وجهة العالم الإسلامي

مالك بن نبي

مالك بن نبي مشكلات الحضارة وجهة العالم الإسلامي دار الفكر معاصر بيروت-لبنان دار الفكر دمشق - سورية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وجهة العالم الإسلامي

مالك بن نبي مشكلات الحضارة وجهة العالم الإسلامي ترجمة عبد الصبور شاهين بإشراف ندوة مالك بن نبي دار الفكر

إعادة 1431هـ = 2002م ط1: 1986م

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في عام 1971م ترك أستاذنا مالك بن نبي- رحمه الله- في المحكة الشرعية في طرابلس لبنان، وصية سجلت تحت رقم 275/ 67 في 16 ربيع الثاني 1391هـ الموافق 10 حزيران (يونيو) 1971م، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والمادية. وتحملاً مني لهذه الرسالة، ووفاءً لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذاً لوصية المؤلف (ندوة مالك بن نبي). والتسمية هذه، دعوة إلى أصدقاء مالك بن نبي وقارئيه، ليواصلوا نهجاً في دراسة المشكلات، كان قد بدأه. وهي مشروع نطرحه بوصفه نواة لعلاقات فكرية، كان رحمه الله يرغب في توثيقها. وإنني لأرجو من أصدقاء مالك وقارئيه، مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف في كل ما ينشر بالعربية أو الفرنسية مترجماً من قبل المترجمين أو غير مترجم. فقد حمّلني- رحمه الله- مسؤولية حفظ هذه الحقوق، والإذن بنشر كتبه. فإن وجدت طبعات لم تذكر فيه إشارة إلى إذن صادر من قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها. طرابلس لبنان 18 ربيع الأول 1399هـ 15 شباط (فبراير) 1979 م عمر مسقاوي

الإهداء

الإهداء إلى الشعب الجزائري الثائر إنني أحيي كفاحك أيها الشعب الكريم لأن عدالة القضية تخلع عليه القداسة إنني أحييه لأن كفاح الطفل الجزائري، سبيل مستقبله، ولأنه كفاح المرأة الجزائرية من أجل أمن بيتها وسعادة أسرتها، ولأنه كفاح الشهداء ولأنه كفاح الأبطال الذين يريقون دماءهم من أجل الحق المقدس للطفل وللمرأة ... ولأنه كفاحك أيها الشعب الكريم من أجل البقاء والكرامة والحرية. إن الله الذي يبارك صراع الأبرار يبارك كفاحك ويقوده إلى النصر تحت الراية المقدسة التي كتب عليها وعده الصادق: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} مالك

تقديم

تقديم بقلم الأستاذ محمد المبارك ــــــــــــــــــــــــــ ينتمي مؤلف هذا الكتاب الأستاذ (مالك بن نبي) إلى بلد عربي إسلامي، عانى من تجربة الصدام بين المجتمع الأوربي المادي والمجتمع الإسلامي العربي، ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول المدة أو قوة الصراع أو عمق الأثر. إن الجزائر تمثل هذه التجربة في نواحيها المؤلمة ومآسيها، وفي جوانبها المنتجة الموقظة المبشرة، كما أن المؤلف نفسه عانى هذه التجربة فكرياً ونفسياً، كأشد ما يعانيها إنسان مثقف مرهف الشعور والحس. ولعل قراء الأستاذ مالك لا يعرفون أنه مهندس كهربائي تخرج من كبريات المعاهد الهندسية العالية في فرنسا، وسلخ من حياته أكثر من ثلاثين سنة عاشها في أوربا، وكانت هذه السنون الطويلة والخصبة بالنسبة إلى رجل مثقف عميق الثقافة سبباً في إظهار ذاتيته، وإيقاظ الشعور في نفسه وفكره: إنه عربي مسلم، ليس هو من المجتمع الأوربي الذي عاش فيه بجسمه في شيء، وكان تعمقه في الثقافة الأوربية سبباً في تحرره من نفوذها، ومعرفته لمصادرها ومواردها، لدوافعها الخفية وبواعثها العميقة، ولا سيما أنه جمع إلى جانب الثقافة العلمية، ثقافة فلسفية واجتماعية واسعة الأرجاء، عميقة الأغوار، كما تدل عليه آثاره ومؤلفاته العديدة التي قرأناها. والمهم في الأمر أن ثقافته هذه لم تكن ثقافة فكرية تقتصر على ساحة الفكر، ولكنها نضحت بحرارة المأساة التي كانت تعيش فيها الجزائر، مأساة الاستعمار والاستعلاء والسلب، واستخدام أرفع النظريات

العلمية لأحط الغايات وأخس الأهداف. لقد تجمعت في قلبه ونفسه، في عاطفته وشعوره، في عقله وتفكيره، مآسي أولئك الملايين من البشر، الذين يعيشون على أرض الجزائر ضحايا لمدنية القرن العشرين، وأمثلة بارزة لانحطاط أهدافها وغاياتها. ولذلك لا تجد لهذا الكتاب خصوصاً، وكتب مالك عموماً، شبيهاً في كتب المشارقة من أبناء البلاد العربية، الذين لا يزال أكثر كتابهم يقفون من الحضارة الأوربية موقفاً آخر؛ هو موقف التلميذ المعجب الذي لم ينقض إعجابه، والمستجدي لأفكارها ومقاييسها، لأنه لم يعرف منها إلا مظاهرها، وإلا جوانبها الفكرية، ولم يعرف حين يعرفها إلا زائراً، ولو طالت زيارته لها بضع سنين. لقد كانت أوربا بالنسبة إلى الأستاذ مالك تربة صالحة لتنمية جذوره التي لا تزال متصلة ببلده، مغموسة بتاريخ أمته. إنك حين تقرأ هذا الكتاب تشعر أنك لست تقرأ كتاباً، ولكنك تعيش مأساة أمة، وتعيش معها خلال عشرة قرون أو أكثر، وتمر بعقد قصتها خلال هذه القرون. إن مسرح المأساة والبلد الذي تمثل عليه هو العالم الإسلامي بمجموعه، لا يخص المؤلف فيه بلداً دون بلد، بل يبحث مشكلته المشتركة، يستعرض تاريخها منذ ظهور الإسلام، والمراحل التي مرت بها، ثم يقف بنا طويلاً في العقدة الأساسية في المرحلة الحاضرة من مراحل الإنسانية، ويوسع حينئذٍ مسرح المأساة ليرينا إياها في صورتها العالية، ويقفنا على مأساة الإنسانية التي تمثل على مسرح العالم، في جانبها الأوربي الأمريكي، وفي جانبها الإسلامي، بل يرينا من بعيد وجهها الهندوكي البوذي؛ كل ذلك ليدلنا على المخرج وعلى حل العقدة بنور يسلطه على المجتمع الإسلامي، وعلى هذه الرقعة من العالم التي تمتد من مراكش إلى إندونيسيا.

إن طريقة المؤلف في كتابه هذا لا تقوم على سد التفاصيل والحوادث، بل على تحليل عميق- أعانه عليه ثقافة قوية واطلاع واسع- لمراحل التاريخ، وسير المدنية وتطورها، وهو يقسم تاريخ المجتمع الإسلامي إلى ثلاث مراحل: أولاها: مرحلة الإسلام الأولى في دفعته الإيمانية الحية، وهي أقوى هذه المراحل في حيويتها وقوتها الدافعة وخصبها، وتنتهي في معركة صفين. وثانيتها: مرحلة المدنية الإسلامية، وهي مرحلة التفكير والازدهار الحضاري، وتنتهي بسقوط دولة الموحدين. وثالثتها: مرحلة الجمود والانحطاط؛ ويصف كل مرحلة من هذه المراحل وصفاً تحليلياً عميقاً، ويخص المرحلة الأخيرة بالعناية لأنها المرحلة التي لا نزال نعيش في رواسبها وآثارها، ولأنها تمثل في نظره الصائب مرحلة القابلية للاستعمار. وهو إذ يصل بتحليله التاريخي إلى هذه النقطة، يلتفت إلى العالم الأوربي، فيستعرض نشأة حضارته وصفاتها الأساسية العميقة التي ترتد إلى عهد بعيد، ويرجع بصفاتها إلى بيئتها الزراعية التي انبثقت عنها، ويسير معها في تطورها حتى يصل بها إلى العصر الحاضر، يذكر في خلال ذلك مناقبها وعيوبها والعناصر المختلفة التي تظاهرت على تكوينها: من مادية منظمة تولدت من زراعة الأرض، إلى روحية غزتها من خارجها وسطوحها بالمسيحية القادمة من الشرق، التي انكمشت وتقلصت واصطبغت بصبغة الحضارة المحلية، إلى العقلية الديكارتية التي تركت في التفكير الحديث أثراً عميقا، إلى الصناعة الكبرى وما آلت إليه من ثورة في القيم والمفاهيم، وأنظمة الحكم والأخلاق. ثم يقابل المؤلف هنا بين الحلقتين الأخيرتين المتقابلتين من سلسلتي التطور في أوربا وفي البلاد الإسلامية، ويصف ما يكون من التقاء عالمين أحدهما حطت فيه المدنية رحالها، وتردت بردائه، واتسمت بصفاته، وانتهت إلى عهد الاستعمار، وإلى المادية، مادية البورجوازيين (المتمولين) التي تجلت في

الرأسمالية، ومادية الكادحين الفقراء (البروليتاريا) التي تجلت في الشيوعية. وأما العالم الآخر (البلاد الإسلامية) فقد رحلت عنه المدنية بعد أن تركته هيكلاً فارغاً تجلى عليه الجمود في مرافقه كلها، وركدت تلك النفحة الإيمانية، واستبدل بها ألفاظاً جامدة جوفاء، حتى غدا هذا العالم كما وصفه المؤلف قابلاً للاستعمار قبل أن يُستعمر. ويستثير الأستاذ مالك هنا تفكيرنا وحماستنا في آن واحد، ويتنبأ بحل جديد لهذه العقدة، ويبشرنا برحلة جديدة بدت طلائعها في انهيار الحضارة الغربية؛ حضارة الاستعمار والمادية، وفي استيقاظ العالم الإسلامي وفقاً لنظريته التي بسطها في أول كتابه في (دورات المدنية وانتقالها)، ويقف بنا أمام تحليل رائع لواقعنا ولحركاتنا الحديثة في التجديد والتقليد والإصلاح، كاشفاً عن سطحية بعض هذه الحركات والمظاهر التجددية، مشيراً إلى نواحي الأصالة والعمق في حركات الإصلاح والثورات الحقيقية من جهة أخرى. ويرى كاتبنا الفيلسوف أن هذا العالم الإسلامي هو الذي يحقق الظروف النفسية لظهور (الإنسان الجديد)، وأن رسالته في هذا العصر التوفيق بين العلم والضمير، بين الأخلاق والصناعة، بين الطبيعة وما وراء الطبيعة، وأنه في منتصف الطريق إلى هذه الغاية، وأنه وإن كان يجب عليه بلوغ مستوى المدنية الحالية المادي، باستخدام مؤهلاته كلها على اعتياد النظام، في العهد الذري الذي يسيطر عليه الفكر الصناعي العلمي سيطرة شديدة؛ غير أن مهمته تظل روحية تقوم على التخفيف من حدة الفكر المادي والأنانية القومية. غير أنه يعتقد أن مركز الثقل في هذا العالم سينتقل من البحر المتوسط إلى آسيا، وأنه يتجه اليوم نحو جاكرتا مستفيداً من تلك النفحة الصوفية التي لا تزال سارية في العالم البوذي والهندوسي، الذي يتصل به العالم الإسلامي في آسيا ويجاوره.

وقد أخالف المؤلف في نظرته هذه، ذلك أني- على تقديري للنهضة الرائعة التي تبدو في اندونيسيا وبعض البلاد الآسيوية الإسلامية- أرى أن للعالم العربي م كانت هـ ووظيفته الحيوية في قلب هذا العالم الإسلامي، وأنه أوتي القدرة على التوفيق بين القيم المادية والروحية، وإقامة التوازن بينهما، وأنه بحسن تفهمه للغة القرآن الكريم ولرسالة الحياة الجامعة بين المقاييس المادية والروحية، والجهد المادي والخلقي، لا يزال محط الأمل وموضع الرجاء، دون أن ينقص ذلك من قيمة الشعوب الإسلامية الأخرى، ومن خصائص عبقريتها، ولو أن العالم العريي لا يزال وعيه لم يبلغ العمق المطلوب، ولا يزال شعور الاضطلاع بحمل عبء هذه الرسالة الحضارية الكبرى ضعيفاً خافتاً، ولكن القوى المحركة، والبواعث النفسية، والدفقات الإيمانية لا تسير بسرعة منتظمة، بل بوثبات تتجاوز حساب الحاسبين. وأعتقد أن الأستاذ مالك في كتابه (فكرة الإفريقية الآسيوية) يبدو أقرب لرأيي هذا. وعلى كل حال نستطيع أن نقول: إن هذا الكتاب يكشف في مالك بن نبي عن مفكر كبير احتل بسرعة فائقة مكانه اللائق في طليعة العالم العربي والعالم الإسلامي، وبرز بسلسلة من المؤلفات الأخرى (الظاهرة القرآنية، مشكلة الثقافة، شروط النهضة ... ) جعلته رمزاً لهذه المرحلة الجديدة التي بدأناها: مرحلة التحرر الفكري، التحرر من الاستعمار، والنفوذ الفكري، والتبعية الثقافية والحضارية، مرحلة الاستقلال الحقيقي والشعور بالذات، والاضطلاع بالعبء، والثقة بالقدرة على البناء، والسير بركب الحضارة، بعد التحرر من رواسب عصر الانحطاط والتشويه وقلب القيم، والفراغ الفكري والروحي، ومن الشعور بالنقص واحتقار الذات والإعجاب السطحي بمدنية أشرفت على نهايتها، وبدت عيوبها ونقائصها. إن مالكاً يبدو في كتابه هذا وفي مجموع آثاره لا مفكراً كبيراً وصاحب نظرية

فلسفية في الحضارة فحسب، بل داعياً مؤمناً يجمع بين نظرة الفيلسوف المفكر ومنطقه، وحماسة الداعية المؤمن وقوة شعوره، وإن آثاره في الحقيقة تحوي تلك الدفعة المحركة التي سيكون لها في بلاد العرب أولاً، وفي بلاد الإسلام ثانياً، أثرها المنتج وقوتها الدافعة. وقلما استطاع كاتب مفكر أن يجمع كما جمع بين سعة الإطار والرقعة التي هي موضوع البحث، وعمق النظر والبحث، وقوة الإحساس والشعور- أنا لا أقول إنه (ابن نبي)، ولكني أقول إنه ينهل من نفحات النبوة، وينابيع الحقيقة الخالدة. محمد المبارك دمشق في 20 من صفر 1379هـ 26 من آب (اغسطس) 1959م

تنبيه

تنبيه يظهر كتاب (وجهة العالم الإسلامي) بعد تحريره بسنوات أربع، دون أدنى تعديل يتصل بما جد من أحداث، خلال تلك الفترة، اللهم إلا ما رآه المؤلف ضرورياً فسجله تعليقاً على الهامش مؤرخاً بعام 1954. فإذا لم يعد ممكناً تطبيق آراء المؤلف، التي سجلها غداة الأزمة الفلسطينية، على الأوضاع الراهنة في العالم الإسلامي، فإن تنقيح هذه الآراء لن يفيد في علاج الأوضاع الجديدة، أما إذا كان من الممكن تطبيقها، فسيستطيع القارئ من باب أولى أن يقدر مدى صلاحيتها بوصفها مقياساً لما جدّ من أحداث. أية كانت وجهة الأمر، فإن صناعة تاريخ العالم الإسلامي لم تعد من مهمة المؤامرات الخارجية التي قعدت به إلى حين عن التطور والازدهار، وإنما هو العمل الصامت المضني، المنبعث عن حركته الداخلية. وهو ما جهد المؤلف للكشف عنه في الصفحات التي نقدمها إلى القارئ الكريم. حزيران (يونيو)، 1954

مدخل الدراسة

مدخل الدراسة كنت قد فرغت من تخطيط هذه الدراسة، عندما جاءني أحد أصدقائي، وقد كان على علم بمشروعي، فأطلعني على المؤلف القيم الذي وضعه الأستاذ (جب) بعنوان (الاتجاهات الحديثة في الفكر الإسلامي) Les tendances modernes de L'Islam. فوجدت أن موقف المؤلف الكبير يشبه في مواطن كثيرة موقفي الذي حاولت مع قصر باعي أن أجلوه. فهل كان عليّ أن أراعي هذا التشابه، فأكتفي بإحالة القارئ إلى آراء أستاذ أكسفورد، وخاصة فيما يتصل بالفصلين الثاني والثالث من هذا الكتاب .. ؟ لقد آثرت أن أواصل طريقي متخذاً منه سنداً يؤيد رأيي، وهو سند له عندي وزن كبير. غير أنه يبدو لي من الضروري أن أشير إلى بعض المواطن التي اختلفنا فيها كيلا أعود إليها داخل الكتاب تجنباً للجدل. فأنا لا أعتقد أن صفة (الذرية) (¬1) - تلك اللازمة من لوازم العقل العاجز عن التعميم- خاصة فطرية من خواص الفكر العربي، على ما أكده المستشرق الإنجليزي المحترم، بل هي طراز من طرز العقل الإنساني عامة عندما يقصر عن بلوغ درجة معينة من التطور والنضج، أو عندما يفوتها، وبعبارة أدق يقع العقل المعمم في التطور التاريخي بين مرحلتين من مراحل (الذرية). فالفكر غالباً ما يكون ذرياً في خطواته الأولى، كما كانت الحال في أوربا ¬

_ (¬1) يقصد المؤلف بالذرية atomisme، نزوع الفرد إلى تجزئة مشكلة الحياة فيتناولها ذرة درة.

قبل (ديكارت)، وكما صارت إليه الحال بعد عصر ابن خلدون في العالم الإسلامي، عندما توقف كل جهد عقلي. ولكن التراث الثقافي الخطير الذي خلفته الحضارة الإسلامية للحضارة الحديثة، يظل شاهداً على ما كان يتصف به الفكر الإسلامي في عصوره الذهبية، فلقد اتسم كفاحه في مجالاته كافة بالإحساس (بالقانون)، وهو يستلزم القدرة على التركيب، فوضعت النظريات القانونية وبناها الفقهاء على قواعد (الأصول). وهكذا نجد التشريع الإسلامي يحمل للمرة الأولى في تاريخ التشريع طابع نظام فلسفي يقوم على مبادئ أساسية، بينما لا يعدو القانون الروماني أن يكون مجموعة من الملفقات القانونية العفوية، ليس بينها رباط عقلي. وبوسعنا أن نذكر أيضاً ما حققه العلامة (أبو الوفا) في علم الفلك من اكتشاف للتغيير في حركة القمر، وهو ما يطلق عليه اسم (اللا متساوية الثانية)، وما حققه العلامة (ابن خلدون)، الذي يرجع إليه الفضل في استنباط قوانين التاريخ وعلاقاتها بأوجه نشاط المجتمعات، وهذا دليل على أن الفكر العربي كان يحمل حاسة القانون وذوقه. ولست أيضاً مع العالم الإنجليزي، فيما ذهب إليه حين تحدث عن (الاتجاه الإنساني) في الحركة الإسلامية الحديثة، فعزاه إلى تأثير الثقافة الأوربية. فإن من الواجب أولاً أن نحدد مصطلحاتنا: فإذا كنا نتحدث عن نزعة إنسانية تقليدية أو دبلوماسية، فإنا نعترف مختارين بأن الثرثرة الإنسانية ذات جرس جميل، وبأن المتاع اللغوي لدى بعض المسلمين المحدثين قد أثرى ببعض الجمل المنمقة، وببعض الأشعرة الخلابة. بيد أنه ربما وجب علينا أن نبحث الوقائع وأن نذر الألفاظ، وذلك بأن

نتناول النزعة الإنسانية في معادنها الأصيلة من التسامح والإيثار واحترام شخص الإنسان. ولا مجال في مثل هذا الكتاب لعقد مثل هذه الموازنة، إذ ينبغي أن نبدأ فيما يخص الإنسانية في الإسلام، بذكر (القيمة الدينية) التي قررها القرآن للفرد، كما أكدنا ذلك في دراستنا عن (الظاهرة القرآنية)، في الفصل الذي درسنا فيه (علاقة القرآن بالكتاب المقدس). وربما كان من الواجب أن نورد أيضاً ما أوصى به أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، جيش المسلمين من أن ((لا يقتلوا الأعزل، ولا الراهب في صومعته، ولا يقتلوا الأنعام، ولا يحرقوا الزرع)) (¬1). ثم يرد بعد ذلك الموقف الجليل الذي وقفه عمر، رضي الله عنه، عندما استولى المسلمون على بيت المقدس، فقد أبى أن يؤدي الصلاة داخل كنيسة القيامة، واكتفى بأن يسجد عند بابها الخارجي في خشوع، مؤمّناً بذلك النصارى من جسارة الجند المسلمين، كما أننا لا نستطيع أن نضرب صفحاً عن سعة الصدر التي امتازت بها مدارس الفكر في العالم الإسلامي في عصرها الذهبي، حين تتلمذ عليها الفكر الإنساني دونما قيد أو شرط؛ كان العلم أمراً مباحاً للراهب (جربرت)، وللكاهن (ميمون)، على حد سواء. فإذا ما رجعنا البصر إلى الحضارة الأوربية الحديثة، وجدناها تدل بعلمها على البلدان المتخلفة أو على الأصح: البلدان التي صيرتها متخلفة، فلا يمكن أن ننسى فداحة الثمن الذي تكبده بعض مثقفينا المسلمين من الأشغال الشاقة والسجن المؤبد. ¬

_ (¬1) هذه الوصية في أصلها مما كان يوصي به الرسول - صلى الله عليه وسلم - صحابته حين كان يوجههم إلى الغزو، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث جيوشه قال: «اخرجوا باسم الله تعالى، تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع» مجمع الزوائد 5/ 316.

فكيف يتأتى للعالم الإسلامي أن يبحث عن إلهام فلسفته الإنسانية فيما وراء تقاليده العريقة .. ؟ إن حديثنا عن إنسانية أوربا لا يكون إلا حديثاً عن نزعة إنسانية (جذبية) دون إشعاع، وفي هذه الحالة نراها تعني (إنسانية أوربية) في الداخل، و (إنسانية استعمارية) في الخارج، وهذه الأخيرة قائمة على أقبح المعادلات السياسية وأشنعها: (فالإنسان) في عرفها مضروباً في (المعامل الاستعماري) يساوي مستعمراً. أياً ما كان الأمر، فإن كتاب العالم الإنجليزي يستحق اهتمام كل مسلم يريد أن يختط بعض المعالم لأفكاره، وأن يقوِّم موضوعياً، لا أقول القيم الإيجابية في نهضته فحسب، ولكن القيم السلبية التي تعد حالياً أساس الفوضى في العالم الإسلامي. ويتحدث (جب) على الأخص عن (النزعة الأدبية)، وهو ما سبق أن نددنا به تحت عنوان (الحرفية) في الثقافة (¬1). كما يتحدث عن سمة غالبة يرمز إليها بذوق الفخر والمديح، وبالنزعة الرومانتيكية التي تتسم بها ثقافتنا، حتى عند بعض كبار المفكرين المحدثين، ولهذا الحديث قيمة كبرى في كتابه، وخاصة لدى من يذهبون إلى القول إن محرك التقدم ودليله إنما هو (الحقيقة)، والفخر إنما يكون دائماً على حساب (الحقيقة)، فهو خيانة لها، وبالتالي خيانة للتاريخ نفسه. ولكن إذا كان من الخيانة للحقيقة أن نسرف في الحديث عن أنفسنا، فمن الخيانة لها أيضاً أن نجهل قدر أنفسنا، فنقلل من شأنها، ولهذا يبدو أن (جب) قد أغفل الحديث عن مركب النقص الذي يتصف به بعض المثقفين والقادة المسلمين. ¬

_ (¬1) انظر كتابنا (شروط النهضة).

وأعود فأكرر القول إن كتاب المستشرق الإنجليزي يعد مرشداً ثميناً لكتابي هذا في دراسة الأمراض (شبه الصبيانية) في العالم الإسلامي، ولكم أتمنى أن يتأمل موضوعاته كثيرون من المسلمين، كما تأملتها، وأن يقدروا فيه نزاهته التي سمت على كل مركب عقيدي أو سياسي. ***

الفصل الأول مجتمع ما بعد الموحدين

الفصل الأول مجتمع ما بعد الموحدين {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 2/ 134، 141} ــــــــــــــــــــــــــ

الظاهرة الدورية

الظَّاهِرَةُ الدَّوْرِيَّةُ {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 3/ 140] ــــــــــــــــــــــــــ لدراسة التاريخ جوانب متعددة، فإذا ما تناولناه بالقياس إلى الفرد كان دراسة نفسية، إذ يكون دراسة للإنسان بوصفه عاملاً نفسياً زمنياً في بناء حضارة، ولكن هذه الحضارة تعد مظهراً من مظاهر الحياة والفكر الجماعي، ومن هذا الجانب يعد التاريخ دراسة اجتماعية، إذ يكون دراسة لشرائط نمو مجتمع معين لا يقوم نموه على حقائق الجنس أو عوامل السياسة، بقدر ما يخضع لخصائصه الأخلاقية والجمالية والصناعية المتوافرة في رقعة تلك الحضارة. على أن هذا المجتمع ليس معزولاً، بل إن تطوره مشروط ببعض الصلات الضرورية مع بقية المجموعة الإنسانية، ومن هذا الجانب يصبح التاريخ ضرباً من الميتافيزيقا، إذ أن مجاله يمتد إلى ما وراء السببية التاريخية، لكي يلم بالظواهر في غايتها. هذا الجانب الميتافيزيقي يضم الأسباب التي لا تدخل ضمن ما أطلق عليه توينبي (مجال الدراسة) لحضارة ما. فالمؤرخون حين يدرسون مثلاً انهيار الامبراطورية الرومانية، يقصرون الأسباب التي حتمت ذلك الانهيار على نطاق معين ينطبق على رقعة تلك الإمبراطورية من ناحية، وعلى السهول الشمالية التي تدفقت منها القبائل الجرمانية من ناحية أخرى، خلال القرنين الرابع والخامس، فهذا بالتحديد هو المجال الذي يرى فيه المؤرخون تأثير الأسباب التاريخية التي حللت إمبراطورية روما. وهناك تكونت الموجة الجرمانية التي أطلق عليها المؤرخون الألمان

Volkerwanderung أي (هجرة الشعوب)، والتي تحطمت مرات على الحدود، إلى أن استطاعت أن تحطم كل شيء في طريقها. إن من الممكن أن نقف عند هذا الجانب، أما إذا أردنا دراسة أسباب مد تلك الشعوب، فسنجد أنفسنا أمام عملية متسلسلة في عناصر تكونها، توجد خارج المجال الروماني والمجال الجرماني. ففي نص ساقه إلينا المؤرخ (بيير ريشيه Pierre Richèe)، وصف القديس (أمبرواز Ambroise) الحالة التي نتحدث عنها كما رآها فقال: ((انقضت قبائل الشعوب الهونية على القبائل الجرمانية القاطنة على حدود روسيا les Alains وانقضّ هؤلاء على القوط، وحين جلا القوط عن بلادهم زحفوا علينا فأجبرونا على الهجرة إلى إقليم الليريا، وليس هذا هو كل شيء ... الخ)). فمن هذا نرى أن الموجة التي أغرقت الإمبراطورية الرومانية، لم تتولد في النطاق الإمبراطوري أو في النطاق الجرماني، بل هنالك بعيداً، في شمال آسيا. فإذا أضفنا إلى ذلك، أن سقوط أسرة (الهان) في الصين فجر القرن الثالث، هو الذي حرك قبائل (الهون) الذين استهوتهم الإمبراطورية الصينية في فترة من فترات أزماتها، وأن قبيلة المغول المسماة Toun-gouses هي التي حولت هجرة الشعوب الهونية نحو الغرب، أدركنا بذلك أن الأسباب الرئيسية التي حتمت نهاية الإمبراطورية الرومانية إنما تكمن وراء (مجال الدراسة) الذي يقدم عادة تفسير أحداث التاريخ في الغرب. وهكذا نرى أن تأثير (رد الفعل) الذي حدث في سفح سور الصين قد استغرق قرنين من الزمان، قبل أن يصل إلى حدود االإمبراطورية الرومانية. فهناك إذن خلف الأسباب القريبة أسباب بعيدة، تخلع على تفسير التاريخ طابعاً ميتافيزيقياً أو كونياً، أياً ذلك كان.

لقد تناولنا في دراسة سابقة هذا الموضوع من جانب الفرد، كيما نستخرج الشروط التي ينبغي عليه أن يسهم بها في نمو حضارة يعد هو فيها العامل الحاسم. ونحن هنا نتناول الناحيتين الأخريين، لكي ندرس التطور الحديث في العالم الإسلامي، آخذين بعين الاعتبار علاقات هذا التطور القائمة أو الممكنة مع الحركة العامة في التاريخ الإنساني. وإنه لمما يشق علينا أن نعرف جذور هذه الحركة في المكان والزمان، وليس يفيدنا في شيء أن نتساءل هنا عما إذا كانت قد بدأت في مصر أو في غيرها، كل ما نقوم به هو أن نلاحظ استمرارها عبر الأجيال، فإذا ما أردنا أن نحدد أبعادها (التاريخية) وجدناها تشير إلى رقعة غير ثابتة، حتى إن ما نلاحظه من الاستمرار في حركة التاريخ العامة، قد يختفي وراء (انفصال) يظهر عندما ننظر إلى تعاقب مجالي الحضارة. والواقع أن لنا هنا جانبين جوهريين: الجانب الميتافيزيقي أو الكوني، وهو جانب ذو هدف عام وذو غاية. والجانب (التاريخي) الاجتماعي، وهو جانب مرتبط بسلسلة من الأسباب. والحضارة من هذا الجانب الأخير تتمثل أمامنا كأنها مجموعة عددية تتتابع في وحدات متشابهة، ولكنها غير متماثلة. وهكذا تتجلى لأفهامنا حقيقة جوهرية في التاريخ هي: (دورة الحضارة)، وكل دورة محددة بشروط نفسية زمنية خاصة بمجتمع معين، فهي (حضارة بهذه الشروط). ثم إنها تهاجر وتنتقل بقيمها إلى بقعة أخرى، وهكذا تستمر في هجرة لا نهاية لها، تستحيل خلالها شيئاً آخر، لتعد كل استحالة تركيباً خاصاً للإنسان والتراب والوقت. ولقد يحدث أن يقوم بعض الكتاب ببتر المفهوم التاريخي، كما فعل (توسيديد) حين أبطل ماضي الإنسانية كله بقوله: ((إن حدثاً مهماً لم يقع في

العالم قبل عصره))، فمثل هذه الأقوال هي التي تخلق (ثقافة الامبراطورية)، تلك الثقافة التي تقوم على أساطير السيادة العنصرية، والاستعمار ... ناشر الحضارة .. !! ومع ذلك فعندما تذهب الفلسفة الماركسية إلى أن (التطور التاريخي والاجتماعي) يبدأ من (الحيوانية البدائية) إلى عهد يسود فيه (الرخاء والضمير والحرية) فإنها تغفل فكرة (الدورة) الجوهرية، مع أن غاية هذه النظرة ونتيجتها تتعارض مع منطقها الجدلي ذاته. كان ابن خلدون وحده، هو أول من استنبط فكرة (الدورة) في نظريته عن (الأجيال الثلاثة) إذ يختفي عمق الفكرة خلف مصطلحات ضيقة ضحلة؛ فقد رد نطاق الحضارة إلى حدود العصبية الأسرية، وعلى الرغم من ضيق هذه النظرة التي قد تعكس لنا عناصر النفس الإسلامية آنذاك، فإنها تدفعنا إلى تأكيد الجانب الانتقالي في الحضارة، أي إننا لا نرى فيها سوى تعاقب ظواهر عضوية، لكل منها بالضرورة في مجالها المعين بداية ونهاية. وتأتي أهمية هذه النظرة من أنها تتيح لنا الوقوف على عوامل التقهقر والانحطاط، أي على قوى الجمود داخل الحضارة، إلى جانب شرائط النمو والتقدم، فهي تتيح لنا أن نجمع كلاً لا تتجزأ مراحله. ومن الملاحظ أن التعارض الداخلي بين أسباب الحياة والموت في أية عملية حيوية (بيولوجية)، هو الذي يؤدي بالكائن إلى قمة نموه ثم إلى نهاية تحلله، أما في المجال الاجتماعي، فإن هذه الحتمية محدودة بل مشروطة، لأن اتجاه التطور وأجله يخضعان لعوامل نفسية زمنية، يمكن للمجتمع المنظم أن يعمل في نطاقها حين يعدل حياته، ويسعى نحو غاياته في صورة متجانسة منسجمة. هذه الملاحظات تدفعنا إلى أن ننتقد مسلك بعض الباحثين حين ينظرون

إلى ظاهرة (الحضارة) منفصلة عن ظاهرة (الانحطاط)؛ وإن العالم الإسلامي لفي مسيس الحاجة في هذه النقطة إلى أفكار واضحة تهدي سعيه نحو النهضة ولهذا فإن مما يهمنا في المقام الأول أن نتأمل الأسباب البعيدة التي حتمت تقهقره وانحطاطه. فلقد عرف هذا العالم أول انفصال في تاريخه في معركة صفين عام 38 للهجرة، إذ كان يحمل بين جنبيه بعد قليل من سنوات ميلاده تعارضاً داخلياً؛ كانت (حمية الجاهلية) تصطرع مع (الروح القرآني)، فجاء معاوية، رضي الله عنه، فحطم ذلك البناء الذي قام لكي يعيش، ربما إلى الأبد، بفضل ما ضُمِّنه من توازن بين عنصر الروح وعنصر الزمن. ومنذ ذلك الانفصال الأول- الذي سنعود إليه فيما بعد- فقد العالم الإسلامي توازنه الأولي، على الرغم من بقاء الفرد المسلم متمكساً في قرارة نفسه بعقيدته التي نبض بها قلبه المؤمن. ومع ذلك فنحن ندين لتلك (الحضارة) المنحرفة التي ازدهرت في دمشق في ظل الأمو ين باكتشاف النظام المئوي، وتطبيق المنهج التجريبي في الطب، واستخدام فكرة الزمن الرياضية (¬1)، وهذه هي المعالم الأولى للفكر الصناعي. وربما اتضح لنا ذات يوم أن (تفاحة نيوتن) التي اكتشف بها عالم الفلك قوة الجاذبية الأرضية، ذات اتصال معين بما قام به (ابنا موسى) من أعمال علمية (¬2). ومع ذلك فإن هذه الحضارة ليست- من الناحية العضويه التاريخية ¬

_ (¬1) كان العرب أول من استخدم نظام (الساعات المتساوية)، وكان الإغريق والرومان قبلهم يقسمون الزمن قسمين غير متساويين؛ اثنتا عشرة ساعة للنهار، واثنتا عشرة مختلفة عنها في الليل. (¬2) موسى بن شاكر تعلم التنجيم والفلك، ثم مات وأبناؤه ثلاثة صغار، هم محمد وأحمد والحسن فجعلوا في بيت الحكمة حتى نبغوا في العلوم الهندسية والحيل والحركات والموسيقا والنجوم، وهم الذين تنسب إليهم (حيل بني موسى)، وقد كانوا مقربين من المأمون. راجع (وفيات الأعيان)، و (والأعلام) للزركلي. (المترحم)

التي تهمنا- سوى صورة مشوهة عن البناء الأصلي الذي شاده القرآن، والذي قام على أساس من التوازن بين العقل والروح، أي على الأساس المزدوج، الروحي المادي، الضروري لكل بناء اجتماعي أهل للخلود. والحق، أن العالم الإسلامي لم يقو على البقاء إبان تلك الأزمة الأولى في تاريخه وبعدها، إلا بفضل ما تبقى فيه من دفعة قرآنية حية قوية، وكان سر تماسكه رجال من أمثال عقبة بن نافع، وعمر بن عبد العزيز، والإمام مالك، رضي الله عنهم أجمعين، لا لأن أولهم كان فاتحاً كبيراً، والثاني خليفة عظيماً، والثالث إمام مدرسة كبرى في التشريع، بل لأن فضائل الإسلام الفطرية العظيمة قد تجسدت فيهم بصورة أو بأخرى. هذا هو (عقبة)، وقد وقف في عاصمة الفاطميين المقبلة، التي زحف منها جيش المسلمين لفتح إفريقيا الشمالية، وقف يودع أبناءه الوداع الأخير، ثم صرخ وهو يمتطي صهوة جواده داعياً: ((اللهم تقبل عملي واجعلني في عبادك الصالحين)). وعمر بن عبد العزيز، هو الذي ارتأى أن من الظلم أن يتولى أمراً، يخص في نظره- نسل علي، كرم الله وجهه، فآثر أن يتنازل عنه. والإمام مالك، هو الذي تعرض للجلد في الأماكن العامة، لأنه دافع سلطاناً باغياً. تلكم هي الفضائل: احتقار مجد حان موعده، ورفض سلطة لا تقوى على حق، وتحدّ يجابه به ظالم باغ، وهي التي حفظت في العالم الإسلامي سر الحياة الذي أودعه فيه القرآن. ومن هنا ندرك سر القيمة التي خص بها (عالم الاجتماع) محمد - صلى الله عليه وسلم -، الفضائل الخلقية باعتبارها قوة جوهرية في تكوين الحضارات. ولكن أوضاع القيم تنقلب في عصور الانحطاط لتبدو الأمور ذات خطر كبير، فإذا ما حدث هذا الانقلاب

انهار البناء الاجتماعي، إذ هو لا يقوى على البقاء بمقومات الفن والعلم والعقل فحسب، لأن الروح، والروح وحده، هو الذي يتيح للإنسانية أن تنهض وتتقدم، فحيثما فقد الروح سقطت الحضارة وانحطت، لأن من يفقد القدرة على الصعود لا يملك إلا أن يهوي بتأثير جاذبية الأرض. وعندما يبلغ مجتمع ما هذه المرحلة، أي عندما تكف الرياح التي منحته الدفعة الأولى عن تحريكه، تكون نهاية (دورة) وهجرة (حضارة) إلى بقعة أخرى، تبدأ فيها دورة جديدة، طبقاً لتركيب عضوي تاريخي جديد. وفي البقعة المهجورة يفقد العلم معناه كله، فأينما توقف إشعاع الروح يخمد إشعاع العقل، إذ يفقد الإنسان تعطشه إلى الفهم، وإرادته للعمل عندما يفقد الهمة و (قوة الإيمان). فالعقل يختفي لأن آثاره تتبدد في وسط لا يستطيع أن يفهمها أو يستخدمها، ومن هذا الوجه يبدو أن أفكار ابن خلدون قد جاءت إما مبكرة أو متأخرة عن أوانها: فلم تستطع أن تنطبع في العبقرية الإسلامية التي فقدت مرونتها الخاصة، ومقدرتها على التقدم والتجدد. حتى إذا وهنت الدفعة القرآنية توقف العالم الإسلامي، كما يتوقف المحرك عندما يستنزف آخر قطرة من الوقود. وما كان لأي معوض زمني أن يقوم خلال التاريخ مقام المنبع الوحيد للطاقة الإنسانية، ألا وهو: (الإيمان). ولذا لم تستطع (النهضة التيمورية) التي ازدهرت في القرن الرابع عشر حول مغاني سمرقند، أو الإمبراطورية العثمانية، كلاهما أن تمنح العالم الإسلامي (حركة) لم يعد هو في ذاته يملك مصدرها. لقد بلغت عوامل التعارض الداخلية قمتها، وانتهت إلى وعدها المحتوم، وهو تمزق عالم واهن، وظهور مجتمع جديد ذي معالم وخصائص واتجاهات جديدة، ف كانت تلك مرحلة الانحطاط، إذ لم يعد الإنسان والتراب والوقت عوامل حضارة، بل أضحت عناصر خامدة ليس لها فيما بينها صلة مبدعة.

ومع ذلك فمن المناسب أن نزيل هنا لبساً قد يقع فيه بعض القراء: هو أن الإيمان لم يفقد مطلقاً سيطرته في العالم الإسلامي، حتى في عهود الانحطاط، بل إن هذه الملاحظة تصبح جوهرية حين يكون الأمر أمر تقويم أخروي للقيم الروحية، أما حين نتناول المشكلة من الوجهة التاريخية والاجتماعية فينبغي ألا نخلط نجاة المرء في عاقبة أمره بتطور المجتمعات. فدور الدين الاجتماعي منحصر في أنه يقوم (بتركيب) يهدف إلى تشكيل قيم، تمر من الحالة الطبيعية إلى وضع نفسي زمني، ينطبق على مرحلة معينة لحضارة، وهذا التشكيل يجعل من (الإنسان) العضوي وحدة اجتماعية، ويجعل من (الوقت) - الذي ليس سوى مدة زمنية مقدرة (بساعات تمر) - وقتاً اجتماعياً مقدراً (بساعات عمل)، ومن (التراب) - الذي يقدم بصورة فردية مطلقة غذاء الإنسان في صورة استهلاك بسيط- مجالاً مجهزاً مكيفاً تكييفاً فنياً، يسد حاجات الحياة الاجتماعية الكثيرة، تبعاً لظروف عملية الإنتاج. فالدين إذن هو (مركِّب) القيم الاجتماعية، وهو يقوم بهذا الدور في حالته الناشئة، حالة انتشاره وحركته، عندما يعبر عن فكرة جماعية. أما حين يصبح الإيمان إيماناً جذبياً دون إشعاع، أعني نزعة فردية، فإن رسالته التاريخية تنتهي على الأرض، إذ يصبح عاجزاً عن دفع الحضارة وتحريكها، إنه يصبح إيمان رهبان، يقطعون صلاتهم بالحياة، ويتخلون عن واجباتهم ومسؤلياتهم، كأولئك الذين لجؤوا إلى صوامع المرابطين منذ عهد ابن خلدون. فالتاريخ يبدأ بالإنسان المتكامل الذي يطابق دائماً بين جهده وبين مثله الأعلى وحاجاته الأساسية، والذي يؤدي في المجتمع رسالته المزدوجة، بوصفه ممثلاً

وشاهداً (¬1). وينتهي التاريخ بالإنسان المتحلل؛ بالجزيء المحروم من قوة الجاذبية، بالفرد الذي يعيش في مجتمع منحل، لم يعد يقدم لوجوده أساساً روحياً، أو أساساً مادياً. فليس أمامه حينئذ إلا أن يفر إلى صوامع المرابطين، أو إلى أي مستقر آخر، وهذا الفرار صورة فردية للتمزق الاجتماعي. ¬

_ (¬1) مأخوذ من قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}. [البقرة: 2/ 143]

إنسان ما بعد الموحدين

إنسان ما بعد الموحدين (يا للهول، لقد اقتربت الساعة التي لن يطلق الإنسان بعدها سهم هواه فوق رؤوس البشر، ويومئذ تكف أوتار قوسه عن الرنين). ((نيتشه)) ــــــــــــــــــــــــــ عندما نقوم بتحليل نشاط الأفراد وأذواقهم في بيئة معينة، نجد عوائد سائدة، تنتقل فيما بينهم كابراً عن كابر، فهناك وراثة اجتماعية، كما أن هناك وراثة جسمية. ومن اليسير علينا أن نلاحظ هذا الأمر في بلاد كانجلترا، حيث (يميل) الناس إلى المحافظة، كما أن هذا (الميل) أكثر ظهوراً في العالم الإسلامي، خلال عصور الانحطاط، حينما أصيبت الأوضاع الاجتماعية كلها بالجمود. على أن هذين الشكلين من أشكال (الميل) ليسا من نوع واحد، إذ أن أحدهما يدل على الكفاءة، والآخر يدل على العطل؛ فالإنجليزي يتمسك بمجموعة من التقاليد، يراها ضرورية للتوازن القومي المطبوع بطابع الحركة، وهو يتمسك بها عن طيب خاطر، على حين أن الفرد في المجتمع الإسلامي عاجز عن التقدم، والتخلي عما تعارف عليه الناس، عاجز عن اجتياز مراحل تاريخية جديدة، عاجز عن ابتكار المعاني والأشياء الجديدة وتمثلها، فالميل إلى المحافظة هنا ليس إرادياً، بل هو حقيقة افتقار ونقص.

