وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية في كل عصر

صالح السدلان

جَمِيعُ الحُقُوقِ محْفوظَة للمؤلِّف الطبعَة الأولى 1417 هـ - 1997 م (ح) دَار بلنسية للنشر والتوزيع، 1417 هـ فهرسة مكتبة الْملك فَهد الوطنية أثْنَاء النشر السدلان، صَالح بن غَانِم وجوب تطبيق الشَّرِيعَة الإسلامية فِي كل عصر - الرياض. 361 ص؛ 17 × 24 سم ردمك: 5 - 53 - 743 - 9960 1 - الشَّرِيعَة الإسلامية 2 - الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة أ - العنوان ديوي 257 ... 2259/ 17 رقم الْإِيدَاع: 2259/ 17 ردمك: 5 - 53 - 743 - 9960 دَار بلنسية للنشر والتوزيع - المملكة الْعَرَبيَّة السعودية - الرياض ص. ب: 5742 - الرَّمْز البريدي: 11574 - هَاتِف وفاكس: 4821776 (01)

تمهيد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تمهيد الحمد لله الذي اختار لنا الِإسلام شرعة ومنهاجاً، وأنزل الفرقان هدى ورحمة وتفصيلاً، فأمر - سبحانه -فيه ونهى، ودعا فيه إلى الحق واجتناب الهوى، فقال - جل وعلا -: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)} (¬1). وأشهد أن لا إله إلَّا الله واحد في ربوبيته، وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وأمينه على وحيه القائل: (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بهِ) (¬2). اللهم صل وسلم على من بعثته رحمة للعالمين ورسولاً إلى الناس أجمعين وحجة على المخالفين والمعاندين وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 49. (¬2) شرح السنة للبغوي 1/ 213 ح رقم 104 قال محققاه عفا الله عنهما: إسناده ضعيف لضعف نُعيم بن حماد الخزاعي وبه أعلَّه الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" ص 338، وانظر: "ميزان الإعتدال للذهبي جـ 5/ 392".

أما بعد: فإن من نظر في حال أمتنا الِإسلامية اليوم وتأمل واقعها يجدها واقفة على مفترق الطرق، تقف وحدها ساكنة مترددة مرتبكة الخطوات تنطلق يمينًا تارة ثم تعود لتنطلق شمالاً تارة أخرى فكأنها في موقفها لا تتزحزح عنه قيد أنملة يتجاذبها بعضهم إلى اليمين وبعضهم إلى اليسار وهي بين هؤلاء وأولئك لا تستطيع أن تتحرك من مكانها المكبلة فيه ولا أن تنطلق في الطريق الصحيح الذي تألفه وتحسه وتعقله!!. ولا مراء في أنها قد ذاقت من الويلات ما ذاقت وحل بها ما حل من الأدواء والمصائب ما أثقل كاهلها وناءت به حين أعرضت عن شرع ربها -إلَّا من رحم الله- واتبعت غير سبيله فولاها الله ما تولت ووصلت إلى ما وصلت إليه!. نعم: إنها ضلت طريقها وتنكبت الجادة يوم أن طرحت الشرع السماوي جانبًا وذهبت لتبحث في الشرق والغرب عن تشريعات هي من صنع البشر ورضيت بأن تصاغ حياتها وفق أنماط متناقضة، وقوانين وضعية هي محض زبالة الأذهان وصرف حثالة الأفكار لفقها ورقعها من قوانين كثيرة ومذاهب شتى بعض البدعيين المنتسبين إلى الِإسلام، وجعلوا أحكامها ملزمة وموادها ضربة لازب وويل له ثم ويل له من خالفها أو تردد في التحاكم إليها!!. حقاً: إن كثيرًا من بلدان الِإسلام التي لا تحتكم إلى شرع الله -تعالى- يقودها ساسة مغرورون متغطرسون وقادة خادعون مخدوعون وحكام مستبدون يضحكون بالشعوب ويضحكون من الشعوب لا يستهدفون

إلَّا مجداً زائفاً لأنفسهم يبنونه من جماجم الأمم وأشلاء الشعوب إنهم يجهلون أو يتجاهلون ما هم مطالبون به ويظن الواحد منهم أنه يعيش لنفسه ويتمتع بما شاء من متع الحياة ويقضي ما شاء الله أن يقضي على كرسي الحكم غير عابئ بما ألقي على عاتقه من أحمال ثقال ومسؤوليات جسام. ولو علم هذا المسكين وفكر فيما ينتظره غداً من سوء العاقبة والوعيد الشديد لتمنى أن لو لم يجلس على كرسي الحكم ساعة واحدة!!. لقد بلغ تحدي الحكام في أكثر البلاد الإِسلامية حداً لا يحتمل فمنهم من يرفض الإِسلام جهرة منادياً بالتبعية للشرق أو الغرب، ومنهم من استورد الأفكار والقوانين ولكنه رضي بأن يترك ركناً صغيراً للِإسلام مثل الأحوال الشخصية "مقننة" والحديث في الِإذاعة والتلفاز والصفحة الدينية يوم الجمعة في الجريدة ونحوها. ومنهم من ينص في دستور بلاده على أن دين الدولة هو الإسلام ثم يسير كل شيء ذو بال بعيداً عن الإِسلام. ومنهم من يعد ويمني ويبشر بالخير والأمل نحو تطبيق الشريعة الإِسلامية في عهده وعلى يده وتمضي الأيام والسنون وتقام المؤتمرات وتعقد الاجتماعات وتبرم الإتفاقيات والإتحادات ومجالس التعاون بين الدول ولكن حتى ذكر تحكيم الشريعة الإِسلامية لم يرد في جداول أعمالها وما يصدر عنها من نتائج وتوصيات مما يجعلنا نقول إن مشروعات تطبيق الشريعة الإِسلامية باتت نسياً منسياً في بعض البلاد الإِسلامية وفي بعضها الآخر محجوبة بستار كثيف من الأعذار الوهمية والحجج الواهية والتعللات الباردة الفارغة التي ما كان ينبغي أن تكون لو صح العزم وصدقت النوايا لتطبيق شرع الله تعالى!!.

ومن الحكام من لا ينقصهم حسن النية ولكن ينقصهم الوعي الشامل والإِدراك العميق والفهم الصحيح لميزات هذه الشريعة وخصائصها، فإن حسن النية لا يكفي ما لم تتم أعمال عظيمة وتبذل جهود جبارة، فمجرد الرغبة والتفاؤل والحماسة والأمل مقرونة بحسن النية لا يكفي ولا يحقق تطبيق الإِسلام عملياً. إننا لا ننكر أن الأمة الإِسلامية في هذا العصر بدأت تتطلع إلى الخروج من وهدتها والإرتفاع من سقطتها التي تردت فيها زمنًا طويلًا وخير برهان على هذا ما نشاهده من آثار مباركة للصحوة الإِسلامية الراشدة التي تبدو واضحة للعيان. وقد أحدثت هذه الدعوة المباركة ردود فعل إيجابية تمثلت في عقد المؤتمرات الإِسلامية حول تطبيق الشريعة الإِسلامية وإنشاء لجان ومحاولات للتطبيق لا يمكن اعتبارها شاملة. وأحدثت في نفس الوقت ردود فعل سلبية تمثلت في فئات معارضة لهذا الإتجاه وقفت بكل إصرار وتبجج تضع العقبات والعراقيل أمام تطبيق الشريعة الإِسلامية. من أجل هذا كتبت هذا الكتاب المتواضع أداء للواجب وبراءة للذمة ونصحًا وتنبيهًا وبيانًا لما يجب أن يكون فلعل الله أن ينفع به، فيجد آذنًا صاغية وقلوبًا واعية تدرك عظم المسؤولية وخطورة التساهل بتحكيم شرع الله في أرض الله، وبهذا أكون قد ساهمت بوصفي مسلمًا في وضع لبنة صغيرة في صرح ذلك البناء الإِسلامي الشامخ الذي لا يشيد إلَّا بجهود العاملين المخلصين من دعاة تطبيق الشريعة الإِسلامية.

ولما كان عبء التطبيق لشرع الله يقع على الحاكم والمحكوم. قمت في هذا الكتاب: ببيان مهمة الحاكم وواجباته ومسؤولياته كما قررتها الشريعة الإِسلامية. ثم بينت واجبات ومسؤوليات المحكومين. ثم رأيت أن مما يحمل على تطبيق الشريعة الإِسلامية ويعد دافعًا قويًا وعنصرًا فعالاً في تطبيقها الِإيمان بأسس هذه الشريعة وخصائصها، لأن الِإيمان بأنها من عند الله يوجب تحكيمها دون سواها والعلم بأسسها وخصائصها يجعلنا نوقن بصلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان. بعد ذلك: سجلت نظرتنا -نحن المسلمين- إلى هذه القوانين الوضعية التي نراها عاجزة عن تحقيق أهدافها وأنها مضادة ومحادة لشىريعة الله تعالى وأقمت الدليل على ذلك ثم بينت حكم الإِسلام فيمن حكم بغير ما أنزل الله ومتى يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفرًا بواحًا مخرجًا عن الملة؟ ومتى يكون كفرًا دون ذلك؟! ونقلت في هذا الشأن أقوال وفتاوى بعض علماء الأمة من القدامى والمحدثين وهي أقوال وفتاوى حرية بأن توضح المسألة وتزيل اللبس بحول الله وقوته وجعلتها في فصل كامل. ثم بينت أن الحكم بغير ما أنزل الله له آثار سيئة وعواقب وخيمة ونتائج سلبية وذلك في فصل عنونته "بالنتائج السلبية الضارة المترتبة على عدم تطبيق شرع الله -تعالى- ". ثم تساءلت لماذا آل أمر المسلمين إلى هذا الحد وما الذي أدى بهم

إلى هذا الطريق فوجدت لذلك أسبابًا وبواعث عدة خصصت لها فصلًا في هذا الكتاب وهو يضم خمسة مباحث، وفي المبحث الخامس منه: قمت بتعقب الشبهات والمزاعم التي أثارها أصحاب الأقلام المغرضة قديمًا وحديثاً حول تطبيق الشريعة الإِسلامية وفندتها بالحجة الواضحة والبرهان القوي حتى ينكشف أمرهم ويندحر باطلهم الذي روجوا له وأشاعوه بما يملكون من وسائل مختلفة. ثم خصصت فصلًا تحدثت فيه عن أهم الطرق والوسائل التي يستطيع الحكام المسلمون بواسطتها تنفيذ وتطبيق أحكام الشريعة الإِسلامية في كل جوانب الحياة إن حسنت نواياهم وخلصت أعمالهم وأحبوا أن يلقوا ربهم بوجه مشرق وصفحة بيضاء نقية. ثم يأتي بعد ذلك الفصل الأخير وهو بعنوان التدرج في تنفيذ وتطبيق أحكام الشريعة الإِسلامية. وختاماً: لابد أن نقرر حقيقة لا مراء فيها ألا وهي: أن تطبيق الشريعة الإِسلامية لا يعد نفلًا ولا تطوعًا ولا محض اختيار بل يعد واجبًا شرعيًا وتكليفًا حتميًا وقضية ملحة تستوجب التمحيص والدراسة والِإعداد والإستعداد. ولسوف نعجز عن تحقيق ما نصبو إليه ما زالت شرائع الإِسلام معطلة، وديار الإِسلام مستباحة وما دام الكثير من حكام البلاد المسلمة مُصرِّين على عزل الدين عن الحياة وإبعاد كل من يخدم الإِسلام أو يعمل لنصرة قضاياه. ولسوف نعجز عن تحقيق شيء ما لم تكن هذه الشريعة قائمة في حياة المسلمين قيامًا عمليًا يوجه سياستهم ويصرف جميع شؤونهم ويسيطر على

حياتهم سيطرة تامة تجعلهم منقادين لحكم الله ملتزمين بشرعه وقافين عند حدوده وهذا هو أساس فلاحنا وعنوان سعادتنا وسر عزنا ونصرنا ومصدر أمننا واستقرارنا. فعلى الأمة الإسلامية أن تصحو من غفلتها وأن تفيق من عميق سباتها وتتنبه إلى ما في شرع الله من كنوز وتعلم أن سر تخلفها وإذلال عدوها لها إنما هو تنكبها الطريق السليم وسيرها خلف الشعارات البراقة التي دسها عليها المغرضون الحاقدون؛ ليفرقوا كلمتها ويحطموا شكوتها .. ولكن أنى ذلك لهم وقد بدا نور الحق يبدد حجب الباطل {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. صَالِح بن غَانِم السّدلانْ غرة رجب الحرام 1409 هـ

المحتوى يشتمل هذا الكتاب على: مقدمة وسبعة فصول: * المقدمة: في بيان ما آل إليه أمر أمتنا الإِسلامية من جراء البعد عن شرع الله تعالى والدوافع لتأليف هذا الكتاب. * الفصل الأول: واجبات ومسؤوليات الشعوب المسلمة نحو الإِسلام. وفيه تمهيد ومبحثان: المبحث الأول: واجبات ومسؤوليات الحكام. المبحث الثاني: واجبات ومسؤوليات المحكومين. * الفصل الثاني: القواعد والأسس الملزم الإِيمان بها تطبيق الشريعة الإِسلامية. ويتضمن هذا الفصل تمهيدًا وسبعة مباحث: المبحث الأول: الإِيمان بالله تعالى. المبحث الثاني: الإِيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين.

المبحث الثالث: الإِيمان بعموم الشريعة الإِسلامية وشمولها وصلاحيتها لكل زمان ومكان. المبحث الرابع: الإيمان بكمال الشريعة الإِسلامية ومرزنتها وصلاحيتها للخلود إلى يوم القيامة. المبحث الخامس: الإِيمان بأن الشريعة الإسلامية ناسخة لجميع الشرائع السابقة. المبحث السادس: الإِيمان بيسر الشريعة الإِسلامية وسماحتها ووفائها بحاجات البشر في كل زمان ومكان. ويشتمل هذا المبحث على ستة مطالب: المطلب الأول: النصوص التي تؤكد يسر الشريعة وسماحتها: (أ) النصوص من القرآن الكريم. (ب) النصوص من السنة النبوية. المطلب الثاني: ما ثبت من مشروعية الرخص وهو أمر مقطوع به ومعلوم من الدين بالضرورة. المطلب الثالث: التكليف بما في الطاقة والوسع. المطلب الرابع: إجراء الأحكام على وفق الظاهر. المطلب الخامس: الأخذ بالعرف. المطلب السادس: من الأحكام المبنية على العرف: تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأعراف. المبحث السابع: الإِيمان بالأسس التي قام عليها التشريع الإِسلامي في الحكم. ويتضمن ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: الشورى ومكانتها في سياسة وإدارة الدولة الإسلامية. المطلب الثاني: العدل أساس من أسس التشريع في الإسلام. المطلب الثالث: المساواة من الأصول العامة للتشريع في الإسلام. * الفصل الثالث: الحكم بغير ما أنزل الله. * الفصل الرابع: أسباب وبواعث عدم الحكم بما أنزل الله. وفيه تمهيد وخمسة مباحث: المبحث الأول: انعدام الإِيمان أو ضعفه. المبحث الثاني: مداهنة الكفار والركون إليهم. المبحث الثالث: الجهل باحكام الشريعة الإِسلامية. المبحث الرابع: التأثر بالشبه التي تثار حول تطبيق الشريعة الإسلامية وفقدان القدرة على مواجهتها وتفنيدها. المبحث الخامس: اتهام التشريع الإِسلامي بالجمود وعدم مسايرة التطورات والمتغيرات التي حدثت. * الفصل الخامس: النتائج السلبية المترتبة على عدم تطبيق شرع الله تعالى: 1 - التمهيد. 2 - النتائج السلبية في مجال العقيدة. 3 - النتائج السلبية في مجال العبادة. 4 - النتائج السلبية في مجال الحياة الإجتماعية.

5 - النتائج السلبية في مجال السياسة ونظام الحكم. 6 - النتائج السلبية في المجال الاقتصادي. 7 - النتائج السلبية في مجال العقوبات وتطبيق الحدود. * الفصل السادس: الطرق والوسائل التي يستطيع الحكام بواسطتها تطبيق الشريعة الإِسلامية في جميع جوانب الحياة. * الفصل السابع: التدرج في تطبيق وتنفيذ الشريعة الإِسلامية. وفي هذا الفصل تمهيد وأربعة مباحث: المبحث الأول: وجود الإيمان العميق والعقيدة الراسخة. المبحث الثاني: التدرج في الأخذ باحكام الشريعة الإِسلامية. المبحث الثالث: الثبات والصبر وعدم اليأس والقنوط. المبحث الرابع: كيفية تطبيق الأحكام الشرعية وتنفيذها عمليًا في العالم الإِسلامي. وفي هذا المبحث ثلاثة مطالب. المطلب الأول: حكومة إسلامية في دولة تدين بالإِسلام وتطبق شريعة الإِسلام. المطلب الثاني: حكومة منحرفة في أمة مسلمة. المطلب الثالث: أقليات إسلامية في أمة كافرة. * الفهارس. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الفصل الأول واجبات ومسؤوليات الشعوب المسلمة نحو الإسلام

الفصل الأول واجبات ومسؤوليات الشعوب المسلمة نحو الإِسلام ويشمل تمهيدًا ومبحثين: التمهيد. المبحث الأول: واجبات ومسؤوليات الحكام. المبحث الثاني: واجبات ومسؤوليات المحكومين.

تمهيد

تمهيد ثمة أمور ثلاثة يجب أن نعيها قبل أن نفصل واجبات ومسؤوليات كلًّا من الحاكم والمحكوم وهذه الأمور هي: ° الأمر الأول: فيما يتعلق بقصر عنوان هذا الفصل على واجبات ومسؤوليات الشعوب المسلمة والتي درجت النظم الحديثة على تسميتها بـ (الحقوق السياسية)، وقد آثرت تسميتها بواجبات لأنها -أي الحقوق- يغلب عليها عنصر التكليف والمسؤولية والإيجابية؛ ذلك لأنها كغيرها من الحقوق وسائل موجبة لخدمة الشريعة الإِسلامية ولذلك نسميها "واجبات لا حقوق" (¬1). ° الأمر الثاني: لسائل أن يقول: ما المقصود بالتعبير بالشعوب المسلمة وما فائدة وصفها بالمسلمة؟ وللإجابة عن هذا السؤال نقول: الشعوب: مفردها شعب: بفتح فسكون: الجماعة الكبيرة من الناس والتي تخضع لنظام اجتماعي واحد (¬2). ¬

_ (¬1) النظام الدستوري في الإِسلام. د. مصطفى كمال وصفي ص 76. (بتصرف) طبعة 1394 مطابع الأمانة بمصر. (¬2) المصطلحات العسكرية في القرآن الكريم تأليف اللواء محمود شيت خطاب 2/ 849 طبع دار الفتح بيروت 1386 هـ.

والشعب المسلم يضم القاعدة الشعبية على اتساعها وهي التي تضم كل أفراد الأمة الإِسلامية، ثم أن الأمة تفوض السلطة للِإمام [الحاكم] فيكون نائباً عنها في أعماله وهو بدوره يفوض عنه الوزراء أو الأمراء والولاة والقضاة ونحوهم وبذا تتكون الجماعة القيادية التي تباشر الممارسة الفعلية للحياة السياسية والدستورية (¬1) الإِسلامية وتسمى: " القوى الشعبية الإِسلامية ". ويمكن أن تسمى القاعدة الشعبية [المحكومون] والقوة الشعبية [الحكام]، وكل عليه واجبات ومسؤوليات يؤديها في ظل نظام معين تسير عليه الجماعة الإِسلامية طبقاً لقواعد موضوعية غرضها الأسمى خدمة الشريعة الإِسلامية. أما لماذا وصفت الشعوب بـ[المسلمة] بالذات والتحديد؛ لأن غير المسلمين الذين يقيمون إقامة دائمة في الدولة الإِسلامية فهم معاهدون بمعاهدة خاصة تسمى "عقد الذمة"، وهم وإن كانوا من رعايا الدولة الإِسلامية إلَّا أنهم ليسوا من الأمة الإِسلامية (¬2)، (¬3). ° الأمر الثالث: أنه قد ثار الجدل واحتدم النقاس في الآونة الأخيرة في البلاد التي لا تطبق شرع الله -تعالى- حول الِإجابة على سؤال يطرح نفسه وهو: من المسؤول عن عدم تطبيق الشريعة الإِسلامية في هاتيك البلاد؟ ¬

_ (¬1) الدستور: كلمة فارسية معناها: القاعدة التي يعمل بمقضاها وجمعها دساتير. المنجد في اللغة والأعلام ص 214. (¬2) بتصرف من: النظام الدستوري في الإِسلام لمصطفى كمال وصفي ص 66، 67. (¬3) سيجد القارئ تفصيلًا وافيًا في هذا الكتاب عن الأقليات المسلمة ما لها وما عليها في الدولة الإِسلامية ص 225.

- فمن قائل بأن الحكام وحدهم الذين نتوجه إليهم بهذه اللائمة. - ومن قائل لا: بل التبعة والمسؤولية على الذين يقومون بهذا التطبيق من قضاة وغيرهم من المسؤولين. - ومن قائل بأن الأمة كلها -من القاعدة إلى القمة- مسؤولة عن عدم تطبيق الشريعة الإِسلامية، وهذا هو عين الصواب ومنطق الحق في هذا الموضوع، فإن الإِسلام لابد له من أمة تحمله وسلطة تحميه وهما في كفة واحدة يقومان معاً على وجه التضامن والتكافل بمسؤولية واحدة وإعلاء كلمة واحدة مسؤولية إقامة شرع الله في أرض الله وإعلاء كلمة الله!! نعم: إن الحكام هم رمز الدولة وقمة السلطة ويستطيعون إذا وضعوا ثقلهم ونفوذهم وسلطتهم وراء مطلب تطبيق الشريعة الإِسلامية أن يفعلوا الكثير والكثير وبأسرع ما يظنه الكثيرون!!. وعلى كل فرد من الرعية أن يؤمن بهذه الغاية النبيلة وأن يجند نفسه لها؛ لهذا لابد من معرفة ما على الحاكم من واجبات ومسؤوليات نحو الأمة أفرادًا وجماعات وما له عليها من حقوق. وما على المحكوم من واجبات ومسؤوليات، وما له من حقوق في ظل شريعة عادلة يتحمل فيها كل إنسان مسؤوليته بما يتناسب ومكانته عملًا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالأمير الذي على الناس راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول

عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" (¬1). ونستطيع على ضوء النصوص الشرعية المتعددة وبعد الِإلمام بما قرره الفقهاء في هذا المجال وبتلمس الواقع العملي، والتطبيقي لمسلك الحكم الإِسلامي الأول في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين من بعده ومن جاء بعدهم من كل من وكل إليه من أمر المسلمين شيء من مسؤولية الحكم أو الولاية أو القيادة أو الرعاية أخذًا بمفهوم الحديث السابق: (ألا كلكم راع ...) الحديث. نستطيع الآن على ضوء ذلك أن نحدد واجبات ومسؤوليات الحاكم المسلم: فأقول: إن ولاية أمر المسلمين من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلَّا بها لأن ما أوجبه الله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصرة المظلوم وإقامة الحدود لا تتم إلَّا بالِإمارة بل أن الأحكام الأساسية التي يقوم عليها نظام الدولة من اجتماعية واقتصادية وسياسية، وسائر ما جاء به الدين الإِسلامي في أشد الحاجة إلى حاكم يدبر أمر الأمة فيها وينفذها ومن ثم كان تنصيب إمام عام وحاكم منفذ تسمع له الأمة وتطيع واجبًا شرعيًا يوجبه الدين لتجتمع كلمة الأمة وتنفذ أحكام الشريعة التي هي المنهج الإِلهي الذي تساس الأمة بأحكامه (¬2). ¬

_ (¬1) رواه مسلم في صحيحه 3/ 1459 كتاب الإمارة - باب 5 حديث رقم 1829، ط. 1400 هـ طبع ونشر الرئاسة العامة للبحوث العلمية السعودية. (¬2) انظر: موسوعة سماحة الإِسلام لعرجون 2/ 558، ط. الثانية 1404 طبع الدار السعودية للنشر والتوزيع.

يقول ابن تيمية - رحمه لله -: "ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين لا قيام للدين إلَّا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلَّا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولابد عند الإجتماع من رأس" (¬1). ويقول إمام الحرمين "الجويني" في وجوب نصب الإمام: (ولا يرتاب من معه مسكة من عقل أن الذب عن الحوزة والنضال دون حفظ البيضة محتوم شعرًا ولو ترك الناس فوضى لا يجمعهم على الحق جامع ولا يزعهم وازع ولا يردعهم عن اتباع خطوات الشيطان رادع، مع تفنن الآراء وتفرق الأهواء لانتثر النظام وهلك العظام ... وفشت الخصومات وتبددت الجماعات ... وما يزع الله بالسلطان، أكثر مما يزع بالقرآن) (¬2). • • • ¬

_ (¬1) السياسة الشرعية ص 169. طبع دار الكتاب العربي - لبنان. (¬2) انظر: غياث الأمم في الْتياث الظلم ص 23، 24، لإمام الحرمين الجويني. الطبعة الثانية 1401 هـ. مطابع نهضة مصر - القاهرة.

المبحث الأول واجبات ومسؤوليات الحكام

المبحث الأول واجبات ومسؤوليات الحكام قبل بيان الشروط الواجب توافرها في الحاكم المسلم وتوضيح واجباته ومسؤولياته نؤكد ضرورة قيام حكومة إسلامية: نعم: إن الحكومة الإِسلامية ضرورة من أجل حفظ العقيدة وصيانتها من عبث العابثين وخروج المارقين وحماية بيضة الإِسلام والذب عنها. والحكومة الإِسلامية ضرورة من أجل إقامة الشريعة الإِسلامية على أصولها المقررة وقواعدها المحررة ورد البدع والمبتدعين وإعلاء راية الدين ... وهذه الحكومة لابد لها من حاكم يدبر شؤونها ويصرف أمورها ... والحاكم المسلم ضرورة يوجب الإِسلام على الأمة إقامته، ليدفع عن الأمة عدوها ويحمي زمارها ويحافظ على أمنها ومقدساتها، ويسد الخلل الذي ينشأ عن اضطراب أمرها، ويقيم الحدود الزاجرة والتعزيرات الرادعة ليمنع أهل البطالة والفساد من العبث بحياة الآمنين ... إلى غير ذلك من الواجبات والمسؤوليات.

ولكن ... من هو الحاكم الذي يقوم بهذه الأمانة ويضطلع بهذه المهمة وما هي الشروط الواجب توافرها فيه حتى تطمئن الأمة إلى عدله وتعطيه من السمع والطاعة ما يكون جديرًا به في مكانه منها, وهذا ما نحن بصدد تفصيله. (1) الشروط الواجب توافرها في الحاكم المسلم: فنقول: إن طبيعة الحكم في الإِسلام تقوم على أن "الحاكم" إمامًا كان أو خليفة أو رئيسًا واحد من عامة الناس توافرت فيه شروط معينة تجعله أهلًا لهذا المنصب وكفوءًا لأن يتولى رعاية شؤون الأمة وحراسة دينها وإقامة حدود الله فيها. من هذه الشروط: بل من أولها: 1 - أن يكون مسلمًا لأن وظيفته نفسها تقتضي هذا، فمهمته إقامة شرع الله وتوجيه سياسة الدولة في حدود الإِسلام وما يستطيع أن يقوم بذلك على وجهه الصحيح إلَّا مسلم. قال -تعالى-: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ ...} (¬1) الآية. وقال -تعالى-: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)} (¬2). 2 - كما يشترط أن يكون مكلفًا أي بالغًا عاقلًا لأن الإمامة أو الحاكمية ولاية على الغير والصغير والمجنون والمعتوه لا ولاية لهم على أنفسهم فكيف على غيرهم؟! ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: آية 28. (¬2) سورة النساء: آية 141.

3 - أن يكون عالمًا بأحكام الإِسلام في العقيدة والعبادات والمعاملات وغيرها من أحكام الإِسلام ولا يكفي ذلك بل يجب أن يكون مثقفاً ثقافة عالية ملمًا بأطراف من علوم عصره، وأن يكون على علم بالتاريخ السياسي للدول وأخبارها وبالقوانين والأعراف الدولية والمعاهدات العامة والعلاقات السياسية. 4 - أن يكون عدلاً: والعدالة عند الفقهاء التحلي بالفرائض والفضائل والتخلي عن المعاصي والرذائل وعن كل ما يخل بالمروءة. 5 - أن يكون كفوءًا قادراً على قيادة الناس وتوجيههم (¬1). هذه هي أهم الشروط. وليس ثمة ما يمنع من اشتراط شروط أخرى إذا اقتضتها المصلحة العامة أو ظروف الحياة التي تتغير بمرور الزمن. كيف يتم اختيار الحاكم المسلم؟ "يتم اختيار الحاكم ببيعة حرة واختيار الشعب له، وهو ليس معصوماً من الخطأ ولا مفوضًا من الله أن يفعل ما يشاء، فمن حق الشعب أن يعزله إذا لم يقم بواجبه أو يفقد صلاحيته - فإذا اختير وبويع من قبل الشعب لزمته واجبات يسأل عن أدائها، ومسؤوليات لا حصر لها وله في الوقت نفسه حقوق على الأمة تظل قائمة بها ما قام بواجباته ولم يقصر في القيام على مسؤولياته (¬2). ¬

_ (¬1) انظر في هذه الشروط: الإِسلام لسعيد حوى 2/ 147، 148، طبعة أولى 1389 هـ، مطبعة دار الكتب بيروت. (¬2) انظر: في وجه المؤامرة على تطبيق الشريعة الإِسلامية ص 91 تأليف: مصطفى فرغلي الشقيري رقم 22182 مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإِسلامية.

(ب) واجبات الإمام [الحاكم] على ضوء ما قررته الشريعة الإِسلامية والنصوص الواردة في ذلك: إن واجبات الإمام كثيرة وهي على كثرتها تنحصر في واجبين اثنين: - أحدهما: إقامة الشريعة الإِسلامية. - والآخر: إدارة شؤون الدولة في حدود أحكام الشريعة الإِسلامية (¬1). يقول الماوردي -رَحِمَهُ اللهُ-: (الإِمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا) (¬2). ويقول ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ-: (ولاية الحكم استخلاف من الله لتطبيق شرع الله) (¬3). فالوظيفة الأساسية للحاكم المسلم هي إقامة حكم الله في الأرض، وذلك بالسهر على تطبيق وتنفيذ الشريعة الإِسلامية في مجالات الحياة الِإنسانية كافة ... هذا: وقد قررت الشريعة الإِسلامية مبدأ مسؤولية الحاكم المسلم عن أحوال رعيته في عدد كثير من النصوص: منها: قال -تعالى-: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ¬

_ (¬1) انظر: الإِسلام لسعيد حوى 4/ 161. (¬2) الأحكام السلطانية للماوردي الشافعي ص 5. طبع دار الكتب العلمية بيروت - لبنان. (¬3) السياسة الشرعية ص 5.

الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ...} (¬1) الآية. فالحاكم المسلم مطالب بأن يكون تصرفه لمصلحة رعيته فلا يتبع الهوى والتشهي إنما يتقيد بنصوص الشريعة وهدي السماء (¬2)!!. ويقول -تعالى-: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} (¬3). فالحاكم المسلم إنما هو خليفة الله في أرض الله ليطبق شريعة الله بين خلقه فإن فرط فهو عاجز وإن أفرط فهو مستبد. ويقول -تعالى-: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)} (¬4). فعلى الحاكم المسلم أن يدرك يقينًا أنه ليس مالكًا للدولة الإِسلامية يتصرف في تدبيرها وسياسة رعاياها كما يشاء هو وفقًا لهواه، وإنما الملك لله وحده وهو مستخلف في الأرض ليطبق شرع الله، ويسير على هديه. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آيتان 48، 49. (¬2) الإِسلام، لسعيد حوى 2/ 161. (¬3) سورة ص: آية 26. (¬4) سورة النساء: آية 105.

والتشريع ليس من حق فرد أو طبقة من الناس، أو الناس جميعًا؛ إنما هو من حق الله وحده بما أنزل من شريعة وفرض من أحكام. - قال -تعالى-: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (¬1). - وقال -تعالى-: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (¬2). - ويقول - سبحانه -: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (¬3). فالله - سبحانه وتعالى - لم يفوض إلى أحد من عباده لا إلى رسول ولا نبي ولا إمام ولا ولي ولا إلى غيرهم أن يشرع للناس من الأحكام ما يريد وأن يحكم بما يراه هو من عند نفسه وكيف اتفق (¬4). ألا فليعلم الحكام أن صلاحيتهم محددة بالحدود التي شرعها الله فلا يصح لهم أن يتعدوا حدود الله ويخالفوا أحكامه ويخرجوا على أوامره ونواهيه ويتمردوا على شرعه وليعلموا أن الحكم في الإِسلام ليس ترفًا ولا نعيمًا ولا تعظيمًا إنه مسؤوليات ثقال وتبعات جسام، وسهر وحذر وحرص على مصالح الرعية. نعم: الدنيوية والأخروية، المادية والروحية تلك المصالح التي جاءت ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: آية 54. (¬2) سورة يوسف: آية 40. (¬3) سورة النساء: آية 65. وانظر الملكية في الشريعة الإِسلامية 2/ 233. (¬4) انظر: الملكية في الشريعة الإِسلامية للعبادي 2/ 232. نقلاً عن الموسوعة الفقهية ص 16. طبعة أولى 1397 هـ مطابع وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية بالأردن.

الشريعة لِإقامتها في المجتمع الِإنساني {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} (¬1). (ج) إلحكم أمانة والنصوص الواردة في ذلك: نعم: إن الحكم أمانة ثقيلة ومسؤولية فادحة أمام الله -تعالى- ومن أوجب الأمانات أداء صاحب الولاية العامة أمانة ولايته لمن ولاه الله عليهم وفي مقدمتها العمل طبقًا لما جاء في كتاب الله -تعالى- وسنَة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. يقول أبو يوسف القاضي مخاطباً هارون الرشيد: (واعمل بما ترى أنه أصلح للمسلمين وأعم نفعاً لخاصتهم وعامتهم وأسلم لك في دينك وكل ما رأيت أن الله يصلح به أمر الرعية فافعله ولا تؤخره فإني أرجو لك بذلك أعظم الأجر وأفضل الثواب) (¬2) ... حقاً: إن أي تقصير أو خداع أو غش في أداء الحاكم لهذا الواجب العظيم يعتبر خيانة والله -تعالى- يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)} (¬3). ويقول - صلى الله عليه وسلم -: "ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلَّا حرم الله عليه الجنة" (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الحج: آية 41. (¬2) الخراج، لأبي يوسف ص 117، 118. وانظر: محاضرات في الثقافة الإِسلامية، لأحمد محمد جمال ص 181، 182 ومشكلات في طريق الحياة الإِسلامية للغزالي ص 74. (¬3) سورة الأنفال: آية 27. (¬4) صحيح مسلم 3/ 1460، كتاب الأمارة حديث رقم 142 - باب رقم 5.

ولمسلم عن معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلَّا لم يدخل معهم الجنة" (¬1). (فالحاكم مأمور من قبل الشارع أن يحوط الرعية بالنصح ومتوعد من قبله على ترك ذلك بأعظم وعيد والله أعلم) (¬2). ومن أقوال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (إن الراعي مسؤول عن رعيته، فلابد له أن يتعهد رعيته بكل ما ينفعهم الله به ويقربه إليه فإن من ابتلى بالرعية فقد ابتلى بأمر عظيم) (¬3). نعم: إن الحكم في الإِسلام ليس وجاهة ولا رفاهة وليس جنون العظمة عند محب السلطة وإنما هو حمل باهظ وهم بشؤون الأمة ثقيل، وعقد يتم بين الحاكم والمحكومين على أن تكون طاعة المحكومين له مشروطة بطاعته هو لله ورسوله، فإذا حاد عن طاعة الله وانحرف عن سمت العدل فلا سمع ولا طاعة له على الأمة: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} (¬4). {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)} (¬5) ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3/ 1460، كتاب الِإمارة - باب 5، طبع ونشر الرئاسة العامة للبحوث بالسعودية. (¬2) القواعد الفقهية، للندوي ص 283، طبع دار القلم، دمشق. (¬3) الخراج، لأبي يوسف ص 119. (¬4) سورة الكهف: آية 28. (¬5) سورة الشعراء: آيتان 151، 152.

(د) حدود طاعة الرعية للِإمام: قرر الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - هذا المعنى في عدد من أحاديثه - عليه الصلاة والسلام -. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" (¬1). وقد انعقد إجماع الأمة الإِسلامية على ألا طاعة لولي الأمر إلَّا في حدود ما أنزل الله وعلى أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وأن السلطة العامة مقيدة الولاية في الشريعة الإِسلامية ويترتب على ذلك أنه لابد أن يكون تصرف الحاكم منوط بمصلحة المحكومين وهذه قاعدة أصولية مقررة في الإِسلام نصت عليها كتب القواعد في الفقه وأصوله، ونصها: (هـ) (التصرف على الرعية منوط بالمصلحة) (¬2): فهذه قاعدة ذات شأن وأهمية قصوى في الفقه الإِسلامي وذات مساس بالسياسة الشرعية وتنظيم الدولة الإِسلامية، فإنها تحدد معالم السلوك للحكام والأئمة والولاة ومن دونهم في جميع التصرفات وتضع حدًا ووازعًا للحاكم في كافة تصرفاته (¬3). ¬

_ (¬1) بتصرف من: في وجه المؤامرة على تطبيق الشريعة الإِسلامية ص 91، مشكلات في طريق الحياة الإِسلامية، للغزالي ص 74، صحيح البخاري 8/ 155، 106، كتاب الأحكام - باب 4، طبع استانبول - تركيا. (¬2) درر الحكام شرح مجلة الأحكام العدلية، لعلي حيدر 1/ 51، مادة 58 طبع ونشر مكتبة النهضة، بغداد، وتوزيع دار العلم للملايين بيروت - لبنان. (¬3) القواعد الفقهية، للندوي ص 280، 365.

فإذا كان حديث: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسئؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ... الحديث" يوجب القيام بالمسؤولية فهذه المسؤولية تقتضي أداء الواجب مع النظر في المصلحة والتصرف في الأمر بالأمانة. وهذا ما سار عليه الخلفاء الراشدون في خطبهم عند توليهم أمر المسلمين وفي سلوكهم ... فهذا -على سبيل المثال لا الحصر -[أبو بكر - رضي الله عنه - في أول خطبة خطبها بعد بيعته بالخلافة يقول: (أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم .... أيها الناس إنما أنا متبع ولست بمبتدع فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوِّموني)] (¬1). (و) وجوب إزالة التناقض بين الإِسلام وتعطيل شرائعه: فعلى الحكام أن يزيلوا هذا التناقض الصارخ في حياتهم بين إيمانهم بالإسلام عقيدة وشريعة من عند الله وبين تجميدهم لأحكامه وتعطيلهم لحدوده وإغفالهم لتوجيهاته وآدابه واستيرادهم لمذاهمب وأنظمة وقوانين من هنا وهناك بديلًا عنه ثم بعد ذلك يزعمون أنهم مؤمنون ... {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} (¬2). أنَسِيَ هؤلاء الحكام أم تناسَوْا أنهم يعيشون في أوطان الإِسلام ويحكمون أناسًا مسلمين ومن حق كل قوم أن يُحكَموا وفقًا لعقيدتهم وأن تأتي أنظمة حياتهم عن معتقداتهم وقيمهم وأخلاقهم وتقاليدهم وأن يوضع كل شيء في الدولة في إطار الشريعة الإِسلامية وفي خدمة أهدافها ومبادئها ¬

_ (¬1) صفة الصفوة لإبن الجوزي 1/ 265، تحقيق محمود فاخوري، محمد رواس قلعجي، طبع الأصيل، حلب 1389 هـ. (¬2) سورة المائدة: آية 50.

أما أن يدَّعو الإِسلام ويرفضوا حكمه ويعرضوا عن قرآنه وسنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويتنكروا لشرائعه وشعائره فهذا ما لا يقبله عقل ولا يقره دين" (¬1). لقد آن للحكام أن يعلموا أنه لا خلاص لشعوبهم ولا استقرار لمجتمعاتهم إلَّا بالاسلام: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} (¬2). يقول ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ-: (إن جميع الولايات في الإِسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا، فإن الله - سبحانه وتعالى - إنما خلق الخلق لذلك وبه أنزل الكتب وبه أرسل الرسل وعليه جاهد الرسول والمؤمنون) (¬3). (ز) مهمة الحاكم مهمة شاملة: قلت: نعم: إن مهمتهم كما وضحها شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه الله - بقوله: (إن مهمة الحكام ليست مقصورة على حفظ الأمن والدفاع عن البلاد والقيام بمتطلبات المعيشة ورفع مستواها بين الناس - فحسب -كما تقرره المذاهب الفردية بل إن مهمتهم مهمة شاملة ووظيفتهم ذات طبيعة عامة تختلف عن كل ما عرف من وظائف قديمًا وحديثًا إنهم مكلفون بمهمة غالية أنيطت بوجودهم ومسؤولية كبرى لا يسعهم جهلها أو تجاهلها أو التفريط ¬

_ (¬1) بتصرف من: الصحوة الإِسلامية بين الجحود والتطرف، د. يوسف القرضاوي ص 132، 133، 134، طبعة أولى 1402 هـ، قطر. (¬2) سورة طه: آيتان 123، 124. (¬3) الحسبة في الإِسلام لشيخ الإِسلام ابن تيمية ص 4، طبع الدجوى بالقاهرة 1402، تحقيق ومراجعة وتعليق: محمد زهري النجار.

والتهاون فيها، ومن أوجب الواجبات وأول المهمات النصح لشعوبهم وهو ضرورة حتمية تمليها عليهم عقيدتهم ويحتمها عليهم إيمانهم بالله ورسوله وإلَّا فهم خائنون مفرطون. ألا وإن أعظم نصيحة يقدمونها لمحكوميهم إقامة شرع الله بينهم وتنفيذ أحكامه فيهم وحملهم على التكيف بروح الإِسلام وآدابه وتحقيق مبادئه تحقيقًا عمليًا في حياتهم وغرس حبه واحترامه في نفوسهم والضرب بيد من حديد على يد كل فاسد أو مأجور أو موتور تشتم منه رائحة التجهيز على هذا الدين أو الدفاع عن أي اتجاه يخالف هذا الإتجاه وبهذا يكون قد أدى أمانته وأرضى ربه ونصح لأمته ومكن لها من إقامة شرع الله الذي أنيطت به سعادتها وفلاحها في الدنيا والآخرة) (¬1). يقول أبو الأعلى المودودي -رَحِمَهُ اللهُ-: (ليست المهمة الحقيقية التي تتولاها الدولة الإِسلامية في الأرض أن تعمل على إقامة الأمن والدفاع عن حقوق البلاد أو رفع مستوى معيشة الأهالي فما هذا هو الغرض الأقصى والغاية العليا من وراء قيام الدولة الإِسلامية، فإن الميزة التي تميزها عن سائر الدول غير المسلمة هي أن تعمل على ترقية الحسنات التي يريد الإِسلام أن تتحلَّى بها الإِنسانية وتستنفد جهودها في استئصال السيئات التي يريد الإِسلام أن يطهر منها الإِنسانية) (¬2). ¬

_ (¬1) بتصرف من الكشاف الفريد عن معاول الهدم ونقائض التوحيد لخالد الحاج، تحقيق: عبد الله الأنصاري 2/ 492، 493، طبع دار إحياء التراث الإِسلامي بقطر. (¬2) انظر: نظرية الإِسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور ص 277، 278.

(ح) ما يفرضه الإِسلام على الحاكم المسلم: إن الإِسلام يفرض على الحاكم المسلم أن يكون مسلمًا في نفسه عقيدة وعبادة وأخلاقاً، ويفرض عليه في الوقت نفسه أن يجهد ليكون المجتمع الذي يحكم 5 مسلمًا يتمثل الإِسلام عقيدة وأخلاقًا ويلتزمه فكرًا وسلوكاً ويطبقه شريعة ومنهاجاً، والإِسلام إذ يفرض عليه هذا العمل يجعل القيام به تكليفًا شرعيًا لا يجوز القعود عنه أو التهاون والتقصير فيه كما يجعل الإلتزام بأحكام هذه الشريعة الخالدة التزام حتمي لابد منه ولا خيار للحاكم أو المحكوم فيه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} (¬1). {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} (¬2). (ط) معنى الرد إلى الله ورسوله في الآية الكريمة: يقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في كتابه الذي وجهه لمالك بن الحارث "الأشتر النخعي" حين ولاه على مصر يقول: بعدما أمره بتقوى الله وإيثار طاعته واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلَّا باتباعها ولا يشقى إلَّا مع جحودها وإضاعتها ثم يأمره بعد ذلك أن يرد كل ما يشكل عليه من الخطوب إلى الله ورسوله فيقول: [واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب وما يشتبه عليك من الأمور فقد قال الله -تعالى- لقوم أحب إرشادهم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب: آية 36. (¬2) سورة النساء: آية 59.

وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ...} (¬1) الآية. فالرد إلى الله الأخذ بمحكم (¬2) كتابه، والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة" (¬3)]. ويقول ابن قيم الجوزية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (إن الناس أجمعوا على أن الرد إلى الله - سبحانه - هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الرد إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته) (¬4). وللبخاري في صحيحه عن الحسن بن علي - رضي الله عنه -: (أخذ الله على الحكام ألا يتبعوا الهوى ولا يخشون النالس ولا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً: ثم قرأ: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} (¬5). فعلى الحكام أن يتنبهوا إلى ثقل التبعة التي تنتظرهم وأن يكونوا أهلاً لما ألقي على عاتقهم من مسؤولية وما طرح على ظهورهم من أحمال ثقال. ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 59. (¬2) المحكم: النص الصريح - نهج البلاغة للشريف الرضي ص 526 هامش 1. (¬3) سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كلها جامعة ولكن رويت عنه سنن افترقت بها الآراء، والمطلوب منا أن نأخذ بما أجمع عليه لا ما اختلف في نسبته إليه - صلى الله عليه وسلم -. (نهج البلاغة، للشريف الرضي شرح الشيخ محمد عبده، وعبد العزيز سيد الأهل ص 526 طبع دار الأندلس بيروت 1382 هـ). (¬4) إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/ 50، طبعة أولى 1374 هـ مطابع السعادة بمصر. (¬5) صحيح البخاري كتاب الأحكام 8/ 110 - باب 16 طبع المكتب الإِسلامي باستانبول - تركيا.

المبحث الثاني واجبات ومسؤوليات المحكومين نحو تطبيق الشريعة الإسلامية

المبحث الثاني واجبات ومسؤوليات المحكومين نحو تطبيق الشريعة الإِسلامية تمهيد: إذا كان وجوب العمل بالشريعة الإِسلامية وجوباً حتمياً وتكليفاً شرعياً على الحاكم - فإنه من حيث مسؤوليته الحركية التنفيذية واجب جماعي على الأمة كلها من القاعدة إلى القمة عملاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ... الحديث) وبقوله - صلى الله عليه وسلم -كما جاء في الصحيح: "الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة، قالوا لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " (¬1). فهذان الحديثان دعامة كبرى في القيام بالواجبات والحقوق فهما يقرران المسؤولية الفردية والجماعية في النفوس والأعمال، وكما قررنا سابقاً (¬2) من أن الإِسلام لابد له من أمة تحمله وسلطة تحميه وهما عنصر واحد في كفة واحدة يتكاملان ويتآلفان في غاية واحدة ويعملان لهدف واحد ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 1/ 74 - باب 23 من كتاب الإِيمان رقم الحديث 55 طبع عام 1400 هـ توزيع ونشر الرئاسة العامة للإفتاء بالسعودية. (¬2) انظر: ص 21 من هذا الكتاب.

وهو تطبيق الشريعة الإِسلامية؛ وبذا يصبح المجتمع خلية حية نابضة كل فرد فيها يبني ويحرص على البناء وكل إنسان فيها يعطي ويتنافس في العطاء. (أ) تطبيق الشريعة الإِسلامية واجب جماعي على الأمة كلها: عرفنا واجبات ومسؤوليات الحاكم. إذن: فما هي واجبات ومسؤوليات المحكومين، والمحكومون هم المُعبَّر عنهم بالأمة أو الجماعة التي تحمل الإِسلام وتكون أداته في عملية التغيير. وتتكون هذه الأمة من: 1 - القاعدة الشعبية على اتساعها وهي التي تضم كل أفراد الأمة الإِسلامية. 2 - القوى الشعبية وهم في الجماعة الإِسلامية: الحزب العامل لخدمة الإِسلام ونصرة قضاياه وهم - باستثناء الحاكم - الوزراء والأمراء والولاة بدرجتهم وهم أهل الشورى والبيعة وبطانة السلطان الناصحون له من العلماء والحائزين لثقة الأمة، وهؤلاء هم مفتاح الحكم وضوابطه وصماماته وهم قلب الأمة إذا صلحوا صلح النظام كله وإذا فسدوا أو أعيقوا عن العمل فسد نظام الحكم وتحول (¬1). وأهم واجبات هؤلاء السهر على حفظ الشريعة الإِسلامية والقيام بها وتعليمها وإفشائها للناس علمًا وعملًا ونصرة الحاكم بتقديم النصح والمشورة له. يعينوه إذا أصاب ويبصرونه إذا ضل ويبذلون له النصيحة ظاهرًا وباطناً سرًّا وعلانية (¬2) ... ¬

_ (¬1) لم يستعمل في كتب الشريعة هذه التعبيرات وإنما نسوقها للقارئ للإِيضاح والتعريف فقط. (¬2) بتصرف من النظام الدستوري في الإِسلام، د. مصطفى كمال وصفي ص 66، 83، 84.

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يرضى لكم ثلاثًا ويكره لكم ثلاثاً: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولى الله أمركم ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال" (¬1). كما أن على الأمة كلها بذل الطاعة له ظاهرًا وباطناً في كل ما يأمر به أو ينهى عنه، قال -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ...} (¬2) الآية. قال أبو جعفر الطبري -رَحِمَهُ اللهُ- في تفسيره لهذه الآية: "واختلف أهل التأويل في "أولي الأمر" الذين أمر الله عباده بطاعتهم في هذه الآية ... وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هم الأمراء والولاة: لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان لله طاعة وللمسلمين مصلحة" (¬3). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم قال: "سيليكم بعدي ولاة فيليكم البر ببره والفاجر بفجوره فاسمعوا وأطيعوا في كل ما وافق الحق وصلوا وراءهم فإن أحسنوا فلكم ولهم وإن أساؤوا فلكم وعليهم" (¬4). ¬

_ (¬1) السنن الكبرى للبيهقي 8/ 163. طبع دار المعرفة، بيروت - لبنان. (¬2) سورة النساء: آية 59. (¬3) جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري، تحقيق محمود محمد شاكر -رَحِمَهُمَا اللهُ- 8/ 496، 502، طبع دار المعارف بمصر. (¬4) انظر: جامع البيان للطبري 8/ 502 قال المحقق: وهذا الحديث ضعيف جدًّا لم نجده إلَّا في هذا الموضع والله أعلم. انظر: المرجع السابق ص 502، هامش 3.

جاء في الأحكام السلطانية للماوردي: "أنه إذا تنصب الإمام فإنه على كافة الأمة تفويض الأمور إليه من غير افتيات عليه ولا معارضة ليقوم بما وكل إليه من وجوه المصالح". (ب) "السمع والطاعة للحاكم مقيد لا مطلق": ولكن متى يطاع الحاكم ويسمع له؟ وهل حقه في سمع الرعية له وطاعته مطلق أو مقيد؟ فنقول: يُطاع الحاكم ويُسمع له فيما كان فيه لله طاعة وللمسلمين مصلحة كما أوضح الطبري سابقاً؛ لأن وصف الولاية الموجب لطاعتهم إنما اكتسبوه من الشرع الإلهي من وجوب إقامة حاكم يصرف شؤون الأمة، ويقيم بينها معالم العدل والنصفة فهم مطاعون ما أقاموا شريعة ربهم "لما روى أحمد عن أم الحصين الأَحْمُسية قالت: سمعت الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول -في حجة الوداع -: "يا أيها الناس اتقوا الله وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدع فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ-" (¬1). فإذا انحرفوا عنه وحادوا عن طريقه عنادًا أو استضعافًا وتقليدًا لنظم أجنبية عن الإِسلام فلا طاعة لهم" (¬2). لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" (¬3). ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب ¬

_ (¬1) الفتح الرباني بترتيب مسند الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- للبنا الساعاتي 23/ 38، كتاب الخلافة والِإمارة حديث رقم 84. (¬2) انظر: موسوعة سماحة الإِسلام لعرجون 2/ 555. (¬3) صحيح البخاري 8/ 105، 106 كتاب الأحكام رقم 93 من صحيح البخاري.

أو كره إلَّا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" (¬1). وبهذا يعلم "أن حق الحاكم على الناس هو حق السمع والطاعة" ولكن هذا الحق ليس حقًا مطلقًا وإنما هو مقيد بقوله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} (¬2). (فالطاعة واجبة لأولي الأمر في حدود ما أنزل الله بدليل أن ما يتنازع فيه يرد إلى أمر الله ورسوله فمن أمر من الحكام بما يتفق مع ما أنزل الله فطاعته واجبة ومن أمر بخلاف ما أنزل الله وبما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلا سمع له ولا طاعة ... وهكذا قطع القرآن والسنَّة في أن طاعة أولي الأمر لا تجب إلَّا في طاعة الله وأن ليس لأحد أن يطيع فيما يخالف كتاب الله وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -) (¬3) (ج) متى تجب منابذة الحكام والخروج عليهم ومتى لا يجوز ذلك؟! لسائل أن يقول إذا أمرنا ألَّا نطيع الحكام فيما يخالف كتاب الله -تعالى- وسنَة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أفلا يحق لنا بناء على هذه النصوص أن ننابذ الحكام ونعلن الثورة عليهم خاصة وأن كثيرًا منهم يسير في واد غير وادي الإِسلام، يدعي الإِسلام ولا يعمل به. يقرأ القرآن ولا يطبق أحكامه يعترف بأن دين الدولة الرسمي هو الإِسلام ولكن لا يعطيه حقه في الحكم والتشريع والتوجيه؟ ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3/ 469 حديث رقم 1839. (¬2) سورة النساء: آية 59. (¬3) الإِسلام، لسعيد حوى 2/ 163.

أم ما هو واجب المحكومين إزاء هذا الصنف من الحكام؟ وللِإجابة على هذا السؤال ينبغي أن نفرق بين من يميل عن صراط الشريعة وعدلها بدافع من شهوة أو اتباع لهوى أو جهل أو غفلة أو تعليل بظرف من الظروف أو نحو ذلك. وبين من يجحدها منهم ولا يعترف بها ولا يقر بأن لها السيادة ومن حقها الحكم بل وينادي بفصل الدين عن الدولة وإبعاده عن الحكم والتشريع (¬1). فإذا كان الحاكم يعزف عن تطبيق شرع الله جهلاً به أو استضعافاً أو غفلة أو تعليلاً بظرف من الظروف فواجب الأمة -بل وواجب علمائها خاصة- نحو هذا الصِّنف من الحكام أن يناصحوه ويوقظوه من غفلته ويشعروه بعظم مسؤوليته وما تحمله من أعباء الأمة ومساعدته على ذلك بقدر الممكن. قال -تعالى-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (¬2) وأحق من أعين على ذلك ولاة الأمور، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قالوا: قلنا يا رسول الله: أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة لا ما أقاموا فيكم الصلاة إلَّا من وُلَّي عليه والٍ: فرآه يأتي شيئًا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من طاعة" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: حكم من تحاكم إلى غير ما أنزل الله ص 171: 201 من هذا الكتاب وقد أعددنا خلاصة جيدة في هذا الموضوع انظرها هناك. (¬2) سورة المائدة: آية 2. (¬3) صحيح مسلم 3/ 1482 من كتاب الإِمارة - باب 17 حديث رقم 1855.

"فمع ما نرى من تنبيهه - عليه الصلاة والسلام - إلى أنه لا طاعة من المحكوم للحاكم إلَّا في المعروف أي في غير معصية ولا منكر نلاحظ أيضًا في التوجيه النبوي السياسي تأكيدًا آخر على إلزام الأمة المسلمة بالصبر على ما ترا 5 من مكروه لا يصل إلى حد الكفر البواح وإسداء النصيحة إلى الحاكم ولفت نظره وفكره إلى ما ينبغي أن يكون وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر في الحدود الشرعية وعدم جواز الخروج عليه بالسلاح أو مخاشنته بل بدعوته بأرفق السبل ما دامت الشعائر مقامة والصلاة ينادى عليها في المساجد، ما لم يصل الأمر إلى الكفر الصريح والخروج السافر عن الإِسلام، روى البخاري في صحيحه (¬1) عن عبادة بن الصامت قال: "دعانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعناه فقال فيما أخذ علينا أن بايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ومسرنا ويسرنا وَأَثَرةٍ (¬2) علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلَّا أن تروا كفراً بواحًا (¬3) عندكم من الله فيه برهان". أما إذا كان الحاكم يعرض عن الحكم بما أنزل الله عنادًا واستكبارًا ولا يقر شرع الله ولا يعترف به أو يقر بعضه وينكر بعضه فيدعو إلى فصل الدين عن الدولة وإبعاده عن الحكم والتشريع، فواجب المحكومين مع هذا الصنف من الحكام أن ينكروا ذلك عليهم ويبينوا الحق لهم وينصحوهم ما استطاعوا فإن ثابوا إلى رشدهم وإلَّا فينبغي أن يقف المحكومون منهم موقفًا سلبيًا من ¬

_ (¬1) 8/ 87، 88 - باب 2 من كتاب الفتن (رقم 92). (¬2) الأثرة: بالفتح، أي إيثار الأمراء بحظوظهم واختصاصهم إياها بانفسهم "اللؤلؤ والمرجان" 2/ 483. (¬3) بواحًا: أي ظاهر باديًا "صحيح البخاري" المرجع السابق 8/ 87، 88 - باب 2 من كتاب الفتن.=

حيث المودة والمحبة والمخالطة والولاء ويقفون دائمًا في وجوههم عند كل انحراف بالإحتجاج والنصيحة والاعتراض، فإذا لم يمتثلوا واستعانوا بأهل الشر ووسائل الإِرهاب فإنه يجب على عامة المحكومين أن يقفوا منهم موقفاً متضامنًا يجاهدونهم ويعزلونهم ويستبدلون بهم. فإن فرطوا وسكتوا عما يرونه يخرج شيئًا فيشئًا من شرع الله ودينه فهم متحملون قسطهم من تبعات ذلك. يقول القرطبي نقلًا عن الإِمامِ ابنِ خُوَيْزِ مَنْدَادِ: "وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان لله فيه طاعة ولا تجب فيما فيه لله معصية، ولذلك قلنا: إن ولاة زماننا لا تجوز طاعتهم ولا معاونتهم ولا تعظيمهم ويجب الغزو معهم متى غزوا والحكمُ من قِبَلهم وتوليةُ الإمامة والحِسبة وإقامة ذلك على وجه الشريعة" (¬1). (د) معنى الإنتماء للإِسلام وما يقتضيه هذا الإنتماء: إذا تقرر ما سبق فعلى كل مسلم حاكمًا أو محكوماً - أن يعترف بانتمائه للإِسلام وما يقتضيه هذا الإنتماء من إلتزام وسلوك إذ الإِسلام ليس مجرد دعوى تُدَّعى ولا شعارًا يُرفع ولا مجردَ نص في الدستور على أن دين الدولة هو الإِسلام ثم تسير سفينة الحياة بعدها في خط يجافي الإِسلام. كما أن على كل مسلم أن يكون انتماءه للإِسلام ليس انتماءً بالوراثة أو انتماء بالهوية كما أنه ليس انتماء شكليًا يستغرق حياة المسلم في أوضاع من التعبدات البدعية والخرافات والخزعبلات تقام باسم الإِسلام والإِسلام منها براء. ¬

_ (¬1) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/ 259 طبع ونشر دار الكاتب العربي بمصر 1387 هـ، النظام الدستوري في الإِسلام، لوصفي ص 160، 161 ومحاضرات في الثقافة الإِسلامية أحمد محمد جمال ص 178.

كلَّا كلَّا: إنما الإنتماء للإِسلام يعني أن يطبق المسلم الإِسلام في بيته وأسرته ومجتمعه وأمته ودولته وفي كل الأصعدة، وعلى جميع المستويات وما دام قد رضي بالإِسلام دينًا وعقيدة فلابد أن يرضى به حكماً وتشريعاً ومنهاجًا في كل جوانب الحياة ولا يرضى به بديلًا أو عنه تحويلاً. يقول ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ-: " ... فالِإسلام مبني على أصلين: أن لا يعبد إلَّا الله وعبادته إنما هي بطاعته فيما شرع لا بالأهواء والبدع" (¬1). إنَّ الإِسلام لا ينتصر بالكلام والخطيب الرنانة ولا يعود إليه عزه ومجده بالأماني والأحلام والمظاهرات ورفع الشعارات والهتافات فكل ذلك طبل أجوف!! واستئناف حياة الإِسلامية صحيحة لا يمكن أن يتم بالقرارات الحكومية الآلية ولا بالانقلابات العسكرية الثورية ولا بالوعظ والإِرشاد وحده. كلَّا كلَّا: لن ينتصر الإِسلام إلَّا إذا عرف كل واحد منا واجبه فأداه كاملًا دون وكس أو شطط. ولن ينتصر الإِسلام إلَّا إذا فهم المسلمون رسمالتهم وعرفوها حق المعرفة كما فهمها وعرفها المسلمون الأوائل ومِنْ ثَمَّ فقد حُق لهم أن يسودوا العالم وأن يتزعموه بلا منازع وحق لهم أن يقتحموا الصعاب من أجل دينهم ويرفعوا رايته عالية خفاقة فوق ربوع الأرض من المحيط إلى الخليج. ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ابن تيمية 1/ 80 جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي، طبع ونشر الرئاسة العامة لأدارات البحوث العلمية والإِفتاء والدعوة والإِرشاد بالمملكة العربية السعودية.

فعلى حكومات الإِسلام يقع واجب حمل الإِسلام وواجب تعليم الناس له وتربية الأجيال عليه والتخطيط لمد رواقه والتنظيم لإِقامته والتنفيذ المتواصل لصالح سلطانه وعلى كل مسلم أن يؤدي دروه في ذلك (¬1). • • • ¬

_ (¬1) انظر: دروس في العمل الإِسلامي سعيد حوى ص 9 الطبعة الأولى 1401 هـ الناشر: مكتبة الرسالة الحديثة عمان - الأردن.

الفصل الثاني القواعد والأسس الملزم الإيمان بها تطبيق الشريعة الإسلامية

الفصل الثاني القواعد والأسس الملزم الإِيمان بها تطبيق الشريعة الإِسلامية ويتضمن هذا الفصل تمهيداً وسبعة مباحث: المبحث الأول: الإِيمان بالله -تعالى-. المبحث الثاني: الإِيمان برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين. المبحث الثالث: الإِيمان بعموم الشريعة الإِسلامية وشمولها وصلاحيتها لكل زمان ومكان. المبحث الرابع: الإِيمان بكمال الشريعة الإِسلامية ومرونتها وصلاحيتها للخلود إلى يوم القيامة. المبحث الخامس: الإِيمان بأن الشريعة الإِسلامية ناسخة لجميع الشرائع السابقة. المبحث السادس: الإِيمان بيسر الشريعة وسماحتها ووفائها بحاجات البشر في كل زمان ومكان. المبحث السابع: الإِيمان بالأسس التي قام عليها التشريع الإِسلامي في الحكم.

