وا محمداه إن شانئك هو الأبتر

سيد حسين العفاني

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف الطبعة الأولى 1427 هـ - 2006 م رقم الإيداع بدار الكتب المصرية رقم الإيداع: 22691/ 2006 دار العفاني 3 درب الأتراك خلف الجامع الأزهر - القاهرة ت/ 025108257 - ت/ 0125775711 فرع بني يوسف - برج الري - حي الرمد - بجوار مجمع المحاكم - بني سويف ت/ 0822317344 مطبعة العمرانية تليفون 3756299

إهداء

إهداء * أهدي على استحياء هذا الكتاب إلى سيدي وحبيبيى وقدوتي، سيدِ ولدِ آدم، وإمامِ المرسلين وقائد الغرَّ المحجلين رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم -

وَامُحَمَّدَاهُ {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}

مقدمة

المقدمة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة إن الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسوله. * {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. * {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. * {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]. أما بعد: فإن أصدقَ الحديثِ كتاب الله، وأحسنَ الهَدي هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشَرَّ الأمور محدثاتُها، وإن كلَّ محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار. أما بعد: حين نريدُ أن نَشْرُفَ بالدخول إلى رحاب سيد البشر رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -

وأُفُقِه الوضيء الطليق المرفرف، ونَرِفَّ بأجنحةِ الشوق والنور والطُّهْر إلى ذلك المقام الأعلى، ونتَّخذَ من ذلك مِعراجًا إلى السِّراج المنير والقلبِ المُصَفى لسيِّد الرسل وأزكى العالمين وأحبِّ الرجال وأجلِّهم وأفضلِهم وأغلاهم - صلى الله عليه وسلم - .. نقتربُ في حياءِ مَن يعلمُ أنه يجاوزُ قَدْرَه .. نقتربُ في تهلُّل، ونعيشُ لحظاتٍ مُترَعةِ بغِبطةِ الحياة مع رسولِ رَفع اللهُ به قَدْرَ الإنسان والحياة .. مع السِّراج المنير .. وحاملِ النور إلى هذه البَسيطة .. الذي قال فيه ربُّه -عز وجل- وكلامُ الملوك ملوكُ الكلام-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46]. * نورٌ فكيف تُحيط بكُنهِهِ الظَّلْمَاءُ؟!!: كيف أتطاولُ للحديث عن ذلك المَقام الأنور وثُقْلَةُ الطينِ في كياني، وظلمةُ التراب وكثافةُ اللحم والدم، وعَرامةُ الشهوة في دروبي وحياتي وآثامي!!! فعُذرًا يا طُهْرَ الطُهْر. * عُذرًا رسول الله .. كيف أرنو إلى سَنَاك وذُنوبي جسامُ؟! .. عَزَّ الوُرُودُ وطالَ فيكَ أُوامُ ... وأرِقْتُ وَحْدِي والأنامُ نيامُ وَرَدَ الجميعُ ومِنْ سَنَاك تَزَوَّدُوا ... وطُرِدْتُ عن نَبْع السَّنَا وأَقامُوا ومُنِعْتُ حتى أنْ أَحومَ ولَم أكدْ ... وتَقَطَّعَت نفسي عليك وحامُوا قَصَدُوكَ وامتدحُوا ودُونيَ أُغْلِقَتْ ... أبوابُ مَدْحِكَ فالحروفُ عِقامُ أدْنو فأذكرُ ما جَنَيْتُ فأَنْثَنِي ... خَجَلاً تَضِيقُ بحِمْلِيَ الأقَدَامُ

أمِنَ الحضيضِ أُريدُ لَمسًا للذُّرَى ... جَل المَقامُ فلا يُطالُ مُقامُ وِزرِي يُكبِّلُنِي ويُخْرِسُنِي الأسَى ... فيموتُ فِي طَرَفِ اللسانِ كَلاَمُ يمَّمْتُ نحوكَ يا حبيبَ الله في ... شوقٍ تُقِضُّ مضاجِعي الآثامُ أرجو الوصولَ فليلُ عُمري غايةٌ ... أشواكها الأوزارُ والآلامُ يَا مَن وُلدْتَ فأشْرَقَتْ برُبوعِنَا ... نفحاتُ نورِك وانجلى الإظلامُ أأعودُ ظمآنًا وغيريَ يَرْتَوِي ... أيُرَدُّ عن حوضِ النبيِّ هُيامُ؟! كيفَ الدخولُ إلى رِحاب المصطفى ... والنفْسُ حَيْرى الذنوبُ جسامُ؟! ماذا أقولُ وألفُ ألفِ قصيدةٍ ... عصماءَ قَبْلي سطَّرَتْ أَقلامُ؟! مَدَحُوك ما بَلغوا برغْم ولائهم ... أسوارَ مجْدك فالدُّنُّو لمامُ حتى وقفتُ أمامَ نورِك باكيًا ... فتدفقَ الإحَساسُ والإلهامُ وتوالت الصُّورُ المُضيئةُ كالرُّؤَى ... وطَوى الفوادَ سكينة وسَلاَمُ يا مِلءَ رَوحِي وَهْجُ حُبِّك في دمي ... قَبَسٌ يُضِئُ سريرتي وزِمَامُ أنتَ الحبيبُ وأنْتَ من أرْوَى لَنَا ... حتى أضاءَ قلوبَنا الإسلامُ حُورِبتَ لَم تَخْضَعْ ولَمْ تَخْشَ العِدَا ... مَن يَحْمِه الرحمنُ كيفَ يُضَامُ؟! وملأتَ هذا الكونَ نُورًا فاختفتْ ... صورُ الظَّلامِ وقُوِّضَتْ أصنامُ * * * * عُذرًا رسولَ الله: حين أريدُ الدخولَ إلى جَنابك ورحابك ومَقامك الأنور أحتاجُ إلى عُمرٍ جديد، أولُ نَفَسٍ منه حتى آخرِه ملؤه الطهارةُ كلُّ الطهارة .. ونورُ الإيمان الغامر، وجَمالُ الإحسانِ الباهر.

أحتاج إلى قلبٍ حيٍّ كأجمل ما تكونُ القلوب .. رقيقٍ ليِّنٍ صافٍ .. تَنبِضُ فيه كلُّ نابضةٍ بالإِشراق والتفتُّح لاستقبالِ النور الذي يُشرِق في الضمائر مع النور الذي يُشرق في النواظر. أحتاجُ إلى كلِّ جمالٍ في الوجود يَهمِسُ لقلمي .. وقفةٌ لقلمي في الجَمَال والنور .. جمالِ كل هامس وكلِّ جاهر .. وكلِّ مُسْتَخْفٍ وكلِّ سارب .. وكلِّ نورٍ باهر يواجهُ العيون والمشاعر .. ائتوا لي بكلام من نورٍ عليه رَوْنقُ الماء، كأنما اشتَعَلت به الغيوم، كلامٍ يتلألأ بالنور، فكأنما عُصِر من النجوم. ائتوا لي بجمالِ الجنة الباهر .. بظلِّها الممدود .. ومائِها المسكوب، بنورها، وسَجْسَجُها كلُّ تسنيمٍ وسلسبيلٍ ورحيقٍ مختوم، وأنهارِ خمرِها وعَسَلِها ولبنها ومائها ليطهرَ فيه قلمي بنور الخلد أولاً قبلَ أن يتكلم عن سيِّد الرسل - صلى الله عليه وسلم -. ائتوا لي بكلِّ جمالٍ في الكون: بنسائم الأسحار، وزَجَل المُسبِّحين آناءَ الليل وأطرافَ النهار .. وطُهرِ المستغفرين الأبرار قائِمِي الليل وصائِمِي النهار المستغفرين بالأسحار. ائتوا بجمالِ الخِضَمِّ ومَوجِه الزَّاخر، والعيونِ الفَوَّارة، والنَّبع الرَّوِيِّ، والنّبتةِ النامية، والبُرْعم الناعم، والزهرةِ المتفتحة، وابتسامةِ الفجر الوليد، بجمال كلِّ طير سابحٍ في الفضاء، وسَمَكٍ يُسبِّحُ ويَسْبَحُ في الماء، حتى يرتعشَ القلمُ رِقةً ويستحمَّ في النور ليكتبَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. حين أريدُ الشرف كلَّ الشرف والعِزَّ كلَّ العِز بالكتابة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أحتاجُ إلى خَطَراتٍ رفَّافةٍ شفَّافة، وأعماقٍ طاهرةٍ كلَّ الطهر،

تستجيشُ فيها وفي أغوارها كلُّ مشاعرِ الطهْر اللامتناهية. أحتاجُ إلى كلِّ رُوحٍ مأنوسةٍ شفيقةٍ، أحتاجُ إلى إِيناسٍ وَدُودٍ نَدِيٍّ، وأنفاسِ مناجاةٍ دامعة .. فيها كلُّ ذبُولِ العبادة الوضيء .. وجمالِها الحبيب الهامِسِ اللطيفِ .. جمالٌ لا يدانيه جمالُ التصورات الشاعرية الطليقة. يَحتاج قلمي لمدادٍ نيِّرٍ طاهرٍ ذاب فيه طِيبُ كلِّ طيب في الجنة قبل الدنيا .. كلُّ مِسكٍ أذفر، وكلُّ طيوب العنبر .. مِدادٌ يعلوه كلُّ بريقِ الماس واللآليء وأصفى الدُّرِّ والجواهر، عزًّا بشرفِ الكلام عن سيِّد الأوَّلين والآخرين - صلى الله عليه وسلم -. مِدادٌ ذابت فيه آهاتُ المشتاقين إلى لقاء الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .. وكل طُهْر وأُنسٍ وطمأنينةٍ ويقينٍ في الكون .. وكل رُوحِ فجرٍ وضيئة. يحتاج قلمي إلى نسيمِ مِسكٍ يَهُبُّ فوق شجرة طوبى ليهتزَّ القلمُ بكل طهر وطِيبٍ وظلٍّ حتى يكتبَ ألفاظًا وعباراتٍ تليقُ بمَقام النبوة .. وتتأدَّبُ مع جلالها .. حروفُ معانٍ أو عقودُ جواهرٍ ... تُحَاكِي مصابيحَ النجوم الزواهرِ وإبريزُ تبريزٍ من النَّظم فُتِّحَتْ ... قوافيه زهْرًا في رياضِ الدَّفَاتِرِ يروحُ بأرواحِ المحامد حُسنُها ... فيَرْقَى بها في سَاميات المفاخِرِ إذا ما هداها الفكرُ أَهدتْ لَذِي النهي ... شمائلَ أَشهى من طُيَوب المَعاصِرِ تشعشع من نورِ المعَاني عنايَةً ... بها تُضرَبُ الأمثالُ بين المَعاشِرِ وتَنظِمُ من نَثْرِ المثاني قلائدًا ... تُزَخْرِف جيْدَ الجُودِ من كُل فاخِرِ وتَنشُرُ مِن طَيِّ المُرُوعة للفتَى ... مكارمَ أخَلاقٍ وحُسْنَ سَرَائِرِ إذا سَتَروها بالحِجاب تبرَّجتْ ... محاسنُ تبدو من وراءِ الستائِرِ

وإِنْ فُضَّ الأكون مِسْكُ ختامها ... تَعَطَّر منها كل نَجْدٍ وغائِرِ تَخَيرْتُها للهاشميِّ مُحمَّدٍ ... حَميدِ المساعِي خير بادٍ وحاضِرِ هدانا الصراطَ المستقيمَ بهَدْيهَ ... وأورَى بنورِ الحقِّ نورَ البصائِرِ أحتاج إلى نجاءٍ أليفٍ للقلب، وهَمْسٍ لطيفٍ للروح، ولَمْسٍ مُوحٍ للضمير .. ليكونَ اللفظُ في رقَّته كنسيم السَّحَر والفجر والجِنان .. ليكونَ أنداءَ مشعشعةً بالعطر، وخَطَراتٍ رفَّافةً شفافةً ذَوبَّها الشوقُ والحنين لرسول ربِّ العالمين - صلى الله عليه وسلم -. أولى أن نخطَّ هذه الأسطرَ والصفحات بنبضِ قلوبنا ولهيبِ أرواحنا، وواكفِ دموعنا، وكل أدبِ العابدين الخاشعين الأوَّابين القانتين لتسدَّ عَجْزي وضَعفي وتجبُرَ كَسرِي. وتملؤني هيبةٌ لجلالِ النبوَّة أن أكتبَ أعمقَ وأجملَ اللمساتِ عن سيّد السادات - صلى الله عليه وسلم - .. مكانُك مِن قلبي وعيني كلاهما ... مكانُ السُوَيدَا من فؤادي وأقربُ وذِكْرُك في نفسي وإنْ شفَّها الظَّما ... ألذُّ من الماء الزلالِ وأعذبُ إي واللهِ .. دماءٌ مزجناها بحبِّ محمدٍ ... وأكبادُنا من شوقها تتوقدُ فاللهم ارزقنا الشوقَ إلى لقياه، وشرفَ محبته والذبِّ عنه، وعن سُنَّتِه في الدنيا، وشرفَ جِواره والقربِ منه والشُّرب من حَوضه في الآخرة. لا نؤمنُ حتى يكونَ رسولُنا - صلى الله عليه وسلم - أحبَّ إلينا من أنفُسِنا وأهلينا وأموالنا والدنيا وما عليها.

• قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده، لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والده وولده" (¬1). • وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولده، ووالده والناسِ أجمعين" (¬2). • وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، لأنت أحبُّ إليَّ من كل شيءٍ إلاَّ من نفسي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا والذي نفسي بيده، حتى أكونَ أحب إليك من نفسك". فقال له عمرُ: فإنه الآنَ، واللهِ لأنت أحب إليَّ من نفسي. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الآن يا عمر" (¬3). واللهُ يعلمُ منَّا أنا نشتري رؤيتَه بأهلنا وأموالنا .. فاللهم ارزقنا شَرَفَ محبَّته. • عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أشدُّ أمتي لي حُبًّا قوم يكونونَ بعدي، يودُّ أحدُهم أنه فَقَد أهلَهُ ومَالَه وأنه رآني" (¬4). • وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أُناسًا من أمتي يأتُون بعدي، يَوَدُّ أحدُهم لو اشترى رؤيتي بأهلِهِ ومَالِه" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه أحمد، والبخاري، والنسائي عن أبي هريرة. (¬2) رواه أحمد، والبخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه عن أنس. (¬3) رواه البخاري في "صحيحه" -كتاب الأيمان والنذور- باب كيف كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر "فتح الباري" (11/ 523) ح (6632). (¬4) صحيح: رواه أحمد في "مسنده"، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" رقم (1418)، و"صحيح الجامع" (1003). (¬5) حسن: أخرجه الحاكم عن أبي هريرة، وحسنه الألباني في "السلسلة الصحيحة" رقم (1676)، و"صحيح الجامع" رقم (2008).

* صغائرُ الحياة قد أحاطت بمجد الحياة، لِتُثبِتَ الصغائرُ أنها صغائر، وليُثبتَ المجدُ أنه المجد: حين يتبجَّح الأقزام الأشقياء المناكيد من الصليبيِّين صغائرِ الحياة الدانماركيِّين ويُدنِّسون ويسَوِّدون وجهَ صُحُفِهم التعيسة برسوم الكاريكتير التي تسيء وتستهزيُّ بالرسول - صلى الله عليه وسلم - سيِّدِ البشر .. شُلَّت أياديهمُ قَبُحت وجوهُهمُ ... تعسًا لكفرهم .. قومٌ مناكيدُ يجحدون نبُوَّته، ويكفرون بنوره ورسالته، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنه ليس شيء بين السماء الأرض إلاَّ يعلمُ أني رسول الله؛ إلاَّ عاصيَ الجِنِّ والإنس" (¬1). هم أقزامٌ تعيشُ أنفسهم في التراب، ويتمرَّغون بأخلاقهم فيه، ينقلبون على الحياة من صُنْع التراب ناسًا دودًا كطبع الدود، لا يقع في شيءٍ إلاَّ أفسده أو قذَّره، أوْ قومًا سُوسًا كطبع السُّوس لا ينالُ شيئًا إلاَّ نَخَره وعابه، أوْ قومًا كالحيَّاتِ والأفاعي تَنفُث سُمَّها في أرجاء الحياة، أو خنافسَ إذا دُفِنت في الورْد لم تتحرك، فإذا أُعيدت إلى الرَّوَث رَتَعتْ .. أشدَّ بلادةً من البقر والحمير حين جحدوا نُبُوَّةَ الأمينِ الكريم سيدِ البشر - صلى الله عليه وسلم -، يلقِي أعداؤه -أعداءُ الحياة أعداءُ النور- على هذا التراب من ظلام أنفسهم، فلا يبقى تُرابًا، بل يرجع ظلامًا، فكأنهم إذ يمشون يطؤون المجهول بخوفه ورَوْعَتِهِ، ثم لا يستقرُّ ظلامًا، بل يرجعُ آلامًا، فكأنهم يَنبتون على المرض لا على الحياة، ثم لا يثبت آلامًا، بل يتحوَّلُ فَوْرةً وتوثُّبًا تكونُ منه نزواتُ الحمق والجنونِ في النفس. ¬

_ (¬1) حسن: رواه أحمد والدارمي والضياء عن جابر، وكذا رواه ابن حبان، وصحَّحه الألباني في "الصحيحة" (1718)، و"صحيح الجامع" (2409)، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط في "المسند" (3/ 310): "صحيح لغيره".

{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فلا تصل إليها حقيقةٌ من الهدى ولا صدى، {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} فلا نورَ يُوصوِصُ لها ولا هدى .. نفوسٌ صَلْدة مظلمة جامدة. هم الظلام كلُّ الظلام .. هم أصحابُ الظلمات، فكيف يُدرِكون نورَ سيِّد السادات - صلى الله عليه وسلم -؟!! هم المنغمسون في الكفر والشِّرك والجهل، أحاطت بهمُ الظلمات من كلِّ وجه، فهم بمنزلة الأنعام بل هم أضلُّ سبيلاً، فهم في ظلمات آرائهم يعمهون، وفي ضلالتهم يتهوَّكون، وفي رَيبهم يتردَّدون، مغترين بظاهر السَّراب، مُمحِلين مُجدِبين مما بعث اللهُ به رسولَه - صلى الله عليه وسلم - من الحكمة وفَصْل الخِطاب، إنْ عندهم إلاَّ نُخالةُ الأفكار وزُبالاتُ الأذهان التي قد رَضُوا بها واطمأنوا إليها، {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56]، أوجبه لهم اتِّباعُ الهوى ونخوةُ الشيطان، وهم لأجله يُجادلون في آيات الله بغير سلطان. أهلُ الظلمات المناوؤون لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وشانؤوه من المغضوب عليهم والضالين من اليهود النصارى، {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118]، قولُهم ظُلْمة، وعَمَلُهم ظُلمة، ومُدخلُهم ظلمة، ومُخرَجُهم ظلمة، ومَصيرهم إلى الظُّلْمة، قلوبهم مُظلمة، وجوهُهم مُظلمة، كلامهم مُظْلِم، وحالُهم مُظلم، وإذا قابَلَتْ بصيرتُهم الخُفَّاشيةُ ما بعث اللهُ به محمدًا - صلى الله عليه وسلم - من النور جَدَّ في الهرب منه، وكاد نورُه يَخطِفُ بصره، هَرَب إلى ظلماتِ الشِّرك والجُحود والعِنادِ والاستهزاء التي هي به أنسبُ وأولى، كما قيل: خفافيشُ أعشاها النهارُ بضَوئه ... ووافَقَها قِطعٌ من الليل مُظلِمُ

فإذا جاء زُبالةَ الأفكار، ونُحاتةَ الأذهان، جال وصال، وأبدى وأعاد، وقعقع وفرقع، فإذا طَلَع نورُ الوحي وشمسُ الرسالة، انحَجَر في حُجرةِ الحشرات. هؤلاء الذين تنكَّبوا صراطَ الله المستقيم، واستبدلوه بطريقٍ بهيم لا معالم فيه، واندفعوا بظُلمةِ شهواتِهم وشُبهاتهم، وغيِّهم وضلالاتهم في التِّيه، وظلمةِ الحيرة والقلق والانقطاع عن الهدى، والوحشةِ من الجَنَاب الآمن المأنوس، وظلمةِ اضطراب القِيمَ وتخلخُلِ الأحكام والموازين والقيم، وظلمةِ الهواجس والوساوس .. لهم ومعهم وفيهم كلُّ نزغاتِ الشياطين .. وكيف يُدرك في الدنيا حقيقتَه ... قومٌ ظلامٌ تسَلَّوْا عنه بالظُّلَمُ حوَّلوا الحياة هم وتلاميذُهم وأذنابُهم إلى مستنقعٍ آسن، وارتكس الدجاجلةُ شانِؤو محمد - صلى الله عليه وسلم - ومعهم الغوغاء في الحمأة الوبيئة، وفي الدَّرْكِ الهابط، وفي الظلام البهيم، وأفسدوا الأرض، وأَسِنت الحياةُ بسببهم، وظَهَر الفسادُ في البرِّ والبحر بما كسبت أيدي الناس، وشكى ضوءُ النهار وظلمةُ الليل والمعقِّباتُ إلى ربِّهم، وكادت السماواتُ يتفطَّرْنَ مِن فوقهم، وتنفطرُ الأرضُ، وتَخِرُّ الجبال هدًّا لتطاولِ اللئام الأقزام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى وحيه وعلى شريعته، وعلى تبجُّحهم، ومَلأ القولُ الفاجرُ كلَّ حاضرٍ وبادِي، وعلا فحيحُ الأفاعي .. يُرمرِمُ من فُتاتِ الغرب قُوتًا ... ويَشربُ من كؤوسهم الثُّمالةْ يُقَبِّل راحةَ الإفرنج دَوْمًا ... ويَلثِمُ دونما خَجلٍ نِعَالهْ * * *

* جَحَدُوه، وحَنَّ الجِذعُ إِليه، وسَلمَ الصَّخْرُ عليه، وسجدت الحيواناتُ بين يديهِ: جَحدوا نُبُوتَه، وكانت الأحجارُ تُسلِّمُ عليه، والجِذعُ يبكي لفِراقه ويحن إليه، وسَجَدت الحيواناتُ بين يديه تعظيمًا له: • عن جابر بن سَمُرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأعْرِف حجَرًا بمكَّةَ، كان يُسَلِّمُ علي قبل أن أبعث" (¬1). ° وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "كان المسجدُ مسقوفًا على جُذوع من نخْل، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خَطَب يقومُ إلى جِذْع منها، فلما صُنع له المنبرُ فكان عليه، فسَمِعْنا لذلك الجِذع صوتًا كصوت العِشار، حتى جاء النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده عليه فسكت" (¬2). • وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب إلى جِذع قبل أن يَتَّخذَ المنبرَ، فلما اتَّخَذ المنبر وتحوَّل إليه، حَنَّ الجذعُ، فاحتَضَنه فسكن، وقال: "لو لم أحتضِنْه لَحَنَّ إلى يوم القيامة" (¬3). ° وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان لآل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَحْشٌ، فكان إذا خَرَج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - اشتدَّ ولَعِب في البيت، فإذا دخل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سَكَن فلم يتحرك كراهيةَ أن يُؤذيَه" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه أحمد ومسلم والترمذي. (¬2) رواه البخاري. (¬3) صحيح: رواه أبو داود، والنسائي، وابن حبان والطبراني والبيهقي، والحاكم في "المستدرك"، وصححه ووافقه الذهبي .. وسنده حسن. (¬4) حديث حسن: أخرجه الإِمام أحمد في "المسند" (6/ 209) وقال الشيخ مقبل الوادعي: =

• وعن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان أهلُ بيتٍ من الأنصار لهم جَمَلٌ يَسْنُون عليه (¬1)، وإن الجَمَلَ استصعب عليهم فمنعهم ظَهْرَه، وإن الأنصار جاؤوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: إنه كان لنا جَمَلٌ نُسنِي عليه، وإنه استصعب علينا، ومَنَعَنا ظَهْرَه، وقد عَطِش الزرعُ والنخل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "قوموا". فقاموا، فدخل الحائطَ -والجَمَلُ في نَاحية-، فمشى النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. فقالت الأنصار: يا نبيَّ الله، إنه قد صار مِثلَ الكلب الكَلِبِ، وإنا نخافُ عليك صَوْلَتَه! فقال: "ليس عليَّ منه بأسٌ"، فلما نظر الجمل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل نحوه حتى خَرَّ ساجدًا بين يديه، فأخذ رسولُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بناصيته أذلَّ ما كانت قط حتى أدخله في العمل، فقال له أصحابه: يا رسول الله، هذه البهيمةُ لا تعقلُ تسجد لك، ونحن نعقل، فنحن أحقُّ أن نسجدَ لك، فقال: "لا يصلحُ لبشرٍ أن يسجد لبشر، ولو صَلَح لبشر أن يسجدَ لبشر لأمرتُ المرأةَ أن تسجدَ لزوجها من عِظَم حقِّه عليها، والذي نفسي بيده لو كان من قَدَمه إلى مَفْرِقِ رأسِه قَرحةٌ تنبجِسُ بالقيح والصديد، ثم استقبلته فلحَسَتْه ما أدَّتْ حقَّه" (¬2). ° وعن سَفِينةَ - رضي الله عنه - مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ركبتُ البحرَ، فانكسرت السَّفينة، فركبتُ لَوْحًا، فطرحني اللَّوْحُ في أَجَمَةٍ فيها الأسدُ، فأقبل إليَّ يريدُني، فقلتُ: يا أبا الحارث (¬3)، أنا مَوْلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فطأطأ رأسه ¬

_ = هذا حديث حسن. (¬1) أي: يَسْتَقون. (¬2) إسناده جيد: أخرجه أحمد في "المسند" (3/ 158)، وقال الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" (6/ 155): وهذا إسناد جيد. (¬3) كُنْيَة الأسد.

وأقبل إلي، فدفعني بمَنكِبه حتى أخرَجَني من الأجَمَة، ووضعني على الطريق وهَمْهَم، فظننت أنه يُوَدِّعني" (¬1). * وأعجبُ من هذا استباقُ النوق للموت بين يديه، وكأنَّ الموت بين يديْه حياة: • عن عبد الله بن قُرْط - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعظمُ الأيام عند الله يومُ النحْر، ثم يومُ النَّفْر"، وقُرِّب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خَمس بَدَناتٍ، فطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إليه (¬2) أَيَّتهُنَّ يبدأ بها، فلما وَجَبَت جنوبُها، قال كلمة خفيفة لم أفهمها، فسألت بعضَ مَن يَلِيني: ما قال؟ .. قالوا: قال: "مَن شاء اقتطع" (¬3). ما بال النوق يسْرِعْن للموت بين يديه .. وكأنَّ الموتَ بين يديه حياة!! ما بالُها وَعَت مَا لم يَعِه غِلاظُ الأكباد مَن البشر!! وما بالها سارعت فيما يرضيه، وقصَّر في محبته مَن شَرَّفهم اللهُ بالانتساب إليه بعد أن كانوا على هامشِ الحياة لا شأنَ لهم في الأرض ولا ذِكر لهم في السماء!!. * حتى الكلاب تَغضب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن كانت الكلابُ تغضب لمن ينتقص شخصَ الرسول الكريم .. فماذا يفعل المليارُ وربعُ مليار ممَّن أنقذهم الله به من الظلمات، وأخرَجَهم إلى النور على يديْه؟! .. وماذا سنقول لنبينا - صلى الله عليه وسلم - حينما نلقاه على الحوض؟! .. ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه ابن سعد، وأبو يعلى، والبزار، والحاكم، وصححه، ووافقه الذهبي. (¬2) يقتربْن منه ويسْرعْن إليه. (¬3) حسن: رواه أحمد (4/ 350) وأبو داود (5/ 184)، وحسنه مقبل الوادعي في "الصحيح المسند من دلائل النبوة" (ص 102).

لنُعِدَّ للسؤال جوابًا من الآن .. انظر إلى هذا الخبرِ وتدبَّرْه .. تجد العجبَ العُجاب، يَرويه حافظ الدنيا ابن حجر العسقلاني في كتابه "الدرر الكامنة": "كان النصارى ينشُرون دعاتَهم بين قبائل المغول طَمَعًا في تنصيرهم، وقد مَهَّد لهم الطاغية "هولاكو" سبيلَ الدعوة بسببِ زوجته الصليبية "ظفرخاتون"، وذات مرة توجَّه جماعةٌ من كبار النصارى لحضور حفلٍ مغوليٍّ كبير عُقِد بسبب تنصُّر أحدِ أمراءِ المغول، فأخذ واحدٌ من دُعاة النصارى في شتم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان هناك كلبُ صيدٍ مربوط، فلما بدأ هذا الصليبيُّ الحاقد في سبِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - زمجر الكلبُ وهاج، ثم وثب على الصليبي وخَمَشه بشدةٍ، فخلَّصوه منه بعد جَهْدٍ. فقال بعض الحاضرين: هذا بكلامك في حقِّ محمد - صلى الله عليه وسلم -. فقال الصليبيُّ: كلاَّ، بل هذا الكلبُ عزيزُ النفس رآني أُشير بيدي، فظنَّ أني أُريدُ ضربه، ثم عاد لسَبِّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأقذع في السبِّ، عندها قطع الكلبُ رِباطَه ووثب على عُنق الصليبيِّ وقَلَع زَوره في الحال، فمات الصليبي من فوره، فعندها أسلم نحوُ أربعين ألفًا من المغول" (¬1). والتطاولُ على أزكى الرسل وسيِّدهم - صلى الله عليه وسلم - فاق كلَّ حدٍّ من المغضوب عليهم والضالين: اليهود والنصارى، ومن عُبَّاد البقر، والزنادقةِ، والملاحدة، وأهل النفاق .. والتطاولُ على سُنَّتِهِ وإنكارُ المتواتر منها وما صحَّحه جهابذةُ الحديث وشيوخُ الحُفاظ: أصبح تجارةً رائجةً بين الدهماء والغوغاء وأهل الخبث ممن يعرفهم أهلُ الله مِن لَحْن قولهم. ¬

_ (¬1) "الدرر الكامنة" لابن حجر العسقلاني (3/ 202).

° وقديمًا قال ناصرُ السُّنة الإمام الشافعي -لله درُّه-: "مَن استُغضِب ولم يَغْضَب فهو حمار" (¬1). وهذي غضبتي -على قَدْري الضئيل- على صفحاتِ الكتب .. في هذه السلسلة التي أسأل الله أن يجعَلها جُنَّةً لي ورِدءً من النار .. ورِفعةً وقربةً وجوارًا لسيِّد الأبرار - صلى الله عليه وسلم -، وطُهْرةً من الذنوب والآثامِ والأوزار .. فاللهم سدِّد قلمي وزِّكه، واجعل له القبولَ بين الصالحين، ونَقِّه عن أعراض الدنيا، واجعله شجًى في حلوقِ المارقين والمنافقين .. واجعله وَقْفًا على نشر السُّنة والدفاع عنها، ونشرِ محاسن هذا الدين العظيم، ونهيًا عن المنكر، ووفِّر لي الأجرَ يوم لقياك. • قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ من أمتي قومًا يُعطَوْن مثل أُجُور أوَّلِهم، يُنكِرون المُنكَر" (¬2). * أرفع عملٍ ووسامٍ أن ننافح (¬3) عن رسولنا - صلى الله عليه وسلم -: • للهِ درُّ من ينافحُ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ويكونُ من أنصارِ الله ورسوله، هذا موضعٌ كريم يرفعُنا إليه الله، وهل أرفعُ من مكانٍ يكونُ فيه العبدُ نصيرًا للرب وللرسول - صلى الله عليه وسلم -؟! إن هذه الصفةَ تحملُ من التكريم ما هو أكبرُ من الجنة والنعيم .. فما أجدرَ أتباعَ محمد - صلى الله عليه وسلم - أن ينتدِبوا لهذا الأمرِ الدائم!. • وطوبى لمن يُنافحُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فله نصيبٌ من قول ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" للذهبي (10/ 43). (¬2) صحيح: رواه أحمد، وصحَّحه الألباني في "الصحيحة" (1700)، وحسَّنه لغيره الشيخ شعيب الأرنؤوط في تحقيق "المسند" (5/ 375). (¬3) ننافح: ندافع.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسان: "إن رُوحَ القُدُسِ (¬1) لا يزال يؤيِّدك، ما نافحتَ عن الله ورسوله" (¬2). • وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللهَ يؤيِّدُ حسَّانَ برُوح القدس ما نافَحَ عن رسول الله" (¬3). • وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن رُوحَ القدس معك ما هاجَيْتَهم (¬4) " (¬5). • وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اهْجُ المشركين، فإن رُوحَ القُدسِ معك" .. قاله لحسان (¬6). • وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اهْجُ قريشًا، فإنه أشدُّ عليهم من رَشْقِ النَّبْل (¬7) " (¬8). • وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا حسانُ، أجِبْ عن رسول الله، اللهم أيِّدْه بُروحِ القدس" (¬9). • وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "هَجَاهم حسانُ فشَفَى واشتفى (¬10) " (¬11). ¬

_ (¬1) روح القدس: جبريل -عليه السلام -. (¬2) رواه مسلم عن عائشة. (¬3) صحيح: رواه أحمد في "مسنده"، والترمذي عن عائشة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" برقم (1861). (¬4) هاجيتهم: ذممتهم وتركت معايبهم. (¬5) صحيح: رواه الحاكم في "المستدرك" عن البراء، وصححه، وصححه الألباني في "صحيح الجامع " برقم (2080). (¬6) رواه أحمد، والبخاري، ومسلم، والنسائي عن البراء. (¬7) رَمي السهام. (¬8) رواه البخاري ومسلم عن عائشة. (¬9) رواه أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي عن حسان وأبي هريرة. (¬10) شفى: أذهب غيظ المؤمنين، واشتفى: مزّق الكافرين. (¬11) رواه مسلم عن عائشة.

° ولله درُّ حسان - رضي الله عنه - وهو يقول لأبي سفيان بنِ الحارثِ بنِ عبد المطلب لما هجى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وذلك قبل إسلامه-: هَجَوْتَ محمدًا فأجَبْتُ عنه ... وعِندَ اللهِ في ذَاكَ الجزاءُ هَجَوْتَ محمدًا بَرًّا تقيًّا ... رسولَ اللهِ شيمتُه الوفاءُ (¬1) أتَهْجُوهُ وَلستَ له بكُفْءٍ ... فشرُّكما لِخَيْركُما الفِدَاءُ فإنَّ أبي ووالدَهُ وعِرْضي ... لِعِرْضِ محمدٍ منكم وِقَاءُ (¬2) نعم .. إن أعراضنا ودماءَنا وأنفُسَنا وأهلينا فداءٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. عِرضي فدا عرضِ الحبيبِ محمدٍ ... وفِداهُ مُهجةُ خافقي وجَناني وفداهُ كُلُّ صغيرِنا وكبيرِنا ... وفداهُ ما نظرت له العينانِ ننافحُ عنه وذاك عزُّ الدهر .. ونمدحه وهذا علوٌّ وسموّ .. ونقول: عذرًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ننافح عن سيِّد السادات، وذاك بَهاءُ وعز الدهر .. ونمدحه وذاك علوٌّ وسموٌّ، وتَقصر كلماتُنا مهما أوتينا من لَسَنٍ وفصاحة أن نوفِّيه عُشْرَ معشار قَدْره - صلى الله عليه وسلم - .. بمديحِهِ العَطِرِ المَنيفِ تَعَطَّرَتْ ... وتطهَّرَتْ وتنوَّرْتَ أوْزَانِي يُعطِي القَرِيضَ غَضاضةً ونضارةً ... وفَصاحةً تُرْبِي على سُحْبَانِ (¬3) ¬

_ (¬1) عند ابن عساكر (4/ 127): هجوت محمدًا برًّا حنيفًا ... رسولَ الله شيمته الوفاء وفي "الاستيعاب" (ص 474): هجوت مُطَهَّرًا برًّا حنيفًا ... أمينَ الله شيمته الوفاء (¬2) "ديوان حسان بن ثابت" (ص 76) -تحقيق دكتور سيد حنفي- دار المعارف. (¬3) ديوان الصرصري: ورقة 115 .. انظر "المدائح النبوية حتى نهاية العصر المملوكي" - للدكتور محمود سالم محمد - دار الفكر - سورية.

° أو كما قال الصرصري لله درُّه: إذا قيل فيك الشِّعْرُ جاء مُهَذَّبًا ... جَليَّ المعاني ليس فيه عَويصُ ووَصْفُك يُعْطِي اللهْم نُورًا كأنَّهُ ... على الدُّرِّ في البحر الخِضمِّ يَغُوصُ (¬1) * وأخيرًا: هذه سلسلةُ: "شَرَابُ التسنيم مع النبيِّ الكريم - صلى الله عليه وسلم -"، تأتي في مجلدات على النسق التالي: * الكتاب الأول: "وامحمداه .. وارسولاه .. إن شائنك هو الأبتر"، أَتتَبَّعُ فيه كلَّ شانِئي النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - على مَدَار التاريخ ممَّن وَعَتْهم ذاكرتي بدايةً من فرعون هذه الأمة .. مرورًا بزعماء الكفر من قريش أهل قَليبِ بدر، وشانئيه من يهود، وعلى رأسهم شيطانُ اليهود كعبُ بن الأشرف، ومَن أساؤوا الأدب معه ككسرى -لعنه الله-، أو الذين ادَّعَوا النبوَّة كمسيلِمة والعَنسِي، ومن ادَّعوا النبوةَ بعد ذلك من الطوائف المارقة الخارجة عن الإسلام. وأذكر شانئيه في عصرنا الحديث "البابية، والبهائية، والقاديانية"، وأُعرِّجُ على أقوالِ الصليبيين من المستشرقين، والمفكرين قديمًا وحديثًا .. وأذكر مقال بعضِ مفكِّري الغرب الذين شهدوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالبطولة والعبقرية والأثر العظيم في قومه، وإن لم يُثبتوا له النبوة .. ولكنهم أحسَنُ حالاً من الموتورين المسعورين الكلاب من بني جلدتهم. وأُعرِّجُ على نواقضِ الإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأُجَلِّي ذلك للمسلمين، ¬

_ (¬1) "ديوان الصرصري" ورقة 52.

وأزيل بذلك -بحول الله وقوته وله المِنَّةُ والفضل- كثيرًا من الغِشاوة عن أعين السُّذَّج .. بعد أن نَجَمَ النِّفاقُ واستفحل أمره. * الكتاب الثاني: الكوكبُ الدُّرِّي في خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -. * الكتاب الثالث: شراب التسنيم من أخلاق النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -. * الكتاب الرابع: أُنس المقرَّبين من شمائل النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -. * الكتاب الخامس: لآليءُ البحار في دلائل نبوة سيِّد الأبرار - صلى الله عليه وسلم - .. ومعه "الكواكب النيرات في صحيح المعجزات". * الكتاب السادس: الأقوالُ العاطرات في حقوق النبي سيِّد السادات - صلى الله عليه وسلم - .. ومعه "رد أهل الاتباع الزكي على الغلاة في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم -". * الكتاب السابع: المدائحُ النديَّة لسيد البشرية - صلى الله عليه وسلم -. ونُفرد بعد ذلك ثلاثة مجلدات في سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو "الطيبُ النَّدِيّ في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -". ومِن التَّيَمُنِ: أن الأخَ الذي قام بصفِّ الكتاب سَمع في الرؤية رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَسألُ في المَنام رجلاً عن الكِتاب، ويَطمئنُّ عمَّا تمَّ فيه .. ولله الحمد والمِنة. فاللهم ثقِّل ميزاني، وأصلح نيَّتي وسريرتي، وارزقني شهادةً في سبيلك، وموتًا في بلد رسولك، وارزقني جِوار النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - في أعلى الفردوس، ومتِّعني بالنظر إلى وجهك الكريم .. وكتبه محبُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السيد بن حُسين العفاني الإثنين 27 صفر 1427 هـ - 27 مارس 2006 م

بأبي أنت وأمي يا رسول الله

بِأَبِي أَنتَ وأُمِّي يَا رَسُول الله

السراج المنير والإنسان النجمي - صلى الله عليه وسلم -

بِأَبِي أَنتَ وأُمِّي يَا رَسُول الله * السِّراجُ المنير والإِنسانُ النَّجْمِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: كما تَطلُعُ الشمسُ بأنوارها فتُفَجِّرُ يُنبوعَ الضوء -المُسَمَّى بالنهار-، يُولَدُ محمدٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيُوجَدُ في الإنسانية يُنبوعُ النور -وهو الإسلام-. وليس النهارُ إلاَّ يَقَظةَ الحياةِ تُحقِّقُ أعمالَها، وليس ما جاء به محمدٌ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ يقظةَ النفس تُحقِّقُ أفضالها. والشمسُ خَلقها اللهُ حاملةً طابعًا خاصًّا، في عَمَلها للمادة تُحَوِّل به وتُغيِّر، والنبيُّ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - أرسله اللهُ حاملاً طابعًا في عَمَله تترقَّى فيه النفسُ وتسمو. وليس النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - إنسانًا من العُظماء يُقرأ تاريخُه بالفِكر معه المنطق، ومع المنطق الشكُّ، ولكنه إنسانٌ نَجمِيَ يُقرأ بمثل "التلسكوب" في الدِّقَّة معه العِلم، ومع العلم الإيمان. ومحمدٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِثلُ النَّجم سراجٌ منير، وإشراقٌ على الإنسانية يُقوِّمها في فَلَكها الأخلاقي، ويجذبُها إلى الكَمَال في نظامٍ هو بعينه صورة لقانونِ الجاذبية في الكواكب. ونفسُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أبلغُ الأثفس قاطبةً، لا يمكنُ أن تَعرِفَ الأرضُ أكملَ منها ولو اجتمعت فضائلُ الحكماء والمتألِّهين، وجُعلت في نِصابٍ واحدٍ، ما بَلغت أن يجيء منها مِثلُ نفسه - صلى الله عليه وسلم -. نفسٌ سامقةٌ عاليةٌ تُطِلُّ على الدنيا من عَلٍ لتصحيح الوضعِ المغلوطِ للبشرية، وكأنَّ الحقيقةَ الساميةَ في هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - تنادِي: أن قابِلوا على هذا

الأصل، وصحِّحوا ما اعترى أنفسَكم من غَلَطِ الحياة وتحريفِ الإِنسانية. هو نَبع في الأرض لمعاني النور بإزاءِ الشمس نَبْع النور في السماء. مِن أين تَدَبَّرْتَ هذه النفسَ العظيمةَ، رأيتَها تَنبسط على الإِنسانية كالشمس في الأفق الأعلى تنبسط وتضحَى. * قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46]. وهو حاملُ النور إلى البشرية .. نورِ الوحي. * وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16]. ° قال العلامة ابن جرير الطبري: "قد جاءكم يا أهلَ التوراة والإنجيل {مِنَ اللَّهِ نُورٌ} يعني بالنور محمدًا - صلى الله عليه وسلم - الذي أنار اللهُ به الحق، وأظهر به الإسلام، ومَحق به الشرك، فهو نورٌ لمن استَنَار به، يُبيِّن الحقَّ، ومِن إنارته الحق تبيينُه لليهود كثيرًا مما كانوا يُخفون من الكتاب .. قد جاءكم من الله تعالى النورُ الذي أنار لكم به معالِمَ الحق" (¬1). نورٌ تُشرقُ به كينونةُ الإنسان عند الإيمان به وبما جاء به، فتَشِفُّ وتَخِفُّ وتَرِفُّ، ويُشرقُ به كل شيء أمامه، فيَتَّضحُ ويتكشَّفُ ويستقيم. ثقلة الطين في كِيانه، وظُلمةُ التراب، وكثافةُ اللحم والدم، وعَرامةُ الشهوة والنزوة، كلُّ أولئك يُشرقُ ويُضيء ويتجلَّى .. تَخِفُّ الثقْلة، ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" (8/ 264) - طبع دار هجر.

وتُشرقُ الظلمة، وتَرقُّ الكثافة، وترِقُّ العرامة .. واللَّبس والغَبَشُ في الرؤية، والتأرجُح، والتردُّد في الخُطوة، والحَيرة والشرودُ في الاتجاه والطريقِ البهيم الذي لا معالم فيه: كل أولئك يشرقُ ويضيء ويتجلَّى .. يتضحُ الهَدَف، ويستقيمُ الطريقُ إليه، وتستقيمُ النفسُ على الطريق. ° ولله درُّ القائل في نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: وأبيضُ يُستسقَى الغمامُ بوَجهه ... ثُمالُ اليتامى عِصمةٌ للأراملِ ° ولله درُّ القائل: كأن الثُرَيَّا عُلِّقَتْ بجبينه ... وفي جِيْدِه الشِّعْرَى وفي وجِههِ القَمَرُ عليه جَلالُ المَجْدِ لوْ أنَّ وَجْهَهُ ... أضَاءَ بليلٍ هلَّلَ البَدْوُ والحَضَر ° عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "لَما كانَ اليوم الذي دخَل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، أضاءَ منها كُلُّ شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كلُّ شيء، وما نَفَضْنَا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأَيْدِي -وإِنَّا لَفِي دفْنِه- حتى أنكَرْنَا قُلُوبَنا" (¬1). وهو حامل النور -القرآن- إلى البشرية: * قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]. وأعظمُ مِنَّةٍ وتكريم يَمُنُّ الله به ويورِدُه في كتابه الكريم هذا المثل: ¬

_ (¬1) حديث صحيح: رواه أحمد، والترمذي وقال حسن صحيح، وكذا رواه ابن ماجه، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".

{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35]. والضمير في "نوره" يعود على الله سبحانه. ° قال أُبَيُّ بنُ كعب - رضي الله عنه -: "مَثَلُ نورِه في قلب المسلم". ° وقال ابن القيم: "والمعنى: مَثَل نورِ الله سبحانه وتعالى في قلب عبده .. وأعظمُ عبادِهِ نصيبًا من هذا النور رسولُه - صلى الله عليه وسلم -". والمؤمنُ قلبُه مُضِيءٌ يكادُ أن يُضيءَ بنفسه، يكادُ يعرفُ الحق بفطرته وعَقْله، ولكن لا مادَّةَ له من نفسه، فجاءت مادةُ الوحْي فباشرت قلبه، وخالطت بشاشَتَه، فازداد نورًا بالوحي على نورِه الذي فَطَره الله عليه، فاجتمع له نورُ الوحي إلى نورِ الفِطرة، {نُورٌ عَلَى نُورٍ}. فما ظنك بنورِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!. انظر إلى هذا التشبيه العجيب الذي تضمَّنته الآيةُ، فيه من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نِعمته على عَبدهِ المؤمن -وأكملُ عبادِه رسولُه - صلى الله عليه وسلم - بما أناله من نوره- ما تَقَر به عيونُ أهله، وتبتهجُ به قلوبُهم. فتأمَّلْ صفةَ "المشكاة"، وهي كُوَّةٌ تَنفُذُ لتكونَ أجمعَ للضوء، قد وُضع فيها مِصباحٌ، وذلك المصباحُ داخلَ زجاجةٍ تُشبهُ الكوكبَ الدُّري في صَفائها وحُسنها، ومادتُه من أصفى الأدهانِ وأتمِّها وَقودًا، فمن شدةِ إضاءةِ زيتها وصفائِه يكادُ يُضيءُ من غير أن تمسَّه نار.

• فالمشكاةُ صَدْرُ المؤمن، والزجاجةُ قلبُه، وبصفائه تتجلَّى فيه صُورُ الحقائق والعلوم على ما هي عليه، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لله تعالى آنيةً من أهل الأرض، وآنيةُ ربكم قلوبُ عباده الصالحين، وأحبُّها إليه أَليَنُها وأرقُّها" (¬1). والشجرةُ المباركة: هي شجرةُ الوحي، وهي مادةُ المصباح التي يتَّقد منها. فماذا ظنُّك بحظِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن هذا المَثَل؟!. • عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ خَلَق خَلقَه في ظُلمة، ثم ألقى عليهم من نُوره، فمن أصابه من ذلك النورِ اهتدى، ومن أخطأه ضَلَّ، فلذلك أقول: جَفَّ القلمُ على عِلم الله" (¬2). فيا لها من أنوارٍ كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -! فإنَّ نورَ الإِيمان يملأُ قلبَه، ومُدخَلُه نور، ومُخْرَجُه نور، وعِلمُه نور، ومِشيتُه في الناس نور، وكلامه نور، ومصيرُه إلى نور، وللمؤمن نصيبٌ من هذا. ¬

_ (¬1) إسناده قوي: أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" عن أبي عنبة، وقال الألباني: "رجاله كلهم ثقات أثبات غير "بقية"، وهو صدوق كثير التدليس عن الضعفاء، وهو هنا قد صَرَّح بالتحديث" .. وقواه الألباني في "الصحيحة" رقم (1691)، وحسَّنه في "صحيح الجامع" برقم (3163). (¬2) صحيح: رواه أحمد في "المسند" مطولاً (10/ 127)، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر. وقال الهيثمي في "المجمع" (7/ 193 - 194): "رواه أحمد بإسنادين والبزار والطبراني، ورجال أحد إسنادي أحمد ثقات"، ورواه الترمذي في "سننه" (5/ 26) في الإيمان - باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، وقال: حديث حسن، وأخرجه الحاكم مطولاً وصححه، وصححه الألباني في "الصحيحة" (3/ 64) رقم (1076).

وقفة

وتتزايدُ مادةُ النور حتى تظهرَ على وجوهِ المؤمنين وجوارحِهم وأبدانِهمِ، بل وثيابهم، ودُورِهم، يُبصِرُه مَن هو من جِنسهم، فإذا كان يوم القيامة برَز ذلك النورُ يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، منهم مَن نوره كالشمس، وآخر كالقمر، وآخر كالنجوم. ° قال ابن القيم: "ولما كان "النورُ" من أسمائه الحُسنى وصفاته، كان دينُه نورًا ورسولُه نورًا، وكلامُه نورًا، ودارُه نوراً يتلألأ، والنورُ يتوقَّدُ في قلوب عباده المؤمنين، ويجري على ألسنتهم، ويظهر في وجوههم". ° قال ابن تيمية: "إن الله ضَرَب مَثَلَ نورِه في قلوبِ المؤمنين بالنور الذي في المصباح وهو في نفسه نورٌ، وهو مُنَوِّرٌ لغيره، فإذا كان نورٌ في القلوب هو "نورٌ"، وهو "منوِّر"، فهو في نفسه أحقُّ بذلك، وقد عُلِم أن كلَّ ما هو نورٌ فهو منوِّر" (¬1). * وقفة: حين يَفيضُ النورُ الهادئُ الوضيءُ، فيَغمُرُ الكونَ كلَّه، ويَفيضُ على المشاعر والجوارح، وينسكبُ في الحنايا والجوانح، وحتى يَسْبَحَ الكونُ كلُّه في فيضِ النور الباهر، وحتى تُعانِقَه وتَرشُفَه العيونُ والبصائر، حين تنزاحُ الحُجُب، وتَشفُّ القلوب، وترفُّ الأرواح، ويَسْبَحُ كلُّ شيءٍ في الفيض الغامر، ويتطهَّرُ كلُّ شيءٍ في بحرِ النور، ويتجرَّدُ كلُّ شيءٍ من كثافته وثُقْله، فإذا هو انطلاقٌ ورَفرفة، ولقاءٌ ومعرفة، وامتزاجٌ وأُلفة، وفَرَحٌ ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (6/ 236).

وحُبور، وإذا الكونُ كلُّه بما فيه ومَن فيه نورٌ طَليقٌ من القيود والحدود، تتَصلُ فيه السماواتُ بالأرضُ، والأحياءُ بالجماد، والبعيدُ بالقريب، وتلتقي فيه الشِّعابُ والدُّرُوب، والطوايا والظواهر والحواس والقلوب. فَيضٌ غامر من النور .. وأُفُقٌ وضيءٌ يدركُه القلبُ كلما شَفَّ ورَفَّ، {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ}. مَثَلٌ يُقرِّبُ للإدراك المحدود صورةَ غيرِ المحدود، مَثَلٌ يُقرِّبُ للإِدراك طبيعةَ النورِ حين يَعجِزُ عن تتبُّع مَدَاه وآفاقِهِ المترامية وراءَ الإدراكِ البشريِّ الحسير. وإن مَن حُجب عن معرفةِ ربِّه ونورِه يُحجَبُ عن معرفة رسوله الذي أرسله الله سراجًا منيرًا .. وضرب مثلاً لنوره بالنور في قلبِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - .. وكيف يبلُغُ في دنياه غايَتَه ... مَن تستوِي عنده الظَّلمَاءُ والنُّورُ! • انظر إلى دعاءِ مَن أرسله الله سِراجًا منيرًا -وقد استجاب الله لدعائه-: "اللهم اجعَلْ في قلبي نورًا، وفي بَصَري نورًا، وفي سمعي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، ومن فوقي نورًا، ومن تحتي نورًا، ومن أمامي نورًا، ومِن خَلفي نورًا، واجعلْ لي في نفسي نورًا، وأعظمْ لي نورًا" (¬1). • "اللهم اجعلْ في قلبي نوراً، وفي لساني نورًا، واجعلْ في سمعي نورًا، واجعلْ في بَصَري نورًا، واجعلْ مِن خَلفي نورًا، ومِن أمامي نورًا، ¬

_ (¬1) رواه أحمد، والبخاري، ومسلم، والنسائي عن ابن عباس.

واجعلْ من فوقي نورًا، ومن تحتي نورًا، اللهم أعطِنِي نورًا" (¬1). لا يفقهُ عِظَمَ هذا المَثَل وقَدْرَ هذا الدعاءِ النبويِّ الجميل إلاَّ مَن رَزَقه اللهُ نورًا وحياةً في قلبه، {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]. ° ولله درُّ القائل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قَمَرٌ تفرد بالكمالِ كمالُه ... وحَوَى المحاسِنَ حُسْنُه وجمالُهُ وتناول الكَرَمَ العريضَ نَوَالُه ... وَحَوَى المفاخِرَ فخرُه المتقدِّمُ فبربِّه صَلُّوا عليه وسلِّمُوا واللهِ ما ذَرَأ الإلهُ ولاَ بَرَا ... بَشَرًا ولا مَلَكًا كأحمدَ في الوَرَى فعليه صلَّى اللهُ ما قلمٌ جَرَى ... وجَلاَ الدياجي نورُه المُتبَسِّمُ فبربِّه صَلُّوا عليه وسلِّمُوا ° والقائل: قمرٌ تشعشعَ مِن ذؤابةِ هاشمٍ ... في الأرض نورُ هدايةٍ وصوابِ العاقبُ الماحي الضَّلالةَ بالهدى ... ومُدَمِّرُ الأزلامِ والأنصابِ ° ولله درُّ القائل فيه: فهو الذي تمَّ معناهُ وصورتُه ... ثم اصطفاه خليلاً بارئُ النَّسمِ لكأنما خَرَجت هذه النَفْسُ مِن صِيغةٍ كصيغةِ الدُّرة في محارتها، ¬

_ (¬1) رواه مسلم وأبو داود -واللفظ له- عن ابن عباس.

أو تركيب كتركيب الماسِ في مَنْجَمِه، أوْ صفةٍ كصفةِ الذهب في عِرْقه. * سبحان من رفع قَدْرَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]: ° "هو رحمةٌ للإنسان، إذ عَلَّمه الرحمن، وسَكَب في قلبه نورَ الإيمان، ودَلَّه على طريق الجِنان. - هو رحمةٌ للشيخ الكبير، إذ سهَّل له العبادة، وأرشده لحُسنِ الخاتمة، وأيقظه لتدارُكِ العمرِ واغتنامِ بقية الأيام. - هو رحمةٌ للشاب، إذ هداه إلى أجملِ أعمالِ الفُتُوَّة وأكملِ خِصال الصِّبا، فوجَّه طاقتَه لأنبلِ السجايا وأجلِّ الأخلاق. - وهو رحمةٌ للطفل، إذ سقاه مع لَبَنِ أُمِّه دِينَ الفطرة، وأسمعه ساعةَ المَولِدِ أذانَ التوحيد، وألبَسَه في عهدِ الطفولة حُلَّةَ الإِيمان. - وهو رحمةٌ للمرأة، إذْ أنصفَها في عالَم الظلم، وحَفِظ حقَّها في دنيا الجَوْر، وصان جانبَها في مهرجانِ الحياة، وحَفِقالها عفافَها وشَرَفها ومُستقبلها، فعاش أبًا للمرأة وزوجًا وأخًا ومُربيًا. - وهو رحمةٌ للوُلاة والحُكَّام، إذْ وضع لهم ميزانَ العدالة، وحَذَّرهم من مَتَالِفِ الجَور والتعسُّف، وحَدَّ لهم حدودَ التبجيل والاحترام والطاعة في طاعةِ الله ورسوله. - وهو رحمةٌ للرعِيَّة، إذْ وقف مدافعًا عن حقوقها، مُحرِّمًا الحيفَ، ناهيًا عن السَّلب والنَّهْب والسَّفك والابتزاز والاضطهاد والاستبداد" (¬1). ¬

_ (¬1) "محمد - صلى الله عليه وسلم - كأنك تراه" لعائض القرني (ص 106 - 107) - طبع دار ابن حزم.

* وزَكَّى الله خُلُقَه فقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}: ° "عظيمُ الأخلاق، كريمُ السجايا، مُهَذَّب الطِّباع، نقيُّ الفِطرَة، جَمُّ الحياء، حَيُّ العاطفة، جميلُ السِّيرة، طاهرُ السريرة، أُلبس إِهابَ الهَيبة، وتُوِّج تاجَ السِّيادة، وضُمِّخ بأذكى خَلوقٍ أذكى الأخلاق، وأُحِلَّ دارَ المُدَاراة، وأُعطِيَ لقطع مفازة الدنيا جَوادَ الجُودِ، فهو هلالُ شهرِ الكمال، وأميرُ جيشَ الجود، ورُوحُ جُثمانِ الكون، وحشاشةُ نفسِ الملكة" (¬1). ° "أُجْلِس على صفحةِ الصَّفح، ولُقِمَ لُقَمَ لقمان الحكيم، ووُضِعت له أكوابُ التواضع، وأُديرت عليه كؤوسُ الكَيْس، مُتضمِّنةً حلاوةَ الحِلم، خِتامُها مِسْكُ النُّسك، نُووِلَ قلمَ العِزِّ، فوقَّع على صحائفِ الكَدِّ، "كلُّ عملٍ ليس عليه أمرُنا فهو رَد". كان يعودُ المريض، ويُجيب دعوةَ المملوك، ويجلسُ على الأرض، ويَلبَسُ الخشِن، ويأكلُ البشع، ويَبيتُ اللياليَ طاويًا، يتقلبُ في قفرِ الفقر، ولسانُ الحال يناديه: يا محمد، نحن نَضِنُّ بك عن الدنيا، لا بها عنك" (¬2). أُشرِبت نفسُه عِلمَ اليقين وعَينَه وحقَّه. * {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}: ° "إنك قِمَّةُ الفضائل، ومَنبعُ الجُود، ومَطْلَعُ الخير، وغايةُ الإحسان. يَظلِمونك فتَصْبِر، يُؤذونك فتَغفر، يَشتمونك فتحلُم، يَسبُّونك فتعفو، يجفونك فتصفح. ¬

_ (¬1) "مقامات ابن الجوزي" لابن الجوزي (ص 48) - دار فوزي للطباعة. (¬2) "المدهش" لابن الجوزي (ص 117 - 118) - دار مروان للطباعة.

يُحبُّك المَلِكُ والمملوكِ، والصغيرُ والكبير، والرجلُ والمرأة، والغَنِيُّ والفقير، والقَريبُ والبعيد؛ لأنك مَلَكْتَ القلوب بعطفك، وأسَرْتَ الأرواح بفضلك، وطَوَّقتَ الأعناقَ بكرمك. {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .. هذبك الوحيُ، وعَلَّمك جبريل، وهداك ربُّك، وصاحَبَتْك العناية، ورافقتك الرعاية، وحالفك التوفيق. {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .. البسمةُ على مُحَيَّاك، البِشْرُ على طَلْعتك، النورُ على جَبينك، الحبُّ في قلبك، الجُودُ في يَدِك، البركةُ فيك، الفوزُ معك .. مَن زار بابكَ لم تبرح جوارحُهُ ... تروي أحاديثَ ما أَوْليتَ مِن مِنَنِ فالعينُ عَن قُرَّةٍ والكَفُّ عَن صِلَةٍ ... والقلبُ عن جابرٍ والسمعُ عن حسنِ {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .. لا تكذبُ ولو أن السيفَ على رأسك، ولا تخونُ ولو حُزْتَ الدنيا، ولا تَغْدِر ولوْ أُعطِيتَ المُلْك؛ لأنك نبيٌّ معصوم، وإمام قُدْوة، وأُسوة حسنة. {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .. صادقٌ ولو قابَلَتْك المنايا، شُجاع ولو قاتلتَ الأُسُود، وجَوَاد ولو سُئلت كل ما تملِك، فأنتَ المِثالُ الراقي والرمزُ السامي. {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .. سَبَقْتَ العالَمَ ديانةً وأمانة وصيانةً ورزانةً، وتفوَّقْتَ على الكُلِّ عِلمًا وحِلْمًا وكرمًا ونبلاً وشجاعةً وتضحيةً" (¬1). ¬

_ (¬1) "محمد كأنك تراه" (ص 65 - 67).

إذا ذُكِرتَ ذُكِرَتْ معك الفضيلةُ في أجمل صورها، وذُكِر معك الطُّهْرُ في أرقى مشاهِدِه، وذُكِر معك العدلُ في أسمى معانيه. كُتِب اسمُك بحروفٍ من نور في قلوبِ الموحِّدين .. فلو شَقَقْتَ كُل قلبٍ لرأيتَك محفورًا في النِّياط، مكتوبًا في السُّوَيداء، مرسومًا في العُروق .. واللهِ لو شُقَّ قلبي في الهوَى قِطعًا ... وأبصر اللَّحْظُ رسمًا في سُوَيْداهُ لكنتَ أنت الذي في لوحه كُتبَتْ ... ذكرَاه أو رُسمَتْ بالحُبِّ سيماهُ أنت صاحبُ الغُرَّةَ والتبجيل، المذَكورُ في الَتوراةِ والإنجيل، المؤيد بجبريل .. بَشَّرَت بك الرُّسُل، وأخبَرَتْ بك الكُتُبُ، وحَفَلت باسمك التواريخُ، وتشَرَّفت بك النوادي، وعَمَّ ذِكرُك الحواضرَ والبوادي، وتضوَّعت بذِكرك المجامع، وصَدَحتْ بذكراك المنائر، ولَجْلَجَتْ بحديثك المنابر. عُصمتَ من الضلالة والغواية، {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2]، وحُفِظت من الهوى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]. كلامُك شريعة، ولفظُك دِين، وسُنَّتك وَحْيٌ، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]. سجاياك طاهرة، وطَبيعتُك فاضلة، وخِلالُك جميلة، وخِصالُك نبيلة، ومواقفُك جليلة، {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79]. ليِّن الجانب، سَهْلُ الخليقة، يسيرُ الطيع، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. ظاهرُ العِناية، ملحوظٌ بعينِ الرعاية، منصورُ الراية، مُوَفَقٌ محظوظ، مُظفَّرٌ مفتوحٌ عليه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1].

عظيم كل العظمة

أصلح الله لك قلبَك، وأنار لك دَرْبَك، وغَفَر لك ذَنْبَك {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]. ° لا يقال لغيرك هذا الشِّعر: الشمسُ من حُسَّادِه والنصرُ من ... قرنائِهِ والحمدُ من أسمائِهِ أين الثلاثةُ من ثلاثِ خِلالِه ... مِن حُسنِهِ وإِبائِه ومَضائِه مَضتِ الدُّهورُ وما أتَيْنَ بمثله ... ولقد أتى فعَجِزْنَ عن نُظرائِهِ * عظيمٌ كل العظمة: رجلُ السماء في الأرض، وهِبَة السماء للأرض، كان - صلى الله عليه وسلم -وهو في حدودِ نفسه وضِيق مكانه- يتسع في الزمن من حيثُ لا يَرى ذلك أحدٌ ولا يعلمه، وكأنما كانت شمسُ اليوم الذي سينتصر فيه -قبل أن يُشرقَ على الدنيا- مشرقة في قلبه. أراد اللهُ تعالى أن يبدأ هذا الجليلُ العظيم من أَسْمى خِلالِ الجلال والعظمةِ، ليكونَ أولُ أمره شهادةً بكماله، فكانت الحسنةُ فيه بشهادةِ السيئة من قومه، فحِلْمه بشهادة رُعونتهم، وأَناتُه وحِلْمه بدليل طيشهم، وحِكمته ببرهانِ سفاهتهم. نَثَروا الترابَ على رأسه .. إنَّ هذا الترابَ هو شذوذُ الحياةِ الأرضيَّةِ الدنيئةِ في مقابلة إنسانها المتفرِّد، هذه القبضة من التراب قبضةٌ سفيهة تحاول رَدَّ الممالكِ الإسلاميةِ أن تنشأَ نشأتَها وتعملَ في التاريخ عملها. وكان قطف العنب من "عَدَّاس" في رحلة الطائف رمزًا لهذا العنقود الإسلامي العظيم الذي امتلأ حَبًّا، كُلُّ حَبَّةٍ فيه مملكة.

° بأبي وأمي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - .. والذي نفسي بيده هو أوْلى الناس بقول القائل: زَمَانُكَ بُستانٌ وَعصْرُكَ أخضَرُ ... وذكراكَ عصفور مِنَ القَلبِ يَنْقُرُ دَخَلتَ على تاريخنَا ذاتَ لَيْلَة ... فَرَائحَةُ التَّاريخ مِسْكٌ وعَنْبَرُ وَكنْتَ فكانَتْ في اَلحقولِ سَنَابِلٌ ... وكاَنَتْ عَصَافيرٌ وكَانَ صُنُوبَرُ لَمَسْتَ أمَانِينَا فَصَارَتْ جَدَاوِلاً ... وَأمْطَرْتَنا حُبًّا ولا زِلْتَ تُمْطرُ تُعَاودُنِي ذِكْراكَ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ (¬1) ... وَيُورِقُ فِكْرِي حين فيك أفَكِّرُ وتَأبى جِرَاحي أنْ تَضُمَ شِفَاههَا ... كَأنَ جِرَاحَ الحُبِّ لا تَتَخَثَّرُ أَتَسْأَلُ عن أعْمارِنا أنْتَ عُمْرُنا ... وأنت لنا التاريخُ أَنْتَ المُطَهَّرُ (¬2) ° ونبضُ فؤادِنا ووَجيبُ قلوبنا قاصِر على حُبِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد حب الله -عز وجل-: قصَرْتُ عَلَيْكَ العُمْرَ وهو قَصيرُ ... وغَالَبتُ فيك الشَّوْقَ هو قَدِيرُ وأَنْشَأتُ في صدري لِحُسْنِكَ دَولَةً ... لها الحُبُّ جندٌ والولاءُ سَفِيرُ فؤادي لها عَرْشٌ وأنتَ مَلِيكُهُ ... ودُونَك من تلك الضُّلُوع سُتُورُ وما انَتَقَضَتْ يومًا عليكَ جَوانِحِي ... وَلاَ حَلَّ في قلبي سواكَ أمِيرُ حبيبٌ (¬3) إذا غَنَّى اليَرَاعُ بمَدحه ... سَرَتْ بالمَعَالي هزةٌ وسُرورُ فَدِينُكَ مَحْرُوس ورَبُّك حَافِظٌ ... وأنت على مُلكِ القلوبِ أميرُ * * * ¬

_ (¬1) في الأصل: تعاودني ذكراك كل عشِيَّة. (¬2) في الأصل: وأنت لنا الآمالُ أنت المُحَرر. (¬3) في الأصل: مَليكٌ.

* {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}: لَمسة من حَنان، ونسمةٌ من رحمة، وطائف من وُد، ويدٌ حانيةٌ تمسحُ على الآلام والمواجع، وتَنَسَّمُ بالرَّوْح والرضى والأمل، وتسكبُ البَرْدَ والطمأنينةَ واليقين .. كلُّها خالصةٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، كلُّها نجاءٌ له من ربِّه، وتَسْرِيةٌ وتَسليةٌ وترويحٌ وتطمين، كلُّها أنسامٌ من الرحمة، وأنداءٌ من الوُدِّ، وألطافٌ من القربى، هَدْهَدةٌ للروحِ والخاطِر والقلب. يُقسِمُ اللهُ سبحانه وتعالى بهذيْن الآنيْنِ الرائقيْنِ الموحيَيْن .. الضحى الرائق الصافي، والليلِ الساجي الذي يَرق ويسكنُ ويصفو، وتغشاه سحَابةٌ رقيقةٌ من الشجَى الشفيف، والتأمُّلِ الوديع .. أَشَفُّ آنَيْنِ تسري فيهما التأملات، وتتصل الرُّوحُ بالوجود، وخالقِ الوجود، وتُحِسُّ بعبادةِ الكون كلِّه لمبدِعِه، وتوجِّهُه لبارئه بالتسبيح والفرح والصفاءِ، ويعيشُ القلبُ في أُنسٍ من هذا الوجود الجميل الحيِّ. ما تَرَكَكَ ربُّك مِن قبلُ أبدًا، وما قَلاك من قبلُ قطُّ، وما أخلاك مِن رحمته ورعايته وإيوائه .. ما انقطع عنك بِرُّه وما ينقطع أبدًا .. ألاَ تجدُ مِصداقَ هذا في حياتك؟ ألا تُحِسُّ مسَّ هذا في قلبك؟ ألا ترى أثَرَ هذا في قلبك؟. رحمته عليك سابغة، ورضاه يغمُرك .. هو رَاعيكَ وكافلُك، ما غاضَ مَعينُ فضلهِ وفيضُ بِرِّه. * {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى}: إن لك عنده في الآخرة من الحُسْنى خيرًا مما يُعطيك منها في الدنيا.

* {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}: ° قال بعض العلماء: "يعطيه في الدنيا مِن إتمام الدين وإعلاء كلمةِ الله، والنصر على الأعداء" (¬1). ° "إنه ليدَّخر لك ما يرضيك من التوفيق في دعوتك، وإزاحةِ العقبات من طريقك، وغلبةِ منهجك، وظهور حقك" (¬2). وليس بعد الرِّضى مطلب .. لَمَّا بيَّن أن الآخرةَ خير له - صلى الله عليه وسلم - من الأولى، ولكنه لم يُبيِّن أن ذلك التفاوتَ إلى أيِّ حدٍّ يكون، فبيَّن بهذه الآية مقدارَ ذلك التفاوت، وهو أن ينتهي إلى غايةِ ما يتمناه الرسولُ ويرتضيه - صلى الله عليه وسلم -. والجمهور أنه في الآخرة، وقد فَصَّله في بعض المواضع، وأعظمها ما أشار إليه قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، وهو المقامُ الذي يَغبطه عليه الأوَّلون والآخِرون كما في حديث الشفاعة العظمى، حين يتخلى كلُّ نبيٍّ ويقول: "نفسي نفسي"، حتى يَصِلوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول: "أنا لها أنا لها"، ومنها الحوضُ المورود، والكوثر، ومنها الوسيلة، وهي منزلةٌ رفيعةٌ عاليةٌ لا تنبغي إلاَّ لعبدٍ واحد، وإذا كانت لعبدٍ واحدٍ فمن يستقدم عليها، وإذا رجا ربَّه أن تكون له، طَلَب من الأمة طَلَبَها له، فهو مما يؤكِّدُ أنها له، وإلاَّ لَمَا طَلَبها ولا ترجَّاها ولا أمر بطلبها له، وهو بلا شك أحقُّ بها من جميع الخلق، إذ الخلقُ أفضلُهم الرسل، وهو - صلى الله عليه وسلم - مقدَّمٌ عليهم في الدنيا (¬3). ¬

_ (¬1) "تتمة أضواء البيان" للشيخ عطية محمد سالم (ص 280) - مكتبة ابن تيمية. (¬2) "الظلال" (6/ 3927). (¬3) انظر "تتمة أضواء البيان" (ص 280 - 281).

° عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه - رضي الله عنه - قال: "عُرِض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما هو مفتوحٌ على أمته كَنزًا كَنزًا، فسُرَّ بذلك، فأنزل الله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}، فأعطاه في الجنة ألفَ ألفِ قصرٍ، في كلِّ قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم". ° قال الحافظُ ابن كثير في "تفسيره" (4/ 522): "رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من طريقه، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس، ومثل هذا لا يُقال إلا عن توقيف" (¬1). ° قال الفخر الرازي: "أمَّا لو حَمَلنا هذا الوعدَ على أحوالِ الدنيا، فهو إشارةٌ إلى ما أعطاه الله تعالى من الظفر بأعدائه يوم بدر، ويومَ فتح مكة، ودخولِ الناس في الدين أفواجًا، والغَلَبةِ على قُريظة والنضير ¬

_ (¬1) قال الشيخ مقبل الوداعي في "الصحيح المسند من أسباب النزول" (ص 174): "الحديث رواه ابن جرير -كما قال الحافظ ابن كثير- (30/ 232) من طريقين عن الأوزاعي في أحدهما "عمرو بن هاشم البيروتي" الراوي عن الأوزاعي، وهو ضعيف، وفي الأخرى "روّاد بن الجراح" مختلف فيه، وهو مخلط، فأظن من وَثقه لصدقه وديانته، ومن جرحه فلأنه اختلط. وأخرجه الحاكم وصححه (2/ 526) وتعقبه الذهبي قائلاً: "تفرد به عصام بن روّاد عن أبيه وقد ضُعِّف"، وأخرجه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، قال الهيثمي: "ورواية "الأوسط" قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عُرِض عليَّ ما هو مفتوح لأمتي من بعدي، فسرني، فأنزل الله {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} "، فذكر نحوه، وفيه "معاوية بن أبي العباس" ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات وإسناد "الكبير" حسن"، وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (3/ 212) عن الطبراني، وفيه عمرو بن هاشم البيروتي، ثم قال: هذا حديث غريب من حديث علي بن عبد الله بن العباس لم يروه عنه إلا إسماعيل، ورواه سفيان الثوري عن الأوزاعي، عن إسماعيل مثله.

وإجلائهم، وبَثِّ عساكرِه وسراياه في بلاد العرب، وما فُتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن، وهَدَم بأيديهم من ممالكِ الجبابرة، وأنهبهم مِن كنوزِ الأكاسرة، وما قذف في أهل الشرق والغرب من الرعب وتهيُّبِ الإِسلام وفشوِّ الدعوة. واعلم أن الأوْلى حمل الآية على خيرات الدنيا والآخرة" (¬1) اهـ. ° "فهذه آية جامعة لوجود الكرامة، وأنواع السعادة وشتات الإِنعام في الدارين والزيادة" (¬2). * {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}: مناجاة حُلوة، وحديث وَدود. ° ألم نشرحْ صَدْرَك لهذه الدعوة؟ ونيسِّر لك أمرها؟ ونجعلْها حَبيبةً لقلبك، ونَشْرع لك طريقَها؟ ونُنِرْ لك الطريق حتى ترى نهايته السعيدة؟!. فَتِّش في صدرك، ألا تجدُ فيه الرَّوْحَ والانشراح والإِشراقَ والنور؟ واسْتَعِدْ في حَسِّك مَذاقَ هذا العطاء، ألاَ تجدُ معه المتاعَ مع كلِّ مشقةٍ، والراحةَ مع كلِّ تعب، واليُسْرَ مع كلِّ عسر، والرضى مع كلِّ حرمان؟. أَمَا شرحنا لك صدرَك فصار وسيعًا فسيحًا لا ضيقَ فيه، ولا حَرَجَ، ولا هَمَّ، ولا غمَّ، ولا حَزَن، بل ملأناه لك نورًا وسرورًا وحبورًا؟!. أما شرحنا لك صَدْرَك وملأناه حِكمة ورحمةً وإيمانًا وبِرًّا وإحسانًا؟. ° شرحنا لك صدرك، فوَسِعْتَ أخلاقَ الناس، وعَفْوتَ عن ¬

_ (¬1) التفسير الكبير "مفاتيح الغيب" للفخر الرازي. (¬2) "الشفا في التعريف بحقوق المصطفى" للقاضي عياض.

تقصيرهم، وصَفَحْتَ عن أخطائهم، وسَترتَ عيوبَهم، وحَلُمْتَ على سَفيههم، وأعرضتَ عن جاهلهم، ورَحِمْتَ ضعيفَهم. ° شرحنا لك صدرك، فكنُتَ كالغيث جُودًا، وكالبحر كَرَمًا، وكالنسيم لُطفًا، تُعطي السائل، وتَمنحُ الراغب، وتُكْرِمُ القاصد، وتجودُ على المؤمِّل. ° شرحنا لك صدرك، فصار بردًا وسلامًا يُطفئُ الكلمةَ الجافية، ويُبَرِّدُ العبارةَ الجارحة، فإذا العفوُ والحلمُ والصَّفحُ والغفران. ° شَرَحْنا لك صَدْرَك، فصبرتَ على جفاء الأعراب، ونَيْل السفهاء، وعَجْرفةِ الجبابرة، وتطاوُلِ التافهين، وإعراضِ المتكبِّرين، ومَقْتِ الحَسَدةِ، وسِهام الشامتين، وتجهُّم القرابة. ° شرحنا لك صدرك، فكنتَ بسَّامًا في الأزمات، ضحَّاكًا في المُلمَّات، مسرورًا وأنت في عَين العاصفة، مطمئِنًّا وأنت في جَفنِ الرَّدَى، تُداهمُك المصَائبُ وأنت ساكن، وتلتفُّ بك الحوادثُ وأنت ثابت؛ لأنك مشروحُ الصدر، عامرُ الفؤاد، حيُّ النفس. ° شرحنا لك صدرَك، فلم تكن فظًّا قاسيًا غليظًا جافيًا، بل كنتَ رحمة وسلامًا وبرًّا وحنانًا ولُطْفًا، فالحِلمُ يُطلبُ منك، والجُود يُتَعلَّمُ من سيرتك، والعفو يُؤخذ من ديوانك. * {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}: ° في البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "شرح الله صدرَه للإسلام". ° وعن ابن كثير: "نوَّرْناه وجَعلناه فسيحًا رحيبًا واسعًا، كقوله:

{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] ". والذي يشهدُ له القرآن أنَّ الشَّرْح هو الانشراحُ والارتياحُ، وهذه حالةُ نتيجةِ استقرارِ الإيمانِ والمعرفةِ والنورِ والحكمة، كما في قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22]، بيان لشرح الصدر للإِسلام. كما أنَّ ضِيقَ الصدر دليلٌ على الضلال، {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]. ° وفي حاشية الشيخ "زادة" على "البيضاوي" قال: "لم يُشرحْ صَدْرُ أحدٍ من العالمين، كما شُرح صدره - عليه السلام -، حتى وَسع علومَ الأوَّلين والآخرين، فقال: "أوتيتُ جوامعَ الكَلِم" .. " اهـ. ومرادُه بعلوم الأوَّلين والآخرين، ما جاء في القرآن من أخبارِ الأمم الماضية مع رُسلهم وأخبارِ المعاد، وما بينه وبين ذلك ممَّا علَّمه الله تعالى. ° "والذي يظهرُ -والله تعالى أعلم-: أن شرح الصدر المُمْتَنَّ به عليه - صلى الله عليه وسلم -، أوسعُ وأعمُّ من ذلك، حتى إنه لَيشملُ صَبْره وصَفْحَه وعَفْوَه عن أعدائه، ومقابلتَه الإساءةَ بالإِحسان، حتى إنه ليَسَعُ العدوَّ، كما يسعُ الصديق، كقصه عودته من "ثقيف": إذْ آذوه سفهاؤهم، حتى ضاق مَلَكُ الجبال بفِعلهم، وقال له جبريل - عليه السلام -: "إن مَلَكَ الجبال معي، إن أردت أن يُطبِقَ عليهم الأخْشَبَينِ فَعَل"، فينشرحُ صدره إلى ما هو أبعد من ذلك، ولكأنهم لم يُسيؤوا إليه، فيقول - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم اهْد قومي فإنهم لا يعلمون، إني لأرجو أن يُخرجَ اللهُ من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله

محمد رسول الله" - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). * {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}: ° "نَمْلأْه إيمانًا وحِكمَةً ورأفةً وعِلمًا ورحمةً، فانفسح جدًّا حتى وَسعَ مناجاةَ الحقِّ ودعوةَ الخلق، فكان مع الحق بعظمته وارتفاعه، ومع الخلق بفيضِ أنوارِه وشعاعِه" (¬2). ° قال ابنُ القيم: "شَرَح الله صَدْرَ رسولِه أتمَّ الشرح، ووضع عنه وِزرَه كلَّ الوضع، ورَفَعِ ذِكرَه كلَّ الرفع". * {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} (¬3): ° قال أبو حيان: "هو كنايةٌ عن عِصمته - صلى الله عليه وسلم - من الذنوب وتطهيرِه من الأرجاس". ° وقال ابن جرير: "وغَفَرْنا لك ما سَلَف من ذنوبك، وحَطَطْنا عنك ثُقْل أيام الجاهلية التي كنتَ فيها". ° وقال ابن كثير: "هو بمعنى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] ". ° قال ابن القيم: "وأمَّا وَضعُ وِزرِه: فكيف لا يُوضَع عنه ومَن في ¬

_ (¬1) "تتمة أضواء البيان" (9/ 308 - 310). (¬2) "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" للبقاعي (2/ 116) - دار الكتاب الإسلامي - القاهرة. (¬3) سنذكر مبحث "العصمة" بالتفصيل في كتابنا التالي "الكوكب الدُّرِّي في خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -".

السماوات والأرض ودوابُّ البَرِّ والبحرِ يستغفرون له؟!! ". * {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}: ° لله درُّ حسانِ بنِ ثابت وهو يقول: أغَرُّ عَلَيْه للنُّبُوَّة خاتَمٌ ... مِنَ الله مَشْهودٌ يَلوحُ ويُشْهَدُ وضَمَّ الإلهُ اسْمَ النبيِّ إلى اسمه ... إذا قالَ في الخَمْسِ المُؤَذِّنُ "أَشْهَدُ" وَشَقَّ لهُ من اسمه لِيُجِلَّهُ ... فَذُوا العرشِ محمودٌ وهذا محمدُ (¬1) رفعناه في الملأ الأعلى، ورفعناه في الأرض، ورفعناه في هذا الوجود جميعًا .. رفعناه فجعلنا اسمَه مقرونًا باسم الله كُلَّمَا تحرَّكَتْ به الشِّفاه: "لا إله إلا الله محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، وليس بعد هذا رفع، وليس وراءَ هذا منزلة، وهو المَقامُ الذي تفرَّد به - صلى الله عليه وسلم - دون سائر العالمين. ° ورفعنا لك ذكرك في اللوح المحفوظ، حين قَدَّر اللهُ أن تمرَّ القرون، وتَكِرَّ الأجيال، وملايينُ الشِّفاهِ في كلِّ مكان تهتفُ بهذا الاسم الكريم مع الله والتسليم، والحبِّ العميق العظيم. ° ورفعنا لك ذكرك، وقد ارتبط بهذا المنهج الإلهيِّ الرفيع، وكان مُجردُ الاختيارِ لهذا الأمر رفعةَ ذكرٍ لم يَنَلْها أحد من قبلُ ولا من بعدُ في هذا الوجود. ° ورفعنا لك ذِكرَك: هو حِسِّي في الأذان والإقامة، وفي الخُطب على المنابر، وافتتاحياتِ الكلام في الأمور الهامة. ° ومِن رَفْع الذكرِ معنًى -أَيْ من الرفعة-: ذِكرُه - صلى الله عليه وسلم - في كتب الأنبياء ¬

_ (¬1) "ديوان حسان بن ثابت" (ص 134).

قبله، حتى عُرِف للأمم الماضية قبل مجيئه. ° وجعل اللهُ الوحيَ ذِكرًا له ولقومه، قال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 43، 44]، ومعلوم أنَ ذِكرَ قومه ذِكر له. ° ومِن رفع ذِكرِه توجيهُ الخطاب إليه بالنبوة والرسالة: "يا أيها الرسول"، "يا أيها النبي" والتصريح به في مقام الرسالة "محمد رسول الله". ° قال الشافعي عن مجاهد في تفسير: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}: "لا أُذْكَر إلاَّ ذُكِرْتَ معي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله". قال الشافعي يعني: "ذِكرَه - صلى الله عليه وسلم - عند الإِيمان بالله تعالى والأذان، ويُحتمل ذِكرُه عند تلاوة القرآن، وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية. فالفاعلُ للطاعة أو الكافُّ عن المعصية امتثالاً لأمر الله تعالى به ذاكِرٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - بقلبه؛ لأنه المُبلِّغُ لنا عن الله تعالى، وهذا أعمُّ من الذِّكر باللسان، فإنه قاصر على الإسلام والأذان والتشهُّد والخطبة ونحوها. قال الشافعي: فلم تُمْسِ بنا نعمة ظَهرت ولا بَطَنَتْ نِلْنا بها حظًّا في دين أو دنيا، أو دُفع عنا بها مكروهٌ فيهما، أو في واحدٍ منهما، إلاَّ ومحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - سببُها". * {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}: * ذُكِرْتَ في الكتب المُتقدِّمة، وجُعِل ذِكرك في القرآن مقرونًا بذكره

وهذا منتهى قمة الثناء .. قال تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء: 13]، {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59]، وقُرِن ذكرُك بذِكرِ ربِّك في الأذان والصلاةِ والخطب، فهل تريد شرفًا فوق هذا؟!. * جَعَل الله طاعتك طاعته، وبيعتك بيعته {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10]. ° مُلِئ العالَمُ من أتباعك، كلُّهم يُثنون عليك، ويُصَلُّون عليك، ويَحفظون سُنَّتك، بل ما من فريضةٍ من فرائضِ الصلاة إلاَّ ومعها سُنَّة، فهم يَمتثِلون في الفريضة أمرَ الله، وفي السُّنَّة أمرَك. لا تأنفِ السلاطينُ من اتِّباعك، والقُرَّاءُ يَحفَظون ألفاظَ منشورك، والمُفسِّرون يُفسِّرون معاني فُرقانِك، والوُعَّاظُ يُبلِّغون وَعْظَك، بل العلماءُ والسلاطين يَشْرَفون بخدمتك. يَذكُرُك كلُّ مُصَل وكُلُّ مُسبح وكلُّ حاجٍّ وكلُّ خطيب، فهل تطلبُ مجدًا أعلَى مِن هذا؟ أنت مذكورٌ في التوراة والإِنجيل، ومُنَوَّهٌ باسمك في الصُّحُف الأُولى، والدواوينِ السابقة، اسمُك يُشادُ به في النوادي، وُيذكَر في الحواضِرِ والبوادي، ويُمدَح في الحافِل، ويُكرَّرُ في المجامع. ° رفعنا لك ذكرك، فسار في الأرض مَسِيرَ الشمس، وعَبَر القَّارات عُبور الريح، وسافر في الدنيا سَفَرَ الضوء، فكلُّ مدينةٍ تَدرِي بك، وكلُّ بلدٍ يَسمعُ بك، وكلُّ قرية تَسألُ عنك. ° رفعنا لك ذِكرَك، فصِرْتَ حديثَ الرَّكْب، وقِصَّةَ السَّمَر، وخَبَرَ

المجالس، وقضيةَ القضايا، والنبأَ العظيمَ في الحياة. ° رفعنا لك ذكرَك، فما نُسي مع الأيام، ومَا محِيَ مع الأعوام، وما شُطب من قائمةِ الخُلود، وما نُسِخ من ديوانِ التاريخ، وما أُغفِل من دفتر الوجود، نُسِي الناسُ إلاَّ أنت، وسَقَطت الأسماء إلاَّ اسمَك، وأُغفِل العظماءُ إلاَّ ذاتَك، فمَن ارتَفَع ذِكره من العُبَّاد عندنا، فبسبب اتِّباعك، ومَن حُفظ اسمه فبسبب الاقتداءِ بك .. ذهبت آثارُ الدول وبَقِيَتْ آثارك، ومُحِيت مآثرُ السلاطين وبَقيَتْ مآثرُك، وزالتْ أمجادُ الملوك وخُلِّد مجدُك، فليس في البشر أشرحُ منك صَدْرًا، ولا أرفع منك ذِكرًا، ولا أعظمُ مِنك قَدْرًا، ولا أحسنُ منك أَثَرًا، ولا أجملُ منك سَيْرًا. إذا تشهَّد مُتشهِّدٌ ذَكَرك مع الله، وإذا تهجَّد متهجِّدٌ سمَّاك مع الله، وإذا خَطب خطيبٌ نوَّه بك مع الله. * {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}، رِفعة تتلاشى عندها رفعةُ غيرك من الخَلْق كلِّهم. رفعنا لك ذِكرَك عند جميع العالَمين العقلاء بالصِّدق والأمانة والحِلم والرزانة ومكارم الأخلاق وطهارةِ الشيم وانتفاءِ شوائبِ النقصِ، حتى ما كانت شُهرتُك عند قومك قبلَ النبوَّة إلا "الأمين"، وكانوا يضربون المَثَلَ بشمائِلك الطاهرة، وأوصافِك الزاهرة الباهرة. ولك الفضائلُ والمناقبُ والشمائلُ التي لا تُضبَطُ بالوصف، ولا يُحصيها وَصفٌ أو حَصر.

* {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}: • عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد أنزلتْ عليَّ آيةٌ هي أحبُّ إليَّ مِنَ الدُّنيا جميعًا: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} إلى قوله: {عَظِيمًا} " (¬1). • وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقدْ أُنزلت عليَّ الليلةَ سُورةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إليَّ مما طلعتْ عليه الشمسُ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} " (¬2). ° قال أنس - رضي الله عنه -: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}: "الحديبية". ° وعن البراء قال: "تَعُدُّون أنتم الفتْحَ: فتْحَ مكة، وقد كان فتْحُ مكة فَتْحًا، ونحن نَعُدُّ الفتح بَيْعة الرِّضوان يومَ الحُدَيْبية، كُنَّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خَمْسَ عشرة مِئةً .. والحُديبيةُ بئرٌ" (¬3). • وفي حديث سهل بن حُنيف: "فنزل القرآنُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل إلى عمرَ، فأقرأه إياه، فقال: يا رسول الله، أوَ فتحٌ هو؟! قال: "نعم" .. فطابتْ نفسُه" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه أحمد، والبخاري، والترمذي. (¬3) أخرجه أحمد (30/ 532، 533، 613) (18563، 18564، 18671)، والبخاري (4150)، وابن حبان (4801) والبغوي في "شرح السنة" (3801)، والبيهقي (9/ 223). (¬4) أخرجه أحمد (25/ 348، 349) (15975)، والبخاري (4844)، ومسلم (1785) والنسائي في "الكبرى" (11504)، والبيهقي (9/ 222، 223)، وابن أبي شيبة (14/ 438، 439)، (15/ 317 - 319)، والطبراني (5604) (6/ 109).

° قال الشعبيُّ: "نزلت {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} بالحديبية، وأصاب في تلك الغزوة ما لم يُصِبْ في غزوة؛ أصاب أن بُويع بيعةَ الرَّضوان، وغُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخَّر، وظَهَرت الرُّومُ على فارس، وبَلَغ الهَدْيُ مَحِلَّه، وأُطعِموا نخلَ خيبر، وفرح المؤمنون بتصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - وبظهورِ الروم على فارس" (¬1). ° وقال الزهريُّ عن صُلح الحديبية: "فما فُتح في الإسلام فتحٌ قبلَه كان أعظمَ منه، إنما كان القتالُ، حيث التقى الناسُ، فلما كانت الهُدنة، ووُضِعت الحرب، وأمِنَ الناسُ بعضُهم بعضًا، والتَقَوا، فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، ولم يُكلَّمْ أحدٌ في الإسلام يَعقل شيئًا إلاَّ دخل فيه، ولقد دَخَل في تَيْنِكَ السَّنتين (¬2) مِثلُ مَن كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر". ° قال ابن هشام: "والدليلُ على قول الزهريِّ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خَرَج إلى الحديبية في ألفٍ وأربعِمِئةٍ في قولِ جابر بن عبد الله، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتينِ في عشرة آلاف". فَرح قلبُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكبيرُ فرحًا كبيرًا بهذه السورة، فرح قلبُه بالفتح، الذي كان فتحًا في الأرض، وفتحًا في الدعوة، وفتحًا في النُّفوس والقلوب، تُصوِّرُه بيعةُ الرضوان وشفافيةُ المُبايِعِين ووضاءتُهم وتكريمُ اللهِ لهم ورضاه عنهم. ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" (21/ 244)، و"تفسير عبد الرزاق" (2/ 225)، و"الدر المنثور" للسيوطي (6/ 68). (¬2) "بين صلح الحديبية وفتح مكة".

فَرح بالفتح المبين، وفَرح بالمغفرة الشاملة، وفَرح بالنعمة التامة، وفَرح بالهداية إلى صراط الله المستقيم، وفَرح بالنصر العزيز الكريم، وفَرح برضى الله عن المؤمنين ووَصْفِهم ذلك الوصفَ الجميل. * والفتوحات على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرة: فُتحت لك القلوب فغَرَسْتَ فيها الإيمان، فُتِحت لك الضمائر فبَنَيْتَ فيها الفضيلة، فُتحت لك الصُّدور فرفَعْتَ فيها الحقَّ، فتحت لك البلدانُ فنشرت بها الهُدى، وفتحنا لك كنزَ المعرفة، وديوانَ العِلم، ومستودعَ التوفيق، وفتحنا بدعوتك القلوبَ الغلْفَ، والعيونَ العُمْيَ، والآذانَ الصمَّ. فتحنا لك، فتدَّفقَ العلمُ النافعُ من لسانك، وفاض الهُدَى المبارَكُ من قلبك، وسَحَّ الجُودُ من يمينك. وفتحنا لك، فحزْت الغنائمَ وقَسَمْتَها، وجَمَعْتَ الأرزاق ووزَّعْتَها، وحَصُلْتَ على الأموال وأنفقتَها. وفتحنا لك بابَ العلم -وأنت الأُمِّيُّ الذي ما قرأ وكَتَب-، فصار العلماء يَنْهَلون من بحارِ عِلمك .. قَطَفَ الرجالُ القولَ قبل نباتِه ... وقطفتَ أنت القول لَمَّا نوَّرَا وفتحنا عليك الخيرَ، فوَصَلْتَ القريبَ، وأعطيتَ البعيد، وأشبعتَ الجائع، وكَسَوْتَ العاري، وواسيْتَ المسكين، وأغنيْتَ الفقيرَ برِزقِ مولاك. فُتِحت له القِلاعُ والمُدن والقرى، فهَيْمَنَ دينه، وارتفعت رايتُه، وانتَصرت دولتُه، فهو مفتوح عليه في كلِّ خيرٍ وبرٍّ وإحسانٍ ونصرٍ وتوفيق. فُتِحت له فتوحُ العبارة، وأُعطي جوامعَ الكَلِم، وفتوحَ الحلاوة في

أنواع العطايا في آيات الفتح

الباطن، فهو الذي يَبيتُ عند ربه يُطعمُه ويَسقيه .. وفُتحت له أقطارُ السماوات، فتجاوز طِباقَها طَبَقًا بعد طبق إلى سِدْرَةِ المنتهى، فُتحت له أبوابُ الجِنانِ فرأى ما فيها {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]. * أنواع العطايا في آيات الفتح: * قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح: 1 - 3]. ° قال ابن القيم -رحمه الله-: "ما جَمَع اللهُ سبحانه لرسوله في آيةِ الفتح من أنواع العطايا، وذلك خَمسةُ أشياء: أحدها: الفتحُ المبين. والثاني: مغفرةُ ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر. والثالث: هدايتُه الصراطَ المستقيم. والرابع: إتمامُ نعمته عليه. والخامس: إعطاءُ النصر العزيز .. وجَمَع سبحانه له بين الهُدى والنصر؛ لأن هذيْن الأصلَيْن بهما كمالُ السعادة والفلاح، فإن الهدى هو العلم بالله ودينه، والعملُ بمرضاته وطاعته، فهو العلمُ النافع والعملُ الصالح، والنصرُ والقُدرةُ التامة على تنفيذ دينه. فالحُجةُ والبيانُ والسيفُ والسِّنان، فهو النصرُ بالحجة واليد، وقَهَر قلوبَ المخالفين له بالحجة، وقَهَر أبدانهم باليد" (¬1). ¬

_ (¬1) "بدائع الفوائد" (2/ 16).

* {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ}: "بإظهاره إياك على عدوِّك، ورَفْعِه ذِكرَك في الدنيا، وغفرانِه ذنوبك في الآخرة. * {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}: وُيرشدك طريقًا من الدِّين لا اعوِجاجَ فيه، يستقيمُ بك إلى رضا ربِّك. * {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}: وينصرُك اللهُ على سائر أعدائك ومَن ناوَأكَ، نصرًا لا يَغْلِبُه غالب، ولا يَدْفَعْه دافعٌ؛ للبأس الذي يُؤَيِّدك اللهُ به، وبالظَّفَر الذي يُمِدُّك به" (¬1). * {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}: ° قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في رواية عكرمة: "يعني النجوم التي تُرمَى بها الشياطين إذا سَقطت في آثارها عند استراق السمع .. وهذا قول الحسن، وهو أظهرُ الأقوال، ويكون سبحانه قد أقسَمَ بهذه الآية الظاهرة المشاهَدة التي نَصَبها الله سبحانه آيةً وحِفْظًا للوحي من استراق الشياطين له على أنَّ ما أتى به رسولُه حقٌّ وصِدقٌ، لا سبيلَ للشيطان ولا طريق له إليه، بل قد أُحرِس بالنجم إذا هَوَى رَصَدًا بين يدي الوحي، وحَرَسًا له. وبين المقسَم به والمُقسَم عليه من التناسب ما لا يَخفى؛ فإن النجومَ التي تَرمي الشياطينَ آيةٌ مَن آيات الله، يَحفظُ بها دينَه ووحيَه وآياتِه المنزَّلةَ على رسوله، بها ظَهَر دينُه وشَرعُه، وأسماؤه، وصفاته، وجُعِلت هذه النجومُ المشاهَدة خَدَمًا وحَرَسًا لهذه النجوم الهاوية. ونَفَى سبحانه عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - الضلالَ المنافيَ للهدي، والغَيَّ المنافيَ ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" (21/ 244 - 245).

للرشاد، ففي ضمن هذا النفي الشهادةُ له بأنه على الهدى والرشاد، فالهدى في عِلمه، والرشادُ في عمله، وهذان الأصلان هما غايةُ كمالِ العبد، وبهما سعادتُه وفلاحُه، وبهما وَصَف النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خلفاءَه، فقال: "عليكم بسُنَّتي وسُنة الخلفاء الراشدين المَهْدِيِّينَ من بعدي" (¬1)، فالراشد ضدُّ الغاوي، والمَهْدِيُّ ضَدُّ الضالَ، وهو الذي زكت نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح، وهو صاحبُ الهدى ودينِ الحق، ولا يَشتبِهُ الراشدُ المَهدِيُّ بالضالِّ الغَوِيِّ إلاَّ على أجهلِ خَلقِ الله، وأعماهم قلبًا وأبعدِهم من حقيقة الإِنسانية. ° ولله درُّ القائل: وما انتفاعُ أخي الدنيا بناظِرِه ... إذا استوت عنده الأنوارُ والظُّلَمُ وتأمَّلْ كيف قال سبحانه: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} ولم يقل: "ما ضلَّ محمدٌ"، تأكيدًا لإِقامةِ الحُجَّةِ عليهم بأنه صاحبُهم، وهم أعلمُ الخلق به وبحاله وأقوالِه وأعماله، وأنهم لا يعرفونه بكَذِبٍ ولا عِيٍّ ولا ضلال، ولا يَنقِمون عليه أمرًا واحدًا قط". اهـ من كلام ابن القيم. * {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]: ° قال ابن القيم: "قال سبحانه يُنزِّهُ نُطقَ رسوله أن يَصدُرَ عن هوًى، وبهذا الكمال هداه وأرشده، وقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} ولم يقل: "وما ينطق بالهوى"؛ لأن نُطقَه عن الهوى أبلغُ، فإنه يتضمَّنُ أن نُطقَه لا يَصدرُ عن هوًى، وإذا لم يَصدُرْ عن هوى فكيف ينطقُ به؟! فتضمَّن نَفْيَ ¬

_ (¬1) صحيح: رواه أحمد والأربعة إلا النسائي، ورواه ابن حبان، وصحَّحه الألباني وشعيب الأرنؤوط.

