب منها في دائرة مغناطيسية، فسلب وحشيته ورجع مسخرًا لفكرة الصلاح والخير إذ تجانست فيه الحياة بما حولها، وانسجم النوع والنوع في حركة متجاوبة انسجام الرجل المغناطيسي هو ومن ينومه في إرادة واحدة وفكرة واحدة. قال "النابغة": فإذا دخل الذئب مسجدًا يرتج بالمصلين، أتراه يصف أربعته ويقف بينهم للصلاة، أم يصلي صلاته الذئبية في لحومهم؟ قلت: وأين هم الذين يصلون بحقيقة الصلاة، فيخرجون بها من النفس إلى الكون، ومن الزمن إلى الأبد، ومن الأسباب إلى مسببها، ومما في القلب إلى ما فوق القلب؟ إن هؤلاء جميعا يصلون بجوارحهم وبينهم وبين أرواحهم طول الدنيا وعرضها؛ وما منهم إلا من يتصل فكره بما يغلب عليه، كما يتصل فكر اللص بيده، وفكر العاشق بعينه، وفكر الطفيلي بمعدته. فاسمها عندهم الصلاة، وحقيقتها عند الله كما ترى. قال "النابغة": ولكنه ذئب من طبيعته أن يأكل الشاة لا أن يرعاها، فلا أفهم شيئا. وقال الآخر: "مما حفظناه" رتع الذئب في الغنم، ولم يقولوا صلى الذئب في الغنم، فلا أفهم شيئا. قلت: سأزيدكما عدم فهم ... إن قلب تلك المرأة العظيمة الطاهرة متصل بالله، وليس فيه شيء من طباعها الإنسانية ولا ظل من ظلال الدنيا؛ وقد تجلى فيه سر الحياة، وهو السر الذي لا يطعم ولا يشرب ولا يلبس ولا يشتهي ولا يطمع

في شيء ولا يحرز شيئا، وإنما طبيعته أشواقه الكونية، واتصاله بنفحات القوة الأزلية المسخرة للوجود كله. فانتشرت هذه الموجة الكهربائية الأثيرية حول الجارية من قلبها، وجاء الذئب فالتج فيها وغمرته الروحانية الغالبة، فإذا هو يفتح عينه على كون غريب قد تجلى السلام عليه، فليس فيه إلا قوة آمرة أمرها بائتلاف كل شيء مع كل شيء، واجتماع المتنافرين في حالة معروفة لا في حالة إنكار. فصار الذئب مستيقظا، ولكنه في روح النوم، وشلت فيه الذئبية الطبيعية، فإذا هو يحمل الأنياب والأظافر وقد أنسي استعمالها؛ وبقيت حركته الحيوانية، ولكن تعطلت بواعثها فبطل معناها. ومن كل ذلك اختفى الذئب الذي هو في الذئب، وبقي الحيوان حيا ككل الأحياء، فناسب الشاة وفزع إليها إذ لم تكن العلاقة بينهما علاقة جسم الآكل بجسم الأكيلة، بل علاقة الروح الحي بروح حي مثله1. قال "النابغة": أما أنا فقد فهمت ولكن هذا المجنون لم يفهم. أكتب يا س. ع: جلس نابغة القرن العشرين مجلسه للفلسفة على غير إعداد ولا تمكن، وبدون كتبه ألبتة ... وكان هذا أجمع لرأيه وأذهن له وأدعى لأن يتوفر على الإملاء بكل "مواهبه العقلية"؛ ولما أن فكر النابغة أعطي النظر حقه وجمع في عقله الفذ جزالة الرأي إلى قوة التفنن والابتكار، قال مرتجلا: إن فلسفة الذئب والشاة حين لم

_ 1 روت الصحف في هذه الأيام قصة حاكم إنجليزي كان قد اقتنص ذئبا هنغاريا وشده في سلسلة وجعله في حديقة داره إلى أن يرى فيه رأيا؛ وكان للحاكم طفل صغير أعجبه الذئب ومنظره الوحشي فتربص إلى الليل، فلما استثقل أهله نوما انسل من حجرته وهبط الحديقة وجاء إلى الذئب فوثب هذا يتحفز لافتراسه؛ ولكن الطفل لم يدرك شيئا من معنى هذه الوحشية، ولم يكن في نفسه إلا أن الذئب كالكلب فلم يضطرب ولم يخف ولم يداخله الشك؛ ومضى إلى الوحش مسرورا مطمئنا فتناوله من شعره وجعل يمسحه بيده الصغيرتين ويعبث به، والذئب مدهوش ذاهل، ثم سكن واستأنس إليه كأنه مع جرو من أجرائه لا مع طفل آدمي؛ وجذبه الطفل من رقبته حتى أضجعه ثم اتخذه وسادة ووضع رأسه على ظهره ونام ... وافتقدت الطفل مربيته فلم تجده في فراشه، فنبهت أهله وذهبوا يبحثون عنه في غرف الدار، ثم نزلوا إلى الحديقة فبصروا به نائما ورأسه على الذئب، وخافوا إزعاج الوحش فرموه بالرصاص فقتلوه وقام الطفل يبكي على صديقه الوفي ... هذا هو أثر الروح المطمئنة الماضية على يقينها، ولكن أين مثل هذا اليقين في مثل هذه الحالة؟ وكل مروضي الوحوش يعلمون أنه أول وآخر ما يخيفونها به هو نزع الخوف من أنفسهم، وأن هذا هو وحده سلاح النفس في النفس.

يأكلها ولم تنطحه، هي بالنص والحرف كما قال أستاذ نابغة القرن العشرين. "حاشية" وإن مجنون المتن لم يفهم هذه الفلسفة. فامتعض الآخر وقال "مما حفظناه": وبات يقدح طول الليل فكرته ... وفسر الماء بعد الجهد بالماء فقال "النابغة": ويلك يا أبله! أما -والله- لو كنت نفطويه أو سيبويه لما كنت عندي إلا جحشويه أو بغلويه ... لقد كنت أرى الكلام في تلك الفلسفة طريقا نزها جميلا حفته الأشجار والأزهار عن جانبيه، واندفعت في سوائه "تمبيلات" الأفكار خاطفة كالبرق. فلما تكلمت أنت انتهينا من سخافتك إلى طريق حجري تقعقع فيه عربات النقل تجرها البغال البطيئة. فقال الآخر وهو يعتذر إليه: ما أردت والله مساءتك ولو أردتها لقلت: وفسر الماء بعد الجهد بالسبرتو ... فهذا هو الخطأ، أما تفسير الماء بعد الجهد بالماء فهو صحيح. قال "النابغة": ولكنه تفسير مفرط السقوط كتفسير المجانين، فهو يقول: إني مجنون. قلت: كلا، إن تفسير المجانين يكون على غير هذا الوجه، كالذي حكاه الجاحظ قال: سمعت رجلا يقول لآخر: ضربنا الساعة زنديقا. قال الآخر: وأي شيء الزنديقا؟ قال الذي يقطع المزيقا. قال: وكيف علمت أنه يقطع المزيقا؟ قال: رأيته يأكل التين بالخل ...

المجنون "6"

المجنون "6": تتمة: وطال المجلس بنا وبالمجنونين، والكلام على أنحائه يندفع من وجه إلى وجه، ويمر في معنى إلى معنى؛ فأردت أن أبلغ به إلى الغاية التي جمعت من أجلها بين هذين المجنونين، بعد ما انطلقنا في القول وانفتح القفل الموضوع على عقل كل منهما. وكان قد مر في الندي بائع روايات مترجمة "بوليسية وغرامية ولصوصية! " يحمل الرجل منها مزبلة أخلاق أوروبية كاملة لينفضها في نفوس الأحداث من فتياننا وفتياتنا، فقلت "لنابغة القرن العشرين": أتقرأ الروايات؟ قال: لا، إلا مرة واحدة ثم لم أعاود، إذ جعلتني الرواية رواية مثلها. قلنا: هذا أعجب ما مر بنا منذ اليوم، فكيف صرت رواية؟ قال: أنتم لا تعرفون طبيعة النوابغ، إذ ليس لكم حسهم المرهف، ولا طبعهم المستحكم، ولا خصائصهم الغيبية، ولا خواطرهم المتعلقة بما فوق الطبيعة. قلت: نعم أعرف ذلك؛ وما من "نابغة" إلا وهو بين عالمين على طرف مما هنا وطرف مما هناك، فهو خراج ولاج بين العالمين؛ وله نفس مركبة تركيبها على نواميس معروفة وأخرى مجهولة؛ فهي تأخذ من الظاهر والباطن معا، ويحصرها المكان مرة ويفلتها مرة، وتكون أحيانا في زمان الأرض، وأحيانا في زمن الكواكب من القمر فصاعدًا ... ولكن ... فقطع علي وقال: أضف إلى ذلك أن هذه العقول التي تحصر من يسمونهم العقلاء في الزمان والمكان، لا توجد أهلها إلا الهموم والأحزان، والمطامع السافلة، والأفعال الدنيئة، فإنهم يعيشون فوق التراب. قلت: نعم، وإذا عاشوا فوق التراب فباضطرار أن تكون معاني التراب فوقهم

وتحتهم ومن حولهم وبين أيديهم، فليسوا يقطعون على هذه الأرض إلا عمرا ترابيا في كل معانيه ولكن ... قال: وزد على ذلك أنهم مقيدون تقييد المجانين، غير أن حبالهم وسلاسلهم عقلية غير منظورة؛ وبتغليلهم تغليل المجانين يسمون أنفسهم عقلاء، وأعقلهم أثقلهم قيودا، وهذا من الغرابة كما ترى. قلت: نعم، أما العقلاء بحقيقة العقل، فهم الذين يضحكون على هؤلاء ويسخرون منهم، إذ كانوا في حال كحال المنطلق من المقيد، وفي موضع كموضع المعافى من المبتلى ولكن ... قال: وفوق هذا وذاك، إنهم لا يملكون السعادة، إذ ليس لهم العقل الضاحك الساخر العابث الذي خص به النوابغ وكان الأوحد فيه "نابغة القرن العشرين". قلت: نعم، وإذا ملكوا السعادة لم يشعروا بها، أما "النوابغ" فقد لا يملكونها، ولكن لا يفوتهم الشعور بها أبدًا فيجيئهم الفرح من أسبابه ومن غير أسبابه ما دام لهم العقل الضاحك الساخر العابث الذي دأبه أبدًا أن ينسى ليضحك، ولا قانون له إلا إرادة صاحبه، على مشيئة صاحبه، لمنفعة صاحبه. ولكن ... قال: والذي هو أهم من كل ما سبق؛ أن أعظم خصائص هذا العقل الضاحك الساخر العابث أن يطرد عن صاحبه ما لا يحب ويجنبه أن يخسر شيئا من نفسه؛ فهو لذلك يجعل حسابه مع الأشياء حسابا يهوديًا لا بد فيه من ربح خمسين في المائة. قلت: نعم، وهو دائما كالطفل؛ وما أظرف بلاهة الطفل وما أجداها عليه، إذ يضع بلاهته دائما في أرواح الأشياء وأسرارها فتخرج بلهاء مثله، وتنقلب له الدنيا كأنها أم تضاحك ابنها وتلاعبه ولكن ... قال: ولكن هذا مبلغ لا تبلغه الإنسانية إلا شذوذا في أفرادها من جبابرة العقول "كنابغة القرن العشرين". قلت: نعم "ولكن" كيف صار "نابغة القرن العشرين" رواية حين قرأ الرواية؟ قال: هذه نكتة النبوغ؛ فلو أن مؤلفها كان نابغة مثلنا يتلقى في نفسه وحي الأثير وإشارات الروح الأعظم؛ لعلم من الغيب أن "نابغة القرن العشرين" سيقرأ روايته، فكان يتحرى معاني غير معانيه ويتوخى بهذه القصة وضعا آخر لا تكون فيه حبيبة خائنة، ولا لص عارم، ولا قاتل سفاح، ولا سجن مظلم، ولا محكمة تقول حيث وحيث ...

قلت: وما عليك من حبيبة خائنة في الورق، ولص بين الحروف المطبعية وقاتل لا يقتل إلا كلاما، وسجن ومحكمة على الصحيفة لا على الأرض؟ قال: هذه نكتة النبوغ، فما استوعبت القصة حتى غمرتني أشخاصها، وأقحمت منها على هول هائل، فخانتني الخائنة لعنها الله.. ولولا خوف السجن والمحكمة لقتلتها أشنع قتلة، ومثلت بها أقبح تمثيل. ويح الخائنة كيف استمالها ذلك الدميم الطويل العملاق المشبوح العظام المفتول العضل؟ ولكني لست عملاقا ولا مبنيا بناء الحائط، ثم كان مجنونا بشهواته جنون الفيل الهائج، وكنت في شهواتي عاقلا عقل الإنسان، ثم كان غنيا غنى الجهال، وكنت فقيرا فقر العلماء. والنساء؛ قبح الله النساء. إنهن زينة تطلب زينة مثلها وإن المرأة لتمنح وجهها للقرد يقبله إذا كان الذهب يتساقط من قبلاته. أما من كان مثلي، أمواله الشباب والجمال والعقل والنبوغ، فهو مفلس عندهن إفلاس القرد في الغابة، فهو عندهن قرد لهذه المشابهة. قلت: هذا ليس عجيبا فإن اللغويين يجرون على الشيء اسم ما يقاربه في المعنى. قال المجنون الآخر: "مما حفظناه": أن اللغويين يجرون على الشيء اسم ما يقاربه في المعنى ... فتربد وجه "النابغة" غضبًا وقال: أبي يلعب هذا المجنون؟ إنه يزعم أن اللغويين يسمونني قردًا، فهاتوا القواميس كلها وارجعوا إلى مادة "قرد" ومادة "نابغة" ... سوأة عليك أيها الصبي المعمر ... ألا فدعوني أؤدبه أدب الصبيان فإن اللطمة القوية على وجه الطفل المكابر في حقيقة تلمسه الحقيقة التي يكابر فيها إذ تدخلها إلى عقله من أقرب طريق ... قال ا. ش: أنت قلت: لا هو. على أنك لست قردًا أبدًا إلا عند امرأة جميلة فاتنة متخيلة متماجنة، قد نضع البرذعة على ظهر الأمير وتجعله حمارها، فيعجب الأمير أن يكون حمارها. ولست قردًا مع قراد إلى جانب عنز وكلب. قال: الآن علمت السبب، فإن الخائنة كانت متخيلة مؤلفة كتب وروايات، والمرأة التي تؤلف الكتب، غير بعيد أن تؤلف الرجل أيضًا، وتجعله قصة هو فيها قرد ... وهذا إن كانت جميلة كامرأة الرواية. أما إن كانت دميمة مجموعة من المتناقضات، أو عجوزًا مجموعة من السنين؛ فهذه وهذه كل أيامها كيوم الأحد عند النصارى ... يوم للعطلة لا بيع فيه ولا شراء ولا مساومة. هذه وهذه كلتاهما

تجعل الرجل كالماء في سبيل التجمد ... لا يشتعل، فضلا عن أن يستعر، فضلا عن أن يحترق. ومؤلفة الكتب لا يكون وجهها إلا إحدى وثيقتين: فإما جميلة، فوجهها وثيقة بأن لها ديونا على الرجال؛ وإما غير جميلة، فوجهها "مخالصة" من كل الديون ... قلنا: هذا في الخائنة. فيكف سرقك اللص ولست غنيا؟ قال: هذه هي نكتة النبوغ؛ وفي النبوغ أشياء لا ينكشف تفسيرها، وليس في جهلها مضرة على أحد، وجهل لا يضر هو علم لا ينفع، لكنه علم. والبحث في بعض أعمال "النابغة" هو كالبحث عن سر الحياة فيه، إذ يعمل أعماله تلك بسر الحياة لا بسر العقل، أي بالعقل النابغ الخاص به وحده لا بالعقل الطبيعي المشترك بين الناس. قلت: ومن عجائبك أنك لا تقرأ الروايات، ولكنك مع ذلك تؤلفها ... قال: إن ذلك ليكون، وإن لم أؤلفها أنا تألفت هي لي. فإذا تقدم الليل ونام الناس جميعا انتبهت أنا وحدي لرواية العالم فأرى ما شئت أن أرى. وفي ضوء النهار أجد الناس عقلاء ولكني في ظلمة الليل أبصرهم مجانين. فهذا الليل برهان الطبيعة على جنون الناس وضعف عقولهم إذ هو يثبت حاجة هذه العقول إلى ضرب من النسيان الأبله التام لولاه ما عقلت في نهارها ولا استقام لها أمر. يصرع الناس في الليل صرعة المجانين يغمضون أعينهم ولا يرون شيئا. أما أنا فأرى العالم في الليل مسرحا هزليا يضج بالضحك من الإنسان الأحمق الذي يقطع سراة نهاره، وهو معتقد أنه قابض على الوجود بالأعين والآذان والأناف ... أئن رأيت الأسد بعينك أيها الأحمق وسمعت في أذنيك زئيره، ادعيت الدعوى العريضة، وزعمت أنك ملكته وقبضت عليه، ولا تدري في هذا أنك كالمعتوه إذا قبض على الظل بيده، وصاح هاتوا الحبل لأقيده لا يفلت. قلت: فإذا كان العالم كله روايتك فأخرج لنا فصلا من الرواية. قال: أيما أحب إليكم، أن أكتب أو أمثل؟ قلنا: بل التمثيل أحب إلينا. فنظر إلى المجنون الآخر وقال: وإن المجنون في طبيعته ينبوع من الأشخاص يفيض حالا بعد حال، كينبوع الماء يسح الدفعة

بعد الدفعة، فهنا المسرح، والرواية الآن رواية الطبيب والمجنون ... أنت يا س. ع. عم هذا المجنون. فإذا قال لك يا عم. قل له: أنا لست عمك ولكني أخو أبيك ... لننظر أيتنبه على الفرق بين الصيغتين أم لا؛ فإنه فرق عقلي دقيق تمتحن به العقول ... تعال أيها المريض فإني أرجو أن يكون شفاؤك على يدي، وفي يدي هذه لمسة من لمسات المسيح، لأن "نابغة القرن العشرين" هو الآن طبيب القرن العشرين ... اتقوا أن تغضبوه أو تخيفوه، وأقيموا له كل ما يحتاج إليه، وتحروا مسرته دائمًا، فإن إدخال بعض السرور إلى نفس المجنون هو إدخال بعض العقل إلى رأسه. متى أنكرت يا س. ع عقل ابن أخيك وما كان السبب؟ وكيف غلب على عقله؟ وهل ا. ش هو خاله أو أخو أمه؟ لطف الله لك أيها المسكين. قل لي: أتتذكر أمس؟ أتتذكر غدًا؟ إن الأمس والغد ساقطان جميعا من حساب المجانين؛ ومن الرحمة بهم أن الدنيا تبدأ لهم كل يوم فقد استراحوا من ثلثي هموم الزمن في العقلاء، وهم لا يصلحون أن ينفعوا الناس كالعقلاء، غير أنهم صالحون أكثر من العقلاء للانتفاع بأنفسهم في الضحك والمرح والطرب، وهذا حسبهم من النعمة عليهم. قل لي أيها المجنون: أتحس أن الدنيا تصنع لك نفسك، أم نفسك هي تصنع لك الدنيا؟ إن هذه مسألة يحلها كل مجنون على طريقته الخاصة به، فما هي طريقتك في حلها؟ ما لك لا تجيب أيها الأبله؟ "هذا من جهة ومن جهة" أعطوه قرشا لينطلق لسانه، وآتوا الطبيب أجره وافيا وهو لا يقل عن قرشين ... ثم مال "النابغة" على مجنون المتن وساره بشيء. فقلنا ما أمر المال بسر؛ هذا قرش للمريض وهذان قرشان للطبيب. فقال المجنون: "مما حفظناه" كفى بالسلامة داء. قال "الطبيب": هذا مريض بنوع من الجنون اسمه "مما حفظناه" وهو جنون النسيان الذي يضع في مكان العقل كلمة ثابتة لا يتذكر المجنون إلا بها؛ ومن أعراضه جنون الشك فكل ما حول المريض مشكوك فيه، وقد يترامى إلى جنون اللمس، فلو لمسته بإصبعك توهمها عقربا فخاف من الإصبع تلمسه خوفه من العقرب تلدغه،

ولكن بقيت أشياء لا بد من التدقيق في فحصها، فليس هذا من مجانين العبقرية التي انحرفت عن طريقها أو شذت في قوتها؛ ولا هو ممن يتجان ويتحامق التماسا للرزق والعيش كما قال بعضهم: حماقة تعولني خير من عقل أعوله. فقال المجنون: "مما حفظناه" حماقة تعولني ... فضحك "النابغة" وقال: هو كما بينت لكم مصاب بجنون "مما حفظناه" وهو أقل الجنون وأهونه، وعلاجه البسط والسرور والقرش، والضرب أحيانا ... فإذا ثابر عليه الداء تحول إلى جنون "مما ضربناه" ... فيعتدي المصاب على كل من يراه أو يوقع به ضربا، وعلاجه حينئذ القميص المرقوم1؛ فإذا فدحت العلة انقلب المرض إلى جنون "مما قتلناه". وعلاجه يومئذ السلاسل والأغلال. والحق أقول لكم إن آخر ما انتهت إليه فلسفة الطب في القرن العشرين أن الناس جميعا مجانين ولكن بعضهم أوفر قسطا من بعض. كأن سلب العقل هو أيضا حظوظ كحظوظ موهبة العقل. وأهل المريخ من أجل ذلك يسمون الأرض بيمارستان الفلك. ولكن بقيت أشياء لا بد من التدقيق في فحصها؛ وعندي في الدار عاطوس إذا أشممته هذا المجنون عطس به عطسة قوية فخرج جنونه من أنفه ... قل لي أيها المسكين: أتخاف إذا سرت وحدك في ميدان واسع كأن الميدان سيلتف عليك؟ أتضطرب إذا مشيت في مضيق كأن المكان سينطبق عليك؟ وإذا كنت في عربة القطار فهل يخيل إليك أن البيمارستان قد جره القطار وانطلق به هاربا؟ وهل شعرت مرة أنه أوحي إليك أن تنتحر؟ أرني هذا القرش الذي في يدك. فمد إليه المجنون يده بالقرش. قال "النابغة": انظر الآن هل تحدثك نفسك أن تغصبني هذا القرش أو تسرقه مني؟ قال: نعم. قال "النابغة": إذن يجب أن أحرزه في جيبي ... وأسرع فأخفاه في جيبه. فصاح الآخر وشغب، وقال: سلبني ونهبني. قلنا لا ينبغي أن يتصل بينكما

_ 1 القميص المرقوم قميص السجن يلبسه المسجون ويرقم عليه العدد الذي يسمى اليوم "النمرة" وقد كان هذا معروفا في التمدن الإسلامي.

شر في تمثيل الرواية فهذا قرش آخر، ولكن أفي الفلسفة عند "النابغة" إباحة السرقة والغصب؟ قال: فالرواية الآن هي رواية الفيلسوف العظيم أفلاطون وتلميذه أرسطو. قل لي ويحك يا أرسطو. أعلمت أن في المجانين أغنياء يسرقون الشيء القليل لا قيمة له وهم أغنياء وليست بهم حاجة إليه. فما علة ذلك عندك وما وجهه في مقولة الجنون؟ أعجزت عن الجواب؟ إذن فاعلم يا أرسطو أن المصاب بهذا الضرب من الجنون إذا اشترى هذا الشيء بدرهم كانت قيمته من الدرهم وحده، وهو غني لا قيمة للدرهم في ماله فلا يحفل بالشراء بيد أنه إذا سرقه كانت قيمته عنده من عقله وحيلته فيجيئه بلذة لا تشتريها كل أمواله ولا كل أموال الدنيا. فهذا جنون باللذة لا بالسرقة، وهو بذلك ضرب من العشق يجعل الشيء إذا لم يسرق كأنه المرأة المعشوقة الممتنعة على عاشقها. والجياع إذا سرقوا ليأكلوا ويمسكوا الرمق على أنفسهم، لا يقال في لغة الفلسفة إنهم سرقوا بل أخذوا ... فباضطرار جاعوا وباضطرار مثله أكلوا، والسارق هنا هو الغني الذي منعهم الإحسان والمعونة. فالدنيا معكوسة منقلبة أوضاعها يا أرسطو، لو استقامت هذه الأوضاع لوجدت السعادة في الأرض لأهل الأرض جميعا. وكيف لك بالسعادة والناس مخلوقون بعيوبهم؟ ويا ليتهم مخلوقون بعيوبهم فقط، ولكن الطامة الكبرى أن عيوبهم تعمل دائما على أن ترى في الآخرين عيوبا مثلها. كل حمار فهو يريد أن يملأ جوفه تبنا وفولًا وشعيرًا، غير أني لم أر حمارًا قط يريد أن يملأ لنفسه الإصطبل؛ فإذا وجد حمار هذه همته وهذا عمله فاسمه إنسان لا حمار. يا أرسطو إن معضلة المعضلات أن يحاول إنسان حل مشكلة داخلية محضة قائمة في نفس حمار أو ثابتة في ذهنه الحماري ... ومثل هذا أن يحاول حمار حل مشكلة نفسية في ذهن إنسان أو في قلبه، فلا حل لمشاكل العالم أبدًا ما دام كل إنسان مع غيره كحمار مع إنسان. والمعضلات النفسية من عمل الشياطين، فكان ينبغي أن تجيء الملائكة لتحارب الشياطين بالبرق والرعد دفاعا عن الإنسانية؛ ولكن الله -تعالى- منعها، وأرسل للإنسان

ملائكة أخرى إن شاء هذا الإنسان عملت، وإن شاء عجزت؛ وهي فضائل الأديان المنزلة. فإذا منحها الإنسان إرادته وقوته، فعملت عملها كان الإنسان هو الملك بل فوق الملك، وإذا أضعفها ومحقها كان الإنسان هو الشيطان وأسفل من الشيطان. يا أرسطو1: "هذا العالم عندي كتلة من العدم اتفقت على الظهور وستختفي. والعالم عندي ضعف ركب وقوة ركبت. والعالم عندي لا شيء. والعالم بين بين. والعالم قسمان: منهم الفلاح الزراعي وذلك أفضل فلسفة طبيعية. والعالم في حاجة إلى الموت والموت في حاجة إليه. والأدب هو الحياة ولا حياة بلا أدب. والأدب ضربان: أدب نفساني وأدب مكتسب، وقد يكون طبيعيا كما هو عند نابغة القرن العشرين. ومن هو نابغة القرن العشرين؟ هو شخص مات بلا موت، ويحيا بلا حياة". أتريد يا أرسطو أن تعرف سر تركيب العالم؟ الأمر يسير غير عسير، فإن سر تركيبه كسر تركيب القرش الذي في يدك، فدعني أظهرك على هذه الحقيقة ومد يدك بالقرش لأبين لك سر التركيب فيه. ولكن المجنون الآخر أسرع فغيب القرش في جيبه. فقال "النابغة": هذا سياسي داهية خبيث. والرواية الآن رواية سياسي القرن العشرين. ليس في حقيقة السياسة إلا الرذل من أفعال السياسيين. والألفاظ السياسية التي تحمل أكثر من معنى هي التي لا تحمل معنى. فليحذر الشرق من كل لفظ سياسي يحتمل معنيين، أو معنى ونصف معنى، أو معنى وشبه معنى؛ فإن قالوا لنا: "أحمر" قلنا لهم: اكتبوه بهذا اللفظ؛ فإذا كتبوه قلنا لهم: ارسموا إلى جانبه معناه باللون الأحمر لتشهد الطبيعة نفسها على أن معناه أحمر لا غير ... وعلى هذه الطريقة يجب أن تكتب المعاهدات السياسية بين أوروبا والشرق ... إنهم يكتبون لنا جريدة بأسماء الأطعمة ثم يقولون: أكلتم وشبعتم ... ولقد رأيت "مظاهرات" كثيرة ولا كالمظاهرة التي أتمناها؛ فما أتمنى إلا أن يخرج كل المجانين في مظاهرة ...

_ 1 هذه الأسطر التي وضعناها بين القوسين هي من كلام المجنون بالنص، وكنا سألناه أن يكتب رأيه في العالم والحياة فكتب على البديهة مقالة كلها تخليط، وتندر فيها كلمات كأعمق ما تجيء به مذاهب الفلسفة.

وهذا الأبله الذي أمامنا ليس وطنيا ولا فيه ذرة من الوطنية؛ فإن كان وطنيا أو زعم أنه وطني، فليخرج القرش الذي في جيبه ... ليكون فألا حسنا لخروج جيش الاحتلال من مصر ... ولكن المجنون لم يخرج القرش وترك جيش الاحتلال في مكانه. فقال "النابغة": الرواية الآن رواية الشرطي واللص. وبحق من القانون يكون للشرطي أن يفتش هذا اللص ليخرج القرش من جيبه ... غير أن المجنون امتنع. فقال "النابغة": كل ذلك لا يجدي مع هذا الخبيث، فالرواية الآن رواية هارون الرشيد مع البرامكة، ويجب أن ينكب الرشيد هؤلاء البرامكة ليستصفي القرش. بيد أننا منعناه أن ينكب "البرامكة" فقال: الرواية الآن رواية العاشق والمعشوقة، ونظر طويلا في المجنون وصعد فيه عينه وصوب فلم ير إلا ما يذكر بأنه رجل، فتهدى إلى رأي عجيب. فوقع على قدميه وتوهمه امرأة في حذائها ... وجعل يناجي الحذاء بهذه المناجاة: إن سخافات الحب هي أقوى الدليل عند أهله على أن الحب غير سخيف؛ فكل فكرة في الحب مهما كانت سخيفة، عليها جلال الحب؛ وللحذاء في قدميك يا حبيبتي جمال الصندوق المملوء ذهبا في نظر البخيل، وكل شيء منك أنت فيه سر جمالك أنت. والحذاء في قدميك ليس حذاء، ولكنه بعض حدود جسمك الجميل، فلا أكون كل العاشق حتى أحيط بكل حدودك إلى الحذاء. إن جسمك يا حبيبتي كالماء الجاري العذب؛ في كل موضع منه روح الماء كله؛ وحيثما وقعت القبلة من جسمك كان فيها روح شفتيك الورديتين، هذه قبلة على قدميك يا حبيبتي؛ وهذه قبلة على ساقك؛ وهذه قبلة على ثوبك، وهذه قبلة على جيبك ... وكادت يد "النابغة" تخرج بالقرش، فعضه المجنون في كتفه عضة وحشية، فجأه الخوف منها فطار صوابه؛ فصرخ صرخة عظيمة دوى لها المكان وترددت كصرصرة البازي في الجو، ثم اعتراه الطيف، وأطبق عليه الجنون فاختلط وتخبط. "والرواية الآن"؟ ... رواية عربة الإسعاف ...

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات: 3 الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام 9 حقيقة المسلم 14 وحي الهجرة 19 فلسفة قصة 25 فوق الآدمية الإسراء والمعراج 32 الإنسانية العليا 39 سمو الفقر في المصلح الاجتماعي الأعظم "1" 44 سمو الفقر في المصلح الاجتماعي الأعظم "2" 50 درس من النبوة 56 شهر للثورة فلسفة الصيام 62 ثبات الأخلاق 68 قلت لنفسي وقالت لي 75 الانتحار "1" 83 الانتحار "2" 91 الانتحار "3" 98 الانتحار "4" 105 الانتحار "5" 113 الانتحار "6" 121 وحي القبور 125 عروس تزف إلى قبرها "1" 130 موت أم 134 قصة أب 140 السمكة

148 الزاهدان "2" 154 إبليس يعلم "3" 160 الدنيا والدرهم "4" 166 دعابة إبليس 173 الشيطان 182 تاريخ يتكلم 185 المجلد الأول 186 المجلد الثاني 187 المجلد الثالث 187 المجلد الرابع 188 المجلد الخامس 188 المجلد السادس 189 المجلد السابع 189 المجلد الثامن 190 المجلد التاسع 190 المجلد العاشر 192 كفر الذبابة 200 يا شباب العرب! 204 لو ... ! 209 في محنة فلسطين 209 أيها المسلمون! 213 قصة الأيدي المتوضئة 219 نجوى التمثال 222 فاتح الجو المصري 226 أجنحة المدافع المصرية 230 أحاديث الباشا 230 الطماطم السياسي 234 البك والباشا 237 ساكنو الثياب

241 الأخلاق المحاربة 245 خضع يخضع 249 فلنتعصب ... ! 254 وزن الماضي 258 المعجم السياسي 261 اللسان المرقع 264 سر القبعة 268 سعد زغلول 271 حماسة الشعب 274 الجمهور 278 المجنون "1" 285 المجنون "2" 292 المجنون "3" 299 المجنون "4" 307 المجنون "5" 315 المجنون "6"

المجلد الثالث

المجلد الثالث السمو الروحي الأعظم والجمال الفني في البلاغة النبوية ... بسم الله الرحمن الرحيم السمو الروحي الأعظم والجمال الفني في البلاغة النبوية 1* لما أردت أن أكتب هذا الفصل وهممت به، عرضت لي مسألة نظرت فيها أطلب جوابها، ثم قدرت أن يكون أبلغ فلاسفة البيان في أوربا لعهدنا هذا رجلًا يحسن العربية المبينة، وقد بلغ فيها مبلغ أئمتها علمًا وذوقًا، ودرَس تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم درْس الروح لأعمال الروح، وتفقه في شريعته فقْه الحكمة لأسرار الحكمة، واستوعب أحاديثه واعتبرها بفن النقد البياني الذي يبحث في خصائص الكلام عن خصائص النفس؛ وتمثلت أني لقيت هذا الرجل فسألته: ما هو الجمال الفني عندك في بلاغة محمد صلى الله عليه وسلم؟ وماذا تستخرج لك فلسفة البيان منه؟ وما سره الذي يجتمع فيه؟ ولم يكد يخطر لي ذلك حتى انكشف الخاطر عن وجه آخر، وذلك أن يكون معنى هذا السؤال بعينه قد وقع في شيء من حديث النفس لأبلغ أولئك العرب الذين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم، وآمنوا به، واتبعوا النور الذي أنزل معه، وقد صحبه فطالت صحبته، لا يفوته من كلامه في الملأ شيء، وخالطه حتى كان له في الإحاطة بأحوال نفسه كبعض التاريخ، فتدبر ما عسى أن يكون سر الجمال في بلاغته صلى الله عليه وسلم، وما مرجعه الذي يرد إليه؟ لو دار السؤال دورتيه في هذه السليقة العربية المحكمة التي رجعت أن تكون فلسفة تشعر وتحس، وفي تلك الفلسفة البيانية الملهمة التي بلغت أن تكون سليقة تدرس وتفكر لما خلص من كلتيهما إلا برأي واحد تلتقي عليه حقيقة البيان من

_ 1 أنشأ المؤلف رحمه الله هذا البحث جوابًا لرجاء جمعية الهداية الإسلامية في بغداد سنة 1352هـ؛ وانظر كتابنا "حياة الرافعي" ص175-176، 178. 2 بسطنا الكلام في كتابنا "إعجاز القرآن" عن بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة، وبقي هذا المعنى الذي تراه، فهذه المقالة كالتكملة على ما هناك.

طرفيها: وهو أن ذلك الجمال الفني في بلاغته صلى الله عليه وسلم إنما هو أثرٌ على الكلام من روحه النبوية الجديدة على الدنيا وتاريخها. وبعد، فأنا في هذه الصفحات لا أصنع شيئًا غير تفصيل هذا الجواب وشرحه، باستخراج معانيه، واستنباط أدلته، والكشف عن أسراره وحقائقه؛ ولقد درست كلامه صلى الله عليه وسلم، وقضيت في ذلك أيامًا أتتبع السر الذي وقع في التاريخ القفر المجدب فأخصب به وأنبت للدنيا أزهاره الإنسانية الجميلة، فكانوا ناسًا إن عبتهم بشيء لم تعبهم إلا أنهم دون الملائكة؛ وكانوا ناسًا، دارت الكرة الأرضية في عدهم ثلاث دورات: واحدة حول الشمس، وثانية حول نفسها، وثالثة حول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ثم تركت الكلام النبوي يتكلم في نفسي ويلهمني ما أفصح به عنه، فلكأني به يقول في صفة نفسه: إني أصنع أمة لها تاريخ الأرض من بعد، فأنا أقبل من هنا وهناك، وأذهب هناك وهنا، مع القلوب والأنفس والحقائق، لا مع الكلام والناس والوقت. إن ههنا دنيا الصحراء ستلد الدنيا المتحضرة التي من ذريتها أوربا وأمريكا؛ فالقرآن والحديث يعملان في حياة أهل الأرض بنور متمم لما يعمله نور الشمس والقمر. وقد كان المسلمون يغزون الدنيا بأسلحة هي في ظاهرها أسلحة المقاتلين، ولكنها في معانيها أسلحة الأطباء؛ وكانوا يحملون الكتاب والسنة، ثم مضوا إلى سبيلهم وبقي الكلام من بعدهم غازيًا محاربًا في العالم كله حرب تغيير وتحويل إلى أن يدخل الإسلام على ما دخل عليه الليل*. هذا منطلق الحديث في نفسي، وقد كنت أقرؤه وأنا أتمثله مرسلًا بتلك الفصاحة العالية من فم النبي صلى الله عليه وسلم حيث يمر إعجاز الوحي أول ما يخرج به الصوت البشري إلى العالم، فلا أرى ثم إلا أن شيئًا إلهيًا عظيمًا متصلًا بروح الكون كله

_ 1 في الحديث الشريف: "ليدخلن هذا الدين على ما دخل عليه الليل". وكأن العبارة نص على أن الإسلام يعم حين تظلم الدنيا ظلامها الشعري ... إذا طمست الإنسانية بلذاتها، وأظلمت آفاقها الروحانية؛ فيجيء الإسلام في قوة أخلاقه كشباب الفجر، يبعث حياة النور الإنساني بعثًا جديدًا؛ وهذا هو رأينا في مستقبل الإسلام: لا بد من انحلال أوربا وأمريكا، كما يصفر النهار، ثم يختلط، ثم يظلم، ثم تطلب الطبيعة نورها الحي من بعد.

اتصال بعض السر ببعض السر، يتكلم بكلام إنساني هو هذا الحديث الذي يجيء في كلمات قوية رائعة، فنها في بلاغتها كالشباب الدائم. كنت أتأمله قطعًا من البيان، فأراه ينقلني إلى مثل الحالة التي أتأمل فيها روضة تتنفس على القلب، أو منظرًا يهز جمالُه النفسَ، أو عاطفة تزيد بها الحياة في الدم، على هدوء وروح وإحساس ولذة؛ ثم يزيد على ذلك أنه يصلح من الجهات الإنسانية في نفسي، ثم يرزق الله منه رزق النور فإذا أنا في ذوق البيان كأنما أرى المتكلم صلى الله عليه وسلم وراء كلامه. وأعجب من ذلك أني كثيرًا ما أقف عند الحديث الدقيق أتعرف أسراره، فإذا هو يشرح لي ويهديني بهديه؛ ثم أحسه كأنما يقول لي ما يقول المعلم لتلميذه: أفهمت؟ وقفت عند قوله صلى الله عليه وسلم: "إن قومًا ركبوا في سفينة، فاقتسموا، فصار لكل رجل منهم موضع، فنقر رجل منهم موضعه بفأس، فقالوا له: ما تصنع؟ قال: هو مكاني أصنع فيه ما شئت! فإن أخذوا على يده نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا" *. فكان لهذا الحديث في نفسي كلام طويل عن هؤلاء الذين يخوضون معنا البحر ويسمون أنفسهم بالمجددين، وينتحلون ضروبًا من الأوصاف: كحرية الفكر، والغيرة، والإصلاح؛ ولا يزال أحدهم ينقر موضعه من سفينة ديننا وأخلاقنا وآدابنا بفأسه، أي بقلمه ... زاعمًا أنه موضعه من الحياة الاجتماعية يصنع فيه ما يشاء، ويتولاه كيف أراد، موجهًا لحماقته وجوهًا من المعاذير والحجج، من المدنية والفلسفة، جاهلًا أن القانون في السفينة إنما هو قانون العاقبة دون غيرها، فالحكم لا يكون على العمل بعد وقوعه كما يحكم على الأعمال الأخرى؛ بل قبل وقوعه؛ والعقاب لا يكون على الجرم يقترفه المجرم كما يعاقب اللص والقاتل

_ 1 روى البخاري هذا الحديث على وجه آخر، وفيه زيادة من الجمال الفني؛ قال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها؛ فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا! فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا". فهذا تمثيل لحالة طائفة في "الأسفل" تعمل لرحمة من هم في "الأعلى": عاطفة شريفة ولكنها سافلة، وحمية ملتهبة ولكنها باردة، ورحمة خالصة ولكنها مهلكة؛ ولن تجد كهذا التمثيل في تصوير البلاغة الاجتماعية والغفلة الفلسفية لأناس هم عند أنفسهم أمثلة الجد والعمل والحكمة، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهؤلاء من ألف وثلاثمائة سنة: أنتم المصلحون إصلاحًا مخروقًا ... !

وغيرهما، بل على الشروع فيه، بل على توجه النية إليه، فلا حرية هنا في عمل يفسد خشب السفينة أو يمسه من قرب أو بعد ما دامت ملججة في بحرها، سائرة إلى غايتها؛ إذ كلمة "الخرق" لا تحمل في السفينة معناها الأرضي، وهنا لفظة "أصغر خرق" ليس لها إلا معنى واحد وهو "أوسع قبر".. ففكِّر في أعظم فلاسفة الدنيا مهما يكن من حريته وانطلاقه، فهو ههنا محدود على رغم أنفه بحدود من الخشب والحديد تفسرها في لغة البحر حدود الحياة والمصلحة وكما أن لفظة "الخرق" يكون من معانيها في البحر القبر والغرق والهلاك، فكلمة "الفلسفة" يكون من بعض معانيها في الاجتماع الحماقة والغفلة والبلاهة، وكلمة الحرية يكون من معانيها الجناية والزيغ والفساد1، وعلى هذا القياس اللغوي فالقلم في أيدي بعض الكتاب من معانيه الفأس، والكاتب من معانيه المخرب، والكتابة من معانيها الخيانة؛ قال لي الحديث: أفهمت؟ هكذا يجب تأمل الجمال الفني في كلامه صلى الله عليه وسلم، فهو كلام كلما زدته فكرًا

_ 1 الزائغون في التاريخ الإسلامي كله صنفان ليس لهما ثالث، وقد وصفهما الحديث الذي رواه البخاري بسنده إلى حذيفة بن اليمان قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله: إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: "نعم". قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم وفيه دخن". قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر". قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها" قلت: يا رسول الله، صفهم لي. قال: "هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا". قلت: يا رسول الله، فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تلزم جماعة المسملين وإمامهم". قلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك". انتهى الحديث. فتأمل قوله: "يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر"؛ فهؤلاء هم الذين يريدون الإصلاح للمسلمين لا من طريق الإسلام بل من طرق أخرى فيها معروفها ومنكرها، وفيه علمها وجهلها، وفيها عقلها وحماقتها. ولعل من هذا قولهم: المدينة الأوروبية بحسناتها وسيئاتها ... وتأمل قوله: "إلى أبواب جهنم" فليست الدعوة إلى باب واحد بل إلى أبواب مختلفة لعل آخر ما فتحوا منها باب الأدب المكشوف ... ثم تأمل قوله صلى الله عليه وسلم: "ولو أن تعض بأصل شجرة" فإن معناه استمساك بما بقي على الطبيعة السليمة مما لا يستطيع أولئك أن يغيروه ولا أن يجددوه، أي بالاستمساك ولو بأصل واحد من قديم الفضيلة والإيمان، وعبارة العض شجرة تمثل أبدع وأبلغ وصف لمن يلزم أصول الفضائل في هذا الزمن، ومبلغ ما يعانيه في التمسك بفضيلته، وهي وحدها فن كأجمل ما يبدعه مصور عبقري.

زادك معنى، وتفسيره قريب، قريب كالروح في جسمها البشري، ولكنه بعيد بعيد كالروح في سرها الإلهي، فهو معك على قدر ما أنت معه، إن وقفت على حد وقف، وإن مددت مد، وما أديت به تأدى، وليس فيه شيء مما تراه لكل بلغاء الدنيا من صناعة عبث القول، وطريقة تأليف الكلام، واستخراج وضع من وضع، والقيام على الكلمة حتى تبيض كلمة أخرى ... والرغبة في تكثير سواد المعاني، وترك اللسان يطيش طيشه اللغوي يتعلق بكل ما عرض له، ويحذر الكلام على معاني ألفاظه، ويجتلب له منها ويستكرهها على أغراضه، ويطلب لصناعته من حيث أدرك وعجز، ومن حيث كان ولم يكن؛ إنما هو كلام قيل؛ لتصير به المعاني إلى حقائقها، فهو من لسان وراءه قلب، وراءه نور، وراءه الله جل جلاله؛ وهو كلام في مجموعة كأنه دنيا أصدرها صلى الله عليه وسلم عن نفسه العظيمة، لا تبرح ماضية في طريقها السوي على دين الفطرة؛ فلا تتسع لخلاف، ولا يقع بها التنافر؛ والخلاف والتنافر إنما يكونان من الحيوانية المختلفة بطبيعتها؛ لقيامها على قانون التنازع تعدو به وتجترم وتأثم، فهي نازلة إلى الشر، والشر بعضه أسفل من بعض؛ أما روحانية الفطرة فمتسقة بطبيعتها، لا تقبل في ذاتها افتراقًا ولا اختلافًا؛ إذ كان أولها العلو فوق الذاتية، وقانونها التعاون على البر والتقوى؛ فهي صاعدة إلى الخير، والخير بعضه أعلى من بعض. فكلامه صلى الله عليه وسلم مجرى عمله: كله دين وتقوى وتعليم، وكله روحانية وقوة وحياة؛ وإنه يخيل إلي وقد أخذت بطهره وجماله أن من الفن العجيب أن يكون هذا الكلام صلاة وصيامًا في الألفاظ. أما أسلوبه صلى الله عليه وسلم فأجد له في نفسي روح الشريعة ونظامها وعزيمتها، فليس له إلا قوة قوة أمر نافذ لا يختلف، وإن له مع ذلك نسقًا هادئًا هدوء اليقين، مبينًا بيان الحكمة، خالصًا خلوص السر، واقعًا من النفس المؤمنة موقع النعمة من شاكرها؛ وكيف لا يكون كذلك وهو أمر الروح العظيمة الموجهة بكلمات ربها ووحيه؛ ليتوجه بها العالم كأنه منه مكان المحور: دورته بنفسه هي دورته بنفسه وبما حوله، روح نبي مصلح رحيم، هو بإصلاحه ورحمته في الإنسانية، وهو بالنبوة فوقها، وهو بهذه وتلك في شمائله وطباعه مجموع إنساني عظيم لو شبه بشيء لقيل فيه: إنه كمجموع القارات الخمس لعمران الدنيا. ومن درس تاريخه صلى الله عليه وسلم وأعطاه حقه من النظر والفكر والتحقيق، رأى نسقًا من التاريخ العجيب كنظام فلك من الأفلاك موجه بالنور في النور من حيث يبدأ

إلى حيث ينتهي، فليس يمتري عاقل مميز أن هذه الحياة الشريفة، بذلك النظام الدقيق، في ذلك التوجه المحكم -لا يطيقها بشر من لحم ودم على ناموس الحياة إلا إذا كان في لحمه ودمه معنى النور والكهرباء على ناموس أقوى من الحياة. ولم يكن مثله صلى الله عليه وسلم في الصبر والثبات واستقرار النفس واطمئنانها على زلال الدنيا، ولا في الرحمة ورقة القلب والسمو فوق معاني البقاء الأرضي؛ فهو قد خلق كذلك؛ ليغلب الحوادث ويتسلط على المادة؛ فلا يكون شأنه شأن غيره من الناس: تدفنهم معاني التراب وهم أحياء فوق التراب، أو يحدّهم الجسم الإنساني من جميع جهاتهم بحدود طباعه ونزعاته؛ وبذلك فقد كان عليه الصلاة والسلام منبع تاريخ في الإنسانية كلها دائمًا، ولرأس الدنيا نظام أفكاره الصحيحة. عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم! فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلًا ولا 1 مالًا فنأى بي في طلب شيء يومًا فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أغبق قبلهما أهلًا أو مالًا، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أغبق قبلهما أهلًا أو مالًا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة! فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج". قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأدرتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة 2 من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها! ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه! فترحجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه! فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها".

_ 1 أي لا يسقي الغبوق أحدًا أو جماعته قبلهما. 2 سنة: جدب وقفر.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وقال الثالث: اللهم إني استأجرت فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله، أدِّ إليَّ أجري. فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق! فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي! فقلت: إني لا أستهزئ بك! فأخذه كله فاستاقه فلم يترك شيئًا. اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه! فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون". انتهى الحديث. وأنا فلست أدري، أهذا هو النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم في الإنسانية وحقوقها بكلام بيِّن صريح فلا فلسفة فيه، يجعل ما بين الإنسان والإنسان من النية هو ما بين الإنسان وربه من الدين؛ أم هي الإنسانية تنطق على لسانه بهذا البيان العالي، في شعر من شعرها ضاربة فيه الأمثال، مشيرة فيه إلى الرموز، واضعة إنسانها بين شدة الطبيعة ورحمة الله، محكمة عناصر روايتها الشعرية، محققة في بيانها المكشوف أغمض معانيها في فلسفة الحاسة الإنسانية حين تتصل بأشيائها فتظهر الضرورة البشرية وتختفي الحكمة، وفلسفة الروح حين تتصل بهذه الأشياء ذاتها فتظهر الحكمة وتختفي الضوررة -مبينة أثر هذه وتلك في طبيعة الكون، مقررة أن الحقيقة الإنسانية العالية لن تكون فيما ينال الإنسان من لذته، ولا فيما ينجح من أغراضه، ولا فيما يقنعه من منطقه، ولا فيما يلوح من خياله، ولا فيما ينتظم من قوانينه؛ بل هي السمو على هذه الحقائق الكاذبة كلها، وهي الرحمة التي تغلب على الأثرة فيسميها الناس برًا، والرحمة التي تغلب على الشهوة فيسميها الناس عفة، والرحمة التي تغلب على الطمع فيسميها الناس أمانة؛ وهي في ضبط الروح لثلاث من الحواس: حاسة الدعة التي يقوم بها حظ الخمول، وحاسة اللذة التي يقوم بها حظ الهوى، وحاسة التملك التي يقوم بها حظ القوة. وتزيد الإنسانية على ذلك في نسق شعرها أنها تثبت أن البر من العفة والأمانة هو على إطلاقه كالأساس لهما؛ فمن نشأ على بر أبويه كان خليقًا أن يتحقق بالعفة والأمانة، وأن العفة من الأمانة والبر هي مساكهما وجامعتهما في النفس، وأن الأمانة من البر والعفة هي كمال هذه الفضائل، وكلهن درجات لحقيقة واحدة، غير أن بعضها أسمى من بعض في الشأن والمنزلة، وبعضها طريق لبعض يجر سبب منها سببًا منها، وأن الرحمة الإنسانية التي هي وحدها الحقيقة الكبرى إنما هي هذا الحب، بادئًا من الولد لأبويه، وهو الحب الخاص؛ ثم من المحب لحبيبته، وهو

الحب الأخص، ثم من الإنسان للإنسانية، وهو الحب مطلقًا بعمومه وبغير أسبابه الملجئة من الحاجة والغريزة؛ وهي درجات كدرجات الحياة نفسها من طفوتها إلى شبابها إلى الشيخوخة، ومن العاطفة إلى الرغبة إلى العقل. ثم إنه ما دام كمال الفضيلة هو الأمانة، فما قبلها أنواع منها؛ فبر الولد أمانة الطبع المتأدب، وعفة المحب أمانة القلب الكريم، والثالثة أمانة الخلق العالي، وهي أسماهن؛ لأنها لن تكون خلقًا ثابتًا إلا وقد خضع لقانونها الطبع والقلب، ودخل في أسبابها الأدب والكرم؛ فالأمانة الكاملة في هذه الفلسفة هي الأمانة للإنسانية العامة المتصلة والكرم؛ فالأمانة الكاملة في هذه الفلسفة هي الأمانة للإنسانية العامة المتصلة بالمرء من أبعد جهاته، دون الإنسانية الخاصة بكل شخص من أب، أو أم، أو قريب؛ ودون التي هي أخص وهي إنسانية الحب. ونرى في لفظ الحديث أن كل رجل من هؤلاء الذين مثلوا رواية الإنسانية الفاضلة في فصولها الثلاثة، لا يقول إنه فعل ما فعل من صالح أعماله: {إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272] ، وقد تطابقوا جميعًا على هذه الكلمة، وهي من أدق ما في فلسفة الإنسانية في شعرها ذلك، فإن معناها أن الرجل في صالح عمله إنما كان مجاهدًا نفسه، يمنعها ما تحرص عليه من حظها أو لذتها أو منفعتها، أي منخلعًا من طبيعته الأرضية المنازعة لسواها، المنفردة بذاتها، متحققًا بالطبيعة السماوية التي لا يرحم الله عبدًا إلا بها، وهي رحمة الإنسان غيره، أي اندماجه باستطاعته وقوته، وإعطاؤه من ذات نفسه ومعاونته كف أذاه. والحديث كالنص على أن هذه الرحمة في النفس هي الدين عند الله، لا يصلح دين بغيرها، ولا يقبل الله صرفًا ولا عدلًا من نفس تخلو منها؛ وإذا كانت بهذه المنزلة، وكانت أساس ما يفرض على الإنسان من الخير والحق، فهي من ذلك في معنى الحديث أساس ما يصلح هذه الإنسانية من الشر والباطل؛ وبهذا كله تكون الغاية الفلسفية التي ينتهي إليها كلامه صلى الله عليه وسلم، أن تنشئة الناس على البر والعفة والأمانة للإنسانية هي وحدها الطريقة العملية الممكنة لحل معضلة الشر والجريمة في الاجتماع البشري. وانظر كيف جعل نهاية السمو في رحمة المال الذي يصفونه بأنه شقيق الروح، فكأن الإنسان لا يخرج فيها لغيره من بعض ماله، بل ينخلع من بعض روحه؛ وهذا يقرر لك فلسفة أخرى أن السعادة الإنسانية الصحيحة في العطاء دون الأخذ، وأن الزائفة هي في الأخذ دون العطاء؛ وذلك آخر ما انتهت إليه فلسفة الأخلاق؛ فما المرء إلا ثمرة تنضج بموادها، حتى إذا نضجت واحلولت كان مظهر كمالها ومنفعتها في الوجود أن تهب حلاوتها فإذا هي أمسكت الحلاوة على

نفسها لم يكن إلا هذه الحلاوة بعينها سبب في عفنها وفسادها من بعد. أفهمت؟ وما دمنا قد وصفنا رحمة المال، فإنا نتم الكلام فيها بهذا الحديث العجيب في فن تمثيله وبلاغة فنه: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد، من ثديهما إلى تراقيهما؛ فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئًا إلا لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسعها فلا تتسع". انتهى. فأنت ترى ظاهر الحديث، ولكن فنه العجيب في هذا الحديد الذي يراد به طبيعة الخير والرحمة في الإنسان، فهي من أشد الطبائع جمودًا وصلابة واستعصاء متى اعترضتها حظوظ النفس الحريصة وأهواءها، ومع ذلك فإن السخاء بالمال يبسط منها وينتهي في الطبع إلى أن يجعلها لينة، فلا تزال تمتد وتسبغ حتى يكون والإنفاق راضها رياضة عملية كرياضة العضل بأثقال الحديد ومعاناة القوة في الصراع ونحوه؛ أما الشيخ فلا يناقض تلك الطبيعة ولكنه يدعها جامدة مستعصية لا تلين ولا تستجيب ولا تتيسر. وقد جعل الجبة من الثدي إلى التراقي، وهذا من أبدع ما في الحديث؛ لأن كل إنسان فهو منفق على ضروراته، يستوي في ذلك الكريم والبخيل، فهما على قدر سواء من هذه الناحية؛ وإنما التفاوت فيما زاد وسبغ من وراء هذا الحد، فههنا يبسط الكريم بسطه الإنساني، أما البخيل فهو "يريد"؛ لأنه إنسان، والإرادة علم عقلي لا أكثر، فإذا هو حاول تحقيق هذه الإرادة وقع من طبيعة نفسه الكزة فيما يعانيه من يوسع جبة من الحديد لزقت كل حلقة من حلقاتها في مكانها، فهي، مستعصية متماسكة، فهو يوسعها فلا تتسع. ألا ترى كيف تتوجه الحجة، وكيف تدق الفلسفة وهي في أظهر البيان وأوضحه؟ وهل تحسب طبيعة البخيل في دقائقها النفسية لو هي نطقت -بالغة من وصف نفسها هذا المبلغ من جمال الفن وإبداعه؟ وهو بعد وصف لو نقل إلى كل لغات الأرض لزانها جميعًا، ولكان في جميعها كالإنسان نفسه: لا يختلف تركيبه فلن يكون بثلاثة أعين، لا في بلاد شكسبير ولا في بلاد الزنوج. إن كلام نبينا صلى الله عليه وسلم يجب أن يترجم بفلسفة عصرنا وآدابه، فستراه حينئذ كأنما قيل مرة أخرى من فم النبوة، وستراه في شرحه الفلسفي كالأزهار الناضرة: حياتها

بشاشتها في النور؛ وتعرفه إنسانية قائمة تصحح بها أغلاط الزمن في أهله، وأغلاط الناس في زمنهم؛ وتجده يرف على البشرية المسكينة بحنان كحنان الأم على أطفالها، والناس الآن كالأطفال غابت أمهم، فهم في تنافر صبياني.. وما الأم بطبيعتها إلا الميزان لاستبدادهم، والحكمة لطيشهم، والائتلاف لتنافرهم، والنظام لعبثهم؛ وبالجملة فحنان قلبها الكبير هو القانون لكل قضايا هذه القلوب الصغيرة. وقد كتبنا في فلسفة الأدب وحقيقته، ومعانيه الإنسانية، وأن الأديب التام الأداة هو الإنسان الكوني، وغيره هو الإنسان فقط، وأن علم الأديب هو النفس الإنسانية بأسرارها المتجهة إلى الطبيعة، والطبيعة بأسرارها المتجهة إلى النفس؛ ولذلك فموضعه من الحياة موضع فكرة حدودها من كل نواحيها الأسرار -وأن الأديب مكلف بتصحيح النفس الإنسانية ونفي التزوير عنها، وإخلاصها مما يلتبس بها على تتابع الضرورات، ثم تصحيح الفكرة الإنسانية في الوجود، ونفي الوثنية عن هذه الفكرة، والسمو بها إلى فوق، ثم إلى فوق، ودائمًا إلى فوق1. فإذا تدبرت هذا المقال، واعتبرت كلام النبي صلى الله عليه وسلم على ما بينا وشرحنا، وأخذته من عصره ومن العصر الذي نعيش فيه، ونظرت إلى ألفاظه ومعانيه، واستبرأت ما بينها من خواص الفن بمثل ما نبهناك إليه من التأويل الذي مر بك، وعلمت أن كل حقيقة فنية لا تكون كذلك إلا بخاصة فيها، وأن سر جمالها في خاصتها -إذا جمعت ذلك لم تر مذهبًا عن الإقرار بأن النبي صلى الله عليه وسلم كما هو أعظم نبي وأعظم مصلح، فهو أعظم أديب؛ لأن فنه الأدبي أعظم فن يحقق للإنسانية حياة أخلاقها، وهو بكل ذلك أعظم إنسان. صلى الله عليه وسلم. فالفن في هذه البلاغة هو في دقائقه أثر تلك الروح العليا بكل خصائصها العظيمة التي يحتاج إليها الوجود الروحاني على هذه الأرض، ولذا ترى كلامه صلى الله عليه وسلم يخرج من حدود الزمان، فكل عصر واجد فيه ما يقال له، وهو بذلك نبوة لا تنقضي، وهو حي بالحياة ذاتها، وكأنما هو لون على وجه منها كما ترى البياض مثلًا هو اللون على وجه طائفة من الجنس البشري ...

_ 1 نشر هذا المقال في مقتطف شهر يوليو سنة 1932، وأكثر ما فيه يعد متممًا لفلسفة هذا الفصل؛ وسنجمع كل مقالاتنا في كتاب يصدر إن شاء الله في آخر صيف هذا العام؟ قلت: وأحسبه كان يعني كتابه "قول معروف" وقد استغني عنه بهذا الكتاب "وحي القلم" وقد نشرنا هذه المقالة في هذا الجزء وانظر ص169، 234 "حياة الرافعي".

فإذا نظرت في هذا الفن فانظره في حديثه، وفي عمله، وفي الدنيا التي ألفها من التاريخ تأليف القطعة البليغة النادرة من الكلام، ورد كل ما تدبرته من ذلك إلى تلك الروح الجديدة على تاريخ الأرض؛ فلتعلمن حينئذ أن كل بليغ هو شمعة مضيئة صنعت لها مادة النور نورًا وجمالًا بجانب هذه الشمس التي خلقت فيها مادة النور نورًا وجمالًا وحياة وقوة؛ هناك نور لذي عينين، وهنا النور لكل ذي عينين، وذاك يتخايل كالحلم، وهذا يفصح كالحقيقة، وذلك ضوء من حوله الظلمة دانية، وهذا قد طرد الظلمة عن نصف الدنيا إلى نصف الدنيا؛ والأول نور بلا روح، والثاني هو روح النور. تلك في رأينا هي الطريقة التي كان يفهمه بها أصحابه صلى الله عليه وسلم، كما يفهم الشاعر نور القمر في ليلة صيف بمعان من الزمان والمكان، ومن النفس والحالة، ومن الهيئة والشكل، ومن العين والفكر، ومن السماء والأرض، ففيه النور وزيادة، أي الحقيقة وما ترتفع بها على نفسها؛ وبهذه الطريقة كانوا معه كأعظم فلاسفة الفن مع الفن إعجابًا وحبًا وانقيادًا وطاعة حتى انخلعوا من عصرهم ودنياهم، وخرجوا من أحوالهم وطبائعهم، وانجذبوا إليه أشد انجذاب عرفه التاريخ، وأصبحوا مصرفين معه تصريف الحوادث لا تصريف الأشخاص، وعادت أنفسهم وكأن تأثير الأرض يلتقي فيها بتأثير السماء فيغسل في سحب عالية فلا يكون فيها كما يريده الناس، بل كما يريد الله؛ ورجعت قلوبهم لا تلبس على دينها رأيًا ولا هوى، وكأنما وضع لها هذا الدين حرسًا على كل سمع وعلى كل بصر؛ وبالجملة فأولئك قوم كأنما تناولهم النبي صلى الله عليه وسلم فأفرغهم ثم ملأهم، وما انتقلوا إلى منزلهم العالية في التاريخ إلا بعد أن نقلهم هو إلى منزلة من منازل نفسه الشريفة. وناهيك من رجال يمثل لهم بهذا المثل الذي يضربه لهم في الإيمان ليبلغوه أو يقاربوه، فعن خباب بن الأرت -رضي الله عنه- قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه! " فانظر يا هذا، فإنه لو اجتمعت قوى الكون فجاءت يشد بعضها بعضًا فنزلت في عبارة من الكلام لتملأ نفوس المؤمنين بقوتها لما وضعت إلا هذا الوضع من هذا التمثيل بأمشاط المسامير وأسنان المنشار في عظم الإنسان الحي

ولحمه. وظاهر التمثيل على ما رأيت من العجب، ولكن له باطنًا أعجب من ظاهره، وهو البلاغة كل البلاغة والبيان حق البيان، فإنما يريد صلى الله عليه وسلم أن الحديد لا يأكل ولا يمزع من أولئك الأقوياء بإيمانهم عظمًا ولحمًا وعصبًا، بل هو حديد يأكل حديدًا مثله أو أشد منه، فإن للروح المؤمنة السلطة على جسمها قوة تصنع هذه المعجزة، فيمر الحديد في العظم واللحم والعصب يسلبها الحياة، ولكنها تسلبه شدته وجلده وصبره! وكل ما جاء من التمثيل في كلامه صلى الله عليه وسلم ينطوي فيه من إبداع الفن البياني وإعجازه ما يفوت حدود البلغاء، حتى لا تشك إذا أنت تدبرته بحقه من النظر والعلم أن بلاغته إنما هي شيء كبلاغة الحياة في الحي: هي البلاغة ولكنها أبدع مما هي؛ لأنها الحياة أيضًا. وأنت خبير أن هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كانت تأخذه عند نزول الوحي عليه أحوال وصفت في كتب الحديث: قالت عائشة -رضي الله عنها-: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا. وفي حديث آخر عنها قالت: فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى أنه ليتحدر عنه مثل الجمان من العرق في يوم شاتٍ. وفي حديث زيد بن ثابت: فأنزل الله -عز وجل- على رسوله صلى الله عليه وسلم، وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترضَّ فخذي. وفي حديث يعلى بن أمية حين قال لعمر: أرني النبي صلى الله عليه وسلم حين يوحي إليه، فأشار عمر إلي، فجئت وعلى رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب قد أظل به فأدخلت رأسي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمر الوجه وهو يغطّ، أي يردد نفسه من شدة ثقل الوحي. فهذه كلها أحوال تصف عمل الدماغ بكل ما فيه من جهد القوى العصبية؛ ليرتفع بالحياة إلى ما فوقها ويتركها لوعي الروح وحدها، لا يشاركها في هذا الوعي فكر ولا هاجس، ولا يتصل به شيء من حياة الحي، فيتحقق للنبي صلى الله عليه وسلم وجود آخر غير وجوده المحدود بجسمه وطباعه ودنياه؛ ويخرج بوعيه من هذه الجاذبية الأرضية إلى ما وراء حدود الطبيعة من قوى الغيب؛ وبذلك يتلقى عن روح الكون، ثم يفصم عنه وقد وعى ما أوحي إليه. وما وصفه زيد بن ثابت من أن فخذه كادت ترضّ برهان قاطع على أن روحه صلى الله عليه وسلم تنسرح من جسمه ساعة الوحي فيثقل الجسم؛ لأنه إنما يخف بالروح وتبقى وظائف الحياة عاملة أعمالها بعسر وبطء؛ لاتصالها بشعاع من الروح دون الروح بجملتها؛ ولسنا هنا بصدد الكلام عن

الوحي، فله موضع إن شاء الله في كتابنا "أسرار الإعجاز"1، وإنما نريد أن ندلَّ على أن هذه التهيئة الإلهية لذلك الجهاز العصبي لها أثرها العظيم في فن بلاغته صلى الله عليه وسلم، وبها امتاز عن كل بلغاء الدنيا؛ فإن الملهم من أفذاذ العبقريين على هذه الأرض إنما يبلغ ما يبلغه ببعض هذا الذي رأيت، وفي بعض هذا أبدع ما ورثت الدنيا من فنون البيان، وكأن في الدماغ مادة في موضع منه يميز بها من تختارهم السماء لحكمتها وإلهامها، وإذا كان فن العبقريين هو أسمى الكلام الإنساني؛ لما خصوا به من هذه التهيئة، فإن فنه صلى الله عليه وسلم يكون ولا جرم من باب الأكبر مما هو أكبر في إلهام الإنسانية كلها. ولهذه القوة النادرة كان بيانه قويًا على مزج معانيه بالنفس بما فيه من صنعة الحياة، وإنما فلسفة البيان الفني أن تمتد الحياة من النفس إلى اللفظ، فتصنع فيه صنعها، فتفصل العبارة الفنية عن كاتبها أو قائلها وهي قطعة من كلامه؛ لتستحيل عند قارئها أو سامعها قطعة من الحياة في صورة من صور الإدراك؛ فالبيان الفني هو الوسيلة لحمل الوجود وبعثرته في مواضع غير مواضعه، وخلقه خلقًا آخر في النفس الإنسانية؛ وبذلك يؤول قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرًا". جعل نوعًا من البيان هو السحر، لا البيان كله، فالحديث كالنص على ما تسميه الفلسفة الأوروبية اليوم "بالبيان الفني"، كأنه قال: إن من البيان فنًا هو سحر من عمل النفس في اللغة تغير به الأشياء، وله عجب السحر وتأثيره وتصرفه؛ وهذا معنى لم يتنبه إليه أحد، ولا يذكر معه كل ما قالوه في تفسير الحديث، وبذلك التأويل يكون هذا الحديث قد احتوى أسمى حقيقة فلسفية للفن. ومن أثر تلك القوة أيضًا ما تراه من شدة الوضوح في كلامه صلى الله عليه وسلم، ولقد رأينا هذه البلاغة النبوية العجيبة قائمة على أن كل لفظ هو لفظ الحقيقة لا لفظ اللغة، فالعناية فيها بالحقائق، ثم الحقائق هي تختار ألفاظها اللغوية على منازلها؛ وبذلك يأتي الكلام كأنه نطق للحقيقة المعبر عنها، والكلمة الصادقة تنطق مرة واحدة؛ فصورتها اللغوية لا تكون إلا صريحة منكشفة عن معناها المضيء كأنما ألقي فيها النور. وهو معلوم أنه صلى الله عليه وسلم لا يتكلف ولا يتعمل، ولم يكتب ولم يؤلف، ومع هذا لا تجد في بلاغته موضعًا يقبل التنقيح، أو تعرف له رقة من الشأن كأنما بين الألفاظ ومعانيها في كل بلاغته مقياس وميزان، أو كأن هذه البلاغة تنبثق بالكلام

_ 1 انظر ص289 حياة الرافعي.

على طبيعة عاملة فيه بقواها الدائبة الثابتة، ففنها الجميل هو التركيب الذي تجيء فيه كما ترى الشجر مثلًا كاسيًا من ورقه وزهره، فأنت منه بإزاء عمل جميل لأنك بإزاء حقيقة طبيعية قد انفردت في ذاتها، ومعنى انفرادها في ذاتها أنها كذلك هي، فليس فيها موضع لشيء غير ما هو فيها؛ ثم لا تنس أن النبوة أكبر السبب في ذلك الوضوح البياني العجيب؛ فإن الحياة لا تستغلق في البلاغة بإنسان إلا وهي غنية عنه؛ ولعل غموض بعض الفلاسفة وبعض الشعراء هو من دليل الطبيعة على أنهم زائدون في الطبيعة.. ألا ترى أن من أساليبهم الفلسفية والشعرية ما يجعل معنى الكلمة أحيانًا هو نقض معناها1 إذ يتصنعون للفكر ويستجلبون له ويشققون فيه كما يفعل أهل صناعة الألفاظ بالألفاظ، فههنا البديع اللفظي؛ وهناك "البديع الفكري" ولا طائل وراءهما إلا صناعة وبهرجة. ومتى كان النبي قسمًا من الحياة، بل مادة لمعانيها الجديدة، فلن يكون بيانه إلا على ما وصفنا لك جمالًا، ووضوحًا، ومنفعة، ودقة، وسموًا بقدر ذلك كله. وهنا معنى نريد أن ننبه إليه ونتكلم في سره وحقيقته، فإنك تقرأ ما جمع من الكلام النبوي فلا تصيب فيه ما تصيبه في بلاغة أدباء العالم مما فنه الكلام في المرأة، والحب، وجمال الطبيعة، وهو في بلاغة الناس كالقلب في الجسم: لا تخلو منه ولا تقوم إلا به، حتى تجد الكلام في المرأة وحدها شطر الأدب الإنساني، كما أن المرأة هي شطر الإنسانية، ولا يعرف له صلى الله عليه وسلم في هذه الأغراض إلا كلمات بيانية جاءت بما يفوق الوصف من الجمال والدقة، متناهية في الحسن، طاهرة في الدلالة، يظهر في وجه بلاغتها ما يظهر في وجه العذراء من طبيعة الحياء والخفر؛ كقوله في النساء: "رفقًا بالقوارير"، وقوله لأسامة بن زيد، وقد كساه قبطية2 فكساها امراته: "أخاف أن تصف حجم عظامها"، قال الشريف الرضي في شرح هذه الكلمة: وهذه استعارة، والمراد أن القبطية برقتها تلصق بالجسم، فتبين حجم الثديين، والرادفتين، وما يشتد من لحم العضدين والفخذين، فيعرف الناظر إليها مقادير هذه الأعضاء، حتى تكون كالظاهرة للحظه، والممكنة للمسه، فجعلها

_ 1 من ذلك قول "جيته" شاعر الألمان: إن الكل باطل، معناه أن الكل ليس بباطل، ولعل هذا في "البديع الفكري" من باب أكل النفي للإثبات. 2 بضم القاف ثوب من ثياب مصر رقيقة بيضاء، وضموا قافه فرقًا بينه وبين ما ينسب إلى القبط من غير الثياب.

عليه الصلاة والسلام لهذه المحال كالواصفة لما خلفها، والمخبرة عما استتر بها؛ وهذه من أحسن العبارات عن هذا المعنى، ولهذا الغرض رمى عمر بن الخطاب في قوله: "إياكم ولبس القباطي" فإنها إلا تشف تصف". فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عذرة هذا المعنى، ومن تبعه فإنما سلك فجه. قلنا: وهذا كلام حسن، ولكن في عبارة الحديث سرًا هو من معجزات البلاغة النبوية لم يهتد إليه الشريف، على أنه هو حقيقة الفن في هذه الكلمة بخاصتها، ولا نظن أن بليغًا من بلغاء العالم يتأتى لمثله، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يقل: أخاف أن تصف حجم أعضائها، بل قال: "حجم عظامها"، مع أن المراد لحم الأعضاء في حجمه وتكوينه، وذلك منتهى السمو بالأدب، إذ ذكر "أعضاء" المراة في هذا السياق، وبهذا المعرض، هو في الأدب الكامل أشبه بالرفث، ولفظة "الأعضاء" تحت الثوب الرقيق الأبيض تنبه إلى صور ذهنية كثيرة هي التي عدها الرضي في شرحه، وهي تومئ إلى صورة أخرى من ورائها، فتنزه النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ذلك، وضرب الحجاب اللغوي على هذه المعاني السافرة ... وجاء بكلمة "العظام"؛ لأنها اللفظة الطبيعية المبرأة من كل نزغة، لا تقبل أن تلتوي، ولا تثير معنى، ولا تحمل غرضًا؛ إذ تكون في الحي والميت، بل هي بهذا أخص؛ وفي الجميل والقبيح، بل هي هنا أليق؛ وفي الشباب والهرم، بل هي في هذا أوضح. والأعضاء لا تقوم إلا بالعظام فالمجاز على ما ترى، والحقيقة هي ما علمت. ومن كلماته في الوصف الطبيعي قوله صلى الله عليه وسلم وهو يذكر أوقات الصلاة: "العصر إذا كان ظل كل شيء مثله، وكذلك ما دامت الشمس حية، والعشاء إذا غاب الشفق إلى أن تمضي كواهل الليل"، وكواهل الليل: أوائله وفروعه المتقدمة منه، كالذي يتقدم المطايا من أعناقها الممتدة بعض الامتداد؛ وقوله وقد سأله رجل متى يصلي العشاء الآخرة، فقال عليه الصلاة والسلام: "إذا ملأ الليل بطن كل وادٍ"؛ وقوله: "إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى ترتفع"، وقوله: "إن رجلًا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال له: ألست فيما شئت؟ قال: بلى ولكني أحب أن أزرع. قال: فبذر فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده فكان أمثال الجبال". وقوله: "بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئرًا، فشرب منها ثم خرج، فإذا بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي! فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، ثم رقى فسقى الكلب فشكر الله له، فغفر له"، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: "في كل كبد رطبة أجر".

فهذا ونحوه من الفن البديع النادر، وهو مع ذلك لا يأتي في كلامه صلى الله عليه وسلم إلا في مثل ما رأيت، فلا يراد منه استجلاب العبارة، ولا صناعة الخيال، فيظن من لا يميز ولا يحقق أن خلو البلاغة النبوية من فن وصف الطبيعة والجمال والحب، دليل على ما ينكره أو يستجفيه، ويقول: بداوة وسذاجة ونحو ذلك مما تشبهه الغفلة على جهلة المستشرقين ومن في حكمهم من ضعاف أدبائنا وجهلة كتابنا، وإنما انتفى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لانتفاء الشعر عنه وكونه لا ينبغي له كما بسطناه في موضعه1؛ فعمله أن يهدي الإنسانية لا أن يزين لها، وأن يدلها على ما يجب في العمل، لا ما يحسن في صناعة الكلام، وأن يهديها إلى ما تفعله لتسمو به، لا إلى ما تتخيله لتلهو به. والخيال هو الشيء الحقيقي عند النفس في ساعة الانفعال والتأثر به فقط، ومعنى هذا أنه لا يكون أبدًا حقيقة ثابتة، فلا يكون إلا كذبًا على الحقيقة. ثم هو صلى الله عليه وسلم ليس كغيره من بلغاء الناس: يتصل بالطبيعة ليستملي منها؛ بل هو نبي مرسل متصل بمصدرها الأزلي ليملي فيها، وقد كانت آخر ابتسامة له في الدنيا ابتسامات للصلاة2 يتهلل لطهارة النفس المؤمنة وجمالها قائمة بين يدي خالقها، منسكبًا في طهارتها روح النور، وكل إنسان إنما يبدو الكون في عينه على ما يرى مما يشبه ما في نفسه، فكل ما رآه المصلي الخاشع في صلاته3 يبدو له كأنه يصلي في ضرب من العبادة على نحو من الدين، وكل ما رآه السكران في سكره يكاد يراه متخبطًا يعربد ما يتماسك! ثم إن الكلام في وصف الطبيعة والجمال والحب على طريقة الأساليب البيانية، إنما هو باب من الأحلام؛ إذ لا بد فيه من عيني شاعر، أو نظرة عاشق؛ وهنا نبي يوحى إليه، فلا موضع للخيال في أمره، إلا ما كان تمثيلًا يراد به تقوية الشعور الإنساني بحقيقة ما في بعض ما يعرض من باب الإرشاد والموعظة، كما

_ 1 كتابنا "إعجاز القرآن". 2 عن أنس أن أبا بكر كان يصلي بهم في وجع النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا النبي صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، وأرخى الستر، فتوفي من يومه. 3 من الكلمات الجميلة الدقيقة في نحو هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تزالون في صلاة ما انتظرتم الصلاة".

مر بك من أمثلته، وكقوله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه! "، وهذا كلام أبلغ ما أنت واجد من تفسيره تلك النفس المؤمنة بإحساسها الرقيق، كأنه حاسة من النور كبت في شعورها، وتلك النفس الفاجرة بإحساسها الغليظ، كأنه حاسة من التراب.... ويكاد المؤمن الذي يسمع هذا الوصف يذكّره ذنوبه أن يحس بحركة جبل يهمُّ أن ينقلع فيميل عليه، أما الفاجر فيسمعه يذكّره ذنوبه فإذا هي في خياله نقط سود تمر مرور الذباب، ليس منه إلا الحس به، كما يحس من يضرب على أنفه برجل ذبابة.. وجعل الذباب يمر على أنفه دون عينه أو فمه، وذلك منتهى الجمال في التصوير؛ لأن الذباب إذا وقع على الفم أو العين ثبت وألح، فإذا وقع على قصبة الأنف لم يكد يقف ومر مروره. الكون في نظر النبي صلى الله عليه وسلم آية الحكمة لا آية الفن، ومنظر المستيقن لا منظر المتخيل، ومادة العبودية لله لا مادة التأله للإنسان، وبذلك حرم الإسلام أشياء وكره أشياء لا يكون الفن بغيرها فنًا، في ضروب من الشعر والتصوير والموسيقى والحب؛ لأنه إنما ينظر للإنسان واحدًا وجمعًا، وحاضرًا وآتيًا؛ وواجبًا ومنفعة، ولذة وألمًا؛ وهذه كلها لا إطلاق فيها إلا من أجل القيد، على حين أن الفن لا قيد فيه إلا من أجل الإطلاق، وأساس الدين حظ الجماعة وقيودها، وأساس الفن الفرد وحريته؛ وهذه الحياة لا تبدو في حالة تركيب وانتظام إلا إذا كانت للكل، فإذا كانت لفرد ظهرت في هيئة انحلال وانتقاض، وأصبحت في الكون كله عمر إنسان واحد. ثم إن للفن ألوانًا لا بد منها لتصويره الجميل الذي تعجب به النفس، والشيطان هو اللون الأحمر فيها ... أي هو أشدها زهوًا وإشراقًا وجمالًا في التصوير الفني لكل ما في المرأة والحب والجمال وشهوات النفس، ولسنا ننكر أن الحياة القوية حين تمازجها هذه الفنون تكسب مرحًا ونشاطًا ويكون لها رونق، وفيها متاع؛ ولكن الحياة لا تكون بها كذلك إلا من أنها تحتسي خمرها ... فلها بعد من عاقبة هذه الفنون شبيه بما يكون للجسم القوي من عاقبة الخمر إذا تغلغلت الخمر في شعاب كبده وأحاطت رطبتها يابسة، كما وقع في أطوار كثيرة من تاريخ الأمم؛ فليس الاعتبار في هذا التشبيه بما يعرض من تأثير الساعة الزائلة بأفراحها وفن حياتها، بل الشأن للعاقبة المحتومة متى جاءت ساعتها الباقية بأحزانها وفن هلاكها، فالإسلام فيما حرم وكره من ذلك لم يزد على أن أراد للحياة أن تحيا؛ لأنه لا يقر صورة من صور انتحارها.

ومن كان أكبر عمله إنشاء الحقائق الإنسانية وتقريرها شريعة وعاطفة وأعمالًا، فلا جرم كان فنه غير الذي أكبر عمله تمويه تلك الحقائق وزخرفتها؛ ليقع الإحساس بها على غير وجهها، فتخف بالواقع منها على النفس خفة الكذب في ساعة تصديقه وهذا هو أكبر عمل الشعر. وههنا سر دقيق لا يتم كلامنا إلا بشرحه؛ لنقطع القول في هذا المعنى، فيظهر حقه من باطله قلنا آنفًا إن النبي صلى الله عليه وسلم ليس كغيره من بلغاء الناس؛ يتصل بالطبيعة يستملي منها، بل هو نبي مرسل متصل بمصدرها الأزلي ليملي فيها، ومعنى هذا أنه لا يعرض له من زيغ النفس ما يعرض لغيره من الناس، فأحكم حكماء الدنيا لا يستطيع أن يتبين جزءًا صغيرًا من الكون فهمًا صادقًا جزمًا لا يتم إلا بفهم الكون بأجمعه، فهو كله ذرة مكبرة إلى ما لا ينتهي ولا يحد، وليست النبوة شيئًا غير الاتصال بالسر. والحاضر الذي يكون في إنسان من الناس، هو حاضر ليس غير؛ لأنه يتحول ويفنى، فهو من الزيغ الذي يعتري النفس، ومنه كل أغراض الحياة البشرية الفانية، ولهذا كان طابع الله على نبينا صلى الله عليه وسلم هو تجريده من زيغ الهوى وسرف الطبيعة، فهو من الناس ولكنه متخلق بأخلاق الله سبحانه، وله في هذا الباب ما ليس لأحد ولا يطيقه أحد، ويجب على من يقرأ سيرته وشمائله وحديثه أن يبحث دائمًا عن طابع الله في كل شيء منها، فإنه سيرى حينئذ كأنه يدرسها مع الملائكة لا مع الناس، وسيظهر له من تفسيرها أن الدنيا لم تستطع تحقيق غايتها الأخلاقية العليا إلا فيها، وأنه صلى الله عليه وسلم كان إنسانًا، وكان أيضًا حركة في تقدم الإنسانية؛ وأن من معجزاته أنه أطلق في تاريخه ما عجزت عنه البشرية في تاريخها، وأن كل أموره صلى الله عليه وسلم موضوعة وضعًا إلهيًّا كأنها صفات كوَّنها الله وعلقها في التاريخ لمعاني الحياة، تعليق الشمس في السماء لمواد الحياة. إن الشهوات والمصالح إنما هي حصر النفس في جانب من الشعور محدود بلذات وهموم وأحاسيس تجعل غرض الإنسان نفسه، فهو كما يملأ معدته ويتأنق في الاختيار لها، يريد من كل ذلك أن يملأ شخصه على هذه الطريقة بعينها، طريقة إشباع معدته.. وبهذا تسخر منه حقائق الكون؛ لأنها لا تحد بشخص، ولا تنحصر في أحد، وكل من كانت حدوده الإنسانية جسمه ولذات جسمه، فهو في مقدار هذا الكون كالميت المحدود من الأرض كلها بقبره وتراب

قبره؛ وإنه ليجد جسمه وأكاذيب الطبيعة عليه، ولكنه لن يجد الروح وحقائقها؛ وإذا لم يجد هذه فلن يعرف الكون وأسراره؛ وإذا فقد هذا فهو الحاضر الضيق المشوه المكذوب، ومن ثم ففنه شهوة إحساسه وإن كان مخدوعًا، وشهوة نظره وإن كان ملبسًا عليه، وشهوة خياله، وإن كان التمويه والزور والحاضر الضيق المشوه المكذوب الخادع هو المسمى في لغة القرآن والحديث "بالدنيا" فإذا اتسع الإنسان لروحه وأدرك حقيقتها، ووعى ما بينها وبين الكون؛ وأخذ يحقق هذه الروح السماوية في أعماله، وتخطى حدود جسمه إلى فكرة الخلود؛ فهذا كله هو المسمى في لغة القرآن والحديث "بالآخرة"؛ فهما كلمتان في منتهى الإبداع من الفن والفلسفة؛ وعلى ذلك يؤول قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته: "من كان همه الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة؛ ومن كان همه الدنيا فرق الله أمره وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له". وأنت إذا فسرت هذه الكلمات بما وصفنا لك ووجهتها على ذلك التأويل، رأيت عجائب معانيها لا تنقضي، وأدركت سر قوله صلى الله عليه وسلم: "إني على علم من الله علمنيه" فاتساع الذات الإنسانية وممادَّتها لحقائق الكون، يجعل الإنسان كالكون نفسه، مجتمعًا غير مفرق على هموم الحياة؛ ويجعل الغنى معنى لا مادة؛ ولو امتلك إنسان من الناس كل ما طلعت عليه الشمس، وكان له كنز في الشرق وكنز في المغرب، لما بلغ شيئًا قليلًا من لذة هذا المعنى في قلبه؛ وفي هذه الحالة تصبح الدنيا العريضة التي يهلك الناس في تحصيلها وليست إلا ضرورة صغيرة، قد تكون في ثوب ولقيمات ونحوها مما لا خطر له، وهذا هو إرغامها وهي مالكة الملوك، فإذا ضاق الإنسان عن روحه أصبحت النفس كالمنخل يوضع الدقيق الناعم فيه؛ ليخرج منه فيمسكه كله ولا يمسك منه شيئًا، ووضع بين عينيها معنى الفقر، فهي تعمل أبدًا لتمتلئ، ولا تمتلئ أبدًا؛ وإذا كان المنخل متخذًا على الطريقة التي صنع بها، ففقره ولا جرم معلق عليه من ذات تركيبه. "أفهمت"؟ ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم متساوقًا مع الحقيقة، متصلًا بها، محدودًا بربه لا بنفسه، كان لذلك خارجًا من حاضر ما نحن فيه، ممتدًا بمعناه الإنساني الكامل إلى المستقبل الذي وراء الحياة، فما نحصره نحن بطبيعتنا في بعض الأسماء لا يلتفت هو إليه بطبيعته؛ ومن ذلك أوصاف الغنى والحلية والنعيم والمتاع والجمال والمطعم والمشرب، وما داخل الطبيعة من مثل معانيها، وما جرى هذا المجرى، فهذا كله يراه الناس من جهة الحاجة إليه والمطمع فيه؛ إذ كان ضعف إدراكهم

وضيق وعيهم مما يبدع لهم أكاذيب الخيال، فتجيء من ذلك أوصافهم وفنون أوصافهم؛ أما النبي صلى الله عليه وسلم فيرى ذلك من ناحية الغنى عنه والسمو عليه؛ إذ كان لا ينظر بطبيعة روحه العظيمة إلا أعلى النظرين وأطهرهما، فآخر إدراكنا للحقيقة والطبيعة أول إدراكه هو الطبيعة والحقيقة، وما تعجز عنه الإنسانية تبدأ منه النبوة. وعلى هذا فإن من أقوى البراهين على كماله صلى الله عليه وسلم ونبوته واتساع روحه ونفاذ إدراكه لحقائق الكون -أنه لم يتبسط في تلك الفنون كما يصنع البلغاء، ولم يأخذ مأخذهم فيها؛ إذ كانت كلها من أكاذيب القلب والفكر والعين. وفي قانون الحقيقة أن الأشياء هي كل الأشياء وهي كما هي، أما في قانون الكذب فالأشياء كلها هي ما تختاره أنت منها، وكما تختاره. بحسب الدنيا من جمال فنه صلى الله عليه وسلم ما يضيف إلى الحياة عظمة الأشياء العظيمة، ويدفع الإنسانية في طريقها الواحد الذي هو بين الأب والأم، طريق الأخ إلى أخيه، يكون في الدنيا بين الرجلين كما هو في الدم بين القلبين رحمة ومودة؛ وبحسبنا من جمال هذا الفن ما يهدي الإنسان إلى حقيقة نفسه؛ فيقره في الحقيقي من وجوده الإنساني؛ ويجعل الفضائل كلها تربية للقلب؛ يكبر بها، ثم يكبر، ثم لا يزال يكبر حتى يتسع لحقيقة هذه الكلمة الكبرى: الله أكبر.

قرآن الفجر

قرآن الفجر 1: كنت في العاشرة من سني وقد جمعت القرآن كله حفظًا وجودة بأحكام القراءة؛ ونحن يومئذ في مدينة "دمنهور" عاصمة البحيرة؛ وكان أبي -رحمه الله- كبير القضاة الشرعيين في هذا الإقليم، ومن عادته أنه كان يعتكف كل سنة في أحد المساجد عشرة الأيام الأخيرة من شهر رمضان، يدخل المسجد فلا يبرحه إلا ليلة عيد الفطر بعد انقضاء الصوم؛ فهناك يتأمل ويتعبد ويتصل بمعناه الحق، وينظر إلى الزائل بمعنى الخالد، ويطل على الدنيا إطلال الواقف على الأيام السائرة ويغير الحياة في عمله وفكره، ويهجر تراب الأرض فلا يمشي عليه، وتراب المعاني الأرضية فلا يتعرض له، ويدخل في الزمن المتحرر من أكثر قيود النفس، ويستقر في المكان المملوء للجميع بفكرة واحدة لا تتغير؛ ثم لا يرى من الناس إلا هذا النوع المرطب الروح بالوضوء، المدعوّ إلى دخول المسجد بدعوة القوة السامية، المنحني في ركوعه؛ ليخضع لغير المعاني الذليلة، الساجد بين يدي ربه؛ ليدرك معنى الجلال الأعظم. وما هي حكمة هذه الأمكنة التي تقام لعبادة الله؟ إنها أمكنة قائمة في الحياة، تشعر القلب البشري في نزاع الدنيا أنه في إنسان لا في بهيمة ... وذهبت ليلة فبتُّ عند أبي في المسجد؛ فلما كنا في جوف الليل الأخير أيقظني للسحور، ثم أمرني فتوضأت لصلاة الفجر وأقبل هو على قراءته؛ فلما كان السحر الأعلى هتف بالدعاء المأثور: اللهم لك الحمد؛ أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد؛ أنت بهاء السموات والأرض، ولك الحمد؛ أنت زين السموات والأرض، ولك الحمد؛ أنت قيّام السموات والأرض ومن فيهن ومن عليهن؛ أنت الحق ومنك الحق ... إلى آخر الدعاء.

_ 1 أنشأها قبل موته بثلاثة أشهر، فاعجب له يذكر أوليته وهو على أبواب آخرته..!

وأقبل الناس ينتابون المسجد، فانحدرنا من تلك العلية التي يسمونها "الدكة" وجلسنا ننتظر الصلاة. وكانت المساجد في ذلك العهد تضاء بقناديل الزيت، في كل قنديل ذبالة يرتعش النور فيها خافتًا ضئيلًا يبص بصيصًا كأنه بعض معاني الضوء لا الضوء نفسه؛ فكانت هذه القناديل والظلام يرتج حولها، تلوح كأنها شقوق مضيئة في الجو، فلا تكشف الليل ولكن تكشف أسراره الجميلة، وتبدو في الظلمة كأنها تفسير ضعيف لمعنى غامض يومئ إليه ولا يبينه، فما تشعر النفس إلا أن العين تمتد في ضوئها من المنظور إلى غير المنظور كأنها سر يشف عن سر. وكان لها منظر كمنظر النجوم يتم جمال الليل بإلقائه الشعل في أطرافه العليا وإلباس الظلام زينته النوارنية؛ فكان الجالس في المسجد وقت السحر يشعر بالحياة كأنها مخبوءة، ويحس في المكان بقايا أحلام، ويسري حوله ذلك المجهور الذي سيخرج منه الغد؛ وفي هذا الظلام النوراني تنكشف له أعماقه منسكبًا فيها روح المسجد، فتعتريه حالة روحانية يستكين فيها للقدر هادئًا وادعًا راجعًا إلى نفسه، مجتمعًا في حواسه، منفردًا بصفاته، منعكسًا عليه نور قلبه؛ كأنه خرج من سلطان ما يضيء عليه النهار، أو كأن الظلمة قد طمست فيه على ألوان الأرض. ثم يشعر بالفجر في ذلك الغبش عند اختلاط آخر الظلام بأول الضوء، شعورًا نديًّا كأن الملائكة قد هبطت تحمل سحابة رقيقة تمسح بها على قلبه؛ ليتنضر من يبس، ويرق من غلظة، وكأنما جاؤوه مع الفجر؛ ليتناول النهار من أيديهم مبدوءًا بالرحمة مفتتحًا بالجمال؛ فإذا كان شاعر النفس التقى فيه النور السماوي بالنور الإنساني فإذا هو يتلألأ في روحه تحت الفجر. لا أنسى أبدًا تلك الساعة ونحن في جو المسجد، والقناديل معلقة كالنجوم في مناطها من الفلك، وتلك السرج ترتعش فيها ارتعاش خواطر الحب، والناس جالسون عليهم وقار أرواحهم، ومن حول كل إنسان هدوء قلبه وقد استبهمت الأشياء في نظر العين ليلبسها الإحساس الروحاني في النفس، فيكون لكل شيء معناه الذي هو منه ومعناه الذي ليس منه، فيخلق فيه الجمال الشعري كما يخلق للنظر المتخيل. لا أنسى أبدًا تلك الساعة. وقد انبعث في جو المسجد صوت غرد رخيم يشق سدفة الليل في مثل رنين الجرس تحت الأفق العالي وهو يرتل هذه الآيات من آخر سورة النحل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ

بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} . وكان هذا القارئ يملك صوته أتم ما يملك ذو الصوت المطرب؛ فكان يتصرف به أحلى مما يتصرف القمري وهو ينوح في أنغامه، وبلغ في التطريب كل مبلغ يقدر عليه القادر، حتى لا تفسر اللذة الموسيقية بأبدع مما فسرها هذا الصوت؛ وما كان إلا كالبلبل هزته الطبيعة بأسلوبها في جمال القمر، فاهتز يجاوبها بأسلوبه في جمال التغريد. كان صوته على ترتيب عجيب في نغماته، يجمع بين قوة الرقة وبين رقة القوة، ويضطرب اضطرابًا روحانيًا كالحزن اعتراه الفرح على فجأة؛ يصيح الصيحة تترجح في الجو وفي النفس، وتتردد في المكان وفي القلب، ويتحول بها الكلام الإلهي إلى شيء حقيقي، يلمس الروح فيرفضّ عليها بمثل الندى، فإذا هي ترف رفيفًا، وإذا هي كالزهرة التي مسحها الطل. وسمعنا القرآن غضًا طريًا كأول ما نزل به الوحي، فكان هذا الصوت الجميل يدور في النفس كأنه بعض السر الذي يدور في نظام العالم، وكان القلب وهو يتلقى الآيات كقلب الشجرة يتناول الماء ويكسوها منه. واهتز المكان والزمان كأنما تجلى المتكلم سبحانه وتعالى في كلامه، وبدا الفجر كأنه واقف يستأذن الله أن يضيء من هذا النور! وكنا نسمع قرآن الفجر وكأنما محيت الدنيا التي في الخارج من المسجد وبطل باطلها، فلم يبق على الأرض إلا الإنسانية الطاهرة ومكان العبادة؛ وهذه هي معجزة الروح متى كان الإنسان في لذة روحه مرتفعًا على طبيعته الأرضية. أما الطفل الذي كان فيَّ يومَئذ فكأنما دعي بكل ذلك؛ ليحمل هذه الرسالة ويؤديها إلى الرجل الذي يجيء فيه من بعد؛ فأنا في كل حالة أخضع لهذا الصوت: ادع إلى سبيل ربك؛ وأنا في كل ضائقة أخشع لهذا الصوت: واصبر وما صبرك إلا بالله!

اللغة والدين والعادات باعتبارها من مقومات الاستقلال

اللغة والدين والعادات 1 باعتبارها من مقومات الاستقلال: ليست حقيقة الأمة في هذا الظاهر الذي يبدو من شعب مجتمع محكوم بقوانينه وأوضاعه؛ ولكن تلك الحقيقة هي الكائن الروحي المكتنِّ في الشعب، الخالص له من طبيعته، المقصور عليه في تركيبه كعصير الشجرة؛ لا يرى عمله والشجرة كلها هي عمله. وهذا الكائن الروحي هو الصورة الكبرى للنسب في ذوي الوشيجة من الأفراد، بيد أنه يحقق في الشعب قرابة الصفات بعضها من بعض؛ فيجعل للأمة شأن الأسرة، ويخلق في الوطن معنى الدار، ويوجد في الاختلاف نزعة التشابه، ويرد المتعدد إلى طبيعة الوحدة، ويبدع للأمة شخصيتها المتميزة، ويوجب لهذه الشخصية بإزاء غيرها قانون التناصر والحمية؛ إذ يجعل الخواطر مشتركة، والدواعي مستوية، والنوزاع متآزرة؛ فتجتمع الأمة كلها على الرأي: تتساند له بقواها ويشد بعضها بعضًا فيه؛ وبهذا كله يكون روح الأمة قد وضع في كلمة الأمة معناها. والخلق القوي الذي ينشئه للأمة كائنها الروحي، هو المبادئ المنتزعة من أثر الدين واللغة والعادات، وهو قانون نافذ يستمد قوته من نفسه؛ إذ يعمل في الحيز الباطن من وراء الشعور، متسلطًا على الفكر، مصرفًا لبواعث النفس؛ فهو وحده الذي يملأ الحي بنوع حياته، وهو طابع الزمن على الأمم، وكأنه على التحقيق وضع الأجداد علامتهم الخاصة على ذريتهم. أما اللغة فهي صورة وجود الأمة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسها، وجودًا متميزًا قائمًا بخصائصه؛ فهي قومية الفكر، تتحد بها الأمة في صور التفكير وأساليب أخذ المعنى من المادة؛ والدقة في تركيب اللغة دليل على دقة الملكات

_ 1 أنشأها للمسابقة الأدبية العامة في عهد على ماهر "باشا" سنة 1936، وانظر ص131 "حياة الرافعي".

في أهلها، وعمقها هو عمق الروح ودليل الحسن على ميل الأمة إلى التفكير والبحث في الأسباب والعلل، وكثرة مشتقاتها برهان على نزعة الحرية وطماحها؛ فإن روح الاستعباد ضيق لا يتسع، ودأبه لزوم الكلمة والكلمات القليلة. وإذا كانت اللغة بهذه المنزلة، وكانت أمتها حريصة عليها، ناهضة بها، متسعة فيها، مكبرة شأنها، فما يأتي ذلك إلا من روح التسلط في شعبها والمطابقة بين طبيعته وعمل طبيعته، وكونه سيد أمره؛ ومحقق وجوده، ومستعمل قوته، والآخذ بحقه، فأما إذا كان منه التراخي والإهمال وترك اللغة للطبيعة السوقية، وإصغار أمرها، وتهوين خطرها، وإيثار غيرها بالحب والإكبار؛ فهذا شعب خادم لا مخدوم، تابع لا متبوع، ضعيف عن تكاليف السيادة، لا يطيق أن يحمل عظمة ميراثه، مجتزئ ببعض حقه، مكتفٍ بضرورات العيش، يوضع لحكمه القانون الذي أكثره للحرمان وأقله للفائدة التي هي كالحرمان. لا جرم كانت لغة الأمة هي الهدف الأول للمستعمرين؛ فلن يتحول الشعب أول ما يتحول إلا من لغته؛ إذ يكون منشأ التحول من أفكاره وعواطفه وآماله، وهو إذا انقطع من نسب لغته انقطع من نسب ماضيه، ورجعت قوميته صورة محفوظة في التاريخ، لا صورة محققة في وجوده؛ فليس كاللغة نسب للعاطفة والكفرة حتى أن أبناء الأب الواحد لو اختلفت ألسنتهم فنشأ منهم ناشئ على لغة، ونشأ الثاني على أخرى، والثالث على لغة ثالثة، لكانوا في العاطفة كأبناء ثلاثة آباء. وما ذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار؛ ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضًا على الأمة المستعمرة، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها، ويستلحقهم من ناحيتها؛ فيحكم عليهم أحكامًا ثلاثة في عمل واحد: أما الأول فحبس لغتهم في لغته سجنًا مؤبدًا؛ وأما الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محوًا ونسيانًا؛ وأما الثالث فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها؛ فأمرهم من بعدها لأمره تبع. والذين يتعلقون اللغات الأجنبية ينزعون إلى أهلها بطبيعة هذا التعلق، إن لم تكن عصبيتهم للغتهم قوية مستحكمة من قبل الدين أو القومية؛ فتراهم إذا وهنت فيهم هذه العصبية يخجلون من قوميتهم ويتبرؤون من سلفهم وينسلخون من تاريخهم، وتقوم بأنفسهم الكراهة للغتهم وآداب لغتهم، ولقومهم، وأشياء قومهم، فلا يستطيع وطنهم أن يوحي إليهم أسرار روحه؛ إذ لا يوافق منهم استجابة في الطبيعة، وينقادون بالحب لغيره، فيتجاوزونه وهم فيه، ويرثون دماءهم من أهلهم،

ثم تكون العواطف في هذه الدماء للأجنبي، ومن ثم تصبح عندهم قيمة الأشياء بمصدرها لا بنفسها، وبالخيال المتوهم فيها لا بالحقيقة التي تحملها؛ فيكون شيء الأجنبي في مذهبهم أجمل وأثمن؛ لأن إليه الميل وفيه الإكبار والإعظام؛ وقد يكون الوطني مثله أو أجمل منه، بيد أنه فقد الميل، فضعفت صلته بالنفس، فعادت كل مميزاته فضعفت لا تميزه. وأعجب من هذا في أمرهم، أن أشياء الأجنبي لا تحمل معانيها الساحرة في نفوسهم إلا إذا بقيت حاملة أسماءها الأجنبية، فإن سمي الأجنبي بلغتهم القومية نقص معناه عندهم وتصاغر وظهرت فيه ذلة.. وما ذاك إلا صفر نفوسهم وذلتها؛ إذ لا ينتحون لقوميتهم فلا يلهمهم الحرف من لغتهم ما يلهمهم الحرف الأجنبي. والشرق مبتلىً بهذه العلة، ومنها جاءت مشاكله أو أكثرها؛ وليس في العالم أمة عزيزة الجانب تقدم لغة غيرها على لغة نفسها، وبهذا لا يعرفون للأشياء الأجنبية موضعًا إلا من وراء حدود الأشياء الوطنية؛ ولو أخذنا نحن الشرقيين بهذا، لكان هذا وحده علاجًا حاسمًا لأكثر مشاكلنا. فاللغات تتنازع القومية، ولهي والله احتلال عقلي في الشعوب التي ضعفت عصبيتها؛ وإذا هانت اللغة القومية على أهلها، أثرت اللغة الأجنبية في الخلق القومي ما يؤثر الجو الأجنبي في الجسم الذي انتقل إليه وأقام فيه. أما إذا قويت العصبية، وعزَّت اللغة وثارت لها الحمية، فلن تكون اللغات الأجنبية إلا خادمة يرتفع بها، ويرجع شبر الأجنبي شبرًا لا مترًا.. وتكون تلك العصبية للغة القومية مادة وعونًا لكل ما هو قومي، فيصبح كل شيء أجنبي قد خضع لقوة قاهرة غالبة؛ هي قوة الإيمان بالمجد الوطني واستقلال اوطن؛ ومتى تعين الأول أنه الأول، فكل قوى الوجود لا تجعل الذي بعده شيئًا إلا أنه الثاني. والدين هو حقيقة الخلق الاجتماعي في الأمة، وهو الذي يجعل القلوب كلها طبقة واحدة على اختلاف المظاهر الاجتماعية عالية ونازلة وما بينهما، فهو بذلك الضمير القانوني للشعب، وبه لا بغيره ثبات الأمة على فضائلها النفسية، وفيه لا في سواه معنى إنسانية القلب. ولهذا كان الدين من أقوى الوسائل التي يعول عليها في إيقاظ ضمير الأمة، وتنبيه روحها، واهتياج خيالها؛ إذ فيه أعظم السلطة التي لها وحدها لها قوة الغلبة

على الماديات؛ فسلطان الدين هو سلطان كل فرد على ذاته وطبيعته؛ ومتى قوي هذا السلطان في شعب كان حميًّا أبيًّا، لا ترغمه قوة، ولا يعنو للقهر. ولولا التدين بالشريعة؛ لما استقامت الطاعة للقانون في النفس؛ ولولا الطاعة النفسية للقوانين؛ لما انتظمت أمة؛ فليس عمل الدين إلا تحديد مكان الحي في فضائل الحياة؛ وتعيين تبعته في حقوقها وواجباتها، وجعل ذلك كله نظامًا مستقرًا فيه لا يتغير، ودفع الإنسان بهذا النظام نحو الأكمل، ودائمًا نحو الأكمل. وكل أمة ضعُف الدين فيها اختلت هندستها الاجتماعية وماج بعضها في بعض؛ فإن من دقيق الحكمة في هذا الدين أنه لم يجعل الغاية الأخيرة من الحياة غاية في هذه الأرض؛ وذلك لتنتظم الغايات الأرضية في الناس فلا يأكل بعضهم بعضا فيغتني الغني وهو آمن، ويفتقر الفقير وهو قانع، ويكون ثواب الأعلى في أن يعود على الأسفل بالمبرة، وثواب الأسفل في أن يصبر على ترك الأعلى في منزلته؛ ثم ينصرف الجميع بفضائلهم إلى تحقيق الغاية الإلهية الواحدة، التي لا يكبر عليها الكبير، ولا يصغر عنها الصغير؛ وهي الحق، والصلاح، والخير، والتعاون على البر والتقوى. وما دام عمل الدين هو تكوين الخلق الثابت الدائب في عمله، المعتز بقوته، المطمئن إلى صبره، النافر من الضعف، الأبي على الذل، الكافر بالاستعباد، ومفاداته، العامل في مصلحة الجماعة، المقيد في منافعه بواجباته نحو الناس؛ ما دام عمل الدين هو تكوين هذا الخلق فيكون الدين في حقيقته هو جعل الحس بالشريعة أقوى من الحس بالمادة؛ ولعمري ما يجد الاستقلال قوة هي أقوى له وأرد عليه من هذا المعنى إذا تقرر في نفوس الأمة وانطبعت عليه. وهذه الأمة الدينية التي يكون واجبها أن تشرف وتسود وتعتز، ويكون واجب هذا الواجب فيها ألا تسقط ولا تخضع ولا تذل. وبتلك الأصول العظيمة التي ينشئها الدين الصحيح القوي في النفس، يتهيأ النجاح السياسي للشعب المحافظ عليه المنتصر له؛ إذ يكون من الخلال الطبيعية في زعمائه ورجاله الثبات على النزعة السياسية، والصلابة في الحق، والإيمان بمجد العمل، وتغليب ذلك على الأحوال المادية التي تعترض ذا الرأي؛ لتفتنه عن رأيه ومذهبه؛ من مال، أو جاه، أو منصب، أو موافقة الهوى، أو خشية النقمة، أو خوف الوعيد ... إلى غيرها من كل ما يستميل الباطل أو يرهب به الظلم.

ولا يذهبن عنك أن الرجل المؤمن القوي الإيمان الممتلئ ثقة ويقينًا ووفاء وصدقًا وعزمًا وإصرارًا على فضيلته وثباتًا على ما يلقى في سبيلها لا يكون رجلًا كالناس؛ بل هو رجل الاستقلال الذي واجبه جزء من طبيعته وغايته السامية لا تنفصل عنه، هو رجل صدق المبدأ، وصدق الكلمة، وصدق الأمل، وصدق النزعة؛ وهو الرجل الذي ينفجر في التاريخ كلما احتاجت الحياة الوطنية إلى إطلاق قنابلها للنصر. والعادات هي الماضي الذي يعيش في الحاضر، وهي وحدة تاريخية في الشعب، تجمعه كما يجمعه الأصل الواحد؛ ثم هي كالدين في قيامها على أساس أدبي في النفس، وفي اشتمالها على التحريم والتحليل؛ وتكاد عادات الشعب تكون دينًا ضيقًا خاصًّا به، يحصره في قبيله ووطنه، ويحقق في أفراده الألفة والتشابك، ويأخذهم جميعًا بمذهب واحد؛ هو إجلال الماضي. وإجلال الماضي في كل شعب تاريخي هو الوسيلة الروحية التي يستوحي بها الشعب أبطاله، وفلاسفته، وعلماءه وأدباءه، وأهل الفن منه؛ فيوحون إليه وحي عظمائهم التي لم يغلبها الموت؛ وبهذا تكون صورهم العظيمة حية في تاريخه، وحية في آماله وأعصابه. والعادات هي وحدها التي تجعل الوطن شيئًا نفسيًّا حقيقيًّا، حتى ليشعر الإنسان أن لأرضه أمومة الأم التي ولدته، ولقومه أبوة الأب الذي جاء به إلى الحياة، وليس يعرف هذا إلا من اغترب عن وطنه، وخالط غير قومه، واستوحش من غير عاداته؛ فهناك يثبت الوطن نفسه بعظمة وجبروت كأنه وحده هو الدنيا. وهذه الطبيعة الناشئة في النفس من أثر العادات هي التي تنبه في الوطني روح التميز عن الأجنبي، وتوحش نفسه منه كأنها حاسة الأرض تنبه أهلها وتنذرهم الخطر. ومتى صدقت الوطنية في النفس أقرت كل شيء أجنبي في حقيقته الأجنبية؛ فكان هذا هو أول مظاهر الاستقلال، وكان أقوى الذرائع إلى المجد الوطني. وباللغة والدين والعادات، ينحصر الشعب في ذاته السامية بخصائصها ومقوماتها، فلا يسهل انتزاعه منها ولا انتساقه من تاريخه؛ وإذا ألجئ إلى حال من القهر لم ينخذل ولم يتضعضع، واستمر يعمل ما تعمله الشوكة الحادة إن لم تُترك لنفسها، لم تعط من نفسها إلا الوخز.....

تجديد الإسلام-رسالة الأزهر في القرن العشرين

تجديد الإسلام: 1 رسالة الأزهر في القرن العشرين * "الأزهر" هذه هي الكلمة التي لا يقابلها في خيال الأمة المصرية إلا كلمة الهرم؛ وفي كلتا اللفظتين يكمن سر خفي من أسرار التاريخ التي تجعل بعض الكلمات ميراثًا عقليًّا للأمة، ينسي مادة اللغة فيها ولا يبقي منها إلا مادة النفس؛ إذ تكون هذه الكلمات تعبيرًا عن شيء ثابت ثبات الفكرة التي لا تتغير، مستقر في الروح القومية استقراره في الزمن، متجسم من معناه كأن الطبيعة قد أفردته بمادته دون ما يشاركه في هذه المادة؛ فالحجر في الهرم الأكبر يكاد يكون في العقل زمانًا لا حجرًا، وفنًّا لا جسمًا؛ والمكان في الأزهر يغيب فيه معنى المكان وينقلب إلى قوة عقلية ساحرة توجد في المنظور غير المنظور. وعندي أنَّ الأزهر في زماننا هذا يكاد يكون تفسيرًا جديدًا للحديث: "مصر كنانة الله في أرضه" فعلماؤه اليوم أسهمٌ نافذةٌ من أسهمِ الله يرمي بها من أراد دينه بالسوء، فيمسكها للهبة ويرمي بها للنصر؛ ويجب أن يكون هذا المعنى أول معانيهم في هذا القرن العشرين الذي ابتلي بملء عشرين قرنًا من الجرأة على الأديان وإهمالها والإلحاد فيها. أول شيء في رسالة الأزهر في القرن العشرين أن يكون أهله قوة إلهية معدة للنصر، مهيأة للنضال، مسددة للإصابة، مقدرة في طبيعتها أحسن تقدير، تشعر الناس بالاطمئنان إلى عملها، وتوحي إلى كل من يراها الإيمان الثابت الثالث بمعناها؛ ولن يأتي لهم هذا إلا إذا انقلبوا إلى طبيعتهم الصحيحة، فلا يكون العلم تحرفًا ولا مهنة ولا مكسبة3، ولا يكون في أوراق الكتب خيال "أوراق البنك" ... بل

_ 1 أنشأها للمسابقة الأدبية العامة. * لم نتكلم في هذه المقالة عن اللغة والأدب وتفصيل علوم الأزهر؛ لأن هذه هي مادة الأزهر لا رسالته الجديدة في رأينا. ** أي احتراف العلم للتكسب به كما نراه اليوم.

تظهر فيهم العظمة الروحانية آمرة ناهية في المادة، لا مأمورة منهية بها؛ ويرتفع كل منهم بنفسه، فيكون مقرر خلق في الحياة قبل أن يكون معلم علم في الحياة؛ لينبثَّ منهم مغناطيس النبوة يجذب النفوس بهم أقوى مما تجذبها ضلالات العصر؛ فما يحتاج الناس في هذا الزمن إلى العالم -وإن الكتب والعلوم لتملًا الدنيا- وإنما يحتاجون إلى ضمير العالم. وقد عجزت المدنية أن توجد هذا الضمير، مع أن الإسلام في حقيقته ليس شيئًا إلا قانون هذا الضمير؛ إذ هو دين قائم على أن الله لا ينظر من الإنسان إلى صورته ولكن إلى عمله؛ فأول ما ينبغي أن يحمله الأزهر من رسالته: ضمائر أهله. والناس خاضعون للمادة بقانون حياتهم، وبقانون آخر هو قانون القرن العشرين.. فهم من ثم في أشد الحاجة إلى أن يجدوا بينهم المتسلط على المادة بقانون حياته؛ ليروا بأعينهم القوى الدنيئة مغلوبة، ثم ليجدوا في هذا الإنسان أساس القدوة والاحتذاء، فيتصلوا منه بقوتين: قوة التعليم، وقوة التحويل. وهذا هو سر الإسلام الأول الذي نفذ به من أمة إلى أمة ولم يقم له شيء يصده؛ إذ كان ينفذ في الطبيعة الإنسانية نفسها. ومن أخص واجبات الأزهر في هذا القرن العشرين أن يعمل أول شيء لإقرار معنى الإسلام الصحيح في المسلمين أنفسهم؛ فإن أكثرهم اليوم قد أصبحوا مسلمين بالنسب لا غير.. وما منهم إلا من هو في حاجة إلى تجديد إسلامه. والحكومات الإسلامية عاجزة في هذا؛ بل هي من أسباب هذا الشر؛ لأن لها وجودًا سياسيًّا ووجودًا مدنيًّا؛ أما الأزهر فهو وحده الذي يصلح لإتمام نقص الحكومة في هذا الباب، وهو وحده الذي يسعه ما تعجز عنه؛ وأسباب نجاحه مهيأة ثابتة؛ إذ كان له بقوة التاريخ حكم الزعامة الإسلامية، وكانت فيه عند المسلمين بقية الوحي على الأرض، ثم كان هو صورة المزاج النفسي الإسلامي المحض؛ بيد أنه فرط في واجب هذه الزعامة، وفقد القوة التي كان يحكم بها، وهي قوة المثل الأعلى التي كانت تجعل الرجل من علمائه كما قلنا مرة: إنسانًا تتخيره المعاني السياسية تظهر فيه بأسلوب عملي، فيكون في قومه ضربًا من التربية والتعليم بقاعدة منتزعة من مثالها، مشروحة بهذا المثال نفسه. والعقيدة في سواد الناس بغير هذا المثل الأعلى هي أول مغلوب في صراع قوى الحياة.

لقد اعتاد المسلمون من قديم أن يجعلوا أبصارهم إلى علماء الأزهر، فهم يتبعونهم، ويتأسون بهم، ويمنحونهم الطاعة، وينزلون على حكمهم، ويلتمسون في سيرتهم النفس لمشكلات النفس، ويعرفون بهم معنى صغر الدنيا ومعنى كبر الأعمال العظيمة؛ وكان غنى العالم الديني شيئًا غير المال، بل شيئًا أعظم من المال؛ إذ كان يجد حقيقة الغنى في إجلال الناس لفقره كأنه ملك لا فقر؛ وكان زهده قوة حاكمة فيها الصلابة والشدة والهيبة والسمو، وفيها كل سلطان الخير والشر؛ لأن فيها كل النزعات الاستقلالية؛ ويكاد الزهد الصحيح يكون هو وحده القوة التي تجعل علماء الدين حقائق مؤثرة عاملة في حياة الناس أغنيائهم وفقرائهم، لا حقائق متروكة لنفسها يوحش الناس منها أنها متروكة لنفسها. وعلماء الأزهر في الحقيقة هم قوانين نفسية نافذة على الشعب، وعملهم أرد على الناس من قوانين الحكومة، بل هم التصحيح لهذه القوانين إذا جرت الأمور على عللها وأسبابها؛ فيجب عليهم أن يحققوا وجودهم، وأن يتناولوا الأمة من ناحية قلوبها وأرواحها، وأن يعدوا تلاميذهم في الأزهر كما يعدون القوانين الدقيقة، لا طلابًا يرتزقون بالعلم. أين صوت الأزهر وعمله في هذه الحياة المائجة بما في السطح وما في القاع ... وأين وحي هذه القوة التي ميثاقها أن تجعل النبوة كأنها شيء واقع في الحياة العصرية لا خبر تاريخي فيها؟ لقد أصبح إيمان المسلمين كأنه عادة الإيمان لا الإيمان نفسه؛ ورجع الإسلام في كتبه الفقهية وكأنه أديان مختلفة متناقضة لا دين واحد. فرسالة الأزهر أن يجدد عمل النبوة في الشعب، وأن ينقي عمل التاريخ في الكتب، وأن يبطل عمل الوثنية في العادات، وأن يعطي الأمة دينها الواضح السمح الميسر، وقانونها العملي الذي فيها سعادتها وقوتها. ولا وسيلة إلى ذلك إلا أن يكون الأزهر جريئًا في قيادة الحركة الروحية الإسلامية، جريئًا في عمله لهذه القيادة، آخذًا بأسباب هذا العمل، ملحًا في طلب هذه الأسباب، مُصِرًّا على هذا الطلب؛ وكل هذا يكون عبثًا إن لم يكن رجال الأزهر وطلبته أمثلة من الأمثلة القوية في الدين والخلق والصلابة؛ لتبدأ الحالة النفسية فيهم، فإنها إن بدأت لا تقف؛ والمثل الأعلى حاكم بطبيعته على الإنسانية، مطاع بحكمه فيها، محبوب بطاعتها له.

والمادة المطهرة للدين والأخلاق لا تجدها الأمة إلا في الأزهر، فعلى الأزهر أن يثبت أن فيه تلك المادة بإظهار عملها لا بإلصاق الورقة المكتوب فيها الاسم على الزجاجة.. ومن ثم يكون واجب الأزهر أن يطلب الإشراف على التعليم الإسلامي في المدارس، وأن يدفع الحركة الدينية دفعًا بوسائل مختلفة، أولها أن يحمل وزارة المعارف على إقامة فرض الصلاة في جميع مدارسها، من مدرسة حرية الفكر.. فنازلًا، والأمة الإسلامية كلها تشد رأي الأزهر في هذا. وإذا نحن استخرجنا التفسير العملي لهذه الآية الكريمة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} دلتنا الآية بنفسها على كل تلك الوسائل، فما الحكمة هنا إلا السياسة الاجتماعية في العمل، وليست الموعظة الحسنة إلا الطريقة النفسية في الدعوة. العلماء ورثة الأنبياء؛ وليس النبي من الأنبياء إلا تاريخ شدائد ومحن، ومجاهدة في هداية الناس، ومراغمة للوجود الفاسد، ومكابدة التصحيح للحالة النفسية للأمة؛ فهذا كله هو الذي يورث عن الأنبياء لا العلم وتعليمه فقط. وإذا قامت رسالة الأزهر على هذه الحقائق، وأصبح وجوده هو المعنى المتمم للحكومة، المعاون لها في ضبط الحياة النفسية للشعب وحياطتها وأمنها ورفاهتها واستقرارها -اتجهت طبيعته إلى أداء رسالته الكبرى للقرن العشرين، بعد أن يكون قد حقق الذرائع إلى هذه الرسالة، من فتح باب الاجتهاد، وتنقية التاريخ الفقهي، وتهذيب الروح الإسلامي والسمو به عن المعاني الكلامية الجدلية السخيفة؛ ثم استخراج أسرار القرآن الكريم الكامنة فيه، لهذه العصور العلمية الأخيرة؛ وبعد أن يكون قد اجتمعت فيه القوة التي تمسك الإسلام على سنته بين القديم والجديد، لا ينكره هذا ولا يغيره ذاك، وبعد أن يكون الأزهر قد استفاض على العالم العربي بكتبه ودعاته ومبعوثيه من حاملي علمه ورسل إلهامه. أما تلك الرسالة الكبرى فهي بث الدعوة الإسلامية في أوربا وأمريكا واليابان، بلغات الأوروبيين والأمريكيين واليابانيين، في ألسنة أزهرية مرهفة مصقولة، لها بيان الأدب، ودقة العلم، وإحاطة الفلسفة، وإلهام الشعر، وبصيرة

_ 1 وزارة التربية والتعليم الآن، الناشر.

الحكمة، وقدرة السياسة؛ ألسنة أزهرية لا يوجد الآن منها لسان واحد في الأزهر، ولكنها لن توجد إلا في الأزهر؛ ولا قيمة لرسالته في القرن العشرين إذا هو لم يوجدها؛ فتكون المتكلمة عنه، والحاملة لرسالته، وما هذه البعثات التي قرر الأزهر ابتعاثها إلى أوربا إلا أول تاريخ تلك الألسنة. إن الوسيلة التي نشرت الإسلام من قبل لم تكن أجنحة الملائكة، ولا كانت قوة من جهنم؛ ولا تزال هي تنشره؛ فليس مستحيلًا ولا متعذرًا أن يغزو هذا الدين أوربا وأمريكا واليابان كما غزا العالم القديم، ولم يكن السلاح من قبل إلا طريقة لإيجاد إسلام في الأمة الغريبة عنه، حتى إذا وجد تولي هو الدعوة لنفسه بقوة الناموس الطبيعي القائم على أن الأصلح هو الأبقى، وانحازت إليه الإنسانية؛ لأنه قانون طبيعتها السليمة، ودين فطرتها القوية، وقد ظل الإسلام ينتشر ولم يكن يحمله إلا التاجر، كما كان ينتشر وحامله الجيش؛ فليس علينا إلا تغيير السلاح في هذا العصر وجعله سلاحًا من فلسفة الدين وأسرار حكمته؛ فهذا الدين كما قلنا في بعض كلامنا1: أعمال مفصلة على النفس أدق تفصيل وأوفاه بمصلحتها، فهو يعطي الحياة في كل عصر عقلها العملي الثابت المستقر تنظم به أحوال النفس على ميزة وبصيرة، ويدع للحياة عقلها العلمي المتجدد المتغير تنظم به أحوال الطبيعة على قصد وهدى؛ وهذه هي حقيقة الإسلام في أخص معانيه: لا يغني عنه في ذلك دين آخر، ولا يؤدي تأديته في هذه الحاجة أدب ولا علم ولا فلسفة، كأنما هو نبع في الأرض لمعاني النور، بإزاء الشمس نبع النور في السماء. ليس على الأزهر إلا أن يوجد من الإسلام في تلك الأمم ما يستمر، ثم الاستمرار هو ويجد ما يثبت، والثبات يوجد ما يدوم؛ وكأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى هذا في قوله: "نضر الله امرأ سمع مني شيئًا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى له من سامع". أما والله إن هذا المبلغ الذي هو أوعى له من السامع لن يكون في التاريخ بأدق المعنى إلا أوربا وأمريكا في هذا الزمن العلمي إذا نحن عرفنا كيف نبلغ. أنا مستيقن أن فيلسوف الإسلام الذي سينشر الدين على يده في أوربا وأمريكا لن يخرج إلا من الأزهر، وما كان الأستاذ الإمام محمد عبده -رحمه الله- إلا أول التطور المنتهي إلى هذه الغاية، وسيكون عمل فلاسفة الأزهر

_ 1 انظر مقالة"الإشراق الإلهي" ص4 ج 2 "وحي القلم".