تمهيد

تمهيد إن مما يحمل على تطبيق الشريعة الإِسلامية -بل يعد دافعًا ومحركاً قويًا وعنصرًا فعالًا في تطبيقها- الإِيمان بخصائص هذه الشريعة سواء فيما يتعلق بالأصول والقواعد أم بالمبادئ والفضائل أم بالمناهج والوسائل أم بالأهداف والغايات بمعنى أن الإِيمان بالإِسلام يعني الإِيمان به عقيدة وشريعة ومنهج حياة. وأُسس هذه العقيدة وركيزتها الإِيمان بالله ولن يتحقق الإِيمان إلَّا إذا صدقه العمل، فإذا وقر في وجدان المسلم بل والأمة جميعها ظهرت آثاره وانبسطت شعابه في واقع الحياة، وطريق الإِيمان بالله هو هدى الله المنزل على عبده المرسل محمد بن عبد الله - صلوات الله وسلامه عليه - وبذل المسلم وسعه في طاعته واتباعه والعمل بشريعته هو عنوان السعادة في الدنيا والآخرة. ولن تُستكملَ مسيرة الإِيمان حتى يعتقد المسلم اعتقادًا لا يساوره فيه شك أن الشريعة التي جاء بها محمد بن عبد الله شريعة عامة خالدة صالحة للِإنسان في كل زمان ومكان وأنها دعوة الله للِإنسانية كلها ولسائر أجناس البشر لا فرق في ذلك بين أبيضهم وأسودهم أو بين غنيهم وفقيرهم ورئيسهم ومرؤوسهم والرجل والمرأة في دعوة الله سواء وخطاب الله موجه إلى الناس

كافة وأنها -أي الشريعة- نظم متكامل متسق ليس بها نقص يستدعي الِإكمال ولا قصور يستدعي الِإضافة ولا محلية ولا زمانية تستدعي التطوير أو التحوير، فأيما جانب من هذه الجوانب السابقة يحيد فيه المرء عن طاعة الله ويتولى فيها عن شريعته يعد نكثًا لعهد الإِيمان وفسقاً عن الدين وانحرافاً عن الصراط المستقيم. وكذا الإِيمان بالله ورسوله وشرعه يستوجب الإِيمان بأن الإِسلام هو آخر الشرائع السماوية إلى البشر وأن محمدًا خاتم النبيين وأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع السابقة وأن الأمة المسلمة قد اختارها الله من بين الأمم لتتلقى تراث الرسالة كله وتقوم على دين الله في الأرض. ومن آيات عمومها وخلودها وشمولها وصلاحيتها لكل زمان ومكان يسرها وسماحتها ومرونتها وتطورها وسعتها ووفائها بحاجات البشر في كل زمان ومكان، ومن مظاهر اليسر والسماحة في هذه الشريعة الغراء: مشروعية الرخص بعمومها والتكليف بما في الطاقة والوسع وإجراء الأحكام على وفق الظاهر والأخذ بالعرف وما ينبني عليه من تغير الفتوى بتغير الأحوال والأزمنة والأمكنة والأعراف. ولا يجوز في شريعة الإِسلام الأخذ بكل ما ذكر والِإيمان به من عقيدة وشريعة مع إغفال تلك الجوانب العملية التي إذا استقامت على قواعدها الأمة الإِسلامية انتظم أمرها والتأم شملها وتوحدت كلمتها وقويت شوكتها وأول هذه الجوانب العملية والدعامات التطبيقية في قواعد الشريعة الإِسلامية ومنهج الحكم الإِسلامي [الشورى] ثم تأتي بقية الجوانب والدعامات كالعدالة] [والمساواة] ... إلخ.

وإليك هذه القواعد والأسس مجملة في المباحث الآتية. أولاً: الإِيمان بالله -تعالى-. ثانياً: الإِيمان برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين. ثالثاً: الإِيمان بعموم الشريعة وشمولها وصلاحيتها لكل زمان ومكان. رابعاً: الإِيمان بكمال الشريعة ووفائها بحاجات البشر في كل زمان ومكان. خامساً: الإِيمان بأن الشريعة الإِسلامية خاتمة الشرائع وأنها ناسخة لكل الشرائع التي تقدمتها. سادساً: الإِيمان بيسر الشريعة وسماحتها ومرونتها واتساعها لحاجات البشر في كل عصر ومصر. سابعاً: الإِيمان بالقواعد والأسس التي قامت عليها الشريعة الإِسلامية كالشورى والعدالة والمساواة ... إلخ. وسنفصل فيما يلي كل مبحث من هذه المباحث على حدة.

المبحث الأول الإيمان بالله -تعالى-

المبحث الأول الإِيمان بالله -تعالى- إن الإِيمان بالله هو المحرك الأساسي والعنصر الفعال في امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه ومن ثَمَّ الاستجابة لتحكيم شرعه. ويعني الإِيمان بالله الإِيمان بأنه الرب الخالق الحكيم المدبر لهذا الكون كله. قال -تعالى-: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} (¬1). فلزام على البشر -كل البشر- أن يعلموا أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- خالق الخلق ومدبر شؤونهم وهو وحده أعلم بما يصلحهم وما يصلح لهم، فتجب طاعته ويتحتم التزام أمره والوقوف عند حدوده ويجب التحرر المطلق من كل عبودية للأوهام والأشخاص والنظم والأساطير والبدع والخرافات، والخروج عن دواعي النفس والهوى والدخول بالكلية تحت سلطان الله رب العالمين. والِإيمان بالله -تعالى- لا يتم إلَّا باستسلام الكيان الِإنساني كله قلباً ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: آية 54.

وعقلًا وسلوكًا لحكم الله وهيمنته على خلفه. قال -تعالى-: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} (¬1). ثم إن الإِيمان بالله عقيدة يختزنها الجنان وكلمة يرددها اللسان وعمل يصطبغ به السلوك الإنساني كله باتباع مرضاة الله -عَزَّ وَجَلَّ- والإمتثال لأوامره واجتناب نواهيه. والِإيمان بالله تعالى قوة عاصمة من الدنايا دافعة إلى المَكْرُمَاتِ، ومن ثَمَّ فإن الله -تعالى- عندما يدعو عباده إلى خير أو ينفرهم من شر يجعل ذلك مقتضى الإِيمان المستقر في قلوبهم وما أكثر ما ينادي الله عباده بوصف الإِيمان: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ثم يذكر -بعدُ- ما يكلفهم به: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ...} الآية (¬2) " (¬3). إن لكل شيء علامة تدل عليه ويعرف بها ومن علامات الإِيمان الصادق: أن يكون الله ورسوله أحب إلى الِإنسان من كل شيء. وأن يظهر ذلك في جميع تصرفاته فيصاحبه طاعة لله وطاعة رسوله وعمل بشرع الله الذي يحمله الرسول والاستجابة التامة لذلك ... قال -تعالى-: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: آيتان 162، 163. (¬2) سورة الأنفال: آية 24. (¬3) انظر: خلق المسلم، للغزالي - ص 9 - ط. التاسعة 1394 هـ - الدوحة - قطر. (¬4) سورة النور: آيتان 51، 52.

إذن .. فليس الإِيمان مجرد المعرفة فقط ولا المعرفة والإِقرار فقط بل المعرفة والإِقرار والإنقياد والتزام طاعة الله ودينه ظاهرًا وباطناً" (¬1). وليس حب الله دعوى باللسان ولا هيامًا بالوجدان إلَّا أن يصاحبه الإتباع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسير على طريقته والعمل بسنته ... قال -تعالى-: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} (¬2). قال الإمام ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ- في تفسيره لهذه الآية: هذه الآية الكريمة حاكمة على من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله كما ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" (¬3). وقال الحسن البصري وغيره من السلف: "زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية فقال -تعالى-: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ...} ثم قال -تعالى-: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا} الآية، أي تخالفوا عن أمره فإن الله لا يحب الكافرين فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله ويتقرب إليه حتى يتابع ¬

_ (¬1) انظر: زاد المعاد في هدى خير العباد للإِمام شمس الدين ابن قيم الجوزية 3/ 42. ط الثانية 1369 هـ مصطفى الحلبي وشركاه بمصر. (¬2) سورة آل عمران: الآيتان 31، 32. (¬3) صحيح مسلم 3/ 1344، حديث رقم 1718 كتاب 30 - باب 8.

الرسول النبي الأمي خاتم الرسل - صلوات الله وسلامه عليه - " (¬1). ويقول عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: (إن للإِيمان فرائض وشرائع وحدودًا وسننًا فمن استكملها استكمل الإِيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإِيمان) (¬2). نعم، "إن الإِيمان الحق عقيدةٌ ثابتة تنسب الخلق والأمر جميعًا إلى الله وحده، وعِلْم موحَّد يتسع لِأَبعاد الوجود غيبه وشهوده، ولأوامر الله في الطبيعة والشريعة ولمراحل الحياة أولها وآخرها وموقف في الحياة لا يختلف يتخذ المسلم لقاءه -تعالى- غاية مجردة وعبادته وسيلة مخلصة ويجعل هديه المنزل صراطًا إليه مستقيماً" (¬3). إن الإِيمان معنى يتخلل كل وجود المؤمن وينبغي أن يتمثل في كل لحظة ولمحة من حياته فالعقائد مرتبطة بالأعمال والأعمال مرتبطة بالمشاعر "النيات" وليس مؤمنًا من اعتقد أن التكاليف والعبادات والأوامر والنواهي ليس مطلوبًا منه أن يعمل بها وإنما يكفي التصديق بها فحسب، وليس مؤمنًا من فرق بين الصوم والصلاة والجهاد وسائر العبادات في لزومها وفرضيتها، أو جحد لزوم حد من الحدود وشأن من اعتقد ذلك شأن من كفر بالله رباً وبالِإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولًا ... قال -تعالى-: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا ¬

_ (¬1) انظر: تفسير ابن كثير 1/ 358. (تفسير القرآن العظيم، للإِمام الحافظ ابن كثير - الطبعة الثالثة 1375 هـ - مطبعة الاستقامة بالقاهرة ج. م. ع. (¬2) صحيح البخاري 1/ 8 - كتاب الإِيمان باب 1. (¬3) الإِيمان - أثره في حياة الانسان، د. حسن الترابي ص 279 - طبعة أولى 1394 هـ، دار القلم بالكويت.

وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} (¬1). وبعدُ: فكل من انحرف عن هذا الخط المستقيم وانخرط في سلك شهواته ونزواته فقد انحرف عن طريق الجادة وانصاع لأهوائه وأمانيه واستوحى منهما ضوابط سلوكه في حياته وعندها سيسقط في مهاوي الهلكة تمزقه الأهواء وتورثه الشهوات الحيرة والفزع والخلل والإضطراب، ويضل سعيه في الحياة الدنيا ويحشر يوم القيامة أعمى وبهذا يكون قد ظلم نفسه ولم يجن في الحياتين إلَّا الذل والشقاء والضياع والهوان. نسأل الله -تعالى- أن يرزقنا إيماناً صادقاً وأن يلهمنا عملاً صالحاً متقبلاً إنه ولي ذلك والقادر عليه. • • • ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 177، وانظر: خلق المسلم، للغزالي ص 9، 10.

المبحث الثاني الإيمان برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين

المبحث الثاني الإِيمان برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين لقد منَّ الله على عباده ورحمهم بإرسال رسله إليهم، حتى يكونوا على بينة من أمرهم، وحتى لا يقولوا ما ندري ما أراده الله منا، وما جاءنا من بشير ولا نذير، فقطع الله المعذرة وأقام الحجة بإرسال الرسل وإنزال الكتب، لبيان حكم الله -تعالى- فيما اختلف فيه خلق الله وإيضاح شرعه فيما جهلوه، وأمرهم بالتزام حكمه -تعالى- والوقوف عند حدوده والبعد عما يضرهم في العاجل والآجل .. قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)} (¬1). واختار الله -عَزَّ وَجَلَّ- رسله من بين خلقه ليكونوا نموذجاً للكمال وعنواناً للفضل وحملة لمشعل النور والضياء، وقادة لركب الحضارة الإِنسانية على مدى الأزمان والدهور واصطفاهم المولى -جلت حكمته- ليكونوا دعاة الحق وهداة الخلق فاختارهم من بين خلقه وصنعهم على عينه وشرفهم بأكمل الأوصاف، فجعلهم أئمة الدنيا والدين ورزقهم قوة العقل واليقين، ليكونوا وسطاء، بينه وبين خلقه: يبلغون أوامره ويحذرون من غضبه وعقابه ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 165.

ويرشدون إلى ما فيه سعادة البشر في الدنيا والآخرة .. قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)} (¬1). وكان ختام المسك محمد بن عبد الله - صلوات الله وسلامه عليه - أفضلهم وإمامهم وخاتمهم، آمن بما آمنوا به، ودعا إلس ما دعوا إليه .. قال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)} (¬2). فكان - صلوات ربي وسلامه عليه - أعلى ما يكون هداية وإرشاداً، وكان ما جاء به أسمى ما يكون تشريعاً وتبصيراً، ختم الله به الرسالة وأتم به النعمة وجعله للعالمين بشيرًا ونذيرًا وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً .. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)} (¬3). وجعل دينَه، دينَ القوة والرحمة، ودينَ الحياة، ودينَ الكفاح والجهاد ودينَ التمكين والعزة والنظافة والطهارة والِإخاء والمساواة والهناء والرخاء .. قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)} (¬4). قال ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ- في تفسير هذه الآية: (... فهذه الآية نص ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء: آية 73. (¬2) سورة الأحقاف: آية 9. (¬3) سورة الأحزاب: آيتان 45، 46. (¬4) سورة الأحزاب: آية 40.

في أنه لا نبي بعده وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى، لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة فكل رسول نبي ولا ينعكس، وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن حديث جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -) اهـ (¬1). أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كما هلك نبي خلفه نبي وأنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء فيكثرون قالوا فما تأمرنا قال فوا بيعة الأول فالأول أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم" (¬2). وأخرج الحاكم في مستدركه عن العرباض بن سارية قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إني عند الله في أول الكتاب لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بتأويل ذلك دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى قومه ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصورُ الشام" (¬3). وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن مَثَلي ومَثَلَ الأنبياء من قبلي كَمَثَلِ رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلَّا موضعَ لبنةٍ من زاوية فجعل الناسُ يطوفون به ويَعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة قال فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين" (¬4). ففي هذا الحديث وما سبقه إشارة إلى فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - سائر ¬

_ (¬1) تفسير القرآن العظيم لإبن كثير 3/ 493. (¬2) صحيح البخاري 4/ 143 - باب 50 كتاب 60. (¬3) المستدرك على الصحيحين، للحاكم النيسابوري 2/ 600. (¬4) صحيح البخاري 4/ 162، 163 كتاب 61 - باب 18.

النبيين وأن الله ختم به الأنبياء والمرسلين وأكمل به شرائع الدين وأن حملة الشرائع السماوية بناة بيت واحد يؤسس سابقهم لِلاحقهم ويشيد لاحقهم على أساس سابقهم، يصور ذلك [مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى ببتاً ... فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين] وهكذا كان - صلوات الله وسلامه عليه - برسالة الإِسلام اللبنة المتممة لهذا البناء الشامخ وكانت رسالته آخر لبنة وضعت فيه واحتاج إليها هذا البناء الشامخ من لدن آدم - عليه السلام - إلى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (فلابد في الإِيمان من أن تؤمن أن محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين لا نبي بعده. وأن الله أرسله إلى جميع الثقلين الجن والإِنسِ، فكل من لم يؤمن بما جاء به فليس بمؤمن فضلًا عن أن يكون من أولياء الله المتقين ومن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر ليس بمؤمن. كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)} (¬1). ومن الإِيمان به الإِيمان بأنه الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه، ووعده، ووعيده، وحلاله، وحرامه، فالحلال ما أحله الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فمن اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقاً إلى الله غير متابعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو من أولياء الشيطان) (¬2). ¬

_ (¬1) سورة النساء: آيات 155، 151، 152. (¬2) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- 11/ 175.

وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} (¬1). نعم: لقد أرسل الله رسوله محمداً ىظر للعالمين كافة ليأخذ بأيديهم إلى الهدى، وجاء مع محمد صلى الله عليه وسلم منهجاً يسعد البشرية كلها ويقودها إلى الكمال المقدر لها في هذه الحياة، ولقد جاءت هذه الرسالة كتاباً مفتوحًا شاملاً لأصول الحياة البشرية التي لا تتبدل مستعداً لتلبية الحاجات المتجددة التي يعلمها خالق البشر وهو أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير (¬2). فإذا كان القرآن الكريم روح الإِسلام ومادته وفي آياته المحكمات شرعت مبادئه وبسطت دعوته، فإن محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد اصطفاه ربه لإِبلاغ آياته وحمل رسالاته فكان - صلى الله عليه وسلم - قرآنًا حيًا يسعى بين الناس، وكان مثالًا صادقًا لما صوره القرآن من إيمان وإخبات وسعي وجهاد وفقه وبيان ... إلخ، فلا جرم إذن أن قوله وفعله وتقريره وأخلاقه وأوامره ونواهيه بل ونواحي حياته كلها تعد ركنًا في الدين وشريعة للمؤمنين، والمسلم مكلف باحترام سنته والعمل بها احترامه للقرآن والعمل به لأن أوامره - صلى الله عليه وسلم - ونواهيه لا تصدر عن نفسه بل عن توحيد ربه فطاعته - إذن - هي طاعة لله قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء: آية 107. (¬2) انظر: في ظلال القرآن، للسيد قطب 4/ 2401، طبعة عاشرة 1402 هـ، دار الشروق - القاهرة. (¬3) سورة النساء: آية 80.

وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ...} (¬1) الآية. وغير ذلك من الآيات الدالة على وجوب طاعة الرسول مقترنة بطاعة -رب العزة والجلال- في أكثر من أربعين موضعاً من القرآن الكريم. إذن: فماذا يجب علينا نحن المسلمين نحو من أرسله ربه رحمة للعالمين؟ يجدر بنا ونحن في هذا المقام أن ننقل لك ما قاله شيخ الإِسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-؛ ترغيبًا في اتباع الرسول وتحذيراً من مخالفته وعصيان أمره قال - رحمه الله تعالى -: (أما بعد: فإنه لا سعادة للعباد، ولا نجاة في المعاد إلَّا باتباع رسوله. قال تعالى: {... وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (¬2). فطاعة الله ورسوله قطب السعادة التي عليه تدور ومستقر النجاة الذي عنه لا تحور ... وقد ذكر الله طاعة الرسول واتباعه في نحو من أربعين موضعًا من القرآن الكريم، كقوله -تعالى-: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬3) ... وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، فجعل محبة العبد لربه موجبة لاتباع الرسول وجعل متابعة الرسول ¬

_ (¬1) سورة الحشر: آية 7. (¬2) سورة النساء: آيتان 13، 14. (¬3) سورة النساء: آية 80.

سبباً لمحبة الله عبده ... فبمحمد - صلى الله عليه وسلم - تبين الكفر من الإِيمان والربح من الخسران والهدي من الضلال والنجاة من الوبال والغي من الرشاد والزيغ من السداد، وأهل الجنة من أهل النار والمتقون من الفجار وإيثار سبيل من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من سبيل المغضوب عليهم والضالين، فالنفوس أحوج إلى معرفة ما جاء به واتباع 5 منها إلى الطعام والشراب فإن هذا إذا فات حصل الموت في الدنيا، وذاك إذا فات حصل العذاب -في الآخرة- فحق على كل أحد بذْلَ جهده واستطاعته في معرفة ما جاء به وطاعته إذ هذا هو طريق النجاة من العذاب الأليم، والسعادة في دار النعيم) (¬1). نعم: إن من الأسس التي يقوم عليها التحاكم إلى شرع الله في الأرض أن يبذل المسلم وسعه في معرفة ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - والعمل به وتقديمه على غيره ورد كل ما سواه. قال الإمام الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحل له أن يدعها لقول أحد) (¬2). وقال ابن عبد البر وابن تيمية -رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى-: (لا قول لأحد مع قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صح الخبر عنه - صلى الله عليه وسلم - وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق بالأخذ والعمل بها وهذا شأن كل مسلم) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- 1/ 4، 5، 6. (¬2) هدية السلطان إلى مسلمي بلاد جامان - محمد سلطان المعصومي المكي ص 20، 21 طبعة أولى 1368 هـ، مطابع الحلبي - مصر. (¬3) هدية السلطان إلى مسلمي بلاد جامان ص 20، 21.

ومن هنا [تتبين مكانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدين ومنزلته بين المرسلين وعظم ما جاء به عن رب العالمين، فطاعته والإنقياد لما جاء به حتم على جميع العالمين بل على الثقلين الجن والِإنس أجمعين. والمسلم حقاً: هو الذي يقتفي أثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويمتثل أمره ويجتنب نهيه ويهتدي بسنته. {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} (¬1)]. إذا تقرر هذا، [فإن محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليس قصة تتلى في يوم ميلاده كما يفعله كثير من الناس في أيامنا هذه -إلَّا من رحم ربك- وليس التنويه به يكون في الصلوات المخترعة التي تضم إلى ألفاظ الآذان في كثير من بقاع الأرض، ولا إِكنان حبه يكون بتأليف مدائح وقصائد يتلوها العاشقون ويتأوهون ويتوجعون، وهم عن شرعه واتباع أمره لناكبون. كلَّا كلَّا: إن رباط المسلم برسوله - صلى الله عليه وسلم - أقوى وأعمق من هذه الروابط المكذوبة الملفقة على الدين، إنه رباط ينهض المرء فيه إلى تقويم نفسه وإصلاح شأنه حتى يكون على هدي من سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - في معاشه ومعاده وحربه وسلمه وعلمه وعمله وعاداته وعباداته، (¬2). • • • ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: آية 101. (¬2) انظر: فقه السيرة، للغزالي ص 5، مطابع علي بن علي، الدوحة - قطر.

المبحث الثالث الإيمان بعموم الشريعة الإسلامية وشمولها وصلاحيتها لكل زمان ومكان

المبحث الثالث الإِيمان بعموم الشريعة الإِسلامية وشمولها وصلاحيتها لكل زمان ومكان إن التشريع الإِسلامي تشريع محكم وعام وخالد أتى بالمبادئ التشريعية والخلقية التي تسمو بالِإنسان إلى أعلى درجات الكمال، جاء من عند الله عامًا لكل أجناس البشر جنهم وأنسهم، لا يختص بقوم دون قوم أو جيل دون جيل، موجه إلى الناس كافة، باعتبار إنسانيتهم التي ميزتهم عن سائر الحيوان: يحقق مصالحهم في كل عصر ومصر، ويفي بحاجتهم ولا يضيق بها ولا يتخلف عن أي مستوى عال يبلغه أي مجتمع من المجتمعات، ومع عمومية التشريع الإِسلامي فإنه شامل كذلك لكل جوانب الحياة ومناحي الِإجتماع، لم يترك شاردة ولا واردة إلَّا ذكر فيها خبرًا أو شملها حكماً أو أدرجها تحت أصل أو قاعدة فالشريعة الإِسلامية. منذ نشأتها الأولى كذلك رسالة للعالمين طبيعتها طبيعة عالمية شاملة ووسائلها وسائل إنسانية كاملة، وغايتها نقل هذه البشرية كلها من عهد إلى عهد ومن نهج إلى نهج عن طريق مصدرين أساسيين هما: القرآن الكريم وسنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد تضافرت النصوص على تأكيد عمومها وشمولها، فالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الدالة على ذلك كثيرة منها:

قال -تعالى-: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (¬1). حقًا "إنها الرسالة الأخيرة فهي الرسالة الشاملة لا تختص بقوم ولا أرض ولا جيل، ولقد كانت الرسالات قبلها رسالات محلية، قومية، محدودة بفترة من الزمان - ما بين عهدي رسولين -، وكانت البشرية تخطو على هدي هذه الرسالات خطوات محدودة تأهيلاً للرسالة الأخيرة، وكانت كل رسالة تتضمن تعديلًا وتحويراً في الشريعة يناسب تدرج البشرية حتى إذا جاءت الرسالة الأخيرة جاءت شاملة كاملة في أصولها قابلة للتطبيق المتجدد في فروعها وجاءت للبشر جميعاً، لأنه ليس هنالك رسالات بعدها للأقوام والأجيال في كل مكان" (¬2). نعم: لقد وسعت الشريعة الإِسلامية بمبادئها وأحكامها الفرعية جميع شؤون الحياة واستوعبت حاجات الإنسان كافة ووفقت بين مقاصده جميعاً، وبينت تحديد الغاية من خلقه ... قال -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} (¬3). وقال -تعالى-: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)} (¬4). وتناولت بيان وظيفته في الحياة ومركزه في هذا الكون الفسيح قال -تعالى-: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: آية 158. (¬2) في ظلال القرآن للشيخ سيد قطب 3/ 1379. (¬3) سورة الذاريات: آية 56. (¬4) سورة الزمر: آيتان 11، 12.

مُجِيبٌ (61)} (¬1). وقال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} (¬2). ونظمت علاقة الإِنسان بربه وصلته بإخوانه والمجتمع الذي يعيش فيه، وحددت الحقوق والواجبات، ووضعت أصولًا لفض المنازعات وإيصال كل ذي حق حقه وأرست قواعد العدل بين الناس في كل جانب من جوانب حياتهم ونشاطاتهم وأعمالهم، فهي عامة في جميع المكلفين وجارية على مختلفات أحوالهم وإليها يرد كل أمر جاءنا ظاهرًا أو باطنًا ولا نبالغ إذا قلنا: إن الشريعة الإِسلامية تعد منهج حياة في جمع بين الدنيا والدين والعمل والعبادة وبين الظاهر والباطن فضمن بذلك للإِنسان خيرى الدنيا والآخرة. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "فإنه قد علم بالإضطرار من دين الإِسلام: أن رسالة محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - لجميع الناس: عربهم وعجمهم، وملوكهم وزهادهم وعلمائهم وعامتهم وأنها باقية دائمة إلى يوم القيامة، بل عامة للثقلين الجن والإنس، وأنه ليس لأحد من الخلائق الخروج عن متابعته وطاعته وملازمة ما يشرعه لأمته من الدين. وما سنَّه لهم من فعل المأمورات وترك المحظورات بل لو كان الأنبياء المتقدمون قبله أحياء لوجب عليهم متابعته ومطاوعته" (¬3). إن القرآن الكريم يحكي رسالات الأنبياء السابقين بعنوان القومية ¬

_ (¬1) سورة هود: آية 61. (¬2) سورة الملك: آية 15. (¬3) فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية 11/ 422، 423.

الخاصة ... قال -تعالى-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (¬1). وقال -تعالى-: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (¬2). وقال -تعالى-: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (¬3). وقال -تعالى-: ({وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} (¬4). وقال -تعالى-: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (¬5). وقال -تعالى-: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} (¬6) ويقول -تعالى- في عيسى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} (¬7). ولكن رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - يعلن عالمية دعوته ونبوته للعالمين وختمه للنبيين ... قال -تعالى-: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} (¬8). ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: آية 59. (¬2) سورة الأعراف: آية 65. (¬3) سورة الأعراف: آية 73. (¬4) سورة الأعراف: آية 85. (¬5) سورة الأعراف: آية 85. (¬6) سورة الأعراف: آية 153. (¬7) سورة آل عمران: آية 49. (¬8) سورة الفرقان: آية 1.

وقال -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} (¬1). ففي ذلك دليل على إثبات عالمية هذه الرسالة منذ أيامها الأولى لا كما يدعي بعض المؤرخين غير المسلمين أن الدعوة الإِسلامية نشأت محلية ثم طمحت بعد اتساع رقعة الفتوحات الإِسلامية أن تكون عالمية، كلا: إنها عالمية منذ نشأتها الأولى، رسالة عامة موجهة إلى جميع الناس مهما اختلفت ألسنتهم وألوانهم وأجناسهم في كل زمان وفي كل مكان ابتداء من بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ويقوم الناس لرب العالمين. قال -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)} (¬2). ومن الأحاديث الدالة على عموم بعثته - صلى الله عليه وسلم -: ما رواه البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" (¬3). وما رواة الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي ... " الحديث (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء: آية 17. (¬2) سورة سبأ: آية 28. (¬3) صحيح البخاري، كتاب التيمم - باب 1، 1/ 86. (¬4) مسند الإمام أحمد 3/ 267.

وروى - مسلم في صحيحه: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً وسجوداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون) (¬1). ولمسلم أيضاً عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود وأحلت لي الغنائم ... " الحديث (¬2). ولأحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: بعثت إلى الأحمر والأسود وكان النبي إنما يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ... " الحديث (¬3). ولأحمد أيضاً عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعطيت خمساً: بعثت إلى الأحمر والأسود ... " الحديث (¬4). وغير ذلك من الأحاديث الدالة على عموم رسالته - صلى الله عليه وسلم -. وبعدُ: فإن شرع الله الذي حواه كتابه وبينه رسوله - صلى الله عليه وسلم - هديا جامعاً ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 1/ 371، كتاب المساجد ومواضع الصلاة حديث رقم 523. (¬2) صحيح مسلم 1/ 370، حديث 521 كتاب المساجد. (¬3) مسند الإمام أحمد 3/ 3546. (¬4) مسند الإمام أحمد 4/ 416 قال الهيثمي رواه أحمد متصلًا ومرسلًا ورجاله رجال الصحيح ورواه الطبراني أيضًا. انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي 8/ 258.

يفصل كل قضية ويبين كل شيء. قال -تعالى-: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} (¬1). ويحقق العدل المطلق في حياة البشر: قال -تعالى-: {... وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} (¬2). ويشمل الوجود كله والحياة بعقيدة كلية تنبثق عنها مبادئ الشريعة وأحكامها الفرعية فتعم الحياة بمنطق عملي واحد، أفبعد هذا البيان الواضح والبرهان الدامغ يليق بمسلم كائنًا من كان أن يحيد عن الجادة ويتبع غير ما جاء به خاتم الأنبياء والمرسلين؟؟! إنني أعيد على مسامعك ما قاله الإمام الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ-: "أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يَحِل له أن يدعها لقول أحد". • • • ¬

_ (¬1) سورة النحل: آية 89. (¬2) سورة المائدة: آية 50.

المبحث الرابع الإيمان بكمال الشريعة الإسلامية ومرونتها وصلاحها للخلود إلى يوم القيامة

المبحث الرابع الإِيمان بكمال الشريعة الإِسلامية ومرونتها وصلاحها للخلود إلى يوم القيامة إن شريعة الله -تعالى- تمثل منهجاً متكاملاً شاملاً لشعب الحياة الإِنسانية كلها في العقيدة والعبادة والسياسة والسلوك وحتى أمور الغيب ومشاهد القيامة وأحوالها والتطبيق العملي لأحكامها والإلتزام بما جاءت به والوقوف على حدودها وامتثال أوامرها واجتناب نواهيها هو المحور المحرك لعوامل النصر والثبات والسعادة والإستقرار. وأحكام الشريعة نظم متكامل متسق، لا يعتوره التخليط أو التناقض بل يشتمل على مصالح كلية في الجملة وعلى مصلحة جزئية في كل مسألة على وجه الخصوص ولا مكان لعنصر ناشز غريب فيه من ابتداع أهواء البشر، بل خطة ثابتة أبدًا يعتنقها المرء على وجه القطع لا التجريب، ويتخذها منهجاً دائمًا لا تدبيرًا مؤقتاً لبعض مراحل حياته أو ظروفها. أما المصالح الكلية فهي أن يكون كل مكلف تحت قاعدة معينة من تكاليف الشرع في جميع حركاته وأقواله واعتقاداته، إذ ليس الإِنسان كالبهيمة المسيبة تعمل بهواها بل هو مكلف يرتاض بلجام الشرع، فإذا سار المكلف

تبعًا لهواه فقد خلع ربقة التقوى من عنقه وتمادى في متابعة هواه، ونقض ما أبرمه الشارع وأخر ما قدمه وقدم ما أخره. وأما المصلحة الجزئية فما يعرب عنها كل دليل لحكم في خاصته. وقد توافرت نصوص كثيرة من القرآن والسنَّة لتدل على وحدة الشريعة ووحدة العقيدة وأنها السبيل القاصد إلى الله رب العالمين، وكل سبيل غيره جائر. قال -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬1). قال في الظلال: (فأعلن لهم إكمال العقيدة وإكمال الشريعة معًا ... فهذا هو الدين، ولم يعد للمؤمن أن يتصور أن بهذا الدين نقصًا يستدعي الِإكمال، ولا قصورًا يستدعي الِإضافة، ولا محلية أو زمانية تستدعي التطوير أو التحوير ... وإلَّا فما هو بمؤمن، وما هو مقر بصدق الله، وما هو بمرتض ما ارتضاه الله للمؤمنين ... إن الأحكام التفصيلية جاءت لتبقى كما هي والمبادئ الكلية جاءت لتكون هي الإِطار الذي تنموفي داخله الحياة البشرية إلى آخر الزمان، دون أن تخرج عليه، إلَّا أن تخرج من إطار الإيمان ... إن إرتضاء الله الإِسلام دينًا لهذه الأمة، ليقتضي منها ابتداء أن تدرك قيمة هذا الإختيار. ثم تحرص على الاستقامة على هذا الدين جهد ما في الطاقة من وسع واقتدار ... وإلَّا فما أنكد وما أحمق من يهمل -بَلْهَ أن يرفض- ما رضيه الله له، ليختار لنفسه غير ما اختاره الله! .. وإنها -إذن- لجريمة نكدة لا تذهب بغير جزاء، ولا يترك صاحبها يمضي ناجيًا أبدًا وقد رفض ما ارتضاه له الله ... ولقد يترك الله الذين لم يتخذوا الإِسلام دينًا لهم، يرتكبون ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 3.

ويمهلهم إلى حين ... فأما الذين عرفوا هذا الدين ثم تركوه أو رفضوه واتخذوا لأنفسهم مناهج في الحياة غير الذي ارتضاه لهم الله ... فهم بهذا معرضون أنفسهم للعقاب والعذاب الشديد إن لم يتوبوا إلى الله ويرجعوا إلى شرعه ودينه) (¬1) ويقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رَحِمَهُ اللهُ-: في قوله -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، أي: (بتمام النصر، وتكميل الشرائع الظاهرة والباطنة، والأصول والفروع، ولهذا كان الكتاب والسنَّة كافيين كل الكفاية في أحكام الدين وأصوله وفروعه، فكل متكلف يزعم أنه لابد للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم إلى علوم، غير علم الكتاب والسنَّة من علم الكلام وغيره فهو جاهل مبطل في دعواه، قد زعم أن الدين لا يكمل إلَّا بما قاله ودعا إليه) (¬2). وقال جلت حكمته: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)} (¬3). ويقول شيخ الإِسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ-، في تفسير قول الله ¬

_ (¬1) بتصرف من في ظلال القرآن الكريم، للسيد قطب 2/ 843، 846. (¬2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ عبد الرحمن بن سعدي 2/ 242 - مطابع الدجوي بالقاهرة. (¬3) سورة المائدة: آية 48.

-تعالى-: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ...} قال: (إن القرآن الكريم قرر ما في الكتب المتقدمة من الخبر عن الله، وعن اليوم الآخر، وزاد ذلك بيانًا وتفصيلًا، وبين الأدلة والبراهين عن ذلك وقرر نبوة الأنبياء كلهم ورسالة المرسلين، وقرر الشرائع الكلية التي بعث بها الرسل كلهم ... ومن تأمل ما تكلم به الأولون والآخرون في أصول الدين والعلوم الِإلهية وأمور المعاد، والنبوات، والأخلاق والسياسات والعبادات، وسائر ما فيه كمال النفوس وصلاحها وسعادتها ونجاتها لم يجد عند الأولين والآخرين من أهل النبوات، ومن أهل الرأي كالمتفلسفة وغيرهم إلَّا بعض ما جاء به القرآن ... ولهذا لم تحتج الأمة مع رسولها وكتابها إلى نبي آخر وكتاب آخر فضلًا عن أن تحتاج إلى شيء لا يستقل بنفسه غيره) (¬1). نعم: إن القرآن الكريم الذي أنزله الله على نبيه - عليه أفضل الصلاة والسلام - هو منبع الخير كله ومطلع الهداية التي أشرق نورها على قلوب الناس فبدد منها الظلمات واستأصل منها الضلالات، فمن تمسك به فقد استمسك بالعروة الوثقى، التي لا انفصام لها، فهو كلام الله رب العالمين: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} (¬2). فما أحوجَ -من لم يحكم بما أنزل الله- إلى عودة حميدة إلى القرآن من جديد وبناء هيكل حياته على أسس أصيلة متينة من تعاليمه سواء ما يتصل منها بالعقيدة والعبادات أو الأخلاق والمعاملات أو السياسة والإقتصاد أو الأدب والثقافة والإجتماع، فالقرآن الذي أنزله الله ليسطع على العالم ما ¬

_ (¬1) انظر: فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية 17/ 44، 45. (¬2) سورة فصلت: آية 42.

بقي الدهر وليقود الإِنسانية إلى الرشد لا يضيق بأي شيء من أطوار الزمن ولا بأية مشكلة تفرزها الحياة. وصدق الله العظيم إذ يقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ...} الآية (¬1). نعم: لقد كمل هذا الدين، وتمت به نعمة الله على المسلمين، ورضيه الله لهم منهج حياة للناس أجمعين ولم يعد هناك من سبيل لتعديل شيء فيه أو تبديله أو ترك شيء من حكمه إلى حكم آخر ولا شيء من شريعته إلى شريعة أخرى، وقد علم الله حين رضيه للناس أنه يسعهم جميعًا ويسع حياتهم جميعها ويحقق الخير لهم جميعًا إلى يوم الدين وأن أي تعديل في هذا المنهج -دعك من العدول عنه- هو إنكار لهذا المعلوم من الدين بالضرورة يخرج صاحبه من الدين بالكلية ولو قال باللسان ألف مرة إنه من المسلمين (¬2). قال -تعالى-: {أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)} (¬3). فهاتان الآيتان تقرران حق الحاكمية المطلقة لله وحده، وتجريد البشر من ادعاء هذا الحق أو مزاولته في أية صورة من الصور، وبيان أن هذا الكتاب نزل مفصلًا محتويًا على المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحياة ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: آية 38. (¬2) في ظلال القرآن للسيد قطب 2/ 902 وجواهر التفسير للخليلي 1/ 11 "بتصرف" طبعة 1404 هـ الأولى - مطابع الإستقامة بسلطنة عمان. (¬3) سورة الأنعام: آية 114، 115.

جملة، كما أنه تضمن أحكاماً تفصيلية في المسائل الأخرى سواء منها الاقتصادية أو العلمية أو السياسية أو الواقعية وغيرها، ولم يبق قول لقائل في عقيدة أو مبدأ أو تصور أو شريعة أو حكم أو عادة أو تقليد: قال قتادة: صدقاً فيما قال وعدلاً فيما حكم يقول صدقاً في الإِخبار وعدلاً في الطلب فكل ما أخبر به فحقٌّ لا مريةَ فيه ولا شك وكل ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه وكل ما نهى عنه فباطل فإنه لا ينهى إلَّا عن مفسدة. لا معقب لحكمه -تعالى- لا في الدنيا ولا في الآخرة وهو"السميع" لأقوال عباده "العليم" بحركاتهم وسكناتهم الذي يجازي كل عامل بعمله" (¬1). وقال -تعالى-: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)} (¬2). "فهذه الآية خوطب بها جميع العالم لبيان أن القرآن الكريم من عند الله وأنه موعظة للعالمين وشفاء للمؤمنين وأنه اشتمل على مالهم وما عليهم، وأنه من عند الله -تعالى- لم يختلقه محمد - صلى الله عليه وسلم -، بل هو من عند الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيه دواء لما في الصدور من العقائد الفاسدة والشكوك الواهية" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: تفسير القرآن العظيم لإبن كثير 2/ 167، 168، في ظلال القرآن للسيد قطب "بتصرف" 2/ 193، 194، 195. (¬2) سورة يونس: آية 57. (¬3) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لإبن عطية الأندلسي 7/ 167 طبع مؤسسة دار العلوم بقطر - الطبعة الأولى 1404 هـ، والفتوحات الإِلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية لسليمان بن عمر العجيلي الشافعي (الشهير بالجمل) 2/ 357.

قال الإمام ابن قيم الجوزية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (... فلرسالته - صلى الله عليه وسلم - عمومان محفوظان لا يتطرق إليهما تخصيص: عموم بالنسبة إلى المرسل إليهم، وعموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه من بعث إليه في أصول الدين وفروعه، فرسالته كافية شافية عامة، لا تحوج إلى سواها، ولا يتم الإِيمان به إلَّا بإثبات عموم رسالته في هذا وهذا، فلا يخرج أحد من المكلفين عن رسالته، ولا يخرج فرع من أنواع الحق الذي تحتاج إليه الأمة في علومها وأعمالها عما جاء به. وقد توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائر يقلب جناحيه في السماء ألا ذكر للأمة منه علماً، وعلمهم كل شيء حتى آداب التخلي، وآداب الجماع والنوم، والقيام والقعود، والأكل والشرب والركوب والنزول، والسفر والإِقامة، والصمت والكلام، والعزلة والخلطة والغنى والفقر، والصحة والمرض، وجميع أحكام الحياة والموت، ووصف لهم العرش والكرسي، والملائكة والجن، والجنة والنار، ويوم القيامة وما فيه حتى كأنه رأى عين. وعرفهم معبودهم وإلههم أتم تعريف حتى كأنهم يرونه ويشاهدونه بأوصاف كماله ونعوت جلاله، وعرفهم الأنبياء وأممهم وما جرى لهم وما جرى عليهم معهم حتى كأنهم كانوا بينهم وعرَّفهم من طرق الخير والشر دقيقها وجليلها ما لم يُعرِّفْه نبيٌّ لأمة قبله ... وكذلك عرفهم - صلى الله عليه وسلم - من أمور معايشهم ما لو علموه وعملوه لاستقامت لهم دنياهم أعظم استقامة، وبالجملة فجاءهم بخيري الدنيا والآخرة برمته ولم يحوجهم الله إلى أحد سواه، فكيف يظن أن شريعته الكاملة التي ما طرق العالم شريعة أكمل منها ناقصة تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكملها، أو إلى قياس أو حقيقة أو معقول خارج عنها؟! ومن ظن ذلك فهو كمن ظن

أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعده، وسبب هذا كله خفاء ما جاء به على من ظن ذلك وقلة نصيبه من الفهم الذي وفق الله له أصحاب نبيه الذين اكتفوا بما جاء به، واستغنوا به عما سواه، وفتحوا به القلوب والبلاد وقالوا هذا عهد نبينا إليكم وهو عهدنا إليكم ... وقد قال الله -تعالى-: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} (¬1) " (¬2). إن القرآن الكريم الذي تعبدنا الله بتلاوته وأمرنا باتباعه ولزوم أحكامه تناول في نحو خمسمائة آية جملة القواعد والأصول التشريعية وبعض الأحكام العقدية والخلقية والعملية (¬3). وعكف العلماء على تفصيل آياته هذه وقسموها باعتبار موضوعها إلى قسمين رئيسين: القسم الأول: العبادات وتشمل نحوًا من أربعين ومائة آية. القسم الثاني: المعاملات: وتتفرع إلى سبعة أقسام: القسم الأول: يمكن إدراجه في الفقه العام وهو: 1 - الأحكام الدستورية الضابطة لنظام الحكم وأصوله والمحددة للعلاقة ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت: آية 51. (¬2) انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين للإِمام شمس الدين أبي عبد الله محمد ابن أبي بكر "ابن قيم الجوزية" 4/ 375، 376 - مطابع دار السعادة، القاهرة. (¬3) انظر في هذا: وجوب تطبيق الشريعة الإِسلامية ص 21، 22. وهو من البحوث المقدمة لمؤتمر الفقه الإِسلامي 1404 هـ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإِسلامية - طبع ونشر إدارة الثقافة والنشر بالجامعة 1404 هـ.

بين الحاكمين والمحكومين والمقررة لحقوق الأفراد والجماعة وهي عشر آيات تقريباً. 2 - الأحكام الدولية المنظمة للعلاقة بين الدولة الإِسلامية، وبين غيرها من الدول في حالتي السلم والحرب وهي خمس عشرة آية تقريباً. القسم الثاني: النظم الاقتصادية التي شرعها الإِسلام أو ما يتصل بها مما يسمى عند الفقهاء بالمعاملات وهي: 1 - الأحكام الاقتصادية والمالية القائمة على تنظيم العلاقة المالية من موارد وطرق إنفاق وغيرها وهي نحو عشر آيات تقريباً. 2 - الأحكام المتعلقة بمعاملات الأفراد ومبادلاتهم من بيع وإجارة ورهن وكفالة وشركة ومداينة وغير ذلك وهي نحواً من سبعين آية. القسم الثالث: الحدود والقصاص: وهي الأحكام الجنائة المتعلقة بما يصدر عن المكلفين من جنايات وجرائم، وما يترتب على ذلك من عقوبات تحفظ على الناس أنفسهم وأعراضهم وحقوقهم وهي نحواً من ثلاثين آية تقريباً. القسم الرابع: نظام الأسرة وما يتصل بوضع الأفراد فيها: كالأحوال الشخصية المتناولة للزواج والطلاق والإِرث والوصية والحجر وغير ذلك مما يتصل بأحكام الأسرة، ويشمل هذا القسم نحواً من سبعين آية تقريباً.

القسم الخامس: الأحكام الشرعية المتصلة بالقضاء والشهادة واليمين وغير ذلك من الإجراءات الشرعية والترتيبات التي تمكن كل ذي حق من حقه ويشمل هذا القسم نحواً من ثلاث عشرة آية. القسم السادس: الآيات الدالة على التيسير ورفع الحجر عن المكلفين وهي كثيرة كقوله -تعالى-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬1). وكقوله -تعالى-: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} (¬2). وكقوله -تعالى-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬3). وغيرها وسنزيد هذا القسم بياناً عند الحديث عن يسر الشريعة وسماحتها - إن شاء الله (¬4). القسم السابع: القواعد العامة الكلية والأصول الثابتة الشرعية، ومنها: 1 - الآيات الواردة بشان التصرفات المالية .. كقوله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬5). وقوله ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 185. (¬2) سورة النساء: آية 28. (¬3) سورة البقرة: آية 286. (¬4) انظر ص 97. (¬5) سورة النساء: آية 29.

-تعالى-: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)} (¬1). الآيات المتعلقة بلزوم العدل وتقوى الله عند رد العدوان مثل قوله -تعالى-: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} (¬2). 3 - الآيات المحددة للمسؤُولية وما ينتج عنها من جزاء كقوله -تعالى-: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬3). وغيرها من الآيات الدالة على ذلك. 4 - الآيات المتعلقة بالتكليف بما في الطاقة والوسع مثل قوله -تعالى-: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (¬4) وغيرها من الآيات الدالة على ذلك. 5 - الآيات الدالة على الوفاء بالعهد والعدل .. كقوله -تعالى-: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} (¬5). وقوله -تعالى-: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} (¬6). 6 - الآيات الدالة على رفع الحرج ودفع الأذى ومنها: قوله -تعالى-: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا} (¬7). ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 4. (¬2) سورة البقرة: آية 194. (¬3) سورة فاطر: آية 18. (¬4) سورة الطلاق: آية 75. (¬5) سورة الحج: آية 29. (¬6) سورة النحل: آية 91. (¬7) سورة البقرة: آية 173.

وغير ذلك من الآيات الدالة على ذلك. وجميع الآيات الواردة فيما سبق جئت بها على سبيل الإستشهاد لا الحصر. هذا: ومن الأمور المقررة شرعًا أن السنَّة هي المصدر الثاني للتشريع وعلى هذا لا ينبغي أن يفوتنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين جميع أصول الدين وفروعه وظاهره وباطنه وعلمه وعمله، وقد جاءت سنته - صلى الله عليه وسلم - وافية شافية كافية فيها كل ما يحتاج إليه البشر في دينهم ودنياهم ... فقد جاءت إما: مؤكدة لأحكام القرآن فيما هو قطعي الدلالة من نصوصه، لا تقبل التغيير والتبديل والتعميم والتخصيص. مثل: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج والنهي عن الشرك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور وقتل النفس بغير حق وغير ذلك من النواهي. وإما: مفسِّرة ومفصِّلة: كبيان صفة الصلاة، ومقادير الزكاة، وتقييد المطلق كبيان أن الحد في السرقة القطع من الرسغ، وتخصيص العام كمنع الولد القاتل لأبيه من الميراث. وإما: قواعد عامة اعتبرت أساساً تشريعياً وأصلاً من أصول الدين اعتمده الفقهاء في ضبط الأحكام وتفريعها عنه .. وتلك أقوال كثيرة من كلامه - صلى الله عليه وسلم - منها: (لا ضرر ولا ضرار)، و (الولد للفراش)، و (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). وغير ذلك. ومن السنَّة ما ليس تفسيرًا ولا تأكيدًا وإنما مرجعه إما وحي أوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عند البعض، وإما اجتهاد منه - صلى الله عليه وسلم - عند البعض الآخر كتحريمه - صلى الله عليه وسلم - الحُمُر الأهلية وكل ذي ناب من السباع، وتحريم نكاح المرأة على عمتها

أو خالتها، وجواز خيار الشرط وجواز الرهن وما إلى ذلك مما أساسه القرآن أو مرجعه تطبيق الأحكام العامة والمبادئ الأساسية لشريعة القرآن التي ملأت نفسه - صلى الله عليه وسلم - وكانت له أصلًا يقيس عليه ويعتمد فيما يأمر به أو ينهى عنه وصدق الله إذ يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (¬1)، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬2). ومع الإِيمان المطلق بكمال هذا الدين، وفهم هذه الحقيقة بجانب الإِيمان بقاعدة الوجود الكبرى وفهمها: وهي قوله -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (¬3). يتلخص مما سبق أن الِإطار العام للشريعة، والدائرة الشاملة للحياة البشرية لا تزيد على ثلاثة أقسام: القسم الأول: جوانب ثابتة متعلقة بحقيقة الإِنسان أنى وجد في أي زمان أو مكان، تلك الحقيقة التي لا تتغير، ولا تتبدل على الإِطلاق، وهذه جاءت الشريعة لها بأحكام تفصيلية ثابتة كثباتها وقد فصلها الله تفصيلًا: كالشعائر التعبدية المحضة من صلاة وصيام وحج وكأحكام الطهارة، وأحكام الأسرة، والمحرمات الرئيسية: من زنًى وخمر وسرقة وخيانة ... إلخ؛ فهذه فصلت بمقتضى الحكمة والهداية الربانية التي لا يملكها البشر ولو وكل إليهم منها شيء لضلوا وتاهوا. ¬

_ (¬1) سورة النجم: آية 3، 4. (¬2) سورة الحشر: آية 7. (¬3) سورة الذاريات: آية 56.

القسم الثاني: جوانب ثابتة الجوهر والهدف لكنها متجددة الصورة متغيرة الأساليب حسب سنَّة الله في الكون: مثل نوع الحكم وطريقته ومنهج الحياة الاقتصادية والخطط التعليمية وغيرها، وهذه وضعت لها الشريعة قواعد وضوابط عامة لا يصح أن تخرج عنها ... ولكن تركت تفصيلاتها - رحمة من غير نسيان - إلى اجتهاد الأمة في حدود تلك القواعد والضوابط الشرعية. القسم الثالث: الأمور الدنيوية المحضة: وقد اقتضت حكمة الله أن توكل إلى سعي الإِنسان وخبرته كي يحقق بنفسه معنى استخلافه في الأرض واستعماره فيها: كالضرب في الأرض وشؤون الزراعة والصناعة والعمارة وكل مظاهر الحياة المادية. وبما أنه ليس في الحياة البشرية شيء يبقى بعد هذه الأقسام أو يخرج عنها فلم يعد هنالك ما يبرر أية شبهة حول إسلام الحياة كلها لله خالصة له وحده مستقيمة على حكمه وشرعه" (¬1). وبعدُ: فإن منهج الإِسلام كل متكامل يشد بعضه بعضًا ونظم متناسق تتحد معانيه وتلتقي فيما يحقق سعادة البشرية. قال -تعالى-: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإِسلامية المعاصرة، تأليف: سفر بن عبد الرحمن الحوالي ص 695، 696، 697 - طبع جامعة أم القرى 1402 هـ. (¬2) سورة البقرة: آية 85.

وكل زيادة أو إضافة يتكلفها المرء ليست من الشريعة بل هي بدعة مردودة. قال - صلى الله عليه وسلم -: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) (¬1). فإذا صح عزم المرء وخلصت نيته في التوجه إلى الله فإن في أحكام الشريعة لدليلاً له إلى معالم الصراط المستقيم: قال -تعالى-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬2). • • • ¬

_ (¬1) رواه مسلم عن عائشة - رضي الله عنها -، صحيح مسلم 3/ 1343، رقم الحديث 1718، باب 8 كتاب 30. (¬2) سورة الأنعام: آية 153.

المبحث الخامس الإيمان بأن الشريعة الإسلامية ناسخة لجميع الشرائع السابقة

المبحث الخامس الإِيمان بأن الشريعة الإِسلامية ناسخة لجميع الشرائع السابقة إن ثمةَ حقيقة لا ريب فيها: وهي: أن دين الله واحد جاءت به الرسل جميعاً، وتعاقبت عليه الرسل جميعاً، وعهد الله واحد أخذه على كل رسول من لدن آدم - عليه السلام - إلى خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم. ولكن كما كان دين الأنبياء والمرسلين دينًا واحدًا وأمتهم أمة واحدة كان لكل واحد منهم شرعةً ومنهاجاً. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ...} (¬1) الآية. فهذه الحقيقة أعلنها القرآن وهي تدحض شبه المارقين والماديين الذين ينكرون الأديان بسبب اختلافها في جوهرها وأصولها، ويدَّعون -وهم الظالمون- بأن كل نبي يأتي من عنده بدين يناقض سابقيه وهذا ادعاء كاذب مُجافٍ للواقع ولا يمت إلى حقيقة الأديان بصلة، فالدين واحد في أصوله، ولكن تختلف الأديان في تشريعاتها لإختلاف أحوال الأمم الإجتماعية ودرجة استعدادها العقلي. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 48.

لقد كانت الرسالات قبل الرسالة المحمدية رسالات محلية، قومية، محدودة بفترة من الزمان - ما بين عهدي رسولين - وكانت كل رسالة تتضمن تعديلات وتحويرًا في الشريعة يناسب تدرج البشرية، وكانت البشرية تخطو على هدي هذه الرسالات خطوات محدودة حتى جاءت رسالة محمدبن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإِنسانية كلها وختم الله سبحانه بها جميع الرسالات السماوية وجعلها ناسخة لها، وأتم بها نعمته على العالمين، واختار الأمة المسلمة لتتلقى تراث الرسالة كله وتقوم على دين الله في الأرض) (¬1). {... وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ...} (¬2) الآية. وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت، ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلَّا كان من أصحاب النار" (¬3). هذا: وإذا كان الإِسلام يقر جميع ما سبقه من الرسالات فإنه يقرها على وجهها الصحيح لا على ما آلت إليه من التُّرُّهات والأباطيل ويطلب بعد ذلك الإِيمان بأن محمدًا خاتم الأنبياء والمرسلين، وبأن رسالته تضمنت خلاصة الرسالات السابقة، وزادت عليها ما به كمال الإِنسانية والطريق ¬

_ (¬1) انظر: الرسل والرسالات لعمر سليمان الأشقر ص 239. الطبعة الثانية مكتبة الفلاح بالكويت. (¬2) سورة الحج: آية 78. (¬3) صحيح مسلم 1/ 134 - باب 70 حديث رقم 153 مسلسل 240.

الواسع نحو التطور الصحيح، والرقي الروحي والحضاري، ولأنه ليست هنالك رسالات بعدها للأقوام والأجيال في كل مكان. نعم: لقد وسع الإِسلام كل الرسالات قبله وشملها، ولكنه أعلن ولاءه لها والِإيمان بها جملة قال -تعالى-: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)} (¬1). فهذا هو الإِسلام في سعته وشموله لكل الرسالات قبله، وفي ولائه لكافة الرسل حملته، وفي توحيده لدين الله كله ورجعه جميع الدعوات وجميع الرسالات إلى أصلها الواحد والِإيمان بها جملة كما أرادها الله لعباده. قال في الظلال: (إن الإِسلام -بمعنى إسلام الوجه لله وحده- كان هو الرسالة الأولى وكان هو الرسالة الأخيرة ... والإيمان بالله يقتضي الإعتقاد بصحة كل ما جاء من عند الله، وصدق كل الرسل الذين بعثهم الله، ووحدة الأصل الذي تقوم عليه رسالتهم، وتتضمنه الكتب التي نزلت عليهم، ومن ثم لا تقوم التفرقة بين الرسل في ضمير المسلم؛ فكلهم جاء من عند الله بالإِسلام في صورة من صوره المناسبة لحال القوم الذين أرسل إليهم، حتى انتهى الأمر إلى خاتم النبيين - محمد - صلى الله عليه وسلم - فجاء بالصورة الأخيرة للدين الواحد، لدعوة البشرية كلها إلى يوم القيامة) (¬2). ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 136. (¬2) انظر: في ظلال القرآن 1/ 111، 342.

وقال -تعالى-: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)} (¬1). قال ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ- في تفسيره: [يخبر -تعالى- أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم - عليه السلام - إلى عيسى - عليه السلام - لَمَهْمَا أتى الله أحدهم من كتاب وحكمة وبلغ أي مبلغ ثم جاء رسول من بعده ليؤمنن به ولينصرنه ولا يمنعه ما هوفيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته ولهذا قال - تعالى وتقدس -: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} الآية ... وقال علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهما -: ما بعث الله نبيًا من الأنبياء إلَّا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمد - صلى الله عليه وسلم -وهو حي ليُؤمِنَنَّ به ولينصُرنَّه. وقال طاووس والحسن البصري وقتادة: أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً، وهذا لا يضاد ما قاله علي وابن عباس ولا ينفيه بل يستلزمه ويقتضيه] (¬2). ويروي الإمام أحمد في مسنده بسنده عن عبد الله بن ثابت قال: (جاء عمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني مررت بأخ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: الآيتان 81، 82. (¬2) تفسير القرآن العظيم للإِمام ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- 1/ 378.

عبد الله: فقلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال عمر: رضيت بالله ربًّا وبالِإسلام دينًا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً. قال: فسُرِّي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى - عليه السلام - ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين) (¬1). وللحافظ أبي يعلى: (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا وإنكم إما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بحق، وإنه والله لو كان موسى حيًا بين أظهركهم ما حل له إلَّا أن يتبعني). وروى الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -أي الأديان أحب إلى الله: قال: الحنيفية السمحة) (¬2). نعم: لقد جمعت الشريعة الخاتمة محاسن الرسالات السابقة، وفاقتها كمالًا وجلالاً. قال الحسن البصري -رَحِمَهُ اللهُ-: (أنزل الله مائة وأربعة كتب أودع علومها أربعة: التوراة، والِإنجيل، والزبور، والفرقان "القرآن" ثم أودع علوم الثلاثة الفرقان) (¬3). وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (إن القرآن قرر ما في الكتب المتقدمة من الخبر عن الله وعن اليوم الآخر، وزاد ذلك بياناً، وتفصيلًا، وبين الأدلة والبراهين على ذلك، وقرر نبوة الأنبياء كلهم، ورسالة المرسلين، وقرر الشرائع الكلية التي بعث بها ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد 3/ 471. (¬2) مسند الإمام أحمد 1/ 236. (¬3) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 3/ 336، طبع وتوزيع الرئاسة العامة للإِفتاء بالسعودية.

الرسل كلها ورسالة المرسلين، وقرر الشرائع بأنواع الحجج والبراهين، وبين عقوبات الله لهم، ونصره لأهل الكتب المتبعين لها، وبين ما حرف منها وبدل، وما فعله أهل الكتاب في الكتب المتقدمة، وبين أيضًا ما كتموه مما أمر الله ببيانه، وكل ما جاءت به النبوات بأحسن الشرائع والمناهج التي نزل بها القرآن فصارت له الهيمنة على ما بين يديه من الكتب من وجوه متعددة فهو شاهد بصدقها، وشاهد بكذب ما حُرِّف منها، وهو حاكم بإقرار ما أقره الله، ونسخ ما نسخه. فهو شاهد في الخبريات حاكم في الأمريات ... ومن تأمل ما تكلم به الأولون والآخرون في أصول الدين والعلوم الِإلهية، وأمور المعاد والنبوات والأخلاق والسياسات والعبادات وسائر ما فيه كمال النفوس وصلاحها وسعادتها ونجاحها لم يجد عند الأولين والآخرين من أهل النبوات ومن أهل الرأي كالمتفلسفة وغيرهم إلَّا بعض ما جاء به القرآن) (¬1). نستخلص مما سبق: أن الإِسلام هو آخر الشرائع الِإلهية إلى البشر وأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، وأن شريعة الإِسلام ودعوته خالدتان، فليست شريعة الإِسلام موقوتة بوقت مستقبل محدود يقف عنده وجوب تطبيقها لإِصلاح الحياة البشرية بل هي رسالة عامة للبشرية كلها رسالة خاتمة أنزلت على خاتم الأنبياء والرسل. رسالة تخاطب "الإِنسان" من وراء الظروف والبيئات والأزمنة، لأنها تخاطب فطرة الانسان التي لا تتبدل ولا تتحور ولا ينالها التغيير {فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ...} (¬2) الآية. ¬

_ (¬1) انظر: فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- 17/ 44، 45. (¬2) سورة الروم: آية 30.

وقد فصلت هذه الرسالة شريعة تتناول حياة الإِنسان من جميع أطرافها وفي كل جوانب نشاطها وتحتوي على كل ما يحتاج إليه منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان. وبرهان آخر على نسخ الشريعة الإِسلامية للشرائع السابقة: قال -تعالى-: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) ...} (¬1) الآية. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} (¬2) الآية. فأهل الكتاب مأمورون بالإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبالكتاب الذي أنزل عليه وألا يسارعوا إلى الكفر به، فيصبحوا أول الكافرين وكان ينبغي أن يكونوا أول المؤمنين!!. ولا يحكم عليهم بالكفر إلَّا إذا كانت الشريعة الإِسلامية ناسخة لشرائعهم، وقد أمر الله -تعالى- بقتالهم حتى يؤمنوا بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -. يقول -تعالى-: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬3). • • • ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آيتان 40، 41. (¬2) سورة النساء: آية 47. (¬3) سورة التوبة: آية 29.

المبحث السادس الإيمان بيسر الشريعة وسماحتها ووفائها بحاجات البشر في كل زمان ومكان

المبحث السادس الإِيمان بيسر الشريعة وسماحتها ووفائها بحاجات البشر في كل زمان ومكان ويشمل هذا المبحث تمهيداً وستةَ مطالبٍ وهي: التمهيد. المطلب الأول: النصوص التي تؤكد يسر الشريعة وسماحتها: ويشمل: (أ) النصوص من القرآن الكريم. (ب) النصوص من السنَّة النبوية. المطلب الثاني: ما ثبت من مشروعية الرخص وهو أمر مقطوع به ومعلوم من الدين بالضرورة. المطلب الثالث: التكليف بما في الطاقة والوسع. المطلب الرابع: إجراء الأحكام على وفق الظاهر. المطلب الخامس: الأخذ بالعرف وما ينبني عليه من تغير الفتوى بتغير الأحوال والأزمنة والأمكنة والأعراف. المطلب السادس: من الأحكام المبنية على العرف: تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأعراف.