الأمرَيْن: نفيَ الهوى عن مَصْدَرِ النطق، ونفيَه عن النطق نفسه، فنطقُه بالحقِّ، ومصدرُه الهدى والرشاد، لا الغيُّ والضلال. ثم قال: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} فأعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل، أيْ: ما نُطْقُه إلاَّ وحيٌّ يُوحى، وهذا أحسنُ مِن قَوْل مَنْ جَعَل الضمير عائِدًا إلى القرآن، فإنه يعمُّ نطقَه بالقرآن والسُّنة، وأَنَّ كليهما وحيٌّ يُوحَى". * {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5]: سبحان مَن زكَّى مُعلِّمَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وجَلِيسَه وهو جبريل - عليه السلام -، خَلَع أجملَ الصفاتِ عليه، فقال عنه: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم: 5، 6]، وقال عنه أيضاً: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 19 - 21]، فوصفه بأنه كريمٌ، قويٌّ، مكينٌ عند الرب تعالى، مُطاعٌ في السماوات، أمين، فهذه خمسُ صفاتٍ تتضمَّنُ تزكيةَ سَنَدِ القرآن، وأنه سماعُ محمدٍ من جبريل، وسماعُ جبريل من ربِّ العالمين، فناهِيكَ بهذا السَّند علوًّا وجلالةً: قول الله سبحانه بنفسه تزكيتَه. * الصفة الأولى: كونُ الرسول الذي جاء به إلى محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - كريمًا، ليس كما يقول أعداؤه: "إن الذي جاء به شيطان"، فإن الشيطانَ، خبيثٌ مُخبَّث، لئيمٌ، قبيحُ المنظر، عديمُ الخير، باطنه أقبحُ من ظاهره، وظاهرُه أشنعُ من باطنه، وليس فيه ولا عنده خيرٌ، فهو أبعدُ شيءٍ عن الكرم، والرسولُ الذي ألقَى القرآنَ إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - كريم، جميلُ المنظر، بَهِيُّ

الصورة، كثيرُ الخير، طيِّبٌ مطيَّب، معلِّمُ الطيبين، وكلُّ خير في الأرض مِن هدًى وعلم ومعرفةٍ وإيمانٍ وبرٍّ، فهو مما أجراه ربُّه على يده، وهذا غايةُ الكريم الصوري والمعنوي. * وقال تعالى: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم: 6]، أي جميلُ المنظر، حسنُ الصورة، ذو جلالة، ليس شيطانًا أقبحَ خلقِ الله وأشوهِهم صورةً؛ بل هو من أجمل الخلق وأقواهم وأعظمِهم أمانةً ومكانةً عند الله، وهذا تعديلٌ لسَنَدِ الوحي والنبوَّة وتزكيةٌ له. فوَصَفَه بالعلم والقوَّة، وجمالِ المنظر وجلالته، وهذه كانت أوصافَ الرسول البشريِّ والمَلَكِي، فكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أشجعَ الناس، وأعلمَهم، وأجملَهم، وأجلَّهم .. والشياطينُ وتلامذتُهم بضِدٍّ من ذلك، فهم أقبحُ الخلْق صورةً ومعنًى، وأجهلُ الخلقِ وأضعفُهم هِمَمًا ونُفوسًا. * الوصف الثاني: أنه ذو قوة: وفي ذلك تنبيهٌ على أمور: أحدها: أنه بقوَّته يمنعُ الشياطينَ أن تدنوَ منه، وأن ينالوا منه شيئًا، وأن يَزيدوا فيه أو يَنقُصُوا منه، بل إذا رآه الشيطانُ هَرَب منه ولم يَقْرَبْه. الثاني: أنه مُوَالٍ لهذا الرسول الذي كذبتموه، ومعاضِدٌ له، وموادٌّ له وناصرٌ، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]. ومَن كان هذا القويُّ وليه، ومِن أَنصاره، وأعوانه، ومعلمَه، فهو المَهدِيُّ المنصور، واللهُ هادِيه وناصرُه.

الثالث: أن مَن عادى هذا الرسولَ فقد عادى صاحبَه ووليَّه جبريل، ومَن عادَى ذا القوّة والشدَّة، فهو عُرْضَةٌ للهلاك. الرابع: أنه قادرٌ على تنفيذِ ما أُمِر به لقوَّته، فلا يَعجزُ عن ذلك، مؤدٍّ له كما أُمر به لأمانته، فهو القويُّ الأمين، وأحدُكم إذا انتدب غيرَه في أمرٍ من الأمور لرسالة، أو ولاية، أو وكالةٍ أو غيرها، فإنما ينتدبُ لها القويَّ عليها الأمينَ على فعلها. وإن كان ذلك الأمرُ من أهمِّ الأمور عنده انتدب له قِويًّا، أمينًا، معظَّمًا، ذا مكانةٍ عنده، مُطاعًا في الناس، كما وَصَف اللهُ عبدَه جبريل بهذه الصفات. هذا يدلُّ على عظمةِ شأنِ المرسِل، والرسول، والرِّسالة، المُرْسَل إليه، حيث انتدب له الكريمَ القويَّ، المكينَ عنده، المطاعَ في الملأ الأعلى، الأمينَ حقَّ الأمين، فإنَّ الملوكَ لا تُرسِلُ في مهمَّاتها إلا الأشرافَ ذَوِي الأقدارِ والرتبِ العالية. * {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20]: أيْ: له مكانةٌ ووجاهةٌ عنده، وهو أقربُ الملائكة إليه، وفي قوله: {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} إشارةٌ إلى علوِّ منزلةِ جبريل، إذْ كان قريبًا من ذي العرش. * {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 21]: إشارة إلى أنَّ جنودَه وأعوانَه يطيعونه إذا نَدَبهم لنصر صاحبِه وخليله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وفيه إشارةٌ أيضًا إلى أنَّ هذا الذي تُكذِّبونه وتُعادُونه سيصيرُ مُطاعًا في الأرض، كما أن جبريلَ مطاعٌ في السماء، وأن كلاًّ مِن الرسوليْن مطاعٌ في مَحِلِّه وقومه، وفيه تعظيمٌ له بأنه بمنزلةِ الملوك المُطَاعِين في قومهم، فلم يُنتدبْ لهذا الأمر العظيم إلاَّ مثلُ هذا

المَلَك المُطاع. ° وفي وصفِهِ بالأمانة إشارةٌ إلى حِفظه ما حَمَله، وأدائِه له على وجهه" اهـ. * {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]: ° "سبحان مَن زَكَّى قلبَ عبدِه ومصطفاه وخليلِه، فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]. فقد أخبر تعالى عن تصديق فؤادِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ما رأته عيناه، وأن القلبَ صَدَّق العين، وليس كمَن رأى شيئًا على خلافِ ما هو به، فكَذَّب فؤادُه بَصرَه، بل ما رآه ببصرِه صَدَّقة الفؤادُ وعَلِم أنه كذلك". ° "قرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان: (ما كَذَب) خفيفة، وفي هشام ابن عمار: (ما كَذَّب) مُشدَّدة، وقرأ الباقون: (ما كَذَب) مخفَّفة الذال" (¬1). و"ما" إمَّا أن تكون مَصدرية، فيكون المعنى: ما كَذَّب فؤادُه رؤيتَه، وإمَّا أن تكون موصولة، فيكون المعنى: ما كَذَّب الفؤادُ الذي رآه بعينه. وعلى التقديرين فهو إخبار عن تطابق رؤية القلبِ لرؤية البصر، وتوافقِهما، وتصديقِ كلٍّ منهما لصاحبه. وهذا ظاهرٌ جدًّا في قراءة التشديدِ. وعلى القراءتيْن فالمعنى: ما أَوْهَمَه الفؤادُ أنه رأى ولم يَرَ، ولا اتَّهَم بصره. * {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]: ° قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "ما زاغ البصرُ يمينًا ولا شِمالاً، ولا جاوز ما ¬

_ (¬1) انظر كتاب "السبعة في القرآءات" لابن مجاهد (ص 614).

سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - أكمل الأنبياء أدبا

أُمِر به". وعلى هذا المفسِّرون، فنَفَى عن نبيِّه ما يَعرِضُ للرائي الذي لا أدبَ له بين يَدَيِ الملوك والعظماء، من التفاته يمينًا وشمالاً، ومجاوزةِ بصرِه لما بيْن يديْه، وأخبر عنه بكمالِ الأدب في ذلك المقام، وفي تلك الحَضْرة، إذْ لم يلتفت جانبًا، ولم يَمُدَّ بَصَرَه إلى غير ما رأى مِن الآيات، وما هنالك من العجائب، بل قام مَقامَ العبد الذي أوجب أدبُه إطراقَة وإقبالَه على ما أُري، دون التفاتِه إلى غيره، ودون تطلُّعه إلى ما لَم يَرَه، مع ما في ذلك من ثباتِ الجأش، وسكون القلب، وطمأنينته .. وهذا غايةُ الكمال. وزَيغُ البصرِ: التفاتُه جانبًا .. وطغيانُه: مَدُّه أمامَه إلى حيث ينتهي. فنَزَّه في هذه السورة عِلمَه عن الضلال، وقَصْدَه وعَمَلَه عن الغَيِّ، ونُطقَه عن الهوى، وفؤاده عن تكذيب بصره، وبَصَرَه عن الطغيان، وهكذا يكون المدحُ .. تلك المكارمُ لا قُعبانُ من لبنٍ ... شِيبَا بماءٍ فعادا بعدُ أبوالا * * * * سيِّد البَشرِ - صلى الله عليه وسلم - أكملُ الأنبياء أدبًا: * قال تعالى في وصف أدبه - صلى الله عليه وسلم -: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]، أُفُقٌ وضيءٌ طليقٌ مرفرِف، عاش فيه قلبُ رسولنا - صلى الله عليه وسلم - وبصرُه .. لحظاتٌ خُصَّ بها القلبُ المصفَّى، وأدبٌ مِن بَصَرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، لم يتجاوزْ رُتبَتَه وكُلُّه شَوْق، فأعطاه الله ما لم يُعطِ أحدًا غيره. ° قال ابن القيم: "إن هذا وصْفٌ لأدبه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك المَقام؛ إذْ لم

يَلتفتْ جانبًا، ولا تجاوَزَ ما رآه، وهذا كمالُ الأدب .. والإِخلالُ به أن يلتفتَ الناظرُ عن يمينه وعن شماله، أو يتطلَّعِ أمامَ المنظور، فالالتفاتُ زَيْغ، والتطلُّعُ إلى ما أمامَ المنظور طغيانٌ ومجاوزَة؛ فكمالُ إقبالِ الناظرِ على المنظور: أن لا يَصْرِفَ بَصَرَه عنه يَمنة ولا يَسْرةً، ولا يتجاوزه. وهذا معنى ما حصَّلْتُه عن شيخ الإسلام ابن تيمية -قدَّس الله روحه-. وفي هذه الآيةِ أسرارٌ عجيبة، وهي من غوامضِ الآداب اللائقةِ بأكمل البَشَر - صلى الله عليه وسلم -؛ تواطأ هناك بَصَرُه وبَصيرتُه، وتوافَقَا وتصادقَا فيما شاهَدَه بصرُه، فالبصيرةُ مواطئةٌ له، وما شاهَدَته بصيرتُه فهو أيضًا حقٌّ مشهودٌ بالبصر، فتواطأ في حقهَ مَشهَدُ البصر والبصيرة. * ولهذا قال سبحانه وتعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم: 11، 12]، أي: ما كَذَب الفؤادُ ما رآه ببصره. ولهذا قرأها أبو جعفر: "ما كَذَّب الفؤادُ ما رأى" -بتشديد الذال-، أي: لم يُكذِّب الفؤادُ البصرَ، بل صَدَّقَه وواطأه؛ لصحَّةِ الفؤادِ والبصر، أو لاستقامةِ البصيرةِ والبصر، وكوْنِ المرئيِّ المشاهَد بالبصر والبصيرة حقًّا. وقرأ الجمهور {ما كذَب الفؤاد} -بالتخفيف-، وهو مُتَعَدٍّ، و"ما رأى" مفعوله؛ أي: ما كَذَّب قلبُه ما رأته عيناه؛ بل واطأه ووافَقَه، فلمواطأةِ قلبهِ لقالَبه، وظاهرِه لباطنه، وبصره لبصيرته؛ لم يُكذِّبِ الفؤادُ البصرَ، ولم يتجاوزِ البصرُ حدَّه فيطغى، ولم يَمِلْ عن المَرْئيِّ فيَزيغ؛ بل اعتدلَ البصرُ نحو المرئي، ما جاوَزَه ولا مال عنه، كما اعتَدَل القلبُ في الإِقبالِ على الله

والأعراضِ عَمَّا سواه؛ فإنه أقبل على الله بِكُلِّيَّتِهِ. وللقلب زَيْغ وطغيان، كما للبصر زَيْغ وطُغيان، وكلاهما مُنتفٍ عن قلبه وبصره، فلم يَزغْ قلبُه الْتفاتًا عن الله إلى غيره، ولم يَطْغَ بمجاوزتِه، وهذا غايةُ الكمالِ والأدبِ مع الله، الذي لا يَلحقُه فيه سواه، فإن عادةَ النفوسِ إذا أُقيمتْ في مقامٍ عالٍ رفيع: أن تتطلَّع إلى ما هو أعلى منه وفوقه؛ ألاَ ترى أن موسى - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أُقيم في مقامِ التكليم والمناجاة طَلبت نفسُه الرؤية؟! ونبينا - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أُقيم في ذلك المقام، وفَّاه حقَّه، فلم يلتفتْ بصرُه ولا قلبُه إلى غيرِ ما أُقيم فيه ألبتة؟! ولأجل هذا ما عاقَه عائقٌ، ولا وَقَف به مرادٌ، ولَم تَقِفْ به دونَ كمال العبودية هِمَّةٌ، ولهذا كان مركوبُه في مَسْرَاه يَسبقُ خَطْوُهُ الطرْفَ، فيضع قدمَه عند منتهى طرْفه، مُشاكِلاً لحال راكبه وبُعْدِ شأوه، الذي سَبَق العالَمَ أجمعَ في سَيْره، فكان قَدَمُ البُراق لا يَختلفُ عن موضع نظَرِه، كما كان قَدَمُه - صلى الله عليه وسلم - لا يتأخَّر عن محلِّ معرفته. فلم يزلْ - صلى الله عليه وسلم - في خِفارةِ كمالِ أدبه مع الله سبحانه، وتكميلِ مراتب عبوديته له، حتى خَرَق حُجُبَ السموات، وجاوَزَ السبْعَ الطِّباق، وجاوَزَ سِدْرةَ المنتهى، ووصل إلى محلٍّ منَ القُرْب سَبَق به الأوَّلين والآخرين، فانصبّتْ إليه هناك أقسامُ القُرْب انصبابًا، وانقَشَعت عنه سَحائبُ الحجُب -ظاهرًا وباطنًا- حِجابًا حجابًا، وأُقيم مقامًا غَبَطَهُ به الأنبياءُ والمرسلْون؛ فإذا كان في المعاد، أُقيم مقامًا مِن القرْب ثانيًا، يَغبِطُه به الأوَّلون والآخرون .. واستقام هناك على صراطٍ مستقيم مِن كمالِ أدبهِ مع الله، ما زاغ البصر عنه وما طغى، فأقامه في هذا العالَم على أقومِ صراطٍ من الحقِّ والهدى، وأقسم بكلامِه على ذلك في الذِّكر الحكيم، فقال تعالى: {يس (1) وَالْقُرْآنِ

صاحب الإسراء والمعراج -بأبي هو وأمي-

الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس: 1 - 4]، فإذا كان يومُ المعاد، أقامه على الصراطِ يَسألُه السلامةَ لأتباعه وأهل سُنَّته، حتى يَجُوزَه إلى جنَّاتِ النعيم، وذلك فَضْلُ الله يؤتيه مَنْ يشاء، والله ذو الفضل العظيم" (¬1). وكلُّ الآداب تُتَلَقَّى من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه - عليه السلام - مجْمعُ الآداب ظاهرًا وباطنًا. * صاحبُ الإِسراء والمعراج -بأبي هو وأمي-: * قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]. * وقال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 10 - 18]. أنوارٌ تَشعُّ من المجال العُلويِّ الذي تقعُ فيه الأحداثُ النُّورانيَّةُ والمَشَاهدُ الربَّانية .. نَعيشُ لحظاتٍ من ذلك الأفق الوضيءِ المرفرفِ الذي عاش فيه قلبُ رسولنا العظيم - صلى الله عليه وسلم -، ونَرِفُّ بأجنحةِ النور المنطلقةِ إلى ذلك الملأ الأعلى .. نَعيشُ لحظاتٍ مع قلبِ نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - مكشوفةٍ عنه ¬

_ (¬1) "مدارج السالكين" (2/ 382 - 384).

الحجب، مُزاحةٍ عنه الأستار، يتلقى من الملأ الأعلى، يَسمعُ ويرى، ويَحفظُ ما وَعَى، وهي لحظاتٌ خُصَّ بها ذلك القلبُ المصفَّى. هي عِيانٌ مشهود، ورؤيةٌ محقَّقه، ويَقينٌ جازم، واتِّصالٌ مباشر، وقُربٌ من عَرشِ الرحمن فوقَ طاقتِنا أن نُدرِكَ كيفيتَه، ومعرفةٌ مؤكدة عُلْوِيَّة، وصحبةٌ محسوسة، ورِحْلةٌ واقعيةٌ بالرُّوح والجَسَد. قصة الإسراء والمعراج هي من خصائصِ نبينا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، هذا النَّجمُ الإنسانيُّ العظيمُ، والنورُ لهداية العالَم في حَيْرَة ظُلماته النفسيَّة. وقد حار المفسِّرون في حِكمةِ ذِكر "الليل" في آية "الإسراء" من قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} الآية، فإن السُّرَى في لغة العرب لا يكون إلاَّ ليلاً!. والحكمةُ هي الإشارةُ إلى أنَّ القصةَ قصَّةُ "النَّجمِ" الإنسانيِّ العظيمِ الذي جَمَع بين إنسانيته ورَفرفةِ قلبِه النُّورانيةِ في هذه المعجزة، ويُتمِّمُ هذه العجيبةِ أن آياتِ "المعراج" لم تجيء إلاَّ في سورة "النجم"!. وعلى تأويل أن ذِكرَ "الليل" إشارةٌ إلى قصة النجم، تكونُ الآيةُ برهانَ نفسِها، وتكونُ في نَسَقِها قد جاءت معجزةً من المعجزات البيانيَّة. وانظر إلى قوله تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا}، فإنها بهذه العبارة نصٌّ على إشراف النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقَ الزمانِ والمكان يرى بغير حِجاب الحواسِّ مما مَرْجِعُه إلى قُدرة الله لا قُدرةِ نفسِه، بخلافِ ما لو كانت العبارةُ "ليرى من آياتنا"؛ فإن هذا يجعلُه لنفسه في حدودِ قوَّتها وحواسِّها وزمانها ومكانها، فيضطربُ الكلام، ويتطرَّقُ إليه الاعتراضُ، ولا تكون ثَمَّ معجزةٌ.

وتحويلُ فعل "الرؤية" من صيغةٍ إلى صيغة، معجزةٌ أخرى. وانظر إلى قوله تعالى: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} دون "بَعَث بعبده" و"أرسل به"، فقوله تعالى يُفيد مصاحبَتَه له في مَسراه؛ فإن "الباء" هنا للمصاحَبة. فجاز السماءَ السَّبع في بعض ليلةٍ ... ولكن بعدَ السَّبعْ أين يَصيرُ؟ فلاحَ له من رفرفِ النورِ لائحٌ ... مِن النور للهادي البشيرِ بشيرُ وشاهَدَ تحت العرشِ كلَّ عجيبةٍ ... وما ثَمَّ إلاَّ زائرٌ ومزورُ حبيبٌ تملَّى بالحبيب فخصَّه ... وشرَّفه بالقربِ وهو جديرُ والقصةُ بعد ذلك تُثبت أن هذا الوجودَ يَرقُّ وينكشفُ ويستضيءُ كلما سما الإنسانُ برُوحه، وهي من ناحيةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قصةٌ تصفُه بخصائصِه في عظمتِه كما رأى ذاتَه في ملكوت الله .. ومن ناحيةِ كلِّ مسلمٍ مِن أتباعه هي كالدرس في أن يكونَ لقلبِ المؤمن مِعراجٌ سماويٌّ فوقَ هذه الدنيا، ليشهدَ ببصيرته أنوارَ الحقِّ وجمالَ الخير، فيكونَ بتدبُّره القصةَ كأنما يَصعَدُ إلى السماء وينزل. * {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}: أقسم سبحانه بالكتاب وآلتِه، وهو القلم الذي هو أحدى آياتِه وأولُ مخلوقاتِه الذي جرى به قَدَرُه وشَرْعُه وكُتِبَ به الوحي، وقُيِّد به الدِّين، وأُثبتت به الشريعة، وحُفِظت به العلوم .. وأقام في الناس أبلغَ خطيبٍ وأفصَحَه، وأنفعَه لهم وأنصحَه، وواعظًا تَشفي مواعظُه القلوبَ من السَّقَم، وطبيبًا يُبرِئُ بإذنه من أنواع الألم، يَكسر العساكرَ العظيمةَ على أنه الضعيفُ الوحيد، ويَخاف سطوتَه وبأسَه ذو البأس الشديد .. وبالقلم تُدَبَّرُ

الأقاليمُ وتُسَاسُ الممالكُ .. والقلمُ لسانُ الضمير، يُناجيه بما استتر عن الأسماع، فيَنسُجُ حُلَلَ المعاني على القِرطاس، فتعودُ أحسنَ مِنَ الوَشْي المرقوم، وُيودِعُها حِكمهً فتصير بوادرَ الفهوم .. والأقلامُ نظيرٌ للأفهام، وكما أن اللسانَ بريدُ القلب، فالقلمُ بريد اللسان، وتولُّدُ الحروفِ المسموعة عن اللسان كتولُّد الحروفِ المكتوبة عن القلم، والقلمُ بريدُ القلب ورسولُه وترجمانُه ولسانُه الصامت. والمقسَمُ عليه بالقلم والكتابةِ في هذه السورة تنزيهُ نبيِّه ورسولِه - صلى الله عليه وسلم - عمَّا يقولُ فيه أعداؤه، وهو قوله تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 2]، وأنت إذا طابقْتَ بين هذا القَسَم والمقسَمِ به وجدتَهَ دَالاًّ علَيه أظهرَ دلالةٍ وأبْيَنها، فإنَّ ما سَطَّر الكاتبُ بالقلم من أنواع العلوم التي يتلقَّاها البشرُ بعضُهم عن بعضٍ لا تصدرُ عن مجنون، ولا تصدرُ إلاَّ من عقلٍ وافرٍ، فكيف يَصدرُ ما جاء به الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - مِن هذا الكتابِ- الذي هو في أعلى درجات العلوم-؟ بل العلوم التي تَضمَّنها ليس في قوى البشر الإِتيانُ بها، ولا سيَّما مِن أُمِّيٍّ لا يقرأُ كتابًا ولا يَخُطُّه بيمينه، مع كونه في أعلى الفصاحة، سليمًا من الاختلاف، بَرِيًّا من التناقض، يَستحيلُ من العقلاء كلِّهم لو اجتمعوا في صعيدٍ واحدٍ أن يأتوا بمثله، ولو كانوا في عقل رَجُلٍ واحدٍ منهم، فكيف يتأتَّى ذلك من مجنونٍ لا عقلَ له يُميِّزُ به ما عَسى كثيرٌ من الحيوانِ أن يُميِّزه، وهل هذا إلاَّ مِن أقبحِ البُهتانِ وأظهرِ الإِفك؟!. فتأمَّلْ شهادةَ هذا المقسَمِ به للمقسَم عليه ودلالتَه عليه أتمَّ دلالة، ولو أنَّ رجلاً أنشأ رسالةً واحدةً بديعةً منتظمةَ الأول والآخر، متساويةَ الأجزاءِ يُصدِّقُ بعضُها بعضًا، أو قال قصيدةً كذلك، أوْ صَنَّف كتابًا كذلك، لشهد

له العقلاءُ بالعقل، ولما استجاز أحدٌ رَمْيَه بالجنون مع إمكان -بل وقوع- معارضتها ومشاكلتها والإتيانِ بمثلها أو أحسنِ منها، فكيف يرمَى بالجنون مَن أَتَى بما عَجَزتِ العقلاءُ كلُّهم قاطبةً عن معارضته ومماثلته، وعرَّفهمِ من الحق ما لا تهتدي عقولُهم إليه، بحيث أذعنت له عقولُ العقلاء، وخَضعت له ألبابُ الأولياء، وتلاشت في جَنب ما جاء به بحيث لم يَسَعْها إلاَّ التسليم له والانقيادُ والإذعان، طائعةً مختارةً، وهي ترى عقولَها أشدَّ فقرًا وحاجةً إلى ما جاء به، ولا كمالَ لها إلاَّ بما جاء به؟ فهو الذي كمَّل عقولَها كما يَكمُلُ الطفل برَضاع الثدي، ولهذا فإنَّ أتباعَه أعقلُ الخلق على الإطلاق، وهذه مؤلَّفاتهم وكُتبُهم في الفنون، إذا وازَنْتَ بينها وبين مؤلفاتِ مخالفيه ظهر لك التفاوت بينها، ويكفي في عقولهم أنهم عَمَّروا الدنيا بالعلم والعدل، والقلوبَ بالإيمان والتقوى، فكيف يكونُ مَتْبوعُهم مجنونًا وهذا حالُ كتابِه وهَديه وسِيرته وحالُ أتباعه؟!! وهذا إنما حَصَل له ولأتباعه بنعمةِ الله عليه وعليهم، فنفى عنه الجنونَ بنعمته عليه. إن هذه الصفةَ المفتراةَ لا تجتمع مع نعمةِ الله على عبدٍ نَسَبه الله إليه وقرَّبه واصطفاه. إن العَجَبَ ليأخذ كلَّ دارسٍ لسيرةِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قومه من مَقولتهم هذه عنه، وهم الذين عَلِموا منه رَجاحةَ العقل حتى حَكَّموه بينهم في رَفع الحَجَرِ الأسود قبل النبوَّة بأعوامٍ كثيرة، وهم الذين لقَّبوه بالأمين. إن الإِنسانَ ليأخذُه العَجَبُ أن يَبلغَ الغيظُ بالناس إلى الحدِّ الذي يَدفعُ مشركي قريش إلى أن يقولوا هذه القَوْلةَ وغيرَها عن هذا النبي الرفيع الكريم - صلى الله عليه وسلم -، المشهورِ بينهم برجاحةِ العقل وبالخُلُق القويم، ولكنَّ الحقدَ يُعمي

ويُصِمُّ، والغرضُ يَقذف بالفرْية دون تحرُّج! وقائلُها يعرفُ قبل كلِّ أحد أنه كذاب أثيم!. {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} .. هكذا في عطفٍ وفي إيناسٍ وفي تكريم، رَدًّا على ذلك الحقدِ الكافر، وهذا الافتراءِ الذميم. * {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}، لستَ مجنونًا كما قال أعداؤك، لكن عندك دَواءُ المجنون، فالمجنونُ الطائشُ والسفيهُ التافهُ مَن خالَفَك وعصاك وحارَبَك وجفاك. * {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}، وكيف يكونُ ذلك وأنت أكمَلُهم عقلاً، وأتمُّهم رُشْدًا وأسدُّهم رأيًّا، وأعظمُهم حِكمةً، وأجلُّهم بصيرةً!. كيف تكون مجنونًا وأنتَ أَتيْتَ بوحيٍ يكشف الزَّيغَ، ويزيل الضلال، وَينسِفُ الباطل، ويمحو الجهلَ، ويَهدي العقل، ويُنير الطريق!. لستَ مجنونًا لأنك على هُدًى من الله، وعلى نورٍ من ربِّك، وعلى ثقةٍ من منهجك، وعلى بيِّنةٍ من دينك، وعَلَى رُشدٍ من دعوتك، صانك اللهُ من المجنون، بل عندك كلُّ العقل، وأكمل الرُّشد، وأتمُّ الرأي، وأحسنُ البصيرة، فأنت الذي يَهتدِي بك العقلاء، ويَستضيءُ بحكمتك الحكماء، ويَقتدي بك الراشدُون المهديُّون. كَذَب وافترى مَن وَصَفك بالجنون، وقد ملأت الأرضَ حِكمةً، والدنيا رَشَدًا، والعالَمَ عَدْلاً، فأين يُوجد الرَّشَدُ إلاَّ عندك؟ وأين تكونُ الحكمةُ إلاَّ لديْك؟ وأين تحِلُّ البَرَكة إلا معك؟ أنت أعقلُ العقلاء، وأفضلُ النُّبلاء، وأجلُّ الحكماء. كيف يكونُ محمدٌ مجنونًا، وقد قدَّم للبشرية أحسنَ تراثٍ على وجهِ

الأرض، وأهدَى للعالَم أجلَّ تَرِكةٍ عَرَفها الناس، وأعطى الكونَ أبركَ رسالةٍ عرفها العقلاء؟! .. أخوك عيسى دَعَا مَيْتًا فقامَ لهُ ... وأنتَ أحْيَيْت أجيالاً مِن الرِّمَم (¬1) * {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم: 3]: إن لك لأجرًا دائمًا موصولاً، لا ينقطع ولا ينتهي، أجرًا عند ربك الذي أنعم عليك بالنبوة ومقامها الكريم. هذا الأجر العظيم لا ينقطع ما تردَّد نَفَسٌ في جَنْبِ مسلم يعيشُ في دار الدنيا، والداعي إلى الخير له مِثلُ أَجْرِ مَنِ اتَّبعه، فكيف ينقطعُ أجرُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله مِثلُ أجورِ ثُلُثَيْ أهل الجنة؟! فـ "أهلُ الجنَّة مئةٌ وعشرون صفًّا، أمتي منهم ثمانون صفًّا" (¬2)، كما قال - صلى الله عليه وسلم -. فأيُّ إيناسٍ وتَسريةٍ وتعويضٍ فائضٍ غامرٍ عن كلِّ حرمانٍ وعن كلِّ جَفْوةٍ وعن كلِّ بُهتانٍ يَرميه به المشركون!! وماذا فَقَد مَن يقول له ربُّه: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ}؟ في عطفٍ وفي مَوَدَّةٍ وفي تكريم. * {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]: ° قال ابن عباس ومجاهد: "لَعلَى دينٍ عظيم، لا دينَ أحبُّ إليَّ ولا أرضى عندي منه، وهو دين الإِسلام". ° وقال الحسن: "هو آدابُ القرآن". ° وقال قتادة: "هو ما كان يأمرُ به من أمر الله، وينهى عنه مِن ¬

_ (¬1) "محمد - صلى الله عليه وسلم - كأنك تراه" (ص 68 - 69). (¬2) صحيح: رواه أحمد والحاكم والطبراني وأبو يعلى والبزار .. وصححه الألباني وشعيب الأرنؤوط.

نَهيِ الله، والمعنى: إنك لعلى الخُلُق الذي آثرك اللهُ به في القرآن" (¬1). • وفي "الصحيحين" أن هشامَ بنَ حكيم سأل عائشة - رضي الله عنها - عن خُلُق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: "كان خُلُقه القرآن" .. فقال: "لقد هَمَمْتُ أن أقومَ ولا أسألَ شيئًا" (¬2). وهذه من أعظمِ آياتِ نبوَّته ورسالتِهِ، لمن مَنَحه اللهُ فهمًا، فقد كانت أخلاقُ النبي - صلى الله عليه وسلم -وهي أزكى الأخلاقِ وأشرفُها وأفضلُها-، مقتبَسةً من مِشكاةِ القرآن. فترجمت أمُّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -لكمالِ معرفتها بالقرآن وبالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وحُسنِ تعبيرها- عن هذا كلِّهَ بقولها: "كان خلقُه القرآن"، وفَهِم هذا السائلُ لها عن هذا المعنى، فاكتفى به واشتفى. فإذا كانت أخلاقُ العباد، وعلومُهم، وإراداتُهم، وأعمالُهم مستفادةً من القلم وما يَسطُرون، وكان في خَلْق القلم والكتابة إنعامٌ عليهم وإحسانٌ إليهم، إذْ وَصَلوا به إلى ذلك، فكيف يُنكِرون إنعامَه وإحسانَه على عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الذي أعطاه أعلى الأخلاق، وأفضلَ العلوم والأعمالِ والإِراداتِ التي لا تهتدي العقولُ إلى تفاصِيلها من غيرِ قلم ولا كتابة؟! فهل هذا إلاَّ مِن أعظمِ آيات نُبُوَّته وشواهدِ صدق رسالته؟!. * {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]: تجيءُ الشهادةُ الكبرى والتكريمُ العظيم، وتتجاوبُ أرجاءُ الوجود بهذا ¬

_ (¬1) "التبيان في أقسام القرآن" لابن قيم الجوزية (206 - 209). (¬2) رواه مسلم (2/ 396) في صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل والوتر .. وكذا أبو داود (1/ 249) في الصلاة، باب: في صلاة الليل.

الثناء الفريد على النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -، ويَثْبُتُ هذا الثناءُ العُلويُّ في صميم الوجود! وَيعجزُ كلُّ قلم، ويعجِزُ كلُّ تصوَّرٍ عن وصفِ قيمة هذه الكلمة العظيمة من ربِّ الوجود، وهي شهادةٌ من الله، في ميزان الله، لعبد الله، يقولُ له فيها: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، ومدلولُ هذا الخُلق العظيم هو ما عند الله مما لا يبلغُ إلى إدراك مَداه أحدٌ من العالمين!. ودلالةُ هذه الكلمةِ العظيمةِ على عظمةِ النبيِّ محمد - صلى الله عليه وسلم - تَبْرُزُ مِن نواحٍ شتَّى: ° تَبرزُ من كونها كلمةً من الله الكبير المتعال، يُسجِّلُها في ضميرِ الكون، وتَثبُتُ في كِيانه، وتتردَّد في الملأ الأعلى ما شاء الله. ° وتبرزُ من جانبٍ آخَرَ في إطاقةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - لتلقِّيها، وهو يعلمُ من ربُّه هذا، قائلُ هذه الكلمة، ما هو؟ ما عظمتُه؟ ما دلالةُ كلماته؟ ما مداها؟ ما صداها؟ ويعلمُ مَنْ هو إلى جانبِ هذه العظمةِ المطلقةِ التي يُدرِكُ هو منها ما لا يُدرِكُه أحدٌ من العالمين. إنَّ إطاقةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - لِتَلَقِّي هذه الكلمةِ من ربِّه العظيم، وهو ثابتٌ لا يَنسحقُ تحت ضغطِها الهائل -ولو أنها ثناءٌ-، ولا تتأرجحُ شخصيته تحتَ وقعها وتضطرب .. تَلقِّيه لها في طُمأنينة، وفي تماسُك، وفي توازن .. هو ذاتُه دليلٌ على عظمةِ شخصيته فوقَ كلِّ دليل. ولقد رُويت عن عَظَمةِ خُلُقه في السيرة، وعلى لسانِ أصحابِه رواياتٌ مُنَوَّعةٌ كثيرة، وكان واقعُ سيرته أعظمَ شهادةٍ مِن كُلِّ ما رُوِي عنه، ولكنَّ هذه الكلمةَ أعظمُ بدلالتها من كلِّ شيءٍ آخر، أعظمُ بصدورها عن العليِّ الكبير، وأعظمُ بتلقِّي محمدٍ لها وهو يَعلمُ مَنْ هو العليُّ الكبير، وبقائه

بعدها ثابتًا راسخًا مطمئنًا، لا يتكبَّر على العباد، ولا ينتفخُ، ولا يتعاظم، وهو الذي سَمع ما سَمع من العليِّ الكبير!. واللهُ أعلم حيث يجعلُ رسالته، وما كان إلاَّ محمد - صلى الله عليه وسلم -بعظمةِ نفسِه هذه- مَن يَحملُ هذه الرسالةَ الأخيرةَ بكلِّ عظمتها الكونيةِ الكبرى، فيكون كُفئًا لها، كما يكونُ صورةً حيَّةً منها. إن هذه الرسالةَ من الكمال والجمال، والعظمة والشمول، والصدقِ والحقِّ، بحيث لا يَحملُها إلاَّ الرجلُ الذي يُثني عليه اللهُ هذا الثناء، فتُطيقُ شخصيتُه كذلك تلقِّي هذا الثناء، في تماسُكٍ وفي توازن، وفي طمأنينة؛ طمأنينةِ القلبِ الكبير الذي يَسَعُ حقيقةَ تلك الرسالةِ وحقيقةَ هذا الثناء العظيم. إنَّ حقيقةَ هذه النفسِ من حقيقةِ هذه الرسالة، وإنَّ عَظَمة هذه النَّفُس من عظمة هذه الرسالة، وإن قَدْر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كقَدْر الإسلام لأَبعدُ من مَدَى أيِّ مِجهر يملكه بَشَر، وقُصارى ما يَملكُه راصدٌ لعظمة هذه النفسِ أن يراها ولا يُحدِّد مداها، وأن يشيرَ إلى مسارها دونَ أن يستطيعَ أن يحدد هذا المسار!. ومرةً أخرى يَجدُ المرء نفسَه مشدودًا للوقوفِ إلى جوار الدلالة الضخمة لتلقِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذه الكلمةِ من ربِّه، وهو ثابتٌ راسخٌ متوازنٌ مطمئنُّ الكيان .. لقد كان - صلى الله عليه وسلم -وهو بَشَر- يثني على أحد أصحابه، فيهتز كيانُ صاحِبه هذا وأصحابِه مِن وَقْعِ هذا الثناءِ العظيم .. وهو بَشرٌ وصاحبه يَعلَم أنه بشر، وأَصحابه يدرِكون أنه بَشر، إنه نبيٌّ نعم، ولكن في الدائرة المعلومة الحدود، دائرةِ البشرية ذاتِ الحدود .. فأمَّا هو فيتلقَّى هذه

الكلمةَ من الله، هو بخاصةٍ يعلمُ مَن هو الله! هو يعلمُ منه ما لا يعلمُه سواه، ثم يصطبر ويتماسَكُ ويتلقَّى ويَسير .. إنه أمرٌ فوقَ كلِّ تصوُّر وفوقَ كل تقدير!!! إنه محمد - صلى الله عليه وسلم -وحدَه- هو الذي يَرقَى إلى هذا الأُفق من العظمة .. إنه محمدٌ نبي الله - صلى الله عليه وسلم -وحده- هو الذي يَبلغُ قمَّة الكمالِ الإنسانيِّ، إنه سيّدُ البشر محمد - صلى الله عليه وسلم -وحده- هو الذي يُكافئُ هذه الرسالةَ الكونيةَ العالميةَ الإنسانية، حتى لتتمثل في شخصية حيَّة تمشي على الأرض في إهابِ إنسان .. إنه محمد - صلى الله عليه وسلم -وحده- الذي علم الله منه أنه أهلٌ لهذا المقام، واللهُ أعلم حيث يجعلُ رسالته، وأعلن في هذه أنه على خُلُق عظيم، وأعلن في الأخرى أنه -جلَّ شأنُه وتقدَّست ذاته وصفاته- يُصلِّي عليه هو وملائكتُه، {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]، وهو -جل شأنُه- وحده القادرُ على أن يَهَبَ عبدًا من عبادِه ذلك الفضلَ العظيم. * {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ} [التكوير: 24]: قرأ ابن كثير وأبو عمرو الكسائي: (بِظَنين) بالظاء .. وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة (بِضَنين) بالضاد. والمقصود هنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لقد نَزَّه اللهُ رَسُولَيْه: المَلَكيَّ جبريلَ، والبشريَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَمَّا يُضَادُّ مقصودَ الرسالة من الكتمان الذي هو الضنَّة والبُخل، والتبديلُ، والتغييرُ الذي يُوجبُ التهمة، فقال: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ}، فإنَّ الرسالةَ لا يتمُّ مقصودُها إلاَّ بأَمْرَين: أدائها من غير كتمان، وأدائها على

وجهها من غير زيادةٍ ولا نقصان. والقراءتان كالآيتيْن، فتضمَّنت إحداهما -وهي قراءة الضاد- تنزيهَه عن البخل، فإن "الضَّنين" هو البخيل، يُقال: "ضَنِنتُ به، أضنُّ"، بوزن "بخِلت به أبخل" ومعناه. ° قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "ليس بخيلاً بما أنزل الله". ° وقال مجاهد: "لا يضنُّ عليهم بما يعلم". وأجمع المُفَسِّرون على أن "الغيَب" ها هنا: القرآن والوحي. ° وقال الفَرَّاء: "يقول تعالى: يأتيه غيَبُ السماء وهو منفوسٌ فيه، فلا يَضِنُّ به عليكم .. وهذا معنًى حسنٌ جدًّا، فإن عادةَ النفوسِ الشُّحُّ بالشيءِ النفيس، ولا سيما عمن لا يَعرفُ قَدْره، ويذمُّه ويذمُّ مَن هو عنده، ومع هذا فالرسولُ لا يبخلُ عليكم بالوحي الذي هو أنفسُ شيءٍ وأَجَلُّه". ° وقال أبو علي الفارسي: "المعنى: يأتيه الغيبُ فيُبيِّنه ويُخبرُ به وُيظهِرُه، ولا يَكتمُهُ كما يكتمُ الكاهنُ ما عنده، ويُخفيه حتى يأخذَ عليه حُلوانًا. ° وفيه معنًى آخر، وهو: أنه على ثقةٍ من الغيب الذي يُخبِرُ به، فلا يخافُ أن يَنتقضَ، ويظهرَ الأمر بخلافِ ما أخبر به، كما يَقعُ للكُهَّان وغيرهم مِمَّنْ يُخبر بالغيب، فإنَّ كَذِبَهم أضعافُ صِدقِهم، وإذا أَخْبَرَ أحدُهم بخبرٍ لم يكن على ثقةٍ منه، بل هو خائفٌ من ظهور كَذِبه، فإقدامُ هذا الرسول على الإخبار بهذا الغَيب العظيم واثِقًا به، مُقيمًا عليه، مُبْدِيًا له في كلِّ مَجْمع، ومُعِيدًا مُناديًا به عَلى صِدْقه، مُجْلِبًا به على أعدائه: مِن

أعظم الأدِلة عَلى صِدْقه. ° وأمَّا قراءةُ من قرأ (بظنين) بالظاء، فمعناه: المُتَّهَم، يُقال: "ظننت زيدًا" بمعنى: اتَّهَمْتُه، وليس من الظنِّ الذي هو الشعورُ والإدراك، فإن ذاك يتعَدَّى إلى مَفْعُولَيْن. والمعنى: وما هذا الرسولُ على القرآن بمُتَّهم، بل هو أمينٌ لا يَزيدُ فيه ولا يَنقُص؛ وهذا يدل على أن الضميرَ يرجعُ إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه قد تقدم وَصفُ الرسولِ المَلَكي بالأمانة، ثم قال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ}، ثم قال: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ}، أي: وما صاحبكم بمُتَّهم، ولا بخيل. واختار أبو عبيدة قراءة الظاء لمعنييْن: أحدهما: أن الكُفار لم يُبَخِّلوُه، وإنما اتَّهموه، فنفيُ التُّهمةِ أَوْلَى مِن نَفْي البُخل. الثاني: أنه قال: {عَلَى الْغَيْبِ}، ولو كان المراد البخلُ لقال: "بالغيب"؛ لأنه يُقال: فلان ضنين "بكذا"، وقلَّما يُقال: "على كذا". ° قلتُ: وُيرجِّحه أنه وَصَفه بما وَصَف به رسولَه المَلَكِي من الأمانة، فنَفَى عنه التُّهْمةَ كما وَصَف جبريلَ بأنه أمين. وُيرجِّحه أيضًا أنه سبحانه نفى أقسامَ الكَذِب كلَّها عمَّا جاء به من الغيب، فإن ذلك لو كان كذِبًا، فإمَّا أن يكونَ منه، أوْ ممَّن عَلَّمه، وإن كان منه، فإمَّا أن يكون تعمَّده أو لمْ يتعمَّدْه، فإن كان من مُعَلِّمِه، فليس هو بشيطان رَجيم، وإن كان منه مع التَّعَمُّد فهو المُتَّهم ضدُّ الأمين، وإن كان عن غير تعمُّد فهو المجنون .. فنفى سبحانه عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ذلك كله، وزكَّى

سَنَد القرآن أعظمَ تزكية، فلهذا قال سبحانه: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير: 25]، ليس تعليمَ الشيطان، ولا يَقدِرُ عليه، ولا يحسُنُ منه، كما قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 210، 211]، فنفى فِعْلَه وابتغاءَه منهم، وقدرَتهم عليه. وكلّ مَن له أدْنى خِبرةٍ بأحوالِ الشياطين والمجانين والمُتَّهَمِين، وأحوالِ الرُّسل يَعلمُ عِلْمًا لا يُمارِي فيه ولا يشك -بل عِلْمًا ضَرُورِيًّا كسائر الضرورِيَّات- منافاةَ أحدِهما للآخَر، ومضادَّته له، كمنافاةِ أحدِ الضدَّيْن لصاحبه، بل ظهورُ المنافاة بَيْن الأمْرَين للعقل، أَبْيَنُ من ظهورِ المنافاة بين النور والظلمة للبَصَر، ولهذا وَبَّخ سبحانه مَن كَفَر بعد ظهور هذا الفَرْقِ المُبين بين دعوة الرّسل ودعوة الشياطين، فقال: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26]، قال أبو إسحاق: فأيَّ طريق تسلكون أَبْيَنَ من هذه الطريق التي بَيَّنت لكم؟، وقال تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات: 50]، وقال: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية: 6]. فالأمر منحصرٌ في الحق والباطل، والهدى والضلال (¬1) .. {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32]. * * * ¬

_ (¬1) انظر "التبيان في أقسام القرآن" لابن القيم (114 - 130).

محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبارك

* محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المُبَارَك: بأبي هو وأمي .. هو المُبَارَك أينما كان .. إذا نحنُ أدْلَجْنا وأنت إمامُنا ... كفى المطايا طِيبُ ذِكرِك حادِيا وإنْ نحن أضَللنا الطريقَ ولم نَجدْ ... ضِياءً كَفَانَا نورُ وجهك هادِيا وإني لأستغْشِي وما بي غَشوةٌ ... لَعَل خَيَالاً منك يَلقَى خياليا كانت البركةُ فيه ومعه وعنده - صلى الله عليه وسلم -: ° فكلامُه مبارك، يقول الكلمةَ المُوجَزَة، فتحملُ في طيَّاتها من العِبَرِ والعِظاتِ ما يَدْهَشُ لروعتها العقلُ حُسْنًا وبلاغةً، فلا أبْدَعَ، ولا أرْوعَ، ولا أوْجَزَ، ولا أعجزَ من هذا الكلام الباهي الزاهي .. كأنَّهُ الروضُ حَيَّتُه الصَّبا سَحَرًا ... وزاره الغيثُ فازدانت خَمائِلُهُ ° ويُلقِي الخُطبةَ، فيَجعلَ الله فيها من النفع والتأثير والبركة ما يَبقى صداهُ في الأجيال جِيلاً بعد جيل. ° والبركة في عمره - صلى الله عليه وسلم -، فقد عاش ثلاثًا وعشرين سنةً في إبلاغ رسالته ليس إلاَّ، فكان في هذه الفترةِ الوجيزةِ من الفتحِ والنصرِ والنفعِ والعلمِ والإيمانِ والإصلاحِ ما لا يقومُ به غيرة في قرونٍ ودهور، ففي ثلاثٍ وعشرين سَنةً فحسب، بلَّغ الرسالةَ، وأدَّى الأمانة، وعلَّم القرآن، ونَشَر السُّنة، وقضى على الكفر، وأسَّس دولةَ العدل، وأقام أعظمَ حضارةٍ راشدةٍ عَرَفتها الإِنسانية .. فسبحان مَن بارك في لحظاتِ عُمره ودقائقِ حياته .. مرت سنينٌ بالسُّعود وبالهنا ... فكأنها من حُسنِها أيامُ • وبُورك له - صلى الله عليه وسلم - في آثاره، فقد مرَّ بصاحبِ قَبْرَينِ يُعذَّبان، أحدهما

كان لا يتنزَّهُ من البول، والآخرُ كان يَمشي بالنميمة بين الناس، فشَقَّ - صلى الله عليه وسلم - عصًا خضراءَ كانت معه وغَرَسها على القبرين، وقال: "أرجو أن يُخفَّفَ عنهما من العذابِ حتى تَيْبَسا" (¬1)، وهذا خاصٌّ به، ولا يكونُ إلاَّ له - صلى الله عليه وسلم -، لِمَا جَعَل اللهُ فيه من البركة. ° ومَرِض عليُّ بنُ أبي طالب - رضي الله عنه - بالرمدِ يومَ خيبر، حتى أصبحَ لا يَرى شيئًا، فنَفَثَ عليه - صلى الله عليه وسلم -، فأبصر -بإذنِ الله- في الحالِ لبركةِ دعائِه ونَفْثِه - صلى الله عليه وسلم -: مَرِضَ الحبيبُ فزرتُهُ ... فمَرِضتُ مِن خوفي عليهِ وأتى الحبيبُ يَزورُني ... فشُفِيتُ من نظري إليهِ ° وكان الجيشُ في الخندق ألفَ رجلٍ، قد بَلَغ بهم الجوعُ مبلغًا عظيمًا، فدعا جابرُ بنُ عبد الله الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - وثلاثة معه على عَناقٍ من وَلَدِ الماعز ذَبَحها وشيءٍ من طعام الشعير، فدعا - صلى الله عليه وسلم - الجيشَ جميعًا وسَبَقهم، ودعا على الطعام ونفَث، ثم أدخلهم عَشَرَةً عَشَرة، فأكلوا جميعًا وشبِعوا جميعًا، وبَقِي الطعامُ بحاله، ووُزِّع على أهل المدينة، فما بَقِي بيتٌ إلاَّ دَخَله من ذلك الطعام .. فلا إله إلاَّ الله! يا لها مِن معجزةٍ باهرةٍ وآيةٍ ظاهرة على صِدقِه وبركتِه ونبوَّته: علوٌّ في الحياةِ وفي المماتِ ... بحقٍّ فيك كلُّ المعجزاتِ عليك تحيةُ الرحمن تَسرِي ... بتَبْرِيكٍ غوادٍ رائحاتِ ° وسافر معه جيشٌ قِوامه ألفٌ وأربَعُمئةِ رجل، فانتهى ماؤهم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (216، 218)، ومسلم (292) عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.

وأشرفوا على الهلاك، وانقطعوا في البَيداء، فدعا - صلى الله عليه وسلم - بقِرْبةٍ صغيرة فيها قليلٌ من ماء، فصبَّه على يده الشريفةِ الطاهرة المباركة، فثارت مِن بين أصابعه أنهارُ الماء، فملأ الناسُ أوعيتَهم وعَبَّؤُوا قِرَبَهم، وسَقَوا رواحلَهم، وشَرِبوا وتوضَّؤُوا، واغتسلوا جميعًا، {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} [الطور: 15] .. وأبيض يُستسقى الغمامُ بوجهه ... ثُمالُ اليتامى عِصمةٌ للأراملِ فحيَّا الله ذاك الكفَّ الطاهرَ المبارَك الذي ما خان، ولا غشَّ، ولا غَدَر، ولا نَهَب، ولا سَلَب، ولا سَرَق ولا سَفَك .. يدٌ بيضاءُ لو مُدَّت بليلٍ ... عظيمِ الهولِ أشرقَتِ الليالي ° وزار - صلى الله عليه وسلم - سعدَ بنَ أبي وقاص - رضي الله عنه - وهو مريضٌ ملتهِبُ الجسم، فوضع يَدَه المباركةَ على صَدرِ سعد، فوجَدَ بَرْدَها كالثلجِ، فشُفِي بإذن الله. ° يقول سعدٌ - رضي الله عنه - بعدَ سنواتٍ طويلة: "واللهِ لكأني أجدُ بَرْدَها الآنَ على صدري". ° ورَش - صلى الله عليه وسلم - بقيةَ وَضوئِه على جابرِ بن عبد الله - رضي الله عنهما - وهو مريضٌ، فشُفي بإذنِ الله، وحَلَق رأسه - صلى الله عليه وسلم - بمِنًى يوم النحر، فأعطى شِقَّه الأيمنَ أبا طلحةَ الأنصاري، لأنَّ صَوتَه في الجيشِ كمئةِ فارسٍ جائزةً له، والنصفَ الآخَرَ وُزعِّ على الناس، فكادوا يقتتلون عليه، فمنهم مَن حَصَل على شَعْرةٍ، ومنهم مَن تقاسَمَ هو وصاحبه شَعرةً واحدة، ومنهم مَن كان يضعُ هذه الشعرةَ في الماءِ إذا أراد أن يشرب .. جَعلتُ لعرَّافِ اليمامةِ حُكْمَه ... وعَرَّافِ نجدٍ إنْ هما شفياني

{إنا أعطيناك الكوثر}

فواللهِ ما من رُقية يُعلِّمانها ... ولا شربة إلاَّ بها سَقياني فجئتُ إلى المعصوم حتى أعلَّني ... بشَربةِ حقٍّ مِن هدًى وبيانِ ° ومَسَح - صلى الله عليه وسلم - رأسَ أبي مَحذورة وهو صغير، فأقسم أبو محذورة لا يُحلَقُ هذا الشعر الذي مسَّه كف الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فبقيَ طيلةَ حياتهِ حتى طال ودُفن معه. ° وكان الصِّبيانُ يأتونه - صلى الله عليه وسلم - بآنيتِهم، فيضع كفَّه المباركَ في إناءِ الماءِ واللبن، فيجدون فيه البركةَ والشفاءَ بإذن الله. وقَصَصُ بركته لا تنتهي، وأحاديثُ معجزاته لا تنقضي، فهو المباركُ أينما حل وأينما ارتحل، وهو الموفَّق أينما سار وأقام. * {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}: هذه السورةُ خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -كسورة الضَحى، وسورة الشرح-، يُسَرِّي عنه ربُّه فيها، ويَعِدُه بالخير، ويُوعِدُ أعداءَه بالبَتْر .. وفيها من تثبيتِ اللهِ وتطمينه وجميل وَعدِه لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ما فيها، ومَرهوبُ وعيده لشانئه. كذلك تَمْثُلُ حقيقةُ الهدى والخير الإيمان، وحقيقةُ الضلال والشرِّ والكفران .. الأولى كثرةٌ وفَيضٌ وامتداد، والثانيةُ قِلَّةٌ وانحسارٌ وانبتار، وإنَّ ظَنَّ الغافلون غيرَ هذا وذاك. نَزَلت هذه السورةُ تَمسحُ على قلبه - صلى الله عليه وسلم - بالرَّوْح والنَّدى، وتقرِّر حقيقةَ الخير الباقي الممتدِّ الذي اختاره له ربُّه، وحقيقةَ الانقطاعِ والبتر المُقدَّر لأعدائه .. وقد فسَّر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "الكوثر" بنهره في الجنة وذَكَر صِفَته.

• عن أنس - رضي الله عنه - مرفوعًا: "نزلت عليَّ آنفًا سورةٌ"، فقرأ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ .. } السورة، قال: "هل تدرون ما الكوثر؟ ". قلنا: اللهُ ورسوله أعلم، قال: "فإنه نهرٌ وَعَدَنيه ربِّي في الجنة، عليه حَوضٌ تَرِدُ عليه أمَّتي يومَ القيامة، آنيتُه عددُ نجومِ السماء، فيختلجُ العبدُ منهم فأقول: ربِّي إنه من أمتي!! فيُقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" (¬1). • وعنه مرفوعًا: "بينما أنا أسيرُ في الجنة إذا أنا بنهرٍ حافَّتاه قِبابُ الدُّرِّ المجوَّف، قلتُ: ما هذا يا جبريلُ؟ قال: هذا الكوثرُ الذي أعطاك ربُّك، فإذا طِيبُه -أو طِينُه- مِسكٌ أذفر" (¬2). • وعن ابن عمر - رضي الله عنه - مرفوعًا: "هو نَهَرٌ في الجنة حافَّتاه من ذهبٍ يَجري على الدُّرِّ والياقوتِ، تربتُه أطيبُ من رِيحِ المسك، وطَعمُه أحلى من العسل، وماؤه أشدُّ بياضًا من الثلج" (¬3). ° ومن حديث عائشة - رضي الله عنها - موقوفًا: "الكوثر نهرٌ بفِناء الجنة، شاطئاه ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (400)، (4/ 1801) بدون الشاهد، وأبو داود (4747)، والنسائي في "السنن" (904) وفي "التفسير" (722)، وأبو عوانة (2/ 121، 122)، وأحمد (3/ 102)، والحاكم (2/ 537)، وابن أبي شيبة (34097)، وهناد في "الزهد" (133)، وابن أبي عاصم (764) -بدون الشاهد-، وأبو أحمد الحاكم في "شعار أصحاب الحديث" (36)، والبيهقي في "البعث والنشور" (122، 123). (¬2) أخرجه البخاري (4964، 6581)، وأبو داود (4748 بنحوه)، والترمذي (3359، 3360)، وابن حبان (6440)، وأحمد (3/ 16، 191، 207، 231، 232، 289)، والطبري في "تفسيره" (15/ 323)، وأبو يعلى (2876، 3186)، والطيالسي (1992)، والآجري (396)، والبيهقي في "البعث والنشور" (124، 125، 126، 127، 130، 131، 132، 133، 134، 136). (¬3) حديث صحيح: أخرجه الترمذي (3361)، وأحمد وابن ماجه، والدارمي =

درٌّ مجوَّف، وفيه من الأباريقِ والآنيةِ عددَ النجوم" (¬1). ° وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - موقوفاً: "الكوثرُ: الخيرُ الكثير الذي أعطاه اللهُ إياه" (¬2). ° قال الإِمام ابنُ جرير الطبري بعد سَرْده للأقوال التي قيلت في "الكوثر": "وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي، قولُ من قال: هو اسمُ النهر الذي أُعْطِيَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنة، وَصَفه اللهُ بالكثرة لعِظَم قَدْره. وإنما قلنا: ذلك أَوْلَى الأقوال في ذلك، لتتابُع الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن ذلك كذلك". وهذا الكوثرُ -نهرُ الجنة- هو مِن بينِ الخير الكثير الذي أُوتِيَه الرسولُ - صلى الله عليه وسلم -، فهو كوثرٌ من الكوثر .. خَيرٌ كثير مُطلَقٌ فائضٌ غَزير .. غيرُ ممنوعٍ ولا مَبتور .. فإذا أراد أحدٌ أن يتتبعَ هذا الكوثرَ الذي أعطاه اللهُ لنبيِّه فهو واجدُه ¬

_ = (2/ 337)، وابن أبي شيبة (34098)، والطبري (15/ 320، 324) وهناد في "الزهد" (131، 132)، والبغوي في "شرح السنة" (4341)، والبيهقي في "البعث" (142)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (4615) بلفظ "الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدُّرِّ والياقوت، تُربتُه أطيب ريحًا من المِسكِ، وماؤهُ أحلى من العسل، وأشدُّ بياضًا من الثلج". (¬1) موقوف وله حكم الرفع: أخرجه البخاري (4965)، والنسائي في "التفسير" (725)، وابن أبي شيبة (34099)، والطبري في "تفسيره" (15/ 320)، وهنّاد في "الزهد" (139). (¬2) أخرجه البخاري (4966، 6578)، والنسائي في "التفسير" (724)، والحاكم (2/ 537)، والطبري في "تفسيره" (15/ 320، 321)، وهنّاد في "الزهد" (140)، والبيهقي في "البعث" (139، 141) ومرفوعًا بنحو حديث أنس برقم (140).

وقفة

حيثما نظر أو تصوَّر: ° هو واجدُه في النبوَّة، في أنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أفضلُ الرسل مكانةً عند ربِّه، وماذا فَقَد مَن وَجَد اللهَ؟. ° وهو واجدُه في هذا القرآن الذي نَزَل عليه، وسورةٌ واحدةٌ منه كوثرٌ لا نهايةَ لكثرته، وينبوعٌ ثَرٌّ لا نهايةَ لفَيضِه وغَزَارته. ° وهو واجدُه في الملأِ الأعلى الذي يُصلِّي عليه، ويُصلِّي على مَن يُصلِّي عليه في الأرض، حيث يقترنُ اسمُه باسم الله في الأرض والسماء. ° وهو واجدُه في سُنَّتهِ الممتدَّة على مَدَار القرون، في أرجاءِ الأرض، وفي الملايين بعدَ الملايين السائرة على أثره، وملايينِ الملايين منَ الألسِنة والشِّفاه الهاتفةِ باسمه، وملايينِ الملايين من القلوب المُحبَّة لسيرته وذكراه إلى يوم القيامة. ° وهو واجدُه في الخير الكثيرِ الذي فاض على البشريَّة في جميع أجيالها بسببه وعن طريقه، سواءٌ مَن عَرَفوا هذا الخيرَ فآمنوا به، ومَن لم يَعرِفوه، ولكنه فاض عليهم فيما فاض. ° وهو واجدُه في مظاهرَ شتَّى، ومحاولةُ إحصائها ضربٌ من تقليلها وتصغيرها! إنه الكوثر، الذي لا نهايةَ لفيضه، ولا إحصاءَ لعوارفه، ولا حِدَّ لمدلوله، ومِن ثَمَّ تَرَكه النصُّ بلا تحديد، ليشملَ كلَّ ما يَكثُرُ من الخير ويزيد. * وقفة: بدأت سورةُ الكوثر بأجودِ الجُود والعطاءِ لأشرف الخلائق، والمِنحةُ

بكلِّ خير يمكنُ أن يكونَ .. {إِنَّا} محمولٌ على التعظيم، ففيه تنبيهٌ على عظمةِ العطيَّة؛ لأن الواهبَ هو مَلِك الملوك -عز وجل- .. فقد أشعرت الآية بعِظَمِ الواهب، والموهوبِ له، والموهوب، فيا لها من نعمةٍ ما أعظمَها وما أجلَّها، ويا له من تشريفٍ ما أعلاه!!. * قال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ}، ولم يقلْ "آتيناك"، لأن "الإِيتاء" أصلُه الإحضار وإن اشتُهر في معنى الإعطاء، والإيتاءُ يَحتملُ أن يكونَ واجبًا، وأن يكون تفضُّلاً، وأمَّا الإعطاء، فإنه بالتفضُّل أشبهُ، وإذا كان الكوثرُ في نفسه في غايةِ الكثرة، لكنه بصدوره من مَلِكِ الملوك يَزداد عظمة وكمالاً .. ولَمَّا كان كثيرُ الرئيس أكثرَ من كثيرِ غيره، فكيف بالمَلِك، فكيف بِمَلِكِ الملوك، فكيف إذا أخرجه في صيغةِ مبالغة!! فكيف إذا كان في مَظهَرِ العظمة!! فكيف إذا بُنيت الصيغة على "الواو" الذي له العلوُّ والغلبة!! فكيف إذا أتت أثرُ "الفتحة" التي لها مِثلُ ذلك -بَل أعظم-!! فكيف إذا صُدِّرت الجملةُ بحرف التأكيد البخاري مجرى القسم!!. أفاض عليه من كل شيءٍ من الأعيان والمعاني من العلم والعمل وغيرهما من معادِنِ الدارَين، والخيرِ الذي لا غاية له مما لا يدخلُ تحتَ الوصف، فاجتَمَع له أشرفُ العطاءِ من أكرم المُعطِين وأعظمِهم. فقد اضمَحلَّ في جانب نعمةِ الكوثر الذي أُوتي كلُّ ما ذَكَره الله تعالى في الكتاب من نعيم أهل الدنيا وتمكُّنِ مَن تمكَّن منهم، ولم يَقَعْ بعد هذه السورة ذِكرُ شيءٍ من نعيم الدنيا. وانظر إلى قوله تعالى: {أَعْطَيْنَاكَ} .. لم يقل "سنعطيك" ... فأَتى بصيغة الماضي ليدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مُوَيَّدًا عزيزًا مَرْعِيَّ الجانب

التشريفات العظيمة السنية لخير البرية وسيد البشرية

مَقْضِيَّ الحاجة، وحُكمُ اللهِ له بالعطاء كان حاصلاً في الأزل، وأنَّ الغني الحميدَ قد هيَّأ أسبابَ سعادةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل دخوله في الوجود، فكيف يُهمِلُ أمرَه بعد وجودِه واشتغالِه على أكمل وجهٍ بالعبودية وآدابها، زِدْ على ذلك أن الكريمَ إذا شَرعَ في العطيَّة على سبيل التفضُّل لا يبطِلُها، بل كلَّ يوم يَزيدُ فيها بمَنِّهِ وإحسانِه وكرمه، فتفضُّله غيرُ متناهٍ، وكرمُه غير متناهٍ، وإعطاؤه لنبيِّه وعبده محمد - صلى الله عليه وسلم - دائمٌ يَزيدُ أبدًا. * التشريفات العظيمة السَّنِية لخير البرية وسيِّد البشرِيَّة: سورة "الكوثر" تتمَّةٌ لِما قبلها مِن سُورٍ كلُّها تشريفات سنيَّة من ربِّ البرية لسيِّد البشريَّة: * فسورةُ "الضحى" كاملة كلُّها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أولها: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 3]. وثانيها: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 4]. وثالثها: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]. ثم ختمها بذِكر ثلاثةِ أحوالٍ من أحواله - صلى الله عليه وسلم - فيما يتعلَّقُ بالدنيا، وهي قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 6 - 8]. * وفي سورة "ألم نشرح" شرَّفه - صلى الله عليه وسلم - بثلاثةِ أشياء: أولها: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]. وثانيها: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} [الشرح: 2].

وثالثها: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]. ° وشَرَّف الله نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - في سورةِ "التين" بثلاثةِ أنواع من التشريف: أولها: أنه تعالى أقسَمَ ببلدِه - صلى الله عليه وسلم - .. وهو قوله: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3]. وثانيها: أنه تعالى أخبر عن خَلاصِ أُمَّتِه من النار .. وهو قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [التين: 6]. وثالثها: وصولُ أمته إلى الثواب .. وهو قوله تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 6]. ° ثم مَنَّ الله الودودُ الكريمُ على نبيِّه العظيم بثلاثةِ أنواع من التشريفات: أولها: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، أي: اقرأ القرآن على الخَلق مستعينًا باسم ربك. وثانيها: أنه تعالى قهر خَصْمَه بقوله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 17، 18]. وثالثها: أنه خَصَّه - صلى الله عليه وسلم - بالقُّربى التامةِ، وهو قوله: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]. ° وشرفه - صلى الله عليه وسلم - في سورة "القدر" بليلة القَدْر التي لها ثلاثةُ أنواع من الفضيلة: أولها: كونها خيرًا من ألف شهر.

ثانيها: نزول الملائكة والرُّوحُ فيها. وثالثها: كونُها سلامًا حتى مَطْلَع الفجر. ° وشرَّفه - صلى الله عليه وسلم - في سورة "لم يكن" بأنْ شَرَّف أمته بثلاثة تشريفات: أولها: أنه خيرُ البرية. وثانيها: أن جزاءَهم عند ربهم جنات. وثالثها: رضي الله عنهم. ° وشرفه - صلى الله عليه وسلم - في سورة "إذا زلزلت" بثلاثة تشريفات: أولها: قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4]، وذلك يقتضي أن الأرضَ تشهدُ يوم القيامة لأمته - صلى الله عليه وسلم - بالطاعة والعبودية. والثاني: قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة: 6]، وذلك يدلُّ على أنه تُعرضُ عليهم طاعتُهم، فيَحصلُ لهم الفرح والسرور. وثالثها: قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]، ومعرفةُ اللهِ لا شكَّ أنها أعظم من كلِّ عظيمٍ، فلا بدَّ وأن يَصِلوا إلى ثوابها. ° ثم شرَّفه - صلى الله عليه وسلم - في سورة "العاديات" بأن أقسم بخيل الغُزاة من أمته - صلى الله عليه وسلم -، فوصفت تلك الخيل بصفاتٍ ثلاث: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} [العاديات: 1، 2]. ° ثم شرَّف أمته - صلى الله عليه وسلم - في سورة "القارعة" بأمور ثلاثة: أولها: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة: 6].

وثانيها: أنهم في عِيشة راضية. وثالثها: أنَّهم يَرَون أعداءهم في نارٍ حامية. ° ثم شرَّفه - صلى الله عليه وسلم - في سورة "ألهاكم" بأن بَيَّن أن المُعرِضين عن دينهِ وشرعِه يصيرون معذَّبين من ثلاثة أوجه: أولها: أنهم يَرَون الجحيم. وثانيها: أنهم يَرَونها عين اليقين. وثالثها: أنهم يُسألون عن النعيم. ° ثم شرَّف أمته - صلى الله عليه وسلم - في سورة "العصر" بأمور ثلاثة: أولها: الإيمان {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [الشعراء: 227]. وثانيها: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء: 227]. وثالثها: إرشاد الخلق إلى الأعمال الصالحة، وهو التواصي بالحق والتواصي بالصبر. ° ثم شرَّفه في سورة "الهمزة" بأنْ ذَكَر أن مَن هَمَزَه ولَمَزَه فله ثلاثةُ أنواع من العذاب: أولها: أنه لا ينتفع بدنيا ألبتة .. وهو قوله تعالى: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا} [الهمزة: 3، 4]. وثانيها: أنه يُنبَذُ في "الحُطمة"، {لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ}. وثالثها: أنه يُغلِق عليه تلك الأبوابَ حتى لا يَبقى له رجاءُ الخروج، وهو قوله تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} [الهمزة: 8].

ثم شرَّفه - صلى الله عليه وسلم - في سورة "الفيل" بأن ردَّ كيدَ أعدائِه إلى نَحرهم من ثلاثة أوجه: أولها: جعل {كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل: 2]. وثانيها: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} [الفيل: 3]. وثالثها: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 5]. ° ثم شرَّفه - صلى الله عليه وسلم - في سورة "قريش" بأنه تعالى راعى مصلحةَ أسلافه - صلى الله عليه وسلم - من ثلاثة أوجه: أولها: جعلهم مؤتلِفين متوافِقِين {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1]. وثانيها: {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} [قريش: 4]. وثالثها: {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 4]. ° وشرفه - صلى الله عليه وسلم - في سورة "الماعون" بأن وَصَف المكذِّبين بدينه بثلاثةِ أنواع من الصفات المذمومة: أولها: الدناءة واللؤم، وهو قوله تعالى: {يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون: 2، 3]. وثانيها: تَرْكُهم تعظيمَ الخالق، وهو قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 5، 6]. وثالثها: تركهم نفعَ الخلق، وهو قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7]. فهذه مناقبُ متكاثرة، كلُّ واحدةٍ منها أعظمُ من مُلْكِ الدنيا بحذافيرها.

المقامة النبوية لعائض القرني -لله دره-

المَقامةُ النبويَّة لعائضِ القَرْني -لله دَرُّه- ° قال الشيخ عائض القرني بأسلوبه الرقراق الذي يَسيلُ منه دَمعُ كلِّ مُشتاق إلى سيد الرسل عظيم الأخلاق - صلى الله عليه وسلم -: صَلَّى عَلَيْكَ اللهُ يَا عَلَمَ الهُدَى ... واسْتَبْشَرَت بِقُدُومِكَ الأَيَّامُ هَتَفَتْ لَكَ الأرْوَاحُ مِنْ أَشْوَاقِهَا ... وَازَّيَّنتْ بِحَدِيثِكَ الأقْلامُ ما أحسنَ الاسمَ والمسمَّى! وهو النبيُّ العظيم في سورة "عمَّ"، إذا ذَكَرتُه هَلَّت الدموعُ السواكب، وإذا تذكرته أقبلت الذكريات من كل جانب .. وَكُنْتُ إذَا ما اشْتَدَّ بِي الشَّوْقُ وَالجَوى ... وَكَادَتْ عُرَى الصَّبْرِ الجَمِيل تَفْصِمُ أُعَلِّلُ نَفْسِي بِالتَّلاقِي وَقُرْبِه ... وَأُوهِمُهَا لَكِنَّهَا تَتَوَهَّمُ المتعبِّدُ في غارِ حراء، صاحبُ الشريعة الغرَّاء، والمِلَّةِ السَّمْحاء، والحنيفيةِ البيضاء، وصاحبُ الشفاعة والإِسراء، له المقامُ المحمود، واللواءُ المعقود، والحوضُ الورود، هو المذكورُ في التوراة والإنجيل، وصاحبُ الغُرَّة والتَّحجيل، والمؤيَّدُ بجبريل، خاتمُ الأنبياء، وصاحبُ صفوةِ الأولياء، إمامُ الصالحين، وقدوةُ المفلحين، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

السَّمَاوَاتُ شَيِّقَاتٌ ظمَاءُ ... وَالفَضَا والنُّجُومُ والأضْوَاءُ كُلُّهَا لَهْفَةٌ إلَى العَلَمِ الْهَا ... دِي وشَوْقٌ لِذَاتِهِ وَاحْتِفَاءُ تنظَم في مَدحه الأشعار، وتُدبَّج فيه المَقاماتُ الكبار، وتُنقل في الثناء عليه السِّيرُ والأخبار، ثم يَبقى كنزًا محفوظًا لا يُوفِّيه حقَّه الكلام، وعَلَمًا شامخًا لا تُنصِفُه الأقلام، إذا تحدَّثنا عن غيره عَصَرْنا الذكريات، وبَحَثْنا عن الكلمات، وإذا تَحدَّثْنا عنه تَدَفَّقَ الخاطرُ، بكل حديث عاطر، وجاش الفؤادُ بالحبِّ والوِداد، ونَسِيَتِ النفسُ همومَها، وأغفَلَتِ الروح غمومَها، وسَبَّح العقلُ في ملكوتِ الحُبِّ، وطاف القلب بكعبةِ القرب، هو الرمزُ لكل فضيلة، وهو قبَّةُ الفَلَكِ خِصالٌ جميلة، وهو ذُروةُ سَنام المجدِ لكلِّ خلالٍ جليلة. مرحبًا بالحبيب والأريب والنجيب، الذي إذا تحدَّثتُ عنه تزاحمت الذكريات، وتسابقت المشاهدُ والمقالات. صلى الله على ذاك القدوة ما أحلاه! وسَلَّمَ الله ذاك الوجهَ ما أبهاه! وبارك اللهُ على ذاك الأُسوةِ ما أكمَلَه وأعلاه! عَلَّمَ الأُمةَ الصِّدقَ وكانت في صحراءِ الكذبِ هائمة، وأرشَدَها إلى الحقِّ وكانت في ظُلماتِ الباطل عائمة، وقادها إلى النور وكانت في دياجيرِ الزور قائمة .. وَشَبَّ طِفْلُ الهُدَى المَحْبُوبُ مُتَّشحًا ... بِالخَيرِ مُتَّزِرًا بِالنُّورِ وَالنَّارِ

فِي كَفِّهِ شُعْلَة تَهْدِي وَفِي دَمِه ... عَقِيدَةٌ تَتَحَدَّى كُلَّ جَبَّارِ كانت الأمةُ قبلَه في سُباتٍ عميق، وفي حضيضٍ من الجهل سحيق، فبَعَثه اللهُ على فترةٍ من المرسلين، وانقطاعٍ من النبيين، فأقام اللهُ به الميزان، وأنزل عليه القرآن، وفَرَّق به الكفرَ والبهتان، وحُطِّمت به الأوثان والصلبان، للأمم رموزٌ يُخطؤون ويُصيبون، ويُسدَّدون ويَغلِطون، لكنَّ رسولَنا - صلى الله عليه وسلم - معصومٌ من الزلل، محفوظٌ من الخلل، سليمٌ من العلل، عُصم قلبُه من الزيغ والهوى، فما ضَلَّ أبدًا وما غوى، إنْ هو إلاَّ وحيٌ يوحى. للشعوب قاداتٌ لكنهم ليسوا بمعصومين، ولهم ساداتٌ لكنهم ليسوا بالنبوة مَوسومين، أمَّا قائدُنا وسيِّدُنا فمعصومٌ من الانحراف، محفوفٌ بالعناية والألطاف. قُصارى ما يَطلبُه ساداتُ الدنيا قصورٌ مشيَّدة، وعساكرُ تَرفعُ الولاءَ مؤيَّدة، وخُيول مُسَوَّمة في مُلكِهم مُقيَّدة، وقناطيرُ مقنطَرةٌ في خزائنهم مخلَّدة، وخَدَمٌ في راحتهم مُعَبَّدة. أما محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فغايةٌ مطلوبه، ونهايةٌ مرغوبه، أن يُعبَدَ اللهُ فلا يُشركُ معه أحد؛ لأنه فَردٌ صمد، لم يَلِدْ ولم يُولد، ولم يكن له كفوًا أحد. يسكنُ بيتًا من الطين، وأتباعُه يجتاحون قصورَ كسرى وقيصر فاتِحين، يَلبسُ القميصَ المرقوع، ويَربِطُ على بطنِه حَجَرين من الجوع، والمدائنُ تُفتح بدعوته، والخزائنُ تُقسم لأمته .. إِنَّ البَرِيَّةَ يَوْم مَبْعَثِ أحْمَد ... نَظَرَ الإِلَهُ لَهَا فَبَدَّلَ حَالَهَا

بَلْ كَرَّمَ الإنْسَانَ حِينَ اخْتَارَ منْ ... خَيْرِ البَرِيَّةِ نَجْمَهَا وَهِلالَهَا لَبِسَ المُرَقَّعَ وَهْوَ قَائِدُ أَمَّةٍ ... جَبَت الكُنُوزَ فَكَسَّرَت أعْلامَهَا لَمَا رآهَا اللهُ تَمْشِي نَحْوَه ... لا تَبْتَغِي إلاَّ رِضَاهُ سَعَى لَهَا ماذا أقولُ في النبي الرسول؟ هل أقولُ للبَدْر: حُيِّيتَ يا قمرَ السماء؟ أم أقولُ للشمس: أهلاً يا كاشفةَ الظلماء؟ أم أقولُ للسحاب: سَلِمْتَ يا حامل الماء؟! .. يَا مَنْ تَضَوَّعَ بِالرِّضْوَانِ أعْظُمُهُ ... فَطَابَ مِنْ طِيبِهِ تِلكَ القَاعُ وَالأَكَمُ نَفْسِي الفِدَاءُ لِقَبْرٍ أنتَ سَاكِنُهُ ... فِيه العَفَافُ وَفِيهِ الجُودُ وَالكَرَمُ اسلُكْ معه حيثُما سَلَك، فإنَّ سُنَّته سفينةُ نوحٍ، مَن رَكِب فيها نجا، ومَن تَخلَّف عنها هَلَك، نَزَل بَزُّ رسالته في غارِ حراء، وبِيع في المدينة، وفُصِل في بدر، فلَبِسه كلُّ مؤمنٍ، فيا سعادةَ مَن لَبِس، ويا خَسارةَ من خَلَعه فقد تَعِس وانتكَس، إذا لم يكنِ الماءُ مِن نهرِ رسالته فلا تشربْ، وإذا لم يكنِ الفَرَسُ مُسوَّمًا على علامتِه فلا تركبْ، بلالُ بنُ رباح صار باتِّباعِهِ سَيدًا بلا نَسَب، وماجدًا بلا حَسَب، وغنيًّا بلا فِضةٍ ولا ذَهَب، أبو لهب عمُّه لما عصاه خَسِر وتبَّ، سيَصلى نارًا ذات لهب ..

الفُرْسُ وَالرومُ وَاليُونَانُ إنْ ذُكِرُوا ... فعندَ ذكرِكَ أسْمَالٌ عَلَى قَزَمِ هُمْ نَمَّقُوا لَوْحَةً بِالرِّقِ هَائِمَةً ... وَأَنْتَ لَوْحُكَ مَحْفُوظٌ مِنَ التُّهَمِ وإنك لَتهدي إلى صراط مستقيم، وإنك لعلى خلق عظيم، وإنك لعلى نهجٍ قويم، ما ضَلَّ، وما زلَّ، وما ذلَّ، وما غَلَّ، وما مَلَّ، وما كَلَّ. فما ضَلَّ؛ لأن اللهَ هادِيه، وجبريلَ يُكلِّمُه ويناديه. وما زَلَّ؛ لأن العِصمة ترعاه، واللهُ أيَّده وهداه. وما ذَلَّ؛ لأن النصرَ حليفُه، والفوز رديفه. وما غَلَّ؛ لأنه صاحبُ أمانة، وصيانة، وديانة. وما مَلَّ؛ لأنه أُعطي الصبر، وشُرح له الصدر. وما كَلَّ؛ لأن له عزيمةً، وهمةً كريمة، ونفسًا طاهرةً مستقيمة .. كَأنَّكَ فِي الكِتَابِ وَجَدت لاءً ... مُحَرَّمَةً عَلَيْكَ فَلا تَحِلُّ إِذَا حَضَرَ الشتَاءُ فَأَنْتَ شَمْسٌ ... وَإنْ حَلَّ المصِيفُ فَأنْتَ ظِلُّ صلى الله عليه وسلم، ما كان أشرحَ صدرَه! وأرفَعَ ذكرَه! وأعظمَ قَدرَه! وأنفذَ أمرَه! وأعلى شرَفَه! وأربح صَدَقةَ مَن آمَنَ به وعرفه! ومع سَعَة الفِناء، وعظم الآناء، وكرم الآباء، فهو محمدٌ الممجَّد، كريمُ المَحْتِد، سخيُّ اليد، كأنَّ الألسِنةَ والقلوب ريضت على حُبِّه، وأَنِست بقُربه، فما تنعقدُ إلاَّ

تنعقدُ إلاَّ على وُدِّه، ولا تَنطقُ إلاَّ بحمده، ولا تَسبحُ إلاَّ في بحرِ مجده .. نُورُ العَرَارَةِ نُورُه وَنَسِيمُهُ ... نَشْرُ الخُزَامَى فِي اخْضِرَارِ الآسِي وَعَلَيْهِ تَاجُ مَحَبَّة مِنْ ربِّهِ ... مَا صِيغَ مِنْ ذَهَبٍ وَلا مِنْ مَاسِي إنَّ للِفطَرِ السليمة، والقلوبِ المستقيمة حُبًّا لمنهاجه، ورغبةً عارمةً لسلوك فِجاجه، فهو القدوةُ الإمام، الذي يُهدى به مَنِ اتبع رضوانه سُبُلَ السلام. صلى الله عليه وسلم، عَلَّم اللسانَ الذِّكر، والقلبَ الشكر، والجسدَ الصبر، والنفسَ الطُّهْر، وعَلَّم القادةَ الإنصاف، والرعيةَ العفاف، وحَبَّبَ للناس عَيشَ الكفاف، صَبَر على الفقر؛ لأنه عاش فقيرًا، وصَبَر على جُموع الغنى لأنه مَلَك مُلكًا كبيرًا، بُعِث بالرسالة، وحَكم بالعدالة، وعَلَّم من الجهالة، وهَدَى من الضلالة، ارتقى في درجاتِ الكمال حتى بَلَغ الوسيلة، وصَعِد في سلَّمِ الفضل حتى حاز كلَّ فضيلة .. أَتَاكَ رَسُولُ المَكْرُمَاتِ مُسْلِّمًا ... يُرِيدُ رَسُولَ اللهِ أَعْظَمَ مُتَّقِي فَأقْبَل يَسْعَى فِي البِساطِ فَمَا درَى ... إِلى البَحْرِ يَسْعَى أَمْ إلَى الشَّمْسِ يَرْتَقِي هذا هو النورُ المبارَكُ يا مَن أبصر، هذا هو الحجَّةُ القائمةُ يا من أدبر، هذا الذي أنذَر وأعذَر، وبَشَّر وحَذَّر، وسَهَّل ويَسَّر، كانت الشهادةُ صعبةً

فسهَّلَها من أتباعه مُصعَب، فصار كلُّ بطلٍ بعدَه إلى حِيَاضِهِ يرغب، ومِن مَوْرِدِهِ يشرب، وكان الكذبُ قبلَه في كلِّ طريق، فأباده بالصديق، مِن طُلاَّبه أبو بكر الصديق، وكان الظُّلمُ قبلَ أن يُبعثَ متراكِمًا كالسحاب، فزحزحه بالعدلِ من تلاميذِه عمرُ بن الخطاب، وهو الذي ربَّى عثمانَ ذا النورين، وصاحبَ البيعتين، والمتصدِّقَ بكلِّ ماله مرَّتين، وهو إمامُ عليٍّ حَيْدَرة، فكم من كافرٍ عَقَرَه، وكم من مُحارِبٍ نَحَره، وكم من لواءٍ للباطل كَسَره، كأن المشركين أمامَه حُمُرٌ مستنفِرة، فَرَّت من قسورة!! .. إِذَا كَانَ هَذَا الجِيلُ أتْبَاعَ نَهْجِه ... وَقَدْ حَكَمُوا السَّادَاتِ فِي البَدْوِ وَالحَضَرْ فَقُلْ كَيْفَ كَانَ المُصْطَفَى وَهْوَ رَمْزُهُمْ ... مَعَ نُورِه لا تُذْكَرُ الشَّمْسُ والقَمَرْ! كانت الدنيا في بلابلِ الفتنة نائمة، في خَسارةٍ لا تعرفُ الربحَ وفي اللهوِ هائمة، فأذَّن بلالُ بن رباح، بـ "حيَّ على الفلاح"، فاهتزَّتِ القلوب، بتوحيد علاَّمِ الغيوب، فطارت المُهَجُ تطلبُ الشهادة، وسَبَّحَتِ الأرواحُ في مِحراب العبادة، وشَهِدَتِ المعمورةُ لهم بالسيادة .. كُلُّ المشَاربِ غَيْرُ النِّيلِ آسِنَةٌ ... وَكُل أرْضٍ سِوَى الزَّهْرَاءِ قِيعَانُ لا تُنْحَرُ النفْسُ إِلاَّ عِنْدَ خَيْمَتِهِ ... فَالمَوْتُ فَوْقَ بَلاطِ الحُبِّ رِضْوَانُ أرسله اللهُ على الظَّلماء كشمسِ النهار، وعلى الظمأ كالغَيث المِدرار،

فهزَّ بسيوفه رؤوسَ المشركين هَزَّا؛ لأن في الرؤوس مساميرَ اللات والعزى، عَظُمت بدعوته المِنَن، فإرسالُه إلينا أعظُم مِنَّة، وأحيا اللهُ برسالته السُّنن، فأعظمُ طريقٍ للنجاة اتباعُ تلك السنة .. تعلَّم اليهودُ العلمَ فعطَّلوه عن العمل، ووقعوا في الزيغ والزلل، وعَمِل النصارى بضلال، فعَملهم عليهم وبال، وبُعث عليه الصلاة والسلام بالعلم المفيد، والعمل الصالح الرشيد .. أخُوكَ عيسَى دَعَا مَيْتًا فَقَامَ لَهُ ... وَأنْتَ أحْيَيْتَ أجْيَالاً مِنَ الرِّمَمِ أَنْصِتْ لِمِيمِيَّةٍ مِنْ أمَمٍ ... مِدَادُهَا مِنْ مَعَانِي "نُون وَالقْلَمِ" * * * سَالَتْ قَرِيحةُ صَبٍّ فِي مَحَبتِكُم ... فَيْضًا تَدَفقَ مِثْلَ الهَاطِلِ العَمَمِ كَالسَّيْلِ كَاللَّيْلِ كَالفَجْرِ اللَّحُوحِ غَدا ... يَطوِي الرَّوابِي وَلا يَلوِي عَلَى الأكَمِ أَجَشَّ عَلَيَّ كَالرَّعْدِ فِي لَيَالِي السَّعُود وَلا ... يُشَابِهُ الرَّعْدَ فِي بَطشٍ وَفِي غَشَمِ كَدَمْع عَيْنِي إِذَا مَا عِشْتُ ذِكْرَكُمْ ... أَوْ خَفَقَ قَلبٌ بِنَارِ الشَّوْقِ مُضْطَرَمِ يَزْرِي بِنَابِغَةِ النُّعْمَانِ رَوْنَقُهَا ... وَمِنْ زهُير وَمَاذَا قَالَ فِي هَرِمِ؟

دع سَيْفَ ذِي يَزن صَفْحًا وَمَادِحَهُ ... وَتُبَّعًا وَبَنِي شدَّاد فِي إرَمِ وَلا تَعْرُجْ عَلَى كِسْرَى وَدَوْلَتِه ... وَكُلِّ أصيدٍ أَوْ ذِي هَالَةٍ وَكمِي وانْسَخْ مَدَائحَ أَرْبَابِ المَديحِ كَمَا ... كَانَتْ شريعتُه نَسْخًا لِدِينِهم رَصِّعْ بِهَا هَامَةَ التَارِيخِ رَائِعَةً ... كَالتَّاجِ فِي مَفْرقٍ بِالمَجْدِ مُرْتَسِمِ فَالهَجرُ وَالوَصْلُ وَالدُّنْيَا وَمَا حَمَلَت ... وَحُبُّ مَجْنُونِ لَيْلَى ضَلَّةٌ لَعَمِي دع المَغَانِي وَأَطلالَ الحَبيبِ وَلا ... تَلمَح بِعَيْنَيْكَ بَرْقًا لاحَ فِي أَضِمِ وَأنسُ الخَمَائِلِ وَالأفْنَانُ مَائِلةٌ ... وَخَيْمَةٌ وَشُوَيْهَاتٌ بِذِي سَلَمِ هُنَا ضِيَاءٌ هُنَا رِيٌّ هُنَا أَمَلٌ ... هُنَا رَوَاءٌ هُنْا الرِّضْوَانُ فَاسْتَلِمِ لو زينتْ لامرئٍ القَيسِ انْزَوى خَجَلاً ... وَلوْ رآهَا لَبيدُ الشِّعْرِ لمْ يَقُمِ مِيمِيَّةٌ لَوْ فتَى بُوصِيرَ أَبْصَرَهَا ... لَعَوَّذوه بِرَبِّ الحِلِّ وَالحَرَمِ

سَلْ شِعْرَ شَوْقي أَيَرْوِي مِثْلَ قافِيَتي ... أوْ أَحْمَدَ بنِ حُسيْنٍ فِي بَنِي حَكَمِ مَا زَارَ سُوقَ عُكَاظٍ مِثْلُ طَلعَتِهَا ... هَامَتْ قُلُوبٌ بِهَا مَنْ أَهْدَيْتُهُ كلمِي أُثْنِي عَلَى مَنْ؟ أَتَدْرِي مَنْ أُبَجِّلُهُ؟ ... أمَا عَلِمْتَ بِمَنِ اهْتَدَيْتُهُ كَلِمِي فِي أَشجَع النَّاسِ قَلبًا غَيْر مُنْتَقِمٍ ... وَأصْدَقِ الخَلقِ طُرًّا عيْرِ مُتَّهِمِ أَبْهَى مِنَ البَدْرِ فِي قَلبِ التَّمَامِ وَقُلْ ... أسْخَى مِنَ البَحْرِ بَلْ أَرْسَى مِنَ العلمِ أصْفَى مِنَ الشَّمْسِ فِي نُطقٍ وَمَوْعِظَةٍ ... أَمْضَى مِنَ السَّيْفِ فِي حُكْمٍ وفِي حِكَمِ أَغَرٌّ تُشْرِقُ مِنْ عَيْنَيْهِ مَلحَمَةٌ ... مِنَ الضَياءِ لِتَجْلُو الظُّلْمَ والظُّلَمِ فِي هِمَّة عَصَفَتْ كالدَّهْرِ واتَقَدَت ... كَمْ مَزَّقَتْ مِنْ أَبِي جَهْلٍ وَمِنْ صَنَمِ أَتَى اليَتِيمُ أَبُو الأيْتامِ فِي قَدَرٍ ... أَنْهَى لأمَّتِهِ مَا كانَ مِنْ يُتْمِ مُحَرِّرُ العَقْلِ بَانِي المَجْدِ بَاعِثُنَا ... مِنْ رَقْدَةٍ فِي دِثَارِ الشِّرْكِ وَاللَّمَمِ

بنُورِ هَدْيكَ كَحَّلنَا مَحَاجِرَنا ... لَمَّا كَتَبْنَا حُرُوفًا صُغْتُهَا بِدَمِ مَنْ نَحْنُ قَبْلَكَ إِلا نُقْطَةٌ غَرِقَتْ ... فِي اليَمِّ بَلْ دَمْعَةٌ خَرْسَاءُ فِي القِدَمِ أكَادُ أَقْتَلِعُ الآهَاتِ مِنْ حرْقِي ... إِذَا ذَكَرْتُكَ أَوْ أَرْتَاعُ مِنْ نَدَمِي لَمَّا مَدَحْتُكَ خِلتُ النَّجْمَ يَحْمِلُنِي ... وَخَاطِرِي بِالسَّنَا كَالجَيْشِ مَحْتَدِمِ شَجَّعْتُ قَلبِي أَنْ يَشْدُو بِقَافِيَةٍ ... فِيكَ القَرِيضُ كوَجْهِ الصُّبْحِ مُبتَسِمِ صَهْ شِكِسْبِيرُ مِنَ التَّهْرِيجِ أَسْعَدَنَا ... عَنْ كُلِّ إِليَاذَةٍ مَا جَاءَ فِي الحِكَمِ الفُرْسُ وَالرومُ وَاليُونَانُ إِنْ ذُكِرُوا ... فَعنْدَ ذِكْرَاهُ أَسْمَالٌ عَلَى قَزَمِ هُمْ نَمَّقُوا لَوْحَةً للرِّقِّ هَائِمَة ... وَأنْتَ لَوْحُكَ مَحْفُوط مِنَ التُّهَمِ أَهْدَيْتَنَا مِنْبَرَ الدُّنْيَا وغَارَ حرَا ... وَلَيْلَةَ القَدْرِ والإِسْرَاءَ لِلقِمَمِ وَالحَوْضَ وَالكوْثَرَ الرَّقرَاقَ جِئْتَ بهِ ... أنْتَ المُزَّمِّلُ فِي ثَوْبِ الْهُدَى فَقُمِ

الكَوْنُ يَسْألُ وَالأفْلاكُ ذاهلَةٌ ... وَالجِنُّ وَالإنْس بَيْنَ اللاء والنَّعَمِ وَالدَّهْرُ مُخْتَلِقٌ وَالجَوُّ مُبتَهِجٌ ... وَالبَدْرُ يَنْشَقُّ وَالأيَّامُ فِي حُلُمِ سِرْبُ الشَّياطينِ لَمَّا جِئْتَنَا احْتَرَقَتْ ... وَنَارُ فَارِسَ تَخْبُو مِنْكَ فِي نَدَمِ وَصُفِّدَ الظُّلمُ وَالأوْثَانُ قَدْ سَقَطَتْ ... وَمَاءُ سَاوَةَ لَمَّا جِئتَ كَالحِمَمِ قَحْطَانُ عَدْنَانُ حَازُوا مِنْكَ عِزَّتهم ... بِكَ التَّشَرُّفُ للتَّارِيخِ لا بِهمِ عَقُودُ نَصْرِكَ فِي بَدْرٍ وَفِي أُحُدٍ ... وَعَدْلاً فِيكَ لا فِي هَيْئةِ الأُمَمِ شَادُوا بِعِلمِكِ حَمْرَاءَ وَقُرْطُبَة ... لِنَهْرِكَ الْعَذْبِ هَبَّ الجِيلُ وَهْوَ ظَمِي وَمِنْ عِمَامَتِكَ البَيْضَاءِ قَدْ لَبِسَت ... دِمِشْقُ تَاجَ سَنَاهَا غَيْرَ مُنْثَلِمِ رِدَاءُ بَغَدَادَ مِنْ بُرْدَيْكَ تَنْسِجُهُ ... أيْدِي رَشِيدٍ وَمَأمُونٍ وَمُعْتَصِمِ وَسِدْرَةُ المنتَهَى أوْلَتْكَ بَهْجَتَهَا ... عَلَى بِسَاطٍ مِنَ التَّبْجِيلِ مُحْتَرَمِ

دَارَسْتَ جِبْرِيلَ آيَاتِ الكِتَابِ فَلَمْ ... يَنْسَ المُعَلِّمُ أَوْ يَسْهُو وَلَمْ يَهِمِ اقْرَأ وَدَفْتَرُكَ الأيَّامُ خُطَّ بِهِ ... وَثِيقَةُ العَهْدِ يَا مَنْ بَرِّ فِي القَسَمِ قَرَّبْتَ لِلعَالَم العُلوِي أَنْفُسَنَا ... مَسَّكْتَنَا حبلاً غَيْرَ منصَرِمِ نُصِرْتَ بِالرُّعْبِ شَهْرًا قَبْلَ مَوْقِعَةٍ ... كَأَن خَصْمَكَ قَبْلَ الحَرْبِ فِي صَمَمِ إِذَا رَأَوْا طِفْلاً فِي الجَوِّ أَذْهَلَهُمْ ... ظَنوكَ بَيْنَ بُنُودِ الجَيْشِ وَالحَشَمِ بِكَ اسْتَفَقْنَا عَلَى صُبحٍ يُؤرِّقهُ ... بِلالٌ بِالنَّغَمَةِ الحَرَّا عَلَى الأُطُمِ إِنْ كَانَ أَحْبَبْتُ بَعْدَ الله مِثْلَكَ فِي ... بَدْوٍ وَحَضَرٍ وَمِنْ عُرْبٍ وَمِنْ عَجَمِ فَلا اشتَفَى نَاظِرِي مِنْ مَنْظَرٍ حَسَنٍ ... وَلا تَفَوَّه بِالقَوْلِ السَّدِيدِ فَمِي (¬1) * * * ¬

_ (¬1) "مقامات عائض القرني - المقامة النبوية" (ص 38 - 53) - مكتبة الصحابة - الإمارات.

° لله درُّ أمهاتِ المؤمنين حين يَصِفْنَ علوَّ همَّةِ نبينا - صلى الله عليه وسلم - للصحابة!! تقول إحداهن: "وأيُّكم يطيق ما كان يُطيق؟ ". ° وتقول الأخرى: "ما لكم وصلاتِه - صلى الله عليه وسلم -؟! ". فأيُّ همَّةٍ كانت همَّةَ سيِّد البشر؟! هذا المُترَعُ عَظمةً وعلوَّ همةٍ وسُمُوًّا!!. أَلا إن الذين بَهَرتهم عظمته لَمعذورون .. بأبي وأمي رسولُ الله إلى الناسِ في قَيْظ الحياة .. أيُّ سرٍّ توفَّر له فجَعَل منه إنسانًا يُشرِّف بني الإِنسان .. ؟. وبأيَّة يدٍ طولَى، بَسَطها شطْرَ السماء، فإذا كلُّ أبواب رحمتِها، ونِعمتِها وهداها، مفتوحةٌ على الرحاب؟. أيُّ إيمان، وأيُّ عزْم؟ وأيُّ مَضاءٍ؟! أيُّ صِدق، وأيُّ طهْر، وأيُّ نقاءٍ .. ؟! أيُّ تواضع .. أيُّ حُبٍّ، أيُّ وفاء؟!. أيُّ احترام للحياة وللأحياء؟!. ومهما تتبارَى القرائحُ والإِلهامُ والأقلامُ متحدثةً عنه، عازفةً أناشيدَ عَظَمَته؛ فستظلُّ جميعًا كأنْ لم تَبْرَحْ مكانها، ولم تحرِّك بالقوْل لسانها .. ولهُ كمالُ الدينِ أعلى همَّةٍ ... يعلُو ويسمُو أن يُقاسَ بثاني لمَّا أضاءَ على البريَّة زانَها ... وعلا بها فإذا هو الثَّقَلانِ فوجدتُ كلَّ الصيْدِ في جَوْف الفِرا ... ولقيتُ كلَّ الناسِ في إنسانِ

أعلى الهمم

ومهما سُطِّرتِ المجلداتُ في علوِّ همته، فليست غيرَ "بَنان" تومئُ على استحياءٍ إلى بعض ما فيه. وعلى تفنُّنِ مادحيهِ بوصْفهِ ... يَفنى الزمانُ وفيهِ ما لم يُوصَفِ فلِعُلُوِّ همته - صلى الله عليه وسلم - في السَّير فهو المُفرَدُ السابق، فلِسَبْقه لم يُوقفْ له على أثرٍ في الطريق .. والمشمِّر بعدَه قد يرى آثارَ نيرانه على بُعْدٍ عظيم، كما يرى الكواكب، ويَسْتخبرُ ممَّن رآهم: أين رآهم؛ فحالُه كما قيل: أُسائِلُ عنكم كل غادٍ ورائحٍ ... وأومي إلى أوطانكم وأسلِّمُ ° ولله درُّ حسَّانَ حين يصفُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ومَن ربَّاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قومه على عيْنه!! يقول: لو كانَ في الناسِ سَبَّاقونَ بعدَهُمُ ... فكلُّ سبْقٍ لأدنى سَبْقِهِمْ تَبَعُ ° يقول ابن القيم في "مدارج السالكين" (3/ 147 - 148): "انظر إلى همَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حين عُرضت عليه مفاتيحُ كنوز الأرض فأباها، ومعلومٌ أنه لو أخَذها لأنفقها في طاعةِ ربِّه تعالى، فأبتْ له تلكَ الهِمَّةُ العاليةُ أن يتعلَّق منها بشيء مما سوى الله ومَحابِّه، وعُرِض عليه أن يتصرَّف بالمُلْكِ فأباه .. واختار التصرُّفَ بالعبودية المحْضَة .. فلا إلهَ إلاَّ اللهُ خالقُ هذه الهمَّة، وخالقُ نفْسٍ تَحمِلها، وخالقُ هِممٍ لا تعدو هممَ أخسِّ الحيوانات!! ". * أعلى الهمم: همَّةٌ اتصلت بالحق سبحانه وتعالى طلبًا وقصدًا، وأوصلت الخلْقَ إليه دعوةً ونُصحًا، وأعلى الهمة: همَّةُ مَن دعا الثقَليْن من الإنسِ والجنِّ إلى الله .. وأوْقَفَ كلَّ نَفَسٍ من أنفاسِه على هذه الغاية.

رأى الناس رأي العين علو همته التي لا تدانيها همة

وإن كان موسى - عليه السلام - في مَظهَرِ الجلال، وشريعتُه شريعةُ جلالٍ وقهر، وكان من أعظم خَلْق الله هيبةً ووقارًا، وأشدِّهم بأْسًا وغضبًا لله، وبَطْشًا بأعداء الله، وكان لا يُستطاع النظرُ إليه .. وعيسى - عليه السلام - في مَظهرِ الجمال، وكانت شريعتُه شريعةَ فضلٍ وإحسان، وكان لا يقاتِلُ ولا يحارب، وليس في شريعته قتالٌ ألبتةَ .. فإن نبيَّنا - صلى الله عليه وسلم - كان في مَظهرِ الكمال، الجامعِ لتلك القوَّة والعدْل والشدَّة في الله، ولهذا اللِّين والرأفةِ والرحمةِ، وشريعتُه أكملُ الشرائع، فهو نبيُّ الكمال، وشريعتهُ شريعةُ الكمال، وأمته أكملُ الأمم؛ وأحوالُهم ومقاماتهم أكملُ الأحوال والمقامات، وجعَلَهم خيرَ أمة أُخرجتْ للناس، وكمَّل لهم منَ المحاسن ما فرَّقه في الأمَم قبلَهم، كما كمَّل نبيَّهم - صلى الله عليه وسلم - من المحاسن بما فرَّقه في الأنبياء قبله، وكمَّل كتابَه بالمحاسن التي فرَّقها في الكتب قبلَه، وكذلك في شريعته. وتفصيلُ تفضيلِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته وخصائصِه يستدعي سِفْرًا، بل أسفارًا؛ فهم ضنائن الله، وهم المجتبَوْن الأخيار، وذلك فضل الله يُؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم. * رأى الناسُ رأْيَ العيْن علوَّ همَّتِهِ التي لا تدانيها هِمَّة: رأَوا طُهْرَه وعفَّتَه وأمانتَه واستقامتَه وشجاعته .. رأوا سُموَّه وحَنانه .. رأوا عقلَه وبيانَه .. رأوا الشمسَ تتألَّق تألُّقَ صِدْقِه وعَظَمةِ نفسه .. سمِعوا نمُوَّ الحياة يَسري في أوصال الحياة، عندما بدأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَفيضُ عليها من وحي يومِه وأمسِه .. رأوا الكمالَ البشريَّ وعلوَّ الهمةِ ملْءَ كلِّ عيْنٍ وأُذنٍ وقلب ..