إن ألوان نشاط الفرد وأفكاره في كل مجتمع تنسج دائماً على منوال الوراثة، ويكفينا أن ننظر إلى طفل يلعب لكي ندرك أهمية الوراثة الاجتماعية، وقوتها الموجهة، فتقاليد المجتمع تتمثل في لعب الطفل، الذي يعد صورة أولية فطرية من النشاط الإنساني. ويمكننا أن نرى هذه الصفات أينما توجهنا، حيث تأخذ الحياة الاجتماعية خلال القرون الأشكال الجمالية والأخلاقية والفنية نفسها. فإذا ما درسنا أوجه النشاط في بلد معين، وجب علينا لكي نفهمها أن نردها إلى إطار حضارة، تستمد منها الحياة أشكالها، ويشكل فيها الفرد دائماً أفكاره وضروب نشاطه، على المنوال الذي صنعته القرون والأجيال. وليس من قبيل المصادفة أن نرى (الحاوي) يجمع حوله الأطفال في سمرقند وفي مراكش، وهو يلوح لهم بثعابينه، إن معنى هذا أن مشكلة العالم الإسلامي واحدة- لا أقول في أشكالها السياسية أو العنصرية، وإنما في جوهرها الاجتماعي- هذا الرأي يتيح لنا، بل يفرض علينا وضع المشكلة في نطاق التاريخ؛ وعليه فليس من باب اللعب بالألفاظ، بل من الضرورة المنطقية، أن نقرر هنا أن العالم الإسلامي لا يعيش الآن في عام 1949م، بل في عام 1369هـ. وإنا لمضطرون إلى أن نؤكد هذا التاريخ، لأنه يسجل نقطة انطلاق في (تطور تاريخي) ترجع إليه سائر مشكلات العالم الإسلامي، وأشكالها المختلفة التي تسمى هنا (مشكلة جزائرية)، وهناك (مشكلة جاوية)، فالقاسم المشترك في هذه المشكلات جميعاً هو- في الواقع- المشكلة الإسلامية، وتسلسلها التاريخي منذ الهجرة. ولو أننا ترجمنا حركة هذا التسلسل إلى منحنى بياني، فربما رأيناه في بعض مراحله- عصر ابن خلدون مثلاً- يتجه إلى أسفل، وهذه النقطة هي التي تسجل انقلاب القيم الإسلامية الحقة إلى أشياء لا قيمة لها.

لم يكن الانقلاب فجائياً، إذ هو النهاية البعيدة للانفصال الذي حدث في (صفين)، فأحل السلطة العصبية محل الحكومة الديمقراطية الخليفية، فخلق بذلك هوة بين الدولة وبين الضمير الشعبي، وكان ذلك الانفصال يحتوي في داخله جميع أنواع التمزق، والمناقضات السياسية المقبلة في قلب العالم الإسلامي. فإذا ما تناولنا الظواهر من جانبها السياسي، وجدنا أن هذا الانفصال الأول إنما كان إحدى (الأزمات) التي تغير نظام بلد معين خلال التاريخ. لكن يأتي يوم ينعدم فيه الفرد القادر على حفظ السلطان، الفرد القادر على تولي الأمر وتسويته على نظم جديدة، وحينئذ يخر الصولجان من تلقاء ذاته فينحطم، ويستحيل إلى (صويلجانات) يتلقفها صغار الملوك. هذه اللحظة هي نقطة الانكسار في منحنى التطور التاريخي، وهي لحظة انقلاب القيم داخل حضارة معينة. وهنا لا نواجه تغيراً في النظام السياسي، بل إن التغير يصيب الإنسان ذاته، الإنسان المتحضر الذي فقد همته المحضِّرة، فأعجزه فقدها عن التمثل والإبداع. وليس من الصواب أن نبحث عن النظم، بل عن العوامل الإنسانية المتمثلة في عجز الناس عن تطبيق مواهبهم الخاصة على التراب والوقت. إن التركيب الأساسي نفسه قد تحلل فتحللت معه الحياة الاجتماعية، وأخلت مكانها للحياة البدائية. ويؤرخ لتلك الظاهرة في التاريخ الإسلامي بسقوط دولة الموحدين، الذي كان في حقيقته سقوط حضارة لفظت آخر أنفاسها. ثم يبدأ تاريخ الانحطاط بإنسان ما بعد الموحدين، ففي عهد ابن خلدون استحالت القيروان قرية مغمورة، بعد أن كانت في عهد الأغالبة قبة الملك، وقمة

الأبهة، والعاصمة الكبرى التي يقطنها مليون من السكان، ولم يكن حظ بغداد وسمرقند خيراً من ذلك؛ لقد كانت أعراض الانهيار العام تشير إلى نقطة الانكسار في المنحنى البياني. فإذا نظرنا إلى هذا الوضع نظرة اجتماعية، وجدنا أن جميع الأعراض التي ظهرت في السياسة أو في صورة العمران، لم تكن إلا تعبيراً عن حالة مرضية يعانيها الإنسان الجديد- إنسان ما بعد الموحدين- الذي خلف إنسان الحضارة الإسلامية، والذي كان يحمل في كيانه جميع الجراثيم التي سينتج عنها في فترات متفرقة جميع المشاكل التي تعرض لها العالم الإسلامي منذ ذلك الحين. فالنقائص التي تعانيها النهضة الآن، يعود وزرها إلى ذلك الرجل الذي لم يكن طليعة في التاريخ، فنحن ندين له بمواريثنا الاجتماعية، وبطرائقنا التقليدية التي جرينا عليها في نشاطنا الاجتماعي، ليس ذاك فحسب، بل إنه يعيش الآن بين ظهرانينا، وهو لم يكتف بدور المحرك الخفي الذي دفعنا إلى ما ارتكبنا من خيانة لواجبنا، وأخطاء في حق نهضتنا، بل لقد اشترك معنا في فعلنا؛ لم يكتف بأن بلغنا نفسه المريضة التي تخلقت في جو يشيع فيه الإفلاس الخلقي والاجتماعي والفلسفي والسياسي، فبلغنا ذاته أيضاً. هذا الوجه المتخلف الكئيب ما زال حياً في جيلنا الحاضر، نصادفه في المظهر الرقيق البريء الذي يتميز به فلاحنا الوديع القاعد، أو راعينا المترحل، المتقشف المضياف.؟ نصادفه في المظهر الكاذب الذي يتخذه ابن أصحاب (المليارات) نصف المتعلم، الذي انطبع في الظاهر بجميع أشكال الحياة الحديثة، فأكسبه (مليار) أبيه وشهادة (البكالوريا) مظهر الإنسان العصري، بينما تحمل أخلاقه وميوله وأفكاره صورة (إنسان ما بعد الموحدين). وطالما ظل مجتمعنا عاجزاً عن تصفية هذه الوراثة السلبية التي أسقطته منذ ستة قرون، وما دام متقاعساً عن تجديد كيان الإنسان طبقاً للتعاليم الإسلامية

الحقة، ومناهج العلم الحديثة، فإن سعيه إلى توازن جديد لحياته وتركيب جديد لتاريخه سيكون باطلاً عديم الجدوى. إن العلوم الأخلاقية والاجتماعية والنفسية تعد اليوم أكثر ضرورة من العلوم المادية، فهذه تعد خطراً في مجتمع ما زال الناس يجهلون فيه حقيقة أنفسهم، ومعرفة إنسان الحضارة وإعداده أشق كثيراً من صنع محرك أو ترويض قرد على استخدام رباط عنق. وإنسان ما بعد الموحدين في أية صورة كان- باشا أو عالماً مزيفاً أو مثقفاً مزيفاً أو متسولاً- يعد عموماً عنصراً جوهرياً فيما يضم العالم الإسلامي من مشكلات منذ أفول حضارته، وهو عنصر لا ينبغي أن يغيب عن أنظارنا عندما ندرس نشأة المشكلات وحلولها التي تشغل اليوم- فيما يبدو- الضمير الإسلامي. وربما رأينا من الضروري على الأقل، أن تقوم ألوان النشاط الدالة على يقظة الضمير الإسلامي في مختلف قطاعات الحياة الاجتماعية، على أساس دراسة علمية للعوامل السلبية، وأسباب العطل الضارب بطنبه في حياتنا. فإذا كان عسيراً أن نتعرف على (إنسان ما بعد الموحدين)، إلا إذا تشخص في سمات رجل كـ (آغا خان)، فإنه على أية حال تجسيد للقابلية للاستعمار، والوجه النموذجي للعصر الاستعماري، والبهلوان الذي أسند إليه المستعمر القيام بدور (المستعمَر)، وهو أهل لأن يقوم بجميع الأدوار، وحتى ولو اقتضاه الموقف أن يقوم بدور (إمبراطور). ***

الاتصال الأول بين أوربة والعالم الإسلامي

الاتصال الأول بين أوربة والعالم الإسلامي {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات 49/ 13] ــــــــــــــــــــــــــ استمد إنسان أوربا دائماً غذاءه من الأرض، منذ كان يشيد حياته وسط المستنقعات، ولقد هيأت هذه الضرورة الحيوية جميع العناصر الأولية في (الحضارة الزراعية) أو (الحضارة الخضراء)، على ما ذهب إليه أحد علماء الاجتماع الفرنسيين. وكان دور هذه الضرورة أنها حققت منذ عهد مبكر (تركيب) عبقرية الإنسان مع عناصر التراب، فوجد الإنسان نفسه يعيش في بيئة مكيفة، تفرض عليه سلوكاً يتفق وعلاقات الجوار الوثيقة، تلك العلاقات التي خلقت فكرة الملكية، وسنت حدودها بوصفها مجالاً للحياة الإنسانية: للمنزل وللأسرة، وكان هذا (المجال الحيوي) مكيفاً في جوهره طبقاً لضروب نشاط موسمية منتظمة، فكون هذا النشاط لدى الفرد فكرة جد واضحة؛ هي فكرة العمل اليومي، أي إنه لم يزوده بفكرة غامضة عن (الجهد في سبيل لقمة العيش)، تلك التي تسود البيئات اليدوية. وهنا تدخل فكرة الزمن الاجتماعية بدورها في (التركيب) الأولي، فلقد

دفع الناخ الإنسان إلى استخدام النار عنصراً أساسياً في حياته، وإلى تأثيث بيته تبعاً لظروف عمله، وتبعاً للمناخ الذي يحيط به، ولاستخدامه النار. وبذلك صارت المنضدة والكراسي ضرورية لحياة الأسرة، يجتمع أفرادها ساعات معينة لتناول وجبات مشتركة. أما خارج البيت فقد كانت هذه الأسرة متصلة ببقية الأسر المجاورة طبقاً لشروط معينة. فتولدت عن ذلك الروح القروية بين الجموع المحلية، وهي التي أدت فيما بعد إلى وجود الحياة الاجتماعية شيئاً فشيئاً، وبهذا اندمج الفرد في وضع تنطبق عليه شرائط الحياة المستقرة ومطامحها. هذا المنوال هو الذي نسجت عليه الحياة الأوربية في أصولها البعيدة، لذلك لم تفلح السيطرة الرومانية أو الزحوف الجرمانية في تعديله خلال القرون، حتى إننا نرى اليوم المرأة الأوربية تنزل إلى الحقل لتأخذ بيدها قبضة من العشب لأرانبها، بينما طفلها يلهو بلعبه الريفية. فهذه صورة من صميم مجتمع تغلغل فيه معنى المنفعة. ثم تفد إليه تعاليم المسيح وفلسفة ديكارت لتكمل هذه الصورة، فتمده الأولى بالاتجاه نحو العموم، وبذلك تمنحه ما كان يفتقر إليه استقراره من حركة ونشاط، وتنظم الثانية ضروب نشاطه الأساسية تنظيماً علمياً، كيما تدفعه دفعاً مثمراً إلى الازدهار الصناعي الذي سينتج عن تطوره. في هذا المجتمع ذي الفضائل الجذبية الأثرة- التي سنت التعاون وجهلت سنة الضيافة- أودعت المسيحية (خميرة) التوسع الأخلاقي، الذي استخدم فيما بعد ذريعة للحروب الصليبية، وللمشاريع الاستعمارية. حتى إذا جاءت الحروب الصليبية وجدنا الحضارة الأوربية تخرج عن حدودها لتجني حصاداً طيباً من الحضارة الإسلامية، ودفعتها هذه الاتجاهات

أيضاً إلى اكتشاف أمريكا، وهنا نشهد انفصالاً عميقاً بين أوربا التي صارت صاحبة الكلمة العليا وبين بقية الإنسانية، وهو انفصال يفسر لنا سياسة العالم منذ أربعة قرون، كما يفسر لنا الاختلال الراهن في أوضاعه السياسية. ومهما يكن من شيء، فإن هذا المجتمع الذي طبع بعبقرية الأرض في صميمه، والذي انعدم فيه تقريباً تصور العلاقات البشرية، هذا المجتمع هو الذي اكتشف العالم الإسلامي حوالي نهاية القرن الثامن عشر. لم يكن الفرد في ذلك العالم الإسلامي يطلب رزقه من الأرض، إذ كانت فقيرة عن أن تمده به، بل كان يطلبه من الحيوان، فهو راع مترحل أو محارب، ولم يكن ممكناً تحديد البقعة التي يعيش فيها، أو تحديد (مجاله الحيوي)، إلا بتحديد أقرب منطقة من مسكنه، نزل بها المطر لآخر مرة. وكان مسكنه ذاته متنقلا بحكم الضرورة، وبذلك لم تكن قطع الأثاث ضرورية له، إذ لماذا يستقر في أرض لا تمده بحاجته من الزاد؟ .. وما كان لإنسان يعيش حياته متنقلا من نجد إلى سهل، ومن ربوة إلى واد، أن يمارس نشاطاً منتظماً، وعلى الرغم من أنه كان أحياناً يقوم بجهد مضنٍ، تجشمه إياه حرفته بوصفه راعياً أو مغيراً، فقد كان يجهل تماماً العمل المنظم اليومي، الذي يتصل بالأرض وأعبائها طوال الفصول. وهو يكتفي أيضاً بما تمده به الشمس من حرارة تدفئة، ولذلك لم يستخدم النار إلا كشيء ثانوي في حياته، زد على ذلك أن هذه الحياة السائحة التائهة لا تفرض علاقات جوار منظمة، لانعدام الملكية العقارية أي إن غريزة التجمع لديه لم تنم إلا قليلا، فهو لم يسع إلى الاندماج في نظام اجتماعي؛ لأن هذه العلاقات لم تكن لتؤتيه مطعمه ومشربه. والقبيلة التي ينتسب إليها لم تكن نظاماً معيناً ذا وشائج اجتماعية، بل كانت قائمة على أسباب حيوية، أما علاقات الفرد خارج القبيلة، وبعبارة أخرى علاقاته الاجتماعية، فقد كانت منعدمة.

ذلك عالم غاية في الانقسام، متحلل إلى أفراد، عالم ذو فضائل طردية تشع خارج نطاقه، فعلى الرغم من أنه كان يجهل التعاون جهله بفاعلية المادة، فقد كان مضيافاً يتعشق الكرم، ويهيم بالفخر وبالشعر وبالفروسية. هذا التحرك الدائب هو الذي يفسر لنا السرعة الخارقة التي امتاز بها الزحف الإسلامي، على الرغم من أن بعض المؤرخين حاولوا عبثاً أن يعللوه بأسباب خارجية. وعلى هذا المنوال جاء الإسلام لينسج حضارته العظيمة حين وهب للعالم تماسكاً وروحاً جماعياً، خطّا له اتجاهه التاريخي بعد أن كانت تسوده الأهواء الفردية؛ لقد خلق القرآن من البدوي إنساناً متحضراً، يشهد بحضارته ما خلف لنا من علم زراعي ناضج في إسبانيا، وفي جنوب فرنسا. واستقرار الإنسان على الأرض كان له نتيجته السريعة، فنشأ العلم والفن، وترعرعا في مجتمع منظم لم يعد الفرد يخضع فيه لمزاجه المتقلب، بل لنظم وقوانين. حتى إذا كان القرن الثامن عشر، كان هذا العالم قد أتم منذ بعيد دورة حضارته، فإذا الفرد قد انتكس مرة أخرى إلى حياة يسرها له مجتمع متحلل مشلول النشاط، فيما عدا بعض البلدان التي ظلت محتفظة برمق الحضارة، كفاس والقيروان ودمشق، وهي بقايا مهيبة تعد الشاهد الوحيد على ماض ضائع؛ لأن إنسان ما بعد الموحدين قد آثر العودة إلى حياة أسلافه البدو، على أن يركن إلى حياة متحضرة. ولو قدر للمهندس أو الفنان الأوربي أن يشهد اليوم نهاية دورة حضارته، فسيعود حتماً إلى سابق مهنته بستانياً أو مزارعاً، فهكذا عاد العالم الإسلامي إلى حالة اجتماعية قبلية مترحلة، عندما اكتشفه الغرب منذ قرن أو أكثر. وليس يغيب عن بالنا، أن أوربا التي اعتقدت أن العناية قد اختارتها

لتستودعها مصائر الإنسانية، قد أخذت منذ عصر (بوكاشيو) - حين كانت حضارتها ترتضع في مهدها لبان حضارة العرب- تتنكر للحضارة الإسلامية تنكراً خالصاً سهلاً، وهاك ما قاله أحد الأوربيين في هذا الصدد، وهو الدكتور (غوستاف لوبون)، فإنه حين أراد أن يختتم دراسته عن (الحضارة العربية) اختتمها بهذا التأمل الحزين: ((لعل القارئ يتساءل: لماذا ينكر العلماء في هذه الظروف تأثير العرب، وقد كان أولى بهم أن يتنزهوا عن اعتبارات التفرقة الدينية؟ الحق أن استقلال آرائنا وتجردها ظاهري أكثر من أن يكون واقعياً، وأننا لا نكون البتة أحراراً في تفكيرنا- كما ينبغي- حيال بعض الموضوعات، فلقد تجمعت العقد الموروثة، عقد التعصب التي ندين بها ضد الإسلام ورجاله، وتراكمت خلال قرون سحيقة حتى أصبحت ضمن تركيبنا العضوي)) ... هذا النص يوضح بصورة غير مباشرة، ولكنها صريحة، موقف الحضارة الأوربية في وجه العالم الإسلامي منذ بداية التاريخ الاستعماري، وهو موقف يتفق وموقف هذا العالم الإسلامي من (أشياء) أوربا (وأفكارها)، حين ينظر إليها باحتقار شديد، مؤكداً أنه المستقر الوحيد لفضل الله ومواهبه. فمن هذه الحقائق يسهل علينا أن نتخيل ضروب التناقض الداخلي التي جلبها الغرب إلى العالم الإسلامي القديم ... عالم إنسان ما بعد الموحدين. ***

الفصل الثاني النهضة

الفصل الثاني النهضة

حركة الاصلاح

حركة الاصلاح {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:13/ 12] ــــــــــــــــــــــــــ لم يصطحب الأوربي، عندما حل بالعالم الإسلامي في مطلع القرن الأخير من العالم المسيحي سوى بعض استعدادات نفسه، تلك النفس الطيبة التي تكشف النظرة الفاحصة داخلها عن مجمع للفضائل الجذبية، تميزت بها نفس مغلقة كثيفة تجاه المسلمين. والواقع أن النفس المسيحية في خارج إطارها، أعني في صِلاتها الواقعية بالعالم الإسلامي، تنقلب إلى نفس مستعمِرة، غذت طموحها- قبل إبحارها إلى شواطئ البربر أو سواحل الهند أو جزر السند- بأحاديث سمر عن منطقة كنوز خيالية في (الألدرادوس)، والقوم جلوس حول المدفأة، فهي تبحث بدورها لاكتشاف كنوز (بيرو)، إذ لم تشهد الإنسانية تعطشاً عارماً إلى الذهب، كما كان ذلك بعد اكتشاف المستعمرات. ومع ذلك فنحن لا نريد هنا أن نصدر حكماً أخلاقياً، بل إننا ننظر إلى المسألة نظرة اجتماعية، فإن الأوربي قد قام منذ قرنين بدور نافع في تاريخ العالم، ومهما كان في موقفه من انفصال عن بقية الإنسانية المحتقرة في نظره، والتي لا يرى فيها سوى سلم إلى مجده، فإنه قد أنقذ العالم الإسلامي من فوضى القوى الخفية، التي يغرق فيها كل مجتمع يستبدل الخيال الساذج بالروح. والخيال الساذبخ ظِلّ مشوه لتصورات المعتوهين الذين فقدوا ببعدهم عن معنى الواقع عبقرية الأرض.

لقد منح نشاط الأوربي- إنسان ما بعد الموحدين- إلهاماً جديداً لقيمته الاجتماعية، حين نسف وضعه الاجتماعي الذي كان يعيش فيه راضياً بالدون، وحين سلبه وسائله التي كان يتبطل بها هادئ البال حالاً. فإنسان أوربا قام - دونما قصد- بدور (الديناميت) الذي نسف معسكر الصمت والتأمل والأحلام، وبذلك شعر إنسان ما بعد الموحدين، كما شعر بوذي الصين وبرهمي الهند، بهزة انتفض بعدها مستيقظاً، ليجد نفسه في إطار جديد لم تصنعه يداه، وأمام ضرورتين ملحتين: فهو ملزم- على الرغم من تأخره وانحطاطه- بأن يحافظ على الحد الأدنى من كرامته، وهو أمر يتطلبه الإسلام لجميع معتنقيه، حتى في المجتمعات البدائية في إفريقية الوسطى، وهو ملزم أيضاً بأن يضمن لنفسه الحد الأدنى من الحياة، في مجتمع قاس، لا يعول البتة صعلوكاً يعيش على الغارة، أو متزهداً يعيش على صدقات الناس، أو ولداً محظوظاً يعيش على موارد أسرته، فقد زالت من الوجود كل إمكانيات التبطل منذ ذلك الحين. لقد وجد المسلم أن عليه أن يبحث عن أسلوب في المعيشة يتفق وشرائط الحياة الجديدة، في المجالين: الخلقي والاجتماعي. ولسوف نجد أن الحركات التاريخية، ستتولد عما قريب من ذلك البحث الغامض، الذي امتزج بقلق قديم خلفته في الضمير الإسلامي منذ قرون كتب ابن تيمية، وهي الحركات التي ستخلع على العالم الإسلامي صبغته الراهنة. هذه الحركات قد صدرت عن تيارين: تيار الإصلاح الذي ارتبط بالضمير المسلم، وتيار التجديد وهو أقل عمقاً، وأكثر سطحية، وهو يمثل مطامح طائفة اجتماعية جديدة تخرجت في المدرسة الغربية، ومن أمثلتها الحركة الجامعية التي قامت في (عليكرة) بالهند (¬1). ¬

_ (¬1) زعيم هذه الحركة هو السيد (أحمد خان) المصلح الإسلامي المشهور (1817 - 1898) وقد حدد لجامعته أغراضاً ثلاثة: أن تعم المسلمين الثقافة الغربية والشرقية في غير تعصب =

أما التيار الأول: فيبدو أنه قد خط طريقه في الضمير المسلم منذ عصر ابن تيمية، كما يخط تيار الماء مجراه في باطن الأرض، ثم ينبجس هنا وهناك من آن لآخر، وابن تيمية لم يكن (عالماً) كسائر الشيوخ، ولا متصوفاً كالغزالي، ولكن كان مجاهداً يدعو إلى التجديد الروحي والاجتماعي في العالم الإسلامي. هذا التيار هو الذي أدى إلى تكوين إمبراطورية الموحدين القوية في إفريقية الشمالية على يد (ابن تومرت)، وهو الذي أدى إلى إنشاء دولة الوهابيين في الشرق على يد (محمد بن عبد الوهاب)، ثم اكتسحها محمد علي بإيعاز من الباب العالي، وتأييد من الدول الغربية عام 1820، ومع ذلك فقد بقي روح الوهابية حياً، حتى تمكن القائمون بها من الظهور مرة أخرى عام 1925 في صورة المملكة الوهابية الحديثة. بيد أننا نلاحظ هنا أن هذه الحركة قد وجدت منذ سقوط الدولة الوهابية الأولى، أي منذ قرن تقريباً، الضمير الذي يعكسها لدى العالم الإسلامي الحديث، ضمير (جمال الدين الأفغاني)، الذي فرّ في شعف الجبال هرباً من طابع المهانة الذي كان يلصقه مجتمع ما بعد الموحدين بالفرد، ليجعل منه ضحية أو متملقاً. لقد كان جمال الدين- إلى جانب أنه رجل (فطرة) - رجلاً ذا ثقافة فريدة عُدَّت فاتحة عهد (رجل الثقافة والعلم) في العالم الإسلامي الحديث، ولعل هذه الثقافة هي التي دفعت الشبيبة المثقفة على إثره في اسطنبول وفي القاهرة وفي طهران، وهي الشبيبة التي سيكون من بينها قادة حركة الإصلاح. لقد حاول المستشرق (جب) أن يشكك في مواهب هذا الرجل العقلية، ¬

_ = ولا جمود، وأن يعنى فيها بحياة الطلبة الاجتماعية، وأن يعنى نظام الكلية بترقية العقل وترقية البدن، أي بالتربية والتعليم معاً. وقد كان المبدأ الذي سارت عليه هو: الإقبال على العلم والبعد عن السياسة، وإن كانت قد تعرضت من أجل هذا لنقد شديد. ((المترجم))

ولكن الذي لا شك فيه أنه أول من جرؤ منذ قرن على التحدث عن (الوظيفة الاجتماعية للأنبياء)، في عالم ساقط هو (عالم ما بعد الموحدين). ولقد شاءت الأقدار أن تجعل من هذا الرجل في التاريخ الشاهد الصادق، والحكم الصارم على مجتمع انتهى أمره في هدوء إلى الانحلال، بينما أخذ الاستعمار يستقر على أرضه. ويبدو أن الباعث الحقيقي الذي غرس في ضمير هذا الرجل إرادة إصلاح مجتمعه إنما هو ثورة (السيباي) التي أخمدت بالدماء؛ لقد شهد جمال الدين في هذه المأساة مشهد الإفلاس الروحي والمادي في العالم الإسلامي، وهو إفلاس استتبعه فشل تلك الثورة وأكدته في صورة ما حركة (عليكرة) التي ظهرت بالهند عقب تلك الأحداث الدامية، ف كانت بمثابة خيانة للإسلام والمسلمين في نظر جمال الدين، وبذلك أعلن على الفور الحرب ضد النظم البالية، وضد الأفكار الميتة. وكان هدفه الأول: أن يقوض دعائم نظم الحكم الموجودة آنداك، كيما يعيد بناء التنظيم السياسي في العالم الإسلامي على أساس (الأخوة الإسلامية) التي تمزقت في (صفين)، وبددتها النظم الاستعمارية نهائياً، وكان هدفه الثاني: أن يكافح (المذهب الطبيعي) أو (المذهب المادي) الذي يعتقد أنه كامن في تعاليم (أحمد خان) التي كان ينشرها في جامعة (عليكرة)، وأنه راجع إلى التأثير الخفي لأفكار الغرب، ولقد يبدو أن موقفه هذا يحمل طابع (الرجعية) إذا ما استخدمنا المصطلح الحديث، لا سيما أن هذه الحركة الجامعية المتهمة، قد اتضح فيما بعد أنها كانت عاملاً قوياً في نهضة الإسلام بالهند. ولكنا لكي نستطيع إصدار مثل هذا الحكم على رجل كان باعثاً- غير منازع- للحركة الإصلاحية الحديثة، ينبغي أن نثبت أن مجادلته لم تفد في توجيه تعاليم (عليكرة) فيما بعد، حين فرضت عليها تعديل اتجاهها. ويبدو أننا هنا أمام حالة جد شبيهة بما جرى في الجامعة المصرية بعد قرن

من الزمان، عندما نشر أحد أساتذتها إحدى النظريات الخطيرة (¬1)، هل يمكن لأحد أن يثبت في هذه الحالة أن موقف خصوم تلك النظرية- وخاصة السيد رشيد رضا- كان سلبياً سلبية لم يكن معها تأثير معدِّل لاتجاه الثقافة المصرية فيما بعد؟ .. إن إثباتاً كهذا سيكون عرضة للتكذيب، حتى من جانب ما كتبه الدكتور طه حسين فيما بعد. وأية كانت وجهة الأمر فإن دور (جمال الدين) لم يكن دور مفكر يتعمق المشكلات لينضج حلولها، فإن مزاجه الحاد لم يكن ليسمح له بذلك، لقد كان قبل كل شيء مجاهداً، ولم تكن ثقافته النادرة سوى وسيلة جدلية، مهما هبطت أحياناً إلى مستوى الجماهير، فأصبحت وسيلة نشاط ثوري. لقد كان لهذا النشاط أهمية نفسية وأدبية أكثر من أن تكون له أهمية سياسية في العصر الذي كان يعيش فيه، حين كان العالم الإسلامي غارقاً في خمود شامل، وكان من فائدة هذا النشاط أنه فجر المأساة الإسلامية في الضمير المسلم ذاته. ولكن يبدو أن استيقاظ هذا الضمير بما احتوى من مأساة، لم يكن جزءاً من خطة منهجية وضعها جمال الدين، فإن كتاباته القليلة التي تميزت بالجدل ضد الطبيعيين، أو ضد (أرنست رينان)، لا تثبت شيئاً من هذا. بيد أنه إذا لم يكن جمال الدين قائداً أو فيلسوفاً للحركة الإصلاحية الحديثة، فلقد كان رائدها، حين حمل ما حمل من القلق، ونقله معه أينما حل، وهو القلق الذي ندين له بتلك الجهود المتواضعة في سبيل النهضة الراهنة، وكان رائدها أيضاً حين جهد في سبيل إعادة التنظيم السياسي للعالم الإسلامي، وإن كان قد قصد بذلك التنظيم: تنظيم جموع الشعب وإصلاح القوانين، دون أن يقصد إلى إصلاح الإنسان الذي صاغه عصر ما بعد الموحدين. لقد أدرك جمال الدين بصادق فطنته، ما أصاب مجتمعه من عفونة وفساد، ¬

_ (¬1) نظرية الدكتور طه حسين (في الشعر الجاهلي) 1926.

فاعتقد أنه بدلاً من أن ينصرف إلى دراسة العوامل الداخلية التي أدت إلى هذا الوضع، يستطيع أن يقضي عليه، بالقضاء على ما يحيط به من نظم وقوانين. وربما كان هذا الرأي صادقاً، لو أنه أدى إلى الثورة الضرورية، فإن الثورات تخلق قيماً اجتماعية جديدة صالحة لتغيير الإنسان، بيد أن جمال الدين لم يحسن تشخيص الدافع إلى تلك الثورة، وما كان لثورة إسلامية أن تكون ذات أثر خلاق، إلا إذا قامت على أساس ((المؤاخاة)) بين المسلمين، لا على أساس (الأخوة) الإسلامية- وفرق ما بين (المؤاخاة) وبين (الأخوة): فإن الأولى تقوم على فعل ديناميكي، بينما الثانية عنوان على معنى مجرد، أو شعور تحجر في نطاق الأدبيات. و (المؤاخاة) الفعلية: هي الأساس الذي قام عليه المجتمع الإسلامي .. مجتمع المهاجرين والأنصار. فإذا كان جمال الدين باعث الحركة الإصلاحية ورائدها، وما زال بطلها الأسطوري في العصر الحديث (¬1)، فإنه لم يكن في ذاته (مصلحاً) بمعنى الكلمة. وبذلك كان على الشيخ (محمد عبده) أن يواجه مشكلة الإصلاح في شتى نواحيه: كان الشيخ عبده مصرياً أزهرياً، ومصر منذ عهود سحيقة أمة زراعية مرتبطة بالأرض، أي أنها كانت على طول التاريخ مجتمعاً يتكون فيه الفرد وسط جماعة، فهو لذلك مزود بغريزة الحياة الاجتماعية، والأزهر من ناحية أخرى كان يمد الحياة الاجتماعية بعقليات متمسكة بدينها، محافظة على أصولها. وبهذا التكوين واجه الشيخ عبده مشكلة الإصلاح، فبعد أن أدرك حقيقة ¬

_ (¬1) تحدث الكاتب الجزائري (علي الهمامي) - المقيم الآن بمصر- عن السيد جمال الدين الأفغاني في كتاب له عن سيرته فقال: ((لسوف تذكر البلاد الإسلامية جميعاً اسم جمال الدين كما تذكر بلاد اليونان اسم (هوميروس) بين الخالدين من أبنائها)) 1954.

المأساة الإسلامية وجد من الضروري أن ينظر إليها بوصفها مشكلة اجتماعية، على حين أن أستاذه جمال الدين ذا العقل القبلي العفوي قد تناولها من الزاوية السياسية. فالفضل في نشأة الحركة الإصلاحية واتجاهها الذي اصطبغت به، يعود إلى تلك الاستعدادات الأصيلة لدى الشيخ المصري، الذي كان بحق أستاذ تلك المدرسة. ويبدو أن غريزة الأرض، التي هي جوهر النزعة الاجتماعية، إلى جانب الروح الأزهري قد أوحيا- كل على حدة- بحلول للمشكلات التي واجهت الشيخ، وربما كان ذلك بسبب ما أطلق عليه (جب) تسميه (الذرية)، فلقد كان الشيخ عبده يعلم علم اليقين، أنه لكي يتحقق الإصلاح، يجب أن يبدأ خطوته الأولى من (الفرد)، ولقد وجد أساس هذه الفكرة في كتاب الله حيث قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 13/ 12) في هذه الآية- التي أصبحت شعار تلك المدرسة، ولا سيما عند الإصلاحيين بشمال إفريقية- نجد أن نفس الفرد هي العنصر الجوهري في كل مشكلة اجتماعية، فكيف نغير هذه النفس؟ هنا يتدخل عقل الشيخ عبده الأصولي، فلقد ظن- كما ظن فيما بعد الدكتور محمد إقبال- أن من الضروري إصلاح (علم الكلام) بوضع فلسفة جديدة، حتى يمكن تغيير النفس. بيد أن كلمة (علم الكلام) ستصبح قدراً مسلطاً على حركة الإصلاح، القدر الذي حاد بها جزئياً عن الطريق، حين حط من قيمة بعض مبادئها الرئيسية كمبادئ (السلفية)، أي العودة إلى الفكرة الأصلية في الإسلام؟ فكرة (السلف). وعلم الكلام لا يتصل في الواقع بمشكلة النفس، إلا في ميدان العقيدة أو

المبدأ، والمسلم حتى مسلم ما بعد الموحدين، لم يتخل مطلقاً عن عقيدته، فلقد ظل مؤمناً، وبعبارة أدق ظل مؤمناً متديناً، ولكن عقيدته تجردت من فاعليتها، لأنها فقدت إشعاعها الاجتماعي فأصبحت جذبية فردية، وصار الإيمان إيمان فرد متحلل من صلاته بوسطه الاجتماعي. وعليه فليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، وإنما المهم أن نرد إلى هذه العقيدة فاعليتها وقوتها الإيجابية، وتأثيرها الاجتماعي، وفي كلمة واحدة: إن مشكلتنا ليست في أن (نبرهن) للمسلم على وجود الله، بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده، ونملأ به نفسه باعتباره مصدراً للطاقة. وتغيير النفس معناه إقدارها على أن تتجاوز وضعها المألوف، وليس هذا من شأن (علم الكلام) بل هو من شأن منهاج (التصوف)، أو بعبارة أدق، هو من شأن علم لم يوضع له (اسم) بعد، ويمكن أن نسميه (تجديد الصلة بالله). والتصوف الذي قاد إلى دروشة المرابطين وشعوذتهم، لا يمكن أن يقدم لنا الأساس الضروري للإصلاح، عندما نحث جهودنا إلى النهضة، فهو لا يستهدف سوى تطهير بعض الأنفس من الخطايا، على حين يهدف الإصلاح إلى توفير الدافع الداخلي لدى جماهير الشعب، تلك الجماهير المتعطشة إلى (انتفاضة القلب)، كيما تنتصر على ما أصابها من خمود (¬1). وربما لم تكن هذه الاعتبارات، لتخفى عن أعين القائمين على المدرسة الإصلاحية، لو أنها استطاعت أن تقوم بتركيب أفكارها، وتجميع عناصرها، لتوحد ما بين الأفكار الأصول التي ذهب إليها الشيخ محمد عبده، وبين الآراء ¬

_ (¬1) تحدث (شيرسترتون، Chersterton) عن الفوضى الروحية التي تعانيها أوربا الحديثة فأطلق عليها لقب (التصوف الحديث) حين قال: ((لقد أخذت أوربا في العودة إلى التصوف، ولكن من غير طريق المسيحية، فكان أن عاد إليها تصوف يحمل معه سبعة شياطين أقوى منه بأساً)). وهذا الحكم ينطبق مع بعض التعديلات على طريقة المرابطين في مجتمع ما بعد الموحدين.

السياسية والاجتماعية التي نادى بها جمال الدين، الأمر الذي كان يؤدي حتماً إلى طريق أفضل من مجرد إصلاح مبادئ العقيدة، فموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، لم يكونوا علماء كلام، ينطقون أفكاراً مجردة، ولكنهم في الحق كانوا مجمعين لتلك الطاقة الأخلاقية، التي أوصلوها إلى نفوس فطرية. وعلم الكلام يمجد الجدال وتبادل الآراء، وهو في الوقت ذاته يشوه المشكلة الإسلامية ويفسد طبيعتها، حين يغير المبدأ (السلفي) في عقول المصلحين أنفسهم. هذه المناقضة اللاشعورية تضع في مكان (المشكلة النفسية) في النهضة (مشكلة كلامية)، فعلم الكلام لا يواجه مشكلة (الوظيفة الاجتماعية) للدين؛ لأن المؤمن لا يفيد شيئاً من مدرسة تعلمه مسألة وجود الله فحسب، دون أن تلقنه مبادئ الرجوع للسلف. وينبغي أن نضيف إلى الأسباب التي أحصيناها، ما أطلق عليه (جب) عقدة (التسامي)، حتى نفسر تفسيراً كاملاً أسباب انحراف الحركة الإصلاحية. وجدت هذه العقدة في الثقافة الأوربية على عهد (توماس الإكويني)، فاتخذت صورة تنحية كل ما من شأنه أن يدل على وجود تأثير إسلامي، واليوم تحدث الظاهرة نفسها في الثقافة الإسلامية التقليدية، في صورة مقاومة لضغط الأفكار الغربية، فعمل الشيخ عبده في ميدان العقيدة كان في أقصاه (نزعة إلى المديح) اقتضاها هذا (التسامي). إن تلخيصنا هذا النقد، يوشك ألا يطلعنا إلا على نقائص حركة الإصلاح، وربما فقدت بذلك في نظرنا قيمتها الاجتماعية، إن لم تفقد قيمتها التاريخية. ومع ذلك، فإن جزءاً كبيراً مما حققه العالم الإسلامي، وما قدره، راجع إلى مجهود الشيخ عبده ومدرسته، وأما ما بقي بعد ذلك فهو راجع إلى تيار المدنية الحديثة، وسنتناوله بالحديث فيما بعد.

فإذا كان الأزهري المصري الكبير، لم يحدد تماماً المشكلة في الضمير المسلم، فلقد بسطها على الأقل في المجال الأدبي، مجال العقل. ولقد كان للنشاط الإصلاحي في هذا المجال دوي وعمق، يشهد بهما ما شهده العالم الإسلامي كله تقريباً من بعث أدبي. ذلك لأن علم الكلام، كان في الحقيقة أول جهد بذله الفكر الإسلامي للتخلص من نومه المزمن، وحسبنا أن نتصور ما يمكن أن يحدثه نشر كتاب كـ (رسالة التوحيد)، في عالم لم ير شيئاً من ذلك منذ عهد ابن خلدون. فللمرة الأولى منذ قرون تمخض عقل مسلم عن عمل فكري، وللمرة الأولى أيضاً دار نقاش، فمزق الصمت الذي خيم على الجامعات الإسلامية القديمة، حتى وجدنا أن الأزهر، وهو الجامعة الإسلامية الكبرى، بدأ يتناغم في روحه مع ما دار من نقاش أثاره جمال الدين ومحمد عبده؛ أما مناهجه وطرق التدريس فيه فقد بقيت تنتظر دورها، على الرغم من بعض المحاولات السطحية، أي إن الأزهر وهو المركز الأدبي في العالم الإسلامي لم يعترف إلا مؤخراً بقانون الحركة والتقدم. وأدرك أن قبابه العظيمة لا تظل كمالاً دائماً مطلقاً، بل أشياء تتدرج نحو الكمال. وهكذا بدأ الفكر الإسلامي ينشط في الحقل الفسيح الذي مهدته له حركة الإصلاح، لكن هذا الحقل الذي ظل بوراً قروناً طويلة، كان قد أعشب بالنباتات الطفيلية في المجال الفكري، إن لم يكن في المجال الروحي، ولذلك كان من الضروري إزالة الأنقاض قبل البدء في عملية البناء. وهنا تضاف نقائص المؤسسات إلى نقائص إنسان ما بعد الموحدين. إن لكل مؤسسة حياتها وتاريخها وتقاليدها، وفي كلمة واحدة، جمودها الخاص الذي يتحدى أحيانا إرادة الإنسان. فإلى جانب ما اتصف به إنسان ما بعد الموحدين من (ذرية) وتزمت

ونزوع إلى المديح، لم تستطع التخلص منه عقول المصلحين، إلى جانب هذا كله تقف عيوب ذات طابع جماعي، كالجدل والحرفية والتشبث بأذيال الماضي والتحليق في الخيال، وهي ما يطبع ثقافة ما بعد الموحدين. فما السبيل إلى أن يتحرك العالم الإسلامي تحت أوزار القرون، وأثقال التقاليد، والعادات المتخلفة المتراكمة؟ .. لقد كان بحاجة إلى فكر ثوري كفكر (جمال الدين) يدعو إلى الهدم من أجل إعادة البناء، أو إلى فكر منهجي يجري عمليات التشذيب الضرورية لتحرير النظام القائم من أوزار التقاليد، على أساس منهج مرسوم، وكان لابد أولاً من إحصاء تلك العمليات الضرورية بأن يميز المصلحون خبيث (التقاليد) من طيبها. إن لكلمة (تقاليد) في اللغة الغربية سحراً آسراً، فهي تستر خرافات المتصوفة وخزعبلاتها بستار الإسلام الجليل (¬1). فأية مقارنة لتلك التقاليد بالإسلام، تنقي الثقافة الإسلامية من تلك المقدسات الوهمية التي تسمى (تقاليد)، ولقد قام بتلك المهمة على خير وجه الشيخ (عبد الحميد بن باديس)، فاستطاع أن يخلص الجزائر من تلك التقاليد الزائفة التي كانت تتجسد في الطريقة (المرابطية)، ولكن فرداً واحداً يعجز عن القيام بتلك المهمة وحده. ولقد كان الشيخ محمد عبده يواجه وحده هذا العبء في عصره، فقدم بوصفه مفكراً أعظم مثال على العمل الأدبي، لعالم لم يتعود التفكير في مشكلاته، وبعث في جامعته- بوصفه عضواً في مجلس إدارتها- حياة تدفعها إلى التناغم مع الأفكار الجديدة. ¬

_ (¬1) لم يخطر ببالنا ونحن نكتب هذه السطور أن رجلاً كـ (الجلاوي) تواتيه الجرأة ليتحدث عن التقاليد باسم الإسلام (1954م).