تمهيد

تمهيد من الحقائق المسلّمة أن الشريعة الإِسلامية مبناها وأساسها على اليسر والعدل والرحمة، ومراعاة مصالح العباد في المعاش والمعاد، فقد أنزلها الشارع الحكيم مباركة حنيفية سمحة سهلة حفظ فيها على الخلق حقوقهم وزينها في قلوبهم. قال -تعالى-: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)} (¬1). لقد استطاعت الشريعة الإِسلامية أن تفي بحاجات كل المجتمعات التي حكمتها، وأن تعالج كافة المشكلات في كافة البيئات التي حلت بها، بأعدل الحلول وأصلحها، لأنها بجانب ما اشتملت عليه من متانة الأصول، وإقامة القسط بين الناس وجلب المصالح والخيرات لهم ودفع المفاسد والشرور عنهم؛ قد أودعها الله جلت حكمته مرونة عجيبة جعلتها تتسع لكل طريق وتعالج كل جديد بما يفي بمصالح الخلق ويحقق مقاصد الشرع بغير عنت ولا إرهاق، فقد وسعت العالم الإِسلامي كله على تنائي أطرافه وتعدد أجناسه، وتنوع بيئاته الحضارية وتجدد مشكلاته الزمانية فما ضاق ذرعها ¬

_ (¬1) سورة الحجرات: آيتان 7، 8.

بجديد ولا قعدت عن الوفاء بمطلب، بل كان عندها لكل مشكلة علاج ولكل حادثة حديث وكانت ولا زالت وستزال -بإذن الله منَزِّلها وحافظِها- عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - أتم دلالة وأصدقها إلى أن تقوم الساعة ويقوم الناس لرب العالمين. إن الله لم يرد التكليف بالشاق والإعنات فيه، لأنه سبحانه لم يجعل تعذيب النفوس سببًا للتقرب إليه ولا لنيل ما عنده ولا يليق أن يوحي العليم الخبير البر الرحيم لخاتم رسله وأنبيائه بشريعة عامة خالدة تُحْرِجُ الناس في دينهم أو تضيق عليهم في دنياهم أو تعجز عن مواجهة الجديد من أحوالهم وأوضاعهم، وقد وصفها منزلها بالكمال، وأراد بها الرحمة واليسر ونفى عنها الحرج والعسر. • • •

المطلب الأول النصوص التي تؤكد يسر الشريعة وسماحتها

المطلب الأول النصوصُ التي تؤكد يُسْرَ الشريعةِ وسماحتَها تمهيد: مَن تتبَّع الشريعةَ الغراءَ في أصولها وفروعها يجدْ ذلك واضحًا جليًا في العبادات والمعاملات والحقوق والقضاء والأحوال الشخصية وغير ذلك مما يتصل بعَلاَقة الخلق بخالقهم، وعَلاقة بعضهم ببعض وما يضمن سعادتهم في الدنيا والآخرة وقد زخر كتاب الله سبحانه وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالنصوص التي تدل لذلك وتؤيده: (أ) النصوص من القرآن الكريم: قال الله -تعالى-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ...} (¬1) الآية. حقًّا: لم يكلف الله أحدًا فوق طاقته ووسعه وهذا من لطفه -تعالى- بخلقه، ورأفته بهم وإحسانه إليهم، فهو سبحانه بلطفه وإنعامه علينا لم يكلفنا بالمشقات المثقلة، ولا بالأمور المؤلمة كما كلف من قبلنا بقتل أنفسهم، وقرض موضع البول من ثيابهم، وجلودهم بل سهل علينا ورفق بنا ووضع عنا ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 286.

الإِصر والأغلال التي وضعها على من كان قبلنا "فلله الحمد والمنة والفضل والنعمة" (¬1). قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "تضمن أن جميع ما كلفهم به اْمراً ونهياً مطيقون له قادرون عليه، وأنه لم يكلفهم ما لا يطيقون، وفي ذلك رد صريح على من زعم خلاف ذلك ... وتأمل قول الله -عَزَّ وَجَلَّ- "إلَّا وسعها" كيف تجد تحته أنهم في سعة ومنحة من تكاليفه، لا في ضيق وحرج ومشقة، فإن الوسع يقتضي ذلك، فاقتضت الآية أن ما كلفهم به مقدور لهم من غير عسر لهم ولا ضيق ولا حرج" (¬2). وقال -تعالى-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ...} (¬3) قال السيوطي: "فهذه الآية أصل القاعدة الكبرى التي تقوم عليها تكاليف هذه الشريعة فهي يسيرة لا عسر فيها سمحة لا تكلف فيها، سهلة لا تعقيد فيها، وهي أصل لقاعدة عظيمة ينبني عليها فروع كثيرة وهي "أن المشقة تجلب التيسير" وهي إحدى القواعد الخمس التي ينبني عليها الفقه وتحتها من القواعد: قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، وقاعدة إذا ضاق الأمر اتسع، ومن الفروع ما لا يحصى كثرة، والآية أصل في جميع ذلك" (¬4). ¬

_ (¬1) ابن كثير 1/ 342، القرطبي 1/ 430. (¬2) فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية 14/ 137، 138. (¬3) سورة البقرة: آية 185. (¬4) انظر: الإكليل في استنباط التنزيل للسيوطي ص 14 الطبعة الثانية 1405 هـ دار الكتب العلمية - لبنان - تحقيق سيف الدين عبد القادر الكاتب.

وقال -تعالى- في وصف النبي - صلى الله عليه وسلم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} (¬1). فال ابن جرير الطبري: "ويضع النبي الأمي العهد الذي كان الله أخذ على بني إسرائيل من إقامة التوراة والعمل بها وبما فيها من الأعمال الشديدة، كقطع الجلد من البول، وتحريم الغنائم ونحو ذلك من الأعمال التي كانت عليهم مفروضة فنسخها حكم القرآن" (¬2). "وبذلك تميزت شريعة الإِسلام عن بقية الشرائع السماوية التي شرع الله فيها من الأحكام الشاقة ما يتناسب مع أوضاع الأمم السابقة مثل اشتراط قتل النفس للتوبة من العصيان والتخلص من الخطيئة، قال -تعالى- حاكيًا هذا الأمر في القرآن الكريم: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} (¬3). ومثل تطهير الثوب بقطع النجاسة منه، وإيجاب ربع المال في الزكاة، وبطلان الصلاة في غير موضع العبادة المخصوص ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: آية 157. (¬2) تفسير الطبري "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" - لأبي جعفر ابن جرير الطبري 13/ 168. (¬3) سورة البقرة: آية 54.

فنطاق السماحة والتيسير في الإِسلام لا يقتصر على شؤون العبادات فقط، وإنما يتسع لكل أحكام الإِسلام من معاملات مدنية وتصرفات شخصية وعقوبات جزائية وتشريعات قضائية ونحوها، والمتتبع للأحكام الشرعية والقواعد الفقهية يجد مظاهر رفع الحرج واضحة جلية ويجد أن جميع التكاليف في ابتدائها ودوامها روعي فيها التخفيف والتيسير على الناس قال -تعالى-: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} (¬1). وقال عز من قائل: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬2). وقال -تعالى-: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ...} (¬3) الآية. قال ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: في قوله -تعالى-: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، أي مما كلفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلَّا جعل الله لكم فرجاً ومخرجاً. فالصلاة التي هي أكبر أركان الإِسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعاً وفي السفر تقصر إلى اثنتين وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة واحدة، وتصلَّى رجالاً وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها. والقيام فيها يسقط لعذر المرض فيصليها المريض جالساً، فإن لم يستطيع فعلى جبنبه إلى غير ذلك من الرخص ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 28. (¬2) سورة المائدة: آية 6. (¬3) سورة الحج: آية 78.

والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات" (¬1). نعم: إنه بأدنى تأمل يبدو جليًا أن هذا الدين كله بتكاليفه وعباداته وتشريعاته ملحوظ فيه فطرة الإِنسان وطاقته، وملحوظ فيه تلبيته تلك الفطرة وإطلاق هذه الطاقة والاتجاه بها إلى البناء والإستعلاء، فلا تبقى حبيسة كالبخار المكتوم ولا تنطلق انطلاق الحيوان الغشيم إذا تقرر هذا: فإنه لا مساغ لأحد ولا منفذ له للِإعراض عن تحكيم الشريعة الإِسلامية متذرعًا بالعسر والضيق أو متعللًا بأن هذه الشريعة السمحة جامدة صارمة لا يتسع صدرها لمسايرة التطور، ومواجهة ما يجد من أحداث الزمان بروح العصر ... إلخ، هذه الافتراءات والافتعالات المزعومة التي دسها المستشرقون وأمثالهم ممن يكتبون عن الإِسلام بروح التعصب وعقلية المتحامل. وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)} (¬2). (ب) ومن السنَّة النبوية: نذكر بعض الأحاديث الدالة على يسر الشريعة الإِسلامية وسماحتها ومرونتها من ذلك: 1 - ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية من سراياه ... فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة ... " الحديث (¬3). ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير 3/ 236. (¬2) سورة المؤمنون: آية 71. (¬3) انظر: مسند الإمام أحمد 5/ 266.

2 - عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده قال لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ بن جبل قال لهما: (يسراً ولا تعسرًا وبشرًا ولا تنفرًا وتطاوعاً ...) (¬1). 3 - وروى البخاري أيضاً عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: (ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين قط إلَّا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه في شيء قط إلَّا أن تنتهك حرمة الله فينتقم بها لله) (¬2). 4 - ما روى أبو داود في سننه عن سهل بن أبي أمامة أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة (في زمان عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة فإذا هو يصلي صلاة خفيفة دقيقة، كأنها صلاة مسافر أو قريبًا منها، فلما سلم قال أبي -يرحمك الله- أرأيت هذه الصلاة المكتوبة أو شيء تنفلته، قال: إنها المكتوبة وإنها لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما أخطأت إلَّا شيئاً سهوت عنه، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديار" ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ...) الحديث (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: صحيح البخاري 7/ 101، - باب (80) قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: يسروا ولا تعسروا وكان يحب التخفيف واليسر على الناس "كتاب الأدب". (¬2) صحيح البخاري 7/ 101، - باب (80) كتاب الأدب. (¬3) انظر: سنن أبي داود 5/ 209، 210 حديث رقم 4904 - باب 52 كتاب الأدب طبعة أولى 1391 هـ نشر وتوزيع محمد علي صبيح وشركاه بمصر.

5 - وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلَّا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة" (¬1). قال الحافظ ابن حجر -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "إن دين الإِسلام ذو يسر أو سمي الدين يسراً مبالغة بالنسبة إلى الأديان قبله، لأن الله رفع عن هذه الأمة الِإصر الذي كان على من قبلهم. ومن أوضح الأمثلة له أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم وتوبة هذه الأمة بالإقلاع والعزم والندم) (¬2). قلت: نعم كما قال الحافظ -رَحِمَهُ اللهُ-: إن الإِسلام لا يطلب ممن اقترف إثمًا أو ارتكب ذنباً سوى أن يقلع عن ذنبه ويندم على فعله ويعزم على أن لا يعود إليه، ويستغفر الله على ما فات من ذنوبه قال -تعالى-: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} (¬3). وبهذا يتبين لنا مدى يسر الإِسلام وسماحته في توبة التائبين، وعدم تعنته في أمر من أراد الرجوع إلى الطريق المستقيم، كما يتبين لنا ما بينه وبين الأديان الأخرى من البون الشاسع في هذا المجال بل وفي كل مجال؛ فهو لا يطارد المذنب مطاردة أبدية بحيث لا يقيل له عثرة، ولا يقبل منه توبة، إلَّا أن يقتل نفسه أو يعذب جسده أو ترتكس روحه في أجشام رديئة حقباً وأجيالًا، وهو لا يفضح المذنب ولا يشيع الفاحشة ولا يعلنها على الملأ بكتابتها على بابه كما هو الشأن في شرعة بني إسرائيل. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 1/ 15 - باب 29 من كتاب الإيمان رقم 2. (¬2) انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني -رَحِمَهُ اللهُ- 1/ 93، 94 حديث رقم 39 المطبعة السلفية بمصر. (¬3) سورة النساء: آية 110.

إنه لا يعمل ذلك بقدر ستره لها، وحثه على تغطيتها، وعدم إشاعتها وترغيبه في عمل الوسائل الكفيلة بمحوها، فما أحكمَ 5 من تشريع! وما أعدلَه من حُكْمٍ, وما أيسرَه من منهج!! (¬1). قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- معلقاً على هذا الحديث: "ما أعظم هذا الحديث وأجمعه للخير والوصايا النافعة والأصول الجامعة، فقد أسس - صلى الله عليه وسلم في أوله هذا الأصل الكبير فقال: (إن الدين يسر أي ميسر مسهل في قواعده وعقائده وأخلاقه، وأعماله، أكمل الأخلاق وأصلح الأعمال: بها صلاح الدين والدنيا والآخرة، وبفواتها يفوت الصلاح كله، وهي كلها - بحمد الله - ميسرة سهلة كل مكلف يرى نفسه قادرًا عليها لا تشق عليه ولا تكلفه. عقائده صحيحة بسيطة، تقبلها العقول السليمة والفطر المستقيمة وفرائضه أسهل شيء ... وباقية شرائعه غاية في السهولة ... فمن أراد أن يقتدي بأكمل الخلق وإمامهم محمد - صلى الله عليه وسلم - رأى ذلك غير شاق عليه، ولا مانع له من مصالح دنياه بل يتمكن معه من أداء الحقوق كلها: حق الله وحق النفس، وحق الأهل، والأصحاب، وحق كل من له حق على الإِنسان برفق وسهولة (¬2). مما سبق: يتضح لنا بجلاء: أن النصوص الشرعية من قرآن كريم وسنَّة نبوية تواردت على رفع الحرج وأن التيسير والتخفيف من أسمى مقاصد ¬

_ (¬1) راجع: صور من سماحة الإِسلام - د. عبد العزيز الربيعة - طبع مؤسسة الرسالة الطبعة الثانية 1399 هـ. (¬2) انظر: بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار للشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي - وحمه الله تعالى - ص 58 حديث رقم (28) الطبعة الثانية 1389 هـ - 1969 م.

الشريعة وأن الأحكام الشرعية أحكام كاملة شاملة رحيمة عادلة جاءت من لدن خالق عليم حكيم رؤوف رحيم بعباده ... قال -تعالى-: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} (¬1). فهو سبحانه لم يتعبد الناس بهذه الأحكام تضييقًا عليهم وإحراجًا لهم، وإنما شرعها لهم ليتوصلوا بالسير على منهاجها وهديها إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة. فأي حرج على الإِنسان بعد ذلك أن يتقيد بها، ما دام يعلم علم اليقين أن في الِإلتزام بها سعادته وفلاحه في الدنيا والآخرة، وأن هذه الأحكام منارات يهتدي بها، ومصابيح يسير على ضوئها، وحوافز تدفع به في طريق الخير والصلاح، وحواجز تحول بينه وبين الشر والفساد. • • • ¬

_ (¬1) سورة الملك: آية 14.

المطلب الثاني ما ثبت من مشروعية الرخص وهو أمر مقطوع به ومعلوم من الدين بالضرورة

المطلب الثاني ما ثبت من مشروعية الرخص وهو أمر مقطوع به ومعلوم من الدين بالضرورة (إن تشريع الرخص في الإِسلام نمط يدل قطعاً على التزام مبدأ السماحة واليسر في المطالبة بالأحكام الشرعية، والرخص هي الأحكام التي شرعها الله -تعالى-، مراعي فيها أعذار الناس، وسد حاجاتهم مع بقاء السبب الموجب للحكم الأصلي، كرخص السفر والفطر والقصر والجمع وتناول المحرمات عند الإضطرار، والحاجة إلى ثمن المنتجات قبل إدراكها ونضجها وإباحة ترك صلاة الجمعة لمرض أو مطر أو نحوهما) (¬1). ومن هنا جاءت القاعدة الأساسية الجليلة التي أجمعت عليها كل كتب القواعد الفقهية وهي "المشقة تجلب التيسير" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: الموافقات للشاطبي 1/ 205 طبعة المدني بالقاهرة 1369 هـ والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد ص 71، 72، تأليف ابن بدران، مطابع دمشق 1338 هـ. (¬2) الأشباه والنظائر للحافظ جلال الدين السيوطي ص 37 طبع دار الكتب العلمية - لبنان 1399 هـ.

وبناء على هذه القاعدة: شرعت الرخص والتخفيفات الكثيرة في الفرائض الإِسلامية وتعددت في أبواب الطهارة والصلاة والصيام والحج وغيرها، وجاءت الإستثناءات في باب المحرمات مراعية ظروف البشر في الضرورات التي تنزل بهم وتثقل كواهلهم وبذلك تقررت القاعدة الشرعية الشهيرة "الضرورات تبيح المحظورات" (¬1). والأصل في هذا ما جاء في كتاب الله -تعالى- بعد ذكر الأطعمة المحرمة حيث استثنى حال الضرورة والمخمصة في مواضع متعددة من القرآن الكريم منها: 1 - قال -تعالى-: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)} (¬2). 2 - وقال -تعالى-: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬3). 3 - وقال -تعالى-: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)} (¬4). 4 - وقال -تعالى-: ({إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا ¬

_ (¬1) الأشباه والنظائر ص 43، 46. (¬2) سورة البقرة: آية 173. (¬3) سورة المائدة: آية 3. (¬4) سورة الأنعام: آية 119.

أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)} (¬1). والموضعان الأولان في سورتي البقرة والمائدة مدنيتان والموضعان الآخران في سورتي الأنعام والنحل مكيتان. نعم: (إن الإِسلام يحسب حساب الضرورات فيبيح عندها المحظورات، ويحل فيها المحرمات بقدر ما تنتفي هذه الضرورات، بغير تجاوز لها ولا تعد لحدودها، فمن خاف على نفسه الموت أو المرض، من الجوع والظمأ فلا عليه أن يتناول من هذه المحرمات بقدر ما يدفع الضرر: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ...} الآية. وقد تضمنت الآيات السابقة استثناء حالة الضرورة حفاظاً على النفس من الهلاك والاستثناء من التحريم إباحة، قال أبو بكر الجصاص: (قد ذكر الله -تعالى- الضرورة في هذه الآيات وأطلق الِإباحة في بعضها بوجود الضرورة من غير شرط ولا صفة وهو قوله -تعالى-: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} فاقتضى ذلك وجود الِإباحة بوجود الضرورة في كل حال وجدت الضرورة فيها) (¬2). وكما أبيح الأكل من الميتة حال الضرورة والمخمصة أبيح الفعل المحرم عند الضرورة والحاجة ومثاله التلفظ بالكفر عند الإِكراه عليه بالقتل أو بقطع بعض الأعضاء، مع اطمئنان القلب بالأيمان بدليل قوله -تعالى-: ¬

_ (¬1) سورة النحل: آية 115. (¬2) أحكام القرآن لأبي بكر الجصاص 1/ 156، طبع دار المصحف بمصر تحقيق: محمد الصادق قمحاوي.

مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ...} (¬1) الآية) (¬2). ومن الرخص والتخفيفات التي تزخر بها الشريعة الغراء إباحة ترك الواجب إذا كان فعله مشقة تلحق المكلف كإباحة الفطر في رمضان للمسافر والمريض، قال -تعالى-: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ...} (¬3). إن الناس متفاوتون في قدراتهم ومختلفون في أحوالهم من حيث القوة والضعف والإِقامة والسفر والصحة والمرض، لذا فإن الإِسلام يعطي هذه الناحية اهتمامًا كبيرًا فيبحثها ويقومها في منهاج تشريعه، ويعطي لكل حالة ما يناسبها ويضفي عليها من اليسر والسهولة وما يبعد الضيق عنها، فقد أرخص للمسافر بأن يفطر في رمضان على أن يصوم الأيام التي أفطرها في أيام أخر حينما يرجع إلى بلده ويشعر بالراحة بين أهله، وليس حظ المريض من عناية الله ويسره بأقل من حظ المسافر بل رخص له في الفطر أيام مرضه فإِذا شفى - بإذن الله - قضى الأيام التي أفطرها متتابعة أو متفرقة كيفما شاء وهذا يشعر بالحساسية المتكاملة بتفقد الإِسلام لأحوال أهله والحنو عليهم بتخفيف شرائعه) (¬4). ¬

_ (¬1) سورة النحل: آية 106. (¬2) نظرية الضرورة الشرعية مقارنة مع القانون الوضعي، د. وهبة الزحيلي ص 209، طبعة ثالثة 1402 هـ، مؤمسسة الرسالة، لبنان. (¬3) سورة البقرة: آية 184. (¬4) بتصرف من: صور من سماحة الإِسلام، د. عبد العزيز الربيعة ص 62، 65.

ومن الرخص والتيسيرات في باب العبادات أيضًا: قصر الصلاة الرباعية في السفر. قال -تعالى-: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)} (¬1). وروى البخاري في صحيحه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر) (¬2). وروى مسلم في صحيحه: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة) (¬3). وسواء أمن الخوف من العدو أو لم يأمن، فقد روى مسلم عن يعلى ابن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقد أمن الناس فقال: عجبت مما عجبت منه؛ فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فأقبلوا صدقته" (¬4). وسواء أطالت المدة أم قصرت، فقد روى أبو داود في سننه عن جابر - رضي الله عنهما - قال: (أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة) (¬5). ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 101. (¬2) صحيح البخاري 1/ 93 - باب كتاب الصلاة. (¬3) صحيح مسلم 1/ 478 - باب كتاب 6، حديث رقم 687. (¬4) صحيح مسلم 1/ 478 - باب 1، كتاب 6، حديث رقم 686. (¬5) سنن أبي داود 2/ 27، حديث رقم 1235، باب 280 من كتاب الصلاة.

وكما شرع الإِسلام هذه التسهيلات في الصلاة الرباعية رفقاً بالمسافر وتخفيفاً عنه من العناء الذي تفرضه طبيعة السفر شرع رفقاً آخر لا يقل عما تقدمه، ذلك هو ما رخص به من الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء جمع تقديم أو تأخير، ليرفع بهذه الرخصة ما قد يدخل عليه من المشقة، فقد روى مسلم في صحيحه عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: (خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعًا) (¬1). وروى مسلم أيضًا عن أنس - رضي الله عنه - كان النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا عجل عليه السفر يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق" (¬2). ومن خلال ما سبق يتضح لنا أن الإِسلام لم يكد يترك مرحلة من المراحل التي تمر بها هذه العبادة إلَّا وقد حباها بنوع من السهولة واليسر. وصورة أخرى من صور اليسر والسهولة والسماحة ورفع الحرج والمشقة وهي أن الإِسلام راعى ما يعرض للإِنسان من ظروف وملابسات تجعل قيامه بالتكاليف الشرعية - مع يسرها وسهولتها -شاقاً وصعباً عليه كالمرض ونحوه- فشرع له أحكاماً تتناسب وحاله تخفيفاً وتيسيرًا عليه. وقد تقدم أن الإِسلام أباح للمريض الفطر في رمضان حتى يصح. كذلك خفف عنه في هيئة الصلاة وأباح له أن يؤديها حسب طاقته وقدرته. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 1/ 490، حديث رقم 705، كتاب 6، باب 6. (¬2) صحيح مسلم 1/ 488، باب 5، حديث رقم 703، كتاب 6.

وقد زار النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه، وكان مريضًا فرآه يسجد على وسادة، فأخذها منه فرمي بها فقد روى جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاد مريضًا فرآه يصلي على وسادة، فأخذها فرمى بها وأخذ عودًا ليصلي عليه فأخذه ورمى به وقال: "صل على الأرض إن استطعت وإلَّا فأوم إيماء واجعل سجودك أخفض من ركوعك" (¬1). وقد تقدم وصف القرآن للنبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله -تعالى-: {... وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ...} الآية. ومن أمثلة ذلك: أن الشرائع السابقة كانت لا تُجَوِّز قربان الصلاة بدون تطهر بالماء مهما كانت الظروف والملابسات واشترطت في إجزائها أن تفعل في أماكنها الخاصة بها ولكن الإِسلام خفف من وطأة تلك الأحكام وراعى جميع الأحوال التي قد يتعرض لها المسلم وتدلنا آية التيمم على أن الله لا يريد أن يعنت الناس ويحملهم على الحرج والمشقة بالتكاليف، وإنما يريد أن يطهرهم ويتم عليهم نعمته حيث جاءت رخصة التيمم للمريض والمسافر. وأسقط فرض الطهارة المائية في الوضوء وغسل الجنابة عن المريض للعجز عن استعمال الماء، أو لضرر سيلحقه في استعماله من جرح أو برد شديد أو مرض يخشى زيادته أو تطاوله ... قال الله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ¬

_ (¬1) انظر: نيل الأوطار وشرح منتقى الأخبار، للشوكاني 3/ 244، الطبعة الأخيرة - مطابع مصطفى الحلبي بمصر.

فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)} (¬1). والحق الذي لا مرية فيه: (أن الرخص في الإِسلام تعتبر دليل عيان يشهد له بأنه دين اليسر والسهولة وأن هذه الرخص تعد قاعدة من قواعد الدين الكبرى وتوجد في جوانب التشريع كله من عقائد وعبادات ومعاملات وأحوال شخصية وقضاء وعقوبات وغير ذلك) (¬2). والأمثلة لها أكثر من أن تحصى وأشهر من أن تذكر: وقد تقدم أمثلة لها في باب العبادات. وإليك صورًا منها في باب المعاملات من ذلك: * إباحة العقود والتصرفات التي يحتاج الناس إليها، مثل: عقد السلم والاستصناع وبيع العرايا والمضاربة والشركة والمزارعة والمساقات والشفعة والقرض والرهن والضمان والكفالة والوكالة وغير ذلك كثير، وكلها تحقق إقامة العدل ومنع المنازعات وعدم الإعتداء على الحقوق المالية ودفع الحرج والعسر عن الناس والترخيص والتسهيل في الأحكام الشرعية. قال الإمام ابن قيم الجوزية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (والأصل في العقود كلها إنما هو العدل الذي بعثت به الرسل وأنزلت به الكتب، قال -تعالى-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 6. (¬2) بتصرف من: صور من سماحة الإِسلام للربيعة ص 37 - 39.

وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ...} (¬1) الآية. والشارع نهى عن الربا لما فيه من الظلم وعن الميسر لما فيه من الظلم أيضًا، والقرآن جاء بتحريم هذا وهذا، وكلاهما أكل المال بالباطل وما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم من المعاملات كبيع الغرر وبيع التمر قبل بدو صلاحه وبيع السنين، وبيع المزابنة، والمحاقلة، وبيع الحصاة وبيع المضامين والملاقيح ونحو ذلك هي داخلة إما في الربا، وإما في الميسر ... " (¬2). وقال -رَحِمَهُ اللهُ-: "ومن محاسن الشريعة وعدلها وقيامها بمصالح العباد، إتيانها بالشفعة، فإن حكمة الشارع اقتضت دفع الضرر عن المكلفين مهما أمكن، ولما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب دفع هذا الضرر بالقسمة تارة وبالشفعة تارة ... وكانت من أعظم العدل، وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفطر ومصالح العباد" (¬3). * ما شرع من السماحة في البيع والشراء والقضاء والإقتضاء والخيار في البيع والشراء، والتنفيس عن المعسر، وإباحة الملكية الفردية وحمايتها ومنع الاحتكار بكل صوره وأشكاله والحث على الهبة والعطية والوصية وإباحة تبادل البر والصلات مع المشركين مع ضمان حرية الدعوة للإِسلام وتحقيق شرع الله في الأرض وإعلاء كلمته بل وأجاز قبول هداياهم ومكافئتهم عليها (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الحديد: آية 25. (¬2) انظر: أعلام الموقعين عن رب العالمين 1/ 387. (¬3) المرجع السابق 2/ 120. (¬4) انظر: صور من سماحة الإِسلام، د. عبد العزيز بن عبد الرحمن الربيعة من ص 79 - 90.

وإليك من النصوص الدالة على ذلك: قال -تعالى-: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)} (¬1). وروى الدارمي في سننه عن أبي قتادة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من نفس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة" (¬2). وفي السنَّة النبوية أحاديث كثيرة تحث على التسامح في البيع والشراء والقضاء والإقتضاء. روى البخاري في صحيحه عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع لرإذا اشترى وإذا اقتضى" (¬3). وبهذا يتبين أن التيسير روح يسري في جسم الشريعة كلها كما تسري العصارة في أغصان الشجرة الحية، وهذا التيسير مبني على رعاية ضعف الإِنسان وكثرة أعبائه وتعدد مشاغله وضغط الحياة ومتطلباتها عليه ... وهذا ما يحسه ويلمسه كل من عرف هذا الدين، فالقرآن ميسر للذكر والعقيدة ميسرة للفهم كما أن الشريعة ميسرة للتنفيذ والتطبيق ليس فيها تكليف واحد يتجاوز طاقة المكلفين" (¬4) وهذا ما سنتحدث عنه في المطلب التالي. • • • ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 280. (¬2) سنن الدارمي 2/ 262 - باب فيمن انظر معسرًا من كتاب البيوع. (¬3) صحيح البخاري 8/ 3 - باب 16 من كتاب البيوع. (¬4) انظر: الخصائص العامة للإِسلام ليوسف القرضاوي ص 160، طبعة ثانية 1401 هـ، 1981 م، طبع دار غريب للطباعة بالقاهرة.

المطلب الثالث التكليف بما في الطاقة والوسع وتجنب ما فيه كلفة ومشقة على المكلف

المطلب الثالث التكليف بما في الطاقة والوسع وتجنب ما فيه كلفة ومشقة على المكلف إن الحقيقة التي لا يماري فيها إلَّا شاك معاند أو ذو نفس ضعيفة هيمن عليها الكسل وأقعدها الخمول، فلم تتذوق حلاوة العمل بشريعة الإِسلام هي أن: التكاليف الشرعية سهلة ميسورة شرعت كلها لتحقيق مصلحة المكلف وجلب النفع له أو دفع الضر عنه، والسمو به نحو الرفعة والكمال، وتهيئته في الحياة الدنيا للحياة الأخرى ... جاءت منسجمة مع طبيعته وفطرته ومستجيبة لحاجته وقصوره: تضع له المبادئ وتحدد له الحدود وتوجه عقله وسلوكه ليتمكن من أداء وظيفته كاملة شاملة لا يَظْلِمُ ولا يُظْلَمُ ولا يتيه ولا يعثر ولا يضل أو يشقى. ولهذا صرح العلماء بأن أحكام الله -عَزَّ وَجَلَّ- معللة بمصالح العباد فالشريعة من حيث هي شريعة جالبة للمصالح، ودارئة للمفاسد، وفي هذا يقول الشاطبي:

(تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها - في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها أن تكون ضرورية. الثاني: أن تكون حاجية والثالث: أن تكون تحسينية) (¬1). وقد خيل لبعض المستشرقين ومن على شاكلتهم، ممن يكتبون عن الإِسلام بروح التعصب وعقلية المتحامل - أن الشريعة الإِسلامية شريعة جامدة صارمة لا يتسع صدرها لمسايرة التطور، ومواجهة ما يجد من أحداث الزمان ذلك أن أساسها الوحي، ومصدرها الأول النصوص الدينية التي لا يملك المسلم إزاءها إلَّا السمع والطاعة ومعنى هذا في نظرهم - أن التكاليف الشرعية تمثل قيودًا وأغلالًا في عنق الإِنسان، وترهق كاهله وهو يمثل في ظل التزامه بها عبدًا مسترقًا مسلوب الإرادة والإختيار (¬2). والحق أنهم يتكلمون بما لا يعلمون ويهرفون بما لا يعرفون وحملهم على ذلك التحامل والتعصب ومقت الإِسلام وأهله إلى جانب جهلهم بمبادئ الإِسلام وتشريعاته السمحة الندية. وقد رأينا فيما سبق (¬3) مدى يسر الإِسلام وسماحته وتجاوبه مع الفطر المستقيمة وحساسيته المرهفة لأحوال أهله ومسارعته في تقديم ما تزول به مشقتهم وعناؤهم. أضف إلى ذلك أن التكاليف الشرعية - التي يصورونها بأنها قيود وأغلال في رقبة الإِنسان المسلم لا يستطيعِ الفكاك منها - منوط بها ¬

_ (¬1) الموافقات للشاطبي 2/ 4. (¬2) وجوب تطبيق الشريعة الإِسلامية ص 91، من البحرث المقدمة لمؤتمر الفقه الإِسلامي بجامعة الإمام 1404 هـ. (¬3) انظر: ص 97 "مبحث" يسر الشريعة وسماحتها.

سعادته، وهو أهل لها وفي تكليفه بها تشريفه وتكريمه، وتوجيهه وتسديده، لتتم له السعادة في الدنيا والآخرة. ثم إن الأحكام الشرعية التي جاءت بها شريعة الله ليست جميعها تكاليف إلزامية، وإنما جاءت على أشكال متعددة. فمنها ما وضع للبشر ليسيروا على نهجها مع خلوها من الطلب والتكليف، وهي التي تسمى في اصطلاح العلماء الأحكام الوضعية. ومنها ما تضمن صوراً من الطلب والِإلزام، تختلف درجة الطلب فيها بين الجزم والترغيب والترهيب، وهي التي تعرف في اصطلاح العلماء بالأحكام التكليفية. ومنها أحكام اختيارية خلت عن الطلب مطلقاً، وترك الخيار فيها للمكلف يفعل ما يشاء وهي التي تمثل دائرة المباح ... وإذا ما قارن الناظر بين هذه الأحكام المختلفة وجد دائرة الإختيار والترغيب في الأحكام أوسع بكثير من دائرة الإِلزام أمراً أو نهياً، مما يوسع على المكلف ويترك له فسحة واسعة من الإختيار والحرية في الفعل والترك، فيترك بعضها أحياناً بمطلق إرادته، حيث خيره الشارع فيها. كما يفعل كثيراً منها رغبة وتطوعاً من نفسه؛ طمعاً في ثواب أو حرصًا على كمال حيث رغبة الشارع في فعلها أو تركها. إذن: فلم يبق بعد ذلك من الإِلزام في الأمر والنهي سوى دائرة ليست من مصلحته أن تترك كغيرها، لحظورتها وأهميتها، خشية أن لا يهتدى بعقله فيها إلى الصواب، فيضل ويشقى فتصبح دائرة التكليف الِإلزامي أضيق دوائر الأحكام الشرعية. وبهذا يتضح لنا بجلاء: "أن الأحكام الشرعية في حقيقتها توجيه وتشريف أكثر منها قيوداً

وحدوداً، وأن التكاليف الربانية أمر ينسجم مع فطرة الإِنسان ويتلاقى مع مزيته التي خصه الله بها من العقل والفهم. فأي حرج على الإِنسان أن يتقيد بها ويعمل بمقتضاها ما دام يعلم علم اليقين أن في الإلتزام بها سعادته وفلاحه في الدنيا والآخرة وينفض عن يديه غبار تلك الأعراف الفاسدة والتقاليد الزائفة والقوانين البشرية القاصدة ويكون عبداً خالصاً لله وحده، والله هو الهادي إلى سواء السبيل" (¬1). • • • ¬

_ (¬1) بتصرف من: الوسيط في أصول الفقه 1/ 42 د. وهبه الزهيلي طبع جامعة دمشق 1385 هـ. وعجلة كلية أصول الدين العدد الأول 1397 هـ -1398 هـ من ص 255 - 270، مقال: حرية الإِنسان بين الأحكام الشرعية والدوافع الغريزية. مطابع الإِشعاع بالرياض.

المطلب الرابع من مظاهر اليسر والسماحة في الشريعة الإسلامية: إجراء الأحكام على وفق الظاهر

المطلب الرابع من مظاهر اليسر والسماحة في الشريعة الإِسلامية: إجراء الأحكام على وفق الظاهر " إن اجتماع الناس واتصال بعضهم ببعض يقضي بحاجة كل واحد إلى الآخر بالقيام بالأعمال وعمل الصناعات، والبيع والشراء، والمساقاة، والمزارعة والنكاح، والطلاق، والنفقات، وغير ذلك من ضروريات الحياة وحاجياتها. والشرع الحكيم وضع لهذا التعامل قواعد وشروطًا تحكم التعامل بين الناس وبالتزام هذه القواعد الشرعية، والأمور المرعية تسير الأمور كما ينبغي أن تكون، ولكن قد تحدث بعض المخالفات التي تؤدي إلى وقوع النزاع والشجار بين الأفراد؛ لذا شرع القضاء بين الناس والحكم بينهم والعدل؛ لإزالة الخصومات، وحل المشكلات، وحفظ الحقوق، وتأديتها إلى أصحابها، وقد وضعت الشريعة الإِسلامية الوسائل والطرق التي تثبت الحق لأهله وذلك فيما سمي "بطرق الإثبات" وهي الوسائل الظاهرة التي يعتمد عليها الحاكم في إثبات الدعوى أو نفيها: كالشهادات، والإِقرار، والإِيمان، والوثائق، والقرائن وغيرها. فإذا توفرت هذه الوسائل لدى القاضي حكم بموجبها" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: النية وأثرها في الأحكام الشرعية "للمؤلف" 2/ 934، 945 مطابع الفرزدق التجارية بالسعودية، الطبعة الأولى 1404 هـ - 1984 م.

ولكن قد يحدث أن يبدي بعض الخصوم شيئًا والواقع خلافه، ومن هنا يأمر الإِسلام من يتولى الفصل بين المتنازعين بأن يجتهد وسعه في تحري الحقيقة والواقع مستنيرًا في ذلك بما لدى الخصمين من إقرارات، وحجج وبينات، ولكن يتجلى يسر الإِسلام وسماحته في أنه لم يكلفه إصابة عين الواقع (¬1). فهو بشر لا يعلم الغيب ولا يطلع على الأفئدة ليعلم الصادق من الكاذب، ولعل بعض الخصوم يكون أبلغ من بعض وأفصح وأبين في حجته منه فيقضي له بما سمعه منه فقط ويجري حكمه على وفق الظاهر ويدع بواطن الأمور لله -تعالى- فهو - سبحانه - وحده الذي يعلم ما تكنه الأنفس وما تخفيه الصدور. روى البخاري في صحيحه: عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - جلبة خصام عند بابه فخرج عليهم فقال لهم: "إنما أنا بشر، وأنه يأتيني الخصم فلعل بعضاً يكون أبلغ من بعض أقضي له بذلك وأحسب أنه صادق فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليدعها) (¬2). قال النووي -رَحِمَهُ اللهُ- في شرح مسلم: "معناه: التنبيه على حالة البشرية وأن البشر لا يعلمون من بواطن الأمور شيئًا إلَّا أن يطلعهم الله -تعالى-على شيء من ذلك. وأنه يجوز عليه - صلى الله عليه وسلم - في أمور الأحكام ما يجوز عليهم، وأنه إنما يحكم بين الناس بالظاهر والله يتولى السرائر فيحكم بالبينة وباليمين ونحو ذلك من أحكام الظاهر، مع إمكان كونه في الباطن ¬

_ (¬1) صور من سماحة الإِسلام، د. عبد العزيز الربيعة ص 22، 23. (¬2) صحيح البخاري 8/ 117؛؛ باب 31 من كتاب الأحكام.

خلاف ذلك ولكنه إنما كلف الحكم بالظاهر، وهذا نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلَّا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلَّا بحقها وحسابهم على الله" (¬1). "ففيه أن الأحكام تجري على الظاهر والله يتولى السرائر، ولو شاء الله -تعالى- لأطلعه على باطن أمر الخصمين فحكم بيقين نفسه من خير حاجة إلى شهادة أو يمين، ولكن لما أمر الله -تعالى- أمته - صلى الله عليه وسلم - باتباعه والإقتداء بأقواله وأفعاله وأحكامه، أجرى له حكمهم في عدم الإطلاع على باطن الأمور ليكون حكم الأمة في ذلك حكمه فأجرى الله -تعالى- أحكامه على الظاهر الذي يستوي فيه هو وغيره، ليصح الإقتداء به وتطيب نفوس العباد للإنقياد للأحكام الظاهرة من غير نظر إلى الباطن والله أعلم" (¬2). وبما أن الشهادة إحدى الوسائل التي تعين القاضي على إصابة الحق، فقد وردت نصوص في القرآن والسنَّة تنهي عن الكذب في الشهادة وتحذر من كتمانها، فمن ذلك قوله -تعالى-: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (¬3)، وقوله -تعالى-: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ...} (¬4) الآية، وغير ذلك. وقد وضع الفقهاء -رَحِمَهُمُ اللهُ- شروطًا إذا توافرت في الشاهد وُصِفَ بالعدالة، وإذا اختل شرط منها وصف بعدم العدالة، ولكن كلها لا تعدو أن تكون شروطًا ظاهرة من غير كشف عن سريرة الشاهد ومعرفة ما ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 1/ 53 حديث رقم 20 مسلسل 35 باب 8 كتاب الإِيمان. (¬2) صحيح مسلم بشرح الإِمام النووي 1/ 212، 12/ 5. (¬3) سورة الحج: آية 30. (¬4) سورة البقرة: آية 283.

يكنه ضميره الذي بين جوانحه ولا يطلع عليه أحد إلَّا الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. روى البخاري في صحيحه بسنده عن عبد الله بن عتبة قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: (إن أناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر لنا خيراً، أمناه وقربناه وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوء لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة) (¬1). هذا: ولم يقف الإِسلام عند هذا الحد من اليسر والسماحة في هذا الجانب من منهاجه الشامل للحياة، بل عممه في جميع الأحكام سواء أكانت في العبادات أم المعاملات أم في القضاء والشهادات، بل وجد ما هو أصرح في إجراء الأحكام على وفق الظاهر مهما وجدت الملابسات، وتعددت القرائن الدالة على خلاف الحقيقة: روى مسلم في صحيحه: بسنده عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلَّا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أقال لا إله إلَّا الله وقتله؟ " قال: قلت يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا، فما زال يكررها علي حتى تمنيت أنِّي أسلمت يومئذ ... الحديث" (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 3/ 148 كتاب الشهادات باب 5. (¬2) انظر: صحيح مسلم 1/ 96 كتاب 1، حديث رقم 96، باب 41.

قال النووي في شرح مسلم: قوله: "أفلا شققت عن قلبه" فيه دليل للقاعدة المعروفة في الفقه والأصول: "إن الأحكام يعمل فيها بالظواهر والله يتولى السرائر" (¬1). ومعنى هذا: أننا كلفنا العمل بالظاهر وما ينطق به اللسان، وأما القلب فليس لنا طريق إلى معرفة ما فيه من القصد والإعتقاد. • • • ¬

_ (¬1) النووي بشرح مسلم 2/ 107.

المطلب الخامس من مظاهر اليسر والسماحة في الشريعة الإسلامية: الأخذ بالعرف

المطلب الخامس من مظاهر اليسر والسماحة في الشريعة الإِسلامية: الأخذ بالعرف " العرف: ما اعتاده الناس، وتواضعوا عليه في شؤون حياتهم، حتى ألفوه واطمأنوا إليه، وأصبح أمراً معروفاً سواء أكان عرفاً قولياً أم عملياً. عاماً أم خاصاً. "والعرف من الأدلة الشرعية عند الفقهاء، وإليه يحتكم في كثير من أحكام الفقه الفرعية وخاصة الأَيْمان والنذور والنكاح والطلاق. قال ابن عابدين في أرجورته: وَالعُرْفُ في الشّرع له اعتبارُ ... لذا عليه الحكمُ قد يُدارُ (¬1) هذا وقد نوه به الفقهاء وبنوا عليه كثيراً من الأحكام واعتبروه حجة في التشريع بدليل قوله -تعالى-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} (¬2). وبما جاء عن ابن مسعود - موقوفاً -: (ما رآه المسلمون حسناً فهو ¬

_ (¬1) الوسيط في أصول الفقه، لوهبة الزحيلي ص 439. (¬2) سورة الأعراف: آية 199.

عند: الله حسن وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيِّء) (¬1). تقسيم العرف: ينقسم العرف إلى قسمين: 1 - قولي. 2 - وعملي، وعام وخاص. فمثال اللفظي: 1 - إطلاق لفظ "الولد" على " الذكر" دون "الأنثى". 2 - ومثال العرف العملي: اعتياد الناس بيع المعاطاة من غير وجود صيغة لفظية، وتعارفهم قسمة المهر في الزواج إلى مقدَّم ومؤخَّر وتعارفهم أكل البُر ولحِم الضأن وغير ذلك. 3 - والعرف العام ما يتعارفه غالبية أهل البلدان في وقت من الأوقات مثل تعارفهم عقد الإستصناع. 4 - والخاص: ما يُتعارف ويشيع في بعض الأقطار أو بعض البلاد دون بعض، أو يخص ببعض الفئات: كالعرف التجاري بين التجار والعرف الزراعي بين الزراع وهكذا (¬2). ومن القواعد الفقهية المشهورة: " (أ) المعروف عرفًا كالمشروط شرطاً. (ب) العادة محكمة. (ج) التعيين بالعرف كالتعيين بالنص. وغيرها ¬

_ (¬1) انظر: كشف الخفاء ومزيل الإِلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس للعجلوني 2/ 188، حديث رقم 2214، طبع دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان الطبعة عام 1351 هـ. (¬2) الوسيط في أصول الفقه، المرجع السابق، والمدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقاء 3/ 844، مادة 486، طابع طبرين، دمشق 1387 هـ.

من القواعد التي مبناها على العرف والعادة" (¬1). وقد ترك الشارع أشياء كثيرة لم يحددها تحديدًا جامدًا صارمًا بل تركها - رحمة بنا من غير نسيان - للعرف يحكم فيها ويعين حدودها وتفاصيلها، كما في قوله -تعالى-: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ...} (¬2) الآية، وقوله -تعالى-: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)} (¬3)، فالعرف هو المُحَكَم في تحديد النفقة للمرأة. والمتعة للمطلقة. "واعتبار العرف في هذه الحالات إذا لم يصادم نصًا ثابتًا أو إجماعاً يقينيًا وكذلك إذا لم يكن من ورائه ضرر خالص أو راجح؛ فأما العرف المصادم للنصوص الذي يحل الحرام أو يحرم الحلال، أو يبطل الواجبات أو يقر البدع في دين الله أو يشيع الفساد في الأرض، فلا اعتبار له ولا وزن له في فتوى أو قضاء" (¬4). نستنبط مما سبق: "أن الأخذ بالعرف يعتبر مثالًا واضحاً على مرونة أحكام الشريعة الإِسلامية وخصوبة الفقه الإِسلامي" (¬5). وأن الإِسلام بتقريره هذه القاعدة قد استحق صفة اليسر والسماحة، ومراعاة الحاجة والمصلحة، ودفع الحرج ¬

_ (¬1) القواعد الفقهية، للسيد محمد عميم الإحسان البركتي الحنفي ص 71 قاعدة رقم 88 وص 90 قاعدة رقم 176 وص 125 قاعدة رقم 334 مطابع كراتشي باكستان. (¬2) سورة البقرة: آية 233. (¬3) سورة البقرة: آية 241. (¬4) انظر وجوب تطبيق الشريعة الإِسلامية ص 88 (مقال عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإِسلامية للدكتور يوسف القرضاوي). (¬5) الوسيط في أصول الفقه للزحيلي ص 447.

والمشقة والتيسير في التكاليف الشرعية والإنسجام مع فطر الناس في كل زمان ومكان. قال في المدخل: (إن العرف في نظر الشريعة يعد مستندًا عظيم الشأن لكثير من الأحكام العملية بين الناس في شتى شعب الفقه وأبوابه وله سلطان واسع المدى في توليد الأحكام وتجديدها وتعديلها وتحديدها وإطلاقها وتقييدها ... وفي اعتباره تسهيل كبير يغني عن كثير من النصوص التفصيلية في الأحكام التشريعية وفي عقود المعاملات اعتمادًا على ما هو معروف ومألوف في شتى الوقائع المحتملة) (¬1). ويحسن بنا تتميمًا للفائدة: أن نضيف إلى ما سبق من مظاهر اليسر والسماحة في الشريعة الإِسلامية مظهرًا آخر يعتبر من الأحكام المبنية على العرف ألا وهو: تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأعراف: - • • • ¬

_ (¬1) المدخل الفقهي العام 3/ 850، مادة رقم 491.

المطلب السادس تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأعراف

المطلب السادس تغيُّر الفتوى بتغيُّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والأعراف تمهيد: "إن ثمة دعوى - يقوم بها قوم في قلوبهم إِحَنٌ وَدِخَنٌ على الإِسلام وأهله - مفادها: ضرورة تطوير الفقه الإِسلامي وإعادة صياغته ليواكب العصر الذي نعيش فيه ويتسع لمواجهة أوضاع الحضارة الحديثة: وهذه دعوى يدندن حولها هؤلاء المغرضون ذرًا للرماد في العيون وتدليسًا على عباد الله الصالحين" (¬1). ورداً على هؤلاء نقول: أولًا: إن هذه دعوى لا تصدر عن شخص مؤمن بالشريعة عالم بخصائصها إذ الإِيمان بأنها من عند الله يوجب تحكيمها دون سواها من القوانين الوضعية القاصرة. ¬

_ (¬1) بتصرف من: الشريعة الإِلهية لا القوانين الجاهلية ص 156، 157. د. عمر سليمان الأشقر ط. الكويت الطبعة الأولى 1983 م.

ثانياً: إنه لو علم خصائصها وميزاتها وما اتصفت به من اليسر والسماحة والمبادئ الفاضلة لأيقن وبدون أدنى شك بصلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان. ثالثاً: إن الشريعة الإِسلامية جاءت مقننة لكل عصر وأوان ولكل حديث وحادثة، فلقد قام فقهاء الإِسلام باستنباط الأحكام ووضعوا القواعد لحل جميع المسائل والمشكلات والمعضلات التي تعرض للمؤمن في حياته ولم يتركوا باباً من أبواب الفقه أو فصلًا من فصوله إلَّا جالوا فيه جولات واسعة مما لم يعرف له نظير أو شبيه عند متشرعي الأمم والشعوب وواضعي القوانين" (¬1). ومثال واحد على ذلك يكفي في الرد على زعم قصور الشريعة وجمودها وعدم تطورها وهو: "أن الفتوى تتغير وتختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد والنيات"، ومعناها: أن الواجب على الفقيه أن لا يجمد على موقف واحد دائم يتخذه في الفتوى أو القضاء أو التعليم أو التأليف وإن تغير الزمان والمكان والعرف والحال، بل ينبغي مراعاة مقاصد الشريعة الكلية وأهدافها العامة عند الحكم في الأمور الجزئية الخاصة (¬2) ". ومن ثم قرر المحققون من أهل العلم أن الفتوى تتغير وتختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأعراف. يقول الإمام ابن القيم ¬

_ (¬1) أحكام المريض في الفقه الإِسلامي: العبادات والأحوال الشخصية ص 21. تأليف: أبو بكر إسماعيل محمد ميقا رسالة ماجستير بالمعهد العالي للقضاء طبعة أولى 1401 هـ. (¬2) وجوب تطبيق الشريعة الإِسلامية ص 113.

-رَحِمَهُ اللهُ-: "فصلٌ: في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد: هذا فصل عظيم النفع جداً، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج، والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح، لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - أتم دلالة وأصدقها وهي نوره الذي به أبصر المبصرون وهداه الذي اهتدى المهتدون وشفاؤه التام الذي به رواء كل عليل وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، فهي قرة العيون وحياة القلوب ولذة الأرواح فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها" (¬1). "فالأحكام قد تتغير بسبب تغير العرف أو تغير مصالح الناس، أو لمراعاة الضرورة أو لفساد الأخلاق وضعف الوازع الديني أو لتطور الزمن وتنظيماته المستحدثة، فيجب تغير الحكم الشرعي لتحقيق المصلحة ورفع المفسدة وإحقاق الحق والخير. ¬

_ (¬1) أعلام الموقعين عن رب العالمين 3/ 14، 15.

وليس معنى هذا أن الأحكام الشرعية كلها قابلة لتغير الفتوى بها بتغير الزمان والمكان والعرف، بل هذا كائن بالنسبة للأحكام الإجتهادية المتعلقة بالمعاملات أو الأحوال المدنية من كل ما له صلة بشؤون الدنيا وحاجات التجارة والإقتصاد، أما الأحكام التعبدية والمقدرات الشرعية وأصول الشريعة الدائمة فلا تقبل التبديل مطلقًا مهما تبدل المكان وتغير الزمان" (¬1). ويقول ابن قيم الجوزية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "والأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها. لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة: كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه. والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكاناً، وحالًا: كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة؛ فشرع التعذيب بالقتل لمدمن الخمر في المرة الرابعة، فعن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا شربوا الخمر فاجلدوهم. ثم إذا شربوا فاجلدوهم ثم إذا شربوا فاجلدوهم ثم إذا شربوا فاقتلوهم" (¬2). وهذا الذي قرره ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ- قرره غيره من المحققين في المذاهب الأخرى: كالِإمام القرافي المالكي في كتاب (الفروق) وغيره ¬

_ (¬1) انظر: الخصائص العامة للإسلام ص 223 - 234. (¬2) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 1/ 331، طبع مكتبة السنَّة المحمدية بمصر، سنن ابن ماجه 2/ 89، رقم الحديث 2601 - باب 17 من أبواب الحدود، الطبعة الثانية 1404 هـ مطابع الشركة العربية السعودية الرياض.

وكالعلامة ابن عابدين الحنفي في رسالته. "نشر العَرْف في بناء بعض الأحكام على العُرْف". أصل قاعدة تغيُّرِ الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأعراف: لهذه القاعدة دليل وأصل في الكتاب والسنَّة، وفي هدي الصحابة وسير الخلفاء الراشدين وفي عهد التابعين ومن بعدهم. فمثال ذلك في القرآن الكريم: آيات الصبر والصفح والعفو والإِعراض عن المشركين ونحو ذلك مما قال فيه كثير من المفسرين: نسختها آية السيف والحق أن لهذه الآيات وقتها ومجالها ولآية السيف وقتها ومجالها كذلك. قال الإمام السيوطي في "الإتقان" في علوم القرآن "ما نصه: في النوع السابع والأربعين من علوم القرآن: في ناسخ القرآن ومنسوخه: "الثالث: ما أمر به لسبب ثم يزول السبب كالأمر - حين الضعف والقلة - بالصبر والصفح ثم نسخ بإيجاب القتال، وهذا في الحقيقة ليس ناسخاً بل هو من قسم المنسأ، كما قال -تعالى-: {أو ننساها}: فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى، وبهذا يضعف ما لهج به كثيرون من أن الآية في ذلك منسوخة بآية السيف وليس كذلك بل هو من المنسأ، بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت مَّا لعلة تقتضي ذلك الحكم بل ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر وليس بنسخ وإنما النسخ الِإزالة للحكم حتى لا يجوز امتثااله. اهـ." (¬1). ¬

_ (¬1) الإتقان في علوم القرآن للإِمام جلال الدين السيوطي الشافعي 2/ 21 طبع دار الفكر - لبنان.

ومثاله من السنَّة النبوية: ما روى البخاري بسنده: عن سلمة بن الأكوع قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وفي بيته منه شيء فلما كان العام المقبل قالوا يارسول الله نفعل كما فعلنا العام الماضي قال: كلوا وأطعموا وادخروا فإن ذلك العام كان بالناس جهد فأردت أن تعينوا فيها" (¬1). فهذا مثل واضح لتغير الفتوى بتغير الأحوال والظروف، فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام لعلة معينة وأسباب طارئة فلما انتهى هذا السبب العارض وزالت هذه العلة الطارئة زال الحكم الذي أفتى به الرسول تبعًا لها وغير فتواه من المنع إلى الإِباحة. وأكثر الفقهاء على اعتبار هذه الإِباحة نسخًا للنهي المتقدم والتحقيق أنه ليس من باب النسخ بل من باب نفي الحكم بانتفاء علته" (¬2). قال الإمام القرطبي في تفسيره: "اعلم أن المرفوع بالنسخ لا يحكم به أبداً، والمرفوع لارتفاع عليته يعود الحكم لعود العلة، فلو قدم على أهل بلدة ناس يحتاجون في زمان الأضحى ولم يكن عند أهل ذلك البلدة سعة يسدون بها فاقتهم إلَّا الضحايا لتعين عليهم أن لا يدَّخروها فوق ثلاث كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - " (¬3). والناظر في سنَّة الراشدين وهدي الصحابة - رضي الله عنهم - يجدهم أفقه الناس في استعمال هذه القاعدة - قاعدة تغير الفتوى بتغير موجباتها - ولذلك أمثلة عديدة منها: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 6/ 239 - باب 16 من كتاب الأضاحي. (¬2) وجوب تطبيق الشريعة الإِسلامية ص 118، 119. (¬3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 12/ 48.

ما روى البخاري: عن السائب بن يزيد قال: كنا نؤتي بالشارب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإمرة أبي بكر، وصدراً من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين) (¬1). ما روى الدارقطني بسنده عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أزهر عن أبيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم أتى بشارب خمر وهو بحنين فحثى في وجهه التراب. ثم أمر أصحابه فضربوه بنعالهم، وبما كان في أيديهم، فقال لهم (ارفعوه، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتلك السنَّة، ثم جلد أبو بكر في الخمر أربعين، ثم جلد عمر أربعين صدراً من إمارته ثم جلد ثمانين في آخر ولايته، ثم جلد عثمان الحدين جميعاً ثمانين وأربعين، ثم أثبت معاوية الجلد ثمانين) (¬2). فدل على أن الصحابة - رضي الله عنه - لم يثبت لديهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت في الخمر حداً معيناً، ولو ثبت لهم ذلك، لم يحتاجوا إلى المشاورة فيه؛ لذا: تغير حكمهم واختلفت فتاواهم بتغير الزمن واختلاف الأحوال. وهذا يدل على أن العقوبة تختلف باختلاف حال المجرم، ومقدار عتوه، واشتهاره بالفجور، وتكرار الجريمة منه مرة بعد مرة، وعدم ارتداعه بالعقوبة فمثل هذا يشدد عليه، ليرتدع ويزدجر بخلاف من لم يشتهر بفسق ولا فجور" (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 8/ 14 - باب 4. (¬2) سنن الدارقطني 3/ 158، طبع ونشر مكتبة المتنبي بالقاهرة. (¬3) وجوب تطبيق الشريعة الإِسلامية ص 126.

قال الحافظ ابن حجر (¬1) -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (قال القاضي عياض: أجمعوا على وجوب الحد في الخمر واختلفوا في تقديره فذهب الجمهور إلى الثمانين، وقال الشافعي في المشهور عنه، وأحمد في رواية، وأبو ثور وداود أربعين، وتبعه على نقل الإِجماع ابن دقيق العيد والنووي، وما تبعهما وتعقب بأن الطبري، وابن المنذر وغيرها حكوا عن طائفة من أهل العلم أن الخمر لا حد فيها وإنما فيها التعزير، بدليل الأحاديث الصحيحة التي سكتت عن تعيين عدد الضرب، وما جاء عن ابن عباس وابن شهاب من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقتصر في ضرب الشارب على ما يليق بحاله ... "وللدارقطني عن عبد الرحمن ابن أزهر قال: ... وكان عمر إذا أتى بالرجل الضعيف الذي كانت منه الذلة ضربه أربعين، قال وجلد عثمان أيضًا ثمانين وأربعين) (¬2). وبعدُ: فإن الإستقراء أثبت أن الأحكام كلها في الشريعة الإِسلامية تقوم على المصلحة الإنسانية، فما من أمر أوحكم للإِسلام إلَّا وقد أثبت فيه المصلحة وحرص فيه على حرية الأفراد وحقوق الجماعات، وضمان أمنها واستقرارها وحريتها التامة ... وهذه هي الشريعة الإِسلامية قد أوجبت الحد على من شرب السكر من أي نوع دون ضرورة ملجئة إلى ذلك، ولكن مراعاة لحال الشارب واستجابة لظروفه نرى أن حكمه يختلف عن حكم من اشتهر بالعتو والفسوق مما يجعلنا نقول: إن حد شارب الخمر يمكن أن يدخل في باب العقوبة ذات الحدين أي يكون لها حد أدنى يمكن الإكتفاء به إذا رأى الحاكم أن ذلك يكفي لردع الشارب وإن عاد إليها أمكن للحاكم أن يزيد في ¬

_ (¬1) فتح الباري 12/ 173. (¬2) سنن الدارقطني/ 157.

العقوبة فيما بين الأربعين والثمانين، فيكون ضرب "الثمانين" هو الحد الأعلى في هذه العقوبة وَحَدُّها الأدنى الذي لا يقل عنه "أربعين". إن من يلقي مجرد نظرة على هذا الحكم العادل، والتشريع الحكيم ويقيسه بتلك الأحكام السخيفة القاصرة التي ما أنزل الله بها من سلطان سيرى البون الشاسع والفرق الكبير: ومن يستعرض مواد القانون الوضعي في هذا المجال فيستضح له الإرتباك من خلال ذلك، والتناقض أيضًا. فهو يشدد فيما لا يقتضي الشدة ويلين ويتساهل فيما يتطلب ضد ذلك من التحفظ والضبط والزجر والردع ففي المادة (385) الفقرة الثانية من القانون المصري مثلًا جاء: "من وُجِد في حالة سُكر بيّن في المحلات العمومية يعاقب بغرامة لا تتجاوز جنيها مصريًا واحدًا ... أو الحبس لمدة لا تزيد عن أسبوع" (¬1). فبالله كيف يرتدع المجرم من مثل هذا الحكم الجائر الناقص، وما يفيد في ردع المجرم السجن أو الغرامة؟! حقًا إنها سوف تتكرر الجريمة حيال هذه العقوبات السخيفة بل سوف تنتشر دون مبالاة بها كما يشهد بذلك الواقع في البلدان التي اتخذت من القانون دستورًا لها. وهذا مثال من أمثلة كثيرة ترينا "ما تمتاز به الشريعة الغراء بعدالتها في الأحكام وضبطها للشهوات الجامحة والأنفس الثائرة، ووضعها لكل جريمة عقوبة تناسبها وتناسب فاعلها كافية في ردعه ومنعه عن ارتكابها مرة أخرى" (¬2). كذلك ما تمتاز به من المرونة والسعة، وما يلمسه الدارس لفقهها ¬

_ (¬1) التشريع الجنائي الإِسلامي مقارنًا بالقانون الوضعي، لعبد القادر عودة 1/ 650. (¬2) دراسات في التشريع الجنائي الإِسلامي المقارن بالقانون الوضعي، تأليف: =

من الأمثلة والوقائع والأحكام الكثيرة التي تركت فيها النصوص قصداً لإجتهاد المجتهدين في الأمة ليصدروا فتاواهم بما هو أصلح للناس وأليق بزمانهم وحالهم مراعين في ذلك المقاصد العامة للشريعة مهتدين بروحها ومحكمات نصوصها. • • • ¬

_ = عبد الله بن سالم الحميد/ مطابع النصر الحديثة بالرياض، الطبعة الثانية 1400/ 1401 هـ.

المبحث السابع الإيمان بالأسس التي قام عليها التشريع الإسلامي في الحكم

المبحث السابع الإِيمان بالأسس التي قام عليها التشريع الإِسلامي في الحكم ويتضمن هذا المبحث تمهيد وثلاثة مطالب هي: المطلب الأول: الشورى ومكانتها في سياسة وإدارة الدولة الإِسلامية. المطلب الثاني: العدل أساس من أسس التشريع في الإِسلام. المطلب الثالث: المساواة من الأصول العامة للتشريع في الإِسلام.