استخراج قانون السعادة لتلك الأمم من آداب الإسلام وأعماله؛ ثم مخاطبة الأمم بأفكارها وعواطفها، والإفضاء من ذلك إلى ضميرها الاجتماعي فإن أول الدين هناك أسلوبه الذي يظهر به. هذه هي رسالة الأزهر في القرن العشرين، ويجب أن يتحقق بوسائلها من الآن؛ ومن وسائلها أن يعالن بها؛ لتكون موثقًا عليه. ويحسن بالأزهر في سبيل ذلك أن يضم إليه كل مفكر إسلامي ذي إلهام أو بحث دقيق أو إحاطة شاملة؛ فتكون له ألقاب علمية يمنحهم إياها وإن لم يتخرجوا فيه، ثم يستعين بعلمهم وإلهامهم وآرائهم. وبهذه الألقاب يمتد الأزهر إلى حدود فكرية بعيدة، ويصبح أوسع في أثره على الحياة الإسلامية، ويحقق لنفسه المعنى الجامعي. وفي تلك السبيل يجب على الأزهر أن يختار أيامًا في كل سنة يجمع فيها من المسلمين "قرش الإسلام"؛ ليجد مادة النفقة الواسعة في نشر دين الله، وليس على الأرض مسلم ولا مسلمة لا يبسط يده، فما يحتاج هذا التدبير لأكثر من إقراره وتنظيمه وإعلانه في الأمم الإسلامية ومواسمها الكبرى، وخاصة موسم الحج. وهذا العمل هو نفسه وسيلة من أقوى الوسائل في تنبيه الشعور الإسلامي، وتحقيق المعاونة في نشر الدين وحياطته؛ وعسى أن تكون له نتائج اجتماعية لا موضع لتفصيلها هنا، وعسى أن يكون "قرش الإسلام" مادة لأعمال إسلامية ذات بال، وهو على أي الأحوال صلة روحية تجعل الأزهر كأنه معطيه لكل مسلم لا آخذه. والخلاصة أن أول رسالة الأزهر في القرن العشرين: اهتداء الأزهر إلى حقيقة موضعه في القرن العشرين: {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120] .

الأسد

الأسد: جلس أبو علي أحمد بن محمد الروبادي البغدادي* في مجلس وعظه بمصر بعد وفاة شيخه أبي الحسن بنان الحمال الزاهد الواسطي شيخ الديار المصرية**، وكان يضرب المثل بعبادته وزهده، وقد خرج أكثر أهل مصر في جنازته، فكان يومه يومًا كالبرهان من العالم الآخر لأهل هذه الدنيا؛ ما بقي أحد إلا اقتنع أنه في شهوات الحياة وأباطيلها كالأعمى في سوء تمييزه بين لون التراب ولون الدقيق؛ إذ ينظر كل امرئ في مصالحه ومنافعه مثل هذه النظرة، باللمس لا بالبصر، وبالتوهم لا بالتحقيق، وعلى دليل نفسه في الشيء لا على دليل الشيء في نفسه، وبالإدراك من جهة واحدة دون الإدراك من كل جهة؛ ثم يأتي الموت فيكون كالماء صُبَّ على الدقيق والتراب جميعًا، فلا يرتاب مبصر ولا أعمى، ويبطل ما هو باطل ويحق الذي هو حق. وتكلم أبو علي فقال: كنت ذات يوم عند شيخنا الجنيد*** في بغداد، فجاءه كتاب من يوسف بن الحسن شيخ الري والجبال في وقته**** يقول فيه: لا أذاقك الله طعم نفسك، فإنك إن ذقتها لم تذق بعدها خيرًا أبدًا! قال: فجعلت أفكر في طعم النفس ما هو، وجاءني ما لم أرضه من الرأي، حتى سمعت بخبر بنان -رحمه الله- مع أحمد بن طولون أمير مصر، فهو الذي كان سبب قدومي إلى هنا؛ لأرى الشيخ وأصحبه وأنتفع به. والبلد الذي فيه شيخ من أهل الدين الصحيح والنفس الكاملة والأخلاق الإلهية، هو في الجهل كالبلد الذي ليس فيه كتاب من الكتب البتة وإن كان كل أهله علماء، وإن كان في كل محلة منه مدرسة، وفي كل دار من دوره خزانة كتب، فلا تغني هذه الكتب عن الرجال؛ فإنما هي صواب أو خطأ ينتهي إلى العقل، ولكن الرجل الكامل صوابٌ ينتهي إلى الروح، وهو في تأثيره على الناس

_ * توفي سنة 322. ** توفي سنة 316. *** توفي سنة 298. **** كانت وفاته 304.

أقوى من العلم؛ إذ هو تفسير الحقائق في العمل الواقع وحياتها عاملة مرئية داعية إلى نفسها؛ ولو أقام الناس عشر سنين يتناظرون في معاني الفضائل ووسائلها، ووضعوا في ذلك مائة كتاب، ثم رأوا رجلًا فاضلًا بأصدق معاني الفضيلة، وخالطوه وصحبوه لكان الرجل وحده أكبر فائدة من تلك المناظرة وأجدى على الناس منها، وأدل على الفضيلة من مائة كتاب ومن ألف كتاب؛ ولهذا يرسل الله النبي مع كل كتاب منزل؛ ليعطي الكلمة قوة وجودها، ويخرج الحالة النفسية من المعنى المعقول، وينشئ الفضائل الإنسانية على طريقة النسل من إنسانها الكبير. وما مثل الكتاب يتعلم المرء منه حقائق الأخلاق العالية، إلا كوضع الإنسان يده تحت إبطه؛ ليرفع جسمه عن الأرض؛ فقد أنشأ يعمل، ولكنه لن يرتفع؛ ومن ذلك كان شر الناس هم العلماء والمعلمين إذا لم تكن أخلاقهم دروسًا أخرى تعمل عملًا آخر غير الكلام؛ فإن أحدهم ليجلس مجلس المعلم، ثم تكون حوله رذائله تُعَلِّم تعليمًا آخر من حيث يدري ولا يدري، ويكون كتاب الله مع الإنسان الظاهر منه، وكتاب الشيطان مع الإنسان الخفي فيه. قال أبو علي: وقدمت إلى مصر؛ لأرى أبا الحسن وآخذ عنه وأحقق ما سمعت من خبره مع ابن طولون، فلما لقيته لقيت رجلًا من تلاميذ شيخنا الجنيد، يتلألأ فيه نوره ويعمل فيه سره؛ وهما كالشمعة، والشمعة في الضوء وإن صغرت واحدة وكبرت واحدة؛ وعلامة الرجل من هؤلاء أن يعمل وجوده فيمن حوله أكثر مما يعمل هو بنفسه، كأن بين الأرواح وبينه نسبًا شابكًا، فله معنى أبوة الأب في أبنائه؛ لا يراه من يراه منهم إلا أحس أنه شخصه الأكبر؛ فهذا هو الذي تكون فيه التكملة الإنسانية للناس، وكأنه مخلوق خاصة لإثبات أن غير المستطاع مستطاع. ومن عجيب حكمة الله أن الأمراض الشديدة تعمل بالعدوى فيمن قاربها أو لامسها، وأن القوى الشديدة تعمل كذلك بالعدوى فيمن اتصل بها أو صاحبها ولهذا يخلق الله الصالحين ويجعل التقوى فيهم إصابة كإصابة المرض: تصرف عن شهوات الدنيا كما يصرف المرض عنها، وتكسر النفس كما يكسرها ذاك، وتفقد الشيء ما هو به شيء، فتتحول قيمته، فلا يكون بما فيه من الوهم بل بما فيه من الحق. وإذا عدم الناس هذا الرجل الذي يعديهم بقوته العجيبة فقلما يصلحون للقوة، فكبار الصالحين وكبار الزعماء وكبار القواد وكبار الشجعان وكبار العلماء وأمثالهم -كل هؤلاء من باب واحد، وكلهم في الحكمة ككبار المرضى.

قال أبو علي: وهممت مرة أن أسأل الشيخ عن خبره مع ابن طولون فقطعتني هيبته، فقلت: أحتال بسؤاله عن كلمة شيخ الري: "لا أذاقك الله طعم نفسك"؛ وبينما أهيئ في نفسي كلامًا أجري فيه هذه العبارة، جاء رجل فقال للشيخ: لي على فلان مائة دينار، وقد ذهبت الوثيقة التي كتب فيها الدين، وأخشى أن ينكر إذا هو علم بضياعها؛ فادع الله لي وله أن يظفرني بديني وأن يثبته على الحق. فقال الشيخ: إني رجل قد كبرت وأنا أحب الحلوى، فاذهب فاشتر رطلًا منها وائتني به حتى أدعو لك! فذهب الرجل فاشترى الحلوى ووضعها له البائع في ورقة فإذا هي الوثيقة الضائعة، وجاء إلى الشيخ فأخبره، فقال له: خذ الحلوى فأطعمها صبيانك لا أذاقنا الله طعم أنفسنا فيما نشتهي! ثم إنه التفت إلي وقال: لو أن شجرة اشتهت غير ما به صحة وجودها وكمال منفعتها فأذيقت طعم نفسها لأكلت نفسها وذوت. قال أبو علي: والمعجزات التي تحدث للأنبياء، والكرامات التي تكون للأتقياء، وما يخرق العادة ويخرج عن النسق -كل ذلك كقول القدرة عن الرجل الشاذ: هو هذا. فلم تبق بي حاجة إلى سؤال الشيخ عن خبره مع ابن طولون، وكنت كأني أرى بعيني رأسي كل ما سمعت، بيد أني لم أنصرف حتى لقيت أبا جعفر القاضي أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري* ذاك الذي يحدث بكتب أبيه كلها من حفظه وهي واحد وعشرون مصنفًا فيها الكبير والصغير؛ فقال لي: لعلك اشتفيت من خبر بنان مع ابن طولون، فمن أجله زعمت جئت إلى مصر. قلت: إنه تواضع فلم يخبرني وهِبْته فلم أسأله. قال: تعال أحدثك الحديث. كان أحمد بن طولون** من جارية تركية، وكان طولون أبوه مملوكًا حمله نوح بن أسد عامل بخارى إلى المأمون فيما كان موظفًا عليه من المال والرقيق والبراذين وغير ذلك؛ فولد أحمد في منصب ذلة تستظهر بالطغيان، وكانت هاتان طبيعته إلى آخر عمره، فذهب بهمته مذهبًا بعيدًا، ونشأ من أول أمره على أن يتم هذا النقص ويكون أكبر من أصله، فطلب الفروسية والعلم والحديث، وصحب الزهاد وأهل الورع، وتميز على الأتراك وطمح إلى المعالي، وظل يرمي بنفسه، وهو

_ * توفي سنة322. ** كانت إمارة ابن طولون نحو 26 سنة، وتوفي سنة 270.

في ذلك يكبر ولا يزال يكبر، كأنما يريد أن ينقطع من أصله ويلتحق بالأمراء، فلما التحق بهم ظل يكبر؛ ليلحق بالملوك، فلما بلغ هؤلاء كانت نيته على ما يعلم الله. قال: وكان عقله من أثر طبيعتيه كالعقلين لرجلين مختلفين فله يد مع الملائكة ويده الأخرى مع الشياطين، فهو الذي بنى المارستان وأنفق عليه وأقام فيه الأطباء، وشرط إذا جيء بالعليل أن تنزع ثيابه وتحفظ عند أمين المارستان، ثم يلبس ثيابًا ويفرش له ويغدى عليه ويراح بالأدوية والأغذية والأطباء حتى يبرأ، ولم يكن هذا قبل إمارته؛ وهو أول من نظر في المظالم من أمراء مصر؛ وهو صاحب يوم الصدقة؛ يكثر من صدقاته كلما كثرت نعمة الله عليه، ومراتبه لذلك في كل أسبوع ثلاث آلاف دينار سوى مطابخه التي أقيمت في كل يوم في داره وغيرها، يذبح فيها البقر والكباش ويغرف للناس، ولكل مسكين أربعة أرغفة يكون في اثنين منها فالوذج* وفي الآخرين من القدور، وينادي: من أحب أن يحضر دار الأمير فليحضر! وتفتح الأبواب ويدخل الناس وهو في المجلس ينظر إلى المساكين ويتأمل فرحهم بما يأكلون ويحملون، فيسره ذلك ويحمد الله على نعمته؛ وكان راتب مطبخه في كل يوم ألف دينار؛ واقتدى به ابنه خمارويه، فأنشأ بعده مطبخ العامة** ينفق عليه ثلاثة وعشرين ألف دينار كل شهر. وقد بلغ ما أرسله ابن طولون إلى فقراء بغداد وعلمائها في مدة ولايته ألف ومائتي ألف دينار***، وكان كثير التلاوة للقرآن، وقد اتخذ حجرة بقربه في القصر وضع فيها رجالًا سماهم بالمكبرين، يتعاقبون الليل نوبًا يكبرون ويسبحون، ويحمدون ويهللون، ويقرءون القرآن تطويبًا، وينشدون قصائد الزهد، ويؤذنون أوقات الأذان؛ وهو الذي فتح أنطاكية في سنة خمس وستين ومائتين، ثم مضى إلى طرسوس كأنه يريد فتحها، فلما نابذه أهلها وقاتلهم أمر أصحابه أن ينهزموا عنها؛ ليبلغ ذلك طاغية الروم فيعلم أن جيوش ابن طولون على كثرتها وشدتها لم تقم لأهل طرسوس، فيكون بهذا كأنه قاتله وصده عن بلد من بلاد الإسلام، ويجعل هذا الخبر كالجيش في تلك الناحية! ومع كل ذلك فإنه كان رجلًا طائش السيف، يجور ويعسف، قد أحصى من

_ * نوع من الحلوى، وهو ما يسميه العامة "البالوظة". ** هذا هو الأصل في مطعم الشعب. *** الدينار نصف جنيه مصري فعدة ذلك مليون ومائة ألف جنيه، صدقاته على بغداد وحدها رحمه الله.

قتلهم صبرًا أو ماتوا في سجنه فكانوا ثمانية عشر ألفًا؛ وأمر بسجن قاضيه بكار بن قتيبة في حادثة معروفة. وقال له: غرك قول الناس ما في الدنيا مثل بكار؟ أنت شيخ قد خرقت! ثم حبسه وقيده وأخذ منه جميع عطاياه مدة ولايته القضاء، فكانت عشرة آلاف دينار، قيل إنها وجدت في بيت بكار بختمها لم يمسها زهدًا وتورعًا. ولما ذهب شيخك أبو الحسن بعنفه ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، طاش عقله فأمر بإلقائه إلى الأسد، وهو الخبر الذي طار في الدنيا حتى بلغك في بغداد.. قال: وكنت حاضرًا أمرهم ذلك اليوم، فجيء بالأسد من قصر ابنه خمارويه وكان خمارويه هذا مشغوفًا بالصيد، لا يكاد يسمع بسبع في غيضة أو بطن وادٍ إلا قصده ومعه رجال عليهم لبود، فيدخلون إلى الأسد ويتناولونه بأيديهم من غابه عنوة وهو سليم، فيضعونه في أقفاص من خشب محكمة الصنعة يسع الواحد منها السبع وهو قائم. وكان الأسد الذي اختاره للشيخ أغلظ ما عندهم، جسيمًا، ضاربًا، عارم الوحشية، متزيل العضل، شديد عصب الخلق، هراسًا، فراسًا، أهرت الشدق يلوح شدقه من سعته وروعته كفتحة القبر ينبئ أن جوفه مقبرة، ويظهر وجهه خارجًا من لبدته، يهم أن ينقذف على من يراه فيأكله! وأجلسوا الشيخ في قاعة وأشرفوا عليه ينظرون، ثم فتحوا باب القفص من أعلاه فجذبوه فارتفع؛ وهجهجوا بالأسد يزجرونه، فانطلق يزمجر ويزأر زئيرًا تنشق له المرائر، ويتوهم من يسمعه أنه الرعد وراءه الصاعقة! ثم اجتمع الوحش في نفسه واقشعر، ثم تمطى كالمنجنيق يقذف الصخرة، فما بقي من أجل الشيخ إلا طرفة عين؛ ورأيناه على ذلك ساكنًا مطرقًا لا ينظر إلى الأسد ولا يحفل به، وما منا إلا من كاد ينهتك حجاب قلبه من الفزع والرعب والإشفاق على الرجل. ولم يرعنا إلا ذهول الأسد عن وحشيته، فأقعى على ذنبه، ثم لصق بالأرض هنيهة يفترش ذراعيه، ثم نهض نهضة أخرى كأنه غير الأسد، فمشى مترفقا ثقيل الخطو تسمع لمفاصله قعقعة من شدته وجسامته، وأقبل على الشيخ وطفق يحتك به ويلحظه ويشمه كما يصنع الكلب مع صاحبه الذي يأنس به، وكأنه يعلن أن هذه ليست مصاولة بين الرجل التقي والأسد، ولكنها مبارزة بين إرادة ابن طولون وإرادة الله!

وضربته روح الشيخ فلم يبق بينه وبين الآدمي عمل، ولم يكن منه بإزاء لحم ودم، فلو أكل الضوء والهواء والحجر والحديد، كان ذلك أقرب وأيسر من أن يأكل هذا الرجل المتمثل في روحانيته لا يحس لصورة الأسد معنى من معانيها الفاتكة، ولا يرى فيه إلا حياة خاضعة مسخرة للقوة العظمى التي هو مؤمن بها ومتوكل عليها، كحياة الدودة والنملة وما دونها من الهوام والذر! وورد النور على هذا القلب المؤمن يكشف له عن قرب الحق سبحانه وتعالى، فهو ليس بين يدي الأسد ولكنه هو والأسد بين يدي الله، وكان مندمجًا في يقين هذه الآية: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} . ورأى الأسد رجلًا هو خوف الله، فخاف منه، وكما خرج الشيخ من ذاته ومعانيها الناقصة، خرج الوحش من ذاته ومعانيها الوحشية؛ فليس في الرجل خوف ولا هم ولا جزع ولا تعلق برغبة، ومن ذلك ليس في الأسد فتك ولا ضراوة ولا جوع ولا تعلق برغبة. ونسي الشيخ نفسه فكأنما رآه الأسد ميتًا ولم يجد فيه "أنا" التي يأكلها، ولو أن خطرة من هم الدنيا خطرت على قلبه في تلك الساعة أو اختلجت في نفسه خالجة من الشك، لفاحت رائحة لحمه في خياشيم الأسد فتمزق في أنيابه ومخالبه. قال: وانصرفنا عن النظر في السبع إلى النظر في وجه الشيخ، فإذا هو ساهم مفكر، ثم رفعوه وجعل كل منا يظن ظنًّا في تفكيره، فمن قائل: إنه الخوف أذهله عن نفسه، وقائل: إنه الانصراف بعقله إلى الموت، وثالث يقول: إنه يكون الفكرة لمنع الحركة عن الجسم فلا يضطرب، وزعم جماعة أن هذه حالة من الاستغراق يسحر بها الأسد؛ وأكثرنا في ذلك وتجارينا فيه، حتى سأله ابن طولون: ما الذي كان في قلبك وفيم كنت تفكر؟ فقال الشيخ: لم يكن علي بأس، وإنما كنت أفكر في لعاب الأسد، أهو طائر أم نجس..

أمراء للبيع

أمراء للبيع: قال الشيخ تاج الدين محمد بن علي المقلب طوير الليل، أحد أئمة الفقهاء بالمدرسة الظاهرية بالقاهرة*: كان شيخنا الإمام العظيم شيخ الإسلام تقي الدين بن مجد الدين بن دقيق العيد** لا يخاطب السلطان إلا بقوله: "يا إنسان"! فما يخشاه ولا يتعبد له ولا ينحله ألقاب الجبروت والعظمة ولا يزينه بالنفاق ولا يداجيه كما يصنع غيره من العلماء؛ وكان هذا عجيبًا؛ غير أن تمام العجب أن الشيخ لم يكن يخاطب أحدًا قط من عامة الناس إلا بهذا اللفظ عينه: "يا إنسان"؛ فما يعلو بالسلطان والأمراء ولا ينزل بالضعفاء والمساكين، ولا يرى أحسن ما في هؤلاء وهؤلاء إلا الحقيقة الإنسانية! ثم كان لا يعظم في الخطاب إلا أئمة الفقهاء فإذا خاطب منهم أحدًا قال له: "يا فقيه"؛ على أنه لم يكن يسمح بهذا إلا لمثل شيخ الإسلام نجم الدين ابن الرقعة***، ثم يخص علاء الدين بن الباجي وحده بقوله: "يا إمام"؛ إذ كان آية من آيات الله في صناعة الحجة، لا يكاد يقطعه أحد في المناظرة والمباحثة؛ فهو كالبرهان. إجلاله إجلال الحق؛ لأن فيه المعنى وتثبيت المعنى. وقلت له يومًا: يا سيدي، أراك تخاطب السلطان بخطاب العامة؛ فإن علوت قلت: "يا إنسان"، وإن نزلت قلت: "يا إنسان"؛ أفلا يسخطه هذا منك وقد تذوَّق حلاوة ألفاظ الطاعة والخضوع، وخصه النفاق بكلمات هي ظل الكلمات التي يوصف الله بها، ثم جعله الملك إنسانًا بذاته في وجود ذاته، حتى أصبح من غيره كالجبل والحصاة؛ يستويان في العنصر ويتباينان في القدر، وأقله مهما قل هو أكثرها مهما عظمت، ووجوده شيء ووجودها شيء آخر؟

_ * توفي سنة 717هـ. ** كانت وفاته سنة 702. *** توفي سنة 710.

فتبسم الشيخ وقال: يا ولدي، إيش هذا؟ إننا نفوس ألفاظ، والكلمة من قائلها هي بمعناها في نفسه لا بمعناها في نفسها؛ فما يحسن بحامل الشريعة أن ينطق بكلام يرده الشرع عليه؛ ولو نافق الدين لبطل أن يكون دينًا، ولو نافق العالم الديني لكان كل منافق أشرف منه؛ فلطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود، والمنافق رجل مغطى في حياته، ولكن عالم الدين رجل مشكوف في حياته لا مغطى؛ فهو للهداية لا للتلبيس، وفيه معاني النور لا معاني الظلمة؛ وذاك يتصل بالدين من ناحية العمل، فإذا نافق فقد كذب؛ والعالم يتصل بالدين من ناحية العمل وناحية التبيين، فإذا نافق فقد كذب وغش وخان. وما معنى العلماء بالشرع إلا أنهم امتداد لعمل النبوة في الناس دهرًا بعد دهر، ينطقون بكلمتها، ويقومون بحجتها، ويأخذون من أخلاقها كما تأخذ المرآة النور، تحويه في نفسها وتلقيه على غيرها، فهي أداةٌ لإظهاره وإظهار جماله معًا. أتدري يا ولدي ما الفرق بين علماء الحق وعلماء السوء وكلهم آخذ من نور واحد لا يختلف؟ إن أولئك في أخلاقهم كاللوح من البلور؛ يظهر النور نفسه فيه ويظهر حقيقته البلورية؛ وهؤلاء بأخلاقهم كاللوح من الخشب يظهر النور حقيقته الخشبية لا غير! وعالم السوء يفكر في كتب الشريعة وحدها؛ فيسهل عليه أن يتأول ويحتال ويغير ويبدل ويظهر ويخفي؛ ولكن العالم الحق يفكر مع كتب الشريعة في صاحب الشريعة، فهو معه في كل حالة يسأله ماذا تفعل وماذا تقول؟ والرجل الديني لا تتحول أخلاقه ولا تتفاوت ولا يجيء كل يوم من حوادث اليوم، فهو بأخلاقه كلها، لا يكون مرة ببعضها ومرة ببعضها، ولن تراه مع ذوي السلطان وأهل الحكم والنعمة كعالم السوء هذا الذي لو نطقت أفعاله لقالت لله بلسانه: هم يعطوني الدراهم والدنانير فأين دراهمك أنت ودنانيرك؟ إن الدينار يا ولدي إذا كان صحيحًا في أحد وجهيه دون الآخر، أو في بعضه دون بعضه، فهو زائف كله؛ وأهل الحكم والجاه حين يتعاملون مع هؤلاء يتعاملون مع قوة الهضم فيهم ... فينزلون بذلك منزلة البهائم؛ تقدم أعمالها لتأخذ بطونها، والبطن الآكل في العالم السوء يأكل دين العالم فيما يأكله.. فإذا رأيت لعلماء السوء وقارًا فهو البلادة، أو رقة فسمها الضعف، أو محاسنة فقل إنها النفاق، أو سكوتًا عن الظلم فتلك رشوة يأكلون بها!

قال الإمام: وما رأيت مثل شيخي سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام* فلقد كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيئًا تصنعه طبيعته كما يصنع جسمه الحياة، فلا يبالي هلك فيه أو عاش؛ إذ هو في الدم كالقلب، لا تناله يد صاحبه ولا يد غيره؛ ولم يتعلق بمال ولا جاه ولا ترف ولا نعيم، فكان تجرده من أوهام القوة لا تغلب؛ وانتزع خوف الدنيا من قلبه فغمرته الروح السماوية التي تخيف كل شيء ولا تخاف؛ وكان بهذه الروح كأنه تحويل وتبديل في طباع الناس، حتى قال الملك الظاهر بيبرس وقد رأى كثرة الخلْق في جنازته حين مرَّت تحت القلعة: الآن استقر أمري في الملك، فلو أن هذا الشيخ دعا الناس إلى الخروج علي لانتزع مني المملكة! وكان سلطانه في دمشق الصالح إسماعيل، فاستنجد بالإفرنج على الملك نجم الدين أيوب سلطان مصر؛ فغضب الشيخ وأسقط اسم الصالح من الخطبة وخرج مهاجرًا، فأتبعه الصالح بعض خواصه يتلطف به ويقول له: ما بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وأكثر مما كنت عليه إلا أن تتخشع للسلطان وتقبل يده. فقال له الشيخ: يا مسكين! أنا لا أرضى أن يقبل السلطان يدي! أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ! ثم قدم إلى مصر في سنة 639، فأقبل عليه السلطان نجم الدين أيوب وتحلى به وولاه خطابة مصر وقضاءها، وكان أيوب ملكًا شديد البأس، لا يجسر أحد أن يخاطبه إلا مجيبا، ولا يتكلم أحد بحضرته ابتداء؛ وقد جمع من المماليك الترك ما لم يجتمع مثله لغيره من أهل بيته، حتى كان أكثر أمراء عسكره منهم، وهم معروفون بالخشونة والبأس والفظاظة والاستهانة بكل أمر؛ فلما كان يوم العيد صعد إليه الشيخ وهو يعرض الجند ويظهر ملكه وسطوته والأمراء يقبلون الأرض بين يديه؛ فناداه الشيخ بأعلى صوته؛ ليسمع هذا الملأ العظيم: يا أيوب! ثم أمره بإبطال منكرٍِ انتهى إلى علمه في حانة تباع فيها الخمر؛ فرسم السلطان لوقته بإبطال الحانة واعتذر إليه. فحدثني الباجي قال: سألت الشيخ بعد رجوعه من القلعة وقد شاع الخبر، فقلت: يا سيدي، كيف كانت الحال؟ قال: يا بني، رأيته في تلك العظمة فخشيت على نفسه أن يدخلها الغرور فتبطره فكان ما باديته به. قلت: أما خِفتَه؟

_ * هو الإمام العظيم شيخ الإسلام عبد العزيز بن عبد السلام بركة الدنيا في عصره، توفي سنة660.

قال: يا بني، استحضرت هيبة الله تعالى فكان السلطان أمامي كالقط* ولو أن حاجة من الدنيا كانت في نفسي لرأيته الدنيا كلها؛ بيد أني نظرت بالآخرة فامتدت عيني فيه إلى غير المنظور للناس، فلا عظمة ولا سلطان ولا بقاء ولا دنيا، بل هو لا شيء في صورة شيء. نحن يا ولدي مع هؤلاء كالمعنى الذي يصحح معنى آخر، فإذا أمرناهم، فالذي يأمرهم فينا هو الشرع لا الإنسان، وهم قوم يرون لأنفسهم الحق في إسكات الكلمة الصحيحة أو طمسها أو تحريفها؛ فما بد أن يقابلوا من العلماء والصالحين بمن يرون لأنفسهم الحق في إنطاق هذه الكلمة وبيانها وتوضيحها؛ فإذا كان ذلك فههنا المعنى بإزاء المعنى؛ فلا خوف ولا مبالاة ولا شأن للحياة والموت. وإنما الشر كل الشر أن يتقدم إليهم العالم لحظوظ نفسه ومنافعها، فيكون باطلًا مزورًا في صورة الحق؛ وههنا تكون الذات مع الذات، فيخشع الضعف أمام القوة، ويذل الفقر بين يدي الغنى، وترجو الحياة لنفسها وتخشى على نفسها؛ فإذا العالم من السلطان كالخشبة البالية النخرة حاولت أن تقارع السيف! كلا يا ولدي! إن السلطان والحكام أدوات يجب تعيين عملها قبل إقامتها، فإذا تفككت واحتاجت إلى مسامير دقت فيها المسامير؛ وإذا انفتق الثوب فمن أين للإبرة أن تسلك بالخيط الذي فيها إذا هي لم تخُزّه؟ إن العالم الحق كالمسمار؛ إذا أوجد المسمار لذاته دون عمله كفرت به كل خشبة.. قال الإمام تقي الدين: وطغى الأمراء من المماليك وثقلت وطأتهم على الناس؛ وحيثما وجدت القوة المسلطة المستبدة جعلت طغيانها واستبدادها أدبًا وشريعة؛ إلا أن تقوم بأزائها قوة معنوية أقوى منها؛ ففكر شيخنا في هؤلاء الأمراء، وقال: إن خداع القوة الكاذبة لشعور الناس باب من الفساد؛ إذ يحسبون كل حسن منها هو الحسن، وإن كان قبيحًا في ذاته ولا أقبح منه؛ ويرون كل قبيح عندها هو القبيح، وإن كان حسنًا ولا أحسن منه. وقال: ما معنى الإمارة والأمراء؟ وإنما قوة الكل الكبير هي عماد الفرد الكبير، فلكل جزء من هذا الكل حقه وعمله؛ وكان ينبغي أن تكون هذه الإمارة

_ * هذه كلمات الشيخ بحروفها.

أعمالًا نافعة قد كبرت وعظمت فاستحقت هذا اللقب بطبيعة فيها كطبيعة أن العشرة أكثر من الواحد، لا أهواء وشهوات ورذائل ومفاسد تتخذ لقبها في الضعفاء بطبيعة كطبيعة أن الوحش مفترس. وفكر الشيخ فهداه تفكيره إلى أن هؤلاء الأمراء مماليك، فحكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين، ويجب شرعًا بيعهم كما يباع الرقيق! وبلغهم ذلك فجزعوا له وعظم فيه الخطب عليهم؛ ثم احتدم الأمراء وأيقنوا أنهم بإزاء الشرع لا بإزاء القاضي ابن عبد السلام. وأفتى الشيخ أنه لا يصح لهم بيع ولا شراء ولا زواج ولا طلاق ولا معاملة، وأنه لا يصحح لهم شيئًا من هذا حتى يباعوا ويحصل عنقهم بطريق شرعي! ثم جعلوا يتسببون إلى رضاء، ويتحملون عليه بالشفاعات، وهو مُصِرٌّ لا يعبأ بجلالة أخطارهم، ولا يخشى اتسامه بعداوتهم، فرفعوا الأمر إلى السلطان، فأرسل إليه فلم يتحول عن رأيه وحكمه. واستشنع السلطان فعله وحنق عليه وأنكر منه دخوله فيما لا يعنيه، وقبح عمله وسياسته وما تطاول إليه، وهو رجل ليس له إلا نفسه وما تكاد تصل يده إلى ما يقيمه وهم وافرون وفي أيديهم القوة ولهم الأمر والنهي. وانتهى ذلك إلى الشيخ الإمام فغضب ولم يبالِ بالسلطان ولا كبر عليه إعراضه، وأزمع الهجرة من مصر، فاكترى حميرًا أركب أهله وولده عليها ومشى هو خلفهم يريد الخروج إلى الشام، فلم يبعد إلا قليلًا نحو نصف بريد حتى طار الخبر في القاهرة ففزع الناس وتبعوه لا يتخلف منهم رجل ولا امرأة ولا صبي، وصار فيهم العلماء والصلحاء والتجار والمحترفون كأن خروجه خروج نبي من بين المؤمنين به، واستعلنت قوة الشرع في مظهرها الحاكم الآمر من هذه الجماهير، فقيل للسلطان: إن ذهب هذا الرجل ذهب ملكك! فارتاع السلطان، فركب بنفسه ولحق بالشيخ يترضاه ويستدفع به غضب الأمة، وأطلق له أن يأمر بما شاء، وقد أيقن أنه ليس رجل الدينار والدرهم والعيش والجاه ولبْس طيلسان العلماء كما يلصق الريش على حجر في صورة الطائر. ورجح الشيخ وأمر أن يعقد المجلس ويجمع الأمراء وينادي عليهم للمساومة في بيعهم، وضرب لذلك أجلًا بعد أن يكون الأمر قد تعالمه كل القاهرة؛ ليتهيأ من يتهيأ للشراء والسوم في هذا الرقيق الغالي!

وكان من الأمراء المماليك نائب السلطنة، فبعث إلى الشيخ يلاطفه ويسترضيه، فلم يعبأ الشيخ به؛ فهاج هائجه وقال: كيف يبيعنا هذا الشيخ وينادي علينا وينزلنا منزلة العبيد ويفسد محلنا من الناس ويبتذل أقدارنا ونحن ملوك الأرض؟ وما الذي يفقد هذا الشيخ من الدنيا فيدرك ما نحن فيه؟ إنه يفقد ما لا يملك، ويفقد غير الموجود، فلا جرم لا يبالي ولا يرجع عن رأيه ما دام هذا الرأي لا يمر في منافعه، ولا في شهواته ولا في أطماعه، كالذين نراهم من علماء الدنيا؛ أما والله لأضربنه بسيفي هذا، فما يموت رأيه وهو حي. ثم ركب النائب في عسكره وجاء إلى دار الشيخ واستل سيفه وطرق الباب، فخرج ابنه عبد اللطيف ورأى ما رأى فانقلب إلى أبيه وقال له: انج بنفسك، إنه الموت، وإنه السيف، وإنه وإنه ... فما اكترث الشيخ لذلك ولا جزع ولا تغير، بل قال له: يا ولدي! أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله! وخرج لا يعرف الحياة ولا الموت، فليس فيه الإنساني بل الإلهي، ونظر إلى نائب السلطنة وفي يده السيف، فانطلقت أشعة عينيه في أعصاب هذه اليد فيبست ووقع السيف منها. وتناوله بروحه القوية، فاضطرب الرجل وتزلزل وكأنما تكسر من أعصابه فهو يرعد ولا يستقر ولا يهدأ. وأخذ النائب يبكي ويسأل الشيخ أن يدعو له؛ ثم قال: يا سيدي، ما تصنع بنا؟ قال الشيخ: أنادي عليكم وأبيعكم! وفيم تصرف ثمننا؟ في مصالح المسلمين. ومن يقبضه؟ أنا. وكان الشرع هو الذي يقول: "أنا"، فتم للشيخ ما أراد، ونادى على الأمراء واحدًا واحدًا، واشتط في ثمنهم، لا يبيع الواحد منهم حتى يبلغ الثمن آخر ما يبلغ؛ وكان كل أمير قد أعد من شيعته جماعة يستامونه؛ ليشتروه ... ودمغ الظلم والنفاق والطغيان والتكبر والاستطالة على الناس بهذه الكلمة التي أعلنها الشرع: أمراء للبيع! أمراء للبيع..

العجوزان1

العجوزان "1": قال محدثي: التقى هذان الشيخان بعد فراق أربعين سنة، وكانت مثابتهما* ذلك المكان القائم على شاطئ البحر في إسكندرية في جهة كذا؛ وهما صديقان كانا في صدر أيامهما -حين كانت لهما أيام ... رجلي حكومة يعملان في ديوان واحد، وكانا في عيشهما أخويِّ جدٍّ وهزلٍ، وفضائلَ ورذائلَ، يجتمعان دائمًا اجتماع السؤال والجواب، فلا تنقطع وسيلة أحدهما من الآخر؛ وكأن بينهما في الحياة قرابة الابتسامة من الابتسامة والدمعة من الدمعة. ولبثا كذلك ما شاء الله، ثم تبددا وأخذتهما الآفاق كدأب "الموظفين"؛ ينتظمون وينتشرون، ولا يزال أحدهم ترفعه أرض وتخفضه أخرى، وكأن "الموظف" من تفسير قوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] ! وافترق الصديقان على مضض، وكثيرًا ما يكون أمر الحكومة بنقل بعض "موظفيها" هو أمرها بتمزيق بعضهم من بعض؛ ثم تصرفت بهما الدنيا فذهبا على طرفي طريق لا يلتقيان، وأصبح كلاهما من الآخر كيومه الذي مضى.. يحفظ ولا يرى.. قال المحدث: وكنت مع الأستاذ "م"، وهو رجل في السبعين من عمره، غير أنه يقول عن نفسه إنه شاب لم يبلغ من العمر إلا سبعين سنة.. ويزعم أن في جمسه الناموس الأخضر الذي يحيي الشجرة حياة واحدة إلى الآخر. رجل فارهٌ، متأنق، فاخر البزة، جميل السمت، فارع الشطاط** كالمصبوب في قالب لا عوج فيه ولا انحناء، مجتمع كله لم يذهب منه شيء، قد حفظته

_ * أي المكان الذي اجتمعا فيه بعد التفرق. ** ممتد الطول.

أساليب القوة التي يعانيها في رياضته اليومية؛ وهو منذ كان في آنفته وشبابه لا يمشي إلا مستأخر الصدر* مشدود الظهر، مرتفع العنق، مسندًا قفاه إلى طوقه؛ وبذلك شب وشاب على استواء واحد، وكلما سئل عن سر قامته وعوده لم يزد على قوله: إن هذا من عمل إسناد القفا**. وهو دائمًا عطر عبق، ثم لا يمس إلا عطرًا واحدًا لا يغيره، يرى أن هذا الطيب يحفظ خيال الصبي، وأنه يبقي للأيام رائحتها. وله فلسفة من حسه لا من عقله، ولفلسفته قواعد وأصول ثابتة لا تتغير، ومن بعض قواعدها الزهر، ومن بعضها الموسيقى، ومن بعضها الصلاة أيضًا؛ وكل تلك هي عنده قواعد لحفظ الشباب. ومن فلسفته أن مبادئ الشباب وعاداته إذا هي لم تتغير اتصل الشباب فيها واطرد في الروح، فتكون من ذلك قوة تحرس قوة اللحم والدم، وتمسك على الجسم حالته النفسية الأولى. وهو يزيد في حكمة الصلاة فكرة رياضية عملية لم ينتبه إليها أحد، هي رياضة البطن والأمعاء بالركوع والسجود والقيام؛ ويقول: إن ثروة الصلاة تكنز في صندوقين: أحدهما الروح لما بعد الموت، والآخر البطن لما قبل الموت؛ ويرى أن الإسلام لم يفرض صلاة الصبح قبل الشمس إلا ليجعل الفجر ينصب في الروح كل يوم. قال المحدث: وبينما نحن جالسان مر بنا شيخ أعجف مهزول موهون في جسمه، يدلف متقاصر الخطو كأن حمل السنين على ظهره، مرعش من الكبر، مستقدم الصدر منحنٍ يتوكأ على عصًا، ويدل انحناؤه على أن عمره قد اعوج أيضًا، وهو يبدو في ضعفه وهزاله كأن ثيابه ملئت عظامًا لا إنسانًا، وكأنها ما خبطت إلا لتمسك عظمًا على عظم.. قال: فحملق إليه "م" ثم صاح: رينا! رينا. فالتفت العجوز، وما كاد يأخذنا بصره حتى انفتل إليه وأقبل ضاحكًا يقول: أوه!. ريت، ريت! ونهض "م" فاحتضنه وتلازما طويلًا، وجعل رأساهما يدوران ويتطوَّحان،

_ * يقال مستقدم الصدر، للهرم المحني الظهر؛ فأخذنا منها مستأخر الصدر، وذلك بروزه حين يكون مشدودًا، فيكون أعلاه إلى الوراء. ** هذه حقيقة رياضية، ولها أقوى الأثر في شد الجسم وانتصاب القامة إذا اعتادها الإنسان.. والمراد بالطوق: البنيقة "الياقة".

وكلاهما يقبل صاحبه قبلًا ظمئة لا عهد لي بمثلها في صديقين، حتى لخيل إلي أنهما لا يتعانقان ولا يتلاءمان، ولكن بينهما فكرة يعتنقانها ويقبلانها معًا.. وقلت: ما هذا أيها العجوزان؟ فضحك "م" وقال: هذا صديقي القديم "ن"، تركته منذ أربعين سنة معجزة من معجزات الشباب، فها هو ذا معجزة أخرى من معجزات الهرم، ولم يبق منه كاملًا إلا اسمه ... ثم التفت إليه وقال: كيف أنت يا رينا؟ قال العجوز "ن": لقد أصبحت كما ترى؛ زاد العمر في رجلي رجلًا من هذه العصا، ورجع مصدر الحياة في مصدرًا للآلام والأوجاع ودخلت في طبيعتي عادة رابعة من تعاطي الدواء. فضحك "م" وقال: قبح الله هذه الدخيلة، فما هي العادات الثلاث الأصلية؟ قال العجوز: هي الأكل والشرب والنوم.. ثم أنت يا ريت كيف تقرأ الصحف الآن؟ قال "م": أقرؤها كما يقرؤها الناس، فما سؤالك عن هذا؟ وهل تقرأ الصحف يومًا غير ما تقرأ في يوم؟ قال: آه! إن أول شيء أقرأ في الصحف أخبار الوفيات؛ لأرى بقايا الدنيا، ثم "إعلانات الأدوية" ... ولكن كيف أنت يا ريت؟ إني لأراك ما تزال من وراء أربعين سنة في ذلك العيش الرخي، وأراك تحمل شيخوختك بقوة كأن الدهر لم يخرمك من هنا ولا من هنا، وكأنه يلمسك بأصابعه لا بمساميره، فهل أصبت معجزة من معجزات العلم الحديث؟ قال: نعم. قال: ناشدتك الله، أفي معجزات العلم الحديث معجزة لعظمي؟ قال "م": ويحك يا رينا! إنك على العهد لم تبرح كما كنت مزبلة أفكار.. ماذا يصنع فيك العلم الحديث وأنت كما رأى بمنزلة بين العظم والخشب؟! قال المحدث: وضحكنا جميعًا، ثم قلت للأستاذ "م": ولكن ما "رينا وريت"؟ وما هذه اللغة؟. وفي أي معجم تفسيرها؟ قال: فتغامز الشيخان، ثم قال "م": يا بني، هذه لغة ماتت معانيها وبقيت ألفاظها، فهي كتلك الألفاظ الأثرية الباقية من الجاهلية الأولى.

قلت: ولكن الجاهلية الأولى لم تنقضِ إلا فيكما ... ولا يزال كل شاب في هذه الجاهلية الأولى، وما أحسب "رينا، وريت" في لغتكما إلا بمعنى "سوسو، وزوزو" في اللغة الحديثة؟ فقال "م": اسمع يا بني: إن رجل سنة 1935* متى سأل فيَّ رجل سنة 1895: ما معنى رينا وريت؟ فرد عليه: إن "رينا" معناها "كاترينا"؛ وكان "ن" بها صبًّا مغرمًا، وكان مقتتلًا قتله حبها. أما "ريت" فهو لا يعرف معناها. فامتعض العجوز "ن"، وقال: سبحان الله! اسمع يا بني: أن رجل سنة 1895 فيَّ يقول لك: إن "ريت" معناها "مرغريت"، وكانت الجوى الباطن وكانت اللوعة والحريق الذي لا ينطفئ في قلب الأستاذ "م". قلت: فأنتما أيها العجوزان من عشاق سنة 1895، فكيف تريان الحب الآن؟ قال العجوز "ن": يا بني، أن أواخر العمر كالمنفي.. ونحن نتكلم بالألفاظ التي تتكلم بها أنت وأنتما وأنتم.. غير أن المعاني تختلف اختلافًا بعيدًا. قلت: واضرب لهم مثلًا. قال: واضرب لهم مثلًا كلمة "الأكل"، فلها عندنا ثلاثة معانٍ: الأكل وسوء الهضم، ووجع المعدة؛ وكلمة "المشي" فلها أيضًا ثلاثة معانٍ: المشي، والتعب، وغمزات العظم ... وكلمة "النسيم"، النسيم العليل يا بني، زيد لنا في معناها: تحرك "الروماتيزم".. فضحك "م" وقال: يا شيخ.. قال العجوز: وتلك الزيادة يا بني لا تجيء إلا من نقص، فهنا بقية من يدين، وبقية من رجلين، وبقية من بطن، وبقية من، ومن، ومن ... ومجموع كل ذلك بقية من إنسان. قال الأستاذ "م": والبقية في حياتك. قال "ن": وبالجملة يا بني فإن حركة الحياة في الرجل الهرم تكون حول ذاتها لا حول الأشياء؛ وما أعجب أن تكون أقصر حركتي الأرض حول نفسها كذلك، وإذا قال الشاب في مغامرته: ليمض الزمن ولتتصرم الأيام! فإن الأيام هي التي تتصرم والزمن هو الذي يمر؛ أما الشيوخ فلن يتمنوه أبدًا؛ فمن قال منهم: ليمض الزمن، فكأنما قال: فلأمض أنا..

_ * كانت هذه القصة في صيف سنة 1935 في اسكندرية.

فصاح "م": يا شيخ يا شيخ.... ثم قال العجوز: واعلم يا بني أن العلم نفسه يهرم مع الرجل الهرم، فيصبح مثله ضعيفًا لا غناء عنده ولا حيلة له؛ وكل مصانع لنكشير ومصانع بنك مصر واليابان والأمريكتين، وما بقي من مصانع الدنيا، لا فائدة من جميعها؛ فهي عاجزة أن تكسر عظامي ... قال المحدث: فقهقه الأستاذ "م"، وقال: كدت والله أتخشب من هذا الكلام، وكادت معاني العظم تخرج من عظامي؛ لقد كان المتوحشون حكماء في أمر شيوخهم، فإذا علت السن بجماعة منهم لم يتركوهم أحياء إلا بامتحان، فهم يجمعونهم ويلجئونهم إلى شجرة غضة لينة المهزة، فيكرهونهم أن يصعدوا فيها ثم يتدلوا منها وقد عقلت أيديهم بأغصانها؛ فإذا صاروا على هذه الهيئة اجتمع الأشداء من فتيان القبيلة فيأخذون بجذع الشجرة يرجونها وينفضونها ساعة من نهار؛ فمن ضعفت يداه من أولئك الشيوخ أو كلت حوامل ذراعيه فأفلت الغصن الذي يتعلق به فوقع، أخذوه فأكلوه؛ ومن استمسك أنزلوه فأمهلوه إلى حين! فاقشعر العجوز "ن"، وقال: أعوذ بالله! هذه شجرة تخرج في أصل الجحيم، ولعنها الله من حكمة، فإنما يطبخونهم في الشجرة قبل الأكل، أو هم يجعلونهم كذلك؛ ليتوهموهم طيورًا فيكون لحمهم أطيب وألذ، ويتساقطون عليهم من الشجرة حمائم وعصافير. قال "م": إن كان في الوشيحة منطق فليس في هذا المنطق "باب لم"، ولا "باب كيف"، ولو كان بهم أن يأكلوهم، غير أنها تربية الطبيعة لأهل الطبيعة؛ فإن رؤية الرجل هذه الشجرة وهزها وعاقبتها يبعد عنه الضعف والتخلخل، ويدفعه إلى معاناة القوة، ويزيد نفسه انتشارًا على الحياة وطمعًا فيها وتنشطًا لأسبابها، فيكون ساعده آخر شيء يهرم، ولا يزال في الحدة والنشاط والوثبان؛ فلا يعجز قبل يومه الطبيعي، ويكون المتوحشون بهذا قد احتالوا على الطبيعة البشرية فاضطروها إلى مجهودها، وأكرهوها على أن تبذل من القوة ما يسع الجسم. قال "ن": فنعم إذن، ولعن الله معاني الضعف؛ كدت والله أظن أني لم أكن يومًا شابًّا، وما أراك إلا متوحشًا تخاف أن تؤكل، فتظل شيخًا رجلًا لا شيخًا طفلًا، وترى العمر كما يرى البخيل ذهبه: مهما يبلغ فكثرته غير كثيرة.

قال المحدث: وأضجرني حوارهما؛ إذ لم يعد فيه إلا أن جسم هذا يرد على جسم هذا؛ وإنما الشيخ من أمثال هؤلاء زمان يتكلم ويقص ويعظ وينتقد، ولن يكون الشيخ معك في حقيقته إن لم ترحل أنت فيه إلى دنيا قديمة؛ فقلت لهما: أيها العجوزان! أريد أن أسافر إلى سنة 1895 ...

العجوزان2

العجوزان * "2": قال محدثي: ولما قلت لهما: أيها العجوزان، أريد أن أسافر إلى سنة 1895 نظر إلي العجوز الظريف "ن"، وقال: يا بني، أحسب رؤيتك إياي قد دنت بك من الآخرة ... فتريد أن نلوذ بأخبار شبابنا؛ لتنظر إلينا وفينا روح الدنيا. قال الأستاذ "م": وكيف لا تريه الآخرة وأكثرك الآن في "المجهول"؟ قال: ويحك يا "م"! لا تزال على وجهك مسحة من الشيطان هنا وهنا؛ كأن الشيطان هو الذي يصلح في داخلك ما اختل من قوانين الطبيعة، فلا تستبين فيك السن وقد نيفت على السبعين، وما أحسب الشيطان في تنظيفك إلا كالذي يكنس بيته.. قال "م": فأنت أيها العجوز الصالح بيت قد تركه الشيطان وعلق عليك كلمة "الإيجار".. فضحك "ن"، وقال: تالله إن الهرم لهو إعادة درس الدنيا، وفهمها مرة أخرى فهمًا لا خطأ فيه؛ إذ ينظر الشيخ بالعين الطاهرة، ويسمع بالأذن الطاهرة،

_ * الجمهور من أهل اللغة على أن "العجوز" وصف خاص بالمرأة إذا شاخت وهرمت، ولكن جاء في اللسان: "ويقال للرجل عجوز"، ونقله صاحب التاج عن الصاغاني، ونحن على هذا الرأي، ولو لم يأت فيه نص عن العرب لابتدعناه وزدناه في اللغة؛ ووجهه عندنا أن الرجل والمرأة إذا بلغا الهرم فقدا خصائص الذكورة والأنوثة، فلم يعودا رجلًا وامرأة، فاستويا في العجز، فكان الرجل قمينًا أن يشارك المرأة في وصفها، فيقع اللفظ عليهما جميعًا! وإنما امتنع العرب أن يقولوا للرجل "عجوز"، وخصوا ذلك بالمرأة، تعسفًا وظلمًا وطغيانًا، كدأبهم مع النساء، فإذا شاخت المرأة فقد بطلت أنوثتها عندهم وعجزت عن حاجة الرجل وعجزت في كثير، ونفتها الطبيعة وبرأت منها؛ أما الرجل فبالخلاف؛ لأنه رجل؛ وإذا شاخ وبطل وعجز ولم يستطع أن يكابر في المعنى- كابر في اللفظ.. وأبى أن يقال إنه "عجوز"، وزعم أن ذلك خاص بالمرأة.. إلا أن هذا تزوير في اللغة، وإن كان للرجال عليهن درجة فذلك في أوصاف القدرة لا في أوصاف العجز!

ويلمس باليد الطاهرة ... وتالله إن الشيطان لا معنى له إلا أنه وقاحة الأعصاب. قال "م": فأنت أيها العجوز الصالح إنما أصبحت بلا شيطان؛ لأن الهرم قد أدب أعصابك ... قال العجوز الظريف: وعند من غيرنا -نحن الشيوخ- تطاع الأوامر والنواهي الأدبية حق طاعتها؟ عند من غير الشيوخ تقدس مثل هذه الحكم العالية: لا تعتد على أحد ... لا تفسد امرأة على زوجها ... قال المحدث: وضحكنا جميعًا، وكان العجوز "ن" من الآيات في الظرف والنكتة، فقال: تظنني يا بني في السبعين؟ فوالله ما أنا بجملتي في السبعين، والله والله. قال "م": لقد أُهتر الشيخ* يا بني؛ فإن هذا من خرفه فلا تصدقه. قال "ن": والله ما خرقت وما قلت إلا حقًا، فههنا ما عمره خمس سنوات فقط، وهو أسناني.. قلت: "ورينا وريت" وسنة 1895؟ قال الأستاذ "م": أنت يا بني من المجددين، فما هواك في القديم وما شأنك به؟ وما كاد العجوز "ن" يسمع هذا حتى طرف بعينيه** وحدد بصره إلي وقال: أئنك لأنت هو؟ لعمري إن في عينيك لضجيجًا وكذبًا وجدالًا واختيالًا وزعمًا ودعوى وكفرًا وإلحادًا؛ ولعمري ... فقطعت عليه وقلت: "لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون"، لقد وقع التجديد في كل شيء إلا في الشيوخ أجسامًا والشيوخ عقولًا؛ فهؤلاء وهؤلاء عند النهاية، وغير مستنكر من ضعفهم أن يدينوا بالماضي، فإن حياتهم لا تلمس الحاضر إلا بضعف! قال العجوز: رحم الله الشيخ "ع"؛ كان هذا يا بني رجلًا ينسخ للعلماء في زمننا القديم، وكان يأخذ عشرة قروش أجرًا على الكراسة الواحدة، وهو رديء الخط، فإذا ورق لأديب، ولم يعجبه خطه فكلمه في ذلك تعلق الشيخ به وطالبه بعشرين قرشًا عن الكراسة؛ منها عشرة للكتابة، وعشرة غرامة لإهانة الكتابة ...

_ * أي أخطأ في الرأي من تأثير الكبر. ** أي حرك أجفانهما.

نعم يا بني، إن للماضي في قلوبنا مواقع ينزل فيها فيتمكن، ولكن قاعدة "اثنان واثنان أربعة"، لا تعد في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل، والحقيقة بنفسها لا باسمها؛ وليست تحتاج النار إلى ثوب المرأة إلا في رأي المغفل. قال الأستاذ "م": وكيف ذلك؟ قال العجوز: زعموا أن مغفلًا كان يرى امرأته تضرم الحطب فتنفخ فيه حتى يشتعل، فاحتاج يومًا في بعض شأنه إلى نار، ولم تكن امرأته في دارها فجاء بالحطب وأضرم فيه وجعل ينفخ، وكان الحطب رطبًا فدخن ولم يشتعل، ففكر المغفل قليلًا ثم ذهب فلبس ثوب امرأته وعاد إلى النار، وكان الحطب قد جف فلم يكد ينفخ حتى اشتعل وتضرم؛ فأيقن المغفل أن النار تخاف امرأته ... وأنها لا تتضرم إلا إذا رأت ثوبها! قال الأستاذ "م": إن الكلام في القديم والجديد أصبح عندنا كفنون الحرب تبدع ما تبدع لتغيير ما لا يتغير في ذات نفسه، وعلى ما بلغت وسائل الموت في القديم والجديد فإنها لم تستطع أن تميت أحدًا مرتين. لقد قرأت يا بني كثيرًا فلم أر إلى الآن من آثار المجددين عندنا شيئًا ذا قيمة؛ ما كان من هراء وتقليد فهو من عندهم، وما كان جيدًا فهو كالنفائس في ملك اللص: لها اعتباران، إن كان أحدهما عند مقتنيها ... فالآخر عند القاضي*. كلا أيها اللص، لن تسمى مالكًا بهذا الأسلوب؛ إنما هي كلمة تسخر بها من الناس ومن الحق ومن نفسك. يقولون: العلم والفن والغريزة والشهوة والعاطفة والمرأة وحرية الفكر واستقلال الرأي ونبذ التقاليد وكسر القيود، إلى آخره وإلى آخرها ... فهذا كله حسن مقبول سائغ في الورق إن كان في مقالة أو قصة، وهو سائغ كذلك حين ينحصر في حدوده التي تصلح له من ثياب الممثلين أو من بعض النفوس التي يمثل بها القدر فصوله الساخرة أو فصوله المبكية، ولكنهم حين يخرجون هذا كله للحياة على أنه من قوته الموجبة، ترده الحياة عليهم بالقوة السالبة؛ إذ لا تزال تخلق خلقها وتعمل أعمالها بهم وبغيرهم، وإذا كان في الإنسانية هذا القانون الذي يجعل الفكر

_ * في كتابنا "تحت راية القرآن" كلام كثير عن التجديد والمجددين، وما نراه من ذلك حقًا وما نراه باطلًا.

المريض حين يهدم من صاحبه -يهدم في الكون بصاحبه؛ ففيها أيضًا القانون الآخر الذي يجعل الفكر الصحيح السامي حين يبني من أهله- يبنى في الكون بأهله. قال العجوز "ن": زعموا أن أحد سلكي الكهرباء كان فيلسوفًا مجددًا، فقال للآخر: ما أراك إلا رجعيًا؛ إذ كنت لا تتبعني أبدًا ولا تتصل بي ولا تجري في طريقتي؛ ولن تفلح أبدًا إلا أن تأخذ مأخذي وتترك مذهبك إلى مذهبي. فقال له صاحبه: أيها الفيلسوف العظيم، لو أني اتبعتك لبطلنا معًا فما أذهب فيك ولا تذهب في؛ وما علمتك تشتمني في رأيك إلا بما تمدحني به في رأيي. قال العجوز: وهذا هو جوابنا إذا كنا رجعيين عندهم من أجل الدين أو الفضيلة أو الحياة أو العفة إلى آخرها وإلى آخره؛ ونحن لا نرى هؤلاء المجددين عند التحقيق إلا ضرورات من مذاهب الحياة وشهواتها وحماقاتها تلبست بعض العقول كما يتلبس أمثالها بعض الطباع فتزيغ بها؛ وللحياة في لغتها العملية مترادفات كالمترادفات اللفظية: تكون الكلمتان والكلمات بمعنى واحد، فالمخرب والمخرف والمجدد بمعنى! كل مجدد يريد أن يضع في كل شيء قاعدة نفسه هو، فلو أطعناهم لم تبق لشيء قاعدة. قال الأستاذ "م" إن هذه الحياة الواحدة على هذه الأرض يجب أن تكون على سنتها وما تصلح به من الضبط والإحكام، والجلب لها والدفع عنها والمحافظة عليها بوسائلها الدقيقة الموزونة المقدرة، والسهلة في عملها الصعبة في تدبيرها؛ فعلى نحو مما كانت الحياة في بطن الأم يجب أن نعيش في بطن الكون بحدود مرسومة وقواعد مهيأة وحيز معروف؛ وإلا بقيت حركات هذا الإنسان كحركات الجنين؛ يرتكض ليخرج عن قانونه، فإن استمر عمله ألقى به مسخًا مشوهًا من جسد كان يعمل في تنظيمه، أو قذف به ميتًا من جسم كان كل ما فيه يعمل لحياته وصيانته. هذا الجسم كله يشرع للجنين ما دام فيه، وهذا الاجتماع كله يشرع للفرد ما دام فيه؛ فكيف يكون أمر من أمر إذا كان الجنين مجددًا لا يعجبه مثلًا وضع القلب ولا يرضيه عمل الدم، ولا يريد أن يكون مقيدًا؛ لأنه حر. انظر إلى هذا الشرطي في هذا الشارع يضرب مقبلًا ليدبر، ومدبرًا ليقبل، وقد ألبسته الحكومة ثيابًا يتميز بها، وهي تتكلم لغة غير لغة الثياب، وكأنها تقول:

أيها الناس، إن ههنا الإنسان الذي هو قانون دائمًا، والذي هو قوة أبدًا، والذي هو سجن حينًا، والذي هو الموت إذا اقتضى الحال. أتحسب يا بني هذا الشرطي قائمًا في هذا الشارع كجدران هذه المنازل؟ كلا يا بني؛ إنه واقف أيضًا في الإرادة الإنسانية وفي الحس البشري وفي العاطفة الحية؛ فكيف لا يمحوه المجددون مع أنه في ذاته إرغام بمعنى، وإكراه بمعنى غيره، وقيد في حالة، وبلاء في حالة أخرى؟ لكنه إرغام ليقع به التيسير، وإكراهٌ لتنطلق به الرغبة، وقد لتتمجد به الحرية؛ وكان هو نفسه بلاء من ناحية؛ ليكون هو نفسه عصمة من الناحية التي تقابلها. يا بني، كل دين صالح، وكل فضيلة كريمة، وكل خلق طيب -كل شيء من ذلك إنما هو على طريق المصالح الإنسانية كهذا الشرطي بعينه: فإما تخريب العالم أيها المجددون، وإما تخريب مذهبكم.. قال العجوز "ن": أنبحث عما نتسلط به أم نبحث عما يتسلط علينا؟ وهل نريد أن تكون غرائزنا أقوى منا وأشد، أو نكون نحن أشد منها وأقوى؟ هذه هي المسألة لا مسألة الجديد والقديم. فإن لم يكن هناك المثل الأعلى الذي يعظم بنا ونعظم به، فسد الحس وفسدت الحياة؛ وكل الأديان الصحيحة والأخلاق الفاضلة إن هي إلا وسائل هذا المثل الأعلى للسمو بالحياة في آمالها وغايتها عن الحياة نفسها في وقائعها ومعانيها. قال المحدث: ورأيتني بين العجوزين كأني بين نابين؛ ولم أكن مجددًا على مذهب إبليس الذي رد على الله والملائكة وظن لحمقه أن قوة المنطق تغير ما لا يتغير؛ فسكت، حتى إذا فرغا من هذه الفلسفة قلت: والرحلة إلى سنة 1895؟

العجوزان3

العجوزان "3": قال المحدث: وتبين في العجوز "ن" أثر التعب، فتوجع وأخذ يئن كأن بعضه قد مات لوقته.. أو وقع فيه اختلال جديد، أو نالته ضربة اليوم؛ والشيخ متى دخل في الهرم دخل في المعركة الفاصلة بينه وبين أيامه. ثم تأفف وتململ وقال: إن أول ما يظهر على من شاخ وهرم، هو أن الطبيعة قد غيرت القانون الذي كانت تحكمه به. قال الأستاذ "م": إن صاحبنا كان قاضيًا يحكم في المحاكم، وأرى المحاكم قد حكمت عليه بهذه الشيخوخة "مطبقة فيها" بعض المواد من قانون العقوبات فما خرج من المحكمة إلا في الحبس الثالث. فضحك "ن" وقال: قد عرفنا "الحبس البسيط" و"الحبس مع الشغل" فما هو هذا الحبس الثالث؟ قال: هو "الحبس مع المرض" ... قال "ن": صدقت لعمري، فإن آخر أجسامنا لا يكون إلا بحساب من صنعة أعمالنا؛ وكأن كرسي الوظيفة الحكومية قد عرف أنه كرسي الحكومة، فهو يضرب الضرائب على عظام الموظفين ... أتدري معنى قوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [النحل: 70] ولم سماه الأرذل؟ قلنا: فلم سماه كذلك؟ قال: لأنه خلط الإنسان بعضه ببعض، ومسه من أوله إلى آخره، فلا هو رجل ولا شباب ولا طفل، فهو أردأ وأرذل ما في البضاعة ... فاستضحك الأستاذ "م" وقال: أما أنا فقد كنت شيخًا حين كنت في الثلاثين من عمري، وهذا هو الذي جعلني فتى حين بلغت السبعين. قال "ن": كأن الحياة تصحح نفسها فيك.

قال: بل أنا كرهتها أن تصحح نفسها؛ فقد عرفت من قبل أن سعة الإنفاق في الشباب هي ضائقة الإفلاس في الهرم، وأيقنت أن للطبيعة "عدادًا" لا يخطئ الحساب، فإذا أنا اقتصدت عدت لي، وإذا أسرفت عدت علي؛ ولن تعطيني الدنيا بعد الشباب إلا مما في جسمي؛ إذ لا يعطي الكون حيًّا أراد أن ينتهي منه، فكنت أجعل نفسي كالشيخ الذي تقول له الملذات الكثيرة: لست لك؛ ومن ثم كانت لذاتي كلها في قيود الشريعتين: شريعة الدين وشريعة الحياة. قال: وعرفت أن ما يسميه الناس وهن الشيخوخة لا يكون من الشيخوخة ولكن من الشباب؛ فما هو إلا عمل الإنسان في تسميم جسمه ثلاثين أو أربعين سنة بالطعام والشراب والإغفال والإرهاق والسرور والحزن واللذة والألم، فكنت مع الجسم في شبابه ليكون معي بعد شبابه، ولم أبرح أتعاهده كما يتعاهد الرجل داره: يزيد محاسنها وينفي عيوبها، ويحفظ قوتها ويتقي ضعفها؛ ويجعلها دائمًا باله وهمه، وينظر في يومها القريب لغدها البعيد، فلا ينقطع حساب آخرها وإن بعد هذا الآخر، ولا يزال أبدًا يحتاط لما يخشى وقوعه وإن لم يقع. قال العجوز "ن": صدقت -والله- فما أفلح إلا من اغتنم الإمكان؛ وما نوع الشيخوخة إلا من نوع الشباب؛ وهذا الجسم الإنساني كالمدينة الكبيرة فيها "مجلسها البلدي" القائم على صيانتها ونظامها وتقويتها؛ ورئيس هذا المجلس الإرادة، وقانونه كله واجبات ثقيلة، وهو كغيره من القوانين: إذا لم ينفذ من الأول لم يغن في الآخر. قال الأستاذ "م": وكل جهاز في الجسم هو عضو من أعضاء ذلك "المجلس البلدي" فجهاز التنفس وجهاز الهضم والجهاز العضلي والجهاز العصبي والدورة الدموية، هذه كلها يجب أن تترك على حريتها الطبيعية وأن تعان على سنتها، فلا يحال بينها وبين أعمالها برشوة من لذة، أو مفسدة من زينة، أو مطمعة في رفاهية، أو دعوة إلى مدنية، أو شيء مما يفسد حكمها أو يعطل عملها ويضعف طبيعتها. والقاعدة في العمر أنه إذا كان الشباب هو الطفولة الثانية في براءته وطهارته، كانت الشيخوخة هي الشباب الثاني في قوتها ونشاطها؛ وما رأيت كالدين وسيلة تجعل الطفولة ممتدة بحقائق إلى آخر العمر في هذا الإنسان؛ فسر الطفولة إنما هو في قوتها على حذف الفضول والزوائد من هذه الحياة، فلا يطغيها الغنى، ولا يكسرها الفقر، ولا تذلها الشهوة، ولا يفزعها الطمع، ولا يهولها الإخفاق، ولا يتعاظمها الضر، ولا يخيفها الموت؛ ثم لا تمل وهي الصابرة، ولا تبالغ وهي

الراضية، ولا تشك وهي الموقنة، ولا تسرف وهي القانعة، ولا تتبلد وهي العاملة، ولا تجمد وهي المتجولة؛ ثم هي لا تكلف الإنسانية إلا العطف والحب والبشاشة وطبائع الخير التي يملكها كل قلب؛ ولا توجب شريعتها في المعاملة إلا قاعدة الرحمة، ولا تقرر فلسفتها للحياة إلا طهارة النظر؛ ثم تتهكم بالدنيا أكثر ما تهتم لها، وتستغني فيما أكثر مما تحتاج، وتستخرج السعادة لنفسها دائمًا مما أمكن، قل أو كثر. وبكل هذا تعمل الطفولة في حراسة الحياة الغضة واستمرارها ونموها، ولولا ذلك لما زها طفل ولا شب غلام، ولا رأت العيون بين هموم الدنيا ذلك الرواء وذلك المنظر على وجوه الأطفال يثبتان أن البراءة في النفس أقوى من الطبيعة. وكل ذلك هو أيضًا من خصائص الدين وبه يعمل الدين في تهذيب الحياة واطرادها على أصولها القوية السليمة، ومتى قوي هذا الدين في إنسان لم تكن مفاسد الدنيا إلا من وراء حدوده، حتى كأنه في أرض وهي في أرض أخرى، وأصبحت البراءة في نفسه أقوى من الطبيعة. ثم قال: والعجيب أن اعتقاد المساواة بين الناس لا يتحقق أبدًا بأحسن معانيه وأكملها إلا في قلبين: قلب الطفل؛ لأنه طفل، وقلب المؤمن؛ لأنه مؤمن. فقال العجوز "ن": إنه لكما قلت، ولعنة الله على هذه الشهوات الآدمية الباطلة، فإن الشهوة الواحدة في ألف نفس لتجعل الحقيقة الواحدة كأنها ألف حقيقة متعادية متنازعة؛ والطامعان في امرأة واحدة قد تكون شهوة أحدهما هي الشهوة وهي القتل؛ ولعنة الله على الملحدين وإلحادهم، يزرون على الأديان بأنها تكاليف وقيود وصناعة للحياة، ثم لا يعلمون أن كل ذلك لصناعة الآلة النفسية التي تستطيع أن تحرك المختلفين حركة واحدة، فما ابتليت الإنسانية بشيء كما ابتليت بهذا الخلاف الذي يفتح من كل نفس على كل نفس أبواب التجني، ويجعل النفرة وسوء الظن أقرب إلى الطبيعة البشرية من الألفة والثقة. لقد جاء العلم بالمعجزات، ولكن فيما بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان ومنافعه، وبين الإنسان وشهواته؛ فهل غير الدين يجيء بالمعجزات العملية فيما بين النفس والنفس، وبين النفس وهمومها، وبين ما هو حق وما هو واجب؟ قال المحدث: ثم نظر إليَّ العجوز "ن" وقال: صل عمك يا بني بالأحاديث الذي مضى، فأين بلغنا آنفًا من أمر التجديد والمجددين؟ وماذا قلنا وماذا قلت؟ أما

إن الحماقة الجديدة والرذيلة الجديدة والخطأ الجديد، كل ذلك إن كان جديدًا من صاحبه فهو قديم في الدنيا؛ وليس عندنا أبدًا من جديد إلا إطلاق الحرية في استعمال كل أديب حقه في الوقاحة والجهل والغرور والمكابرة. قال الأستاذ "م": وليس الظاهر بما يظهر لك منه، ولكن بالباطن الذي هو فيه، فمستشفى المجاذيب قصر من القصور في ظاهره، ولكن المجاذيب هم حقيقته لا البناء، وكل مجدد عندنا يزعم لك أنه قصر عظيم، وهو في الحقيقة مستشفى مجانين، غير أن المجانين فيه طباع وشهوات ونزوات؛ وعلى هذا ما الذي يمنع الفجور المتوقح أن يسمي نفسه الأدب المكشوف؟ قال "ن": وإذا أنت ذهبت تعترض على هذه التسمية زعموا لك أن للفن وقاحة مقدسة ... وأن "لا أدبية" رجل الفن هي "اللا أخلاقية العالمية".... قال الأستاذ "م": فوقاحة الشهوة إذا استعلنت بين أهل الحياء وأهل الفضيلة ودعت إلى مذهبها، كانت تجديدًا ما في ذلك ريب؛ ولكن هذا المذهب هو أقدم ما في الأرض، إذا هو بعينه مذهب كل زوجين اجتمعا من البهائم منذ خلق الله البهائم.. قال "ن": وقل مثل ذلك في متسخط على الله وعلى الناس يخرج من كفره بين أهل الأديان أدبًا جديدًا، وفي مغرور يتغفل الناس، وفي لص آراء، وفي مقلد تقليدًا أعور -كل واحد من هؤلاء وأشباههم مبتلى بعلة، فمذهبه رسالة علته؛ وأكثرهم لا يكون ثباته على الرأي الفاسد إلا من ثبات العلة فيه. قال المحدث: وكنت من المجددين، فأرمضني ذلك وقلت للعجوزين: إن هذا نصف الصحيح، أما النصف الآخر فهو في كثير من هؤلاء الذين ينتحلون الدفاع عن الدين والفضيلة؛ نعم إنهم لا يستعملون حقهم في الوقاحة، ولكن القروش تستعمل حقها.. فضحك العجوز "ن"، وقال: يا بني، إن الجديد في كل حمار هو أن يزعم أن نهيقه موسيقى ... فالحمار والنهيق والموسيقى كل ذلك لا جديد فيه، ولكن التسمية وحدها هي الجديدة؛ ولو كان البرهان في حلق الحمار لصح هذا الجديد، غير أن التصديق والتكذيب هنا في آذان الموسقيين لا في حلق حمارنا المحترم.... قال "م": وزعموا أن رجلًا نصب فخًّا لصيد العصافير، فجاء عصفور فنظر من هذا الفخ إلى شيء جديد، فقال: يا هذا، ما لك مطمورًا في التراب؟ قال الفخ:

ذلك من التواضع لخلق الله! قال: فمم كان انحناؤك؟ قال الفخ: ذلك من طول عبادتي لله! قال: فما هذه الحبة عندك؟ قال الفخ: أعددتها لطيور الله الصائمين يفطرون عليها! قال العصفور: فتبيحها لي؟ قال: نعم. فتقدم المسكين إليها، فلما التقطها وقع الفخ في عنقه، فقال وهو يختنق: إن كان العباد يخنقون مثل هذا الخنق فقد خلق إبليس جديد. قال "ن": فالحقيقة أن إبليس هو الذي تجدد؛ ليصلح لزمن الآلات والمخترعات والعلوم والفنون وعصر السرعة والتحول؛ وما دام الرقي مطردًا وهذا العقل الإنساني لا يقف عند غاية في تسخير الطبيعة، فسينتهي الأمر بتسخير إبليس نفسه مع الطبيعة؛ لاستخراج كل ما فيه من الشر. قال "م": ولكن العجب من إبليس هذا؛ أتراه انقلب أوربيًا للأوربيين؟ وإلا فما باله يخرج مجددين من جبابرة العقل والخيال، ثم لا يؤتينا نحن إلا مجددين من جبابرة التقليد والحماقة؟ قال المحدث: فقلت لهما: أيها العجوزان القديمان، سأنشر قولكما هذا اليقرأه المجددون. قال الأستاذ "م": وانشر يا بني أن الربيع -صاحب الإمام الشافعي، مر يومًا في أزقة مصر فنثرت على رأسه إجانة* مملوءة رمادًا، فنزل عن دابته وأخذ ينفض ثيابه ورأسه، فقيل له: ألا تزجرهم؟ قال: من استحق النار وصولح بالرماد فليس له أن يغضب! ... ثم قال محدثنا: واستولى علي العجوزان، ورأيت قولهما يعلو قولي، وكنت في السابعة والعشرين، وهي سن الحدة العقلية، فما حسبتني معهما إلا ثلث عجوز.. مما أثرا علي، وانقلبت لا أرى في المجددين إلا كل سقيم فاسد، واعتبرت كل واحد منهم بعلته، فإذا القول ما قال الشيخان، وإذا تحت كل رأي مريض مرض، ووراء كل اتجاه إبرة مغناطيسية طرقها إلي الشيطان.... وفرغنا من هذا، فقلت للشيخين: لقد حان وقت نزولكما من بين الغيوم أيها الفيلسوفان، أما كنتما في سنة 1895 من الجنس البشري..؟

_ * قصعة.

العجوزان4

العجوازن "4": قال محدثنا: وكنت قد ضقت بهذه اللجاجة الفلسفية، ورأيتني مضطعنا على الشيخين معًا، فقلت العجوز "ن": حدثني "رحمك الله" بشيء من قديمكما، فأنتما اختصار لكل ما مر من الحياة يستدل به على أصله المطول إلا في الحب.. وما زلتما في جد الحديث تعبثان بي منذ اليوم، فقد عدلتما بي إلى شأنكما ورأيكما في القديم والجديد، وبقي أن أميل بكما ميلة إلى سنة 1895، وقد -والله- كاد ينتحر قلبي يأسا من خبر "كاترينا ومرغريت"؛ ولكأنك تخشي إذ أعلمتني خبر صاحبتك هذه وهي وراء أربعين سنة- ما تخافه من رجل سيفجؤك معها في الخلوة على حال من الربية فيأخذك "متلبسا بالجريمة" كما تقولون في لغة المحاكم.... قال: فضحك العجوزان وقال "ن": لا -والله- يا بني، ولكني أقول ما قال ذلك الحكيم العربي* لقومه وقد بلغ مائتي سنة: "قلبي مضغة من جسدي، ولا أظنه إلا قد نحل سائر جسدي"، واعلم يا بني أنه إذا ذهب الحب عن الشيخ بقي منه الحنان يعمل مثل عمله، فيحب العجوز مكانا أو شيئا أو معنى أي ذلك كان، ليعيده ذلك إلى الدنيا أو يبقيه فيها "بقدر الإمكان" ... فضحك الأستاذ "م" وقال: ولعل ثرثرة العجوز "ن" هي الآن معشوقة العجوز "ن". ثم قال: وكل شيء يرق في قلب الرجل الهرم ويحول وجهة كأنه لا يطبق أن ينظر إلى معناه الغليظ؛ ولا بد أن يخرج العجوز من معاني الدنيا قبل أن يخرج من الدنيا؛ ولهذا لا يهنأ الشيخ إلا إذا عاش بأفكار جسمه الحاضر، وقدر الأمور على

_ * هو أكثم بن صيفي حكيم العرب، قالها لقومه في سفرهم إلى النعمان بن المنذر كيلا يتكلوا عليه في حيلة ولا منطق؛ ويقال: إنه عاش ثلاثمائة وثلاثين سنة، وفي معنى السنة عن العرب كلام ليس هذا موضعه.

ما هو فيه لا على ما كان فيه؛ والفرف بين جسمه الحاضر وبين جسمه الماضي أن هذا الماضي كانت تحمل أعضاؤه، فهو مجتمع من أعمالها وشهواتها، ماضٍ في تحقيق وجودها ومعانيها؛ أما الحاضر، أما الجسم الهرم، فهو يشعر أنه يحمل أعضاءه كلها ملفوفة في ثيابه كمتاع المسافر قبل السفر.. وكأن بعضها يسلم على بعض سلام الوداع يقول: تفارقني وأفارقك*. فتململ الأستاذ "م" وقال: أُفٍّ لك ولما تقول! لا جرم أن هذه لغة عظامك التي لا صلابة فيها، فمن ذلك لا تجيء معانيك في الحياة إلا واهنة ناحلة فقدت أكثرها وبقي من كل شيء منها شيء عند النهاية؛ أليس في الهرم إلا أن يبقى الجسم ليكون ظاهرًا فقط كعمشوش العنقود** بعد ذهاب الحب منه، يقول: كان هنا وكان هنا؟ ألا فاعلم يا "ن" أن هذه الشيخوخة إنما هي غلبة روحانية الجسم على بشريته، فهذا طور الحياة لا تدعه الحياة إلا وفيه لذته وسروره كما تصنع بسائر أطوارها؛ غير أن لذاته بين الروح والجمال، ومسراته بين العقل والطبيعة، وكل ما نقص من العمر وجب أن يكون زيادة في إدراك الروح وقوتها وشدتها ونورها؛ قد قيل لبعض أهل هذا الشأن وكان في مرض موته: كيف تجد العلة؟ فقال: سلوا العلة عني كيف تجدني. وإنما تثقل الشيخوخة على صاحبها إذا هي انتكست فيه وكانت مراغمة بينه وبين الحياة، فيطمع الشيخ فيما مضي ولا يزال يتعلق به ويتسخط على ذهابه وتصنع له ويتكلف أسبابه، وقد نسي أن الحياة ردته طفلاً كالطفل، أكبر سعادته في التوفيق بين نفسه وبين الأشياء الصغيرة البريئة، وأقوى لذته أن يتفق الجمال الذي في خياله والجمال والذي في الكون، وإنه لكما قلت أنت: لا يهنأ الشيخ إلا إذا عاش بأفكار جسمه الحاضر. وما أصدق وأحكم هذا الحديث الشريف: "إن الله تعالى بعدله وقسطه جعل الروح والفرح في الرضى واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط". فهذه في قاعدة الحياة: لا تعاملك الحياة بما تملك من

_ 1 في الحديث الشريف: إن العبد ليعالج كرب الموت وسكرات الموت وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض، تقول: عليك السلام، تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة. 2 هو ما يبقى من العنقود بعد أكل ما فيه من الحب.

نفسك، وبذلك تكون السعادة في أشياء حقيقة ممكنة موجودة، بل تكون في كل ما أمكن وكل ما وجد؛ وإذا كان الرضى هو الاتفاق بين النفس وصاحبها، وكان اليقين هو الاتفاق بين النفس وخالقها، فقد أصبح قانون السعادة شيئًا معنويًّا من فضيلة النفس وإيمانها وعقلها، ومن الأسرار التي فيها، لا شيئًا ماديًّا من أعضائها ومتاعها ودنياها والأخيلة المثقلة عليها. فأطرق العجوز "ن" قليلًا ثم قال: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم: 4] ، ألا ما أحكم هذه الآية! فوالله إن قرأت ولا قرأ الناس في تصوير الهرم الفاني أبدع منها ولا أدق ولا أوفى؛ ألا تحس أن قائلها يكاد يسقط من عجف وهزال وإعياء؛ وأنه ليس قائمًا في الحياة قيامه فيها من قبل، وأن تناقض هذه الحياة قد وقع في جسمه فأخل به، وأن معاني التراب قد تعلقت بهذا الجسم تعمل فيها عملها، فأخذ يتفتت كأنما لمس القبر عظامه وهو حي، وأنه بهذا كله أوشك أن ينكسر انكسار العظم بلغ المبرد فيه آخر طبقاته؟ قال محدثنا: فقلت له: ترى لو أن نابغة من نوابغ التصوير في زمننا هذا تناول بفنه ذلك المعنى العجيب فكتبه صورة وألوانًا، لا أحرفًا وكلمات، فكيف تراه كان يصنع؟ قال: كان يصنع هكذا: يرسم منظر الشتاء في سماء تعلق سحابها كثيفًا متراكبًا بعضه على بعض يخيل أن السماء تدنو من الأرض، وقد سدت السحب الآفاق وأظلم الجو ظلامه تحت النهار المغطى، واستطارت بينها وشائع من البرق، ثم يترك من الشمس جانب الأفق لمعة كضوء الشمعة في فتق فن فتوق السحاب، ثم يرسل في الصورة ريحًا ياردة هو جاء يدل عليها انحناء الشجر وتقلب النبات، ثم يرسم رجالًا ونساء يغلي الشباب فيهم غليانه من قوة وعافية، وحب وصبابة، وتغلي فيهم أفكار أخرى ... وهم جميعًا في هيئة المسرعين إلى مرقص؛ وهم جميعًا من المجددين. ثم يرسم يا بني في آخرهم "على بعد منهم" عمك العجوز "ن"، يرسمه كما تراه منحل القوة منحني الصلب، مرعشًا متزلزلًا متضعضعًا؛ قد زعزعته الريح، وضربه البرد، وخنقته السحب؛ وله وجه عليه ذبول الدنيا، ينبئ أن دمه قد وضع من جسمه في برادة، والكون كله من حوله ومن فوقه أسباب روماتيزم..

ثم يصوره وقد وقف هناك ساهمًا كئيبًا، رافعًا رأسه ينظر إلى السماء. قال المحدث: وضحكنا جميعًا، ثم قال الأستاذ "م": لعمري إن هذه الحياة الآدمية كالآلة صاحبها مهندسها؛ فإن صلحت واستقامت فمن علمه بها وحياطته لها، وإن فسدت واختلت فمن عبثه فيها وإهماله إياها، وليس على الطبيعة في ذلك سبيل لائمة؛ والشيخ الضعيف ليس في هذه الدنيا إلا الصورة الهزلية لمفاسد شبابه وضعفه ولينه ودعته، تظهرها للدنيا ليسخر من يسخر ويتعظ من يتعظ. قال "ن": أكذلك هو يا أستاذ؟ قال الأستاذ: بل هي الصورة الجدبة من هذه الباطلة التي دأبها ألا تصرح عن حقيقتها إلا في الآخر، فتظهرها الدنيا ليجل الحقيقة من يجلها؛ وليس إلا بهذه الطريقة يعرف من خراب الصورة خراب المعنى. قال العجوز "ن": آه من إجلال الشيخوخة واحترام الناس إياها! إنهم يرونه احترامًا للشيخ والشيخ لا يراه إلا تعزية، وما الأشياخ الهرمي إلا جنازات قبل وقتها، لا توحي إلى الناس شيئًا غير وحي الجنازة من مهابة وخشوع. قال الأستاذ: بل هي الصورة الجدية من هذه الباطلة التي دأبها ألا تصرح عن حقيقتها إلا في الآخر، فتظهرها الدنيا ليجل الحقيقة من يجلها؛ وليس إلا بهذه الطريقة يعرف من خراب الصورة خراب المعنى. قال العجوز "ن": آه من إجلال الشيخوخة واحترام الناس إياها إنهم يرونه احترامًا للشيخ والشيخ لا يراه إلا تعزية. وما الأشياخ الهرمى إلا جنازات قبل وقتها، لا توحي إلى الناس شيئًا غير وحي الجنازة من مهابة وخشوع. قال الأستاذ: إنما أنت دائمًا في حديث نفسك، ولو كنت نهرًا يا مستنقع لما كان في لغتك هذه الأحرف من البعوض. قال العجوز الظريف: إن هذا ليس من كلام الفلسفة التي نتنازعها بيننا، ترد علي وأرد عليك، ولكنه كلام القانون الذي لك وحدك أن تتكلم به أيها القاضي. قال "م": صرح وبيِّن؛ فما فهمنا شيئًا. قال العجوز: هذا كلام قلته قديمًا في حادثة عجيبة، فقد رفعت إلي ذات يوم قضية شيخ هرم كان قد سرق دجاجة؛ وتوسمته فإذا هو من أذكى الناس، وإذا هو يجل عن موضعه من التهمة، ولكن صح عندي أنه قد سرق، وقامت البينة عليه ووجب الحكم؛ فقلت له: أيها الشيخ، ما تستحي وأنت شائب أن تكون لصًا؟ قال: يا سيدي القاضي، كأنك تقول لي: ما تستحي أن تجوع؟ فورد علي من جوابه ما حيرني، فقلت له: وإذا جعلت أما تستحي أن تسرق؟ قال: يا سيدي القاضي، كأنك تقول لي: وإذا جعلت أما تستحيي أن تأكل؟ فكانت هذه أشد علي، فقلت له: وإذا أكلت أما تأكل إلا حرامًا؟ فقال: يا سيدي القاضي، إنك إذا نظرت إلي محتاجًا لا أجد شيئًا، لم ترني سارقًا حين وجدت شيئًا.

فأقحمني الرجل على جهله وسذاجته، وقلت في نفسي: لو سرق أفلاطون لكان مثل هذا؟ فتركت الكلام بالفلسفة وتكلمت بالقانون الذي لا يملك الرجل معه قولًا يراجعني به، فقلت: ولكنك جئت إلى هذه المحكمة بالسرقة، فلا تذهب من هذه المحكمة إلا بالحبس سنتين. قال محدثنا: وأرمضني هذا العجوز الثرثار وملأ صدري، إذ ما برح يديرني وأديره عن "كاترينا ومرغريت"، ورأيت كل شيء قد هرم فيه إلا لسانه، فحملني الضجر والطيش على أن قلت له: وهب القضية كانت هي قضية "كاترينا" وقد رفعت إليك متهمة، أفكنت قائلًا لها: جئت إلى المحكمة بالسرقة فلا تذهبين من المحكمة إلا بالحبس سنتين؟ وجرت الكلمة على لساني وما ألقيت لها بالًا ولا عرفت لها خطرًا؛ فاكفهر القاضي العجوز وتربد وجهه غضبًا، وقال: يا بغيض! أحسبتني كنت قائلًا لها: جئت إلى المحكمة بالسرقة فلا تذهبين من المحكمة إلا بالقاضي ... ؟ وغضب الأستاذ "م": وقال: ويحك! أهذا من أدبكم الجديد الذي تأديتم به على أساتذة منهم الفجرة الذين يكذبون الأنبياء ولا يؤمنون إلا بدين الغريزة ويسوغونكم مذاهب الحمير والبغال في حرية الدم..؟ أما إني لأعلم أنكم نشأتم على حرية الرأي، ولكن الكلمة بين اثنين لا تكون حرة كل الحرية إلا وهي أحيانًا سفيهة كل السفاهة، كهذه القولة التي نطقت بها. لقد كان الناس في زمننا الماضي أناسًا على حدة، وكانت الآداب حالات عقلية ثابتة لا تتغير ولا يجوز أن تتغير، وكان الأستاذ الكافر بينه وبين نفسه لا يكون مع تلاميذه إلا كالمومس؛ تجهد أن تربي بنتا على غير طريقتها! قال المحدث: فلجلجت وذهبت أعتذر، ولكن العجوز "ن" قطع علي وأنشأ يقول وقد انفجر غيظه: لقد تمت في هؤلاء صنعة حرية الفكر، كما تمت من قبل في ذلك الواعظ* المعلم القديم الذي حدثوا عنه أنه كان يقص على الناس في المسجد كل أربعاء فيعلمهم أمور دينهم ويعظهم ويحذرهم ويذكرهم الله وجنته وناره؛ قالوا: فاحتبس عليهم في بعض الأيام وطال انتظارهم له، فبينما هم كذلك إذ جاءهم

_ * هو أبو كعب القاص، ذكره الجاحظ في الحيوان وقال إنه كان يقص كل أربعاء في مسجد عتاب بالبصرة.

رسوله فقال: يقول لكم أبو كعب: انصرفوا قد أصبحت مخمورًا ... هذا القاص المخمور هو عند هؤلاء السخفاء إمام في مذهب حرية الفكر، وفضيلته عندهم أنه صريح غير منافق ... وكان يكون هذا قولًا في إمام المسجد لولا أنه إمام المسجد؛ غير أن حرية الفكر تبنى دائمًا في كل ما تبنى على غير الأصل، وعندها أن المنطق الذي موضوعه ما يجب، ليس بالمنطق الصحيح؛ إذ لا يجب شيء ما دام مذهبها الإطلاق والحرية. كل مفتون من هؤلاء يتوهم أن العالم لا بد أن يمر من تفكيره كما مر من إرادة الخالق، وأنه لا بد له أن يحكم على الأشياء ولو بكلمة سخيفة تجعله يحكم، ولا بد أن يقول "كن وإن لم يكن إلا جهله؛ ومذهبه الأخلاقي: اطلب أنت القوة للمجموع، أما أنا فألتمس لنفسي المنفعة واللذة! ويحسبون أنهم يحملون المجتمع، فإنهم ليحملونه، ولكن على طريقة البراغيث في جناح النسر. قال "م": وكيف ذلك؟ قال: زعموا أن طائفة من البراغيث اتصلت بجناح نسر عظيم واستمرأته ورتعت فيه، فصابرها النسر زمنًا، ثم تأذى بها وأراد أن يرميها عنه، فطفق يخفق بجناحيه يريد نفضها، فقالت له البراغيث: أيها النسر الأحمق! أما تعلم أننا في جناحيك لنحملك في الجو؟.. أما أساتذة هذه الحرية الدينية الفكرية الأدبية، فقد قال الحكماء: إن بعرة من البعر كانت معلمة في مدرسة. قال "م": وكيف ذلك؟ قال: زعموا أن بعرة كبش كانت معلمة في مدرسة الحصى، فألفت لتلاميذها كتابًا أحكمته وأطالت له الفكرة، وبلغت فيه جهد ما تقدر عليه لتظهر عبقريتها الجبارة؛ فكان الباب الأكبر فيه أن الجبل خرافة من الخرافات، لا يسوغ في العقل الحر إلا هذا، ولا يصح غير هذا في المنطق؛ قالت: والبرهان على ذلك أنهم يزعمون أن الجبل شيء عظيم، يكون في قدر الكبش الكبير ألف ألف مرة؛ فإذا كان الجبل في قدر الكبش ألف ألف مرة فكيف يمكن أن يبعره الكبش؟.... قال الأستاذ "م": هذا منطق جديد سديد لولا أنه منطق بعرة! قال "ن": وكل قديم له عندهم جديد، فكلمة "رجل" قد تخنثت، وكلمة "شاب" قد تأنثت، وكلمة "عفيفة" قد تدنست، وكلمة "حياء" قد تنجست؛ والزمن

الجديد ألا يعرف الطالب في هذا العام ماذا تكون أخلاقه في العام القادم.. والحياة الجديدة أن تتقن الغش أكثر مما تتقن العمل.. والذمة الجديدة أن مال غيرك لا يسمى مالًا إلا حين يصير في يدك.. والصدق الجديد أن تكذب مائة مرة، فعسى أن يصدق الناس منها مرة.. ثم الإنسان الجديد، والحب الجديد، والمرأة الجديدة، والأدب الجديد، والدين الجديد، والأب الجديد، والابن الجديد، وما أدري وما لا أدري. قالوا: السوبرمان، وتنطعوا في إخراج المخلوق الكامل بغير دينه وأخلاقه، فسخرت منهم الطبيعة فلم تخرج إلا الناقص أفحش النقص، وتركتهم يعملون في النظرية وعملت هي الحقيقة. قال محدثنا: ونهض العجوز "ن" وهو يقول: تباركت وتعاليت يا خالق هذا الخلق! لو فهموا عنك لفهموا الحكمة في أنك قد فتحت على العلم الجديد بالغازات السامة ... قال: ولما انصرف العجوز، قلت للأستاذ "م": ولكن ما خبر "كاترينا" و "مرغريت" وسنة 1895؟ فقال: أيها الأبله، أما أدركت بعد أن العجوزين قد سخرا منك بأسلوب جديد..

السطر الأخير من القصة

السطر الأخير من القصة 1: رجعت إلى أوراق لي قديمة يبلغ عمرها ثلاثين سنة أو لواذها، تزيد قليلًا أو تنقص قليلًا، وجعلت أفلي هذه الأوراق واحدة واحدة، فإذا أنا على أطلال الأيام في مدينة قائمة من تاريخي القديم، نائمة تحت ظلماتها التي كانت أنوار عهد مضى؛ وإذا أنا منها كالذي اغترب ثلاثين سنة عن وطنه ثم آب إليه، فما يرى من شيء كان له به عهد في أيام حدثانه ونشاطه إلا اتصل بينهما سر؛ ومن طبيعة القلب العاشق في حنينه أن يجعل كل شيء يتصل به كأنه ذو قلب مثله له حنين ونجوى! وذلك التلاشي المحفوظ في هذه الأوراق، يحفظ لي فيها وفيما تحتويه نفسًا وطبيعة كانت نفس شاعر وطبيعة روضة، في عهد من الصبى كنت فيه أتقدم في الشباب وفي الكون معًا كأن الأشياء تخلق في خلقًا آخر؛ فإذا قرضت شعرًا واستوى لي على ما أحب، أحسست إحساس الملك الذي يضم إلى مملكته مدينة جديدة؛ وإذا تناولت طاقة من الزهر وتأملها على ما أحب، شعرت بها كأجمل غانية من النساء توحي إلي وحي الجمال كله؛ وإذا وقفت على شاطئ البحر، ترجرج البحر بأمواجه في نفسي، فكنت معه أكبر من الأرض وأوسع من السماء. أما الحب ... أما الحب فكانت له معانيه الصغيرة التي هي كضرورات الطفل للطفل: ليس فيها كبير شيء، ولكن فيها أكبر السعادة، وفيها نضرة القلب. عهد من الصبى كانت فيه طريقة العقل من طريقة الحلم؛ وكانت العاطفة هي عاطفة في النفس، وهي في وقت معًا خدعة من الطبيعة؛ وكان ما يأتي ينسي دائمًا ما مضى ولا يذكر به؛ وكانت الأيام كالأطفال السعداء: لا ينام أحدهم إلا على فكرة لعب ولهو، ولا يستيقظ إلا على فكرة لهو ولعب وكانت اللغة نفسها كأن فيها ألفاظًا من الحلوى؛ وكانت الآلام -على قلتها- كالمريض الذي معه دواؤه المجرب، وكانت فلسفة الجمال تضحك من فيلسوفها الصغير، الواضح كل

_ 1 انظر ص 219-220 "حياة الرافعي".

الوضوح، المقتصر بكل لفظ على ما يعرف من معناه، المتفلسف في تحقيق الرغبة أكثر مما يتفلسف في تخيل الفكرة! هو العهد الذي من أخص خصائصه أن تعمل، فيكون العمل في نفسه عملًا ويكون في نفسك لذة. في أوراقي تلك بحثت عن قصة عنوانها "الدرس الأول في علبة كبريت" كتبتها في سنة1905، وأنا لا أدري يومئذ أنها قصة يسبح في جوها قدر روائي عجيب، سيأتي بعد ثلاثين سنة فيكتب فيها السطر الأخير الذي تتم به فلسفة معناها. وها أنذا أنشرها كما كتبتها؛ وكان هذا القلم إذ ذاك غضًا لم يصلب، وكان كالغصن تميل به النسمة، على أن أساس بلاغته قد كان ولم يزل، بلاغة فرحه أو بلاغة حزنه؛ وهذه هي القصة: "عبد الرحمن عبد الرحيم" غلام فلاح، قد شهد من هذه الدنيا تسعة أعوام، مرت به كما يمر الزمن على ميت؛ لا تزيده حياة الأحياء إلا إهمالًا، فنشأ منشأ أمثاله ممن فقدوا الوالدين وانتزعوا من شملهم فتركوا للطبيعة تفصلهم وتصلهم بالحياة، وتضيق لهم فيها وتوسع. وهيأت الطبيعة منه إنسانًا حيوانيًا، لا يبلغ أشده حتى يغالب على الرزق بالحيلة أو الجريمة، ويستخلص قوته كما يرتزق الوحش بالمخلب والناب؛ ولن يكون بعد إلا مجموعة من الأخلاق الحيوانية الفاتكة الجريئة، فإن الطبيعة متى ابتدأت عملها في تحويل الإنسان عن إنسانيته، نزلت به إلى العالم الحيواني ووصلته بما فيه من الشر والدناءة، ثم لا تترك عملها حتى يتحول هو إليها. وألف "عبد الرحمن" في بلده حانوت رجل فقير، يستغني بالبيع عن التكفف وعن المسألة؛ فكان الغلام يكثر الوقوف عنده، وكان يطعم من صاحبه أحيانًا كرزق الطير، فتاتًا وبقايا؛ إذ كان الغلام شحاذًا، وكان صاحب الحانوت لا يرتفع عن الشحاذة إلا بمنزلة تجعل الناس يتصدقون عليه بالشراء من هناته التي يسميها بضاعة: كالخيط، والإبرة، والكبريت والملح، وغزال للولد، وكحل للصبايا، ونشوق للعجائز، ونسخة الشيخ الشعراني، وما لف لفها مما يصمد ثمنه من كسور المليم، إلى المليم وكسوره! وتغفله الغلام مرة وأهوى بيده إلى ذخائر الحانوت، فالتقطته "علبة كبريت"

كان الفرق كل الفرق بين أن يسرقها وأن يشتريها -نصف مليم؛ ولكن من له "بالعشرين الخردة" وهي عند مثله دينار من الذهب يرن رنينًا ويرقص على الظفر رقصة إنجليزية؟ وماذا يصنع بالعلبة؟ همت نفسه أن تجادله ولما تسكن رعشة يده من هول الإثم، ولكن الغلام كان طبيعيًّا ولم يكن فيسلوفًا، ولذلك رأى أن يحرز الحقيقة بعد أن وقعت يده عليها، وقد اصطلح الناس على أن مادة السرقة هي "مد اليد" أخطأت أم أصابت، وجاءت بالغالي أو جاءت بالرخيص؛ فضم أصابعه على العلبة وانتزعها، وترك في مكانها فضيلة الأمانة التي لم يعرف له الناس قيمتها فهانت كذلك على نفسه وانطلق وهي تناديه: أيها الغلام، أتدفع ثمن علبة الكبريت سنتين من عمرك؟ وهلا خلا الناس ممن يعرفون لعمرك قيمة؟ وارتد رجع الصوت الخفي إلى قلبه من حيث لا يشعر، فضرب قلبه ضربات من الخوف، ونزا نزوة مضطربة؛ فالتفت الغلام مرة أخرى، ثم أمعن في الفرار وترك الأمانة تناديه: أيها الغلام، إن لك في الآخرة نارًا لا توقد بهذا الكبريت، ولك في الدنيا سجن كهذه العلبة، فالعب العب ما دام الناس قد أهملوك! العب بالثقات الذي في يدك فيسمتد فيك معنى اللهب حتى يجعل حياتك في أعمار الناس دخانًا ونارًا؛ وستكون أيامك أعوادًا كهذا الكبريت: تشتعل في الدنيا وتحرق. وكأن أذناب السياط كانت تلهب ظهر الغلام المسكين، ولكنه ما كاد يلتفت هذه المرة حتى كان في قبضة صاحب الحانوت، وإذا هو بكلمة من لغة كفه الغليظة، خيلت له في شعرها أن جدارًا انقض عليه، وتلتها جملة من قوافي الصفع جلجلت في أذنيه كالرعد، وأعقب ذلك مثل الموج من جماعات الأطفال أحاط به فترك هذا الزورق الإنساني الصغير يتكفأ على صدمات الأيدي، فما أحس الغلام التعس إلا أن الكبريت الذي في يده قد انقدح في رأسه، وكانت أنامل صاحب الحانوت كأنما تحك أعواده في جلد وجهه الخشن! وذهبوا به إلى "دوار" العمدة يقضي فيه الليل ثم يصبح على رحلة إلى المركز والنيابة، وانطرح المسكين منتظرًا حكم الصباح، مؤملًا في عقله الصغير ألا يفصح

النهار حتى يكون "سيدنا عزرائيل" قد طمس الجريمة وشهودها، ثم أغفى مطمئنًا إلى ملك الموت وأنه قد أخذ في عمله بجد، وأيقن عند نفسه أن سيشحذ في الخميس مما يوزع في المقبرة صدقة على أرواح العمدة، وصاحب الحانوت، والخفير الذي عهدوا إليه جره إلى المراكز ... وكيف يشك في أن هذا واقع بهم وهو قد توسل بالولي فلان ونذر له شمعة يسرقها من حانوت آخر ... ! هكذا عرف الشر قلب هذا الصبي، وانتهى به عدل الناس إلى أفظع من ظلم نفسه، وكأنهم بذلك القانون الذي يصلحونه به على زعمهم، قد ناولوه سبحة؛ ليظهر بها مظهر الصالحين؛ ولم يفهموه شيئًا ففهم أنهم يقولون له: هذه الجريمة واحدة، فعد جرائمك على هذه السبحة؛ لتعرف كم تبلغ! كانت في الحقيقة لعبة لا سرقة، وكانت يد الغلام فيما فعلت مستجيبة لقانون المرح والنشاط والحركة، كما تكون أعضاء الطفل لا كما تكون يد اللص؛ وكان أشبه بالرضيع يمد يده لكل ما يراه، لا يميز ضارة ولا نافعة، وإنما يريد أن يشعر ويحقق طبيعته؛ وكان كل ما في الأمر وقصارى ما بلغ -أن خيال هذا الغلام ألف قصة من قصص اللهو، وأن الكبار أخطؤوا في فهمها وتوجيهها ... ليست سرقة الطفل سرقة، ولكنها حق من حقوق ذكائه يريد أن يظهر. وانتهى "عبد الرحمن" إلى المحكمة، فقضت بسجنه في "إصلاحية الأحداث" مدة سنتين، واستأنف له بعض أهل الخير في بلدة؛ صدقة واحتسابًا؛ إذ لم يكف الاستئناف إلا كناية ورقة؛ فلما مثل الصغير أمام رئيس المحكمة لم يكن معه لفقره محامٍ يدفع عنه، ولكن انطلق من داخله محامٍ شيطاني يتكلم بكلام عجيب، هو سخرية الجريمة من المحكمة، وسخرية عمل الشيطان من عمل القاضي..! سأله الرئيس: "ما اسمك؟ " - "اسمي عبده، ولكن العمدة يسميني: يابن الكلب!. - "ما سنك؟ " - "أبويا هو اللي كان سنان"* - "عمرك إيه؟ " - "عمري؟ عمري ما عملت شقاوة! "

_ * كان أبو الغلام سنانًا، ومثل هذا القدر من العامية في القصة هو ملح القصة.

النيابة للمحكمة: "ذكاء مخيف يا حضرات القضاة! عمره تسع سنوات! " الرئيس: "صنعتك إيه؟ " - صنعتي ألعب مع محمود ومريم، وأضرب اللي يضربني! " - "تعيش فين؟ " - "في البلد" - "تأكل منين؟ " - "آكل من الأكل! " النيابة للمحكمة: "يا حضرات القضاة، مثل هذا لا يسرق عليه كبريت إلا ليحرق بها البلد ... ! ". الرئيس: ألك أم؟ " - أمي غضبت على أبويا، وراحت قعدت في التربة؛ ما رضيتش ترجع! ". - "وأبوك؟ " - "أبويا لاخر غضب وراح لها". الرئيس ضاحكًا: "وأنت؟ " - "والله يا أفندي عاوز أغضب، مش عارف أغضب ازاي! ". - "إنت سرقت علبة الكبريت؟ " - "دي هي طارت من الدكان، حسبتها عصفورة ومسكتها ... " النيابة: "وليه ما طارتش العلب اللي معاها في الدكان؟ " - "أنا عارف؟ يمكن خافت مني! ". النيابة للمحكمة: "جراءة مخيفة يا حضرات القضاة، المتهم وهو في هذه السن، يشعر في ذات نفسه أن الأشياء تخافه! ". فصاح الغلام مسرورًا من هذا الثناء: "والله يا أفندي إنت راجل طيب! أديك عرفتني، ربنا يكفيك شر العمدة والغفير! " وأمضي الحكم في الاستئناف، وخرج الصغير مع رجال مع المجرمين يسوقهم الجند، ثم احتبسوا الجميع فترة من الوقت عند كاتب المحكمة؛ ليستوفي أعماله الكتابية، ثم يساقون من بعد إلى السجن. وجلس "عبد الرحمن" على الأرض، وقد اكتنفه عن جانبيه طائفة من

المجرمين يتحادثون ويتغامزون، وكلهم رجال ولكنه وحده الصغير بينهم؛ فاطمأن شيئًا قليلًا، إذ قدر في نفسه أنه لو كان هؤلاء قد أريد بهم شر لما سكنوا هذا السكون، وأن الذي يراد بهم لا يناله هو إلا أصغر منه، كصفعة أو صفعتين مثلًا.. وهو يسمع أن الرجال يقتلون ويحرقون ويسمون ويعتدون وينهبون؛ وما تكون "علبة الكبريت" في جنب ذلك؟ وخاصة بعد أن استردها صاحبها، وقد نال هو ما كفاه قبل الحكم! وما لبث بعد هذا الخاطر الجميل أن رد الاطمئنان في عينه دموعًا كاد يريقها الجزع، غير أن القلق اعتاده، فالتفت إلى كتاب المحكمة مرة وإلى الجند مرة، ثم لوى وجهه ولم يستبح لنفسه أن يتجرأ على الفكر فيهم؛ لأنه قابل مهابتهم بآلهة بلده: العمدة والمشايخ والحفراء؛ فأدرك أن الجنود هم الحكومة القادرة، واستدل على ذلك بأزرارهم اللامعة، وخناجرهم الصقيلة: وتمشت في قلبه رهبة هذه الخناجر، فاضطرب خشية أن يكونوا قد أسلموه من يذبحه، فنظر إلى الذي يليه من المجرمين وسأله: "راح ياخدوني فين؟ "، فأجابته لكمة خفية انطلق لها دمعه، حتى أسكته الذي يليه من الجانب الآخر، وكان في رأيه من الصالحين؟ ثم اتصل الجزع بين قلبه وعينيه، فهما تضطربان إلى الجهات الأربع، وكأنما يحاول أن يستشف من أيها سيأتيه الموت ذبحًا؛ ولم يكن فهم معنى "الإصلاحية"، وحكم القضاة عليه كأنه رجل يفهم كل شيء، ولم يرحموا هذه الطفولة بكلمة مفسرة، وعدل التربية غير عدل القانون، فكان الواجب على القاضي الذي يحكم على الطفل، أن يجعل حكمه أشبه بصيغة القصة منه بصيغة الحكم، وأن يدع الجريمة تنطلق وتذهب فلا يقول لها امكثي.. وبقي الخناجر رهبتها في نفس هذا المسكين، فلو أنهم قادوه إلى حبل الشناقة لأفهمه "الحبل" معنى العقوبة، أما وهو بين هذه الخناجر المغمدة -وفي الخناجر معنى الذبح- فإنما هو الذبح لا غيره. وطرقت أذنيه قهقهة المجرم عن يمينه فاستنقذته من هذا الخطر، فثبت عينيه في الرجل، فإذا هو يرى وجهًا متلألئًا، وجسمًا رابط الجأش، وهزؤًا وسخرية بهؤلاء الجنود وخناجرهم. واستراح الغلام إلى صاحبه هذا، وألح بنظره عليه، وابتدأ يتعلم من وجهه الفلسفة؛ وليست الفلسفة مقصورة عى الكتب، بل إن لكل إنسان حالة تشغله، فنظره في اعتبار دقائقها وكشف مستورها هو الفلسفة بعينها.

وقال الغلام لنفسه: "هذا الرجل أقوى من كل قوة؛ فهو محكوم عليه ولا يبالي، بل يقهقه ضحكًا؛ فهذا الحكم إذن لا يخيف؛ لا، بل هو تعود الأحكام؛ إذن فمن تعود الأحكام لم يخف الأحكام؛ إذن يا عبد الرحمن ستتعود، فإن الخوف هذه المرة قد غطك من "علبة الكبريت" في حريق متسعر، وما قدر "علبة الكبريت"؟ فلو كانت السرقة جاموسة ما لقيت أكثر من ذلك؛ يا ليتني إذن ... ولكني لا أزال صغيرًا، فمتى كبرت ... آه متى كبرت..". وبدأ القانون عمله في الغلام؛ فطرد منه الطفل وأقر فيه المجرم. وأطرق "عبد الرحمن" هادئًا ساكنًا. وقامت في نفسه محكمة من الأبالسة بقضاتها ونيابتها؛ يجادل بعضهم بعضًا، ويداولون بينهم أمر هذا الغلام على وجه آخر. وقال شيطان منهم: "ولكنا نخشى أمرين: أحدهما أن "الإصلاحية" ستخرجه بعد سنتين شريفًا يحترف؛ والثاني أن الناس ربما تولوه بالتربية والتعليم في المدارس رحمة وشفقة؛ فيخرج شريفًا يحترف". وما أسرع ما نفى الخوف عنهم قول الغلام نفسه بلهجة فيها الحقد والغيظ وقد صفعه الجندي الذي يقوده إلى السجن: "ودا كله على شأن علبة كبريت؟ ... ". ........................................................................................... في سنة 1934 قضت محكمة الجنايات بالموت شنقًا على قاتل مجرم خبيث عيار متشطر؛ اسمه "عبد الرحمن عبد الرحيم".

عاصفة القدر

عاصفة القدر 1: على شاطئ النيل في إقليم "الغربية" من هذا البر، قرية ليس فيها من جبل، ولكن روح الجبل في رجل من أهلها، فإذا أنت اعتبرته بالرجال قوة وضعفًا رأيته ينهض فيهم بمنكبيه نهضة الجبل فيما حوله؛ وهو بطل القرية ولواء كل معركة تنشب فيها بين فتياتها وبين فتيان القرى المتناثرة حولها؛ ولا تزال هذه المعارك بين شبان القرى كأنها من حركة الدم الحر الفاتح المتوارث فيهم من أجيال بعيدة ينحدر من جبل إلى جبل وفيه تلك القطرات الثائرة التي كانت تغلي وتفور، وهي كعهدها لا تزال تفور وتغلي، ويلقبون هذا الرجل الشديد "بالجمل"؛ لما يعرفونه من جسامة خلقه وصبره على الشدائد، واحتماله فيها، وكونه مع ذلك سلس القياد سليم الفطرة رقيق الطبع؛ على أنه أبطش ذي يدين إن ثار ثائره، وله إيمان قوي يستمسك به كما يتماسك الجبل بعنصره الصخري، إلا أنه يخلطه ببعض الخرافات؛ إذ لابد له من بعض الجرائم الشريفة التي يمل عليها فرط القوة والمروءة في مثله مع مثله. وليس في تلك القرية من بحر، غير أن فيها شابًا أعنف طيشًا وعتوًًا من الموجة على بحرها في يوم ريح عاتية، حلو المنظر لكنه مر الطعم، صافي الوجه لكن له غورًا بعيدًا من الدهاء والخبث، وهو ابن عمدة البلدة وواحد أبويه والوارث من دنياهما العريضة، يبسط يديه على خمسمائة فدان، وقد أفسدته النعمة وأهانته عزته على أهله؛ ولو اجتمعت حسنتان التخرج منهما سيئة من السيئات بأسلوب من الأساليب، لما وسعها إلا أسلوب نشأته من أبويه الطيبين، تعلم وهو يعرف أنه لا حاجة به إلى العلم، فجعلت تلفظه المدارس واحدة بعد واحدة كأنه نواة ثمرة إنسانية فإذا قيل له في ذلك قال: إن خمسمائة فدان لا تسعها مدرسة.... وذهب إلى فرنسا يطلب العلم الذي استعصى عليه في مصر، فأرهف ذلك العلم خياله وصقل حسه، ورجع من باريس رقيق الحاشية خنثًا متطرفًا لا يصلح شرقيًا ولا غربيًا!

_ 1 أنشأها للمقتطف سنة 1925.

وليس في تلك القرية غاية لكن فيها عذراء تلتف من جسمها في رداء الجمال الطبيعي الرائع، ولها نفس أشد وعورة مما تنطوي الغابة عليه؛ ففي ظاهرها الرونق الذي يفتن فيجذب إليها، وفي باطنها القوة التي تلتوي فتدفع عنها؛ وهي ابنة عم "الجمل" واسمها "خضراء" وكأن فيها زهو خضرة الربيع، ولم تكن تعشق إلا القوة، فما يزين لها من الرجال إلا ابن عمها، وهي شديدة الإعجاب به، وإنما إعجاب المرأة برجل من الرجال مفتاح من مفاتيح قلبها. وكانت "خضراء" جاهلة كنساء القرى، بيد أنها تلميذة بارعة للطبيعة التي نشأت فيها وزاولت أعمالها؛ فهي بذلك أقوى نفسًا وأشد مراسًا من الفتيات المتعلمات؛ إذ اتخذت شكلًا ثابتًا من أشكال الحياة، والحياة هي صنعتها هذه الصنعة أو قامتها على هذه الهيئة، على حين أن المتعلمات يمضين أيام النشأة وسن الغريزة في التلقي عن الألفاظ والكتب، وفي توهم الصور المختلفة للاجتماع دون مباشرتها وفي توقي أعمال الحياة بدلًا من مخالطتها؛ فيؤول ذلك منهن إلى قوة في التخيل قلما ترضي الحقيقة الإنسانية المؤلمة حين تصادمها يومًا ما؛ وتتم الواحدة منهن، ولكن باعتبار أنها تمت تلميذة للمدرسة لا امرأة للحياة بما فيها مما يعجب وما لا يعجب. وكانت خضراء أشبه بدورة النهار: تفتح أجفانها على أشعة الفجر كل يوم، ولا تزال نهارها في دأب وعمل، فنفى ذلك عن أخلاقها ما يجلبه السكون من الخمول والميل إلى العبث والدعابة، وحصلت لها من الحياة حقيقة عرفت منها أن المرأة عامل من أكبر العوامل في النظام الإنساني؛ عليه أن يصبر على الكد والتعب إذا أراد أن يظهر بطبيعته الحقيقية لا بطبيعته المزورة المصنوعة؛ ورأت الرجل يستأثر بجلائل الأعمال ولا يترك للمرأة إلا كما يترك عقرب الساعات لعقرب الثواني في الرقعة التي تجمعها؛ فهذا الصغير لا يبرح يضطرب في "دائرته الضيقة" يهتز من جزء إلى جزء، حتى إذا أتم الدقيقة في ستين هزة كاملة ذهب الأول بفضلها كلها وخطا بها خطوة واحدة: ثم يعود المستضعف المسكين إلى مثل عمله ولا يزال دأبهما وإن أكثرهما عملًا وتبعًا هو أقلهما قيمة وظهورًا؛ ولكن هذا الضعيف المغبون لم ينله ما ناله إلا من كونه هو وحده الذي بني في هذا النظام على فضيلة الصبر والدقة، ليكون أساسًا للآخر؛ فعرفت "خضراء" كيف تقيد طبيعتها من تلقاء نفسها، وتقرها على الصبر والرضا والسكون إلى حظها الطبيعي والاغتباط به؛ إذ كان فضل الرجل على المرأة ليس في كونه أكثر منها فضلًا أو

أسباب فضل، بل في كونها هي أكثر منه حبًّا وتسامحًا وصبرًا وإيثارًا؛ ففضائلها الحقيقية هي التي جعلته الأفضل، كما تجوع الأم لتطعم ابنها!. ورآها "ابن العمدة" ولما تمض أيام على رجوعه من أوربا، وقد لبث هناك بضع سنين، وكان عهده بالفتاة صغيرة، فوثبت إلى نفسه في وثبة واحدة، ورأى شبابًا وجمالًا وروعة زينتها في قلبه، وسولت له مطمعًا من المطامع، وجعلته يرى ما يرى بمعنى ويفهم منه ما يفهم بمعنى غيره. وكانت حين رآها واقفة على النيل تملأ جرتها مع نساء من قومها وهن يتعابثن ويتضاحكن، كأن لخصب الأرض في أرواحهن أثرًا باديًا، فإذا ما أقبلن على النهر لشأن من شؤونهن تندت روح الماء على ذلك الأثر فاهتز واهتزت المرأة به، فإن كانت ذات مسحة من جمال رأيت لها رفيفًا كرفيف الزهرة حين يمسحها الندى، وذهبت تتموج في جسمها، وقد حسرت عن ذراعيها، ولمس الماء دمها الجذاب فأرسل فيه تيارًا من العافية والنشاط يتصل منها بقلب من يراها إن هو كان شاعرًا يحس؛ فإن كانت روح الرجل ظمأى ورأى المرأة على هذه الهيئة، فما أحسبه إلا يشرب منها بعينيه شربًا يجد له في قلبه نشوة كنشوة الخمر؛ وكذلك وقعت الفتاة من نفس هذا الفتى فزينها له الخبث الذي فيه أضعاف ما زينها له الجمال الذي فيها، وقذفها القدر إلى قلبه ليخرج من هذا القلب تاريخ جريمة؛ فوقف يتأملها بعين أحد من آلة التصوير لا تفوتها حركة، وسلط عليها فكره وذوقه، وأيقظ لها في نفسه المعاني الراقدة، فنصبت في قلبه عدة من تماثيل الجمال تجسدت في كل واحد منها على شكل كأنما أفرغت فيه إفراغًا. وكانت نفس ابن العمدة من النفوس الخيالية المتوثبة؛ إذ قامت من نشأتها على أن تطلب فتجاب، وتأمر فتطاع، وتشتهي فتجد؛ وكأنه ما خلق إلا ليستعيد قلبي والديه، وكانا ساذجين لا يعرفان من علم التربية إلا أن للحكومة مدارس للتربية، وموسرين لا يفهمان من معنى الحاجة في هذه الدنيا إلا أنها الحاجة إلى المال، منقطعين من النسل إلا منه، فكأنه لم يولد لهما، بل قد ولدا له.. فله الأمر عليهما من كونه لا أمر لهما عليه؛ وبذلك أسرف له من فضائل الرقة والحنان والإشفاق وما إليها، وهي في نفسها فضائل، ولكن متى أسرف بها الآباء على أولادهم لم تنشئ في أولادهم إلا مما يكون من أضدادها، كالشجر تفرط عليه

الري فلا يحدث فيه إلا اليبس والذوي، وإنما أنت تستقيه الموت ما دمت ترويه بمقدار من هواك بمقدار حاجته. ونشأ الفتى في أحوال اجتماعية مختلفة جعلت من أخص طباعه تمويه نفسه على الناس، والتباهي بالغنى، والتنبل بالأصدقاء والحاشية من وزرائه وعماله، والتهيؤ بالثياب والأزياء؛ فانصرف باطنه إلى تجميل ظاهره، ورد ظاهره على باطنه بالشهوات والدنايا، وأعانه على ذلك أنه جميل فاتن كأنما خلقت صورته "للصفحة الحساسة" من قلوب النساء؛ وذلك ملك عظيم لم يكن أبوه الرجل الطيب منه إلا كما يكون وزير مالية الدولة.. ولما أرسل إلى باريس وقع منها في بلد عجيب كأنه خيال متخيل لا يؤمه رجلًا في الدنيا من كامل أو ناقص وعالم أو جاهل وشريف أو ساقط إلا رأى فيه ما يملأ كل مداخل نفسه ومخارجها، فلو قامت مدينة من أحلام النفوس الإنسانية في خيرها وشرها وطهرها وفجورها واختلالها ونظامها لكانت هي باريس؛ وانقطع الشاب هناك إلى نفسه وإلى صور نفسه من أصدقاء السوء، فلا أهل فيلزموه الفضيلة، ولا إخوان فيردوه إلى الرأي، ولا خلق متبين فيعتصم به، ولا نفس مرة فيفيء إليها، ولا فقر ... فيحد له حدودًا في الشهوات يقف عندها؛ وما هو إلا خيال متوقفد ومزاج مشبوب وتربية مدللة وطبع جريء ومال يمر في إنفاقه، ومن ورائه أب غني مخدوع كأنه في يد ابنه كرة الخيط: كلما جذب منها مدت له مدًا، ثم ما هنالك من فنون الجمال ومتع اللذات وأسباب اللهو، مما يتناهى إليه فساد الفاسد، وما هو في ذاته كأنه عقوبة مستأصلة للأخلاق الطيبة؛ فكان الشيطان الباريسي من هذا المسكين في سمعه وبصره ورجله ويده، ويجهه حيث شاء؛ وبالجملة فقد ذهب ليدرس فدرس ما شاء ورجع أستاذًا في كل علوم النفس المختلة الطائشة وفنونها، وأضاف إلى هذه وتلك كلمات يلوي بها لسانه من علوم وأقاويل ليس فيها إلا ما ما يدل الحاذق على أن هذا الشاب لم يفلخ قط في مدرسة. فلما وقعت "خضراء" منه ذلك الموقع وأخذت مأخذها في نفسه، اعتدها نزوة من نزواته؛ فما بمثله أن يحب مثلها، ولا هي كفايته في شيء إلا أن تكون لهو ساعة من ساعاته، أو حادثة تجري فيها حال من أحواله الغرامية؛ وحسبها امرأة ليس لقلبها أبواب تمتنع على مثله، فقدر أن غناه وفقرها يقتلعان بابًا، وعلمه وجهلها يحطمان بابًا آخر، وجماله وحده يضع ما بقي من الأقفال عما بقي من الأبواب! وكان يحسب أن جمال المرأة من المرأة كالحلية من بائعيها؛ فكل من

ملك ثمنها فليس بينه وبينها إلا هذا الثمن؛ ولكن الأيام جعلت تأتي وتمر وهو لا يزيد على أن يعرض لها وهي ترميه من صدودها كل يوم بداعية من دواعي الهوى؛ وكان لا يجد بنفسه قوة أن يزيدها على النظر شيئًا، وترك لوجهه وثيابه ونظراته وغناه أن تصل بين قلبه وقلبها بسبب، فلم ينل طائلًا؛ وتمادى في حبه، واستولت عليه فكرة مرته بهذه المرأة؛ أما هي فأشعرتها غريزتها بما في قلبه منها، وكانت مسماة لابن عمها* فكانت تتحاشى هذا الشاب وتحذره حذرًا شديدًا، وتتوهم أن الناس يحصون عليها النظرة والالتفاتة ويحصون عليه في مثلهما، ووقع في نفسها أن لهذا الرجل شأنًا غير شأن الرجال الآخرين، فهم لا يستطيعون معها حيلة وهو يستطيعها بغناه ومنزلته. وكان للرجل خادم داهية قد تخرج في مجالس القضاء.. من كثرة ما حكم عليه في تزوير واحتيال وغش وادعاء وإنكار ونحوها، وقد استخلصه لنفسه واتخذه موانسًا ورفيقًا؛ وجعله دسيسًا** إلى شهواته السافلة وكان يسميه فيما بينهما "إبليس"؛ فلما أراد أن يرميها به قال: يا سيدي، هذه قضية احتيال عليها، فإذا دخل ابن عمها خصمًا في الدعوى كانت قضية احتيال على عمري أنا! قال: ويحك أيها الأبله! فأين دهاؤك ومكرك؟ وإنما أرسلك إلى امرأة فقيرة عيشها كفافها، وأنت تعدها وتمشيها وتبذل عني ما شئت، ومتى أطمعتها في المال فإن هذا المال سيوجد ما يوجده في كل مكان، فيشري ما لا يشرى، ويبيع ما لا يباع! قال "إبليس": نعم يا سيدي، وكذلك هو ولكن خوف العار يطرد حب المال! قال: فأنت إذن لا تقبل؟ قال: ولا أرفض.. قال الشاب: قاتلك الله! لقد فهمت سأشتريها منك بثمنين: أحدهما لك والآخر لها؛ ولكن أخبرني كيف تصنع معها ومن أين تبلغ إليها؟ قال "إبليس": لما كنت في السجن عرفت لصًّا فاتكًا أعيا قومه خبثًا وشرًّا؛ وهذا السجن يحسبه عقابًا وردعًا ومنهاة عن الإثم، على أنه المدرسة التي تنشئها الحكومة بنفسها لتلقي علوم الجريمة عن كبار أساتذتها؛ إذ لا يمكن أن يجتمع كبارهم في مكان من الأرض إلا فيه؛ فالسجن طريقة من طرق حل المشكلة الإنسانية، ولكنه هو نفسه يحدث للإنسانية مشكلة لا تحل! قال الفتى: ويحك! أين يذهب بك؟ إنما أرسلك إلى المرأة إلى السجن! قال: ترسلني أنت إليها ولكن لا يعلم إلا الله أين يرسلني ابن عمها: إلى السجن أم إلى

_ * معدة لخطبته، أو كما يقولون: قرأت مع أهلها الفاتحة. ** جاسوسًا وصاحب سر.