فالشيخ فضلاً عن أنه قام بعمليات تشذيب في الثقافة الإسلامية، قد كشف للعالم الإسلامي عن وجه الثقافة الغربية حين أدخلها في إعادة تنظيم جامعته الكبرى، وفي كتاباته التي حملت منها الإشعاع الأول، وسنجد أن هذه المحاولات جميعاً قد أدت إلى ما شهدته النهضة الحديثة من بعث فكري. بيد أنه بينما كان البعث (الميجي) في اليابان يوجهها نحو الصناعات، ظل بعث النهضة الإسلامية دهراً طويلاً حبيساً في مجال آخر، تحكمت فيه الميول الطبيعية لدى إنسان ما بعد الموحدين، وهو إنسان لا يكترث بالفاعلية، كما تحكمت فيه المساوئ الخاصة بالمؤسسات الثقافية، وقد أخطأت منذ بعيد هدفها الاجتماعي. وقد أسهم المصلحون- وأقصد بهم الذين حملوا الراية بعد محمد عبده- بأنفسهم في إبقاء هذه الحال كما هي، إذ ظل الجدل سائداً في المناقشات الأدبية؛ لم يكن المتجادلون يبحثون عن حقائق، وإنما عن براهين، ولم يكن المجادل ليستمع إلى محدثه، بل كان يغرقه في طوفان من الكلام، والجدل من أضر الأمور على كيان الأمة، إذ هو يقوم في عمومه على هيام أحمق بالكلمات. وهنا يؤدي بنا المقام إلى الحديث عن (الحرفية)، فلقد أبدعت العبقرية العربية أجمل لغات الدنيا، ولكن هذه العبقرية كنت في موقفها مما أبدعت، كالمثّال الذي هام بتمثاله، وقد أبدعه منقاشه، والغرام بالكلمات أخطر من الغرام بالمعدن أو الرخام أو الحجر، فهو يؤدي أولاً وقبل كل شيء إلى أن يفقد الإنسان حاسة تقدير الأمور على وجهها الصحيح، وهو أمر ضروري لكل جهد إيجابي من أجل البناء، وأقل عنوان في جريدة عربية يعطينا دليلاً على ما نقول: فمنذ عهد قريب أعلنت إحدى الصحف في تونس، عن عودة أحد الزعماء السياسيين بعد أن كان مبعداً في الخارج، فوضعت اسمه بعد حشد من الألقاب الفخمة بلغ خمسة أو ستة هي: (المجاهد، الكريم، العظيم، الجليل الزعيم ... الخ) ولا شك أن هذه مجرد ألقاب تفخيمية، ولكن للكلمات العربية وقعاً وجاذبية لا تقاوم على

عقل ما بعد الموحدين، فقد نتج عن ذلك أن صارت العربية مؤلهة لا تقبل التطور، وأحال تقديس أهلها لها تصريفها إلى شيء لا يمسه التطويع، مقتصر على خمس عشرة صيغة، حتى ليعد من الكفر خلق صيغ جديدة بإضافة زوائد مناسبة، على الرغم من أن ذلك ممكن جداً في روح اللغة نفسه. أما التعليم الحر في العالم الإسلامي، فإِن مناهجه وطرقه يبدو أنها تتحدى الزمن، فلقد بقيت مبادئه على حالها منذ القرن المسيحي الوسيط، وما دامت هذه المبادئ هي المنوال العقلي للعمل، فإِن أوجه النشاط تظل متناغمة مع عالم ولّى وانقضى. لقد وهم بعض المصلحين، حين أراد أن يغير عالماً مشحوناً بالأفكار بإدخال بعض الإصلاحات السطحية: كما حدث بالجزائر حين أدخل الكرسي والنضد إلى المدارس الحرة، ولم يعلموا أن هذه إن كانت خطوة أولى، فإن من السذاجة الاكتفاء بها. فلا غرابة إذن أن نرى الفكر العربي، لم يعرف بعد معنى الفاعلية، فإن استبداد الألفاظ والصيغ به يخلع على أي تفسير للنهضة طابعاً سطحياً. ومن الأمثلة على ذلك ما حدث في مؤتمر الثقافة الإسلامية بتونس، فقد قام أحد الشيوخ ليلقي على المؤتمرين محاضرة قصرها على أحاديث الرحمة، ومضت ساعة أو أكثر في سرد سلسلة (¬1) الحديث، ولا حاجة بنا إلى القول إن أحداً لم يُعِر حديثه التفاتاً، بل إن المستمعين راحوا يتثاءبون ... من الإعجاب. وهنا نصل إلى الحديث عن نقطة هامة في نفسية ما بعد الموحدين، فإن أخطر شيء يواجهنا في هذه المشكلة، هو اتفاق المحاضر والمستمع على الجمود وانعدام ¬

_ (¬1) سلسلة الحديث أو (السند) هي مجموعة أسماء الرواة الذين اعتمد عليهم راوي الحديث في نسبة النص إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.

الفاعلية، حتى لقد تحولت الحقائق الحية، التي شكلت فيما مضى وجه الحضارة الإسلامية، إلى حقائق خامدة مدفونة في جمل رائقة، (وعلم غزير). ويبدو أن المثل الأعلى قد ظل، كما كان منذ عصر الانحطاط؛ أن يصبح المرء (بحر علم)، يزدرد العلم ويفقد معنى دوره الاجتماعي. وأي، درس في التفسير يتيح لنا ملاحظة تفاهة ثقافتنا الراهنة، التي استعبدتها الألفاظ، فلم تعد تعبر عن اهتمام بالعمل، بل عن مجرد الشهوة إلى الكلام. وهناك سبب آخر لانعدام الفاعلية التي وصمت بها نزعة المديح العمل الفكري؛ فحين اتجهت الثقافة إلى امتداح الماضي أصبحت ثقافة أثرية، لا يتجه العمل الفكري فيها إلى أمام بل ينتكس إلى وراء. وكان هذا الاتجاه الناكص المسرف سبباً في انطباع التعليم كله بطابع دارس لا يتفق ومقتضيات الحاضر والمستقبل، وبذلك أصيبت الأفكار بظاهرة التشبث بالماضي، كأنما قد أصبحت متنفساً له. ولكي نختتم تلك اللوحة التي بسطنا عليها مساوئ ثقافة ما بعد الموحدين، يجب أن نضيف نقيصتين هما: التعلق الواهم (بالكم)، ونلحظه حتى عند الذين احتكوا بالثقافة الغربية، والنزوع إلى (الشعر)، وقد انفردت به شبيبة جامعة الزيتونة، تلك التي ارتضعت لبان الثقافة القديمة. ومن شأن النزعة (الكمية)، أن تعوّد المرء النظر إلى فاعلية الشيء وإلى قيمته من خلال الكمية أو العدد، فتجده يقوِّم كتاباً ما بعدد صفحاته المكتوبة. أما النزعة (الشعرية) فتقصد إلى الناحية الجمالية، وإلى (البديع) الذي تتصف به حرفة الثقافة ونزعة المديح. وتلك وسيلة رشيقة مناسبة تخفي مواضع النقص والاختلال، فتجمل الأخطاء، وتستر العجز بستار من البلاغة المزعومة. وغني عن البيان أن هذه النقائص التي حللناها، لم تكن لتعين جهود

المدرسة الإصلاحية؛ تلك التي لم تعرف أو لم تستطع التغلب على نقائصها بطريقة منهجية. فهكذا ظلت مشكلة بقايا ما بعد الموحدين ساكنة برمتها في الضمير المسلم. ومع ذلك، فإن الحركة في مجموعها تجتاز منعطفاً جديداً بعد قضاء زعمائها الكبار الذين حملوا رايتها أخيراً، كالشيخ رشيد رضا في الشرق، وبن باديس في إفريقية الشمالية. فلقد رأينا في مصر أن فكرة الإصلاح تتغير، وتتحول في أعماقها إلى حركة جديدة، حين سعت إلى وضع أساس أخلاقي لحياة المسلمين، وسنتناول هذه الحركة بالبحث فيها بعد. أما في إفريقية الشمالية فقد أفسحت المكان شيئاً فشيئاً لقيام مؤسسة عظيمة الأهمية، هي مؤسسة التعليم الحر، الذي يعالج النقص الهائل في التعليم العام علاجاً دائباً، وفي هذه السبيل ظلت الفكرة الإصلاحية متماسكة نوعاً ما، إذ كان بعض المدرسين الشباب مندفعين بغيرة على تراث السلف، وحماسة لبعثه ونشره وتسويده، على حين تناول آخرون الأمر على أنه وظيفة لكسب العيش. ولقد كان لهذا التعليم فضل كبير في الهجوم على ذلك العيب المهلك في عالم ما بعد الموحدين، عيب (الأمية)؛ بيد أنه لما لم يكن هذا الإصلاح قائماً على نظرية في الثقافة، فقد أشاع حرفية مهذبة، يخيل إليه معها أنه قادر على تغيير أوضاع الحياة بتعليم الناس تذوق (أشياء) الحضارة الإسلامية، وبلاغة الأدب العربي. ولقد نتج عن هذا أن الحركة الإصلاحية، لم تستطع تغيير النفس الإسلامية، بل لم تستطع أن تترجم إلى لغة الواقع فكرة (الوظيفة الاجتماعية) للدين، ولكنها- على أية حال- نجحت في إزالة الركود الذي ساد مجتمع ما بعد

الموحدين، حين أقحمت في الضمير الإسلامي فكرة مأساته المزمنة، وإن كان ذلك قد اقتصر على المجال العقلي، فإذا ما أريد للنهضة أن تبرز إلى عالم الوجود، فإن علينا أن نواجه مشكلة الثقافة في أصولها. لقد ذكرنا فيما مضى، أن التطور المعروف باسم (الحضارة الإسلامية)، لم يكن في الواقع سوى محاولة للتوفيق بين واقع الأمر المتخلف عن (صفين) وبين ما جاء به الإسلام، ولقد جهدت مدارس الفقه لتحقيق هذا التوفيق، ووقف الأئمة في وجه الحكم الملكي- غير الإسلامي- المتعصب المستبد، حتى إننا نرى أن الحضارة الإسلامية آنذاك لم تنشأ عن مبادئ الإسلام، بل إن هذه المبادئ هي التي توافقت مع سلطة زمنية قاهرة. فكل محاولة لإعادة بناء حضارة الإسلام يجب أن تقوم أولاً، وقبل كل شيء، على أساس سيادة (الفقه الخالص) على (الواقع السائد) الذي نشأ عن صفين، ولا شك أن هذا يقتضي رجوعاً إلى الإسلام الخالص، أعني تنقية النصوص القرآنية من غواشيها الكلامية والفقهية والفلسفية. أما الحركة الحديثة، فإنها ترمي إلى قيادة العالم الإسلامي في طريق غاية في الاختلاف عن هذه الطريق، فقد حطمت التقاليد التي كانت تخفي جهالة ما بعد الموحدين، ولكنها لجأت أحياناً إلى العنف، وهو ما حدث على يد الحركة الكمالية في تركيا. ***

الحركة الحديثة

الحركة الحديثة (أو ليس عجاباً أن أتجه إلى إصلاح الوطن، بينما قد عجزت عن إصلاح فرد في هذا الوطن). ((بلزاك)) ــــــــــــــــــــــــــ رأينا أن أوربا حين اكتشفت العالم الإسلامي لم تؤته روحها، أي إنها لم تؤته حضارتها كلها، وإنما اقتصرت فيما اصطحبت من الأدوات على ما يسهل للمستعمر الحصول على رفاهيته العاجلة. ومع ذلك فلقد جلبت إلى أبناء المستعمرات (مدرسة) تتفق ونظرتها إليهم، وعن هذه المدرسة صدرت الحركة الحديثة في العالم الإسلامي. وتناظر المدرسة في هذا التيار الحديث (المدرسة) الأخرى الناتجة عن تيار الإصلاح، فهذه تنشر بحكم مشربها فكرة إسلامية فتية، بينما تحاول تلك أن تدخل إلى الحياة الإسلامية عناصر ثقافة جديدة. ولئن تمكنت الأولى من قطع الصلة بماضي ما بعد الموحدين، فإن الثانية قد أحدثت اتصالاً معيناً بالفكر الغربي. لقد قال الدكتور (إقبال) حين رأى هذا الواقع الجديد: ((إن أجدر ظاهرة بالملاحظة في التاريخ الحديث هي السرعة الهائلة التي يتحرك بها عالم الإسلام في جانبه الروحي نحو الغرب))، فهل الأمر هو ذلك حقاً .. ؟ لقد كان ينبغي ليكون الحق مع إقبال، أن تكون أوربا قد آتت عالم

الإسلام روحها وحضارتها، أو أن يكون هو قد سعى فعلاً ليكتشفهما في مواطنهما. ومن البين أن عدداً كبيراً من المسلمين، لم يرحل في طلب الغرب (¬1)، فالحركة الحديثة لا تعدو على هذا مستوى يتخبط فيه مجتمع فقد توازنه التقليدي، إذ هي مكونة في جوهرها من عناصر خالية من المعنى مأخوذة عن المدرسة الاستعمارية، ثم يضاف إلى هذه العناصر، بعض العناصر الأخرى التي التقطتها اتفاقاً الشبيبة الجامعية، التي نشأت في طبقة متوسطة، وأقامت في أوربا إقامة قصيرة لم تهدف خلالها إلى معرفة الحضارة الغربية. إن الأوربي لم يفد إلى الشرق بوصفه ممدّناً، بل بوصفه مستعمراً؛ والشاب المسلم المذكور، لم يذهب إلى أوربا إلا لكي يحصل على لقب جامعي، أو لكي يشبع فضوله السطحي التافه. ومما يلقي ضوءاً على هذا الرأي أن أحد طلبة جامعة الزيتونة قدم طلباً إلى الإدارة الثقافية يلتمس فيه السماح له باستكمال دراسته في فرنسا، بعد أن انتهى من دراسته الإسلامية، فاعترضت الإدارة على طلبه، وكان السبب هو: ((أنه لا حاجة مطلقاً إلى السفر إلى فرنسا لدراسة اللغة الفرنسية)). هذه الملاحظة تبين بجلاء، كيف يتصور المجتمع الإسلامي دور الطالب الذي يسافر إلى أوربا، فالهدف الوحيد أن يدرس لغة أو يتعلم حرفة، لا أن يكتشف ثقافة. فكل ما يهمه هو المنفعة العاجلة؛ لكنا لا ينبغي أن نعزو هذا الاتجاه إلى عدم اكتراث المسلم بحضارة الغرب فحسب، بل إن المدرسة الاستعمارية قد أسهمت في خلق هذا الوضع، إذ لم تكن تهتم بنشر عناصر الثقافة الأوربية، بقدر ¬

_ (¬1) كتب الدكتور (بونسارا) الكاتب الهندي مقالاً نشر في تشرين الثاني (نوفبر) 1949م في مجلة (الصدى) Echo تحت عنوان: (ماذا يمكن أن يعلمنا الغرب) فلاحظ أن ((كثيراً من خبراء الغرب يفدون إلى الشرق، بينما لا يزور الغرب من أبناء الشرق سوى حفنة ضئيلة لا تكاد تذكر)).

ما تحرص على توزيع نفاياتها، التي تحيل (المستعمر) عبدا للاقتصاد الأوربي، فهي لا تسعى إلى اكتشاف ذكاء تلاميذها، أو دفع مواهبهم، وإنما تسعى إلى خلق آلات ذات كفاءة محدودة. وعلى الرغم من هذا كله، فإن المسلم الواعي- رجلاً كان أو تلميذاً أو موظفاً- قد ظل (ذاتاً) مفكرة، وإن كان يعامل على أنه (موضوع) يفكر فيه الاستعمار ويستغله، ومن ثم وجدنا المسلم بوصفه (ذاتاً) يحكم على النظام الأوربي الذي يحيط به أو الذي يستشعر وجوده في مطالعاته المبتورة، فأفكاره عن الحضارة الأوربية تصدر عن ذلك الحكم المبتسر، وعن تلك العلاقة السطحية - الوظيفية أو التجارية- بينه وبينها. ولا شك أن الطفل المسلم، الذي يذهب إلى المدارس الاستعمارية، أخ لذلك الذي يذهب إلى مدارس التعليم الحر، وبذلك يمكن القول إن العادات العقلية والمواريث الاجتماعية، التي كانت تسم حركة الإصلاح، لا بد أن تسم الحركة الحديثة، مضافاً إليها بعض العناصر الجديدة المقتبسة من الكتب، أو المأخوذة عن تجارب الحياة الأوربية، كما تتراءى من الخارج. فمنذ قرون مضت، كان الفكر الإسلامي عاجزاً عن إدراك حقيقة الظواهر، فلم يكن يرى منها سوى قشرتها؛ وأصبح عاجزاً عن فهم القرآن، فاكتفى باستظهاره، حتى إذا انهالت منتجات الحضارة الأوربية على بلاده اكتفى بمعرفة فائدتها إجمالاً، دون أن يفكر في نقدها، وإذا كانت الأشياء قابلة للاستعمال، فإن قيم هذه الأشياء قابلة للمناقشة، ومن ثم وجدنا المسلم لا يكترث بمعرفة كيف تم إبداع هذه الأشياء، بل قنع بمعرفة طرق الحصول عليها، وهكذا كانت المرحلة الأولى من مراحل تجديد العالم الإسلامي، مرحلة تقتني أشكالاً دون أن تُلم بروحها؛ فأدى هذا الوضع إلى تطور في الكم، زاد في كمية الحاجات دون أن

يعمل على زيادة وسائل إشباعها، فانتشر الغرام بكل ما هو (مستحدث) في جميع طبقات المجتمع. ولعلنا لو رجعنا إلى سنوات الرخاء التي تلت الحرب العظمى عام 1925م، لرأينا تحت الخيام سيارات فاخرة رابضة يبيض فيها الدجاج ويفرخ، ورأينا صنابير الماء على أحواض من القاشاني في بيوت الطبقة المتوسطة، تزين غرف النوم الحديثة. هذا كله اختلال وفشل، وهو يدل دلالة صريحة على أن المغرمين به إنما أغرموا بذوق الفنادق، أي أنهم أغرموا بالنظر إلى الأوربي في مظهره فحسب، ولقد أسهمت المرأة نفسها في هذه الرفاهة، فبدلاً من أن تعمد إلى تعلم فن حياكة ملابسها، وذوق هذا الفن لتستخدم القماش البسيط في أناقتها، نراها قد اكتفت بشرائها مجهزة مهيأة بيد الأوربية الحاذقة. ولا شك أن هذا النوع من التطور ظاهري، وهو دليل على أن أصحابه قد اكتفوا بأن خلعوا على الشكل القديم لمضمون ما بعد الموحدين شكلاً حديثاً. وكلما زادت الفئة المتخرجة من مدارس الغرب عدداً نمت هذه السطحية في المجتمع الإسلامي. ولقد تخطت هذه الفئة شيئاً فشيئاً مرحلة المدرسة الاستعمارية المحلية، فإذا بطائفة من الشباب المثقف يقضون مدة تمرين في الجامعات الغربية، وبهذا تقترب الحركة الحديثة من كمالها- إن صح التعبير-، فيصبح مضونها الأخلاقي والاجتماعي ذا دلالة ترشد المباحث عن تاريخ هذه الحقبة. فنظرُ الطالب المسلم إلى الحضارة خاضع للقيود النفسية التي صنعت بيئة ما بعد الموحدين، تلك التي تجعل للأمر أحد احتمالين: فهو إما طاهر مقدس، وإما دنس حقير، دون أن تعرف بينهما وسطاً، فهو حين انتقل من دراسة علوم

الدين إلى العلوم الحديثة لم يقف عند (فكرة الثقافة)، وإنما انطلق واضعاً على عينيه غشاوة، تحول بينه وبين تأمل الحضارة إلا من جانبها النظري، أو أشيائها التافهة، تجاوباً مع استعداده الخاص للجد أو للهزل، وبهذا الاستعداد ينتسب - عموماً- إلى كلية ما، في عاصمة من العواصم الأوربية. إن الأحياء اللاتينية واحدة في كل مكان، وهي تعرض دائماً الجانب العلمي الجدلي من الثقافة، كما تعرض الجانب السطحي بمسراته وملاهيه، والطالب لا يمكنه أن يرى فيها تطور الحضارة، وإنما يرى هنالك منها نتيجتها، فهو لا يرى المرأة التي تجمع قبضات العشب لأرانبها، وإنما يرى تلك التي تصبغ أظافرها وشعرها، وتدخن في المقاهي والندوات. وهو لا يرى الصانع والفنان مكبين على عملهما ليحققا فكرة في صفحة المادة، لأنه وقد خضع لتأثير معنى المنفعة لم يعد يلاحظ الطاقات الخفية، الطاقات التي تخلق القيم الأخلاقية والاجتماعية، والتي تجعل الإنسان المتحضر في وضع يمتاز فيه عن الإنسان البدائي، فإن الثقافة تبدأ متى تجاوز الجهد العقلي الذي يبذله الإنسان حدود الحاجة الفردية. ولن يتاح له أيضاً أن يدرك الجانب العام من الحضارة، ذلك الجانب الذي يغذي نشاط الإنسان المتحضر، ويهب عبقريته الدفعة الخالقة، وكم كان حقاً ما قاله بعضهم من أن ((الأفكار الكبيرة إنما تنبع من القلب)). لقد خرج ذلك الطالب من عالم باع آثاره ومخطوطاته للسائحين الأمريكيين، فإذا ما ذهب إلى مجال الحياة الأوربية، فلن يستطيع أن يجد معنى لتعلق الأوربي (بالأشياء القديمة) التي تصل الماضي بالمستقبل، بل لن يلاحظ كيف يتعلم الطفل معنى الحياة، واحترام الحياة، وهو يدلل قطة، أو يغرس زهرة، بل لن يلفت نظره ذلك الفلاح الكادح وهو يقف في نهاية خط محراثه ليحكم على عمله متفاعلاً مع التربة تفاعلاً هو الخميرة التي تصنع منها الحضارات.

بل إنه لن يفيد درساً من بعض الأعمال التي تعد ضرباً من الجنون، كجنون ذلك العبقري (برنارد باليسي) وهو يحرق آخر أمتعته وأرضية حجرته لكي يحصل على طلاء (المينا)، بل إنه لن يرى ذلك الجانب الرهيب في تلك الحضارة التي أدمجت الناس في سلسلة إنتاج، تتولاهم خلالها الآلة فتنهكهم، وتستنزف دماءهم، وتحيلهم (أجهزة من لحم ودم)، بل لن يرى المرأة الأوربية تغادر مسكنها لتكسب بعرقها كسرة الخبز، في جو يهدر كرامتها فيحرمها أنوثتها، كما يحرم الرجل رجولته، ولن يرى أيضاً هذا الجانب المفزع من الحضارة الأوربية، الذي يعد مجتمع ما بعد الموحدين- مهما احتوى من انحطاط- بالقياس إليه ممتازاً في بعض نواحيه، ممتازاً أحياناً على حضارة فقدت معنى الإنسان. وكيف يراه، وعلى عينيه غشاوة من المادية اللاشعورية، والغرام الشديد (بالمنفعة العاجلة)؟ .. فمن الوجهة العامة، نرى أن الطالب المسلم لم يجرب حياة أوربا، بل اكتفى بقراءتها، أي إنه تعلمها دون أن يتذوقها. فإذا أضفنا إلى ذلك أنه ما زال يجهل تاريخ حضارتها، أدركنا أنه لن يستطيع أن يعرف كيف تكونت، وكيف أنها في طريق التحلل والزوال، لما اشتملت عليه من ألوان التناقض، وضروب التعارض مع القوانين الإنسانية، ولأن ثقافتها لم تعد ثقافة حضارة، فقد استحالت بتأثير الاستعمار والعنصرية (ثقافة إمبراطورية). فإذا حدث يوماً أن ساقه فضوله إلى البحث عن شيء من ذلك، فلن يصادف في بحثه غير الواقع؛ أي لن يتصل إلا بأوربا التي تعيش في القرن العشرين عارية عن تقاليدها القديمة، متبرجة براقة أخاذة؛ سيلقى أوربا الحديثة بما حوت من مادية عملية دانت بها الطبقة المتوسطة، ومادية جدلية دانت بها الطبقة العاملة. فالمثقف الذي لم يتعلم فيما تعلمه بالمدرسة الأوربية، معنى (الفاعلية

الواقعية)، التي يتقدم بها المسيحي اليوم على المسلم، هذا المثقف سيقبس من مادية أوربا اتجاهها البورجوازي، أعني أذواقها المادية، أكثر مما سيقبس اتجاهها البروليتاري، أعني منطقها الجدلي. ولما كان لم يتناول في استقرائه لحضارة أوربا، ما يتصل بمنتجاتها من علاقات تكوينية تربطها ببيئتها الطبيعية، فإن استعارته لهذه الأذواق سوف تصرفه عن ملاحظة علاقاتها بالحياة الإسلامية، وهكذا وجدنا هذه الحياة تغص بآلاف الأذواف المستعارة دون أن ندري سبباً لوجودها. هذا الاستعداد في العالم الإسلامي لجمع منتجات مستعارة، يدلنا على ما تتم به الحركة الحديثة من طابع بدائي، إذ ليست الحضارة تكديساً للمنتجات، بل هي بناء وهندسة، فلو أننا قصرنا نظرنا على عناصر الحضارة ومنتجاتها، فلن نرى حتماً بناء المجتمع الغربي؛ لن ندرك ما ترمز إليه تلك الفضائل الدائمة المتجسدة في العامل، والفنان، والعالم، والفلاح البسيط، على حد سواء، بل سننخدع بما تدل عليه أشكالها المؤقتة كالطائرة والمصرف. وليس في بناء العالم الإسلامي شيء يمكن إدراكه بوضوح، فالناس هنا أو هناك يأخذون بناصية ما يبدو لهم أكثر سهولة ويسراً. وليس من المستغرب في هذه الظروف أن تفقد الكلمات معانيها، وأن تفرغ من مضامينها التي تكفل لها قيمتها الاجتماعية، (فالكلام ذو قدسية). ولكن حين ينبئ عن عمل ونشاط، لا عن مجرد رصف للألفاظ، كما يحدث في الخطب الانتخابية؛ فالمجتمع المتحفز إلى النهوض يخلد دائماً إلى ما تقدمه إليه الاتجاهات الحرفية من ثروة لغوية جديدة، ذات أسر وجمال؛ وهنا يبدأ الكلام وكأنما يخون رسالته، إذ أنه بدلاً من أن ينشط جهد المجتمع في سبيل مضاعفته الضرورية لمواجهة أعباء الحاضر، ينحط به إلى درجة لا تكفي إلا لكسب سياسي، أو ضمان مركز سني.

ولكم رأينا أناساً يتصدرون الحياة العامة فيتناولون الأشياء لمجرد التفاصح والتشدق بها، لا لدفعها ناشطة إلى مجال العمل، فكلامهم على هذا ليس إلا ضرباً من الكلام، مجرداً من أية طاقة اجتماعية أو قوة أخلاقية (¬1) على الرغم من أن هذه القوة هي الفيصل الوحيد في المواقف الفعالة الأخلاقية والمادية. فالمرء عندما يبلغ دور الاكتمال يضغط على نفسه، ويخالف ما درج عليه، محاولاً بذلك تعديل وضعه، وحينئذ يصبح كلامه إرادة وعملاً يدلان على وجود علاقة بين الكلمات والوقائع. فإذا ما انعدمت العلاقة بين الكلام والعمل أصبح الكلام هذراً. ولو لم تقر في أذهاننا صلة الكلام- باعتباره صورة للفكر- بالعمل باعتباره صورته المادية، فلن ندرك- من باب أولى- العلاقة العكسية بين العمل والفكر، وبذلك نفقد تلك الحركة الجدلية التي تنتقل- حين تواجه مناقضاتها- إلى فتوح جديدة في عالم الفكر، لكي تواجه مناقضات أخرى، تؤدي إلى فتوح جديدة ... وهكذا ... فالكلام الذي انطلق خلال الحركة الإصلاحية، وخاصة منذ قضاء زعمائها الكبار، لم يكن قائماً على ضرورة اجتماعية. كما أن الكلام الذي أطلقته الحركة الحديثة، لم يكن يهدف إلى إحداث أثر، بل لم يكن يستتبع دفع الكلمات دفعاً إلى مجال العمل. فالخطأ الذي وقع فيه المحدثون ودعاة الإصلاح، ناتج عن أن كليهما لم يتجه إلى مصدر إلهامه الحق، فالإصلاحيون لم يتجهوا حقيقة إلى أصول الفكر الإسلامي، كما أن المحدثين لم يعمدوا إلى أصول الفكر الغربي. ¬

_ (¬1) استخدام (جب) كلمة tension وهي تطابق في مضمونها ما توحي به كلمة (قوة) في قوله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ}. [مريم: 19/ 12].

ومع ذلك، فإن الفصل بين الحركتين ضروري من الناحية النفسية؛ فلقد كان السلفي وحده هو الذي يمثل فكرة النهضة، وهو وإن كان لم يحقق شروطها العملية بصورة منهجية، فإنه على الأقل ألم يضيع هدفها الجوهري؛ لقد كان يعي تماماً أوضاع بيئته، حتى إنه ألح في المطالبة بأن يؤدي كلٌّ واجبه، تاركاً للمحدثين الضرب على نغمة (الحقوق). ولقد توصل من وراء جهده- الذي قد يبدو ساذجاً، وغالباً ما كان كذلك- إلى معرفة بيئته من خلال جهوده الإصلاحية. أما المحدثون فقد انعدمت لديهم فكرة النهضة ذاتها، فأصبحت ثانوية، لأنهم لم يخالطوا حياة بلادهم إلا في الميدان السياسي. وليس من شأننا هنا أن ننفي ما أسهموا به، بل أن نبين طبيعته، ونحدد أهميته، فإن المسألة في نظر المحدثين لم تكن مسألة تجديد العالم الإسلامي وبعثه، وإنما كان انتشاله من فوضاه السياسية الراهنة، وهذه فكرة مستعارة لا ترى في الواقع مشكلة الفرد المسلم، بل ترى مشكلة النظم الأوربية، والشواهد على ذلك كثيرة، وإن كانت أحياناً مؤسية، فقد رأيت ذات يوم في شوارع الجزائر شاباً مكباً على (صندوق قمامة) يلتمس غذاءه، وقد علا رأسه إعلان على الحائط يدعوه إلى المطالبة (بسلطة دستورية). أو ليس هذا دليلاً على أن الموحدين بهذا التناقض المشؤوم لم يقتربوا مطلقاً من رجل الشارع، ولم يتكفلوا مؤونة معرفة ما يتصل بمصيره المحزن، معرفة صحيحة وواقعية وعاجلة؟ فالحركة الحديثة ليس لها في الواقع نظرية محددة، لا في أهدافها ولا في وسائلها، والأمر بعد هذا لا يعدو أن يكون غراماً بالمستحدثات، فسبيلها الوحيد هو أن تجعل من المسلم (زبوناً) مقلداً- دون أصالة- لحضارة غريبة تفتح أبواب متاجرها أكثر من أن تفتح أبواب مدارسها، مخافة أن يتعلم التلاميذ وسائل استخدام مواهبهم في تحقيق مآربهم، ويكفينا لكي ندرك هذا، أن ننظر

إلى تكوين البعثات الدراسية التي ترسلها مصر سنوياً إلى الجامعات الأوربية، وأحدث هذه البعثات، وهي التي أرسلت عام 1947م كانت تتكون تقريباً من ستين طالباً، لم يخصص واحد من بينهم للدراسات الفنية (¬1). من هذا المثال وغيره، نرى أن الحركة الحديثة لم تتجه نحو الآمال ووسائل أدائها، بل اتجهت إلى الأشكال والأذواق والحاجات (¬2). وقد يحاول زعماء الحركة الحديثة أن يلصقوا أسباب عطلهم بالاستعمار، ولكن ذلك ليس إلا ضرباً من التعلل، إذ يقصدون بذلك الهرب من مسؤوليتهم الحقيقية. ولقد شاركهم في تعللهم أيضاً دعاة الحركة الإصلاحية؛ أولئك الذين لم يبحثوا مطلقاً عن الأسباب الداخلية لعجزهم، بل اكتفوا بإسناد التبعة إلى السلطة الأجنبية، فالتياران كلاهما لا يهتمان بعلاج نقائصه، بل لقد جهد في سبيل إخفائها عن الشعب (¬3). ¬

_ (¬1) أصبح اتجاه حكومة الجمهورية العربية المتحدة واضحاً في مواجهة أعباء التصنيع بإرسال البعثات الصناعية إلى مختلف بلدان أوربا الشرقية والغربية. (¬2) هذه الاتجاهات في العالم الإسلامي تنعكس طبيعياً في حياته الاقتصادية وفي علاقاته التجارية، ويكفينا أن نرجع إلى مجلة اقتصادية دولية لنتأكد مما نقول، وهاك مثلاً إشارتين نشرتهما مجلة Boom ( مجلة التجارة) في عددها الصادر في تشرين الثاني (نوفبر) 1949 قالت: دولة إسائيل: عرض: اسمنت- رخام- أميانت- حقائب. طلب: حديد للصناعات والبناء، منتجات كيميائية وعلاجية، فلين. الدول العربية (العراق- الأردن- الكو يت ... الخ). عرض: لا شيء. طلب: مجوهرات- ملابس- مساحيق- عطور- لعب- حلوى- فواكه محفوظة- حرير طبيعي- أقطان- حرير صناعي ... الخ. (¬3) استمر التطور في طريقه منذ كتابة هذه السطور، أعني منذ أربع سنوات تقريباً، وظهر اتجاه جديد في العالم الإسلامي، وخاصة في مصر، حيث أنشئت وزارة (للإرشاد)، عام 1954.

ومع ذلك فيجب ألا ننسى أن روح المبادرة، وهو المقياس الوحيد لفاعلية الفرد، قد أخذ في الظهور في بعض المجالات الفكرية، وخاصة في الجزائر. فمن الأهمية القصوى بمكان، أن نلاحظ أن بعض الأطباء في قسنطينة قد خصصوا كل أسبوع يوماً اجتماعياً لصالح الشعب الفقير، وهذا دليل على اتجاه جديد. هنا نشعر بأن المثقف قد أخذ يتغلغل في بلده من باب آخر، غير باب الانتخابات. وهكذا يتسنى للجهود الأدبية والسياسية أن تحظى بمغزاها الكامل، أعني بوسائلها لا بغاياتها، وهو يعني أن الجهد السياسي الذي بذلته الحركة الحديثة لم يكن عقيماً. يضاف إلى ذلك، أن هذه الحركة قد نجحت في بلورة الوعي الجماعي الذي كان ينقص البلاد الإسلامية منذ صفين، فقامت في هذه البلاد بدور السهم الذي إن لم يرشد الناس إلى الهدف الجوهري، فإنه قد دلهم، ولا شك، على أهداف عملية صالحة لانتزاع الجماهير المسلمة من نزعات الاستهتار والركود. أما في المجال الفكري: فإذا كانت الحركة الحديثة، لم تأت بعناصر ثقافية جديدة لعدم اتصالها الواقعي بالحضارة الحديثة، ولانفصالها الفعلي عن ماضي ما بعد الموحدين، فإنها قد خلقت بما جلبت من الغرب تياراً من الأفكار، صالحاً للمناقشة، وإليه يرجع الفضل في أنه وضع على بساط البحث جميع المقاييس التقليدية.

الفصل الثالث فوضى العالم الإسلامي الحديث

الفصل الثالث فوضى العالم الإسلامي الحديث

العوامل الداخلية

العوامل الداخلية ((هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم ... )) (سفر التكوين) ــــــــــــــــــــــــــ لقد تناولنا الظواهر حتى الآن من وجهة مجردة هي وجهة التحليل، وسنتناولها الآن من الطرف الآخر، أعني أننا سنتناولها في حياتها وفي حركتها ونشاطها. فالحياة لا تحلل الظواهر وإنما تركبها، فإذا ما كانت العناصر متوافقة قابلة للاندماج صاغت منها الحياة (تركيباً)، أما حين تكون متوزعة متضاربة، فإنها تجعل منها (تلفيقاً)، أي مجرد تكديس، هو والفوضى صنوان. والعالم الإسلامي اليوم خليط من بقايا موروثة عن عصر ما بعد الموحدين، وأجلاب ثقافية حديثة جاء بها تيار الإصلاح، وتيار الحركة الحديثة، وهو خليط لم يصدر- كما رأينا- عن توجيه واع، أو تخطيط علمي، وإنما هو مجموعة من رواسب قديمة لم تصف من طابع القدم، ومستحدثات لم تتم تنقيتها. هذا التلفيق لعناصر من عصور مختلفة، ومن ثقافات متباينة، دون أدنى رباط طبيعي أو منطقي يربط بينها- قد أنتج عالماً رأسه في عام 1949 وقدماه في عام 1369، وهو يحمل في حشاه ما حملت العصور الوسيطة؛ عالم متضارب منطوٍ على ألوان من التناقض والتنافر التي تجمعت وتراكمت في هيئة فوضى، جعلت أحد كبار المفكرين وهو إقبال، بعد أن كان محافظاً فيها يتصل بمشكلة المرأة، جعلته يستودع قلقه هذا البيت الحزين المتردد في نهاية حياته:

((شد ما يحزنني اضطهاد المرأة، ولكن مشكلتها معقدة، لا أرى لها حلاً)). فإقبال يرى أن حل مشكلة المرأة، لا يمكن أن يكون في وضعها الراهن المؤسي، كما أنه ليس فيما درجت إليه أختها الأوربية، ومع ذلك فإنه لم يقترح لنا حلاً وسطاً بين هذين القطبين، فلم يكن اضطراب فكره إلا صدى لذلك الاضطراب العام الذي يسود التفكير الإسلامي، بعد قرابة نصف قرن من الإصلاح ومحاولة التكيف مع الأسلوب الغربي. فشكل النهضة الإسلامية الراهن هو خليط من الأذواق، ومن المحاولات، ومن التذبذب، ومن مواقف التدين أيضاً. فهي في الواقع قد اختارت الطريق الذي يقضي لها ما تريد من (أشياء) و (حاجات)، دون أن تبحث عن (الأفكار) و (الوسائل). فمضمون التعليم في مدارس الإصلاح هو المضمون نفسه منذ ستة قرون، على الرغم من أن الأستاذ وتلاميذه أصبحوا يجلسونمايت الكراسمب ويحملون القماطر، وكان مسلك السؤولين عن الثقافة العربية غريباً شديد الغرابة، فقد؟ نوا يستهدفونما غايات، دون أن يطلبوا وسائلها 4 إذ ايعتزموا حتى الآدما العودة إلى نظام العدد العرل! الذي أخذ به الغربما منذ عهد (هربرت). ومع ذلك فليسوا! وحدط! السؤولين عن هذا الوقف التناقض، إذ إن القاسم الشترك بينهم وبين ستة قرون مضت، من الانحطاط، يؤدي بالتيار الحديث وباتجاه الإصلاح معاً إلى ذلك الخليط اللفق من محدثات مستعارة، ورواسب متوارثة. هذه الفوض! الكونة من عناصر! تهفم أو تكثل، تنفجر في صورة تنافر عنيف، يمكننا ملاحظته حين نتأمل مثلاً مظ! هر العباءة والجلباب القديم بجاذب سيارة حديثة، وهذا النشاز يصبح أعجوبة حين نرى رجلاً من الطراز القديم، ذا ممامة كبيرة، يعب من خر معتقة، على منضدة إحدى اطارات.

تلك أمثلة فجة بسيطة لا تعطينا سوى فكرة مبهمة شديدة الإبهام عن الفوضى، ففي كل مجتمع ناشئ متهيئ للنهضة عناصر تقليدية إلى جانب العناصر الحديثة، وهي عموماً مستعارة من مجتمعات سابقة في مضمار الحضارة، فيبذل المجتمع الناشئ في استعارتها جهداً في التحليل والتكييف، يقتضي منه في الواقع جهداً في الإبداع والتركيب. فهضم تلك العناصر وتمثلها يقتضي تمييزاً دقيقاً، وفكراً ناقداً يقظاً، يحدد الشروط التي يجب توافرها في الاستعارات الضرورية؛ أعني شروط توافقها، ونفعها، ولياقتها. لقد وجد المجتمع الإسلامي الأول نفسه مرات كثيرة في مواجهة مشكلات من هذا النوع، فحلها في كل مرة بطريقة واعية موفقة، ولا سيما حين حاول اختيار طريقة الدعوة إلى الصلاة، ومن قبل واجه المجتمع المسيحي هذه (الحاجة)، فاختار صوت الأجراس للنداء للصلاة، فكان من الممكن إذن أن يقبس المجتمع الإسلامي هذه الوسيلة ليحل مشكلته، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته قد اختاروا بعد فكرة وتأمل طريقة أصيلة في النداء هي: الصوت الإنساني، فنشأت حينئذٍ وظيفة المؤذن، وبذلك تحاشوا مشكلة استيراد الأجراس، التي لم تكن تصنع في مكة أو المدينة، بل لم يكن ممكناً صُنعها. فنحن هنا أمام مجتمع جديد يقبس بصورة ما (حاجة) من مجتمع منظم فعلاً، ولكنه يبدع (الوسيلة) التي تشبع حاجته الجديدة. وهناك عادات وتقاليد كثيرة لم يأخذ بها المجتمع الإسلامي الأول، إلا بعد اختبار متعمَّد، واختيار بين وسيلة وأخرى، وبين الطرق والأفكار المختلفة. بذلك يدخل الشيء المستعار بصورة طبيعية إلى الحياة الإسلامية، فيندمج فيها لأنه يحقق غاياتها، ويتفق مع إمكانياتها. ولنأخذ على ذلك مثالاً آخر: فإن المنبر لم يكن سوى تكييف لشكل كرسي

الوعظ المسيحي، لكن هذا التكييف لم ينشأ عن مجرد (حاجة جديدة) أحسَّ بها المجتمع الإسلامي، بل كان ضرورة نفسية، وإمكاناً فنياً متوافراً في ذلك المجتمع. ولقد رأينا (الفارابي) ومدرسته في ميدان العلم والمعرفة ينقلون فلسفة أرسطو المادية إلى الفكر العلمي الإسلامي، ولكن بعد أن طبعوها بطابع إسلامي، كما رأينا من بعدهم (توماس الإكويني) ينزع عن فلسفة أرسطو طابعها الإسلامي كيما يطبقها على المجتمع المسيحي الذي كان يتهيأ بدوره للنشوء والارتقاء. وها هو ذا العالم الإسلامي قد وقف منذ قرن يواجه مشكلة الاقتباس، مدفوعاً بحركة نهضته إلى الأخذ بكل جديد أو مقتبس، على حين تشده إلى الوراء أشكال من التقاليد البالية. وهنا يجدر بنا أن نستخلص عوامل هذا القلق والعجز، كيما نزيدها وضوحاً؛ فبعض هذه العوامل متصل بمسألة الاقتباس من الحضارة الحديثة، فهو يواجهنا بمشكلة من طراز عضوي تاريخي، وبعضها الآخر يتصل بموقف المسلم إزاء مشكلات الحياة الراهنة، فالمشكلة على هذا نفسية منطقية. أما المشكلة الأولى فينبغي أن نذكر بصددها أن الحياة الاجتماعية محكومة بقوانين خاصة بها، شأنها في ذلك شأن الحياة العضوية. ومن حقائق علم الحياة أن عملية نقل الدم تخضع لشروط وقواعد دقيقة تنبغي مراعاتها، مخافة أن يؤدي الأمر إلى زلزلة الجسم المتلقي والفتك به، فليس كل عنصر من عناصر الدم بقابل ليحل محل الآخر، لا بين فصائله من اختلاف عضوي يرجع في الحقيقة إلى اختلاف الأبدان. هذه الحقيقة ذات الطابع الحيوي صادقة فيما يتعلق بالمجال العضوي

التاريخي، فالعناصر الاجتماعية التي تسم الثقافات المختلفة ليست كلها قابلة للتداول. وذلك ما استطعنا أن نلاحظه مثلاً في أمريكا عام 1933، عندما فشل (تحريم الخمر)، فإن الأخذ المؤقت بنظام التحريم قد أحدث اضطرابا ًاجتماعياً لا يقل في خطره مما أحدثه الإدمان ذاته من فساد، على حين قد سن القانون لعلاجه. ومع ذلك فلا يمكن القول إن ضمير الأمة الأمريكية، أو طبيعة تكوينها، كان أحدهما أو كلاهما متعارضاً مع (نظام التحريم)، كما لا يمكن القول إن طبيعة الجاهلي كانت أكثر تهيؤاً في هذا الصدد، وإنما يرجع الفضل في نجاح الحظر في البلاد الإسلامية إلى أمر القرآن الذي سلكه في نفسية الجاهلية، وفي عوائدها. وعليه فإن المجتمع الناشئ لا يمكنه تمثل العناصر الاجتماعية الجديدة التي يقتبسها إلا بشروط معينة، فإما حاجة ملحة، وإما أمر علوي. والواقع أن المجتمع الإسلامي منذ نصف قرن لم يقدر هذه الشروط حق قدرها، فقبس من (أشياء) الغرب دون أدنى مقياس أو نقد، يحمله على ذلك أحياناً نوع من الإكراه، وغالباً كثير من النفج وفراغ العقل. وكل ما يسوده من اختلاط وفوضى في الميادين الفكرية والخلقية أو في ميادين السياسة إنما هو نتيجة ذلك الخليط من الأفكار الميتة؛ تلك البقايا غير المصفاة، ومن الأفكار المستعارة؛ تلك التي يتعاظم خطرها كلما انفصلت عن إطارها التاريخي والعقلي في أوربا. ففي المجتمع الأوربي مثلاً يدين الناس بالحكمة القائلة: ((كل إنسان لنفسه، والله للجميع)) تسمع ذلك في أحاديثهم وتلمسه في بعض سلوكهم ولكن التنظيم

الاجتماعي قد درأ خطر هذه الحكمة بقيم أخرى. أما في المجتمع الإسلامي فإن هذا المبدأ يصبح مبيداً حين نحله محل الحكمة القائلة: ((الفرد للمجموع والمجموع للفرد))، وهي المبدأ الاجتماعي الجوهري في الإسلام. وقد يكون المبدأ المبيد مقتبساً عن بعض المصادر العلمية ومن هنا يستمد مهابة ذات تأثير ضار، فهكذا صارت نظرية (دارون)، القائلة إن ((البقاء للأصلح))، حكمة لأخلاقيينا المحدثين، دون أن يخطر ببالهم أن ما يصدق في علم الحيوان قد يكون خاطئاً في ميدان الاجتماع؛ حيث يعني (الأصلح) هنا غالباً (الأعظم بلاء). بل لقد أدى نقل هذا المبدأ في أوربا من متنه العلمي إلى نشأة الفلسفات العنصرية التي قادها (جوبينو) و (روزنبرج) (¬1). فلقد كان هذا المبدأ سبباً في التنافس والتسابق اللذين ساعدا على النمو المادي في العالم الغربي، بيد أن هذا الاندفاع في النشاط لم يكن سوى فورة عابرة، فسرعان ما أصبح (الأصلح) هو الرجل الشرير الذي لا يتورع عن استخدام أية وسيلة لضمان انتصاره على بعض (المغفلين)، الذين يقيمون وزناً للاعتبارات الخلقية، وبذلك نشأت عصابات خطيرة للصوصية في المجتمع الغربي، وكان العامل الأول في نشأتها اتخاذهم من المبدأ الحيواني مبدأ خلقياً. تلكم هي الأفكار الخطيرة حتى على الحضارة التي خلقتها، والتي تتردد كثيراً في جوانب النهضة الإسلامية، وهكذا تتراكم في مجتمع انطمر ببقايا انحطاطه، بقايا تحلل جديد. ويخيل إلينا أن أحداً لم يفكر حتى الآن في نقد ما قبسه مجتمعنا في نصف ¬

_ (¬1) (جوبينو) فيلسوف فرنسي، من فلاسفة القرن التاسع عشر، و (روزنبرج) هو فيلسوف الحركة النازية في ألمانيا على عهد هتلر.