يروحُ بأرواح المحامِدِ حُسْنُها ... فيرقى بها في سامياتِ المفاخرِ وإن فُضَّ في الأكوانِ مِسْكُ ختامِها ... تَعطَّر منها كلُّ نجدٍ وغائرِ لقد كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سيدَ الأوَّابين العابدين المتبتِّلين، لم تتخلَّف نفْسُه عن أغراضِ حياتِه العظمى قِيْدَ شعْرة، ولم يُخْلِفْ موعدَه مع الله في عبادةٍ ولا في جهاد. لقد كانت السِّنونَ الأُولى لرسالته سنواتٍ قلَّما نجدُ لها في تاريخ الثباتِ والصدقِ والعظمةِ نظيرًا، وتلك سنواتٌ كشفَتْ أكثرَ مِن سواها عن كلِّ مزايا معلِّم البشريةِ وهاديها!! وتلك سنواتٌ كانت فاتحةَ الكتاب الحيِّ؛ كتابِ حياته وبطولاته، بل كانت -قبلَ سواها وأكثرَ من سواها- مَهْدَ معجزاته. لقد جهَرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وهو الوحيد الأعْزَل- بدعوة الحق، وقام بدِينِ الله والدعوةِ إليه ما لم يقُمْ به أحد، وأُوذي في الله ما لم يُؤْذَ أحدٌ قبله، مخلِصًا أمينًا، وهذا لا يَقدِر عليه إلاَّ أولو العزْم من الأبرار والمرسلين. بلَّغ وبَلَّغ في غيرِ مداراة وفي غير هروب .. واجَهَ الشركَ ورؤوسَه من اللحظةِ الأولى بجوْهر الرسالة ولُباب القضية، من اللحظة الأولى واجههم بكلماتِ التوحيد المُبِينة المُسْفِرة، وواجَهَ قومَه بدعوةٍ تتصدَّع مِن هَولِ وقعِها الجبال .. وتخرجُ الكلمات من فؤاده وفمه صادعةً رائعة، كأنما احتشدتْ فيها كلُّ قوى المستقبل وتصميمه .. كأنها قَدَرٌ يُذيع بيانَه. ولقَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوى الشرك أولَ دروسِه في أستاذيَّةٍ خارقة،

وتفانٍ عجيب، وكانت صورةُ المشهدِ تملأ الزمان والمكان، بل والتاريخ، وذوو الضمائر الحيَّة في مكةَ يَطْرَبون ويَعْجَبون من علوِّ همَّته .. رأوا رجلاً شاهقًا عليًّا .. لا يدرون: هل استطال رأسُه إلى السماءِ فلامَسَها .. أم اقتربت السماءُ من رأسه فتوَّجته؟!. رأوا تفانيًا وصمودًا وعظمةً، ويقينًا ناهضًا فوق مِنَصَّةِ الأُستاذيَّة، يُلقِي على البشرية كلِّها أبلغَ الدروس، ويُلقِّنها أمضى مبادئها. سَلُوا رجالَ مكة .. وسَلُوا الطائفَ عن سيِّد الرجال .. لقد كانت كلماتُه رجالاً. أي ولاءٍ هذا الذي يحملُه الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - لدعوته!! فرْدٌ أعزل .. تواجهُه المكائدُ أينما وَلَّى وسار!! ليسَ هناك من أسبابِ الحياة الدنيا ما يشدُّ أزره، ثم هو يَحمِلُ كلَّ هذا الإصرار، وكلَّ هذا الصمود والولاء!!. بأبي وأمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. مَن ينطلقُ مهمومًا من أجل الدعوة بعد عودته من الطائف فلم يَستفقْ إلا وهو بـ "قرْن الثعالب" .. بأبي هو وأمي .. وكيفَ يُسامَى خيرُ من وطئ الثرى ... وفي كلِّ باعٍ عن عُلاهُ قُصورُ! وكلُّ شريفٍ عندهُ متواضِعٌ ... وكلُّ عظيمِ القريتيْنِ حقيرُ! نعم .. فلقد سَرَتْ مَسرى النجومِ هُمومُهُ ... ومضتْ مُضِيَّ الباتراتِ عزائمُه نعم .. فاقَ أهلَ المعالي ... وعَلا مَن عَلاَها

• قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلي في النبيين كَمثَل رجلٍ بني دارًا، فأحسَنَها وأكْمَلَها وأجْمَلها، وترَك فيها موضع لَبنةٍ لم يَضَعْها، فجعل الناسُ يطوفون بالبنيان ويَعْجَبون منه، ويقولون: لوْ تَمَّ موضعُ هذه اللِبنة!! .. فأنا في النبيين موضعُ تلك اللَّبِنة" (¬1). ° "لقد كان عليه الصلاة والسلام يعلم علْمَ اليقين أنه جاء الحياةَ الإنسانيةَ ليُغيِّرها، وأنه ليس رسولاً إلى قريشٍ وحدها، ولا إلى العربِ وحدهم .. بل رسولَ الله إلى الناس كافَّة. وقد فَتح الله -سبحانه- بصيرتَه على المدى البعيد الذي ستَبْلُغُه دعوتُه، وتَخفِقُ عنده رايتُه. ورأى رأيَ اليقينِ مستقبلَ الدينِ الذي بشَّر به .. ورغم ذلك كلِّه، لم يَر في نفسه، ولا في دينه، ولا في نجاحه -الذي لن تشهدَ الأرض له مثيلاً- أكثر من "لبنةٍ" في البناء .. !!. كلُّ هذه الحياة التي عاشها .. كلُّ جهادِه وبطولاته .. كلُّ عظمتِه وطُهْره .. كلُّ هذا الفوز الذي حقَّقه دينُه في حياته، الفوزُ الذي كان يعلم أنه سيبلغه بعد مماته .. كلُّ ذلك ليس إلاَّ "لبنة"!! لبنةً واحدةً في بناءٍ شاهِقٍ عريق .. !!. وهو الذي يُعلن هذا ويقولُه، وُيصِرُّ على توكيده!! ثم هو لا ينتحلُ بهذا القول تواضعًا، يُغذِّي به جُوعًا إلى العظمة في نفسه، بل هو يؤكِّد هذا الموقفَ ¬

_ (¬1) رواه أحمد والترمذي عن أبيٍّ، وأحمد والبخاري ومسلم عن جابر، وأحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة، وأحمد ومسلم عن أبي سعيد.

باعتباره حقيقةً تشكِّل مسؤوليةُ تبليغها وإعلانها جُزءً من جوهر رسالته. ذلك أن التواضعَ -على الرغم من أنه خُلُق من أخلاق الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - الأصيلة-، لم يكن الدليلَ الذي يدلُّ على عظمتِه وُيشير إليها؛ فإن عظمةَ الرسولِ بَلَغتْ من التفوُّق والأصالة ما جَعَلها آيةَ نفسِها، وبرهانَ ذاتِها .. ". فرْدُ التواضعِ فرْدُ الجُودِ مكرمةً ... فرْدُ الوجودِ عنِ الأشباه والنُّظَرَا أعلى العلا في العُلا قدْرًا وأمنعُهُمْ ... دارًا وجارًا واسمًا في السماءِ ذُرَا وإذا كان التوحيدُ هو الغايةَ المطلوبة من جميع مقاماتِ الإيمان والأعمالِ والأحوال، وهو أولُ دعوةِ الرسل وآخرُها، وإذا كان أهلُ التوحيد يتفاوتون في توحيدِهم -عِلمًا ومعرفةً وحالاً- تفاوتًا لا يُحصيه إلا الله - فأكملُ الناسِ توحيدًا الأنبياءُ صلوات الله وسلامه عليهم، والمرسَلون منهم أكملُ في ذلك، وأولو العزم من الرسل أكملُ توحيدًا، وأكملُهم توحيدًا الخليلانِ محمدٌ وإبراهيم صلوات الله وسلامه عليهما؛ فإنهما قاما من التوحيد بما لم يَقُمْ به غيرُهما؛ عِلمًا ومعرفةً وحالاً، ودعوةً للخَلق وجهادًا، فلا توحيدَ أكملُ من الذي قامت به الرسلُ، ودعَوا إليه، وجاهدوا الأمم عليه؛ ولهذا أمَر الله سبحانه نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - أن يقتديَ بهم فيه. ولمَّا فاق رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - النبيِّين والمرسَلِين، وقام بحقيقةِ التوحيد -عِلْمًا وعملاً ودعوةً وجهادًا-، جَعَله اللهُ إمامًا للخَلْق ورسولاً للناسِ كافَّةً، بل وللثقلَيْن من الجنِّ والإنس. وتوحيده جُعل أعلى توحيدٍ، وخاصَّةَ الخاصَّةِ، مَن رَغِب عنه فهو من أسفهِ السفهاء.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلى الناس همة في جميع مقامات الدين

* رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أعلى الناسِ همَّةً في جميع مقاماتِ الدين: وقد كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سيدَ المجاهدين والعابدين، والصابرين والصائمين .. كان أعلى الناس توكُّلاً، وأوفرَ الناس نصيبًا منَ الرضا والحمد، والدعاءِ والشكرِ والتبتُّل، وأعلى الناس يقينًا، وكان أشجعَ الناس، وأرحمَ الناس، وأَشدَّ الناس حياءً، وكان أحسنَ الناسِ خُلُقًا ومروءةً وتواضعًا، وأكثرَ الناسِ مراقبةً لربه، وأعلى الناس خشوعًا، وأَشدَّ الناس عبادةً لربِّه، وكان أطولَ الناس صلاةً. ° وكُتبُ الشمائل المحمدية للترمذي وغيره؛ مملوءة بالأحاديث التي تكشِفُ عن هذا النور الذي أرسله الله ليضيءَ للبشرية طريقًا .. - صلى الله عليه وسلم - .. خُلُقٌ أرقُّ مِنَ النسيم ونفحةٌ ... تُغني العديمَ وتُنجِدُ المجهودَا وسَريرةٌ مَرْضيَّةٌ وعزيمةٌ ... عُلويَّةٌ سمَت السماءَ صُعُودَا ذا البحرُ عِلمًا ذا النجومُ طلائعًا ... ذا الصخْرُ حِلمًاَ ذا الغَمامةُ جُودَا ° ولله درُّ شوقي حين يقول فيه - صلى الله عليه وسلم -: وإذا رحمْتَ فأنت أمٌّ أو أبٌ ... هذانِ في الدنيا همَا الرُّحَمَاءُ * رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أحسنُ الناسِ عطْفًا ووُدًّا: ° يقول العقاد: "إذا كان الرجلُ مُحِبًّا للناس، أهلاً لحبِّهم إياه، فقد تمَّتْ له أداةُ الصداقةِ من طرَفَيْها .. وإنما تتمُ له أداةُ الصداقة بمقدارٍ ما رُزق من سَعَة العاطفة الإِنسانية، ومِن سلامة الذَّوْق، ومتانةِ الخُلُق، وطبيعةِ الوفاء .. وقد كان محمد - صلى الله عليه وسلم - في هذه الخصالِ جميعًا مَثَلاً عاليًا بين صفوةِ خَلْق الله.

° كان عطوفًا يرأمُ مَن حوْله ويُوَدُّهم ويدومُ لهم على المودَّة طولَ حياته .. وليس في سجلِّ المودةِ الإِنسانية أجملُ ولا أكرمُ من حنانه على مُرضعته "حليمة"، ومن حفاوته بها وقد جاوز الأربعين؛ فيلقاها هاتفًا بها: "أُمِّي، أُمِّي"، ويَفرشُ لها رِداءَه، ويُعطيها من الإِبل والشاءِ ما يُغنيها في السَّنة الجَدْباء. ° ولقد وفدتْ عليه "هوازنُ" وهي مهزومةٌ في وقعة "حُنين"، وفيها عمٌّ له من الرضاعة؛ لأجل هذا العمِّ من الرضاعة تشفَّع النبيُّ إلى المسلمين أن يردُّوا السَّبْي من نساءٍ وأبناء، واشترى السَّبْي ممن أبَوْا رَدَّه إلا بمال. وحضنتْه في طفولته جاريةٌ عَجماء، فلم يَنْسَ لها مودَّتها بقيَّة حياته. • وشَغَله أن يَنْعَمَ بالحياة الزوجية ما يشغلُ الأبَ من أمر بناته ورَحِمِه، فقال لأصحابه: "مَن سرَّه أن يتزوَّج امرأةً من أهل الجنة فليتزوَّجْ أمَّ أيمن" .. وما زال يُناديها: "يا أُمَّهْ، يا أُمَّه"؛ كلما رآها وتحدَّث إليها، وربما رآها في واقعةِ قتالٍ تدعو اللهَ وهي لا تدري كيف تدعو بلكنتها الأعجميَّة، فلا تُنسيه الواقعةُ الحازبةُ أن يُصغيَ إليها ويَعطِفَ عليها. وقد اتسع عطفُه حتى بَسَطه للأحياء كافَّة، فـ "كان يُصغي للهرَّة الإِناءَ فتشرب، ثم يتوضأ بفضلها" (¬1). وكان يواسي في موت طائرٍ يلهو به أخو خادمِه (¬2)، ويُوصي المسلمين ¬

_ (¬1) صحيح: رواه الطبراني في "الأوسط"، وأبو نعيم في "الحلية" عن عائشة، ورواه أبو داود وابن ماجه والطحاوي، والدارقطني في "الأفراد"، والبيهقي في "السنن"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4834). (¬2) "يا أبا عُمير، ما فعَل النُّغير؟ ".

بالدوابِّ، وكرَّر الوِصايةَ بها. بل شَمِل عطفُه الأحياءَ والجمادَ كأنَّه من الأحياء؛ فكانت له قَصْعَة يُقال لها "الغرَّاء"، وكان له سَيْفٌ مُحلَّى يسمى "ذا الفقار"، وكانت له دِرْعٌ موشَّحةٌ بنُحاسٍ تُسمَّى "ذات الفضول"، وكان له سَرْجٌ يسمَّى "الداج"، وبِساطٌ يسمَّى "الكز"، ورَكْوة تسمَّى "الصادر"، ومِرآةٌ تسمَّى "المدلة"، ومقراضٌ يسمَّى "الجامع"، وقضيب يسمَّى "الممشوق". وفي تسميته تلك الأشياءَ بالأسماء معنَى الألفة، التي تجعلُها أشبَهَ بالأحياءِ المعروفين، مِمَّن لهم السِّماتُ والعناوين، كأن لها "شخصيةً" مقرَّبةً تُميِّزُها بين مثيلاتها، كما يتميز الأحبابُ بالوجوه والملامح والكُنَى والألقاب. ° وكان له - صلى الله عليه وسلم - مع هذه العاطفة الجيَّاشةِ والرحمةِ الشاملة: ذَوق سليم يُضارعُها رِفعةً ونُبلاً في رعايةِ شعور الناس أتمَّ رعايةٍ وأدلَّها على الكرَمَ والجود؛ "كان إذا لَقِيه أحدٌ من أصحابه فقام معه؛ قام معه، فلم ينصرف حتى يكونَ الرجلُ هو الذي ينصرف عنه، وإذا لَقِيَه أحدٌ من أصحابه فتناول يَدَه، ناوَله إيَّاها، فلم يَنزعْ يَدَه منه حتى يكونَ الرجلُ هو الذي يَنزعُ منه .. وكان إذا وَدَّع رجلاً أخذ بيده، فلا يَدَعُها حتى يكونَ الرجلُ هو الذي يَدَعُ يده". ° "وانظرْ إلى زيد بن حارثة - رضي الله عنه - الذي خُطِف من أهله وهو صغير، ثم اهتدى إليه أبوه واهتدى هو إلى أبيه على لهْفَةِ الشوقِ بعد يأسٍ طويل، فلما وجب أن يختارَ بين الرَّجْعةِ إلى آله وبين البقاءِ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،

الرسول - صلى الله عليه وسلم - قدوة للرجل المهذب في كل زمان ومكان

اختار البقاءَ مع السيِّد على الرجْعة مع الوالد" (¬1). ° لقد اعتلى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الذِّروةَ الساميةَ في السماحة، بسماحةِ الكريم، وما أحدٌ أرحمَ ممَّن يرحمُ المفتَرين على سُمْعةِ أهلِه وهناءةِ بيتهِ وأمانِ سِربه. ولقد كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خيرَ الناس لأهله وزوجاتِه أمهاتِ المؤمنين - رضي الله عنه -. بأبي هو وأمِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين تتسعُ نواحي العظمة، وهو الذي يحملُ همَّ دعوةِ الثقلَيْن إلى الله -عز وجل- .. لا يَشغلُه شأنٌ عن شأنٍ حتى يسابِق زوجاته .. واللهِ، هذه فُتوة الرُّوح قبل فُتوةِ الأوصال. * الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - قُدوةٌ للرجل المهذَّب في كلِّ زمانٍ ومكان: لقد كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أسلمَ الناسِ طبْعًا، وأحسَنَ الناس ذوْقًا؛ وهُما الخصلتان اللَّتان كان - صلى الله عليه وسلم - قدوةً فيهما لكلِّ رجل مهذَّبِ في كلِّ أمةٍ وفي كلِّ زمان؛ فلم يكن يهفُو في حقِّ أحدٍ، ولم يكن أحدٌ يشكو من مَحضَرِه بإنصاف .. وذلك هو مِلاكُ التهذيبِ الكامل في أصدقِ معانيه. وخلاصةُ سَمْتِه وآدابِه أنها سماحةٌ في الأنظار، وسَماحةٌ في القلوب؛ فالسماحة هي الكلمةُ الواحدةُ التي تجمعُ هذه الخصالَ من أطرافها، والسماحةُ هي الصفة التي ترقَّتْ في محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى ذِروةِ الكمال. بأبي وأمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -!!. ليس للنوع البشريِّ أصلٌ من أصول الفضائل يَرمي إلى مقصِدٍ أسمَى ¬

_ (¬1) "عبقرية محمد" للعقاد (ص 90 - 94) بتصرُّف - دار الكتب الحديثة.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التاريخ

وأنبلَ من تقديسِ تلك المناقب، التي كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قدوة فيها للمقتدين. أما في الزهد وعزيمةِ الإِيمان: فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المقام الأول بين الرجال؛ في المقام الأول بخِلقته، وفي المقام الأول بنيَّته، وفي المقام الأول بعَمَله؛ وفي المقام الأول بالقياس إلى المُشْبِهين له في دعوته. لقد زَهِد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شحْذًا للعزيمة، وإعذارًا إلى الله فيما تجرَّد له من إصلاحٍ، لقد كانت هدايةُ الناس إلى الله -عز وجل- هي جُملةَ أمانيه وغايةُ آمالِه في دار الدنيا .. لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً لا كمِثْلِه الرجال .. فمبْلَغُ العلمِ فيهِ أنَّهُ بشَرٌ ... وأنه خيرُ خَلقِ اللهِ كُلِّهِمُ * رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التاريخ: إن التاريخ كلَّه بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متصلٌ به مرهونٌ بعمله .. كان التاريخُ شيئًا فأصبح شيئًا آخر .. لقد كان لعلوِّ همَّته أثرٌ في الأحداثِ العِظام في تاريخ بني الإِنسان .. بمِقدارِ ما في هذه الأحداث من فُتوحِ الرُّوح، لا بمِقدارِ ما فيها من فتوح البلدان، لقد تفتَّحت للإِنسان آفاقٌ جديدةٌ في عالَم الضمير، ارتفع بها فوقَ طِباق الحيوانِ السائم، ودنا به مرتبةً إلى الله. لقد كانت فتوحُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوحَ إيمان، وكانت قُوَّته قوةَ إيمان، وما من سِمَةٍ لعمله أوضحُ من هذه السِّمَة. لقد حَكَم التاريخُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان في نفسِه قدوةَ المهذَّبين، وكان في عملِه أعظمَ الرجالِ أثرًا في الدنيا، وكان في عقيدته أفضلَ الناس

عظمة العظمات عند رسولنا - صلى الله عليه وسلم -

إيمانًا، وصاحبَ الدين الحقِّ، الذي يبقى ما بَقِيَ في الأرض دِين. سيطلُع في الأُفقِ هلالٌ ويَغيب هلال، وتُقبِلُ السَّنةُ القمريةُ بعد السَّنةِ القمرية بمَعْلَمٍ من معالم السماء، يُوميء إلى بقعةٍ من الأرض هي غارُ يوم الهجرة، ويومئُ إلى يومٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو أجملُ أيامه؛ لأنه أدلُّ الأيامِ على عُلوِّ همَّته، وأخلصُها لعقيدته ورجاءُ سريرته .. يومَ أن تَرك رسولُ الله وراءَه كلَّ شيء من أجل دينه ودعوته. إن مِن سَعةِ نفْسه - صلى الله عليه وسلم -، وآفاقِ نفْسِه الواسعة: أنها شَملت كلَّ ناحيةٍ من نواحي العاطفةِ الإنسانية، وهي المقياسُ الذي يُبدي من العظمةِ ما يُبديه الجِدُّ في أعظمِ الأعمال .. لقد نَهَض رسولُنا - صلى الله عليه وسلم - بأعظم الأمور؛ وهو إقامةُ دينِ اللهِ وإصلاحُ الثقليْن، وتحويلُ مجرى التاريخ، ثم يَطيبُ نَفسًا في مُزاحٍ مع إخوانه أو مع أولاده أو مع عَبيده، فكان المثالَ الفذَّ في كلِّ هذا .. وأريحيَّةً لا تُدانيها أريحية، تدلُّ على منتهى نقاءِ السريرة في بني الإنسان. * عظمةُ العَظَماتِ عند رسولنا - صلى الله عليه وسلم -: لقد تمَّت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - معجزتُه التي لم يصارعْه فيها أحد قبله .. لقد رَبَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نُخبةً من ذوي الأقدار تجمعُ بين عظمةِ الحَسَبِ، وعظمةِ الثروة، وعَظَمة الرأي، وعَظَمة الهمة، وكلٌّ منهم ذو شأنٍ في عظمته تقومُ عليه دولة وتَنهضُ به أُمَّة؛ كما أثبت التاريخُ من سِيَر أبي بكر وعمرَ وعثمانَ وعلي، وأبي عُبيدة وسعدٍ والزبيرِ وطلحة، وخالدٍ وأسامةَ وابنِ العاص - رضي الله عنهم - .. وسائر الصحابة الأوَّلِين .. أئمَّةٌ شرَّفَ اللهُ الوجودَ بهمْ ... سامُوا العلا فسَمَوْا فوقَ العلا رُتَبَا

ربما عَظُم الرجُل في مَزِيَّةٍ من المزايا، فأحاط به الأصدقاءُ والمريدون من النابغين في تلك المزيَّة، كإحاطةِ الحكماءِ بسقراطَ .. بل ربَّما أحاط الصالحون بالنبي العظيم كما أحاط الحواريون بالمسيح - عليه السلام -، وكلُّهم من معدِنٍ واحدٍ وبيئة واحدة .. أمَّا عظمةُ العظَمات، فهي تلك التي تجذبُ إليها الأصحابَ النابغين في كلِّ معدنٍ وكلِّ طراز، بل تربِّي الأصحابَ، وتستشفُّ قدراتِ كلِّ منهم، وتؤهله لإبراز هذه المزية .. تربيةً تخرج رجالاً يتفاوتون في مزاياهم مثلَ التفاوتِ الذي بين أبي بكر وعمر، وبين عثمانَ وعلي، وبين خالدٍ ومعاذ، وأسامةَ وابنِ العاص؛ كلُّهم عظيم، وكلُّهم مع ذلك مُخالِفٌ في وَصْفِ العظمةِ لسواه. تلك هي العظمةُ التي اتَّسعت آفاقها وتعدَّدت نواحيها، حتى أصبحت قُطْبًا جاذِبًا لكلِّ معدِن، وأصبحت تَجمع في تربيتها لأصحابها بين البأس والحِلْم، وحِنْكَة المسِنِّ وحَمِيَّة الشباب. ° ولله درُّ مَن قال: يبني الرجالَ وغيرُهُ يبني القُرَى ... شَتَّانَ بين قُرًى وبين رجالِ ° لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصفى الناسِ بصيرةً، فاستخرج مكنوناتِ وذخائرَ الصحابة -كلٌّ على قَدْرِه-، صِدْقُ الصدَّيق، وحياءُ عثمان، وصراحةُ الفاروق وهيبته وشِدَّته، وزُهْدُ عليٍّ، وشجاعةُ الزبير، وأمانةُ أبي عبيدة، وسخاءُ طلحة، وتواضُع أبي ذَرٍّ، وحكمةُ أبي الدرداء، وعِلْمُ معاذ، وإيمانُ عمَّار، وعُلُوُّ هِمة سلْمان، وتبتُّل ابنِ مظعون، وصِدْقُ سعدِ ابنِ معاذ، وصلاحُ وجُودُ ابن الزبير .. وكلُّ خصلةٍ من هذه الخصال خيرٌ من الدنيا وما فيها.

ربَّاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو أدرى الناسِ بالرجال، فظهر منهم الجيلُ القرآني الفريد؛ "ما كان حديثًا يُفترى، ولا فُتُونًا يتردَّد، ذلك الحديث الذي رَوى به التاريخُ أنباءَ أعظم ثُلَّةٍ ظَهَرتْ في دنيا العقيدة والإيمان!! فالعظمةُ الباهرةُ لأولئك الرجال الشاهقين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليستْ أساطير، وإن بدَت من فرْطِ إعجازها كالأساطير!!!. إنها عظمةُ ما غَرَسه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم لتسموَ وتتألَّق، لا بقَدْرِ ما يريدُ لها الكُتَّابُ والواصفون، بل بقَدْرِ ما أراد لها أصحابُها وذَووها، وبقدْر ما بذَلوا في سبيل التفوق والكمال؛ مِن جَهدٍ خارقٍ مبرور. ولا يزعم أيُّ إنسان لنفسِهِ القُدرةَ على تقديم هذه العظمةِ كاملةً .. إذ حَسبه أن يُومِئَ إلى علوِّ هِمَّتهم وسماتِ عظمتهم، ويتطلَّعَ إلى سمائها. لم يشهدِ التاريخُ -ولنْ يشهد- رجالاً مِثلَ صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رباهم نبيُّهم ومعلِّمُهم - صلى الله عليه وسلم - على غاياتٍ تنهاتْ في العدالة والسموِّ، وعقدوا على ذلك عزْمَهم ونواياهم، ونَذَروا لها حياتَهم على نسَقٍ تناهى في الجَسارة والتضحية، والبذْل ومكارمِ الأَخلاق. لقد جاء رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الحياةَ وجاؤوا معه في أوانهم المرْتَقَب، ويومِهم الموعود؛ لقد كان أصحابُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ذخائرَ الله من خلْقه، وخيرَ قرونِ هذه الأمة. كيف أنْجَزَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بهم ومعهم ما أنجزه في بِضْع سنين؟! كيف دمدموا على العالَم بإمبراطوريَّاتِه وصَوْلَجَانه، وحَوَّلوه إلى كِثيبٍ مهيل؟!. كيف شادوا بالقرآن -كلماتِ الله- عالَمًا جديدًا، يهتزُّ نَضْرةً ويتألقُّ

عظمةً ويتفوَّقُ اقتدارًا؟!. وقبل هذا كلِّه، وفوق هذا كلِّه: كيف استطاعوا في مِثْلِ سرعةِ الضوءِ أن يُضيؤوا الضميرَ الإِنسانيَّ بحقيقةِ التوحيد، ويكنِسوا منه إلى الأبد وثنية القرون؟!. تلك هي معجزةُ نبيِّهم - صلى الله عليه وسلم - وكراماتهم الحقَّة. إن معجزةَ المعجزاتِ تتمثَّل في تلك التربيةِ التي ربَّاهم نبيُّهم - صلى الله عليه وسلم - عليها وصاغ بها فضائلَهم، واعتصموا هُمْ بإيمانهم على نحوٍ يَجِلُّ عن النظير!!. على أن كلَّ معجزاتِهم التي حقَّقوها، لم تكن سِوى انعكاسٍ متواضع للمعجزة الكبرى التي أهلَّتَ على الدنيا يومَ أَذِن الله لقرآنه الكريم أنه يتنزَّل، ولرسوله الأمين - صلى الله عليه وسلم - أن يُبلِّغ؛ ولموْكبِ الإِسلام أن يبدأ على طريقِ النور خُطاه!!. لقد ربَّى الأمينُ -كلُّ الأمين- صلى الله عليه وسلم - أولئك الرجالَ الأبرار، لنستقبلَ فيهم أروعَ نماذجِ البشريةِ الفاضلةِ وأبهاها .. ولِنرى تحتَ الأسمالِ المتواضعةِ أسمى ما عرفتِ الدنيا من عظمةٍ ورُشد .. فللَّه درُّهم من كتائبِ حقٍّ طوْتِ العالَمَ بإيمانها، زاحمةً جوَّ السماء براياتها تُعلِنُ للكونِ كلِّه: كمْ كانت همَّةَ مَن ربَّاهم - صلى الله عليه وسلم - عاليةً .. وكم كانت شمائلُه غاليةً .. وكمْ كانت حياتُه ساميةً .. وكم كانت أمانته زاهية!!. بأبي هوْ وأُمي!! كم علَتْ همَّته في البَذْل الذي بَذَل، والهَولِ الذي احتمل؛ لتحرير البشرية من وثنية الشركِ والضمير، وضياع المصير .. فجزاه الله خيرَ ما جزى نبيًّا عن أُمته .. وجَعَله أعلى النبيين درجة، وأَقربَهم منه وسيلةَ، وأعظمَهم عنده جاهًا، وتوفَّانا على ملَّته، وعرَّفَنا

السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته

وَجْهَه في رِضوانه والجنة، وحشَرَنا معه غيرَ خزايا ولا نادمين، ولا شاكِّين ولا مبدِّلين ولا مرتابين". * السلام عليك أيها النبيُّ ورحمةُ الله وبركاته: ° للإِمام ابن القيم ذوقٌ عالٍ، وهو يُبينُ الحكمة في السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهُّد بصيغة الخطاب، فقال -رحمه الله -: "وأمَّا السلام عليه، فأتى بلفظِ الحاضرِ المُخَاطَب تنزيلاً له منزلةَ المُواجَه لحكمةٍ بديعةٍ جدًّا؛ وهي أنَّه لما كان أَحبَّ إلى المؤمن من نفسِه التي بيْن جنبيْه، وأَوْلَى به منها، وأقربَ، وكانت حقيقتُه الذِّهنيةُ ومثالُه العِلميُّ موجودًا في قلبه بحيث لا يَغيبُ عنه إلاَّ شخصه كما قال القائل: مِثالُك في عَيني وذِكرُك في فَمي ... ومَثْوَاك في قلبي فأين تغيبُ! ومَن كان بهذه الحال فهو الحاضرُ حقًّا، وغيرُه -وإن كان حاضرًا للعيان- فهو غائبٌ عن الجَنان، فكان خِطابُه خطابَ المواجهةِ والحضورِ بالسلام عليه أَوْلَى من سلامِ الغَيبة، تنزيلاً له منزلةَ المواجَهِ المعايَنِ لقربه من القلب، وحلوله في جميع أجزائه بحيث لا يبقى في القلب جزءٌ إلاَّ ومحبَّته وذِكرُه فيه، كما قيل: "لو شُقَّ عن قلبي يُرى وسطَه ذكرُك"، ولا يُستنكر استيلاءُ المحبوبِ على قلب المحبِّ وغَلبتُه عليه حتى كأنه يراه، ولهذا تجدُهم في خطابهم لمحبوبهم إنما يعتمدون خطابَ الحضور والمشاهَدة مع غايةِ البُعد العياني لكمالِ القرب الرُّوحي، فلم يَمْنَعْهم بُعْدُ الأشباحِ عن محادثةِ الأرواح ومخاطبتها، ومَن كثُفت طباعُه فهو عن هذا كلِّه بمعزل، وإنه لَيَبلغُ الحبُّ ببعضِ أهلِه أن يَرى محبوبَه في القرب إليه بمنزلة رُوحه التي لا شيء

لا تنقطع عن نبيك الكريم - صلى الله عليه وسلم - ولو ثانية من الزمان .. وعش فيه أبدا

أدنى إليه منها كما قيل: يا مقيمًا مدى الزمانِ بقلبي ... وبعيدًا عن ناظري وعياني أنت رُوحي إن كنتُ لستُ أراها ... فهيَ أدْنى إِليَّ من كلِّ دانِي ° وقال آخر: يا ثاويًا بين الجوانح والحَشَا ... منِّي وإنْ بَعُدَتْ عَلَيَّ ديارهُ ° وإنه لَيَلْطُفُ شأنُ المحبَّة حتى يرى أنه أدْنَى إليه وأقربُ من رُوحه، ولي من أبياتٍ تلمُّ بذلك: وأدْنَى إلى الصَّبِّ مِن نفسِه ... وإنْ كانَ عن عينه نائيا ومَن كان مع حُبِّهِ هكذَا ... فأنَّى يكون له ساليا ثم يلطفُ شأنُها وَيقهرُ سلطانُها حتى يغيب المحبُّ بمحبوبهِ عن نفسِه، فلا يشعر إلاَّ بمحبوبه ولا يشعر بنفسه" (¬1). * لا تنقطع عن نبيِّك الكرِيم - صلى الله عليه وسلم - ولو ثانيةً من الزمان .. وعِش فيه أبدًا: ° قال الرافعيُّ -رحمه الله-: "عجيبٌ أن يجهلَ المسلمون حِكمةَ ذِكرِ النبي العظيم - صلى الله عليه وسلم - خمسَ مراتٍ في الأذان كلَّ يوم، يُنادَى باسمه الشريف ملءَ الجو؛ ثم حكمةَ ذِكرِه في كل صلاةٍ من الفريضة والسنة والنافلة، يُهمَس باسمِه الكريم ملءَ النَفْس! وهل الحكمةُ من ذلك إلاَّ الفرضُ عليهم ألاَّ ينقطعوا من نبيهم ولا يومًا واحدًا من التاريخ، ولا جُزْءً وحِدًا من اليوم، فيمتد الزمنُ مهما امتدَّ والإسلامُ كأنه على أَوَّله، وكأَنَّه في يومِه لا في دَهْرٍ بعيد، والمسلمُ كأنه مع نبيِّه بين يديْه تبعثُه رُوح الرسالة، ويَسطعُ في نفسِه ¬

_ (¬1) "بدائع الفوائد" لابن قيم الجوزية (2/ 191 - 192) مكتبة ابن تيمية - القاهرة.

إشراقُ النُّبوَّة، فيكونُ دائمًا في أمره كالمُسلِم الأوَّل الذي غَير وجه الأرض، ويظهرُ هذا المسلمُ الأولُ بأخلاقه وفضائله وَحَمِيته في كل بقعةٍ من الدنيا مكانَ إنسانِ هذه البقعة، لا كما نرى اليوم؛ فإن كلَّ أرض إسلاميةٍ يكادُ لا يظهر فيها إلاَّ إنسانُها التاريخي بجهله وخرافاتِه وما وَرِث مِن القِدَم؛ فهنا المسلمُ الفرعوني، وفي ناحيةٍ المسلمُ الوثني، وفي بلدٍ المسلمُ المجوسي، وفي جهةٍ المسلمُ المعطَّل .. وما يريدُ الإسلامُ إلا نفسَ المسلم الإنساني. أيها المسلم!. لا تنقطعْ من نبيك العظيم، وعِشْ فيه أبدًا، واجعَلْه مَثَلَكَ الأعْلَى؛ وحين تذكرُه في كل وقت فكُن كأنك بن يديْه؛ كنْ دائمًا كالمسلم الأول؛ كنْ دائمًا ابنَ المُعْجِزَة .. أُحَيْبابَ قلبي هل سواكم لِعِلَّتي ... طبيبٌ بداءِ الهائمين خَبيرُ؟! جيوشُ هُدَاكمُ كل لَمْحَةِ ناظِرٍ ... على حضنِ قلبي بالغرام تُغيرُ ودَمْعي غزيرُ السَّكْب في عَرَصاتِكُمْ ... فكيفَ أَكُفُّ الدَّمْعَ وهوَ غزيرُ! وإن تباريحي بكم وصَبَابتي ... لَهُنَّ رَواحٌ في الحشا وبُكورُ أَحِنُّ إذا غَنَّت حمائِمُ رَوْضِكم ... وينزعُ قلبي نحوَكم ويَطيرُ عَدِمنا على الدنيا وجودَ نَظيركُم ... لقدْ قل مَوْجودٌ وعَزَّ نظيرُ وكيف يسامَى خيرُ مَن وطئ الثرَى ... وفي كل باعٍ عن عُلاكَ قُصورُ وكل شريفٍ عندكم متواضِعٌ ... وكُلُّ عظيم القَرْيَتين حقيرُ إذا ذُكر ارتاحتْ قلوبٌ لذكركم ... وطابتْ نفوسٌ وانشَرَحْنَ صدورُ * * *

تضيق بنا الدنيا إذا غبتم عنا

* تَضيقُ بنا الدنيا إِذا غبتُمُ عنا: العيشُ مع محمد - صلى الله عليه وسلم - يَسكُبُ في القلوب الطاهرةِ أجملَ ما يُسكَب .. فأيُّ طمأنينةٍ وأيُّ سكينةٍ يُفيضُها على القلب؟! وأيُّ ثقةٍ في الحق والخيرِ والصلاح؟! وأيُّ قوةٍ واستعلاءٍ على الواقع الصغير يسكبُها في الضمير؟!. العيشُ مع محمدٍ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسُنَّتِه نعمة ترفع العمرَ وتُباركه وتُزكِّيه، يَعيشُ المسلمُ هادئَ النفس .. مطمئنَّ السريرة، قريرَ الضمير، في ملاذٍ أمين، ونجوةٍ من الهواجس والوساوسِ والشياطين .. فعِشْ معه - صلى الله عليه وسلم -، وفيه، ولا تَغِبْ عنه طرفةَ عين .. تَضيقُ بنا الدُّنْيَا إذا غِبْتُمُو عَنَّا ... وَتْزهَقُ بالأشواقِ أرواحُنا مِنَّا بعادكمُ مَوْتٌ وقُرْبُكُمو حَيَا ... وإِنْ غبْتُمو عَنَّا ولوْ نَفَسًا متْنَا نعيشُ بذكْراكمْ إِذا لَمْ نَرَاكُمُو ... أَلاَ إِنَّ تِذْكارَ الأحِبَّةِ يُنْعشنَا يُحَرِّكُنَا ذَكرُ الأحاديثِ عَنْكُمُو ... ولولا هَواكُم في الحَشَا ما تَحَرَّكنَا ولولا مَعَانِيكم تَرَاها قلوبُنا ... إذا نحنُ أيقَاظٌ وفِي الليل إِنْ نِمْنَا نموتُ أسًى من بُعْدِكُم وصَبابَةً ... ولكنَّ في المعنى مَعَانِيكمُو مَعْنَا إِذَا لم تَذُقْ ما ذاقتِ النَّاسُ فِي الهَوَى ... فَبِاللَّهِ يا خاليَ الحَشَا لا تُعنِّفْنَا أما تَنْظُرُ الطَّيْرَ المُقَفَّصَ يا فَتَى ... إِذَا ذكَر الأوطانَ حَنَّ إلى المَغْنَى؟! وَفَرَّجَ بالتَّغْرِيدِ مَا في فُؤادِهِ ... فيُفْلِقُ أربابَ القُلوب إذا غَنَّى كذلكَ أرواحُ المُحِبِّين يا فَتَى ... تُهزْهزُها الأشواقُ لنبيِّنا الأسْنَى ° "فسبحان مَن جَعَل الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - لأدواءِ القلوب شافيًا، وإلى الإيمان وحقائقه مناديًا، وإلى الحياة الأبديَّةِ والنعيمِ المقيمِ داعيًا، وإلى طريق الرشاد

هاديًا .. لقد أسمع منادي الإيمان - صلى الله عليه وسلم - لو صادف آذانًا واعية، وشفت مواعظُ القرآن لو وافقت قلوبًا خالية، ولكن عَصَفَتْ على القلوب أَهوِيةُ الشبهاتِ والشهوات، فأطفأت مصابيحَها، وتمكَّنت منها أيدي الغفلة والجهالة فأغلقت أبوابَ رُشدِها وأضاعت مفاتيحها، وران عليها كسبُها فلم ينفعْ فيها الكلام، وسَكِرت بشهوات الغَيِّ وشبهاتِ الباطل، فلم تُصْغِ إلى الملام، ووُعِظت بمواعظَ أنكى فيها من الأسِنَّة والسِّهام، ولكن ماتت في بحرِ الجهل والغفلة، وأَسْرِ الهوى والشهوة، وما لِجُرحٍ بميت إيلام" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) "الوابل الصيب" لابن قيم الجوزية (ص 68 - 70).

رائعة أحمد شوقي أمير الشعراء -لله دره- الهمزية النبوية

رائعة أحمد شوقي أمير الشعراء -لله دَرُه- الهمزية النبوية (¬1) وُلدَ الهُدَى فَالكائِناتُ ضياءُ ... وَفَمُ الزَّمانِ تبَسُّمٌ وَثَناءُ (¬2) الرُّوحُ وَالمَلأ المَلائِكُ حَوْلَهُ ... لِلدِّينِ وَالدُّنيا بِهِ بُشَراءُ (¬3) وَالعَرْشُ يَزهُو، وَالحَظيرةُ تَزدَهِي ... وَالمنتهَى، وَالسِّدْرَةُ العَصْمَاءُ (¬4) وَحَديقَة الفُرْقانِ ضاحِكَةُ الرُّبا ... بِالتَّرْجُمانِ، شَذِيَّةٌ، غَنَّاءُ (¬5) وَالوَحْيُ يَقْطُرُ سَلسَلاً مِن سَلسَلٍ ... وَاللَّوحُ وَالقلَمُ البَديعُ رُواءُ (¬6) نُظِمَتْ أسامِي الرُّسْلِ فَهْيَ صَحيفةٌ ... في اللَّوْحِ، وَاسْمُ مُحمَّدٍ طُغراءُ (¬7) ¬

_ (¬1) من بحر الكامل (متفاعِلن، متفاعلن، متفاعِلن). (¬2) الهدى: يقصد النبي محمدًا - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) الروح الأمين: لقب جبريل - والملأ: الأشراف. والملائك: الملائكة. وبشراء: جمع بشير. (¬4) يزهو: يشرق. وسدرة المنتهى: اسم أطلقه القرآن على مكان علوي، هو الذي انتهت إليه رحلة المعراج، وهو غيب لا يعلمه إلا الله. والسدرة واحدة السِّدر. وهو شجر النبق .. جُعلت السدرة مثلاً لذلك المكان كما جُعلت النخلة مثلاً للمؤمن. (¬5) الرّبا: جمع ربوة، وهي ما ارتفع من الأرض. والغناء: مؤنث الأغنّ، وهي من الرياض الكثيرة العشب. (¬6) السَّلسل: الماء العذب السهل الدخول في الحلق لعذوبته وصفائه. يعني هنا القرآن الكريم. والرواء: ماء الوجه وحسن المنظر. (¬7) الطغراء: ما يسميه العامة "طرة" وأصلها طغرى بالقصر، وهي التي تكتب بالقلم الغليظ في صدر الأوامر.

اسْمُ الجَلالِة فِي بَديع حُروفهِ ... ألِفٌ هُنالِكَ، وَاسْمُ "طه" الباءُ (¬1) يا خَيْرَ مَنْ جاءَ الوجودَ، تَحِيَّةً ... مِن مُرسَلينَ إلى الهُدى بِكَ جاؤُوا بَيْتُ النَّبيينَ الَّذي لا يَلتَقي ... إلا الحنائِفُ فيهِ وَالحُنَفاءُ (¬2) خَيْرُ الأبوَّةِ حازَهُمْ لكَ "آدمٌ" ... دُونَ الأنامِ، وَأحْرَزَتْ "حَوَّاءُ" (¬3) هُمْ أدرَكوا عِزَّ النبوَّةِ وَانْتَهَتْ ... فيها إلَيْكَ العِزَّةُ القَعْساءُ (¬4) خُلِقَتْ لِبَيْتِكَ، وَهْوَ مَخْلوقٌ لَها ... إنَّ العَظائمَ كُفؤُها العُظماءُ (¬5) بِكَ بَشَّرَ الله السَّماءَ فزينتْ ... وَتَضَوَّعَتْ مِسكًا بِكَ الغَبْراءُ (¬6) وَبَدَا مُحَيَّاكَ الذي قَسَماتُهُ ... حَق وغُرته هُدًى وَحَياءُ (¬7) وَعَلَيْهِ مِنْ نورِ النبُوَّةِ رَوْنَقٌ ... ومِنَ الخَليلِ وَهَدْيِه سِيمَاءُ (¬8) أثْنَى "المسيحُ" عَليْهِ خَلفَ سَمائِهِ ... وَتَهلَّلَتْ وَاهْتَزَّتِ "العَذْراءُ" (¬9) ¬

_ (¬1) أي أن ذكر محمد - صلى الله عليه وسلم - مقترن بذكر الله دائمًا في الشهادة، تصديقًا لقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}. (¬2) الحنفاء: جمع مفرده الحنيف: الصحيح الميل إلى الإسلام، وكل من كان على دين إبراهيم - عليه السلام -، والمؤنث حنيفة، وجمعها حنائف. (¬3) أحرزت: تحصنت وتصوّنت. (¬4) القعساء: مؤنث الأقعس وهو: المنيع الثابت. (¬5) الكُفْء: المِثْل والنظير من كفأ. (¬6) تضوع المسك: انتشرت رائحته. والغبراء: الأرض. (¬7) القسمة ما بين الوجنتين والأنف، وجمعها قَسَمات. (¬8) الخليل: إبراهيم - عليه السلام -. والسّيماء: من سَوم علامة الحسن والبهجة. (¬9) العذراء: السيدة مريم.

يَوْمٌ يَتيهُ عَلى الزَّمانِ صَبَاحُهُ ... وَمَساؤُهُ "بِمُحمَّدٍ" وَضَّاءُ الحقُّ عالِي الرُّكنِ فيهِ، مُظَفَّرٌ ... فِي الملكِ، لا يَعلُو عَليْهِ لِواءُ ذُعِرَتْ عُروشُ الظَّالِمينَ، فَزُلزِلَتْ ... وَعَلَتْ عَلى تيجانِهِمْ أصْداءُ (¬1) وَالنَّارُ خاوِيَةُ الجَوانبِ حَوْلَهُمْ ... خَمَدَت ذَوائِبُها، وَغَاضَ الماءُ (¬2) والآي تَتْرَى، وَالخَوارِقُ جَمَّةٌ ... "جبريلُ" رَوَّاحٌ بِهَا غَدَّاءُ (¬3) نِعْمَ اليَتيمُ، بَدَتْ مخايلُ فَضلِهِ ... وَاليتمُ رِزْقٌ بَعْضُهُ وَذَكاءُ (¬4) في المهْدِ يُسْتَسْقَى الحيا بِرَجائِهِ ... وَبِقَصْدِهِ تُسْتَدفَعُ البَأساءُ (¬5) بِسِوى الأمانَةِ في الصِّبا وَالصِّدْقِ لَمْ ... يَعْرِفْهُ أهْلُ الصِّدْقِ وَالأمَناءُ يا مَنْ لَهُ الأخلاقُ ما تَهْوَى العُلا ... مِنْها وَما يَتَعَشَّقُ الكُبَراءُ لَو لمْ تُقِم دِينًا، لَقامَتْ وَحْدَها ... دِينًا تُضِيءُ بِنورِهِ الآناءُ (¬6) زانَتْكَ في الخُلُقِ العَظيم شَمائِلٌ ... يُغرَى بِهِنَّ ويُولَعُ الكُرَماءُ (¬7) ¬

_ (¬1) يقصد إيوان كسرى ملك الفرس، الذي سقطت منه أربع عشرة شرفة يوم مولده - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) خمدت النار: سكن لهيبها. والذوائب: جمع ذؤابة، وهي أعلى كل شيء، والمراد بالذوائب هنا ألسنة اللهب. والمراد النار التي كان الفرس يعبدونها، ولم تخمد قبل ذلك. وغاض الماء: نضب وذهب في الأرض، والمراد ماء بحيرة ساوة. (¬3) تترى: تتوالى. ورواح غداء، أي: يروح ويغدو. (¬4) المخيلة: المظنة. (¬5) استسقى الرجل: طلب السقي. والحيا: المطر. (¬6) الآناء: جمع أنْي، ساعات الليل. (¬7) يُغرى بهن: يحبُّهن الكرماء بدافع ذاتي. والولع: شدة الحب والتعلّق.

أما الجَمالُ؛ فَأنْتَ شَمْسُ سَمائِه ... وَملاحةُ "الصِّدِّيق" مِنْكَ أياءُ (¬1) وَالحُسن مِنْ كَرَمِ الوجوه، وَخَيْرُهُ ... ما أوتِيَ القُوَّادُ وَالزّعَماءُ فَإذا سَخَوْتَ بَلَغْتَ بِالجودِ المَدى ... وَفَعَلتَ ما لا تَفْعَلُ الأنواءُ (¬2) وَإذا عَفَوْتَ فَقادِرًا وَمُقَدِّرًا ... لا يَستَهِينُ بعَفْوِاكَ الجُهَلاء وإذا رَحِمْتَ فأنتَ أمٌّ أوْ أبٌ ... هذانِ في الدُّنْيا هُما الرُّحَماءُ إذا غَضِبْتَ فإنَّما هيَ غَضْبَةٌ ... في الحقِّ لا ضِغْنٌ ولا بَغْضاءُ (¬3) إذا رَضْيتَ فذاكَ في مَرْضاتهِ ... وَرِضَى الكَثيرِ تَحَلُّمٌ ورِيَاءُ (¬4) وإذا خَطَبْتَ فَلِلمَنابِرِ هِزَّةٌ ... تَعْرو النَّدِيَّ، وَلِلقُلوبِ بُكاءُ (¬5) وَإذا قَضَيْتَ فَلا ارْتِيابَ، كَأنَّما ... جاءَ الخُصومَ مِنَ السَّماءِ قَضاءُ وَإذا حَمَيْتَ المَاءَ لم يُورَدْ، وَلَوْ ... أنَّ القَياصِرَ وَالمُلوكَ ظِماءُ وَإذا أجَرت فأنتَ بَيْتُ اللهِ، لَمْ ... يَدْخُلْ عَليهِ المُستجيرَ عِداءُ وإذا مَلَكْتَ النَّفْسَ قُمْتَ بِبِرِّها ... وَلَوَ أنَّ ما ملَكَتْ يَداكَ الشَّاءُ وَإذا بنَيْتَ فخيرُ زَوْجٍ عِشْرَةً ... وَإذا ابْتَنَيْتَ فَدونَكَ الآباءُ (¬6) ¬

_ (¬1) أياء الشمس وآياتها: نورها وحسنها. والصّديق: يوسف -عليه السلام -. (¬2) النوء: المطر. (¬3) الضغن: الحقد. (¬4) التحلم: تكلف الحلم. (¬5) تعرو: تصيب، والندِيّ: النادي. (¬6) بنى بأهله: زُفَّ إليهم. وابتنى: صار له بنون.

وَإذا صَحِبْتَ رَأى الوَفاءَ مُجَسَّمًا ... فِي بُرْدِكَ الأصْحابُ وَالخُلَطاءُ وَإذا أخَذْتَ العَهْدَ، أوْ أعْطَيْتَه ... فَجَميعُ عَهْدِكَ ذِمَّةٌ وَوَفاءُ وَإذا مَشَيْتَ إلى العدا فَغَضَنْفَرٌ ... وَإذا جَرَيْتَ فإنَّكَ النَّكْباءُ (¬1) وتمدُّ حِلمَكَ للسَّفيهِ مُدارِيًا ... حتَّى يَضيقَ بِعرْضِكَ السُّفَهاءُ فِي كُلِّ نَفْسٍ مِنْ سُطاكَ مَهابَةٌ ... وَلِكُلِّ نَفسٍ في نَداكَ رَجاءُ (¬2) فَالرَّأيُ لم يُنْضَ المُهَنَّدُ دونَهُ ... كالسَّيفِ لَمْ تُضْرَبْ بِهِ الآراءُ (¬3) * * * يأيُّها الأمِّيُّ، حَسْبُكَ رتبَةً ... في العِلم أنْ دانَتْ بِكَ العُلَماءُ (¬4) الذكْرُ آيةُ ربِّكَ الكُبْرى الَّتي ... فيهَا لباغي المُعجِزاتِ غَناءُ (¬5) صَدْرُ البَيانِ لَهُ إذا التَقَتِ اللُّغَى ... وَتَقَدَّمَ البُلغَاءُ وَالفُصَحاءُ (¬6) نُسِخَتْ بِهِ التَّوْراةُ وَهْيَ وَضِيئةٌ ... وَتَخَلَّفَ الإنجيلُ وَهْوَ ذَكاءُ (¬7) لما تَمشَّى في "الحجاز" حَكيمُهُ ... فُضَّتْ "عُكاظُ" بِهِ، وَقام حِراءُ (¬8) ¬

_ (¬1) غضنفر: أسد. والنكباء: ريح بين ريحين. (¬2) سُطًا: جمع سطوة. (¬3) نصا السيف من غمده: سله. والمهند: السيف المطبوع من حديد. (¬4) دان به: اتخذه دينا. (¬5) الباغي: الطالب. والغناء: ما يغني. (¬6) اللغى: جمع لغة. (¬7) ذكاء: من أسماء الشمس. (¬8) عكاظ: سوق كانت تقام في الجاهلية بين نخلة والطائف، هلال ذي القعدة وتستمر عشرين يومًا أو شهرًا، تجتمع فيها قبائل العرب فيتفاخرون ويتناشدون الشعر ويتبايعون. =

أزرى بِمَنْطِقِ أهْلِهِ وَبَيانِهِمْ ... وَحْيٌ يقَصِّرُ دُونَهُ البُلغَاءُ (¬1) حَسَدوا، فَقالوا: شاعِرٌ، أوْ ساحِرٌ ... وَمِنَ الحَسودِ يَكونُ الاسْتِهْزاءُ قَدْ نالَ "بِالهادي" الكريم وَ"بِالهُدى" ... ما لَمْ تنَلْ مِنْ سُؤْدُدٍ سَيْناءُ (¬2) أمْسى كأنَّكَ مِنْ جَلالِكَ أُمَّةٌ ... وَكأنهُ مِنْ أنسِهِ بَيْداءُ يوحَى إلَيْكَ الفَوْزُ في ظُلُماتِهِ ... مُتَتابعًا تُجْلى بِهِ الظَّلماءُ دِينٌ يُشَيَّدُ آيَةً في آيَةٍ ... لَبِنَاتُهُ السُّوراتُ وَالأضْواءُ (¬3) الحقُّ فيهِ هُوَ الأساسُ، وَكيفَ لا ... وَالله جَلَّ جَلالُهُ البَنَّاءُ؟ أمَّا حَديثُكَ في العُقولِ فَمَشْرعٌ ... وَالعلمُ والحِكَمُ الغوالي المَاءُ (¬4) هُوَ صِبغَةُ الفُرْقانِ، نَفْحَةُ قُدْسِهِ ... وَالسِّينُ مِنْ يسُوراتِهِ وَالرَّاءُ (¬5) جَرَتِ الفَصاحَةُ مِنْ يَنابيع النُّهَى ... من دَوْحِهِ، وتفجَّرَ الإنشاءُ (¬6) في جرِهِ لِلسَّابِحينَ بِهِ عَلى ... أدَبِ الحَياةِ وَعِلمِها إرْساءُ ¬

_ = وقد أبطلها الإسلام. وعكاظ تذكر وتؤنث. حراء: الغار الذي كان يتعبد فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ونزل عليه فيه الوحي. (¬1) أزرى به: عابه. (¬2) الهادي: النبي - صلى الله عليه وسلم - والهدى: القرآن. والشرف الذي حظيت به سيناء هو أنها كانت موطن تكليم الله موسى - عليه السلام -. (¬3) السورات: جمع سورة، وهي القطعة المستقلة من القرآن الكريم. (¬4) مشرع: مورد. (¬5) هو حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، مصبوغ بصبغة القرآن الكريم. فالصبغة هنا بمعنى الصباغ. والسين والراء إشارة إلى ما فيه من كشف لبعض أسرار القرآن. (¬6) النهى: جمع نُهْية وهي العقل. الدوح: الشجر العظيم المتسع.

أتَتِ الدُّهُورُ عَلى سُلافَتِه، وَلَمْ ... تَفْنَ السُّلافُ، وَلا سَلا النُّدَماءُ (¬1) * * * بك يا ابْنَ عَبد الله قامَتْ سَمْحةٌ ... بالحقِّ من ملل الهدى غَرَّاءُ (¬2) بنِيتْ عَلى التوحيدِ وَهْيَ حقيقةٌ ... نادَى بِها سقراطُ وَالقدَماءُ (¬3) وجَدَ الزُّعافَ مِنَ السموم لأجْلِها ... كالشهدِ، ثُمَ تتابَعَ الشهداءُ (¬4) وَمَشى عَلى وَجْهِ الزَّمانِ بِنورِها ... كهَّانُ وادِي النيلِ وَالعُرَفاءُ (¬5) إيزيسُ ذاتُ المُلكِ حينَ تَوَحَّدَتْ ... أخذَتْ قِوامَ أمورِها الأشْياءُ (¬6) لما دَعَوتَ النَّاسَ لبى عاقِلٌ ... وأصمَّ مِنكَ الجاهِلينَ نِداءُ (¬7) أبَوا الخُروجَ إليْكَ مِنْ أوهامِهمْ ... وَالناسُ في أوْهامِهِمْ سُجَناء ومِنَ العُقولِ جَدَاوِلٌ وَجَلامدٌ ... ومِنَ النُّفوسِ حَرائِرٌ وإماءُ (¬8) داءُ الجَماعةِ مِنْ أرسطالِيسَ لمْ ... يُوصف لهُ حَتَّى أتَيْتَ دَواءُ ¬

_ (¬1) السلاف والسلافة: أفضل الخمر. (¬2) السمحة: الملَّة الميسَّرة. (¬3) يشير إلى أن التوحيد فطرة فطر الله الناس عليها، ووصل إليها العقل السليم بدون وحي. (¬4) يشير إلى تجرع سقراط السم في سبيل مبدئه. (¬5) العراف: المنجِّم، والجمع عرفاء. (¬6) إيزيس: من آلهة المصريين القدماء. وقِوام الشيء: نظامه وعماده. (¬7) أي أن نداء التوحيد أصاب الجاهلين بالصمَّم. (¬8) الجدول: النهر الصغير. والجلمود: الصخر.

فَرَسَمْتَ بَعْدَكَ لِلعِبادِ حُكومةً ... لا سُوقةٌ فيها وَلا أمَراءُ الله فَوْقَ الخَلقِ فيهَا وَحْدَهُ ... وَالنّاس تَحتَ لِوائِها أكفاءُ وَالدِّينُ يُسْرٌ، والخِلافةُ بَيْعَةٌ ... وَالأمْرُ شُورَى، والحُقوقُ قَضاءُ دوَيْتَ مُتَّئِدًا، وَدَاوَوْا طَفْرَةً ... وأخفُّ مِنْ بَعْضِ الدَّواءِ الدَّاءُ (¬1) الحرْبُ في حَقٍّ لدَيْكَ شَريعَةٌ ... ومِنَ السُّمُوم النَّاقِعاتِ دَواءُ (¬2) وَالبِرُّ عِنْدَكَ ذِمَّةٌ، وَفَريضَةٌ ... لا مِنَّةٌ مَمنُونَةٌ وَجَباءُ (¬3) جاءَتْ فَوَحَّدَتِ الزَّكاةُ سَبيلَهُ ... حَتَّى التَقَى الكُرَماءُ وَالبُخلاءُ أنْصَفْتَ أهْل الفَقرِ مِنْ أهْل الغِنَى ... فالكُلُّ في حَق الحَياةِ سَوَاءُ فَلوَ إنَّ إنْسانًا تَخَيَّرَ مِلَّةً ... ما اخْتارَ إلا دِينَكَ الفُقرَاءُ * * * يأيُّها المُسرَى بِهِ شَرَفًا إلى ... ما لا تَنالُ الشَّمْسُ والجَوْزاءُ (¬4) يَتَساءَلونَ -وَأنْتَ أطهَرُ هَيْكَل-: ... بالرُّوحِ أمْ بالهَيْكَلِ الإسْراءُ؟ (¬5) بِهما سَمَوْتَ مُطَهَّرَيْنِ، كِلاهُما ... نورٌ، وَرَيْحانِيَّةٌ، وَبَهَاءُ ¬

_ (¬1) متئدًا: متأنيا. وطفر: وثب من أسفل إلى أعلى. (¬2) الناقعات: القاتلات. (¬3) البر: الإحسان. وذمة: عهد، والمنة: العطية، والممنونة: المتبوعة بالمن. والجبَاء: الجمع. (¬4) الإسراء: السير ليلاً. والجوزاء: بُرج في السماء. (¬5) الهيكل: الجسم والصورة والشخص.

فَضْلٌ عَليْكَ لذِي الجَلالِ وَمنَّةٌ ... وَاللهُ يَفْعَلُ ما يَرَى وَيَشاءُ تَغْشى الغيوبَ مِنَ العَوالِم، كلَّما ... طُوِيَت سَمَاءٌ قُلِّدَتْكَ سمَاءُ (¬1) في كلِّ مِنْطَقَةٍ حَواشي نورِها ... نونٌ، وأنتَ النُّقْطَةُ الزَّهْراءُ أنْتَ الجمَالُ بِها، وَأنْتَ المُجْتَلى ... وَالكَفُّ، والمِرآةُ، وَالحَسْناءُ الله هَيَّأ مِنْ حَظيرةِ قُدْسِهِ ... نُزُلاً لذاتِكَ لَمْ يَجُزْهُ عَلاءُ العَرْشُ تَحْتَكَ سُدَّةً وقوائِمًا ... ومَناكبُ الرُّوحِ الأمِينِ وِطاءُ والرُّسْلُ دُونَ العَرْشِ لم يُؤذَنْ لَهُمْ ... حاشا لِغَيْرِكَ مَوْعِدٌ وَلِقاءُ * * * الخيلُ تأبَى غَيْرَ "أحمدَ" حامِيًا ... وَبِها إذا ذُكِرَ اسْمُهُ خُيَلاءُ شَيخُ الفَوارسِ يَعْلَمونَ مَكانَهُ ... إنْ هَيَّجَتْ آسادَها الهَيْجاءُ (¬2) وإذَا تَصدَّى لِلظُّبى فَمُهَنَّدٌ ... أوْ لِلرِّماحِ فَصَعْدَةٌ سَمْراءُ (¬3) وَإذَا رَمى عَنْ قَوْسِهِ فَيَمِينُهُ ... قَدَرٌ، وَما تَرمِي اليَمِينُ قَضاءُ مِنْ كلِّ داعي الحَقِّ هِمَّةُ سَيْفِهِ ... فَلِسَيْفهِ فِي الرَّاسِياتِ مَضاءُ (¬4) ساقِي الجَريحِ ومُطعِمُ الأسْرَى، وَمَنْ ... أمِنَت سَنابِكَ خَيْلِهِ الأشْلاءُ (¬5) ¬

_ (¬1) غشى المكان يغشاه: أتاه. (¬2) الهَيجاء: الحرب. وآسادها: فرسانها. (¬3) الظبى: جمع ظُبة، وهي حد السيف. والصَّعدة: القناة المستوية. (¬4) الراسيات: الجبال. ومضى السيف مضاء: قطع. (¬5) الأشلاء: جمع شلو، وهي أعضاء الإنسان بعد التفرق، أي: أنه لا يمثل بالقتلى.

إنَّ الشَّجاعَةَ في الرِّجالِ غِلاظةٌ ... ما لَمْ تَزِنْها رَأفَةٌ وَسَخاءُ (¬1) والحَرْبُ مِنْ شرَفِ الشُّعوبِ فَإن بَغَوْا ... فَالمَجدُ مِما يَدَّعونَ بَرَاءُ وَالحَرْبُ يَبْعَثُها القَوِيُّ تجَبُّرًا ... ويَنوءُ تَحتَ بَلائِها الضُّعَفاءُ كَمْ مِن غَزاةٍ للرَّسولِ كَريمَةٍ ... فيهَا رِضًى لِلحَقِّ أوْ إِعْلاءُ كانَتْ لجنْد اللهِ فيهَا شَدَّةٌ ... في إثرِها لِلعالَمينَ رَخاءُ ضرَبُوا الضَّلالَةَ ضَرْبَةً ذَهبَتْ بِها ... فَعَلى الجَهالةِ وَالضَّلالِ عَفَاءُ دَعَموا عَلى الحَرْبِ السَّلامَ، وَطالما ... حَقَنَتْ دِماءً في الزَّمانِ دِمَاءُ * * * الحَقُّ عِرْضُ الله، كُلُّ أبيَّةٍ ... بَيْنَ النُّفوسِ حمًى لهُ ووقاءُ هَلْ كانَ حَوْلَ محمَّدٍ مِنْ قَوْمِهِ ... إلاَّ صَبِيٌّ واحدٌ ونساءُ؟ فَدَعا فلَبَّى في القَبائِلِ عُصْبَةٌ ... مُسْتَضعَفون، قلائلٌ، أنضاءُ (¬2) رَدُّوا ببَأسِ العَزمِ عَنْهُ مِنَ الأذى ... ما لا تَرُدُّ الصَّخرةُ الصَّمَّاءُ وَالحَقُّ وَالإيمانُ إنْ صُبَّا عَلى ... بَرَدٍ فَفيهِ كتيبةٌ خَرْساءُ (¬3) نَسَفوا بِناءَ الشِّرْكِ، فَهْو خَرائِبٌ ... وَاسْتَأصَلوا الأصنْام، فَهْيَ هَباءُ (¬4) ¬

_ (¬1) الغلاظة: الفظاظة والقسوة. (¬2) النِّضَو: المهزول من الإبل وغيرها. (¬3) البَرَد: ماء الغمام يتجمد في الهواء. والكتيبة الخرساء: التي لا يُسمع فيها صوت. (¬4) الهباء: الغبار.

يَمْشون تُغضي الأرْضُ مِنْهُمْ هَيْبَةً ... وَبِهِمْ حِيالَ نَعيمِها إغْضاءُ حَتَّى إذا فُتِحَتْ لهُمْ أطرافُها ... لمْ يُطغِهِمْ تَرَفٌ وَلا نَعْماءُ * * * يا مَنْ لَهُ عِزُّ الشَّفاعَةِ وَحْدَهُ ... وَهُوَ المُنَزَّهُ، ما لَهُ شُفَعاءُ عَرْشُ القيامَةِ أنْتَ تَحْتَ لِوائِهِ ... وَالحَوْضُ أنْتَ حِيالَهُ السَّقَّاءُ تَرْوي وَتَسْقي الصَّالِحينَ ثَوابَهُمْ ... وَالصَّالِحاتُ ذَخائِرٌ وَجَزاءُ ألمثلِ هَذا ذُقْتَ في الدُّنْيا الطَّوى ... وَانْشَقَّ مِن خَلَقٍ عَلَيْكَ رِداءُ؟ (¬1) لي في مَديحِكَ يا رَسُولُ عَرائِسٌ ... تيِّمْنَ فيك، وَشاقَهُنَّ جِلاءُ (¬2) هُنَّ الحِسانُ، فَإنْ قَبِلتَ تَكَرُّمًا ... فَمُهورُهُنَّ شَفاعَةٌ حَسْناءُ أنْتَ الَّذي نَظَمَ البَرِيَّةَ دينُهُ ... ماذا يَقولُ وَيَنظِمُ الشُّعَراءُ؟ المُصْلِحونَ أصابعٌ جُمِعَتْ يَدًا ... هِيَ أنْتَ، بَلْ أنْتَ اليَدُ البَيَضاءُ ما جِئْتُ بابَكَ مادِحًا، بَلْ داعِيًا ... وَمِنَ المَديحِ تَضَرُّعٌ وَدُعاءُ أدْعُوكَ عَنْ قَوْمي الضِّعافِ لأزْمَةٍ ... في مثْلِها يُلقَى عَلَيْكَ رَجاءُ أدَرى رَسُولُ اللهِ أنَّ نُفوسَهُمْ ... رَكِبَت، هَواها، وَالقُلوبُ هَواءُ؟ مُتفَككونَ، فما تَضُمُّ نُفوسَهُم ... ثِقَةٌ، ولا جَمَعَ القُلوبَ صَفاءُ ¬

_ (¬1) الخَلَق: البِلى. (¬2) العرائس: جمع عَروس، يعني القصائد. وتيَّمهن الحب: ذهب بعقلهن. والجلاء: عرض العروس على زوجها مجلوة. وشاقهن: هاجهن.

رَقَدُوا، وَغَرَّهُمُ نَعيمٌ باطِلٌ ... وَنَعيمُ قَوْمٍ في القُيودِ بَلاءُ ظَلَمُوا شَريعَتَكَ الَّتي نِلنا بِها ... ما لَمْ يَنَلْ في رومةَ الفُقَهاءُ مَشتِ الحَضارَةُ في سَناها، وَاهْتَدى ... في الدِّين وَالدُّنيا بِها السُّعَداءُ * * * صَلَّى عَليْكَ الله ما صَحِبَ الدُّجى ... حادٍ، وَحَنَّتْ بِالفَلا وَجْنَاءُ (¬1) وَاسْتَقْبَلَ الرِّضْوانَ في غُرُفاتِهِم ... بِجِنانِ عَدْنٍ آلُكَ السُّمَحاءُ خَيْرُ الوَسائِلِ، مَنْ يَقَعْ مِنْهُمْ عَلى ... سَبَبٍ إلَيْكَ فَحَسْبِيَ "الزَّهْراءُ" (¬2) (¬3) * * * ¬

_ (¬1) الوجناء: الناقة الشديدة. (¬2) السَّبب: كل شيء يتوصَّل به إلى غيره. والزَّهراء لقب السيدة فاطمة بنت الرسول - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) انظر ديوان "الشوقيات" لأحمد شوقي (191 - 198).

إن شانئك هو الأبتر

إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ

{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} ° شائِنو محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وجاحدو نبوَّتِه على مدارِ التاريخ هم حُثالةٌ من الرَّعاع والأقزام، تطاوَلوا على قَدْرِ عَلَم الأعلام، وسيِّد الأنام - صلى الله عليه وسلم -، وارتكسوا في الحمأةِ الوبيئة .. فأين هم من نداءِ محمدٍ العُلويِّ الجميل الذي يبارِكُ العُمرَ ويرفعُه ويُزكِّيه؟. ° شائِنو محمد - صلى الله عليه وسلم - يعيشون في المستنقع الآسِن، وفي الدَّرْك الهابط، وفي الظلامَ البهيم .. فأين هم من المَرتَع الزكيِّ، والنورِ الوَضيئ، وذلك المرتقى العالي؟. ° شائِنو محمدٍ رسول الله الكريم - صلى الله عليه وسلم - {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 7]. ° شائِنو محمد - صلى الله عليه وسلم - كبارُ المُخادعين .. أغفالٌ يَخدعون البشريَّةَ وأنفُسَهم حين يَصُدُّوها عن هاديها إلى طريقِ الحقِّ - صلى الله عليه وسلم - .. هم داءُ البشرية ومَرَضُها، {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10]. ° شائِنو محمد - صلى الله عليه وسلم - موتى القلوب، لا وصفَ لقساوةِ قلوبهم وغلظتِها، وموتها وجفافها، وعَتَمتها وظلامها. * قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125]. مَن شرح الله صَدْرَه للإِسلام ولهَدْي محمد - صلى الله عليه وسلم - فللَّهِ ما أجملَ انشراحَ

صدِره، وتفتُّحَه ونداوتَه وبشاشتَه!! ومَن يُرِدْ أن يُضِلَّه فصدرُه مغلقٌ مطموس، ضيِّق، عنده من كُربةِ الصَّدْر، والرَّهَق المُضني ما ينوءُ به، فالكفرُ انكماشٌ وتحجُّرٌ، وضِيقٌ، وشُرود، وعُسرٌ، وجَهدٌ، ومشقة. ومن معاني الرِّجس: العذاب، ومن معانيه: الارتكاس، يرتكسُ في العذاب، ويعودُ إليه ولا يفارقه. ° شائِنو محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - هم نَبْتةٌ ضالةٌ شيطانيةٌ، لا وشائجَ لها في تربةِ هذا الوجود ولا جذور، انقطعت صِلتهم بخالقِ الوجود بعد كُفرهم برسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهو منقطعُ الصِّلةِ بالوجود، لا تربطه به إلاَّ روابطُ هزيلةٌ من وجودِه الفرديِّ المحدود، في أضيق الحدود، في الحدود التي تعيش فيها البهيمة، حدودِ الحِسِّ وما يُدركُه الحسُّ من ظاهرِ هذا الوجود .. والمؤمنون بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وبرسالته وثيقو الصِّلةِ بالوجود، وبموكبِ الإِيمان الضارب في جذورِ الزمان، الموصول على مدارِ الزمان، فهم في ثراءٍ من الوشائج، وفي ثراءٍ من الروابط، وفي ثراءٍ من "الوجود" الزاخر الممتد اللاحب الذي لا يقفُ عند أعمارِهم المحدودة. شتَّان بين هؤلاء وهؤلاء!!. ° شائِنو محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - عَمِيت قلوبُهم، وعندهم العمى، كلُّ العمى، وعميت بصائرهم، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: 19]، عَمِيتْ قلوبُهم، وعَمُوا عن رؤيةِ دلائل الحقِّ، وعَمُوا عن رؤية حقيقةِ الوجود، وحقيقة الارتباطات فيه، وحقيقةِ القِيَم والأشخاصِ والأحداثِ والأشياء.

قلوبٌ خامدةٌ جامدةٌ قاسيةٌ متبلِّدة، {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]، مَن يعيشون بقلوبٍ مَيتةٍ فهم كأهل القبور .. واعجبًا للناس! يبكون على مَن مات جَسَده، ولا يبكون على من مات قلبه -وهو أشدُّ-!. وقلوبُ مُحبِّيهِ أشرقت فيها الأنوارُ وخَشَعت لذكر الله، أحيى الله بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أرضَ هذه القلوب بعد موتها، فنبضت بالحياة، وزَخِرت بالنبت والزَّهْر، ومَنَحت الأُكُل والثمار. ° شائِنو محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في الظلمات حياتُهم ومماتُهم، فعندما يَبعدُ الناسُ عن نورِ الإيَمان يَقعُون في شتَّى أنواعِ الظلمات وأشكالها .. ظلماتٌ تعِزُّ فيها الرؤيةُ الصحيحة لشيءٍ من الأشياء، ظلمةُ الجهل، وظُلْمة الكفر، وظُلْمة الظُّلْم، وظُلْمةُ اتباع الهوى، وظلمةُ الشك والريب، وظلمة الجحود، وظلمة الإِعراض عن الحق الذي بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والنور الذي أنزله معه ليُخرجَ الناسَ من الظلماتِ إلى النور، وظلمةُ الشبهات والخرافات، والأساطير والتصوُّرات، وظلمةُ الشهوات والنزعات والاندفاعات في التِّيه، وظلمة الحَيرة والقلق والانقطاع عن الهدى، والوحشةِ من الجَنَاب الآمنِ المأنوس، وظلمة اضطراب القيم، وتخلخل الأحكام والقيم والموازين .. فهم أعداءُ النور. لا يشرِقُ النورُ أمامَ ثُقلة الطين في كيانهم، وظلمةِ التراب، وكثافةِ اللحم والدمِ، وعرامةِ الشهوةِ والنزوةِ الخبيثة، لَبْسٌ في الرؤية، وتردُّد في الخُطوةَ، وحيرةٌ وشرودٌ في الاتجاه، وطريقٌ بهيمٌ لا معالِمَ فيه. ° وأمَّا المؤمنون بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد عرفوا النورَ من طريقه وصراطِه

وكتابِه، فخالطت بشاشةُ الإِيمان وأنوارُه قلوبَهم، يعرفونها ولا يَملِكون بالكلماتِ أن يَنقِلوها إلى الآخَرين الذين لم يَعرِفوها؛ لأنها لا تُنقل بالكلمات، إنما تَسري في القلب فيستروحُها، ويَهَشُّ لها، ويندَى بها، ويَستريحُ إليها، ويستشعر الطمأنينة والسلام. ° شانئو محمد - صلى الله عليه وسلم - حياتهم هجيرٌ قائظ، وشُواظٌ يَلفحُ قلوبَهم قَبلَ الوجوه، هاجرةُ الكفر وحَرورُه .. تلفحُ قلوبَهم فيه لوافحُ الحَيرة والقلق وعدمِ الاستقرار على هدف، وعدم الاطمئنان إلى نشأةٍ أو مصير، ثم تنتهي إلى حرِّ جهنم ولفحةِ العَذاب هناك .. ليس أشقى على وجه الأرضِ منهم وقد حُرِموا طمأئينةَ الأُنسِ بالله .. ليس أحدٌ أشقى منهم وهم ينطلقون في هذه الأرض مَبتوري الصِّلة بما حولَهم في الكون؛ لأنهم انفَصَموا عن العُروة الوثقى التي تربِطُهم بالله، ليس أشقى في الحياة ممَّن يَشُقُّ طريقَه وحيدًا شريدًا في فلاة، عليه أن يكافحَ وحدَه بلا ناصرٍ ولا هادٍ ولا مُعين. ° شانئو محمد - صلى الله عليه وسلم - هم داءُ البشرية .. هم الوسوسةُ والقلقُ والحَيرة، والقلقُ مرضٌ، والحَيرة نَصَب، والوسوسةُ داء، فأين هم من محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - رحمةِ الله المهداة، الذي يَصِلُ القلوبَ الطاهرةَ بالله، فترضى وتستروحُ الرِّضا من الله، والرِّضا عن الحياة؟!. ° شانئو محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - كلُّهم هَوًى ودَنَسٌ وطَمَعٌ وحَسَد، ونزعاتُ الشياطين في أنفسٍ لئيمة خبيثة. ° شانئو محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - حياتهم كلُّها ضَنْك .. ضَنْكُ الانقطاعِ عن الاتِّصال بالله، والاطمئنانِ إلى حِماه، ضنكُ الحيرةِ والقلقِ والشكِّ، ضنكُ

الحرصِ والحَذَرِ والحسرةِ على كلِّ ما يفوت. ° شانئو محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - مَوْتَى الضمير .. انقطعوا بكُفرهم عن مَصدرِ الحياة الأصيل بتكذيبهم لِمَن أرسله، وانفَصَلوا عن الطريق الواصل. ° شانئو محمد سيِّد البشر - صلى الله عليه وسلم - هم الظالمون المُظلِمون .. الفاسدون المُفسدون .. المتبَجِّحون السفهاءُ الأدعياء .. أفسدوا البشريةَ أشنعَ الفساد، واختلَّت بأيديهم كل الموازينِ والقيم .. يأنفون منَ التسليم للرسول - صلى الله عليه وسلم - ورسالته، ولا يَرْضونه لمقاماتهم العِليَّة!! ينظرون إليه بأنَفَةٍ وهم السفهاءُ، ومتى عَلِم السَّفيهُ أنه سفيه؟! ومتى استشعر المنحرفُ أنه بعيدٌ عن المَسْلَك القويم؟! عندهم كلُّ اللؤمِ والمكرِ السيِّئِ والضعفِ والخسَّةِ والخُبثِ والخداع .. غمَّازون لمَّازون. ° شانئو محمد - صلى الله عليه وسلم -: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] .. وما أبأسَ مَن يستهزئُ به جبَّارُ السمواتِ والأرضِ وما أشقاه!! يَخبطون على غير هُدًى في طريقٍ نَكِدٍ مُظلِم، لا يعرفون غايتَه، وتتلقَّفُهم أيدي الملائكة في نهايته يَضربون وجوهَهم وأدبارَهم .. فهم كالفئران الهزيلة تتواثبُ في الفخِّ، غافلةً عن المقبض المكين .. وهذا هو الاستهزاءُ الرعيب، والمصيرُ الذي تقشعِرُّ مِن هَولِه القلوب، {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: 39]. ° شانئو محمد - صلى الله عليه وسلم - أعرضوا عن كلِّ هُدى، وصَمُّوا آذانَهم عن السماع، وعيونَهم عن الرؤية، وعطَّلوا ألسنَتهم، فهم بُكْمٌ، لا رَجعةَ لهم إلى الحق، ولا هدايةَ لهم إلى النور، ولا أوْبَةَ لهم إلى الهدى.

° شانئو محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - هم أعداءُ الفطرة .. أعداءُ البشريَّة والحياة. إنَّ هذه البشرية -وهي مِن صنْع الله- لا تفتحُ مغاليقُ فطرتِها إلاَّ بمفاتيحَ من صنع الله، ولا تُعالج أمراضُها وعِلَلها إلاَّ بالدواء الذي يَخرجُ من يده -سبحانه-، وقد جَعل في منهج الإسلام الذي أرسل به محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وحدَه مفاتيحَ كلِّ مُغلق، وشفاءَ كلِّ داء، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، ولكن هذه البشريةَ لا تريدُ أن تَرُد القفلَ إلىَ صانعه، ولا أن تَذهبَ بالمريض إلى مُبدِعه، ولا تَسلكَ في أمرِ نفسِها، ولا في أمرِ إنسانيَّتها، وفي أمر سعادتها أو شِقْوَتِها ما تعوَّدت أن تسلكَه في أمرِ الأجهزة والآلات الماديَّة الزهيدة التي تستخدمها في حاجاتها اليوميَّة الصغيرة. ومن هنا جاءت الشِّقْوةُ للبشرية الضالَّة .. البشريةِ المسكينة الحائرة، البشريةِ التي لن تجد الهدى، ولن تجدَ الراحة، ولن تجدَ السعادة، إلاَّ حين تَردُّ الفطرةَ البشريةَ إلى خالقها الكبير .. وتنحيةُ الإسلام ورسولِه - صلى الله عليه وسلم - عن قيادةِ البشرية نكبةٌ قاصمة، نكبة لم تعرفْ لها البشريةُ نظيرًا في كل ما ألَمَّ بها من نكبات .. نكبةٌ فسَدَت بها الأرضُ، وأسنت الحياة، وتعفَّنت القيادات، وذاقت البشرية الويلاتِ من القيادات المتعَفِّنة، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. ° شانئو محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أعداء "السلام": {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ

وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16]. {سُبُلَ السَّلَامِ}: ما أدقَّ هذا التعبيرَ وأصدقَه! إنه "السلام"، هو ما يسكبُه محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - ودينُه في الحياة كلِّها .. سلامُ الفرد، وسلامُ الجماعة، وسلامُ العالَم .. سلامُ الضمير، وسلامُ العقل، وسلامُ الجوارح .. سلامُ البيت والأسرة، وسلامُ المجتمع والأمَّة، وسلامُ البشرِ والإنسانية .. السلامُ مع الحياة، والسلامُ مع الكون، والسلامُ مع اللهِ ربِّ الكونِ والحياة .. السلامُ الذي لا تجدُه البشرية -ولم تجِدْه يومًا- إلاَّ في هذا الدين؛ وإلاَّ في مَنهجه ونِظامه وشريعتِه، ومجتمعِه الذي يقومُ على عقيدته وشريعته. ولا يُدرِكُ عُمقَ هذه الحقيقة ومذاقَها المُريحَ كما يُدرِكُها مَن ذاق سُبلَ الحرب في الجاهليَّات قديمًا، أو الجاهليَّة الصليبية أو اليهودية حديثًا .. لا يدرِكُ عُمقَ هذه الحقيقةِ كما يدركها مَن ذاق حَربَ القلقِ الناشئِ عن عقائدِ الجاهلية في أعماقِ الضمير .. وحربِ القلقِ الناشئِ من شرائع الجاهليةِ وتخبُّطِها في أوضاعِ الحياة، والويلاتِ التي تذوقها البشرية من كلِّ ألوان الحروب في الضمائر والمجتمعات قرونًا بعد قرون .. وفاءَ مَن سَبَقَ له من ربِّه الحسنى إلى ظلالِ السلام في الإِسلام .. سلام يَرِفُّ في حَنايا السريرة، وسلامٌ يُظلِّلُ الحياة والمجتمعَ، وسلامٌ في الأرض، وسلامٌ في السماء. أولَ ما يَفيضُ هذا السلام على القلب وينشأُ من اعتقادٍ صحيح عن إلهه وربِّه، فلا يخاف غيرَه، ولا يَخْشى سواه من كلِّ قوةٍ زائفةٍ زائلة .. ويَفيضُ السلامُ على القلب حين يعلم العلاقةَ بين العبدِ وربِّه، وبين الخالق والكون.

العقيدةُ التي تقفُ بصاحبها أمامَ النَبْتَةِ الصغيرة، وهي توحي إليه أنَّ له أجرًا حين يَرويها من عطش، وحين يُعينها على النماء، وحين يُزيلُ من طريقها العقبات: هي عقيدةٌ جميلة -فوق أنها عقيدةٌ كريمة-، عقيدةٌ تسكبُ في رُوحه السلام، وتُطلِقُه يُعانقُ الوجودَ كلَّه، ويُشيعُ مِن حوله الأمنَ والرِّفقَ، والحبَّ والسلام. ° وعقيدة الإِسلام في اليوم الآخِر، والعدلِ المطلَقِ والجزاءِ الأوفى عند الله، فلا قلق، ولا سُخْط، ولا قنوط إذا لم يُوفَّ حقَّه في هذه العاجلة بمقاييس الناس، هذا بدلاً من الصِّراع المجنون العموم الذي تُداس فيه الحرماتُ بلا تحرُّجٍ ولا حياءٍ من لصوصِ الصليبيِّين واليهود، لصوصِ المغارات أبناء الحيَّات والأفاعي. ° وغايةُ الوجود في الإِسلام عبادةُ الله في كلِّ لحظةٍ من لحظاتِ حياته، وبكلِّ نَبضٍ في جوارحه، فترفعُه العبادة إلى أُفقِها الوضيء، ترفعُ شعورَه وضميرَه، وترفعُ نشاطَه وعملَه، فهو يَعبدُ في كلِّ خُطوة، وهو يحقِّقُ غايةَ وجودِه في كلِّ خَطْرة، وهو يرتقي صُعُدًا إلى الله في كلِّ نشاطٍ وفي كل مجال، وهو يَسمعُ قولَ رسوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى يُحبُّ مَعَاليَ الأمور وأشرافَها، ويَكرهُ سَفْسَافها" (¬1). فأوْلَى به ألاَّ يَغْدِرَ ولا يَفْجُر، وأوْلى به ألاَّ يَغِشَّ ولا يَخدع، وأَوْلى به ألاَّ يطغى وألاَّ يتجَبَّر، وأَوْلَى به ألاَّ يستخدمَ أداةً مُدَنَّسَةً ولا وسيلةً ¬

_ (¬1) صحيح: رواه الطبراني في "الكبير"، وابن عدي، وأبو الشيخ، وأبو نعيم في "الحلية" عن سهل بن سعد، وكذا رواه ابن عساكر وابن النجار عن سهل، وصححه الألباني.

خسيسة .. وأَوْلى به كذلك ألاَّ يستعجلَ المراحلَ، وألاَّ يتعسَّفَ الطريق. ° وشعورُ المؤمن بالقضاء والقَدَر، وأنه في طاعةِ الله، لتحقيقِ إرادةِ الله .. وما يَسكُبُه هذا الشعورُ في رُوحِه من الطمأنينة والسلام والاستقرار. ° والتكاليفُ التي يفرضُها الله على عبده كلُّها من الفِطرة، ولتصحيح الفطرة، لا تتجاوزُ الطاقةَ، ولا تتجاهلُ طبيعةَ الإِنسانِ وتركيبَه، ولا رُوحَه ولا جسده، تلبِّي حاجةَ الرُّوح والجسدِ في يُسرٍ وسماحة. ° والمجتمعُ المتوادُّ المتحابُّ المترابطُ المتكافل، هذا المجتمع الذي حقَّقه الأسلامُ في أرقى وأصفى صورةٍ تربِطُه آصِرةُ العقيدة، وتذوبُ فيه الأجناسُ والأوطانُ والألوانُ، فالمؤمنون إخوة. ° المجتمعُ الذي بناه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا تشيعُ فيه الفاحشة، ولا يتبجَّحُ فيه الإغراء، ولا ترُوحُ فيه الفتنة، ولا تلتفتُ الأعيُنُ فيه إلى العَوْرات، ولا ترِفُّ فيه الشهواتُ على الحرمات، ولا ينطلقُ فيه سُعارُ الجنسِ ولا عرامةُ اللحم والدم، فتأمنُ الزوجةُ على زوجها، ويأمنُ الزوجُ على زوجته، ويأمنُ الأولياءُ على حُرماتهم، ويأمنُ الجميعُ على أعصابهم وقلوبهم، حيث لا تقعُ العيونُ على المفاتن، ولا تقودُ العيونُ القلوبَ إلى المحارم، لا رغائبَ مكبوتة، ولا قلقَ للأعصاب، ولا أمراضَ للنفوس، وإنما مجتمعٌ نظيف عفيفٌ آمِنٌ ساكن، تَرِفُّ عليه أجنحةُ السِّلم والطُّهْر والأمان. ° وهو المجتمعُ الذي يكفلُ لكلِّ قادرٍ عملاً ورِزْقًا، ولكلِّ عاجزٍ ضمانة للعيش الكريم، ولكلِّ راغب في العِفَّة زوجةً صالحةً .. والذي يَعتبِرُ أهلَ كلِّ حيٍّ مسؤولين مسؤوليةً جنائيةً لو مات فيهم جائع، حتى لَيرى

بعضُ فقهاءِ الإسلام تغريمَهمُ الدِّية. ° المجتمع المسلم الذي بناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأرسى قواعدَه في دنيا الإسلام عَبْرَ التاريخ: مجتمعٌ تكْفَل فيه حُريَّاتُ الناس وكراماتهم وحُرماتهم وأموالُهم بحكم الشرع الحنيف، بعد كفالتها بالتوجيه الرَّباني المُطاع .. فلا يُؤخذُ واحد فيه بالظِّنَّة، ولا يُتَسَوَّرُ على أحدٍ بيته، ولا يَتجسَّسُ على أحدٍ فيه متجَسِّسٌ، ولا يَذهبُ فيه دمٌ هَدَرًا، والقِصاصُ حاضر، ولا يَضيعُ فيه على أحدٍ مالُه سرقةً أوْ نَهْبًا، والحدودُ حاضرة، وعَدلُ اللهِ قائم. ° مجتمعٌ تَشِيعٌ فيه الشورى ويتساوى فيه الناس حُكَّامًا ومحكومين أمامَ شرع الله -عز وجل-. ° لقد أقام النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مجتمعًا لأول مرةٍ في التاريخ لا يعادلُه عَبْرَ التاريخ أيُّ مجتمع آخَرُ .. وأقامَ - صلى الله عليه وسلم - دولةً كأحسنِ ما تُقامُ الدول، حتى استمرَّ امتدادُها لأكثرَ من ألفٍ وثلاثِمئةِ عام وهي مؤهَّلةٌ للعَودة والاستمرار، كمعجزةٍ باقيةٍ لإنسانٍ واحد، هي في الحقيقة من أعظم معجزاته التي غَفَل عنها الغافلون. * قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى .. } الآية [الرعد: 31]. لقد صَنع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن الذي عليه وبسُنَّته المباركة في نفوس المؤمنين به -الذين تلقَّوا هذا الوحيَ العظيمَ وتكيَّفُوا به- أكثرَ من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياءِ الموتى .. لقد صَنَع في هذه النفوس وبهذه النفوس

شتان ما بين مجتمع الإسلام ومجتمع الخوف والجريمة وحضارة الدجال الأعور

خوارقَ أضخمَ وأبعدَ آثارًا في أقدارِ الحياة، بل أبعدَ أثرًا في شكل الأرض ذاتِه .. فكم غَيَّر الإسلامُ والمسلمون من وجهِ الأرض، إلى جانبِ ما غيَّروا من وجهِ التاريخ؟!. لقد سَيَّر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن ما هو أضخمُ من الجبال، وهو تاريخُ الأمم والأجيال، وقَطَع به ما هو أصلبُ من الأرض، وهو جُمودُ الأفكار، وعَفَنُ الشِّرك والكفر، وأحيى به وبسُنَّته ما أُخمد من الموتى، وهي الشعوبُ التي قَتَل رُوحَها الشِّركُ، وظلمُ الطواغيت، وأوهامُ الأوثان. إنَّ التحوُّل الذي تَمَّ في نفوسِ العرب والمسلمين وبهم، ونَقَلهم تلك النَّقْلةَ الضخمةَ على يدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به، فأقام بهم أطهرَ وأعفَّ وأجملَ مجتمعٍ ودولةٍ في التاريخ .. أضخمُ بكثير من تحوُّلِ الجبالِ عن رُسوخها، وتحوُّلِ الأرض عن جُمودها، وتحوُّلِ الموتى عن الموات!. * شتانَ ما بين مجتمعِ الإِسلام ومجتمع الخوفِ والجريمةِ وحضارة الدَّجال الأعور: ° هذا الطُّهرُ والعفافُ والمَثَلُ الأعلى في دنيا الناس، أين منه حضارةُ الجريمة والخوف، فعلى الخوف ينامُ الغرب، وعليه يصحو، وصَدَق فيه قولُ الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]. ° في تصريح لرئيس الندوة الدولية لمكافحة الجريمة والإرهاب الجنرال "أناتولي كوليكوف": "إن هناك حوالي (400) ألف جريمة تُرتَكب يوميًّا

في العالم، وإن الجريمة قد نَمَت خلالَ الأعوام الثلاثين الأخيرة حوالي ثماني مرات في الولايات المتحدة الأمريكية، وسَبْع مراتٍ في بريطانيا والسويد، وأربع مرات في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، ومرَّتين في اليابان". وطبقًا لإِحصائيات الجريمة في الولايات المتحدة الأمريكية فإنَّ معدلَ الجرائم لديها كان: وقوع جريمة سرقة عادية كلَّ (3) ثوان، جريمة سَطْو كلَّ (14) ثانية، سرقة سيارة كلَّ (25) ثانية، سرقة مقترنة بالعنف كلَّ (60) ثانية، جريمة اغتصاب كلَّ (6) ثوان، قتل كلَّ (31) ثانية. وتُقدَّرُ كُلْفةُ الجريمة في أمريكا (105) بلايين دولار، تُنفق في علاج الضحايا، و (350) بليون دولار للتعويضات والتأمين، و (120) مليون دولار تُصرَف على الشرطة، و (35) بليون دولار تُصرف على السجون، وهناك (14) مليون متعاطٍ للمخدِّرات. وتشير إحصائية السجون الأمريكية الصادرة عن وزارةِ العدلِ الأمريكية إلى أنه خلال عام 2003 م ازداد عددُ النزلاء في سجون أمريكا (20370) نزيلاً عن العام الأسبق، ومع نهاية 31 ديسمبر 2003 قُدِّرت نسبة الزيادة في الطاقة الاستيعابية للسجون الأمريكية المحلية بـ (+16%) عن طاقتها التصميمية الاستيعابية، في حين كانت نسبة الفَرق في السجون الفدرالية (+39%) عن طاقتها الاستيعابية، ومع نهاية عام 2003 بلغ عددُ النساء المودَعاتِ السجون (101179)، نزيلة من مجموع (6 ملايين و900 ألف) سجين أمريكي (أي نسبة 9.6% من عموم النزلاء)، بمعنى أن وجود حوالي 7 ملايين نزيل أمريكي سجين داخل الولايات المتحدة عام 2003

يدل على أنَّ مِن بينِ كلِّ (32) مواطنًا أمريكيًّا بالغًا هناك سجين واحد" (¬1). ° وانظر إلى حضارة "الدجَّال الأعور" المادية المزيَّفة التي كَفَرت بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - رسول السلام .. الذي قال عنه ربه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] فرفضوا شرعَه، وسَخِروا منه، واستهزؤوا به، وهو الطُّهْرُ كلُّ الطهْر يَدُبُّ على الأرض .. والأمنُ معه، فماذا حصَّلوا: "جرائم غسل الأموال المتحصِّلة من الجريمة "المخدِّرات والجريمة المنظمة" تُكَلِّف المجتمعَ الدوليَّ سنويًّا (1500) مليار دولار. كثيرٌ من دُول العالم المتقدِّم صارت نسبةُ الشرطة فيها إلى السُّكان تتراوحُ بين (500 إلى 1000 عنصر أمن) لكل 100.000 نسمة من السكان" (¬2) ومع هذا فشِلوا!!. ° "عددُ الذين يتعاطَون المخدِّرات في أمريكا (96 - 97) مليون نَسمة" (¬3). ° "ونقل العلاَّمة المودودي عن "دائرة المعارف البريطانية" أنه في الأربعينيات كان (90%) من الشباب الأمريكي مصابًا بالزُّهري، و (60%) من الشباب الأمريكي مصابًا بالسَّيلان .. " (¬4). ° نسبةُ المرضى عقليًّا وعصبيًّا ونفسيًّا في السويد -أرقى بلدان العالم ماديًّا- (25%) من سكان السويد، وتُنفِقُ الدولةُ (30%) من ميزانيتها على ¬

_ (¬1) مجلة البيان - العدد 223 ربيع الأول 1427 هـ - مارس 2006 م (ص 70، 71، 73) مقالة "الإجرام العالمي وفشل العقوبات الوضعية" للدكتور أكرم عبد الرزاق المشهداني. (¬2) مجلة البيان - العدد 223 ربيع الأول 1427 هـ - مارس 2006 م (ص 70، 71، 73) مقالة "الإجرام العالمي وفشل العقوبات الوضعية" للدكتور أكرم عبد الرزاق المشهداني. (¬3) مجلة المجتمع الكويتية (557/ 30). (¬4) "الإسلام ومستقبل البشرية" للدكتور عبد الله عزام (ص 27 - 28).

علاجهم، ونسبةُ الموظَّفين الذين يَخرُجون من وظائفهم بسبب هذه الأمراض يُساوي (50%) من مجموع المخرَجين. ° ويقول (سي. وبيرس): "إن شخصًا من كلِّ 22 شخصًا من سكان نيويورك يجبُ إدخالُه أحَدَ مستشفيات الأمراض العقلية بين آنٍ وآخر". ° يوجد (95) مليون مُدمن في أمريكا، ونصفُ حوادثِ السيارات التي تؤدِّي إلى الموت والتي بلغ عددُها (55.500) حالة موت كانت ناتجةً عن سُكر السائق، أو المشاة. ° ويقول الدكتور "سيدلي كاي" في كتابه "علم السموم": "إن الخمر هي السببُ المباشرُ وغيرُ المباشر في (50%) من مجموع حالات الوفاة التي نفحصها بمعمل الطب الشرعي بولاية "فرجينيا" بالولايات المتحدة". ° ولعل أصدق كلمة عن مجتمع الغرب ما قاله الكاتب الإِنجليزي "أوسبورن": "نحن موتى، مكدودون، مضيَّعون، نحن سكِّيرون، مجانين، نحن حمقى، نحن تافهون" (¬1). ° قال وزير العدل الأمريكي: "وارن بيرجر" في فبراير سنة (1981): "إن هناك حُكمًا من الإرهاب يسودُ المدنَ الأمريكية"، ثم يتساءل: "أَلَسْنا رهائنَ داخل حدود بلادنا المستنيرة المتحضِّرة"؟!. ° ويقول مدير شركة "هوستون" الأمريكية بولاية "تكساس": "الخوف من الجريمة يهدد تدريجيًّا بشلل الحياة في المجتمعِ الأمريكي .. لقد سَمَحنا لأنفسنا بالتحلُّل والتفسُّخ إلى الحدِّ الذي أصبحنا فيه نعيشُ مثلما ¬

_ (¬1) "فوضى العالم" (ص 49).

والانتحار

تعيشُ الحيوانات .. فنحن نعيشُ وراءَ قضبانٍ حديدية تحمينا مِن وصولِ اللصوص إلينا، ومجموعةٍ من الأقفال المثبَّتةِ في الأبواب وأجهزة الإنذار، ثم نرقدُ على الفراش، وبجوارنا مسدسٌ محشوٌّ بالرصاص، وبعد هذا نحاولُ أن نَحصلَ على شيءٍ من الراحة .. يا للسخرية!!. * والانتحار: تحظى الولاياتُ المتحدةُ بنصيبِ الأسد في عدد المُقدِمين على الانتحار، فقد بلغ عددهم خلالَ عامٍ واحدٍ ما يقاربُ الرُّبعَ مليون شخص، أيْ بمعدَّل 120 شخصًا يوميًّا، وهذا بدون شكٍّ يفوقُ عددَ جرائم القتل التي تقعُ في نفسِ الفترة الزمنية. ° وأعلى نسبةٍ للانتحار هي في أكثر الدول رُقِيًّا ماديًّا كالسويد وسويسرا .. رخاءٌ ماديٌّ عجيب ثم انتحار!!! يا للعجب العُجاب!!. وشعب الدانمارك -الذي سَخِرت صُحُفه من رسول الله صلى الله عليه وسلم - هو كشعب السويد مهدَّدٌ بالانقراض، فالنسلُ في تناقصٍ مطَّرد، بسبب فوضى الاختلاطِ والتبرج .. والجيل الجديد يُدِمِن المُسكِرات والمخدِّرات ليُعوِّضَ خَواءَ الروح من الإِيمان وطمأئينةِ القلب بالعقيدة، والأمراضُ النفسيةُ والعصبيةُ والشذوذُ بأنواعه يفترسُ عشراتِ الآلافِ من النفوس والأرواحِ والأعصاب، وظنك بجرائم الاغتصاب والإِجهاض والانتحار. إنها الشِّقوةُ النَّكدةُ المكتوبةُ على كل قلبٍ يخلو من بشاشةِ الإيمان وطمأئينةِ الإِسلام، فلا يذوق طعمَ السِّلم الذي يُدعى المؤمنون ليدخلوا فيه كافةً، ولِينعموا بالأمن والظلِّ والراحةِ والقَرار والسلام.

ونبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم - نبي السلام، وأعدؤاه وشانؤوه أعداء السلام في كل زمان ومكان، وما نشر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسلام بحد السيف، بخلاف أعداء السلام من اليهود والنصارى

* ونبي الإِسلام - صلى الله عليه وسلم - نبي السلام، وأعدؤاه وشانؤوه أعداء السلام في كلِّ زمانٍ ومكان، وما نَشَر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الإِسلامَ بحدِّ السيف، بخلاف أعداء السلام من اليهود والنصارى: هل انتشر الإِسلامُ بالسيف، وهل كان رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متعطشًا للدماءِ، كما يقول شانؤوه من لصوص المغارات أبناءِ الحيات والأفاعي وشياطينِ البشرية وثعالبها وذئابها المتعطشون للدماء الذين يَصدُقُ فيهم قول القائل: "رَمَتْني بدائها وانْسَلَّتْ"!. • قالوا عنه هذا، وهو القائل يومَ الحديبية: "والله لا تَدْعُوني قريشٌ إلى خُطَّةٍ تُوصَلُ فيها الأرحامُ، وتُعظَّمُ فيها الحرماتُ، إلاَّ أعطيتُها إِيَّاها". • بأبي هو وأمي، أليس هو القائلَ - صلى الله عليه وسلم -: "اغزُوا بسم الله، وفي سبيل الله، وقاتِلوا مَن كفر بالله، اغزُوا، لا تغُلَّوا، ولا تغدِروا، ولا تُمثِّلوا، ولا تَقتلوا وليدًا .. " (¬1)!!. ° انظروا إلى إشراقِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورحمتِه وسُمُوِّه حتى نِزاله وضَربه وقتاله. ° لقد قال ثعالبُ وذئابُ الغرب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه دمويٌّ، وإنه بربريٌّ، وإنه نَشَر الإِسلام بِحَدِّ السيف". والتاريخُ وسيرةُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - يَشهدانِ بكذِبهم ودَجَلهم .. نَسوقُ رقم ¬

_ (¬1) رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن بريدة.

قتلى كلِّ الغزوات التي انتصر بها الإِسلامُ على الشرك والوثنية، وغيَّر بها مَجرى التاريخ .. والتي لا يتعدَّى رقمها 386 قتيلاً، هم جملةُ قتلى المشركين وشهداء المسلمين .. لنقارنَه برقم المليونيْن من الضحايا في الحروب الدينية التي أورد أخبارها الكهنةُ في أسفارِ العهد القديم، وزيادةً في التوثيق، نقدِّم هنا جدولاً بالغزوات الإِسلامية التي تمت في العصر النبوي .. وآخَرَ بالحروب التي وَرَدت أخبارُها وأرقامُ ضحاياها في العهد القديم .. أما فتوحاتُ الإِسلام خارجَ إطارِ الشرك الوثنيِّ في شِبه الجزيرة العربية، فلقد كانت جميعُها حروبَ تحريرٍ لشعوبِ الشرق من القَهر الدينيِّ والسياسي والحضاري الذي مارسته قُوى وإمبراطورياتُ الاستعمارِ البِيزنطيِّ والفارسيِّ ضدَّ تلك الشعوب .. ولقد دارت جميعُ معاركِ هذه الفتوحات ضدَّ جيوشِ الاحتلال البيزنطيِّ والفارسيِّ .. ولم تَدُرْ معركةٌ واحدةٌ منها ضدَّ شعوبِ تلك البلاد .. بل لقد حاربَت شعوبُ تلك البلاد -وهي على دياناتها القديمة- مع العرب المسلمين ضدَّ الروم والفرس .. لتحريرِ بلادها .. ولتحريرِ ضميرِها من القهر والاضطهاد. * * *

غزوات الإسلام التي حدث فيها قتال

غزوات الإسلام التي حدث فيها قتال رقم ... الغزوة ... تاريخها ... عدد قتلى المشركين ... عدد شهداء المسلمين ... ملاحظات 1 ... غزوة بدر ... 2 هـ ... 70 ... 14 2 ... غزوة السويق ... 2هـ ... - ... 2 3 ... بعث كعب الأشراف ... 3هـ ... 1 ... - 4 ... غزوة أحد ... 3هـ ... 22 ... 70 5 غزوة حمراء الأسد ... 3هـ ... 1 ... - 6 ... بعث الرَّجيع ... 3هـ ... - ... 7 7 ... بعث بئر معونة ... 3هـ - ... 27 8 ... غزوة الخندق ... 5 هـ ... 3 ..... 6 9 ... غزوة بني قريظة ... 5هـ ... - ... - الـ 600 الذين قتلوا من بني قريظة لم يقتلوا في الحرب .. وإنما قتلوا قضاء بالتحكيم - الذي ارتضوا - جزاء على خيانتهم .. فلا يحبون في قتلي المعارك. 10 ... بعث عبد الله بن عَتيك ... 5هـ ... 1 ... - 11 ... غزوة ذي قَرَد ... 6هـ ... 1 ... 2 12 ... غزوة بني المصطلِق ... 6هـ ... - ... 1 ... 13 ... غزوة خيبر ... 7هـ ... 2 ... 20 14 ... غزوة وادي القرى ... 7هـ ... - ... 1 15 ... غزوة مؤتة ... 8هـ ... - ... 11 16 ... فتح مكة ... 8هـ ... 17 ... 3 17 ... غزوة حنين 8هـ ... 84 ... 4 18 غزوة الطائف ... 8هـ ... - ... 13 المجموع ... 203 ... 183 .... المجموع الكلي من الجانبين 386 (¬1) ¬

_ (¬1) "الدرر في اختصار المغازي والسير" لابن عبد البر- تحقيق د. شوقي ضيف. دار المعارف - القاهرة.

ضحايا حروب العهد القديم

ضحايا حروب العهد القديم مسلسل ... عدد ضحايا اليهود ... المصدر 1 ... 12.000 ضحايا عاي ... بشوع 8/ 25 2 ... 10.000 من الكنعانيين والفرزويين ... قضاة 1/ 4 3 ... 10.000 من موآب ... قضاة 3/ 29 4 ... 120.000 من مديان ... قضاة 8/ 10 5 ... 1000 من شكيم ... قضاة 9/ 49 6 ... 30 من أشقلون ... قضاة 14/ 19 7 ... 1000 من الفلسطينيين ... قضاة 15/ 17 8 ... 300 من الفلسطينيين ... قضاة 16/ 27 9 ... 20 من الفلسطينيين ... صموئيل أول 14/ 14 10 ... 200 من الفلسطينيين ... صموئيل أول 18/ 27 11 ... 22.000 من آرام ... صموئيل ثان 8/ 5 12 ... 18.000 من آرام ... صموئيل ثان 8/ 13 13 ... 40.000 من آرام ... صموئيل ثان 10/ 18 14 ... 100.000 من آرام ... ملوك أول 20/ 29 15 ... 10.000 من أدوم ... ملوك ثان 14/ 7 16 ... 185.000 من آشور ... ملوك ثان 19/ 35 17 ... 1.000.000 من الكوشيين ... أخبار الأيام الأول 14/ 9، 13 18 ... 500 من الفرس ... إستير 9/ 5 19 ... 75.000 ... إستير 9/ 16 20 ... 300 من الفرس ... إستير 9/ 15 ¬

_ مجموع الضحايا من غير اليهود 650، 635، 1

مسلسل ... عدد ضحايا اليهود في حروبهم الداخلية أو مع الأجانب ... المصدر 21 ... 42.000 من أفرايم ... قضاة 12/ 6 22 ... 22.000 من إسرائيل ... قضاة 20/ 21 23 ... 18.000 من إسرائيل ... قضاة 20/ 25 24 ... 25.000 من بنيامين ... قضاة 20/ 32 25 ... 30 من إسرائيل ... قضاة 20/ 39 26 ... 18.000 من بنيامين ... قضاة 20/ 42 27 ... 2.000 من بنيامين ... قضاة 20/ 45 28 ... 4.000 من إسرائيل ... صموئيل أول 4/ 2 29 ... 30.000 من إسرائيل ... صموئيل أول 4/ 10 30 ... 50.070 من بيتشمن ... صموئيل أول 6/ 19 31 ... 85 من الكهنة ... صموئيل أول 22/ 19 32 ... 20 من عبيد داود ... صموئيل أول 2/ 30 33 ... 360 من رجال أبنير ... صموئيل أول 2/ 30 34 ... 20.000 من إسرائيل ... صموئيل ثانٍ 18/ 7 35 ... 42 من إخوة أخزيا ... صموئيل ثان 10/ 13 36 ... 50 من الجلعاديين ... صموئيل ثان 15/ 25 37 ... 120.000 من يهوذا ... أخبار الأيام الثاني 28/ 6 38 ... 70 من إخوة أبيمالك ... قضاة 9/ 5 مجموع الضحايا من اليهود 827، 352 .. والمجموع الكلي للضحايا - المحصاة - من الجانبين 477، 988، 1 قتيلاً! (¬1) ¬

_ (¬1) "فلسفة الحرب في الفكر الديني الإسرائيلي" (ص 189 - 191) للدكتور محمد جلاء إدريس- طبعة القاهرة.

° وهذه النصوصُ التي زوَّروا بها أسفارَهم، واختلقوا التاريخَ هي كما يقول "روبرت كارول" في دراسته عن الحرب في العهد القديم: "نصوصٌ بشرية عِبرية تمثِّل إنتاجًا فكريًّا للمجتمعات القديمة .. ونصوصُ الحرب فيها إنما تنتمي إلى إنتاجاتٍ فكريةٍ لكتاب العهد القديم أكثرَ من كونها أوْصافًا للحرب التي حدثت في الواقع والتاريخ" (¬1). بل إنَّ مأساةَ الكذب ومَلْهاته لَتبلغُ الذِّروةَ عندما نقرأ أرقامَ قتلى هذه الحروب الدينية، التي حَلَم بها "واخترع" لها "واقعًا" هؤلاء الذين كتبوا هذه الأسفار .. فلقد بلغوا بضحايا تلك الحروب المشتهاة أرقامًا ربما فاقت أرقامَ تِعدادِ سُكَّانِ مسرح أحداثها عدَّةَ مرات -في ذلك التاريخ القديم-، بلغوا فيها نحو مليونين من الضحايا .. ناهيك عن الضحايا الذين لم يتمَّ إحصاءُ أعدادهم -في زمنٍ كان حالُ الإحصاءِ فيه على نحوِ ما يعرفُ الجميع-! (¬2). ° انظر إلى كذبِ اليهود وجُرأتهم على الله في أسفارهم، ورُوحُ الانتقام من كلِّ الأغيار عندهم: "إن سمعت عن إحدى مُدُنِك، التي يُعطيك الربُّ إلهُك لتسكنَ فيها، قولاً فضرْبًا تضربُ سُكَّانَ تلك المدينة بحدِّ السِّيف وتحرِّمها [أي: تدمرها وتبيدها] بكل ما فيها من بهائمها بحدّ السيف، تجمع كلَّ أمتعتها إلى وسط ساحتها، وتَحرقُ بالنار المدينةَ وكل أمتعتها كاملةً للربِّ إلهِك، فتكونُ تلاً إلى الأبدِ لا تُبنى بعدُ -لكي يرجعَ الربُّ عن حُمُوِّ غضبه وُيعطيك رحمة" سفر التثنية إصحاح 13: 12، 15 - 17. ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 78). (¬2) انظر "الغرب والإسلام" أين الخطأ وأين الصواب (ص 113 - 117) - مكتبة الشروق الدولية.

° ويقولون كذبًا: "وحين تقتربُ من مدينةٍ لكي تحاربَها استدعِها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكلّ الشعبِ الموجود فيها يكون لك للتسخير، ويُستعْبد لك، وإن لم تسالمك، بل عمِلت معك حربًا فحاصِرْها، وإذا دفعها الربّ إلهُك إلى يدك، فاضربْ جَميعَ ذكررها بحدِّ السيف، أما النساءُ والأطفالُ والبهائم وكلُّ ما في المدينة، كلّ غنيمتها، فتغتنمها لنفسك، وتأكلُ غنيمةَ أعدائك التي أعطاك الربّ إلهك، هكذا تفعل بجميع المدن، فلا تَسْتبقِ منها نَسَمةً ما، بل تحرمها [أي تبيدها] " .. سفر التثنية. إصحاح: 20: 10 - 16. ° وانظر إلى سفر التثنية .. إصحاح 7: 1 - 3، 6، 7، 14 - 16: "سَبعُ شعوب دفعهم الربّ إلهك أمامَك وضربتهم، فإنك تحرِّمهم [أي تبيدهم وتدمرهم] .. لا تقطع لهم عهدًا، ولا تُشفق عليهم، ولا تصاهرِهم، لأنك شعبٌ مقدَّسٌ للربِّ إلهك .. إياك قد اختار الربُّ إلهُك لتكون له شعبًا أخصَّ من جميع الشعوب التي على وجه الأرض .. مباركًا تكونُ فوقَ جميع الشعوب لا يكونُ عقيمٌ ولا عاقرٌ فيك ولا في بهائمك، ويردّ الربُّ عنك كلَّ مرضٍ وكلَّ أدواءِ مصرَ الرديئة التي عرفتها لا يضعها عليك، بل يجعلُها على مبغضيك، وتأكلُ كلَّ الشعوب الذين الربّ إلهُك يدفعُ إليك .. لا تشفِق عيناك عليهم". ° وأفتى الحاخام "العقيد. أ. فيدان زيمبل" في سبعينات القرن العشرين فتوى نشرتها قيادةُ المنطقة الوسطى في الجيش الإسرائيلي -التي تقع الضفَّة الغربية الفلسطينية تحت سُلطتها- يحضّ فيها على قتل حتى "المدنيين الطيِّبين من الفلسطينيين" باعتبار ذلك تكليفًا دينيًّا، والتزامًا

"بالهالاكاه" -الشريعة-، وفي هذه الفتوى يقول الحاخام: "في حالة احتكاك قوَّاتنا بمدنيين خلال الحرب، أو خِلال مطاردة، أو غارة، إذا لم يتوافر دليلٌ بعدم إلحاقهم الأذى بقواتنا، هناك إمكانية لقتلهم، أو حتى ضرورة للقيام بذلك حسب "الهالاكاه" .. بل تحضُّ "الهالاكاه" على قتل حتى المدنيِّين الطيبين" (¬1). تلك هي حقيقةُ الانحرافِ اليهودي نحو الحرب الدينية .. والتراثِ اليهوديّ الحالِم بإبادة الآخرين، والمشتهِي لإبادةِ كل الأغيار .. والصياغاتِ الفكرية .. والخيالات والأمنيات اليهودية في هذا الميدان. فالربُّ -في هذا التراث- هو "رب الجنود" "المحارب" و"الساخط على كل الأمم"- غير اليهود .. شعبِه المختار .. والمقدَّس .. دونَ كلِّ الشعوب وفوق جميع الشعوب -، وهو الذي يُبيدُ كلَّ الأم، ويدفعهم للذبح .. "فقتلاهم تطرح، ووجِيَفُهم تَصعدُ نتانتُها، وتَسيلُ الجبالُ بدمائهم، ويُغِّني كلُّ جُندِ السماوات للرب الذي امتلأ سيفُه دمًا"! .. وهو قد اختار اليهود "ليأكلوا كل الشعوب أكلاً .. دون أن تُشفِقَ عليهم الأعيُنُ أو أن يقطعوا لهذه الشعوب عهدًا"!. وهو "تراث وتاريخ" نُنزِّه اللهَ سبحانه وتعالى، ونُنزه رسولَه موسى عليه السلام، وننزِّهُ شريعةَ موسى الحقَّةَ عن هذا الذي كتبوه، وصَدق الله العظيم: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79]. ¬

_ (¬1) "الديانة اليهودية وموقفها من غير اليهود" (ص 134، 135) لإسرائيل شاحاك - ترجمة حسن خضر- طبعة القاهرة.

الحرب الدينية في تراث النصرانية

* الحربُ الدينية في تراث النصرانية: ° ثم نأتي إلى الطرفِ الثاني من غير المسلمين الذي تشدَّقوا كثيرًا بالسلام والمسالمة إلى حدِّ القول: "سمعتم أنه قيل عَينٌ بعين وسِنٌّ بسن، أمَّا أنا، فأقول لكم: لا تقاوموا الشر، بل مَن لَطَمَك على خَدك الأيمنِ، فحَوِّل له الآخَرَ أيضًا .. ومَن أراد أن يخاصمَك ويأخذَ ثوبَك، فاتركْ له الرِّداءَ أيضًا .. ومَن سَخَّرك مِيلاً واحدًا، فاذهب معه اثنين .. سمعتم أنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك .. وأما أنا، فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، وبارِكوا لاعِنِيكم، أحسِنوا إلى مُبغضِيكم، وصَلُّوا لأجل الذين يُسيؤون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات". إنجيل متى. إصحاح 5: 38 - 41، 43 - 45 ° ولكنَّ الواقعَ والتاريخَ خيرُ شاهدٍ بكذِبهم، فهم وحوشٌ ضاريةٌ حتى مع بني ديانتهم: لقد مارست كنيسةُ النصرانية الغربية، ومعها الدولة الرومانية والبيزنطية -بعد تديُّنِ هذه الدولة بالنصرانية-، مارستا حَربًا من الاضطهاد البشع ضدَّ النصرانية الشرقية -والمصرية منها على وجه الخصوص-، حتى لقد اعتبر النصارى المصريُّون هزيمةَ الدولةِ البيزنطية أمامَ الفتح الإسلاميِّ عقابًا إلهيًّا لهذه الدولة وكنيستها على الاضطهاد الذي مارسوه ضدَّ نصارى مصر، عندما أصبحوا -في هذا الاضطهاد الدينيِّ والحضاريِّ- طعامًا للنار والأسود وأسماك البحار! .. وصُبَّتْ عليهم كلُّ ألوانِ التعذيب! .. فكتب "ميخائيل السرياني" يقول: "لم يسمح الأمبراطورُ لكنيستنا "المونوفيزتية" -[أي القائلة بالطبيعة لواحدة للمسيح]- بالظهور، ولم يُصْغ إلى شكاوى

الأساقفة فيما يتعلق بالكنائس التي نُهبت، ولهذا فقد انتَقم الربّ منه .. لقد نَهب الرومانُ الأشرارُ كنائسَنا وأَدْيِرَتَنا بقسوةٍ بالغة، واتهمونا دونَ شفقة، ولهذا جاء إلينا من الجنوب أبناءُ إسماعيل -[أي العرب المسلمون]- لينقذونا من أيدي الرومان، وَتَركَنا العربُ نمارسُ عقائدنا بحرية، وعشنا في سلام" (¬1). فبسبب اختلاف المذهب، وقفت الكنيسة الرومانية مع دولتها الاستعمارية، ومارست القَهْرَ المديني والحضاري للنصارى الشرقيين. ° كذلك شَنَّت الكنيسة الغربيةُ ضدَّ الشرق الإسلامي حربًا صليبية "مقدسة" استمرت حملاتُها قرنين من الزمان [489 - 690 هـ 1096 - 1291م]، وأشركت فيها الملوكَ وأمراءَ الإقطاع والرَّعاعَ من سائر أنحاء أوروبا- حتى كأنها أولى الحروب العالمية التي مارسها الغرب ضد الشرق! -، وفي هذه الحرب الصليبية استَخدمت الكنيسة الدينَ لتحقيق المقاصدِ الاستعمارية، ولإعادةِ اختطافِ الشرقِ من التحرير الإسلامي الذي أنقذ الشرقَ ونصرانيتَه من إبادةِ الاضطهاد "الأغريقي- الروماني" الذي دام عشَرةَ قرون - من الإسكندر الأكبر [356 - 324 ق. م] في القرن الرابع قبل الميلاد، إلى الفتوحات الإسلامية في القرن السابع للميلاد-. ° إنها حربٌ قادتها الكنيسةُ، وأعلنها البابا الذهبي "أوربان الثاني" [588 - 1099 م] عندما خاطب فرسانَ الإقطاع الأوروبيين سنة 1095 م في "كلير مونت" بجنوبي فرنسا- قائلاً: "يا مَن كنتم لصوصًا، كونوا اليوم ¬

_ (¬1) "تاريخ مصر في العصر البيزنطي" (ص 62) للدكتور صبري أبو الخير سليم.

جنودًا! لقد آن الزمانُ الذي فيه تُحوِّلون ضدَّ الإسلام تلك الإسلحةَ التي أنتم لِحَدِّ الآنَ تستخدمونها بعضُكم ضدَّ بعض .. فالحربُ المقدَّسةُ المعتمَدةُ الآن هي في حقِّ الله عينه .. وليست هي لاكتسابِ مدينةٍ واحدة .. بل هي أقاليمُ آسيا بجُملتها، مع غناها وخزاينها العديمة الإحصاء. فاتخذوا مَحَجَّةَ القبر المقدس، وخلِّصوا الأراضي القدسةَ من أيادي المختلسين، وأنتم املكوها لذواتكم، فهذه الأرض -حسب ألفاظ التوراة - تَفيضُ لبنًا وعسلاً .. ومدينة "أورشليم" هي قطبُ الأرض المذكورة، والأمكنةِ المخصبةِ المشابهةِ فردوسًا سماويًّا. اذهبوا وحارِبوا البربر -يقصد المسلمين! - لتخليص الأراضي المقدسة من استيلائهم .. امضُوا مُتَسَلِّحِين بسيفِ مفاتحي البطرسية -أي: مفاتيح الجنة التي صنعها لهم البابا! -، واكتسبوا بها لذواتكم خزائن المكافآت السماوية الأبدية، فإذا أنتم انتصرتم على أعدائكم، فالمُلكُ الشرقيُّ يكون لكم قَسْمًا وميراثًا. وهذا هو الحينُ الذي فيه أنتم تَفْدُون عن كثرة الاغتصابات التي مارستموها عدوانًا .. ومن حيث إنكم صبغتم أيديَكم بالدم ظلمًا، فاغسلوها بدمِ غير المؤمنين" (¬1). فهي حرب "دينية- استعمارية"، يذهبُ إليها فِرسانُ الإقطاع الأوروبيون، اللصوص المصطبغةُ أيديهم بدماءِ المظلومين، ليغسلوا أيديَهم ¬

_ (¬1) "تاريخ الحروب المقدسة في الشرق المدعوة حرب الصليب" لمكسيموس مونروند (1/ 413) ترجمة مكسيموس مظلوم.

بدماء المسلمين!! .. وهم في حَملاتهم الصليبية المقدسة هذه، يحملون مفاتيحَ الجنة -المفاتيح البطرسية التي صنعها لهم البابا الذهبي" أوربان الثاني" -ليفتدوا أنفسهم من كثرةِ الاغتصابات التي مارسوها عدوانًا .. وأيضًا ليتملَّكوا ويرِثوا- بهذه الحرب "المقدسة" - التي هي "في حق الله عينه" -أي في سبيل الذات الإلهية!!! حسب تعبير الباب - كل أقاليم آسيا ذات الخزائن الغنية التي تفوق الأحصاء، والتي تَفيض لبنًا وعسلاً!! .. والتي تشابهُ في الخصوبة فردوسًا سماويًّا!!. هكذا تحولت المقاصدُ الدينية المقدسة إلى سبُلٍ وآلياتٍ وطاقاتِ شَحنٍ لتحقيق الاستعمار والنهب والاستغلال .. وأصبحت الآخرةُ في خدمة لصوص الدنيا .. وحملت الأيدي المخضبةُ بدماء المظلومين مفاتيحَ الفردوس الإلهي الأعلى!. وفي موقعة احتلال الصليبيين لمدينة القدس وحدَها سنة 1099 م تمت مَجزرةُ الإبادة الكاملة لسكَّانها المسلمين -ومعهم اليهود- بالقتل والذبح والإحراق .. ونحن ننقلُ عن شهودِ العِيان النصارى، الذين حَفِظت لنا مشاهداتِهم المصادرُ النصرانية، لمحةً من لمحات هذه الحرب الدينية النصرانية على الإسلام والمسلمين. ° تقول هذه الشهادات -في كتاب "تاريخ الحروب المقدسة في الشرق، المدعوة حرب الصليب": "إن ديوانَ المشورة العسكرية الْتَيَم -أي: اجتمع- وقَطع حُكمًا مرهبًا، هو: أن يُمات كلُّ مسلم باقٍ داخلَ المدينة المقدسة .. وهذا الحكم المَهيل قد تَباشَرَ بالعمل .. ودامت هذه الملحمة مدةَ سبَّب -أي: سبعة أيام- كاملة"!!.

وحتى الذين هَربوا واحتمَوا بالمسجد - مسجد عمر بن الخطاب - "قبة الصخرة" - ذبحهم الصليبيون في المسجد .. وبعبارة شهود العيان: " .. على أنه باطلاً -أي: عبثًا-كان الإسلامُ -أي: المسلمون- في "أورشليم" يجدُّون مفتِّشين عن مَهْرَبٍ يحمُون به حياتَهم .. فعددٌ كليٌّ منهم قد هربوا إلى جامع عمر ظانين أنهم هناك يحمُون ذواتَهم من الموت، ولكنَّ ظنَّهم خاب، إذ إن الصليبيين -خيَّالةً ومُشاةً- قد دخلوا الجامع المذكور، وأبادوا بحد السيف كل الموجودين هناك .. حتى استوعب الجامعُ من الدم بحرًا متموِّجًا، علا إلى حدِّ الرُّكَب، بل إلى لجُم الخيل .. وذلك مما فَتكت به سيوفُ الجيوش الصليبية أرقابَ -أي: رقاب- الإسلام -أي: المسلمين - .. " (¬1). ° وبعد أن "كَلَّت أيدي الصليبيين من سفك الدماء"!! -كما يقول مؤلف هذا الكتاب رجل الدين النصراني "مكسيموس مونروند" -: "ذهبوا إلى كنيسة القيامة - التي حرَّرها عمر بن الخطاب، وتحرَّج أن يُصلِّيَ فيها، كي تظلَّ خالصةً للنصرانية والنصارى - ذهب الصليبيون إلى كنيسةِ القيامة، وهم سُكارى، يرددون الصلوات، وأيديهم غارقةٌ في دماء المسلمين الذين ذبحوهم في مسجد عمر بن الخطاب"!! .. وبعبارة شهود العيان النصارى: " .. ولما حَلَّ المساء، اندفع الصليبيون يبكون من فَرْطِ الضحك-!! - بعد أن أتوا على نبيذ المَعَاصر-!! - إلى كنيسة القيامة، ووضعوا أكفَّهم الغارقة في الدماء على جُدرانها، ورددوا الصلوات .. "!!. ثم كتبوا إلى البابا الذهبي "أوربان الثاني"، الذي صَنع لهم مفاتيح ¬

_ (¬1) المصدر السابق (1/ 172، 173).

الجنة لقاءَ هذا الذي صنعوا بالإِسلام والمسلمين .. فقالوا: "يا ليتك كنتَ معنا لتشهدَ خيولَنا وهي تَسبحُ في دماء الكفار -أي: المسلمين- .. "!!. وإذا كانت هذه شهادةً نصرانيةً قديمة، توكِّدُ على توسُّل الكنيسةِ الغربية بالدين لإعادة اختطافِ الشرق من الإسلام، لِنَهْبِ ثرواته .. فإن شهادةً نصرانيةً معاصرةً تؤكِّدُ -هي الأخرى- على الطابع المديني لهذه الحرب الصليبية -التي دامت قرنين ضدَّ الإسلام- وفي هذه الشهادة المعاصرة يقول الدكتور "جاك تاجر": "إن ضخامةَ الوسائل التي أعدها الصليبيون، وتعدُّدَ هجماتهم، تدل بلا شك على أن الحروبَ الصليبيةَ كانتا محاولةً لمحو نفوذِ الإسلام في الشرق، فقد شُنَّت هذه الحرب أولَ ما شُنَت لانتزاع حمايةِ القبرِ المقدَّس من الخلفاء، ولكنها ما لَبِثَتْ أن تحوَّلت إلى قتالٍ عامٍّ بين جيوش الإسلام وجيوشِ المسيحية، أي: بين الشرق المسلم والغرب المسيحي" (¬1). * وصفحة أخرى -دامية- من صفحات الحروب الدينية للكنيسة الغربية، تلك التي تمثَّلت في نَشْرِ النصرانية بحدِّ السيف، وإبادةِ كلِّ مَن لم يتدينْ بدينِ المَلِكِ أو الأمير الذي اعتنق النصرانية! .. ° فالملك "شارلمان" [742 - 814 م،] فَرَض النصرانيةَ على السكسونيين بحد السيف! .. ° وفي الدنمارك، استأصل الملك "كنوت - Cnut " [995 - 1035 م] الدياناتِ غيرَ المسيحيةِ من بلادِه بالقوة والإرهاب!. ¬

_ (¬1) " أقباط ومسلمون منذ الفتح العربي إلى سنة 1922 " للدكتور جاك تاجر- أصدرها أقباط المهجر مدينة جرسي بأمريكا سنة 1984.

° وفي روسيا، فَرَض الأمير "فلاديمير- Vldimir " [980-1015 م] المسيحية الأرثوذكسية على كلِّ الروس غداةَ اعتناقه لها سنة 988 م!. ° وفي الجبل الأسود، ذبح "دانيال بيتروفيتش- D.petrovich " غيرَ المسيحيين -بمن فيهم المسلمون- ليلةَ عيدِ الميلاد سنة 1703 م!. ° وفي المجر أرغم الملك "شارل روبرت" [1316 - 1378 م] غيرَ المسيحيين على التنصر أو النفي من البلاد سنة 1340 م!. ° وفي إسبانيا -قبل الفتح الإسلامي لها - أقسم الملوكُ على التنفيذ بالقوة لقرار "المجمع الكنسي السادس" -في "طلَيطلة"- تحريم كل المذاهب المخالفة للمذهب الكاثوليكي!. . * أما الحروبُ الدينية التي قادتها وخاضتها الكنائسن الغربية بعضها ضدَّ البعض الآخر -أي في داخل النصرانية، وبين أتباع مذاهبها، التي أصبح لكلِّ مذهبٍ فيها "قانون للإيمان" يحتكرُ الخَلاصَ لأبناء المذهب دون سواهم - هذه الحروب التي اشتَعلت لإبادة المخالِفين في المذهب، أو إكراهِهم على تغييرِ عقيدتهم .. فإنها شهيرة، حتى لقد مَثلت "عصرًا" من عصور الحضارة الغربية! .. وهي قد امتدَّت أكثرَ من قرنين، بين الكاثوليك وبين البروتستانت .. واشتُهر منها إحدى عشرة حربًا-[1562 - 1563 م] و [1567 - 1568م] و [1569 - 1570م] و [1572 - م1573] و [1574 - 1576م] و [1576 - 1577م] و [1580م] و [1585 - 1594م] و [1586م] و [1621م] و [1625 - 1629م] .... ولقد ذهب ضحية لهذه الحروب 40% من سكان وسط أوروبا ..

ووفق إحصاء "فولتيرا " [1694 - 1778م] عشرة ملايين إنسان!. . وذلك غير حربِ الكنيسة اللاتينية الغربية ضدَّ كنيسةِ "أياصوفيا" اليونانية- بالقسطنطينية-[1202 - 1204م]، والتي تم فيها التدميرُ والاحتلالُ والسَّلبُ والنهب للملكة القسطنطينية بأسرها! (¬1). ° أما صفحةُ الحربِ الدينية التي أعلنتها وخاضتها الكنائسُ الغربية، باسم "محاكم التفتيش" عندما أَعلنت أن "خلاص" المخالفين إنما يتحقق "بتخليصهم من الحياة"!، بعد صَبِّ صنوف العذاب عليهم!! .. فلقد دامت هذه الحربُ البشعةُ من عهد البابا "إنوسنت الثالث" [1198 - 1216م]-في القرن الثالث عشر الميلادي- حتى القرن السابع عشر!! .. وغَطَّت جميعَ ممالكِ وإماراتِ النصرانية الغربية .. وذهب ضحيَّتها ملايينُ الضحايا، الذين حَكمت عليهم الكنيسةُ "بالخلاص: الذي يخلِّصُهم من الحياة" بالإغراق- أو الإحراق .. أو الإعدام على الخازوق- الذي استمر عقوبةً للمخالفين ثلاثة قرون!! - .. (¬2). ° أما أحدث صفحاتِ وموجاتِ هذه الحروب الدينية الغربية ضد الإسلام وأُمَّته وعالَمِه، فهي تلك التي أعلنها اليمينُ الدينيُّ الأمريكي، في ¬

_ (¬1) "قصة الحضارة" لول ديورانت المجلد السادس (ج 3، 4) ترجمة د. عبد الحميد يونس- القاهرة، المجلد الرابع (ج 4 ص 46 - 53)، و"الدعوة إلى الإسلام" لسيرتوماس أرنولد (ص30 - 32، 72، 73، 122 - 124، 135، 136، 141، 143، 154 - 156، 223، 226، 274، 276) ترجمة د. حسن إبراهيم حسن، د. عبد المجيد عابدين، إسماعيل النحراوي. (¬2) "قصة الاضطهاد الديني في المسيحية والإسلام" للدكتور توفيق الطويل (ص70 - 112).

الإدارة الأمريكية، بقيادة "جورج بوش- الصغير"، بعدَ أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 م- في أمريكا -. وهي حربٌ تستهدفُ بترول الشرق الإسلامي -من منطقة البحيرات الأفريقية إلى بحر "قزوين"، مرورًا بالعراق والخليج العربي- لتحقيق الهيمنة الأمريكية على العالم، وانفرادِ الإمبريالية الأمريكية بالزعامة -دون شَريك- في القرن الواحد والعشرين .. ويقودها اليمين الدينيُّ الأمريكي، برؤية تَوْرَاتية، توحِّدُ بين هذا اليمين اليروتستانتي وبين اليمين اليهودي والصهيوني. وإذا كان الجميعُ مُجمِعين على استهدافِ هذه الحربِ الاستيلاءَ على مصادر الطاقة للانفراد بالهيمنة على العالَم .. فإن الطابعَ الدينيَّ لهذه الحربِ تقومُ عليه شواهدُ وأدلةٌ وحقائق عديدة لا ينكُرها إلاَّ مُكابر. لقد وصف "جورج بوش - الصغير" هذه الحرب في 16 سبتمبر سنة 2001 م - بأنها "حملة صليبية" -وهي عبارةٌ لمعناها في العقل المسلم تاريخ- ثم جَرَت محاولات -غربية ومتغرِّبة! - للتخفيف من وقع هذه العبارة على العالم الإسلامي، بالقول: إنها "زَلَةُ لسان"! .. ° لكنَّ تداعياتِ الوقائع والأحداث، في هذه الحرب الممتدة، قد جَعلت حتى الفاتيكان -وهو أكبر كنائس النصرانية- يعلِن -من خلال إذاعته الرسمية، التي تذاغ بتسع وثلاثين لغةً، وعلى لسان مديرِ هذه الإذاعة الرسمية الأب "باسكوالي بور جوميو"- يعلن أن الإدارةَ الأمريكية في حَمْلتِها على العراق، تتصرف "بلهجة ومواقف صليبية"، فيقول: "في الوقت الذي

يدعو الفَاتيكان إلى التعقُّل، ويشجع العملَ الديبلوماسي، ويدافعُ عن الحق الدولي، نرى في الجانب الآخر قوةً عظمى تقودها إدارةٌ خَوَّلت إلى نفسها مهمةً إنقاذيةً-[مقدسة]- واتخذت لهجةً ومواقفَ صليبية"! (¬1). ° أما الأنبا "يوحنا قلته "- نائب البطريك الكاثوليكي في مصر- فلقد أعلن: "أن بوش يستخدمُ المسيحَ دِرعًا والصليبيةَ ثوبًا للدفاع عن مصالحِ أمريكا المادية .. وأنه كان يقصدُ تمامًا معنى عبارة "الحملة الصليبية" .. ولم تكن أبدًا زَلَّةَ لسان" (¬2). فهي "حرب صليبية" أعلنها ويقودها اليمين الدينيُّ الأمريكي .. بشهادة الفاتيكان -أكبرِ كنائس النصرانية، في الشرق والغرب-. أما السيناتور "إدوارد كنيدي" والسيناتور "بابريك ليهي"، فلقد أعلنا: أن الإدارة الأمريكية مدفوعة إلى هذه الحربِ "بحماسةٍ مسيحية" (¬3). ° ولقد كَتبت "النيوزويك" -الأمريكية- عن "بوش- الصغير" (حامل البشارة)، فقالت: "إنه يؤمن أن حربَه على العراق ستكون حربًا عادلةً وِفقَ المفهوم المسيحي كما شرحها القديس أغسطين -في القرن الرابع- وفصَّلها كلٌّ من "توما الأكويني" [1225 - 1274 م]، ومارتن لوثر [1483 - 1546 م]، وآخرون، وأنه عندما استَخْدم مصطلح "الأشرار" في وصف خصومه، قد نَبَش هذه الكلمةَ مباشرةً من المزامير" و "أنه يُفَكِّر في سياسةٍ خارجيةٍ تستندُ ¬

_ (¬1) صحيفة الحياة- لندن- في 29 - 2/ 2003 م. (¬2) صحيفة [العربي]- القاهرة في 16/ 3/ 2003 م. (¬3) صحيفة الحياة- لندن- في 15/ 3/ 2003 م.

إلى الإيمان .. ويفكِّرُ في حربِ باسم "الحريَّة المدنية" -بما في ذلك الحرية الدينية- في القلب القديم للإسلام العربي .. ويحظى بدعي قوِيٍّ من قاعدته في الجَناح السياسيِّ للمؤتمر المَعْمداني الجنوبي، من أمثال "ريتشارد لاند" و"فرانكلين جراهام" الأب الروحي لبوش -والذي سَبَّ رسولَ الإسلام، وُيندِّد بالإسلام باعتباره إيمانًا عنيفًا وفاسدًا-، ولا يَخفى -مع المبشرين الإنجيليين- رغبتُهم تحويلَ المسلمين إلى المسيحية، لا سيَّما في بغداد" (¬1). هذا ما كتبته "النيوزويك" الأمريكية- قبل شنِّ الحرب على العراق. ° أما الـ "نيويورك تايمز" فإنها كتبت مقالَين في 5 و 6/ 4/ سنة 2003 م -أي في ذروة الحرب على العراق- عن انخراطِ المبشِّرين الإنجيليِّين، تحت قيادة الآباء الرُّوحيين "لبوش" في الحملة الأمريكية على العراق، بصُحبة القواتِ الأمريكية الغازية .. الأمر الذي "صَبَغ الحرب على العراق بصِبغة الحروب الصليبيَّة .. وأنَّ مِن بين تلك الجماعات التبشيرية المُصاحِبة للجيش الأمريكي مبشِّرين تابعين للكنيسة المعمدانية والكنيسة المنهجية، وَكِلْتا الكنيستين كانت ضمنَ أهمّ الجماعات التي دَعَّمت الرئيسَ بوش .. وهناك 800 مبشِّر تطوَّعوا لمصاحبة الجيش الأمريكي الزاحف على العراق، لتقديم الدعم الرُّوحي والمادي للشعب العراقي .. ومِن بين هؤلاء المبشرين "فرانكلين جراهام" الذي دشَّن حفل تنصيب جورج بوش رئيسًا .. ووالده "بيل جراهام"، الذي أثار عاصفةً داخل المجتمعات الإسلامية عندما وَصف النبيَّ محمداً بأنه "إرهابي" و"وثني" .. ولقد أعلن المبشِّرُ "فرانكلين ¬

_ (¬1) مجلة "النيوزويك" الأمريكية- عدد 11/ 3/ 2003 م.

جراهام" -في القاعدة الأمريكية في الكويت-: "لقد جئتُ إلى هنا تمهيدًا لدخول العراق .. فرغم أن نسبةَ المسلمين في العراق تُشكَّل 97% من إجمالي تعدادِ السكَّان، إلاَّ أننا يجبُ ألأَ ننسى أن المسيحية سَبقت الإسلامَ في دخول العراق .. إنني هنا لدعم مَسِيحِّيي العراق، لكننا في الوقت ذاته نخطط لتقديم الدعم للمسلمين، ليس باسمنا، ولكن باسم الرب". ° أمَّا والد هذا المبشر -القَس "بيل جراهام"-، فهو الأب الروحي لجورج بوش، الذي قال عنه بوش: "إنه الرجل الذي قادني إلى الربِّ .. وهو الذي جَعل بوش يواظب يوميًّا على القراءة في كتاب القَس "أوزوالد شامبرز" الذي مات سنة 1917 م وهو يَعظ الجنود البريطانيين والأستراليين بالزحف إلى القدس وانتزاعها من المسلمين" (¬1). ° ويكتبُ المُفكَر الاستراتيجي الأمريكي "فرانسيس فوكوياما" بعد أحداث سبتمبر سنة 2001 م فيقول: "إن الصراع الحالي ليس ببساطةٍ ضدَّ الإرهاب .. ولكنه صراعٌ ضدَّ العقيدة الإسلامية الأصولية .. التي تقفُ ضدَّ الحداثة الغربية -وضدَّ الدولةِ العِلمانية- وهذه الأيديولوجية الأصولية تُمثِّل خطرًا أكثر حساسيَّةً -في بعض جوانبه- من الخطر الذي شكَّلته الشيوعية .. والمطلوب هو حربٌ داخلَ الإسلام حتى يَقبلَ الحداثة الغربية والعلمانية الغربية .. والمبدأ المسيحي: دع ما لقيصر لقيصر .. وما لله لله". فماذا فعلوا في حروبهم الدينية في أفغانستان والعراق؟. لقد أهلكوا الأخضرَ واليابس، وعاثوا في الأرض فسادًا، واغتصبوا النساء، وذبحوا ¬

_ (¬1) ترجمة مقالي "نيويورك تايمز" عن صحيفة "الأسبوع" - القاهرة في 14/ 4/ 2003 م.

أكبر شانئي محمد - صلى الله عليه وسلم - المغضوب عليهم وهو اليهود، والضالون وهم النصارى

الأطفال، ونسفوا القرى والمدن، وبالوا على المصاحف، وسلسلوا الأسرى عُراة، وأجبروهم على الأفعال الشاذة، وأطلقوا عليهم الكلاب، وما أحداث سجن "أبو غريب" ببعيد!!. - فأيُّ الفريقين خير مَقامًا وأحسنُ نديًّا .. رسولُ الإسلام والسلام والمؤمنون .. أمِ الثعالبُ والذئاب .. من الصليبيين واليهود؟! .. سيأتي اليوم الذي يُكشَفُ فيه التاريخُ الأسوء لما فُعِل بالمسلمين على أيدي هؤلاء. * أكبر شانئي محمد - صلى الله عليه وسلم - المغضوبُ عليهم وهو اليهود، والضالُّون وهم النصارى: * قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]. * وقال تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118]. * وقال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89]. قلوب كافرة سوداءُ مظلمةٌ، ظُلُماتُها بعضُها فوقَ بعضٍ لا انكشافَ لها، مخيفة لا أَمْنَ فيها، مَضْيَعَةٌ لا خيرَ فيها، ضالةٌ ضلالُها لا رجوعَ منه، أعمالُهم سَراب ضائع يلتمعُ التماعًا كاذبًا، فيتبعُه صاحبُه الظاميء، وهو يتوقَّعُ الرّيَّ غافلاً عما ينتظره هناك، يَصِلُ فلا يَجدُ ماء يَرويه، إنما يجدُ ما يُرعبه وُيقطّعُ أوصالَه، وُيورِّثه الخَبَال، {وَالَّذِينَ كَفَروا أَعْمَالُهُمْ كسَرَابٍ

بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)} [النور: 39]. وجد الله عنده .. الله الذي كَفَر به، وجَحَده، وخاصَمَه، وعادى رسولَه، وآذاه، واستهزأ به. هذه القلوبُ الكالحة، والأنفسُ الصَّلْدةُ اليابسة بِسُمِّها الزُّعاف لا تحملُ للاسلام ونبيّه - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ التحقيرَ والاستهزاءَ والسُّخريةَ وخَلْقَ أجواءِ الرِّيبة والاتهاماتِ والحقدِ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، منهم رُوَّاد حركة التغريب، وكبارُ مخططيها، وأبرز دعاتها، الذين حَملوا لواءَ العمل في ميادين التبشير "التنصير والاستشراق"، والكتابات السوداء عن الإسلام ونبيِّه العظيم- صلى الله عليه وسلم -. إن النور الذي أتى به السراجُ المنيرُ - صلى الله عليه وسلم - لا يقفُ له إلاَّ قلبٌ غيرُ مطموس، ولا تصمُدُ لهُ إلاَّ روحٌ غيرُ معاندة ولا مستكبرة ولا مشدودة بالهوى الجامح اللئيم. ° حَمَلة السُّمومِ والحقدِ الواضحِ -لا الدفين- الذي تطفحُ به مواقفُهم وكتاباتُهم: مكر أولىك هو يَبور .. ويبقى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بنوره وبهائِه وأصالته وجذورِه القوية وكلماتِه الطيِّبة وعقيدتِه الشافعية النقية، تزولُ الدنيا بأسرها، ولا يزولُ الإسلام وتعاليمُ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - من صدورِ مُتَبعيه ما بَقِيَت الدنيا. ° شانئو محمد - صلى الله عليه وسلم - مِن العبيد والأقزام وأذنابِ الغريب من الدَّجاجلة الذين يطعنون في شريعته- صلى الله عليه وسلم - وصلاحيتها لكل زمانٍ ومكان، ويمكرون أقبحَ المكر بسُنتَّه ورجالها، ويطعنون في أكبرِ دواوينِ السُّنة وحَمَلَةِ الحديث

ممَن لا تساوي دنياهم قُلامةَ ظفرهم. نابتةٌ من الزنادقة الملحِدين في آياتِ الله، أو الصادِّين عن دين الله، قد سَلَكوا في الدعوة إلى الكفر والإلحاد شِعَابًا جُدُدًا، وللتشكيك في الدين طرائِقَ قِدَدًا؛ يزعمون للعِلم معنًى، إنْ لم يكن بعضُه في العلم، فأكثره في الجهل. جاؤونا في أسماء العلماء، ولكن بأفعالِ أهل الجهل، وكانوا في العلم كالنبات الذي خَبُث، وإنَّك لن تجدَ سيماهم إلاَّ في أخلاقهم، فتعَرَّفهم بهذه الأخلاق، فستُنكِرْهم جميعًا، ولتعلَمَنَّ عليهم كل سُوءٍ، ولترينَهم حَشَوا أجسامهم طينًا وحماةً، في زَعْم كَذِبٍ يُسمي لك الطينَ "طِيبًا"، والحَمأة "مِسْكًا"!، ولَتَجِدَنَّ أحدهم وما في السِّفْلَةِ أسفلُ منه شهواتٍ ونزعات، وإنه مع ذلك ليُزَوَّرُ لك ويُلَبِّسُ عليك، فما فيه من لونٍ عندك يَعيبه إلاَّ هو عندَه تحتَ لوْنٍ يَزينه، ولا رزيلة تُقبِّحه إلاَّ هي في معنى فضيلةٍ تجملِه، فخذْ منه الكَذِبَ في فلسفةِ المنفَعة، والتسفُّلَ في شعاعة الغريزة، والوقاحةَ في زَعْم الحُرِيَّة، والخطأَ في عِلَّة الرأي، والإلحادَ في حُجَّة العلم، وفسادَ الطبيعة في دعوى الرجوع إلى الطبيعة .. وبالجملة: خذْ فِعالَهم فسَمِّهَا غيرَ أسمائها، وانحَلْها غيرَ صفاتِها، واكذبْ بالألفاظ على المعاني، وقُلْ: علماءُ ومُصلِحون، وأنت تعني ما شئت إلاَّ حقيقةَ العلم والإصلاح!!. ° أيتها الحصاة، ما يَسخرُ منكِ الساخرُ بأكثر من أن يَجلُوَكِ على الناس في عُلبةِ جوهرة. يذهبُ أين ذهب، وشُعلةُ الجحيم العلميَّة تدورُ في رأسه تهفو من هنا وهناك، لا يَصلحُ إلاَّ على إفسادِ الحياة، ولا يقوَى إلاَّ على إِضعافِ القوي،

ولا يَعيشُ إلاَّ على غِذاءٍ من الموت، كأنَّه كان مِن قبلُ دودةً في قبر، ثم نَفَخَه الله إنسانًا، يجعله فيما يبلو به من الخلْق، ويضربُ الحياةَ به ضَرْبَ انحلالٍ وبِلى وتَعَفُّن. ومَن تراهُ قد سَخِر به القَدَرُ أشدَّ سخرية قط، فضَغْطة في قالبٍ من قوالبِ الحياة المصنوعة، فإذا هو في تصاريفِ الدنيا كاتب مُرشد متنصِّح، يَنْفث دُخانَ قلبه الأسود، ويعملُ كما تعملُ الأعاصير على إهداء الوجوه والأعين والأنفاس صُحُفًا مُنَشرَّةً مِن غُبار الأرض، إنْ لمْ تكنُ مَرَضًا فأذًى، وإن لم تكن أذًى فضِيق، وإن لم تكن ضِيقًا فلن تكون شيئًا مما يُساغ أَوْ يُقبَل أوْ يُحَبُّ، على أنك ترى أصحابَنا لا يتحاملون على شيءٍ ما يتحاملون على القرآن الكريم، فهم يخصُّونه بمكاره العلم كُلِّها ويَجفَون عنه أشدَّ جفاء" (¬1). ° شانئو محمد - صلى الله عليه وسلم - هم شانئو القرآن الكريم الذي نزل على قلبه، فأراد المُجرمون أن يَحصُروه في المساجد تلاوةً، وهجروه تحاكمًا، وأنِفوا من تشريعه، وأرادوا فَصْلَ الدين عن دنيا الناس وسياستهم .. وهم واللهِ الجهالُ الذين لا يعلمون قَدْرَ كلام الله الذي سمَّاه الله "نورًا"، وسمَّاه "رُوحًا"، وسمَّاه "شفاء"، و"فضلاً"، و"رحمة" .. كلامُ الله الذي "يجري في الخواطر كما تصعدُ في الشجرِ قَطَراتُ الماء، ويتَصل بالرُّوح، فإنما يَمدُّ لها بسببٍ إلى السماء، وإنه لسِحْر؛ إذْ هو ألحاظٌ لم تَعْهَدْ كلْم أحداقَها، وثمراتٌ لم تَنبُتْ في قلم أوْراقُها، ونورٌ عليه رَوْنقُ الماء، فكأنما اشتعلت به الغيومُ، وماء يتلألأ كالنور، فكأنما عُصِر من النُّجوم. ¬

_ (¬1) "إعجاز القرآن" للرافعي (9 - 12) - دار الكتاب العربي.

هَلْ رَأوا إلاَّ كلاماً تضيء ألفاظُه كالمصابيح، فعَصَفوا عليه بأفواههم كما تَعَصِفُ الريح، يُريدون أن يُطفؤوا نورَ الله، وأين سراج النجم من نفخةٍ ترتفعُ إليه؛ كأنما تذهب تطفيه؟! ونور القمر من كف يَحسب صاحبها أنها في حجْمِه، فيرفعها كأنما يخفيه؟! وهيهات هيهات؛ دون ذلك دَرْج الشمس -وهي أمُّ الحياة- في كفَنٍ، وإنزالُها بالأيدي -وهي روح النار- في قبرٍ من كهوفِ الزمن .. لا جَرَمَ أن القرآنَ سِرّ السماء؛ فهو نور الله في أفق الدنيا حتى تزول، ومعنى الخلود في دولة الأرض إلى أن تدول، وكذلك تمادى العربُ في طغيانهم يَعمهون، وظَلَّت آياتُه تلْقَفُ ما يأفِكون، فوقع الحقّ وبطل ما كانوا يعملون" (¬1). * {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة: 5]: ما أفظعَ عملَ وأقبحَ موقفَ المجرمين الأقزام الذين يَتحدَّوْن اللهَ ورسوله .. ويقفون عند الحدِّ المواجِهِ لحدِّهما!! وما أقبحَ مصيرَ أولئك المتبجِّحين!! فلهم القهر والذُّلُ في الداريْن، والتاريخ خيرُ شاهد .. وكلام الملوك ملوك الكلام. * {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 20 - 21]: هذا وعدُ اللهِ الصادق الذي كان ولابد أن يكونَ، على الرَّغم مما قد يبدو أحيانًا من الظاهر الذي يُخالِفُ هذا الوعدَ الصادق. ¬

_ (¬1) "إعجاز القرآن" للرافعي (ص 31).

وبعد صراع طويل مع الكفر والشِّرك والإلحاد استقرَّ الإيمانُ بالله في هذه الأرض، ودانت له البشريةُ بعد كلِّ ما وقف في طريقه من عَقَبات الشِّرك والوثنيَّة. وإذا كانت هناك فتراتٌ عاد فيها الإلحادُ أو الشركُ إلى الظهور في بعضِ بقاع الأرض، فإن الإيمانَ بالله ظلَّ هو المسيطرَ بصفةٍ عامة، فضلاً على أن فتراتِ الإِلحادِ والوثنيةِ والكفر بمحمدٍ رسول الله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم إلى زوالٍ مؤكَّد؛ لأنها غيرُ صالحةٍ للبقاء، والبشريةُ تهتدي في كل يوم إلى أدلةٍ جديدة إلى صِدقِ رسالة محمدٍ صلى الله عليه وسلم الخاتمة، {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] .. ويَهرعُ الناسُ في كلِّ مكان من أرجاء البسيطة .. إلى الدخول في الإسلام .. ولا يمرُّ يومٌ إلاَّ ويسلمُ العشراتُ بل والمئات .. فقد كَتب اللهُ على أعدائه وأعداءِ رسوله صلى الله عليه وسلم الذّلَةَ والهزيمة، وكتب لنفسه ولرسوله الغَلَبةَ والتمكين .. والمؤمنُ يتعاملُ مع وعد الله على أنه الحقيقةُ الواقعة، فإذا كان الواقعُ الصغيرُ في جِيلٍ محدود، أو في رُقعةٍ محدودة يخالفُ تلك الحقيقةَ، فهذا الواقعُ هو الباطلُ الزائل، الذي يُوجَد في الأرض لحكمةٍ خاصة، لعلَّها استِجاشةُ الإيمانِ وإهاجتُه لتحقيق وعدِ الله في وقته المرسوم. وعَبْرَ التاريخ .. وعَبْرَ تاريخ الإسلام هل استطاعت الحروبُ التي شَنَّها أعداؤه هل استطاع القتلُ والتشريدُ والتنكيلُ وأنواعُ النكايات، واغتصابُ النساء، وبَقْرُ بطونِ المسلمات، وذَبحُ الأجنَّة .. هل استطاع أن يقتلعَ جذورَ الإيمان بالله ورسوله من قلوب المسلمين؟! حين ينظرُ الإنسانُ

إلى هذا الواقع في المدى المتطاوِلِ يجدُ مِصداقَ قولِ الله، يجده في الواقع ذاتِه بدون حاجةٍ إلى الانتظارِ الطويل!!. لا يخالجُ المؤمنَ شكٌّ في أن وَعْدَ الله هو الحقيقة الكائنة التي لا بدَّ أن تظهرَ في الوجود، وأنَّ الذين يُحادُّون اللهَ ورسولَه هم الأذلون، وأنَّ اللهَ ورسولَه همِ الغالبون، وأن هذا هو الكائنُ والذي لا بدَّ أن يكون، ولْتَكُنِ الظواهر غير هذا ما تكون. * قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 32 - 33]. * وقال تعالي: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8]. ° قال الإمام ابن جرير الطبري: "يريد هؤلاء القائلون لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم: "هذا ساحرٌ مبين"، يريدون ليُبطِلوا الحقَّ الذي بَعث اللهُ به محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بأفواههم، يعني: بقولهم: "إنه ساحر، وما جاء به سحر"، {وَاللهُ مُتِمُ نُورِهِ}، والله مُعلِن الحقَّ، ومُظهِر دينَه، وناصرٌ محمدًا صلى الله عليه وسلم على مَن عاداه، فذلك إتمام نوره، وغنِي بالنور في هذا الموضع "الإسلام"، وكان ابن زيد يقول: عُنِي به القرآن" (¬1). ° وقال العلاَّمة ابن كثير: "يريد هؤلاء الكفار من المشركين، وأهل الكتاب {أَن يُطْفِئُوا نورَ اللهِ} أي: الذي بُعث به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الهدى ¬

_ (¬1) "جامع البيان" لابن جرير (11/ 88) طبع مصطفى الحلبي.

ودينِ الحق بمجرد افترائهم، فمَثَلهم كمَن يريد أن يُطفيء نورَ الشمس أو القمر بنفخة، وهذا لا سبيلَ إليه؛ فكذلك ما أُرسِل به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا بد أن يتمَّ ويظهر، ولهذا قال تعالى مقابلاً لهم فيما أرادوه {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .. {لِيظْهِرَة عَلَى الدِّينِ كلِّهِ}، أي: على سائر الأديان" (¬1). ° قال ابن كثير: "يحاولون أن يردُّوا الحق بالباطل، ومَثَلُهم في ذلك كمَثَل مَن يُريد أن يُطفيء شعاعَ الشمس بفِيه، وكما أن هذا مستحيل، فذلك مستحيل" (¬2). كم صدُّوا عن سبيله صدًّا، ومَن ذا يُدافعُ السيل إذا هَدَر؟ واعترضوه بالألسِنة ردًّا، ولَعَمْرِي مَن يَردّ على الله القَدَر؟ وتخاطروا له بسُفهائهم كما تخاطرت الفحول بأذنابِ (¬3) البقر، وفتحوا عليه من الحوادث كلَّ شِدْقٍ فيه مِن كلّ داهيةٍ ناب، فما كان إلاَّ نورُ الشمسِ لا يزالُ الجاهل يَطمعُ في سَرابه، ثم لا يضعُ منه قَطرةً في سِقائه، وُيلقي الصبيُّ غِطَاءَه ليخفيه بحجابه، ثم لا يزالُ النور ينبسِطُ على غِطائه. ° كم أبرقوا وأرعَدوا حتى سأل بهم وبصاحبهم السيَّل، وأثاروا من الباطل في بيضاءَ ليلُها كنهارها (¬4) ليجعلوا نهارَها كالليل، فما كان لهمِ إلاَّ كما قال الله: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} الآية [الأنبياء: 18]. ¬

_ (¬1) "تفسير ابن كثير". (¬2) "تفسير ابن كثير". (¬3) إذا تصاولت الفحول من الإبل تخاطرت بأذنابها كأنها يهدد بعضها بعضًا. (¬4) أي: هذه الملة السمحة.

المصباح الذي أناره محمد - صلى الله عليه وسلم - تألب عليه مليون "أبي جهل" و "أبي لهب" ليطفؤوه

* المصباح الذي أناره محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - تأَلَّب عليه مليون "أبي جهل" و "أبي لهب" ليطفؤوه: إن هذا المصباحَ السماويَّ تأَلَّب عليه مليونُ "أبي جهل" و"أبي لهب"، مليونُ "حُيَيِّ بن أخطب"، مليونُ "كعب بن الأشرف"، مليون "فرناندوا" و"إيزابيلا"، مليون "أتاتورك"، ولكن هيهات هيهات .. كذلك الحقُّ يعلو في مَصَاعِدِه ... حتى ينالَ الذُّرَى أو يَبْلُغَ الشَّعَفَا (¬1) شتَّانَ ما بين صَرح ثابت رُفِعتْ ... منه القِبابُ وصَرْح واهنٍ خُسِفَا لتنصِتِ الأرضُ، ولتَسْمَع ممالكُها ... ماذا يقول لها الرعْدُ الذي قَصَفا شرائعُ الخيرِ يُلقيها مُحبَّبَة ... شيخُ النبيِّين يَبغي البر واللَّطفَا * {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95]: ° قال العلامة ابن كثير: "قوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 94 - 95] أيْ: بلِّغ ما أُنزل إليك من ربِّك، ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدُّوك عن آياتِ اللهِ، {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]، ولا تَخَفْهم، فإن الله كافيك إياهم، وحافظُك منهم، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67]. وروى الحافظ أبو بكر البزار عن يزيدَ بنِ درهم قال: "سمعتُ أنساً يقول في هذه الآية: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الحجر: 95 - 96]، قال: مَرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فغَمَزه بعضُهم، فجاء ¬

_ (¬1) الشعف: رؤوس الجبال، جمع شعفة.

جبريل عليه السلام، فغمزهم، فوقع في أجسادهم كهيئة الطعنة فماتوا". وقال محمدُ بن إسحاق: "كان عظماءُ المستهزئين -كما رُوي عن عروةَ ابنِ الزبير- خمسةَ نَفَر، وكانوا ذَوِي أسنانٍ وشَرَف في قومهم مِن بني أسد ابنِ عبدِ العزَّى بنِ قُصَيٍّ، الأسود بن أبي زمعةَ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني قد دعا عليه لِمَا كان يبلغُه من أذاه واستهزائهِ، فقال: "اللهم أعْم بَصَره، وأثكِله ولدَه"، ومِن بني زهرة: الأسود بن عبد يغوثَ بنِ وهبِ بنِ عبدِ منافِ بن زهرة، ومِن بني مخزوم: الوليدُ بنُ المغيرة بن عبد الله بن عمرو ابن مخزوم، ومِن بني سهم بن عمر بن هصيص بن كعب بن لؤي: العاص ابن وائل بن هشام بن سعيد بن سعد، ومن خزاعة الحارث بن الطُّلاطِلة بن عمرو بن الحارث بن عمر بن مَلْكان .. فلما تمادَوا في الشر، وأكثروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الاستهزاءَ أنزل الله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} إلى قوله: { .. فَسَوْفَ يَعْلَمونَ} [الحجر: 94 - 96] ". ° قال ابنُ إسحاق: "وعن عروة بن الزبير أو غيره من العلماء أن جبريلَ عليه السلام أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يطوفُ بالبيت، فقام، وقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جَنبه، فمرَّ به الأسودُ بنُ عبدِ يغوث، فأشار إلى بطنه، فاستسقى بطنه، فمات منه، ومَرَّ به الوليد بن المغيرة، فأشار إلى أثرِ جِراح بأسفل كعبِ رِجله -وكان أصابَه قبل ذلك بسنتين وهو يجرُّ إزاره -، وذلك أنه مرَّ برجل من خزاعة يَريشُ نَبْلاً له، فتعلَّق سهم مِن نَبْله بإزاره، فخَدَش رجلَه ذلك الخدشُ وليس بشيء، فانتقض به فقتله، ومَرَّ به العاصُ بنُ وائل فأشار

إلى أخمُصِ قدمه، فخرج على حمارٍ له يريدُ الطائف، فرَبَض على شبرقة، فدخلت في أخمُصِ قدمه فقتلته، ومرَّ به الحارث بن الطّلاطِلة، فأشار إلى رأسه فامتخطَ قيحًا فقتله". ° ورَوى محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال: "كان رأسَهم الوليدُ ابنُ المغيرة وهو الذي جَمَعهم". وهكذا روي عن سعيد بن جبير وعكرمة نحو سياق محمد بن إسحاق به عن يزيد عن عروة بطوله، إلاَّ أن سعيدًا يقول: الحارث بن غَيْطلة، وعكرمة يقول الحارث بن قيس .. قال الزهري: وصَدَقا، هو الحارث بن قيس، وأمه غيطلة، وكذا رُوي عن مجاهد ومِقسم وقتادة وغير واحد: أنهم كانوا خمسة، وقال الشعبيّ: كانوا سبعة، والمشهور الأول" (¬1). ° وقال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي: " {إِنَّا كفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} وقد فعل، فما تظاهر أحدٌ بالاستهزاء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به إلا أهلكه اللهُ وقتَلَه شرَّ قِتْلة" (¬2). ° وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد كان المسلمون إذا حاصَروا أهلَ حصنٍ واستعصى عليهم، ثم سَمعوهم يقعون في النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسبُّونه، يستبشرون بقرب الفتح، ثم ما هو إلاَّ وقتٌ يسير، ويأتي اللهُ بالفتح من عندِه انتقاماً لرسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ¬

_ (¬1) "تفسير ابن كثير". (¬2) "تيسير الكريم الرحمن" للشيخ السعدي. (¬3) "الصارم المسلول" لابن تيمية (ص 116 - 117).

* أعداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شياطينٌ مجرمون: * قال تعالى -ومَن أصدق من الله قِيلاً-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112 - 113]، والشيطنةُ هي التمرّد والغِواية والتمحّص للشر، تلحقُ الأنسَ كما تلحقُ الجنَّ، وكما أن الذي يتمرَّد من الجنِّ ويتمحَّض للشرِّ والغواية يُسمَّى "شيطانًا"؛ فكذلك الذي يتمرَّد من الأنس ويتمحَّض للشر والغواية. ° قال ابن كثير: "يقول تعالى: وكما جَعَلْنا لك يا محمدُ أعداءَ يخالفونَك ويعادونك وُيعاندونك جَعَلْنا لكلِّ نبيٍّ من قَبْلِك أيضًا أعداءَ، فلا يَحزنك ذلك، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا} [الأنعام: 34] .. وقال وَرقةَ بن نوفل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه لم يأتِ أحدٌ بِمثل ما جئتَ به إلاَّ عودِي .. " .. وقوله: {شَيَاطينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ}، أي: لهم أعداء من شياطين الإنس والجن، و"الشيطان" كلُّ منَ خَرَج عن نظيره بالشرِّ، ولا يعادِي الرسلَ إلاَّ الشياطين مِن هؤلاء وهؤلاء -قَبَّحهم الله ولعنهم-. * وقال تعالى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}، أي: يُلقي بعضُهم إلى بعضٍ القولَ المُزَيَّنَ المزخرف، وهو المُزَوَّقُ الذي يغْترُّ سامعُه من الجَهَلة بأمره. {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}، أي: وذلك كلُّه بقَدَر الله وقضائه وإرادته

ومشيئته أن يكونَ لكلِّ نبيٍّ عدوٌّ من هؤلاء .. {فَذَرْهُمْ}، أي: فدعهم .. {وَمَما يَفْتَرُونَ}، أي: يكذبون .. أي: دعْ أذاهم، وتوكَّلْ على اللَّه في عداوتِهِم، فإنَّ الله كافيك وناصرُك عليهم. * وقال تعالى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ}، أي: ولتميلَ إليه .. قال ابن عباس: {أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ}، أي: قلوبُهم وعقولُهم وأسماعُهم .. وقال السُّدِّيُّ: قلوبُ الكافرين. {وَلِيَرْضَوْهُ}، أي: يحبوه ويريدوه، وإنما يستجيبُ لذلك مَن لا يؤمن بالآخرة. وقوله: {وَلِيَقْتَرِفُوا هَما هُم مُّقْتَرِفُونَ}، قال عليُّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: وليكتسِبوا ما هم مكتسبون" (¬1). ° وقال ابن القيم: "ذكر سبحانه أنهم يستعينون على مخالفةِ أمرِ الأنبياء بما يُزخرفه بعضُهم لبعضٍ من القول، فيغترُّ به الأغمارُ وضُعفاء العقول، فذكر السببَ الفاعلَ والقابلَ، ثم ذَكر سبحانه انفعالَ هذه النفوسِ الجاهلةِ به، بصَغْوها ومَيلِها إليه، ورضاها به لِمَا كُسِي من الزخرفِ الذي يَغرُّ السامعَ، فلما أصغَتْ إليه ورَضِيَتْه اقترفت ما تدعو إليه من الباطل قوْلاً وعملاً، فتأمل هذه الآياتِ وما تحتها من هذا المعنى العظيم القَدْرِ، الذي فيه بيان أصولِ الباطل، والتنبيهُ على مواقع الحذرِ منها، وعدم الاغترار بها، وإذا تأمَّلت مقالاتِ أهل الباطل، رأيتَهم قد كَسَوها من العبارات وتخيَّروا لها من الألفاظ الرائقة، ما يُسرعُ إلى قبوله كلّ مَن ليس له بصيرةٌ نافذة .. وأكثر الخلق كذلك، حتى إنَّ الفجار ليُسمُّون أعظمَ أنواع الفجورِ بأسماءَ لا ¬

_ (¬1) "تفسير ابن كثير".

ينبو عنها السمعُ" (¬1). ° وقال -رحمه الله-: "سَمَّاه "زخرفًا"، وهو باطل؛ لأن صاحبَه يُزخرفُه ويُزيَنه ما استطاع، ويُلقيه إلى سَمْع المغرور، فيغترُّ به" (¬2). ° وقال -رحمهم الله-: "قد أخبر سبحانه بمقصودهم من الإيحاء المذكور، وهو أربعةُ أمور: غرورُ مَن يوحون إليه، وإصغاءُ أفئدتهم إليه، ومحبتهم لذلك، وانفعالُهم عنده بالاقتراف، وإن كان ذلك تعليلاً لجعله سبحانه لكلِّ نبي عدوًّا، فيكون هذا الحُكم من جُملة الغايات، والحِكَم المطلوبة بهذا الجعل، وهي غايةٌ وحكمةٌ مقصودة لغيرها؛ لأنها مُفضيةٌ إلى أمور هي محبوبة مطلوبة للرب سبحانه، وفواتُها يستلزمُ فواتَ ما هو أحب إليه من حُصولها، فاللام لامُ التعليل والحكمة" (¬3). ° وقال: "الزُّخْرُف: هو الكلامُ المُزَيَّن، كما يزيَّنُ الشيءُ بالزخرف -وهو الذهب -، وهو الغرور؛ لأنه يَغُرُّ المستمعَ، والشبهاتُ العارضةُ للوحي هي كلامُ زخرفٍ، يَغُرُّ المستمع، فانظر إلى إصغاءِ المستجيبين لهؤلاء ورضاهم بذلك واقترافِهم المترتِّب عليه، فتأمَّلْ" (¬4). ° وما أكثَرَ شياطينَ الإنس .. الذين يَصُدُّون عن دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -!! يَصدُقُ فيهم قولُ القائل: وإذا رأى إبليسُ طَلعَةَ وجهِه ... حَيَّا وقال: فَديْتُ مَن لا يُفلِحُ ¬

_ (¬1) "الصواعق المرسلة" لابن القيم (2/ 438). (¬2) "الداء والدواء" لابن قيم الجوزية (ص 144). (¬3) "شفاء العليل" لابن القيم (193). (¬4) "الصواعق المرسلة" لابن القيم (3/ 1041، 1042).

° أو قول القائل: وكنت امرأً من جُندِ إبليس فارتقى ... بي الدَّهْرُ حتى صار إبليسُ من جندي فلو مات قبلي كنت أُحسِنُ بَعْدهُ ... طرائقَ فِسْقٍ ليس يُحْسِنُها بعدي وهؤلاء الشياطينُ في قبضةِ الله عز وجل، لا يفعلون شيئًا من هذا كلِّه، ولا يَقدرون على شيءٍ من عداوةِ الأنبياء بقُدرةٍ ذاتيَّةٍ فيهم .. لا يَقدِرون على شيءٍ من ذلك إلاَّ بالقَدْرِ الذي يشاؤه الله، فإرادتُهم مقيدة بمشيئة الله، وقدرتُهم محدودةٌ بقَدَر الله، ومَردُّ الأمرِ كلِّه إلى الله، فانظر إلى هوانِ الشياطين من الإنس والجن، وهوانِ كيدِهم وأذاهم، هذا الكيدُ على ضخامته وتجمُّع قوى الشرِّ العالمية كلِّها عليه هو مقيَّدٌ مغلول، والمؤمنُ الذي يعلمُ أن ربَّه هو الذي يُقَدِّر، وهو الذي يأذَن، خليق أن يستهينَ بأعدائه من الشياطين؛ مهما تبلغ قوتهم الظاهرة وسلطانُهم المُدَّعى. {فَذَرْهُمْ وَمَما يَفْتَرُونَ}، فالله من ورائهم، قادر على أخذهم، مُدَّخَرٌ لهم جزاؤهم. * وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)} [الفرقان: 31]. ° قال ابن كثير: "وكفى بربك هاديًا ونصيرًا: أي لمن اتبع رسولَه وآمَنَ بكتابه وصَدَّقه واتَّبعه، فإن الله هاديه وناصرُه في الدنيا والآخرة، وإنما قال: {هَادِيًا وَنَصِيرًا}؛ لأن المشركين كانوا يصدُّون الناسَ عن اتِّباع القرآن لئلاَّ يهتديَ أحدٌ به ولِتغلبَ طريقتُهم طريقةَ القرآن". ويكفي أن القرآنَ نَعَتهم بهذا النعتِ القبيح "المجرمين" وهم فاسدون

مفسِدون لا يعيشون إلاَّ على الإفساد، كالخنافس تختنقُ برائحةِ الأزهار العَبِقة، ولا تحيا إلاَّ على الرَّوَث، ولا تستطيعُ الحياةَ إلاَّ في المقاذر، وبعضُ الديدانِ يموتُ في الماءِ الطاهرِ الجاري، ولا يستطيعُ الحياةَ إلاَّ في المستنقع الآسن، وكذلك المجرمون. ومَن كان اللهُ هاديَه وناصرَه فمَنْ عليه؟! لا يَضيرُه تكالبُ كلّ المجرمين والشياطين، فمكر أولئك هو يبور .. مَن وَجَد اللهَ فماذا فقد؟!. * وقال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:61]: ° قال ابن كثير -رحمه الله-: "يقول تعالى: "ومِن المنافقين قومٌ يؤذُون رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بالكلام فيه، ويقولون: "هو أُذُن"، أي: مَن قال له شيئاً صَدَّقه فينا، ومَن حدَّثه صَدَّقه، فإذا جئناه وحَلَفنا له صدَّقنا. رُوي معناه عن ابن عباس ومجاهد وقتادة .. قال الله تعالى: {قلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ}، أي: هو أُذُنُ خير يَعرِفُ الصادقَ من الكاذب، {يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ}، أي: ويُصدّق المؤمنين، {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ}، أي: وهو حجَّة على الكافرين؟ ولهذا قال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ الله لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} " (¬1). * من يُحادِّ اللهَ ورسولَه له الخِزيُ العظيم: قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللهَ وَرَسولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا ¬

_ (¬1) "تفسير ابن كثير".

فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 63]: ° قال ابن كثير: "أي: ألم يتحقَّقُوا ويَعْلموا أنه مَن حادَّ اللهَ عز وجل -أي شاقَّه وحارَبَه وخالفه، وكان في حدٍّ والله ورسوله في حدٍّ- (فَأنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فيهَا}، أيْ: مهانًا مُعَذبًا!! و {ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ}، أي: وهذا هو الذلُّ العظيمُ والشقاءُ الكبير" (¬1). ° وقال ابن القيم: "جَعَلهم بهذا محادِّين، ومعلوم قطعًا أنَّ مَن أظهر مَسَبَّةَ اللهِ ورسوله، والطعنَ في دينه أعظمُ محادةً له ولرسوله، وإذا ثبت أنه محادٌّ فقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} [المجادلة:20]، و"الأذلُّ" أبلغُ منَ "الذليل"، ولا يكونُ أذلَّ حتى يخافَ على نفسه ومالِه؛ لأن مَن كان دمُه ومالُه معصومًا لا يُستباحُ فليس بأذلَّ؛ يدلُّ عليه قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاس} [آل عمران: 112]، فبيَّن سبحانه أنهم أينما ثُقِفوا فعليهم الذِّلةُ إلاَّ مع العهد، فعُلِم أنَّ مَن له عهد وحَبل يأمنُ به على نفسه وماله لا ذِلَّةَ عليه، وإنْ كانت عليه المسكنةُ؛ فإنَّ المسكنة قد تكون مع عدم الذلَّة، كما دلَّت عليه الآية، وهذا ظاهرٌ، فإن الأذلَّ ليس له قوةٌ يَمتنعُ بها ممَّن أراده بسُوء، فإذا كان من المسلمين عَهدٌ يجبُ عليهم به نَصرُه ومنعُه فليس بأذَلَّ، فثَبَت أن المحادَّ لله ورسوله لا يكونُ له عهدٌ يعصمه" (¬2). * {قُل أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ}: * قال تعالى: {وَلَئِن سَاَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ ¬

_ (¬1) "تفسير ابن كثير". (¬2) "أحكام أهل الذمة" لابن القيم (2/ 825 - 826).

الذين يؤذون رسول الله ملعونون في الدنيا والآخرة

وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 65 - 66]. • عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنه- قال: "قال رجل في غزوة "تبوك" في مجلس يومًا: ما رأيتُ مثلَ قُرَّائنا هؤلاء لا أرغبَ بطونًا ولا أكذبَ ألسِنةً ولا أجبنَ عند اللقاء، فقال رجلٌ في المجلس: كذبتَ، ولكنك مُنافق، لأُخبِرَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فبَلَغ ذلك- النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ونزل القرآن، قال عبدُ الله، فأنا رأيتُه متعلِّقًا بحَقَب (¬1) ناقةِ رسول الله تَنَكبهُ الحجارةُ وهو يقول: يا رسول الله، إنما كنا نخوضُ ونلعب، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: {أَبالله وَآيَاته وَرَسُوله كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} " (¬2). مقالةٌ فاجرةٌ كافرة خاطئةٌ منحرفةٌ ضالةٌ يَكفُرُ صاحبهُا. * الذين يؤذون رسول الله ملعونون في الدنيا والآخرة: * قال تعالى: {إِنَّ الَذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} [الأحزاب: 57]. في ظل التمجيد الإلهي لنبيِّه وصلاتِه عليه هو وملائكته ومَن في الأرض، يبدو إيذاءُ الناسِ لله وللنبي - صلى الله عليه وسلم - بشعًا شنيعًا ملعونًا قبيحًا. ¬

_ (¬1) الحَقَب: الحزام الذي يكون في مؤخرة الحيوان. (¬2) صحيح: أخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير" (4/ 63)، ورجاله رجال الصحيح إلا هشام ابن سعد فلم يخرج له مسلم إلا في الشواهد كما في "الميزان"، وأخرجه الطبري من طريقه (10/ 172) وله شاهد بسند حسن عند ابن أبي حاتم (4/ 64) من حديث كعب ابن مالك.

وَيزيدُه بشاعةً وشناعة أنه إيذاء من عبيده ومخاليقه، وهم لا يبلغُون أن يؤذوا الله، إنما هذا التعبيرُ يُصوِّرُ الحساسيةَ بإيذاءِ رسوله، وكأنما هو إيذاءٌ لذاته جل وعلا، فما أفظعَ! وما أبشعَ! وما أشنع!. ° قال ابن القيم: "وليس أذاه سبحانه من جِنسِ الأذى الحاصل للمخلوقين، كما أن سُخطَه وغَضبَه وكراهتَه ليست من جنس ما للمخلوقين" (¬1). {لَعَنَهُمُ}: "واللعن هو الطردُ من رحمةِ الله سبحانه، والعربُ يقولون: "لَعنتُ الكلبَ"، أي: طردته. وكذلك: "لعنتُ الذئب"، ويُقال للذئب: "اللَّعين". والذين يؤذون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ملعونون في الدنيا والآخرة، أي: مطرودون من رحمة الله فيهما، أمَّا الطردُ من رحمة الله في الدنيا، فإنه طرد من دائرة الإيمان الذي هو قرار وأمن في القلوب، وراحة من عذابِ الشكِّ واليأس والحَيرة، والطردُ في الدنيا حرمانُ النفس من المعرفة الذكيةِ في القلوب، وهي معرفةُ الله، ومعرفةُ النفس مَبْدَءً ومعادًا، ثم إنهم في الآخرة لا يُعاقَبون بالطرد من الرحمة فحسب، وإنما يَجدون عذابًا يُهينهم ويَستذلُّهم، قد أعدَّه اللهُ بجلالِه لهم، غضبًا عليهم، واستنكارًا لموقفهم، ونَلحظُ هنا أنهم في الدنيا يُعاقَبون عقوبةً سلبيةً، وهي الطردُ من الرحمةِ فحسب، وفي الآخرة يُعاقَبون عقوبتيْن، عقوبة سلبية، وهي الطرد من الرحمة، وهذه عقوبة قاسيةٌ حين ينظرون إلى الذين فُتحِت لهم أبوابُ الرحمة وهَنئِوا برضوانه سبحانه، ثم هناك عقوبةٌ أُخرى، وهي العذابُ ¬

_ (¬1) "الصواعق المرسلة" لابن القيم (4/ 1450 - 1451).

الجزاء من جنس العمل: جحدوا رحمة الله للعالين، وآذوه - صلى الله عليه وسلم -، فطردهم الله من رحمته

المُذِلُّ الذي أعدَّه اللهُ لهم" (¬1). * الجزاء من جنس العمل: جَحَدوا رحمة الله للعالين، وآذَوه - صلى الله عليه وسلم -، فطردهم الله من رحمته: * قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. أرسله الله رحمةً للعالمين، مَن آمن به، ومَن لم يؤمنْ به، والبشرية كلُّها قد تأثَّرت بالمنهج الذي جاء به -سابقًا لها- طائعةً أو كارهةً، شاعرةً أو غيرَ شاعرة؛ وما تزالُ ظِلالُ هذه الرحمةِ وارفةً، لمن يريدُ أن يستظلَّ بها، ويستروحَ فيها نسائمَ السماء الرخيَّة، في هجير الأرض الُمحرِق .. إن البشرية اليومَ لفي أشدِّ الحاجة إلى حسَّ هذه الرحمةِ ونداها، وهي قلقةٌ حائرة، شاردةٌ في متاهات المادية، وجحيم الحروب، وجفافِ الأرواح والقلوبِ. • قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا رحمةٌ مهداةٌ" (¬2). آية نَفسٍ حانيةٍ نفسُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -!، كانت الرحمة مُهجتَه .. تنتشر الرحمة لديه - صلى الله عليه وسلم - حتى يغطَّي دفؤها كلَّ مقرورٍ، وحتى تشملَ الأحياءَ جميعًا من إنسانِ وحيوان .. ويدورُ قلبُه الكبير مع دواعي الرحمة حيث تدور، والرحمةُ عنده ليست نافلةً من نوافل البِر، بل واجبًا من واجبات الرشد، ¬

_ (¬1) "من أسرار التعبير القرآني" دراسة تحليلية لسورة الأحزاب (ص 390 - 391) للدكتور محمد محمد أبو موسى -مكتبة وهبة- مصر. (¬2) صحيح: أخرجه ابن سعد، والحكيم عن أبي صالح مرسلاً، والحاكم في "المستدرك" عن أبي هريرة، وصححه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" برقم (490)، و" صحيح الجامع" برقم (2341)، وكذا أخرجه الدارمي، والبيهقي في "شعب الإيمان".

وتَبِعةً من تَبِعات الحياة .. فالكلمةُ الطيبة رحمة، والنظرةُ العاطفةُ رحمة، والصَّفح الجميل رحمة، وعيادو المريض رحمة، بل وتشميتُ العاطسِ رحمة .. وسنفرد لرحمته الحانية فصلاً خاصًّا في كتابنا المقبل .. ونكتفي هنا بأروع نماذج الرحمة تُجاهَ حِفْنةٍ من النمل: • عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَرَصتْ نملةٌ نَبيًّا من الأنبياء، فأمَرَ بقرية النَّمل فأُحرقتْ، فأوحى اللهُ تعالى إليه: أنْ قَرَصَتْكَ نملةٌ أَحْرَقت أُمًّةً من الأمَم تُسبِّح؟! " (¬1). انظروا كيف تتألَّقُ إنسانية محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ورحمته، وكيف تسمو وتُشرق!! انظروا، إن الذي يؤاخذُه الله في هذه القصَّة ويعاتُبه على تخلِّيه عن الرحمة تُجاهَ حفنةٍ من النمل، ليس فردًا عاديًّا .. بل هو نبيٌّ من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. إن الصورة على بساطتها تتضمَّن أروعَ نماذج الرحمةِ على الإطلاق، وتكشفُ عن رحمةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - العَذْبة .. كما لا يُكشف شيء مثلها. حفنةٌ من النمل، لا يدرك الناسُ لها -ولا لآلافٍ مثلِها قَدْرًا -أيَّ قَدْرَ، ترتفعُ في عين "محمد" - صلى الله عليه وسلم - إلى الحدِّ الذي يتصوَّر لها عنده قداسةٌ وحرمة!. وتُقَدَّس حقوقها إلى الحدِّ الذي يواخَذ عنده نبيٌّ من الأنبياء؛ لأنه اعتدى عليها .. !! بل إنه حينَ يأمر بقتل حشرةٍ سامَّةٍ تفترسُ الناس بلَدْغِها .. يجعل المَهارةَ في قتلِها مرادفةً للرحمة بها .. انظروا: • قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَتَل وَزَغَةً في أَوَلِ ضرْبَةٍ، كُتِب له مئَةُ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.

حَسَنَة، ومَن قَتَلها في الضَّرْبَة الثَّانية، فلهُ كذا وكذا حسنَة، وِإنْ قتلها في الضرْبة الثالثة، فله كذا وكذا حَسَنة" (¬1). إن الوَزَغة حشرة سامةٌ كالأفعى، والخلاصُ من شرِّها ضروري .. ولكن حتى هنا لا يَنسَى "محمد" - صلى الله عليه وسلم - فينشيءُ مِن مثوبةِ الله سبحانه جائزةً لمن يُجهِزُ على تلك الحشراتِ القاتلة، دونَ أن يُسبّب لها ألَمًا -أيَّ ألم-!! أجلْ، جائزةٌ لمن يُصيبُ الهدفَ دون أن يُبعثَ منه أنين .. !! .. ذلك أنَّ الرفقَ والرحمةَ عند محمد - صلى الله عليه وسلم - هو جوهرُ الحياة وزينتُها. • قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما كان الرِّفْقُ في شيءٍ إلاَّ زَانَه، ولا نُزع من شيءٍ إلاَّ شانه" (¬2). هذه وَمْضةٌ من وَمَضاتِ رحمةِ محمدٍ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. رحمتُه بالناس .. ورحمتُه بالأحياء جميعًا .. رحمةُ الرحمةِ المهداة الذي أرسله الله رحمةً للعالمين. • قال - صلى الله عليه وسلم -: "الراحمون يرحَمُهم الرحمنُ تبارك وتعالى .. ارحَموا مَنْ في الأرضِ يرحَمْكم مَن في السماء" (¬3). • وقال - صلى الله عليه وسلم -: "بينما كلبٌ يُطيف بركيَّة (¬4) كادَ يقتله العطشُ، إذْ رأته ¬

_ (¬1) رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة. (¬2) رواه أحمد، ومسلم عن عائشة. (¬3) صحيح: رواه أحمد، وأبو داود، والتر مذي، والحاكم، وزاد أحمد والترمذي والحاكم: "والرَّحم شُجْنةٌ من الرحمن، فمَنْ وصَلَها وصلَهُ الله، وَمَن قطعها قطعه الله .. " وصححه الألباني في "الصحيحة" (925)، و"صحيح الجامع" (3522). (¬4) الرَكِّية: البئر.

بَغِيٌّ من بغايا بني إسرائيل فنَزَعت مُوقها (¬1)، فاستقتْ لهُ به، فغُفِر لها" (¬2). • وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دخلت امرأةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ رَبَطتها؛ فلمْ تُطعِمها، ولم تَدَعْها تأكلُ مِنْ خَشاشِ الأرض؛ حتى ماتت" (¬3). فمن وَسِعت رحمتُه الأحياءَ وجَحده أبعدُ الناس عن الرحمة، حُقَّ لهم أن يُطردوا مِن رحمةِ الله في الدنيا والآخرة جزاءً وفاقًا. * {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}: * قال تعالى: {إنَّ شَانِئَكَ هوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر: 3]. ° قال ابن جرير الطبري: "إن مُبغِضَك -يا محمد- وعدوَّك هو الأبتر .. يعني بالأبتر: الأقل الأذلَّ المنقطعَ دابرُه الذي لا عَقِبَ له". ° عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "قَدِم كعبُ بنُ الأشرف مكةَ، فقالت له قريشٌ: أنت سيدُهم، ألا ترى هذا الصنبور المُنبترَ من قومه يزعمُ أنه خيرٌ منَّا، ونحن أهلُ الحَجيج وأهلُ السِّدانة وأهلُ السِّقاية!! فقال: أنتم خيرٌ منه .. قال: فنزلت: {إِنَّ شَانِئَكَ هوَ الأَبْتَرُ} " (¬4). {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}: يَردُّ اللهُ الكيدَ على كائديه، ويؤكِّدُ اللهُ سبحانه أن الأبترَ ليس هو محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، إنما هم شانؤوه وكارهوه. ولقد صَدَق فيهم وعيدُ الله، فقد انقطع ذِكرُهم وانطوى، بينما امتد ¬

_ (¬1) المُوق: الخُفُّ. (¬2) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة. (¬3) رواه أحمد، والبخاري، ومسلم، وابن ماجه عن أبي هريرة، والبخاري عن ابن عمر. (¬4) إسناده صحيح: رواه البزار، وأخرجه ابن جرير (3/ 330) وقال ابن كثير: إسناده صحيح.

ذِكرُ محمد وعلا، ونحن نشهدُ اليومَ مِصداقَ هذا القولِ الكريم، في صورةٍ باهرة، واسعةِ المدى كما لم يَشهَدْه سامِعوه الأوَّلون. إن الإيمانَ والحق والخيرَ الذي جاء به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - من عند ربِّه لا يمكن أن يكونَ أبتر، فهو ممتدُّ الفروع عميقُ الجذور، وإنما الكفرُ والباطلُ والشر هو الأبتر مهما ترعرع وزَهَا وتَجبَّر. إن مقاييسَ الله غيرُ مقاييس البشر، ولكنَّ البشرَ ينخدعون ويغترُّون فيَحْسَبون مقاييَسهم هي التي تقرر حقائقَ الأمور! وأمامَنا هذا المَثَلُ الناطق الخالد. فأين الذين كانوا يقولون عن محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - قولتهم اللئيمة، وينالون بها من قلوبِ الرعاع أتباع كلّ ناعق، ويَحسبون أنهم قد قضَوا على محمد - صلى الله عليه وسلم - وقطعوا عليه الطريق، أين هم؟ وأين ذِكراهم؟ وأين آثارُهم؟ إلى جوارِ الكوثر من كلِّ شيء، ذلك الذي أوتيه مَن كانوا يقولون عنه: الأبتر؟!. إنَّ الدعوةَ إلى الله والحقِّ والخيرِ لا يمكنُ أن تكونَ بتراءَ، ولا يمكن أن يكونَ صاحبُها أبتر، وكيف وهي موصولةٌ بالله الحيِّ الباقي الأزَليِّ الخالد؟ إنما يُبترُ الكفرُ والباطلُ والشرُّ ويُبتَرُ أهلُه، مهما بدا في لحظةٍ من اللحظات أنه طويلُ الأجل ممتدُّ الجذور. وصدق الله العظيم .. وكَذَب الكائدون الماكرون. * لطيفة وإِعجاز: سبحانَ مَلِكِ الملوك!! سبحان مَن كلامُه القرآنُ -وكلامُ المُلوك ملوكُ الكلام-!.

انظر إلى بعضِ أسرار البيان وإعجازِ القرآن في سورة "الكوثر"، كلُّها تدورُ على أن شانِئَ النبيِّ هو الأبترُ تصدِّق ذلك سِيرته: ° "إنَّ هذه السورةَ عَشْر كلماتٍ في الكتابة، إشارةً إلى أن تمامَ بَتْرِ شانئه يكونُ مع تمام السَّنةِ العاشرةِ من الهجرة، وكذا كان، لم تَمْضِ السَّنةُ الحاديةَ عشْرةَ من الهجرة وفي جزيرةِ العرب إلاَّ مَن يَرى أشرفَ أحواله بَذْلَ نفسِه ومالِه في حُبِّه، وإذا أضْفنا إليها الضميرين المستترْينِ كانت اثنَتْي عشْرة، وفي السَّنة الثانيةَ عشْرةَ من النبوَّة بايعه - صلى الله عليه وسلم - الأنصارُ على مُنابذةٍ الكفار، وإذا أُضيف إلى العشرةِ الضمائِرِ البارزةِ الخمسةُ كانت خَمْس عشرة، فتكون إشارةً إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - عند تمام السَّنةِ الخامسةَ عشْرةَ من نبوَّته يَبسُطُ يَدَه العاليةَ لبترِ أعدائِه، وكذا كان في وقعة "بدر" الرفيعة القَدْر، ففي ضمائرِ الاستتارِ كانت "البيعةُ" وهي مستترة، وفي الضمائرِ البارزة كانت "بدر" وهي مشتهرة، وإذا أضيف إلى ذلك الضميرانِ المستترانِ كانت سَبْعَ عشرة، وفي السَّنة السابعةَ عشْرةَ، من نبوَّته كانت غزوةُ "بدر الموعد"، وفَّى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوعد في الإِتيان إلى بدرٍ للقاءِ قريش للقتال ومقارعةِ الأبطال، فآذَنَهم اللهُ فلم يأتوا، وإنما اعتُبر ما بعد الهجرة من أحوال النبوة عندما عُدَّت الكلمات الخطيَّة العشر لكونها أقوى أحوالِ النبوة -كما أن الكلماتِ الخطيةَ أقوى من الضمائر وإنِ اشترك الكلُّ في اسم الكلمات-، فلذلك أُخذ تمام البتر للشانئ، وهو ما كان في السنة الحاديةَ عشْرةَ من هلاك أهل الرِّدة وثباتِ العرب في صفة الإسلام .. ولما ضُمَّت الضمائرُ البارزة الخمسة -التي هي أقربُ من المستترة إلى الكلماتِ الخطية وأضعفُ من الكلمات الخطية - اعتُبر من أولِ السورةِ لمناسبةِ ما كان من ضعف الحال فيما

كان قبل الهجرة، فوازى ذلك السنةَ الثانيةَ من الهجرة التي كانت فيها غزوة "بدرٍ الكبرى"، وهي وإن كانت من العِظَمِ أمر بالغ جدًّا، لكنها كانت على وجهٍ مخالف للقياس، فإنَّ حالَ الصحابة - رضي الله عنهم - كان فيها في غاية الضَّعف، ولكونها أولَ ما وقع فيه النصر من الغزوات لم تكن نفوس المخالفين مُذعِنةً؛ لأن ما بعدها يكون مِثْلَها، فإذا ضُمَّ إلى ذلك الضميران المستتران -وهما أضعف من البارز- انطبق العددُ على سَنةِ غزوةِ "بدر الوعد" في سنه أربع، وهي -وإن كانت قويةً لكونِ قريش ضَعفوا عن اللقاء - لكنْ كان حاَلُها أضعفَ من "بدر" التي وقع فيها القتالُ وأستر، وكونُ كلماتِها الخطيةِ والاصطلاحيةِ التي هي أبعاضُ الكلماتِ الخطية سبْعَ عشْرةَ مؤذِنٌ بأن الأمرَ في {فَصَلِّ} مُصوَّبٌ بالذات وبالقصدِ الأول إلى الصلواتِ الخمس التي هي سَبْعَ عشْرةَ ركعة، وأن مَن ثابر عليها كان مُصليًا خارجًا من عُهدةِ الأمر، فإذا قُصِدَتْ في السَّفَرَ بما اقتضته صِفة التربية بالإحسان نَقَصت بقَدْرِ عِدَّةِ الضمائرِ سوى الذي وفى الأمر بها؟ لأن الأمرَ الناشئَ عن مَظهرِ العَظمة لا يليق فيه التخفيف بنفس كلمةِ الأمر، وإذا أضفنا إليها كلماتِ البسملة الأربعَ كان لها أسرار كبرى من جهةٍ أخرى، وذلك أن الكلماتِ الخطيَّةَ تكون أربعَ عشْرةَ إشارةً إلى أن ابتداءَ البَتْرِ للأضداد يكونُ بالقوَّة القريبة من الفِعل بالتهيئ له في السَّنةِ الرابعةَ عشْرةَ من النبوة، وذلك عامَ الهجرة، فإذا أضفنا إليها الضمائرَ البارزة التي هي أقربُ إلى الكلمات الخطية -وهي خَمْسة- كانت تِسْعَ عشرة، وفي السنةِ التاسعةَ عشْرةَ من النبوة -وهي السادسة من الهجرة- كان الفتحُ المُبين على الشانِئين الذي أنزل الله فيه سورة "الفتح"، فإذا أضفنا إليها الضميرين المستترين كانت إحدى وعشرين

وهي سَنة ثمانِ من الهجرة سَنَة الفتح الأكبر الذي عمَّ العِلمُ فيه بأن الشانئَ هو الأبتر، وإذا اعتَبَرْتَ خروفَها المتلفَّظَ بها كانت أربعةَ وأربعين حَرْفًا، فإذا ناظَرْتها بالسِّنين مِن أولِ حينِ النبوة كان آخِرها سنةَ إحدى وثلاثين من الهجرة، وهي سنة البتر الأعظم لشانئِهِ الأكبر الذي مَزَّق كتابه، وكان مالِكًا لبلاد اليمن، وهو قَدْرٌ كبيرٌ من بلاد العرب، وكذا لغيرهم مما قارَبَ بلاده، وكانت قريشٌ تجعلُه مِن عدادهم، وهو كسرى ملك الفرس، ففيها كان انقراضُ فلكِهم بقتل آخِرِ ملوكِهم "يزدَجِرْد"، كما أنك إذا اعتبرت كلماتِها الخطيةَ مع الضمائر البارزة التي هي كلماتٌ اصطلاحية -دون ما استُتر- فإنَّ وجوبَ استتارِه مَنع من عَدِّهِ كانت تسْعَ عشْرةَ كلمة، فإذا اعَتَبْرت بها ما بعد الهجرة وازَتْ وقتَ موتِ "قيصَر" طاغية الروم في سنةِ تِسْعَ عشْرَة من الهجرة أهلكه الله، وقد تجهَّز إلى قتال العرب بالإسكندرية بنفسه، وأمر ألاَّ يتخلَّف عنه أحدٌ من الروم فكَسَر الله بموته شوكةَ الروم، واستأسدت العربُ عند ذلك، فكانت الأحرُفُ مشيرة إلى بتر الشانئ من الفرس، والكلماتُ مشيرةً إلى بتر الشانئ من الروم، والفرس أولى بإشارةِ الأحرف لأنهم ليسوا بذَوِي عِلم، والروم بالكلمات لأنهم أهلُ علم، والكلماتُ أقربُ إلى العلم، وإذا اعتَبَرْت أحرفَ البسملة اللفظيةَ كانت ثمانيةَ عَشَر حرفًا، فإذا جعلتها سِنين من أول النبوة كان آخرُها سنةَ خمس من الهجرة، وفيها كانت غزوة "الأحزاب"، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد إنصرافهم منها-: "الآن نغزوهم، لا يغزونا"، فهو أولُ أخذِ الشانئِ في الانبتار، وإذا اعتبرتَ الأحرفَ بحسبِ الرسم كانت تسعةَ عشَرَ آخرُها سنةَ ستٍّ، هي عُمرةُ الحديبية سنةَ الفتح السّبَبي، وهو الصّلحُ الذي نزلت فيه سورةُ "الفتح" وسماه الله فتحًا، وقال

معجزة متجددة

النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنه أعظمُ الفتح"، فكان سببُ الفتح الأعظم بخُلطةِ الكفارِ لأهل الإسلام بالصُّلح، فأسرعوا إلى الإسلام بالدخول فيه لِمَا رَأَوا من محاسنِ الدين وإعجازِ القرآن، فكانوا يومَ الفتح عَشَرةَ الاَفٍ -بعد أن كانوا قبلَ ذلك بسنتين يومَ الحديبية ألفًا وأرَبَعمئة-، والله الموفق. هذا يسيرٌ من أسرارِ هذه السورة، وقد عُلم منه من إعجازِها ما يشرحُ الخواطر ويُبهج النواظر؛ لأنه يفوقُ حُسنًا على الرياض النواضر، وعُلم أيضًا جنونُ الخبيثِ المَسخرةِ مُسيلِمةَ الكذاب -عليه اللعنةُ والتباب، وله سوء المنقلب والمآب-، حيث قال في معارضتها: "إنا أعطيناك الجماهر، فَصلِّ لربك وهاجر، إنا كفيناك المُكابر أو المُجاهر"؛ لأنه كلامٌ -مع أنه قصيرُ المدى-، رَكيكُ اللُّحمة والسدى، غريقُ الساحة والفنا في الهلك والفنا، ليس فيه غَنى، بل كلُّه نَصَبٌ وعنا، هَلْهَل النسج، رثُّ القوى، مُنفصمُ العُرى، مخلخَلُ الأرجا، فاسدُ المعنى والبنا، سافلُ الألفاظ، مر الجنا" (¬1) اهـ. فسبحان من علا كلامه على كل كلام. * معجزة متجدِّدة: ° مهما غاصَ العلماءُ في بحارِ النورِ الزواخر، واستخرَجوا منها روائعَ اللآليء وبدائعَ الجواهر، ونثروها أو نَظَموها عقودًا في جِيد الزمان، أو جَعلوها تِيجانًا في مَفرِقَ الأيام للإحاطة بقَدْرِ هذه المعجزة المتجدِّدة لنبيِّنا، فلن يبلغوا من ذلك المنتهى: "إن هذه الأرض، بأركانها الأربعة، وقارَّاتها الخمس، وملياراتِها السِّتة، وفي دَوْرات أيَّامها السَّبعة، لَتَشْهَدُ بأن ¬

_ (¬1) "نظم الدرر" للبقاعي (22/ 294 - 298).