المستشفى..! فاسمع يا سيدي: كان من نصائح أستاذي في ذلك السجن: أن الحيلة على رجل ينبغي لإحكامها أن يكون في بعض أسبابها امرأة، والكيد لامرأة يجب أن يكون في بعض وسائله رجل.. صه! انظر انظر! فالتفت الشاب، فإذا "الجمل" مقبل يتكفأ في مشيته، وكان غليظًا، فإذا خطا شد على الأرض بقدميه وتكدس بعضه في بعض؛ وكان منطلقًا وقتئذ إلى بعض مذاهبه، فلما حاذاهما قال: السلام عليكم! فرد جميعًا، ورمى ابن العمدة بنظرة، ثم مضى لوجهه فلم يجاوز غير بعيد حتى بلغه صوت الشاب يناديه: يا فلان! فانكفأ إليه، فقال له الشاب: لقد بعد عهدك بالقوة على ما أرى. قال: فما ذاك؟ قال: أما بلغك أن فلانًا في هذه القرية التي تجاوزنا سيقترن بزوجته بعد أيام، وأنت تعرف الموقعة التي كانت بيد بلدنا وتلك البلدة يوم عرس فلان في السنة الماضية، وكيف اندفعوا على أهل بلدنا وحطموا فيهم تلك الحطمة الشديدة ولولا أنت أدركتهم ورميتهم بنفسك حتى دفعتهم عن الناس وسقتهم أمامك سوق النعاج، لكانت بلدنا اليوم أذلّ البلاد، ولاستطالوا علينا بأنهم غلبونا؛ ولقد حدثني صاحبي هذا كيف تلقيت بهراوتك يومئذ خمسًا وعشرين هراوة، فأطرتها كلها في جولتك، وهزمت أصحابها بعد أن أحاطوا بك وتكلبوا عليك؛ فأنت فخر بلدنا وصاحب زعامتها، وما أرى لك إلا أن تنتهز هذه الفرصة وتسرع الوثنية إليهم برجالك، فتجزيهم في أرضهم صنيعًا بصنع مثله! فهز الجمل كتفيه العريضتين وقال: بل سأنتظرهم في يوم عرسي بابنة عمي ... ! قال الشاب: أبلغت ما أرى فإنك لتخافهم! قال: لا أخافهم ولكن أخاف الحكومة أن تؤخر يوم زواجي ... سنة أو سنتين! قال الفتى: فإن عملك هذا لا يشد من نفوس رجالنا، ولا بد أن أولئك سينتظرونكم ويعدون لكم، فإذا لم تناجزوهم في بلدهم عدوها عليكم هزيمة من الهزائم، وكأنهم ضربوكم بلا ضرب! قال الجمل: هم لا يعرفون معنى الضرب بلا ضرب؛ لأنهم رجال؛ والذي يضرب بلا ضرب لا يكون رجلًا ... والسلام عليكم! ثم انطلق، فلما أبعد قال الشاب: لقد بدأت الحرب ولا بد لي أن أحطم هذا الفلاح اللعين! ولقد عرفت الآن من وجهه أن عينه علي، ولست أشك في أن بنت عمه لا تمتنع بقوتها بل بقوته، ولولا معرفتي أنه من انحطاط الغريزة كالوحش في الدفاع عن أنثاه لقال "إبليس": لقد تأملت القصة فرأيت أنه لا سبيل لك إلى الفتاة وهي بعد فتاة، فإذا هو وصل إلى امرأته قطعت أنت بهذه الخطوة نصف الطريق إليها ... وستبلو هي

من غلظته وخشونة طبيعة ما يسهل لك أن تعلمها قيمة ظرفك ورقتك، وستجد من سوء معاملته وقبح تسلطه ما يفتح قلبها لمن يأتيها قبل الرفق واللين، وستصب عنده من ضيق المعيشة وقلتها ويبسها ما يفهمها معنى ذلك العيش الحلو الخضر الذي تعرضه عليها؛ ثم إنه لا بد مبتليها بغيرته العمياء بعد ما عرف من حبك إياها، والغيرة منك هي توجدك بينهما دائمًا وتنبه المرأة إليك كلما كرهت من رجلها شيئًا لا ترضاه. ولم تكن إلا مدة يسيرة حتى أهديت المرأة إلى زوجها، وإنما تعجل الزفاف ليأتي أنه أن ينصب يده القوية حجابًا بينهما وبين هذا المفتون، وليكتسب من القانون حقًّا لم يكن له من قبل إذا هو مد هذه اليد وعصر في قبضتها تلك الرقبة التي تتطلع إلى امرأته؛ ورأى الشاب أن هذه الحال لا تعتدل به وبخصمه معًا، وكانت الغيرة تأكل من قلبه أكلًا، وكان يعرض للمرأة كلما خرجت بمكتلها* إلى السوق أو بجرتها إلى الماء؛ لأنه حينئذ يكون في الطريق الذي لا يملكه أحد.. فكانت إذا رأته لم تزد على ما يكون منها إذا هي أبصرت حمارًا يمد عينه إليها!. فعمد إلى امرأة مقينة تزف العرائس، وهي التي زفت "خضراء" فأكرمها وأتحفها وسألها أن تسعفه ببعض ما تحتال به، وأن يكون سبيله إلى المرأة؛ وتحمل عليها "بإبليسه" حتى استوثق منها، فكانت تتحدث عنه أمام "خضراء"؛ تستجر بذلك أن تلفتها إلى نعمته وجماله، ولكن المرأة أغلظت لها وسبتها وحذرتها أن تعود إلى مثل كلامها، وقالت لها آخر ما قالت: واعلمي أنني لو دفعت إلى طريقين وكان لا بد من أحدهما، ثم كان أحدهما حصاه الدنانير وهو طريق العار، والآخر حصباؤه الجمر ويفضي إلى الشرف، إذن لتنزهت أن أدنس نعلي بالذهب ولنثرت لحم قدمي على الجمر نثرًا. والحب لا يبقى حبًّا أبدًا، فإما فاز فبرد ورجع سلوًا، وإما خاب فاضطرم وتحول إلى حقد ونقمة؛ وكذلك انفجر الشاب غيظًا، ووجد على الخيبة موجدة شديدة، وأخذ يدير رأيه، ففتقت له الحيلة أن يقتل الشهم بشهامته، والمرأة العفيفة بعفتها؛ فواطأ إبليسه على أن يدفع إلى تلك المقيَّنة منديلًا من الحرير عقد طرفه على دينار من الذهب، تلقيه في صندوق "خضراء" وتدسه في طي من أطواء ثيابها فذهبت المرأة، وما زالت بخضراء تستصلحها وتعتذر إليها حتى استلت ضغينة قلبها، ثم سألتها أن تأتيها "بالعيش والملح" لتصيب كلتاهما منه وتتحرم بحرمته؛ فلما نهضت تأتيها أسرعت الخبيثة إلى الصندوق فدست المنديل في أبعد

_ * هو ما يسمى الغلق.

مواضع وأخفاها؛ وكان مندّى بالعطر؛ لينم على نفسه إذا لم ينم أحد عليه، ثم رجعت بما فعلت إلى الشاب، فأطلق خادمه يهمس لبعض أصدقاء الجمل أنه رأى اليوم في يد "خضراء" دينارًا ذهبًا على ندرة الذهب وعزته؛ فجعل هذا الدينار يطير من نفس إلى نفس بقوة الذهب الذي فيه، والحب الذي أعطاه، والجمال الذي أخذه؛ ثم انتهى إلى الجمل، فكأنما حمله وطار به إلى داره كالمجنون وقد حمى دمه الحرُّ، وجاش جأشه العنيف ولم تكن امرأته في الدار، فنثر ما في الصندوق، وما كادت تفعمه رائحة العطر حتى نفخ الشيطان بها نفخة الغضب الكافر، ثم عثر على المنديل، ورأى بصيص الدينار، فدارت به الأرض، وأيقن أن العار قد طرق ببابه، وأن الباب قد فتح له؛ ثم رد نفسه على مكروهها ورد معها كل شيء إلى موضعه، وتلقف رأيه على جريمتين، وخرج وروحه تصرخ من ضربة بمنديل، وهو الذي كانت تتهاوى عليه الضربات القاتلة تهشم منه ولا يتأوه! وذكر أن "حماته" أثنت من عهد قريب على ابن العمدة ووصفته بالرقة والغنى، فوجه إليها أن تأتي فتبيت عند امرأته؛ لأنه على سفر، وكان كالأعمى في ضلالته: لا يرى الأشياء إلا كما يتخيلها في نفسه دون ما هي في نفسها، فسألته زوجته: أين أزمعت من سفرك وكم تلبث عنا؟ فكأنه سمعها تقول: ارحل إلى مكان بعيد وغب عنا زمنًا طويلًا، فبنا إلى غيابك حاجة شديدة! وكاد يبطش بها، ولكنه كاتم صدره اللوعة اسم جهة بعيدة ومضى الانكسار يعرف فيه! فزع الناس بعد أيام في جوف الليل، فإذا بيت الجمل يحترق من أرضه وسمائه، واقتحموه فإذا المرأة وأمها فحمتان: وانطلقت أسرار الألسنة، وقبض على الرجل في بلد آخر، وتولى ابن العمدة توجيه البينة عليه، وشهد الشهود على الدينار، وشهد الدينار على النار، وأنكر "الجمل" ولم يقصر في إقامة الحجة ودافع عن امرأته وبالغ في أمانتها وعفتها وشهد أنه لا يعلم عليها من سوء، وإنها أطهر النساء وأبرّهن، ثم كان الحكم أن قضى عليه بالموت شنقًا! فلما كان يوم إنفاذ الحكم سئل الرجل: هل من شيء تريده؟ فطلب دخينة* فقدمها له قيم السجن، فأشعلها ونفخ من دخانها نفخة. ثم أخذ يتكلم وعمره يفنى مع

_ * وضعناها للسيجارة، وهي أليق الألفاظ بها.

الدخينة نفسًا في نفس، وعاد هذا الدخان المتطاير كأنه سحاب يسبح فيه الوحي بين حدود الدنيا وحدود الآخرة؛ قال المسكين: لم أتعلم، ولو تعلمت ما وقفت هنا؛ ولكن ربما كنت خرجت نذلًا كبعض المتعلمين الذين يعيشون أشرافًا وفيهم أرواح القتلة واللصوص! لم أقر لأحد بجريمتي خشية أن تذكر كلمة العار مع اسمي، وآثرت أن أموت بالشنق على أن أحيا ويموت اسمي بالعار! ولكني سأعترف الآن أمامكم وأنتم الساعة على قبري، فكونوا كالملائكة لا يشهدون بما عرفوا إلا عند الله وحده. أعترف أني قتلت زوجتي وأمها؛ وقد تقولون: إنه ليس من عمل الرجل أن يقتل امرأة فضلًا عن اثنتين؛ إنني رجل سأشنق، أما النساء فلا يشنقن وإنما يرسلن الرجال إلى المشنقة.. لم أر أبي؛ إذ تركني طفلًا، ولكن يقال: إنه كان رجلًا، فأنا رجل وابن رجل، ولم يذلني رجل قط، ولكن لو خلق الله قوة مائة جبار في جسم رجل واحد لأذلته امرأة! إنه ليس من شيمة الرجل أن يقتل النساء، ولكن المرأة تذل الرجل ذلًا يهون عليه قتل نفسه، فكيف لا يهون عليه قتلها؟ علموا المتعلمين ليصيروا في الشرف والأمانة والعفة كرجل جاهل مثلي: لا يرى للحياة كلها قيمة إذا كان فيها معنى العار، ويقدم عنقه للمشنقة حتى لا ينكس رأسه للذل. أصلحوا القانون الذي يحكم بالموت شنقًا ويزهق الأرواح الكبيرة في حين تغلبه الأرواح الصغيرة بحيلها الدنيئة! ومع ذلك سألقى الله وهو يعلم سريرتي إن كنت بريئًا أو مجرمًا! قيم السجن: ستلقاه طاهرًا. السجين: أرأيتم مني خلق سوء؟ أتعتقد علي ذنبًا مدة سجني؟ القيم: كلنا راضون عنك. السجين: هذا مثل من أخلاقي، والحمد لله على أن آخر كلمة أسمعها من إنسان على الأرض- كلمة الرضا. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله!

نظرت ريشة من زغب العصفور إلى النجوم فحسبتها ريشًا متناثرًا، فامتطت العاصفة وقالت: إلى السماء! ودارت بها العاصفة ما شاء الله أن تدور، ثم رمت بها حيث وقعت لم تبال في موضع نفع أم ضر؛ فأقبلت الريشة تتسخط وتزعم أنها فوضى ثائرة لا حكمة في خلقها، وأن الرياح بعثرة في نظام العالم ... وكان إلى جانبها شجرة تهتز ولا تطير ... فلما وعت مقالتها أقبلت عليها فقالت: أيتها الريشة! إن الرياح لا تكون بعثرة في نظام العالم إلا إذا كان العالم ريشًا كله!

القلب المسكين1

القلب المسكين "1": 1 أقبل علي صاحبي الأديب وقال: انظر، هذه هي، وقد حلت بهذا البلد وما لي عهد بها منذ سنة. ومد إلي يده فنظرت إلى صورة امرأة كأحسن النساء وجهًا وجسمًا، تتأود في غلالة من اللاذ*. وكأن شعاع الضحى في وجهها، وكأنها القمر طالعًا من غيمة، ويكاد صدرها يتنهد وهي صورة، وتبدو هيئة فمها كأنها وعد بقبلة، وفي عينها نظرة كالسكوت بعد الكلمة التي قيلت همسًا بينها وبين محبها.. فقلت: هذه صورة ما أراها قد رسمها إلا اثنان: المصور وإبليس؛ فمن هي؟ قال: سلها، أما تراها تكاد تثب من الورقة؟ إنها إلا تخبرك بشيء أخبرك عنها وجهها أنها أجمل النساء وأظرفهن وأحسن من شاهدت وجهًا وأعينًا، وثغرًا وجيدًا والذي بعد ذلك.. قلت: ويحك، لقد شعرت بعدي، إن هذا شعر موزون: وأحسن من شاهدت وجهًا وأعينا ... وثغرًا وجيدًا والذي بعد ذلكا ... قال: إن شيطان هذه لا يكون إلا شاعرًا؛ ألست تراه ناظمًا من فنونها على الرسم شعرًا معجزًا كل شاعر؟ قلت: وهذا أيضًا شعر موزون: ألست تراه ناظمًا من فنونها ... على الرسم شعرًا معجزًا كل شاعر قال: بلى والله إنه الشيطان، إنه شيطانها، يريك لهذا الجسم روحًا رشيقة، تلين كلين الجسم، بل هي أرشق. قلت: وهذا أيضًا، والقافية التي بعد هذا البيت: وبها شقوا ...

_ 1 انظر قصة صاحبة هذا القلب المسكين ص239 "حياة الرافعي" وهي هي صاحبة "الجمال البائس". 2 اللاذ: الحرير الصيني الرقيق، والغلالة: مثل القميص الذي تحت الثياب.

فضحك صاحبنا وقال: حرك الصورة في يدك، فإنك ستراها وما تشك أنها ترقص. قلت: الآن انقطع شيطانك، فهذا ليس شعرًا ولا يجيء منه وزن. وتضاحكنا وضحك الشيطان، وظهر الوجه الجميل في الرسم كأنه يضحك. قال صاحب القلب المسكين: انظر إلى هاتين العينين، إنها من العيون التي تفتن الرجل وتسحره متى نظرت إليه، وتعذبه وتضنيه متى غابت عنه؛ إن في شعاعهما قدرة على وضع النور في القلب السعيد، كما أن في سوادهما القدرة على وضع الظلمة في القلب المهجور. وانظر إلى هذا الفم، إلى هذا الفم الذي تعجز كل حدائق الأرض أن تخرج وردة حمراء تشبهه. وانظر إلى هذا الجيد تحته ذلك الصدر العاري، فوقه ذلك الوجه المشرق؛ تلك ثلاثة أنواع من الضوء: أما الوجه ففيه روح الشمس، وأما الجيد ففيه روح النجم، وأما الصدر ففيه روح القمر الضاحي. انظر إلى هذه المسافة البيضاء من أعلى جبينها إلى أسفل نهديها، تلك منطقة القبلات في جغرافيا هذا الجمال ... وانظر إلى الصدر يحمل ذينك الثديين الناهدين؛ إنه المعرض الذي اختارته الطبيعة من جسم المرأة الجميلة للإعلان عن ثمار البستان ... انظر إلى النهدين لم برزا في صدر المرأة إلا إذا كانا يتحديان الصدر الآخر ... ؟! وانظر لهذا الخصر الدقيق وما فوقه وما تحته، ألا تراه فتنة متواضعة بين فتنتين متكبرتين ... ؟ انظر إليها كلها، انظر إلى كل هذا الجمال، وهذا السحر، وهذا الإغراء؛ ألا ترى الكنز الذي يحول القلب إلى لص..؟ هذه مخلوقة مرتين: إحداهما من الله في العالم، والأخرى من حبي أنا في نفسي أنا: فكلمة "جميلة" التي تصف المرأة التامة، لا تصفها هي بعض الوصف؛ ورسمها هذا الذي تراه هو حدود لتلك الروح التي فيها قوة التسلط، وهيهات يظهر من تلك الروح إلا ما يظهر من الجمرة المشتعلة رسم هذه الجمرة في ورقة.

أشهد ما نظرت مرة إلى هذا الرسم ثم نظرت إليها إلا وجدت الفرق بينها في نفسها وبينها في الصورة، كأنه اعتذار ناطق من آلة التصوير بأنها ليست إلا أداة. قلت: اللهم غفرا؛ ثم ماذا يا صديقي المجنون؟ فأطرق الأديب مهمومًا، وكانت أفكاره تنفجر في دماغه انفجارًا هنا وانفجارًا هناك؛ ثم رفع إلى رأسه، وقال: هذه الغانية قد حبست أفكاري كلها في فكرة واحدة منها هي؛ وأغلقت أبواب نفسي ومنافذها إلى الدنيا، وألهبت في دمي جمرة من جهنم فيها عذاب الإحراق وليس فيها الإحراق نفسه؛ كيلا ينتهي منها العذاب! وبيننا حب بغير طريقة الحب، فإن طبيعتي الروحانية الكاملة تهوى فيها طبيعتها البشرية الناقصة، فأنا أمازجها بروحي فأتألم لها، وأتجنبها بجسمي فأتألم بها. حب عقيم مهما يكن من شيء فيه لا يكن فيه شيء من الواقع ... حب عجيب لا تنتفي منه آلامه ولا تكون فيه لذاته..... حب معقد لا يزال يلقي المسألة بعد المسألة، ثم يرفض الحل الذي لا تحل المسألة إلا به ... حب أحمق يعشق المرأة المبذولة للناس، ولا يراها لنفسه إلا قديسة لا مطمع فيها ... حب أبله لا يزال في حقائق الدنيا كالمنتظر أن تقع على شفتيه قبلة من الفم الذي في الصورة ... حب مجنون كالذي يرى الحسناء أمام مرآتها فيقول لها اذهبي أنت وستبقي في هذه التي في المرآة ... قلت: اللهم رحمة؛ ثم ماذا يا صاحبي المسكين؟ قال: ثم هذه التي أحبها هي التي لا أريد الاستمتاع بها ولا أطيقه ولا أجد في طبيعتي جرأة عليه، فكأنها الذهب وكأني الفقير الذي لا يريد أن يكون لصًّا؛ يقول له شيطان المال: تستطيع أن تطمع؛ ويقول له شيطان الحاجة: وتستطيع أن تفعل؛ ويقول هو لنفسه: لا أستطيع إلا الفضيلة!

إن عذاب هذا بشيطانين لا بشيطان واحد، غير أن لذته في انتصاره كلذة من يقهر بطلين كلاهما أقوى منه وأشد. قلت: اللهم عفوًا؛ ثم ماذا يا قاهر الشيطانين؟ فأطرق مليًّا كالذي ينظر في أمر قد حيره لا يتوجه له في أمره وجه، ثم تنهد وقال: يا طول علة قلبي! من أين أجيء لأحلامي بغير ما تجيء الأحلام به، وإنما هي تحت النوم ووراء العقل، وفوق الإرادة؟ لقد بلغ بين هواها أن كل كلمة من كلام الحب في كتاب أو رواية أو شعر أو حديث -أراها موجهة إليّ أنا.. ثم قال: انطلق بنا فتراها حتى تعلم منها علمًا، فهي في ذلك المسرح، هي في ذلك الشر، هي في تلك الظلمات، هي كاللؤلؤة لا تتربى لؤلؤة إلا في أعماق بحر. وذهبنا إلى مسرح يقوم في حديقة غناء مترامية الجهات بعيدة الأطراف، تظهر تحت الليل من ظلماتها وأنوارها كأنها مثقلة بمعاني الهجر والعشق. وتقدمنا نسير في الغبش، فقال صاحبنا المحب: إني لأشعر أن الظلام هنا حي كأن فيه غوامض قلب كبير، فما أرى فرقًا بين أن أجلس فيه وبين الجلوس إلى فيلسوف عظيم مهموم بهم اللانهاية، فتعال نبرز إلى ذلك النور حول المسرح لنراها وهي مقبلة، فإن رؤيتها سيدة غير رؤيتها راقصة، ولهذه جمال فن ولتلك فن جمال. ولم نلبث إلا يسيرًا حتى وافت، ورأيتها تمشي مشية الخفرات كأنما تحترم أفكار الناس، يزهوها على ذلك إحساس نبيل كإحساس الملكة الشاعرة بمحبة شعبها، وانتفض مجنونا وأغمض عينيه كأنها تمر بين ذراعيه لا في طريقها، وكأن لذة قربها منه هي الممكن الذي لا يمكن غيره ... وكان عجبًا من العجب أن تحرك الهواء في الحديقة واضطربت أشجارها، فقال: أنت ترى؛ فهذا احتجاج من راقصات الطبيعة على دخول هذه الراقصة! قلت: آه يا صديقي! إن المرأة لا تكون امرأة بمعانيها إلا إذا وجدت في جو قلب يعشقها. ونفذنا إلى المسرح، وتحرى صاحبنا موضعًا يكون فيه منظر العين من صاحبته ويكون مستخفيًا منها، ثم رفع الستار عنها بين اثنين يكتنفانها، وقد لبسن ثلاثتهن أثواب الريفيات، وظهرن كهيئتهن حين يجنين القطن. وبرزت "تلك" في ثوب من الحرير الأسود، وهي بيضاء بياض القمر حين يتم وقد شدت وسطها بمشدة من الحرير الأحمر، فتحبكت بها وظهرت شيئين:

أعلى وأسفل؛ ثم ألقت على شعرها الذهبي قلنسوة حمراء من ذلك الحرير أمالتها جانبًا فحبست شيئًا منه وأظهرت سائره، وأخذت بيديها صفاقتين* وأقبل الثلاث يرقصن ويغنين نشيد الفلاحة. لم أنظر إلى غيرها، فقد كانت صاحبتاها دليلين على جمالها لا أكثر ولا أقل، وما أحسب الحرير الأحمر، كان معها أحمر ولا الأسود كان عليها أسود، ولا لون الذهب في معصمها كان لون الذهب؛ كلا كلا، هذه ألوان فوق الطبيعة؛ لأن الوجه يشرق عليها بالجمال والحياة، وذلك الجسم يفيض لها بالخفة والطرب وتلك الروح تبعث فيها المرح والنشوة؛ هذا مزيج من خمر الألوان لا من الألوان نفسها. وقال مجنوننا: إن أجمل الجمال في المرأة الفاتنة هو ذاك الذي يجعل لكل إنسان نوع شعوره بها، وأنا أشعر الساعة أن قلبي نصف قلب فقط، وأن نصفه الآخر في هذه وحدها؛ فما شعورك أنت؟ قلت: يا صديقي. إن الله رحيم، ومن رحمته أنه أخفى القلب وأخفى بواعثه ليظل كل إنسان مخبوءًا عن كل إنسان؛ فدعني مخبوءًا عنك! قال: لا بد! قلت: إن المصباح في الموضع النجس لا يبعث النور نجسًا، وما أشعر إلا أن النور الذي في قلبي قد امتزج بالنور الذي في عينيها. ثم كأنها أحست بأن إنسانًا قد امتلأ بها، فأدارت وجهها وهي ترقص، فتلمحت صاحبنا، وجعلت تقطع الطرف بينها وبينه كأنها تعرفه وتجهله، ثم تبينت إلحاح نظره فضحكت؛ لأنها تعرفه ولا تجهله! أما هو، أما المجنون، أما صاحب القلب المسكين!....

_ * الصفاقات: هي التي يقال لها الساجات، تكون في أصابع الراقصة، والكلمة واردة في كتاب الأغاني.

القلب المسكين2

القلب المسكين "2": ... أما صاحب القلب المسكين فرأى الضحكة التي ألقت بها صاحبته وهي ترقص حين عرفته -غير ما رأيتها أنا وغير ما رأى الناس: كانت لنا نحن ابتسامًا عذبًا من فم جميل يتم جماله بهذه الصورة، وكانت له هو لغة من هذا الفم الجميل يتم بها حديثًا قديمًا كان بينهما؛ واعترانا منها الطرب واعتراه منها الفكر، ووصفت لنا نوعًا من الحسن ووصفت له نوعًا من الشوق، ومرت علينا شعاعًا في الضوء ووقعت في يده هو كبطاقة الزيارة عليها اسم مكتوب ... وقوي إحساس الراقصة الجميلة بعد ذلك فانبعث يدل على نفسه ضروريا من الدلالة الخفية، ورجعت بهذا الإحساس كالحقيقة الشعرية الغامضة المملوءة بفنون الرمز والإيماء، وكأنها زادت بهذا الغموض زيادة ظاهرة؛ وللمرأة لحظات تكون فيها بكفرين حينما يكون أحد الفكرين ماثلًا أمامها في رجل تهواه؛ ففي هذه الساعة تتحدث المرأة بكلام فيه صمت يشرح ويفسر، وتضطرب بحركة فيها استرخاء يميل ويعتنق، وتنظر بألحاظ فيها انكسار يأمر ويتوسل؛ وكانت هي في هذه الساعة ... فغلبت -والله- على صاحبها المسكين وتركت نفسه كأنها تقطع فيه من أسف وحسرة؛ ثم كانت له كالزهرة العبقة: بينه وبينها جمالها وعطرها هواؤها والحاسة التي فيه. وجعل يستشفها من خلال أعضائها، ثم قال لي: أنظر -ويحك-! لكأن ثيابها تضمها وتلتصق بها ضم ذي الهوى لمن يهوى. قلت: ما هي إلا كهاتين اللتين ترقصان معها: امرأة بين امرأتين وإن كانت أحسن الثلاث. قال: كلا، هذه وحدها قصيدة من أروع الشعر، تتحرك بدلًا من أن تقرأ وترى بدلًا من أن تسمع؛ قصيدة بلا ألفاظ، ولكن من شاء وضع لها ألفاظًا من دمه إذا هو فهمها بحواسه وفكره وشعوره.

قلت: والأخريان؟ قال: كلا كلا، هذا فن آخر، فالواحدة من هؤلاء المسكينات إنما ترقص بمعدتها.. ترقص للخبز لا غير؛ أما "تلك" فرقصها الطرب مصنوعًا على جسمها ومصنوعًا من جسمها؛ إنها كالطاووس يتبختر في أصباغه. في ريشه، في خيلائه، بخترة يضاعفها الحسن ثلاث مرات؛ ولو خلق الله جسمين أحدهما من الجواهر أحمرها وأخضرها وأصفرها وأزرقها، والآخر من الأزهار في ألوانها ووشيها، ثم اختال الطاووس بينهما ناشرًا ذيله في كبرياء روحه الملوثة لظهر فيه وحده اللون الملك بين ألوان هي رعيته الخاضعة. وانتهى رقص الحسناء الفاتنة وغابت وراء الستارة بعد أن أرسلت قبلة في الهواء.. فقال صاحبنا: آه! لو أن هذه الحسناء تصدقت بدرهم على فقير، لجعلته لمسة يدها درهمًا وقبلة.. قلت: يا عدو نفسه! هذه قبلة محررة مسددة وقد رأيتها وقعت هنا.. ولكنك دائمًا في خصام بين نفسك وبين حقائق الحياة؛ تعشق القبلة وتخاصم الفم الذي يلقيها، وتبني العش وتتركه فارغًا من طيره؛ إن امرأة تحبك لابد منتهية إلى الجنون ما دامت معك في غير المفهوم وغير المعقول وغير الممكن. ثم بدأ فصل آخر على المسرح، وظهر رجال ونساء وقصة؛ وكان من هؤلاء الرجال شيخ يمثل فقيهًا، وآخر يمثل شرطيًا؛ فقال صاحبنا الفيلسوف: لقد جاءت هذه الثياب فارغة وكأنها الآن تنطق أن صحة أكثر الأشياء في هذه الحياة صحة الظاهر فقط، ما دام الظاهر يخلع ويلبس بهذه السهولة؛ فكم ي هذه الدنيا من شرفاء لو حققت أمرهم وبلوت الباطن منهم- إنما يشرفون الرذائل لأنهم يرتكبونها بشرف ظاهر.. وكم من أغنياء ليس بينهم وبين اللصوص إلا أنهم يسرقون بقانون.. وكم من فقهاء ليس بينهم وبين الفجرة إلا أنهم يفجرون بمنطق وحجة.. ليست الإنسانية بهذه السهولة التي يظنها من يظن، وإلا ففيم كان تعب الأنبياء وشقاء الحكماء وجهاد أهل النفوس؟ العقدة السماوية في هذه الأرض أن الله -سبحانه وتعالى- لم يخلق الإنسان إلا حيوانًا ملطفًا تلطيفًا إنسانيًا، ثم أراه الخير والشر وقال له: اجعل نفسك بنفسك إنسانًا وجئني.

قلت: يا عدو نفسه! فما تقول في حبك هذه الراقصة وأنت حيوان ملطف تلطيفًا إنسانيًا؟ قال: ويحك! وهل العقدة إلا هنا؟ فهذه مبذولة ممكنة، ثم هي لي كالضرورة القاهرة، فلا يكون حبها إلا إغراء بنيلها، ولا تكون سهولة نيلها إلا إغراء لذلك الإغراء؛ فأنا منها لست في امرأة وحب، ولكني في امتحان شديد عسر؛ أغالب ناموسًا من نواميس الكون، وأدافع قانونًا من قوانين الغريزة وأظهر قوتي على قوة الضرورة الميسرة بأسبابها، وهي أشد الضرورات عنفًا وإلحاحًا وقهرًا للنفس، من قيل أنها ضرورة لازمة، وأنها مهيأة سهلة؛ فلو أن هذه المرأة المحبوبة كانت ممنعة بعيدة المنال، لما كانت لي فضيلة في هذا الحب العنيف، ولكنها دانية ميسرة على الشغف والهوى؛ فهذا هو الامتحان لأصنع أنا بنفسي فضيلة نفسي! ومر الفصل الذي مثلوه وما نشعر منه بتمثيل، فقد كان كالصورة العقلية المعترضة للعقل وهو يفكر في غيرها، وكانت "الحقيقة" في شيء آخر غير هذا؛ ومتى لم يتعلق الشعور بالفن لم يكن فيه فن؛ وهذا هو سر كل امرأة محبوبة، فهي وحدها التي تثير المحب في نفسه فيشعر من حسنها بحقيقة الحسن المطلق، ويجد في معانيها جواب معانيه، وتأتيه كأنها صنعت له وحده، وتجعل له في الزمان زمنًا قلبيًّا يحصر وجوده في وجودها. وليس فن الحب شيئًا إلا استطاعة الحبيب أن يجعل شهوات المحب شاعرة به ممتلئة منه متعلقة عليه، كأن به وحده ظهور جسدية هذا الجسد وروحانية هذا الروح؛ وكل ما يتزين به المحبوب للمحب، فإنما هو وسائل من المبالغة لإظهار تلك المعاني التي فيه، كيما تكبر فيدركها المحب بدقة، وتثور فيحسها العاشق بعنف وتستبد فيخضع لها المسكين بقوة. والشهوات كالطبيعة الواحدة في أعصاب الإنسان، وهي تتبع فكره وخياله؛ ولا تفاوت بينهما إلا بالقوة والضعف، أو التنبه والخمود، أو الحدة والسكون، غير أنها في الحب تجد لها فكرًا وخيالًا من المحبوب، فتكون كأنها قد عبرت طبيعتها بسر مجهول من أسرار الألوهية؛ ومن هنا يتأله الحبيب وهو هو لم يزد ولم ينقص ولم يتغير ولم يتبدل، وتراه في وهم محبه يفرض فروضًا ويشرع شريعة من حيث لا قيمة لفروضه وشريعته إلا في الشهوة المؤمنة به وحدها.

ومن ثم لا عصمة على المحب إلا إذا وجد بين إيمانين، أقواهما الإيمان بالحلال والحرام؛ وبين خوفين، أشدهما الخوف من الله؛ وبين رغبتين، أعظمهما الرغبة في السمو. فإن لم يكن العاشق ذا دين وفضيلة فلا عصمة على الحب إلا أن يكون أقوى الإيمانين الحرص على مكانة المحبوب في الناس، وأشد الخوفين الخوف من القانون ... وأعظم الرغبتين الرغبة في نتيجة مشروعة كالزواج. فإن لم يكن شيء من هذا أو ذاك فقلما تجد الحب إلا وهو في جراءة كفرين، وحماقة جنونين، وانحطاط سفالتين؛ وبهذا لا يكون في الإنسان إلا دون ما هو في بهيمتين! ثم جاء الفصل الثالث وظهرت هي على المسرح، ظهرت هذه المرة في ثوب مركزة أوروبية تخاصر عشيقًا لها، فيرقصان في أدب أوروبي متمدن ... متمدن بنصف وقاحة؛ متأدب ... متأدب بنصف تسفل؛ مشروع ... مشروع بنصف كفر؛ هو على النصف في كل شيء، حتى ليجعل العذراء نصف عذراء والزوجة نصف زوجة..! وكان الذي يمثل دور العشيق فتاة أخرى غلامية مجممة الشعر* ممسوخة بين المرأة والرجل؛ فلما رآها صاحبنا قال: هذا أفضل.. وهشت الحسناء وتبسمت وأخذت في رقصها البديع، فانفصل عني الصديق، وأهملني وأقبل عليها بالنظرة بعد النظرة بعد النظرة، كأنه يكرر غير المفهوم ليفهمه ورجع وإياها كأنه في عالم من غير زمننا تقدمه عن عالمنا ساعة أو تؤخره ساعة؛ وكانت جملة حاله كأنها تقول لي: إن الدنيا الآن امرأة! وكان من السرور كأنما نقله الحب إلى رتبة آدم، ونقل صاحبته إلى رتبة حواء، ونقل المسرح إلى رتبة الجنة! والعجب أن القمر طلع في هذه الساعة وأفاض نورًا جديدًا على المسرح المكشوف في الحديقة، فكأنه فعل هذا ليتم الحسن والحب؛ وأخذ شعاع القمر

_ 1 المعجمات: هي اللواتي يتخذن شعورهن جمة "بضم الجيم" أي يقصصنها، كما يفعل نساء هذه الأيام، تشبهًا بالرجال؛ وقد كان ذلك مما تصنعه نساء العرب ونهى الإسلام عنه كراهة لهذا التشبه؛ فقص الشعر "على المودة" هو التجميم.

السماوي يرقص حول هذا القمر الأرضي، فكانت الصلة تامة وثيقة بين نفس صاحبنا وبين الأرض والسماء والقمرين. ما هذا الوجه لهذه المرأة؟ إنه بين اللحظة واللحظة يعبر تعبيرًا جديدًا بقسماته وملامحه الفتانة؛ كل البياض الخاطف في نجوم السماء يجول في أديمه المشرق، وكل السواد الذي في عيون المها يجتمع في عينيه، وكل الحمرة التي في الورد هي في حمرة هاتين الشفتين. ما هذا الجسم المتزن المتموج المفرغ كأنه يتدفق هنا وهنا؟ إنه جسم كامل الأنوثة، إنه صارخ صارخ، إنه عالم جمال كما تقول الفلسفة حين تصف العالم: فيه "جهة فوق" و"جهة تحت"؛ لو امتدت له يد عاشقه لجعل في خمس أصابعها خمس حواس ... ما هذا؟ لقد ختم الرقص بقبلة ألقاها الخليل على شفتي الخليلة، وكانت تركت خصرها في يديه وانفلتت تميل بأعلاها راجعة برأسها إلى خلف، نازلة به رويدًا رويدًا إلى الأرض، هاربة بشفتيها من الفم المطل، وكان هذا الفم ينزل رويدًا رويدًا؛ ليدرك الهارب ... وقبل أن تقع القبلة التفتت لفتة إلي.. ثم تلقَّت القبلة، أما هو، أما مجنوننا، أما صاحب القلب المسكين؟ ...

القلب المسكين3

القلب المسكين "3": أما صاحب القلب المسكين فرمقها وهي تلتفت إليه التفات الظبية بسواد عينيها: يجعل سوادهما الجميل في النظرة الواحدة نظرتين لعاشق الجمال، تقول إحداهما: أنت، وتقول الأخرى: أنا، ثم رآها وقد كسرت أجفانها وتفترت في يدي الممثل العشيق وأفصح منظرها ببلاغة.. بلاغة جسم المرأة المحبوبة بين ذراعي من تحبه؛ ثم اختلجت وصوبت وجهها، وأهدفت شفتيها. وتلقت القبلة. وكان به منها ما الله عليم به، فانبعث من صدره آهة معولة تئن أنينًا، غير أنها كلمته بعينيها أنها تقبله هو؛ فلا ريب قد حملت إليه إحدى النسمات شيئًا جميلًا عن ذلك الفم، لمست به النفس النفس، والقبلة هي هي ولكن وقع خطأ في طريقة إرسالها.. وليس تحت الخيال شيء موجود، ولكن الخيال المتسرح بين الحبيبين تكون فيه أشياء كثيرة واجبة الوجود؛ إذ هو بطبيعته مجرى أحلام من فكر إلى فكر، ومسرح شعور يصدر ويرد بين القلبين في حياة كاملة الإحساس متجاورة المعاني؛ وبهذا الخيال يكون مع القلبين المتحابين روح طبيعي كأنه قلب ثالث ينقل للواحد عن الآخر، ويصل السر بالسر، ويزيد في الأشياء وينقص منها، ويدخل في غير الحقيقي فيجعله أكثر من الحقيقي؛ ومن هنا لم يكن فرح ولا حزن، ولا أمل ولا يأس، ولا سعادة ولا شقاء، إلا وكل ذلك مضاعف للمحب الصادق الحب بقدر قلبين؛ والذين يعرفون قبلة الشغف والهوى، يعرفون أن العاشق يقبل بلدة أربع شفاه. وانسدلت بعد هذه القبلة ستارة المسرح، وغابت الجميلة المعشوقة غيبة التمثيل فقلت لصاحب القلب المسكين: إن روحيكما متزوجتان.. قال: آه! ومدها من قلبه كأنه دنف سقيم. قلت: وماذا بعد آه؟

قال: وماذا كان قبلها؟ إنه الحب: فيه مثل ما في "عملية جراحية" من تنهدات الألم ولذعاته، غير أنها مفرقة على الأوقات والأسباب، مبعثرة غير مجموعة! "آه" هذه هي الكلمة التي لا تفرغ منها القلوب الإنسانية، وهي تقال بلهفة واحدة في المصيبة الداهمة، ولألم البالغ، والمرض المدنف والحب الشديد؛ الشديد؛ فحينما توشك النفس أن تختنق تتنفس "بآه"! قلت: أما رأيتها مرة وقد أوشكت نفسها أن تختنق ... ؟ قال: لقد هجت لي داء قديمًا؛ إن لهذه الحبيبة ساعات مغروسة في زمني غرس الشجر، فبين الحين والحين تثمر هذه الساعات مرها وحلوها في نفسي كما يثمر الشجر المختلف؛ ولقد رأيتها ذات مرة في ساعة همها! ثم ضحك وسكت. قلت: يا عدو نفسه! ماذا رأيت منها؟ وكيف أراك الوجد ما رأيت منها؟ قال: أتصدقني؟ قلت: نعم. قال: رأيت الهم على وجه هذه الجميلة كأنه هم مؤنث يعشقه هم مذكر؛ فله جمال ودلال وفتنة وجاذبية، وكأن وجهها يصنع من حزنها حزنين: أحدهما بمعنى الهم لقلبها، والآخر بمعنى الثورة لقلبي! قلت: يا عدو نفسه! هذا كلام آخر؛ فهذه امرأة ناعمة بضة مطوي بعضها على بعضها، لفاء من جهة هيفاء من جهة، ثقيلة شيء وخفيفة شيء، جمعت الحسن والجسم وفنًا بارعًا في هذا وفنًّا مفردًا في ذاك؛ وهي جميلة كل ما تتأمل منها، ساحرة كل ما تتخيل فيها، وهي مزاحة دحداحة* وهي تطالعك وتطعمك؛ وأنت امرؤ عاشق ورجل قوي الرجولة؛ فالجميلة والمرأة هما لك في هذا الجسم الواحد، إن ذهبت تفصلهما في خيالك امتزجتا في دمك؛ ولو أمسكت آلة التصوير نظراتك إليها لبانت فيها أطراف اللهب الأحمر مما في نفسك منها؛ ولعمري لو مرت عربة تدرج في الطريق ونظرت إليها نظرتك لهذه المرأة بهذه الغريزة المحتسبة المكفوفة** لظننتك سترى العجلة الخلفية عاشقًا مهتاجًا يطارد العجلة الأمامية وهي تفر منه فرار العذراء!

_ * هذه كلمة استعملها بعض المولدين في معنى الظريفة "المدرجة"، وليس كذلك معناها في اللغة، ولكن الاستعمال صحيح عندنا واللغة لا تأباه. ** يستعمل الكتاب في هذا المعنى لفظ "المكبوتة"، وهو تعبير ضعيف، والأفصح ما ذكرنا هنا.

فضحك وقال: لا، لا؛ إن نوع التصوير لإنسان هو نوع المعرفة لهذا الإنسان، ومن كل حبيب وحبيبة تجتمع مقدمة ونتيجة بينهما تلازم في المعنى، والمقدمة عندي أن إبليس هنا في غير إبليسيَّته، فلا يمكن أن تكون النتيجة وضعه في إبليسته؛ وما أتصور في هذه الجميلة إلا الفن الذي أسبغه الجمال عليها، فهي معرفتي وخيالي كالتمثال المبدع إبداعه: لا يستطيع أن يعمل عملًا إلا إظهار شكله الجميل التام حافلًا بمعانيه. وليست هذه المرأة هي الأولى ولا الثانية ولا الثالثة فيمن أحببت1؛ إنها تكرار وإيضاح وتكملة لشيء لا يكمل أبدًا، وهو هذه المعاني النسوية الجميلة التي يزيد الشيطان فيها من عشق كل عاشق؛ إن بطن المرأة بلد، ووجه المرأة يلد! قلت: هذا إن كان وجهها كوجه صاحبتك، ولكن ما بال الدميمة؟ قال: لا، هذا وجه عاقر.. قلت: ولكن الخطأ في فلسفتك هذه أنك تنظر إلى المرأة نظرة عملية تريد أن تعمل، ثم تمنعها أن تعمل، فتأتي فلسفتك بعيدة من الفلسفة، وكأن تغذو المعدة الجائعة برائحة الخبز فقط. قال: نعم هذا خطأ، ولكنه الخطأ الذي يخرج الحقائق الخيالية من هذا الجمال؛ فإذا سخرت من الحقيقة المادية بأسلوب فبهذا الأسلوب عينه تثبت الحقيقة نفسها في شكل آخر قد يكون أجمل من شكلها الأول. أتعلم كيف كانت نظرتي إلى نور القمر على هذه وإلى حسن هذه على القمر؟ إن القمر كان ينسيني بشريتها فأراها متممة له كأنه ينظر وجهه في مرآة، فهي خيال وجهه؛ وكانت هي تنسيني مادية القمر فأراه متممًا له كأنه خيال وجهها. أتدري ما نظرة الحب؟ إن في هذا القلب الإنساني شرارة كهربائية متى انقدحت زادت في العين ألحاظًا كشافة، وزادت في الحواس أضواء مدركة؛ فينفذ العاشق بنظره وحواسه جميعًا في الحقائق الأشياء، فتكون له على الناس زيادة في الرؤية وزيادة في الإدراك يعمل بها عمَّا فيما يراه وما يدركه؛ وبهذه الزيادة الجديدة على النفس تكون للدنيا حالة جديدة في هذه النفس؛ ويأتي السرور جديدًا ويأتي الحزن جديدًا أيضًا؛ فألف قبلة يتناولها ألف عاشق من ألف حبيب، هي

_ 1 انظر فصل "الرافعي العاشق" ص73-119 "حياة الرافعي".

ألف نوع من اللذة ولو كانت كلها في صورة واحدة؛ ولو بكى ألف عاشق من هجر ألف معشوق لكان في كل دمع نوع من الحزن ليس في الآخر! قلت: فنوع تصورك لهذه الراقصة التي تحبها، أن إبليس هنا في غير إبليستيه! قال: هكذا هي عندي، وبهذا أسخر من الحقيقة الإبليسية. قلت: أو تسخر الحقيقة الإبليسية منك، وهو الأصح وعليه الفتوى ... ؟ فضحك طويلًا، وقال: سأحدثك بغريبة: أنت تعرف أن هذه الغادة لا تظهر أبدًا إلا في الحرير الأسود؛ وهي رقيقة البشرة ناصعة اللون، فيكون لها من سواد الحرير بياض البياض وجمال الجمال؛ فلقد كنت أمس بعد العشاء في طريقي إلى هذا المكان لأراها، وكان الليل مظلمًا يتدجى، وقد لبس وتلبس وغلب على مصابيح الطريق فحصر أنوارها حتى بين كل مصباحين ظلمة قائمة كالرقيب بين الحبيبين يمنعهما أن يلتقيا؛ فبينا أقلب عيني في النور والغسق وأنا في مثل الحالة التي تكون فيها الأفكار المحزنة أشد حزنًا -إذ رفع لي من بعيد شبح أسود يمشي مشيته متفترًا قصير الخطو يهتز ويتبختر؛ فتبصرته في هيئته فما شككت أنها هي، وفتحت الجنة التي في خيالي وبرزت الحقائق الكثيرة تلتمس معانيها من لذة الحب؛ وكان الطريق خاليًا، فأحسست به لنا وحدنا كالمسافة المحصورة بين ثغرين متعاشقين يدنو أحدهما من الآخر، وأسرعت إسراع القلب إلى الفرصة حين تمكن؛ فلما صرت بحيث أتبين ذلك الشبح إذا هو.. إذا هو قسيس.. فقلت: يا عجبًا! ما أظرف ما داعبك إبليس هذه المرة! وكأنه يقول لك: إيه يا صاحب الفضيلة ... وكان الممثلون يتناوبون المسرح ونحن عنهم في شغل؛ إذ لم تكن نوبتها قد جاءت بعد؛ وألقى الشيطان على لساني فقلت لصاحبنا: ما يمنعك أن تبعث إليها فلانًا يستفتح كلامها ثم يدعوها، فليس بينك وبينها إلا كلمة "تعالي" أو تفضلي؟ قال: كلا، يجب أن تنفصل عني لأراها في نفسي أشكالًا وأشكالًا؛ ويجب أن تبتعد لألمسها لمسات روحية؛ ويجب أن أجهل منها أشياء لأحقق فيها علم قلبي؛ ويجب أن تدع جسمها وأدع جسمي وهناك نلتقي رجلًا وامرأة ولكن على فهم جديد وطبيعة جديدة. بهذا الفهم أنا أكتب، وبهذه الطبيعة أنا أحب!

ما هو الجزء الذي يفتنني منها؟ هو هذا الكل بجميع أجزائه. وما هو هذا الكل؟ هو الذي يفسر نفسه في قلبي بهذا الحب. وما هو هذا الحب؟ هو أنا وهي على هذه الحالة من اليأس. نعم أنا بائس، ولكن شعور البؤس هو نوع من الغنى في الفن: لا يكون هذا الغنى إلا من هذا الشعور المؤلم، والحبيب الذي لا تناله هو وحده القادر قدرة الجمال والسحر؛ يجعلك لا تدري أين يختبئ منه جماله فيدعك تبحث عنه بلذة؛ ولا تدري أين يسفر جماله منه فيدعك تراه بلذة أخرى؛ أنا أنضج هذه الحلوى على نار مشبوبة، على نار مشبوبة في قلبي! قلت: يا صديقي المسكين! هذه مشكلة عرضت بها المصادفة وستحلها المصادفة أيضًا. وما كان أشد عجبي إذ لم أفرغ من الكلمة حتى رأينا "المشكلة" مقبلة علينا. أما هو: أما صاحب القلب المسكين ... ؟

القلب المسكين4

القلب المسكين "4": أما صاحب القلب المسكين فما كاد يرى الحبيبة وهي مقبلة تتيممنا حتى بغته ذلك، فساوره القلق، واعتراه ما يعتري المحب المهجور إذا فاجأه في الطريق هاجره؛ أرأيت مرة عاشقًا جفاه الحبيب وامتنع عليه دهرًا لا يراه، وصارمه مدة لا يكلمه، فنزع نومه من ليله، وراحته من نهاره، ودنياه من يده، وبلغ به ما بلغ من السقم والضنى، ثم بينا هو يمشي إذ باغته ذلك الحبيب منحدرًا في الطريق؟ إنك لو أبصرت حينئذ قلب هذا المسكين لرأيته على زلزلة من شدة الخفقان، وكأنه في ضرباته متلعثم يكرر كلمة واحدة: هي هي هي.. ولو نفذت إلى حس هذا البائس لرأيته يشعر مثل شعور المحتضر أن هذه الدنيا قد نفته منها! ولو اطلعت على دمه في عروقه لأبصرته مخذولًا يتراجع كأن الدم الآخر يطرده. إنها لحظة يرى فيها المهجور بعينيه أن كل شهواته في خيبة، فيرد عليه الحب مع كل شهوة نوعًا من الذل، فيكون بإزاء الحبيب كالمنهزم مائة مرة أمام الذي هزمه مائة مرة. لحظة لا يشعر المسكين فيها من البغتة والتخاذل والاضطراب والخوف إلا أن روه وثبت إلى رأسه هو هوت فجأة إلى قدميه! غير أن صاحبنا نحن لم يكن مهجورًا من صاحبته، ولكن من عجائب الحب أنه يعمل أحيانًا عملًا واحدًا بالعاطفتين المختلفتين؛ إذ كان دائمًا على حدد الإسراف ما دام حبًّا، فكل شيء فيه قريب من ضده، والصدق فيه من ناحية مهيأ دائمًا لأن يقابل بتهمة الكذب من الناحية الأخرى، واليقين معد له الشك بالطبيعة؛ والحب نفسه قضاء على العدل، فإنه لا يخضع لقانون من القوانين، والحبيب -مع أنه حبيب- يخافه عاشقه من أجل أنه حبيب!

وقد يصفر العاشق لمباغتة اللقاء كما يصفر لمباغتة الهجر، وهذه كانت حال صاحبنا عندما رآها مقبلة عليه؛ وكان مع ذلك يخشى إلمامتها به، توقيًا على نفسه من ظنون الناس؛ وأكثر ما يحسنه الناس هو أن يسيئوا الظن؛ وهو رجل ذو شأن ضخم، ومقالة السوء إلى مثله سريعة إذا رؤي مع مثلها، وكأنها هي ألمت بكل هذا أو طالعها به وجهه المتوقر المتزمت؛ فعدلت عن طريقها إلينا ووقفت على رئيس فرقة الموسيقى، وما بيننا وبينها إلا خطوات؛ ورأيتها قد هيأت في عينيها نظرة غاضبتنا بها، ثم لم تلبث أن صالحتنا بأخرى! وكأنها ألقت لرئيس الموسيقى أمرًا ليتأهب أهبته لدورها، ثم همت أن ترجع، ثم عادت إليه فجعلت تكلمه وعيناها إلينا؛ فقال صاحبنا وأعجبه ذلك من فعلها: إنها نبيلة حتى في سقوطها! ولا أدري ماذا كانت تقول لرئيس الموسيقى، ولكن هذا الرجل لم يظهر لي وقتئذ إلا كأنه تليفون معلق! كانت عيناها إلى صاحبها لا تنزلان عنه ولا تتحولان إلى غيره، ولا تسارقه النظر بل تغلبه عليه مغالبة؛ ورأيته كذلك قد ثبتت عيناه عليها فخيل إلي أن هذا الوجود قد انحصر جماله بين أربعة أعين عاشقة؛ وكانت تطارحه ويطارحها كلامًا مخبوءًا تحت هذه النظرات، وقد نسيا ما حولهما، وشعرا بما يشعر به كل حبيبين إذا التقيا في بعضه لحظات الروح السامية: أن هذا العالم العظيم لا يعمل إلا الاثنين فقط: هو وهي.. وكان فمها الجميل لا يزال يساقط ألفاظه لرئيس الموسيقى، وكأنها تسرد له حكاية مروية، أو تعارض بحافظته كلامًا تحفظه من كلام التمثيل أو الغناء؛ فهي تتحدث وعيناها مفكرتان شاخصتان، فلم ينكر الرجل هيئتها هذه؛ ولكن كيف كانت عيناها؟ لقد أرادت في البدء أن تجعل قوة نظراتها كلامًا، حتى لحسبت أن هذه النظرات الأولى تهتف من بعيد: أنت يا أنت! ثم بدا في عينيها فتور الظمأ، ظمأ الحب المتكبر المتمرد؛ لأنه حب المرأة المعشوقة، ولأن له لذتين، إحداهما في أن يبقى ظمأ إلى حين.. ثم أرسلت الألحاظ التي تتوهج أحيانًا فوق كلام المرأة الجميلة في بعض حالاتها النفسية، فتضرم في كلامها شرارة من الروح تظهر الكلام كأنه يحرق ويحترق..

ثم توجعت النظرات؛ لأنها تصلها بالرجل الذي لا يشبه الرجال، فلا يستوهب خضوعها ولا يشتريه؛ والرجل كل الرجل عند هذه المرأة هو الذي لا يشبه الباقين ممن تعرفهم، فإذا أحبها فكأنما أحبها عذراء خفرة لم تمس، وكأنه من ذلك يصلها بماضيها وطهارتها وحياتها وما لا يمكن أن تتمثله إلا في مثل حبه. ثم ذبلت عيناها الجميلتان، وما هو ذبول عيني امرأة تنظر إلى محبها؛ إنه هو استسلام فكرها لفكرة، أو عناد معنى فيها لمعنى فيه، أو توكيد خاطرة تحتاج إلى التوكيد؛ ومرة هو كقولها: لماذا؟ وتارة هو كقولها: أفهمت؟ وأحيانًا، وأحيانًا هو انتهاء مقاومة. وتمت الحكاية المروية التي كانت تلقيها للتليفون.. فكرت راجعة إلى المسرح بعد أن صاحت نظراتها مرة أخرى كما بدأت: أنت يا أنت.. فقلت لصاحبنا: ويحك يا عدو نفسه! لو اختار الشيطان عينين ساحرتين ينظر بهما إليك نظر الفتنة، لما اختار إلا عينيها، في وجهها، في هيئتها، في موقفها؛ وأراك مع هذا كمنتظر ما لا يوجد ولا يمكن أن يوجد؛ وأراها معك في حبها كالحيوان الأليف إذا طمع في المستحيل. قال: وما هو المستحيل الذي يطمع فيه الحيوان الأليف؟ قلت: ذلك يطمع في أن تكون له حقوق على صاحبه فوق الألفة والمنفعة. قال: لقد أغمضت في العبارة فبين لي شيئًا من البيان. قلت: هب كلبة تألف صاحبها وتحبه فهي له ذليلة مطواع، ثم يبلغ بها الحب أن تطمع في أن يكون لها تمام الشرف، فلا يقول صاحبها عنها: هذه كلبتي، بل يقول: هذه زوجتي.. قال: وي منك! وي منك* لقد ضربت على رأس المسمار كما يقولون هذا هو المستحيل الذي بيني وبينها، هذا هو المثل. يا لفظ الحلوى! يا لفظ الحلوى! لو كررتك بلساني ألف مرة فهل تضع في لساني طعمها..؟ قلت: خفض عليك يا صاحب القلب المسكين، فلست أكثر من عاشق. قال: بل أنا مع هذه أكثر من عاشق؛ لأن في العاشق راغبًا وفي أنا راهب، وفيه الجريء وفي المنكمش، ويغترف الغرفة من الشلال المتحدر فيحسوها فيرتوي

_ * أي عجب، يتعجب من فطنته.

وأغترف أنا الغرفة بيدي، وأبقيها في يدي، وأطمع أن تهدر في يدي كالشلال أنا أكثر من عاشق؛ فإنه يعشق لينتهي من ألم الجمال، وأعشق أنا لأستمر في هذا الألم! هذه هذه؛ العجيب يا صديقي أن خيال الإنسان يلتقط صورًا كثيرة من صور الجمال تجيء كما يتفق، ولكنه يلتقط صورة واحدة بإتقان عجيب، هي صورة الحب؛ فهذه هذه. ألم أقل لك إن إبليس هنا في غير حقيقته الإبليسية ولم تفهم علي*؟ فافهم الآن أننا إن كنا لا نرى الملائكة فإنه ليخيل إلينا أننا نراها فيمن نحبهم؛ وما دام سر الحب بيدل الزمن والنفس ويأتي بأشياء من خارج الحياة، فكل حقائق هذا الحب في غير حقيقتها. هذه هذه؛ لا أطلب في غيرها امرأة أجمل منها، فهذا كالمستحيل، ولكني ألتمس فيها هي امرأة أطهر منها، وهذا كالمستحيل أيضًا؛ إنها أجمل جسم، ولكن وا أسفاه! إنها أجمل جسم للمعاني التي يجب أن أبتعد عنها! وسكت صاحبنا؛ إذ رفعت ستارة المسرح وظهرت هي مرة أخرى، ظهرت في زينة لا غاية بعدها، تمثل العروس ليلة جلوتها؛ ألا ما أمرَّها سخرية منك أيتها المسكينة! عروس ولكن لمن؟ كانت تبرق على المسرح كأنها كوكب دري نوره نور وجمال وعواطف شعر. وأقبلت تتمايل بجسم رخص لين مسترسل الأعطاف يتدفق الجمال والشباب فيه من أعلاه إلى أسفله. وأظهر وجهها حسنًا وأبدى جسمها حسنًا آخر، فتم الحسن بالحسن. واقفة كالنائمة، فالجو جو الأحلام، وكان الحب يحلم، وكان السرور يحلم! مهتزة كالموج في الموج، هل خلقت روح البحر في جسمها المترجرج فشيء يعلو وشيء يهبط وشيء يثور ويضطرب؟ ثم دقت الموسيقى بألحانها المتكلمة، ودقت أعضاء هذا الجسم بألحانها المتحركة، وأحسسنا كأن روح الحديثة جالسة بيننا تنظر إليها وتتعجب. تتعجب من قوامها للغصن الحي، ومن بدنها للزهر الحي، ومن عطرها للنسيم الحي. أما صاحب القلب المسكين..

_ * مر هذا المعنى في المقالة الثالثة.

القلب المسكين5

القلب المسكين * "5": أما صاحب القلب المسكين فتزعزعت كبده مما رأى؛ وجعل ينظر إلى هذه الفتانة تمثل العروس وقد أشرق فيها رونقها وسطعت ولمعت، فبدت له مفسرة في هذه الغلائل غلائل العرس؛ وما غلائل العرس؟ إنها تلك الثياب التي تكسو لابستها إلى ساعة فقط.. ثياب أجمل ما فيها أنها تقدم الجمال إلى الحب، فأزهى ألوانها اللون المشرق من روح لابستها، وأسطع الأنوار عليها، النور المنبعث من فرح قلبين. تلك الثياب التي تكون سكبًا من خالص الحرير ورفيع الخز، وحين تلبسها مثل هذه الفاتنة تكاد تنطق أنها ليست من الحرير؛ إذ تعلم أن الحرير ما تحتها. ثم تنهد المسكين وقال: أفهمت؟ قلت: فهمت ماذا؟ قال: هذا هو انتقامها. قلت: يا عجبًا! أتريدها في ثياب راهبة مكبكبة فيها كما ألقيت البضاعة في غرارة، بين سواد هو شعار الحداد على الأنوثة الهالكة، وبياض هو شعار الكفن لهذه الأنوثة؟ قال: أنت لا تعرفها؛ إن الرواية التي تمثل فيها بين الروح والجسم، هي التي احتاجت إلى هذا الفصل يقوى به المعنى؛ وكل عاشقة فعشقها هو الرواية التي تمثل فيها، يؤلفها هذا المؤلف الذي اسمه الحب، ولا تدري هي ماذا يصنع وماذا يؤلف، غير أنه لا يفتأ يؤلف ويصنع وينفع كما تتنزل به الحال بعد الحال، وكما تعرض به المصادفة بعد المصادفة؛ وعليها هي أن تمثل..

_ 1 نرجح أن يكون القراء قد أدركوا الغرض في كتابة هذه المقالات على هذا السرد الذي وصفته لنا إحدى الأدبيات بأن "فيه أشياء مادية" فنحن نرمي إلى تصوير الغزيرة ثائرة مهتاجة بكل أسباب الثورة والاهتياج، ولكنها مكفوحة بأسباب أخرى من الدين والشرف والمروءة وفلسفة العقل..

قلت: فهذا؛ ولكن كيف يكون هذا انتقامًا؟ قال: إن الأفكار أشياء حقيقية، ولو كشف لك الجو هذه الساعة لرأيته مسطورًا عبارات عبارات كأنه مقالة جريدة. هذا الفصل حوار طويل في الهموم والآلام ورقة الشوق وتهالك الصبوة، ولو كتب له عنوان لكان عنوانه هكذا: ما أشهاها وما أحظاها! إن الهواء بين كل عاشقين متقاتلين يأخذ ويعطي.. قلت: يا عدو نفسه! ما أعجب ما تدقّق! لقد أدركت الآن أن المرأة تتسلح بما شاءت، لا من أجل أن تدافع، ولكن لتزيد أسلحتها في سلاح من تحبه، فتريده قوة على قهرها وإخضاعها.. أما هذه "العروس" فكانت أفكارها لا تجد ألفاظًا تحدها فهي تظهر كيفما اتفق، مرسلة إرسالًا في اللفتة والحركة والهيئة والقومة والقعدة، وهي من علمت؛ امرأة تعيش للحقائق، وبين الحقائق، ككل ذي صنعة في صنعته فكانت في تماديها خطر أي خطر على صاحب القلب المسكين، تمثل شيئًا لا أدري أهو ظاهر بخفائه أم هو خافٍ بظهوره؛ وقد وقع صاحبنا منها فيما لم يدخل في حسابه، فكانت الخبثة الماجنة كأنها تسكره بمسكر حقيقي، غير أنه من جسمها لا من زجاجة خمر. وكانت لذهنه المتخيل كالسحابة الممتلئة بالبرق؛ تومض كل لحظة بأنوار بعد أنوار، وبين الفترة والفترة ترمي الصاعقة. وظهرت كأنها امرأة مخلوقة من دم ولهب؛ فلقد أيقنت حينئذ أن الحب إن هو إلا الغريزة البهيمية بعينها محاولة أن تكون شيئًا له وجود فني إلى وجوده الطبيعي، فهو مصيبتان في واحدة، وكل عمله أن يجعل اللذة ألذ، والألم أشد، والقلة كثرة، والكثرة أكثر، وما هو نهاية كأنه لا نهاية.. هذه "العروس" كانت قبل الآن واقفة على حدود صاحبها، أما الآن فإنها تقتحم الحدود وتغزو غزوها وتمتلك ... يا لسحر الحب من سحر! كل ما في الطبيعة من جمال تظهره الطبيعة لعاشقها في إحدى صور الفهم، أما الحبيب الجميل فهو وحده الذي يظهر لعاشقه في كل صور الفهم، وبهذا يكون الوقت معه أوقاتًا مختلفة متناقضة، ففي ساعة يكون العقل وفي ساعة يكون الجنون.

يا لسحر الحب! لقد أرادت هذه المرأة أن تذهب بعقل صاحبها، وأن تنقله إلى وحشية الإنسان الأول الكامن فيه، وأن تقذف به إلى بعيد بعيد وراء فضائله وعصمته؛ فسنحت له كما يسنح الصيد للصائد يحمل في جسمه لحمه الشهي.. وتركت شعوره جائعًا إلى محاسنها بمثل جوع المعدة.. وبرزت له صريحة كما هي، ولما هي؛ ومن حيث إنها هي هي؛ وكل ذلك حين ألبست جسمها ثياب الحقيقة المؤنثة. آه من "هي" إذا امتلأت الهاء والياء من قلب رجل يحب! وآه من "هي" إذا خرجت هذه الكلمة من لغة الناس إلى لغة رجل واحد! إن في كل امرأة.. امرأة يقال لها "هي"1 باعتبار الضمير للتأنيث فقط، كما يعتبر في الدابة والحشرة والإدارة ونحوها من هذه المؤنثات التي يرجع عليها هذا الضمير؛ ولكن "هي" المفردة في الكون كله لا توجد في النساء إلا حين يوجد لها "هو".. أنا أنا الذي يقص للقراء هذه القصة، قد كابدت من شدة الحب وإفراط الوجد ما يفعم قلبين مسكينين لا قلبًا واحدًا؛ وكانت لي "هي" من إلهيات عانيت فيها الحب والألم دهرًا طويلًا؛ وقد ذهبت بي في هواها كل مذهب إلا مذهبًا يحل حرامًا، أو مذهبًا يخل بمروءة؛ ولقد علمت أن الشيء السامي في الحب هو ألا يخرج من العاشق محرم. فالشأن كل الشأن أن يستطيع الرجل الفصل بين الحب من أجل جمال الأنثى يظهر عليها، وبين الحب من أجل الأنثى تظهر في جمالها؛ فهو في الأولى يشهد الإلهية في إبداعها السامي الجميل، وفي الأخرى لا يرى غير البشرية حيوانيتها المتجملة.. وقد أدركت من فلسفة الحب أن الحقيقة الكبرى لهذا الجمال الأزلي الذي يملأ العالم -قد جعلت حنين العشق في قلب الإنسان هو أول أمثلتها العملية في تعليمه الحنين إليها إن شاء أن يتعلم، فكما يحب إنسان بروح الشهوة يحب إنسان آخر بروح العبادة؛ وهذا هو الذي يسميه الفلاسفة: "تلطيف السر"، أي جعله مستعدًا للتوجه إلى النور والحق والخير، وقد عدوا فيما يعين عليه، الفكر الدقيق والعشق العنيف.

_ 1 قلت: هنا رسالة إلى "فلانة" من تلك الرسائل التي كانت بينهما بعد القطيعة ... وانظر ص 83 "حياة الرافعي".

وكذلك تبينت مما علمني الحب أن طرد آدم وحواء من الفردوس، كان معناه ثقل معاني الفردوس وعرضها لكل آدم وحواء يمثلان الرواية.. فإذا "قطفا الثمرة" طردا من معاني الجنة*، وهبط بعد ذلك من أخيلة السماء إلى حقائق الأرض. نعم هو الحب شيء واحد في كل عاشق لكل جميل، غير أن الفرق بين أهله يكون في جماله العمل أو قبح العمل؛ وهذه النفوس مصانع مختلفة لهذه المادة الواحدة؛ فالحب في بعضها يكون قوة وفي بعضها يكون ضعفًا؛ وفي نفس يكون الهوى حيوانيًّا يراكم الظلم على الظلمة في الحياة، وفي أخرى يكون روحانيًّا يكشف الظلام عن الحياة. والمعجزة في هذا الإنسان الضعيف أنه مع طبيعة كل شيء طبيعية الإحساس به، فهو مستطيع أن يجد لذة نفسه في الألم، قادر على أن يأخذ هبة من معاني الحرمان؛ وبهذه الطبيعة يسمو من يسمو، وهي على أتمها وأقواها في عظماء النفوس، حتى لكأن الأِياء تأتي هؤلاء الظلمة سائلة: ماذا يريدون منها؟ فمن أراد أن يسمو بالحب فليضعه في نفسه بين شيئين: الخلق الرفيع، والحكمة الناضجة؛ فإن لم يستطع فلا أقلّ من شيئين: الحلال، والحرام**. أنا أنا الذي يقص للقراء هذه القصة، أعرف هذا كله، وبهذا كله فهمت قول صاحب القلب المسكين: إن ظهور صاحبته في فصل العروس هو انتقامها، حاصرت عيناها عينه، وزحفت معانيها على معانيه، وقاتلت قتال جسم المرأة المحبوبة في معركة حبها، وبكلمة واحدة: كأنما ليست هذه الثياب لتظهر له بلا ثياب.. وأردت أن أعيبها بما صنعت نفسها له، وأن أعيبه هو بدخوله فيما لا يشبهه، وقلت في غير طائل ولا جدوى، فما كنت إلا كالذي يعيب الورد بقوله: يا عطر الشذى، ويا أحمر الخدين! وقد أمسك عن جوابي، وكانت محاسنها تجعل كلماتي شوهاء، وكان وضوحها يجعل معانيَّ غامضة، وكانت حلاوتها تجعل أقوالي مرة، وكانت ثياب العروس وهي تزف تريه ألفاظي في ثياب العجوز المطلقة؛ وكلما غاضبته مع نفسه أوقعت هي الصلح بينه وبين نفسه.

_ * أي طردًا كالطرد من الجنة. ** بسطنا هذا المعنى في المقالة الثانية من هذه المقالات على وجه آخر.

والعجيب العجيب في هذا الحب أن فتح العينين على الجميل المحبوب هو نوع من تغميضهما للنوم ورؤيا الأحلام؛ ليس إلا هذا، ولا يكون أبدًا إلا هذا؛ فمهما أعطت من جدل فإقناعك المحب المستهام كإقناعك النائم المستثقل؛ وكيف وله ألفاظ من عقله لا من عقلك، وبينك وبينه نسيانه إياك، وقد تركك على ظاهر الدنيا وغاص هو في دنيا باطنه لا يملك فيها أخذًا ولا ردًا إلا ما تعطي وما تمنع. ثم.... ثم غابت "العروس" بعد أن نظرت له وضحكت. ضحكت بحزن.. حزن الذي يسخر من حقيقة؛ لأنه يتألم من حقيقة غيرها؛ وكان منظرها الجميل المنكسر فلسفة تامة مصورة للخير الذي اعتدى عليه الشر فأحاله، والإرادة التي أكرهها القدر فأخضعها، والعفة المسكينة التي أذلتها ضرورة الحياة، والفضيلة المغلوبة التي حيل بينها وبين أن تكون فضيلة! ويا ما كان أجملها ناظرة بمعاني البكاء ضاحكة بغير معاني الضحك؛ تتنهد ملامح وجهها وفمها يبتسم! كان منظرها ناطقًا بأن قلبها الحزين يسأل سؤالًا أبداه على وجهها بلطف ورقة؛ كان يسأل إنسانًا: ألا تحل هذه العقدة؟ ... وانقضى التمثيل وتناهض الناس. أما صاحب القلب المسكين؟..

القلب المسكين6

القلب المسكين "6": أما صاحب القلب المسكين فقام؛ ليخرج وقد تفارطته الهموم وتسابقت إليه فانكسر وتفتر؛ وكأنما هو قد فارق صاحبته باكيًا وباكية من حيث لا يرى بكاءه غيرها ولا يرى بكاءها غيره! ورأيته ينظر إلى ما حوله كأنما تغشى الدنيا لون نفسه الحزينة؛ إذ كانت نفسه ألقت ظلها على كل شيء يراه؛ وجعل يدلف ولا يمشي كأنه مثقل بحمل يحمله على قلبه. إنه ليس أخفُّ وزنًا من الدمع، ولكن النفوس المتألمة لا تحمل أثقل منه، حتى لينثر على النفس أحيانًا وكأنه وكأنها بناء قائم يتهدم على جسم؛ وبعض التنهدات على رقتها وخفتها، قد تشعر بها النفس في بعض همها كأنها جبل من الأحزان أخذته الرجفة فمادت به، فتقلقل، فهو يتفلق ويتهاوى عليها. آه حين يتغير القلب فيتغير كل شيء في رأي العين! لقد كان صاحبنا منذ قليل وكأن كل سرور في الدنيا يقول له: أنا لك! فعاد الآن وما يقول له: "أنا لك" إلا الهم؛ والتقى هو والظلام والعالم الصامت! جعل يدلف ولا يمشي كأنه مثقل بحمل يحمله على قلبه؛ ومتى وقع الطائر من الجو مكسور الجناح، انقلبت النواميس كلها معطلة فيه، وظهر الجو نفسه مكسورًا في عين الطائر المسكين؛ وتنفصل روحه عن السماء وأنوارها، حتى لو غمره النور وهو ملقى في التراب لأحسه على التراب وحده لا على جسمه.. ثم خرجنا، فانتبه صاحبنا مما كان فيه؛ وبهذه الانتباهة المؤلمة أدرك ما كان فيه على وجه آخر، فتعذب به عذابين: أما واحد فلأنه كان ولم يدم وأما الآخر فلأنه زال ولم يعد؛ والسرور في الحب شيء غير السرور الذي يعرفه الناس؛ إذ هو في الأول روح تتضاعف به الروح، فكل ما سرك وانتهى شعرت أنه انتهى؛

ولكن ما ينتهي من سرور العاشق المستهام يشعره أنه مات، فله في نفسه حزن الموت وهمّ الثكل، وله في نفسه هم الثكل وحزن الموت! وينظر صاحب القلب المسكين فإذا الأنوار قد انطفأت في الحديقة، وإذا القمر أيضًا كأنما كان فيه مسرح وأخذوا يطفئون أنواره. كان وجه القمر في مثل حزن وجه العاشق المبتعد عن حبيبته إلى أطراف الدنيا، فكان أبيض أصفر مكمدًا، تتخايل فيه معاني الدموع التي يمسكها التجلد أن تتساقط. كان في وجه القمر وفي وجه صاحبنا معًا مظهر تأثير القدر المفاجئ بالنكبة. وبدت لنا الحياة تحت الظلمة مقفرة خاوية على أطلالها، فارغة كفراغ نصف الليل من كل ما كان مشرقًا في نصف النهار؛ يا لك من ساحر أيها الحب؛ إذ تجعل في ليل العاشق ونهاره ظلامًا وضوءًا ليسا في الأيام والليالي! أما الحديقة فلبسها معنى الفراق، وما أسرع ما ظهرت كأنما يبست كلها لتوها وساعتها، وأنكرها النسيم فهرب منها فهي ساكنة، وتحولت روحها خشبية جافة، فلا نضرة فيها على النفس؛ وبدت أشجارها في الظلام، قائمة في سوادها كالنائحات يلطمن ويولولن، وتنكر فيها مشهد الطبيعة كما يقع دائمًا حين تنبت الصلة بين المكان ونفس الكائن. ماذا حدث؟ لا شيء إلا ما حدث في النفس، فقد تغيرت طريقة الفهم، وكان للحديقة معنى من نفسه فسلب المعنى، وكان لها فيض من قلبه فانحبس عنها الفيض؛ وبهذا وهذا بدت في السلب والعدم والتنكر، فلم يبق إبداع في شيء مبدع، ولا جمال في منظر جميل. أكذا يفعل الحب حين يضع في النفس العاشقة معنى ضئيلًا من معاني الفناء كهذا الفراق؟ أكذا يترك الروح إذا فقدت شيئًا محبوبًا، تتوهم كأنها ماتت بمقدار هذا الشيء؟ مسكين أنت أيها القلب العاشق! مسكين أنت! ومضينا فملنا إلى نديّ نجلس فيه، وأردت معابثة صاحبنا المتألم بالحب

والمتألم بأنه متألم، فقلت له: ما أراك إلا كأنك تزوجتها وطلقتها فتبعتها نفسك! قال: آه! من أنا الآن؟ وما بال ذلك الخيال الذي نسق لي الدنيا في أجمل أشكالها قد عاد فبعثرها؟ أتدري أن العالم كان في ثم أخذ مني فأنا الآن فضاء فضاء. قلت: أعرف أن كل حبيب هو العالم الشخصي لمحبه. قال: ولذلك يعيش المحب المهجور، أو المفارق، أو المنتظر، وكأنه في أيام خلت، وتراه كأنما يجيء إلى الدنيا كل يوم ويرجع. قلت: إن من بعض ما يكون به الجمال جمالًا أنه ظالم قاهر عنيف، كالملك يستبد ليتحقق من نفاذ أخره، وكأن الجميل لا يتم جماله إلا إذا كان أحيانًا غير جميل في المعاملة! قال: ولكن الأمر مع هذه الحبيبة بالخلاف؛ فهي تطلبني وأتنكبها، وهي مقبلة لكنها مقبلة على امتناعي؛ وكأنها طالب يعدو وراء مطلوب يفر، فلا هذا يقف ولا ذلك يدرك. قلت: فإن هذه هي المشكلة، ومتى كانت الحبيبة مثلها، وكان المحب مثلك، فقد جاءت العقدة بينهما معقودة من تلقاء نفسها فلا حل لها. قال: كذلك هو، فهل تعرف في البؤس والهم كئوس العاشق الذي لا يتدبر كيف يأخذ حبيبته، ولكن كيف يتركها؟ ما هي المسافة بيني وبينها؟ خطوة، خطوتان؟ كلا، كلا؛ بل فضائل وفضائل تملأ الدنيا كلها، إن مسافة ما بين الحلال والحرام متراخية ممتدة ذاهبة إلى غير نهاية؛ وإذا كان الحب الفاسد لا يقبل من الحبيب إلا "نعم" بلا شرط ولا قيد؛ لأنه فاسد، فالحب الطاهر يقبل "لا" لأنه طاهر! ثم هو لا يرضى "نعم" إلا بشرطها وقيدها من الأدب والشريعة وكرامة الإنسانية في المرأة والرجل. وإذا لم ينته الحب بالإثم والرذيلة، فقد أثبت أنه حب؛ وشرفه حينئذ هو سر قوته وعنصر دوامه. أتعرف أن بعض عشاق العرب تمنى لو كان جملًا وكانت حبيبته ناقة.. إنه بهذا يود ألا يكون بينهما العقل والقانون وهذا الحرمان الذي يسمي الشرف، وألا يكون بينهما إلا قيد غريزتها الذي ينحل من تلقاء نفسه في لحظة ما، وأن يترك لقوته وتترك هي لضعفها؛ والقوة والضعف في قانون الطبيعة هما ملك وتمليك واغتصاب وتسليم.

قلت: وهذا ما يفعله كل عاشق لمثل هذه الراقصة إذا لم يكن فيه إلا الحيوان؛ فإن بينهما قوة وضعفًا من نوع آخر، فمعه الثمن وبها الحاجة، وهما في قانون الضرورة ملك وتمليك. قال: وهذا مما يقطع في قلبي؛ فلو أن للأمة دينًا وشرفًا لما بقي موضع الزوجة فارغًا من رجل، وإن هذه وأمثالها إنما ينزلن في تلك المواضع الخالية أول ما ينزلن، فكل بغي هي في المعنى دين متروك وشرف مبتذل في الأمة. قلت: فحدثني عنك ما هذا الوجد بها وما هذا الاحتراق فيها، وأنت قد كنت بين يديها خياليًّا محضًا كأنما جمعتها في حواسك فأخذتها وتركتها في وقت معًا، وحواسك هذه لا تزال كما هي، بل هي قد زادت حدة، فكما صنعت لك من قرب تصنع لك من بعد؟ قال: أنا في محضرها أحبها كما رأيت بالقدر الذي تقول هي فيه إنك لا تحبني، إذ كان بيننا آخر اسمه الخلق؛ ولكن يفي غيابها أفقد هذا الميزان الذي يزن المقدار ويحدده، وإذا كنت لم تعلم كيف يصنع العاشق في غيبة المعشوق، فاعلم أن كبرياءه حينئذ لا ترى بإزائها ما تقاومه، فتتخلى عنه وتخذله؛ وفضيلته لا تجد ما تستعلن فيه، فتتوارى وتدعه؛ وشخصيته لا تجد ما تبرز له، فتختفي وتهمله؛ فما يكون من كل ذلك إلا أن يظهر المسكين وحده بكل ما فيه من الوهن والنقص وحدة الشوق؛ وهنا ينتقم الحب مما زورت عليه الكبرياء والفضيلة والشخصية، فيضرب بحقائقه ضربات مؤلمة لا تقوم لا القوة، ويجعل غياب الحبيب كأنه حضوره مستخفيًا لرؤية الحقيقة التي كتمت عنه؛ وكم من عاشقة متكبرة على من تهواه تصد وتباعده، وهي في خلوتها ساجدة على أقدام خياله تمرغ وجهها هنا وهنا على هذه القدم وعلى هذه القدم! لا إنه لا بد في الحب من تمثيل رواية الامتناع أو الصد أو التهاون أو أي الروايات من مثلها؛ ولكن ثياب المسرح هي دائمًا ثياب استعارة ما دام لابسها في دوره من القصة. ثم وضع المسكين يده على قلبه وقال: آه! إن هذا القلب يغاضب الحياة كلها متى أراد أن يشعر صاحبه أنه غضبان. مَنْ مِنَ الناس لا يعرف أحزانه؟ ولكن من منهم الذي يعرف أسرار أحزانه

وحكمتها؟ أما إنه لو كشف السر الأفراح والأحزان عملًا في النفس من أعمال تنازع البقاء؛ فهذا الناموس يعمل في إيجاد الأصلح والأقوى، ثم يعمل كذلك لإيجاد الأفضل والأرق، ومن ثم كانت آلام الحب قوية حتى لكأنها في الرجل والمرأة تهيئ أحد القلبين؛ ليستحق القلب الآخر. آه من هذا اللواعج! إنها ما تكاد تضطرم حتى ترجع النفس وكأنها موقد يشتعل بالجمر، وبذلك يصهر المعدن الإنساني ويصنع صنعة جديدة؛ وإلى أن ينصهر ويتصفى ويصنع، ماذا يكون للإنسان في كل شيء من حبيبه؟ يكون له في كل شيء روحه النازي. قلت: بخ بخ*! هكذا فليكن الحب؛ إنها حين تهيج في نفسك الحنين إليها تعطيك ما هو أجمل من جمالها وما هو أبدع من جسمها؛ إذ تعطيك أقوى الشعر وأحسن الحكمة. قال: وأقوى الألم وأشد اللوعة! يا عجبًا! كأن الحياة لا تقدم في عشق المحبوب إلا عشقها هي؛ فإذا وقعت الجفوة، أو حم البين، أو اعترى اليأس -قدم الموت نفسه فكل ذلك شبه الموت. إن الحزن الذي يجيء من قبل العدو يجيء معه بقوة تحمله وتتجلد له وتكابر فيه؛ ولكن أين ذلك في حزن مبعثه الحبيب؟ ومن أين القوة إذا ضعف القلب؟ قلت: لا يصنع الله بك إلا خيرًا؛ فإذا كان غد وانسلخ النهار من الليل جئنا إليها فرأيناها في المسرح، ولعل الأمر يصدر مصدرًا آخر، قال: أرجو.. ولم يكد ينطق بهذه الرجية حتى مر بنا سبعة رجال يقهقهون، ثم تلاقينا وجئنا؛ ويا ويلتنا على المسكين حين علم أنها رحلت؛ لقد أدرك أن الشيطان كان يضحك بسبعة أفواه.. من قوله: أرجو.. ولماذا رحلت؟ لماذا؟ وأما هو..؟

_ * كلمة الإعجاب تقال عند الرضى والمدح، ومثلها "زه" وهذه فارسية.

القلب المسكين7

القلب المسكين "7": وأما صاحب القلب المسكين فما علم أنها قد رحلت عن ليلته حتى أظلم الظلام عليه، كأنها إذا كانت حاضرة أضاء شيء لا يرى، فإذا غابت انطفأ هذا الضوء؛ ورأيته واجمًا كاسف البال يتنازعه في نفسه ما لا أدري، كأن غيابها وقع في نفسه إنذار حرب. لماذا كان الشعراء ينوحون على الأطلال ويلتاعون بها ويرتمضون منها وهي أحجار وآثار وبقايا؟ وما الذي يتلقاهم به المكان بعد رحيل الأحبة؟ يتلقاهم بالفراغ القلبي الذي لا يملؤه من الوجود كله إلا وجود شخص واحد؛ وعند هذا الفراغ تقف الدنيا مليًّا كأنها انتهت إلى نهاية في النفس العاشقة، فتبطل حينئذٍ المبادلة بين معاني الحياة وبين شعور الحي؛ ويكون العاشق موجودًا في موضعه ولا تجده المعاني التي تمر به، فترجع منه كالحقائق تلم بالفراغ من وعي سكران. يا أثر الحبيب حين يفارق الحبيب! ما الذي يجعل فيك تلك القدرة الساحرة؟ أهو فصلك بين زمن وزمن، أم جمعك الماضي في لحظة؛ أم تحويلك الحياة إلى فكرة، أم تكبيرك الحقيقة إلى إضعاف حقيقتها، أم تصويرك روحية الدنيا في المثال الذي تحسه الروح، أم إشعارك النفس كالموت أن الحياة مبنية على الانقلاب، أم قدرتك على زيادة حالة جديدة للهم والحزن، أم رجوعك باللذة ترى ولا تمكن، أم أنت كل ذلك؛ لأن القلب يفرغ ساعة من الدنيا ويمتلئ بك وحدك؟ يا أثر الحبيب حين يفارق الحبيب! ما هذه القوة السحرية فيك تجتذب بها الصدر ليضمك، وتستهوي بها الفم ليقبلك، وتستدعي الدمع لينفر لك، وتهتاج الحنين لينبعث فيك؟ أكل ذلك لأنك أثر الحبيب، أم لأن القلب يفرغ ساعة من الدنيا ولا يجد ما يخفق عليه سواك؟ ووقف صاحبنا المسكين محزونًا كأن شيئًا يصله بكل هموم العالم؛ وتلك

هي طبيعة الألم الذي يفاجئ الإنسان من مكمن لذته وموضع سروره، فيسلبه نوعًا من الحياة بطريقة سلب الحياة نفسها، ويأخذ من قلبه شيئًا مات فيدفنه في قبر الماضي، يكون ألمًا؛ لأن فيه المضض، وكآبة؛ لأن فيه الخيبة، وذهولًا؛ لأن فيه الحسرة؛ وتتم هذه الثلاثة الهموم بالضيق الشديد في النفس؛ لاجتماع ثلاثتها على النفس؛ فإذا المسكين مبغوت كأن الآلام أطبقت عليه من الجهات الأربع، فقلبه منها صدوع صدوع.. وجعلت أعذل صاحبنا فلا يعتذِل، وكلما حاولت أن أثبت له وجود الصبر كنت كأنما أثبت له أنه غير موجود؛ ثم تنفس وهو يكاد ينشق غيظًا وقال: لماذا رحلت؟ لماذا؟ قلت: أنت أذللت جمالها بهذا الأسلوب الذي ترى أنك تعز جمالها به، وقد اشتددت عليها وعلى نفسك، وتعنَّتَّ على قلبك وقلبها؛ كانت ظريفة المذهب في عشقها وكنت خشنًا في حبك، وسوغتك حقًّا فرددته عليها، وتهالكت وانقبضت أنت، ورفعت قدرك عن نفسها تحببًا وتوددًا فخفضت قدرها عن نفسك من اطراح وجفاء، واستفرغت وسعها في رضاك فتغاضبت، ونضت عن محاسنها شيئًا شيئًا تسأل بكل شيء سؤالًا فلم تكن أنت من جوابها في شيء.. ومن طبع المرأة أنها إذا أحبت امتنعت أن تكون البادئة، فالتوت على صاحبها وهي عاشقة، وجاحدت وهي مقرة؛ إذ تريد في أن تتحقق أنها محبوبة، وفي الثانية أن يقدم لها البرهان على أنها تستحق المهاجمة، وفي الثالثة هي تريد ألا تأخذها إلا قوة قوية فتمتحن هذه القوة، ومع هذه الثلاث تأبى طبيعة السرور فيها والاستمتاع بها إلا أن يكون لهذا السرور وهذا الامتناع شأن وقيمة، فتذيق صاحبها المر قبل الحلو؛ ليكبر هذا بهذا. غير أنها إذا غلبها الوجد وأكرهها الحب على أن تبتدئ صاحبها، ثم ابتدأت ولم تجد الجواب منه، أو لم يأتِ الأمر فيما بينها وبينه على ما تحب، فإن الابتداء حينئذ يكون هو النهاية، وينقلب الحب عدو الحب؛ وأنا أعرف امرأة وضعتها كبرياؤها في مثل هذه الحالة وقالت لصاحبها: سأتألم ولكن لن أغلب، فكان الذي وقع واأسفاه -أنها تألمت حتى جنت، ولكن لم تغلب1.. قال: فما بال هذه؟ أما تراها تبتدئ كل يوم رجلًا؟

_ 1 انظر قصة هذه الحبيبة التي تألمت حتى جنت ص73-101 "حياة الرافعي".

قلت: إنها تبتدئ متكسبة لا عاشقة، فإذا أحبت الحب الصحيح أرادت قيمتها فيما هو قيمتها؛ وأنا أحسبها تحب فيك هذا العنف وهذه القسوة وهذه الروحية الجبارة؛ فإنها لذات جديدة للمرأة التي لا تجد من يخضعها؛ وفي طبيعة كل امرأة شيء لا يجد تمامه إلا في عنف الرجل، غير أنه العنف الذي أوله رقة وآخره رقة؟ أما والله إن عجائب الحب أكثر من أن تكون عجيبة؛ والشيء الغريب يسمى غريبًا فيكفي ذلك بيانًا في تعريفه، غير أنه إذا وقع في الحب سمي غريبًا فلا تكفيه التسمية، فيوصف مع التسمية بأنه غريب فلا يبلغ فيه الوصف، فيقع التعجب مع الوصف والتسمية من أنه شيء غريب، ثم تبقى وراء ذلك منزلة للإغراق في التعجب بين العاشق وبين نسفه؛ وهكذا يشعرون. فكل أسرار الحب من أسرار الروح ومن عالم الغيب؛ وكأن النبوة نبوتان: كبيرة وصغيرة، وعامة وخاصة. فإحداهما بالنفس العظيمة في الأنبياء، والأخرى بالقلب الرقيق في العشاق؛ وفي هذه من هذه شبه؛ لوجود العظمة الروحية في كلتيهما غالبة على المادة، مجردة من إنسان الطين من النور، محركة هذه الطبيعة الآدمية حركة جديدة في السمو، ذاهبة بالمعرفة الإنسانية إلى ما هو الأحسن والأجمل، واضعة مبدأ التجديد في كل شيء يمر بالنفس، منبعثة بالأفراح من مصدرها العلوي السماوي. بيد أن في العشق أنبياء كذبة؛ فإذا تسفل الحب في جلال، واستعلنت البهيمية في عظمة، وتجرد من إنسان الطين إنسان الحجر، وتحركت الطبيعة الآدمية حركة جديدة في السقوط، وذهبت المعرفة الإنسانية إلى ما هو الأقبح. والأسوأ، وتجدد لكل شيء في النفس معنى فاسد، وانبعثت الأفراح من مصدرها السفلى- إذا وقع كل هذا من الحب فما عساه يكون؟ لا يكون إلا أن الشيطان يقلد النبوة الصغيرة في بعض العشاق، كما يقلد النبوة الكبيرة في بعض الدجالين. هكذا قال صاحب القلب المسكين وقد تكلم عن الحب ونحن جالسان في الحديقة، وكنا دخلناها ليجدد عهدًا بمجلسه فلعله يسكن بعض ما به؛ واستفاض

كلامنا في وصف تلك العبهرة* الفتانة التي أحلته هذا المحل وبلغت به ما بلغت وكان في رقة لا رقة بعدها، وفي حب لا نهاية وراءه لمحب؛ وخيل إلى أنه يرى الحديث عنها كأنه إحضارها بصورة ما! وأنفع ما في حديث العاشق عن حبه وألمه أن الكلام يخرجه من حالة الفكر، ويؤنس قلبه بالألفاظ، ويخفف من حركة نفسه بحركة لسانه، ويوجه حواسه إلى الظاهر المتحرك؛ فتسلبه ألفاظه أكثر معانيه الوهمية، وتأتيه بالحقائق على قدرها في اللغة لا في النفس؛ وفي كل ذلك حيلة على النسيان، وتعلل إلى ساعة؛ وهو تدبير من الرحمة بالعاشقين في هذا البلاء الذي يسمى الفراق أو الهجر. وكان من أعجب ما عجبت له أن صديقًا مر بنا فدعاه صاحبنا وقال وهو يومئ إلي: أنا وفلان هذا مختلفان منذ اليوم؛ لا هو يقيم عذرًا ولا أنا أقيم حجة، وأحسب أن عندك رأيًا فاقض بيننا ... ويسأله الصديق: ما القضية؟ فيقول وهو يشير إلي: إن هذا قد تخرق قلبه من الحب فلا يدري من أين يجيء لقلبه برقعة.. وإنه يعشق فلانة الراقصة التي كانت في هذا المسرح، ويزعم لي.. أنها أجمل وأفتن وأحلى من طلعت عليه الشمس، وأنه ليس بين وجهها وبين القمر وجه امرأة أخرى في كل ما يضيء القمر عليه، وأن عينيها مما لا ينسى أبدًا أبدًا أبدًا ... لأن ألحاظها تذوب في الدم وتجري فيه، وأن الشيطان لو أراد مناجزة العفة والزهد في حرب حاسمة بينه وبين أزهد العباد لترك كل حيله وأساليبه وقدم جسمها وفنها.. فيقول له المسؤول: وما رأيك أنت؟ فيجيبه: لو كان عنها صاحيًا لقد صحا. إن المشكلة في الحب أن كل عاشق له قلبه الذي هو قلبه، وحسبها أن مثل هذا هو يصفها؛ وما يدرينا من تصاريف القدر بهذه المسكينة ما عليها مما لها، فلعلها الجمال حكم عليه أن يعذب بقبح الناس، ولعلها السرور قضي عليه أن يسجن في أحزان! وقلت له: يا صديقي المسكين! أوَكل هذا لها في قلبك؟ فما هذا القلب الذي تحمله وتتعذب به؟

_ * هي التي جمعت الحسن والجسم والامتلاء وجمال الخلقة من كل ناحية، كهذه التي نحن في وصفها منذ شهرين....

قال: إنه -والله- قلب طفل، وما حبه إلا التماسه الحنان الثاني من الحبيبة، بعد ذلك الحنان الأول من الأم؛ وكل كلامي في الحب إنما هو إملاء هذا القلب على فكره كأنه يخلق به خلق تفكيره. آه يا صديقي! من السخرية بهذه الدنيا وما فيها أن القلب لا يستمر طفلًا بعد زمن الطفولة إلا في اثنين: من كان فيلسوفًا عظيمًا، ومن كان مغفلًا عظيمًا! وافترقنا؛ ثم أردت أن أتعرف خبره فلقيته من الغد، وكان لي في أحلامي تلك الليلة شأن عجيب، وكان له شأن أعجب؛ أما أنا فلا يعني القراء شأني وقصتي. وأما هو؟ ...

القلب المسكين8

القلب المسكين "8": وأما هو فحدثني بهذا الحديث العجيب من لطائف إلهامه وفنه، قال: انصرفت إلى داري وقد عز عليَّ أن يكون هذا منها وأن يكون هذا مني، وهي إن غابت أو حضرت فإنها لي كالشمس للدنيا: لا تظلم الدنيا في ناحية إلا من أنها تضيء في ناحية؛ فظلمتها من عمل نورها؛ وكانت ليلتي فارغة من النوم فبت أتململ، وجعل القلب يدق في جنبي كأنه آلة في ساعة لا قلب إنسان؛ وكان في الدنيا من حولي صمت كصمت الذي سكت بعد خطبة طويلة، وفي أنا صمت آخر كصمت الذي سكت بعد سؤال لا جواب عليه؛ وكان الهواء راكدًا كالسكران الذي انطرح من ثقله السكر بعد أن هذى طويلًا وعربد؛ والوجود كله يبدو كالمختنق؛ لأن معنى الاختناق في قلبي وأفكاري؛ ونظرت نظرة في النجوم فإذا هي تتغور نجمًا بعد نجم، كأن معنى الرحيل انتشر في الأرض والسماء إذ رحلت الحبيبة؛ وكأن كل وجه مضيء يقول لي كلمة: لا تنتظر! فلما عسعس الليل رميت بنفسي فنمت والعقل يقظان، وصنعت الأحلام ما تصنع، فرأيتها هي في تلك الشفوف التي ظهرت فيها عروسًا؛ وما أعجب كبرياء المرأة المحبوبة! إنها لتبدو لعيني محبها كالعارية وراء ستر رقيق يشف عنها كالضوء، ثم تدل بنفسها أن ترفع هذا الستر، فإن لم يتجرأ هو لم تتجرأ هي؛ وكأنها تقول له: قد رفعته بطريقتي فارفعه أنت بطريقتك.. وكانت مصورة في الحلم تصويرًا آخر؛ فلا ينسكب من جسمها معنى الحسن الذي أتأمله وأعقله، ولكن معنى السكر الذي يترك المرء بلا عقل؛ ولم تكن غلائلها عليها كالثياب على المرأة، ولكنها ظهرت لي كاللون على الوردة الزاهية: تظهر فتنة وتتم فتنة. أيتها الأحلام، ماذا تبدعين إلا مخلوقات الدم الإنساني، ماذا تبدعين؟

قلت: يا صديقي دع الآن هذه الفلسفة وخذ في قص ما رأيت، ثم ماذا بعد الوردة ولون الوردة؟ قال: إنه القلب المسكين دائمًا، إنه القلب المسكين، لقد ضحكت لي وقالت: ها أنذا قد جئت! وأقبلت ترائيني بوجهها، وتتغزل بعينيها، وتتنهد بصدرها، وألقت يديها في يدي، فأحسست اليدين تتعانقان ولا تتصافحان؛ ثم تركناهما نائمتين إحداهما على الأخرى، وسكتنا هنيهة وقد خيل إلينا أننا إذا تكلمنا استيقظت يدانا! أما صافحتك امرأة تحبها وتحبك؟ أما أحسست بيدها قد نامت في يدك ولو لحظة؟ أما رأيت بعينيك نعاس يدها وهو ينتقل إلى عينيها فإذا هما فاترتان ذابلتان، وتحت أجفانهما حلم قصير؟ قلت: يا صديقي دع الفلسفة؛ ثم كان ماذا بعد أن نامت يد على يد؟ قال: ثم كانت سخرية من الشيطان أقبح سخرية قط. قلت: حسبي لكأنك شرحت لي ما بقي.. فضحك طويلًا، وقال: إن الشيطان يسخر الآن منك أيضًا، وكأني به يقول لك: وكان ما كان مما لست أذكره.. أفتدري ما الذي كان وما بقية الخبر؟ لقد كنت مولعًا بامتحان قوتي في الضغط بيدي على أعواد منصوبة من الحديد، أو على أيدي الأقوياء إذا سلمت عليهم1؛ فلما صافحتني لبثت مدة من الزمن ثم شددت على يدها قليلًا قليلًا، فتنبهت في هذه العادة، فمسخت الحلم وانصرف وهمي إلى أقبح صورة وأشنعها وأبعدها مما أنا فيه من الحب ولذات الحب؛ فإذا بإزائي وجه، وجه من؟ وجه مصارع ألماني كنت أعرفه من عشرين سنة وأضغط على يده.. قلت: إنما هذه كبرياؤك أو عفتك تنبهت في تلك الشدة من يدك، ولا يزال أمرك عجيبًا؛ فهل معك أنت ملائكة ومع الناس شياطين؟ قال: والذي هو أعجب أني رأيت في أضغاث أحلامي كأن قلبي المسكين يخاصمني وأخاصمه؛ وقد خرج من أحناء الضلوع كأنه مخلوق من الظل يرى ولا يرى إذ لا شكل له؛ وسبني وسببته، وقلت له وقال لي، وتغالظنا كأننا عدوان؛

_ 1 انظر ص274-275 "حياة الرافعي".

فهو يرى أني أنا أمنعه لذاته، وأرى أنه هو يمنعني، وأنه أشفى بي على ما أشفى؛ وقلت له فيما قلت: لا قرار على جنايتك، فاذهب عني ولا تتسم باسمي فإنه لا فلان لك* بعد اليوم؛ ولولا أنك مخذول في الحب لعلمت أن لمسة يد الرجل ليد المرأة الجميلة نوع مخفف من التقبيل، فإذا هي تركته يرتفع في الدم انتهى يومًا إلى تقبيل فمه لفمها؛ ولولا أنك مخذول في الحب لعلمت أن هذا الضم بين اليدين نوع مخفف من العناق، فإذا هي تركته يشتد في الدم انتهى يومًا إلى ضم الصدر للصدر؛ ولكنك مخذول في الحب، ولكنك مخذول!. وقال لي فيما قال: وأنت أيها الخائب؟ أما علمت أن أناملها الرخصة هي أناملها، لا أعوادك من الحديد؟ فكيف شددت عليها ويحك تلك الشدة التي أخرجت لك وجه المصارع؟ ولكنك خائب في الحب، ولكنك خائب! قلت: فهذه قضية بيني وبينك أيها القلب العدو؛ لقد تركتني من الهموم كالشجرة المنخربة قد بليت وصارت فيها التخاريب؛ فلا حياتها بالحياة ولا موتها بالموت، وكم علقتني بفاتنة بعد فاتنة لا عنها إقصار ينتهي ولا فيها مطمع يبتدئ؛ ما أنت فيّ إلا وحش أكبر لذته لطع الدم! واستدار الحلم فلم ألبث أن رأيتني في محكمة الجنايات، وكأني شكوت قلبي إليها فهو جالس في القفص الحديدي بين المجرمين ينتظر ما ينتظرون من الفصل في أمرهم؛ وقد ارتفع المستشارون الثلاثة إلى منصة الحكم، وجلس النائب العام في مجلسه يتولى إقامة الدعوى وبين يديه أوراقه ينظر فيها، ورأيت منها غلافًا كتب على ظاهره: قضية القلب المسكين. وتكلم رئيس المحكمة أول من تكلم فقال: ليس في قضية القلب محامٍ، فابغوه من يدافع عنه؛ ثم التفت إليه وقال: من عسى تختار للدفاع عنك؟ قال القلب: أوَهنا موضع للاختيار يا حضرة الرئيس؟ إنه ليس تحت هذه -وأومأ إلى السماء- ولا فوق هذه -وأومأ إلى الأرض- إلا ... فبدر النائب العام وقال: إلا الحبيبة؟ أكذلك؟ غير أنها أستاذة في الرقص لا في القانون!

_ * ذكر اسمه، كما تقول مثلًا: لا محمد لك.

- القلب: ولكنني لا أختار غيرها محكومًا لي أو محكومًا علي؛ أنا أريد أن أنظر فيها وانظروا أنتم في القضية.. - الرئيس: فليكن؛ فهذه جريمة عواطف إيذن لها أيها الآذن. فنادى المحضر*: الأستاذة! الأستاذة! وجاءت مبادرة، ودخلت تمشي مشيتها وقد افتر ثغرها عن النور الذي يسطع في النفس؛ وأومضت بوجهها يمينًا وشمالًا، فصرف الناس جميعًا أبصارهم إليها وقد نظروا إلى فتنة من الفتن؛ وثارت في كل قلب نزعة، وغلبت الحقيقة البشرية فانتقضت طباع الموجودين في قاعة الجلسة، وأبطل قانون جمالها قانون المحكمة، فوقعت الضجة وعلت الأصوات واختلطت؛ وترددت بين جدران المكان صدى في صدى كأن الجدران تتكلم مع المتكلمين. أصوات أصوات: سبحان الله! سبحان الله! تبارك الله! تبارك الله! آه آه! آه آه! وسمع صوت يقول: اتهموني أنا أيضًا.. فنفرت الكلمات: وأنا، وأنا، وأنا! واختفت المحكمة وانبعث المسرح بدخول فاتنته الراقصة؛ وكان المستشارون والنائب العام في أعين الناس كأنهم صور معلقة على الحائط؛ لا يخشاها أحد أن تنظر إلى ما يصنع! فصاح الرئيس: هنا المحكمة! هنا المحكمة! سبحان الله.. المحكمة المحكمة! -النائب العام: هذا بدء لا ترضاه النيابة ولا تقبل أن تنسحب عليه، نعم إن هذا الوجه الجميل أبرع محام في هذه القضية، ونعم إن جسمها.. آه ماذا؟ إنكم تأتون بالشهوة الغالبة القاهرة لتدافع عن المشتهي.. عن المتهم، هذا وضع كوضع العذر إلى جانب الذنب، وكأنكم يا حضرات المستشارين.. فبدرت المحامية تقول في نغمة دلال وفتور: وكأنكم يا حضرات المستشارين قد نسيتم أن النائب العام له قلب أيضًا ... واشتد ذلك على النائب، وتبين الغضب في وجهه؛ فقال: يا حضرة الرئيس.. -الرئيس مبتسمًا: واحدة بواحدة، وأرجو ألا تكون لها ثانية، ومعنى هذا كما هو ظاهر ألا تكون لها ثالثة.. "ضحك".

_ * هو الموظف الذي يكون في الجلسة للنداء على الخصوم.

قال صاحب القلب المسكين: وكنت بلا قلب.. فلم ألتفت للجمال، بل راعني ذكاء المحامية ونفاذها وحسن اهتدائها إلى الحجة في أول ضرباتها، وتعجبت من ذلك أشد التعجب، وأيقنت أن النائب العام سيقع في لسانها، لا كما يقع مثله في لسان المحامي القدير، ولكن كما يقع زوج في لسان زوجة معشوقة متدللة تجادله بحجج كثيرة بعضها الكلام.. وقلت في نفسي: يا رحمة الله لا تجعلي من النساء الجميلات الفاتنات محاميات في هذه المحاكم، فلو ألبسوهن لحى مستعارة لكان الصوت الرخيم وحده من تلك الأفواه الجميلة العذبة، نداء قانونيًّا للقبلات.. ونهضت المحامية العجيبة فسلطت عينيها الساحرتين على النائب، ثم قالت تخاطب المحكمة: قبل النظر في هذه القضية قضية الحب والجمال، قضية قلبي المسكين.. أريد أن أتعرف الرأي القانوني في اعتبار الجريمة. أهي شخصية، فتقصر على صاحبها؛ أو خاصة، فتضر غير جانبها، أو عامة، فيتناولها العموم المحدود لمن تجمعهم جامعة الحب؛ أو هي أعم، فيتناولها العموم المطلق للهيئة الاجتماعية؛ ما هي جريمة قلبي؟ -الرئيس: ما رأي النيابة؟ النائب "ضاحكًا": "غزالتها رايقة" كما يقول الراقصات والممثلات.. أرى أنها جريمة آتية من ضرب الخاص في العام.. "ضحك". المحامية: جواب كجواب القائل: حب أبي بكر؛ كان ذلك الرجل يحب زوجته الجميلة ويخافها، وكانت تقسو عليه قسوة عظيمة وتغلظ له الكلام، وهو يفرق منها ولا يخالفها؛ فرآها يومًا وقد طابت نفسها، فأراد أن ينتهز الفرصة ويشكو قسوتها؛ فقال: يا فلانة قد -والله- أحرق قلبي.. ولم تدعه يتم الكلمة، فحددت نظرها إليه وقطبت وجهها وقالت: أحرق قلبك ماذا؟ فخاف ولم يقدر أن يقول لها سوء أخلاقك. فقال؛ حب أبي بكر الصديق رضي الله عنه.. "ضحك"، ورنت ضحكة المحامية فاضطربت لها القلوب، ووقعت في كل دم، وفي دم النائب أيضًا؛ فانخزل ولم يزد على أن يقول: أحتج من كل قلبي.. الرئيس: لندخل في الموضوع ولتكن المرافعة مطلقة؛ فإن الحدود في جرائم القلب تسدل وترفع كهذه الستائر في مسرح التمثيل. وعشرون ستارة قد تكون كلها لرواية واحدة.

- النائب العام: يا حضرات المستشارين، لا يطول اتهامي؛ فإن هذا القلب هو نفسه تهمة متكلمة. المحامية: ولكنه قلب. النائب: وأنا يا سيدتي لم أحرف الكلمة ولم أقل إنه كلب. "ضحك"، وتضرج وجه المحامية وخجلت*. - الرئيس: الموضوع الموضوع. - النائب: يا حضرات المستشارين، إن ألم هذه الجريمة إما أن يكون في شخص الجاني أو ماله، أو صفته كأن يكون زوجًا مثلًا، أو صيته الأدبي؛ فإما الشخص فهذا ظاهر، وأما المال فنعم إن القلب المسكين قرار لنفسه ولصاحبه ألا يبتاع أبدًا تذكرة دخول إلى جهنم.. "ضحك". - المحامية: أستميح النائب عذرًا إذا أنا.. إذا أنا فهمت من هذا التعبير أن حضرته يعرف على الأقل أين تباع هذه "التذاكر".. "ضحك" وتفرج وجه النائب العام وخجل. - الرئيس: كنت رجوت ألا تكون للأولى ثانية، وقلت: إن معنى هذا كما هو ظاهر ألا يكون لها ثالثة؛ فهل أنا محتاج إلى القول بأن المعنى المنطقي ألا يكون للثالثة رابعة؟ - النائب: يا حضرات المستشارين، وأما الصفة، فهذا القلب المسكين قلب رجل متزوج؛ ولا تغرنكم صوفية هذا القلب، ولا يخدعنكم تألهه وزعمه السمو. إنه على كل حال يعشق راقصة، وهذا اعتداء في ضمنه اعتداء، على الزواج وعلى الشرف؛ وهبوه متصوفًا متألهًا ولم يتصل بالراقصة، فهو على كل حال قد أخذها واتخذها ولكن بأسلوبه الخاص.. وبهذا اقترف الجريمة؛ آه! إن هذه القضية ناقصة؛ وذلك نقص فيها أخشى أن يكون نقصًا في الحكم أيضًا، فأتموه أنتم. يا حضرات المستشارين، إن النقص فيها أنها لا شهود فيها؛ ولكن هذا عمل إلهي لا يظهر إلا يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.

_ * إذا كان كلبًا فهو يتبع كلبة.. وهذه هي غمزة النائب للمحامية، ولا ينس القراء أن المحكمة في الرؤيا؛ وفي الرؤيا علمنا أن هذا النائب كأكثر شبان العصر في هذه المدنية الفاسدة، لا يتزوجون؛ لأن المدنية جعلتهم بين الفتيان "أنصاف متزوجين" على وزن "أنصاف عذارى" بين الفتيات.. وفي الرؤيا علمنا أنه يخادن راقصة، ويقال ممثلة -بينها وبين صاحب القلب المسكين منافسة ...

-المحامية: هذا تعبير أكبر من قدرة قائله ومن منزلته ووظيفته، هذا تعبير جسور! يا حضرة النائب، من الذي لا يحمل شهودًا في لسانه ويديه ورجليه، بل ألف شاهد على ليلة واحدة.. يجب أن يكون مفهومًا بيننا يا حضرة النائب أن النون والباء في لفظة "نائب" غير النون والباء في لفظة "نبي". -النائب: يا حضرات المستشارين، لا أرى مما يحرجني في الاتهام أن أصرح لكم أن مما حيرني في هذه الجريمة أن ليس فيها من أوصاف الجرائم إلا ثلم الكرامة، فلا قذف ولا سب ولا هتك عرض ولا فجور، ولا أصغر من ذلك، ولا كأس خمر للراقصة.. -المحامية: لا أرى أمام حضرة النائب كأس ماء، وسيجف حلقه في هذه القضية؛ فلعل المحكمة تأمر لي بكأس.. "ضحك". -النائب: يا حضرات المستشارين، يعشق راقصة؛ اسم فاعل من رقص يرقص؛ امرأة لا تلبس ثيابًا، بل عريًا في شكل ثياب.. امرأة لا كالنساء، كذبها هو صدق من شفتيها؛ لماذا؟ لأنهما حمراوان رقيقتان عذبتان محبوبتان مطلوبتان.. المحامية: تضحك.. - النائب "بعد أن تتعتع": امرأة لا كالنساء، جعلتها الحرفة امرأة في العمل، ورجلًا في الكسب.. -المحامية: ولكنك لا تدري أي حمل سقطت* المسكينة، وقد يكون في الرذائل رذائل كبعض أصحاب الألقاب: ذات عظمة.. -النائب: يحب راقصة أي يضعها في عقله الباطن ويشتهيها؛ نعم يشتهيها، فمن عقله الباطن، وبتعبير اللغة، من واعيته -تخرج الجريمة أو على الأقل، فكرة الجريمة. والصيت الأدبي يا حضرات المستشارين؟ هل من كرامة لمن يعشق راقصة؟ لا بل هل من كرامة في الحب؟ ألم يقولوا: إن كرامة الرجل تكون تحت قدمي المرأة المعشوقة كالممسحة الخشنة تمسح فيها نعليها! الحب؟ ما هو الحب؟ إنه ليس فكرة، بل هو شيطان يتلبس لجسم العاشق؛ ليعمل أعماله بأداة حية، وهذا التركيب الحيواني للإنسان هو الذي يهيئ من الحب

_ * هذه الكلمة لفيكتور هيجو.

مداخل ومخارج للشياطين في جسمه؛ وهل رضي صاحب القلب المسكين بجناية قلبه عليه، وعظيم ما انتهك من أخلاقه السامية؟ هل رضي عشقه راقصة؟ إن لم يرضَ الرضى الصحيح، أو رضي بقدر ما؛ فعلى كليهما يقوم في نفسه مانع؛ والمانع من الرضى هو الموجب للعقوبة. -المحامية: ولكن قدرا من الرضى ينزل بالجناية فيردها إلى جنحة كما في القانون الإنجليزي، وقد قرر الشراح أنه ما دام الرضى غير مستلب بكله، فالجريمة غير واقعة بكلها. -النائب: جنحة كل قلب هي جناية من هذا القلب بخصوصه، على طريقة "حسنات الأبرار سيئات المقربين"؛ والعبرة هنا بالواقع لا بالصفة القانونية، وقد قرر الشراح أن الواقع قد يكون أحيانا سببا في تشديد العقوبة، فلا بد من تشديد العقوبة في هذه القضية. لا أطلب الحكم بالمادة 230 عقوبات بل بالمواد من 230 إلى 241 ضربة واحدة. -المحامية: قد نسيت أن هذا قلب وعقوبته عقوبة لصاحبه البريء. -النائب: إذن أطلب عقابه بحرمانه الجمال: وهذا أشق عليه من العقاب باثنتي عشرة مادة وبعشرين وثلاثين. الرئيس: وما هي الطريقة لتنفيذ الحكم بهذا الحرمان؟ النائب: تأمر المحكم بالمراقص كلها فتغلق، وبالمسارح كلها فتقفل، وبالسينما فتبطل إلا ما لا جمال فيه منها ولا غزل ولا حب، ويحرم السفور على النساء إلا العجائز والدميمات، ويمنع نشر صور الجمال في الصحف والكتب، و ... المحامية: قل في كلمة واحدة: يجب إصلاح العالم كله لإصلاح القلب الإنساني! وجلس النائب، فالتفت الرئيس إلى المحامية وقال لها: وأما هو؟..

القلب المسكين تتمة

القلب المسكين "تتمة": قال صاحب القلب المسكين: ووقفت المحامية وكأنها بين الحراس تزدحم عليها من كل ناحية، وقد ظهرت للموجودين ظهور الجمال للحب، ونقلتهم في الزمن إلى مثل الساعة المصورة التي ينتظر فيها الأطفال سماع القصة العجيبة؛ ساعة فيها كل صور اللذة للقلب. وكانت تدافع بكلامها ووجهها يدافع عن كلامها، فلو نطقت غيًا أو رشدًا فلهذا صواب ولهذا صواب، لأن أحد الصوابين منظور بالأعين. كان صوت النائب العام كلامًا يسمع ويفهم: أما صوت المحامية الجميلة فكان يسمع ويفهم ويحس ويذاق، تلقيه هي من ناحية ما يدرك، وتتلقاه النفس من ناحية ما يعشق؛ فهو متصل بحقيقتين من معناه ومعناها، وهو كله حلاوة؛ لأنه من فمها الحلو. وبدأت فتناولت من أشيائها مرآة صغيرة فنظرن فيها. - النائب العام: ما هذا يا أستاذة؟ - المحامية: إنكم تزعمون أن هذه الجريمة تأليف عيني، فأنا أسأل عيني قبل أن أتكلم! - النائب: نعم يا سيدتي، ولكني أرجو ألا تدخلي القضية في سر المرآة وأخواتها.. إن النيابة تخشى على اتهامها إذا تكحلت لغة الدفاع! فضحكت المحامية ضحكة كانت أول البلاغة المؤثرة.. - النائب: من الوقار القانون أن تكون المحامية الفتانة غير فتانة ولا جذابة أمام المحكمة. - المحامية: تريد أن تجعلها عجوزًا بأمر النيابة؟ "ضحك". - النائب: جمال حسناء، في ظرف غانية، في شمائل راقصة، في حماسة عاشقة، في ذكاء محامية، في قدرة حب؛ هذا كثير!

- المحامية: يا حضرات المستشارين، لم تكن المرآة هفوة من طبيعة المرأة، ولكنها الكلمة الأولى في الدفاع، كلمة كان الجواب عنها من النائب العام أنه أقر بتأثير الجمال وخطره، حتى لقد خشي على اتهامه إذا تكحلت له لغتي. - القضاة يتبسمون. - النائب: لم أزد على أن طلبت الوقار القانوني، الوقار، نعم الوقار؛ فإن المحامية أمام المحكمة، هي متكلم لا متكلمة. - المحامية: متكلم بلحية مقدرة منع من ظهورها التعذر "ضحك".. كلا يا حضرة النائب؛ إن لهذه القضية قانونًا آخر تنتزع منه شواهد وأدلة؛ قانون سحر المرأة للرجل، فلو اقتضاني أن أرقص لرقصت، أو أغني لغنيت، أو سحر الجمال لأثبته أول شيء في النائب.. - الرئيس: يا أستاذة! - المحامية: لم أجاوز القانون، فالنائب في جريمتنا هو خصم القضية، وهو أيضًا خصم الطبيعة النسوية. - النائب: لو حدث من هذا شيء لكان إيحاء لعواطف المحكمة ... فأنا أحتج! - المحامية: احتج ما شئت، ففي قضايا الحب يكون العدل عدلين؛ إذ كان الاضطرار قد حكم بقانونه قبل أن تحكم أنت بقانونك. النائب: هذه العقدة ليست عقدة في منديل يا سيدتي، بل هي عقدة في القانون. - المحامية: وهذه القضية ليست قضية إخلاء دار يا سيدي، بل هي قضية إخلاء قلب! - الرئيس: الموضوع، الموضوع! - المحامية: يا حضرات المستشارين، إذا انتفى القصد الجنائي وجبت البراءة. هذا مبدأ لا خلاف عليه؛ فما هو الفعل الوجودي في جريمة قلبي المسكين؟ - النائب: أوله حب راقصة. - المحامية: آه! دائمًا هذا الوصف؟ هبوها في معناها غير جديرة بأن يعرفها؛ لأنه رجل تقي، أفليست في حسنها جديرة بأن يحبها؛ لأنه رجل شاعر؟ أحكموا يا حضرات القضاة؛ هذه راقصة ترتزق وترتفق، ومعنى ذلك أنها رهن بأسبابها، ومعنى هذا أنها خاضعة للكلمة التي تدفع.. فلماذا لم ينلها وهي متعرضة له، وكلاهما من صاحبه على النهاية، وفي آخر أوصاف الشوق؟ أليس هذا حقيقًا

بإعجابكم القانوني كما هو جدير بإعجاب الدين والعقل؟ وإن لم يكن هذا الحب شهوة فكر، فما الذي يحول دونها وما يمنعه أن يتزوجها؟ - القضاة يتبسمون. - النائب: نسيت المحامية أنها محامية وانتقلت إلى شخصيتها الواقعة على النهاية وفي آخر أوصاف الشوق.. فأرجو أن ترجع إلى الموضوع، موضوع الراقصة. - المحامية: آه! دائمًا الراقصة، من هي هذه المسكينة الأسيرة في أيدي الجوع والحاجة والاضطرار؟ أليست مجموعة فضائل مقهورة؟ أليست هي الجائعة التي لا تجد من الفاجرين إلا لحم الميتة؟ نعم إنها زلت، إنها سقطت، ولكن بماذا؟ بالفقر لا غير، فقر الضمير والذمة في رجل فاسد خدعها وتركها، وفقر العدل والرحمة في اجتماع فاسد خذلها وأهملها! يا للرحمة لليتيمة من الأهل، وأهلها موجودون! والمنقطعة من الناس، والناس حولها! تقولون: يجب ولا يجب، ثم تدعون الحياة الظالمة تعكس ما شاءت فتجعل ما لا ينبغي هو الذي ينبغي، وتقلب ما يجب إلى ما لا يجب، فإذا ضاع من يضيع في هذا الاختلاط، قلتم له: شأنك بنفسك، ونفضتم أيديكم منه فأضعتموه مرة أخرى، ويحكم يا قوم! غيروا اتجاه الأسباب في هذا الاجتماع الفاسد، تخرج لكم مسببات أخرى غير فاسدة. تأتي المرأة من أعمال الرجل لا من أعمال نفسها، فهي تابعة وتظهر كأنها متبوعة؛ وذلك هو ظلم الطبيعة للمسكينة؛ ومن كونها تظهر كأنها متبوعة، يظلمها الاجتماع ظلمًا آخر فيأخذها وحدها بالجريمة، ويقال: سافلة، وساقطة؛ وما جاءت إلا من سافل وساقط! لماذا أوجبت الشريعة الرجم بالحجارة على الفاسق المحصن؟ أهي تريد القتل والتعذيب والمثلة؟ كلا؛ فإن القتل ممكن بغير هذا وبأشد من هذا، ولكنها الحكمة السامية العجيبة: إن هذا الفاسق هدم بيتًا فهو يرجم بحجارته! ما أجلك وأسماك يا شريعة الطبيعة! كل الأحجار يجب أن تنتقم لحجر دار الأسرة إذا انهدم. تستسقطون المسكينة، ولو ذكرتم آلامها لوجدتم في ألسنتكم كلمات الإصلاح والرحمة لا كلمات الذم والعار؛ إنها تسعى برذيلتها إلى الرزق؛ فهل معنى هذا إلا أنها تسعى إلى الرزق بأقوى قوتها؟ نعم إن ذلك معنى الفجور، ولكن أليس هو نفسه معنى القوت أيها الناس؟

- الرئيس وهو يمسح عينيه: الموضوع الموضوع! - المحامية: ما هو الفعل الوجودي في جريمة قلبي المسكين؟ ما هو الواقع من جريمة يضرب صاحبها المثل بنفسه للشباب في تسامي غريزته عن معناها إلى أطهر وأجمل من معناها؟ لبئس القانون إن كان القانون يعاقب على أمر قد صار إلى عمل ديني من أعمال الفضيلة! - النائب: ألا يخجل من شعوره بأنه يحب راقصة؟ - المحامية: ومم يخجل؟ أمن جمال شعوره أم من فن شعوره؟ أيخجل من عظمة في سمو في كمال؟ أيخجل البطل من أعمال الحرب وهي نفسها أعمال النصر والمجد؟ أتأذنون يا حضرات المستشارين أن أصف لكم جمال صاحبته وأن أظهر شيئًا من سر فنها الذي هو سر البيان في فنه؟ - النائب: إنها تتماجن علينا يا حضرات المستشارين، فالذي يحاكم على السكر لا يدخل المحكمة ومعه الزجاجة.. - الرئيس: لا حاجة إلى هذا النوع من ترجمة الكلام إلى أعمال يا حضرة الأستاذة. - المحامية: كثيرًا ما تكون الألفاظ مترجمة خطأ بنيات المتكلمين بها أو المصغين إليها؛ فكلمة الحب مثلًا قد تنتهي إلى فكر من الأفكار حاملة معنى الفجور، وهي بعينها تبلغ إلى فكر حاملة إلى سموه من سموها؛ وعلى نحو من هذا يختلف معنى كلمة الحجاب عند الشرقيين والأوربيين؛ فالأصل في مدنية هؤلاء إباحة المعاني الخفيفة من العفة.. وإكرام المرأة إكرام مغازلة.. يقولون: إن رقم الواحد غير رقم العشرة، فيضعونه في حياة المرأة، فما أسرع ما يجيء "الصفر" فإذا هو العشرة بعينها! أما الشرقيون فالأصل في مدنيتهم التزام العفة وإقرار المرأة في حقيقتها، لا جرم كان الحجاب هنا وهناك بالمعنيين المتناقضين: الاستبداد والعدل، والقسوة والرحمة، و ... - النائب: وامرأة البيت وامرأة الشارع ... - المحامية: وبصر القانون وعمي القانون ... - الرئيس: وحسن الأدب وسوء الأدب ... الموضوع الموضوع. - المحامية: لا والذي شرفكم بشرف الحكم، يا حضرات المستشارين؛ ما

يرى القلب المسكين في حبيبته إلا تعبير الجمال، فهو يفهمها فهم التعبير ككل موضوعات الفن، وما بينه وبينها إلا أن حقيقة الجمال تعرفت إليها فيها، أئن أحس الشاعر سرًا من أسرار الطبيعة في منظر من مناظرها، قلتم أجرم وأثم؟ هذا قلب ذو أفكار، وسبيله أن يعان على ما يتحقق به من هذا الفن، قد تقولون: إن في الطبيعة جمالًا غير جمال المرأة فليأخذ من الطبيعة وليعط منها؛ ولكن ما الذي يحيي الطبيعة إلا أخذها من القلب؟ وما هي طريقة أخذها من القلب إلا بالحب؟ وقد تقولون: إنه يتألم ويتعذب؛ ولكن سلوه: أهو يتألم بإدراكه الألم في الحب، أو بإدراكه قسوة الحقيقة وأسرار التعقيد في الخير والشر؟ إن شعراء القلوب لا يكونون دائمًا إلا في أحد الطرفين: هم أكبر من الهم، فرح أكثر من الفرح؛ فإذا عشقوا تجاوزوا موضوع الوسط الذي لا يكون الحب المعتدل إلا فيه؛ ومن هذا فليس لهم آلام معتدلة ولا أفراح معتدلة. هذا قلب مختار من القدرة الموحية إليه، فالتي يحبها لا تكون إلا مختارة من هذه القدرة اختيار ملك الوحي، وهما بهذا قوتان في يد الجمال لإيداع أثر عظيم ملء قدرتين كلتاهما عظيمة.. فإن قلتم إن حب هذا القلب جريمة على نفسه، قالت الحقيقة الفنية: بل امتناع هذه الجريمة جريمة. إن خمسين وخمسين تأتي منهما مائة، فهذا بديهي، ولكن ليس أبين ولا أظهر ولا أوضح من قولنا: إن هذا العاشق وهذه المعشوقة يأتي منهما فن. قال صاحب القلب المسكين: وانصرف القضاة إلى غرفتهم؛ ليتداولوا الرأي فيما يحكمون به، وأومأت لي المحامية الجميلة تدعوني إليها، فنهضت أقوم فإذا أنا جالس وقد انتبهت من النوم. جائزة1: لمن يحسن كتابة الحكم في هذه القضية خمس نسخ من كتاب "وحي القلم"، وترسل المقالات "باسمنا إلى طنطا"، والموعد "إلى آخر شهر يناير هذا" والشرط رضى المحكمين، ومنهم صاحب القلب المسكين وصاحبته..