قرن. ومع ذلك فإن تصفية الأفكار الميتة، وتنقية الأفكار الميتة يعدان الأساس الأول لأية نهضة حقة. وهكذا نرى مشكلات رئيسية تواجه المجتمع الإسلامي، ولم يقف هو في مواجهتها، فإن المصادفة تحل فيه محل الأفكار والمحاولات. والجانب الثاني من المسألة التي نتناولها هنا هو العجز عن التفكير وعن العمل، وهو في المجال النفسي يدل على انعدام الرباط المنطقي (الجدلي) بين الفكر ونتيجته المادية، فالفكرة والعمل الذي تقتضيه لا يكشلان كلاً لا يتجزأ، والواقع أننا عندما نحلل اطراد أي نشاط له علاقة ما بالحياة العامة للنهضة نجده مبتوراً من جانب أو آخر: فإما فكرة لا تحقق، وإما عامل لا يتصل بجهد فكري، وليس في قائمة النشاط الاجتماعي ما يصح أن يعد ضئيل القيمة، فلكل حركة في ذلك الاطراد أثرها في تقدم المجتمع. وكما يتجلى هذا النقص في الإطار العام، أعني في النشاط الاجتماعي، يتجلى أيضاً في الإطار الخاص، أعني في النشاط الفردي، فالفكرة الإصلاحية مثلاً تستهدف إصلاح الفرد، ولكنا لا نشم مطلقاً رائحة مصلح تتطلب معه الأمور أن يوجد ناطق بفكرة الإصلاح، أي حيث يوجد موضوع الإصلاح نفسه: في المقاهي، وفي الأسواق، وفي كل مكان تنكشف فيه العيوب الاجتماعية التي يدعو إلى إصلاحها. وكل ما يقوم به المصلحون، هو أن يكتفوا بتلقين بعض الأطفال دروساً طبقاً لمناهج لا تدعو لشيء من الإصلاح، أو بتوجيه بعض العظات من المنابر، إلى جمهور لم يدرسوه في بيئته وجَوِّهِ الذي ألفه، بل هو الذي سعى ليحيط بالمنبر: فإذا بالطفل وقد أصبح متعلماً بقدر، وإذا بالفتى وهو يجيد الاستماع والمجاملة.

فمنهاج المدرسة الإصلاحية، لم يختلف في جوهره عن منهاج المدرسة التقليدية (القديمة)، وليست كلمة (إصلاح) سوى طابع ألصق على أوجه نشاط منقطعة الصلة بالفكرة النظرية، وإن كانت في الحق نافعة. على أن هذا الانفصال بين الفكر والعمل، ليس هو السبب الوحيد في جمود التفكير الإسلامي، فهو يعود أيضاً إلى الاختلاط بين جوهر الظواهر وأشكالها؛ حدث هذا الاختلاط في بداية الحركة الفكرية في المجتمع الإسلامي الحديث: فلم يكن العلم الذي قبسته من جامعات الغرب وسيلة (للإسعاد)، بل كان طريقاً إلى (المظهرية)؛ لم يكن ذلك العلم (استبطاناً) لحاجة مجتمع يريد معرفة نفسه ليحدث تغييرها، بل لم يكن (استظهاراً) لبيئة نبحث عنها لنغيرها، فهو قانع منطوٍ على ذاته، حبيس في صوره وأشكاله المألوفة، وأقرب دليل على انعدام فاعلية هذا العلم الإسلامي، هو أننا لم نرَ فينا حتى الآن وجهاً من تلك الوجوه الخالدة، يبرز في تاريخ المعرفة الإنسانية في القرن الحالي. ومع ذلك فإن هذا العجز الذي طبع الحركة الفكرية قد نشأ عن سبب عضوي، أخطأ (جب) في تعريفه حين أسرف في تعميم ملاحظاته الدقيقة، فعدّ العجز صبغة (فطرية) اصطبغ بها وحده عقل متجه نحو تحصيل (العلوم). فلو أننا ذهبنا إلى أن كل علم يتجه إلى الكشف عن (المجهول) يقتضي نوعاً من (التوتر الفكري)، فلن يكون هذا العجز سوى عارض خاص بعقل ما بعد الموحدين، ولم تستطع الحركة الحديثة أو حركة الإصلاح تعديل الاستعداد العقلي في هذه الناحية تعديلاً جوهرياً. فالذكاء يتبع دائماً حال النفس، فإذا ما فقدت النفس صفاءها فقد الذكاء عمقه، ولقد رأينا أن حركة الإصلاح لم تؤت النفس المسلمة (هزة القلب)، كيما ترتفع بها فوق ركود ما بعد الموحدين، والحق أنها قد طبعت فيها حركة،

ورسمت لها مطامح، وخلقت اتجاهاً معيناً يهدف إلى التقدم، لكنها ظلت عقيماً لأنها لم تكن منظمة في نطاق فقه محدد لمعنى الفاعلية. فكانت النهضة، ولكن دون توجيه منهجي، فتحررت قوى كانت من قبل خامدة، بيد أنها لم تتخذ مجالاً أو تتسلم دوراً، لقد ثار العالم الإسلامي الحديث، لكن ثورته كانت في ظرف مغلق؛ في قنينة دعِيّ في الكيمياء، لا يدري قانوناً لتفاعل المادة في عمليته. تلكم هي مأساة (الحركة) التي شاءت أن تتحرر من (السكون)، مأساة الفكر في نضاله ضد البلادة والقلق؛ مأساة الرجل الذي استيقظ ولم يعرف بعد واجبه. هذا العجز العضوي تذكيه دائماً ضروب من الشلل، أصابت النواحي الخلقية والاجتماعية والعقلية جميعاً. وأخطر هذه النواحي هو الشلل الأخلاقي، إذ هو يستلزم أحياناً النوعين الآخرين. ومصدر هذا البلاء معروف، فمن المسلم به الذي لا يتنازع فيه اثنان أن (الإسلام دين كامل). بيد أن هذه القضية قد أدت في ضمير ما بعد الموحدين إلى قضية أخرى هي: (ونحن مسلمون)؛ فنتج: (إذن نحن كاملون)!! ولنعد إلى الماضي، لقد كان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يحاسب نفسه دائماً، وكان يبكي من ذنوبه رجاء أن يغفرها الله له؛ ولكن العالم الإسلامي قد فقد هذا الروح منذ زمن بعيد، فلم يعد أحد يؤنب نفسه أو يتأثر من خطيئته، أو يبكي على ذنبه. وهؤلاء هم القادة والموجهون وقد خيم عليهم شعور بالطمائينة الأخلاقية، فلم نعد نرى زعيما يعترف على الملأ بأخطائه. وهكذا غرق المثل الأعلى الإسلامي؛ المثل الأعلى للحياة وللحركة، في فيضان من التعالي والغرور، بل في ذلك القنوع الذي يتصف به الرجل المتدين، حين يعتقد أنه بتأديته الصلوات الخمس قد بلغ ذروة الكمال، دون أن

يحاول تعديل سلوكه وإصلاح نفسه، فهو كامل كمال العقم، أو كمال الموت أو العدم، وبذلك تختل حركة التقدم النفسي في الفرد والمجتمع، فإذا بالذين اطمائوا لفقرهم الروحي، ولنقصهم النفسي، يصبحون قدوة في الخلق، في مجتمع تقود الحقيقة فيه إلى العدم. والفرق كبير بين الحقيقة من حيث كونها مفهوماً نظرياً يتسم به الإدراك المجرد، وبين كونها حقيقة فاعلة مؤثرة تلهم الإنسان أضرب نشاطه المادي. وقد تصبح الحقيقة من حيث كونها عاملاً اجتماعياً ذات تأثير ضار، عندما لا تتمشى مع دوافع التطور والتغيير، فتصبح ذريعة إلى الكساد الفردي والاجتماعي، وحينئذً لا تكون ملهمة للنشاط، بل عاملاً من عوامل الشلل. وقد تكون هذه الحقيقة أساساً لعالم عاجز أشل، من نوع ما ندد به (رينان) و (لامانس) في قولتهما الشنيعة عن الإسلام: إنه (دين الركود والتخلف)؛ هذا الشلل الأخلاقي، وهو بلا مراء أخطر ما تخلف عن عصر ما بعد الموحدين، يعجز المجتمع الإسلامي فيجعله غير قادر على زيادة جهده الضروري لنهوضه، وما الشلل الفكري إلا نتيجة من نتائجه: فالكف عن التكامل الخلقي ينتج حتماً كفاً عن تعديل شرائط الحياة، وعن التفكير في هذا التعديل. وهكذا يتجمد الفكر ويتحجر في عالم لم يعد يفكر في شيء، لأن تفكيره لم يعد يحتوي صورة الهم الاجتماعي. إن (التقليد) الخلقي يقتضي التخلي عن (الجهد الفكري) حتماً، أي عن (الاجتهاد) الذي كان الوجهة الأساسية للفكر الإسلامي في عصره الذهبي (¬1). ¬

_ (¬1) كان من تعاليم النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من اجتهد فأخطأ فله أجر، ومن اجتهد فأصاب فله أجران». (البخاري 6/ 2676).

ولقد كان التجديد الذي استتبعته حركة الشيخ محمد عبده في العالم الإسلامي تجديداً أدبياً في جوهره، ولهذا لم يتحرر الفكر الإسلامي من ربقة القواعد التقليدية الخانقة، فهو من الوجهة الإصلاحية ظل منعقداً على تلك الموضوعات القديمة: كعلم التوحيد وفلسفة الكلام والفقه الإسلامي وفقه اللغة، وهو في كل هذا لم يتعد المعالم التي خطها أساتذة الإصلاح. أما من الوجهة الحديثة فإنه قد انطلق أكثر من ذلك على يد الدكتور (طه حسين)، ومؤلفات هذا الكاتب لا تعد (نظرية) تتفرع عنها اتجاهات جديدة، ولكنها قد خلقت بطرافتها وصورتها الأدبية ضجة من الأفكار جديرة بالدرس والمناقشة، ومن هنا جدت حركة في التفكير، ولكن هذه الحركة قد ظلت مجزأة لا تربطها مفاصل. فليس لدى العالم الإسلامي حتى الآن مجامع فكرية تشرف على توجيه الحياة الأدبية، وعلى توثيق الصلات وتغذية المناظرات بين المدارس المختلفة، كما كان ذلك قديماً بين مدرسة الغزالي ومدرسة ابن رشد. ومن هنا حق لنا أن نقول: إن عمل الدكتور طه حسين لم يزد على أن مس الأوساط الأدبية في شمال إفريقية مساً رفيقاً، وإن عمل الدكتور (إقبال) لم يكن له أيضاً أدنى صدى. ومن الحق أن تمزق الحياة الفكرية يرجع أيضاً إلى عوامل خارجية هي ما أطلق عليه (جب) عقدة (التسامي)، ولكن السبب الداخلي يظل هنا على أية حال- كما هو في كثير من النواحي- ذا سطوة وتفوق، بل إن الفكر في البلاد الإسلامية التي تحررت من الوصاية الاستعمارية، لم تكتمل بعد شخصيته، ولم يظفر بعد، بحقه في السيطرة على وجوه الحياة، وبقيمته الاجتماعية، باعتباره وسيلة للعمل وأساساً جوهرياً للنشاط.

بل إن (العلم) في الأم الأغلب لم يكن آلة للنهضة، بقدر ما كان زينة وأسلوباً وترفاً. ولقد رأينا في بلادنا (الجزائر) كيف أن الفكر لم يكن حركة وعملاً إيجابياً، بل كان زخرفاً يؤخذ من باب التجمل؛ كان حلية لا تدخل في سلك قانون، ولا تخضع لمنطق نظري وعملي، وإنما تخضع لذوق ما بعد الموحدين (¬1). وإذا ما ظل هذا الفكر متبطلاً منعدم التأثير بقي النشاط حركة فوضى، وتزاحماً يبعث على الضحك والرثاء، وليس هذا سوى شكل من أشكال الشلل الاجتماعي. فلكل نشاط عملي علاقة بالفكر، فمتى انعدمت هذه العلاقة عمي النشاط واضطرب، وأصبح جهداً بلا دافع، وكذلك الأمر حين يصاب الفكر أو ينعدم، فإن النشاط يصبح مختلاً مستحيلاً، وعندئذ يكون تقديرنا للأشياء تقديراً ذاتياً، هو في عرف الحقيقة خيانة لطبيعتها، وغمط لأهميتها، سواء كان غلواً في تقويمها أم حطّاً من قيمتها. وهذان الشكلان من أشكال الخيانة يتمثلان في العالم الإسلامي الحديث في صورة نوعين من (الذهان Psychose) : فإما أن يتمثل في صورة النظر إلى الأشياء على أنها (سهلة)، وهو قائد ولا شك إلى نشاط أعمى، (كما كانت الحال في قضية فلسطين)؛ وإما أن يأخذ صورة النظر إليها على أنها (مستحيلة)، فيصاب النشاط بالشلل وهو ما يحدث غالبا في شمال إفريقية. ولقد قام هذا الذهان الأخير في الجزائر على قواعد ثلاث، من الواجب أن نذكرها، هي: ¬

_ (¬1) كتبت إلي إحدى الصحف فيما مضى (تشكرني) على مقال نشرته لي، تقول: إنها (حلَّت) به صفحتها الأولى.

- لسنا بقادرين على فعل شيء لأننا جاهلون. - لسنا بقادرين على أداء هذا العمل لأننا فقراء. - لسنا بقادرين على تصور هذا الأمر لأن الاستعمار في بلادنا. هذه (الأدوار) الغنائية الثلاثة، هي العملة الشائعة التي يفسر بها حسنو النوايا عجزهم، كما يستخدمها الدجالون ليدافعوا عن مشروعاتهم المربحة، مشروعات الشعوذة والمخاتلة، والاستعمار باسم قرير العين. مع أن أقل جهد في التأمل يكفي لتمزيق تلك الأستار الكافة، إذ لا تدع وراءها مجالاً للخرافات، ويكفينا أن نواجه (الاستحالات) المزعومة بالوقائع المادية، أي بالعناصر الحقة في المشكلة: أ - نحن جاهلون- هذا واقع- وهو أثر من آثار الاستعمار. ولكن ماذا تفعل الدوائر المثقفة في بلادنا .. ؟ .. ما تفعل بثقافتها وهي السلاح الأساسي العاجل ضد الأمية العامة .. ؟ .. لقد شهدنا بأعيننا المثقفين الإسرائيليين إبان الاحتلال الألماني يهتمون بأبناء جلدتهم، شأن كل فئة متعلمة تستخدم معرفتها فيما ينفع شعبها، حدث هذا على الرغم من عنت المراقبة التي كانت مضروبة عليهم. أما في الجزائر فقليل هم المسلمون الذين يفكرون- على اختلاف مهنهم- في تربية أمتهم، وكثيراً ما طالبت الفئة المثقفة هناك خلال الانتخابات بزيادة عدد المدارس، ولكن ما جدوى هذه الزيادة إذا لم يكن من نتيجتها (إصلاح) التعليم؟ إن مضاعفة العدم لا تؤتي غير العدم، فإذا ما كان الرجل المتعلم نفسه عديم التأثير، وإذا لم يكن لتعليمه أثر اجتماعي، فإن أسطورة (الجهل) تصبح أسطورة خطرة، إذ هي تحجب خلف مشكلة الإنسان الأمي مشكلة أعمق لإنسان ما بعد الموحدين- جاهلاً كان أو متعلماً.

ب - وأسطورة (الفقر) ليست بأقل خطراً، وحسبنا أن ننظر إلى ما يملك الفرد المسلم الثري من مال لنرى مدى فاعليته الاجتماعية، لقد زاد أغنياء المسلمين على فقرائهم في العطل على الرغم مما يملكون من ثروات، وكثير من أولئك الأغنياء لا يهتمون برعاية طفل مسلم لتربيته تربية عملية أو فنية، بل لا يهتمون برعاية عمل ذي فائدة عامة، فيقبلون عليه طائعين متنازلين عن قليل من رفاهيتهم. ومع ذلك فليس هذا النقص بمقتصر على الفرد، فهو موجود في محيط المنظمات الثقافية، التي لم تتعود أن تتنازل عن بعض النفقات الزائدة في سبيل تشجيع الثقافة، والمساعدة على نشرها (¬1). إنه التسابق إلى السرف المخلّ الذي لا يبدو الفقير فيه أقل استعداداً من الغني، وإلا فلننظر أين يستخدم (الفقراء) نقودهم؟ لقد لاحظت ذلك أخيراً في قرية صغيرة من قرى قسنطينة، حيث توجد مدرسة هي المؤسسة الوحيدة ذات النفع العام، هذه المدرسة توازن بصعوبة ميزانيتها السنوية المتواضعة في حدود ست مئة ألف فرنك (¬2) (ست مئة جنيه تقريباً). ولكني قمت بتقدير إجمالي من واقع الإحصاءات، خرجت منه بنتيجة هي أن هؤلاء الفقراء- الذين يعانون الفقر فعلاً- قد أنفقوا في ليلة واحدة أكثر من مائتي ألف فرنك: ما بين دارين للخيالة، وملعب (للسيرك)، وكوخ قمار، وبعض المقاهي. فلو أننا اعتمدنا على جملة أرقام من هذا النوع، لأمكننا أن نقوّم سعر فاعلية رأس المال المسلم؛ أعني النسبة بين ميزانية المشروعات النافعة- كالمدرسة- وميزانية ¬

_ (¬1) لو أردنا أن نسوق إلى القارئ أدلة على ذلك، لذكرنا موقف جمعية العلماء المسلمين بالجزائر إزاء بعض الجهود الفكرية التي كان الاستعمار يعمل على تحطيمها في البلاد. (¬2) هي ميزانية عام 1949.

التوافه التي أحصينا أنواعها، وسنجد أن نسبة السفه في الحالة المذكورة هي 95%، وهذا هو دليل التطور المقتصر على نمو الحاجات السائد في جميع ميادين الحياة الإسلامية الحديثة، على أن نسبة هذا الدليل ترتفع في الحفلات الرسمية ومهرجانات الزواج والختان وفي المآتم، وهي مناسبات تحدث نزيفاً مالياً رهيباً في حياة العائلات. هذه الملاحظات صادقة مهما أردنا تطبيقها في أي مجال من مجالي الحياة خاص أو عام، ومن أبلغ الأمثلة على ذلك ميزانية وفد الجامعة العربية إلى الأمم المتحدة عام 1948؛ لقد كان هذا الوفد يتصرف فيما يقرب من نصف مليون دولار خلال إقامته بباريس، لم ينفق منها شيئاً في نشر أية وثيقة لعرض مسألة فلسطين على الرأي العام العالمي، بينما أغرق اليهود إغراقاً بدعايتهم. هذا التفاوت الهائل بين الوسائل التي بأيدينا والنتائج التي نحصلها منها، هو صورة نموذجية لجميع ألوان النشاط الإسلامي العام. نحن فقراء، ما في ذلك شك، ولكنا لا نحمل في جنوبنا هماً لعلاج هذا الوضع باستخدام الوسائل المتاحة لنا استخداماً مجدياً. وكم ثمرة من ثمرات الفكر ذات الأهمية الخطيرة ننتظر- دون أمل- نشرها لعجز أصحابها المالي، بينما الأموال العامة تهرب إلى حيث لا ندري (¬1). ليست حالة الوفد العربي في باريس استثناء يرجع الخطأ فيه إلى باشوات مصر (قبل الثورة)، لأنه حيثما وجد المال- في المجال الخاص أو العام- لاحظنا سوء استعماله. بل لو أنهم زادوا ميزانية هذا الوفد لكان من المتوقع الكثير ألا يستغلها في زيادة وسائله وصلاحياته، وإنما يزيد في حاجياته ونفقاته، فليست المشكلة ¬

_ (¬1) من الأمثلة على ذلك مؤلفات المغفور له الأستاذ علي الهمامي. فكم من أناس ذهبوا يترحمون على قبره. ولكن منظمة من تلك المنظمات التي تكرمه لم تفكر بعد في الشيء الوحيد المهم وهو نشر مؤلفاته.

- على هذا- مالية، ولكنها مشكلة نفسية وفنية؛ إنها مشكلة (توجيه رأس المال) (¬1). ج - والأسطورة الثالثة هي أسطورة الاستعمار، وهي التي تعجز ذوي القلوب الطيبة، وتسوغ أحياناً أعمال المخاتلة والاحتيال الأخلاقية والسياسية. ويهمنا أن نذكر هنا أنه فيما يتصل بالأسطورتين اللتين فرغنا من حديثهما، لا يأتي عامل الكف من خارج الذات، بل هو سبب داخلي ناتج عن نفسية الناس، وأذواقهم وأفكارهم وعاداتهم، أي عن كل ما يكون عقل ما بعد الموحدين، وهو في كلمة واحدة ناتج عن (قابليتهم للاستعمار). والحق أن سهم الاستعمار ماحق، إذ هو يسحق بصورة منهجية كل فكرة وكل جهد عقلي أو محاولة للبعث الأخلاقي أو الاقتصادي؛ أعني: كل ما من شأنه أن يتيح لحياة أبناء المستعمرات مخرجاً أيّاً كان (¬2). إن المستعمر يحط من قيمة الخاضعين لقانونه بطريقة فنية. وهو القانون الذي أطلقنا عليه في كتابنا (شروط النهضة): (المعامل الاستعماري). بيد أن هذا المعامل لا يؤثر في قيمة الفرد الأساسية، إذ إن هذه القيمة لا تخضع لحكمه، ومع ذلك نجد الفرد عاطلاً خامداً حتى في الميادين التي لا يمكن أن تخطر فيها شبهة الضغط الاستعماري. وعليه فإن الاستعمار يمارس عمله وتأثيره بوصفه حقيقة عندما يكف النشاط ¬

_ (¬1) راجع الفصل الخاص بهذه المشكلة في كتابنا (شروط النهضة). (¬2) هل أدل على ذلك من سعي السلطات الفرنسية بمراكش لدى المسؤولين الأمريكيين ألا يدفعوا للعمال المراكشيين أجوراً تزيد على حد معين؟ فها هو ذا (الحامي) يعمل على الإقلال من ثمن الخبز الذي يتقاضاه (محميه)، وهو أمر له علاقة بعمل المستعمر باعتباره (مُمَدِّناً) كما يزعم.

كفاً فعلياً، وهو يمارسهما بوصفه أسطورة عندما لا يكون سوى تعلة أو قناع للقابلية للاستعمار. إن هناك حركة تاريخية ينبغي ألا تغيب عن نواظرنا، وإلا غابت عنا جواهر الأشياء فلم نرَ منها غير الظواهر؛ هذه الحركة لا تبدأ بالاستعمار، بل بالقابلية له، فهي التي تدعوه. ومع ذلك فلقد يكون الاستعمار أثراً سعيداً من آثار تلك القابلية، لأنه يقلب حينئذ التطور الاجتماعي الذي أوجد المخلوق القابل، فهذا المخلوق لا يدرك قابليته للاستعمار إلا إذا استعمر، وعندئذ يجد نفسه مضطراً أن يتحرر من صفات أبناء المستعمرات، بأن يصبح غير قابل للاستعمار. وبهذا نفهم الاستعمار باعتباره (ضرورة تاريخية)، فيجب أن نحدث هنا تفرقة أساسية بين بلد مغزو محتل وبلد مستعمر، ففي الحالة الأولى يوجد تركيب سابق للإنسان والتراب والوقت، وهو يستتبع فرداً غير قابل للاستعمار؛ أما في الحالة الأخرى فإن جميع الظروف الاجتماعية التي تحوط الفرد تدل على قابليته للاستعمار، وفي هذه الحالة يصبح الاحتلال الأجنبي استعماراً وقدراً محتوماً. فروما لم تستعمر اليونان ولكنها غزتها، وإنجلترا التي استعمرت أربع مائة مليون من الهنود إذ كانت لديهم القابلية، لم تستعمر إيرلندة الخاضعة دون ما استسلام. وفي مقابل ذلك نجد اليمن، تلك التي لم تفقد استقلالها لحظة، لم تفد من ذلك الاستقلال أدنى فائدة، لأنها قابلة للاستعمار، أعني عاجزة عن القيام بأي جهد اجتماعي، ومع ذلك فإن هذا البلد لا يدين باستقلاله إلا لمحض المصادفة، فقد وجدت ملابسات دولية مواتية حفظت استقلاله. أما مراكش وقد كانت مستقلة حتى عام 1912، فإنها لم تتعلم من تجربة الجزائر المستعمرة منذ

قرن على طول حدودها؛ إنها لم تستفق للنهوض إلا بعد أن وقعت في أسر الاستعمار، يقودها في وثبتها سيدي محمد بن يوسف. فالاستعمار إذن؛ ليس هو السبب الأول الذي نحمل عليه عجز الناس وخمولهم في مختلف بلاد الإسلام. ولكي نصدر حكماً صادقاً في هذا المجال ينبغي أن نتقصى الحركة الاستعمارية من أصولها، لا أن نقف أمام حاضرها؛ أي إن علينا أن ننظر إليها بوصفنا علماء اجتماع لا بوصفنا رجال سياسة، وسندرك حينئذ أن الاستعمار يدخل في حياة الشعب المستعمر بصفته عاملاً مناقضاً يعينه على التغلب على قابليته له، حتى إن هذه القابلية التي يقوم على أساسها الاستعمار، تنقلب إلى رفض لذاتها في ضمير المستعمر، فيحاول جهده التخلص منها. وليس تاريخ العالم الإسلامي منذ أكثر من نصف قرن، سوى الجو التاريخي لهذا التناقض، الذي أدخله الاستعمار على الأوضاع التي تخلقت في ظلها القابلية واتسمت بها. فهناك إذن جانب إيجابي للاستعمار، حين يحرر الطاقات التي طال عليها زمن الخمود، على الرغم من أنه يعد من جانب آخر عاملاً سلبياً، حين يتجه إلى تحطيم هذه الطاقات، بتطبيقه قانون (المعامل الاستعماري)، ولدينا في هذا الصدد واقع ذو دلالة؛ فإن التاريخ لم يسجل مطلقاً استمرار الواقع الاستعماري، إذ إن قوى الإنسان الجوهرية تتغلب أخيراً على جميع ضروب التناقض. وليس معنى هذا أن المستعمر يفد إلى المستعمرات (ليحركها)، وإنما يجيء ليشلها، كما يشل العنكبوت ضحية وقعت في شباكه، ولكنه في نهاية الأمر يغير ظروف حياة المستعمَر من جذورها، فيساعده بذلك على تغيير نفسه. فمن الواجب إذن عندما ندرس وضع بلد مستعمَر، ألا نغفل النظر إلى هاتين الفكرتين المتلازمتين، وإن كانتا في الحقيقة متمايزتين: الاستعمار والقابلية للاستعمار.

والطريقة الوحيدة لتعريف أسباب (الكف) والعطل تعريفاً فنياً، هي أن نحدد في أي الظروف تنتج عن الاستعمار، أو عن القابلية للاستعمار؛ وبهذه الطريقة يستطيع العالم الإسلامي، أن يحدد الوسائل المناسبة للقضاء على صنوف عجزه التي شلت حتى الآن جميع مشروعاته. إن نجاح أي منهج- سواء اتصل بنظرية في السياسة أم في الإصلاح- مرتبط بتناول المشكلة من جانبيها معاً، فإذا نظرنا إلى جانب دون الآخر فقد غامرنا برؤية مشكله مزيفة (¬1). ومن سوء المصادفة أن بتر المشكلة على تلك الصورة يتخفى عموماً في قناع (الوطنية)، الوطنية الهاذرة الباطلة. أوليس من أنجع الوسائل لخدمة الاستعمار، أن يزمن عجزنا وشللنا، وأن تظل هذه الدماميل والقروح التي كانت تعدّ، منذ ثلاثة قرون أو أربعة، أمارات واضحة لمجتمع يمر بحالة التهيؤ للاستعمار؟ إن هناك نتيجة منطقية وعلمية تفرض نفسها، هي: أنه لكي نتحرر من (أثر) هو الاستعمار، يجب أن نتحرر أولاً من (سببه) وهو القابلية للاستعمار. فكون المسلم غير حائز جميع الوسائل التي يريدها لتنمية شخصيته، وتحقيق مواهبه: ذلك هو الاستعمار؛ وأما ألا يفكر المسلم في استخدام ما تحت يده من وسائل استخداماً مؤثراً، وفي بذل أقصى الجهد ليرفع من مستوى حياته، حتى ¬

_ (¬1) إلى القارئ نص لماركس وهو الرجل الذي ليس بالمثالي أو الخيالي. وقد وجهه عام 1850 في صورة خطاب لمن أطلق عليهم (أدعياء الكيمياء الثورية) قال: ((إن هؤلاء الأدعياء يعدون الرغبة هي الدافع إلى الثورة، دون أن ينظروا إلى ما يجب توافره فعلاً، أما نحن فنقول للعمال: لسوف تقضون خمسة عشر عاماً أو عشرين أو خمسين في الحروب الأهلية والدولية، لا من أجل تبديل الأوضاع الخارجية فحسب، ولكن من أجل تغيير أنفسكم، لتصبحوا أهلاً لتولي السلطة السياسية)). خطاب إلى فينيش، أيلول (سبتمبر) 1850

بالوسائل العارضة، وأما ألا يستخدم وقته في هذه السبيل، فيستسم- على العكس- لحظة إفقاره وتحويله كمّاً مهملاً، يكفل نجاح الفنية الاستعمارية: فتلك هي القابلية للاستعمار. وهكذا كلما حاولنا تصنيف مختلف أسباب (الكف) التي تعرقل ضروب النشاط في العالم الإسلامي الحديث، والتي تشد تطوره إلى نسق متلكئ، والتي تزرع القلق والعجز، وأخيراً الفوضى في حياته، وجدنا أن الأسباب الداخلية التي تنتج عن القابلية للاستعمار هي الأسباب ذات الشوكة والغلب. وطبيعي أن نرى لهذا الوضع انعكاساته في الميدان السياسي، وهو الميدان الذي تتجلى فيه الخصائص الأخلاقية والفكرية والاجتماعية التي تتصف بها بيئة معينة وشعب معين؛ إن هناك أولاً علاقة مباشرة بين السياسة والحياة: فالأولى تخطيط للثانية، وما السياسة في جوهرها إلا مشروع لتنظيم التغيرات المتتابعة في ظروف الإنسان وأوضاع حياته، هذه العلاقة التي تحدد وضع الفرد باعتباره غاية كل سياسة، تعد الفرد أيضاً عاملاً لتحقيق تلك الغاية. وهكذا يعد الإنسان عنصراً في المشروع السياسي من وجهتين: أي باعتباره (ذاتاً) تحقق الغاية من السياسة و (موضوعاً) هو عينه الغاية المرجوة. ولما كان وضع إنسان ما بعد الموحدين هو وضع الفرد المستعمر والقابل للاستعمار، فإن العلاقة بين الذات والموضوع هنا هي علاقة الفرد- باعتباره مستعمراً- بذاته باعتباره (قابلاً للاستعمار)، وليست علاقة بين مستعمِر ومستعمَر. هذه الملاحظة تسجل خطأ السياسات التي اتبعها العالم الإسلامي في الصميم؛ فقد اتجهت في كفاحها إلى المستعمر، دون أن تلتفت إلى الفرد الذي تسخره للقضاء على الاستعمار.

ولما كان المستعمَر من ناحية أخرى بحاجة إلى وسائل يغير بها وضعه بوصفه قابلاً للاستعمار، فإننا نجد هنا أيضاً انحراف تلك السياسات عن الجادة، وزيغها عن الطريق الأقوم، لأنها تتلمس وسائلها إلى العمل من المستعمِر نفسه، وعجيب أمر الأسير يطلب مفتاح سجنه من سجّانه. يجب إذن أن نبين العوامل التي تحدد وضع الإنسان في مرحلة معينة من مراحل تطوره، ليمكننا أن نستخلص منها السياسة التي تنطبق على تلك المرحلة، وغني عن البيان أن ظروف الحياة تعد نتيجة للحالة العامة في بيئة معينة، وبذلك تكون تلك الظروف (مرحلة) من مراحل (الحضارة)، لا (شكلاً) من أشكال (السياسة): فما الشكل السياسي إلا انعكاس للوضع الحضاري، وكم من ملكيات ينتعل الناس فيها الحفاء، وجمهوريات يموتون فيها جوعاً. والواقع أن الفكر السياسي الحديث في العالم الإسلامي هو في ذاته عنصر متنافر، فهو اقتباس لا يتفق وحالة ذلك العالم، والمسلمون في هذا الميدان أو في غيره من الميادين لم ينقبوا عن وسائل لنهضتهم، بل اكتفوا بحاجات قلدوا فيها غيرهم، وأشكال جوفاء إلا من الهواء، بينما ليست حاجتنا أن نجمع العناصر لنكوّن منها تلفيقاً، وإنما أن نوجد بواسطة منهج يقوم على التحليل، العناصر الأساسية التي تسهم في خلق (تركيب) حضاري قائم على: الإنسان والتراب والوقت. وبوسعنا أن ندرس درجة حضارة ما، بملاحظة الطريقة التي يتبعها الإنسان ليتفاعل مع بيئته. ففي طور الحياة النباتية (البدائية)، لم يكن الإنسان يبذل في سبيل التوافق مع نواميس الحياة سوى (أقل الجهد): فلكي يقاوم البرد يتوهم أنه قادر على ذلك بالقيام بأقل جهد ممكن؛ أعني بأقل حركات ممكنة، فيقبع في مسكنه

وينكمش. ولكي يتغلب على الجوع يمد يده إلى ما تجود به الطبيعة من تلقاء ذاتها، فإذا به يطعم مثلاً بعض الجذور. ففي هذه المرحلة الحضارية يتعامل الإنسان مع البيئة، ويتوافق (بالحد الأدنى من الجهد)، أما في طور الحياة الناشطة فإن الإنسان يحقق توافقه ببذل (الحد الأقصى من الجهد) في تنظيم نفسه، فإذا ما أراد مقاومة البرد ابتكر جهازاً للتدفئة، وإذا لم يستطع الحصول عليه لظروف معينة قاومه بصورة أخرى، بأن يبذل جهده ويستهلك طاقته ويضاعف حركته. ولكي يحصل على غذائه، نجده يكيف التراب تكييفاً فنياً، بينما الإنسان البدائي كان يتلمس غذاءه من الأرض دون تكييف. فالانتقال من الحياة البدائية الراكدة إلى الحياة العاملة الناشطة، هو الذي يسجل إذن بداية حضارة ما أو نهضة معينة. لكن هذا الانتقال يظل في التاريخ من الظواهر غير المفهومة لو أنه استلزم وسائل أخرى غير التي تقدمها البيئة، ولو أنه استخدم في الحصول على تلك الوسائل شيئاً غير ما منحه من قدرات طبيعية يسيطر بها على ذاته وعلى أرضه وعلى وقته. وليس من شك في أن هذا القول صادق على الرجل المستعمَر، لأنه في حاجة إلى أن يبحث في بيئته عن الوسائل الأولى الأساسية على الرغم من وجود الاستعمار والقابلية للاستعمار. فالتراب هو عماد حياته المادية، لأنه يعيش على ثمراته في أي ظرف كان، والوقت رهن مشيئته لا ينازعه فيه أحد، ولديه من العبقرية ما يعينه على التصرف فيهما، فهو على هذا يتصرف تصرفاً تاماً في الشروط الضرورية التي تتيح له أن يحصل على وسائل أقوى، ومعنى هذا أنه يستطيع أن يحيل وسائله البدائية وسائل أكمل، كلما قدر على تغيير نفسه، ووعى حقيقة إنسانيته، وما تقتضيه من مسؤوليات.

فإذا ما طبقنا هذه الاعتبارات العامة على مجال النشاط السياسي، وجدنا أن هذا النشاط- لكي يكوّن علم اجتماع تطبيقياً لا مجرد نشاط فوضوي- يجب أن يقوم على مبدأين: 1 - أن نتبع سياسة تتفق ووسائلنا. 2 - أن نوجد بأنفسنا وسائل سياستنا. ومن هذين الأصلين تنتج مرحلتان متتابعتان: أولاهما: مرحلة السياسة التي تتفق مع الوسائل الأولية الحاصلة، وهي الإنسان والتراب والوقت، وليس معنى ذلك أن نقصي الوسائل الثانوية التي تمنحنا إياها المصادفات أو الملابسات، ولكن علينا أن ندرك أن هذه الملابسات ليس هي القواعد الأساسية للسياسة، بل هي مجرد منح وإمكانيات مكملة تنعم علينا بها المصادفة، فلو أننا أفسحنا لها مكاناً في تقديرنا لأوشك أن نتورط في نوع من الشاعرية السياسية، والنتيجة الضرورية لتلك المرحلة هي تصفية القابلية للاستعمار والقضاء عليها قضاء مبرماً. وثانيتهما: مرحلة التغيير المتدرج لا بين أيدينا من وسائل بدائية كيما نحيلها وسائل أكل، فتكون قادرة على تعديل مختلف ظروف البيئة شيئاً فشيئاً. وينبغي أن يكون من نتائج هذه المرحلة إلغاء الاستعمار في مختلف أشكاله، الخفية كما في اليمن، أو المستعلنة كما هي الحال بشمال إفريقية. ومع ذلك فإن هذين المبدأين الأساسيين لا يستتبعان مطلقاً شكلاً من أشكال السياسة، بل المهم هو المضمون، أما الشكل فليأخذ أي طابع من طوابع النظم على اختلافها: جمهورياً، وملكياً، أو استبدادياً مطلقاً.

وما الانتخابات- التي تعد اليوم عقدة في الحياة السياسية في العالم الإسلامي الحديث- سوى شكل من أشكال الحكم: هو: الشكل البرلماني. أما المضمون الإيجابي، فهو وحده المقياس الذي يتيح لنا أن نعرف إذا ما كانت السياسة المتبعة علم اجتماع مطبقاً، أو ضرباً من الأوهام والخزعبلات. ولو أننا تتبعنا التطور العام للسياسة الإسلامية حتى قضية فلسطين؛ فلن نشعر- بكل أسف- بأنها ترتكز على مبادئ تامة التحديد، أو أصول واضحة، ولن نجد لها غايات واقعية تخضع لنظرية تهديها سبلها، حتى تبلغ هدفها بطريقة علمية، بل لن نعثر في تلك السياسة على المبدأ التقليدي الذي وضعه لها الباعث الرائد- جمال الدين- وأطلق عليه: (الأخوة الإسلامية)، ليكون أساساً ضرورياً لأية سياسة في البلاد الإسلامية. بل لقد تعرض هذا المبدأ دائماً لمقاومة مختلف النزعات القومية التي ليست في الواقع سوى نزعات حزبية؛ أعني أنها لا تدل على اهتمام زعمائها بما ينبغي أن ينشأ بينهم من علاقات، بقدر ما يتكالبون على مصالحهم وشهواتهم. وكل ما حدث في العالم الإسلامي هو أنه قد بدأ يشعر بأن الوحدة مشكلة رئيسية، وبأن أي تركيب حضاري لا يمكن أن يتحقق بما هب ودب من العناصر والسياسات الرائجة في السوق الآن، فإن من الصعب إطلاق مصطلح (سياسة) على تلك المحاولات الفوضوية التي مرد عليها مختلف الزعماء، ولعل من الأفضل أن يطلق عليها لفظة (البوليتيكا) الذي يطلقه عامة الناس على صنوف التخبط والأوهام والخرافات، وألوان المخاتلات؛ والفرق كبير بين المصطلحين؛ إذ هو الفرق بين المصادفة أو العاطفة وبين التوجيه المحدد المستقى من التجارب الإنسانية خلال التاريخ. وما هذه السياسة الخبيثة (البوليتيكا) التي اتبعها الزعماء سوى خلط الممكن بالمستحيل، وترك الأهداف التي تسهل إصابتها بوسائل مباشرة، إلى ما لا يمكن الوصول إليه مهما تعلقنا بوسائل خيالية.

