وجهة العالم الإسلامي - المسألة اليهودية

مالك بن نبي

مشكلات الحضارة مالك بن نبي وجهة العالم الإسلامي الجزء الثاني (المسألة اليهودية) آفاق معرفة متجددة

بسم الله الرحمن الرحيم مشكلات الحضارة وجهة العالم الإسلامي المسألة اليهودية

وجهة العالم الإسلامي / مالك بن نبي دمشق: دار الفكر، 2011.- ج 2 (160 ص)؛ 25 سم.- (مشكلات الحضارة). ISBN: 978 - 9933 - 10 - 314 - 9 1 - 218,8 ب ن ن و 2 - العنوان 3 - بن نبي 4 - السلسلة مكتبة الأسد

مشكلات الحضارة مالك بن نبي وجهة العالم الإسلامي الجزء الثاني (المسألة اليهودية) دار الفكر آفاق معرفة متجددة

الطبعة الأولى: 1433 هـ - 2012 م

المحتوى

_ كلمة الناشر ...................................................................................... 7 مقدبة الترجمة العربية ............................................................................. 9 العصر الحديث ووجهة العالم الإسلامي ............................................................ 11 بداية تاريخية ...................................................................................... 11 القضية مشكلة حضارية .............................................................................. 13 هذا الكتاب ..................................................................................... 27 مقدمة المؤلف ............................................................................... 29 القسم الأول لغز العصر الحديث وما يستبطن الفصل الأول: اليهود والحضارة الأوربية ............................................... 41 أولا: السر الخفي للعالم الحديث ......................................................... 41 ثانيا: معنى ومفهوم اتجاه الشتات اليهودي نحو أوروبا ..................................... 48 ثالثا: جغرافية مسار اليهودي في أوروبا ................................................... 55 رابعا: اليهودي التائه في نفسية الأوروبي .............................................. 60 الفصل الثاني: صورة اليهودي كمحور في تطور الحضارة الغربية ....................... 64 1 - اليهودي المثقف ................................................................... 64 2 - اليهودي المواطن .................................................................. 68 3 - اليهودي المودرن ..................................................................... 71 4 - اليهودي المذهبي المتزمت ................................................................ 75

_ 5 - اليهودي العالمي .......................................................................... 79 6 - اليهودي الذي رمى القناع .......................................................................... 88 7 - نهاية عصر .......................................................................... 91 8 - الحرب .......................................................................... 102 9 - استراتيجية الحرب القادمة .......................................................................... 104 الفصل الثالث: الحياد الإسلامي .......................................................................... 109 أولا: العالم الإسلامي والحياد .......................................................................... 109 ثانيا: الحياد الإسلامي والدبلوماسية الغربية .......................................................................... 114 ثالثا: نتائج دولية للحياد الإسلامي .......................................................................... 120 القسم الثاني العالم الحديث قضية حضارة .......................................................................... 127 صدمة عودة الحرب .......................................................................... 130 تخطيط وتبشير الإسلام .......................................................................... 135 خطة المسلم .......................................................................... 137 أخوة وتآخ .......................................................................... 144 خاتمة المسارد 1 - مسرد الأعلام (يشمل الأشخاص والدول والأمكنة) .......................................................................... 153 2 - مسرد الشعوب والجماعات والمذاهب .......................................................................... 158 3 - مسرد المعاهدات والمؤتمرات والاتفاقيات .......................................................................... 159

كلمة الناشر

كلمة الناشر (ربما الأوفى أن أخص بالصفحات القادمة جيلا سيأتي؛ يعقب جيلي، لنؤكد لهم- وهم بين أنقاض عالمنا - أن عليهم واجب بناء عالم خاص بهم) [المقدمة ص 30]. ربما كانت الحرقة البادية في كلمات مالك بن نبي هذه، وراء قراره الذي اتخذه يوم 22 - 1 - 1952 بحجب كتابه هذا عن النشر، عند فراغه من كتابة السطر الأخير منه. وإذ يتولى , الأستاذ عمر مسقاوي، الوصي على فكر مالك الآن؛ الإفراج عن هذا الكتاب الوثيقة؛ ليصدر في 22 - 1 - 2012، بعد ستين عاما من حجبه، فإن ذلك يثير التساؤل أكان قد آنس في الجيل الجديد رشدا؛ يؤهله لوعي الرسالة التي يحملها؟! وهذا التساؤل يثير بدوره سؤالا آخر: أكانت أعمال مالك بن نبي الأخرى؛ المنشورة على مدى ستين عاما، قد استقرت في وعي الأجيال التي تعاقبت خلالها، فتلمست عبرها طريق النهوض؟! لقد أفنى مالك بن نبي عمره في استنهاض الإنسان المسلم، وتأهيله لاستلام راية الحضارة الإنسانية، التي أخذت تترنح في أيدي الغرب، لكن حجم الرواسب التي حملها المسلم معه إبان نكوصه الحضاري، كانت أكبر من طاقة مالك على تصحيح المسار؛ فعاش عمره غريبا يغرد خارج السرب، شأن كل الأنبياء والمصلحين.

وقد استحكمت غربة مالك بن نبي على الساحة الفكرية؛ نتيجة منهجيته الصارمة التي رتب أفكاره عليها؛ ورؤيته البعيدة التي تضع مشروعه النهضوي في إطاره الإنساني الشامل، وفي موقعه على مسار الدورات الحضارية، متميزا بذلك عن مفكري حركة النهضة؛ بشقيها: السلفي العاكف على تراثه يحاول تكييفه مع حاجات العصر، والحداثي الذي يروم قطع صلاته بالتراث؛ ميمما شطر تجارب ليس لها في أرضه جذور، فلم يفهمه أي من التيارين، ولم يمكن تصنيفه ضمن واحد منهما، فكان مرفوضا منهما كليهما .. لكن غربة مالك بن نبي قد آذنت بالأفول على ما يبدو، فأفكاره التي استعصت على الفهم لدى أجيال النكبة والانتكاس الحضاري، قد أخدت طريقها الآن إلى جيل الشباب الذي استهدفه مالك، وخصه بهذا الكتاب، فأصبحنا نرى كتبه في أيديهم ينهلون منها نظريا، ونرى أفكاره تتحقق نبوءاتها على أيديهم عمليا، بداية لعصر جديد أمسكوا فيه بزمام المبادرة، وأطلقوا عليه اسم (الربيع العربي).

مقدمة الترجمة العربية عمر مسقاوي

مقدمة الترجمة العربية عمر مسقاوي في الصفحات الأخيرة من كتابه الذي سماه (Vocation de l'Islam) الجزء الأول والثاني. نظر مالك بن نبي إلى المشكلة من مكوناتها التاريخية، وكان هذا التقرير يلخص عمق التحدي الذي يواجه العالم الإسلامي، الذي انطلق من المشكلة نفسها؛ القضية الفلسطينية. هذه الصفحات هي المدى الذي انطلق منه مشروع بن نبي في معالجة القضنة اليهودية وهو يتأمل مصير العالم الإسلامي والعربي واتجاهاته انطلاقا من بداية القرن العشرين. فكتاب (وجهة العالم الاسلامي) في جزئه الأول ثم في جرئه الثاني؛ حاول الجواب عن سؤال الهيمنة اليهودية بصورة مختلفة عما تناولها مختلف الباحثين. لقد تحدث مالك بن نبي من شرفة قضية فلسطين منذ نكبة عام 1948 م، فبسط رؤيته في صورة وصفيه رؤيوية لمساحة السنين القادمة من القرن العشرين. ولقد تناولها بن نبي من زاوية (القابلية للاستعمار) في تحليله الذي جاء من منابع أخرى، لم تقف عليها من قبل دراسات حول القضية كنتيجة تاريخية لا يملك العالم العربي حلا راهنا لها في العمق، ما دام الموقف التاريخي من بروز فكرة الاستعمار لم يأخذ سبيله إلى وضع تلك المشكلة في مدار الحل التاريخي.

وهذا ما يبدو من المقدمة التي افتتح بها مالك بن نبي دراسته في الجزء الثاني من كتابه (وجهة العالم الإسلامي). يقول بن نبي: (إن قدرا تميز بطابعه الغريب أحاط بالكاتب؛ يدعونا إلى أن نتمهل قبل أن نكتب مقدمة خاصة لهذه الدراسة التي استرسلنا فيها بعيدا عن حدودها، لنرى أولا إذا كان ما نكتبه يمكن نشره؛ فالقسم الأول من هذه الدراسة (وجهة العالم الإسلامي) الذي نشر في كانون الثاني / يناير 1951، والقسم الثاني الذي نحن بصدده الآن مختلفان من حيث طبيعتهما. فالقسم الأول يمكن أن يعتبر في العمق اختصارا لدراسة داخلية للعالم الإسلامي، وبالخصوص (القابلية للاستعمار)، وهذا قد اقتضى العودة إلى استعراضنا خط تطور العالم الإسلامي من قيام حالة القابلية للاستعمار (عصر ما بعد الموحدين) إلى قيام حالة الاستعمار حينما استعمرت أوروبا المسيحية البلاد الإسلامية. وبالمقابل فهذه الدراسة في القسم الثاني من (وجهة العالم الإسلامي) هي دراسة خارجية مستقبلية تركز على القضية الإسلامية في إطار القضية العامة التي سوف تأتي). فدراسة الجزء الأول من (وجهة العالم الإسلامي) تناولت شؤونا داخلية انتهت إلى الطرق الجديدة في التجدد النفسي والروحي، وهنا تلاقت دراسة الجزء الثاني من (وجهة العالم الإسلامي) مع الجزء الأول في قسمه الخاص بالتخطيط للدعوة الإسلامية، لكن القسم الأول من كل منهما بدا منفصلا عن موضوع (وجهه العالم الإسلامي) في جزأيه؛ لأنه انصرف إلى عميق رؤيته في مكونات العصر الحديث، وسره الخفي في لغز تأثير الفكر اليهودي في بناء العالم الأوروبي وظاهرة الاستعمار، ولأن هذا العالم الغربي الأوروبي سيظل في مسيرة النصب الثاني من

العصر الحديث ووجهة العالم الإسلامي

القرن العشرين مهيمنا على أي نهضة أو تحرك في العالم الإسلامي والعربي ما دام طريقه لم يستقم في الخروج من مرض القابلية للاستعمار، فقد تبين له أن من تمام دراسته في الجزء الأول التي أفاض فيها نقدا لليقظة الإسلامية على سرير القابلية للاستعمار؛ أن يبسط في الجزء الثاني للجيل القادم معالم الطريق في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ هذا العالم الذي سوف يفرز مسارا جديدا للاستعمار إذا لم يحل العالم الإسلامي والعربي مشكلته الأساسية، لأن الخروج من الاستعمار المباشر نحو الاستقلال السياسي؛ لا يكفي إذا لم يكن نتيجة الخروج من مرض القابلية للاستعمار في الجانب التربوي والثقافي ليرفع من كفاءته في مواجهة مستقبله. العصر الحديث ووجهة العالم الإسلامي بداية تاريخية مع نشوء مصطلح (Renaissance) في بداية القرن التاسع عشر، كما تجلى في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، كانت هنالك عملية إحياء تاريخي محدد المعالم والصفات، كامل الوجود والمقومات، ينسحب من عمق التراث اليوناني والروماني، ومن خلال هذه التطورات في نظم تطور أوروبا؛ انتقل مفهوم الثقافة إلى إطار أكثر تخصصا وتجريدا في بناء العلوم الاجتماعية والنفسية التطورية، وبدأ مصطلح (Renaissance) يشير إلى بعث وقيامة جديدة استقرت مع آلية عصر الأنوار تتمسك بمفهوم التقدم انطلاقا من المعطيات المضمرة للثقافة الغربية التي ارتبطت بالأرض والنزعة الكمية مع (أوجست كمت) والمادية الوثنية. فكتاب شروط النهضة الجزائرية هو خلاصة انعكاس هذا الواقع على رؤية بن نبي في تحديد المنطلقات الرئيسية لسلسلة كتبه (مشكلات الحضارة).

كانت الجزائر مساحة التحليل التي انتهت إلى مفهوم القابلية للاستعمار؛ كواقع نفسي يحدد مرحلة معينة من واقع المعنى (المضمر) الذي رسخته الحضارة الإسلامية في عمق الجزائر , في مرحلة الأفول والانسحاب من المسار التاريخي للحضارات, وكان كتاب (Vocation de L'islam) (وجهة العالم الإسلامي) تحديدا تنطلق فيه استراتيجية مماثلة لاستراتيجية ولادة أوروبا من جديد فى إطار مفهوم (Renaissance)؛ أي إعادة النظر في التراث القديم بعد تصفيته من جميع مؤثرات الحضارة الإسلامية التي أفلت بعد سقوط الأندلس. فبن نبي في كتابه شروط النهضة الجزائرية تحدث عن الشروط السابقة للحمل، من أجل ولادة جديدة لنهضة الحضارة الإسلامية بعد تصفيتها من جميع مؤثرات عالم ما بعد الموحدين، والمصطلح الأوروبي هنا تحدث عن الوليد الجديد في عصر النهضة، في حين انطلق كتاب (شروط النهضة الجزائرية) من مفهوم القابلية للاستعمار؛ أي واقع الجزائر القائم، وشروط الحمل أولا ثم ولادة النهضة. إن استراتيجية مفهوم تجديد النهضة (Renaissance) في كتاب شروط النهضة الجزائرية تختلف عن استراتيجية مصطلح تجديد النهضة كمفهوم (Conception) في التاريخ الغربي، رمن هنا (كما تحدث بن نبي في مقدمة الكتاب) كان أثر الاستهجان الذي لقية كتاب شروط النهضة من قرائه المتأثرين بالثقافة الغربية - كما ذكر في مقدمة الكتاب - ناشئا من اعتبار الغرب المصدر الوحيد لرؤية العالم, من هنا بدأت فكرة النهضة في المشروع العربي والإسلامي؛ تتجه نحو الخروج من هذا الواقع القائم؛ كدليل على الإحساس بالفارق بين واقع التخلف لديه وواقع نهضة أوروبا. لذا فهم يفكرون بالنهضة التي يرون نماذجها، ولا يفكرون في بناء نقد نهضوي للخروج من الواقع الذي يعيشونه.

القضية مشكلة حضارية

ومن هنا كان شعار القابلية للاستعمار شعار صدمة أطلقه بن نبي للتفكير في بناء النهضة الإسلامية من جديد، لكن صدمته أدت إلى موجة الاستهجان هذه التي لقيها صدور كتابه (شروط النهضة)، وبات من خلال هذه الصدمة مدعوا لطرح المشكلة من جديد في كتابه (وجهة العالم الإسلامي)، حيث الولادة الجديدة (Renaissance) لا بد أن تنطلق من خارج الدائرة التي رسمها الاستعمار، أي خارج القابلية للاستعمار، في الإطار الذي يتصل بالاطراد التاريخي لفاعلية الفكرة الإسلامية التي انطلقت من عاملين أساسيين: الفكرة الإسلامية التي هي أصل الاطراد، ثم المسلم الذي هو السند المحسوس لهذه الفكرة. القضية مشكلة حضارية فنشوء الدورة الحضارية يرتبط صعودا وهبوطا من حيث الأساس بالعلاقة العضوية التي تربط الفكرة بسندها، ومن هنا يبدأ دور الإنسان في بناء عالم محيط حوله تتحدد في إطاره قيم الأخلاق ومدى ارتباطها بالمثل العليا والجمال، ومدى التعبير عنها طبقا لهذه المثل بالفاعلية، وارتباطها بالمنطق العملي في تفعيل الوسائل ذات الارتباط الوثيق بالقيم الأخلاقية والجمالية والعمل التقني. فالعناصر الأربعة: المبدأ الأخلاقي - المبدأ الجمالي- المنطق العملي ثم التقنية، هي الأساس التربوي الذي يحدد معيار الصعود والهبوط بقدر تضامن هذه العناصر في بيئه الفرد الذي هو السند الأساسي لمسار الحضارة. فالاقتباس من أوروبا، والاتصال بالتطور الكمي في الهيمنة على مسيرة الإنسانية، يتطلب من القابلية للاستعمار أن تنظر إلى الظواهر الغربية الأوروبية على أنها مسألة نسبية لا تعبر عن الحقيقة المطلقة فى مسيرة

التقدم، ومن خلال ذلك يستطيع العالم العربي والإسلامي أن يعرف وجوه النقص في الحضارة الغربية، كما سيتعرف عظمتها الحقيقية، وبهذا تصبح الصلات والمبادرات مع هذا العالم أعظم خصبا، وحينئذ نستطيع أن نبقي مفهوما تبادليا تنسج عليه الولادة الجديدة للنهضة وخياراتها. وهنا استكمل كتاب (وجهة العالم الإسلامي) نتائجه حينما انتهى إلى بناء طرائق جديدة في سبل النهضة التي بها يدخل العالم الإسلامي مسيرة العصر، ومن هذه الزاوية بدا الجزء الثاني من وجهة العالم الإسلامي يعالج موضوعا في البنية الفوقية التي هي أساس تكوين الغرب وهو يسير إلى نهايته بعد الحرب العالمية الثانية. فموضوع الجزء الثاني يعالج مسيرة العصر الحديث خارج نسق دراسة الجزء الأول. وإذا كان الجزء الأول من كتاب وجهة العالم الإسلامي قد انطلق من القضية الفلسطينية وهزيمة العالم العربي والمسلم أمام إسرائيل باعتبارها إحدى نتائج القابلية للاستعمار، لكن قيام دولة إسرائيل في فلسطين من ناحية أخرى بداية مؤشر انهيار الحضارة الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، أي في مسيرة النصف الثاني من القرن الماضي؛ من هنا يأتي كتاب وجهة العالم الإسلامي في جزئه الثاني يراقب من بعيد هذا الانهيار في معطيات نتائجه، ويعالج في الوقت نفسه خطط مستقبل العالم الإسلامي بعد نشوء دولة إسرائيل، وقد تأهل نفسيا للخروج من مرض القابلية للاستعمار. ولأن المراقبة المنهجية تعود إلى البدايات، لذا فهو يطرح القضية اليهودية في عمقها التاريخي من بداية تجسيدها في مسار الحضارة الغربية ومنهجها الاستعماري، ليستشرف تقلبها بكل موضوعية في سني النصف الثاني من القرن العشرين انطلاقا من معطيات الحاضر، وهكذا يضع سيناريو مبنيا على تتابع تاريخية ظاهرة الشتات اليهودي، ثم الحركة اليهودية وهي في هزيم

الحضارة الغربية الذي أرهصت به الحرب العالمية الأولى، ثم قضت الحرب العالمية الثانية على تماسكه في تفصيل تحليلي دقيق. وفي إطار من التوقع المنطقي لمستقبل حركة اليهود، ابتداء من ظاهرة الشتات اليهودي في أوروبا إلى نهاية العصر الحديث، كان القسم الثاني من الدراسة مهتما والمدى الذي يستطيع فيه العالم الإسلامي، انطلاقا من تجربة الحاضر، أن يمارس دوره في طرائق جديدة لحضوره في المستوى العالمي حين يتأهل حاضره كحامل رسالة هي بلاغ الله إلى الإنسانية في بناء مستقبلها. ومما زكى الجزء الثاني من الدراسة تلك التفاؤلية التي انصرف إليها فكر بن نبي عقب نكبة فلسطين كبارق أمل لاح في أحداث برزت دفعة واحدة في المغرب والمشرق؛ وهي الثورة في مراكش ضد الاستعمار الغربي، وموقف محمد الخامس، وسياسة الوفد في عهد نحاس باشا ضد الوجود البريطاني في مصر، وإلغاء معاهدة 1935، وقد أخذ ذلك مسارا ثوريا، ثم سياسة مصدق في إيران وتأميم مصافي عبادان ضد الشركات البريطانية، تحديدا في عام 1951، وهو التاريخ الذي آثار تفاؤل بن نبي، كما عبر عنه في مقدمة الكتاب فقال: (إن الأحداث التي مرت عام 1951 رسمت للإنسانية عاما مفصليا على وجه العموم؛ حين أبرزت القضية المراكشية وحدة مسار غدت ضائعة وإلى الأبد منذ عهد تخلف العالم الإسلامي، هذا الحدث الهام قد داهمني وبالخصوص على مستوى وجودي الشخصي، وقد فرض علي هذا كله فكرة هذا القسم الثاني من الدراسة كعمل مستقل نسبيا عن القسم الأول من (وجهة العالم الإسلامي)؛ إذ ربما الأوفى بي أن أخص بالصفحات التالية جيلا سيأتي ويعقب جيلي لنؤكد لهم، وهم بين أنقاض عالمنا، أن عليهم واجب بناء عالم خاص بهم.

فالعالم الإسلامي سوف يشفى مع الزمن بدون شك من القابلية للاستعمار، وغضبته الحاضرة (أي أحداث عام 1951) ضد الاستعمار ستساعده بالتأكيد، ولكن كيف؟ ومتى سيشفى؟ إذا لم يبن على وعي منهجي له مقدماته ونتائجه). ويؤكد بن نبي من خلال تجربته في عقدي الثلاثينيامت والأربعينيابت من القرن المنصرم مخاطر الولوج في دراسة كهذه؛ تكشف سر هذا العصر الحديث: (ولدت في عصر يدرك نصف الذي يقال بوضوح، لكن الذي يقول كلمة حول النصف الثاني يحاكم بكل قسوة). (بكل أسف! الاستعماريون فهموني بالنصف الآخر من كلمتي، ونلت منهم ما أستحق، فأنا في أعينهم لا أسب الاستعمار بل أقتله وهو داخل البيضة، أخنقه من جذوره التي تمتد في مساحة القابلية للاستعمار). هنا يؤكد مالك بن نبي أن مواجهة الحدث الأبرز فلسطين في العالم العربي والإسلامي؛ ليست في سب الاستعمار، كما أن أحداث عبادان في إيران (مصدق)، ومواجهة بريطانيا في قناة السويس لا تزال كلها مجرد حماس شعبي من روح القابلية للاستعمار، وإذن فالمشكلة لدى بن نبي هي الخروج من هذا المرض من خلال وعي منهجي له مقدماته ونتائجه. هذه المعطيات هي التي تقود نحو القضية اليهودية وأساسها في بناء أوروبا والعصر الحديث الذي يلخص مفهوم الاستعمار والعنصرية. فالذي هو غائب عن الفضاء العربي حول دولة إسرائيل هو المنهج في الرؤية المستقبلة بعد الحرب العالمية، وهنا يقبل بن نبي المخاطرة؛ لأن خبرته نشأت من وعي عميق للمدى الذي يمارسه الاستعمار في الجزائر

كما في العالم العربي والإسلامي، كنموذج رصد للأفكار في المدى الاستخباراتي انتهى إلى سيادة العصر الإسرائيلي. هذا العصر تنبأ به مالك بن نبي منذ العشرينيات في عبارته الشهيرة؛ في شهادته التي استعرضناها حين قال: إن القرن العشرين هو قرن اليهود -الدولار - المرأة. ومن هذا التقديم الموجز لفكرته في الجزء الثاني من كتابه (وجهة العالم الإسلامي) يدخل بن نبي في صلب الموضوع، وهنا تتبدى لنا المشكلة اليهودية في معظم صفحاته من خلال بناء أوروبا التاريخي تحت شعار الاستعمار في سائر مظاهر حضوره العسكري أو العلمي أو الثقافي الذي أحاط بفراغ القابلية للاستعمار. وبن نبي هنا يحاول أن يكشف السر الخفي للعالم الحديث الذي نجده مبسوطا في فصول هذا الكتاب، وهو يبدأ من اتجاه الشتات اليهودي مع بداية العصر المسيحي، وقد مكن ذلك لليهود القادمين ما لم يكن مألوفا في الشرق؛ فقد جاؤوا أوروبا مشتتين منبوذين غير فاتحين، لكن الشعب الأوروبي أوسع لهم الإقامة، وغدوا في النهاية هم المسيرين الحقيقيين للعمل الأوروبي والثقافة والسياسة والحياة الاقتصادية، ومن هنا تبدأ فصول القسم الأول من الكتاب تتدرج في تفاعل الخطة التاريخية لليهودي من ناحية وللغوييم من ناحية أخرى، وقد تجسد ذلك في النهاية في الحضارة الغربية مع ظاهرة الاستعمار في كامل قوة هيمنتها على رؤية العصر الحديث. إن القسم الأول من فصول الكتاب خارج موضوع الجزء الأول من كتاب وجهة العالم الإسلامي، لكنه بدا لازما لجيل الغد الذي اجتاز عقبة القابلية للاستعمار ليبني - بكل انفتاح - عالما جديدا في خطط جديدة طرحها في القسم الثاني الذي يصل القارئ بموضوعه الأساس في الجزء

الأول من الكتاب، فقد تابع خطط اليهود في بناء الحضارة الغربية، في سائر مراحلها وبكل موضوعية، حين كان بن نبي يراها جلية أمامه عام 1951 كمشهد مستمر ومتفاعل في مسيرة الحضارة الغربية إلى نهاية القرن العشرين، وها إن مختلف الدراسات التي ظهرت مؤخرا في مساحة العقود التي تلت؛ قد طرحت تأييدا علميا وتاريخيا حول دراسة بن نبي، لذلك السر الخفي الذي انتهى إلى فوضى ما بعد الحداثة كما تصورها؛ نتيجة حرب عالمية ثالثة تنتهي بقوة التقدم في الأسلحة المدمرة، وقد توقع انهيار الاتحاد السوفسيتي أولا في كلا الحالين. بقي السؤال المطروح دائما: لماذا أخرج بن نبي هذا الكتاب من التداول فبقي وديعة لدى أصدقائه وغاب عن عناوين إنتاجه؟ إذا نحينا جانبا مصاعب نشر الكتاب في ظل الرقابة الفرنسية الاستعمارية، يبدو بن نبي في سائر إنتاجه في موقع المقاتل في معركة الخروج من القابلية للاستعمار في ثورته ضد الاستعمار، وهنا نراجع مقدمة مذكراته (العفن) (Pourriture) وكان قد أنهى كتبه الثلاثة - أو كاد -في الأول من آذار/ مارس 1951، حيث قال: (ولدت في عام 1905؛ أي في زمن بدأت تظهر فيه الخطوط الأولى لمجتمع جديد ... فأنا إذن أنتمي إلى جيل أصيب بلعنة الزمن، حين أقفلت فيه دورة حضارة الإسلام القديمة، لتفتح دورة عهد جديد تتضامن فيه في عصرنا القابلية للاستعمار من ناحية والاستعمار من ناحية أخرى. وإذ يظهر أي منهما في مسار الأيام فتلك علامة نظام جديد لكنه غير قابل للتحديد. لكن هذا النظام في شقين متضامنين ومترابطين في النهاية. الشق الأول: القابلية للاستعمار نتيجة غروب حضارة الإسلام. وهي بطبيعتها تبقى على الجمود.

الشق الثاني: الاستعمار الذي نشأ مع عالم الحضارة الغربية وهو يستغل جمودها وسكونها لصالحه). هذه المقدمة لكتاب (العفن) (Pourriture) التي تزامن شخها مع تاريخ كتابه هي التي تفسر لماذا كتب بن نبي الجزء الثاني من كتابه (وجهة العالم الإسلامي)، في قريته في فرنسا (Luat) في 5/ 12/ 1951. أي إن الجزء الثاني الذي تناول قضية اليهود كأحد طرق الكفاح ضد الاستعمار؛ جاء في إطار منهج وضعه بن نبي منذ البداية لمشروعه النهضوي رغم مصاعب الطريق، فهو لا يكتب كمستكشف ليخرج على جمهور القراء بمعلومات جديدة، بل ليعد ما استطاع من قوة المنهج والمنطق، في بناء جيل يستعيد للإنسانة حضارة الإسلام، إثر انهيار مرتقب للعالم الحديث، ومن هنا انصرف إلى كتابه، وقد بدأ يخطه في حماس إلى أن فرغ من إنجازه كما أرخ في 22/ 1/ 1952 وهو يوقع آخر صفحة فيه (¬1). ¬

_ (¬1) نشير إلى ما كتب بالفرنسية في مذكرات الكاتب عام 1951؛ يتحدث عن قضائه الليلة الأخيرة من شهر رمضان في منزل عائلته في تبسة: (في منتصف رمضان تركت فيليفيل إلى تبسة، كنت سعيدا إذ أمضيت آخر يوم من رمضان مع والدي وأختي عتيقة وابن عمي صلاح وجمع من الأصدقاء. في تبسة أصبحت تحت الرقابة الشديدة من البوليس. لذا لم أخرج من البيت طيلة النهار، وأمضيت في النادي السهر مع (سي صدوق وحشيشي ومختار) [أصدقاؤه] وهذا الأخير آنس في وجهي إذ يحدثني علامات القلق. فمال إلي، وكنا جالسين وحدنا على مقعد في النادي، وقال لي: سي مالك ... يجب أن تصبر وتتحمل، ساعدك الله، لا شك أنك متألم، إنما عليك المزيد من الصبر، إذ لو انهزمت وأنت في المقدمة تواجه بفكرك فماذا أصنع وأنا من عموم الشعب؟. لقد أضافت كلمات مختار إلى متاعبي عبئا، ففي هذه اللحظات لم ألاق يأسا مظلما وبغير أفق كما لاقيته عام 1951، لكن رغم هذا الضغط من البوليس الذي أرهقني وأرهق أعصابي، فقد أحيت هذه الكلمات شعورا من المقاومة متجددا =

لكنه ما إن انتهى من صفحات كتابه الجزء الثاني حتى تبين له - على ما يبدو لنا - أن الأمر ما زال يقتضي بيان تفصيل في المشكلات الداخلية التي عرضها في الجزء الأول من كتابه (وجهة العالم الإسلامي) فاسترسل في طرح مضمون كتابه المنشور، وترك كتابه هذا إلى ما سوف يأتي في مساحة النصف الثاني من القرن العشرين (¬1). فقد رأى بن نبي أن الشفاء من مرض القابلية للاستعمار يتطلب مزيد وعي في الحياة الداخلية في الثقافة والانضباط والتربية كما حددها في كتابه (شروط النهضة)، وفي المدى العالمي فالأمر يحتم بداية خروج آسيا وإفريقية (محور طنجة - جاكرتا) (أي جغرافيا القابلية للاستعمار) من ¬

_ = حين أشاعت في نفسي ارتياحا فلجأت إلى الصلاة ....) ثم يضيف: (كانت الأخبار المتفائلة في المدى العالمي قد دفعتني لأن أستقل الباخرة عائدا إلى فرنسا إلى Luat) . ونعتقد أن الأخبار المتفائلة التي أشار إليها في بداية الكتاب هي نفسها التي أشار إليها هنا، وهي التي صاغت فكرة القسم الثاني من كتاب (وجهة العالم الإسلامي). Mémoires d'un Temoin du siècle l'ecrivain p.p 309 ed: samar. مالك بن نبي مذكرات شاهد للقرن بالفرنسية. (¬1) في مذكرات شاهد للقرن قسم " الكاتب " كتب بن نبي: (لقد فرغت منذ أسبوعين أو ثلاثة من القسم الثاني من كتاب Vocation de) l'Islam) الذي لم أتوقع إنهاءه العام الماضي. لقد أوقفت كتابته فنحن الآن يوم الأحد 24 شباط 1952، وأنا أجهل نهاية هذه المأساة، فإذا كان لما كبت نتيجة ما فإنني أظن أن القارئ سوف يعرفها بطريقة أو بأخرى). نستطيع أن نفهم من وراء هذه العبارة لماذا أوقف نشر هذا القسم من كتابه بتاريخ 24 شباط 1952 بعد أن أنهى الكتابة فيه بتوقيعه في 22/ 1/ 1952 وتركه لجيل قادم سيأتي بعد انهيار الحضارة الغربية، وهذا ما يعبر عن تصور بن نبي لقيام عصر جديد بريء من القابلية للاستعمار - وكذلك لعالم بريء من الاستعمار.

تبعية محور واشنطن - موسكو وهي (تمثل جغرافية الاستعمار)، وبدا ذلك خطابا أوليا عبر كتابه (الفكرة الإفريقية الآسيوية)، وهكذا في هجرته إلى القاهرة اعتبارا من عام 1956 انصرفت دراساته إلى بناء المؤسسات الذي تجلى في كتابه (فكرة كومنولث إسلامي) عام 1960، ثم (الصراع الفكري) عام 1960 ثم (ميلاد مجتمع) عام 1961، و (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي) الذي صدر عام 1973 وكان قد وضع خطته كما أشار مقرونا بكتابه (الصرع الفكري) عام 1960. ولكي تأخذ هذه المؤسسات دورها كان الواجب يقتضي الوقوف عند حركة الاستعمار في الصراع الفكري الذي تقوده مراصد التوجيه الاستعماري في فكر أبناء القابلية للاستعمار. هنا تعرض في هذا الجانب (لمشكلة الأفكار) وفاعليتها في تنظيم اجتماعي يمنح الفرد طاقته الحضارية في بناء مجتمع له حضوره في المواقف والقرارات الدولية. ذلك أن ظاهرة رفض (مصطلح القابلية للاستعمار) لم تقتصر على الطلاب الجزائريين والقراء عام 1949، أي عام صدور كتابه (شروط النهضة)، بل إن من قراء كتابه وكتبه اللاحقة في مصر بعد ذلك من أعلن استنكاره لهذا المصطلح أيضا اعتبارا من منتصف الخمسينيات، ثم إن الكتاب الإسلاميين أبدوا تحفظات على طروحات بن نبي في هذا المجال، مسجلين بذلك اكتفائية على شاطئ بحر المشكلات التي يواجهها العالم الإسلامي في مسار العصر الحديث. من هنا يبدو لنا - وهذا نقوله استنتاجا - أن بن نبي لم يشأ أن يطرح كتابه الجزء الثاني حول القضية اليهودية بالطريقة التي عالج فيها موضوعه في تتع أصول أوروبا وما وراء عصر النهضة؛ لأنه سيثير جدلا سجاليا في عالمنا العربي، وربما بتحريض السر الخفي يصرف عن جوهر خطة بن

نبي في إحياء حيوية الثقافة العربية الإسلامية في بناء فكر جديد، مع أن دور اليهود الذين اتخذوا طريقتهم في عمق مكونات الفكر العربي والإسلامي؛ قد وصل إلى نهايته في دولة إسرائيل التي جاءت تمسح الحضارة والتاريخ؛ بقوة السيطرة على فراغ القابلية للاستعمار التي تشكل خلفية نفسية أشار إليها بن نبي في كتابه (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة). فالمجتمع الإسلامي افتقد شبكة علاقاته في قوتها التي تعطي لمفهوم المجتمع كفاءته الحضارية، ومن هنا كان (ميلاد مجتمع)، وهو أحد إصدارات إقامته في القاهرة عام 1961، يهدف إلى إعادة صياغة المواطن والفرد في حيوية مجتمع قادر على مواجهة الأسرار العميقة لدور اليهود في إرباك خطاه. وقد أكد مالك بن نبي هذا المفهوم في مذكراته؛ فكتب في 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 1962 (إن مجتمعا الفرد فيه ليس لديه موقف محدد من القضايا يؤديه تضامنا مع الجماعة، هو مجتمع مصطنع؛ لأن الأفراد الذين يتألف منهم يعيشون كمتطفلين منذبين؛ لا يشعرون بأي حضور لهم، وذلك ما يهدم في ذاتهم قيمتهم كإنسان). ففي كتاب (الصراع الفكري) أشار بن نبي إلى هذا الجانب الذي عزل الفكر الإسلامي عن الإسهام في صنع العصر بفعل القابلية للاستعمار، فقد أصبح سلوك المسلم في نطاق العصر الحديث في حكم العقل الشرطي كما يحدده بافلوف، أي إنه لا يستطيع توجيه فكره وعمله باختياره طبقا لمقاييس يحددها عقله ويعيها ضميره، وهنا تبدأ الخطة التي يضعها الاستعمار استنادا إلى هذا السلوك الشرطي الذي ينتج عند المسلم بصفة طبيعية جراء الدوافع المتعلقه بغريزة الدفاع عن النفس، وهي الدوافع التي انطلقت من الهجوم الاستعماري في غرة القرن العشرين.