_ 1 قلت: وردت إلى المؤلف مئات الرسائل بحكم أصحابها في قضية "القلب المسكين"، ولكن مسابقة الحكم في هذه القضية لم يفصل فيها؛ لأن قاضيها الأول ومتهمها الأول قد غاله الموت قبل أن يرى رأيه ويحكم حكمه!

انتصار الحب

انتصار الحب *: كل ما يكتب عن حبيبين لا يفهم منه بعض ما يفهم من رؤية وجه أحدهما ينظر إلى وجه الآخر. وما تعرفه العين من العين لا تعرفه بألفاظ، ولكن بأسرار.. والغليل المتسعر في دم العاشق كجنون المجنون: يختص برأسه وحده. وضمة المحب لحبيبه إحساس لا يستعار من صدر آخر، كما لا يستعار المولود لبطن لم يحمله. وكلمة القبلة التي معناها وضع الفم، لن ينتقل إليها ما تذوقه الشفتان! ويوم الحب يوم ممدود، لا ينتهي في الزمن إلا إذا بدأ يوم السلو في الزمن.. فهل يستطيع الخلق أن يصنعوا حدًّا يفصل بين وقتين لينتهي أحدهما..؟ وهبهم صنعوا السلوان من مادة النصيحة والمنفعة، ومن ألف برهان وبرهان، فكيف لهم بالمستحيل، وكيف لهم بوضع السلوان في القلب العاشق؟ وإذا سالت النفس من رقة الحب، فبأي مادة تصنع فيها صلابة الحجر..؟ وما هو الحب إلا إظهار الجسم الجميل حاملًا للجسم الآخر كل أسراره، يفهمها وحده فيه وحده؟ وما هو الحب إلا تعلق النفس بالنفس التي لا يملؤها غيرها بالإحساس؟ وما هو الحب إلا إشراق النور الذي فيه قوة الحياة، كنور الشمس من الشمس وحدها؟

_ * شغلتنا مقالات "القلب المسكين" عن الكتابة في حادثة "القلب المسكين الأعظم"، قلب الملك إدوارد عندما وقعت الحادثة. قلت: وحادثة تخلي الملك إدوارد عن عرش الإمبراطورية البريطانية في سنة 1936 من أجل امرأة- ذائعة مشهورة.

وهل في ذهبت الدنيا وملك الدنيا ما يشتري الأسرار، والإحساس، وذلك النور الحي؟.. فما هو الحب إلا أنه هو الحب؟ ما هو هذا السر في الجمال المعشوق، إلا أن عاشقه يدركه كأنه عقل للعقل وما هو هذا الإدراك إلا انحصار الشعور في جمال متسلط كأنه قلب للقلب؟ وما هو الجمال المتسلط بإنسان على إنسان، إلا ظهور المحبوب كأنه روح للروح؟ ولكن ما هو السر في حب المحبوب دون سواه؟.. هنا تقف المسألة وينقطع الجواب. هنا سر خفي كسرِّ الوحدانية؛ لأنها وحدانيته "أنا وأنت". ناقشوا الحب؛ فقالوا: أصبحت الدنيا دنيا المادة، والروحانية اليوم كالعظام الهرمة لا تكتسي اللحم العاشق.. وقال الحب: لا بل المادة لا قيمة لها في الروح؛ وهذا القلب لن يتحول إلى يد ولا إلى رجل.. ناقشوا الحب؛ فقالوا: إن العصر عصر الآلات، والعمل الروحي لا وجود له في الآلة ولا مع الآلة.. قال الحب: لا، يصنع الإنسان ما شاء، ويبقى القلب دائمًا كما صنعه الخالق.. وقالوا: الضعيفان: الحب والدين، والقويان: المال والجاه؛ فبماذا رد الحب..؟ جاء بلؤلؤة روحانية في "مسز سمبسون"؛ ووضع لها في ميزان المال والجاه أعظم تاج في العالم إدوارد الثامن "ملك بريطانيا" العظمى وإرلندا والممتلكات البريطانية فيما وراء البحار وملك-إمبراطور الهند". وتنافست الروحانية والمادية، فرجع التاج وما فيه إلا أضعف المعنيين من القلب. وأعلن الحب عن نفسه بأحدث اختراع في الإعلان، فهز العالم كله هزة صحافية: الحب. الحب. الحب. ...

"مسز سمبسون"، تلك الجميلة بنصف جمال، المطلقة مرتين. هذا هو اختيار الحب! ولكنها المعشوقة؛ وكل معشوقة هي عذراء لحبيبها ولو تزوجت مرتين؛ هذا هو سر الحب! ولكنها الفاتنة كل الفتنة، والظريفة كل الظرف، والمرأة كل المرأة، هذا هو فعل الحب! ولكنها العقل للأعصاب المجنونة، والأنس للقلب المستوحش، والنور في ظلمة الكآبة؛ هذا هو حكم الحب! ومن أجلها يقول ملك انجلترا للعالم: "لا أستطيع أن أعيش بدون المرأة التي أحبها"؛ فهذا هو إعلان الحب.. إذا أخذوها عنه أخذوها من دمه، فلذلك معنى من الذبح. وإذا انتزعوها انتزعوها من نفسه، فذلك معنى من القتل. وهل في غيرها هي روح اللهفة التي في قلبه، فيكون المذهب إلى غيرها؟ لكأنهم يسألونه أن يموت موتًا فيه حياة. وكأنهم يريدون منه أن يجن جنونًا بعقل.. هذا هو جبروت الحب! وللسياسة حجج، وعند "مسز سمبسون" حجج، وعند الهوى.. التاج، الملكية، امرأة مطلقة، امرأة من الشعب؛ فهذا ما تقوله السياسة. ولكنها امرأة قلبه، تزوجت مرتين؛ ليكون له فيها إمتاع ثلاث زوجات؛ وهذا ما يقوله الحب! واللحظة الناعسة، والابتسامة النائمة، والإشارة الحالمة، وكلمة "سيدي"1؛ هذا ما يقوله الجمال.

_ 1 لا تخاطب "مسز سمبسون" إدوارد إلا بكلمة "سيدي"، ولا تتحدث عنه ولا تسميه إلا قالت "سيدي". ولن يأمر الحب أمره بأبلغ ولا أرق من كلمة العبودية اللطيفة هذه حين تنطق بها المرأة في صوت قلبها وغريزتها؛ وقد كان هذا أدب نساء الشرق مع أزواجهن، أما اليوم..

وانتصر الحب على السياسة. وأبى الملك أن يكون كالأم الأرملة في ملك أولادها الكبار.. العرش يقبل رجلًا خلفًا من رجل، فيكون الثاني كالأول. والحب لا يقبل امرأة خلفًا من امرأة، فلن تكون الثانية كالأولى. وطارت في العالم هذه الرسالة: "أنا إدوارد الثامن ... أتخلى عن العرش وذريتي من بعدي"! "وأعلن الحب عن نفسه بأحدث اختراع في الإعلان؛ فهز العالم كله هزة صحافية". الحب. الحب. الحب ...

قنبلة بالبارود لا بالماء المقطر

قنبلة بالبارود لا بالماء المقطر *: حياكم الله يا شباب الجامعة المصرية؛ لقد كتبتم الكلمات التي تصرخ منها الشياطين.. كلمات لو انتسبن لانتسبت كل واحدة منهن إلى آية مما نزل به الوحي في كتاب الله. فطلب تعليم الدين لشباب الجامعة ينتمي إلى هذه الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} . وطلب الفصل بين الشبان والفتيات يرجع إلى هذه الآية: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} . وطلب إيجاد المثل الأخلاقي لهذه الأمة من شبابها المتعلم هو معنى الآية: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} . قوة الأخلاق يا شباب الجامعة؛ لقد كتبتم الكلمات التي يصفق لها العالم الإسلامي كله. كلمات ليس فيها شيء جديد على الإسلام، ولكن كل جديد على المسلمين لا يوجد إلا فيها.

_ 1 رفع طلبة الكليات في الجامعة المصرية إلى مديرها وعمدائها وأساتذتها -طلبًا يلتمسون فيه إدخال التعليم الديني في الجامعة والفصل بين الشبان والفتيات؛ إذ "لا إصلاح إلا بعد إصلاح وروح الشباب الناهض، حتى يكون له من قوة روحه وسمو أخلاقه سلاح يحاب به الرذيلة وينصر به الفضيلة". قالوا: "ولا شك أن الأمة بأسرها قد أحست بنقص الناحية الدينية في المجتمع المصري، ونقص أخلاق الفرد ووطنيته تباعًا". قلت: وكان ذلك في مارس سنة 1937.

كلمات القوة الروحية التي تريد أن تقود التاريخ مرة أخرى بقوى النصر لا بعوامل الهزيمة. كلمات الشباب الطاهر الذي هو حركة الرقي في الأمة كلها، فسيكون منها المحرك للأمة كلها. كلمات ليست قوانين، ولكنها ستكون هي السبب في إصلاح القوانين ... قوة الأخلاق يا شباب، قوة الأخلاق: إن الخطوة المتقدمة تبدأ من هنا ... يريد الشباب مع حقيقة العلم حقيقة الدين؛ فإن العلم لا يعلِّم الصبر ولا الصدق ولا الذمة. يريدون قوة النفس مع قوة العقل، فإن القانون الأدبي في الشعب لا يضعه العقل وحده ولا ينفذه وحده. يريدون قوة العقيدة، حتى إذا لم ينفعهم في بعض شدائد الحياة ما تعلموه نفعهم ما اعتقدوه. يريدون السمو الديني، لأن فكرة إدراك الشهوات بمعناها هي فكرة إدراك الواجبات بغير معناها. يريدون الشباب السامي الطاهر من الجنسين، كي تولد الأمة الجديدة سامية طاهرة. قوة الأخلاق يا شباب، قوة الأخلاق؛ إن الخطوة المتقدمة تبدأ من هنا ... أحس الشباب أنهم يفقدون من قوة المناعة الروحية بقدر ما أهملوا من الدين. وما هي الفضائل إلا قوة المناعة من أضدادها؟ فالصدق مناعة من الكذب والشرف مناعة من الخسة. والشباب المثقل بفروض القوة هو القوة نفسها؛ وهل الدين إلا فروض القوة على النفس؟ وشباب الشهوات شباب مفلس من رأس ماله الاجتماعي، ينفق دائمًا ولا يكسب أبدًا! والمدارس تخرج شبانها إلى الحياة، فتسألهم الحياة: ماذا تعودتم لا ماذا تعلمتم!

قوة الأخلاق يا شباب، قوة الأخلاق؛ إن الخطوة المتقدمة تبدأ من هنا ... وأحس الشباب معنى كثرة الفتيات في الجامعة، وأدركوا معنى هذه الرقة التي خلقتها الحكمة الخالقة. والمرأة أداة استمالة بالطبيعة، تعمل بغير إرادة ما تعمله بالإرادة، لأن رؤيتها أول عملها. نعم إن المغناطيس لا يتحرك حين يجذب، ولكن الحديد يتحرك له حين ينجذب! ومتى فهم أحد الجنسين الجنس الآخر، فهمه بإدراكين بإدراك واحد! وجمال المرأة إذا انتهى إلى قلب الرجل، وجمال الرجل إذا استقر في قلب المرأة ... هما حينئذ معنيان. ولكنهما على رغم أنف العلم معنيان متزوجان.. لا، لا؛ يا رجال الجامعة، إن كان هناك شيء اسمه حرية الفكر فليس هناك شيء اسمه حرية الأخلاق. وتقولون: أوروبا وتقليد أوروبا! ونحن نريد الشباب الذين يعملون لاستقلانا لا لخضوعنا لأوربا. وتقولون: إن الجامعات ليست محل الدين، ومن الذي يجهل أنها بهذا صارت محلًا لفوضى الأخلاق. وتزعمون أن الشباب تعلموا ما يكفي من الدين في المدارس الابتدائية والثانوية فلا حاجة إليه في الجامعة.. أفترون الإسلام روسًا ابتدائية وثانوية فقط؛ أم تريدونه شجرة تغرس هناك لتقلع عندكم.. لا، لا؛ يا رجال الجامعة، إن قنبلة الشباب المجاهد تملأ بالبارود لا بالماء المقطر.. إن الشباب مخلوقون لغير زمنكم، فلا تفسدوا عليهم الحاسة الاجتماعية التي يحسون بها زمنهم.

لا تجعلوهم عبيد آرائكم وهم شباب الاستقلال؛ إنهم تلاميذكم، ولكنهم أيضًا أساتذة الأمة. لقد تكلم بلسانكم هذا البناء الصغير الذي يسمى الجامعة، وتكلم بألسنتهم هذا البناء الكبير الذي يسمى الوطن. أما بناؤكم فمحدود بالآراء والأحلام والأفكار، وأما الوطن فمحدود بالمطامع والحوادث والحقائق. لا، لا؛ إن المسلمين الذين هدوا العالم، قد هدوه بالروح الدينية التي كانوا يعملون بها لا بأحلام الفلاسفة. لا، لا، إن الفضيلة فطرة لا علم، وطبيعة لا قانون، وعقيدة لا فكرة؛ وأساسها أخلاق الدين لا آراء الكتب.. من هذا المتكلم يقول للأمة: "الجامعيون لن يقبلوا أن يدخل أحد في شئونهم مهما يكن أمره"؟ أهذا صوت جرس المدرسة لأطفال المدرسة ترن ترن.. فيجتمعون وينصاعون؟ كلا يا رجل! لي في الجامعة قالب يصب فيه المسلمون على قياسك الذي تريد. إن التعليم في الجامعة بغير دين يعصم الشخصية، هو تعليم الرذيلة تعليمها العالي.. {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53] . قوة الأخلاق يا شباب، قوة الأخلاق.. إن الخطوة المتقدمة تبدأ من هنا.

شيطان وشيطانة

شيطان وشيطانة *: شغلني ما شغل الناس من حديث الجامعة المصرية وما أراده طلبتها من ورع يحجزهم عن محارم الله، ودين يخلص به الإيمان إلى قلوبهم، فلا يكون لفظ المسلم على المسلم كأنه مكتوب على ورقة؛ ثم ابتغوه من الفصل بين الشبان والفتيات، تطهيرًا للطباع ونوازع النفس، واتقاء لسوء المخالطة، وبعدًا عن مطية الإثم، وتوفيرًا لأسباب الرجولة على الرجل ولصفات الأنوثة على الأنثى. وقرأت كل ما نشرته الصحف، واستقصيت وبالغت، ونظرت في الألفاظ ومعانيها ومعاني معانيها؛ وكنت قبل ذلك أتتبع باب "فلان وفلانة" في المجلات الأسبوعية التي تكتب عن حوادث الاختلاط في الجامعة وتسمى الأسماء وتصف الأوصاف وتذكر النوادر؛ فملأ كل ذلك صدري واجتمع الكلام يترجم نفسه إلي في رؤيا رأيتها وها أنذا أقصها: رأيتني عند باب الجامعة وكأني ذاهب لأقطع باليقين على الظن، وقد علمت أن الظنة تقوم في حكمة التشريع مقام الحقيقية؛ لخفائها وكثرة وجودها؛ فإن كان في اختلاط الجنسين ما يخشى أن يقع فهو كالواقع.... ثم رأيت شيطانة قد خرجت من الجامعة ومضت تتبع أنفها تتشمم الهواء وتستروحه كأنه كأن فيه شيئًا، حتى مالت إلى خمر هناك* من ذلك الشجر الملتف عن يمين الطريق، فوقفت عنده تتنفس وتتنهد؛ ثم تبصرت فإذا شيطان

_ 1 لما كتب المؤلف "رحمه الله" مقاله السابق في تحية شباب الجامعة، راح يتتبع ما نشر الصحف من حديث "فلان وفلانة" في مناهضة دعوة الطلاب؛ فوقع له من حديثهما ما أوحى إليه موضوع هذا فكتب يعرض بفلان وفلانة ويروي من خبرهما ويرد رده عليهما، وبعث به إلى الرسالة، ولكن صاحب الرسالة أبى عليه نشره، حفاظًا على ما بينه وبين فلان من صلات الود، وبقي المقال في مكتب المؤلف حتى غالته منيته! وانظر ص131 "حياة الرافعي". * الخمر "بفتح الميم": ما واراك من شجر وغيره.

مقبل إلى الجامعة إقبال المغير في غارته، فأومأت له، فعدل إليها وحياها بتحية الشياطين، ثم قال لها: ما وقوفك هنا أيتها الخبيثة؟ وكيف تركت صاحبتك التي أنت موكلة بها؟ وما عسى أن يعمل الشيطان بين الجنسين إذا لم تؤازره الشيطانة؟ قالت: إنما اجتذبتني إلى هنا رائحة عاشقين كانا في هذا الظل يواريهما عن الأعين، وما أراك إلا مزكومًا، أفكنت في الأزهر..؟ فجعل الشيطان يتضاحك وقال: أنا مرسل من مستشفى المجانين مددًا لشياطين الجامعة؛ فقد احتاجوا إلى النجدة.. ولكن أنت كيف تركت صاحبتك من أجل رائحة قبلة على خمسمائة متر؟ ما أحسبها الآن إلا جالسة تكتب في منع اختلاط الجنسين ووجوب إدخال التعليم الديني في الجامعة! قالت الشيطانة: إن صاحبتي لأبرع مني في البراعة، وأدق في الحيلة وأهدى للمعاذير، وأنفذ إلى الغرض، ومثلها قليل هنا، ولكن قليل الشر ليس قليلًا، فإنه وصلة وطريق كما تعلم؛ وما تجد الفتاة خيرًا من هذا المكان ينفي عنها الريبة وهو يدنيها منها بهذا الاختلاط مع الفتيان، ويهيئ لعقلها أسبابًا تكون فيها أسباب قلبها؛ وقد كنت في أوربا، أفما رأيت هناك شابًّا وشابة حول كتاب علم وكأنهما على زجاجة خمر؟ إن هذا العلم شيء ومخالطة الشبان شيء آخر؛ فذلك يطلق فكرها يتجاوز الحدود والاختلاط يجعل فكرها، يحصرها في حدود إحساسها؛ وأحدهما يرهف ذهنها لإدراك الأشياء، والآخر يرهف عواطفها لإدراك الرجل؛ وقد فرغ الله من خلقة الأنثى فما تخلق هنا مرة أخرى على غير الطبيعة المفطورة على الحب في صورة من صورة الممكنة، والصورة هي الشاب هنا؛ وأنا الشيطانة قد تعلمت في الجامعة أن قاعدة: "لا حياة في العلم"، هي التي تقرر في بعض الأحيان قاعدة: "لا حياة في الحب". قال الشيطان: أنت أدري بسلطان الطبيعة في المرأة، ولكن الذي أعرفه أنا أن مفاسد أوربا تدخل إلى الشرق في أشياء كثيرة، منها الخمر والنساء والعادات والقوانين والكتب ونظام المدارس! قالت الشيطانة: وإن سلطان الطبيعة في المرأة يبحث دائمًا عن رعيته ما لم يكبح ويرد عن البحث؛ إذ هو لا يتحقق أنه سلطان إلا بنفاذ حكمه وجواز أمره؛ ومن رعيته نظرات الإعجاب، وكلمات الثناء، وعبارات الإغراء، وعواطف الميل، ومعاني الخضوع؛ ورب كلمة من الرجل للمرأة لا يكون فيها شيء ويكون الرجل

كله فيها ذاهبًا إلى قلبها متدسسًا إلى خيالها؛ وكم من أم ترى ابنتها راجعة إلى الدار وتحس بالغريزة النسوية أن مع ابنتها خيالًا من الجنس الآخر!. ومم ينبعث الحب إلا من الألفة والمخاطبة والمجاذبة والمنازعة التي يسمونها هنا منافسة بين الجنسين ويعدونها حسنة من حسنات الاختلاط؟ نعم إنها مشحذة للأذهان وداعية إلى بلوغ الغاية من الاجتهاد، وبها يرق اللسان وتنحل عقدته، ويصبح الشاب كما يقولون: "ابن نكتة ويفهم الطايره ... " وتعود الفتاة وهي تجتهد أن تكون حلاوة تذوقها الروح؛ ولكن الأعمال بالنيات والأمور بخواتيمها: والطبيعة نفسها توازن العقل العلمي بالجهل الخلقي، ولعل أكثر الناس فنونًا في فسقه وفجوره لا يكون إلا عالمًا من أهل الفن أو زنديقًا من أهل العلم، ولا يصحح هذه الموازنة إلا الدين، فهو الذي يقرر القواعد الثابتة في كلتا الناحيتين، وهذا ما يطلبه المجانين من شبان هذه الجامعة ويوشك أن يظفروا به، لولا أن هذه الأمة مبتلاة في كل حادثة من دينها بإجالة الرأي حتى يضيع الرأي. اسمع -ويحك- هذا الفتى الذي يقرأ.. فألقى الشيطان سمعه فإذا طالب يقرأ على جماعة كلامًا في صحيفة لإحدى خريجات الجامعة تقول فيه: "ولهذا أصرح أن تجربة اشتراك الجنسين في الجامعة نجحت إلى أبعد غاية: ولم يحدث خلالها قط ما يدعو إلى قلق القلقين والمناداة بالفصل؛ بل بالعكس حدث ما يدعو إلى تشجيع الأخذ بالتجربة أكثر مما هي عليه اليوم". فقهقه الشيطان وقال: "قلق القلقين".. ما رأيت كلامًا أغلظ ولا أجفى من هذا؛ إنها لو دافعت عن الشيطان بهذه القافات لخسر القضية ... ثم إنه لهز الشيطانة لهزة وقال لها: كذبت علي أيتها الخبيثة، فما لك عمل في الجامعة وأنت تخرجين لرائحة قبلة بين عاشقين على مسافة خمسمائة متر؛ إن هذه القافات لهي الدليل أقوى الدليل على أن الفتاة هنا تنظر فتاة حين ترى، ولكنها تسمع رجلًا حين تتكلم! قالت الشيطانة: ولكن ألم تسمع قولها: "تشجيع التجربة أكثر مما هي عليه اليوم"..؟ ألا يرضيك هذا الذي لا بد أن يدعو "إلى قلق القلقين؟ " ثم إني أنا فلانة الشيطانة قد كنت السبب في حادثة وقعت وطر فيها طالب من الجامعة، أفلا يرضيك الإغراء والكذب في بضع كلمات؟ قال الشيطان: كل الرضى، فهذا فن آخر والعلم الذي ينكر حادثة وقعت من تلميذة ولا يقر بأنها وقعت، لا يكون إنكاره إلا إجازة لوقوع مثلها!

قالت الشيطانة: وهب الحادثة لم تقع، فكيف تعرف الجامعة ما يحدث في القلوب؟ ومن هذا الذي يستطيع أن يقرأ قصة تؤلفها أربع أعين في وجهين؟ وكيف تكشف الحقيقة التي أول وجودها كتمان الكلام عنها، وأول الكلام عنها الهمس بين اثنين دون غيرهما؟ ومن ذا الذي طاقته أن يمد بيده إلى قلبين في تلقي الرسائل كصندوقي البريد..؟ اسمع اسمع هذا الآخر.. فاسترق الشيطان السمع فإذا طالب يقرأ في صحيفة أخرى على جماعته: "والذين يزعمون أن الاتصال بين الطالبات والطلة خطر، إنما يسيئون إلى أخلاقكم.. والحق أيها الأصدقاء أن الذي حملني على أن أغصب وأثور إنما هو الدفاع عن الكرامة الجامعية". قال الشيطان: كل الرضا كل الرضا.. هذا كلام داهية أريب، فلقد أحسن قائله الله! إنها عبارات جامعية محكمة السبك تقوم على أصولها من فن السياسة الخطابية؛ وكل من أظنوه بتهمة فلا يستطيع أن يمخرق على الناس بأحسن من هذا ولا بمثل هذا. وليس لنا أقوى من هذا الطبع القوي الذي يشعر بالنقص فلا هم له إلا إثبات ذاته في كل ما يجادل فيه دون إثبات الصواب ولو كان الناس جميعًا في هذا الجانب وكان هو وحده في جانب الخطأ. ولكن أف! ماذا صنع هذا القائل؟ وأين التهمة التي لا تبدل اسمها في اللغة؟ وأين الذنب الذي يرضى أن توضع اليد عليه؟ وهل إنكار المذنب إلا احتجاج من كرامته الزائفة وإظهار الغضب في بعض ألفاظ؟.. إن هذا كغيره من الضعفاء حين يمارون؛ ألا ما أكذب الكذب هنا! فإن الفساد ليقع من اختلاط الجنسين في الجامعة الأوروبية ثم لا يعد ذلك عندهم إساءة إلى الأخلاق، ولا غضًّا من الكرامة الجامعية؛ وفي فرنسا يجتمع الشبان والفتيان من طلبة الجامعة ويحتسون الخمر ويتراقصون ويتواعدون ثم لا تقول لهم الأخلاق: أين أنتم؟.. وهناك في الأندية الخاصة بالطلبة ينتخبون ملكة الجمال من بين الطالبات كل سنة، ثم ينزعون بأيديهم ثيابها التي تسمى ثيابًا، ويطوفون بها غرف النادي كعروس واحدة مجلوة على مائة زوج في المعنى، "وبلنسوار" أيتها الكرامة الجامعية..

والاختلاط هناك يقرب أن يكون ضربًا من المذاهب الاشتراكية، وكل ما بقي عندهم من لغة الحياء هو أن يتلطفوا فيقولوا: إن هذه الطالبة صديقة فلان الطالب؛ يعبرون بلفظ الصداقة عن أول المعنى ويدعون سائر أحواله؛ إذ لا يبالي أمرهما أحد لا من الطلبة ولا من الأستاذين.. وهناك يعتذر للشباب في مثل هذا بأنه شاب، فتقوم كلمة الشباب في العرف بمعنى كلمة الضرورة في الشرع! وهم قد عرفوا أن الجامعة لحرية الفكر، ومن حرية الفكر حرية النزعة، ومن هذه حرية الميل الشخصي، ومن حرية الميل حرية الحب؛ وهل يعرف الحب في الجامعة أنه في الجامعة فيستحي ويكون شيئًا آخر غير ما هو في كل مكان؟ أو ليس في لغة الزواج عنهم عبارة "نسيان ماضي الفتاة".. ولكن اسمعي اسمعي.. فأصاخت الشيطانة؛ فإذا طالب من الأزهر يقرأ لطالب من كلية الحقوق في صحيفة من دفاع أحد خريجي الجامعة! "وما بال إخواننا الأزهريين يسخطون على الجامعة واختلاط الجنسين فيها، وفي مصر نواحٍ أخرى هي أحق بحربهم وأولى باهتمامهم؟ لعلهم قد نسوا حالنا في الصيف على شواطئ البحر، والناس يمكثون هناك شهورًا عرايا أو كالعرايا". فقالت الشيطانة: ما له ولهذا؟ لقد أخزى نفسه وأخزى الجامعة، وهل صنع شيئًا إلا أنه يقول للأزهريين: إن أهون الفساد من هذا الاختلاط في الجامعة، وأكثره في شواطئ البحر؛ فما بالكم تدعون أشده وتأخذون على أهونه؟ قال الشيطان: ويحه! وهل يأخذون على أهونه في الجامعة؛ إلا لأنه في الجامعة لا في مكان آخر؟ ولكن اسمعي، ما هذا ... ؟ فأرعيا الصوت سمعهما، فإذا طالب يقرأ في مجلة: "ظهرت الآنسة فلانة وهي تلبس فستانًا أحمر شفتشي بمبي كريبي مشجر ببني وفيونكة أحمر على أبيض".. قالت الشيطانة: هذا هذا، فهل هي إلا ألوان أفكار تحت ألوان ثياب؟ وهل يظهر سلطان الطبيعة في المرأة بحثًا عن رعيته إلا في ألوان جميلة هي، أسئلة للعيون؟ لقد مثل سرب من الطالبات في هذه الجامعة فصلًا في بعض الحفلات سموه "عرض الأزياء" والفتاة تعرض الثوب، والثوب يعرض الجسم، والجسم والثوب معًا يعرضان الفتاة! وعرض الأزياء في الجامعة هو أمر من الجامعة بإهمال هذه الآية: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] .

قال الشيطان خبريني عن صاحبتك التي أنت موكلة بها، أتريها كانت تأتي إلى هذه الجامعة لو ألبسوهن مثل ثوب الراهبة وخمروهن بالخمار وأضاعوا مساحة الجسم في مساحة الثوب وأجلسوهن في آخر الصفوف كأنهم في المسجد؟ لقد فعلوا مثل هذا في بعض جامعات أوربا، فحرموا صبغ الشفاه على الفتيات، ومنعوهن إبداء الزينة؛ فامتنعت الزينة والمتزينة معًا، وهجرن الجامعة، وقلن فيما قلن: إن المرآة والأحمر والأبيض ونحوها هي الحقائق في علم المرأة، وهي من أساليب بحث كل فتاة عن رجلها المخبوء بين الرجال في الجامعة أو غير الجامعة، والعلم وسيلة عيش، والرجل وسيلة مثلها، غير أنه هو أجدى الوسيلتين على المرأة وأحقهما بالعناية؛ إذ هي لا تتزوج الكيمياء ولا الطبيعة ولا القانون، ومعنى هذا بغير اللغة التي هنا في الجامعة المصرية أن وجود الفتاة مع الشبان للتعليم، هو كذلك وجودها بينهم للاستمالة والمكر النسوي الجذاب. اسمعي اسمعي؛ ما هذا الصوت المنكر الجافي الخشن؟ فتسمعت، فإذا الطالب الأزهري يقول لصاحبه وهو يحاوره: قالوا: ويحرم على المرأة أن ترى شيئًا من الرجل ولو بلا ميل ولا خوف الفتنة، وإذا هي اضطرت إلى مداواة أو أداء شهادة أو تعليم أو بيع أو نحو ذلك -جاز نظرها بقدر الضرورة. فقالت الشيطانة: هذا كلام رحمه الله.. لقد كان ذلك سائغًا لو أن الشبان يتعلمون في الجامعة ليحملوا معهم الحق كما يحملون معهم العلم؛ وكيف لهم بهذا ومعاني الدين قد أصبحت منهم كأسماء البلاد البعيدة في كتاب الجغرافيا: لا هم رأوها ولا هم حققوها؟ إنهم يريدون تعليم الدين هنا. فيقول لهم رؤساؤهم: ألم تعرفوا الصلاة وأنها الصلاة، والصيام وأنه الصيام، والزكاة وأنها الزكاة، والحج وأنه الحج؟ وهذا كلام يشبه درس مواقع البلاد على الخريطة، فباريس كلمة، ولندن كلمة، لا غير؛ أما الحقيقة العظيمة الهائلة فشيء غير هذا الكلام الجغرافي التعليمي؛ إذ ما هي كل فروض الدين إلا أعمال دقيقة ثابتة يجب فرضها على الجميع لتحقيق النفسية الواحدة في الجميع، وهي سر القوة والعظمة والنجاح؛ فتعليم الدين في الجامعة هو إقناع النفس بجعل فروضه من قوانينها الثابتة، لا بأداء هذه الفروض فقط، أي باعتباره علم فلسفة الروح العملية للأمة، ثم يجعل المدرسين أول العاملين به؛ ليتحقق معنى الإقناع، فلا ينقلب الدرس هزءًا وسخرية؛ وبذلك يخرج الشاب من

الجامعة وفي روحه قوة ثابتة تعمل به العمل الصالح، وتوجهه إلى الخير، وتحفظه بين أهواء الحياة وشدائدها، وتجعله دائمًا يشعر أنه في موضعه السامي من الإنسانية وإن كان في أقل مراتب المال والجاه، ومن ثم يرجع الشبان في الأمة آلات قوة منظمة عاملة، وأيسر ما تعمله هذه الآلات، إزالة المنكرات، وصنع الشعب صنعة جديدة للسلم والحرب.. قال الشيطان: وماذا أيتها الخبيثة؟ لقد هولت علي! قالت: وطردنا نحن الشياطين من الجامعة! قال: اسكتي ويحك! فما أرسلت من مستشفى المجانين إلا لهذا؛ فلن يقع الفصل بين الجنسين، ولن يدخل التعليم الديني في الجامعة، وسيدافعون بأن هذا كله ضرب من الجنون..

نهضة الأقطار العربية

نهضة الأقطار العربية 1: لا ريب في أن النهضة واقعة في الأقطار العربية، مستطيرة في أرجائها استطارة الشرر يضرم في كل جهة نارًا حامية، ويستمد من كل ما يتصل به لعنصره الملتهب، ولا ريب في أن الشرق قد تفلت من أوهام السياسة وخرافاتها، وقد اختلف على الغرب بعد أن طابقه زمنًا، وتابعه مدة، وعرفه بمقدار ما بلاه، وكذبه ما صدقه، ونفر منه بقدر ما اطمأن إليه؛ ولا ريب في أن العقل الشرقي قد تطور وأدرك معنى نكث العهد ونقض الشرط في السياسة الغربية، وعلم أن ذلك هو بعينه العهد والشرط في هذه السياسة ما دامت المفاوضة والتعاقد بين الذئب والشاة.. ولا ريب أن الشرق يجاذب الآن مقاليده التي ألقاها، ويضرب على سلاسله التي تقيد بها، ويكابد الصعود والهبوط في نهضته هذه؛ وقد كان بلغ من رضائه على الذل وقراره على الضيم، وجهله وتجاهله -أن أوربا ربطت أقطاره كلها في بضعة أساطيل تجذبها جذب الكواكب للأرض. غير أني مع هذا كله لا أسمي هذه النهضة إلا من باب المجاز والتوسع في العبارة، والدلالة بما كان على ما يكون؛ فإن أسباب النهضة الصحيحة التي تطرد اطراد الزمن، وتنمو نمو الشباب، وتندفع اندفاع العمر إلى أجل بعينه -لا يزال بيننا وبينها مثل هذا الموت الذي يفصل بيننا وبين سلفنا وأوليتنا؛ وإلا فأين الأخلاق الشرقية، وأن المزاج العقلي الصحيح لأمم الشرق، وما هذا الذي نحن

_ 1 كتب هذا المقال جوابًا للاستفتاء الآتي الذي وجهته إليه إحدى المجلات العربية: أ- هل تعتقدون أن نهضة الأقطار العربية قائمة على أساس وطيد يضمن لها البقاء، أم هي فوران وقتي لا يلبث أن يخمد؟ ب- هل تعتقدون بإمكان تضامن هذه الأقطار وتآلفها؟ ومتى؟ وبأي العوامل؟ وما شأن اللغة في ذلك؟ ج- هل ينبغي لأهل الأقطار العربية اقتباس عناصر المدنية الغربية؟ وبأي قدر؟ وعند أي حد يجب أن يقف هذا الاقتباس، في النظامات السياسية الحديثة، وفي الأدب والشعر، وفي العادات الاجتماعية، وفي التربية والتعليم؟

فيه من روح لا شرقية ولا غربية ثم أين المصلحون الذين لا يساومون يملك ولا إمارة، ولا يطلبون بالإصلاح غرضًا من أغراض الدنيا أو باطلًا من زخرفها؟ ثم أين أولئك الذين تجعلهم مبادئهم العالية القوية أول ضحاياها، وتروي منهم عرق الثرى الذي يغتذي من بقايا الأجداد لينبت منه الأحفاد؟ إن الجواب على نهضة أمة نهضة ثابتة لا يكون من الكلام وفنونه، بل من مبدأ ثابت مستمر يعمل عمله في نفوس أهلها؛ ولن يكون هذا المبدأ كذلك إلا إذا كان قائمًا على أربعة أركان: إرادة قوية، وخلق عزيز، واستهانة بالحياة، وصبغة خاصة بالأمة. فأما الإرادة القوية فلا تنقص الشرقيين، وإنما الفضل فيها لساسة الغرب الذين بصرونا بأنفسنا إذ وضعونا مع الأمم الأخرى أمام مرآة واحدة وجعلوا يقولون مع ذلك إننا غير هؤلاء، وإن هذا الإنسان الذي في المرأة غير هذا الفرد الذي فيها ... ولكن أين الخلق؟ وأين العزة القومية؟ وأين العصبية الشرقية؟ وهذه مفاسد أوربا كلها تنصب في أخلاق الشرقيين كما تنصب أقذار مدينة كبيرة في نهر صغير عذب؛ فلا الدين بقي فينا أخلاقًا، ولا الأخلاق بقيت فينا دينًا، وأصبحت الميزة الشرقية فاسدة من كل وجوهها في الروح والذوق، ولم يعد لنا شيء يمكن أن يسمي المدنية الشرقية، وأخذ الحمقى والضعفاء منا يحاولون في إصلاحهم أن يؤلفوا الأمة على خلق جديد ينتزعونه من المدنية الغربية، ولا يعلمون أن الخلق الطارئ لا يرسخ بمقدار ما يفسد من الأخلاق الراسخة، وهم يغتبطون إذا قيل لهم مثلًا: إن مصر قطعة من أوربا؛ ولا يعلمون ما تحت هذه الكلمة من تعطيل المدنية الشرقية، والذهاب بها، وإفسادها، وتعريضها للذم، وتسليط البلاد عليها، مما لا حاجة بنا إلى التبسط في شرحه. لست أقول إن نهضة الشرق العربي لا أساس لها؛ فإن لها أساسًا من حمية الشباب، وعلم المتعلمين؛ ومن جهل أوربا الذي كشفته الحرب؛ ولكن هذا كله على قوته وكفايته في بعض الأحيان لإقامة الأحداث الكبرى واهتياج العواصف السياسية -لا يحمل ثقل الزمن الممتد، ولا يكفي لأن يكون أساسًا وطيدًا يقوم عليه بناء عدة قرون من الحضارة الشرقية العالية، بل ما أسرعه إلى الهدم والنقض، لو صدمته الأساليب اللينة من الدهاء الأوروبي على اختلافها ... إذا قدر لأوربا أن تفوز بأسلوبها الجديد، أسلوب استعباد الشرق بالصداقة ... على طريقة ادعاء الثعلب للدجاج أنه قد حج وتاب وجاء ليصلي بها ...

والذي أراه أن نهضة هذا الشرق العربي لا تعتبر قائمة على أساس وطيد إلا إذا نهض بها الركنان الخالدان: الدين الإسلامي، واللغة العربية؛ وما عداهما فعسى أن لا تكون له قيمة في حكم الزمن الذي لا يقطع بحكمه على شيء إلا بشاهدين من المبدأ والنهاية. وظاهر أن أغلبية الشرق العربي ومادته العظمى هي التي تدين بالإسلام، وما الإسلام في حقيقته إلا مجموعة أخلاق قوية ترمي إلى شد المجموع من كل جهة، ولعمري إني لأحسب عظماء أمريكا كأنهم مسلمو التاريخ الحديث في معظم أخلاقهم، لولا شيء من الفرق هو الذي لا يمنعهم أن ينحطو إذا هم بلغوا القمة؛ فإن من عجائب الدنيا أن قمة الحضارة الرفيعة هي بعينها مبدأ سقوط الأمم، وهذا عندنا هو السر في أن الدين الإسلامي يكره لأهله أنواع الترف والزينة والاسترخاء، ولا يرى النحت والتصوير والموسيقى والمغالاة فيها وفي الشعر إلا من المكروهات، بل قد يكون فيها ما يحرم إن وجد سبب لتحريمه؛ إذ كانت هذه الفنون في الغالب وفي الطبيعة الإنسانية هي التي تؤدي في نهايتها إلى سقوط أخلاق الأمة؛ بما تستتبعه من أساليب الرفاهية والضعف المتفنن، وما تحدثه للنفس من فنون اللذات والإغراق فيها والاستهتار بها؛ وما سقطت الدولة الرومانية ولا الدولة العربية إلا بكأس وامرأة ووتر، وخيال شعري يفتن في هذه الثلاثة ويزينها. وإذا كان لا بد للأمة في نهضتها من أن تتغير، فإن رجوعنا إلى الأخلاق الإسلامية الكريمة أعظم ما يصلح لنا من التغير وما نصلح به منه، فلقد بعد ما بيننا وبين بعضها، وانقطع ما بيننا وبين البعض الآخر؛ وإذا نحن نبذنا لخمر، والفجور، والقمار، والكذب، والرياء؛ وإذا أنفنا من التخنث، والتبرج، والاستهتار بالمنكرات، والمبالغة في المجون، والسخف، والرقاعة، وإذا أخذنا في أسباب القوة، واصطنعنا الأخلاق المتينة: من الإرادة، والإقدام، والحمية، وإذا جعلنا لنا صبغة خاصة تميزنا من سوانا، وتدل على أننا أهل روح وخلق -إذا كان ذلك كله فلعمري أي ضير في ذلك كله، وهل تلك إلا الأخلاق الإسلامية الصحيحة، وهل في الأرض نهضة ثابتة تقوم على غيرها؟ إن من خصائص هذا الدين الأخلاقي أنه صلب فيما لا بد للنفس الإنسانية منه إذا أرادت الكمال الإنساني، ولكنه مرن فيما لا بد منه لأحوال الأزمنة المختلفة مما لا يأتي على أصول الكريمة. وليس يخفى أنه لا يغني غناء الدين شيء في نهضة الأمم الشرقية خاصة، فهو وحده الأصل الراسخ في الدماء

والأعصاب. ومتى نهض المسلمون وهم مادة الشرق، نهض إخوانهم في الوطن والمنفعة والعادة من أهل الملل الأخرى، واضطروا أن يجانسوهم في أغلب أخلاقهم الاجتماعية، ولا حجر على حريتهم في ذلك إلا كبعض الحجر على حرية المريض إذا أوجرته الدواء المر. ولما كان المسلمون إخوة بنص دينهم، وكانت مبادئهم واحدة، ومنافعهم واحدة، وكتابهم واحد؛ فلا جرم كان من السهل -لو رجعوا إلى أخلاق دينهم وانتبذوا ما يصدهم عنها- أن يؤلفوا من الشرق كله دولًا متحدة يحسب لها الغرب حسابًا ذا أرقام لا تنتهي.. إن هذا الشرق في حاجة إلى المبادئ والأخلاق، وهي مع ذلك كامنة فيه، ومستقبله كامن فيها؛ غير أنها لا تصلح في الكتب ولا في الفنون، بل في الرجال القائمين عليها. فالقلوب والأدمغة هي أساس النهضة الصحيحة الثابتة، وإذا نحن تأملنا هذه النهضة الراهنة وجدنا أساسها خربًا من جهات كثيرة، ووجدنا المكان الذي لا يملؤه إلا القلب الكبير ليس فيه إلا خيال كاتب من الكتاب والموضع الذي لا يسده إلا الرأس العظيم قد سدته قطعة من صحيفة ... ولقد تنبأ نبي هذا الدين صلى الله عليه وسلم بهذه الحالة التي انتهى إليها الشرق العربي بإزاء الغرب، فقال لأصحابه يومًا: كيف بكم إذا اجتمع عليكم بنو الأصفر* اجتماع الأكلة على القصاع؟ فقال عمر رضي الله عنه: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله أم من كثرة؟ قال: بل من كثرة، ولكنكم غثاء كغثاء السيل** قد أوهن قلوبكم حب الدنيا. فوهن القلب بحب الدنيا -على ما ينطوي في هذه العبارة من المعاني المختلفة- هو علة الشرق، ولا دواء لهذه العلة غير الأخلاق، ولا أخلاق بغير الدين الذي هو عمادها، ألا وإن أساس النهضة قد وضع، ولكن بقيت الصخرة الكبرى وستوضع يومًا، وهذا ما اعتقده؛ لأن الغرب يدفع معنا هذه الصخرة؛؛ ليقرها في موضعها من الأساس وهو يحسب أنه يدفعنا نحن إلى الحفرة ليدفعنا فيها.. وهذا عمى في السياسة لا يكون إلا بخذلان من الله قدره وقضاه.

_ * بنو الأصفر: هم الروم ومن إليهم من الأوربيين. ** الغثاء: ما يحمله السيل من الهشيم ونحوه مما تحطم وتعفن ولا قيمة له ولا قوة فيه.

وإني أرى أنه لا ينبغي لأهل الأقطار العربية أن يقتبسوا من عناصر المدنية الغربية اقتباس التقليد، بل اقتباس التحقيق، بعد أن يعطوا كل شيء حقه من التمحيص ويقلبوه على حالتيه الشرقية والغربية؛ فإن التقليد لا يكون طبيعة إلا في الطبقات المنحطة، وصناعة التقليد وصناعة المسخ فرعان من أصل واحد، وما قلد المقلد بلا بحث ولا روية إلا أتى على شيء في نفسه من ملكة الابتكار وذهب ببعض خاصيته العقلية؛ على أننا لا نريد من ذلك ألا نأخذ من القوم شيئًا؛ فإن الفرق بعيد بين الأخذ في المخترعات والعلوم، وبين الأخذ من زخرف المدنية وأهواء النفس وفنون الخيال ورونق الخبيث والطيب؛ إذ الفكر الإنساني إنما ينتج الإنسانية كلها، فليس هو ملكًا لأمة دون أخرى؛ وما العقل القوي إلا جزء من قوة الطبيعة. فإن نحن أخذنا من النظامات السياسية فلنأخذ ما يتفق مع الأصل الراسخ في آدابنا من الشورى والحرية الاجتماعية عند الحد الذي لا يجوز على أخلاق الأمة ولا يفسد مزاجها ولا يضعف قوتها. وإذا نقلنا من الأدب والشعر فلندع خرافات القوم وسخافاتهم الروائية إلى لب الفكر ورائع الخيال وصميم الحكمة، ولنتتبع طريقتهم في الاستقصاء والتحقيق، وأسلوبهم في النقد والجدل، وتأتيهم إلى النفس الإنسانية بتلك الأساليب البيانية الجميلة للتي هي الحكمة بعينها. وأما في العادات الاجتماعية فلنذكر أن الشرق شرق والغرب غرب -وما أرى هذه الكلمة تصدق إلا في هذا المعنى وحده- والقوم في نصف الأرض ونحن في نصفها الآخر، ولهم مزاج وإقليم وطبيعة وميراث من كل ذلك ولنا ما يتفق ولا يختلف؛ وإن أول الأدلة على استقلالنا أن نتسلخ من عادات القوم، فإن هذا يؤدي بلا ريب إلى إبطال صفة التقليد فينا، ويحملنا على أن نتخذ لأنفسنا ما يلائم طبائعنا وينمي أذواقنا الخاصة بنا، ويطلق لنا الحرية في الاستقلال الشخصي؛ ولقد كنا سادة الدنيا قبل أن كانت هذه العادات الغربية التي رأينا منها ومن أثرها فينا من أفسد رجولة رجالنا وأنوثة نسائنا على السواء؛ وما هؤلاء الشبان المساكين الذين يدعون إلى بعض هذه العادات ويعملون على بثها في طبقات الأمة إلا كالذي يحسب أن أوروبا يمكن أن تدخل تحت طربوشه.. ولقد غفلنا عن أننا ندعو الأوروبيين إلى أنفسنا وإلى التسلط على بلادنا بانتحالنا عاداتهم الاجتماعية؛ لأنها نوع من المشاكلة بيننا وبينهم، ووجه من التقريب بين جنسين يعين على اندماج أضعفهما في أقواهما ويضيق دائرة الخلاف بينهما، ثم هو من أين اعتبرته وجدته

في فائدته للأوروبيين أشبه بتليين اللقمة الصلبة تحت الأسنان القاطعة؛ وهل نسي الشرقيون أن لا حجة للغرب في استبعادهم إلا أنه يريد تمدينهم؟ وحيثما قلنا "الدين الإسلامي" فإنما نريد الأخلاق التي قام بها، والقانون الذي يسيطر من هذه الأخلاق على النفس الشرقية؛ وهذا في رأينا هو كل شيء؛ لأنه الأول والآخر1.

_ 1 حذفنا من هذا المقال بعض عبارات حذفها المؤلف بقلمه في الأصل الذي تحت أيدينا.

لا تجني الصحافة على الأدب ولكن على فنيته

لا تجني الصحافة على الأدب 1 ولكن على فنيته: قالوا: إن الأصمعي كان ينكر أن يقال في لغة العرب "مالح"، ويقول: إنما هو ملح، وإن "مالح" هذه عامية؛ فلما أنشدوه في ذلك شعرًا لذي الرمة يحتجون به عليه قال: إن ذا الرومة قد بات في حوانيت البقالين بالبصرة زمانًا.. يريد شيخنا هذا: أن "المالح" في الأكثر الأعم يكون مما يبيعه البقالون، ولغتهم عامية مزالة عن سننها الفصيح، مصروفة إلى وجهها التجاري؛ ولكن كيف بات ذو الرمة في حوانيت البقالين زمانًا حتى علقت الكلمة بمنطقه وجذبه إليها الطبع العامي، ولم يخالط عربيته غير هذه الكلمة وحدها؟ لم يقل الأصمعي شيئًا، ولكن روايته تخبر أن ذا الرمة انحدر من البادية إلى البصرة يلتمس ما يلتمسه الشعراء، فلم كان بها استضاق فلم يصب لجوفه غير الخبز، ولم يجد للخبز غير "المالحة" والبقلة "المالحة"، ويعرفونه مضيقًا إلى فرج، فينسئون له في الثمن إلى أجل حتى يمتدح وينال الجائزة؛ قالوا: ثم يمطره الممدوح ويلوي به ولا يرى في تلفيق العيش رخصًا إلا في "المالح"، فيتتابع في الشراء ويمضون في إسلافه إبقاء عليه وحسن نظر منهم لمنزلته وشعره، ويرى هو أن لا ضمان للوفاء به عليه إلا نفسه، فما بد أن يتراءى لهم بين الساعة والساعة، فيخالطهم فيحدثهم فيسمع منهم، وهم على طبعهم وهو على سجيته؛ ثم لا يقتضونه ثمنًا، ولا يزالون يمدون له، فلا يزال "المالح" أيسر منالًا عليه، كما هو إلى نفسه أشهى، وفي جوفه أمرًا، لمكان أعرابيته وخشونة عيشه، فيصيب عندهم مرتعة من هذا "المالح". قالوا: ثم يرى البقالون أن لا ضمان لم اجتمع عليه إلا أن يكون الشاعر معهم، فيلزمونه الحوانيت بياض يومه، ويغلقونها عليه سواد ليلته، فهم يمسكونه بالنهار وتمسكه الحيطان والأبواب بالليل!

_ 1 بهذا المقال بدأ المؤلف عمله في الرسالة؛ وانظر ص191 "حياة الرافعي".

فلما عظم الدين وبلغ الجملة التي فاتت حساب الأيام إلى حساب الأهلة أحضر الشاعر كربه وهمه، ولم يعد "المالح" ينجع فيه، ولا يجد به غذاء، بل حريقًا في الدم، ورأى أنه قد امتحن بهذا "المالح" الخبيث وأشرط نفسه فيه وارتهنها به؛ فلا يزال من "المالح" هم في نفسه، ومغص في جوفه، ولفظ على لسانه، ودين على ذمته؛ ولا يزال مهمومًا به؛ إذ كان على طريق من طريقين: إما الوفاء ولا قدرة عليه من مفلس، وإما الحبس ولا طاقة به لشاعر؛ وحبس ذي الرمة في ثمن "المالح" هو حبس عند الشرطة، ولكنه قتل أو شر من القتل عند صاحبته "مية" إذا ترامى إليها الخبر؛ والأعرابي الجلف الذي يحبس في ثمن "المالح" عند الوالي بعد أن بات زمانًا رهنًا به في حوانيت البقالين لا يصلح عاشقًا لمي وهي: من هي: "لها بشر مثل الحرير ومنطق رخيم الحواشي.." فلا "المالح" من غذائها، ولا لفظ "المالح" من الكلام الذي يكون في فمها العذب، وأبعد الله جاريتها الزنجية إن لم تأنف لنفسها ومكانها من عشق هذا الأعرابي الغليظ الخشن الذي ألحقه "المالح" باللصوص والغارمين، وأخزاها الله إن لم يكن عشق هذا الأعرابي لها سوادًا على سوادها في الناس، فكيف بمي وهي أصفى من المرأة النقية، وأبيض من الزهرة البيضاء؟ قالوا: ويصنع الله لغيلان المسكين، فيمدح وينافق ويحتال، ويعده الممدوح بالجائزة إذا غذا عليه، ويكون ذلك والشمس نازلة إلى خدرها، فينكفئ الشاعر إلى حوانيت غرمائه من البقالين يبيت فيها أخرى لياليه، ويغلقون عليه وقد سئموه آكلًا وماطلًا، وهان عليهم فلا يعتدونه إلا فأرًا من فئران حوانيتهم غير أنه يأكل فيستوفي، ولم يعد اسمه عندهم ذا الرمة، بل ذا الغمة.. فلم يعطوه لعشائه هذه المرة إلا ما فسد وخبث من عتيق "المالح"، فهو نتن يسمى طعامًا، وداء يباع بثمن، وهلاك يحمل عليه الاضطرار كما يحمل على أكل الجيفة؛ وكانوا قد وضعوه في آنية قذرة متلجنة طال عهدها بالغسل والنظافة وفيها بقية من عفن قديم، فلصق بها ما لصق وتراكب عليها ما تراكب، ووقع فيها ما وقع. ثم يتهيأ الشاعر لصلاة العشاء يرجو أن تناله بركتها، فيستجيب الله له ويفرج عنه، وقد كان لديه قدح من الماء لوضوئه، ولكن "المالح" الذي تغذى به كان قد أحرق جوفه وأضرم على أحشائه وهو في صيف قائظ، فما زال يطفئه بالشربة بعد الشربة، والمصة بعد المصة، حتى اشتف القدح وأتى عليه، فيكسل عن الصلاة ويلعن "المالح" وما جر عليه! ثم يعضه الجوع فيكسر خبرته

ويسمى ويغمس اللقمة ثم يرفعها فيجد لها رائحة منكرة، فينظر في الآنية وقد نفذ إليه الضوء من قنديل الحارس، فإذا في "المالح" خنفساء قد انفجرت شبعًا، ويدقق النظرة فإذا دويبة أخرى قد تفسخت وهرأها "المالح" وفعل بها وفعل! قالوا: وتثب نفسه إلى حلقه، ولا يرى الطاعون والبلاد الأصفر والأحمر إلا هذا "المالح"، فيتحول إلى كوة الحانوت يتنسم الهواء منها ويتطعم الروح وهي مضببة بالحديد، ولا يزال يراعي منها الليل ويقدره منزلة منزلة بحساب البادية، وهو بين ذلك يلعن "المالح" عدد ما يسبح العابد القائم في جوف الليل، ويطول ذلك عليه، حتى إذا كان ينشق لمع الفجر لعينه، فلا يراه الشاعر إلا كالغدير يتفجر بالماء الصافي ويود لو انصب هذا الضوء في جوفه ليغسله من "المالح" وأوضار "المالح"؛ ثم يأتي الله بالفرج وبصاحب الحانوت فيفتح له، ويغدو ذو الرمة على الممدوح فيقبض الجائزة، وينقلب إلى حوانيت البقالين فيوفي أصحابها ما عليه؛ ولا يبقى معه إلا دراهم معدودة، فيخرج من البصرة على حمار اكتراه وقد فتحت له آفاق الدنيا، وكأنما فر من موت غير الموت، ليس اسمه البوار ولا الهلاك ولا القتل، ولكن اسمه "المالح"! قالوا: ويحركه الحمار للشعر كما كانت تحركه الناقة، فيقول: أخزاك الله من حمار بصري، إن أنت في المراكب إلا "كالمالح" في الأطعمة! ثم يغلبه الطبع ينزو به الطرب وتهزه الحياة، فيهتاج للشعر ويذكر شوقه وحبه ودار مي، وفي "عقله الباطن" حوانيت وحوانيت من "المالح"، فيأتي هذا "المالح" في شعره ويدخل في لغته، فيقول الشعر الذي أهمل الأصمعي روايته لأن فيه "المالح" وما أدري أنا ما هو، ولكن لعله مثل قول الآخر: ولو تفلت في البحر والبحر "مالح" ... لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا أو مثل قول القائل: بصرية تزوجت بصريا ... يطعمها "المالح" والطريا هذه في الرواية التمثيلية التي تفسر كلام الأصمعي، ولا مذهب عنها في التعليل؛ إذ صار "المالح" كلمة نفسية في لغة ذي الرمة، على رغم أنف الأحمر والأسود والأصمعي وأبي عبيدة؛ فالرجل من الحجج في العربية إلا في كلمة "المالح"، فإنه هنا عامي بقال حوانيتي نزل بطبعه على حكم

العيش، وغلبه ما لا بد أن يغلب من تسلط "واعيته الباطنة"*. والحكمة التي تخرج من هذه الرواية أن أبلغ الناس ينحرف بعمله كيف شاءت الحرفة، ولا بد أن تقع المشابهة بين نفسه وعمله، فربما أراد بكلامه وجهًا وجاء به الهاجس على وجه آخر؛ وإذا كان في النفس موضع من مواضعها أفسده العمل- ظهر فساده في الذوق والإدراك فطمس على مواضع أخرى؛ فلا تنتظر من صحافي قد ارتهن نفسه بحرفة الكلام ألا يكون له في الأدب والبلاغة "مالح" كمالح ذي الرمة، وإن كان أبلغ الناس لا أبلغ كتاب الصحف وحدهم. و"المالح" الذي رأيناه لكاتب بليغ من أصحابنا1 أنه كتب في إحدى الصحف عن ديوان هو في شعر هذه الأيام كالبعث بعد موت شوقي وحافظ رحمهما الله فيأتي بالمجاز بعد الاستعارة بعد الكناية مما قاله الشاعر، ثم يقول: هذا عجيب تصوره. لا أعرف ماذا يريد. البلى للشعاع غير مقبول؛ ولا يزال ينسحب على هذه الطريقة من النقد ثم يعقب على ذلك بقوله: "والأصل في الكتابة أنها للإفهام، أي نقل الخاطر أو الإحساس من ذهن إلى ذهن ومن نفس إلى نفسي، ولا سبيل إلى ذلك إذا كانت العبارة يتعاورها الضعف والإبهام والركاكة وقلة العناية بدقة الأداء؛ وإذا كنت تستعمل اللفظ في غير موضعه ولغير ما أريد به فكيف تتوقع مني أن أفهم منك؟ لا، لا، هذا "مالح" من مالح الأدب، فإذا كان الضعف والإبهام والركاكة وسوء الإفهام وضعف الأداء -آتية في رأي الكاتب من استعمال اللفظ في غير موضعه ولغير ما أريد له -فإن محاسن البيان من التشبيه واستعارة والمجاز والكناية ليس لها مأتى كذلك إلا استعمال اللفظ في غير موضعه ولغير ما أريد له. وعلى طريقة الكاتب كيف يصنع في قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] أتراه يقول: كيف قدم الله، وهل كان غائبًا أو مسافرًا، وكيف قدم إلى عمل، وهل العمل بيت أو مدينة؟

_ * وضعنا هذه الكلمة لما يسمى "العقل الباطن"، وهي أدق في التعبير تستوفي كل معاني الكلمة، ولا معنى لأن يكون هناك عقل، ثم يكون باطنًا غافلًا، فإن هذا لا يسوغه الاشتقاق. 1 يعني المازني، وكان له نقد لديوان "الملاح التائه".

ثم كيف يصنع في هذه الآية: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} [هود: 44] ، أيسأل: وهل للأرض حلق تحركه عضلاته للبلع، وإذا كان لها حلق أفلا يجوز أن ترمي فيه فتحتاج إلى غرغرة وعلاج وطب؟ وماذا يقول في حديث البخاري: "إني لأسمع صوتًا كأنه صوت الدم، أو صوتًا يقطر منه الدم -كما في الأغاني- أيوجه الاعتراض على الصوت وجرحه ودمه، ويسأل: بماذا جرح، وما لون هذا الدم، وهل للصوت عروق فيجري الدم فيها؟ إن الإفهام ونقل الخاطر والإحساس ليست هي البلاغة وإن كانت منها، وإلا فكتابة الصحف كلها آيات بينات في الأدب؛ إذ هي من هذه الناحية لا يقدح فيها ولا يغض منها، وما قصرت قط في نقل خاطر ولا استغلقت دون إفهام. ههنا خوان في مطعم كمطعم "الحاتي" مثلًا عليه الشواء والملح والفلفل والكواميخ أصنافًا مصنفة، وآخر في وليمة عرس في قصر وعليه ألوانه وأزهاره، ومن فوقه الأشعة ومن حوله الأشعة الأخرى من كل مضيئة في القلب ينور وجهها الجميل، أفترى السهولة كل السهولة إلا في الأول؟ وهل التعقيد كل التعقيد إلا في الثاني؟ ولكن أي تعقيد هو؟ إنه تعقيد فني ليس إلا، به ينضاف الجمال في المنفعة، فتجتمع الفائدة والاستمتاع وتزين المائدة والنفس معًا؛ وهو كذلك تعقيد فني لاءم بين إبداع الطبيعة وإبداع الفكر، وجاء بروح الموسيقى التي يقوم عليها الكون الجميل فبثها في هذه الأشياء التي تقوم بها المائدة الجميلة، واستنزل سر الجاذبية فجعل للمائدة بما عليها شعورًا متصلًا بالقلوب من حيث جعل للقلوب شعورًا متصلًا بالمائدة. وهذا التعقيد الذي صور في الجماد دقة فن العاطفة، هو بعينه فنية السهولة وروحيتها؛ وتلك السذاجة التي في المائدة الأخرى هي السهولة المادية بغير فن ولا روح، وفرق بينهما أن إحداهما تحمل قصيدة رائعة من الطعام وما يتصل به، والأخرى تحمل من الطعام وما يتصل به مقالة كمقالات الصحف! والوجه في الشوهاء وفي الجميلة واحد: لا يختلف بأعضائه ولا منافعه، ولا في تأديته معاني الحياة على أتمها وأكملها؛ بيد أن انسجام الجميل يأتي من إعجاز تركيبه وتقدير قسماته وتدقيق تناسبه، وجعله بكل ذلك يظهر فنه النفسي بسهولة منسجمة هي فنيَّته وروحيته؛ أما الآخر فلا يقبل هذا الفن ولا يظهر منه شيئًا؛ إذ كان قد فقد التدقيق الهندسي الذي هو تعقيد فن التناسب، وجاء على المقاييس السهلة من طويل إلى قصير، إلى ما يستدير وما يعرض، إلى ما ينشأ من هنا وينخسف من

هناك، كالوجنة البارزة، والشدق الغائر، فهذه السهولة في الوضع كما يتفق، هي بعينها التعقيد المطلق عند الفن الذي لا محل فيه للفظة "كما يتفق". والطريقة التي يكون بها الجمال جميلًا هي بعينها الطريقة التي يكون بها البيان بليغًا، فالمرجع في اثنيهما إلى تأثيرهما في النفس، وأنت فقل: إن هذا مفهوم وهذا غير مفهوم، وذاك سهل والآخر معقد، وواضح ومغلق، ومستقيم على طريقته ومحول عن طريقته؛ إنك في ذلك لا تدل على شيء تعيبه أو تمدحه في الجمال أو البلاغة أكثر مما تدل على ما يمدح أو يعاب في نفسك وذوقها وإدراكها. ومعاني الاختلاف لا تكون في الشيء المختلف فيه، بل في الأنفس المختلفة عليه؛ فإن محالًا أن تكون الجميلة ممدوحة مذمومة لجمالها في وقت معًا، وإلا كانت قبيحة بما هي به حسناء، وهذا أشد بعدًا في الاستحالة، وحكمك على شيء هو عقلك أنت في هذا الشيء. ومتى اتفق الناس على معنى يستحسنونه وجدت دواعي الاستحسان في أنفسهم مختلفة، وكذلك هم في دواعي الذم إذا عابوا؛ ولكن متى تعينت الوجوه التي بها يكون الحكم، ورجع إليها المختلفون، والتزموا الأصول التي رسمتها وتقررت بها الطريقة عندهم في الذوق والفهم، فذلك ينفي أسباب الاختلاف لما يكون من معاني التكافؤ وخاصة المناسبة، ولهذا كان الشرط في نقد البيان أن يكون من كاتب مبدع في بيانه لم تفسده نزعة أخرى، وفي نقد الشعر أن يكون من شاعر علت مرتبته وطالت ممارسته لهذا الفن فليس له نزعة أخرى تفسده. وما المجازات والاستعارات والكنايات ونحوها من أساليب البلاغة إلا أسلوب طبيعي لا مذهب عنه للنفس الفنية؛ إذ هي بطبيعتها تريد دائمًا ما هو أعظم، وما هو أجمل، وما هو أدق؛ وربما ظهر ذلك لغير هذه النفس تكلفًا وتعسفًا ووضعًا للأشياء في غير مواضعها، ويخرج من هذا أنه عمل فارغ وإساءة في التأدية وتمحل لا عبرة به، ولكن فنية النفس الشاعرة تأبى إلا زيادة معانيها، فتصنع ألفاظها صناعة توليها من القوة ما ينفذ إلى النفس ويضاعف إحساسها؛ فمن ثم لا تكون الزيادة في صور الكلام وتقليب ألفاظه وإدارة معانيه إلا تهيئة لهذه الزيادة في شعور النفس؛ ومن ذلك يأتي الشعر دائمًا زائدًا بالصناعة البياينة؛ لتخرجه هذه الصناعة من أن يكون طبيعيًّا في الطبيعة إلى أن يكون روحانيًّا في الإنسانية، والشعور المهتاج المتفزز غير الساكن المتبلد، والبيان في صناعة اللغة يقابل هذا النحو، فتجد من التعبير ما هو حي متحرك، وما جامد مستلقٍ كالنائم

أو كالميت؛ وبهذا لا تكون حقيقة المحسنات البيانية شيئًا أكثر من أنها صناعة فنية لا بد منها لإحداث الاهتياج في ألفاظ اللغة الحساسة كي تعطي الكلمات ما ليس في طاقة الكلمات أن تعطيه. لقد تكلموا أخيرًا في جنابة الصحافة على الأدب، والصحافة عندي لا تجني على الأدب، ولكن على فنيته؛ فلها من الأثر على سليقة البليغ وطبعه قريب مما كان لحوانيت البقالين في البصرة على طبع ذي الرمة وسليقته، وكلما قرب الصحافي من الصنعة وحقها على الجمهور، بعد عن الفن وجماله وحقه على النفس، وهذا واضح بلا كبير تأمل، بل هو واضح بغير تأمل..

صعاليك الصحافة1

صعاليك الصحافة "1": لما ظهر كتابي "وحي القلم"1 حملت منه إلى فضلاء كتابنا في دور الصحف والمجلات أهديه إليهم؛ ليقرؤوه ويكتبوا عنه، وأنا رجل ليس في أكثر مما في، كالنجم يستحيل أن يكون فيه مستنقع؛ فما أعلم في طبيعتي موضعا للنفاق تتحول فيه البصلة إلى تفاحة، ولا مكانًا من الخوف تنقلب فيه التفاحة إلى بصلة، ولست أهدي من كتبي إلا إحدى هديتين: فإما التحية لمن أثق بأدبهم وكفايتهم وسلامة قلوبهم، وإما إنذار حرب لغير هؤلاء! والقرآن نفسه قد أثبت اللهُ فيه أقوال من عابوه، ليدل بذلك على أن الحقيقة محتاجة إلى من ينكرها ويردها، كحاجتها إلى من يقربها ويقْبلها، فهي بأحدهما تثبت وجودها، وبالآخر تثبت قدرتها على الوجود والاستمرار. والشعور بالحق لا يخرس أبدًا؛ فإذا كانت النفس قوية صريحة مر من باطنها إلى ظاهرها في الكلمة الخالصة، فإن قال: لا أو: نعم صدق فيهما؛ وإذا كانت النفس ملتوية اعترضته الأغراض والدخائل، فمر من باطن إلى باطن حتى يخلص إلى الظاهر في الكلمة المقلوبة؛ إذ يكون شعورًا بالحق يغطيه غرض آخر كالحسد ونحوه، فإن قال: لا أو نعم كذب فيهما جميعًا. وكنت في طوافي على دور الصحف والمجلات أحس في كل منها سؤالًا يسألني به المكان: لماذا لم تجئ؟ فإني في ابتداء أمري كنت نزعت إلى العمل في الصحافة، وأنا يومئذ متعلم ريض ومتأدب ناشئ، ولكن أبي رحمه الله ردني عن ذلك ووجهني في سبيلي هذه والحمد لله، فلو أنني نشأت صحافيًّا لكنت الآن كبعض الحروف المكسورة في الطبع..

_ 1 يعني الجزأين الأول والثاني في طبعتهما الأولى.

وللصحافة العربية شأن عجيب، فهي كلما تمت نقصت، وكلما نقصت تمت؛ إذ كان مدار الأمر فيها على اعتبار أكثر من يقرؤونها أنصاف قراء أو أنصاف أميين؛ وهي بهذا كالطريقة لتعليم القراءة الاجتماعية أو السياسية أو الأدبية؛ فتمامها بمراعاة قواعد النقص في القارئ.. وما بد أن تتقيد بأوهام الجمهور أكثر مما تتقيد بحقيقة نفسها، فهي معه كالزوجة التي لم تلد بعد، لها من رجلها من يأمرها ويجعلها في حكمه وهواه، وليس لها من أبنائها من تأمرهم وتجعلهم في طاعتها ورأيها وأدبها؛ ثم هي عمل الساعة واليوم، فما أبعدها من حقيقة الأدب الصحيح؛ إذ ينظر فيه إلى الوقت الدائم لا إلى الوقت الغابر، ويراد به معنى الخلود لا معنى النسيان. ولا يقتل النبوغ شيء كالعمل في هذه الصحافة بطريقتها؛ فإن أساس النبوغ "ما يجب كما يجب"؛ ودأبه العمق والتغلغل في أسرار الأشياء وإخراج الثمرة الصغيرة من مثل الشجرة الكبيرة بعمل طويل دقيق؛ أما هي فأساسها "ما يمكن كما يمكن" ودأبها السرعة والتصفح والإلمام وصناعة كصناعة العنوان لا غير. فليس يحسن بالأديب أن يعمل في هذه الصحافة اليومية إلا إذا نضج وتم وأصبح كالدولة على "الخريطة"، لا كالمدينة في الدولة في الخريطة؛ فهو حينئذ لا يسهل محوه ولا تبديله.. ثم هو يمدها بالقوة ولا يستمد القوة منها، ويكون تاجًا من تيجانها لا خرزة من خرزاتها، ويقوم فيها كالمنارة العظيمة تلقي أشعتها من أعلى الجو إلى مدى بعيد من الآفاق، لا كمصباح من مصابيح الشارع! وحالة الجمهور عندنا تجعل الصحافة مكانًا طبيعيًّا لرجل السياسة قبل غيره؛ إذ كان الرجل السياسي هو صوت الحوادث سائلًا ومجيبًا، ثم يليه الرجل شبه العالم، ثم الرجل شبه الممثل الهزلي.. والأديب العظيم فوق هؤلاء جميعًا، غير أنه عندنا في الصحافة وراء هؤلاء جميعًا!. ولما فرغت من طوافي على دور الصحف جاءت هي تطوف بي في نومي فرأيتني ذات ليلة أدخل إحداها لأهدي "وحي القلم" إلى الأديب المتخصص فيها للكتابة الأدبية؛ ودلوني عليه فإذا رجل مربوع مشوه الخلق صغير الرأس دقيق العنق جاحظ العينين، تدوران في محجريهما دورة وحشية كأنما رعبته الحياة مذ كان جنينًا في بطن أمه؛ لأنه خلق للإحساس والوصف، أو كأنما ركب فيه هذا النظر الساخر ليرى أكثر مما يرى غيره من أسرار السخرية فينبغ في فنونها، أو هو قد

خلق بهاتين الجاحظتين دلالة عليه من القدرة الإلهية بأنه رجل قد أرسل لتدقيق النظر. وقال الذي عرفني به: حضرته عمرو أفندي الجاحظ.. وهو أديب الجريدة. قلت: شيخنا أبو عثمان عمرو بن بحر؟ فضحك الجاحظ وقال: وأديب الجريدة، أي شحاذ الجريدة، يكتب لها كما يقرأ القارئ على ضريح: بالرغيف والجبن والبيض والقرش.. قلت: إنا لله! فكيف انتهيت يا أبا عثمان إلى هذه النهاية وكنت من أعاجيب الدنيا؟ وكيف خبت في الصحافة وكنت رأسًا في الكلام؟ قال: نجحت أخلاقي فخابت آمالي، ولو جاء الوضع بالعكس لكان الأمر بالعكس؛ والمصيبة في هذه الصحف أن رجلًا واحدًا هو قانون كل رجل هنا. قلت: وذاك الرجل الواحد ما قانونه؟ قال: له ثلاثة قوانين: الجهات العالية وما يستوحيه منها، والجهات النازلة وما يوحيه إليها، وقانون الصلة بين الجهتين وهو.. قلت: وهو ماذا؟ فحملق في وقال: ما هذه البلادة؟ وهو الذي "هو".. أما ترى الصحيفة ككل شيء يباع؟ وأنت فخيرني -ولك الدولة والصولة عند القراء- ألم تر بعينيك أنك لو جئت تدفع ثمانمائة قرش، لكنت في نفوسهم أعظم مما أنت وقد جئت تهدي ثمانمائة صفحة من البيان والأدب؟ قلت: يا أبا عثمان، فماذا تكتب هنا؟ قال: إن الكتابة في هذه الصحافة صورة من الرؤية، فماذا ترى أنت في ... وفي ... وفي؟ ... لقد كنا نروي في الحديث: "يكون قوم يأكلون الدنيا بألسنتهم كما تلحس الأرض البقرة بلسانها"؛ فلعل من هذه الألسنة الطويلة لسان صاحب الجريدة ... قلت: ولكنك يا شيخنا قد نسيت القراء وحكمهم على الصحيفة. قال: القراء ما القراء؟ وما أدراك ما القراء؟ وهل أساس أكثرهم إلا بلادة المدارس، وسخافة الحياء، وضعف الأخلاق، وكذب السياسة؟ إن الإبداع كل الإبداع في أكثر ما تكتب هذه الصحف، أن تجعل الكذب يكذب بطريقة جديدة ... وما دام المبدأ هو الكذب، فالمظهر هو الهزل؛ والناس في حياة قد ماتت فيها

المعاني الشديدة القوية السامية، فهم يريدون الصحافة الرخيصة، واللغة الرخيصة، والقراءة الرخيصة؛ وبهذا أصبح الجاحظ وأمثاله هم "صعاليك الصحافة". ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير، فنهض إليه، ثم رجع بعينين لا يقال فيهما جاحظتان، بل خارجتان ... وقال: أف. {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 16] . "كلا والذي حرم التزيد على العلماء، وقبح التكلف عند الحكماء، وبهرج الكذابين عند الفقهاء، لا يظن هذا إلا من ضل سعيه"*. قلت: ماذا دهاك يا أبا عثمان؟ قال: ويحها صحافة! قل في عمك ما قال المثل: جحظ إليه عمله**. قلت: ولكن ما القصة؟ قال: ويحها صحافة! وقال الأحنف: أربع من كن فيه كان كاملًا، ومن تعلق بخصلة منهن كان من صالحي قومه: دين يرشده، أو عقل يسدده، أو حسب يصونه، أو حياة يقناه". وقال: "المؤمن بين أربع: مؤمن يحسده، ومنافق يبغضه، وكافر يجاهده، وشيطان يفتنه، وأربع ليس أقل منهن: اليقين، والعدل، ودرهم حلال، وأخ في الله". وقال الحسن بن علي: *** ... قلت: يا شيخنا، دعنا الآن من الرواية والحفظ والحسن والأحنف؛ فماذا دهاك عند رئيس التحرير؟ قال: لم أحسن المهاترة في المقال الذي كتبته اليوم ... ويقول رئيس التحرير: إن كان نصف التمويه رذيلة؟ فإن نصفه الآخر يدل على أنه تمويه. ويقول: إن سمو الكتابة انحطاط فصيح؛ لأن القراء في هذا العهد لا يخرجون من حفظ القرآن والحديث ودراسة كتب العلماء والفصحاء، بل من الروايات والمجلات الهزلية. وحفظ القرآن والحديث وكلام العلماء يضع في النفس قانون النفس، ويجعل معانيها مهيأة بالطبيعة للاستجابة لتلك المعاني الكبيرة في الدين والفضيلة والجد والقوة؛ ولكن ماذا تصنع الروايات والمجلات وصور

_ 1 هذه الجملة من كلام الجاحظ. 2 يريدون أنه إذا نظر في عمله رأى سوء ما صنع. 3 هذه طريقة الجاحظ، يخلط الكلام دائمًا بالنقل.

الممثلات المغنيات وخبر الطالب فلان والطالبة فلانة والمسارح والملاهي؟ ويقول رئيس التحرير: إن الكاتب الذي لا يسأل نفسه ما يقال عني في التاريخ، هو كاتب الصحافة الحقيقي؛ لأن القروش هي القروش والتاريخ هو التاريخ؛ ومطبعة الصحيفة الناجحة هي بنت خالة مطبعة البنك الأهلي؛ ولا يتحقق نسب ما بينهما إلا في إخراج الورق الذي يصرف كله ولا يرد منه شيء! إنهم يريدون إظهار المخازي مكتوبة، كحوادث الفجور والسرقة والقتل والعشق وغيرها؛ يزعمون أنها أخبار تروى وتقص للحكاية أو العبرة، والحقيقة أنها أخبارهم إلى أعصاب القراء ... ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير ...

صعاليك الصحافة2

صعاليك الصحافة "2": وغاب شيخنا أبو عثمان عند رئيس التحرير بعض ساعة، ثم رجع تدور عيناه في جحاظيهما وقد اكفهر وجهه وعبس كأنما يجري فيه الدم الأسود لا الأحمر، وهو يكاد ينشق من الغيظ، وبعضه يغلي في بعضه كالماء على النار؛ فما جلس حتى جاءت ذبابتان فوقعتا على كنفي أنفه تتمان كآبة وجهه المشوه، فكان منظرهما من عينيه السوداوين الجاحظتين منظر ذبابتين ولدتا من ذبابتين.. وتركهما الرجل لشأنهما وسكت عنهما؛ فقلت له: يا أبا عثمان، هاتان ذبابتان، ويقال إن الذباب يحمل العدوى. فضحك ضحكة المغيظ وقال: إن الذباب هنا يخرج من المطبعة لا من الطبيعة، فأكثر القول في هذه الجرائد حشرات من الألفاظ: منها ما يستقذر وما تنقلب له النفس، وما فيه العدوى، وما فيه الضرر؛ وما بد أن يعتاد الكاتب الصحافي من الصبر على بعض القول مثل ما يعتاد الفقير من الصبر على بعض الحشرات في ثيابه، وقد يريده صاحب الجريدة أو رئيس التحرير على أن يكتب كلامًا لو أعفاه منه وأراده على أن يجمع القمل والبراغيث من أهدام الفقراء والصعاليك بقدر ما يملأ مقالة.. كان أخف عليه وأهون، وكان ذلك أصرح من معنى الطلب والتكليف*. وكيفما دار الأمر فإن كثيرًا من كلام الصحف لو مسخه الله شيئًا غير الحروف المطبعية، لقطار كله ذبابًا على وجوه القراء! قلت: ولكنك يا أبا عثمان ذهبت متلطفًا إلى رئيس التحرير ورجعت متعقدًا فما الذي أنكرت منه؟ قال: "لو كان الأمر على ما يشتهيه الغرير والجاهل بعواقب الأمور؛ لبطل

_ * هذه طريقة الجاحظ في الإغراق حين يتهكم.

النظر وما يشحذ عليه وما يدعو إليه، ولتعطلت الأرواح من معانيها والعقول من ثمارها، ولعدمت الأشياء حظوظها وحقوقها1، هناك رجل من هؤلاء المعنيين بالسياسة في هذا البلد ... يريد أن يخلق في الحوادث غير معانيها، ويربط بعضها إلى بعض بأسباب غير أسبابها، ويخرج منها نتائج غير نتائجها، ويلفق لها من المنطق رقعًا كهذه الرقع في الثوب المفتوق؛ ثم لا يرضى إلا أن تكون بذلك ردًّا على جماعة خصومه وهي رد عليه وعلى جماعته، ولا يرضى مع الرد إلا أن يكون كالأعاصير تدفع مثل تيار البحر في المستنقع الراكد. ثم لم يجد لها رئيس التحرير غير عملك أبي عثمان في لطافة حسه وقوة طبعه وحسن بيانه واقتداره على المعنى وضده، كأن أبا عثمان ليس عنده ممن يحاسبون أنفسهم، ولا من المميزين في الرأي، ولا من المستدلين بالدليل، ولا من الناظرين بالحجة؛ وكأن أبا عثمان هذا رجل حروفي.. كحروف المطبعة: ترفع من طبقة وتوضع في طبقة وتكون على ما شئت، وأدنى حالاتها أن تمد إليها اليد فإذا هي في يدك. وأنا امرؤ سيد في نفسي، وأنا رجل صدق، ولست كهؤلاء الذين لا يتألمون ولا يتذممون؛ فإن خضت في مثل هذا انتقض طبعي وضعفت استطاعتي وتبين النقص فيما أكتب، ونزلت في الجهتين؛ فلا يطرد لي القول على ما أرجو، ولا يستوي على ما أحب؛ فذهبت أناقضه وأرد عليه؛ فبهت ينظر إلي ويقلب عينيه في وجهي، كأن الكاتب عنده خادم رأيه كخادم مطبخه وطعامه، هذا من هذا. ثم قال لي: يا أبا عثمان، إني لأستحي أن أعنفك؛ وبهذا القول لم يستح أن يعنف أبا عثمان.. ولهممت والله أن أنشده قول عباس بن مرداس: أكليب مالك كل يوم ظالما ... والظلم أنكد وجهه معلون لولا أن ذكرت قول الآخر: وما بين من لم يعط سمعا وطاعة ... وبين تميم غير حز الغلاصم وحز الغلاصم "وقطع الدراهم" من قافية واحدة.. وقال سعيد بن أبي عروبة: "لأن يكون لي نصف وجه ونصف لسان على ما فيهما من قبح المنظر وعجز المخبر- أحب إلى من أن أكون ذا وجهين وذا لسانين وذا قولين مختلفين". وقال أيوب السختياني:

_ 1 هذه الجملة من كلام الجاحظ.

وهم شيخنا أن يمر في الحفظ والرواية على طريقته، فقلت: وقال رئيس التحرير ... ؟ فضحك وقال: أما رئيس التحرير فيقول: إن الخلابة والمواربة وتقليب المنطق هي كل البلاغة في الصحافة الحديثة، ولهي كقلب الأعيان في معجزات الأنبياء -صلوات الله عليهم- فكما انقلبت العصا حية تسعى، وهي عصا وهي من الخشب، فكذلك تنقلب الحادثة في معجزات الصحافة إذا تعاطاها الكاتب البليغ بالفطنة العجيبة والمنطق الملون والمعرفة بأساليب السياسة؛ فتكون للتهويل، وهي في ذاتها اطمئنان، وللتهمة وهي في نفسها براءة، وللجناية وهي في معناها سلامة، ولو نفخ الصحافي الحاذق في قبضة من التراب لاستطارت منها النار وارتفع لهبها الأحمر في دخانها الأسود. قال: وإن هذا المنطق الملون في السياسة إنما هو إتقان الحيلة على أن يصدقك الناس؛ فإن العامة وأشباه العامة لا يصدقون الصدق لنفسه، ولكن للغرض الذي يساق له؛ إذ كان مدار الأمر فيهم على الإيمان والتقديس، فأذقهم حلاوة الإيمان بالكذب فلن يعرفوه إلا صدقًا وفوق الصدق، وهم من ذات أنفسهم يقيمون البراهين العجيبة ويساعدون بها من يكذب عليهم متى أحكم الكذب؛ ليحققوا لأنفسهم أنهم بحثوا ونظروا ودققوا ... ثم قال أبو عثمان: ومعنى هذا كله أن بعض دور الصحافة لو كتبت عبارة صريحة للإعلان لكانت العبارة هكذا: سياسة للبيع ... قلت: يا شيخنا، فإنك هنا عندهم؛ لتكتب كما يكتبون، ومقالات السياسة الكاذبة كرسائل الحب الكاذب: تُقرأ فيها معانٍ لا تكتب، ويكون في عبارتها حياة وفي ضمنها طلب ما يستحي منه ... والحوادث عندهم على حسب الأوقات، فالأبيض أسود في الليل، والأسود أبيض في النهار؛ ألم تر إلى فلان كيف يصنع وكيف لا يعجزه برهان وكيف يخرج المعاني؟ قال: بلى، نعم الشاهد هو وأمثاله!؛ إنهم مصدقون حتى في تاريخ حفر زمزم. قلت: وكيف ذلك؟ قال: شهد رجل عند بعض القضاة على رجل آخر، فأراد هذا أن يجرح شهادته، فقال للقاضي: أتقبل منه وهو رجل يملك عشرين ألف دينار ولم يحج إلى بيت الله؟ فقال الشاهد: بلى قد ححجت. قال الخصم؛ فاسأله أيها القاضي عن زمزم كيف هي؟ قال الشاهد: لقد حججت قبل أن تحفر زمزم فلم أرها ...

قال أبو عثمان: فهذه هي طريقة بعضهم فيما يزكي به نفسه: ينزلون إلى مثل هذا المعنى وإن ارتفعوا عن مثل هذا التعبير؛ إذ كانت الحياة السياسية جدلًا في الصحف لنفي المنفي وإثبات المثبت، لا عملًا يعملونه بالنفي والإثبات؛ ومتى استقلت هذه الأمة وجب تغيير هذه الصحافة وإكراهها على الصدق، فلا يكون الشأن حينئذ في إطلاق الكلمة الصحافية إلا من معناها الواقع. والحياة المستقلة ذات قواعد وقوانين دقيقة لا يترخص فيها ما دام أساسها إيجاد القوة وحياطة القوة وأعمال القوة، وما دامت طبيعتها قائمة على جعل أخلاق الشعب حاكمة لا محكومة؛ وقد كان العمل السياسي إلى الآن هو إيجاد الضعف وحياطة الضعف وبقاء الضعف؛ فكانت قواعدنا في الحياة مغلوطة؛ ومن ثم كان الخلق القوي الصحيح هو الشاذ النادر يظهر في الرجل بعد الرجل والفترة بعد الفترة، وذلك هو السبب في أن عندنا من الكلام المنافق أكثر من الحر، ومن الكاذب أكثر من الصادق، ومن المماري أكثر من الصريح؛ فلا جرم ارتفعت الألقاب فوق حقائقها، وصارت نعوت المناصب وكلمات "باشا" و"بك" من الكلام المقدس صحافيًّا ... يا لعباد الله! يأتيهم اسم الأديب العظيم فلا يجدون له موضعًا في "محليات الجريدة"؛ ويأتيهم اسم الباشا أو البك أو صاحب المنصب الكبير فبماذا تتشرف "المحليات" إلا به؟ وهذا طبيعي، ولكن في طبيعة النفاق؛ وهذا واجب، ولكن حين يكون الخضوع هو الواجب؛ ولو أن للأديب وزنًا في ميزان الأمة لكان له مثل ذلك في ميزان الصحافة؛ فأنت ترى أن الصحافة هنا هي صورة من عامية الشعب ليس غير.. ومن ذا الذي يصحح معنى الشرف العامل لهذه الأمة وتاريخها، وأكثر الألقاب عندنا هي أغلاط في معنى الشرف ... ؟ ثم ضحك أبو عثمان وقال: زعموا أن ذبابة وقعت في بارجة "أميرال" إنجليزي أيام الحرب العظمى؛ فرأت القائد العظيم وقد نشر بين يديه درجًا من الورق وهو يخطط فيه رسمًا من رسوم الحرب؛ ونظرت فإذا هو يلقي النقطة بعد النقطة من المداد ويقول: هذه مدينة كذا، وهذا حصن كذا، وهذا ميدان كذا. قالوا: فسخرت منه الذبابة وقالت: ما أيسر هذا العمل وما أخف وما أهون! ثم وقعت على صفحة بيضاء وجعلت تلقي ونيمها* هنا وهناك وتقول: هذه مدينة، وهذا حصن ...

_ * ونيم الذباب: هو " ... " أي هذه النقط السود التي يحدثها.

والتفت الجاحظ كأنما توهم الجرس يدق ... فلما لم يسمع شيئًا قال: لو أنني أصدرت صحيفة يومية لسميتها "الأكاذيب" فمهما أكذب على الناس فقد صدقت في الاسم، ومهما أخطئ فلن أخطئ في وضع النفاق تحت عنوانه. قال: ثم أخط تحت اسم الجريدة ثلاثة أسطر بالخط الثالث هذا نصفها: ما هي عزة الأذلاء؟ هي الكذب الهازل. ما هي قوة الضعفاء؟ هي الكذب المكابر. ما هي فضيلة الكذابين؟ هي استمرار الكذب. قال: ثم لا يحرر في جريدتي إلا "صعاليك الصحافة" من أمثال الجاحظ؛ ثم أكذب على أهل المال فأمجد الفقراء العاملين، وعلى رجال الشرف فأعظم العمال المساكين، وعلى أصحاب الألقاب فأقدم الأدباء والمؤلفين، و ... ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير ...

صعاليك الصحافة3

صعاليك الصحافة "3": ولم يلبث أن رجع أبو عثمان في هذه المرة وكأنه لم يكن عند رئيس التحرير في عمل وأدائه، بل كان عند رئيس الشرطة في جناية وعقابها؛ فظهر منقلب السحنة انقلابًا دميمًا شوه تشويهه وزاد فيه زيادات ... ورأيته ممطوط الوجه مطا شنيعًا بدت فيه عيناه الجاحظتان كأنهما غير مستقرتين في وجهه، بل معلقتان على جبهته ... وجعل يضرب إحدى يديه بالأخرى ويقول: هذا باب على حدة في الامتحان والبلوى، وما فيه إلا المؤنة العظيمة والمشقة الشديدة؛ والعمل في هذه الصحافة إنما هو امتحانك بالصبر على اثنين: على ضميرك، وعلى رئيس التحرير! وسأل بعض أصحابنا أبا لقمان الممرور عن الجزء الذي لا يتجزأ ما هو؟ فقال: الجزء الذي لا يتجزأ علي بن أبي طالب عليه السلام. فقال له أبو العيناء محمد: أفليس في الأرض جزء لا يتجزأ غيره! قال: بلى، حمزة جزء لا يتجزأ ... قال: فما تقول في أبي بكر وعمر؟ قال: أبو بكر يتجزأ ... قال: فما تقول في عثمان؟ قال: ويتجزأ مرتين، والزبير يتجزأ مرتين ... قال: فأي شيء تقول في معاوية؟ قال: لا يتجزأ. "فقد فكرنا في تأويل أبي لقمان حين جعل الأيام أجزاء لا تتجزأ إلى أي شيء ذهب؟ فلم نقع عليه إلا أن يكون أبو لقمان كان إذا سمع المتكلمين يذكرون الجزء الذي لا يتجزأ، هاله ذلك وكبر في صدره وتوهم أنه الباب الأكبر من علم الفلسفة، وأن الشيء إذا عظم خطره سموه بالجزء الذي لا يتجزأ"*. قلت: ورجع بنا القول إلى رئيس التحرير ... فضحك حتى أسفر وجهه ثم قال: إن رئيس التحرير قد تلقى الساعة أمرًا بأن الجزء الذي لا يتجزأ اليوم هو فلان؛ وأن فلانًا الآخر يتجزأ مرتين ... وأن المعنى الذي يبنى عليه رأي الصحيفة في هذا النهار هو شأن كذا في عمل كذا؛ وأن هذا الخبر

_ * هذه الجملة من كلام الجاحظ.

يجب أن يصور في صيغة تلائم جوع الشعب فتجعله كالخبز الذي يطعمه كل الناس، وتثير له شهوة في النفوس كشهوة الأكل وطبيعة كطبيعة الهضم ... وقد رمى إلي رئيس التحرير بجملة الخبر، وعلي أنا بعد ذلك أن أضرم النار وأن أجعل التراب دقيقًا أبيض يعجن ويخبز ويؤكل ويسوغ في الحلق وتستمرئه المعدة ويسري في العروق. وإذا أنا كتبت في هذا احتجت من الترقيع والتمويه، ومن التدليس والتغليط، ومن الخب والمكر، ومن الكذب والبهتان -إلى مثل ما يحتاج إليه الزنديق والدهري والمعطل في إقامة البرهانات على صحة مذهب عرف الناس جميعًا أنه فاسد بالضرورة؛ إذ كان معلومًا من الدين بالضرورة أنه فاسد؛ وأين ترى إلا في تلك النحل وفي هذه الصحافة أن ينكر المتكلم وهو عارف أنه منكر، وأن يجترئ وهو موقن أنه مجترئ، ويكابر وهو واثق أنه يكابر؟ فقد ظهر تقدير من تقدير، وعمل من عمل، ومذهب من مذهب؛ والآفة أنهم لا يستعملون في الإقناع والجدل والمغالطة إلا الحقائق المؤكدة؛ يأخذونها إذ وجدت ويصنعونها إن لم توجد؛ إذ كان التأثير لا يتم إلا بجعل القارئ كالحالم: يملكه الفكر ولا يملك هو منه شيئًا، ويلقي إليه ولا يمتنع ويعطي ولا يرد على من أعطاه. قلت: ولكن ما هو الخير الذي أرادوك على أن تجعل من ترابه دقيقًا أبيض؟ قال: هو بعينه ذلك الشأن الذي كتبت فيه لهذه الصحيفة نفسها أنقضه وأسفهه وأرد عليه، وكان يومئذ جزءًا يتجزأ.. فإن صنعت اليوم بلاغتي في تأييده وتزيينه والإشادة به، ولم يكن هذا كاسرًا لي، ولا حائلًا بيني وبين ذات نفسي- فلا أقل من أن يكون الجاحظ تكذيبًا للجاحظ، آه لو وضع الرديو في غرف رؤساء التحرير ليسمع الناس ... قلت: يا أبا عثمان، هذا كقولك: لو وضع الرديو في غرف قواد الجيوش أو رؤساء الحكومات. قال: ليس هذا من هذا، فإن للجيش معنى غير الحذق في تدبير المعاش والتكسب وجمع المال؛ وفي أسراره أسرار قوة الأمة وعمل قوتها؛ وللحكومة دخائل سياسية لا يحركها أن فلانًا ارتفع وأن فلانًا انخفض، ولا تصرفها العشرة أكثر من الخمسة؛ وفي أسرارها أسرار وجود الأمة ونظام وجودها. قال أبو عثمان: وإنما نزل بصحافتنا دون منزلتها أنها لا تجد الشعب القارئ المميز الصحيح القراءة الصحيح التمييز، ثم هي تريد أن تذهب أموالها في إيجاده

وتنشئته؛ وعمل الصحافة من الشعب عمل التيار من السفن في تحريكها وتيسير مجراها، غير أن المضحك أن تيارنا يذهب مع سفينة ويرجع مع سفينة ... ولو أن الصحافة العربية وجدت الشعب قارئًا مدركًا مميزًا معتبرًا مستبصرًا لما رمت بنفسها على الحكومات والأحزاب عجزًا وضعفًا وفسولة، ولا خرجت عن النسق الطبيعي الذي وضعت له، فإن الشعب تحكمه الحكومة، وإن الحكومة تحكمها الصحافة، فهي من ثم لسان الشعب؛ وإنما يقرؤها القارئ ليرى كلمته مكتوبة؛ وشعور الفرد أن له حقًا في رقابة الحكومة وأنه جزء من حركة السياسة والاجتماع، هو الذي يوجب عليه أن يبتاع كل يوم صحيفة اليوم. قال أبو عثمان: فالصحافة لا تقوى إلا حيث يكون كل إنسان قارئًا، وحيث يكون كل قارئ للصحيفة كأنه محرر فيها، فهو مشارك في الرأي؛ لأنه واحد ممن يدور عليهم الرأي، متتبع للحوادث؛ لأنه هو من مادتها أو هي من مادته، وهو لذلك يريد من أن الصحيفة حكاية الوقت وتفسير الوقت، وأن تكون له كما يكون التفكير الصحيح للمفكر، فيلزمها الصدق ويطلب منها القوة ويلتمس فيها الهداية، وتأتي إليه في مطلع كل يوم أو مغربه كما يدخل إلى داره أحد أهله الساكنين في داره. وفي قلة القراءة عندنا آفتان: أما واحدة فهي القلة التي لا تغني شيئًا؛ وأما الأخرى فهم على قلتهم لا ترى أكبر شأنهم إلا عبادة قوم لقوم، وزراية أناس بآخرين، وتعلق نفاق بنفاق، وتصديق كذب لكذب؛ وآفة ثالثة تخرج من اجتماع الاثنين: وهي أن أكثرهم لا يكونون في قراءتهم الصحيفة إلا كالنظارة اجتمعوا ليشهدوا ما يتلهون به، أو كالفراغ يلتمسون ما يقطعون به الوقت؛ فهم يأخذون السياسة مأخذ من لا يشارك فيها، ويتعاطون الجد تعاطي من يلهو به، ويتلقون الأعمال بروح البطالة، والعزائم بأسلوب عدم المبالاة، والمباحثة بفكرة الإهمال، والمعارضة بطبيعة الهزء والتحقير؛ وهم كالمصلين في المسجد؛ فمثل لنفسك نوعًا من المصلين إذا اصطفوا وراء الإمام تركوه يصلي عن نفسه وعنهم انصرفوا. قال أبو عثمان: بهذا ونحوه جاءت الصحف عندنا وأكثرها لا ثبات له إلا في الموضع الذي تكون فيه بين منافعه ووسائل منافعه؛ ومن هذا ونحوه كان أقوى المادة عندنا أن تظهر الصحيفة مملوءة حكومة وسلطة وباشوات وبيكوات ... وكان من الطبيعي أن محل الباشا والبك والحوادث الحكومية التفهة لا يكون من الجريدة إلا في موضع قلب الحي من الحي.

ثم استضحك شيخنا وقال: لقد كتبت ذات يوم مقالة أقترح فيها على الحكومة تصحيح هذه الألقاب، وذلك بوضع لقب جديد يكون هو المفسر لجميعها ويكون هو اللقب الأكبر فيها، فإذا أنعم به على إنسان كتبت الصحف هكذا: أنعمت الحكومة على فلان بلقب "ذو مال". ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير ... فلم يلبث إلا يسيرًا ثم عاد متهللًا ضاحكًا وقد طابت نفسه فليس له جحوظ العينين إلا بالقدر الطبيعي، وجلس إلي وهو يقول: بيد أن رئيس التحرير لم ينشر ذلك المقال، ولم ير فيه استطرافًا ولا ابتكارًا ولا نكتة ولا حجة صادقة، بل قال: كأنك يا أبا عثمان تريد أن يأكل عدد اليوم عدد الغد، فإذا نحن زهدنا في الألقاب وأصغرنا أمرها وتهكمنا بها وقلنا إنها أفسدت معنى التقدير الإنساني وتركت من لم ينلها من ذوي الجاه والغنى يرى نفسه إلى جانب من نالها كالمرأة المطلقة بجانب المتزوجة ... وقلنا إنها من ذلك تكاد تكون وسيلة من وسائل الدفع إلى التملق والخضوع والنفاق لمن بيدهم الأمر، أو وسيلة إلى ما هو أحط من ذلك كما كان شأنها في عهد الدولة العثمانية البائدة حين كان الوسام كالرقعة من جلد الدولة يرقع بها الصدر الذي شقوه وانتزعوا ضميره -إذا نحن قلنا هذا وفعلنا هذا، لم نجد الشعب الذي يحكم لنا، ووجدنا ذوي المال والجاه والمناصب الذي يحكمون علينا؛ فكنا كمن يتقدم في التهمة بغير محام إلى قاض ضعيف. يا أبا عثمان، إنما هي حياة ثلاثة أشياء: الصحيفة، ثم الصحيفة، ثم الحقيقة.. فالفكرة الأولى للصحيفة، والفكرة الثانية هي للصحيفة أيضًا؛ ومتى جاء الشعب الذي يقول: لا، بل هي الحقيقة، ثم الحقيقة، ثم الصحيفة -فيومئذ لا يقال في الصحافة ما قيل لليهود في كتاب موسى: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام: 91] . قلت: أراك يا أبا عثمان لم تنكر شيئًا من رئيس التحرير في هذه المرة، فشق عليك ألا تثلبه، فغمزته بالكلام عن مرة سالفة. قال: أما هذه المرة فأنا الرئيس لا هو، وفي مثل هذا لا يكون عمك أبو عثمان من "صعاليك الصحافة"؛ إن الرجل اشتبه في كلمة: ما وجهها: أمرفوعة

هي أم منصوبة؟ وفي لفظة ما هي: أعربية أم مولدة؟ وفي تعبير أعجمي ما الذي يؤديه من العربية الصحيحة؟ وفي جملة: أهي في نسقها أفصح أم يبدلها. إن المعجم هنا لا يفيدهم شيئًا إلا إذا نطق ... ولقد ابتليت هذه الأمة في عهدها الأخير بحب السهولة مما أثر فيها الاحتلال وسياسته وتحمله الأعباء عنها واستهدافه دونها للخطر، فشبه العامية في لغة الصحف وفي أخبارها وفي طريقها إنما هو صورة من سهولة تلك الحياة، وكأنه تثبيت للضعف والخور، وأنت خبير أن كل شيء يتحول بما تحدث له طبيعته عاليًا أو نازلًا، فقد تحولت السهولة من شبه العامية إلى نصف العامية في كتابة أكثر المجلات وفي رسائل طلبة المدارس، حتى لتبدو المقالات في ألفاظها ومعانيها كأنها القنفد أراد أن يحمل مأكلة صغاره، فقرض عنقودًا من العنب، فألقاه في الأرض وأتربه وتمرغ فيه، ثم مشى يحمل كل حبة مرضوضة في عشرين إبرة من شوكه. ثم مد أبو عثمان يده فتناول مجلة مما أمامه وقعت يده عليها اتفاقًا ثم دفعها إلي وقال: اقرأ ولا تجاوز عنوان كل مقالة. فقرأت هذه العناوين. "مسئولية طبيب عن فتاة عذراء"، "مودة الراقصات الصينيات"، "تخر مغشيًا عليها؛ لأنهم اكتشفوا صورة حبيبها"، "هل يعتبر قبول الهدية دليلًا على الحب، وإذا كانت ملابس داخلية ... فهل تعتبر وعدًا بالزواج؟ هل يحق للأب أن يطالب صديق ابنته بتعويض إذا كانت ابنته غير شرعية، "بين خطيبتين لشاب واحد"، "بعد أن قص على زوجته أخبار السهرة ... لماذا أطلقت عليه الرصاص"، "عروس تأخذ "شبكة" من شابين ثم تطردهما"، "زوجة الموظف أين ذهبت"، "لماذا خطفت العروس في اليوم المحدد للزفاف؟ "، "في الطريق: حب بالإكراه" فلانون وفلانات، زواج وطلاق، وأخبار المراقص، وحوادث أماكن الدعارة" ... الخ الخ. فقال أبو عثمان: هذه هي حرية النشر؛ ولئن كان هذا طبيعيًّا في قانون الصحافة إنه لإثم كبير في قانون التربية؛ فإن الأحداث والضعفاء يجدونه عند أنفسهم كالتخيير بين الأخذ بالواجب وبين تركه، ولا يفهمون من جواز نشره إلا هذا. "وباب آخر من هذا الشكل فبكم أعظم حاجة إلى أن تعرفوه وتقفوا عنده، وهو ما يصنع الخبر ولا سيما إذا صادق من السامع قلة تجربة، فإن قرن بين قلة

التجربة وقلة التحفظ دخل ذلك الخبر إلى مستقره من القلب دخولًا سهلًا، وصادف موضعًا وطيئًا وطبيعةً قابلة ونفسًا ساكنة، ومتى صادف القلب كذلك رسخ رسوخًا لا حيلة في إزالته. ومتى ألقي إلى الفتيان شيء من أمور الفتيات في وقت الغرارة وعند غلبة الطبيعة وشباب الشهوة وقلة التشاغل و ... "*. ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير ...

_ * هذه الجملة من كلام الجاحظ.

صعاليك الصحافة تتمة

صعاليك الصحافة * "تتمة": وجاء أبو عثمان وفي بروز عينيه ما يجعلهما في وجهه شيئًا كعلامتي تعجب ألقتهما الطبيعة في هذا الوجه، وقد كانوا يلقبونه "الحدقي" فوق تلقيبه بالجاحظ، كأن لقبًا واحدًا لا يبين عن قبح هذا النتوء في عينيه إلا بمرادف ومساعد من اللغة ... وما تذكرت اللقبين إلا حين رأيت عينيه هذه المرة. وانحط في مجلسه كأن بعضهم يرمي بعضه من سخط وغيظ، أو كأن من جسمه ما لا يريد أن يكون من هذا الخلق المشوه، ثم نصب وجهه يتأمل، فبدت عيناه في خروجهما كأنما تهمان بالفرار من هذا الوجه الذي تحيا الكآبة فيه كما يحيا الهم في القلب؛ ثم سكت عن الكلام؛ لأن أفكاره كانت تكلمه. فقطعت عليه الصمت وقلت: يا أبا عثمان، رجعت من عند رئيس التحرير زائدًا شيئًا أو ناقصًا شيئًا؛ فما هو يرحمك الله؟ قال: رجعت زائدًا أني ناقص، وههنا شيء لا أقوله ولو أن في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لوقفوا على عمك وأمثال عمك من كتاب الصحف يتعجبون لهذا النوع الجديد من الشهداء!

_ * كتب الدكتور زكي مبارك مقالًا في جريدة المصري الغراء زعم فيه أننا قلنا: "إن الصحافة لا تنجح إلا في أيدي الصعاليك"، ولا ندري كيف أحس هذا المعنى، ثم تهددنا!! فقال: "ما رأيك إذا وقفت لك أحد الصحفيين "ولعله يعني نفسه" في معركة فاصلة!! ورماك بحب التكلف والافتعال في عالم الإنشاء والتأليف؟ "ما رأيك إذا حملك رجل منهم "ولعله يعني نفسه" على عاتقه وألقى بك في هاوية التاريخ لتعيش مع صعصعة بن صوحان؟ -أبلغ خطباء العرب وأنطقهم. وجوابنا لصاحبنا هذا: أن وزارة الداخلية اطلعت على مقالة فأمرت جميع المحال التي تبيع لعب الأطفال، ألا يبيعوا "معركة فاصلة" ولا "هاوية تاريخ" ...

وقال ابن يحيى النديم: دعاني المتوكل ذات يوم وهو مخمور فقال: أنشدني قول عمارة في أهل بغداد، فأنشدته: ومن يشتري مني ملوك مخرمِ ... ابع حسنًا وابني هشام بدرهمِ وأعطي "رجاءً" بعد ذاك زيادة ... وأمنح "دينارًا" بغير تندمِ قال أبو عثمان: فإن طلبوا مني الزيادة زدتهم ... "أبا دلف" و"المستطيلَ بن أكثمِ" ويلي على هذا الشاعر! اثنان بدرهم، واثنان زيادة فوقهما لعظم الدرهم، واثنان زيادة على الزيادة لجلالة الدرهم: كأنه رئيس تحرير جريدة يرى الدنيا قد ملئت كتابًا، ولكن ههنا شيئًا لا أقوله. وزعموا أن كسرى أبرويز كان في منزل امرأته شيرين، فأتاه صياد بسمكة عظيمة، فأعجب بها وأمر له بأربعة آلاف درهم، فقالت له شيرين: أمرت للصياد بأربعة آلاف درهم، فإن أمرت بها لرجل من الوجوه قال: إنما أمر لي بمثل ما أمر للصياد! فقال كسرى: كيف أصنع وقد أمرت له؟ قالت: إذا أتاك فقل له: أخبرني عن السمكة، أذكر هي أم أنثى؟ فإن قال أنثى، فقل له: لا تقع عليك حتى تأتيني بقرينها، وإن قال غير ذلك فقل له مثل ذلك. فلما غدا الصياد على الملك قال له: أخبرني عن السمكة، أذكر هي أم أنثى؟ قال: بل أنثى، قال الملك: فأتني بقرينها. فقال الصياد: عمر الله الملك، إنها كانت بكرًا لم تتزوج بعد.. قلت: يا أبا عثمان، فهل وقعت في مثل هذه المعضلة مع رئيس التحرير؟ قال: لم ينفع عمك أن سمكته كانت بكرًا، فإنما يريدون إخراجه من الجريدة؛ وما بلاغة أبي عثمان الجاحظ بجانب بلاغة التلغراف وبلاغة الخبر وبلاغة الأرقام وبلاغة الأصفر وبلاغة الأبيض ... ولكن ههنا شيئًا لا أريد أن أقوله. وسمكتي هذه كانت مقالة جودتها وأحكمتها وبلغت بألفاظها ومعانيها أعلى منازل الشرف وأسنى رتب البيان، وجعلتها في البلاغة طبقة وحدها، وقيل أن يقول الأوروبيون "صاحبة الجلالة الصحافة" قال المأمون: "الكتاب ملوك على الناس"، فأراد عمك أبو عثمان أن يجعل نفسه ملكًا بتلك المقالة فإذا هو بها من "صعاليك الصحافة".

لقد كانت كالعروس في زينتها ليلة الجلوة على محبها، ما هي إلا الشمس الضاحية، وما هي إلا أشواق ولذات، وما هي إلا اكتشاف أسرار الحب، وما هي إلا هي؛ فإذا العروس عند رئيس التحرير هي المطلقة، وإذا المعجب هو المضحك، ويقول الرجل: أما نظريًّا فنعم، وأما عمليًّا فلا؛ وهذا عصر خفيف يريد الخفيف، وزمن عامي يريد العامي، وجمهور سهل يريد السهل؛ والفصاحة هي إعراب الكلام لا سياسته بقوى البيان والفكر واللغة، فهي اليوم قد خرجت من فنونها واستقرت في علم النحو. وحسبك من الفرق بينك وبين القارئ العامي: أنك أنت لا تلحن وهو يلحن. قال أبو عثمان: وهذه -أكرمك الله- منزلة بقل فيها الخاصي ويكثر العامي فيوشك ألا يكون بعدها إلا غلبة العامية، ويرجع الكلام الصحافي كله سوقيًا بلديًّا "حنشصيًّا"، وينقلب النحو نفسه وما هو إلا التكلف والتوعر والتقعر كما يرون الآن في الفصاحة، والقليل من الواجبات ينتهي إلى الأقل؛ والأقل ينتهي إلى العدم، والانحدار سريع يبدأ بالخطوة الواحدة، ثم لا تملك بعدها الخطى الكثيرة. لا جرم فسد الذوق وفسد الأدب وفسدت أشياء كثيرة كانت كلها صالحة، وجاءت فنون من الكتابة ما هي إلا طبائع كتابها تعمل فيمن يقرؤها عمل الطباع الحية فيمن يخالطها، ولو كان في قانون الدولة تهمة إفساد الأدب أو إفساد اللغة، لقبض على كثيرين لا يكتبون إلا صناعة لهو ومسلاة فراغ وفسادًا وإفسادًا؛ والمصيبة في هؤلاء ما يزعمون لك من أنهم يستنشطون القراء ويلهونهم، ونحن إنا نعمل في هذه النهضة لمعالجة اللهو الذي جعل نصف وجودنا السياسي عدمًا؛ ثم لملء الفراغ الذي جعل نصف حياتنا الاجتماعية بطالة؛ وهذا أيضًا مما جعل عمك أبا عثمان في هذه الصحافة من "صعاليك الصحافة"، وتركه في المقابلة بينه وبين بعض الكتاب كأنه في أمس وكأنهم في غد. ودق الجرس يدعو أبا عثمان إلى رئيس التحرير ... فما شككت أنهم سيطردونه، فإن الله لم يرزقه لسانًا مطبعيًا ثرثارًا يكون كالمتصل من دماغه بصندوق حروف ... ولم يجعله كهؤلاء السياسيين الذين يتم بهم النفاق ويتلون، ولا كهؤلاء الأدباء الذين يتم بهم التضليل ويتشكل. ورجع شيخنا كالمخنوق أرخي عنه وهو يقول: ويلي على الرجل! ويلي من

الكلام الظريف الذي يقال في الوجه ليدفع في القفا ... كان ينبغي ألا يملك هذه الصحافة اليومية إلا مجالس الأمة؛ فذلك هو إصلاح الأمة والصحافة والكتاب جميعًا؛ أما في هذه الصحف، فالكاتب يخبز عيشه على نار تأكل منه قدر ما يأكل من عيشه؛ ولو أن عمك في خفض ورفاهية وسعة، لكان في استغنائه عنهم حاجتهم إليه؛ ولكن السيف الذي لا يجد عملًا للبطل، تفضله الإبرة التي تعمل للخياط، وماذا يملك عمك أبو عثمان؟ يملك ما لا ينزل عنه بدون الملوك، ولا بالدنيا كلها، ولا بالشمس والقمر؛ إذ يملك عقله وبيانه، على أنه مستأجر هنا بعقله وبيانه، ويعقل ما شاءوا ويكتب ما شاءوا. لك الله أن أصدقك القول في هذه الحرفة اليومية: إن الكاتب حين يخرج من صحيفة إلى صحيفة، تخرج كتابته من دين إلى دين ... ورأيت شيخنا كأنما وضع له رئيس التحرير مثل البارود في دماغه ثم أشعله، فأردت أن أمازحه وأسري عنه، فقلت: اسمع يا أبا عثمان، جاءتني بالأمس قضية يرفعها صاحبها إلى المحكمة، وقد كتب في عرض دعواه أن جار بيته غصبه قطعة من أرض فنائه الذي تركه حول البيت، وبنى في هذه الرقعة دارًا، وفتح لهذه الدار نافذات، فهو يريد من القاضي أن يحكم برد الأرض المغصوبة، وهدم هذه الدار المبنية فوقها ... وسد نافذتها المفتوحة!.. فضحك الجاحظ حتى أمسك بطنه بيده وقال: هذا أديب عظيم كبعض الذين يكتبون الأدب في الصحافة؛ كثرت ألفاظه ونقص عقله، "وسئل بعض الحكماء: متى يكون الأدب شرًّا من عدمه؟ قال: إذا كثر الأدب ونقصت القريحة. وقد قال بعض الأولين: من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه، كان حتفه في أغلب خصال الخير عليه؛ وهذا كله قريب بعضه من بعض" 1 والأدب وحده هو المتروك في هذه الصحافة لمن يتولاه كيف يتولاه؛ إذ كان أرخص ما فيها، وإنما هو أدب؛ لأن الأمم الحية لا بد أن يكون لها أدب؛ إذ كان أرخص ما فيها، وإنما هو أدب؛ لأن الأمم الحية لا بد أن يكون لها أدب، ثم هو من بعد هذا الاسم العظيم ملء فراغ لا بد أن يملأ، وصفحة الأدب وحدها هي التي تظهر في الجريدة اليومية كبقعة الصدأ على الحديد: تأكل منه ولا تعطيه شيئًا. ثم يأبى من تترك هذه الصفحة إلا أن يجعل نفسه "رئيس تحرير" على الأدباء، فما يدع صفة من صفات النبوغ ولا نعتًا من نعوت العبقرية إلا نحله نفسه

_ 1 هذه الجملة من كلام الجاحظ.

ووضعه تحت ثيابه؛ وما أيسر العظمة وما أسهل منالها إذا كانت لا تكفك إلا الجراءة والدعوى والزعم، وتلفيق الكلام من أعراض الكتب وحواشي الأخبار. وقد يكون الرجل في كتابته كالعامة، فإذا عبته بالركاكة والسخف والابتذال وفراغ ما يكتب، قال: هذا ما يلائم القراء، وقد يكون من أكذب الناس فيما يدعي لنفسه وما يهول به لتقوية شأنه وإصغار من عداه، فإذا كذبه من يعرفه قال: هذا ما يلائمني، وهو واثق أنه في نوع من القراء ليس عليه إلا أن يملأهم بهذه الدعاوى كما تملأ الساعة، فإذا هم جميعًا يقولون: تك تك ... تك ... تك فمن زعم أن البلاغة أن يكون السامع يفهم معنى القائل، جعل الفصاحة واللكنة والخطأ والصواب والإغلاق والإبانة والملحون والمعرب، وكله سواء وكله بيانًا1 وكان المكي طيب الحجج، ظريف الحيل، عجيب العلل، وكان يدعي كل شيء على غاية الإحكام ولم يحكم شيئًا قط من الجليل ولا من الدقيق؛ وإذ قد جرى ذكره فسأحدثك ببعض أحاديثه، قلت له مرة: أعلمت أن الشاري حدثني أن المخلوع "أي الأمين" بعث إلى المأمون بجراب فيه سمسم، كأنه مخبره أن عنده من الجند بعد ذلك، وأن المأمون بعث له بديك أعور، يريد أن ظاهر بن الحسين يقتل هؤلاء كلهم كما يلقط الديك الحب؟ قال: فإن هذا الحديث أنا ولدته، ولكن انظر كيف سار في الآفاق ... 2 ثم قال أبو عثمان: وقد زعم أحد أدبائكم أنه اكتشف في تاريخ الأدب اكتشافًا أهمله المتقدمون وغفل عنه المتأخرون، فنظر عمك في هذا الذي ادعاه، فإذا الرجل على التحقيق كالذي يزعم أنه اكتشف أمريكا في كتاب من كتب الجغرافيا ... وما يزال البلهاء يصدقون الكلام المنشور في الصحف، لا بأنه صدق، ولكن بأنه "مكتوب في الجريدة" ... فلا عجب أن يظن كاتب صفحة الأدب -متى كان مغرورًا- أنه إذا تهدد إنسانًا فما هدده بصفحته، بل بحكومته ... نعم أيها الرجل إنها حكومة ودولة؛ ولكن ويحك إن ثلاث ذبابات ليست ثلاث قطع من أسطول إنجلترا! ... وضحك أبو عثمان وضحكت! فاستيقظت.

_ 1، 2 هذا من كلام الجاحظ. 3 يعني زكي مبارك في دعوى معرفته أول من اخترع فن المقامات.

أبو حنيفة ولكن بغير فقه

أبو حنيفة ولكن بغير فقه 1: قد انتهينا في الأدب إلى نهاية صحافية عجيبة، فأصبح كل من يكتب ينشر له، وكل من ينشر له يعد نفسًا أديبًّا، وكل من عد نفسه أديبًا جاز له أن يكون صاحب مذهب وأن يقول في مذهبه ويرد على مذهب غيره. فعندنا اليوم كلمات ضخمة تدور في الصحف بين الأدباء كما تدور أسماء المستعمرات بين السياسيين المتنازعين عليها، يتعلق بها الطمع وتنبعث لها الفتنة وتكون فيها الخصومة والعداوة، منها قولهم: أدب الشيوخ وأدب الشباب؛ ودكتاتورية الأدب وديمقراطية الأدب، وأدب الألفاظ وأدب الحياة، والجمود والتحول، والقديم والجديد، ثم ماذا وراء ذلك من أصحاب هذا المذهب؟ وراء ذلك أن منهم أبا حنيفة ولكن بغير فقه، والشافعي ولكن بغير اجتهاد، ومالك ولكن بغير رواية، وابن حنبل ولكن بغير حديث؛ أسماء بينها وبين العمل أنها كذب عليه وأنه رد عليها. وليس يكون الأدب أدبًا إلا إذا ذهب يستحدث ويخترع على ما يصرفه النوابغ من أهله حتى يؤرخ بهم فيقال: أدب فلان وطريقة فلان ومذهب فلان؛ إذ لا يجري الأمر فيما علا وتوسط ونزل إلا على إبداع غير تقليد، وتقليد غير اتباع، واتباع غير تسليم؛ فلا بد من الرأي ونبوغ الرأي واستقلال الرأي حتى يكون في الكتابة إنسان جالس هو كاتبها، كما أن الحي الجالس في كل حي هو مجموعه العصبي، فيخرج ضرب من الآداب كأنه من التحول في الوجود الإنساني يرجع بالحياة إلى ذرات معانيها، ثم يرسم من هذه المعاني مثل ما أبدعت ذرات الخليقة في تركيب من تركيب، فلا يكون للأديب تعريف إلا أنه المقلد الإلهي*. وإذا اعتبرنا هذا الأصل فهل يبدأ الأدب العربي في عصرنا أو ينتهي؛ وهل

_ 1 وهذا فصل من المعركة الأخيرة بينه وبين زكي مبارك. * استوفينا هذه المعاني في مقالة "الأدب والأديب".