ولقد اتخذت السياسة في شمال إفريقية خاصة هذا الطابع المختل، لأنها قامت على ما اتسم به عهد ما بعد الموحدين من عيوب ونقائص، فهي تحتوي حتماً أنواع (الذهان) المتناقضة، كذهان (السهولة)، وذهان (الاستحالة). هذه السياسة الخرقاء، ما زالت تخفي العناصر الحقيقية للمشكلة عن ضمير المسلم: فهو يتكلم حيث يلزمه أن يعمل، وهو يلعن الاستعمار حيث يجب عليه أن يلعن القابلية للاستعمار، وهو مع هذا لا يبذل أقل الجهد في سبيل تغيير وضعه تغييراً عملياً. أما أكثر القادة جداً فهم في انتظار الملابسات، أعني: يتوقعون سنوح فرصة، فإذا بك تراهم من حين لآخر، يرفعون عقائرهم بالاحتجاج، معلقين أملهم على بعض الأساطير المسماة: (الأمم المتحدة) أو (الضمير العالمي). وقد كان على الذين يدافعون عن مثل هذا الموقف، أن يعلموا أن نظرية الملابسات والفرص ليست سوى كلمة جوفاء وأمل هباء، يقف في مواجهة الأحداث التي تجري دائماً فلا نستطيع لها رداً، وما كان لنا أن نكشف عن اتجاه الملابسات الدولية، ما لم تكن لدينا مقدرة على تذوق الحقيقة المجردة من كل مغزى عاطفي، أو ميل شعري. ولكن أحكامنا، بكل أسف، لا تكشف في الغالب إلا عن تحديد عاطفي لموقفنا، فنحن لا نحكم وإنما نأسى؛ نحن نكره ونحب ولا شيء غير هذا. ولقد أصيب بهذا الخلل كبار مفكرينا الذين نيطت بهم مهمة الإصلاح، فها هو ذا المغفور له الشيخ عبد الحميد بن باديس- وقد شهد النزاع يحتدم بين ابن سعود والإمام يحيى- ينشر مقالاً عام 1934 يأسى فيه على (إراقة دماء المسلمين)، ويعنف فيه الرجلين دون تفرقة، كأنما الشيخ لم يتبين عظم النزاع الذي تقف فيه القوى الروحية والمادية في النهضة الإسلامية متجسدة في الفكرة الوهابية، في وجه قوى الانحطاط والتدهور ممثلة في الإمام يحيى، تؤيده- كأنما

بمحض المصادفة- قوى الاستعمار. ولقد أغفل هذا الحكم الجانب الناطق من الموقف، وهو سرعة المناورة التي قام بها الجيش السعودي الفتي، فأحبط الخطة الاستعمارية بالاستيلاء على (الحديدة)، خلال أربع وعشرين ساعة، كما أسقط من حسابه موقف موسوليني الذي كان يطمع في احتلال اليمن (لمحاية الإسلام) .. ! ونحن إلى اليوم نجد انعكاس هذه النفسية العاطفية في صحافة الدول الإسلامية؛ فمنذ عهد قريب شهدت سورية ثلاثة انقلابات متعاقبة، ولم يكن من الصحافة العربية إلا أن أسيت على حالة القلق التي تعانيها الجمهورية السورية (¬1)، فلم يحاول مراسل صحفي واحد أن يتعقب سر الأحداث، فربما أدى به بحثه إلى ملاحظة أن وزارة الخارجية البريطانية لم تعد تدير الأمور على هواها في العالم العربي، فلقد حدث انقلاب (حسني الزعيم) دون علمها، كما أن صفيها (سامي الحناوي) قد طرد من الحكم دون أن تستطيع دفع الانقلاب، وكان انقلاب (أديب الشيشكلي) بدوره خير شاهد على أن العالم العربي يعرف منذئذ كيف ينظم نشاطه السياسي تنظيماً فنياً، مسترقاً أو متغفلاً جهاز المخابرات الإنجليزي البارع الدقيق (¬2). هذا هو الجانب الجوهري من المسألة، لا ما أسيت له الصحافة العربية من اضطراب الأحوال في دولة لم تزل في مهدها. وعودة إلى (البوليتيكا) تكشف لنا عما أصابنا خلال كارثة فلسطين، فلقد برهن القادة على عدم كفاءتهم للقيام بأبسط الأعمال، وإن كان من الواجب أن نستثني هنا السياسة السعودية التي دلت على وعيها، فلقد دل (ابن سعود) على أنه رجل الدولة العربي الوحيد، الذي أدرك منذ البداية خفايا القضية، فأمسك ¬

_ (¬1) الإشارة هنا إلى انقلابات حسني الزعيم وسامي الحناوي وأديب الشيشكلي. (¬2) دلت على هذا بكل وضوح ثورة العراق.

عن إرسال جيشه إلى فلسطين، وبذلك برهن على أنه لم ينخدع بجلاء الإنجليز المفاجئ عن يافا، وقد كانوا يعلمون أنهم متآمرون في فعلتهم، حين تركوا البلاد دون أن ينقلوا مسؤولياتهم عن إدارتها وحفظ الأمن فيها إلى سلطات منظمة تحمي جميع المدنيين بفلسطين. لقد قال برناردشو في إحدى نقداته اللاذعة قبيل الحادث بأيام: ((يجب أن ندع العرب واليهود يحسمون خلافهم بحد السلاح)) وهذا ولا شك رأي رجل مطلع على بواطن الأمور، تعود التفكير قبل إبداء رأيه. لقد بهت أعضاء الجامعة العربية جميعاً- باستثناء ابن سعود- فلم يفكروا حتى في الاحتجاج على ذلك الجلاء المفاجئ عن يافا، في ظروف لا يفيد منها غير الصهيونيين، الذين كانت قواتهم على أهبة الاستعداد، متخذة مواقعها في أرض المعركة، وفضلاً عن ذلك، فإنهم لم يسبقوا الأحداث بعمل قانوني هو إعلان الجمهورية الفلسطينية، ذلك كله لم يدر بخلدهم، بيد أننا نسوق إلى القارئ ما يشهد بعجزهم السياسي الكلي، فإن قادة الجامعة آنذاك وقد استهواهم ذهان (السهولة) ركنوا إلى هيئة الأمم المتحدة، وأخذوا يحقرون من شأن الإسرائيليين، ويهونون من خطرهم وتفوقهم السياسي والمالي والفني، بل العددي أيضاً، وما كان لهذا التفوق الأخير أن يظهر لأعينهم لأول وهلة، ومع ذلك فقد كان بحسبهم أن يعرفوا الحساب على الأصابع ليدركوا حقيقة الموقف، لقد كان واضحاً أن الصهيونيين يملكون جيشاً يزيد على ثلاث مائة ألف مجند، بينما الدول العربية لم تكن تستطيع أن تجند سوى جيش لا يزيد على مائتي ألف، ولست أقصد هنا الشعوب العربية، فقد نجحت السياسة الاستعمارية في عزلها عن جو المشكلة، ولله الحمد. أما من حيث التفوق السياسي والمالي والفني، فلا نزاع في أن الإسرائيليين كانوا سادة الموقف لما كان عليه العالم الإسلامي من فوضى.

لقد كان هيناً على كل إنسان أن يتوقع انتصار الصهيونيين، فيما عدا ضحايا (البوليتيكا)؛ إذ هي دائماً تكرر أخطاءها، لأنها ليست علماً أو تجربة، وإنما هي جهل وهذر وشذوذ، ولهذا الجهل اتجه الساسة المسلمون بقلوبهم إلى المنظمات الدولية، حتى بعد أن رأوا بأعينهم أن المرحومة عصبة الأمم لم تقم بتطبيق مبادئ ولسن الأربعة عشر، بل انصرفت إلى توزيع انتدابات ومحميات جديدة، فلم يفيدوا من ذلك درساً عملياً، بل تكررت المهزلة في صورة ثقة جديدة بميثاق الأطلنطي، وبهيئة الأمم المتحدة، فانعقدت الجمعية العامة بقصر (شايو)، والقادة ما زالوا منهمكين في مدح المنظمة الدولية الجديدة، وفاض طوفان الأساطير على ألسنتهم ليغمر الضمير المسلم بأبخرته المخدرة. وكان الانخداع سهلاً بقدر ما كانت المظاهر خداعة، فها هي ذي باكستان تشيد سيادتها، وها هي ذي إندونيسيا تنال أستقلالها، وها هي ذي أبخرة الاستقلال الهين (السهل) الذي لا يقتضي كبير جهد في بنائه، ولا يستلزم وسيلة لتحقيقه، تبلبل العقول فتحدث خدراً كلياً، وفقداناً للحساسية العامة، فلم ندرك أن البلاد التي قيل عنها إنها قد تحررت، لم تحصل على حريتها بناء على مبدأ محرر، بل لأنها وجدت في منطقة الخطر، متاخمة للشيوعية، وحسبنا أن نلقي نظرة على الخريطة لنقتنع بهذا القول. وربما استطعنا أن نتصور ضعف مثل هذا الاستقلال طالما ظلت البلاد التي حصلت عليه قابلة للاستعمار، وما دامت لم تسيطر بعد سيطرة واقعية على شؤونها الداخلية، فإن استراتيجية العالم قُلَّب، وقد تتغير بين عشية وضحاها. ومن الأمثلة على ذلك ما حدث في إندونيسيا، حيث غيرت الملكة (ولهلمينا) موقفها بشأنها مرتين أو ثلاثاً تبعاً لتغير الظروف الدولية. فهي إذ ترى ضرورة المقاومة لهزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، توافق على إعلان استقلال إندونيسيا، حتى إذا تمت الهزيمة، أرسلت حملة تعتقل الزعماء الوطنيين

بليل، وتقضي على جمهوريتهم الوليدة، أما عندما وصل (ماوتسي تونغ) إلى كانتون فإن هذه الملكة قد عدلت سياستها للمرة الثالثة في جاوة (¬1). أما الوضع في الباكستان فيبدو لعين الناظر إليه أكثر استبهاماً واختلاطاً، والظاهر أن تشرشل كان يستهدف أهدافاً ثلاثة في الهند، وأنه قد بلغها فعلاً. ولقد أراد أولاً أن يفوت على الاتحاد السوفييتي سلاحاً قوياً من أسلحة الدعاية والإثارة، فماذا عسى أن يكون وضع الهند المستعمَرة على حدود الصين الشيوعية في حرب عالمية ثالثة .. ؟ لقد استطاع (الثعلب الهرم) أن ينشئ في شبه القارة الهندية منطقة أمان، وبعبارة أخرى: حجراً صحياً ضد الشيوعية، ولكنه عرف أيضاً كيف يخلق بكل سبيل عداوة متبادلة بين باكستان والهند، وكان من أثرها عزل الإسلام عن الشعوب الهندية من ناحية، والحيلولة دون قيام اتحاد هندي قوي من ناحية أخرى؛ ولقد بذل هذا السياسي غاية جهده لتدعيم هذه التفرقة، وتعميق الهوة بين المسلمين والهندوس؛ تلك الهوة التي انهمرت فيها دماء ملايين الضحايا، من أجل هذا التحرر الغريب، فكان الدم أفعل في التمزيق من الحواجز والحدود، حتى إن (باتل) (¬2) كان يثور عندما يتحدث عن باكستان، بعد أن بذلت الرابطة الإسلامية أقصى وسعها لتشجيع أعمال الفوضى والاضطراب، أضف إلى ذلك مشكلة كشمير المزعجة، وهي ليست أقل عقبة في طريق الصلح بين الأخوين المتخاصمين. ¬

_ (¬1) نشرت إحدى الصحف الباريسية تحقيقا عن إندونيسيا بعد أشهر من كتابة هذد السطوار يؤيد فيه كاتبه (ميري برومرجيه) ما أذهب إليه، فهو يقول عن الوضع الجديد في أندونيسيا: ((ومع ذلك فإن الهولنديين الذين حضروا هذا المساء يبسمون في لطف واطمئنان، فلقد خسروا كل شيء في ظاهر الأمر، ولكنهم يستطعون أن يستعيدوا كل شيئ)). (صحيفة باري برس عدد 30 من آب (أغسطس) 1950) .. (¬2) كان مستر (باتل) وزيرا للدفاع في أول وزارة هندية أعقبت الاستقلال.

فهل يدرك الأخوان المغزى الميكافيلي لما أعلنه أحد الزعماء الصهيونيين منذ عام حين قال: ((من الواجب أن تقوم بين الهند وإسرائيل علاقات وثيقة حتى نخضد شوكة الإسلام)) .. ؟ إن معنى ذلك- بالقول الفصيح- أن تندلع الحروب بين الدولتين التوءمين اللتين تتقاسمان الهند في عالمنا الحديث، غير أن ظلاً هائلاً قد انبسط على الخريطة، فإن الذين يحرضون (باتل) ضد باكستان، أو يدفعون باكستان ضد الاتحاد الهندي، يرون بأعينهم ظل (ماوتسي تونغ) وهو يمتد على طول جنوبي آسيا. ويخطر لنا في هذا المقام أيضاً وضع سورية، فإنها لا تدين باستقلالها لمبدأ محرر، بل لمجرد الملابسات الدولية التي كانت تلوح في نهاية الحرب العالمية الثانية بنشأة دولة إسرائيل المقبلة، ومما لا جدال فيه أن الشعب السوري قد أفاد من هذا كله، وكانت تصرفات بعض الحكام فيما بعد في سورية تعبيراً عن عرفان بلادهم بجميل محرريها، فاتخذوا إجراءات معينة ضد إحدى الجماعات الإسلامية. وعلى هذا يرى بعض الساسة أن شعوب شمال إفريقية لن تستطيع الفكاك من ربقة الاستعمار إلا في ظروف دولية مشابهة (¬1)، أما نحن فنرى أن هذه الشعوب لن تبلغ تحرراً حقاً إلا إذا أعدت بنفسها أدوات تحررها إعداداً علمياً. وهكذا تظهر لنا سذاجة الرأي الذي توحي به عناوين الصحافة الجزائرية، من مثل قولها: ((إن تحزير شعوب آسيا سيعقبه حتما تحرير الشعوب المستعمَرة في إفريقية)). فإن صيغة كهذه، توحي بفكرة زائفة عن آلية التحرر التي لا توجد بكل أسف إلا في عقل كاتب المقال، لأن تحرر بلد ما لا يحتم بداهة تحرر بلد آخر. ¬

_ (¬1) أثبتت الحرب الأخيرة أن الاستعمار الفرنسي لا يحرر المستعمرات وإنما يفقدها، ولا شك أن هذه هي الغاية التي يتجه نحوها، إذا ما أخذنا في اعتبارنا وضع كندا والهند فيما مضى، وإذا ما وجدنا (هوشي منه) يحرر كمبوديا ولاوس منذ عهد قريب.

فهناك موقفان ممكنان: إما أن ننتظر حتى تتحقق الشروط من تلقاء ذاتها، وإما أن نعدها نحن بطريقة إيجابية. وعليه فإن المشكلة الرئيسية؛ هي أنه لكي نتخلص من الاستعمار، يجب أن نتخلص من القابلية للاستعمار، وأن نكف عن نسج الخرافات. إننا لم نبرأ حتى الآن من (ذهان السهولة) ويدلنا على ذلك أنني- وأنا أكتب هذه السطور- وقعت عيني على آخر ما كتب خاصاً بسياسة شمال إفريقية، فإذا به نداء إلى الأمم المتحدة، وهجوم على الاستعمار (¬1)، وليس فيما قرأت توجيه جديد أو إشارة إلى الوسائل المادية، أو تحديد للجهد اليومي الضروري لتغيير عوامل القابلية للاستعمار، للقضاء على عوامل الاستعمار. وإنما يجب أن نقرر أن قضية فلسطين قد أيقظت الوعي العام من خدره، ونحن نرى فيها المحور التاريخي الذي أخذ العالم الإسلامي يدور حوله باحثاً عن اتجاه إيجابي جديد. ... ¬

_ (¬1) انظر هذا المقال في العدد الصادر في 3 من شباط (فبراير) 1950 من صحيفة الجمهورية الجزائرية.

العوامل الخارجية

العوامل الخارجية {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل 27/ 34] ــــــــــــــــــــــــــ كان حديثنا فيما سبق عن الجانب الداخلي من الفوضى وحده، وهو جانب القابلية للاستعمار، ولكن هناك أيضاً جانباً خارجياً هو جانب الاستعمار، وهو لا يظهر هنا في صورة أسطورة تكف العالم الإسلامي عن التطور، وذهان يشله عن التغلب على مصاعبه النفسية والاجتماعية فحسب، بل يظهر أيضاً في صورة مُحَسَّة، وأعمال سالبة تهدف إلى طمس قيم الفرد، وإمكانيات تطوره، ويكون هذا الجانب أكثر ظهوراً حينما يكون الاستعمار استبدادياً، كما كانت حاله في إندونيسيا وطرابلس الغرب، وكما هو الآن في شمال إفريقية. هذان الجانبان ليسا منفصلين، فهما يتداخلان ويختلطان، ولكنا ملزمون بفصل كل منهما عن الآخر كيما نبين أهميته الخاصة على حدة. ولا شك أن من الضروري تحديد مفهوم عبارة (الاستعمار الاستبدادي)، فإن للاستعمار صورتين: إحداهما صورة الاستعمار المتحفظ، لأنه لا يتدخل مباشرة في نواحي حياة المستعمر جميعها، بل يطلق لأبناء المستعمرة بعض مظاهر الحرية؛ وعلى العكس من ذلك صور (الاستعمار الاستبدادي)، الذي يتدخل تدخلاً مباشراً في جميع تفاصيل الحياة، حتى الدينية منها، فتدخله يمتد إلى كل شيء، فيخصص لأبناء المستعمرات (مدرسة استعمارية) يستعمر بها عقولهم، وإذا ما سمح

لمستعمر بأن يدير مقهى لحسابه، ألزمه أن يتخذ لمقهاه عنواناً تجارياً يسم تجارته بسمة المستعمرين. والعجيب أن لهذا الاستبداد الشامل بشؤون المستعمرات مجامع علمية تتبناه، وتقوم على دراسته وتوجيهه، كـ (مدرسة العلوم الاستعمارية بباريس)، وله أيضاً خطته العامة: وهي الميثاق الاستعماري الذي يتعدل تبعاً لظروف الموقف وسير الأحداث. وهناك مؤتمرات دورية تخفي أغراضها بأسمائها: كمؤتمر فولتا (¬1)، أو مؤتمر أصدقاء لستراداموس (¬2) ... الخ. وهي تتناول دائماً بالبحث السياسة الاستعمارية، وخطتها الفنية في الاستعمار الأخلاقي والمادي. وهكذا يحدق الاستعمار بحياة المستعمر من كل جانب، ويوجهها توجيهاً ماكراً لا يغفل أتفه الظروف وأدق التفاصيل. ومن الواضح أن الاستعمار بصورته هذه يعد عنصراً جوهرياً في فوضى العالم الإسلامي، فهو لا يتدخل فقط بمقتضى العلاقة المباشرة بين الحاكم والمحكوم، بين المستعمِر والمستعمَر، وإنما يتدخل أيضاً بصورة خفية في علاقات المسلمين بعضهم ببعص. (فحضوره) (¬3) يتدخل في أتفه تفاصيل الحياة اليومية وأبعدها عن الظن ويستطيع المتنزه في شوارع الجزائر أن يلاحظ في جولته ثلاثة مشاهد على الأقل لها دلالتها في هذا الصدد: سيرى مثلاً صبية صغاراً يبيعون البرتقال، وإذا بالشرطة تطاردهم، ثم إذا بأحدهم ينجو بنفسه ملقياً بضاعته التافهة خلف ¬

_ (¬1) فولتا اسم عالم في الكهرباء، أطلق على مؤتمر يبحث شؤون المستعمرات ليخفي الغرض منه. (¬2) اسم لاحد منجمي القرن السادس عشر. (¬3) الكلمة هنا مقصودة بذاتها لأنها جزء من منهج الاستعمار، وهي تطلق على بعض المؤسسات الاستعمارية مثل: (مؤسسة الحضور الفرنسي) بمراكش، وهي بالفرنسية ( La Présence Française) .

ظهره، بينما الشرطي يلاحقه وعلى وجهه أمارات الجد، كأنه يقوم بمهمة خطيرة. وسيرى أطفالاً آخرين، وقد راحت نظراتهم الزائغة تتربص مرور غرّ ينخدع بمظهرهم، بينما هم يمثلون (رواية البؤس) بطريقة تشوه من قيمة بؤسهم، وهم يلحون على من يستجدونه بأدعية مثيرة، كل هذا يحدث ورجل الشرطة رائح غاد أمام المشهد المهين دون أن ينبس بكلمة. ثم يرى في المسار نفسه بعض قارئي الكف من المنجمين، وقد تعمموا بعمائم فخمة، يدعون كل سائح يتجول، وكل امرأة تمر، دون أن ينبس الشرطي أيضاً ببنت شفة. إن لهذه المناظر اليومية دلالتها ومغزاها، فهي تكشف لنا عن فلسفة الاستعمار، التي تعبر عنها الآية التي صدرنا بها هذا الفصل: {إِنَّ الْمُلُوكَ (¬1) إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}. [النمل 27/ 34]. كذلك نجده يحول بين الشعب وبين إصلاحه نفسه، فيضع نظاماً للإفساد والإذلال والتخريب، يمحو به كل كرامة أو شرف أو حياء. وهكذا يجد الشعب المستعمَر نفسه محاصَراً داخل دائرة مصطنعة، يساعد كل تفصيل فيها على تزييف وجود الأفراد. ومن المسلم به أن هذا التضليل العلمي يعد تقويضاً لكيان الشعوب، يتعدل دائماً تبعاً للطوارئ، ليقف في وجه كل محاولة أو طاقة جديدة، فيحدها ويهدمها. ومن هنا كان الاستعمار ولوعاً بتتبع (النهضة الإسلامية)؛ ومن السهولة بمكان أن نعرف ما يريد الاستعمار أن يقحمه في المجتمع الإسلامي الحديث من عناصر الإرجاف، وعوامل التنافر. فإن مقدرته وطموحه ¬

_ (¬1) يقصد بالملوك الغزاة المستبدون؛ لأن الملك بشكله المعروف أسلوب من أساليب الحكم لتنظيم المجتمع بمضان العدالة فيه، لا يتنافى مع المبادئ الأخلاقية.

غير المحدودين يوسوسان له بفكرة مجنونة دامية، هي إيقاف سير الحضارة في البلاد المستعمرة؛ لذلك نجده يجند جموع المتخلفين المتهالكين لتقف في وجه دعاة التجديد حتى كأننا أمام مشهد روائي، يمثل فيه مدعو التصوف والإقطاعيون وبعض العلماء والجامعيون المخدوعون، دور الرجوع إلى تقاليد الإسلام (¬1)، حتى لقد صارت كلمة (تقاليد) هذه، (كلمة السر) في السياسة الاستعمارية. فأمام الجهد الإصلاحي تقف موجة من القتام الصاخب تحيي موات الأشكال البالية والخرافات الدارسة، وإذا بشخوص محنطة، ترجع في عهدها إلى قرون ما بعد الموحدين تتسكع في بعض العواصم، لتمثيل (تقاليد الإسلام) في رواية السياسة الاستعمارية الرجعية. فالاستعمار يصرخ في كل لحظة في تاريخ الشعوب المستعمرة بتلك الكلمة التي صرخ بها يوشع حين قال: ((أيتها الشمس ... قفي ... )). والعجيب أن هذا الزعم الشاذ الذي لم يخطر بفكر جنكيز خان أو أتيلا (¬2)، يعد اليوم الشكل السياسي لأحط ألوان الاستبداد الإنساني، في هذا القرن العشرين، قرن الحضارة الأوربية والمسيحية. وكثيراً ما برزت هذه المحاولة في أفعال المستعمرين، وخاصة منذ أن تزلزل توازن ما بعد الموحدين بفعل ضغط السيد جمال الدين، الرجل الذي فجر هذا التوازن الراكد. فلم يكف الاستعمار لحظة عن خلط الطاهر بالدنس، مدفوعاً بتلك الفكرة الدنسة التي تملي عليه أن يوقف سير الشعوب نحو النور، حفاظاً على مصالحه المادية. ومن الأمثلة على خلطه وتخبطه تلك الطبعات الزائفة للقرآن، التي ¬

_ (¬1) كان لدينا في الجزائر بعض المناظر المضحكة المبكية، فكنت ترى بعض دعاة التصوف المسمين (المرابطين)، يدعون الناس إلى الرجوع إلى الإسلام وهم يتلذذون بكأس خمر معتقة، ويركبون السيارات الفاخرة التي منحتها لهم (إدارة الشؤون الإسلامية). (¬2) زعيم قبائل الهون في زحفها على أوربا.

ظهرت وانتشرت في مصر في بداية هذا القرن، وحسب المزيفون أنهم بذلك يقوضون أساس الفكرة الإسلامية الناهضة، بل لقد بلغت بهم القحة أن يهزؤوا بالمسلمين عندما انفضحت مكيدتهم، حتى لقد سمعت بنفسي أحد كبار الأساتذة في باريس وهو يعلن: ((هل المسلمون بحاجة إلى أن يحموا القرآن، والله (سبحانه وتعالى) قد وعدهم بحفظه .. ؟)). ومهما يكن من شيء، فإن الاستعمار قد شاد (سياسته الاستعمارية) بمثل هذه الوسائل في التحريف والإفساد والتزييف، فهو بهذا مسؤول عن جانب كبير من فوضى العالم الإسلامي، وليس ممكناً في هذا المجال أن نهمل تفصيلاً، أو أن نلخص وقائع، ونركزها في مصطلحات منهجية، فإن النظام لا يفارق تفاصيله، فهي الشاهد المادي المباشر على مسؤوليته. ولكنا لا ندعي هنا أننا نروي كل التفاصيل الشاذة، التي تتسرب إلى الحياة الإسلامية دون انقطاع، كما تندس حبات الرمل في أجزاء المحرك، بل حسبنا أن نقول: إن الاستعمار هو أفظع تخريب أصاب التاريخ. بيد أن هناك تفاصيل تستحق أن نوردها، ومنها هذا المثال الذي تلقيناه بوصفه حادثاً عارضاً عادياً من حياة الشعب الجزائري، وهو يصور لنا موقفاً غريباً لتدخل الرجعية التي يريد بعثها الاستعمار الفرنسي، وكيف تصرف إزاءها أصحاب المبادئ الحديثة الحية، الصادرة عن إرادة الشعب. حدث هذا في مدينة (الأغواط)، حيث قضى سير الحياة الطبيعي على المرابطين وطريقتهم، فاختفت منذ بعيد من عادات الشعب وتقاليده، وبرغم هذا فوجئ الناس بضجيج كانوا قد نسوه، وذهلوا بأن رأوا مواكب غريبة تجوب أنحاء المدينة؛ كانت مواكب المرابطين. ولكم كان كريهاً أن يستعرض هؤلاء أشكالاً فات أوانها، وتخلفت عن ركب

التطور، مع ماضي ما بعد الموحدين؛ ولذلك فكر قادة الكشافة من فورهم في تنظيم عرض يصاحب الموكب الساخر في شوارع المدينة، وكان من حظ الموكب الكبير ضحكات ونكات كانت من أفواه المارة، فتفرق أيدي سبأ، وكأنما أدرك منظموه أن ليل المهازل قد انجلى، ومضى زمان الأشباح. وبمثل هذا تختار الإدارة الاستعمارية شخوصاً مطعونين في خلقهم، ممروضين في أبداخهم، لكي (يمثلوا) الشعب المسلم في الجمعيات السياسية (¬1)، ويا لها من مكيدة مفضوحة خيوطها بيضاء، يرتد سهمها إلى ناسجيها، وهم لا يكفون عن محاولاتهم، لعلهم يستطيعون تخدير الضمير المسلم. وعجيب أمر الاستعمار، يبدو في قمة سذاجته وعناده حين لا تكف ميكيافيليته ساعة من نهار عن محاولة هذا التخدير، مهما أصابها من فشل، ومهما بعثرت من الأموال الطائلة على أولئك العملاء، وقد كان جديراً أن تنفق في مشروعات أنفع. أما القدر الضئيل من مشاريع العمران، فمن السهل أن نلمح في طراز بنائه طابع الهوان، الذي يحاول الاستعمار بكل ثمن إلحاقه بحياة المسلمين، وخاصة في أشكال السراديب المتنوعة التي تعد تقدماً بالنسبة لأكواخ الصفيح، حيث استنقع (¬2) فقراء الناس بجموعهم الغفيرة. أما طراز مدن السراديب الموجودة في ضواحي الجزائر، فإنه تسجيل لطابع الاستعمار المهين الذي ألصقه بفن البناء، حين جعل أسقف المنازل أشبه بالقبو أو بظهر الحمار، وليس هذا بكل بساطة سوى ضرب من ضروب التنكر للذوق الإسلامي، ومحو للطراز العربي الجميل الذي خلف آثاراً لا تمحى في الأندلس. ¬

_ (¬1) ساد هذا الروح الحياة الفكرية في البلاد المستعمَرة، تلك التي تخضع لقضاة أدب استعماري يمنحون الجوائز السنية لكل عمل أدبي يتجلى فيه انحطاط عقلية الشعوب المستعمَرة. (¬2) استنقع فلان في النهر: دخله ومكث فيه.

بل لقد بلغ التدخل في شؤون المسلمين حداً لم تفلت منه التوافه، فلقد جرت عادة الإدارة عند افتتاح مقهى أن تشترط كتابة لافتته هكذا: ((مقهى عربي بإدارة الأرملة فلانة)). أما في تونس فقد كان الأمر أشنع؛ إذ كان صاحب المقهى ملزماً بمقتضى الترخيص الممنوح له، بأن يقدم لمدخني الحشيش ما يطلبون منه بما يحتاجه من خدمة وأدوات، كان ذلك ولا شك حتى ينسى الناس الماضي والحاضر والمستقبل. فإذا لم ينكب العالم مع هذا البلاء كله بالتجرد من أخلاقه، وإذا لم يفقد حاسته الخلقية، فما ذلك إلا لأن الروح الإنساني خالد لا يفنى، وأن رجال العقائد على اختلاف مللهم ونحلهم ليدينون بالجميل للاستعمار، إذ أمدهم بالدليل القاطع على خلود الروح. ولم يحدث في عصر من العصور، أن ارتد الإنسان إلى خصائص الحيوان، كما حدث في هذا العصر، وذلك بما تقدم من فطريات تختمر على صور وأشكال، وهي معامل مهيأة بما تحتاجه من الوسائل المادية والنفسية؛ معامل تأخذ صورة القوانين والبنوك والإدارات، والصحف والسجون والمدارس الاستعمارية. وبفضل هذه المعامل استوى على قمة المجتمع الإسلامي الحديث رعاع الناس، بينما هبط إلى القاع خيارهم وصفوتهم. وما الحياة الفكرية في أي بلد مستعمر سوى تخمير يقصد به انتقاء أفكار يهتم المستعمر بها ليجعل منها أساساً (للبوليتيكا). بل إن الاستعمار يتدخل في تقرير مصائر الأطفال في مدارسهم، فما إن يبدأ التلميذ امتحانه في الشهادة الابتدائية حتى يصبح دون أن يشعر هدفاً للجنة الممتحنين المحترمين التي تقدر درجاته، فإذا بهم يتآمرون عليه كيلا يصبح (مستعمَراً حقيراً) متفوقاً على زملائه من أبناء الأوربيين.

وهذه الفكرة نفسها هي التي تتحكم في حياة رجال الجيش، حتى لقد أدلى المارشال (فرانشيت ديسبري) يوماً بتصريح في أحد الاستعراضات قال فيه: ((إن الرتبة ليست حقاً لأبناء المستعمرات، ولكنها منحة لهم)). والأمر سواء بالنسبة للتلاميذ أو المثقفين المسلمين، فليست الشهادة التي ينالها أو الوظيفة التي يظفر بها حقاً من حقوقه، وإنما هي منحة يُنْعَم بها عليه، ولهذا كان من المشكوك فيه أن تصلح هذه العينات المحزنة من أبناء الصفوة المسلمة لعمل نافع، وقد كانت ثماراً لمنح المستعمرين. ويكون الأمر على عكس ذلك حين ينبغ عقل واع ذكي، فإن المستعمر يحاول بوسائل شتى تحطيمه، فإذا ما بدا عصياً عنيداً حطم أسرته، ليشل نشاطه. وهكذا يعوق الحياة الفكرية في البلاد فيعوق بالتالي تطورها. والاستعمار يستخدم طبعاً الطريقة نفسها في الميدانين الاقتصادي والاجتماعي، فهو يهدم مقومات البلاد المستعمرة ويحول بينها وبين إعادة بنائها. كذلك فعلت إنجلترا في مصر منذ احتلالها، فقد قضت على فكرة محمد علي، وعلى ما قام به الخديوي اسماعيل من تجهيز لإنشاء الصناعة الوطنية، دعك من الخمسين في المائة من أسهم قناة السويس التي انتزعت من الحكومة المصرية بالضغط والإرهاب. أما في الجزائر فقد هدم الاستعمار منذ دخلها عدداً غير قليل من المؤسسات، وكانت هناك مؤسسة من نوع مؤسسات (سانسير) (¬1)، تربي اليتامى وتزوجهم، استمرت هذه المؤسسة بعد عام 1830 ردحاً من الزمن تحت إدارة محسنة فرنسية، ¬

_ (¬1) مؤسسة فرنسية أسستها (مدام دي مانتينان) في القرن السابع عشر لحضانة اليتامى من أبناء الأسر النبيلة.

ثم اختفت بدورها، وأصبحت أثراً بعد عين؛ أثراً في السجلات، وفي ذاكرة بعض شيوخ الجزائر. وفي قسنطينة نشأت نقابة معينة، اتخذت لها اسماً ذلك العنوان الرمزي (نادي صلاح بك)، وكان صلاح بك هذا يسهم في زمانه في النشاط الاجتماعي، فيشجع التعليم والعمل، ولكنها أغلقت بأمر الإدارة الاستعمارية. ولسنا نجد اليوم أثراً لفن النقش الدقيق والصور المصغرة، فلم يبق من صناعه إلا القليل النادر، من أمثال (عمر راسم) بالجزائر، فإذا ما قضى هؤلاء الفنانون قضى معهم فنهم، لأن الإدارة الاستعمارية لا تساعده بل تعمل جهدها للقضاء عليه. وهكذا نرى في كل ميدان من ميادين الحياة الاجتماعية وجهي الفوضى مقترنين كأنهما توءمان؛ الاستعمار والقابلية للاستعمار. وما فرض الاستعمار رقابته على الحياة الدينية، إلا لعلمه بأن الدين وحده هو الوسيلة النهائية لتصحيح أخلاق الشعب، الذي فقد في غمار أزمة تاريخه كل هم أخلاقي. وإذا كنا نجد اليوم شيئاً يدوي في جوانب النفس الإسلامية، فيردها قادرة على تغيير ذاتها، والتخلي عن جمودها، فلن يكون هذا الشيء سوى الإسلام. ولذلك لم تفلت هذه القوة الباعثة من تهجم الاستعمار، ففرض عليها أنواع القيود وأشكال الرقابات، حتى أصبح ميسوراً اليوم عندنا أن تفتح نادياً للميسر أو مقهى، أكثر من أن تفتح مكتباً لتحفيظ القرآن. وأعجب من ذلك أن تجد الإدارة هي التي تعين رجال الدين كالمفتي والإمام، لا طبقاً لمشيئة جماعة المسلمين، بل تبعاً لهوى المستعمرين. وبذلك تجمع في يديها أنفذ وسائل الإفساد، فاختيار رجل يؤم الناس في

المسجد، لا يكون بناء على تميزه بضمير حي، أو علم بأصول العقيدة، بل يراعى في ذلك ما يقدم للإدارة من خدمات، حتى كأنه (جاويش) صلاة. ولا شك أن هذا التحكم في شعائر الدين، مما يقض مضاجع أصحاب العقائد من المؤمنين، ويقلق ضمائرهم، لما يرون من أحداث غاية في الفساد والفتنة: إمام جاسوس خؤون، ومُفْتٍ فاسد مفسد، وقاض منافق مرتشٍ؛ وغاية الاستعمار من ذلك كله، أن يجعل من الإسلام صورة عجيبة من حياة أصحابه المستعمرين. ومن أجل هذا فهو يكدس العقبات والعوائق والقيود على طريق النهضة الإسلامية. بيد أننا نستطيع أن نعقد هنا مقابلة مباشرة بين القابلية للاستعمار والاستعمار باعتبارهما عوامل شلل وتعجيز، وسندرك من هذه المقابلة، أن المستعمَر يمكنه أن يتحرر من قابليته في الوقت الذي يستخدم فيه ذكاءه وجهده لتذليل العقبات وتخطي العوائق وتحطيم القيود. ولقد رأينا وما زلنا نرى في الجزائر، أن المسلم- حتى في مرحلة ما بعد الموحدين- لا يطيق المساس بدينه، فهو يصدف عن المساجد والمدارس التي سيطر عليها الاستعمار بواسطة عملائه، ليرفع بنفسه مساجد جديدة يعبد الله فيها دون قيود، وليشيد بيديه مدارس جديدة يتابع فيها أطفالهم، وهذه المحاولات تدلنا على أن الأمر لا يحتاج إلى الخطابة عن حرية العبادة أو نشر التعليم، وإنما يحتاج إلى القيام بأعباء اجتماعية، وأداء واجبات ملزمة. ومن الجميل حقاً أن يحصل المرء على (حقوقه) التي يطالب بها، ولكن من المؤسف حقاً أن نقلب نظام القيم فنقدم (الحقوق) على (الواجبات)، فذلك يزيد نسبة التخليط والقلق والفوضى في حياتنا، لأنه يضاعف خطوات (البوليتيكا) الخاطئة.

إن الاستعمار ما زال يدق أجراس الليل، داعياً المستعمرين إلى مواصلة الهجوع، ولكن ساعة النوم قد انقضت، وذهبت إلى حيث ألقت أشباح الاستسلام في العالم الإسلامي. ***

الفصل الرابع فوضى العالم الغربي

الفصل الرابع فوضى العالم الغربي {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 3/ 54] ــــــــــــــــــــــــــ

لم يذكر إقبال حين تحدث عن ((السرعة الهائلة التي يتحرك بها عالم الإسلام في جانبه الروحي نحو الغرب)) سوى ذلك الجانب الخاص، في ظاهرة سبق أن أدركها المؤرخ الكبير ابن خلدون في عمومها، حين قال: ((إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده))، وقد أطلق الاصطلاح الحديثه على هذه الظاهرة (قانون التكيف). ولقد لاحظنا أن إقبالاً كان دائماً يضطرب عندما يقتضيه الأمر تحديد موقفه، كما هي حاله في مشكلة المرأة، فرأيناه يتردد بين عوائد الشرق التي تفصل المرأة عن دنيا الناس بحجاب تخفي به وجهها، (ومشربية) ترى منها الناس ولا يراها أحد؛ وبين فكرة الغرب عن تحرير المرأة دون قيد أو شرط، فتلقي لها الحبل على الغارب في دنيا الناس. هذا الموقف شاهد على الاضطراب العام الذي أصاب الضمير المسلم الحديث، التائه بين حلين يبدو كلاهما لعينه باعثاً على الأسى. ويبدو أن رجال الإصلاح في كثير من المجالات يبحثون عن حل ثالث أكثر توافقاً مع فكرة الإسلام ومع ضرورات العصر، بيد أن هذا البحث في ذاته يطفح بألوان التردد والمعاناة. ولا شك أن اضطراب أقطاب الفكر المسلمين يحدث وقفة في تطور الأفكار، إذ ليس في وسع المجتمع الإسلامي أن يعود إلى الوراء، وإلى مرحلة ما بعد الموحدين، أو أن يطفر إلى الأمام طفرة عمياء في حركته (نحو الغرب). وهكذا تشعرنا حالة العالم الإسلامي بأنه يقف في منطقة (حرام) في التاريخ، ما بين فوضى ما بعد الموحدين والنظام الغربي.