وينتج عن هذه الإيحاءات التي تسلطها على مشاعره من وقت إلى آخر المختبرات الخاصة، أنها ترفع توترات الدفاع عن النفس فوق الدرجة اللائقة حتى يكون الفرد في حالة شاذة، ويمكن أن نقول دون تردد إن هذه الدوافع المنطلقة في حالة غير عادية نتيجة الإيحاءات السلبية هي التي جعلت المسلم فيها منبوذ القرن العشرين، أي الشخص الذي يعيش على هامش المجتمع العالمي. ويصف بن نبي ما يلاحظ بشأنه فعلا حينما نراقب سلوك المسلم في المناطق الخارجة عن دار الإسلام أو القائمة على حدوده، أي في مناطق الاتصال بعالم الآخرين، نجده يسلك غالبا مسلك المتهم أو المتهم؛ أي مسلك الفرد الذي يعيش خارج المجتمع العالمي في القرن العشرين، وذلك ما يلقي ثقلا على مصيره في الوقت الذي يتقرر فيه مصير العالم بإجماع الإنسانية. هذه النقطة التي أوردها مالك بن نبي في كتابه (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة) عام 1960 نجد صورتها في الأحداث الحاضرة؛ حيث المراصد الاستعمارية للصرع الفكري منذ بداية القرن الواحد والعشرين استطاعت بفعل القابلية للاستعمار البعيدة عن فهم العالم، وتحليل المرامي الأساسية للدفاع عن النفس، استطاعت المراصد الاستعمارية في هذا الجو النفسي أن تضع المسلم والعالم الإسلامي منبوذا، وفق تعبير بن نبي، بفعل السلوك الخارج عن حدوده، ومثاله ما جرى أو نسب إليه في 11 أيلول/ سبتمبر، فضلا عن المبادرات الفردية التي تضعه في قفص المراصد الاستخبارية، أعني في قفص المصطلح المتداول (الإرهاب) الذي أصبح قضية في مستوى العالم غطت ما يجري في فلسطين من خطة إسرائيلية هي طابع العنصرية في أقصى درجات العداء للإسلام، هذا الدين الذي هو المرجع الأخير لوحدة الإنسانية. من هنا نرى بن نبي قد اهتم في العقود الثلاثة الأخيرة من حياته

بتأسيس بنية الفكر والثقافة كمشكلة حضارة لصلاح العالم الإسلامي، وطوى - على ما يبدو - نهائيا نشر كتابه هذا حول القضية اليهودية، إذ تركه لجيل قادم عسى أن تكون رؤيته قد نضجت في مرحلة ملائمة. من هنا اهتم قبل وفاته بسنوات ثلاث بدور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين، وذلك عبر محاضراته التي ألقاها في دمشق ونشرت تحت عنوان (مجالس دمشق)، ففي هذه المحاضرات طرح مشكلة العالم الإسلامي في محور طنجة - جاكرتا في بداية السبعينيات، من زاوية تزكي حضور الجيل المسلم كما سائر القوى والشعوب في صنع الحدث على المستوى العالمي، ذلك أن العالم كله أصبح - كما قال في كتابه (الفكرة الإفريقية الآسيوية) - في مسار واحد نحو المصير، وذلك ما لم يدركه الفكر الإسلامي الذي ما زال مطبوعا بعقد تاريخ الحضارة الإسلامية، وهذا ما حجب عنه النظرة النقدية للتراث التي تفتح أبواب المواجهة لما وراء أكمة السر الخفي؛ الذي حاول فيه طرح المشكلة اليهودية كواقع فاعل في مسيرة العصر. لقد توفي بن نبي عام 1973 وكان كتب مقدمة لنشر كتاب (وجهة العالم الإسلامي) الجزء الأول أكد فيها أن العالم الاسلامي منذ نشر كتابه بالفرنسية في بداية الخمسينيات حتى عام 1970 تاريخ تجديد الطبعة الفرنسية، لم يتقدم بأي خطوة يبنى عليها. ولذلك فهو مهدد بالمصير الذي تنبأ به في ختام كتابه الجزء الثاني وهو نهاية العالم الإسلامي. إن سائر ما عرضناه من أسباب غياب الجزء الثاني من (وجهة العالم الإسلامي) الذي كتبه بالفرنسية والذي نترجمه إلى العربية، سوف يطرح السؤال مجددا بصورة معاكسة: وإذن لماذا نعمد اليوم إلى نشره مترجما إلى العربية؟ في الواقع هذا السؤال مطروح، وقد تداولت مع أصدقائي من تلاميذ

بن نبي، ورأيت إلحاحا في استكمال كامل تراث بن نبي، فهذا الكتاب يكشف عمق خلفية بعض دراسات مالك بن نبي في تحديده لطابع العصر الحديث. وإذ إن المسار اليهودي في عمق مكونات العقل الأوروبي قد أخذ مداه إلى نهايته، وألقت أوروبا وأمريكا القناع أمام مصير الإنسانية بمثل ما فعل اليهود، وأضحت إسرائيل القوة الكبرى في الشرق الأوسط، وأنزل الستار عن سائر مهازل القرن العشرين في ساحتنا العربية والإسلامية، فإن كتاب بن نبي الغائب أو المغيب لا حرج عليه أن يأخذ مكانه في رواية العصر الحديث، فبن نبي لم يطرح المشكلة اليهودية لمحاكمتها بل لمحاكمة القصور الذي يعبر عنه بالقابلية للاستعمار، أما المشكلة اليهودية فقد عالجها بكل رصانة الباحث وبكل موضوعية واحترام، لقد أدان أذاها الخفي والمعلن في حرب على الحضارة الإسلامية، لكنه قدر في الوقت نفسه مدى فاعلية تخطيطها وتضامنها، هذا التضامن ووحدة الهدف في آليته الدقيقة شأن هام في منطق الفاعلية الذي هو أساس حيوية مشروع بن نبي في طرح المنهج الفكري. هذا الكتاب المترجم من الأصل الفرنسي نضيفه إلى السلسلة عملا بالتفويض المعطى لنا في وصية مالك بن نبي رحمه الله، وعسى أن نكون قد وفقنا في اجتهادنا. وقد طلبت من صديقنا الدكتور رضوان السيد الكاتب والباحث في الحضارة الإسلامية والعصر الحديث الاطلاع على هذا الكتاب، فتفضل بقراءته وزودنا بكلمة حول هذه الدراسة، فشكرا على مساهمته القيمة. عمر مسقاوي طرابلس في 20/ 1/ 2011

هذا الكتاب

هذا الكتاب رضوا ن السيد عرفت كتب الأستاذ مالك بن نبي منذ الستينيات من القرن الماضي، وبواسطة الأستاذ عمر مسقاوي ودار الفكر. لكنني ما عرفت هذا النص بالطبع، الذي يقول مترجمه ومقدمة الآن إنه ظل مطويا بالفرنسية بين أوراق الأستاذ مالك بن نبي منذ إنجازه له عام 1951. ومع ذلك فإن شذراب من الأطروحات المتداولة في الكتاب موجودة عرضا في مؤلفات الأستاذ بن نبي الأخرى، وبخاصة المنشور منها بعد العام 1967. يتضمن الكتاب فكرتين رئيسيتين: أن اليهود عندما تهجروا من إسبانيا مضوا إلى أوروبا الشرقية والعربية قصدا، وأنهم بمقتضى ذلك استطاعوا السيطرة على العالم الحديث الذي ظهرت تكويناته الفكرية والسياسية في القارة القديمة؛ بما في ذلك الرأسمالية الغربية والماركسية الروسية والأوروبية. وقد كان يكتب ذلك والحرب الباردة في بداية عهدها في الحرب الكورية. وهذه الأفكار كانت شائعة ومتداولة في النصف الأول من القرن العشرين. إنما اللافت ليس فكرة السطوة اليهودية القائمة على عالمي الأفكار والمال؛ بل اندراج ذلك في المقولة الكبرى للأستاذ بن نبي بشأن القابلية للاستعمار. وقد شرح ذلك في (وجهة العالم الإسلامي) الجزء الأول، وهو يتابع هذه الرؤية العميقة في هذا الجزء. فبالنسبة له، جاء الاستعمار إلى عالم المسلمين بسبب القابلية له في عالم ما بعد

الموحدين، وهو يمكن أن يذهب في النضال الآسيوي/ الإفريقي؛ لكن الخطر بقاء أو تخليد القابلية للاستعمار، والمشكلة اليهودية العويصة جزء من هذه القابلية، أو يمكن أن تبقى كذلك بسبب اختراق اليهود للغرب والشرق، وحصول الهولوكوست، وأول نتائجه قيام دولة إسرائيل. إن الأستاذ بن نبي يقدم بهذه الطريقة منهجا لفهم كبريات ما بعد الحرب الثانية، والصراع الرأسمالي/ الشيوعي، وموقف وموقع المسلمين من هذه الأمور، وكيف يمكن الخروج من الاستعمار والقابلية له في الوقت نفسه. ومن هذه الوجهة فإن الكتاب الجديد يستحق القراءة والتقدير. وفي مقدمة الأستاذ مسقاوي إضاءات لا يستهان بها تتعلق بالمنهج والمقاربة، كما تتعلق بالسياق.

مقدمة المؤلف

مقدمة المؤلف ليس من المعتاد أن يكتب لقسم ثان من دراسة، مقدمة خاصة؛ لكن قدرا تميز بطابعه الغريب، أحاط بالكاتب، يدعونا إلى أن نتمهل لنكتب مقدمة خاصة لهذه الدراسة، التي استرسلنا بها بعيدا عن حدودها، لنرى أولا إذا كان ما نكتبه يمكن نشره أو أنه لا يمكن نشره. فالقسم الأول من هذه الدراسة (وجهة العالم الإسلامي) الذي نشر في كانون الثاني/ يناير والقسم الثاني الذي نحن بصدده الآن مختلفان من حيث طبيعتهما. فالقسم الأول يمكن أن يعتبر في العمق اختصارا لدراسة داخلية للعالم الإسلامي، وبالخصوص من زاوية (القابلية للاستعمار)، وهذا قد اقتضى العودة إلى استعراضنا خط تطور العالم الإسلامي من قيام حالة القابلية للاستعمار (عصر ما بعد الموحدين)، إلى قيام حالة الاستعمار حينما استعمرت أوروبا المسيحية البلاد الإسلامية. بالمقابل فهذه الدراسة في القسم الثاني من (وجهة العالم الإسلامي) هي دراسة خارجية مستقبلية تركز على القضية الإسلامية في إطار القضية العامة التي سوف تأتي. فالأحداث التي مرت عام 1951 رسمت للإنسانية عاما مفصليا على وجه العموم، وعلى الخصوص للعالم الإسلامي الذي سيأتي، وذلك ما أوحى إلي القسم الثاني من هذه الدراسة، حين أبرزت القضية المراكشية مشكلة وحدة مسار غدت ضائعة وإلى الأبد منذ عهد تخلف العالم الإسلامي. هذا الحدث الهام الذي برز في ذلك العام قد داهمني، وبالخصوص

على مستوى وجودي الشخصي، واتخذ لسبعة أشهر مضت طابع أزمة لم أعرف لها حلا، وقد فرض هذا كله علي فكرة هذا القسم الثاني من الدراسة كعمل مستقل نسبيا عن القسم الأول من وجهة العالم الإسلامي. لذا رأيت للحظة راودتني أن أعطيها عنوانا خاصا: الطروحات الحدية للإسلام " Les tables modernes de L' Islam" لكن عنوانا كهذا يبدو غير كاف ليشير من ناحية أخرى إلى عمل يستر وراءه الوحدة الأساسية لهذه الدراسة؛ فهذا العنوان بدا لي وكأنما هو طريقة للهروب إلى عنوان جديد لا صلة له بالطابع الخاص للقسم الثاني من الدراسة. لذا ربما الأوفى أن أخص بالصفحات القادمة جيلا سيأتي؛ يعقب جيلي، لنؤكد لهم وهم بين أنقاض عالمنا، أن عليهم واجب بناء عالم خاص بهم. فمصلحتهم لا غنى عنها في هذا القسم الثاني من الدراسة إذا ما وجد رجال الغد في ركام عالمنا بعض المعطيات الأساسية لبناء جديد .. فالمعطى الأساس الذي سوف تبنى عليه هذه الدراسة، سوف يرشد الجيل الذي يأتي بعدنا بشكل أفضل، حين يعرف أنه ليس عليه أن يفرق في أوحال أي من خصائص عصرنا الأكثر بروزا وظهورا والأكثر جدلا، بل على العكس من ذلك عليه أن يبني عالمه الروحي الذي يرتكز عليه مجرى عمقه الخفي: " Ce qui constitue son mystère son cour son d'ombre sur fond cache son arcane '' هذا الاهتمام هو الذي أتطلع إليه هنا من أجل أن يعلم الجيل الجديد مسبقا أن عليه أن يحرر مستقبله من هذه التركة. علي أن أشير هنا إلى أن رجل المستقبل سوف يباشر عالمه وقد تجاوز

الاهتمام الذي تمر به سياستنا في هذا العصر كما تجاوز ما نحلم به ونتطلع إليه، أو ما تحققه مقاربتنا العقلية المنطقية، أعني ثقافتنا الأكثر اهتماما بماضينا المجيد من مستقبلنا غير الأكيد. فالاتجاهات التي أشرت إليها للتطور الإسلامي إنما كانت لمجرد التذكير بها في ضوء الأحداث الجارية. فالعالم الإسلامي اليوم يواجه، بدون شك، وببطولة وحيوية، وأحيانا بجرأة كبيرة، الاستعمار حيث تلقى هذا الأخير في هذا العام الجاري، عام (1951)، ضربات قوية ومفاجئة من مصدق والنحاس باشا في الشرق، كما قامت الأحزاب الوطنية في شمال إفريقية بضربات مماثلة، لكن لا نكاد نلمس قضية في هذه السياسة لها اتصال بالجانب الآخر من المشكلة وهي القابلية للاستعمار. ففي شباط/ فبراير الماضي أبرزت الحوادث في المغرب الطابع الدراماتيكي للموقف البطولي لجلالة ملك المغرب سيدي محمد بن يوسف، لكنه من ناحية أخرى كان محاطا في قصره بالآلاف من رعيته الذين يحركهم الخارج، وتبدو هذه الانتصارات على الاستعمار وفي معيار معين كأنما هي انتصار على القابلية للاستعمار في ظاهرها، وهذا الجانب من الانتصارات يظل في اللاوعي حين يغيب عنها وعيها في نتائجها. مع تطور إدراكنا للمشكلة فالمطلوب إذن أن تصبح هذه الانتصارات في صافي الوعي ليروها انتصارا على مشكلة خاصة جديرة بالمعالجة. فإذا افترضنا أن العالم الإسلامي، بحكم مسراه المستقبلي، وبغير وعي خاص للمشكلة، لم يعد فعلا (قابلا للاستعمار)، فذلك أمر هام لكنه دون أن يدري، وقد تجاوز المرض، وأصبح في دور النقاهة الأكثر حساسية لمدى الخروج من مرض قاتل، وهنا عليه أن يقيس دائما، وبكل

اهتمام، درجة تحسنه وصولا إلى الشفاء التام حتى لا يقع في انعكاسات خطيرة. فالانتصارات حين تأتي بحكم المصادفة تجعلنا سعداء حين يزايلنا المرض في شفاء مفاجئ، لكن القارئ يفهم بالتأكيد مدى الغموض في هذه النتائج حين توفرها مصادفة غير مؤكدة وطارئة، أي غير محصنة بمراجعة منهجية لأسباب المرض في مرحلته الاجتماعية. فالعفوية والتجريبية والعاطفة النبيلة والغضب المقدس؛ ذلك كله, هو طابع السياسة الإسلامية اليوم، كالغضب الذي يبديه مصدق ضد احتلال عبادان، والنحاس باشا ضد احتلال السويس. وقد تشفى أمراض بأعجوبة عقب غضب كهذا، ولكن متى؟ وكيف؟ هذه مشكلات لا تفرضها التجريبية كما لا تطرحها كمشكلة. فالعالم الإسلامي سوف يشفى مع الزمن - بدون شك - من قابلية الاستعمار، وغضبته الحاضرة ضد الاستعمار ستساعده بالتأكيد، ولكن كيف؟ ومتى سيشفى؟. إذا لم يبن على وعي منهجي له مقدماته ونتائجه. أعتقد أن المشكلة طرحت لأول مرة في دراسة نشرتها منذ ثلاثة أعوام تحت عنوان (شروط النهضة)، لكن هذه الدراسة أتاحت لي أن أعتبر بلدي لا يعي مطلقا مرضه حين أعلن عن استنكاره لأنني قلت على وجه التحديد: كي نتخلص من الاستعمار يجب أن نتخلص من القابلية للاستعمار. فالرفض الذي ظهر من أبناء بلدي أتاح بصورة طبيعية لجانب الميكافيلية الإدارية الاستعمارية دورها حين تحرض مستعينة بغطاء الوطنية، وذلك ما أكد لي أن الجانب العاطفي يقضي على الجانب العقلي في فكر كثير من المسلمين (وهنا أتحدث عن أولئك الذين فوجئوا

ورفضوا فعلا، ولكن هناك آخرون لهم حساباتهم على الأقل في الجزائر). لكن هذه الاعتبارات التي تمثل القسم الأول من موضوع الدراسة لا تهم القسم الثاني سوى أنها عبء تركة يخلفها عالمنا كمشكلة لعالم يأتي بعدنا. فاهتمامنا هنا يسوده نوع من الشعور بأن هذا العام 1951 هو العام الذي يعلن نهاية المرحلة التاريخية للعالم الحديث، وأن جيلنا هو آخر شهوده. فكل شيء في هذه اللحظة يتحدث عن نهاية العالم الحديث الذي عرفه جدودنا وآباؤنا، والذي عرفناه بعدهم ونشرف على مداه الوحيد؛ الذي انتهى إلى كتلتين ليس لهما من غدهما إلا أن تتحطم إحداهما مما يحتم على الجيل أن يبني عالما جديدا. فنحن أمام هذا الأفق من المستقبل الذي سيصبح فيه جيلنا من الماضي، ولا بد مع ذلك أن ينصرف الاهتمام إلى المساهمة في بناء هذا العالم الذي سيأتي، وأن نشير في الحدود الجغرافية التي هي لعالمنا إلى تلك الفجوات الخطيرة التي نعرفها جيدا؛ إلى ذلك الفراغ الروحي وتلك المباذل الطافية على سطح المجتمع والتي لا بد من إزالتها وتعقيم الأرض منها قبل أن يوضع عليها أسس البناء الجديد. فمن المؤكد أن عالمنا هذا قد وصل إلى نهايته، وحين يطويه المعاد الأخروي فهل سوف يطويه كما انتهى إليه، أو أنه سوف يتاح له بناء نفسه بطريقة أخرى؟ ولكن من أجل أن نبقى في نطاق الكفاءة الإنسانية للأشياء فلنضع جانبا المعاد الأخروي. ففي أعقاب الحرب القادمة سيكون هنالك واحد من اثتين: فالعالم الجديد سيكون إما شيوعيا أو رأسماليا؛ واحد منهما لا بد أن يختفي. والأخير هو الذي يحتمل أن يبقى دون الآخر، ولكن كيفما كانت

الشروط الجديدة التي تعقب الحرب فستكون هناك مرحلة وسيطة حيث ستجد فيه عوامل تاريخية نعرفها، وأشياء تشكل أجزاء من عالمنا الحالي لكنها ستمثل نوعا من إرث يرثه عالم سيعقب عالمنا، إنه عالم أطفالنا. ومن الطبيعي أن جيلنا بقدر ما يعي هذه العوامل والأشياء التي أشرنا إليها فإنه بشيء من استعراض الماضي على ضوء خبرته المأساوية سيكون مهتما بأن يحيط جيل أطفالنا بسائر تجربته. وفي عمل كهذا سوف يلقي بضوء على الأفق لكنه في الوقت نفسه سوف يعرض مستقبل أطفالنا للخطر إذا ما بقي ذلك كله في هامش اللامبالاة فلا يقوم بجد مجمل العوامل المتحولة إليه من عالمنا، لذا نحن نسعى هنا أن نرسم له طريقا حتى لا تجد هذه العوامل مكانا لها في عالمهم. فعمل كهذا في النتيجة لن يكون بغير فائدة حين يكون فيه ما ينير سبيلهم. ليس في نيتي هنا أن ألخص المأساة التي لحقت بالعائلة جراء اهتماماتي في هذا السبيل، فأنا الآن لست قادرا على مواجهتها، فلطالما سردتها في مجال آخر تحت عنوان معبر (العفن) الذي أحاط بحياتي حتى عام 1939، فالرؤية ما تزال فصولها تتوالى، ولذا فأنا غير قادر على ختامها المؤلم، لكن من ناحية أخرى ليس من الإفاضة الحديث هنا عما يشكل جزءا من المرتكزات الأخلاقية لهذا العمل. ولدت في بلد وفي عمر يدرك بوضوح نصف الذي يقال، لكن الذي يقول كلمة حول النصف الثاني سوف يحاكم بكل قساوة. فأنا هنا أكتب لإخوتي القابلين للاستعمار والمستعمرين في الجزائر، لكن إخوتي لم يفهموا أفكاري حين عرضتها بفاعلية، وهكذا سببت لهم نوعا من الشعور بالإهانة والرفض ضد مصطلح القابلية للاستعمار وحده. بكل أسف الاستعماريون فهموني بالنصف الآخر من كلمتي، ونلت

منهم ما أستحق؛ فأنا في أعينهم لا أسب استعمارهم بل أقتله وهو داخل البيضة، أخنقه في جذوره التي تمتد في مساحة القابلية للاستعمار. في بداية مهمتي منذ عشرين سنة لم يكن في حسابي بكل تأكيد أن تمنحني الإدارة الاستعمارية المساعدة لأحاربها، لذا لم أضع في الحساب سوى هؤلاء الذين هم إخوتي، أولئك الذين اتخذوا في محاربة الاستعمار مهنتهم أمام الجمهور. هؤلاء رفضوا كل مساعدة لي، بل على العكس حاربوني بالأسلحة نفسها التي تحاربني بها الإدارة الاستعمارية، وهذه ليست سوى إشارة لها دلالتها، ومع ذلك فالحكم على فكرتي وجهدي وعملي موقع علنا بمئة من مواطني ومئة من العلماء ومئة من منقذي البلاد. فالاستعمار كثير الحذر من الأفكار، ويعرف مدى قوة الفكرة حينما يواجه خططه بالقوة، لكن القلق لا يعتريه ما دامت القابلية للاستعمار هي نفسها تعمل في ظروف مماثلة، فمع ظهور كتاب (شروط النهضة) لم تقم الإدارة بمصادرة الكتاب، بل منعت كتابا آخر ظهر في الوقت نفسه وكان للناشر نفسه الذي نشر كتابي. لقد كان ذلك تفريقا في المعاملة بين الكتابين له دلالته، لأن جمعية الطلبة في الجزائر تولت هي المهمة حين حكمت على كتابي وطنيا عبر بيان منفصل نشر في الصحافة التقدمية، أما جمعية العلماء في الجزائر فقامت من جهتها بالتقليل من قيمة الكتاب. وهكذا أصبحت الإدارة تربح الجولة بغير تعب، ومن جهة أخرى فالكاتب خسر المعركة بغير سلاح، ولكن ... هكذا في بضع كلمات (حيث أنا في هذا العام 1951، وبالرغم مما ألحقت بعائلتي من مأساة، أراني أضع حلا للمأساة العالمية التي سوف تظهر عقب الحرب العالمية الثالثة القادمة إذ بين المأساتين علالا أكيدة). ففي حياة تتخذ من الواقع طابعا استراتيجيا فإن المشكلات فيها تأخذ

في اللحظة نفسها نظاما استراتيجيا يحاول الفكر من خلاله احتواء المشهد كواجب ذي طبيعة مختلفة تفرض حضورها كاهتمام هو الأفضل مما يحيط بي من مشكلة خاصة أجهل على أي خطة أو اتجاه وضعت حلولها. ومنذ أن يجهل المرء على أي خطة واتجاه وضعت مشكلته الخاصة فإن واجبات ذات طبيعة مختلفة تفرض على ضميره. وهكذا رسمت حدودا لقضية يمليها الضمير من خلالها يحاول فكري احتواء المشهد باعتباره الحل الأفضل لاهتماماتي واهتمامات الأبرياء المساكين. ففي اللحظة التي أتولى كتابة هذه الصفحات أشعر بنظرتين صامتتين مؤلمتين ترمقان عملي؛ نظرة والدي العجوز التي تهزني حين لا يجد عنده حتى قطعة خبز يواجه بها عجز أيامه؛ مشفوعة بنظرة ابن أختي الطفل الذي لا يجد خبزا يتبلغ به، وذلك عقابا لي جزاء ما أقوم به من دراسة كهذه. فالله يعلم كم لهذه الكلمات البسيطة من دلالة في الحقيقة. وأنا حينما أخط هذه السطور أضرع إلى الله؛ أن يوفقني لقول الحقيقة كاملة دون تورية ولا تلميح. وهنا فالشيء الذي أستطيع أن أؤكده ولا أخاف أن يكذبني أحد هنا أمام الناس وأمام الله؛ أنني المسلم الوحيد في هذه اللحظة الذي يحاول أن يترك للجيل الذي سيأتي مفتاح ما يخفي الغرب من استبطان طبع عالمنا هذا الذي من حولنا، وغير عابئ بما يثقل كاهله من عائلة فيها عجوز وطفل. وحينما أستعمل عبارة الاستبطانوية هذه لمسيرة الغرب؛ فلست أعني هنا المعتقد الديني الغيبي الملازم للأشياء التي صنعت العالم الحالي، بل هو ذلك السر الخفي نفسه الذي يظهر ظلا لبعض الرؤى، إنما لا يشف عن حقيقته، ومن المؤسف أن غبش رؤية ما سوف أشرحه في هذا القسم الثاني يتجلى خيالا في حالات معينة أو يمنحها في حالات أخرى تفسيرا

ناقصا. ففي هذا اليوم مثلا هناك محادثات تدور في باريس بين ممثلين تونسيين والحكومة الفرنسية. وإذ الصحف - كصحيفة الجمهورية الجزائرية - (تسرد الحديث) فإنها تنشره كما يلي: (النقاش يجري في المحادثات، وبعض أعضاء الحكومة الفرنسية منفتحون نحو حل بالطرق الدبلوماسية، بينما الوزير رينه ماير يبدو وكأنما يضبط لجام المحادثات لأنه إلى جانب الحل المتشدد). هكذا نجد أنفسنا أمام إعلام لا يفي بإعطاء فكرة شاملة عن الموضوع؛ فالصحفي هنا يروي المفاوضات وليس لديه المعيار العام لتقويم ما يجري، بل يكتفي بالجانب البسيط من المناقشة. ثم الصحفي نفسه وهو يروي مقتل لياقت علي خان الرئيس الأول لدولة باكستان سوف يعتمد على تقارير السلطات الغربية بالقول إن الحادث غير إجرامي، فهنا نحن أمام تفسير غير صحيح لكنه يعبر تماما عن واقع نخبتنا الذين يجهلون ما يستبطن الظاهر من عالمنا الحضاري الراهن. فلو أن قليلا من إدراك بعض نخبتنا لهذا الغور من خفي ما تبدي الأحداث، فإن موت لياقت علي خان هو على العكس من ذلك خسارة قاسية للقوى الغربية وبالخصوص بريطانيا. وحينما تقوم الحكومة الإيرانية باحتلال شركة الأنكلو أوبل كومباني (¬1) تبدي صحافتنا الدهشة؛ لأن الوثائق تثبت أن علاقات الشركة بإسرائيل في حدودها الضيقة. فهذه الدهشة تثبت أن نخبتنا لا تعرف أن الأنكلو إيرانيان ليست مملوكة في الواقع من بريطانيا بل من إسرائيل كما سوف يفهم من الصفحات التالية. ¬

_ (¬1) في عهد مصدق عام 1951.

فنخبتنا إذن تعيش عالما لا تعرف منه غير المظاهر، فكيف لنا ونحن في هذا الموقف على سطح الأحداث ألا نرشد الجيل الذي سيأتي بعدنا ونضعه في عمق واقع عالمنا؟ إن هذا الجيل الذي سيخلفنا سيكون في أمس الحاجة إلى معطيات أكثر جدية من عالمنا حين يقوم حجم التركة التي يرثها وقد خلفناها له وراءنا. استنادا إلى هذا التفصيل فمن الواجب - فيما يخصني - أن أفكر بهذه المسؤولية. أريد في هذا العمل أن أترك بعض الدلالات والمؤشرات حول عصرنا المادي هذا الذي يلقي بظله على الكلمات فيجرف معه مدلولاتها حين نعبر بها عن أهدافنا في هذه الدراسة. إن كلمة (VOCATION) يمكن لدلالتها أن تفيد من روح عالمنا شيئا من مرحلة دموية تفتح الطريق إلى ما لا أعرف من إيديولوجية مشكوك فيها. لكن الكلمة تعبر عن روح القرآن الكريم، فالعدة ليست في السلاح المادي بل العمل الدائم المتواصل المستمر. فالحديث عن وجهة الإسلام (VOCATION) من شأنه رسم طريق نوعية مفضية إلى مكتسبات ونتائج أخلاقية. وإذا عرف أبناؤنا كيف يتسلحون بالفكرة القرآنية فإنهم سيحملون في النهاية أشرف مهمة (¬1). إنها لا تجنح إلى القتل والدمار، لأنه ليس من مهمتها السيطرة على الناس بل الظفر باحترامهم. ¬

_ (¬1) يستعيد بن نبي في كلمته الأخيرة لهذه المقدمة منطلقات كتابه (شروط النهضة) في حركة التغيير. إنه النموذج الأساسي الإسلام والقرآن وسنده الحضاري الإنسان في بناء عالمية الحضارة من جديد.

القسم الأول لغز العصر الحديث وما يستبطن

القسم الأول لغز العصر الحديث وما يستبطن

الفصل الأول اليهود والحضارة الأوربية

الفصل الأول اليهود والحضارة الأوربية أولا: السر الخفي للعالم الحديث لكي نفهم عالما ما لا يكفي أن ندرسه في مظاهره البادية فحسب، بل من خلال روحه التي تتوارى خلف مظاهره الرائجة، التي تبدو كمصباح سحري خفي يسقط شعاعه على شاشة التاريخ صورا معدة سلفا. ما يهم الناظر هو ذلك الذكاء واليد التي تبدع هذا التاريخ الاصطناعي المزيف، والتي تكمن خلف هذا التاريخ وهي سبب نتائجه. إنها القوة التي تقود إلى مضاعفة المظاهر، التي نبادر لدرسها في وحدة أساسية تحزمها، لا تراها العين الذكية المدققة، لذا فهي عصية على من لا يعرف كيف يفكر فيها. فهذا العالم قد أبدع العصر الحديث في تنوعاته المتسارعة والتي برزت في آلاف المظاهر المفاجئة: الديمقراطية. الشمولية. الرأسمالية. الماركسية. العبودية الشخصية. الاسترقاق. العمل الجماعي. الاستعمار. إعلان حقوق الإنسان. نظام الإنديجانا. ولكن ... هل ثمة شيء ما خلف هذه العناوين وما توارد من هذه المظاهر؟ هل ثمة حقيقة ما تبدو خلف الكلمة نفسها (العالم الحديث)؟

كل امرئ يعرف عندما نسمي عالما حديثا أن هنالك ظاهرة اجتماعية ولدت وسرير ولادتها (أوروبا)، أما تاريخ ولادتها فذلك ما أطلق عليه اسم النهضة الأوروبية (La Renaissance) ، وهنا يمكن أن نسميها (الحضارة الأوروبية المسيحية). وهكذا يتحدث التاريخ الرسمي المعتمد. ولكن يبقى لنا السؤال في النهاية: هل هذه الهوية هي أصلية (Authentique) في العمق؟ هل هي الحقيقة كما هي بادية في مظهرها أم لها جذور في موطن لها؟ هنا نشير إلى ما كتبنا من قبل في (شروط النهضة)، فالأحداث الكبيرة لها ولادتان: ولادة تطابق الظاهرة النفسية، وولادة كطابق زمنيا معها. بالنسبة للمؤرخ فالتوقيت الزمني هو الذي يأخذه بعين الاعتبار، لأنه ينظر إلى الحدث في تسلسله التاريخي. أما عالم الاجتماع والفيلسوف فالتوقيت النفسي هو الذي يأخذه بعين الاعتبار؛ لأنه يشير إلى الحدث في تسلسله السببي. وهنا لا نقف كثيرا عند ولادة العالم الحديث الذي نسميه النهضة الأوروبية (La Renaissance)؛ لأن الذي يهمنا هو معرفة أي حلقة من التسلسل السببي كانت الولادة. إن أوروبا هي مهد العالم الحديث، لكن الحدث الرئيسي لكلمة أوروبا في التاريخ هو وصول اليهود إليها كشخصية مستقلة عن الفكرة المسيحية، وهي التي سيطرت على سائر تسلسل حضارتها كما سوف أثبت في الصفحات التالية. لكي ننطلق من نقطة تكشف لدراستنا فهم تطور العالم الحديث؛ علينا

أن نبدأ من مرحلة تيه الشعب اليهودي (الدياسبورا الشهيرة) وقد انطلق فيها الشعب اليهودي نحو البلاد الأوروبية عقب هدم الهيكل في القدس. لم يسأل أي مؤرخ: لماذا أخذ الشعب اليهودي هذا الاتجاه دون سواه؟ علما أن الاتجاه نحو آسيا هو الأجدى والأجدر والأوفر لأسباب بادية؛ فاليهود ينتمون من حيث الجنس إلى أصل شرقي، ثم إن الرخاء التجاري والحضاري يحتم اختيار الانطلاق نحو مدن تتلاقى فيها عقدة الطرق التجارية والعالمية، كما هي حركة الانتقال بين الشعوب لألفي عام بين الهند والصين، وهذه الطرق تتلاقى حين تمر بالضرورة عبر الشاطئ اليمني - الطريق البحري -أو عبر فارس وآسيا الوسطى عبر خطوط القوافل. هذه العوامل تجعل اليهود من سائر الوجوه يتجهون نحو الشرق وليس نحو الغرب. لكن اليهود أداروا ظهورهم لذلك كله، وقادوا خطاهم نحو بلاد أوروبا الفقيرة غير المتحضرة (geallo-romaine) (الرومانية) رغم قساوة المناخ الذي لا يرحم طفلا ولد وتأقلم في بلد حار. هذا الاتجاه المناقض لمنطق الأمور لا يمكن تفسيره من زاوية ما عرضنا من التساؤلات التي تبنى على واقع عصر مضى، ويظل من دون ذلك حدثا يلقي على تلك النقطة المظلمة شعاعا واحدا؛ إنه الطريق الذي خطه شاؤول الذي أصبح فيما بعد القديس بول. لقد ترك دمشق حين طلب إليه أبوه - وهو ربي كبير - التوجه نحو الشرق لتعليم الأمم، لكننا نرى في كتاب الأعمال أن القديس بولس أدار ظهره بصورة نهائية لبلاد الشرق، وحول رفيقه في خطته الكهنوتية التي كان قد أعدها، ثم ولى وجهه نحو الغرب ليبشر بالمسيحية. نحن هنا أمام إرادة نهائية للقديس؛ هي أن يحتفظ لشعب أوروبا بتعليم

المسيحية، وعبر هذه الإرادة نجد أنفسنا وقد تلاقى الطريقان وتطابقا بإحكام: طريق الدياسبورا اليهودية وطريق الفكر المسيحي. لكن هذا الاتجاه في ظاهره يبدو غير مفهوم، ولذا يطرح سؤالا هاما يتعلق بالرسالة الكهنوتية (ووصية السيد المسيح: هلموا تلمذوا الأمم). فلماذا لم يشأ القديس بولس إذن أن يدعو ويتلمذ الأمم في الشرق؟ ليس لهذا السؤال تفسير تاريخي سوى تفسير واحد لا علاقة له بتكون المسيحية (sa genèse) بل بالمحطة التاريخية لنهاية هذا المسار الذي اتجه إليه القديس بولس، وأنهى أن تكون أوربا هي مهد رسالته الكهنوتية والتي عبرها أصبحت روما مسيحية. وإذا اعتبرنا العصر الحديثه نتيجة سببية لنشوء أوربا، أو هي مهد نشأته، فإن أوربا في ولادة هذا العصر، لم تكن كما وجدها اليهود قبل ألفي عام، حين كانت في حالة تخلق ونشوء أولي، بل كانت في كامل حضورها كما هي اليوم. وال ذي شذ عن النظر الدقيق هو أن أوروبا اليوم في حيويتها الثقافية والسياسية والمادية تدور حول مركزية اليهود. فهناك حركة مفصلية أساسية تشكل رافعة دافعة ترسل أو تمسك بالحركة لتسير كما ينبغي وبالاتجاه الذي يجب، فتأثير اليهود في الحضارة الأوروبية هو الأكثر بروزا في عملها وسماتها: إنهم عقلها وروحها. ففي البلاد الأوروبية نرى الأسماء الأكثر بروزا هي لليهود في ميادين: البنوك والتجارة والصناعة والمسرح والصحافة والأدب. فسائر النجوم الوطنية البارزة للبلاد هم - بما لا يقبل الجدل - إما يهود أو متحدرون من أصل يهودي. فمن الفرنسي الذي لديه قليل من الثقافة لا يعرف برغسون المفكر

الأكبر لفرنسا المعاصرة؟ أو أندريه موروا الكاتب الأبرز؟ أو سارا برنار الأكثر تراجيدية؟ أو مدام كوري التي كسفت شهرة عقلها العملي شهرة زوجها الذي لم يكن يهوديا؟ ثم في نطاق المال؛ فإن روتشيلد (ذلك المحسن الأكبر) هو المرجع وكذلك شنيدر، وسيتروين التي هي من المؤسسات الصناعية الأكبر، وكذلك رينيه ماير أو (Moch) الذين هم من الوزراء الأكثر شهرة في فرنسا في العصر الحاضر، وكذلك ستافسكي المحتال الأكبر صاحب الفضيحة المالية التي وضعت مالية فرنسا في الحضيض، وأسقطت الحكومة، ومع ذلك فما نشير إليه ليس سوى قائمة مختصرة. هكذا نرى أمامنا قائمة من القيادات اليهودية في مختلف المواقع والميادين لها دلالتها ومعناها، وأنا هنا أشير إلى المشهورين، وأتجاوز الحديث عن الآلاف التي تترافق بالضرورة مع الانتشار المتسارع لليهود، ويأتي في المقدمة الإنتاج السينمائي والصحف الكبرى (Le Monde -France presse-Combat) والمؤسسون كلهم يهود. هذا الاستعراض الواسع يبدو للنظر غريبا في طبيعته في بلد ليس يهوديا، لكن شيئا يبدو لي أكثر غرابة؛ هو أن الفرنسي من سائر الطبقات يجد ذلك شيئا طبيعيا له دلالة الاعتراف بتقدم اليهود في بلده، بل أكثر من ذلك فالفرنسي مستعد للموت بدافع الشعور الوطني، لترسيخ هذا التقدم إذا ما داهمه خطر كاحتلال الألمان لفرنسا من عام 1940 - 1944 مثلا. هذه النقطة التي أشير إليها هنا كدراسة خارج حياة فرنسي هي هامة على الخصوص من وجهة نظر داخلية، أي كحالة نفسية تخص الفرنسي في غرابتها. وهذه الحالة تبدو أحيانا حالة استبطان، أو هي حالة انفعال خاص كتلك التي عبر عنها (J.Maritain) هذا الكاتب الكاثوليكي الكبير، إذ تحدث بعبارات عالية عظيمة الدلالة أمام شاب فرنسي متهم بالعداء

للسامية، فصرخ أمامه هذا الكاتب الكبير: لقد أمضيت ثلث عمري على أقدام يهودي مضرج القلب (يقصد السيد المسيح). هذه الصرخة تعري الواقع، ونرى كيف يقضم اليهودي الروح الفرنسية، لكن الانتشار اليهودي ليس خاصا بفرنسا؛ فالانتشار هنا يعبر عن حالة الأشياء التي تسمى الحضارة الغربية. ففي إنكلترا يبدو الانتشار اليهودي أكثر دلالة في الماسونية، ورئيسها الملك يطلق عليه اسم غامض الدلالة (الفارس القدوس). وهنا يبدو الجذر العبري للكلمة وفيه كل خفايا اليهود في الحياة الإنكليزية. ثم إن نائب الملك في الهند ما بين عام 1920 - 1925 كان هو نفسه يهوديا يتمتع بلقب لورد ريدينغ (Lord Reading) ، ثم هناك من كبار وزراء الإمبراطورية البريطانية وهو بكل حال ليس دزرائيلي ذلك اليهودي الذي وقف في مجلس العموم البريطاني وهو يمسك بيده المصحف ويقول: (لن يكون سلام في العالم ما دام هذا الكتاب موجودا). وكما هو الأمر إذن في فرنسا فكذلك في بريطانيا؛ كبار القادة والماليين والصناعيين والأكبر اختصاصا في الطب، ثم إن الخياط الأفضل في بريطانيا هو بصورة طبيعية يهودي. ذلك كله يعبر عن تطابق حالة الشيء مع حالة النفس كما نراه في فرنسا وإنكلترا، وربما كانت هذه الحالة في إنكلترا هي الاتهام الأكبر في هذا السبيل، لأن الحرب الكبرى 1939 - 1943 لم تقم دفاعا عن سلام الإمبراطورية، بل قامت دفاعا عن اليهود الذين يضطهدهم هتلر فحسب. وهكذا نرى في هولندا الحالة نفسها في انتشار اليهود كما في أمريكا، ويكفي القول إن هذه البلاد أصبحت ملجأ ليهود العالم، كما أن الذين تركوا البلاد التي ولدوا فيها لسبب أو آخر قد استقبلتهم أمريكا بانفتاح فأينشتاين الذي طرده هتلر من الجامعة الألمانية استقبل من قبل (Princeton).