أعلى وأغلى مثل للحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باق ما بقيت دنيا الرحمن

اسم النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - يتردَّدُ على مدارِ ساعاتِ اليوم، بل دقائقِ الساعة، بل ثوانيِ الدقيقة، بل أجزاءِ أجزاءِ الثانية .. يترَدَّدُ اسمُ محمد - صلى الله عليه وسلم - كلَّ لحظةٍ تحتَ كلّ سماء، فما مِن نَسَمةٍ مسلمةٍ في أرجاء العالم المملوء بالمسلمين، إلاَّ وهي تنطقُ اسمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مقرونًا باسم الله الأعلى، في كلِّ صلاةٍ مفروضة أو مسنونة، وتُردِّدُها في كلِّ أذانٍ وإقامةٍ، وفي الثناءِ والدعاء، والذِّكر والشكر .. فتبقى الأرضُ كلُّها تَلْهَجُ باسم النبي - صلى الله عليه وسلم -، من كلِّ أصحابِ اللغات واللهجات، ومن كلّ ذَوِي الجِنسيَّات والعِرْقيَّات، ومِن كلِّ الأعمارِ في كلِّ الأقطار، مَقرونًا باسم الله، ليصدُقَ قولُ الله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 3] .. فهو الذي تمَّ معناه وصورتُه ... ثم اصطفاه خليلاً بارئُ النَّسَم * أَعْلى وأغلى مَثَلٍ للحقِّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - باقٍ ما بَقِيَتْ دُنيا الرحمن: * قال الله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17]. مثلٌ للحقِّ والباطل يضربُه الله: إن الماء لَينزلُ من السماء فتَسيلُ به الأودِية، وهو يَلُمُّ في طريقه غثاءً، فيطفو على وجهه في صورةِ الزَّبد حتى ليَحجُبَ الزَّبدُ الماءَ في بعض الأحيان .. هذا الزَّبد نافشٌ رابٍ منتفخ -ولكنه بَعدُ غثاءٌ-، والماء منْ تحته ساربٌ ساكنٌ هادئ .. ولكنه هو الماءُ الذي يحملُ الخير والحياة .. كذلك يقعُ في المعادن التي تُذابُ لتصاغَ منها حِليةٌ كالذهب

والفضَّة، أو آنيةٌ، أو آلةٌ نافعةٌ للحياة، فإنَّ الخَبَثَ يطفو وقد يَحجُبَ المعدِنَ الأصيل، ولكنه بَعْدُ خَبَثٌ يَذهبُ ويبقى العدن في نقاء. ذلك مَثَلُ الحق والباطل في هذه الحياة، فالباطلُ يطفو ويعلو ويَنتفخُ ويبدو رابيًا طافيًا، ولكنه بَعْد زبدٌ أوْ خَبَث، ما يَلبثُ أن يذهبَ جُفاء مطروحًا لا حقيقةَ له ولا تماسُك فيه .. والحق يظل هادئًا ساكنًا، وربما يَحسبه بعضهم قد انزوى، أو غار، أو ضاع، أو مات، ولكنه هو الباقي في الأرض كالماءِ المحيي والمعدِن الصريح. * وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم: 24 - 26]. إن الكلمةَ الطيِّبة -كلمةَ الحق- كالشجرة الطيبة .. ثابتةٌ سامقةٌ مثمرة .. ثابتةٌ لا تزعزغها الأعاصير، ولا تعصِفُ بها رياحُ الباطل، ولا تقوى عليها مَعاولُ الطغيان، سامقةٌ متعالية، تطِلّ على الشرِّ والظُّلم والطغيان مِن عَلٍ وإنْ خُيِّل إلى البعض أحيانًا أن الشر يَزْحَمها في الفضاء، مثمرةٌ لا ينقطعُ ثمرُها؛ لأن بُذورَها تَنبتُ في النفوس المتكاثرة آنًا بعد آن. وإنَّ الكلمةَ الخبيثةَ -كلمةَ الباطل- كالشجرة الخبيثة، قد تَهيجُ وتتعالى وتتشابك، ويخيَّلُ إلى بعضِ الناس أنها أضخمُ من الشجرة الطيبة وأقوى، ولكنها تظلُّ نافشةً هشَّةً، وتظل جذورها في التربة قريبةً حتى لكأنها على وجهِ الأرض .. وما هي إلاَّ فترةٌ ثم تُجتَثُّ من فوقِ الأرض، فلا قرار لها

ولا بقاء. والخيرُ الأصيل لا يموتُ ولا يَذوِي، مهما زَحَمه الشرُّ وأَخَذ عليه الطريق .. والشرُّ كذلك لا يعيشُ، بل يتهالكُ ويتهشَّم، مهما تضخَّم واستطال. إنَّ الخيرَ بخير! وإنَّ الشرَّ بِشَر. * {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ} {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ}: كلامُ الملوك ملوكُ الكلام، فقد تكفَّل اللهُ بنصرِ نبيِّه .. فقد نصَرَه الله .. هكذا أتت بصيغة الماضي .. قبل هذا الوجود .. وقبل خَلقِ السماوات والأرض بخمسين ألفَ سَنةٍ حين قدَّر الله مقاديرَ الخلائق .. بل قبل ذلك .. فالقرآن من كلام الله، وكلامُ الله صفة لله .. انتهت القصة والأيامُ كفيلةٌ بإبرازِ ذلك .. يَبقى ذِكرُه، ويتولَّى الله نُصرتَه، ويذهبُ شانؤوه إلى مزابلِ التاريخ. {حَسْبُكَ اللهُ}، يَكفيك من كلِّ ما أهمَّك، يَحفظُك في الأزمات، وَيرعاك في المُلِمَّات، ويَحميك في المُدْلَهمَّات. {حَسْبُكَ الله}، فهو ناصرُك على كلِّ عدو، ومُظهِرك على كلِّ خَصم، ومؤيِّدك في كلِّ أمر، يُعطيك إذا سألت، ويغفرُ لك إذا استغفرت، وَيزيدُك إذا شكرت، ويَذكُرُك إذا ذَكرت، وينصرك إذا حاربت، ويوفِّقك إذا حَكمت. {حَسْبُكَ اللهُ}، يَمنحُك العِزَّ بلا عشيرة، والغِنَى بلا مال، والحفظَ بلا حَرَس، فأنت المُظَفَّر؛ لأنَّ الله حَسْبُك! وأنت المُوفَّق لأنَّ الله حَسْبُك،

فلا تَخَفْ من عينِ حاسد، ولا مِن كيد كائد، ولا مِن مَكْرِ ماكر، ولا مِن خُبثِ كافر، ولا من حِيلةِ فاجر؛ لأن الله حسبُك. {حَسْبُكَ اللهُ}، مِن صولةِ الباطل، ودعايةِ الشِّرك، وجَلَبَةِ الخصوم، ووعيدِ اليهود، وخُبْثِ النصارى وكفرِهم، وتَربُّص المنافقين، وشماتةِ الحاسدين. {حسْبُكَ اللهُ} .. إذا أعرَضَ القريب، وشَمِت العدو .. إذا أتت المصائب، وتوالَتِ الخطوب، وحفَّتِ النكبات. {حَسْبُكَ اللهُ} .. إذا أبطأ النصرُ، وتأخرَّ الفتح، واشتدَّ الكرب، وادْلَهمَّ الخَطْب .. أنت مَحفوظٌ لأنك بعين الله، وأنت محروسٌ لأنك خليلُه، وأنت في رعياته لأنك رسولُه، وأنت في حِمايته لأنك عبدُه المُجتبَى، ونبيُّه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ولأنك الجوهرة اليتمية التي ما جاد بِمثلها الزمان -مِن قَبَلك ولا من بعدِك- إلى أن يَرِثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها. ° قال ابن عباس - رضي الله عنه - ولله درُّه -: "واللهِ ما خَلَق الله وما ذَرَأ وما بَرَأ نَفْسًا أكرمَ عليه من محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - .. وما أقسَمَ اللهُ بحياةِ أحدٍ غيره". * قال تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] .. فهو الذي تَمَّ معناهُ وصورتُهُ ... ثُم اصطفاه خليلاً بارئُ النَّسَمِ * * *

عذرا رسول الله

عُذْرًا رسول الله (¬1) "فِي الذب عَنْ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -ورَدْعِ البقَرِ الدَنِمَاركِيِّ الحلُوب": إِلَى قَيْءِ الحَضَارَةِ، بَلْ سَقْطِ السَّفَالَةِ، وأَدْعِيَاءِ التَقَدُّم، ولُصُوصِ التَمَدُّنِ، أُولَئِكَ الّذِينَ سَفِهُوا، وَأوْحَلُوا، فَعَابُوا أَطْهَرَ الخَلْقِ، وأَشْرَفَ الرسل، فَعَلا وسَفِلُوا، وطَهُرَ ودَنِسُوا، وخَلُدَ وذَهبوا إِلَى مَزَابِل التَّارِيخ. إِلَيْهِمْ وإلَى أَذَنَابِهِمْ، أُولئِكَ الذين أَعْمَاهُمْ بَرِيقُ الغَرْبِ الخَادعُ، فَرَاحُوا يَتَهَافتونَ عَلَيْهِ تَهافُتَ الفَرَاشِ عَلى النَّارِ، بَلْ رَاحُوا يَتدافعون عليْهِ تَدَافُعَ الحُمُرِ عَلَى المُسْتَنْقَع الآسِنِ، إليهمْ -وليْتهُمْ يعقلُون- .. حِمَمٌ تَثُورُ وأَنْفُسٌ تَتَفَطرُ ... وأَزِيزُ أَفْئِدَة تَكَادُ تَبَخَّرُ ومَدَامِعٌ بِدُمُوعِهَا ثَمِلَ (¬2) الثَّرَى ... وتَدَفقَتْ بِدِمَائِهِنَّ الأبْحُرُ تَرْنُو إِلَيْكَ شَوَاخِصًا مَشْدُوهَةً (¬3) ... قَرْحَى فمَا تَغُفُو ولاَ هِيَ تبصِرُ وجَوانِحٌ كَالنارِ تَحْطِمُ نَفْسَهَا ... وتَكَادُ مِنْ غَيْظ بِهَا تَتَنَاثَرُ وجِبَالُ غَيْمٍ تَسْتَحِيلُ مجامِرًا ... وتَكَادُ تَقْذِفُ بِالجِمَارِ وتهْمُرُ (¬4) واليَمُّ مَوَّارُ الجَوَانِحِ هَائِجٌ ... يَنْهَى جُمُوعَ العَالَمِينَ وينذِرُ يَسْتَأذِنُ الجَبَّارَ يُغْرِقُ جَمْعَهُمْ ... فَلَطَالَمَا نَقَضُوا العُهُودَ وأَخْفَرُوا وِإخَالُ هَذِي الشمْسَ تَسالُ رَبَّهَا ... أَنْ تَحْرِقَ الكَوْنَ الأَثِيمَ وتَصْهَرُ! ¬

_ (¬1) قصيدة: "أين الأزهرُ!! " لشقيقي الشاعر عبد الله حسين عبد الله العفاني. (¬2) ثمل: سَكِر. (¬3) مشدوهة: متحيِّرة. شَده: شُغِل وتحيَّر. (¬4) تهمُر: همر: صبَّ.

وتَخِرُّ تَحْتَ العَرْشِ تَرْجُو رحْمةً: ... إِنْ أَمْهَلَ البَاغِينَ ألاَّ تُسْفِرُ والأرْضُ مِنْ حَنَقٍ تَمُورُ زَلازِلاً ... وتَوَدُّ لَوْ تَئِدُ العُصَاةَ وتَقْبُرُ حَتَّى النَّسِيمُ العَذْبُ يُعْلِنُ ثَوْرَةً ... ويَثُورُ إِعْصَارًا يُبِيدُ .. يُدَمِّرُ ضَجَّ الوُجُودُ بِنَا وثَارَ جَمَادُهُ ... أَنْ يُسْتَضَامَ بِهِ النَّبِيُّ الأنْوَرُ * * * أَعِصَابَةَ "البَقَرِ الحَلُوبِ" رُوَيْدَكُمْ ... فَسَوَائِمُ (¬1) الأبْقَارِ منكُمْ أحْضرُ (¬2)! مَا كُنْتُ أَهْوَى أَنْ أَسُومَ قَطِيعَكُمْ ... بِنِصَالِ قَافِيَةٍ تَفُلُّ (¬3) و"تَنْحَرُ" مَا كنتُ أهْوَى لاَ لِرِفعَةِ قَدْرِكِمْ ... فَلأَنْتُمُ أَدْنَى لَدَيَّ وأحْقَر لكِنْ لأسْمُوَ فَوْقَ وَهْدَةِ وَحلِكُمْ ... حَيْثُ الجِنَانُ ومِسْكُهُنَّ الأذْفَرُ لكِنَّكُمْ تَأبَوْنِ غَيْرَ قَصِيدَة ... تبدِي سُعَارَ "جُنُونِكُمْ" وتُحذِّرُ وكذلك الأبْقَارُ يُعْضِلُها (¬4) الحِجا (¬5) ... ويسُوسُهَا السَّوْطُ الرفيعَ ويزْجرُ! فَلتُفْسَحُوا لِي ضيِّقَاتِ صُدُورِكُمْ ... أَجْلُوا غِشاوَةَ قَلبِهَا واطَهِّرُ * * * أَيْنَ الحَضَارَةُ يَا رَجِيعَ (¬6) حَضَارَةٍ ... رَعْنَاءَ مِنْ وَحْلِ البَذَاءَةِ تَسْكَرُ! ¬

_ (¬1) سوائم: جمْع سائمة: الإبل التي تُتْرَك ترعى حيث شاءت. (¬2) أحْضر: أكثر تحضُّرًا. (¬3) تَفُلُّ: فَل السيف: ثَلَمَه وكسر حدّه. (¬4) يُعضِلُها: أعْضَلَه الأمر: غَلَبه، والمقصود: أنها لا تعقل. (¬5) الحِجا: العَقْل. (¬6) رجيع: عَذْرة: غائط.

أمِنَ الحَضَارَةِ أنْ أسُبَّ جَهَالَةً ... مَنْ لَسْتُ أَدْرِي سَمْتَهُ بَلْ أَسْبُرُ (¬1) أتَرَوْنَ خَيْرَ الخَلقِ صَبًّا وَالِهًا ... فَمُنَاهُ مِنْ خَلفِ النِّسَاءِ تَقَصَّرُ؟! أوَمَا خَبَرْتُمْ كَمْ تَزَوَّجَ ثيبا (¬2)؟! ... والزَّهْرُ بَعْدَ قِطَافِهِ مَا يَسْحَرُ! ما رَامَ أَبكَارًا هُنَالِكَ خُرَّدًا (¬3) ... يَنْدَى لَهُن الحُسْنُ بَلْ يَتَخَدَّرُ بَلْ للأرَامِلِ كَيْ يَصُونَ عَفَافَهَا ... فَتَقَر حَاضِنَةٌ وَيَحْلُمُ قُصَّرُ وَيَلُمُّ شَعْثَ قَبَائِلٍ حَوْلَ الهُدَى ... فَيَضُمُّ أقْطَارًا (¬4) لها ويُصَاهِرُ وَلِحِكْمَة لَسْنَا نَرَاحُ (¬5) طُيُوبَهَ ... ولَئِنْ تَفَانَى فِي سَنَاها النَّاظِرُ هُوَ إِنما بالوَحْي عَاشَ حَيَاتَه ... بالوَحْى ما يبدِي وُيخْفِي الخَاطِرُ مَا إِنْ يُجَاوِزُ امْرَهُ وسَبيلَهُ ... لله إِذ يَرْسُو وإِذْ هُوَ يبحِرُ أُحُثَالَةَ الشُّذاذِ أنْتُم مَن هَجَى ... مِنَّا الرسولَ وراحَ فيه يُغَامِرُ؟! أتَرَوْنَ تَعْدَادَ الحَلائِلِ (¬6) سُبَّةً ... وجَريمةً نَكْرَاءَ مَا إِنْ تُغْفَرُ؟! فَقَطيعُكُم أبَدًا يُدِنْدِنُ حَوْلَها ... ويَحُومُ حَول رَبِيعِها وَيُخَوِّرُ (¬7) لَكِن تَعْدَادَ الخَلائِلِ رِفْعَةً ... عَليَاءَ مَا يَرْقَى لها مُتَأخِّرُ!! ¬

_ (¬1) أسبر: سبر الشيء: خَبَرَه. (¬2) ثَيَبَا: الثيِّب: المرأة التي سبق لها الزواج. (¬3) خُرَدَّا: جمع خريدة: وهي البكر التي لم تُمَسّ قط، الحَييَّة، الطويلة السكوت من حياء لا من ذُلِّ، الخافضة الصوت، الخفرة المُستترة. (¬4) أقطارًا: جوانبًا. (¬5) نراحُ: راح الشيء يريحه: وجد رائحته. (¬6) الحلائل: جمع الحليلة: الزوجة. (¬7) الخُوار: صوت الثور وما اشتد من صوت البقرة والعِجْل.

أمَّا مُضَاجَعَةُ الرِّجَالِ فَمتعَةٌ ... وحضارَةٌ تَسْبِي القُلُوبَ وتَأسِرُ!! بَلْ إِنَّ تَعْدَادَ المَحَارِم فِيكُمُ ... شَرَفٌ ومَجْدُ حضارة تَتَفَاخَرُ!! فَلِمَجْدِكُمْ مَجْدُ "الحَمِيرِ" بِحيَنّا ... تَلهُو بقَارِعَةِ الطريقِ وتَفْجُرُ وإذا الحَيَاءُ تَجَاهَلَتْكَ طُيُوبُه ... فعجائِبُ الأقذارِ فيكَ تَكَاثَرُ!! وَلَكُمْ يَسُودُ المُترَفين زَنِيمُهُم (¬1) ... ويُطاوِلُ الأشرافَ قَزْمٌ عاهِرُ!! "أبْقَار" أورُبَّا أما بِرُؤُوسِكُمْ ... مِثْقَالُ ذَرٍّ مِنْ نُهًى تَتَفَكَّرُ؟! فَزَعَمْتُمُ المَعْصُومَ أَسَّسَ أُمَّةً ... بِبَوَاتِرٍ تُحْنِي الرؤوُس وتقْهَرُ!! أوَمَا دَرَيْتُمْ كَيْفَ رَدَّ جِبَالَهَا؟! ... فَعَسَى يَفِي وَلَدٌ ويُسْلِمُ كَافِرُ أتَرَوْنَ لَوْ قَهَرَ الجُسُومَ بِسَيْفِهِ ... كَانَتْ تَهِيمُ بِهِ القُلُوبُ وتَنْصُرُ أفَهَلْ دَرَيْتُمْ أُمَّةً بِسُيُوفِهَا ... تَزْكُو وتَرْشُفُ مِنْ جناهَا الأعْصُرُ؟! فَلتَسْألوا عَنْهَا بُغَاةَ "رُعَاتِكُمْ" ... هَلْ قَرَّ فِي أرْضِ الفراتِ مَجَامِرُ؟! بَلْ كيْفَ تَكْثُرُ والمَعَامِعُ جَمَّةٌ ... وقَدِ ارْتَخَتْ يَدهُا وفُلَّ البَاتِرُ؟! أَمْ هَلْ خَبَرْتُمْ أمَّةً بِحِرَابِهَا ... لَمَّا تَزَلْ فِي كُلِّ صِقع تُزْهرُ؟! ولْتَنْظُرُوا لَمَّا يَزَلْ ببلاَدكُمْ ... يَنْمُو لَنَا الدَّوح الوَرِيفُ ويثمِرُ! ولْتَسْأَلُوا عَنَّا "الهُنُودَ" وَسَلمَهِمْ ... لِمَلائِكٍ يِهُدى الشَّرِيعَةِ تَاجَرُوا! لَمَّا تَزَلْ أمَمُ العِدَا إِذْ أَسْلَمَتْ ... تَزْدَانُ -مِن نَسبٍ إِلَيه- وتَفْخَرُ وِإذَا الجَوَارِحُ (¬2) لَمُ تُرَوِّضْهَا النُّهى ... بَالَتْ مَدَامِعُهَا وغَاطَ (¬3) المِشْفَرُ! ¬

_ (¬1) زنيمهم: الزنيم: ولد الزِّنى الملصق بالقوم وليس منهم. (¬2) الجَوَارحُ: أعْضَاءُ الإنسانِ. (¬3) غاط: قضى حاجتهُ.

عُذْرًا رَسُولَ الله دُونَ خِطَابِكُمْ ... تَعْنُوا فَلاسِفَةُ البَيَانِ وتَعْقُرُ (¬1) مَا زِلْتُ دُونَ حَدِيثكُمْ مُتَحيِّرًا ... لَهْفَانَ أُقْدِمُ تَارةً وأُأَخَرُ!!! مَا زِلْتُ خَلفَ اللَّفْظِ أَلهَثُ جَاهِدًا ... ومَشَاعِرِي بِمَشَاعِرِي تَتَعَثَّرُ!! كيْفَ الحَدِيثُ وذِي شمَائِلُ ثَرَة ... وعَبِيرُ جَنَّاب يَفُوحُ وعَنْبَرُ؟! ونَدًى لِطِيبِ رُضابِه ثَمِل النَّدَى ... واشْتَاقَ وَرْدٌ واسْتَهَامَ صُنُوبَرُ! وإخَالُ أشجارَ الوُجُودِ وَقْد ذَوَتْ (¬2) ... فَإِذَا ذُكِرْتَ خِيَالَها تَخْضَوْضَرُ بَلْ سَبَحَ الضَخْرُ الجَمَادُ بِكَفكُمْ ... بَكَتِ الجِمالُ .. هَفَا إِليكَ المِنْبَرُ مَاذَا أقولُ أنا وتِلكَ سمَاتُكُم ... بَيْضَاءَ تَعْشَى مِن سَنَاها الأسْطُرُ؟! فَليَكْفِنِي شَرَفًا أُنَافِحُ (¬3) عَنكُمُ ... فَلَذَاكَ عِزُّ الدَّهْرِ بَلْ هُوَ اكبَرُ * * * أيْ أمَّةَ الإِسلام أَخْيَرَ أُمَّةٍ ... ثُورُوا لِعْرضِ نَبِيكُّمْ وَلْتَثأرُوا ثُورُوا ولَكِنْ ثَوْرَةً فَوْقَ النُّهَى ... تُوْدي فَما يُجْدِي الهُتَافُ الثَّائِرُ؟ فَلتَطرُدُوهُمْ واقْطَعُوا أذْنَابَهُم ... قَطَعًا تَذِلُّ له الرُّؤُوسُ وتَصْغُرُ بل قاطِعُوهم هم عَبِيدُ دَرَاهِمٍ ... وجِراحُ عَبْدِ المال ما تَتَخَثَّرُ (¬4) وأَرُوا العَوالِمَ مِن مَحَاسِنِ دِينِكُمْ ... ما لَيْسَ يُنْكِرُهُ الكَفُورُ الأَكْفَرُ وَلْتَقْتَفُوا أَثَرَ النَّبِيِّ فطَالَما ... سَكَنَ الشَّرِيدُ لهُ وحَنَّ النَّافِرُ ¬

_ (¬1) تعقرُ: تعقم: لا تلدُ. (¬2) ذَوَت: يبست. (¬3) أنافحُ: أدُافعُ. (¬4) تتخَثَّر: تلتئم.

نبدأ في ذكر أعداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشانئيه عبر التاريخ

ما زالَ سُؤْالٌ في الجَوَانِحِ ثَاِرٌ ... يَذْوِي به القَلبُ الكَلِيمُ ويَزْفُرُ أيثُورُ كَلبٌ (¬1) إِذْ يُسَبُّ رَسُولُنا ... "والرُّكنُ" مَنْزُوعُ اللِّسَانِ وخَائِرُ؟! أنَّى لَهُ ثَأرُ المُحِبِّ وقَلبُهُ ... يَعْمَى لآثارِ الرَّسُولِ ويَهْجُرُ ما زلتُ أَسألُ والعيونُ سَواجِمٌ (¬2) ... دارَ المآذِنِ: أينَ مِصْرُ .. الأزْهَرُ؟ (¬3) * * * نبدأُ في ذِكرِ أعداءِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشانئيه عبرَ التاريخ .. وفي ذِكرِ مصيرِهم ومآلِهم أعظمُ العِبَر لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد .. نَرى كيف ذهبوا إلى مزابل التاريخ تُشيِّعُهم لَعَناتُ اللاعنين جزاءَ تبجُّحِهم وتطاوُلِهم على سيِّد السادات، أزكى وأغلى وأعلى وأحلى البشر رسولِ - صلى الله عليه وسلم - .. وإنْ نعلمُ لبعضهم خاتمة تُذكر فيها العِبرة فموعدنا يومَ القيامة .. اللهُ الموعد .. وهو الذابُّ عن نبيه، {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم: 48 - 49]. * وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)} [الفرقان: 27 - 29]. ¬

_ (¬1) ذكر ابن حجر في "الدرر الكامنة" أن نصرانيًّا سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقذع في السَّب فقطع الكلب رباطه ووثب على عنق الصليبي وقلع زوره في الحال، فأسلم نحو أربعين ألفًا من المغول. (¬2) سواجم: سجمت العين الدمع: صبّته. (¬3) كُتبت السابعة مساء الأربعاء 9 من المحرم 1427 هـ، 8 من فبراير 2006 م.

أبو جهل -لعنه الله-، فرعون هذه الأمة وأكبر أعداء النبي - صلى الله عليه وسلم -

* وقال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [الأحزاب: 66]. * أبو جهل -لعنه الله-، فرعونُ هذه الأُمَّة وأكبرُ أعداءِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: عدوُّ الله أبو جهل، أكبر مُجرمي قريش، وأكبرُ أعداءِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ناصَبَه العِداءَ حتى آخِرِ رَمَقٍ من حياته، ملأ الأرضَ كُفرًا، وعاث في الأرض فسادًا، هو فرعونُ هذه الأُمَّة .. ومِن أكابِرِ شياطينِ الإنس -لعنه الله-. مِن أجل الرئاسة وحسدًا للنبي- صلى الله عليه وسلم -، جَحَد نبوَّة خليل الرحمن محمدٍ! - صلى الله عليه وسلم -، وهو العليمُ بصِدقِ رسولِ - صلى الله عليه وسلم -. • عن المغيرةِ بنِ شُعبة - رضي الله عنه - قال: "إنَّ أولَ يومٍ عَرفتُ فيه رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كنت أنا وأبو جهل بنُ هشام في بعضِ أزِقَّةِ مكة، إذْ لَقيَنَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي جهل: "يا أبا الحكم! هَلُمَّ إلى الله وإلى رسوله، إني أدعوك إلى الله"، فقال أبو جهل: يا محمد، هل أنت مُنتهٍ عن سَبِّ آلهتِنا؟ هل تريدُ إلاَّ أن تشهدَ أنْ قد بَلَّغْتَ؟ فواللهِ لو أني أعلمُ أنَّ ما تقولُ حقًّا ما تَبِعتك!. فانصرف رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقبل عَلَيَّ، فقال: واللهِ إني لأعلمُ ما يقول حقٌّ، ولكن بَنِي قُصَيٍّ قالوا: فينا الحِجابة، فقلنا: نعم، قالوا: فينا النَّدْوة، قلنا: نعم، قالوا: فينا اللواءُ، قلنا: نعم، قالوا: فينا السِّقاية، قلنا: نعم. ثم أطعَموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكَّتِ الرّكَبُ قالوا: مِنَّا نَبِىٌّ! فلا واللهِ لا أفعل" (¬1). ¬

_ (¬1) "دلائل النبوة" للبيهقي، باب اعتراف مشركي قريش بما في كتاب الله تعالى من الإعجاز (2/ 207).

° قال المِسْورُ بنُ مَخْرمة -وهو ابنُ أختِ أبي جهل- لأبي جهل: "يا خالي، هل كنتم تتَّهِمون مُحَمَّدًا بالكذِب قبلَ أن يقولَ ما قال؟ فقال: يا ابنَ أختي، واللهِ لقد كان محمدٌ فينا وهو شابٌّ يُدعَى "الأمين"، فما جرَّبنا عليه كَذِبًا قطُّ. قال: يا خال، فما لكم لا تتَّبعونه؟! قال: يا ابن أختي، تنازَعْنا نحن وبنو هاشم الشرفَ، فأطعَموا وأطعَمْنا، وسَقَوا وسَقَيْنا، وأجارُوا وأَجَرْنا، حتى إذا تجاثَيْنا على الرُّكَب -وكنَّا كفَرَسَيْ رهانٍ- قالوا: "مِنَّا نبيٌّ"، فمتى نُدرِك مثلَ هذه؟ ". ° وقال الأخنسُ بنُ شَريق يومَ بدرٍ لأبي جهل: "يا أبا الحكم، أخبِرْني عن محمدٍ، أصادِقٌ هو أمْ كاذبٌ، فإنه ليس ها هنا من قريش أحدٌ غيري وغيرُك يسمعُ كلامنا؟ فقال أبو جهل: وَيحك! واللهِ إن محمَّدًا لصادق، وما كَذَب محمدٌ قط، ولكنْ إذا ذهبتْ بنو قُصَيٍّ باللواءِ والحِجابةِ والسِّقايةِ والنُّبوَّة، فماذا يكون لسائِر قريش؟ " (¬1). ° وروى البيهقي بسنده عن ابن إسحاقَ: حَدثَني الزُّهريُّ قال: حُدِّثتُ أنَّ أبا جهل وأبا سفيان والأخنسَ بنَ شَريق خَرَجوا ليلةً ليسمعوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يُصلِّي بالليل في بيته، فأخذ كلُّ رجل منهم مجلسًا ليستمع منه، وكلٌّ لا يعلمُ بمكانِ صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا أصبحوا وطَلَعَ الفجر تفرَّقوا، فجمعهم الطريقُ فتلاوَموا، وقال بعضُهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعضُ سفهائِكم لأوقعتم في نفسِه شيئًا. ثم انصرفوا .. حتى إذا كانت الليلةُ الثانيةُ عاد كلُّ رجل منهم إلى مجلسِه، ¬

_ (¬1) "هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى" لابن قيم الجوزية (ص 50 - 51) - دار الريَّان للتراث - القاهرة.

فباتوا يستمعون له، حتى إذا طَلَع الفجر تفرَّقوا، فجَمَعهم الطريقُ، فقال بعضُهم لبعضٍ مثلَ ما قالوا أولَ مرة، ثم انصرفوا .. فلما كانت الليلةُ الثالثةُ أخذ كلُّ رجلٍ منهم مجلسَه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طَلَع الفجرُ تفرَّقوا، فجَمَعهم الطريقُ، فقالوا: لا نَبْرَحُ حتى نتعاهَدَ ألاَّ نعود، فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرَّقوا. فلما أصبح الأخنسُ بن شَريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني -يا أبا حنظلة- عن رأيك فيما سمعتَ من محمد؟ فقال: يا أبا ثعلبة، واللهِ لقد سمعتُ أشياءَ أعرفُها وأعرفُ ما يُرادُ بها، فقال الأخنس: وأنا والذي حَلفتَ به، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيتَه، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيُك فيما سمعتَ من محمدٍ؟ فقال: ماذا سمعتُ؟! تنازَعْنا نحن وبنو عبد منافٍ الشرفَ، أطعموا فأطعمنا، وحَمَلوا فحَمَلْنا، وأعطَوْا فأعطيْنا، حتى إذا تجاثَيْنا على الرُّكَب -وكُنَّا كفرسَيْ رِهان- قالوا: مِنَّا نبيٌّ يأتيه الوحي من السماء .. متى نُدرِكُ هذه؟ واللهِ لا نسمعُ به أبدَّاَ ولا نصدِّقه .. فقام عنه الأخنس بن شَريق" (¬1). فيا له من قزمٍ أحمقَ، مَكَّن الهوى والعنادَ من قلبه، والجحودَ والكفرَ والحسدَ والبَغْيَ مِن صَدره، والمخالفةَ من جوارحه، فصار يتقلَّبُ في ظلماتٍ بعضُها فوقَ بعض، فمُدْخلُه ظُلمة، ومُخْرَجُه ظُلمة، وقولُه ظُلْمة، وعملُه ظلمة، وقَصْدُه ظلمة، وهو متخبِّطٌ في ظلماتِ طبعِه وشِرْكه وهواه، وقلبُه مُظلم، ووجهُه مُظلم .. أشرَقَ له نورُ النبوة، فكان بمنزلة إشراقِ الشمس على بصائرِ الخُفَّاش .. ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" (5/ 62).

بصائرُ أعشاها النهارُ بضَوئِه ... ولاءمَها قِطعٌ من الليل مظلِمُ أصَمَّه اللهُ وأبْكَمَه وأعماه، فهو ميِّت الدارَين، فاقدُ السَّعَادتيْن، قد رضِي بخِزي الدنيا وعذابِ الآخرة، باع التجارةَ الرابحة بالصفقةِ الخاسرة، قلبُه عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - مصدود، وسبيلُ الوصول إلى جنةِ ربِّه وقُربُه منه مسدود، هو وليُّ الشيطان، وعدوُّ الرحمن، وأبو الكفرِ والفسوقِ والعِصيان. * {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}: ° عن سعيدِ بن جُبير قال: "قلت لابن عباس: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 34 - 35]، قال: قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي جهل، ثم أنزله الله - عز وجل- " (¬1). * قال تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35)} [القيامة: 31 - 35]. ° قال الطبري: " يقول تعالى ذِكرُه: لَم يُصدِّقْ بكتابِ الله، ولم يُصَلِّ له صلاة، ولكنه كَذَّب بكتابِ الله، وتولَّى فأدبَرَ عن طاعةِ الله". ° قال قتادة: "قوله: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى}: لا صَدَّقَ بكتابِ الله، ولا صلَّى لله، {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} كذَّب بكتاب الله، وتولَّى عن طاعة الله". ¬

_ (¬1) رواه النسائي، وأبو داود. والحديث رجاله رجال الصحيح كما في "الصحيح المسند من أسباب النزول" (ص169) لمقبل الوادعي.

{ثمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى}. ° قال قتادة: "أي: يتبختر .. وهو أبو جهل ابن هشام، كانت مشيته". ° وقال مجاهد: "كان يتبختر". ° وقال أيضًا: " {يَتَمَطَّى} أبو جهل". ° وقال ابن زيد: "هذا في أبي جهل متبخترًا" (¬1). • وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه المِشية، فقال: "إذا مَشَتْ أمَّتي المُطَيْطاء، وخَدمها أبناءُ الملوكِ -أبناءُ فارسَ والروم-، سُلِّط شِرارُها على خيارها" (¬2). كان أبو جهلٍ عمرُو بنُ هشام يجيءُ أحيانًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَسمعُ منه القرآنَ، ثم يذهبُ عنه، فلا يؤمنُ ولا يُطيع، ولا يتأدبُ ولا يخشى؛ ويؤذِي رسولَ الله بالقول، ويَصُدُّ عن سبيل الله .. ثم يذهبُ مُختالاً بما يفعل، فخورًا بما ارتكب من الشر، كأنما فَعَل شيئًا يُذْكَر .. والتعبيرُ القرآني يتهكَّمُ به، ويَسخرُ منه، ويُثير السُّخرية كذلك، وهو يُصوِّرُ حركةَ اختياله بأنه {يَتَمَطَّى}، يَمُطُّ في ظهره، ويتعاجَبُ تعاجُبًا ثقيلاً كريهًا!. وكم من أبي جهلٍ في تاريخ الدعوة إلى الله، يَسمعُ ويُعرض، ويتفنَّنُ في الصَّدِّ عن سبيل الله والأذى للدعاة، ويمكرُ مَكْرَ السَّيِّء، ويتولَّى وهو ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" (23/ 522، 523، 524). (¬2) صحيح: أخرجه الترمذي (2261)، وابن المبارك في "الزهد" (187) زيادات نعيم بن حماد من حديث ابن عمر، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (801)، والصحيحة" (956). والمطيطاء: بالمدّ والقصر، مشية فيها تبختر ومدّ اليدين، ويُقال: مطوت ومططت بمعنى مددت وهي من المصغرات التي لم يستعمل لها مكبر انظر "النهاية" (4/ 340). والمطا: هو الظهر.

فخورٌ بما أوقع من الشرِّ والسوء، وبما أفسد في الأرض، وبما صَدَّ عن سبيل الله، وبما مَكَر لدين الله وعقيدته وكاد!!. والقرآنُ يواجهُ هذه الخُيلاءَ الشريرةَ بالتهديد والوعيد: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}. ° قال الطبري: "هذا وعيدٌ من الله -عز وجلَّ- على وعيدٍ لأبي جهل". ° وقال قتادة: "وعيدٌ على وعيد كما تسمعون .. زعم أن هذا أُنزل في عدو الله أبي جهل: ذُكر لنا أن نبي الله أَخَذ بمجامع ثوبه، فقال: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}، فقال عدُّو الله أبو جهل: أيوُعِدُني محمد، واللهِ ما تَستطيعُ لي أنت ولا ربك شيئًا، واللهِ لأنا أعزُّ مَن مَشَى بين جَبَلَيْها" (¬1). • وعن مَعْمَرٍ، عن قتادةَ قال: "أخذ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بيده - يعني بيَدِ أبي جهل-، فقال: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}. فقال: يا محمدُ، ما تستطيعُ أنت وربُّك فيَّ شيئًا، إني لأعَزُّ مَن بيْن جَبَلَيْها، فلمَّا كان يومُ بدرٍ أشرف عليهم، فقال: لا يُعبَدُ اللهُ بعدَ هذا اليوم أبدًا، فضَرَب اللهُ عُنُقَه، وقَتَله شرَّ قِتْلَةٍ" (¬2). ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" (23/ 525)، و"تفسير ابن أبي حاتم"، و"تفسير ابن كثير" (8/ 308). (¬2) "أخرجه الطبري في "تفسيره" (23/ 525)، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" (2/ 335)، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 296) إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

° وقال ابن زيد: "قال أبو جهل: إن محمدًا ليُوعِدُني، وأنا أعزُّ أهل مكة والبَطحاء". وكم من أبي جهل في تاريخ الدعوات يعتزُّ بعشيرته وبقوَّته وبسُلطانه، ويَحسبها شيئًا؟ ويَنْسَى اللهَ وأَخْذَه، حتى يأخذَه أهونَ من بعوضةٍ، وأحقرَ من ذُبابة .. إنما هو الأجلُ الموعود، لا يَستقدمُ لحظةً ولا يَستأخِر. ° يا عدوُّ الله، تتمطَّى ومِلءَ بطنِك الخُرء!!، أولّك نُطفةٌ مَذِرة، وآخِرُك جِيفةٌ قَذِرة، وأنت بين هذا وذاك تحمِلُ العَذِرة .. جَدُّك البعيد ترابٌ ذليل، وأبوك القريب ماءٌ مَهين، وأنت خَرجْتَ من مجرى البول مرتين .. أنفٌ يسيلُ وأُذْنٌ كلُّها سَهَكٌ ... والعينُ مُرمِصَةٌ والثَّغْرُ ملعوبُ يا ابنَ الترابِ ومأكولَ الترابِ غدًا ... قصِّرْ فإنك مأكولٌ ومشروبُ بئس أبي جهل طغى وعتا، ونَسِيَ الجبَّارَ الأعلى .. نَسِيَ المبدأ والمنتهى .. نسى المقابر والبِلى. * {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7]: تَبرُزُ صورةُ عدوِّ الله أبي جهل الطاغي الذي طغى وفَجَر، وبَغَى وتكبَّر، وأبطره الغنى، وهي صورةُ اللئيم الصغيرِ النفسِ الحقير، الهابط الذي يُؤتَى المالَ فتسيطر نفسُه به، حتى ما يُطيق نفسَه! ويروحُ يَشعرُ أن المالَ هو القيمةُ العليا في الحياة .. القيمة التي تَهُونُ أمامَها جميعُ القيم وجميعُ الأقدار: أقدارُ الناس، وأقدارُ المعاني، وأقدارُ الحقائق .. وتنطلقُ في كِيانه نفخةٌ فاجرة.

• عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال أبو جهل: "هل يعَفِّر محمد وجهَه بين أظهركم؟! فقيل: نعم، فقال: واللاتِ والعُزَّى لئِن رأيتُه يفعل ذلك لأطأنَّ على رَقبتِه، ولأعُفِّرَنَّ وجهَه في التراب، قال: فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يُصلِّيَ -زعم ليطأَ على رقبته -، قال: فما فجأهم منه إلاَّ وهو يَنْكصُ على عَقبْيه ويتَّقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولاً وأجنحةً. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو دَنَا لاخْتَطَفَتْه الملائكةُ عُضْوًا عُضْوًا" .. قال: فأنزل الله -لا ندري (¬1) في حديث أبي هريرة أو شيءٍ بَلَغه -: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (¬2) (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 6 - 19] " (¬3). {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} يعني: أبا جهل. ¬

_ (¬1) قال الشيخ مقبل بن هادي في "الصحيح المسند من أسباب النزول" (ص 175): هذا التردّد يعتبر فادحًا في صحة سبب النزول لكن كتبته لكثرة شواهده. (¬2) يعني: أبا جهل. (¬3) رواه أحمد (14/ 425) (8831)، ومسلم (2797/ 28)، والنسائي (11683)، وابن أبي حاتم، وابن حبان (6571)، وأبو نعيم في "الدلائل" (158)، والبيهقي في "الدلائل" (2/ 189)، والبغوي في "تفسيره" (8/ 479)، وذكره ابن جرير في "تفسيره" (24/ 538)، وابن كثير في "تفسيره" (8/ 461).

° زاد عُبيد الله في حديثه قال: "وأَمَره بما أمره به". ° وزاد عبد الأعلى: " {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ}، يعني: قومه". • وعن داودَ بنِ أبي هندٍ، عن عكرمةَ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: " كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي، فجاءه أبو جهل فنهاه أن يُصلِّي، فأنزل اللهُ: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى} إلى قوله: {كاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} هو فقال: لقد عَلِم أني أكثرُ هذا الوادِي ناديًا .. فغضب النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فتكلَّمَ بشيءٍ -قال داود: ولم أحفَظْه- فأنزل اللهُ (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}، فقال ابن عباس: فواللهِ لو فعل لأخذته الملائكةُ من مكانه" (¬1). • وعن داودَ بنِ أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلي عند المَقام، فمرَّ به أبو جهل بن هشام، فقال: يا محمدُ، ألم أنْهَكَ عن هذا؟ -وتوعَّده-، فأغلَظ له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وانتهره، فقال: يا محمد، بأيِّ شيءٍ تُهدِّدُني؟ أما واللهِ إني لأكثرُ هذا الوادي ناديًا، فأنزل الله {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}، قال ابن عباس: لو دعا ناديه، أخذته زبانية العذاب من ساعته" (¬2). ¬

_ (¬1) سنده صحيح: أخرجه ابن جرير واللفظ له (24/ 537 - 538)، وأحمد (5/ 167) (3044)، والحاكم (2/ 487، 488)، والبيهقي في "الدلائل" (2/ 192)، وأخرجه الطبراني (11950). (¬2) صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (14/ 298)، وأحمد (4/ 164) (2321)، والترمذي (3349) وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح، والنسائي في "الكبرى" (11684) من طريق أبي خالد به، وابن جرير (24/ 537) وأخرجه ابن مردويه -كما في "تخريج الكشاف" للزيلعي (4/ 248) من طريق علي بن مُسهِر به، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 139): رجاله رجال الصحيح.

° ولفظ الترمذي: "كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي، فجاء أبو جهل، فقال: ألمْ أنْهَكَ عن هذا؟! ألم أَنْهَك عن هذا؟! فانصرف النبي- صلى الله عليه وسلم -فزَبَره (¬1)، فقال أبو جهل: إنك لَتعلمُ ما بها نادٍ أكثرُ منِّي!! فأنزل الله تبارك وتعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}، قال ابن عباس: لو دعا ناديَه لأخذته زبانيةُ الله". ° قال ابن جرير الطبري: "يُعَجِّبُ جَل ثناؤه نبيَّه والمؤمنين من جهل أبي جهل، وجَرَاءَتهِ على ربِّه، في نهيه محمَّدًا عن الصلاة لربِّه، وهو مَعَ أياديه عندَه مكذّبٌ بَه". ° قال قتادة: "وكان يُقال: لِكُلِّ أمةٍ فرعون، وفرعونُ هذه الأمَّة أبو جهل" (¬2). صورةٌ مستنكَرة لطاغٍ لئيم، أرأيتَ هذا الأمرَ الشنيعَ العجيبَ؟! {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى}؟! أرأيت حين تُضَمُّ شناعة إلى شناعة؟ وتُضَاف بشاعةٌ إلى بشاعة؟ أرأيتَ إن كان هذا الذي يُصلي ويتعرَّضُ له مَن ينهاه عن صلاته .. إنْ كان على الهُدى أوْ أمر بالتقوى؟ ثم ينهاه مَن ينهاه، مع أنه على الهدى، آمِرٌ بالتقوى؟. ° قال الطبري: "أرأيت {إِن كَانَ} محمدٌ {عَلَى الْهُدَى}، يعني: على استقامةٍ وسَدادٍ في صلاته لربه!! {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى}: أوْ أَمر محمدٌ هذا الذي ينهى عن الصلاة باتقاء الله وخوف عقابه. ¬

_ (¬1) زبره: أي نَهَر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا جهل. (¬2) "تفسير الطبري" (24/ 533، 534).

{أَرَأَيْتَ إِن كذبَ وَتَوَلَّى}: أرأيت إن كَذَّب أبو جهل بالحق الذي بَعَث به محمدًا {وَتَوَلَّى}، وأدبر عنه فلم يصدق به" (¬1)!!. وهكذا يُضيفُ اللئيمُ أبو جهل إلى الفِعلةَ الستنكَرة فِعْلَةً أخرى أشدَّ نُكرًا. {أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللهَ يَرَى}: ألم يعلم أبو جهل إذْ ينْهَى محمدًا عن عبادة ربه والصلاة له، بأن الله يراه، فيخافَ سطوتَه وعقابَه؟!!. {كَلاَّ}: ليس كما يقول: "إنه يَطأُ عُنُقَ محمد"، لا يَقدرُ على ذلك، ولا يَصلُ إليه .. {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ}: لئن لم ينته أبو جهل عن محمدٍ {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ}: لنأخذنَّ بمقدَّم رأسه، فلنُضِيمنَّه، ولنُذِلَّنَه .. يُقال منه: سَفَعتُ بيده، إذا أخذتُ بيده، وقيل: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ}، المعنى: لنُسوِّدَنَّ وجهَه، فاكْتُفِيَ بذِكرِ الناصية من الوجه كلِّه، إذْ كانت الناصيةُ في مُقدَّم الوجه. وقيل: معنى ذلك: لنأخُذَنَّ بناصيتِه إلى النار، كما قال: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأقْدَامِ} [الرحمن: 41]. والسَّفْعُ: القبضُ الشديد بجَذْبٍ، والناصية: مقدَّم شعرِ الرأس، وفيه إذلالٌ؛ لأنهم كانوا لا يَقبِضون على شعرِ رأسِ أحدٍ إلاَّ لِضَرْبِه أوْ جَرِّه، وأكَّد ذلك السَّفْعَ بالباء المزيدة الداخلة على المفعول لتأكيد اللصوق. يا سبحان الله، أعلى مكانٍ يرفعُه الطاغيةُ المتكبِّر مُقدَّمُ الرأس المتشامخ، إنها ناصيةٌ تستحقُّ السَّفعَ والصَّرْعَ {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}، لكأنَّ الكذبَ والخِطْءَ باديانِ من ناصيتِه، فكانت الناصيةُ جديرةً بالسَّفْع. والمعنى لصاحبها. ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" (24/ 534، 535).

{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ}: فلْيَدْعُ أبو جهل أهل مَجلسه وأنصارَهِ من عشيرته وقومه. والنادي (¬1): هو المجلس .. قال ابن عباس: "فليدع ناصِرَه". {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} (¬2): قال قتادة ومجاهد: "الملائكة"، والمراد ملائكة العذاب. ° "وهذه الآية معجزةٌ خاصةٌ من معجزات القرآن، فإنه تحدَّى أبا جهل بهذا، وقد سمع أبو جهل القرآنَ وسَمِعه أنصارُه، فلم يُقدِمْ أحدٌ منهم على السَّطْوِ على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، مع أن الكلامَ يُلهِبُ حَمِيَّته" (¬3). {كَلاَّ لا تطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}: يقول تعالى ذِكرُه: "ليس الأمرُ كما يقول أبو جهل، إذ يَنهى محمدًا ¬

_ (¬1) قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير" (30/ 451): "النادي: اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم، يُقال: نَدَا القومُ نَدْوًا، إذا اجتمعوا. والنَّدْوة: الجماعة. ويقال: نادٍ ونَدِيّ، ولا يُطلق هذا الاسمُ على المكان إلاَّ إذا كان القوم مجتمعين فيه، فإذا تفرَّقوا عنه فليس بنادٍ، وُيقال: "النادي" لمجلس القوم نهارًا، فأما مجلسهم في الليل فيسمى: "المسامر"، قال تعالى: {سَامرًا تَهجرون}. ويطلق النادي على الذين ينتدون فيه. يقال: إني لأكثر أهل هذا الوادي ناديًا: أي ناسَا يجلسون إلي، يريد أنه رئيس يصمد إليه". (¬2) الزَّبانية: بفتح الزاي جمع زَباني: بفتح الزاي وبتحتية مشدَّدة، أو جمع زِبْنِية بكسر الزاي فسكون، أو جَمع زِبْنِي، وقِيل: هو اسم جمع لا واحد له من لفظه مثل أبابيل وعَبَاديد. وهذا الاسم مشتق من الزَّبن: وهو الدفع بشدة، يُقال: ناقة زبُون: إذا كانت تركُل من يحلِبُها، وحرب زبون يدفع بعضها بعضًا بتكرر القتال. (¬3) "تفسير التحرير والتنوير" للطاهر بن عاشور (30/ 452).

- صلى الله عليه وسلم - عن عبادة ربِّه والصلاةِ له .. {لا تُطِعْهُ}، يقول جل ثناؤه لنبيِّه محمد - صلى الله عليه وسلم -: لا تطعْ أبا جهل فيما أَمَرك به من ترك الصلاة لربِّك، واسجد لربِّك واقترب منه بالتحبُّب إليه بطاعته، فإنَّ أبا جهلٍ لن يَقْدِرَ على ضَرك، ونحن نمنعُك منه" (¬1). ° وكان أبو جهل يقولُ ساخرًا: "اللهم إن كان هذا هو الحقَّ من عندك، فأمطِرْ علينا حجارةً من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم"!! فنزلت الآية: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .. } [الأنفال: 33 - 34] (¬2). ° وقال أبو جهل -لعنه الله -كما قال تعالى مخبرًا عنه وعن أضرابه: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 41 - 42] (¬3). ° قال السيوطي في "الدر المنثور" (11/ 170): "أخرج ابنُ مَرْدُويه عن ابن عباس: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 31]، قال: كان عدوَّ الَنبي - صلى الله عليه وسلم - أبو جهل، وعدوّ موسى قارون، وكان قارون ابن عم موسى". ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" (24/ 540، 541). (¬2) رواه البخاري (5/ 199) - كتاب التفسير بادٍ قوله: {وِإذ قالوا اللَّهم .. }، وباب قوله: {وما كان الله ليعذبهم}، ورواه مسلم (4/ 215). (¬3) "البداية والنهاية" (5/ 63).

أبو جهل الصاد عن سبيل الله، المحرض على قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - ببدر

* أبو جهل الصادُّ عن سبيل الله، المُحرِّضُ على قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - ببدر: * قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال: 47]. قَبْلَ بدرٍ، لَمَّا نجا أبو سفيان بِعِيرِ قريش، ولما ترك بدرًا بيسار، نزلت قريشٌ بالجُحْفة. ° يقول ابن إسحاق: "ولما رأى أبو سفيان أنْ قد أحرز عِيرَه، أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتُم لتمنعوا عِيرَكم ورجالَكم وأموالَكم، فقد نجَّاها الله، فارجِعوا، فقال أبو جهل بنُ هشام: واللهِ لا نرجعُ حتى نَرِدَ بدرًا -وكان بدر موسمًا من مواسم العرب، يجتمع لهم به سُوقٌ كل عام-، فنُقيمَ عليه ثَلاثًا، فنَنحرَ الجَزور، ونُطعِمَ الطعام، ونَسقيَ الخمرَ، وتَعزِفَ علينا القِيان، وتَسمعَ بنا العرب وبمسيرنا وجَمْعنا، فلا يزالون يَهابوننا أبدًا، فامضوا". ° وروى الإِمامُ أحمد عن عبد الله بن ثَعلبة: "أن أبا جهل قال حين التقى القوم: اللهم، أقطعُنا للرحم، وأتانا بما لا نعرف، فأحْنِهِ (¬1) الغداة .. فكان هو المستفتح" (¬2). * قال تعالى: {إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ ¬

_ (¬1) أي: اجعل هلاكه غدًا. (¬2) رواه أحمد (5/ 431) وابن إسحاق، والنسائي، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه وأقره الذهبي .. انظر "البداية والنهاية" (3/ 282)، وكذا رواه ابن جرير (9/ 208) وفيه أنزل الله: {إِن تَسْتَفْتِحوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}.

مقتل فرعون هذه الأمة أبي جهل -لعنه الله-

{لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19]. ° قال الآمديّ عن مطرِّفٍ في قوله تعالى: {إِن تَسْتَفْتِحوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}، قال: قال أبو جهل: "اللهم أعِنْ أعزَّ الفِئتين، وأكرمَ القبيلتين، وأكثرَ الفريقين، فنزلت: {إِن تَسْتَفْتِحوا} الآية". ° وقال الطبراني: عن رفاعة بن رافع قال: "لما رأى إبليسُ ما فَعَل الملائكة بالمشركين يومَ بدر، أشْفَقَ أن يُخْلَصَ إليه، فتَشبَّثَ به الحارث بن هشام وهو يظنُّ أنه سُراقة بنُ مالك، فوكز في صَدرِ الحارث، ثم خرج هاربًا حتى ألقى نفسه في البحر، ورفع يديه فقال: اللهم إني أسألك نَظِرَتَك إياي .. وخاف أن يَخْفصَ القَتل إليه، وأقبل أبو جهل، فقال: يا معشرَ الناس، لا يَهولَنَّكم خِذلان سراقةَ بنِ مالك، فإنه كان على ميعادٍ من محمد، ولا يُهولَنَكم قَتل شَيبة وعُتبةَ والوليد، فإن عَجِلوا فواللاتِ والعزى، لا نرجع حتى نفرِّقَهم في الجبال، فلا أَلْفَينَّ رجلاً منكم رجِلاً، ولكن خذوهم أخذًا، حتى تُعَرِّفوهم سوءَ صنيعِهم من مفارقتهم إياكم، ورغبتهم عن اللات والعزى، ثم قال أبو جهل متمثلاً: ما تَنقِمُ الحَربُ الشَّموسُ منِّي باذلَ عامَينِ حديثَ سنِّ لِمِثلِ هذا ولدَتْني أمِّي" * مقتل فرعون هذه الأمة أبي جهل -لعنه الله-: ° عن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: "إني لفي الصفِّ يومَ بدر إذِ

التفتُّ، فإذا عن يميني وعن يساري فَتَيانِ حديثا السِّنِّ، فكأني لم اَمَنْ بمكانِهما، إذ قال لي أحدُهما -سرًّا من صاحبه-: يا عمِّ، أرني أبا جهل. فقلت: يا ابن أخي، وما تصنعُ به؟ قال: عاهَدتُ الله -إن رأيتُه- أن أقتلَه، أو أموتَ دونه .. وقال لي الآخرُ -سرًّا من صاحبه- مثله. قال: فما سرَّني أني بين رُجلين مكانهما، فأشرفُ لهما إليه، فشدَّا عليه مثل الصَّقْرين، حتى ضرباه، وهما ابنا عفراء" (¬1). ° وعن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: "بينا أنا واقفٌ في الصفِّ يومَ بدرٍ، فنظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بغلامَيْن من الأنصار حديثةٍ أسنانُهما، تمنيْتُ أن أكون بين أضلعَ منهما، فغَمَزني أحدُهما، فقال: يا عمِّ، هل تعرفُ أبا جهل؟ قلت: نعم، وما حاجتُك إليه يا ابن أخي؟ قال: أُخبِرتُ أنه يَسُبُّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، والذي نفسي بيده لئن رأيتُه لا يفارقُ سَوادي سَوادَه حتى يموتَ الأعجَلُ منَّا .. فتعجَّبت لذلك، فغَمَزني الآخر فقال لي مِثلَها، فلم أَنْشَبْ أن نظرتُ إلى أبي جهل يَجُولُ في الناس، فقلت: ألاَ إن هذا صاحبُكما الذي سألتُماني، فابتدراه بسيفَيهما، فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه. قال: "أيُّكما قَتَله؟ " قال كلُّ واحد منهما: أنا قتلته. فقال: "هل مَسَحْتما سَيْفَيكما؟ ". قالا: لا. فنظر في السَّيفيْن، فقال: "كلاهما قتله، سَلَبُه لمعاذِ بن عمرِو بن الجموح" .. وكانا معاذ بن عفراء ومعاذَ بن عمرو بن الجموح" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3988)، ومسلم (1752)، وأحمد (1/ 192، 193)، وأبو يعلى (2/ 170). (¬2) رواه البخاري في "صحيحه"، (3141) كتاب فرض الخمس - باب من لم يخمِّس =

وقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسَّلَب للسابق إلى إثخانِه منهما، وهو معاذُ بن عمرو، وإن كانا اشتركا جميعًا في قتله. ° وعن معاذِ بن عمرو - رضي الله عنه - قال: "جعلتُ أبا جهل يومَ بدرٍ من شأني، فلما أمكنني حَمَلتُ عليه، فضربته، فقطعتُ قَدَمه بنِصفِ ساقه، وضربني ابنُه عكرمةُ بن أبي جهل على عاتِقي، فَطَرح يدي، وبقيَتْ مُعلَّقَةً بجِلدةٍ بجنبي، وأجهَضَني عنها القتالُ، فقاتلت عامةَ يومي وإني لأسحبَها خَلفي، فلما آذَتْني، وضعتُ قدمي عليها، ثم تمطَّأْتُ عليها حتى طرحتُها" (¬1). ° قال الذهبي في "السير" (1/ 251): "هذه واللهِ الشجاعة، لا كآخَرَ مِن خدْشٍ بسهم ينقطعُ قلبه، وتخورُ قواه". ° قال: "ومرَّ بأبي جهل مُعوِّذُ بنُ عفراء، فضربه حتى أثبته، وتركه وبه رَمَق. ثم قاتل معوِّذ حتى قُتِل وقُتل أخوه عوف من قبله، وهما ابنا الحارث بن رفاعة الزُّرَقي. ثم مرَّ ابنُ مسعود - رضي الله عنه - بأبي جهل، فوبَّخه، وبه رَمَقٌ، ثم احتزَّ رأسه" (¬2). • وعن أنس -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: "مَن ينظرُ ما صنع أبو جهل؟ "، فانطلق ابن مسعود - رضي الله عنه -، فوَجده قد ضَرَبه ابنا عفراء، ¬

_ = الأسلاب. (¬1) "سيرة ابن هشام" (1/ 634، 635)، ورجاله ثقات. (¬2) "السير" (1/ 251).

حتى بَرَد، فقال: أأنت أبا جهل؟ -قال ابن عُليَّة: قال سليمان: هكذا قالها أنس. قال: أأنت أبا جهل (¬1)؟ - قال: وهل فوق رجل قتلتموه -أو قال: قتله قومه-! قال: وقال أبو مِجْلَز (¬2): قال أبو جهل: فلو غَيْرَ أكَّارٍ قتلني" (¬3). ° وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه أتى أبا جهل وبه رَمق يوم بدر، فقال أبو جهل: "هل أعمَدَ من رجلٍ قتلتموه" (¬4). وعَمَد بمعنى: هلك. • وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَن ينظرُ ما صنع أبو جهل؟! "، فانطلق ابن مسعود، فوجده قد ضَرَبه ابنا عفراءَ حتى بَرَد، قال: أنت أبو جهل؟ قال: فأخذ بلحيته قال: وهل فوق رجلٍ قتلتموه؟ أوْ رجلٍ قَتَله قومُه؟ " (¬5). • وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنه - عند ابن إسحاق والحاكم: "قال ابنُ مسعود: فوجدتُه بآخِرِ رمق، فوضعت رِجلي على عُنقه، فقلتُ: أخزاك ¬

_ (¬1) لأن الجادة: "أأنت أبو جهل" .. ولكن المُثبَت لُغةٌ صحيحة. (¬2) أبو مجلز تابعي. (¬3) أخرجه البخاري (4020)، ومسلم (1800)، وأحمد (3/ 115)، وأبو يعلى (7/ 120، 121)، قال الحافظ في "الفتح" (7/ 295): "الأكَّار -بتشديد الكاف-: الزُّرَّاع وعنى بذلك أن الأنصار أصحاب زرع؛ فأشار إلى تنقيص من قَتَلَهُ منهم بذلك". (¬4) أخرجه البخاري (3961). (¬5) أخرجه البخاري (3962). وعند مسلم "برك" بدلاً من "برد"؛ قال عياض: وهذه الرواية أولى؛ لأنه قد كَلَّم ابنَ مسعود، فلو كان مات كيف كان يكلمه؟ انتهى. ويحتمل أن يكون "برد" هنا؛ أي: صار في حالة من مات، ولم يَبْقَ فيه سوى حركة المذبوح.

الله يا عدوَّ الله، قال: وبِمَ أخزاني؟ هل أعمدَ من رجلٍ قتلتموه؟ ". قال: "وزعم رجالٌ من بني مخزوم أنه قال له: لقد ارتقيتَ يا رُوَيْعِيَّ الغنم مرتقًى صعبًا". قال: "ثم احتززتُ رأسه، فجئتُ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: هذا رأسُ عدوِّ الله أبي جهل، فقال: "والله الذي لا إله إلا هو؟ " .. فحلف له. ° وفي زيادة المغازي: "فحلف له، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده ثم انطلق حتى أتاه، فقام عنده، فقال: "الحمد لله الذي أعزَّ الإسلام وأهله" (ثلاث مرات) ". ° قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (7/ 345) للجمع بين الروايات التي ظاهرها الاختلاف: "حاصله أن كلاًّ من ابنَيْ عفراءَ سأل عبدَ الرحمن ابنَ عوفٍ، فدَّلهما عليه، فشدَّا عليه فضرباه حتى قتلاه". وفي آخِرِ حديث مُسدَّد: "وهما معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء، وأن النبي- صلى الله عليه وسلم - في سيفيهما، وقال: "كلاكما قتله"، وأنه قضى بسَلَبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح". انتهى. و"عفراء" والدرو معاذٍ، واسم أبيه "الحارث"، وأما ابن عمرو بن الجموح فليس اسم أمه "عفراء"، وإنما أظلق عليه تغليبًا. وُيحتمل أن تكونَ أمُّ معوِّذ -أيضًا- تسمَّى "عفراء"، أو أنه كان لمعوِّذ أخ يسمَّى "معاذا" باسم الذي شَرَكه في قتل أبي جهل، ظنه الراوي أخاه. ° قال معاذُ بن عمرو بن الجموح: "سمعتهم يقولون وأبو جهل في مثل الجَرْحة: "أبو جهل الحَكَمُ لا يُخلَصُ إليه"، فجعلتُه مِن شأني،

فعَمَدتُ نحوه، فلما أمكنني حَمَلتُ عليه، فضربته ضَربة أطنَّت قدمَه، وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطَرَح يدي- قال: ثم عاش معاذٌ إلى زمنِ عثمان ... قال: ومرَّ بأبي جهل معوِّذُ بنُ عفراءَ، فضَرَبه حتى أثبَتَه وبه رَمَقٌ، ثم قاتل معوِّذٌ حتى قُتِل، فمر عبدُ الله بن مسعود بأبي جهل فوجده بآخر رمق". فهذا الذي رواه ابن إسحاق يَجمعُ بين الأحاديث، لكنه يخالفُ ما في "الصحيح" من حديثِ عبد الرحمنِ بنِ عوفٍ أنه رأى معاذًا ومعوِّذًا شَدَّا عليه جميعاً حتى طرحاه. ° وابن إسحاق يقول: إن ابنَ عفراءَ هو معوِّذ -والذي في "الصحيح": "معاذ"- وهما أخوان، فيحتمل أن يكون معاذ بن عفراء شدَّ عليه مع معاذِ بنِ عمرو، كما في "الصحيح"، وضربه بعد ذلك مُعَوِّذٌ حتى أثبتَه ثم حَزَّ رأسَه ابن مسعود، فتجمع الأقوال كلها، وإطلاقُ كونِهما قتلاه يخالف في الظاهرِ حديثَ ابنِ مسعود أنه وَجَده وبه رَمَق، وهو محمولٌ على أنهما بلغا به بضربهما إياه بسَيفيهما منزلةَ المقتول حتى لم يَبْقَ به إلاَّ مثل حركةِ المذبوح، وفي تلك الحالة لَقِيه ابن مسعود فضرب عنقه .. والله أعلم". ° ولله درُّ حسان بن ثابت - رضي الله عنه -، وهو يقول: فغادَرْنا أبا جهلٍ صريعًا ... وعُتْبَةُ قد تَرَكْنا بالجيوبِ (¬1) ¬

_ (¬1) الجيوب: اسم للأرض؛ لأنها تُجب، أي: تُحفر.

° وما أجملَ ما قال الشاعر: وهَوى أبو جهلٍ ونوفلُ وارعَوَى ... بعدَ اللَّجاجِ الفاحِشُ المتوقِّحُ (¬1) لما رأى المغازي المظفَّرُ رأسَهُ ... أهوى يُكبِّر ساجدًا ويُسبِّحُ في جِلده مِن رِجْزِ ربِّك آية ... عَجَبٌ تُفَسِّرُ للَّبيب وتَشرحَ (¬2) تلك السُّطورُ السُّودُ ضمَّ كتابُها ... أبهى وأجملَ ما يَرَى المُتَصَفِّحُ إن لم يُغَيَّبْ في جهنمَ بعدها ... فلِمَن سواه في جهنم يُضْرَحُ؟! (¬3) ° وللهِ درُّ القائل في مصرع أبي جهل -فرعونِ هذه الأمة-: بسيفك فيما اخترتَ من عاجلِ القتلِ ... سُقِيتَ زُعاف الموت فاشربْ أبا جهلِ هو السيفُ لولا الجُبنُ لم يَمْضِ حدُّه ... ولم يَرْضَ في جِدِّ الكريهةِ بالهزل شَهِدتَ الوغى تَبغي على الضعفِ راحةً ... لنفسك من حِقد مذيبٍ ومن غِلًّ أفرعونُ إنْ تجهلْ فلن تجهلِ الوغى ... فراعَينها من ذي شبابٍ ومِن كَهْلٍ أصابك فيها ما أصابَك من أذى ... وفاتكَ مانال الرُّوَيْعِيَّ (¬4) من فضلِ رماكَ معاذٌ قبلَه ومُعوِّذٌ ... وجاءك مَشبوبًا حَمِيتُهُ تغلي سقى السيفَ عفوًا من دمٍ لك طيِّعٌ ... فَمِن مرتقًى صعبٍ إلى مُسْتَقًى سهلِ دَعِ الهزلَ يا ابنَ الحَنْظَلِيَّة إِنه ... هو الجِدُّ كلُّ الجِدِّ لو كنتَ ذا عقلِ ¬

_ (¬1) نوفل: هو نوفل بن خويلد، كان من شياطين قريش قتله علي بن أبي طالب. والفاحش المتوقح: هو أبو جهل. وارعوى: كفَّ. (¬2) رجز: عذاب، وقد وُجِدَ في جسد أبي جهل آثار سود كآثار ضرب السياط. (¬3) يضرح: يدفع ويُقبر. (¬4) الرويعي: تصغير الراعي؛ وهو: عبد الله بن مسعود.

هي اللاتُ والعُزَّى أضَّلتْكَ هذِه ... وزادتك هذِي من ضلالٍ ومِن خَبَلِ مضى جارُك المأفون (¬1) خَزيانَ وانقَضَتْ ... حِبالُك فانظر هل ترى الآنَ من حَبْلِ؟ لقد كنتَ ترجو أن تَرى الهَبَل الذي ... رَضِيتَ به ربًّا يفوزُ ويَستعلِي أصبتَ ابنَ مسعود سناءً ورِفعةً ... وباء عدوُّ الله بالخِزي والذلِّ فخُذْ سيفَه ثم ارفع الصوتَ شاكرًا ... فما بعدَ ما أعطاك ربُّك من سُؤْلِ * أبو جهل الأثيم {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}: * قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 43 - 44]. ° قال ابن زيد في هذه الآية: "الأثيم هو أبو جهل" (¬2). • وعن ابن عباس- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو أنَّ قطرةً من الزَّقُّوم قَطَرت في دارِ الدنيا، لأفسَدَت على أهل الدنيا معايشَهم، فكيف بمن تكونُ طعامَهُ؟ " (¬3). * قال تعالى: {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ¬

_ (¬1) هو: إبليس - لَعَنَهُ اللهُ. وكان أبو جهل اللعين يقول: لا، يا قوم، لا يهولنكم قَتْلُ مَن قُتِلَ؛ فواللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدًا وأصحابه بالحبال، لا تقتلوهم ولكن خذوهم باليد. (¬2) "تفسير الطبري" (21/ 54). (¬3) صحيح: رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، والضياء، وصححه الألباني في "تخريج المشكاة" (5683)، و"صحيح الجامع" (5250).

(48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 45 - 49]. ° قال ابن جرير الطبري: "يقول تعالى ذِكرُه: يُقال لهذا الأثيم الشقيِّ: ذُقْ هذا العذابَ الذي تُعَذَّبُ به اليوم، {إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيز} في قومك {الْكَرِيم} عليهم. وذُكر أن هذه الآياتِ نَزَلت في أبي جهل بن هشام. ° عن قتادة: {ثُمَّ صبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ}: "نزلت في عدوِّ الله أبي جهل، لَقِيَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فأخذه، فهزَّه، ثم قال: "أوْلَى لك يا أبا جهل فأولى، ثم أولى لك فأولى، ذُقْ إنك أنت العزيز الكريم". وذلك أنه قال: "أيُوعِدُني محمدٌ؟! واللهِ لأنا أعزُّ من مَشَى بين جَبَلَيْها" .. وفيه نزلت: {وَلا تطِعْ مِنْهمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإِنسان: 24]، وفيه نزلت: {كَلاَّ لا تُطِعْة وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] ". ° وقال قتادة: "نَزَلت في أبي جهلٍ وأصحابه الذين قَتَل اللهُ تبارك وتعالى يومَ بدر: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلّوا قَوْمَهمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إِبراهيم: 28] ". ° وعن قتادة قال: "نزلت في أبي جهل: {خُذُوة فَاعْتِلُوهُ} ". ° قال قتادة: "قال أبو جهل: ما بيْن جَبَلَيْها رجلٌ أعزُّ ولا أكرمُ منِّي .. فقال الله -عز وجل-: {ذقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيز الْكَرِيمُ} ". ° ابن زيد في قوله تعالى: {خذُوهُ فَاعْتِلُوة إِلَن سَوَاءِ الْجَحِيم}: "هذا لأبي جهل". فإن قال قائلٌ: وكيف قيل: وهو يُهان بالعذاب الذي ذكرَه الله، ويُذَلُّ

الوليد بن المغيرة المخزومي شيخ أهل الكفر

بالعَتْل إلى سواء الجحيم: {إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}؟ لو أمكن قيل: إن قوله: {إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} غير وصفٍ مِن قائل ذلك له بالعزَّةِ والكرم، ولكنه تقريعٌ منه له بما كان يَصِف به نفسَه في الدنيا، وتوبيخٌ له بذلك على وجهِ الحكاية؛ لأنه كان في الدنيا يقول: أنا العزيز الكريم. فقيل له في الآخرة، إذ عُذِّب بما عُذِّب به في النار: ذق هذا الهوانَ اليومَ، فإنك كنتَ تزعمُ أنك أنت العزيزُ الكريم، وإنك أنت الذليل المَهين، فأينَ الذي كنتَ تقولُ وتدَّعِي مِن العِزِّ والكرم؟!، هَلاَّ تمتنع من العذاب بعزَّتك؟! " (¬1). وذهب أبو جهل إلى أمِّه الهاوية جزاءَ ما عَتَى واستكبر واستهزء بسيِّد البشرية .. ذهب إلى سَقَر جزاءَ ما مكر .. تُشيِّعه لعناتُ اللاعنين إلى يوم الدين جزاءَ ما فعل بسيِّد المرسلين - صلى الله عليه وسلم -. * * * * الوليد بن المغيرة المخزومي شيخ أهل الكفر: ° عن ابن عباس ضى: "أن الوليد بن المغيرة جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقرأ عليه القرانَ، فكأنما رَقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عمِّ، إن قومَك يريدون أن يَجمعوا لك مالاً. قال: لِمَ؟ قال: ليعطوكَه، فإنك أتيتَ محمدًا لتعرضَ ما قِبلَهَ .. قال: قد عَلِمَتْ قريشٌ أني من أكثرِها مالاً. قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومَك أنك منكِرٌ له. قال: وماذا أقولُ؟ فواللهِ ما منكم رجلٌ أعوفُ بالْأشعار مني، ولا أعلم برَجَزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعارِ الجن، اللهِ ما يُشبه الذي يقول شيئًا من هذا، وواللهِ إن لقوله الذي يقوله ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" (21/ 60، 61، 62) بتصرف يسير.

لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنه لَمُثمِرٌ أعلاه، مُغدِقٌ أسفلُه، وإنه لَيعلو ولا يُعلَى، وإنه ليحطِمُ ما تحتَه. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: قِفْ عني حتى أُفكِّر فيه، فلما فكَّر قال: إنْ هذا إلا سِحْرٌ يُؤثر يأثِرُه عن غيره، فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا} [المدثر: 11 - 13] " (¬1). ° عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "دخل الوليدُ بُن المغيرة على أبي بكر بن أبي قحافة - رضي الله عنه -، يسأله عن القرآن، فلما أخبره خرج على قريش، فقال: يا عَجَبًا لا يقول ابن أبي كَبْشة (¬2)، فوالله ما هو بشِعرٍ، ولا بسِحرٍ، ولا بهَذْيٍ من المجنون، وإنَّ قولَه لَمِن كلام الله، فلما سمع بذلك النَّفرُ من قريش ائتمروا، وقالوا: واللهِ لئِنْ صبأ الوليد، لتَصبأَنَّ قريش. فلما سَمع بذلك أبو جهل قال: أنا والله أكْفيكم شأنه، فانطلق حتى دخل عليه بيته، فقال للوليد: ألم تَرَ قومَك قد جمعوا لك الصدقة؟ قال: ألستُ أكثرَهم مالاً وولدًا؟ فقال له أبو جهل: يتحدَّثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتُصيب من طعامه .. قال الوليد: قد تَحَدَّث بهذا عشيرتي؟! فلاَ يْمُ جابر بن قَصيٍّ، لا أقربُ أبا بكر، ولا عُمرَ ولا ابن أبي كبشة، وما قولُه إلا سِحرٌ يؤثَر. فأنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} هو إلى قوله: {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} ". ¬

_ (¬1) صحيح: رواه الحاكم (2/ 507)، وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه وأقره الذهبي، ورواه البيهقي في "دلائل النبوة" (1/ 556)، وأورده ابن كثير في "البداية والنهاية" (3/ 60) عن عكرمة مرسلاً. (¬2) يقصد النبي- صلى الله عليه وسلم -.

° وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "أنزل الله -عز وجل- في الوليد بن المغيرة المخزوميِّ قولَه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11]، وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} " إلى آخرها [الحجر: 92] ". له وعن مجاهد قال: "نزلت في الوليد بن المغيرة -وكذلك الخَلْقِ كلهم-، خلقتُه وحدَه، ليس معه مالٌ ولا وَلَد". وهو قول قتادة، وابن زيد، والضحاك. ° {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدودًا}: قال مجاهد وسعيد بن جبير: "كان مالُه ألفَ دينار". ° وقال سفيان: "بلغني أنه أربعةُ آلاف دينار". ° وعن عمر - رضي الله عنه - في قوله: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدودًا} قال: "غَلَّةُ شهرٍ بشهر". ° قال ابن جرير الطبري: "هو الكثير، الممدودُ عددُه أو مساحته". ° {وَبَنِينَ شُهُودًا}، قال مجاهد: "كان بنوه عشرةً" (¬1). ° {وَمَهَّدتُّ لَه تَمْهِيدًا}، قال ابن جرير: "وبَسَطتُ له في العيش بَسْطًا". ° قال سفيان: "بُسِط له". ° وعن مجاهد: قوله: {وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا} قال: "من المال والولد". ¬

_ (¬1) قال الرازي في "مفاتيح الغيب": نزلت في الوليد بن المغيرة وكان له عشرة من البنين، وكان يقول لهم وما قاربهم: لئن تَبعَ دينَ محمدٍ منكم أحدٌ لا أنفعُه بشيءٍ أبدًا، فمَنَعهم الإسلام.

{ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ}، يقول تعالى ذكره: ثم يأملُ ويرجو أن أزيده من المال والولد، على ما أعطيته .. {كَلاَّ}: يقول: ليس ذلك كما يأمَلُ ويرجو، مِن أن أزيدَه مالاً وولدًا وتمهيدًا في الدنيا. {إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنا عَنِيدًا}: إن هذا الذي خلقتُه وحيدًا كان لآياتنا؛ -وهي حُجَجُ اللهِ على خلقه من الكتب والرسل- معاندًا. ° قال ابن عباس - رضي الله عنه -: "لآيتنا جحودًا". ° وقال مجاهد: "معاندًا للحق مجانبًا". ° وقال قتادة: "كفورًا بآيات الله، جَحُودًا بها". ° وقال سفيان: "مُشَاقًّا". {سَاُرْهِقُهُ صَعُواً} يقول تعالى ذكره: سأُكلِّفه مشقةً من العذاب لا راحةَ له فيها. ° قال مجاهد: "مشقةً من العذاب". ° وعن قتادة: "عذابًا لا راحةَ فيه". ° قال الطبري: "إن هذا الذي خلقتُه وحيدًا، فكَّر فيما أنزله اللهُ على عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - من القرآن، وقدَّر ما يقول فيه، {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}: فلُعِن كيف قدَّر، {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} يقول: ثم لعِن كيف قدَّر القولَ فيه، {ثُمَّ نَظَر} يقول: ثم تَرَوَّى في ذلك، {ثُمَّ عَبَسَ}: ثم قَبَض ما بين عينيه، {وَبسَرَ}، يقول: كَلَح وكَرُه وجهه. {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ}: ثم ولَّى عن الإيمان بما أنزل الله من كتابه والتصديق به، والاستكبار عن الإِقرار بالحق، {فَقَالَ إِن هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ

يُؤْثَرُ} يقول تعالى ذكره: فقال: إن هذا الذي يتلوه محمدٌ، إلاَّ سحرٌ يَأْثِرهُ عن غيره. ° قال أبو رَزين: "يأخذُه عن غيره". {سَاُصْلِيهِ سَقَرَ}: سأورده بابًا من أبواب جهنم. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ}: لا تُبقِي مَن فيها حيًّا، ولا تَذَرُ مَن فيها ميتًا، ولكنها تحرقُهم كلَّما جُدَّد خَلْقُهم. ° قال مجاهد: "لا تُميت ولا تُحْيي". {لَوَّاحَةٌ للْبَشَرِ}: يعني جلَّ ثناؤه: مُغيّرَةً لبَشْرَة أهلها. ° قال ابن عباس: "تَحْرِق بَشْرة الإِنسان" (¬1). ° قال قتادة: "حَراَّقةً للجلد". كان الوليدُ شيخَ أهلِ الكفر وأشدَّ الناسِ عداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد رُويت عنه مواقفُ كثيرةٌ في الكيد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنذارِ أصحابه، والوقوفِ في وجهِ الدعوة، والصَّدِّ عن سبيل الله. ° قال القاسمي: "اتفق المفسِّرون أن هذه الآيات نزلت في الوليدِ بن المغيرةِ المخزومي، أحدِ رؤساء قريش -لعنه الله-" (¬2). ° قال محمد الطاهر بن عاشور: "كان الوليدُ بنُ المغيرة، يُلقَّبُ في قريش بـ "الوحيد"، لِتوحُّدِه وتفرُّده باجتماع مزايا له، لم تجتمعْ لغيره من طَبَقته؛ وهي كثرةُ الولد، وسَعَةُ المال، ومَجدِه، ومجدِ أبيه مِن قبلِه، وكان ¬

_ (¬1) انظر "تفسير الطبري" (23/ 421 - 435) باختصار. (¬2) "محاسن التأويل" للقاسمي (15/ 5978).

مرجعَ قريشٍ في أمورهم؛ لأنه كان أسن من أبي جَميل وأبي سفيان، فلما اشتُهر بلقب " الوحيد"، كان هذا الكلام إيماءً إلى الوليد بن المغيرة المشتهر به، وجاء هذا الوصفُ بعد فعل: "خَلقتُ"، ليُصرف هذا الوصفُ عما كان مراداً به؛ أي أوجدتُه وحيدًا عن المال والبنين والبَسْطة، فيُغيَّر عن غرض المدح والثناء الذي كانوا يخصُّونه به إلى غرضِ الافتقار إلى الله؛ الذي هو حالُ كل مخلوق. ° عن ابن عباس: "كان مالُ الوليد بين مكةَ والطائفِ من الإبل، والغنم، والعبيد، والجواري، والجِنان، وكانت غَلَّةُ مالِهِ ألفَ دينارٍ في السَّنة". {وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا}؛ تيسيرَ أموره، ونفاذَ كلمته في قومه؛ بحيث لا يَعسر عليه مَطْلَبٌ، ولا يستعصي عليه أمرٌ". ° ثم قال الشيخ الطاهر بن عاشور: "الصَّعود: العقبةُ الشديدةُ التصعُّد الشاقةُ على الماشي؛ وهي " فَعول"، مبالغةً من "صَعِد"، فإن العقبة صَعْدة، فإذا كانت عقبةٌ أشدُّ تصعُّدًا من العقبات المعتادة قيل لها: صَعُود. وقوله: {سَاُرْهِقُهُ صَغودًا}، تمثيلٌ لضدِّ الحالة المُجمَّلةِ في قوله: {وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا}، أي: سينقلبُ حالُه من حال راحةٍ وتنعُّم إلى حالةٍ سُوأى في الدنيا، ثم إلى العذاب الأليم في الآخرة، وكلُّ ذلك إرهاقٌ له" (¬1). ° قال البِقاعي في "نظم الدرر": "أكملتُ له من سعادة الدنيا ما أوجب التفردَ في زمانه من أهل بيته وفخِذه؛ بحيث كان يسمَّى: "الوحيد، ¬

_ (¬1) "التحرير والتنوير" (29/ 307).

وريحانة قريش"، فلم يَرْعَ هذه النعمة العظيمة، {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كلاَّ}، لم يُزَدْ بعد ذلك شيئًا؛ بل لم يزل في نقصان حتى هلك، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام: 115]، ليرتدع عن هذا الطمع، وليزدجرَ وليرتجع، فإنه حُمقٌ محض، وزخرفٌ بحت، وغُرور صِرف. {إِنَّه كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا}، أي: بالغَ العنادِ على وجهٍ لا يُعَدُّ عنادُه لغيرها؛ بسب مزيد قبحِه عنادًا. والعناد، كما قال المَلَوي: مِن كِبْرٍ في النفس، أو يُبْسٍ في الطبع، أو شراسةٍ في الخُلق، أو خَبَلٍ في العقل، وقد جُمع ذلك كلُّه لإبليس. لما كان العناد غِلظةً في الطبع، أو شكاسةً في الخُلق، يُوجِبُ النكدَ والمشقَّةَ، جُعل جزاؤه من جِنسه، فقال: {سَأرْهِقة صَعُودًا}، أي: أُلحِقُه بعُنفٍ وغِلظةٍ وقهو، إلحاقًا يَغشاه ويُحيطُ به، وعيدًا لا خُلْفَ فيه. {صَعُودًا}، أي: شيئًا من الدواهي والأنكار؛ كأنه عَقَبة. {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} إلى قوله تعالى: {نْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}، حادَ عن وجه الأفكار إلى أقفائِها، سكت ألفًا، ونطق خلفًا، فكان شبيهاً من بعض الوجوه بما قاله بعضهم: لَوْ قِيلَ كَمْ خَمْسٌ وَخَمْسٌ لاَغْتَدَى ... يَوْمًا وَلَيْلَتَهُ يَعُدُّ وَيَحْسِبُ وَيَقُولُ مُعْضِلَةٌ عَجِيبٌ أمرُهَا ... ولَئِنْ عَجِبْتُ لَها لأمْرِى أَعْجَبُ حَتَّى إِذَا خَدَرَتْ يَدَاهُ وغُوِّرتْ ... عَيناهُ مِمَّا قَدْ يَخُطُّ وَيَكْتُبُ أَوْفَى عَلَى شَرَفٍ وَقَالَ أَلا انْظُرُوا ... وَيَكَادُ مِنْ فَرَع يُجَنُّ ويُسْلَبُ خَمْسٌ وَخَمْسٌ سِتَةٌ أوْ سَبْعَةٌ ... قَوْلاَنِ قَالَهُمَا الْخِليلُ وَثَعْلَبُ

* قال قالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}، أي: الدَّرَكَة النارية؛ التي تَفعل في الأدمغةِ من شدَّةِ حموِّها ما يَجِلُّ عن الوصف، فأدخله إياها، وأُلْوِحُه في شدائد حرِّها، وأُذيب دماغَه بها، وأُسيل ذِهنَه وكل عصارته بشديدِ حرِّها .. جزاءً على تفكيره هذا، الذي قدَّره، وتخيَّله وصَوَّره بإرادته في طبقاتِ دماغه؛ ليحرقَ أكبادَ أولياءِ الله وأصفيائه" (¬1). ° " {سَاُرْهِقُهُ صَعُودًا}: التصعيدُ في الطريق: هو أشق السَّير وأشدُّه، فإذا كان دَفعًا من غير إرادةٍ من المُصعَد كان أكثَرَ مشقةً وأعظمَ إرهاقًا، وهو في الوقت ذاتِه تعبير عن الحقيقة؛ فالذي ينحرفُ عن طريقِ الإيمان السهل الميسَّرِ الوُرودِ، يَندبُّ في طريقٍ وعرٍ شاقٍّ مبتوت، ويقطعُ الحياةَ في قلق وشدةٍ وكُربةٍ وضِيق، كأنما يصَّعَد في السماء، أو يصَّعَّد في وعْرٍ صلد، لا رِيَّ فيه ولا زاد، ولا راحةَ ولا أملَ في نهاية الطريق!. ثم يرسمُ تلك الصورةَ المُبدعةَ المثيرةَ للسخرية، والرجلُ يُكِدُّ ذِهنَه، ويَعصِرُ أعصابَه، ويَقبضُ جَبينه، وتَكْلَحُ ملامحُه وقَسَماتُه، كل ذلك لِيجدَ عيبًا يَعيبُ به هذا القرآن، وليجدَ قولاً يقولُه فيه، جِدَّ مُصطَنَع، متكلَّف يُوحي بالسخرية منه والاستهزاء، وبعد هذا المَخاض كلِّه؛ وهذا الحزَق كله، لا يُفتحُ عليه بشيء، إنما يُدبِرُ عن النور، ويستكبرُ عن الحق. إنها لَمَحاتٌ تدعُ صاحبَها سخريةَ الساخرين أبدَ الدهر، وتُثبِتُ صورتَه الرزيَّةَ في صُلْب الوجود، تتملاَّها الأجيالُ بعد الأجيال. فإذا انتهى عَرضُ هذه اللمحات، عَقَّب عليها بالوعيد المفزع: ¬

_ (¬1) "نظم الدرر" للبقاعي (21/ 51 - 59).

{سَأصْلِيهِ سَقَرَ} .. وزاد هذا الوعيدَ تهويلاً بتجهيل سقر، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ}، إنها شيءٌ أعظمُ وأهولُ من الإدراك، ثم عَقَّب على التجهيل بشيءٍ من صفاتها أشدَّ هولاً: {لا تبْقِي وَلا تَذَرُ}، فهي تَكنِس كنسًا، وتَبلعُ بلعَاً، وتمحو محوًا، فلا يقفُ لها شيء، ولا يقفُ وراءَها شيء، ولا يبقَى وراءَها شيء، ولا يفضلُ منها شيء" (¬1). هذا دين رفيع، لا يُعْرِضُ عنه إلاَّ مطموس، ولا يَعيبُه إلاَّ منكوس. * وقال تعالى: {وَقَالوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقرْآنُ عَلَى رَجُلٍ منَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمِ} [الزخرف: 31]. ° قال ابن عباس: "يعني بالعظيم: الوليد بن المغيرة القرشي، وحبيب ابن عمرو بن عمير الثقفي .. وبالقريتيْن: مكة والطائف". ° وقال قتادة: "الرجل: الوليد بن المغيرة قال: لو كان ما يقول محمدٌ حقًّا، أُنزل عليَّ هذا أو على ابن مسعود الثقفي" (¬2). {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ}. ° يقول -جَلَّ وعَزَّ-: أهؤلاء القائلون يا محمدُ، يَقسِمون رحمةَ ربِّك بين خَلْقه، فيجعلون كرامتَه لمن شاؤوا، وفَضْلَه عند مَن أرادوا، أم اللهُ الذي يَقسِمُ ذلك، فيُعطِيه مَن أحبَّ، ويَحرمُه من شاء؟. قال: {ونَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا} يقول -عز وجل-: بل نحن نقسمُ رَحمتَنا وكرامتَنا بين مَن شِئنا من خَلْقِنا، فنجعلُ مَن ¬

_ (¬1) "الظلال" (6/ 3756). (¬2) هو عروة بن مسعود الثقفي سيد أهل الطائف.

شِئنا رسولاً، ومَنْ أردْنا صِدِّيقًا". ونتَّخذ من أردنا خليلاً، كما قَسَمْنا بينهم معيشتَهم التي يعيشون بها في حياتهم الدنيا من الأرزاق والأقوات، فجعلنا بعضَهم فيها أرفعَ من بعض درجةً بأنْ جَعَلنا هذا غنيًّا وهذا فقيرًا، وهذا مَلِكًا وهذا مملوكًا؛ {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضا سُخْرِيًّا}، يعني بذلك العبيدَ والخَدَم سَخَّرهم لهم. ° قال قتادة: " {وَرَحْمَتُ رَبّكَ خَيْرٌ ممَّا يَجْمَعونَ}، يعني: الجنة" (¬1). * قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} [الأنعام: 124] ". {اللهُ أَعْلَمُ حَيْث يَجْعَل رِسَالَتَهُ}، وقد جَعَلها حيث عَلِم، واختار لها أكرمَ خَلقِه وأخلَصَهم، وجعل الرسلَ هم ذلك الرَّهْطَ الكريمَ، حتى انتهت إلى محمدٍ خيرِ خلقِ الله وخاتمِ النبيين .. تتباهى بك العصورُ وتسمو ... بِك عَلياءٌ دونها علياءُ أنت مصباحُ كلِّ فضلٍ فما ... يَصدُرُ إلاَّ عن ضوئك الأضواءُ {سَيُصيِبُ الَّذِينَ أَجْرَموا صَغَارٌ عِندَ الله وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكرُونَ}، والصَّغار هو: أشدُّ الذُّلِّ، يُقابِلُ الاستعلاءَ عند الأتباع، والاستكبارَ عن الحق، والتطاولَ إلى مقامِ رسل الله! والعذابُ الشديد يُقابل الكرَ الشديد، فالعِداء للرسل، والأذى للمؤمنين، وصَدَق الله إذ يقول: ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" (20/ 580 - 586) مختصرًا.

أبو لهب، وامرأته حمالة الحطب، وابنه

{كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125]. والرِّجس هو: النَّجَس الذي لا خيرَ فيه، وهو الشيطان، كما قال ابن عباس: لواءُ ضلالٍ قاد إبليسُ أهلَه ... فخاسَ بهم إنَّ الخبيث إلى غَدْرِ ومن معاني الرجس: العذاب، ومن معانيه كذلك: الارتكاس، وكلاهما يُلَوِّن هذا العذابَ بمشهدِ الذي يرتكسُ في العذاب ويعودُ إليه ولا يفارقه. * أبو لهب، وامرأته حمَّالة الحطب، وابنه: أفمَن رَغِب عن الله كمن رَغِب إلى الله؟! لا يستويانِ ولا يلتقيان .. هل يستوي من رسولُ الله قائِدُه ... دَوْمًا وآخرُ هاديه أبو لَهَبِ؟! وأينْ مَن كانتِ الزهراءُ اسْوَتَها ... مِمَّنْ تَقَفَّتْ خُطَا حَمَّالةِ الحَطَبِ؟! وأبو لهب هذا الذي أفرد الله ذِكرَه من كفارِ قريش، هو أحدُ أعمامِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واسمُه "عبد العزى بن عبد المطلب"، وكنيته "أبو عتبة"، وإنما سُمِّي أبا لهب؛ شراق وجهه، ولتلهُّب وَجنتيه، وكأنَّ كنيَته من جنسِ عمله ومآلِهِ إلى ذاتِ اللَّهب، فوافقت حالُه كنيتَه، فحَسُن ذِكرُه بها، وامرأتُه "أم جميل"، واسمها "أروى بنت حرب بن أميَّة"، وهي أختُ أبي سفيان. ولقد كان أبو لهب كثيرًا الأذية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والبغضِ له، والازدراءِ به، والتنقُّصِ له ولدينه. وانظر إلى نموذجٍ من نماذج كيدِ أبي لهبٍ لدعوةِ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، التي

عاداها من اليوم الأول للدعوة. • روى الإِمام أحمد، عن ربيعةَ بن عبَّادٍ من بني الدِّيل -وكان جاهليًّا، فأسلم- قال: "رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية، في سُوقِ ذي المجاز وهو يقول: "يا أيها، الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا"، والناس مجتمِعون عليه، ووراءَه رجلٌ وضيءُ الوجهِ أحولُ ذو غَدِيرَتَينِ، يقول: إنه صابئٌ كاذب، يتبعُه حيث ذهب، فسألتُ عنه، فقالوا: هذا عمُّه أبو لهب" (¬1). • وروى محمد بن إسحاق عن ربيعةَ بن عباد الدِّيلي قال: "إني لَمَع أبي غلامٌ شاب، أنظرُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبعُ القبائل، ووراءَه رجلٌ أحولُ وَضِيء ذو جُمَّةٍ، يقفُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على القبيلة فيقول: "يا بني فلان، إني رسولُ الله إليكم، آمرُكم أن تَعبُدوا الله، لا تُشركوا به شيئًا، وأن تُصدِّتوني وتمنعوني، حتى أُنفِذَ عن الله ما بعثني به"، وإذا فرغ من مقالته قال الآخَرُ مِنْ خلفه: يا بَنِي فلان، هذا يريدُ منكم أن تَسلُخوا اللاتَ والعزَّى، وحُلفاءَكم من الجنِّ من بني مالك بن أقيس، إلى ما جاء به من البدعةِ والضلالة، فلا تسمعوا له وتتبعوه. فقلت لأبي: من هذا؟ قال: عمه أبو لهب" (¬2). * قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد: 1 - 5]. ¬

_ (¬1) صحيح: رواه أحمد (4/ 341)، وصححه الشيخ شعيب الأرنؤوط، (¬2) رواه أحمد، والطبراني، وقال الشيخ شعيب: "إسناده ضعيف".

• روى البخاري عن ابن عباس- رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى البطحاء، فصعد الجبل، فنادى: "يا صباحاه"، فاجتمعت إليه قريش، فقال: "أرأيتمُ إن حدَّثتُكم أن العدوَّ مُصبِّحُكم أو مُمسيكم، أكنتم تصدقوني؟ " قالوا: نعم، قال: "فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد"، فقال أبو لهب: ألهذا جمعتَنا؟ تبًّا لك، فأنزل الله: {وتَبَّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ وَتَبّ} " (¬1). • وفي رواية: "فقام ينفضُ يديه، وهو يقول: تبًّا لك سائرَ اليوم، ألهذا جمعتَنا؟ فأنزل الله: {وتَبَتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ} " (¬2). • وعن سعيدِ بنِ جُبير، عن ابن عباس- رضي الله عنه - قال: لَمَّا نزلت: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصَّفا، فجعل يُنادِي: "يا بني عَدِيٍّ" -لبطون قريش-، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يَخرجَ أرسل رسولاً لينظرَ ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريشٌ، فقال: "أرأيتكم لو أخبرتُكم أنَّ خيلاً بالوادي تريدُ أَنْ تُغيرَ عليكم، أكنتم مُصَدِّقيَّ؟ " قالوا: نعم، ما جَرَّبْنا عليك إلاَّ صِدْقًا. قال: "إني نذيرٌ لكم بين يديْ عذابٍ شديد"، فقال أبو لهب: تبًّا لك سائرَ اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 1 - 2] " (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري، تفسير سورة: {تَبَّتْ يَدَا أبِي لَهَب وتَبّ}. (¬2) البخاري كتاب الجنائز؛ باب ذكر شرار الموتى؛ وتفسير سورتي "الشعراء وسبأ". (¬3) رواه البخاري (10/ 118)، وأعاده في تفسير سورة "تبت" (10/ 368، 369)، وآخر كتاب الجنائز (3/ 54)، وأخرجه مسلم (3/ 83)، والترمذي (4/ 220)، وأحمد (1/ 281)، وابن جرير في "التاريخ" (2/ 216)، وفي "التفسير" (19/ 121)، =

من أول يومٍ ينفردُ هذا الكافرُ بالكيدِ للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتتبُّع خَطْوِه، والردِّ على مقالته، فأفرد اللهُ ذِكرَه، وشَهَره بكنيته دون بقيةِ صناديد الكفر من قريش. ولما قال للرسول - صلى الله عليه وسلم -: "تبًّا لك"، وقام ينفض يديه، فتنزل السورة تردُّ على هذه الحربِ المعلَنةِ من أبي لهب وامرأته، وتَولَّى اللهُ سبحانه عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أمرَ المعركة. قال: "تبًّا لك"، فكان الجزاء: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ}، دعاء بدعاء، ولفظٌ بلفظ. نَفَض يديه، فجاء ذِكرُ اليدين: {تَبَّتْ يَدَا}، واحدةً بواحدة، يداك أَوْكَتَا، وفُوك نَفَخ -أبا لهب-. سائرَ اليوم، سائرَ الدهر، وأنت بعدُ في دار الدنيا {وَتَبّ}. ° " ولم يُقيِّضِ اللهُ له ولا لامرأته أن يُؤمِنا، ولا لواحدٍ منهما، لا ظاهرًا ولا باطنًا، ولا سرًّا ولا مُعلَنًا؛ فكان هذا مِن أقوى الأدلةِ الباهرةِ على النبوَّة الظاهرة" (¬1). {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ}، تبابٌ وهلاكٌ وبَوارٌ وقَطع، في آيةٍ ¬

_ = (3/ 337)، والنسائي في "التفسير" كما في عمدة القارئ (16/ 93)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (1/ 431). وهذا الحديث مرسل؛ لأن ابن عباس كان حينئذ إمّا لم يولد أو كان طِفلاً، وبه جزم الإسماعيلي. انظر "عمدة القارئ" (19/ 102) ثم قال: أقول هو مرسل صحابي، ومرسل الصحابي لا ضير عليه ولا مطعن فيه. انظر "الصحيح المسند من أسباب النزول"، للوادعي" (ص177). (¬1) "تفسير ابن كثير" (8/ 537).

قصيرةٍ واحدة، تَصدر الدعوةُ وتتحقق، وتنتهي المعركةُ، ويُسدل السِّتار!. ولما أجمع بنو هاشم بقيادةِ أبي طالبٍ على حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لم يكونوا على دِينه، لدافع العصبيةِ القَبَلية، خَرَج أبو لهبٍ على إخوته، وحالَفَ عليهم قريشًا، وكان معهم في الصحيفة التي كتبوها بمقاطعةِ بني هاشم وتجويعهم؛ كي يُسلِموا لهم محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وكان قد خَطَب بنتي الرسول- صلى الله عليه وسلم - "رقية وأمَّ كلثوم"، لولديه قبل بعثة النبي- صلى الله عليه وسلم -، فلما كانت البعثةُ أمرهما بتطليقهما، حتى يُثقِلَ كاهلَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بهما. {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}. ° قال ابن عباس- رضي الله عنه -: {وَمَا كَسَبَ}، "يعني: ولدَه" .. وروي عن عائشة ومجاهد وعطاء والحسن وابن سيرين مثله. لما دعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قومَه إلى الإِيمان، قال أبو لهب: إنْ كان ما يقول ابن أخي حقًّا، فإني أفتدي نفسي يومَ القيامة من العذاب بمالي وولدي، قال الله -عز وجل- لنبيه محمد طنهه: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر: 3]. ° قال القاسمي: "قال الشهاب: والذي صحَّحه أهلُ الأثر أن أولادَه -لعنه الله - ثلاثة: مُعتِّب، وعُتبة، وهما أسلما، وعُتيبة -مصغَّرًا- وهذا هو الذي دعا عليه النبي- صلى الله عليه وسلم - لما جاهر بإيذائه وعداوته، ورَدَّ ابنته وطلَّقها، وقال صلوات الله عليه وسلامه: "اللهم سَلِّط عليه كلبًا من كللابك"، وفيه يقول حسان - رضي الله عنه -: مَنْ يرجِعُ الْعَامَ إِلَى أَهْلِهِ ... فَمَا اَكِيلُ السَّبْعِ بالرَّاجع" (¬1) ¬

_ (¬1) "محاسن التأويل" للقاسمي (17/ 6292).

° قال ابن كثير: "روى ابن عساكر في ترجمة "عُتيبة بن أبي لهب" من طريق محمد بن إسحاق عن هبَّار بن الأسود قال: كان أبو لهب وابنُه عُتيبة قد تجهَّزا إلى الشام، فتجهزتُ معهما، فقال ابنُه عُتيبة: واللهِ لأنطلقُ إلى محمدٍ ولأوذينَّه في ربِّه -سبحانه- فانطلق حتى أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد، هو يكفرُ بالذي دنا فتدلَّى، فكان قابَ قوسين أو أدنى. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم، أبعث إليه كلبًا من كلابك"، ثم انصرف عنه فرجع إلى أبيه، فقال: يا بُني، ما قلتَ له؟ فذكر ما قال له، قال: فما قال لك؟ قال: قال: "اللهم سلِّطْ عليه كلبًا من كلابك". قال: يا بني، واللهِ ما اَمَنُ عليك دعاءه" (¬1). ° وفي رواية عروة بن الزبير: "أن عُتيبة بنَ أبي لهب، وكان تحته بنتُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أراد الخروجَ إلى الشام، فقال: لآتِينَّ محمدًا فلأوذينَّه، فأتاه فقال: يا محمدُ، هو كافر بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلَّى، ثم تَفَل في وجهِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ورَدَّ عليه ابنتَه وطلَّقها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم سلِّطْ عليه كلبًا من كلابك"، وكان أبو طالب حاضرًا، فوجم لها وقال: ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة، فرجع عُتيبةُ إلى أبيه فأخبره" (¬2). فسرنا حتي نزلنا الشِّراة (¬3)، وهي مأسدة (¬4)، فنزلنا إلى صومعةِ ¬

_ (¬1) "تفسير ابن كثير" (8/ 421) سورة النجم. (¬2) "تفسير القرطبي" (9/ 6253). (¬3) الشراة: صِقْع بالشام بين دمشق ومدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفي اللسان: موضع تنسب إليه الأسد، يقال للشجعان: ما هم إلا أسود الشرى، والشرى: طريق في سلمى كثير الأُسد. (¬4) الأرض كثيرة الأسود.