بيد أن هذا النظام لم يعد له ما كان يتمتع به من تأثير ساحر، وجاذبية غلابة ظفر بها على عهد مصطفى كمال وإقبال، فالعالم الغربي الآن قد أصبح حافلاً بمشاهد أخرى من الفوضى، لا يجد فيه الفكر الإسلامي الباحث عن (النظام) نموذجاً يحتذيه، ومنبع إلهام خارجي يهدي مساره التقدمي، حتى لقد أوشك أن يرجع إلى قيمته الخاصة. وهكذا نلمح في مطالعات الشباب المسلم وفي مناقشاته أمارات اهتمام جديد بالإسلام، لا ينطوي على أثارة من الانطواء، فهذا الإسلام يبدو- على العكس- متفتحاً بشكل واع لاستقبال العالم الحديث والتكيف مع قوانينه وأوضاعه، وهو يعلم أن الغرب لا يسعه أن يقدم له كل ما يتطلب من حلول كما كان الشأن أيام أتاتورك، وإنما هو واجد فيه إذا ما أراد نتائج تجربة هائلة ذات قيمة لا تقدر، على الرغم مما تحتوي من أخطاء، بل بسبب ما بها من أخطاء. هذه التجربة التي تعد درساً خطيراً لفهم مصائر الشعوب والحضارات، هي جد مفيدة لبناء الفكر الإسلامي، لأنها صادفت أعظم ما تصادفه عبقرية الإنسان من نجاح، وأخطر ما باءت به من إخفاق، وإدراك الأحداث من الوجهين كليهما ضرورة ملحة للعالم الإسلامي في وقفته الحالية، إذ هو يحاول ما وسعته المحاولة- منذ قضية فلسطين- أن يفهم مشكلاته فهماً واقعياً، وأن يقوم أسباب نهضته كما يقوم أسباب فوضاه تقويماً موضوعياً. ويبدو أنه يريد بهذا التقويم أن يصفي استبهام الأمر أمام سعيه، ذلك الاستبهام الذي تفقد فيه كل فكرة معناها ومغزاها، فقد لاحظنا لديه اتجاهاً إلى الفهم، وقد كان من قبل يستهدف التعلم، كما لاحظنا لديه اتجاهاً إلى محاولة إدراك مغزى التاريخ في أوربا، أكثر من أن ينقلها بحرفها بكل بساطة. فإذا ما أدرك العالم الإسلامي أن صدق الظواهر الأوربية مسألة نسبية،

فسيكون من السهل عليه أن يعرف أوجه النقص فيها، كما سيتعرف على عظمتها الحقيقية، وبهذا تصبح الصلات مع هذا العالم الغربي أعظم خصباً، لتظفر الصفوة المسلمة إلى حد بعيد بمنوال تنسج عليه فكرها ونشاطها. ولا شك أن هذا الإشعاع العالمي الشامل الذي تتمتع به ثقافة الغرب، هو الذي يجعل من فوضاه الحالية مشكلة عالمية، ينبغي أن نحللها وأن نتفهمها في صلاتها بالمشكلة الإنسانية عامة، وبالتالي بالمشكلة الإسلامية. إن تحليلاً كهذا يتيح للمسلم حتماً أن يقف أمام نظام أوربا بوصفه إنساناً لا مستعمَراً، وبذلك تنشأ حالة من التقدير المتبادل والتشارك الخصيب، بدلاً من تلك العلاقة المادية الصرف، التي لم تعد في جوهرها علاقة أوربا المستعمِرة بالعالم الإسلامي القابل للاستعمار، قل ذلك أو كثر. ولن تقتصر فائدة هذا التعديل على عالم الإسلام فحسب، إذ أن الواقع الاستعماري إذا كان قد أضر بحياة المسلمين إضراراً بليغاً، فإنه قد أضر كذلك بالحياة الأوربية ذاتها، لأن الاستعمار الذي يهلك المستعمرين مادياً، يهلك أصحاب أخلاقياً، وذلك ما يشهد به تاريخ إسبانيا منذ اكتشاف أمريكا. لكنا نلاحظ أن الأمم الاستعمارية على الرغم من إدراكها لأخطار الاستعمار، تعمى عن هذه الأخطار، كأن هنالك قدراً محتوماً يقضي على يقظتها ووعيها. ومع ذلك فيجب أن نذكر اتجاه هذه الأمم الآن إلى تعديل علاقاتها السياسية بالبلدان المستعمَرة، فقد أفسحت علاقة السيطرة مكانها شيئاً فشيئاً لعلاقات مؤسسة على الاحترام؛ والهند من شواهد ما نقول. أما فيما يتصل بأوربا فإن ما ألصقته القرون بعاداتها، وصبغت به حياتها يشق على الاتجاه الجديد أن يعدل حروفه، فما هو بالأمر الهين أن تعدل نفسية

الأمم وعاداتها، التي هي في الواقع أساس الفوضى الأخلاقية هناك. ولعلنا نكشف في هذه الصفحات عن علاقة هذه الفوضى بمثيلتها في العالم الإسلامي. والواقع أن هناك تأثيراً متبادلاً بين فوضانا وفوضى أوربا، فكلتاهما ذات وجهين، وذلك أن لفوضى أوربا وجهاً يعد نتيجة بسيطة، ولكنها محتومة للحركة التاريخية، أعني للعوامل الداخلية التي حتمت هذه الحركة، ولها وجه آخر عارض نتج عن تأثير الواقع الاستعماري على الحياة، وعلى العادات، وعلى الأفكار، منذ أكثر من قرن. هذان الوجهان يؤلفان في مجموعهما ظاهرة مشتركة في جميع الحضارات، هي ظاهرة تخلف الضمير في نموه عن العلم وعن حركة الفكر. فما الضمير إلا تلخيص نفسي للتاريخ، وخلاصة لأحداث الماضي منعكسة على ذات الإنسان، فهو بلورة للعادات والاستعدادات والأذواق. فكل ما لا يدخل في ميدان السوابق التاريخية التي تكون هذه العناصر يظل غريباً عن الضمير، فهناك مثلاً كثيرون منا لا يميلون إلى ركوب الطائرات، لأنهم ما زالوا لا يتصورون أن شيئاً أثقل من الهواء يمكن أن يحمله الهواء، فهذه الحقيقة لم تدخل بعد في تركيب الضمير، وكذلك الأمر بالنسبة لجميع فتوحات الفكر، فكلما فقدنا اتصالنا المباشر بماضينا وتقاليدنا وعوائدنا فقدت ضمائرنا قدراً كبيراً من مكوناتها الأساسية، لأن هذه تظل بعيدة عن مخالطة الضمير. تلكم هي مأساة الحضارة الحديثة في عمقها، فإن الضمير الحديث لم يتمثل بعد أغلب ما حققه العلم من مخترعات. هذا التخلف بين الضمير والعلم كان هو السبب المباشر في الانفصال الذي حدث في العالم الإسلامي في (صفين)، فالقرآن باعتباره نظاماً فلسفياً كان علماً يتجاوز في مداه آفاق الضمير الجاهلي بطريقة فريدة، فنتج عن ذلك انفصال بين أولئك الذين تمثلوا الفكر القرآني الجديد، وأولئك الذين استعبدتهم حمية الجاهلية

وأفكارها الاجتماعية، وشرائط الحياة التي جاء القرآن ليمحوها محواً من طبائع الناس. وتعد هذه الظاهرة هي السر الذي تحكم في التاريخ الإسلامي منذ ثلاثة عشر قرناً، فإذا غابت في غمار القرون، بعثتها ضروب الصراع الباطن من رمسها ما بين أزمة وأخرى. وما كانت حركة الخوارج في الجانب السياسي، وحركة المعتزلة في ميدان الفكر، إلا محاولات للجمع بين الفكر القرآني والضمير المتخلف الذي ما زال يتهرب من الحقائق المنزلة، وكان السبب في هذا الصراع كله، ما كان يعانيه العالم الإسلامي من انفصال بين سلطانه الزمني وفكرته القرآنية. فإذا صح أن الانحطاط منحصر بين هذين الطرفين من بعد، وهو صحيح، فإن النهضة تكون هي ما يبذله العالم الإسلامي من جهد في الميدان النفسي، هي حركة ضميره ليتدارك تخلفه عن الفكر القرآني، وعن ركب الفكر العلمي الحديث. ونستطيع أن نلاحظ أن الحركة ذاتها في تاريخ أوربا، حيث يفسر البعد بين العلم والضمير ما شاء فيها من فوضى، بوصفها نهاية محتومة لما أصابها من انفصالات متتابعة: حدث الانفصال الأول في مجال أخلاقها باسم الإصلاح، بيد أن انشقاقات كثيرة- من مثل انشقاق الحركة الألبية- قد أثبتت أن الضمير المسيحي عاجز عن مواجهة الفجوة التي كانت تفصله عن النزعة العقلية الناتجة عن التطور العلمي. وحدث الانفصال الثاني في مجال سياستها بحدوث الثورة الفرنسية، تلك التي حطمت التوازن الاجتماعي التقليدي، وأحلت محله وضعاً قائماً على المساواة بين الأفراد، بيد أن هذه المساواة النظرية لم تكن إلا توازناً لاقرار له، فقد كانت الظروف تهيئ انفصالاً في نطاق الشعب، بطل النظام الجديد. وكان قد نجم في صفوف اليعاقبة اتجاه عمالي معارض لاتجاه طبقة متوسطة. حتى إذا ما أعدم روبسبير، وسقط المجلس الشعبي الأول بباريس، انتصرت الطبقة المتوسطة. ومع ذلك فقد ظل الصراع خفياً بين جناحي المجتمع

الجديد؛ فإن الطبقة المتوسطة (البورجوازية) قد استهلت عهد الرأسمالية الجديد، كما أدى صراع العمال إلى ظهور طبقة جديدة، هي الطبقة العاملة (البروليتاريا). ولكن العالم الذي نتج عن هذا التطور المزدوج كان حافلاً بضروب التعارض، متهيئاً لتقبل صنوف الانفصال التي تصيبه. والواقع أن الشعب وجد نفسه نهائياً منشقاً إلى معسكرين عندما حملت الطبقة العاملة لواء (المادية الجدلية) في وجه (المادية العملية) التي تدين بها الطبقة المتوسطة الأوربية. وظل الصراع حيناً من الدهر على مستوى عال بين الاقتصاديين العمليين التقليديين، وعلى رأسهم آدم سميث وريكاردو، وبين الاقتصاديين الجدليين أصحاب المدرسة الجديدة، وفي مقدمتهم فردريك أنجلز وكارل ماركس، وذلك بصرف النظر عن الحركات النقابية الفوضوية، من مثل ما دعا إليه باكونين (¬1)، حتى إذا قامت الشيوعية الدولية الأولى بعد مؤتمرات بروكسل ولندن التحضيرية، وبعد إعلان قيام مجلس للشعب في باريس عام 1871، انقسم الشعب نهائياً إلى طبقتين متميزتين ومتعارضتين، لم تقتصر معاركهما على الميدان الفلسفي، بل نشبت أيضاً في المجال السياسي. هذه فترة من تاريخ أوربا وقد أصابها الانفصال في أوضاعها الأخلاقية والسياسية والاجتماعية، وهي الفترة المعاصرة لجبروت العصر الاستعماري، ولبوادر النهضة الإسلامية الأولى؛ وبهذه الدفعة المادية المزدوجة: دفعة البورجوازية، ودفعة البروليتاريا، تجلت أوربا للوعي الإسلامي فأدرك نفوذها في تطوره الفكري والسياسي. فهو لم يكتشف في أوربا هذه حضارة، بل أكتشف فوضى كانت تتعاظم داخلها الانفصالات طبقاً لعاملين كان لهما في هذا الشأن وزن كبير، هما: سرعة النمو العلمي، والتوسع الاستعماري. ¬

_ (¬1) باكونين، روسي استوطن سويسرا، قام ما بين 1840 - 1870 بحركة نقابية في أوربا.

ولقد تحالف هذان العاملان اللذان نطلق عليهما: النزعة العلمية، والنزعة الاستعمارية ليصبحا قدراً مكتوباً على أوربا، كما صار علم الكلام قدراً على مجتمع ما بعد الموحدين. وكان من شأن هذين التأثيرين، أن انزلقت أوربا إلى حمأة المادية، فما تمالكت أن حثت خطوها نحوها، يحدوها ما أحرزه العلم من ازدهار هائل مبدع. وكانت الفجوة بين هذا العلم الذي قلب الأوضاع، وبين الضمير التقليدي الناكص تزداد اتساعاً وعمقاً كلما جد جديد، أو حدث اكتشاف في ميدات العلوم. وغرق ذلك الضمير الذي طأطأ رأسه منذ نهاية القرن الثامن عشر أمام إله العلم فغمره فيضان علمي حقيقي في بداية القرن العشرين، استودع في النفسية الأوربية (طمياً) نما فيه الفكر الديكارتي، حتى انقلب أحياناً نزعة (ديكارتية) عقلية خطرة؛ لقد افتتنت (الذات) الأوربية بما حررت من قوى، فاستسامت لسحر عبقريتها. ولكن هذه (الذات) قد قامت في الواقع بدور (تلميذ الساحر)، فلقد أبدعت آلات لم تستطع السيطرة عليها، ثم استنامت لتلك الآلات تقودها بعقل آلي، وتزدردها في أحشاء من حديد؛ فصارت الحياة أرقاماً، وأضحت السعادة مقيسة بعدد ما لديها من وحدات حرارية وهرمونات، وصار العصر عصر (كم) يخضع الضمير فيه للنزعة الكمية، كما صار عصر النسبية الأخلاقية، فقد استهل قرنه بالمبدأ القائل: ((كل شيء في الحياة نسبي))، فلم يعد أحد يدرك معنى (الفضيلة المطلقة)، بل إن الكلمة نفسها قد أضحت من المعميات، أضحت كلمة ميتة لا معنى لها، لأن القرن العشرين وهو قرن العقل الوضعي الذي يشبه عقل الآلة، لم يعد يفهم شيئاً وراء التصورات النسبية للمادة. لقد مات معنى الفضيلة (المطلقة)، من الوجه الذي مات منه مفهوم (العدالة) في قول أحد الأوربيين: ((إن تسوية جائرة خير من قضية عادلة))،

وسارت الحياة الاقتصادية نفسها إلى مصيرها، يوم وجد بعض الناس في أنفسهم قحة وجرأة ليؤكد أن ((التجارة هي السرقة الحلال)). وهكذا نجد أن أوربا النازعة إلى (الكم) وإلى (النسبية) قد قتلت عدداً كبيراً من المفاهيم الأخلاقية، حين جردتها من أرديتها النبيلة، وأحالتها ضروباً من الصعلكة، وكلمات منبوذة في اللغة، طريدة من الاستعمال ومن الضمير، وكأنما صارت القواميس (أحياناً) مقابر لكلمات لا توحي بشيء، لأن مفهومها لا ينبض بالحياة. ولقد تعاظم خطر تلك النزعة الكمية في أوربا طبقاً (للعامل المضاعف) المتمثل في القوة الفنية، والذي تملكه صناعة غزت العالم، كأنها أخطبوط يضاعف بصورة هائلة شهوة الإنسان إلى المادة، فهي تملي على الطفل اتجاهه في الحياة، فلا يختار طريقه فيها إلا وقد وضع نصب عينيه ما يأخذ من المجتمع لا ما يعطي، إنه يبحث عن حظه لا عن رسالته، وتلك طريقة جيدة لإعداد مدير المستقبل في المستعمرات، لأن ذلك الموظف لم يعد لديه أدنى قدر من التحفظ الذي يحول بينه وبين الأخذ بمبدأ النسبية الأخلاقية في بلاده، بل المضي فيه إلى أبعد مدى. فهناك في المستعمرات تسلك الأخلاق النسبية في نفوس الناس باسم (السيادة القومية)، وبذلك يسقط قناع (التحفظ) كأنه مسحوق يذوب بحرارة الشمس، في جو حميت فيه الشهوات المنطلقة والغرائز المطلقة، فالناس ما بين راغب وآخذ. والناس في أوربا ذاتها، قد احتاجوا ما درجوا عليه في حياة المستعمرات من عادات وأذواق وأفكار، فلم تعد مطامحهم تسعى لإدراك (علة) الشيء، ولا (كيفية) حدوثه، وإنما هي متعلقة بالبحث عن (الكم)، غير أنهم يحاولون نفاقاً أن يستروا هذه النزعة بما يتيسر لهم من البلاغة واللسن، لكن هذه البلاغة سرعان ما تختفي لتنكشف الأمور على حقيقتها، وتتسمى بأسمائها، فإذا بالقط قط، وقد كان منذ قليل نمراً، وإذا بالنزعة الكمية تشمل مرافق الحياة الاجتماعية

جميعاً، في الإنتاج وفي عمليات الدفع والشراء، بل في عملية الأكل أيضاً، فالحياة تجري على سنن (الكم) وحده. لقد أصبح (الرقم) سلطاناً في المجتمع الفني الآلي الذي قام بأوربا منذ عام 1900، وصار الإحصاء لا معقب لحكمه، فليس للفطرة الإنسانية، أعني الضمير الإنساني ذاته، دخل في الحياة الجديدة، شأنه في ذلك شأن ما لا يدخل في عداد الأرقام، ولا يقاس بالكمات، وبذلك أصبحت حياة الإنسان مجرد وظيفة تكم الأرقام، فالآلات هي التي تحرر وتحسب، تسخر الإنسان للانخراط في حركة أجهزتها. إن قانون (لاسال) الذي أطلق عليه (القانون الفولاذي) قد أصبح المتحكم في مصير الإنسان، والخالق للحمه وأعصابه، حتى جعل منه آلة عاقلة. بل إن (الحاجة) التي تعد من ألصق الأمور بالإنسانية، حتى هذه تجردت الآن من إنسانيتها، فتحولت ضرباً من ضروب التجارة، فما يتصورها أحد هنالك أو يقرها إلا حيث تكون مربحة. أما الحاجات الإنسانية العامة، وخاصة حاجات الأرملة واليتيم والشيوخ والمرضى فهي ليست مربحة، لأن الآلات لا تعرف الحساب الأخلاقي أو التقديرات الميتافيزيقية. ألا ما أعجب منطق الآلة: تدور المعامل، وتقدم إليها المستعمرات المادة الأولية واليد العاملة بثمن بخس، ثم تنتج المصانع ويقبل على شراء إنتاجها المستهلكون الذين يقدرون على الدفع، فتحسب الحاسبات قوائم الأسعار وترصد الأرباح والأجور وساعات العمل. ولا شك أن هذه الآلية عجيبة رائعة، شريطة ألا تندس حبة من الرمل بين أجهزة المحرك؛ لكن هذا لم يكن إلا وهماً، فمنذ عام 1914 والآلة الحديثة تعاني

نقصاً رهيباً في أجهزتها، إذ لما لم تعد مصادر المواد الأولية كافية، دارت محركات لتطحن الهواء، وتوقفت محركات أخرى أو كادت، فلم تعد تشبع إنتاجاً منهوماً لا يشبع، لقد تفجرت ضوضاء الآلات بين أيدي صانعيها؛ فبعد سنوات أربع غمرت بملايين القتلى وأحداث الهدم والتخريب، ظفرت الحياة في أوربا بلون من الاستقرار، فاستأنفت المحركات دوراتها المنتظمة، لكن هذا الانفصال الذي حدث عام 1914 - 1918 لم يسكب عبرته في الضمائر المفتونة بسحر المال، السكرى بالشمبانيا، فقد أخفى الرخاء الظاهر المؤقت عنها لذعة الواقع. ومع ذلك ففي عام 1930، سمع الناس من جديد صوت احتكاك رهيب في أجزاء الآلة، وكشفت الأزمة التي بدأت تستحكم عن السرطان الأخلاقي الذي يلتهم الحضارة، ويدلل على أن النهضة الفنية وحدها عاجزة برسومها ومعادلاتها عن حل المشكلة الإنسانية. لقد توقفت الآلات عن الدوران والكتابة وحساب ساعات العمل والأرباح، وطال صف العاطلين أمام صناديق البطالة، وسكن البؤس منازل الناس. ولكن سخرية مؤسية خيمت على هذا البؤس، فلأول مرة في التاريخ الإنساني تصبح علة البؤس وفرة الإنتاج لا قلة الثروات، وتلك أمارة عبقرة القرن العشرين، فلقد استطاعت بعملها أن تجعل من أسباب الرفاهية عوامل فاقة وشقاء. فأين إذن مكان الداء .. ؟ هل هو في تفوق المنحنى البياني للإنتاج على منحنى الاستهلاك .. ؟ هذه مسألة صبيانية!! فالفنيون الذين يلمون بمعرفة الحساب يعرفون كيف يصححون المسائل، ويعيدون المنحنيات إلى مستوى معين، وبذلك يكون الحل رياضياً يتلخص في إعدام الفائض، فهذا أبسط شيء، وبهذه الصورة تم إحراق القطن والقمح والبن، على الرغم من أن شعوباً كثيرة لا تجد أثراً منها في بلادها. وهكذا وجدنا أن الحضارة التي أبدعت نظرية

(مالتوس) القائلة بتحديد النسل للموازنة بين الثروة وبين مستهلكيها، تشرع في تطبيق هذا التحديد على الأشياء المستهلكة لا على المستهلكين. لم تنهض أية سلطة روحية للتنديد بتلك الفضيحة، فأولئك الذين كانوا يستطيعون إنقاذ أوربا من فوضاها الاقتصادية لم تكن حاجات الشعوب لديهم مربحة، فإن الشعوب المستعمَرة العارية الجائعة لم تكن تستطيع أن تشتري شيئاً، فلقد عدها المستعمرون مجرد أدوات للعمل، فخرجت بذلك من عداد المستهلكين. إن النظام الذي خلق الفوضى في أوربا ذو صبغتين، فهو علمي واستعماري في آن واحد، فإذا ما كان في أوربا فكَّر بمنطق العلم، أما إذا انساح في العالم فإنه يفكر بعقلية الاستعمار، حتى إذا وافى إبان الأزمة عام 1930 كان المنطقان قد امتزجا، وبلغ الوحش بهذا الامتزاج أبلغ أحوال الضراوة. وبتأملنا للظواهر في تخلقها، نجد أن حريق عام 1939، لم يكن سوى عودة للضرام، في لحظة نقم فيها ميكيافيلي على نفسه، وسخط الشيطان على عمله، فهدم ما كان قد بناه، وتلك لحظة تهب فيها ريح القضاء المبرم على شراع الإنسانية المشرع، حتى يبلغ القدر مداه، لقد علمنا رسول الله (محمد) - صلى الله عليه وسلم - وهو النبي الاجتماعي درساً قال فيه: «من حفر مغواة لأخيه أوشك أن يقع فيها» (¬1)، وكان أخوف ما يخاف على أمته ما ترتكب من مظالم لا ما تتعرض له منها (¬2). ولقد صدق تاريخ عصرنا لسوء الحظ هذا الحكم، فأوربا التي كان عليها أن تهدي سعي الإنسانية، قد اتخذت من مشاعل الحضارة (فتيلاً) يحرق بدل أن ¬

_ (¬1) غريب الحديث 3/ 334. (¬2) يتفق هذا في المعنى مع ما ورد في إحدى وصايا عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي قال فيها: ((باعد بين جنودك وبين المعصية، فإن ذنوب الجيش أخطر من عدوهم، وما لم ننتصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا)).

يضيء، وفي ضوء ما أشعلت من نار أشاعت وهجها في المستعمرات حتى جارت على أرضها هي؛ أوربا هذه رأينا الفوضى تنتشر فيها، الفوضى نفسها التي أشاعتها في بقية أجزاء الأرض، والضلال نفسه. بل إنها قد تجرعت الكأس المحتومة نفسها؛ كأس الاستسلام لقوى الشر الأسطورية، نعم .. الأسطورية؛ فعلى الرغم من أن أوربا قد دانت لمناهج ديكارتية علمية محض، وعلى الرغم من أن الصناعة قد سادتها حتى بلغت في تنظيمها الصناعي أقصى مداه بنظرية (تايلور)، فإن لها أيضاً أساطيرها وخرافاتها، وهي أساطير ذات أثر (كاف)، ولكن بصورة غير التي عهدناها في أساطير مجتمع ما بعد الموحدين. فإذا كان الشلل في بلاد الإسلام بليداً خامداً لا حس له، فإن الشلل الأوربي على العكس من ذلك شلل ذو رعشة وضجيج، بل إن الأساطير الأوربية خطيرة إلى أبعد غاية، لأنها تتصرف في قوة الآلة وقوة المادة، وما دام الأمر هكذا فيوشك أن تهدم كل شيء بطريقة علمية، فتنسف بقنابلها الذرية البلاد والعباد. والعجيب أن أساطير أوربا أساطير علمية، لها مجامعها وفقهاؤها وشعراؤها. فقبل الحرب العالمية الأولى بقليل، كان أحد الضباط الشبان واسمه (أرنست بسيكاري) يعمل في منطقة موريتانيا، فأثار حماسته ما رأى عليه مسلمي هذه البلاد من بساطة وعمق في إيمانهم، فكأنما ساقته العناية إلى هنالك لتبعث في خاطره روحاً من التأمل والرجوع إلى النفس، كان من نتيجته تغير كامل في حياته، وهداية إلى الطريق الذي أدى به إلى الكنيسة (عصبة أسلافه) كما قال، وهو أمر طبيعي، ولكن شريطة ألا يتنكر المرء لمن هداه إلى سواء الصراط!!! أما الذي حدث منه فقد كان على العكس من ذلك، ففي أثناء رحلة قام بها إلى موريتانيا فيما بعد، جلس مع شاب مسلم من أبناء البلاد، اتخذه رائداً،

فأخذ يتمدح أمامه بالقوة المادية التي تتميز بها الحضارة الحديثة، فعقب الشاب البدوي على كلامه قائلاً: ((لكم الأرض، ولنا السماء)). كم كان من اللائق أن يبسم لبراءة محدثه، ولكنه كتب بعد ذلك يقول في (مفكرته) هذا التعجب الدال على مكنون نفسه: - آه!! تلك كلمة لا يحق للمسلمين أن يتلفظوها. من أين انبعثت هذه الصرخة الشاذة الصادرة عن رجل لم يعد إلى حظيرة الدين إلا منذ عهد قريب .. ؟ إليك السبب: لقد كان بسيكاري ابن أخت (رينان) الفيلسوف المشهور بعداوته للإسلام، فتفكيره هذا يتفق بصورة مذهلة مع تفكير خاله، (وقد كان ابن الأخت يرفض هذا التفكير بسبب ما فيه من إلحاد)، فقد كتب رينان عقب حرب عام 1871 هذه السطور، وهي شاهد من وجه آخر على العنصرية المتأصلة في فطرتهم، وعلى النزوع إلى احتقار الإنسانية قال: .. ((جنس واحد يلد السادة والأبطال، هو الجنس الأوربي، فإذا ما نزلت بهذا الجنس النبيل إلى مستوى الحظائر التي يعمل فيها الزنوج والصينيون فإنه يثور، فكل ثائر في بلادنا هو بطل لم يتح له ما خلق له، وهو إنسان ينشد حياة البطولة، فإذا هو مكلف بأعمال لا تتفق وخصائص جنسه. إن الحياة التي يتمرد عليها عمالنا يسعد بها صيني أو فلاح أو كائن لم يخلق لحياة الحرب، فليقم كل امرئ بما خلق له، لتسير الحياة على ما يرام)). فهذا العالم الكبير قد خلّى- ولا شك- بين قلمه وبين الضلال أكثر من مرة، بغض النظر عما تحتويه هذه الأسطر من ضعف فكري، فهو يكشف لنا ضمناً عن (الأسطورة العظمى) التي فاقت سائر الأساطير في أوربا منذ قرن، فالخال وابن أخته يكرعان من نبع واحد هو امتياز (جنس السادة)، وهو نبع

للأساطير الدامية، كأسطورة (ملوخ)، الإله الذي لا يشبع مما يقدم له عباده من قرابين بشرية؛ والصنم الذي تمخض عن الاستعمار، عدو الإنسانية، فتمخض عن النازية عدو أوربا، لقد هدمت هذه الأسطورة جميع ما أمرت به الديانة المسيحية من فضائل، بل تعدت ذلك إلى الهجوم على (الله) ذاته، فحاولت أن تسلخ الإيمان به من الضمير الأوربي، فهي هنالك تسكن قلوب الناس، وتقيم في أفكارهم، وتحرك إرادتهم، وتوحي إلى الشباب دائماً اتجاههم ورسالتهم. وما التاريخ منذ قرن من الزمان إلا ملحمة للفكر الاستعماري، فالطفل الذي يولد في أوربا يشعر في استقباله الحياة كأنما سبقت تهيئته للاستعمار، فإذا ما أخطأ وجهته لم يصرفه ذلك عن تغذية ذهنه بأفكاره، كما يتغذى هو من خيرات المستعمرات. ولكن سرعان ما يعود اللهب ... فلقد انقلب الاستعمار في الضمير الأوربي إلى قومية عمياء، آلت بعد تصفيتها وتكريرها إلى أسطورة (الجنس المختار)، التي ستتخذ فيما بعد ذريعة إلى بلوغ قمة البربرية، وبذلك أدى قيام الاستعمار على أساس احتقار الأجناس إلى نشوء (جنس أسمى) بين سائر أجناس البشرية. وما كانت حرب 1914 - 1918 في الواقع سوى فترة وسيطة بين الحركة الاستعمارية والحركة النازية، أعني مرحلة من التصفية، فلقد تشبث كل طرف آنذاك بمصالحه المادية، فاختلطت المفاهيم التي عهدناها متمثلة في كلمات مثل: الله، القانون، الإنسان، اختلطت بالبترول والقصدير. وأصبح التاريخ رقية تتلى على المفاهيم الميتة ليبتعثها من مراقدها، حيث دفنتها حضارة الرقم والآلة؛ ومن هذا الوجه أقحم الدين إقحاماً، كأنه ضرب من التعاويذ والرقى لتأمين المنافع المادية، وهو إقحام طبع العبقرية الديكارتية طبعة شاذة. أما الذي حدث فعلاً فقد كان عكس ذلك تماماً، فحين دعا هؤلاء (الله) سبحانه ليعينهم على أن يؤدوا أعمالاً فاسدة، لينهبوا ويفسدوا ويقتلوا، بعث الله إليهم

(الشيطان) ليتم لهم عملهم، ويبث في قوانين المجتمع ونظمه ما كان قد نجم في طباع الفرد من خبث وسوء. فالمستعمر الذي تعود تسخير (المستعمَر في العمل) لوته عادته عن مهمته الحقيقية، وعرّته عن معنى حضارته، وكانت مباشرته الظلم سبباً أنساه العدالة وأصولها: من احترام القانون والشعور بحق الآخرين، وأدت به السهولة التي جرت عليها الحياة الاستعمارية إلى إنسائه كل جهد، بما في ذلك الجهد الفردي، حتى إن طائفة من المستعمرين بالجزائر وهي تقارب مليوناً من الأنفس لا يبلغ جهدها الفكري قدر ما يبلغه جهد مدينة صغيرة في فرنسا. وهكذا يتجرد المستعمر من حضارته في هدوء فيتوحش وينحط، من حيث أراد أن يفعل ذلك بالمستعمر، ولكن ((من حفر مغواة لأخيه وقع فيها))، وبذلك تتم النبوءة، فالرجل الاستعماري هو نفسه قد أصبح اليوم معزولاً عن حضارته، فلم يعد يفهم ماهية مشكلاتها، فإن تعصبه العنصري قد هاج من (نزعته الفردية) في النطاق القومي، وأوقد نزوعه إلى الحرب في النطاق العالمي. وهكذا أيضاً لم تعد الإدارة الاستعمارية إدارة عامة، أو هيئة من هيئات الدولة، بل أصبحت بالتدريج (شركة أفراد) أو بعبارة أصح أصبحت (عصابة) كتلك الشركة التي كانت بالهند منذ بعيد. لقد صارت شركة مستقلة لا تتصل لوائحها ونظمها الداخلية تقريباً بمصالح بلادها المستعمرة، ولا علاقة لها البتة بمصالح الشعب المستعمَر (¬1)، فليس الأمر أمر إدارة، بل هي فرق من الموظفين يسعى كل فرد فيها وراء مغنمه، ويستولي استيلاء على كل ما تطمح نفسه إليه. ¬

_ (¬1) يلمس القارئ شاهداً على هذا مما احتدم من نزاع بين حكومة ديغول القومية وبين عصابة المتمردين بزعامة (سالان).

وبهذا رأينا المستعمر الذي تخلى عن كل وازع أخلاقي، فلم يعد يتحفظ في شيء داخل المستعمرات، يوشك أن يتخلى عن كل وازع داخل بلاده أيضاً. فالنبوءة تتم، وأوربا بدورها تصبح ميداناً تسوده الروح الاستعمارية، ولو أننا أردنا أن نلخص خطوها البطيء الثابت في هذه الحركة المقدورة، فلن يسعنا إلا أن ندع أحد المستعمرين يتحدث عن هذه الظاهرة: هذا هو (إميه سيزير) (¬1) يتحدث في إحدى مقالاته حديثاً، يدلنا على الثروات الإنسانية التي كاد يحطمها الاستعمار فيقول: ((إن من الواجب أن نبين أولاً كيف يعمل الاستعمار على تجريد المستعمَر من حضارته، والانحدار به إلى مستوى التوحش بمعنى الكلمة، حتى أيقظ فيه الغرائز الدنيا، وسوّل له الجشع والعنف، والحقد العنصري، والنسبية الأخلاقية، ومن الواجب أيضاً أن نبين أنه طالما كانت في الهند الصينية (فيتنام) رأس مقطوعة، أو عين مقلوعة، ورضي بذلك الفرنسيون، وطالما كانت هناك فتاة مفتضة كرهاً ورضي الفرنسيون، أو مدغشقري معذب ورضي الفرنسيون، فإن طارئاً في هذه الحضارة يضغط عليها بثقله الرهيب، وتقهقراً عاماً يسودها، ولصوصية تستقر في جوانبها، وبلاء محيقاً يمتد ليطوقها. وليعم أولئك الذين يزعمون أنهم قوامون على الحضارة الإنسانية أن لكل شيء نهاية، وأن نهاية الغدر بالمعاهدات، ونهاية هذه الأكاذيب المتفشية، وهذه الحملات التأديبية الغاشمة، وهؤلاء المسجونين المقيدين المستجوبين، وأولئك الوطنيين المعذبين، ونهاية هذه الغطرسة العنصرية، وتلك الثرترة المنشورة، نهاية هذه جميعاً سم مصفى يتسرب في شرايين أوربا، وتقدم بطيء ثابت لأخلاق الوحشية حتى تعمها. وإذا بالناس يفيقون ذات يوم على رجع الصدى، ¬

_ (¬1) هو أحد الكتاب الزنوج في المستعمرات الفرنسية.

فالجاسوسية تنشط، والسجون تنز بمن فيها، والجلادون يخترعون آلات النكال، ويهذبونها ويتناقشون حولها، فيغضب الناس ويصرخون قائلين: ((عجباً!! ها هي ذي النازية، لا بأس .. عاصفة .. وتمر))، وينتظرون على أمل، ويطول بهم الانتظار، ولكنهم يتكتمون في أنفسهم الحقيقة المرة، وهي أن النازية هي البربرية، ولكنها البربرية العظمى التي تتوج وتتمثل سائر ما شهدت أوربا في أيامها من بربريات ... أجل هذه هي النازية، ولكنهم قبل أن يصبحوا ضحاياها، كانوا شركاء في جرمها، فهم قد ساعدوها قبل أن يعانوا من إجرامها، لقد غفروا لها، وأغمضوا أعينهم عن بوادرها، بل خلعوا عليها صفة الشرعية، لأنها حتى ذلك الوقت كانت تخوض في شعوب غير أوربية. لقد زرع الأوربيون هذه النازية الشريرة، فهم مسؤولون عنها، وقد حان الوقت لكي يؤتي الزرع أكله، فينز ويقطر، قبل أن يطفح في تلك المياه الحمراء ما تحتويه دماميل الحضارة الغربية المسيحية ... )). إن ضروب الانفصال والفساد، وصنوف الغدر والخيانة تتضاعف وتستشري كل يوم في أوربا، وبقدر ما يستخدمون العدالة وسيلة من وسائل الضغط والاضطهاد في المستعمرات فإن قيمتها تنحط في بلادهم نفسها، وكلما زوروا الانتخابات وزيفوها في المستعمرات تعودوا هم في أوربا طعم التزييف في الحياة المدنية، وكلما فرضوا ألوان القيود على ضمائر الشعوب المستعمرة فقدوا هم معنى احترام الضمير؛ إنهم يتمزقون أكثر مما تتمزق المستعمرات. ولقد نشهد فيما بينهم صراعاً رهيباً حتى في المجال العلمي، وذلك عندما يقف (ليسنكو Lyssenko) ليحاول إنزال (ماندل Mandel) و (وست مان Wiestman) و (مورجان Morgan) عن عرش البيولوجيا. أنا لا أشك في أن العلم يجني فائدة ما من هذه المساجلات، ولكنها لم تقتصر على الكشف عن قوانين

الوراثة واستكمالها، فقد كان كل منهم ينازع غالباً ليظهر للناس أنه أعظم حجة وأعز نفراً. فالتمزق هنا لم يصب الضمير العلمي، وإنما أصاب ضمير الإنسانية المتهيئ لجميع الانفصالات، المستعد لضروب المنازعات، المشرف على منازل القيامة. ولعل في ضمير الغيب مصيراً محزناً ينتظر هذه الإنسانية، إذ عساها تعود إلى عهود الكهوف، وقد توحي إلينا القنابل الذرية في الغد بفن جديد من فنون العمارة، عمارة الحياة في جوف الأرض، ويومئذٍ تعيش الإنسانية في أعشاش هائلة تشبه أعشاش القوارض، أعشاش عجيبة تتفق وخصائص إنسانية استعاضت عن العقل بالآلة، وعن المبادئ الأخلاقية بالرقم، وعن (الله) بما ابتدعته من أساطير. أية كانت وجهة الأمر، فإن العالم الإسلامي لا يستطيع في غمرة هذه الفوضى أن يجد هداه خارج حدوده، بل لا يمكنه في كل حال أن يلتمسه في العالم الغربي الذي اقتربت قيامته، ولكن عليه أن يبحث عن طرق جديدة ليكشف عن ينابيع إلهامه الخاصة. ومهما يكن شأن الطرق الجديدة التي قد يقبسها، فإن العالم الإسلامي لا يمكنه أن يعيش في عزلة، بينما العالم يتجه في سعيه إلى التوحد، فليس المراد أن يقطع علاقاته بحضارة تمثل ولا شك إحدى التجارب الإنسانية الكبرى، بل المهم أن ينظم هذه العلاقات معها. ***

الفصل الخامس الطرق الجديدة

الفصل الخامس الطرق الجديدة {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 6/ 153] ــــــــــــــــــــــــــ

خلق مجتمع ما بعد الموحدين كائناً على صورة (الأميبا): كائناً متبطلاً يتسكع، حتى إذا رأى فريسة هينة أبرز إليها ما يشبه (اليد) ليقنصها، ثم يهضمها في هدوء. ولقد شاءت المصادفة أن تمده بفرائس أشبعت حاجاته المتواضعة، فدرج على هذا النحو خلال قرون خلت، اتكل فيها على عناية السماء لترزقه، حتى إذا جاء الاستعمار اختطف منه ما كان يطعم، حتى لم يدع له شيئاً يتبلغ به، وكان من نتيجة ذلك أن تحرك ضميره الأميبي، أعني معدته، فمد (شبه اليد) إلى فريسة وهمية أطلق عليها لفظة (الحق). كان ذلك هو منشأ (البوليتيكا) باعتبارها (يداً) لمجتمع ساغب، لم يعد يملك شيئاً يسد به رمقه. لقد قالوا: إن الحاجة هي أول عمل تاريخي شعر به الإنسان في علاقاته الاجتماعية. وهذا تعريف نفعي يفسر التاريخ بعملية استهلاك، وهو تعريف أدى في بلد كالجزائر إلى إطالة يد (الأميبا)، إلى جانب أنه لا يتفق ومرحلة التطور التي يمثلها مجتمع ما بعد الموحدين، فلا شك أن هذا المجتمع كان يشعر ببعض الحاجات البدائية، كالحاجة إلى الأكل والشرب مثلاً، لكنه منذ سبعة قرون لم يخترع حتى يد المكنسة، اللهم إلا ما اخترعه من (خيط يقطع به الزُّبد) .. !! لم تكن (الحاجة) إذن هي التي تنقصه، فإن جداتنا قد استشعرنها عندما كن يكنسن حجراتهن كل صباح بمكانسهن القديمة القصيرة، فيلعنّها ويتنهدن، إذ تضطرهن إلى الانحناء، ومع ذلك فإن الفكرة البسيطة التي توحي إليهن بعمل ذراع للمكنسة لم تراود خيالهن. ذلك لأن الحاجة لا تكون فعالة خلاقة إلا حين يمنحها الضمير من روحه ما يحيلها عملاً ملزماً، وهذا العمل الملزم هو الذي يسّر للمجتمع الإسلامي أن يحيل

أفكاره وحاجاته إلى منتجات حضارة. أما منذ ظهر إنسان ما بعد الموحدين فقد صارت عملية الإنتاج مجرد عملية استهلاكية. وليس يكفي مجتمعاً لكي يصنع تاريخه أن تكون له حاجات، بل ينبغي أن تكون له مبادئ ووسائل تساعده على الخلق والإبداع. ومن هذا الوجه نرى من المفيد أن نصف التطور بلغة الطاقة، فإن قانون التبادل الذي يتحكم في الحياة الاجتماعية، غير مقتصر في الواقع على مجرد التوازن بين الإنتاج والاستهلاك، فإن توازناً كهذا يكون قاتلاً، لأنه يقتصر على استخدام المنتجات دون أن يعمل على زيادة القوى الإنتاجية، بل إن هذا التوازن لا يمكن أن يتصور، وهو ما يهدف إليه قانون (كارنو) في مجال الحرارة الديناميكية. فلكي تتجلى الطاقة بصورة فعالة يجب أن نرفع مستواها، بمعنى أنه يجب أن نجمِّعها حتى ينتج من هذا التجميع ما يشبه (المسقط)، شأن اختلاف درجات الحرارة في إحدى الآلات الحرارية، أو اختلاف قوة التيار الكهربي في إحدى الآلات الكهربية. فما سميناه من قبل (بالحاجة) يجب أن ننظر إليه باعتباره في باب الطاقات الاجتماعية هبوطاً في قوة هذه الطاقات. وينبغي أن نعلم أن علم الاجتماع يرى أن (الحاجة) في صورتها البدائية العاجلة ليست هي العمل التاريخي الأول، ولكنه يخلع هذا الوصف على روح المبادرة التي تخلقها وتنميها وتشبعها، وبعبارة أخرى نحن بحاجة إلى تعريف مزدوج (للحاجة)، تعريف لها في صلتها بالطاقة، وآخر في صلتها بالمنفعة، فلو أننا حاولنا أن نترجم هذه الاعتبارات إلى حقل السياسة، وجب أن يكون ذلك طبقاً لوسائلنا، لا تبعاً لحاجاتنا، فلسنا إذن بحاجة إلى نظرية تهتم (بالحق) على حدة، أو (بالواجب) على حدة، فإن الواقع الاجتماعي لا يفصلهما، بل يقرنهما، ويربط بينهما في صورة منطقية أساسية، هي التي تسيِّر ركب التاريخ.

ومع ذلك فينبغي ألا يغيب عن نظرنا أن (الواجب) يجب أن يتفوق على (الحق) في كل تطور صاعد، إذ يتحتم أن يكون لدينا دائماً محصول وافر، أو بلغة الاقتصاد السياسي (فائض قيمة). هذا (الواجب الفائض) هو أمارة التقدم الخلقي والمادي في كل مجتمع يشق طريقه إلى المجد. وبناء على ذلك يمكننا القول: إن كل سياسة تقوم على طلب (الحقوق) ليست إلا ضرباً من الهرج والفوضى، أو هي، كما عبرنا من قبل، (يد) تطيل عمر الحياة الأميبية في الحقل الفكري، وتلك هي (البوليتيكا) بالمعنى الشعبي للكلمة. والحق أن العلاقة بين الحق والواجب هي علاقة تكوينية تفسر لنا نشأة الحق ذاته، تلك التي لا يمكن أن نتصورها منفصلة عن الواجب، وهو يعد في الواقع ((أول عمل قام به الإنسان في التاريخ)). فالسياسة التي لا تحدث الشعب عن واجباته، وتكتفي بأن تضرب له على نغمة حقوقه، ليست سياسة، وإنما هي (خرافة)، أو هي تلصص في الظلام، وليس من مهمتنا أن نعلم الشعب كلمات وأشعاراً، بل أن نعلمه مناهج وفنوناً. ليس من مهمتنا أن نغني له نشيد (الحرية)، فهو يعرف الأغنية، أو أن نقول له ونكرر القول في الحقوق، فهو يعرفها، أو أن نلقنه فضائل الاتحاد المقدس، فإن غريزة التجمع قد علمته هذه الفضائل. وفي كلمة واحدة ليس من شأننا أن نكشف له عما ألم بمعرفته من قبل، بل أن نمنحه من المناهج الفعالة ما يستطيع به أن يصوغ مواهبه ومعارفه في قالب اجتماع مُحَس. وبعبارة أدق: ليس الشعب بحاجة إلى أن نتكلم له عن حقوقه وحريته، بل أن نحدد له الوسائل التي يحصل بها عليها، وهذه الوسائل لا يمكن إلا أن تكون تعبيراً عن واجباته.