وكذلك (Wall Street) حيث سيطر الدولار في العالم الحاضر هي يهودية كما هي (City) في إنكلترا. فقد خيم اليهود في أمريكا على مساحة السلطة السياسية في الممارسة العملية، فيما تركت الواجهة لروزفلت وسواه، واليوم تدار السياسة الأمريكية عبر يهودي (Bariel). فاليهودي لا يقتصر على عمل واحد، بل تبدو أعماله كمن مل وضجر من نجاحاتها كلها وخلفها وراءه ولم يترك أيا منها تملأ هوايته، فهو لا تقوده أيما رغبة يحط عندها اهتمامه، بل هو هاو لكل شيء. فاليهودي مناخم يجول في سائر العواصم، كأكبر موسيقي للكمان في العالم الحديث والقديم حتى (Max Boer" الذي ألقى برصانته أرضا في حلبة لعبة البوكس (Box) ليحظى بها بلقب بطل العالم. لكن ما يهمنا من كل هذا ذاك الأمريكي الذي هو كابن عمه الأوروبي يقبل الموت من أجل الدفاع عن التقدم الذي يقوده اليهودي المؤثر بقوة في أعلى درجات التقدير (Prééminence) في الحرب العالمية الثانية التي انتهت لمصلحته. وأخيرا، لكي أسوغ أطروحة هذا الفصل فقد تحدثنا في أول مقاربتنا عن إلقاء القنبلة الذرية في صحراء المكسيك الجديدة. لقد قدم العلماء الطبيعيون والرياضيون، كل من جانبه، الإسهام في صنع القنبلة الذرية، لكن بقي عليهم تجربتها. وتجربة كهذه هامة بدون شك، وتتطلب اسم العالم الذي يحوز شرف استحقاق نجاحها. ومن ضمن كوكبة سائر العلماء الذين ساهموا في صنع القنبلة الذرية، الذي نال شرف الدرجة العليا (Prééminence) في تجربة القنبلة هو اليهودي أوبنهايمر. من هنا فإن حالة الأشياء هذه والحالة النفسية التي أشرنا إليها كانتا تشكلان في البلاد الأوروبية كلمة واحدة - الحضارة المسيحية.

ثانيا: معنى ومفهوم اتجاه الشتات اليهودي نحو أوروبا

لذا علينا أن ندرس بعمق العلاقة الضيقة بين الحضارة المسيحية والعبقرية اليهودية، وما ندرسه من الآن فصاعدا ليس سوى النتيجة التاريخية البعيدة للفترة التي فيها اتجه المسار اليهودي نحو أوروبا. وحينما نعود إلى زمن بعيد نستطيع الوقوف على الأسباب الأكيدة التي بها تركزت خصائص الحالة التي تميزت بطابعها المادي كما في طابعها النفسي ووجهت خطا إسرائيل نحو أوروبا دون الاتجاه نحو آسيا. وهذا التأكيد يبدو لنا أكثر منهجية، فقد أضحت هذه الخصائص مترابطة جيلا بعد جيل نتيجة لمنطق ثابت، ويبقى علينا تقييم آليته الخاصة عبر اليهود في مدى ألفي عام من حياة أوروبا التي تبدو نتائجها في كل ما يجري اليوم من رد فعل في الشرق وفي فلسطين. في الصفحات التالية سوف نكشف بصورة أعمق الأسباب التي اجترحت المأساة الفلسطينية والتي بها يعيد الفلسطينيون ممارسة دور فلسطين القديم. كيفما كان الأمر علينا في البداية أن نشير، إلى أن الشعب اليهودي لم يكن مخدوعا، حينما أدار ظهره لعقدة الطرق الآسيوية المزدهرة في العالم القديم، واتجه نحو فقر أوروبا، وكان ذلك كله هو المصير النهائي للشتات. لذا، ومن أجل المعنى التاريخي للمرحلة اليهودية في أوروبا، علينا أن نعود إلى ذلك المسار جنبا إلى جنب أي إلى ألفي عام من التاريخ لتكتشف في داخلها سبب هذه المرحلة. ثانيا: معنى ومفهوم اتجاه الشتات اليهودي نحو أوروبا إن مرحلة استقرار الشعب اليهودي في أوروبا مع بداية العصر المسيحي هي في الواقع خيار بين الرجل الأوروبي والرجل الشرقي. وإذا نحن قومنا النجاح الاستثنائي لليهود في إقامتهم الجديدة - كما أشرنا - فهم لم يكونوا مغررا بهم أو مخدوعين في هذا الخيار؛ وذلك

يعود لطبيعة الرجل الأوروبي المتفتح. فالخيار المشترك الذي أشرنا إليه قد مكن لليهود القادمين ما لم يكن مألوفا في الشرق؛ إذ جاؤوا إلى أوروبا مشتتين منبوذين غير فاتحين، لكن الشعب الأوروبي أوسع لهم الإقامة والضيافة، وغدوا في النهاية هم المسيرين الحقيقيين للعمل الأوروبي والثقافة والسياسة والحياة الاقتصادية. فالذي توافر لليهود في أوروبا لم يكن متوافرا لهم في البلاد الآسيوية، ما دام اليهود في مصر الفرعونية والإمبراطورية الآشورية يعيشون شروط المنبوذين والعبيد، وفي هذا كله لا يوجد أي نتائج سلبية في النهاية: فاليهودي - بكل بساطة - لا يريد أن يستعيد تجربة آبائه العبيد في آسيا وفي مصر. لكن النجاح البالغ والعقلية الإيجابية جدا لليهود في أوربا قد تركا لنا قرينة أخرى مفادها أن هذا الاختيار له أسباب تسوغه هي أكثر إيجابية، وهي مبنية على معرفة أبعد غورا بالرجل الغربي في أوروبا - ففي ذلك العصر كانت آسيا هي الحضارة والإمبراطورية، على عكس ما كانت عليه أوروبا، مع أن أوروبا عرفت الحضارة عبر اليونان، وكذلك في عصر الرومان، لكن الحضارة الأولى لم تكن سوى مساحة شريط ضيق على شاطئ المتوسط هو مجرد انعكاس للحضارات الآسيوية القريبة. أما الحضارة الثانية فكانت لا تشكل كما الأولى سوى مساحة ضيقة للمجال الروماني والشمال السلافي البربري. فالرجل الغربي؛ مع أنه منفتح لسائر الحضارات المحيطة به، إلا أنه كان لا يزال ابن نشأته الأولى (frustre) ؛ فظا في توحش السلوك بغير ثقافة ولا ماض. أما الرجل الشرقي فهو من جانب رجل رشحت إليه تقاليد الثقافة القديمة وأفكارها فمازجت سلوكه، وهو من جانب آخر ناضج يتأقلم مع

التحولات، عجين إنساني بكر، ولديه استعداد العجين لتقبل كل شكل يحتويه. وهو عجين يخبز ثم يعاد خبزه مجددا في أفران مختلف الحضارات والتي تتابعت في الشرق الأوسط القريب. هنا يتجلى سبب إيجابي رسم الطريق لإسرائيل في هجرتها الجماعية. لكن في كلتا الطبيعتين الانسانيتين اللتين أشرنا إليهما؛ كانت إحداها للشرق والأخرى للغرب، وهذا يعني تباينا بينهما أكثر عمقا، فكل منهما له طبيعته الذاتية. فالشعب اليهودي له خصوصية معروفة جدا ولها موقعها في علم النفس الإنساني، وخياره قد وجد مساحته كاملة في العجين الرخو البادي في طبيعة الأوروبي، وهذا هو السبب الأكيد في خيار لا محل له في طبيعة الشرقي على الخصوص، فالرجل الشرقي يعيش روحه وفكره وينظر إلى علاقاته مع الآخر من فكره. إنني أعرف الاعتراضات التي سوف يسوقها القارئ، الذي يفاجأ بهذا التقويم في عصرنا الحاضر. فهذا التقويم سوف يصطدم بما هو عليه الشرقي اليوم من الجهل، ودون قامة حضور، والذي يناقض ما هو عليه اليوم الأوروبي المثقف والمتوج بإكليل حضارته. لكن إذا أخذنا الأمر في مدى المسار المطلق لكل من الغربي الأوروبي والشرقي خارج اتجاه التاريخ؛ فمن هذه الزاوية نستطيع أن نقدر الأوروبي المنفتح لكل طارئ، والمتشوق لمعرفة كل غامض، في حين أن الشرقي يرى الأمور من خلال عقله وطبق تقاليده وروحه الشرقية. لكن هذا الاختلاف مجرد اختلاف تصنيف، ويبقى التلاقي بينهما من طبيعة كل منهما، وهنا نحن أمام نفسيتين وعقليتين وعالمي إنسانيتين، للغربي طبعه المنفتح على استقبال أي فكرة من خارجه، ومستعد لتجريد حملة في الدفاع عنها إذا أخذت موقعها، أما الشرقي فهو الذي يحمل على ظهره ما يبدع من أفكار وهو منطلق نحو الغربي.

ليس هنالك تباين أساسي إذن ما دامت أوروبا استقبلت الفكرة الدينية من خارجها وكان الشرق مهدها، وكذلك سائر الأفكار الدينية. وإذا كان اليهود أنفسهم شرقيين فذلك يعني أنهم عقليون، وما يميزهم عن سائر المشرقيين أن مأساتهم الوطنية لم تدع لهم خيارا آخر سوى أوروبا، وكان ذلك المسرى بهم إلى نهايات أهدافهم. فأوروبا كانت وحدها القادرة على الآلية المادية لمسارهم. الأوروبي صادق مع نفسه، وشريف لكنه متطلع إلى المادة أكثر منه مستلهما لصفاء الأخلاق، وهو ذكي فى مداه الجمالي، لكن لا يقيده التزام ثابت ولا أفق بعيد، وذلك ما عبد الطريق للعبة اليهودية بخلاف المشارقة الذين لديهم الخبرة (Raffinée) باليهودي الذين عجنوا لعبته في التعامل سواء في مجال اللاأخلاقية أو الجمود على المبادئ. فالأوروبي كان - نوعا ما - الآلة الجاهزة لمهمة إسرائيل، وكانت قبل الشتات قد أصابتها محنة حرب العقاب (punique) (وهي اسم لثلاثة حروب بين قرطاجة وروما 146 - 264 قبل المسيح). وهنا يدور سؤال لم يضعه أي من المؤرخين: لماذا احتفظت روما لنفسها حينما هزمت أثينا بالثقافة المنشأة والمدارس، على عكى ما فعلت بقرطاجة حينما انهارت أمامها فمسحت المدينة الفينيقية وهدمتها على آخرها ولم تترك من حضارتها ولا من ثقافتها أيما أثر؟ الجميع يعرف تعليمات السياسي الروماني (Caton) : (اهدموا قرطاجة عن آخرها). بيد أن هذه التعليمات نفسها لا تحمل تفسير نكبة قرطاجة، إذ لا بد من أن يبحث عما وراء هذا الموقف والأسباب الأكثر عمقا وذلك بمعزل عن نهاية الطريق الذي خطه التاريخ لنكبة

قرطاجة، فثمة طرق جانبية خفية تفضي إلى الدوافع الحقيقية. فهناك بعبارة أخرى جانب غامض للأشياء في خفي سر هذا التاريخ. فما قبل الأحداث الكبيرة، أي قبل ألفي عام، ينبغي النظر إلى التأثير اليهودي، كما يقال اليوم، على مؤسسات الإمبراطورية الرومانية، لكن التاريخ لا يملك أي معطى يعتمد عليه في هذا التأثير الذي مر دون أي اهتمام إلى حد القول بأنه غير موجود، ولأن التاريخ يدون دائما وكما في كل عصر الارتكابات الكبيرة لليهود، وبعض فضائح السياسة المالية، كما يجري في العصر الحديث، لكن حينما يكون الأمر تحت إرادة اليهود فإن الفضائح لا يجهر أمرها في حينها بل تتسرب إلينا بعد حين عبر قناة التاريخ، كما يقال، أو على الأقل مع التاريخ الأدبي لروما (في القصص والحكايات). هكذا بدأ التأثير اليهودي الكبير في حياة الرومان؛ يتسرب من خلال مصادفات المواقف والحدة والانفعال في نبرات شيشرون في مرافعته الشهيرة (ProFlaco) حينما يوجهها نحو خصمه (J. flaviers) (وهو يهودي روماني). وهكذا أضحت المداولة رغم بلاغة شيشرون خاضعة للتأثير اليهودي في موقف الحاكم (Prétoire) ، وبدا من ذلك كله أن اليهود يحتلون في الإمبراطورية مركزا مسيطرا. لكن مركزا كهذا حين لا يشير إليه التاريخ الروماني لا يفاجئنا. فالتاريخ الخاص بعالمنا هو أيضا لا يحلل أبعاد ما كان يجري حينما يكون العصر مهددا فعلا، وهذا الصمت العام للتاريخ يبدو في جانب آخر نقطة مركزية، لأنه يورث غموضا ليقوم بتحليله من يأتي بعده ويكشف عن معطيات مؤكدة لجيل قادم ينطلق منها لبناء عالمه الخاص به.

لذا علينا هنا في مهمتنا أن نعود إلى لحظة التراجيديا القرطاجية التي تمدنا بمؤشرات ثمينة حول خيار إسرائيل لعصر الدياسبورا. فهناك فيما وراء الأجيال ما يضيء لنا أسرار عالمنا الحاضر في معطياته الأساسية: الاستعمار- القابلية للاستعمار. لقد عرضنا من قبل مدى تأثير اليهود في روما نفسها، ذلك التأثير الذي مر صامتا بغير تعليق، وسيظل هذا الصمت مخيما ومتابعا المسار مع عصرنا عبر نفوذ امتد بقليل أو كثير حول سائر مدارات الإمبراطورية الرومانية، وعلى الخصوص في حركتها المالية والاقصادية. لقد كان على الضفة الأخرى الإمبراطورية القرطاجية، وهم أيضا لهم خبرة واسعة في الاقتصاد والتجارة والأعمال بصورة أساسية، فضلا عن مهارات واسعة يتمتعون بها، وأبناء عمهم اليهود ليسوا على استعداد ليتركوا لهم ولو مقدار بوصة من الأعمال التي يمارسونها في الشرق الغني بتجارته ومصانعه والغرب الغني بالمواد الأولية كالخشب والقصدير الذي كان القرطاجيون يبحثون عنه في شمال بريطانيا (Ecosse). منذ ذلك التاريخ كانت قضية الهيمنة الاقتصادية قد أخذت مكانها ليس بين روما وقرطاجة فحسب، بل بين يهود روما وتجار قرطاجة، حيث قامت الحرب الضروس ولم تقف ضد قرطاجة بتأثير فعلي من اليهود، مما ألزم جنود قرطاجة أن يكونوا على استعداد بكامل جهوزية لباسهم العسكري الذي يشير إلى العظمة والأبهة الوطنية. هذه الظاهرة تكررت مرة أخرى في التاريخ الحديث ما بين أعوام الحرب العالمية الثانية 39 - 44 حينما هبت سائر جموع أوروبا صارخة (اهدموا ألمانيا) وهم يظنون أنهم يعبرون عن المشاعر الوطنية وحتى الأوامر الدينية، وقد اندفعوا بإيحاء من اليهود ضد الهتلرية التي هي في الحقيقة أضحت خطرا على نفوذهم في العالم. و (Caton) الذي أعطى الأمر بهدم قرطاجة ليس أكثر ولا أقل

من (Maurras) (¬1) وتشرشل أو روزفلت في العصر الراهن، الذي أصبح عصر إسرائيل كما كان اليهود في عصر روما (¬2). مهما يكن من أمر فإن التراجيديا القرطاجية التي أضاءت جزءا من المأساة الحديثة، والتي قاربها أخيرا هدم الرايخ الثالث، قد أضحت هي أيضا تراجيديا تضيء على الخصوص معطى مركزيا لنفسية اليهود؛ التي هي الكراهية الموروثة نحو آسيا من الآباء إلى الأبناء، في كل ما فصلنا من قريب أو بعيد. فهناك بعض الشعارات التي لا تزال في الذاكرة تطلق من وقت لآخر: الخطر الآسيوي - الخطر الأصفر - الخطر الإسلامي، وهذه الشعارات لها مضمون وهوية تعني إلصاق التهمة سواء بالعنصرية لدى البعض أو بالاستعمار لدى الآخرين، وقليل من الناس يصنفها بالسمة الأعمق للنفسية اليهودية. فالغموض كله والإبهام يستقر بكل دقة في هذه النقطة، ولكن كيفما كان الأمر فقد تبين لنا أن الخيار اليهودي زمن الشتات لم يكن عملا للتعمية، كما أنه ليس محركا لعمق سلبي، فاليهود حينما تركوا بلدهم كانوا يعلمون تماما شروط إقامتهم الجديدة، كما يعلمون تماما المصادر التي تمدهم بمهمتهم في نفسية الرجل الأوروبي. لذا أداروا ظهورهم قبل ألفي عام لحظوظ الازدهار التجاري الآسيوي. ألا ترى أنهم قد ضحوا بحاضر مشكوك فيه لحساب مستقبل أكيد؟ ¬

_ (¬1) شارل موراس (1868 - 1952) كاتب فرنسي ورجل سياسي ملكي، عين عضوا في الأكاديمي الفرنسي عام 1938، ثم شطب عام 1945 وحكم عليه جنائيا بالانفراد المؤبد. (¬2) هذه الرواية أكتبها من ذاكرتي ولست متأكدا من النص تماما، أرجو من القارئ أن يعذرني من هذا القصور الذي ليس ناشئا عن الإهمال، وإنما عن عدم الإمكانية المادية في توفير الوسائل الضرورية لإنجاز عملنا عبر الوثائق التي يمكن توافرها مع الاستقرار. لكنني أكتب في حالة اضطراب والتزام بإنجاز هذا العمل.

ثالثا: جغرافية مسار اليهودي في أوروبا

ثالثا: جغرافية مسار اليهودي في أوروبا لفهم نفسية يهودي في الشتات؛ هناك شيء أساسي هو أن اليهودي لا يترك وطنه نهائيا دون أمل في العودة إليه. فالوطن هو الأرض الموعودة لأجداده وأحفادهم، وهو يتمثله عودة نهائية إليه في فكره وأحلامه لأنه القطب الذي يشده إلى قدره. فإرادة العودة التي لم تفتر؛ ربطته بذلك النسيج الذي يميز الشعب اليهودي بشعور استثنائي نحو وحدته؛ يتفاعل عبر الأجيال والبلاد. هذا الحنين الذي سيكون نوعا ما العامل الأساس لوحدته الأخلاقية والسياسية عبر سائر قبائله. وجيلنا بنظرة تقوم ما يستطيع اليوم أن يرى كيف أن اليهودي الأمريكي والإنجليزي والألماني يلتقي في فلسطين مع يهوديي شمالي إفريقية، وهم يتفاعلون جميعا في الفكرة نفسها، لكن استمرار هذه الإرادة في سائر مضمونها - كما سبق أن أشرنا في الفصل الأول - لا يفسر في تحليلنا أسباب هزيمة العرب أمام جيش بن غوريون، وسوف نعود إلى هذه الأسباب لاحقا. بكل حال لم يعد المجال ممكنا للنظر إلى الحقبة اليهودية كمن يفتتح تاريخ إسرائيل مجددا بقيادة موسى. لكن مسار التاريخ اليهودي بكل حال اتبع طريقين في ظل العصر المسيحي؛ طريق الشاطئ الشمالي للمتوسط وطريق الشاطئ الجنوبي، والاتجاهان اتجها نحو أوروبا، لكن كلا منهما سار في طريق مختلف ظاهرا. فالعنصر الذي تابع الطريق الأول مرورا ببيزنطية حتى البلقان وروسيا؛ أضحى لدى المؤرخين يسمى عنصر (Hasidim)، أما العنصر الذي تابع طريق شمالي إفريقية واستقر في

البرتغال فقد أنشأ فيه مركزا روحيا امتد بإشعاعه شيئا فشيئا نحو أوروبا الغربية، وبصورة أساسية نحو إنكلترا وهولندا (¬1) .. هذا المسار في كل من الطريقين ليس مسار انقسام موضوعي، وإن كان أطلق على كل منهما اسم، فذلك صنع لدراسة التطور الداخلي للشعب اليهودي. وهنا فإن (Hasidim) سوف يحيي الجيتو في أوروبا الشرقية كما في بولونيا، أما فيما يتعلق ب (bessarabie))kitechine) الذي هو أصلهم الخفي فإن هذا الفريق سوف يرفض كل مظاهر الحياة التقليدية وكذلك كل الأشكال الموروثة عن الآباء، ليعتمد في لندن ونيويورك وأنغرس وأمستردام وباريس كل مظاهر الحياة الغربية، وهذا الأخير هو العنصر الذي سيكون له في النهاية الدور الحاسم في تاريخ الشتات؛ سواء في الحياة الفكرية أو الحياة السياسية، عبر أسماء لامعة كأينشتاين - برغسون - مورياك - آل روتشيلد وآل ماركس، وجميعهم يهود غربيون. هذه الفئة تهمنا بشكل خاص لأنها تضعنا في موضوعنا، أي العوامل التي أدت دورا أو أرادت أن تؤدي دورا في مصير العالم الإسلامي، وللتدليل على أهمية دورهم يكفي أن نشير إلى أن يهوديا ولد في (ghetto) مغربي، وأصبح عبر تغيير مزدوج للاسم والجنسية يدعى (فدوف كوبر) الشهير، وزير الحرب في الحكومة البريطانية، هو الذي أعلن الحرب على ألمانيا الهتلرية عام 1939. هكذا تبدو هذه الخصوصيات في اليهود الغربيين لافتة؛ حين يأتي يهودي إلى بريطانيا تاركا بلدا مسلما، فيصبح بسرعة مسؤولا في إدارة بلد غربي. فهذا مثل صغير نشير إليه في إطار عام محيط بجماعة اليهود الغربيين، وقد امتدت ¬

_ (¬1) نأسف لأنه ليس في يدنا المستندات اللازمة عند كتابة هذا الفصل، لذلك نعتمد على مجرد الذاكرة، لكن الذاكرة ضعيفة لدرجة أن النص قد فاتني. بكل حال ليس هناك ما يؤثر على عرضنا لأننا نقدم مجرد وجهة نظر خاصة جدا.

هذه المرحلة على مدى القرون التي تتابعت على الشاطئ الجنوبي للمتوسط. لكن هذا المسار لم يحقق أهدافه إلى نهايتها في غرب أوروبا حين ظهر الإسلام فجأة، وانطلقت الدعوة سريعا من مكة إلى البيرينه (pyrenées) ، ويجب أن نضيف أن اليهود وهم في طريقهم التقوا بالإسلام ووجدوا أنفسهم مؤقتا ملزمين بالعيش على أرض الإسلام. هنا التقت مرحلة الفتح الإسلامي بمرحلة إسرائيل فأضحت خاضعة للإسلام، لكن الحرب تظل في اليهودي عنصر حياة كما هو الماء للسمك في البحر، واليهودي ينتهز الفرص دائما بكفاءة مميزة، ففي انتشار الإسلام دعوة ودولة؛ كانت فرصة اليهود في تموين الجيوش في مسيرة الفتح الإسلامي، ومتعهدو التموين لهم استمرارية واتصال بمسار الفتح والترجمة بين الفاتحين والأهليين (indigènes) ، واليهودي في قيامه بمهمته لا ينسى، إلا مرحليا، الهدف البعيد لدوره كيهودي. ومما يزكي هذا الشعور لديه هو أن العربي يحمل في دعوته للإسلام نظاما جديدا ذا عمق ديني يخالط الروح في الصلة بين الفاتحين والأهليين الذين تبلغوا الدعوة، ولا يترك أي موقع للعبقرية المادية لدى اليهودي، لذا ألزمته الحقبة الإسلامية التوقف في طريقه؛ لا يستطيع النفاذ إلى أهدافه إلا ثغرة دس خفي ينفذ منها لهدم الحضارة والإمبراطورية الإسلامية، فالعربي في دعوته الروحية كالقرطاجيين القدماء في مكانتهم الاقتصادية والتجارية؛ كلاهما منافس خطير لمسار الشتات اليهودي التاريخي. والإسلام في المدينة المنورة في بداية عهده كان قد تعامل مع اليهود كجزء من وحدة المدينة، وقد فتح الباب لهم لمن أراد الدخول في الإسلام، وكان منهم من دخل الإسلام، فكان المنافق اليهودي يدخل في المجتمع في بدء تكوينه عبر كعب الأحبار؛ الذي أعلن إسلامه علنا وسعى يدبر مؤامرات هزت

الدعوة الإسلامية في بداياتها، كمقتل الخلفاء عمر ثم عثمان ثم علي على الخصوص. ثم مع تطور الحضارة الإسلامية في مداها الفكري بدأت ترى الجماعات السرية كالإسماعيلية والقرامطة وسواها النور مع مسار القرون الأولى للحضارة، ثم كان في مستوى الأمة انقسام هائل من البيرينه إلى الفرات، وحينما عمد هارون الرشيد إلى إهداء شارلمان الساعة الشهيرة التي ورد ذكرها في كتب؛ التاريخ كان الوفد الذي أرسله الخليفة يرأسه بحكم المصادفة يهودي، وهذا الوفد وهديته الشهيرة يؤرخان في الوقت نفسه لبداية النزاع بين الإمبراطور شارلمان والخلفاء الأمويين الذين يحكمون إسبانيا، وكانت هذه بداية الحرب الصليبية. فمن هو (Pierre L'Ermite) الذي سوف يكون في أوروبا فاتحة الحرب الصليبية وبداية هدم الإسلام في أوروبا؟ إن التاريخ الأوروبي لا يتحدث عنه كشيء هام سوى أنه راهب ذهب إلى القدس حاجا ثم عاد ومعه فكرة الحرب الصليبية. لكن يظل السؤال قائما: كيف أصبح هذا الراهب الوجه المركزي الأول في حرب صليبية؟ لست أدري، لكننا نرى فيما بعد (Ignace de Layola) يثير نوعا ما الطريقة نفسها في إسبانيا. لقد كان هذا الأخير مجرد مهرج من رعايا القصر، ثم أصبح فجأة من الوجوه الكبار في الكنيسة الرومانية. لقد جرد حملة إبادة أرسلت آخر مسلمي إسبانيا إلى المحرقة. ثم أسس بالإضافة إلى ذلك مؤسسات اليسوعيين، الجزويت (jesuites) التي تجرد حربا ضد الإسلام في كل مكان. إنني أترك هذه النقطة إلى الجيل الآتي بعدي؛ ليضيء ما وراءها عبر سائر الوثائق اللازمة والتي ليست في يدي. مهما يكن من أمر؛ فإن ظهور الإسلام لم يكن بالنسبة لليهود سوى حادث في الطريق؛ أضاع بعض الوقت في مسارهم على الشاطئ الجنوبي للمتوسط، ولكنه حادث ولود مشرع الأبواب على اختلافها، إذ كان لدى

اليهود الوقت الكافي ليلتقطوا من أرض الإسلام عناصر الحضارة من الجامعات الإسلامية ومشاغل الفنون في قرطبة وتونس ومراكش. فابن ميمون قد أسس تحت إرشاد الأساتذة العرب قواعد الثيولوجية الحبرية اليهودية وأصدر كتابه الشهير (مرشد الضال)، حيث اقتبس العنوان نفسه من كتاب الغزالي (المنقذ من الضلال)، ثم إن واحدا من مشاركيه في العقيدة في قرطبة سوف ينشر أول كتاب في قواعد اللغة العبرية مقتبسا في هذا الحقل من سيبويه وبعض المختصين العرب (¬1). فجميع سبل الإبداع الفني وخلاصات طرق الإنتاج في الصلب والحديد التي برع بها العرب؛ أضحت تحت يد ومكتبة الحرفيين الفنانين اليهود، ثم اجتازت هذه الصناعات شيئا فشيئا البيرينه منذ غروب الإمبراطورية الموحدية. لقد انتقلت العلوم العربية إلى الطب الذي استقر في مدينة مونبيليه ثم انتشر في أوروبا مع امتداد المرحلة اليهودية، وحينما وصلت هذه المرحلة إلى نهاية الحضارة الإسلامية كانت هذه هي البوادر الأولى لإشعاع نهضة الغرب. لقد كانت ساعة الانعطاف الكبير للتاريخ، وعبره كانت الطريق مفتوحة أتاحت لليهود تعلم التكنولوجيا، ثم أوغلوا في فهم العمق النفسي للعالم الإسلامي، وأضحت لديهم خبرة واسعة كذلك في النفسية الغربية، ومن هذه المقارنة بين النفسيتين بنوا خططهم في تحقيق أهدافهم. ففي هولندا كان سبينوزا قد نشر أطروحته في الأخلاق فأدخل في الضمير المسيحي العناصر الثيولوجية المستمدة من كتاب ابن ميمون مرشد الضال (Guide de L'Egaré) فابن ميمون أراد أن يفكر يهوديا بكلام ¬

_ (¬1) لقد عبرت حياة ابن ميمون عن مرحلة لها دلالتها، فقد تعلم اللغة العربية والعلوم العربية في إسبانيا ثم هاجر إلى القاهرة، وبدأ يدرس اللغة العربية في زي إمام مغربي، وحينما اكتشف أمره منع من دخول المساجد، لكن المترجمين لسيرته من الغربيين لم يشيروا ولا بكلمة إلى هذه المرحلة من حياته التربوية.

رابعا: اليهودي التائه في نفسية الأوروبي

إسلامي، فيما تلميذه سبينوزا أراد أن يؤمن مسيحيا بإرشاد يهودي، لكن أمرا غريبا في هذا المسيحي الذي خرج من اليهودية إلى المسيحية؛ فهو لم يتعرض لليهودية التي أنكرها، بل تعرض للهجوم على الإسلام. فمن ذا الذي يقول يوما إن الأخلاق (Ethique) لدى سبينوزا هي التي سوف يبتنى عليها من الوجهة النفسية؛ ضمير عصر استعماري آذنت به نذره. ولنتابع إذن خطوة خطوة مسار اليهودي وشرطه الأولي في الولوج في عمق أوروبا وصولا إلى سدة قيادته الحالية وعلينا أن نمسك بالمراحل الخاصة التي سوف تقوده يوما إلى حظيرة أسلافه؛ إلى فلسطين وهو اليوم الذي عرفه جيلنا. رابعا: اليهودي التائه في نفسية الأوروبي إذا اعتبرنا الأوروبي رجلا يتميز بالبساطة وديناميكية الحركة، فذلك لأنه عاطفي وله حساسية نحو الجمال لدرجة العشق والانفعال بالأشياء التي تجسده أكثر من معناها الأخلاقي. هذه العواطف بالغة الحيوية في نفس الأوروبي، لها في القلب خفقات تضفي على الأشياء معنى الخير والشر دون الوقوف على الأسباب والمعاني. الكنيسة الرومانية عرفت كيف تبني آليتها اللوترجية على وقع هذه النفسية البسيطة؛ فاعتمدت الغناء في صلواتها والموسيقا. هذا العالم الذي وصل إليه اليهود، كان اليهودي أمام الضمير المسيحي يتقدمه شيئان متعارضان: فهو أولا القاتل الأبدي للمسيح ابن الله، وهو ثانيا الحامل لوعد الله إلى إبراهيم وذريته، فقد صرح كل من المسيح و (jerem) بانتظار وعد الاختيار الإلهي (Election divine)، وقد امتد إلى القديس بولس من نقطة أخذت مدى واسعا في تداعياتها كما جاء في رسائله (Epîtres) إلى الرومان على الخصوص وذلك عبر السؤال الذي وجهه إليه المسيح في رؤياه (لماذا؟) (pourquoi) الذي اعتمده الفكر البولياني في النهاية:

(Et c'est la pensée paulienne qui primat finalement. On se demande Pourquoi) كان لابد أن يتم التنسيق في كل شيء بين هاتين النقطتين من التلاقي بين البوليانية وفعل اليهودي أسخريوط؛ لذا بات على اليهودي العيش أولا ضمن شروط تتناسب وعدم المساس والعزلة، لذا سيعيش منفردا في الجيتو، ولم يكن ذلك لينقص من قدره، فاليهودي ليست لديه وراء علاقاته العائلية والعنصرية مشاعر، وإنما هي أفكار وبرامج، وفي إطار أفكاره وبرامجه، لا يبحث عن وطن جديد، بل ينصرف في النهاية إلى نطاق يتسور محيطه وعنصره. وذلك لا يبخس من قيمة هذا الشعب ذي الرقبة القاسية كما وصفه الإنجيل، فنفسية اليهود المعقدة تفاجئ التحليل السطحي الذي يقف عاجزا عن التوفيق بين معطيين متعارضين في نفسيته؛ تكبر بغير حدود وقدرة لا تحتمل على ابتلاع الإهانة والإذلال. لكن الجيتو إذا كان لا ينقص من قيمة اليهودي في سائر الحالات وهو بين يدي شعبه، فإن واحدا من الأسباب التي كانت الأساس في تحوله عن الشرق، هو اضطراره إلى الانغمار في المجتمع. فاليهودي في بكين أو طوكيو مثلا لا ترتاح نفسيته إلا حينما يصبح بينهم غير معروف النسب والعنصر، فإذا اتفق أن التقى أحد مع يهودي التقاه صدفة في قطار فتخاصم معه وقال له: يا يهودي. فهنا يغير اليهودي الموقف نحوه ويصبح لطيفا وقريبا. باختصار؛ إنه لا يريد أن يكون معروفا ولا متعرفا عليه مجددا في كل مناسبة (¬1). هذا الطابع النفسي هو أصل مفهوم الشركة المغفلة (anonyme) لدى عالم الاجتماع والاقتصاد كما أرى. وأعتقد أن هذه هي الحقيقة التي لم يشر إليها عالم اجتماع أو اقتصاد ما. ¬

_ (¬1) من هذا الجانب فغريزة اليهودي أكيدة. فمنذ أن يقيم اليهودي معارف مثيرة كما هذه، فهناك خطر عليه يتلخص في شخصية هتلر. من هذه الناحية فقضية فلسطين هي بهذا القياس ستمثل خطرا عليه.

فاليهودي لا يستطيع الاندماج في مجتمع أوروبي، إلا ووجوده مغلف بالغموض واللغة والأسطورة، والمسيحي الذي يراه مصادفة يمارس غريزيا إشارة الصليب التي تبعد الروح الشريرة. فاليهودي يعرف بأنه محاط بالكراهية الصامتة والغريزية، سواء كانت الكراهية من الشعب أو من الأمير، لذا فهو يوظف حياته ونشاطه لمصلحة الجيتو الذي ينتمي إليه والذي يجد عنده الأمان والخصوصية. لكن إذا كانت (لاسيتي) في البداية هي الجيتو كنموذج فقد أصبحت شيئا فشيئا في قلب لندن، وعقل أمة، ومرجع الإمبراطورية بما يضاهي باكنغهام ويزيد، وقد أسس أول تنظيم لمستقبل الإمبراطورية عبر بنك بريطانيا. ولأن الشعب استيقظ مزاجه مع النهضة في جمالية الحضارة، كما تطور ذوق الأمير منذ الحملة الصليبية نحو الفخامة في الأشياء والجواهر، فقد انتهى الجميع زبائن الجيتو، وقد توفر لديه كل ما يرضي الذوق والروح، وهكذا استعاد اليهودي عبر علاقاته التجارية ما يفك عزلته شيئا فشيئا، وانطلق يندمج في الحياة الوطنية. كان على اليهودي أولا، وقد عرف طبيعة الأوروبي في العمل كرجل جيد وسريع التأثر وقلبه يفيض شفقة، أن يبدأ ليحقق أول ثورة في أوروبا على التقاليد. فأمام شعوره بما غلف وجوده من نظرة ريبة واحتقار في عيني المسيحي، بدأ يطرح في إحساس الأوروبي أسطورة اليهودي الهائم على وجهه، بدلا من صورة يهودي جشع ووثني كافر دنيء وقاس تبعث على الاشمئزاز. وهكذا انتقل إلى صورة عاطفية تستثير الشفقة والخير تجاه اليهودي الذي يهيم على وجهه جزاء خطاياه لغير مستقر. كانت هذه أسطورة اليهودي في الشتات في غابر الزمان، ولدت عبر

الأجيال والجدود كانوا يقصونها حكايات لأطفالهم الصغار يثيرون فيها المصير المؤلم، مصير ذلك الفقير المتسكع الضائع، ومع كل إطلالة جيل كان تداول هذه القصة في ذاكرة الأطفال. والذي يرويها يضعها بالمعيار التربوي ضمن تقاليد أوروبا المسيحية في العطف على المشردين والفقراء، وهكذا وصلت هذه الدورة من تتابع الأجيال إلى القرن التاسع عشر، وأعتقد أن حركة أوجين (Eugène) هي التي وضعت حولها الكلمة الأخيرة. لقد كان هذا هو المعيار الذي وضع اليهودي في تقاليد أوروبا في مراحله الأولى هو نزعة الشفقة والرحمة الأوروبية.