واهب، فقال: يا معشرَ العرب، ما أنزلكم هذه البلادَ، فإنها تسرحُ الأُسْدُ فيها كما تسرحُ الغنم، فقال لنا أبو لهب: إنكم قد عرفتم كبَرَ سنِّي وحَقِّي، وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوة، واللهِ ما آمنُها عليه، فأجمِعوا متاعَكم إلى هذه الصومعة، وافرِشوا لابني عليها، ثم افرِشوا حولها، ففعلنا، فجاء الأسد فشمَّ وجوهَنا، فلما لم يَجِدْ ما يريدُ، تَقبَّضَ فوثب، فإذا هو فوق المتاع، فشمَّ وجهه، ثم هَزَمه هَزْمةً (¬1)، ففضخ (¬2) رأسه، فقال أبو لهب: قد عرفتُ أنه لا ينفلتُ عن دعوة محمد". فانظر أخي يرحمك الله، لما تَفَل في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى الأسدُ، فشمَّ وجهَه، وفضخ رأسه، لم يأكلْه من يديه أو رجليه، وإنما وجه بوجهٍ. بَصْقٌ في وجهِ نبيٍّ، وفَضْحٌ في رأسِ شقيٍّ، ومعذرةٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أَلَمْ تَرَ أن السَّيفَ يَنقُصُ قَدْرُه ... إذا قيل: إنَّ السَّيفَ أمضى من العصا؟! فابن أبي لهب لا يناسبه إلا كلب (¬3). ° قال حسان بن ثابت - رضي الله عنه - في قصة الأسد مع أبي واسمع عُتَيْبَة بن أبي لهب: سائِلْ بني الأَشْعَرِ إنْ جئتَهُم ... ما كان أنباءُ أبي وَاسِع (¬4) ¬

_ (¬1) أي: ضربه ضربة. (¬2) أي: شدخه. (¬3) قال القاسمي في "محاسن التأويل" (17/ 6292): ومنه يُعلَم أن الأسد يُطلقَ عليه كلب، ولما أُضيف إلى الله؛ كأنه أعظم أفراده. (¬4) بني الأشعر: يعني الأشعريين، وقال بعض الناس: خرج عتبة إلى ناحية اليمن إلى سوق حباشة، ومن قال سائل بن الأصفر قال خرج عُتيبة إلى حوران.

لاَ وَسَّعَ اللهُ له قَبْرَهُ ... بَلْ ضَيَّقَ اللهُ على القَاطِع رِحْمَ نَبِيٍّ جَدُّهُ جَدُّهُ ... يَدْعو إلى نُورِ هُدًى سَاطِع أَسْبَلَ بالحِجْرِ لتَكْذِيبهِ ... دُونَ قُرَيْشٍ نَهْزَهُ القَاع فاسْتَوْجَبَ الدَّعْوَةَ منْهُ فَقَدْ ... بَيَّنَ للناظِرِ والسَّامِع إِن سَلَّطَ اللهُ بهِ كَلْبَهُ ... يمشي الهُوينى مِشيةَ الخادع فالتهمَ الرأسَ بِيَافُوخِهِ ... والحَلقَ مِنه فَغْرَةَ الجَائِع أَسْلَمْتُمُوه وهو يَدْعُوكُمُ ... بالنَّسَبِ الأدْنَى وبالجَامِع واللَّيْثُ يَعْلُوهُ بأنْيَابِه ... مُنْعَفِرًا وَسْطَ الدَّم النَّاقِع لا يَرْفَعُ الرحْمَنُ مَصْرُوعَكُم ... ولا يُوهِنُ قُوَّةَ الصَّارِع مَنْ يَرجعُ العامَ إلى أهلِه ... فما أكِيلُ السَّبعْ بالرَّاجِع قد كانَ فيه لَكُمْ عِبْسَرةٌ ... للسيَّدَّ المَتْبُوع والتَّابِع من عادَ فاللَّيْثُ لَهُ عَائِدٌ ... أَعْظِمْ بِه من خَبَرٍ شَائِع (¬1) * {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}: ° قال أبو رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَمَاه الله بالعَدَسة فَقَتلته، فلقد تركه ابناه بعدَ موته ثلاثًا، ما دفناه حتى أنتَنَ، وكانت قريشٌ تَتَّقي هذه العدسة كما تتقي الطاعون، حتى قال لهم رجل من قريش: ويحكما، ألاَ تستحِيانِ! إن أباكما قد أنتَنَ في بيته لا تدفِنانه؟ فقالا: إنا نخشى عَدْوَةَ هذه القَرْحة، فقال: انطلِقا فأنا أعينُكما عليه، فواللهِ ما غَسلوه إلاَّ قَذْفًا بالماء ¬

_ (¬1) "ديوان حسان بن ثابت" - تحقيق د. سيد حنفي (ص 162 - 163) - دار المعارف.

من للأحول غير أم قبيح، أم جميل العوراء

عليه من بعيدٍ ما يَدنون منه، ثم احتملوه إلى أعلى مكة، فأسندوه إلى جدارٍ، ثم رجموا عليه بالحجارة". ° عن أمِّ المؤمنين عائشة - صلى الله عليه وسلم - أنها كانت لا تمرُّ على مكانِ أبي لهب هذا، إلاَّ تستَّرت بثوبها حتى تجوز. * {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}: * مَن للأحولِ غيرُ أمِّ قبيح، أمِّ جميل العوراء: ° قال ابنُ العربي: "العوراءُ أم قبيح، وكانت عوراءَ، مَن لها غيرُ أبي النار، أبي لهب؟! حَقَّق الله نَسَبه، لقد صَرَفهم اللهُ على أن يقولوا: "أبو النور، وأبو الضياء" -الذي هو المشترِك بين المحبوب والمكروه-، وأجرى على ألسنتهم أن يُضيفوه إلى لهب، الذي هو مخصوصٌ بالمكروه والمذموم -وهو النار-، ثم حَقَّق ذلك بأن يجعلها مَقَرَّه". ° قال ابنُ كثير عن أمِّ جميل: "كانت عَونًا لزوجها على كُفرِه وجُحودِه وعناده، فلهذا تكونُ يومَ القيامة عونًا عليه في عذابه في نار جهنم، ولهذا قال: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}، يعني: تحملُ الحطبَ فتُلقي على زوجِه، ليزدادَ على ما هو فيه، وهي مهيأةٌ لذلك، مستعدَّةٌ له" (¬1) .. والجزاء من جنس العمل. {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}: عن مجاهد وعكرمة، والحسن، والقتادة، والثوري، والسُّدِّي: "كانت تمشي بالنميمة". ¬

_ (¬1) "تفسير ابن كثير" (8/ 535).

° وعن ابن عباس، وعطية الجَدَلي، والضحاك، وابن زيد: "كانت تضعُ الشوكَ في طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" .. واختاره ابن جرير. ° قال الإِمام ابن جرير: "وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي هو قول من قال: كانت تحملُ الشوك، فتطرحُه في طريقِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن ذلك أظهرُ". ° قال الربيع: "فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يطؤُه كما يطأُ الحرير". ومِثلما حَمَلت الشوكَ والعِضاةَ تطرحُه في طريقِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكذا تحملُ الحطبَ على زوجِها في النارِ جزاءً وفاقًا. ° قال قتادة وغيره: "كانت تُعيِّرُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بالفقر، ثم كانت مع كثرةِ مالها تحملُ الحطبَ لشدةِ بُخلها، فُعيِّرت بالبُخل" (¬1). ° قال مُرَّة الهَمْداني: "كانت أم جميل تأتي كلَّ يوم بإبَّالةٍ (¬2)، من الحَسَكِ (¬3)، فتطرحُها في طريقِ المسلمين، فبينما هي حاملةٌ ذاتَ يوم حُزْمةً أعْيَت، فقَعَدت على حَجَرٍ لتستريح، فجَذَبها المَلَكُ من خلفها فأهلكها" (¬4). خَنَقها اللهُ بحَبلها. ° قال سعيد بن جبير: "حمالةَ الخطايا والذنوب، من قولهم: "فلان يحتطبُ على ظهره"، دليلُه قوله تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31}، ولا يظلمُ ربك أحدًا". ¬

_ (¬1) "تفسير القرطبي" (10/ 7330). (¬2) الإبالة: الحزمة الكبير. (¬3) الحسك: نبات له ثمرة ذات شوك، تعلق بأصواف الغنم، وهو السعدان. (¬4) "تفسير القرطبي" (10/ 7330).

* {فِي جِيدِهَا (¬1) حَبْلٌ من مَّسَدٍ}: ° قال سعيد بن المسيِّب: "كانت لها قِلادةٌ فاخرة، فقالت: لأُنفِقَنَّها في عداوةِ محمدٍ، فأعقَبَها اللهُ بها حَبْلاً في جِيدِها من مَسدِ النار". ° وعن الثوري: "هي قلادةٌ من نارٍ طولُها سبعون ذراعًا" (¬2). أبو لهب: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} ستَصلاها، وفي عُنقها حَبلٌ من مَسَد، تناسُقٌ في اللفظ، وتناسق في الصورة، فجهنم هي نار ذاتُ لهب، يَصلاها أبو لهب، وامرأتُه تحملُ الحطب، وتُلقِيه في طريقِ محمدٍ لإِيذائه والحطبُ مما يوقَدُ به اللهب، وهي تَحزِمُ الحطبَ بحبل، فعذابها في النار ذاتِ اللهب، أن تُغَل بحبلٍ من مَسد، ليتم الجزاءُ من جنس العمل" (¬3). وانظر يا أخي، مثلما أرادا أن يُنغِّصَا عيشَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، بتطليق ابنتَيه، وتتُّبعِه في المجالس بتكذيبه، مثلما أثارا حَربًا شعواءَ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى الدَّعوة، لا هوادةَ فيها، ولا هُدنة، انظر إلى وقع السورة في نفسِ أمِّ جميل، التي ذُعرت لها، وجُنَّ جنونُها، وحَسِبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد هجاها بشِعرٍ، وبخاصةٍ حين انتشرت هذه السورة، وما تحمله من تهديدٍ ومَذِمَّة، وتصوير زَرِيٍّ لأم جميل خاصةً، وتصوير يُثير السخرية، من امرأةٍ مُعجَبةٍ بنفسها، مُدِلَّةٍ بحَسَبها ونَسَبها، ثم ترتسِمُ لها هذه الصورة {نَارًا ¬

_ (¬1) الجيد: العنق. (¬2) "تفسير ابن كثير" (8/ 536). (¬3) "الظلال" (6/ 4000).

ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} في هذا الأسلوب القويِّ الذي يَشيعُ عند العرب. • عن أسماء بنت أبي بكر قالت: "لما نزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ} أقبلت العوراءُ أمُّ جَميلٍ بنتُ حرب، ولها وَلولة وفي يدها فِهْر (¬1)، وهي تقول: مُذَمَّمًا أَبَينَا ... وَدِينَهُ قَلَينَا وَأمْرَه عَصَينَا (¬2) ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد، ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر، قال: يا رسول الله، قد أقبلَتْ، وأنا أخافُ عليك أن تراك، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنها لن تراني"، وقرأ قُراَنًا اعتَصَم به، كما قال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا} [الإِسراء: 45]، فأقبَلَت حتى وقفَتْ على أبي بكر، ولم تَرَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا أبا بكر، إني أُخبرتُ أن صاحبَك هجاني؟، قال: لا، وربِّ هذا البيت ما هجاكِ، فوتَت، وهي تقول: قد عَلِمَتْ قريشٌ إني ابنةُ سيِّدها". قال: وقال الوليدُ في حديثه، أو غيره: "فعثُرت أمُّ جميل مِرْطَها وهي تطوف بالبيت، فقالت: تَعِس مُذَمَّم، فقالت أمُّ حكيم بنتُ عبد الطلب: ¬

_ (¬1) أي بمقدار ملء الكف من الحجارة. (¬2) رواه أحمد (2/ 373، 417)، والبخاري في "المناقب في أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (7/ 369) من "فتح الباري" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا تعجبون كيف يصرت الله عني شتم قريش ولعنهم يشتمون مُذَمَّمًا ويلعنون مُذَمَّمًا وأنا محمد".

إني لَحَصانٌ، فما أكلَّم، وثَقَافٌ (¬1) فما أُعلَّم، وكلنا من بني العمِّ، وقريش بعد أعلم" (¬2). ° وروى الحافظُ عن ابن عباس قال: لما نزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب وَتَبّ} وجاءت امرأةُ أبي لهب، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جالس، ومعه أبو بكر، فقال له أبو بكر: لو تنحَّيتَ لا تؤذيكَ بشيء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه سيُحال بيني وبينها"، فأقبلَتْ حتى وقفتْ على أبي بكر، فقالت: يا أبا بكر، هجانا صاحبُك، فقال أبو بكر: لا وربِّ هذه البِنْية، ما نَطق بالشِّعر ولا يتفوَّه به. فقالت: إنك لَمُصدَّق. فلمَّا ولَّت قال أبو بكر - رضي الله عنه -: ما رأْتك؟ قال: "لا، ما زال مَلَلكٌ يسترُني حتى ولَّت" (¬3). ° "فهكذا بَلَغ منها الغيظُ والحَنَقُ من سَيرورةِ هذا القول الذي حَسِبَتْه شِعرًا، وكان الهجاءُ لا يكونُ إلاَّ شعرًا مما نفاه أبو بكر، وهو صادقٌ، ولكنَّ الصورةَ المُزرِيةَ المثيرةَ للسخرية، التي شاعت في آياتها قد سُجِّلت في الكتاب الخالد، وسجَّلَتْها صفحاتُ الوجود أيضًا، تنطقُ بغضبِ اللهِ وحَرْبه على أبي لهب وامرأته، جزاءَ الكيد لدعوةِ الله ورسولِه، والتبابُ والهلاكُ والسخريةُ والزِّراية جزاءُ الكائدين لدعوة الله في الدنيا، والنار في الآخرة جزاءً وفاقًا، والذلُّ الذي يُشير إليه الحَبلُ، في الدنيا والآخرة جميعًا" (¬4). ¬

_ (¬1) أي: ذات فطنة ومعرفة. (¬2) "تفسير ابن كثير" (8/ 536 - 537). (¬3) حسن الإسناد: رواه أبو يعلى والبزار بنحوه، وقال: إنه حسن الإسناد، وفيه عطاء بن السائب كان قد تغيّر كذا في "المجمع" (7/ 44)، وله شاهد عن أسماء بنت أبي بكر بنحوه رواه أبو يعلى. (¬4) "الظلال" (6/ 4001).

أبي بن خلف قتيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

* أُبَيُّ بن خَلَفٍ قَتيلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: • عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اشتدَّ غَضَبُ الله على قوم فعلوا بنبيِّه -يشير إلى رَباعِيَتهِ-، اشتدَّ غضبُ الله على رجلٍ يقتلُهَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في سبيل الله" (¬1). ° عن ابن عباس- رضي الله عنه - قال: "اشتدَّ غضبُ الله على مَن قَتَله النبي في سبيل الله، اشتدَّ غضبُ الله على قومٍ دمَّوْا وجهَ نبي الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬2). ° قال ابنُ إسحاق: كان أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ يَلقَى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فيقول: يا محمدُ، إن عندي العَوذَ، فرسًا أعلفُه في كل يومٍ فَرْقًا (¬3) من ذُرة، أقتلُك عليه، فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بل أنا أقتلُك إن شاء الله" (¬4). ° قال ابن كثير: "عن عروةَ بنِ الزبير قال: كان أُبيُّ بنُ خَلَف أخو بني جُمَح، قد حَلَف -وهو بمكة- لَيقتُلَن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما بَلَغَتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حَلْفته قال: "بل أنا أقتلُه إن شاء الله"، فلما كان يومُ أحد أقبل أُبَي في الحديد مُقَنَّعًا، وهو يقول: لا نَجوتُ إن نجا محمدٌ، فحَمَل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريدُ قَتلَه، فاستقبله مصعبُ بنُ عُمير أخو بني عبد الدار يَقِي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه، فقُتِل مصعبُ بنُ عمير، وأبصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تَرقوةَ أُبيِّ بن خَلَفٍ من فُرجةٍ بين سابغةِ الذَرع والبَيضة، فطَعَنه فيها بالحَرْبة، فوقع إلى الأرص عن فرسه، ولم يخرجْ من طَعنته دمٌ، فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4073)، ومسلم (1793). (¬2) رواه البخاري (4074). (¬3) بفتح الراء وإسكانها: مكيال يسع تسعة عشر مَنًّا؛ وقيل: اثَنْي عشر مَنَّا. (¬4) "سلسلة معارك الإسلام الفاصلة- غزوة أحد، لمحمد أحمد بشاميل (ص 162).

يَخورُ خُوارَ الثَّوْر، فقالوا له: ما أجزَعَك، إنما هو خدْش؟ فذكر لهم قولَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أقتل أُبيًّا"، ثم قال: والذي نفسي بيده، لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون .. فمات إلى النار، {فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ} " (¬1). • وقد رواه موسى بنُ عقبةَ في "مغازيه" عن الزهريِّ عن سعيد بن المسيَّب نحوه، وقال ابن إسحاق: "لما أُسند رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الشِّعب أدركه أُبيُّ بن خَلَف، وهو يقول: لا نجوتُ إن نجوتَ، فقال القومُ: يا رسولَ الله، يَعطِفُ عليه رجلٌ منَّا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دَعُوه"، فلما دنا منه، تناول رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الحربةَ من الحارثِ بنِ الصِّمَّة، فقال بعضُ القوم -كما ذُكر لي-، فلما أخَذَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - انتَفَض انتفاضةً تطايرنا عنه تطايرُ الشُّعْر (¬2) عن ظَهر البعير إذا انتفضه، ثم استقبله رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فطَعَنه في عُنقه طَعنةً تدأدأ منها (¬3) مرارًا" (¬4). ° "لما رجع إلى قومه، وقد خَدَشه الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - بالحَربة خَدْشًا غيرَ كبير، قال: قتلني واللهِ محمد، قالوا له: ذهب واللهِ فؤادك، واللهِ ما بك من بأس قال: إنه قد كان قال بمكة: "أنا أقتُلك"، فواللهِ، لو بَصَق عليَّ لَقَتلني. فكان هذا الشقيُّ هو الوحيدَ الذي قتله رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بيده ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" لابن كثير (5/ 403)، و "دلائل النبوة" للبيهقي (3/ 258، 259). (¬2) الشُّعْر: بضم الشين وسكون العين: جَمْع شعراء، وهي ذِبَّانٌ حُمْر. انظر "النهاية" لابن الأثير (2/ 480). (¬3) قال ابن هشام: تدأدأ: تقلّب عن فرسه فجعل يتدحرج. (¬4) "البداية والنهاية" (5/ 403 - 404).

الكريمة" (¬1). فكان جزاؤُه من جنسِ قوله للرسول - صلى الله عليه وسلم - بمكة. ° قال حسان: لَقَدْ وَرِثَ الضلاَلَةَ عَنْ أَبيه ... أُبيٌ يَوْمَ بَارَزَهُ الرسولُ أَتَيْتَ إِلَيْهِ تَحْمِلُ رِمَّ عَظَمٍ ... وتُوعِدُهُ وَأَنْتَ بِهِ جَهُولُ ° وقال أيضًا: ألاَ مَنْ مُبلِغٍ عَنِّي أُبيًّا ... فَقَدْ أُلْقِيتَ فِي سُحْقِ السَّعيرِ تمَنَّى بِالضَّلاَلَةِ مِنْ بَعِيد ... وَتُقْسِمُ إِنْ قَدَرْتَ مَعَ النُّذُورِ تمنِّيكَ الأمَانِيَ مِنْ بَعِيد ... وَقَوْلُ الكُفْرِ يَرْجِعُ فِي عُرُورِ فَقَد لاَقَتْكَ طَعْنَةُ ذِي حِفَاظ (¬2) ... كَرِيم الْبَيْتِ لَيْسَ بِذِي فُجُورِ لَهْ فَضْلٌ عَلَى الأحْيَاءِ طُرًّا ... إِذَا نَابَتْ مَلمَّاتُ الأمُوُرِ ° ولله درُّ أحمد محرم إذْ يقول عن أُبيٍّ ومَقتله: دَلَفوا إليه، وظنَّ أكذبُهم مُنًى ... أنْ قدْ سَقَتْهُ يداه كأسَ حِمَامِهِ أكذاك ينخَدِعُ الغَبِيُّ وهكذا ... يتخبَّطُ المَفتونُ في أوهامهِ؟ مهلاً أُبَيُّ لقد رَكبْتَ عَظِيمةً ... وأردتَ صَرْحًا لستَ من هُدَّامِهِ صَرحٌ بناهُ اللهُ أوَّلَ ما بَنَى ... وأطالَ من عِرْنِينِهِ وسنامِهِ لا يَبلغُ البَاني ذُراهُ، ولا يُرَى ... في الداعِمِين بناؤه كدِعامِهِ أقدِمْ فخُذْها طعنةً من باسلٍ ... يغتالُ عَزْمَ الليثِ في إِقدامِهِ ¬

_ (¬1) "سلسلة معارك الإسلام - أحُد" (ص 163). (¬2) الحفاظ: الغضب في الحرب.

عبد الله بن قمئة -لعنه الله - رامي وجنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. أقمأه الله ولعنه

تلك المنيَّةُ يا أُبَيُّ سُقِيتَها ... فانظر إلى السَّاقي وروعة جامِهِ (¬1) خَذشٌ كَوَقع الظُّفْرِ، أَوْ هو دونَه ... لِمَ تشتكي وتَضِجُّ من آلامِهِ؟ أُأُبَيّ أين العُودُ والعَلَفُ الذي ... أَعْدَتَّه، وجعلتَهُ لطعاِمِهِ؟ اذهبْ لك الويلاتُ من مُتَمَرِّد ... عادى الإلهَ ولجَّ في آثامِهِ (¬2) * * * * عبد الله بن قَمِئَة -لعنه الله - رامِي وَجْنَتَيْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - .. أَقمأهُ الله ولعنه: ° عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "اشتدَّ غضبُ الله على مَن دَمَّى وجهَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬3). ° قال ابن حجر: "ومجموعُ ما ذكر في الأخبار أنه شُجَّ وجهُه - صلى الله عليه وسلم -، وكُسرت رَبَاعِيَتُه، وجُرحت وَجْنَتُه، وشَفَتُه السُّفلى من باطنِها، ووهى مَنكِبه من ضربةِ ابنِ قمئة، وجَحِشت ركبته" (¬4). ° وعند ابن هشام (¬5) حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: "أن عبد الله بن قَمِئة جَرَحه -أي الرسولَ- صلى الله عليه وسلم - في وَجَنتِه، فدخلت حَلْقتانِ من حِلَقِ المِغْفَرِ (¬6) ¬

_ (¬1) جامه: كأسه. (¬2) "ديوان مسجد الإسلام"، لأحمد محرم (ص 152 - 153) - مكتبة الفلاح. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) "فتح الباري" (7/ 431). (¬5) "سيرة ابن هشام" (2/ 80). (¬6) المغفر: شبيه بحَلَق الدرع، يجعل في الرأس يُتَّقى به في الحرب.

فماذا كان جزاء هذا الشقي؟!

في وَجنته - صلى الله عليه وسلم -". ° قال الواقدي (¬1): "والثابثُ عندنا أن الذي رَمَى في وَجْنَتَيْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنُ قمئة، والذي رمى في شَفته وأصاب رَباعِيَتَه عتبةُ بنُ أبي وقاص" (¬2). ° وروى ابنُ جرير في "تاريخه" (¬3) عن السُّدِّيِّ قال: "أتى ابنُ قمئة الحارثيُّ، فرمى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بحَجَر، فكَسَر أنفَه ورَبَاعِيَتَه، وشجَّه في وجهه فأثقله". * فَمَاذَا كَانَ جَزَاء هَذَا الشَّقي؟!: • قال عبدُ الرحمن بنُ زيدِ بن جابر: "إن الذي رَمى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بأُحد، فجَرَحه في وجهه، قال: خُذْها مني وأنا ابنُ قمئة، فقال: "أقمأك الله"، فانصرف إلى أهله، فخرج إلى غَنَمه، فوافاها على ذُروةِ جبل، فدخل فيها، فشدَّ عليه تَيسُها، فنَطحه نطحةً أرداه من شاهقِ الجبل فتقطع". • وفي الطبراني، من حديث أبي أمامة قال: "رمى عبدُ الله بنُ قمئةَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، فشَجَّ وجهَه، وكَسَر رَباعيَتَه، فقال: خُذْها وأنا ابنُ قمئة، فقال رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم -، وهو يمسح الدمَ عن وجهه: "ما لك، أقمأك الله". فسلَّط الله عليه تَيْسَ جبلٍ، فلم يزل ينطحُه حتى قَطَّعه قِطعةً قطعةً". فانظر -رحمك الله-، لم يرسِل الله -عز وجل- إلى ابن قمئة مَلَكًا؛ ¬

_ (¬1) "مغازي الواقدي" (1/ 244). (¬2) "فتح الباري" (7/ 431). (¬3) "تاريخ الطبري" (2/ 519 - 521)، حوادث السنة الثالثة.

عتبة بن أبي وقاص -لعنه الله-، رامي شفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكاسر رباعيته

لينتقمَ لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، وإنما سَلَّط عليه تيسًا قطَّعه، وألقاه من فوقِ الجبل، لهوانه على الله!!. يا لَذُل قَزْمٍ تَطاول على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشَجَّ وجهَه، فأخزاه الله، وقَطعه تَيسٌ، وتردَّى من فوق الجبل إلى الهاوية، ليُخزَى في الدنيا والآخرة. * عُتبةُ بن أبي وقاص -لعنه الله-، رامي شَفَةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وكاسرُ رَباعيته: ° قال ابنُ إسحاق: "انكشف المسلمون -يومَ أُحُد -، وأصاب منهم العدوُّ، وكان يومَ بلاءٍ وتمحيص، أكرَمَ اللهُ فيه مَن أكرَمَ بالشهادة، حتى خَلَص العدوُّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدُثَّ (¬1) بالحجارة حتى وقع لِشِقِّه، فأُصيبت رَباعِيته، وشُجَ في وجهه، وكُلِمَت شَفَتُه، وكان الذي أصابه عُتبة ابن أبي وقاص" (¬2). • عن أنسِ بنِ مالكٍ أن رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كُسِرت رَباعِيَتُه يومَ أُحُد، وشُجَّ في رأسه، فجعل يَسْلُتُ الدمَ عنه ويقول: "كيف يُفلِحُ قومٌ شجُّوا نبيَّهم وكسَروا رَباعيتَه وهو يدعوهم إلى الله؟! "، فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] (¬3). ° وعند ابن هشام (¬4) من حديث أبي سعيد، أن عتبة بن أبي وقاصٍ رَمَى ¬

_ (¬1) دُثَّ: رمي حتى التوى بعض جسده. (¬2) "سيرة ابن هشام" (1/ 79، 80). (¬3) رواه مسلم، وأحمد في "مسنده" (3/ 99، 179، 201، 206، 253، 288)، والترمذي (4/ 83) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه ابن سعد (2/ 31)، وابن جرير (4/ 86، 87). (¬4) "سيرة ابن هشام" (2/ 80).

عدو الله ورسوله عقبة بن أبي معيط -لعنه الله-

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكَسَر رَباعيتَه اليُمنى السُّفْلى، وجرَح شَفَته السُّفْلى، وأن عبد الله ابن شهاب الزّهريَّ شجَّه في جبهته، وأن عبد الله بن قمئة جَرَح وَجْنَتَه. ° وتقدم قولُ الواقدي: "إن الذي رمى شَفَة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصاب رباعِيَتَه هو عُتبةُ بن أبي وقاص". ° وروى ابن إسحاق (¬1) بسنده عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: ما حَرَصْتُ على قتل أحدٍ قطُّ ما حَرَصتُ على قتْل عُتبةَ بن أبي وقاص، وإنْ كان ما عَلِمتُ لَسَيّءَ الخلُق، مبَغَّضًا في قومهِ، ولقد كفاني فيه قولُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اشتدَّ غضبُ الله على مَن دَمَّى وجهَ رسوله". ° وروى عبد الرزاق (¬2) بسنده عن مِقسَمٍ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعَا على عُتبةَ بنِ أبي وقاص يومَ أُحُد حين كَسَر رَباعِيَته ودَمَّى وجهَه، فقال: "اللهمَّ لا تُحِل عليه الحولَ حتى يموتَ كافرًا" .. فما حال عليه الحولُ حتى مات كافرًا إلى النار (¬3). * عدوُّ الله ورسولِه عُقْبة بن أبي مُعَيْط -لعنه الله-: ° قال السيوطي في "الدر المنثور": "أخرج ابن مردويه، وأبو نعيم في "الدلائل"، بسند صحيح، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن أبا مُعَيط (¬4) كان يَجلِسُ مع النبي- صلى الله عليه وسلم - بمكةَ لا يُؤذيه (¬5)، وكان رجلاً حليمًا، ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" (2/ 86). (¬2) "تفسير عبد الرزاق" (1/ 13)، و "المصنف" لعبد الرزاق (5/ 290، 291)، وأخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" (3/ 265). (¬3) "البداية والنهاية" (5/ 398 - 399). (¬4) هو عقبة بن أبي معيط. (¬5) هذا في بداية أمره.

وكان بقيَّةُ قريشٍ إذا جَلَسوا آذَوْه، وكان لأبي مُعيطٍ خليلٌ غائبٌ عنه بالشام، فقالت قريشٌ: صَبَأَ أبو مُعَيط. وقدِم خليلُه من الشام ليلاً، فقال لامرأتِه: ما فَعَل محمدٌ مما كان عليه؟ فقالت: أشدُّ مما كان أمرًا. فقال،: ما فَعَل خليلي أبو مُعَيط؟ فقالت: صبَأ. فبات بليلةِ سَوءٍ، فلما أصبَح أتاه أبو مُعَيط فحَيَّاه، فلم يرُدَّ عليه التحيةَ، فقال: ما لكَ لا تَرُدُّ علي تحيتي؟ فقال: كيف أَرُدُّ عليك تحيتَك وقد صَبَوتَ؟ قال: أَوَ قَدْ فَعَلَتْها قريش؟ قال؟ نعم. قال: فما يُبرئُ صُدورَهم إِنْ أنا فعلتُ؟ قال: تأتيه في مَجلِسِه فتبزُقُ في وجهه، وتشتُمُه بأخبثِ ما تعلمُ من الشَّتْم. ففعل، فلم يَزد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على أن مَسَح وجهه من البُزاق، ثم التفت إليه فقال: "إنْ وَجَدْتُك خارجًا من جبال مكة أضرب عُنُقَك صبْرًا". فلمَّا كان يومُ بدرٍ وخَرَج أصحابُه، أبى أن يخرجَ، فقال له أصحابه: اخرجْ معنا. قال: قد وَعَدَني هذا الرجل إن وَجَدَني خارجًا من جبال مكةَ أن يضربَ عُنُقي صبرًا (¬1). فقالوا: لك جَمَلٌ أحمرُ لا يُدرَك، فلو كانتِ الهزيمةُ طِرْتَ عليه، فخرج معهم، فلما هَزَم اللهُ المشركين، وَحَل (¬2) به جَمَلُه في جَدَدٍ (¬3) من الأرض، فأخذه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أسيرًا في سبعينَ مِن قُرَيْش، وقدِم إليه أبو مُعَيط، فقال: أتقتلُني مِن بين هؤلاء؟ قال: "نعم، بما بزَقْتَ في وَجْهي"، فأنزل الله في أبي مُعَيْط: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ}، هو، إلى قوله: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ ¬

_ (¬1) كُل مَن قُتِل في غير معركة ولا حرب ولا خطأ، فإنه مقتول صبراً. "النهاية" (3/ 8). (¬2) الوحل: الطين الرقيق، ووحل الوجل: أي وقع في الوحل. (¬3) الجَدد: ما استوى من الأرض. "النهاية" (5/ 162).

خَذولاً} [الفرقان: 27 - 29] " (¬1). ° انظر إلى هذا الشقيِّ الذي آذى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وانفرَدَ بما لم يفعْله أحدٌ، ووضع رِجلَه على عُنق أطهرِ الخلقِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقُطعت عنقُه جزاءً وفاقًا: • عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجد وحولَه ناسٌ من قريشٍ جاء عقبةُ بنُ أبي مُعَيْط بِسَلَى جزورٍ، فقَذَفه على ظَهرِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يَرَفعْ رأسَه، فجاءت فاطمةُ عليها السلام، فأخذَتْه عن ظهره، ودَعَتْ على من صَنع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ عليك الملأَ مِن قريش: أبا جهل بن هشام، وعُتبةَ بنِ ربيعة، وشَيبةَ بن ربيعة، وأميةَ بنِ خَلف -أوْ أبي بن خلف-" -شعبةُ الشاكُّ-، فرأيتُهم قُتِلوا يوم بدر، فألُقوا في بئرٍ، غيرَ أميَّةَ بنِ خَلَف أو أبيٍّ، تَقطَّعت أوصالُه فلم يُلقَ في البئر" (¬2). • وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "بينما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي عند الكعبة، وجَمْعٌ من قريشٍ في مجالسهم إذْ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي؟ أيُكُم يقومُ إلى جَزور آلِ فلان، فيَعْمِدَ إلى فَرْثها ودَمِها وسلاها، فيجيءَ به، ثم يُمهِلَه حتى إذا سَجد وضعه بين كتفيْه؟! فانبعث أشقاهم (¬3)، فلما سجد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَضَعه بين كتفيه، وثَبَت النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ساجدًا، فضَحِكوا حتى مال بعضهم إلى بعضٍ من الضحك. ¬

_ (¬1) "الدر المنثور" للسيوطي (11/ 163 - 164) - دار هجر. (¬2) رواه البخاري- كتاب مناقب الأنصار - باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه من المشركين بمكة حديث (3854). (¬3) هو عقبة لعنه الله.

فانطلق منطلق إلى فاطمة عليها السلام -وهي جُوَيْرية- فأقبلت تسعى، وثَبَت النبي- صلى الله عليه وسلم - حتى ألقته عنه، وأقبلَتْ عليهم تَسُبُّهم. فلما قَضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة قال: "اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش". ثم سمَّى: "اللهم عليك بعمرِو بن هشام وعتبةَ بنِ ربيعة وشيبةَ ابنِ ربيعة والوليد بنِ عتبة وأميةَ بنِ خَلَف وعَقبةَ بنِ أبي مُعيط وعُمارةَ بنِ الوليد"، قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: فواللهِ لقد رأيتُهم صَرعَى يومَ بدر، ثم سُحبوا إلى القليب (¬1) -قليب بدرٍ- ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأُتبع أصحابُ القليب لعنة" (¬2). وقد بيَّنَتِ الروياتُ الصحيحةُ الأخرى أن الذي رَمى الفَرْثَ عليه هو عقبةُ بنُ أبي مُعَيط، وأن الذي حَرَّضه هو أبو جهل (¬3). • وعن عروةَ بن الزبير قال: "سألتُ ابنَ عمرِو بنِ العاص (¬4): "أخبرْني بأشدِّ شيء صَنَعه المشركون بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: بينا النبي- صلى الله عليه وسلم - يصلِّي في حِجْر الكَعبة، إذْ أقبل عُقبةُ بنُ أبي مُعيطٍ، فوَضَع ثوبه في عنقِه، فخنقَه خنْقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بِمَنكِبِه ودَفَعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28] " (¬5). ¬

_ (¬1) القليب: البئر المفتوحة. (¬2) رواه البخارى "فتح الباري" (1/ 594) ومسلم في "صحيحه" (3/ 1418 - 1420). (¬3) صحيح البخاري "فتح الباري" (6/ 283، 7/ 165)، و"صحيح مسلم" (3/ 1420). (¬4) أي: عبد الله بن عمرو. (¬5) أخرجه البخاري (3856)، وأحمد، والبزار، والبخاري في "خلق أفعال العباد"، وأبو يعلى وابن حبان.

• ولفظُ ابن حِبَّان: عن محمد بن عمرو عن أبي سَلمة: حَدَّثَني عمرُو ابنُ العاص: "ما رأيتُ قريشًا أرادوا قتلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ يومًا أغرَوا به -وَهم في ظِلِّ الكعبة جلوس، وهو يُصلِّي عند المقام-، فقام إليه عقبةُ، فجعل رِداءَه في عُنقه، ثم جَذَبه حتى وَجَب (¬1) لركبتَيْهِ، وتصايَحَ الناسُ، وظنُّوا أنه مقتول، وأقبل أبو بكرٍ يشتدُّ حتى أخذ بضَبغ (¬2) رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - منَ ورائه وهو يقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ}؟ ثم انصرفوا عنه، فلما قضى صلاته مرَّ بهم فقال: "والذي نفسي بيده ما أُرسلتُ إليكم إلاَّ بالذَّبح"، فقال له أبو جهل: يا محمدُ، ما كنتَ جهولاً، فقال: "أنَتَ منهم" (¬3). ° قال ابنُ إسحاق (¬4) في أسرى بدر، وعن عقبةَ بن أبي معيط، وكيف قُتل صبرًا: "قال عقبةُ -حين أَمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتله-: فمَن للصِّبيةِ يا محمد؟ قال: "النار"، وكان الذي قَتَله عاصمُ بنُ ثابت بن أبي الأقلح"، وكذا قال موسى بنُ عقبة في "مغازيه" (¬5). ° ولما أَقبل إليه عاصمُ بنُ ثابت، قال: "يا معشرَ قريش، علامَ أُقتل مِنْ بين مَنْ هنا؟ قالوا: على عداوتِك للهِ ورسوله". ¬

_ (¬1) وَجَب: سقط. (¬2) الضبع: وسط العَضُد .. ما بين المِرفق والكف ِّ. (¬3) حسن: رواه ابن حبان في "صحيحه" (الإحسان 8/ 188) (6535)، وابن أبي شيبة في المصنف" (7/ 331) حديث رقم (36561)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (6/ 19): "رواه أبو يعلى والطبراني، وفيه محمد بن عمرو بن علقمة وحديثه حسن، وبقية رجال الطبرانى رجال الصحيح". ورواه النسائي في "تفسيره" (477). (¬4) "سيرة ابن هشام" (1/ 644)، و"البداية والنهاية" (5/ 188). (¬5) "دلائل النبوة" للبيهقي (3/ 117)، و"البداية والنهاية" (5/ 188).

النضر بن الحارث -لعنه الله-

• وقال حَمَّادُ بنُ سَلمة (¬1)، عن عطاءِ بنِ السائب، عن الشعبيِّ قال: "لما أَمَر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقتل عُقبةَ قال: أتقتلُني يا محمد، من بين قريشٍ؟ قال: "نعم، أتدرون ما صَنَع هذا بي، جاء وأنا ساجدٌ خَلفَ القام، فوضع رِجلَه على عُنقي وغَمَزها، فما رفعها حتى ظننتُ أن عينيَّ ستندرانِ، وجاء مرةً أخرى بسَلا شاةٍ، فألقاه على رأسي وأنا ساجد، فجاءت فاطمةُ فغسلته عن رأسي". ° قال ابنُ هشام (¬2): "ويُقالُ: بل قَتل عقبةَ عليُّ بنُ أبي طالب، فيما ذكره الزهريُّ وغيرُه من أهل العلم" (¬3). وكان قَتلُ هذا الشقيِّ اللعين بعِرْقِ الظُّبية (¬4). وذهب عقبةُ إلى مَزبلةِ التاريخ، وأُطيح بعُنقه جزاءَ كفرِه وعنادِه وحَسَدِه للإِسلام ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. * النَّضْر بن الحارث -لعنه الله-: ° قال ابنُ إسحاق بعد موقعة بدر: "حتى إذا كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالصَّفْراء قُتِل النَّضْرُ بنُ الحارث، قتله علي بنُ أبي طالب، كما أخبرني بعضُ أهل العلم من أهل مكة، ثم خَرَج حتى إذا كان بعِرْقِ الظُّبية قُتل عقبة ابن أبي معيط" (¬5). ¬

_ (¬1) "أنساب الأشراف" للبلاذري (1/ 148)، و"تاريخ الإسلام" للذهبي جزء المغازي (ص65) و "البداية والنهاية" (5/ 188). (¬2) "سيرة ابن هشام" (1/ 644). (¬3) "البداية والنهاية" (5/ 189). (¬4) موضع بين مكة والمدينة. (¬5) "سيرة ابن هشام" (1/ 644).

عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة -لعنهم الله-

° قال الحافظ ابن كثير: "قلت: كان هذان الرجلان (¬1) من شرِّ عباد الله، وأكثرِهم كفرًا وعنادًا، وبغْيًا وحسدًا، وهجاءً للإِسلام، وأهله لعنهما الله، وقد فعل" (¬2). * عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة -لعنهم الله-: ° عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال: "نَزَلت {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19]، في سِتةٍ من قريش: عليٍّ وحمزةَ وعُبيدةَ بن الحارث، وشَيبةَ بنِ ربيعة وعتبة بنِ ربيعة والوليد بن عتبة" (¬3). * وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]. ° قال مجاهد: "عتبة بنُ ربيعة من مكة، وابن عَبد ياليلَ الثقفي من ¬

_ (¬1) هما عقبة والنضر. (¬2) "البداية والنهاية" (5/ 189). (¬3) أخرجه البخاري (8/ 298)، وفي "التفسير" (10/ 59)، ومسلم (18/ 166)، وابن ماجه رقم (2835)، والطالسي (2/ 21)، وابن سعد (2/ 10)، وابن جرير (17/ 131). وليس في الحديث اضطراب انظر مقدمة "الفتح" (2/ 132)، و"فتح البارى" (10/ 59،60) وهذا الحديث مما انتقده الدارقطني على البخاري وذهب إلى اضطراب الحديث؛ لأن أبا مجلز تارة يُحدِّث به عن أبي ذر، وتارة يحدِّث به من قوله. قال النووي (18/ 166): "لا يلزم من هذا ضعف الحديث واضطرابه؛ لأن قَيسًا سمعه من أبي ذر كما رواه مسلم هنا فرواه عنه وسمع من عليَّ بعضه وأضاف إليه قيس ما سمعه من أبي ذر، وأفتى به أبو مجلز تارة، ولم يقل: إنه من كلام نفسه ورأيه، وقد عملت الصحابة رضوان الله عليهم ومَن بعدهم بمثل هذا فيفتي الإنسان منهم بمعنى الحديث عند الحاجة إلى الفتوى دون الرواية ولا يرفعه، فإذا كان وقت آخر وقصد الرواية رفعه، وذكر لفظه، وليس في هذا اضطراب. والله أعلم اهـ.

الطائف" (¬1). ° وروى الإمام عبدُ بن حُميد في "مسنده" عن جابر بن عبد الله قال: "اجتمعت قريشٌ يومًا، فقالوا: انظروا أعلمَكم بالسِّحر والكهانة والشِّعر، فليأتِ هذا الرجلَ الذي فرَّق جماعتَنا، وشتَّت أمرَنا، وعاب دينَنا، فليُكَلِّمْه، ولْينظرْ ماذا يردُّ عليه؟ فقالوا: ما نعلمُ أحدًا غيرَ عتبةَ بنِ ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبةُ فقال: يا محمدُ، أنت خيرٌ أم عبد الله؟ فسكت رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فإنْ كنتَ تزعمُ أنَّ هؤلاء خير مِنك، فقد عَبَدوا الآلهةَ التي عِبتَ، وإن كنتَ تزعمُ أنك خيرٌ منهم فتكلَّم حتى يُسمعَ قولك، إنا واللهِ ما رأينا سَخلةً (¬2) قطُّ أشأمَ على قومه منك، فرَّقت جماعتَنا، وشَتَّت أمرَنا، وعبتَ دينَنا، وفضحتَنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرًا، وأن في قريش كاهِنًا، واللهِ ما ننتظرُ إلاَّ مِثلَ صيحةِ الحُبلى أن يقومَ بعضُنا إلى بعضٍ بالسيوف حتى نتفانَى .. أيها الرجل، إِن كان إنما بك الحاجةُ جَمَعْنا لك حتى تكونَ أغنى قريشٍ رجلاً، وإن كان إنما بك الباهُ (¬3) فاختر أيَّ نساءِ قريشٍ شئتَ فَلنُزَوِّجك عَشْرًا، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "فرغتَ؟ ". قال: نعم! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} إلى أن بلغ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:1 - 13]. فقال عتبة: حسبُك، ما عندك غيرُ هذا؟ قال: "لا". فرجع إلى قريش ٍ، فقالوا: ما وراءك؟ قال. ما تركت شيئًا أرى أنكم ¬

_ (¬1) "تفسير الطبري" (20/ 581)، و"تفسير مجاهد" (593). (¬2) سخلة: الولد المُحَبَّبُ إلى والِدَيْه. (¬3) الباه: الرغبة في الزواج.

تكلِّمونه إلاَّ كلَّمتُه. قالوا: فهل أجابك؟ فقال: نعم!. ثم قال: لا والذي نَصَبَها بِنْيةً ما فهمتُ شيئًا ممَّا قال غير أنه أنذركم صاعقةً مثل صاعقة عادٍ وثمود. قالوا: ويلك! يكلِّمك الرجلُ بالعربية لا تدري ما قال؟ قال: لا واللهِ ما فهمت شيئًا مما قال غير ذِكر الصاعقة". ° وقد رواه البيهقي وغيره عن الحاكم، وزاد: "وإن كنت إنما بك الرياسةُ عَقَدْنا ألويتَنا لك، فكنت رأسًا ما بقيت". ° وعنده أنه لما قال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَاد وَثَمُودَ} أمسَك عقبةُ على فِيه وناشده الرحم أَنْ يكفَّ عنه، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم، فقال أبو جهل: "والله يا معشرَ قريشٍ ما نرى عتبةَ إلاَّ صبأ إلى محمدٍ وأعجبه طعامُه، وما ذاك إلاَّ من حاجةٍ أصابَتْه، انطلِقوا بنا فأتُوه .. فقال أبو جهل: "واللهِ يا عتبة ما جِئنا إلاَّ أنك صَبَوْت إلى محمدٍ وأعجبك أمره، فإنْ كان بك حاجة جَمَعنا لك مِن أموالنا ما يُغنيك عن طعامٍ محمد، فغَضِبَ وأقسم باللهِ لا يُكلِّمُ محمدًا أبدًا. وقال: لقد عَلِمتم أني من أكثرِ قريشٍ مالاً، ولكني أتيته -وقصَّ عليهم القصة-، فأجابني بشيءٍ واللهِ ما هو بسِحر ولا بشِعر ولا كِهانة، قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حتى بلغ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 1 - 13]. فأمسكتُ بفِيهِ، وناشدتُه الرحم أن يَكُفًّ، وقد علمتم أن محمدًا إذا قال شيئًا لم يَكذِب، فخِفتُ أن ينزل بكم العذاب" (¬1). ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" (6/ 60 - 61).

° وكان عتبةُ وولدُه الوليد، وشيبةُ أخوه ألدَّ أعداءِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد دعا عليهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأسمائهم لما آذَوْه، فكان لهم خِزيُ الدنيا والآخرة، وكان ثَلاثتهم أولَ مَن قُتِل مبارزةً في غزوة "بدر"، وسُحبوا إلى قليب بدرٍ وأُمِّهمُ الهاوية. ° وفي أولِ الموقعة أراد عُتبة بنُ ربيعة أن يُظهرَ شجاعتَه، فبَرَز بين أخيه شَيبةَ وابنِه الوليد، فلمَّا توسَّطوا بين الطرفيْن، دَعَوْا إلى البِراز، فخرج إليهم فتيةٌ من الأنصار ثلاثة، وهم عَوْف ومُعَوِّذ ابن الحارث -وأمهما عفرَاء-، والثالث عبد الله بن رواحة، فقالوا: مَن أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار. فقالوا: ما لنا بكم من حاجة. وفي رواية: فقالوا: أَكْفَاءٌ كرام، ولكن أخرِجوا إلينا بني عَمِّنا، ونادى مناديهم: يا محمد، أخرجْ إلينا أكْفاءنا من قومنا. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "قم يا عُببدة بن الحارث، قم يا حمزة، وقم يا علي". فبارز عُبيدةُ -وكان أسنَّ القوم- عتبةَ، وبارز حمزةُ شيبةَ، وبارز عليٌّ الوليدَ ابن عتبة. فأما حمزة فلم يُمهل شيبة أنْ قَتَله، وأمَّا علي، فلم يُمهِل الوليد أن قتله، واختلف عُبيدة وعُتبة بينهما ضَرْبتيْن، وكَرَّ حمزةُ وعليٌّ بأَسيافهما على عتبة، فذفَّفا (¬1) عليه، واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه - رضي الله عنهم - (¬2). فكُبَّ أبو جهلٍ صريعًا لوجهه ... وعتبةُ قد غادرتْه وهو عاثِرُ وشيبة والتْيميَّ غادرت في الوغى ... وما منهما إلا بذي العرش كافرُ فأمسَوا وقودَ النار في مستقرِّها ... وكلُّ كفورٍ في جهنمَ صائرُ ¬

_ (¬1) ذَفَّف على الجريح: أجهز عليه. (¬2) "البداية والنهاية" (5/ 95، 96).

أمية بن خلف لعنه الله

° ولله درُّ حسَّان وهو يقول: قتلنا أبا جهل وعتبةَ قبله ... وشيبةُ يكبو لليدْين وللنَّحْرِ ° وقال حسّان أيضًا: قتَلنا ابنيْ ربيعةَ يوم سارَا ... إلينا في مضاعَفةِ الحديد ° ولله در القائل: ستبلغُ عنَّا أهل مكة وقعةٌ ... يَهُبُّ لها من كان عن ذاك نائيا بعتبةَ إذْ ولَّى وشيبهْ بَعدَه ... وما كان فيها بِكرُ (¬1) عتبة راضيا لقيناهم كالأُسْد تخطِرُ بالقنا ... نُقاتل في الرحمن مَن كان عاصيا فما بَرِحتْ أقدامُنا من مَقَامِنا ... ثَلاثتنا حتى أُزِيروا (¬2) المنائيا * أُمَيَّة بن خلف لعنه الله: نَقَل السُّهيلي في "الروض الأُنُف" أن عدوَّ الله أُميةَ بنَ خَلَف بَصَق في وجهِ النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، وكان هذا اللعينُ الذي سَبَقت له الشِّقوةُ من ربِّه أحدَ النَّفر الذين دعا عليهم النبي- صلى الله عليه وسلم - لما وضعوا فَرْثَ الجزورِ ودَمَها وسَلاها بين كتفَيِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد، وضحِكوا حتى مال بعضُهم على بعضٍ من الضَحك. • عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - حَدَّث عن سعدِ بنِ معاذ أنه كان صَديقًا لأُميَّةَ بن خَلَفٍ، وكان أُمَيَّةُ إذا مَرَّ بالمدينة نزل على سعدِ بنِ معاذٍ، ¬

_ (¬1) هو الوليد بن عتبة. (¬2) أي: جعلوهم يزورون المنايا، أي يذوقونها. (¬3) "الروض الأنف" (2/ 48).

وكان سعدٌ إذا مَر بمكة نزل على أُميَّة، فلما قَدم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، انطلق سعدُ بنُ معاذٍ معتمِرًا، فنزل على أُمَيَّة بمكةَ، فقال لأُمية: انظرْ لي ساعةَ خَلْوة؛ لعَلِّي أطوفُ بالبيت، فخرج به قريبًا من نصفِ النهار، فلَقِيَهما أبو جهل، فقال: يا أبا صفوان، مَن هذا معك؟ قال: هذا سعد. قال له أبو جهل: ألاَ أَراك تطوفُ بمكةَ آمِنًا، وقد آويتم الصُّباةَ (¬1)، وزعمتم أنكم تنصرونهم وتُعينُونهم! أمَا واللهِ، لولا أنك مع أبي صفوانَ ما رَجَعتَ إلى أهلك سالمًا. فقال له سعد -ورفع صوتَه عليه-: أمَا والله، لئن مَنَعْتني هذا، لأمنعنَّك ما هو أشَدُّ عليك منه؛ طريقَك على المدينة. فقال له أُمَيَّةُ: لا ترفعْ صوتَكَ يا سعدُ - على أبي الحكم، فإنه سيِّدُ أهل الوادي، قال سعد: دَعْنا عنك يا أمية، فواللهِ لقد سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنهم قاتلوك". قال: بمكة؟ قال: لا أدري. ففزع لذلك أُمَيَّةُ فزغا شديدًا، فلما رجع إلى أهله قال: يا أُمَ صفوان، أَلَمْ تَرَيْ ما قال سعد؟ قالت: وما قال لك؟ قال: زَعَم أن محمدًا أخْبَرَهم أَنَّهم قاتِليَّ، فقالتُ له: بمكة؟ قال: لا أدري. فقال أُمَيَّةُ: والله لا أخرجُ من مكة، فلما كان يومُ بدرٍ، استَنْفَرَ أبو جهل الناس، فقال: أدرِكوا عِيرَكم. فكَرِه أميةُ أن يخرج، فأتاه أبو جهلٍ، فقال: يا أبا صفوان، إنك متى يراك الناس قد تخلَّفتَ وأنت سيِّدُ أهل الوادي، تخلَّفوا معك. فلم يَزَل به أبو جهل حتى قال. أَمَّا إذ غَلَبتَني، فواللهِ لأشتريَن أجْوَدَ بعيرٍ بمكة، ثم قال أميةُ: يا أمَّ صفوان، جَهِّزيني. فقالت له: يا أبا صفوان، وقد نَسِيتَ ما قال لك أخوك اليثربيُ؟ قال: لا، وما أريدُ أن أجوزَ معهم إلاَّ ¬

_ (¬1) الصبُّاة: بضم المهملة وتخفيف الموحدة، جمع صابئ، وهو الذي ينتقل من دين إلى دين.

العاص بن وائل - لعنه الله -

قريبًا، فلمَّا خرج أميةُ، أخذ لا ينزلُ منزلاً إلاَّ عَقَل بعيرَهُ، فلم يزل كذلك حتى قَتَله الله ببدر" (¬1). ° وعند أحمد: "قالت له امرأته: واللهِ إن محمدًا لا يَكذِب". • وعن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: "كاتَبْتُ أُميةَ بنَ خلفٍ كتابًا بأن يَحْفَظَني في صاغيتي (¬2) بمكة، وأحفَظَه في صاغِيَتِه بالدينة، فلمَّا ذكرتُ "الرحمن" قال: لا أعرفُ "الرحمن"، كاتِبْني باسمك الذي كان في الجاهلية. فكاتبته "عبدَ عمرو"، فلمَّا كان يومُ بدرٍ، خرجتُ إلى جبلٍ لأُحرِزَه حين نام الناس، فأبصرَه بلالٌ، فخرج حتى وقف على مجلسٍ من الأنصار فقال: أُمَيَّةُ بن خلف؟! لا نجوتُ إِنْ نجا أمية، فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا، فلمَّا خَشِيتُ أن يلْحَقُونا، خَلَّفتُ لهم ابنَه لأشغَلَهم، فقتلوه، ثم أَتَوْا حتى تَبِعُونا، وكان رجلاً ثقيلاً، فلمَّا أدركونا قلتُ له: ابْرُك. فبَرَك، فألقيتُ عليه نَفْسي لأَمنَعَه، فتخلَّلوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدُهم رِجلي بسيفه. فكان عبد الرحمن بن عوف يُرِينا ذلك الأثَرَ في ظَهرِ قدمه" (¬3). * العاصُ بن وائل - لعنه الله -: وهذا رأس من رؤوس الكفر، المستهزئين برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقرآن: ° عن خبَّابٍ - رضي الله عنه - قال: "كنت قَيْنًا في الجاهلية، وكان لي على ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3950)، ورواه أحمد في "المسند" (1/ 400). (¬2) الصاغية: خاصة الرجل، مأخوذٌ من صَغى إليه إذا مال. قال الأصمعي: صاغية الرَّجُل: كل من يميل إليه، ويُطلق على الأهل والمال. (¬3) أخرجه البخاري (2301).

عمارة بن الوليد بن المغيرة

العاصِ بنِ وائل دَيْنٌ، فأتيته أتقاضاه، فقال: لا أُعطِيك حتى تكفرَ بمحمد، فقلت: لا أكفر حتى يميتَك اللهُ، ثم تُبعث. قال: دَعنِي حتى أموتَ وأُبعثَ، فسأُوتى مالاً وولداً فأقضيَك، فنزلت: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 78] " (¬1). ° وعن سعبد بن جُبير، عن ابن عباس - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن العاص بن وائل أخذ عَظْمًا من البطحاء ففتَّه بيدِه، ثم قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُحيي اللهُ هذا بعد ما رُمَّ؟!، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم يُميتُك اللهُ، ثم يُحييك، ثم يُدخِلُك جهنَم". قال: ونزلت الآيات من آخر "يس" .. " (¬2). مرج هذا اللعينُ العاص على حمار له يريدُ الطائف، فربض به على شِبرقة، فدخلت في أخمصِ رِجله شوكةٌ فقتلته. * عمارة بن الوليد بن المغيرة: ° قال الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية": "عمارةُ بنُ الوليد بن المغيرة هو أحدُ السّبَعةِ الذين دعا عليهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حين تضاحَكوا يوم وَضْع سَلا الجزورِ على ظَهره - صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد عند الكعبة، والمقصودُ أنهما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5/ 221، 359، 10/ 44، 45، 46)، ومسلم (17/ 138)، والترمذي (4/ 146)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأحمد (5/ 111)، والطيالسي (2/ 21)، وابن سعد (3/ 116)، وابن جرير (16/ 121). (¬2) صحيح: أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/ 429) وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وذكره مقبل الوادعي في "الصحيح المسند من أسباب النزول" (ص 129).

حين خرجا (¬1) من مكةَ كانت زوجة عمرو معه، وعمارةُ كان شابًّا حَسَنًا، فاصطحبا في السَّفينة، وكان عمارةُ طَمِعَ في امرأةِ عمرِو بنِ العاص، فألقى عَمْرًا في البحر ليُهلِكَه، فسَبَح حتى رجَع إليها. فقال له عمارةُ: لو أعلمُ أنك تُحسِنُ السباحةَ لَمَا ألقيتُك، فحَقَد عمرٌو عليه، فلمَّا لم يُقضَ لهما حاجةٌ في المهاجرين من النجاشي، وكان عمارةُ قد توصَّل إلى بعضِ أهل النجاشي فوَشَى به عمرو، فأمر به النجاشي، فسُحر حتى ذهب عقلُه وساح في البرِّيَّة مع الوحوش. وقد ذكر الأمويُّ قصةً مطوَّلةً جدًّا، وأنه عاش إلى زمنِ إمارةِ عمرَ بنِ الخطاب، وأنه تقصَّده بعضُ الصحابة وأمسكه، فجعل يقول: أرسِلْني وإلاَّ مت. فلمَّا لم يُرسِلْه مات من ساعته؛ فالله أعلم" (¬2). ° وقبلها ذَكَر ابن كثير أن عمرًا قال للنجاشي: "إنك إذا خرجتَ خَلَفَك عمارةُ في أهلك، فدعا النجاشيُّ بعمارة، فنَفَخ في إحليلِه فطار مع الوحش" (¬3). * الأخنسُ بنُ شَريق: مَرَّ بنا قصَّتُه هو وأبي جهل وأبي سفيانَ واستماعهم لقراءةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلاً ثلاثة أيامٍ، وعِلمُه بصِدقِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم بعد هذا إصرارُه على الكفر ¬

_ (¬1) أي: عمارة وعمرو بن العاص إلى الحبشة لردّ الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة إلى مكة ليفتنوهم عن دينهم. (¬2) "البداية والنهاية" (5/ 74). (¬3) "البداية والنهاية" (5/ 68)، وذكرها أبو نعيم في "الدلائل"، والحافظ البيهقي في "الدلائل".

حتى أنزل الله فيه قرآنًا يتلى، قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم: 10 - 16] ". ° قال ابنُ جرير االطبري: " {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ}: ولا تُطع يا محمدُ كلَّ ذِي إكثارٍ للحَلِفِ بالباطل، {مَّهِينٍ}، وهو الضعيف. ° قال ابن عباس - صلى الله عليه وسلم -: والمهين: الكذاب. إذا وُصِف بالمهانة، فإنه إنما وُصِف بها لمهانة نفسِه عليه، وكذلك صِفةُ الكذوب، إنما يكذبُ لمهانةِ نفسِه. {هَمَّازٍ}: مغتابٍ للناس يأكلُ لحومهم. {مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}: مشَّاءٍ بحديثِ الناسِ بعضِهم في بعضٍ، ينقلُ حديثَ بعضِهم إلى بعضٍ، كما قال قتادة. وقال ابن عباس - صلى الله عليه وسلم -: يَمشي بالكذب. {مَنَّاعٍ للْخَيْرِ}: بَخيلٍ بالمال، ضَنينٍ به عن الحقوق. {مُعْتَدٍ}: مُعْتدٍ على الناس، {أَثِيه} أثيم بربِّه .. كما قال قتادة. {عُتُل}: العُتُلُّ: الجافي الشديد في كفره. ° قال ابن عباس: "العاتل: الشديدُ المنافق". ° وقال مجاهد: "شديد الأَشَر" (¬1). ¬

_ (¬1) الأشر: المرح والبطر.

{عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيِم}. ° قال الحسن وقتادة: "هو الفاحشُ اللئيم الضريبة". ° وقال عكرمة: "الكافر اللئيم". {بَعْدَ ذَلِكَ}: معنى "بَعْدَ": مع. {زَنِيمٍ}: والزنيم في كلام العرب: الملْصَق بالقوم وليس منهم .. زنيم ليس يُعرف من أبوهُ ... بَغيُّ الأمِّ ذو حَسَبٍ لئيم ° قال ابن عباس: "الزنيم: الدَّعِيُّ"، وهو قول عكرمة. ° يُقال: "هو الأخنسُ بن شَريق الثقفي حليف بني زُهرة". ° وقال سعيد بن المسيَّب: "المُلْصَق بالقوم ليس منهم". ° وقال سعيدُ بن جبير: "الزنيم: الذي يُعرَف بالشَّرِّ، كما تُعرَف الشاةُ بزَنَمَتِها، المُلْصَق". ° وقال ابن عباس: "المُريب الذي يُعرَفُ بالشر". ° وقال أيضاً: "كانت له زَنَمةٌ في عُنُقِه يُعرَف بها". ° وقال شهرُ بن حَوشب: "هو الجِلْف الجافي، الأكولُ الشَّروب من الحرام". ° وقال عكرمة: "الذي يُعرَف باللؤم، كما تعرَف الشاة بزَنَمَتِها". وهذه خاتمةُ الصفات الذَّميمة الكريهة المتجمِّعة في عدوًّ من أعداء الإِسلام شديد الكيد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كثيرِ الصَّدِّ عن سبيل الله، والوقوفِ في وجه الدعوة.

وما يُعادِى الإسلامَ، ويُصِرُّ على عدواته إلاَّ أُناسٌ من هذا الطراز اللئيم الذميم. وإطلاقُ هذه الصفاتِ تَدعُ هذا الكافرَ مهينًا في قومِه وهو المختالُ الفخور. {أَن كَانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ} قرأ ابن عامر ويعقوب وأبو بكر وأبو جعفر المَدَني وحمزةُ: {أَأَنْ كَانَ ذَا مَالٍ} بالاستفهام بهمزتين .. وفيها تقريعٌ لهذا الحَلاَّف المَهين .. أَلَئنْ كان هذا الحلاَّفُ المهين ذا مالٍ وبنين {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}؟!. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص والكِسائي وخَلَف بهمزة واحدة -على وجه الخَبَر بغير استفهام -، ومعناه: ولا تُطع كل حلاَّفٍ مَهين، أن كان ذا مالٍ وبنين، كأنه نهاه أن يُطيعَه مِن أجل أنه ذو مال وبنين. {إِذَا تتْلَى عَلَيْهِ آيَاتنَا قَالَ أَسَاطير الأَوَّلِينَ}: إذا تُقرأ عليه آياتُ كتابنا قال: هذا مِمَّا كَتَبه الأوَّلون، استهزاء به، وإنكارًا منه أن يكون ذلك من عند الله. {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}: ° قال بعضُهم: "سنَخْطِمُه بالسيف، فنجعلُ ذلك علامةً باقيةً وسِمة ثابتةً فيه ما عاش". ° قال ابن عباس - رضي الله عنه -: "قاتَل يوم بدر، فخُطِم بالسيف في القتال". ° وقال آخرون: "سنُشينه شيْنًا باقيًا". ° قال قتادة: "شينٌ لا يُفارقه آخِرَ ما عليه". ° وقال أيضًا: "سنُسِيم على أنفه".

° قال ابن جرير: "وأولى القوليْن بالصواب في تأويل ذلك عندي: قولُ مَن قال: معنى ذلك: سنبينُ أمرَه بيانًا واضحًا، فلا يخفَى عليهم، كما لا تخفى السِّمَةُ على الخرطوم، وقد يَحْتَمِل أيضًا أن يكون خُطِم بالسيف، فجُمع له مع بيانِ عيوبه للناس الخَطْمُ بالسيف" (¬1). ° وقال الفَرَّاء: "سَنَسمُه سمةَ أهل النار. أي: سنُسَوِّدُ وجهَه" (¬2). ° "يجيءُ التهديدُ من الجبَّار القهَّار، يلمسُ في نفسه موضعَ الاختيال والفخرِ بالمال والبنين؛ كما لمس وَصْفُه من قبل موضعَ الاختيال بمكانته ونَسَبِه، وَيسمعُ وَعْدَ الله القاطعَ {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}. والتهيد بوسْمِهِ على الخرطوم يَحوِي نوعيْن من الإِذلال والتحقير. الأوَّلُ: الوسم، كما يوسَمُ العبد. والثاني: جَعْلُ أنفِه خرطومًا، كخرطوم الخنزير. إنها القاصمةُ التي يستأهلُها عدوُّ الإِسلام، وعدوُّ الرسول الكريم صاحبِ الخُلقِ العظيم". ° قال الفخر الرازي: " {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} إن في الآية احتمالاً آخَرَ عندي، وهو أن ذلك الكافرَ إنما بالغ في عداوة الرسول، وفي الطعن في الدين الحق بسبب الأنَفَةِ والحَمِيَّة، فلما كان مَنشأُ هذا الإِنكارِ هو الأنَفَةُ والحميَّةُ، كان مَنْشَأُ عذابِ الآخرة هو هذه الأَنَفَةُ والحميَّة، فعبَّر عن هذا الاختصاص بقوله: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "تفسير الطبري" (23/ 157 - 171) مختصرًا. (¬2) "معاني القرآن" للفراء (3/ 174). (¬3) "مفاتيح الغيب" للفخر الرازي (15/ 654).

الأسود بن المطلب بن أسد أبو زمعة، والأسود بن عبد يغوث، والحارث ابن الطلاطلة -لعنهم الله-

° قال البِقاعي: "لما كان هذا المذكرو قد أغرَقَ في الشر، فتوقَّع السامعُ جزاءَه، قال مُعلِمًا أنه يجعلُ له من الخِزْيَ والفضائح، ما يَصيرُ به شُهرةً بين الخلائق في الدنيا والآخرة: {سَنَسِمُهُ}، أي: نجعل ما يَلحق به من العار في الدارين، كالوَسْم الذي لا يَنمحي أثرُه؛ تقول العرب: "وَسَمَه مَيْسَمَ سُوء"، ولما كان الوَسْمُ مُنكِئًا، وكان جَعْلُه في مُوجعٍ لا يُستر أنكأَ، وكان الوجُه أشرفَ ما في الإنسان، وكان أظهرَ ما فيه، وأكرمَهُ الأنف، ولذلك جعلوه مكانَ العزَّ والحميَّة، واشتقُّوا منه الأنَفَة. {عَلَى الْخرْطومِ}، أي: الأنف الطويل جميعِه، وما قاربه من الحَنَكين، وَسْمًا مستعليًا عليه بوضوحٍ جدًّا؛ ليكونَ هَتْكه بين الناس، وفضيحةً لقومه، وذلاًّ وعارًا، وكذا كان لَعَمْري له بهذا الذِّكر الشنيع، والذنبِ القبيح من الكفر، وما معه، وسيكونُ له يومَ الجمع الأعظم ما هو أشنعُ من هذا، على أنه حَقَّق في الدنيا هذا الخَطْمَ حِسًّا، بأنه ضُرب يومَ بدر ضربةً خَطمت أنفه" (¬1). وهكذا جَمَع اللهُ له ذُلَّ الدنيا ومهانتَها وذُلَّ الآخرة .. ولَعذابُ الآخرةِ أشدُّ وأبقى. * الأسودُ بن المطلب بن أسد أبو زَمْعة، والأسودُ بن عبد يغوث، والحارثُ ابن الطُّلاطِلَة -لعنهم الله-: * قال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 94 - 95]. ¬

_ (¬1) "نظم الدرر" للبقاعي (20/ 305 - 356).

القرطاء البكريون

° قال القرطبي: "اصدَعْ بما تُؤمر ولا تَخَفْ غيرَ الله؛ فإن الله َ كافيك مَن آذاك كما كفاك المستهزئين؛ وكانوا خمسةً من رؤساءِ أهل مكة، وهم الوليدُ بنُ المغيرة -وهو رأسهم-، والعاصُ بن وائل، والأسودُ بن المطلب بن أسد -أبو زمعة-، والأسودُ بن عبد يغوث، والحارثُ بن الطُّلاطِلة، أهلَكَهم اللهُ جميعًا قبلَ يومِ بدرٍ في يوم واحد، لاستهزائهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسببُ هلاكهم -فيما ذَكَر ابن إسحاق-: أن جبريلَ أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يَطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمرَّ به الأسودُ بن المطلب فرمى في وجهه بورقةٍ خضراء، فعَمِيَ ووجعت عينه، فجعل يضربُ برأسه الجدار. ومَرَّ به الأسودُ بن عبد يَغُوث فأشار إلى بطنه فاستقى بطنه فمات حَبَنًا (¬1). ومر به الحارثُ بن الطُّلاطِلة، فأشار إلى رأسه فامتَخَط (¬2) قيحًا فقتله. وقد ذُكِر في سبب موتهم اختلافٌ قريبٌ من هذا. وقيل: إنهم المرادُ بقوله تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26]، شَبَّه ما أصابَهم في موتهم بالسَّقفِ الواقع عليهم" (¬3). * القُرَطاءُ البَكْرِيُّون: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى القُرَطاءِ البكريِّين، بناحيةِ "ضرية" في نجد شرقيَّ المدينة، بكتابٍ يدعوهم فيه إلى الإسلام، فاستهزؤوا به وبكتابه، ¬

_ (¬1) "يُقال: حَبِن -بالكسر- حَبَنًا وحُبن للمفعول، عظم بطنه بالماء الأصفر، فهو أحبن، والمرأة حبناء" قاله في الصحاح. (¬2) المخط: السيلان والخروج. (¬3) "تفسير القرطبي" (5/ 3678 - 3679) - دار الشعب.

من خادع النبي - صلى الله عليه وسلم -

فأخذوا الصَّحيفةَ التي تحمل دعوتَهم إلى التوحيد، فغَسَلوها من الحِبر، ثم رَقَّعوا بها استْ دلوٍ لَهُم، وأبَوا أن يجيبوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى ما دعاهم إليه، فأنكرت امرأةٌ عاقلة منهم ما فعلوا بكتاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي أمّ حبيبٍ بنتُ عامرِ بنِ خالدِ بنِ عمرو ابنةُ ابنِ أخي سيِّد القوم حارثةَ بنِ عمرو -، واستهجنت ما صنعوا، فقالت- وقولُها يدلُّ على أنها مسلمة -: إِذَا مَا أَتَتْهُمْ أَيةٌ مِنْ مُحَمَّدٍ ... مَحَوْهَا بِمَاءِ الْبِئْرِ فَهْيَ عَصِيرُ فَانظُرْ كَيفَ كَانَ جَزَاؤُهُمْ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهم. يذكر أصحابُ السِّير أن القُرَطاء لما فعلوا بكتابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما فعلوا؛ صاروا دائمًا أهلَ رِعْدةٍ وعَجَلةٍ وكلامٍ مختلِطٍ وأهلَ سَفَهٍ، وكان الذي جاءهم بالكتاب رجلٌ من عُرَينة، يقال له: عبد الله بن عَوْسَجة. ° قال الواقدي: "رأيت بعضَهم عييًّا لا يبِين الكلامَ" (¬1). جَرَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حملةً عسكريةً بقيادة الضحاك بن سفيان الكِلابي، في شهر ربيع الأول، سنةَ تسعٍ هجرية، فهزمهم في مكانٍ بنجد، يقال له: "زَجُّ لاوة". * مَن خادَع النبي - صلى الله عليه وسلم -: ° عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: "كان رجل نصرانيُّ، فأسلم وقرأ البقرةَ وآل عمران، فكان يكتبُ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فعاد نصرانيًّا، فكان يقول: ما يَدرِي محمدٌ إلاَّ ما كتبتُ له، فأماته الله، فدفنوه، فأصح ولقد لَفَظَتْه الأرضُ، فقالوا: هذا فِعْل محمدٍ وأصحابِه، لمَّا هرب مْنهم نَبَشوا عن صاحبنا ¬

_ (¬1) "مغازى الواقدي" (2/ 754، 3/ 982)، و"غزوة تبوك" لبشاميل (ص 16، 17).

عامر بن الطفيل معاند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

فألقَوه .. فحَفَروا له فأعمَقوا، فأصبح وقد لَفَظَتْه الأرض، فقالوا: هذا فعلُ محمدٍ وأصحابه، نَبَشوا عن صاحبنا لما هرب منهم فألْقَوْه خارجَ القبر .. فحفروا له وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبح قد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس فألقَوه" (¬1) .. ماذا لَقيتَ ببطن القبر نبِّينا؟ ... إن الحياةَ بظهر الأرض تُلهِينَا تلقاك في عَمَهِ الأجداث ماثلةً ... أعمالُك السُّودُ قد صارت ثعابينَا سَجِّلْ بكفِّك في القرطاسِ ما كتبتْ ... كلتا يديْك به أمسيتَ مرهونَا لَفَظَتْه الأرضُ لِنَتْنِهِ وخُبْثِه وخِداعه وكُفْره، وليبقى آية لن بعدَه. * عامر بن الطفيل مُعاند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ° عن أنسٍ- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم - بَعَث خالَه -أخٌ لأم سليم- في سبعين راكبًا، وكان رئيسُ المشركين عامر بن الطفيل خيِّر بين ثلاث خصال فقال: "يكون لك أهلُ السَّهل ولي أهلُ المَدَر، أو أكونُ خليفتَك، أو أغزوك بأهل عطَفان بألفٍ وألف". فطُعِن عامرٌ في بيتِ أمِّ فلان: غدَّةً كغُدَّةِ البَكْرِ في بيتِ امرأة من آل بني فلان فقال: ائتوني بفَرَسِي .. فمات على ظَهرِ فرسه .. فانطلق حرامٌ -أخو أم سليم، وهو رجلٌ أعرج- ورجلٌ من بني فلان قال: كونَا قريبًا حتى آتيَهم، فإن آمنوني كنتم، وإن قتلوني أتيتم صاحبَكم، فقال: أتؤمَّنوني أُبلِّغ رسالةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فجعل يُحدَّثُهم، وأومؤوا إلى رجلٍ، فأتاه من خَلْفِه فطَعَنه -قال همام أحسبه حتى أنفَذَه بالرمح- قال: اللَّه أكبر، فزتُ وربِّ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6/ 624)، ومسلم.

من عاند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسخر بالله

الكعبة، فلَحِقَ الرجلُ، فقُتلوا كلُّهم غيرُ الأعرج كان في رأسِ جبلٍ، فأنزل الله علينا، ثم كان من المنسوخ: "إنا قد لَقِينا ربَّنا فرَضي عنَّا وأرضانا"، فدعا عليهم النبي- صلى الله عليه وسلم - ثلاثين صباحًا على رِعْلٍ وذَكْوانَ وبني لحيان وعُصَيَّة الذين عَصَوُا الله ورسولَه - صلى الله عليه وسلم - (¬1). * مَن عاندَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسَخِر بالله: • عن أنسٍ - رضي الله عنه -: "بَعَث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من أصحابه إلى رجلٍ من عظماء الجاهلية يدعوه إلى الله تبارك وتعالى، فقال: أيشٌ ربُّك الذي تدعوني إليه: مِن حديد هو؟ من نُحاسٍ هو؟ مِن فضةٍ هو؟ من ذهبٍ هو؟ فأتى النبي- صلى الله عليه وسلم - فأخبَرَه، فأعاد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الثانية، فقال مثل ذلك، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فأرسله الثالثة، فقال مثلَ ذلك، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فأرسل اللهُ تبارك وتعالى عليه صاعقة فأحرقته، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تبارك وتعالى قد أرسل على صاحبك صاعقةً فأحرقته"، فنزلت هذه الآية {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13] " (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (7/ 385). (¬2) صحيح: رواه البزار وقال: ديلم بصري صالح. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 42): "رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير ديلم بن غزوان وهو ثقة". والحديث أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب "السنة" (1/ 204)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (6/ 283)، وفي "الأسماء والصفات" (ص 278)، وذكره الشيخ مقبل الوادعي في "الصحيح المسند من دلائل النبوة" (ص 198 - 199).

رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول - لعنه الله -

* رأسُ المنافقين عبدُ الله بن أُبَيِّ بنِ سَلُول - لعنه الله -: ° قال البخاري في باب قوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8]. • عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كنَا في غزاة، فكَسَعَ (¬1) رجلٌ من المهاجرين: رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاريّ: يا للأنصار، وقال المُهاجري: يا لَلمهاجرين. فسَمَّعَها اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما هذا؟ "، فقالوا: كَسَع رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فقال- صلى الله عليه وسلم -: "دعوها فإنها مُنْتِنَةٌ". قال جابر: وكانت الأنصارُ حين قَدِم النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثرَ، ثم كَثُر المهاجرون بعدُ، فقال عبدُ الله بنُ أُبَي: أوَ قَدْ فعلوا؟! واللهِ لئن رَجَعْنا إلى المدينة ليُخرِجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ" (¬2). ° وفي البخاري من حديث زيدِ بن أرقمَ قال: "كنتُ في غَزاةٍ، فسمعت عبدَ الله بن أُبي يقول: لا تُنفِقوا على من عندَ رسولِ الله حتى ينفضُّوا مِن حوله، ولئن رجعلنا ليُخرِجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ .. " الحديث. كان ذلك في غزوة "بني المصطلِق" من خزاعة، وهي غزوة "المُريسيع"، وهو ماءٌ من مياهِهِم. ° قال ابنُ إسحاق: "فبينا الناسُ على ذلك الماء، وَرَدَتْ وأردةُ ¬

_ (¬1) المشهور فيه ضرب الدبر باليد، أو بالرَّجل، وذلك عند أهل اليمن شديد. (¬2) رواه البخاري.

الناس، ومع عمرَ بنِ الخطاب أجيرٌ له من بني غِفار، يقال له: "جهجاه بن مسعود" يقودُ فَرَسَه، فازدحَمَ جهجاه وسِنان بن دبر الجهَنيُّ- حليفُ بني عوفٍ من الخزرج- على الماء، فاقتتلا، فَصَرخ الجهني: يا معشرَ الأنصار. وصرخ جهجاه: يا معشرَ المهاجرين، فغضب عبدُ الله بن أبي بن سلول، وعنده رَهطٌ من قومه، فيهم زيدُ بنُ أرقم، غلامٌ حَدَث، فقال: أوَ قَدْ فعلوها؟! قد نافَرونا وكاثَرونا في بلادنا، واللهِ ما أُعِدُّنا وجلابيبَ قريش (¬1) هذه إلا كما قال الأول: "سمِّنْ كَلْبَك يأكلْك"، أَما واللهِ لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ .. ثم أقبل على مَن حَضَره من قومه، فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسَمتموهم أموالكم، أَما واللهِ لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم، لَتحوَّلوا إلى غيرِ دارِكم، فسمع ذلك زيدُ بنُ أرقم، فمشى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبَرَ وعنده عمرُ بن اخطاب، فقال عمرُ: مُر به عبَّادَ بنَ بِشْر فلْيقتله، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فكيف يا عمر إذا تَحدَّثَ الناسُ أن محمدًا يقتلُ أصحابه؟ لا، ولكن أَذِّنْ بالرحيل"، وذلك في ساعةٍ لم يكن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يرتحلُ فيها، فارتحل الناسُ، وقد مَشى عبدُ الله بن أبي بن سَلول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حين بلغه أن زيدَ بنَ أرقم بَلَّغه ما سمع منه، فحَلَف بالله: "ما قلتُ ما قال، ولا تكلمتُ به"، وكان في قومه شريفًا عظيمًا، فقال مَن حضر رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله، عسى أن يكون الغلامُ أَوْهَمَ في حديثه، ولم يَحْفظ ما قال الرجلُ -حَدَبًا على ابنِ أُبيٍّ ودفعًا عنه-، فلما ¬

_ (¬1) اسم كان يُلَقَّب به المنافقون أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين.

فكيف كان جزاؤه؟

استقلَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وسار، لَقِيَه أُسيد بن حُضير، فحيَّاه بتحيةِ النبوة، وسَلَّم عليه، وقال: يا رسول الله، واللهِ لقد رُحتَ في ساعةٍ منكرة، ما كنتَ تروحُ في مِثلها!!. فقال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " أوَ ما بلغك ما قال صاحبك؟ "، فقال: أيّ صاحب يا رسول الله؟ قال: "عبد الله بن أبي"، قال: وما قال؟، قال: "زعم أنه إنْ رَجَع إلى المدينة أَخْرَجَ الأعزّ منها الأذلَّ"، قال: فأنتَ واللهِ يا رسول الله، تُخرِجُه إن شئتَ، هو واللهِ الذليل، وأنت العزيز، قال: يا رسول الله، ارفُقْ به، فواللهِ لقد جاءنا اللهُ بك، وإنا لَننظِمُ له الخَرْزَ لِنُتَوِّجَه، فإنه يرى أنْ قد سَلَبْتَه مُلكًا. ثم مشى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس يومَهم ذلك حتىَ أَمسى، وليلتَهم حتى أصبح، وصَدْرَ يومِهم ذلك حتى آذَتْهمُ الشمسُ، ثم نزل بالناس، فلمِ يَلبثوا أنْ وجَدوا مسَّ الأرض فوقعوا نيامًا، وإنما فعل ذلك؛ ليُشغِلَ الناس عن الحديث الذي كان بالأمس، من حديث عبد الله بن أبي". * فكيف كان جزاؤه؟ ° قال ابن إسحاق: "حدثني عاصمُ بنُ عمرَ بنِ قتادة: أن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريدُ قَتْلَ عبد الله بن أُبي فيما بلغك عنه، فإنْ كنتَ فاعلاً، فمُرنْي به، فأنا أحملُ إليك رأسَه، فوالْلَّهِ، لقد عَلِمَتِ الخزرجُ ما كان بها من رجلٍ أبرَّ بوالدِه مني، وإنى أخشى أن تأمرَ به غيري فيقتلَه، فلا تَدَعَنى نفسي أن أنظرَ إلى قاتِل عبد الله بنِ أُبيٍّ يمشي في الناس، فأقتلَه، فأقتل مؤمنًا بكافر،

فأدخلَ النارَ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بل نترفَّقُ به، ونُحسِنُ صحبتَه ما بقي معنا"، وجعل بعد ذلك إذا أحدثَ الحَدَث كان قومُه هم الذين يعاتبونه، ويأخذونه، ويُعنِّفونه، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرَ بن الخطاب حين بَلَغه ذلك من شأنهم: "كيف ترى يا عمر؟ أمَا واللهِ، لو قَتلتُه يومَ قلتَ لي، لأرْعَدَتْ له أنوفٌ، لو أمرتُها اليوم بقتله لقتلته"، فقال عمر: قد واللهِ علمتُ لأَمرُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أعظمُ بركةً من أمري". ° وقد ذكر عكرمةُ وابنُ زيد وغيرهما، أن ابنَه عبدَ الله - رضي الله عنه - وقف لأبيه عبدِ الله بن أبي بن سلول عند مَضِيقِ المدينة، فقال: "قِفْ، فواللهِ لا تدخُلُها حتى يأذنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك"، فلما جاء رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - استأذنه في ذلك، فأذن له، فأرسله حتى دخل المدينة (¬1). ° وفي "التفسير" عند ابن كثير: "ذكر عكرمةُ وابنُ زيد وغيرهما: أن الناس لما قَفَلوا راجعين إلى المدينة، وقف عبدُ الله بنُ عبدِ الله هذا على بادٍ المدينة، واستلَّ سيفه، فجعل الناسُ يمرُّون عليه، فلما جاء أبوه عبدُ الله بن أبيٍّ، قال له ابنُه: وراءَك، فقال: مالك وَيْلَك؟ فقال: واللهِ لا تجوزُ من هنا حتى يأذنَ لك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه العزيزُ وأنت الذليل، فلما جاء رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يسيرُ ساقةً (¬2)، فشكا إليه عبدُ الله بنُ أبيٍّ ابنَه، فقال ابنُه عبدُ الله: واللهِ يا رسول الله، لا يدخُلُها حتى تأذنَ له، فأذِنَ له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أمَّا إذْ أَذِنَ لك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فجُزِ الآن. ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" لابن كثير (3/ 158 - 160). (¬2) في مؤخرة الجيش.

° وقال أبو بكر بن عبد بن الزبير الحميدي في "مسنده": قال هارون المَدَني: قال عبد الله بن عبدِ الله بنِ أُبَي بنِ سلول لأبيه: واللهِ لا تدخلُ المدينةَ أبدًا حتى تقول: رسول الله الأعز، وأنا الأذل، قال: وجاء النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسولَ الله، إنه بلغني أنك تريدُ أن تقتلَ أَبِي، فو الذي بعثك بالحقِّ ما تأملتُ وجهَه قطُّ هيبةً له، ولئن شئتَ أن آتيَك برأسه لاَتينَّك، فإني أكرهُ أن أرى قاتلَ أبي". فانظر إلى رأس النفاق، الذي لم يَهْدِ اللهُ قلبَه للإِيمان، ولم يكتبْ له هذه الرحمةَ، وهذه النعمة، وتقفُ دونَ هذا الفيضِ المتدفِّق من النور والتأثير إحْنةٌ في صدره، أن لم يكن مَلِكًا على الأوس والخزرج، بسبب مَقْدِم رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، فتَكُفُّه هذه وحدَها عن الهدى، ويقول ما قال، قولةً يتجلَّى فيها خُبثُ الطبع، ولؤمُ النحيزة، فيكونُ جزاؤه من جنس عمله وقوله، على يدِ ابنه، ليتقرَّر بالتجربةِ الواقعة مَن هو الأعزُّ، ومَن هو الأذلُّ، في نفسِ الواقعة، وفي ذاتِ الأوان، ولم يَدخُلها الأذلُّ إلاَّ بإذن الأعز. ويضمُّ اللهُ -سبحانه- رسولَه والمؤمنين إلى جانبه، ويضفِي عليهم من عِزَّته، وهو تكريم هائل لا يُكرِمُه إلاَّ الله، وأيُّ تكريمٍ بعدَ أن يوقِفَ اللهُ - سبحانه - رسولَه والمؤمنين معه إلى جواره، ويقول: "ها نحن أولاء، هذا لواءُ الأعزاء، وهذا هو الصفُّ العزيز". عِزةٌ مستمَدَّةٌ من عِزَّته، لا تهونُ ولا تهان، ولا تنحنى ولا تلين، ولا تُزايلُ القلبَ المؤمن في أَوجِ اللحظات، إلا أن يتضعضعَ فيه الإِيمان، فإذا

استقرَّ الإيمانُ ورَسَخ، فالعزَّةُ معه مستقِرَّةٌ راسخة. ° انظر إلى هذا الذي كان وجيهًا عند قومه، جاء إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على حِمارةٍ، مرَّ بها على طريق سَبِخةٍ، وجعل يدعوه إلى الإيمان، وهو يقول له: "ابعُدْ عني يا محمد، فإن رائحةَ حمارِك تؤذيني، فيقول له ابن عمًّ له: والله لرَيحُ حمارِ رسول الله أطيبُ من رِيحك". أيَّ هوانٍ كان هذا!! وصَدَق الله العظيم إذ يقول عن المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون: 4] أشباحٌ وقوالب، ليس وراءَهم ألبابٌ وحقائقُ، كالجَوز الفارغ، مُزيَّنٌ ظاهره، ولكنه لِلَعِبِ الصِّبيان. هذا الذي تولَى كِبْرَه، وخاض في عِرضِ أمَ المؤمنين عائشة في قصةِ الإفك، فقال الله -عز وجل-: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 23 - 24]، جزاء وفاقًا، كما استطالت. وظلَّ رأسُ المنافقين على نِفاقِه إلى أن مات، وأُخذ به إلى أُمِّه الهاوية إلى الدَّرْكِ الأسفلِ من النار، تُشَيَعُه لَعنةُ الله والملائكةِ والناسِ أجمعين. * * *

كسرى ملك الفردس، يمزق كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه، فيمزق الله ملكه

* كَسرى (¬1) مَلِكُ الفردس، يُمزِّق كتابَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إِليه، فيمزِّق اللهُ مُلْكَه: ° عن أنس - رضي الله عنه -: "أن النبي- صلى الله عليه وسلم - كتب إلى كِسرى وإلى قيصرَ وإلى النجاشيِّ وإلى كلّ جبَّارٍ عنيدٍ يدعوهم إلى الله عالى" (¬2). وكسرى هو ابنُ برويز بن هُرْمز بن أنو شِرْوان، وهو كسرى الكبير المشهور. ° وعن عُبيدِ الله بن عبدِ الله أنَّ ابنَ عباس أخبره "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حُذافةَ السَّهْمِيِّ" (¬3). وجَزَم ابنُ سعدٍ أنَّ بَعْثَ عبدِ الله بن حذافة إلى كسرى كان في سنةِ سبع، وصنيعُ البخاري يقتضي أنه كان في سنة تسِع، ورَوى محمدُ بنُ إسحاق بسنده عن أبي سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَعث عبدَ الله بنَ حذافة السَّهْمِيَّ بكتابه إلى كسرى، فلما قرأه مَزَّقه، فلمَّا بَلَغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَزَّق الله مُلكَه"، وقع في جميع الطرق مرسلاً، ويُحتمل أن يكون ابنُ السيَّب سَمِعه من عبد الله بن حذافةَ صاحِبِ القصة، فإنَّ ابنَ سعدٍ ذَكر من حديثه أنه قال: "فقرأ عليه كتابَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فأخذه فمزَّقه" (¬4). ¬

_ (¬1) كَسرى -بفتح الكاف وبكسرها-: لقب كل مَن تملك الفرس، ومعناه بالعربية: المُظفري. (¬2) رواه مسلم (12/ 112) - باب كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ملوك الكُفّار يدعوهم إلى الإسلام. وعند مسلم (12/ 112) ولفظه: "وليس بالنجاشي الذى صلّى عليه النبى- صلى الله عليه وسلم -". (¬3) أخرجه البخاري في باب كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وقيصر- (8/ 126) فتح الباري حديث (4424). (¬4) "الطبقات الكبرى" لابن سعد (1/ 260)، وانظر "البداية والنهاية" (4/ 268، 269)، و"الدلائل" للبيهقي (4/ 391، 392).

• وعند ابن جريرٍ: عن أيِّد بنِ أبي حبيبٍ قال: "وبَعَث عبدَ الله بنَ حذافةَ بن قيس إلى كسرى بن هرمز مَلِكِ فارس، وكتب معه: بسم الله الرحمن الرحيم .. من محمد رسول الله، إلى كسرى عظيم فارس .. سلامٌ على مَنِ اتَبع الهدى، وآمَنَ باللهً ورسوله، وشَهِد أَنْ لا إلهَ إلاَّ الله، وحدَه لا شريك له، وأنَ محمدًا عبدُه ورسوله، أدعوك بدُعاء الله، فإني أنا رسولُ الله إلى الناس كافَّةً؛ لأُنذرَ مَن كان حيًّا، ويَحِقَّ القولُ عَلى الكافرين، فإن تُسلمْ تَسْلَمْ، وإن أبَيْتَ، فإنَّ إثمَ المجوسِ عليك". قال: فلما قرأه شَقَّه، وقال: يَكتب إلي بهذا وهو عبدي!! قال: ثم كَتب كِسرى إلى باذان -وهو نائبه على اليمن- أنِ ابعَثْ إلى هذا الرجل بالحجاز رجُلَينِ من عندك، جَلْدَينِ، فلْيأتياني به .. فبعث باذان قَهرمانَه -وكان كاتبًا حاسبًا بكتاب فارس-، وبَحَث معه رجلاً من الفرس يقال له: "خُرخُرة"، وكَتب معهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرة أن ينصرفَ معهما إلى كسرى، وقال لباذَوَيه: ائتِ بلادَ هذا الرجل، وكَلِّمْه وائتني بخبره .. فخرجا حتى قَدِما الطائفَ، فوجدَا رجلاً من قريشٍ في أرضِ الطائف، فسألوه عنه، فقال: هو بالمدينة، واستبشَرَ أهل الطائف -يعني وقريش- بهما وفرِحوا، وقال بعضهم لبعض: أبشِروا، فقد نَصَبَ له كسرى مَلِكُ الملوك، وكُفيتمُ الرجل، فخرجا حتى قَدِما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكَلَّمه باذَويه، فقال: شاهنشاه -مَلِكُ الملوك- كسرى قد كتب إلى المَلِكِ باذانَ؛ يأمرُه أن يَبعث إليك من يأتيه بك، وقد بَعَثني إليك؛ تنطلقَ معي، فإن فعلتَ كَتَب لك إلى مَلكِ الملوك يَكُفُّه عنك، وإنْ أبيتَ، فهو مَن قد علمتَ، فهو مُهلِكُك ومهلِكٌ قومَك، ومُخرِّبٌ بلادَك .. ودخلاَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وقد حَلَقا لِحاهما، وأعفَيا شواربَهما، فكره النظرَ إليهما، وقال: "ويلكما، مَن أمركما بهذا؟ " قالا: أَمَرنا ربُّنا -يعنيانِ كسرى-. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ولكن ربي أمرني بإعفاءِ لِحيتي وقصِّ شاربي"، ثم قال: "أرجعا حتى تأتياني غدًا"، قال: وأتى رسولَ الله الخبرُ من السماء، بأنَّ الله َ قد سَلَّط على كسرى ابنَه "شِيرويه"، فقَتَله في شهرِ كذا وكذا، في ليلةِ كذا وكذا من الليالي، سَلَّط عليه ابنَه شيرويه فقتله. قال: فدعاهما، فأخبرهما، فقالا: هل تدري ما تقول؟ إنا قد نَقَمْنا عليك ما هو أيسرُ من هذا، فنكتبُ عنك بهذا، ونخبِر الملك باذان؟ قال: "نعم، أخبِراه ذلك عنِّي، وقُولاَ له: إن دِيني وسُلطاني سيبلغُ ما بَلَغ كسرى، وينتهي إلى الخُفِّ والحافر، وقولاَ له: إن أسلمْتَ أعطيتُك ما تحتَ يديك، ومَلَّكتُك على قومك من الأبناء"، ثم أعطى "خُرخرةَ" مِنطقةً فيها ذهبٌ وفضة كان أهداهاَ له بعضُ الملوك، فخرجا من عنده حتى قدما على باذان، فأخبراه الخبر، فقال: واللهِ، ما هذا بكلامِ مَلِلكٍ، وإني لأرى الرجلَ نبيًّا كما يقول، ولَيكونَنَّ ما قد قال، فلَئنْ كان هذا حقًّا فهو نبيُّ مرسل، وإنْ لم يكن فسنرى فيه رأيًا، فلم يَنْشَبْ باذانُ أن قَدِمَ عليه كتابُ شيرويه: أما بعد، فإني قد قتلتُ كسرى، ولم أقتلْه إلاَّ غضبًا لفارس، لِمَا كان استَحَل مِن قتل أشرافهم، ونَحْرِهم في ثغورهم، فإذا جاءك كتابي هذا، فخُذْ لي الطاعةَ ممن قبِلك، وانطلِقْ إلى الرجل الذي كان كسرى قد كَتَب فيه، فلا تَهْجِهِ حتى يأتيَك أمري فيه، فلما انتهى كتاب شِيرويه إلى باذان، قال: إن هذا الرجلَ لرسول .. فأسلم، وأَسلمتِ الأبناءُ من فارس، مَن كان منهم باليمن.

قال: وقد قال باذويه لباذان: ما كَلَّمتُ أحدًا أهيبَ عندي منه، فقال له باذان: هل معه شُرَطٌ؟ قال: لا .. وَكسْرَى إِذْ تَقَاسَمَهُ بَنُوهُ ... بِأَسْيَافٍ كمَا اقْتُسِمَ اللَّحَامُ تَمَخَّضَتِ المَنُونُ لَهُ بِيَوْمٍ ... أتَى وَلِكُلِّ حَامِلَةٍ تَمَامُ ° قال الشافعيُّ: لما أُتي كسرى بكتابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَزَّقه، فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُمزَّقُ مُلكُه"، وحَفِظنا أن قيصرَ أكرمَ كتابَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ووضعه في مَسْك (¬1)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثُبَّت مُلكُه"، ولَمَّا كانت العربُ تأتي الشامَ والعراقَ للتجارة، فأسلم مَن أسلم منهم، شكَوْا خوفَهم من مَلِكي العراقِ والشام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إذا هَلَك كسرى فلا كسرى بعده؟ إذا هلك قيصرُ فلا قيصرَ بعده". فباد مُلكُ الأكاسرة بالكلية، وزال ملكُ قيصرَ عن الشام بالكلية، وإن ثَبَت لهم مُلكٌ في الجملة، ببركةِ دعاءِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم حين عَظَّموا كتابه، والله أعلم" (¬2). • عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا هَلَك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصرُ فلا قيصرَ بعده، والذي نفسي بيده لتُنْفَقَنَّ كنوزُهما في سبيل الله" (¬3). • وعن جابرِ بنِ سَمُرةَ -رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ¬

_ (¬1) المَسْك: الجِلْده. (¬2) "البداية والنهاية" (4/ 268 - 271). (¬3) رواه البخاري (6/ 219)، ومسلم (4/ 2237)، ورواه البخاري (6/ 219)، ومسلم (4/ 2237) عن جابر بن سمرة.

شيطان يهود: كعب بن الأشرف -لعنه الله-، عدو الله ورسوله

"لَتَفْتَحَن عصابةٌ من المسلمين -أو مِنَ المؤمنين- كنْزَ آلِ كسرى الذي في الأبيض" (¬1). • وعن جابر بن سَمُرةَ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عُصبةٌ من المسلمين يَفتحون البيتَ الأبيض بيتَ كسرى" (¬2). * شيطانُ يهود: كعبُ بنُ الأشرف -لعنه الله-، عدوُّ الله ورسوله: ° لَمَّا اتَّصل بكعْبِ بنِ الأشرف -وهو رجل يهودي من نَبْهانَ مِن طَيىء، وأمُّه من بني النَّضِير- قَتْلُ صناديدِ قريشٍ ببدرٍ قال: "بطنُ الأرض خير من ظهرها". • ونَهَض ابن الأشرف إلى مكةَ، فجعل يَرْثي قَتلى قريش، ويُحرِّضُ على قتالِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ويُشبِّب بنساءِ المسلمين؛ قصدًا لإِيذاءِ أزواجِهنَّ، وكان شاعرًا، ثم عاد من مكةَ إلى المدينة، فلم يَزَلْ يُؤذي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ويدعو إلى خلافِه، ويَسُبُّ المسلمين حتى آذاهم أعظمَ الأذى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لي بابن الأشرف، فإنه يُؤذي اللهَ ورسولَه والمؤمنين؟ "، فقال له محمد بن مَسْلَمةَ: أنا له يا رسول الله، أنا أقتله إن شاء الله، فقال: "فافعل إنْ قَدَرْتَ على ذلك". ومَكَث محمدُ بن مَسْلَمةَ أيامًا مشغولَ النفس بما وَعَد رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - من نفسه في قتل أبن الأشرف، فانتدبه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وانتدب معه سِلْكانَ ¬

_ (¬1) "أخرجه مسلم (4/ 2237)، والطبراني في "الكبير" (2/ 217). (¬2) رواه أحمد، ومسلم.