تراه يعلو أو ينزل؛ وهل يستجمع أو ينقض، وهل هو من قديمه الصريح بعيد من بعيد أو قريب من قريب أو هو في مكان بينهما؟ هذه معانٍ لو ذهبت أفضلها لاقتحمت تاريخًا طويلًا أمر فيه بعظام مبعثرة في ثيابها لا في قبورها ... ولكني موجز مقتصر على معنى هو جمهور هذه الأطراف كلها، وإليه وحده يرجع ما نحن فيه من التعادي بين الأذواق والإسفاف بمنازع الرأي والخلط والاضطراب في كل ذلك؛ حتى أصبح أمر الأدب على أقبحه وهم يرونه على أحسنه، وحتى قيل في: الأسلوب أسلوب تلغرافي، وفي الفصاحة فصاحة عامية، وفي اللغة لغة الجرائد، وفي الشعر شعر المقالة؛ ونجمت الناجمة من كل علة ويزين لهم أنها القوة قد استحصفت واشتدت، ونازع الأدب العربي إلى سخرية التقليد وإلى أن يكون لصيقًا دعيًّا في آداب الأمم، واستهلكه التضييع وسوء النظر له على حين يؤتى له أن كل ذلك من حفظه وصيانته وحسن الصنيع فيه ومن توفير المادة عليه. أين تصيب العلة إذا التمستها؟ أفي الأدب من لغته وأساليب لغته، ومعانيه وأغراض معانيه؟ أم في القائمين عليه في مذاهبهم ومناحيهم وما يتفق من أسبابهم وجواذبهم؟ إن تقل إنها في اللغة والأساليب والمعاني والأغراض، فهذه كلها تصير إلى حيث يراد بها، وتتقلد البلية من كل من يعمل فيها؛ وقد استوعبت واتسعت ومادَّت العصور الكثيرة إلى عهدنا فلم تؤت من ضيق ولا جمود ولا ضعف ثم هي مادَّة ولا عليها ممن لا يحسن أن يضع يده منها حيث يملأ كفه أو حيث تقع يده على حاجته. وإن قلت إن العلة في الأدباء ومذاهبهم ومناحيهم ودواعيهم وأسبابهم، سألناك: ولم قصروا عن الغاية، ولم وقعوا بالخلاف، وكيف ذهبوا عن المصلحة، وكيف اعتقمت الخواطر وفسدت الأذواق مع قيام الأدب الصحيح في كتبه مقام أمة من أهله أعرابًا وفصحاء وكتابًا وشعراء، ومع انفساح الأفق العقلي في هذا الدهر واجتماعه من أطرافه لمن شاء، حتى لتجد عقول نوابغ القارات الخمس تحتقب في حقيبة من الكتب، أو تصندق* في صندوق من الأسفار. كيف ذهب الأدباء في هذه العربية نشرًا متبددين تعلو بهم الدائرة وتهبط،

_ * كلمة وضعناها على قياس تحتقب.

فكل أعلى وكل أسفل؟ هذا فلان شاعر قد أحاط بالشعر عربية وغريبه وهو ينظمه ويفتن في أغراضه ويولد ويسرق وينسخ ويمسخ، وهو عند نفسه الشاعر الذي فقدته كل أمة من تاريخها ووقع في تاريخ العربية وحدها ابتلاء ومحنة؛ وهو ككل هؤلاء المغرورين يحسبون أنهم لو كانوا في لغات غير العربية لظهروا نجومًا، ولكن العربية جعلت كلًّا منهم حصاة بين الحصى، وتقرأ شعره فإذا هو شعر تتوهم من قراءته تقطيع ثيابك، إذا تجاذب نفسك لتفر منه فرارًا. وهذا فلان الكاتب الذي والذي ... والذي يرتفع إلى أقصى السموات على جناحي ذبابة. وهذا فرعون الأدب الذي يقول: أنا ربكم الأعلى! وهذا فلان وهذا فلان ... أين يكون الزمام على هؤلاء وأمثالهم؛ ليعرفوا ما هم فيه كما هم فيه، وليضبطوا آراءهم وهواجسهم، وليعلموا أن حسابهم عند الناس لا عند أنفسهم فالواحدة منهم واحدة وإن توهموها مائة وتوهمها بعضهم ألفًا أو ألفين، ومتى قال الناس: غلطوا، فقد غلطوا، ومتى قالوا: سخفاء فهم سخفاء. وأين الزمام عليهم وقد انطلقوا كأنهم مسخرون بالجبر على قانون من التدمير والتخريب، فليس فيهم إلا طبيعة مكابرة لا إقرار منها، باغية لا إنصاف معها، نافرة لا مساغ إليها، متهمة لا ثقة بها؛ طبيعة يتحول كل شيء فيها إلى أثر منها كما يتحول ماء الشجر في العود الرطب المشتعل إلى دخان أسود! يرجع هذا الخلط في رأيي إلى سبب واحد: هو خلو العصر من إمام بالمعنى الحقيقي يلتقي عليه الإجماع ويكون ملء الدهر في حكمته وعقله ورأيه ولسانه ومناقبه وشمائله؛ فإن مثل هذا الإمام يخص دائمًا بالإرادة التي ليس لها إلا النصر والغلبة والتي تعطي القوة على قتل الصغائر والسفاسف؛ وهو إذا ألقي في الميزان عند اختلاف الرأي، وضع فيه بالجمهور الكبير من أنصاره والمعجبين بآدابه، وبالسواد الغالب من كل الفاعليات المحيطة به والمنجذبة إليه؛ ومن ثم تتهيأ قوة الترجيح ويتعين اليقين والشك؛ والميزان اليوم فارغ من هذه القوة فلا يرجح ولا يعين. ومكانة هذا الإمام تحد الأمكنة، ومقداره يزن المقادير، فيكون هو المنطق الإنساني في أكثر الخلاف الإنساني: تقوم به الحجة، فتلزم وإن أنكرها المنكر،

وتمضي وإن عاند فيها المعاند، ويؤخذ بها وإن أصر المصر على غيرها؛ لأن بالإجماع على القياس بين التطرف في الزيادة أو التقصير؛ والإجماع إذا ضرب ضرب المعصية بالطاعة، والزيغ بالاستقامة، والعناد بالتسليم؛ فيخرج من يخرج وعليه وسمه. ويزيغ من يزيغ وفيه صفته، ويصر المكابر واسمه المكابر ليس غير، وإن هو تكذب وتأول، وإن زعم ما هو زاعم. ولكل القواعد شواذ ولكن القاعدة هي إمام بابها؛ فما من شاذ يحسب نفسه منطلقًا مخلى، إلا هو محدود بها مردود إليها، متصل من أوسع جهاته بأضيق جهاتها؛ حتى ما يعرف أنه شاذ إلا بما تعرف به أنها قاعدة، فيكون شأنه في نفسه بما تعين هي له على مكرهته ومحبته. والإمام ينبث في آداب عصره فكرًا ورأيًا، ويزيد فيها قوة وإبداعًا، ويزين ماضيها بأنه في نهايته، ومستقبلها بأنه في بدايته، فيكون كالتعديل بين الأمنة من جهة، والانتقال فيها من جهة أخرى؛ لأن هذا الإمام إنما يختار لإظهار قوة الوجود الإنساني من بعض وجوهها وإثبات شمولها وإحاطتها كأنه آية من آيات الجنس يأنس الجنس فيها إلى كماله البعيد، ويتلقى منه حكم التمام على النقص، وحكم القوة على الضعيف، وحكم المأمول على الواقع؛ ويجد فيه قومه كما يجدون في الحقيقة التي لا يكابر عندها متنطع بتأويل، وفي القوة التي لا يخالف عندها مبطل بعناد، وفي الشريفة التي لا يروغ منها متعسف بحيلة؛ ولن يضل الناس في حق عرفوا حده، فإن ما وراء الحد هو التعدي؛ ولن يخطئوا في حكم أصابوا وجهه فإن ما عدا الوجه هو الخلاف والمراء. وقد طبع الناس في باب القدوة على غريزة لا تتحول، فمن انفرد بالكمال كان هو القدوة، ومن غلب كان هو السمت؛ ولابد لهم ممن يقتاسون به ويتوازنون فيه حتى يستقيموا على مراشدهم ومصالحهم، فالإمام كأنه ميزان من عقل، فهو يتسلط في الحكم على الناقص والوافي من كل ما هو بسبيله، ثم لا خلاف عليه؛ إذ كانت فيه أوزان القوى وزنًا بعد وزن، وكانت فيه منازل أحوالها منزلة بعد منزلة. هو إنسان تتخير بعض المعاني السامية؛ لتظهر فيه بأسلوب عملي، فيكون في قومه ضربًا من التربية والتعليم بقاعدة منتزعة من مثالها، مشروحة بهذا المثال نفسه، فإليه يرد الأمر في ذلك وبتلوه يتلى وعلى سبيله ينهج، فما من شيء يتصل بالفن الذي هو إمام فيه، إلا كان فيه شيء منه، وهو من ذلك متصل بقوى النفوس

كأنه هداية فيها؛ لأنه بفنه حكم عليها، فيكون قوة وتنبيهًا، وتسهيلًا وإيضاحًا، وإبلاغًا وهداية؛ ويكون رجلًا وإنه لمعانٍ كثيرة، ويكون في نفسه وإنه لفي الأنفس كلها، ويعطي من إجلال الناس ما يكون به اسمه كأنه خلق من الحب طريقه على العقل لا على القلب. ولعل ذلك من حكمة إقامة الخليفة في الإسلام ووجوب ذلك على المسلمين؛ فلا بد على هذه الأرض من ضوء في لحم ودم، وبعض معاني الخليفة في تنصيبه كبعض معاني "الشهيد المجهول" في الأمم المحاربة المنتصرة المتمدنة: رمز التقديس، ومعنى المفاداة، وصمت يتكلم، ومكان يوحي، وقوة تستمد، وانفراد بجمع، وحكم الوطنية على أهلها بأحكام كثيرة في شرف الحياة والموت؛ وبل الحرب مخبوءة في حفرة، والنصر مغطى بقبر؛ بل المجهول الذي فيه كل ما ينبغي أن يعلم. فعصرنا هذا مضطرب مختل؛ إذ لا إمام فيه يجتمع الناس عليه، وإذ كل من يزعم نفسه إمامًا هو من بعض جهاته كأنه أبو حنيفة ولكن بغير فقه! ولعمري ما نشأ قولهم: "الجديد والقديم" إلا لأن ههنا موضعًا خاليًا يظهر خلاؤه مكان الفصل بين الناحيتين ويجعل جهة تنماز من جهة، فمنذ مات الإمام الكبير الشيخ محمد عبده -رحمه الله- جرت أحداث، ونتأت رءوس، وزاغت طبائع وكأنه لم يمت رجل، بل رفع قرآن.

الأدب والأديب

الأدب والأديب 1: إذا اعتبرت الخيال في الذكاء الإنساني وأوليته دقة النظر وحسن التمييز، لم تجده في الحقيقة تقليدًا من النفس للألوهية بوسائل عاجزة منقطعة، قادرة على التصور والوهم بمقدار عجزها عن الإيجاد والتحقيق. وهذه النفس البشرية الآتية من المجهول في أول حياتها، والراجعة إليه آخر حياتها، والمسددة في طريقه مدة حياتها، لا يمكن أن يتقرر في خيالها أن الشيء الموجود قد انتهى بوجوه، ولا ترضى طبيعتها بما ينتهي؛ فهي لا تتعاطى الموجود فيما بينها وبين خيالها على أنه قد فرغ منه فما يبدأ، وتم فما يزاد، وخلد فلا يتحول؛ بل لا تزال تضرب ظنها وتصرف وهمها في كل ما تراه أو يتلجلج في خاطرها، فلا تبرح تتلمح في كل وجود غيبًا، وتكشف من الغامض وتزيد في غموضه، وتجري دأبًا على مجاريها الخيالية التي توثق صلتها بالمجهول؛ فمن ثم لا بد في أمرها مع الموجود مما لا وجود له، تتعلق به وتسكن إليه؛ وعلى ذلك لا بد في كل شيء -مع المعاني التي له في الحق- من المعاني التي له في الخيال؛ وها هنا موضع الأدب والبيان في طبيعة النفس الإنسانية، فكلاهما طبيعي فيها كما ترى. وإذا قيل: الأدب، فاعلم أنه لا بد معه من البيان؛ لأن النفس تخلق فتصور فتحسن الصورة؛ وإنما يكون تمام التركيب في معرضه وجمال صورته ودقة لمحاته؛ بل ينزل البيان من المعنى الذي يلبسه منزلة النضج من الثمرة الحلوة إذا كانت الثمرة وحدها قبل النضج شيئًا مسمى أو متميزًا بنفسه، فلن تكون بغير النضج شيئًا تامًا ولا صحيحًا، وما بد من أن تستوفي كمال عمرها الأخضر الذي هو بيانها وبلاغتها. وهذه مسألة كيفما تناولتها فهي هي حتى تمضيها على هذا الوجه الذي رأيت في الثمرة ونضجها، فإن البيان صناعة الجمال في شيء جماله هو من فائدته،

_ 1 انظر ص234 "حياة الرافعي".

وفائدته من جماله؛ فإذا خلا من هذه الصناعة التحق بغيره، وعاد بابًا من الاستعمال بعد أن كان بابًا من التأثير؛ وصار الفرق بين حاليه كالفرق بين الفاكهة؛ إذ هي باب من النبات، وبين الفاكهة إذ هي باب من الخمر؛ ولهذا كان الأصل في الأدب البيان والأسلوب في جميع لغات الفكر الإنساني، لأنه كذلك في طبيعة النفس الإنسانية. فالغرض الأول للأدب المبين أن يخلق للنفس دنيا المعاني الملائمة لتلك النزعة الثابتة فيها إلى المجهول وإلى مجاز الحقيقة، وأن يلقي الأسرار في الأمور المكشوفة بما يتخيل فيها، ويرد القليل من الحياة كثيرًا وافيًا بما يضاعف من معانيه، ويترك الماضي منها ثابتًا قارًا بما يخلد من وصفه، ويجعل المؤلم منها لذًّا خفيفًا بما يثبث فيه من العاطفة والمملول ممتعًا حلوًا بما يكشف فيه من الجمال والحكمة؛ ومدار ذلك كله على إيتاء النفس لذة المجهور التي هي في نفسها لذة مجهولة أيضًا؛ فإن هذه النفس طلعة متقلبة، لا تبتغي مجهولًا صرفًا ولا معلومًا صرفًا، كأنها مدركة بفطرتها أن ليس في الكون صريح مطلق ولا خفي مطلق؛ وإنما تبتغي حالة ملائمة بين هذين، يثور فيها قلق أو يسكن منها قلق. وأشواق النفس هي مادة الأدب؛ فليس يكون أدبًا إلا إذا وضع المعنى في الحياة التي ليس لها معنى، أو كان متصلًا بسر هذه الحياة فيكشف عنه أو يومئ إليه من قريب، أو غيَّر للنفس هذه الحياة تغييرًا يجيء طباقًا لغرضها وأشواقها؛ فإنه كما يرحل الإنسان من جو إلى جو غيره، ينقله الأدب من حياته التي لا تختلف إلى حياة أخرى فيها شعورها ولذتها وإن لم يكن لها مكان ولا زمان؛ حياة كملت فيها أشواق النفس؛ لأن فيها اللذات والآلام بغير ضرورات ولا تكاليف؛ ولعمري ما جاءت الجنة والنار في الأديان عبثًا؛ فإن خالق النفس بما ركبه فيها من العجائب، لا يحكم العقل أنه قد أتم خلقها إلا بخلق الجنة والنار معها؛ إذ هما الصورتان الدائمتان المتكافئتان لأشواقها الخالدة إن هي استقامت مسددة أو انعكست حائلة. وقد صح عندي أن النفس لا تتحقق من حريتها ولا تنطلق انطلاقتها الخالدة فتحس وحدة الشعور ووحدة الكمال الأسمى إلا في ساعات وفترات تنسل فيها من زمنها وعيشها ونقائضها واضطرابها إلى "منطقة حياد" خارجة وراء الزمان والمكان؛ فإذا هبطتها النفس فكأنما انتقلت إلى الجنة واستروحت الخلد؛ وهذه المنطقة السحرية لا تكون إلا في أربعة: حبيب فاتن معشوق أعطي قوة سحر النفس، فهي تنسى به؛ وصديق محبوب وفي أوتي قوة جذب النفس، فهي تنسى

عنده؛ وقطعة أدبية آخذة، فهي ساحرة كالحبيب أو جاذبة كالصديق؛ ومنظر فني رائع، ففيه من كل شيء شيء. وهذه كلها تنسي المرء زمنه مدة تطول وتقتصر؛ وذلك فيها دليل على أن النفس الإنسانية تصيب منها أساليب روحية لاتصالها هنيهة بالروح الأزلي في لحظات من الشعور كأنها ليست من هذه الدنيا وكأنها من الأزلية؛ ومن ثم نستطيع أن نقرر أن أساس الفن على الإطلاق هو ثورة الخالد في الإنسان على الفاني فيه؛ وأن تصوير هذه الثورة في أوهامها وحقائقها بمثل اختلاجاتها في الشعور والتأثير- هو معنى الأدب وأسلوبه. ثم إن الاتساق والخير والحق والجمال -وهي التي تجعل للحياة الإنسانية أسرارها- أمور غير طبيعية في عالم يقوم على الاضطراب والأثرة والنزاع والشهوات؛ فمن ذلك يأتي الشاعر والأديب وذو الفن علاجًا من حكمة الحياة للحياة، فيبدعون لتلك الصفات الإنسانية الجميلة عالمها الذي تكون طبيعية فيه، وهو عالم أركانه الاتساق في المعاني التي يجري فيها، والجمال في التعبير الذي يتأدى به، والحق في الفكر الذي يقوم عليه، والخير في الغرض الذي يساق له، ويكون في الأدب من النقص والكمال بحسب ما يجتمع له من هذه الأربعة، ولا معيار أدق منها إن ذهبت تعتبره بالنظر والرأي؛ ففي عمل الأديب تخرج الحقيقة مضافًا إليها الفن، ويجيء التعبير مزيدًا فيه الجمال، وتتمثل الطبيعة الجامدة خارجة من نفس حية، ويظهر الكلام وفيه رقة حياة القلب وحرارتها وشعورها وانتظامها ودقها الموسيقي؛ وتلبس الشهوات الإنسانية شكلها المهذب لتكون بسبب من تقرير المثل الأعلى، الذي هو السر في ثورة الخالد من الإنسان على الفاني، والذي هو الغاية الأخيرة من الأدب والفن معًا؛ وبهذا يهب لك الأدب تلك القوة الغامضة التي تتسع بك حتى تشعر بالدنيا وأحداثها مارة من خلال نفسك، وتحس الأشياء كأنها انتقلت إلى ذاتك؛ وذلك سر الأديب العبقري؛ فإنه لا يرى الرأي بالاعتقاب1 والاجتهاد كما يراه الناس، وإنما يحس به؛ فلا يقع له رأيه بالفكر، بل يلهمه إلهامًا؛ وليس يؤاتيه الإلهام إلا من كون الأشياء تمر فيها بمعانيها وتعبره كما تعبر السفن النهر، فيحس أثرها فيه فيلهم ما يلهم، ويحسبه الناس نافذًا بفكره من خلال الكون، على حين أن حقائق الكون هي النافذة من خلاله.

_ 1 الاعتقاب: إطالة النظر وكذا الفكر.

ولو أردت أن تعرف الأديب من هو، لما وجدت أجمع ولا أدق في معناه من أن تسميه الإنسان الكوني، وغيره هو الإنسان فقط؛ ومن ذلك ما يبلغ من عمق تأثره بجمال الأشياء ومعانيها، ثم ما يقع من اتصال الموجودات به بآلامها وأفراحها؛ إذ كانت فيه مع خاصة الإنسان خاصية الكون الشامل، فالطبيعة تثبت بجمال فنه البديع أنه منها، وتدل السماء بما في صناعته من الوحي والأسرار أنه كذلك منها، وتبرهن الحياة بفلسفته وآرائه أنه هو أيضًا منها؛ وهذا وذاك وذلك هو الشمول الذي لا حد له، والاتساع الذي كل آخر فيه لشيء، أولٌ فيه لشيء. وهو إنسان يدله الجمال على نفسه ليدل غيره عليه، وبذلك زيد على معناه معنى، وأضيف إليه في إحساسه قوة إنشاء الإحساس في غيره؛ فأساس عمله دائمًا أن يزيد على كل فكرة صورة لها، ويزيد على كل صورة فكرة فيها، فهو يبدع المعاني للأشكال الجامدة فيوجد الحياة فيها، ويبدع الأشكال للمعاني المجردة فيوجدها هي في الحياة، فكأنه خلق ليتلقى الحقيقة ويعطيها للناس ويزيدهم فيها الشعور بجمالها الفني؛ وبالأدباء والعلماء تنمو معاني الحياة، كأنما أوجدتهم الحكمة؛ لتنقل بهم الدنيا من حالة إلى حالة؛ وكأن هذا الكون العظيم يمر في أدمغتهم ليحقق نفسه. ومشاركة العلماء للأدباء توجب أن يتميز الأديب بالأسلوب البياني؛ إذ هو كالطابع على العمل الفني، وكالشهادة من الحياة المعنوية لهذا الإنسان الموهوب الذي جاءت من طريقه، ثم لأن الأسلوب هو تخصيص لنوع من الذوق وطريقة من الإدراك، كأن الجمال يقول بالأسلوب: إن هذا هو عمل فلان. وفضل ما بين العالم والأديب، أن العالم فكرة، ولكن الأديب فكرة وأسلوبها؛ فالعلماء هم أعمال متصلة متشابهة يشار إليهم جملة واحدة، على حين يقال في كل أديب عبقري: هذا هو، هذا وحده؛ وعلم الأديب هو النفس الإنسانية بأسرارها المتجهة إلى الطبيعة، والطبيعة بأسرارها المتجهة إلى النفس؛ ولذلك فموضع الأديب من الحياة موضع فكرة حدودها من كل نواحيها الأسرار. وإذا رأى الناس هذه الإنسانية تركيبًا تامًّا قائمًا بحقائقه وأوصافه، فالأدب العبقري لا يراها إلا أجزاء، كأنما هو يشهد خلقها وتركيبها، وكأنما أمرها في "معمله"، أو كأن الله -سبحانه- دعاه ليرى فيها رأيه ... وبذلك يجيء النابغ من أدب العباقرة وبعضه كالمقترحات لتجميل الدنيا وتهذيب الإنسانية، وبعضه كالموافقة وإقرار الحكمة؛ وأساسه على كل هذه الأحوال النقد، ثم النقد، ولا

شيء غير النقد؛ كأن القوة الأزلية تقول لهذا الملهم: أنت كلمتي فقل كلمتك.. وترى الجمال حيث أصبته شيئًا واحدًا لا يكبر ولا يصغر، ولكن الحس به يكبر في أناس ويصغر في أناس؛ وها هنا يتأله الأدب؛ فهو خالق الجمال في الذهن، والممكن للأسباب المعينة على إدراكه وتبين صفاته ومعانيه، وهو الذي يقدر لهذا العالم قيمته الإنسانية بإضافة الصور الفكرية والجميلة إليه، ومحاولته إظهار النظام المجهول في متناقضات النفس البشرية، والارتفاع بهذه النفس عن الواقع المنحط المجتمع من غشاوة الفطرة وصولة الغريزة وغرارة الطبع الحيواني. وإذا كان الأمر في الأدب على ذلك؛ فباضطرار أن تتهذب فيه الحياة وتتأدب، وأن يكون تسلطه على بواعث النفس دربة لإصلاحها وإقامتها، لا لإفسادها والانحراف بها إلى الزيغ والضلالة؛ وباضطرار أن يكون الأديب مكلفًا تصحيح النفس الإنسانية، ونفي التزوير عنها، وإخلاصها مما يلتبس بها على تتابع الضرورات؛ ثم تصحيح الفكرة الإنسانية في الوجود، ونفي الوثنية عن هذه الفكرة، والسمو بها إلى فوق، ثم إلى فوق، ودائمًا إلى فوق! وإنما يكلف الأديب ذلك لأنه مستبصر من خصائصه التمييز وتقدم النظر وتسقط الإلهام، ولأن الأصل في عمله الفني ألا يبحث في الشيء نفسه، ولكن في البديع منه؛ وألا ينظر إلى وجوده، بل إلى سره؛ ولا يعني بتركيبه، بل بالجمال في تركيبه؛ ولأن مادة عمله أحوال الناس، وأخلاقهم، وألوان معايشهم، وأحلامهم، ومذاهب أخيلتهم وأفكارهم في معنى الفن، وتفاوت إحساسهم به، وأسباب مغاويهم ومراشدهم؛ يسدد على كل ذلك رأيه، ويجيل فيه نظره، ويخلطه في نفسه، وينفذه من حواسه، كأنما له في السرائر القبض والبسط، وكأنه ولي الحكم على الجزء الخفي في الإنسان يقوم على سياسته وتدبيره، ويهديه إلى المثل الأعلى، وهل يخلق العبقري إلا كالبرهان من الله لعباده على أن فيهم من يقدر على الذي هو أكمل والذي هو أبدع، حتى لا ييأس العقل الإنساني ولا ينخذل، فيستمر دائبًا في طلب الكمال والإبداع اللذين لا نهاية لهما؟ فالأديب يشرف على هذه الدنيا من بصيرته فإذا وقائع الحياة في حذو واحد من النزاع والتناقض، وإذا هي دائبة في محق الشخصية الإنسانية، تاركة كل حي من الناس كأنه شخص قائم من عمله وحوادثه وأسباب عيشه؛ فإذا تلجلج ذلك في نفس الأديب اتجهت هذه النفس العالية إلى أن تحفظ للدنيا حقائق الضمير

والإنسانية والإيمان والفضيلة، وقامت حارسة على ما ضيع الناس، وسخرت في ذلك تسخيرًا لا تملك معه أن تأبى منه، ولا يستوي لها أن تغمض فيه؛ ونقلت الإنسانية كلها ووضعت على مجاز طريقها أين توجهت، فتأكد الأمر فيها، ووصل بها، وعلمت أنها من خالصة الله، رسالتها للعالم هي تقرير الحب للمتعادين، وبسط الرحمة للمتنازعين، وأن تجمع الكل على الجمال وهو لا يختلف في لذته وتصل بينهم بالحقيقة وهي لا تتفرق في موعظتها، وتشعرهم الحكمة وهي لا تتنازع في مناحيها: فالأدب من هذه الناحية يشبه الدين: كلاهما يعين الإنسانية على الاستمرار في عملها، وكلاهما قريب من قريب؛ غير أن الدين يعرض للحالات النفسية ليأمر وينهي، والأدب يعرض لها ليجمع ويقابل؛ والدين يوجه الإنسان إلى ربه، والأدب يوجهه إلى نفسه؛ وذلك وحي الله إلى الملك إلى نبي مختار، وهذا وحي الله إلى البصيرة إلى إنسان مختار. فإن لم يكن للأديب مثل أعلى يجهد في تحقيقه ويعمل في سبيله، فهو أديب حالة من الحالات، لا أديب عصر ولا أديب جيل؛ وبذلك وحده كان أهل المثل الأعلى في كل عصر هم الأرقام الإنسانية التي يلقيها العصر في آخر أيامه ليحسب ربحه وخسارته ... ولا يخدعنك عن هذا أن ترى بعض العبقريين لا يؤتى في أدبه أو أكثره إلا إلى الرذائل، يتغلغل فيها، ويتملأ بها، ويكون منها على ما ليس عليه أحد إلا السفلة والحشوة من طغام الناس ورعاعهم؛ فإن هذا وأضرابه مسخرون لخدمة الفضيلة وتحقيقها من جهة ما فيها من النهي؛ ليكونوا مثلًا وسلفًا وعبرة؛ وكثيرًا ما تكون الموعظة برذائلهم أقوى وأشد تأثيرًا مما هي في الفضائل؛ بل هم عندي كبعض الأحوال النفسية الدقيقة التي يأمر فيها النهي أقوى مما يأمر الأمر، على نحو ما يكون من قراءتك موعظة الفضيلة الأدبية التي تأمرك أن تكون عفيفًا طاهرًا؛ ثم ما يكون من رؤيتك الفاجر المبتلى المشوه المتحطم الذي ينهاك بصورته أن تكون مثله؛ ولهذه الحقيقة القوية في أثرها -حقيقة الأمر بالنهي- يعمد النوابغ في بعض أدبهم إلى صرف الطبيعة النفسية عن وجهها، بعكس نتيجة الموقف الذي يصورونه، أو الإحالة في الحادثة التي يصفونها؛ فينتهي الراهب التقي في القصة ملحدًا فاجرًا، وترتد المرأة البغي قديسة، ويرجع الابن البر قاتلًا مجنونًا جنون الدم؛ إلى كثير مما يجري في هذا النسق، كما تراه لأناطول فرانس وشكسبير وغيرهما، وما كان ذلك عن غفلة منهم ولا شر، ولكنه أسلوب من الفن، يقابله

أسلوب من الخلق؛ ليبدع أسلوبًا من التأثير؛ وكل ذلك شاذ معدود ينبغي أن ينحصر ولا يتعدى؛ لأنه وصف لأحوال دقيقة طارئة على النفس، لا تعبير عن حقائق ثابتة مستقرة فيها. والشرط في العبقري الذي تلك صفته وذلك أدبه، أن يعلو بالرذيلة ... في أسلوبه ومعانيه، آخذًا بغاية الصنعة، متناهيًا في حسن العبارة؛ حتى يصبح وكأن الرذائل هي اختارت منه مفسرها العبقري الشاذ الذي يكون في سمو فنه البياني هو وحده الطرف المقابل لسمو العبارة عن الفضيلة، فيصنع الإلهام في هذا وفي هذا صنعه الفني بطريقة بديعة التأثير، أصلها في أديب الفضيلة ما يريده ويجاهد فيه، وفي أديب الرذيلة ما يقوده ويندفع إليه، كأن منهما إنسانًا صار ملكًا يكتب، وإنسانًا عاد حيوانًا يكتب ... وإذا أنت ميَّلت بين رذيلة الأديب العبقري في فنه، ورذيلة الأديب الفسل الذي يتشبه به -في التأليف والرأي والمتابعة والمذهب- رأيت الواحدة من الأخرى كبكاء الرجل الشاعر من بكاء الرجل الغليظ الجلف: هذا دموعه ألمه، وذاك دموعه ألمه وشعره؛ وفي كتابة هذه الطبقة من العبقريين خاصة يتحقق لك أن الأسلوب هو أساس الفن الأدبي، وأن اللذة به هي علامة الحياة فيه؛ إذ لا ترى غير قطعية أدبية فنية، شاهدها من نفسها على أنها بأسلوبها ليست في الحقيقة إلا نكتة نفسية لاهتياج البواعث في نفوس قرائها، وأنها على ذلك هي أيضًا مسألة من مسائل الإنسانية مطروحة للنظر والحل، بما فيها من جمال الفن ودقائق التحليل. واللذة بالأدب غير التلهي به واتخاذه للعبث والبطالة فيجيء موضوعًا على ذلك فيخرج إلى أن يكون ملهاة وسخفًا ومضيعة؛ فإن اللذة به آتية من جمال أسلوبه وبلاغة معانيه وتناوله الكون والحياة بالأساليب الشعرية التي في النفس، وهي الأصل في جمال الأسلوب؛ ثم هو بعد هذه اللذة منفعة كله كسائر ما ركب في طبيعة الحي؛ إذ يحس الذوق لذة الطعام مثلًا على أن يكون من فعلها الطبيعي استمراء التغذية لبناء الجسم وحفظ القوة وزيادتها؛ أما التلهي فيجيء من سخف الأدب؛ وفراغ معانيه، ومؤاتاته الشهوات الخسيسة والتماسه الجوانب الضيقة من الحياة؛ وذلك حين لا يكون أدب الشعب ولا الإنسانية بل أدب فئة بعينها وأحوالها؛ فإن أديب صناعته أو أديب جماعته، غير أديب قومه وأديب عصره، أحدهما إلى حد محدود من الحياة، والآخر عمل جامع مستمر متفنن؛ لأن عمله

الأدبي وهو وجوده، وكل شيء في قومه لا يبرح يقول له: اكتب ... ومن الأصول الاجتماعية التي لا تتخلف، أنه إذا كانت الدولة للشعب، كان الأدب أدب الشعب في حياته وأفكاره ومطامحه وألوان عيشه، وزخر الأدب بذلك وتنوع وافتن وبني على الحياة الاجتماعية؛ فإن كانت الدولة لغير الشعب، كان الأدب أدب الحاكمين وبني على النفاق والمداهنة والمبالغة الصناعية والكذب والتدليس، ونضب الأدب من ذلك وقل وتكرر من صورة واحدة؛ وفي الأولى يتسع الأديب من الإحساس بالحياة وفنونها وأسرارها في كل من حوله، إلى الإحساس بالكون ومجاليه وأسراره في كل ما حوله؛ أما الثانية فلا يحس فيها إلا أحوال نفسه وخليطه، فيصبح أدبه أشبه بمسافة محدودة من الكون الواسع لا يزال يذهب فيها ويجيء حتى يمل ذهابه ومجيئه. والعجب الذي لم يتنبه له أحد إلى اليوم من كل من درسوا الأدب العربي قديمًا وحديثًا، أنك لا تجد تقرير المعنى الفلسفي الاجتماعي للأدب في أسمى معانيه إلا في اللغة العربية وحدها، ولم يغفل عنه مع ذلك إلا أهل هذه اللغة وحدهم! فإذا أردت الأدب الذي يقرر الأسلوب شرطًا فيه، ويأتي بقوة اللغة صورة لقوة الطباع، وبعظيمة الأداء صورة لعظمة الأخلاق، وبرقة البيان صورة لرقة النفس، وبدقته المتناهية في العمق صورة لدقة النظر إلى الحياة؛ ويريك أن الكلام أمة من الألفاظ عاملة في حياة أمة من الناس، ضابطة لها المقاييس التاريخية، محكمة لها الأوضاع الإنسانية، مشترطة فيها المثل الأعلى، حاملة لها النور الإلهي على الأرض ... .... وإذا أردت الأدب الذي ينشئ الأمة إنشاء ساميًا، ويدفعها إلى المعالي دفعًا، ويردها عن سفاسف الحياة، ويوجهها بدقة الإبرة المغناطيسية إلى الآفاق الواسعة، ويسددها في أغراضها التاريخية العالية تسديد القنبلة خرجت من مدفعها الضخم المحرز المحكم، ويملأ سرائرها يقينًا ونفوسها حزمًا وأبصارها نظرًا وعقولها حكمة، وينفذ بها من مظاهر الكون إلى أسرار الألوهية ... ... إذا أردت الأدب على كل هذه الوجوه من الاعتبار -وجدت القرآن الحكيم قد وضع الأصيل الحي في ذلك كله، وأعجب ما فيه أنه جعل هذا الأصل مقدسًا، وفرض هذا التقديس عقيدة، واعتبر هذه العقيدة ثابتة لن تتغير؛ ومع ذلك كله لم يتنبه له الأدباء ولم يحدوا بالأدب حذوه، وحسبوه دينًا فقط، وذهبوا بأدبهم

إلى العبث والمجون والنفاق؛ كأنه ليس منهم إلا بقايا تاريخ محتضر بالعلل القائلة، ذاهب إلى الفناء الحتم! والقرآن بأسلوبه ومعانيه وأغراضه لا يستخرج منه للأدب إلا تعريف واحد هو هذا: إن الأدب هو السمو بضمير الأمة. ولا يستخرج منه للأديب إلا تعريف واحد هو هذا: إن الأديب هو من كان لأمته وللغتها في مواهب قلمه لقب من ألقاب التاريخ.

سر النبوغ في الأدب

سر النبوغ في الأدب 1: لو ترجمنا الخاطرة التي تمر في ذهن الحيوان الذكي حين ينقاد في يد رجل ضعيف أبله يصرفه ويديره على أغراضه، فنقلناها من فكر الحيوان إلى لغتنا، وأديناها بمعنى مما بين الإنسان والحيوان -لكانت في العبارة هكذا: ما أنت أيها الأبله فيما يبني وبين الحقيقة المدبرة للكون إلا نبي مرسل صلى الله عليه وسلم ... ذلك أن التركيب الذي يبين به الإنسان من الحيوان قد جعل دماغ هذا الحيوان خاتمًا من الله دمغ به على خصائصه فأفرغه الله في جلده، ووضع في رأسه ذلك القفل الإلهي الذي حبسه في باب الاضطرار من غرائزه البهيمية، وأقفل به على الدنيا العقلية المتسعة بينه وبين الإنسان؛ فالكون عنده لغو كله ليس فيه إلا حقائق يسيرة، ثم لا تفسير لهذه الحقائق إلا من طبيعته هو، فجلده أدق تفسير فلكي ... للشمس والنور والهواء وما يجيء منها؛ وجوفه أصح تعبير جغرافي ... للكرة الأرضية وما تحمل، وجوعه وشبعه هما كل فلسفة الشر والخير في العالم! ... فأساس الذكاء عاليًا ونازلًا هو التركيب الطبيعي لا غيره: لو زادت في الدماغ ذرة أو نقصت لزادت للدنيا صورة أو نقصت؛ فبالضرورة تكون هذه هي القاعدة فيما نرى من تباين حدة الذكاء في أفراد كل نوع من الحيوان، وما نشهد من ذلك في أحوال الناس، من الفطنة إلى الذكاء* إلى الألمعية إلى الجهبذة إلى النبوغ إلى العبقرية؛ وهي طبقات من ألفاظ اللغة لأحوال قائمة من هذه المعاني ترجع إلى درجات ثابتة في تركيب الدماغ. ومما يسجد له العقل الإنساني سجدة طويلة إذا هو تأمل في حكمة الله ومر يتصفح من أسرار ما نحن بسبيله من الكلام على النبوغ -أن هذا الوجود الذي يحمل أسرار الألوهية في كرة متقاذفة في الفضاء الأبدي، وأن الأرض التي تحمل

_ 1 المقتطف: يناير سنة 1933. * عندنا أن الفطنة في اللغة، دون الذكاء؛ تقابل ما عند الحيوان من التنبه؛ والذكاء: والتوقد واللهيان.

أسرار الإنسانية، هي كرة طائرة فيما مد لها من الوجود، وأن كل حي فيها يحمل أسرار حياته في كرة خاصة به هي رأسه، وأن الوجود من كل حي هو بعد ذلك ليس شيئًا في النظر ولا في الحس ولا في الفهم إلا كما يرى ويحس ويفهم في هذا الرأس بعينه على طريقته وتركيبه، فيصعد التدريج إلى الكبير إلى الأكبر، وينزل إلى الصغير إلى الأصغر؛ ثم لا معنى لما صعد إلا مما نزل، وبهذا ستكون آخرة جميع العلوم متى نفذ العلماء إلى السر الحقيقي، أن العقل الإنساني فهم كل شيء ولم يفهم شيئًا ... والناس يختلفون بتركيب أدمغتهم على شبيه من هذا التدريج؛ فأما واحد فيكون دماغه باعتباره من سائر الناس في الذكاء والعقل كالوجود المحيط، وأما آخر فكالشمس، ثم غيرهما كالأرض، ثم الرابع كالإنسان، ثم يكون منهم كالحيوان ومنهم كالحشرة؛ ولا علة لك لهذا إلا ما هيأت الأقدار "بأسبابها الكثيرة"، لكل إنسان في تركيب دماغه في نوع المادة السنجابية من المخ، وأحوال التركيب في الملايين من الخلايا العصبية، وما لا يعد من فروع هذه الخلايا وشعبها: ثم ما يكون من قبل العلاقات بين هذه الفروع التي هي لكل رأس كرمل الكرة الأرضية، ثم اختلاف مقادير المواد الكيماوية التي تتخلق في غدد الجسم وتنفثها الغدد في الدم. فقد يكون العمل النابغ المتمرد على العقول آتيًا من قطرة في هذه الغدد، كما ينبعث العملاق المارد بعظامه الممتدة وألواحه المشبوحة من غدته النخامية لا غيرها. فالذكي من ذكي مثله إنما هو كالجيش من جيش بإزائه: يقع الاختلاف بينهما فيما اشتملا عليه من كثرة الجند، وصفاتهم من القوة والضعف، وأحوالهم من النظام والاختلال، وقوة آلاتهم ومقدارها ونوع الاختراع فيها، ثم طبيعة موضعهم وحسن توجيههم وقيادتهم، وما اكتنفهم من صعب أو سهل، وما تظاهر علهيم من الحوادث والأقدار، ثم التوفيق الذي لا حيلة فيه إن وقع في حصة أحدهما واستقر، أو وقع هونًا وطار للآخر، وبنحو من هذا كله تكون المفاضلة إذا وازنت بين اثنين من النوابغ في حقيقة نبوغهما. فالنابغة خلق من خالقه، يصنع كما ترى بأقدار الله؛ إذ هو قدر على قومه وعلى عصره، وهو من الناس كالورقة الرابحة من ورق السحب "اليانصيب": سلة يد جعلتها مالًا وتركت الباقيات ورقًا وأحدثت بينهما الفرق الذهبي؛ وبهذا لا يستطيع العالم أن يزيد الدنيا نابغة إلا إذا استطاع أن يزيد في الكوكب نجمًا

فيصنعه؛ وهبه صنعه من الكهرباء، فيبقى أن يحمله، وإذا حمله بقي أن يرفعه إلى السموات؛ وهبه قد رفعه فيبقى كل شيء ... يبقى عليه أن يقحمه في النجوم ويرسله فيها يدور وينفلك. وكما يخلق النابغة بتركيبه، تخلق له الأحوال الملائمة لعمله الذي خص به في أسرار التقدير عاملًا نافعًا، وإن كانت لا تلائمه هو منتفعًا؛ فإنه هو غير مقصود إلا من حيث إنه وسيلة أو آلة تكابد ما تحتمل في أعمالها، ويؤتى لها لتأخذ على طريقة وتعطي على طريقة؛ وبذلك يرجع التقدير إلى أن يكون العقل لنابغة دليلًا للناس من الناس أنفسهم على الخالق الذي هو وحده أمره الأمر. وإذا كان الجمال يستعلن في كلام هؤلاء النوابغ، والخيال يظهر في تعبيرهم، والحكمة تهبط إلى الدنيا في تفكيرهم، والمثل الأعلى هم الداعون إليه، والأشواق النفسية هم موقظوها، والعواطف هم المصورون لها، وسرور الحياة هم الذين حولوه إلى الفن -إذا كان هذا كله فهذا كله إنما هو توكيد لاتصالهم بالقوة الأزلية المدبرة، وأنهم أدواتها في هذه المعاني؛ فما هي أعمالهم أكثر مما هي أعمالها؛ وقد يظن الناس أن النابغة يلتمس القوى المحيط به ليبدع منها، والحقيقة أنها هي تلتمسه لتبدع به. وبعده؛ فالنابغة كأنه إنسان من الفلك، فهو يخزن الأشعة العقلية ويريقها، وفي يده الأنوار والظلال والألوان يعمل بها عمل الفجر كلما أظلمت على الناس معاني الحياة؛ ولا تزال الحكمة تلقي إليه الفكرة الجميلة ليعطيها هو صورة فكرتها، وتوحي إليه معنى الحلق ليؤتيها هو معنى جمال الحلق؛ والطبيعة خلقها الله وحده، ولكنها ليست معقولة إلا بالعلم، وليست جميلة إلا بالشعر، وليست محبوبة إلا بالفن؛ فالنوابغ في هذا كله هم شروح وتفاسير حول كلمات الله، وكلهم يشعر بالوجود فنًّا كاملًا ويشعر بنفسه شرحًا لأشياء من هذا الفن، ويرى معاني الطبيعة كأنما تأتيه تلتمس في كتابته وشعره حياة أكبر وأوسع مما هي فيه من حقائقها المحدودة، وتتعرض له أحزان الإنسانية تسأله أن يصحح الرأي فيها باستخراج معناها الخيالي الجميل، فإنها وإن كانت آلامًا وأحزانًا إلا أن معناها الخيالي هو سرور تحمله للناس؛ إذ كان من طبيعة النفس البشرية أن تسكن إلى وصف آلامها وفلسفة حكمتها حين تبدو بصائرها حاملة أثرها الإلهي، كأن المؤلم ليس هو الألم، وإنما هو جهل سره. وبالجملة فالكون يختار في كل شيء مفسره العبقري ليكشف من غموضه

ويزيد فيه أيضًا ... ثم ليؤتى الناس المثل الأعلى من المعنى على يد المثل الأعلى من الفكر؛ ولهذا تصيب الكلام الذي يكتبه النابغة الملهم في أوقات التجلي عليه كأنه كلام صور نفسه وصاغها، أو كأنه قطعة من الحس قد جمدت في أسطر؛ ولا بد أن تشعرك الجملة أنها قذفت وحيا؛ إذ لا تجدها إلا وكأن في كلماتها روحًا يرتعض؛ ولقد يخطر لي وأنا أقرأ بعض المعاني الجميلة لذهن من الأذهان الملهمة كشكسبير والمتنبي وغيرهما -حين أتأمل اختراع المعنى وإبداع سياقه وضحى البيان عليه وإشراقه فيه وما أتيح له من جلال ظاهر في شكل حي يلمح بسره في النفس- يخيل إلي من ذلك أن سر الطبيعة القادر يعمل عمله أحيانًا بذهن إنساني ليخلق تعبيرًا عن جلاله في مثل جلاله. وأنت فلو أخذت معنى من هذه المعاني الآتية من الإلهام وأجريته في كتابة كاتب أو شعر شاعر من الدين ليس لهم إلا أذهانهم يكدونها، وكتبهم يجعلونها أذهانهم أحيانًا ... لرأيت الفرق بين شيء وشيء في أحسن ما أنت واجده لهم على نحو ما ترى بين زهرة حريرية جاءت من عمل الإنسان بالإبرة والخيط، وزهرة أخرى قد انبثقت عطرة ناضرة في غصنها الأخضر من عمل الحياة بالسماء والأرض. والعبقري هو أبدًا وراء ما لا ينتهي من جمال، أوله في نفسه وآخره في الجمال الأقدس الذي مسح على هذه النفس الجميلة السامية؛ فما دام فيه سر العبقرية فهو دائب يعمل ممزقًا حياته في سبحات النور تمزيقًا يجتمع منه أدبه؛ وما أدبه إلا صورة حياته؛ وهو كلما أبدع شيئا طلب الذي هو أبدع منه؛ فلا يزال متألمًا إن عمل لأن طبيعته لا تقف عند غاية من عمله، ومتألمًا إن لم يعمل؛ لأن تلك الطبيعة بعينها لا تهدأ إلا في عمل، وهي طبيعة متمردة بذلك الجمال الأقدس تمرد العشق في حامله؛ إذ هما صورتان لأمر واحد كما سنشير إليه؛ فكل ما تجده في نفس العاشق المتدلة مما يترامى به إلى جنونه وهلاكه، تجد شبهًا منه في نفس العبقري؛ فكلاهما قانونه من طبيعة وحدها؛ إذ قد اتخذت حياته شكلها الفني من ذوقه هو وحده؛ فليس يتبع طريقة أحد، بل هو في طريقة نفسه1، وكلاهما مسترسل

_ 1 لا وجه عندنا لما استعمله بعض الكتاب في الأدب من قولهم مدرسة امرئ القيس، ومدرسة النابغة ونحو ذلك، ترجمة حرفية لقول الأوروبيين مدرسة فلان ومدرسة فلان؛ فإن الأدب إن كان تقليدًا فهو أدب منحطٌّ لا يجعل مدرسة يحتذى عليها ويتخرج بها، وإن كان إبداعًا فليس الإبداع مدرسة تكون بالتعليم والتلقين ويتخرج بها الواحد والمائة والألف على طراز لا يختلف؛ إنما تنطبق هذه الكلمة على المذاهب المستقرة في الفنون التعليمية، وفي هذا لا

أبدًا إلى جمال مستفيض على روحه يتقلب فيها باللذة والألم يرجع إليه ويستمد منه، وكلاهما لا يجد المعنى الجميل في الطبيعة معنى، بل رسولًا من الجمال أرسل إليه وحده، ولا يزال يشعر في كل وقت أن له رسائل ورسلًا هو بعد في انتظارها، وكلاهما متى ظفر بشيء من مصدر الجمال انتهى من شدة فرحه إلى الظن أنه ربح من الكون ربحًا لم يكن له من قبل، وكلاهما متهالك بين قيود الحياة التي في الحياة والواقع، وبين حريتها التي في خياله وأمله، كأن عليه في سبيل هذه الحرية أن يقطع الليل والنهار لا قيدًا من قيود الاجتماع أو العيش؛ وكلاهما متصل بقوة غيبية وراء ما يرى وما يحس تجعل نظرته في الأشياء خاضعة لقانون النظرة العاشقة في العينين الساحرتين المعشوقتين، فإذا مد عينيه في شيء جميل فهناك سؤال وجوابه، ووحي وترجمته، ومرور من يقظة إلى حلم، وانتقال من حقيقة إلى خيال! غير أن طبيعة العبقري تزيد على كل ذلك ألمًا تنفرد به لا تستقر معه على رضا، ولا يبرح يسلط الإعنات عليها ويستغرقها قالهموم السامية؛ وذلك ألم الكمال الفني الذي لا يدرك العبقري غايته عند نفسه، وإن كان عند الناس قد أدرك غايات وغايات؛ فطبيعة كل عبقري تجهد جهدها في العمل لتخرج به مما يستطيعه الناس، فإذا تأتى صاحبها لذلك وكابد فيه وأدرك منه وبلغ وأعجز، اندفعت طبيعته إلى الخروج مما يستطيع هو.. كأنه خارج عن الطبيعة وداخل في الطبيعة في وقت معًا، وكأنه نفسه وفوق نفسه في حال، وهذا سر حريته وسموه، كما أنه سر ألمه وحيرته. ومن أثر ذلك ما تحسه أنت إذا قرأت للأديب البليغ التام صاحب الفكر والأسلوب والذهن الملهم؛ فإنك تقف على المعنى من معانيه يملأ نفسك ويتمدد فيها ويهتز بها طربًا وإعجابًا، فنقول: لا أحس من هذا! ثم تؤمل مع ذلك أن تجد منه ما هو أحسن من هذا.. كأنه وإن تناهى إلى الغاية لا يزال عندك فوق الغاية؛

_ = تطلق في الأدب العربي إلا على فئتين فقط، هما البصريون والكوفيون، على أن كلمة مذهب هي المستعملة في هذا، وهي أسد منها؛ إذ يدل المذهب على منحى اختاره الرأي وذهب إليه، فكأنه عن تحقيق في صاحبه وتابعيه؛ أما تسمية مجموعة الإلهامات التي مرت في ذهن نابغة من النوابغ بالمدرسة، فتسمية مضحكة باردة؛ إذ الإلهام بصيرة محضة، وما هو مما يقلد، وقلما تشابه ذهنان على الأرض في عناصر التكوين التي يأتي منها النبوغ؛ وقد قال علماؤنا: طريقة فلان وطريقة فلان؛ فالطريقة هي الكلمة الصحيحة؛ لأن عليها ظاهر العمل وأسلوبه يتوجه بها من يتوجه، ويقلد فيها من يقلد، أما سر العمل فهو سر العامل أيضًا، وهو شيء في الروح والبصيرة، وهو في العبقري أمر لا يستطيعه إنسان وشذ في إنسان بخصوصه.

وهذا غريب، ولكن لا دليل على العبقرية إلا الغرابة دائما؛ فهي نظام لا نظام فيه؛ لأها طريقة لا طريقة لها؛ وبهذه الغرابة جاءت العبقرية كلها أمثلة وليس فيها قواعد يحتذى عليها ولا هداية فيها إلا من الروح؛ وإذا كان الفن قدرة متصرفة في الجمال، فالعبقرية قدرة متصرفة في الفن، والنابغة كالمتكيس* الذي معه قوي العقل ويريد أن يزداد على قدره منها، ولكن العبقري كالإلهي الذي معه قوى الروح ويريد أن يزيد الناس على قدرهم بها؛ وذاك مرجعه الفكر الدقيق الباحث؛ وهذا مناطه البصيرة الشفافة النافذة، وهي أغرب الغرائب في الإنسان؛ إذ هي الجهة المطلقة في هذا المخلوق المقيد، وبها تتسع الناس لإدراك المطلق الظاهر من خلال الموجودات، وفيها تتحول الأشياء من نظام الحاسة إلى نظام الروح فيسمع المرئي ويبصر المسموع، وتخلع الأجسام أنغاما، وتلبس الأصوات أشكالا، ويبدو عندها كل مخلوق وكأن فيه بقية زائدة على خلقه تركت ليعمل فيها الكاتب أو الشاعر المحدث2 عمل فنه، الزائد على الطبيعة بالحاسة الزائدة على ذهنه، وهي التي نسميها الإلهام. وهذه الحاسة هي كذلك من بعض الغرابة، تكون في صاحبها الموهوب كما تكون حاسة الاتجاه في الطيور التي تقطع في جو السماء إلى غاياتها البعدية من قطب الأرض إلى قطبها الآخر بغير دليل تحمله، ولا رسم تنظر فيه، ولا علم ترجع إليه؛ وكما تكون حاسة التمييز في النحل الذي يبني عسلته على هندسة ليست من كتاب ولا مدرسة، وحاسة التدبير في النمل الذي يدبر مملكته بغير علوم الممالك وسياستها؛ وكثيرا ما يجيء الأديب الملهم من حقائق الفكر وبيانه وأسرار الطبائع وأوصافها بما يغطي على فلسفة الفلاسفة وعلم العلماء، ومثل هذا العبقري هو عندي فوق العلم، لا أقول بدرجة، ولكن بحاسة. وبالإلهام يكون لكل عبقري ذهنه الذي معه وذهنه الذي ليس معه؛ إذ كنت له من وراء خياله قوة غير منظورة ليست فيه، ومع ذلك تعمل كما تعمل الأعضاء في جسمه، هينة منقادة كأنها تتصرف على اطراد العادة بلا فكر ولا روية ولا عسر ما دامت تتجلى عليه.

_ * من الكيس وهو العقل فيكون عاقلا ويريد أن يزداد على مقداره. ** هذه هي الكلمة القديمة التي تقابل ما نسميه العبقري بلغة عصرنا، كأن الأشياء تحدثه بأسرارها، أو تحدثه بها قوة أعلى من القوى الإنسانية؛ وإذا كان محدثا فمعنى ذلك أنه ينطق عن سمع من الغيب؛ ومن ذلك ما زعم العرب من أن لكل شاعر شيطانا ينفث على لسانه، وهووصف دقيق للعبقرية إلا أنه باللغة الجاهلية، وقد صححه النبي صلى الله عليه وسلم فقال لشاعره حسان: قل وروح القدس معك. وفي كلمة "روح القدس" تنطوي فلسفة العبقرية كلها.

وليست تتصل هذه القوة إلا بتركيب عصبي تكون فيه الخصائص التي تصلح أن تتلقى عنها، وهي في العبقريين خصائص مرضية في الأعم الأغلب، بل لعلها كذلك دائما؛ ليتسرَّ بها العبقري لحالة خفيفة من الموت ... يحمل بها كده وتعبه وما يعانيه من مضض الفكر وثقلته؛ ثم لتكون هذه الحالة كالتقريب بين عالم الشهادة فيه وبين عالم الغيب منه؛ فالتركيب العصبي في دماغ العبقري إنسان على حياله مع إنسان آخر، أحدها لما في الطبيعة والثاني لما وراء الطبيعة؛ ومن ثم كان الرجل من هذه الفئة كالمصباح: يتقد وينطفئ؛ لأنه آلة نور تعرض لها العلل فتذهب بقدرتها عليه، وتنضب مادة النور منها، فكذلك لا تقدر عليه، وتكون مضيئة فتنطفئ بسبب ليس منها ولا من نورها، وهي على كل هذه الأحوال لا تملك منها حالة؛ فبينما العبقري الذي يملأ الدنيا من آثاره النابغة، تراه في حالة من أحواله يدأب لا يأتلي فيجد في العمل ويبذل الوسع فيه ويصبر على مطاولة التعب في إحكامه ويفيض به فيضا وكأن في طبيعة الربيع المتفتح طول أيامه بالجمال - إذا هو في حالة أخرى يتلكأ ويتربص لا يعمل شيئا كأنما دخل في قريحته الشتاء، وفي ثالثة يتباطأ ويتلبث فلا يعنُّ له جديد كأنما حبس عنه فكره أو نبا طبعه أو هو في قيظ طبيعته وخمولها وضجرها؛ ثم لا تمضي على ذلك إلا توَّةٌ وساعة فإذا على صيفه هواء نوفمبر وديسمبر ... وإذا هو منبعث ملء القوة والنشاط؛ وربما يأخذ في غرض من الكتابة قد رسم له المعنى وهيأ له المادة، فلا يكاد يمضي لنحو منه حتى تتناسخ في ذهنه المعاني فإذا هو يكتب ما لا يستملي؛ وقد يبتدئ معنى ثم يقطع عنه بطارئ من عمل أو حديث، ثم يعاوده فإذا هو معنى آخر وإذا جهة من الفكر هي جهة الإبداع والاختراع في موضوعه، وإذا هو إنما كان يجر بذلك الصارف عن معناه الأول جرًّا ليدعه إلى الأكمل والأصح، وأيقن أنه لو كان استوفى على ما بدأ لأسف وضعف وجاء بما غيره أقدر عليه؛ كأن هذه القوة الخفية التي تلهمه تنقح له أيضًا بأساليبها الغريبة؛ وقد يكون آخذًا في عمله ماضيًا على طبعه مسترسلًا إلى ما ينكشف له من أسرار المعاني ثقفًا من هنا لقفًا من هناك*، ثم ينظر فإذا هو قد مسح لوح خياله، ويطلب المعنى فلا يتاح له، ويتمادى فلا يزيد إلا كدًّا وعسرا كأنما ذهب إلهامه في غمض من غموض

_ * يقال: هو ثقف لقف: أي سريع الفهم لما يلقى إليه، ولكنا استعملناه كما ترى فجاء أشد تمكنًا من أصله.

الأبدية*؛ وكل من ارتاض بصناعة الفكر واستحكمت له عادتها ومر في درجاتها حتى بلغ المكانة التي يستشرف منها للإلهام ويتعرض فيها بروحه وبصيرته لنبضات الوحي وانكشافات الغيب، يعلم أن كل معنى بديع يأتي به في صناعته إنما يقع له إلهامًا من ذلك المعنى الحي المتمدد في الكائنات كلها، ظاهرًا في شيء منها بالضوء، وفي أشياء بالألوان، وفي بعضها بالحركة، وفي بعضها بالانسجام، وفي بعضها بالروعة والفخامة، وفي غيرها بنبضة الهيئة؛ وظاهرًا في حالات كثيرة بأنه غير ظاهر؛ ويعرف كذلك أن هذا المعنى الشامل الذي لا يحد هو الذي ينقل الوجود كله إلى نفوس النوابغ** متى نبض في هذه النفوس الرقيقة وأشعرها سره، وإذا هم النابغة أن يتوضحه لا يرى شيئًا، وإذا أراد حجة عليه لم يستطع الجلاء عن بيانه بكلمة، وإذا التمس التعريف به لم يجد إلا ما يشهد له إحساسه وقلبه، وهذا الذي ينقدح في أذهان النوابغ أفكارًا حين يفيض لكل منهم بسبب من قراءة أو مشاهدة أو حالة أو مراس، وهو هو بعينه الذي ينقدح عشقًا في قلوب المحبين حين يتراءى لكل منهم في معنى على وجه جميل؛ ومن ثم كان النابغة في الأدب لا يتم تمامه إلا إذا أحب وعشق، وكان الأدب نفسه في تحصيل حقيقته الفلسفية ليس شيئًا سوى صناعة جمال الفكر.. وهذا العمل في ذلك الجهاز العصبي الخاص به في بعض الأدمغة هو الذي كان يسميه علماء الأدب العربي بالتوليد، وقد عرفوا أثره، ولكنهم لم يتنبهوا إلى حقيقته ولا أدركوا من سره شيئًا؛ وأحسن ما قرأناه فيه قول ابن رشيق في كتاب العمدة: "إنما سمي الشاعر شاعرًا؛ لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره؛ فإذا لم يكن

_ * قالوا: كان الفرزدق وهو فحل مضر في زمانه يقول: تمر علي الساعة وقلع ضرس من أضراسي أهون على من عمل بيت من الشعر! وذكروا أنه كان من عمله إذا استصحب الشعر عليه أن يركب ناقته ويطوف وحده خاليًا منفردًا في شعاب الجبال وبطون الأودية فينقاد له الكلام؛ وأخبارهم كثيرة في الطرق التي يستعان بها على الشعر ويجتلب بها نافره، والحقيقة أنها علل من النفس تعارض حالة الإلهام إلى أن تزول وتصفو النفس منها، أو أسباب تتفق ولا تلهم شيئًا إلى أن تتغير بأسباب ملهمة. ** هناك فرق علمي بين ما يسمى نبوغًا وما يسمى عبقرية، ولكنا في هذا الفصل أطلقنا الكلام وقيدنا في مواضع بخصوصها، ويكاد الفرق بين النابغة والعبقري في جماع أمره أن يكون كالفرق بين التلغراف الذي طريقه مادة السلك وبين الآخر الذي طريقه روح الجو؛ فكلاهما هو الآخر ولكن أحدهما لا بد له من طريق سلوك والآخر طريقه كل الطرق، أي فوق أن يقيد بطريقة.

عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه، أو استطراف لفظ وابتداعه، أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ، أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر- كان اسم الشاعر عليه مجازًا لا حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن". هذا كلام ابن رشيق، وليس لهم أحسن منه، وهو مع ذلك تخليط لا قيمة له وليس فيه من موضوعنا إلا لفظ التوليد. ومما لا نقضي منه عجبًا في تتبع فلسفة هذه اللغة العربية العجيبة، أننا نرى أكثر ألفاظها كالتامة لا ينقصها شيء من دقائق المعنى في أصل وضعها، على حين لا يفهم علماؤنا من هذه الألفاظ إلا بعض ما تدل عليه، كأنها منزلة تنزيلًا ممن يعلم السر؛ وقد نبهنا إلى هذا في كتاب "تاريخ آداب العرب" وأفضنا فيه واستوفينا هناك من فلسفته، وجاء القرآن الكريم من هذا بالعجائب التي تفوت العقل، حتى أن أكثر ألفاظه لتكاد تكون مختومة نزلت كذلك لتفض العلوم والفلسفة خواتمها في عصور آتية لا ريب فيها*؛ وكلمة التوليد التي لم يفهم منها العلماء إلا أخذ معنى من معنى غيره بطريقة من طرق الأخذ التي أشاروا إليها في كتب الأدب -هي الكلمة التي لا يخرج عنها شيء من أسرار النبوغ ولا تجد ما يسد في ذلك مسدها أو يحيط إحاطتها، ولا نظن في لغة من اللغات ما يشبهها في هذه الدلالة واستيعابها كل أسرار المعنى؛ إذ هو بلفظها نص على حياة الكون في الذهن الإنساني، وأنه يتخذه وسيلة لإبداع معانيه، كما يتخذ سر الحياة بطن الأم وسيلة لإبداع موجوداته؛ وأن المعاني تتلاقح فيلد بعضها بعضًا في أسلوب من الحياة، وأن هذه هي وحدها الطريقة لتطور الفكر وإخراج سلالات من المعاني بعضها أجمل من بعض، كما يكون مثل ذلك في النسل بوسائل التلقيح من الدماء المختلفة، وأن النبوغ ليس شيئًا إلا التركيب العصبي الخاص في الذهن، ثم نمو هذا التركيب مع الحياة في طريقة سواء هي وطريقة الولادة المحيية التي مرجعها كذلك إلى تركيب خاص في أحشاء الأنثى؛ ينمو، ثم يدرك ثم يعمل عمله المعجز؛ وإذا كان من كل شيء في الطبيعة زوجان، فالكلمة نص على أن أذهان النوابغ أذهان مؤنثة في طباعها التي بنيت عليها؛ وهذا صحيح؛ إذ هي أقوى الأذهان على الأرض في الحس بالآلام والمسرات، ومعاني الدموع والابتسام أسرع إليها من غيرها، بل هي طبيعة فيها؛ وهي وحدها المبدعة للجمال والمنشئة للذوق، وعملها في ذلك هو قانون وجودها؛ ثم هي قائمة على الاحتمال والإعطاء والرضا

_ * على هذا المعنى وكشف أسراره في آيات القرآن سيبنى كتابنا الجديد "أسرار الإعجاز". قلت: وانظر ص289 "حياة الرافعي".

بالحرمان في سبيل ذلك وإدمان الصبر على التعب والدقة والاهتمام بالتفاصيل وأساسها الحب؛ وكل ذلك من طباع الأنثى وهي النابغة فيه، بل هي النابغة به. فسر النبوغ في الأدب وفي غيره هو التوليد، وسر التوليد في نضج الذهن المهيأ بأدواته العصبية، المتجه إلى المجهول ومعانيه كما تتجه كل آلات المرصد الفلكي إلى السماء وأجرامها؛ وبذلك العنصر الذهني يزيد النابغة على غيره، كما يزيد الماس على الزجاج، والجوهر على الحجر، والفولاذ على الحديد، والذهب على النحاس؛ فهذه كلها نبغت نبوغها بالتوليد في سر تركيبها؛ ويتفاوت النوابغ أنفسهم في قوة هذه الملكة، فبعضهم فيها أكمل من بعض، وتمد لهم في الخلاف أحوال أزمانهم ومعايشهم وحوادثهم ونحوها؛ وبهذه المباينة تجتمع لكل منهم شخصية وتتسق له طريقة؛ وبذلك تتنوع الأساليب، ويعاد الكلام غير ما كان في نفسه، وتتجدد الدنيا بمعانيها في ذهن كل أديب يفهم الدنيا وتتخذ الأشياء الجارية في العادة غرابة ليست في العادة ويرجع الحقيقي أكثر من حقيقته. وقد سئل مصور مبدع بماذا يمزج ألوانه فتأتي ولها إشراقها وجمالها ونبوغ مبانيها وزهو الحياة بها في الصورة، فقال: إنما أمزجها بمخي، وهذا هذا؛ فإن الألوان عند الناس جميعًا، ولكن مخه عنده وحده وله تركيبه الخاص به وحده وسر الصناعة في توليد هذا الدماغ فكأن ألوانه في صناعته جاءت منه بخصوصه، وكذلك كل ما يتناوله العبقري فإنك لتجد الشعر في وزن خاص به يدل عليه ويتمم الغرض منه ويضيف إلى معانيه أنقًا من الجمال وحسنه وإلى صورته نغمًا من الموسيقى وطربها، فما أشبه الجهاز العصبي في دماغ كل نابغة أن يكون وزنًا شعريًا لهذا النابغة بخاصته، ألا ترى أنك لا تقرأ الأديب الحق إلا وجدت كل ما يكتبه يجيء في وزن خاص به حتى لا يخرج عنه مرة، أو تزيد أنت فيه وتنقص إلا ظهر لك أنه مكسور ... ؟ والذهن العبقري لا يتخذ المعاني موضوع بحث ونظر وتعقب يستخرج منها أو يتعلق عليها فهذا عمل الذهن الذكي وحده وهو غاية الغايات فيه يبحث وينظر ويتصفح ويجمع من هنا ويأخذ من ثم ويعترض ويصحح ويأتيك بالمقالة يحسب فيها كل شيء وما فيها إلا أشياؤه هو وأمثاله. أما الذهن العبقري فليس له من المعاني إلا مادة عمل فلا تكاد تلابسه حتى تتحول فيه وتنمو وتتنوع وتتساقط له أشكالًا وصورًا في مثل خطرات البرق، وربما غمر بالمعنى الواحد في جماله وسموه وقوة تأثيره مقالات عدة لأولئك الأذكياء فنسخها نسخًا وجعلها منه كالشموع الموقدة بإزاء الشمس. فإذا ذهبت توازن بين مثل هذا المعنى ومثل هذه المقالات في الروعة

والجلال ورأيت عربدة المقالة وغرورها لم تستطع إلا أن تقول لها: يا حصاة الميزان في إحدى كفتيه ألا يكفيك الجبل في الكفة الأخرى ... ؟ وقد عرف الأدباء جميعًا أن كاتب فرنسا العظيم أناتول فرانس كان يكتب الجملة، ثم ينقحها، ثم يهذبها، ثم يعيدها، ثم يرجع فيها، وهكذا خمس مرات إلى ثمان ويقدم ويؤخر من موضع إلى موضع ويحتسبون هذا تحكيكًا وتهذيبًا، وما هو منها في شيء ولا أحسب الأوروبيين أنفسهم تنبهوا إلى سر هذه الطريقة، وإنما سرها من جهاز التوليد في رأس ذلك الكاتب العظيم فإذا قرأ كتابة حولها فكرة وأبدع له منها من غير أن يعمل في ذلك أو يتكلف له إلا ما يتكلف من يهز إليه بجذع الشجرة؛ لتساقط عليه ثمرًا ناضجًا حلوًا جنيًّا، فكلما قرأ ولد ذهنه فيثبت ما يأتيه فلا تزال صورة تخرج من صورة حتى يجيء المعنى في النهاية وإنه لأغرب الغرائب لا يكاد العقل يهتدي إلى طريقته وسياق الفكر فيه إذ كان لم يأت إلا محولًا عن وجهه مرات لا مرة واحدة. فجهاز التوليد متى استمر واستحكم في إنسان أصبح له بمقام ملك الوحي من النبي وهو عندنا دليل من أقوى الأدلة على صحة النبوة وحدوث الوحي وإمكانه؛ إذ لا تتصرف به إلا قوة غيبية لا عمل للإنسان فيها، بل هي تبدع إبداعها وتلقى عليه إلقاء. وليس كل من تعرض لها أدرك منها، ولا كل من أدرك منها بلغ بها، بل لا بد لها من الجهاز العصبي المحكم كجهاز اللاسلكي الدقيق المصنوع لتلقي أبعد الأمواج الكهربائية وأقواها. وهذه القوة إن أرادت معاني الجمال أخرجت الشاعر وإن أرادت كشف السر عن الأشياء أخرجت الأديب وإن أرادت حقائق الوجود أخرجت الحكيم. فإن كان الآمر أكبر من هذا كله وكان أمر تغيير الحياة وصب أزمان جديدة للإنسانية والوثوب بهذه الدنيا درجة أو درجات في الرقي فهنا تكون الوسيلة أكبر من البصيرة، فليس لها من قوة الغيب إلا الوحي، ويكون الغرض أكبر من الشاعر والأديب والحكيم، فلا يختار إلا النبي ثم لا يوحى إليه إلا وهو في حس لساعة الوحي وحدها، وهي ساعة ليست من الزمن بل من الروح المنصرف عن الزمن وما فيه؛ ليتلقى عن روح الخلد؛ وقريب من ذلك خلوة النابغة بنفسه في ساعة التوليد؛ فسر النبوغ من سر الوحي، لا ريب في ذلك، وما أسهل سر الوحي وأيسر أمره، ولكن في الأنبياء وحدهم، وهنا كل الصعوبة ... "أن نكون أو لا نكون؛ هذه هي المسألة".

نقد الشعر وفلسفته

نقد الشعر وفلسفته 1: الشاعر في رأينا هو ذاك الذي يرى الطبيعة كلها بعينين لهما عشق خاص وفيهما غزل على حدة، وقد خلقتا مهيأتين بمجموعة النفس العصبية لرؤية السحر الذي لا يرى إلا بهما، بل الذي لا وجود له في الطبيعة الحية لولا عينا الشاعر، كما لا وجود له في الجمال الحي لولا عينا العاشق. فإذا كان الشاعر العظيم أعمى كهوميروس وملتون وبشار والمعري وأضرابهم، انبعث البصر الشعري من وراء كل حاسة فيه، وأبصر من خواطره المنبثة في كل معنى، فأدى بالنفس في الوجود المظلم أكثر ما كان يؤديه بهذه النفس في الوجود المضيء، وقصر عن المبصرين في معانٍ وأربى عليهم في معانٍ أخرى، فيجتمع الشعر من هؤلاء وأولئك مد النفس الملهمة مما بين أطراف النور إلى أغوار الظلمة. والشعر في أسرار الأشياء لا في الأشياء ذاتها، ولهذا تمتاز قريحة الشاعر بقدرتها على خلق الألوان النفسية التي تصبغ كل شيء وتلونه لإظهار حقائقه ودقائقه حتى يجري مجراه في النفس ويجوز مجازه فيها؛ فكل شيء تعاوره الناس من أشياء هذه الدنيا فهو إنما يعطيهم مادته في هيئته الصامتة، حتى إذا انتهى الشاعر أعطاه هذه المادة في صورتها المتكلمة، فأبانت عن نفسها في شعره الجميل بخصائص ودقائق لم يكن يراها الناس كأنها ليست فيها. فبالشعر تتكلم الطبيعة في النفس وتتكلم النفس للحقيقة وتأتي الحقيقة في أظرف أشكالها وأجمل معارضها، أي في البيان الذي تصنعه هذه النفس الملهمة حين تتلقى النور من كل ما حولها وتعكسه في صناعة نورانية متموجة بالألوان في المعاني والكلمات والأنغام. والإنسان من الناس يعيش في عمر واحد، ولكن الشاعر يبدو كأنه في أعمار

_ 1 مجلة أبوللو: مايو سنة 1932.

كثيرة من عواطفه، وكأنما ينطوي على نفوس مختلفة تجمع الإنسانية من أطرافها، وبذلك خلق ليفيض من هذه الحياة على الدنيا، كأنما هو نبع إنساني للإحساس يغترف الناس منه ليزيد كل إنسان معاني وجوده المحدود ما دام هذا الوجود لا يزيد في مدته، ثم ليرهف الإنسان بذلك أعصابه فتدرك شيئًا مما فوق المحسوس، وتكننه طرفًا من أطراف الحقيقة الخالدة التي تتسع بالنفس وتخرجها من حود الضرورات الضيقة التي تعيش فيها لتصلها بلذات المعاني الحرة الجميلة الكاملة؛ وكأن الشعر لم يجئ في أوزان إلا ليحمل فيها نفس قارئه إلى تلك اللذات على اهتزازات النغم؛ وما يطرب الشعر إلا إذا أحسسته كأنما أخذ النفس لحظة وردها. والشاعر الحقيق بهذا الاسم -أي الذي يغل بعلى الشعر ويفتتح معانيه ويهتدي إلى أسراره ويأخذ بغاية الصنعة فيه- تراه يضع نفسه في مكان ما يعانيه من الأشياء وما يتعاطى وصفه منها، ثم يفكر بعقله على أن عقل هذا الشيء مضافًا إليه الإنسانية العالية، وبهذا تنطوي نفسه على الوجود فتخرج الأشياء في خلقة جميلة من معانيها وتصبح هذه النفس خليقة أخرى لكل معنى داخلها أو اتصل بها؛ ومن ثم فلا ريب أن نفس الشاعر العظيم تكاد تكون حاسة من حواس الكون. ولو سئلت أزمان الدنيا كيف فهم أهلها معاني الحياة السامية وكيف رأوها في آثار الألوهية عليها، لقدم كل جيل في الجواب على ذلك معاني الدين ومعاني الشعر. وليست الفكرة شعرًا إذا جاءت كما هي في العلم والمعرفة، فهي في ذلك علم وفلسفة، وإنما الشعر في تصوير خصائص الجمال الكامنة في هذه الفكرة على دقة ولطافة كما تتحول في ذهن الشاعر الذي يلونها بعمل نفسه فيها ويتناولها من ناحية أسرارها. فالأفكار مما تعانيه الأذهان كلها ويتواطأ فيه قلب كل إنسان ولسانه، بيد أن فن الشاعر هو فن خصائصها الجميلة المؤثرة، وكأن الخيال الشعري نحلة من النحل تلم بالأشياء لتبدع فيها المادة الحلوة للذوق والشعور، والأشياء باقية بعد كما هي لم يغيرها الخيال، وجاء منها بما لا تحسبه منها؛ وهذه القوة وحدها هي الشاعرية. فالشاعر العظيم لا يرسل الفكرة لإيجاد العلم في نفس قارئها حسب، وإنما هو يصنعها ويحذر الكلام فيها بعضه على بعض، ويتصرف بها ذلك التصرف ليوجد بها العلم والذوق معًا؛ وعبقرية الأدب لا تكون في تقرير الأفكار تقريرًا علميًّا بحتًا، ولكن في إرسالها على وجه من التسديد لا يكون بينه وبين أن يقرها في مكانها من النفس الإنسانية حائل. وكثيرًا ما تكون الأفكار الأدبية العالية التي

يلهمها أفذاذ الشعر والكتاب هي أفكار عقل التاريخ الإنساني، فلا تنفصل عنهم الفكرة في أسلوبها البياني الجميل حتى تتخذ وضعها التاريخي في الدنيا، وتقوم على أساسها في أعمال الناس، فتتحقق في الوجود ويعمل بها؛ وهذا طرف مما بين الأدب العالي وبين الأديان من المشابهة. ومتى نزلت الحقائق في الشعر وجب أن تكون موزونة في شكلها كوزنه، فلا تأتي على سردها ولا تؤخذ هونًا كالكلام بلا عمل ولا صناعة، فإنها إن لم يجعل لها الشاعر جمالًا ونسقًا من البيان يكون لها شبيهًا بالوزن، ويضع فيها روحًا موسيقية بحيث يجيء الشعر بها وله وزنان في شكله وروحه -فتلك حقائق مكسورة تلوح في الذوق كالنظم الذي دخلته العلل فجاء مختلًا قد زاغ أو فسد. والخيال هو الوزن الشعري للحقيقة المرسلة، وتخيل الشاعر إنما هو إلقاء النور في طبيعة المعنى ليشف به، فهو بهذا يرفع الطبيعة درجة إنسانية، ويرفع الإنسانية درجة سماوية؛ وكل بدائع العلماء والمخترعين هي منه بهذا المعنى، فهو في أصله ذكاء العلم، ثم يسمو فيكون هو بصيرة الفلسفة، ثم يزيد سموه فيكون روح الشعر؛ وإذا قلبت هذا النسق فانحدرت به نازلًا كما صعدت به، حصل معك أن الخيال روح الشعر، ثم ينحط شيئًا فيكون بصيرة الفلسفة، ثم يزيد انحطاطًا فيكون ذكاء العلم، فالشاعر كما ترى هو الأول إن ارتقت الدنيا، وهو الأول إن انحطت الدنيا؛ وكأنما إنسانية الإنسان تبدأ منه. إذا قررنا للشعر هذا المعنى وعرفنا أنه فن النفس الكبيرة الحساسة الملهمة حين تتناول الوجود من فوق وجوده في لطف روحاني ظاهر في المعنى واللغة والأداء -وجب أن نعتبر نقد الشعر باعتبار مما قررناه، وأن نقيمه على هذه الأصول؛ فإن النقد الأدبي في أيامنا هذه -وخاصة نقد الشعر- أصبح أكثره ما لا قيمة له، وساء التصرف به، ووقع الخلط فيه، وتناوله أكثر أهله بعلم ناقص، وطبع ضعيف، وذوق فاسد، وطمع فيه من لا يحصل مذهبًا صحيحًا، ولا يتجه لرأي جيد، حتى جاء كلامهم وإن في اللغو والتخليط ما هو خير منه وأخف محملًا، فإنك من هذين في حقيقة مكشوفة تعرفها تخليطًا ولغوًا، ولكنك من نقد أولئك في أدب مزور ودعوى فارغة وزوائد من الفضول والتعسف يتزيدون بها للنفخ والصولة وإيهام الناس أن الكاتب لا يرى أحدًا إلا هو تحت قدرته ... على أن جهد عمله إذا فتشته واعتبرت عليه ما يخلط فيه، أنه يكتب حيث يريد النقد أن يحقق، ويملأ فراغًا من الورق حيث يقتضيه البحث أن يملأ فراغًا من المعرفة.

وقد قلنا في كتابنا "تحت راية القرآن": إن أستاذ الآداب يجب أن يجمع إلى الإحاطة بتاريخها وتقصي موادها ذوقًا فنيًا مهذبًا مصقولًا، وليس يمكن أن يأتي له هذا الذوق إلا من إيداع في صناعتي الشعر والنثر، ثم يجمع إلى هذين: "أي الإحاطة والذوق" تلك الموهبة الغريبة التي تلف بين العلم والفكر والمخيلة فتبدع من المؤرخ الفيلسوف الشاعر العالم شخصًا من هؤلاء جميعًا هو الذي نسميه الناقد الأدبي. هذه هي صفات الناقد في رأينا؛ فانظر أين تجده بين هؤلاء الأساتذة المختصرين ... في أدبهم، المطولين ... في ألقابهم، وإنهم ليتعاطون النقد وليس لهم وسائله إلا ما كان ضعفة وقلة وإدبارًا، وقد فاتهم ما لا تحمله أقدارهم ولا تبلغه قواهم، وجهلوا أن الناقد الأدبي إنما يلقي درسًا عاليًا لا يدل فيه على العيوب الفنية إلا بإظهار المحاسن التي تقابلها في أسمى ما انتهى إليه الفن من آثار تاريخه، فيكون النقد تهذيبًا وتخليصًا لفنون الأدب كلها؛ وهو بهذه الطريقة يجلوها على الناس ويبدع فيها ويزيد في مادتها ويسهلها على القراء ويحصلها لهم تحصيلًا لا يبلغونه بأنفسهم، ويعطيهم من كل ضعيف ما هو قوي، ومن كل قوي ما هو أقوى. ورأيناهم في نقد الشعر لا يزيدون على أن يعلقوا على كلام الشاعر، فيجيء عملهم في الجملة كأنه تصنيف من هذا الشعر وشرح له وتصفح على بعض معانيه؛ وبهذا يرجع الشاعر وإنه هو المتصرف في ناقده يديره كيف شاء، ويجيء هذا الناقد زائدًا متطفلًا، فتأتي كتابته وإنها لضرب من سخرية المنقود بناقده، ويصبح وضع الكلام على العكس، فالشاعر المنقود لم يتكلم ولكنه أبان قصور الناقد وجهله، فهو الناقد وإن سكت، وذاك هو المنقود وإن تكلم. وهذا المتعلق على أخبار الشاعر وشعره كتعلق التلخيص على أصله المطول والشرح على متنه الموجز، إنما هو كاتب يجد من ذلك مادة إنشائية فيتصرف بها ليكتب؛ ولا يراد من النقد أن يكون الشاعر وشعره مادة إنشاء، بل مادة حساب مقدر بحقائق معينة لا بد منها؛ فنقد الشعر هو في الحقيقة علم حساب الشعر، وقواعده الأربع التي تقابل الجمع والطرح والضرب والقسمة: هي الاطلاع والذوق والخيال والقريحة الملهمة. وثم ضرب آخر من تعلق الضعفاء، يتناول الشاعر باعتباره رجلًا له موضعه من الناس ومنزلة من الحياة، ثم لا يعدو ذلك* وهو تزوير للمؤرخ بجعله ناقدًا،

_ * لم نذكر في هذه المقالة أمثلة ولم نعين أسماء حتى لا يمتد الكلام فتخرج المقالة إلى أن تكون كتابا، ولكنك إذا قرأت الشعر وما يكتب في نقده، والمحاضرات التي تلقى عن الشعراء فقد وجدت الأمثلة والأسماء.

وتزوير للناقد برده مؤرخًا؛ على أن هذا لا بد منه منه في النقد الصحيح، ولكنه لا يقوم بنفسه ولا تنفذ به بصيرة النقد؛ إذ الشاعر لم يكن شاعرًا بأنه رجل من الناس وحي في الأحياء وعمر من الحوادث المؤرخة، ولكن بموضوعه من أسرار الحياة وصلة نفسها بها وقدرة هذه النفس على أن تنفذ إلى حقائق الطبيعة في كائناتها عامة، وفي إنسانها خاصة، ثم بقدرة مثل هذه في النفاذ إلى أسرار اللغة الشعرية التي هي الوجود المعنوي لكل ذلك، والتصرف بها على طبقات معانيه حتى لا تقصر عن الغاية ولا تقع دون القصد، فإن الشعر إن هو إلا ظهور عظمة النفس الشاعرة بمظهرها اللغوي، ولئن كان في نقد الشعر تاريخ لا يتم النقد إلا به، فهو تاريخ الشعر في نفس قائله، ثم تاريخ هذه النفس في معاني الشعر من عصرها، ثم أدب هذا الشاعر من الوجود الأدبي للغة التي نظم بها؛ وذلك لا بد أن يقع فيه تاريخ الشاعر نفسه محصلًا من نواحيه في جهات الحياة، متعمقًا فيه بالاستقصاء، متغلغلًا إليه بالنقد ... وإن لنا رأيًا بسطناه مرارًا، وهو أنه لا ينبغي أن يعرض لنقد الشاعر والكلام عنه إلا شاعر كبير يكون ذا طبيعة في النقد، أو كاتب عظيم يكون ذا طبيعة في الشعر؛ أي لا بد من الأدب والشعر معًا لنقد الشعر وحده فيأتي الكلام فيه من العلم والذوق والإحساس والإلهام جميعًا، فيتبين الناقد وجوه النقص الفني، ويعرف بما نقصت وماذا كان ينبغي لها وما وجه تمامها، ثم يعرف من الكمال الفني مثل ذلك، ويحس على الحالتين بالمعاني التي أحسها الشاعر حين انتزع شعره منها، وما كان يتخالجه وقتئذ من الفكر ويتمثل له من الصور المعنوية التي ألهمته إلهامها؛ فإن المعاني المكتوبة هي شعر الشاعر، ولكن تلك المعاني المحسوسة هي شعر الشعر، وإنما يوقف عليها بالتوهم والاسترسال إلى ما وراء الطبيعة من بواعثه، وما تموجت به روح الشاعر عند عمله، وما عرضت لها به طبائع المعاني؛ وهذا كله لا يحسه الناقد إن لم يكن شاعرًا في قوة ما ينقده أو أقوى منه طبيعة شعر. والنقد إنما هو إعطاء الكلام لسانًا يتكلم به عن نفسه كلام منهم في محكمة؛ ليقيم أو يزيح شبهة أو يقر حقيقة أو يبسط معنى أو يوجه علة أو يكشف خافيًا أو

يثبت نقيصة أو يظهر إحسانًا؛ وبالجملة فهو نقص السيئة والحسنة، ووقوع أدلة العلم والفن والذوق مواقعها، وتكلم الكلام بذات نفسه ما تنكر منه وما تستجيد؛ والشاعر. والناقد يلتقيان جميعًا في القارئ فوجب من ثم أن يكون الناقد قوة تكشف قوة مثلها أو دونها؛ ليصحح فن فنًّا مثله أو يقره أو يزيد عليه فضل بيان ومزية فكر؛ وبهذا يصبح القارئ كالسائح الذي معه الدليل وأمامه المنظر، أي معه التاريخ الناطق وبإزائه التاريخ الصامت. وإذا كان الشاعر وشعره إنما هما النفس الممتازة وحوادثها ومعاني الحياة فيها، فليس يتجه أن يكون الناقد تامًا إلا بنفس من نوعها في دقة الحس ولطف النظر والاستشفاف وقوة التأثر بمعاني الحياة وسمو الإلهام والعبقرية، وبذلك يجيء النقد الصحيح بيانًا خالصًا منخولًا كأنه شرح نفس لنفس مثلها. وليس الأنف هو الذي ينقد الوردة العطرة الفياحة، وإنما تنقدها الحاسة التي في الأنف، وناقد الشعر إن لم يكن شاعرًا فهو أنف صحيح التركيب، ولكن بالجلد والعظم دون تلك الحاسة التي هي روح العصب المنبث في هذا التركيب والمتصل بما وراءه من أعصاب الدماغ، فهذا الأنف ... يستطيع أن يتناول الوردة، ولكن يحس غليظ محقته الآفة كما يتناول حجرًا أو حديدًا أو خشبًا أيها كان، فالوردة عنده شيء من الأشياء يمتاز باللين ويختص بالنعومة ويسطع بالرونق ويزهو باللون، ويذهب يتكلم في هذا كله، وهذا كله في الوردة، ولكنه ليس الوردة. ومتى كان البحث هو البحث في السماء وأفلاكها وأجرامها فلا يستقل به إلا الناظر المركب أي الذي معه عينه وتلسكوبه وعلمه جميعًا، إن نقص من ذلك فبقدر نقصانه يكون ضعفه، وإن تم فبقدر تمامه يكون وفاؤه؛ ولو أمكن أن ينفصل الشاعر من شعره فيقطع ما بينه وبين المعاني من نسبه نفسه، ويبتعد عن الشعر ليراه جديدًا عليه ويميزه من كل جهاته -لكان هو الناقد؛ فناقد الشعر هو الشاعر نفسه، ولكن في وضع أتم وأوفى، وحالة أبين وأبصر، أي كأنه الشاعر نفسه منقحًا تامًا بغير ضعف ولا نقص. ومن أجل ذلك ترى من آية النقد البديع المحكم إذا قرأته ما يخيل إليك أن الشعر يعرض نفسه عليك عرضًا ويحصل لك أمره ويبين حالته في ذهن شاعره. وكيف توافى وائتلف، وكيف انتزعه الشاعر من الحياة، وما وقع فيه من قدر الإلهام، وما أصابه من تأثير الإنسان وما اتفق من خظ الطبيعة والأشياء، وبالجملة يورد النقد عليك ما ترى معه كأن حركة الدم والأعصاب قد عادت مرة أخرى إلى الشعر.

ألا وإن شعرنا العربي الجميل قد أصبح اليوم في أشد الحاجة إلى من يعلم القارئ كيف يذوقه ويتبينه ويخلص إلى سر التأثير فيه، ويخرجه مخرجًا سريًّا في أنغامه وألحانه ويأتي به من نفس شاعره ومن نفسه جميعًا؛ فقوة التمييز في هذا كله على تسديد وصواب هي التي يعطيها الناقد لقرائه؛ والشعر فكر وقراءته فكر آخر، فإن قصر هذا عن أن يبلغ ذاك ليتصل به ويتغلغل فيه فلابد للمفكرين من صلة فكرية هي كتابة الناقد الذي هو من ناحية كمال للطبيعة الناقصة، ومن ناحية أخرى شرح للطبيعة الكاملة، ومن ناحية ثالثة هو بذوقه وفنه قانون الانتظام الدقيق الذي يبين به ما استقام في الكلام وما اعوجَّ. وطريقتنا نحن في نقد الشعر تقوم على ركنين: البحث في موهبة الشاعر، وهذا يتناول نفسه وإلهامه وحوادثه؛ والبحث في فنه البياني، وهو يتناول ألفاظه وسبكه وطريقته، وسنقول فيهما معًا: فأما الكلام في فن الشعر، فالمراد بالشعر -أي نظم الكلام- هو في رأينا التأثير في النفس لا غير، والفن كله إنما هو هذا التأثير، والاحتيال على رجة النفس له واهتزازها بألفاظ الشعر ووزنه وإدارة معانيه وطريقة تأديتها إلى النفس، وتأليف مادة الشعور من كل ذلك تأليفًا متلائمًا مستويًا في نسجه لا يقع فيه تفاوت ولا اختلال، ولا يحمل عليه تعسف ولا استكره؛ فيأتي الشعر من دقته وتركيبه الحي ونسقه الطبيعي كأنما يقرع به على القلب الإنساني ليفتح لمعانيه إلى الروح؛ والشعر العربي إذا تمت له في صناعته وسائل التأثير وأحكم من كل جهاته، كان أسمى شعر إنساني فتراه يطرد بألفاظه الجميلة السائغة وكأنه لا يحمل فيها معاني، بل يحمل حركات عصبية ليس بينها وبين أن تنساب في الدم حائل، فما يكون إلا أن يغمرك بالطرب ويهزك من أعماق النفس ويورد عليك في نفحة الروح ما إن تدبرته في نفسك وأفصحت عنه شعورك رأيته في حقيقته وجهًا من نسيان الحياة الأرضية والانتقال إلى حياة أخرى من السرور والاهتياج والألم والشجو يحياها الدم التأثر وحده غير مشارك فيها إلا من القلب. والذين يجهلون ذلك من أمر الشعر العربي في مزاجه الخاص -فلا يعتبرونه حيًا ذا طباع وخصائص لابد من مراعاتها والنزول على حكمها والتلقي بما يوافقها كما لا بد من أشباه ذلك لامرأة جميلة -تراهم يخلون بقوانين صناعته البيانية وينزلون ألفاظه دون منازلها ويرسلون معانيه على غير طريقتها الشعرية ويبتلونه بفضول كثيرة هي كالآفات والأمراض، فيأتون بنظم تقرؤه إذا قرأته وأنت تتلوى

كأنما يقرع على قلبك بقبضة يد عليه بحجر ... وقد فشا هذا النوع من الشعر في هذه الأيام وأصبح لما فسد من ذوق الأدب وما التاث من أمر اللغة وما اعوج من طرق الفلسفة وما عمت به البلوى من التقليد الأوروبي، وكثيرًا ما رأيت القصيدة من هذا الشعر كامرأة سلخ وجهها ووضعت لها جلدة وجه ميت ... والناظم من هؤلاء لا يصرف الشعر على حدوده النفسية ولا يحكمه فيها، بل تصرفه الألفاظ كيف اتفقت له على وجوهها الملتوية، وتسوسه المعاني سياسة عمياء فقدت باصرتيها معًا، ويحسبون كلامهم من النور العقلي، ولكنه النور في قطعه ثمانين ألف ميل في الثانية، فلا يكاد يقال في هذا العالم، حتى يخرج منه وينسى ويلحق باللانهاية ... وهذا الضرب من الصناعة الفاسدة هو بعينه ذلك النوع الصناعي الذي أفسد الشعر منذ القرن الخامس، غير أن القديم كان فسادًا في الألفاظ يجعلها كلها أو أكثرها محالًا من الصنعة، والحديث جاء فسادًا في المعاني يجعلها كلها أو أكثرها محالًا من البيان. ويزعم أصحاب هذا الشعر أنهم فلاسفة، ولكنهم كذلك في سرقة الفلاسفة لا غير ... ولو علموا لعلموا أن ألفاظ الشعر هي ألفاظ من الكلام يضع الشعر فيها الكلام والموسيقى معًا، فتخرج بذلك من طبيعة اللغة القائمة على تأدية المعنى بالدلالة وحدها إلى طبيعة لغة خاصة أرقى منها تؤدي المعنى بالدلالة والنغم والذوق، فكل كلمة في الشعر تجتلب لمعناها من تركيبه، ثم لموضعها من نسقه، ثم لجرسها في ألحانه؛ وذلك كله هو الذي يجعل للكلمة لونها المعنوي في جملة التصوير بالشعر؛ وما يمر الشاعر العظيم بلفظة من اللغة إلا وهي كأنها تكلمه تقول: دعني أو خذني. وكما أنه لا بد للأزهار من جو الأشعة، كذلك لابد للمعاني الشعرية من جو اللغة البيانية، فالبيان إنما هو أشعة معاني القصيدة؛ وقد يحسبون أن الصناعة البيانية صناعة متكلفة لا شأن لها في جمال الشعر ودقة التعبير، وما ننكر أن من البيان الجميل أشياء متكلفة، ولكنها تنزل من أساليب البلاغة العالمية منزلة كمنزلة الظرف والدل والخلاعة في الحبيبة الجميلة. إن هذه الفنون ليست من جمال الخلقة والتركيب في المرأة، ولكنها متى ظهرت في الجمال الفاتن أصبح بدونها -وهو جميل دائمًا- كأنه غير جميل أحيانًا. هنا صناعة هي روح الحسن في الحياة، وصناعة مثلها هي روح الحسن

أحيانًا في البلاغة*، وما التراكيب البيانية في مواضعها من الشعر الحي إلا كالملامح والتقاسيم في مواضعها من الجمال الحي؛ وكثيرًا ما يخيل إلي حين أتأمل بلاغة اللفظ الرشيق إلى جانب لفظ جميل في شعر محكم السبك، أن هذه الكلمة من هذه الكلمة كحب رجل متألق يتقرب من حب امرأة جميلة، وعطف أمومة على طفولة، وحنين عاطفة لعاطفة، إلى أشباه ونظائر من هذا النسق الرقيق الحساس؛ فإذا قرأت في شعر أصحابنا أولئك رأيت من لفظ كالشرطي أخذ بتلابيب لفظ كالمجرم ... إلى كلمتين هما معًا كالضارب والمضروب ... إلى همج ورعاع وهرج ومرج وهيج وفتنة؛ أما القافية فكثيرًا ما تكون في شعرهم لفظًا ملاكمًا ... ليس أمامه إلا رأس القارئ. وكما يهملون اختيار اللفظ والقافية يتسهلون في اختيار الوزن الملائم لموسيقية الموضوع فإن من الأوزان ما يستمر في غرض من المعاني ولا يستمر في غيره؛ كما أن من القوافي ما يطرد في موضوع ولا يطرد في سواه، وإنما الوزن من الكلام كزيادة اللحن على الصوت: يراد منه إضافة صناعة من طرب النفس إلى صناعة الفكر، فالذين يهملون كل ذلك لا يدركون شيئًا من فلسفة الشعر ولا يعلمون أنهم إنما يفسدون أقوى الطبيعتين في صناعته؛ إذ المعنى قد يأتي نثرًا فلا ينقصه ذلك عن الشعر من حيث هو معنى، بل ربما زاده النثر إحكامًا وتفصيلًا وقوة بما يتهيأ فيه من البسط والشرح والتسلسل، ولكنه في الشعر يأتي غناء، وهذا ما لا يستطيعه النثر بحال من الأحوال. فإذا لم يستطع الشاعر أن يأتي في نظمه بالروي المونق والنسج المتلائم والحبك المستوي والمعاني الجيدة التي تخلص إلى النفس خلوص طبيعة إلى طبيعة تمازجها، ورأيته يأتي بالشعر الجافي الغليظ والألفاظ المستوخمة الرديئة والقافية القلقة النافرة والمجازات المتفاوتة المضطربة والاستعارات البعيدة الممسوخة -فاعلم أنه رجل قد باعده الله من الشعر وابتلاه مع ذلك بزيغ الطبيعة وسرف التقليد، فما يجيء الشعر على لسانه في بيت إلا بعد أن يجيء اللغو على لسانه في مائة بيت أو أكثر أو أقل. ذلك قولنا في فن الشاعر، أما الكلام في موهبته التي بها صار شاعرًا وعلى

_ 1 لنا كلام طويل في فلسفة الأسلوب البياني سنذكره إن شاء الله في كتابنا الجديد "أسرار الإعجاز". [قلت: واقرأ حديثنا عن "أسرار الإعجاز" في كتاب "حياة الرافعي" ص 289] .

مقدارها يكون مقداره واتصال أسبابه أو انقطاعها من الشعر، فذلك باب لا يمكن بسط المعنى فيه ولا تحصيل دقائقه إلا إذا صورت روح الشاعر الدقيق المعجز ووزنت في ميزانها الإلهي وعرف نقصها إن نقصت وتمامها إن تمت، وأمكن تتبع مواقعها من أسرار الأشياء ومساقطها من منازل الإلهام، وهذا ما لا سبيل إليه إلا بالتوهم النفسي، فإن الأرواح القوية يلمح بعضها بعضًا، وقد تكون لمحة الروح الشاعرة لروح مثلها هي تدبرها ووزنها وإدراك ما تنطوي عليه كما ترى من وضع النور بإزاء النور، فإن هذا الوضع هو نفسه وزن لكليهما في ميزان البصر دون أن يكون ثمة موازنة إلا في التألق والشعاع؛ فهما في هذه الحالة نوران يضيئان، ولكنهما أيضًا كلمتان يبينان عما فيهما من الأكثر والأقل. لهذا قلنا: إن الشاعر لا يستع لنقده ولايحيط به إلا من كانت له روح شعرية تكافئه في وزنها أو تربى على مقداره؛ فإن هناك قوى روحية لإدراك الجمال وخلقه في الأشياء خلقًا هو روح الشعر وروح فنه، وقوى أخرى لصلة العواطف بالفكر صلة هي سر الشعر وسر فنه، وقوى غير هذه وتلك لتحويل ما يخالج النفس الشاعرة تحويل المبالغة التي هي قوة الشعر وقوة فنه؛ وبمجموع هذه القوى كلها تمتاز روح الشاعر من غير الشاعر: أما ما تمتاز به هذه الروح من روح شاعرة مثلها فهو ما يكون من تفاوت المقادير التي يهبها الله وحده، فيخص شاعرًا بالزيادة وآخر بالنقص، ويهب أسبابها التي تكون عنها فيوسع لواحد ويضيق على الآخر؛ وإذا تمت تلك القوى واستحكمت تهيأ منها للشاعر جهاز عصبي خالص هو جهاز التوليد لا يمر به معنى إلا تجسد فيه بصورة غير صورته. وقد استوفينا الكلام على ذلك في مقالنا "سر النبوغ في الأدب". وهو لا غير سر العبقرية. فأمثل الطرق في نقد موهبة الشاعر إدراكها بالروح الشعرية القوية من ناحية إحساسها والنفاذ إلى بصيرتها، واكتناه مقادير الإلهام فيها، وتأمل آثارها في الفرح والحزن بأشجى وأرق ما تهتاج في النفس الحساسة، ومعرفة قوة التحويل في عواطفها للمعاني الإنسانية والطبيعة تحويلًا يجعل القوة أقوى مما تبلغ، والحقيقة أكبر مما تظهر، وتأتي بكل شيء ومعه شيء؛ وليس ينتهي الناقد إلى ذلك إلا بالبحث في الأغراض أي "المواضيع" التي نظم فيها الشاعر وما يصله بها من أمور عيشه وأحوال زمنه وكيف تناولها من ناحيته ومن ناحيتها وماذا أبدع، ثم في أي

المنازل يقع شعره من شعر غيره في تاريخ لغته وآدابه، ثم نظرته الفلسفية إلى الحياة ومسائلها واتساعه لأفراحها وآلامها وقوة أمواجه الروحية في هذا البحر الإنساني الرجاف المتضرب الذي يبلغ في نفوس بعض الشعراء أن يكون كالأقيانوس وفي بعضها أن يكون كالمستنقع ... ثم دقة فهمه عن وحي الطبيعة والإشراف على جلية معناها بالهمسة واللمسة، وتسقط إلهام الغيب منها بالإيماءة واللحظة؛ وهذا كله لا يستوسق للناقد العظيم إلا إذا كان مع روحه الشعرية التي اختص بها محيطًا بآثار الشعراء في لغته، بصيرًا بمآخذها؛ محكمًا لأسباب الموازنة بينها، متصرفًا مع ذلك بأداة قوية من صناعة اللغة والبيان وفنون الأدب. وإذا كان من نقد الشعر علم فهو علم تشريح الأفكار، وإذا كان منه فن فهو فن درس العاطفة، وإذا كان منه صناعة فهي صناعة إظهار الجمال البياني في اللغة ...

فيلسوف وفلاسفة

فيلسوف وفلاسفة 1: أتأمل الآن هذا القلم في يدي -وأنا أفكر فيما سأكتبه للزهراء- فأرى نصاب القلم أضلاعًا حمرًا في لون المرجان، تنسرح قليلًا، ثم تستدير، ثم تستدق، ثم تخرج منها قادمة سوداء كأنها قصبة ريشة من جناح، وقد خيل إلي أن هذا اللون الأحمر المزهو يقول للأسود: إنما أنت غلطة الذي صنعني، فكيف ألهم في الإلهام فوسمني بهذا الميسم من حسن ولون وتركيب، ثم اعترضته الغفلة فيك فأخطأ، وأدركه العجز فلم يميز، ودخل على رأيه الوهن فإذا هو يصلك بي كالسيئة بعد الحسنة، وينزلك مني منزلة القبح من الجمال! فأين كانت صحة رأيه التي بلغ بها في أحسن ما وفق إليه حين بلغ فيك أسوأ ما يمكن أن يصنع؟ فيقول الأسود؛ إنما فيك أنت غلطة الصانع وبك أخطأ جهة الفن، فلم يزن منك ما كان وزن مني، ولا قدر لك مثل ما قد لي، وجئت غليظًا غير مقدود، وكنت إلى العرض ولم تكن إلى الطول، وكنت أحمر ولم تكن أسود؛ وما أراك إلا فاسد الحس، متغير الذوق، وما أراك صنعك هذا الرجل إلا في ساعة هم قاربت بين نفسه ورأيه، فما زجت بين رأيه وعمله، فجمعت بين عمله وغلطه. ذلك منطق اللونين فيما أدركت منهما، وكلاهما مخطئ في جهة ما هو مستدل به أو متنظر فيه؛ والحقيقة من ورائهما، إذ الحكمة ليست في أحدهما لحمزة أو سواد، بل هي في اثنيهما جميعًا لائتلافهما جميعًا، فلا تنقسم عليهما قسمة ما؛ لأنها آتية بالمقابلة بين اثنيهما، وما لا يخرج أبدًا إلا من اثنين فهو أبدًا واحد لا نصف له؛ كالطفل من أبويه: لن تعرف شطره من أمه لأنك لن تعرف شطره من أبيه. أفي الأرض كلها من يستطيع أن يقسم طفلًا واحدًا فيجعله طفلين تعتدل بهما الحياة وتمدهما بروحين من روح واحدة؟ إنك لن تجد هذا الخالق الأرضي ... إلا في طائفتين: الأولى قوم من ذاهبي العقول يخلقون كل شيء لأنهم لا يخلقون

_ 1 مجلة الزهراء سنة 1925.

شيئًا؛ والثانية قومن من جبابرة العقول ... تعرف لهم من الخلط وسخف الرأي ما يريدون أن يعلوا به على الناس؛ إذ كان الناس لا يجاوزون الحقائق، فظن هؤلاء أنهم إن جاوزوها وعدوا عليها خرجوا إلى طبقة فوق العقل الإنساني. وللجنون طرفان: أحدهما ألا يعقل المجنون عن الناس، والآخر ألا يعقل الناس عن العاقل: فذلك ذلك وهذا هذا؛ وكأن في رأس كل منهما مضمرة من قوة الخلق تنطوي على محجوبة إلهية، فكل منهما يزيد في الخلق ما يشاء، وكل منهما فوق الطبيعة لأنه من ذوي الأسرار المجهولة التي لا تستبين عندنا من خفائها، ثم لا تخفى عندهم من استبانتها. يضحكني من جبابرة العقول هؤلاء أنهم يرون الدين مرة عادة، وتارة اختراعًا، وحينًا خرفة، وطورًا استبعادًا؛ وكل ذلك لهم رأي، وكل ذلك كانوا يعقدونه بالحجة ويشدونه بالدليل؛ فلما جاء طاغور الشاعر الهندي المتوصف إلى مصر، وجلسوا إليه وسمعوه، خرجوا يتكلمون كأنما كانوا في معبد، وكأنما تنزلت عليهم حقيقته الإلهية، وكأنما اتضعت هذه الدنيا عن المكان الذي جلس فيه الرجل، فلا يعرفونه من الأرض، ولا من هذا العالم؛ بل كانوا في غشية قد فروا لها وسكنوا إليها، وما أراهم صرفوا عن عقولهم ولا صرفت عقولهم عنهم؛ ولكن طاغور شاعر فيلسوف، وهم يعرفون أنفسهم من لصوص كتبه وآرائه، ويقعون منه موقع السفسطة الفارغة من البرهان القائم، وإذا قيسوا إليه كانوا كالذباب تزعم أنفسها نسور المزابل، ولكنها لا تكابر في أن من الهزؤ بها قياسها بنسور الجو. لقد ضربهم طاغور، لا بأنه لمسهم، بل بأنهم لمسوه ... وفضحهم فضيحة اللؤلؤة للزجاج المدعى أنه لؤلؤ، وأظهر لنا تجملهم العقلي كهذه الأصباغ في وجه الشوهاء: تذهب تتصنع ولا تدري أنه إن كان أدهانها وأصباغها روح النقاش ففي وجهها هي معنى الحائط! لقد قرأت كل ما كتبوا عن طاغور ألتمس فيه هذه الحقيقة لأرى كيف يكون جبابرة العقول حين تنكشف عنهم المعاذير وتنزاح العلل وتنهتك الأستار، فإذا هم في كل ما كتبوه لا يحسون إلا هذه الحقيقة، ولا يصفون إلا هذا الحس، فلم يزهم عندنا إلا هذا الوصف؛ لا جرم فكل ما أثنوا به على الشاعر الفيلسوف قرأناه ذمًا لهم، وعرفناه قدحًا فيهم، وأخذناه تهمة عليهم، وكل ما أعظموه من أمره صغر من أمرهم، ولقد جعلواه إنسانًا كأنما تنتهي قمة هذه الدنيا عند قدمه، وتبدأ قدمه من قمة الدنيا، فما عرفنا من ذلك قياسًا لسمو طاغور وارتفاع نفسه، بل

قياسًا لانحطاط أنفسهم وهوان أمرهم وقلة خطرهم؛ فإن الرجل المقلد المخدوع لا يزال يطول في تقليده، ولا يزال يتوعر في الرأي الذي يراه ويعتسف طرق العلم اعتسافًا؛ حتى يرميه الله بأصل من هذه الأصول الإنسانية التي يقلدها؛ فإذا هو مفحم يتقاصر من طول، ويتسهل من وعر، ويهتدي من تعسف، وينحط إلى الوهدة بعد أن كان على الجبل، ويسلم في نفسه، ويذعن برأيه، وينقاد من حيث يأبى ومن حيث لا يأبى، ويصبح وقد غمرته تلك النفس أشبه بالظل مما يرميه ويفيء به؛ فهو مسخ في تمثيله الصورة، وهو كذب عليها بما يطول ويقصر، وهو على كل أحواله إبهام سخيف مظلم لحقيقة شريفة نيرة. وأنت أفلا ترى هذا من جبابرة العقول كتلك الشيمة في أخلاق العامة، إذ لا يصلحون أبدًا إلا أن يكونوا تبعًا، ولا علم لهم إلا ما يربط في صدورهم من فلان وفلان، ثم يعملون بلا تحقيق، ويحملون بلا تمييز، ثم لا تكون نهمة أنفسهم مع الرجل العالم -إذا اجتمعوا به- إلا في التسليم له، واتقاء حقائقه، والنزول عن آرائهم إلى رأيه، والخروج من أنفسهم إلى نفسه! لقد قلنا من قبل: إن جبابرة العقول هؤلاء الذين يأبون إلا أن يكونوا علماءنا وسادتنا؛ ليصرفوا عقولنا ويغيروا عقائدنا ويصلحوا آدابنا ويدخلونا في مساخط الله ويهجموا بنا على محارمه ويركبونا معاصيه- إن هم في أنفسهم إلا عامة وجهلة وحمقى إذا وزنوا بعلماء الأمم وقيسوا إلى حكماء الدنيا، وما يكتبون للأمة في نصيحتها وتعليمها إلا ما يتحول من كلمات وجمل في الصحف والكتب إلى أن يصيروا في الواقع فساقًا وفجرة وملحدين وساخرين ومفسدين؛ فالمصيبة فيهم من ناحية العلم الناقص في وزن المصيبة بهم من ناحية الخلق الفاسد، وهاتان معًا في وزن المصيبة الكبرى التي يجنون بها على الأمة لتهديمها فيما يعلمون، وتجديدها فيما يزعمون.. لم أنخدع قط في هؤلاء من فلاسفة أو دكاترة أو جبابرة، ولست أضع أمرهم إلا على حقه، فإني لأعرف أن الهر من قبيلة الأسد، ولكن أسديته على الفأرية وحدها ... ولعلما عاقبة الجهل خير للأمة من عواقب علمهم وتخبطهم وحماقاتهم فإنهم قوم مقلدون، ولهم طباع معتلة زائغة، وعقول لا مساك لها من دين أو ضمير؛ فما يجنحون إلا إلى بدعة سيئة، أو آفة محذورة، أو فكرة متهمة؛ ولا يعملون إلا ما يشبه الظن بهم، والرأي فيهم؛ من تمدين الأخلاق السافلة وإلحاقها بالعلم أو الفلسفة، مع بقاء العقل صحيحًا يحكم على هذا الخبيث

كما كان يحكم على ذلك الطيب؛ وليس من سبيل إلى هذا إلا من جهة تحويل الأخلاق، فإن هي استمسكت ولم تتحول فيها هنا موضع النزاع ومحل الخلاف، ولا بد من حرب منا كحرب الاستقلال، ثم حرب منهم كحرب الاستعمار ... فالذي بيننا وبينهم ليس القديم والجديد، ولا التأخر والتقدم، ولا الجمود والتحول؛ ولكن أخلاقنا وتجردهم منها، وديننا وإلحادهم فيه، وكمالنا ونقصهم، وتوثقنا وانحلالهم، واعتصامنا بما يمكننا وتراخيهم تراخي الحبل لا يجد ما يشده. والآن انظر إلى قلمي فأرى شطره الأسود ما جعل كذلك إلا ليزيد في جمال حمرته وبريقها، ويكسبها لمعة لا تأتيها إلا من السواد خاصة؛ والشر خير إلا إذا بقي محصورًا في موضعه ولم يتجاوزه؛ فإذا تنبهت الأمة لجبابرة العقول هؤلاء، قلنا لا بأس بالسواد المظلم إذا كانت حكمته حمراء ...

شيطاني وشيطان طاغور

شيطاني وشيطان طاغور ... 1: طاغور هذا شاعر الهند، مر بمصر مرور شمس الشتاء باليوم المطير: لا يقع نورها إلا في القلوب مما تستخف وتستهوي، ومما تمتنع وتتأبى، ومما ترق وتلطف؛ وتنقدح بين السحب الهامية فإذا لها من الجمال والسحر والعجب ما يكون لجمرة تخرجها السماء معجزة للناس فيرونها ترسل الشعاع مرة وتمطر الماء مرة. لم ألق طاغور ولكني أنفذت إليه شطاني وقلت أوصيه قبل أن يخرج لوجهه: قد علمت أن هذا الرجل هندي؛ ولكنه إنسان، فما أرض أولى به من أرض؛ وأنه شاعر، ولكنه مخلوق، فما طبيعة أغلب عليه من طبيعة؛ وأنه حكيم، ولكنه تركيب ما جبلت له طينة غير الطينة؛ وأنه سماوي، غير أنه سماوي كعلماء الفلك: سماؤه في منظار وكتاب وقلم وحبر ... فاذهب إليه فداخل شيطانه، فإنك واجد له من ذلك ما لكل الشعراء، وربما عرفت شيطانه من ذوي قرابتك أو خالصة أهلك، ثم ائتني بكلامه على جهة ما هو مفكر فيه، لا على جهة ما متكلم به؛ وخذ ما يهجس على قلبه، ودع ما يجري في لسانه؛ فإن هذا سيأتي به إخوانك من "مندوبي الصحف" ... واعلم أن كل حكيم مهيئ لمسائل من حوله كلامًا. غير أن معاني من حوله مهيئة له مسائل أخرى يفكر في كل جواب عليها ولا ينطق بجواب عليها. فحدثني شيطاني بعد رجوعه قال: حدثني شيطان طاغور قال: لما هبط طاغور هذا الوادي نظر نظرة في الشمس، ثم قال: أنت هنا وأنت هناك، تقربين بأثر وتبعدين بأثر، وتطلعين بجو وتغربين بجو، فلا تختلفين وتختلف بك الأقاليم، ثم تتغير بالأقاليم الأمم، ثم تتغير بالأفكار والمنازع أغراضها ومصالحها، ثم تتغير بمصالحها وأغرضها الحقائق الإنسانية؛ وإنما الباطل والحق فيما تستقبل هذه الحقائق أو تستدبر، وقد غلبت

_ 1 البلاغ الأسبوعي سنة 1926.

السياسة على كل شيء حتى أصبحت هذه الحقائق الإنسانية جغرافية، لها شعوب ولها مستعمرات؛ فالإخاء في الغرب سيادة في الشرق، والمساواة هناك امتياز هنا، والحرية في مملكة استعباد لمملكة، والتحية في موضع صفعة في موضع والضيافة في مكان استئكال في مكان؛ {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119] فلن يتصل الناس بالروح الأعلى إلا من الجهة الواحدة التي لم تتغير ولن تتغير فيهم، جهة الدموع التي لا تختلف في أسود ولا أحمر، والتي لا تنبعث إلا من الرقة والوجد والأحزان والآلام، وهي بذلك نسب كل قلب إلى كل قلب، فلو غمر العالم كله بلاء واحد لا تحرز منه أرض أهلها ولا تتحاجز الأمم فيه، لاستلب مطامع الناس بعضهم في بعض، وأرجع الإنسانية الزائغة إلى مستقرها، فتجردوا من الدنيا وهم في الدنيا، فاتصلوا باللانهاية وهم في النهاية؛ فإن لم يكن بلاء عام ففكر عام في بلاءٍ يميت الشهوات المتطلقة ويكون كالداء تلبس بالجنس الإنساني كالذي تصفه الأديان من جهنم والمصير إليها والحساب عندها والجزاء على الشر بها، حتى لا تبقى نفس إلا وهي في وثاق من حلالها وحرامها، ولا يبقى شر يتخيل أو يشتهى إلا وهو كالمتاع النفيس بين أربعة جدران تتساقط وتحترق لا يجد في كل اللصوص لصًّا، فإن لم يكن هذا ولا ذاك فالحب العام حتى لا يبقى جيش ولا سلاح ولا سياسة ولا دول، ولا تكون الممالك إلا بيوتًا إنسانية بين الواحدة والكل من الشابكة واللحمة ما بين الكل والواحدة، وحتى تقول مصر لانجلترا: يا بنت عمي ... فإن استحال كل هذا فالحرية العامة على أن تكون محدودة من كل جهاتها بالشعر، وعلى أن يكون الشعر محدودًا بالطبيعة والطبيعة محدودة بالله، فينتزع النوم من الأرض لتتصل اليقظة بالحلم ... من طريق غير النوم. قال شيطان طاغور: ثم ابتأس طاغور وقال: كل ذلك مستحيل أو كالمستحيل ولكنه في الأمل ممكن أو كالممكن؛ وللفظ معنيان: أحدهما ما يكون، والثاني ما يحسن أن يكون؛ ذلك لا بد له منا؛ لأنه جانب النظام الإلهي، وهذا لا بد لنا منه؛ لأنه جانب الخيال الإنساني؛ ذلك من الطبيعة التي تعمل ولا تتكلم، وهذا من الشعر الذي يتكلم ولا يعمل. آه آه! إنما السلام العام أن يكون الوجود شركة إلهية إنسانية برضى واتفاق بين الطرفين ... ولعمري إن كل المستحيلات ممكنة بالإضافة إلى هذا المستحيل. ثم تبسم طاغور إذ خطر له أنه شاعر عليه أن يصف الوردة ويقول فيها ما يجعلها بيت شعر في كتاب الطبيعة له

وزن ونغم، ولكن على الطبيعة قبل ذلك أن تنبتها ناضرة عطرة جميلة تتميز عن غيرها برائحة ولون وشكل. قال شيطانه: ولما انتهى من تأمله إلى هذه الخاطرة قدمت له سيدة هندية عقود الزهر، وبينا هي تقلده إياها قال في نفسه: إن هذه الأزهار من معاني الماء العذب؛ فإذا انطلقنا في أوهامنا وراء الحب العام والسلام العام فلمن تكون معاني الماء الملح، وهو ثلاثة أرباع الأرض، ومن أزهاره الأسطول الإنجليزي. حدثني شيطاني قال: حدثني شيطان طاغور قال: ولما استقر طاغور في قصر شوقي بك ورآه في مثل حسن الدينار ونقشه ونفاسته، قال: لا جرم هذه أمة أغنت شاعرها، فما أخطئ التقدير، وإن أخطأته فلا أبعد عن المقارنة إذا حسبت أن هذا الشاعر يطبع لهذه الأمة نصف مليون نسخة من كل ديوان شعر أو دفتر حكمة أو كتاب قصة، وليتني أعرف العربية لأعرف كيف يبدع هذا الشعب فلسفته في أغانيه المتصلة بغيوم السماء المتكلم بأحسن وأطهر ما يمكن أن يكون ترجمة للحقيقة الخالدة التي يتوارثها شعب خالد. الشعر فكرة الوجود في الإنسان، وفكرة الإنسان في الوجود، ولا يكفي أن يخلق هذا الإنسان مرة واحدة من لحم ودم، بل لابد أن يخلق مرة أخرى من معان وألفاظ، وإلا خرج حيوانًا أعجم؛ فالشاعر يبدع أمة كاملة، إن لم يخلقها فإنه يخلق أفكارها الجميلة وحكمتها الخالدة وآدابها العالية وسياستها الموفقة وما أحسب النهضة المصرية إلا بالأغاني والأناشيد، فتأتي من انجلترا جنود وتخرج لها من دور الغناء والتمثيل جنود أخرى؛ لقد كنت ملهمًا حين قلت مرة: "إن الله يخاطب الناس عن طريق الموسيقى"*. نعم عن طريق الموسيقى، فكل شيء هو موسيقى في نفسه حتى حين يتطاحن الناس ويذبح بعضهم بعضًا، فإن صلصلة الأسلحة ودوي القنابل وأزيز الرصاص وتصايح الجند -كل ذلك لحن أعده الله جلت قدرته "وموسيقاه" ... لجنازات الأمم. حدثني شيطاني قال: حدثني شيطان طاغور قال: ولما رأى طاغور الأستاذ

_ * هذه العبارة من كلام طاغور في محاضرته مما ترجمته جريدة السياسة.

الفاضل مدير الجامعة المصرية -وهي التي دعته إلى إلقاء محاضرته- قال: نعم وحبًا وكرامة، إنه لا يستقيم في العقل أن تدعو هذه الجامعة شاعرًا روحانيًّا مثلي إلا وهي فلك نير يعده الله من نجومه، وما أحسب أستاذ آدابها العربية إلا تلك الذرة اللؤلؤية التي كانت تجاورني في طينة الخلق الأزلية، فلو أن الذرات الثماني التي كانت حولنا خلقت في عصرنا هذا وتوزعت على الأمم الفلسفية لكنا وإياها كوصايا الله العشر في هذا العصر المادي ... ولملأنا طياتها إيمانًا بالله، ولصار الله -تعالى- في أرضه عشر آلات سماوية لاسلكية بينه وبين الخلق، تباهي الجامعة المصرية بأن فيها إحداها ... لقد نغص علي هذه الشيخوخة أني لم أتعلم العربية، وكيف لي بأن أرتل أناشيد أستاذ الآداب في الجامعة المصرية لأستمتع بألحانه السماوية في شعره وأغانيه، وأسمع الملائكة من هذه المئذنة الإنسانية في الجامعة تهتف بكلمة الإسلام الرهيبة صارخة بحقيقة الوجود في الوجود: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله ... قال شيطاني: وكان شيطان الدكتور طه حسين أستاذ الجامعة حاضرًا معنا، فلما ألمَّ بما في نفس طاغور قال لي: حقًّا إن من الخير أن لا يعرف هذا الهندي اللغة العربية؛ لأنه لو عرف اللغة العربية لما أرضته اللغة العربية ولا أداب اللغة العربية ولا أستاذ آداب اللغة العربية! فقلت: اسكت ويحك ودع الرجل في أحلامه، ولا تكن غيمة سمائه المشرقة؛ أما تراه يحلم، أما سمعته يقول: "والحقيقة من حيث هي جمال ليس يعدله جمال؛ ألست ترى إلى صورة هذه المرأة العجوز أبدعها فنان ماهر، إنك تنظر إلى الصورة فتقر بجمالها، ولكن المرأة العجوز التي فيها ليست على شيء من الجمال؛ لكنما جمال الصورة أنها تمثل هذه المرأة العجوز على حقيقتها*"، فهذه كلمات في سبحات النور، وهي من لغة السماء ذات الكواكب لا من لغة النفس ذات العواطف؛ وإلا فهل يصح في العقل أن تصوير العجوز التي اضطرب ميزان الخلق فيها حتى لا يزن منها إلا بقايا الخلقة وأنقاض العمر وخرائب المرأة ... يكون بما يظهر من شوهتها وتهدمها وتشنن جلدها وموت ظاهرها -جمالًا في الصورة؛ لأنه قبيح في الأصل؟ أفليس لو كان

_ * هذه العبارة مما ترجمته السياسة من محاضرة طاغور، وإذا قيل إن الصناعة في نقل الصورة محكمة فليس معنى ذلك أن الصورة جميلة، والمعنى الذي يرمي إليه الشاعر معروف وقد كتبناه في "السحاب الأحمر" ولكنه أخطأ في العبارة عنه أو أخطأت الترجمة.

ذلك صحيحًا لملئت المتاحف والقصور بألواح العجائز، ولما بقيت على الأرض عجوز إلا ذهبت لأحد المصورين تقول له: اخلقني! ... حدثني شيطان قال: حدثني شيطان طاغور قال: وكان طاغور رطب اللسان في محاضرته كأن غابة من غابات الهند أمدته بكل ما اعتصرته الشمس فيها ماء وحياة ونضرة، فهو في كلامه ومعانيه ورق وزهر ونسيم وظل وحفيف وتغريد، يسحر الناظر؛ إذ لا يرى الناظر شكله الإنساني فيه، بل يراه شيئًا من خياله كأنما انفصل منه فتمثل بشرًا سويًّا، ولو أنك اطلعت يومًا في المرأة فإذا خيالك فيها يكلمك ويستأنسك ويطلف لك، لما أدهشك من ذلك ولا أطربك ولا استخرج من عجبك وذهولك إلا كالذي يعتري نفسك حين يكلمك طاغور؛ وتراه يستخلص آراءه المتصرفة بكلامه من روح النواميس الإلهية المدبرة للكون، فتحسه يضيق إليك زيادة ليست فيك؛ فمما كبرت به تصغر نفسك عندك بين يديه؛ ثم هو يتصل بروحك مرة في جلال حب الأب لطفله، ومرة في رقة فرح الطفل بأبيه؛ فإذا أنت منه بموقف عجيب من معجزة إنسانية تروعك بطفل شيخ قد اجتمع فيه طرفًا العمر وجاء كأنه مظهر روحه التي لا عمر لها. إنسان كهربائي يحاول أن يزيد في تركيب الناس عظمة من حديد أو عصبًا من سلك؛ لتصل بهم جميعًا تلك الشعلة الطائفة؛ فإذا هم خلق آخر كأهل الجنة: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد: 12] ؛ ولكنه بصر وهو خارج من المسرح بإعلان السيما التي تجاوره وما عليه من التصاوير والتهاويل، فقال في نفسه: بعد قليل تجيء إلى هنا لندن وباريس ونيويورك وغيرها من أرض الله بناسها وحيوانها ونباتها، يراها الجالسون رأي العين ويتصلون بها اتصالًا بعيدًا لا يجعلهم فيها ولكنه لا يخليهم منها؛ ويجب لعمران هذه الأرض أن يبقى أهل مصر في مصر فلا يدعوها جميعًا؛ ليتصلوا جميعا بما تشتاقه أنفسهم من باريس أو غير باريس من حقائق العالم الكبرى، ولا يحسن هذا الاتصال إلا إذا خص ولم يعم، فيقوم به الواحد والاثنان والجماعة وتبقى الأمة بما هي وكما هي؛ لأنها بذلك وحده أمة، كما أن الناس بطبائعهم ناس، والكون باختلافه كون، فهيهات هيهات الحب العام والسلام العام والاتصال العام بالحقيقة الروحية العليا. ثم تبسم وقال: ما أشبهني بهذه السيما، غير أن شريطي لا يرى فيه الناس رواية من لندن وباريس، بل رواية وقعت حوادثها في جنة الخلد ...