الفصل الثاني صورة اليهودي كمحور في تطور الحضارة الغربية

الفصل الثاني صورة اليهودي كمحور في تطور الحضارة الغربية (¬1) 1 - اليهودي المثقف Intellectuel في أوروبا العصر الوسيط كانت الحياة الفكرية من اهتمام الكهنة، ويحتقرها النبلاء حين لم تكن الحياة الفكرية في مدى نشاطهم واهتمامهم، وهكذا غدت الأديرة هي المعنية بالشأن الفكري بصورة رئيسية، لكن مع نظام المدن برزت وجوه كبيرة من علماء النهضة. لقد كانت استعادة النهضة لدورها مع بروز البرجوازية تدفع نخبة جديدة (Laique) من البرجوازيين؛ أي نخبة خارج نطاق الكهنة، وقد بدأت تأخذ سبيلها. فالأفكار المتداولة بين اتجاه وآخر في القارة الأوروبية احتدمت نقاشاتها في ليدن وسلامنك وجنيف مع سبينوزا الذي نوقش كتابه الأخلاق (Ethique) وقرئ (Montaine) كما استشير نوسترادان (Nostradanus). ففي كل ميدان، حتى ميدان السحر والعرافة، كانت النهضة تبرز اسما يهوديا أو وجها يهوديا في مقدمة الوجوه. ولسنا هنا في معرض بيان مفصل عن تاريخ مساهمة اليهود في الأفكار ¬

_ (¬1) هذا العنوان من ترتيب أعمال الترجمة إلى العربية، وهو غير ملاحظ في النص الأصلي الفرنسي (مسقاوي).

في أوروبا، يكفي أن نشير إلى الفوائد التي جنتها الطائفة اليهودية من هذا الإسهام، فالشعب اليهودي هو الوحيد الذي عرف كيف يجمع نشاطاته في هدف واحد هو تنظيمها الداخلي، بمعنى أن يوظف مختلف الإنجاز في خدمة الهدف النهائي الذي يسعى إليه مجتمع جيد التنظيم. وهنا ليس بالضرورة أن يوجه كل فرد يهودي نشاطه نحو هذا الهدف بالذات، بل المجتمع اليهودي من خلال تنظيم داخلي يدفع بنشاطه نحو هذا الهدف. ففي جماعة تتأهب لولوج عالم جديد يصبح الضمير في البداية حسا مشتركا، يقود اليهودي لبلوغ القمة. وفي هذه المرحلة يتوزع الحس الفردي لدى اليهود ليأخذ من عمله مواقعه، وتبقى الجماعة ردء نشاطه في بلوغ موقعه المتقدم في ريادة أهله وجماعته في النهاية. فالهدف هو تجميع الطاقات المختلفة، وفي مسار تجمعه غاية واحدة؛ حتى حين يكون عمل اليهودي فرديا، فإنه يصب بطبيعته في صالح المجموعة (كصائغ) أمستردام مثلا، إذا ما قدم جوهرة فنية إلى نبيل مسيحي برجوازي، فهذه مبادرة تحسب نتائجها في مصلحة الطائفة بأجمعها. فاليهودي في هذه المجموعة كمجتمع سواء، تتساوى فيه خواطره أو مبادراته مع مصلحة الطائفة بأجمعها، فهو يرى نفسه في مجتمع كشركة سرية لها مكانتها في نشاطه، وتضطره أن يفكر ويتنبأ مسارها المستقبلي. كحالة سبينوزا مثلا الذي كان عليه فعلا أن ينظر بما هو أبعد من عصره، في كل ما يقتضيه ذلك من مواجهة الإسلام، وهذه الفرضية تثبت وتؤكد ما سيكون فيما بعد من تحديد مركز اليهود المتضامن طيلة عصر الاستعمار الذي كان قد بدأ. وإذا ما حللنا هذه النقطة لزمن سابق عليها فإننا نراها تتعلق بمساهمة اليهود في تكوين الأفكار في أوروبا، وعلى الخصوص فكرة الاستعمار، إذ نجدها ردة فعل خاصة في العقلية اليهودية أشرنا إليها قبل، وهي ترتكز على الكراهية لكل ما هو آسيوي، وهي ردة فعل مزدوجة: الكراهية لآسيا وللإسلام معا.

لقد كان اليهودي شاهدا لظهور هذا الدين، وقد احتك بالعالم كما ذكرنا، وكذلك بالحضارة الإسلامية، لكنها بالنسبة إليه لم تكن تجربة خاسرة؛ فقد استخلص من خلالها على الخصوص نتيجة عرف منها أنه في أوروبا، ومن خلال الوسائل التي يملكها استطاع أن يحقق فاعلية نفوذ (¬1) لا يستطيع مثله في العالم الإسلامي على العموم إلا إذا اتخذ الدس الخفي وسيلة. ويبدو ذلك بينا حينما وصل الإسلام إلى أوروبا وأصبح فيه معنيا بالوعظ والإرشاد في قومه، إذ بدت له منذ ذلك الزمن مصاعب كالتي كان يلاقيها اليهودي من قبل في آسيا الإسلامية ولا يستطيع تخطيها. هذه النقطة أضاءت له أكثر من درس في التاريخ الرسمي لليهود، وهكذا برز الرد فجأة من جوف الظلام، على ما هو كفاء هذه المصاعب التي برزت أمامه في ظل العصر الإسلامي في الأندلس التي أشرنا إليها، وهما إينياس دي لوايولا وبيار وير؛ وهما شخصيتان مؤهلتان تماما، وكانت الشخصية الأخيرة إينياس قد تولت بالإضافة إلى إبادة المسلمين إبادة اليهود أيضا. هاتان الشخصيتان وهما تقومان بإبادة المسلمين عبر محاكم التفتيش كانتا على غير علم بما بات نقطة رئيسية في النفسية اليهودية؛ أي العمل الذي أصبح متداولا باستخفاف في عصرنا حين قامت أمة متحضرة يذبح بعضها بعضا وبدم بارد رغم وحدة الانتماء للدين من أجل تحقيق نصر ملائم في لعبة الحرب والسياسة. هؤلاء هم اليهود الذين علموا العالم المتحضر نزعة المولوشيزم " Molochisme" ، حتى غدت مذبحة محاكم التفتيش التي تناولت بعض ¬

_ (¬1) ففي أوروبا سلك نفوذه مسالك وصلت إلى التدخل في اختيار البابا، أو تبين له أن لديه حيوية استثنائية قد تجد فاعلية نفوذ فرضها في العالم الإسلامي.

اليهود في عملية إبادة عامة ليست شيئا هاما إذا ما نظرنا للأمور بنتائجها البعيدة، فهذه الوسيلة حالت دون مشكلة خطيرة في تلك المرحلة من شأنها هز الضمير المسيحي. وسؤالنا يبدو هنا: لماذا ذبح المسيحيون المسلمين الذين يعظمون السيد المسيح ويجلون السيدة مريم، في حين أن اليهود يكرهون في تعاليمهم جميع القديسين المسيحيين ومع ذلك فقد جرى الاحتفاظ بهم؟. والجواب الذي ينير الحقيقة بصورة أوضح، والتي يجهلها التاريخ الرسمي، هو أن المجتمع اليهودي تم الاحتفاظ به لبناء أفضل العلاقات المستقبلية، وفيليب الثاني ملك إسبانيا استخدم أفضل رجاله من اليهود حينما وجد مجالا لينقل عبرهم أمواله من مدريد إلى لندن أو هولندا، ومن هنا بدأ المال اليهودي يؤدي دورا عالميا. ثم إن اليهود من دون ذلك كله لا يريدون الإسلام ولا المسلمين في هذه الأرض (أوروبا)، التي رتب فيها كل اهتمام ليكون وسيلة سياسية عالمية؛ عرف عصرنا بدون شك سائر قواعده وأشكاله التي تتجلى في الرأسمالية - الاستعمار- العنصرية. وفي النتيجة، إذا كان اليهودي قد انخرط في الحياة الثقافية التي ازدهرت مع عصر النهضة (La Renaissance) الأوروبية فذلك ليس سوى نزعه هواية للجمال؛ إذ اليهود عرفوا دائما الجمع بين المفيد لهم والجميل. فالمفيد هو من أجل خروج اليهود فورا من عزلتهم المعنوية داخل أسوار الجيتو، أما المدى البعيد فهو إدارة هذه الحياة الفكرية الوليدة بكاملها والتي نبدت من جماع نسغ قوة الحضارة الحديثة وهي تطرح إنتاجها للذين يهزون نخلتها. والمجتمع الأوروبي الذي فتح أبوابه لأولئك اليهود البؤساء والمساكين مع ازدياد عددهم، عليهم أن يحتلوا الآن المكان الأهم في الحياة الثقافية والفكرية.

اليهودي المواطن

2 - اليهودي المواطن هذا المجتمع الأوروبي حيث المال والشفقة والتفكر قد أخذ دوره عمليا؛ لكن اليهودي ما يزال قابعا في الجيتو، يقبل الدخول في المجتمع لكنه لا يقبل المسامحة. وإذا ما أتيح له أن يترك لنفسه حبل الاندماج أو العيش ببساطة في غمار الجمهور فإنه يضيع فيه؛ ويفقد امتياز خصوصيته، لكنه لا يقبل أن يصل إلى درجة البرجوازي الغوييم (Goyim) الذي يقدم يد ابنته ليهودي بالغ الثراء، كما لا يقبل بالمقابل أن يقدم يد ابنته إلى ذلك الثري؛ لأن بعض اليهود يحرصون على التكافؤ في الزواج بينهم، وهنا لا يرغب اليهودي في تزويج من هو أقل شأنا ومركزا منه ولا يتلاءم مع خصوصياته وأفكاره وعاداته. ومن أجل ألا يبدو هذا التكافؤ أمام الضمير المسيحي طبقة أعلى حسبا ومقاما في الخصوصيات بين اليهود؛ كان يرى الحل في دفع أوروبا نحو هدم حواجز التقاليد فيها كما رأينا بثورتين: إحداهما ضد التقاليد، والأخرى ثورة في الحياة الفكرية والثقافية. وذلك ما دفع أوروبا لثورة سياسية قلبت معايير التراتبية الأوروبية وكان ذلك لمصلحة اليهود. وإذ كان الشعب في أوروبا مزاجيا مستسلما لقوى غيبية من التشاؤم والتطير أو التفاؤل، أميا عفويا في عمق تكوينه التراتبي، فإنه بكل حال أوروبي نشيط وشريف، وللأمير مقامه كفارس فخور بعنصره معتد بدمه لدرجة لا تقوى عليه الدسائس، لكن ثغرة في حصانته هذه يمكن عبرها أن يؤتى من خلفه. هاتان اللوحتان ذواتا دلالة تتيح لليهودي بلوغ ما يجول في خاطره من فكرة أساسية هي رفع مستواه بأن تسوى هذه التراتبية أرضا ليتاح له بلوغ القمة في المجتمع الغربي، إذ رغم حاجز الأمير ومقامه السامي الذي لا يغريه المال يمكن من ثغرة في هذه الحصانة أن تجوس الجذور.

ذلك أن صلابة هذا الحاجز في بنية المجتمع الغربي قد اعتراها شرخ (frissur) أو نقطة رخوة، فالشعب كان قديما في مرتبة العبد للأمير، لكن غارات الفرنك والنورمان حققا تحريرا ما من تلك العبودية، وقد أنقص ذلك جزءا من السلطة المطلقة للأمير، صحيح أن النفوذ اليهودي كما هو باد في (City) الجيتو الأول قد أضحى له المقام الأول في إنكلترا، لكن الذي في الجانب الآخر هو الأساس؛ لأن الأمير الحامي لسلطته المطلقة وعبر هذا الشرخ في المجتمع الغربي قد تركت اليهودي أن يضع فيها خلاصة عبقريته التي تبدت في ثورة (كرومويل) التي كانت الزاوية التي جمدت المجتمع البريطاني كتلة واحدة على سواء، وعبر هذه الكتلة (Bloc) عرفت كلمة الديمقراطية، ولم تكن بعد قد لفظت كمفهوم تعبر عنه الكلمة، لكن سائر الأفكار التي تم تداولها قد انتهت في سائر الأعمال، ومن هنا أضحى من الواجب فهم الأشياء على ضوء دراما عصرنا الحاضر (¬1). فمن أجل صنع ثورة فالأمر لا يتطلب سوى تداول فكرة، شريطة أن تمسك ببنائها، ثم تعمل على توفير الشروط المادية والنفسية لهذه الثورة كي تنفجر، وإلا فسوف تنتهي إلى لا شيء. (وهو أساس الانهيار السياسي ثم العسكري لألمانيا المحتلة في أوروبا لفقدان الثورة هذه الشروط). ويمكن عبر هذه الأسس فهم لماذا لا يستطيع أي حزب أن يسحب اليهود من أوروبا ما دام أنه في حوزتهم الوسائل المادية والإيديولوجية. عبر هذه الوسائل المحكمة جرد اليهود حملتهم المضادة في جوانب أخرى حياتية يمسكون بزمامها في المال والاقتصاد؛ وهي: شح المواد ¬

_ (¬1) قارن هذه الصورة من تطور أوربا والحضارة الغربية بما يجري اليوم وفي بداية الألفية الثالثة من الانتقال من العصر الحديث إلى ما بعد الحداثة، وذلك يهدم سائر المعايير من القيم التي يقوم عليها العصر الحديث (مسقاوي).

الغذائية، والغلاء في الأسعار، مما يجعل الحياة معقدة في كل صعيد حتى من الوجهة الإدارية، وكان هذا هو الإعداد الجيد لصنع ثورة. وإذا ما أبدى أحد استغرابه فسأل: بأي إمكانية وخبرة يستطيع اليهود هذا كله؟ فالجواب يضيع في الظلام مغفلا من أي مرجع رغم أنف وذقن السلطة. والأمر نفسه لو تساءلنا: من صنع الثورة الفرنسية عام 1789؟ لا يوجد واحد من الفرسان ولا النبلاء إلا ويعرف، ولا مؤرخ إلا ويحمل في يده الوثائق التي تثبت دور جان جاك روسو والإنسيكلوبديين في قيام الثورة. وإذا ما سألنا حتى المواطن والمواطنة: من الذي أخذ القرار بهدم الباستيل فسيقولون جميعا: هو كل من أراد أن يعبر عن أفكاره الخاصة ومواقفه عدا الذي جاء من اليهود فقوة هذا الأخير على وجه الدقة هي التي صنعت الثورة من دون الثوريين الذين لا يعرفون أية قوة في الظلام دفعتهم، وكان هذا هو المعول الأخير في هدم الباستيل. فهل كان ميرابو يعرف أكثر من الآخرين؟ أنا أشك في أن هذا الخطيب لم يحمل معه الفكرة من ألمانيا من صالونات الرومانسية حيث رأى النور كتاب الشاعر اليهودي (La jaune gloire) (Heine) وهو تمام الزمن الذي رأت فيه النور الفكرة الرئيسية للتصريح بحقوق الإنسان والمواطن. هذا التصريح أعد على الخصوص إعلانا لمواطنيه اليهود. ويجب أن نشير إلى أهمية حدث كهذا في بلاد كالجزائر حيث (الإنديجين) القابلين للاستعمار والمستعمرين كانوا يطالبون دائما بالمواطنية التي تتيح لهم التصويت مع المستعمرين وأسوة بهم، وإذا كان أمكن تصور إعطاء الحق نفسه لليهود فإنه يقال لنا - نحن الجزائريين - بصوت عال: اليهودي ليس لديه مشاعر خارج وسطه وعنصره، فهو لا يفتش خارجها، أما الصداقة

اليهودي المودرن

فهي أدنى سبب في البحث عن المواطنية، فإذا كان مهما أن يصبح مواطنا فليس ذلك من أجل أن ينتخب، بل من أجل أن يعمل في إطار المجتمع فيختار لنفسه أن يدعى (Durant-Dupont) إذا كان اسم ليفي يزعجه حتى لا يوسم بالجيتو بين السكان فيكشف دوره الخفي، أو حاملا نجمة صفراء أو علامة أخرى تميزه، بل يغور غير معروف (inconnu) في عموم سكان المدينة. فإعلان حقوق الإنسان والمواطن كان لازما في إطار خطة عمل اليهودي في العالم، وهو الأكثر أهمية إذا ما اعتبر في فرنسا في مستوى القانون كي يعمل في ظله. من خلال هذه الصفة (المواطن) كان اليهودي قد أخد من سائر أوروبا بعض لون الأرض التي يعيش فيها، ولن يسمى أحد بعد ذلك باسم دافيد، إسحاق، إسرائيل، بل دزرائيلي أو ابنهايمر أو فرنسيس دكرواسي. والجد اليهودي الذي أنهى أيامه بهدوء في آخر جيتو، قرب موقد النار في ليل بارد، وهو يسمر مع أطفاله الصغار، يتأمل الطفل مارسيل والصغيرة (Ginette) وهما يعبثان بلحيته الأبوية ويحلم بالطريق المرسوم لمسارهم. إنهم في أوروبا الآن ولم يكونوا مغررا بهم، فأوروبا مستعدة لتستقبل الجميع من أجل سعادة (Ginette) وسادة مارسيل المعلم (Patron) . 3 - اليهودي المودرن ستكون كلمة (الحديث) بالنسبة لليهودي لا معنى لها؛ لأن اليهودي كالأشياء الثابتة مع الزمن لا عمر لها لأنها لا تتغير أبدا. فاليهودي الآن أصبح مواطنا قد نزع عنه اللحية واللباس وكل ما يميزه كيهودي، لكن أفكاره هي نفسها على مر الزمن. إنها استمرار يوم هو أحد حلقاته الأولى وقد رأى المسار اليهودي الأول، إنه هو والجد الذي كان

قرب موقد العائلة في عشية يوم بارد بين أحفاده، يعرف موقعه، وقد أدى دوره في حلقة هذه السلسلة منذ أول خطوة في الحياة يسري به عنصره ويقوده إلى بلده القديم الذي لا ينسى. لذا فهو يعرف أن العمل الذي يقوم به كبير، وبقدر ما هو كبير فالعمل الذي بقي لمتابعة بلوغه إلى محطه النهائي كبير أيضا، وإلا لا معنى لما يقوم به، ومع ذلك فما قدمه آباؤه قد مهد له السبيل حين تخلص من عقدة النقص ودونية آبائه، ولذا فعمله سوف يبدأ عبر ميزان عالم آبائه الذين ولدوه: إنه ميزان القوى والإمكانيات ثم الصعوبات في طريق الانتصار عليها. فالطفل سيشعر أنه ليس إنسانا عاديا؛ فهو ليس اليهودي المبتذل -الإنديجين الأهلي كمجرد غويم (goyim) بسيط عامل من أجل يومه، بل وعلى الأكثر من أجل مرحلته، فاليهودي الذي لديه أفكار، ولتحقيقها مواقيت مدققة وبرامج لها محطها في مقاصدها البعيدة. لذا فالبرامج تتجدد كلما برزت عوامل جديدة مع التاريخ حين تغيب أخرى وقد انتهى دورها واختفت. وإذن فالأمر يتطلب دائما البحث عن ميزان حاضر وملائم لعالم جديد. فالآلة من الوجهة التجارية جاءت ترهص بعالم التكنولوجيا، وهو عالم معقد يتطلب اختصاصا ثم رجلا يتطلع إلى مهنة يتعلمها ليصبح مؤهلا أو عاملا في نطاق التكنولوجيا، ليصبح مهندسا متخصصا وإذ هم من الغوييم الأذكياء فاليهودي يستأجرهم بأفضل الشروط سواء منهم العمال أو المهندسون. لكن اليهودي يختار لنفسه في النهاية رأس الهرم، فهو المعلم (Patron) صاحب العمل أولا، ويمكن أن يكون هو نفسه مهندسا أو مؤهلا ذا كفاءة ويعرف مادته، لكنه سرعان ما يجد نفسه مدفوعا من القوى كافة، ليقود مسيرة عنصره نحو أوروبا، ليكون فيها صاحب العمل أو رئيس عمال يستأجر الأيدي والكفاءات لدى الأوروبيين من حوله

ليقودهم. وهو في مجال الصناعة سرعان ما يجد نفسه في دور الرئيس أو في قمة الهرم؛ لأن الصناعة ترتكز على التمويل، وعبر التمويل يصبح هو الأقوى نفوذا والأوسع شبكة في علاقات البيوت التجارية في العالم لشراء المواد الأولية وبيع الإنتاج بأفضل الشروط. فصاحب العمل اليهودي (Patron) وراءه سائر البنوك التي أنشأها جدوده في كل مكان، وهي دائما خلف تقدمه، فلديه أبناء هم المؤسسون، سواء كانوا في باريس أو لندن، وآخرون في برلين، ومن ثم آخرون في نيويورك؛ فمورجيو في (City) ؛ وهو ابن عم مورجان في (wall Street) وروتشيلد باريس هو ابن عم روتشيلد لندن، و (Shneider du Chreusot) هو ابن عم (schiffer) في نيويورك، وفي كل مكان لديهم أبناء عم ولكل منهم اختصاص. فروكفلر هو ملك البترول، وواحد من أبناء عمه لا بد أن يكون ملك شيء آخر. فمن يجهل أهمية رأسمال أبناء العمومة هؤلاء الدوليين؛ وهم على رأس الإمبراطوريات الاقصادية، وعلى كاهلهم تبنى امتداداتها؟! ففي عام 1912 تقريبا، اعتقد فورد أن لديه القدرة على اكتشاف تلك السلطة الخفية وفضح نفوذها الذي امتد إلى أمريكا بكاملها، لكن بدا له في النهاية مدى جهله بقوتها الحقيقية التي شاء محاربة سلطتها وتبجحها وتكبرها، لكن (Kahal) الكبير (¬1) سرعان ما أشرع سهامه تجاه هذا الخارج عن تبعيته من الغوييم الذي استسلم حين رأى نفسه دون مستوى هذا الهجوم، مما اضطره إلى أن يقدم اعتذاره علنا إلى الشعب اليهودي. ففي كل مكان من أوروبا المتحضرة (Civilisé) هناك مستعمرة بإدارة يهودي. ¬

_ (¬1) منظمة يهودية سرية في أمريكا تشمل B,nai B,RICA - الكنيس اليهودي -والماسونيون الأحرار هي فروع مفتوحة لهذه المنظمة السرية.

ففي فرنسا مثلا القطاع المالي هو لبنك هولندا، وهذا يعني روتشيلد، أما قطاع المواد الأولية، وهو يشمل المناجم والنقل، فنراه تحت إشراف شنيدر، أما قطاع الإنتاج الاستعماري بما فيه البترول والكوتشوك كذلك من القمح إلى الموز ... إلى (worms) ، فإنهم جميعهم مرتهنون لشركة رينو المنتج الأكبر للسيارات، حتى بدت في ذلك كله رب العمل لها جميعا. فأوروبا أضحى تنظيمها الإداري تحت إشراف يهودي. لقد أفلست شركة فورد ودفعت غاليا ثمن ادعائها القيام بدور المعلم الأكبر في صناعة السيارات. وفي بريطانيا فإن فئة (Goyim) بدت أكثر ذكاء حين عرفت حدودها فلم تضع نفسها في مرتبة المعلم الكبير أو المعلم الثانوي. فالإنكليز فهموا أنه على الجيل منافسة اليهود في نطاق إدارة الأعمال، وغدا أبناء العائلات في بريطانيا يبرزون في نطاق إدارة الأعمال في المؤسسات اليهودية. ففي الزمن الغابر كان التسامح يجري على هامش المجتمع الأوروبي، وكان اليهود عبر هذا التسامح يتسربون إلى داخل المجتمع لعوامل الشفقة بهم والرحمة أو الزمالة الثقافية ثم أخيرا المواطنية ليبلغوا مقاصدهم، حتى أضحى اليهودي في النهاية المعلم (Lemaitre) ؛ أي رب العمل الذي يعمل خلف قناع النظام الاجتماعي الأوروبي الذي خبره في العمق حتى أخره ليحتفظ بتراتبيته هذه. وفي الوصول إلى هذا المقام يكون اليهودي قد أضحى في عمق النظام الاجتماعي الأوربي وقلب كل تراتبية فيه. إنه الآن اليهودي الذي يستقبل بكل تكريم واحترام ابن عمه في العائلة البريطانية كمدير لأعمال الأسرة المالكة، وهو يجد فيها سندها لمهمات ومراكز في نطاق الإمبراطورية البريطانية. لقد كان جده من قبل يريد الارتفاع إلى مستوى المساواة والديمقراطية

اليهودي المذهبي المتزمت

في المجتمع الأوروبي، لكنه الآن اليهودي (المودرن) وقد وصل إلى مستوى في اتجاه معاكس حين أضحى طموحه على رأس التراتبية. لذا فالمساواة الآن أصبحت تقتضي أن تتهود الديمقراطية عمليا لتحقيق المساواة من جديد، ولا يعني ذلك الدخول في اليهودية كعقيدة دينية، فاليهودي لا يتسامح مع المؤمنين الجدد لأنه لا يريد له شركاء، إنما من حيث التعامل في الأفكار الجارية فإن خلفية اليهودي الفكرية هو أنه يريد عالما يعمل بجد في سبيل امتيازاته ومصالحه. إنه الآن يجد نفسه اليهودي الذي يفكر وأوروبا هي التي تعمل، فالمجتمع الأوروبي أصبح مقتصرا على نموذجين: الرجل الذي في يده (Serviete) وملفات على مكتبه، والرجل الذي بيده (musette) زوادته، وهو منصرف باكرا إلى عمله. فالأول مدير أعمال - موظف- نائب في المجلس ... والثاني عامل يعمل لحساب سواه، يستيقظ كل يوم مسرعا إلى عمله وبيده زوادته .. فهذا المجتمع الذي يعمل بكامل طاقته لمصلحة اليهودي أصبح أخيرا يفكر مثله ويعمل من أجله. وقضية دريفوس ليست سوى اختبار لمدى يهودية فرنسا. والكاتب الفرنسي درومونه في كتابه (فرنسا اليهودية) (La france juive) في نهاية القرن التاسع عشر لم يكن يدري إلى أي مدى يعبر هنا عن الحقيقة. فهذا الكاتب السياسي الصريح والسليط بدا في النهاية وكأنما هو نفسه أصبح يهوديا حين وقع في الفخ نفسه فمات متزوجا من يهودية. لقد جاءت الآن الصحافة في الوقت الملائم لتنشر على العالم كله الأفكار التي تلد في الهيكل الكبير. 4 - اليهودي المذهبي المتزمت (Doctrinaire) من لعنة الزمن أو من إرادة شيطانية، فإن عمل اليهودي يبني وبذور تهدمه في تضاعيف بنائه. فاليهود هم الذين ابتدعوا هذا العالم الرأسمالي. وإذا

غدا شيوعيا ووطنيا واشتراكيا فذلك لأنهما جملتان مختلفتان لرد فعل واحد. وهكذا أصبح العالم متهودا، لكن اليهود رأوا أنهم استعجلوا نتائجه هذه بما ليس في خطتهم حينما واصل تطوره الطبيعي، وهكذا بدا وكأنما اليهود ضد عملية التهويد هذه فعمدوا إلى تحويل طريقها بما سارع إليه ماركس. فماركس كان أول من خرج بفكره عن مساره الأساسي (Dèviatiste) ، وذلك قبل أن تستعمل هذه الكلمة، فعمله ولد من شعور خفي وكأنما يحافظ على الرأسمالية في سبيل عنصره، وهكذا عمد اليهود إلى الثورة الروسية أو الثورة الهتلرية بعد ذلك كردة فعل ضد الرأسمالية كما أشرنا. لقد رأى ماركس أن ثمة خطرا يداهم إمبراطورية عنصره، وهكذا قيد المسار حينما طرح كتابه (رأس المال) كمعيار عقدي كي يضيف إلى الرأسمالية نتائج في مصلحة مملكته اليهودية. فالماركسية في الأساس كنظام جاءت تبطئ بالثورة القادمة لأغراض تتصل بالمصالح في المملكة اليهودية. منذ 17 تشرين الأول/ أكتوبر 1917 فإن حزب الثورة الروسية أصبح يدار عبر اليهود التروتسكينيين، وما هو أكثر دلالة تلك الخطة الخمسية الأولى التي جرى التصويت عليها عام 1925 من أجل تصنيع الوطن السوفييتي، لكن التمويل جاء من الرأسمالية اليهودية من وول ستريت. وهنا ينشأ التساؤل التالي: أفكان مورجان شيفر مدير وول ستريت من البلادة في العمل المصرفي حتى يمول السوفييت الجدد في الخطة الخمسية بغير ضمانات؟ أم أن هذه العملية هي تمويل استثماري للبنك بكل ضماناته المصرفية؟ لم يفكر أحد في طرح هذا السؤال الذي نحاول تحليله هنا لأنه ينفذ بدقة إلى عمق الغموض الذي سيطر على عصرنا.

من البداية لا بد أن نؤكد أن وول ستريت قد أخذت الضمانات اللازمة من التروتسكيتنيين ورفاقه الذين كانوا على رأس الاتحاد السوفييتي. ولا تنتظر منهم، وقد ذهبوا، تفسيرا لهذه العملية الكبيرة الهامة التي بلغ مجموعها 125 مليار فرنك فرنسي عام 1925؛ لذا علينا أن نبحث في تفسير هذه العمليات المالية الهامة في مفتتح الثورة السوفييتية عبر مستويين: مستوى عام ومستوى يخص اليهود. أما على المستوى العام ففي عام 1925 كانت البلاد الغربية الرأسمالية المتحضرة قد أنهت عملياتها في ما فوق التصنع (la surindustria - lisation) ، وقد أصبحت الصناعة أمرا واقعا في بلد أضحى يتقاسمه كل رجاله، أي (serviettes) (المديرون وراء المكاتب)، وحملة (musette) (العمال الأجراء الذي يحملون زوادتهم إلى عملهم). وكان هؤلاء جميعا في المدى النهائي سيصبحون في قليل أو كثير ماركسيين، بمعنى أنهم من الفريق الذي يتأهب لما يسمى المساء الكبير (¬1) (le grand soir) وذلك قبل أن يستولي مفهوم المادية على العقول والأفكار والتعامل في سائر أوروبا، فالماركسية اعتمدت على الإيديولوجية المادية، وهذا يعني أنها نافية لكل إيديولوجية. في هذه العبارة برزت في الفكر، الخطة الماركسية في التعارض الأساسي بين الماركسية وكل فكرة دينية، وبالخصوص المسيحية والإسلام. ومؤدي هذا أن الإيديولوجية الماركسية ضد كل رابطة ترتبط بعروة غير تلك العروة التي يراد شد وثاقهم فيها فقط، وقد أصبح هذا مفهوما في تلك المرحلة بالخصوص. ¬

_ (¬1) هذا التعبير يشير في الأدب الشيوعي إلى العصر الذي تأتي فيه الثورة الشيوعية العالمية في العالم كما يشار الآن (le jour-j أو 1 heure, h أي يوم الساعة.

ففي حال تمام هذا الوثاق الجديد في العالم المتحضر فإن سائر النظم التربوية ووسائلها؛ وهي: الكتاب المدرسي وكتاب التاريخ بصورة رئيسة، ودور النشر - السينما - الراديو ... وهي كذلك جميعها يهودية. وفي ظل حرارة كهذه (على الخصوص العشرينيات والثلاثينيات) فإنك ستنحو إلى الاعتفاد بينك وبين نفسك، أو يبدأ الشك في اليقين الذي أنت عليه، أما الذين هم أكثر صلابة فهم أقل انجرارا، لكن محدثك الذي يشيع حولك هذا المناخ المادي إذا أنت استشعرت في هذه المكاشفة ريبة، فسوف يدهشك أن الرجل الذي يدعو إلى المادية وترك الإسلام أو المسيحية هو متمسك لا شعوريا برباطه الديني سواء كان الإسلام أو المسيحية (¬1). لقد كان الجو في تلك الفترة طاغيا ومرددا بكثرة وإلحاح عبر الوسائل المسيطرة، حتى لو أن سبينوزا عاش في هذا العصر الذي طرح فيه هذا السؤال لاختار - دون تردد - المادية كدين ظاهر. باختصار المساء الكبير (le grand soir) جاء، واليهودي يرى العالم يسير برضى منه نحو الخطة السوفييتية. أما في المستوى الخاص: فمهما بدا من المبادرة الرأسمالية في وول ستريت من تمويل الخطة السوفييتية فإنها تعني عمليا عملا هو من رحم اليهودية وابتكارها وذلك هو ظاهر المشهد. إذ نرى في النهاية أن أول بلاد أضحت شيوعية هي روسيا، وهي بلد ليس فيه رأسماليون يهود. ويهود أمريكا أرسلوا رؤوس أموالهم لإقراض الدولة السوفييتية وفي ضمانها، تحت توقيع تروتسكي عبر وول ستريت التي لا تثمر أموالها ¬

_ (¬1) وكذلك اليهودي إذا التقيت به اليوم فسوف يدعوك للاقتناع بما يخالف إيمانه لأن المشكلة مرجأة إلى زمن بعيد بالنسبة إليه في العالم كما سوف يراه.

اليهودي العالمي

بسهولة في برنامج كالخطة الخمسية السوفييتية، وهكذا يتخلون عن أموالهم لتمويل خطة ثورة، لكن صندوقها خاو وجيشها عدو، وقد اعتمد الأرض المحروقة. فالإقراض في خطة خمسية أو عشرية بضمان الدولة السوفييتية هو في نهاية الحساب سيبقى رأس المال اليهودي وحده، ومرصدا في مصلحة ثورة ضد الرأسمالية، وهكذا تغدو لهم وحدهم وحدة الآلة الرئيسية في روسيا لعصر عهد بناء (ما فوق التصنيع) دون أن يكون لأي من الغوييم سنت واحد في مال هو في النهاية ملك الدولة، وهكذا أضحت جميع دول الاتحاد السوفييتي مدينة لخمسة أو ستة من اليهود يمثلون المجلس الأعلى للسوفييت، والباقي يتابع المسار. وهكذا تصبح الأرض كلها تدار بيد تروتسكي من أجل الثورة الكبرى والمساء الكبير وعظمة إسرائيل، لكن الأرض كلها في النهاية لله. 5 - اليهودي العالمي في بداية عام 1937 أو 1938 كثير من الهولنديين غمرتهم الدهشة وهم يقرؤون في صحيفتهم اليومية بيانا تضمن تذكيرا مرسلا إلى الشعب الهولندي، وقد أثار بعض النقاش حول الأفكار الهتلرية المتداولة في ذلك العصر ضد اليهود. البيان كان مجرد تذكير في صيغة تعميم إلى جميع الهولنديين: (يرجى من الشعب الهولندي ألا ينسى أن اليهود هم الذين أقاموا إمبراطورية هولندا الاستعمارية، فأصبحت الإمبراطورية هي الأغنى. فقد كانت إمبراطورية الاستعمار هذه تحت سلطتها مساحة خزان 70 مليون مسلم وأكثر، مع وفرة في المواد الأولية تذهب جميعا لتطعم ستة ملايين هولندي). وقد أثرى بعض اليهود ثراء فاحشا وهم يديرون هذا العمل المجزي بصورة خيالية.