تمهيد

تمهيد إن الإِسلام في حقيقته العليا الشاملة "دين ودولة"، وقد تحدثت عن: الجانب الأول من جانبي الإِسلام باعتباره ديناً يقوم أولاً على الإِيمان بالله ثم الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين وأن الدين قد استقرت أسسه وكمل بنيانه على قواعده التشريعية الثابتة التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان والأشخاص والأشياء، وقد ذكرتُ طرفًا منها: - وأما الجانب الثاني من جوانب الإِسلام باعتباره دولة فهو الجانب العملي الذي يقوم على تنظيم الأوضاع لسلطات التنفيذ لتشريعات الإِسلام وقواعده العملية التي جاء بها. وهذا الجانب مرتبط أشد الارتباط بالجانب الأول بل هما ممتزجان امتزاجاً يُكوِّن حقيقة الإِسلام الكاملة الشاملة. لهذا كان من اللازم بيان الأسس التي تعد ركناً أساسياً في بناء الدولة الإِسلامية، وقصدنا من بيان هذه الأسس بيان أثر نظام الحكم كما أمر به الإِسلام في تطبيق سماحة تشريعه وأن نضع بين يدي الأمة الإِسلامية نماذج من هذه الأسس لنقول لها إننا جربنا كثيراً من ألوان الحكم وأنظمته التي لا يقرها الإِسلام بل أقحمت على اْمته إقحاماً في فترات ضعفها وجهلها فلم

تفلح تلك الأنظمة في تحقيق ما تبتغيه الأمة من إصلاح يبلغ بها مكانها من العزة والكرامة، فلنجرب العودة إلى تاريخنا ومجدنا ومصدر عزنا وسعادتنا فنؤمن بالأسس التي قام عليها التشريع الإِسلامي ونترجم ذلك إلى تطبيق عملي يحقق الحكمة من مشروعيتها فيعيش المجتمع الإِسلامي في ظلها في أمن ورخاء ومحبة، وتعاون بين الحاكم والمحكوم، ومن أهم هذه الأسس: المطلب الأول: الشورى. المطلب الثاني: العدل. المطلب الثالث: المساواة.

المطلب الأول الشورى

المطلب الأول الشورى من الأسس العظيمة والقيم الأخلاقية في الشريعة الإِسلامية قاعدة الشورى، وهي من أهم قواعد الشريعة الإِسلامية التي نطق بها القرآن الكريم ... قال -تعالى-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} (¬1). وقال -تعالى-: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)} (¬2). كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - على عظيم قدره، ومنزلته وتأييده بوحي السماء كان كثير المشاورة لأصحابه في كثير من الشؤون التي لم ينص عليها في القرآن. وكان صلى الله عليه وسلم يعمل بما يظهر له أنه الصواب. 1 - فقد قال لأصحابه يوم بدر: "أشيروا علي أيها الناس" (¬3) فأشار عليه الحباب بن المنذر بالنزول على الماء فقبل منه. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: آية 159. (¬2) سورة الشورى: آية 38. (¬3) المواهب اللدنية بالمنح المحمدية لِلْقَسْطُلَّاني 1/ 412.

2 - وأشار عليه السعدان: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة يوم الخندق بترك مصالحة العدو على بعض ثمار المدينة لينصرفوا فقبل منهما (¬1). 3 - (كما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - استشار المسلمين قبل أن يخرج لغزوة أحد وأنهم أشاروا عليه بأن يخرج لقتال أعدائهم. وكان من رأيه أن يبقى في المدينة مدافعاً، ولكنه نفذ ما أشاروا عليه به وخرج وانتهى الأمر بمحنة المسلمين، وفي هذا برهان على أن الله - سبحانه وتعالى - يريد أن تكون سياسة المسلمين قائمة على مبدأ الشورى وأن لا يستبد بها فرد مهما كانت نتيجة المشاورة، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مأموراً بالشورى وهو الذي يمتاز بكماله العقلي والروحي واتصاله بالوحي الإِلهي فغيره أولى بالأمر بالأخذ بهذا الأساس العظيم) (¬2). قال ابن عطية -رَحِمَهُ اللهُ- في تفسيره: (والشورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه، وقد مدح الله المؤمنين بقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ...} (¬3)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما خاب من استخار ولا ندم من استشار ولا عال من اقتصد" (¬4) ... والشورى بركة، وقد جعل ¬

_ (¬1) البداية والنهاية، لإبن كثير -رَحِمَهُ اللهُ- 4/ 104، 105، طبع ونشر مكتبة المعارف - بيروت. (¬2) انظر: البداية والنهاية 4/ 11، وجوب تطبيق الشريعة الإِسلامية ص 154، 155. (¬3) سورة الشورى: آية 38. (¬4) نسبه صاحب فيض القدير إلى الطبراني في الأوسط. (فيض القدير للمناوي) 5/ 244 برقم 7895. وقال الألباني في الجامع الصغير وزيادته موضوع 5/ 92 حديث رقم 5058، ط المكتب الإِسلامي - بيروت.

عمر بن الخطاب الخلافة وهي أعظم النوازل شورى، وقال الحسن: والله ما تشاور قوم بينهم إلَّا هداهم الله لأفضل ما بحضرتهم) اهـ (¬1). وأخرج الشافعي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (ما رأيت أحداً أكثر مشاورة لأصحابه من المصطفى - صلى الله عليه وسلم) (¬2). ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن في حاجة قط إلى مشاورة أحد منهم، لأنه مؤيد بالوحي {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (¬3) ومسدد من الله -تعالى- في اجتهاده، ولم يكن يجتهد إلَّا فيما لم ينزل عليه فيه وحي وكان اجتهاده واقعًا تحت إقرار الوحي ... أخرج البيهقي في الشعب عن أنس وابن عباس - رضي الله عنهما - لما نزل: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: "أما أن الله ورسوله يغنيان عنها لكن جعلها الله رحمة لأمتي. فمن استشار منهم لم يعدم رشدًا ومن تركها لم يعدم غياً". قال ابن حجر: غريب (¬4). وقال الحسن البصري: (ما أمر الله نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل، ولتقتدي به أمته من بعده) (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لإبن عطية 3/ 397، 398 طبعة أولى 1404 هـ الدوحة - قطر تحقيق عبد الله الأنصاري وعبد العال إبراهيم. (¬2) فيض القدير للمناوي 5/ 442 طبعة ثالثة 1391 هـ، دار المعرفة - بيروت، بيروت - لبنان. (¬3) سورة النجم: الآيتان 3، 4. (¬4) انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي 5/ 443. (¬5) الموسوعة في سماحة الإِسلام، للصادق عرجون 1/ 541.

وقال الحسن أيضاً: (كان والله غنيًا عن المشاورة ولكن أراد أن يستن لهم) (¬1). وقال علي - رضي الله عنه -: (الإستشارة عين الهداية وقد خاطر من استغنى برأيه والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم) (¬2). ولذا (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا ما يحض على إقامة الشورى من بعده بما يشعر بوجوبها ... عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاؤكم، وأمركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها. وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاؤكم وأموركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها) (¬3). ففي هذا وعد بالخير والبركة في حياة المسلمين ما داموا متمسكين بالشورى، وفيه وعيد شديد وإنذار بما تلقاه الأمة في حياتها من الشدائد والمحن إذا تخلت عن الشورى الجادة وخضعت للعواطف المائعة واكتفت في أمورها برأي النساء، ورأى غالبهن إلى أفنْ (ضعف) وعزمهن إلى وهن!! (ومن يقرأ حياة الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - والصالحين من ولاة الأمر في خير قرون الإِسلام يجد أن الشورى كانت ديدنهم في جميع ما ¬

_ (¬1) زاد المسير في علم التفسير لإبن الجوزي 1/ 488، طبعة أولى ط المكتب الإِسلامي - دمشق. (¬2) المرجع السابق من زاد المسير 1/ 488. (¬3) رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. مشكاة المصابيح للتبريزي 3/ 1474، حديث رقم 5368، تحقيق الألباني، طبع المكتب الإِسلامي - الطبعة الثالثة 1405 هـ بيروت.

يعرض لهم من الحوادث التي لم يكن فيها نص من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، سواء أكان ذلك من قبيل سياسة الأمة أم من قبيل التشريع الاستنباطي في الأحكام الشرعية أم كان من قبيل مصالح الحروب وتعيين قوادها وتجهيز الجيوش، ومعاهدات الصلح وتحديد علاقات الأمة بغيرها من الأمم في حالتي الحرب والسلم، وإقامة موازين العدل بين الأفراد والجماعات، إلى غير ذلك مما يشمل كل جانب من جوانب حياة الأمة الإِسلامية) (¬1). مهمة الشورى وأهميتها في حياة الأمة: إن مهمة الشورى هي: (تقليب أوجه الرأي واختيار اتجاه مناسب من الإتجاهات المعروضة .. وهي خير وسيلة لتربية الأمم وإعدادها للقيادة الرشيدة وتدريبها على تحمل التبعات. وهي الدعامة الأولى التي يقوم عليها نظام الحكم في الإِسلام، فلا يجوز لحاكم ولا لمجتمع أن يلغي الشورى من حياته السياسية، والإجتماعية ولا يحل لسلطان أن يقود الناس رغم أنوفهم إلى ما يكرهون بالتسلط والجبروت كما هو حال كثير من القادة والرؤساء الذين يعميهم التعصب الممقوت والإستبداد بالرأي، فينزلقون إلى الشر ويجرون وراءهم الأمم والشعوب إلى مهاوي الهلكة والدمار!!. ولكن الشورى في الإِسلام ربانية المصدر، فلا يجوز لحاكم أن يعطلها ليبسط سلطان طغيانه على الناس {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} على حين يجوز للحاكم في الدول ذات الدساتير الوضعية أن يعطل الدستور، ¬

_ (¬1) بتصرف من: الموسوعة في سماحة الإِسلام 1/ 542، 543.

ويفرض الأحكام العرفية باسم ضرورات الأمن وضبط النظام ومن ثم يكون التسلط والطغيان) (¬1). قاعدة الشورى في الإِسلام: (ليست الشورى في المجتمع الإِسلامي على غرار الشورى في المجتمات الديمقراطية، فهذه شورى ابتدعها الإِنسان للتشاور في صيغة حكمه نفسه بنفسه، ولكن الشورى في الإِسلام شرعت للتداول بين أصحاب العقول الراجحة من أهل الحل والعقد للتوصل إلى الصورة المثلى في تطبيق حكم الله على البشر ... كذلك فإن قاعدة الشورى تمثل أجلى مظاهر اليسر والسماحة والتوازن بين الثبات والمرونة في الشريعة الإِسلامية، فإذا كانت الشورى واجبة على المسلمين بمقتضى قوله -تعالى-: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}، وقوله -تعالى-: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، وهذا يمثل عنصر الثبات والدوام، فإن تفصيل النظم الشورية والطرق التي تكون بها - مما يختلف باختلاف الأحوال والزمان والمكان - قد تركت لكل أمة تنظمها حسب الظروف والأحوال، حسبما يتفق ومصلحتها، فيستطيع المسلمون في كل عصر أن ينفذوا ما أمر الله به من الشورى بالصورة التي تناسب حالهم وأوضاعهم، وتلائم موقعهم من التطور، دون تحديد شكل معين أو قيد ¬

_ (¬1) انظر: القول المبين في سيرة سيد المرسلين. د. محمد الطيب النجار ص 188 مطابع الكيلاني بالقاهرة، وانظر: الإِسلام والحضارة ودور الشباب المسلم ص 57، 58. المجلد الأول، طبعة ثانية - الرياض 1405 هـ (أبحاث ووقائع اللقاء الرابع للندوة العالمية للشباب الإِسلامي المنعقد في الرياض من 20 - 27 ربيع الثاني 1399 هـ).

يلزمهم بذلك وهذا يمثل عنصر السعة والمرونة واليسر والسماحة والسبيل الأقوم للشورى في الإِسلام) (¬1). أهل الشورى: (إن الشورى التي أوجبها الله -سبحانه- لا يفهم منها أنها لمجموع اْفراد الأمة أو الأكثرية المطلقة فيها وإنما لأهل الحل والعقد قاصرة على علية القوم من ذوي العقول الراجحة والكفاءات العلمية المتخصصة، وهم زعماؤها ورؤساؤها وعلماؤها العالمون بشريعتها ومصالحها السياسية والإجتماعية والقضائية والإِدارية) (¬2). دون الغوغائيين وسفلة القوم من محترفي السياسة وتجارها كما هو الحال في البرلمانات ومجالس الشعب في كثير من الدول التي تدين بالاسلام!! وفي القرآن الكريم تكررت آيات كثيرة تنص على أن الرأي لأهل الفضل والعلم؛ ليس لأكثر الناس على التعميم قال -تعالى-: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)} (¬3). فإذا كانت طاعة الكثرة الجاهلة تضل عن سبيل الله، فليس من الصواب أن تكون لهم المشورة، وإنما ترجع المشورة إلى أهل الرأي والحكمة بدليل ¬

_ (¬1) بتصرف من: الخصائص العامة للإسلام ص 201 د. يوسف القرضاوي طبع دار غريب للطباعة بمصر الطبعة الثانية 1401 هـ. (¬2) روح الدين الإِسلامي عفيف طبارة ص 303 طبعة ثانية 28/ 1/ 1389 هـ، طبع الشركة العامة للطباعة - بيروت. (¬3) سورة الأنعام: آية 116.

قوله -تعالى-: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (¬1). وقال -تعالى-: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)} (¬2). ويقول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: فيما رواه عنه ابن مسعود - رضي الله عنه -: "ليليني منكم أولو الأحلام والنُّهَى، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وإياكم وهيشات الأسواق" (¬3) (¬4). (فإشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - بتقديم أولى الأحلام والنهي ليكونوا خلفه في الصلاة ترشيح لهم ليكونوا من أهل الشورى والحل والعقد في المجتمع الإِسلامي، وشتان ما بين شورى تعتمد على السوقة وطغام القوم وسفلتهم، وبين شورى تعتمد على أعيان الفضل وغرر المجد وهامة الشرف والتقوى في المجتمع. نعم هناك أمور تتعلق الحقوق فيها برأي العامة الذين تتصل بهم اتصالًا مباشرًا ولا يحتاج الرأي فيها إلى كبير تدبير، فتكون مشورتهم حينئذ ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 83. (¬2) سورة الزمر: آية 9. (¬3) هيشات الأسواق: الإختلاط والنزاع والخصومات ورفع الأصوات واللغط والفتن التي فيها. انظر: المنتقى من أخبار المصطفى، لمجد الدين أبي البركات عبد السلام بن تيمية الحراني -رَحِمَهُ اللهُ- 1/ 646، حديث رقم 1467، تحقيق محمد حامد الفقي، طبع ونشر الرئاسة العامة لإِدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالسعودية. (¬4) رواه مسلم في صحيحه 1/ 323، حديث رقم 432، باب 28 من كتاب الصلاة، رقم 4.

حقًا من حقوقهم لا يقضي فيها إلَّا إذا أخذ رأيهم بطريقة من طرق تعرف الرأي المتاحة في المجتمع ومثال ذلك ما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته، لتقتدي به من بعده) (¬1). روى البخاري في صحيحه بسنده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: معي من ترون (أي من عامة الناس وخاصتهم) وأحب الحديث إلى أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال، وقد كنت استأنيت بكم وكان أَنْظَرَهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بضعَ عشرة ليلة حين قفل من الطائف فلما تبين لهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير راد إليهم إحدى الطائفتين قالوا فإنا نختار سبينا فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسلمين فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: "أما بعد: فإن إخوانكم قد جاؤنا تائبين وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم فمن أحب منكم أن يُطَيِّب ذلك فليفعل ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إيا 5 من أول ما يُفِيُء الله علينا فليفعل. فقال الناس: قَدْ طَيَّبْنَا ذلك يا رسول الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه أنهم قد طَيَّبوا وأَذِنوا" (¬2). فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنا لا ندري -على التفصيل والتعيين - من أذن منكم ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم" أي بعد التعرف ¬

_ (¬1) انظر: الإِسلام والحضارة ودور الشباب المسلم، أبحاث ووقائع اللقاء الرابع للندوة العالمية للشباب الإِسلامي المنعقدة في الرياض 1399 هـ، ص 57، 58، والموسوعة في سماحة الإِسلام 1/ 537. (¬2) صحيح البخاري 5/ 100، باب 54 من كتاب المغازي، رقم 64.

على رأي كل فرد منكم في حرية وطيب نفس فهذا مسلك يرشدنا إلى أدق ما وصلت إليه السياسة في تعرف رأي العامة فيما يتصل بما يكون للأفراد حق فيه، ويرشدنا كذلك إلى أن سياسة المسلمين مشاركة إيجابية بين الراعي والرعية وتعاون حقيقي فيما بينهم: فالرئيس الأعلى للدولة سلطته محكومة بشريعة الإِسلام في مبادئها العامة وقواعدها الكلية وأحكامها التفصيلية، فإذا وقع من الحوادث ما يتصل بالأفراد في حق من حقوقهم أو واجب من واجباتهم بادر إلى طلب الشورى من أهلها ولزام على الرعية أن يبدوا آراءهم حتى ولو تعارضت مع رأيه فما دام الحاكم مسلمًا تقيًا لا يجد غضاضة أن يسمع المعارضة تأتيه من أي فرد من أفراد الرعية، فيتقبلها بطيب خاطر ويرد عليها بسماحة نفس كما كان من عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حينما اعترضه أحد المعترضين فقال له عمر: "لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها) (¬1). فِيمَ تكون الشورى؟ هذا ... وكما تكون الشورى في أمور السياسة ويستشار فيها أهل الحل والعقد والتجربة والخبرة كذلك تكون في أمور العلم والدين وفي الأمور المتعلقة بالأسرة وغيرها. • • • ¬

_ (¬1) بتصرف من: الإِسلام والحضارة ودور الشباب المسلم ص 134.

المطلب الثاني العدل أساس من أسس التشريع في الإسلام

المطلب الثاني العدل أساس من أسس التشريع في الإِسلام العدلُ شِعار الدين:؟ إذا كان لكل دين شعار خاص به وسمة تميزه عن غيره فإن شعار ديننا الإِسلامي الذي يميزه ويعين حقيقته (العدل). وهو الدعامة الوطيدة والميزة الحقيقية للشريعة الإِسلامية، ومن القيم الأصيلة الراسخة في المجتمع الإِسلامي وهو ميزان الإجتماع في الإِسلام يقوم به أبناء الجماعة. وإنه لعدل فذ فريد في تاريخ الأمم والشعوب، شهد بذلك كل من سمع به من سيرة الحكام والقضاة المسلمين، أو اطلع على النصوص القاطعة التي أمرت به، أمرًا لا مجال للترخيص أو الإجتهاد فيه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ...} (¬1). وهو عدل مجرد دقيق خالص لا يميل ميزانه بالود والشنآن، ولا يؤثر في نصاعته ميل إلى قرابة أو نسب {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 58.

فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)} (¬1). وقال -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)} (¬2). أمثلة من العدل في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ولقد ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أروع الأمثلة في العدل حينما جاء أسامة بن زيد يستشفع في المرأة المخزومية التي سرقت، وعزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قطع يدها فقال له: "أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟ والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" (¬3). فالعدل في الإِسلام عدل مطلق يطبق على الكبير والصغير والشريف والوضيع والأمير والسوقة والمسلم وغير المسلم، ولا يفلت من قبضته أحد، وهذا مفرق الطرق بين العدل في المجتمع الإِسلامي وغيره من المجتمعات (¬4). وكما أن من مقاصد الإِسلام رفع الحرج ودفع المشقة ورعاية مصالح الناس وأحوالهم فإن من أهم مقاصده أيضًا تحقيق العدالة ومنع الظلم بين الأفراد والتزام العدل والتوسط في الأمور كلها وبحسب العادات: قال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ...} (¬5) الآية. ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 135. (¬2) سورة المائدة: آية 8. (¬3) الحديث بمعناه انظر: صحيح البخاري 8/ 16، كتاب الحدود - باب 12. (¬4) انظر: الإِسلام والحضارة ودور الشباب المسلم ص 56. (¬5) سورة البقرة: آية 143.

قال القرطبي -رَحِمَهُ اللهُ-: (المعنى: وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم والوسط: العدل، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها ... ولما كان الوسط مجانبًا للغلو والتقصير كان محموداً: أي هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم) (¬1). وقال السيوطي: (قوله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} يستدل به على تفضيل هذه الأمة على سائر الأمم. وقوله -تعالى-: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} يستدل به على حجية إجماع الأمة) (¬2). ومن يستعرض آيات القرآن التي تحض على العدل وتأمر به وتنفر من الظلم والحيف وتحذر منه يجد أن فيها كلها مطالبة واضحة بالتزام العدل في كل شيء ومن كل شخص وبالنسبة للناس جميعاً حتى مع الأعداء سواء في إصدار الأحكام الإجتهادية أم القضائية أم في نطاق السياسة والحكم والِإدارة أم في تولية المناصب والوظائف أم دي فرض الضرائب وجباية المال. وصرفه فيما ينفع الناس، أم في مجال الأسرة والتربية والتعليم وغير ذلك {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ...} (¬3) الآية. قال الشاطبي: (الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق ¬

_ (¬1) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2/ 155 ط دار الكتاب العربي للطباعة والنشر 1387 هـ - لبنان. (¬2) انظر: الإِكليل في استنباط التنزيل ص 33 ط. دار الكتب العلمية - لبنان. (¬3) سورة النحل: آية 90.

الوسط الأعدل الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال، بل هو تكليف جار على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الإعتدال كتكاليف الصيام والصلاة والحج والزكاة وغير ذلك مما شرع علي غير سبب أو لسبب) (¬1). العدل من صميم التطبيق لأحكام الشريعة الإِسلامية: فالعدل في الإِسلام من صميم التطبيق لأحكام الشريعة وليس مبدأً مستقلًا عنها لأن مصدره الوحي الإلهي من قرآن أو سنة نبوية أو اجتهاد المجتهدين الذين يستنبطون الأحكام من المصدرين السابقين بالقياس، بخلاف القانون الوضعي الذي يعتبر فكرة العدالة مصدرًا مستقلًّا خارجًا عنه يلجأ إليه القاضي أخيرًا ليستوحي القاعدة القانونية، ثم إن الشريعة مقاصدها تتصف بقوة الإِلزام الذي تستمده من الشارع الحكيم بخلاف القانون الوضعي الذي يستمد مقاصده من سمو المبادئ التي تحتوي عليها والتي تختلف بحسب الزمان والمكان) (¬2). صور وضيئة للعدل في الإِسلام: هذا (وإذا كان العدل من السمات الأخلاقية المتميزة للدولة الإِسلامية وشريعتها فإنه لا يقتصر على أفراد الدولة فقط -أعني المسلمين فحسب- بل إن عدالة الإِسلام للإنسان (بإطلاقِ) أيًّا كان أصله العِرْقِي أو اللغوي أو طبقته أو عقيدته دون تمييز أو محاباة أو تحامل أو استعلاء، وليس أدل ¬

_ (¬1) الموافقات، للشاطبي 2/ 163. (¬2) انظر: الضرورة الشرعية، لوهبة الزحيلي ص 47، 48، مقاصد الشريعة الإِسلامية لعلال الفاسي ص 41، 52.

على ذلك مما وعاه التاريخ وبقي صورة وضيئة للعدل عبر القرون من ذلك مثلًا: وقفة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بجانب خصمه النصراني والذي سرق درعه، أمام شريح الذي لم يمنعه إكباره وإجلاله لأمير المؤمنين أن يطلب منه البينة على سرقة النصراني درعه، ولما لم يجد أمير المؤمنين البينة حكم القاضي للنصراني على أمير المؤمنين ... إلخ) (¬1). والتاريخ الإِسلامي حافل بأمثال هذه الأخبار الدالة على سيادة الحق والعدل في المجتمع الإِسلامي وحرية القضاء واستقلاله في المحكمة الإِسلامية ورسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري في القضاء التي حددت معالم الحق والعدل في الخصومات، لا تزال كنزًا من كنوز دساتير القضاء حتى اليوم ... يقول عمر - رضي الله عنه -: (... آس بين الناس في خلقك وعدلك، ووجهك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك ... إلخ) (¬2). كلام قيَّم لإبن قيم الجوزية في هذا المضمار: يقول ابن قيم الجوزية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (إن الله -سبحانه- أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر ¬

_ (¬1) انظر: السنن الكبرى، للبيهقي 10/ 136. (¬2) نظام القضاء في الإِسلام ص 206، طبع ادارة الثقافة والنشر بجامعة الإمام محمد بن سعود الإِسلامية، عام 1404 هـ.

وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه ... إلخ) (¬1). الأمة الإِسلامية مكلفة بتحقيق العدل وبناء أصول حياتها عليه: (إن الأمة الإِسلامية مكلفة بتحقيق العدل في الأرض وهذا التكليف يوجب على المسلمين أن يكافحوا الظلم والبغي حيث كان ويزيلوا أسبابه لا ليملكوا الأرض ويستولوا على الموافق ويستذلوا الأنفس بل لتحقيق كلمة الله في الأرض خالصة من كل غرض مبرأة من كل هوى. ومكلفة أيضًا بأن تبني حياتها كلها على أصول العدل حتى تستطيع أن تحيا حياة حرة كريمة يحظى كل فرد في ظلها بحريته وينال جزاء سعيه ويحصل على فائدة عمله وكده) (¬2). • • • ¬

_ (¬1) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية تحقيق محمد حامد فقي ص 14 ط دار الكتب العلمية - لبنان. (¬2) بتصرفٌ من: الموسوعة في سماحة الإِسلام 1/ 274.

المطلب الثالث المساواة من الأصول العامة للتشريع في الإسلام

المطلب الثالث المساواة من الأصول العامة للتشريع في الإِسلام المساواة هي أساس التفاضل بين البشر: إن المساواة بين الناس تعد نتيجة حتمية لسيادة العدل بينهم، وهي ليست وليدة اجتهاد فردي، أو نتاج تفكير فلسفي وإنما هي مبدأ أصيل قرره الذي برأ الخلق والكون والحياة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} (¬1) وهي قيمة وحيدة يرجح بها وزن الناس أو يشيل وهي قيمة سماوية بحته يستمد منها الناس في الأرض قيمهم وموازينهم، ويضربون صفحًا عن القيم الأخرى من نسب وقوة وجاه ومال وغير ذلك من القيم التي يتعاملون بها ويتفاوتون فيما بينهم في الأرض بسببها. (هذا هو الأساس الذي ولد قبل أربعة عشر قرنًا على يد الإِسلام في بلاد العرب التي كانت تعد أشد الأمم تباهيًا بالأنساب) (¬2). الإِسلام انتشل الناس من وحل التفرقة العنصرية: فإذا نظرنا إلى ما شرعه الإِسلام من المساواة، لرأينا أنه لم يصل أي تشريع سماوي فضلًا عن وضعي -في مبدأ الحرص على المساواة- إلى ما وصل إليه الإِسلام. ¬

_ (¬1) سورة الحجرات: آية 13. (¬2) انظر: الإِسلام والحضارة ودور الشباب المسلم ص 58.

فالأمم قبل الإِسلام وبعده إلى أواخر القرن الثامن عشر الميلادي كانت تضع فروقًا عظيمة بين طبقات الأمة، (جاء في موسوعة لاروس: في سنة 1798 م كان يوجد عدم مساواة في توزيع المناصب العمومية وعدم رقابة عليها فبذل وزراء لويس السادس عشر جهدهم لِإجراء الِإصلاحات التي تتطلبها الأمة فلم ينجحوا ضد المقاومة العنيفة لرجال الدين والنبلاء، فرأت الأمة أنه لا يجدي في هذا الأمر غير ثورة تضع مكان جماعة قائمة على اعتبار الإمتيازات جماعة أخرى يسودها قانون المساواة بين الجميع. وبعض الأديان تقر نظام الطبقية كالديانة البراهمية التي تقسم الأمة إلى طوائف أربع ويجعل على هذه الطبقات البراهمة أو الكهنة وأدناها السفلة والبرهمي يجب احترامه بسبب نسبه وحده وأحكامه هي وحدها الحجة وله يد -حين الحاجة- أن يمتلك مال الواحد من السفلة؛ لأن العبد وما ملكت يده لسيده وكان محرماً على هذه الطبقة المنكودة أن يتصل أحدهم بشيء من الدين أو العلم وإلَّا حل به عذاب غليظ: مثل صب الرصاص المصهور في أذنيه وشق لسانه وتقطيع جسمه. واليهود الذين يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه دون غيرهم - ساء ما يفترون - فرقوا في تشريعاتهم بين اليهود وغيرهم فحرموا الرب بشدة بينهم وجعلوه تجارتهم الرابحة الحلال بالنسبة لمن لم يكن منهم ... والأمم الديموقراطية التي تدعي -كذباً- أن العالم الإِنساني مدين لها بمبادئ المساواة لا تزال في قوانينها وسياستها تأتي بما يخالف هذا المبدأ كما في بعض الولايات الأمريكية وجنوب أفريقيا وكثير من المناطق الخاضعة للإستعمار الأوروبي توجد الفوارق بين الطبقات والتفرقة العنصرية بينهم ويتجرد السُّود هناك من أبسط الحقوق الِإنسانيَّة) (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: روح الدين الإِسلامي ص 287، 288 لعفيف عبد الفتاح طبَّارة.

(بَيْدَ أن الإِسلام بِمُثُلِه العليا لا يقيم لهذه القيم الهزيلة وزنا ولا يهتم بهذه النعرات السخيفة والاعتبارات الصغيرة الواهية إنه يجعل مقياس التفاضل وميزان العدل الذي توزن به جميع الأعمال والقيم {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} بغض النظر عن جميع الملابسات والإعتبارات والقيم الأخرى. فالأكرم عند الله هو الذي يستحق الرعاية والإهتمام ولو تجرد من كل المقومات والإعتبارات الأخرى التي يتعارف عليها الناس من النسب والجاه والقوة والمال ... إلخ. وسائر القيم الأخرى لا وزن لها حين تتعرى عن الإيمان والتقوى. والحالة الوحيدة التي يصح لها فيها وزن واعتبار هي حالة ما إذا أنفقت لحساب الإيمان والتقوى!!) (¬1). التقوى مقياس التفاضل في الإِسلام: نعم: (لقد قرر الإِسلام -باعتباره التقوى مقياسًا للتفاضل بين البشر- أبرع صورة للمساواة بينهم، وأمتن دعامة للإِخاء والمودة وهذا كله يدل دلالة قاطعة على مزيد شرف النوع الِإنساني وإظهار فضيلة اصطفائه لخلافة الله في الأرض، فالِإنسان -كل الإِنسان- مطالب أولًا بأن يفرد الله بالعبادة، ومن طريق هذه العبودية لله الواحد القهار له حقوق وعليه واجبات، فله أن يحيا حياة إنسانية كريمة في هذه الحياة ويعيش فيها عيشة محترمة آمنا على نفسه وماله وعرضه وعليه واجبات تقابل ما له من حقوق قررتها الشريعة الإِسلامية ¬

_ (¬1) سيد قطب في ظلال القرآن 6/ 382.

تحقيقًا للتكافل الأخوي فعليه أن يؤدي ما عليه للمجتمع الذي يعيش فيه وللحياة التي يحياها مع الناس والأشياء. عناية القرآن الكريم بمبدأ المساواة: هذا: وقد عني القرآن الكريم بإبراز مبدأ المساواة بين أبناء الإِنسانية عامة على نسق يوقظ الشعور الِإنساني ويهزه هزًا إلى التعاطف الأخوي الإِنساني ووشائج الترابط النسبي بين كافة أفراد الإِنسان في شتى الأزمنة والأوطان قال -تعالى-: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ...} (¬1) الآية. وقال -تعالى-: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)} (¬2). وهذا يشمل كل إنسان في الوجود لا يخص فردًا دون فرد ولا أمة دون أمة ولا طبقة دون طبقة فالناس في الواقع سواسية في حقيقة الإِنسانية ولا يقع التفاوت بينهم إلَّا بسبب الإنحراف عن هذه الحقيقة التي تجمعهم. التطبيق العملي لمبدأ المساواة الإِنسانية: كان أول تطبيق عملي لحقيقة هذه الآية الكريمة في {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} الوجود الِإنساني هو ما صنعه في الإِسلام محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - الأنموذج الِإنساني الأعلى في حجة الوداع: (يا أيها الناس: أَلاَ إن ربكم ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 32. (¬2) سورة النساء: الآيتان 123، 124.

واحد. وإن أباكم واحد. أَلاَ لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلَّا بالتقوى، أَبَلَّغْتْ؟ قالوا: بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬1). وجعل - صلى الله عليه وسلم - نفسه الكريمة وأقرب الناس إليه مثلًا أعلى لتطبيق دعامة المساواة الإِنسانية تطبيقاً عملياً، ليبين عن معقد الفضل بالعمل الصالح، ليتنافس فيه المتنافسون؟ (فقد زوج مولاه زيد بن حارثة ابنة عمته زينب بنت جحش ثم تزوجها - صلى الله عليه وسلم - بعد أن طلقها زيد، ليكون ذلك أساسًا لتشريع المساواة فى أعلى ذروتها وأفضل صورها، وليقتلع به جذور الجاهلية من أصلها) (¬2). وذلك ليذهب الفوارق الطارئة على حقيقة الإِنسانية ولم يُبْقِ إلَّا على ميزة العمل الصالح يقوم به المسلم فيسدي إلى مجتمعه الذي يعيش فيه خيرًا وبراً وإصلاحا. جاعلًا هذه الميزة هي مناط التفاضل والكفاءة نحو الأنساب والمصاهرة (¬3). ولما لغطت ألسنة بشأن سلمان الفارسي، وتحدثوا عن العربية والفارسية بحكم إيحاءات القوم الضيقة ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضربته الحاسمة في هذا الأمر فقال: "سلمان منا أهل البيت" (¬4). فتجاوز - صلى الله عليه وسلم -: كل آفاق النسب الذي يعتزون به، وكل حدود القومية الضيقة التي يتحمسون لها وجعله من أهل البيت رأسًا (¬5). ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- 5/ 411. (¬2) انظر: المستدرك على الصحيحين 4/ 24، للحافظ الحاكم النيسابوري. (¬3) انظر: موسوعة سماحة الإِسلام لمحمد الصادق عرجون 1/ 207. (¬4) المستدرك على الصحيحين 3/ 598. (¬5) انظر: في ظلال القرآن للسيد قطب 6/ 3827.

وقد سار المسلمون على سيرة نبيهم، فعاشروا غيرهم من أهل الملل والنحل الأخرى بصفاء ووئام، والدين أقوى حاكم على شعورهم، فلم يشاهد منهم ما يعابون عليه، ولم يفرقوا في مكارم الأخلاق وحقوق الإجتماع بين مسلم وغير مسلم ولم يمنعوا غير المسلم أن يقاضي أرفع رأس في المسلمين، وينتصف منه. وعلى سبيل المثال لا الحصر: يطالعنا التاريخ الإِسلامي: (أن ابن عمرو بن العاص والي مصر في زمن الخليفة العادل عمر بن الخطاب لطم قبطياً، لأنه سابقه فسبقه، فاشتكى القبطي عند الخليفة عمر - رضي الله عنه -، فأرسل عمر إلى عمرو بن العاص وابنه فلما حضرا أحضر الخليفةُ القبطيَّ وقال له: أهذا الذي ضربك؟ قال نعم. قال: اضربه فأخذ يضربه حتى اشتفى له ثم قال له عمر: زد ابن الأكرمين!! ثم التفت إلى عمرو بن العاص وقال له: "منذ كم يا عمرو استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!! " (¬1). فهذا لون من العدالة الإِنسانية لا يعرفه الناس في غير الإِسلام، لأنه قائم على احترام الإِنسان -أي إنسان - بِغَضِّ النظر عن جنسه ولونه بل وعقيدته أيضًا، وهذا السمو الذي تحلى به الإِسلام يزداد ظهورًا إذا قورن بما يجري بين الأمم اليوم من المعاملات التي تنافي الكرامة الإِنسانية بعد أن طغت الجاهلية، وأصبح الإِنسان كله لا يساوي شيئًا في المذهب المادي المسيطر في روسيا زعيمة الدول الشرقية، ولا يقوم له وزن إلَّا برصيده من الدولارات في أمريكا زعيمة الدول الغربية!! وغيرهما من الدول التي لم تهتد ¬

_ (¬1) انظر: روح الدين الإِسلامي لطبَّارة ص 277.

بهدي الإِسلام وتعاني ولا تزال تعاني من مشكلة الطبقات ومعضلة الملونين!! ولكن الإِسلام جاء بالمساواة الصحيحة المستقيمة التي روحها العدل والرحمة والتكافل في الحقوق: فقد ساوى بين طبقات الخلق في العدل في كل شيء {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (¬1)، وساوى بين طبقات العباد في الحقوق والواجبات تبعاً لقدرتهم واستطاعتهم. قال -تعالى-: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬2). وقال -تعالى-: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (¬3). وقال -تعالى-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬4). وقال -تعالى-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} (¬5). وساوى بينهم في وجوب إيتاء الحق الذي عليهم وفي إيصال الحق إليهم. قال -تعالى-: {... وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) ...} (¬6) الآية. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كانت له مظلمةٌ لأحد من عِرْضِه أو شيء فلْيتحلَّلْه منه اليوم قبل أن لا يكون ¬

_ (¬1) سورة النحل: آية 90. (¬2) سورة التغابن: آية 16. (¬3) سورة الطلاق: آية 7. (¬4) سورة البقرة: آية 286. (¬5) سورة الطلاق: آية 7. (¬6) سورة البقرة: آية 279.

دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرح عليه" (¬1). كما ساوى الإِسلام بين المسلمين في إيجاب العبادات وتحريم المحرمات ساوى بينهم في الفضل والثواب بحسب أعمالهم {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} (¬2). وكما ساوى بينهم في العبادات: ساوى بينهم في المعاملات العوضية والتبرعات، والإحسان، وجعل الرضا شرطاً لصحة العقود ونفاذها، وأن من أكره على شيء منها لا ينفذ له معاملة، ولا يستقيم له تبرع .. والخلاصة أن: الإِسلام ساوى بين الناس في كل حق ديني أو فى نيوي ولم يجعل لأحد على أحد ميزة في شيء؛ إلَّا بما قدم وبهذا يعرف كمال حكمة الله وشمول رحمته وحسن أحكامه {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)}) (¬3) (¬4). • • • ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 3/ 99، كتاب المظالم - باب 10. (¬2) سورة النحل: آية 97. (¬3) سورة المائدة: آية 50. (¬4) روح الدين الإِسلامي لطبارة ص 210، 289.

الفصل الثالث الحكم بغير ما أنزل الله

الفصل الثالث الحكم بغير ما أنزل الله وفيه: تمهيد ومبحثان: التمهيد. المبحث الأول: الحكم بغير ما أنزل الله كفر مخرج عن الملة. المبحث الثاني: الحكم بغير ما أنزل الله كفر غير مخرج عن الملة.

تمهيد

تمهيد يا لله من عصر تُقْلَبُ فيه الحقائق وينسى فيه أنصار الإِسلام أنهم الذادون عن عرضه وحماه, فهذا الجم الغفير من المسلمين تسود بينهم العادات والتقاليد البالية وتنتشر بين ربوعهم المبادئ الهدامة، والأفكار الفاسدة الخطرة على الدين والأخلاق!! وتلك كثرة كاثرة من المسلمين تصاغ حياتها وفق أنماط متناقضة فهناك صياغة علمانية وأخرى اشتراكية لا دينية وثالثة ديمقراطية رجعية!! ومرجع هؤلاء وأولئك قانون ملفق من شرائع شتى ومرقع من قوانين كثيرة كالقانون، الفرنسي، والقانون البلجيكي، والأمريكي وغير ذلك من القوانين الوضعية الهدامة التي غالبًا ما تبارك المنكر وتؤيد الفساد وتحل ما حرم الله وتحرم ما أحله!! والإِسلام -بشموله وعمومه وأسسه وخصائصه- غائب عن الساحة غريب في أوطانه منكور بين أهله معزول عن الحكم والتشريع!! والحكام الذين حملهم الله المسؤولية عن شعوبهم المسلمة يسيرون في وادٍ غير وادي الإِسلام يوالون من عادى الله ويعادون من والى الله.

نعم: إن الأمة الإِسلامية قد ابتليت بحكام ظالمين -إلَّا من رحم الله- لا يشجعون مسلمًا يخدم الإِسلام بل يتنمَّرون لكل من يخدم الإِسلام ويعمل للإِسلام لأنهم حريصون عل أن يصبغوا دولهم بغير صبغة الإِسلام تقربًا إلى أعداء الله وإرضاء لمن يحاربون الله؛ فتراهم يجرؤن على استمداد التشريع من غير ما شرع الله زاعمين أنهم يختارون الخير لشعوبهم ويوائمون بين ظروفهم والتشريع الذي ينشؤونه من عند أنفسهم ساء ما يزعمون {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ...} (¬1) الآية. ويدَّعي بعضهم أن القوانين الوضعية تساير التجدد والتطور، وتتناول الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان وتغير الأحوال وأن الشريعة الإِسلامية أحكامها جامدة وقواعدها لا تفي بحاجات العصر الذي نعيش فيه -ساء ما يحكمون- وربما يجحد بعضهم حكم الله بالكلية زاعمًا أن الدين صلة بين العبد وربه وليس له صلة بشؤون التشريع والحكم والقضاء -ساء ما يفترون- ويحتج البعض الآخر منهم بأن القوانين الوضعية أفضل وأهدى وأنها بسبيل الرقى والتقدم أوفق وإليه أسبق: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)} (¬2). وقد يدفع الظن والجهل بعض الحكام فيعتقد أن تحكيم القوانين ¬

_ (¬1) سورة الشورى: آية 21. (¬2) سورة النساء: آيات 61، 62، 63.

الوضعية كتحكيم الشريعة الإِسلامية ولا فرق بينهما، أو تحمله شهوته وهواه على الحكم بغير ما أنزل الله مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى" (¬1). وبعدُ: فتلك حال أكثر حكام البلاد الإِسلامية اليوم وحال من يحكمونهم وقبل أن نفند ما سبق من دعاواهم ونبين حكم الله فيهم: نقرر حقيقة لا مجال للشك أو المجاملة فيها وهي أن: كثيراً من قادة وحكام البلاد الإِسلامية مسلمون ومنهم متدينون، ولكن من المؤسف حقًا أنهم لا يعلمون من الإِسلام إلَّا القشور، بل إن إسلامهم لا يزيد عن إسلام الجهلة والعوام إنهم لا يعرفون عن الإِسلام إلَّا أنه صوم وصلاة وزكاة وحج، وليس وراء ذلك من مطلب ... فنقول: هؤلاء لا يخلو حالهم من أمرين: الأمر الأول: إمَّا أنهم يجهلون أحكام ما أنزل الله على رسوله، وعلى هؤلاء أن يعوا جيداً أن جهلهم قد أودى بهم وبشعوبهم في مهاوي الهلكة وكان سبباً في تخلفهم وتعاستهم!!. والأمر الثاني: أنهم يعلمون أحكام الشريعة ولكنهم يتجاهلونها أو يجحدونها ظلماً وعلواً، وهؤلاء قد نقضوا عهد الله، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، واستنكفوا عن عبادة الله وأفسدوا في الأرض بعد أن أكرمهم الله ومكَّن لهم وجعلهم حكاماً على الناس، وهؤلاء يصدق عليهم قول الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ¬

_ (¬1) تحكيم القوانين الوضعية، للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ص 5، 6.

وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)} (¬1)، وقوله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)} (¬2). لهذا: كان الحكم بغير ما أنزل الله ليس على درجة سواء ويمكن تقسيمه إلى قسمين: * القسم الأول: يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفراً مخرجاً عن الملة. وهذا هو المبحث الأول. * القسم الثاني: يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفراً غير مخرج عن الملة. وهذا هو المبحث الثاني. • • • ¬

_ (¬1) سورة الرعد: آية 25. (¬2) سورة فاطر: آية 39.

المبحث الأول الحكم بغير ما أنزل الله كفر مخرج عن الملة

المبحث الأول الحكم بغير ما أنزل الله كفر مُخرج عن الملَّة نوضح في هذا القسم بأن الحكم بغير ما أنزل الله يكون كفراً مخرجًا عن الملة لصنفين من الناس: 1 - الصِّنف الأول: الذين شرَّعوا القوانين الوضعية المخالفة لشرع الله. 2 - الصَّنف الثاني: الذين أطاعوا المُبدِّلين المغيرين لشرع الله. ويأتي تفصيل الكلام على هؤلاء (¬1). فأما الصِّنف الأَول وهم الذين شرَّعوا القوانين الوضعية والذين يتحاكمون إليها ويرضون بها فهؤلاء قد صرح القرآن الكريم بأنهم كافرون وظالمون وفاسقون (¬2) .. قال -تعالى-: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ ¬

_ (¬1) انظر ص 190 وما بعدها. (¬2) انظر في هذا التقسيم: الشريعة الإِلهية لا القوانين الجاهلية للأشقر ص 179: 190 "بتصرف".

قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} (¬1). وقال - تعالىَ -: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} (¬2). فمن لم يحكم بما أنزل الله تعالى من أي جيل ومن أي قبيل فهو كافر برفضه ألوهية الله -تعالى- وخصائصها ممثلًا هذا في رفضه شريعة الله تعالى وجحودها أو المماحكة والتأويل والتأول ومحاولة المراوغة والتهرب من تطبيقها. وهو ظالم: بحمله الناس على شريعة هي غير التي شرعها لهم ربهم وخالقهم صالحة مُصْلِحةً لأحوالهم هذا فوق ظلمه لنفسه بإيرادها موارد التهلكة وتعريض حياة الناس -وهو معهم- للفساد، لأنه جاوز حق الإِنسان واعترض على حق خالص لله -تعالى-. وهو فاسق: بالخروج عن شرع الله واتباع طريق غير طريقه، إذ ليس لأحد من خلق الله كائنًا من كان أن يشرع لأحد، فالته وحده هو الذي يشرع لعباده ما يتناسب ويتناسق مع فطرتهم وطبيعتهم ويتناسب مع طبيعة الكون الذي يعيشون فيه، فالحكم له وحده، وهو خير الحاكمين .. {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة المائدة: الآيتان 44، 45. (¬2) سورة المائدة: آية 47. (¬3) سورة الأعراف: آية 54.

قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزله الله على رسوله فهو كافر، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه عدلًا من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر فإنه ما من أمة إلَّا وهي تأمر بالعدل، وقد يكون العدل في ديدنها ما رآه أكابرهم. بل كثير من المنتسبين إلى الإِسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله كسواليف "البادية" وكانوا الأمراء المطاعين، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي أن يحكم به دون الكتاب والسنَّة، وهذا هو الكفر، فإن كثيرًا من الناس أسلموا، ولكن لا يحكمون إلَّا بالعادات الجارية التي يأمر بها المطاعون، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلَّا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار ... لأن الإِنسان متى حلل الحرام المجمع عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافرًا مرتدًا باتفاق الفقهاء وفي مثل هذا نزل قوله -تعالى-: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}، أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله") (¬1). وقال ابن قيم الجوزية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه ... والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم عدلوا عن عبادة الله إلى ¬

_ (¬1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإِسلام 3/ 267.

عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته، وهؤلاء لم يسلكوا طريق الناجين الفائزين من هذه الأمة ولا قصدوا قصدهم بل خالفوهم في الطريق والقصد معًا" (¬1). وقال العلَّامة الحافظ ابن كثير بعد أن ذكر نتفًا من "ألياسا" (¬2) التي كان يحكم بها التتار: قال: (... وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عبادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر. فكيف بمن تحاكم إلى "الياسا" وقدمها عليه من فعل ذلك فقد كفر بإجماع المسلمين .. قال الله -تعالى-: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} (¬3)، وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (¬4) (¬5). ويقول -رَحِمَهُ اللهُ- في تفسير قوله -تعالى-: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ ¬

_ (¬1) انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/ 50 - مطابع السعادة بمصر - الطبعة الأولى 1374 هـ - 1955 م. (¬2) وتسمى الياسق: وهو كتاب مجموع من أحكام مقتبسة من شرائع شتى وسيأتي التعريف به في قول ابن كثير بعده. (¬3) سورة المائدة: الآيتان 50. (¬4) سورة النساء: آية 65. (¬5) انظر: البداية والنهاية، لإبن كثير -رَحِمَهُ اللهُ- 13/ 119 - مكتبة المعارف - بيروت - ومكتبة النصر بالرياض - الطبعة الأولى 1966 م.

يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} (¬1)، يقول: "ينكر تعالى على من خرج على حكمه تعالى المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والإصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يصنعونها بآرائهم وأهوائهم. وكما يحكم به التتار من السياسات المَلَكِيَّة المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم (الياسق) وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى: من اليهودية والنصرانية والملة الإِسلامية وغيرها وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعًا متبعاً يقدمونه على الحكم بالكتاب وسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير" (¬2). وقال ابن الجوزي -رَحِمَهُ اللهُ-: (... وفصل الخطاب: أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً له، وهو يعلم أن الله أنزله كما فعلت اليهود، فهو كافر ومن لم يحكم به ميلاً إلى الهوى من غير جحود فهو ظالم فاسق وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: (من جحد ما أنزل الله فقد كفر ومن أقر به ولم يحكم به فهو فاسق وظالم) (¬3). وقد ارتضى هذا المذهب أبو جعفر الطبري في "جامع البيان في تفسير ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آيتان 50. (¬2) تفسير القرآن العظيم، لإبن كثير -رَحِمَهُ اللهُ- 2/ 67 - الطبعة الثالثة 1375 هـ - مطابع الإستقامة بالقاهرة. (¬3) انظر: زاد المسير في علم التفسير لإبن الجوزي 2/ 366 - طبع ونشر المكتب الإِسلامي، بيروت دمشق - الطبعة الأَولى.

آي القرآن فإنه قال: (... فكل من لم يحكم بما أنزل الله جاحدًا به فهو بالله كافر كما قال ابن عباس لأنه بجحوده حكم الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي) (¬1). وقال الشيخ أحمد شاكر -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (وهذه القوانين التي فرضها على المسلمين أعداء الإِسلام السافرو العداوة هي في حقيقتها دين آخر، جعلوه ديناً للمسلمين بدلاً من دينهم النقي السامي لأنهم أوجبوا عليهم طاعتها وغرسوا في قلوبهم حبها وتقديسها، والعصبية لها، حتى لقد تجري على الألسنة والأقلام كثيراً كلمات لا تقديس القانون"، "قدسية القانون"، "حرمة المحكمة" وغير ذلك من الكلمات التي يأبون أن توصف بها الشريعة الإِسلامية، وآراء الفقهاء الإِسلاميين، بل هم حينئذٍ يصفونها بكلمات "الرجعية"، و"الجمود"، و"الكهنوت"، و"شريعة الغاب" إلى أمثال ما ترى من المنكرات في الصحف والمجلات والكتب العصرية التي يكتبها أتباع أولئك الوثنيين). ثم بيَّن، -رَحِمَهُ اللهُ-، أن المسلمين انحدروا درجة وتجرؤوا على الموازنة بين دين الإِسلام وشريعته وبين دينهم المفترى الجديد ... قال: (وصار هذا الدين الجديد هو القواعد الأَساسية التي يتحاكم إليها المسلمون في أكثر بلاد الإِسلام سواء منها ما وافق في بعض أحكامه شيئاً من أحكام الشريعة وما خالفها وكله باطل وخروج؛ لأن ما وافق الشريعة إنما وافقها مصادفة، لا اتباعًا لها، ولا طاعة لأمر الله وأمر رسوله، فالموافق والمخالف ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان عن تأويل آي القرآن 10/ 358، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري - تحقيق وضبط وتعليق محمود وأحمد محمد شاكر.

مرتكس في حمأة الضلالة، يقود صاحبه إلى النار، لا يجوز لمسلم أن يخضع له، ويرضى به" (¬1). وقال -رَحِمَهُ اللهُ- في موضع آخر: (إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس وهي كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداورة، ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإِسلام - كائنًا من كان -في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها فليحذر أمرؤ لنفسه، وكل امرئ حسيب نفسه" (¬2). ثم يصور حالة العالم الإِسلامي في وقته وما ابْتُلِيَ به المسلمون من جراء هذه القوانين الفاسدة فقال: (والذي نحن فيه اليوم هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنَّة نبيه، وتعطيل لكل ما في شريعة الله بل بلغ الأمر مبلغ الإحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنزلة وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زماننا، ولعلل وأسباب انقضت، فسقطت الأحكام كلها بانقضائها) (¬3). وقال الشيخ محمد أمين الشنقيطي -رَحِمَهُ اللهُ- في أضواء البيان في قوله -تعالى-: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)} (¬4) .. قال -رَحِمَهُ اللهُ-: "قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن عامر {وَلَا يُشْرِكُ} بالياء المثناة التحتية وضم الكاف على الخبر، ولا نافية والمعنى: ولا يشرك الله - جل ¬

_ (¬1) عمدة التفيسر 2/ 214، 215. (¬2) عمدة التفسير 2/ 172، 174. (¬3) انظر: تعليق الشيخ أحمد شاكر على تفسير ابن جرير الطبري 10/ 349 - تفسير سورة المائدة: آية 44. (¬4) سورة الكهف: آية 26.

وعلا- أحدًا في حكمه بل الحكم له وحده -جل وعلا- لا حكم لغيره البتة، فالحلال ما أحله -تعالى- والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، والقضاء ما قضاه. وقرأ ابن عامر من السبعة "ولا تشرك" بضم التاء المثناة الفوقية وسكون الكاف بصيغة النهي أي لا تشرك يا نبي الله. أو لا تشرك أيها المخاطب أحدًا في حكم الله -جل وعلا- بل أخلص الحكم لله من شوائب شرك غيره في الحكم. وحكمه -جل وعلا- المذكور في قوله: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)} شامل لكل ما يقضيه -جل وعلا-، ويدخل في ذلك التشريع دخولًا أولياً. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الحكم لله وحده لا شريك له فيه على كلتا القراءتين جاء مبينًا في آيات أخر ... وبعد أن ساق -رَحِمَهُ اللهُ- النصوص الدالة على أن الحكم لله وحده لا شريك له فيه وأن تحكيم القوانين الوضعية شرك ... قال: وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائ 5 مخالفة لما شرعه الله -جل وعلا-على ألسنة رسله - صلوات الله وسلامه عليهم -، وأنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلَّا من طمس الله بصيرته وأعماه عن اتباع نور الوحي مثلهم. ثم بيَّن -رَحِمَهُ اللهُ- أن هناك فرقًا بين ما يتغير بتغير الأزمان والأحوال وبين ما هو ثابت لا يتغير مهما تغيرت الأحوال والظروف في كل زمان ... فقال: اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضي تحكيمه الكفر بخالق السموات والأرض، وبين النظام الذي لا يقتضي ذلك. وإيضاح ذلك أن النظام قسمان إداري وشرعي: أما الإِداري الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف

للشرع فهذا لامانع منه، ولا مخالف فيه من الصحابة فمن بعدهم ... كتنظيم شؤون الموظفين، وتنظيم إدارة الأعمال على وجه لا يخالف الشرع فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لا بأس به، ولا يخرج عن قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة. وأما النظام الشرعي المخالف لتشريع خالق السموات والأرض فتحكيمه كفر بخالق السموات والأرض، كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف، وأنهما يلزم استواؤهما في الميراث، وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم ... إلخ. فتحكيم هذا النوع من النظام في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعقولهم وأديانهم كفر بخالق السموات والأرض، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها، وهو أعلم بمصالحها - سبحانه وتعالى - عن أن يكون معه مشرع آخر علوًا كبيرًا قال -تعالى-: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ...} الآية (¬1). وقد أطال -رَحِمَهُ اللهُ- في تفسير قوله -تعالى-: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ...} (¬2)، ومن جملة ما بينه في هذه المسألة ... قال "ومن هدي القرآن للتي هي أقوم. بيانه أن كل من اتبع تشريعًا غير التشريع الذي جاء به سيد ولد آدم محمد بن عبد الله - صلوات الله وسلامه عليه - فاتباعه لذلك التشريع المخالف كفر بواح مخرج عن الملة الإِسلامية) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 4/ 82، 83، 84. (¬2) سورة الإِسراء: آية 9. (¬3) أضواء البيان 3/ 439.

هذا: وممن كتب في هذا الموضوع سماحة العالم الجليل الثبت الثقة العلامة السلفي الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي عام المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية كتب رسالة بعنوان: "وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه". وجاء في مقدمتها قول سماحته: "هذه رسالة موجزة، ونصيحة لازمة في وجوب التحاكم إلى شرع الله والتحذير من التحاكم إلى غيره كتبتها لما رأيت وقوع بعض الناس في هذا الزمان في تحكيم غير شرع الله والتحاكم إلى غير كتاب الله وسنَّة رسوله من العرَّافين والكهان وكبار عشائر البادية، ورجال القانون الوضعي، وأشباههم؛ جهلاً من بعضهم لحكم عملهم ذلك، ومعاداة ومحادة لله ورسوله من آخرين. ثم تعرَّض سماحته لبيان الغاية من خلق الجن والإِنس وأورد الأدلة الدالة على أنهم خلقوا لعبادة الله تعالى وبين -أيده الله- أن العبادة تقتضي الإنقياد التام لله تعالى أمراً ونهياً واعتقاداً وقولاً وعملاً، وأن تكون حياة المرء قائمة على شريعة الله: يُحل ما أحل الله ويُحرم ما حرم ويخضع في سلوكَه وأعماله كلها وتصرفاته لشرع الله متجرداً من حظوظ نفسه ونوازع هواه، يستوي في هذا الفرد والجماعة والرجل والمرأة، لا يكون عابداً لله من خضع لربه في بعض جوانب حياته وخضع للمخلوقين في جوانب أخرى. وقد أورد حفظه الله النصوص التي تؤيد هذا المعنى كقوله -تعالى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 65.

وقوله -سبحانه وتعالى-: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} (¬1). وقد أفاض سماحته فيها وأجاد وبين المراد فليرجع إليها (¬2). وحول سؤال ورد إلى سماحته لبيان ما يراه في المسلمين الذين يحتكمون إلى القوانين مع وجود القرآن الكريم والسنَّة المطهرة بين أظهرهم؟! فأجاب سماحته: رأيي في هذا الصنف من الناس الذين يسمون أنفسهم بالمسلمين في الوقت الذي يتحاكمون فيه إلى غير ما أنزل الله، ويرون شريعة الله غير كافية، ولا صالحة للحكم في هذا العصر هو ما قال -سبحانه وتعالى- في شأنهم حيث يقول -سبحانه وتعالى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (¬3). ويقول -سبحانه وتعالى-: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (¬4). إذن فالذين يتحاكمون إلى شريعة غير شريعة الله لا شك أنهم يخرجون ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 50. (¬2) قد طبعت طبعتها الرابعة سنة 1451 هـ - 1981 م وصدرت عن الرئاسة العامة للبحوث والِإفتاء والدعوة والإِرشاد - السعودية. وانظرها في مجموع فتاوى سماحة الشيخ ابن باز ص 77، 92. (¬3) سورة النساء: آية 65. (¬4) سورة المائدة: آية 44.

بذلك عن دائرة الإِسلام، ويكونون بذلك كفاراً ظالمين فاسقين كما جاء في الآيتين السابقتين وغيرهما ... والله الموفق" (¬1). كما ورد إلى سماحته سؤال من أحد الأخوة وملخصه: ما حكم الذين يطالبون بتحكيم المبادئ الإشتراكية والشيوعية ويحاربون حكم الإِسلام وما حكم الذين يساعدونهم في هذا المطلب، ويذمون من يطالب بحكم الإِسلام ويلمزونهم ويفترون عليهم، وهل يجوز اتخاذ هؤلاء أئمة وخطباء في مساجد المسلمين؟ فأجاب سماحته: "الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه: (لا ريب أن الواجب على أئمة المسلمين وقادتهم أن يحكموا الشريعة الإِسلامية في جميع شؤونهم، وأن يحاربوا ما خالفهم وهذا أمر مجمع عليه بين علماء الإِسلام، وليس فيه نزاع بحمد الله، والأدلة عليه من الكتاب والسنَّة كثيرة معلومة عند أهل العلم. وبعد أن ذكر سماحته بعض النصوص من القرآن الكريم قال: والآيات في هذا المعنى كثيرة ... قال وقد أجمع العلماء على أن من زعم أن حكم غير الله أحسن من حكم الله أو أن هدي غير رسول الله، أحسن من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم - فهو كافر. كما أجمعوا على أن من زعم أنه يجوز لأحد من الناس الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو تحكيم غيرها فهو كافر ضال، وبما ذكرنا من الأدلة ¬

_ (¬1) انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ عبد العزيز بن باز 1/ 275 - طبعة أولى 1408 هـ - 1987 م - الرئاسة العامة لإِدارات البحوث العلمية والإِفتاء.

القرآنية وإجماع أهل العلم يعلم السائل وغيره أن الله ين يدعون إلى الاشتراكة أو الشيوعية أو غيرهما من المذاهب الهدامة المناقضة لحكم الإِسلام كُفار ضُلَّال أكفر من اليهود والنصارى لأنهم ملاحدة لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يجوز أن يجعل أحد منهم خطيبًا وإمامًا في مسجد من مساجد المسلمين ولا تصح الصلاة خلفهم وكل من ساعدهم على ضلالهم وحسَّن ما يدعون إليه وذم دعاة الإِسلام ولمزهم فهو كافر ضال حكمه حكم الطائفة الملحدة التي سار في ركابها وأيدها في طلبها ... وأرجو أن يكون فيما ذكرنا كفاية ومقنع لطالب الحق والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. ونسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين ويجمع كلمتهم على الحق وأن يكبت أعداء الإِسلام ويفرق جمعهم ويشتت شملهم، ويكفي المسلمين شرهم. أنه على كل شيء قدير، وصلَّى الله على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم" (¬1). • • • ¬

_ (¬1) انظر: مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز 1/ 273، 274.

الصنف الثاني: الذين أطاعوا المبدلين المغيرين لشرع الله مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل

الصنف الثاني: الذين أطاعوا المبدلين المغيرين لشرع الله مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل: لمَّا كانت العقيدة الإِسلامية هي صخرة النجاة وخط الدفاع، ومصدر القوة الدافعة للأمة المسلمة؛ لذا حرص أعداء الإِسلام على بذل كل ما في وسعهم لتحويل هذه الأمة عن عقيدتها، وحين يعييهم أن يحاربوا أهل هذه العقيدة ظاهرين يدسون لهم ماكرين، وحين يعجزهم أن يحاربوهم بأنفسهم وحدهم يجندون -ضعفاء النفوس- الذين يستعبدهم العرف الغالب وتتحكم في أعمالهم التقاليد السائدة ولو كانت خطأً يجر معه متاعب الدنيا والآخرة ويسخرونهم ليعيشو لهم أذنابًا يقتبسون مناهجهم وأوضاعهم ويتهافتون على تقليدهم، ويربطون كيانهم وحياتهم بمبادئهم ونظرياتهم وأفكارهم المناقضة والمخالفة لأصول الإِسلام وأحكامه. هؤلاء الضعفاء الأذناب كافرون بنص القرآن الكريم والسنَّة النبوية وأقوال العلماء قديماً وحديثاً: فمن القران: قال الله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: آية 100.