فلسفة القصة ولماذا لا أكتب فيها

فلسفة القصة ولماذا لا أكتب فيها ... ؟ * لم أكتب في القصة إلا قليلًا، إذا أنت أردت الطريقة الكتابية المصطلح على تسميتها بهذا الاسم، ولكني مع ذلك لا أراني وضعت كل كتبي ومقالاتي إلا في قصة بعينها، هي قصة هذا العقل الذي في رأسي، وهذا القلب الذي بين جنبي ... أنا لا أعبأ بالمظاهر والأغراض التي يأتي بها يوم وينسخها يوم آخر، والقبلة التي أتجه إليها في الأدب إنما هي النفس الشرقية في دينها وفضائلها، فلا أكتب إلا ما يبعثها حية ويزيد في حياتها وسمو غايتها، ويمكن لفضائلها وخصائصها في الحياة؛ ولذا لا أمسُّ من الآداب كلها إلا نواحيها العليا؛ ثم إنه يخيل إلي دائمًا أني رسول لغوي بعثت للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه، فأنا أبدًا في موقف الجيش "تحت السلاح": له ما يعانيه وما يكلفه وما يحاوله ويفي به، وما يتحاماه ويتحفظ فيه، وتاريخ نصره وهزيمته في أعماله دون سواها؛ وكيف اعترضت الجيش رأيته فنَّ نفسه، لا فنك أنت ولا فن سواك؛ إذ هو لطريقته وغايته وما يتأدى به للحياة والتاريخ. ألا ترى أن تلك الروايات توضع قصصًا، ثم تقرأ فتبقى قصصًا؟ وإن هي صنعت شيئًا في قرائها لم تزد على ما تفعل المخدرات؛ تكون مسكنات عصبية إلى حين، ثم تنقلب هي بنفسها بعد قيل إلى مهيجات عصبية؟ وأنا لا أنكر أن في القصة أدبًا عاليًا، ولكن هذا الأدب العالي في رأيي لا يكون إلا بأخذ الحوادث وتربيتها في الرواية كما يربي الأطفال على أسلوب سواء في العلم والفضيلة؛ فالقصة من هذه الناحية مدرسة لها قانون مسنون، وطريقة ممحصة، وغاية معينة؛ ولا ينبغي أن يتناولها غير الأفذاذ من فلاسفة الفكر الذين تنصبهم

_ * وجه إلينا سؤال: لماذا لا تكتب في القصة؟ وكان هذا قبل أن نكتب مقالاتنا في مجلة الرسالة، فرددنا بهذا الرد. [قلت: وانظر ص189 من "حياة الرافعي"] .

مواهبهم لإلقاء الكلمة الحاسمة في المشكلة التي تثير الحياة أو تثيرها الحياة؛ والأعلام من فلاسفة البيان الذين رزقوا من أدبهم قوة الترجمة عما بين النفس الإنسانية والحياة، وما بين الحياة وموادها النفسية في هؤلاء وهؤلاء، تتخيل الحياة فتبدع أجمل شعرها، وتتأمل فتخرج أسمى حكمتها، وتشرع فتضع أصح قوانينها. وأما من عداهم ممن يحترفون كتابة القصص، فهم في الأدب رعاع وهمج، كان من أثر قصصهم ما يتخبط فيه العالم اليوم من فوضى الغرائز، هذه الفوضى الممقوتة التي لو حققتها في النفوس لما رأيتها إلا عامية روحانية منحطة تتسكع فيها النفس مشردة في طرق رذائلها. إذا قرأت الرواية الزائفة أحسست في نفسك بأشياء بدأت تسفل، وإذا قرأت الرواية الصحيحة أدركت من نفسك أشياء بدأت تعلو، تنتهي الأولى فيك بأثرها السيئ، وتبدأ الثانية منك بأثرها الطيب؛ وهذا عندي هو فوق ما بين فن القصة وفن التلفيق القصصي!!.

شعر صبري

شعر صبري *: في الحادي والعشرين من شهر مارس من سنتنا1 هذه نزع الشعر العربي عن رأسه عمامة المشيخة ونشرها للموت، فكانت الكفن الذي طوي فيه بقية شيوخ الأدب: المرحوم إسماعيل باشا صبري. كان -رحمه الله- من الرجال الذين نشأوا في تاريخ لا ينشئ رجلًا، وجاءوا في غير زمنهم ليجيء بهم زمنهم بعد؛ وهؤلاء إن لم يكن فيهم قوة أكبر من القوة، فهم أقدار وأحداث تولد وتنشأ وتنمو في أسلوب إنساني؛ ليتم بها شيء كان نقصًا، ويحسن شيئًا كان هجنة، ويوجد أمرًا كان عدمًا؛ ثم ليكون للزمن منها حدود يبدأ عند الواحد منها فيتغير فيه ويتحول به ويخرج معه في بعض معانيه زمنًا جديدًا في رجل جديد. كذلك كان صبري في منحى من مناحي الشعر، وكان البارودي -رحمهما الله- في منحى آخر؛ فهما طرفا المحور الذي استدار عليه هذا الفلك ليبدأ بعد تاريخه الميت تاريخًا حيًّا، وليخرج من الجو القاتم في أعراض الأرض إلى الفضاء المشرق بمعاني السماء، ثم لينفض عنه في مهب الرياح العلوية ما لصق به من طباع أهله وأخلاقهم، ويغلق بها ما فتح الزمن عليهم من أبواب هذه الحرفة، فكان الشعر في حاجة إلى رجل كالملك، فأصاب رجلين؛ وعلم الله ما رأيت في كل من رأيتهم من الشعراء نفسًا تعد معهما، ولا خلقًا يجري في أخلاقهما، ولا ظرفًا ولا رقة ولا أدبًا ولا شيئًا يصلح أن يكون شرحًا منهما أو توكيدًا لشيء فيهما أو تقوية لمعنى من معانيهما، كأنما وجدا ليكون أحدهما مبدأ والآخر نهاية، ولينفردا انفراد الطرفين من المسافة بالغة ما بلغت. كان الشعر لعهدهما بقية رثة في معرض خلق مما كان يسميه أدباء الأندلس بالأغراض المشرقية وطريقة المشارقة، وهم يعنون بذلك الصناعة والتكلف للبديع

_ * هو إسماعيل باشا صبري، توفي رحمه الله في شهر مارس سنة1923م. 1 المقتطف: مايو سنة1923.

والانصراف إلى اللفظ واستكراهه على الوجه الذي أرادوا، إلى ما يتشعب من ذلك ويخرج أو يدخل في بابه؛ وقد كان هذا ومثله مما يساغ ويحتمل في القرن الثامن وأكثر التاسع للهجرة، ثم في أيام بعد ذلك؛ غير أنه بلي وتهتك في مصر خاصة ولم يبق منه إلى منتصف القرن الثالث عشر إلا رقع وخيوط في قصائد ومقاطيع. ثم كان أكثر الشعراء يومئذ إنما يحترفون فن الأدب صناعة كسائر المهن والصناعات التي بها قوام العيش لهؤلاء المستأكلين والمتكسبين من السوقة والمرتزقة. ظهر البارودي ونبغ في شعره قبل أن يقول صبري الشعر بسنوات، ولكن الأدب الفارسي والجزالة العربية هما اللذان تحولا فيه؛ ثم نبغ صبري بعد ذلك بزمن، فتحول فيه الأدب الإفرنجي والرقة العربية؛ وهذا موضع التفاوت في شعر الرجلين اللذين اقتنصا الخيال الشعري من طرفي الأرض، وكلاهما يذهب مذهبًا ويرجع إلى طبع ويروض شعره على وجه؛ فالبارودي يستجزل ويجمع إلى سبكه الجيد قوة الفخامة وشدة الجزالة، ثم يعترض الخيال من حيث يهبط على النفس في ممر الوحي؛ وصبري يسترق ويضيف إلى صفاء لفظه جمال التخير وحلاوة الرقة، ويعارض الفكر من حيث يتصل بالقلب؛ والبارودي لا يرى إلا ميزان اللسان يقيم عليه حروفه وكلماته، وصبري لا يرى إلا ميزان الذوق الذي هو من وراء اللسان؛ وقد يسرت لكليهما أسباب ناحيته في أحسن ما يتصرف فيه؛ فجاء البارودي حافظًا كأنه مجموعة من دواوين العرب والمولدين، وجاء صبري مفكرًا كأنه مجموعة أذواق وأفكار؛ وهما يشتركان معًا في التلوم على صنعة الشعر والتأني في عمله وتقليبه على وجوه من التصفح، وتمحيصه بالنقد والابتلاء لفظًا لفظًا وجملة جملة، ثم مطاولة معانيه ومصابرتها كأنما ينتزعان محاسنها من أيدي الملائكة؛ وأنا أعرف ذلك فيهما؛ وقال لي صبري باشا مرة وقد جاريته في بعض هذا المعنى: إنه يعلم هذا من البارودي ومن نفسه. قلت: أفيبلغ به ذلك أن يمحو بياض اليوم في سواد بيت واحد؟ قال: وفي سواد شطرة أحيانًا! وليس ينقصهما هذا الأمر شيئًا، فإن خبر زهير في حولياته معروف، وقد عمل سبع قصائد في سبع ستين: يحوك القصيدة منها في سنة. ونقلوا عن مروان بن أبي حفصة أنه قال: كنت أعمل القصيدة في أربعة أشهر، وأحككها في أربعة أشهر، وأعرضها في أربعة أشهر، ثم أخرج بها إلى الناس؛ فقيل هذا هو الحولي المنقح.

كان مرجع البارودي إلى الحفظ، فنبغ في وثبات قليلة؛ أما صبري فاحتاج إلى زمن حتى استحكمت ناحيته وآتته أسبابه على الإجادة، لأن مرجعه إلى الذوق، وهذا يكتسب بالمران وينضج عند نضوج الفكر ولا يأتي بالماء والرونق حتى تأتي له أسباب كثيرة؛ وأنت تعرف ذلك في الرجلين من أوائل شعرهما، فقد رثى البارودي أباه في سن العشرين بأبياته الدالية الشهيرة التي مطلعها: لا فارس اليوم يحمي السرح بالوادي ... طاح الردى بشهاب الحي والنادي وهي ثمانية عشر بيتًا، وجيدها جيد، وكأنها خرجت من لسان أعرابي؛ وإنما جاءته من صنعة الحفظ، كالذي اتفق للشريف الرضي في أبياته الخائية التي كتب بها إلى أبيه وعمره أربع عشرة سنة، وكان أبوه معتقلًا بقلعة شيراز ومطلعها: أبلغا عني الحسين ألوكًا ... إن ذا الطود بعد بعدك ساخا والشهاب الذي اصطليت لظاه ... عكست ضوءه الخطوب فباخا هذا على أن البداية كما يقال مزلة؛ وقد وفقنا إلى الوقوف على أول ما نشر من شعر صبري باشا، وذلك قصيدتان نشرتا في مجلة روضة المدارس في مدح إسماعيل باشا، فنشرت الأولى في العدد الصادر في غاية شوال سنة 1287 للهجرة -1870 للميلاد؛ ونشرت الثانية في عدد شهر ربيع الآخر من سنة 1288هـ 1871م؛ وبينهما خمسة أشهر، كانت وثبته فيها ضعيفة متقاصرة، مما يدل على بطء نضجه بطبيعة الأسباب التي تسبب بها إلى الشعر؛ وكانت الروضة يومئذ تنشر لطائفة من فحول دهرهم: كالسيد صالح مجدي، ورفاعة بك رافع، ومحمد أفندي قدري "ونابغة الزمان محمد أفندي رضوان"، وغيرهم. وكانت تستقبل قصائدهم بسجعات داوية مفرقعة، هي لذلك العهد أشبه الأشياء بطلقات مدافع التحية للملوك والأمراء؛ فلما نشرت لصبري قالت في القصيدة الأولى: تهنئة بالعيد الأكبر للخديوي الأعظم بقلم إسماعيل صبري أفندي". وقالت في الثانية: "قصيدة رائية في مدح الحضرة الخديوية من نظم الشاب النجيب إسماعيل صبري أفندي من تلامذة مدرسة الإدارة". ومطلع القصيدة الأولى: سفرت فلاح لنا هلال سعود ... ونما الغرام بقلبي المعمود ولا شيء فيها أكثر من حروف المطبعة ... ومطلع الثانية: أغرتك الغراء أم طلعة البدر ... وقامتك الهيفاءُ أم عادل السمرِ

وفي هذه القصيدة بيت وقفت عنده أرى صبري باشا في صبري أفندي كأنه خيال مولود يستهل، وذلك قوله: فطول من الهجران عل وقوفنا ... طول معا -يا قاتلي- ساعة الحشر ويكاد هذا البيت يكون أول انقلاب للفكرة فيه: وهو غريب، والتأمل فيه أغرب، ولكنه يدل على خيال سيثب يومًا على أقطار السموات. وفي ذلك الزمن عينه كان البارودي شهابًا يتلهب، وكان قد بلغ مبلغه واستجمع أسباب نهايته، بل هو نظم قبل ذلك بست سنوات قصيدته الشهيرة: أخذ الكرى بمعاقد الأجفان ... وهفا السرى بأعنة الفرسان فلم يكن ليذهب وجه الشعر عن صبري، ولم يكن ليغضي عند احتذاء هذه الصنعة البارعة ويأخذ في غيرها لولا أن فيه طبعًا مستقلًا يذهب إلى كماله في أسلوب آخر كأسلوب كل زهرة في غصنها؛ وأخص أحوال صبري أنه لم يرد أن يكون شاعرًا فجاء أكبر من شاعر، وكان السبب الذي صرفه من ناحية هو نفسه الذي جاء به من ناحية أخرى. ينبغ الشاعر بأربعة أشياء لا بد منها: طريقة الدرس التي عالج بها الشعر، وكتب هذه الطريقة، والرجال الذين هم أمثلتها في نفسه، ثم ... ويالله من "ثم" هذه، فهي اللمحة السماوية التي تشرق على فؤاد الشاعر من وجه جميل، والثلاث الأولى تنشئ نبوغًا معروفًا في نوعه ومقداره، ولكن الأحيرة هي طريق القدر التي لا يعرف آخرها؛ وإذا تجددت في حياة الشاعر أو اتصلت تجدد بها نبوغه أو اتصل، فعلى قدر ما يحب تحبوه السماء من أسرار الجمال، وهي نفسها أجمل أسباب الشعر وأجمل معانيه وأجمل غاياته، فهي هي المادة التي تؤلف بين نفس الشاعر وبين معنى الجمال الشعري في هذا الكون كله؛ وإذا أنت نزعت النظرة والابتسامة -وهما عنصرا تلك المادة- من حياة الشاعر، نزعت الحياة نفسها في شعره فما يبقى منه إلا أنه مقبرة للألفاظ والمعاني، وتسمع شعره فلا تجزيه به أحسن من قولك: يرحمك الله ... وصبري لم يدرس الشعر في الكتب أكثر مما درسه في الوجوه والعيون، وقد عالج هذا الشعر في بدايته ليتأتى إليه من طرقه البعيدة؛ أما الرجال الذين كانوا أمثلته فكانوا رجال الظرف والرقة والنكتة المصرية الشهيرة التي انفرد بها الطبع المصري ونص عليها علماء البلاغة، كالسكاكي

وغيره؛؛ بل كان عصره كله عصر هذه النكتة، فتحولت في طبعه الرقيق المبتكر تحولًا رقيقًا أرجعها إلى الظرف المحض الذي اجتمعت فيه كل طباعه كما يجتمع السحاب من الماء. ولقد كان في شعره أحق الناس بقول ابن سعيد المغربي: أسكان مصر جاور النيل أرضكم ... فأكسبكم تلك الحلاوة في الشعر وكان بتلك الأرض سحر فما بقي ... سوى أثر يبدو على النظم والنثر وإني لأعلم أنه كان دائم الحب: يمزج ذكرى ماضيه بحاضره فيخرج منهما حبًّا جديدًا؛ وكان الرجل كأنه مجروح القلب، فلا يزال يئن حتى في بعض أنفاسه؛ إذ يرسل النفس الطويل بين هنيهة وأخرى، وكأنه يريد أن يطمئن أن نفسه فيه، أو أن شيئًا باقيًا في نفسه؛ وتلك همهمة لا تكون في شاعر من الشعراء بغير معنى. كانت النظرة والابتسامة تتمثل له حيث شاء وتعترضه حيث أراد أن يراها، فيجد في كل شيء روحًا من الشعر، ويقرأ لمحاتها متى التمعت، وكان يعيش في ذات نفسه كأنه معنى في قصيدة هو أمير أبياتها. فشاعرنا هذا أخرجه اثنان: الظرف والجمال؛ وهذا سر إبائه أن يعد من الشعراء؛ لأنه أرفع من أن يدخل بينهم في هذه المحنة والبلوى التي ابتلوا بها ... ولقد هم صبري في أواخر عمره بمحو شعره لو أنه كان في منال يده على أنه محا منه بإهماله أكثر مما أثبت؛ وعلمت منه أنه لم يدون شيئًا، وأنه ينسى متى انتهوا إلى التحقيق رأوا عمرهم كله بداية ورأوا ما فعلوا باطلًا فغسلوا كتبهم أو أحرقوها، ولكنا لم نعرف هذه الطبيعة في شاعر بعد عصر الكتابة والتدوين، وإن كان بعضهم يأنف لنفسه أن يعد من الشعراء وهو مع ذلك يجمع يده على شعره، كالشريف الرضي الذي يقول: ما لك ترضى أن تعد شاعرًا ... بعدًا لها من عدد الفضائل ويقول في مدح أبيه: إني لأرضى أن أراك ممدحًا ... وعلاك لا ترضى بأني شاعر ومثله أبو طالب المأموني وآخرون يدعون ذلك دعوى وفي ألسنتهم ما ليس في قلوبهم.

ولإفراط صبري في الظرف والجمال وقيام شعره على هذين الركنين، جاء مقلًّا من أصحاب القصار، وزاد إقلاله في قيمة شعره، فخرجت مقاطيعه مخرج الشيء الطريف الذي يتعجب منه في وجوده أكثر مما يتعجب منه لقلة وجوده؛ وبذلك ربح تعب المكثرين والمطيلين؛ إذ كان لا يقول إلا فيما تؤاتيه السجية وينزع الطبع، فيدنو مأخذه ويكثر بقليله ويرمي منه بمثل الحجة والبرهان، فيطمس بهما على كلام طويل وجدل عريض. ولا يعيب المقل أنه مقل إذا كثرت حسناته، بل ذلك أعون له على القلوب والنفوس إذا أصابت في شعره ما يغريها بطلب المزيد منه؛ وقد عدوا بين المقلين في الجاهلية: طرفة بن العبد، وعبيد بن الأبرص، وعلقمة الفحل، وعدي بن زيد، وسلامة بن جندل، وحصين بن الحمام، والمتلمس، والحارث بن حلزة، وابن كلثوم، وغيرهم أتينا على أسمائهم في الجزء الثالث من "تاريخ آداب العرب"؛ ومن أولئك من يعرف بالقصيدة الواحدة: كطرفة، ومنهم من يعرف بثلاث قصائد: كعلقمة، أو بأربع: كعدي بن زيد؛ ومنهم من يعرف بالأبيات المتفرقة، ولا عبرة بما ينسب إليهم عند غير المصححين وأهل التحقيق، فإن الحمل على شعراء الجاهلية كثير؛ وقد يعرفون الشاعر بالبيت الفرد؛ لأن العرب إنما يعتبرون الشعر بمقدار ما يحرك من ميزانه الطبيعي الذي هو القلب، لا بالطول ولا بالقصر، وقد قالوا في بيت النابغة: ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث؛ أي الرجال المهذب؟ إنه لا نظير له في كلام العرب؛ وما ذلك إلا على الاعتبار الذي أشرنا إليه. وكانوا يسمون البيت الواحد: يتيمًا، فإذا بلغ البيتين والثلاثة فهي نتفة، وإلى العشرة تسمى قطعة، وإذا بلغ العشرين استحق أن يسمي قصيدًا. وكان من الشعراء من يعتمد أن لا يجيء في شعره الجيد بغير البيتين والثلاثة إلى القطع الصغيرة، كشاعرنا صبري باشا؛ ومنهم عقيل بن علقمة: كان يقصر هجاءه ويقول: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق. ومنهم أبو المهوس، وكان يحتج لذلك بأنه لم يجد المثل النادر إلا بيتًا واحدًا، ولم يجد الشعر السائر إلا بيتًا واحدًا؛ ومنهم الجماز: قال له بعضهم وقد أنشده بيتين: ما تزيد على البيت والبيتين؟ فقال: أردت أن أنشدك مذارعة؟؟ وابن لنكك المصري، وابن فارس، ومنصور الفقيه الذي كان يقال فيه: إذا رمح بزوجيه قتل. ولا نستقصي في هذا فلندعه فإن له موضعًا. غير أن صبري كان له مع جودة المقاطيع جودة القصيد إذا قصَّد، كقوم

عرفوا بذلك في التاريخ، منهم العباس بن الأحنف وسواه، وكان من أسباب إقلاله ما أعلمني به من أن طريقته في أكثر ما ينظم معارضة معنى يقف عليه، أو تضمين حكمة، أو ضرب مثل على طريقة النظر والملاحظة، أو تدوين خطرة عرضت له، أو لمحة أوحيت إليه؛ وهو ينزل في ذلك على النصفة والمعدلة فلا ينتحل شيئًا ليس له، بل يدلك بنفسه على الأصل الذي منه أخذ أو المثال الذي عليه احتذى. قال لي مرة: إن البستاني عقد حكمة فارسية في قوله: قضيت إلهي بالعذاب فيا ترى ... بأي مكان بالعذاب تدين وليس عذاب حيثما أنت كائن ... وأي مكان لست فيه تكون؟ ثم قال: فأخذت من هذا المعنى وقلت: يا رب أين ترى تقام جهنم ... للظالمين غدًا وللأشرار لم يبق عفوك في السموات العلى ... والأرض شبرًا خاليًا للنار يا رب ألهني لفضلك واكفني ... شطط العقول وفتنة الأفكار ومُرِ الوجود يشف عنك لكي أرى ... غضب اللطيف ورحمة الجبار يا عالم الأسرار حسبي محنة ... علمي بأنك عالم الأسرار والفرق بين الشعرين أن البستاني جاء بكلامه على طريقة المتصوفة التي يسمونها طريقة أهل التحقيق، كابن العربي والششتري؛ وأما صبري فانظر كيف استوفى وكيف لاءم وكيف امتلأت أعطاف شعره. وقد يأخذ المأخذ الدقيق الذي لا ينتبه له إلا المطَّلع الحاذق بصناعة الكلام، كقوله: إذا ما صديق عقني بعداوة ... وفوقت يومًا في مقاتله سهمي تعرض طيف الود بيني وبينه ... فكسر سهمي فانثنيت ولم أرم فهذا ينظر إلى قول الحارث بن وعلة: قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي ولكنه ليس بذاك؛ فإن أساس المعنى قوله: "تعرض طيف الود بيني وبينه" وهو من قول العباس بن الأحنف: وإذا ما مددت طرفي إلى غيـ ... ـرك مثِّلت دونه فأراكا فتأمل كيف أبدع في انتزاع المعنى وكيف جعل له معرضًا جديدًا وكيف أداه أحسن تأدية في ألطف وجه كأنه شيء مخترع.

ومن شعره السائر قوله في العناق وتلازم الحبيبين: ولما التقينا قرب الشوق جهده ... شجيين فاضا لوعة وعتابا كأن صديقًا في خلال صديقه ... تسرب أثناء العناق وغابا وهذا المعنى على إبداعه فيه متداول، وأصله لبشار -أظن- في قوله1: وبتنا جميعًا لو تراق زجاجة ... من الخمر فيما بيننا لم تسرب فأبدع صبري في أخذه وجعل من هذه الزجاجة المنصدعة جوهرة تتألق؛ على أني لا أستحسن قوله: "كأن صديقًا ... " فما هذا بعناق الأصدقاء، ولو كان الصديق راجعًا من سفر الآخرة؛ وإذا غاب واحد في الآخر، فالآخر حامل به ... وقد أخذت أنا هذا المعنى منه، ولولاه ما اهتديت إليه، فقلت في ذلك: ولما التقينا ضمنا الحب ضمة ... بها كل ما في مهجتينا من الحب وشد الهوى صدرًا لصدر كأنما ... يريد الهوى إنفاذ قلب إلى قلب وأحسن ما تجد شعر صبري في الغزل والنسيب والوصف والحكمة، فهي عناصر قلبه وذوقه، ولا يتصرف معه أقوى ما يتصرف إلا في هذه الأغراض، ولعله إن جاوزها قصر معه شيئًا ما وضعفت أداته ضعفًا ما؛ لأنه يكون شاعر الصنعة وهو يأباها ويكره أن يكون شاعرًا من أجلها؛ وقلما يجاريه أحد في تلك الأغراض، وهو الذي فتح أبوابها؛ وحسبك أنه المثال الذي احتذى عليه شوقي بك؛ وقد ينقسم المعنى الواحد في رجلين حين يقدر، فإذا لم يوجد أحدهما لم يوجد الآخر، وأنا أرى وأعلم أنه لولا صبري لما نبغ شوقي، وكان هذا يختلف إليه يعرض عليه شعره ويرجع بآثار ذوقه فيه، وكذلك كان يفعل خليفة البارودي حافظ بك إبراهيم، واسترفد شوقي من صبري باشا هذا البيت السائر: صوني جمالك عنا إننا بشر ... من التراب وهذا الحسن روحاني

_ 1 البيت لعلي بن الجهم، وقبله: ألا رب ليل ضمنا بعد هجعة ... وأدنى فؤادًا من فؤاد معذب أخذه من قول بشار: ومرتجة الأعطاف مهضومة الحشا ... تمور بسحر عينها وتدور إذا نظرت صبت عليك صبابة ... وكادت قلوب العاشقين تطير خلوت بها لا يخلص الماء بيننا ... إلى الصبح دوني حاجب وستور

فهو لصبري باشا، والمرافدة سنة معروفة من قديم، وهي غير الانتحال وغير السرقة وما يسمى إغارة وغصبًا؛ وقد استرفد النابغة زهيرًا ابنه كعبًا فرفده، والحكاية في ذلك مشهورة عنه وعن سواه. ولم يكن في مصر ممن يحسن ذوق البيان وتمييز أقدار الألفاظ بعضها من بعض وألوان دلالاتها كالبارودي وصبري وإبراهيم المويلحي والشيخ محمد عبده، رحمهم الله جميعا؛ والبارودي يذوق بالسليقة، وصبري بالعاطفة، والمويلحي بالظرف، والشيخ بالبصيرة النفاذة؛ وذلك شيء ركبه الله في طبيعة صبري لم يحصله بالدرس أكثر مما حصله بالحس، ومن أجله كان يفضل البحتري على غيره، وهو بلا نزاع بحتري مصر، كما لقبوا ابن زيدون بحتري المغرب؛ وإنك لتجد بعض الألفاظ في شعر الرجل كأنها شعر مع الشعر، فتقف على العبارة منها وقلبك يتنفس عليها كأنها إنما وضعت لقلبك خاصة، فهي تغمز عليه غمزًا وكأنها نفثة ملك من الملائكة جاءتك في نفس من أنفاس الجنة. ويمتاز نسيبه بأنه يكاد يكون في طهارته وعفته ضوءًا من جمال الشمس والقمر، وهو عندي أنسب من العباس بن الأحنف الذي صرف كل شعره إلى هذا المعنى؛ ولو أن عصره كان عصر أدب صحيح لأخمل كل شعراء هذا الباب، من ابن أبي ربيعة إلى طبقة عشاق العرب إلى أئمة الطريقة الغرامية لآخر القرن السابع. ومن غزله البديع قوله: يا من أقام فؤادي إذ تملكه ... ما بين نارين من شوق ومن شجن تفديك أعين قوم حولك ازدحمت ... عطشى إلى نهلة من وجهك الحسن جردت كل مليح من ملاحته ... لم تتق الله في ظبي ولا غصن وقوله: أقصر فؤادي فما الذكرى بنافعة ... ولا بشافعة في رد ما كانا سلا الفؤاد الذي شاطرته زمنًا ... خفق الصبابة فاخفق وحدك الآنا ويا رحمة الله للقلب الذي يفهم هذا البيت، فإنه ليجن به من يكون فيه استعداد لهذا النوع من الجنون. ومن قلائده الغرامية قوله: يا آسى الحي هل فتشت في كبدي ... وهل تبينت داء في زواياها أواه من حرق أودت بمعظمها ... ولم تزل تتمشى في بقاياها

يا شوق رفقًا بأضلاع عصفت بها ... فالقلب يخفق ذعرًا في حناياها وله قصيدة "تمثال جمال" وقد نظمها لتنقل إلى الفرنسوية، ومن عيونها قوله: وابسمي، من كان هذا ثغره ... يملأ الدنيا ابتسامًا وازدهاء لا تخافي شططًا من أنفس ... تعثر الصبوة فيها بالحياء راضت النخوة من أخلاقنا ... وارتضى آدابنا حسن الولاء فلو امتدت أمانينا إلى ... ملك ما كدرت ذاك الصفاء والشعراء من أول تاريخ الأدب إلى اليوم يقولون في معنى قوله: "لا تخافي شططا" الأبيات، وما منهم من وفق إلى مثل هذا البيت الأخير، وإن كان بعضهم بلغ الغاية، كابن نباتة السعدي والسري الرفاء وغيرهما. ومن أبدع ما اتفق له في الوصف أبيات في الدواة تخلص في آخرها إلى مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تخلص ليس في الشعر العربي كله مثله في الإبداع وحسن الاختراع، يقول فيها: أكرمي العلم وامنحي خادميه ... ماءك الغالي النفيس الثمينا وابذلي الصافي المطهر منه ... لهداة السرائر المرشدينا وإذا الظلم والظلام استعانا ... يوم نحس بأجهل الجاهلينا واستمدا من الشرور مدادًا ... فاجعليه من قسمة الظالمينا واقذفي في النقطة التي بات فيها ... غضب القاهر المذل كمينا ليراع امرئ إذا خط سطرا ... نبذ الحق وارتضى المين دينا وإذا كان فيك نقطة سوء ... كونت من خباثة تكوينا فاجعليها قسط الذين استباحوا ... في السياسات حرمة الأضعفينا وإذا خفت أن يكون من الصخـ ... ـر جلاميد ترجم السامعينا فابخلي بالمداد بخلا وإن أعـ ... ـطيت فيه المئين ثم المئينا فإذا أعوز المداد طبيبا ... يصف الداء دائبًا مستعينا فامنحيه المراد منا وعرفًا ... واستطيبي معونة المحسنينا وإذا مهجة الحمائم أسدت ... نقطة سرها الزكي المصونا فاجعليها على المودات وقفًا ... وهبيها رسائل الشيقينا

فإذا لم يكن بقلبك إلا ... ما أعد الإخلاص للمخلصينا فاجعليه حظي لأكتب منه ... شرح حالي لسيد المرسلينا هذا والله هو الشعر، وما وفق إلى مثله أحد كائنًا من كان في هذا العصر. ولا نطيل بالنقل من شعره وتتبع أغراضه، فهو كالألماس في الشمس: يشع من كل جهة، ولا يختلف ضوءه إلا في بعض اللون مما يكون الأجمل فيما كله جمال، ويمج من الشعاع ما لا تجد حسنه في الشعاع نفسه، وأحيانًا يرق كبعض البلور فيمتص حرارة الشمس ويستوقد بها في ذاته ليضرم ما وراء قلبه، وما وارءه إلا قلوبنا الحزينة.. عليه رحمة الله!.

حافظ إبراهيم

حافظ إبراهيم 1: فرغت الآن من قراءة شعر حافظ بعد أن لم يعد حافظ بيننا إلا شعره ونثره، وفبالله أحلف ما نظرت في صفحة مما بين يدي إلا وأحسست أن ذلك الشاعر العيظم يقول في بيانه الرائع وصناعته البديعة: أنا هنا! ولغة هذا الشعر المتدفعة بالحياة كأن كلماتها القوية عروق في جسم حي متوثب لم تخرج عن أن تكون هي العربية المبينة في جزالتها ونصاعتها ودقة تركيبها البياني، ومع ذلك فليس في هذا العصر كله من يكابر أو يماري في أنها هي لغة حافظ وحده، كأنه أرغم التاريخ أن يحتفظ به في أجمل آثاره. وأنا أعرف في شعره مواضع من الاضطراب والضعف والنقص سأشير إلى بعضها، ولكني على ما أعرفه أجد هذا الشعر كالتيار يعب عبابه لا يبالي ما تناثر منه وما ركد وما وقع في غير موقعه، إذ كانت عظمته في اجتماع مادته لا في أجزاء منها، وفي السر الذي يدفعها في كل موضع لا في المظهر الذي تكون به في موضع دون موضع؛ فهو أبدًا يقول لمن يتصفح عليه أو ينتقده: انظر لما بقي. ترجع صداقتي لحافظ رحمه الله إلى سنة 1900، أول عهدي بالأدب وطلبه، وقد شهدت من يومئذ بناءه الأدبي عاليًا فعاليًّا إلى الذروة التي انتهى إليها، وأخلص لي ثقته وأصفاني مودته، وكان همك من أخ كريم، وله في نفسي مكان لم ينكره مذ عرفته، ولم يضق بمحبته منذ اتسع لها. وكنت وإياه يرى أحدنا الآخر من هذه اللغة كالجانبين لصورة واحدة: لا يتهيأ في الطبيعة أن يختلفا والصورة بعد قائمة، ولا أن يضطرب ما بينهما والصورة منهما على وزن وتقدير. ولكن هذا لا يمنعني أن أقرر أنه كان عندي أكبر من شعره -ولعله كذلك عند كل من خلطوه بأنفسهم- فإنه يتعاظمك بنفسه القوية وبالمعنى الذي تحسه في

_ 1 المقتطف: أكتوبر 1932.

العبقري ولا تدري ما هو؛ وذلك من سحر العبقريين وأثرهم في نفس من يتصل بهم، فيتسق لهم أمران من أمر واحد، وحظان بحظ، ونصيبان بنصيب؛ لأن مع الإعجاب بآثارهم إعجابًا آخر بالقوة التي أبدعت هذه الآثار؛ ففي ذواتهم المحبوبة يستمر الإعجاب كالسائر على طريق لا موقف عليه، وفي آثارهم يكون الإعجاب في موقف قد انتهت الطريق به، فوقف على حد إن بعد وإن قرب. لا جرم كان شاعرنا عبقريًّا عجيب الصنعة قوي الإلهام بليغ الأثر في عصره، يشبه تحولًا وقع في صورة من صور التاريخ، ولكنه كذلك في مذاهب من الشعر دون غيرها، فلم يكن معه من التمام في فنون الشعر ما يكون به الشاعر التام أو الأديب الكامل الأداء؛ وكم من مرة كلمته في ذلك ونبهته إلى أنه كالنمط الواحد، وأنه يجب أن يترسل شعره بين النفوس الإنسانية وأغراضها الكثيرة المختلفة، فإذا كانت السياسة من الحياة فليست الحياة هي السياسة، ولا ينبغي أن يكون شعره كله كشمس الصيف، فإن للربيع شمسًا أجمل منها وأحب كأنها مجتمعة من أزهاره وعطره ونسيمه. ولقد كان يفخر بأنه "الشاعر الاجتماعي"، وهذا لقب ميزه به صديقنا الأستاذ محمد كرد علي أيام كان في مصر قديمًا، فتعلق به حافظ ورآه تعبيرًا صحيحًا لما في نفسه وللملكة التي اختص بها، قال لي يومًا في سنة 1903: أنا لا أعد شاعرًا إلا من كان ينظم في الاجتماعيات، فقلت له: وما لك لا تقول بالعبارة المكشوفة: إنك لا تعد الشاعر إلا من ينظم مقالات الجرائد.. ولا بد لي أن أبسط هذا المعنى في هذا الفصل، فإنه كان يخيل إلي دائمًا أن شاعرنا "حافظ" خلق للتاريخ في أصل طبيعته، ثم زيدت فيه موهبة الشعر؛ ليكون مؤرخًا حي الوصف بليغ التأثير قوي التصرف؛ ومن ثم جاء أكثر ما نظمه وأساسه التاريخ والسياسة، وصح له بهذا الاعتبار أن يقول إنه الشاعر الاجتماعي، ولكن مادة الشعر غير روح الشعر، فإذا كان في المادة اجتماعي وسياسي فليس في الروح إلا الشاعر على إطلاقه؛ والاجتماعيات ليست كل حقائق الحياة، وهي بعد ذلك معانٍ خاصة محصورة في زمنها ومكانها؛ على أن الحقائق ليست هي الشعر، وإنما الشعر تصويرها والإحساس بها في شكل حي تلبسه الحقيقة في النفس، فالشاعر الاجتماعي شاعر في حيز محدود من وجوه الشعر ومذاهبه، وإذا كان الاجتماع كل شعره فلا يسمى شعره فنًّا؛ إذ كان الفن إنسانيًّا وكان شاملًا عامًّا والمقاييس التي يطرد عليها الفن الأدبي لا تكون في الزمن ولا في الموضع، بل في النفس الإنسانية التي لا

تخص بوقت ولا مكان، فإذا لم يكن الشعر إنسانيًّا عامًّا يولد ك لجيل من الناس فيجده كأنما وضع له وارتهن بأغراضه وحقائقه، فهو شعر "كالأخبار المحلية"، وهذا وجه الشبه بينه وبين ما أشرت إليه آنفًا من نظم مقالات الجرائد. فمقالات الجرائد هذه لا تأتينا بالأشياء التي نحن منها في الإنسانية والطبيعة والجمال وحقائق الحياة والموت، بل التي يكون منها يومنا المرقوم بأنه يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا.. فإذا مات اليوم ماتت الجريدة، ثم تولد ثم تموت، وقد أدرك المتنبي سر الشعر وأنه قائم على تحويل الشعور الإنساني إلى معرفة إنسانية، فخلد شعره، فلا يمكن أن يمحى من العربية ما بقيت. وهذا على ما يقدح من وجوه الاعتراض والنقص، وعلى أن المتنبي كان ضعيفًا في ناحية الجمال والحب ضعفًا ظاهرًا كضعف شاعرنا حافظ في هذا المعنى، ولكن حكمته الإنسانية ودقة أوصافه وإقامته الفضائل والرذائل في كمالها الفني مقام تماثيل بارعة من الجمال، كل ذلك ترك شعره مستمرًّا باستمرار الحياة وباستمرار الإنسانية وباستمرار الذوق. إن هذا الكون مبني في نفسه مما يعلم العلم تركيبه ولا يعلم سر تركيبه إلا الله وحده، ولكنه مبني في أنفسنا من عمل الحواس، ثم من التعليل والتفسير؛ أما الحواس ففي كل حي، لا تخلق بصناعة ولا عمل؛ وأما التعليل والتفسير فهما من صناعة الشاعر والأديب، فكلاهما يخلق لإتمام الخلق في الحقيقة، وهي منزلة لا أدري كيف يمكن أن تمسخ حتى تقتصر على معنى الشاعر الاجتماعي أو السياسي، فترجع به نمطًا واحدًا، مع أن الآثار الأدبية وفي جملتها الشعر -إن هي إلا قوى الفكرة وإلهام النفس وبصيرة الروح مسجلة كلها في بواعثها وأسبابها من نفس عالية ممتازة؛ وهذه القوى كثيرة التحول، فيجب ضرورة أن تكون آثارها كثيرة التنوع، وتنوع الصور الفكرية في آثار الشاعر أو الأديب ومجيئها متوافرة متتابعة هو معيار أدبه وقياس نبوغه عاليًا أو نازلًا، ومتبعًا أو مبتكرًا، وفيما يضيء من نواحيه وما ينطفئ. على أن شاعرنا الاجتماعي "كما كان يجب أن يوصف -رحمه الله- وإن كان قد نفخ في روح الشعب أنفاسه إلهية، وأحسن في وصف حوادثه وآلامه وعيوبه، وأبلغ البيان في كل ذلك- فإنه نزل في هذه المرتبة عن وضعه الصحيح، فكان في منزلته بمكان الشرطي في الطريق: يقف للجرائم والحوادث، على حين أن مقامه الاجتماعي من الشعب مقام المعلم في مدرسته: يجلس للطباع والأخلاق، ليس الشأن أن تجد في شعر الشاعر حوادث عصره أكثرها أو أقلها، فإن فوق هذه منزلة أعلى منها، وهي أن توجد حوادث

النهضة بشعر الشاعر، وأن يكون في شعره العنصر الناري من اللغة الشعبية. على أن "حافظ" -رحمه الله- أدرك كل هذا في آخر عهده، فكان يريد أن يميت ديوانه ويستخرج منه جزءًا صغيرًا يختار فيه ألف بيت ويسقط ما عداها وإن ... وإن كان فيه شعر اجتماعي ... ومع هذا النقص الذي بعثت عليه طبيعة الزمن وطبيعة الشاعر معًا، فإن تمام حافظ في مذهبه الاجتماعي الذي نبغ فيه جاء من وراء القوة وفوق الطاقة، لا يجاريه فيه شاعر آخر، بحيث دل على أن النابغة قدر إلهي لا ينقص من عظمته أن يكون حادثة واحدة تدوي دويها في الدنيا، فهو ميسر منذ نشأته لما خلق له من ذلك، فأحكمته المدرسة الحربية، ثم قيده الجيش، ثم تقاذفه السودان، ثم قذف به الظلم، ثم تولاه إمام عصره الشيخ محمد عبده، وهو كذلك في غاياته الوعرة ومقاصده العمرانية ومعاناته لإصلاح- مدرسة حربية وجيش وفلاة، فلم يكن حافظ إلا الصوت الإنساني الذي أعد بخصائصه للتعبير عن حوادث أمته وخصائصها، وكأنه في نقلته من السودان إلى مصر قد انتقل من جيش يحارب الأقوام الأعداء لأمته، إلى جيش آخر يحارب المعاني الأعداء لأمته. ولد حافظ إبراهيم سنة1871، وكان الكتاب الأول الذي هداه إلى سر الأدب العربي وأرهف ذوقه وأحكم طبيعته، هو كتاب "الوسيلة الأدبية" للشيخ حسين المرصفي، المطبوع في مصر لخمس وخمسين سنة؛ ففي هذا الكتاب قرأ حافظ خلاصة مختارة محققة من فنون الأدب العربي في عصوره المختلفة ودرس ذوق البلاغة في أسمى ما يبلغ بها الذوق، ووقف على أسرار تركيبها، وعرف منه الطريقة التي نبغ بها البارودي، وهي قراءته دواوين فحول الشعراء من العرب ومن بعدهم، وحفظه الكثير منها؛ فبنى شاعرنا من يومئذ قريحته على الحفظ، ولم يزل يحفظ إلى آخر عمره؛ إذ كانت قريحته كآلة التصوير: لا تنبه لشيء إلا علقته وهذا سبب من أسباب ضعف خياله، ولكنه رد عليه من القوة في اللغة ما تناهى فيه إلى الغاية. واتفق لذلك العهد أن طبعت لزوميات المعري في مصر، فتناولها حافظ واستظهر أكثرها، فكانت باعث ميله ونزعته إلى الشعر الاجتماعي؛ والفرق بين حافظ وبين المعري في الموهبة الفلسفية هو الذي نفذ بالمعري إلى أسرار كثيرة ووقف بحافظ عند الظاهر وما حوله، يطير هناك ويقع. وقد كان صاحبنا ضعيف من هذه الناحية، فاستصعبت عليه أسرار واستغلقت أخرى من أسرار الخير والشر في الحياة، والجمال والحسن في الخليقة، والجلال

والإبداع في الكون، والإقرار والشك في كل ذلك؛ وقد بلغ المعري من هذا مبلغًا لا بأس به، إلا أنه لم يصف كما تصفي الأشياء في عين مبصرة؛ فخبط وخلط؛ ووضع من أغراض نفسه المريضة على الصحيح والمريض جميعًا. وتابعه حافظ في طريقة أخرى سنشير إليها بعد. وفتن شاعرنا بما قرأ في "الوسيلة" من شعر البارودي، فأصبح من يومئذ تلميذه، وسار على نهجه في قوة اللفظ وجزالة السبك ومتانة الصنعة وجودة التأليف على نغم الألفاظ وأجراس الحروف، ولكنه لم يدرك شأو البارودي في ذلك؛ لأن هذا جمع من دواوين الشعراء وكتب الأدب ما لم يتفق لغيره في عصره، وأدخل في شعره أحسن ما صنعت الدنيا في ألف سنة من تاريخ البلاغة العربية؛ ولذا انتقل عنه حافظ إلى طريقة مسلم بن الوليد في التصنيع ولزمها إلى آخر مدته. وابتدأ يعالج الشعر في السودان وينظم في جنس ما هو بسبيله من وصف الهم المستولي عليه من جميع جهاته؛ إذ كان يتيمًا فقيرًا مشردًا، ويرى نفسه شاعرًا تصده الحياة عن منزلة الشاعر وعن أمكنة الشعر، كالذي غصب ميراثه من عرش وملك، ونفي إلى غير أرضه، ووضعت روحه بإزاء روح الفقر وقيل لها: عدو ما من صداقته بد. ثم جاء إلى مصر واتصل بالإمام الشيخ محمد عبده، واستقال من الجيش وفرغ للأدب؛ فبدأ من ثم تكوينه الأدبي المندمج المحكم، أما قبل ذلك إلى سنة 1901 التي طبع فيها الجزء الأول من ديوانه، فكان شعره قليلًا ظاهر التكلف، وأكثره يدل على طريقة مضطربة لم تستحكم، وفكر لم ينضج، وموهبة في التوليد الشعري بينها وبين الاستقلال أمد قريب. ودرس في مدرسة الشيخ محمد عبده من سنة 1899 إلى سنة 1905، وهذا الإمام -رحمه الله- كان من كل نواحيه رجلًا فذًّا، وكأنه نبي تأخر عن زمنه؛ فأُعطي الشريعة، ولكن في عزيمته، ووُهب الوحي ولكن في عقله، واتصل بالسر القدسي ولكن من قلبه؛ ولولا هو ولولا أنه بهذه الخصائص، لكان حافظ شاعرًا من الطبقة الثانية، فإنه من الشيخ وحده كانت له هذه القوة التي جعلته يصيب الإلهام من كل عظيم يعرفه، وكان له من أثرها هذا الشعر المتين في وصف العظماء والعظائم وهو أحسن شعره. ولم يجد حافظ من قومه ما يجعله لسانهم حتى تنطقه بالوحي نفسيتهم التاريخية الكبرى، ولا تولاه ملك أو أمير يرغب في أدبه رغبة أديب ملك، أو

أديب أمير، ليظهر منه عبقرية جديدة في التاريخ؛ ولا عرف الحب الذي يجعل للشاعر من سحر الحبيب ما يجمع النفسية التاريخية والملكية معًا ويزيد عليهما؛ وهذه الثلاثة التي لم تتفق لحافظ، هي التي لا ينبغ الشاعر نبوغًا يفرده ويميزه إلا بواحد منها أو باثنين أو بها كلها؛ غير أن "حافظ" وجد في الإمام ما هو أسمى من كل هؤلاء في النفس والجاذبية، وعرف فيه من ذوق الأدب والبلاغة ما لم يعرف شاعر في ملك ولا أمير؛ وقد حضر درسه في المنطق وأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز، وخرج منها بذوقه الدقيق وأسلوبه المتمكن، وحضر مجالسه وخرج منها بمواضيعه الاجتماعية وأغراضه الوثابة، وحضر نظرات عينيه وخرج منها بروحانية قوية هي التي تنضرم في شعره إلى الأبد، فحافظ إحدى حسنات الشيخ على العالم العربي، وهو خطة من خططه في عمله للإصلاح الشرقي الإسلامي والنهضة المصرية الوطنية وإحياء العربية وآدابها؛ وإذا ذكرت حسنات الشيخ أو عدت للتاريخ، وجب أن يقال: أصلح وفعل وفعل وفسر القرآن وأنشأ حافظ إبراهيم ... ومضى شاعرنا موجَّهًا بفكرة الإمام وروحه، واستمر في ذلك بعد موت الشيخ كما يستمر النهر إذا احتفر مجراه: لا يستطيع أن يخرج عنه ما دام يجري إلى مقارِّه. وكان حافظ في بديعه وصناعته على مذهب مسلم بن الوليد كما قلنا، وهو مثله إبطاء في عمل الشعر، وتلومًا على حوكه، وانفرادًا بكل لفظة منه، وتقليبًا للنظر فيما بين الكلمة والكلمة، واعتبار كل بيت كالعروس: لها معرض وحلية وزينة؛ فإذا عمل شعرًا انبث خواطره في كل وجه، وذهب وراء الألفاظ والمعاني، وترك هاجسه "العقل الباطن"1 يعمل عمله فيما التوى عليه أو استصعب، وهو واثق أنه سينقاد ويتسهل بقوة إن لم تكن فيه الآن فستكون فيه؛ ثم ينظم ما يتسمح إن جاء في موضعه من القصيدة أو في غير موضعه، فلا يتبع فيها نسقًا بعينه، وإنما القصيدة عنده كل سيجتمع من بعد، تتهيأ أجزاؤه متسقة ومبعثرة كما يجيء بها الإلهام وأسباب الاتفاق؛ فالقصيدة أولًا في أبياتها، ثم تكون أبياتها فيها، أي ثم ترتب الأبيات وتنزل في منازلها، ولا ينظم إلا متغنيًا، يروض الشعر بذلك؛ لأن النفس تتفتح للموسيقى فتسمح وتنقاد، وهو يتبع في ذلك طريقة

_ 1 كذا سماه المؤلف هنا، وقد سماه في غير هذا الموضع "الواعية الباطنة".

معروفة ذكرها ابن حجة الحموي في كتابه "خزانة الأدب"، وهي من وصية أبي تمام البحتري، وكان المتنبي يعمل عليها؛ وبالجملة فإن "حافظ" يرتهن فكره بالقصيدة التي ينظمها ويتوفر عليها وعلى أسبابها، لا كما يفرغ الشاعر للشعر، ولكن كما يتوفر المؤلف العظيم على كتاب يؤلفه، وهو كذلك يبطئ في نثره أكثر مما يبطئ في الشعر، دلني بنفسه رحمه الله على صفحة في الجزء الثاني من ترجمة البؤساء، وقال: إنه ترجمها بخمسة عشر يومًا*. وحضرته مرة يترجم أسطرًا من الجزء الأول "في قهوة الشيشة" يخطها في دفتر صغير دون حجم الكف، فاجتمعت له ثلاثة أسطر في ثلاث ساعات، وهذا لا يعيبه ما دام يريد قسط الفن، وما دام يحاول أن يخرج الكلمات من عالمها إلى عالمه هو المتموج من الألفاظ والعبارات بمثل الكواكب في الاستواء والجاذبية والشعاع والرونق والجمال. ويرى مع الصناعة أن يكون سبك شعره سبك البدوي المطبوع: جزلًا سهلًا مشرقًا ممتلئًا متعادل الأجزاء والتقاسيم، يرن رنينًا كأنما قذفت به سليقة أعرابي فصيح، تحت ضوء كواكب البادية، على برد الرمل، في نسمات الليل، حين تمتلئ تلك النفس البدوية بحنين الحب، أو شوق الجمال، أو عظمة القوة؛ وهذا هو الأصل الذي اتبعه، وقفني عليه هو بنفسه في سنة1902، وقرظني به في الجزء الأول من ديواني فقال: أنت والله كاتب حضريُّ ... إن عددناك شاعرًا بدويَّا ولو أنك أجريت شعر حافظ في أبلغ ما قاله المطبوعون من الأعراب وشعراء القرن الأول، لالتأم به وزاد عليه في الصناعة وبعض المعنى؛ وقل أن تجد في شعره كلمة ينبو بها مكانها، إلا ألفاظًا قليلة كان يستكرهها، يحسب أنه يستطرف منها ويرى في غرابتها جديدًا؛ وهذا من خطأ رأيه في الأسلوب؛ لأنه مع بلاغته كان ينقصه أن يكون فيلسوفًا في البلاغة، وأنا أرى أنه لو تمت له الموهبة الفلسفية لما جاراه شاعر آخر، ولكن الكمال عزيز في البشرية؛ وقد عرفت رأيه في الأسلوب في سنة 1906، إذ نشرت له مجلة الأقلام التي كان يصدرها صاحبنا الأديب جورج طنوس كلمات كان يريد أن يضمنها كتابه "ليالي سطيح"، أظهر فيها

_ * لما أهدي إلي هذا الجزء كنا قبل الظهر، فلم يدعني حتى قرأته كله معه إلى العصر وكتبت عنه في المقطم بعد ذلك.

رأيه في الشعراء، فقال في إسماعيل صبري: يقول الشعر لنفسه لا للناس، وفي شوقي: أرق الشعراء، طبعًا وأسماهم خيالًا وفي مطران: أسرعهم بديهة وأقدرهم ابتكارًا. وقال فيَّ -ولم يكن مضى علي إلا ست سنين في طلب الأدب: مكثار راقي الخيال بعيد الشوط في ميادين الأدب، غير ناضج الأسلوب. فلما اجتمعت به فاتحته في ذلك وسألته رأيه في الأسلوب الناضج، فلم أر عنده طائلًا، وكل ما قاله في ذلك: أن الشيخ عبد القاهر الجرجاني قرر أن البلاغة ليست في اللفظ ولا في المعنى، ولكنها في الأسلوب. وعبد القاهر لم يقل هذا ولا قاله غيره، فإن الأسلوب عنده "طريقة مخصوصة في نسق الألفاظ بعضها على بعض لترتيب المعاني في النفس وتنزيلها"، و"أن المنزلة من حيز المعاني دون الألفاظ، وأنها ليست لك حيث تسمع بأذنك، بل حيث تنظر بقلبك وتستعين بفكرك". وقد قررت أن للألفاظ ما يشبه الألوان، فليست كلها زرقاء ولا صفراء ولا حمراء، ورب لفظة رقيقة تقع ضعيفة في موضع فيكون ضعفها في موضعها ذاك هو كل بلاغتها وقوتها، كفترة السكوت بين أنغام الموسيقى: هي في نفسها صمت لا قيمة له: ولكنها في موضعها بين الأنغام نغم آخر ذو تأثير بسكونه لا برنينه؛ وهذا من روح الفن في الأسلوب. وأدرك شاعرنا من يومئذ ما سميته "قوة الضعف"، ولعل هذا هو السبب في أن طبعه رجع يعدل به إلى التسهيل، حتى أنه لتقع في شعره أبيات متهافتة فيأتي بها ولا ينكرها؛ ولقيني مرة فأنشدني قول الشاعر: نا لم أرزق محبتها ... إنما للعبد ما رزقا وجعل يعجني من بلاغة قوله "لم أرزق" وأنها مع ذلك ضعيفة مبتذلة تجري في منطق كل عامي، قلت: ولكن "محبتها" جعلتها كمحبتها ... وضعف الموهبة الفلسفية في حافظ عوضه ناحية أخرى من أقوى القوة في الشعر، وهي اهتداؤه إلى حقيقة الغرض الذي ينظم فيه، وتركه الحواشي والزيادات، وانصراف قواه إلى دقة الوصف حين يصف، وتعويله على إحساسه أكثر من تعويله على فكره؛ فزاد ذلك في رونق شعره ومائة، ونحا به منحى المطبوعين، فخرج يتدفق سلاسة وحلاوة، ممتلئًا من صواب المعنى وبلاغة الأداء وقوة التأثير؛ وبهذا نبغ في الرثاء ووصف الفجائع نبوغًا انفرد به، حتى لأحسب أن

هناك روحًا يمده في هذه المواقف، وأن الحقيقة تتبرج له في هذه العظائم خاصة ليرى منها ما لا يراه غيره؛ وهو يتحدّ بالعظيم الذي يرثيه فيجيد فيمن يعرفه إجادة منقطعة النظير، تتبين الفرق بينها وبين شعره فيمن لا يعرفه تلك المعرفة؛ وأحسبه يسأل روح العظيم الذي يصفه أو يرثيه: أين المعنى الذي فيه حقيقتك؟ وأين الحقيقة التي فيها معناك؟ والفلسفة الشعرية كلها أن يحل في الشاعر الملهم ذلك السر الجميل الجاذب والمنجذب معًا، المستقر والمتحول جميعًا، الباطن والظاهر في وقت؛ فيكتنه الشاعر ما لا يدركه غيره، فيقف على الجمال والحسن والرقة، ويلهم الحكمة والبصيرة ويتناول الأغراض بالتحليل والتركيب، ويؤتى التعبير عن كل ذلك في طريقة خاصة به هي أسلوبه، وهذا لم يتفق على أتمه وأحسنه في حافظ، فقصر به في توليد المعاني المبتكرة، ونزل به في الغزل ووصف الجمال؛ بيد أنه اتفق له مثل هذا الجلال بعينه في "الجانب المتألم من شعره"، أي الرثاء والشكوى ووصف الفجيعة، ولو ذهبت تستعرض المراثي في الشعر العربي، ومثلت بينها وبين رثاء حافظ للعظماء الذين خالطهم، كالأستاذ الإمام، والبارودي، ومصطفى كامل، وثروت، لراعك أنك واجد للشعراء ما هو أسمى من معانيه وأقوى من خياله، ولكنك لا تجد البتة ما هو أفخر وأدق مما جاء به في هذا الباب، كأنه منفرد في العربية بهذه الخاصة. وهذا المعري يقول: ولولا قولك الخلاق ربي ... لكان لنا بطلعتك افتتان ويقول في شعر آخر: أسهب في وصفه علاك لنا ... حتى خشينا النفوس تعبدها وهذان البيتان تراهما صعلوكين إذا قستهما بقول حافظ في رثاء الشيخ محمد عبده: فلا تنصبوا للناس تمثال "عبده" ... وإن كان ذكرى حكمة وثبات فإني لأخشى أن يضلوا فيومئوا ... إلى نور هذا الوجه بالسجدات مع أن معنى حافظ مأخوذ منهما، ولكن انظر كيف جاء به؟ ويقول المعري في رثاء أبيه: ولو حفروا في درة ما رضيتها ... لجسمك إبقاء عليك من الدفن

ويقول في رثاء غيره: واخْبُوَاه الأكفان من ورق المصـ ... ـحف كبرًا عن أنفس الأبرار وهذان أيضًا كالصعاليك عند قول حافظ في البارودي: لو أنصفوا أودعوه جوف لؤلؤة ... من كنز حكمته لا جوف أخدود وكفنوه بدرج من صحيفته ... أو واضح من قميص الصبح مقدود مع أن "حافظ" ألمَّ بقول المعري. ومن بديع ما اتفق له في قصيدة "الأمتان تتصافحان" قوله يصف السوريين: رادوا المناهل في الدنيا ولو وجدوا ... إلى المجرة ركبًا صاعدًا ركبوا أو قيل في الشمس للراجين منتجع ... مدوا لها سببًا في الجو وانتدبوا فاقرأ هذين وأقرأ بعدهما قول المتنبي في سيف الدولة: وصول إلى المستصعبات بخيله ... فلو كان قرن الشمس ماء لأوردا فإنك تجد بيت المتنبي صعلوكًا على بيتي حافظ، مع أنه المبتدع السابق. وأعجب ما عجبت له هذا البيت من شعر صاحبنا في مقطوعة يخاطب بها الأمريكان، نشرها في المقطم من ثلاث سنوات أو نحوها، قال: وتخذتم موج الأثير بريدا ... حين خلتم أن البروق كسالى واتفق يومئذ أن كنت جالسًا في زيارة الصديق الأستاذ فؤاد صروف محرر المقتطف، فجاء حافظ، فلم يكد يصافحني حتى قال: كيف ترى هذا البيت: وتخذتم موج الأثير بريدا ... الخ؟ فأثنيت عليه الذي يهوى، وهنأته بهذا المعنى، وأظهرت له ما شاء من الإعجاب، ولكني أضمرت عجبي من حسن ما اتفق له فإن الجمال الشعري في البيت إنما هو في استعارة الكسل للبروق، وهذا بعينه من قول ابن نباتة السعدي في سيف الدولة: وما تمهل يومًا في ندى وردًى ... إلا قضيت للمح البرق بالكسل غير أن "حافظ" نقل المعنى إلى حقه، ومكن له أحسن تمكين في صدر كلامه، وأتم جماله في قوله "حين خلتم"، فاقتطع المعنى وانفرد به، وعاد معنى السعدي كالصعلوك على باب بيته؛ وكانت هذه المقابلة في المقتطف آخر عهدي بحافظ، فلم أره من بعدها؛ رحمه الله! وما مر بك إنما كان من صناعة الشعر في غير الجزء الأول من ديوانه بعد

أن استفحل وتخرج في مدرسة الإمام، أما في الجزء الأول فله هو صعاليك ... كقوله في الخمر: خمرة قيل إنهم عصروها ... من خدود الملاح في يوم عرس فهذا البيت صعلوك عند قول ابن الجهم: مشعشعة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها وقول حافظ: "عصروها في خدود الملاح" كلام من لم ينضج في البيان ولا الذوق، لا يكاد يتوهم معه إلا أن في خدود الملاح "خراجات" عصرت ... وعلى ضد هذا قول ابن الجهم: "تناولها من خده"، فهي كلمة أكثر نعومة من ذلك الخد وأجمل نضرة. وقول حافظ في مدح الخديو: يا من تنافس في أوصافه كلمي ... تنافس العرب الأمجاد في النسب فهو صعلوك على بيت أبي تمام: تغاير الشعر فيه إذ سهرت له ... حتى ظننت قوافيه ستقتتل ولا نطيل الاستقصاء، فإنما نريد التمثيل حسب. وكان الشاعر أول نشأته يأخذ في طريقة المعري الذي عمي عن الطبيعة فجعل يخلقها من فكره ومحفوظه بمبالغات كاذبة يغرق فيها يحسب أنه بذلك يعظم الحقائق فتخرج له الأخيلة الكبيرة، وما يدري أنه بهذا الغلو لا يجيء إلا بالأباطيل الكبيرة ... ولكن حافظ في مزاجه وتركيبه ونشأته كان رجلًا مبنيًا على الوضوح والقصد. فلم يفلح في طريقة المعري؛ ووضوحه كذلك باعده من الفلسفة وإبهامها، ومن الطبيعة وألغازها، ومن الغزل ووساوسه؛ وهو الذي أداه إلى الشغف بالحقيقة واستخلاصها في كل أغراضه التي أجاد فيها؛ ومن ثم خلا شعره أو كأنه خلا ... من أوصاف الطبيعة في جمالها بلغة الفكرة المتأمل، ومن أوصاف الجمال في سحره بلغة القلب العاشق. وأنت فلا تحسبن الشاعر يجيد في الغزل والنسيب من أنه شاعر يحسن الصنعة ويجيد الأسلوب، فيكون غرض من الشعر سبيلًا إلى غرض، وفن عونًا على فن، وتكون رقة الألفاظ وهلهلة النسج، وقلبي، وكبدي، ويا ليلة ويا قمرًا،

ويا غزالًا ... وأشباه ذلك- غزلًا ونسيبًا؛ كلا ثم كلا، والثالثة كلا أيضًا.... إن الغزل وأوصاف الجمال موهبة في الشاعر أو الكاتب تسخر لها قوى هي أشبه في معجزاتها بما سخر لسليمان من قوى الجن والريح، غير أنها قوى آلام ولذات ووساوس؛ تلك عظمة في بعض النفوس الشاعرة كعظمة الملوك والأبطال، غير أنها لا تكمل إلا خائبة أو مغلوبة، فإذا انتصرت سقطت فلا بد لها من تاريخ وحوادث ومزاج عصبي يهيئ لها بروحانية شديدة الحس شديدة الفورة ثائرة أبدًا لا تهدأ إلا على توليد معنى بديع في جمال من تحبه أو كجماله؛ ثم إذا هدأت بذلك أثارها أنها هدأت، فتعود إلى التوليد، فلا تزال تبتدع وتصف كأنها آلة تعبير تدور بقلب وعصب؛ هناك قوتان: إحداهما توتي الحب كما يصلح غرامًا وعشقًا، والأخرى فوق هذه تؤتي الحب كما يصلح فكرًا وتعبيرًا؛ والأولى تجعل صاحبها عاشقًا يحب ويدرك ليس غير، والثانية تجعله محبًا عمله أن ينقل من لغة ما في نفسه إلى ما حوله، ومن لغة ما حوله إلى ما في نفسه؛ فهو مترجم النفس إلى الطبيعة، ومترجم الطبيعة إلى النفس؛ والذي أعرفه أن "حافظ" لم يرزق لا هذه ولا تلك، فلا طبيعة فيه للغزل وفلسفة الجمال؛ ثم إن التاريخ حصره في "الشاعر الاجتماعي" الذي اختار أن يمتاز به، فهو في أكثر شعره كان ليس فيه شخص، بل فيه شعب مأسور غفل عن الجمال وعن الطبيعة وعن النشوة بهما؛ إذ يعيش في معاناة الحرية لا في التأمل الجميل، وفي أسباب القوة لا في أسباب الرقة، ويريد أن يعمل؛ ليوجد حقيقته قبل أن يعمل؛ ليبدع خياله. ومع ذلك فقد جاء في ديوان حافظ غزل قليل كان كله متابعة وتقليدًا في فن يحسن التقليد إلا فيه خاصة؛ عمل صدرًا لقصيدة مدح بها الخديو مطلعها: كم تحت أذيال الظلام متيم ... دامي الفؤاد وليله لا يعلم وقلد ابن أبي ربيعة في حكاية حب لفقها تلفيقًا ظاهرًا، ثم زعم أن الحبيبة قالت له في آخرها: فاذهب بسحرك قد عرفتك واقتصد ... فيما تزيَّن للحسان وتوهم وكلمة صاحبة ابن أبي ربيعة: أهذا سحرك النسوان ... قد عرفتني الخبرا أهذا سحرك النسوان؟ ... هذه كلمة لا تخرج إلا من فم حبيبته آية في الظرف، وفيها تجاهلها وعرفانها وابتسامها وإشراق وجنتيها، وأكاد والله أرى فيها

تلك الجميلة وهي تدق بيدها على صدرها دقة الاستفهام المتدلل المتظاهر بالدهشة؛ ليتنهد فيه الكلام والمتكلم معًا، أما قول حبيبة حافظ الخشبية، أو الحجرية ... اذهب ... قد عرفتك واقتصد ... فهذا خليق أن يكون من فم قاضٍ وهو ينصح المتهم بعد الأمر بالإفراج عنه ... أو مأمور قسم عند ضبط الحادثة! أكبر ظني أن روح حافظ نفسه هي التي أوحت إلى الآن هذه "النكتة"، فإنه -رحمه الله- كان آية في الباب، وله من النوادر محفوظة ومخترعة ما لا يلحق فيه؛ ولو كان كاتبًا على قدر ما كان شاعرًا، وزاول النقد واستظهر للكتابة فيه بتلك الملكة المبدعة في التندر والتهكم، مع ما أوتي من القوة في اللغة والبيان -لكانت النعمة قد تمت به على الأدب العربي، ولقلنا في شعره وكتابته وأدبه ما قال هو في الأستاذ الإمام: فأطلعت نورًا من ثلاث جهات وما دمنا قد ذكرنا النقد فمن الوفاء للتاريخ الأدبي أن نذكر مذهب شاعرنا فيه: فلم يكن عنده منه إلا ذوق الكلام، وإدراك النفرة والنبوة في الحرف، والغلظ والجسأة في اللفظ، والضعف والتهافت في التركيب، ثم ما يجيش في الخاطر أو يتلجلج في الفكر من ذوق المعنى وإدراك كنهه والنفاذ إلى آثار النفس الحية فيه؛ فكأن النقد هو الحس بالكلام كما تلمس الحار والبارد وما بينهما؛ ووصف لي مرة إسماعيل صبري باشا وأراد أن يبالغ في دقة تمييزه وحسن بصره بالشعر وإدراكه دقائق المعاني، فقال: "ذواق يا مصطفى" ولم يزد. ومذهب الحس بالكلام هذا وإن صلح أن يكون من بعض معاني النقد، فلا يتهيأ أن يكون هو النقد بمعناه الفلسفي أو الأدبي، وهو في جملة أمره كقولك حسن حسن؛ وردي رديء، أما كيف كان حسنًا أو رديئًا، وبماذا ولماذا، فذلك ما لا سبيل إليه من مذهب "ذواق" ... ولا وسيلة له إلا العلم المستفيض، والاطلاع الواسع، والحس المرهف، والقدرة المتمكنة، مضافة كلها إلى الأدب البارع وفلسفته الدقيقة؛ ولا نعرف لحافظ كتابة في النقد البتة، وقد كان حاول شيئًا من هذا في مقدمة كتابه "ليالي سطيح"، فتناول بعض خصومه بكلمات رأى هو أن يمحوها بعد أن طبعت الكراسة الأولى، فأسقطها وأعاد كتابة المقدمة وطبعها مرة ثانية، وكانت عندي النسخة التي محاها، وهذا ما لا أظن أحدًا يعرفه الآن؛ رحم الله شاعرًا كان أصفى من الغمام، وكان شعره كأنه البرق والرعد ...

كلمات عن حافظ

كلمات 1 عن حافظ * ذهبت بقلبي إلى كل مكان فوجدت أمكنة الأشياء ولم أجد مكان قلبي؛ أيها القلب المسكين، أين أذهب بك؟ هذا ما أجبت به "حافظ" حين سألني مرة: ما لك لا ترضى ولا تهدأ ولا تستقر؟ وكان يخيل إلي أنه هو راضٍ مستقر هادئ، كأنما قضى من الحياة نهمته ولم يبق في نفسه ما تقول نفسه ليست ذلك لي!. وكنت أعجب لهذا الخلق فيه ولا أدري ما تعليله إلا أن يكون قد خلق مطبوعًا بطابع اليتم فلم يعرف منذ أدرك إلا أنه ابن القدر؛ تأتيه الأفراح والأحزان من يد واحدة مقبلة كما تنال الصبي ألطاف أبيه ولطمات أبيه ... وقد قلت له مرة: كأنك يا حافظ تنام بلا أحلام! فضحك وقال: أو كأنني أحلم بغير نوم ... ولقد عرفته منذ سنة 1900 إلى أن لحق بربه في سنة 1932، فما كنت أراه على كل أحواله إلا كاليتيم: محكومًا بروح القبر، وفي القبر أوله؛ ولما أزمع السفر إلى اليونان قلت له: ألا تخشى أن تموت هناك فتموت يونانيًا ... فقال: أو تراني لم أمت بعد في مصر؟ ... إن الذي بقي هين! ومن عجائب هذا اليتيم الحزين أنه كان قوي الملكة في فن الضحك، كأن القدر عوضه به؛ ليوجده في الناس عطف الآباء ومحبة الإخوة. ولم يخل مع فقره من ذريعة قوية إلى الجاه، ووسيلة مؤكدة إلى ما هو خير من الغنى؛ فكانت أسبابه إلى الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، ثم حشمت باشا، ثم سعد باشا زغلول؛ وهذا نظام عجيب في زمن "حافظ" يقابل الاختلال العجيب في نفس حافظ؛ فالرجل

_ 1 كتبها في الذكرى الثالثة لوفاته. * لما توفي حافظ رحمه الله كتبنا فصلًا طويلًا عن أدبه للمقتطف، فلم نعرض في كلماتنا هذه لشيء من أدب الرجل وإنما هي ذكرى وبقايا من الأيام.

كالسفينة المتكفئة: تميل بها موجة وتعدلها موجة، وهي بهذه وبهذه تمر وتسير. وأولئك الرؤساء العظماء الذين جعلهم القدر نظامًا في زمن حافظ، كانوا من أفقر الناس إلى الفكاهة والنادرة، فكان لهم كالثروة في هذا الباب، ووقع إصلاحًا في عيشهم وكانوا إصلاحًا في عيشه؛ ولو أن الأقدار تشبه بالمدارس المختلفة، لقلنا إن "حافظ" تخرج منها في مدرسة التجارة العليا ... فهو كان أبرع من يتاجر بالنادرة. وهذه النوادر كأنها هي أيضًا صنعت "حافظ" في شكل نادرة؛ فكان فقيرًا، ومع هذا كان للمال عنده متمم، هو إنفاقه وإخراجه من يده؛ وكان يتيمًا، ولكنه دائمًا متودد؛ وكان حزينًا، ولكنه أنيس الطلعة؛ وكان يائسًا، ولكنه سليم الصدر، وكان في ضيق، ولكنه واسع الخلق؛ وتمام النادرة فيه أنه كان طوال عمره متبسطًا مهتزًا كأن له زمنًا وحده غير زمن الناس، فتتراكم عليه الهموم وهو مستنيم إلى الراحة، ويعتريه من الجوع مثل مكسلة الشبع ويسترسل إلى البطالة وكأنه مشمر للجد، ويستمكن الحزن منه في ساعة فيتهدد حزنه بالساعة التالية ... رأيته في أحد أيام بؤسه الأولى قبل أن يتصل عيشه، وكان يعد قروشًا في يده، فقلت: ما هذه القروش؟ قال: كنت أقامر الساعة فأضعت ثلاثين قرشًا ولم يبق لي غير هذه القروش الملعونة، فهلم نتعشَّ. ودخل إلى مطعم كان وراء حديقة الأزبكية، فزعمت له أني تعشيت ... فأكل هو ودفع ثمن طعامه ثلاثة قروش؛ وكنت أطالع في وجهه وهو يأكل، فما أتذكره الآن إلا كما طالعته بعد عشرين سنة من ذلك التاريخ حين دعاني "حافظ" إلى مطعم بار اللواء وقد فاضت أنامله ذهبًا وفضة، وكان رحمه الله قد أصدر الجزء الثاني من "البؤساء" ورآني في القاهرة فأمسك بي حتى قرأت معه الكتاب كله فيما بين الظهر والمغرب، وركبنا في الأصيل عربة وخرجنا نتنزه، أي خرجنا نقرأ ... وكان على وجه "حافظ" لون من الرضى لا يتغير في بؤس ولا نعيم، كبياض الأبيض وسواد الأسود؛ وهذا من عجائب الرجل الذي كان في ذات نفسه فنًّا من الفوضى الإنسانية، حتى لكأنه حلم شعري بدأ من أبويه ثم انقطع وترك لتتممه الطبيعة! ومن نظر إلى "حافظ" على اعتبار أنه فن من الفوضى الإنسانية رآه جميلًا جمال الأشياء الطبيعية لا جمال الناس؛ ففيه من الصحراء والجبال والصخور والغياض والبرق والرعد وأشباهها؛ وكنت أنا أراه بهذه العين فأستجمله، ويبدو لي

جزلًا مطهمًا، وأرى في شكله هندسة كهندسة الكون؛ تتمم محاسنها بمقابحها وكم قلت له: إنك يا حافظ أجمل من القفر ... أما هو فكان يرى نفسه دميمًا شنيع المرآة متفاوت الخلق كأنه إنسان مغلوط في تركيبه ... وقد سألته مرة: هل أحب؟ فقال: النساء اثنتان: فإما جميلة تنفر من قبحي، وإما دميمة أنفر من قبحها! ولهذا لم يفلح في الغزل والنسيب، ولم يحسن من هذا الباب شيئًا يسمى شيئًا؛ وبقي شاعرًا غير تام، فإن المرأة للشاعر كحواء لآدم: هي وحدها التي تعطيه بحبها عالمًا جديدًا لم يكن فيه، وكل شرها أنها تتخطى به السموات نازلًا ... وتهدم حافظ في أواخر أيامه من أثر المرض والشيخوخة، وكان آخر العهد به أن جاء إلى إدارة "المقتطف" وأنا هناك، فلم يرني حتى بادرني بقوله: ماذا ترى في هذا البيت في وصف الأمريكان: وتخذتمْ موج الأثير بريدًا ... حين خلتم أن البروق كسالى* فنظرت إلى وجهه المعروق المتغضن وقلت له: لو كان فيك موضع قبلة لقبلتك لهذا البيت! فضحك وأدار لي خده؛ ولكن بقي خده بلا تقبيل. وشهرة هذا الأديب العظيم بنوادره ومحفوظاته من هذا الفن أمر مجمع عليه؛ وكان يتقصص النوادر والفكاهات ومطارحات السمر من مظانها في الكتب ورجال الأدب وأهل المجون، فإذا قصها على من يجالسه زاد في أسلوبها أسلوبه هو، وجعل يقلبها ويتصرف فيها ويبين عنها أحسن الإبانة بمنطقه ووجهه ونبرات في لسانه ونبرات في يده. وهو أصمعي هذا الباب خاصة، يروي منه رواية عريضة، فإذا استهل سح بالنوادر سحًا كأنها قوافي قصيدة تدعو الواحدة منها أختها التي بعدها. وقد أذكرتني "ألقوافي" مجلسًا حضرته قديمًا في سنة1901 أو1900،

_ * هذا البيت من قصيدة نظمها حافظ يخاطب فيها الأمريكيين، وقد أشرنا في مقالنا في المقتطف إلى أن معناه مسروق.

وكان "مصباح الشرق" قد نشر قصيدة رائية لابن الرومي، فتعجب المرحوم الشيخ محمد المهدي من بسطة ابن الرومي في قوافيه، فقال له "حافظ": هلم نتساجل في هذا الوزن حتى ينقطع أحدنا؛ وكانت القافية من وزن: قدرها، أحمرها، أخضرها ... الخ، وجعلت أنا أحصي عليهما؛ فلما ضاق الكلام كان الشيخ المهدي يفكر طويلًا ثم ينطق باللفظ، ولا يكاد يفعل حتى يرميه حافظ على البديهة، فيعود الرجل إلى الإطراق والتفكير؛ ثم انقطع أخيرًا وبقي حافظ يسرد له من حفظه الغريب. أما في النوادر فالعجيبة التي اتفقت له في هذا الباب أنه جاء إلى طنطا في سنة 1912 ومديرها يومئذ المرحوم "محمد محب باشا" وكان داهية ذكيًا وظريفًا لبقًا، وكنت أخالطه وأتصل به، فدعا "حافظ" إلى العشاء في داره؛ فلما مدت الأيدي قال الباشا: لي عليك شرط يا حافظ، قال: وما هو؟ قال: كل لقمة بنادرة! فتهلل حافظ وقال: نعم، لك عليَّ ذلك، ثم أخذ يقص ويأكل، والعشاء حافل، وحافظ كان نهمًا، فما انقطع ولا أخل حتى وفى بالشرط؛ وهذا لا يمنع أن الباشا كان يتغافل ويتغاضى ويتشاغل بالضحك، فيسرع حافظ ويغالط بفمه ... ولكن هذه المضحكات أضحكت من "حافظ" مرة كما أضحكت به؛ فلما كان يترجم "مكبث" لشكسبير -وهي كأعماله الناقصة دائمًا- دعوه لإلقاء محاضرة في نادي المدارس العليا، والنادي يومئذ يجمع خير الشباب حمية وعلمًا وكان صاحب السر فيه "السكرتير" زينة شباب الوطنية المرحوم أمين بك الرافعي؛ فقام حافظ فأنشدهم بعض ما ترجمه نظمًا عن شكسبير، ومثله تمثيلًا أفرغ فيه جهده، فأطرب وأعجب: ثم سألوه المحاضرة فأخذ يلقي عليهم من نوادره، وبدأ كلامه بهذه النادرة: عرضت على المعتصم جارية يشتريها، فسألها أنت بكر أم ثيب؟ فقالت: كثرت الفتوح على عهد المعتصم ... ونظر حافظ إلى وجوه القوم فأنكرها ... وبقيت هذه الوجوه إلى آخر المحاضرة كأنها تقول له: إنك لم تفلح! ولقد كان هذا من أقوى الأسباب في تنبه "حافظ" إلى ما يجب للشباب عليه إن أراد أن يكون شاعره، فأقبل على القصائد السياسية التي كسبهم بها من بعد؛ ونادرة المعتصم كالعورة المكشوفة؛ ولست أدري أكان حافظ يعرف النادرة البديعة الأخرى

أم لا؛ فقد عرضت جارية أديبة ظريفة على الرشيد فسألها: أنت بكر أم إيش؟ فقالت: أنا "أمُّ إيش" يا أمير المؤمنين ... وفن "الشعر الاجتماعي" الذي عرف به حافظ، لم يكن فنه من قبل، ولا كان هو قد تنبه له أو تحراه في طريقته؛ فلما جاءت إلى مصر الإمبراطورة "أوجيني" نظم قصيدته النونية التي يقول فيها: فاعذرينا على القصور، كلانا ... غيرته طوارئ الحدثان ولقيته بعدها فسألني رأيي في هذه القصيدة، وكان بها مدلًا معجبًا، شأنه في كل شعره؛ فانتقدت منها أشياء في ألفاظها ومعانيها، وأشرت إلى الطريقة التي كان يحسن أن تخاطب بها الإمبراطورة؛ فكأنني أغضبته؛ فقال: إن الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول، وقاسم أمين -أجمعوا على أن هذا النمط هو خير الشعر، وقالوا لي: إذا نظمت فانظم مثل هذا "الشعر الاجتماعي"، ثم كأنه تنبه إلى أنها طريقة يستطيع أن ينفرد بها، إن كل قصائد شوقي الآن غزل ومدح، ولا أثر فيها لهذا الشعر، على أنه هو الشعر. وتتابعت قصائده الاجتماعية، فلقيني بعدها مرة أخرى فقال لي: إن الشاعر الذي لا ينظم في الاجتماعيات ليس عندي بشاعر. وأردت أن أغيظه فقلت له: وما هي الاجتماعيات إلا جعل مقالات الصحف قصائد؟ ... فالأستاذ الإمام وسعد زغلول وقاسم أمين: أحد هؤلاء أو جميعهم أصل هذا المذهب الذي ذهب إليه حافظ، وهو كثيرًا ما كان يقتبس من الأفكار التي تعرض في مجلس الشيخ محمد عبده، من حديثه أو حديث غيره، فيبني عليها أو يدخلها في شعره، وهو أحيانًا رديء الأخذ جدًّا حين يكون المعنى فلسفيًّا؛ إذ كانت ملكة الفلسفة فيه كالمعطلة، وإنما هي في الشاعر من ملكة الحب، وإنما أولها وأصلها دخول المرأة في عالم الكلام بإيهامها وثرثرتها ... وكنت أول عهدي بالشعر نظمت قصيدة مدحت فيها الأستاذ الإمام وأنفذتها إليه، ثم قابلت حافظ بعدها فقال لي: إنه هو تلاها على الإمام، وإنه استحسنها؛ قلت: فماذا كانت كلمته فيها؟ قال: إنه قال: لا بأس بها ... فاضطرب شيطاني من الغضب، وقلت له: إن الشيخ ليس بشاعر، فليس

لرأيه في الشعر كبير معنى!. قال: ويحك!. إن هذا مبلغ الاستحسان عنده. قلت: وماذا يقول لك أنت حين تنشده؟ قال: أعلى من ذلك قليلًا.. فأرضاني والله أن يكون بيني وبين حافظ "قليل" وطمعت من يومئذ. وأنا أرى أن "حافظ إبراهيم" إن هو إلا ديوان الشيخ "محمد عبده": لولا أن هذا هذا، لما كان ذلك ذلك. ومن أثر الشيخ في حافظ أنه كان دائمًا في حاجة إلى من يسمعه، فكان إذا عمل أبياتًا ركب إلى إسماعيل باشا صبري في القصر العيني، وطاف على القهوات والأندية يسمع الناس بالقوة ... إذ كانت أذن الإمام هي التي ربت الملكة فيه؛ وقد بينا هذا في مقالنا في "المقتطف". وكان تمام الشعر الحافظي أن ينشده حافظ نفسه؛ وما سمعت في الإنشاد أعرب عربية من البارودي، ولا أعذب عذوبة من الكاظمي، ولا أفخم فخامة من حافظ -رحمهم الله جميعًا. وكان أديبنا يجل البارودي إجلالًا عظيمًا، ولما قال في مدحه: فمر كل معنى فارسي بطاعتي ... وكل نفور منه أن يتوددا قلت له: ما معنى هذا؟ وكيف يأمر البارودي كل معنى فارسي وما هو بفارسي؟ قال: إنه يعرف الفارسية، وقد نظم فيها، وعنده مجموعة جمع فيها كل المعاني الفارسية البديعة التي وقف عليها؛ قلت: فكان الوجه أن تقول له: أعرني المجموعة التي عندك ... أما الكاظمي فكان حافظ يجافيه ويباعده، حتى قال لي مرة وقد ذكرته به: "عققناه يا مصطفى! ". وما أنسى لا أنسى فرح حافظ حين أعلمته أن الكاظمي يحفظ قصيدة من قصائده، وذلك أنهم في سنة 1901 -على ما أذكر- أعلنوا عن جوائز يمنحونها من يجيد في مدح الخديو، وجعلوا الحكم في ذلك إلى البارودي وصبري والكاظمي، ثم تخلى البارودي وصبري، وحكم الكاظمي وحده، فنال حافظ الميدالية الذهبية، ونال مثلها السيد توفيق البكري. ولما زرت الكاظمي وكنت يومئذ مبتدئًا في الشعر، ولا أزال في الغرزمة*

_ * الغرزمة: أول قول الشعر، حين يكثر الرديء فيه، يقال: فلان يغرزم.

قال: لماذا لم تدخل في هذه المباراة؟ قلت: وأين أنا من شوقي وحافظ وفلان وفلان فقال: "ليه تخلي همتك ضعيفة؟ " ثم أسمعني قصيدة حافظ وكان معجبًا بها، فنقلت ذلك إلى حافظ، فكاد يطير عن كرسيه في القهوة. وكان تعنت حافظ على الكاظمي؛ لأنه غير مصري، ففي سنة 1903 كانت تصدر في القاهرة مجلة اسمها "الثريا"، فظهر في أحد أعدادها1 مقال عن الشعراء بهذا التوقيع، وانفجر هذا المقال انفجار البركان، وقام به الشعراء وقعدوا، وكان له في الغارة عليهم كزفيف الجيش وقعقعة السلاح، وتناولته الصحف اليومية، واستمرت رجفته الأدبية نحو الشهر؛ وانتهى إلى الخديو؛ وتكلم عند الأستاذ الإمام في مجلسه، واجتمع له جماعة من كبار أساتذة العصر السوريين، كالعلامة سليمان البستاني، وأديب عصره الشيخ إبراهيم اليازجي، والمؤرخ الكبير جورجي زيدان -إذ كان صاحب المجلة سوريا- وجعلوا ينفذون إلى صاحب المجلة دسيسًا بعد دسيس ليعلموا من هو كاتب المقال. وشاع يومئذ أني أنا الكاتب له؛ وكان الكاظمي على رأس الشعراء فيه، فغضب حافظ لذلك غضبًا شديدًا، وما كاد يراني في القاهرة حتى ابتدرني بقوله: ورب الكعبة أنت كاتب المقال، وذمة الإسلام أنت صاحبه! ثم دخلنا إلى "قهوة الشيشة"، فقال في كلامه: إن الذي يغيظني أن يأتي كاتب المقال بشاعر من غير مصر فيضعه على رءوسنا نحن المصريين!. فقلت: ولعل هذا قد غاظك بقدر ما سرك ألَّا يكون الذي على رأسك هو شوقي ... وغضب السيد توفيق البكري غضبًا من نوع آخر، فاستعان بالمرحوم السيد مصطفى المنفلوطي استعانة ذهبية ... وشمر المنفلوطي فكتب مقالًا في "مجلة سركيس" يعارض به مقال "الثريا"، وجعل فيه البكري على رأس الشعراء ... ومدحه مدحًا يرن رنينًا. أما أنا فتناولني بما استطاع من الذم، وجردني من الألفاظ والمعاني جميعًا، وعدني في الشعراء ليقول إني لست بشاعر ... فكان هذا رد نفسه على نفسه*.

_ 1 عدد يناير سنة 1905، وانظر ص38-43 "حياة الرافعي". 2 نشر المرحوم المنفلوطي مقاله في الطبعة الأولى من كتابه "النظرات" بعد أن هذبه، ثم حذفه من الطبعات الأخرى؛ لأنه هو كان يعلم أن النائحة المستأجرة لا يسمى بكاؤها بكاء ...

وتعلق مقال المنفلوطي على المقال الأول فاشتهر به لا بالمنفلوطي؛ وغضب حافظ مرة ثانية، فكتب إلي كتابا يذكر فيه تعسف هذا الكاتب وتحامله، ويقول: قد وكلت إليك أمر تأديبه1.... فكتب مقالًا في جريدة "المنبر"، وكان يصدرها الأستاذان محمد مسعود وحافظ عوض، ووضعت كلمة المنفلوطي التي ذمني بها في صدر مقالي أفاخر بها ... وقلت: إني كذلك الفيلسوف الذي أرادوه أن يشفع إلى ملكه، فأكب على قدم الملك حتى شفعه؛ فلما عابوه بأنه أذال حرمة الفلسفة بانحنائه على قدم الملك وسجوده له، قال: ويحكم!. فكيف أصنع إذا كان الملك قد جعل أذنيه في رجليه ... ولم يكن مضى لي في معالجة الشعر غير سنتين حين ظهر مقال "الثريا"، ومع ذلك أصبح كل شاعر يريد أن يعرف رأيي فيه؛ فمررت ذات يوم "بحافظ" وهو في جماعة لا أعرفهم، فلما اطمأن بي المجلس قال حافظ: ما رأيك في شعر اليازجي؟ فأجبته: قال: فالبستاني؟ فنجيب الحداد؟ ففلان؟ ففلان؟ فداود عمون؟ قلت: هذا لم أقرأ له إلا قليلًا لا يسوغ معه الحكم على شعره. قال: فماذا قرأت له؟ قلت: رده على قصيدتك إليه: شجتنا مطالع أقمارها قال: فما رأيك في قصيدته هذه؟ قلت: هي من الشعر الوسط الذي لا يعلو ولا ينزل. فما راعني إلا رجل في المجلس يقول: أنصفت والله!. فقال حافظ: أقدم لك داود بك عمون! ... رحم الله تلك الأيام!.

_ 1 انظر ص121 "حياة الرافعي".

شوقي

شوقي 1: هذا هو الرجل الذي يخيل إلي أن مصر اختارته دون أهلها جميعًا لتضع فيه روحها المتكلم، فأوجبت له ما لم توجب لغيره، وأعانته بما لم يتفق لسواه، ووهبته من القدرة والتمكين وأسباب الرياسة وخصائصها على قدر أمة تريد أن تكون شاعرة، لا على قدر رجل في نفسه؛ وبه وحده استطاعت مصر أن تقول للتاريح: شعري وأدبي! شوقي: هذا هو الاسم الذي كان في الأدب كالشمس من المشرق: متى طلعت في موضع فقد طلعت في كل موضع، ومتى ذكر في بلد من بلاد العالم العربي اتسع معنى اسمه فدل على مصر كلها كأنما قيل النيل أو الهرم أو القاهرة؛ مترادفات لا في وضع اللغة ولكن في جلال اللغة. رجل عاش حتى تم، وذلك برهان التاريخ على اصطفائه لمصر، ودليل العبقرية على أن فيه السر المتحرك الذي لا يقف ولا يكل ولا يقطع نظام عمله، كأن فيه حاسة نحلة في حديقة، ويكبر شعره كلما كبر الزمن، فلم يتخلف عن دهره، ولم يقع دون أبعد غاياته، وكأنه مع الدهر على سياق واحد، وكأن شعره تاريخ من الكلام يتطور أطواره في النمو فلم يجمد ولم يرتكس، وبقي خيال صاحبه إلى آخر عمره في تدبير السماء كعراص الغمامة، سحابه كثير البرق ممتلئ ممطر ينصب من ناحية ويمتلئ من ناحية. والناس يكتب عليهم الشباب والكهولة والهرم، ولكن الأديب الحق يكتب عليه شباب وكهولة وشباب؛ إذ كانت في قلبه الغايات الحية الشاعرة، ما تنفك يلد بعضها بعضًا إلى ما لا انقطاع له، فإنها ليست من حياة الشاعر التي خلقت في قلبه، ولكنها من حياة المعاني في هذا القلب.

_ 1 المقتطف: نوفمبر سنة1932، وانظر ص156-157 "حياة الرافعي".

أقرر هذا في شوقي -رحمه الله- وأنا من أعرف الناس بعيوبه وأماكن الغميزة في أدبه وشعره؛ ولكن هذا الرجل انفلت من تاريخ الأدب لمصر وحدها كانفلات المطرة من سحابها المتساير في الجو، فأصبحت مصر به سيدة العالم العربي في الشعر، وهي لم تذكر قديمًا في الأدب إلا بالنكتة والرقة وصناعات بديعية ملفقة، ولم يستفض لها ذكر بنابغة ولا عبقري، وكانت كالمستجدية من تاريخ الحواضر في العالم، حتى أن أبا محمد الملقب بولي الدولة صاحب ديوان الإنشاء في مصر للظاهر بن المستنصر -"وقد توفي سنة 341هـ"، وكان رزقه ثلاثة آلاف دينار في السنة غير رسوم يستوفيها على كل ما يكتبه- سلم لرسول التجار إلى مصر من بغداد جزأين من شعره ورسائله يحملهما إلى بغداد ليعرضهما على الشريف المرتضي وغيره من أدبائها، فيستشيرهم في تخليد هذا الأدب المصري بدار العلم إن استجادوه وارتضوه، كأن حفظ ديوان من شعر مصر ونثرها في مكتبة بغداد قديمًا يشبه في حوادث دهرنا استقلال مصر وقبولها في عصبة الأمم. وهذا أحمد بن علي الأسواني إمام من أئمة الأدب في مصر "توفي سنة 562"، وكان كاتبًا شاعرًا يجمع إلى علوم الأدب الفقه والمنطق والهندسة والطب والموسيقى والفلك- أراد أن يدون شعر المصريين، فجمع من شعرهم "وشعر من طرأ عليهم" أربع مجلدات، كأن الشعر المصري وحده إلى آخر القرن السادس للهجرة، في العهد الذي لم يكن ضاع فيه شيء من الكتب والدواوين لا يملأ أربع مجلدات ... على اختلافهم في مقدار المجلدة، فقد تكون جزءًا لطيف الحجم؛ والأسواني نفسه يبلغ ديوانه نحو مائة ورقة. وأخوه الحسن المعروف بالمهذب "الأسواني المتوفى سنة 561" قال العماد الكاتب: إنه لم يكن بمصر في زمنه أشعر منه، وسارت له في الناس قصيدة سموها النواحة، وصف فيها حنينه إلى أخيه وقد رحل إلى مكة وطالت غيبته بها وخيف عليه؛ فالرجل أشعر أهل مصر في زمنه، وحادثة النواحة تجعله في هذا المعنى أشعر من نفسه، على أنه مع هذا لم يقل إلا من هذا: يا ربع أين نرى الأحبة يمموا ... هل أنجدوا من بعدنا أم أتهموا رحلوا وفي القلب المعنَّى بعدهم ... وجد على مر الزمان مخيم وتعوضت بالأنس نفسي وحشة ... لا أوحش الله المنازل منهم ... ولولا ابن الفارض والبهاء زهير وابن قلاقس الإسكندري وأمثالهم، وكلهم

أصحاب دواوين صغيرة، وليس في شعرهم إلا طابع النيل، أي الرقة والحلاوة لولا هؤلاء في المتقدمين لأجدب تاريخ الشعر في مصر؛ ولولا البارودي وصبري وحافظ في المتأخرين؛ وكلهم كذلك أصحاب دواوين صغيرة، لما ذكرت مصر بشعرها في العالم العربي؛ على أن كل هؤلاء وكل أولئك لم يستطيعوا أن يضعوا تاج الشعر على مفرق مصر، ووضعه شوقي وحده! والعجب أن دواوين المجيدين من شعراء المصريين لا تكون إلا صغيرة، كأن طبيعة النيل تأخذ في المعاني كأخذها في المادة، فلا فيض ولا خصب إلا في وقت بعد أوقات، وفي ثلاثة أشهر من كل اثني عشر شهرًا؛ ومن جمال الفراشة أن تكون صغيرة، وحسبها عند نفسها أن أجنحتها منقطة بالذهب، وأنها هي نكتة من بديع الطبيعة! على أنك واجد في تاريخ الأدب المصري عجيبة من عجائب الدنيا لا تذكر معها الإلياذة ولا الإنيادة ولا الشاهنامة ولا غيرها، ولكنها عجيبة ملأتها روح الصحراء إن كانت تلك الدواوين الصغيرة من روح النيل؛ وهي قصيدة نظمها أبو رجاء الأسواني المتوفى سنة 335هـ، وكان شاعرًا فقيهًا أديبا عالمًا كما قالوا، وزعموا أنه اقتص في نظمه أخبار العالم وقصص الأنبياء واحدًا بعد واحد، قالوا: وسئل قبل موته كما بلغت قصيدتك؟ فقال: ثلاثين ومائة ألف بيت.... وما أشك أن هذا الرجل وقع له تاريخ الطبري وكتب السير وقصص الإسرائيليات فنظمها متونًا متونًا ... وأفنى عمره في 130 ألف بيت حولها التاريخ إلى خبر مهمل في ثلاثة أسطر1. كل شاعر مصري هو عندي جزء من جزء، ولكن شوقي جزء من كل، والفرق بين الجزأين أن الأخير في قوته وعظمته وتمكنه واتساع شعره جزء عظيم كأنه بنفسه الكل؛ ولم يترك شاعر في مصر قديمًا وحديثًا ما ترك شوقي، وقد اجتمع له ما لم يجتمع لسواه؛ وذلك من الأدلة على أنه هو المختار لبلاده، فساوى الممتازين من شعراء دهره وارتفع عليهم بأمور كثيرة هي رزق تاريخه من القوة المدبرة التي لا حيلة لأحد أن يأخذ منها ما لا تعطي، أو يزيد ما تنقص، أو ينقص ما تزيد؛ وقد حاولوا إسقاط شوقي مرارًا فأراهم غباره ومضى متقدمًا،

_ 1 انظر خبر "مصر الشاعرة" ص146-147 "حياة الرافعي".

ورجع من رجع منهم ليغسل عينيه ... ويرى بهما أن شوقي من النفس المصرية بمنزلة المجد المكتوب لها في التاريخ بحرب ونصر، وما هو بمنزلة شاعر وشعره. ولد شاعرنا سنة 1868 في نعمة الخديو إسماعيل باشا، ونثر له الخديو الذهب وهو رضيع في قصة ذكرها شوقي في مقدمة ديوانه القديم، ثم كفله الخديو توفيق باشا وعلمه وأنفق عليه من سعة، وأنزل نفسه منه منزلة أب غني كما يقول شوقي في مقدمته، ثم تولاه الخديو عباس باشا وجعله شاعره وتركه يقول: شاعر العزيز وما ... بالقليل ذا اللقب وإذا أنت فسرت لقب شاعر الأمير هذا بالأمير نفسه في ذلك العهد، خرج لك من التفسير: شاعر مرهف معانٌ بأسباب كثيرة؛ ليكون أداة سياسية في الشعب المصري، تعمل لإحياء التاريخ في النفس المصرية، وتبصيرها بعظمتها، وإقحامها في معارك زمنها، وتهيئتها للمدافعة، وتصل الشعر بالسياسة الدينية التي توجهت لها الخلافة يومئذ لتضرب فكرة أوروبا في تقسيم الدولة بفكرة الجامعة الإسلامية ولا يخرج لك شوقي من هذا التفسير على أنه رجل في قدر نفسه، بل في قدر أميره ذلك؛ وكان ممتلئًا شبابًا يغلي غليانًا، ومعدًا يوميذ لمطامع بعيدة ملفقة حشوها الديناميت السياسي ... كنت ذات مرة أكلم صديقي الكاتب العميق فرح أنطون صاحب "الجامعة" وكان معجبًا بشوقي إعجابًا شديدًا، فقال لي: إن شوقي الآن في أفق الملوك لا في أفق الشعراء! قلت: كأنك نفيته من الملوك والشعراء معًا؛ إذ لو خرج من هؤلاء لم يكن شيئًا، ولو نفذ إلى أولئك لم يعد شيئًا، إنما الرجل في السياسة الملتوية التي تصله بالأمير، هو مرة كوزير الحربية، ومرة كوزير المعارف. وهذه السياسة التي ارتاض بها شوقي ولابسها من أول عهده، واتجه شعره في مذاهبها، من الوطنية المصرية، إلى النزعة الفرعونية، إلى الجامعة الإسلامية، فكانت بهذا سبب نبوغه ومادة مده الشعري هي بعينها مادة نقائصه؛ فلقد ابتلته بحب نفسه وحب الثناء عليها، وتسخير الناس في ذلك بما وسعته قوته، إلى غيرة أشد من غيرة الحسناء تقشعر كل شعرة منها إذا جاءها الحسن بثانية، وهي غيرة وإن كانت مذمومة في صلته بالأدباء الذين لذعوه بالجمر ... ونحن منهم، غير أنها ممدوحة في موضعها من طبيعته هو؛ إذ جعلته كالجواد العتيق الكريم ينافس حتى ظله، فعارض المتقدمين بشعره كأنهم معه، ونافس المعاصرين ليجعلهم كأنهم ليسوا معه، ونافس ذاته أيضًا ليجعل شوقي أشعر من شوقي؛ وعندي أن كل

ما في هذا الرجل من المتناقضات فمرجعه إلى آثار تلك السياسة الملتوية التي ردت بطبيعة القوة عن وجوهها الصريحة، فجعلت تضطرب في وجوه من الحيل والأسباب مدبرة مقبلة، متهدية في كل مجاهلها بإبرة مغناطيسية عجيبة لا يشبهها في الطبيعة إلا أنف الثعلب المتجه دائمًا إلى رائحة الدجاج. ومؤرخ الأدب الذي يريد أن يكتب عن شوقي لا يصنع شيئًا إن هو لم يذكر أن هذا الشاعر العظيم كان هدية الخديو توفيق والخديو عباس لمصر، كالدلتا بين فرعي النيل؛ وما أصابه المتنبي من سيف الدولة مما ابتعث قريحته وراش أجنحته السماوية وأضفى ريشها وانتزى بها على الغايات البعيدة في تاريخ الأدب أصاب شوقي من سمو الخديو عباس أكثر منه، فكان حقيقًا أن يساوي المتنبي أو يتقدمه، ولكنه لم يبلغ منزلته؛ لأن الخديو لم يكن كسيف الدولة في معرفته بالأدب العربي ورغبته فيه؛ وسر المتنبي كان في ثلاثة أشياء: في جهازه العصبي العجيب الذي لا يقل في رأيي عما في دماغ شكسبير، وفي ممدوحه الأديب الملك الذي ينزل من هذا الجهاز منزلة المهندس الكهربائي من آلة عظيمة يديرها بعلم ويقوم عليها بتدبير ويحوطها بعناية، ثم في أفق عصره المتألق بنجوم الأدب التي لا يمكن أن يظهر بينها إلا ما هو في قدرها، ولا يتميز فيها إلا ما هو أكبر منها، ولا يتركها كالمنطفئة إلا شمس كشمس المتنبي تتفجر على الدنيا بمعجزاتها النورانية. ولقد -والله- كان هذا المتنبي كأنه يوزع الشرف على الملوك والرؤساء؛ وهل أدل على ذلك من أن أبا إسحاق الصابي شيخ الكتاب في عصره يراسله أن يمدحه بقصيدتين ويعطيه خمسة آلاف درهم، فيرسل إليه المتنبي: ما رأيت بالعراق من يستحق المدح غيرك، ولكني إن مدحتك تنكر لك الوزير "يعني المهلبي" لأني لم أمدحه، فإن كنت لا تبالي هذا الحال فأنا أجيبك ولا أريد منك مالًا ولا من شعري عوضًا! فأين في دهرنا من تشعره عزة الأدب مثل هذا الشعور ليأتي بالشعر من نفس مستيقنة أن الدنيا في انتظار كلمتها؟ على أن شوقي لم يكن ينقصه باعتبار زمنه إلا "الجمهور الشعري"، وكل بلاء الشعر العربي أنه لا يجد هذا الجمهور، فالشاعر بذلك منصرف إلى معانٍ فردية من ممدوح عظيم أو حبيب عظيم أو سقوط عظيم ... حتى الطبيعة تظهر في الشعر العربي كأنها قطع مبتورة من الكون داخلة في الحدود لابسة الثياب؛ ومن ذلك ينبغ الشاعر وليس فيه من الإحساس إلا قدر نفسه لا قدر جمهوره، وإلا ملء حاجاته لا ملء الطبيعة؛ فلا جرم يقع بعيدًا عن المعنى الشامل المتصل بالمجهول، ويسقط

بشعره على صور فردية ضيقة الحدود، فلا تجد في طبعه قوة الإحاطة والتبسط والشمول والتدقيق، ولا تؤاتيه طبيعته أن يستوعب كل صورة شعرية بخصائصها، فإذا هو على الخاطر العارض يأخذ من عفوه ولا يحسن أن يتوغل فيه، وإذا هو على نزوات ضعيفة من التفكير لا يطول لها بحثه ولا يتقدم فيها نظره، وإذا نفسه تمر على الكون مرًّا سريعًا، وإذا شعره مقطع قطعًا، وإذا آلامه وأفراحه أوصاف لا شعور، وكلمات لا حقائق، وظل طامس ملقى على الأرض إذا قابلته بتفاصيل الجسم الحي السائر على الأرض. واجتمع لشوقي في ميراث دمه ومجاري أعراقه عنصر عربي، وآخر تركي، وثالث يوناني، ورابع شركسي؛ وهذه كثرة إنسانية لا يأتي منها شاعر إلا كان خليقًا أن يكون دولة من دول الشعر، وإلى هذا ولد شاعرنا باختلاله العصبي في عينيه، كأن هذا دليل طبيعي على أن وراءهما عينين للمعاني تزاحمان عيني البصر؛ وما لم يكن التركيب العصبي في الشاعر مهيأ للنبوغ، فاعلم أنه وقع من تقاسيم الدنيا في غير الشعر، وليس في الطبيعة ولا في الصناعة قوة تجعل حنجرة البلبل في غير البلبل؛ ومع كل ما تقدم فقد أعين شوقي على الشعر بفراغه له أربعًا وأربعين سنة، غير مشترك العمل، ولا متقسم الخاطر، على سعة في الرزق وبسطة في الجاه وعلو في المنزلة، وبين يديه دواوين الشعر العربي والأوروبي والتركي والفارسي؛ وإن تنس فلا تنس أن شاعرنا هذا خص بنشاط الحياة، وهو روح الشعر لا روح للشعر بدونه، فسافر ورحل وتقلب في الأرض، وخالط الشعوب واستعرض الطبيعة يتخللها ببصره ما بين الأندلس والأستانة، وظهيره على ذلك ماله وفراغه، وإنما قوة الشعر في مساقط الجو، ففي كل جو جديد روح للشاعر جديدة؛ والطبيعة كالناس: هي في مكان بيضاء وفي مكان سوداء، وهي في موضع نائمة تحلم وفي موضع قائمة تعمل، وفي بلد هي كالأنثى الجميلة، وفي بلد هي كالرجل المصارع؛ ولن يجتمع لك روح الجهاز العصبي على أقواه وأشده إلا إذا أطعمته مع صنوف الأطعمة اللذيذة المفيدة، ألوان الهواء اللذيذ المفيد. وعندي أنه لا أمل أن ينشأ لمصر شاعر عظيم في طبقة الفحول من شعراء العالم، إلا إذا أعيد تاريخ شوقي مهذبًا في رجل وهبه الله مواهبه، ثم تهبه الحكومة المصرية مواهبها. والكتاب الأول الذي راض خيال شوقي وصقل طبعه وصحح نشأته الأدبية،

هو بعينه الذي كانت منه بصيرة حافظ وذكرناه في مقالنا عنه، أي كتاب "الوسيلة الأدبية" للمرصفي؛ وليس السر في هذا الكتاب ما فيه من فنون البلاغة ومختارات الشعر والكتابة، فهذا كله كان في مصر قديمًا ولم يغنِ شيئًا ولم يخرج لها شاعرًا كشوقي، ولكن السر ما في الكتاب من شعر البارودي؛ لأنه معاصر، والمعاصرة اقتداء ومتابعة على صواب إن كان الصواب، وعلى خطأ إن كان الخطأ؛ وقد تصرمت القرون الكثيرة والشعراء يتناقلون ديوان المتنبي وغيره، ثم لا يجيئون إلا بشعر الصناعة والتكلف، ولا يخلد الجيل منهم إلا لما رأى في عصره، ولا يستفتح غير الباب الذي فتح له، إلى أن كان البارودي، وكان جاهلًا بفنون العربية وعلوم البلاغة، لا يحسن منها شئًا، وجهله هذا هو كل العالم الذي حول الشعر من بعد؛ فيا لها عجيبة من الحكمة! وهي دليل على أن أعمال الناس ليست إلا خضوعًا لقوانين نافذة على الناس. وأكب البارودي على ما أطاقه، وهو الحفظ من شعر الفحول؛ إذ لا يحتاج الحفظ إلى غير القراءة، ثم المعاناة والمزاولة؛ وكانت فيه سليقة، فخرجت مخرج مثلها في شعراء الجاهلية والصدر الأول من الحفظ والرواية، وجاءت بذلك الشعر الجزل الذي نقله المرصفي بإلهام من الله -تعالى- ليخرج به للعربية حافظ وشوقي وغيرهما، فكل ما في الكتاب أنه ينقل روح المعاصرة إلى روح الأديب الناشئ، فتبعثه هذه الروح على التمييز وصحة الاقتداء، فإذا هو على ميزة وبصيرة، وإذا هو على الطريق التي تنتهي به إلى ما في قوة نفسه ما دام فيه ذكاء وطبع؛ وبهذا ابتدأ شوقي وحافظ من موضع واحد، وانتهى كلاهما إلى طريقة غير طريقة الآخر، والطريقتان معًا غير طريقة البارودي. تحول شوقي بهذا الشعر لا إلى طريقة البارودي، فإنه لا يطيقها ولا تتهيأ في أسبابه، وخاصة في أول عهده، وكأن لغة البارودي فيها من لقبه، أي فيها البارود ... ولكن تحول نابغتنا كان عن طريقة معاصريه من أمثال الليثي وأبي النصر وغيرهما، فترك الأحياء وانطلق وراء الموتى في دواوينهم التي كان من سعادته أن طبع الكثير منها في ذلك العهد: كالمتنبي وأبي تمام والبحتري والمعري، ثم أهل الرقة أصحاب الطريقة الغرامية: كابن الأحنف والبهاء زهير والشاب الظريف والتلعفري والحاجري، ثم مشاهير المتأخرين: كابن النحاس والأمير منجك والشرقاوي. وقد حاول شوقي في أول أمره أن يجمع بين هذا كله، فظهر في شعره تقليده وعمله في محاولة الابتكار والإبداع وإحكام التوليد، مع السهولة والرقة وتكلف الغزل بالطبع المتدفق لا بالحب الصحيح.

وأنا حين أكتب عن شاعر لا يكون همي إلا البحث في طريقة ابتداعه لمعانيه، وكيف ألم وكيف لحظ، وكيف كان المعنى منبهة له، وهل أبدع أم قلد، وهل هو شعر بالمعنى شعورًا فخالط نفسه وجاء منها، أم نقله نقلًا فجاء من الكتب؛ وهل يتسع في الفكرة الفلسفية لمعانيه، ويدقق النظرة في أسرار الأشياء، ويحسن أن يستشف هذه الغيوم التي يسبح فيها المجهول الشعري ويتصل بها ويستصحب للناس من وحيها؛ أم فكره استرسال وترجيم في الخيال وأخذ للموجود كما هو موجود في الواقع؟ وبالجملة هل هو ذاتية تمر فيها مخلوقات معانيه لتخلق فتكون لها مع الحياة في نفسها حياة من نفسه، أم هو تبعية كالسمسار بين طرفين: يكون بينهما، وليس منهما ولا من أحدهما؟ في هذه الطريقة من البحث تاريخ موهبة الشاعر، ولا يؤديك إلى هذا التاريخ إلا ذلك المذهب إليه إن أطقته، أما تاريخ الشاعر نفسه فما أسهله؛ إذ هو صورة أيامه وصلته بعصره، وليس في تأريخ ما كان إلا نقله كما كان. وإذا عرضنا شوقي بتلك الطريقة رأيناه نابغة من أول أمره، ففيه تلك الموهبة التي أسميها حاسة الجو؛ إذ يتلمح بها النوابغ معاني ما وراء المنظور، ويستنزلون بها من كل معنى معنى غيره. انظر أبياته التي نظمها في أول شبابه وسنه يومئذ 23 سنة على ما أظن، وهي من شعره السائر: خدعوها بقولهم حسناء ... والغواني يغرهن الثناء ما تراها تناست اسميَ لما ... كثرت في غرامها الأسماء إن رأتني تميل عني كأن لم ... تك بيني وبينها أشياء نظرة فابتسامة فسلام ... فكلام فموعد فلقاء دع غلطته في قوله "تميل عني"1، فإن صوابها: تمل؛ إذ هي جواب إن الشرطية؛ ولكن تأمل كيف استخرج معانيه؛ وأنا كنت دائمًا وما أزال معجبًا بالبيتين الثاني والرابع، لا إكبارًا لمعناهما، فهما لا شيء عندي، ولكن إعجابًا بموهبة شوقي في التوليد، فإنه أخذ البيت الثاني من قول أبي تمام: أتيت فؤادها أشكو إليه ... فلم أخلص إليه من الزحام فمر المعنى في ذهن شوقي كما يمر الهواء في روضة، وجاء نسيمًا يترقرق

_ 1 انظر المساجلات بين الرافعي والعقاد في هذه القولة بالمقتطف.

بعدما كان كالريح السافية بترابها؛ لأن الزحام في بيت أبي تمام حقيق بسوق قائمة للبيع والشراء، لا بقلب امرأة يحبها، بل هو يجعل قلب المرأة شيئًا غريبًا كأنه ليس عضوًا في جسمها، بل غرفة في بيتها ... وقد سبق شاعرنا أبا تمام بمراحل في إبداعه وذوقه ورقته. والبيت الرابع من قول الشاعر الظريف: قف واستمع سيرة الصب الذين قتلوا ... فمات في حبهم لم يبلغ الغرضا رأى فحب فسام الوصل فامتنعوا ... فرام صبرًا فأعيا نيله فقضى وهذه "فاءات" تجر إلى القبر ونعوذ بالله منها ... ومما كنت أعيبه على شوقي ضعفه في فنون الأدب، فإن المويلحي الكاتب الشهير انتقد في جريدته "مصباح الشرق" أبيات "خدعوها" عند ظهور الشوقيات في سنة 1899، فارتاع شوقي وتحمل عليك ليمسك عن النقد، مع أن كلام المويلحي لا يسقط ذبابة من ارتفاع نصف متر ... ومن مصيبة الأدب عندنا، بل من أكبر أسرار ضعفه، أن شعراءنا لا طاقة لهم بالنقد، وأنهم يفرون منه فرارًا ويعملون على تفاديه وأنهم لا يحسنون غير الشعر؛ فلا البارودي ولا صبري ولا حافظ ولا شوقي كان يحسن واحد منهم أن يدفع عن نفسه أو يكتب فصلًا في النقد الأدبي، أو يحقق مسألة في تاريخ الأدب. ومن معاني شوقي السائرة: لك نصحي وما عليك جدالي ... آفة النصح أن يكون جدالًا وكرره في قصيدة أخرى فقال: آفة النصح أن يكون جدالًا ... وأذى النصح أن يكون جهارًا والبيتان في شعر صباه أيضًا، وهما من قول ابن الرومي: وفي النصح خير من نصيح موادع ... ولا خير فيه من نصيح مواثبِ فصحح شوقي المعنى وأبدل المواثبة بالجدال، وذلك هو الذي عجز عنه ابن الرومي؛ ومن إبداعه في قصيدته "صدى الحرب" يصف هزيمة اليونان: يكادون من ذعر تفر ديارهم ... وتنجو الرواسي لو حواهن مشعب يكاد الثرى من تحتهم يلج الثرى ... ويقضم بعض الأرض بعضًا ويقضب وهذا خيال بديع في الغاية، جعل هزيمتهم كأنها ليست من هول الترك، بل من

هول القيامة؛ وهو مع ذلك مولد من قول أبي تمام في وصف كرم ممدوحه أبي دلف: تكاد مغانيه تهش عراصها ... فتركب من شوق إلى كل راكب فقاس شاعرنا على ذلك؛ وإذا كادت الدار تركب إلى الراكب إليها من فرحها، فهي تكاد تفر مع المنهزم من ذعرها؛ ولكن شوقي بني فأحكم وسما على أبي تمام بالزيادة التي جاء بها في البيت الثاني. ومن أحسن شعره في الغزل: حوت الجمال فلو ذهبت تزيدها ... في الوهم حسنًا ما استطعت مزيدًا وهو من قول القائل: ذات حسن لو استزادت من الحسـ ... ـن إليها لما أصابت مزيدا غير أن شوقي قال: لو ذهبت تزيدها في الوهم ... والشاعر قال: لو استزادت هي؛ فلو خلا بيت شوقي من كلمة "في الوهم" لما كان شيئًا، ولكن هذه الكلمة حققت فيه المعنى الذي تقوم عليه كل فلسفة الجمال؛ فإن جمال الحبيب ليس شيئًا إلا المعاني التي هي في وهم محبه؛ فالزيادة تكون من الوهم، وهو بطبيعته لا ينتهي؛ فإذا لم تبق فيه زيادة في الحسن فما بعد ذلك حسن، وقد بسطنا هذا المعنى في صور كثيرة في كتبنا: "رسائل الأحزان" و "السحاب الأحمر"، و "أوراق الورد"؛ فانظر فيها. ومما يتمم ذلك البيت قول شوقي في قصيدة النفس: يا دمية لا يستزاد جمالها ... زيديه حسن المحسن المتبرع وهذا المعنى يقع من نفسي موقعًا وله من إعجابي محل؛ فهذه الزيادة التي فيه كزيادة العمر لو أمكنت، وهي في موضعها كما ينقطع الخط ثم يتصل، وكما يستحيل الأمل ثم يتفق ويسهل؛ وقد علمت مأخذ الشطر الأول، أما الثاني فهو من قول ابن الرومي: يا حسن الوجه لقد شنته ... فاضمم إلى حسنك إحسانا وفي القصيدة التي رثى بها ثروت باشا وهي من أحسن شعره تجد من أبياته هذا البيت النادر: وقد يموت كثير لا تحسهمو ... كأنهم من هوان الخطب ما وجدوا وشوقي يعارض بهذه القصيدة أبا خالد بن محمد المهلبي في داليته التي رثى

بها المتوكل، وكان المهلبي حاضرًا قتله هو والبحتري، فرثاه كل منهما بقصيدة قالوا: إنها من أجود ما قيل في معناهما؛ وبيت شوقي مأخوذ من قول المهلبي: إنا فقدناك حتى لا اصطبار لنا ... ومات قبلك أقوام فما فقدوا أي لم يحس موتهم أحد؛ ولكن البيت غير مستقيم؛ لأن الذي يموت فلا يفقد هو الخالد الذي كأنه لم يمت؛ فاستخرج شوقي المعنى الصحيح وجعل العدم الذي هو آخر الوجود في الناس، أول الوجود ووسطه وآخره في هؤلاء الذين هانوا على الحياة فوُجدوا وماتوا كأنهما ماتوا وما وجدوا. وإلى ما علمت من قوة هذه الشاعرية، ودقتها فيما تتأتى له، ومجيئها بالمعاني النادرة مستخرجة استخراج الذهب، مصقولة صقل الجوهر، معدلة بالفكر، موزونة بالمنطق- تجد لها تهافتًا كتهافت الضعفاء، وغرة كغرة الأحداث؛ حتى لتحسب أن طفولة شوقي كثيرًا ما تنبعث في شعره لاعبة هازلة، أو كأن للرجل شخصيتين كما يقول الأطباء، فهما تتعاوران شعره كمالًا ونقصًا، وعلوًا ونزولًا، أو قل هي العربية واليونانية في ناحية من نفسه، والتركية والشركسية في ناحية أخرى: لتلك الابتكار والبلاغة والمنطق، ولهذه التهويل والمبالغة والخلط؛ وشوقي هو بهما جميعًا؛ تفتنه القوية منهما فيعجب بها إعجاب القوة، وتخدعه الضعيفة فيعجب بها إعجاب الرقة؛ ما أعجب بيته الذي قاله في الحنين إلى الوطن من قصيدته الأندلسية الشهيرة: وطني لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي وهذا البيت مما يتمثل به الشبان وكتاب الصحافة، ولم يفطن أحد إلى فساده وسخافة معناه؛ فإن الخلد لا يكون خلدًا إلا بعد فناء الفاني من الإنسان وطبائعه الأرضية، وبعد أن لا تكون أرض ولا وطن ولا حنين ولا عصبية؛ فكان شوقي يقول: لو شغلت عن الوطن حين لا أرض ولا وطن ولا دول ولا أمم ولا حنين إلى شيء من ذلك- فإني على ذلك أحن إلى الوطن الذي لا وجود له في نفسي ولا في نفسه.... وهذا كله لغو ... والمعنى بعد من قول ابن الرومي: وحبب أوطان الرجال إليهموا ... مآرب قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمو ... عهود الصبي فيها فحنوا لذلكا ومنازعة النفس هي الحنين، ومعنى ابن الرومي وإن كان صحيحًا غير أنه لا يصلح لفلسفة الوطنية في زمننا.

وإن في شوقي عيبين يذهبان بكثير من حسناته: أحدهما المبالغات التركية الفارسية مما تنزعه إليه تركيته ولا مبالغة في الدنيا تقاربها، كقول بعض شعرائهم إن النملة بزفرتها جففت الأبحر السبعة ... وهو إغراق سخيف لا يأتي بخيال عجيب كما يتوهمون، بل يأتي بهذيان عجيب؛ وإذا كان الصدق يأنف من الكذب، فإن الكذب نفسه يأنف من هذا الإغراق؛ ومن هذه التركية في شوقي إضافات وهمية، هي من تلك المبالغات كذيل الحمار من الحمار: قطعة فيه ودليل عليه وآخر لأوله ولا محل لها في ذوق البلاغة العربية، كقوله: عيسى الشعور إذا مشى ... رد الشعوب إلى الحياة وقوله في سعد باشا في حادثة الاعتداء عليه: ولو زلت غيب "عمرو الأمور" ... وأخلى المنابر سحبانها ويدخل في جنايات هذه التركية على شعره تكراره الأسماء المقدسة والأعلام التاريخية: كيوشع وعيسى وموسى وخالد وبدر وسيناء وحاتم وكعب وغيرها مما هو شائع في نظمه ولا تجده أكثر ما تجده إلا ثقيلًا مملولًا؛ ولهذه الألفاظ عندنا فلسفة لا محل لها الآن، فهي أحيانًا تكون السحر كله والبلاغة كلها، على شرط أن يكون القلب هو الذي وضعها في موضعها، وأن لا يضعها إلا على هيئة قلبية، فيكون كأنه وضع نفسه في الشعر ليخفق خفقانه الحي في بضعة ألفاظ، وهذا ما لم يحسنه شوقي -والعيب الثاني أن ألفاظ شاعرنا يثبت أكثرها على النقد؛ لضعفه في الصناعة البيانية، ثم لضعف الموهبة الفلسفية فيه واعتباره التهويل شعرًا والمبالغة بلاغة وإن فسدت بهما البلاغة والشعر؛ انظر إلى قوله من قصيدته الشهيرة 28 فبراير: قالوا: الحماية زالت قلت لا عجب ... قد كان باطلها فيكم هو العجبا رأس الحماية مقطوع فلا عدمت ... كنانة الله حزمًا يقطع الذنبا قلنا: فإذا قطع "رأس الحماية" وبقيت منها بقية ما ذنب أو يد أو رجل؛ فإن هذه البقية في لغة السياسة التي تنقذ الألفاظ وحروفها ونقط حروفها ... لن تكون ذنبًا ولا يدًا ولا رجلًا، بل هي "رأس الحماية" بعينه.... على أن شوقي إنما عكس قول الشاعر: لا تقطعنْ ذنب الأفعى وترسلها ... إن كنت شهمًا فأتبع رأسها الذنبا وهذا كلام على سياقه من العقل، فما غناء قطع ذنب الأفعى إذا بقي رأسها، وإنما الأفعى كلها هي هذا الرأس.