ابنَ سلاَمةَ بنِ وَقْشٍ أبا نائلةَ -أحدَ بني عبد الأَشْهَل، وكان أخَا كعبِ بنِ الأشرف من الرضاعة-، وعَبَّادَ بنَ بِشْرِ بنِ وَقْش، والحارثَ بنَ أَوْسِ بنِ مُعَاذ -وهما من بني عبد الأشهل-، وأبا عَبْس بنَ جَبْر أخا بني حارثة (¬1)، وأَذِن لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -أن يقولوا غيرَ ما يعتقدون (¬2)، على سبيل جوازِ ذلك في الحرب. وقدَّموا إلى ابن الأشرف سِلْكَانَ بنَ سَلاَمة، فقَصَد له وأظهَرَ له موافقتَه على الانحراف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشكا إليه ضِيْق حالهم، وكَلَّمَه في أن يَبيعَه وأصحابَه طعامًا، فَيَرْهَنُوه سِلاحَهم، فأجابهم إلى ذلك. ورجع سِلْكَانُ إلى أصحابه، فخرجوا إلى ابنِ الأشرف اليهوديِّ، وشيَّعهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بَقيع الغَرْقَد (¬3) في ليلةٍ مُقْمِرَة، فأتَوا كعبًا، فخرج إليهم من حِضنِه، فَتَماشَوا، فوضعوا عليه سيوفهم، ووضع محمدُ ابنُ مَسْلَمةَ مِغْوَلاً (¬4) كان معه في ثُنَّتِه (¬5) فقتله. وصاح ابنُ الأشرف صيحةً شديدةً انذعر بها أهلُ الحصون حوالَيه، فأوقدوا النيرانَ دون جدوى. ¬

_ (¬1) في عيون الأثر: أن اسمه عبد الرحمن. (¬2) أن يقولوا في الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما لا يعتقدون، خُدعةً للعدو على سبيل جواز ذلك مع الأعداء في الحرب. (¬3) بقيع الغرقد: مقبرة أهل المدينة المنورة. (¬4) المغول: شبه سيف قصير يشتمل به الرجل تحت ثيابه. وقيل: هو حديدة دقيقة لها حدٌّ ماضٍ وقفًا، وقيل: هو سوط في جوفه سيف دقيق يشدُّه الفاتك على وسطه؛ ليغتال الناس. (¬5) الثُّنَّة من الإنسان: ما دون السرَّة، فوق العانة، أسفل البطن.

وجُرح الحارثُ بن أَوْسٍ في رِجْلِه ببعض سيوفِ أصحابه أو في رأسه، فَنَزَفَهُ الدمُ، وتأخَّر قليلاً عن أصحابه الذين سَلَكوا على بني أُمَية بن زيد إلى بني قُرَيْظَة، إلى "بُعَاث" (¬1)، إلى "حَرَّة العُرَيْض" (¬2)، فانتظروا صاحبَهم الحارثَ هناك حتى وافاهم، فأتَوا به رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في آخِرِ الليل وهو يُصلِّي، فأخبروه بقتل ابن الأشرف؛ وكان ذلك في شهرِ ربيعٍ الأول من السَّنةِ الثالثةِ من الهجرة (624 م). وهكذا انتهت حياةُ أحدِ أعداء المسلمين الذين آذاهم وحَرَّض عليهم كثيرًا. • عن سفيانَ، عن عمرِو قال: سمعت جابرَ بن عبد الله - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لي بكعب بنِ الأشراف؟ فإنه قد آذى اللهَ ورسوله؟ " فقام محمدُ بنُ مسلمة فقالَ: يا رسولَ الله، أتحبُّ أن أقتله؟ قال: "نعم" قال: فأْذَنْ لي أقل شيئًا. قال: "قل". فأتاه محمد بنُ مَسْلَمةَ، فقال: إنَّ هذا الرجلَ قد سأَلَنا صدقةً، وإنه قد عنَّانا (¬3)، وإني قد أتيتُك أستسلفُك. قال: وأيضًا واللهِ لَتَمَلُّنَهُ. قال: إنا قد اتَّبعناه، فلا نحبُّ أن نَدَعَه حتى ننظرَ إلى أيِّ شيءٍ يصيرُ شأنُه، وقد أردنا أن تُسلِفَنا وَسْقًا أو وَسْقَينِ -فقال: نعم، ارهَنوني. قالوا: أيَّ شيء تريد؟ قال: ارهنوني نساءَكم. قالوا: كيف نَرهنُك نساءَنا وأنت أجملُ العرب؟ قال: ¬

_ (¬1) بعاث: موضع في نواحي المدينة كانت فيه وقائع بين الأوس الخزرج في الجاهلية، انظر: "معجم البلدان" (2/ 223). (¬2) حرَّة العريض: حرَّة بالقرب من المدينة، لا ذكر لها في "معجم البلدان". (¬3) أي: أثقل كواهلنا وأتْعَبَبا بما يطلبُه من المال.

فارْهَنوني أبناءَكم. قالوا: كيف نرهنُك أبناءَنا، فيُسَبَّ أحدُهم فيُقال: رُهِن بوَسْقٍ أو وسقَيْن!!، هذا عارٌ علينا، ولكنا نَرهنُك اللأْمَةَ -قال سفيان: يعني السلاح-، فواعَدَه أن يأتيَه، فجاءه ليلاً ومعه أبو نائلة-وهو أخو كعبٍ من الرضاعة-، فدعاهم إلى الحِصن، فنزل إليهم، فقالت له امرأتُه: أين تخرجُ هذه الساعةَ؟ فقال: إنما هو محمدُ بن مَسلمةَ وأخي أبو نائلة -وفي رواية: قالت: أسمعُ صوتًا كأنه يَقْطُرُ منه الدم، فقال: إنما هو أخي محمد ابن مسلمة ورضيعي أبو نائلة-، إنَّ الكريمَ لو دُعي إلى طَعنةٍ بليلٍ لأجاب. قال: ويدخلُ محمدُ بنُ مَسلمةَ ومعه أبو عبس بنُ جبر والحارثُ بن أوس وعَبَّادُ بنُ بشر. فقال محمدُ بن مَسْلمة: إذا ما جاء فإني قائلٌ بشَعره فأشمُّه، فإذا رأيتُموني استمكنتُ من رأسه، فدونَكم فاضرِبوه -وقال مرة: ثم أُشِمُّكم-. فنزل إليهم متوشِّحًا وهو يَنفحُ منه ريحُ الطيب، فقال: ما رأيتُ كاليوم ريحًا -أيْ أطيب-. قال: عندي أعطرُ نساءِ العرب وأكملُ العرب. فقال محمدُ بن مَسْلمة: أتأذنُ لي أن أشمَّ رأسك؟ قال: نعم .. فشمه، ثم أشمَّ أصحابَه، ثم قال: أتأذنُ لي؟ قال: نعم، فلما استمكن منه قال: دونكم .. فقتلوه .. ثم أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه" (¬1). ° قال عَبَّادُ بنُ بِشر في هذه الواقعة -وفيها وصفُ شجاعةِ محمدِ بنِ مسلمة - رضي الله عنه -: صَرَخْتُ بِهِ فَلَمْ يَعْرِضْ لِصَوْتِي ... وَوَافَى طَالعًا مِن رَأسِ خِدرِ (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4037) ومسلم (1801) وأبو داود (2768)، وعزاه المزي للنسائي. (¬2) في مصادر أخرى: رأس جدر، وعند الواقدي: صرخت به فلم يَجفَلْ لصوتي ... وأوفى طالعًا من فوق قصر

بَعَثْتُ لَهُ فَقَالَ: مَنِ المُنادِي؟ ... فَقُلتُ: أخوكَ عَبَّادُ بنُ بشرِ (¬1) وَهَذِي دِرْعُنَا رُهُنًا فَخُذْهَا ... لِشَهْر إِنْ وَفَى أَوْ نِصْفِ شَهْرِ فَقَالَ: مَعَاشِرٌ سَغَبُوا وَجَاعُوا ... وَمَا عُدِمُوا الغِنَى مِنْ غَيْرِ فَقْرِ فَأقْبَلَ نَحْوَنَا يَهْوِي سَرِيعًا ... وَقَالَ لنَا: لَقَدْ جئْتُم لأَمْرِ وَفِي أَيْمَانِنَا بِيضٌ حِدَادٌ ... مُجَربةٌ بهَا الكُفَّاَرَ نَفرِي فَعَانَقَهُ ابْنُ مَسْلَمَةَ المُرَدَّى ... بِهِ الكُفَّاَرُ كاللَّيْثِ الهِزِبْرِ وَشَدَّ بسَيفِهِ صَلتًا عَلَيهِ ... فَقَطَرَهُ أَبُو عَبْسِ بْنِ جَبرِ وَكَانَ اللًّهُ سَادِسَنَا فَأُبنَا ... بِأنْعَم نِعْمَة وَأَعَز نَصْرٍ وَجَاءَ بِرَأسِهِ نَفَرٌ كِرَامٌ ... هُمُو نَاهِيكً مِنْ صِدْقٍ وَبِرِّ ° وقال كعب بن مالك في قتل ابن الأشرف: فغودرَ منْهمُ كَعْبٌ صَرِيعًا ... فَذَلَّتْ بَعْدَ مَصْرَعِهِ النَّضِيرُ عَلَى الكَفَّيْنِ ثُمَّ وَقَدْ عَلَتْهُ ... بَأيْدِينَا مُشَهَرَةً ذُكُورُ بِأَمْرِ مُحَمِّدٍ إِذْ دَسَّ لَيْلاً ... إِلَى كعْبٍ أخَا كعْبٍ يَسِيرُ فَمَا كَرْهِ فَأنْزَلَهُ بِمَكْرٍ ... وَمَحْمُودٌ أخُو ثِقَةٍ جَسُورُ ° ولله دَرُّ من نظم هذه السَّرية شعرًا فقال: يَا نَاقِضَ العَهدِ لاَ شَكْوَى وَلاَ أَسَفُ ... اللهُ مُنتقِمٌ والسيفُ مُنتصِفُ تَهْجُو النَّبِي وتُغرِي المُشرِكينَ به ... مَهْلاً لكَ الويلُ مَاذَا أنتَ مُقترِفُ كَمْ جِيفَةٍ خَرَجَتْ مِنْ فِيكَ مُنكَرَةٍ ... لَمَّا تَرَدَّتْ بِبَدْرٍ تِلكُمُ الجِيَفُ ¬

_ (¬1) وفى مصدر آخر: فعُدتُ فقال من هذا المنادي ... فقلت أخوك عبَّاد بن بشر

إِنَّ الوَلِيمةَ أخْزَى اللهُ صَانِعَها ... كَانَتْ ضِرَارًا فَلاَ وُدٌّ وَلاَ لَطَفُ أتحسَبونَ رسولَ اللهِ يَجهلُها ... مَكِيدةٌ لا فَضَحَتْ أسرارَها السُّجُفُ (¬1) بل أظهرَ اللهُ مَا تُخفونَ فانكشفَتْ ... يا وَيَلكم أيُّ خاف ليس يَنكشِفُ؟ لقد هَممتُمْ بمن لاحَيَّ يَعدِلُه ... إن نُوزِعَ المجدُ بين الناسِ والشرفُ يا ويلَ من ظن أن الله يَخذُلُه ... أنه من يمينِ اللهِ يُختَطَفُ يا كعبُ ما لَكَ تُؤذيهِ وتُنكِرُه ... ما الوُلوعُ بقولِ الزورِ والشغَفُ جعلتَ مالَكَ للأحبارِ مفسدةً ... يُمتاحُ فيها الأذَى حينًا ويُغتَرفُ (¬2) رَمَوْك بالحق لما رُحتَ تسألُهم ... وأعلنوا من يقينِ الأمرِ ما عَرَفوا فقلتَ: عُودوا فما عندِي لكم صِلَة ... جَفَّ المَعِينُ فلا قَصْدٌ ولا سَرَفُ حَسْبِي الحقوقُ فمالِي لا يجاوزُها ... إلى الفُصولِ وما عن ذاكَ مُنصرَفُ عادوا يقولونَ: ما أشقاهُ من رَجُلٍ ... لا يرتضِي القولَ إلا حينَ ينحرِفُ ثم انثَنَوا ينطقون الزورَ فانقلبوا ... بالمالِ يَصدِفُ عنه المعشرُ الأُنُفُ (¬3) بئسَ العطاءُ وبِئسَ القومُ أمرُهُم ... وأمرُ سيدهم في الغَي مُؤتلِفُ هُمُ اليهودُ، لَو أنَّ المالَ لاح لهم ... في عَيْنِ مُوسى كليم اللهِ ما صَدَفوا ¬

_ (¬1) الأستار. (¬2) جاءه أحبار اليهود، ليأخذوا صِلَتهم على عادتهم، فقال لهم: ما عندكم من أمر هذا الرجل "النبي"؟! قالوا: هو الذى كنا ننتظره، ما أنكرنا من نعوته شيئًا!!. قال: قد حُرِمْتُمْ كثيرًا من الخير، ارجعوا إلى أهليكم، فإن الحقوق في مالي كثير!!. فرجعوا عنه خائبين، ثم رجعوا إليه وقالوا: إنا عجلنا فيما أخبرناك به، وليس هو المنتظر!!. فرضي عنهم، ووصلهم، وجعل لكل من تابعهم من الأحبار شيئًا من ماله. وَمَتَحَ الْمَاءَ وامْتَاحَهُ: نَزَعهُ. (¬3) جمع أُنوف، وهو: الشديد الأنفة.

هبَّ ابنُ مسلمة للحق يَنصرُه ... وللرسولِ يُريه كيفَ يَزدهِفُ (¬1) فقال: دُونكَ سعدًا إن هممتَ بها ... شَاوِرْهُ فيها فِنِعمَ الحاذقُ الثقِفُ (¬2) قَضى ثلاثةَ أيامٍ على سَغَبٍ ... وللمُجَرِّبِ ذي التدبيرِ ما يَصِفُ وجاءَ في صَحْبهِ يستأذنون على ... تَقْوَى من الله ما مالوا ولا جَنَفُوا قال الرسولُ لكمُ في القولِ مأرِبُكم ... ماذا على الدار مما يُوهِمُ الصدَفُ هيَ القلوبُ فإن طابتْ سَرائرُها ... فما بأفواهِكم عَيْبٌ ولا نَطَفُ (¬3) * * * مَضوا فقالوا لكعبٍ: أنت مَوئلنا ... أنت الحِمى المُرتجى في الأزْل والكَنَفُ (¬4) أما ترانا جِياعًا لا طعامَ لنا ... حتى لقد كادَ يَغْشَى أهلَنا التلَفُ لم يُبقِ صاحِبُنا شيئًا نَعيشُ بهِ ... فالزادُ مَنتَهبٌ والمالُ مُجتَرَفُ (¬5) إن أنتَ أسلفتَنا ما نَستعيدُ به ... رُوحَ الحياةِ فَغَيْثٌ ودْقُهُ يَكِفُ (¬6) قال: الحلائلُ رَهْنٌ لا طعامَ لكم ... إلا بهن فقالوا: مطلبٌ قُذُفُ (¬7) ¬

_ (¬1) ازْدَهَفَ الأمرَ: تقحم فيه، وَالْحِمْلَ: احتمله، والشيءَ: ذهب به وأهله، وللكلمة معانٍ أخرى. (¬2) الحاذقُ والثَّقِفُ بمعنى. (¬3) النطف: العيب والشر والفساد. (¬4) الأزل -بسكون الزاي-: الشدة والضيق. (¬5) اجترف: ذهب به كله أو معظمه. (¬6) الودق: المطر. ووكف: سأل قليلاً قليلاً. (¬7) القذف من الأمكنة والمواضع: ما يُزلُّ عنه ويُهْوَى، والشيء يبعد ويتقاذف.

تأبَى علينا سَجايانا ويمنعُنا ... هذا الجَمالُ أُوتيتَ والترَفُ قال: البنونَ فقالوا: لا تَكُنْ عَسِرًا ... البؤسُ أهونُ مما رُمْتَ والشظَفُ خُذِ السلاحَ وإن كلفتنا شَططًا ... إن الشدائدَ فيها تَسْهُلُ الكُلَفُ (¬1) لم يَدْرِ مأربَهم إذ يسخرونَ بهِ ... وإذ يُريدونَها دَهماءَ تُلتَحَفُ (¬2) قال: ارتضيتُ فقالوأ: غُمةٌ ذَهبت ... عنا غياهِبُها وَانْجَابت السدُفُ (¬3) وَأَرْجَؤُو إلى إبانِ مَوْردِه ... يَعُبُ من سُمِّهِ المُردِي ويَرتشِفُ (¬4) جاؤوه بالليلِ مَسرورًا بغرفته ... وليس يُنْجِي الفتى من حَتفِه الغُرَفُ وَرَنَّ صَوتُ أخيهِ عندَ مضجعهِ: ... اخْرج إلينا أما تَنْفَكُّ تَعْتَكِفُ؟ فَهبَّ يركضُ، وَارْتاعتْ حَلِيلَتُه: ... مَهْلاً فإن فؤادِي خائِفٌ يَجِفُ (¬5) أنت امرؤٌ ذُؤ حروبٍ لا يُلائِمُه ... أن يستجيبَ ذَوِي الأضغانِ إن دَلفوا إني لأسمعُ صَوْتًا لستُ آمَنهُ ... كأنه الدمُ يَجرِي أو هُوَ الجَدَفُ (¬6) قال: اسكنِي ودَعِيني إنه لأخي ... يَخْشَى عليَّ فَيرعانِي وينعطِفُ وراحَ يلقاهُ والإسلامُ مُبتسِمٌ ... والشركُ مُتسِمٌ بالحزنِ مُرتجِفُ ¬

_ (¬1) جمع الكلفة: المشقة. (¬2) الدهماء: الداهية. (¬3) السدف: الظُلم، جمع سدفة. (¬4) يعبُّ: يشرب بلا تنفس. والمُردِي: المُهلِك. (¬5) وجف القلب: خفق. (¬6) الجدف: القبر.

وَافَاهُ في صَحْبَهِ يُدنِي الخُطَى عَبِقًا ... كأنه ذاتُ دَلٍّ زَانها هَيَفُ (¬1) قالوا أتمشِي إلى شِعبِ العجوزِ ففي ... هذا الخلاء جنًى للنفس يُخْتَرفُ (¬2) وَانْظُرْ إلى القمرِ الزاهِي وبَهجتِه ... وَاعْجَبْ له بعد هذا كيفَ يَنكسِفُ * * * ساروا إلى الشِّعبِ والأقدارُ تَتبعُهم ... على هُدى اللهِ ما زَاغْت ولا اعْتَسَفوا حتى إذا قعدوا ظَلتْ بموقِفها ... وَأَقْبَلَ الموتُ عن أيمانِها يَقِفُ وتِلكَ كفُّ أخيهِ فَوْقَ مَفْرقِه ... كأنها من جَنيِّ الزهرِ تَقتَطِفُ يَشُمها ويقولُ القولَ يَخدَعُه ... في الطيبِ وَهْوَ له من خلفهِ هَدَفُ ظَلتْ سيوفُ رسولِ اللهِ تأخذُهُ ... تَشُقُّ ما ضربت منه وتَنْتَقِفُ (¬3) يا حُسنَها صَيحةً مِن فيه يُرسِلُها ... كادتْ تَخِرُّ لها من دارهِ السقُفُ لم تستطع عُرْسُه صَبْرًا فجاوَبها ... صَوْتٌ يُجِلجِلُ أودَى السيدُ اللقِفُ (¬4) بَنِي قَريظةَ هُبُّوا من مَضَاجِعكم ... بني النضيرِ انْفِرُوا للثأرِ وَازْدَلِفُوا عَدا الرجالُ على كعبٍ فوالهفا ... أين الحُماةُ وماذا يَصنع اللهَفُ تَبكِي عليه وماذا بعدَ مصرعِه ... إلا البكاءُ وإلا الأدمعُ الذُّرُفُ إن الذي كان يَثْنِي عِطفَهُ صَلَفًا ... أمسى صَرِيعًا فلا كبْرٌ ولا صَلَفُ ¬

_ (¬1) العَبِق: الذى تفوح منه رائحة الطيب. والدلُّ: الدلال، والهَيف: ضمور البطن ورقَّة الخَصرْ. (¬2) اخترف الثمر: جناه. (¬3) نَقَفَ الشيءَ أو انْتَقَفَهُ، بمعنى: شقه، وكان محمد بن مسلمة ابن أخيه من هذه الناحية. (¬4) العرس: امرأة الرجل. واللقف: الحاذق.

المنافق الخبيث أبو عفك

عادوا بهامتِه تُلقَى مُذْممةً ... عندَ الرسولِ ومنه الصَّدُّ والنكَفُ (¬1) طار اليهودُ على آثارهم فأبَتْ ... أنَ يُدركوا همَمٌ تَرْمِي بهم عُصُفُ الله أكبرُ والحمدُ الجزيلُ له ... نَصرٌ جديدٌ وفضلٌ منهُ مؤتَنَفُ (¬2) رِيعَتْ يهودُ فجاءَتْ تَبتغِي حِلفًا ... عُودِي يَهودُ فنعمَ العهدُ والحَلِفُ (¬3) هَيهاتَ مالكِ من عهدٍ ولو حَمَلَتْ ... مِلءَ البسيطةِ من أيْمانِكِ الصحفُ عَبَّادُ قُلْ إن في الأشعارِ تذكرةً ... وإن أحسنها ما أورثَ السلَفُ (¬4) غَنِّ الرفاقَ بِوَحي الحق تُنشِدُه ... مَضَى النعيبُ وأودَى الشاعِرُ الخَرِفُ (¬5) * المنافق الخبيث أبو عَفَك: شيطانٌ من شياطينِ المنافقين، ألدُّ أعداءِ المسلمين هو أبو عفك -لعنه اللهَ- هو أحد بني عمرو بن عوف، ثم من بني عبيدة (¬6)، وكان قد نَجَمَ (¬7) نفاقُه حين قَتَلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الحارثَ بنَ سُوَيْد بن صامِت، فقال: لقد عِشْتُ دهراً وما إنْ أَرى ... منَ الناس دارًا ولا مَجْمَعَا أبَرُّ عهُودً وأُوفي لمن ... يُعاقِدُ فيهم إذا ما دعا من أولادِ قَيْلةَ في جَمْعِهم ... يَهُدُّ الجبالَ ولن يخضعا ¬

_ (¬1) نكف عنه: أي: أَنِفَ منه. (¬2) المؤتنف: بمعنى المستأنف، أي: الجديد المتبدأ. (¬3) الْحِلْفُ: العهد والصداقة. وَالحَلِفُ: اليمين. (¬4) عباد بن بشر - رضي الله عنه -: قال الشِّعْر في هذه الواقعة. (¬5) النعيب: صوت الغراب. والخرف: الضعيف العقل، والمقصود: هو كعب. (¬6) "سيرة ابن هشام" (4/ 312). (¬7) نجم: ظهر.

فصدَّعهم راكبٌ جاءهم ... حلالٌ حرامٌ لَشَتى معا فلو أن بالعزِّ صدَّقْتُمُ ... أو المُلكِ تابعتُمُ تُبَّعا • فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لي بهذا الخبيث؟ " (¬1). وكان أبو عَفَك شيخًا كبيرًا بلغ عشرين ومئةَ سنة، حين قَدِم النبيُّ- صلى الله عليه وسلم - المدينةَ، وكان يُحرِّضُ على عداوةِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يدخلْ في الإسلام، فلما خَرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى "بدرٍ"، ورَجَع وقد انتصر على المشركين، حَسَده أبو عَفَك وبَغَى، وقال في هجائه وهجاء المسلمين شعرًا (¬2). وأراح الله البشريةَ مِن دنَسِه وخُبثِه على يَدِ الصحابيِّ البطل سالِم بن عُمَيْر العَوْفيِّ الأوسيِّ الأنصاريّ - رضي الله عنه -. ° قال سالم: "عليَّ نذرٌ أن أقتلَ أبا عَفَك أو أموت دونَه". وأمهل سالمٌ، وطَلَب له غِرَّةً، حتى كانت ليلةٌ صائفة، فنام أبو عَفَك بالفِناء في الصيف في بني عمرو بن عوف، فأقبل سالمٌ، فوضع السيفَ على كَبدِه، حتى خشَّ في الفراش، وصاح أبو عَفَك، فسارع إليه ناسٌ ممن هم على قوله، فأدخلوه منزلَه وقَبَروه، وقالوا: مَنْ قتله؟ واللهِ لو نعلم مَنْ قتله لقتلناه به! فقالت أمامةُ المُزَيْرِية (¬3) في ذلك: تَكَذِّبُ دينَ اللهِ والمرءَ أحمدَا ... لَعَمرُ الذي أمْنَاكَ إذْ بئس ما يُمْنِي (¬4) ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" (4/ 313). (¬2) "مغازي الواقدي" (1/ 174، 175). (¬3) "سيرة ابن هشام" (4/ 313)، أما في "مغازي الواقدي" (1/ 175): فورد اسمها: النهديَّة. (¬4) أمناك: أنساك، قاله أبو ذر. وعندنا أن خيرًا من ذلك أن يكون أمناك بمعنى بلاك، وما =

بنو قينقاع -لعنهم الله- أول يهود أجلاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المدينة

حَبَاكَ حَنِيْفٌ آخِرَ الليل طعنةً ... أبا عَفَك خذها على كِبَر السِّن فإِني وإنْ أعلمْ بقاتلك الذي ... أبَاتَكَ حِلسَ الليلِ إِنْسي أو جِنِّي وكان قتلُ أبي عَفَك في شوالٍ على رأسِ عشرين شهرًا من الهجرة، من السَّنة الثانية الهجرية (¬1). ويذكرُ التاريخُ للصحابيِّ البطل سالمٍ -رضي الله عنه - أنه قَتَل أخته؛ لأنها قالت في النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لا يرضاه ولا يرضاه المسلمون الصادقون، ويَذكرُ له أن أراح الناس من خُبْث أبي عَفَك، ويذكر التاريخُ لسالِم بن عُمَير العَمْريِّ الأوسيِّ الأنصاريِّ أنه كان أحدَ البَكَّائين الذين نزل في أمرِهم قرآنٌ يُتلى. * بنو قَيْنُقاع -لَعَنهم الله- أولُ يهود أجلاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المدينة: حالَفَهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عند قدومه المدينة فيمن حالَفَ من اليهود، وكانوا أشجعَ يهود، وقد حَقَدوا على المسلمين انتصارَهم ببدر، وأخذوا يتحرَّشون ويتنكَرون للعهدِ الذي بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،خِيفةً أن يَستفحِلَ أمرة فلا يَعودون يملِكون مقاومتَه، بعدما انتصر على قريشٍ في أولِ اشتباكٍ بينه وبينهم. ° وذكر الواقديُّ أن إجلاءَهم كان في شوالٍ سنهَ اثنتيْن، يعني بعد بدر بشهر .. ويؤيِّدُه ما رواه أبنُ إسحاق -بإسنادٍ حسن- عن ابن عباسٍ قال: "لمَاَّ أصاب رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قريشًا يومَ بدر جَمع يهودَ في سوقِ بني قينُقاع، ¬

_ = يُمني: مضارع هذا الفعل. (¬1) "مغازي الواقدي" (1/ 174، 175)، و"سيرة ابن هشام" (4/ 312، 313)، و"طبقات ابن سعد" (2/ 28).

فقال: "يا يهودُ، أسلِموا قبل أن يُصيبَكم ما أصاب قريشًا يوم بدر"، فقالوا: إنهم كانوا لا يعرفون القتال، ولو قاتَلْتَنا لعرفت أَنَّا الرجالُ .. فأنزل الله تعالى: {قُل لِّلَذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَالله يؤَيِّد بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: 12 - 13] " (¬1). ° وذكر ابنُ هشام من طريقِ عبدِ الله بن جعفر قال: "كان من أمرِ بني قينقاع أن امرأةً من العرب قَدِمت بجَلَبٍ لها، فباعَتُه بسُوقِ بني قينقاع، وجَلَست إلى صائغٍ بها، فجعلوا يريدونها على كشفِ وجهها فأبت، فعَمَد الصائغُ إلى طَرَفِ ثوبها، فعَقَده إلى ظَهرها، فلما قامت انكشفت سوءتُها، فضحِكوا بها، فصاحت، فوثب رجلٌ من المسلمين على الصائغ فقتله -وكان يهوديًّا-، وشَدَّت يهودُ على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهلُ المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشرُّ بينهم وبين بني قينقاع". ° وأكمل ابنُ إسحاق سياقَ الحادث قال: "فحاصَرَهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نَزَلوا على حُكمه، فقام عبدُ الله بن أبيِّ بنِ سَلول -حين أمكنه اللهُ منهم-، فقال: يا محمدُ، أحسِنْ إليَّ في مَوَالىَّ -وكانوا حلفاءَ الخزرج- قال: فأبطأ عليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا محمدُ، أحسِنْ إليَّ في مَواليَّ قال: فأعرَضَ عنه، فأدخل يَدَه في جَيبِ درع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (7/ 386) - كتاب المغازي- باب حديث بني النضير.

بنو النضير ومحاولتهم قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -

رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرسلني" -وغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى رأوا لوجهه ظللاً-. ثم قال: "ويحك! أَرسِلني". قال: لا واللهِ لا أُرسِلُك حتى تحسِنَ في مَواليَّ: أربَعُمئةِ حاسِر، وثلاثُمئة دارع، قد مَنَعوني من الأحمر والأسود، تحصُدُهم في غداةٍ واحدة!!، إني واللهِ امرؤ أخشى الدوائر. فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:"هُم لك". وكان عبدُ الله بن أُبيٍّ لا يزالُ صاحبَ شأنٍ في قومه، فقَبِل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شفاعتَه في يهودِ بني قينقاع على أن يَجلُوا عن المدينة، وأن يأخذوا معهم أموالَهم عدا السلاح". وبذلك تَخلَّصت المدينةُ من قِطاع يهوديٍّ خبيثٍ ذي قوةٍ عظيمةٍ أساؤوا الأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأدَّبهم اللهُ أدبًا يَليقُ بهم في الدنيا وبأمثالهم، ومآلهم في النهاية إلى أمِّهم الهاوية. ° قال ابن حجر: "أولُ مَن نقض العهد من اليهود بنو قينقاع، فحاربهم في شوالٍ بعد وقعة بدر، فنزلوا على حُكمه، وأراد قتلهم، فاستوهبهم منه عبدُ اللهِ بن أُبيٍّ وكانوا حلفاءَه، فوهبهم له، وأخرجهم من المدينة إلى أذرِعات" (¬1). * بنو النَّضِير ومحاولتهم قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -: ° بَوَّب البخاريُّ في كتاب "المغازي": "باب حديث بني النضير، ومَخْرَج رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في ديَةِ الرَّجُلين، وما أرادوا مِن الغَدر برسول الله - صلى الله عليه وسلم -". ° قال الزهريُّ عن عُروة: "كانت على رأسِ سِتةِ أشهرٍ من وقعةِ "بدر" ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (7/ 383 - 384).

قبلَ وقعة "أُحُد"، وجَعَله ابنُ إسحاقَ بعد "بئر معونة وأُحُد". ° عن ابن عمرَ - رضي الله عنه - قال: "حاربت قريظةُ والنَّضيرُ، فأجلى بني النَّضِير، وأَقَرَّ قريظةَ ومَنَّ عليهم حتى حارَبت قُريظةُ، فقَتل رجالَهم، وقَسَمَ نساءَهم وأولادَهم وأموالَهم بين المسلمين، إلاَّ بعضُهم لَحِقوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمّنَهم وأسلموا، وأجلى يهودَ المدينة كلَّهم: بني قينقاع -وهم رَهط عبد الله ابن سلام-، ويهودِ بني حارثة، وكلِّ يهود المدينة" (¬1). ° خرَج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني النضير (¬2) يستعينهم في دِيَةِ رجُليْنِ قَتَلهما عمر بن أميَّة الضَّمْرِيُّ، قال ابنُ إسحاق: "فلمَّا أتاهم يستعينهم قالوا: نعم. ثم خلا بعضُهم ببعضٍ، فقالوا: إنكم لن تجدوه على مثل هذه الحال. قال: وكان جالسًا إلى جانبِ جِدارٍ لهم، فقالوا: مَن رجلٌ يعلو على هذا البيتِ فيُلَقِيَ هذه الصخرةَ عليه فيقتلَه ويُريحَنا منه؟ فانتدب لذلك عمرُو بن جِحاشِ بنِ كعب، فأتى النبيَّ الخبرُ من السماء، فقام فظهرًا أنه يَقضِي حاجة، وقال لأصحابه: لا تَبْرَحوا، ورجع مُسرِعًا إلى المدينة، واستبطأه أصحابُه، فأُخبِروا أنه توجَّه إلى المدينة، فلحِقوا به، فأمر بحَربهم والمسير إليهم، فتحصَّنوا، فأمر بقَطع النخيل والتحريق". ° وذكر ابنُ إسحاق: "أنه حاصَرهم سِتَّ ليالٍ، وكان ناسٌ من المنافقين بَعثوا إليهم أنِ اثبتوا وتمنَّعوا، فإنْ قُوتلتم قاتلنا معكم، فتربَّصوا، ¬

_ (¬1) رواه البخاري في "صحيحه" كتاب المغازي -باب حديث بني النضير- حديث رقم (4028) "الفتح" (7/ 382). (¬2) في أوائل السنة الرابعة من الهجرة بعد غزوة أُحُد وقَبْل غزوة الأحزاب ذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عشرة من كبار أصحابه منهم أبو بكر وعمر وعلي - رضي الله عنهم - إلى محلّة بني النضير.

فقَذَف اللهُ في قلوبهم الرعبَ فلم يَنصروهم، فسألوا أن يُجْلَوْا عن أرضهم على أنَّ لهم ما حَمَلتِ الإِبلُ، فصُولحوا على ذلك". ° وروى البيهقي في "الدلائل" من حديث محمد بن مَسْلمَة: "أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بَعَثه إلى بني النضير، وأمَرَه أن يُؤجِّلَهم في الجَلاء ثلاثةَ أيامِ، قال ابنُ إسحاق: فاحتَملوا إلى خيبرَ وإلى الشام. ولم يُسلِمْ منهم إلاَّ يامينُ بنُ عُمير، وأبو سعيد بن وهب، فأحرزَا أموالَهما". • وروى ابنُ مردويه قصَّةَ بني النضير -بإسنادٍ صحيح إلى معمرِ عن الزهري-: "أخبرني عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن رجلِ من أصحابِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كتب كفارُ قريش إلى عبد الله بن أُبيٍّ وغيرِه -ممن يَعبدُ الأوثانَ- قَبْل بدر يُهدِّدونهم بإيوائهم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه، ويتوعَّدونهم أن يغزوهم بجميع العرب، فَهَمَّ ابنُ أُبيٍّ ومَن معه بقتال المسلمين، فأتاهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ما كادكم أحدٌ بمثل ما كادتكم قريشٌ يُريدون أن تُلقوا بأسَكم بينكم"، فلما سَمِعوا ذلك عَرَفوا الحقَّ فتفرَّقوا. فلما كانت وقعةُ بدرٍ كَتبت كفارُ قريشٍ بعدَها إلى اليهود: إنكم أهلُ الحَلْقة والحُصون، يتهدَّدونهم، فأجمع بنو النضير على الغَدْر، فأرسلوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: اخرجْ إلينا في ثلاثةٍ من أصحابك، ويَلقاك ثلاثةٌ من علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك، ففعل، فاشتمل اليهودُ الثلاثةُ على الخناجر، فأرسلَتِ أمرأةٌ من بني النضير إلى أخٍ لها من الأنصار مُسلمِ تخبرُه بأمرِ بني النضير، فأخبر أخوها النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قبلَ أن يَصِلَ إليهم، فرجع، وصَبَّحهم بالكتائب، فحَصَرهم يومَه، ثم غَدَا على بنى قريظة، فحاصرهم فعاهدوه، فانصرف عنهم إلى بني النضير، فقاتَلَهم حتى نزلوا على الجَلاء، وعلى أنَّ لهم ما

أقلَّتِ الإِبلُ إلاَّ السلاح، فاحتَملوا حتى أبوابِ بيوتهم، فكانوا يُخرِبون بيوتَهم بأيديهم فيَهدمونها، ويَحمِلون ما يُوافقُهم من خَشَبها، وكان جَلاؤهم ذلك أولَ حشرِ الناسِ إلى الشام". ° قال ابنُ حجر: "فهذا أقوى مما ذَكر ابنُ إسحاقَ من أن سببَ غزوة بنى النضير طَلَبُه - صلى الله عليه وسلم - أن يُعينوه في دِية الرجليْن، لكنْ وافق ابنَ إسحاق جُلُّ أهل المغازي، فالله أعلم" (¬1). ° وقال ابنُ حجر أيضًا: "ذَكَر موسى بنُ عُقبة في "المغازي" قال: كانت النضيرُ قد دَسُّوا إلى قريشٍ وحَضُّوهم على قتالِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودَلُّوهم على العَوْرة .. ثم ذكر نحوًا مما تقدم عن ابن إسحاق من مَجيءِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فى قصَّة الرجليْن قال: وفي ذلك نزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكَمْ إِذ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} الآية [الائدة: 11]. وعند ابن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إليهم محمدَ بنَ مَسْلَمة أنِ "اخرجوا من بَلَدي فلا تُساكنوني بعد أن هممتم بما هممتم به من الغَدر، وقد أجَّلتُكم عَشْرًا" .. " (¬2). ° وفي "مغازي الواقدي" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاصَرهم خَمسةَ عَشَر يومًا، فأجلاهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ووَلِيَ إخراجَهم محمدُ بنُ مَسلمة (¬3)، كما وَليَ قبضَ أموالهم وسِلاحهم (¬4). ¬

_ (¬1) "فتح الباري" -كتاب المغازي (7/ 385). (¬2) "فتح الباري" (7/ 386). (¬3) "مغازي الواقدي" (1/ 374). (¬4) "مغازى الواقدي" (1/ 377).

بنو قريظة -لعنهم الله- الخائنون لعهدهم مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم -

وكان منهم مَن سار إلى خيبر، ومنهم مَن سار إلى الشام، وكان مِن أشرافهم ممَّن سار إلى خيبر سَلاَّمُ بن أبي الحقيق، وكِنانةُ بنُ الربيع بنِ أبي الحُقيق، وحُيَيُّ بنُ أخطبَ ممن ألَّبوا المشركين على المسلمين في غزوة الأحزاب ووقعة بني قريظة. * قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)} [الحشر: 2 - 4]. نكالٌ منَ الله، وإخراجٌ لهم في دار الدنيا، وعذاب النار ينتظرهم في الآخرة؛ لأنهم شاقُّوا اللهَ ورسولَه، فموقفُهم فيه تبجُّحٌ قبيحٌ حين تقفُ المخاليق الضئيلةُ الهزيلة تتعرَّضُ لغضبِ اللهِ وعِقابه وهو شديدُ العقاب. وهكذا تستقر في القلوب حقيقةُ مصائرِ المشاقِّين لله ورسوله في كلِّ أرضِ وفي كلِّ وقت. * بنو قريظة -لعنهم الله- الخائنون لعهدهم مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: كان يهودُ بني قريظة إِلبًا على المسلمين مع المشركين، بتحريضٍ من زعماءِ بني النصير، وحُيَيُّ بنُ أخطب على رأسهم، وكان نَقضُ بني قريظةَ لعهدهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الظرف أشقَّ على المسلمين من هجومِ الأحزاب من خارج المدينة .. ولذلك قصةٌ نَقَصُّها: قد كان للمسلمين حِلفٌ

مع بني قريظة قبل مَجيءِ الأحزاب، ولكنهم غَدَروا بالمسلمين، وقد كانوا خَلْفَهم، وقَوَّاهم على ذلك شيطانُ بني النضير حُيَيّ بنُ أخطب. ذَهَب شيطانُ خيبر -حُييُّ بنُ أخطب - إلى حِصنِ بني قريظةَ قائلاً: "ويحكَ يا كعبُ، افتحْ لي، فقال له كعبٌ -وقد تَمنَّع-: يا حُيي، إنك امرؤٌ مشؤوم، وإني عاهدتُ محمدًا، فلستُ بناقضٍ ما بيني وبينه، ولم أرَ منه إلاَّ وفاءً وصِدقًا، فقال له حييٌّ: ويحك، افتحْ لي أُكلِّمْك، فقال: ما أنا بفاعل، فغاظَ ذلك حُييًّا، فقال لكعب: والله ما أغلقتَ دوني إلاَّ تخوُّفاً على حَشيشتك (¬1) أن آكُل معك منها، فخَجِل منه كعبٌ، ففتح له. فقال له حييٌّ: جئتُك بعِزِّ الدهر، جئتك بقريشٍ حتى بجمع الأسيال، وبغطفان حتى أنزلتهم بجانبِ "أُحُد"، قد عاهدوني وعاقدوني أنْ لا يَبْرَحوا حتى يستأصِلوا محمدًا ومَن معه، فقال له كعبٌ: جئتَني واللَّهِ بذُلِّ الدهر وكلِّ ما يُخْشى، فإني لم أرَ في محمدٍ إلاَّ صدقًا ووفاءً، جئتَني -يا حيي- بجهامٍ قد هَراق ماؤه، فهو يَرْعَدُ وَيبرُق ليس فيه شيء (¬2). ثم أردف كعبٌ قائلاً: ويحَك يا حيي، فدَعني وما أنا عليه، فإني لم أرَ من محمدٍ إلاَّ صدقًا ووفاءٌ، وما زال به حييٌّ وبقومه، يَفْتِلُ في الذِّروةِ والغارب، حتى أجابوه إلى ما طَلب، فوافَقوا على نَقضِ العهد، والغَدْرِ بالمسلمين، والانضمام إلى جيش الأحزاب، ولم يَشُذَّ إلاَّ الزعيمُ القَرَظيُّ -عمرُو بن سُعدَى - وقال: واللَّهِ لا أغدِرُ بمحمدٍ أبداً .. وَبقِيَ على عهدِه، ¬

_ (¬1) البُرُّ يطحن غليظًا. (¬2) يعني بذلك كعب أن جيوش الأحزاب على كثرتها؛ ليست إلاَّ كالسحاب العظيم؛ الذي تَصُكُّ رعودُه الآذان، ويَخطِف برقه الأبصار، وليس فيه قطرة ماء.

وسانَده في موقفِه النبيلِ هذا ثلاثة من اليهود وهمِ: ثعلبةُ، وأُسيد -ابنا سَعْيه- وأسدُ بنُ عبيد، وأخذ كعبُ بنُ أسد الصحيفةَ ومزَّقها. غدروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجيوشُ الأحزاب تُوشِكُ الفَتْكَ بالمدينة، وبَلَغتِ القلوبُ الحناجر. أوفَدَ إليهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وفدًا من الأنصار، على رأسه سعدُ بن معاذ، وسعدُ بن عبادة، فقالوا للوفد -وقد تملَّكهم الغرورُ-: الآن جئتُم تطلبون منا الوفاءَ بالعهد الذي بيننا وبين محمد، وهو الذي كَسَر جَناحنا، وأخرج إخوانَنا بني النضير، اذهبوا، لا عهدَ بيننا وبين محمد ولا عَقْدَ، مَن هو رسولُ الله هذا؟! فغضب سيِّدُ الخزرج، وأخذ يُشاتِمُ اليهودَ، فشاتموه، وأغضبوه كثيرًا. غيرَ أن سَيِّدَ الأوسِ سعدَ بن معاذ -وهو حليفُ هؤلاء اليهود- قد دخل في الأمر، وقال لسعدِ بن عبادة: دعْ عنك مُشاتَمَتَهم، فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة، وأقبل عليهم ناصحًا ومحذِّرًا: إنكم قد عَلِمتم الذي بيننا وبينكم يا بني قريظة، وأنا أخافُ عليكم مِثلَ يوم بني النضير أو أَمَرَّ منه، فقالوا لسعدٍ: أكلتَ أَيْرَ أبيك، فقال لهم سعدُ -وكان حليمًا-: غيرَ هذا من القول كان أجملَ بكم وأحسنَ يا بني قريظة .. فتمادى بنو قريظة في غَيِّهم، وصاروا ينالون من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ويَقَعون فيه، وهنا يئس سعد بنُ معاذ من عَودةِ حلفائه إلى جادَّةِ الصواب، فعاد الوفدُ يحمِلُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بواسطةِ كلمةِ سرٍّ: "عَضَل والقارَة"، أن القوم قد غدروا، دون أن يعلمَ أحد مِن المعسكر هذا الخبرَ المزعجَ.

وحين أخزى اللهُ الأحزابَ، أتى وقتُ حساب بني قريظة: عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "لَمَّا رَجع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من الخندق ووَضَع السلاحَ واغتَسَل، أتاه جبريلُ عليه السلام، فقال: قد وضعتَ السلاح! واللهِ ما وضعناه، فاخرجْ إليهم. قال: "فإلى أين"؟ قال: ها هنا -وأشار إلى قريظة-، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم" (¬1). وكان توجُّهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم لسبع بَقِينَ من ذي القَعدة، وأنه خرج إليهم في ثلاثةِ آلاف (¬2). وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: "كأني انظر إلى الغُبار ساطعًا (¬3) في زُقاقِ بني غَنْم، مَوْكب جبريل حين سار رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني قرِيظة" (¬4). وعن عُبيدِ الله بنِ كعب: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا رجع من طَلَبِ الأحزاب وجَمَع عليه اللأْمَةَ واغتسل واستجمر، تَبدَّى له جبريلُ، فقال: عذيرك من مُحارب، فوثب فَزِعًا، فعَزَم على الناس ألاَّ يُصلُّوا العصرَ حتى يأتوا بني قريظة، فلَبسَ الناسُ السلاحَ، فلم يأتوا بني قريظة حتى غربتِ الشمسُ، قال: فاختصموا عند غروب الشمس، فصلَّتْ طائفةٌ العصرَ، وتركتها طائفةٌ، وقالت: إنا في عَزْمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فليس علينا إثمٌ، فلم يُعنِّف واحدًا من الفريقين" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري في "صحيحه" -كتاب المغازي- بادٍ مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة حديث (4117). (¬2) "فتح الباري" (7/ 471). (¬3) ساطعًا: مرتفعًا. (¬4) رواه البخاري (7/ 470) "فتح" حديث رقم (4118). (¬5) أخرجه الطبراني والبيهقي بإسناد صحيح عن عبيد الله بن كعب، وأخرجه الطبراني =

• وعن ابن عمر -رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب: "لا يُصَلِّينَّ أحدٌ العصرَ إلاَّ في بني قريظة"، فأدرك بعضُهم العصرَ في الطريق، فقال بعضهم: لا نُصلِّي حتى نأتيَهم، وقال بعضُهم: بل نُصلِّي، لم يُرِدْ مِنَا ذلك، فذُكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يُعَنَف واحدًا منهم" (¬1). • وفي حديث عائشة - رضي الله عنها -: " .. فلما رَجَع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الخندق وَضع السلاحَ واغتسل، فأتاه جبريل - عليه السلام - وهو يَنفُضُ رأسَه من الغُبار، فقال: وقد وضعتَ السلاح! واللهِ ما وَضَعتُه، اخرجْ إليهم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فأين؟ "، فأشار إلى بني قريظة. فأتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلوا على حُكمِه، فرَدَّ الحُكمَ إلى سعدٍ. قال: فإني أحكمُ فيهم أن تُقتَلَ المقاتِلةُ، وأن تُسبَى النساء والذُّرِّيةُ، وأن تُقَسَّم أموالُهم .... " (¬2). ° وعن أبي سعيد الخُدْري - رضي الله عنه - قال: نزل أهلُ قريظةَ على حُكمِ سعدِ ابنِ معاذ، فأرسل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى سعد، فأتى على حمارٍ، فلما دَنا من المسجد قال للأنصار: "قوموا إلى سيدكم -أو خَيركم-"، فقال: "هؤلاء نَزَلوا على حُكمك"، فقال: تُقتَل مُقاتِلُتهم، وتُسبَى ذَراريُّهم. قال: "قَضَيتَ بحُكمِ الله" .. وربما قال: "بحُكم المَلِك" (¬3). ولقد نَصَح عمرُو بنُ سُعدى -وهو من كبارِ زعماء بني قريظة- ¬

_ = موصولاً بذكر كعب بن مالك، قاله الحافظ في "فتح الباري" (7/ 472). (¬1) رواه البخاري بلفظ "العصر" (4119)، ومسلم، وأبو يعلى، وابن سعد، وابن حبان. بلفظ "الظهر"، وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" بلفظ "العصر", اتفق أصحاب المغازي على أنها العصر. (¬2) رواه البخاري (4122). (¬3) رواه البخاري (4121).

قومَه، وأَنَّبهم ووبَّخهم على نقضِهم العهدَ الذي بينهم وبين المسلمين، ونَصَحهم: "يا بني قريظة، لقد رأيتُ عِبَرًا، رأيتُ دارَ إخوانِنا خاليةً بعد العزِّ والشرفِ والرأسِ الفاضل، تركوا أموالَهم قد تَمَلَكها غيرُهم، وخَرجوا خُروج ذُلٍّ". ثم أكَّد لهم -كعالم من علماء التوراة- أنه لا يُعادِي أحدٌ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ كان مصيرُه الخُسران، فقال: "لا والتوراة، ما سُلِّط هذا (¬1) على قومٍ قطُّ ولله بهم حاجةٌ، وقد أوقع ببني قينقاع، وكانوا أهلَ عُدَّةٍ وسلاح ونخوة، فلم يُخرجْ أحدٌ منهم رأسَه حتى سباهم، فكُلِّم فيهم فتركهم على إجلائِهم من يثرب". ثم دعا عمرو بن سُعْدى قومَه إلى الدخول في الإسلام، ليحقِنوا دماءَهم، ويتَّبعوا الحق، قائلاً: "يا قوم، قد رأيتُم ما رأيتم، فأطيعوني، وتعالَوا نتَّبعْ محمدًا، فواللهِ إنكم لَتعلمون أنه نبي، وقد بَشَّرَنا به علماؤنا". ° ثم لا زال ابنُ سُعدى يخوِّفهم بالحربِ والسَّبي، وأقبل على سيدهم كعبِ بنِ أسد، وقال له: "والتوراةِ التي أُنزلت على موسى - عليه السلام - يومَ طورِ سيناء, إنه العزُّ والشرف في الدنيا". ° وبينما عمرُو بن سعْدَى يتحدَّثُ إلى قومه في ذلك الاجتماع، إذا بطلائع الجيش النبويِّ تظهرُ عليهم زَاحفةً نحو حُصونهم، وهنا قَطَع الزعيمُ اليهوديُّ ابنُ سعدى حديثه قائلاً: "هذا الذي قلتُ لكم". ° ومع هذا فقد رفض بنو قريظة نصيحةَ عمرِو بنِ سُعدى -الذي دعاهم إلى الدخول في الإِسلام-، فتقدَّم إليهم بمحاولةٍ أخيرة، باقتراح ¬

_ (¬1) يعني: النبي - صلى الله عليه وسلم -.

آخر، فقال لهم: "لقد خالفتم محمدًا , ولم أُشرِككم في غَدركم، فإن أبيتم أن تدخلوا معه في دينه، فاثْبُتوا على اليهودية، وأعطُوا الجزيةَ، فواللهِ، ما أدري أيقبلُها منكم أم لا؟ "، ولكنهم رفضوا أيضًا هذا الاقتراح؛ حيث كان جوابُهم -والغرور لَمَّا يزل يشحن رؤوسهم-: "نحن لا نُقِرُّ للعرب بخَراج في رقابنا يأخذونه، القتلُ خير من ذلك". وهنا أعلن عمرو بن سعدى مفارقتَه لقومه، وخرج من حصون قومه بني قريظة، بعد أن طوَّقها الجيشُ الإسلاميُّ من كلِّ مكان، وكان خروجُه ليلاً. وعندما خرج هذا الزعيمُ اليهودي من حصون قومه، مفارقًا لهم -وكان خروجه ليلاً - التقى به رجالُ الحَرَس النبوي، الذين كانوا يقومون بأعمال الدورية: فأتَوا به إلى قائِدِهم محمدِ بنِ مَسْلَمةَ الأنصاري. قال ابن إسحاق: "خرج عمرُو بنُ سُعدى القُرظيُّ، فمر بحَرَسِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه محمدُ بنُ مسلمةَ الأنصاريُّ تلك الليلة، فلما رآه ابنُ مسلمة استوقفه قائلاً: مَن هذا؟ قال: أنا عمرو بن سعدى -وكان عمرو قد أبى أن يدخلَ مع بني قريظة في غَدْرهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: لا أغدِرُ بمحمدٍ أبدًا-. فقال ابنُ مسلمة -حين عرف أنه ابن سعدى-: اللهم لا تَحرِمْني إقالةَ عثراتِ الكرام , ثم خَلَّى سبيله , فخرج على وجهه حتى بات- مستأمَناً - في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلةَ بالمدينة، ثم خرج فلم يُدْرَ أين توجَّه من الأرض". • ولقد وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن سعدى بالوفاءِ، وذلك أنه لَمَّا ذُكرت له قِصةُ إلقاءِ الحرس القبضَ عليه، ثم إخلاءِ محمدِ بنِ مسلمةَ

سبيله، قال: "ذلك رجلٌ نجاه الله بوفائه" (¬1). ° أما يهودُ بني قريظة، فإنهم لَمَّا نظروا إلى طلائع الجيش النبويِّ تتقدم -بقيادةِ عليِّ بن أبي طالب- فاضت نفوسُهم الشريرةُ ببعض ما تختزِنُه من خُبثٍ ودناءةٍ ووَضاعة، وأَسْمَعوا ابنَ عمِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في نبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم - ونسائه الطاهراتِ الطيباتِ من السبّ والشتم والقذف، ما لم يَسْمَحْ أحدٌ من المؤرِّخين لنفسه أن يُورِدَ نصَّه؛ لفظاعته وبشاعته، وكلُّ الجواب الذي سَمِعوه من عليٍّ: "السيفُ بيننا وبينكم"، وأشفق عليٌّ -وهو أولُ مَن سَبَق باللواء إلى بني قريظة- مِن أن يَسمعَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - في نفسه وفي نسائه ذلك السبَّ القبيح. وأناب عليٌّ في حَمل اللواء أبا قتادةَ الأنصاري، وانطلق مسرِعًا نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستوقفه عَلَى بُعدٍ من حصون اليهود، وطلب منه أن يقفَ بعيداً عن هذه الحصون؛ لئلاَّ يتأذَّى بسماع ما فاه به اليهودُ من سبٍّ وقذف، فقال عليٌّ: لا عليك يا رسول الله أن تدنوَ من هؤلاء الأخابث، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لعلَّك سمعتَ منهم فيَّ أذًى؟ " قال: نعم يا رسول الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئًا". ثم واصل الرسولُ القائدُ - صلى الله عليه وسلم - تقدُّمَه نحوَ حصونِ اليهود، حتى إذا دنا من حصونِ قريظةَ الغادرة، نادى نَفَرًا من قادتهم، فلمَّا ظَهروا في أبراج حصونهم قال لهم: "يا إخوانَ القردة وعَبَدَةَ الطاغوت، هل أخزاكم الله، لأُنزل بكم نِقمتَه؟! "، وهنا أُسقط في أيدي اليهود، فأنكروا أن يكونوا ¬

_ (¬1) "سلسلة معارك الإسلام الفاصلة" لبشاميل، و"البداية والنهاية".

شَتموه ونساءَه، وانطلقوا يَحلِفون كذبًا، أنهم ما فاهوا بشيءٍ مما بَلَغه بهذا الشأن، ثم اندفعوا في لُيونةِ الأفاعي يُسمِعون رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - من ليِّن القول، وطيبِ الكلام، وجميل الإطراء، ما ظنوا أنه سيُساهم في تخفيفِ عقوبةِ خيانتهم العظمى، فقالوا: يا أبا القاسم، ما كنتَ جهولاً. واشتدَّ حصارُ المسلمين لليهود، وطلبوا المفاوضةَ والسماحَ لهم بالخروج من يثربَ مع نسائهم وذراريِّهم، وما تَقْدرُ الإبل على حَمْله من متاع -سوى السلاح- على أن يتركوا بقيةَ كلَّ ما يملكون في يثربَ للمسلمين .. ورُفض طلبهم. وحاصَرَهم المسلمون خمْسَ عشْرةَ ليلةً -كما يقول ابن سعد- أو خمسًا وعشرين ليلةً -كما يقول ابن إسحاق-: حاصرهم خمسًا وعشرين ليلةً حتى أجهَدَهم الحصارُ، وقُذف في قلوبهم الرعب، فعَرض عليهم رئيسُهم كعبُ ابنُ أسد أن يؤمِنوا، أو يَقتلوا نساءَهم وأبناءَهم ويخرجوا مستقتلين، أو يُبيِّتوا المسلمين ليلة السبت. فقالوا: لا نؤمن، ولا نستحل ليلةَ السبت، وأيُّ عيشٍ لنا بعد أبنائنا ونسائنا؟!. وقَرر الصحابةُ اقتحامَ حصونِ اليهود، مهما كان الثمن، وصاح عليُّ اَبن أبي طالب حاملُ لواء الجيش، وابنُ عمِّه الزبير بنُ العوام، صاح: واللهِ "لأذوقَنَّ ما ذاقَ حمزةُ، ولأفتَحَن حِصنَهم". ولما سمع اليهود هذا الإنذارَ من حامل لواءِ الجيش علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وأيقنوا أن الهجومَ على حصونهم أمرٌ لا مفرَّ منه، طلبوا إيقافَ الهجوم، وأعلنوا الاستسلام والنزولَ على حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - دونما قَيدٍ أو شرط.

وسارع اليهود إلى فتح أبواب معاقِلهم وحُصونهم فورًا، بعد أن ألقَوا سلاحَهم، وأخذوا في مغادرة الحصنِ مستسلمين، وأمر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - باعتقالِ الرجال ووَضْع القيود في أيديهم، وقد تم ذلك تحتَ إشرافِ محمدِ بنِ مَسْلمة -قائدِ الحرسِ النبوي-، وقد حَبس الرجال من بني قريظة، وعددهم حوالَي ثمانمِئةِ مُقاتِل في دارِ أسامةَ بنِ زيد (¬1)، وذكر ابن إسحاقَ أنهم حُبسوا في دار بنتِ الحارث، وفي رواية عُروة: في دارِ أسامة بن زيد، ويجَمَع بينهما بأنهم جُعِلوا في بيتيْن (¬2). وعند ابن إسحاق أنهم كانوا سِتَّمئة، وبه جَزَم أبو عمر في ترجمة "سعد بن معاذ"، وفي حديث جابر عند الترمذي والنسائي وابن حِبَّانَ بإسنادٍ صحيحَ أنهم كانوا أرْبَعَمئةِ مُقاتِل، فيَحتمل في طريق الجمع أن يقال: إن الباقين كانوا أتباعًا، وقد حكى ابنُ إسحاقَ أنه قيل: إنهم كانوا تِسْعَمئة (¬3) أمَّا النساء والأطفال؛ فقد رأى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أَوْكَلَ أمرَهم إلى عبد الله بن سَلاَم، أن يحفظوا في مكانٍ ليس فيه صِفةُ الحبس والتضييق، وأُنزلوا دارَ الضيافة؛ وهي دارُ ابنةٍ الحارث النجَّارية المُعدًّةُ لنزول الوفود التي تقصِدُ المدينة، وكان عددُ هؤلاء النساء والذراريِّ يناهزُ الألف. وشَفَع الأوسُ لحلفائهم يهودِ بني قريظة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففوَّض أمرَ هؤلاء اليهود إلى سيِّد الأوس سعد بن معاذ، قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "ألا ¬

_ (¬1) "الكامل" لابن الأثير (2/ 127). (¬2) "فتح الباري" (7/ 478). (¬3) "فتح الباري" (7/ 478).

تَرضَون -يا معشرَ الأوس- أن يحكمَ فيهم رجلٌ منكم؟ ". قالوا: بلى، قال: "فذاك سعدُ بن معاذ". وروى الإِمام أحمد في "مسنده" عن جابر بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "رُمي سعدُ بن معاذ، فقطعوا أكْحَلَه، فحَسَمه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالنار، فانتفخت يدُه، فحَسَمه أخرى فانتفخت يدُه فنزف، فلما رأى ذلك قال: اللهم لا تُخرجْ نَفْسي حتى تُقِرَّ عيني من بني قريظة .. فاستَمسَك عِرقُه فما قَطَر، حتى نزلوا على حُكم سعد، فحَكَم أن تُقتلَ رجالُهم، وتُسَبى نساؤهم وذراريُّهم، فلما فَرغ منهم انفتق عِرقُه فمات. رضي اليهود، ونزلوا على حكم اللهِ أولاً، ثم على حكم سعدِ بنِ معاذٍ ثانيًا، لَمَّا قال لهم: أترضون بحُكمي، قالوا: نعم، قال سعد: فإني أحكمُ فيهم أن تُقتَلَ المقاتلة، وتُسبَى النساءُ والذرية، وأن تُقسَمَ أموالُهم. فأخذهم من الغمِّ ما أخَذَهم، وصُعق اليهودُ لهذا الحُكم الصارم، وعلاهم الذهول، وخَيَّم عليهمُ الوجوم. وأُمر بحَفرِ خنادقَ عميقةٍ في سوق المدينة، وأَمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإحضارِ الرجال المحكوم عليهم، وأمَرَ بإعدامهم، فأُعدموا دَفْعةً بعد دفعة، حتى لم يَبْقَ منهم أحدٌ، وكان الصحابةُ كلَّما تَمَّ إعدامُ دفعةٍ من هؤلاء اليهود قُذفوا في الخنادق، ووارَوهم بالتراب. واختلف المؤرِّخون في عدد اليهود الذين تَمَّ إعدامُهم، فالبعض يقول: إنهم ما بين سِتِّمئة إلى سَبْعِمئة، والبعض الآخر يقول: إنهم ما بين الثمانمئة إلى التِّسعمئة. ولقد أُعدم هؤلاء اليهودُ في ليلةٍ واحدة، وجَرَت عمليةُ الإعدام على

ضَوءِ مشاعل سَعَفِ النخيل (¬1)، وتولى عمليةَ قتل اليهود الْخَوَنَةِ عليُّ بنُ أبي طالب، والزبيرُ بنُ العوام، وكان بنو قريظةَ المحتَجَزون في السِّجن مع سيِّدهم كعبِ بنِ أسد، كلما استدعى الحرسُ جماعةً منهم لإعدامهم، لاذُوا بسيِّدهم كعبٍ يسألونه في جزع وارتباك: "ما تراه يُصنع بنا؟ فيجيبهم: أفي كلِّ موطنٍ لا تعقِلون؟! هو اللهِ القتلُ". فكان جزاؤهم من جنسِ ما أرادوا للمسلمين. وأبى اللهُ إلاَّ أن يَصِلوا هم إلى النهاية المريبة، التي أرادوا للمسلمين الوصولَ إليها، {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]. وهنا أمر آخر: أن الحكم الذي أصدره سعدُ بنُ معاذ على يهودٍ بني قريظة، وأقرَّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقام بتنفيذه، قد جاء تمامًا وِفق الشريعةِ المُوسَوِية عند اليهود أنفسِهم، كما في التوراة عندهم، فقد نصَّ "الإِصحاح العشرون" من "سِفْر التثنية": "وإن تُسالمِك أيُّ قرية، بل حاربتك فحاصِرْها، وإذا دَفَعَها الربُّ إلهُك إلى يَدِك، فاضربْ جميعَ ذكورِهم بحدِّ السيف، وأما النساءُ والأطفالُ والبهائمُ وكل ما في المدينة كلّ غنيمتها، فتَغتنِمُها لنفسك، وتأكلُ غنيمةَ أعدائك التي أعطاك الربُّ إلهك" (¬2). وهذا النصُّ الصريحُ في كتابِ اليهود المقدَّس، يجعل هؤلاء يَرَون أن مِن حقهم تنفيذَ حُكمِ الإعدام فيمَن وَقع في أيديهم من أعدائهم الرجال، ¬

_ (¬1) "السيرة الحلبية" (2/ 120). (¬2) "سفر التثنية" (20/ 13 - 14).

شيطان اليهود حيي بن أخطب -لعنه الله-

وسَبْيَ نسائهم وذراريِّهم، ومصادرةَ كل ممتلكاتهم، وهذا يعني أن اليهودَ لو نَجحوا في مؤامرتهم، وتم لهم ولأحلافِهم التغلُّبُ على المسلمين، لَمَا تردَّدوا لحظةً في إبادةِ المُحارِبين منهم، وسَبْي نسائهم وذراريهم، ومصادرةِ أموالِهم تمشيًا مع حُكم كتابهم المقدس، الذي جاء صريحًا في "سِفْر التثنية". وهكذا جاءت العقوبةُ التي أنزلها المسلمون باليهود، هي نَفسُ العقوبةِ التي كان هؤلاء اليهودُ يَنوُون إنزالَها بالمسلمين، لو وَقعوا في أيديهم. فالحكمُ النازل باليهود إنما جاء وِفقًا لشريعتهم، فهو إذًا جزاءٌ وفاقٌ (¬1). * وصَدَق اللهُ إذ يقول: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)} [الأحزاب26 - 27]. شيطان اليهود حُييُّ بن أخطب -لعنه الله-: إذا تَجَمَّع خُبْثُ اليهود ودَنَسُهم وخِسَّتُهم وكَيدُهم ومَكرُهم في شخصٍ أو شيطانٍ من شياطينِ الإنس، لكان هو حُيَيُّ بن أخطب .. فهو عدوُّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - .... وله من ذلك بين يهود موقعُ الصَّدَارة. ° كان حُيَي بنُ أخطبَ على رأسِ الشياطين اليهود الذين حَزَّبوا الأحزاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم: سَلاَّمُ بن أبي الحُقيق النَّضْري، وكنانةُ ابنُ أبي الحُقيق النَّضري، وهَوذةُ بنُ قيس الوائِليُّ، وأبو عُمَّارٍ الوائليَّ .. خرجوا حتى قدمِوا على قريش في مكة، فدَعَوهم إلى حربِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) "موسوعة الغزوات الكبرى" "بنو قريظة" (152، 246، 164، 199، 200).

وقالوا: إنا سنكونُ معكم عليه حتى نستأصِلَه، فقالت لهم قريشٌ: يا معشر يهود، إنكم أهلُ الكتاب الأول والعلمِ بما أصبحنا نختلفُ فيه نحن ومحمدٌ، أفديننا خيرٌ أم دِينُه؟ قالوا: بل دينُكم خيرٌ من دينه، وأنتم أوْلى بالحقِّ منه، فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} إلى قوله {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} [النساء:51 - 55] فلما قالوا ذلك لقريشٍ سَرَّهم ونَشِطوا لِمَا دَعَوهم إليه من حَرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ° ثم خرج هذا الشيطانُ حُييٌّ في أولئك النفر من يهود، حتى جاؤوا غَطَفانَ -من قَيسِ عَيْلان- فدَعَوهم إلى حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشًا قد تابعوهم على ذلك، فاجتمعوا معهم فيه. ° وخَرج عدوُّ الله حييُّ بنُ أخطبَ حتى أتى كعبَ بنَ أسدٍ اِلقُرَظِي -صاحبَ عَقدِ بني قريظة وعَهدِهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يَزَلْ حييٌّ بكعبٍ يَفتِلُه في الذِّروةِ والغارب (¬1) حتى نَقَض كعبُ بنُ أسدٍ عهدَه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ° وأيُّ موقفٍ خانت فيه يهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو حاولت خداعَه والغَدْرَ به، كان على رأسهم حُيَيٌّ الذي كان يَعلمُ صِدْقَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أي: ما زال يروّضه ويخاتله.

ملك خيبر أبو رافع سلام بن أبي الحقيق -لعنه الله-

ونُبُوتَه حتى مَكَّن اللهُ مِن رقبته. ° وأراح اللهُ المسلمين من شَرِّ، فقد أصاب ما أصابَ بني قريظة لأنه كان معهم في حصونهم، وشَمِله حكمُ سعدِ بن معاذ - رضي الله عنه -، فقُتل هو ومقاتِلةُ بني قْريظة .. وذهب إلى مَزبلة التاريخ .. وبَرِئت منه ابنتُه صفيةُ بنتُ حُييٍّ التي صارت أمًّا للمؤمنين .. ولله درُّ من قال عن اليهود: هم قومُ البُهت ويا طيري ...... ذي قوله حبر الإيمانِ (¬1) وصفيَّة أمُّ الأبرارِ ....... هارون وموسى عمرانِ برآءُ منهم هُمْ منَّا ...... صاحوا: يا حكمَ القرآنِ يَذَرون الدمْعَ لغيبته ..... ولغيبة سعدِ الفرسانِ سعدُ بنُ معاذ تعرِفْهُ ..... واهتز سريرُ الرحمنِ (¬2) * مَلِك خَيْبَر أبو رافع سلاَّم بن أبي الحقيق -لعنه الله-: كان سَلاَّمُ بن أبي الحُقَيْق من يهود بني النَّضير ومِن أحبار اليهود الذي ناصَبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العداوة من أول يوم، وهو من أحبارِ يهود الذين نزل فيهم القرآن لحِقدهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكونهم كانوا يتعنَّتونه (¬3)، ولكذبهم وزورهم وقولهم: "إنَّ دينَ قريشٍ خيرٌ من الإسلام" (¬4). وحين حاصَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بني النضير وأجلاهم عن المدينة، كان ¬

_ (¬1) عبد الله بن سلام زعيم اليهود الذي أسلم - رضي الله عنه -. (¬2) هذه منقبة لسعد بن معاذ - رضي الله عنه - عند موته. (¬3) أي: يشقُّون عليه، ويحاولون إنزال العَنَت به. (¬4) انظر "سيرة ابن هشام" (2/ 133، 134، 2/ 190).

سَلاَّمٌ يُهدِّدُ المسلمين قائلاً: "إنَّ حلفائي بِخَيْبرَ لَعشرةُ آلافِ مقاتِل"، فبَلَغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قولُه، فتبسَّم (¬1)، ثم دارت الدائرةُ على بني النضِيْر، فاستسلموا للمسلمين. وكان سلاَّمٌ من التُّجار الكبارِ الذين يتعاطَون الربا، وكان له على أُسَيْدِ ابن حُضَير عشرون ومئةُ دينارٍ إلى سَنَة، فلما أجلاهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صالَحَه سَلاَّمٌ على أخذِ رأسِ مالِه ثمانين دينارًا، وأبطَلَ ما فَضَل (¬2)، وصَنَع يهودُ المرابون صَنيعَه مُكْرَهين. وأعطى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سعدَ بنَ مُعَاذ سيفَ سلاَّمِ بنِ أبي الحُقَيْق، وكان سيفًا له ذِكرٌ عندهم (¬3)، وكان من جُملة غنائمِ بني النضِيْر. وكان سلاَّمٌ وحييُّ بنُ أخطبَ على رأس مَن حَزَّبوا الأحزاب من قريش وغَطَفان لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ° عن عروة: "أنه كان ممَّن أَعَان غَطَفانَ وغيرَهم من مشركي العرب بالمال الكثير على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬4). وكانت غزوةُ الخندق ثمرةً من ثمرات حِقده وكيدِه الدائب للإِسلام هو وحُييُّ بن أخطب. ولسلاَّمٍ أخَوانِ مشهورانِ من أهل خيبر: أحدهما كِنانةُ -وكان زوجَ صفيةَ بنتِ حييٌّ قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخوه الرَّبيع بن أبي الحُقيق، وقتلهما ¬

_ (¬1) "مغازي الواقدي" (1/ 373). (¬2) "مغازي الواقدي" (1/ 374). (¬3) "مغازي الواقدي" (1/ 379). (¬4) "فتح الباري" (7/ 398).

النبي - صلى الله عليه وسلم - جميعًا بعد فتح خيبر (¬1). لقد كان سلاَّمُ بنُ أبي الحُقَيْق من أخطرِ أعداءِ النبي - صلى الله عليه وسلم - والإسلام والمسلمين، وكان لا بد من وضع حدٍّ لنشاطِه المخرِّب، فقد كان لا يُريحُ ولا يَسْتَريح، ولكنَّ القضاءَ عليه لم يكن سهلاً ميسورًا، وبخاصةٍ وهو في حِصْنه الحصين، بين أهله وذَوِيه الأقوياء، في وَسَطِ خَيْبرَ المُحصّنَةِ ذاتِ الحصون والقلاع، التي يحميها عشرةُ آلاف مقاتل (¬2)، والتي تستطيعُ إرسالَ ثلاثةِ آلافِ مقاتل فورًا (¬3)، فلابدَّ من أن يوكِّلَ أمرَه إلى بَطلٍ مقدام، وكان هذا البطل هو عبدُ الله بن عَتِيك. ° قال ابن إسحاق: "لما قَتلت الأوسُ كعبَ بنَ الأشرف استأذنت الخزرجُ رسولَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قَتل سَلاَّم بنِ أبي الحُقيق وهو بخيبر، فأَذِن لهم، قال: فحدَّثني الزُّهريُّ عن عبد الله بن كعبِ بنِ مالك قال: كان ممَّا صَنَع اللهُ لرسوله أن الأوسَ والخزرجَ كانا يتصاوَلانِ تصاوُلَ الفَحْليْن، لا تَصنعُ الأوسُ شيئًا إلاَّ قالت الخزرَجُ: واللهِ لا تذهبون بهذه فضلاً علينا -وكذلك الأوس-، فلمَّا أصابت الأوسُ كعبَ بنَ الأشرف تذاكرت الخزرجُ: مَن رجلٌ له من العداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما كان لكعب؟ فذكروا ابنَ أبي الحقيق وهو بخيبر" (¬4). ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (7/ 397). (¬2) "مغازي الواقدي" (1/ 373). (¬3) "مغازي الواقدي" (1/ 393). (¬4) "فتح الباري" (7/ 397).

سرية عبد الله بن عتيك لقتل أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق، أو سلام ابن أبي الحقيق

* سَرِيَّةُ عبدِ الله بنِ عَتيك لقَتلِ أبي رافع عبد الله (¬1) بن أبي الحُقيق، أو سَلاَّم ابنِ أبي الحقيق: كانت هذه السَّريةُ المباركة -كما قال ابن سعد (¬2) - في رمضانَ سنةَ سِتٍّ على الرأي الأرجح، وهي من أبطال الخزرج، وقائدها هو عبد الله بن عَتيك ابنِ قيس الخَزْرجيِّ من بني غَنْم بن سلمة. وبقيَّةُ أبطالِ السَّرِية هم: عبد الله بن أُنيس الجُهَني حليفُ بني سلمة من الخزرج، وحليفُ بني سَوَاد بن سلمة على الأخصّ. وعبدُ الله بن عتبة. ومَسعود بن سِنَان الأسلمي حليف بني سلمة. وأبو قتادة الحارث بن رِبعي. وخُزاعي بن أسود (¬3). ° قال ابنُ حجر "فإنْ كان عبدُ الله بنُ عتبة محفوظًا (¬4) فقد كانوا ستةً. وأكثر أصحاب المغازي والسِّير -وعلى رأسِهم إمامُهم محمدُ بن ¬

_ (¬1) الذي سماه عبد الله هو عبد الله بن أنيس كما أخرجه الحاكم في "الإكليل" من حديثه مُطَولاً. (¬2) "طبقات ابن سعد" (2/ 91). (¬3) ويُقال أسود بن خزاعي أو أسود بن حرام انظر "فتح الباري" (7/ 398). (¬4) نص عليه البخاري في الحديث رقم (4040)، ولم يُذكر إلا في هذا الطريق، وزعم ابن الأثير في "جامع الأصول" أنه ابن عِنَبة -بكسر العين وفتح النون-، وهو غلط منه فإنه خولاني لا أنصاري، ومتأخِّر الإسلام لا مُتَقدِّمه وهذه القصة مُتَقدمة .. قاله ابن حجر في "الفتح" (397/ 7).

إسحاقَ- يَرَون أن الفدائيِّين الخمسة أو السِّتة كلُّهم اشتركوا مع قائدِهم عبدِ الله ابن عَتيك في القضاء على الطاغيةِ اليهودي، وأن الذي أثبَتَ أبا رافع وقَضَى عليه هو "عبدُ الله بن أُنيْس"، وكلُّ أصحابِ الكتب السِّتةِ والسير -ما عدا الأمام البخاري- يتَّفقون مع ابنِ إسحاق في رأيه، إلاَّ أن الإمامَ البخاريَّ يختلفُ مع أصحاب الكتب السِّتة وأصحابِ السِّير، فرَوى أن قاتلَ أبي رافع هو قائدُ الفدائيين عبدُ الله بنُ عَتيك لا عبد الله بن أنيس (¬1). ° عن البَرَاء بنِ عازب - رضي الله عنه - قال: "بَعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - رهْطًا إلى أبي رافع، فدخل عليه عبدُ الله بن عَتيكٍ بيتَه ليلاً وهو نائم فقَتَله" (¬2). ° وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي رافع اليهوديِّ رجالاً من الأنصار، فأَمَّر -عليهم عبدَ الله بن عَتِيك، وكان أبو رافع يُؤْذي رسولَ الله ويُعين عليه، وكان في حِصنٍ له بأرضِ الحجاز، فلمَّا دَنَوا منه وقد غَرَبَت الشمسُ ورَاحَ الناس بِسَرحِهم (¬3)، فقال عبد الله لأصحابه: اجلِسوا مَكانَكم، فإني منْطَلِقٌ ومُتَلَطِّفٌ للبَوَّابِ لعَلِّي أن أدخلَ، فأقبلَ حتى دَنا من الباب، ثم تَقَنَّعَ (¬4) بثوبه كأنه يَقضي حاجةً -وقد دخلَ الناسُ-، فهتف به البوابُ: يا عبدَ الله، إِن كنتَ تريدُ أن تدخلَ فأدخل، فإني أريدُ أن أغلِقَ ¬

_ (¬1) انظر "سيرة ابن هشام" (3/ 314 - 316)، و"صلح الحديبية" لبشاميل (ص 87)، و "البداية والنهاية" (4/ 139)، و"فتح الباري" (5/ 210 - 212). (¬2) رواه البخاري في "صحيحه" -كتاب المغازى- باب قتل أبي رافع عبد الله بن أبي الحُقَيْق، ويُقال سلاّم بن أبي الحقيق كان بخيبر، ويقال في حصنٍ له بأرض الحجاز (7/ 395 - فتح الباري) حديث رقم (4038). (¬3) راح الناس بسرحهم: أي رجعوا بمواشيهم التي ترعى. (¬4) تقنَّع بثوبه: أي تغطى به ليخفى شخصه لئلا يُعرَف.

البابَ، فدخلتُ، فكَمُنْتُ (¬1)، فلما دخل الناسُ أَغلقَ البابَ ثم عَلَّقَ الأغاليق على وَدٍّ (¬2). قال: فقمتُ إلى الأقاليد (¬3) فأخذتُها ففتحتُ الباب، وكان أبو رافع يُسْمَرُ عندَه (¬4)، وكان في عَلاليَّ (¬5) له، فلما ذهب عنه أهل سَمَرِهِ صَعِدتُ إليه، فجعلتُ كلما فَتحتُ بابًا أَغلقتُ عليَّ من داخل، قلتُ: إن القوم إن نَذِرُوا (¬6) بي لم يَخلُصوا إلي حتى أقتلَه، فانتهيتُ إليه، فإذا هو في بيتٍ مُظلِم وَسَطَ عياله لا أدري أينَ هَو من البيت، فقلت: أبا رافع. قال: مَن هذا؟ فأهوَيْتُ نحوَ الصوتِ (¬7) فأضربُه ضربةً بالسيف وأنا دهِشٌ , فما أغنيتُ (¬8) شيئًا، وصاحَ فخرجتُ من البيت، فأمكثُ غيرَ بعيدِ، ثم دخلت إليه فقلتُ: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ (¬9) فقال: لأُمِّكَ الوَيلُ (¬10)، ¬

_ (¬1) كمنت: أي: اختبأت. (¬2) الأغاليق: جمع غَلق بفتح أوله: ما يغلق به الباب والمُراد بها المفاتيح. كذا في رواية أبي ذر، وفي رواية غيره بالعين المهملة وهو المفتاح بلا إشكال. الوَدّ: بفتح الواو وتشديد الدال هو الوتد. وفي رواية: "وضع مفتاح الحصين في كَوة". والكَوّة بالفتح وقد تُضَمّ وقيل: بالفتح: غير النافذة، وبالضمّ: النافذة. (¬3) الأقاليد: جمع إقليد وهو المفتاح. (¬4) يسمر عنده: أي: يتحدثون ليلاً. (¬5) علاليّ: جمع علية بتشديد التحتانية وهي الغرفة. (¬6) نذروا بي: أي: علموا، وأصله من الإنذار وهو الإعلام بالشيء الذي يحذر منه. (¬7) أهويت نحو الصوت: أي قصدتُ نحو صاحب الصوت. (¬8) فما أغنيت شيئًا أيْ لم أقتله. (¬9) في حديث عبد الله بن أنيس: "فقالت امرأته: يا أبا رافع هذا صوت عبد الله بن عتيك فقال: ثكلتكِ أمكِ وأين عبد الله بن عتيك؟. (¬10) في حديث عبد الله بن أنيس: "فقالت امرأته: يا أبا رافع هذا صوت عبد الله بن عتيك فقال: ثكلتكِ أمكِ وأين عبد الله بن عتيك؟.

إن رجلاً في البيت ضَرَبني قَبْلُ بالسيف. قال: فأضربه ضربةٌ أثخنَتْهُ ولم أقتُله، ثم وضعت ضبِيب (¬1) السيف في بطنه حتى أخذ في ظَهِره؛ فَعَرفت أَني قَتلته، فجعلت أفتح الأبوابَ بابًا بابًا حتى انتهيت إلى درجةٍ له، فوضعتُ رجلي وأنا أُرى (¬2) أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلةٍ مقمرة، فانكسرَت ساقي (¬3) فعَصَبْتها بعمامة، ثم انطلقتُ حتى جلستُ على الباب، فقلت: لا أخرج الليلةَ حتى أعلمَ أقتَلته؟ فلما صاحَ الدِّيكُ قام الناعي عَلَى السُّور، فقال: أنعَى (¬4) أبا رافع تاجرَ أهل الحجاز، فانطلقتُ إلى أصحابي، فقلت: النَّجاءَ النجاءَ (¬5)، فقد قَتل اللهُ أبا رافع، فانتهيتُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدَّثته، فقال لي: "ابسُطْ رِجلَك"، فبسطتُ رِجلي، فمَسَحَهَا فكأني لم أشتَكِها قط" (¬6). ¬

_ = وفي رواية: "وغيّرت صوتي كهيئة المستغيث فإذا هو مستلق على ظهره"، وفي رواية ابن إسحاق: "فصاحت امرأته فنوّهت بنا، فجعلنا نرفع السيف عليها ثم نذكر نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء فنكفُّ عنها. (¬1) قال الخطابي: هكذا يُروى، وما أراه محفوظًا، وإنما هو "ظُبَة السيف" وهو حرف حد السيف وُيجمع على ظبات. قال: والضبيب لا معنى له هنا؛ لأنه سيلان الدم من الفم. قال عياض: هو في رواية أبي ذر بالصاد المهملة، وكذا ذكره الحربي وقال: أظنه طرفه. وفي رواية غير أبي ذر بالمعجمة وهو طرف السيف. (¬2) أُرى: أي أظن. وذكر ابن إسحاق في روايته أنه كان سيء البصر. (¬3) فانكسرت ساقي: وفي رواية: "فانخلعت رجلي عصبتها". ويجمع بينهما بأنها انخلعت من المفصل وانكسرت من الساق. (¬4) أنعَى: بفتح العين، كذا ثبت في الروايات، قال ابن التين: هي لغة والمعروف أنعو، والنعي: خبر الموت، والاسم: الناعي. (¬5) النَّجاء: أى: أسرعوا. (¬6) رواه البخاري (4039).

° وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: "بَعَث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي رافع عبدَ اللَّه بنَ عَتيك وعبدَ الله بن عتبة في ناسٍ مَعهم، فانطلقوا حتى دَنَوا مِن الحِصن، فقال لهم عبدُ الله بنُ عَتيك: امكُثوا أنتم حتى أنطلق أنا فأنظر ... قال: فتَلَطَّفُتُ أن أدخلَ الحِصنَ، ففَقُدوا حِمارًا لهم، قال: فخرجوا بقبَسٍ يطلبونه قال: فخشيتُ أن أُعرَفَ، قال: فغَطّيت رأسي كأني أقضِي حاجةً، ثم نادى صاحبُ الباب: مَن أراد أن يدخلَ فَلْيَدْخُل قبل أن أُغلِقه. فدخلتُ، ثم اختبأتُ في مَربط حِمارٍ عند بابِ الحصن، فتعشَّوا عند أبي رافع وتحدَّثوا حتى ذهبت ساعةٌ مَن الليل، ثم رجعوا إلى بيوتهم، فلمَّا هدأت الأصواتُ ولا أسمعُ حَركةً خرجتُ، قال: ورأيتُ صاحبَ الباب حيث وَضَع مفتاحَ الحصين في كُوَّة، فأخذتُه ففتحتُ به بابَ الحصن، قال: قلت: إن نَذِر بي القومُ انطلقتُ على مَهَل، ثم عَمَدتُ إلى أبوابِ بيوتهم، فغلَّقتُها عليهم من ظاهر، ثم صعدت إلى أبي رافع في سُلَّم، فإذا البيتُ مُظلم قد طُفِيء سِراجُه، فلم أدرِ أين الرَّجُلُ. فقلت: يا أبا رافع. قال: مَن هذا؟ قال: فعمدتُ نحوَ الصوت فأضربُه، وصاحَ، فلم تُغْنِ شيئًا. قال: ثم جئتُ كأني أُغيثُه، فقلت: ما لكَ يا أبا رافع -وغيَّرتُ صوتي-؟. فقال: ألا أُعجِبك، لأمِّكَ الوَيْل، دخل علي رَجُل فضربني بالسيف. قال. فعمدتُ له أيضًا فأضربُه أخرَى، فلم تُغْنِ شيئًا فصاح، وقام أهله، قال: ثم سمعت صوتَ العَظْم، ثمَّ خرجت دَهِشًا حتى أتيتُ السلَّم أُريدُ أن أنزل، فأسقطُ منه، فانخلعَتْ رِجلي، فعصَبْتُها، ثم أتيتُ أصحابي أحجُل، فقلت: انطلقوا فبَشَروا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فإني لا أبرَحُ حتى أسمعَ الناعية. فلمَّا كان في وجه الصُّبح صَعِد

الناعيةُ فقال: أنعَى أبا رافع. قال: فقمتُ أمشي ما بي قَلَبة (¬1)، فأدركتُ أصحابي قبل أن يأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبَشَّرتُه" (¬2). ° قال اللواء محمود شيت خَطَّاب عن هذه السَّرِيَّة: "وأمَّر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم عبدَ الله بن عَتِيك، ونهاهم عن قتل النساء والصبيان، فنهضوا حتى أتَوا خيبرَ ليلاً. وكان سَلاَّمٌ ساكنًا في دارٍ في جماعة من يهود، فلم يَدَعُوا بيتًا في الدار إلا أغلَقوه على أهلِه، وكان سَلامٌ في عِلِّيةٍ له إليها عَجَلَة (¬3)، فأسندوا فيها (¬4) حتى قاموا على بابه، فاستأذنوا عليه، فخرجت إليهم امرأتُه، فقالت: "مَنْ أنتم؟ "، قالوا: "ناسٌ من العَرَب نلتمسُ المِيْرَة"، قالت: "ذاكم صاحبُكم، فادخلوا عليه". فلما دخلوا أغلَقوا البابَ على أنفُسهم تخوُّفًا أن تكون دونَه مُجَاولة (¬5) تَحول بينهم وبينه، فصاحت امرأتُه فهمُّوا بقَتلها، ثم ذَكَروا نَهْيَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء، فأمسَكوا عنها، ثم تعاوروه بأسيافهم وهو راقدٌ على فراشه، أبيضَ في سوادِ الليل كأنه قُبْطِيةٌ (¬6) مُلْقَاة، ووضع عبدُ الله بنُ عَتِيك ¬

_ (¬1) قَلْبَة: أي: عِلَّة انقلب بها. (¬2) رواه البخاري- حديث رقم (4040). (¬3) له إليها عجلة: المراد بالعجلة هنا: جذع النخلة، كانوا ينقرون في مواضع منه نقرًا بعضها فوق بعض، ثم يجعلونه، كالسلَّم يصعدون عليه إلى الغرف والأماكن العالية. (¬4) أسندوا فيها: علوا وارتفعوا، وتقول: أسند فلان إلى الجبل: إذا علا فيه وارتفع. (¬5) المجاولة: الحركة تكون بينه وبينهم. (¬6) القبطيَّة: ثوب يصنع بمصر أبيض من الكتان الرقيق، وهي منسوبة إلى القبط على غير قياس.

سيفَه في بطنِه حتى أنفذه، كما تحامَلَ عليه بالسيف عبدُ الله بنُ أُنيس في بطنه حتى أنفذه، وسلامٌ يقول: قَطْنِي .. قَطْنِي، أي حَسْبي حَسْبي. وخرج أفرادُ السَّرية من حُجرة سَلام، وكان عبدُ الله بن عَتِيك سَيِّئ البصر، فوقع من الدرجة فَوُثِئَتْ (¬1) رِجلُه وثئًا شديدًا، فحَمَله أصحابُه حتى أتوا منْهَرًا من مناهِرِهم (¬2)، فدخلوا فيه واستتروا. وخَرَج أهلُ الآطام، وأوقدوا النيرانَ في كلِّ وجهٍ، فلما يئِسوا رجعوا إلى آطامهم. وقال أفرادُ السَّرية: "كيف لنا بأنْ نعلمَ بأنَّ عدوَّ اللهِ قد مات؟ "، فرجع أحدُهم ودخل بين الناس، فوجد امرأتَه ورجالَ يهود حولَه، وفي يدها المصباح تنظرُ في وجهه وتحدَثهم وتقول: "أمَا واللهِ لقد سمعتُ صوتَ ابنِ عَتِيك، ثم أكذبتُ نفسي وقلت: أنَّى ابنُ عَتِيك بهذه البلاد؟ "، قال: "ثم أقبلَتْ عليه تنظرُ في وجهه، ثم قالت: فاظ (¬3) وإلهِ يهود! فما سمعتُ من كلمةٍ كانت ألذَّ إلى نفسِي منها". وقد حَدَّث الذي ذهب يستطلعُ موتَ سَلام أصحابَه بحديثه هذا بعدَ عودته إليهم من مُهمته الاستطلاعية، فأيقنت السَّريةُ بهلاكه. واحتمل أفرادُ السَّرية عبدَ الله بن عَتِيك، وقَدِموا على رسول الله ¬

_ (¬1) وثئت رِجلُه: شبه الفسخ في المفصل، أصاب العظم شيء ليس بالكسر. وقال بعض أهل اللغة: الوثء: تصدُّع في اللحم لا في العظم. (¬2) المنهر: مدخل الماء من خارج الحصن إلى داخله. (¬3) فاظ: مات، قال الراجز: "لا يَدْفِنون عنهم مَنْ فاظا".

- صلى الله عليه وسلم -، فأخبروه بقتل سَلام، واختلفوا عنده في قتله، فكلُّهم يدعيه، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هاتوا أسيافَكم"، فانظر إليها، فقال لسيف عبد الله بن أُنَيْس: "هذا قَتَله، أرى فيه أثرَ الطعام" (¬1). ° قال حَسَّانُ بنُ ثابت وهو يَذكُر قتلَ كعبِ بنِ الأشرف وَقتْلَ سَلاَّم بنِ أبي الحُقَيْق: لِلِه دَر عِصَابةٍ (¬2) لاقَيْتَهُمْ ....... يا ابنَ الحُقَيْقِ وأنْتَ يا ابنَ الأشْرَفِ يَسْرون بالبِيضِ الخفَافِ إليكُمُ ..... مَرَحًا كأُسد في عَرِيْنٍ مُغْرِفِ (¬3) حتى أتوكُم في مَحَل بلادِكُمْ ...... فَسَقَوْكُمُ حَتْفًا بِبِيضٍ ذُفَّفِ (¬4) مُسْتَنْصِرِينَ لِنَصْر دِينِ نَبِيِّهم ...... مُسْتَصْغِرين لكل أمرٍ مُجْحِفِ (¬5) وهكذا تخلَّص المسلمون مِن عدوٍّ لدود (¬6)، وكان إقدامُ عبد الله ¬

_ (¬1) "سيرة ابن هشام" (3/ 314 - 316)، و "الدرر" (195، 196)، "جوامع السيرة" (198 - 200)، و"طبقات ابن سعد" (2/ 90، 91)، وانظر: "مغازي الواقدي" (1/ 391 - 395)، وابن الأثير (2/ 146 - 148). (¬2) العصابة: الجماعة. (¬3) يَسْرُون: يسيرون ليلاً. والبيضِ الرقاق: السيوف. ومرحًا: يروى بفتح الميم والراء جميعًا، وهو مصدر قولك: مَرحَ فلان فهو مَرَحٌ، أي: نشط، وَالْمَرَحُ: النشاط، ويروى بضمِّ الميم وسكون الراء، فهو جمع مَرح - بِزِنَةِ كَتِف-، وهو النَّشيط. والأُسْدُ: جمع أَسَد بفتحتين. العرين: الغابة, وهي: موضع الأسد. والمغرف: الذي الْتَفَّتْ أغصانه. (¬4) ذُفَّف -بضم الذال وتشديد الفاء مفتوحة-: السريعة القتل، تقول: ذففت على الجريح: إذا أسرعت في قتله ولم تمهله. (¬5) الأمر المجحف: الذي يذهب بالنفوس والأموال. (¬6) "سيرة ابن هشام" (3/ 316، 317).

وإقدامُ سَرِيَّتِه إقدامًا فذًّا بمعنى الكلمة. وكما قلنا من قبل: إن أكثرَ أصحابِ المغازي والسِّير -وعلى رأسهم محمدُ بن إسحاق- يَرَون أن الفدائيين الخمسةَ كلَّهم اشتركوا مع قائدهم عبدِ الله بنِ عتيك في القضاء على الشيطان اليهودي، وأن الذي أثبت أبا رافع وقَضى عليه هو عبدُ الله بن أُنيْس. وعلى هذا كلُّ أصحابِ الكتبِ السِّتة والسِّير عدا البخاريَّ الذي ذَكر أن قاتل أبي رافع هو عبدُ الله بن عتيك، لا عبدُ الله بن أنيس، ولم يذكر البخاريّ أن بقيةَ الفدائيين لم يدخلوا الحصن. وليس هناك تناقضٌ بين الروايتين في اشتراك الفدائيين الخمسة في قتله "أما ما جاء في "صحيح البخاري" من أن ابنَ عَتيك قال لبقيةِ رجاله: "ابقُوا مكانَكم حتى انظر"، فليس فيه ما يَنفي اشتراكَهم معه في العملية، إذ يَحتملُ أنه بعدَ أن نظرَ وقام بالاستكشاف رَجَع وأخذَهم معه كقائدٍ مسؤول، وأنه كان يَتحدَّثُ بلسانِ القائد الذي يُنسَبُ إليه فِعلُ كلِّ شيءٍ -حتى وإن لم يكن هو الذي فَعَل كلَّ شيء-. كما أنَّ عدمَ ذِكرِ دَورِ بقيةِ الفدائيين في روايةِ البخاري لا يَنفي اشتراكَهم، إذ يحتمل أن يكونوا ظلُّوا كالحرس يَحْمُون ظَهرَ قائدِهم حتى قام بالقضاءِ على أبي رافع. أما قول ابن عتيك في رواية البخاري: "ثم أتيتُ أصحابي أحجل .. " إلخ، فلا ينفي -أيضًا- اشتراكَهم مع قائدِهم في العملية؛ إذ لا يُستبعد أن يكونوا قد سَبَقوه، فخرجوا قبلَه وتأخَّر هو بسب ما حَدَث له من كَسرٍ في

رجله، ولأن القائدَ عند الانسحاب عادة يكونُ آخِرَ مَن ينسحب. بهذا يتَّضحُ أنه لا تناقضَ ولا تباينَ يُذْكر بين الروايتين" (¬1) إلاَّ في اسمِ قاتل أبي رافع؛ أي: مَن أجهز عليه في النهاية. ° قال ابنُ سعد يَصفُ مطاردةَ اليهود للفدائيين الخمسة: "وصاحت امرأتُه، فتصايَحَ أهلُ الدار، واختبأ القومُ في بعضِ مناهِرِ خيبر .. وخرج الحارثُ أبو زينب (¬2) في ثلاثةِ آلافٍ في آثارهم يطلبونهم بالنيران -أي: بالمشاعل في ظلام الليل-، فلم يروهم، فرجعوا، ومَكَث القومُ -أي الفدائيون- في مكانهم يومين حتى سَكن الطلب، ثم خرجوا مُقبِلين إلى المدينة" (¬3). أبَا رافع لا يَرفعُ اللهُ طاغيًا ...... ولا يَدَعُ الخَصْمَ المُشاغِبَ نَاجيَا جمعتَ من الأحزابِ ما شِئتَ تَبتغي ..... لنفسِكَ من تلكَ العقابيلِ شَافيا (¬4) ورُحتَ تَصُبُّ المالَ في غيرِ هِينةٍ ..... تُرِيدُ بدِينِ المسلمين الدواهيا (¬5) هو ابنُ عتيكٍ إنْ جَهِلتَ وصَحبُه ..... فلستَ بلاقٍ من حمامِكَ واقيا (¬6) يَدُبُّ وقد جَنَّ الظلامُ مُقنعًا ...... يُريدُك مُغتالاً وَيلقاكَ غازيا كأن حِمارَ الحصنِ أُوتيَ رُشدَهُ ...... فأجمعَ ألاَّ يصحبَ الدهرَ غاويا ¬

_ (¬1) "موسوعة معارك الإسلام- خيبر" لبشاميل (ص 93، 94). (¬2) الحارث أبو زينب هذا فارس يهودي شجاع مشهور .. كان أحد الفرسان الذين قُتِلُوا مبارزة أمام حصن مرحب. (¬3) "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 91). (¬4) العقابيل: الشدائد وبقايا العلة أو العداوة، جمع العقبول والعقبولة. (¬5) الهينة: السكينة والوقار. (¬6) الحمام: الموت.

أعان عليكَ السيفَ يكرهُ أن يرى ..... دمًا فاجرًا في مَسْبَح الكُفر جاريًا يقول له البوابُ: ما لك جالسًا ..... وقد دخل الرهطُ الذي كُنتَ رائيا؟ (¬1) إلى الحصنِ فادْخُلْ لَسْتُ تاركَ بابِه ..... لأجلِكَ مفتوحًا ودَعْنِي لِمَا بيا فقامَ ولو يدرِي خَبِئةَ نَفسه ...... أعضَّ وَرِيدَيْهِ الحُسامَ اليمانيا (¬2) ولاحت لِعيَنْيه الأقاليدُ فَانْتَحى ...... يَضُمُّ عليها مِخلَبَ الليثِ ضَاريا (¬3) فلما عَفا السُّمَّارُ أقبلَ صَاعِدًا ...... إلى الأخرقِ المغرور يَعلو المَراقيا (¬4) سَقاه بِحَدِّ الهَنْدوَانِي حَتْفَهُ ...... فَبُورِكْتَ من سيفٍ وبُورِك ساقيا * * * هَوتْ رِجلُه من زَلةٍ قَذفت بهِ ....... إلى الأرضِ في ظَلماءَ تُخفي الدرارِيا (¬5) فما برحتْ حتى أُصِيبَ صَميمُها ....... بِصَدْعٍ فأمَسى وَاهِنَ العَظم واهيا وباتَ يُواري نَفسَهُ في مكانِه ...... ويَزْوَر في بُردَيهِ يَخشَى الأعاديا (¬6) ¬

_ (¬1) ظنَّه البواب من أهل الحصن، فقال له: إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإني أريد أن أغلق الحصن، فدخل فاختبأ يتربص لحاجته. (¬2) يريد بواب الحصن. وَأَعَضَّهُ الْحُسَامَ: جَعَل الْحُسَامَ يَعضُّهُ. (¬3) الأقاليد: المفاتيح. (¬4) الأخرق: الأحمق. والمراقي: الدرجات، جمع المرقى والمرقاة. (¬5) قال ابن عتيك - رضي الله عنه - يذكر ما حدث له بعد قتل أبي رافع: فجعلت أفتح الأبواب بابًا بابًا حتى انتهيت إلى الأرض؛ فوقعت، فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة، ثم خرجت، فكَمُنتُ في موضع، وأوقدت اليهود النيران، وذهبوا في كل وجه يطلبوني، حتى إذا آيسوا رجعوا، فلما صاح الديك صعد الناعي على السور ينعى أبا رافع، قال فأتيت أصحابي أحجل .. إلخ. (¬6) يزورُّ، أي: يميل وينكمش للاستخفاء.

تَنادَوْا فقالوا: فاتكٌ من عَدُوِّنا ...... رَمى السَّند الأعلى فلا كان راميا مَتى جاءَ؟ كيفَ انسل في غَسَقِ الدجَى؟ ...... وماذا جَرى مَن كان للحصنِ حاميا؟ (¬1) مِنَ الجِنِّ هذا أم من الإِنس يا لَهُ ...... مُصابًا يُنسِّينا الخُطوبَ الخواليا؟ وراحوا سِراعًا مُهطِعينَ يَهيجُهم ....... طِلاب الذي ما زال في الحِصْنِ ثاويا (¬2) فما تركوا في أرضِ خَيبرَ بقعةً ....... ولا غادروا مما هُنالكَ واديا وعادُوا يَعَضُّونَ البنان ولو رَأَوْا ..... مكانَ الردى المجتاحَ ألفَوْهُ جَاثيا فما زالَ حتى أذَّنَ الديكُ وانْبَرى ....... مِنَ القومِ داعٍ يَرفعُ الصوتَ ناعيا هنالِك وافى صحبه فتحدَّبُوا ...... عليه وكان الظنُّ أنْ لا تلاقيا (¬3) فتًى يركبُ الأهوالَ لا يتَّقِي الردى ..... ولا يتوقَّى الحتفَ يَلقاه عاديا قُصارَاهُ أن يَرْعَى رَبَّه ........ ويلقى رسولَ الله جَذْلانَ راضيا (¬4) شَفَى رِجلَه مما بها فكأنها ...... بِخَيبرَ لم تُكْسَرْ ولم يَكُ شاكِيا * * * أبا رافع ماذا لَقِيتَ بحُفرةٍ ...... طَوَتْ منكَ جبارًا قضَى العُمر َعاتيا؟ عَكفتَ على البَغي المُذمَّم والأذَى ..... فَذُبْ أسفًا واعْكُفْ على النارِ صَاليا ° قال الحافظ ابن حجر بعد ذِكره أحاديث قتل أبي رافع: "وفي هذا الحديث من الفوائد: جوازُ اغتيالِ المشرِك الذي بلَغَتهُ الدعوةُ وأَصَرَّ، وقتل ¬

_ (¬1) غسق الدجى: ظلمة الليل. (¬2) المهطع: من ينظر في ذلٍّ وخضوع. (¬3) تحدَّب عليه: تعطَّف وحنا. (¬4) القُصارى: الجهد والغاية، وقصاراه أن يفعل كذا، أي: غاية جهده وآخر أمره وكل مستطاعه هو أن يفعل كذا.