وقال -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)} (¬1). وقال -تعالى-: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)} (¬2). وقال -تعالى-: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)} (¬3). وتال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} (¬4). وقال -تعالى-: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} (¬5). قال ابن كثير: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره فقدمتم عليه غيره فهذا هو الشرك كما قال -تعالى-: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} (¬6). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: آية 149. (¬2) سورة الأنعام: آية 116. (¬3) سورة الأعراف: آية 3. (¬4) سورة التوبة: آية 31. (¬5) سورة الأنعام: آية 121. (¬6) تفسير ابن كثير 3/ 322.

ومن السنَّة: ما رواه البيهقي في سننه بسنده عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقي صليب من ذهب قال فسمعته يقول: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ}، قال: قلت: يا رسول الله إنهم لم يكونوا يعبدونهم قال أجل ولكن يحلون لهم ما حرم الله فيستحلونه ويحرمون عليهم ما أحل الله فيحرمونه فتلك عبادتهم لهم) (¬1). وروى البيهقي أيضًا عن أبي البختري قال: سئل حذيفة - رضي الله عنه - عن هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} أكانوا يصلون لهم قال لا ولكنهم كانوا يحلون لهم ما حرم عليهم فيستحلونه، ويحرمون عليهم ما أحل الله لهم فيحرمونه فصاروا بذلك أرباباً) (¬2). ومن أقوال العلماء قديماً وحديثاً قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ-: (5 ؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله إن علموا أنهم بدلوا دين الله فتابعوهم على التبديل، واعتقدوا تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتباعًا لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركاً، وإن لم يكونوا يُصلُّون لهم ويسجدون لهم. فكان من اتبع ¬

_ (¬1) سنن البيهقي 10/ 116. (¬2) سنن البيهقي 10/ 116.

غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين، واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله مشركًا مثل هؤلاء) (¬1). وقال -رَحِمَهُ اللهُ- ملزماً كل من علم حكم الله التمسك به وإن أوذي في ذلك .. قال -رَحِمَهُ اللهُ-: (ولو ضرب وحبس وأوذي بأنواع الأذى ليدع ما علمه من شرع الله ورسوله الذي يجب اتباعه واتبع حكم غيره كان مستحقًا لعذاب الله بل عليه أن يصبر، وإن أوذي في الله فهذه سنَّة الله في الأنبياء وأتباعهم) (¬2). وقال الشيخ أحمد شاكر -رَحِمَهُ اللهُ-: (... وهذا مثل ما ابتلي به الذين أشربوا في قلوبهم حبها، والشغف بها، والذب عنها وحكموا بها وأذاعوها، بما ربوا من تربية أساسها صنع المبشرين الهدامين أعداء الإِسلام ومنهم من يصرح ومنهم من يتوارى، ويكادون يكونون سواء فإنا لله وإنا إليه راجعون) (¬3). قلت نعم: إن واقعنا المعاصر اليوم ليشهد لهذا: فالقوانين الوضعية تغمر كثيرًا من المجتمعات الإِسلامية -إلَّا ما رحم ربك- ويقبل عليها كثير من الناس بلا حرج، بل في شوق وارتياح وتمدها وتقوي شوكتها في ديار المسلمين روافد لا تنضب أولها في ديار الكفر وآخرها في قلوب إخوانهم وحلفائهم ممن تربوا على أيديهم ورضعوا ثقافتهم وتغذوا بلبانهم، وأصيبوا ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية 7/ 70. (¬2) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية 35/ 373. (¬3) شرح الطحاوية في العقيدة السلفية "الحاشية" ص 364 - الطبعة الرابعة - المكتب الإِسلامي، بيروت.

بلوثتهم فدرسوا قوانينهم وأشربوا حبها في قلوبهم وبيتوا نية السوء للشريعة الإِسلامية. إن الدول الكافرة كانت ولا زالت تبذل جهدها لإِيجاد فئة ترضى بالقوانين الوضعية وتتعلمها وتعلمها غيرها وتعمل بها في كل شؤون الحياة. وقد حرص الإستعمار البغيض وهو يعزم على الرحيل جارًا أذياله وأسماله من العالم العربي والِإسلامي على أن تتربى على يديه وتنشأ في أحضانه "طبقة بديلة" توجد لديها قابلية شديدة للتأثر بالأنماط الوافدة، وتسري فيها روح التفرنج، لتكون امتدادًا لأفكاره وتحقيقًا مجسداً لأهدافه الخبيثة ونواياه السيئة تجاه الإِسلام والمسلمين ومع الأسف: فقد تم له ما أراد وظهرت آثار الكارثة حينما تولت هذه "الطبقة البديلة" قيادة الدول الإِسلامية في شتى مجالات الحياة وتحت شعارات خادعة من "الإِصلاح الإجتماعي" و"الإِصلاح والتجديد" "والتقدم والحضارة" ... إلخ، فغرسوا بواعث وأهداف جديدة في نفوس المسلمين بديلًا عن الإِسلام كالنعرات القومية والوطنية ودعاوى الاشتراكية والديمقراطية وغير ذلك من الدعوات التي روجوا لها وزينوها للمسلمين وبنوا حولها زعامات وقيادات تستقطب الناس من دعوة الإِسلام وتربط مصالحهم بقوانين وضعية تصرفهم عملياً عن الإهتمام بالشريعة الإِسلامية وتبعدهم عن دينهم وشريعة ربهم وتجعل وجهتهم القوانين الغربية. وصحب ذلك خطة ضارية لعزل "دعاة الإِسلام" عن الحياة وحصرهم في أضيق نطاق بل وتصفيتهم وإبعادهم عن كل مجالات التأثير والتوجيه والدعوة للإِسلام!!!

واستخدم الطغاة العلماء الضعفاء كي يلبسوا على المسلمين دينهم ويزينوا تلك القوانين والمبادئ في أنظار المخدوعين تحت أي شعار أو استنادًا إلى أي تعليل!! (¬1). فهؤلاء وأضرابهم ممن حذا حذوهم وانخدع بهم وسلك مسلكهم -في الدجل والنفاق والخداع والتلبيس على الناس- كافرون. يقول الأستاذ مصطفى صبري (¬2): (ومن البلية أن الحركات التي تثار في الأزمنة الأخيرة ترمي إلى محاربة الإِسلام في بلاده بايدي أهله، والتي لا شك أنه الكفر وأخبث أفانين الكفر) (¬3). • • • ¬

_ (¬1) الغزو الفكري والتيارات المعادية للإِسلام "بتصرف" من ص 253: 273 ومن ص 499: 517. (¬2) مصطفى صبري: من علماء الحنفية: فقيه وباحث تركي الأصل والمولد والمنشأ هاجر إلى مصر سنة (1922 م) فألف كتبًا بالعربية، منها: "موقف العلم والعقل والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين" وهو مطبوع في أربعة مجلدات. انظر: الأعلام لخير الدين الزركلي 7/ 236. الطبعة الرابعة 1979 م - مطابع دار العلم للملايين، بيروت - لبنان. (¬3) موقف العلم والعقل والعالم من رب العالمين 4/ 281 حاشية.

المبحث الثاني الحكم بغير ما أنزل الله كفر غير مخرج عن الملة

المبحث الثاني الحكمُ بغير ما أنزل اللهُ كُفرٌ غيرُ مُخرج عن الملَّةِ تحت هذا العنوان يُتصوَّر السؤال الآتي: متى يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفرًا غير مخرج عن الملة؟ وللإِجابة عن هذا السؤال نقول: إذا حكم الحاكم بغير ما أنزل الله معتقدًا أنه بهذا قد تجاوز الحق وخالف الصواب وعصى الله ورسوله "فهو كافر" ويسمى هذا بالكفر العملي أو المجازي أو الكفر الأصغر. ولا يخرجه هذا الكفر عن ملة الإِسلام. وإليك بعض النصوص الواردة في هذا المجال: قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (إذا كان الحاكم دينًا لكنه حكم بغير علم كان من أهل النار، وإن كان عالمًا لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه كان من أهل النار، وإذا حكم بلا عدل ولا علم كان أولى أن يكون من أهل النار، وهذا إذا حكم في قضية معينة لشخص، وأما إذا حكم حكمًا عاماً في دين المسلمين فجعل الحق باطلاً والباطل حقاً، والسنَّة بدعة والبدعة سنَّة، والمعروف منكراً والمنكر معروفاً، ونهى عما أمر الله به ورسوله، وأمر بما نهى الله عنه ورسوله، فهذا

لون آخر يحكم فيه رب العالمين، وإله المرسلين مالك يوم الدين الذي {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)}) (¬1) (¬2). وقال شارح الطحاوية: (إن اعتقد الحاكم وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعة، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة فهذا عاص ويسمى كافراً كفرًا مجازياً أو كفراً أصغر، وإن جهل حكم الله مع بذل جهده واستفراغ وسعه بمعرفة الحكم وأخطأ فهذا مخطئ له أجر على اجهاده وخطؤه مغفور) (¬3). وقال ابن الجوزي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "فأما قوله -تعالى-: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}، وقوله -تعالى- بعدها: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فاختلف العلماء في من نزلت فيه على خمسة أقوال: أحدها: أنها نزلت في اليهود خاصة. رواه عبيد بن عبد الله عن ابن عباس وبه قال قتادة. والثاني: أنها نزلت في المسلمين. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس نحو هذا المعنى. والثالث: أنها عامة في اليهود وفي هذه الأمة. قاله ابن مسعود والحسن والنَّخِعِي والسُّدَّي. ¬

_ (¬1) سورة القصص: آية 70. (¬2) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية 35/ 388. (¬3) شرح الطحاوية ص 275، طبع جامعة الإمام محمد ابن سعود الإِسلامية 1396 هـ، والمكتب الإِسلامي، بيروت. الطبعة الرابعة.

والرابع: أنها نزلت في اليهود والنصارى. قاله أبو مَجْلَز. والخامس: أن الأولى في المسلمين والثانية في اليهود والثالثة في النصارى. قاله الشعبي. وفي المراد بالكفر المذكور في الآية الأولى قولان: أحدهما: أنه الكفر بالله -تعالى-. والثاني: أنه الكفر بذلك الحكم وليس بكفر ينقُل عن الملة. وفصل الخطاب: أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحدًا له، وهو يعلم أن الله أنزله، كما فعلت اليهود، فهو كافر، ومن لم يحكم بما أنزل الله ميلاً إلى الهوى من غير جحود فهو ظالم وفاسق. وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: (من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق) (¬1). وقد ارتضى هذا المذهب أبو جعفر الطبري في تفسيره .. فإنه قال: (فكل من لم يحكم بما أنزل الله جاحدًا به فهو بالله كافر كما قال ابن عباس لأنه بجحوده حكم الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي) (¬2). وقال القرطبي في تفسيره: (وقال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار: أي معتقدًا ذلك ومستحلًا له فأما من فعل ¬

_ (¬1) زاد المسير في علم التفسير لإبن الجوزي 2/ 366، جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 10/ 357. (¬2) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر الطبري 10/ 358.

ذلك وهو معتقد أنه راكب محرم فهو من فساق المسلمين وأمره إلى الله -تعالى- إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) (¬1). وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: " ... وأما القسم الثاني من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله وهو الذي لا يخرج عن الملة فهو الموافق تفسير ابن عباس - رضي الله عنهما - لقول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (¬2). وذلك قوله - رضي الله عنه -: (كفر دون كفر)، وقوله أيضاً: (ليس بالكفر الذي تذهبون إليه)، وهو: بأن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهوى، فهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملة. فإنه معصية عظمى أكبر من الكبائر: كالزنا وشرب الخمر والسرقة واليمين الغموس، وغيرها، فإن معصية سماها الله في كتابه كفراً - أعظم من معصية لم يسمها كفراً. نسأل الله -تعالى- أن يجمع المسلمين على التحاكم إلى كتابه انقياداً ورضاءً إنه ولي ذلك والقادر عليه) (¬3). والخلاصة: أن الحكم بغير ما أنزل الله ليس على درجة واحدة، وإنما له درجات متفاوتة وأنواع متعددة بمعرفتها وتصورها يكون الحكم على من حكم بغير ما أنزل الله. ويمكن تقسيم ذلك -حسب ما أراه- إلى أربعة أصناف: ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/ 190. (¬2) سورة المائدة: آية 44. (¬3) تحكيم القوانين للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- ص 6، 7.

الصنف الأول: الذين حكموا القوانين الوضعية راضين مختارين - في كل شؤون حياتهم وجعلوها بدلًا من الأحكام الشرعية اعتقادًا منهم أنها أدق وأتم وأشمل وأكمل من شرع الله -تعالى-أو أن شرع الله كان لفترة وانتهى الحكم به بانتهاء تلك الفترة، أو يعتقد الحاكم أن تحكيم القوانين الوضعية كتحكيم الشريعة الإِسلامية، أو غير ذلك مما يفتريه هؤلاء. فهؤلاء كفار لا شك في كفرهم وخروجهم عن ملة الإِسلام. الصنف الثاني: الذين أطاعوا المبدلين لشرع الله: اقتنعوا بآرائهم واعتبروا ما وضعوه من قوانين يحقق طموحاتهم ويصلح شأنهم وينظم حياتهم ووجدت لديهم قناعة تامة بذلك. فهؤلاء كفار أيضًا خارجون عن ملة الإِسلام. الصنف الثالث: الذين غُلبوا على أمرهم، فهم يعتقدون أن حكم الله أتم وشرعه أولى في الحكم بين الناس ويعترفون أنهم بهذا قد تجاوزوا الحق وأخطأوا وخالفوا الصواب، وعصوا الله ورسوله فهذا هو ما يسمى بالكفر العملي لا الاعتقادي. أي أن هؤلاء كفرهم كفر عمليٌّ لا يخرجهم عن ملة الإِسلام. الصنف الرابع: الذين يجهلون أحكام الشريعة عمومًا من عبادات ومعاملات، وأقضية ونحو ذلك وليس عندهم من العلم ما يميزون به بين حكم الله وحكم القوانين الوضعية وإنما عاشوا وتربوا في المجتمعات التي تحكم بالقوانين الوضعية فألفوا أحكامها ولم يعرفوا سواها، فهؤلاء جهلهم بأحكام الله -تعالى-

مساو لجهلهم بفرائض الإِسلام الأخرى من عبادات ومعاملات وحدود ... إلخ، إذ الكل عبادة وطاعة لله -تعالى- وتبصير هؤلاء بدينهم وتعريفهم بأحكام شريعة ربهم من ألزم الواجبات على علمائهم، فإذا ما قصَّر العلماء أو تقاعسوا عن أداء هذا الواجب العظيم فهم متحملون قَسطهم من تبعات ذلك وسيحملون أوزارهم وأوزار من قصروا في إسداء النصح إليهم (¬1) نسأل الله الهداية والتوفيق للجميع في اتباع شرعه والعملِ بسنة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -. • • • ¬

_ (¬1) وهذه الخلاصة أعدها المؤلف (غفر الله له ولوالديه وللمسلمين أجمعين).

الفصل الرابع أسباب وبواعث الحكم بغير ما أنزل الله -تعالى-

الفصل الرابع أسباب وبواعث الحكم بغير ما أنزل الله -تعالى- وفيه تمهيد وأربعة مباحث: التمهيد. المبحث الأول: انعدام الإيمان أو ضعفه. المبحث الثاني: مداهنة الكفار والركون إليهم. المبحث الثالث: الجهل بأحكام الشريعة الإِسلامية. المبحث الرابع: التأثر بالشبهات والإتهامات التي تثار حول تطبيق الشريعة الإِسلامية وعدم القدرة على تفنيدها ومواجهتها.

تمهيد

تمهيد إننا لو فكرنا مليًا فيما آل إليه أمر المجتمعات الإِسلامية التي لا تحكم بما أنزل الله -تعالى-، وكيف غمرها الفساد وأخذت بخناقها المشكلات بسبب تحكيم القوانين الوضعية التي ذاق المسلمون في ظلها أكبر الويلات وأعظم النكبات والأزمات وانفرط عقد نظامهم بسببها عقديًا وسياسيًا وفكريًا واقتصاديًا واجتماعيًا وأخلاقيًا، لو فكر كل منا في هذا لتساءل وحُقَّ له أن يتساءل. لماذا آل أمر المسلمين إلى هذا الحد؟ وما الذي أدى بهم إلى هذا الطريق المسدود؟ وفي -نظري- أن لذلك أسبابًا عدة جعلتها في أربعة مباحث: المبحث الأَول: انعدام الإيمان أو ضعفه. المبحث الثاني: مداهنة الكفار والركون إليهم. المبحث الثالث: الجهل بأحكام الشريعة الإِسلامية. المبحث الرابع: التأثر بالشبهات والإتهامات التي تثار حول تطبيق الشريعة الإِسلامية وعدم القدرة على تفنيدها ومواجهتها.

المبحث الأول انعدام الإيمان أو ضعفه

المبحث الأول انعدام الإيمان أو ضعفه نعم: إن ضعف الإيمان في نفوس كثير من المسلمين هو: الأصل الجامع لكل انحراف وقعوا فيه وكل الأسباب التي سأذكرها بعدُ إنما هي أسباب تفصيلية لهذا السبب الأساسي. ولا غرو فقد تقدم (¬1) أن الإيمان بالله -تعالى- وما يقتضيه هذا المعنى هو نقطة البدء التي ينبغي أن ينطلق منها المسلم بل وتعد عنصرً فعالًا في الإستجابة لأوامر الله -تعالى- وتطبيق شرعه، وإيمان بهذه المنزلة يعد إيمانًا حيًا نابضًا متحركًا ودافعًا إلى كل خير يشعر صاحبه بحلاوته وأثره. "أما أن لا يتجاوز الإيمان إلَّا ادعاءه أو لا يتجاوز النطق بكلمة الإيمان باللسان فحسب، فإذا فتشت عن مدلوله في نفس مدعيه لا تجده شيئًا. فمثل هذا الإيمان لا يحرك ساكنًا ولا ينتج أثرًا ولا يشعر صاحبه ¬

_ (¬1) انظر: ص 54: 58.

بحلاوته وإنما هو إيمان اعتراه فتور أو موت ويتبع هذا -والعياذ بالله تعالى- المرض القلبي الذي يجعل المريض يعرض عن حكم الله وحكم رسوله ويقبل على حكم البشر مع قصوره وثبوت عجزه. نعم: إنه يدعي الإيمان بالله وبالرسول كما يدعي الطاعة فإذا ما دعي إلى تطبيق حكم الله ورسوله فإذا هو من المعرضين (¬1). {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)} (¬2). وروى الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "لقد عشت برهة من دهري وإن أحدنا يؤتي الإيمان قبل القرآن وتنزل السورة على محمد - صلى الله عليه وسلم - فيتعلم حلالها وحرامها وما ينبغي أن يقف عنده منها كما تُعلَّمون أنتم القرآن ثم أجد رجالًا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان؛ فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره وما ينبغي أن يقف عنده منه وينثره نثر الدَّقْل (¬3) " (¬4). وهذا ما يصدق على كثير من مسلمي اليوم فقد ضعف الوازع الديني ¬

_ (¬1) انظر: الإِسلام والحضارة ودور الشباب المسلم، مقال: كيف ننهض بالمجتمعات المسلمة المعاصرة د. محمد رأفت سعيد "بتصرف" يسير من ص 306 - 317. (¬2) سورة النور: آيتان 47، 48. (¬3) الدَّقْل: رديء التمر ويابسه وما ليس له اسم خاص فتراه ليبسه ورداءته لا يجتمع ويكون منثورًا. (مجمع البحرين في زوائد المعجمين 1/ 202). (¬4) مجمع البحرين في زوائد المعجمين للحافظ نور الدين الهيثمي، تحقيق ودراسة عبد القدوس محمد نذير 1/ 202، حديث رقم 209، ط الأولى 413 اهـ، مكتبة الرشد.

وبدا ظاهرة فاشية عندما انتشر الجهل وانعدمت التربية الإِسلامية في مختلف الأوساط وسيطر الظلم وفشا الجور واستبدت بالحكام الأهواء ولم تعد مراقبة الله أساسًا للتصرف، والإيمان به أصلا للسلوك والمعاملات، وأصبح الوازع الديني غير زاجر حقيقة عن اللهو والعبث والفساد. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

المبحث الثاني مداهنة الكفار والركون إليهم في كل شأن من شؤون المسلمين

المبحث الثاني مداهنة الكفار والركون إليهم في كل شأن من شؤون المسلمين إن الإِسلام يواجه حربًا ضروسًا من جهات متعددة، ومن أعداء شرسين، فالصليبيون الحاقدون، والشيوعيون الملحدون والصهيونيون المخربون، كل هؤلاء يعملون جاهدين بكل طاقاتهم لحرب الإِسلام وقطع دابر المسلمين. ومن المؤسف حقًا أن تنضم إليهم وتعمل لحسابهم فئات ثلاث: 1 - الفئة الأُولى: فئة تنتسب إلى الإِسلام ولا سلطان للإسلام عليها ونقصد بتلك الفئة: "الطبقات المتعاقبة من أصحاب القانون الوضعي" وهي الطبقات البديلة "ممن تربوا في أحضان الغرب، ودانوا بفكرتهم وتمذهبوا بمذاهبهم، على آثارهم يُهرعون وفي مرضاتهم يتنافسون وبمذاهبهم العلمانية والإشتراكية والشيوعية والصهيونية يتمذهبون!!! يهتفون باسمهم ويدعون إلى مبادئهم ويحملون الناس عليها" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام ص 252، 253، 272، 429.

فتراهم يداهنون ويجاملون ويدارون الكفار والملحدين على حساب الدين وهذا نتيجة طبيعية للإنهزام الداخلي في نفوسهم حيث رأوا أن أعداء الله تفوقوا في القوة المادية فانبهروا بهم ولأمر مَّا رسخ وترسب في أذهان هؤلاء المخدوعين أن هؤلاء الأعداء هم رمز القوة ورمز القدوة في عالمنا المعاصر فأخذوا ينسلخون من شريعة ربهم وأحكام دينهم مجاملة للكفار ومداهنة لهم وتوددًا إليهم ولئلا يصمهم أولئك الكفرة بأنهم رجعيون متعصبون" (¬1). فهؤلاء إلى غير الإِسلام أقرب؛ لأنهم يعملون عمل الكفار ويقولون قول المسلمين وما هم بمسلمين ولو قالوا ألف مرة بالسنتهم إنهم من المسلمين!! وقد تقدم الحكم على هؤلاء عند الحديث على "حكم من حكم بغير ما أنزل الله -تعالى-" وهم الصنف الثاني الذين أطاعوا المبدلين لشرع الله" (¬2). وما نريد أن نقرره هنا هو: أن هؤلاء ومن على شاكلتهم -أعني سواء كانوا حكامًا أو محكومين- يوالون أعداء الله، ويوادونهم ويتحببون إليهم تملقًا لهم وتقربًا إليهم وتثبيتًا لملكهم واستقباءً لسلطانهم وطلبًا لحمايتهم ... فتراهم يتصدرون أزمة الحكم ويحتلون مكان الزعامة الدينية والروحية والفكرية والسياسية والتنفيذية ¬

_ (¬1) بتصرف من: الولاء والبراء في الإِسلام من مفاهيم عقيدة السلف لمحمد بن سعيد القحطاني ص 239. طبع دار طيبة - الرياض. (¬2) انظر: ص 190: 195 من هذا الكتاب.

ويدفعون بشعوبهم مغافلةً إلى ما يريدون بل إلى ما يألفون وهم يدرون أو لا يدرون ما يراد بهم وبشعوبهم أو ما سيصير إليه أمرهم فإنا لله وإنا إليه راجعون!! نعم: إن تلامذة الإستعمار في قلب البلاد الإِسلامية يحملون معاول الهدم للإسلام ويبثون سمومهم للمسلمين هنا وهناك عن قصد أو عن غير قصد! 2 - الفئة الثانية: ومن المؤسف أيضًا أن يبتلى المسلمون بفئة أخرى -من أدعياء العلم- ترضى بالقوانين الوضعية بل وتتعلمها وتقوم بتعليمها وبالقضاء بها (¬1)، وهؤلاء العلماء والضعفاء قد استخدمهم الطغاة المنهزمون في أنفسهم، كي يلبسوا على المسلمين دينهم فتراهم يسلكون مسلك سادتهم وكبرائهم في النفاق والدجل والخداع في تمرير القوانين الوضعية والحكم بها ودراستها في كليات ومعاهد المسلمين يغلفون دعوتهم بغلاف جميل براق ويتخذون ألوانًا من المكر والخداع، فتارة يدَّعون أن الله فوض للأمة أن تضع ما يصلح شأنها من أنظمة وقوانين!! وتارة يدَّعون أن القوانين الوضعية موافقة للشريعة الإِسلامية. وتارة يدَّعون التوفيق بين الشريعة الإِسلامية والقوانين الوضعية (¬2). إلى غير ذلك من الإدعاءات الكاذبة التي هي كفر وضلال وخداع وتلفيق وقائلوها مخادعون أو مخدوعون ولا يخفى خداعهم هذا على من له ¬

_ (¬1) الشريعة الإلهية لا القوانين الجاهلية د. عمر سليمان الأشقر ص 100 - 103. (¬2) المرجع السابق ص 110 - 113.

بصيرة في دينه بل أدنى بصيرة فيه! وهؤلاء قذى في أعين الإِسلام وبثرة في وجه الدين، فالاسلام منهم براء وسيحملون أوزارهم كاملة ومن أوزار الذين يضلونهم إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين. 3 - الفئة الثالثة: على أن هناك فئة ثالثة: انتسبت إلى الإِسلام زورًا وخرجت على الدين خروجًا سافرًا في أقوالها وأفعالها وسلوكها، ليقول الناس عنهم إنهم أحرار التفكير ورواد الإصلاح وما هم في الواقع إلَّا ببغاوات يرددون كما ورد من الغرب الكافر أو الشرق الملحد وهو عندهم طابع المدينة وسمة الحضارة، ولن يكون الإنسان عند هؤلاء مدنيًا متحضرًا إلَّا إذا انسلخ من دينه ومن لسانه ليلبس جلد غيره ودينه ولسانه واستخدم هؤلاء سلاحًا فتاكًا لتقويض المجتمعات الإِسلامية ونقل الأوبئة الإجتماعية الغربية إليها وهو وسائل الإعلام من صحافة وتلفاز ومسرح وسينما ... إلخ. وبذا عمت الفوضى وانتشر الفساد وتولى الجيل الذي رباه المستعمرون تربية جيل جديد أكثر مسخًا وانحلالًا وحوربت أحكام الله على يد هؤلاء أكثر مما حوربت بأيدي المستعمرين (¬1). وبعدُ: فهذا حال بعض من ينتسب إلى الأمة الإِسلامية. وهذا هو واقعنا الذي نعيشه ونحن مبتلون بهؤلاء المحسوبين علينا والمتولين أَزِمَّة الحكم فينا. وَمَرَدُّ ذلك كله الإعراض عن شرع الله وهديه والمداهنة. والموالاة -غير المشروعة- لأعداء الله وأعدائنا. ¬

_ (¬1) لنظر: الغزو الفكري ص 265، والتقليد والتبعية وأثرهما في كيان الأمة الإِسلامية من ص 113 - 116. ناصر عبد الكريم العقل - مطابع الرياض.

إنه لن يستقيم إيمان المسلم وسلوكه إلَّا على أساس إخلاص ولائه لربه ورسوله وعقيدته وجماعته المسلمة ... قال -تعالى-: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)} (¬1). ولن يتحقق معنى استخلاف الله له في الأرض بحمله راية هذه العقيدة المكينة ما لم يعرف طبيعة عدوه وبواعثه وطبيعة المعركة التي يخوضها معه وما لم يستيقن أن أعداء الله جميعًا إلب عليه وأن بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة والعقيدة الإِسلامية على السواء!!. والنصوص التي تبين ذلك وتؤكده كثيرة منها: قال -تعالى-: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (28)} (¬2). فهذا نهي عن التولي العام لهم واتخاذهم أعوانًا وأنصارًا وأولياء، أو الدخول في دينهم. قال ابن جرير الطبري -رَحِمَهُ اللهُ- في تفسير هذه الآية: "من اتخذ الكفار أعوانًا وأنصارًا وظهورًا يواليهم على دينهم ويظاهرهم على المسلمين فليس من الله في شيء أي قد بريء من الله وبريء الله منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} أي إلَّا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا لهم العداوة ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 56. (¬2) سورة آل عمران: آية 28.

العدالة تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ولا تعينوهم على مسلم بفعل" (¬1). وقال -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)} (¬2). قال ابن جرير -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في تفسيرها: "من تولى اليهود والنصارى من دون المؤمنين فإنه منهم، أي من أهل دينهم وملتهم فإنه لا يتولى متول أحد إلَّا وهو به وبدينه، وما هو عليه راض وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه وصار حكمه حكمه" (¬3). وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "أخبر الله في هذه الآية أن متوليهم هو منهم وقال سبحانه: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} (¬4). فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب فالقرآن يصدق بعضه بعضًا" (¬5). وقال في الظلال في قوله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ...} الآية: هذا النداء موجه إلى الجماعة المسلمة في المدينة -ولكنه في الوقت ذاته موجه لكل جماعة مسلمة تقوم في أي ركن من أركان ¬

_ (¬1) تفسير الطبري 3/ 228. (¬2) سورة المائدة: آية 51. (¬3) تفسير الطبري 6/ 277. (¬4) سورة المائدة: آية 81. (¬5) الإِيمان لإبن تيمية ص 13، 14 - طبع المكتب الإِسلامي بدمشق.

الأرض إلى يوم القيامة ... موجه لكل من ينطبق عليه ذات يوم صفة {الَّذِينَ آمَنُوا}. إن القرآن الكريم يربي وعي المسلم بحقيقة أعدائه وحقيقة المعركة التي يخوضها معهم ويخوضونها معه. إنها معركة العقيدة فالعقيدة هي القضية القائمة بين المسلم وكل أعدائه، وهم يعادونه لعقيدته ودينه قبل أي شيء آخر، وهم يعادونه هذا العداء الذي لا يهدأ لأنهم هم فاسقون عن دين الله ومن ثم يكرهون كل من يستقيم على دين الله: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)} (¬1) ... فالذين يحملون راية هذه العقيدة لا يكونون مؤمنين بها أصلًا ولا يكونون في ذواتهم شيئًا، ولا يحققون في واقع الأرض أمرًا ما لم تتم في نفوسهم المفاصلة الكاملة بينهم وبين سائر المعسكرات التي لا ترفع رايتهم. والذين يحملون راية هذه العقيدة لا يكونون مؤمنين بها ما لم يقتنعوا اقتناعًا لازمًا جازمًا لا أرجحة فيه ولا تردد بأن دين الله هو الدين الوحيد الذي لن يقبل الله من الناس سواه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} (¬2). وبأن شرع الله لا يمكن أن يقوم مقامه أي منهج آخر من مناهج البشر ولن تستقيم حياة البشر إلَّا بإقرار شرع الله في أرض الله وتحكيمه في أوضاعهم وأنظمتهم وتنفيذه في أقضيتهم وأحوالهم. إن الولاية التي ينهى الله الذين آمنوا أن تكون بينهم وبين اليهود والنصارى تعني التناصر والتحالف معهم ولا تتعلق بمعنى اتباعهم في دينهم ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 59. (¬2) سورة آل عمران: آية 85.

فبعيد جدًّا أن يكون بين المسلمين من يميل إلى اتباع اليهود والنصارى في الدين. إنما هو ولاء التحالف والتناصر الذي كان يلتبس على المؤمنين أمره فيحسبون أنه جائز لهم بحكم ما كان واقعًا من تشابك المصالح والأواصر. ومن قيام هذا الولاء بينهم وبين جماعات من اليهود قبل الإِسلام وفي أوائل العهد بقيام الإِسلام في المدينة حتى نهاهم الله عنه وأمر بإبطاله بعدما تبين عدم إمكان قيام الولاء والتحالف والتناصر بين المسلمين واليهود في المدينة. إن المسلم مطالب بالسماحة مع أهل الكتاب ولكنه منهي عن الولاء لهم بمعنى التناصر والتحالف. والتسامح يكون في المعاملات الشخصية لا في التصور الإعتقادي ولا في النظام الإجتماعي" (¬1). وبهذا يعلم أن سماحة الإِسلام مع أهل الكتاب شيء، واتخاذهم أولياء من دون الله شيء آخر، ولكنهما يختلطان على بعض المسلمين السذج الذين ينادون بما يسمى "زمالة الأديان" ويقولون إننا نستطيع أن نضع أيدينا في أيدي أهل الكتاب للوقوف في وجه المادية والإلحاد بوصفنا جميعًا أهل دين، وهم بهذا يخلطون بين دعوة الإِسلام إلى السماحة في معاملة أهل الكتاب والبر بهم في المجتمع المسلم الذي يعيشون فيه وبين الولاء الذي لا يكون إلَّا لله ولرسوله ثم للجماعة المسلمة ... ولكن على هؤلاء السُّذَّج أن يعلموا أنهم واهمون في زعمهم هذا؛ فإنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يقوم بيننا وبين اليهود والنصارى ولاء وتناصر ندفع به المادية والإلحاد ولا يمكن أن نظن أن لنا وإياهم طريقًا واحدًا وهم الذين يتمنون أن لو نكفر كما كفروا فنكون سواءً: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا ¬

_ (¬1) بتصرف: في ظلال القرآن 2/ 908 - 912.

فَتَكُونُونَ سَوَاءً} (¬1). {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ...} (¬2) الآية. وهم الذين كانوا يقولون للذين كفروا من المشركين: {هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)} (¬3). وهم الذين ألبَّوا المشركين على المسلمين في المدينة وكانوا لهم درعًا وردءًا. وهم الذين يتحينون الفرص للقضاء على الإِسلام، ويرصدون لأهله ليفتنوهم عنه ويردوهم كفارًا في صورة من صور الكفر الكثيرة وما أكثرها في زماننا هذا ... {... وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} (¬4). وغير ذلك من النصوص والوقائع التي تُثْبِتُ عداوة اليهود والنصارى للمسلمين فهل بعد هذا يظن اتحاد أو تقارب أو زمالة بين الأديان!! إن هؤلاء المخدوعين الذين ينادون بهذه الفكرة المشؤمة ويعملون لهذه الدعوة المزعومة من التقارب والإتحاد بين الأديان قد نسوا أو تناسوا أنهم تركوا جرحًا لا يندمل في جسم الأمة الإِسلامية وأوجدوا جيلًا مهزومًا في ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 89. (¬2) سورة البقرة: آية 109. (¬3) سورة النساء: آية 51. (¬4) سورة البقرة: آية 217.

نفسه؛ دان بالطاعة لأهل الكفر وتلقى عنهم واقتبس مناهجهم وأوضاعهم" (¬1). قال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في حكم موالاة أهل الإشراك: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: اعلم -رحمك الله تعالى- أن الإنسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم موالاةً لهم وخوفًا منهم ومداراةً لهم ومداهنةً لدفع شرهم فإنه كافر مثلهم وإن كان يكره دينهم ويبغضهم ويحب الإِسلام والمسلمين هذا إذا لم يقع منه إلَّا ذلك فكيف إن كان في دار مَنَعة واستدعى بهم ودخل في طاعتهم وأظهر الموافقة على دينهم الباطل وأعانهم عليه بالنصرة ووالاهم وقطع الموالاة بينه وبين المسلمين وصار من جنود القباب والشرك وأهلها بعدما كان من جنود الأخلاص والتوحيد وأهله، فإن هذا لا يشك مسلم أنه كافر من أشد الناس عداوة لله -تعالى- ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ... ثم ذكر -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بعض الأدلة على ذلك" (¬2). وإن من أبرز ملامح موالاة الكفار ما وقع فيه كثير من أهل البلاد الإِسلامية في موالاة الكفار ومداهنتهم: تحكيم القوانين الوضعية وذلك نتيجة لضعف الإيمان أو فقده وإظهار المحبة للكفار والميل إليهم وهو شامل لكل ما يتنافى مع أحكام الإِسلام سواء كان ذلك في السياسة أم الإقتصاد أم المعاملات أم السلم أم الحرب أم الأخلاق أم النظم الإجتماعية. ¬

_ (¬1) انظر: الولاء والبراء في الإِسلام من مفاهيم عقيدة السلف ص 344 - 349. (¬2) انظر: الجامع الفريد الرسالة الثانية ص 371 - طبع مؤسسة مكة للطباعة والإعلام بالسعودية، على نفقة عبد العزيز ومحمد العبد الله الجميح.

المبحث الثالث الجهل بأحكام الشريعة الإسلامية

المبحث الثالث الجهل بأحكام الشريعة الإِسلامية إن أكثر المسلمين اليوم يتوارثون الإِسلام توارثًا تقليديًا ... وجدوا عليه آباءهم وأجدادهم لهذا فشا الجهل بأحكام الشريعة الإِسلامية لدى الكثير من أبناء الأمة الإِسلامية قياداتٍ وشعوبًا حتى أصبح كثير منهم لا يعرف من دينه إلَّا اسمه فلا يعرف أحكامه وعقائده ولا أخلاقه وآدابه. مما سهل على أعداء الله أن ينشروا ضلالهم وأن يبثوا سمومهم بل وأصبح يسيرًا عليهم أن يجندوا لهم عملاء من أبناء المسلمين يحاربون عقيدتهم بأيديهم وينشرون الجهل والضلال في صفوفهم ويتركونهم أسرى العادات والتقاليد والبدع والخرافات والعجب والغرور، وأصبح تصور هؤلاء للإسلام وفهمهم له سيئًا مشوهًا لا يتفق وجوهره وحقيقته في شيء: ففي مجال الطاعة والإتباع غفل كثير من المسلمين عن هذا الأصل العظيم: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: آية 3.

ونسوا القاعدة التوحيدية المتمثلة في "أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" (¬1). وبذلك صرفوا هذا النوع من العبادة أو جزءًا منه إلى الحكام والولاة ومشايخ الطرق الصوفية والمشعوذين الذين تهيأ لهم الجو بما سيطر على الأمة من جهل وسذاجة. وقد نسي هؤلاء أو تناسوا: إنه إذا قامت عبادة الله على أساس صحيح من العقيدة والإستقامة والاخلاص لله والصدق معه والخضوع لسلطانه نجحت جميع الآمال وانضبطت جميع الأعمال وأكسبت المجتمع الإعتدال والتوازن، وامتزجت أعمال أفراده بالطابع الديني المطهر للأخلاق، وعبادة هذا شأنها تكون أوسع وأشمل من مجرد إقامة الشعائر التعبدية فقط من صلاة وصوم وحج ... إلخ. وحينئذٍ يتمثل فيها أمران رئيسان: الأمر الأول: استقرار معنى العبودية لله في النفس أي استقرار الشعور على أن هناك ربًا يُعْبَدْ وعبدًا يَعْبُدُ {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)} (¬2). الأمر الثاني: التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير وبكل حركة في الجوارح وبكل ¬

_ (¬1) أصل هذه القاعدة ما رواه علي بن أبي طالب -- رضي الله عنه -- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا طاعة في معصية إنما الطاعة في المعروف"، أخرجه البخاري في صحيحه 8/ 105، 106، كتاب الأحكام باب 4. (¬2) سورة الزمر: الآيتان 11، 12.

حركة في الحياة، التوجه بها إلى الله خالصة، والتجرد من كل شعور آخر ومن كل معنى آخر غير معنى التعبد الله والخضوع لسلطان الله!! وقد مرَّ بنا (¬1) أن كل المفاهيم الإِسلامية قد فسدت وانحرفت في حس الأجيال المتأخرة وانحصرت العبادة في الشعائر التعبدية -وربما تؤدى أو لا تؤدى- وأصبح الدين في النهاية صورة باهتة خاوية من الروح لا تستطيع أن تصمد للهجوم الوحشي الذي تدافع من كل صوب للقضاء على الإِسلام (¬2). وإليك صورًا من الجهل المنتشر بين أبناء الأمة الإِسلامية: ففريق استهوته الشياطين من البشر فراح ينادي بعدم صلاحية الشريعة الإلهية للتطبيق وانقسم هذا الفريق إلى صنفين: * صنف لم يدرس الشريعة ولم يفهم أحكامها ولكن لقن على أيدي الخبثاء المغرضين أن الدين تأخر وانحطاط وتحجر ورجعية وأن الوسيلة الوحيدة للتحضر والإرتقاء والتقدم هي الإنسلاخ من الدين بالكلية" (¬3). * وصنف لم يدرس الشريعة ولكن درس القوانين الوضعية فقط وتولى تربية جيل من المسلمين لا يعرف شيئًا عن حقيقة الإِسلام بل يعرف بدلًا عن ذلك شبهات تحوم في نفسه حول الدين" (¬4). ¬

_ (¬1) ص 199، 200. (¬2) واقعنا المعاصر ص 118 هامش 1. (¬3) انظر: ص 206: 209. (¬4) جاهلية القرن العشرين محمد قطب 274 طبع دار الشروق بالقاهرة وبيروت، 1402 هـ، والغزو الفكري ص 72.

وفريق ضل الهدى وافتقد الإيمان ولم ير في الوجود إلَّا ذاته يتعبد لها بإشباع شهوته واتباع هواه ويلتمس الكمال في الطلاقة من كل قيد يحد شهوة بطنه وفرجه والتعالي عن كل ضابط يكفكف من كبريائه وخيلائه. وفريق رأى الإِسلام عقيدة مستسرة في القلب يصلي لها الإنسان ويصوم وما وراء ذلك تعب قلب ليس له لزوم!! وفريق تولى بث الإشاعات ونشر الإتهامات، والسخرية والإستهزاء بعلماء الدين وتصويرهم في نفوس المسلمين بصورة الجهلاء الجامدين تارة والمنافقين المستغلين لسلطان وظائفهم ونفوذهم تارة أخرى وبذا قل طلب العلم الديني والشرعي وأصبح العالم الإِسلامي يشكو نقصًا في علماء الدين العاملين أكثر ما يشكو في أي شيء آخر (¬1). وفريق تولى إفساد المرأة المسلمة وإخراجها باسم الثقافة والحرية والديمقراطية سافرة ومتبرجة وجعلها أحبولة الفساد في المجتمعات الإِسلامية ومن ثم تعطيل الأسرة وهدم كيان المجتمع الإِسلامي (¬2). وفريق فهم الإِسلام بمفهوم بعيد عن الإِسلام ومنهج الإِسلام: فهذه المساجد الشامخة القائمة يعمرها الفقراء والعاجزون فيؤدون فيها ركعات خالية من معاني الروح والخشوع إلَّا من هدى الله. وهذه الأيام التي تصام في العام فتكون موسمًا للتعطل والتبطل والطعام والشراب والبذخ والإسراف وقلما تتجدد فيها نفس أو تزكو بها روح. ¬

_ (¬1) الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام ص 512 - 515. (¬2) واقعنا المعاصر، محمد قطب ص 250، 349.

{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} (¬1). وهذه المظاهر الخادعة من المسابح والملابس واللحى والمراسم والطقوس والألفاظ والكلمات؟! أهذا هو الإِسلام الذي أراده الله أن يكون رحمته العظمى ومنته الكبرى على خلقه؟ أهذا هو هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ أهذا هو تشريع القرآن الذي عالج أدواء الأمم ومشكلات الشعوب ووضع للإصلاح أدق القواعد وأرسخ الأصول؟ أهذا حال أمة نزل فيها القرآن وخصها الله بالهدى والبيان والكثير منهم معرضون وفي جهلهم وعبثهم سادرون؟ (¬2). يتصور كثير منهم أو يتوهم أنه يستطيع أن يظل على إسلامه وهو يطبق نظمًا ليست من عند الله جهلًا منه وظنًا أن الإِسلام هو أن يطبق بلسانه لا إله إلَّا الله أو على الأكثر يؤدي بعض العبادات في المسجد وينتهي مطلوب الإِسلام منه عند هذه النقطة (¬3) وله بعد ذلك أن يسيح في الأرض ما يشاء يأخذ ما يشاء ويدع ما يشاء يأخذ من روسيا مرة ويأخذ من أمريكا مرة ويأخذ من ألمانيا مرة، ومن انجلترا مرة يأخذ ماذا؟ يأخذ نظام الحياة!! لقد وقع كثير من السذج والجهلة بل وبعض العلماء في أيامنا هذه "في ¬

_ (¬1) سورة ص: آية 24. (¬2) الإخوان المسلمون تحت راية القرآن حسن البنا ص 6، 7، 9، 10، 25، طبع ونشر دار الكتاب العربي بمصر. (¬3) انظر: روح الدين الإِسلامي، عفيف طبارة ص 14، ومصرع الشرك والخرافة ص 34، 35.

شرك حقيقي" وبرهان ذلك ما نراه بأعيننا في كثير من البلاد العربية والإسلامية، إذا يتساقطون على الأضرحة والمشاهد ويقصدون الموتى ويعتمدون عليهم في جلب النفع ودفع الضرر، بل ويتوهم بعض الجهلاء هناك أن العبادة نفسها هي بالدرجة الأولى ما يأمر به المشايخ والأولياء من البدع؟! (¬1). وهذا كله نتيجة انحسار مفهوم العبادة عند الصوفية وحصرها في الصلوات والأذكار وحفظ المتون الطويلة، مما أدى إلى انحراف العبادة نفسها واستقائها من غير معين الكتاب والسنَّة (¬2). • • • ¬

_ (¬1) مصرع الشرك والخرافة خالد علي الحاج ص 34، 35. (¬2) واقعنا المعاصر ص 250، 349، وانظر في هذا المبحث أيضًا: الإِسلام ضرورة عالمية ص 230، تأليف زاهر عزب الزغبي، المطبعة الثقافية بالقاهرة، وموسوعة سماحة الإِسلام للصادق عرجون 1/ 455.

المبحث الرابع التأثر بالشبهات والإتهامات التي تثار حول تطييق الشريعة الإسلامية وعدم القدرة على مواجهتها وتفنيدها

المبحث الرابع التأثر بالشبهات والإتهامات التي تثار حول تطييق الشريعة الإِسلامية وعدم القدرة على مواجهتها وتفنيدها ويضم هذا المبحث تمهيدًا ومطلبين: التمهيد. المطلب الأول: شبهات عامة. وتحته مسألتان: * المسألة الأولى: الأقليات غير المسلمة وموقفها من حكم الإِسلام. * المسألة الثانية: اتهام التشريع الإِسلامي بالجمود وعدم مسايرته لتطورات العصر. المطلب الثاني: شبهات خاصة. وتحته مسألتان: * المسألة الأولى: دعوى أن الحدود والعقوبات قاسية. * المسألة الثانية: حقائق لابد منها بعد تفنيد هذه الإدعاءات والشبهات والإفتراءات.

تمهيد

تمهيد منذ بزغ فجر الإِسلام وقوى الشرك والضلال تكيد للإسلام وتضع المخططات وتدبر المؤامرات وتحيك الشبهات لكسر شوكته ومكافحة دعوته والقضاء عليه، ولكن الإِسلام هو الإِسلام لم ينكسر له جيش، ولم تُنكَّسْ له راية ولم ينهزم في معركة طوال تلك الحقب الطويلة من الأزمان، وكان المسلمون على بصيرة من أمرهم وبينة من دينهم وثقة بربهم يجاهدون في سبيله ولا تأخذهم فيه لومة لائم، أخوة الإِسلام تجمعهم وشريعة الإِسلام ترفرف فوق رؤوسهم وبتوفيق من الله وإعانة تم لهم النصر والفوز ففتحوا البلاد وسادوا العباد وكانوا بحق خير أمة أخرجت للناس. ولكن أعداء الإِسلام وقد جربوا الحرب مع المسلمين وذاقوا المرارات في معاركهم وعادوا يجرون أسمال الهزيمة في كل مواجهة بينهم وبين المسلمين، فكروا ودبروا بعد أن كادت الحسرات والزفرات تقطع نياط قلوبهم السوداء ... نظروا وفكروا وأجمعوا على أن سر تقدم المسلمين وانتصارهم إنما يكمن وراء دينهم وأن الإِسلام هو مبعث وحدتهم وقوتهم فأجمعوا أمرهم ودبروا كيدهم، وقالوا: تعالوا نهدم بنيانهم بهدم إسلامهم فنحاربه في نفوسهم ونضعفه في قلوبهم، وننفرهم منه ونبعدهم عنه، بما

نشغلهم من مبادئ أخرى ... ثم انطلقوا يضعون المخططات ويرسمون الخطط، وبيدهم أقلامهم التي هي معاول هدم وألسنة سوء يشرِّقون بها ويغرِّبون، ويفترون وما يخجلون، ويكذبون ولا يصدقون يتقولون على الإِسلام ويتلمسون فيه وفي شريعته المثالب والعيوب ويتحاملون عليه ويتهمونه بالباطل ويشوهون حقائقه الناصعة ويضعونه موضع المتهم أمام خصومه الألداء يدينونه ويلصقون به التهم الكاذبة مع سلامته من كل عيب ونقص واتهام!! (¬1) وها نحن نذكر صورًا ونماذج من هذه الإتهامات الباطلة وتلك الافتراءات الظالمة التي يوجهها خصوم الإِسلام للإسلام نصورها ضمن مدلولاتها كما هي في ذهن أصحابها والمروجين لها ثم نتبع كل واحد منها بما يكشف عن زيفها وبطلانها. وإذا تأملنا أنواع هذه الشبهات وعلاقتها بالشريعة الاسلامية ... وجدنا أنها تنقسم إلى (¬2): 1 - شبهات تتعلق بجوهر الشريعة الإِسلامية ومضمونها. 2 - شبهات تتعلق بالشكل فقط دون الجوهر والمضمون. فأما الشبهات التي تتعلق بجوهر الشريعة الإِسلامية فتنقسم إلى قسمين: ¬

_ (¬1) انظر في هذا: الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام ص 499، والمخططات الاستعمارية لمكافحة الإِسلام لمحمد محمود الصواف ص 105. (¬2) انظر في هذا التقسيم: وجوب تطبيق الشريعة الإِسلامية ص 356، من مقال الشريعة الإِسلامية في العصر الحديث د. محمد سعيد البوطي.

المطلب الأول شبهات عامة

(أ) شبهات عامة: وهذا هو المطلب الأول. (ب) شبهات خاصة: وهذا هو المطلب الثاني. فمن الشبهات العامة التي تتعلق بِكُلِّيِّ الشريعة دون النظر إلى أي جانب من الجوانب الأخرى ... يدعون: بأن تطبيق الشريعة الإِسلامية يثير المشاعر السلبية لدى الأقليات غير المسلمة هذا ما يزعمونه ويَدَّعونه ويروجون له: والحقيقة أَنَّ: "موقف الطوائف غير المسلمة من حكم الإِسلام مسألة يقال عنها دائمًا إنها شائكة ودقيقة، يتجنب الناس الحديث فيها خشية وقوع الفتنة بين المسلمين وغير المسلمين (¬1) والسبب في ذلك ما يتذرع به أعداء الإِسلام ويتهمون به المسلمون بما يشيعونه كذبًا: "من أن تطبيق الشريعة الإِسلامية يثير المشاعر السلبية لدى الأقليات غير المسلمة ويهيج نوازع الأحقاد الطائفية في نفوسهم، مما يعرض الأمة لخطر التدابر والانقسام، ويهدد وحدتها وتآلفها، وخير للأمة أن تكون في مأمن من هذا الخطر عندما يلتقي أبناؤها على شرعة وضعية لا صلة لها بعقيدة أو دين مما يتخالف الناس فيه"!! (¬2) هكذا يقولون وهم يتهمون الشريعة الإِسلامية بأنها تتجاهل حقوق الأقليات التي لا تنتسب إلى الإِسلام، فتحرمهم من حقوقهم ولا تسمح لهم بممارسة الحياة الإنسانية في ظل الكرامة الجديرة بالإنسان. ¬

_ (¬1) انظر: شبهات حول الإِسلام، محمد قطب ص 176 ط. السادسة 1964 م، مكتبة وهبة بالقاهرة. (¬2) وجوب تطبيق الشريعة الإِسلامية ص 356.

ولكن على هؤلاء أن يعلموا علم اليقين: أن هذه تهمة باطلة تكذبها النصوص ويكذبها التاريخ المعروف للمسلمين يوم كانوا يحكمون بلادًا فيها أقليات غير مسلمة، بل ويكذبها أيضًا المنصفون منهم ولا يتهمون بالتعصب للإسلام. فأما النصوص ... يقول -تعالى-: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (¬1). "فبينما كان رؤساء أكثر الأديان يأمرون أتباعهم باستعمال أشد الطرق الإكراهية لحمل الناس على الدخول في دينهم ولو أدى ذلك إلى سفك الدماء وقتل الأبرياء!! نرى أن الإِسلام لا يكره أحدًا على الدخول فيه بل يدع الناس في ظله أحرارًا في عقائدهم الخاصة لا يلزمهم إلَّا بالطاعة لشرائعه الإجتماعية والأخلاقية والإقتصادية والدولية" (¬2). أما عقيدة القلب فهم فيها أحرارًا. وأما أحوالهم الشخصية فهم فيها أحرارًا يزاولونها وفق عقائدهم، والإسلام يقوم عليهم ويحميهم ويحمي حريتهم في العقيدة ويكفل لهم حقوقهم، ويصون لهم حرماتهم ولا يطلب منهم سوى الإنتظام في سلك العدالة والحق في بَلَدٍ هُمْ أحق بالإنتظام فيه من غيرهم، باعتبارهم بعضًا من رعاياه أو مواطنيه. ويقول سبحانه مخاطبًا رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 256. (¬2) بتصرف من: روح الدين الإِسلامي ص 272. (¬3) سورة يونس: آية 99.

فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يكره أحدًا على الإيمان وليس بمستطاع له ذلك ولا من وظائف الرسالة التي بعث بها أن تكره الناس على الإيمان، لأن الإيمان مشاعر القلب وتوجيهات الضمير، والعقائد لا تنشأ في الضمائر بالإكراه، فالإكراه في الدين فوق أنه منهى عنه هو كذلك لا ثمرة له. فالإيمان إذن متروك للإختيار والإسلام لا يتملق أحدًا: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ...} (¬1) الآية. ولكن سنَّة الله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} (¬2). "إن شياطين الإنس يخلون بالطوائف غير المسلمة في البلاد العرَبية والإسلامية فيقولون لهم: اتبعونا وسنحطم لكم هذا الإِسلام الذي يفرق بين الناس على أساس العقيدة" {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)} (¬3). ليس الإِسلام هو الذي يفرق في نظمه ومعاملاته بين الناس على أساس العقيدة وهو الذي يمنحهم كل الحقوق الحيوية بلا تفريق ويجمع بينهم على أساس الإنسانية ... {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} (¬4). "ثم يترك لهم بعد ذلك كامل الحرية في اعتناق العقيدة التي ¬

_ (¬1) سورة الكهف: آية 29. (¬2) سورة الأنعام: آية 112. (¬3) سورة الكهف: آية 5. (¬4) سورة الإسراء: آية 70.

يريدونها ... إلَّا إكراه في الدين، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر لكم دينكم ولي دين" (¬1). ومن آثار هذه الحرية الدينية ما سنَّه الإِسلام من أدب المناقشة الدينية ومجادلة أهل الكتاب "اليهود والنصارى" مجادلة أساسها العقل والمنطق وعمادها الإقناع ولكن بالتي هي أحسن" (¬2). {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)} (¬3). وقال -تعالى-: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} (¬4). ورغم قطع الولاء بين المسلم وأقاربه من الكفار وانفصام عرى المحبة بينه وبينهم فإن القرآن أمر بأن يصل الانسان رحمه ولو كفروا بدينه الذي اعتنقه، فإن التزامه بالحق لا يعني المجافاة للأهل {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)} (¬5) وهذا من الناحية الشخصية. أما من الناحية العامة فلم ينهانا الإِسلام عن برهم والإحسان إليهم إذا كفوا أيديهم عنا وأعلنوا الإنضواء تحت سلطان ¬

_ (¬1) بتصرف من: شبهات حول الإِسلام ص 180، 181. (¬2) انظر: روح الدين الإِسلامي لطبارة ص 273. (¬3) سورة العنكبوت: آية 46. (¬4) سورة النحل: آية 125. (¬5) سورة لقمان: آية 15.

المسلمين: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} (¬1). ولم يتوقف الأمر من العدل معهم والبر بهم عند هذا الحد فحسب وإنما يسعى الإِسلام إلى توثيق الروابط بينهم وبين المسلمين بالتزاور والمؤاكلة والمشاربة وهي لا تكون إلَّا بين الأصدقاء والمتحابين ويتوج ذلك كله رباط الزواج وهو أوثق رباط: يقول جل ذكره: {... وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ...} (¬2) والمؤاكلة والمصاهرة تدعو للمحبة وحسن المعاشرة والإِخلاص في المعاملة. "ولقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلًا أعلى لمعاملة أهل الكتاب وكفل لهم حقوقهم الدينية والإنسانية وحفظ لهم مواثيقهم وعهودهم وشرط لهم واشترط عليهم ووفى لهم وأوصى بهم خيرًا ما داموا يعيشون تحت مظلة الحكم الإِسلامي وعلى ذلك سار المسلمون في علاقاتهم مع أهل الأديان الأخرى والدين أقوى حاكم على شعورهم فلم يشاهد منهم ما يعابون عليه من جهة التسامع مع مخالفيهم وكف الظلم عنهم ما دامت تربطهم بهم رابطة عهد أو ذمة أو مصلحة متبادلة، ولا يعرف ذلك لدين من الأديان أو شريعة من الشرائع أو أمة من الأمم غير دين الإِسلام وشريعته وأمته، والناظر في تصرفات قادة الفتوحات الإِسلامية من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمرائه وولاته، ومن جاء بعدهم من التابعين وتابعيهم يرى أنهم كانوا أحرص الناس ¬

_ (¬1) سورة الممتحنة: آية 8. (¬2) سورة المائدة: آية 5.

على الرفق والسماحة في تنفيذ العهود والمواثيق وأحفظ من عرف التاريخ لحقوق من يقطنون ديارهم ويدينون بغير ديانتهم (¬1). وإليك بعض النماذج التي تعتبر لسان صدق وشاهد عدل، وتصويرًا حيًا لحقيقة الإِسلام التشريعية وتطبيقاته السلوكية وهي حقائق مسطورة في سجل الحياة لم تستطع عوامل الجهالة والعصبية طمس معالمها ... وأشعة الحق لا يحجبها الضباب!!! ومع كل حق من حقوقهم العامة والخاصة في الدولة الإِسلامية نجد أمثلة ثرة ونماذج واقعية وعتها عقول راشدة وسجلتها يد بيضاء لا تعرف الزيف والتحريف وهي ملء صفحات تاريخنا الاسلامي المشرق: فمن ناحية حقوق غير المسلمين في أداء الشعائر الدينية وممارسة العبادات: تقوم الشريعة الإِسلامية على أسس أخلاقية رفيعة وأولها تقرير حرية العقيدة: فإن الإِسلام لا يفرض على أحد عقيدته قسرًا، ولا يرغم أحدًا على قبول شعائره التعبدية التي هي ذات صلة وثيقة بعقائده لأن هذه العبادات لا معنى لها بدون الإيمان الصحيح!!. وإذا كان الإِسلام لا يكره أحدًا على الدخول فيه فإنه يكفل الحرية الدينية لكل إنسان يعيش على أرضه ويدع الناس في ظله أحرارًا في عقائدهم وإظهار شعائرهم وممارسة عبادتهم وفق عقائدهم السماوية وليس أدل على ذلك من تلك الوثيقة التي كتبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار ومن تبعهم حيث وادع فيها اليهود وعاهدهم، وتركهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم، وهي صورة صادقة لحقوق الإنسان، حيث وردت بما ¬

_ (¬1) موسوعة سماحة الإِسلام للصادق عرجون 1/ 448.

يجعل المجتمع المسلم مجتمعًا متلاحمًا متماسكًا وكفلت -أيضًا- حقوق أهل الديانات الأخرى ... وسنقتصر على ذكر بعض فقراتها التي تتصل بهذا الشأن: جاء في أولها: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: هذا كتاب من محمد النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس ... وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم ... وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يهود بني عوف أمة من المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ... وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة" وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم ... وأن الله جار لمن بر واتقى) (¬1). فهذه الوثيقة تنطق برغبة المسلمين في التعاون الخالص مع يهود المدينة لنشر السكينة في ربوعها، والضرب على أيدي العادين ومدبري الفتن أيا كان دينهم -وقد نصت -بوضوح- على أن حرية الدين مكفولة وكان حقًا على اليهود أن يخشعوا وهم أهل كتاب- إذا وجدوا من يذكرهم بالله -تعالى- لقد جاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة فمد يده إليهم مصافحًا وتحمل الأذى منهم مسامحًا حتى إذا رآهم مجمعين على التنكيل به ومحو دينه استدار إليهم وجرت بينه وبينهم الوقائع حتى قطع دابرهم واستأصل شأفتهم من المدينة، ولا غرو: فهم قوم تتوافر فيهم سؤات التدين المصنوع والإحتراف ¬

_ (¬1) انظر: البداية والنهاية لإبن كثير 3/ 224، 225، طبع مكتبة المعارف - بيروت طبعة أولى 1966 م، والأموال، لأبي عبيد القاسم بن سلام ص 91.

السمج بالشرائع السماوية وأبرز خلالهم الحقد والنفاق والتمسك بالقشور والولع بالجدل، ومن وراء ذلك قلوب خربة، ونفوس معوجة!! " (¬1). وعلى كل حال: بعدما لحق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى وتتابعت الفتوحات الإِسلامية شرقًا وغربًا عامل المسلمون أهل الكتاب بمثل ما عاملهم به - صلى الله عليه وسلم - من الرفق والسماحة وحرية العقيدة. يقول الإمام أبو يوسف في كتابه "الخراج": " ... إنما كان الصلح جرى بين المسلمين وأهل الذمة في أداء الجزية وفتحت المدن على أن لا تهدم بيعهم ولا كنائسهم داخل المدينة ولا خارجها وعلى أن يحقنوا لهم دماءهم وعلى أن يقاتلوا من ناوأهم من عدوهم، ويذبوا عنهم" (¬2). ويروي أبو يوسف أيضًا عن الإمام مكحول الشامي: "أن أبا عبيدة ابن الجراح - رضي الله عنه - صالح أهل الذمة بالشام واشترط عليهم حين دخلها على أن تترك كنائسهم وبيعهم وطلبوا منه أن يجعل لهم يومًا في السنة يخرجون فيه صلبانهم بلا رايات وهو يوم عيدهم الأكبر، فأجابهم إلى ما طلبوا ووفى لهم المسلمون بشرطهم ... " (¬3). وهاك نموذجًا آخر يعتبر وثيقة من أعظم وثائق التاريخ فيه تصوير بارع لواقع سماحة الإِسلام في معاملة غير المسلمين من أهل الذمة والمصالحين ¬

_ (¬1) انظر: فقه السيرة: محمد الغزالي، ص 199، وخلق المسلم له أيضًا ص 54 مطابع قطر الوطنية، الطبعة التاسعة 1394 هـ. (¬2) الخراج لأَبي يوسف ص 138، طبع دار المعرفة - لبنان. (¬3) الخراج لأَبي يوسف ص 138.