كان ذلك تذكيرا بثلاثة قرون خلت وأعلنت شروق العصر الاستعماري. وهنا تعود اليهود أن يكونوا أكثر حكمة وتواريا في غمار المجتمع على سواء بين المواطنين كما هي العادة لكي يعلن البيان عن أن اليهود هم الذي أقاموا إمبراطورية هولندا باعتبارهم الرواد في حركة الاستعمار الغربي بصورة عامة. في الواقع هناك سبب لهذا الاندهاش الذي عبر عنه المؤرخون على طريقة موراس (Maurras) الذين لا يرون من العالم إلا ما كان ظاهرا للعيان في بريقه أو في صخبه، فظاهره هذا يخفي حقيقته التي تبقى في الظل أو في الصمت. فالكنيس العالمي لليهود أعلن لأول مرة بهذا الاسم مع بداية القرن الرابع عشر، ومع استقرار أسرة روشيلد في باريس، ومنذ ذلك التاريخ يصح التساءل كم من هؤلاء العلماء الكبار يستطيعون إدراك أن ترومن ليس سوى صورة، وأن باروخ وارث روتشيلد هو الملك الحقيقي الذي يسير جمهورية الولايات المتحدة، أو هو (المديتشي) الذي شاء اتباع أثر إمبراطور فرنسا الثالث، لكن لم يكن لديه الوقت ليحمل لقب (ملك العرب) وهو في المنفى، وهكذا حمل اليهود الجنسية الفرنسية، وليس العرب بمقتضى مرسوم (Gremieux) . لقد كان ذلك كله بأوامر روتشيلد الذي ربما أراد نوعا من إصلاح ما بدا غير عادل في عزل مشاركيه اليهود الجزائريين في الدين، وهكذا نرتقي إلى نقطة في التاريخ الحقيقي للعالم الحديث الذي يعمل في الخفاء خلف التاريخ الظاهر الذي يقوم اليهود بدورهم فيه أو يقوم العصر الحديث بدوره في سيطرة اليهود على العالم. وهذا يعني كم هم الناس العفويون البسطاء الذين كان اندهاشهم من بيان الكتيس العالمي في هولندا إلى سائر أبناء الشعب مصدره ما أوحى به ظاهر الأمور للمؤرخين أمثال (Maurras) حين قرأ العنوان، أو عبارة

النداء، في عموميتها إلى الشعب الهولندي، فقد وجه الكنيس بيانه كمرجع وطني باعتبار القضية تتعلق بالشعب في عمومه. وأعتقد أن القارئ لهذه السطور سيجد في هذا الإعلان السند الوحيد الحقيقي الذي يضيء فجأة المشكلة الاستعمارية بكل عمقها. فالنداء كان يهدف بصورة مؤكدة أن يعمد اليهود لإعطاء الحياة الأوروبية بأكملها صبغة أفكارهم ومؤسساتهم، ومن ثم فهم لا يستطيعون أن يجعلوا عملهم وكأنما هم غرباء عن الظاهرة الأساسية لتاريخ أوروبا الاستعماري. لكن من أجل الإمساك جيدا بهذه الظاهرة يجب أن يتلاءم ذلك كله مع تاريخ إسرائيل الذي يفسر باستراتيجية في خفي حركته أكثر من ظاهر تاريخ أوروبا. وهكذا تبدو أطروحته وكأنما هي مجرد عمل اقتصادي ظاهر في مرحلة من تطور الرأسمالية في العصر الحديث. هذه الصور من تاريخ أوروبا نستخرجها من خفيها لكي نفسرها، وعلينا أن نعريها مؤقتا من النزعة الاستعمارية لتكشف الطابع الأساسي وهو معرفة الطابع الروحي. إنني أعرف ردة الفعل المفاجئة لدى مؤرخي الظاهرة إذا تحدثنا عن الطابع الروحي لهذه الأطروحة، فيما المؤرخون على طريقة (Maurras) لا يرون من الرأسمالية شيئا آخر سوى المادة؛ أي ذلك الذي له رنينه إذا ألقي على الأرض. فالرأسمال هو بكل حال التعبير المادي المسلموس لسيطرة اليهود على العالم، وإذا نحن تحدثنا عن رأس المال كإرادة وتفكير فإننا نتحدث عن روح في وحدة أدائه، ومن ثم فليس من نشاز السمع الحديث عن الجانب الروحي للرأسمالية في حياتها الداخلية ما دامت هي تفكر. والأمر نفسه الحديث عن روح الطروحات الاقتصادية التي يعطيها الاستعمار كل التفسير بظاهرها.

لذا، يبدو لنا نموذج التعميم الصادر عن الكنيس العالمي في هولندا هو الأعمق شفافية من سواه وهو يخاطب الشعب الهولندي، وفي يعض الكلمات أثار هذا التعميم التأثير الحقيقي للاستعمار بأجمعه. فإذا كان يراد منا نحن الجزائريين معرفة دور بكري بوشناق (¬1) في تاريخ الجزائر فهذا لا يكفي في موضوعنا في كشف مدى أصوليتهم كما يكشف هذا البيان مراميه البعيدة. وإذا استثنينا أية معلومات إضافية في هذا السبيل فإن المرامي البعيدة لهذا البيان تكشف - بدون مواربة - حقيقة دورها، بمعنى أن الاستعمار كالرآسمالية هما بعض النشاط العالمي لليهود، وهنا فاليهودي يتموضع في الخطة نفسها وليس في زاوية خاصة من تاريخه في أوروبا، لأنه هو تاريخها الأصيل. فأوروبا بالنسبة لليهودي هي مرحلة ووسيلة ترمي إلى التطلعات البعيدة للشعب المختار كما شرحناه في فصلنا السابق. وفي هذا الوجه من القضية نرى اليهودي يبتكر وسيلة جديدة للبروليتاريا، هي تحريك كل حملة الزوادة (أي العمال الذين يحملون زوادتهم للعمل يوميا) ضد طبقة المديرين أي حملة حقائب الملفات. فقد كانت الثورة الفرنسية تتلخص بانتصار حامل الملفات (serviette) على حامل السيف، فمن أجل أن تصعد يجب أن تنزل أحدا منهما وترفع آخر، والوصية الشهيرة (قسم من أجل أن تسود) هذا الشعار يجسد حقيقة اليهود جدود ميكيافيلي. فالخطة إذن مستمرة في تقلب الشعارات والمواقع في سائر مراحل المسار اليهودي الأوروبي منذ اليهودي المشتت إلى اليهودي المتزمت ¬

_ (¬1) في الواقع هذان اليهوديان بكري - بوشناق تواطآ مع قنصل فرنسا في الجزائر لاحتلال فرنسا الجزائر. وبكري أنهى أيامه مقتفيا أثر سلفه روتشيلد.

ذي المبادئ (Doctrinaire) الذي يهدف بصورة مستمرة إلى تحريك القوى الدنيا ضد الأرستقراطية والنخبة، وهذه الخطة هي الأوفى بالهدف إذا نظرنا إليها في مدى الخطة العامة لليهودي العالمي؛ يسيرها وهو جالس في قمة الهرم. لقد حاولنا في بداية هذه الصفحات أن نمسك بأطراف بدايات مسار الدياسبورا، والتوجهات في شتات وتفرق الشعب اليهودي في العالم، إذ ليس غير اليهودي العالمي وحده الذي يؤرخ لهذا العصر، فمسار الشتات اليهودي وجد وجهته الآن أمام نوع من ردة الخوف الوراثية ضد الشعوب الآسيوية تقابلها كراهية يهودية كما شرحنا في بداية هذه الدراسة، وهذا الذهان يبدو لنا واضحا في شعار القرن العشرين في ظل العصر الحديث (الخطر الآسيوي) الذي أضحى شعار القرن العشرين عبر سائر قنوات الإعلام اليهودية. ولكن إذا نحن تجاوزنا مدى ما يعنيه هذا الشعار، فثمة خطر حقيقي على اليهودي، وهذا الخطر سوف يتعاظم في مشاعره مع ظهور الإسلام؛ إذ مع ظهور الإسلام بدأ الشعور فورا يخطط طريق المستقبل في خطط ظهرت نتائجها عقب السقوط الإسلامي، خطط ترمي إلى تحقيق موقع اليهود وترأب صدع جماعاتهم في آسيا. فاليهود رأوا في العالم طبيعتين من الكائنات: اليهود وهم الشعب المختار، والحظيرة وهي التي يحشر فيها عموم الجنس البشري الغوييم. ولكن قبل ولادة فكرة الثورة البلشفية للثورة العالمية التي أدارها تروتسكي، كانت المشكلة هي كيف توضع هذه الثورة في ظل اليهودية العالمية، ومن ثم بأية طريقة تحكم بها العالم؟ كان البحث في أوروبا عن الوسيلة الأكثر انصياعا والأكثر خصوصية في خدمة مخططاتها، وهكذا من هذا المنطلق قادت خطاها ببطء - كما سبق أن أشرنا - وانتهت إلى فصل أوروبا عن باقي المرتزقة الذين هم

من بقايا الإنسانية. من هنا نشأت هذه (الثقافة الأوروبية) ذات الخصائص الأكثر عنصرية. فالاستعمار لا يستطيع أن يرى نفسه دون هذا المفهوم العنصري؛ إذ بغير هذا المفهوم للعنصرية فالحرب تصبح مجرد غزو، ولكن مع العنصرية فالحرب تصبح استعمارا، فكل العمليات الحربية في آسيا، حتى في المنطقة الإسلامية الأكثر بعدا كمنطقة جنكيز خان وتيمورلنك، كانت الحرب غزوا مجردا لأن العنصرية كانت غائبة عن مدارك الغزاة كما هي بادية في مدارك اليهود. على العكس من ذلك، تبدو الثقافة الأوروبية التي أبدعت بطريق المصادفة أسطورة الجنس الأبيض، كما سوف تبدع فيما بعد أسطورة العنصر الآري، قد حولت حروبها ما وراء البحار إلى حروب استعمارية. ولقد أوضحنا بالتفصيل في هذه الفقرات أصول هذه الثقافة التي تفصل اليوم أوروبا عن بقية الإنسانية. فالعالم أصبح اليوم منقسما بصورة نهائية إلى طبقات ثلاث: اليهود الذين يحكمون أوروبا، والأوروبيون الذين يستعمرون من أجل اليهود، والأهليون، (Les indigènes) الذين أصبحوا مستعمرين. فساحة الاستعمار قادرة أن تجد متسعها في فراغ طبقة القابلية للاستعمار التي لم يكن اليهود فيها أكثر من أجانب كما يراد إثباته، وإذا كان التوسع جائزا في هذا الفصل ولا يؤذي، فالعنصرية في نهاية التحليل هي المسوغ للاستعمار أمام الضمير الأوروبي، ولكنها أيضا أضحت معيار هذا الضمير نفسه: فالأوروبي الذي تتملكه فكرة مبتذلة، حينما ينظر إلى اليهودي الصيني (Judochinois) مثلا، سينظر إليه هو بالمقابل على أنه الأنديجين الأوروبي، ومن الطبيعي أن هذه الحالة من الفكر هي الأكثر شذوذا، وقد نفذت إلى هذا المفهوم من خلال النظام التربوي الذي

تدور حركته عبر الكتب والصحف والسينما والراديو التي هي بأيدي اليهود أو الذين يسيرون بأوامرهم. لقد فهم منذ ذلك الوقت أن شعورا ما تولد في عقلية هذا اليهودي الذي أصبح شيئا فشيئا المعلم والمرجع في أوروبا. وهكذا ذهب يأخذ دوره في استلام شعلة الحضارة عقب سقوط الحضارة الإسلامية. فأوروبا التي استلمت شعلة الحضارة بعد سقوط الحضارة الإسلامية لم يعطها التاريخ الضوء الكافي، لكنها مع ذلك أخذت في معناها وضوحا أكبر في مجرى الأحداث التالية. فمن المعلوم أن القارة المغولية مع جنكيز خان كانت الكارثة الأولى التي أصيبت بها الحضارة الإسلامية، ومن المعلوم بالإضافة إلى ذلك أن هذه الكارثة قد سبقها وفد مسيحي مقيم في (OuJang Bate) هي عاصمة (¬1) (Horde d'or)، ومن المؤكد أن المؤرخين على طريقة (Maurras) الذين اعتمدوا الوثائق المتداولة التي ركزت على حالة تاريخية مماثلة تضمنتها هذه الوثائق، ولأننا ننظر إليها من زاوية غموض معناها البعيد، نرى أنها ليست وثائق تاريخية فحسب، بل هي الحقيقة التي يهمنا الوقوف عندها. وهذه الحقيقة لا يقدمها ما هو مدون في الوثائق فقط، إذ من خلال التحليل الداخلي لها؛ فالمسيحية كانت في ذلك الزمن مشغولة بانقساماتها الداخلية، والكنيسة الرومانية والبيزنطية في خصام كل منهما بوجه الآخر في العداوة والجدل اللاهوتي، ولم تكونا مهتمتين بالمشكلات العالمية. كما لو افترضنا إرسال بعثة إسلامية تنتمي إلى عصر ما بعد الموحدين إلى كوكب المريخ لتحضير غزو أمريكا، فإنني أرى هذه الوثائق حتى لو أثبتت تاريخها، أن حقيقتها لها مجال آخر ينفي هذا الافتراض؛ لأن معطيات مجتمع ما بعد ¬

_ (¬1) Horde d'or اسم الإمبراطورية التي أقامها المنغول من سهول روسيا إلى الكوكاز من القرن الرابع عشر إلى القرن الخامس عشر Oulang Bate عاصمة منغوليا.

الموحدين هي التي تؤخذ بعين الاعتبار. فأنا أعلم أن مجتمعا لديه أفكار لا تتجاوز أمور القبيلة أو المملكة لا يستطيع النظر هكذا إلى البعيد، ولا العمل على بناء علاقات دبلوماسية مع كوكب المريخ. وبناء على هذا التحليل العقلاني الذي آخذه بعين الاعتبار، يبدو لي أن الوفد المسيحي إلى (Oulang B) هو مجرد ترتيب يهودي استطاع تسخير بعض الأنديجيين المسيحيين، أما الأحداث التي أفضت إليها هذه البعثة، فقد رتبت إطارا سابقا لاهتمامات اليهود والعنصر الأوروبي الذي كان لا يزال بعيدا عن النظر إلى المشكلات على المستوى العالمي؛ فسائر الاهتمامات هذه - التي أشرنا إليها - أصلها في (الذهان اليهودي) تتمحور حول الخوف والكراهية، والفكرة نفسها هي أيضا فكرة الاستعمار الذي كان غامض الخفاء في الحقبة الإيديولوجية ليهود الدياسبورا. ويمكن لنا أن نجد هنا التفسير الأكثر وضوحا من سائر هذه الوثائق التاريخية - في حال صحتها - هو معيار هدم قرطاجة، وهو منهج اعتمده اليهود في سائر المشكلات السياسية. وهنا فإن هدم جنكيز خان لبغداد مركز الحضارة الإسلامية قرين هدم قرطاجه (¬1) بترتيب يهودي مفترض. ¬

_ (¬1) لدعم هذا التحليل الذي يشير إليه بن نبي نذكر ما ورد في كتاب ولتر. ج - فيشل (يهود في الحياة الاقتصادية والسياسية الإسلامية في العصور الوسطى)، ترجمه سهيل زكار، دار الفكر، ص 128 وما يليها. ويتحدث عن الثخصية اليهودية سعد الدولة الذي برز في مرحلة (الا يلخان المغولي أرغون 1284 - 1291 حيث يقول: فقد الإسلام وضعه المتحكم ببلدان الخلافة الشرقية بعد الزحف المنتصر الذي قاده هولاكو وتوسيع نطاق حكمه إثر سقوط بغداد سنة 1258، وغدا مجرد ديانة بين بقية الدياذات الأخرى، وفقد مفهوم أهل الذمة مكانته ... وحظيت اليهودية الشرقية بدورها في هذه الفترة التي تميزت بشدة التوتر الروحي بفرصة غير متوقعة ... ووملت المكانة المتميزة للمسيحية واليهودية في ظل أرغون إلى درجات عالية عبرت عن نفسها بفرمان خاص أصدره أرغون بمحكمة العمل في الدوائر الحكومية حكرا على اليهود والنصارى. (مسقاوي).

فالغوييم الأوروبي سينتهي أخيرا إلى مجتمع (indigene) ، لكن ردة فعله عنصرية، فالعنصرية أضحت روح الأوروبي بصورة عفوية، فإذا ما كانت مثلا فتاة مسيحية في حفلة (bal) راقصة، رقصت مع شاب أنديجين، فإنها ستجد نفسها فجأة أمام ذاكرتها في تحذير يأتيها من أحد رفاقها وهو يناديها محذرا، وقد يصدف أن يكون يهوديا: (عزيزتي أنت ترقصين مع أنديجين (أهلي)). وما هو أكثر دلالة حينما وقف دزرائيلي في إحدى جلسات مجلس العموم وحمل بيده المصحف الشريف وصرخ: (ما دام هذا الكتاب موجودا فالسلام لن يعم العالم). فدزرائيلي لم يتحدث كمسؤول بريطاني فحسب، بل وكيهودي عالمي يتكلم أيضا. من الطبيعي أن حالة ما شرحنا قد مرت في ردات فعل طبيعة الأوروبي نفسه وقد أضحت جزءا شاملا لشخصيته، حين استلم صدفة تركة عنصرية دون أن يعرف من الذي أعطاه إياها، ففي ظل هذا الواقع فالأوروبي أصبح يقوده شيئا فشيئا المحرك السحري، ويعمل طبقا لآلية فكرة أجنبية عنه لها تعريفها الخاص. وعلى ضوء ذلك، إذا كانت العنصرية هي المسوغ الأخلاقي للأوروبي الذي محا الشعوب الأمريكية الأصلية قبل كولومبس وقتلها بدم بارد، فهناك إذن معيار يستطيع اليهود عبره أن يميزوا الأخلاق الأوروبية الجيدة من السيئة، لذلك فهم يستحقون ثقتهم كمديرين لمشروعهم. فالاستعمار لا يجد مسوغه لمجرد أطروحة اقتصادية تفسر في إطار أوروبي؛ وإذا كانت تاريخيته تركزت داخل هذا الإطار فإن حقيقته قد تجاوزته بعيدا. وإذا كان الإعلان العام الصادر من الكنيس العالمي لليهود إلى الشعب

اليهودي الذي رمى القناع

الهولندي قد أدهش المؤرخين، فذلك لأنهم لا يعرفون حقيقة تاريخ العالم إلا من خلال ما تدلي به وثائق مصنفة في المكتبات العامة. لكن هذا الإعلان هو إمارة العصر. 6 - اليهودي الذي رمى القناع يهودي الشتات عرف الفخر والاعتزاز والحلم في عنصره فترة الشتات، فهو لم يخنه، لذا بقي وسط الجموع وبينهم دون أن يفصح عن ذاته (anonyme) ؛ حماية له ولنشاطه في خصوصية عنصره الذي يعمل في الخفاء. والواقع أن أحدا لم يستطع أن يخرق غموض وسر شخصية اليهودي التي تجسد فيها الإذلال الذي به انتزع من أوروبا كلمتي الشفقة والرحمة، لكن الإنجيل - الوثيقة الأدنى ريبة في أفكاره المسبقة - عقد مقارنة أعطانا عبرها في نفسية الشعب اليهودي سمة أساسية؛ حين أطلق عليه اسم هذا الشعب ذو الرقبة القاسية. فحياة اليهودي في الجيتو ألزمته أن يعود إليه وبين كتفيه رقبة صلبة وبها يحقق أهدافه، وإذ هو يدرك بدقته البرجوازية الأوروبية في تفاعل إحساسها بالشفقة والرحمة، فقد استطاع أن يعطي الانطباع الأقصى من الخضوع في قسمات وجهه، وهو يحمل في داخله الكبرياء. بيار أرميت مثل أمام بطريرك القدس الذي سأله عن اسمه فأجابه بكل بساطة: (اسمي بيار وأصدقائي ينادونني أرميت). ثم سأل البطريرك ليعطيه شهادة عن كل المصاعب التي يلاقيها الحجاج المسيحيون من غير المؤمنين (أي المسلمين). لقد عبر عن مجرد اسم وكنية وشهادة، لكنه أصبح العنوان البارز

للحرب الصليبية، والمؤرخون لا يطلبون أكثر من ذلك ليجعلوا منه الشخصية الغامضة في التاريخ. واحد من العاملين في نظام المعابد (Ordre des Emplois) ليس معروفا لدى المؤرخين هو (بيار أرميت)، أما ابن ميمون فهو على علو مكانته في الفكر اليهودي فقد ظهر أمام المسلمين في القاهرة (وقد هاجر إليها من الأندلس) في صورة إمام في أحد المساجد، وقد تحولت إقامته في القاهرة إلى مجرد قصة تروى في أوروبا بكل معانيها. وابن ميمون عاش في القاهرة غير معروف بما هو فيه، وقد تخفى حتى لا يقابل بالرفض الذي لقيه صديقه ابن رشد في قرطبة وهو كان يعرف ذلك جيدا. وهنا يصح الوقوف عند معاني هذه القصة في حياة الرجلين. فما هو معروف من حياة ابن رشد أنه أنهى بكل هدوء مركزه كقاض كبير في الأندلس، لكن يهودي الشتات كابن ميمون مثلا وسواه قد وضع لنفسه طريقا توفر له فيه مجموع ما انطبع عليه من الميزات العملية؛ فهو المواطن في أوروبا الديمقراطية، ثم هو المعلم الأكبر في المرحلة الصناعية. ويبقى رجل (الإدارة والمكتب والملف) كما هو الرجل الذي يخرج من بيته باكرا إلى عمله حاملا بيده زوادته اليومية، فهؤلاء جميعا لم يعودوا شركاءه بل موظفيه وعماله العاملين في ورشته ومديري أعماله. في بداية القرن التاسع عشر كان روتشيلد مجرد دبلوماسي في وزارة الخارجية الفرنسية، (ألكي دورسيه) عين سفيرا في فيينا لكنه بعد فترة من عمله كان منزل روتشيلد هو الذي يستقبل الملك كارول ملك رومانيا حينما زار باريس وليس قصر الإليزيه حيث كان بوانكاريه رئيسا للجمهورية.

أما درومونه (Drumont) المسكين الذي تحدث ببراءة الفرنسي (الغالي) فحذر من الخطر اليهودي في كتابه (فرنسا واليهود) فقد توارى من خلف ستار النسيان مع قضية درايفوس، وربما كان بسبب من يأسه مات متزوجا من يهودية. قضية درايفوس كانت مجرد اختبار استطاع اليهود من خلاله الهيمنة على الحياة الأوروبية، بل على ضميرها وأفكارها والناس والأشياء. فبرغسون أعطى دروسه في السوربون فحمل تلاميذه بكل بلاهة (âneries) أفكاره إلى العالم المتمدن، أما أينشتاين فقد ملأ العالم بأنوار النسبية حتى غدت سيرته وكلماته في الجد والهزل، وقصصه المتداولة، ذخيرة أنباء الصحافة اليومية ومحطات تفسيرها للأحداث والأفكار التي تغنيها (havas) ورويتر و (Harold) بالأخبار كل صباح. وهكذا غدا البوابون في برلين، كما في باريس ولندن، يعرفون آخر ما يقوله أينشتاين، لكن قليل من يتحدث أو يعرف اسم (plank) الفيزيائي الألماني الذي ابتدع نظرية (quanta) التي كانت هي المقدمة في علوم الطبيعة الذرية. أما (أينشتاين) فقد سيطر على المسرح، وموروا على الأدب، واليهودي (مناخم) أحيا على أسطورة موزار الطفل الأعجوبة. في كل مكان كان المفسرون لماركس وتروتسكي يهيئون من الخارج الهجوم الكاسح لطرد ستالين المستغل، ومن هذه الإرادة ولدت الأممية الرابعة. وقد بلغت حتى حلبة المصارعة؛ إذ كان اليهود في حاجة إلى لقب ملكي: ماكس بوير (Max Boer) : هو الذي أخذ هذا اللقب، وهكذا ولدت أسطورة جديدة؛ إنها اليهودي السوبرمان الذي يعترف فيه لليهودي بالقوة الخارقة في كل صحافة وكل إذاعة وكل سينما.

نهاية عصر

فاليهود يملكون كل شيء ويتركون كل شيء ويمسكون بأيديهم كل شيء. و (لويس بلوم) استلم السلطة في فرنسا ظاهرا وبصورة مباشرة، فاليهود بعد اليوم لن يتخفوا أبدا وراء اسم مستعار ولا جنسية مستعارة. إنهم يهود بكل وضوح، وإنهم استثنائيون. بلفور أعلن عام 1917 الكلمة الكبرى للعصر الحديث: عودة إسرائيل إلى فلسطين. وأنبياء مودرن أمثال برنار لوكاش - كما تعرف الجزائر - أعلن الجنسية اليهودية قبل أن يعلنها (ترومن) عبر العالم. هكذا ألقى اليهودي بالقناع بعد ألفين من السنين، وكما خرج اليهودي من الجيتو ليصبح مواطنا في بلد أجنبي ها هو اليوم يخرج من الظل، من الخيال، من غمار المجتمع (anonyme) ، إلى إشهار جنسية إسرائيل، وبقدر هذه الجنسية أعلن نفسه مؤلف ومعلم العصر الحديث. هكذا كان تعميم الكنيس العالمي إلى الشعب الهولندي. ومن خلال هذا التعميم قال للشعب الهولندي أنه هو المؤلف لإمبراطوريتهم الاستعمارية، وكانت تلك الكلمة هي الحقيقة الأكثر اختصارا لعلامة الزمن الذي يعني نهاية العصر. 7 - نهاية عصر كثيرا ما تسير الأفكار إلى أبعد من العقل الذي ابتكرها. وحينما أسس اليهود إمبراطوريتهم العالمية من خلال العنصرية الأوروبية لم يكونوا على علم بيوم يكونون هم فيه ضحايا هذه الأسطورة وضحايا الجنس الأبيض. فالإمبراطورية العالمية هذه بلغت ذروتها في حرب الريف عام 1925

حين وضع بلدان متحضران كل قوتهما المادية أمام الأمير عبد الكريم الخطابي وقبيلتين معه في حركته التحريرية. خسائر الأمير أمام الاستعمار الفرنسي كانت نهاية مقاومة الأهليين (les indigènes) ، وهكذا بلغ الاستعمار الذروة سيدا على آسيا وإفريقية كلها. فيد الاستعمار على آسيا وإفريقية أضحت يد تملك، وتأكيدا لهذا الشعار؛ نظم اليهود قافلتين لسباق السيارات في مدى هاتين القارتين: فشركة (Citroen) نظمت سباقا للسيارات من شاطئ المتوسط إلى شنغهاي باسم السباق الأصفر، وفي القافلة الثانية باسم السباق الأسود، كانت السيارات تجتاز إفريقية من الجزائر إلى كيب تاون. فعالم الأنديجين القابل للاستعمار والمستعمر كلاهما أخذ بهما السباقان الأصفر والأسود في أحاديثهم إكبار جرأة وإعجاب استكشاف. فالعالم المتحضر أراد أن يعبر عن المناسبة بنوع من الاحتفالية فيها كل ما يكرس الاستعمار سلطانا إمبراطوريا، ولتأكيد هذه الإمبراطورية أقام معرضا عام 1931 في باريس عرض فيه إنتاج المستعمرات في آسيا وإفريقية، وجاء الزوار الأوروبيون يتأملون (العادات والتقاليد) للشعوب التي يجرونها وراءهم. لقد غدت الأفكار العنصرية سلما يداولها في مدينة ميونيخ قلب أوروبا؛ رجل داكن اللون، وهو يجلس في مقهى لشرب البيرة ويتحدث عن إله جديد يدعى (العنصر الألماني) ويبشر بدين جديد. لقد تكلم هتلر إلى الشعب الألماني عن الشرط الجائر الذي فرض على الشعب الألماني منذ معاهدة فرساي عام 1919، وقد رد إلى اليهود جريرة متاعبه ومآسيه.

كانت كلمة هتلر تبعث الحماس في قلوب الشعب الألماني وتثير أعصابه حين انتفخت أوداجه غضبا ثم انتفشت فخرا وعنفوانا، لقد آثر حاضرا هشا وبه صادر مستقبلا. لقد تحدث عن العنصر الآري كعنصر أعلى يسود بالحق الإلهي ليرفع معنويات الشعب الألماني من نتائج مؤتمر فرساي، ولتعود إليه مكانته وكل عظمته في الأرض ليبني عليها مستقبله وهو في المقدمة بين الأمم. كان هذا كله الأساس الايديولوجي للوطنية - الاشتراكية - أي النازية، وهو مذهب يعلو لديهم بعظمته الجميع، ولعلو مكانتها غدت حدوده مغلقة بطبيعتها على من دونها في العالم، وغدت لا تتعدى نتائجها حدود عنصرها. لكننا في العصور السابقة نرى القضية اليهودية وقد أعطت بدفعة واحدة، مستوى استثنائيا حين وضعت الجميع دون العنصرية اليهودية، وبذلك اختصرت كل قضية الحضارة المسيحية. من هنا جاءت الايديولوجية الهتلرية تطرح مع كل مخاطرها مخاطر أخرى في الحياة الأوروبية هي في عمقها مخاطر يهودية بكل حال. درومونه (Dumont) استشف المشكلة في كتابه حين كتب حول هذا الموضوع، لكنه كان عملا فرديا. فالقضية الوطنية الاشتراكية كانت عقدة حزب صنعه رجل فكانت (دولة الرايخ الثالث)، وقد طبع فكره على المؤسسات وقوانين الدولة؛ حتى أصبحت مبادئ الحزب هي نفسها فكر الشعب كله، مع علمائه ومهندسيه وحرفييه وضباطه وجنوده. لقد حاول اليهود السخرية من البداية، وهم في الخارج لكن في داخل المجتمع الألماني، فأثبت هتلر أنه يعرف الإجراء التقليدي (Classique) في رفضه تعاون اليهود الألمان وملياراتهم، حين جاؤوا يدخلون في حركته. أما أرقام غوبلز في الإعلام الخارجي فقد كانت أكثر بلاغة وفاعلية من سخرية اليهود، فالعالم عرف أن 85 % من الأبنية في برلين ملكها يهود،

وكذلك سائر دور السينما والمسارح والراديو والصحافة والبنوك. لقد كانت هذه كلها في أيديهم وكذلك التجارة الصغيرة وآلاف المهن الحرفية، وبكلمة واحدة لقد أصبح الشعب الألماني إما مستأجرا أو عاملا أو موظفا أو زبونا لليهود. عبر هذه الدعاية التي نظمت بإتقان؛ كان كل بلد متحضر لديه في النهاية شيء يناقش به حقيقة أرقام غوبلز في بلده هو أيضا. فقد نظر إلى اليهودية بصورة غير مباشرة كأحجية يتداولونها فيما بينهم، وغدا كل يريد أن يعرف لها بمعنى. لذا غدت أسطورة اليهودي ينظر إليها بأهمية أقل، لكن اليهودي وهو يرمي القناع - كما أوضحنا في الفصل السابق - فقد بدأت بعض النظرات المتطفلة تحاول الولوج فيها واستشفافها أحجية حية كشفنا معناها وأسرارها. فأسطورة اليهودي هذه غدت ظاهرة وشائعة حين أسفرت عن وجهها، وكان اليهودي هو نفسه أكثر اندهاشا حين انكشفت على حقيقتها فأصبحت أسطورة عالم بكامله. وبالرغم من بعض الإشاعات وبعض الخلافات وبعض الفضائح وبعض المواقف العلنية كقضية دريفوس في فرنسا، فقد كانت أوروبا تريد الحفاظ على سر واجهتها وظاهرة تاريخيتها العزيزة على قلب موراس (Maurras) ، لذا كان هتلر هو الخطر الأول الجدي على هذه الأسطورة في صراحة موقفه. فهو الأوروبي الأول الذي حاول فهم سر أوروبا الغامض على حقيقته. فاليهود ظنوا أنهم قد ثبتوا إلى الأبد قدر ومستقبل هذا العالم الذي صنفوا شعوبه في طبقات ثلاث من الناس: المستعمرون - الإنديجانيون (الأهليون) - الاستعمار الأوروبي والشعب المختار وإسرائيل على رأسه.

لكن رجلا وقف أمامهم يتحدث في ميونخ ويريد أن يكون هو نفسه مستقبل أحد الألفيتين واضعا العنصر الألماني على رأس سلم جميع الشعوب، واليهود في أسفل السلم الإنساني، أي هم أدنى من الأنديجين (أهل البلاد الأصليين). فالخطر هنا إذن بالغ الأثر، وأكبر أثره على اليهودي الذي لم يخطر له من قبل أن يقيم له حسابا بكل الوسائل. وهنا كانت الحرب هي الوسيلة الوحيدة الفعالة ضد هذا الرجل الذي يمتلك السلاح الأقوى على الأرض، والأقوى صناعيا، والمنظم بأهم جهوزية فكرية وتقنية. وهكذا أعلنت الحرب عام 1939. إن تاريخ هذه المأساة لا يهمنا بذاته، ولكن بعض المظاهر النفسية التي برزت أثناء الحرب تستحق الانتباه؛ لأنها تكمل في الواقع المشهد الخاص باليهود أنفسهم، وما تميزت به هذه الحرب من خصائص وحشية وفظيعة كما هو معروف. فمن حيث المبدأ؛ فكل حرب هي غير إنسانية بطبيعتها، لكن حرب 1939 - 1945 كانت بكل معنى الكلمة وحشية، فصحافي بريطاني كان طرح سؤالا عام 1943 على إحدى السيدات البريطانيات بالنص التالي: (لو أن زرا أمامك لآلة تفجير إذا ضغطت عليه تهدمت ألمانيا كليا بما فيها من النساء والأطفال والشيوخ والكلاب والقطط). أجابت السيدة البريطانية: (أعتقد أني لا أتردد ثانية واحدة). إذن بالنسبة للضمير الأوروبي، فإن المصلحة اليهودية اتحدت بالحالة النفسية الأوروبية في هذه الحرب مع بعض الأشياء الرئيسية، ويأتي في مقدمتها أن الأوامر تجاوزت نهائيا القيم الدينية العلوية، وكل مبدأ أخلاقي إنساني، وهذا يفضي نوعا ما إلى المعيار الداخلي للسيطرة

اليهودية على الحضارة الحديثة. فبعض مراحل هذه الوحشية المتصاعدة تضيء بشكل واضح خصوصية النفسية اليهودية. فألمانيا بلد ديمقراطي وفيه بصورة طبيعية العديد من المواطنين اليهود. فهؤلاء أظهروا الصلة الطبيعية التي توحدهم مع الشعب الألماني ومع مواطنيهم في وستفاليا مثلا الوطن الجرماني، ومن ثم ففي الحرب حين تقررها الولايات المتحدة، الأمريكية وبريطانيا، فهذا يعني أن يصبح السكان والمدنيون من الشعب جميعا هدف مدفعيتهما وغاراتهما كهدف استراتيجي. فالمهندس اليهودي الذي خطط لبناء أهم سد مائي في مان (Man) لمصلحة المدينة، لم يجد حرجا أن يخون مهنته ليشرح للقيادة الأنكلوساكسونية سر معطياته الفنية في بنائه؛ كي تحسن التصويب لهدمه بطائراتها، وهكذا قامت غارة وحشية من الطيران الملكي الفرنسي (R.A.F) واستطاعت تهديمه، وانطلقت ملايين الأمتار من المياه لتغرق المدن والملايين من السكان المدنيين الألمان نساء وأطفالا وشيوخا. من الصعب تصور فكرة هذه الغارة وهي تستهدف المدنيين فقط، أي المسالمين من المواطنين المدنيين غير المسلحين، وذلك ليستقر في ذهن الألماني عبر ذلك المهندس اليهودي الذي يفترض أنه ألماني أو من أي بلد آخر؛ أن اليهودي لا يرتبط بأي بلد ما حتى ولو عاش فيه قرونا. ففي كل بلد من بلاد الغوييم ينشئ اليهود بصيغة أو بأخرى مجتمعا سريا له مصالحه وموضوعاته الخاصة به تحت ظاهر المجتمع، ومن خلاله تستطيع أن تواجه جذريا المصالح ومواضيع الوطن الذي يعيشون فيه. لكن ما هو أكثر خصوصية في هذه الحرب هو خسارة ألمانيا نفسها، إذ لا بد هنا أن نضع الحدث في معيار التسليم بنظام العالم الذي لا مفر

منه حين يتابع التاريخ الإنساني مسيرته. إذ لو اعتبرنا العامل المادي هو وحده حتمي التقدير، لبدا لنا من المستحيل هزيمة ألمانيا وهي في شهر حزيران/ يونيو 1940؛ إذ كانت تحقق في ذلك الوقت النجاح كله في احتلال فرنسا حين غدت سائر شواطئ الأطلنطي تحت سلطة جيشها. لكن بعد نزول الجيش البريطاني في دنكرك كان كل شيء ضد ألمانيا (المنتصرة) قد تحقق، رغم طيرانها المدمر في اكتساحه الكبير الذي وضع تحت سلطته هولندا وبلجيكا وفرنسا بكامل جهوزية صناعية فريدة في العالم، فقد كانت سيطرته حتى ذلك اليوم محكمة على سائر مصادر أوروبا الغربية من نارفيك وحتى حدود إسبانيا. وكان الجيش الألماني هو الأقوى في العالم حين توافرت له من الشروط المادية ما يحقق له النصر النهائي على العدو الوحيد، لكن إنكلترا رغم تفوق ألمانيا ظلت واقفة مع ملكتها في ثبات تاريخي ويسجل لها. لقد كان أمام هتلر السلام الذي أراد تحقيقه لألمانيا ما عدا خطوتين خرجتا من حسابه: الأولى اقتحام مضيق (Calais) لاحتلال بريطانيا، وكذلك المتوسط لاحتلال شمال إفريقية، وهاتان الخطوتان كانتا تبدوان قبل آخر حزيران/ يونيو 1940 لعبة أطفال بالمفهوم الحربي بالقياس لهذه الانتصارات. وفي الأشهر التالية، ورغم أن القيادة البريطانية قد أعادت تنظيم هيكليتها، فقد بقي الألمان في تجهيزهم يستطيعون احتلال جزيرة كريت، ولا يكلفهم ذلك سوى وحدة من الجيش المظلي تنزل في الجزيرة رغم البحرية البريطانية. كما أن احتلال شمال المغرب يمكن أن يتم بسهولة من كل النواحي، وهذا ما تم بعد عامين في تونس؛ أي حينما تغيرت كل شروط الحرب لمصلحة الحلفاء. -…ولكن لماذا لم يرد هتلر أن يقوم بهاتين الخطوتين اللاحقتين؟ - هذا السؤال لا يوجه أبدا إلى النظام العسكري؛ فقد أثبتنا كل

المعطيات التي لها معناها في الجواب عن هذا السؤال لكن في جلسات محاكمة نومبرغ أتيح لنا أن نستمع إلى هذا الجواب من ناحية أخرى إذ صرح (فون روبرتروب) وزير الخارجية: (لقد خسرنا الحرب لأننا لم نعلن حربا وطنية بل حربا أوروبية). فالسؤال إذن طرح طبق معيار نفسي: هو الإطار المعنوي الذي أثار حركة الفكرة الهتلرية. وهتلر هو الذي أثار لأول مرة في تاريخ أوروبا المشكلة اليهودية. إذ إنه فتح المجال لكل ما له طابع يهودي انطبع في الحضارة الحديثة. لكن ذلك لم يجده نفعا لأن الألمان ارتكبوا خطأين كلفاهم خسارة محققة للحرب وذلك بسبب تأثير الفكر اليهودي نفسه الذي يقود لا شعوريا قراراته الكبرى في قيادة الحرب. في الواقع فإن أساس العقيدة الهتلرية، وهي خلاصة سائر الفلسفة الألمانية للرايخ الثالث، لم تكن سوى أسطورة العنصرية في نتيجتها المزدوجة: الأوروبية (L'europeanisme) ثم النزعة الاستعمارية المنبعثة من جديد والمسماة: (أوروافريك) كهدف وحيد. هذان المفهومان (ويرى فيهما الخلاصة اليهودية التي تختصر كل تاريخ الدياسبورا) هما بكل دقة أساس للقرار العسكري في حزيران/ يونيو 1940. في الواقع فإن الفكرة الأوروبيانية في الأساس تتعارض بصيغتها مع احتلال بريطانيا، ما دام أن هتلر يأمل تحقيقا لمفهوم الوطن في وحدة أوروبا، وهذه كانت مهمة (هس) (إحدى الشخصيات الرئيسية للوطنية -الاشتراكية) التي شرحها في ربيع 1941 حين أجرى اتصالا سريعا مع إنكلترا فاجأ به العالم، وعلى ضوء ذلك انتهت بأن لزم كل من بريطانيا وألمانيا الصمت.