سيكون على مجتمع ما بعد الموحدين إذن، أن يخفف من نزوعه إلى المطالبة بالحقوق، لكي يفرغ لاستخدام الإنسان والتراب والوقت استخداماً فنياً لاستحداث تشكيل اجتماعي، ينتج من تلقاء ذاته (الحق)، وذلك بمقتضى الاقتران الوثيق بينه وبين الواجب. فرسم سياسة معينة معناه إعداد الشروط النفسية والمادية للتاريخ، أعني إعداد الإنسان لصنع التاريخ. وإنسان ما بعد الموحدين قادر على رسم هذه السياسة، لو أنه نأى بنفسه أن يسلك مسلك (الأميبا) التي تتربص بفريسة تقع لها اعتباطاً، فإذا هي فريسة غير مصونة، ومعنى هذا أنه عندما يتحدث قليلاً أو يدع الحديث عن حقوقه، ويتحدث كثيراً عن واجباته عندما يدع الحديث عن ميثاق الأطلنطي، ويكثر من الحديث عن مواهبه وموارده، يكون بذلك قد نأى عن أن يكون مخلوقاً محروماً، يهدده دائماً عدوان الاستعمار، ولن يكون هذا الإنسان فريسة سهلة إذا ما اتجه إلى تثقيف طرائق تفكيره وطرائق عمله، طبق منطق عملي يخطط نشاطه، ومنطق علمي موضوعي ينظم فكره، وإذا ما تخلص من الخرافات التي تكف نشاطه، وتحد من فاعليته. ويبدو لنا أن هذا الشرط قد بدأ يتحقق شيئاً فشيئاً في واقع العالم الإسلامي، منذ قضية فلسطين، فهي بلا ريب أخطر حدث، بل أعظم الأحداث بركة في تاريخ العالم الإسلامي الحديث. لقد حللت قضية فلسطين الفوضى، التي أقام فيها هذا العالم حيناً بسبب بعض الاتجاهات الفوضوية في نهضته، فكشفت جميع القيم الباطلة، والأوهام السائدة التي كانت تزيف له توقعات مستقبله. ولقد حررت هذه الهزيمة المباركة- أو بعبارة أدق ذلك النصر السعيد للواقع على الوهم - حررت العقول والضمائر التي كانت تخنقها الفوضى، فظهرت منذئذٍ

طرق جديدة أمام الشعوب التي زلزلتها الأزمة فأيقظتها، وتبددت أوهامها فاتجهت عندئذٍ إلى الواقع المرير. لقد استهلت هزيمة فلسطين عهداً جديداً في النهضة الإسلامية، فلم تعد الخرافات قائمة أمام واقع انبلج، وقد كان مستوراً بهالة من الفلسفات العاطفية. وبذلك تلقى الذُّهان الرهيب (ذهان السهولة)، ضربة قاتلة، فخلا الضمير المسلم إلى نفسه، يفكر في أسباب ضعفه، أسباب ضعف العملاق الذي تحمله قدمان من صلصال، والذي دفعته الجامعة العربية دون ما اكتراث ليواجه دويلة (إسرائيل)، فقدمت بذلك إلى العالم الحديث مشهد ملحمة جديدة، تحكي الصراع بين داود وجالوت. لقد استجمع الآن الرجل المسلم، وقد كان من قبل مخدوعاً بما يقال عن القوانين، وعن هيئة الأمم المباركة، وقد أصم أذنيه ما سمع عن هزيمة (جالوت)، وفي هذا الاجتماع خير كثير. ومن آية ذلك أننا رأينا أحد المثقفين السوريين- وقد أذهلته صدمة الواقع المرير، وطاح بصوابه هذا الانتصار المهين الذي أحرزته إسرائيل- يحاول أن يفهم وأن يفهمنا (الأسباب العميقة للفوضى)، وكانت محاولته جديرة أن نذكرها هنا لأنها تمثل أعراض فكر جديد في العالم الإسلامي، ودليل منعطف جديد في التاريخ. وإلى القارئ ما كتبه الدكتور ناظم القدسي بعد أشهر من انتصار إسرائيل: ((إن الأسباب العميقة لكارثة فلسطين ليست أسباباً عسكرية وسياسية فحسب، فلقد كشفت الهزيمة عن نقائصنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، تلك التي تعاني منها بلادنا، وليس يكفي أن نعرف أخطاءنا التي وقعنا فيها، وأن نكشف عن نقائصنا، بل المهم أن نفيد منها درساً لعلاجها،

فلكي نواجه الخطر الصهيوني لا يكفي أن نعقد اتفاقات سياسية بين الدول العربية، بل يجب قبل كل شيء تحسين مستوى المعيشة، وعلاج الحياة الاجتماعية، وإعادة تنظيم قواتنا المسلحة، وعندي أن أكبر همنا يجب أن ينصرف إلى الجهد الاجتماعي، فينبغي إصلاح حياة المجتمع وطبقاته، إذ ليس من الممكن أن نطلب من الشعب أن يضحي في سبيل نظام يضيق به، والشعب الجائع المريض الذي لا يأمن مستقبله لا يقدر، بل لا يقبل على النضال من أجل النظام الذي يحكمه، وما كان لرجل أن يتطلب من أبنائه الطاعة إذا لم يتح لهم عيشاً كريماً، فكيف نطلب من شعب طاعة ونظاماً وإيماناً بوطنيته، وكيف نقتضيه أن يقدم تضحياته عن رضاء وسخاء إذا لم نضمن له تحسين مستوى معيشته، وإذا لم نضمن له تعليماً مناسباً وعملاً لائقاً .. ؟ إن من الواجب أن نسرع في إصلاح ما ينبغي إصلاحه، فإن التطور السريع قد أصبح القانون الحتمي لعصرنا، ولست أريد بهذا أن أغض من أهمية الاتفاقات السياسية، أو الاتفاقات التي تستهدف الإعداد الحربي، ولكني أعتقد أن العيشة اللائقة هي الشرط الجوهري لتكوين الوعي الشعبي، والإيمان القومي، وبدون هذا الوعي وذلك الإيمان لا تساوي الاتفاقات السياسية أو العسكرية شروى نقير. والجامعة العربية تقدم لنا على ذلك مثالاً واضحاً، فإن السبب الرئيسي لعدم اكتراث الشعوب العربية بها، يكمن في أن هذه الجامعة لم تهتم حتى الآن إلا بمشكلات السياسة العليا، بينما لا يثير اهتمام الرأي العام في بلادنا سوى منظمة تستهدف الارتفاع بحياة الفرد من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية، وعلى الرغم من الكارثة التي أصابتنا في فلسطين، فإني أعتقد أن الجامعة العربية تستطيع أن تسترد هيبتها، إذا ما اهتمت بالمشكلات الاجتماعية والاقتصادية، ورسمت خطة تستهدف تحسين مستوى المعيشة. فيجب أن نحرر شعوبنا من خوفها

الاقتصادي، وأن نؤمن لها حقها في التعليم، وأن نعنى بصحتها، وهذا هو الطريق الوحيد إلى النهضة الحقة، والوسيلة الوحيدة لتأمين وجودنا)). هذه هي المقالة بحذافيرها، نذكرها هنا لنستخرج الوضع الجديد الذي صار إليه فكر الأوساط الموجهة في العالم الإسلامي، وما أراد الكاتب اتخاذه من تحفظات حول ما أطلق عليه لقب (السياسة العليا)، وهو ما نطلق عليه لفظة: (البوليتيكا). بيد أن هذا الفكر الجديد ليس مقتصراً على منطقة الشرق الأوسط، فإن الوعي الإسلامي كله قد استيقظ منذ قضية فلسطين، وأبلغ شاهد على ذلك كلمات أحد الوطنيين المراكشيين التي قالها في مؤتمر (التجمع الديمقراطي لمناصرة البيان الجزائري) بتلمسان، وهي تدل على الاهتمام بتعمق المشكلات لإدراك أسبابها، قال: ((إن هنالك داء واحداً ينهش الشعوب العربية في كل مكان: في المغرب وفي الشرق الأوسط منذ قرون، ذلك الداء هو: فقدان الثقة بالنفس، وما طبع أخلاقنا من الوشاية والتشهير وعبادة التشريفات وتملق الرؤساء، وفي كلمة واحدة: هذا التردي المزمن الذي حمل الخلفاء والأباطرة والأمراء العرب على فرض نظام صارم على هذا الشعب، لا ينطوي على أدنى اهتمام بالتربية أو بالتقدم الاجتماعي، وكان هذا حتى قبل أن يفكر الاستعمار في استغلال هذه النقائص بوصفها سلاحاً فتاكاً في الشرق أو في الغرب)). ففي هذا النقد الذي يحمل نوعاً ما الطابع الأدبي، نلاحظ الاهتمام بتقصي الداء الدفين داء (القابلية للاستعمار)، وفي هذه الكلمات نغمة لم نتعود سماعها في الأوساط السياسية والفكرية في العالم الإسلامي، تلك التي كانت حتى ذلك الحين لا تهتم إلا ((بالقشة التي في عين الجار)) فإذا بها تفكر فجأة في ((الخشبة التي في عينها)). فالسياسة الإسلامية التي كانت قائمة على الادعاء العقيم المستهجن تصدر

الآن نبرة قلبية رائعة، وتتجه إلى التعمق في امتحان ضميرها، والندم على ما فاتها، وهو ما يتجلى بوضوح في مقالة رجل الدولة السوري، وفي كلمات الشاب المراكشي، إنها ولا ريب فكرة (الواجب) الجديد، التي تعد منذئذٍ عاملاً سياسياً جوهرياً، فنحن ندرك الآن شيئاً فشيئاً، أن واجبنا هو أن نبذل جهوداً ضخاماً في جميع الميادين، وأن نقوم بكثير من الواجبات لكي نصل إلى حقوقنا، التي تصبح حينئذٍ مشروعة. فهذه إذن هي نهاية (ذهان السهولة)، نهاية ما كنا نطالب به بوصفه (حقاً) من حقوقنا، لقد فهمنا أخيراً أن المحراث لا يوضع أمام الثور، وأنه لا يتحرك بفضل الخطابة الرنانة الطائرة، أو الحماسة الوطنية الدافقة. وهكذا تحول العالم الإسلامي عن طريق السهولة الذي اتبعه حيناً من الدهر، وبدا أنه قد سلك إلى نهضته سبيلاً جديدة، تدفعه في هذا السبيل إرادة لا ترهب العقبات، بل تقهرها، وهي بذلك تقضي على ذهان آخر هو (ذهان الاستحالة). والواقع أن خرافة هذا الذهان تختفي تماماً متى قمنا بأقل الجهود تواضعاً، لأن لكل جهد ثمرته في الميدان الاجتماعي، ومتى تجمعت الثمرات بصورة إيجابية، وجدنا أن أداء الواجب أعظم أثراً من المطالبة (بالحق)، وبذلك تتكون لنا نفسية اجتماعية، لاحت لنا بواكيرها في الجزائر خاصة؛ ولما كانت الأفكار بحكم طبيعتها تعد أحداثاً في حيز القوة، فينبغي إذن أن نتوقع رؤية ما وصفناه للقارئ، وهو يتجسد في أشكال اجتماعية مُحَسَّة، وفي البيان التالي الذي نقتطفه من إحدى صحف الجزائر شاهد على ما نقول، فربما اعتادت هذه الصحيفة دون ريب على منطق (السياسة العليا) أكثر من أن تهتم بأحداث التغيير الاجتماعي الذي نحتاج إليه فعلاً، فلقد نشرت هذا البيان دون أدنى تعليق، ودون أن تشعر بأنها إنما تعلن (نشرة انتصار) على (ذهان الاستحالة):

((بدأ بعض الشباب في إحدى ضواحي الجزائر شق طريق بواسطة المتطوعين، والوثيقة التالية تصف لنا فترة من فترات العمل به. حقل القديس يوجين: الأحد 20 من تشرين الثاني (نوفمبر): راحة في الصباح لاجتماع لجنة المسجد. الأحد 27 من تشرين الثاني (نوفمبر): انجلى الجو بعد الثامنة وقد كان مكفهراً، ولكن المتطوعين قد استشعروا رداءة الطقس فلم يحضروا، وحضر من بينهم اثنان إلى مكان العمل ليختبرا حالة الطريق بعد هطول الأمطار، لقد سلم كل شيء فيما خلا بعض الأشياء الطفيفة. الأحد 4 من كانون الأول (ديسمبر): حضر ثلاثة متطوعين من سكان بلدة القديس يوجين، لقد اشتدت السواعد بعد تقدم التجربة، وأنشئ درج الطريق من الحجارة الضخمة التي تقاوم السيول، وروعي أن يهيأ في كل درج انحدار خفيف يسمح بتصفية الماء في قناة شقت بين الطريق والمنحدر، ومهد الطريق بخليط من الحجارة والصلصال، فكون مجموعهما بعد المطر الغزير طبقة سميكة تضمن متانة العمل. لقد انتهينا من خمسة عشر متراً من الطريق. ملاحظات: قدم لنا اليوم أحد المتطوعين من سكان المنطقة القهوة خلال الاستراحة، فأشاع هذا صفاء شدّ من عزمنا، وقد تبادلنا خلال العمل أفكاراً كثيرة، وكنا نرد على سلام المارة المتاخمين للطريق بما سنح من الفكاهة، وكم كان من الجميل أن يقولوا لنا ((أعانكم الله)) ... كنا نشكرهم في أدب، ولكنا كنا نلفت نظر من يستخدم طريقنا إلى أننا بحاجة إلى ساعديه، وكان ذلك يدعو الابتسامة إلى شفتيه، ثم ينثني قائلاً: ((معذرة اليوم، وسأكون معكم غداً)). وكثيراً ما برّ بوعده .. إلى أحد قادم)).

هذا هو الجديد، فلقد برهن فتية الجزائر، الذين أنشؤوا هذا الطريق الصغير بقرية القديس يوجين، على أن مجال العمل كان هنالك، وعلى أنه لا يليق بنا أن نطوف به شاكين معولين، بل أن نقتحمه بالمجرفة والمعول، ولا شك أن هذه الأدوات التي أثارت الأرض قد قلبت معها (ذهان الاستحالة). فهل يعلم هؤلاء الرواد، أنهم قد خطوا أول طريق في التاريخ الجزائري؛ طريق لا يمر بالبرلمان، بل هو مجهول كهؤلاء الذين خطوه، ولكنه يؤدي مباشرة إلى التاريخ .. ؟ ومع ذلك فمن المستحسن ألا يعلموا، فالرواد دائماً جنود مجهولون، وهم يكتفون بأن يرسموا طريق (الواجب) لمن بعدهم، وربما كان بوسعهم أن يتحدثوا عن حق القرية في أن يكون لها طريق، وبالتالي يتحدثون عن الشعب المسلم التعيس في قرية القديس يوجين، ولكنهم آثروا أن ينشئوا الطريق بأنفسهم، كأنهم من عمال الحفر والبناء في البلدية (¬1)، وبهذا أعادوا إلى الفكرة الأساسية مغزاها الحق. والواقع أن تقسيم العمل الذي يحدث دائماً نتيجة النمو الاجتماعي يخلق طبقة من الأجراء، ولكن هذا التقسيم يخفي في طياته تفرقة واجبة بين العمل والأجر. أما عندما ينزل العمل إلى ميدان السوق، فإن الفكرتين تختلطان، ويصبح الأمر سخرة، يبيع المرء بمقتضاها (ساعات عمله) مكرهاً لصاحب عمل لقاء أجر معين. ¬

_ (¬1) يرى المؤلف في هذه المحاولة، خير دليل على صحة رأيه الذي ينادي: بأن يقوم كل فرد بأداء الواجب نصف ساعة كل يوم. انظر (شروط النهضة).

وطبيعي أن يحدث هذا في مجتمع منظم، بلغ فيه تقسيم العمل مداه، ولكن اختلاط العمل بالأجر قد يكون مضراً في مجتمع لمّا يتخط مرحلة التنظيم، إذ تنتج عنه موجة من الكسل والتفريط، تصيب الذي لا يجد من يشتري ساعات عمله، ينشأ عنها في المجال الاجتماعي (البطالة)، كما ينشأ عنها في المجال النفسي عبودية أخلاقية تأخذ صورة (ذهان الاستحالة)، وذلك عندما يبلغ الفرد درجة، لا يتصور معها لنفسه قدرة على العمل أو التزاماً به، إلا تصور معها مستَغلاً يُدفع له أجره عن ساعات عمله. ولا شك أن قيام هؤلاء الشباب برد المغزى الحق لفكرة العمل يقتضي شروطاً اجتماعية أخرى، ومن المحتمل أن تتحقق هذه الشروط شيئاً فشيئاً، كما قد تحققت على عهدالنبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، حين كانوا يؤسسون أول مسجد في الإسلام. وهذه البوادر التي تتفجر اليوم هنا وهناك في صورة محاولات خاصة لن تبقى حالات مفردة، بل إنها ستقدم للشعب كلما تقدمت الأيام منوالاً ينسج عليه ضروب نشاطه الجماعي، فهذه البوادر تضم التيار الخفي العميق للنهضة، والزمان كفيل بتوسيع نطاقها كلما اتسع نطاق هذه النهضة. وكان من نتائج قضية فلسطين أيضاً أن تطرقت هذه الفكرة إلى مجال الاهتمام الرسمي، يشهد بذلك تجربة الإصلاح الزراعي في سورية، فللمرة الأولى في العالم الإسلامي الحديث تواجه مشكلة الإنسان والتراب والوقت، وينص عليها في دستور قومي، وقد كان في حسبان هذه التجربة أن تعمل على تحضير البدوي المترحل، وأن تجهد في تكييف التراب في ضوء الحالة العامة للشعب، فالمشكلتان في الواقع مرتبطتان، إذ أنه لا يمكن للبدوي أن يستقر ما لم يربط مصيره بالتراب، ومن أجل هذا نص الدستور السوري على تخصيص ملايين

الهكتارات التي تملكها الدولة أو الملكيات الكبيرة لتوزيعها على الأسر البدوية بمعدل خمسة هكتارات لكل أسرة (¬1). هذا الإصلاح الزراعي الذي تطبقه اليوم سورية، لا بد أن يؤدي إلى تغيير شامل في بناء المجتمع الإسلامي، وذلك واضح من الوجهة الاقتصادية. أما الأثر الذي ينشأ من دخول الإنسان البدوي ميدان الحياة الاجتماعية، فهو أنه سيزيد دون شك من مقدار الطاقة الإنسانية للدولة، ويغير شروط الحياة النفسية بما يضيف إليها من خمائر بدوية، بل إنه سيؤدي إلى إخصاب فطرة الطبقة البورجوازية في دمشق- وهي فطرة واهنة- بما تحمله البداوة من فطرة عذراء. ولا يغيبن عن نظرنا، ما لهذا العنصر المترحل من أهمية عددية، فإن تمثله في المجتمع لن يتم بمجرد اندماجه في البيئة الجديدة، اندماجاً يؤدي إلى تبدده وفنائه، بل عن طريق انتشاره في الكيان الاجتماعي السوري، انتشاراً يؤدي إلى تعديله وتنظيم استغلال طاقاته، فينتج عن ذلك إثراء في طابع الوطن الاجتماعي، يميزه عن بقية الأوطان العربية، التي لا نجد فيها تنوعاً بين الطبقات، ولا نلمح معالم مميزة لشخصيتها. والواقع أننا نلاحظ في هذه البلاد جمعياً نوعاً موحداً من النقص: ألا وهو نقص التنوع، فهناك الباشا والسوقي، والمثقف والأمي، دون أن يكون بين الطرفين اتصال يرسم صورة مستمرة للكيان الاجتماعي، وهذا عكس ما يحدث في أوربا، حيث تتكاثف المواهب والقرائح المختلفة على ربط ثمرة العبقرية بعمل ¬

_ (¬1) شرعت الثورة المصرية بعد ثلاث سنوات من كتابة هذه السطور في مواجهة هذه المشكلات بطريقة حاسمة، لكن هذا الإصلاح في سورية قد بدأ وقت كتابة السطور في عهد حسني الزعيم وشاء الله ألا يتم الإصلاح هناك إلا بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة. ((المترجم)).

اليد، بواسطة (شلالات) من القيم المتدرجة المتكاملة، فتوحد بذلك عمل العالم بعمل الراعي، مارة في طريقها بالطبيب والمهندس والفنان، والعامل المحترف والصانع والفلاح؛ فهذه الثروة التي يتألف منها المسلم الاجتماعي تنقصنا تماماً في العالم الإسلامي المعاصر. وخذ مثلاً الوضع في الجزائر، فهناك يجلس الطبيب على القمة، دون أن يكون بينه وبين السائل المتكفف أي رباط انتقالي، هذا الفقر الاجتماعي يفسر لنا الفقر العقلي الذي أصيبت به طبقات القادة في تلك البلاد، لأن العبقرية ليست سوى فيضان لجهود غامضة، تتصاعد خلال سائر الطبقات الاجتماعية في مجتمع ما كيما تتفجر في قمته. وهنا يمكننا أن نرى تبادلاً حقا بين اليد والفكر فحيثما بطل عمل اليد سقط عمل الفكر حتماً، والعبقرية التي لا تستطيع استخراج عناصرها من ثنايا الدنيا لا يمكنها أن تزدهر في القمة. ولهذا نرى أن العمل الذي بدأ يتكون في سورية عمل مخصب، يدل على نضج الأفكار؛ فلقد انبعثت اليوم الطاقات الخامدة، وطفت على سطح الحياة الاجتماعية، سواء كان ذلك في دستور قومي، أم في حقل متواضع لإزالة الأنقاض والتسوية من أجل البناء. والنهضة الإسلامية تبدو، وكأنما تريد أن تتخلص من فوضاها، وهي تتطلع منذ عهد قريب إلى النظام والتنظيم، فإذا ما بلغت غايتها تلك، فإن معنى هذا أن الإنسان الأميبي، ذلك الفرد المتحلل القابل للاستعمار، قد دخل نطاق الحياة المنتجة، وتفسير ذلك في الإطار الجماعي: أن مجتمع ما بعد الموحدين يسعى نحو مرحلة من الحضارة تتسم بتركيب أصيل لعبقريته الإسلامية الخالصة مع العبقرية (الحديثة). لكن هذا يقتضي معرفة متعمقة للإنسان وإمكانياته ونقائصه، وتقصياً

واعياً للقيم الاجتماعية في الإسلام، فعلم النفس وعلم الاجتماع ضروريان إذن للكشف عن القيم الجديدة في النهضة الإسلامية، وعن الطرق الجديدة التي تزري بها بعض خرافات متخلفة عن عصر ما بعد الموحدين. وعليه، فلكي نعرف الإنسان، ينبغي أن نعرف أنفسنا، وذلك أمر لا يتيسر لقادة العالم الإسلامي، إلا إذا قاموا بعملية استبطان دقيق لذواتهم، واختبار قاس لضمائرهم؛ فإن الإنسان إذا ما أراد أن يعرف العيب الكامن في قضيب من الصلب، يريد أن يتخذ منه محوراً لمحرك في آلة ما، فإنه يخضعه لتحليل معين، كأن يفحصه بالمجهر ليدرس بناءه الداخلي. ولن يكون معقولاً ولاممكناً أن يسلك لهذه الدراسة طرقاً أخرى، فكذلك الحال إذا ما أردنا أن نعرف الإنسان من حيث كونه (محركاً) للحياة الاجتماعية؛ الشروط هي الشروط، في الإطار الإنساني، فنحتاج إلى قدر كبير من الدرس الواعي، فهو وحده الكفيل بالكشف عن العلاقات الخاصة التي تمثل التماسك داخل الشخصية الإنسانية في حركتها وفي نشاطها. وبهذه الطريقة ينقشع الغموض عن خفايا النفس، فما بعد الموحدين، لنتعرف أين ينبغي إحداث التغيير الضروري. ولقد علمنا أن هذه التغييرات مرتبطة دائماً ببعض (التجارب الشخصية)، ارتباطاً أتيح منه للإنسانية أن تكشف عن حقيقتها من خلال تجارب بعض أفرادها. والدين الذي هو التعبير التاريخي والاجتماعي عن هذه التجارب المتكررة خلال القرون، يعد في منطق الطبيعة أساس جميع التغييرات الإنسانية الكبرى، وإذن فلن نستطيع أن نتناول الواقع الإنساني من زاوية المادة فحسب. ومع ذلك، فنحن نعلم مقدار الوهم الذي ينتج عن عكس واقع معين على سطح معين، فقد يحدث أن نرى بأعيننا الدائرة في صورتها الحقيقية دائرة،

ولكنها تبدو لنا في وضع آخر خطاً مستقيماً؛ ورسالة الإنسان في الحياة الاجتماعية أن يكون عاملاً نفسياً زمنياً، فهو لا يؤثر فيها طبقاً لوجوده الزمني فحسب، أعني تبعاً لحاجاته المادية، بل إنه يؤثر طبقاً لوجوده النفسي، أعني طبقاً لحاجاته الروحية، وتلك هي حقيقة الإنسان كاملة، وهي ما ينبغي أن ندركه لنتناوله كلاً غير متجزئ. فما كان لنا أن نحدد شروط تغييره لو غاب عن أعيننا أحد هذين الجانبين، الروحي أو الزمني، فهو من الجانب الأول: إنسان متدين، فالعنصر الديني يتدخل هنا مباشرة في الطريقة التي يتبعها لاستبطان ذاته، باعتباره أساساً لضمير يبحث عن نفسه. هذا الضمير الديني قد ارتبط بالوعي الاجتماعي، ربطهما الإنسان ذاته، ربطاً لا يمكن معه أن ينفصل أحدهما عن الآخر. وإذن: فالإصلاح الديني ضروري باعتباره نقطة في كل تغيير اجتماعي. ولكن كيف نصوغ المشكلة في الإطار الخاص بالعالم الإسلام الحديث .. ؟ لقد رأينا أن المدرسة الإصلاحية قد صاغتها بلغة علم الكلام، بينما صاغها (إقبال) في مصطلحات أخرى، حين نبه على أن المطلوب ليس العلم بالله، ولكنه في أوسع وأدق معانيه (الاتصال بالله)؛ ليس المطلوب مفهوماً كلامياً، ولكنه انكشاف للحقيقة الخالدة وبحسب تعبيره هو (تجلي هذه الذات العلوية). فالاتجاه الإصلاحي- الذي كان من حسناته تحطيم التعادل الخامد الذي استقر عليه عصر ما بعد الموحدين- قد اتجه خاصة إلى الذكاء، وبعبارة أخرى: أدى بالمشكلة إلى (المرحلة الفكرية) من الحضارة، فهو بذلك يتخطى مرحلة جوهرية من مراحل التطور هي: المرحلة الروحية التي تؤدي إلى تغيير الفرد، إلى جانب أنها تؤدي إلى أول تغيير يمكن أن تتعرض له القيم الاجتماعية. فالرجوع إلى (السلف) وهو المبدأ الذي نادت به الحركة الإصلاحية

التقليدية، لم يسجل إذن في نسق من الأحداث التاريخية، فهو بهذا يعد (مزلقة) لا تؤدي بالإنسان إلى مرحلة من الوعي، بل إلى مرحلة يتعلم فيها ما يتصل بعلم الكلام، أي إنه يسلك النهج الذي سبق أن سلكه المسلمون في عصر ما بعد (صفين)، فهو إذن إصلاح للعلم، قلما يمس، بل لا يمس البتة مصير المجموعات الإنسانية. ولقد شذّت عن هذه الوتيرة حركة الإصلاح في الجزائر، بفضل تلك الشخصية العظيمة، شخصية الشيخ عبد الحميد بن باديس، وهو الرجل الذي قدر لإشعاعه أن يبلغ أعماق الضمير الشعبي. ولكن يبدو أن الحركة الإصلاحية في عمومها، لا تملك اليوم ما ظفرت به في بدايتها من نفثة روحية وانتفاضة تصوفية، فظلت كما رأينا تعاليم تهدف إلى تكوين متخصصين بارعين، أكثر مما تتجه إلى خلق مخلصين، ومع ذلك فيبدو أيضاً أنها تتخلى عن مكانها ليحل محلها اتجاه جديد أكثر انطباقاً مع ما دعا إليه إقبال. فمنذ خمسة عشر عاماً نشأت في العالم الإسلامي جماعات دينية، تلمس فيها الضمير المسلم طريقه من جديد. وإحدى هذه الجماعات كان لها في هذا المضمار حظ وافر، فكأنها استجابة حقة لما دعا إليه الاتجاه الجديد في آراء إقبال، ولقد ظفرت تلك الجماعة بأتباع كثيرين من سورية ومصر، ولكنا لا نملك، بكل أسف، ما يكفينا من الأسانيد والوثائق لدراستها، باعتبارها حركة تمتاز في جوهرها بالمؤاخاة العملية التي كان يحملها عنوانها. إن المجتمع الإسلامي الأول لم يتأسس على عاطفة مجردة أو شعور ساذج، بل قام على عمل جوهري هو (المؤاخاة) بين الأنصار والمهاجرين، وكان ذلك ميثاقاً لتلك الحركة الحديثة التي حاولت التأليف بين أعضاء المجتمع، تأليفاً يحمل معنى المشاركة في الأفكار والأموال. ولقد ظفرت الحركة بزعيم، لم يكن فيلسوفاً أو عالم كلام، فقد اكتفى بأن

بعث في الناس إسلاماً خلع عنه سدول التاريخ، وما كان له من نظرية يركن إليها سوى القرآن نفسه، ولكنه القرآن الذي يحرك الحياة؛ وإذ كانت الحركة الإصلاحية التقليدية لم تقم إلا على الأساس ذاته أي على القرآن، وذلك حق لاريب فيه، فإن الآية القرآنية لم تكن لتستخدم في منهجها إلا بوصفها وسيلة منطقية تساق لغرض تعليمي، فالقرآن في منطقها معلم يقدم لها مقاييس من كل نوع، وبراهين تفحم الخصوم، وأدلة تدين بعض التقاليد والبدع التي لا تتفق و (ما جرى عليه السلف)، وهو أيضاً نموذج جمالي، بل مجموعة من المقاييس الأدبية تستخدمها بعض العلوم الاستنباطية كعلوم البلاغة. ففي كل هذه الحالات، لم تكن الفكرة القرآنية لتمس مباشرة ضمير إنسان ما بعد الموحدين أو طبيعته، لا تمس مجال حياته وجوانب فكره ومناحي سلوكه، فهي بذلك أداة (للتجديد) أكثر من أن تكون إلزاماً (بالتجدد)، وهذا ولا شك أمر مهم، إذ كان على أية حال أساس النهضة الراهنة، فالتجديد في رأينا هو التفسير النفسي لما أطلقنا عليه لفظة (التكديس)، ولكنه يعد أيضاً نوعاً من الشرط المادي الضروري لعملية (التجدد)؛ أعني تجدد النفس الذي هو جوهر النهضة، على حين يعد التجديد- الذي يتصل بالفكر وحده- إصلاحاً ظاهرياً. ولقد كان من أثر تلك الحركة التي وصفناها أن تجددت القيمة القرآنية في ذاتها، فأصبحت قيمة ناشطة، ووسيلة فنية لتغيير الإنسان؛ ولطلما اعترف كثير من المثقفين الذين كان من حظهم الاتصال بزعيم الحركة، بأن للرجل قوة خارقة، إذ يجعل من آية القرآن أمراً حياً يملي على الفرد سلوكاً جديداً، ويجذبه جذباً إلى حياة العمل والنشاط. فالفكرة القرآنية هنا، تؤثر في سامعها كأنما دبت الحياة والجدة فيها فجأة على شفاه الرجل، ولعل في قولنا: ((إن الآية تتجدد)) ما يصطدم مع عقول

بعض القراء: إذ أنهم قد ينسبون هذا التجدد- من وجهة نظرهم- إلى سحر اختص به الرجل. ومع ذلك فليس في الأمر سحر ولا سر، فلقد كان ذلك المدرس يذهب ليؤدي صلاة الجمعة في جميع مساجد القاهرة، ثم ينتهز الفرصة ليذكر المؤمنين ببعض تعاليم القرآن، لم يكن يفسر هذا الذي يقرؤه، فلقد ترك التفسير لشيوخ الأزهر، وهم أكثر منه علماً به، فإن بابه متسع للجدل حول مسائل اللغة والكلام والفلسفة والفقه والتاريخ، وهذه أمور علمية محض؛ فعلم التفسير يستطيع أن يبين لنا وجه الحق فيما يعتقده المؤمنون، ولكن هذا (الحق) لن تكون له علاقة بالواقع إلا في المجال الفكري، وهي علاقة نظرية خالصة بين الحياة والعلم، ولو أننا افترضنا أن ما يقوله لنا علم التفسير أحياناً حق لا ريب فيه من جهة كونه فكرة مجردة، فإن هذا الحق لن يكون البتة سبباً في حدوث تغيير ثابت للعوامل الاجتماعية الأساسية، يحيلها (تركيباً) اجتماعياً. والحق أن هذا التركيب هو الذي ينشئ العلاقة العضوية بين المبدأ الاجتماعي وموضوعه، وفي هذا المجال يمكننا أن نوازن تعاليم المدرسة الإصلاحية التقليدية مع تعاليم تلك الحركة الجديدة، فتعاليم تلك المدرسة كانت تنادي مثلاً (بالتضامن الإسلامي) القائم على فكرة الأخوة، وليست هذه سوى عاطفة أحالتها الحركة الجديدة إلى مؤاخاة، أي عمل أساسي يصبح الناس به (إخوة). هذا العمل البسيط هو في الواقع تغيير شامل للإنسان الذي ينقّل خطاه من عصر ما بعد الموحدين إلى عصر النهضة، كما قدر له أن يتخطى بالطريقة نفسها غيابة المجتمع الجاهلي إلى حياة المجتمع الإسلامي، فلكي يتم تغيير الفرد لم يستخدم ذلك الزعيم سوى الآية القرآنية، ولكنه كان يستخدمها في الظروف النفسية عينها التي كان يستخدمها فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته من بعده، وهذا هو السر كله: أن تستخدم الآية كأنها فكرة موحاة، لا فكرة محررة مكتوبة. وإذا كان قد أتيح لذلك الزعيم أن يؤثر تأثيراً عميقاً في سامعيه، فما ذلك إلا

لأنه لم يكن يفسر القرآن، بل كان يوحيه إلى الضمائر التي يزلزل كيانها، فالقرآن لم يكن على شفتيه وثيقة باردة، أو قانوناً محرراً، بل كان يتفجر كلاماً حياً، وضوءاً آخذاً يتنزل من السماء، فيضيء ويهدي، ومنبعاً للطاقة يكهرب إرادة الجموع. ولم يكن الرجل يتحدث عن ذات الله، كما صورها علم الكلام، أي عن (الله) العقلي، بل كان يتحدث عن (الله) الفعال لما يريد، المتجلي على عباده بالرحمة والقهر، تماماً كما كان المسلمون الأولون يستشعرون حضوره فيما بينهم، ونفحته المادية في بدر وحنين. فالحقيقة القرآنية تتجلى هنا بأثرها المباشر على الضمير، وبتأثيرها في الأناسي والأشياء. و (الفكرة) التي كانت متجردة في قليل أو كثير، قد أخلت مكانها لتشغله (قيمة) مادية محققة، أعني: تركيب ناشط للفكر والعمل، وهما الأمران اللذان يقوم عليهما كل تطور في مجتمع يفكر في عمله، ويعمل بفكره. فتعاليم الزعيم تجربة شخصية لا تستوحى من وثيقة؛ أعني من حروف القرآن، ولكنها تستقي معينها من نبع الوحي ذاته، وهي تجربة بدت ثمارها في صورة (الحقيقة العاملة)، في كل ميدان من ميادين الحياة، بل إنها في أساس هذه الحياة تغير نفسية الفرد. ولقد أدرك الشباب المصري الذي طالما احترق بلهيب الخطب في المطالبة بحقوقه، أدرك أن الطريق الوحيد لنيل مطالبه هي طريق الواجب، فحقق إمكانياته، ومدى سيطرته على الأنفس والأشياء، ثم سلك هذه الطريق، وبذلك أصبح الداعية الذي تمس دعوته شغاف القلوب فتغير معالها، وتهديها إلى الطريق الأقوم (طريق الأخوة)؛ ودار الجهاز الضخم ليحرك بدوره وجوه

الحياة في البلاد، فينشئ المصارف لتوجيه رأس المال، والصحافة القوية لتوجيه الثقافة، والصناعة الناهضة لخلق العمل وتوجيهه، وجمع الجهاز الضخم أموالاً طائلة استثمرت لتأسيس القاعدتين الضروريتين لحياة الفرد: قاعدة الروح وقاعدة المادة. ومع كل ما يمر بالعالم الإسلامي من تطورات نفسية واجتماعية وسياسية، فإن البذور التي استودعت التربة ستؤتي أكلها يوماً، فإن الأفكار التي تتمكن من الضمير الإنساني فتصبح جزءاً منه لا يمكن أن تفنى، وغاية الأمر أنها قد تخط طريقها أحياناً في حنايا هذا الضمير، ثم تنبجس منطلقة في اللحظة التاريخية، وقد اتخذت صبغة أخرى. فهكذا انبجست فكرة ابن تيمية في العالم الإسلامي الحديث في صورة الإصلاح، وكذلك لن يكون من الممكن انفصال فكرة الإصلاح، التي خطت تلك الخطوات الكبيرة، عن حركة التطور في العالم الإسلامي، فقد جددت صورة (التوتر الأخلاقي)، ففتحت بذلك أغنى حقل من حقول النهضة. لذلك فسيلاحظ القارئ، أننا لم نهتم هنا بالتسلسل التاريخي للحديث عن هذه التجربة، فنحن نرى أنه من معالم الطريق، وليس هدفاً مقصوداً. فالحركة تخص العالم الإسلامي باعتبارها محاولة من محاولاته التي يهدف بها إلى التخلص من فوضاه الراهنة، وهي تعد في التاريخ الإسلامي المعاصر أول محاولة إيجابية لاستحداث تركيب عضوي تاريخي، ربما تمخضت عن تجميع أفكار العالم الإسلامي المعاصر، وطعمتها بإدخال العنصر الصناعي الحديث في حركة تطوره، بل ربما كانت هي العامل الحاسم الذي ينشئ جسراً عبر التاريخ، يقوم أوله على الأرض التي شهدت وحدة القلوب، وصفاء النفس الإسلامية، فما قبل انحراف صفين، ويقوم آخره على الأرض التي شهدت تصفية صنوف العجز، وضروب الخرافات والأوهام التي طبعت عصر ما بعد الموحدين. بل إنها لتمثل- في

رأينا- أول جهد يستهدف إعادة بناء المجتمع الإسلامي، مسترشداً بالتخطيط الذي وضعه المهندس الأول: محمد - صلى الله عليه وسلم -. وإن كان التركيب الاجتماعي الجديد، قد بدأ يتكون مع شيء من الفوضى، فسرعان ما تزول هذه الفوضى حين يتغشاها الفكر الفني، الذي أصبح الآن عاملاً يعجل بحركة التاريخ، وبذلك يتولى الفن قيادة تطورنا الحديث. ***

الفصل السادس بواكير العالم الإسلامي

الفصل السادس بواكير العالم الإسلامي {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء 4/ 123]. ــــــــــــــــــــــــــ

ليس العالم الإسلامي طائفة من الخلق منعزلة مما سواها، فهي قادرة على أن تكمل تطورها داخل وعاء مغلق، بل إنه يمثل في رواية الإنسانية دورين يقوم بهما في وقت واحد، دوره ممثلاً، ودوره شاهداً؛ هذا الاشتراك المزدوج يفرض عليه واجب التوفيق بين حياته المادية والروحية وبين مصائر الإنسانية. فهو لكي يقوم بدور مؤثر فعال في حركة التطور العالمي ينبغي أن يعرف العالم، وأن يعرف نفسه، وأن يعرّف الآخرين بنفسه، فيشرع في تقويم قيمه الذاتية، إلى جانب تقويمه لا تملكه البشرية من قيم. والحق أن من العسير الشروع في عمل كهذا، في عالم لا يخضع لأي مقياس، وهو ما عبر عنه المستشرق (جب) بطريقته المتغالية حين قال: ((لم يتح للحركة الحديثة Modernisme، أن تشق طريقها في العالم الإسلامي بوصفها تياراً ضخماً مؤسساً على نظريات ذات أصول سليمة ومعقولة، بل إنها وقد حرمت من الرقابة المنهجية في تفكيرها ألفت نفسها ضائعة وسط متاهات من الدوافع الذاتية، مندفعة بذلك إلى السقوط برأسها في هاوية لم تأخذ منها حذرها)). ومع ذلك فإن هذا الاعتباط في التجربة، يبدو أنه- كما ذكرنا في الفصل السابق- قد أخلى مكانه لنوع من الفكر الناقد، والاهتمام بالمنهج منذ قضية فلسطين. ويبدو أيضاً أن قرارات الحكومات وأعمالها تتجه شيئاً فشيئاً إلى فهم نفسها وفهم الآخرين، أعني أنها تحاول أن تتغلغل في فهم الغرب وفلسفته بصورة أعمق من ذي قبل. ولكن هذا كله، لم يتبلور بعد في صورة نشاط اجتماعي، يشمل مجموع العالم الإسلامي، ويستوعب جميع وسائله. فالعالم الإسلامي لم يبلغ بعد

درجة النشاط أو العمل الفني، الذي يعد وحده كفيلاً بتحديد مكانه في العالم الحديث، حيث يحتل مبدأ (الفاعلية) أول درجة في سلم القيم، وهذا المبدأ من أحوج الأمور بالنسبة لنا، وهو يزداد ضرورة حين نرى العالم الحديث- بعد أن أمضى قروناً في تجربة طويلة- يبدأ تجربة أخرى تحمل شعاراً لها قول شكسبير في قصة هملت: ((إما وجود أو عدم))، والواقع أن الظروف التي تجتازها الإنسانية الآن على قدر هائل من التعارض، حتى ليبدو لنا أن الإنسانية حائرة ذاهلة، لا تدري أي الحدين تمضي إليه، فإذا كان العمل العلمي والتأثير الاقتصادي قد دفعا العالم إلى وضع قريب من الاتحاد، فإن الأفكار على العكس من ذلك، قد أبقت داخله خمائر التفرق والنزاع، وهنا نجد البون شاسعاً بين ضمير الإنسانية الرجعي، وعلمها التقدمي. بيد أن هذا التخلف بين الضمير والعلم، لم يعد أمراً مستحيلاً يتلخص في موقف نزاع بين طرفين، بل أصبح متنافياً مع وجود النوع الإنساني ذاته. فالأوضاع الاقتصادية التي خلقها القرن التاسع عشر، قد فرضت في كثير من المجالات قيماً إيجابية، تخلع على العالم صفة الوحدة الأرضية، وما محكمة العدل في لاهاي والقانون الدولي والقانون البحري، إلا مظاهر خاصة لذلك الاتجاه العام الذي لا يفتأ يمهد الطريق لتوحيد العالم، وهناك مؤتمرات مختلفة للتنظيم العلمي والفني والاتحادات النقابية العالمية، كاتحاد البريد العالمي، وهي خير شاهد على حاجة الشعوب إلى تنظيم حياتها على أساس من التعاون والعمل المشترك. أما في المجال السياسي، فقد ظهر الاتجاه إلى العالمية جلياً، منذ برزت المرحومة عصبة الأمم إلى عالم الأحياء. وما من يوم يمر، إلا تطالعنا فيه بواكير اتحاد عالمي في مختلف ميادين الحياة الدولية. بل لقد استفحلت هذه النزعة منذ كانت الحرب العالمية الأخيرة،

وهي اليوم تكتسي أردية جديدة؛ ليس أقلها شأناً- على كل حال- نزعة (المواطن العالمي). ولعلنا لو أردنا تحديد العامل الذي أسرع بالعالم إلى هذا الوضع، لما وجدنا غير العامل الصناعي، فلقد ألغى ذلك العامل المكان، فلم تعد تفصل بين الشعوب مسافات سوى مسافة ثقافاتها. ومن المؤسف أن نقول: إن هذه المسافة قد اتسعت ففرقت مصائر البشر بعضهم عن بعض، ونظرة إلى ذلك البائس الفقير الذي يعيش بالجزائر، ولا يحمل أحد من الناس هم تعليمه، ترينا البون الهائل بينه وبين نظيره الذي يحلل الذرة في أمريكا وفي روسيا. فالعلم قد ألغى المسافات الجغرافية بين الناس، ولكن هُوىً سحيقة قد بقيت بين ضمائرهم. هكذا يتعارض الواقع مع الفكر، بينما الأرض قد أصبحت كرة جد صغيرة، سريعة الالتهاب، لو شبت النار في أحد طرفيها لامتدت إلى الطرف الآخر، ولذلك لم يعد ممكناً تقسيم المشكلات والحلول، وبالتالي انتهاج سياسة أوربية في جانب، واستعمارية في جانب آخر. فالصراع في الهند الصينية الذي لم يكن، منذ عشرين عاماً فقط، قد تخطى حدوده الجغرافية، قد أصبح اليوم ذا طابع عالمي، يشعر بل يهتم به حمالو ميناء وهران، باعتبارهم من المستعمَرين، كما يهتم به الياباني باعتباره مستهلكاً للأرز. فالعالم قد انقلب رأساً على عقب، فبدأت بذلك صفحة جديدة في التاريخ عنوانها: ((إما أن تكون الإنسانية وحدة أو تفنى)) فهل يا ترى سيجد قادة العالم حلاً سعيداً يحسم هذا الاختيار حسماً سليماً؟ .. إن أعمالنا تدلنا- والحسرة تهدد قوانا- على أنهم طائفة من الرسامين، خامرهم النوم، وأيديهم ما زالت تحرك أقلامهم محاولة رسم بناء نخره البلى، بينما