خاصة فيما يتصل بقضية العقيدة: "لما وجه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - خالد بن الوليد إلى العراق خرج على تعبية (أي على أهبة واستعداد) وجعل يمر على البلاد والحصون يفتحها بلدًا بلدًا وحصنًا حصنًا حتى وصل إلى الحيرة- فخرج إليه عبد المسيح بن بقيلة وإياس بن قبيصة الطائي، وصالحه إياس على أداء الجزية وقال له: ما لنا في حربك من حاجة، وما نريد أن ندخل معك في دينك نقيم على ديننا ونعطيك الجزية: فصالحهم خالد ورحل عنهم على أن لا يهدم لهم بيعة ولا كنيسة ولا قصرًا من قصورهم التي كانوا بتحصنون فيها إذا نزل بهم عدو لهم، ولا يمنعون من ضرب النواقيس ولا من إخراج الصلبان في يوم عيدهم وعلى أن لا يشتملوا على ريبة أو فساد" (¬1). بهذه المعاملة السمحة والأخلاق الكريمة عقدت المعاهدات والمواثيق التي تعد أساسًا عمليًا لتطبيق التشريع الإِسلامي المتعلق بتحديد العلاقة فيما بين المسلمين وغيرهم من الطوائف والأمم والشعوب والتي كان لها آثار بعيدة المدى عميقة الجذور في تاريخ الفتوحات الإِسلامية وانتشار الدعوة إلى الله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إذ يتولى بنفسه تطبيق هذه المبادئ التشريعية لأمته إنما يرسم بعمله هذا طريق التأسي به في تحديد العلاقة بين المسلمين وغيرهم من الطوائف والأمم والجماعات. على أن هذه المبادئ السمحة الراشدة تنقض الفكرة المتعنتة الجاحدة التي يرددها أعداء الإنسانية وأعداء الحق والحرية الذين قهرهم الإِسلام بعدله وفضله وتشريعه بتصوير فتوحاته غروًا ماديًا وإكراهًا للناس بقوة السلاح على ¬

_ (¬1) الخراج لأَبي يوسف ص 142، 143.

الدخول في دين الإِسلام، ومحاربة للحرية الدينية، وتدخلًا في ضمائر الناس بتغيير عقائدهم. وهو تصوير ظالم متجاهل، وتفكير عقل مظلم ورشح قلب مجهول" (¬1). ذلك لأن النظرة العابرة بَلْهَ الناقدة الفاحصة في تاريخ المد الإِسلامي والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ترد ذلك وتدفعه في صدر زاعميه وقد تقدم عن النصوص القرآنية التي تنص على أن الإِسلام لم يحمل السيف ليكره الناس على اعتناقه عقيدة بعدما أعلنها القرآن مدوية في الآفاق {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ونقرأ في معاهدات الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أهل الكتاب، ومصالحات قادة الفتوحات الإِسلامية أن المسلمين أبقوا على معابدهم وبيعهم وكنائسهم داخل المدن وخارجها مصونة لا يهدم منها شيء ولا يغير من معالمها شيء فهل بعد هذا يمكن أن تشتم رائحة غزو مادي، وهل يمكن أن يتصور أن الإِسلام يعتدي على حرية الأديان؟! إن الإِسلام واضح صريح لا يخادع أحدًا ولا يرضى أن يخادعه أحد ولا يقبل الإستسلام المذل ولا يرضى لأهله بالضعف والاستكانة ولا يقبل أنصاف الحلول في مشاكل الدعوة إلى الله ولا يداور ولا يداهن: إنه يدعو أهل الكتاب إلى كلمة سواء إلى عبادة الله وحده وعدم الإشراك به وهذه هي المرتبة الأولى: الدعوة إلى الدخول في الإِسلام: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)} (¬2). ¬

_ (¬1) موسوعة سماحة الإِسلام لعرجون 1/ 343، 334. (¬2) سورة آل عمران: آية 64.

فإذا قبل المدعو ذلك كان له ما للمسلمين من حقوق في الإِسلام وعليه ما عليهم من الواجبات في الإِسلام، وأصبح بدخوله في الإِسلام أخًا لجميع المسلمين يربطه بهم الإخاء الإيماني أينما كان وكيفما كان في ظل العقيدة الإِسلامية {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬1). وإذا لم يقبل المدعو دعوة الإِسلام عرضت عليه الجزية وهي جزء قليل من المال يفرض على الأشخاص الذين هم أهل القتال من الرجال الأحرار البالغين والقادرين فإن أبي المدعو قبول الجزية بعد إبائه الدخول في الإِسلام أوذن بحرب ليكون على بصيرة من أمره: ونكرر ما قلناه قريبًا من أن الإِسلام واضح صريح لا يعرف المحاورة أو المداورة: فإِما دخول في ساحته وقبول لدعوته وإِما رضاء بحكمه في عهد مصالحة على الجزية ليدافع عن أهلها ويتحمل عبء حمايتهم في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وشرائعهم ويكون لهم من الحقوق الإنسانية مثل سائر المسلمين وإما إيذان بحرب لا هوادة فيها فهل بعد هذه السماحة والرحمة الرفق بأهل الكتاب يتصور أن الإِسلام يعتدي على حرية الأديان (¬2)؟ إن البلاد الإِسلامية يعيش فيها على مر تاريخها نصارى ويهود بينما يعيش مسلمون في بلاد غير إسلامية، فكيف كانت معاملة هؤلاء ومعاملة هؤلاء؟ هل سمع أحد شكاية نصراني أو يهودي ضد المسلمين؟ أما المسلمون الذين يعيشون تحت كنف حكومات غير إسلامية فياللهول إننا لا نذهب إلى ¬

_ (¬1) سورة الحجرات: آية 10. (¬2) بتصرف من: موسوعة سماحة الإِسلام لعرجون 2/ 1011 إلى ص 1020، وانظر الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام ص 23. طبع مؤسسة ناصر للثقافة -بيروت- لبنان، الطبعة الأولى 1401 هـ 1981 م.

الماضي لننكأ جروح الأندلس وهي غائرة في الصدور والقلوب ولكن يكفينا أن التاريخ المعاصر يمدنا بعشرات بل وبمئات من الأدلة والبراهين. وعلى من جهل ذلك أو تجاهله أن يسأل الأقليات الملونة في أمريكا، والأقليات المسلمة في روسيا، والأقليات المسحوقة بل والمذابة ذوبانًا في أنظمة تلك الدول وغيرها كالفلبين والحبشة والصين ولبنان وكثير من دول آسيا وأفريقيا وأوربا إنهم يضطهدون هناك حتى الموت ويجبرون على ترك دينهم ويتعرضون لسوء العذاب وصنوف التنكيل بل وضروب القسوة والبربرية والعسف والتدمير!!. ويرغم ذلك كله نقف عند قول ربنا تبارك -وتعالى-: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ...} الآية. فلسنا نأخذ الأقليات غير الإِسلامية عندنا بما تفعله الدول غير الإِسلامية بأقلياتنا، لأن الله علمنا {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وعلمنا {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} وعلمنا: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}. ومن هنا نترك لهم عقيدتهم ونترك لهم معها عباداتهم يمارسونها وفق عقائدهم متى شاؤوا بلا خوف أو اضطهاد!!! " (¬1). ¬

_ (¬1) بتصرف من: شبهات حول الإِسلام محد قطب ص 178 والغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام ص 76، 77، 78 والإسلام في قفص الاتهام لشوقي أبي خليل ص 112، 113 الطبعة الرابعة 1405 هـ مطابع دار الفكر- لبنان، ومجلة البحوث الإِسلامية الصادر عن رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية، المجلد الأول، العدد الثاني 1395 هـ/ 1396 هـ ص 176.

ومن حقوق غير المسلمين بل ومن آكلدها وأقواها: المحافظة على شروط صلحهم أو معاهداتهم إن كانوا من أهل الصلح والمعاهدة، محافظة تحرم على أي مسلم أن يبخس بشيء مما جاء في تلك العهود والمواثيق ... فقد روى أبو داود بسنده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة" (¬1). وروى ابن ماجه في سننه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل معاهدًا له ذمة الله وذمة رسوله فلا يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عامًا" (¬2). وكان فيما تكلم به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قبيل وفاته: (أوصى الخليفة من بعدي بذمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يوفى لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا فوق طاقتهم) (¬3). ومن عهوده - رضي الله عنه -: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ونفائسهم وصلبانهم سقيمها وبريئها وسائر ملتها أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ¬

_ (¬1) سنن أبي داود 3/ 37، كتاب الخراج والإمارة والفيء - باب 33، حديث رقم 3052 إعداد وتعليق عزت عبيد الدعاس طبع 1391 هـ. (¬2) سنن ابن ماجه 2/ 112 حديث رقم 2719 طبعة ثالثة 1404 هـ بشركة الطباعة العربية السعودية المحدودة. (¬3) الخراج لأبي يوسف ص 125.

ولا من خيرها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود) (¬1). "وإذا كان بعض الملوك والأفراد في بعض العصور وبعض البلدان من ديار الإِسلام قد انحرفوا عن مِهْيَع الإِسلام وهديه في شدة حرصه على العدالة والوفاء بالعهد والرفق الرحيم بالمعاهدين في أخذهم بشروطهم ومواثيقهم فإنهم قد وجدوا من أئمة الإِسلام وعلماء الأمة والقائمين على الدعوة إلى الله بالحق والشفقة على خلق الله، من يقوم في وجوههم بكلمة الحق يجهر بها وينكر عليهم ظلمهم لأهل الذمة والمهادنين والمصالحين من أي جنس وملة" (¬2). (فهذا أبو يوسف القاضي -رَحِمَهُ اللهُ- يقف في وجه هارون الرشيد قائلًا له: "وقد ينبغي يا أمير المؤمنين أيدك الله أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد - صلى الله عليه وسلم - والتفقد لهم حتى لا يظلموا ولا يؤذوا ولا يكلفوا فوق طاقتهم ولا يؤخذ حق من أموالهم يجب لهم فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ألا من ظلم معاهَدًا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه") (¬3). وهذا يوضح لنا كيف كان قادة الفتح الإِسلامي يعاملون أهل الذمة وكل من ارتبط معهم بميثاق وعقد معاملة تعتمد على أصول وقواعد من القرآن الكريم والسنَّة النبوية وتصور مواقف أئمة الإِسلام وعلمائه في يقظة ضمائرهم ¬

_ (¬1) الفاروق عمر بن الخطاب تأليف محمد رضا ص 206 طبع دار الكتب العلمية لبنان الطبعة الأولى 1398 هـ. (¬2) الموسوعة في سماحة الإِسلام لمحمد الصادق عرجون 1/ 428. (¬3) سبق تخريجه ص 239.

وشجاعتهم لحراسة مناهج هذا الدين التطبيقية ومراقبة تشريعاته في واقع الحياة تطبيقًا عادلًا كريمًا (¬1). ومن الحقوق العامة لأهل الذمة: حفظ النفس والأعراض: فدم الذمي كدمنا وديته كديتنا ... روى ابن أبي شيبة في مصنفه بسنده عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن ابن البيلماني قال: (قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا من أهل القبلة قتل رجلًا من أهل الذمة، وقال أنا أحق من وفى بالذمة) (¬2). وروى ابن أبي شيبة عن سفيان عن منصور عن إبراهيم: (في المسلم يقتل الذمي عمدًا قال يقتل به) (¬3). وقتل رجل من بني بكر بن وائل رجل من أهل الذمة بالحيرة في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأمر عمر - رضي الله عنه - بتسليم الرجل إلى أولياء المقتول: فسلم إليه فقتلوه) (¬4). وروى البيهقي في سننه بسنده عن أبي الجنوب الأسدي قال: (أُتي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - برجل من المسلمين قتل رجلًا من أهل الذمة قال: فقامت عليه البينة فأمر بقتله فجاء أخوه فقال: إني قد عفوت، ¬

_ (¬1) الخراج لأبي يوسف القاضي الحنفي ص 124، 125. (¬2) الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار لإبن أبي شيبة 9/ 290، حديث 7510، كتاب الديات، طبع الدار السلفية الطبعة الأولى 1401 هـ وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8/ 30، 31 من عدة طرق. (¬3) المرجع السابق 9/ 291. (¬4) الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار لإبن أبي شيبة 9/ 292، 293.

قال: فلعلهم هددوك، وفرقوك وفزعوك، قال: لا، ولكن قتله لا يرد علي أخي وعوضوني فرضيت قال: أنت أعلم من كان له ذمتنا فدمه كدمنا وديته كديتنا) (¬1). وورد في الدر المختار: "ويجب كف الأذى عن الذمي وتحريم غيبته كالمسلم" (¬2). فلا يجوز: إيذاء الذمي لا باليد ولا باللسان ولا شتمه ولا ضربه ولا غيبته. ويقول الشهاب القرافي في كتاب "الفروق": (إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقًا علينا لهم؛ لأنهم في جوارنا، وفي خفارتنا وفي ذمة الله -تعالى- وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ودين الإِسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عرض أحدهم أو أي نوع من أنواع الأذية أو أعان على ذلك، فقد ضيع ذمة الله وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وذمة دين الإِسلام) (¬3). ومن حقوقهم كذلك: أن لا تطبق عليهم نظم الإِسلام في الزواج والطلاق وغيرها من الأحوال الشخصية وإنما يطبق عليهم نظام دينهم إلَّا إذا طلب أحدهم أن تطبق عليه أحكام الإِسلام في هذه الأحوال، فإنه يجاب إلى ذلك. كتب عمر بن عبد العزيز إلى الإمام الحسن البصري مستفتيًا: (ما بال الخلفاء الراشدين تركوا أهل الذمة وما هم عليه من نكاح المحارم واقتناء ¬

_ (¬1) السنن الكبرى للبيهقي 8/ 34، كتاب الجنايات، طبع دائرة المعارف الهندية سنة 1354 هـ، الطبعة الأولى. (¬2) الدر المختار 3/ 273، 274. (¬3) الفروق: 3/ 273، 274، طبع دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان.

الخمور والخنازير؟ فأجاب الحسن البصري: إنما بذلوا الجزية ليتركوا وما يعتقدون وإنما أنت متبع لا مبتدع والسلام) (¬1). كما أن الأحكام الجنائية للمسلم والذمي سواء: (يتساوى فيها الإثنان درجةٌ فالذي يعاقب به المسلم على ما يأتي من الجرائم يعاقب به الذمي أيضًا إلَّا الخمر فإن أهل الذمة قد استثنوا من حدها في الإِسلام) (¬2). ويرى الإمام مالك -رَحِمَهُ اللهُ- أن الذمي مستثنى من حد الزنا كحد الخمر اعتمادًا على قضاء عمر - رضي الله عنه - بأن الذمي يترك أمره إلى أهل ملته أي يعمل بقانون أحواله الشخصية. "فلهم أن يُصَنِّعوا الخمر ويشربوها ويبيعوها ولهم أيضًا أن يربوا الخنازير ويأكلوها ويبيعوها" (¬3). قلت: ولكن ذلك فيما بينهم ومن غير إعلام وبقيود وضوابط يحددها الحاكم المسلم. "وعند الحنفية والمالكية يضمن المسلم قيمة خمر الذمي وخنزيره إذا أتلفه لأنه مال متقوم في اعتقاد أهل الذمة" (¬4). وقال القرطبي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (إذا أدى أهل الجزية جزيتهم التي ضربت عليهم أو صولحوا عليها خُلِّيَ بينهم وبين أموالهم كلها وبين كرومهم وعصيرها ما ستروا خمورهم ولم يعلنوا بيعها من مسلم ومنعوا من ¬

_ (¬1) حقوق أهل الذمة في الدولة الإِسلامية للمودودي ص 18. (¬2) كتاب الخراج ص 208، 109، والمبسوط للسرخسي 9/ 57، 58. (¬3) المبسوط 8/ 137، 138. (¬4) الدر المختار 3/ 273، 274.

إظهار الخمر والخنزير في أسواق المسلمين، فإن أظهروا شيئًا من ذلك أريقت الخمر عليهم وأدب من أظهر الخنزير. وإن أراقها مسلم من غير إظهارها فقد تعدى ويجب عليه الضمان: وقيل لا يجب ولو غصبها وجب عليه ردها. ولا يعترض لهم في أحكامهم ولا متاجراتهم فيما بينهم بالربا) (¬1). وليست هذه الحقوق التي ذكرت هي كل ما لغير المسلمين من حقوق في الدولة المسلمة وإنما لهم إلى جانب ذلك ما يراه الإمام المسلم مما لا يتعارض مع شرائع الإِسلام كحرية الرأي والتعبير عنه بالخطابة والكتابة وما إلى ذلك وهذا ما لا ينكره أحد في عصرنا هذا بعد أن نال أهل الكتاب أوفر نصيب من الحرية في كثير من البلاد الإِسلامية. وبعدُ: "فهل رأى الناس أو سمعوا بسماحة رحيمة ومساواة عادلة ومواساة ورفق وإخاء وود مثل هذا الذي عامل به خلفاء الإِسلام وقواده وأمراؤه أهل الذمة والمعاهدين". إن الناس في هذا العصر يتحدثون عن التكافل الإجتماعي وعن كفالة الدولة للشيوخ والعجزة فهل قرؤوا أو سمعوا عن هذه السماحة الإِسلامية في إلزام الدولة بهذه الصورة من الكفالة التي تحمي الكرامة الإنسانية من المهانة وتحفظها من الضياع؟!! إن التكافل الإجتماعي في ظل الإِسلام لا يرضى أن يُذَلَّ رجل ليس على دين الإِسلام وهو يحيا في كنفه وظله فيعيش على الصدقة يتكفف ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/ 113 طبع ونشر دار الكاتب العربي القاهرة 1967 م.

الناس، ولكن الإِسلام يحميه ويكرمه ويوجب على الدولة أن تحميه وتعول عياله معه (¬1). وليس أدل على ذلك من قصة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع اليهودي الذي رآه يسأل الناس على الأبواب: فقد روى القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج: (أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مر بباب قوم وعليه سائل يسأل: شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضد 5 من خلفه وقال من أي أهل الكتاب أنت فقال يهودي؟ قال: فما ألجأك إلى ما أرى، قال: أسأل الجزية والحاجة والسن، فأخذ عمر بيده وذهب به إلى بيته؛ فأعطاه شيئًا من المنزل ثم أرسل إلى خازن بيت المال. فقال: انظر هذا وضرباءه فوالله ما أنصفناه إذ أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) والفقراء هم المسلمون والمساكين من أهل الكتاب وهذا منهم ووضع عنه الجزية وعن ضربائه) (¬2). وهذا خالد بن الوليد في مصالحته أهل الحيرة وهم يومئذ سبعة آلاف رجل يُخرج من به زِمَانةً منهم وتبلغ عِدَّتهم ألف رجل قد أعفوا من الجزية، وجعل لهم "أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيًا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت عنه الجزية وعيل من بيت مال المسلمين وعياله" (¬3). بهذه المعاملة الطيبة التي عامل بها المسلمون أصحاب الديانات ¬

_ (¬1) بتصرف من: موسوعة سماحة الإِسلام لعرجون 1/ 446، 447. (¬2) كتاب الخراج لأبي يوسف ص 126. (¬3) انظر: الخراج لأبي يوسف ص 143، 144، والأموال لأبي عبيد ص 22.

الأخرى من أهل البلاد التي فتحوها جعلت الكثير من عقلاء المفكرين المسيحيين المنصفين يعترفون بتلك الحقيقة ويشيدون بالمسلمين وبمعاملاتهم السمحة الندية ... يقول الكونت هنري كاستروا في كتابه (الإِسلام خواطر وسوانح): "ولقد درست تاريخ النصارى في بلاد الإِسلام فخرجت منه بحقيقة مشرقة وهي أن معاملة المسلمين للنصارى تدل على لطف في المعاشرة وترفع عن النلظة وعلى حسن مسايرة ورقة مجاملة" (¬1). وبهذا التشريع المستنبط من عدالة الإِسلام وروح الوحدة الإنسانية عامل المسلمون غير المسلمين ولا يزالون على هذه السُّنَّة الإِسلامية الحميدة إلى اليوم لم يشاهد منهم ما يعابون عليه أو يكون مذمة في حقهم. وتلك المعاملة الكريمة تعد أساسًا أسلوب دعوة إلى الله -تعالى- على الدعاة إلى الله أن لا يغفلوه عليهم أن يدعو إلى الله على بصيرة بإبراز آداب الإِسلام. ولا يقصد أبدًا أن يقوم بين المسلم وغير المسلم ولاء وتناصر وتواد على حساب العقيدة إذ أن الولاء الحق: لا يكون إلَّا لله ودينه ورسوله والمؤمنين خالصًا في قلب يؤمن بالله حقًا مدركًا لحقيقة التوحيد لا إله إلَّا الله محمد رسول الله ممتثلًا لها مدركًا مدلولها ومعناها عارفًا بمقتضياتها ولوازمها ثم علمه بحقيقة "الولاء والبراء" في المفهوم الإِسلامي الصحيح وهو أن: الولاء والحب والنصرة للمؤمنين من أي جنس كانوا، وبأي لغة نطقوا وفي أي مكان حلوا، فهو معهم بقلبه ولسانه وماله ودمه يألم لألمهم ويفرح ¬

_ (¬1) انظر: في وجه المؤامرة على تطبيق الشريعة الإِسلامية لمصطفى فرغلي الشقيري ص 32.

لفرحهم ويعلن بغضه وبراءه لجميع أعداء الله سواء كانوا كفارًا أصليين أم مرتدين أم منافقين وبهذا يكون مسلمًا واعيًا يعرف من يوالي ومن يعادي وماذا يريد الإِسلام منه، وماذا يراد للإسلام من أعدائه!!. يقول الشهاب القرافي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "إنه يتعين علينا أن نبرهم -أهل الذمة- بكل أمر لا يكون ظاهره يدل على مودات القلوب ولا تعظيم شعائر الكفر فمتى أدى إلى أحد هذين امتنع وصار من قبيل ما نهى الله عنه في قوله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ...} (¬1) الآية .. وغيرها من الآيات. فإخلاء المجالس لهم عند قدومهم علينا، والقيام لهم، ونداؤهم بالأسماء العظيمة الموجبة لرفع شان المنادي بها ... ، وتمكينهم من الولايات والتصرف في الأمور الموجبة لقهر من هي عليه كل ذلك ممنوع وحرام. وأما ما أمرنا به من برهم من غير مودة باطنية فالرفق بضعيفهم وسد خلة فقيرهم وإطعام جائعهم وإكساء عاريهم ولين القول لهم على سبيل اللطف لهم والرحمة لا على سبيل الخوف والذلة، والدعاء لهم بالهداية، ونصيحتهم في جميع أمورهم في دينهم ودنياهم، وكل خير يحسن من الأعلى مع الأسفل أن يفعله ومن العدو أن يفعله مع عدوه. وينبغي لنا أن نستحضر دائمًا ما جبلوا عليه من بغضنا وتكذيب نبينا وأنهم لو قدروا علينا لاستأصلوا شافتنا واستولوا على دمائنا وأموالنا وأنهم من أشد العصاة لربنا ومالكنا -عَزَّ وَجَلَّ- ونعاملهم بما تقدم ذكره امتثالًا لأمر ربنا وأمر نبينا - صلى الله عليه وسلم - لا محبة فيهم ولا تعظيمًا لهم" (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الممتحنة: آية 1. (¬2) بتصرف من: الفروق، لشهاب الدين القرافي 3/ 13، 14.

"والحق أن التهم التي وُجِّهت إلى النظم الإِسلامية كثيرة ومتنوعة والحرب لم ولن تضع أوزارها، ومخططات الأعداء ماضية في طريقها آخذة كل يوم وسيلة من وسائل الخداع والكيد، وقد شاركهم في إطلاقها بعض المسلمين السذج المنتسبين إلى الإِسلام بالإسم والرسم وهؤلاء وأولئك يقومون بعمل منظم وخطط مرسومة أبعادها وأهدافها والقصد منها عزل الأمة الإِسلامية عن دينها وعن منهجها في الحياة" (¬1). "ولكن شمس الهداية كانت ولا زالت أقوى في إشعاعها من ظلام عقولهم وقلوبهم وأرواحهم بددت أضواءها -ولا زالت تبدد- سحب الباطل بما تنشره من أنوار في آفاق الحياة. لو كان لأعداء الإِسلام عقول يفقهون بها لرأوا أن في صنيع المسلمين ومعاملتهم لأهل ذمتهم دليلًا قاطعًا على أن هذه الفتوحات المتتابعة في أقصر زمن وأقل قوة حربية بالنسبة لقوة أعداء الإِسلام كانت فتوحات للقلوب الكسيرة بمفاتيح الإيمان والحق والعدل والرحمة ونصرة المظلومين وحماية المستضعفيت، إن أهل الذمة لما رأوا وفاء المسلمين لهم وحسن سيرتهم فيهم وجربوا معاملاتهم صاروا حربًا على أعداء المسلمين وعونًا لهم وكان هذا الوفاء باعثًا على دخول كثير من المعاهدين على الجزية في الإِسلام" (¬2). وهذا ما تنبه له أعداء الإِسلام اليوم ولكن بأسلوب ماكر وطرق خبيثة: فهم يوالون إرسال البعثات وتكثير الإرساليات التبشيرية لتنشر مكامن التبشير في كل مكان وتشكك الشباب المسلم في دينه وعقيدته وتتخذ جميع ¬

_ (¬1) بتصرف من الغزو الفكري ص 72. (¬2) موسوعة سماحة الإِسلام لعرجون 1/ 434، 435.

الوسائل الممكنة والموصلة إلى هذا الهدف الخبيث: إنهم يخصصون جزءًا من أموالهم لفتح المستشفيات والمستوصفات ودور التمريض والرعاية الإجتماعية والنوادي الماسونية وينفقون الأموال الكثيرة على من يستطيعون تنصيره من المسلمين وإخراجه من حظيرة الدولة الإِسلامية. أفلسنا نحن المسلمين بأولى منهم في هذا الشأن (¬1). وهاك أمرًا آخر على جانب كبير من الأهمية: ذلك: أن الإِسلام حين يبيح للمسلم معاملة من لا يحاربه في دينه بالحسنى ويدعو إلى السماحة في معاملة أهل الكتاب والبر بهم في المجتمع المسلم يقصد من وراء ذلك تأليفهم وترغيبهم في الإِسلام لا غير. • • • ¬

_ (¬1) انظر المخططات الإستعمارية لمكافحة الإِسلام: محمد محمود الصواف ص 17، 18، 19، 20، طبع مكتبات الدار السعودية للنشر والتوزيع، ومكتبة الجيل بمكة المكرمة.

المسألة الثانية: اتهام التشريع الإسلامي بالجمود وعدم مسايرته لتطور العصر

المسألة الثانية: اتهام التشريع الإِسلامي بالجمود وعدم مسايرته لتطور العصر: وتلك فرية أخرى دبرها أعداء الإِسلام للنيل منه وأنى لهم ذلك؟! إنهم يتهمون التشريع الإِسلامي بالجمود وعدم مسايرته لتطورات العصر مما يتعارض وحاجات المجتمع إلى شريعة متطورة. ويزعمون أن الدين الإِسلامي دين قبلي صحراوي وتشريعاته لا تنسجم والحياة العصرية المتمدنة وأن السبيل إلى التطور والحضارة ليكمن في نبذ المسلمين لنبيهم وكتابهم وراءهم ظهريًا. وهذا اتهام يعد من أعظم دسائس الإستعمار وأخطر مؤامراته التي أراد بها تهديم المجتمع الإِسلامي والإتيان عليه من القواعد. ويقوم أساسًا على استغلال الشعور بالنقص والإحساس بالتخلف الذي وخز الأمة الإِسلامية عند احتكاكها بالحضارة الأوروبية. وهي فرية لم تنهض على دعامة من المنطق أو ميزان من العلم بل تقوم على ركام كبير من الجهل بأحكام الإِسلام وشريعة الإِسلام، فإن الشريعة الإِسلامية ما جمدت في عصر أو تخلفت عن ركب التقدم في دولة وإنما هم

أنفسهم الذين جمدت عقولهم وعميت أبصارهم عن الحق والصواب: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)} (¬1). فإن الشريعة الإِسلامية السمحة دين ودولة، واقع ونظام، ماض وحاضر، علم وثقافة سياسة واجتماع، أدب وأخلاق، حكم وتشريع، مصحف وسيف، لا كما يتوهمه الدساسون والشكاكون بانها مجرد عقائد فردية وشعائر روحية وصلة بين العبد وربه، ولا دخل لها بأمور الحكم والحياة الإجتماعية والنشاط الإقتصادي وإن شئت فقل ليس لها في واقع الحياة العملية نصيب!! وقد استوفيت هذه المسألة وأطلت الكلام فيها وبينت أن الشريعة الإِسلامية شريعة متطورة متقدمة وافية بحاجات البشر في كل زمان ومكان (¬2). والذي يعنينا هنا أن هذا الدس الخبيث يرتبط به ويتعلق بأسبابه دس آخر وهو ما قالوا وقولهم النكر والضلال والزور والتلفيق "ما دام الإسلامُ عاجزًا عن مسايرة ركب الحضارة وما دام الدين لا يساير ركب الزمن فمن الواجب على الدولة الإِسلامية أن تفصل الدين عن الدولة كما فعلت أوروبا في عصر النهضة والتطور، وقد اتخذت الأنظمة المعادية للإسلام من الأقليات النصراينة ذريعة لرفع الشعار العلماني "الدين لله والوطن للجميع" وذلك لمنع تطبيق الشريعة الاسلامية" (¬3). وهذا معناه: أن نقطع الصلة بديننا الذي فيه سعادتنا وتنظيم حياتنا ¬

_ (¬1) سورة الكهف: آية 5. (¬2) انظر ص 97: 142. (¬3) انظر: العلمانية: سفر الحوالي ص 559، والغزو الفكري ص 72.

ونكون كما وقع بالفعل في كثير من بلدان الإِسلام "عالة على الغرب في استيراد النظم والقوانين من هنا وهناك ونصير كَلًّا على الكفار نأخذ منهم بعد أن كنا نعطيهم!!. ومن يتصور أن الدين في الإِسلام منفصل عن الدولة فهو متكبر ظالم أو غبي جاهل، إذ أن الإِسلام دين ودولة وكلاهما شيء واحد لا ينفصم أحدهما عن الآخر. وبعدُ: فتلك هي أهم الشبه العامة التي تتعلق بمضمون الشريعة وجوهرها.

المطلب الثاني الشبه الخاصة

المطلب الثاني الشُّبَه الخاصة وهي التي تتعلق بجوانب معينة من الشريعة الإِسلامية ومن أبرز هذه الشبه: المسألة الأولى: ما يتعلق بأحكام الحدود في الإِسلام أعني نظام العقوبات في الشريعة الإِسلامية (¬1): وبدء: نذكر تلك الشبه العاتية في نظر أصحابها الواهية المتداعية أمام الحق الصاح والعدل الرادع ثم نعقبها بمناقشتها والرد عليها حتى لا تقوم لأحد حجة في التخلي عن شرع الله وتطبيقه في أرض الله على عباد الله!! ¬

_ (¬1) انظر: في هذه المسألة المراجع الآتية: - شبهات حول الإِسلام: محمد قطب ص 176، أثر تطبيق الحدود في المجتمع من البحوث المقدمة لمؤتمر الفقه الإِسلامي الذي عقدته جامعة الإمام محمد بن سعود الإِسلامية بالرياض سنة 1396 هـ - (مقال الأستاذ الغزالي خليل عيد ص 165: 183). - وانظر أيضًا: الإِسلام في مواجهة التحديات المعاصرة لأبي الأعلى المودودي ص 216، 225 طبع دار القلم - الكويت - الطبعة الثالثة 1398 هـ - 1978 م.

إن أول ما يتذرع به شياطين الإنس في عصرنا ومن لف لفهم وحذا حذوهم هو أن: العقوبات الإِسلامية قاسية لا تساير روح العصر ولا تتقدم مع ركب المدنية ولا تتفق والنظرية الجديدة في تحليل نفسية المجرم ... إلخ ما قالوا من العبارات الطنانة والكلمات الجوفاء!. ثم أنبت الشيطان وجنوده من الشبهة السابقة شبهة ثانية فقالوا: ولماذا. كان حد المحصن رجمًا بالحجارة أليس ذلك تحقيرًا له وازدراء لإنسانيته. ثم إن إقامة الحدود تقتضي إزهاقًا للأرواح وتقطيعًا للأطراف وبذلك تفقد البشرية كثيرًا من الطاقات وينتشر فيها المشوهون والمقطوعون والمكسحون. ثم قالوا -ولبئس ما قالوا-: إن إقامة الحدود ردة تاريخية ونكسة إنسانية ولا يليق بإنسان عاقل متمدن يعيش في القرن العشرين الميلادي أن يأخذ بقانون نشأ بين جبال مكة وجلاميد الصحراء. وأخيرًا يسوقون شبهة يضفون عليها من لحن القول ما يموهون به على السذج وضعفاء العقول: إن إقامة الحدود فيها تضييق على الأقليات غير الإِسلامية وإكراه لهم على أن يأخذوا بخلاف ما تقرره أديانهم وفي هذا سلب للحرية واعتداء على أناس ليسوا بمسلمين ولا تسري عليهم شرائع الإِسلام!!. إلخ ما حاكوه من الشبهات والإتهامات الضالة المضلة التي تقوم على الإفتيات والمغالطة!!

وقبل أن ندحض هذه الشبهات ونكذب تلك الإتهامات والإفتراءات نوضح الأسباب والدوافع التي جعلتهم يستفظعون هذه العقوبات ويرون فيها قسوة زائدة وإهدارًا لكيان الفرد واستهتارًا بشأنه!!. السبب الأول: الجهل بحكمة التشريع الإِسلامي في العقوبات. السبب الثاني: أنهم ينظرون نظرة سطحية عند تقويم خطورة الجرائم التي أنيطت بها الحدود فيستقلونها دون أن يرجعوا في ذلك إلى أي اعتبار لحكمة المشرع وتقويمه لها. السبب الثالث: أنهم يضعون أمام أعينهم ذلك النظام الفاسد للحياة الإجتماعية والاقتصادية والخلقية الذي يسود العالم اليوم. ومع ذلك يريدون أن يكونوا لأنفسهم رأيًا عن عقوبات قطع اليد والرجم والجلد بمقارنة جرائم كثيرة الحدوث كالسرقة والزنا وشرب الخمر ... إلخ. فالظاهر أنهم لابد أن يجدوا عقوبات الإِسلام وحدوده قاسية ورهيبة في هذه المقارنة وحق لهم أن ترتجف قلوبهم هلعًا وفزعًا. إذ أن مجتمعًا تشيع فيه الفاحشة وتروج فيه الرذيلة وتكون فيه المثيرات الجنونية من السينما العارية والأفلام الخليعة والصحافة المريبة والأغاني المبتذلة والفتنة الهائجة إذا طبقت فيه شريعة الإِسلام في مثل هذه الأوضاع فقد لا يسلم من الجلد ظهر أحد من الناس، كما ستقطع أيدي الآلاف منهم ويرجم آلاف منهم كل يوم وهذا لا ريب فيه ما فيه من الظلم والتعسف.

السبب الرابع: أنهم لم يدرسوا نظرة الإِسلام للجريمة والعقاب على حقيقتها ولهذا يتصورون خطأ أنها كعقوباتهم "المدنية" ستطبق كل يوم فيتصورون في المجتمع الإِسلامي حدوث مجزرة هائلة كل يوم هذا يجلد وهذا يقطع وهذا يرجم ولكن الواقع خلاف ما يتصورون) (¬1). وبعد: فهذه أهم الأسباب التي يتجنون عليه ويتصورون أنه بمعزل عن الحياة أو أنه قد استنفد أغراضه!! ساء ما يتصورون ولبئس ما يفكرون. إنهم يزعمون أن في إقامة الحدود ضربًا من القسوة العاتية التي تتنافى مع الإنسانية الرحيمة ومع الشفقة التي يجب أن يتحلى بها الناس والتي تساير المدنية الحديثة والحضارة الراقية، ولكن نقول لهم: نعم: إن في إقامة الحدود مظهرًا من مظاهر القسوة والشدة، ولابد لكل عقوبة أن يكون فيها مظهر قسوة أيًا كانت حتى تأديب الرجل لولده فيه مظهر من مظاهر القوسة والشدة، والعقوبة إن لم تشتمل على شيء من القسوة فأي أثر لها في الزجر والردع؟!. ثم إن العقوبة في ظاهرها قسوة وشدة وفي حقيقتها ومخبرها رحمة وشفقة بل هي الرحمة والشفقة بعينها؛ إذ لو ترك العضو المريض ونار الألم تتوهج وتستشري لأودى بحياة المريض بل وسار سرطان الجريمة في أوصال المجتمع كله فكان من الواجب ومن الحكمة أن يبتر عضو فاسد مفسد؛ إبقاء وإنقاء ليكان المجتمع كله. على أن الإِسلام قبل أن يحكم على إنسان بالقتل أو بالقطع أو بالرجم أو بالجلد قدم له من وسائل الوقاية ما يكفي عن إِبعاده عن الجريمة لو كان ¬

_ (¬1) انظر: شبهات حول الإِسلام: محمد قطب من ص 138، 140

إنسانًا حيًا له قلب يعقل أو ألقى السمع وهو شهيد ولكنه أغلق قلبه وألغى إنسانيته فكان جزاؤه من جنس عمله جزاءً وفاقًا (ولا يفل الحديد إلَّا الحديد) (¬1). (وهكذا فإن الإِسلام يقرر عقوبات رادعة قد تبدو قاسية فظة لمن يأخذها أخذًا سطحيًا بلا تمعن ولا تفكير، ولكنه لا يطبقها أبدًا حتى يضمن أن الفرد الذي ارتكب الجريمة قد ارتكبها دون مبرر ولا شبهة اضطرار. فالإسلام يقرر قطع يد السارق ولكنه لا يقطعها أبدًا إذا كانت هناك شبهة بأن السرقة نشأت من جوع. والإسلام يقرر رجم الزانية والزاني ولكنه لا يرجمهما إلَّا أن يكونا محصنين، وإلَّا أن يشهد عليهما أربعة شهود بالرؤية القاطعة، وهذا يعني أن العقوبات لا تنفذ جزافًا أو تسلط على الناس بلا حساب) (¬2). وعمر بن الخطاب من أبرز فقهاء الإِسلام لم ينفذ حد السرقة في عام الرمادة (¬3)، عام الجوع حيث كانت الشبهة قائمة في اضطرار الناس للسرقة بسبب الجوع. فهذا مبدأ صريح لا يحتمل التأويل وهو أن قيام ظروف وملابسات تدفع إلى الجريمة يمنع تطبيق الحدود عملًا بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ادرأوا ¬

_ (¬1) انظر: أثر تطبيق الحدود في المجتمع ص 168، 169. (¬2) شبهات حول الإِسلام - محمد قطب ص 137. (¬3) سمي عام الرمادة لأن الريح كانت تسفي ترابًا كالرماد. وكان ذلك سنة 18 هـ وقد أصاب الناس في هذه السنَّة مجاعة وجدب وقحط. انظر: الفاروق عمر بن الخطاب - ص 215.

الحدود بالشبهات، وأقيلوا الكرام عثراتهم إلَّا في حد من حدود الله -تعالى-) (¬1). وروي أن غلمانًا لإبن حاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مُزَيْنَةَ فنحروها فأُتي بهم عمر، فأقروا فأمر عمر كثير بن الصلت بقطع أيديهم فلما ولى رده ثم قال: أما والله لولا أنِّي أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه لحل له لقطعت أيديهم ثم وجه القول لإبن حاطب بن أبي بلتعة فقال: (وأيم الله إذا لم تفعل ذلك لأغرمنك غرامة توجعك ثم قال: يا مُزَنيُّ بكم أريدت منك ناقتك قال: بأربعمائة. قال عمر لإبن حاطب: اذهب فأَعطه ثمانمائة) (¬2). وهكذا وهكذا في جميع العقوبات التي قررها الإِسلام. إنهم يزعمون أن قتل المحصن رجمًا بالحجارة فيه تحقير وازدراء بإنسانيته وهذا هو دأب أعداء الإِسلام ينازعون في كل أمر ويشككون في كل شيء فبعد أن نازعوا في أصل القتل واتهموا الإِسلام فيه بالوحشية والهمجية ينازعون الآن في كيفية القتل وطريقته ولكننا نقول لهم: أمن الإزدراء والتحقير بالإنسانية أن تقام حدود الله؟ وليس من الإزدراء والتحقير بالإنسانية إذلال الإنسان وتعذيبه بخلع أظافره وإحراق جسمه وتسليط الصدمات الكهربائية على مخه وأعصابه وعصب رأسه بطوق حديدي يقضقض عظمه وكيه بالنار وقلع شعره والعبث بكرامته وآدميته كما يتعرض لذلك المعارضون في الرأي والسياسة في البلاد التي تتشدق ¬

_ (¬1) فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي 1/ 227 حديث رقم 314. (¬2) السنن الكبرى للبيهقي 8/ 278 - كتاب السرقة باب ما جاء في تضعيف الغرامة.

بالحريات الديمقراطية والإشتراكية والشيوعية وتتباهى بقوانينها ونظمها. ثم إن قتل المحصن رجمًا لا يراد منه إزهاق روحه فقط وكفى وإلَّا فكان السيف والصعق الكهربائي ونحوهما أسرع في تحقيق الغرض المنشود كما يقولون. وإنما المراد من هذا القتل الزجر والردع عن مقارفة الجريمة الشنعاء، إنه ارتكب جرمًا أهدر فيه كرامة الإنسان، وضيع معالم النسب الإنساني فضلًا عن القتل المادي والوأد الظاهر أو الخفي الذي ألحقه بمجموعة من سلالة الإنسان، فكان من مقاصد الشارع الحكيم أن يقتل المرجوم رجمًا زيادةً له في الإيلام وتنفيرًا لغيره عن مقارفة تلك الجريمة النكراء وعبرة لمن تسول له نفسه أو يزين له الشيطان أن يقع في مثل ما وقع فيه. ثم فوق هذا كله: إن الذي فرض العقوبة وقدرها وبين كيف تكون إنما هو العليم الخبير الذي يعلم دروب النفس وخباياها) (¬1). {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} (¬2)، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} (¬3). يقولون: إن إقامة الحدود تقتضي إزهاقًا للأرواح وتقطيعًا للأطراف وبذلك تفقد الإنسانية من الطاقات وينتشر فيها المشوهون والمقطوعون والمكسحون ... إلخ ما قالوا. ¬

_ (¬1) انظر: أثر تطبيق الحدود في المجتمع ص 169، 170، 171. (¬2) سورة البقرة: آية 220. (¬3) سورة الملك: آية 14.

ونحن نقول لهؤلاء: إن القتل رتقطيع الأطراف في الحدود لفئات شريرة تعطل العمل والإنتاج يؤدي إلى حفظ مئات الأرواح وآلاف الأطراف سليمة طاهرة عاملة منتجة، مع ملاحظة أن المشوهين والمقطوعين والمكسحين لا يكادون يشاهدون في البلاد التي يقام فيها شرع الله تعالى وها هي ذي المملكة العربية السعودية مثلًا حيًا وواقعًا ملموسًا مشهودًا تقيم شرع الله وترعى حدوده ويسير فيها الراكب من أدناها إلى أقصاها وربما لا يرى فيها مشوهًا واحدًا أو مكسحًا بسبب إقامة حد وليس ذلك لأنهم لا يقيمون للحدود وزنًا كلا كلا بل لأن إقامتهم للحدود قد حالت بين الناس وبين الجرائم التي تقام بسببها الحدود فقلت الجرائم وبالتالي قل من تقام عليه الحدود. وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)} (¬1). وبهذا يظهر كذب هذه الفرية ويفتضح أمر مدبريها المتقولين على الإِسلام. يقولون: إن في إقامة الحدود تضييقًا على الأقليات غير المسلمة وإكراهًا لهم على أن يأخذوا بخلاف ما تقرره أديانهم وفي هذا سلب للحريات واعتداء على أناس ليسوا مطالبين بشريعة الإِسلام. وقد أشبعت هذا الموضوع بحثًا واستوفيت جميع جوانبه (¬2). ويتلخص في أن الشريعة الإِسلامية تسوي بين المسلمين والذميين في تطبيق أحكام الشريعة في كل ما كانوا فيه متساويين أما ما يختلفون فيه فلا تسوية بينهم فيه ومعنى هذا: ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 179. (¬2) انظر ص 227: 249.

أَن عقوبة الجرائم في الشريعة قسمان: قسم عام يعاقب على إتيانه المسلم وغير المسلم -أعني كل المقيمين في دار الإِسلام-. وقسم خاص يعاقب على إتيانه المسلمون دون غيرهم وأساس هذا القسم هو الدين وذلك كالجرائم التي أساسها ديني محض كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير يعاقب على إتيانها المسلم فقط ولا يعاقب غير المسلم عليها إذ أنها في معتقدهم غير محرمة ولكن يعاقب غير المسلم على الجرائم القائمة على أساس ديني إذا كان إتيانها محرمًا في عقيدته أو يعتبر في دينه رذيلة أو كان إتيانها مفسدًا للأخلاق العامة أو ماسًا بشعور الآخرين أو يتضمن تعديًا على الأرواح والأموال، فمثلًا شرب الخمر ليس محرمًا في عقيدة أهل الذمة ولكن السكر محرم عندهم أو هو رذيلة فضلًا عن أنه مفسد للأخلاق العامة، ومن ثم فإنه يعاقب الذمي على السكر دون الشرب فمن شرب حتى سكر عوقب ومن شرب ولم يسكر فلا عقوبة عليه (¬1) ... وهكذا. • • • ¬

_ (¬1) انظر ص 244.

المسألة الثانية: حقائق لابد منها

نستطيع بعد هذا البيان والرد على تلك المزاعم ودحض تلك الشبهات أن نخلص إلى الحقائق التالية: المسألة الثانية: حقائق لابد منها: أولًا: إن أول ما يجب أن يكون القارئ على بصيرة منه فيما يتعلق بالحدود والعقوبات في الإِسلام أنها إنما جعلت لتنفذ في مجتمع قائم على أصول الإِسلام وتكون الحياة المدنية والاجتماعة فيه منظمة على ما قرره لها الإِسلام من الأسس والمناهج: ومعنى هذا: أن الحدود والعقوبات جعلت لتنفذ في مجتمع: لا تخرج فيه النساء متزينات متبرجات في الطرقات، ولا توجد فيه الصور العارية والملاهي المثيرة للعواطف الشهوانية، ولا توجد المثيرات الجنونية التي تدفع الشباب دفعًا إلى الهبوط في مهاوي الرذيلة، ولا يكون فيه الفقر الذي يمنع الشباب من الزواج، وتتوزع فيه الثروة توزيعًا عادلًا، وتتوفر فيه للناس جميع التسهيلات والتيسيرات التي يؤمن معها وقوعهم في الأخطاء وارتكابهم للمحرمات. ومجتمع هذا شأنه لابد أن تنفذ فيه عقوبات صارمة للمحافظة على ما قد أقيم فيه من نظام متزن لجميع شعب الحياة وليست هذه العقوبات حينئذٍ

مما ينافي العدالة أو يجافي الرحمة والشفقة بل هي عين العدالة وبروح الرحمة والشفقة (¬1). ثانيًا: أن العقوبات في الإِسلام لا تنفذ جزافًا أو اعتباطًا وإنما يبحث بكل دقة في الأسباب الموجبة لارتكاب الناس الجرائم وتتخذ جميع الوسائل المؤدية إلى سقوط العقوبة عنهم: فمن دقة في شروط الشهادة لإثبات الجريمة وتحديد مدة من الزمان لإجراء التحقيق قبل إقامة الحد فإنه عسى أن يتضح خلالها خطأ الشهود في شهادتهم ومن عمل القضاة كل ما في وسعهم لدرء الحدود عن الناس، بعد ذلك لا قبله يقرر الإِسلام العقوبة الرادعة وهو مطمئن إلى عدالتها بالنسبة لشخص لا يدفعه إلى جريمته مبرر معقول. ثالثًا: أن الشريعة الإِسلامية تمتاز عن الشرائع الأخرى بالمساواة في التطبيق وإذابة الفوارق بين الطبقات فالعقوبات تنفذ على القوي والضعيف والوضيع والشريف بنسبة واحدة بلا وساطة ولا محسوبية وهذا خير شاهد على عدالة الإِسلام (¬2). رابعًا: أن العقوبات لم تشرع للحد من انتشار الفوضى وكبح جماح الشهوات وتأديب المجرمين في الدنيا فحسب بل إن في تشريعها عمقًا أكبر من ذلك وهو الرحمة من الله بعباده وإحسانه إليهم وتطهيره لهم من دنس ¬

_ (¬1) بتصرف من: شبهات حول الإِسلام ص 164 - طبع الإتحاد الإِسلامي العالمي للمنظمات الطلابية 1398 هـ. (¬2) انظر: المساواة: من الأصول العامة للتشريع في الإِسلام، والعدل أساس من أسس التشريع الإِسلامي ص 139 ص 133 من كتابنا هذا.

العقوبة وتوبته عليهم في الآخرة وفي ذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من أصاب في الدنيا ذنبًا فعوقب به فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عباده ومن أذنب ذنبًا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه) (¬1). • • • ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في السنن الكبرى عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (السنن الكبرى 8/ 328).

الفصل الخامس النتائج السلبية المترتبة على عدم تطبيق شرع الله -تعالى-

الفصل الخامس النتائج السلبية المترتبة على عدم تطبيق شرع الله -تعالى- ويتضمن هذا الفصل ما يلي: * تمهيد. * النتائج السلبية في مجال العقيدة. * النتائج السلبية في مجال العبادة. * النتائج السلبية في المجال الإجتماعي. * النتائج السلبية في مجال السياسة ونظام الحكم. * النتائج السلبية في المجال الإقتصادي. * النتائج السلبية في مجال العقوبات وتطبيق الحدود.

تمهيد

تمهيد إن الحديث عن النتائج السلبية والآثار الضارة التي منيت بها الأمة الإِسلامية من جراء البعد عن شريعة الله وتحكيم القوانين الوضعية طويل ومتشعب وقبل أن أفيض في ذكر تلك المخازي المؤلمة والنتائج المخزية التي يئن لها القلب ويندى لها الجبين ... أذكر قول الله -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬1). وقوله -تعالى-: {... إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)} (¬2). وقوله -تعالى-: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: آية 53. (¬2) سورة الرعد: آية 11. (¬3) سورة طه: آيات 123، 124، 125، 126.

النتائج السلبية في مجال العقيدة

فهذا تقرير عدل الله في معاملة العباد، فهو -سبحانه- لا يسلبهم نعمة وهبهم إياها إلَّا بعد أن يغيروا نواياهم ويبدلوا سلوكهم، ويقلبوا أوضاعهم ويستحقوا أن يغير ما بهم من النعمة التي لم يقدروها ولم يشكروها ... وأي نعمة أتم على العباد من الدين الكامل {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. وقد تحدثت عن بعض خصائص ومقومات هذا الدين الكامل الشامل مما يستوجب تحكيمه والعمل به (¬1). ولكن -وآسفاه- لقد أتى على هذه الأمة حين من الدهر انقلبت فيها الأوضاع، وتغيرت فيها النوايا وتبدل فيها السلوك وفسدت فيها المفاهيم، فمن القمة الشامخة السامقة إلى الحضيض السحيق، ومن الذروة العليا إلى أدنى دركات الضياع والذل والهوان والهبوط ولا يتسع المجال هنا لذكر كل النكبات التي حاقت بهذه الأمة والنكسات التي منيت بها، والأزمات التي تلاحقت عليها بسبب البعد عن شرع الله والتنكب لدينه ولكن يكفي أن نتحدث عما نشاهده بأعيننا ونسمعه بآذاننا في مجتمعاتنا المعاصرة من الولايات المتلاحقة والنكبات المروعة والمشاكل المخزية التي لا حصر لها وصدق الله العظيم إذْ يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)} (¬2). 1 - ففي مجال العقيدة: كانت الكارثة الأولى التي منيت بها الأمة هي فساد عقيدتها وإصابتها ¬

_ (¬1) انظر: ص 49. (¬2) سورة يونس: آية 44.

النتائج السلبية في مجال العبادة

بلوثات مادية جانحة زرعت الشك والإلحاد في كثير من نفوس أبنائها وعملت مع الأيام على إشاعة التُّرُّهات والمفاهيم اللادينية. "مما عرض روح التدين لهزات عنيفة ومخيفة مهدت بعدئذ لظهور الإتجاهات الإلحادية وتسلطها على بلاد المسلمين ومقدراتها ومن ثم محاربتها للإسلام ودعاته تارة بإطلاق الإشاعات والأراجيف وطورًا باختلاق الذرائع والمبررات لإستئصالهم والخلاص منهم" (¬1). 2 - في مجال العبادة: تعرضت العبادات لكثير من الإنحرافات وسوء الفهم لدى الغالبية العظمى من المسلمين منها: الغلو والإفراط في أدائها: فمن مفرط متساهل مهمل إلى متكلف متحامل على نفسه مبالغ في الذكر والزهد والتقشف!! وما أحسن ما وصفهم به ابن عقيل -رَحِمَهُ اللهُ-: ما أعجب أموركم في التدين: إما أهواء متبعة أو رهبانية مبتدعة (¬2). ناهيك عن جهل الكثير من المسلمين لأحكام الدين وعدم أداء العبادات أداءً صحيحًا على وجهها الأكمل. نعم: (إن كل المفاهيم الإِسلامية قد تغيرت وانحرفت في حس الأجيال المتأخرة بدءًا بمفهوم لا إله إلَّا الله التي أصبحت مجرد كلمة تقال باللسان والقلب عنها غافل والسلوك عنها بعيد إلى مفهوم القضاء والقدر الذي تحول إلى قوة مثبطة مخذلة إلى مفهوم الدنيا والآخرة اللتين انفصلتا وتحولتا إلى ¬

_ (¬1) كيف ندعو إلى الإِسلام لفتحي يكن ص 49، 50 طبع مؤسسة الرسالة، لبنان، الطبعة التاسعة 1406 هـ -1985 م. (¬2) تلبيس إبليس لإبن الجوزي ص 206 طبع دار الوعي العربي لبنان.

النتائج السلبية في المجال الإجتماعي

معسكري متقابلين متعاديين العمل في أحدهما يؤدي إلى إهمال العمل في الأخرى إلى مفهوم عمارة الأرض، الذي تحول من عمارة الأرض بمقتضى منهج الله إلى توقف العمارة إلى عودة العمارة ولكن بغير منهج (¬1) الله!! ... ومن التخلف العقدي نشأت كل ألوان التخلف التي أصابت العالم الإِسلامي: التخلف العلمي والحضاري والاقتصادي والحربي والفكري والثقافي) (¬2). وكان من نتائج فساد العقيدة الذي أصيبت به الأمة: انهيار أخلاقها وشيوع الفواحش والمنكرات فيها وانغماس كثير من أبنائها في حمأة الرذائل والشهوات وانصرافها إلى المتع والملذات والبعد عن هدي الشريعة الإِسلامية في جميع المجالات الأخرى. 3 - وفي المجال الإجتماعي: "فشلت النظم المستوردة "يمينية" ويسارية في تأمين السعادة والطمأنينة والاستقرار للإنسان بل إنها تسببت في إشقاء الإنسان وانغماسه وانعكس ذلك على الأسر فتفككت وضعفت الروابط الأسرية وانهدمت الأواصر العائلية، وانعدمت القيم والمكارم، وحلت الأنانية والأثرة وحب الذات محل التعاون والإيثار، وحب الآخرين والعطف عليهم، وبدت ظاهرة القلق والإضطراب والإكتئاب على كثير من أفراد المجتمعات التي تنكرت لشرع الله وترتب على ذلك انتشار العيادات النفسية وارتفاع نسبة الإنتحار واستحالة النوم وجلب الطمأنينة النفسية أصبح هنا بتناول الحبوب المخدرة والمهدئة وشرب الخمور والمسكرات والإفراط في التدخين والسهر، والإنغماس في الموبقات ¬

_ (¬1) الأولى أن يقال: شرع الله بدل منهج الله. (مؤلف). (¬2) واقعنا المعاصر، لمحمد قطب ص 163 - 173.

النتائج السلبية في مجال السياسة ونظام الحكم

والشذوذ والجنس واقتراف الرذائل. وكم قرأنا عن شباب في عنفوان شبابهم قد استأثرتهم الشهوات وانعدمت فيهم القيم والأخلاق فانفصلوا عن واقعهم هربًا من مواجهة الحياة وصاروا يبنون لأنفسهم عالمًا حالمًا هو عالم إباحي مجنون انقلبت فيه القيم والمقاييس وتلاشت بل وانعدمت فيه الروح الدينية بسبب سيطرة النظم الوضعية والأفكار البالية القائمة أساسًا على المنفعة الفردية" (¬1). 4 - وفي مجال السياسة ونظام الحكم: تقدم (¬2) أن الشريعة الإِسلامية تقوم على أسس راسخة وقيم أصيلة وسمات أخلاقية تعتبر هي ميزان الإجتماع في الإِسلام وهي الدعامة الوطيدة التي يقوم عليها بناء الجماعة الإِسلامية ويستقيم عليها أمرها، فالعدل في الإِسلام عدل مطلق يطبق على الكبير والصغير والشريف والوضيع والأمير والسوقة والمسلم وغير المسلم، ولا يفلت من قبضته أحد ... إلخ. والمساواة على إطلاقها فلا قيود ولا استثناءات، وإنما مساواة تامة بين الأفراد ومساواة تامة بين الأجناس ومساواة تامة بين الحاكمين والمحكومين ومساواة تامة في الحقوق والواجبات والمسؤوليات ... إلخ. والشورى من أهم قواعد الشريعة الإِسلامية وهي لأهل الحل والعقد والتجربة والخبرة وهي الدعامة التي يقوم عليها نظام الحكم في الإِسلام. ¬

_ (¬1) بتصرف يسير من: كيف ندعو إلى الإِسلام ص 50، ووجوب تطبيق الشريعة الإِسلامية ص 336، 337، والإسلام وأوضاعنا القانونية لعبد القادر عودة ص 123، 124 مطابع المختار الإِسلامي للطباعة والتوزيع الطبعة الخامسة 1397 هـ - 1977 م. (¬2) انظر من ص 143: 169.

وتلك هي أهم الأسس الرئيسية التي يقيم عليها الإِسلام بناءه في نظام الحكم ولكن هذه الأسس وغيرها قد تعطلت بسبب أهواء الكثير من الحكام واستبدادهم وتحكيمهم القوانين الوضعية، ولقد عانت الشعوب الإِسلامية من جراء ذلك وكابدت الأمرين!! والذي ينظر في حال كثير من المجتمعات الإِسلامية اليوم يرى برهان ذلك. فقد: "اكتظت البلاد بحكام وزعماء وأصحاب رأي تفرقوا أحزابًا وشيعًا يتآمر بعضهم على بعض ويتقول كل منهم على الآخر بالحق والباطل ويتبادلون القذف والسباب كما لوكانوا يتقارضون المدح والثناء، رضوا بأن يعيشوا متنابذين متفرقين وكل فريق يحاول تحقير الآخر وتشويهه ليعلوا على هامته أو ليخلوا له الجو فينطلق" (¬1). قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (وإذا خرج ولاة الأمور عن الحكم بغير ما أنزل الله وقع بأسهم بينهم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما حكم قوم بغير ما أنزل الله إلَّا وقع بأسهم بينهم"، وهذا من أعظم أسباب تغير الدول كما قد جرى مثل هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا، ومن أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره فيسلك مسلك من أيده الله ونصره، ويجتنب مسلك من خذله الله وأهانه، فإن الله يقول في كتابه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} (¬2). ¬

_ (¬1) الإِسلام وأوضاعنا القانونية ص 123، 124. (¬2) سورة الحج: الآيتين 40، 41.

فقد وعد الله بنصر من ينصره، ونصره هو نصر كتابه ودينه ورسوله، لا نصر من يحكم بغير ما أنزل الله ويتكلم بما لا يعلم) (¬1). ومن نظر في حال المسلمين مهتديًا بما قرره شيخ الإِسلام هنا علم أن ما ابتلي به المسلمون اليوم من ضعف وذلة، واختلاف وفرقة وهزائم ونكسات سببه البعد عن شريعة الله، وتحكيم القوانين الوضعية القاصرة. "وإذا كان الإِسلام يوزع العدل بالقسطاس المستقيم على القريب والبعيد والعدو والصديق فهذا العدل قد ذهب من البلاد التي تحتكم إلى غير ما أنزل الله ولا تجد إلَّا المحاباة الكريهة والمحسوبية العمياء، والحكام الجائرين الذين نكثوا أيمانهم وخانوا أماناتهم وأتوا من الأعمال ما لا يغتفر وأتوا بكل ما يناقض الإيمان وانحرفوا عن كل اتجاه يرجع إلى الإِسلام" (¬2). يقول أبو الأعلى المودودي -رَحِمَهُ اللهُ-: "من ثم نرى أن كل مكان قامت فيه ألوهية الناس على الناس قد فشا فيه الظلم والجور والإستئمار الممقوت والتكبر في أرض الله بغير حق" (¬3). ويكفي هؤلاء الحكام ظلمًا ووخزًا في ضميرهم أنهم يباغتون بمكائدهم كل من قام يدعو إلى الله وينادي بالإصلاح فيذلونه بالخوف والقهر ويفقرونه ومن يلوذ بطرفه بالمصادرة لأمواله أو الحراسة عليها ويسلبونه حريته بالسجن والرعب ويذيقونه ألوانًا من العذاب ولم يكن إلَّا هذا شاهدًا على ظلمهم وجبروتهم وطغيانهم لكفى!! ¬

_ (¬1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية 35/ 388. (¬2) بتصرف من: الإِسلام وأوضاعنا القانونية عبد القادر عودة ص 123، 134، 155. (¬3) نظرية الإِسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور ص 26، طبع مؤسسة الرسالة 1389 هـ، لبنان.

النتائج السلبية في المجال الإقتصادي

والخلاصة: "أن أداة الحكم في تلك البلاد التي تحتكم إلى غير ما أنزل الله قد فسدت وتعفنت وانتشرت روائح الفساد في كل جانب من جوانب الحكم فيها فالحاكم يستولي على الحكم بالقوة المسلحة ويحتفظ بمنصبه بالحديد والنار ورجال السياسة البارزون سواء كانوا في الحكم أم كانوا من المعارضين كلهم من "العلمانيين" (¬1) الذين تنص لوائح أحزابهم على أنهم يستحلون كل شيء ما دام يؤدي لغايتهم، فالسرقة والرشوة والاختلاس وبيع الأعراض والكرامات والمساومة على المصالح العامة والتستر على الخيانة والفساد وإسكات صوت الحق كل ذلك جائز ما دام يؤدي إلى المال أو الجاه أو كراسي الحكم" (¬2). 5 - وفي المجال الإقتصادي: "لم يكن في وسع الأنظمة -الرأسمالية والإشتراكية- أن توجد مجتمع الكفاية والعدل الذي تدعو إليه بل وعلى العكس من ذلك نشأت مشاكل "حرب الطبقات" والظلم الإجتماعي والاستغلال الحزبي والاحتكار والفقر والبطالة إلى ما لا نهاية له من المشاكل اليومية، ولقد تمثل الشعب بسادته وكبرائه في نفاقهم وسوء أخلاقهم فعم النفاق وفشا الربا وضاعت الأخلاق والكرامات، ولم يبق بين هؤلاء من له ذمة أو ضمير أو خلق إلَّا القليل. ¬

_ (¬1) العلمانية والإنسانية والمذهب الطبيعي والوضعية كلها أشكال للَّادينية والنموذج الرئيسي لها فصل الدين عن الحياة. انظر: العلمانية نشأتها - تطورها - آثارها في الحياة الإِسلامية تأليف: سفر الحوالي ص 23. (¬2) الإِسلام وأوضاعنا القانونية من ص 123 - 128.