ولقد ظهر لي من درس شوقي في ديوانه أمر عجبت له؛ فإني رأيته يأخذ من أبي تمام والبحتري والمعري وابن الرومي وغيرهم؛ فربما ساواهم وربما زاد عليهم، حتى إذا جاء إلى المتنبي وقع في البر وأدركه الغرق؛ لأنه نشأ على رهبة منه كما تشير إليه عبارته في مقدمة ديوانه الأول؛ وقد وصف خيل الترك في قصيدة أنقرة بقوله: والصبر فيها وفي فرساها خلق ... توارثوه أبًا في الروع بعد أب كما ولدتم على أعرافها ولدت ... في ساحة الحرب لا في باحة الرحب وشعره هذا كله يرتعد أمام قول المتنبي: أقبلتها غرر الجياد كأنما ... أيدي بني عمران في جبهاتها الثابتين فروسة كجلودها ... في ظهرها، والطعن في لباتها فكأنها نتجت قيامًا تحتهم ... وكأنهم ولدوا على صهواتها فانظر أين صناعة من صناعة وأين شعر من شعر؟ وقال في "صدى الحرب" يصف مدافع الدردنيل: قذائف تخشى مهجة الشمس كلما ... علت مصعدات أنها لا تصوب إذا هب حاميها على السفن انثنت ... وغانمها الناجي فكيف المخيب وهذا الاستفهام "فكيف المخيب" استفهام مضحك؛ لأنه إذا كان الناجي غانمًا، فالمخيب خاسر بلا سؤال ولا فلسفة؛ والكلمة الشعرية في هذا كله هي قوله "وغانمها الناجي"، وهي كالهاربة تتوارى خوفًا من بيت أبي الطيب: أغر أعداؤه إذا سلموا ... بالهرب استكبروا الذي فعلوا فهذا هو الشعر لا ذاك؛ على أني أشهد أن في قصيدة "صدى الحرب" أبياتًا هي من أسمى الشعر، وكأن شوقي -رحمه الله- كان ينظم هذه القصيدة من إيمانه ومن دمه ومن كل مطامع دنياه وآخرته، يبتغي بها الشهرة الخالدة في الناس، والمنزلة السامية عند الخديو، ونباهة الشأن عند الخليفة، والثواب عند الله تعالى؛ ولو هو في أثناء عملها أسقط نصفها أو أكثر لجاءت فريدة في الشعر العربي، غير أن الحرص كان يغتره، وكان طول عمره مفتونًا بشعره؛ فجاء في هذا الشعر بالطم والرم كما يقولون؛ وله كثير من الكلام الرذل الساقط بضعفه وتهافته؛ ولولا تلك التركية الفارسية وضعفه البياني، لما رضي أن يكون ذلك في شعره؛ وليت شعري كيف غاب عن مثله أن التهويل والإغراق والإحالة مما يهجن الشعر ويذهب بأثره

في النفس ويحيله إلى صناعة هي شر من الصناعة البديعية؛ لأن هذه تكون في والألفاظ؛ والألفاظ تحتمل العبث البديعي ويخرج بها الأمر إلى أن يكون ضربًا من الرياضة كمعاناة بعض المسائل في الجبر والهندسة تركيبًا وحلًا؛ ولكن المعاني لا تحتمل ذلك؛ إذ هي تفكير لا يلتوي إلا فسد، والمعاني التي يأتي بها الشاعر يجب أن تكون فيها مزية بخاصتها من الجمال والبيان، وأن تكون أخيلتها هي الحقائق التي أول مواضعها فوق حقائق البشر. وهناك ضرب آخر من المبالغة يجيء من سقوط الخيال؛ لأن في الأسفل مبالغة كما في الأعلى، وإن كانت مبالغة الأسفل زيادة في السخرية منه والهزء به؛ وهذه المبالغة تأتي من جمع أشتات مختلفة وإدماجها كلها في معنى واحد، كهذا الذي حاول أن يدمج الطبيعة كلها في حبيبته فزعم أن فيها من كل شيء، ونسي أن كل قبيح وكل بغيض هو من كل شيء ... إن الخيال الشعري يزيغ بالحقيقة في منطق الشاعرلا ليقبلها عن وضعها ويجيء بها ممسوخة مشوهة، ولكن ليعتدل بها في أفهام الناس ويجعلها تامة في تأثيرها؛ وتلك من معجزاته؛ إذ كانت فيه قوة فوق القوة عملها أن تزيد الموجود وجودًا بوضوحه مرة وبغموضه أخرى. ولعلماء الأدب العربي كلمة ما أراهم فهموها على حقها ولا نفذوا إلى سره؛ قالوا: أعذب الشعر أكذبه؛ يعنون أن الشعر المبالغة والخيال: ولا ينفذون إلى ما وراء ذلك، وما وراءه إلا الحقيقة رائعة بصدقها وجلالها؛ وفلسفة ذلك أن الطبيعة كلها كذب على الحواس الإنسانية، وأن أبصارنا وأسماعنا وحواسنا هي عمل شعري في الحقيقة؛ إذ تنقل الشيء على غير ما هو في نفسه؛ ليكون شيئًا في نفوسنا، فيؤثر بها أثره جمالًا وقبحًا وما بينهما؛ وما هي خمرة الشعر مثلًا؟ هي رضاب الحبيبة؛ ولكن العاشق لو رأى هذا الرضاب تحت المجهر لرأي.. لرأى مستنقعًا صغيرًا. ولو كان هذا المجهر أضعاف الأضعاف مما يجهر به لرأيت ذلك الرضاب يعج عجيجًا بالهوام والحشرات التي لا تخفى بنفسها ولكن أخفاها التدبير الإلهي بأن جعل رتبتها في الوجود وراء النظر الإنساني، رحمة من الله بالناس؛ فأعذب الشعر ما عمل في تجميل الطبيعة كما تعمل الحواس الحية بسر الحياة؛

_ 1 يعني قول العقاد في وحي الأربعين: فيك مني ومن الناس ومن ... كل موجود وموعود توام

ولهذا المعنى كان الشعراء النوابغ في كل مجتمع هم كالحواس لهذا المجتمع. ومن سخيف الإغراق في شعر شوقي قوله في رثاء مصطفى باشا كامل، وهي أبيات يظن هو أنه أوقع كلامه فيها موقعًا بديعًا من الإغراب: فلوَ ان أوطانًا تصور هيكلًا ... دفنوك بين جوانح الأوطان أو كان يحمل في الجوارح ميت ... حملوك في الأسماع والأجفان أو كان للذكر الحكيم بقية ... لم تأتِ بعدُ رثيت في القرآن فهذه فروض فوق المستحيل بأربع درجات ... وتصور أنت ميتًا يحمل في الجوارح فيترمم فيها ويبلى ... وما زال الشاعر في أبياته يخرج من طامة إلى طامة، حتى قال: رثيت في القرآن، ولو سئلت أنا إعراب "لو" في هذه الأبيات لقلبت: إنها حرف نقص وتلفيق وعجز ... وكيف يسوغ في الفرض أن تكون للقرآن بقية لم تنزل، والله تعالى يقول فيه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ؛ والأمر أمر دين قد تم، وكتاب مقدس ختم، ونبوة انقضت؛ والشاعر ماضٍ في غفلته لم يتنبه لشيء ولم يدر أنه يفرض فرضًا بهدم الإسلام كله، بل حسب أنه جاء بخيال وبلاغة فارسية؛ وشوقي في الحقيقة كامل كناقص، وإن من معجزات هذا الشاعر أن يكون ناقصًا هذا النقص كله ويكمل. وفي الشوقيات صفحات تكاد تغرد تغريدًا، وفيها صفحات أخرى تنق نقيق الضفادع؛ وفي هذا الديوان عيوب لا نريد أن نقتصها؛ فإن ذلك يحتاج إلى كتاب برأسه إذا ذهبنا نأتي بها ونشرح العلة فيها ونخرج الشواهد عليها، ولكن من عيوبه في التكرار أن له بيتًا يدور في قصائده دوران الحمار في الساقية، وهو هذا البيت: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا بل هذا البيت: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن تولت مضوا على آثارهما قدما بل هو هذا: كذا الناس بالأخلاق يبقى صلاحهم ... ويذهب عنهم أمرهم حين تذهب بل هو هذا البيت: ولا المصائب إذ يرمي الرجال بها ... بقاتلات إذا الأخلاق لم تصب وقد تكرر "فيما قرأته من ديوانه" ثلاث عشرة مرة، فعاد المعنى كطيلسان ابن

حرب الذي جعل الشاعر يرقعه ثم يرقعه حتى ذهب الطيلسان وبقيت الرقع.... والبيت الأول من العين النادر، ولكن أفسده في الباقي سوء ملكة الحرص في شوقي، أو ضعف الحس البياني، أو ابتذاله الشعر في غير موضعه، أو وهن فكرته الفلسفية من جوانب كثيرة؛ وهذه الأربعة هي الأبواب التي يقتحم منها النقد على شعر صاحبنا، ولو هو كان قد حصنها بأضدادها لكان شاعر العربية من الجاهلية إلى اليوم، ولكان عسى أن ينقل الشعر إلى طور جديد في التاريخ؛ ولكن الفوضى وقعت في شوقي من أول أمره؛ فأرسل إلى أوربا لدرس الحقوق وكان الوجه أن يرسل لدرس الآداب والفلسفة، وغامر في سياسة الأرض، وكان الحق أن يشتغل بسياسة السماء، وتهالك في مادة الدنيا، وكان الصواب أن يتهالك في معانيها. إن الفوضى ذاهبة مذاهبها في الأدب والشعر، فكل شاعر عندنا كمؤلف يضع رواية ثم يمثلها وحده وعليه أن يمثلها وحده، فهو يخرج على النظارة في ثياب الملك فيلقى كلامًا ملكيًّا، ثم ينفتل فيجيء في ثواب القائد فيلقى كلامًا حربيًّا، ثم ينقلب فيعود في هيئة التاجر فيلقى كلامًا سوقيًّا، ثم يروح فيرجع في مباذل الخادم، ثم.. ثم.. يتوارى فيظهر في جلدة بربري.. وهذه الفوضى التي أهملتها الحكومة وأهملها الأمراء والكبراء هي حقيقة مؤلمة، ولكن هي الحقيقة! وشوقي على كل هذا هو شوقي: أول من احتفى بتاريخ مصر من الشعراء، وأول من توسع في نظم الرواية الشعرية فوضع منها ست روايات، وهو صاحب الآيات البديعة في الوصف، وهذه الناحية هي أقوى نواحيه، ولقد ألهمتني قراءة البارع من شعره في أغراضه وفنونه المختلفة أن الله تعالى ينعم على الآداب الجميلة بأفراد ممتازين في جمال أرواحهم وقوتها، تجد الآداب لذتها فيهم وسموها بهم، كأن الأمر قياس على ما يقع من عشق الناس لبعض المعاني، فيكون في المعاني ما يعشق بعض الناس، ومتى بلغ عشق المعنى لإنسان مبلغ الاختصاص والوجد ظهر الفن أبدع ما يرى، كأن المعنى الأدبي يتجمل ويتحبب ليستميل هذا الإنسان الحاكم عليه حكم الحب. فيا مصر، لقد مات شاعرك الذي كان يحاول أن يخرج بالجيل الحاضر إلى الزمن الذي لم يأت بعد، فإذا جاء هذا الزمن الزاخر بفنونه وآدابه العالية، وذكرت مجد شعرك الماضي، فليقل أساتذتك يومئذ: كان هذا الماضي شاعرًا اسمه شوقي!

بعد شوقي

بعد شوقي *: كان يتوجه الظن على شوقي رحمه الله فيزعم الزاعم أن شوقي هو يحيى شعره، وهو يرفع منه، وهو يشيع حوله قوة الجذب من مغناطيس الثروة والمكانة، وأن الرجل ما أوفى على الشعراء جميعًا لأنه أفضلهم، بل لأنه أغناهم؛ ولا من أنه أقواهم قوة، بل لأنه أقواهم حيلة؛ وأن الشاعر لو جاء يومه لبطل السحر والساحر، فترجع العصا وهي عصًا بعد أن انقلبت حية، ويؤول هذا الشعر إلى حقيقته، وتتسم الحقيقة بسمتها؛ كأن شوقي كان يعمل لشعره بقوة السموات والأرض لا بقوة رجل من الناس. فقد ذهب الرجل إلى ربه، وخلا مكانه، وبطلت كل وسائله، ونام عن شعره نومة الأبدية، وتركه لما فيه يحفظه أو يضيعه إن كان فيه حق من الشعر أو باطل، وأصبح الشاعر هو وماله وجاهه وشعره في حكم الكلمة التي يقولها الزمن، ولم تعد هذه الكلمة في حكمه؛ فهل أثبته الزمن أو نفاه، وهل سلم له أو كابره، وهل رده في أغمار الشعراء أو جعل الشعراء بعده أدلة من أدلته؟ أول ما ظهر لي أن الزمن بعد شوقي أصبح أقوى في الدلالة عليه وأصدق في الشهادة له، كما تكون الظلمة بعد غياب القمر شرحًا طويلًا لمعنى ذلك الضياء، وإن سطعت فيها الكواكب وتوقد منها شيء وتلألأ شيء؛ فقد دل الزمن على أن ذلك الشأن لم يكن لشاعر كالشعراء يقال في وصفه إنه مفتنٌّ مجيد مبدع؛ ولكنه للذي يقال فيه إنه صوت بلاده وصيحة قومه. كانت تحدث الحادثة، أو يتخالج الناس معنى من الهم الذي يعمهم، أو يستطيرهم فرح من أفراح الوطن، أو يزول عظيم من العظماء فيزيد صفحة في

_ * لما توفي شوقي كتبنا لشيخ مجلاتنا "المقتطف" فضلًا طويلًا عنه وعن شعره ومنزلة شعره؛ فلم نعرض لشيء من ذلك هنا. [قلت: وقد نشرناه قبل هذا الفصل] .

التاريخ، أو ينشأ كون صغير من أكوان الحضارة في الشرق كبنك مصر، أو ترتج زلزلة في الحياة العربية أينما ارتجت، فإذا كل ذلك قد وقع في الدنيا بهيئتين: إحداهما في ذهن شوقي، فيرسل قصيدته الشرود السائرة داوية مجلجلة، فلا تكاد تظه رفي مصر حتى تلتقي حولها الأفكار في العالم العربي كله، فتكون شعرًا من أسرى الشعر وأحسنه، ثم تجاوزه فإذا هي صلة من أقوى الصلات الذهنية بين أدباء العربية وأوثقها، ثم تجاوزها فإذا هي عاطفة تجمع القلوب على معناها، ثم تسمو فوق هذا كله فإذا هي من هذا كله زعامة مصر على الشعر العربي. واليوم يقع مثل ذلك فتتطاير بعض الفقاقيع الشعرية من هنا وثم ملونة منتفخة ماضية على قانون الفقاقيع في الطبيعة، من أن لحظة وجودها هي لحظة فنائها، وأن ظهورها يكون لتظهر فقط لا لتنفع. ولست أماري في أن بيننا شعراء قليلين يجيدون الشعر، ولهم فكر وبيان ومذهب وطريقة: ولكن ما منهم أحد إلا وهو يشعر من ذات نفسه أن الحوادث لم تختره كما اختارت شوقي، وأنه في الحياة كالواقف على باب ديوان ينتظر أن يعهد إليه، وأن يخرج له التقليد؛ فهو ينتظر وسينتظر. وهذا عجيب حتى كأنه سحر من سحر الزمن حين تفصل الدنيا بين العبقري الفذ وبين من يشبهونه أو ينافسونه -بضروب خفية من الصرفة والعوائق، لا هي كلها من قوة العبقري، ولا هي كلها من عجز الآخرين. وأعجب من ذا أن "شوقي" كان في العالم العربي كأنه عمل تاريخي متميز من أعمال مصر، غير أنه مسمى باسم رجل؛ وكان على الحقيقة لا على المجاز- كأن فيه شيئًا من هذه الروح التاريخية المتغلبة التي تخلد بأسماء الآثار الفنية وتكسبها العظمة في الوجودين: من محلها ومن نفس الإنسان. وأعجب من هذا وذلك أني لم أر شعرًا عربيًا يحسن في وصف الآثار المصرية ما يحسن في وصفها شعر شوقي، حتى لأسأل نفسي: هل تختار بعض الأشياء العظيمة وصفها ومفسر عظمتها، كما تختار المرأة الجميلة عاشقها ومستجلي حسنها؟ وما بان شوقي على غيره إلا بأنه رجل أفرغ في رأسه الذهن الشعري الكبير، فكان في رأسه مصنع عماله الأعصاب، ومادته المعاني، ومهندسه الإلهام؛ والدنيا

ترسل إليه وتأخذ منه؛ وعلامة ذلك من كل شاعر عظيم أن تضع دنياه على اسمه شهادتها له؛ ولهذا ما يكون بعض الشعراء كأن اسمه في وزن اسم مملكة، فإذا قلت: شكسبير وانجلترا، فهما في العظمة النفسية من وزن واحد، وكذلك المتنبي والعالم العربي، وكذلك شوقي ومصر. قالوا: كان الفرزدق ينقح الشعر، وكان جرير يخشب "أي يرسل شعره كما يجيء فلا يتنوق فيه ولا ينقحه"؛ وكان خشب جرير خيرًا من تنقيح الفرزدق ولم يتنبه أحد إلى السر في ذلك؛ وما هو إلا السر الذي كان في شوقي بعينه، سر الامتلاء الروحي قد أُمد بالطبع، وأعين بالذوق، وأوتي القوة أن يتحول بآثاره في الكلام؛ فكل ما كان منه فهو منه: يجيء دائمًا قريبًا بعضه من بعضه، ولا يكاد ينفذ إلى شعور إلا اتحد به. وقد كان عمرو بن ذر الواعظ البليغ* إذا تكلم في مجلسه نشر حوله جوًّا من روحه، فيجعل كل ما حوله يتموج بأمواج نفسية؛ فكان كلامه يعصف بالناس عصف الهواء بالبحر يقوم به ويقعد، وكان من الوعاظ من يقلده ويحكيه ولا يدري أنه بذلك يعرض الغلطة على ردها وصوابها، فقال بعض من جالسه وجالسهم: ما سمعت عمرو بن ذر يتكلم إلا ذكرت النفخ في الصور، وما سمعت أحدًا يحكيه إلا تمنيت أن يجلد ثمانين.. فالفرق روحاني طبيعي كما ترى، لا عمل فيه لأحد ولا لصاحبه، وهو يشبه الفرق بين عاصفة من الهواء وبين نسيم من الريح يرسلان على جهتين في البحر؛ ففي ناحية يلتج الماء ويثب ويتضرب ويقصف قصف الرعد، وفي الأخرى يترجرج ويتزحف ويقشعر ويهمس كوسواس الحلي. والشأن كل الشأن للكمية الوجدانية في النفس الشاعرة أو الممتازة، فهي التي تعين لهذه النفس عملها على وجه ما، وتهيئها لما يراد منها بقدر ما، وتقيمها على دأبها إلى زمن ما، وتخصها بخصائصها لغرض ما؛ وإذا أنت حققت لم تجد الفروق بين النوابغ بعضهم من بعض إلا فروقًا في هذه الكمية ذاتها مقدارًا من مقدار؛ ولولا ذلك لكان أصغر العلماء أعظم من أكبر الشعراء؛ فقد يكون الشاعر كأنه تلميذ في العلم، ثم يكون العلم كأنه تلميذ لقلب هذا الشاعر وعواطفه؛ ولئن عجز النقد العلمي أن ينال من الشاعر العبقري، لقديمًا عجز في كل أمة.

_ * هو عمر بن ذر الهمذاني الكوفي المتوفى سنة156 للهجرة وكان من أبلغ المتكلمين.

وقد كان فيمن حاولوا إسقاط شوقي من هو أوسع منه اطلاعًا على آداب الأمم، وأبصر بأغراض الشعر وحقيقته، وكان مع ذلك حاسدًا شانئًا قد ثقب في قلبه الحقد؛ والحاسد المبغض هو في اتساع الكلام وطغيان العبارة أخو المحب العاشق؛ فكلاهما يدور الدم في كبده معاني ووساوس، وكلاهما يجري كلامه على أصل مما في سريرته، فلا تجد أحدهما إلا عاليًا بمن يحب، ولا تجد الآخر إلا نازلًا نازلًا بمن يبغض؛ وكان هذا الناقد شاعرًا، فانضاف شعره إلى حسده، إلى بغضه، إلى ذكائه، إلى اطلاعه، إلى جهده، إلى طول الوقت وتراخي الزمن؛ وهذه كلها مفرقات نفسية.. بعضها أشد من بعض كالبارود، إلى الديناميت، إلى الميلينيت؛ ولكن شوقي كان في مرتقى لم يبلغه الناقد، فانقلب جهد هذا عجزًا، وأصبح البارود والتراب في يده بمعنى واحد1.. ومن أعجب ما عجبت له من أمر هذا الناقد، أني رأيته يقرر لناس صواب الحقيقة بزعمه، فإذا هو يقرر غلطه وجهله وتعسفه؛ وهو في كل ما يكتب عن شوقي يكون كالذي يرى الماء العذاب وعمله في إنبات الروض وتوشيته وتلوينه، فيذهب يعيبه للناس بأنه ليس هو البنزين ... الذي يحرك السيارات والطيارات! تناول شوقي بعد موته فجرده من الشخصية، أي من حاسة الشعر، ومن إدراك السر لا يخلق الشاعر الحق إلا لإدراكه والكشف عن حقائقه؛ وكان فيما استدل به على ذلك أن لا يحسن وصف الربيع بمثل ما وصفه ابن الرومي في قوله: تجد الوحوش بها كفايتها ... والطير فيه عتيدة الطعم فظباؤه تضحى بمنتطح ... وحمامه يضحى بمختصم وزعم أن ابن الرومي قد ولد بحاسة لم يولد بها شوقي، ولهذه الحاسة اندمج في الطبيعة فأدرك سر الربيع، وأنه غليان الحياة في الأحياء، فالظباء تنتطح من الأشر ... الخ الخ وبنى على ذلك ناطحة سحاب.. لا ناطحة ظباء*. أما شوقي الشاعر الضعيف العاجز لم يولد بمثل تلك الحاسة، فلو أنه شهد ألف ربيع لما أحس هذا الإحساس، ولا استطاع أن يجيء هذا القول المعجزة؛ وكل ذلك من هذا الناقد جهل في جهل في جهل، وأعاليل بأضاليل بأباطيل؛ فابن

_ 1 أحسبه يعني العقاد. * لا يحضرني كلام الكاتب بنصه، ولكن هذا بعض معناه، وكله تهويل.

الرومي في هذا المعنى لص لا أكثر ولا أقل، فلم يحس شيئًا ولا ابتدع ولا اخترع. قال الجاحظ: يقال في الخصب "أي الربيع": نفشت العنز لأختها؛ وخلفت أرضًا تظالم معزاها "أي تتظالم"؛ قال: لأنها تنفش شعرها وتنصب روقيها في أحد شقيها فتنطح أختها، وإنما ذاك من الأثر، "أي حين سمنت وأخصبت وأعجبتها نفسها". فأنت ترى أن ابن الرومي لم يصنع شيئًا إلا أنه سرق المعنى واللفظ جميعًا، ثم جاء للقافية بهذه الزيادة السخيفة التي قاس فيها الحمام على الظباء والمعزى.. فاستكره الحمام على أن يختصم في زمن بعينه وهو يختصم في كل يوم؛ وإنما شرط الزيادة في السرقة الشعرية أن تضاف إلى المعنى فتجعله كالمنفرد بنفسه أو كالمخترع. ولعمري لو كان للطبيعة مائة صورة في الخيال الشعري، ثم قدم شوقي للناس تسعًا وتسعين منها، لقال ذلك الناقد المتعنت: لا، إلا الصورة التي لم يقدمها.. وكان شعر شوقي في جزالته وسلاسته كأنما يحمل العصا لبعض الشعراء يردهم بها عن السفسفة والتخليط والاضطراب في اللفظ والتركيب؛ فكثر الاختلال في الناشئين من بعده، وجاءوا بالكلام المخلط الذي تبعث عليه رخاوة الطبع وضعف السليقة، فتراه مكشوفًا سهلًا ولكن سهولته أقبح في الذوق من جفوة الإعراب على كلامهم الوحشي المتروك. والآفة أن أصحاب هذا المذهب يفرضون مذهبهم فرضًا على الشعر العربي، كأنهم يقولون للناس: دعوا اللغة وخذونا نحن! وليس في أذهانهم إلا ما اختلط عليهم من تقليد الأدب الأوروبي، فكل منهم عابد الحياة، مندمج في وحدة الكون، يأخذ الطبيعة من يد الله ويجاري اللانهاية، ويفنى في اللذة، ويعانق الفضاء، ويغني على قيثارته للنجوم؛ وبالاختصار: فكل منهم مجنون لغوي.. وأنا فلست أرى أكثر هذا الشعر إلا كالجيف، غير أنهم يقولون: إن الجيفة لا تعد كذلك في الوجود الأعظم، بل هي فيه عمل تحليلي علمي دقيق؛ لقد صدقوا؛ ولكن هل يكذب من يقول: إن الجيفة هي فساد ونتن وقذر في اعتبار

وجودنا الشخصي، وجود النظر والشم، والانقباض والانبساط، وسلامة الذوق وفساد الذوق. وكان حاسدو شوقي يحسبون أنه إذا أزيح من طريقهم ظهر تقدمهم؛ فلما أزيح من الطرق ظهر تأخرهم.. وهذه وحدها من عجائبه -رحمه الله. وقد كان هذا الشاعر العظيم هبة ثلاثة ملوك للشعب، فهيهات ينبغ مثله إلا إذا عمل الشعب في خدمة الشعر والأدب عمل ثلاثة ملوك.. وهيهات!

الشعر العربي في خمسين سنة

الشعر العربي في خمسين سنة 1: إذا اعتبرت الشعر العربي قبل خمسين سنة خلت "أي قبل إنشاء المقتطف" وتأملت حليته ومعرضه، ونظرت في منهاجه وطريقته، وتصفحت معانيه وأغراضه -لم تر منه إلا شبيهًا بما تراه من بقايا الورق الأخضر في شجرة ثقل عليها الظل فهو جامد مستوخم، وحم في ظلها شعاع الشمس فهو بارد يرتعد، فالحياة فيها ضعيفة متهالكة، لا هي تموت كالموت ولا هي تحيا كالحياة، وما ثم إلا ماء ناشف ورونق عليل ومنظر من الشجرة الواهنة كأنه جسم الربيع المعتل بدت عروقه وعظامه. كان ذلك الشعر فاسد السبك، متخلف المنزلة، قليل الطلاوة، بين مديح قد أعيد كل معنى من معانيه في تاريخ هذه اللغة بما لا يحصيه إلا الملائكة الموكلون بإحصاء الكذب، وبين هجاء ساقط هو بعض المواد التي تشتعل بها نار الله يوم تطلع على الأفئدة، وبين غزل مسروق من القلوب التي كانت تحب وتعشق، وبين وصف لا عيب لموصوفه سواه، وشكوى من الدهر يشكو الدهر منها، وتحزن وبأس وندب تجعل ديوان الشاعر كما سمي أحد ظرفاء القرن الثاني عشر للهجرة ديوان أحد أصحابه "بالملطمة.." ورثاء كقراءة القراء في جنازات الموتى، لا فيها عظة السكوت ولا فائدة النطق، وتغمر كل ذلك أنواع من الصناعة بينة التعسف، ضعيفة التقليد، لا ترى المتأخر فيها مع المتقدم إلا قريبًا مما يكون عمل اللص في أخذ المال، من عمل صاحب المال في جميعه؛ والعجيب أنك إذا اعترضت الشعر من القرن العاشر للهجرة إلى القرن الثالث عشر "السادس عشر للميلاد إلى التاسع عشر" رأيته نازلًا من عصر إلى عصر بتدريج من الضعيف إلى الأضعف، حتى كأنما ينحط بقوة طبيعية كقوة الجذب، كلما هبطت شيئًا أسرعت شيئًا إلى أن تلصق بالأرض، وبعضهم يسمي هذه العصور بالعصور المظلمة، ولم

_ 1 المقتطف: يناير سنة1926.

يتنبه أحد إلى أن في الأدب ناموسًا كناموس رد الفعل، يخرج أضعف الضعف من أقوى القوة، وأن انحطاط الشعر في تلك العصور -على أنه لم يكن إلا صناعة بديعية- إنما سببه القوة الصناعية العجيبة التي كانت للشعر منذ القرن السادس إلى العاشر، بعد أن نشأ القاضي الفاضل المتوفى سنة 596هـ "1199م"؛ وكان رجلًا من الرجال الذين يخلقون حدودًا للحوادث تبدأ منها أزمنة وتنتهي عندها أزمنة؛ ففتن الناس بأدبه وصناعته، وصرف الشعر والكتابة إلى أساليب النكتة البديعية؛ وظهرت من بعده عصابته التي يسمونها العصابة الفاضلية، وما منهم إلا إمام في الأدب وعلومه، فكان في مصر القاضي ابن سناء الملك، وسراج الدين الوراق، وأبو الحسين الجزار، وأضرابهم؛ وكان في الشام عبد العزيز الأنصاري، والأمير مجير الدين بن تميم، وبدر الدين يوسف بن لؤلؤ الذهبي، وأمثالهم؛ فهذه العصابة هي التي تقابل في تاريخ الأدب العربي عصابة البديع الأولى: كمسلم، وأبي تمام، وابن المعتز، وغيرهم؛ وكلتا الفئتين استبدت بالشعر وصرفته زمنًا، وأحدثت فيه انقلابًا تاريخيًّا متميزًا؛ بيد أن العصابة الفاضلية بلغت من الصنعة مبلغًا لا مطمع في مثله لأحد من بعدها، حتى كأنهم لم يدعوا كلمة في اللغة يجري فيها نوع من أنواع البديع إلا جاءوا بها وصنعوا فيها صنعة؛ وكان بعضهم يأخذ من بعض ويزيد عليه، إلى آخر المائة الثامنة، فلم يتركوا بابًا لمن يأتي بعدهم إلا باب السرقة بأساليبها المعروفة عند علماء الأدب. ولهذا لا تكاد تجد شعرًا عربيًّا بعد القرن التاسع إلا أول النهضة الحديثة، إلا رأيته صورًا ممسوخة مما قبله؛ وكل شعراء هذه القرون ليسوا ممن وراءهم إلا كالظل من الإنسان: لا وجود له من نفسه، وهو ممسوخ أبدًا إلا في الندرة حين يسطع في مرآة صافية؛ ومتى كان الشعراء لا ينشئون إلا على فنون البلاغة وصناعاتها، وكانت هذه كلها قد فرغ منها المتقدمون؛ فما ثم جديد في الأدب والفن إلا ولادة الشعراء وموتهم، وإلا تغير تواريخ السنين.. وهذا إذا لم نعد من الأدب تلك الصناعات المستحدثة التي ابتدعها المتأخرون مما سنشير إلى بعضه: كالتاريخ الشعري وغيره. إن الفكر الإنساني لا يسير التاريخ، ولا يقدر قدرًا فيه، ولا ينقله من رسم إلى رسم؛ لأنه هو نفسه كما خلق مصلحًا خلق مفسدًا وكما يستطيع أن يوجد يستطيع أن يفني، وكما تطرد به سبيل تلتوي به سبيل أخرى؛ وما أشبه هذا الفكر

في روعته بقطار الحديد: يطير كالعاصفة ويحمل كالجبل ويدهش كالمعجزة، وهو مع كل ذلك لا شيء لولا القضيبان الممتدان في سبيله، يحرفانه كيف انحرفا، ويسيران به أين ارتميا، ويقفان به حيث انتهيا؛ ثم هو بجملته ينقلب لأوهى اختلال يقع فيهما. لا جرم كانت العصور مرسومة معينة النمط ذاهبة إلى الكمال أو منحدرة إلى النقص، حسب الغايات المحتومة التي يسير بها الفكر في طريق القدر الذي يقوده. فهذه علوم البلاغة التي أحدثت فنًّا طريفًا في الأدب العربي، وأنشأت الذوق الأدبي نشأته الرابعة في تاريخ هذه اللغة، بعد الذوق الجاهلي، والمحدث والمولد -هي بعينها التي أضعفت الأدب وأفسدت الذوق وأصارته إلى رأينا في شعر المتأخرين، كأنما انقلبت عليهم علومًا من الجهل، حتى صار النمط العالي من الشعر كأنه لا قيمة له؛ إذ لا رغبة فيه، ولا حفل به؛ لمباينته لما ألفوا وخلوه من النكتة والصناعة؛ وحتى كان في أهل الأدب ومدرسيه من لا يعرف ديوان المتنبي! ولا يصف لك معنى الشعر في رأي أدباء ذلك العهد كقول الشيخ ناصيف اليازجي المتوفى سنة 1871: مللت من القريض وقلت يكفي ... لأمر شاب قوته بضعف أحاول نكتة في كل بيت ... وذلك قد تقصر عنه كفى أجل الشعر ما في البيت منه ... غرابة نكتة أو نوع لطف يريد النكتة البلاغية وأنواع البديع، وذلك ما قصرت عنه كفه وكف غيره؛ لأنه شيء مفروغ منه، حتى لا يأتي المتأخر بمثال فيه إلا وجدته بعينه لمن تقدموه على صور مختلفة ينظر بعضها إلى بعض وما يأتي اختلافها إلا من ناحية الحذق في إخفاء السرقة بالزيادة والنقص، والإلمام والملاحظة والتعريض والتصريح وغيرها مما يعرفه أئمة الصناعة، ولا يتسبب إليه بأقوى أسبابه إلا من رزق القوة على التوليد والاختراع. إذا عرفت ذلك السر في سقوط الشعر واضطرابه وسفسفته، لم تر غريبًا ما هو غريب في نفسه، ومن أن بدء النهضة الشعرية الحديثة لم تكن العلم الذي يصحح الرأي، ولا الاطلاع الذي يؤتي الفكر، ولا الحضارة التي تهذب الشعور، ولا نظام الحكم الذي يحدث الأخلاق، وإنما كان ضربًا من الجهل وقف حدًّا

منيعًا بين زمن فنون البلاغة وبين زماننا؛ وكان كالساحل لذلك الموج المتدفع الذي يتضرب على مدة ثمانمائة سنة من القرن السادس إلى الرابع عشر للهجرة؛ ولله أسرار عجيبة في تقليب الأمور وخلق الأحداث ودفع الحياة الفكرية من نمط إلى نمط، وإخراج العقل المبتدع من هيئة إلى هيئة، وجعل بعض النفوس كالينابيع للتيار الإنساني في عصر واحد أو عصور متعاقبة، وإقامة بعض الأشخاص حدودًا على الأزمنة والتواريخ؛ فكان الذي أحدث الانقلاب الرابع في تاريخ الشعر العربي، وأنشأ الذوق نشأته الخامسة، هو الشاعر الفحل محمود باشا البارودي الذي لم يكن يعرف شيئًا البتة من علوم العربية أو فنون البلاغة؛ وإنما سمَت به الهمة؛ لأنه حادثة مرسلة للقلب والتغيير، فأبعده الله من تلك العلوم، وأخرجه لنا من دواوين العرب، كما نشأ مثل ابن المقفع والجاحظ من فصحاء الأعراب، ويسر له من أسباب ذلك ما لم يتفق لأحد غيره مما لا محل لبسطه هنا، ولا تكاد تجد شعر أديب متأخر يستقيم له أن يذكر في شعر كل عصر من لدن زمننا إلى صدر الإسلام ثم لا تنحط مرتبته غير كلام البارودي هذا؛ وهو وحده الذي يقابل القاضي الفاضل في أدوار التاريخ الأدبي، على بعد ما بينهما؛ لأن شعره هو الذي نسخ آية الصناعة، ودار في ألسنة الرواة، وكان المثل المحتذى في القوة والجزالة ودقة التصوير وتصحيح اللغة؛ ولم يشأ الله أن يسبقه إلى ذلك أحد؛ لأن النهضة الاجتماعية في هذا الشرق العربي كانت في علم الله مرهونة بأوقاتها وأسبابها؛ ولولا ذلك لسبقه شاعر القرن الحادي عشر الأمير منجك المتوفى سنة 1080هـ "1669م"؛ فقد اتفقت لهذا الأمير نشأة كنشأة البارودي، فكان كثير الحفظ من دواوين العصور الأولى، وكان يقلد أبا فراس الحمداني ويحتذي على مثاله؛ ولكن عصره كان في العصور الهالكة، فخرج الشاعر ضعيفًا كما يخرج كل شيء في غير وقته ولغير تمامه وبغير وسائله الطبيعية. ونشأت العصابة البارودية وفيها إسماعيل صبري وشوقي وحافظ ومطران وغيرهم، وأدركوا ما لم يدركه البارودي وجاءوا بما لم يجئ به، واتصل الشعر بعضه ببعضه، وسارت به الصحف، وتناقلته الأفواه، وأنسي ذكر البلاغة وفنونها بالنشأة المدرسية الحديثة التي جعلت من ترك البلاغة بلاغة؛ لأنها صادفت أوائل الانقلاب ليس غير؛ وبذلك بطل في مصر عصر أبي النصر والليثي والساعاتي والنديم وطبقتهم، وفي الشام عصر اليازجي والكستي والأنسي والأحدب وأضرابهم، وفي العراق عهد الفاروقي والموصلي والبزاز والتميمي وسواهم؛

واستقل الشعر عربيًّا وخرج كما يخرج الفكر المخترع ماضيًا في سبيل غير محدودة. لا ريب في أن الطرق التي تتبع في تربية الأمة وتكوين روحها العالمية لا بد أن يكون لها أثر بين في شعر شعرائها؛ فإنما الشعر فكر ينبض وعاطفة تختلج، وما أرى الشاعر الحق من أمته إلا كالزهرة الصغيرة من شجوتها: إن لم تكن خلاصة ما فيها من القوة، فهي خلاصة ما في الشجر من معنى الجمال ولونه وملمسه، ولا تعدم مع هذه الصفة أن تكون وحدها الكوكب الساطع في هذا الأفق الأخضر كله، ولقد اطردت النهضة منذ خمسين سنة أو حولها، في الأدب والعلم؛ وفي الفكر والفن والصناعة؛ وساتوى لنا من ذلك ما لم يتفق لهذه الأمة في عصر من عصورها، حتى بلغنا من ذلك أن صرنا كأنما فتحنا أرضًا من أوربا وتغلبنا عليها، أو أنشأنا أوربا عربية وما نزال نعمرها وننقل إليها العلوم والفنون والآداب، ونستخرج لها الأمثلة والأساليب؛ غير أن الشعر العربي مع هذا كله لم يوف قسطه ولم يبلغ مبلغه في مجاراة هذه النهضة قوة ابتكار وسلامة اختراع وحسن تنوع، لسببين: الأول أنه لا يزال كما كان منذ فسدت اللغة العربية: شعر فئة لا شعر أمة، فهو يوضع للخاصة لا للشعب. ويدور مع الأغراض والحاجات لا مع الطبائع والأذواق؛ وذلك لو تأملت هو من بعض الأسرار في سمو هذا الشعر وقوة إحكامه وإبداع تنسيقه وجمال توشيحه منذ الدولة العباسية إلى القرن الخامس؛ ثم انحطاطه بعد ذلك وتدنيه شيئًا فشيئًا حتى بلغ الدرك الأسفل في العصور المتأخرة؛ إذا كانت الفئة التي يوضع لها ويصف أهواءها وأغراضها وتتقبله وتثيب عليه وتحسن وزنه ونقده، هي في الناحيتين كما ترى من طرفي المنظار الذي يقرب البعيد، فهي بالنظر في أوله واضحة جلية مترامية إلى الجهات، وبالنظر في آخره ضئيلة ممسوخة لا تكاد تعرف. وما أقضي العجب من غفلة بعض الكتاب في هذا الزمن إذ يناهضون العربية ويزرون على الفصاحة ويعملون على انكماش سوادها وتقليل أهلها، وما يدرون أنهم بذلك يسقطون الشعر قبل الكتابة على خطأ أو عمد وقلما تجد واحدًا من هؤلاء يحسن معالجة الشعر، فإن أصبت له شعرًا وجدته لا غناء فيه أو في أكثره، وأين وضعت يدك منه لم تخطئ أن تقع على مثل مما يمثل به لعيب من عيوب البلاغة. وهذه النهضة التي نحن في صدد الكلام عنها أوسع مدى وأوفر أسبابًا من تلك التي كانت في الدولة العباسية، بما دخلها من أدب كل أمة، وما اتصل بها من

أساليب الفكر: ولكن أين رجال الفصاحة المتمكنون منها، المتعصبون لها العاملون على بثها في الألسنة، مع أن عصرهم أوسع من عصر الرواة، بكثرة ما أخرجت المطابع من أمهات الكتب والدواوين، حتى أغنت كل مطبعة أدبية عن راوية من أئمة الرواة. والسبب الثاني الذي من أجله لا يزال الشعر متخلفًا عن منزلته الواجبة له سقوط فن النقد الأدبي في هذه النهضة؛ فإن من أقوى الأسباب التي سمت بالشعر فيما بعد القرن الثاني وجعلت أهله يبالغون في تجويده وتهذيبه، كثرة النقاد والحفاظ. وتتبعهم على الشعراء، واعتبار أقوالهم، وتدوين الكتب في نقدهم، كالذي كان في دروس العلماء وحلقات الرواية ومجالس الأدب، وكالذي صنفه مهلهل بن يموت في نقد أبي نواس وأحمد بن طاهر، وابن عمار في أبي تمام، وبشر بن تميم في البحتري، والآمدي في الموازنة، والحاتمي في رسالته، والجرجاني في الوساطة، وما لا يحصى من مثل هذه الكتب والرسائل، وأنت من النقد في هذه النهضة بين اثنين: صديق هو الصديق أو عدو هو العدو.. فإن ابتغيت لهما ثالثًا فكاتب لا تتعادل وسائل النقد فيه فلا خير في كلامه، أما الناقد الذي استعرض علم العربية وآدابها، وكان شاعرًا كاتبًا قوي العارضة، دقيق الحس ثاقب الذهن، مستوي الرأي بصيرًا بمذاهب الأدب متمكنًا من فلسفة النقد مبرزًا في ذلك كله- فهذا الخيال يذكرني كلمة قلتها يومًا للبارودي إذ قلت له: إن الشاعر لا يكون لسان زمنه حتى يوجد معه الناقد الذي هو عقل زمنه؛ فقال: ومن ناقد الشعر في رأيك؟ قلت: الكاتب وهو شاعر، والأديب وهو فيلسوف، والمصلح وهو موفق؛ فكأنما هولت عليه حتى قال -رحمه الله- "فين دا كله؟ " قلت: فلعله لا ينشئ لنا هذا العقل الملتهب إلا العصر الذي يوجد لنا أسطولًا كأسطول انجلترا. وعلى ما نزل بالشعر العصري من هذين السببين فقد استقلت طريقته وظهر فيه أثر التحول العلمي والانقلاب الفكري، وعدل به أهله إلى صور الحياة بعد أن كان في أكثره صورًا من اللغة، وأضافوا به مادة حسنة إلى مجموعة الأفكار العربية، ونوعوا منه أنواعًا بعد أن كان كالشيء الواحد، واتسعت فيه دائرة الخيال بما نقلوا إليه من المعاني المترجمة من لغات مختلفة، وهو من هذه الناحية أوسع من شعر كل عصر في تاريخ هذه اللغة: إذ كان الأولون إنما يأخذون من اليونانية والفارسية، ثم أخذ المتأخرون قليلًا قليلًا من التركية؛ أما في العهد الأخير فيكاد

العقل الإنساني كله يكون مادة الشاعر العربي، لولا ضعف أكثر المحدثين من النشء الجديد في البيان وأساليبه، وبعدهم من ذوق اللغة واعتياص مرامها عليهم، حتى حسبوا أن الشعر معنى وفكر، وأن كل كلام أدى المعنى فهو كلام، ولا عليهم من اللغة وصناعتها، والبيان وحقيقته؛ وحتى صرنا والله من بعض الغثاثة والركاكة والاختلال في شر من توعر نظم الجاهلية وجفاء ألفاظه وكزازة معانيه؛ وهل ثم فرق بين أن تنفر النفس من الشعر؛ لأنه وعر الألفاظ عسير الاستخراج شديد التعسف، وبين أن تمجه؛ لأنه ساقط اللفظ، متسول المعنى، مضطرب السياق؟ ثم تراهم ينجزون الشعر كله على اختلاف أغراضه نمطًا واحدًا من تسهيل اللفظ ونزوله، حتى كأن هذه اللغة لا تنوع في ألفاظها وأجراس ألفاظها، مع أن هذا التنوع من أحسن محاسنها وأخص خصائصها دون غيرها من اللغات، كما أن كل تنوع هو من أبدع أسباب الجمال والقوة في كل فن؛ ولا يدري أصحابنا أن كل ذلك من عملهم عبث في عبث إذا هم لم يعطوا الشعر حقه من صناعة اللغة؛ وهذا شاعر الفرس الشهير مصلح الدين السعدي الشيرازي إمام من أئمة البلاغة في قومه لا يدفع مكانه وشعره مثل من أسمى الأمثلة في جمال المنطق الروحي، وليس في الناس إلا من يسلم له هذا المحل من النبوغ، وهو مع ذلك حين نظم الشعر لم تنفعه نافعة من حكمة أو خيال أو فكر، وذهب في التعسف كل مذهب، وحمل على كلامه من العيوب ما لم يسلم معه إلا صحة الوزن، كقوله في وصف نكبة بغداد وتخريبها: فقد ثكلت أم القرى ولكعبة ... مدامع في الميزان تسكب في الحجر على جدر المستنصرية ندبة ... على العلماء الراسخين ذوي الحجر نوائب دهر ليتني مت قبلها ... ولم أر عدوان السفيه على الحبر محابر تبكي بعدهم بسوادها ... وبعض قلوب الناس تألف بالغدر لحى الله من تسدي إليه بنعمة ... وعند هجوم اليأس أحلك من حبر فانظر أي شعر هذا في الركاكة والهذيان والسخف، وفي خمود الفكر وضعف الروح وذهاب الرونق، وتأمل كيف هوى به السعدي من مكانته التي بوأه إياها أدبه العالي، وكيف سقط إلى حيث ترى، مع أنه في محراب الفكر إمام وراءه صفوف من عصور البلاغة. ومن ههنا نشأ في أيامنا ما يسمونه " الشعر المنثور"، وهي تسمية تدل على

جهل واضعها ومن يرضاها لنفسه؛ فليس يضيق النثر بالمعاني الشعرية، ولا هو قد خلا منها في تاريخ الأدب؛ ولكن سر هذه التسمية أن الشعر العربي صناعة موسيقية دقيقة يظهر فيها الاختلال لأوهى علة ولأيسر سبب، ولا يوفق إلى سبك المعاني فيها إلا من أمده الله بأصح طبع وأسلم ذوق وأفصح بيان؛ فمن أجل ذلك لا يحتمل شيئًا من سخف اللفظ أو فساد العبارة أو ضعف التأليف، ولا تستوي فيه أمسى المعاني مع شيء من هذه العلل وأشباهها، وتراه يلقي بمثل "السعدي" من الفلك الأعلى إلى الحضيض، لا يقيم له وزنًا ولا يرعى له محلًا ولا يقبل فيه عذرًا ولا رخصة؛ غير النثر يحتمل كل أسلوب، وما من صورة فيه إلا ودونها صورة إلى أن تنتهي إلى العامي الساقط والسوقي البارد؛ ومن شأنه أن ينبسط وينقبض على ما شئت منه، وما يتفق فيه من الحسن الشعري فإنما هو كالذي يتفق في صوت المطرب حين يتكلم لا حين يغني: فمن قال: "الشعر المنثور" فاعلم أن معناه عجز الكاتب عن الشعر من ناحية وادعاؤه من ناحية أخرى. والذي أراه جديدًا في الشعر العربي مما أبدعته هذه النهضة أشياء: أولًا: هذا النوع القصصي الذي توضع فيه القصائد الطوال، فإن الآداب العربية خالية منه؛ وكان العرب ومن بعدهم إذا ذكروا القصة ألموا بها اقتضابًا وجاءوا بها في جملة السياق على أنها مثل مضروب أو حكمة مرسلة أو برهان قائم أو احتجاج أو تعليل وما جرى هذا المجرى مما لا ترد فيه القصة لذاتها ولا لتفصيل حوادثها؛ وهو كثير في شعر الجاهليين والإسلاميين، والجيد منه قليل حتى في شعر الفحول؛ فإن طبيعة الشعر العربي تأباه؛ والذين جاءوا به من العصريين لا يجدون منه إلا قطعًا تعرض في القصيدة وأبياتًا تتفق في بعض معانيها وأغراضها مما يجري على أصله في سائر الشعر طال أو قصر؛ والسبب في ذلك أن القصة إنما يتم تمامها بالتبسط في سردها وسياقة حوادثها وتسمية أشخاصها وذكر أوصافهم وحكاية أفعالهم وما يداخل ذلك أو يتصل به، وإنما بني الشعر العربي في أوزانه وقوافيه على التأثير لا على السرد، وعلى الشعور لا على الحكاية؛ ولا يريدون منه حديث اللسان ولكن حديث النفس؛ فهو في الحقيقة عندهم صناعة روحية يصنعون بها مقادير من الطرب والاهتزاز والفرح والحزن والغضب والحمية والنزعة؛ فلا جرم كان سبيلهم إلى ذلك هو التحديد لا الإطلاق، وضبط المقادير

لا الإسراف؛ إذ كان من شأن هذه الأمور في طبيعة النفس أن ما زاد منها عن مقداره تحول وانقلب في تأثيره، وذلك هو السبب أيضًا في أن هذا الشعر ما لم يكن قائمًا على اختيار اللفظ وصنعة العبارة وتصفيتها وتهذيبها واختيار الوزن للمعنى وإدارة الفكر على ما يلفت من ضروب المجاز والاستعارة ونحوها- سقط ورك بمقدار ما ينقصه من ذلك؛ وليس الشأن في إطالة القصيد؛ فمن الشعراء من نظم رويًّا واحدًا في أربعة آلاف بيت، ومنهم من نظم تفسير القرآن كله؛ ولكن عيب مثل هذا الشعر في العربية أنه شعر ... وما أخمل ابن الرومي على جلالة محله إلا طول قصائده وسياقه الكلام فيها مع ذلك على ما يشبه أسلوب الحكاية وخروجها مخرج المقالة يتحدث بها، فلم تَحْيَ له إلا مقطعات وأبيات ومات سائر شعره وهو حي وميت على السواء، حتى قال فيه صاحب الوساطة: "ونحن نستقرئ القصيدة من شعره وهي تناهز المائة أو تربي أو تضعف، فلا نعثر فيها إلا بالبيت الذي يروق أو البيتين، ثم قد تنسلخ قصائد منه وهي واقفة تحت ظلها جارية تحت رسلها لا يحصل منها السامع إلا على عدد القوافي..". والعجيب أن بعض الكتاب في عصرنا ممن لا تحقيق لهم في مثل هذه المسائل، يعدون أحسن محاسن ابن الرومي ما هو أقبح عيوبه، وقاتل الله صناعة الكتابة، فكما أنها لملء الفراغ هي كذلك لإفراغ الملآن1.. ثانيًا: صياغة بعض الشعر على أصل التفكير في الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرهما من لغات الأمم، فيخرج الشعر عربيًّا وأسلوبه في تأدية المعنى أجنبي؛ وأكثر ما يأتي هذا النوع من أمريكا، وأنا أعجب بكثير منه لما فيه من الغرابة والحسن. وما زالت أجناس الأمم يضيق بعضها بأشياء ويتسع بعضها بأشياء فلسنا مقيدين بالفكر العربي ولا بطريقته، وعلينا أن نضيف إلى محاسن لغتنا محاسن اللغات الأخرى؛ ولكن من غير أن نفسدها أو نحيف عليها أو نبيعها بيع الوكس؛ ومتى كان هذا النوع من الشعر رصينًا محكمًا جيد السبك رشيق المعرض، كان في النهاية من الرقة والإبداع؛ ولم يأت التجديد في هذه اللغة إلا من هذه الناحية، كالذي تراه فيما أخذ عبد الحميد وابن المقفع من نمط الأداء في اللغة الفارسية. ثالثًا: الانصراف عن إفساد الشعر بصناعة المديح والرثاء، وذلك بتأثير الحرية الشخصية في هذا العصر؛ والمدح إذا لم يكن بابًا من التاريخ الصحيح لم

_ 1 انظر دراسة العقاد لابن الرومي.

يدل على سمو نفس الممدوح، بل على سقوط نفس المادح؛ وتراه مدحًا حين يتلى على سامعه، ولكنه ذم حين يعزى إلى قائله! وما ابتليت لغة من لغات الدنيا بالمديح والرثاء والهجاء ما ابتليت هذه العربية؛ ولذلك أسباب لا محل لتفصيلها. رابعًا: الإكثار من الوصف والإبداع في بعض مناحيه والتفنن في بعض أغراضه الحديثة: وذلك من أسمى ضروب الشعر، لا تتفق الإجادة فيه والإكثار منه إلا إذا كان الشعر حيًّا، وكانت نزعة العصر إليه قوية، وكان النظر فيه صحيحًا؛ ولما وصف الشيخ أحمد الكردي "من شعراء القرن الثاني عشر" السفينة واستهل بهذا الوصف مدح الوزير راغب باشا، عدُّوا ذلك حادثة من حوادث الأدب في عصره فتأمل! خامسًا: إهمال الصناعات البديعية التي كان يبنى عليها الشعر، فينظم البيت؛ ليكون جناسًا أو طباقًا أو استخدامًا أو تورية ... الخ، أو ضربًا آخر من صناعة العدد والحساب، كالتاريخ الشعري بأنواعه، أو صناعة الحرف، كالمقلوب والمهمل وغيرهما: أو صناعة الفكر، كاللغز والمعمى؛ أو صناعة الوضع كالتشجير والتطريز، إلى ما يلتحق بهذا الباب الذي ذهب أهله فلا يتيسر لأحد من بعدهم أن يجاريهم فيه، وكانت لهم في كل ذلك عجائب استقصيناها بالتدوين في موضعها من "تاريخ آداب العرب"1؛ بيد أن إهمال صناعة البديع شيء وإهمال فن البديع نفسه شيء آخر؛ ومن هنا جاء ما نراه في بعض الشعر الحديث "والشعر المنثور" من الإغراق السخيف الذي لا يقوم على أصل، من التعدي في ضروب الاستعارة، والبعد في المجاز، والإحالة في الوضع، ونحوها مما يرجع إلى الجهل بطبيعة البلاغة، ومما لا نعده إلا ضربًا من الفساد يلتحق بما كان في العصور الماضية وإن كان على الضد منه. سادسًا: النظم في الشؤون الوطنية والحوادث الاجتماعية، مما يجعل الشعر محيطًا بروح العصر وفكره وخياله، وهو باب لا ينهض به إلا أفراد قلائل، ولا يزال ضعيفًا لم يستحكم؛ وقد قالوا: إن للقاضي الفاضل اثني عشر ألف بيت في مدح الوطن والحنين إليه، ولكن لا أحسب أن بها مائة من نحو ما ينظم في هذا العصر مما أدى بالشعر إلى أن يدخل في باب السياسة ويعد من وسائلها، وفي طرق التربية ويعد من أسبابها. سابعًا: اسخراج بعض أوزان جديدة من الفارسية والتركية، وهو قليل، جاء

_ 1 انظر الجزء الثالث من "تاريخ آداب العرب" للرافعي.

به شوقي في قصيدتين ولم يتابعه أحد؛ لإفراط ذلك الوزن في الخفة حتى رجع إلى الثقل.. ثم نظم بعض الشعر من أوزان مختلفة قريبة التناسق على قاعدة الموشح، ولكنه شعر لا توشيح، كما ينظم بعض شعراء أمريكا وسوريا؛ ولم يحدث مثل ذلك في العربية، فإن القصيدة كانت تنظم من بحر واحد، وقد يخرج منه وزن آخر: ولا نعرف في تاريخ الأدب قصيدة تتألف من وزنين إلا الذي قالوا إن حسين بن عبد الصمد المتوفى سنة 984هـ "1576م" قد اخترعه ونظم فيه أبياته التي مطلعها: فاح عرف الصبا وصاح الديك ... وانثنى البان يشتكي التحريك قم بنا نجتلي مشعشعة ... تاه من وصفه بها النسيك وعارضها ولده الإمام الشهير بهاء الدين العاملي صاحب الكشكول بأبيات قالوا: إنها سارت في عصره مسير المثل، ونسج عليها شعراء ذلك العصر، كالنابلسي وغيره، ومطلعها: يا نديمي بمهجتي أفديك ... قم وهات الكؤوس من هاتيك خمرة إن ضللت ساحتها ... فسنا نور كأسها يهديك على أن هذا الوزن بشطريه مستخرج من الخفيف، فليس باختراع كما زعموا، وإنما هو ابتداع في التأليف الشعري؛ وقد اجتزأنا بما مرت الإشارة إليه، فإنه كل ما تغير به الرسم في هذه الصناعة؛ وتركنا الأمثلة تفاديًا من الإطالة. وبعد فلا ريب أن النفس البشرية في حاجة أبدًا مع دينها الروحي إلى دين إنساني يقوم على الشعور والرغبة والتأثير، فيفسر لها حقائق الحياة، ويكون وسيلة من وسائل تغييرها؛ ليجعلها ألطف مما هي في اللطف؛ وأرق مما تكون في الرقة، وأبدع مما تتفق في الإبداع؛ ذلك الذي يصل بظهوره وإبهامه بين الواضح والغامض، والخالد والفاني؛ ذلك الذي لا يجمل الجمال إلا به، ولا تسكن النفس إلا إليه؛ ذلك هو الشعر!

صروف اللغوي

صروف اللغوي *: كان شيخنا هذا رجلًا حصيفًا جيد المنزعة حسن الرأي، ممكنًا له فيما كان يعترضه من مسائل اللغة، قويًّا على الأحوال التي تجري له من أوضاعها فيما يعانيه من النقل ويزاوله من الترجمة على اختلاف مناحيها وكثرة فنونها، وعلى أنها لا تزال كل يوم تنبعث من علم وتحتفل من رأي وتمد مد السيل كأنها دنيا عقلية لا يبرح عقل الإنسان دائبًا يحلق فيها ويبنيها من معاني الكون وأسراره، فلا الكون ينفد لتتم، ولا هي تتم قبل أن ينفد الكون. وثبت شيخنا على ذلك عمر دولة من الدول في خمسين سنة ونيف، يضرب قلمه في السهل والصعب، وفي الممكن والممتنع؛ وإنه ليمر في كل ذلك مرًّا لا ينثني، ويحذو حذوًا لا يختلف، كأن الصعب عنده نسق السهل، والممتنع صوغ الممكن؛ فلو قلت: إنه بني في أصل خلقه وتركيبه على أن يكون قوة من قوى التحويل لتحقيق المشابهة العقلية بين الشرق والغرب لما أبعدت، ولو زعمت أن ذلك القلم الحي لم يكن إلا عرفًا في جسم الإنسانية لكان عسى.. وانتهى شيخنا في العهد الأخير إلى أن صار يعد وحده حجة اللغة العربية في دهر من دهورها العاتية، لا في الأصول والأقيسة والشواذ وما يكون من جهة الحفظ والضبط والإتقان، بل فيما هو أبعد من ذلك وأرد بالمنفعة على اللغة وتاريخها وقومها، بل فيما لا تنتهي إليه مطمعه أحد من علمائها وكتابها وأدبائها؛ إذ وقع الإجماع على أنه انفرد في إقامة الدليل العلمي على سعة العربية وتصرفها وحسن انقيادها وكفايتها، وأنها تؤاتي كل ذي فن على فنه، وتماد كل عصر بمادته؛ وأنها من دقة التركيب ومطاوعته مع تمام الآلات والأدوات بحيث ينزل منها رجل واحد بجهده وعمله منزلة الجماعات الكثيرة في اللغات الأخرى، كأنها آخر ما انتهت إليه الحضارة قبل أن تبدأ الحضارة.

_ 1 هو العلامة الدكتور يعقوب صروف صاحب "المقتطف"، وقد نشر هذا المقال في مقتطف شهر يناير سنة 1928.

ولا يذهبن عنك الفرق بين رجل حافظ والكتاب أحفظ منه، وهو من الكتاب خرج وإلى الكتاب يرجع؛ وبين رجل يكون ترجمانًا من تراجمة العقل الإنساني المعني بتأويل الكون وتفسيره، والطائر بالألفاظ الإنسانية على أجنحة العلوم والفنون والمخترعات والمعاني؛ فإن ذاك ينقل عن الواقع ثم لا يتعدى هذه المنزلة ولا يتجاوز متون الألفاظ، وأما هذا فلا يزال يضطرب مع الألفاظ ومعانيها يجاذبها ويدافعها، ثم لا يزال يضع يده في النسيج اللغوي يسدي ويلحم، فهو مدفوع إلى المسالك الدقيقة من مذاهب الوضع وطرقه، وأساليب الأخذ والانتزاع؛ وهو مقيد أبدًا بخاص المعنى وخاص اللفظ على التعيين والتحديد، لا يجد فسحة من ضيقين؛ فإن لم يكن مثل هذا في منزلة الواضع فهو في المنزلة بعده ولا ريب. إنما اللغوي الأكبر عندي هو هذا الكون، وما العالم باللغة وفنونها إلا وسيلة لتهذيب الطريقة تهذيبًا عقليًا، فيجب من ثم إن يكون للغوي رأي وعلم وذكاء وبصر، ويجب أن يطابق النواميس، فلا يتعادى ما بينه وبينها؛ لأنه وسيلة إنطاقها ليس غير؛ ومن ذلك أرى الدكتور صروف في الغاية، فقد كان ينزع في مذهبه اللغوي منازع علمية دقيقة توزن وتقاس وتختبر، في حين لا تزيغ ولا تهن ولا تختل، وتراها تنطلق وهي مقيدة، وتتقيد وهي مطلقة؛ إذ كان لا يعتد اللغة عربية للعرب، بل عربية للحياة؛ وما تهدمه وتبنيه وما تحدثه وتنسخه فهي على أصولها فيمن قبلنا، ولكن فروعها فينا نحن وفيمن يلينا وفيمن بعد هؤلاء، قلنا أن نتولاها على تلك الأصول وعلى ما يشبهها في الطريقة حين تنتقل الحال ويتغير الرسم، ولعلة إن وجبت، ولقياس إن جاز. والدكتور بهذا الاعتبار يشتد في التمسك بالقواعد والضوابط ولا يترخص في شيء منها غير أنه لا يكون كأقوام يرون الفروع من الجذوع قد خرجت، فيحسبون الثمرات سبيلها من الجذوع أيضًا.. وإن لم تجيء منها فستجيء منها. عرض لي يومًا أحد هؤلاء اللغويين فانتقد في المقطم قصيدة من القصائد التي رفعتها إلى الملك فؤاد، وتمحل في نقده ودلل ببعض ما نقله من كتب اللغة، فكان فيما تكلم فيه لفظا: "الأزاهر والورود"، فقال إنهما ليسا من اللغة ولم يجريا في كتبها؛ وكان من ردي عليه أن قلت له: إن العرب جمعوا الجمل ستة جموع، وجمعوا الناقة سبعة؛ لأنها أكرم عليهم منه، وإن لكل حياة صورها الدائرة في ألفاظها، فالزهر والورد عند المولدين والمحدثين أكرم من الجمل والناقة عند العرب، أو هذان كهذين؛ ثم هما من خاص الألفاظ المولدة، فلنا أن نجمعهما

على كل صور الجمع التي يسوغها القياس؛ لأن ههنا الموجبة التي لم تكن مع العرب فيهما؛ فمن الصحيح أن تقول: زهور، وأزهار، وأزاهر، وأزاهير الخ، فلما لقيت الدكتور بعد نشر هذا الرد هنأني به، ثم قال فيما قال: يحسبون أن العرب هم الجمل والناقة وليس غير ما استجمل وما استنوق.. أما هذا الدهر الطويل العريض فليس عندهم شيئًا، وهم يستطيعون أن ينكروا على المولدين ألف كلمة، ولكن هل في استطاعتهم أن ينكروا على التاريخ ألف سنة؟ فذكرت له الأصل الذي قرره أبو علي الفارسي في العربي الصحيح نفسه: من أنه ليس كل ما يجوز في القياس يجب أن يخرج به سماع، فإذا أخذ إنسان على طريقة العرب وأم مذهبهم فلا يسأل ما دليله وما سماعه وما روايته، ولا يجب عليه من ذلك شيء، حتى قال أبو علي: لو شاء شاعر أو متسع أن يبني بإلحاق اللام* اسمًا وفعلًا وصفة لجاز له، ولكان ذلك من كلام العرب؛ وذلك نحو قولك: خرجج أكثر من دخلل، وضربب زيد عمرًا، ومررت برجل ضربب وكرمم، ونحو ذلك. قال تلميذه ابن جني: فقلت له: أترتجل اللغة ارتجالًا؟ قال: ليس بارتجال لكنه مقيس على كلامهم فهو إذًا من كلامهم. وسألني مرة عن وجه الخلاف بين ما يسمونه القديم والجديد، فقلت له: إن الخلاف ليس علي جديد ولا قديم، ولكن على ضعف وقوة؛ فإن قومًا يكتبون وينظمون ولكن لم تقسم الفصاحة والبلاغة على مقدار ما يطيقونه من ذلك، ولا يتسع الصحيح لآرائهم في اللغة والأدب، وقد أرادوا أن يسعوا كل ذلك من حيث ضاقوا، ويطاولوه من حيث تقاصروا، وينالوه من حيث عجزوا؛ فظنوا بالأمر ما يظن إنسان يمشي على الأرض ويعرف أنها تدور، فيؤول ذلك بأنه هو يدير الأرض على محورها بحركة قدميه ... نحن نقول: أسلوب ركيك، فيقولون: لا بل جديد، وتقول: لغة سقيمة، فيقولون: بل عصرية، ونقول: وجه من الخطأ، فيقولون: بل نوع من الصواب، وهلم جرًّا أو سخيًّا ... ثم قلت له: أفتجد أنت الركاكة واللحن والخطأ والغثاثة وإن وأخواتها بابًا جديدًا أو أمرًا مبتدعًا أو شيئًا يحتاج إلى اسم جديد غير اسمه العربي؟ قال: لا، وأنا معك في هذا، وطريقتي في المقتطف أن اللغة في قواعدها عربية، ولكن من قواعدها أن لكل مقام مقالًا، فنحن نكتب كتابة صحيحة ونريد بها أن ترفع العامة ولا تنزل بالخاصة، فنخدم العربية من الجهتين.

_ * زيادة حرف من جنس لام الكلمة وإلحاقه بها.

ثم نشر بعد ذلك في عدد شهر مايو سنة 1927 مقالًا جعل عنوانه "أسلوبنا في الترجمة والتعريب" وابتدأه بهذه العبارة: "اللغة جسم حي نامٍ، وشأن من يحاول منعها من النمو شأن الصينيين الذين يربطون أقدام بناتهم لكي لا تنمو وتبلغ حدها الطبيعي، ولكن إذا كان النمو مشوهًا فلا بد من تقييده وتهذيبه؛ وكل ما نقوله نحن هو التقييد والتهذيب واتقاء الشوهة أن تلم باللغة وأساليبها فتترادف على محاسنها بمعايبها، وتطمس مفاتنها بمقابحها؛ فإن هذه المعايب والمقابح إذا هي استجمعت وانساغت في لغة من اللغات لبستها بأشكالها فلا تزال تنكر منها حتى لا تبقي لها وصفًا يعرف، والحسن وحده هو الذي يحد بالأوصاف والتعاريف، وهو الذي يدقق فيه ويبالغ فيه قياسه وتقديره، فإن وقع فيه الفضول واختلطت الحدود وضعفت الملاءمة وجرى الوصف ناقصًا وزائدًا فقد خرج إلى القبح، وإن خرج إلى القبح لم يعد الناس يحدون له حدًّا أو يعبأون له بقاعدة، ووجدوا فيه كل الأوصاف الجميلة مقلوبة منكرة؛ لأنه هو جمال مقلوب؛ "فتقييد التشويه وتهذيبه" كلمتان فيهما الكلام كله، أو هما المصراعان لهذا الباب؛ ومن أجل ذلك كنا نعد الدكتور من حجتنا على أصحاب الجديد؛ لأنه أوسعهم إحاطة وأكثرهم علمًا وأمدهم عملًا، ثم لن يدانيه أحد منهم إلا إذا جمع لنفسه عمرين، وهل في الجديد رجل ذو عمرين؟.. قلنا: إن الشيخ كان في المنزلة التي تلي منزلة الواضع، وقد دفعته العلوم إلى ذلك دفعًا، لأنه مقيد بخاص المعنى في كل ما يترجم أو يعرب، ثم بالخصائص العلمية الدقيقة التي لا تحتمل في أدائها ما تحتمل المعاني الأدبية؛ وقد تصدر للكتابة والترجمة منذ شباب هذا العصر، ومنذ بدأ الناس يقرأون العلوم الحادثة في الشرق؛ فلا جرم لم يكن لغويًّا كأبي عمرو وأبي زيد والخليل والأصمعي وأبي حاتم وأبي عبيدة وأضرابهم ممن يحملون عن العرب ويؤدون ما حملوه، ولا كان لغويًّا في طريقة سيبويه والكسائي والزجاج والأخفش واليزيدي وأشباههم ممن ينظرون في اللغة وعللها وأقيستها وشواذها؛ ولكنه لغوي فيما يعمر بين الشرق والغرب، يحمل بلسان ويؤدي بلسان غيره ويوافق بين المعاني الجديدة والألفاظ القديمة، ويشابك بين خيوط التاريخ في هذه وهذه، ويأخذ اللغة للاستعمال لا للحفظ وللتعليم لا للتدوين وللمنفعة لا للمباهاة وللفائدة لا للتنبل؛ ويترجم وإن في خياله العالم الواسع الذي ينقل عنه بعلمائه وأدبائه وكتبه ومجلاته ومصطلحاته، ويكتب وإن له تلك الملكة الدقيقة التي كونتها العلوم الرياضية

والطبيعية والفلسفية وغيرها؛ فلم يكن بد من أن يبتدع، وأن تكون له طريقة يوافق فيها ويخالف، وقد بسط هو القواعد التي أخذ بها وجرى عليها، فكتب فيها مقالًا في "المقتطف" شهر يوليو لسنة 1906، وأعاد نشره في عدد شهر مايو لسنة 1927، وهو يوافق فيه أكثر العلماء، وخاصة الإمام الجاحظ؛ ومع أن قاعدة الجاحظ لم تكن يومئذ معروفة، ولكن كلا الشيخين حصيف الرأي تام الإدارة في عمله، قوي الحسبة والتدبير فيما يأخذ وما يدع؛ وخلاصة رأي الدكتور أنه ينظر في الكلمة الأعجمية، فإن أصاب لها مرادفًا في العربية يحددها ويفي بها فذاك، وإلا أمرها في كتابته وهو مقيد بقاعدة القارئ وما هو أخف على قارئه في المئونة وأبين له في الدلالة، فإن كانت اللفظة الأعجمية أوفى وأشبع في استعمال عدل إليها، قال: وغني عن البيان أننا التزمنا أن نجاري العلماء في المصطلحات العلمية التي تفقد دلالتها بتعريبها: كالحامض الكبريتوس والكبريتيك ... الخ، فإن لكل من هذه الملحقات والزوائد التي فيها، معنى خاصًّا يدل على تركيب الحامض المراد كما يعلم دارسو الكيمياء؛ قال: فمن يسمي الحامض الكبريتيك بالحامضي الكبريتي كمن يسمي الفرس حمارًا؛ لأن لكل منهما رأسًا وذنبًا.. والجاحظ يقول في مثل ذلك: إن رأيي في هذا الضرب من هذا اللفظ أن أكون ما دمت في المعاني التي هي عبارتها والمادة فيها على أن ألفظ بالشيء العتيد الموجود "يعني اللفظ العلمي الاصطلاحي" وأدع التكلف لما عسى ألا يسلس ولا يسهل إلا بعد الرياضة الطويلة.. ولكل صناعة ألفاظ قد جعلت لأهلها بعد امتحان سواها، فلم تلزق بصناعتهم إلا بعد أن كانت بينها وبين معاني تلك الصناعة مشاكلات. فأنت ترى الجاحظ لا يمتنع من الألفاظ الأعجمية والعامية كما هي ما دامت المعاني قائمة، وقاعدته هي الأخف والأدل والأفهم والأشيع، وهذا بعينه يقول الدكتور فيه: "يشترط في حسن التعبير أن يؤدي المعنى المراد إلى ذهن السامع بأقل ما يكون من الوقت والكلفة والإسراف في القوة العصبية". وقد كلمني بعضهم في خطأ الدكتور من ناحية الألفاظ الأعجمية وإقحامها في كتابته، وأنه يجنح إلى ذلك بأوهى سبب؛ ولا أراه خطأ، بل أنا أرد ذلك إلى ما بينه آنفًا من أمر الناقل والواضع ولا يعجزنا أن نجد لصنع الدكتور نصًا يقوم به وينهض بحجته؛ فقد قال أبو علي الفارسي: إن العرب إذا اشتقت من الأعجمي خلطت فيه، فإذا كان هذا في الاشتقاق وهو لا يكون إلا من أصل، فكيف

بالتعريب؟ على أنه لا خلط ولا اضطراب، إنما هو سبيل الوضع وحكمة الدلالة وأن اللغة هكذا تجيء، ثم يأتي بعد ذلك النحوي يقول لماذا ولأن ... وقد أعجبني حسن تقسيم الدكتور لقواعده التي بسطها في مقاله المستفيض، حتى أني لأراه بابًا جديدًا في التقسيم المعروف عند علماء البلاغة واللغة لابتذاله الألفاظ وغرابتها؛ إذ لم يبق عندنا غريب ومبتذل ولا بيننا عرب ومحدثون. بيد أن من تلك القواعد أن الأستاذ يترخص في الألفاظ العامية وهو يجد فصيحها، ويقول في ذلك: "إذا أسمعت الفلاح المصري كلمة بذار مرة في الأسبوع أو في الشهر، سمع كلمة "تقاوي" مائة مرة وألف مرة، فرأينا أن محاولة تغيير لغة العامة في هذه الكلمات وأمثالها ضرب من العبث وإضاعة للوقت وتضييع للفائدة، فجاريناهم فيما نكتبه لهم". وهذا ما كنت أجادله فيه ولا أسلم له بشيء منه؛ لأنه أغفل أصلًا اجتماعيًّا عظيمًا، فإن عامتنا غير منقطعة من العربية الفصحى، ولا يزال فيهم ميراثها من القرآن والحديث وكلام العلماء في أمور دينهم، وهذه هي وسائل مزجهم بالفصيح وردهم إليه، ولا تزال هذه الوسائل تفعل ما تفعله النواميس المحتومة ولولاها لما بقي للفصحى بقية بعد. وقد كان جاء إلى مصر من بضع سنين رجل من أمريكا هو من تلاميذ الدكتور القدماء، فنزح إلى ذلك البر فاتجر فأثرى وفشت له نعمة عظيمة؛ ولما لقيته لقيت في يده صحيفة وضع فيها مسائل في اللغة والنحو، وكأن أعدها ليسأل عنها؛ وفي أولها هذا السؤال: لماذا يقال فصح الرجل فصاحة فهو فصيح، ثم يقول: شعر شعرًا فهو شاعر؟ ألم يكن القياس أن يقال شعر شعارة فهو شعير، والفصاحة والشعر من باب واحد؟ وهذا السؤال وإن كان في ظاهر الرأي لغوًا وعبثًا ولكنه دقيق في تاريخ اللغة وأقيستها، ولا محل لبسط الكلام عليه في هذا الموضع، غير أني أنهيت الخبر للدكتور صروف وقلت له: إن صاحبك هذا يضع قواعد اللغة في الميزان الذي في حانوته.. وأنت كذلك تعالج بعض الألفاظ أحيانًا ببعض الغازات والحوامض. قلت هذا؛ لأني لم أسلم له قط فيما كان يراه في مثل البذار والتقاوي، على أنه قيد الكلام بقوله "فيما نكتبه لهم"، وهذا احتراس يدافع عنه بقوة كما ترى. ولا يمتري أحد في أن هذه النهضة اللغوية التي أدركناها وعملنا فيها لم تكن سوى نمو طبيعي لعمل رجال أفذاذ نظن الدكتور صروف في طليعتهم؛ لأنه كان

أطولهم جهادًا وأكثرهم عملًا وأظهرهم أثرًا؛ وكان المقتطف يجيء لها كل شهر كأنه قطعة زمنية مسلطة بناموس كناموس النشوء، حتى لألم هذا المقتطف أن يكون عصرًا من العصور قد خرج في شكل الكتابة؛ ولقد كاشفني الدكتور في آخر أيامه أنه كان يود لو ختم عمله بوضع معجم في اللغة يصلح أن يقال فيه إنه معجم الشعب، وفصل لي طريقته؛ إذ كنت أكلمه في كتاب لغوي افتتحت العمل فيه من زمن ولا يعرف أحد من أمره خبرًا1 فقال لي: خذ بين طريقتي وطريقتك، وامض أنت في هذا العمل؛ فإني لو وجدت فراغًا لما عدلت بهذا الأثر شيئًا، وما كل سهل هو سهل.. على أن شيخنا هذا لو قد كان تفرغ للغة وتوفر عليها واجتمع لها بذلك العمر وتلك العلوم والأدوات، لكان فيها بأمة من الأشياخ الماضين من لدن أبي عمرو بن العلاء إلى الدكتور يعقوب صروف، ولكن لعل الدهر أضيق من أن يتسع أو هو أوسع من أن يضيق ... لإمام آخر كأبي علي الفارسي، يفرغ سبعين سنة لفرع واحد من علوم اللغة هو علم القياس والاشتقاق والعلل الصرفية ويجعله همه وسدسه على ما قال تلميذه ابن جني: "لا يعتاقه عنه ولد، ولا يعارضه فيه متجر، ولا يسوم به مطلبًا، ولا يخدم به رئيسًا؛ فكأنه إنما كان مخلوقًا له". وكانت للدكتور طريقة جريئة في رد الألفاظ العربية إلى أصولها والرجوع بها إلى أسباب أخذها واشتقاقها وتصاريفها من لغة إلى لغة، وأعانه على ذلك ثقوب فكره وسعة علمه ودقة تمييزه وميله الغالب عليه في تحقيق ناموس النشوء وتبين آثاره في هذه المخلوقات المعنوية المسماة بالألفاظ؛ وكان معجبًا بكل ما جاءه من هذا الباب ولو كان من خطأ؛ لأنه إلى الرأي يقصد وللطريقة يمكن ومع الحاضر يجري. وهذا باب يحتاج إلى التسمح والتساهل؛ إذ لا يمكن تحقيقه، ولا تتفق الحيطة فيه، وليس إلا أن يتلوح شيء منه ويسنح شيء وتتلامح علة ويعرض سبب؛ ثم هو في الدكتور من بعض الدلالة على استحكام ملكة الوضع فيه، ونزعه إلى أن يقتاس بقياسه ويستخرج من علله؛ وقد تراه يبعد في ذلك فينصب لك الدليل من وراء بضعة آلاف سنة، وأنا الساعة أعان ذاكرتي وأديرها من ههنا وههنا لأجد، كلمة، قال لي مرة في تاريخها: إن العرب أخذوها عن اليونان حين

_ 1 أحسبه يعني المعجم الذي كان يعاون فيه صديقه المرحوم أحمد زكي باشا، وانظر ص262 "حياة الرافعي".

كانت مكة نفسها جارية في حكمهم، ولكن أنسيت هذه الكلمة؛ إذ لم أرتبطها، وإذ كنت لا أرى هذا المذهب ولا أحسن أن أقول فيه قولًا، وأعد كل ما يقال فيه من باب تلفيق الأدلة، كأنه ذئب ذلك الأعرابي الذي يريد أن يجعل في الناس منه مثل غرائز الغنم ... فيقول: "إلا تره تظنه". والدكتور صروف رجل مالي في المال وفي اللغة جميعًا. فمذهبه القصد في الدلالة والقصد في الوقت والقصد في القوة، وقد صرفته ثلاثتها عن الشعر وعما كان في حكمه من تحبير النثر وتوشيته، على أنه يحسنهما لو أراد ولو سخت نفسه بالوقت ينفقه ولا يتعرف قدر ما مضى منه في هذه الساعات، بل في ساعة الكون الكبرى التي يتعاقب فيها عقربا النهار والليل، كما كان ينفق البارودي يومًا في بيت أو بيتين. وكان شيخنا في آخر مجالسي معه قبل وفاته بشهر أو نحوه، أطلعني على كل ما نشره في مجلدات "المقتطف" من شعره، فأعجبت بأشياء منه، وأشرت على صديقنا الأستاذ فؤاد صروف أن يعيد نشر قصيدة الرقاش التي ترجمها الدكتور عن الإنجليزية في نسق سلس موشح القوافي، والتي يقول فيها صاحبها يصف مخازي المدنية: مخازٍ توالت فصالت وصارت ... على الحلم دودًا وفي العظم سوسا وسألني الدكتور بعد أن فرغت من شعره: في أي طبقة تعدني من شعرائهم؟ ففكرت قليلًا ثم قلت له: في طبقة الدكتور صروف!. فضحك لها كثيرًا. وكانت له آراء في الشعر العربي غير بعضها في آخر عهده، ومما قاله لي مرة: إن الذي يريد أن يخلد ذكره في هذا الشرق فلا ينسى، لا ينبغي له أن يطمع في هذا إلا إذا بنى هرمًا كهرم الجيزة!. وهي كلمة فلسفية كبيرة تنطوي على شرح طويل يعرفه من يعرفه. وقد كادت قاعدة القصد التي أومأت إليها تنتهي به في آخر مدته إلى القول بإسقاط الإعراب بتة، وأظن ذلك خاطرًا سنح له فأخذ بأوله وترك أن ينظر في أعقابه، فزرته مرة في شهر يناير لسنة 1927، وكان يصحح تسويده جواب كتبه عن سؤال ورد عليه في هل يمكن الرجوع إلى اللغة الفصحى في القراءة والتكلم، وما الفائدة من ذلك؟ فلما أمر بالجواب على نظره دفعه إلي فقرأته، فإذا هو يرى أن كل حركة من حركات الإعراب والبناء يتهور فيها وقت ما؛ قال: فإذا قضينا

على أبناء العربية ألا يتكلموا إلا كلامًا معربًا نكون قد أضعنا عليهم ثلث الوقت الذي يقضونه في التكلم من غير فائدة تجنى. ولقد جادلته في ذلك ولججت في الخلاف معه، وقلت له: إن هذه قاعدة مالية، ثم إنك أغفلت أمر العادة وما تيسره، وفي الكلام إيجاز يقوم مع الإعراب، هذا المقام لا يكون من الإيجاز بد، وفي اللهجات العامية من الحشو ومط الصوت وفساد التركيب ما يذهب بأكثر من ثلث الوقت؛ فأحسبه اقتنع وإن كنت رأيته لم يقتنع. وإنه ليحضرني بعد هذا كلام كثير في فضائل وآدابه وشمائل نفسه الزكية ومنزعه في الأخلاق الطيبة الكريمة، ولو ذهبت فضل لخرجت إلى الإفاضة في فنون مختلفة، ولكني أجتزئ من كل ذلك بأنه كان يظهر لي دائمًا كأنه في ظل من محبة الله.

الشيخ الخضري

الشيخ الخضري 1: تحول الكتاب إلى كتاب، ورجع المفكر إلى فكرة، وأصبح من كان يدارس الناس فإذا هو درس يذكر أو ينسى، وتناول التاريخ عالمًا، من علمائه فجعله نبأ من أنبائه، وكان يبنيه فوضعه في بنائه، وقيل: مات الشيخ الخضري! آه لو يرجع إنسان واحد من طريق الموت التي أولها هذه النقطة الصغيرة المسماة بالكرة الأرضية، وآخرها حيث تجد كلمة: "الآخرة" بلا معنى لا محدود ولا مظنون! وآه لو استطعنا أن نتكلم عن الميت كأنه حي بيننا، ونحن كثيرًا ما نتكلم عن الحي كأنه مات في زمن! إني لأكتب هذه الكلمات وكأني أنظر إلى وجه أبي -رحمه الله- وأشهد ذلك السمت العجيب، وذلك الوقار الذي يغمر النفس هيبة وجلالًا، وأستروح ذلك الحب الذي هو أحد الطرق الثلاث المنتهية من الأرض إلى السماء، ومن المخلوق إلى الخلق، والمبتدئة من السماء إلى الأرض ومن الخالق إلى المخلوق: طريق الأم، وطريق الأب، وطريق الإنسانية؛ أكتب وكأن يدًا من وراء المادة تمسح على قلبي فأجد ثقلة وفترة، وأستشعر حنينًا وشوقًا، وأحس هذا القلب ينازعني إلى قوم ذهبوا بلا رجعة، وفارقوا بلا وداع، وغابوا عنًا بلا خبر؛ دخلوا إلى أنفسنا ولا تحويهم، وخرجوا منها ولا تخلو منهم؛ فما دخلوا ولا خرجوا، وهذه هي الحيرة التي يتركها الميت العزيز للحي المتفجع كيما يعرف بأمواته ما هو الموت! كنا منذ بضع وثلاثين سنة في مدينة المنصورة، وكان أبي يومئذ كبير قضاة الشرع في ذلك الإقليم، فإني لألعب ذات يوم في بهو دارنا إذ طرق الباب، فذهبت أفتح فإذا أنا بشيخ لم يبلغ سن العمامة*، ولم أميز من هيئته أهو طالب علم أو هو عالم، فكان حدثًا لكنه يتسم بسمة الجد؛ ورأيته لا تموج به الجبة

_ 1 المقتطف: مايو سنة1927. * كناية عن الحداثة وأنه شيخ بالمنظر لا بالسن.

كالعلماء، غير أنها لا تمجه كالطلبة؛ وكان في يده مجلد ضخم لو نطق لقال له: دعني لمن هو أسن منك! فما قدرته يزن عشرين مجلدًا من مثله، ونظر إلي نظرة كأني لا أزال أراها في عينه إلى الساعة، فسلمت عليه فقال: أين الشيخ؟ يعني -الوالد- قلت: خرج آنفًا؛ قال: فادفع إليه هذا الكتاب، وقل له جاء به الخضري. ثم أغلقت الباب وانتحيت جانبًا وفتحت المجلد، فإذا هو جزء من التفسير الكبير للفخر الرازي، كان قد استعاره من مكتبتنا؛ وعرفت الشيخ من يومئذ، وكان أستاذًا للعربية في مدرسة الصنائع، يضع كتاب النحو والصرف مع المطرقة والمنشار والقدوم، فيذهب شيء في شيء، وكأنه لا يعلم شيئًا؛ وقلما كنا نذكره في مدرستنا إذ كان لنا شيخ فحل ثقة من رجال الأزهر، غير أن الخضري كان له موضع في كل مجلس، وكان يداخل قومًا من الخاصة يعنون بالمسائل الإسلامية وفلسفتها وتقريبها من العامة والدهماء، وبإشارة من بعض هؤلاء وضع أول كتبه: "نور اليقين في سيرة سيد المرسلين"، ويكاد هذا الاسم يدل على وزن الأستاذ في أول عهده، وأنه لا يزال وراء السجعة الآتية من القرون الأخيرة لم يمض على وجه ولم يعرف بمذهب. إن الذي يريد أن يقول قولًا صحيحًا في هذا الفقيه العالم المؤرخ الأديب المربي، يجب أن يرجع بتياره إلى منبعه مبلغ انبعاثه وقوة جريته ومد عبابه؛ فما كان الخضري شيئًا قبل أن يتعلق بمدار ذلك النجم الإنساني العظيم الذي أهدته السماء إلى الأرض وسمى في أسمائها "محمد عبده"، لقد أخرجته دار العلوم كما أخرجت الكثيرين؛ ولكن دار علومه الكبرى كانت أخلاق الأستاذ الإمام وشمائله وآراءه وبلاغته وهمة نفسه. ألا أنه لا بد من رجل واحد يكون هو الواحد الذي يبدأ منه العدد في كل عصر، وأنت فكيف تأملت الخضري فاعلم أنك بإزاء معنى من معاني الشيخ محمد عبده، على فرق ما بين النفسين، بل أنت من الخضري كأنك ترى الشيخ ساريًا في مظهر من مظاهر الزمن. كان يحضر دروس الشيخ، ويختلف إلى ناديه، ويناقله بعض الرأي، ويعارض معه بعض الكتب التي كان يرجع إلى الشيخ في تصحيحها أو الإشراف على طبعها، فنفذ الشيخ إلى نفسه ووجد السبيل إلى الاستقرار فيها، فهو من بعد حريص على وقته، مجد في عمله، دائب على طريقه، آخذًا بالأخلاق الفاضلة، مصلح مرب غيور، وكل ذلك في سمت وهيبة، وجزالة رأي، وشرف همة، وإخلاص حق الإخلاص؛ وما أرى فوضى عصرنا هذا وانحطاطه وإسفافه وسخافة قولهم: جديد

وقديم، وجريء ورجعي، وحر وجامد -إلا من خلاء العصر وفراغه من النفس الكبيرة، وحاجته إلى إمام عظيم؛ ومتى أصبحنا نضرب في دائرة لا مركز لها، فهي المربع وهي المستطيل وهي كل شكل إلا أن تكون الدائرة؛ والذين رأوا طاغور الشاعر الهندي المتصوف حين نزل بمصر، ورأوا سحره وتحويله كل جديد مدة أيام إلى قديم، وإخراسه هذه الألسنة عن نقده ومعارضته، وعن معاندة الحق طيشًا ونزقًا وضلالًا وتجديدًا ... يستطيعون أن يدركوا ما أومأنا إليه، ويتبينوا السر فيما نحن فيه، ويتمثلوا ما كان للشيخ محمد عبده في عصره، بل في خلق عصره. وانتهى الخضري إلى مدرسة القضاء الشرعي، فألف كتابه في الأصول، اختصر فيه وهذب وقارب، فهو كتاب في هذا العلم لا كتاب هذا العلم، وأساتذة الأصول قوم آخرون لو أنت منهم مثل الشيخ الرافعي الكبير، لرأيت البحر الذي يذهب في ساحله نصف طول الأرض، وقد بعث الخضري على ذلك أن جماعة يومئذ كان منها صديقنا المرحوم حفني ناصف، والشيخ المهدي، وغيرهما، اجتمعوا على إبداع نهضة في التأليف، فذهب ثلاثة منهم بحصة الأدب، وفرغ الخضري للأصول؛ أخبرني بذلك حنفي بك -رحمه الله- ثم لما اختار القائمون على الجامعة المصرية القديمة صديقنا العلامة المؤرخ جورجي زيدان لدرس التاريخ الإسلامي فيها. طار الخبر في الأمة بأنهم اختاروا القنبلة.. وشعر الناس بمعنى الهدم قبل أن يتهدم شيء، فاضطرت الجامعة إلى أن تنحيه، وعهدت في الدرس إلى الأستاذ الخضري، فألقى دروسه التي جمعها في كتابه "تاريخ الأمم الإسلامية". وقال في مقدمة هذا الكتاب: "أرجو أن أكون قد وفقت لتذليل صعوبة كبرى. وهي صعوبة استفادة التاريخ العربي من كتبه"؛ نقول: وعلى أن الشيخ أحسن في كتابه، وجاء بمادة غزيرة من فكره ورأيه، وبسط واختصر، وباعد وقرب، فإن كلمته هذه إما أن تكون أكبر من التاريخ أو أكبر من كتابه. وردَّ في السنة الماضية على كتاب "الشعر الجاهلي" للدكتور طه حسين، وكان رده خطابًا أراد أن يحاضر به طلبة الجامعة؛ لأنه أستاذ أستاذهم؛ فكأنه أراد جعل أستاذهم هذا تلميذًا معهم، وأبت عليه الجامعة ما أراد، ولعلها فطنت إلى هذا الغرض؛ ولما علم أني شرعت في طبع ردي على الدكتور طه1، كلمني في

_ 1 المعركة تحت راية القرآن.

استلحاق مقاله وجعله ذيلًا في الكتاب، وقدرناه يومئذ في نحو خمسين صفحة أو دونها، وقد سألته أن ينفي منه ما كان في مقادير الرصاص، ويقتصر على ما هو في وزن القنابل، فقال: "كله قنابل"!. ثم اتسع كتابي وجاوز مقداره إلى الضعف، فوسع هو رده وزاد فيه وطبعه في قريب من ضعفه على حدة. دع كتابه المشهور "مهذب الأغاني"، فهذا لا يقال: إن الشيخ ألفه، بل ألفته خمس عشرة سنة؛ وأظن كل ذلك لا يذكر في جنب الكتاب الذي كان يعمل فيه أخيرًا، وهو كتاب "الأدب المصري"، أخبرني أنه في جزأين ودعاني إلى داره لأرى "المكتبة الخضرية"؛ ولأطلع على هذا الكتاب، فوعدته ولم يقدر لي؛ وقد حدثني أنه معنيٌّ أشد العناية باستجماع الفروق التي يمتاز بها الأدب المصري عن الأدب الحجازي والشامي والعراقي والأندلسي، وأنه أصاب من ذلك أشياء متميزة منذ الدولة الطولونية، يحق لمصر أن تقول فيها: هذا أدبي؛ وكان يكتم خبر هذا الكتاب، حتى أن صديقنا الأستاذ حافظ بك عوض صاحب جريدة "كوكب الشرق"، اقترح عليه أن يكتب فصلًا في الشعراء المصريين وأدبهم يعقده لكتاب حفلة تكريم شوقي بك؛ ثم لقيه بعد ذلك فقال له الشيخ: إن البحث سائر على أحسن وجوهه! كان الخضري يفرح للقائي ويهش لي، وكنت أتبين في وجهه أشعة روحه الصافية، ولعله كان يرى بي في نفسه ذلك الشيخ الذي أعطاني المجلد، كما كنت أرى به في نفس ذلك التلميذ الذي أخذ المجلد منه! على أن مرجع ذلك في الحق إلى سعة صدره، وفسحة رأيه، وبسطة ذرعه، وسموِّ أدبه وإنصافه؛ فلا يحقد ولا يحسد، ولا يتجاوز قدره، ولا ينزل بأحد عن قدره، ولا يدعي ما لا يحسن؛ وقد عرف قراء "المقتطف" مثلًا من أخلاقه هذه أو أكثرها حتى انتقده صديقنا الأستاذ عبد الرحيم بن محمود، وتناول الجزء الأول من كتابه "مهذب الأغاني" وراح يتقلقل له كجلمود صخر.. فوسعه الشيخ وعني به ورد عليه في "المقتطف"، ونعته بالأستاذ الجهبذ وانتصف منه، وأنصفه معًا. ولقد اقترحت عليه مرة أن يضع كتابًا في حكمة التشريع الإسلامي وفلسفته، فقال لي: "مش قده" يعني أن العمل أكبر منه، ولكن هذا نبهه إلى وضع كتابه في "تاريخ التشريع الإسلامي. ولما أصدرت الجزء الأول من "تاريخ آداب العرب" في سنة 1911، لم أهده إلى الشيخ، فاشتراه وقرأه، ثم لقيته وسألته رأيه فيه، فقال: "جدًّا كويس"

فكان تقديم "جدًّا" تقريظًا، و"كويس" تقريظًا آخر؛ وهو يقول هذا على حين كان بعض إخوانه الشيوخ يكاد يموت غمًّا بهذا الكتاب وما كتب عنه، وعلى حين كلمني بعضهم مرتين في ترك هذا العمل ونفض يدي منه؛ لأنه -زعم- عمل شاقٌّ بلا فائدة.. وقد زرت الأستاذ الخضري في وزارة المعارف في السنة الماضية، فبعد أن جلست إلى جانبه نهض مرة ثانية وجعل يثبتني بقوة في الكرسي، كأنه لم يطمئن بعد إلى أني جلست، ثم فاض بكلام كثير، فكان فيما قاله: "أنا الآن أعيش في غير زمني"، وكأنما كان ينعي إلي نفسه بهذه الكلمة من حيث لا يدري ولا أدري، وقال لي: إنه يجلس إلى مكتبة في كل يوم ست ساعات، يقرأ ويؤلف أو ينسخ؛ لأن كل كتبه المخطوطة هو ناقلها وناسخها ومصححها، وأنه يتلو كل يوم أربعة أجزاء من القرآن الكريم. قال: ولا يعتريه البرد ولا مرض من أمراضه، لما اعتاد من رياضة صدره بهذه التلاوة، وقال: إن كل ما هو فيه إنما هو من بركة القرآن. ولنمسك عند هذا الحد؛ فإن للذكرى غمزًا على القلب، وبالجملة فقد كان -رحمه الله- عالمًا كالكُتَّاب، وكاتبًا كالعلماء؛ فهو من هؤلاء وأولئك يلف الطبقتين، وهو وحده منزلة بين المنزلتين؛ وبذلك تميز وظهر، فإنه في إحدى الجهتين عقل جريء تمده رواية واسعة في علوم مختلفة، فنراه يبعث من عقله الحياة إلى الماضي حتى كأنه لم يمض، وهو في الجهة الأخرى علم مستفيض لا يقف عند حد الصحيفة أو الكتاب، بل لا يزال يلتمس له عقلًا يخرجه ويتصرف به، حتى يكبر عن أن يكون قديمًا بحتًا فينتظم الحاضر إلى ماضيه ويطلقهما إطلاقًا واحدًا.. لم يكن الشيخ جديدًا إلا بالقديم، ولا قديمًا إلا بالجديد؛ فإننا لا نعرف قديمًا محضًا ولا جديدًا صرفًا، ولا نقيم وزن أحدهما إلا بوزن من الآخر إذا أردنا بهما سنة الحياة؛ وأنت لن تجد حيًّا منقطعًا مما وراءه، بل أنت ترى الطبيعة قيدت كل حي جديد إلى أصلين من القديم لا أصل واحد هما أبواه فمنهما يأتي ومنهما يستمد وهُمَا أبدًا فيه وإن كان على حدة؛ وبعد، فلو جاريت السخافة العصرية المشهورة لقلت: إن المذهب القديم.. قد انهد ركن من أركانه، ونقص قنطار كتب من ميزانه؛ ولكن هذه السخافة في رأيي كما ترى من جماعة ائتلوا أن يطفئوا نجمًا في السماء؛ لأنه قديم، فاتفقوا على ذلك وأجمعوه بينهم وفرغوا من أمره، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون كيف يهيئون العربات والمضخات التي تحمل إلى السماء بضعة أبحر ليصبوها على النجم ...

رأي جديد في كتب الأدب القديمة

رأي جديد 1 في كتب الأدب القديمة: أدب الكاتب لابن قتيبة من الدواوين الأربعة التي قال ابن خلدون فيها من كلامه على حد علم الأدب: "وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين: وهي "أدب الكاتب" لابن قتيبة، و "كتاب الكامل" للمبرد، و "كتاب البيان والتبيين" للجاحظ، وكتاب "النوادر" لأبي علي القالي البغدادي؛ وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها". وقد يظن أدباء عصرنا أن كلمة ابن خلدون هذه كانت تصلح لزمنه وقومه، وأنها تتوجه على طريقة من قبلهم في طبقة بعد طبقة إلى أصول هذه السلسلة التي يقولون فيها: حدثنا فلان عن فلان إلى الأصمعي أو أبي عبيدة أو أبي عمرو بن العلاء وغيرهم من شيوخ الرواية ونقلة اللغة. ولكنها لا تستقيم في آدابنا ولا تعد من آلائنا ولا تقع من معارفنا، بل يكاد يذهب من يتغرر منهم بالآراء الأوروبية التي يسميها علمه ... ومن يسترسل إلى التقليد الذي يسميه مذهبه.. إلى أن تلك الكتب وما جرى في طريقتها هي أموات من الكتب، وهي قبور من الأوراق، وأنه يجب أن يكون بيننا وبينها من الإهمال أكثر مما بينها وبيننا من الزمن، وأن بعث الكتاب منها وإحياءه يوشك أن يكون كبعث الموتى: علامة على خراب الدنيا.. فأما أن يكون ذلك علامة على خراب الدنيا، فهو صحيح إذا كانت الدنيا هي محرر جريدة.. من أمثال أصحابنا هؤلاء، وأما تلك الكتب فأنا أحسبها لم توضع إلا لزمننا هذا ولأدبائه وكتابه خاصة، وكأن القدر هو أثبت ذلك القول في مقدمة ابن خلدون لينتهي بنصه إلينا فنستخرج منه ما يقيمنا على الطريقة في هذا العصر الذي وقع أدباؤه في متسع طويل من فنون الأدب ومضطرب عريض من مذاهب الكتابة وأفق لا تستقر حدوده من العلوم والفلسفة ... فإن هذه المادة

_ 1 كتب مقدمة لشرح الجواليقي على أدب الكاتب لابن قتيبة.

الحافلة من المعاني تحيي آداب الأمم في أوروبا وأمريكا، ولكنها تكاد تطمس آدابنا وتمحقنا محقًا تذهب فيه خصائصنا ومقوماتنا، وتحيلنا عن أوضاعنا التاريخية، وتفسد عقولنا ونزعاتنا، وترمي بنا مراميها بين كل أمة وأمة، حتى كأن ليست منا أمة في حيزها الإنساني المحدود من ناحية بالتاريخ ومن ناحية بالصفات ومن ناحية بالعلوم ومن ناحية بالآداب؛ ومن ذلك ابتلي أكثر كتابنا بالانحراف عن الأدب العربي أو العصبية عليه أو الزراية له، ومنهم من تحسبه قد رمي في عقله لهوسه وحماقته، ومنهم من كأنه في حقده سلح قلبه، ومنهم المقلد لا يدري أعلى قصد هو أم جور، ومنهم الحائر يذهب في مذهب ويجيء من مذهب ولا يتجه لقصد، ومنهم من هو منهم وكفى.. وقلما تنبه أحد إلى السبب في هذا؛ والسبب في حقارته وضعفه "كالمكروب": بذرةٌ طامسةٌ لا شأن لها، ولكن متى تنبت تنبت أوجاعًا وآلامًا وموتًا وأحزانًا ومصائب شتى. السبب أن أولئك الأدباء كلهم ثم من يتشيع لهم أو يأخذ برأيهم، ليس منهم واحد ترى في أساسه الأدبي تلك الأصول العربية المحضة القائمة على دراسة اللغة وجمعها وتصنيفها وبيان عللها وتصاريفها ومطارح اللسان فيها، والمتأدية بذلك إلى تمكين الأديب الناشئ من أسرار هذه اللغة وتطويعها له، فيكون قيمًا بها وتكون هي مستجيبة لقلمه جارية في طبيعته مسددة في تصرفه، حتى إذا نشأ بها واستحكم فيها أحسن العمل لها وزاد في مادتها وأخذ لها من غيرها وكان خليقًا أن يمد فيها ويحسن الملاءمة بينها وبين الآداب ويجعل ذلك نسجًا واحدًا وبيانًا بعضه من بعضه، فينمو الأدب العربي في صنيعه كما تنمو الشجرة الحية: تأخذ من كل ما حولها لعنصرها وطبيعتها وليس إلا عنصرها وطبيعتها حسب. إن "أدب الكاتب" وشرحه هذا للإمام الجواليقي* وما صنف من بابهما على طريقة الجمع من اللغة والخبر وشعر الشواهد والاستقصاء في ذلك والتبسط في الوجوه والعلل النحوية والصرفية والإمعان في التحقيق، كل ذلك عمل ينبغي أن يعرف على حقه في زمننا هذا؛ فهو ليس أدبًا كما يفهم من المعنى الفلسفي لهذه

_ * الجواليق: جمع شاذ لجوالق، وقد نسب هذا الإمام إلى عمل الجوالق وبيعها؛ وهذا الجمع ليس بينه وبين واحده إلا الحركة، فالمفرد جُوالق "بضم الجيم" والجمع بالفتح، ومثله ألفاظ أحصوها: كحلاحل، وعدامل، وخثارم، وغيرها.

الكلمة، بل هو أبعد الأشياء عن هذا المعنى؛ فإنك لا تجد في كتاب من هذه الكتب إلا التأليف الذي بين يديك، أما المؤلف فلا تجده ولا تعرفه منها إلا كالكلمة المحبوسة في قاعدة.. وكأنه لم يكن فيه روح إنسان بل روح مادة مصمتة، وكأنه لم ينشأ ليعمل في عصره بل ليعمل عصره فيه، وكأن ليس في الكتاب جهة إنسانية متعينة، فثم تأليف ولكن أين المؤلف؟ وهذا كتاب ابن قتيبة، ولكن أين ابن قتيبة فيه؟ وما أخطأ المتقدمون في تسميتهم هذه الكتب أدبًا؛ فذلك هو رسم الأدب في عصرهم، غير أن هذا الرسم قد انتقل في عصرنا نحن، فإنا نحن المخطئون اليوم في هذه التسمية، كما لو ذهبنا نسمي الجمل في البادية "الإكسبريس"، والهودج عزبة "بولمان". ومن هذا الخطأ في التسمية ظهر الأدب العربي لقصار النظر كأنه تكرار عصر واحد على امتداد الزمن، فإن زاد المتأخر لم يأخذ إلا من المتقدم؛ وصارت هذه الكتب كأنها في جملتها قانون من قوانين الجنسية نافذ على الدهر، لا ينبغي لعصر يأتي إلا أن يكون من جنس القرن الأول. هذه الكتب من هذه الناحية كالخل: يسمَّى لك عسلًا ثم تذوقه فلا يجني عليه عندك إلا الاسم الذي زور له؛ أما هو فكما هو في نفسه وفي فائدته وفي طبيعته وفي الحاجة إليه، لا ينقص من ذلك ولا يتغير. الحقيقة التي يعينها الوضع الصحيح أن تلك المؤلفات إنما وضعت لتكون أدبًا، لا من معنى أدب الفكر وفنه وجماله وفلسفته، بل من معنى أدب النفس وتثقيفها وتربيتها وإقامتها، فهي كتب تربية لغوية قائمة على أصول محكمة في هذا الباب، حتى ما يقرؤها أعجمي إلا خرج منها عربيًّا أو في هوى العربية والميل إليها؛ ومن أجل ذلك بنيت على أوضاع تجعل القارئ المتبصر كأنما يصاحب من الكتاب أعرابيًّا فصيحًا يسأله فيجيبه، ويستهديه فيرشده؛ ويخرجه الكتاب تصفحًا وقراءة كما تخرجه البادية سماعًا وتلقينًا، والقارئ في كل ذلك مستدرج إلى التعريب في مدرجة مدرجة من هوى النفس ومحبتها، فتصنع به تلك الفصول فيما دبرت له مثلما تصنع كتب التربية في تكوين الخلق بالأساليب التي أديرت عليها والشواهد التي وضعت لها والمعالم النفسية التي فصلت فيها ومن ثم جاءت هذه الكتب العربية كلها على نسق واحد لا يختلف في الجملة فهي أخبار وأشعار ولغة وعربية وجمع وتحقيق وتمحيص، وإنما تتفاوت بالزيادة والنقص والاختصار

والتبسط والتخفيف والتثقيل ونحو ذلك فما هو في الموضوع لا في الوضع، حتى ليخيل إليك أن هذه كتب جغرافية للغة وألفاظها وأخبارها؛ إذ كانت مثل كتب الجغرافية: متطابقة كلها على وصف طبيعة ثابتة لا تتغير معالمها ولا يخلق غيرها إلا الخالق سبحانه وتعالى. وإذا تدبرت هذا الذي بيناه لم تعجب كما يعجب المتطفلون على الأدب العربي والمتخبطون فيه من أن يروا إيمان المؤلفين متصلًا بكتبهم ظاهر الأثر فيها، وأنهم جميعًا يقرون إنما يريدون بها المنزلة عند الله في العمل لحياطة هذا اللسان الذي نزل به القرآن وتأديته في هذه الكتب إلى قومهم كما تؤدى الأمانة إلى أهلها، حتى لولا القرآن لما وضع من ذلك شيء البتة. وأنا أتلمح دائمًا العامل الإلهي في كل أطوار هذه اللغة وأراه يديرها على حفظ القرآن الذي هو معجزتها الكبرى، وأرى من أثره مجيء تلك الكتب على ذلك الوضع، وتسخير تلك العقول الواسعة من الرواة والعلماء والحفاظ جيلًا بعد جيل في الجمع والشرح والتعليق بغير ابتكار ولا وضع ولا فلسفة ولا زيغ عن تلك الحدود المرسومة التي أومأنا إلى حكمتها، فلو أنه كان فيهم مجددون من طراز أصحابنا من أهل التخليط، ثم ترك لهم هذا الشأن يتولونه كما نرى بالنظر القصير والرأي المعاند والهوى المنحرف والكبرياء المصممة والقول على الهاجس والعلم على التوهم ومجادلة الأستاذ حيص للأستاذ بيص ... إذن لضرب بعضهم وجه بعض وجاءت كتب متدابرة، ومسخ التاريخ وضاعت العربية وفسد ذلك الشأن كله، فلم يتسق منه شيء. ومما ترده على قارئها تلك الكتب في تربيته للعربية أنها تمكن فيه للصبر والمعاناة والتحقيق والتورك في البحث والتدقيق في التصفح، وهي الصفات التي فقدها أدباء هذا الزمن، فأصبحوا لا يثبتون ولا يحققون، وطال عليهم أن ينظروا في العربية، وثقل عليهم أن يستبطنوا كتبها؛ ولو قد تربوا في تلك الأسفار، وبذلك الأسلوب العربي لتمت الملاءمة بين اللغة في قوتها وجزالتها وبين ما عسى أن ينكره منها ذوقهم في ضعفه وعاميته وكانوا أحق بها وأهلها. وذلك بعينه هو السر في أن من لا يقرؤون تلك الكتب أول نشأتهم، لا تراهم يكتبون إلا بأسلوب منحط، ولا يجيئون إلا بكلام سقيم غث، ولا يرون في الأدب العربي إلا آراء ملتوية؛ ثم هم لا يستطيعون أن يقيموا على درس كتاب عربي. فيساهلون أنفسهم ويحكمون على اللغة والأدب بما يشعرون به في حالتهم

تلك، ويتورطون في أقوال مضحكة، وينسون أنه لا يجوز القطع على الشيء من ناحية الشعور ما دام الشعور يختلف في الناس باختلاف أسبابه وعوارضه، ولا من ناحية يجوز أن يكون الخطأ فيها؛ وهم أبدًا في إحدى الناحيتين أو في كلتيهما. وهذا شرح الجواليقي من أمتع الكتب التي أشرنا إليها، وصاحبه هو الإمام أبو منصور موهوب الجواليقي المولود في سنة 465 للهجرة، والمتوفى سنة540، وهو من تلاميذ الإمام الشيخ أبي زكريا الخطيب التبريزي؛ أول من درس الأدب في المدرسة النظامية ببغداد* وقرأ الجواليقي على شيخه هذا سبع عشرة سنة، استوفى فيها علوم الأدب من اللغة والشعر والخبر والعربية بفنونها، ثم خلف شيخه على تدريس الأدب في النظامية بعد علي بن أبي زيد المعروف بالفصيحى**. وما نشك أن هذا الشرح هو بعض دروسه في تلك المدرسة، فأنت من هذا الكتاب كأنك بإزاء كرسي التدريس في ذلك العهد، تسمع من رجل انتهت إليه إمامة اللغة في عصره، فهو مدقق محيط مبالغ في الاستقصاء لا يند عنه شيء مما هو بسبيله من الشرح، معنيٌّ بالتصريف ووجوهه مما انتهى إليه من أثر الإمام ابن جني فيلسوف هذا العلم في تاريخ الأدب العربي، فإن بين الجواليقي وبينه شيخين كما تعرف من إسناده في هذا الشرح. وقد قالوا: إن أبا منصور في اللغة أمثل منه في النحو، على إمامته فيهما معًا؛ إذ كان يذهب في بعض علل النحو إلى آراء شاذة ينفرد بها، وقد ساق منها عبد الرحمن الأنباري مثلين في كتابه "نزهة الألباء"، ولكن هذا الشذوذ نفسه دليل على استقلال الفكر وسعته ومحاولته أن يكون في الطبقة العليا من أئمة العربية***، وهو على ذلك رجل ثقة صدوق كثير الضبط عجيب في التحري والتدقيق؛ حتى

_ * أنشأها نظام الملك وزير ملك شاه السلجوقي المتوفى سنة485هـ. ** لقب بذلك لكثرة إعادته كتاب الفصيح في اللغة. *** قال ياقوت في ترجمة أبي علي الفارسي من معجم الأدباء: قرأت بخط الشيخ أبي محمد الخشاب: كان شيخنا "يعني الجواليقي" قلما يتنبل عنده ممارس للصناعة النحوية ولو طال فيها باعه، ما لم يتمكن من علم الرواية وما تشتمل عليه من ضروبها، ولا سيما رواية الأشعار العربية وما يتعلق بمعرفتها من لغة وقصة؛ ولهذا كان مقدمًا لأبي سعيد السيرافي على أبي علي الفارس -رحمهما الله- ويقول: أبو سعيد أروى من أبي علي، وأكثر تحققًا منه بالرواية وأثرى منه فيها.

كان من أثر ذلك في طباعه أن اعتاد التفكير وطول الصمت فلا يقول قولًا إلا بعد تدبر وفكر طويل، فإن لم يهتد إلى شيء قال: لا أدري، وكثيرًا ما كان يسأل في المسألة فلا يجيب إلا بعد أيام. وكان ورعًا قوي الإيمان، انتهى به إيمانه وعلمه وتقواه إلى أن صار أستاذ الخليفة المقتفي لأمر الله، فاختص بإمامته في الصلوات، وقرأ عليه المقتفى شيئًا من الكتب، وانتفع بذلك وبان أثره في توقيعاته كما قالوا. والذي يتأمل هذا الشرح فضل تأمل يرى صاحبه كأنما خلقه الله رجل إحصاء في اللغة، لا يفوته شيء مما عرف إلى زمنه، وهو ولا ريب يجري في الطريقة الفكرية التي نهجها ابن جني وشيخه أبو علي الفارس؛ ومن أثر هذه الطريقة فيه أنه لا يتحجر ولا يمنع القياس في اللغة، ويلحق ما وضعه المتأخرون بما سمع من العرب، ويروي ذلك جميعه ويحفظه ويلقيه على طلبته؛ ومن أمتع ما جاء من ذلك في شرحه قوله في صفحة 235، وهو باب لم يستوفه غيره ولا تجده إلا في كتابه، وهذه عبارته: قولهم: يدي من ذلك فعِلة: المسموع منهم في ذلك ألفاظ قليلة، وقد قاس قوم من أهل اللغة على ذلك فقالوا: يدي من الإهالة سنخة، ومن البيض زهمة، ومن التراب تربة، ومن التين والعنب والفواكه كتنة وكمدة ولزجة، ومن العشب كتنة أيضًا، ومن الجبن نسمة، ومن الجص شهرة، ومن الحديد والشبهة والصفر والرصاص سهكة وصدئة أيضًا، ومن الحمأة ردغة ورزغة، ومن الخضاب ردعة، ومن الحنطة والعجين والخبز نسغة، ومن الخل والنبيذ خمطة، ومن الدبس والعسل دبقة ولزقة أيضًا، ومن الدم شحطة وشرفة ومن الدهن زنخة، ومن الرياحين ذكية، ومن الزهر زهرة، ومن الزيت قنمة، ومن السمك سهكة وصمرة، ومن السمن دسمة ونمسة ونمسة، ومن الشهد والطين لثقة، ومن العطر عطرة، ومن الغالية عبقة، ومن الغسلة والقدر وحرة، ومن الفرصاد قنئة، ومن اللبن وضرة، ومن اللحم والمرق سمرة، ومن الماء بللة وسبرة، ومن المسك ذفرة وعبقة، ومن النتن قنمة، ومن النفط جعدة. انتهى. فالمسموع من هذه الألفاظ عن العرب لا يتجاوز سبعًا فيما نرى، والباقي كله أجراه علماء اللغة وأهل الأدب على القياس، فأبدع القياس منها أربعًا وثلاثين كلمة: ولو تدبرت كيفية استخراجها ورجعت إلى الأصول التي أخذت

منها لأيقنت أن هذه العربية هي أوسع اللغات كافة، وأنها من أهلها كالنبوة الخالدة في دينها القوي: تنتظر كل جيل يأتي كما ودعت كل جيل غير لأنها الإنسانية، لهؤلاء وهؤلاء. إن ظهور مثل هذا الشرح كالتوبيخ لأكثر كتاب هذا الزمن أن اقرءوا وادرسوا وخصوا لغتكم بشطر من عنايتكم، وتربوا لها بتربيتها في مدارسكم ومعاهدكم، واصبروا على معاناتها صبر المحب على حبيبته، فإن ضعفتم فصبر البار على من يلزمه حقه؛ فإن ضعفتم عن هذا فصبر المتكلف المتجمل على الأقل!

أمير الشعر في العصر القديم

أمير الشعر في العصر القديم 1: الوجه في إفراد شاعر أو كاتب من الماضين بالتأليف، أن تصنع كأنك تعيده إلى الدنيا في كتاب وكان إنسانًا وكان عمرًا، وترده حكاية وكان عملًا، وتنقله بزمنه إلى زمنك، وتعرضه بقومه على قومك، حتى كأنه بعد أن خلقه الله خلقة إيجاد بخلقه العقل خلقة تفكير. من أجل ذلك لا بد أن يتقصى المؤلف في الجمع من آثار المترجم وأخباره، وأن يحمل في ذلك من العنت ما يحمله لو هو كان يجري وراء ملكي من يترجمه لقراءة كتاب أعماله في يديهما.. ولا بد أن يبالغ في التمحيص والمقابلة، ويدقق في الاستنباط والاستخراج، ويضيف إلى عامة ما وجد من العلم والخبر خاصة ما عنده من الرأي والفكر، ويعمل على أن ينقح ما انتهى إليه الماضي في أدبه وعلمه بما بلغ إليه الحاضر في فنه وفلسفته؛ وذلك من عمل العقل المتجدد أبدًا والمترادف على هذه الحياة بمذاهبه المختلفة، يشبه عمل الدهر المتجدد أبدًا والمترادف بالليل والنهار على هذه الأرض، كل نهار أو ليل هو آخر وهو أول، وكذلك العقول كلها آخر من ناحية وأول من ناحية. والتجديد في الأدب إنما يكون من طريقتين: فأما واحدة فإيداع الأديب الحي في آثار تفكيره بما يخلق من الصور الجديدة في اللغة والبيان، وأما الأخرى فإبداع الحي في آثار الميت بما يتناولها به من مذاهب النقد المستحدثة وأساليب الفن الجديدة وفي الإبداع الأول إيجاد ما لم يوجد، وفي الثاني إتمام ما لم يتم؛ فلا جرم كانت فيهما معًا حقيقة التجديد بكل معانيها، ولا تجديد إلا من ثمة، فلا جديد؛ إلا مع القديم.

_ 1 "المقتطف": وضع الأديب محمد صالح سمك رسالة قيمة في امرئ القيس "أمير الشعر في العصر القديم" تقع في نحو مائتين وخمسين صفحة، سلك فيها مسلكًا طريفًا، وحلاها بمقدمة بليغة للأستاذ الجليل مصطفى صادق الرافعي، فخص المؤلف المقتطف المقدمة وبعض أبحاث الرسالة فيها طبقًا لرغبتنا.

وإذا تبينت هذا وحققته أدركت لماذا يتخبط منتحلو الجديد بيننا وأكثرهم يدعيه سفاهًا ويتقلده زورًا، وجملة عملهم كوضع الزنجي الذرور الأبيض "البودرة" على وجهه ثم يذهب يدعي أنه خرج أبيض من أمه لا من العلبة.. فإن منهم من يصنع رسالة في شاعر وهو لا يفهم الشعر ولا يحسن تفسيره ولا يجده في طبعه؛ ومنهم من يدرس الكاتب البليغ وقد باعده الله من البلاغة ومذاهبها وأسرارها، ومنهم من يجدد في تاريخ الأدب، ولكن بالتكذب عليه والتقحم فيه والذهاب في مذهب المخالفة، يضرب وجه المقبل حتى يجيء مدبرًا، ووجه المدبر حتى يعود مقبلًا، فإذا لكل فريق جديد، وينسى أن جديده بالصنعة لا بالطبيعة وبالزور لا بالحق. ألا إن كل من شاء استطاع أن يطب لكل مريض، لا يكلفه ذلك إلا قولًا يقوله وتلفيقًا يدبره، ولكن أكذلك كل من وصف دواء استطاع أن يشفي به؟ وبعد؛ فقد قرأت رسالة امرئ القيس التي وضعها الأديب السيد محمد صالح سمك، فرأيت كاتبها -مع أنه ناشئ بعد- قد أدرك حقيقة الفن في هذا الوضع من تجديد الأدب، فاستقام على طريقة غير ملتوية، ومضى في المنهج السديد، ولم يدع التثبت وإنعام النظر وتقليب الفكر وتحصين الرأي، ولا قصر في التحصيل والاطلاع والاستقصاء، ولا أراه قد فاته إلا ما لا بد أن يفوت غيره مما ذهب في إهمال الرواة المتقدمين وأصبح الكلام فيه من بعدهم رجمًا بالغيب وحكمًا بالظن. فإن امرأ القيس في رأيي إنما هو عقل بياني كبير من العقول المفردة التي خلقت خلقتها في هذه اللغة، فوضع في بيانها أوضاعًا كان هو مبتدعها والسابق إليها، ونهج لمن بعده طريقتها في الاحتذاء عليها والزيادة فيها والتوليد منها؛ وتلك هي منقبته التي انفرد بها والتي هي سرد خلوده في كل عصر إلى دهرنا هذا وإلى ما بقيت اللغة؛ فهو أصل من الأصول، في أبواب من البلاغة كالتشبيه والاستعارة وغيرهما، حتى لكأنه مصنع من مصانع الغة لا رجل من رجالها؛ وكما يقال في أمننا في أمم الصناعة: سيارة فورد وسيارة فيات، يمكن أن يقال مثل ذلك في بعض أنواع البلاغة العربية: استعارة امرئ القيس، وتشبيه امرئ القيس. ولكن تحقيق هذا الباب وإحصاء ما انفرد به الشاعر وتأريخ كلماته البيانية مما لا يستطيعه باحث وليس لنا فيه إلا الوقوف عند ما جاء به النص. ولقد نبهنا في "إعجاز القرآن" إلى مثل هذا؛ إذ نعتقد أن أكثر ما جاء في القرآن الكريم كان جديدًا في اللغة، لم يوضع من قبله ذلك الوضع ولم يجر في

استعمال العرب كما أجراه، فهو يصب اللغة صبًّا في أوضاعه لأهلها لا في أوضاع أهلها؛ وبذلك يحقق من نحو ألف وأربعمائة سنة ما لا نظن فلسفة الفن قد بلغت إليه في هذا العصر؛ إذ حقيقة الفن على ما نرى أن تكون الأشياء كأنها ناقصة في ذات أنفسها ليس في تركيبها إلا القوة التي بنيت عليها، فإذا تناولها الصنع الحاذق الملهم أضاف إليها من تعبيره ما يشعرك أنه خلق فيها الجمال العقلي، فكأنها كانت في الخلقة ناقصة حتى أتمها. وهذا المعنى الذي بيناه هو الذي كان يحوم عليه الرواة والعلماء بالشعر قديمًا، يحسونه ولا يجدون بيانه وتأويله، فترى الأصمعي مثلًا يقول في شعر لبيد؛ إنه طيلسان طبري. أي محكم متين، ولكن لا رونق له؛ أي فيه القوة وليس فيه الجمال؛ أي فيه التركيب وليس فيه الفن. والعقل البياني كما قلنا في غير هذه الكلمة، هو ثروة اللغة، وبه وبأمثاله تعامل التاريخ، وهو الذي يحقق فيها فنَّ ألفاظها وصورها؛ فهو بذلك امتدادها الزمني وانتقالها التاريخي وتخلقها مع أهلها إنسانية بعد إنسانية في زمن بعد زمن، ولا تجديد ولا تطور إلا في هذا التخلق متى جاء من أهله والجديرين به؛ وهو العقل المخلوق للتفسير والتوليد وتلقي الوحي وأدائه واعتصار المعنى من كل مادة وإدارة الأسلوب على كل ما يتصل به من المعاني والآراء، فينقلها من خلقتها وصيغها العالية إلى خلق إنسان بعينه، هو هذا العبقري الذي رزق البيان. وللسبب الذي أومأنا إليه بقي امرؤ القيس كالميزان المنصوب في الشعر العربي يبين به الناقص والوافي؛ قال الباقلاني في كتابه "الإعجاز": وقد ترى الأدباء أولًا يوازنون بشعر "يريد امرأ القيس" فلانًا وفلانًا ويضمون أشعارهم إلى شعره، حتى ربما وازنوا بين شعر من لقيناه "توفي الباقلاني سنة 403 للهجرة" وبين شعره في أشياء لطيفة وأمور بديعة، وربما فضلوهم عليه أو سووا بينهم وبينه أو قربوا موضع تقدمه عليهم وبروزه بين أيديهم، اهـ. ومعنى كلامه أن امرأ القيس أصل في البلاغة، قد مات ولا يزال يخلق، وتطورت الدنيا ولا يزال يجيء معها، وبلغ الشعر العربي غايته ولا تزال عربية عند الغاية. وعرض الباقلاني في كتابه طويلة امرئ القيس* فانتقد منها أبياتًا كثيرة،

_ * أي معلقته، وهذه القصائد التي تسمى المعلقات ولم تعلق كما سنبينه في تاريخ آداب العرب. "قلت: انظر الجزء الثالث".