بدأت أيد أخرى تحمل المعاول تهده من أساسه، فقلم الرسام هنا لبي إلا أداة تبعث على الضحك والسخرية، إذ لا محل لها في عمل يحتاج إلى المجرفة (والمسطرين) للتعفية على أنقاض عالم قديم، وبناء عالم جديد. فإذا ما رفض أولئك القادة أن يسعوا لبناء هذا العالم الجديد، فلن يغني رفضهم شيئاً، وسيتم بناؤه على أصوله أطاعوا أو كرهوا، وعلى الرغم من بعض الفلسفات التي تساند الاستعمار، فقد أصبح القضاء عليه أمراً محتوماً. لكنا في موقفنا هذا نشعر بالألم وبالمأساة، لوجود هذا التعارض المدمر، إذ كيف يفسر أولئك الذين امتهن الاستعمار إنسانيتهم فمدّنهم بطريقته المحقرة، كيف يفسرون المطالبة (باحترام شخص الإنسان) و (إعلان حقوق الإنسان)؟ إن سر هذا التعارض هو تلك الثقافة المادية، التي تعد قاسماً مشتركاً يغذي السعي إلى حكم الشعوب، ثم إلى فرض نوع من القيصرية الطاغية، دون أن تهدف إلى نشر حضارة. وهذه الثقافة قد زودت بكل ما تحتوي المادة من خمود، فهي عاجزة عن مسايرة حركة التطور في منتجاتها ذاتها، ثم إنها قد حبست نفسها في سجن هذا التعارض بحكم منهجها ذاته، المنهج الوضعي الديكارتي. وما كان لدعاتها أن يهتموا بغاية الأشياء، بل كان تعلقهم بأسبابها. ومن أمثلة ذلك أن مشكلة تسخير الإنتاج لخدمة الإنسان، حيث كان هذا الإنسان، هذه المشكلة لم تخالط بعد الضمير الغربي، فالغرب ينتج، ولكنه عاجز عن توزيع ما ينتجه، وأوربا العقلية التي أبدعت الآلة، تجد نفسها في منتهى العجز عن مواجهة مشكلات الإنسانية وعلاجها، فكل علاقة لا تقاس لا تدخل في حيز ضميرها، والناس في أوربا يجيدون تشكيل المادة، ولكنهم لا يعرفون كيف يجعلونها أداة في يد الإنسان، أو بعبارة أخرى: هم لا يحددون قيمة الإنسان- الآلة- بالنسبة لكمية النتجات. لقد بلغت أوربا الغاية في الفن والصناعة، ولكنها ارتدت عن المثل

الأخلاقية، فلم تعد تعرف شيئاً من الخير للإنسانية فيما وراء حدود عالمها الذي لا يمكن فهمه إلا بلغة المادة. وما كان لحضارة أن تقوم إلا على أساس من التعادل بين الكم والكيف، بين الروح والمادة، بين الغاية والسبب، فأينما اختل هذا التعادل في جانب أو في آخر كانت السقطة رهيبة قاصمة. والحضارة الإسلامية، قد فقدت تعادلها يوم فاتها أن ترعى سلامة هذه العلاقة بين العلم والضمير، بين العناصر المادية والوجود الروحي، فغرقت في هاوية الصوفية الخالصة، في فوضى المرابطين التي سببت سقوطها. وها نحن أولاء اليوم نشهد تجربة أخرى تنتهي إلى اختلال آخر: فالحضارة الغربية التي فقدت معنى الروح تجد نفسها بدورها على حافة الهاوية. فنهضة العالم الإسلامي إذن ليست في الفصل بين القيم، وإنما هي في أن يجمع بين العلم والضمير، بين الخلق والفن، بين الطبيعة وما وراء الطبيعة، حتى يتسنى له أن يشيد عالمه طبقاً لقانوق أسبابه ووسائله، وطبقاً لمقتضيات غاياته. إن الذي يرد إلى العالم شبابه، لا بد أن يكون (إنساناً جديداً)، قادراً على حمل مسؤوليات وجوده مادياً وروحياً، ممثلاً وشاهداً؛ وإنسان ما بعد الموحدين إنسان هرم، في طريقه إلى الفناء. ولكن العالم الإسلامي على الرغم من ذلك لديه قدر كبير من هذا الشباب الضروري. والواقع أنه، على الرغم من قابليته للاستعمار، قد احتفظ بمعنى جوهري، هو معنى القيمة الخلقية، وهو ما ينقص الفكر الحديث الشائخ. ولكنا في الوقت نفسه نجد هذا العالم الإسلامي، يخطو في طريقه إلى تجديد نفسه بفضل ما تحصل في يديه من قيم حديثة، فهذا الامتزاج بين الروح والمادة، الذي يتم الآن في بطء، سيسرع دون ريب، كما تعود مواجهة المشكلات بفكر علمي، ذلك

الفكر الذي أصبح الآن عامل تعجيل بحركة التاريخ، فالمنهج يختصر المراحل، والتجربة ترينا أي هذه المراحل لا لزوم له. لقد قطعت اليابان- القديمة المتخلفة- التي فتحت أبوابها عام 1868 للكومودور بيري في خطوة واحدة، المسافة التي كانت تفصلها عن القرن العشرين، ولكنها قطعتها على أصول فنية ومنهجية، فضبطت ساعاتها، واستخدمت بعلمها الإنسان والتراب والوقت. وعلى العالم الإسلامي بدوره أن يتخطى المدى الذي يفصله عن التقدم، وذلك بتنظيم استغلال وسائله وضروب نشاطه طبقاً لمنهج تايلور. لقد أكدت له قضية فلسطين تلك الضرورة الملحة، وأرشدته أيضا إلى طرق جديدة، ويبدو أنه على وشك أن يبدأ تجربة جديدة آخذاً في حسابه مساوئه وأخطاء ماضيه، التي بدونها يفقد درس التاريخ، وخاصة تاريخ السنوات الأخيرة كل معنى، ومرحلة كالعصبية إلى مراحل كثيرة كانت تبدو ضرورية، لم تعد سوى نزعة قديمة فاتها ركب التاريخ. فالعالم الراهن ثمرة التحلل المحتوم لعالم مستعمر وقابل للاستعمار، وهو تحلل عرفنا قصته منذ عشر سنوات خلت، ولكن هذا التحلل قد كشف عن الاتجاه العميق لحركة التاريخ، فقد كشف من ناحية عن وحدة المشكلات والحاجات في العالم، وأبان من ناحية أخرى عن ضرورة إعادة تنظيم العلاقات بين الشعوب. فكأنما قد أدان التحلل الراهن حركتي الاستعمار والقومية على سواء، فالاستعمار لم يعد متفقاً مع شرائط الوجود الدولي، الذي لا يمكن أن يكون أساسه القوة، بل لقد أدانه الضمير العالمي رسمياً باعتباره علة الاضطرابات والقلاقل في العالم، بل باعتباره سبب التخلف والحرب. لقد استطاع الميثاق الاستعماري أن يتآمر على حياة المستعمَر، وعلى ضميره،

وعلى وجوده ذاته، ومع ذلك فإن المتمدنين يغضون أبصارهم عما يقارف، وليس أمام الدبلوماسية الدولية في الظروف الراهنة إلا أحد أمرين: التمسك بالميثاق الاستعماري، أو العمل بالميثاق الإنساني، فما يستطيع العالم أن يستهل عهداً إنسانياً وهناك مستعمِر ومستعمَر. والعالم الآن في طريقه إلى تحقيق وحدته، في طريقه إلى التكامل والتشارك في الموارد وفي الحاجات، فهو بذلك ماض إلى تقرير اتجاه التاريخ عن طريق المنظمات، وبدأت النزعة القائلة بحرية الإنتاج والتجارة، تخلي مكانها ليحتله نظام عقلي يتجه بالإنسانية نحو التوافق العام، وليس هذا طبقاً لخطط يخترعها الخيال، بل بحكم الضرورات الحيوية الصارمة. فعلى العالم الإسلامي إذن أن يأخذ في حسابه هذه الخطوة التاريخية الحاسمة في تطوره الخاص، فإن الأشكال التي يتنادى عليها الناس، والتي تحمل عنوان (العصبيات) بمختلف ألوانها قد فات أوانها الآن تماماً، كما فات أوان (القومية الأوربية) ألتي أرادوا بعثها في استراسبورغ. ولا ريب أنه ليس من حقنا أن نتفاءل أو أن نتشاءم فيما يتصل بمستقبل السلام، ولكنا نلاحظ أن الدول فيما يبدو لم تفهم معنى المرحلة الحاسمة التي اجتازها العالم، والتي يعبر عنها عنوان كتاب مثل (العالم واحد)، على الرغم من أن هذا الكتاب لم يعالج سوى الجانب الجغرافي من المسألة، وهو ما قد يبديه رجل يجتاز في بضعة أيام ستين وثلاث مائة درجة في الكرة الأرضية المسلحة، كما فعل (فاندال فلكي) (¬1) مؤلف الكتاب. بيد أن وحدة العالم كانت وما تزال الظاهرة الجوهرية في التاريخ، على حين لم تكن التقسيمات السياسية سوى أعراض زائلة وظواهر سطحية، فإذا غاب هذا عن فكر اصطبغ بالصبغة الديكارتية، فما ذلك إلا لأن الثقافة التي صاغته تجعل بداية التاريخ يوم تأسست ¬

_ (¬1) كاتب أمريكي.

روما، كما تجعل بداية الفكر في مجامع أثينا. وإنه لما يدعو إلى العجب؛ أن نرى كبار المفكرين الأوربيين، يبدون عاجزين عن أن يتخطوا بفكرهم ما وراء الفكر الهليني، فإذا ما تجاوزوا حدود (الإنسانيات الإغريقية اللاتينية) أصبحوا وكأنهم يكتشفون كوكباً آخر. ومع ذلك فيجب أن ننوه هنا باتجاه جديد ظهر في كتابات (جينون) (¬1) و (هكسلي)، يدرس الفكر الصوفي في العالم درساً منهجياً، كما يكشف عن أصوله المشتركة، ولا شك أن هذه الجهود جزئية وما زالت حديثة، بل أكثر من ذلك نجدها لا تمس الواقع إلا في قمته، فلا يمكننا أن نحدد أثرها في العلاقات اليومية، والصلات المباشرة بين الناس، وبين الشعوب بعضها مع بعض. ومع ذلك فإن ما ذكرناه من أحداث يدعو الإنسانية إلى حل مشكلة اختيارها. وأية كانت وجهة الأمر، فإن العالم الإسلامي- بحكم استعداداته الأخلاقية الموروثة- في منتصف الطريق، متقدم على الشعوب الأخرى إلى العالم الجديد. ولا شك أن إنسان ما بعد الموحدين مهما بدا من تأخره يعد خيراً من الإنسان المتحضر في تحقيقه للشروط النفسية للإنسان الجديد، أعني (للمواطن العالمي)، أو بحسب التعبير الملهم الذي أطلقه ديستويفسكي: (الإنسان العالمي). ولا جدال في أنه بحاجة إلى أن يبلغ المستوى المادي للحضارة الراهنة، فيستخدم كل مواهبه وقدراته على التكيف مع الوضع الزمني للعصر الذري، وهو يتسم في حقيقته بطابع الفكر الفني، ولكن دور إنسان ما بعد الموحدين سيظل فوق ذلك كله روحياً يكفكف من غلواء الفكر المادي، كما يهذب من تطرف الأنانية القومية. لقد سبق لإقبال، وهو يخط للعالم الإسلامي طريق نهضته الروحية، أن طالبه بصبغة في التفكير تمكنه من النظر إلى الأشياء والتنظيمات ((لا من حيث ¬

_ (¬1) مفكر فرنسي عاش في مصر ومات ودفن بها.

نفعها أو ضررها الاجتماعي الذي تعود به على بلد أو آخر، بل من حيث الأهداف العظمى التي يسعى إليها مجموع الإنسانية)) .. فهذا النوع من الفكر الميتافيزيقي الذي قال به إقبال قد يصطدم بالأذهان ذات النزعة العقلية، تلك التي ترى أن كل ما لا يدخل في نطاق المادة لا يدخل في نطاق العقل. فالمشكلة على هذا تستوجب المواجهة؛ إذ هي تتصل بموقف الإنسان في العالم الجديد، كما تتصل بمستقبل الحضارة. إن من الأنسب هنا أن نطبق وجهة النظر الكونية لكي ندرك المعنى الكلي للتاريخ، وها هو ذا المؤرخ الفرنسي الكبير (غوستاف جيكييه) بعد أن درس قطاعاً من التاريخ المصري يبلغ أربعة آلاف عام يخرج بهذه النتيجة المعبرة، قال: ((لقد لاحظنا في تاريخ هذا الشعب أن الحضارة منذ خط لها طريقها سلكته دون أن تفارقه البتة، بل لم تفلح الانقلابات السياسية أن تخرجها أو تنحرف بها عن الطريق الصاعد الذي قامت عليه، ومع ذلك فإن الأزمات التاريخية الكبرى تسمح لنا بتحديد بعض المراحال في تاريخ الحضارة، وتوحيدها في عصور، لندرك إدراكاً جيداً ضروب التقدم التي حققتها الحضارة خلال القرون)) ... (¬1) فهذه إذن نظرة يبدو أنها تضم نوعين من الأحداث المتمايزة، وهي تشمل قطاعاً كبيراً من التاريخ، فهي تضم من ناحية، حضارة ((تتابع سيرها في طريق صاعد)) ومن ناحية أخرى، (انقلابات سياسية) بكل ما يتصل بها من مجموعات بشرية، وبكل ما حدث خلالها من انتصارات، ومهرجانات، وما ضمت من أحداث ميلاد وممات، ومن آلام. فهناك من جانب خط متوافق يعبر آلاف السنين دون أدنى معوق. وهناك ¬

_ (¬1) غوستاف جيكييه Histoire de Civilisation Egyptienne

من جانب آخر صورة المأساة الإنسانية بكل انقلاباتها. هذا التمييز الجلي بين نوعين من الأحداث لا يفسد إلى حد كبير وحدتها، فإن الرابط بينهما ذو صبغة جدلية: وهو أن الإنسان هو الشرط الأساسي لكل حضارة، وأن الحضارة تؤكد دائماً الشرط الإنساني، وهكذا تتعقد أبسط الأحداث كلما أدركناها في توقعها الإنساني الشامل، ولكنه تعقد ذو مغزى، فالزواج مثلاً حين يحدث في مدينة ما يكون حدثاً معتاداً، فمن الواضح أن له معنى بالنسبة للزوجين وأسرتيهما. ولكن له أيضاً معنى بالنسبة للسائل المتكفف، فإن التقاليد الإسلامية تتخذ من الزواج فرصة ليظفر السائل بأكلة تحفظ وجوده الموقوت يوماً كاملاً، فهكذا رأينا أن الحديث الواحد قد يتصل بوجود كثيرين، كما يتصل بأحداث متمايزة مختلفة. ولقد تكون الروابط دقيقة أحياناً: فقد يموت رجل ما بالجزائر؛ لأن رجلاً آخر قام أو لم يقم بشيء معين في ذلك اليوم بسيدني. وهذه الملاحظة تزداد صدقاً بقدر ما تزداد الحياة تعقداً، وكلما تجاوزت إطار الفرد، أو خرجت عن حدود المدينة أو الأمة. وهناك بعض الأحداث التاريخية التي تتجاوز نطاق التفسير العقلي البسيط القائم على فكرة الإنسان السريعة، وعلى المنفعة المادية أو الأخلاقية أو السياسية، بل يبدو أنها متصلة بنظام غير عقلي، لا يمكن للفكر الديكارتي أن يدرك مضمونه. والتاريخ يمدنا على ذلك بأمثلة كثيرة: فقصة (¬1) حياة تيمورلنك، تمد نطاق التوقع التاريخي المتصل بها إلى ما وراء المصير الإنساني. فإذا ما نظرنا إلى هذه الملحمة نظرة عقلية، فإن معنى ذلك أن ¬

_ (¬1) هذه الفقرة تزيد وضوحاً ما سبق أن قاله المؤلف عن الجانب الميتافيزيقي في دراسة التاريخ في الفصل الأول.

نجمع عناصرها، وأن نربط بينها حسب علاقتها بشخص البطل المحوري. لكنا نلاحظ أن العناصر العقلية المتصلة بالرجل، وبصفاته الشخصية لا تعطينا تفسيراً كافياً شافياً لما قام به، فالواقع أن الرجل لم يكن مجرد جندي يحمل السيف، إذ أن العقيدة الدينية والذوق السياسي، والعبقرية الحربية والإدارية قد جعلت منه شخصية معقدة، ولكنها تامة التحديد. لقد رأيناه ينقض بسيفه على جيوش الـ Horde d'or (¬1) التي كانت في طريقها إلى غزو أوربا بقيادة (طغطاميتش Toghtamich) ، ورأينا سيفه الرهيب يهوي مرة أخرى، لا على الصين، وهي من مخلفات جده جنكيزخان، ولا على الهند التي سيغزوها حفيده بابر Baber، وإنما يهوي على رأس الإمبراطورية العثمانية، هنالك حيث جمع السلطان بايزيد جيشاً من خمس مائة ألف لغزو (فينا)، فلماذا اتخذ تيمورلنك هذا المسلك الغريب .. ؟ لقد كان لديه إذا ما غزا الصين دواع منها: الحق الملكي، والطموح، وسهولة الغلب دون غرم، والعاطفة الدينية، أعني جميع العوامل الإنسانية التي تقوم عليها سياسة معينة أو حملة حربية، كانت جميعها في كفة واحدة من الميزان، ومع ذلك فلقد رجحت الكفة الأخرى حين اتجه إلى الجهة الأخرى، فقد هزم الـ Horde d'or، كما هزم جيش بايزيد، الأمر الذي يدفعنا إلى أن نتساءل عن الأقدار التي استطاعت أن تلعب هنا دوراً يؤدي إلى رجحان ميزان التاريخ على هذه الصورة .. ؟ وكأن هذه الصفحة من التاريخ، هي التي أراد ((غيزو)) أن يعرضها عرضاً سريعاً، عندما سجل في مستهل القرن الماضي هذه التأملات الغريبة، قال: ((هكذا يتقدم الإنسان في تنفيذ خطة لم تساور خياله لحظة، بل لم يعرفها قط، ¬

_ (¬1) مملكة أسسها المغول في العصور الوسطى، وسيطرت على سيبريا وجنوب روسيا، وانتهت في القرن الخامس عشر.

فهو العامل الذكي الذي يقوم باختياره ليس له، فهو لا يعرفه، ولا يدركه إلا ريثما يتم حدوثه في الواقع، بل إن إدراكه آنذاك لا يكون إلا ناقصاً مبتوراً)). ولقد قام تيمورلنك في الواقع بعمل لم يكن يستطيع إداراكه حتى بعد انتهائه منه، لأن مغزاه التاريخي الحق لا يمكن أن يظهر إلا بعد عدة قرون. إن مسألة كهذه قد تتركنا مشدوهين بحجة أنها ذات طابع ميتافيزيقي (¬1) ولكنا لكي نعطي للأحداث تفسيراً متكاملاً يتفق مع مضمونها كله، يجب ألا نحبس تصورنا لها في ضوء العلاقات الناتجة عن الأسباب، بل ينبغي أن نتصور الأحداث في غايتها التي انتهت إليها في التاريخ. ومن هذا الجانب قد نحتاج أن نقلب المنهج التاريخي: فنرى الظواهر في توقعها بدلاً من أن نراها في ماضيها، ونعالجها في نتائجها لا في مباديها، فلكي نفهم ملحمة تيمورلنك ينبغي- مثلاً- أن نسأل أنفسنا: ماذا كان يمكن أن يحدث لو أتيح (لطغطاميتش) أن يحتل موسكو، ومن بعدها وارسو .. ؟ ولو قدر (لبايزيد) أن ينصب رايته على أطلال فينا، ثم على أطلال برلين .. ؟ لو حدث هذا لأذعنت أوربا حتما لصولجان الإسلام الزمني المنتصر، ولكن ألا يدفعنا هذا إلى أن نرى أن توقعاً مختلفاً تمام الاختلاف عما حدث فعلاً كان سيحدث في التاريخ .. ؟ كانت النهضة الأوربية ¬

_ (¬1) يبدو أن (جون أرنولد توينبي. J.A. Toynbee) في كتابه (التاريخ) قد عالج هذه المسألة كما يشهد بذلك المقتطف الذي ظهرت ترجمته بالفرنسية عام 1953 بعنوان (حرب وحضارة ط Gallimard فالمؤرخ الإنكليزي يلاحظ [ص:147] (عمى تيمورلنك) الذي رآه ينتهي بتقويض ما أسماه (الحضارة الإيرانية) - حسب تعبير اسفولد سبنجلر-. ولكن يبدو أنه قد اقتصر على النظر إلى النزعة العسكرية المخربة، فلم يلاحظ الأهمية الكبرى لهذا العمى الذي أصاب الامبراطور التتري في التأثير في سير التاريخ العام، فإن سيف تيمورلنك هو الذي شق الطريق أمام الحضارة الغربية الوليدة وسط أخطار الغروب التي كانت تخيم على العالم الإسلامي، فهل يمكن في ظروف كهذه أن نتحدث عن نوع من ((العمى))؟ وهل لا يمكن أن نرى في ذلك أمارة على نوع من التجلي العلوي وراء تصرفات تيمورلنك؟ .. (1954).

التي ما زالت في ضمير المقادير ستنصهر في (النهضة التيمورية) ولكن هاتين النهضتين- على الرغم من عظمهما- كانتا مختلفتين، فلم يكن مغزاهما التاريخي واحداً؛ كانت الأولى فجراً يفيض على عبقريات جاليلي وديكارت وغيرهما، بينما كانت الأخرى شفقاً يغلف الحضارة الإسلامية لحظة أفولها. كانت إحداهما بداية نظام جديد، وكانت الأخرى نهاية نظام دارس، وما كان شيء في الأرض يستطيع أن يدفع عن العالم الليل، الذي أخذ يبسط سلطانه آنئذ على البلاد الإسلامية في هدوء، فلو أن تيمورلنك كان قد اتبع دوافعه الشخصية لما استطاع شيء أن يحول دون نهاية الحضارة الإنسانية. ومهما يكن من شيء، فإن مضمون هذه الأحداث التاريخية، ليس بالبساطة التي تظهر لأعين الذين لا ينظرون إلى الأشياء إلا من وجهاتهم الفردية أو القومية، فهناك حسب تعبير إقبال (خطة للمجموع) هي التى تكشف عن اتجاه التاريخ. وعلى أساس هذه الخطة العامة للإنسانية ولحضارتها، ندرك المعنى الكامل، أو المغزى الميتافيزيقي للأحداث. لماذا حال تيمورلنك دون قيام بايزيد وطغطاميتش بنشر الإسلام في قلب أوربا .. ؟ والجواب: لكي تتابع أوربا المسيحية جهدها الحضاري الذي لم يكن العالم الإسلامي بقادر عليه منذ القرن الرابع عشر، لأنه كان في نهاية رمقه، فملحمة الامبراطور التتري تجلو غاية التاريخ، إذ كانت نتيجتها متطابقة مع استمرار سير الحضارة ودوامها، كيما تتعاقب دوراتها، ويتم الكشف الخالد عن العبقريات التي تتناوب على طريق التقدم. فدورة من دورات الحضارة تولد في بعض الظروف النفسية الزمنية، ثم تنمو

وتطرد، فإذا ما سبقتها الحضارة الإنسانية توقفت تلك الدورة لتبدأ أخرى في ظروف جديدة تتحول بدورها إلى ظروف متخلفة. فهذا هو القانون الذي خط على مر السنين خلال التاريخ ذلك (الطريق الصاعد)، الطريق الذي مُنحته البشرية في بطء وروية، وبذلك تمتزج غاية التاريخ بغاية الإنسان. ***

خاتمة

خاتمة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة 5/ 4] ــــــــــــــــــــــــــ

المآل الروحي لعالم الإسلام

المآل الروحي لعالم الإسلام وفي خاتمة هذه الدراسة أشعر تماماً أن جزءاً آخر ينقصها، وهو إيضاح بعض الجوانب الجوهرية التي آثرت تركها خلال دراستي، خضوعاً لأحكام المنهج الذي اتبعته، ولست أملك هنا سوى أن أشير إلى هذه الجوانب، تاركاً لغيري مهمة معالجتها كما ينبغي. فلقد ظل العالم الإسلامي، خلال قرون طويلة، متجمداً في أشكال سبق الحديث عنها، وهي التي أدت إلى وجود القابلية للاستعمار في مجتمع ما بعد الموحدين، الذي أدى إلى وجود الاستعمار. واليوم يتحرك العالم الإسلامي نحو الغد الأمول، أو بعبارة أخرى: إن تاريخه قد استعاد حركاته، ودبت فيه الحياة، إذ أصبح في وضع متحرك، وتكشفت له بعض الآفاق منذ قريب. والعجيب أن مفهوم كلمة ( Vocation) التي اخترناها عنواناً للكتاب يدل على هذين الجانبين: ((أعني ظروف حدوث حركة معينة، وسعيها إلى غايتها بواسطة المجتمع الإنساني الذي يوجد في هذه الظروف)). فهل يمكننا أن نتحدث عن وجهة للعالم الإسلامي بهذا المعنى المزدوج .. ؟ الحق أن العالم الإسلامي يبدو بعيداً عن إدراك مآله الروحي، هذا إذا ما استثنينا الحركة الأخيرة، التي أشرنا إليها، فهي التي يبدو أنها قد حاولت أن تتخذ لنفسها اتجاهاً مفهوماً في أعماقه. لكنا نذهب على أية حال، إلى أنه مهما يكن أمر الفوضى الراهنة في العالم الإسلامي، فمن الممكن أن نتلمس فيه اتجاهين ليسا في طبيعة واحدة:

أما أولهما: فهو ذو طابع تاريخي، وهو ناتج عن تأثير القوى الداخلية التي تظهر في صورة فعل ورد فعل للاستعمار ولقابليته، وقد درسنا فيما مضى عناصر هذا الاتجاه، وهي التي تتمثل في: حركة الإصلاح، والحركة الحديثة، وهما اللتان تخلعان على العالم الإسلامي صورته الحديثة. وأما ثانيهما: فمع أنه لا يمكن فصله عن التطور التاريخي، فإنه يتمثل في صورة جد مختلفة، تعود هذه المرة إلى الظواهر الكبرى لانتقال الحضارة في مستواها العالمي: أعني أنه يتصل بانتقال مركز الجاذبية من حوض البحر الأبيض المتوسط إلى آسيا. ولا ريب في أنه يمكننا أن نعد انتهاء تركز هذه الجاذبية في الشرق، إحدى الظواهر الجوهرية في السنوات الخمسين الأخيرة، لقد انتهى تركّز العالم على شواطئ البحر الأبيض، وكان من أثر الحربين العالميتين أن اتخذ العالم شكلاً مخروطياً ذا قطبين: أحدهما في الشرق والآخر في الغرب. وكان من نتائج هذه الظاهرة العالمية أن أصبح العالم الإسلامي يخضع لجاذبية جاكرتا، كما يخضع لجاذبية القاهرة أو دمشق (¬1)، وهذا الانتقال إلى مرحلة آسيوية، لا بد أن يُحدث نتائج نفسية وثقافية وأخلاقية واجتماعية وسياسية، سيكون لها أن تتحكم في حركته وفي مستقبله، بل في تشكيل (الإرادة الجماعية) لهذا العالم أولاً وقبل كل شيء. فلقد ظلت هذه الإرادة حتى الآن غامضة، منتشرة في محيط من العادات ¬

_ (¬1) كان هذا رأي المؤلف عام 1949، حينما كانت الدول العربية بعضها مستعمَر، والآخر تحت رقابة الاستعمار- باستثناء سورية-. أما الآن وبعد هذه السنوات العشر الأخيرة، فإنه قد لاحظ تطورات في أوضاع العالم العربي، من الضروري مراعاتها لإصدار حكم جديد في الموضوع، ومن ظواهر ذلك اجتماع المؤتمر الافريقي الآسيوي في القاهرة، ولعل في هذا تجاوباً مع الرأي الذي ذهب إليه الأستاذ محمد المبارك في تقديمه للكتاب.

والتقاليد والخرافات التي تتنوع على حسب المكان والزمان، تتمثل أحياناً في طبقة نبيلة ملفقة ذات سلطان لا جذور له في النفس الشعبية، أو ذات علم لا أفق له في عالم القيم، وهكذا ظل الإسلام على شواطئ البحر الأبيض ملكياً عند الباشوات وسادتهم، أو قبلياً بدوياً عند الأمير العربي البربري، أو تنطعاً حبيساً في وعاء التحلل المغلق في ظل رعاية المشايخ. ولقد عرف الاستعمار الثمار التي يستطيع أن يجنيها من وضع كهذا، فبذل كل ما في وسعه، وصرف كل اهتمامه إلى تدعيم طبقة هؤلاء النبلاء، كما قوّى من نفوذ تلك الصفوة المزعومة، مستهدفاً من وراء ذلك، الإبقاء على وضع القابلية للاستعمار. فنهاية العهد الذي تركزت فيه الجاذبية الإسلامية على البحر الأبيض، تسجل تحرر العالم الإسلامي من معوقاته وقيوده الداخلية. وهذا الاتجاه واضح في باكستان- كما أنه واضح في جاوة (إندونيسيا)، وهي بلاد توطن فيها الإسلام منذ عهد قريب نسبياً؛ أعني أنها بلاد جديدة فتية يتفوق فيها جانب الفكر والعمل على جانب العلم التقليدي المغلق؛ وإن العالم الإسلامي لقادر هنالك على تجديد نفسه، فيتحول إلى طاقة ناشطة، ويتعلم طرق الحياة. ومما سيظفر به في هذا المجال، أن جوه الاجتماعي الجديد ليس مؤلفاً من طبقات، بل هو شعبي على أوسع نطاق، وسيجد نفسه هنالك ملزماً بأن يتكيف وعبقرية الشعوب الزراعية، واستعدادها الفطري للعمل، مما يبشر بتركيب جديد من الإنسان والتراب والوقت، وبالتالي: بقيام حضارة جديدة. ومما سيحتاج إليه العالم الإسلامي كذلك أن يتكيف مع ما سيصادف من جو

روحي جديد، في جوار الهند المعقدة التي ما يزال يشع فيها فكر ديانة (الفيدا). ومن السهل علينا أن نتصور، ما يمكن أن تصير إليه تلك (الإرادة الجماعية) في العالم الإسلامي، الذي نزع عن نفسه أغلفة ما بعد الموحدين، ثم. غرست شجرته في الأرض جموع تعيش على ثمرات الأرض، يقودها فتية يجعلون فكرة القرآن نصب أعينهم، فيلتزمونها وقد تخلصت من أن تكون وثيقة أثرية ثمينة مرتبة محررة حبيسة، بل أصبحت ذات حركة دائمة. وليس بوسعنا أيضاً، أن نغض من قيمة الدور الذي يمكن أن يؤديه اتصال العالم الإسلامي بروحانية الهند، فإن الإسلام في جواره للمسيحية على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، لم يفد شيئاً من روحها، كما لم تحمله على تغيير نفسه، وذلك لأن الاتصال بين الدينين قد تم في إطار استعماري زور قيمة الفكرة المسيحية في نظر المسلم، حتى لقد كان المسلم يشعر تماماً بسموه وارتفاع قدره على أي مستعمر شره ينتسب إلى المسيحية، وهي منه براء، وهو غارق إلى أذنيه في الظلم والشهوات. لذلك لم يشعر المسلم أمام هذا المستعمر بأي (مركب نقص) يدعوه إلى الكمال، أعني أنه لم يشعر بحاجته إلى تدارك ما فاته، وإلى إعادة التفكير في أمر دينه. وبوسعنا أن نقول: إن البلادة الأخلاقية التي اتصفت بها الشعوب الإسلامية على شواطئ البحر الأبيض إنما تعود في جانبها الأكبر إلى هذا النوع من التسامي المتدين، أعني من القنوع بمظاهر الدين، الذي جعلهم ضمناً، كأنما يواجهون جانباً استعمارياً من المسيحية. فاتصال الطبقة المثقفة في العالم الإسلامي الآسيوي بالأديان الأخرى، إنما يتم في ظروف مختلفة تمام الاختلاف، إذ يشعر المسلم هنا بأنه يعيش في أرض غريبة، غزاها في فتوحاته، ولم يستجب له من أهلها إلا أقلية بالنسبة لمجموع

السكان، كما أن هذه الأرض التي يعيش عليها قد غزتها من قبله أديان أخرى، فالهند هي أرض البرهمية والبوذية. سيجد المجتمع الإسلامي نفسه هنالك بما يضم من جمهرة يبلغ عددها تسعين مليوناً، يحيط بهم خضم من الهندوس يبلغ عددهم ثلاث مائة مليون، وهنا يشهد المسلم الحياة الدينية العجيبة التي يحياها هؤلاء الناس كل يوم، والذين يعدون من أشد المتمدينين في العالم، حيث يعيشون في جو صوفي ملتهب. هنالك يهز أعماقه انقلاب هائل، وهو انقلاب أصاب من قبله (إقبال) حين كان يشهد تقاليدهم، ويعيش في جوهم، فنضج بذلك ضميره الديني، مما أكسب الفكر الشاعر ذاتية غنية، اتصف بها ضمير يتمتع بالعقل وبالعاطفة، أي بميزة الفهم وميزة الانفعال، هذا الحوار بين القلب والفكر، هو الذي ينقص إنسان ما بعد الموحدين، والذي يبدو أنه لم يتحرك بعد داخل نفسه على شاطئ البحر الأبيض، وهو من أعظم ما يتعلمه العالم الإسلامي في رحلته نحو آسيا. ومع ذلك فإن المسلم في إندونيسيا، وأخاه في باكستان، يمثلان رجلين ذوي خصائص ممايزة: فإن الاحتلال الهولندي الذي امتد قروناً عديدة، لم يترك في جزائر إندونيسيا عدداً كافياً من المثقفين، ولكن هذه القلة المثقفة البسيطة وهي المسؤولة عن الكفاح ضد الفاقة العامة، وضد الأمية الشاملة، وضد التفريط والفوضى- وهي الأمراض التي تعمد الاستعمار خلقها، ثم ولى هارباً إلى حيث تختفي الجرذان- هذه القلة تدلنا على ما تزخر به عبقرية الشعب الإندونيسي من استعدادات عجيبة. والرجل في جاوة دقيق الحس، يحترم النظام والتنظيم، وهو مغرم بتعميق جزئيات الأشياء، فهو بذلك رجل مادي إيجابي ذو طاقة ضخمة، وهو أيضاً رجل عملي، ماهر في صنعته، ذواقة لشتى أنواع الفنون.

أما في الباكستان فقد خلفت إنجلترا من ورائها هيكلاً مثقفاً، لا يجهل أحد خصائصه، ومن بين أعضائه (السيد أمير علي)، وهو من أوائل المفكرين والمدافعين عن الإسلام الحديث، والسيد محمد إقبال (وهو من التلاميذ القدامى في جامعة أكسفورد، كما كان من تلاميذها معاصره الشاعر رابندرانات طاغور). هكذا تتضح معالم الطريق الجديد الذي ينفتح أمام الإسلام، وبقي علينا بطبيعة الحال تحفظ في هذا السبيل: إذ يجب أن نأخذ في اعتبارنا الملابسات الدولية التي قد تتيح لنا ظروفاً مختلفة وغير متوقعة، يمكننا الاستفادة منها لتحقيق ما رسمناه من آمال. وذلك إذا لم تنشب حرب عالمية يكون من ورائها على الأقل تغيير شامل لما عهدناه في هذا الوجود الإنساني. القاهرة في 13 من ربيع الثاني 1379 15 من تشرين الأول (أكتوبر) 1959 ***

المسارد

المسارد ¬

_ 1 - مسرد الآيات القرآنية ............................................... 189 2 - مسرد الأحاديث النبوية ............................................. 190 3 - مسرد الأعلام (يشمل الأشخاص والدول والأمكنة) ................... 191 4 - مسرد الشعوب والجماعات والمذاهب ................................ 196 5 - مسرد المعاهدات والمؤتمرات ........................................ 197 6 - مسرد المراجع والمصادر ............................................ 198 7 - مسرد الموضوعات ................................................. 199

1 - مسرد الآيات القرآنية (¬1) ¬

¬

3 - مسرد الأعلام (يشمل الأشخاص والدول والأمكنة) ¬

_ "أ" آدم سميث 126 آغا خان 38 ابن تومرت 49 ابن تيمية 49، 160 ابن خلددن 18، 28، 31، 32، 36، 56، 121 ابن رشد 87 ابن سعود 101، 102، 103 ابن عباس ح 19 أبو بكر الصديق 19 أبو الوفاء (عالم فلك عربي) 18 الاتحاد السوفيتي 105 أتيلا (زعيم قبائل الهرن) 111 أثينا 172 أحمد (الإمام) ح 19 أحمد بن موسى بن شاكر (عالم عربي) ح 29 أحمد خان (مصلح إسلامي في الهند) ح 48 أديب الشيشكلي 102 الأردن ح 72 أرسطو 80 أرنست بسيكاري (ابن أخت رينان الفيلسوف المعادي للإسلام) 132، 133 أرنست رينان 51 إسرائيل ح 72، 106، 145 إسطنبول 49 إسماعيل (الخديوي) 115 أسولد سبنجلرح 176 الأغواط (مدينة جزائرية) 112 إقبال 63، 77، 87، 121، 155، 156، 185، 186 أكسفورد (جامعة) 186 الألدرادوس 47 ألمانيا ح 82 أمبراوز (القديس) 26 إميه سيزير (كاتب زنجي) 136 إندونيسيا (جاوة) 10، 13، 104 ح 105، 183، 185 إنجلترا 34، 186 أنجلز 126 الأندلس 113 إيرلندة 93 "ب" بابر (حفيد تيمورلنك) 175 باتل (وزير الدفاع الهندي) 105، 106

¬

_ باريس 91، 112، 125، 126 باكستان 105، 183، 185، 186 باكونين (نقابي) 126 بايزيد (سلطان عثماني) 175، 176، بدر 159 بغداد 37 برلين 176 برنارد باليسي 68 برناردشو 103 بلزاك 63 بوكاشيو 43 بونسارا (كاتب) ح 64 بيت المقدس 19 بيرو 47 بيير ريشيه (مؤرخ) 26 "ت" تايلور (نظرية) 132، 170 تركيا 62 تشرشل 105 تلمسان 147 توسيديد 27 توماس الإكويني 55، 80 تونس 58، 114 توينبي (مؤرخ إنكليزي) ح 176 تيمورلنك 174، 175، 176، 177 "ج" جاكرتا 182 جاليلي 177 جاوة (إند ونيسيا) 105 جب (مستشرق إنكليزي) 17، 49، 53، 55، ح 70، 84، 87، 165 جربرت (الراهب) 19 الجلادي ح 57 جمال الدين الأفغاني 49، 50، 51، 52، 55، 56، الجهورية العربية المتحدة ح 72، ح 152 جنكيز خان 111، 175 جوبينو (فيلسوف فرنسي) 82 جينون (مفكر فرنسي) 172 "ح " الحديدة (ميناء يمني) 102 الحسن بن موسى بن شاكر (عالم عربي) ح 29 حسني الزعيم 102 ح 152 حنين (معركة) 159 "د" دارون 82 دمشق 14، 39، 42، 182 ديستويفسكي 172 دينول ح 135 ديكارت 18، 40، 177 "ر" رشيد رضا 51، 61 روبسبير 125 روزنبرج (فيلسوف النازية) 82 روسيا 26 روما 25، 172 ريكاردو 126 رينات (فيلسوف معادٍ للإسلام) 86، 133

¬

_ "زا" الزركلي ح 295 الزيتونة (جامعة) 64 "س" سالان (قائد فرنسي تمرد على ديغول) ح 135 سامي الحناوي 102 سمرقند 35، 37 السند (جزر) 47 سورية 102، 106، 151، 153، 156، ح 182 السويس (قناة) 115 السيباي (ثورة) 50 سيبرياح 175 السيد أمير علي 186 سيدني 174 "ش" شيرسترتون (كاتب أوربي) ح 54 "ص " صفين (معركة) 11، 29، 36، 50، 62، 124 الصين 26، 48، 105، 175 "ط " طاغور 186 طرابلس (لبنان) طفطاميتش (قائد قديم) 175، 176، 177 طه حسين 51، 87 طهران 49 "ع" عبد الحميد بن باديس 57، 101، 156 العراق ح 72، ح 102 عقبة بن نافع 30 علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) 30 عليكرة (جامعة) 48، 50 علي الهمامي (كاتب جزائري) 52 عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) 19، 85، ح 131 عمر بن عبد العزيز 30 عمر راسم (فنان جزائري) 116 عمر مسقاوي 5 عيسى (عليه السلام) 55 "غ" الغزالي 49 غوستان لوبون 43 غوستاف جيكييه (مؤرخ فرنسي) 173 غيزو (مفكر) 175 "ف" فاس 42 الفارابي 80 فاندال فلكي (كاتب أمريكي) 171 فرانشيت ديسبري (المارشال) 115 فرنسا 9، 42، 64، 135 فلسطين 102، 103، 122، 145، 146، 147، 170 فولتا (عالم) ح 109 فينا 175، 176 فينيش ح 95

¬

_ "ق " القاهرة 49، 158، 182، 186 القديس يوجين (بلدة) 149، 150 قسنطينة 73، 90، 116 القيروان 36، 42 "ك " كارنو (قانون) 142 كشمير 105 كبودياح 106 الكويت ح 72 الكدمودو ربيري 170 "ل " لاسال 129 لامانس 86 لاهاي 166 لاوس ح 106 لستراداموس (منَجِّم) ح 109 الليريا (إقليم) 26 ليسنكو 137 "م" ماركس 95، 126 مالتوس (نظرية) 131 مالك (الإمام) 30 ماندل (عالم) 137 ماوتسي تونغ 105، 106 محمد - صلى الله عليه وسلم - 55، 79، 151، 158، 161 محمد بن عبد الوهاب 49 محمد بن موسى بن شاكر (عالم عربي) ح 29 محمد بن يوسف (سلطان مراكش) 94 محمد عبده 52، 54، 55، 56، 57، 58، 87 محمد علي 49، 115 محمد المبارك 9، 14، ح 182 مدام دي مانيتيان (مؤسسة دور اليتامى الفرنسية) ح 115 مراكش 10، 35، ح 92، ح 109 المسيح (عليه السلام) 40 مصر 27، 72، 115، 156، ح 172 المصرية (الجامعة) 50 مصلمفى كمال 122 معاوية 29 مورجان (عالم) 137 موريتانيا 132 موسكو 176 موسوليني 102 موسى (عليه السلام) 55 موسى بن شاكر (عالم فلك عربي) ح 29 ميري برومبرجيه (كاتب) ح 105 ميمون (الكاهن) 19 "ن" ناظم القدسي (رئيس الجمهورية السورية سابقاً) 145 نيتشة 34 نيوتن 29 "هـ " الهان (أسرة حكمت الصين) 26 هتلر ح 82 هربرت 78

¬

_ الهند 47، 48، 50، 105، 106، 122، 135، 175، 184، 185 الهند الصينية (فيتنام) 136، 167 هورددور (مملكة مغولية) 175 هوشي منه (زعيم فيتنامي) ح 106 هوميروس ح 52 "و" وارسو 176 وست مان (عالم) 137 ولهلمينا (ملكة هولندا) 104 وهران 167 "ي " اليابان 58، 170 يافا 103 يحيى (إمام اليمن) ح 101 اليمن 93، 102 يوشع 111 اليونان ح 52

4 - مسرد الشعوب والجماعات والمذاهب ¬

5 - مسرد المعاهدات والمؤتمرات والاتفاقيات ¬

6 - مسرد المراجع والمصادر (¬1) ¬

7 - مسرد الموضوعات ¬

المسارد ¬

_ 1 - مسرد الآيات القرآنية ............................................... 189 2 - مسرد الأحاديث النبوية ............................................. 190 3 - مسرد الأعلام (يشمل الأشخاص والدول والأمكنة) ................... 191 4 - مسرد الشعوب والجماعات والمذاهب ................................ 196 5 - مسرد المعاهدات والمؤتمرات ........................................ 197 6 - مسرد المراجع والمصادر ............................................ 198 7 - مسرد الموضوعات ................................................. 199

§1/1