النتائج السلبية في مجال العقوبات وتطبيق الحدود

ومما يؤلم حقًا أن يوجد بين هؤلاء الغني المتخم والفقير المتضور لأن هؤلاء المتخمين بالثروة يأبون أن يردوا على هؤلاء المساكين بعض حقهم الذي يوجبه لهم الدين بعد أن تعطلت فريضة الزكاة!! وبات الأغيناء يكدسون أموالهم وعقاراتهم ويملأون خزائنهم ذهبًا وفضة، ويستخدمون عمالًا يكدحون ويكدون بأجور زهيدة تافهة لا تقوم باللقمة الجافة والكساء الذي يستر العورة. وإذا كان الغني يكدس ذهبًا وفضة في خزائنه فإن العامل الفقير يكدس في قلبه غضبًا وحقدًا ينمو ويزيد كل يوم. وكل هذا بسبب خواء النفمس من الدين وفراغها من الانصياع لشريعة رب العالمين" (¬1). 6 - وفي مجالات العقوبات وتطبيق الحدود: نجد أن في المجتمعات التي تحتكم إلى القوانين الوضعية: "تنحط الأخلاق وتنحل القيم الروحية وتهبط القيم المعنوية وترتفع القيم المادية وتنتشر الفوضى والإباحية والهمجية وتستشري الجريمة وتفقد القوانين الوضعية سلطتها على النفس البشرية، لأن سلطة العقوبة وحدها لا تكفي في ردع المجرم ما لم يكن هناك دافع من دين أو وازع من ضمير!! " (¬2). • • • ¬

_ (¬1) انظر: الإِسلام وأوضاعنا القانوية ص 126، 127، والصحوة الإِسلامية بين الجحود والتطرف، ليوسف القرضاوي ص 109. (¬2) انظر: التشريع الجنائي الإِسلامي، تأليف: عبد الله بن سالم الحميد ص 88، 89.

الفصل السادس الطرق والوسائل التي يستطيع الحكام بواسطتها تطبيق الشريعة الإسلامية في جميع جوانب الحياة

الفصل السادس الطرق والوسائل التي يستطيع الحكام بواسطتها تطبيق الشريعة الإِسلامية في جميع جوانب الحياة

تمهيد

تمهيد في هذا الفصل سنذكر -إن شاء الله تعالى- أهم الطرق والوسائل التي يستطيع الحكام بواسطتها تنفيذ الشريعة الإِسلامية إن صلحت نواياهم وأحبوا أن يلقوا ربهم بوجه مشرق وصفحة بياض نقية وأول هذه الطرق العودة للشريعة الإِسلامية وإقصاء القوانين الوضعية وهو أول الشروط لوحدة الأمة الإِسلامية. ونرى أن أفضل الطرق لتحقيق هذا الغرض ما يلي: أولًا: أن ينتقل زمام أمر الدولة إلى حكام مسلمين صالحين تتوافر فيهم الغيرة على الإِسلام ويتحلون بالخبرة والتجربة والقدرة على تسيير دفة الحكم وفق أحكام الشريعة الإِسلامية وقواعدها. ثانيًا: إنشاء الحياة الإِسلامية والسبيل الموصل إلى ذلك ينطلق من اتجاهين متكاملين (¬1): - الإتجاه الأول: داخلي فكري نظري وهذا الإتجاه يوجب القيام بخطوات متعددة: ¬

_ (¬1) انظر في هذا التقسيم: الإِسلام كما ينبغي أن نؤمن به للدكتور عبد الحليم عويس ص 97، 98، 99 طبع دار الصحوة بالقاهرة 1405 هـ.

- الإتجاه الثاني

أولاها: الإيمان بأن تطبيق الشريعة الإِسلامية يحتاج إلى تغيير الوضع القائم، والتغيير يبدأ من ذوات أنفسنا يبدأ من الداخل ولا يستورد من الخارج. ثانيتها: الإيمان بأنه لا طريق لعزنا ولا سبيل لتقدمنا وسعادتنا إلَّا بالإسلام، وأن مقياس السعادة في التصور الإِسلامي نابع من عبادة الله وحده وتحكيم شرعه والخلوص له سبحانه، وأن مصدر الشقاوة والمهانة نابع من عبادة الطاغوت والهوى والشهوة، وتلك هي دركات الشقاء التي يعيش فيها كل من أعرض عن هدي الله ودينه. ثالثتها: الرجوع إلى الإِسلام في أصوله الأولى وفي تطبيق تلك الأصول وفق ما جاء في كتاب الله -تعالى- وسنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرته وسيرة الخلفاء الراشدين والسلف الصالح -رضوان الله عليهم-. - وأما الإتجاه الثاني: فهو اتجاه عملي تطبيقي (¬1) يوجب إزالة التناقض الكبير الذي يحكم سائر مجالات الحياة الإِسلامية من مصالح ودوائر ومؤسسات وهيئات وتعليم وصحافة وإعلام وجميع مجالات الحياة الإِسلامية وسائر الموافق والأجهزة الرسمية والشعبية والسبيل الموصل لهذا الغرض ما يلي: أولًا: وجود "القاعدة المسلمة" (¬2) بالحجم المعقول الذي يقود خطى الأمة كلها في سبيل تحقيق هذا الهدف المنشود والذي لا يعوقه وجود المنافقين، والمُبطِّئين وضعاف الإيمان والمتثاقلين، ونعني بوجود القاعدة ¬

_ (¬1) الإِسلام كما ينبغي أن نؤمن به ص 99. (¬2) انظر: واقعنا المعاصر ص 433، 434، 435 "بتصرف".

المسلمة أي: وجود الإنسان المسلم في عقيدته وفي تفكيره وفي خلقه وعاطفته وسلوكه وعمله وتصرفه. - وجود البيت المسلم والأسرة المسلمة التي تتمثل الإِسلام وتتقيد بشرائع الإِسلام وتقوم بتنفيذها وممارستها في حياتها. - وجود الشعب المسلم الذي يتمثل الإِسلام ويقيمه منهج حياة وعمل وممارسة واقعية. - وجود القيادة المسلمة التي تأخذ الأسوة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتزكي في نفس المسلم روح الإعتزاز بالإسلام وبمبادئه الحقة النابعة من مصدريه القرآن الكريم وسنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وأولى الخطوات لإقامة هذه القاعدة المسلمة: - إيقاظ الوجدان الديني من غفوته وتحويله إلى حركة واقعية لا خيال ليكون ذات دلالة حقيقية تبنى عليها حركة واعية تغير الوضع القائم وتزيل ركام الجهل العالق بعقول كثير من المسلمين بحقيقة فهم لا إله إلَّا الله ومقتضياتها (¬2). - فنقطة البدء تكون بتصحيح العقيدة (¬3) (¬4) وجلاء مفهومها الحقيقي وارتباطها الوثيق بتحكيم شريعة الله كما بين الله ذلك في كتابه وكما علمه ¬

_ (¬1) واقعنا المعاصر: محمد قطب، المرجع السابق. (¬2) واقعنا المعاصر: ص 419 "بتصرف يسير". (¬3) انظر: خطوط رئيسية لبعث الأمة الإِسلامية، تأليف عبد الرحمن عبد الخالق ص 52، 53، طبع الدار السلفية بالكويت، الطبعة الأولى 1456 هـ. (¬4) انظر: الولاء والبراء في الإِسلام ص 362، 363.

الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، وكما وعت الجماهير المسلمة خلال أربعة عشر قرنًا من الزمان: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} (¬1). - وتصحيح العقيدة بالبيان الهاديء الهادف: {... وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} (¬2). كما يكون بإبراز الدليل الشرعي الذي تبنى عليه الأحكام مع التفقه في الدين. ثانيًا: تجنيد كل الإمكانيات والطاقات لإصلاح مختلف نواحي الحياة الإجتماعية إصلاحًا شاملًا والطريق الموصل إلى ذلك ما يلي: 1 - "تنحية جميع القيادات اللادينية والعناصر المشبوهة التي تعطي صورة سيئة عن الإِسلام في مفاهيمها وفي سلوكها وتبعد كل عنصر صالح يدرك حيل أعداء الإِسلام ويكافح لإحباط مخططاتهم" (¬3). 2 - تولية القيادات الدينية الصالحة من حكام ودعاة ومعلمين وغيرهم يتحلون بالخلق والعلم والإستقامة، ويؤمنون بالله إيمانًا يدفعهم إلى الإخلاص في العمل والصدق في التوجه، والمراقبة لله -تعالى-، وهؤلاء هم المصلحون الذين يجمعون بين متانة العقيدة والإقتناع ¬

_ (¬1) سورة النور: آية 51. (¬2) سورة النحل: آية 44. (¬3) انظر: التقليد والتبعية وأثرهما في كيان الأمة الإِسلامية، ناصر العقل ص 129، 130.

بالإسلام دينًا خالدًا أبديًا وبأحكام الإِسلام شرعةً "ومنهاجًا" (¬1). 3 - يجب أن نجعل همنا الأكبر وشغلنا الشاغل في المدرسة والجامعة والإذاعة والصحافة ووسائل الإعلام، وأجهزة التعليم والثقافة فيجب: (أ) "إغلاق دور الصحافة والمجلات الخليعة التي تحوي في بطونها كل فسق ورذيلة وتنشر الأخبار والدعايات المغرضة والصور العارية والضرب بيد من حديد عليها، وتقليم أظافر محرريها ليكونوا عبرة لكل فاجر مرتاب" (¬2). (ب) "محاربة الشر والإنحلال بكل صوره وجميع أشكاله وألوانه وقطع دابر من يدعو إليه. (ج) إحداث تغييرات جذرية في مؤسسات التعليم لتشمل أهدافها ومناهجها وبرامجها ووسائلها" (¬3)، ويكون بما يأتي: 1 - إعادة صياغة الموجهين لها والعاملين بحيث يعد هؤلاء إعدادًا إسلاميًا، ليقوموا بدورهم الفعال المناط بهم على الوجه الأكمل، وليسهموا في عملية البناء والتعمير وينشروا الخير والفضيلة بين صفوف الأمة الإِسلامية. ¬

_ (¬1) انظر: واجب المسلمين في نشر الإِسلام زيد بن عبد العزيز فياض ص 53، 54، طبع دار الثقافة بمكة المكرمة، الطبعة الأولى 1385 هـ. (¬2) انظر: الحل الإِسلامي فريضة وضرورة، د. يوسف القرضاوي ص 52. (¬3) انظر في هذا: مشكلات الشباب: الحلول المطروحة والحل الإِسلامي من ص 124 - 128، د. عباس محجوب، طبع رئاسة المحاكم الشرعية بدولة قطر، طبعة ثانية 1406 هـ.

2 - "مراجعة شاملة لأهداف التعليم ومحتواه، وتخلصه من رواسب التبعية والاستعباد ومخلفات الإحتلال من نظريات الغرب المستشرقين والصليبيين ممن جعلوا الحضارة الغربية مثلًا أعلى والثقافة الغربية أملًا يسعى الشباب إليه" (¬1). 3 - "تكريس المناهج التعليمية لخدمة أهداف الإِسلام في وجود الإنسان وتربيته تشريعيًا وسياسيًا واجتماعيًا وتنسيق حياته كلها وفق الكتاب والسنَّة وسير السلف الصالح من هذه الأمة" (¬2). 4 - "إن مفتاح سعادة الأمة الإِسلامية مطوي في هذا الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد إذن: فلا يمكن للمسلمين أن ينهضوا نهضة حقيقية إلَّا إذا أقبلوا عليه واهتدوا بهديه واستضاؤوا بنوره وساروا على دربه" (¬3)، وهذا يتطلب:- (أ) الإهتمام بالقرآن حفظًا وفهمًا وتدبرًا وتعليمًا وتعلمًا. (ب) العمل بهدي القرآن وتنفيذ أحكامه والاهتعمام بدراسته من حيث ألفاظه ومعانيه، وعقائده، وآدابه، وأحكامه، وتشريعاته وأخذ القدوة والأسوة في ذلك من سلفنا الصالح - رضوان الله عنهم - (¬4). ¬

_ (¬1) بتصرف: من قضايا الفكر الإِسلامي ص 412، 413، الحل الإِسلامي فريضة وضرورة، للقرضاوي ص 43، 44. (¬2) بتصرف من: مشكلات الشباب، د. عباس محجوب ص 125. (¬3) انظر: القرآن أنواره وآثاره وأوصافه وفضائله ... محمد محمود الصواف ص 22، 23، طبع مؤسسة الرسالة، لبنان. (¬4) انظر: القرآن: أنواره وآثاره وأوصافه وفضائله ... محمد محمود الصواف ص 22، 23.

- روى الدارمي بإسناده في سننه عن الحارث قال: (دخلت المسجد فإذا أناس يخوضون في أحاديث، فدخلت على علي فقلت ألا ترى أن أناسًا يخوضون في الأحاديث في المسجد فقال: قد فعلوها، قلت: نعم، فقال: أما إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ستكون فتن. قلت: وما المخرج منها. قال: كتاب الله كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل هو الذي من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله فهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه وهو الذي لم ينته الجن إذْ سمعته أن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)}، هو الذي من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم خذها إليك يا أعور) (¬1). فما أحوجَ المسلمين اليوم إلى فهم كتاب الله -تعالى- الذي هو مصدر شريعتهم وسبيل هدايتهم وهو عصمتهم من الأهواء وشفاؤهم من الأدواء ... قال -تعالى-: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} (¬2). وقال -تعالى-: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)} (¬3). ¬

_ (¬1) سنن الدارمي 2/ 435 - باب 1، كتاب فضائل القرآن، طبع دار إحياء السنَّة النبوية بمصر. (¬2) سورة الإسراء: آية 82. (¬3) سورة يونس: آية 57.

وقال -تعالى-: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} (¬1). وما أحوجَ المسلمين اليوم إلى الإمتثال لأوامر القرآن ونواهيه والعمل بما فيه من آيات بينات وحكم وعظات، وتعلمه وتعليمه وتفهمه وتفهيمه: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن) (¬2). وقال أبو عبد الرحمن السلمي: (حدثنا الذين كانوا يقرؤوننا أنهم كانوا يستقرؤون من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعلموا بما فيها من العمل فتعلمنا القرآن والعمل جميعًا) (¬3). وبهذا تمسك به أجدادنا حقيقة، وجعلو 5 منهاجهم في الحياة ونبراسهم في العمل حتى غدوا سادة العالم وقادة الإنسانية في زمن قليل يعد على الأصابع. ولكن يا لله من عصر تتقلب فيه الحقائق فيتحول القرآن من دنيا بعض المسلمين إلى مصاحف ثمينة داخل علب مغلفة بالحرير يتبادلها الناس هدايا في مناسباتهم أو يضعونها في واجهات متاجرهم وسياراتهم لتجلب البركة وتدفع السوء في اعتقادهم كحرز وغيره فإنا لله وإنا إليه راجعون!! ألهذا أنزل القرآن؟!! ¬

_ (¬1) سورة ص: آية 29. (¬2) انظر: كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال 2/ 346، حديث رقم 4213، تأليف علاء الدين الهندي البرهان فوري، طبع مؤسسة الرسالة 1399 هـ - 1979 م. (¬3) انظر: المرجع السابق من كنز العمال 2/ 347، حديث رقم 4215.

ومما يؤسف له أن القرآن أصبح مهجورًا عند جمهرة كبيرة من أبناء المسلمين ولم يعد له قيمة عندهم سوى أنه يتلى في المناسبات وعلى قبور الأموات وفي المآتم والأربعينيات!، ويتخذ منه المتمشيخون وسيلة لإبتزاز أموال الناس بالباطل أو يصنع منه المشعوذون التمائم ويصيحون على أبواب المساجد آية الكرسي والمعوذات والآيات المنجيات بكذا وكذا ... وقد يتجرأ بعض الجهلة فيضعونه في زاوية مظلمة من البيت مهجورًا يتراكم عليه الغبار، وفي القرى والمدن يستغل كتاب الله أسوأ استغلال في كتابة التعاويذ والأحجبة والتمائم الشركية الممزوجة ببعض الآيات مع حروف مقطعة كالطلاسم لا تعرف؛ بدعوى أن ذلك يزيل المرض ويحقق الغرض وفعل ذلك في الحقيقة ضلال في ضلال. ما أنزل الله به من سلطان. فعلى كل مسلم غيور على دينه محاربة هؤلاء ومطاردتهم وتطهير المجتمع من فسادهم. فما أقل حياء من يشترون بآيات الله ثمنًا قليلًا!! {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} (¬1). {أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)} (¬2). إن القرآن الكريم أنزله رب البرية سبحانه على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ليتلوه المؤمنون فتشرح به صدورهم وتستنير به أفئدتهم وقلوبهم وينالوا به مثوبة الله يوم القيامة أنزله ليكون للعالمين بشيرًا ونذيرًا أنزله كتابًا للأحياء لا للموتى من ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 79. (¬2) سورة البينة: آية 6. انظر: الكشاف الفريد عن معاول الهدم ونقائض التوحيد، تأليف خالد الحاج، تحقيق ومراجعة: عبد الله الأنصاري 2/ 143: 157، وحكم القراءة للأموات هل يصل ثوابها إليهم، تأليف محمد أحمد عبد السلام من ص 13 - 16، مطابع مؤسسة مكة للطباعة والإعلام، الطبعة الخامسة 1406 هـ.

الأحياء أنزله -سبحانه- ليتخذ المسلمون منه تشريعاتهم ويكون دستور حياتهم ونظام مجتمعهم ومنبع قوتهم وسر سعادتهم في الدنيا والآخرة. إننا لا نريد أن يستوعب المسلمون آيات قرآنهم إتقانًا وتجويدًا ثم يعزلوه عن حياتهم فلا يزكي لهم نفسًا ولا يرفع لهم رأسًا. إننا لا نريد أن يذاع القرآن ضمن الأغاني وفي الموالد والحفلات، أو يتلى في بدء بث البرامج الإذاعية والتلفزيونية وفي ختامها وكفى!! أننا لا نريد جعل القرآن مادة إضافية بين مواد التعليم لا يترتب على الرسول فيها أثر. نعم: إن القرآن الكريم قد أهمل حفظه في مكاتب تحفيظه بل أهمل بعد ذلك إنشاء المكاتب نفسها فحرم الأبناء والبنات من حفظ القرآن في حداثة السن وبداية التربية ثم أهمل حفظه وتدريسه في مراحل التعليم بعد ذلك في المدارس والمعاهد فتخرجت الأجيال الكثيرة خاوية من القرآن حفظًا ودراسة وفهمًا ويمكننا أن نقول -من غير مبالغة أو مغالاة- إن الشباب المسلم محروم الآن -في أكثر بلاد الإِسلام محروم من حفظ القرآن الكريم ودراسته في جميع مراحل التعليم وهم في السن التي يحتاجون فيها أشد الاحتياج إلى ضبط النفوس وجمح الشهوات والتربية الدينية الصحيحة والتوجيه إلى الخير والصلاح بوازع ديني محكم قويم ولن يتأتى ذلك إلَّا بعودة حميدة إلى القرآن الكريم وبناء هيكل حياة المسلمين على أسس صلبة متينة من تعاليمه وحفظه ودراسته وفهمه وتدبره وتأمين تطبيقه وتنفيذه سواء ما يتصل بالعقيدة أو العبادات أو المعاملات أو السياسة والإقتصاد أو الأدب والثقافة والإجتماع.

فلابد أن تتضافر جميع الجهود للوصول إلى هذه الغاية النبيلة ويقوم كل منا بمسؤوليته التي تحتم عليه أن يبذل كل ما في وسعه لخدمة كتاب الله -تعالى-: وخير سبيل نراه حتمًا علاجًا ناجحًا لهذا الحال الذي نعيشه في غياب القرآن ما يلي: أولًا: إنشاء مدارس لتحفيظ القرآن الكريم في القرى والمدن يذهب إليها الأطفال في بدء نشاتهم ليحفظوا أجزاء من القرآن الكريم عن ظهر قلب على أن يكون التعليم فيها إجباريًا. ثانيًا: فرض تدريس مادة القرآن الكريم في جميع مراحل التعليم للذكور والإناث على حد سواء بدءً بالدراسة الإبتدائية وانتهاءً بالدراسات العليا من (ماجستير ودكتوراه). ثالثًا: "الإهتمام بالدراسات القرآنية وذلك بوضع موسوعة قرآنية تحرر فيها المعاني التاريخية لأخباره والمعاني السليمة لعقائده وآدابه بحيث يتدرج تدريس هذه الموسوعة مع نمو الطالب واتساع مداركه" (¬1). رابعًا: "أركز مرة ثانية على كون هذه الدراسة للقرآن الكريم دراسة إجبارية يترتب على رسوب الطالب فيها عدم الإنتقال إلى صف أعلى وتوضع مناهج حفظ القرآن لكل مرحلة بل لكل سنَّة على غرار مناهج العلوم الأخرى في المدارس في جميع المراحل". وإني أنوه هنا بالنهج الذي نهجته جامعة الإمام محمد بن سعود الإِسلامية بالمملكة العربية السعودية من العناية بالقرآن الكريم في معاهدها ¬

_ (¬1) الكشاف الفريد عن معاول الهدم ونقائض التوحيد من ص 143 - 157.

وكلياتها والدراسات العليا فيها ونود أن تنهج كل الجامعات في المملكة العربية السعودية بل وفي العالم العربي والإسلامي هذا النهج" (¬1). خامسًا: تخصيص مكافآت شهرية وسنوية مجزئة لمن يلي أمر التحفيظ في مكاتب التحفيظ في سائر القرى والمدن كما يجب تخصيص مكافآت مماثلة للحفاظ المتفوقين من الطلاب ترغيبًا لهم وتشجيعًا على حفظ القرآن الكريم. سادسًا: إعداد مدرس القرآن الكريم إعدادًا يتناسب وشرف الرسالة التي يؤديها وعظم المسؤولية المناطة به، ليكون قدوة طيبة يتقن حفظ كتاب الله -تعالى- وتجويده ويفقه دينه بشرائعه وأحكامه، ولكن يوفر هذا الأنموذج، فلابد من إعداده إعدادًا خاصًا وتوفير سبل الحياة الكريمة له حيث إن الواقع المشاهد أن مدرس القرآن الكريم لا يتساوى مع مماثليه في هذا الغرض. وحسبنا أن نذكر مثالًا واحدًا في جامعة إسلامية مدرس القرآن الكريم يتقاضى عشر مرتب مدرس اللغة الأجنبية!! سابعًا: يجب تعديل مناهج الجامعات سواء منها ما يختص بدراسة العلوم النظرية أو ما يختص بالعلوم التجريبية والعملية فتوضع المناهج الإِسلامية التي تعني بالقرآن الكريم حفظًا وفهمًا بالشريعة الإِسلامية روحًا ونصًا، لغرس الإيمان في قلوب الشباب وإلهاب العاطفة الدينية لديهم وتمكين ذوي الإتجاهات الدينية في كل جامعة لكي يقوموا بالدور الذي يجب عليهم القيام به. ثامنًا: ربط العامة بالقرآن الكريم وغرس حبه في نفوسهم وحثهم على ¬

_ (¬1) مؤلف.

حفظه وفهمه وتدبره في مساجدهم ومنازلهم ومجالسهم وأماكن أعمالهم وأنديتهم وحضهم على أن تعلم القرآن والعمل به فريضة على كل مسلم ولا يسع أحد جهله وعلى من تعلمه تكميل غيره بتعليمه إياه وصبره عليه وتذكيره بأن كتاب الله من أقرب القربات التي يتقرب بها العبد إلى ربه ولا يكفي مجرد الإيمان به فقط بل لا يكون العبد مؤمنًا كامل إلَّا إذا تذوق حلاوة كتاب الله -تعالى- وامتلأت جوانحه بحبه وامتزجت مشاعر به يرافقه في رحلاته ويسأل الله به في حل مشكلاته وينتصر به على كل معارضة ويصبح له شعارًا ودثارًا ويكون صلته به صلة رجل مسلم يعيش بالقرآن ويتخلق بأخلاق القرآن ويتادب بآداب القرآن (¬1). تاسعًا: إصلاح الإعلام بكل أجهزته: المقرؤة والمرئية والمسموعة وتصحيح مساره وهذا من أوجب الضرورات بل هو واجب شرعي بحيث يبث الخير وينشر الفضيلة ويحذر من الشر والأخلاق الرذيلة ويكون قادرًا على توجيه الأمة، وتعميق العقيدة في نفوس أبنائها وتذكيرها بغايتها في هذه الحياة ويتحقق ذلك بالاختيار الأمين للعاملين في أجهزة الإعلام، فتختار الكفاءات المؤمنة المخلصة التي تدرك أهداف الأمة وغايتها وإبعاد العناصر المشبوهة عن مراكز القيادة والتوجيه وإبعادها عن وسائل الإعلام والتدريس وغيره وتمكين ذوي الإتجاهات الإِسلامية في كل بلد إسلامي لكي يقوموا بالدور الذي يجب عليهم القيام به (¬2). عاشرًا: "وضع البرامج الخاصة في الإذاعة والتلفاز، الهادفة إلى ¬

_ (¬1) مؤلف. (¬2) بتصرف من: الإِسلام والحضارة ودور الشباب المسلم 2/ 319، 320.

إصلاح الأفكار وغرس القيم الخلقية والآداب السلوكية من توجيه وإرشاد وكل ما من شانه أن يغرز كيان الدين لدى أبنائه ويتفق وروح العقيدة السلفية الصحيحة (¬1). حادي عشر: ربط المساجد بالمؤسسات التعليمية والمصالح الحكومية "من قطاع عام وقطاع خاصًا والمصانع والأسواق وتنسيق مواعيد العمل والدراسة بمواقيت الصلاة حتى يرتبط المسجد في وجدان المسلمين بالحياة وحركتها ويكون له مكانته في التوجيه والإرشاد وتحقيق أهداف الأمة المسلمة بشرط أن يكون ذلك بعيدًا عن الناحية المظهرية والشكلية بل طاعة وتعبدًا وتوجهًا إلى الله -تعالى- ولكي تؤتي رسالة المسجد ثمارها المرجوة فيجب إعداد الأئمة للقيام بواجب الدعوة إلى الله والتوجيه والتعليم ممن زُوِّدوا بعلوم والقرآن والسنَّة واللغة العربية وآدابها وممن درسوا المذاهب الفكرية والتيارات السياسية الموجهة للإسلام وأن يكون الإمام قدوة طيبة يعيش عصره بعلومه ومعارفه ويفقه دينه بشرائعه وأحكامه ويخشى ربه ويتقيه ولكي يوفر هذا الأنموذج فلابد من إعداده إعدادًا خاصًّا وتوفير سبل الحياة الكريمة له" (¬2). • • • ¬

_ (¬1) انظر: من قضايا الفكر الإِسلامي المعاصر ص 420، 421. (¬2) انظر: مشكلات الشباب: الحلول المطروحة والحل الإِسلامي، دكتور/ عباس محجوب ص 129 - 131، الطبعة الثانية، قطر الشؤون الدينية.

الفصل السابع التدرج في تطبيق وتنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية

الفصل السابع التدرج في تطبيق وتنفيذ أحكام الشريعة الإِسلامية وفي هذا الفصل تمهيد وأربعة مباحث: التمهيد. المبحث الأول: وجود الإيمان العميق والعقيدة الراسخة. المبحث الثاني: التدرج في الأخذ بأحكام الشريعة الإِسلامية. المبحث الثالث: الثبات والصبر والتأني وعدم اليأس والقنوط. المبحث الرابع: كيفية تطبيق الأحكام الشرعية وتنفيذها عمليًا في العالم الإِسلامي. وفي هذا المبحث تمهيد وثلاثة مطالب: التمهيد. المطلب الأول: حكومة إسلامية في دولة تدين بالإسلام وتطبق شريعة الإِسلام. المطلب الثاني: حكومة منحرفة في أمة مسلمة. المطلب الثالث: أقليات إسلامية في أمة كافرة.

تمهيد

تمهيد " إن بين الحق والباطل صراع دائم في حياة البشر، صراع يستمد وجوده من ذلك النزاع القائم في كيانه بين النوازع الفطرية التي تتوق إلى الحق وتسعى إلى سيادته وبين نوازع الشهوة والهوى التي تسعى إلى انتهاج الباطل منهجًا واقعيًا بديلًا لمنهج الحق في الحياة الفردية والجماعية (¬1). ثم إن للعادات والأعراف سلطانًا على النفوس وتحكمًا في العقول فمتى رسخت العادة اعتبرت من ضرورات الحياة (¬2). ولذلك فان كثيرًا ما كان يقاسي الأنبياء والمصلحون من المصاعب والأهوال، فيأخذون الناس بالعنف تارة وبالتدريج تارة أخرى لتحويلهم عن مفاسد عاداتهم وأعرافهم. فلم تقف مهمتهم - عليهم الصلاة والسلام - عند بيان الحق وإبلاغه فحسب، بل بدعوة الناس إليه والإستجابة له وتحقيقه في أنفسهم اعتقادًا وقولًا وعملًا، فكان كل رسول يدعو قومه إلى الصراط المستقيم ويبينه لهم ¬

_ (¬1) الدعوة الإِسلامية: الوسائل، الخطط، المداخل ص 199، طبع ونشر الندوة العالمية للشباب الاسلامي طبعة أولى 1405 هـ. (¬2) المدخل الفقهي العام للزرقاء 2/ 737، طبع طبرين، دمشق 1387 هـ.

ويهديهم إليه وهذا أمر متفق عليه بين الرسل جميعًا" (¬1). ثم كان كل رسول يُقوِّم الإنحراف الحادث في عصره ومصره؛ إذ الإنحراف عن الصراط المستقيم لا يحصره ضابط وهو يتمثل في أشكال مختلفة: "فنوح - عليه السلام - أنكر على قومه عبادة الأصنام وكذلك إبراهيم - عليه السلام - وهود - عليه السلام - أنكر على قومه الإستعلاء في الأرض، والتجبر فيها، وصالح أنكر على قومه الإفساد في الأرض واتباع سبيل المفسدين. ولوط حارب جريمة اللواط التي استشرت في قومه. وشعيب قاوم في قومه جريمة التطفيف في المكيال والميزان. وهكذا فكل هذه الجرائم وغيرها التي ارتكبتها الأمم خروج عن الصراط وانحراف عنه والرسل - عليهم الصلاة والسلام - سمة دعوتهم المخلصة أنهم يبينون هذا الصراط ويحاربون الخروج عليه باي شكل من الأشكال كان" (¬2). ثم ختمت هذه الشرائع بالشريعة الإِسلامية الغراء التي لم تغادر صغيرة ولا كبيرة إلَّا وضعت لها أسلم وأنجح حل يسعد الفرد والمجتمع على السواء. نعم: (لقد نظر محمد بن عبد الله - صلوات الله وسلامه عليه - إلى العالم بعين النبوة والرحمة فرأى إنسانًا قد هانت عليه إنسانيته وصار يسجد للحجر والشجر ويعبد شهوته وهواه وما لا يملك لنفسه النفع والضرر. رأى عادات فاسدة من معاقرة الخمر إلى حد الإدمان والخلاعة والفجور إلى حد الإستهتار وتعاطي الربا إلى حد الإغتصاب واستلاب الأموال. رأى الطمع ¬

_ (¬1) الرسل والرسالات، د. عمر سليمان الأشقر ص 51، 52، طبع ونشر مكتبة الفلاح بالكويت، الطبعة الثالثة 1405 هـ. (¬2) الرسل والرسالات ص 51، 52.

وشهوة المال إلى حد الوأد وقتل الأولاد. رأى حكامًا اتخذوا بلاد الله تحت سلطانهم غنيمة وعباد الله عبيدًا لهم، ورأى أممًا كقطعان من الغنم ليس لها راع والحكم كسيف في يد سكران يجرح فيه من يعترض سبيله) (¬1). "فكان - صلى الله عليه وسلم - المثل الأعلى في فهم واقع الجاهلية والنفاذ إلى نفسيات أهلها، وخوالجهم، فقد أدرك - صلى الله عليه وسلم - الأسباب التي تشدهم إلى الباطل وتعوقهم دون قبول الحق ثم أخذ في علاج تلك العوامل والأسباب فكان - صلى الله عليه وسلم - بذلك يهدم صورة الواقع الباطل في سلود القوم لبنة لبنة ويبني صورة الحق لبنة لبنة، لقد أمضى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عشرة سنة في مجال العقيدة، ثم انتقل إلى معالجة ما هو فرع لها في السلوك العملي: فقد عرض - صلى الله عليه وسلم - على الناس تصورات الإِسلام الأساسية ومبادئه الخلقية الراسخة، وأخذ يعد الرجال الذين قبلوا هذه الدعوة وانضووا تحت لوائها أمثال أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، وسائر أبطال الدعوة إلى الله -تعالى-، فلما أن تم له ذلك تقدم خطوة أخرى، فأقام في المدينة المنورة حكومة ثابتة الأركان راسخة القواعد، ثم بعد أن أصبحت المدينة معقل الإِسلام، ومشعل الهداية، وتسلم النبي - صلى الله عليه وسلم - جميع الزعامات فيها، وتمكن منها كل التمكن، تقدم خطوة ثالثة فقام بمهمة التطبيق العملي في واقع مُهَيَّأ ملموس كان يعمل له من ذي قبل سنوات متعددة بالدعوة والتبليغ وبذا أقام - صلى الله عليه وسلم - أحكام الإِسلام وآدابه وسلوكياته مكان العادات والتقاليد الجاهلية الفاسدة، وبفضل هذا السعي الجدي الدائب للإصلاح الشامل ظل - صلى الله عليه وسلم - يطبق ¬

_ (¬1) انظر: مقالات إسلامية للعيثاوي ص 145، 261، طبع ونشر الدار العربية للطباعة ببغداد سنة 1398 هـ.

أحكام الشريعة الإِسلامية بكل اتزان وتناسب حتى إذا مرت على ذلك تسع سنوات تم فيها إلى جانب بناء الحياة الإِسلامية جانبًا آخر هو تنفيذ وتطبيق الشريعة الإِسلامية في جميع المجالات" (¬1). والآن: لسائل أن يقول: كيف الإنتقال من واقع باطل إلى تطبيق الشريعة الإِسلامية؟ وكيف يمكن توفير المناخ النفسي الصالح لذلك الإنتقال ليتعامل مع الواقع تعاملًا موضوعيًا ينتفي فيه التوتر والإضطراب اللذان قد يُحدثان الرفضَ المطلقَ للإستجابة لهذا العمل نتجية التغير الفجئي؟ نقول نعم: إن التغير المفاجيء يحدث في الجسم اضطرابًا قد تكون له آثار سيئة على صحة الجسم والتدرج من الداء إلى العافية في مراتب متعاقبة هو سنَّة الله في خلقه. لهذا نرى أن التغيير يستلزم العمل التمهيدي في جميع الجوانب حتى تتوفر عوامل النجاح لهذا التغيير ويتهيأ بعد ذلك الوسط المنشود الذي يكون صالحًا لتطبق فيه أحكام الشريعة الإِسلامية في جميع الأقطار الإِسلامية (¬2). ويكون ذلك بإيجاد خطة سليمة وبرنامج مدروس يحدد أهداف الشريعة ومقاصدها وأهمية العمل بها، وترجمة ذلك إلى واقع ملموس في حياة المسلمين. ويمكن جعل ذلك في أربعة مباحث: ¬

_ (¬1) انظر: نظرية الإِسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، لأبي الأعلى المودودي من ص 191 - 197، طبع مؤسسة الرسالة، لبنان، طبعة عام 1389 هـ، الدعوة الإِسلامية، الوسائل، الخطط، المداخل من ص 220 - 223 "بتصرف". (¬2) انظر: الدعوة الإِسلامية، الوسائل، الخطط، المداخل ص 222 "بتصرف".

المبحث الأول وجود الإيمان العميق والعقيدة الراسخة

المبحث الأول وجود الإيمان العميق والعقيدة الراسخة وهو أول السمات المميزة لطبيعة المجتمع المسلم واللبنة الأولى في بناء صرح الشريعة الإِسلامية. وقد مر بنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمضى ثلاثة عشرة سنة في مجال العقيدة ثم انتقل إلى ما هو فرع لها في السلوك العملي!! يقول أبو الحسن النَّدْوي -رَحِمَهُ اللهُ-: (أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بيت الدعوة والإصلاح من بابه ووضع على قفل الطبيعة البشرية مفتاحه، ذلك القفل المعقد الذي أعيا فتحه جميع المصلحين في عهد الفترة، وكل من حاول فتحه من بعده بغير مفتاحه، فدعا الناس إلى الإيمان بالله وحده ورفض الأوثان والعبادات والكفر بالطاغوت بكل معاني الكلمة وقام في القوم ينادي: "يا أيها الناس: قولوا لا إله إلَّا الله تُفلحوا!! "، ودعاهم إلى الإيمان برسالته، والإيمان بالآخرة) (¬1). ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك بدعًا من الرسل بل إن لب دعوات الرسل ¬

_ (¬1) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص 122 الطبعة الرابعة.

والأنبياء جميعًا تنطلق من هذه النقطة، والغاية الأولى التي أنزلت لها الكتب السماوية الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونبذ كل ما يعبد من دونه، ومحاربة الجاهلية بكل أشكالها وصورها وتقويم الفكر المنحرف والعقائد الزائفة. إذن فإنه قبل التفكير في إقامة مجتمع مسلم ينبغي أن يتجه الإهتمام أولًا: إلى أن يتمثل هذا المجتمع العبودية لله وحده في معتقدات أفراده وتصوراتهم كما يتمثلها في شعائرهم وعباداتهم كما تتمثل في نظامهم الجماعي وتشريعاتهم. وهذه هي نقطة البدء في محاولة بعث أمتنا الإِسلامية لتحكيم الشريعة الإِسلامية: عقيدة تملأ القلب وتفرض سلطانها على الضمير، عقيدة مقتضاها ألا يخضع الناس إلَّا لله، وألا يتلقوا الشرائع إلَّا منه دون سواه ... يقول صاحب "معالم في الطريق" تحت عنوان "لا إله إلَّا الله منهج حياة" ما يلي: (العبودية لله وحده هي شطر الركن الأول في العقيدة الإِسلامية المتمثل في شهادة: أن لا إله إلَّا الله. والتلقي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كيفية هذه العبودية. هو شطرها الثاني. المتمثل في شهادة أن محمدًا رسول الله والقلب المؤمن المسلم هو الذي يتمثل فيه هذه القاعدة بشطريها، لأن كل ما بعدهما من مقومات الإيمان وأركان الإِسلام إنما هو مقتضٍ لهما: "فالإيمان بملائكة الله وكتبه ورسله والهوم الآخر والقدر خيره وشره. وكذلك الصلاة والزكاة والصيام والحج. ثم الحدود والتعازير والحل والحرمة والمعاملات ... والتشريعات والتوجيهات الإِسلامية إنما تقوم كلها

على قاعدة العبودية لله وحده، كما أن المرجع فيها كلها هو ما بلّغه لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ربه. والمجتمع المسلم هو الذي تتمثل فيه تلك القاعدة ومقتضياتها جميعًا، لأنه بغير تمثل تلك القاعدة ومقتضياتها فيه لا يكون مسلمًا. ومن ثم تصبح شهادة أن لا إله إلَّا الله وأن محمد رسول الله قاعدة لمنهج كامل تقوم عليه حياة الأمة الإِسلامية بحذافيرها فلا تقوم هذه الحياة قبل أن تقوم هذه القاعدة كما أنها لا تكون حياة إسلامية إذا قامت على غير هذه القاعدة، أو قامت على قاعدة أخرى أو عدة قواعد أجنبية عنها، قال -تعالى-: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (¬1)، وقال -تعالى-: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬2) " (¬3). "على أن العقيدة ليست مفهومًا ذهنيًا تستوعبه الأذهان ثم يستقر فيها هناك. إنها على هذا النحو لا تصنع شيئًا في عالم الواقع ... كالفلسفة في الأبراج العاجية ... لا تغير شيئًا في واقع الناس!! إنما هي عقيدة ترسخ، وترسخ حتى تصبح يقينًا قلبيًا تنطلق على هداه مشاعر القلب ويجري بمتقضاه السلوك العملي للانسان ... وبهذه الصورة تعمل العقيدة في عالم الواقع ... تغير ... تهدم، وتبني ... تهدم الباطل وتبني مكانه الحق) (¬4). إن العقيدة التي تجمع المسلمين ولا تفرقهم وتوحدهم ولا تشتتهم هي ¬

_ (¬1) سورة يوسف: آية 40. (¬2) سورة النساء: آية 80. (¬3) معالم في الطريق للسيد قطب ص 113، طبع دار دمشق - لبنان. (¬4) واقعنا المعاصر، للشيخ محمد قطب ص 37.

عقيدة السلف التي جمع الرسول الصحابة عليها وعلمهم إياها والتي تقوم على الأسس السليمة والأصول المتينة التي لا يأباها عقل حصيف (¬1). فعلى كل مسلم يعيش في أرجاء المعمورة أن يفهم هذه العقيدة فهمًا كاملًا سليمًا حكيمًا، وبهذه نكون قد وضعنا اللبنة الأولى في بناء صرح الشريعة الإِسلامية الشامخ. • • • ¬

_ (¬1) خطوط رئيسية لبعث الأمة الإِسلامية. عبد الرحمن عبد الخالق ص 52. (بتصرف).

المبحث الثاني التدرج في الأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية

المبحث الثاني التدرج في الأخذ بأحكام الشريعة الإِسلامية (إن الطريق إلى الحق في مجال الأحكام الشرعية المتعلقة بالسلوك لا يكون بالغاء الواقع الجاهلي القائم على أساس الباطل وحذفه بصفة جمليَّة لتنزيل الحق منزلته، بل يكون بالانطلاق من ذلك الواقع إبقاءً على ما تبقى فيه من قِيَم الخير ورفعًا لما فيه من الفساد رفعًا تدريجيًا لتحل محله بالتدرج أيضًا صورة الحق في السلوك مراعاة لما ركب في "واقع الطبيعة الإجتماعية" من سنَّة التشبث بالموروث ومشقة الانقلاب الفوري من طور في السلوك إلى طور آخر مناقض له، وليس ما ورد في التشريع الإِسلامي من تنجيم في النزول ومن تدرج في بناء الأحكام إلَّا إرشادًا إلى هذه الطبيعة يتجاوز الحالة الخاصة المتمثلة في تحويل أهل الجاهلية من واقع جاهليتهم الباطلة إلى واقع الحقيقة الإِسلامية) (¬1). (إن الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإِسلامية يجب أن تكون جامعة بين تحريك الإيمان في النفوس وإثارة الشعور الديني وبين إكمال الوعي وتنميته ¬

_ (¬1) بتصرف من الدعوة الإِسلامية، الخطط، الوسائل، المداخل من ص 202: 223

وتربيته) (¬1)، ومعنى هذا: أن الكثير من متطلبات التغيير الذي يستلزمه الإصلاح يحتاج إلى استعداد نفسي كبير، فإذا فرض من غير طريق الإستعداد النفسي العميق لم يثمر الثمرة المرجوة ونذكر على سبيل المثال "قصة الخمر" وتحريمها في الإِسلام، فقد كانت شائعة في المجتمع الجاهلي شيوعًا كبيرًا وكانت الظاهرة البارزة المتداخلة في تقاليد هذا المجتمع فبماذا قاومها التشريع الإِسلامي؟ وماذا صنع ليقف في وجه هذه العادة القديمة التي تتعلق بها تقاليد اجتماعية كما تتعلق بها مصالح اقتصادية؟ لقد عالجها التشريع الإلهي ببضع آيات من القرآن الكريم وعلى مراحل وفي رفق وتؤدة دون حرب ودون إراقة دماء!! قال في الظلال: "عندما يتعلق الأمر أو النهي بقاعدة من قواعد التصور الإيماني أي بمسألة اعتقادية فإن الإِسلام يقضي فيها قضاءً حاسمًا منذ اللحظة الأولى، ولكن عندما يتعلق الأمر والنهي بعادة وتقليد أو بوضع اجتماعي معقد، فإن الإِسلام يتريث فيه ويأخذ المسألة باليسر والرفق والتدرج ويهيء الظروف الواقعية التي تيسر التنفيذ والطاعة، فعندما كانت المسألة مسألة التوحيد أو الشرك أمضى أمره منذ اللحظة الأولى في ضربة حازمة جازمة لا تردد فيها ولا تلفت ولا مجاملة فيها ولا مساومة ولا لقاء في منتصف الطريق، لأن المسألة هنا مسألة قاعدة أساسية للتصور لا يصلح بدونها إيمان ولا يقام إسلام {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} (¬2). ¬

_ (¬1) الدعوة الإِسلامية، الوسائل، الخطط المداخل ص 399، 400. (¬2) سورة البقرة: آية 217.

وكمسألة التوحيد والشرك فإنه يأمر بالأول أمرًا جازما ويندد بالثاني تنديدًا لا هوادة فيه {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} (¬1). فأما في الخمر والميسر فقد كان الأمر أمر عادة وإلف والعادة تحتاج إلى علاج، فبدأ بتحريك الوجدان الديني والمنطق التشريعي في نفوس المسلمين: قال -تعالى-: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)} (¬2). والنص يلمح إلى أن الرزق الحسن غير الخمر وأن الخمر ليس رزقًا حسنًا، وفي هذا توطئة لما جاء بعدُ من تحريمها ... ولكن عادة الشراب أو تقليد الشراب في مكة كان أعمق من أن تؤثر فيه هذه اللمسة السريعة البعيدة. وقامت للإسلام دولة في المدينة وكان له سلطان لم يلجأ إلى تحريم الخمر بقوة الدولة وسيف السلطان ولكن بدأ المنهج عمله في رفق وفي يسر ولين: بدأ بآية البقرة ردًا على أسئلة تنبيء عن يقظة الضمير المسلم ضد الخمر والميسر {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (¬3) الآية. إجابة عن سؤال عمر بن الخطاب ومعاذ ونفر من الصحابة حين قالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مُذهِبة للعقل مُسلِبة للمال؟ فنزل قوله -تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 72. (¬2) سورة النحل: آية 67. (¬3) سورة البقرة: آية 219.

لِلنَّاسِ} فشربها قوم وتركها آخرون "ثم دعا عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أناسًا منهم فشربوا وسكروا فقام بعضهم يصلي، فقرأ: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون، فنزلت {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فقَلَّ من شربها ... ثم حدثت أحداث أخرى: واجتمع قوم من الأنصار ومنهم سعد بن أبي وقاص، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا الأشعار حتى أنشد سعد شعرًا فيه هجاء للأنصار، فضربه أنصاري بلحي بعير فشجه شجة موضحة، فشكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر - رضي الله عنه -: اللهم بيِّن لما في الخمر بيانًا شافيًا، فنزل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} (¬1)، فقال عمر - رضي الله عنه - انتهينا يارب (¬2)!!. قال القفال -رَحِمَهُ اللهُ-: "والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أن الله -تعالى- علم أن القوم قد كانوا ألفوا شرب الخمر وكان انتفاعهم بذلك كثيرًا فعلم أن لو منعهم دفعة واحدة لشق ذلك عليهم فلا جرم أن استعمل في التحريم هذا التدريج وهذا الرفق" (¬3). ويحضرني هنا مثل من سيرة الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين المهديين المقتدى بهم "فقد أراد عمر أن يعود بالحياة إلى هدي الخلفاء الأربعة وذلك بعد أن يتمكن ويمسك الخيوط في يديه، ولكن كان ابنه الشاب الغيور عبد الملك من الأتقياء المتحمسين وهذا هو ينكر ¬

_ (¬1) سورة المائدة: الآيتان 90، 91. (¬2) انظر: في ظلال القرآن الكريم لسيد قطب 1/ 229، 2/ 974، 975، 4/ 2181. (¬3) انظر: الخمر وسائر المسكرات، تحريمها وأضرارها، تأليف أحمد بن حجر آل بوطامي البنعلي ص 34 طبعة رابعة 1397 هـ 1987 م - الدوحة، قطر.

على أبيه عدم إسراعه في إزالة بقايا الإنحراف والمظالم والتعفية على آثارها وَرَدِّ الناس إلى سنن الراشدين فقال عبد الملك لأبيه يومًا: مالك يا أبت لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق!! فكان جواب الأب الفقيه المؤمن: لا تعجل يا بني فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة. وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدعوه جملة فيكون من ذا فتنة" (¬1). "ومن هنا كان لزاما على الذين يدعون إلى استئناف الحياة الإِسلامية وإقامة دولة الإِسلام في الأرض أن يرعوا سنَّة التدرج في تحقيق ما يريدون من أهداف آخذين في الإعتبار سمو الهدف ومبلغ الإمكانات وكثرة المعوقات (¬2)، ولابد أن يأخذوا أسوة العهد النبوي الزاهر ويسيروا بطريق متزن ويدركوا طبيعة هذا الدين ومنهجه في الحركة على النحو الذي بيناه. فيجب أن تخلص القلوب أولًا لله وتعلن عبوديتها له وحده بقبول شرعه وحده ورفض كل ما سواه. ثم بعد أن تتقرر "عقيدة التوحيد" على مهل وفي عمق وتثبت وبعد أن تتمثلها نفوس حية وضمائر حية متكيفة بها ومتفاعلة معها ومستجيبة لها ... ثم يأتي بعد ذلك التدرج في الخطوات وإعطاء كل خطوة ما تستحقها من العناية والدراسة وسنفصل ذلك قريبًا إن شاء الله -تعالى- (¬3). ¬

_ (¬1) الموافقات في أصول الأحكام للشاطبي 2/ 66 مطابع المدني بالقاهرة. (¬2) الصحوة الإِسلامية د. يوسف القرضاوي ص 105. (¬3) انظر ص 315: 344.

المبحث الثالث الثبات والصبر والتأني وعدم اليأس والقنوط

المبحث الثالث الثبات والصبر والتأني وعدم اليأس والقنوط إن الدعوة إلى تطبيق أحكام الشريعة الإِسلامية تحتاج إلى الصبر والتأني وعدم التسرع وتعجل الثمار والثبات والتوكل وعدم اليأس والقنوط: وأعود فأذكر القارئ بما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم صاح بعقيدة التوحيد: كانت مئات الأصنام صفوفًا داخل الكعبة وحولها، وقد ظل ثلاثًا وعشرين سنة يدعو؛ تدري متى هدم هذا الأصنام؟ في السنة الحادية والعشرين من بدء الدعوة!!. إنه ما ذكر - عليه الصلاة والسلام - حتى في عمرة القضاء أن يمس منها وثنًا -أي قبل فتح مكة بسنة- أما نحن فيريد معظمنا إن لم نكن كلنا - الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإِسلامية في الصباح وشن حملة على من لم يحكم بها في المساء!! والنتيجة التي لا محيص عنها مصارع متتابعة ومتاعب متلاحقة ونزق يحمل الإِسلام مغارمه دون جدوى!!. يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ-: " ... كثير من الناس إذا رأى المنكر أو تغيُّرَ كثيرٍ من أحوال الإِسلام جزع وَكَلَّ ناح كما كما ينوح أهل المصائب وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإِسلام وأن يؤمن بالله مع الذين

اتقوا والذين هم محسنون وأن يؤمن بأن العاقبة للتقوى، كما قال رب العزة -جلا وعلا - {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} (¬1) (¬2). إن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها ... وقد تدفعها القسوة والشدة أحيانًا إلى المكابرة والإصرار والنفور فتأخذها العزة بالإثم والتمادي في الذنب، فيجب بذل النصح وإسداء المعروف بأسلوب مؤثر يفتح القلوب ويشرح الصدور والدعوة إلى إدراك حقيقة الإِسلام بالتفقه والتعلم ومعرفة أصول الإِسلام وأحكامه وحلاله وحرامه وفهم خصائصه واستيعاب مراميه: روى البخاري في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها - قالت: " ... إنما نزل أول ما نزل منه (¬3) سورة من المُفصَّل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإِسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا لا ناع الخمر أبدًا ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا ... " الحديث (¬4). فيجب مراعاة سنن الله الكونية والشرعية في التدرج والصبر على الأشياء حتى تنضج وتبلغ مداها ذلك أن العجلة التي هي طبيعة الإنسان عامة والشباب خاصة والسرعة التي هي من طبيعة هذا العصر تجعل الكثيرين ممن يتحمسون لدينهم يريدون أن يغرسوا اليوم ليجنوا الثمرة في الغد، أو يزرعوا في الصباح ليحصدوا في المساء ذاهلين سنَّة الله في خلقه: ¬

_ (¬1) سورة النحل: آية 128. (¬2) فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية 18/ 297. (¬3) أي من القرآن الكريم. (¬4) انظر: صحيح البخاري 6/ 101 - باب 6 من كتاب فضائل القرآن.

فالنواة لا تصبح شجرة مثمرة إلَّا بعد مراحل تقصر أو تطول حسب نوعها وتربتها ومناخها وظروف نمائها إلى أن تؤتي أكلها بإذن ربها!! وهكذا وهكذا ... إلخ، تتدرج الحياة في كل صورها من مرحلة إلى مرحلة حتى تكتمل سنَّة الله في خلقه، وكذلك بدأ ديننا أول ما بدأ: عقيدة سهلة، ثم أنزل الله التكاليف شيئًا فشيئًا وفرض الفرائض وحرم المحرمات، وفصل الشرائع بالتدرج حتى كمل البناء وتمت النعمة، ونزل قوله -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬1). "ولئن كان التيسير والرفق واللين مطلوبًا في كل زمن فإنه في زماننا ألزم وأكثر تطلبًا نظرًا لما نراه ونلمسه من رقة الدين وضعف اليقين وغلبة الحياة المادية على الناس، وعموم البلوى بكثير من المنكرات حتى أصبحت كأنها القاعدة في الحياة!! وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر وكل هذا يقتضي الرفق واللين، واتباع المنهج الذي رسمه القرآن الكريم في الدعوة إلى سبيل الله وجدال المخالفين وهو ما جاء في خواتيم سورة النحل خطابًا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكي نهتدي بهديه من بعده (¬2): {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 3. بتصرف من الصحوة الإِسلامية للقرضاوي ص 104، 105. (¬2) انظر: الصحوة الإِسلامية بين الجحود والتطرف، ليوسف القرضاوي 212، 213، 214. (¬3) سورة النحل: آية 125.

يقول الإمام الغزالي في الإحياء: "لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلَّا رفيق فيما يأمر به رفيق فيما ينهى عنه حليم فيما يأمر به حليم فيما ينهى عنه. فقيه فيما يأمر به فقيه فيما ينهى عنه"، ومما ذكره هنا -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "أن رجلًا دخل على المأمون الخليفة العباسي فأغلظ له القول وقسا في التعبير، ولم يراع أن لكل مقام مقالًا يناسبه وكان المأمون -رحمه الله- ذا فقه فقال له يا هذا أرفق فإن الله -تعالى- بعث من هو خير منك إلى من هو أشر مني وأمره بالرفق بعث موسى وهارون وهما خير منك إلى فرعون وهو شر مني، وأوصاهما بقوله: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} (¬1) " (¬2). ومن تأمل حوار موسى مع فرعون في القرآن الكريم يجده قد وعى وصية الله له ونفذها بكل دقة برغم جبروت فرعون واستعلائه، وتهجمه واتهامه وتهديده!! يوضح ذلك ابن قيم الجوزية -رَحِمَهُ اللهُ- في بدائعه إذ يقول: "أمر الله أكرم خلقه عليه -يقصد موسى - عليه السلام - بمخاطبة رئيس القبط بالخطاب اللين -يقصد فرعون مصر- فمخاطبة الرؤساء بالقول اللين أمر مطلوب شرعًا وعقلًا وعرفًا، ولذلك تجد الناس كالمفطورين عليه. وهكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاطب رؤساء العشائر والقبائل ... وتأمل امتثال موسى - عليه السلام - لما أمر به كيف قال لفرعون {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) ¬

_ (¬1) سورة طه: آيتان 43، 44. (¬2) إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي 2/ 328، 329، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر 1358 هـ 1939 م.

وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)} (¬1) فأخرج الكلام معه مخرج السؤال والعرض لا مخرج الأمر وقال: {إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18)} ولم يقل إلى أن أزكيك فنسب الفعل إليه هو وذكر لفظ التزكي دون غيره لما فيه من البركة والخير والنماء. ثم قال: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} أكون كالدليل بين يديك الذي يسير أمامك ... وقال {إِلَى رَبِّكَ} استدعاء لإيمانه بربه الذي خلقه ورزقه ورباه بنعمه صغيرًا ويافعًا وكبيرًا ... ونظير ذلك قول نوح لقومه {يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (¬2). وكذلك سائر خطاب الأنبياء لأممهم في القرآن الكريم إذا تأملته وجدته ألين خطاب وألطفه بل خطاب الله لعباده ألطف خطاب وألينه كقوله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (¬3) الآية وغيرها من الآيات الكثيرة الدالة على ذلك" (¬4). وأحسب أن في هذا القدر من النصوص ما يكفي لإقناع بعض الذين يعملون للإسلام ولكن يخلطون بين الصراحة في الحق والخشونة في الأسلوب مع أنه لا تلازم بينهما والداعية الحكيم هو الذي يوصل الدعوة إلى غيره، بألين الطرق وأرق العبارات دون إفراط أو تفريط. • • • ¬

_ (¬1) سورة النازعات: آيتان 18، 19. (¬2) سورة نوح: آيات 2، 3، 4. (¬3) سورة البقرة: آية 21. (¬4) بدائع الفوائد لإبن قيم الجوزية 4/ 164، 165، 166.

المبحث الرابع كيفية تطبيق الأحكام الشرعية وتنفيذها عمليا

المبحث الرابع كيفية تطبيق الأحكام الشرعية وتنفيذها عمليًا تمهيد: مما لا يشك فيه عاقل بأن أحكام الشريعة الإِسلامية لا يمكن أن تطبق بين عشية وضحاها في البلاد الإِسلامية, ولا يعقل أن يكون ذلك موكولًا إلى الصدفة، وأن يتم ذلك بالحديد والنار, أو أن نتطلع بشوق إلى تغيير الواقع دون أن يخطر في بالنا أن ذلك لن يتم إلَّا إذا سرنا بطريق متزن وخطوات عملية مدروسة ووفق خطة مرسومة تعتبر من أكبر مهمات الفكر الواقعي، وعمل متواصل في سبيل الوصول إلى الغاية وامتحان وابتلاء لا يصبر عليهما إلَّا الصادقون!! ولكن ماذا يلزم عمليًا لتحقيق هذا الهدف. وما الطريق إلى ذلك؟ فنقول: إنه من خلال عملية سبر كاملة لأوضاع العالم ككل ولأوضاع العالم الإِسلامي خاصة، ومن خلال عملية تقييم شاملة، فإنه يمكن أن تقسم الحكومات إلى ثلاث (¬1) يمكن جعلها في ثلاثة مطالب: ¬

_ (¬1) انظر: دروس في العمل الإِسلامي سعيد حوى ص 72، "مع اختلاف يسير في التقسيم".

الأول: الحكومة الأولى: حكومة إسلامية تدين بالإسلام وتطبق شريعة الإِسلام. الثاني: الحكومة الثانية: حكومة منحرفة في أمة مسلمة. الثالث: الحكومة الثالثة: أقليات إسلامية في أمة كافرة.

المطلب الأول حكومة إسلامية تدين بالإسلام وتطبق شريعة الإسلام

المطلب الأول حكومة إسلامية تدين بالإسلام وتطبق شريعة الإِسلام وهذه الحكومة: حكومة عادلة: يعترف من بيده السلطان فيها لله بالحاكمية ويدين له بالطاعة وأجهزتها يتولاها المسلمون الحقيقيون. مناهجها إسلامية منبثقة عن إرادة المسلمين، وتطلعاتها وآمالها منسجمة مع الإِسلام وخاضعة لحكم الله في أي قضية من القضايا. وهذه الحكومة المسلمة شريعتها شريعة الله وسنتها سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تعمل لتوحيد أمة الإِسلام وتعبيء نفسها تعبئة جهادية للقيام بما تقدر عليه من أمر الجهاد لتوحيد المسلمين وجمع كلمتهم وهذه الحكومة علامتها في كتاب الله -تعالى- ما ذكره الله بقوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} (¬1). وحكومة كهذه مدعوة إلى أن تثبت وجودها في كل ميدان من ميادين التشريع الإِسلامي، كما أن عليها دولة وشعبًا وحكومة يقع واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتكشف الفضيلة وتدعو إليها وتحمل عليها ¬

_ (¬1) سورة الحج: آية 40، 41.

وتعمل بها، وتستنكر الرذيلة وما يحرض عليها وما يغري بها ولابد أن تتجنب المفاسد التي تنخر في عظامها فتنشر الأثرة في كيانها وتثير الشهوات في أركانها وعلى كل مسلم يعيش في كنف مثل هذه الحكومة أن يوجد لديه الإحساس والشعور بالمسؤولية قال عمر بن عبد العزيز في تفسير قوله -تعالى-: {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ...} الآية. قال -رضي الله عنه-: "ألا إنها ليست على الوالي وحده ولكنها على الوالي والمُوَلَّى عليه. ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذلكم وبما للوالي عليكم منه، إن لكم على الوالي من ذلكم أن يأخذكم بحقوق الله عليكم، وأن يأخذ لبعضكم من بعض وأن يهديكم للتي هي أحسن وأقوم ما استطاع وأن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ولا المستكره بها ولا المخالف سرها علانيتها" (¬1). إن بلدًا قد أنعم الله على أهله بالأمن والإستقرار وامتن عليهم فجعلهم درة ناصعة في جبين العالم بما حباهم به من تطبيق لشرعه في عالم سادته الجاهليات بكل أشكالها وجميع صورها؛ لجدير بأن يحرص كل فرد فيه "حاكمًا أو محكومًا" على هذه المكاسب ويحافظ عليها بكل ما أوتي من وسيلة، فإذا ما دب في ربوعه داء أو ظهر بين أهله وباء يهدد أخلاقهم ويقوض بنيانهم، فإن محاربته بكل قوة وحزم وعزم واجتذاذه من جذوره واجب شرعي لا يجوز القعود عنه والتهاون فيه. روى مسلم في صحيحه عن تميم الداري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدين النصيحة"، قلنا لمن؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: دروس في العمل الإِسلامي سعيد الحوى 72، 73. (¬2) صحيح مسلم 1/ 74 كتاب الإيمان باب 23.

المطلب الثاني حكومة منحرفة في أمة مسلمة تحكم بغير شريعة الإسلام وتطبق القوانين الوضعية

المطلب الثاني حكومة منحرفة في أُمة مسلمة تحكم بغير شريعة الإِسلام وتطبق القوانين الوضعية ويلزم لتطبيق الشريعة الإِسلامية في مثل هذه الدولة اتخاذ الخطوات التالية: أولًا: انتقال زمام أمر هذه الدولة من أيدي حكام وزعماء مردوا على تحكيم القوانين الوضعية، والتحم بأرواحهم ودمائهم حب موالاة أعداء الله إلى أيدي رجال مصلحين تتوافر فيهم الشروط التي سبق ذكرها (¬1). ثانيًا: على الهيئات العلمية في مثل هذه الدول أن تعمل على تحرير التعليم في كل مراحله من آثار التبعية الفكرية والثقافية وذلك بتكوين هيئات ومراكز بحث وتخطيط يكون عملها: 1 - إعادة صياغة المناهج وتطويرها بما يخدم تطبيق الشريعة الإِسلامية ويكفل لها البعد عن العلمانية والإلحاد. 2 - إصدار دوائر معارف وموسوعات علمية إسلامية في مختلف فروع المعرفة لتغني الدارسين والباحثين عن مؤلفات أعداء الإِسلام. ¬

_ (¬1) انظر: ص 24: 37.