ليدل بذلك على أن أجود شعر وأبدعه وأفصحه وما أجمعوا على تقدمه في الصناعة والبيان، هو قبيل آخر غير نظم القرآن لا يمتنع من آفات البشرية ونقصها وعوارها؛ فركب في ذلك رأسه ورجليه معًا ... فأصاب وأخطأ، وتعسف وتهدى، وأنصف وتحامل؛ وكل ذلك لمكانة امرئ القيس في ابتكاره البياني الذي لا يمكن أن يدفع عنه؛ ولما انتقد قوله: وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهو بها غير معجل قال: "فقد قالوا: عنى بذلك أنها كبيضة خدر في صفائها ورقتها، وهذه كلمة حسنة ولكن لم يسبق إليها بل هي دائرة في أفواه العرب". ألا ليت شعري هل كان الباقلاني يسمع من أفواه العرب في عصر امرئ القيس قبل أن يقول "وبيضة خدر"؟ على أن الكناية عن الحبيبة "بيضة الخدر" من أبدع الكلام وأحسن ما يؤتى العقل الشعري، ولو قالها اليوم شاعر في لندن أو باريس بالمعنى الذي أراده امرؤ القيس -بما فسرها به الباقلاني- لاستبدعت من قائلها ولأصبحت مع القبلة على كل فم جميل؛ بل هم يمرون في بعض بيانهم من طريق هذه الكلمة، فيكنون عن البيت الذي يتلاقى فيه الحبيبان "بالعش"، وما يتخذ العش إلا للبيضة. إنما عني الشاعر العظيم أن حبيبته في نعومتها وترفها ولين ما حولها، ثم في مسها وحرارة الشباب فيها، ثم في رقتها وصفاء لونها وبريقها، ثم في قيام أهلها وذويها عليها ولزومهم إياها، ثم في حذرهم وسهرهم، ثم في انصرافهم بجملة الحياة إلى شأنها وبجملة القوة إلى حياطتها والمحاماة عنها -هي في كل ذلك منهم، ومن نفسها كبيضة الجارح في عشه، إلا أنها بيضة خدر، ولذلك قال بعد هذا البيت: تجاوزت أحراسًا إليها ومعشرًا ... علي حراصًا لو يسرون مقتلي فتلك بعض معاني الكلمة وهي كما ترى، وكذلك ينبغي أن يفسر البيان....

البؤساء

البؤساء 1: ترجم حافظ هذا الجزء الثاني من البؤساء فطوى به الأول، وكانوا يحسبون الأول قد عقمت بمثله البلاغة فلا ثاني له. وبين الجزأين زمن لو اتسع به أديب في قراءة كتب الأدب لاستوعبها كلها، فكأن ارتفاع السن بحافظ في هذه المدة جعل منه في قوة الأدب حافظين يترجمان معًا. وما البؤساء في ترجمته إلا فكر فيلسوف تعلق في قلم شاعر فانطفعت عليه حواشي البيان من كل نواحيه، وجاء ما تدري أشعرًا من النثر أم نثرًا من الشعر، وخرجت به الكتابة في لون من الصفاء والإشراق كأنما تنحل عليه أشعة الضحى. ترجم حافظ فوضع اللغة بين فكره ولسانه، ووقف تحت سحابة من السحب التي خفق عليها جناح جبريل، فما تخلو كنايته من ظل يتنفس عليك برائحة الإعجاز؛ وتراه يتحدر مع الكلام ويتناول منه ويدع، فما نزع به الكلام منزعًا إلا وجده متمكنًا منه وأصابه حيث أصابه كالتيار جملة واحدة تلف أول النهر وآخره على مد ما يجري؛ فهو حيث كان في السهل وفي الصعب، غير أنه يستسر في موضع ويستعلن في موضع، ويجيش ويهدر ويترامى في العمق فيدوِّي دويًّا. ومن هنا يحسبه بعضهم يجنح إلى ما يستجفي من الكلام، وإلى استكراه بعض الألفاظ والتكليف لبعضها؛ وإنما ذاك وضع من أوضاع اللغة ومذهب من مذاهب البلاغة، ولا بد أن يشتد القول ويلين، وأن يكون في أجراس الحروف ما في نغم الإيقاع؛ وما أشبه هندسة البيان بهندسة الطبيعة التي تغمز النهر وترمي بالبحر وتقذف بالجبل الأشم، وما الجبل لو تحققت في وجوه التناسب الطبيعي إلا بحر قد تحجر فانتشرت أمواجه من صخوره، وكلا اثنيهما على ما بين الصلابة واللين تعبير في أساليب القوة عن القوة، وتوضح لأقوى ما لا يمكن أن يظهر، بأقوى ما لا يمكن أن يخفى.

_ 1 كتبها عن الجزء الثاني من البؤساء؛ وانظر مقالي المؤلف عن حافظ في هذا الجزء.

يخطئ الضعاف من الكتاب وبخاصة في أيامنا هذه.. إذا حسبوا الفصاحة العربية قبيلًا واحدًا من اللفظ الرقيق المأنوس؛ ولقد تجد بعض هؤلاء الضعفاء وإنه ليرى في الكلام الجزل المتفصح ما يرى في جمجمة الأعاجم إذا نطقوا فلم يبينوا؛ وإنما هي العربية، وإنما فصاحتها في مجموع ما يطرد به القول؛ والفصاحة في جملتها وتفصيلها إحكام التناسب بين الألفاظ والمعاني، والغرض الذي يتجه إليه كلاهما؛ فمتى فصل الكلام على هذا الوجه وأحكم على هذه الطريقة، رأيت جماله واضحًا بينًا في كل لفظ تقوم به العبارة، من النسج المهلهل الرقيق، إلى الحبك المحكم الدقيق، إلى الأسلوب المندمج الموثق الذي يسرد في قوة الحديد؛ إذ يكون كل حرف لموضعه، ويكون كل موضع لحرفه، ويكون كل ذلك بمقدار لا يسرف، وقياس لا يخطئ، ووزن لا يختلف؛ وهذه هي طبيعة الفصاحة العربية دون سائر اللغات، وبها أمكن الإعجاز في هذه اللغة ولم يمكن في سواها. ومترجم البؤساء أحد الأفراد المعدودين الذين أحكموا هذه الطريقة ونفذوا إلى أسرارها، ففي كل موضع من كتابته موضع روعة، حتى ما تدري أيكتب أم يصوغ أم يصور، وكأنه لا ينقل من لسان إلى لسان، بل من فكر إلى فكر، فترى أكثر جملة كأنها تضيء فيها المصابيح. ومن الخواص التي انفرد بها حافظ أنه ظاهر في صنعة ألفاظه ظهور هيجو في صنعة معانيه؛ إذ لا تجد غيره من المترجمين يتسع لهذا الأسلوب أو يطيقه؛ وأكثر الكتب المترجمة إلى العربية إنما تطمس على اسم المترجم قبل أن تكشف عن اسم المؤلف، فلا يحيا الميت إلا بموت الحي؛ وهم في أكثر ما يصنعون لا يعدون أن يصححوا العامية أو يفصحوا بها قليلًا، فيستوي في صنعة البيان أن يكون ناقل الكتاب هذا أو ذاك أو ذلك؛ لأنهم سواسية، ولا تؤتيك كتبهم أكثر مما يؤتيك الاسم المعلق على مسماه. غير أنك في البؤساء ترى مع الترجمة صنعة غير الترجمة، وكأنما ألف هيجو هذا الكتاب مرة وألفه حافظ مرتين، إذ ينقل عن الفرنسية؛ ثم يفتن في التعبير عما ينقل، ثم يحكم الصنعة فيما يفتن، ثم يبالغ فيما يحكم؛ فأنت من كتابه في لغة الترجمة، ثم في بيان اللغة، ثم في قوة البيان؛ وبهذا خرج الكتاب وإن مترجمه لأحق به في العربية من مؤلفه، وجاء وما يستطيع أحد أن ينسى أنه لحافظ دون سواه. وتلك طريقة في الكتابة لا يستعان عليها إلا بالأدب الغزير، والذوق الناضج، والبيان المطبوع؛ ثم بالصبر على مطاولة التعب ومعاناة الكد في تخير

اللفظ وتجويد الأسلوب وتصفية العبارة؛ فلقد ينفق الكاتب وقتًا في عمر الليل ليخرج من آخره سطرًا في نور الفجر، وبهذا الصنيع جاءت صفحات البؤساء على قلتها كشباب الهوى؛ لكل يوم منه فجره وشمسه، ولكل ليلة قمرها ونجومها. والذي نغتمزه في هذه الترجمة أن الضجر يستبد أحيانًا بصاحبنا فيستكرهه على غير طبعه، ويرده إلى غير مألوفه؛ ومن ثم يضطرب ذوقه وسليقته أو يذهب به عنهما، فيعدل بالمعنى عن لفظه المعروف الذي استعمله الأدباء فيه، كاستعماله قارن بين كذا وكذا، وإنما يستعملون مثل بينهما، أو يخل بوزن الكلمة في ميزان الذوق، فترى العبارة اليابسة في الجملة الخضراء التي ترف؛ وذلك ما لا مطمع لأحد أن يسلم منه؛ لأنه أثر الضعف الإنساني فيمن ارتهنوا أنفسهم بملابسة القوة العليا في هذه الإنسانية. ولم يتنزه عنه كتاب إلا ذلك الكتاب العزيز الذي اهتزت له السموات السبع والأرض ومن فيهن.

الملاح التائه

الملاح التائه 1: إذا أردت أن أكتب عن شعر فقرأته، كان من دأبي أن أقرأه متثبتًا أتصفح عليه في الحرف والكلمة، إلى البيت والقصيدة والنهج، إلى ما وراء الكلام من بواعث النفس الشاعرة ودوافع الحياة فيها، وعن أي أحوال هذه النفس يصدر هذا الشاعر، وبأيها يتسبب إلى الإلهام، وفي أيها يتصل الإلهام به، وكيف يتصرف بمعانيه، وكيف يسترسل إلى طبعه، ومن أين المأتى في رديئه وسقطه، وبماذا يسلك إلى تجويده وإبداعه. ثم كيف حدة قريحته وذكاء فكره والملكة النفسية البيانية فيه، وهل هي جبارة متعسفة تملك البيان من حدود اللغة في اللفظ إلى حدود الإلهام في المعنى، ملكة استقلال تنفذ بالأمر والنهي جميعًا، أو هي ضعيفة رخوة ليس معها إلا الاختلال والاضطراب، وليس لها ما يحمل الضعيف على طبعه المكدود كلما عنف به سقط به؟ أتبين كل هذا فيما أقرأ من الشعر، ثم أزيد عليه انتقاده بما كنت أصنعه أنا لو أني عالجت هذا الغرض أو تناولت هذا المعنى، ثم أضيف إلى ذلك كله ما أثبته من أنواع الاهتزاز التي يحدثها الشعر في نفسي؛ فإني لأطرب للشعر الجيد الوثيق أنواعًا من الطرب لا نوعًا واحدًا، وهي تشبه في التفاوت ما بين قطرة الندى الصافية في ورق الزنبقة وقطرة الشعاعة المتألقة في جوهر الماسة وموجة النور المتألهة في كوكب الزهرة. وأكثر الشعر الذي في أيامنا هذه لا يتصل بنفسي ولا يخف على طبعي، ولا أراه يقع من الشعر الصحيح إلا من بعد، وهو مني أنا كالرجل يمر بي في الطريق لا أعرفه: فلا ينظر إلي ولا أنظر إليه، فما أبصر منه رجلًا وإنسانية وحياة أكثر مما أراه ثوبًا وحذاء وطربوشًا! والعجيب أنه كلما ضعف الشاعر من هؤلاء قوي على

_ 1 ديوان الشاعر المهندس على محمود طه، وانظر "حياة الرافعي" 176-178.

مقدار ذلك في الاحتجاج لضعفه، وألهم من الشواهد والحجج ما لو ألهم بعدده من المعاني والخواطر لكان عسى ... فإذا نافرت المعاني ألفاظها واختلفت الألفاظ على معانيها قال: إن هذا في الفن.. هو الاستواء والاطراد والملاءمة وقوة الحبك؛ وإذا عوض وخانه اللفظ والمعنى جميعًا وأساء ليتكلف وتساقط ليتحذلق وجاءك بشعره وتفسير شعره والطريقة لفهم شعره قال: إنه أعلى من إدراك معاصريه، وإن عجرفة معانيه هذه آتية من أن شعره من وراء اللغة، من وراء الحالة النفسية، من وراء العصر، من وراء الغيب: كأن الموجود في الدنيا بين الناس هو ظل شخصه لا شخصه، والظل بطبيعته مطموس مبهم لا يبين إبانة الشخص. وإذا أهلك الشاعر الاستعارة وأمرض التشبيه وخنق المجاز بحبل -قال لك: إنه على الطريقة العصرية وإنما سدد وقارب وأصاب وأحكم، وإذا سمى المقالة قصيدة.. وخلط فيها خلطه وجاء في أسوأ معرض وأقبحه وخرج إلى ما لا يطاق من الركاكة والغثاثة- قال لك: هذه هي وحدة القصيدة، فهي كل واحد أفرغ إفراغ الجسم الحي: رأسه لا يكون إلا في موضع رأسه ورجلاه لا تكون إلا في موضع رجليه.. تلك طبقات من الضعف تظاهرت الحجج من أصحابها على أنها طبقات من القوة، غير أن مصداق الشهادة للأقوياء عظامهم المشبوحة، وعضلاتهم المفتولة، وقلوبهم الجريئة، أما الألسنة فهي شهود الزور في هذه القضية خاصة. هناك ميزان للشاعر الصحيح وللآخر المتشاعر: فالأول تأخذ من طريقته ومجموع شعره أنه ما نظم إلا ليثبت أنه قد وضع شعرًا، والثاني تأخذ من شعره وطريقته أنه إنما نظم ليثبت أنه قرأ شعرًا ... وهذا الثاني يشعرك بضعفه وتلفيقه أنه يخدم الشعر؛ ليكون شاعرًا، ولكن الأول يريك بقوته وعبقريته إلى الشعر نفسه يخدمه؛ ليكون هو شاعره. أما فريق المتشاعرين فليمثل له القارئ بما شاء وهو في سعة.. وأما فريق الشعراء ففي أوائل أمثلته عندي الشاعر المهندس علي محمود طه. أشهد: أني أكتب عنه الآن بنوع من الإعجاب الذي كتبت به في "المقتطف" عن أصدقائي القدماء: محمود باشا البارودي، وإسماعيل باشا صبري، وحافظ، وشوقي -رحمهم الله وأطال بقاء صاحبنا- فهذا الشاب المهندس أوتي من هندسة البناء قوة التمييز ودقة المحاسبة، ووهب ملكة الفصل بين الحسن والقبح في الأشكال مما

عِلَّته من العلم وما علته من الذوق وهذا إلى جلاء الفطنة وصقال الطبع وتموج الخيال وانفساح الذاكرة وانتظام الأشياء فيها؛ وبهذا كله استعان في شعره وقد خلق مهندسًا شاعرًا، ومعنى هذا أنه خلق شاعرًا مهندسًا؛ وكأن الله -تعالى- لم يقدر لهذا الشاعر الكريم تعلم الهندسة ومزاولتها والمهارة فيها إلا لما سبق في علمه أنه سينبغ نبوعه للعربية في زمن الفوضى وعهد التقلل، وحين فساد الطريقة وتخلف الأذواق وتراجع الطبع ووقوع الغلط في هذا المنطق لانعكاس القضية، فيكون البرهان على أن هذا شاعر وذاك نابغة وذلك عبقري -هو عينه البرهان على أن لا شعر ولا نبوغ ولا عبقرية؛ وهذه فوضى تحتاج في تنظيمها إلى "مصلحة تنظيم" بالهندسة وآلاتها والرياضة وأصولها والأشكال والرسوم وفنونها، فجاء شاعرنا هذا وفيه الطب لما وصفنا؛ فهو ينظم شعره بقريحة بيانية هندسية، أساسها الاتزان والضبط، وصواب الحسبة فيما يقدر للمعنى، وإبداع الشكل فيما ينشئ من اللفظ، وألا يترك البناء الشعري قائمًا ليقع إذ يكون واهنًا في أساسه من الصناعة، بل ليثبت إذ يكون أساسه من الصناعة في رسوخ وعلى قدر. وديوان "الملاح التائه" الذي أخرجه هذا الشاعر لا ينزل بصاحبه من شعر العصر دون الموضع الذي أومأنا إليه؛ فما هو إلا أن تقرأه وتعتبر ما فيه بشعر الآخرين حتى تجد الشاعر المهندس كأنه قادم للعصر محملًا بذهنه وعواطفه وآلاته ومقاييسه ليصلح ما فسد، ويقيم ما تداعى، ويرمم ما تخرب، ويهدم ويبني. ديوان الشاعر الحق هو إثبات شخصيته ببراهين من روحه، وههنا في "الملاح التائه" روح قوية فلسفية بيانية، تؤتيك الشعر الجيد الذي تقرؤه بالقلب والعقل والذوق، وتراه كفاء أغراضه التي ينظم فيها؛ فهو مكثر حين يكون الإكثار شعرًا، مقبل حين يكون الشعر هو الإقلال؛ ثم هو على ذلك متين رصين، بارع الخيال، واسع الإحاطة، تراه كالدائرة: يصعد بك محيطها ويهبط لا من أنه نازل أو عالٍ، ولكن من أنه ملتفٌ مندمج، موزون مقدر، وضع وضعه ذلك ليطوح بك. وهو شعر تعرف فيه فنية الحياة، وليس بشاعر من لا ينقل لك عن الحياة نقلًا فنيًّا شعريًّا، فترى الشيء في الطبيعة كأنه موجود بظاهره فقط، وتراه في الشعر بظاهره وباطنه معًا؛ وليس بشعر ما إذا قرأته، واسترسلت إليه لم يكن عندك وجهًا من وجوه الفهم والتصوير للحياة والطبيعة في نفس ممتازة مدركة مصورة. ولهذا فليس من الشرط عندي أن يكون عصر الشاعر وبيئته في شعره، وإنما

الشرط أن تكون هناك نفسه الشاعرة على طريقتها في الفهم والتصوير، وأنت تثبت هذه النفس بهذه الطريقة أن لها أن تقول كلمتها الجديدة، وأنها مخولة له الحق في أن تقولها؛ إذ هي للعقول والأرواح أخت الكلمة القديمة: كلمة الشريعة التي جاءت بها النبوة من قبل. وليس في شعر علي طه من عصرياتنا غير القليل، ولكن العجيب أنه لا ينظم في هذا القليل إلا حين يخرج المعنى من عصره ويلتحق بالتاريخ، كرثاء شوقي، وحافظ، وعدلي باشا، وفوزي المعلوف، والطيارين دوس وحجاج، والملك العظيم فيصل؛ فإن يكن هذا التدبير عن قصد وإرادة فهو عجيب، وإن كان اتفاقًا ومصادفة فهو أعجب؛ على أنه في كل ذلك إنما يرمي إلى تمجيد الفن والبطولة في مظاهرها، متكلمة، وسياسية، ومغامرة، ومالكة. أما سائر أغراضه فإنسانية عامة، تتغنى النفس في بعضها، وتمرح في بعضها، وتصلي في بعضها؛ وليس فيها طيش ولا فجور ولا زندقة إلا ... ظلالًا من الحيرة أو الشك، كتلك التي في قصيدة "الله والشاعر"، وأظنه يتابع فيها المعري؛ ولست أدري كم ينخدع الناس بالمعري هذا، وهو في رأيي شاعر عظيم، غير أن له بضاعة من التلفيق تعدل ما تخرجه "لا نكشير" من بضائعها إلى أسواق الدنيا. ومما يعجبني في شعر علي طه أنه في مناحي فلسفته وجهات تفكيره يوافق رأيي الذي أراه دائمًا، وهو أن ثورة الروح الإنسانية ومعركتها الكبرى مع الوجود -ليستا في ظاهر الثورة ولا العراك مع الله كما صنع المعري وأضرابه في طيشهم وحماقتهم، ولكنها في الهدوء الشعري للروح المتأملة، ذلك الهدوء الذي يجعل الطبيعة نفسها تبتسم بكلام الشاعر كما تبتسم بأزهارها ونجومها، ويجعل الشاعر أداة طبيعية متخذة لكشف الحكمة وتغطيتها معًا؛ فإن العجب الذي ليس أعجب منه في التدبير الإلهي للنفوس الحساسة -أن زخرفة الشعر وما يجري مجراه في الفن إنما هي ضرب من زخرف الطبيعة حين تبتدع الشكل الجميل لتتمم أغراضها من ورائه؛ ولو ثارت الأزهار -مثلًا- على الوجود وخالقه ثورة أولئك الشعراء لما صنعت شيئًا غير إفساد حكمتها هي وما يتصل بهذه الحكمة من المصالح والمنافع، ولن تنتصر إلا ببقائها أزهارًا، فذلك حربها وسلمها معًا. وأسلوب شاعرنا أسلوب جزل، أو إلى الجزالة، تبدو اللغة فيه وعليها لون خاص من ألوان النفس الجميلة يزهو زهوه فيكثر منه في النفس تأثيرها وجمالها،

وهذه هي لغة الشعر بخاصته؛ ولا بد أن ننبه هنا إلى معنى غريب، وذلك أنك تجد بعض النظامين يحسنون من اللغة وفنون الأدب، فإذا نظموا وخلا نظمهم من روح الشعر- ظهرت الألفاظ في أوزانهم وكأنها فقدت شيئًا من قيمتها، كأن موضعها ثم هو الذي أعلن إفلاسه؛ إذ أقام مقام الذي يريد أن يعطي ثم هو إذا وقف لا يصنع شيئًا إلا أن يعتذر بأنه لم يجد ما يعطيه.. فهذا كان رجلًا من الناس، وكان في ستر وعافية، فلما وقف موقفه انقلب مدلسًا كاذبًا مدعيًا فاختلفت به الحال وهو هو لم يتغير. وما الأسلوب البياني إلا وسيلة فنية لمضاعفة التعبير، فإن لم يكن هذا ما يعطيه كان وسيلة فنية أخرى لمضاعفة الخيبة؛ وهذا ما تحسه في كثير من شعر النظامين أو البديعيين في العصور الميتة، وتحسه في الشعر الميت الذي لا يزال ينشر بيننا. وعلي طه إذا حرص على أسلوبه وبالغ في إتقانه واستمر بجريه على طريقته الجيدة متقدمًا فيها، متعمقًا في أسرار الألفاظ وما وراء الألفاظ، وهي تلك الروعة البيانية التي تكون وراء التعبير وليس لها اسم في التعبير، معتبرًا اللغة الشعرية -كما هي في الحقيقة- تأليفًا موسيقيًا لا تأليفًا لغويًا.. فإنه ولا ريب سيجد من إسعاف طبعه القوي، وعون فكره المشبوب، وإلهام قريحته المولدة- ما يجمع له النبوغ من أطرافه، بحيث يعده الوجود من كبار مصوريه، وتتخذه الحياة من بلغاء المعبرين عنها في العربية؛ ومن ثم تنظمه العربية في سمط جواهرها التاريخية الثمينة، ويصله السلك بشوقي وحافظ والبارودي وصبري، إلى المتنبي والبحتري وابن الرومي وأبي تمام، إلى ما وراء ذلك، إلى الجوهرة الكبرى المسماة جبل النور البياني، إلى امرئ القيس. وليس هذا ببعيد على من يقول في صفة القلب: يا قلب عندك أي أسرار ... ما زلن في نشر وفي طي يا ثورة مشبوبة النار ... أقلقت جسم الكائن الحي حملته العبء الذي فرقت ... منه الجبال وأشفقت رهبًا وأثرت منه الروح فانطلقت ... تحسو الحميم وتأكل اللهبا وعجبت منك ومن إبائك في ... أسر الجمال وربقة الحب وتلفت المتكبر الصلف ... عن ذلة المقهور في الحرب

ووهمت نارًا ذات إيماض ... فبسطت كفك نحوها فزعا مرت بعينك لمحة الماضي ... فوثبت تمسك بارقًا لمعا والأرض ضاق فضاؤها الرحب ... وخلت فلا أهل ولا سكن حال الهوى وتفرق الصحب ... وبقيت وحدك أنت والزمن ولو ذهبنا نختار من هذا الديوان لاخترنا أكثره، فقصائده ومقاطيعه تتعاقب، ولكن تعاقب الشمس على أيامها: تظهر جديدة الجمال في كل صباح؛ لأن وراء الصباح مادة الفجر، وكذلك تأتي القصائد من نفس شاعرها.

المقتطف والمتنبي

"المقتطف" و"المتنبي" 1: "المقتطف" شيخ مجلاتنا؛ كلهن أولاده وأحفاده؛ وهو كالجد الأكبر: زمن يجتمع، وتاريخ يتراكم، وانفراد لا يلحق، وعلم يزيد على العلم بأنه في الذات التي تفرض إجلالها فرضًا وتجب لها الحرمة وجوبًا ويتضاعف منها الاستحقاق فيتضاعف لها الحق. وهل الجد إلا أبوة فيها أبوة أخرى. وهل هو إلا عرش حي درجاته الجيل تحت الجيل، وهل هو إلا امتداد مسافاته العصر فوق العصر؟ والمقتطف يكبر ولا يهرم، ويتقدم في الزمن تقدم المخترعات ماضية بالنواميس إلى النواميس، مقيدة بالمبدأ إلى الغاية؛ وهو كالعقل المنفرد بعبقريته: واجبه الأول أن يكون دائمًا الأول؛ فلقد أنشئ هذا المقتطف وما في المجلات العربية ما يغني عنه، ثم طوى في الدهر سبعة وثمانين مجلدًا أقامها سبعة وثمانين دليلًا على أن ليس ما يغني عنه؛ ثم أسفت الدنيا حوله بأخلاقها وطباعها، وتحولت مجلات كثيرة إلى مثل الراقصات والمغنيات والممثلات ... وبقي هو على وفائه لمبدئه العلمي والسمو فيه والسمو به، كأنما أخذ عليه في العلم والأدب ميثاق كميثاق النبيين في الدين والفضيلة؛ فبين يديه الواجب لا الغرض، وهمه الإبداع بقوى العقل لا الاحتيال بها، وهديه الحقيقة الثابتة في الدنيا لا الأحلام المتقلبة بهذه الدنيا، وطريقه في كل ذلك طريق الفيلسوف، من هدوء نفسه لا من أحوال الدهر، فهو ماضٍ على اليقين، نافذ إلى الثقة، متنقل في منزلةٍ منزلةٍ من يقينه إلى ثقته، ومن ثقته إلى يقينه. وقد بدأ المقتطف مجلدة الثامن والثمانين بعدد ضخم أفرده للمتنبي2. ولئن كانت الأندية والمجلات قد احتفلت بهذا الشاعر العظيم، فما أحسب إلا أن روح الشاعر العظيم قد احتفلت بهذا العدد من المقتطف.

_ 1 كتاب "المتنبي" للصديق محمود محمد شاكر. 2 يناير سنة 1936.

ولست أغلو إذا قلت: إن هذه الروح المتكبرة قد أظهرت كبرياءها مرة أخرى، فاعتزلت المشهورين من الكتاب والأدباء، ولزمت صديقنا المتواضع الأستاذ محمود شاكر مدة كتابته هذا البحث النفيس الذي أخرجه المقتطف في زهاء ستين ومائة صفحة، تدله في تفكيره، وتوحي إليه في استنباطه، وتنبهه في شعوره، وتبصره أشياء كانت خافية، وكان الصدق فيها، ليرد بها على أشياء كانت معروفة، وكان فيها الكذب، ثم تعينه بكل ذلك على أن يكتب الحياة التي جاءت من تلك النفس ذاتها، لا الحياة التي جاءت من نفوس أعدائها وحسادها. ولقد كان أول ما خطر لي بعد أن مضيت في قراءة هذا العدد أن المؤلف جاء بما يصح القول فيه إنه كتبَ تاريخ المتنبي ولم ينقله؛ ثم لم أكد أمعن في القراءة حتى خيل إلي أنه قد وضع لشعر المتنبي بعد تفسير الشراح المتقدمين والمتأخرين تفسيرًا جديدًا من المتنبي نفسه، وما الكلمة الجديدة في تاريخ هذا الشاعر الغامض إلا الكلمة التي نشرها المقتطف اليوم. إن هذا المتنبي لا يفرغ ولا ينتهي، فإن الإعجاب بشعره لا ينتهي ولا يفرغ وقد كان نفسًا عظيمة خلقها الله كما أراد، وخلق لها مادتها العظيمة على غير ما أرادت، فكأنما جعلها بذلك زمنًا يمتد في الزمن. وكان الرجل مطويًا على سر ألقي الغموض فيه من أول تاريخه، وهو سر نفسه، وشر شعره، وسر قوته؛ وبهذا السر كان المتنبي كالملك المغصوب الذي يرى التاج والسيف ينتظران رأسه جميعًا، فهو يتقي السيف بالحذر والتلفف والغموض، ويطلب التاج بالكتمان والحيلة والأمل. ومن هذا السر بدأ كاتب المقتطف، فجاء بحثه يتحدر في نسق عجيب، متسلسلًا بالتاريخ كأنه ولادة ونمو وشباب؛ وعرض بين ذلك شعر أبي الطيب عرضًا خيل إلي أن هذا الشعر قد قيل مرة أخرى من فم شاعره على حوادث نفسه وأحوالها؛ وبذلك انكشف السر الذي كان مادة التهويل في ذلك الشعر الفخم، إذ كانت في واعية الرجل دولة أضخم دولة، عجز عن خلقها وإيجادها فخلقها شعرًا أضخم شعر، وجاءت مبالغاته كأنها أكاذيب آماله البعيدة متحققة في صورة من صور الإمكان اللغوي. ومن أعجب ما كشفه من أسرار المتنبي سر حبه، فقال: إنه كان يحب خولة أخت الأمير سيف الدولة، وكتب في ذلك خمس عشرة صفحة كبيرة، وكأنها لم

ترضه فقال: إنه كان يؤمل أن يكتب هذا الفصل في خمسين وجهًا من المقتطف؛ وهذا الباب من غرائب هذا البحث، فليس من أحد في الدنيا المكتوبة "أي التاريخ" يعلم هذا السر أو يظنه، والأدلة التي جاء بها المؤلف تقف الباحث المدقق بين الإثبات والنفي؛ ومتى لم يستطع المرء نفيًا ولا إثباتًا في خبر جديد يكشفه الباحث ولم يهتد إليه غيره، فهذا حسبك إعجابًا يذكر، وهذا حسبه فوزًا يعد. ولعمري لو كنت أنا في مكان المتنبي من سيف الدولة لقلت إن المؤلف قد صدق.. فهناك موضع لا بد أن يبحث في القلب الشاعر الذي وضعت يه الدنيا حكمتها، وطوت فيه القوة سرها، وبث فيه الجمال وحيه؛ وأصغر هذه الثلاث أكبر من الملوك والممالك، ولكن الحبيبة أكبر منها كلها....

محمد

محمد *: عمل الأستاذ توفيق الحكيم في تصنيف هذا الكتاب أشبه شيء بعمل "كريستوف كولمب" في الكشف عن أمريكا وإظهارها من الدنيا للدنيا: لم يخلق وجودها، ولكنه أوجدها في التاريخ البشري، وذهب إليها فقيل جاء بها إلى العالم، وكانت معجزته أنه رآها بالعين التي في عقله، ثم وضع بينه وبينها الصبر والمعاناة والحذق والعلم حتى انتهى إليها حقيقة ماثلة. قرأ الأستاذ كتب السيرة وما تناولها من كتب التاريخ والطبقات والحديث والشمائل، بقريحة غير قريحة المؤرخ، وفكرة غير فكرة الفقيه، وطريقة غير طريقة المحدث، وخيال غير خيال القاص، وعقل غير عقل الزندقة، وطبيعة غير طبيعة الرأي، وقصد غير قصد الجدل؛ فخلص له الفن الجميل الذي فيها؛ إذ قرأها بقريحته الفنية المشبوبة، وأمرها على إحساسه الشاعر المتوثب، واستلها من التاريخ بهذه القريحة وهذا الإحساس كما هي في طبيعتها السامية متجهة إلى غرضها الإلهي محققة عجائبها الروحانية المعجزة. وقد أمدته السيرة بكل ما أراد، وتطاوعت له على ما اشتهى، ولانت في يده كما يلين الذهب في يد صائغه؛ فجاء بها من جوهرها وطبيعتها ليس له فيها خيال ولا رأي ولا تعبير، وجاءت مع ذلك في تصنيفه حافلة بأبدع الخيال، وأسمى الرأي، وأبلغ العبارة؛ إذ أدرك بنظرته الفنية تلك الأحوال النفسية البليغة، فنظمها على قانونها في الحياة، وجمع حوادثها المدونة فصورها في هيئة وقوعها كما وقعت، واستخرج القصص المرسلة فأدارها حوارًا كما جاءت في ألسنة أهلها؛ وبهذه الطريقة أعاد التاريخ حيًّا يتكلم وفيه الفكرة وملائكتها وشياطينها، وكشف ذلك الجمال الروحاني فكان هو الفن، وجلا تلك النفوس العالمية فكانت هي الفلسفة، وأبقى على تلك البلاغة فكانت هي البيان، كانت السيرة كاللؤلؤة في الصدفة، فاستخرجها فجعلها اللؤلؤة وحدها.

_ 1 كتاب توفيق الحكيم.

إن هذا الكتاب يفرض نفسه بهذه الطريقة الفنية البديعة، فليس يمكن أن يقال إنه لا ضرورة لوجوده؛ إذ هو الضروري من السيرة في زمننا هذا، ولا يغتمز فيه أنه تخريف وتزوير وتلفيق؛ إذ ليس فيه حرف من ذلك، ولا يرد بأنه آراء يخطئ المخطئ منها ويصيب المصيب؛ إذ هو على نص التاريخ كما حفظته الأسانيد، ولا يرمي بالغثاثة والركاكة وضعف النسق؛ إذ هو فصاحة العرب الفصحاء الخلص كما رويت بألفاظها؛ فقد حصنه المؤلف تحصينًا لا يقتحم، وكان في عمله مخلصًا أتم الإخلاص، أمينًا بأوفى الأمانة، دقيقًا كل الدقة، حذرًا بغاية الحذر. ومن فوائد هذه الطريقة أنها هيأت السيرة للترجمة إلى اللغات الأخرى في شكل من أحسن أشكالها يرغم هذا الزمن على أن يقرأ بالإعجاب تلك الحكاية المنفردة في التاريخ الإنساني؛ كما أنها قربت وسهلت فجعلت السيرة، في نصها العربي كتابًا مدرسيًا بليغًا بلاغة القلب واللسان، مربيًا للروح، مرهفًا للذوق، مصححًا للملكة البيانية. وحسب المؤلف أن يقال بعد اليوم في تاريخ الأدب العربي: إن ابن هشام كان أول من هذب السيرة تهذيبًا تاريخيًّا على نظم التاريخ، وأن توفيق الحكيم كان أول من هذبها تهذيبًا فنيًّا على نسق الفن.

ديوان الأعشاب

ديوان الأعشاب *: أبو الوفاء شاعر ملء نفسه، ما في ذلك شك، مذهبه الجمال في المعنى يبدعه كأنما يزهر به، والجمال في الصورة يخرجها من بيانه كما تخرج الغصون والأوراق من شجرتها، وله طبع وفيه ورقة، وهو يجري من البيان على عرق، وسليقته تجعله ألزم لعمود الشعر وأقرب إلى حقيقته، حتى أنه ليعد أحد الذين يعتصم الشعر العربي بهم، وهم قليل في زمننا، فإن الشعر منحدر في هذا العصر إلى العامية في نسقه ومعانيه، كما انحدر التمثيل، وكما انحدرت أساليب الكتابة في بعض الصحف والمجلات. وللعامية وجوه كثيرة تنقلب فيها الحياة، ومرجعها إلى روح الإباحة الذي فشا بيننا ونشأ عليه النشء في هذه المدنية التي تعمل في الشرق غير عملها في الغرب، فهي هناك رخص وعزائم، وهي هنا تسمح وترخص، في ظل ضعيف من العزيمة، وإهمال البلاغة العربية الجميلة كما هي في قوانينها ليس إلا مظهرًا لتلك الروح تقابله المظاهر الأخرى، من إهمال الخلق، وسقوط الفضيلة، وتخنث الرجولة، وزيغ الأنوثة، وفساد العقيدة، واضطراب السياسة، إلى ما يجري هذا المجرى مما هو في بلاغة الحياة المبينة كالمرذول والمطرح والسفساف في بلاغة الكلام الفصيح؛ كل ذلك في مواضعه تحلل من القيود وإباحة وتسمح وترخص، وكل ذلك عامية بعضها من بعض، وكل ذلك لحن في البلاغة والخلق والفضيلة والرجولة والأنوثة والعقيدة والسياسة. والشعر اليوم أكثره "شعر النشر" في الجرائد، على طبيعة الجرائد لا على طبيعة الشعر؛ وهذه إباحة صحافية غمرت الصحف، وأخضعت أذواق كتابها لقوانين التجارة، فإنهم لينشرون بعض القصائد كما تنشر "الإعلانات": لا يكون الحكم في هذه ولا هذه لبيان أو تمييز أو منفعة، بل على قدر الثمن أو ما فيه معنى الثمن! ومن مادية هذا العصر وطغيان العامية عليه، أننا نرى في صدر بعض الجرائد

_ 1 للشاعر المجيد محمود أبو الوفا، وهذا المقال كان حديثًا مع بعض الأصدقاء عن الديوان ونشر في الرسالة الغراء قلت: وانظر "حياة الرافعي" ص 189 - 191".

أحيانًا شعرًا لا يكون في صناعة الشعر ولا في طبقات النظم أضعف ولا أبرد منه. ولا أدل على فساد الذوق الشعري، ولكنه على ذلك الأصل الذي أومأنا إليه يعد كلامًا صالحًا للنشر، وإن يكن صالحًا للشعر. وهكذا أصبحت العامية في تمكنها تجعل من الغفلة حذقًا تجاريًّا، ومن السقوط علوًا فلسفيًّا، ومن الركاكة بلاغة صحفية، ومتى تغير معنى الحذق، ودخلته الإباحة، ووقع فيه التأويل، وأحيط بالتمويه والشبه فالريبة حينئذ أخت الثقة، والعجز باب من الاستطاعة، والضعف معنى من التمكين، وكل ما لا يقوم فيه عذر صحيح كان هو بطبيعة التلفيق عذر نفسه. وأكثر ما تنشره الصحف من الشعر هو في رأيي صناعة احتطاب من الكلام.. وقد بطل التعب إلا تعب التقشش والحمل، فلم تعد هناك صناعة نفسية في وشي الكلام، ولا طبع موسيقي في نظم اللغة، ولا طريقة فكرية في سبك المعاني، وبهذه العامية الثقيلة أخذ الشعر يزول عن نهجه، ويضل عن سبيله، ووقع فيه التوغر السهل.. والاستكراه المحبوب.. وصرنا إلى ضرب حديث في الوحشية، هو الطرف المقابل للشعر الوحشي في أيام الجاهلية؛ فما دام الكلام غريبًا، والنظم قلقًا، والمأتي بعيدًا، والمعنى مستهلكًا، والنسج لا يستوي، والطريقة لا تتشابه فذلك كله مسخ وتشويه في الجملة وإن اختلفت الأسباب في التفصيل، وإذا كان المسخ جاهليًّا بالغريب من الألفاظ، والنافر من اللغات، والوحشي من المعاني؛ وكان عصريًّا بالركيك من الألفاظ، والنازل من التعبير، والهجين من الأساليب، والسخيف من المعاني؛ ثم بالسقط والخلط والاضطراب والتعقيد فهل بعض ذلك إلا من بعضه؟ وهل هو في الشعر الجميل إلا كسلخ الإنسان الذي مسخه الله فسلخه من معانٍ كان بها إنسانًا، ليضعه في معانٍ يصير بها قردًا أو خنزيرًا ليس عليه إلا ظاهر الشبه، وليس معه إلا بقية الأصل؟ فالقردية الشعرية، والخنزيرية الشعرية، متحققان في كثير من الشعر الذي ينشر بيننا، ولكن أصحاب هذا الشعر لا يرونهما إلا كمالًا في تطور الفن والعلم والفلسفة؛ وأنت متى ذهبت تحتج لزيغ الشعر من قبل الفلسفة، وتدفع عن ضعفه بحجة العلم، وتعتل لتصحيح فساده بالفن- فذلك عينه هو دليلنا نحن على أن هذا الشعر قردي خنزيري، لم يستو في تركيبه، ولم يأت على طبعه، ولم يخرج في صورته؛ وما يكون الدليل على الشعر من رأي ناظمه وافتتانه به ودفاعه عنه، ولكن من إحساس قارئه واهتزازه له وتأثره به.

والشاعر أبو الوفاء جيد الطريقة، حسن السبك، يقول على فكر وقريحة، ويرجع إلى طبع وسليقة، ولكن نفسه قلقة في موضعه الشعري من الحياة؛ وفي رأيي أن الشاعر لا يتم بأدبه ومواهبه حتى يكون تمامه بموضع نفسه الشعري الذي تضعه الحياة فيه؛ والكلام يطول في صفة هذا الموضع، ولكنه في الجملة كمنبت الزهرة: لا تزكو زكاءها ولا تبلغ مبلغها إلا في المكان الذي يصل عناصرها بعناصر الحياة وافية تامة، فلا يقطعها عن شيء ولا يرد شيئًا عنها؛ إذ هي بما في تركيبها وتهيئتها إنما تتم بموضعها ذاك لتهيئة وتركيبه، فإن كانت الزهرة على ما وصفنا، وإلا فما بد من مرض اللون، وهرم العطر، وهزال النضرة، وسقم الجمال. ولولا أن الحكمة وفت الأستاذ أبا الوفا قسطه من الألم، ووهبته نفسًا متألمة حصرتها في أسباب ألَمِها حصرًا لا مفر منه -لفقدت زهرته عنصر تلوينها، ولخرج شعره نظمًا حائلًا مضطربًا منقطع الأسباب من الوحي؛ غير أن جهة الألم فيه هي هي جهة السماء إليه، ولو هو تكافأت جهاته المعنوية الأخرى، وأعطيت كل جهة حقها، وتخلصت مما يلابسها -لارتفع من مرتبة الألم إلى مرتبة الشعور بالغامض والمبهم، ولكان عقلًا من العقول الكبيرة المولدة التي يحيا فيها كل شيء حياة شعرية ذات حس. ولكن ما دامت الحياة قد وزنت له بمقدار، وطفقت مع ذلك وبخست، فقد كان يحسن به أن يقصر شعره على أبواب الزفرة والدمعة واللهفة، أو انقطعت وسيلته إليه أن تبلغ؛ ويظهر لي أن أبا الوفا يحذو على حذو إسماعيل باشا صبري، وهو شبيه به في أنه لم تفتح له على الكون إلا نافذة واحدة؛ غير أن صبري أقبل على نافذته ونظر ما وسعه النظر، أما أبو الوفا فيحاول أن ينقب في الحائط ليجعلهما نافذتين. أما أنه ليس من الشعر أن تنزل الحيرة الفلسفية عن منزلتها بين اليقين والعقل، أو المشهود والمحجب، أو الواقع والسبب، أو الرسم والمعنى -فتنقلب بين شعر القلب العاشق، وشعر الفكر المتأمل، شعر المعدة الجائعة، وتضع بين أشواق الكون شوقها هي إلى الطعام والثياب والمال.. على أنه كان الأمثل في التدبير، والأقرب إلى طريقة النفس الشاعرة أن يصرف أبو الوفا هذا الشعور المادي الذي يتلذع به، فيحوله فيجعله بابًا من حكمة السخر الشعري بالدنيا وأهلها وحوادثها، كما صرفه ابن الرومي من قبل فأخطأ في تحويله، فجعله مرة بابًا من المدح والنفاق، ومرة بابًا من الهجاء والإقذاع.

ولو بذل الشاعر أبو الوفا مجهوده في ذلك، واتهم الدنيا ثم حاكمها، ونص لها القانون، وأجلس القاضي، وافتتح المجلس، ورفعها قضية قضية، ثم أخذها حكمًا حكمًا، تارة في نادرة بعد نادرة، ومرة في حكمة إلى حكمة، وآونة في سخرية مع سخرية -إذن لاهتدى هذا المتألم الرقيق إلى الجانب الآخر من سر الموهبة التي في نفسه، فأخرج مكنون هذه الناحية القوية منها، فكان ولا ريب شاعر وقته في هذا الباب، وإمام عصره في هذه الطريقة. على أن في صفحات ديوانه أشياء قليلة تومئ إلى هذه الملكة، ولكنها مبثوثة في تضاعيف شعره، والوجه أن يكون وجهه في تضاعيفها، وإنه ليأتي بأسمى الكلام وأبدعه، حين يعمد إلى ذلك الأصل الذي نبهنا إليه، فيصرف لهفة نفسه إلى بعض وجوهها الشعرية، كقوله في "حلم العذارى" وهي من بدائعه ومحاسن شعره: ها هما عيناك تغريـ ... ـني على شتى الظنون فيهما بحر وموج ... وسهول وحزون ووضوح وغموض ... واضطراب وسكون ومعانٍ بينات ... ومعانٍ لا تبين وتهاويل فنون ... من رشاد وجنون وأشعات حيارى ... من منى أو من حنين ليت شعري أي سر ... خلف هاتيك الجفون آه إن السر أنبا ... عنه ذان الطائران حينما مالا على غصـ ... ـنيهما يعتنقان.. فهذه أبيات في شعر الجمال كالمحراب ملؤه عابده..

النجاح وكتاب سر النجاح

النجاح وكتاب سر النجاح 1: ما خلق الله ذا عقل من بني آدم إلا أودع في تركيبه شيئين كالمقدمة والنتيجة، وأعطاه بهما القدرة على الوسيلة والغاية، "ليحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة"، ففي تركيب الإنسان قوة الرغبة في النجاح وأن يتأتى إلى سره أو يبلغ منه أو يقاربه، وفي هذا التركيب عينه ما يهتك به هذا الحجاب ويفضي منه إلى هذا السر ويجمع بك عليه، وما أنكر أن النجاح قدر من الأقدار، ولكنه قدر ذو رائحة قوية خاصة به يستروحها من تحت السماء وهو لا يزال في السماء وبينه وبين الأرض أمد ودهر وأسباب وأقدار كثيرة، ولولا أن هذه الخاصية فيه وفي الإنسان منه لما توفرت رغبة في عمل ولا صح نشاط في الرغبة ولا توجه عزم إلى النشاط ولا توثقت عقدة على العزم. غير أن في الإنسان كذلك ما يفسد هذه الخاصية أو يضعفها أو يعطلها تعطيلًا، فإذا هي تضل ولا تهدي وكانت تهدي ولا تضل، وإذا هي زائغة عن الحق ملتوية عن القصد وكانت هي السبيل إلى الحق وهي الدليل على القصد؛ وما ينال منها شيء إلا واحد من ثلاث: العجز، وضعف الهمة، واضطراب الرأي. فأما العجز فمنزلة تجعل الإنسان كالنبات يرتفع عن الأرض بعوده ولكنه غائر فيها بأصول حياته، وأما ضعف الهمة فمنزلة الحيوان الذي لا هم له إلا أن يوجد كيفما وجد وحيثما جاء موضعه من الوجود؛ إذ هو يولد ويكدح ويكد ليكون لحمًا وعظمًا وصوفًا ووبرًا وشعرًا أثاثًا ومتاعًا، وكأنه ضرب آخر من النبات إلا أنه نوع آخر من المنفعة. وأما اضطراب الرأي فمنزلة بين المنزلتين ترجع إلى هذه مرة وإلى هذه مرة وتقع من كلتيهما موقعها، والعجز وضعف الهمة واضطراب الرأي في لغة العقل معانٍ ثلاثة لكلمة واحدة هي الخيبة، وما أسرار النجاح إلا الثلاثة التي تقابلها وهي القوة والعزيمة والثبات.

_ 1 المقطم: مايو سنة 1923.

ولكن في هذا الإنسان طفولة وشبابًا، وهما حالتان لا بد منهما، وهما من الضعف والنزق بطبيعتهما، وفيهما يتثاقل الإنسان إلى أغراضه، ويرتد عن صعابها، وينخذل دون غاياتها؛ وليس يأتي للطفل أن يدرك الرجل في معانيه، ولا للشاب أن يبلغ الحكيم في كماله؛ فكأن هذين ليس لهما أمل في أسباب النجاح، وكأن كليهما لا يحسن أن يطوي فؤاده على شيء ولا أن يجمع رأيه على أمر، غير أن من حكمة الله ورحمته أنه أرصد من نواميسه القوية لضعف الطفولة ونزق الشباب ما هو سناد يمنع، وموئل يعصم، وقوة تصلح، وهو ناموس القدوة الذي يتمثل في الأب والأم والصاحب والعشير والمعلم والكتاب؛ لأن الله جلت قدرته يبث في الخلق ما يوجههم دائمًا إلى الاعتقاد ويحملهم عليه ويبصرهم به، حتى كأن الحياة كلها إنما هي ممارسة لفضيلة الإيمان به من حيث يدري الإنسان أو لا يدري. و"كتاب سر النجاح" الذي ترجمه أستاذنا العلامة الدكتور يعقوب صروف في سنة 1880، وظهرت طبعته الرابعة في هذه الأيام، هو والله في باب القدوة ناموس على حدة، وما رأيت كتابًا تلاءم نسجه واستوت أجزاؤه ووضع آخر على أوله وانصب كله إلى الغرض الذي كتب فيه وجاء مقطعًا واحدًا في معناه وفائدته -كهذا الكتاب الذي يعلم الضعيف كيف يقوى، والعاجز كيف يعتمد، والمضطرب كيف يقبل، والساقط كيف ينتهض، ويعلمك مع ذلك كيف تريح الكد بالكد، وكيف تسقط التعب بالتعب، وكيف تمضي عزيمتك وتعتقدها وتضرب كرة الأرض بقدميك وإن لم تكن ملكًا ولا قائدًا ولا فاتحًا، وإن كنت من صميم السوقة، وإن كنت من فقرك وراء عتبة واحدة؛ لا أقول: إن هذا الكتاب علم، فإن هذا القول يسقط به دون منزلته ولا يعدو في وصفه أن يجعله مجموعًا من الورق الصقيل على طبع جيد، مع أنه مجموع من الأرواح والعزائم وأعصاب القلوب؛ ولكني أقول في وصفه العلمي إن المدارس تخرج من الكتب تلاميذ.. وهذا الكتاب يخرج من التلاميذ رجالًا أقوياء أشداء معصومين عصيب جذوع الشجر العاتي، من قوة النفس وصلابتها وصحة العزيمة ومضائها، وتصميم الرأي ونفاذه؛ ومما يعطي من قوة الصبر والثبات ومطاولة التعب إلى أبعد حدود الطاقة الإنسانية. وما تقرؤه حق قراءته وتستوفيه على وجهه من التدبير والإمعان إلا خرجت منه وقد وضع في نفسك شيئًا أعظم من نفسك كائنًا من كنت وكيف كنت، فإن تكن طفلًا خرجت رجلًا، وإن كنت رجلًا خرجت حكيمًا، وإن كنت

حكيمًا استحدث في نفسك ما يجعلك بالحكمة فوق الدنيا وكنت بها في الدنيا. قال الأستاذ المترجم في مقدمته: "أشهد لأبناء وطني أنني لم أنتفع بكتاب قدر ما انتفعت بهذا الكتاب". وهذه هي الكلمة التي لا يقول غيرها من يقرأ "سر النجاح"، ولا يمكن أن يقول غيرها؛ إذ هو مبني في وضع من فائدة النفس وما يرهف حدها ويبتعث ملكاتها ويستنهض قواها ويستنفذ وسائلها على ما يشبه القواعد التي لا تؤدي إلا إلى نتيجة واحدة من أين اعتبرتها، كـ "اثنان واثنان أربعة"، وثلاثة وواحد أربعة، وأربعة وحداتٍ أربعة، وهلم جرا.. تلك شهادة المترجم، أما أنا فأشهد لقد عرفت منذ زمن طالبًا في الأزهر، فلما تعرف إلي جعل يشكو ويتبرم وينفض لي نفسه ويقول: الأزهر وعلومه وفنونه ومسائله ومشاكله، والمتون وما فيها، والشروح وما إليها، والحواشي وما يرد ويعترض ويجاب به ويقال فيه، وكل كلمة بساعة من العمر، وكل سطر بيوم، وكل جزء بسنة، وتركت ورائي كذا وكذا فدانًا وأقبلت على كذا وكذا علمًا، فلا حصدت من هذه ولا من تلك! قلت: وما يمسكك والباب مفتوح ولا يسألك الأزهر إلى أين ولا تسألك الدنيا إذا خرجت إليها من أين؟ قال: والله ما ربطني إلى هذه الأعمدة خمس عشرة سنة كاملة على يأس ومضض إلا كتاب "سر النجاح" وما أمضيت نيتي مرة على وجه من وجوه العيش إلا رأيت هذا الكتاب قد ضرب وجه هذه النية فردها إلى هذا المكان وألقاها في هذا المستقر، وما هممت بترك الأزهر إلا انتصب في وجهي كل الأبطال الذين قرأت أخبارهم فيه وأمسكوني، لا من يدي ولا من رجلي، ولكن من اعتقادي وإيماني وأملي! قلت: فوالله لا يدعك حتى تنجح، وما ربط الله على قلبك بهذا الكتاب وثبت فؤادك باليقين الذي فيه إلا وقد كتب لك الخير كله.

أبو تمام الشاعر تحقيق مدة إقامته بمصر

أبو تمام الشاعر: تحقيق مدة إقامته بمصر 1 لم يبق بد من أن نبلغ بالكلام في هذا المعنى إلى مقطع الحق فيه، وأن ننفذ بتحقيقه إلى خاصته، وننتهي من خاصته إلى برهانه؛ فإن علماء الأدب قديمًا وحديثًا ألقوا خبر أبي تمام كلامًا مرسلًا بحري في الرواية على طرقها المختلفة، لا على التاريخ في وجهِهِ المتعين، ويؤخذ على أنه خبر كالأخبار إن صدق فقد صدق وإن كذب فهو على ما يجيء؛ إذ لم يكن يعنيهم من الشاعر إلا شعره، يحملونه عنه أو يأخذونه من رواته، أو يجدونه في ديوانه؛ أما أخبار الشاعر فهي لا تتصل بالكتاب ولا بالسنة، فتجتمع لهم كما تجتمع ويتناولونها كما اتفقت بما دخلها من الكذب والتزيد والتلفيق، وما يكون فيها مما يظاهر بعضه بعضًا أو ينقض بعضه على بعض؛ والمحقق منهم من يروي الصدق والكذب معًا ليخرج من التبعة، فلا بد من تبعة في أحد النقيضين؛ وليبرأ بصدق أحدهما من كذب أحدهما كما صنع ابن خلكان في سياقه خبر أبي تمام وهذا نص عبارته: كانت ولادة أبي تمام ... بجاسم وهو قرية بين دمشق وطبرية، ونشأ بمصر، قيل: إنه كان يسقي الماء بالجرة في جامع مصر، وقيل كان يخدم حائكًا يعمل عنده بدمشق وكان أبوه خمارًا بها. والذين يعرفون طرق الرواية ومصطلحاتها يدركون من هذه العبارة أن ابن خلكان ينتفي من أن تكون عليه تبعة أحد الخبرين أو كليهما، فإن الرواية متى افتتح

_ 1 لما أنشأ المؤلف مقاله عن شوقي "رحمه الله" غضب من غضب من أدباء مصر، وزعموا أنه يقصد الغض من مكانة "مصر الشاعرة"، ورماه من رماه في وطنيته، وحاول بعضهم أن يرد عليه رأيه في الشعر المصري بتعداد شعراء مصر العربية، واستتبع شيء شيئًا فجاء ذكر أبي تمام وما قالوا عن إقامته في مصر؛ فأنشأ المؤلف هذا المقال، وانظر ص146-147 "حياة الرافعي".

الخبر "بقيل أو يقال" فقد دل على أن هذا الخبر غير مقطوع به؛ إذ تسمى هذه الصيغة عندهم صيغة التمريض، فهي لا تفيد الصحة ولا الجزم بها، وظاهر أن أبا تمام لا يمكن أن يكون قد نشأ بمصر وبدمشق في وقت معًا. وابن خلكان قد وقف على الكتاب الذي عمله الصولي في أخبار أبي تمام ونقل عنه، وهو المرجع في هذا الباب؛ فلا بد أن يكون هذا الكتاب قد خلا من تحقيق هذه الرواية، بل نحن نرجح أنه قد خلا منها بتة، فلم يذكر أن نشأة أبي تمام كانت بمصر؛ لأن صاحب الأغاني أغفلها ولم يشر إليها بحرف، مع أنه ينقل عن الصولي نفسه ويقول في كتابه: "أخبرني الصولي" وكانت أهملها صاحب مروج الذهب، وهو ينقل أيضًا عن الصولي، وهذا يثبت لنا أن الخبر لم يكن معروفًا يومئذ، وإلا هو التاريخ عند أبي الفرج والمسعودي إن لم يكن هو هذا؟ ولكن ذكرت الرواية في كتاب الأنباري "طبقات الأدباء"، واقتصر ناقلها على أن أبا تمام نشأ بمصر، وأنه كان يسقي الماء بها، ولم يذكر رواية عمله بدمشق؛ والأنباري متأخر توفي سنة577، فهو بعد موت أبي تمام بثلاثة قرون ونصف، فلا قيمة لروايته، وشأنه شأن غيره من الناقلين؛ ونحن نرى أن هذه الرواية قد صنعت في مصر نفسها للغض من أبي تمام والزراية عليه، وبقيت مروية فيها ثم حملت كما تحمل كل رواية لذاتها لا لتحقيقها، سواء أكانت موجهة على الحق أم معدولًا بها عنه؛ ولا أوضع في المهنة من سقاية الماء في الجامع بالجرة، ولعمري ما ذكرت "الجرة" هنا عبثًا؛ والغلو في التحقير هو بعينه الدليل على الكذب، فهذه الكلمة كأثر المجرم في جريمته.. وبعد، فإنا نقرر أن هذا الشاعر العظيم لم ينشأ بمصر، وأنه ولد وتأدب في الشام ثم قدم إلى مصر شاعرًا ناشئًا يتكسب بأدبه كما قدم عليها غيره من الأندلس والمغرب والشام، والعراق، وأنه لم يأتِ إلى مصر إلا في ولاية عبد الله بن طاهر الأديب الشاعر القائد العظيم، وقد جعلت له ولاية مصر والشام والجزيرة في سنة 210 أو 211 على خلاف بين المؤرخين، وكانت سن أبي تمام يومئذ بين 21 و23 سنة؛ وقد كان ابن طاهر مغناطيسًا للشعراء في كل مكان ينزله، حتى قال فيه بعضهم وعزم على الهجرة إلى مصر: يقول رجال إن مصر بعيدة ... وما بعدت مصر وفيها ابن طاهر وأبعد من بمصر رجال نراهم ... بحضرتنا معروفهم غير ظاهر عن الخير موتى ما تبالي أزرتهم ... على طمع أم زرت أهل المقابر

وقد قصده أبو تمام إلى مصر، كما قصده بعد ذلك إلى خراسان في سنة220، وهي السنة التي وضع فيها أبو تمام أو في التي تليها كتاب "الحماسة" كما حققناه ولا محل لذكره هنا. ونحن نسوق أدلتنا على صحة ما ذهبنا إليه في نفي أن يكون أبو تمام قد نشأ بمصر أو جاءنا طفلًا، أو تكون منها طبيعته في الشعر، أو يكون لها أثر في عبقريته: 1- المجمع عليه بلا خلاف أن الشاعر ولد في الشام، وما دام كذا لقد قالت الطبيعة كلمتها في أصل نبوغه وعبقريته، فإن الأديب يولد ولا يصنع كما يقول الإنجليزي؛ وكل العلماء يعرفونه بالطائي! ولا يطعن في نسبه إلا من لا يحقق وهو نفسه يباهي بطائيته، وذلك كالشرح على كلمة الطبيعة في أسباب نبوغه الوراثية؛ وقد تنقل الرجل بين مصر والشام والعراق وخراسان وأرمينيا وغيرها، فما بلد أولى من بلد بأن يكون مثار عبقريته. 2- إن الشاعر إنما يتكسب من شعره يمدح من يهتز له أو يعطي عليه، ولم يمدح أبو تمام أحدًا من أهل مصر؛ فإن كان مدح فيها عبد الله بن طاهر فإنما إليه قصد وله جاء؛ وابن طاهر ليس مصريًّا، وقد جاء إلى مصر ورجع منها قبل أن يحول عليه الحول، فلو أن نشأة هذا الشاعر كانت بمصر وتأدبه كان فيها لأصبنا له مدحًا كثيرًا في أعيانها وعلمائها؛ إذ هو متى قال الشعر لا يتكسب إلا منه؛ وفي ديوان الشاعر هجاء لابن الجلودي نظمه في مصر، ولكن ابن الجلودي ليس مصريًّا بل هو قائد من قواد المأمون، ولاه محاربة الزط سنة 205، ثم أقدم بعد ذلك مصر، ثم ولي عليها في سنة 214؛ فكل المصرية في شعر أبي تمام هي في هجائه للشاعر المصري يوسف السراج، ولعلها في بعض مقاطيع أخرى من الغزل أو الوصف. 3- ولد أبو تمام في سنة 188 أو190، ومن الثابت أنه كان بمصر في سنة 214، حين نظم قصيدته الدالية والنونية في رثاء عمير بن الوليد -وعمير هذا ليس مصريًّا، بل هو من خراسان، وكان بمصر عاملًا لأبي إسحاق المعتصم بن الرشيد فلو كان أبو تمام قد جاء إلى مصر طفلًا كما يقال لكانت مدة قوله الشعر فيها لا تقل عن عشر سنوات، مع أن كل ما نظمه وهو فيها لا يبلغ عشر قصائد؛ وهذا ديوانه بين أيدينا وإليه وحده المرجع في الدلالة على صاحبه. 4- روى المرزباني في "الموشح" عن العباس بن خالد البرمكي قال: أول ما نبغ "أي قال الشعر" أبو تمام الطائي أتاني بدمشق يمدح محمد بن الجهم فكلمته

فيه فأذن له؛ فدخل عليه وأنشده، ثم خرج فأمر له بدراهم يسيرة، ثم قال: إن عاش هذا ليخرجن شاعرًا. فهذا نص على أن الشاعر لم يكن يومئذ إلا في ابتداء الشعر، ولم يكن قد خرج شاعرًا بعد وكان شعره من الطبقة التي يثاب عليها "بدراهم يسيرة". وأبو تمام بعد ذلك هو نفسه الذي نثر عليه عبد الله بن طاهر ألف دينار فترفع أن يمسها وترك الخدم ينتهبونها، وكان ذلك سببًا في تغير ابن طاهر عليه. 5- نقل ابن خلكان في ترجمة ديك الجن الشاعر الحمصي المشهور، عن عبد الله بن محمد بن عبد الملك الزبيدي قال: كنت جالسًا عند ديك الجن، "يعني بحمص" فدخل عليه حدث فأنشده شعرًا عمله، فأخرج ديك الجن من تحت مصلاه درجًا كبيرًا فيه كثير من شعره، فسلمه إليه وقال: يا فتى تكسب بهذا واستعن به على قولك. فلما خرج سألته عنه فقال: هذا فتى من أهل جاسم، يذكر أنه من طيء، يكنى أبا تمام، واسمه حبيب بن أوس، وفيه أدب وذكاء وله قريحة وطبع. فهذا نص آخر على أن أبا تمام كان يومئذ حدثًا -أي غلامًا- وكان لا يزال يطلب الأدب، وقد أعانه أستاذه بنسخ من قصائده يتخرج بها ويحذو عليها؛ فهو قد نشأ في الشام وتأدب فيها. 6- نظم أبو تمام قصيدته اللامية: أصبُّ بحميا كأسها مقتل العذل يصف تقتير الرزق عليه بمصر وخيبة أمله الذي أمله من المال، وفي هذه القصيدة يحن إلى الشام ويستقي لها ويذكر أرض البقاعين وقرى الجولان التي نشأ فيها: ولا يحن الشاعر لأرض إلا إذا كان فيها حبه أو شبابه وأدبه، أما الطفولة فمنسية بآثارها؛ إذ لا آثار لها في النفس متى شب المرء إلا بعيدًا بعيدًا، وإنما الحنين لما تتعلق به الغريزة المميزة. 7- في هذه القصيدة يقول أبو تمام يخاطب أحبابه: عدتني عنكم مكرها غربة النوى ... لها وطر في أن تمر ولا تحلى والنوى في لغة الشاعر هي رحيله للتكسب بشعره؛ ولما رجع عوف بن محلم الشيباني إلى وطنه بعد وفادته على عبد الله بن طاهر في خراسان؛ سئل عن حال فقال: رجعت من عند عبد الله بالغنى "والراحة من النوى"؛ ويؤيده قول أبي تمام في قصيدته تلك: نأيت فلا مالًا حويت ولم أقم ... فأمتع، إذ فجعت بالمال والأهل

يعني أنه اغترب مكرهًا يطلب الكسب لا غير، ولا كسب للشاعر إلا من شعره، فهو بنص كلامه عن نفسه قدم إلى مصر شاعرًا يتكسب ويتعرض للغني كما يصنع غيره. 8- في هذه القصيدة اللامية يقدم لنا أبو تمام -رحمه الله- دليلًا يأكل الأدلة، كأنما ألهم من وحي الغيب أننا سنحتاج إلى هذا الدليل يومًا لندفع به عنه؛ فهو يحن إلى حيبب له في الشام، ويقول: إن غربة النوى التي وصفها: أنت بعد هجر من حبيب فحركت ... صبابة ما أبقى الصدود من الوصل أخمسة أحوال مضت لمغيبه؟ ... وشهران بل يومان ثكل من الثكلِ يعني أنه قال هذا الشعر وقد مضى على إقامته في مصر خمس سنوات، وكان قد جاء من الشام عاشقًا ذلك العشق الذي فيه "الصدود والوصل"، والطفل لا يحب مثل هذا الحب ولا يحن ذلك الحنين؛ فإذا كان الشاعر قدم إلى مصر في سنة210، كما رجحناه، وسنه بين21 و23 سنة فيكون قد نظم هذه القصيدة في سنة 215، وعمره يومئذ بين 26 و28 سنة؛ فلو أن أبا تمام جاء من الشام طفلًا صغيرًا فكيف للطفل أن يقول مثل هذا الشعر بعد خمس سنوات؟ وما هجر الحبيب "وصبابة ما أبقى الصدود من الوصل"؟ 9- مدح شاعرنا محمد بن حسان الضبي بقصيدة نونية يذكر فيها تنقله في البلاد فقال فيها: بالشام أهلي، وبغداد الهوى، وأنا ... بالرقمتين، وبالفسطاط إخواني وما أظن النوى ترضى بما صنعت ... حتى تشافه بي أقصى خراسان! فأنت ترى أنه جعل أهله بالشام، وجعل أصدقاءه بمصر؛ فلو أنه كان قد نشأ بها لجعل بها أهله؛ إذ لا ينشأ إلا مع أبيه وأمه، والبيت الثاني دليل منه هو على أنه لم ينزل بمصر مقيم ولا متوطنًا، بل متنقلًا كما نزل بغيرها. 10- تقول كتب الأدب في مدارس الحكومة: إن أبا تمام نقل إلى مصر صغيرًا فنشأ بها وقد بينا فساد ذلك، ثم خرج إلى مقر الخلافة فمدح المعتصم؛ وهذا غير صحيح؛ فإن أبا تمام خرج من مصر قبل أن يدخلها المأمون في سنة 216، حين جاءها وقتل بها عبدوس الفهري؛ فلو كان الشاعر يومئذ لمدح المأمون، وذكر هذه الواقعة، والمعتصم ولي الخلافة سنة 218، وديوان أبي تمام يثبت أنه في سنة 217، كان بالعراق، وقد مدح المأمون بقصيدته الميمية، وذكر في مدحه وقعة الروم، وهذه كانت في تلك السنة.

يخلص من كل ما تقدم أن أبا تمام ولد في الشام وتأدب فيها، وقدم إلى مصر كبيرًا يتكسب بالشعر، فأقام بها بين خمس سنين وست، ولم يجد له عيشًا بها بعد قتل عمير بن الوليد الذي قتل في سنة 214؛ فإنه كان يعيش في كنفه، وقد صرح في قصيدته النونية التي رثاه بها أنه يأمل من بعده في ابنه محمد. فقدوم الشاعر إلى مصر كان في سنة210 أو حواليها، وخروجه منها كان في سنة215 أو حواليها، والله أعلم.

القديم والجديد

القديم والجديد 1: أقول للأستاذ الفاضل الدكتور طه حسين "في رفق ولين" وفي عجلة أيضًا: إني في هذه الأيام ضنين بما أملك من وفتي أشد الضن، أحسب السماء تتفجر من يومي في ساعة كالفجر، فلا يصرفني عن تلك الساعة شيء ولا يصرفها عني شيء؛ إذ بين يدي كتاب في الرسائل أعمل فيه وأستعين الله على الفراغ منه في وقت معين، وقد أظل أو كاد؛ فلا يرين الأستاذ أني أستطير هذه المرة كالطيرة الأولى، فإن جناحي في فضاء آخر، وإن هذا الكتاب الذي أعالجه لا يجشمني عرفًا من القرية كما قالوا قديمًا، بل لعله في ألمه أشبه "بعملية" تشريح في القلب، وستذهب الدقائق التي أكتب فيها هذه الكلمة مأسوفًا عليها، لأنها ذاهبة بصفحتين من كتابي. وأما بعد، فلا أرى من الإنصاف أن يعمد الدكتور إلى جمل يقتضبهن من مقالي في مجلة الهلال ثم يهدفها للرد، وكان عسى أن يدفع عنها شيء مما قبلها أو ما بعدها أو يشد منها بعض جهاتها أو يأتي بها في سياق يبين عن معناها. وزعم الأستاذ أنه لا يفهم من كلامي هذه الجملة "وأنت تعلم أن الذوق الأدبي في شيء إنما هو فهمه، وأن الحكم على شيء إنما هو أثر الذوق فيه، وأن النقد إنما هو الذوق والفهم جميعًا.. ثم دار بهذه الكلمات دورة العاصفة وجعلها مسألة كمسألة الدور والتسلسل المشهورة، بل جعلها من قبيل "قصة وقضية".. فتراه يقول: ذوق هو الفهم، وفهم هو الذوق، وفهم ليس بالذوق، وذوق ليس بالفهم، وهلم صاعدًا ونازلًا؛ وضرب لنا مثلًا بالموسيقى فقال: "ما نظن أن الذين يطوقون الموسيقى ويطربون لها يفهمونها جميعًا". وأنا أفسر كلامي بهذا المثل نفسه، أقتصر عليه ولا أعدوه. نأتي الآن بأستاذ قد برع في الموسيقى وخالطت أعصابه ولحمه ودمه، وندفع

_ 1 نشرها حين المعركة بينه وبين الدكتور طه حسين حول كتابيه: "رسائل الأحزان" و"السحاب الأحمر"؛ وللدكتور فيهما وفي أسلوبهما رأي. وانظر كتابي: "المعركة تحت راية القرآن". و"حياة الرافعي".

إليه قطعة ملحنة ونقول له: اسمع وافهم واحكم وانتقد؛ يسمعها مرة بعقله أو لعقله يتبين ما يكون فيها صوابًا وما يكون خطأ، ثم ما يعلو عن الصواب من الإجادة والإتقان، وما ينحط عن الخطأ من الإساءة والتخليط؛ فهذا هو الفهم. ويسمعها مرة ثانية بحسه أو لحسه، فيرى أثر ما فهم، ويديرها في ذوقه ليعرف كيف موقعها من الغرض الذي وضعت له، فإنها لم توضع لتكون أصواتًا، بل لتخلق من الأصوات شيئًا؛ فهذا هو الذوق، وهو كما تراه بعد الفهم وناشئ عنه. ومثل الأستاذ طه حسين لا يخفى عليه أن من يقول: إن الذوق في شيء إنما هو فهمه، أو إنما هو عن فهمه، أو إنما ينشأ عن فهمه، فالعبارة في باب المجاز واحدة لا تختلف. ثم إن أستاذ الموسيقى وقد سمع القطعة مرتين، أو مرة كمرتين إن بلغ أن يكون له في كل أذن واحدة أذنان، يستفتي ذوقه الفني ويحكم للقطعة أم عليها؛ فهذا هو أثر الذوق. الآن قد حكم الأستاذ وانتقد وجزم برأيه، فندب له فلان يقول: أخطأت وأسأت وجهلت وغفلت، أو تعصبت وحططت في هوى صاحب اللحن؛ فمن أين جاء هذا الخلاف وكيف وقع هذا القول؟ بل كيف ساغ للثاني أن يجهل الأول ويرى غير رأيه ويحكم غير حكمه، إلا إذا كان قد فهم غير فهمه فأنشأ له الفهم ذوقًا وأحدث له الذوق حكمًا وجاءت من هذه المقدمات تلك النتيجة التي نسميها النقد، وما هي في الحقيقة إلا الذوق والفهم جميعًا، فالذين يذوقون الموسيقى ويطربون لها ولا يفهمونها فقد فهموها على مقدار ما استقر في نفوسهم من أساليب التطريب وما فيهم من المطاوعة لهذه العاطفة؛ أو لا تراهم يقولون في أمثال هؤلاء: إن لهم آذانًا موسيقية؟ فهذه الأذن هي الفهم بعينه، لأنها حاسة اجتمعت من مران طويل، وقد تقوم في بعض الناس على جهله بالموسيقى مقام علم برأسه. ويقول الأستاذ طه: إنه قد يقرأ كلامي ويفهمه ولا يذوقه، ولكن عدم الذوق هنا هو الذوق؛ وليت شعري ما معنى قول المتنبي: ومن يك ذا فم مر ... ولو كان الأستاذ وأمثاله هم في هذا القياس المتر والكيلومتر، لوجب ألا أجد من يذوق كلامي ويعجب به ويغالي فيه ويكون ذنبًا من ذنوبي عند الله بإسرافه في المغالاة، وأنا واجد لكل واحد مثل الأستاذ طه عشرة ومائة من غيره، ولو خرج هو إلى العالم لرأى وسمع، وفيهم من هم أعلى منه كعبًا وأمد عنقًا وأضخم هامة وأبدع بديعًا وأبلغ وأزكى وأعلم إلى عدد من هذه الواوات.

وعجبت للدكتور يريد أن لا يفهم من عبارتي كما يقول إلا أن "الذوق هو نفس الفهم، فاللفظان يدلان على معنى واحد، وإذن وإذن وإذن..". فهل يرى إذا قلت له: رأيت القمر وفلانة ليلة كذا فكانت إنما هي القمر -أني أقصد بهما معنى واحدًا فيقول لها: "وإذن" فليسا شيئين مختلفين وإنما هو شيء واحد، وإذن فكيف صار لها وجه في السماء ووجه في الأرض وبقيت مع ذلك امرأة من الإنس؛ وإذن فهذا كلام لا يفهم ... قال بعضهم إن "لو" تفتح عمل الشيطان، يريد أنها أداة التمني، والمذهب الجديد سيضم "إذن" إلى "لو" ثم ما هي الكلمة الثالثة يا ترى؟ أنا -مع إعجابي بالدكتور الفاضل- أرى أنه مستهتر بأشياء، وأن من خلقه أن ما لا يرضى عنه وما لا يفهمه "ليسا شيئين مختلفين". فإذا لم يكن من الفهم بد قال: إنه لا يقتنع، فإذا ضايقته وضيقت عليه لم يبق إلا ما يقول النحاة في "أي" التي حيرهم إعرابها وبناؤها: أي كذا خلقت ... وأنا وأمثالي إنما نحرص أشد الحرص على هذه اللغة؛ لأنها أساس الأمة الإسلامية فلا نرضى غلا أن يكون هذا الأساس ثابتًا متينًا لا يزعزعه شيء ولا يثلمه شيء ولا يضعفه شيء؛ والدكتور وأمثاله لا يبالون أن تكون هذه الأمة كبيوت أمريكا المتحركة ... لست أنكر التجديد، بل لعل الدكتور يذكر مناقشتي إياه في "الجريدة" وإصراره يومئذ أن ليس لأحد أن يدخل في اللغة كلمة، وأن قول الناس تنزه ومتنزه ونزهة الخ كلها منا لكلام العامي، وتعلقه بنص ابن سيده في ذلك، واستخراجي له نص ابن قتيبة وكلامًا كثيرًا من استعمال العلماء، ثم قوله أحسنت، ولكن لو جئتني باللفظة في كلام المبرد والجاحظ وفلان وفلان ما اقتنعت. إنما أنكر شيئًا واحدًا، وهو أن يقال مذهب قديم ومذهب جديد؛ فقد وسع الله على الناس فيما علموا وفيما جهلوا، ولكن أصحابنا يريدون ألا نكتب إلا نمطًا بعينه، ولا نذهب إلا مذهبًا بعينه؛ لأن كل ذلك هو الجديد؛ فأيهما خير لنا ولهم وللذين سيخرجون تاريخهم من قبورنا: أن نعتد اللغة والأدب كل ما اجتمع من قديم وجديد ونحكم هذه اللغة ونحفظها وندفع عنها ونجعل تجديدها كتجدد الحسناء في أثوابها وفي ألوانها دون تشويه ولا مسخ ولا مس الجسم الجميل، أن تقول: هذه الشفة وهذا الأنف وهذا الموضع الممتلئ الخدل وهذا الموضع

الهضيم الناحل وتعال يا دكتور هات المبضع والمشرط والمقص والمنشار والإبرة والخيط وإذن ... ؟ لقد أذكر أني رأيت في بعض مقالات الأستاذ طه حسين أو في بعض ما يقرظ به الكتب أنه قال: إن القديم قد أثبت دائمًا أنه أقوى وأمتن وأصح؛ فهل رجل عن هذا الرأي أم ظهر في الجديد ما هو أقوى وأمتن وأصح؟ ثم يا أيها الملأ أفتوني ما هو هذا الجديد؟ أهو ذاك الخيال الشارد المجنون، أم تلك الشهوات المتوثبة المتلهفة، أم ذلك الأسلوب الفج المتسوخم، أم العامية السقيمة الملحونة؛ أم هو في الحقيقة بين رغبة في النبوع قبل أن تتم الأداة وتستحكم الطريقة، كما هو شأن فريق من الكتاب، فيختصرون الطريق بكلمة واحدة هي المذهب الجديد - وبين غربة في التعصب للآداب الأجنبية كما هو شأن فريق آخر- وبين رغبة في الحط من قيمة بعض الناس ورميهم بالجهل والسخف وأنه لا قيمة لما يجيئون به، كل ذلك في تعبير علمي يصح أن يكون نظرية علمية ... وقبلهم قالها العرب في القرآن الكريم: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} فقد شاءوا فلم يقولوا؛ ولو أن المذهب الجديد فسر القرآن يومًا.. لقال في معنى أساطير الأولين إنهم أرادوا بهذا المذهب القديم ... ويقول الدكتور طه: إن هناك قومًا ينصرون المذهب الجديد وليس لهم من اللغات الأجنبية وآدابها حظ، وحظهم من اللغة العربية وآدابها موفور؛ ثم طلب رأيي في هؤلاء وما أصل مذهبهم الجديد؛ فأقول: إني أعرف بعضهم، وأعرف أن أدمغتهم لا يشبهها شيء إلا جلود بعض الكتب التي ليس فيها إلا متن وشرح وحاشية: جلد ملفوف على ورق، وورق ينطوي على قواعد محفوظة، وهم أفقر الناس إلى الرأي؛ وهذه علة حبهم للأساليب الجديدة القائمة على الترجمة ونقل الآراء من الغرب إلى الشرق، وبالمعنى الصريح المكشوف: من الأدمغة المملوءة إلى الأدمغة الفارغة، وفيهم بعض أذكياء، ولكن ذكاءهم في حواسهم، فإن لم يكن هذا فليقولوا هم لماذا؟ ولو أنك سألت العنكبوت: ما هي الظبية الحوارء العيناء التي تطمعين فيها وتنصبين لها كل هذه الأشراك والحبائل؟ لقالت لك: مهلًا حتى تقع فتراها! فإذا وقعت رأيتها ثمة ورأيتها ذبابة.. ولكن ماذا يقول الدكتور في الأستاذ الإمام الكبير الشيخ محمد عبده؟ أكان

يدعو إلى مذهب جديد في اللغة والأدب ويفتتن بالروايات الغرامية وبأسلوب "إميل زولا" في روايته المعروفة وبمثل رواية "الأجرسون". إن كان الناس عند الدكتور من بعض الحجج فإن الشيخ وحده بأمة كاملة ممن يعنيهم. وأختتم هذه الكلمة بالشكر للأستاذ طه حسين والثناء عليه، ثم إني مسترسل في عملي، وهذا عذري إليه.

المرأة والميراث

المرأة والميراث: قرأت في "المقطم" كلمة الكاتب المعروف سلامة موسى فيما يزعمه إجابات مختصرة عن اعتراضات تهافت بها رأيه في الدعوة إلى مساواة المرأة بالرجل في الميراث، وهو ينصح لمن يريد أن يناقشه أن يقرأ نص محاضرته في "السياسة الأسبوعية". وقد رجعت إلى نص المحاضرة فإذا الكاتب هو هو في ضعف تفكيره وسوء تقليده، يكاد لا يميز بين الرأي الصحيح الثابت في نفسه؛ لأنه قائم على حكمته الباعثة عليه، وبين الرأي المتغير في كل نفس بحسبها؛ لأنه قائم على منزع أو غفلة أو مرض في النفس. ترى الكاتب لا يدعو إلا إلى تقليد أوربا، وتكاد عباراته في ذلك لا تحصى ويقول: إن "المصلح المثمر عندنا هو مقلد لأوربا لا غش في تقليده" فليس إلا أوربا وتقليدها وإذا لم يكن في أوربا قرآن ولا إسلام فالإصلاح المثمر عند الكاتب ألا يبقى من ذلك شيء ... "مقلد أوربا لا غش في تقليده"، وما هو الغش في التقليد؟ هو أن تستعمل رأيك وفكرك فتدع وتأخذ على بينة في الحالين، وأن تأبى أن تحمل على طبيعتك الشرقية ما لا تصلح عليه ولا تقوم به؛ وإذا انقلبت أوربا شيوعية أو إباحية وجب ألا نغش في التقليد.. وإذا كانت الشمس لا تطلع ستة أشهر في بعض جهات أوربا وتطلع في مصر كل يوم وجب أن يكون المصري أعمى ستة أشهر ... والظاهر أن الكاتب يقول بالتقليد؛ لأنه طبيعي فيه.. ورأيه في الميراث إنما هو ترجمة.. لعمل مصطفى كمال؛ وإن كان مصطفى كمال قد أصلح الترك في سنوات كما يقولون: فبرهان التاريخ لا يخضع للمشقة ولا لمحاكم الاستقلال ولا يأتي إلا في وقته الذي سيأتي فيه، وسيرى الناس يومئذ ما يكون وهمًا مما يكون حقيقة. ويرد الكاتب على رأي الأستاذ الأخلاقي رئيس تحرير "المقطم" في خشيته أن يقتصر الإصلاح على القشور دون اللباب، فيقول: إنه "معتقد أن الأمة التي

تشرع في اتخاذ المدنية الحديثة يجب أن تبدأ بالقشور ... لأنها أسهل عليها من اللباب بل هي لا تستطيع غير ذلك". أكذلك بدأت اليابان؟. وهل كل الطباع كطبيعة بعض الناس، تستطيع أن تعتلف قشور المدنية.. وتنصرف إلى مداقها وسفاسفها؟ ولا ريب أن حضرته لا يفهم الدين الإسلامي؛ لأنه ليس من أهله، فهو يقرنا على ذلك، وهو بذلك يقرنا على أنه متطفل في اقتراحه؛ وإن الذي يقرأ في محاضرته قوله: "إن الطبقة الغنية في الأمة هي التي تقرر ديانة الأمة.." يستيقن أنه لا يفهم دينا من الأديان، وأنه قصير النظر في أمور الاجتماع وأبواب السياسة؛ وأن يمينه وشماله وأمامه ووراءه إن هي إلا جهات الزمام الذي ينقاد فيه؛ فلا شخصية له، وإنما يتابع وينقاد للآراء التي يترجم منها بلا نقد ولا تمييز. إن ميراث البنت في الشريعة الإسلامية لم يقصد لذاته، بل هو مرتب على نظام الزواج فيها، وهو كعملية الطرح بعد عملية الجمع لإخراج نتيجة صحيحة من العملين معًا، فإذا وجب للمرأة أن تأخذ من ناحية وجب عليها أن تدع من ناحية تقابلها؛ وهذا الدين يقوم في أساسه على تربية أخلاقية عالية ينشئ بها طباعًا ويعدل بها طباعًا أخرى، كما بيناه في مقالنا المنشور في "مقتطف" هذا الشهر؛ فهو يربأ بالرجل أن يطمع في مال المرأة أو يكون عالة عليها؛ فمن ثم أوجب عليه أن يمهرها وأن ينفق عليها وعلى أولادها، وأن يدع لها رأيها وعملها في أموالها، لا تحد إرادتها بعمله ولا بأطماعه ولا بأهوائه؛ وكل ذلك لا يقصد منه إلا أن ينشأ الرجل عاملًا كاسبًا معتمدًا، متهيئًا لمعالي الأمور، فإن الأخلاق كما هو مقرر يدعو بعضها إلى بعض، ويعين شيء منها على شيء يماثله، ويدفع قويها ضعيفها، ويأنف عاليها من سافلها؛ وقد قلنا إنه لا يجوز لمتكلم أن يتكلم في حكمة الدين الإسلامي إلا إذا كان قوي الخلق، فإن من لا يكون الشيء في طبعه لا يفهمه إلا فهم جدل لا فهم اقتناع. للمرأة حق واجب في مال زوجها، وليس للرجل مثل هذا الحق في مال زوجه؛ والإسلام يحث على الزواج، بل يفرضه؛ فهو بهذا يضيف إلى المرأة رجلًا ويعطيها به حقًّا جديدًا، فإن هي ساوت أخاها في الميراث مع هذه الميزة التي انفردت بها انعدمت المساواة في الحقيقة، فتزيد وينقص؛ إذ لها حق الميراث وحق النفقة وليس له إلا مثل حقها في الميراث إذا تساويا.

فإن قلت كما يقول سلامة موسى: إن في الحق أن تنفق المرأة على الرجل وأن تدفع له المهر ثم تساويه في الميراث، قلنا: إذا تقرر هذا وأصبح أصلًا يعمل عليه بطل زواج كل الفقيرات وهن سواد النسوة؛ إذ لا يملكن ما يمهرن به ولا ما ينفقن منه؛ وهذا ما يتحاماه الإسلام؛ لأنه فيه فساد الاجتماع وضياع الجنسين جميعًا؛ وهو مفضٍ بطبيعته إلى جعل الزواج للساعة ولليوم وللوقت المحدود.. ولإيجاد لقطاء الشوارع، بدلًا من أن يكون الزواج للعمر وللواجب ولتربية الرجل على احتمال المسؤولية الاجتماعية بإيجاد الأسرة وإنشائها والقيام عليها والسعي في مصالحها. من هنا وجب أن ينعكس القياس إذا أريد أن تستقيم النتيجة الاجتماعية التي هي في الغاية لا من حق الرجل ولا من حق المرأة بل من حق الأمة؛ وما نساء الشوارع ونساء المعامل في أوربا من نتائج ذلك النظام الذي جاء مقلوبًا، فهن غلطات البيوت المتخربة والمسؤولية المتهدمة، وهن الواجبات التي ألقاها الرجال عن أنفسهم فوقعت حيث وقعت! وإذا انزاحت مسؤولية المرأة عن الرجل انزاحت عنه مسؤولية النسل، فأصبح لنفسه لا لأمته؛ ولو عم هذا المسخ الاجتماع أسرع فيه الهرم وأتى عليه الضعف، وأصبحت الحكومات هي التي تستولد الناس على الطريقة التي تستنتج بها البهائم، وقد بدأ بعض كتاب أوربا يدعون حكوماتهم إلى هذا الذي ابتلوا به ولا يدرون سببه وما سببه إلا ما بينا آنفًا. ثم إن هناك حكمة سامية، وهي أن المرأة لا تدع نصف حقها في الميراث لأخيها يفضلها به -بعد الأصل الذي نبهنا إليه- إلا لتعين بهذا العمل في البناء الاجتماعي؛ إذ تترك ما تتركه على أنه لامرأة أخرى، هي زوج أخيها؛ فتكون قد أعانت أخاها على القيام بواجبه للأمة، وأسدت للأمة عملًا آخر أسمى منه بتيسير زواج امرأة من النساء. فأنت ترى أن مسألة الميراث هذه متغلغلة في مسائل كثيرة لا منفردة بنفسها، وأنها أحكم الحكمة إذا أريد بالرجل رجل أمته وبالمرأة امرأة أمتها، فأما إذا أريد رجل نفسه وامرأة نفسها، وتقرر أن الاجتماع في نفسه حماقة وأن الحكومة خرافة، وأن الأمة ضلالة، فحينئذ لا تنقلب آية الميراث وحدها بل تنقلب الحقيقة. ومما نعجب له أن سلامة موسى يتكلم في محاضرته كأن كل الوالدين ذوو مال وعقار، فنصف الأمة على هذا محروم نصف حقه وكأنه لا يعرف أن السواد

الأعظم من الناس لا يترك ما يورث، لا على الربع ولا على النصف؛ وأن كثيرًا ممن يموتون عن ميراث لا يحيا ميراثهم إلا أيامًا من بعدهم، ثم يذهب في الديون، إذ لا تركة مع دين، وكثيرون لا يسمن ميراثهم ولا يغني، فلم تبق إلا فئات معينة من كل أمة لا يجوز أن تنقلب من أجلها تلك الحكمة الاجتماعية التي هي من حظ الأمومة كلها لقيام بعض الأخلاق عليها كما بسطناه. ومما تشمئز له النفوس الكريمة قول المترجم في محاضرته: فلو كانت الفتيان يرثن مثل إخوتهن الذكور، لكان "في ثروتهن" إغراء للشبان على الزواج.. إن الدين الإسلامي لا يعرف مثل هذا الإسفاف في الخلق ولا يقره، بل هو يهدمه هدمًا ويوجب على كل رجل أن يحمل قسطه من المسؤولية ما دام مطيقًا إن كره أو رضي، ولعمري، إن تلك الكلمة وحدها من كاتبها لهي أدل من اسم المحل على بضاعة المحل ...

كلمة مؤمنة في رد كلمة كافرة

كلمة مؤمنة في رد "كلمة كافرة" 1: تلقيت كتابًا هذه نسخته: أكتب إليك متعجلًا بعد أن قرأت "كلمة كافرة" في "كوكب الشرق" الصادر مساء الجمعة 27 من أكتوبر؛ كتبها متصدر من نوع قولهم: حبذا الإمارة ولو على الحجارة ... وسمى نفسه "السيد، فإن صدق فيما كتب صدق في هذه التسمية. طعن القرآن وكفر بفصاحته، وفضل على آية من كلام الله جملة من أوضاع العرب، فعقد فصله بعنوان "العثرات" على ذلك التفضيل، كأنَّ الآية عثرة من عثرات الكتاب يصححها ويقول فيها قوله في غلط الجرائد والناشئين في الكتابة؛ وبرقع وجهه وجبن أن يستعلن، فأعلن بزندقته أنه حديث في الضلالة. غلى الدم في رأسي حين رأيت الكاتب يلج في تفضيل قول العرب: "القتل أنفى للقتل" على قول الله -تعالى- في كتابه الحكيم: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] ، فذكرت هذه الآية القائلة: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121] وهذه الآية: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} [الأنعام: 112] ثم هممت بالكتابة فاعترضني ذكرك، فألقيت القلم؛ لأتناوله بعد ذلك وأكتب به إليك. ففي عنقك أمانة المسلمين جميعًا لتكتبن في الرد على هذه الكلمة الكافرة لإظهار وجه الإعجاز في الآية الكريمة، وأين يكون موقع الكلمة الجاهلية منها؛ فإن هذه زندقة إن تركت تأخذ مأخذها في الناس؛ جعلت البر فاجرًا، وزادت الفاجر فجورًا: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] .

_ 1 البلاغ. نوفمبر سنة 1923، وانظر ص172-174 "حياة الرافعي".

واعلم أنه لا عذر لك. أقولها مخلصًا، يمليها على الحق الذي أعلم إيمانك به، وتفانيك في إقراره والمدافعة عنه والذود عن آياته؛ ثم اعلم أنك ملجأ يعتصم به المؤمنون حين تناوشهم ذئاب الزندقة الأدبية التي جعلت همها أن تلغ ولوغها في البيان القرآني. ولست أزيدك، فإن موقفي هذا موقف المطالب بحقه وحق أصحابه من المؤمنين وأذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سئل علمًا فكتمه جاء يوم القيامة ملجمًا بلجام من نار" أو كما قال.. والسلام عليكم ورحمة الله. م. م.ش قرأت هذا الكتاب فاقشعر جسمي لوعيد النبي صلى الله عليه وسلم، وجعلت أردد الحديث الشريف أستكثر منه وأملأ نفسي بمعانيه، وإنه ليكثر فيَّ كل مرة، فإذا هو أبلغ تهكم بالعلماء المتجاهلين، والجهلاء المتعالمين؛ وإذا هو يؤخذ من ظاهره أن العالم الذي يكتم علمه النافع عن الناس يجيء يوم القيامة ملجمًا، ويؤخذ من باطنه أن الجاهل الذي يبث جهله الضار في الناس يجيء يوم القيامة ملجمًا مبرذعًا.. أي: فهذا وهذا كلاهما من حمير جهنم! والتمست عدد "الكوكب" الذي فيه المقال وقرأته، ولم أكن أصدق أن في العالم أديبا مميزًا يضع نفسه هذا الموضع من التصفح على كلام الله وأساء الأدب في وضع آية منه بين عثرات الكتاب، فضلًا عن أن يسمو لتفضيل كلمة من كلام العرب على الآية، فضلًا عن أن يلج في هذا التفضيل، فضلًا عن أن يتهوس في هذه اللجاجة؛ ولكن هذا قد كان، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ولعمري وعمر أبيك أيها القارئ، لو أن كاتبًا ذهب فأكل فخلط فتضلع فنام فاستثقل فحلم.. أنه يتكلم في تفضيل كلمة العرب على تلك الآية، واجتهد جهده، وهو نائم ذاهب الوعي فلم يأل تخريفًا واستطالة، وأخذ عقله الباطن يكنس دماغه ويخرج منه "الزبالة العقلية" ليلقيها في طريق النسيان أو في طريق الشيطان -لما جاء في شأوه بأسخف ولا أبرد من مقالة "السيد" فسواء أوقع هذا التفضيل من جهة الهذيان والتخريف كما فعل كاتب النوم، أم وقع من جهة الخلط والحبط ما فعل كاتب الكوكب -فهذا من هذا، طباق سخافة بسخافة.. نعم إن مقالة الكوكب أفضل من مقالة الكاتب الحالم ... ولكن قليل

الزيت في الزجاجة التي أهديت لجحا لا يعد زيتًا ما دام هذا القليل يطفو على ملء الزجاجة من.. من البول! ولقد تنبأ القاضي الباقلاني قبل مئات السنين بمقالة الكوكب هذه فأسفلها الرد بقوله: "فإن اشتبه على متأدب أو متشاعر أو ناشئ أو مرمدٍ فصاحة القرآن وموقع بلاغته وعجيب براعته فما عليك منه، إنما يخبر عن نفسه، ويدل على عجزه، ويبين عن جهله، ويصرح بسخافة فهمه وركاكة عقله" ما علينا ... يقول كاتب الكوكب بالنص: قالت العرب قديمًا في معنى القصاص: "القتل أنفى للقتل"، ثم أقبل القرآن الكريم على آثار العرب "هكذا" فقال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] ، وقد مضت سنة العلماء من أساطين البيان أن يعقدوا الموازنة بين مقالة العرب هذه وبين الآية الحكيمة أيتهما أشبه بالفصاحة "هكذا"، ثم يخلصون منها إلى تقديم الآية والبيان القرآني ... ثم قال: من رأي كاتب هذه الكلمة تقديم الكلمة العربية على الآية الغراء، "اللهم غفرًا" على ثلج الصدر بإعجاز القرآن "كلمة للوقاية من النيابة ... وإلا فماذا بقي من الإعجاز وقد عجزت الآية؟ زِه زِه يا رجل ... " ثم قال: إن فيم تقدم به الكلمة العربية على الآية الحكيمة -"اللهم غفرًا"- مزايا ثلاثًا: أولى هذه المزايا الثلاث، هذا الإيجاز الساحر فيها؛ ذلك أن: "ألقتل أنفى للقتل" ثلاث كلمات لا أكثر، أما الآية فإنها سبع كلمات "كذا"، وعلى تلك فهي أقدم عهدًا وأسبق ميلادًا من آية التنزيل "تأمل" حاشا كلام الله القديم، والإيجاز ميزة أية ميزة؛ الميزة الثانية للكلمة الاستقلال الكتابي وقد التعاقد بينها وبين شيء آخر سابق عليها، حتى أن المتمثل بها المستشهد يبتدئ بها حديثًا مستتمًا ويختتمه في غير مزيد ولا فضل، فلا يتوقف ولا يستعين بغيرها، أما الآية فإنها منسوقة مع ما قبلها بالواو، فهي متعاقدة مترابطة معه، لا يتمثل بها المتمثل حتى يستعين بشيء سواها، وليس الذي يعتمد على غيره فلا يستقل كالذي يعتمد على نفسه فيستقل؛ الميزة الثالثة أن الكلمة ليست متصلة في آخرتها بفضل من القول تغني عنه، على حين تتصل بالآية بما تغني عنه من القول. ويعتد كالفضل وهو كلمتا {يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 179] و {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] ، وإن كان لا زيادة في القرآن ولا فضول.

ثم قال: إن مدرسًا جاء بالفصل الذي عقده الإمام السيوطي في كتابه "الإتقان" لتفضيل الآية على الكلمة وفيه قرابة خمسة وعشرين حُجة؛ قال: إنها انحطت بعد أن رماها بنظره العالي إلى أربع: "أما الباقيات فمن نسج الانتحال والتزيد"، قال: وأولاها أن الآية أوجز لفظًا، والكاتب يرى الآية: "سبع كلمات في تحديد ودقة"، قال: إذا لقد بطلت حجة الإيجاز في الآية "اللهم غفرًا"، قال: والثانية: "أن في الكلمة العربية تكرارًا لكلمة القتل سلمت الآية منه، ورد الكاتب أن هذا التكرار: "يتحلل طلاوة ويقطر رقة، "قال": وهذا فمي فيه طعم العسل، "قلنا: وعليه الذباب يا سيدنا ... " والثالثة: أن في الآية ذكرًا للقصاص بلفظه على حين لا تذكر الكلمة إلا القتل وحده، وليس كل قتل قصاصًا؛ ودفع الكاتب هذا بأن الكلمة انطوت على قتلين أحدهما ينفي صاحبه، فذاك هو القصاص؛ قال: "إذن فالكلمة والآية في قصد القصاص يلتقيان فرسي رهان"؛ والرابعة: أن القصاص في الآية أعم يشمل القتل وغيره. وأقر الكاتب أن للآية فضلًا على الكلمة من هذه الناحية، ولكن الكلمة حكمة لا شريعة، وهي من قضاء الجاهلية، فليس عليها أن تبين ما لم يعرفه العرب ولم يخلق بعد، قال: "إذن فليست الكلمة مقصرة عن بيان، متبلدة عن إحسان". هذا كل مقاله بحروفه بعد تخليصه من الركاكة والحشو وما لا طائل تحته، ونحن نستغفر الله ونستعينه ونقول قولنا، ولكنا نقدم بين يدي ذلك مسألة، فمن أين للكاتب أن كلمة: "القتل أنفى للقتل" مما صحت نسبته إلى عرب الجاهلية، وكيف له أن يثبت إسنادها إليهم وأن يوثق هذا الإسناد حتى يستقيم قوله: إن القرآن أقبل على آثار العرب؟ ... أنا أقرر أن هذه الكلمة مولدة وضعت بعد نزول القرآن الكريم وأخذت من الآية، والتوليد بيِّن فيها، وأثر الصنعة ظاهر عليها؛ فعلى الكاتب أن يدفع هذا بما يثبت أنها مما صح نقله عن الجاهلية؛ ولقد جاء أبو تمام بأبدع وأبلغ من هذه الكلمة في قوله: وأخافكم كي تغمدوا أسيافكم ... إن الدم المغبر يحرسه الدم "الدم يحرسه الدم" هذه هي الصناعة وهذه هي البلاغة لا تلك، ومع هذا فكلمة الشاعر مولدة من الآية، يدل عليها البيت كله؛ وكأن أبا تمام لم يكن سمع

قولهم: "القتل أنفى للقتل"، وأنا مستيقن أن الكلمة لم تكن وضعت إلى يومئذ*. ولو أن متمثلًا أراد أن يتمثل بقول أبي تمام فانتزع منه هذا المثل الدم يحرسه الدم"، أيكون حتمًا من الحتم أن يقال له: كلا يا هذا فإن البيت سبع كلمات فلا يصح انتزاع المثل منه ولا بد من قراءة البيت بمصراعيه كما يقول كاتب الكوكب في الآية الكريمة ليزعم أنها لا تقابل الكلمة العربية في الإيجاز؟ إن الذي في معاني الآية القرآنية مما ينظر إلى معنى قولهم القتل أنفى للقتل كلمتان ليس غير، وهما "القصاص، حياة"؛ والمقابلة في المعاني المتمثلة إنما تكون بالألفاظ التي تؤدي هذه المعاني دون ما تعلقت به أو تعلق بها مما يصل المعنى بغيره أو يصل غيره به؛ إذ الموازنة بين معنيين لا تكون إلا في صناعة تركيبهما، ويخيل إلي أن الكاتب يريد أن يقول إن في باقي الآية الكريمة لغو وحشو، فهو حميلة على الكلمتين: القصاص حياة، يريد أن يقولها، ولكنه غص بها، وإلا فلماذا يلج في أنه لا بد في التمثل، أي لا بد في المقابلة، من رد الآية بألفاظها جميعًا؟ فإذا قيل: إنه لا يجوز أن يتغير الإعراب في الآية، ويجب أن يكون المثل منتزعًا منها على التلاوة، قلنا: فإن ما يقابل الكلمة منها حينئذ هو هذا، "في القصاص حياة"، وجملتها اثنا عشر حرفًا، مع أن الكلمة أربعة عشر، فالإيجاز عند المقابلة هو في الآية دون الكلمة. وأما قوله تعالى: {أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] ، لو كان الكاتب من أولي الألباب لفهمها وعرف موقعها وحكمتها، وأن إعجاز الآية لا يتم إلا بها، إذ أريد أن تكون معجزة زمنية كما سنشير إليه، ولكن أني له وهو من الفن البياني على هذا البعد السحيق، لا يعلم أن آيات القرآن الكريم كالزمن في نسقها: ما فيه من شيء يظهره إلا ومن ورائه سر يحققه. ثم إن الإيجاز في الكلمة العربية ليس من "الإيجاز الساحر" كما يصفه الكاتب، بل هو عندنا من الإيجاز الساقط؛ وليس من قبيل إيجاز الآية الكريمة ولا يتعلق به فضلًا عن أن يشبهه؛ إذ لا بد في فهم صيغة التفضيل من تقدير المفضل عليه، فيكون المعنى "القتل أكثر نفيًا للقتل من كذا"، فما هو هذا "الكذا" أيها الكاتب المتعثر؟ أليس تصور معنى العبارة وإحضاره في الذهن قد أسقطها ونزل بها إلى

_ * سنثبت هذا بعد في تعليق على هذه المقالة.

الكلام السوقي المبتذل وأوقع فيها الاختلال؟ وهل كانت إلا صناعة شعرية خيالية ملفقة كما أومأنا إلى ذلك آنفًا، حتى إذا أجريتها على منهجها من العربية رأيتها في طريقة هذا الكلام العربي الأمريكاني كقول القائل: "الفرح أعظم من الترح"، "الحياة هي التي تعطى للحياة" ... ؟ بهذا الرد الموجز بطلت الميزات الثلاث التي زعمها الكاتب لتلك الكلمة، وإن الكلمة نفسها لتبرأ إلى الله من أن تكون لها على الآية ميزة واحدة فضلًا عن ثلاثة. ولنفرض "فرضًا" أن الكلمة وثيقة الإسناد إلى عرب الجاهلية وأنها من بيانهم، فما الذي فيها؟ 1- إنها تشبه قول من يقول لك: إن قتلت خصمك لم يقتلك. وهل هذا إلا هذا؟ وهل هو إلا بلاغة من الهذيان؟ 2- إنها تشبه أن تكون لغة قاطع طريق عارم يتوثب على الحلال والحرام لا يخرج لشأنه إلا مقررًا في نفسه أنه إما قاتل أو مقتول، ولذلك تكرر فيها القتل على طرفيها، فهو من أشنع التكرار وأفظعه. 3- إن فيها الجهل والظلم والهمجية، إذ كان من شأن العرب ألا تسلم القبيلة العزيزة قاتلًا منها، بل تحميه وتمنعه، فتنقلب القبيلة كلها قاتلة بهذه العصبية؛ فمن ثم لا ينفي عار القتل عن قبيلة المقتول إلا الحرب والاستئصال قتلًا قتلًا وأكل الحياة للحياة، فهذا من معاني الكلمة: أي القتل أنفى لعار القتل، فلا قصاص ولا قضاء كما يزعم الكاتب. 4- إن القتل في هذه الكلمة لا يمكن أن يخصص بمعنى القصاص إلا إذا خصصته الآية فيجيء مقترنًا بها، فهو مفتقر إليها في هذا المعنى، وهي تلبسه الإنسانية كما ترى، ولن يدخله العقل إلا من معانيها؛ وهذا وحده إعجاز في الآية وعجز من الكلمة. وقبل أن نبين وجوه الإعجاز في الآية الكريمة ونستخرج أسرارها، نقول لهذا الطفيلي: إنه ليس كل من استطاع أن يطيِّر في الجو ورقةً في قصبة في خيط جاز له أن يقول في تفضيل ورقته على منطاد زبلين، وأن فيما تتقدم به على المنطاد الكريم ميزات ثلاثًا: الذيل، والورق الملون، والخيط ...

يقول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] . 1- بدأ الآية بقوله {وَلَكُمْ} [البقرة: 179] ، وهذا قيد يجعل هذه الآية خاصة بالإنسانية المؤمنة التي تطلب كمالها في الإيمان، وتلتمس في كمالها نظام النفس، وتقرر نظام النفس بنظام الحياة؛ فإذا لم يكن هذا متحققًا في الناس فلا حياة في القصاص، بل تصلح حينئذ كلمة الهمجية: القتل أنفى للقتل، أي اقتلوا أعداءكم ولا تدعوا منهم أحدًا، فهذا هو الذي يبقيكم أحياء وينفي عنكم القتل؛ فالآية الكريمة بدلالة كلمتها الأولى موجهة إلى الإنسانية العالية، لتوجه هذه الإنسانية في بعض معانيها إلى حقيقة من حقائق الحياة. 2- قال: {فِي الْقِصَاصِ} [البقرة: 179] ولم يقل في القتل، فقيده بهذه الصيغة التي تدل على أنه جزاء ومؤاخذة، فلا يمكن أن يكون منه المبادأة بالعدوان، ولا أن يكون منه ما يخرج عن قدر المجازاة قل أو كثر. 3- تفيد هذه الكلمة "القصاص" بصيغتها "صيغة المفاعلة" ما يشعر بوجوب التحقيق وتمكين القاتل من المنازعة والدفاع، وألا يكون قصاص إلا باستحقاق وعدل؛ ولذا لم يأت بالكلمة من اقتص مع أنها أكثر استعمالًا؛ لأن الاقتصاص شريعة الفرد، والقصاص شريعة المجتمع. 4- من إعجاز لفظة القصاص هذه أن الله -تعالى- سمى بها قتل القاتل، فلم يسمه قتلًا كما فعلت الكلمة العربية؛ لأن أحد القتلين هو جريمة واعتداء، فنزه -سبحانه- العدل الشرعي حتى عن شبهه بلفظ الجريمة؛ وهذا منتهى السمو الأدبي في التعبير. 5- ومن إعجاز هذه اللفظة أنها باختيارها دون كلمة القتل تشير إلى أنه سيأتي في عصور الإنسانية العالمة المتحضرة عصر لا يرى فيه قتل القاتل بجنايته إلا شرًّا من قتل المقتول؛ لأن المقتول يهلك بأسباب كثيرة مختلفة، على حين أن أخذ القاتل لقتله ليس فيه إلا نية قتله؛ فعبرت الآية باللغة التي تلائم هذا العصر القانوني الفلسفي، وجاءت بالكلمة التي لن تجد في هذه اللغة ما يجزئ عنها في الاتساع لكل ما يراد بها من فلسفة العقوبة. 6- ومن إعجاز اللفظة أنها كذلك تحمل كل ضروب القصاص من القتل فما دونه، وعجيب أن تكون بهذا الإطلاق مع تقييدها بالقيود التي مرت بك؛ فهي بذلك لغة شريعة إلهية على الحقيقة، في حين أن كلمة القتل في المثل العربي تنطق

في صراحة أنها لغة الغريزة البشرية بأقبح معانيها؛ وبذلك كان تكرارها في المثل كتكرار الغلطة؛ فالآية بلفظة القصاص تضعك أمام الألوهية بعدلها وكمالها، والمثل بلفظة القتل يضعك أمام البشرية بنقصها وظلمها. 7- ولا تنس أن التعبير بالقصاص تعبير يدع الإنسانية محلها إذا هي تخلصت من وحشيتها الأولى وجاهليتها القديمة، فيشمل القصاص أخذ الدية والعفو وغيرهما؛ أما المثل فليس فيه إلا حالة واحدة بعينها كأنه وحش ليس من طبعه إلا أن يفترس. 8- جاءت لفظة القصاص معرفة بأداة التعريف، لتدل على أنه مقيد بقيوده الكثيرة؛ إذ هو في الحقيقة قوة من قوى التدمير الإنسانية فلا تصلح الإنسانية بغير تقييدها. 9- جاءت كلمة "حياة" منونة، لتدل على أن ههنا ليست بعينها مقيدة باصطلاح معين؛ فقد يكون في القصاص حياة اجتماعية، وقد يكون فيه حياة سياسية، وقد تكون الحياة أدبية، وقد تعظم في بعض الأحوال عن أن تكون حياة. 10- إن لفظ "حياة" هو في حقيقته الفلسفية أعم من التعبير "بنفي القتل"؛ لأن نفي القتل إنما هو حياة واحدة، أي ترك الروح في الجسم، فلا يحتمل شيئًا من المعاني السامية، وليس فيه غير هذا المعنى الطبيعي الساذج؛ وتعبير الكلمة العربية عن الحياة "بنفي القتل" تعبير غليظ عامي يدل على جهل مطبق لا محل فيه لعلم ولا تفكير، كالذي يقول لك: إن الحرارة هي نفي البرودة. 11- جعل نتيجة القتل حياة تعبير من أعجب ما في الشعر يسمو إلى الغاية من الخيال، ولكن أعجب ما فيه أنه ليس خيالًا، بل يتحول إلى تعبير علمي يسمو إلى الغاية من الدقة، كأنه يقول بلسان العلم: في نوع من سلب الحياة نوع من إيجاب الحياة. 12- فإذا تأملت ما تقدم وأنعمت فيه تحققت أن الآية الكريمة لا يتم إعجازها إلا بما تمت به من قوله: {يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 179] فهذا نداء عجيب يسجد له من يفهمه؛ إذ هو موجه للعرب في ظاهره على قدر ما بلغوا من معاني اللب، ولكنه في حقيقته موجه لإقامة البرهان على طائفة من فلاسفة القانون والاجتماع، هم هؤلاء الذين يرون إجرام المجرم شذوذًا في التركيب العصبي، أو وراثة محتومة، أو حالة نفسية قاهرة، إلى ما يجري هذا المجرى؛ فمن ثم يرون أن لا عقاب على جريمة؛ لأن المجرم عندهم مريض له حكم المرضى؛ وهذه

فلسفة تحملها الأدمغة والكتب، وهي تحول القلب إلى مصلحة الفرد وتصرفه عن مصلحة المجتمع، فنبههم الله إلى ألبابهم دون عقولهم، كأنه يقرر لهم أن حقيقة العلم ليست بالعقل والرأي، بل هي قبل ذلك باللب والبصيرة، وفلسفة اللب هذه هي آخر ما انتهت إليه فلسفة الدنيا. 13- وانتهت الآية بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] ، وهي كلمة من لغة كل زمن، ومعناها في زمننا نحن: يا أولي الألباب، إنه برهان الحياة في حكمة القصاص تسوقه لكم، لعلكم تتقون على الحياة الاجتماعية عاقبة خلافه فاجعلوا وجهتكم إلى وقاية المجتمع لا إلى وقاية الفرد. وبعد فإذا كان في الآية الكريمة -على ما رأيت- ثلاث عشرة وجهًا من وجوه البيان المعجز، فمعنى ذلك من ناحية أخرى أنها أسقطت الكلمة العربية ثلاث عشرة مرة.

القتل أنفى للقتل ليست مترجمة

"القتل أنفى للقتل" ليست مترجمة: بعد أن نشرت مقالة "الكلمة المؤمنة" في "البلاغ"، كتب الأديب الفلسطيني الأستاذ إسعاف النشاشيبي: إن هذه الكلمة مترجمة عن الفارسية، وقد نقلها الثعالبي في كتابه "الإيجاز والإعجاز"، فنشرنا في "البلاغ" هذا التعليق: قال الأستاذ الكبير محمد إسعاف النشاشيبي في كلمته للبلاغ إن عبارة "القتل أنفى للقتل"، ليست بعربية ولا مولدة، بل هي مترجمة؛ أي فهي مطموسة الوجه من كونها أعجمية وقع الخطأ في نقلها إلى العربية، فكانت غلطة من جهتين. وإنه ليسرني أن تكون فوق ذلك زنجية نقلت إلى المالطية، ثم ترجمت إلى العربية، فتكون غلطة من أربع جهات، لا من جهتين فقط ... ولكن هذه الكلمة لم يشر إلى أصلها غير "الثعالبي"، وهو مع ذلك لم يقطع فيها برأي، بل أشار إلى ترجمتها في صيغة من صيغ التمريض المعروفة عند الرواة فقال: "يحكى أن فيما ترجم عن أزدشير.." و"يحكى" هذه ليست نصًّا في باب الرواية، وقد يكون هذا الإمام اتقى الله فابتعد بالكلمة وطوح بها إلى ما وراء بلاد العرب، أو تكون الكلمة ألقيت إليه على أنها مشتبه في نسبتها؛ ولو كانت العبارة مترجمة لتناقلها الأئمة معزوة إلى قائلها أو لغتها التي قيلت فيها. ولقد ذكرها العسكري في كتابه "الصناعتين" على أنها "من قولهم"، أي العرب أو المولدين؛ ونقلها الرازي في تفسيره، فقال: إن للعرب في هذا المعنى كلمات منها "قتل البعض إحياء للجميع" وأحسنها "القتل أنفى للقتل"؛ وكذلك جاء بها ابن الأثير في كتاب "المثل السائر" ولم يعزها؛ وقال مفسر الأندلس أبو حيان في تفسيره: إنها تروى برواية أخرى وهي: "القتل أوقى للقتل"، وكل ذلك صريح في أن خبر الترجمة قد انفرد به الثعالبي.

ولا يقوم الدليل على ترجمتها إلا بظهور أصلها الفارسي، فإن كان علم ذلك عند أحد فليتفضل به مشكورًا مأجورًا. "تنبيه": نشرنا هذه الكلمة ومضت بعدها سنوات ولم يقف أحد على أن للعبارة أصلًا فارسيًّا، فلم يبق عندنا ريب أنها من صنيع بعض الزنادقة وقد ولدها من الآية الكريمة ليجريها في مجرى المعارضة؛ وقد كتب الأستاذ الكبير عبد القادر حمزة صاحب جريدة "البلاغ" أن تلك العبارة حكمة مصرية قديمة؛ ولا نمنع أن يكون هذا، فإن بعض الحكم مما تتوارد عليه العقول الإنسانية النابغة؛ إذ كانت الطبيعة البشرية كأنها تمليه؛ غير أن العبارة ليست في كلام الجاهلية القديمة ولا الحديثة، وألفاظ المصرية غير ألفاظ العربية، فلم يبق إلا توارد الخواطر، والله أعلم.

القتل أنفى للقتل ليست جاهلية

"القتل أنفى للقتل" ليست جاهلية: وبعد كلمتنا تلك عن الترجمة نشر أديب في البلاغ أن الكلمة جاهلية، فتعقبناه بهذا التعليق: أثبت الأستاذ عبد العزيز الأزهري فيما نشره في "البلاغ" أن هذه الكلمة عربية في دعواه، واحتج لذلك بحجج، أقواها زعمه: "أنها وردت بين ثنايا عهد القضاء الذي بعث به سيدنا عمر إلى أبي موسى الأشعري؛ ولا ندري أين وجد الكاتب كلمة: "القتل"، فضلًا عن: "القتل أنفى للقتل" -في ذلك العهد المشهور المحفوظ، وقد رواه الجاحظ في "البيان والتبيين"، وجاء به المبرد في "الكامل"؛ ونقله ابن قتيبة في "عيون الأخبار". وأورده ابن عبد ربه في "العقد الفريد"، وساقه القاضي الباقلاني في "الإعجاز"؛ وفي كل هذه الروايات الموثقة لم تأت الكلمة في قول عمر، بل لا محل لها في سياقه، وإنما جاء قوله: "فإن أحضر بينة أخذت له بحقه وإلا وجهت عليه القضاء، فإن ذلك أنفى للشك". أما سائر حجج الكاتب فلا وزن لها في باب الرواية التاريخية وقد أصبح عاليها سافلها كما رأيت. والذي أنا واثق منه أن الكلمة لم تعرف في العربية إلى أواخر القرن الثالث من الهجرة، وهذا الإمام الجاحظ يقول في موضع من كتابه "البيان والتبيين"، في شرح قول علي -كرم الله وجهه-: "بقية السيف أنمى عددًا وأكثر ولدًا، ما نصه: "ووجد الناس ذلك بالعيان للذي صار إليه ولده من نهك السيف وكثرة الذرءِ وكرم النجل؛ قال الله تبارك وتعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 179] وقال بعض الحكماء: "قتل البعض إحياء للجميع".

ولم يزد الجاحظ على هذا، ولو كانت الكلمة معروفة يومئذ لما فاتته كما هو صنيعه في كتبه*، خصوصًا وهي أوجز وأعذب مما نسبه لبعض الحكماء؛ وهذه العبارة الأخيرة "قتل البعض ... " هي التي زعم الرازي في تفسيره أنها للعرب ... فلا عبرة في هذا الباب بكلام المفسرين ولا المتأخرين من علماء البلاغة، وإنما الشأن للتحقيق التاريخي. ونص الجاحظ في كتاب "حجج النبوة" على أن قومًا منهم ابن أبي العوجاء، وإسحاق بن الموت، والنعمان بن المنذر: "أشباههم من الأرجاس الذين استبدلوا بالعز ذلًا، وبالإيمان كفرًا، وبالسعادة شقوة، وبالحجة شبهة، كانوا يصنعون الآثار، ويولدون الأخبار، ويبثونها في الأمصار، ويطعنون بها على القرآن"؛ فهذا عندنا من ذاك. وإن لم ينهض الدليل القاطع على أن الكلمة مترجمة عن الفارسية بظهور أصلها في تلك اللغة ورجوعه إلى ما قبل الإسلام، فهي -ولا ريب- مما وضع على طريقة ابن الرواندي الزنديق الملحد الذي كان في منتصف القرن الثالث وألف في الطعن على القرآن وقال في كتابه: "الزمردة": "إنا نجد في كلام أكثم بن صيفي شيئًا أحسن من {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} فكأن واضع الكلمة يقول على هذه الطريقة: "إنا نجد في كلام العرب شيئًا أبلغ من {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] . وهؤلاء المتطرفون على القرآن الكريم إنما يريدون ما يصنعونه من مثل هذه الكلمة أن يوجدوا للعامة وأشباههم من الأحداث والأغرار وأهل الزيغ والضعفاء في العلم -سبيلًا إلى القول في نقض الإعجاز، ومساغًا إلى التهمة في أن القرآن تنزيل؛ والخطأ في مثل هذا يتجاوز معنى الخطأ في البيان إلى معنى الكفر في الدين، وذلك ما يرمون إليه؛ وهذه بعينها

_ * أورد الجاحظ الآية الكريمة في الجزء الثاني من كتابه "الحيوان" صفحة 31 ثم قال: إلى هذا المعنى رجع قول الحكيم الأول: بعض القتل إحياء للجميع. وهذا إلى ما تقدم هو نص على أن الجاحظ لم يسمع هذه الكلمة ولم يعرفها، وقد توفي الجاحظ سنة 255 للهجرة، وألف كتاب "الحيوان" في آخر عمره، وهو مفلوج، فلم تكن الكلمة معروفة إلى ذلك العهد، لا في الرواية ولا في الترجمة، مع انتهاء زمن الرواية واستبحار الترجمة عن الفارسية.

هي طريقة المبشرين اليوم، فكأن إبليس من عهد أولئك الزنادقة إلى عهد المبشرين لم يستطع أن يتغير، ولا أن يكون ... أن يكون مجددًا ... تم الجزء الثالث من وحي القلم، وبه تم الكتاب

فهرس المحتويات

فهرس المحتويات: 3 السمو الروحي الأعظم والجمال الفني في البلاغة النبوية. 23 قرآن الفجر. 26 اللغة والدين والعادات باعتبارها من مقومات الاستقلال. 31 تجديد الإسلام رسالة الأزهر في القرن العشرين. 37 الأسد. 43 أمراء للبيع. 49 العجوزان "1". 55 العجوزان "2". 60 العجوزان "3". 65 العجوزان "4". 72 السطر الأخير من القصة. 79 عاصفة القدر. 89 القلب المسكين "1". 94 القلب المسكين "2". 99 القلب المسكين "3". 104 القلب المسكين "4". 108 القلب المسكين "5". 113 القلب المسكين "6". 118 القلب المسكين "7". 123 القلب المسكين "8". 131 القلب المسكين "تتمة". 136 انتصار الحب.

140 قنبلة بالبارود لا بالماء المقطر. 144 شيطان وشيطانة. 151 نهضة الأقطار العربية. 157 لا تجني الصحافة على الأدب ولكن على فنيته. 164 صعاليك الصحافة "1". 169 صعاليك الصحافة "2". 174 صعاليك الصحافة "3". 180 صعاليك الصحافة تتمة. 185 أبو حنيفة ولكن بغير فقه! 190 الأدب والأديب. 199 سر النبوغ في الأدب. 210 نقد الشعر وفلسفته. 221 فيلسوف وفلاسفة. 225 شيطاني وشيطان طاغور. 230 فلسفة القصة ولماذا لا أكتب فيها..؟ 232 شعر صبري. 243 حافظ إبراهيم. 256 كلمات عن حافظ. 264 شوقي. 280 بعد شوقي. 286 الشعر العربي في خمسين سنة. 297 صروف اللغوي. 306 الشيخ الخضري. 311 رأي جديد في كتب الأدب القديمة. 318 أمير الشعر في العصر القديم. 322 البؤساء. 325 الملاح التائه. 331 المقتطف والمتنبي.

334 محمد. 336 ديوان الأعشاب. 340 النجاح وكتاب سر النجاح. 343 أبو تمام الشاعر تحقيق مدة إقامته بمصر. 349 القديم والجديد. 354 المرأة والميراث. 358 كلمة مؤمنة في رد كلمة كافرة. 367 القتل أنفى للقتل ليست مترجمة. 369 القتل أنفى للقتل ليست جاهلية.

§1/1