فمع فشل هذه المهمة الغامضة تبين لهتلر بأنه ليس على معرفة كافية بالقضية اليهودية. كيفما كان الأمر فهتلر عندما أراد أن يستعيد حريته في العمل كان ذلك قد تآخر؛ فالإنزال في بريطانيا غدا مستحيلا منذ أن افتتح (Hostilités) دعاية كراهية ضد روسيا في حزيران/ يونيو 1941. في الوقت نفسه فإن فكرة أوروبا الإفريقية هي التي عطلت حركة هتلر أمام امتداد محتمل للعمليات العسكرية في شمال إفريقية. إن احتمالا مماثلا كهذا دون النظر إلى العلاقات مع شعوب شمال إفريقية أصبح غير ممكن، لأن هذه الشعوب التي كانت في بداية الحرب لا تنتظر سوى إشارة لتسهيل أي اجتياح مضاد، كان ذلك فيها بهدف التحرر من الاستعمار، ومن ثم فهتلر ظن بأنه هو المحرر في نظر الأهليين، ومن ثم لا يستطيع أن يأتي محررا لإفريقية الشمالية دون أن يهاجم ويرفض هو نفسه العقيدة الاستعمارية لأوروبا الإفريقية لذا فضل في نهاية الحساب الهدنة في 25 حزيران/ يونيو 1940، والتي حافظت على الستاتيكو الإفريقي. هكذا نرى جيدا أن الخطأين الكبيرين لهتلر في قيادة الحرب ليسا خطأين عسكريين بل هما ذوا طابع إيديولوجي. وبوصولنا إلى هذه النتيجة الجانبية؛ كان هتلر الذي اعتقد بقدرته على إلغاء الطابع اليهودي في العالم غدا يفعل كل ما بوسعه أن يفعله لينجو من سيطرة الحلفاء على خطوطه. هذا التعارض في العمل يفسر في الواقع كيف أن رجل أوروبا لا يريد أن يبصر بكل صفاء الطابع الصحيح للمشكلة اليهودية؛ لأنه هو نفسه، بقدر ما يكون أوروبيا يعكس لاشعوريا هذا الطابع العنصري نفسه، فهتلر لم يعرف أن المشكلة بدأت في داخله وفي أفكاره العامة وانعكاساتها على نفسه.

فبدلا من أن يتعامل مع مشكلة 95% من الأبنية في برلين التي يملكها اليهود؛ كان عليه أن يتعامل بداية مع 95% من الأفكار المتداولة في ألمانيا، وبالأولى في إنكلترا والتي جاءت من اليهود. ولكنه من ناحية أخرى لو استطاع وضع المشكلة بمعيار حالته الداخلية فإنه لن يأمل ولو للحظة بأي تحالف مع إنكلترا التي هي يهودية 95%. ومن هنا فكل هذه القرارات العسكرية التي أفضت إلى الحرب كان يمكن أن تتغير وربما يتغير معها مصير العالم. فهتلر لم يحسن أبدا تقدير الحضارة الحديثة التي هو جزء منها؛ إذ من المتسحيل على أوروبي أن يتخلص من أخطاء الفوهرر الحتمية التي ترتبط بصورة أساسية بتركته الثقافية والأخلاقية. فأيما أوروبي لا يستطيع التفكير إلا طبق الجدلية اليهودية. فهتلر أراد محاربة اليهود مستعملا وسائلهم وأفكارهم الأساسية؛ العنصرية والاستعمار: لقد خسر الحرب. وذلك هو الشيء الضروري لتاريخ الإنسانية، فالحرب لم تكن تخسر في العالم كله إلا أمام الاحتمال الذي يأتي مطابقا شيئا فشيئا للأحداث التي أدت إلى الهزيمة. فهتلر قال كلمة تاريخية موجها كلامه لأعدائه. وهل هو الوحيد الذي لم يكن مخدوعا؟ (سأطحنهم وأبددهم). لكن ألمانيا في النهاية سحقت بكل معنى الكلمة تحت مطر القنابل. وأعداء هتلر الذين أملوا بنصر يتيح لهم السيطرة على العالم كليا وبصورة نهائية؛ لم يحققوا سوى نصر مسحوق تذروه الرياح، وهو هش حيث لم يستطع أن يصمد على الاستمرار في عالم متغير (boulversé) ومضطرب، فعدم الاستقرار، والأفكار والضغط الداخلي والخارجي، وتصاعد التسلح، هذه كلها كانت نتيجة حرب أوطان ظنت أنها ربحت هذه الحرب، هذا إذا وضعنا جانبا

حالة روسيا التي مثلت حالة من التاريخ ينظر إليها في مجملها بعيدة عن نتائج الحرب. إن نتائج كهذه أفقدت الحضارة الحديثة سائر مرتكزاتها المادية والروحية، ولم تعد سوى حلقة في سلسلة البربرية التي تميزت بها الحرب، كما أشرنا، وخلفت نتائج معنوية وأحزان وآلالم حياة؛ فقر وقلة، وقد أدى هذا إلى اهتزاز المعتقدات الدينية في العديد من الضمائر، بما فيها المسيحية في مجملها، التي وجدت نفسها شريكة في صورة تبدو نهائية. وزاد الطين بلة شعور تجلت فيه أوروبا شيئا فشيئا وقد بدت الكنيسة مسؤولة في قسط وافر من هذه الفوضى الاجتماعية والأخلاقية السائدة. من جهة أخرى فإن رأس المال الذي ينظم كل الحركة الأوروبية قد أفرغته الحرب، والباقي ابتلعه التسلح المتصاعد الذي هو سمة المرحلة التي نعيشها، والتي أضحت الحرب الباردة طابع حركتها. وهكذا وجدت أوروبا حاضرا جفت فيه شجرة عطائها. وأخيرا فأوروبا هذه التي حققت رفاهية مختلف حاجاتها بقوة الإمبراطورية الاستعمارية؛ قد بدأ أمامها العديد من الحاجات والمطالب التي تقلقها، لأن واسع مستعمراتها تحديدا، قد بدأ يفر من سلطانها تحت شعار الاستقلال، كما هي الهند وبورما وأندونيسيا وطرابلس. فالحضارة الحديثة في النتيجة وصلت إلى جوهرها الحقيقي، لا مسيحية رأسمالية، ولا استعمارية. وليس هناك في التاريخ حضارة تستطيع العيش فقط برصيدها الأخير، فهذه استحالة منطقية واجتماعية. أخيرا؛ نحن نقيس ونحاكم عالما في نهايته. فالعالم الحديث بدأ يميل نحو الغروب لكنه غروب يبطئ هزيمه شيئا فشيئا وبهدوء كما هو الليل الذي لف شيئا فشيئا المجتمع الإسلامي عقب سقوط الموحدين.

الحرب

فالعالم الحديث الذي زرع العنف سيموت بالعنف، وهذا الموت العنيف للعالم الذي لا روابط عميقة في حياته سيؤدي به إلى حرب أخرى يوقد نارها حاليا. 8 - الحرب يسود بعض العصور مناخ انتظاري، لكأن المنتظر رسول أو نبي أو مخلص أو كاهن يزع أمل انتظار التغيير أو الخلاص، هذا الانتظار هو من خصائص العصور النبوية في مسيرة التاريخ لكن العالم اليوم يعيش في مأزق الحاضر، لذا فهو لا ينتظر سوى الحرب كحل ممكن لسائر المشاكل. فمصيرنا - كما يبدو - معلق بحرب في حدي نهايتها المطلق أي الهزيمة أو النصر. فالحرب في عصرنا هي الاستراتيجية السائدة في النظام الرأسمالي أو النظام السوفييتي، إنه إحدى الخصائص المأساوية لعصرنا. لكن هذا الإرهاص الاجتماعي المنتظر كما يبدو لا يهز الضمير المسلم بما فيه الكفاية. في الحقيقة كثير من المسلمين، بل ثم جميعا، يستطيعون تقاسم هم الحرب مع غيرهم، لكن إطار توقعهم يقف عند هذا الحد، فهم يتصورون الحدث لكنهم غير ملتزمين به ولا متورطون بخططه ولا يسودهم تفكير أو استخلاص استراتيجي له بصورة أولية. وكما أشرنا في الفصل السابق، فعالم العصر الحديث سينتهي وسيعقبه عالم جديد، وإذا ما جاء هذا العالم ولم يكن فيه للمسلمين أي دور محدد، ولا تقدير عوامله وقواه التي ستدخل في لعبة مستقبله الخاص ومستقبل أطفالهم، فإن علاج هذه الثغرة يأتي من استخلاص النتائج الممكنة من تلك الحرب القادمة، وهذا ما أحاول في هذه الأسطر استخلاصه في حرب كهذه ممكنة، فعلى ضوئها يمكن لنا أن نفهم بشكل أفضل مستقبل العالم الإسلامي الذي هو أساس هذه الدراسة في جزأيها الأول والثاني.

من أجل ذلك يجب أن نتصور أولا مشكلة الحرب التي لابد في النهاية أن تقع بين أمريكا وروسيا السوفييتية، وهنا لن يوجه لهذه الحرب سوى نهاية واحدة ممكنة نتيجة التعارض بين النظامين الذي سينتهي بانتفائه إما بزوال واحد من كلا النظامين أو كليهما دفعة واحدة. هناك إذن احتمالات ثلاثة: انتصار الرأسمالية- انتصار الشيوعية-زوال كلا النظامين المتعارضين، ثم هنالك احتمال رابع هو الوفاق بين الشرق والغرب، لكن هذه الفرصة الأخيرة لا تلفت انتباهنا لأنها لا تتجه في الوقت الحاضر إلى حل مستقبلي بينهما لإزالة هذا التعارض. وتصورنا لهذه الحالة أنه يبنى على وفاق تعلنه روسيا مع الولايات المتحدة، لكن احتمالا كهذا يتعارض مع العقيدة الشيوعية نفسها، ومفادها أن النظام الرأسمالي لا بد أن يغيب في النهاية من تلقاء نفسه نتيجة الصراع الطبقي في تعارضاته الداخلية. وفي هذه الحالة لا تعود لروسيا أي حاجة للحرب كي تحقق نصرا نهائيا. ثم إن الرأسمالية في حالة حرب؛ قوتها تكمن في أنها تنذر روسيا صراحة أو ضمنا بالصواريخ والأسلحة المتطورة المتبادلة لتحقيق السلام النهائي، لذا لا يوجد مناخ انتظار نهاية كهذه، ولذا فالحرب لا تستقيم إلا من خلال هذا التعارض بين النظامين. يضاف إلى ذلك أن السياسة الأمريكية في ظل الحرب تتنامى وتتفاعل حركتها بشكل أفضل من السياسة السوفييتية، لذا فإن فرضية الوفاق هي من الهشاشة بحيث لا تستقيم، وإذا هي - فرضا - استقامت فستجد نفسها مسوقة بصورة أكثر واقعية لانتصار الشيوعية في النهاية. هناك إذن مجال للمواجهة عبر الاحتمالات الثلاثة التي أشرنا إليها،

استراتيجية الحرب القادمة

ولكل احتمال منها نتائج تلقي بظلالها وضرورات تأثيرها على العالم الإسلامي. من الطبيعي أنه ليس من العادة الحديث عن تاريخ حرب عبر افتراضات سابقة على نشوئها، لكنني هنا مضطر إلى اللجوء إلى هذه الطريقة نظرا لظروف هذه الدراسة؛ فحالتي هنا هي حالة مؤرخ لشيء غير متأكد من وجوده الشخصي حين حصوله، لكنه في الوقت نفسه يرغب في الدخول في احتمالات الحرب الرئيسية؛ مخافة أن يغادر الحياة قبل أن يراها، وإذ هو هنا يكتب لجيل سيأتي بعده فإنه سيحاول استشراف نتائج قد تكون استثنائية غير منتظرة، فالمؤرخ هنا ملزم بتقويم خصائص هذا الحدث، لأن حظوظ أي من هذه الفرضيات بدأت تلقي بضوء على نتائجها في عالم سيأتي بعد عالمنا الحاضر. 9 - استراتيجية الحرب القادمة إن الطابع المريع الذي اتخذته الحرب الماضية بتأثير الفكر اليهودي سوف يجعل الحرب القادمة شاملة وتقع نتائجها على الغالب والمغلوب معا. إنها ستكون مذبحة للأطفال والنساء والشيوخ، فضلا عن تهديم المدن والثروات كأهداف سياسية، وإحداث خراب يصيب المدنيين وكذلك منابع الأنهار والمصانع العائدة لطرفي الحرب. من هنا فإن قرارا بالحرب يضع دفعة واحدة أولاها وأخراها في مخاطرها، وهو لذلك غير ممكن قريبا اتخاذ قرار كهذا لدى روسيا، وكذلك لدى أمريكا التي تحاذر الولوج فيه؛ إذ لو أن حربا كهذه أخذت مجراها فإن ربع الساعة الأولى لتحرك الجيوش نحو جبهة أو عدة جبهات؛ تصبح آسيا وإفريقية مرشحتان بدلا من أوروبا، وهنا فالقارة الإفريقية مؤهلة لتكون قارة عمليات حرب في صورتها الأخيرة، وربما هذا يفسر المحاضرة التي ألقاها منذ وقت قريب رئيس الأركان الأنكلوساكسوني في نيروبي.

وإذن لا نستطيع منذ الآن أن نقدر ساحة المعركة، فمن المؤكد في النهاية أن المدنيين والتجمعات الصناعية سيعمهم الخراب ويخلف وراءه الأرض المحروقة، فخصائص تقنية هذه الحرب تفرض نفسها وتنذر بخراب لا مرد له وفي كل مكان. فمن الوجهة الاستراتيجية الخطوة الأولى لهذه الحرب ستعمد إلى تهديم المنابع الحيوية بصورة كلية وبالغة القساوة، بحيث لا تدع شيئا يدب، حتى إنها تلحق بالحصان وعربته، فالخراب سيتقدم حتى يشمل الوسائل الطبيعية للوجود الإنساني. وتحقيق هذا الهدف سوف يرتبط بمصادر التموين وبالمواد الأولية وبالرجال الملونين في الجيش الأمريكي، لذا فإن الولايات المتحدة قد تنطلق من قواعدها الجوية لتقوم بهجوم ساحق واستراتيجي ضد روسيا الشمالية دفعة واحدة؛ لكن هذا يمكن أن يجابه باستراتيجية مماثلة وهي احتلال ألاسكا للوصول عبر كندا إلى أرض الولايات المتحدة. وإذن فالحرب المنتظرة منذ الدقيقة الثانية ستعم المناطق القطبية والمناطق الاستوائية دفعة واحدة، بمعنى أن الحرب ستعم العالم الغربي كله وكذلك العالم الاسلامي. وإذا وضعنا هذه الاعتبارات في المستوى الإنساني فهناك نتائج تفرض نفسها؛ فاحتلال روسيا لأوروبا الغربية سيعني بالضرورة انهيار الرأسمالية ثم تراجع الأفكار المسيحية التي تبنى عليها في المرحلة الحاضرة؛ وهما ما هو لازم بالضرورة للعنصر الأمني والعنصر الروحي. وإذا كان الشائع اليوم القول بأن أوروبا خرجت من مرجعية المسيحية (Dechristanisé) فماذا سيقال في العالمية الثانية التي ستكون نتيجة للحرب التي نتحدث عنها؟ لا شك أن هذا يعتمد على حظوظ الحرب في

نتيجتها، ولمن يكون له النصر، أهو في مصلحة هذا الطرف؟ وهنا سيصبح الضمير الأوروبي إما شيوعيا أو لا ملتزما، لكن المسيحية لن يكون لها محل في نتيجة الحرب. فالمسيحية قد أدت مهمتها في التاريخ كيفما كان النصر في مصلحة أي من الطرفين وهذه هي إحدى النتائج الكبرى للحرب القادمة التي نتوقعها. فإذا ما أنزلنا هذه الاعتبارات جميعا على واقع العالم الإسلامي فهناك بكل الوجوه يأتي التحرر من الاستعمار في المقدمة. ففي اللحظة التي سيغيب فيها الضمير المسيحي مع نهاية الحرب المفترضة هذه؛ فإن الضمير الإسلامي على العكس سيصاحب تحرره السياسي حيوية انتماء روحي جامع؛ يستعيد زخمه في مدى واقع العالم الإسلامي، ثم إن تأثير الفعل ورد الفعل الحربي في إفريقية سيقود بالضرورة إلى وحدة الترابط بين الإسلام الإفريقي عموما، أي المسلمين السود والبيض على سواء، كل يعطي من أجل الوحدة والحيوية التي تضم صفاء عفوية الضمير الشعبي لدى المسلمين السود، مع روحانية المسلمين البيض المثقلة بالعلم المكتسب من مناهله القريبة من الحضارة الإسلامية. تلك خطوط مفترضة لسيطرة مناخ روحي على إفريقية كلها. هذا التوقع يظل صالحا حتى لو أخذنا باحتمال نصر عسكري لروسيا في إفريقية كلها، فإذا كانت الشيوعية تبرز في أوروبا كدين جديد في ضمائر خلت من الالتزام العقدي بعد خروج المسيحية منها، فإن هذا الاحتمال في إفريقية غير وارد لأن الضمائر المسلمة بعد الحرب ستجد نفسها في شروط أخلاقية جديدة كما أشرنا، وليس للشيوعية أن تأخذ دورها كدين بل كسياسة، ربما سياسة جديدة لنظام جديد. فالشيوعية في أوروبا يمكن لها عبر تنظيماتها التي تستجيب لعمق

الثقافة الغربية المادية أن تملأ الفراغ الروحي في أوروبا الذي أشرنا إليه، ومن خلال هذا المناخ فإن مراكز الحرب تبقى طالما بقي لأمريكا وروسيا مكان يتم فيه التوافق حول المرحلة التالية والتي نتحدث عنها هنا، أي إيجاد مقارنة بين عنصرين استراتيجيين أساسيين: الأخلاق الروسية أو الأخلاق الأمريكية، وهذا ممكن إذا ما كانت القوة العسكرية الأمريكية في مرتبة أعلى منذ بداية الحرب حتى المرحلة الثانية منها. وهنا في تقدير هذا الاحتمال وعلى ضوء الحرب الأخيرة؛ يجب أن نأخذ باعتبارنا ما كان من قوة الجند لدى الجندي الروسي عند نقص التموين اللوجستي للحرب أكثر منه لدى الجندي الأمريكي. فقد أثبتت الحرب الكورية ضعف العامل المعنوي لدى الجندي الأمريكي؛ منذ أن وجد نفسه محروما من الكفاية اللازمة ومن الشعور بالأمان الذي تمنحه القوة الميكانيكية في وجه العدو. ففي النزاع القادم سوف يعتمد الشعب الأمريكي بأسره على الآليات الجديدة (V 1 - V 2) أي السلاح الذري وخلافه، فإذا ما نقصه شيء من عدة الوسائل فإنه مضطر إلى الاعتماد على العدة النفسية؛ كما فعلت بريطانيا في الحرب العالمية الأخيرة، حيث تولت العدة النفسية جبر الحيوية القتالية، وإلا فإن الجندي الأمريكي في النهاية سيفقد ثبات تفوقه. وإذا كانت الحرب القادمة تبنى على كسب الجبهة القطبية وجبهة الباسيفيك والجبهة الإفريقية؛ فإن الحرب ستؤدي مع تطورها إلى النقص حتما في التموين اللازم، مما يستدعي من جانب أمريكا ضخ مصادرها الداخلية في الولايات المتحدة، وهنا سيستعيد الذهان الكوري في الذاكرة التي تسكن أمريكا الشمالية بأسرها، وحينئد سيكون للجانب المعنوي نتائج مثبطة في ميزان النتائج، وهكذا فإن المقارنة بين سائر العوامل الاستراتيجية الداخلية والخارجية ستكون لمصلحة الشيوعية.

وهنا يقودنا الأمر إلى الوجه الثالث في جبهة تنشأ في المدى الجغرافي لأمريكا ككندا مثلا، فلا يعود الأمر سوى خط واحد هو المسارعة نحو حرب كاسحة قادرة على إلغاء روسيا في يسير الزمن، لكن هذا غير ممكن إلا إذا أوتيت أمريكا سلاحا سريا لا تملك روسيا أي فكرة عنه ولا أي حظ في تفاديه. فإذا كان القدر أراد إنقاذ الرأسمالية فمن المؤكد أن هذا هو الحظ الوحيد الباقي لها عبر قرار سريع مداهم، وإلا فهناك مع الزمن آفاق عدة سوف تبرز؛ فروسيا رغم نجاحها القاري المحتمل في استعادة أوروبا وإفريقية فإن هذا الأفق لا يبدو في روزنامتها، ومع ذلك فإن آلية النزول الضروري لإنهاء الحرب عسكريا؛ عبر معركة على أرض الولايات المتحدة الأمريكية من خلال كندا، هي من شروط الوجه الثالث للحرب، الذي يعني أن تقوم الولايات المتحدة برفع كأس الاحتفال في اتفاقها مع روسيا ومع الكادرات المنتشرة ومع المعدات التدميرية، ثم ترد روسيا على الأمريكان بمثله. لكن من أجل تحقيق هذا الهدف والوصول إلى نهاية الحرب لا يبقى من إنهاء الحرب سوى شرطين؛ أي أن تقوم ثورة في أمريكا أو أن تقوم روسيا باحتلال أمريكا، وكلا الأمرين ممكن نتيجة حرب طويلة الأمد وقد بلغ بهما الوهن لدرجة أنه لن يكون النصر أبدا الوسيلة لأي منهما في تحقيق النظام الذي تريده للعالم. هذه الخلاصة في نتيجة حرب كهذه مفترضة؛ هي وحدها التي يجب استخلاصها لإدراك مدى تأثير الدبلوماسية الغربية الحالية للعالم الغربي على العالم الإسلامي.

الفصل الثالث الحياد الإسلامي

الفصل الثالث الحياد الإسلامي أولا: العالم الإسلامي والحياد منذ نهاية الحرب عام 1945 تطورت النفسية السياسية وحدها في العالم الاسلامي، وكان الحدثان اللذان أديا إلى هذا التطور هما فلسطين والحرب الكورية، فالسياسة الإسلامية عقب الحرب انطلقت اتجاهاتها نحو انتصار أمريكا من ناحية، ومن ناحية أخرى الاعتماد على الايديولوجية الأممية أي الثقة الكاملة بهيئة الأمم المتحدة. فقد كان تصاعد قوة أمريكا قد بني على ذلك النصر الكبير على ألمانيا وقوتها التي لا تقهر، وهذا قد رفع من اعتماد العالم الإسلامي على قوة أمريكا، ثم إن العالم الإسلامي لم يكن قد استكمل تحرره من الاستعمار. لذا كان انحياز العالم الإسلامي نحو أمريكا له معناه لا شعوريا ضد روسيا. هذا الانحياز اللاشعوري قد سار قطاره على خطين هما كلمتا: (Remantism opportunism) فالأولى تعني المواقف التي تسوقها الظروف، والثانية الأحلام التي تسوقها الشعارات. وهكذا غدت الشعارات مثل خطي سكة الحديد لا تلاقي بينهما ولا وعد فيهما لوحدة المسار نحو المستقبل، لاستحالة الجمع بينهما. وقد بنيت السياسة الإسلامية على ما سار به الزمن؛ تناقضا في الوسائل والأفكار، حتى وهي تعالج القضية الفلسطينية.

لا أريد هنا أن أشير إلى الفوضى التي عمت الجبهة الداخلية للعالم العربي والتي تحدثت عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب، ولكني هنا أتحدث عن السياسة في مستوى الحدث. فمنذ أعلن بن غوريون الدولة الصهيونية؛ أعلنت أمريكا الاعتراف بها في منتصف ليل اليوم نفسه، والباقي كله سار في طريقه عبر الأمم المتحدة التي غدت ضد مصالح وحقوق وآمال العالم العربي، وذلك الذي تجلى في قرار الهدنة التعسفي حين أصبحت الجيوش العربية على بضع خمسة كيلومترات من تل أبيب. وهكذا ما إن أعلنت دولة إسرائيل حتى كان التسلح يأتيها من سائر المرافئ الأوروبية. ثم إن إسرائيل المسلحة هي التي حاصرت الفيالق المصرية، حتى انتهت الأمور إلى هدنة كاملة، وذلك ما مكن الدولة العبرية من طرد مئة ألف من عرب فلسطين من منازلهم وبيوتهم التي يعيشون فيها، إلى المخيمات التي ازدحمت بهم، واستسلموا لأمل العودة الذي لا يأتي حتى يومنا. (إن) مسار الأحداث التعيسة هذه، قد أزاغ أنظار هذا العالم الإسلامي في تقدير القيمة الجوهرية لإيديولوجية الثقة بالأمم، في الوقت نفسه الذي حلمت فيه رومانسية السياسة العربية بالأمم المتحدة، دون القيام بأيما جهد في أروقتها تحتل به مركزا في الإطار الدولي كشريك، أو تحقق عبره هدفا محددا. وهكذا فقد الإيمان وبكل بساطة فجأة كما جاء فجأة، ودون دراسة ترمم تصدع الثقة بجدوى الأمم المتحدة، لأن السياسة العربية منذ البداية اعتمدت على الرياح الملائمة التي تسوق المواقف (opportunism)، لأن جذورها في الأساس بنيت على الخوف والاحترام معا للقوة الأمريكية. فالخوف من أمريكا كان سيد الموقف العربي، وقد غلف برومانسية الثقة بالأمم المتحدة كريشة في مهب رياح السياسة الدولية. لقد انتهت الحرب

العالمية الثانية وكانت كلمة (القنبلة الذرية) كلمة سحرية، وغدت مفتاح القوة السوبر إنسانية في صورة أمريكا التي تملك وحدها القنبلة السحرية، وأضحت بذلك العنصر الوحيد الذي يعتمد عليه في العالم الإسلامي، وذلك ما أحيا الرومانسية مجددا بالأمم المتحدة تحت رعاية أمريكا. لكن الحرب الباردة ما لبثت أن جاءت بعناصر جديدة، وقد بدأت تبرزها الأوضاع التي تجري في آسيا، وأبرزها النصر الذي حققه نجاح ماوتسي تونغ وهو يطرد البطل الأمريكي، فأضاف إلى المكانة الروسية 400 مليون صيني في الوقت الذي كان الرئيس ترومن يتلقى أنباء امتلاك روسيا القنبلة الذرية. هكذا افتقدت القنبلة الذرية سحرها، لكن أمريكا مع ذلك بقيت تحتفظ بالقوة الأكبر في العالم الصناعي، والتي لا تقهر لولا بلد مجهول في أقصى الشرق هو (كوريا الشمالية)؛ التي أعلنت حربا مدنية ضد كوريا الجنوبية بدعم من روسيا، أدت إلى هزيمتها رغم دعم أمريكا ورقابتها، فغدت جزءا من المفاوضات الدولية منذ اليوم الأول من حزيران/ يونيو 1950. وإذ هذه الأحداث تجري فقد كان لدور اليابان ما تقدمه لتلميذتها (Seoul) ، وهكذا كان العالم يقف على عتبة النصف الثاني من القرن في لحظة ترقب لما يجري في كوريا الشمالية؛ التي احتلتها أمريكا ودمرتها عبر قوتها الحصينة. لكن المأساة الكورية أخذت معنى مختلفا، والفلاح الروسي الذي أمضى خمس سنوات في النظام الشيوعي في التدريب على شؤون القتال والحرب، قد أفرغ كل خبرته في مواجهة تكنولوجيا الحروب الحديثة. لقد كان تكتيك الفلاح الكوري غير متوقع من القيادة الأمريكية؛ حين عطل استخدام سلاحها الآلي كدبابات، وهكذا غدا الجندي الكوري

متفوقا بدرجة عالية على الجندي الأمريكي، وغدا الجندي الأمريكي لا يرى أمنا من الجندي الكوري الذي يفاجئه، حيث لا يجد غير الهروب نحو البحر. هكذا أحاطت الأسطورة بالجيش الشمالي الكوري بديلا عن سحر القنبلة الذرية، أما الصحافة فلم تجرؤ على تعليق أو دراسة ظاهرة الحرب الكورية، بل اتجهت نحو أمريكا في تعال ساخر ومستهزئ. فالمجلة المصورة (ماش) التي تصدر في باريس؛ توجهت نحو الأمريكيين ببعض الأشياء التي يمكن بها أن تحول نظر العالم عن كوريا، ومنها لصحافي طرح تمنيا أن يعم طوفان ينسي الأحداث الجارية، حتى لا يعود ممكنا رواية انتصار الفلاحين الكوريين على الجيش الأول الحديث في العالم. تلك كانت روح تداعى من خلالها جدار الخوف؛ من شعار الخطر الآسيوي على الحضارة والمدنية الغربية الذي رفعته من قبل السياسة الأمريكية. لكن هذا الشعار لم يلبث أن رفع مجددا ليصرف الأذهان عن العناوين الرئيسية في الصحف، حتى الصحف الكورية التي نقلت أنباء كوريا الشمالية. فالعالم الحديث هكذا؛ بقي أمينا على الدروس التي تعلمها من اليهود؛ صانعيه ومؤلفي فصوله. وبكل حال فالحرب تحولت إلى مرحلة جديدة، والأسطول الأمريكي المدعوم من الأسطول البريطاني بعد نزوله في (Ineloi) أعطيا معا دفعا معنويا للجيش الأمريكي؛ عبر عنه قائد الجيش وهو يخاطب جنوده ليرفع معنوياتهم في عبارته التاريخية الشهيرة في كانون الأول/ ديسمبر 1950 - وكانت هي الكلمة الوحيدة في هذا التاريخ - (ستجلسون في عيد الميلاد القادم في بيوتكم ومع عائلاتكم على مائدة الميلاد؛ وتأكلون

لحم ديك الحبش). لكن قدر هذه الحرب كذب بقساوة كل تشخيص القائد الأمريكي، بل كانت النتيجة على العكس حين بادر المتطوعون الصينيون إلى دخول المعركة، وكان الاندحار الفوضوي للجنود الأمريكيين يؤخر إلى أجل، وعد عيد الميلاد. وها نحن اليوم نرى مجرى الأحداث التي نجهل إلى أين ستنتهي (وإن هناك حديثا عن هدنة بتاريخ كتابة هذه السطور في 19/ 1/ 1952). فقد أضحت الكارثة التي حلت بالجنود الأمريكيين تتطلب البحث عن نتائجها الخطيرة. إذن فالقوة الأمريكية ليست هي القوة التي لا تندحر، والفلاحون في كوريا الشمالية في جيشهم البدائي؛ أعطوا المثل بما يهدم أوهام العالم، والعالم الإسلامي على الخصوص. عبر هذا النموذج الذي أعطى المثل؛ نرى كيف أن أحد خطي مسار السياسة الإسلامية، وهو خط المواقف التي تسوقها الظروف (opportunisme) ، قد أصيب بضربة قاسية. كما انهار الخط الآخر من رومانسية الثقة بالأمم المتحدة منذ مناقشة قضية فلسطين، وهكذا مع الحرب الكورية التي مست كبرياء القامة الأمريكية، كانت كلمتا السياسة الإسلامية: المواقف التي توقها الظروف: (opportunisme)، والأحلام التي تسوق الشعارات: (remantisme) ، قد انتهت بالفشل السياسي الذريع. فالعالم الإسلامي بدأ بعد هذا كله يتجه نحو سياسة قريبة من روسيا؛ حين اختار لنفسه سياسة الحياد. ويبدو أنها بدأت تأخذ هذا الطريق الثاني بعد اغتيال لياقت علي خان في باكستان، والأمير عبد الله في القدس، إذ طرحت هذه الأحداث نفسية سياسية جديدة يمكن تعريفها بكلمة واحدة: الحياد.

ثانيا: الحياد الإسلامي والدبلوماسية الغربية

ثانيا: الحياد الإسلامي والدبلوماسية الغربية لم يكن ترابط الفصول الثلاثة السابقة التي قدمناها مجرد فضول حديث، بل هي مقدمات لازمة لفهم الدبلوماسية الغربية وعقلانية عناصرها في موقفها من الحياد الإسلامي أمام الصراع العالمي الراهن. وإذا كان الدور الأساسي في التحضير للحرب القادمة يعود لليهود، فإن توفير الشروط الملازمة لانفجار الحرب، يرتبط بالحساب اليهودي الذي لا يتبنى حادثا في إشعال فتيل الحرب إلا ويشبعه تحليلا، لذا كان من الطبيعي أن يمر الأمر عبر الخبراء (باروس) أو (رنيه ماير) ليحللوا الواقع، فيستخرجوا منه ما يرسم اتجاها أو إيحاءات تدفع الأمور في الطريق المرسوم. هذه الاعتبارات الأولية أوحت إلي الطريقة التي أفترضها لمعرفة السبب الذي يحدو باليهودي أن يحسب النتيجة التي على أساسها يبني خطته. تحليلنا وصل الى احتمالين رئيسيين في أساس الحرب القادمة المفترضة: الاحتمال الأول: إذا أعلنت أمريكا الحرب في هذه اللحظة؛ فثمة خطر كبير أن تخسرها أو أن تخرج منها ضعيفة هزيلة، بحيث لا يستطيع انتصارها أن يثبت نظاما تفرضه في العالم. الاحتمال الثاني: العالم الإسلامي إذا ما ظل محايدا، كما شرحنا في الفصول السابقة، ونستثني البلاد المحتلة مباشرة كإفريقية الشمالية وإفريقية السوداء، فإن الاحتمالين إذا وضعناهما بنجوة من اهتمامات اليهودي العالمي، والذي هو المحرك لمسار الدبلوماسية الغربية، فإن العالم الإسلامي سيحقق النتائج التالية:

أ - إن الحياد الإسلامي سيحقق حضورا دوليا مفترضا يجعل كلا من أندونيسيا - أفغانستان - إيران، مع دول الجامعة العربية؛ جزر سلام خارج حرب عالمية، ولكي ندفع بالاحتمال خطوة إلى الأمام، فإن هذه الجزر لن تكون مجرد حياد قدري كما كانوا في عصر قابليتهم للاستعمار، بل هو حياد واع ومفكر وعملي. ب - مقتضى هذا الحياد في حالة المسلمين في الحرب القادمة، وهذا مجرد افتراض، أن هذه الجزر من السلام ستكون ورشا للعمل والدراسات، فأندونيسيا قد استدعت الاقتصادي الأول في العالم شاخت الذي خطط لاقتصاد الرايخ الألماني، وهو اليوم يشرف على آخر بصمات النظام الاقتصادي الأندونيسي. وإذا عرفنا نحن المسلمين ما يستطيع هذا الخبير الاقتصادي أن يقدمه، وهو القادم بعد الحرب من بلاد فقيرة كألمانيا، فإن عالما من ستين مليون إنسان؛ يستطيع - إذا كانوا على استعداد لتقديم أفكارهم وأيديهم - أن يضع في خطته سبلا منهجية لاقتصاد يوفر لهم سبق غنى على الفريقين المتحاربين. ولأن العمل والأفكار لا يزالان في بدايتهما في الوقت الحاضر، فإن على أندونيسيا أن تواجه الفوضى التي خلفها طابع الاستعمار الهولندي، إذ لكي تخوله خطط شاخت الولوج بالكامل في السوق العالمية الحالية؛ فمنهجية السوق العالمية تم ترتيبها طبق غايات سياسية بين اللاعبين أمريكا وبريطانيا، لذا فهم سيقفون سدا أمام الاقتصاديات الناشئة؛ إذا لم تزود بفاعلية الدخول في السوق بقوة استثنائية، وهنا يقتضينا - حتى لا نركز على مؤشر وحيد له معناه- أن نضيف عنصرا إلى خطة شاخت هو اهتمام البريطانيين بإعادة سائر اليابانيين إلى وطنهم، بعد أن عطلت الحرب كل مرافقهم وإنتاجهم.