3 - حث الدولة والهيئات والمؤسسات الإِسلامية للعمل على تعميق الدراسات والموسوعات القرآنية وتيسير حفظ القرآن الكريم وفهمه والعمل به. ثالثًا: العمل على عدم السماح للخلافات الداخلية: "الدينية أو السياسية أو غيرها بأن تكون مبررًا لمحاربة الفكر الإِسلامي ووحدته بما يتيح لوسائل الغزو الفكري المعادي للإسلام أن تسيطر على وسائل النشر والتوجيه بما يمزق كيان الأمة الإِسلامية" (¬1). رابعًا: وجوب التحلي بالأخلاق والفضائل والآداب الإِسلامية والظهور بالمظهر الإِسلامي اللائق وتسخير كل وسائل الإعلام من صحافة ومذياع مسموع ومرئي لتحقيق هذه الغاية النبيلة. خامسًا: فتح النقاش وإفساح المجال للعاملين لتحكيم شريعة الإِسلام وإقامة دولته ونصرة قضاياه وتجميع الناس عليه ويكون بتحاشي أساليب العنف والتعذيب والتصفية الجسدية ووضع الكمائم على أفواه دعاة الإِسلام. سادسًا: إيجاد العدد الكافي من الدعاة المتمسكين مع تدريبهم تدريبًا عمليًا لنشر دعوة الإِسلام وهذا يستلزم إنشاء وتطوير معاهد متخصصة يقوم عليها رجال متمرسون ملتزمون قادرون على إعطاء المعرفة اللازمة والفكر الإِسلامي المتجدد. ومن الممكن تقسيم هؤلاء إلى ثلاث مجموعات تنظيمية: ¬

_ (¬1) وسائل مقاومة الغزو الفكري للعالم الإِسلامي، ص 72.

* المجموعة الأولى: الإداريون: ومهمتهم وضع البرامج والإشراف على تطبيق المخططات وإعادة النظر فيها تعديلًا وتقويمًا. * المجموعة الثانية: الدعاة: الذين ينقلون المعرفة الإِسلامية إلى الناس ويبصرونهم بأحكام دينهم في العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والجنايات وغير ذلك من أحكام الإِسلام وآدابه ويجادلونهم بالحكمة والموعظة الحسنة حتى ينتقلوا بهم إلى مرحلة التطبيق العملي والإلتزام بأحكام الشريعة الإِسلامية في سائر المجالات. ولكن من هم الدعاة الذين تقع على عاتقهم هذه المسؤولية الضخمة والذين هم قادرون حقيقة على تكوين وعي إسلامي رشيد؟ أهم الدعاة الذين يمالئون الحاكم رغم علمهم بأنه لا يحكم بما أنزل الله؟ أم هم الدعاة الذين قل زادهم من اليقين والتقوى ونضبت ثروتهم من العلم والفقه وباتوا لا يعرفون من إسلامهم إلَّا ما يعرفه الدراويش ومحترفي التدين؟ كلَّا كلَّا. "إننا لا نستطيع بتة أن نعد في الدعاة إلى الله رجلًا قليل البضاعة في التاريخ السياسي للإسلام أو التاريخ التشريعي له، أو رجلًا لا يدري إلَّا النزر اليسير عن خصائص الإِسلام، لأن وعيه غامض في القرآن الكريم كل

ما يعرف بضعة أحاديث إن صح سندها فهو لا يدري كيف يضعها مواضعها لا نستطيع أن ننظم في سلك الدعاة أمرءًا لا يعرف عن العالم المعاصر شيئًا ولا عن الفلسفات التي تحكمه ولا أسرار رجحان الإِسلام عليها شيئًا" (¬1). نعم: "إن الإِسلام اليوم أحوج ما يكون إلى دعاة يدركون جيدًا واجبهم في هداية الناس فلا يمالقون ولا يداهنون على حساب دعوتهم، ولا يصانعون على حساب الحق الذي أمروا أن يصدعوا به بما يغض من كرامتهم ويحط من قدرهم. إن الإِسلام اليوم أحوج ما يكون إلى دعاة يتحلون بالصبر ويتصفون بالشجاعة يجمعون القلوب ويقررون أمر العقيدة السليمة ويغرسون المباديء الصحيحة في قلوب المسلمين بالتؤدة والأناة والحكمة والقوة، يعاشرون الناس على بصيرة من أمرهم إن رأوهم على الصواب تعاونوا معهم وإن رأوهم مخطئين جابهوهم بآراء حرة وأفكار صريحة وحقائق واضحة تكشف لهم عن خطئهم لا يخشون في الله لومة لائم ولا يحسبون لرضا "الناس" وبغضهم حسابًا ولا وزنًا!!. إن الإِسلام اليوم أحوج ما يكون إلى دعاة وطنوا أنفسهم على مواجهة العواصف العاتية بقلوب لا تعلق بها ريبة وعقول لا تطيش بها كربة يواجهون الأعباء مهما ثقلت وينتظرون النتائج مهما بعدت يجاهرون بالنصيحة ويطلبون الإصلاح -يواجهون الناس بقلب مفتوح ومبادئ معروفة لا يستعبدهم العرف الغالب ولا تتحكم فيهم التقاليد السائدة ولو أدى إلى ¬

_ (¬1) مشكلات في طريق الحياة الإِسلامية للغزالي ص 83.

تصحيحها أن يبذلوا فيها أنفسهم ويضحوا فيها بأرواحهم ما داموا واثقين فيما يرون أنه الحق" (¬1). وتلك سمة الدعوات العامة المخلصة التي تقتبس النور من مشكاة النبوة وتسير على نهجها إنها تجس نبض المجتمع جسًا صحيحًا أمينًا وتهتدي إلى الداء الحقيقي ومواضع الضعف في جسم هذا المجتمع وتضع إصبعها عليه وتضرب على الوتر الحساس من غير محاباة أو مداهنة ولا تكترث بألم هذا المجتمع أو ملامه. كما فعل شعيب - عليه السلام - في دعوته فبعد أن دعا إلى التوحيد وجه الدعوة إلى إيفاء الكيل والوزن بالقسطاس المستقيم وشنع على التطفيف إذ كان ذلك عيب المجتمع الذي بعث فيه وسمته البارزة وكذلك فعل غيره من الأنبياء. وهذه أيضًا كانت سنة الدعاة إلى الله من المخلصين الربانيين في تاريخ الإِسلام، إذ كانوا ينتقدون المجتمع في الصميم ويصيبون المحز ولذلك كان وقع كلامهم في النفوس عظيمًا وعميقًا وما كان يسع المجتمع أن يتغافل عنهم أو يمر بهم مرًا سريعًا، فهذا مثلًا: الحسن البصري في مواعظه كان يشير في مواعظه إلى النفات الذي كان داء المجتمع الإِسلامي وهو في أوج مجده ورخائه ويذم حب الدنيا وطول الأمل. وهذا كان شأن ابن الجوزي أيضًا في مواعظه الساخرة ومجالسه المزحومة فإنه كان يشنع على الحياة اللاهية الماجنة التي كان يحياها كثير ¬

_ (¬1) انظر الداعية بين المنهج والوسائل د. صالح الغانم السدلان ص 20، 21 مجلة الدعوة العدد 1190 بتاريخ 29/ 9/ 1409 هـ.

من الناس في بغداد وعلى الذنوب والمعاصي التي كانت ترتكب جهارًا والمنكرات التي شاعت فكان مئات بل وآلاف من الناس يتوبون ويقلعون عن الذنوب وكان نشيج يعلو وقلوب ترق وعيون تدمع لأنه كان يمس القلوب ويصور الواقع ولا يكتفي بالكلام العام والوعظ التقليدي ومن يطلع على كتبه كصيد الخاطر وغيره يجد دليلًا على هذا" (¬1). "فعلى الدعاة إلى الله أن يعرضوا على الناس أولًا مبادئ الدين الأساسية ثم يدعوهم إلى مطالبه ومقتضياته ولوازمه وشيئًا فشيئًا وألا يقدموا الفروع على الأصول والأحكام الجزئية على القواعد الشاملة وأن لا يضيعوا أوقاتهم في تهذيب المفاسد الظاهرة قبل أن يعالجوا المفاسد الأساسية وأن لا يقابلوا الواقعين في الغفلة والضلال بالازدراء والكراهية والإحتقار بل عليهم أن يوجهوا أفكارهم إلى علاجهم ومواساتهم وبذل النصيحة لهم بمثل ما يعامل به الطبيب مريضه" (¬2). (والواجب على من ندب نفسه للدعوة إلى الله أن يبين للناس حقيقة شريعة الله ويفصل لهم بالبرهان من كتاب الله وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- ما أحله الله وما حرمه وما أباحه وما ألزمنا الله -تعالى- به من شرائع لم يجعل لأولي الأمر أو لغيرهم حقًا في تبديلها أو تغييرها وحدود ما أباح الله لأولي الأمر أو لغيرهم تنظيمه بالقوانين والقرارات واللوائح فضلًا عن أن يبين لهم الشروط الواجب توافرها فيمن يعتبر ولي أمر يتعين ¬

_ (¬1) انظر الرسل والرسالات، للأشقر ص 51 والدعوة الإِسلامية: الوسائل، الخطط المداخل من ص 411 - 413. (¬2) أبو الأعلى المودودي: تذكرة دعاة الإِسلام ص 25 وما بعدها.

طاعته فيما أنزل الله بطاعته فيه) (¬1). * المجموعة الثالثة: الباحثون: الذين يعملون على توسيع آفاق المعرفة في مجال تطبيق الشريعة الإِسلامية وذلك بإبراز مزايا ومحاسن الشريعة الإِسلامية وصلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان ويتمثل عمل هؤلاء في ما يلي: إنشاء مراكز ومنابر لها سلطة التأثير على فكر الأمة وتوجيهها وذلك كمراكز المبحث العلمي والمجامع الفقهية والمؤتمرات والندوات والإصدارات المتخصصة ولضمان نجاح مهمة هؤلاء لابد من توفر ثلاث ركائز مهمة: 1 - النواحي المالية: بتوفير موارد ثابتة لتمويل نشاطها وبرامجها. 2 - توفير الحماية التامة من الدولة. 3 - التمكين من إقامة مثل هذه المراكز والمنابر. سابعًا: يجب على الداعين لتطبيق الشريعة الإِسلامية والمنادين بتحكيمها أن تكون دعوتهم واضحة لا غموض فيها، محددة المفاهيم والضوابط بمعنى أن تطبق الشريعة الإِسلامية كما جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - وكما طبقها هو وأصحابه من بعده رضوان الله عليهم واقعًا عمليًا في الحياة بمفهومها الشامل الواسع. والحذر الحذر من أخذ بعض أحكام الله دون بعض، فالإسلام كل متكامل لا يقبل التجزئة فإما أن يؤخذ كله أو يترك كله وقصره على جانب ¬

_ (¬1) دعاة لا قضاة ص 80، ط. دار الطباعة والنشر الإِسلامية بالقاهرة، 1397 هـ - 1977 م.

دون جانب تحكم بلا دليل بل تنقضه أصول الشريعة ومصادرها: يقول -تعالى- مقرعًا بني إسرائيل على ذلك أشد التقريع حيث نفذوا بعض شرائع كتبهم وتركوا بعضها فقال -تعالى-: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} (¬1). وبناء على هذا يجب أن تُرفض جميع الحلول الجزئية وتُستبعد جميع الإستخدامات الشائعة الآن لكلمة تطبيق الشريعة الإِسلامية من أنها تعني تلك الأحكام الفقهية المتعلقة بالمعاملات والعقوبات فقط منفصلة عن جوانب الحياة الإنسانية الأخرى، فتلك نظرة قاصرة خاطئة ... يقول الشيخ محمد الغزالي -رَحِمَهُ اللهُ-: (إن جهودًا كثيرة تبذل الآن لترضية المسلمين بإسلام آخر غير الذي تلقوه عن نبيهم وعرفوه من كتابهم. إسلام منقوص الحقيقة والأطراف منقوص العرى والوشائج. ينكر عليه المنكرون أن يتدخل في شؤون التشريع أو يبت في قضايا المجتمع أو يقدم الولاء له على الولاء للعنصر أو التراب، أو يضع قواعد التربية مقرونة بشعائره وعبادته، أو يحذف من السلوك العام ما يخدش قيمة ويمس مثله الرفيعة أو يلزم الأفراد بفوائضه اليومية والسنوية) (¬2). (لا ريب أن قطع يد السارق وجلد الزاني أو رجمه وجلد السِّكِّرين والقصاص من القتلة وعدم التعامل بالربا والأخذ بأحكام الإِسلام في سائر المعاملات لا ريب أنه جزء أصيل من الشريعة الإِسلامية لابد منه ولا غنى عنه يكفر من جحده ويفسق من أهمله ولكنه مع ذلك ليس كل الشريعة ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 85. (¬2) دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، للغزالي ص 19، طبع دار الأنصار بمصر.

الإِسلامية ... إنه لابد من أخذ الإِسلام كله بعقائده وتصوراته وشعائره وعباداته وأفكاره ومشاعره وأخلاقه وفضائله وآدابه وتقاليده ونظمه وتشريعاته وأن يكون الإِسلام هو الموجه والقائد للمجتمع في كل الميادين وجميع المجالات مادية ومعنوية) (¬1). ولكي يتحقق ذلك لابد من إلقاء الضوء على ما ينبغي عمله في شتى المجالات ليتم تطبيق الشريعة الإِسلامية بصورة صحيحة وفعلية: أولًا - في المجال الروحي والأخلاقي: 1 - "لابد من العودة بالعقيدة إلى المنابع الصافية من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بعيدًا عن غلو الغالين وانتحال المبطلين وتحريف المحرفين. 2 - تثبيت القيم الأخلاقية الأصيلة على هدى من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتطهير المجتمع من الرذائل المتوارثة والدخيلة من المادية والأنانية واتباع الشهوات والميوعة والتحلل وغير ذلك من أخلاق الضعف والسلبية والإنحلال. 3 - المحافظة على شعائر الإِسلام وخاصة عباداته الكبرى وأركانه العملية التي بني عليها هذا الدين من الصلاة والزكاة والصيام والحج وتربية جميع فئات المجتمع على احترامها وتوقيرها: فتجب العناية بالصلاة واتخاذ المساجد والمصليات في الدواوين والمصالح الحكومية والمؤسسات والشركات وكل مجمع للناس كالموانئ والمطارات ومحطات السكك الحديدية ومواقف السيارات العامة ونحوها. ¬

_ (¬1) الحل الإِسلامي فريضة وضرورة، ليوسف القرضاوي ص 37.

4 - مقاومة البدع والأباطيل سواء في مجال العقائد أم العبادات أم التقاليد أم غير ذلك من كل ما يتصل بالفكر أو بالسلوك على وجه عام" (¬1). ثانيًا - في مجال السياسة: يجب أن يكون للدولة دستور مكتوب تلتزم به وتسير علي ضوئه ويكون حاكمًا على القوانين والنظم الفرعية ولذا ينبغي تجنيد الكفاءات الإِسلامية: "الفقهية والسياسية الأمينة المخلصة لتقوم بوضع دستور إسلامي يحدد النظام العام الذي تسير عليه الدولة والمصدر الذي تستمد منه شرعيتها ومصادر أنظمتها كما يحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم ويحدد الحقوق والواجبات للمواطنين في الدولة المسلمة" (¬2). ثالثًا - وفي مجال التنظيم والتشريع: يجب أن ينص في الدستور على أن الشريعة الإِسلامية هي المصدر الرئيسي الوحيد للنظم والمبادئ وأن الدولة الإِسلامية مهمتها التطبيق والتنفيذ لا التشريع والتنفيذ كما يجب إعادة البناء التشريعي من جديد مراعيًا الأمور الآتية: 1 - حرص الدولة بسلطاتها الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية على العمل بأحكام الشريعة الغراء وعدم الخروج عليها (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: الحل الإِسلامي فريضة وضرورة، ليوسف القرضاوي من ص 380 - 410. (¬2) انظر: المرجع السابق ص 60. (¬3) انظر: كيفية الوصول إلى تطبيق عادل لأحكام الشريعة الإِسلامية ص 36، 37، مقال الأستاذ حسن عبد الغني يوسف في مجلة الوعي الإِسلامي، العدد 166، شوال 1398 هـ - القاهرة ج. م. ع.

- فالسلطة التشريعية: يمثلها هيئة من الفقهاء المتضلعين في علوم الشريعة وأدلتها ومقاصدها ومهمة هؤلاء مراعاة تطبيق الشريعة الإِسلامية في جميع شؤون الحياة ومعالجة القضايا التي تستجد على ضوء الشريعة الإِسلامية. - والسلطة التنفيذية: "يمثلها الحاكم ونوابه وأجهزة الدولة الأخرى من وزارات وشرطة وغيرها" عليها تحاشي تعطيل أحكام القضاء وإلَّا اختل ميزان العدالة وتحطمت صخرة التطبيق الكامل لأحكام الشريعة الغراء وعليها أيضًا تهيئة كل الوسائل التي تؤدي إلى إقامة المجتمع المسلم الذي يطبق الإِسلام بنصه وروحه (¬1). - والسلطة القضائية: يمثلها القضاء بقضاته وأعوانهم وأجهزة القضاء الأخرى وهذه السلطة مهمتها: "حماية العدل وإقرار الإنصاف والتزام المساواة المطلقة بين الناس ونصرة المظلوم وقمع الظالم وقطع الخصومات ورد الحقوق إلى مستحقيها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والضرب على أيدي العابثين وأهل الفساد كي يسود النظام ويعم الأمن والأمان ولن يتحقق ذلك إلَّا إذا تمسك القضاة بالعقيدة الإِسلامية والأخلاق النبوية ظاهرين على الحق بميزان العدل بأيد لا ترتجف وقلوب تحركها خشية الله ونفوس تستشعر خطر الأمانة وعظم المسؤولية لا ترهب الملوك والرؤساء ولا تنحاز إلى الأحزاب والعشائر والقبائل" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: الفصل السادس ص 227: 290 من هذا الكتاب. (¬2) نظام القضاء في الإِسلام ص 225، إشراف وطبع ونشر جامعة الإمام.

ولكي يتحقق هذا: "لابد أن تكون الشريعة الإِسلامية هي المصدر الفذ لجميع الأحكام في كافة جوانب الحياة بمصادرها الأصلية والتبعية والمصادر الأصلية للشريعة هي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس والمصادر التبعية الإستحسان والإستصلاح والعرف (¬1). 2 - لابد أن ينص على أن كل نظام يخالف النصوص القطعية أو الإجماع أو الدين المتيقن واجب البطلان. 3 - النص على إقامة الحدود والعقوبات الإِسلامية التي شرعها الله حفظًا للمجتمع وردعًا للأشرار وقطعًا لشأفة الجريمة كحدود السرقة والحرابة والزنى والقذف والسكر وقتل العمد والردة -تلك التي ثبتت بالقرآن- مع مراعاة التشدد في أركان الجريمة وشروطها ودرء الحدود بالشبهات ما وجد إلى ذلك سبيل". 4 - أن يكون الفقه الإِسلامي هو أساس الدراسة في كليات الحقوق في كل الجامعات الإِسلامية. 5 - "ينبغي أن تحول كليات الحقوق والشريعة والقانون إلى مسمى كليات الشريعة الإِسلامية وكفى. وإن احتاج الأمر إلى دراسة القوانين والنظم المعاصرة فلا يمنع ذلك بحيث لا يكون على حساب الشريعة عكس ما يحصل الآن في كليات الحقوق تمامًا من حيث كون دراسة الشريعة ¬

_ (¬1) المدخل في التعريف بالفقه الإِسلامي وقواعد الملكية والعقود فيه لمحمد مصطفى شلبي ص 223: 260 الوعي الإِسلامي، العدد 166 ص 35 - 36 شوال 1398.

لا تأخذ إلَّا حيزًا لا يرى بجانب ضخامة الدراسة القانونية الوضعية" (¬1). 6 - إلغاء جميع القوانين الوضعية وبطلانها ينحدر بها إلى درجة الإنعدام، ولابد أن ينص في الدستور صراحة على إلغائها وإحلال الشريعة الإِسلامية محلها وعلى ولي الأمر سنن التشريعات التنفيذية التي تستهدف ضمان تنفيذ أحكام الشريعة الإِسلامية وسن التشريعات التنظيمية لحماية النظام العام الإِسلامي. بل ويجب على جميع المسلمين في جميع مواقعهم سواء أكانوا من رجال السلطة القضائية أم من رجال السلطتين التشريعية والتنفيذية أو من أفراد الناس العاديين أن يمتنعوا عن تطبيق وتنفيذ أو احترام كل حكم وضعي يخالف أحكام الشريعة الإِسلامية (¬2). 7 - وجوب عمل المحاكم الإِسلامية وقيام قضائها على الأسس الشرعية "فتأخذ بما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية مسترشدة ومستهدية ومستأنسة في ذلك بالثروة الفقهية الهائلة التي ورثناها عن علماء أفذاذ قلما يجوز الزمان بأمثالهم كانوا المثل المحتذى للعلم والتقوى والورع" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: أبو الأعلى المودودي، القانون الإِسلامي وطرق تنفيذه ص 60 - 66 وما بعدها، (نقلًا عن تطبيق الشريعة الإِسلامية في العصر الحاضر ومعوقاته) 1/ 150 تأليف عبد الله الزايدي، الطبعة الأولى 1406 هـ. (¬2) في وجه المؤامرة على تطبيق الشريعة الإِسلامية من ص 140 - 145 (بتصرف). (¬3) في وجه المؤامرة على تطبيق الشريعة الإِسلامية ص 152.

8 - إعداد القاضي المسلم إعدادًا دينيًا ونفسيًا وعلميًا فيجب أن لا يختار للقضاء بين المسلمين إلَّا من بان فضله وصدقه وعلمه وورعه وأن يكون عارفا بكتاب الله -تعالى- عالمًا باكثر أحكامه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - حافظًا لأكثرها وكذا أقوال الصحابة عالمًا بالوفاق والخلاف وأقوال الفقهاء والتابعين. كما يجب أن يكون ذا عقل رصين ودين متين وأمانة ونزاهة وقوة وكفاءة وحنكة وخبرة وتجربة ... ليستقيم ميزان الحكم. وقد شدَّد الإسلامُ المسؤولية إزاء القاضي ليستمد سلطته من كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن اجتهاده وهي المنابع الأولى للسلطة والمصدر الأول للفصل بين الناس: لمّا وُلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل على قضاء اليمن سأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟ قال معاذ: أقضي بكتاب الله -تعالى-. قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله، قال: أجتهد رأي ولا آلوا. قال: فضرب رسول الله صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسولَ رسول اللهِ لما يرضي رسول الله" (¬1). وللقضاء الإِسلامي نظريته في اختيار القاضي منذ أوائل السنة الأولى للهجرة نقرؤها في كتاب الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى عامله في مصر الأشتر النخعي قال علي - رضي الله عنه -: " ... ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزلة ولا يحصر -أي ¬

_ (¬1) سنن أبي داود 4/ 18، باب 11 من كتاب الأقضية، حديث رقم 3592.

يضيق صدره- من الفيء إلى الحق إذا عرفه ولا تشرف نفسه على طمع ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه وأوقفهم في الشبهات وأخذهم بالحجج وأقلهم تبرمًا بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشف الأمور وأصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستمليه إغراء وأولئك قليل" (¬1). ولكن يطلب أكملهم وأفضلهم في هذه الصفات. وإنها لمفخرة للإسلام والمسلمين أن تكون المملكة العربية السعودية قمة في تطبيق الشريعة الإِسلامية وإقامة حدودها في هذا العصر والحكم بمقتضاها وما كان ينبغي أن يسبقها غيرها إلى ذلك وهي مهبط الوحي ومئل الرسالات ومنبع النور الذي شع ضوءه فعم جميع الأنام. نعم: إن نظام القضاء في المملكة العربية السعودية وهو يقوم على أسس إسلامية صحيحة أضحى أقرب النظم لحماية العدل وإقرار الإنصاف والتزام المساواة المطلقة بين الناس آخذًا بمبدأ البساطة بعيدًا عن التعقيد والتحايل. ولا عجب: فالقضاة قد درسوا التشريع الإِسلامي نصوصًا ومذاهب ومبادئ وقواعد وأبحاثًا وفتاوى وطبقوه عمليًا أحكامًا ووقائع وقضاءً عادلًا يأخذ القدوة ويستنير بأحكام القضاء الإِسلامي على مدى ألف وأربعمائة عام هجرية ... كيف لا! والمحاكم الشرعية هنا مهيئة وهيئات التمييز والمجلس الأعلى للقضاء وغيرها من أجهزة السلطة القضائية تعمل في جو من الحرية والاطمئنان ولا يوجد ما يضادها أو ينافسها في مجال الحكم والقضاء. ¬

_ (¬1) انظر: نهج البلاغة، للشريف الرضي شرح الشيخ محمد عبده، وعبد العزيز الأهل 1/ 525، 526، ونظام القضاء في الإِسلام، الصفحات من 220 - 222.

فهل آن لصرعى الظلم القضائي وضحايا الإنحرافات البشرية في الدول التي لا تحتكم إلى الشريعة الإِسلامية ولا تُحَكِّمُ القاضي المسلم أما آن لهم أن يلتمسوا أمنهم ومصالحهم وطهارة بيوتهم وعفة نسائهم ورجالهم في تجربة قضاء الإِسلام الذي بسط الإطمئنان والرفاهية على أرض المملكة العربية السعودية وأهلها!!. {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} (¬1). رابعًا - في مجال الإقتصاد (¬2): هناك أمور كثيرة ينبغي مراعاتها والقيام بها ليتم بناء الهيكل الإقتصادي في دولة كهذه على أسس سليمة وخطة مدروسة، من هذه الأمور: 1 - أن يستبدل هذا النظام الربوي المستفحل في كثير من المجتمعات الإِسلامية اليوم بنظام لا ربوي وذلك: بالتمهيد بسلسلة من الإجراءات الإقتصادية التي توفر المناخ الصالح لحصول هذا الإستبدال، ولهذا يجب أن تعنى كليات التجارة والإقتصاد والعلوم السياسية والدوائر الاقتصادية بالتعمق في دراسة الإقتصاد الإِسلامي ووضع خطة على أساس علمي وإحصائي لتطهير كل المؤسسات الاقتصادية من رجس الربا ومن كل معاملة تخالف شريعة الإِسلام وإنشاء مصارف (بنوك ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آيتان 49، 50. (¬2) انظر في هذا المجال: الحل الإِسلامي، للقرضاوي ص 54، ومن قضايا الفكر الإِسلامي المعاصر ص 265، وتطبيق الشريعة الإِسلامية في العصر الحاضر ومعوقاته، للزايدي 1/ 155.

إسلامية) تتعامل على أسس شرعية وإلغاء كل البنوك التي لا تخضع لهذا الإتجاه. 2 - تشكيل لجنة من الأخصائيين وخبراء الإقتصاد وعلماء الدين لعمل صيغة اقتصادية إسلامية ملائمة لهذه التغييرات حتى لا يوجب التغيير فوضى وخللًا في الدولة أو في رخاء الأمة وحتى لا تضطرب أحوال البلاد الإقتصادية المتشابكة مع غيرها. 3 - جباية الزكاة من كل أموال ظاهرة وباطنة (الظاهرة: الثروة الحيوانية والزراعية وزكاة الفطر والباطنة: أموال التجارة والنقود) بواسطة جهاز قوي أمين من -العاملين عليها- مع توسيع قاعدتها بحيث تشمل كل مال نام وكل دخل فائض عن الحوائج الأصلية وبذلك تسهم هذه الفريضة في تمويل التكافل وتحقيق العدل الإجتماعي ومحاربة الكنز ومقاومة الإستقراض بالربا إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة (¬1). 4 - تقريب الفوارق الإقتصادية بين الأفراد والفئات بالعمل الدائب على الحد من طغيان الأغنياء والرفع من مستوى الفقراء وإزالة المظالم وتصفية الإمتيازات التي توارثها بعض الناس بغير حق بحيث يختفي منظر الثراء الفاحش إلى جانب الفقر المدقع. 5 - وضع خطة على أساس علمرب وإحصائي -لزيادة ثروة الأمة الإِسلامية وتنمية إنتاجها -كمًّا ونوعًا- والإستفادة من التكامل الإقتصادي بين الدول الإِسلامية ووضع منهج اقتصادي إسلامي ليدرس في مؤسسات التعليم وفي مقدمتها كليات الإقتصاد والتجارة والشريعة الإِسلامية. ¬

_ (¬1) الحل الإِسلامي، ليوسف القرضاوي، ص 54، 55.

6 - التوسع في إنشاء مؤسسات مصرفية غير ربوية ودعم القائم منها وتشجيع المؤسسات المصرفية الإِسلامية على تطوير نظمها بما يتوافق مع أحكام الشريعة الإِسلامية (¬1). خامسًا - في المجال الإجتماعي: 1 - لابد قبل أن تطبق الشريعة الإِسلامية أَنْ يقوَّم السلوك والمسؤول عن هذا كل فرد في الدولة عملًا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته ... " الحديث (¬2). 2 - على كل فرد في الدولة مقاومة الإنحراف والفساد والسرقات وأداء الأعمال بأمانة وهمة وتوجيه النصح في أناة ورؤية عملًا بقول ربنا -تبارك وتعالى-: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ...} (¬3) الآية. 3 - لابد أن تنشر الصحف والمجلات بحوثًا تعالج وتواجه الإنحراف عن الإِسلام وتبصر المسلمين رجالًا ونساءً بحقائق الإِسلام وأباطيل خصومه تقويمًا للسلوك وتبيانًا للشريعة لمن غابت عنهم أحكامها أو قصر فهمهم لها {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)} (¬4). 4 - "الإهتمام بشأن المرأة المسلمة بحيث تعود إلي فطرتها الأصيلة ورسالتها الجليلة فتاة مهذبة وزوجة صالحة وأمًّا فاضلة تعنى بأداء ¬

_ (¬1) مؤتمر الفقه الإِسلامي المنعقد بالرياض سنة 1396 هـ - 1976 م. (¬2) سبق تخريجه ص 4، 14 من هذا الكتاب. (¬3) سورة البقرة: آية 83. (¬4) سورة الحج: آية 24.

الواجبات وعلى وسائل الإعلام بما تخصصه من برامج للمرأة أن تقاوم التقاليد الدخيلة وتنشر الآداب والتقاليد الإِسلامية الأصيلة. 5 - تحريم شرب المسكرات والمخدرات بكل أصنافها وإغلاق حاناتها ومنع صنعها واستيرادها والإتجار فيها ومطاردة مدمنيها وتجارها إلى حد الحكم بإعدامهم وإغلاق دور اللهو الحرام التي تشيع الفاحشة وتنتهك فيها الحرمات من دور السينما والمراقص وغيرها. 6 - تشديد الرقابة على كل أجهزة الدولة ومحاولة إصلاحها وتطهيرها من العناصر الفاسدة والإجتهاد في وضع الرجل المناسب في المكان المناسب وتقديم القوي الأمين على غيره" (¬1). 7 - تهيئة كل الوسائل التي تؤدي إلى إقامة المجتمع المسلم الذي يطبق الإِسلام بنصه وروحه. ¬

_ (¬1) الحل الإِسلامي فريضة وضرورة، د. يوسف القرضاوي، ص 48 - 52.

المطلب الثالث أقليات إسلامية في أمة كافرة

المطلب الثالث أقليات إسلامية في أمة كافرة إن الأقليات المسلمة في شتى بقاع الأرض هم جزء منا بحكم أخوة الإِسلام فلهم حق المعاونة والمعاضدة وعلينا مناصرة المستضعفين والمضطهدين منهم بكل ما نستطيع من قوة، ولو أدى ذلك إلى حمل السلاح لإنقاذهم من طغيان الكفرة، وعدوان الفجرة استجابة لقول الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)} (¬1) (¬2). ولا ريب أن هذه الأقليات المسلمة سواء كانت في آسيا أو في أفريقيا أو في أوروبا والأمريكتين وأستراليا تعتبر مكاسب حقيقية للمسلمين ونصرًا لهم. إذ بوسع هؤلاء بحسن فهمهم للإسلام وتطبيقهم عمليًا لعباداته وتشريعاته وآدابه - أن يحملوا غير المسلمين هناك على الدخول في الإِسلام ... ومن يدري فقد تكون لهم الغلبة يومًا يعيدون فيه مجد آبائهم فيسيرون دفة الحكم وينشرون لواء العدل والرحمة بين الناس هناك. ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 75. (¬2) انظر: الحل الإِسلامي ليوسف القرضاوي ص 64.

ولكن ما السبيل إلى ذلك؟ وكيف نعمل -نحن المسلمين- على تنمية هذه الأقليات المسلمة وتطويرها؟ وما هو واجبنا تجاهها لكي تمثل الإِسلام الصحيح وتقيم أحكام الله بينها؟ ثم ما هو واجبهم هم أنفسهم تجاه إسلامهم لكي يحققوا هذه الغاية النبيلة؟ من هذه التساؤلات يتضح أن نجاح الدعوة للإسلام وتطبيقه بين هذه الأقليات يتوقف على عاملين هامين هما: العامل الأول: أن تعي هذه الأقليات حقيقة الإِسلام وتتمثله في نفسها. والعامل الثاني: واجب الشعوب الإِسلامية نحوها. فأما العامل الأول: أن تكون هذه الأقليات على بينة من فهم الإِسلام نصًّا وروحًا مطبقين لآدابه السلوكية وأخلاقه العملية، وسماحته في مبادئه وتشريعاته وعدالة أحكامه، وتراحم أهله وتعاونهم على البر والتقوى، وعلى كل مسلم هناك أن يتمثل الإِسلام في نفسه وبيته وأسرته ومحيطه الذي يعيش فيه ويكون صورة صادقة للمسلم الحق. كما يجب تنمية قدرات وطاقات المسلمين المتنوعة هناك كالأطباء والمهندسين والفنيين وغيرهم لنشر الدعوة بعد تأهيلهم في مجال تنمية المسلمين وإرشادهم وترسيخ عقيدتهم وتصحيح مفاهيم الإِسلام لديهم وخاصّةً في الأقليات الموجودة في آسيا وأفريقيا. كما يجب تخير الأساليب المناسبة وهو أمر ضروري في الدعوة إلى الإِسلام هناك: الأول: الأسلوب الدفاعي: عندما تناقش البدع والضلالات والتشويه الذي أصاب فهم الناس للإسلام هناك نتيجة الجهل بحقائق الإِسلام. الثاني: الأسلوب الاقناعي التأثيري ويكون بعرض رسالة الإِسلام

على حقيقتها، وعلى الداعية في هذا المضمار أن يستخدم حصافته وصبره وجميع إمكانياته بشكل متواصل لإقناع الناس برسالة الإِسلام. وأن يدرك جيدًا أن الإِسلام تنافسه حركات فكرية ودينية هناك. كما يجب وضع أساليب مناسبة لنشر دعوة الإِسلام بين النساء المسلمات ومنحهن فهمًا صحيحًا للإسلام بطريقة منظمة ومدروسة ليقمن بدورهن في تربية أولادهن وإعدادهم إعدادًا صحيحًا. وأما العامل الثاني: وهو واجب الشعوب الإِسلامية نحو هذه الأقليات: وهو واجب ضخم تضطلع به كل دولة مسلمة بل كل فرد مسلم في العالم الإِسلامي من مساعدات مادية ومعنوية كل قدر استطاعته لتحسين أوضاع المسلمين وتمكينهم من الوقوف في وجه دعاة الكفر والضلال هناك ويتمثل ذلك فيما يأتي: أولًا: مناشدة الدول الإِسلامية العمل على رعاية أبناء الأقليات المسلمة ومساعدتهم على الحفاظ على دينهم وعقيدتهم وتعلم اللغة العربية الفصحى وتوفير الرعاية الصحية والتعليمية لهم لسد ثغرة تسربهم إلى المؤسسات التبشيرية، وكذا حث وزارات التربية والتعليم والهيئات العلمية في الدول الإِسلامية على زيادة المنح الدراسية للعاملين في منظمات العمل الإِسلامي والدارسين في معاهد وجامعات تلك الدول، ودعم أنشطة التأليف والترجمة ونشر الكتب التي تهتم بالشريعة الإِسلامية. ويحسن أن نشير هنا إلى ما قامت به جامعة الإمام محمد بن سعود الإِسلامية وغيرها من جامعات المملكة العربية السعودية من دور رائد في هذا المجال حيث اهتمت الجامعة بتعليم اللغة العربية لأبناء المسلمين غير الناطقين بها والوافدين للإلتحاق بالجامعة، ليتمكنوا من مواصلة دراساتهم

بالجامعة وليكونوا بعد تخرجهم دعاة مؤهلين وعلى وعي ومعرفة بلغة القرآن الكريم. وقد أنشأت الجامعة لذلك ثلاثة معاهد لتعليم اللغة العربية بكل من (الرياض- وأندونيسيا - واليابان). وفي مجال تدعيم مراكز المبحث العلمي والمعاهد والمؤسسات التعليمية للأقليات المسلمة في الدول الأجنبية أنشات الجامعة: "معهد العلوم الإِسلامية والعربية بموريتانيا سنة 1399 هـ، ومعهد العلوم الإِسلامية والعربية بأندونيسيا 1400 هـ، ومعهد العلوم الإِسلامية والعربية في واشنطن بامريكا، والمعهد الإِسلامي في جيبوتي 1402 هـ، والمعهد العربي الإِسلامي بطوكيو باليابان 1402 هـ، وتدعم الجامعة هذه المعاهد ماليًا وتمدها بما تحتاجه من المدرسين والموجهين كل عام وتشرف إشرافًا تامًا على جميع الأنشطة التي تقوم بها هذه المؤسسات العلمية في مجال الدعوة وغيرها. وقد حققت هذه المعاهد أهدافها وتزايد الإقبال عليها في كل عام عن الذي قبله ووثَّقت هذه المعاهد روابط الأُخوة الإِسلامية بين شعوب البلاد التي تقع بها وشعب المملكة وساعدت على نشر اللغة العربية والتعريف بالإسلام وبحضارة الإِسلام وثقافته إلى جانب قيامها سنويًا بتخريج أعداد كبيرة من الدعاة وتدريبهم على متطلبات الدعوة الإِسلامية كما تقوم الجامعة -وفق الله القائمين عليها- بدعم أنشطة التأليف والترجمة ونشر الكتب التي تهتم بالشريعة الإِسلامية وتغرس القيم الإِسلامية في نفوس المسلمين هناك وتبرز محاسن الإِسلام وتشريعاته السمحة لهم. وتضطلع بهذا الواجب عمادة شؤون المكتبات حيث تقوم بتزويد مكتبات معاهد الجامعة في

الخارج بالكتب والمراجع والدوريات وقد بلغت مقتنيات مكتبات المعاهد في الخارج أكثر من "48738" ثمانية وأربعين ألفًا وسبعمائة وثمانية وثلاثين كتابًا إسلاميًا. وإننا نأمل المزيد والمزيد من إنشاء مثل هذه المعاهد والمراكز الإِسلامية وإمدادها بالكفاءات المتخصصة والأموال والتسهيلات لنجاح عملها حتى تقوى على صد مؤسسات التبشير والغزو الفكري ودعاة الضلال والإلحاد هناك" (¬1). ثانيًا: كما نناشد الدول الإِسلامية والعربية مساندة المهتمين بالدعوة الإِسلامية في الدول الكافرة سواء أكانوا حكومات أم هيئات أم أفرادًا وتوفير الوسائل المادية والمعنوية لهم، وتزويدهم بالخطط والوسائل اللازمة لكشف خطط أعداء الإِسلام ومقاومتها وإنشاء مراكز إسلامية خاصة لأبحاث الدعوة وأخرى للإعلام والاتصالات وإعداد البرامج التعليمية الخاصة بتعليم المسلمين الجدد، وشرح الإِسلام لهم شرحًا وافيًا. وتطوير البرامج الإذاعية الموجهة إلى الأقليات الإِسلامية في العالم واشتمالها على الدعوة إلى الإِسلام وتطبيق أحكام الشريعة الإِسلامية. ولا يفوتنا أن المملكة العربية السعودية بما أفاء الله عليها من إمكانات وموارد خير: تقوم بدور رائد وبنَّاء في ميدان الدعوة الإِسلامية فهي تنفق الكثير والكثير سعيًا منها وإسهامًا في مساعدة الأقليات الإِسلامية بل وكل مسلم في كل بقعة من بقاع الأرض. وقصدها من وراء ذلك تبصير المسلمين وتوعيتهم وتنبيههم إلى ما يجب أن يقوموا به من مهام لصد الهجمات الشرسة التي يقوم بها أعداء الإِسلام من شيوعية ونصرانية ¬

_ (¬1) انظر: دليل القبول بالجامعة "جامعة الإمام محمد بن سعود الإِسلامية" للعام الجامعي 1403/ 1404 هـ ومن قضايا الفكر الإِسلامي المعاصر ص 423، 424.

وإلحادية مكثفة، فتتعاون الجهات المعنية فيما بينها للقيام بهذا الواجب العظيم .. وعلى رأس هذه الجهات وزارة الشؤون الإِسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد وممثليها الرئيسيين) في القارات الخمس "آسيا وأفريقيا وأروبا والأمريكتين وأستراليا"، ومندوبيها للدعوة في المناطق الفرعية بهذه القارات. كما تقوم الوزارة أيضًا بإعداد البرامج العامة للدعوة والمتابعة وتدريب الدعاة وفتح المكاتب لمتابعة أعمالهم في الخارج ورعايتهم وتطوير قدراتهم وتقديم أعمالهم في القارات الخمس. كما تقوم المملكة بتوجيه ودعم سخي من رائد نهضتها وحامي حوزتها خادم الحرمين الشريفين -أعزه الله بطاعته- بطباعة ملايين النسخ من المصحف الشريف عبر مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة ويتم توزيعها على المسلمين في شتى بقاع الأرض كما تقوم المملكة بطبع ونشر وترجمة كثير من الكتب الإِسلامية والعربية وتوزيعها على الأقطار الإِسلامية وغيرها من الأقطار التي توجد بها أقليات مسلمة. وهذه لمحة سريعة عما تقوم به تلك الهيئات العلمية العريقة وإلَّا فمن الصعب في هذه العجالة حصر كل الأعمال الجليلة التي تقدمها -وفقها الله-. كما تتعاون الجامعات السعودية ومؤسسات التعليم الإِسلامي ومنظمة المؤتمر الإِسلامي ورابطة العالم الإِسلامي والندوة العالمية للشباب الإِسلامي وصندوق التضامن الإِسلامي وصندوق منح الملك فيصل الخيري والبنك الإِسلامي للتنمية بجدة والهيئات والوزارات المختلفة كل فيما

يخصه يقوم بدور بارز وبنَّاء في خدمة الإِسلام وتقديم العون للمسلمين في شتى بقاع الأرض ماديًا ومعنويًا. جزى الله القائمين على هذه الجهات خيرًا ووفقهم لتقديم المزيد والمزيد قيامًا بالواجب واحتسابًا للأجر والثواب إنه نعم المجيب، هذا: ولا ننسى الدور الطيب والجهود المباركة التي تقوم بها المؤسسات الخاصة والمحسنين بالمملكة وغيرها لدعم المراكز الإِسلامية والمساجد والمدارس والمعاهد وبيوت الشباب المسلم ودور النشر والمجلات والمطابع ومراكز الإعلام بكل ما من شأنه خدمة الإِسلام والمسلمين. وفق الله المسلمين في كل بقاع الأرض لما يحبه ويرضاه ويسر لهم العمل بشريعة ربهم وخالقهم. والحمد لله بدءًا ومنتهًى وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ... يقول مؤلفه كما قال الأصفهاني -رَحِمَهُ اللهُ-: لقد أتممته حمدًا لربي ... على ما قد أعان على الكتاب لَيَدْعُو الله بعدي من رآه ... بمغفرةٍ وإجزالِ الثوابِ فقد أيقنت أنَّ الكُتْبَ تبقى ... وتبلى صورتي تحت الترابِ

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع [أ] * الإتقان في علوم القرآن: الحافظ جلال الدين السيوطي. طبع دار الفكر، بيروت - لبنان. * أحكام القرآن - للجصاص: أبي بكر الرازي. تحقيق محمد الصادق قمحاوي، طبع ونشر دار المصحف الشريف، لبنان. * أحكام المريض في الفقه الإِسلامي: أبو بكر إسماعيل محمد ميقا. رسالة ماجستير بالمعهد العالي للقضاء، الطبعة الأولى، 1401 هـ. * إحياء علوم الدين: أبو حامد الغزالي، شركة ومطبعة مصطفى الحلبي بمصر، 1358 هـ - 1939 م. * الإخوان المسلمون تحت راية القرآن: حسن البنا، طبع ونشر دار الكتاب العربي بالقاهرة. * الإِسلام: سعيد حوى. مراجعة وهبي سليمان الغوجي، الطبعة الأولى، 1389 هـ، دار الكتب العلمية، لبنان. * الإِسلام ضرورة عالمية: زاهر عزب الزغبي. المطابع الثقافية بمصر. * الإِسلام كما ينبغي أن نؤمن به: عبد الحليم عويس. دار الصحوة، القاهرة، 1405 هـ. * الإِسلام في قفص الاتهام: شوقي أبو خليل. الطبعة الرابعة، 1400 هـ، دار الفكر بيروت. * الإِسلام في مواجهة التحديات المعاصرة: أبو الأعلى المودودي. دار القلم، الكويت، الطبعة الثالثة، 1398 هـ.

[ب]

* الإِسلام وأوضاعنا القانونية: عبد القادر عودة. مطابع المختار الإِسلامي بمصر، الطبعة الخامسة، 1397 هـ. * الإِسلام والحضارة ودور الشباب المسلم: أبحاث ووقائع اللقاء الرابع للندوة العالمية للشباب الإِسلامي بالرياض، 1399 هـ، الطبعة الثانية، 1405. * الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية: الحافظ السيوطي. طبع دار الكتب العلمية، لبنان، 1399 هـ. * أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: الشنقيطي. طبع وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالسعودية. * الأعلام - قاموس تراجم: خير الدين الزركلي. الطبعة الرابعة، 1979 م، دار العلم للملايين، بيروت. * إعلام الموقعين عن رب العالمين: الإمام ابن قيم الجوزية، مطابع السعادة بمصر، الطبعة الأولى، 1374 هـ. * إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان: ابن قيم الجوزية. طبع ونشر مكتبة السنة المحمدية بمصر. * الأموال: أبو عبيد القاسم بن سلام. طبع مؤسسة ناصر للثقافة، 1981 م. * الإكليل في استنباط التنزيل: الحافظ جلال الدين السيوطي. الطبعة الثانية، 1405 هـ، دار الكتب العلمية، لبنان. * الإيمان وأثره في حياة الإنسان: د. حسن الترابي. طبع دار القلم، الكويت، 1394 هـ، الطبعة الأولى. * الإيمان لإبن تيمية: ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم -رَحِمَهُ اللهُ- المكتب الإِسلامي، زهير الشاويش. [ب] * بدائع الفوائد: ابن قيم الجوزية. إدارة الطباعة المنيرية، الطبعة الثانية، 1972 م. * البداية والنهاية: الحافظ ابن كثير. طبع ونشر مكتبة المعارف، لبنان.

[ت]

* بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار: الشيخ عبد الرحمن بن سعدي. الطبعة الثانية، 1389 هـ - 1969 م. [ت] * تحكيم القوانين الوضعية: الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ. * التشريع الجنائي الإِسلامية مقارنًا بالقانون الوضعي: عبد القادر عودة. طبع دار الكتاب العربي. لبنان. * تطبيق الشريعة الإِسلامية في العصر الحاضر ومعوقاته: إعداد عبد الله الزايدي. الطبعة الأولى، 1406 هـ. * تفسير القرآن العظيم: الحافظ ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ-. طبع الإستقامة بالقاهرة، الطبعة الثالثة، 1375 هـ - 1956 م. * التقليد والتبعية وأثرهما في كيان الأمة الإِسلامية: ناظر عبد الكريم العقل. مطابع الرياض، الرياض. * تلبيس إبليس: الحافظ ابن الجوزي، دار الوعي العربي، لبنان. * تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: عبد الرحمن بن سعدي. تحقيق: محمد زهري النجار، مطابع الدجوي بالقاهرة، عابدين. [ج] * جامع البيان في تأويل آي القرآن: أبو جعفر الطبري. طبع دار الشعب بمصر. * الجامع الفريد: رسائل في التوحيد - انظر: رسائل الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب آل الشيخ. طبع مكتبة مكة للطباعة والإعلام بالسعودية. * الجامع لأحكام القرآن: أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي. طبع دار الكاتب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة، 1387 هـ. * جواهر التفسير أنوار من بيان التنزيل: أحمد بن حمد الخليلي. الطبعة الأولى، 1404 هـ، مطابع الإستقامة بسلطنة عمان. * جاهلية القرن العشرين: محمد قطب. طبع دار الشروق بالقاهرة ولبنان، 1402 هـ.

[ح]

[ح] * الحسبة في الإِسلام: شيخ الإِسلام ابن تيمية، مطابع الدجوي بالقاهرة، 1402 هـ. * حكم القراءة للأموات هل يصل ثوابها إليهم: محمد أحمد عبد السلام. طبع مؤسسة مكة للطباعة والإعلام، الطبعة الخامسة، 1456 هـ. * حقوق أهل الذمة في الشريعة الإِسلامية: أبو الأعلى المودودي. * الحل الإِسلامي فريضة وضرورة: د. يوسف القرضاوي. المصدر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإِسلامية برقم 40611. [خ] * الخراج: لأبي يوسف القاضي الحنفي. ضمن "موسوعة الخراج" مطابع دار المعرفة، بيروت - لبنان. * الخصائص العامة للإسلام: د. يوسف القرضاوي، الطبعة الثانية، 1401 هـ - 1981 م، مطابع دار غريب بمصر. * خطوط رئيسية لبعث الأمة المحمدية: عبد الرحمن عبد الخالق، طبع الدار السلفية، الكويت، 1406 هـ. * خلق المسلم: محمد الغزالي. الطبعة التاسعة، 1394 هـ، الدوحة- قطر. * الخمر وسائر المسكرات: أحمد حجر البوطامي البنعلي. المطابع الوطنية بقطر، 1397 هـ. د [د] * الداعية بين المنهج والوسائل: الدكتور صالح الغانم السدلان. المصدر مجلة الدعوة، العدد 1190 في 29/ 9/ 1409 هـ، 4/ 5/ 1989 م. * دراسات في التشريع الجنائي: عبد الله بن سالم الحميد. مطابع النصر الحديثة بالرياض، الثانية 1400 هـ - 1401 هـ. * الدر المختار. * دستور الوحدة الوطنية بين المسلمين: محمد الغزالي. طباعة دار الأنصار بمصر.

[ر]

* دروس في العمل الإِسلامي: سعيد حوى. الطبعة الأولى 1401 هـ، الناشر مكتبة الرسالة الجديدة، الأردن. * دعاة لا قضاة: حسن الهضيبي. دار الطباعة والنشر الإِسلامي، بمصر. * الدعوة الإِسلامية، الوسائل، الخطط المداخل: الندوة العالمية، الطبعة الأولى 1405، الندوة العالمية للشباب الإِسلامي. [ر] * الرسل والرسالات. د. عمر سليمان الأشقر. الطبعة الثالثة، 1405 هـ، مكتبة الفلاح، الكويت. * روح الدين الإِسلامي: عفيف عبد الفتاح طبارة. الطبعة الثانية، 1389 هـ، السيركة العامة للطباعة (بيرل). [ز] * زاد المسير في علم التفسير: الحافظ ابن الجوزي. الطبعة الأولى، المكتب الإِسلامي، زهير الشاويش. * زاد المعاد في هدي خير العباد: ابن قيم الجوزية. الطبعة الثانية، 1369 هـ، طبع مصطفى الحلبي وشركاه، مصر. [س] * سنن أبي داود السجستاني ومعه معالم السنن للخطابي: إعداد وتعليق عزت عبيد الدعاس. طبع ونشر محمد علي السيد، (حمص)، 1391 هـ. * سنن ابن ماجه: ابن ماجه، تحقيق وفهرسة: محمد مصطفى الأعظمي، الطبعة الثانية، 1404 هـ، مطابع الشركة العربية بالرياض. * سنن الدارمي: محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي. طباعة دار إحياء السنة النبوية بمصر.

[ش]

* سنن الدارقطني: الحافظ علي بن عمر الدارقطني. طبع ونشر مكتبة المتنبي بالقاهرة. * السنن الكبرى: البيهقي. طبع دائرة المعارف الهندية، 1354 هـ، ودار المعرفة بلبنان. * سنن النسائي: بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي. تحقيق وضبط وفهرسة: عبد الفتاح أبو غدة - طبع حلب. * السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية: شيخ الإِسلام ابن تيمية، مطابع الكتاب العربي، لبنان. [ش] * شبهات حول الإِسلام: محمد قطب. مكتبة وهبة بالقاهرة، 1964 م. * شرح الطحاوية في العقيدة السلفية: أحمد محمد شاكر، الطبعة الرابعة، المكتب الإِسلامي، لبنان وجامعة الإمام محمد بن سعود الإِسلامية. * الشريعة الإلهية لا القوانين الجاهلية: د. عمر سليمان الأشقر. الطبعة الأولى بالكويت، 1383 هـ. [ص] * صحيح البخاري: الإمام البخاري، المكتبة الإِسلامية، استانبول - تركيا. * صحيح الترمذي: بشرح ابن العربي المالكي. دار الكتاب العربي، لبنان. * صحيح مسلم: تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، وصحيح مسلم بشرح النووي، طبع ونشر الرئاسة العامة للبحوث والإفتاء والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية. * الصحوة الإِسلامية بين الجحود والتطرف: د. يوسف القرضاوي، طبع رئاسة المحاكم الشرعية بقطر الأولى، 1402 هـ. * صفة الصفوة: ابن الجوزي. تحقيق: محمود فاخوري ومحمد قلعجي، مطابع الأصيل، حلب، 1389 هـ. * صور من سماحة الإِسلام: د. عبد العزيز بن عبد الرحمن بن علي الربيعة، الطبعة الثانية، 1399 هـ - 1979 م.

[ط]

[ط] * الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: ابن قيم الجوزية. تحقيق: محمد حامد فقي، طبع دار الكتب العلمية، لبنان. [ع] * العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإِسلامية: سفر ابن عبد الرحمن الحوالي. مطابع أم القرى، 1402 هـ. * عمدة التفسير: أحمد محمد شاكر. * الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام من البحوث المقدمة لمؤتمر الفقه الإِسلامي المنعقد بالرياض 1396 هـ: تحت إشراف جامعة الإمام، وطبع إدارة الثقافة والنشر، 1404 هـ. * غياث االأمم في التيات الظلم: لإمام الحرمين "الجويني". الطبعة الثانية، 1401 هـ، مطابع نهضة مصر. [ف] * الفاروق عمر بن الخطاب: محمد رضا. دار الكتب العلمية، لبنان، 1398 هـ. * فتح الباري بشرح صحيح البخاري: الحافظ ابن حجر العسقلاني. المطبعة السلفية بمصر. * الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الحنفية: سليمان ابن عمر العجلي "الجمل". طبع عيسى البابي الحلبي بمصر. * فتوح البلدان: البلاذري. * الفروق: الشهاب القرافي. طبع ونشر دار المعرفة، لبنان. * فقه السيرة: محمد الغزالي. مطابع علي بن علي، الدوحة، قطر. * فيض القدير: عبد الرؤوف المناوي. طبعة ثانية 1391 هـ، دار المعرفة، بيروت - لبنان. * في ظلال القرآن الكريم: الشيخ سيد قطب. الطبعة العاشرة، دار الشروق، القاهرة.

[ق]

* في وجه المؤامرة على تطبيق الشريعة الإِسلامية: مصطفى فرغلي الشقيري. المصدر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإِسلامية، برقم 10512، 18223. [ق] * القرآن الكريم أنواره، فضائله، آثاره: محمد محمود الصواف، مؤسسة الرسالة، لبنان. * قضايا الفكر الإِسلامي المعاصر: وقائع اللقاء الثاني للندوة العالمية للشباب الإِسلامي، 1393 هـ، الطبعة الثالثة، 1404 هـ، مطابع العبيكان بالرياض. * القواعد الفقهية: علي أحمد الندوي، مطابع دار القلم، دمشق. * القواعد الفقهية: السيد محمد عميم الإحسان البركتي الحنفي. مطابع كراتشي، باكستان. * القول المبين في سيرة سيد المرسلين: محمد الطيب النجار. مطابع الكيلاني، القاهرة. [ك] * الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار: ابن أبي شيبة. دار السلفية، الطبعة الأولى، 1401 هـ. * الكشاف الفريد عن معاول الهدم ونقائض التوحيد: خالد علي الحاج، تحقيق: عبد الله الأنصاري، مطابع دار إحياء التراث الإِسلامي بقطر. * كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الحديث على ألسنة الناس: العجلوني. طبع دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان. * كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: علاء الدين البرهان فوري الهندي. طبع مؤسسة الرسالة، لبنان. * كيف ندعو إلى الإِسلام: فتحي يكن. مؤسسة الرسالة، لبنان، الطبعة التاسعة، 1406 هـ. [ل] * اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان: جمع محمد فؤاد عبد الباقي، وترتيب د. عبد الستار أبو غدة، وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية الكويتية، 1397 هـ.

[م]

[م] * ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: الندوي. الطبعة الرابعة. * المبسوط: للسرخسي. * مجلة البحوث الإِسلامية: تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالسعودية، المجلد الأول، العدد الثاني، 1395 هـ - 1396 هـ. * مجلة كلية أصول الدين: كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإِسلامية: العدد 1، 1397 هـ، مطابع الإشعاع، الرياض .. * مجمع البحرين في زوائد المعجمين: المعجم الأوسط والصغير للطبراني للحافظ نور الدين الهيثمي. تحقيق ودراسة: عبد القدوس محمد نذير، الطبعة الأولى 1413 هـ، مكتبة الرشد بالرياض. * مجموع فتاوى ابن تيمية: جمع وترتيب ابن قاسم. طبع ونشر وتوزيع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية. * مجموع فتاوى ومقالات إسلامية متنوعة: الشيخ عبد العزيز بن باز. الطبعة الأولى، 1408 هـ، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد. * محاضرات في الثقافة الإِسلامية: د. أحمد محمد جمال. الطبعة الثالثة، 1975 م، دار الشعب بمصر. * المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: ابن عطية الأندلسي. طبع مؤسسة دار العلوم، الدوحة، قطر، 1404 هـ، تحقيق: عبد الله الأنصاري وعبد العال إبراهيم. * المخططات الاستعمارية لمحاربة الإِسلام: محمد محمود الصواف. طبع ونشر وتوزيع مكتبات الدار السعودية، مكتبة الجيل ومكتبة مكة المكرمة. * المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل: ابن بدران. دمشق 1338 هـ. * المدخل الفقهي العام: مصطفى الزرقاء. مطابع طبرين، دمشق، 1387 هـ. * المدخل في التعريف بالفقه الإِسلامي وقواعد الملكية والعقود فيه: مصطفى شلبي، ط دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت 1405 هـ -1985 م. * مسند الإمام أحمد بن حنبل: فهرس الألباني، وإعداد محمد السعيد زغلول طبع المكتب الإِسلامي، لبنان، الطبعة الثالثة، 1405 هـ. * المستدرك على الصحيحين: للحاكم النيسابوري. طبع دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.

[ن]

* مشكاة المصابيح: التبريزي. تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني. طبع المكتب الإِسلامي، لبنان، الطبعة الثالثة، 1405 هـ. * مشكلات الشباب: الحلول المطروحة والحل الإِسلامي: د. عباس محجوب. الطبعة الثانية، 1406 هـ، رئاسة المحاكم الشرعية بقطر. * مشكلات في طريق الحياة الإِسلامية: محمد الغزالي. الطبعة الرابعة، 1405 هـ، مؤسسة الرسالة، لبنان. * المصطلحات العسكرية في القرآن الكريم: لواء محمود شيت خطاب. مطابع دار الفتح، بيروت، 1386 هـ. * معالم في الطريق: سيد قطب، دار الشروق، لبنان. * مقاصد الشريعة الإِسلامية: علال الفاسي. عن منشورات مكتبة الوحدة العربية، الدار البيضاء، المغرب. * مقالات إسلامية: صالح العيثاوي. طبع ونشر الدار العربية، بغداد، 1398 هـ. * الملكية في الشريعة الإِسلامية: د. عبد السلام داود العبادي. مطابع وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية بالأردن. * المنتقى من أخبار المصطفى: مجد الدين أبو البركات عبد السلام ابن تيمية، تحقيق حامد فقي. طبع ونشر الرئاسة العامة للبحوث، بالسعودية. * الموافقات في أصول الأحكام: لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي. تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد. طبع المديني، بمصر، 1369 هـ. * المواهب اللدنية بالمنح المحمدبة: القسطلاني. * موسوعة سماحة الإِسلام: د. محمد الصادق عرجون. الطبعة الثانية، 1404 هـ، الدار السعودية للنشر والتوزيع. * موقف العلم والعقل والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين: مصطفى صبري. مطبوع في أربعة مجلدات. انظر: الأعلام للزركلي 7/ 236. [ن] * النظام الدستوري الإِسلامي مقارنا بالقانون الوضعي: د. مصطفى كمال وصفي. مطابع

[و]

الأمانة، بمصر، 1394 هـ. * نظام القضاء في الإِسلام: من البحوث المقدمة لمؤتمر الفقه الإِسلامي الذي عقدته جامعة الإمام محمد بن سعود الإِسلامية، 1396 هـ. * نظرية الضرورة الشرعية "دراسة مقارنة": د. وهبة الزحيلي، الطبعة الثالثة، مؤسسة الرسالة، لبنان، 1402 هـ. * نماذج من سير الدعاة إلى الله تعالى: صالح الغانم السدلان، 1407 هـ. * نهج البلاغة: للشريف الرضي بشرح الإمام محمد عبده. ود. عبد العزيز سيد الأهل. مطابع دار الأندلس، بيروت، 1382 هـ. * نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار: محمد بن علي الشوكاني. الطبعة الأخيرة، مصطفى الحلبي، بمصر. * النية وأثرها في الأحكام الشرعية: صالح بن غانم السدلان. مطابع الفرزدق، الطبعة الأولى، 1404 هـ. [و] * واجب المسلمين في نشر الإِسلام: زيد بن عبد العزيز بن فياض. طبع دار الثقافة بمكة المكرمة، 1385 هـ، الطبعة الأولى. * واقعنا المعاصر: محمد قطب. مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر، 1407 هـ. * وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه: الشيخ عبد العزيز بن باز. الطبعة الرابعة، 1401 هـ، الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء. * وجوب تطبيق الشريعة الإِسلامية: طبع ونشر إدارة الثقافة والنشر بجامعة الإمام محمد بن سعود الإِسلامية، 1404 هـ. * الوسيط في أصول الفقه: د. وهبة الزحيلي، مطابع جامعة دمشق، سوريا، 1385 هـ. * الوعي الإِسلامي: العدد 166، شوال 1398 هـ/ سبتمبر 1978 م. * الولاء والبراء في الإِسلام من مفاهيم عقيدة السلف: محمد بن سعيد القحطاني. طبع دار طيبة بالرياض.

[هـ]

[هـ] * هدية السلطان إلى مسلمي بلاد جابان: محمد سلطان المعصومي المكي. الطبعة الأولى 1368 هـ شركة مطابع الحلبي مصر.

§1/1