وهنا فالجنود اليابانيون يستطيعون أن يجدوا لدى جارتهم أندونيسيا المستقلة الآليات الفعالة لتصنيع البلاد؛ فتاريخ اليابان نفسه هو أمارة التطور السريع في آسيا الحديثة. لكن الإنكليز سوف يحاولون حينئذ تفادي تجربة جر لليابان في أندونيسيا، بعد أن تجاوزت اليابان في مدى نصف قرن سائر المراجع التي تفصلها عن نظامها القديم البالي، وأصبحت في العصر الحديث هي الأكثر تقدما، لذا فالإنكليز لا يكررون ذلك في أندونيسيا. ولكن ومع هذا العائق لنفرض لو أن اليابانيين نزلوا في مرافئ أندونيسيا، بكل بساطة وانفتاح وتعاون، أثناء الحرب المتوقعة؛ فإن الاقتصاد الأندونيسي الذي اخترناه نموذجا من بلد إسلامي، سوف يندفع بسوط حاجات هذه الحرب بأقصى طاقته من إنتاج زراعي وصناعي، لأن الطلب سوف يزيد على كل ما تنتج أندونيسيا، وهنا فكل فريق في الحرب كي يسبق الفريق الآخر يعمد إلى شراء إنتاج أندونيسيا ليقع العدو في فراع يربك حركته القتالية. هذا التنافس حول الطلب ينشط بدون شك حركة الصناعة في أندونيسيا بما يسرع في برنامجها الاقتصادي. فالحرب القادمة مع الحياد الإسلامي سوف تفتح الطرق لمقايضة تضع المصارف جانبا؛ لصعوبة أو استحالة في التعامل معها، لذا فطبيعة الواقع تفرض نفسها وتصبح مقايضة طن من الحبوب مثلا، أو من الحديد وما تنتجه المناجم، مقابل آلة صناعية تستورد من الدول المتورطة في الحرب، فإن ذلك سيكمل جهوزية مصانعها الميكانيكية، كل ذلك وفق خطتها الاقتصادية التي شرعت تبنيها بإشراف الخبير الألماني شاخت. وهذا كله يفتح للعالم الإسلامي باب التجارة الدولية، التي هي أساس العلاقات الدولية الاقتصادية إذا ما عم نموذج أندونيسيا على البلاد الإسلامية.

لكن هذا كله يبنى على الصورة التي ستنتهي بها الحرب. فإذا انتهت الحرب بدون مقاتلين، أو أن أحد الفريقين مني بهزيمة ساحقة تهدمت معها مدنه ومصانعه جزئيا، وغدا اقتصاده منهارا كليا، وبات مجتمعه في حزن بالغ، وضاعت تقاليده في فوضى الهزيمة، فماذا يعني هذا الانتصار؟! هذا الانتصار سيعني أن المنتصر سيبقى في حدود أرضه سيد ركام الحرب ومآسيه، وهو حر لكن في التفكير في مصيبته، لذا فهذا الانتصار لا يخوله إعادة صياغة نظام عالمي جديد، ومن ثم فالمستقبل سيكون أيضا للبلاد التي بقيت محايدة، وكان حيادها فاعلا ومتحفزا مدركا لأبعاد مستقبله، وهنا في ظل هذا السكون البائس الذي سيركن إليه صراع الحرب المتوقعة سيكون لحياد العالم الإسلامي الكلمة العالية، وهي كلمة قرار في عالم جديد، كلمة تأتي من البلاد الإسلامية متضامنة مع هند نهرو تعلن نهاية الفصل في مصير الاستعمار. فالنصر إذا ما كان لأمريكا في هذه الحرب المتوقعة؛ فالغرب سيفقد حتما السيطرة والرقابة على آسيا وإفريقية، وقد أصبح قدرهما واحدا مع غياب السيطرة الاستعمارية، أما أوروبا فإنها سوف تقتصر على مواردها الخاصة لغير دعم من مشروع مارشال، كما أنها لن تكون قادرة على إعادة بناء اقتصاد سلام (روماني)، لأن مصانعها المهدمة لم تعد لديها الطاقة في موارد مالية محدودة، فالمستعمرات غدت غير موجودة لتقيل عثراتها مع نهضة آسيا وإفريقية. فإذا أضفنا إلى ذلك كله أن أوروبا ستفقد سوقها الداخلي حين يصبح إنتاجها أدنى من حاجتها الاستهلاكية، فسوف تتحول إلى زبون الصناعة الناشئة في البلاد الإسلامية الآسيوية والهند. فكيفما كانت نتيجة الحرب القادمة، فالبلاد الإسلامية ستغادر تخلفها

لتصبح في المقام الأول من المنظومة العالمية لأنها الوزن الأوفى، لكن في مناخ الحياد الإسلامي الذي سيزدهر حصاده؛ مخاوف راهنة يمكن أن تنشأ خلف سطور خطة القادة في الغرب. فعندما يؤكد إيزنهاور منذ عام مضى؛ أن العالم الإسلامي قد بدأ يتقارب ويتضامن فيما بينه بعيدا عن الصراع بين الغرب والشرق في الحرب الباردة، فالجنرال الأمريكي من وحي هذه المخاوف يتحدث بصراحة تشف عما تخفي أفكاره. فإذا ما قامت حرب في الظروف الحاضرة؛ فسيصبح الرهان منصبا على ربط الإسلام في منظومة الحرب المسلحة، تفاديا لوحدة تستعيد شعار ما تسميه أوروبا (الخطر الإسلامي). فخطط الاستعمار لما بعد الحرب هي أهم من أفكار الإعداد للحرب، إنها لتعطيل كل فرصة مادية أو فكرية أو أخلاقية، تبرز خارج هذا الصراع القادم. فحين يرى الاستعمار بلادا إسلامية كأندونيسيا؛ تملك كل طاقة في تزويد جبهتي الحرب المتوقعة بالمؤن التي تباع بأفضل العروض، فهذا الموقع المتميز سوف يجعل البلاد الإسلامية في المقدمة غنى بمواردها واقتصادها. فما يعنيه التصريح الثلاثي الشهير الأمريكي البريطاني الفرنسي، ثم التركي (الذي لا يعرف لماذا)، في الدفاع عن الشرق الأوسط، هو الحيلولة دون هذه النتيجة. وأمام هذا التصريح لا يبدو لي أن القادة العرب يدركون ما هو أبعد من الطابع العسكري لحرب قادمة، في حين أن الإنذار الثلاثي يرسم لما بعد الحرب لو أنها ستقع، أعني الحالة التي سيكون العالم الإسلامي عليها بعد الحرب المتوقعة.

فالخطر الإسلامي الآتي من الحياد في الحرب؛ يجب بكل بساطة تحويله هو ذاته إلى ساحة حرب، حتى لا يستطيع العالم الإسلامي القيام بأي عمل إيجابي، حتى ولا عمل لرفض الاستعمار الذي انهزم بعد الحرب العالمية في صورته التاريخية، وهكذا يحافظ الاستعمار على مستقبل يخلفه في أرضية خرج منها لكي يعود مجددا. هذا الجانب هو الذي يهم الدبلوماسية الغربية حاليا، فبريطانيا قد انسحبت من الهند، لما رأت الهولنديين يتركون بخارى ويهيئون دبلوماسيتهم الحالية لاستعادة سيطرة الإمبراطورية الاستعمارية الأوروبية. فماليزيا وسنغافورة هما مجرد قواعد لجنوب شرق آسيا، كما هي إسرائيل في الشرق الأوسط. أما فورموزا، اليابان، كوريا الجنوبية، والهند الصينية، فهي ليست كما يدعي الغرب سدود حرب قادمة ضد الشيوعية، بل هي مواقع لما بعد هذه الحرب؛ كمرتكزالت نظام يسوده العصر الإسرائيلي، في مدى غير محدد، ويجب أن نضيف بدون شك تلك الاهتمامات المسيطرة، فالمشكلات القائمة والتي تطرح نفسها بطريقة دراماتيكية تضع الغرب في مأزق بين مد وجزر؛ إزاء رجال أثبتوا أن باستطاعتهم أن يجددوا نموذج ستالينغراد في كوريا الشمالية. من أجل سائر هذه الأسباب، وبالخصوص تلك التي تتعلق بالحالة التي تعقب الحرب القادمة، فإن السياسة الغربية عليها أن تبذل ما تستطيع لإدخال الإسلام في هذا الصراع. ومن هنا، وعلى ضوء هذه الاعتبارات، من الواجب فهم الموقف الأمريكي، فيما يتعلق بقضية شمال إفريقية عموما والقضية المراكشية خصوصا، التي أجل البحث حولها في الأمم المتحدة. فالحياد الإسلامي أمام سائر هذه الوجوه مشكلة الساعة الرئيسية.

ثالثا: نتائج دولية للحياد الإسلامي

ثالثا: نتائج دولية للحياد الإسلامي عقب أحداث عبادان في إيران؛ بدا ثمة حياد غامض للعالم الإسلامي الحاضر حيال الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي. والعالم الإسلامي في الواقع وجد نفسه منساقا للتحالف مع طرح نهرو. والدبلوماسية الغربية هنا سجلت بضربة واحدة تجاه إيران خسارة مزدوجة، ثم إن الحياد الإسلامي سجل نتيجة أخرى هي التقارب غير المنتظر بين الإسلام والبوذية والبراهيمية في الهند. فقضية كشمير التي بدأت تطرح في تفاعلها حلا عسكريا يفضي إلى انقطاع نهائي بين الهند وباكستان؛ كان هنالك الوقت الكافي نفسه لاتجاه مخالف عقب اغتيال لياقت علي خان، لولا وجه آخر في قلق السياسة الغربية؛ هو التبشير بالإسلام في الهند، وهو يمثل الخطر الأول في عيون الغرب سابقا على التبشير بالشيوعية. وكلمة دزرائيلي في بداية القرن هي المعيار في هذه السياسة، وهنا لا بد أن نأخذ العامل اليهودي من أجل الإمساك بهذه القضية، وذلك بقطع النظر عن خلفيات العصر الحديث التي فصلناها في الفصول الأولى من هذه الدراسة. فاليهود اليوم قد حولوا اهتمامهم نحو الشيوعي حين شعروا أن المقود قد بدأ يفلت من أيديهم منذ أن أصبح الاتحاد السوفييتي خطرا عليهم. إذ لا يزال ثمة فروقات متباينة (nuance) تتيح ليهودي أن يؤدي دورا في إطار الشيوعية، حتى في عصر ستالين، ما لا يستطيعه في إطار إسلامي. والدستور الشيوعي لا يمنع مواطنا يهوديا أن يتولى مسؤولية في القضاء بأن يصبح قاضيا أو نائبا عاما، لكن أي دستور إسلامي لا يستطيع أن يقبل قاضيا يهوديا.

هذا المعيار البسيط، له اعتباره بحيث يرى اليهودي آفاقه فيما يخصه في مجتمع شيوعي وليس في مجتمع إسلامي. وهنا سيأخذ بالاعتبار أن المجتمع الإسلامي مغلق أمامه نهائيا، لكنه في المجتمع الشيوعي ورغم انقطاع أيما رابط بين اليهودي الروحي وماركس، فإن الباب مفتوح أمامه ليتولى مركزا مفصليا ومتقدما مثل إيليا أهرنبورغ الذي أضحى الكاتب الأول في الاتحاد السوفييتي. هنا يصبح الإسلام في النتيجة طبقا للمعيار اليهودي خطرا مسلما به يتقدم الخطر الشيوعي رتبة واستراتيجية. من هنا فإن الخطر الإسلامي هو خطر في السياسة الغربية عموما، فحياده في آفاق الحرب القادمة يسبب ضررا كبيرا، حين يصبح عاملا رئيسيا في بنية العصر الآتي لما بعد الحرب، ولمواجهة هذا الضرر الذي يسببه هذا الحياد تجاه الحرب القادمة، تنصرف قيادة العمليات الدولية لدرء مخاطره المستقبلية في آفاق العصر الحاضر. ونستطيع أن نلمح نذر هذا الخطر على السياسة الغربية؛ من الخطب الرسمية التي ألقيت في الولايات المتحدة منذ عدة أشهر وتناقلتها الصحافة، وهي تنحو إلى الشدة وعدم التهدئة، فهذه اللغة الحازمة في لعبة سياسة القوة التي انطلقت في مساحة الحرب الباردة، لها معناها بما يتجاوز مساحة هذه الحرب، ويشير إلى تحول جدي في الدبلوماسية الأمريكية، وهذا التحول والتوجه تفاعل وتعاظم على ما يبدو مع رجوع تشرشل إلى السلطة. والبريطاني الأول لم يتوقف كما يبدو عند اقتراح مؤتمر للكبار عقب عودته من واشنطن، وقد ذهب إليها ليضع البصمات النهائية للدبلوماسية الغربية مع أمريكا، بل إن تشرشل سيعطي لمفهوم الكبار مدى يتناول موسكو أيضا؛ حين أعلن بأنه سيذهب شخصيا ليلتقي بستالين، إذ يجري الحديث في أروقة وأندية السياسة في العواصم الغربية عن إمكانية تجاور وتعاصر بين النظام الشيوعي والنظام الرأسمالي.

فهذه الأطروحة التي كانت منذ عام مضى غير مقبولة؛ غدت على العكس تستعيد بالذاكرة فلسtة الأنكلوسكسون في التحضير للحرب الأخيرة، حين أصبحت فكرة التحالف مع الاتحاد السوفييتي ضرورة لازمة للإمساك برأس هتلر. فهذا التقارب يشعرنا ضمنا بمدى الاهتمام بمنع حرب ضد الشيوعية، ما دامت القضية الإسلامية لم تأخذ بعد حيزا في النطاق الدولي، فهل يمكن لهذا الاهتمام أن يصل إلى حد الوفاق مع روسيا عبر توقيع معاهدة بينهما. هذا ما يبدو فعلا، لكن الشيوعية لن تبقى طويلا لتحول هذا الوفاق مع الرأسمالية إلى نصر بغير سلاح، ولا إراقة دماء، وهو نصر في المدى العقائدي شبيه بما هي الشيوعية في إيطاليا وفرنسا، وهنا؛ فمن المؤكد أن قدر العالم سيكون بصورة نهائية في يد الاتحاد السوفييتي، وهو سوف يفرض نظامه بقوة ليس في أوروبا وأمريكا فحسب بل وكذلك في البلاد الإسلامية. لا شك أن أفقا كهذا -على فرض حصوله- سيؤدي إلى انتحار الرأسمالية والمسيحية، وهو انتحار يهدف إلى سد الطرق أمام الإسلام. في البداية هذا الوجه الآخر ليس مستحيلا إذا ما توافر له العامل اليهودي، لكن الخطر الإسلامي يتعاظم بالنسبة لليهود إذا ما نشبت الحرب والحياد الإسلامي لم ينجر للدخول فيها. وهنا يجب أن نأخذ بالحسبان ما هو غير محسوب في هذه الصيغة السلمية. فاليهود يمكن لهم أن يقبلوا بانتحار الرأسمالية والمسيحية، وهم يستطيعون ذلك إذا لم يصاحبه استشعار بهذا المصير لدى مجتمع الرأسمالية والمسيحية. وهنا؛ فاليهود ليسوا في هذا المجال سادة اللعبة بصورة مطلقة، فما ليس بالحسبان أن الغربيين لا يقبلون بدون ثمن انتحار حضارتهم.

هنا لا بد أن تفتش الدبلوماسه عن حل آخر يكون وسطا بين اتجاهين: ألا تترك الشيوعية تقرر مصير العالم، ولا تترك الإسلام ليصبح قوة لها حسابها. هذا الحل يمكن لسياسة المماطلة أن توفره في تأجيل الحرب بانتظار أن يتورط فيها العالم الإسلامي. هنا يؤدي عامل الوقت دورا رئيسيا لكن هذا التأجيل لا يفيد نظريا غير روسيا؛ إذ يتيح لها استكمال فريقها الفني، وفي الوقت نفسه يبعث بإشعاعه السياسي، وهنا لا يكون الوقت في مصلحة الغرب إذ سيصبح الحياد الإسلامي بصورة مفاجئة عامل سلام، لكنه سلام عارض ومؤقت. وهنا لا بد إذن أن يصبح الحياد الإسلامي هدفا وخطة؛ وليس مصادفة تستبعدها مصادفة أخرى في إدارة العالم، وهذا كله ليس حلا لمشكلة لها تأثيرها في الحرب القادمة، بل لها تأثيرها على مخطط مستقبلي بعد الحرب لبناء عالم جديد. لذا ليس يدهشنا أن نرى الدبلوماسية الغربية في الأسابيع والأشهر القادمة؛ تعمد بكل الوسائل إلى تأجيج الحرب استدراجا؛ إما بالإقناع أو بالوعود أو بالضغط؛ لكي يدخل العالم الإسلامي الحرب كطرف ترتكز عليه السياسة الغربية. وبكل حال، لن يبقى الأمر طويلا ينتظر؛ لأن الوقت لا يعمل لمصلحته، فالحرب بين الرأسمالية والشيوعية حرب قادمة.

القسم الثاني العالم الحديث

القسم الثاني العالم الحديث

قضية حضارة

قضية حضارة على عتبة العام 1952 كل شيء يشير إلى نهاية العصر الحديث في القادم من الأحداث والأيام. وإذ العصر الحديث قد عفا عليه الزمن وتفتت، فسوف ينهار بناؤه حجرا حجرا، حين يلد عصرا جديدا يليه. أما الحرائق ودماء الملايين التي سوف تسفك مع الحرب القادمة، فسوف تظل في ذاكرة الشعوب باعتبارها النتيجة الوحيدة لصفحاتها في تاريخ استدار وخلف وراءه حضارة التجار. أما صفحات العالم الذي سيأتي فما تزال بكرا، فما هي اليد التي ستكتبها وترسم عليها مصير الإنسانية؟ المسلمون وضعوا هذا السؤال المخيف الذي ما يزال يسكن الفكر اليهودي في هذه اللحظة. كيفما يكون تاريخ العالم الذي سيأتي، فإنه سوف يجد نفسه بالضرورة أمام بعض خصائص موروثة، وأخرى ستكون من لوازم تكوينه. فالأولى سوف تشكل إرثه من عالم مضى. والثانية سوف تكون من حقيقة وجوده. هناك إذن مشكلتان في طبيعة مختلفة كل منهما عن الأخرى: لأن الأولى وليدة مباشرة لخصائص متعددة بعضها أدى وظيفته أو يكاد، والآخر لم يصل إلى غايته أو ما يزال في مرحلة حمل لم يلد بعد، وستكون هذه كلها تركة عالم سيأتي، وفي معجنه إرث ما خلف

العالم الذي مضى، مضافا إلى خصائص ما هو آت حيث جميعها عدة بناء الحضارة الوليدة الآتية. في النهاية من أجل العمل في هذا الاتجاه أو ذاك حول هذه الحضارة، يجب أن نأخذ بالحسبان ماذا يمكن أن يكون هذا الإرث؟! بمعنى أن نلقي نظرة على الجوانب المنتهية كما على التي لم تنته بعد من أجل أن نناقش دورها في العصر الحديث. في الفصل السابق أبرزنا بعضا من هذه الخصائص، لكن هنا يجب أن نقدر الأمور بمنهجية أكثر؛ من أجل أن نستطيع التعريف بها وبنتائجها في تحديد مهمة الإسلام في العالم الذي سيأتي. لذلك يجب أن نضيف هذه الخصائص إلى جدول شامل؛ من أجل دراسة أكثر سهولة لهذا الإرث فى العصر الجديد: خصائص انتهت وحققت أهدافها A - العصر الحاضر متهود؟ B - العصر الحاضر رأسمالي؟ C - العصر الحاضر استعماري؟ D - العصر الحاضر عنصري؟ E - حضارة قارية أو عنصرية (-) أوروبية. F - مادية؟ G - تكنولوجية (+) H - المسيحيوية (-) Christianisme خصائص لم تحقق أهدافها A - الشيوعية؟ B - العالمية والمشكلات التي تطرح على مستوى عالمي (+) C - الاشتراكية (+) D - التخطيطية (+) E - الذرية: الطاقة الذرية (+) في هذا الجدول تبدو العناصر التي وصلت إلى أهدافها، وتشكل هذه العناصر حالة (état) ، أما العناصر التي لم تحقق بعد أهدافها ولا تزال قائمة حتى الآن، فهي الطبيعة التاريخية لعصرنا. ومن الملاحظ مع ذلك أن العناصر التي بقيت أهدافها بغير تحقيق، بعضها تجاوزه الزمن وأخرى ما تزال تحمل بذور التأقلم والتحول مع الطابع الجديد في نظام

جديد، أما التي ما تزال اتجاها منها فهي تستطيع أن تستكمل مسيهرتها في العالم الذي سيأتي، حين تندمج في طابعه العام. على ضوء هذه الأسس؛ فقد وضعنا إشارة سلبية أمام العناصر التي فقدت دورها، أما الأخرى كالنزعة اليهودية والحضارية والرأسمالية والاستعمارية؛ فهذه الاتجاهات هي حالة غير محسومة، والمجال أمامها ما زال مفتوحا في ختام حرب قادمة، لتسلك سبيلها في إطار إرادة تنظيمية للعالم الجديد. لذلك وضعنا أمامها علامة استفهام، وفي النهاية وضعنا علامات إيجابية أمام حالات واتجاهات ستكون حتما جزءا من التركة التي سيرثها العالم الآتي. فتركة هذا العالم الحاضر نستطيع أن نحددها ما بين عناصر أكيدة إيجابية، وعناصر تطرح للبحث يتركها العصر الحاضر للعالم الجديد كما يلى: عناصر أكيدة A - تكنولوجيا B - عالمية C - اشتراكية D - تخطيطية F - استعمار عناصر مطروحة كمشكلات A - يهود B - استعمار وعنصرية C - رأسمالية وشيوعية D - مادية هذا البيان يبدو لنا فورا ثغرة تستدعي ملاحظة من ناحية الواقع؛ هي أنها تشير إلى غياب الدين، وبدونه فإن حضارة ما غير ممكنة، فالمسيحية قد أدت مهمتها الحضارية في العالم الحديث، لكن محورها الذي عرفته سيترك المكان خاليا لدين جديد لا بد أن يملأه؛ كي تستعيد الحضارة دورها ورسالتها، أما المادية فلن تحمل أيما إيحاء لروح إنسانية، بل سوف تصاب هذه الروح بضربة الحرب المفاجئة. فالروح في أزمة الحرب لا تبحث أبدا عن إيديولوجية للمعركة، بل عن فكرة تواسي جراحها. هذه التركة التي عرضناها تبرز من ناحية أخرى كم هي العناصر التي لا

صدمة عودة الحرب

بد للإسلام أن يماثلها تعبيرا وتمثيلا، وكم هي العناصر التي لا بد أن تستثنيها أو نصححها لكي تصبح فكرة مواساة في عالم جديد. فالإسلام لديه حس النزعة التخطيطية، ولا بد أنه يملك الخبرة العينية التي بها يضبط الطاقة الذرية، ثم يستوعب النزعة الاشتراكية في معناها، كما يجسد العالمية، وهذا هو الشرط الذي سوف يضع جميع العناصر الثابتة وكذلك الاتجاهات في تناغم خطا عالم جديد. فشرط الإسلام أنه دين قادر في تكوينه على تصحيح الرأسمالية وتعديلها، وكذلك الشيوعية ومحو العنصرية والاستعمار ليأخذ على يد اليهود في إدارة العالم. وهكذا نرى دور الإسلام في عالم جديد؛ يعتمد على قيمته الداخلية بقدر ما للقيمة الروحية وفاعليتها من قدرة على استيعاب مخلفات عصر مضى في تجدد الحضارة الإنسانية. صدمة عودة الحرب في المستوى الإنساني؛ من الصعب تصور كل نتائج حرب سوف تتوفر لها أعظم الوسائل تخريبا، وحيث كل محارب سوف يضمر روحا من العداء لا تعرفها البشرية من قبل، روحا مليئة بالكراهية والعنف لا تبقي ولا تذر. من هنا فإن من الصعب في حرب كهذه تصور نهاية لها على الأرض التي تشتعل عليها، وعلى الشعوب التي ستدخل حلبتها، بحيث لا نستطيع تقدير مدتها؛ ما دامت الأفكار والبواعث في هذه الحرب فوضى؛ ولا وحدة بينها ولا هدف يجمعها. على كل فحرب بغير أفق عقلاني لسلام تسعى إليه؛ يمكن أن تستمر مئة عام، لكن! وكما أننا تركنا سابقا جانب أفق التهدم الكلي الكارثي،

وما دام أنه ممكن، فلنترك هنا جانب روح التبصير واستقراء النجوم لقدر مقدر لما سوف تنتهي إليه الحرب القادمة. ما يهمنا هو نتائجها الإنسانية ذات المسحة العقلانية؛ استنادا إلى طبيعة الأشياء التي نراها والتي نعرفها بكامل تفاصيلها، ونحن في زمن على مقربة من حرب تسمى اليوم عبر الصحافة: الحرب الباردة. هذه المرحلة الغريبة من الحرب؛ هي واحدة من مجمل المظاهر التي نقدرها عاليا، والتي ارتسمت خصائصها في الغرب، ودل عليها ما جرى في الشرق الأقصى من أزمة أخلاقية لا سابق لها. ففي الحرب العالمية الأولى 1914 - 1918 اهتزت المرتكزات الأخلاقية للحضارة الحديثة، فكان في كل بلد متحضر موقفان فحسب لهما الحد الأقصى: أقصى البؤس وأقصى السيطرة، والأزمة الاجتماعية تولد بين هذين الموقفين المتعارضين، ومن تعارضهما ينشأ الانقسام الداخلي الذي نرى فيه اليوم السمة النهائية المهتمة به سياسة كل بلد متحضر؛ حين ينقسم المجتمع فيه إلى رجعيين وتقدميين، وقوميين وشيوعيين، ولكن في الوقت نفسه كما هو في أمريكا وفي البلاد الغربية كألمانيا وإيطاليا، فأطروحة المدى الحيوي تولد من هذا التعارض، إذ لا بد في أي حرب عالمية أن تصبح نهايتها الأخلاقية أكثر تصدعا كما هو شأن الحرب الأولى في حياة الشعوب، فهناك حتى اليوم الكل يتحدث عن النظام الأخلاقي القادم. فألمانيا التي عرفت أكبر الكوارث في تاريخها وفقدت كل آمالها في هتلر، لا تؤمن بشيء وبالخصوص لا تؤمن بالقيمة الروحية للمسيحية، أما في الطرف الآخر من العالم فاليابان التي أوشكت على خسارة إمبراطوريتها قد أضاعته في الوقت نفسه الميكادو.

هذان البلدان يعطيان فكرة عن مدى الصدمة التي تحدثها عودة الحرب على المستوى الأخلاقي. فإيطاليا واليونان وفرنسا وكثير من بلاد أخرى كبولونيا؛ حيث خيال الحرب قد تجاوز الكنيسة والمعبد، وهؤلاء جميعا ليسوا سوى شهود على عصر ثائر، وفي تضاعيفه بحث عن إيمان متجدد بإله جديد. هذا الاهتمام المقلق يقرأ حتى بين أسطر شيوعي منهزم (¬1)، فالعالم المتحضر وقد أصبح أكثر استعدادا لليأس وهو يطرح أيما مثال يمنحه مرعى روحيا (spirituelle) (إذا تركنا لهذه الكلمة معناها المادي الأكثر عموما). لأن العالم ينتظر الحديث عن روح لكنها لا تزال لم تلامس بعد نفسا حيا يدفع مشاعره، فماذا ستكون هذه المشاعر؟ وما النموذج الأخلاقي الذي سوف تنطلق به حرب عالمية قادمة؟! أمريكا التي تتحدث قليلا عن الروح وتؤمن بالآلة التي تنتج رفاهيتها، ماذا سوف تكون عقب حرب ستهدم آلتها ورفاهيتها؟ ألمانيا التي تهدمت في حربين عالميتين سابقتين هل ستستطيع التفكير في حرب عالمية جديدة؟!. إنكلترا التي تؤمن بعملة الإسترليني؛ كيف ستدفع ما عليها حينما يغدو مصير نقدها مصير المارك 1925؟ فرنسا التي حصرت ثقافتها وحياتها في الإمبراطورية الاستعمارية؛ ماذا ستصبح إذا أضحت بدون إمبراطورية ويسودها العجز والانقسام بسبب الحرب، وكيف ستعيش هي نفسها اليوم في ظل حرب مدنية؟! ¬

_ (¬1) وهذا المظهر صدمني لأول مرة وأنا أقرأ أطروحة تحظى بكل تقدير لشيوعي فرنسي هو غارودي وقد اعتراه ظمأ شديد للإيمان بإله بعيد عن شروط نهضة فرنسية.

في الواقع الحرب ستكون ظاهرة دموية تترك المجال لظاهرة دموية أخرى ثانوية من كل مكان، حيث تبقى ثورة مستمرة في كل مستعمرة تسعى للتحرر أو بلد مستعمرة تستولي على السلطة من خلال طبعة جديدة. بعبارة أخرى هذا الطوفان الآتي ستكون عناصره غير مترابطة. وسيكون طينا طريا مجددا، إنما بأي طين؟ وبأي وحل؟ وبأي اشمئزاز يتركه في ضمير وروح البلاد المتحضرة .. ؟ ففي البلاد المتحضرة نرى المسيحيين الملتزمين قد هربوا من شبكة الكنيسة، إنها شيء من ذفعة روح إصلاحية مسيحية؛ بدأت تحيي في روحهم التعطش إلى سلام وعدالة تبعد شيئا فشيئا عن المرجعية البابوية. هناك تعارض مخيف لا يجرؤ أحد على التعبير عنه، وهو سوف يضعهم غدا في اندفاع ما مع الحرب القادمة، يجد المرء نفسه وقد توقف إحساسه كإنسان أو توقف عن أن يكون مسيحيا، وفي خضم هذا النهر من الروح الذي يندفع في مجراه أمام مشهد المدن التي غدت مهدمة، والبلاد التي دخلت المآزق واحتواها الصمت، وخراب الأرض المشتعلة؛ يجد نفسه منساقا إلى مصيره. فهل تستطيع الشيوعية استقبال هذا النهر من الإيمان البائس؟ وهي نفسها في قلب الحرب الأخيرة، قد انزاحت عن سرير الانضباط الذي رسمته المادية الجدلية، ليخرج القلق واليأس إلى مساحة من الروح في الكناسس الأرثوذوكسية، وقد بلغ القسمة في حدوده المادية التي هي نقيضها الأعلى .. وهكذا نرى المسيحية ذهجت تنضم إلى الشيوعية؛ ليعبر كل منهما للآخر عن فكرة مواساة. فالناجون من طوفان النار والحديد؛ هم الذين تستجيب لهم وجهة الإسلام في مقبل العالم القادم، لكن الإسلام لا يحمل مسؤولية هذا الدور؛ إلا حين يستطيع احتواءهم في ثقافته، أكثر مما يعطيهم قيمه من عالم الغيب كرسالة سماوية.

فقائمة العناصر التي لم تنته خصائصها في العالم الحاضر والتي ضمها الجدول الذي وصفناه في الفصل السابق يبقى على الجيل القادم أن يستكمل نواقصها، وفوق ذلك فالعالم يستطيع أن يكون شيوعيا أو رأسماليا بعد الحرب، وهذا سوف يعتمد على الظواهر الثورية الجانبية التي سوف ترافق النزاع المسلح مع نزعة الحياد الإسلامي بالتضامن مع الهند. لكن الحل ليس بيد العالم الإسلامي في كل حال، فدور الإسلام يرتسم في طليعة الأشياء نفسها، وفي التطور الإنساني قبل وبعد الحرب القادمة. لأن قائمة العناصر التي ستدخل في التركة هي التي سيرثها العالم القادم ومنها العالمية كأحد الاتجاهات الأساسية لعالمنا الحاضر، رغم نزعة استنساب أملتها بعض الانحرافات الكاريكاتورية، أمثال عصبة الأمم المتحدة السابقة، والتي برزت في الحاضر كهيئة الأمم المتحدة أو المواطن العالمي، فكل تسابق في هذا الاتجاه أضحى ذا طبيعة أدت أغراضها وانتهت كحالة توازن طبيعي للعالم الآتي، فهذه العالمية ستعبر على الخصوص عن وحدة معنوية ستلتحم على الخصوص مع الفكرة القرآنية التي يؤيدها ويفسرها مجرى الأحداث. وهناك في الواقع أمر لا مرد له، في الأحداث الجارية حاليا؛ إنه الحرب، وهي ضرورية من الوجهة التاريخية والغيبية من أجل تحقيق أكبر تحول في الجانب الإنساني، لكن إذا حظيت الإنسانية هذه المرة ببعض حظوظ الخلاص من الهدم الكلي، وكانت التكنولوجيا لا تمتلك أي إمكانية حرب تلي الحرب القادمة، إذن فالناجون من طوفان قادم ليس لديهم سوى خيار واحد: السلام أو نهاية العالم، وإذن فالسلام لا يعود قضية مثالية أو سياسية، بل طابعا أساسيا لحفظ النوع، وهنا فالإسلام يمثل الفلسفة الأخلاقية والاجتماعية الوحيدة الملائمة لما يقتضيه عالم قادم. فقد يكون رأسماليا أو شيوعيا من الوجهة السياسية، لكن سلامه

تخطيط وتبشير الإسلام

يعتمد على قاعدة معنوية تلتحم بنهاياته أي بالإسلام الذي هو الكلمة الأخيرة لنهاية العالم (¬1). تخطيط وتبشير الإسلام مع الحرب القادمة تزداد الحاجة - كما لم يكن من قبل - إلى روح جامعة، روح لها دورها الفاعل في حل المشكلات في سلم عالمي، حيث الحضارة في هذه المرحلة لا تختصر في قارة أو جنس، بل تشمل الإنسان على اختلاف الألوان والأنفس كما هو التعبير القرآني. ففي قائمة القيم الروحية الحالية حيث لا مجال لترقب وحي جديد بعد ختام الوحي بالإسلام، يبدو الإسلام (¬2) وحده هو المؤهل لمستقبل رسالة تفي بشروط البقاء على هذا الكوكب لسائر الأجيال المستقبلية، لكن إمكانية كهذه لا تحمل أي تأكيد. فالإسلام مثلا لثلاثين عاما من القرن الأول لظهوره بالرسالة المحمدية، بلغ العالم أجمع حين كان انتشاره هذا المفاجئ بقيادة الرسول. وأصحابه الأول، وهنا لا نريد أن نعود إلى قضية صفين أو إلى أسباب أخرى حولت الثقافة الإسلامية إلى ثقافة إمبراطورية حالت دون انتشار كلي. (¬3) ¬

_ (¬1) هذه الاعتبارات قد تبدو متناقضة مع الذي أشرت إليه حول المستقبل الديني للعالم في القسم الأول من هذه الدراسة. هذا التعارض هو حقيقي، وهو يعود إلى أنني لم أكن أتوقع عند تحرير هذا الجزء الثاني منذ عامين بأن وضعي ووضع العالم كان مختلفا من سائر الوجوه. (¬2) إننا مضطرون هنا إلى معالجة الأمور باللغة العلمية التي تفرق في إيمان المؤمن، بين ما يمكن أن يكون الإسلام عليه، وما يلزم أن يكون عليه كما نزل به الوحي الأخير. (¬3) انظر العدد رقم 5 من جريدة الجمهورية الجزائرية (الجزائر شهر أيار 1951) حيث فرقنا بين ثقافة الحضارة وثقافة الإمبراطورية.

وهنا لا يجب أن نتهم القيمة العينية الأصلية للإسلام، بل نتهم الرجال حين لم يدركوا ضوابط الشروط التي حققت هذا الانتشار السريع. فالعالم الإسلامي هذه المرة يمكن أن يفشل إذا لم يلتزم المعايير والمعطيات الداخلية والخارجية للمشكلة. فمن أجل القيام بهذه المهمة فإن العالم الإسلامي ملزم أن يتعامل ويناقش قائمة جردة التركة التي ورثها العصر الجديد، إذ ثمة معطيات محددة لا بد للثقافة الإسلامية في مهمتها الجديدة أن تستوعبها لتأخذ بعدا عالميا. وهنا في النطاق الخاص كما في النطاق العام يجب أن تأخذ سائر الأنشطة طابع العمل المشترك المتعاون في ظل عمل تخطيطي، والدعوة للإسلام ليست استثناء في هذا النطاق. والعالم الإسلامي ارتسمت جغرافيته كنبات المراعي، حيثما اتفق وصول أقدام الفاتحين في تبليغ الرسالة، وها هي أربعة عشر قرنا ارتسمت عبرها جغرافية العالم الإسلامي. لكن لما هو آت؛ فالأمر يتطلب مسارا مختلفا يغرس في حقل المدى العالمي بكل دقة علمية، وفي طرق مدروسة تأخذ بعين الاعتبار سائر العوامل المقبولة والمرفوضة في مدى شعاع الدعوة، ثم يسلكها في خطة مقررة تحدد المراحل والوسائل والأهداف. فالمسلمون المعاصرون اليوم تغيب عنهم، أو يرون بصعوبة، التشعبات البعيدة التي تفرغها مشكلات واقعية ملموسة. ففي واقعنا الحاضر مثلا يبدو أمامنا الاستعمار، إنما بغير احتلال للأرض، ولذا فالأرض ستؤول إلينا، أما القابلية للاستعمار فمن الممكن أن تغيب عن فكر مخطط الدعوة إلى الإسلام باعتبارها شيئا يقع وراء مشكلات الدعوة وليس أمامها. وهنا فالمشكلة التي أراها اليوم هي على العكس شيئا راهنا مشاهدا بصورة أساسية في حياتنا الآن، وعلى

خطة المسلم

الخصوص في مستقبل الجيل الآتي، ومن المؤكد بعد الحرب القادمة، إذا ما بقي العالم على قيد الحياة وتأهب لإعادة البناء بطريقة أو بأخرى، فإما أن يستعير من الإسلام قيمه الأخلاقية، أو أن يستعير قيما صنعت من اليهود مثلا بمختلف عناصرها، فإذا كانت الحالة الأخيرة، فلن يكون مستحيلا حينئذ أن تتضافر المصالح والأفكار ضد العالم الإسلامي، كما كان من قبل تضامن الاستعمار، وهو يعمل بإدارة اليهود. والدعوة التبشيرية (Proselytisime) إلى الإسلام كما نراها تعالج مشكلة واقعية مسلمومعة (Concret) ينبني عليها نظام جديد ومضمون لا يملك فيه عصر استعماري أن يتكرر مجددا كما جرى في مسيرة التاريخ. من هنا فالمرتقب لدور العالم الإسلامي بعد الحرب سياسة طويلة المدى واستراتيجية فاعلة هادئة، استراتيجية تسعى نحو مستقبل تزول فيه أسباب الحرب. هذه التوجيهات عليه أن يدركها قارئ الواقعية حتى ولو كانت لا تجد لديه وعيا في حالته الراهنة، إذ يبقى في النهاية أن نعرف المنهج والوسائل والمراحل، وهي جوانب تدخل في مستوى عملية التخطيط التي وضعناها في خانة مشكلة لم تتحقق بعد نتائجها في عصرنا وفقا للجدول الذي أشرنا إليه. خطة المسلم إذا عرفنا التبشير والدعوة إلى الإسلام وصفها استراتيجية عليا للسلام، فذلك في مصلحة السلام أكثر مما هو لمصلحتها. والاستراتيجية كفكرة لا بد أن تبنى على مركزية قيادة عليا (Etat mageur) تراقب وتوجه بصورة مستمرة برنامج أداء رسالتها في وجهتي نظر: الأولى داخلية توفر الوسائل اللازمة لتقود جيدا برنامجها العملي، والثانية وجهة نظر خارجية.

هذه المركزية العليا هي بذاتها العنصر الأول للاستراتيجية، وذلك من خلال وجهين: الوجه الأول يتعلق بالخطة في جانبها الداخلي لتقوم بدراسة واقع البلاد الإسلامية نفسها وتزود الاستراتيجية بالوسائل، والوجه الثاني يتعلق بجانبها الخارجي الذي هو البلاد غير الإسلامية التي تشكل مساحة هذه الاستراتيجية. فالخطة في جانبها الداخلي هي عملية تحليلية أشرنا إليها في القسم الأول من الدراسة، وألقينا الضوء على العوامل المرتبطة بالقابلية للاستعمار في العالم الإسلامي، ثم هي عملية تركيبية أشرنا إليها في كتابنا شروط النهضة حين حددنا الوسائل ليكون في مجموعها الخلاص النهائي من القابلية للاستعمار. ففي مرحلة الدعوة مع العالم الجديد؛ لا نستطيع رؤية المستقبل الروحي للعالم الإسلامي كما هو اليوم بين يدي البرجوازيين ولا الأميين، ولا كذلك العلماء في واقعهم الحاضر. فوجهة العالم الإسلامي تتطلب بصفة عامة نخبة مختارة، ثم الدعوة إلى الإسلام تتطلب سبلا متنوعة أكثر تحديدا، تنطلق من مركزية قيادة الاستراتيجية العليا. هنا ليس في رغبتنا أن نردد ما سبق أن قلناه في التعريفة عموما بالثقافة، لكن في هذا الإطار العام؛ هناك مكان لأن نأخذ بالحسبان ما يقتضيه العمل من اختصاص يرفد القيادة العليا للدعوة الإسلامية، وهنا تبدو القيمة الخلقية والمسلكية والفكرية للفرد في المقام الأول، سواء في الأداء الروحي أم في بيئة المحيط حوله، والذي يعمل فيه، ولا ضير هنا أن يكون طبيبا، صيدلانيا، محاميا، قاضيا، علمانيا؛ فالداعية الذي يحمل راية الدين والعقيدة ويتحدث إلى الجمهور بها ويسلكها في الضمير الإنساني، عليه أن يكون أول الملتزمين بها بوصفه قدوة. فتكوين الأطر العاملة في مسار الدعوة؛ يفترض مسبقا الإيمان الديني

لدى الفرد حتى لا تقع الدعوة في إحراج السلوك الفردي، أو بالكذب الأكثر بشاعة. هذه الأطر تبدأ من القاعدة الأخلاقية، ثم القاعدة الفكرية المبنية على الثقافة العامة. أعني جمالية الأداء وأخلاقية السلوك، والمنطق العملي في المبادرة، وتبقى الخبرة الفنية تضاف إلى ما نسميه تقنية الدعوة والتبشير بالإسلام (¬1)، إذ الخبرة الفنية في سائر مجالاتها تساهم في الوقت نفسه بالخطة الداخلية وهي على باب التصدي للمهمة، كما تساهم في الخطة الخارجية حين التنفيذ المباشر. إن مبنى أداء الدعاة المسلمين في التعريف بالإسلام كمفهوم غيبي موحى به هو عقدي في بنية الإيمان، وأخلاقي في معايير السلوك، واجتماعي في شبكة التواصل في المحيط كحق وطني ثم عالمي في مداه الإنساني، لذا لا بد للداعي أن يكون على علم بالأديان الأخرى بالقياس نفسه (¬2). وينبغي ألا يفوت الداعية في جانب آخر لغة العادات والتقاليد للبلاد الأجنبية التي ترتكز عليها مهمته، فعليه أن يألفها وتألفه في النتيجة، لأن على الخطة الخارجية أن تراعي عالم المفهوم الديني والغربي والاجتماعي. فهو مفهوم متنوع بقدر كبير، ومراعاته تدخل في الخبرة الفنية، فرجل البداوة في الكونغو يختلف عن الياباني المتحضر، كما يختلف عن الرجل الأكثر حداثة في نيويورك. هذا التنوع يستدعي تنوع الطرائق في مقاربة المهمة، فليس هنالك طريقة واحدة، إذ لكل طريقة مجالها ووسطها الخاص بها. بكل حال فإذا أردنا تعدادا في هذا المجال فثمة طرائق ثلاث للدعوة. ¬

_ (¬1) انظر تعاريف هذه العناصر في كتابنا شروط النهضة. (¬2) قارن كتاب بن نبي فكرة كمنويلث إسلامي في هذا المجال. (مسقاوي).

الطريقة الأوروبية التي تخص بلاد الغرب بما فيها أمريكا وأستراليا، والطريقة الآسيوية التي تخص الهند والصين واليابان، وأخيرا الطريقة الإفريقية. هذا التصنيف يوحي فورا بالفروقات التي يجب تبينها على كل طريقة. ففي إفريقية السوداء مثلا لا تكون الدعوة إلى الإسلام بالعودة إلى الوسائل الفنية والتقنية كما هو الأمر في أوروبا (¬1). والفرق ليس خاصا بعامل واحد بل بعوامل متعددة؛ ففي أوروبا لا تزال الروح الإنسانية غذاء سهلا ومباشرا من أيما ثقافة تنطبع على صفحتها. أما الدين المنظم في السلوك اليومي فليس ممكنا في أوروبا حيث المسيحية والحضارة هما طابع خلفيتهم في الحياة، أما الإفريقي الأسود الذي ولد ونما فكره في أوروبا فإن خلفيته من العداء للإسلام جاءت لاحقا من تطورها مع فكرة الاستعمار. بكل حال فإن الطريقة الإفريقية يمكن أن تكون مباشرة طبيعية وعفوية، وقريبا مما يجري في الحالة الحاضرة، إذ الإسلام يتقدم هناك بغير دعاة مختصين. أما طريقة الدعوة في أوروبا فالأمر مختلف، وهنا يترك المجال للمختص ليمارس دوره، وعليه أن يعرف جيدا الغرب: تاريخه، ثقافته، نفسيته، وفنونه، ثم مأساته الداخلية، وخلفياته، وشكه الغريب، واستقامته التي تفوق التصور. وهنا فالأمر يتطلب عملية تطهير ونزع سم التأثير اليهودي في الفكر، فالرجل الغربي في طبيعته يحمل براءة طفل ناضج، إنه سريع المبادرة، لكنه متحفظ الحماس؛ يتذوق اللعبة والمجازفة، يكره ويحب بعاطفة. إنها طبيعة جميلة لولا أن اليهود شوهوها. ¬

_ (¬1) المؤلف لا يشير هنا إلى هذه المفاهيم من مجرد خياله، ولكن من خبرة عشرين عاما من المجاهدة في أوروبا. إنه يعرف عمليا الصعوبات كما الإمكانيات للدعوة.

هنا تبرز قضية الدعوة وهي تبنى على أرضية خلفيتها ضد الإسلامية، وهي خلفية تدفع بجذورها التاريخية عميقا؛ لذا فالعمل على أرض كهذه لا بد أن يبدأ بجو غير مباشر؛ من ترغيب خارج حدود هذه الخلفية، أعني العودة بالإنسان الأوروبي إلى أصالته وعفويته، إنما بغير تشوف الطفل، إذا آنس المصلحة والرغبة في مرمى سروره. فإذا ما توطدت بعد الحرب العلاقات الثقافية بين الشرق والغرب، واختيار أطفال مميزين لاعتبارات جمالية وإحساس أخلاقي، فإن ميزتهم تفتح الطريق إلى تبادلات عكسية مع وحدة المناخ الحضاري القادم مع العصر الذي سيأتي، وهي لذلك تفتح الطريق لزيارات متبادلة؛ إذا ما الطلاب قضوا عطلتهم لدى عائلات أوروبية، فيتركون بذلك مناخا لأفضل سفراء بين الأديان والشعوب والتقاليد، في طابعها العفوي الذي يلج عبره الأوروبي تعرفا على كل مجهول منه أو غير معروف لديه، في طابع الحياة الإسلامية العائلية. وبالمقابل إذا ما لبى أطفال أوروبيون دعوة لقضاء عطلتهم لدى أسر مسلمة؛ يتعرفون عبرها ما ينزع إليه الطفل لهوا مسليا بريئا؛ في مناخ إسلامي يعودون به إلى أهليهم، وهم يحدثونهم عرضا عن إطار الحياة الإسلامية؛ صفاء طفولة، ورغبة اكتشاف خارج حدود خلفية تاريخية بنيت ضد الإسلام. هذه المقدمات العفوية؛ تفتح الطريق بصورة عملية لعمل عبر المختصين؛ مثل محاضرات، أفلام، راديو. إلخ .. وهذا العمل يقوده مركز معلومات في كل عاصمة؛ تنظم فيه جولات في عمق المدينة التي تعرف تاريخها. هذا المركز إذا ما قام بمهمة حضارية من بين عشرة مراكز؛ فإن النتيجة ستصبح أجدى: اقتصاديا، وسياسيا، وأخلاقيا، من خمسين عاما مضت من الصراعات والحملات الاستعمارية والدعايات التجارية.

أما في آسيا فالدعوة للإسلام تضع مشكلتها بأسلوب المنهج الآسيوي؛ الذي يستقي طريقته من منهجين دفعة واحدة. فآسيا هي في الواقع أرض الإسلام المتجذر فيها بقوة كما هو في إفريقية، ولكن في الوقت نفسه هناك بلاد اليابان حيث الإسلام هو أيضا غريب عنها كما هي أوروبا وأستراليا وأمريكا. هنا يجب أن نأخذ بالاعتبار من ناحية أخرى جمهورين من الإنسانية هما الأكثر بروزا، وكل منهما جمع منغلق على نفسه (sur le globe) كما هو الأمر بين الهند والصين، لكن بالنسبة إلى الصين فالمشكلة تطرح كما هي في وسط إفريقية؛ حيث الإسلام أصبح دينا أهليا بالجوار مع المسيحية، فالمسلمون الصينيون يشكلون طائفة هامة من ستين مليونا على الأقل، والإسلام هناك واسع ومتوطن اجتماعيا بمدى واسع، والدعاة الوعاظ يجدون مكانهم ووسائلهم المرتبطة بمركزيتهم العليا (¬1). فالصين مركز أساسي للإسلام في الشرق الأدنى في مدى منشوريا وكوريا شمالي اليابان والفلبين، وإلى الشرق الهند الصينية وسيام وبورما، وإلى الجنوب اليابان، والشعب الياباني سيكون أكثر تأثرا بالمسلم الصيني من المسلم العربي؛ بسبب ردة الفعل ضد الأبيض الذي ولد من أوروبا العنصرية، حيث مر الأوروبي في كل مكان كمستعمر أو كجندي احتلال. والمشكلة ستطرح بالشروط نفسها في الهند، إذا لم يكن الإسلام معزولا عن الجمهور الهندي في حدود مصطنعة نشأت مع دولة باكستان. وهنا مهما تكن رابطة التعاطف الأخرى التي تربطنا بإخواننا الباكستانيين، فإنه لا يفوتنا شعور بالامتعاض من استقلالهم عن الهند إذا ما أردنا النظر في عمق الأشياء. ¬

_ (¬1) أخذنا هذا الرقم من الوثائق المنشورة نحو عام 1930 من قبل البعثة في الرحلة الصفراء التي تحدثنا عنها سابقا.

وقد قلنا في القسم الأول من هذه الدراسة كلمة معبرة؛ هي أن الدولة الباكستانية التي انفصلت عن الهند فإن انطباعنا عن هذا الحدث يلزمنا أن نرى فيه الدهاء والخبث من السياسة البريطانية الاستعمارية في الهند. مهما يكن من أمر، فإن إخواننا في باكستان يستطيعون هم أيضا أن يؤدوا دورا هاما في التاريخ الأخلاقي في العالم الآتي، وهم الآن يستحقون في الوقت الحاضر شرف السبق في إرسال بعثة سلام للإسلام في العالم. وإذا استثنينا إفريقية السوداء، فإن باكستان هي البلد الإسلامي الذي كثف جهوده في الدعوة إلى الإسلام، وأرسل بعثات إلى الخارج، وبالخصوص بريطانيا وسويسرا، لكن هذه الأعمال التي تستحق إعجابنا الكبير هي غير كاملة، إذا ما أهملت الجمع الإنساني البارز الذي يمثل شعب الهند، وقد أشحنا النظر عن هذا الجمع في تطوره بإدارة واعية لنهرو الذي سوف يلعب دورا في الدرجة الأولى في العالم، كالذي تلعب فيه الصين. فإذا ما بقيت بصفة عامة كل سياسة وكل استراتيجية لا تأخذ باعتبارها تطور الملايين التي تمثلها الهند والصين؛ فإن الخطة ستؤدي إلى الفشل كما هي السياسة والاستراتيجية الأمريكية في هذه اللحظة، وهذا يجعلنا نقول كم هي سياسة باكستان ضد التفاهم مع الهند تبدو خطيرة، وكم نحن نأمل أن تحل قضية كشمير سلميا. وهنا نضيف بأن الواجب يدعو إلى الذهاب نحو عمق الأشياء. فبقاء شعب كشمير جزءا من الشعب الهندي لا يضر الإسلام كما لا ينفعه، ولكن أعتقد أن تشرشل رأى - مع شديد الأسف - أن أمرا كهذا هو فتح في سياسته البريطانية القائمة على الدهاء لصالح الاستعمار. مهما يكن من أمر؛ فالعالم الجديد يسير الآن بقطار البناء في صين ماو تسي تونغ، والهند بقيادة نهرو، وهذه هي الحقيقة الكبرى، واليهود أثبتوا أنهم لا يجهلون ذلك، وهنا فالإسلام إما أن يربح كل شيء أو يخسر كل شيء.

أخوة وتآخ

أخوة وتآخ في المشروع الإسلامي فيما استعرضنا بصورة مقتضبة أشرنا إلى مشروعين لهما كل اعتبار في ارتباطهما بما سميناه: المشروع الخارجي والمشروع الداخلي. المشروع الداخلي نرى له أهمية مع أننا وضعناه جانبا لطابعه الخاص، وذلك في سبيل الاهتمام الذي أعطيناه للفصل السابق بصورة مكثفه منعتنا من الاهتمام بالمشروع الداخلي ببعض الشرح والتفصيل. والواقع أننا حينما نستعيد مثلا الوجه المسيحي نرى طابعه التثليث والمحبة معا، وكذلك الوجه المسلم يبرز في عبارتين أساسيتين: الوحدة والأخوة {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات: 49/ 10]، وهنا نتساءل: إلى أي مدى عكست هذه الحقيقة التاريخية حضورهما في المجتمع الإسلامي؟ من المؤكد أن هذا المجتمع قد مرت به مرحلة خاصة ومظلمة في تاريخه، حين انطلقت من القابلية للاستعمار والاستعمار معا، لكن الوضع الحاضر يبدو وكأنما هو على أبواب مخرج من هذه الثنائية. لا شك أن ثنائية الاستعمار والقابلية للاستعمار قد شوهت القيم الدينية كثيرا، حين افتقدت الشعوب الإسلامية مشاعر الأخوة الإسلامية، التي كانت البساط الاجتماعي الذي افترشه المؤمنون الأول، يشد بعضه بعضا آصرة وحدة كانت رافعة الحضارة والتاريخ الإسلامي. لقد أشرنا في القسم الأول من هذه الدراسة إلى الأسباب الداخلية التي فككت عرا الشعوب في البلاد الإسلامية حتى بين أهل المدينة الواحدة.

فقد وفرت القابلية للاستعمار متسعا للأسباب الخارجية التي عملت في ظل الإدارة الاستعمارية؛ كي تأخذ مجالها في تقسيم البلاد. فمنذ بداية القرن العشرين في ظل هيمنة الاستعمار وامتداداته خلف جدار التخلف، كانت الجزائر والمغرب يحارب كل منهما أخاه على الحدود التي رسمها الاستعمار في أرض الجدود ليحتلها، لكن شعور الأخوة قد بدأ والحمد لله ينبعث من جديد، وبدأت أصداؤه تتخذ لها مقاعد تتحلق حول القضية الفلسطينية والقضية المراكشية في العالم الإسلامي. لكن هذه الأخوة التي يعبر عنها في مختلف أنحاء العالم الإسلامي لا تزال في عمق الشعور، ولا بد أن تنتقل إلى وعي يجند الطاقة في بناء للمؤاخاة هادف وتطوعي بين المسلمين والعالم الإسلامي. فمع تطور الأحداث والأيام؛ تنامت الأخوة في بسيط العالم الإسلامي، لكن الأخوة لكي تأخذ مداها التاريخي كما بدأت أول مرة، لا بد أن تنتقل من عمق اللاشعور إلى عمل واع؛ يجند الطاقة لبناء عمل تطوعي؛ له في المؤاخاة مواعيد إنجاز؛ في خطط متوالية بين أنحاء العالم الإسلامي. صحيح أن الأخوة الإسلامية بادية مع تطور الأحداث الراهنة والأيام، لكنها لم تحدد خطة لها أو قضية تجند المؤاخاة في أهدافها، فالتخطيط الهادف في فاعلية الأخوة الإسلامية يضع العالم الإسلامي في التطور المشاع الذي يهيئ لبواكير العالم الآتي، فالأخوة في هذا المنعطف ينبغي ألا تظل في اللاشعور، بل يجب أن تأخذ مكانها في تطور يحقق نتائج ملموسة؛ لها دورها الأكيد والحاسم في معايير نظام جديد. لا بد أن تنتقل الأخوة من مجرد الشعور إلى إرادة العمل، فكل عمل تضامني لا يؤسس لإرادة هادفة، تسوغها عملية تخطيط (وعلى الخصوص في العالم الذي سوف يعقب العالم الحاضر) هو مجرد حلم.

ولكي تجدد الأخوة الإسلامية حضورها؛ عليها أن تعي دورها في خطة مؤاخاة بكل أبعادها الفنية. وهذا التحديد في جانبه العملي والفني في حاضر عالمنا الإسلامي قضية شائكة حتما وغير مؤهلة للتطبيق. لذا وعصرنا الذي هو على وشك النهاية؛ ينبغي الإعداد لمناخ العصر الآتي الذي يتسع فيه النطاق لمؤاخاة أبعد من السلوك الفردي، لأنها تمتد إلى حركة؛ بخطتها الفنية التضامنية كفصل من فصول علم الاجتماع، وهنا ونحن نتحدث بعبارات وصيغ جديدة، لكن النموذج الأمثل الذي يحقق نتيجة ما نرمي إليه من المؤاخاة؛ ما كان عليه مجتمع المدينة بقيادة الرسول (ص). فالرسول الأكرم لم يبلغ آيات الوحي في قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات: 49/ 10] بل هو آخى وقام بتعبئة تنظيم عملي للمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وكانت المؤاخاة هذه هي النقطة العملية التي انطلقت بها المسيرة بفاعلية أكبر مما تكون عليه أخوة بنت علاقة حميمة بدافع سلوك أخلاقي. فالرسول (ص) ترك لنا عمق المنهج الفني العملي لبناء أخوة هي الأوفى بولادة مجتمع إسلامي وتطوره، وهذه الأصول الفنية العملية هي التي ستعيد للأخوة الإسلامية في العالم الإسلامي وجهتها رسالة وطريقا، وهنا نذكر ما جاء في الأثر من أن الإسلام سيعود غريبا كما بدأ. من هنا فاتباع هدي الرسول (ص) ليس بالأماني والانتظار الغيبي، وإنما هو خطة طريق وعمل؛ تقوم على فنية المؤاخاة استعدادا لمهمة في مستوى الرسالة في عالم جديد. ولنا نموذجان كمسلمين: الأول في الصين والآخر في الجزائر: (سن يات) الصيني الذي أصبح أخا لعبد الله بن إبراهيم الجزائري. فالأخوان تحابا كما أنهما لأب وأم واحدة يتبادلان الرسائل فيما بينهما بانتظام ويرث أي منهما الآخر، وهذا يعني أن ثمة شيئا جديدا في تاريخ العالم

الإسلامي يؤذن بما بعده؛ إذا ما أصبح هذا الجديد من الأشياء نمط انفتاح وتعارف بين مسلم في باريس ومسلم في جاكرتا. وآخران أحدهما في لندن والثاني في داكار، وواحد في برلين وآخر في كراتشي، فهذه الصلات إذا ما أحكمت روابطها فسوف تتفاعل تضاعفا بصورة طبيعية بين شانغهاي والرباط. فالأخوة الإسلامية حينما أصبحت حقيقة اجتماعية في التاريخ الإسلامي، كانت المدى للدفعة الأولى التي أرساها الرسول (ص) في مجتمع المدينة؛ في حيوية باكرت الأرض الطيبة فيه بغرس خطة عمل لبناء مجتمع، وإذا كان لكل خيار خطة اختصاص في تنفيذها، وللمؤاخاة بين المؤمنين خطة تطبيق عملي، فهما بعض ما كان في مؤاخاة (سن يات) الصيني وعبد الله بن إبراهيم الجزائري من تطبيق عملي فني، إذ كل منهما خفض الجناح لأخيه فكانت وحدة التطلعات على سواء بينهما في نطاقهما الخاص، لكن النطاق العام له مداه الواسع في تنظيم؛ يسكب هذه المقاربات في قيادة مسارها وميزان نشاطها، فيؤشر إلى وحدة المسار تفاعلا أو ترهلا، وهو يمنحنا في النهاية زادا من الوجهة الكمية، حصاد ما تفاعل من المؤاخاة لسعي مرتحل دائما لأفق جديد. لا بد من مركزية تنظيم يراقب المستجد عبر مؤشر سنوي لحركة العالم الإسلامي، ونموذج المسلم الصيني والمسلم الجزائري صالح للتعميم كوسيلة تحقق واحدة من الشروط العامة لوحدة العالم الإسلامي في العصر الآتي.

خاتمة

خاتمة إن الجزء الأول المنشور في هذه الدراسة هو النتيجة التي تغني عن تقديم مزيد في هذا الفصل، لكن وأنا أنتهي من الجزء الثاني سيكون العالم قد أخذ مساره في منعطف تبدو فصول هذا الجزء من وجهة العالم الإسلامي بعض اهتماماته. من ناحية أخرى فإن تصريح تشرشل منذ أيام بعد رحلته إلى واشنطن يشعر باحتمال الهجوم على الصين الشيوعية إذا لم توقع الهدنة في كوريا، وتصريح تشرثل يترابط مع التصريح الذي أدلى به رئيس وزراء اليابان حول معاهدة سلام مع الصين الوطنية بما يشير إلى أن الضغط الدولي قد ارتفع عام 1952 أعلى مما نفكر. من ناحية أخرى يبدو الجيش الشعبي في مصر متجها نحو حرب ضد بريطانيا، وفي إيران يوحي تصريح حسين فاطمي باتجاه نحو إلغاء معاهدة الصداقة البريطانية - الإيرانية عام 1951، ومن مؤشرات ذلك أن مصدق أغلق القنصليات البريطانية على كامل الأراضي الإيرانية. هذه الأحداث تدعم مظهر الحياد في البلاد العربية، وهذا ما يؤيد مظاهرات احتجاج وغضب منذ ثلاثة أيام في تونس بسبب اعتقال مؤسسي حزب الدستور الجديد، لكن توقيف القادة الشيوعيين في تونس أعطى مادة للتفكير؛ أفلم يعد الغربيون مهتمين بدفع البلاد العربية إلى ما وراء موقفهم الحاضر، أي دفعهم مرحلة إلى التخلي عن مزايا حيادهم باختيارهم أو رغما عنهم، والانضمام إلى فريق هذا المعسكر أو فريق ذلك المعسكر في الحرب القادمة؟

هذا الافتراض ممكن سواء في الخطة العسكرية أو في الخطة السياسية. والغربيون يعرفون جيدا أن مواقف العالم العربي مع هذا الفريق أو ذاك لا أثر لها ولا فاعلية، لكن الصداقة مع العالم العربي تحكمها مصلحة مزدوجة؛ هي القواعد التي على البلاد العربية أن تقدمها لهم، ليحققوا استراتيجية الحرب عبر هذه القواعد في أمرين: 1 - استعمال هذه القواعد في أية خطط عسكرية. 2 - أن تصبح البلاد العربية هي نفسها مسرح العمليات الحربية. إذن هنالك حاجة لدى الغربيين في صداقتهم هذه، بقدر ما يحددها مستشاروهم اليهود. من هنا قد تبدو مظاهرات الاحتجاج والاستنكار في الساحة العربية ضد الغربيين؛ هي الغطاء لصداقتهم للعالم العربي التي تنمو في خدمة استراتيجيتهم الحربية والسياسية. بكل حال فالمهم هو الخط السياسي الذي على العالم أن يخطه بعد الحرب التي ستأتي. فمستقبل هذا العالم سوف يرتكز على بعض المعطيات التي تأخذ في حسابها عبرا ودروسا من الماضي؛ لا بد أن تدخل مخططه العام في حركة نشاطه. وهنا من الجنون وقلة التبصر نسيان السر الخفي في بنية وتكوين العصر الحاضر الذي فصلناه في هذه الدراسة، ومن ثمراته دولة إسرائيل التي لن تجد لها مكانا في العالم الذي سيأتي. بكل حال كيف ما كانت هذه النهاية فإن على العالم الإسلامي أن يتبوأ مكانه الخاص في النظام الجديد، ولكن قبل كل شيء عليه بناء قيادة مركزية (Etat mageur) قادرة على أن ترى وعدا باستراتيجية سلام مستقر لمدي بعيد. مالك بن نبي Luat clairet 22 - 1 - 1952

المسارد

المسارد 1 - مسرد الأعلام (يشمل الأشخاص والدول والأمكنة) 2 - مسرد الشعوب والجماعات والمذاهب 3 - مسرد المعاهدات والمؤتمرات والاتفاقيات

مسرد الأعلام (يشمل الأشخاص والدول والأمكنة)

1 - مسرد الأعلام (يشمل الأشخاص والدول والأمكنة)

_ آسيا الوسطى: 43 آسيا: 20، 43، 48 - 49، 54، 65 - 66، 84، 92، 111، 116 - 117، 142 إبراهيم (س): 60 ابن ميمون: 59، 89 أثينا: 51 أرغون: 86 (ح) إسبانيا: 27، 58، 59 (ح)، 97 أستراليا: 139، 142 إسحاق: 71 أسخريوط: 61 إسرائيل: 14، 18، 26، 28، 37، 48، 50 - 51، 53 - 55، 57، 79، 81، 91، 94، 110، 149 إفريقية: 20، 31، 92، 104، 106، 108، 114، 117، 140، 142 أفغاسان: 115 ألاسكا: 105 ألكي دورسيه: 89 ألمانيا: 53، 56، 69 - 70، 95 - 98، 100، 109، 131، 132 أمريكا الشمالية: 107 أمريكا: 26، 46 - 47، 73، 78، 80، 85، 96، 103 - 105، 107 - 112، 114 - 115، 117، 120 - 122، 131 - 132، 136، 142 أمستردام: 56، 65 أندريه موروا: 45، 90 الأندلس: 12، 66 أندونيسيا: 101، 115 - 116، 118 أنغرس: 56 أوبنها يمر: 47، 71 أوجست كمت: 11 أوربا الشرقية: 56 أوربا الغربية: 56، 97، 105 أوروبا: 11 - 18، 26، 27، 29، 42 - 44، 47 - 49، 51، 55، 57 - 60، 62 - 69، 71 - 74، 77، 81، 82 - 85، 88 - 89، 92، 94، 98، 101، 104 - 108، 117، 118، 122، 140، 142 إيران: 15 - 16، 115، 120، 148 إيزنهاور: 118 إيطاليا: 122، 131، 132 إيليا أهرنبورغ: 121 أينشتاين: 56، 90

_ إينياس دي لوايولا: 66 ابن رشد: 89 ابن ميمون: 59، 89 الاتحاد السوفيتي: 19، 76، 78، 120 - 122 باروخ: 80 باروس: 114 باريس: 37، 56، 73، 80، 89 - 90، 92، 112، 147 الباسيفيك: 107 بافلوف: 22 باكستان: 37، 113، 120، 142 - 143 باكنغهام: 62 بخارى: 119 البرتغال: 55 برغسون: 44، 56 برغسون: 90 برلين: 73، 90، 93، 100، 147 برنار لوكاش: 91 بريطانيا: 37، 46 - 47، 53، 56، 62، 69، 74، 96 - 100، 107، 115، 119، 132، 143 بغداد: 86 بكري: 82 بكين: 61 بلجيكا: 97 بلفور: 91 البلقان: 55 بن غوريون: 55، 110 بوانكاريه: 89 بورما: 101، 142 بوشناق: 81 بولس: = شاؤول بولونيا: 56، 132 بيار وير: 66 بيرينه: 57 - 59 بيزنطة: 55 تبسة: 19 (ح) تروتسكي: 76، 77، 79، 83، 90 ترومن: 80، 91، 111 تشرشل: 54، 121، 143، 148 تل أيب: 110 تونس: 59، 97، 148 تيمورلنك: 84 جاكرتا: 20، 25، 147 جان جاك روسو: 70 الجزائر: 12، 16، 33 - 34، 70، 82، 85، 91 - 92، 145 - 146 جنكيز خان: 84، 86 جنيف: 64 حسين فاطمي: 148 داكار: 147 درايفوس: 75، 90 درومونه: 75، 90، 93 دزرائيلي: 46، 71، 87، 120 دمشق: 25، 43 دنكرك: 97

_ الرباط: 147 روتشيلد: 45، 56، 74، 80 - 81، 89 روزفلت: 47، 54 روسيا: 55، 79، 99، 101، 103، -107، 111، 113، 122 - 123 روكفلر: 73 روما: 51 - 54 رومانيا: 89 رينيه ماير: 37، 45، 114 سارا برنار: 45 سبينوزا: 59 - 60، 64 - 65، 78 ستافسكي: 45 ستالين: 120 - 121 ستالينغراد: 119 سلامتك: 64 سن يات: 146 سنغافورة: 119 سهيل زكار: 86 (ح) السوربون: 90 السويس (قتاة): 17، 32 سويسرا: 143 سيام: 142 سيبويه: 59 السيدة مريم: 67 شاول (القديس بولس): 43 - 44، 60 شاخت: 115 - 116 شارلمان: 58 شانغهاى: 92، 147 الشرق الأدنى: 142 الشرق الأوسط: 26، 50، 118 شمال إفريقية: 55، 97، 99، 114، 119 شنيدر: 45، 74 شيشرون: 52 صحراء المكسيك: 47 الصين: 43، 140، 142 - 143، 146، 148 طرابلس: 101 طنجة: 20، 25 طوكيو: 61 عبادان: 15 - 16، 32، 120 عبد الكريم الخطابي: 92 عبد الله بن إبراهيم: 146، 147 عثمان (ض): 58 علي (ض): 58 عمر (ض): 58 غارودي: 132 الغزالي (الإمام): 59 غوبلز: 93 - 94 فارس: 43، 85 فدوف كوبر: 56 الفرات: 58 فرنسا: 20 (ح)، 45 - 46، 71، 74، 75، 81، 91، 94، 97، 122، 132 الفلبين: 142

_ فلسطين: 14 - 16، 48، 55، 60 - 61 (ح)، 91، 109 - 110، 113 فورد: 73 فون روبر تروب: 98 فيليب الثاني (ملك إسبانيا): 67 فيليفيل:19 (ح) فيينا: 89 القارة المغولية: 84 القاهرة: 21 - 22، 59 (ح) القدس: 43، 58، 113 قرطاجة: 51 - 53، 86 قرطبة: 59، 89 كارول (ملك رومانيا): 89 كراتشي: 147 كريت (جزيرة): 97 كشمير: 120، 143 كعب الأحبار: 57 كندا: 105، 108 كوريا الجنوبية: 111، 119 كوريا الشمالية: 111 - 113، 119 كولومبوس: 87 الكونغو: 139 لندن: 56، 62، 67، 73، 90، 147 لورد ريدينغ: 46 لويس بلوم: 91 لياقت علي خان: 37، 113، 120 ليدن: 64 مارسيل: 71 ماركس: 56، 76 - 90، 121 مالك بن نبي: 9 - 11، 13، 15، 16، 17 - 28، 86 (ح)، 139 (ح) ماليزيا: 119 ماوتسي تونغ: 111، 143 محمد بن يوسف (محمد الخامس): 15، 31 مدام كوري: 45 مدريد: 67 المدينة المنورة: 57 مراكش: 15، 59 المسيح عليه السلام: 44، 46، 51، 60، 67 مصدق: 15 - 16، 31 - 32، 148 مصر: 21، 49، 148 المغرب: 31، 97، 145 مكة: 57 مناخم: 47، 90 منشوريا: 142 مورياك: 56 مورجان: 73، 76 مورجيو: 73 موزار: 90 موسكو: 22، 121 مونبيليه: 59 ميرابو: 70 ميكيافلي: 82 ميونخ: 92، 95 نحاس باشا: 15، 31 - 32

_ نهرو: 117، 143 نوسترادان: 64 نيروبي: 104 نيويورك: 139 نيويورك: 56، 73 هارون الرشيد: 58 هتلر: 46، 92 - 94، 97 - 98 هتلر: 99 - 100، 122 هس: 98 الهند الصينية: 142 الهند: 43، 46، 101، 117، 119 - 120؛ 140، 142 - 143 هولندا: 46، 56، 59، 67، 74، 79 - 80، 82؛ 97 واشنطن: 20، 121، 148 وستفاليا: 96 الولايات المتحدة = أمريكا ولتر. ج فيشل: 86 (ح) اليابان: 111، 116، 119، 131، 140، 142، 148 اليونان: 49، 132 Bariel: 47 Calais: مضيق): 97) Caton: 51، 53 Heine: شاعر يهودي) 70) Hord d'or: 85 Ignace de Layola: 58 J. Flaviers: 52 (Luat): قرية مالك بن نبي في فرنسا 19 - 20 (ح) ل. Maritain: 45 Maurras: ،54، 79 - 81، 85 94 Max Boer: 47 Oulang Bat: 85 - 86 Patron: رجل أعمال يهودي) 73) Pierre L'Ermite: ((بيار أرميت 58، 88 - 89 Plank: 90 Schiffer: 73 Seoul: 111 Wall Street: 47، 73، 76

مسرد الشعوب والجماعات والمذاهب

2 - مسرد الشعوب والجماعات والمذاهب

_ الأرستقراطية: 83 الاسماعيلية: 58 البرجوازية: 64، 88، 138 الجزويت: 58 حركة أوجين: 63 الديمقراطية: 41، 69، 74 الرأسمالية: 41، 67، 76، 78 - 82، 101، 103، 105، 108، 121 - 123، 129 - 130، 134 الرومان: 11، 52، 60 الشرقيون: 51 الشيوعية: 78، 103، 106 - 107، 119 - 123، 128، 130، 133 - 134 العرب: 59 العنصرية: 67، 84، 87، 98، 100، 130 الفرنك: 69 القرامطة: 58 القرطاجيون: 57 المادية 78 الماركسية: 41، 76، 77 الماسونية: 46 الموحدون: 10، 12، 28، 85 - 86، 101 النورمان: 69 اليونان: 11

مسرد المعاهدات والمؤتمرات والاتفاقيات

3 - مسرد المعاهدات والمؤتمرات والاتفاقيات

_ إعلان حقوق الإنسان: 41 الأمم المتحدة: 109 - 111، 113، 119 جمعية الطلبة: 35 جمعية العلماء: 35 معاهدة 1935: 15 معاهدة الصداقة البريطانية - الإيرانية 148 معاهدة فرساي: 92 - 93

PROBLEMS OF CIVILISATION THE PATH OF THE ISLAMIC WORLD - Part (2) Wijhat al-Alam al-Isiami Malik bin nabi في هذا الكتاب الجديد الذي ينشر للمرة الأولى، يتوجه مالك بن نبي إلى جيل جديد يعقب جيله، ليؤكد لهم، وهم بين أنقاض عالمه، أن عليهم واجب بناء عالم خاص بهم. وضع المفكر مالك بن نبي الخطط التي يراها مجدية للنهوض بالعالم الاسلامي، وحدد له وجهته نحو المعاصرة والحداثة. كيف أثر الفكر اليهودي في بناء أوربا؟ وكيف تشكلت الظاهرة الاستعمارية؟ وكيف استطاع اليهود لم شملهم وتأليف قوى سياسية وثقافية واقتصادية فاعلة على الصعيد الأوربي والعالم؟ لماذا يحاول الغربيون إجهاض أي نهضة أو تحرك إيجابي في العالمين الإسلامي والعربي؟! هل يمكن أن يحقق العرب والمسلمون أي نهوض دوف التخلص من مرض القابلية للاستعمار؟!. هذه الاسئلة هي التي درسها مالك بن نبي في هذا الكتاب. وذكر أنه عندما تتحقق النهضة. يستطيع العالم العربي أن يعرف أكثر وجوه النقص في الحضارة الغربية. كما سيتعرف على مصادر عظمتها .. وعندها ستكون العلاقات والصلات بين الغرب والعالم الإسلامي أكثر خصبا.

§1/1