الشيطان خالد بن سفيان الهذلي -لعنه الله-

من أعان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده أو ماله لسانه، وجوازُ التجسُّس على أهل الحرب وتطلُّبِ غِرَّتهم، والأخذِ بالشدَّة في محاربة المشركين" (¬1). رضي الله عن بطلَيِ الإسلام -عبد الله بن عَتيك، وعبد الله بن أُنيس- وإخوانِهم الذين أراحوا المسلمين من اليهوديِّ الخبيث أبي رافع الطاغية اللعين. الشيطان خالدُ بن سفيان الهُذَلي -لعنه الله-: هو خالدُ بنُ سفيانَ بن نُبَيْح الهُذَلي، كان عدوًّا لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يجمعُ الجموعَ لحربِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخذه اللهُ أخذَ عزيرٍ مُقتدِر على يَدِ بطلٍ من أبطال الخزرج، وهو عبد الله بن أُنيْس الجُهَنيّ الأنصاريُ .. وكان عبدُ الله وحدَه هو السَّرِية المسمَّاة في المغازي لقتل خالد بن سفيان الهذلي (¬2). خَرَج عبد الله من المدينة يومَ الإِثنين لخمسِ ليالٍ خَلَوْن من شهرِ المحرم، على رأسِ خمسةٍ وثلاثين شهراً من الهجرة -أي: من السنة الرابعة الهجرية-، فغاب عنها ثمانيَ عشْرةَ ليلةً، وقَدِم يومَ السبت لسبعٍ بَقِينَ من المحرم (¬3)، بعد أن أدَّى واجبَه الذي أمره به النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (7/ 400). (¬2) انظر: "موسوعة الغزوات الكبرى" "صلح الحديبية" لبشاميل (ص 87)، و"سيرة ابن هشام" (3/ 314 - 316) وصحيح البخاري "فتح الباري" (5/ 210 - 212)، و"البداية والنهاية" (4/ 139). (¬3) "المغازي الواقدي" (1/ 3)، وفي (1/ 4) أنها كانت سنة ستة الهجرية في شهر المحرم، وفي "طبقات ابن سعد" (2/ 50): أنها في السنة الرابعة الهجرية؛ كما جاء في "مغازي الواقدي" (1/ 3)، فأخذنا بذلك.

فقد بَعَثه النبي - صلى الله عليه وسلم - في سَريةٍ مؤلَّفةٍ منه وحده إلى خالدِ بن سُفيان بن نُبَيْح الهُذَلي الذي كان بِعُرَنة (¬1) يجمعُ الجموعَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ليغزوَه، فقتله عبدُ الله وعاد برأسه إلى المدينة المنورة. • قال عبدُ الله: "دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إنه قد بَلَغني أن ابنَ سفيان بن نُبَيْح الهُذَلِي يجمعُ لي الناسَ ليَغزوَني، وهو بنَخْلَة (¬2) أو بعُرَنة، فأتِهِ فاقتله". قلت: يا رسول الله، انْعِتْه لي حتى أعرِفَه، فقال: "إنك إذا رأيتَه أذكَرَك الشيطانَ، وآيةُ ما بينك وبينه أنك إذا رأيته وجدتَ له قُشَعْرِيرَة" (¬3). ° فخرجتُ متوشِّحاً سيفي، حتى دَفعتُ إليه وهو في ظُعُنٍ (¬4) يرتادُ (¬5) لهنَّ منزلاً (¬6)، وحيث كان وقتُ العصر، فلمَّا رأيته وجدتُ ما قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من القُشَعْرِيرَة، فأقبلت نحوه، وخَشِيتُ أن تكون بيني وبينه مجاولةٌ تَشغَلُني عن الصلاة، فصلَّيتُ وأنا أمشي نحوه أومِئُ برأسي، فلمَّا انتهيت إليه قال: مَنْ الرجل؟ قلت: رجلٌ من العَرَب سَمع بك وبجَمْعك لهذا الرجل، فجاءك لذلك، قال: أَجَلْ (¬7) إني لفي ذلك. فمشَيتُ معه شيئًا، حتى إذا أمكنني حَمَلتُ عليه بالسيف، فقتلتُه، ثم ¬

_ (¬1) عُرنة: موضع بقرب جبل عرفة موضع الحجيج، انظر: "شرح الزرقاني على المواهب اللدنيَّة" (2/ 76). وعرنة: وادٍ بحذاء عرفات. (¬2) نخلة: موضع بالحجاز قريب من مكة. (¬3) القشعريرة -بِزِنَةِ الطمأنينة-: رعدة وارتعاش، كارتعاش المحموم. (¬4) الظعن: جمع ظعينة، وهي: المرأة. (¬5) يرتاد: يطلب. (¬6) المنزل: موضع النزول. (¬7) أجل: كلمة جواب، مثل: نعم.

خرجت وتركتُ ظَعائِنَه مُنْكَبَّاتٍ عليه. فلمَّا قدمتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآني قال: "أفْلَحَ الوجهُ"، قلتُ: قد قتلتُه يا رسول الله (¬1)، ووضعتُ رأسَه بين يديه، وأخبرتُه خبري" (¬2). وهكذا استطاع عبدُ الله وحده، ببطولته الفذَّة، وإقدامِه النادر، أن يقضيَ على فِتنة الهُذَلي التي كان يُعِدُّها ويستعدُّ لها، ويُنهي خُطَطَه في حربِ الإسلام والمسلمين. قال عبد الله بن أنيس في ذلك: تركتُ ابنَ ثَوْرٍ كالحُوار وحولَه ..... نوائحُ تَفْرِي كل جَيْبٍ مُقَددِ (¬3) تناولتُهُ والظُّعْن خَلفي وخَلفَهُ ...... بأبيضَ من ماءِ الحديد مُهَنَّدِ (¬4) عَجُومٍ لِهَامِ الدار عَينَ كأنه ...... شِهابُ غَضًا من مُلهَب مُتَوَقِّدِ (¬5) أقول له والسيفُ يَعْجُمُ رأسَه ..... أنا ابنُ أُنَيْس فارسًا غيرَ قُعْدَدِ (¬6) ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" (2/ 50، 51)، و"مغازي الواقدي" (2/ 531 - 533)، و"سيرة ابن هشام" (293/ 4، 294). (¬2) "مغازي الواقدي" (2/ 533). (¬3) الحُوار: ولد الناقة إذا كان صغيرًا. وتفري: تقطع. (¬4) بأبيض: يريد به سيفًا. والمهنَّد: السيف المنسوب إلى الهند، ويقولون: سيف هندي، وهندواني، ومهنَّد. (¬5) عجوم: هو من صفات الأبيض وهذه صيغة مبالغة من العَجْم، وهو: العض وزنًا ومعنى. والهام -هاهنا-: الرؤوس. والشِّهاب -بِزِنَةِ الكتاب-: القطعة من النار. والغضا: شجر يشتدُّ التهاب النار فيه. والمُلهَب: اسم مفعول من ألهبتَهُ، إذا أوقدتَ فيه النار. (¬6) القعدد: اللثيم الدَّنيء القاعد عن الحرب والمكارم.

أنا ابنُ الذى لم يُنزِل الدهرُ قِدْرَهُ ...... رَحِيْبُ فِنَاءِ الدار غيرُ مُزَندِ (¬1) ° ولله درُّ القائل مثنيًا على البطل ابن أنيْس: سَرِيةٌ أنتَ وَحْدَكْ ...... فَاجْعَلْ سَجَاياكَ جُنْدَكْ لاَ تَخْشَ يا ابنَ أَنيس ...... فليس سُفيانُ نِدَّكْ احْشُدْ قُواكَ وَخُدْهُ ...... فليس يَسْتطِيعُ حَشْدَكْ إنْ غَرَّهُ حَدُّ عزم ....... فَسَوفَ يَعرِفُ حَدَّك يَهولُ في الوصفِ جِدًّا ...... حَتى لَيَعْظُمُ عِنْدَكْ لَكِنهُ اللهُ أعلى ...... عليهِ في البأسِ جَدَّكْ أَقْبِلَ فتى البأسِ أَقْبِل ...... وَاعْمَلْ لربكَ جُهْدَكْ * * * أَخَذْتَهُ بِخِلابٍ ...... كَذَبْتَهُ فيه وُدَّكْ (¬2) أوردتَهُ القَولَ حُلوًا ...... ولو دَرى عَافَ وِرْدَكْ (¬3) وَيْلُمِّهِ من غَبي ...... لو كان يعرف قصدَكْ (¬4) أحْبِبْ بِهِ من رسولٍ ..... لِقَتْلِه قد أعدَّكْ يَظن أنك ضِدٌّ ..... له فَدُونَكَ ضِدَّكْ (¬5) ¬

_ (¬1) رحيب: متَّسع، وأصله من الرحب، وهو: الفضاء. والمزند: الضيِّق البخيل. (¬2) الخلاب: الخداع بلطيف الكلام. (¬3) عافه: كرهه، فتركه. (¬4) وَيْلُمِّه: أصلها: ويلٌ لأمِّه. (¬5) الضدُّ: المثل والنظير.

بُورِكْتَ يا ابن أُنيس ..... من فارسٍ ما أشدَّكْ! ضرَبْتَهُ فَتَرَدَّى ...... وكان ذلك وَكْدَكْ (¬1) وَعُدْتَ لا مَجدَ إلا ..... أراه يَحْسُدُ مَجْدَكْ * * * سُفيانُ هل كنتَ طَودًا .... فمن رماكَ فهَدَّكْ؟ أم كنْتَ للشرِّ ذُخرًا ...... تَخشى الطواغيتُ فَقْدَكْ؟ (¬2) أوْدَى بِكَ ابنُ أنيسٍ ...... فَأقفَرَ الحيُّ بَعْدَكْ وَرَدَّ عِزَّكَ ذُلاًّ ...... فما تُصَعِّرُ خَدَّكْ (¬3) مَلأتَ صدركَ حِقدًا ...... فهل شَفَى السيفُ حِقْدَكْ؟ وَمِتَّ مِن قَبلُ وَجدًا ....... فهل مَحَا الموتُ وَجْدَكْ؟ أين الجموعُ؟ أتَدرِي ....... مَن خَطَّ في التُرْبِ لَحْدَكْ وأين رأسُك؟ هلاَّ ...... صَدقْتَ نفسَكَ وَعْدَكْ؟ أَغواك جَهلُكَ حَتى ..... لَقِيتَ في النارِ رُشْدَكْ أنضَجتَ نفسَكَ غَيظًا ..... فاليومَ تُنضِجُ جِلدَكْ يَغيظُك الدينُ حَقًّا ..... فأنت تَقْدَح زَنْدَكْ (¬4) هَيَّجْتَ للشر وَقْدًا ...... فأين غادرتَ وَقْدَكْ؟ (¬5) ¬

_ (¬1) الوكد: المراد والقصد. (¬2) الطواغيت: جمع الطاغوت، وهو: الشيطان وكل معبود دون الله. (¬3) صَعَّرَ خده: أماله عن النظر إلى الناس، تهاونًا وكبرًا. (¬4) الزند: العود الأعلى الذي يقتدح به الناس. (¬5) الوقد: النار.

المجرم ملك خيبر: أسير بن رازم -لعنه الله- "اليسير بن رزام"

ياصاحِبَ الغارِ مَن ذَا ...... بِنَصرِهِ قد أمَدَّكْ (¬1)؟ أليس ربَّكَ؟ فَاجْعَلْ ..... لهُ على الدهرِ حَمْدَكْ رَدَّ العِدَى لم يفوزوا ...... وأنتَ بالفوزِ رَدَّكْ ألقِ الهديةَ (¬2) وَاسْحَبْ ..... في ساحَةِ الفَخرِ بُرْدَكْ دَعَا الرسول وأَثْنى ...... فَاحْمَدْ لكَ الخَيرُ رِفْدَكْ (¬3) وقلْ: تباركتَ ربي ..... يَسَّرْتَ للخيرِ عَبْدَكْ * المُجرم مَلِك خيبر: أُسَيْر بن رازم -لعنه الله- "اليُسيْر بن رزام": اسُمه الذي اشتُهر به هو "اليُسير بن رزام"، واسمُه عند الواقديِّ: "أسَيْر بن رازم" (¬4). كان هذا المجرُم قائدًا من كِبار قوَّاد اليهود، وكان مِلَكًا على خيبر بعد قتل أبي رافع سَلاَّمِ بن أبي الحُقيق، وكان يَجمعُ غَطَفانَ لغزوِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة المنورة. ° قال هذا اللعينُ لقومه: "واللهِ ما سَاحَ محمدٌ إلى أَحَدٍ من يهود، ولا بَعَث أحدًا من أصحابه إلا أصابَ منهم ما أراد، ولكني أصنعُ ما لم يَصنعْ أصحابي. قالوا: وما عَسَيتَ أن تصنعَ؟ قال: أسِيرُ في غطفان؛ ¬

_ (¬1) أسرع القوم خلف عبد الله بن أنيس - رضي الله عنه - بعد أن قَتَلَ سفيان، فاختبأ في غار كان في طريقه، ونجاه الله منهم. (¬2) هي رأس سفيان ألقاها بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففرح وأثنى عليه. (¬3) الرَّفد بفح الراء: النصيب، وبكسرها: العطاء. (¬4) "سيرة ابن هشام" (4/ 292، 293)، وانظر "مغازي الواقدي" (2/ 566).

فأجمعُهم، ونسير إلى محمد في عُقرِ داره؛ فإنه لم يُغْزَ أحدٌ في عقر داره إلاَّ أدرك منه عدوّه ما يريد". انتدب له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثين، على رأسهم عبدُ الله بنُ رواحة، قَدِموا على أُسيْر، فقالوا: "نحن آمنون حتى نعرِضَ عليك ما جئنا له؟ ". قال: "نعم، ولي منكم مثل ذلك؟ "، فقالوا: "نَعَمْ". فقالوا لأُسَير: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثنا إليك لتخرجَ إليه؛ فيستعمِلَك على خيبر ويحسِن إليك" فطَمع في ذلك وخَرَج، وخر معه ثلاثون رجلاً من يهود، مع كل رجل رديفٌ من المسلمين، حتى إذا كانوا بـ "قَرْقَرة ثِبار"، ندِم أُسير، وفكَّر بالخيانة، قال عبدُ الله بن أُنيس -وكان في السَّرية -: "وأهوى بيده إلى سيفي، ففطِنتُ له، ودفعتُ بعيري، وقلتُ: غَدْرًا -أيْ عدوَّ الله -!! فعل ذلك مرتين، فنزلتُ، فسُقْتُ بالقوم حتى انفرد لي أُسير، فضربته بالسيف، فأنذرت عامَّةَ فخِذه وساقه , وسَقَط عن بعيره وبيده مِخْرَش (¬1) من شَوْحَط (¬2)، فصرَبني فشجَّني، ومِلْنا على أصحابه , فقتلناهم كلَّهم غيرَ رجل واحد أعجَزَنا شدَّا ,ولم يُصَبْ من المسلمين أحدٌ، ثم أقبلنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحدَّثناه الحديث، فقال: "نجّاكم اللهُ منَ القوم الظالمين" (¬3). فبُورك عبدُ الله بن أنيس من بطلٍ مغوار، يُورد ثلاثةً من كبارِ شانئي الرسول - صلى الله عليه وسلم - النار. ¬

_ (¬1) المخرشة: عصا معوجَّة كالصَّوْلجان. (¬2) شوحط: ضرب من شجر جبل السَّراة تتخذ منه القسي واحدته: شوحطة. (¬3) "طبقات ابن سعد" (2/ 92، 93)، و "مغازي الواقدي (2/ 566 - 568).

° ولله درُّ أحمد محرم حين يقول: أأنت يا ابنَ رِزامٍ تَغلِبُ القَدَرا؟ ...... جَرِّبْ لك الويلُ من غِرٍّ وسوف تَرى جَرِّبْ أُسَيْرُ ولا تجزعْ إذا عَثَرَتْ ..... بك التجاريبُ إنَّ الحُرَّ مَنْ صبرَا كذبتَ قومَك إن الحقَّ ليس له ...... من غالبِ فَاعْتَبِرْ إن كنتَ مَعتَبِرا هيهاتَ ما لكَ إلاَّ الغَيُّ تتبعُه ...... والغيُّ يتبعُه في الناسِ مَن فجرا بِئسَ الأميرُ وبئسَ القومُ إذ جعلوا ...... لك الإِمارةَ كيما يُدركوا الظفَرا الظافِرونَ بنو الإِسلام لا فَزَعًا ...... يرى العِدَى في الوغَى منهم ولا خَوَرا (¬1) هم الأُلي يُلبِسونَ الحربَ زِينتهَا ...... إذا تَعَرَّتْ وَولَّى الذادةُ الدُّبُرَا ماذا تُحاوِلُ بالأشياعِ تَنْدُبُهم ...... حاولت يا ابن رِزامٍ مطلبًا عَسِرَا ظَنَنْتَها غزوةً تَخْفَى مكائدها ....... فما احتيالُك في السر الذي ظَهَرا؟ لو لم يُوافِ رسولَ الله مُخْبِرُهُ ........ وافاهُ مِن ربِّه مَن يحملُ الخَبَرَا كم فَضَّ جِبريلُ من صَمَّاءَ مُغْلَقَةِ ....... أَنْحَى على سِرِّها المكنونِ فاشتُهرا (¬2) * * * على أبي رافعٍ فَلتَبْكِ من أسَف ..... وَاسْتَبْقِ نفسَك إِنْ كُنْتَ امْرأً حَذِرَا ذَلَّتْ يهودُ فما يُرْجَى لها خَطَرٌ ...... عَلَى يَدَيْ مَن نهى فيها ومَن أمَرَا دَعْهَا أسيرُ لكَ الويلاتُ من رَجُلٍ ...... ضَلَّ السبيلَ فأمسى يَرْكَبُ الغَرَرَا (¬3) ألستَ تُبصِرُ عبدَ الله في نَفَرٍ ....... أَعْظِمْ به وبهم مِن حَوْله نَفَرا؟ ¬

_ (¬1) الفزع: الذعر. والخوَر: الضَّعف. (¬2) أنحى على الشيء: أقبل. (¬3) الغَرَرُ: التعريض للهلكة.

جاؤوك يا ابنَ رِزَام لو تُطاوِعُهم ...... لأذهبَ اللهُ عنك الرِّجْسَ والوَضَرَا (¬1) لكنك المرءُ لو ترميهِ صاعقةٌ ....... تنهاهُ عن نَزعات الغَيِّ ما ازْدَجَرا رَدُّوا لك الخيرَ تُسدِيهِ إليك يدٌ ...... ما مِثلُها من يد نفعًا ولا ضررا قالوا انطلقْ معنا إِنْ كنتَ منطَلقًا ...... فَأتِ الرسولَ وسَلْهُ تبلغِ الوَطَراَ ما شئِتَ مِن سُؤْدُدٍ عالٍ ومِن شَرَفٍ ....... على اليهود، ويَجْزِي اللهُ مَن شكرًا أبَى وراجَعَهُ مِن نفسه أَمَلٌ ....... أغراه بالسير حتى جَدَّ مُبتَدِرَا ثم انْثنى يتمادَى في وَسَاوِسِه ...... يظن ذلك رأيًا منه مُبتَسَرَا واختارَها خُطةً شنعاءَ ماكرةً ....... فحاق بالجاهلِ المأفونِ ما مَكَرا أرادَ شَرًّا بعبد الله فانبعثتْ ........ منه صَرِيمةُ عادٍ ينقضُ المِرَرَا (¬2) رآهُ أخونَ من ذئبٍ فعاجَلَهُ ...... بالسيف يُورِدُه منه دَمًا هَدَرَا (¬3) وانْقضَ أصحابُه يَلْقُونَ مَن مَعَه ..... من قومه فاسْتَحر القتلُ واسْتَعَرا لم يَتركِ السيفُ منهم وَهْوَ يأخذُهم ...... إلا حُشَاشةَ هافٍ يَسبقُ البَصَرَا (¬4) مضى مع الريح لا يأسَى لمهلكِهم ........ ولا يُبالي قضاء الله كيفَ جَرَى كذلك الغدرُ يَلقَى الويلَ صاحِبُه ........ وكيف يأمن عُقْبَى السوءِ مَن غَدَرا * * * ¬

_ (¬1) الرجس: القذر، والوضر: الوسخ. (¬2) الصريمة: العزيمة. والمِرر جمع المِر؛ وهو الحبل. ونقضه: أي حله؛ كناية عن نقض العهد. (¬3) هَدرًا: أى: باطلاً. (¬4) هو الرجل الذي هرب. والحُشاشة: بقيّة الروح في المريض. والهافي: المُسرع.

عدوة الله ورسوله بوادي القرى، أم قرفة -لعنها الله-

* عَدُوَّةُ اللهِ ورسوله بوادي القرى، أمُّ قِرْفة -لعنها الله-: كانت العرب تقول: "لو كانت أعزَّ من أم قِرفة"؛ لأنها كانت يُعَلَّق في بيتها خمسون سيفًا كلُّهم لها ذو محرم. واسم أمِّ قرفة: فاطمة بنت ربيعة بن بدر الفَزَارية بوادي القرى على سَبعِ ليال من المدينة، وهي سيِّدةُ قومها، ضُرب بها المثل في المَنَعة: "أمنِع من أمِّ قرفة" .. جَهَّزت -لعنها الله، وقد فعل- ثلاثين راكبًا مِن ولدها وولَدِ ولدها، وقالت لهم: "اغزُوا المدينةَ واقتلوا محمدًا" .. فأرسل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - زيدَ بنَ حارثة -رضي الله عنه - على رأسِ سَرِيةٍ إلى أمِّ قِرفة في شهر رمضان في السنة السادسة الهجرية إلى وادي القرى، وخرج المسلمون من المدينة يَكمُنون النهار ويسيرون الليل، وقصدوا فَزارةَ في الليل حتى صَبَّحوهم، ثم أحاط زيدٌ ومَن معه بفزارة في بيوتهم، وكبَّر زيدٌ وكبَّر الصحابة، وقَتل قيسُ بنُ المُحَسِّر أمَّ قرفة، وعاد زيدٌ إلى المدينة، فقرع بابَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخرج إليه مسرعًا واعتنقه وقبَّله، فأخبره زيدٌ بانتصارِه وغَنائمه. وأما جاريةُ بنت أم قرفة، فوهبها النبي - صلى الله عليه وسلم - لخاله حَزْنِ بن أبي وهب، فولدت له امرأةً ليس له منها ولدٌ غيرها (¬1). وحاقَ بأمِّ قِرْفَةَ ما أرادتْ ...... بأَكرمِ مَن تُفَدَّى الأُمَّهاتُ أرادت قَتْلَه فَجَرَى عليها ...... قَضَاءُ القتل، وانْتَصَفَ القُضَاةُ فيا لكَ منظرًا عَجَبًا تناهتْ ...... به الصُّوَرُ الرَّوائِع والصِّفَاتُ أُحيطَ بها وبابنتها جميعًا ....... فما نَجَتِ العجوزُ ولا الفتاةُ ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" (2/ 90، 91)، و"مغازي الواقدي" (2/ 564، 565).

عدوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عصماء بنت مروان- لعنها الله -

لِتِلكَ جزاؤهُا المُرْدِي، وهذي ....... لها الأَسْرُ المُبَرَّحُ والشَّتَاتُ حَباها خالَه في غير ضنٍّ ....... وأين من الضَّنينِ المَكْرُمَاتُ؟ تَأمَّلتُ الحياةَ وكيفَ تبقى ....... حقائِقُها وتمضي التُّرَّهَاتُ وقيل: أُخذت أم قِرفة ورُبطت رجلاها بحبليْن شُدَّا إلى بعيريْن؛ فشقّاها. * عَدُوَّةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: عَصماءُ بنتً مروان- لعنها الله -: كانت عصماءُ بنتُ مروانَ من بني أُمَيَّة بن زيد، وكانت عند يزيدَ بن زيد بن حِصْنِ الخَطْمِي، وكانت تَعيبُ الإسلام وتُؤذِي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتقولُ الشِّعْر (¬1). فقالت تَعيبُ الإسلامَ وأهْلَه: بإسْتِ بَنِي مالكٍ والنَّبِيبِ ....... وعَوْفٍ وَبِاسْتِ بني الخزْرجَ أًطَعْتُمْ أَتَاوِيَّ (¬2) مِنْ غَيْرِكمُ ..... فلا من مِرُادٍ ولا مَذْحِجِ (¬3) ترَجُّونَه بَعْدَ قتْلِ الرؤُوسِ (¬4) ...... كما يُرْتَجَى مَرَقُ المُنْضِجِ أَلاَ أَنِفُ (¬5) يبتغي غِرَّةً (¬6) ...... فيقطَعَ مِن أَمَل المُرتَجِى! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينَ بلغه ذلك: "ألآ آخِذٌ لي من ابنة مَرْوان؟ ". ¬

_ (¬1) "طبقات ابن سعد" (2/ 27). (¬2) الأتاوي: الغريب. (¬3) مراد ومذحج: قبيلتان من قبائل اليمن. (¬4) الرؤوس: أشراف القوم. (¬5) الأَنِف: الذي يترفَع عن الشيء ويُكبِرُ نفسَه عنه. (¬6) الغرة: الغفلة وروي أيضًا "ألا أنِف يبتغي عِزَّة".

وكان ذلك لخمسِ ليالٍ بَقِينَ من رمضان على رأسِ تسعةَ عشَرَ شهرًا من هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -أي: في السنة الثانية الهجريَّة-، فسَمع ذلك من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عُمَيرُ بنُ عَدِيٍّ الخَطْمِيُّ الأَوسيُّ وهو عنده، فلَّما أمسى من تلك الليلة سَرَى عليها في بيتها، فقتلها. وأصبح عميرٌ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "يا رسول الله! إني قد قتلتُها"، فقال: "نصرتَ اللهَ ورسولَه يا عُمَيْر"، فقال: "هل عليَّ مِن شأنها يا رسول الله؟ ". فقال: "لا يَنتطحُ فيها عَنْزَان" (¬1). ورَجَع عميرٌ إلى قومه، وبنو خَطْمةَ يومئذ مَوْجُهُم (¬2) كثيرٌ في شأنِ بنت مروان، ولها يومئذٍ بنون -خمسةُ رجال-، فلما جاءهم عميرٌ من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا بني خطمة! أنا قتلتُ ابنةَ مروان، فكِيدوني جميعًا ثم لا تنظرون" .. فذلك اليوم أولَ ما عزَّ الإسلام في دار بني خَطمْة، وكان يَستخفي بإسلامه فيهم مَن أسلم، وأسلمَ يوم قُتِلت ابنةُ مروان رجالٌ من بني خَطمة، لِمَا رأوه مِن عزِّ الإسلام (¬3). ويبدو أن سكوت أبناءِ عصماء وإخوتها عن أخذِ الثأر منَ عمير؛ لأن عُمَيرًا كان من أشرافهم، ولأنَّ الإسلامَ فشا فيهم، ولأنهم خافوا المسلمين الذين أصبحوا قوةً ضاربةً بعد انتصارهم في غزوة بدر. ¬

_ (¬1) يريد أن شأن قتلها هين لا يكون فيها طلب ثأر. (¬2) موجهم كثير: أراد به اختلاط كلامهم. (¬3) "سيرة ابن هشام" (4/ 313 - 315)، و"طبقات ابن سعد" (2/ 27، 28)، و"مغازي الواقدي" (1/ 172 - 174).

وفي عصماءَ -لعنها الله- قال حسَّانُ بن ثابت: بنو وائل وبنو واقفٍ ....... وخَطمَةَ دونَ بني الخزرجِ متى ما دَعَتْ سَفَهًا وَيْحَها ..... بَعَوْلَتِها والمنايا تَجِي (¬1) فَهَزَّت فتًى مَاجِدًا عِرْقُه ...... كَريمَ المداخِل والمَخْرَجِ فَضَرَّجها من نَجيع الدِّمَا ....... ء بعدو الهدو فلم يَحْرَجِ (¬2) فأورَدَك اللهُ بَرْدَ الجِنان ....... جَذْلاَنَ في نعمة المَوْلَجِ ° فلله درُّ عميرٍ من غيورٍ على رسوله - صلى الله عليه وسلم - .. وقد رُوي أنه قتل أخته؛ لأنها شتمت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). * * * ¬

_ (¬1) العَوْلة: المَرَّة من العويل؛ وهو: البكاء مع ارتفاع الصوت. تجي: تجيء. (¬2) ضرّجها: لطَّخها. النجيع هنا: الكثير .. بعد الهدو: بعد ساعة من الليل. لم يحرج: هو من الحرج وهو الإثم. وفي "مغازي الواقدي" (1/ 174). فضرّجها من نجيع الدماء ...... قُبيل الصباح ولم يحرج وذكر الواقدى أن حسان بن ثابت قال هذه القصيدة يمدح عمير بن عدي لقتله عصماء. (¬3) "الاستيعاب" (3/ 1217).

مدعو النبوة والألوهية

مُدَّعو النُّبُوَّة والألُوهِيَّة

مُدَّعُو النّبوَّة والأُلُوهيَّة عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قاَل رسول اَلله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقومُ الساعةُ حتى يقتتلَ فئتانِ، فيكونَ بينهما مَقْتَلةٌ عظيمة، دعواهما واحدة، ولا تقومُ الساعةُ حتى يُبعث دجَّالون كذَّابون قريبًا من ثلاثين , كلُّهم يزعُمُ أنه رسولُ الله" (¬1). • وعن ثوبانَ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"لا تقومُ الساعة حتى تَلحَقَ قبائلُ من أمَّتي بالمشركينَ، وحتى تُعبدَ الأوثانُ، وإنه سيكون في أمَّتي ثلاثون كذَّابًا، كلُّهم يزعُمُ أنه نبيٌّ وأنا خاتَمُ النبيين، لا نبيَّ بعدي" (¬2). • وعند أبي داود: " ... وإنما أخافُ على أمتي الأئمةَ المضلِّين، وإذا وُضِع السيفُ في أمتي لم يُرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعةُ حتى تلحقَ قبائلُ من أمتي بالمشركين، وحتى تَعبُدَ قبائلُ من أمتي الأوثانَ، وإنه سيكون في أمتي كذَّابون ثلاثون، كلُّهم يزعُم أنه نبيٌّ، وأنا خاتمُ النبيين لا نبيَّ بعدي، ولا تزال طائفةٌ من أمَّتي على الحقِّ ظاهرين لا يَضُرهم مَن خالَفَهم حتى يأتيَ أمرُ الله تعالى". • وعن جابرِ بن سَمُرةَ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ بيْن يَدَيِ الساعةِ كذَّابين، فاحذروهم" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6/ 616)، ومسلم (4/ 2240)، وأحمد، وأبو داود (11/ 323)، والترمذى. (¬2) صحيح: رواه الترمذي، والحاكم في "المستدرك" وصححه، وكذا وواه أبو داود، وابن ماجه وصححه الألبانى في "صحيح الجامع" (7418). (¬3) رواه مسلم (4/ 2239)، واحمد (5/ 86، 90، 92, 94، 96، 100, 101.=

ابن صياد مدعي النبوة

• وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ بين يَدَي الساعةِ ثلاثين دَجَّالاً كذَّابًا" (¬1). • وعن أبي سعيد الخُدْريِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقومُ الساعةُ حتى يخرجَ ثلاثون كَذَّابًا رِجالاً كلُّهم يَكذِبُ على الله -عز وجل- ورسوله" (¬2). وكلُّ هذه الدعاوَى الباطلةِ وهذا الزورُ لا يَنطَلِي على مَن لديه أدنى نور ببصيرته، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] .. مَن ليس يَفتحُ للضياء عيونَه ...... هيهاتَ يومًا واحدًا أن يُبصرَا * وصَدَق الله تعالى إذ يقول: { .. فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17]. وهذه سنة الله في خلقه. وسنشرعُ في ذِكرهم بحول الله وقوَّته. * ابن صَيّاد مُدّعِي النّبوّة: * عن ابن عمر - رضي الله عنه - "أن عُمَرَ انطَلَق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في رَهْطٍ قِبَلَ ابنِ صيَّاد، حتى وجدوه يلعبُ مع الصبِّيان عند أُطُم بني مَغالة، وقد قارب ابنُ صيادٍ الحُلُمَ، فلم يَشعُرْ به حتى ضَرَب النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بيده، ثم قال لابن صيَّاد: "تَشْهَد أني رسولُ الله؟ " فنظر إليه ابنُ صياد فقال: أشهدُ أنك رسولُ الأميِّين (¬3). فقال ابنُ صيَّاد للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أتشهدُ أني رسول الله؟ فرَفَضَه، ¬

_ =106, 107) (¬1) صحيح: رواه أحمد في "مسنده"، وصححه الألباني في "الصحيحة" (1683). (¬2) صحيح: رواه أحمد في "مسنده" (2/ 450)، وصححه الشيخ شعيب الأرنؤوط. (¬3) قال الحافظ في "الفتح" (6/ 173): "فيه إشعارٌ بأن اليهود الذين كان منهم ابن صياد =

وقال: "آمنتُ بالله وبرُسُله" (¬1). "فقال له: "ماذا ترى؟ " قال ابن صياد: يأتيني صادقٌ وكاذب (¬2)، فقالَ له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خُلِّط عليك الأمر" (¬3)، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني قد خبَّأتُ لك خَبيئًا" (¬4). فقال ابنُ صيَّاد: هو "الدُّخ"؟ ¬

_ = كانوا معترفين ببعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكِنْ يدّعون أنها مخصوصة بالعرب، وفساد حجتهم واضح جدًّا؛ لأنهم إذْ أقرّوا بأنه رسول الله استحال أن يكذب على الله، فإذا ادَّعى أنه رسوله إلى العرب وإلى غيرهم تعين صدقه، فوجب تصديقه". (¬1) قال الزين بن المنير: "إنما عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسلام على ابن صياد بناءَ على أنه ليس الدجّال المحذَّر منه. قلت (القائل: هو الحافظ ابن حجر): ولا يتعيّن ذلك، بل الذي يظهر أن أمره كان محتملاً فأراد اختباره بذلك، فإن أجاب غلب ترجيح أنه ليس هو، وإن لم يجب تمادى الاحتمال، أو أراد باستنطاقه إظهار كذبه المنافي لدعوى النبوة، ولما كان ذلك هو المراد أجابه بجواب منصف، فقال: "آمنت بالله ورسله". وقال القرطبي: كان ابن صياد على طريقة الكهنة يخبر بالخبر فيصحّ تارة ويفسد أخرى، فشاع ذلك ولم ينزل في شأنه وحي، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - سلوك طريقة يختبر حاله بها. (¬2) أي يأتيه الشيطان بما يسترقه من السمع فيصدق فيه، ويأتيه مع ذلك بالكذب فيكذب عليه. (¬3) أي: لبَّس عليك الحق الذي يسترقه الشيطان، بالباطل الذي هو كذب إبليس. (¬4) في رواية أحمد (2/ 148) بإسناد صحيح: "إِني قد خبّأت لك خبيئًا". وخبّأ له {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} فيها تصريح بان الذي "خُبَّئ" هو سورة "الدخان". قال الحافظ في "الفتح": "وأما جواب ابن صياد بـ "الدُّخُّ" فقيل: إنه اندهش فلم يقع من لفظ "الدخان" إلاّ على بعضه. و"الدُّخُّ" هو بضم الدال وتشديد الخاء، وهو لغة في الدُّخان. وحكى صاحب "نهاية الغريب" فتح الدال وضمَّها، والمشهور في كتب اللغة والحديث ضمها. والصحيح المشهور وهو قول الجمهور أنه - صلى الله عليه وسلم - أضمر له آية الدخان وهي قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ}. ولم يهتد ابن صياد من الآية التي أضمر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلاّ هذا اللفظ الناقص، على عادة الكهان إذا ألقى الشيطان إليهم بقدر ما يخطف قبل أن يدركه الشهاب، ويدل عليه قوله =

فقال: "اخسأ، فلن تعدوَ قَدْرَك" (¬1). فقال عمر -رضي الله عنه -: دَعْني يا رسول الله أضربُ عُنقَه. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِن يَكُنْه فلن تُسَلَّط عليه (¬2)، وإن لم يَكُنْه فلا خيرَ لك في قَتْله" (¬3). • وعن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه - قال: لَقِيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمرُ في بعض طرقِ المدينة، فقال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتشهدُ أنى رسولُ الله؟ ". فقال هو: أتشهدُ أني رسول الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "آمنتُ بالله وملائكتِه وكُتبه، ما ترى؟ " قال: أرى عَرشًا على الماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ترى عرشَ إبليس على البحر. وما ترى؟ " قال: أرى صادِقِينَ وكاذبًا -أو: كاذِبِين وصادقًا- .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لُبِّس عليه. دعوه" (¬4). ¬

_ = صلى الله عليه وسلم -: "أخسأ فلن تعدوَ قَدْرَك" أي: القدر الذي يدرك الكهّان من الاهتداء إلى بعض الشيء، وما لا يبين من تحقيقه، ولا يصل به إلى بيان أمور الغيب. (¬1) اخسأ: أي: اسكت صاغرًا مطرودًا. وأصل معناها التباعد والطرد. انظر "لسان العرب" (1155 - 1156). وقال النووي: اخسأ: اقعد. "فلن تعدو قدرك": قال الحافظ: أي لن تجاوز ما قَدَّر الله فيك، أو مقدار أمثالك. قال العلماء: استكشف النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره ليبين لأصحابه تمويهه لئلا يلتبس حاله على ضعيف لم يتمكن من الإسلام. ومُحَصَّل ما أجاب به النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له على طريق الفرض والتَنَزُّل: إن كنت صادقًا في دعواك الرسالة ولم يختلط عليك الأمر آمنت بك، وإن كنتَ كاذبًا وخُلِّط عليك الأمر فلا، وقد ظهر كذبك والتباس الأمر عليك؛ فلا تعدو قدرك. (¬2) أى: إن يكن هو الدجال الذي سيخرج بين يدي الساعة فلن تستطيع قتله؛ لأن الله سبحان قدّر أنه خارج. (¬3) رواه البخاري (3/ 218) (3055)، ومسلم (6/ 616) (2930)، وأبو داود (4329)، والترمذي بنحوه (2235) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬4) أخرجه مسلم (2925)، والترمذي (2246) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

وعن أبي سعيد الخُدريِّ - رضي الله عنه - قال: "قال لي ابنُ صائد -وأخذَتْني منه ذمامةٌ (¬1) -: هذا عَذَرْتُ الناسَ .. ما لي وما لكم يا أصحابَ محمد؟! ألم يقُل نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه يهوديٌّ"، وقد أسلمتُ؟ قال: "ولا يولَدُ له"، وقد وُلدِ لي؟ وقال: "إنَّ الله قد حَرَّم عليه مكةَ"، وقد حججتُ؟!. قال: فما زال حتى كاد أن يأخذَ فيَّ قولُه. قال: فقال له: أمَا واللهِ إني لأعلم الآن حيث هو، وأعرفُ أباه وأُمَّه، قال: وقيل له: أيَسُرُّك أنك ذاك الرَّجُل؟ فقال: لو عُرض عليَّ ما كَرِهتُ" (¬2). ° فابنُ صياد لا يكره أن يكونَ هو الدجَّال, ويزعم أنه يَعرفُ مولدَ الدجَّال ومكانه: فعن أبي سعيد الخدري قال: "صحبتُ ابنَ صائد إلى مكة، فقال: أمَا قد لقيتُ من الناس! يزعمون أنِّي الدجَّال، ألستَ سمعتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنه لا يُولَدُ له"؟ قلت: بلى، قال: فقد وُلِد لي، أو ليس قد سمعتَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يدخلُ المدينةَ ولا مكة"؟ قلت: بلى. فقال: فقد وُلِدت بالمدينة، وها أنذا أريد مكة. قال: ثم قال لي في آخِرِ قولِه: أمَا واللهِ إني لأعلمُ مولدَه ومكانَه وأين هو؟ قال: فلبَّسني (¬3) " (¬4). ° وكان عمرُ بنُ الخطاب وابنُه وأبو ذرٍّ وابنُ مسعود يقولون: "إنَّ ابن صيَّاد المسيحُ الدجال". ° فعن محمدِ بنِ المنكدر قال: "رأيتُ جابرَ بنَ عبد الله يحلفُ باللهِ: إن ابنَ صياد الدجُّال. قلت: تحلف بالله؟ قال: إني سمعتُ عمرَ يحلفُ ¬

_ (¬1) الذَّمامة: الحياء والإشفاق. (¬2) أخرجه مسلم (2242). (¬3) لبَّسني. أي: جعلني ألتبس في أمره. (¬4) أخرجه مسلم (2927).

على ذلك عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يُنكِرْه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). ° وعن زيدِ بنِ وهبٍ، قال: قال أبو ذرٍّ: "لأَنْ أحلفَ عشْرَ مِرارٍ أن ابنَ صائدٍ هو الدَّجال أَحَبُّ إليَّ مِن أن أحلفَ مرةً واحدةً أنه ليس به" (¬2). ° وعن نافع قال: كان ابنُ عمر - رضي الله عنه - يقول: "واللهِ، ما أشكُّ أن المسيحَ الدَّجال ابنُ صياد" (¬3). ° وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "لأَنْ أحلفَ باللهِ تِسعًا أنَّ ابن صيَّادٍ هو الدجال أحبُّ إلي من أحلفَ واحدةً، ولأن أحلفَ تسعةً أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُتِل قتلاً أحبُّ إلي مِن أحلفَ واحدة، وذلك بأن الله اتَّخذه نبيًّا وجعله شهيدًا" (¬4). * قال الخَطَّابيُّ في "معالم السنن": "وقد اختلف الناسُ في ابن صيَّاد اختلافًا شديدًا، وأُشكل أمرُه حتى قيل فيه كلُّ قول، وقد يُسأل عن هذا فيُقال: كيفُ يُقِر النبي - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً يدَّعي النبوَّة كاذبًا، ويتركُه بالمدينة يساكنُه في دارِه، ويجاورُه فيها؟ وما معنى ذلك؟! ". * ثم قال: "والذي عندي أن هذه القصةَ إنما جَرَت معه أيامَ مهادنةِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7355)، ومسلم (2929)، وأبو داود (4331). (¬2) إسناده صحيح: أخرجه أحمد في "مسنده" (5/ 148)، وقال الحافظ في "الفتح" (13/ 329): إسناده صحيح. (¬3) صحيح: أخرجه أبو داود (4330) وصححه النووي في "شرح مسلم" (5/ 770) وقد صحح الحافظ في "الفتح" (13/ 325) إسناده إلى موسى بن عقبة. (¬4) صحيح: رواه أبو يعلى في "مسنده" (127/ 9 - 132)، والطبراني في "الكبير" (10119).

رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - اليهودَ وحلفاءَهم، وذلك أنه بعدَ مَقدَمِهِ المدينةَ كتب بينه وبين اليهود كتابًا صالَحهم فيه على أنْ لا يُهاجُوا وأن يترَكوا على أمرهم، وكان ابنُ صيَّاد منهم أو دخيلاً في جُملتهم، وكان يَبلغُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خبرُه وما يَدَّعيه مِن الكِهانة ويتعاطاه من الغَيب، فامتحنه - صلى الله عليه وسلم - بذلك ليزوِّرَ به أمرَه، ويَخبُرَ به شأنَه، فلما كلَّمه عَلِم أنه مُبْطِلٌ، وأنه من جُملة السَّحَرة أو الكهنة، أو ممن يأتيه رِئْيٌ من الجنِّ، أو يتعاهدُه شيطان، فيُلقِي على لسانه بعضَ ما يتكلَّمُ به" (¬1). ° وقال النوويّ: "باب ذكر ابن صيَّاد: يُقال له: "ابن صيَّاد"، و"ابن صائد"، واسمه "صافٍ" .. قال العلماء: وقصَّتُه مُشكِلة، وأمرُه مُشتبه في أنه هلَ هو المسيحُ الدجَّالُ المشهور أم غيره؟ ولا شك في أنه دجَّالٌ من الدجاجلة. قال العلماء: وظاهرُ الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُوحَ إليه بأنه المسيحُ الدجَّال ولا غيره، وإنما أُوحِيَ إليه بصفاتِ الدجَّال، وكان في ابنِ صياد قرائنُ مُحتمِلة؛ فلذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقطعُ بأنه الدجَّال ولا غيرُه، ولهذا قال لعمرَ - رضي الله عنه -: "إن يكن هو فلن تستطيعَ قتلَه"، وأمَّا احتجاجُه هوَ -أي: ابن صياد بأنه مسلم والدجَّالُ كافرُ، وبأنه لا يُولَدُ للدجَّال، وقد وُلِد له هو، وألاَّ يدخل مكة والمدينة وأن ابنَ صيادٍ دَخَل المدينة وهو متوجِّهٌ إلى مكة، فلا دلالة له فيه؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنما أخبر عن صفاتِه وقت فتنتِه وخروجه في الأرض. ¬

_ (¬1) "معالم السنن مع أبي داود" (4/ 503).

مسيلمة الكذاب دجال اليمامة -لعنه الله، وقد فعل-

ومِن اشتباه قَصَّته وكونه أحدَ الدجاجلة الكذَّابين: قوله للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "أتشهدُ أني رسولُ الله؟ " ودعواه: أنه يأتيه صادقٌ وكاذب، وأنه يرى عرشًا فوق الماء .. ". ° ثم نقل كلامًا للبيهقي قاله في كتاب "البعث والنشور" قال: "وليس في حديث جابر أكثرُ من سكوتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لقول عمر, فيحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم -كان كالمتوقِّف في أمرِه، ثم جاءه البيانُ أنه غيرُه كما صرَّح به في حديثِ تميم" اهـ. فإن قيل: كيف لم يَقتُلْه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنَّه ادَّعى بحضرته النبوة؟!. فالجواب من وجهين -ذكرهما البيهقيُّ وغيره من العلماء-: أحدهما: أنه كان غيرَ بالغ .. واختار القاضي عياضٌ هذا الجواب. والثاني: أنه كان في أيام مهادنةِ اليهود وحلفائهم .. وجزم الخطابي في "معالم السنن" بهذا الجواب الثاني. * مسيلمة الكذاب دجَّال اليمامة -لعنه الله، وقد فعل-: هو عدوُّ اللهِ مُسيلِمة بنُ ثُمامة بنِ كبير بن حبيب الحَنَفي الوائلي. • قال عبيدُ الله بن عبد الله: "سألتُ عبدَ الله بنَ عباس - رضي الله عنه - عن رؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي ذَكَر؟ فقال ابنُ عباس: ذُكِرَ لي أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يينا أنا نائمٌ، رأيتُ أَنَّه وُضِع في يَدَيَّ سِوارانِ من ذهبٍ، فقطعتُهما وكرِهتُهما, فأُذن لي، فنفختُهما فطارَا، فأوَّلتْهما كَذَّابانِ يخرجان" (¬1). فقال عُبيد الله: أحدهما: "العَنْسِيُّ" الذي قتله فيروزٌ في اليمن، والآخر: "مُسيلِمة". ¬

_ (¬1) رواه البخاري (7023).

° قال الحافظ في "الفتح" (¬1): "قوله: "فنفختُهما فطارا": في ذلك إشارةٌ إلى حقارة أمرهما؛ لأن شأن الذي يُنفَخُ فيذهبُ بالنفخ أن يكون في غايةِ الحقارة، ورَدَّه ابنُ العربي بأن أمرهما كان في غايةِ الشدَّة ولم ينزل بالمسلمين قبلَه مِثلُه. قلت: وهو كذلك، لكن الإِشارةَ إنما هو للحقارة المعنوية لا الحسيَّة، وفي طَيَرانِهما إشارةٌ إلى اضمحلالِ أمرهما -كما تقدم-. وقوله: "فأوَّلتُهما الكذَّابَيْنِ": قال القاضي عياض: لما كان رؤيا السِّوَارين في اليديْن جميعًا من الجهتيْن، وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حينئذ بينهما، فتأوَّل السواريْنِ عليهما لِوَضْعِهما في غير موضِعِهما؛ لأنه ليس من حِليْة الرجال، وكذلك الكذَّابُ يضعُ الخبرَ في غيرِ موضعه، وفي كونهما مِن ذهبٍ إشعارٌ بذهابِ أمرِهما". • وعن ابن عباس - رضي الله عنه -، قال: "قَدِم مسيلِمةُ الكذَّابُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعل يقول: إِنْ جَعَل لي محمدٌ الأمرَ من بعده تَبِعْتُه، وقَدِمَها في بَشَرٍ كثير مِنْ قومه، فأقبل إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه ثابتُ بن قيسِ بنِ شمَّاس، وفي يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطعةٌ من جَريد، حتى وقف على مسيلِمة في أصحابه، فقال: "لو سألتَني هذه القطعةَ ما أعطيتُكها , ولن تَعْدُوَ أمرَ الله فيك، ولئن أدبرتَ ليَعقِرَنَّك الله، وِإني لأراك الذي أُريتُ فيه ما رأيتُ، وهذا ثابتٌ يجيبك عني"، ثم انصرف عنه" (¬2). ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (12/ 424). (¬2) أخرجه البخاري (4373)، ومسلم (2273)، والترمذي (2292)، وقال: هذا حديث صحيح حسن غريب.

• وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينا أنا نائمٌ, إذْ أُتيتُ خزائنَ الأرض، فوُضِع في يدي سِوارانِ من ذهب، فكَبُرا عليَّ وأهمَّاني، فأُوحي إليّ: أنِ انْفُخْهما، فنَفختُهما فطارا، فأوَّلتُهُما الكذَّابَيْن اللَّذيْنِ أنا بينهما: صاحبُ صنعاء، وصاحبُ اليمامة" (¬1). ° قال الحافظ في "الفتح" (¬2): "قوله: "اللذيْن أنا بينهما" ظاهرٌ في أنهما كانا حين قصَّ الرؤيا موجودَيْن، وهو كذلك، لكن وقع في روايةِ ابن عباس: "يخرجانِ بعدي". والجمعُ بينهما: أنَّ المرادَ بخروجهما بعده: ظهورُ شوكتِهما ومحاربتُهما ودعواهما النُّبوَّة .. نقله النووي عن العلماء، وفيه نظر؛ لأن ذلك كلَّه ظَهَر للأسود بصنعاءَ في حياته - صلى الله عليه وسلم -، فادَّعى النُّبُوَّة، وعَظُمت شوكتُه، وحارب المسلمين وفَتَك بهم، وغَلَب على البلد، وآلَ أمرُه إلى أنْ قُتِل في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمَّا مُسيلِمة فكان ادَّعى النبوَّة في حياةِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكنْ لم تَعظُمْ شوكتُه، ولم تقعْ محاربتُه إلاَّ في عهد أبي بكر، فإمَّا أن يُحمَل ذلك على التغليب، وإمَّا أن يكونَ المرادُ بقوله: "بعدي"، أي: بعد نُبُوَّتي". • وعن وهبِ بن منبِّهٍ، عن جابر بن عبد الله قال: سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ بيْن يَدَيِ الساعةِ كذابِينَ، منهم صاحبُ اليمامة، ومنهم صاحبُ صنعاء العَنسيُّ، ومنهم صَاحِبُ حِمْيَر، ومْنهم الدجَّال وهو أعظمُهم فتنة" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7036)، ومسلم (ص 1781). (¬2) "فتح الباري" (12/ 424). (¬3) صحيح: أخرجه ابن حبان. انظر "موارد الظمآن" (1897).

قال: وقال أصحابي: "همُ قريبٌ من ثلاثين كذَّابًا". مسيلمة الكذَّاب، "كَذَّابُ اليمامة"، وكان يُدعى "رحمان اليمامة"، ادَّعى النبوةَ في عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَصَدَتْه سَجَاح -لَمَّا ادَّعَتِ النبوة- بجنودها, لأخذِ اليمامة منه، فهابه قومُها، وقالوا: إنه قد استَفْحَل أمرُه وعَظُم، فقالت لهم فيما تقوله: "عليكم باليمامة، دُفُّوا دفيفَ الحمامة، فإنها غزوةٌ صَرَّامة، لا تَلحقُكم بعدها ملامة". قال: فعَمَدوا لحربِ مسيلمة , فلما سمع بمسيرها إليه، خافَها على بلاده، فبعث إليها يستأمنُها، ويضمنُ لها أن يُعطيَها نصفَ الأرض الذي كان لقريشٍ لو عَدَلت، "فقد رَدَّه اللهُ عليكِ فحباكِ به" .. وراسلها , ليجتمعَ بها في طائفةٍ من قومه، فركب إليها في أربعينَ من قومه، فلما خلا بها عَرَض عليها ما عَرض من نصف الأرض، وقَبِلت ذلك، قال مسيلمة: "سَمع اللهُ لمن سمع، وأطعمه بالخير إذا طمع، ولا يزالُ أمرُه في كلّ ما يَسُرُّ مجتمع، رآكم ربُّكُم فحيَّاكم، ومِن وحشته أخلاكم، ويومَ دينهِ أنجاكم فأحياكم" .. إلى آخِرِ الهراء، وإلى آخِرِ ما فعل اللعين، مما يَعِفُّ القلمُ عن ذِكره. فلما رجعت سَجاحُ إلى قومها قالوا: "ما أَصْدَقَكِ؟ فقالت: لم يُصدِقْني شيئًا، فقالوا: إنه قبيح على مِثلِكِ أن تتزوجَ بغيرِ صَداق"، فبعثت إليه تسأله صداقًا، فقال: "أرسلي إليَّ مؤذنَكِ"، فبعثته إليه -وهو شَبَثُ بن رِبعي- فقال: "نادِ في قومك أن مسيلمة بنَ حبيب رسول الله: قد وضع عنكم صلاتيْن، مما أتاكم له محمد -يعني صلاة الفجر وصلاةَ العشاء الآخرة" (¬1) -"، ¬

_ (¬1) "في الفرق بين الفرق" (ص 345) للبغدادي "أسقط وجوب صلاتي الصبح والمغرب، وجعل سقوطها مهرًا لامرأته سجاح المتنبِّأة".

ثم أسلمت بعد ذلك سجاحُ. هذا الكذَّابُ الذي كَذَب على الله ورسوله، فشانَه اللهُ وفَضَحه بكَذِبه، فما يُسمَّى إلاَّ مسيلِمة "الكذَّاب"، وكفى به جزاءً في الدنيا، فكيف بالقتل وقد قَتَله وحشيٌّ العبد؟ فكيف بيوم القيامة، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60] , ويقول تعالى: {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]. وكان مؤذِّنَه "عبدُ الله بن النوَّاحة"، والذي يقيم الصلاة له "حُجر بن عمير"، وكان يقول أثناءَ الإِقامة: "أشهد أن مسيلمةَ يزعم أنه رسول الله"، فقال مسيلمة: "أفْصح حُجَيْر، فما في المجمجة خير" (¬1). وجاء في قرآنِ مسيلِمة الكذابِ مما يثير الضحكَ والعجبَ العُجاب: * قال الحافظُ ابن كثير: "لَمَّا قَدِمت وفودُ بني حنيفة على الصِّدِّيق (¬2) قال لهم: أَسْمِعونا شيئًا من قرآنِ مُسيلِمة. فقالوا: أَوَ تُعفينا يا خليفةَ رسولِ الله؟ فقال: لابُدَّ من ذلك. فقالوا: كان يقول: يا ضِفْدع بنتَ الضِّفْدَعين، نِقِّي كمْ تَنقِّين، لا الماءَ تُكدِّرينْ، ولا الشاربَ تَمْنَعِين، رأسُك في الماء، وذَنبُك في الطِّين". وكان يقول: "والمُبَذرَات زَرْعاً، والحاصِداتِ حصداً، والذَّارياتِ قمحاً، والطاحِناتِ طَحْناً، والخابزات خُبْزاً، والثارِداتِ ثَرْداً، واللاقماتِ ¬

_ (¬1) "الكامل" (2/ 361). (¬2) انظر "تاريخ الطبري" (3/ 284، 300) بنحوه.

لقْماً، إهالةً وسَمْنًا، لقد فُضِّلتُم على أهل الوَبَر، وما سَبَقكم أهلُ المَدَر، رفيقَكم فامنعوه، والمُعْتَرَّ فآوُوه، والناعي (¬1) فواسوه". واللهِ، إنها لَخرافاتٌ يأنفُ من قولها الصبيان، وهم يلعبون. ° قال الصِّدِّيق لوفد بني حنيفة: "ويحكم، أين كان يذهبُ بعقولكم؟ إن هذا لم يخرج من إلٍّ" (¬2). ° وكان الكذَّابُ يقول: "والفيلِ، وما أدراك ما الفيل، له زَلُّومٌ طويل". ° وكان يقول: "والليلُ الدامس، والذئبِ الهامس، ما قَطَعَت أسَدٌ من رَطْبٍ ولا يابس". ° وكان يقول: "لقد أنعم اللهُ على الحُبْلى، أخرج منها نَسَمةً تَسْعى، من بين صِفاقٍ وحَشَا". وأشياء من هذا الكلام السَّخيف الرَّكيك البارد السَّمج .. وقد أورد أبو بكر بنُ الباقِلاَّني - رحمه الله - في كتابه "إعجاز القرآن" (¬3) أشياءَ من كلام هؤلاء الجَهَلة المُتنبِّئين كمسيلمة، وطُلَيْحة، والأسودِ، وسَجاح، وغيرهم، مما يدلُّ على ضعْف عقولهم وعقولِ من اتّبعهم على ضلالهم ومِحالهم، وقد رُوِّينا عن عمرِو بن العاص أنه وَفَد إلى مسيلمة في أيام جاهليته. فقال له مُسيلِمة: "ماذا أُنزل على صاحبكم في هذا الحين؟ فقال له عمرو: لقد ¬

_ (¬1) وفي نسخة: والباغي فناوئوه. (¬2) قال ابن الأثير في "النهاية" (1/ 61): "إن هذا لم يخرج من إِلٍّ"، أي ربوبية والإِلُّ بالكسر هو الله تعالى، وقيل: الإِل: هو الأصل الجيد. (¬3) "إعجاز القرآن" (ص 156، 157).

جزاء هذا الكذاب اللعين

أُنزل عليه سورةٌ وجيزةٌ بليغة، فقال: وما هي؟ قال: أنزل عليه: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ .... } [العصر:1 - 2]، قال: ففكر مسيلِمة ساعة، ثم رفع رأسه، فقال: ولقد أُنزل على مثلُها، فقال له عمرو: وما هي؟ فقال مسيلمة: "يا وَبَر يا وبر، إنما أنت إيرادٌ وصَدَر، وسائرُك حُفَرٌ نُقَر". ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: واللهِ، إنك لَتعلمُ أني أعلمُ أنك تكذب". وذكر علماء التاريخ أنه كان يتشبَّه بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فبَلَغه أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بصَق في بئرٍ فغَزَر ماؤه، فبَصَق في بئر، فغاض ماؤه بالكلية، وفي أخرى فصار ماؤه مِلْحًا أُجاجًا. وتوضَّأ وسقى بوضوئه نخلاً، فَيبُست وهَلَكت. وأُتي بوِلْدانٍ يُبرِّكُ عليهم، فجعل يمسحُ رؤوسهم، فمنهم من قَرعَ رأسه، ومنهم من لُثغ لسانه!!. * جَزاءُ هذا الكذَّاب اللعين: فُضوح الدنيا قبل الآخرة، وتكذيبُ الناس له، ويقال: إنه دعا لرجلٍ أصابه وجع في عينيه فمَسَحها فعمي. ° وعن عُمير بنِ طلحةَ، عن أبيه أنه جاء إلى اليمامة، فقال: "أين مسيلمة؟ فقال: مه رسول الله، فقال: لا، حتى أراه، فلما جاء قال: أنت مسيلِمة؟ قال: نعم. قال: مَن يأتيك؟ قال: رِجس، قال: أفي نورٍ أم في ظُلمة؟ فقال: في ظُلمة، فقال: أشهد أنك كذَّاب وأن محمدًا صادق، ولكنَّ كذابَ ربيعةَ أحبُّ إلينا من صادقِ مُضَر".

واتبعه هذا الأعرابيُّ الجِلْفُ -لعنه الله- حتى قُتل معه "يوم عقربا" -لا رحمه الله- (¬1). ذهب الكذَّابان، وذهب أمرُهُما .. أما الأسود، فذُبح في داره .. وأمَّا مسيلمة، فعَقَره الله على يدِ وَحْشيِّ بنِ حرب، رماه بالحَربةِ، فأنفَذَه كما تعقَرُ الإبل، وضَرَبه أبو دجانة على رأسه ففَلَقه -وذلك بعُقرِ داره في "حديقة الموت"-، وقد قُتل قبلَه وزيراه: "مُحكَّمُ بن الطُّفيل" و"الرَّجَّالُ بنُ عُنْفُوَة". • رَوى البخاريُّ أنَّ مسيلَمةَ كَتب إلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم .. من مسيلمة رسولِ الله، إلى محمدٍ رسولِ الله، سلامٌ عليك، أمَّ بعد، فإنِّي قد أُشرِكتُ معك في الأمر، فلك المَدَرُ، ولِي الوَبَر (¬2) .. ولكنَّ قريشًا قومٌ يَعتدون". • فكتب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم، من محمدٍ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مسيلِمة الكذاب، سلامٌ على مَنِ اتَّبع الهدى. أما بعد: فإن الأرض لله، يُورِثُها مَن يشاءُ من عباده، والعاقبة للمتقين". ولَمَّا مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زعَم أنه استَقَلَّ بالأمر من بعده، واستخفَّ قومَه فأطاعوه، وكان يقول: خُذِى الدُّفَّ يَا هذه والعَبي ....... وَبُثِّي مَحَاسنَ هذَا النَّبي تَوَلَّى نَبِيُّ بَنِي هَاشِمٍ ....... وَقَامَ نَبِيُّ بَنِي يَعرب فلم يُمهِلْه الله بعد وفاةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى سَلَّط اللهُ عليه سَيفًا من ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" (6/ 325، 330، 331). (¬2) ويُروى: "فلكم نِصفُ الأرض، ولنا نِصفُها".

سيوفه, وحَتْفًا من حُتوفه، فعَجَّ بطنَه، وفَلَق رأسَه، وعَجَّل الله بُروحه إلى النار، فبئس القرار. * قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93]،َ فمسيلِمة والأسود وأمَثالُهما -لعنها الله- أحقُّ الناس دخولاً في هذه الآية الكريمة، وأولاهم بهذه العقوبة العظيمة (¬1) اهـ. ° أنزل اللهُ عظيمَ عذابه في الدنيا على كذَّابِ اليمامة في معركةِ اليمامة، ولَعذابُ الآخرة أشدُّ وأنكى وأخْزَى. وكانت وقعةُ اليمامة في سَنةِ إحْدَى عشرةَ كما قال خليفةُ بنُ خَيَّاط ومحمدُ بن جرير وخَلْقٌ من السَّلف (¬2). ° وقال ابنُ قانع (¬3): "في آخِرِها". ° وقال الواقدي (¬4) وآخرون: "كانت في سَنة ثِنْتَي عَشْرة". والجمع بينهما أن ابتداءَها في سنة إحدى عشْرَةَ، والفراغَ منها في سنةِ ثنْتيْ عشرة. رماه وَحشيّ بحَرْبته، وعلاه أبو دُجانة -سِماكُ بنُ خَرَشة الساعديُّ الخَزْرَجيُ الأنصاريُّ البَدْرِيُّ- بالسَّيف، قال وَحشىٌّ: فربُّك أعلم أَيُّنا قَتَله!. ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" (6/ 345 - 346). (¬2) "تاريخ خليفة" (1/ 86)، و"تاريخ الطبري" (3/ 281). (¬3) انظر "تاريخ الإسلام" للذهبي، جزء "الخلفاء الراشدين" (ص 40، 41). (¬4) انظر "تاريخ الإسلام" للذهبي، جزء "الخلفاء الراشدين" (ص 40، 41).

الأسود العنسي كذاب اليمن -لعنه الله-

* الأسودُ العَنْسِيُّ كذابُ اليمن -لعنه الله-: الأسودُ العَنسيُّ، واسمه "عَبْهَلة بنُ كعب"، وهو من بني عَنْس، وعَنسٌ بطنٌ من مِذْحَج، وكان يقال له: "ذو الخِمار" لأنه كان يُخَمِّر وجهَه أبدًا، وكان معه شيطانانِ يُقال لأحدهما "سُحَيق" والآخر "شُقيق"، وكانا يُخبرانه بكلِّ شيءٍ يحدثُ من أمور الناس (¬1). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جَمَع لباذانَ -حين أسلم وأسلم أهلُ اليمن- عَمَلَ اليمنِ جميعَه، وأمَّرَه على جميعِ مَخاليفه، فلم يزل عاملاً عليه حتى مات، فلما مات جَعل على اليمن شهر بنَ باذان. وكان الأسودُ العنسيُّ لما عاد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من حَجَّةِ الوداع وتمرَّض من السفر غيرَ مرضِ موته، بَلَغه ذلك فادَّعى النبوة، وكان مُشعبِذًا يُريهم الأعاجيب، فاتبعته مَذحج، وكانت رِدَّةُ الأسود أولَ رِدةٍ في الإسلام على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وغزا نَجرانَ، فأخرج عنها عمرَو بن حزم، وخالدَ بن سعيد، ووثب قيسُ بنُ عبدِ يغوثَ بنِ مشكوح على فَروةَ بنِ مُسيك وهو على "مراد"، فأجلاه ونزل منزله، وسار الأسودُ عن نجرانَ إلى صنعاء، وخرج إليه شهرُ بنُ باذان (¬2)، فلقيَه، فقُتِل شَهرٌ لخمس وعشرين ليلةً من ¬

_ (¬1) "المعرفة والتاريخ" للفسوي (1/ 262، 263). (¬2) نفل الحافظُ ابنُ حجر في "فتح الباري" (8/ 93) ما رواه يعقوبُ بنُ سفيان في "المعرفة والتاريخ" (1/ 262، 263)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (5/ 335، 336) أنَّ باذانَ كان عاملَ النبي بصنعاءَ فمات، فجاء شيطانُ الأسود فأخبره، فخَرج في قومه حتى مَلَك صنعاء وتزوَّج المَرْزُبانة زوجةَ باذان، فذكر القصةَ في مواعدتها داذَوَيه وفيروزَ وغيرهما حتى دخلوا على الأسود ليلاً، وقد سَقَته المرزبانةُ الخمرَ صِرفًا حتى سكِر، وكان على بابه ألفُ حارس، فنَقَب فيروزُ وَمَن معه الجدارَ حتى دخلوا فقتله فيروزُ، واحتزَّ رأسَه، =

خروجِ الأسود، وخرج معاذ حتى لَحِقَ بأبي موسى وهو بمأربَ، فلَحقا بحَضْرموتِ. ولَحِقَ بفَروةَ مَن تمَّ على إسلامه من مَذحج، واستتبَّ للأسود مُلْكُ اليمن، ولَحِق أمراءُ اليمن بالطاهر بن أبي هالةَ، إلاَّ عمرًا وخالدًا، فإنهما رَجَعا إلى المدينة والطاهرُ يومئذٍ بجبال عَكٍّ وجبالِ صنعاء، وغَلَب الأسودُ على ما بين مفازةِ حَضْرَمَوْتَ إلى الطائف إلى البحرين والإِحساءِ إلى عَدَن، واستطار أمرُه كالحريق، وكان معه سَبعُمِئة فارس يومَ لَقِي شهرًا سوى الركبان، واستَغْلَظَ أمرُه، وكان خليفتُه في مذحج عمرُو بن مَعدِيكرب، وكان خليفتُه على جُنده قيسَ بنَ عبدِ يغوث، وأمرُ الأبناء إلى فيروز وداذويه، وكان الأسودُ تزوج امرأةَ شهرِ بنِ باذان بعد قَتْلِه، وهي ابنةُ عمِّ فيروز، وخاف مَن بحَضْرَمَوْتَ من المسلمين أن يبعثَ إليهم جيشًا أو يَظهرَ بها كذَّابٌ مثل الأسود، فتزوَّج معاذٌ إلى السَكُون فعطفوا عليه. وجاء إليهم وإلى مَن باليمن من المسلمين كتابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرُهم بقتالِ الأسود، فقام معاذٌ في ذلك، وقَوِيت نفوسُ المسلمين، وكان الذي قدم بكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وبْرُ بنُ يُحَنَّسَ الأزديُّ، قال جشنس الدَّيلميُّ: فجاءتنا كُتُب النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بقتاله، إما مصادمةً، أو غِيلةً؛ يعني إليه وإلى فيروز (¬1) وداذويه، وأن نُكاتِبَ من عنده دين, فعملنا في ذلك, فرأينا أمراً ¬

_ = وأخرجوا المرأةَ وما أحبُّوا من مَتاع البيْت، وأرسلوا الخبر إلى المدينة، فوافى بذلك عند وفاةِ النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) هو الصحابي المبارك أبو عبد الرحمن، وأبو الضحاك، وأبو عبد الله، فيروز الديلمي من الأبناء، والأبناء هم ولد الفُرْس لمساعدة سيف بن ذي يزن على طرد الأحابيش وهم من =

كثيفاً، وكان قد تغيَّر لقيس بنِ عبدِ يغوث، فقلنا: إن قيساً يخافُ على دمِه فهو لأولِ دعوةٍ فدعوناه، وأبلغناه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكأنما نزلنا عليه من السماء، فأجابنا وكاتَبْنا الناسَ، فأخبره الشيطانُ شيئاً من ذلك، فدعا قيساً أن شيطانَه يأمُره بقَتله لميله إلى عدوِّه، فحَلف له قيسٌ: لأنْت أعظمُ في نفسي من أن أُحدِّث نفسي بذلك. ثم أتانا فقال: يا جشنسُ، ويا فيروزُ، ويا داذويه، فأخبَرَنا بقول الأسود، فبينا نحن معه يحدثنا إذ أرسل إليه الأسود فتهدَّدَنا، فاعتذَرْنا إليه ونجونا منه ولم نَكَدْ، وهو مرتابٌ بنا ونحن نَحذَرُه، فبينا نحن على ذلك إذ جاءتنا كتبُ عامرِ بنِ شهر، وذي زود، وذي مران، وذي الكَلاع، وذي ظلم يبذلون لنا النصر، فكاتبناهم وأمرناهم أن لا يَفعلوا شيئاً حتى نُبرمَ أمرَنا، وإنما اهتاجوا لذلك حين كاتَبَهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وكتب أيضاً إلى أهل نجرانَ فأجابوه، وبلغ ذلك الأسودَ وأحسَّ بالهلاك، قال: فدخلت على آزاد- وهي امرأتُه التي تزوَّجها بعد قتل زوجها شهرِ بن باذان-، فدعوتُها إلى ما نحن عليه، وذكَّرتها قتلَ زوجِها شهر وهلاكَ عشيرتِها وفضيحةَ النساء، فأجابت وقالت: واللهِ ما خَلَق اللهُ شخصاً أبغضَ إليَّ منه، ما يقومُ لله على حقٍّ، ولا ينتهي عن مُحَرَّم، فأعلِموني أمرَكم أُخبِرْكم بوجهِ الأمر. قال. فخرجتُ وأخبرتُ فيروز وداذويه, وقيْساً. قال: وإذْ قد جاء رجلٌ فدعا قيساً إلى الأسود، فدخل في عَشَرةٍ من مَذْحج وهَمدان، فلم ¬

_ = أمهات عربيات. ويُقال: الحِميري؛ لنزوله في حِميَر ومحالفته إيّاهم .. وهو قاتل الأسود العنسي.

يَقْدِرْ على قتلِه معهم، وقال له: ألم أُخبِرْك الحقَّ وتخبِرْني الكَذِبَ؟ إنه -يعني شيطانه- يقول لي: إن لا تَقطعْ من قيسٍ يَدَه يقطعْ رقبتك. فقال قيس: إنه ليس من الحق أنْ أَهْلِكَ وأنت رسولُ الله، فمُرْني بما أحببتَ أو اقتلْني، فموتةٌ أهون من مَوتات .. فرقَّ له وتركه، وخرج قيسٌ فمرَّ بنا وقال: اعمَلوا عَمَلكم. ولم يقعدْ عندنا، فخرج علينا الأسودُ في جَمعٍ، فقمنا له وبالباب مئةٌ ما بين بَقرةٍ وبَعير، فنحرها، ثم خلاَّها، ثم قال: أحقٌّ ما بلغني عنك يا فيروز -وبوَّأ له الحَربة- لقد هممتُ أن أنْحَرَك. فقال: لقد اختَرْتَنا لصِهْرِك، وفَضَّلْتَنا على الأبناء، فلو لم تكن نبيّاً لَمَا بِعْنا نَصيبَنا منك بشيء، فكيف وقد اجتمع لنا بك أمرُ الدنيا والآخرة؟!. فقال له: اقسِمْ هذه .. فقَسَمها ولَحِقَ به، وهو يسمعُ سِعايةَ رجُلٍ بفيروز وهو يقول له: أنا قاتلُه غداً وأصحابه. ثم التفت، فإذا فيروز، فأخبره بقَسْمتها، ودخل الأسودُ، ورجع فيروز، فأخبَرَنا الخبر، فأرسلنا إلى قيسٍ، فجاءنا، فاجتَمَعْنا على أن أعودَ إلى المرأة فأُخبِرَها بعزيمتنا، ونأخذُ رأيها، فأتيتُها فأخبرتُها فقالت: هو متحرِّز، وليس من القصر شيءٌ إلا والحرسُ محيطون به، غير هذا البيت، فإنَّ ظَهْرَه إلى مكانِ كذا وكذا، فإذا أمسيتم فانقبوا عليه، فإنكم من دونِ الحرسِ وليس دون قتلِه شيء، وستجدون فيه سِراجاً وسلاحاً. فتلقاني الأسودُ خارجاً من بعضِ منازله فقال: ما أدخلَك علىَّ؟ ووجأ رأسي حتي سقطت، وكان شديداً، فصاحت المرأةُ فأدهَشَتْه عني، ولولا ذلك لقتلني , وقالت: جاءني ابنُ عمي زائراً ففعلتَ به هذا!! فتركني، فأتيتُ أصحابي فقلتُ: النجاءَ، الهربَ , وأخبرتُهم الخبر، فإنَّا على ذلك

حيارى إذ جاءنا رسولها يقول: لا تَدَعَن ما فارقتُك عليه، فلم أزل به حتى اطمأن. فقلنا لفيروز: ائتها فتثبَّت منها. ففعل، فلما أخبرته قال: نَنْقَبُ على بيوتٍ مبطنة، فدخل، فاقتَلَع البِطانة، وجلس عندها كالزائر، فدخل عليها الأسودُ، فأخذته غيرةٌ، فأخبرته برَضاعٍ وقرابةٍ منها محرم، فأخرجه، فلما أمسينا عَمِلنا في أمرِنا، وأعمَلْنا أشياعَنا، وعَجِلنا عن مراسلة الهمدانيين والحِمْيريين، فنَقَّبْنا البيتَ من خارج، ودخلنا وفيه سراجٌ تحت جَفنة، واتَّقينا بفيروزَ وكان أشدَّنا فقلنا: انظر ماذا ترى؟ فخرج ونحن بينه وبين الحرسِ معه في مقصورة، فلما دنا من بابِ البيت سَمع غطيطاً شديداً والمرأةُ قاعدة؛ فلما قام على بابٍ أجلسه الشيطانُ وتكلَّم على لسانه وقال: ما لي وما لك يا فيروز؟ فخَشِي إنْ رجع أن يَهْلِكَ وتَهلِكَ المرأة، فعاجَلَه وخالَطه وهو مِثل الجَمَل، فأخذ برأسِه فقَتَله ودَقَّ عنقه، ووضع رُكبتَه في ظهرِه فدقَّه، ثم قام ليخرجَ، فأخذت المرأةُ بثوبه وهي ترى أنه لم يقتلْه، فقال: قد قتلتُه وأرحتُكِ منه .. وخرج فأخبرنا، فدخلنا معه فخار كما يخورُ الثور، فقَطعتُ رأسَه بالشفرة، وابتدر الحرسُ المقصورةَ يقولون: ما هذا؟ فقالت المرأة: النبيُّ يوحَى إليه .. فخَمَدوا، وقَعَدْنا نأتمرُ بيننا -فيروز وداذويه وقيس-: كيف نخبِرُ أشياعَنا؟ فاجتمعنا على النداء، فلما طَلَع الفجرُ نادَيْنا بشعارِنا الذي بيننا وبين أصحابنا, ففَزع المسلمون والكافرون، ثم نادَينا بالأذان فقلت: أشهدُ أن محمداً رسول الله، وأن عَبهلةَ كذَّاب .. وألقينا إليهم رأسَه، وكتبنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخبره وذلك في حياته، وأتاه الخبرُ من ليلته، وقَدِمت رسلُنا وقد تُوفِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأجابنا أبو بكر. قال ابنُ عمر: أتى الخبرُ من السماء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلته التي قُتِل

كرامة لأبي مسلم الخولاني، وذل للأسود كذاب اليمن

فيها فقال: "قُتل العنسيُّ، قتله رجلٌ مبارَكٌ من أهلَ بيت مباركِين"، قيل: وَمَن قتله؟ قال: "فيروز" (¬1). ° فلله درُّ فيروز الدَّيلمي - رضي الله عنه - من صحابيٍّ مبارَكٍ ودرُّ ابنةِ عمِّه آزاد التقية التي كان لها فضل كبير في تمكين فيروز من قتل الأسود العنسي .. وشَكَر اللهُ لها حُسنَ صنعها. * كرامةٌ لأبي مسلمٍ الخَوْلاني، وذُلٌّ للأسود كذَّاب اليمن: قَبْلَ مقتل الأسود العنسيِّ، أذلَّه اللهُ على يد وليٍّ من أبناءِ الإِسلام وهو أبو مسلم الخَوْلاني؛ أُتي به إلى الأسود العنسيِّ، فقال له الأسود: أتشهدُ أني رسولُ الله؟ فقال أبو مسلم: ما أسمعُ شيئاً. فقال الأسود: أتشهدُ أن محمدًا رسولُ الله؟ قال أبو مسلم: بأبي هو وأمي، هو رسول الله حقّاً. فألقاه في النار، فخرج منها سالماً، فقال مَن حوله: انفِهِ من اليمن لئلاَّ يؤلِّبَ عليك العامة. فنفاه إلى المدينة، فأتى أبو مسلم المسجدَ، فقال له عمر -وكان مُحدّثًا- أنت أبو مسلم الذي خرج من النار سالماً؟ فقال له: أنا عبدُ الله بنُ ثُوَب، فقال له عمرُ: ناشَدتُك اللهَ أنت صاحبُ الكذَّاب، فقال أبو مسلم: أنا هو. فأجلَسَه عمرُ بينه وبين أبي بكر الصديق وقال: الحمد لله الذي لم يُمِتْ عمرَ حتى أراه الله من أمةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - مَن صَنَع اللهُ به صُنْعَه بخليله إبراهيم. ° ونقل الحافظ ابن حجر في "الفتح" (8/ 93) عن عروة أنه قال: "أُصيب الأسود قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بيومٍ وليلة فأتاه الوحيُ، فأخبَرَ به ¬

_ (¬1) "الكامل" لابن الأثير (2/ 201 - 204).

لقيط بن مالك الأسدي .. مدعي النبوة

أصحابَه، ثم جاء الخبرُ إلى أبي بكر - رضي الله عنه -". ° وقيل: "وصل الخبرُ بذلك صبيحةَ دَفْنِ النبي - صلى الله عليه وسلم -". * لَقِيطُ بنُ مالكٍ الأَسَديُّ .. مُدَّعي النبوَّة: بعد وفاةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نبَغَ في أهل "عُمان" رجلٌ يقال له: "ذو التاج - لَقيطُ بنُ مالكٍ الأَسَدَيُّ"، وكان يُسامِي في الجاهلية "الجَلَندي" مَلِكَ عُمان (¬1)، فادَّعى النبوة، وتابَعَه الجَهَلةُ مِن أهل عمان، فتَغلَّب عليها، وقَهَر "جَيْفرًا وعَبَّادَا ابني الجَلَندي" (¬2)، وألجأهما إلى أطرافِها من نواحي الجبالِ والبحرِ، فبَعَث "جيفر" إلى الصِّدِّيق، فأخبَرَه الخبر -واستجاشه-، فبعث إليه الصِّدِّيقُ بأميرَينِ هما "حذيفةُ بنُ مِحصَنٍ الحِمْيَريُّ " و"عَرْفَجةُ البارقي" من الأزد -حذيفةُ إلى عُمان، وعَرْفجةُ إلى مُهْرة -، وأمَرَهما أن يَجتمعَا ويتَّفِقَا ويبتدئا بعمان، وحذيفةُ هو الأمير، فإذا سارا إلى بلادِ مُهْرة، فعَرفجةُ الأمير، وأَمَر الصديقُ "عكرمةَ بنَ أبي جهل" أن يَلحقَ بحذيفةَ وعَرفجةَ إلى عُمان، وكلٌّ منكم أمير على جيشِه، وحذيفةُ -ما دمتم بعمان- فهو أميرُ الناس، فإذا فرغتم، فاذهبوا إلى مُهْرة، فإذا فرغتم منها، فاذهبْ إلى اليمن وحَضْرَمَوْتَ، فكن مع "المهاجرِ بنِ أبي أُميَّة"، ومَن لَقِيتَهُ منَ المُرتدَّةِ بين عُمانَ إلى حَضْرَمَوْتَ، فنَكِّلْ به. فسار عكرمةُ لمَا أَمَره الصِّديقُ، فلَحِقَ بحذيفةَ وعَرْفجةَ قبل أن يَصِلاَ إلى عُمان، وقد كَتب إليهما الصِّديقُ أن ينتهيا إلى رَأيِ عكرمةَ بعد الفراغ منَ السَّيرِ من عُمان -أو المُقام بها-، فساروا، فلمَّا أقتربوا من عمانَ راسلوا ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" (6/ 334). (¬2) "البداية والنهاية" (6/ 334).

جَيْفراً , وبَلَغ لَقِيطَ بنَ مالكٍ مَجيءُ الجيش، فخَرَج في جُموعِه، فعَسْكَرَ بمكانٍ يُقال له "دبا" -وهي مِصر تلك البلاد وسوقها العظمى-، وجَعل الذراريَّ والأموالَ وراءَ ظهورهم -ليكونَ أقوى لحربهم-، واجتمع جيفرٌ وعبَّادٌ بمكانٍ يقال له: "صَحَار"، فعَسكرا به، وبَعَث إلى أُمراءِ الصِّديق، فقَدِموا على المسلمين، فتقابَلَ الجيشانِ هنالك، وتقاتَلوا قتالاً شديداً، وابتُلِي المؤمنون، وكادوا أن يُوَلُّوا، فمَنَّ الله بكَرمِه ولُطفِه أنْ بَعَثَ إليهم مَدداً في الساعةِ الراهنةِ من "بني ناجِية" و"عبد القَيس" في جماعةٍ من الأُمراء، فلمَّا وَصَلوا إليهم كان الفتحُ والنصر، فوَلَّى المشركون مُدبِرِين، ورَكِب المسلمون ظهورَهم، فقتلوا منهم عشرةَ آلافِ مقاتل، وسَبَوْا الذراريَّ، وأَخذوا الأموالَ والسوق بحذافيرها، وبَعَثوا بالخُمُسِ إلى الصِّديق - رضي الله عنه - مع أحدِ الأمراء -وهو عَرفجةُ-، ثم رَجَع إلى أصحابه (¬1). * * * ¬

_ (¬1) المصدر السابق (6/ 334 - 335).

ادعاء طليحة بن خوليد الأسدي النبوة، ثم عودته إلى الإسلام وموته شهيدا في سبيل الله، وادعاء سجاح النبوة، ثم إسلامها وموتها على الإسلام

* ادِّعاءُ طُلَيحةَ بنِ خُوليدٍ الأسَدِيِّ النُّبُوَّةَ، ثم عودتُه إِلى الإِسلام وموته شهيداً في سبيل الله، وادّعاءُ سَجَاحٍ النبَّوة، ثم إِسلامها وموتُها على الإِسلام: أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تنبؤ مُسيلمة الكذَّاب والأسود العنسيِّ باسمهما، وأما المختار بن أبي عُبيد الثَّقفي، فلم يُصرِّح باسمه، بل ذَكَره بصفِته وبلدته. وكذلك خرج طليحةُ وسَجَاح، وقُضِي على فتنتهما، وعدمُ ذِكرهما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذِكْرُ الآخرِين فقط عَلَمٌ من أعلام نُبُوَّته، إذ إن هذيْن الشخصيْن قد أسلَمَا وحَسُن إسلامهما، بخلاف الآخرِين الذين قُتلوا على الرَّدَّة (¬1). * المختارُ الكَذَّاب .. المختارُ بن أبي عُبَيد الثَّقَفيُّ: هو الكَذابُ الذي أخبر عنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. • عن أسماءَ ذاتِ النطاقين -رضي الله عنها - قالت للمختار: "أمَا إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حدَّثنا: "إنَّ في ثقيف كذابًا ومُبيراً" (¬2)، فأما الكذَّابُ فرأيناه، وأمَّا المُبير، فلا إخالُكَ إلا إيَّاه" (¬3). • وعن أبي هريرة -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقومُ الساعةُ ¬

_ (¬1) "عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية" لأحمد بن سعد الغامدي (ص 171) - دار طيبة- الرياض. (¬2) رواه مسلم (4/ 1971). (¬3) قالت أسماء هذا للحجاج بن يوسف الثقفي.

حتى يخرجَ ثلاثون دَجَّالاً، كلُّهم يَكذِبُ على الله وعلى رسوله" (¬1). ° عن مُغيرةَ، عن إبراهيمَ قال: "قال عَبيدةُ السَّلمانيُّ بهذا الخبر، فذَكَر نحوه، فقلتُ له: أترى هذا -يعني المختارَ- قال: فقال عَبيدةُ: أمَا إنه من الرؤوس". وقد كان في بداية أمرِه ناصبيّاً، يُبغِضُ عليًّا بغضاً شديداً، ثم ادعى التشيُّع، وتَتبَّعَ قَتَلَةَ الحُسينِ ومَن شَهد الوقعةَ بكربلاء، وطابت نفس المختار بالمُلك، وظنَّ أنه لم يَبْقَ له عدوٌّ ولا مُنازع. وكان هذا الكذَّابُ يقول بإمامةِ محمدِ بنِ الحَنَفية، وكان يدعو الناسَ إليه، ويذكر علوماً مزخرفةً بترَّهاته ينوطُها به .. ولَمَّا وقف محمدُ بنُ الحنفيَّة على ذلك تبرَّأ منه (¬2). ولم يكن المختارُ في نفسه صادقاً، بل كان كاذباً، يزعمُ أن الوحيَ يأتيه على يد جبريل، وأن "جبريل - عليه السلام - ينزل عليه" (¬3). ورَوى الأمامُ أحمدَ عن رفاعةَ الفِتْيانيِّ، قال: دخلتُ على المختار، فألقى لي وسادةً، وقال: لولا أن أخي جبريلَ قام عن هذه، لألقيتُها لك. قال: فأردت أنَ أضربَ عُنقَه، قال: فذكرت حديثاً حدَّثنيه أخي عمرو بن ¬

_ (¬1) صحيح لغيره: سبق تخريجه رواه أبو داود (11/ 485) وفيه محمد بن عمرو بن علقمة وحديثه حسن والحديث صحيح لغيره. انظر "الصحيح المسند من دلائل النبوة" للوادعي (ص 201 - 202). (¬2) "الملل والنحل" للشهرستاني" (1/ 148). (¬3) "ميزان الاعتدال" للذهبي (4/ 80)، و"البداية والنهاية" (8/ 291)، و "الفرق بين الفرق" (ص 146).

الحَمِق قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إيُّما مؤمن أمَّن مؤمناً على دَمِه فقتله، فأنا من القاتل بريءٌ" (¬1). وقد قيل لابن عمر: "إن المختار يزعمُ أن الوحيَ يأتيه، فقال: صدق؛ قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121] (¬2). * ورَوى ابنُ أبي حاتم عن عكرمةَ قال: قَدِمتُ على المختارِ فأكْرَمَني، وأنزلني عنده، وكان يتعاهدُ مَبِيتي بالليل، قال: فقال لي: اخرجْ فحدِّثِ الناس، قال: فخرجتُ، فجاء رجل فقال: ما تقولُ في الوحي؟ فقلت: الوحيُ وحيانِ، قال الله تعالى: {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف: 3]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112] قال: فهمُّوا أن يأخذوني، فقلت: ما لكم وذاك! إني مُفتيكم وضيفُكم، فتركوني، وإنما أرادَ عكرمةُ أن يعرِّض بالمختار وكَذِبِه في ادِّعائه أن الوحيَ ينزلُ عليه. ° ورَوى الطبرانيُ من طريق أُنيسةَ بنتِ زيدِ بنِ الأرقم أن أباها دخل على المختار بن أبي عبيد، فقال له: "يا أبا عامر، لو سبقتَ رأيتَ جبريل وميكائيل، فقال له زيد: خسرتَ وتَعِستَ، أنت أهونُ على الله من ذلك، كذَّابٌ مفترٍ على الله ورسوله". وقد ذكر العلماءُ أنَّ المختار كان يُظهِر التشيُّع ويُبطِنُ الكِهانه، وأسرَّ ¬

_ (¬1) "المسند" (5/ 223)، وحسَّنه الشيخ الأرنؤوط (36/ 279). (¬2) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 333): "رواه الطبراني في "الأوسط" ورجاله رجال الصحيح".

إلى أخَصَّائه أنه يُوحَى إليه، وكان قد وُضع له كرسيٌّ يُعَظَّم ويَحُفُّ به الرجال، ويُستر بالحرير، ويُحمل على البغال، وكان يضاهَى به تابوتُ بني إسرائيل المذكورُ في القرآن. ° من تُرَّهاته: أنه كان عنده كُرسيٌّ قديم قد غَشَّاه بالدِّيباج وزَينه بأنواع الزينة, وقال: "هذا من ذخائر أميرِ المؤمنين عليٍّ كَرَّم الله وجههَ، وهو عندنا بمنزلةِ التابوت لبني إسرائيل". ° وكان إذا حارب خصومَه يَضعُه في براح الصفِّ ويقول: "قاتِلوا ولكم الظفَرُ والنُصرة، وهذا الكرسيُّ مَحِلُّه فيكم محلُّ التابوت في بني إسرائيل، وفيه السَكينةُ والبقيةُ، والملائكةُ، من فوقكم ينزلون مدداً لكم" (¬1). ° أمَّا مبدأُ هذا الكرسي، فقد رَوى ابنُ جرير بإسناده إلى طُفيل بن جَعْدةَ ابنِ هُبيرة قال: "أُعدِمتُ مرةً من الورق، فإني كذلك إذ مَررتُ ببابِ رجل هو جار لي، له كرسيّ قد رَكِبه وسخٌ شديد، فخَطر في بالي أنْ لو قِلتُ في هذا، فأرسلت إليه أن أرسِل إليَّ بالكرسي، فأرسل به، فأتيتُ المختارَ فقلتُ له: إني كنتُ أكتُمُك شيئاً، وقد بدا لي أن أذكرَه إليك، قال: وما هو؟ قلتُ: كرسيٌّ كان جَعْدةُ بنُ هبيرة يجلسُ عليه؛ كأنه كان يرى أن فيه أثارةً من عِلم، قال: سبحان الله! فلمَ أخرتَ هذا إلى اليوم؟ ابعثه إليَّ، قال: فجئتُ به، وقد غُسل فخرج عُوداً ناضِراً وقد شَرِب الزيت، فأمر لي باثني عَشَر ألفاً، ثم نودي في الناس: الصلاةُ جامعة، قال: فخَطب ¬

_ (¬1) "الملل والنحل" للشهرستاني (1/ 149)، و"تاريخ ابن الوردي" (1/ 176)، و"الكامل" للمبرد (3/ 269)، و "البداية والنهاية" (8/ 292).

المختار، فقال: إنه لم يكن في الأمم الخالية أمرٌ إلاَّ وهو كائنٌ في هذه الأمةِ مِثلُه، وإنه قد كان في بني إسرائيل تابوتٌ يستنصرون به، وإن هذا مِثْلُه، ثم أَمَر فكَشف عنه أثوابَه، وقامت السَّبئية، فرَفَعوا أيديَهم، وكبَّروا ثلاثاً، فقام شِبْث بن رِبعيٍّ فأنكر على الناس، وكاد أن يكفِّرَ مَن يصنعُ بهذا التابوت هذا التعظيم، وأشار بأن يُكسر، ويُخرجَ من المسجد، ويُرمى في الخنس، فشكرها الناسُ لشبث بن رِبعي، فلما قيل: هذا عُبيد الله بن زياد قد أقبل، وبَعَث المختارُ ابنَ الأشتر، بعث معه بالكرسي، يُحمل على بَغلٍ أشهبَ قد غشِّي بأثواب الحرير، عن يمينه سَبعةٌ، وعن يساره سبعة، فلمَّا تواجَهوا مع الشاميين، وغَلبوا الشاميين، وقَتلوا ابن زياد، ازداد تعظيمهم لهذا الكرسيِّ حتى بلغوا به الكفر. ° قال الطفيلُ بن جعدة: "فقلت: إنا للهِ وإنا إليه راجعون، وندمت على ما صنعت". ° وقد قال في هذا الكرسي أعشى همدان: شَهِدْتُ عَلَيْكُمْ أَنَّكُمْ سَبَئِيَّةٌ ....... وَأنّي بِكُمْ يا شُرْطَةَ الشِّرْكِ عَارِفُ وَأُقْسِمُ مَا كُرْسِيّكُمْ بِسَكِينَةٍ ...... وَإنْ كانَ قَدْ لُفَّتْ عَلَيهِ اللَّفَائِفُ وَأنْ لَيْسَ كالتَّابُوتِ فِينَا وَإنْ سَعَتْ ...... شَبَامُ حَوَالَيْهِ وَنَهْدٌ وَخَارِفُ (¬1) وَإِنِّي امرُؤٌ أحْبَبتُ آل مُحَمَّد ...... وَتَابَعْتُ وَحْياً ضُمَنّتَهُ المَصَاحفُ ° وقال المتوكل الليثي: أَبْلِغْ أبَا إِسْحَاقَ إِنْ جِئْتَهُ ....... أَني بِكُرْسِيِّكُمْ كَافِرُ ¬

_ (¬1) شبام: رُضَّع، نهد: الفتاة الناهد، والخارف: العجوز.

تَنْزُوا شَبَامٌ حَوْلَ أعْوَادِهِ ...... وَتَحْمِلُ الَوَحْيَ لهُ شَاكِرُ محمَرَّةً أَعْيُنُهُمْ حَوْلَهُ ...... كأنَّهُنَّ الحُمُّصُ الحَادِرُ وهذا وأمثالُه مما يدلُّ على قِلَّةِ عقل المختار وأتباعه، وضعفه وقِلةِ عِلمه، وكثرةِ جهله، ورَدَاءةِ فَهمه، أو ترويجِه الباطلَ على أتباعه، وتشبيهِه الباطل بالحق، ليُضِلَّ به الطَّغام، ويَجمعَ عليه جُهَّالَ العوام. ° قال عبدُ القاهر البغدادي: "لما تَمَّت ولايةُ الكوفة والجزيرة والعراقَين إلى حدودِ أرمينية تكهَّن بعد ذلك، وسَجَع كأسجاع الكهنة. ثم إنَّ المختارَ خَدَعَتْه السبئيةُ الغلاةُ من الرافضة؛ فقالوا له: "أنت حُجَّةُ هذا الزمان"، وحَمَلوه على دعوى النبوة، فادعاها عند خواصِّه، وزعم أن الوحيَ ينزلُ عليه. ثم إنَّ أهلَ الكوفة خرجوا على المختار لَمَّا تكهَّن، واجتَمعت السبئيةُ إليه مع عبيد أهل الكوفة؛ لأنه وَعَدهم أن يعطيَهم أموالَ ساداتهم، وقاتل بهم الخارجين عليه، فظَفِر بهم، وقَتَل منهم الكثير، وأسَرَ جماعةً منهم، وكان في الأُسَرَاء رجلٌ يقال له: "سُراقة بن مِرداس البارقي"، فقُدِّم إلى المختار، وخاف البارقيُّ أن يأمرَ بقتله، فقال للذين أسَروه وقدَّموه إلى المختار: ما أنتم أسرتمونا, ولا أنتم هزمتمونا بعُدَّتكم، وإنما هَزَمنا الملائكة الذين رأيناهم على الخيل البُلْق فوقَ عَسكركم، فأَعجبَ المختارَ قوله هذا، فأطلق عنه، فلَحِق بمصعبِ بنِ الزبير بالبصرة , وكتب منها إلى المختار هذه الأبيات: أَلاَ أَبْلِغ أَبَا إِسْحَاقَ عَنِّي ...... رَأَيتُ البُلق دُهْمًاً مُصمَتَاتِ أرَى عَيَنَيَّ مَا لمْ تَنْظُرَاهُ ...... كِلاَنَا عَالمٌ بِالتُّرَّهاتٍ

كفَرْتُ بِوَحْيِكُمْ وَجَعَلتُ نَذْراً ..... عَلَيَّ قِتَالَكُمْ حَتَّى المَمَاتِ وفي هذا الذي ذكرناه بيانُ سببِ كِهانة المختار، ودَعْوَاه الوحيَ إليه. ° ومِن أسجاع هذا الكذَّاب قوله: "أما والذي أنزل القرآن، وبيَن الفرقان، وشرع الأديان، وكرَّه العِصيان، لأقتُلنَّ اَلبُغاةَ مِن أَزدِ عُمان، ومَذْحج وهَمْدان، ونهد وخَوْلان، وبكر وهَزَّان، وثُغل ونَبْهان، وعَبْسٍ وذُبيان، وقَيس عيلان" (¬1). ° وقال: "أمَا ومُمشِي السحاب، الشديدِ العقاب، السريع الحساب، العزيز الوهَّاب، القديرِ الغلاَّب، لأنبِشَنَّ قبرَ ابنِ شهاب، المفترِي الكذَّاب، المجرِم المرتاب، ثم وربِّ العالمين، وربِّ البلد الأمين، لأقتلَنَّ الشاعرَ المَهين، وراجزَ المارِقين، وأولياءَ الكافرين، وأعوانَ الظالمين، وإخوانَ الشياطين، الذين اجتمعوا على الأباطيل، وتقوَّلوا عليَّ الأقاويل، وليس خِطابي إلاَّ لذَوِي الأخلاق الحميدة، والأفعالِ السديدة، والآراءِ العتيدة، والنفوس السعيدة" (¬2). * وقد قال هذا الكذابُ بجواز البَداءِ على الله، تعالى الله عما يقول الكاذبون. وأما سببُ قوله بجوازِ البَداء على الله؛ أنه قد وَعَد أصحابَه بالنصر على جيشِ مصعب، فلما هُزموا، قالوا له: "لماذا تَعِدُنا بالنصر على ¬

_ (¬1) "الفرق بين الفرق" (46 - 47)، و"الكامل" للمبرد (3/ 265) مع اختلاف في بعض الألفاظ. (¬2) "الفرق بين الفرق" (ص 47 - 48).

عدوَنا؟!! فقال: إن اللهَ كان قد وَعَدني ذلك، لكنه بدا له". ثم إنَّ المختارَ باشَرَ قتالَ مصعبِ بنِ الزبير بنفسه بالمَذَار من ناحيةِ الكوفة، وقَتَل في تلك الواقعة محمدَ بنَ الأشعث الكِندي؛ قال المختار، طابت نفسي بقَتْلِه، أن لم يكن بَقي من قَتَلَةِ الحسين غيره، ولا أُبالي بالموت بعد هذا، ثم وقعت الهزيمة على المختار وأصحابه. وأشار عليه جماعةٌ من أساورته؛ بأن يدخلَ القصرَ دارَ إمارته، فدخله وهو ملومٌ مذموم، وعن قريبٍ يَنفذ فيه القَدَر المحتوم، فحاصَرَه مصعبٌ فيه وجميعَ أصحابه؛ حتى أصابهم من جَهدِ العطشِ ما الله به عليم، وضَيَّق عليهم المسالكَ والمقاصد، وانسدَّت عليهم أبواب الحيِل، وليس فيهم رجلٌ رشيد ولا حليم، ثم جَعل المختارُ يُجيل فكرتَه، ويُكرًّرُ رَويّتَه في الأمر الذي قد حَلَّ به، واستشار مَن عنده هذا السبب السيء، الذي قد اتصل سببُه بسبيه من الموالي والعبيد، ولسانُ الشرع ينادي: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49]، ثم قَوِي عَزمُه قوةَ الشجاعةِ المركَّبة فيه، على أن أخرَجَتْه مِن بين مَنْ كان يحالفه وُيواليه، ورأى أن يموتَ على فَرَسه، حتى يكونَ عليها انقضاءُ آخِرِ نَفَسِه، فنزل حَميَّةً وغضباً، وشجاعةً وكَلَباً، وهو مع ذلك لا يجدُ مَناصاً ولا مَفرّاً ولا مَهرباً , وليس معه من أصحابه سوى تسعةَ عَشَر، ولعله إن كان قد استمرَّ على ما عاش عليه أنْ لا يُفارِقَه التسعةَ عشَرَ الموكَّلون بسقر، ولما خرج من القصر تقدَّم إليه رجُلانِ شقيقان أخَوَان؛ وهما طَرَفةُ وَطرَّافُ ابنا عبدِ الله بن دِجاجة من بني حنيفة، فقتلاه، وأحتزَّا رأسه، وأتيا به إلى مصعبِ بنِ الزبير، وقد دخل قصرَ الإمارة، فوضع بين يديه، كما وُضع رأسُ ابن زياد بين يدي المختار، وكما وُضع

الحارث بن سعيد مولى أبي الجلاس

رأسُ الحُسين بين يدي ابن زياد، وكما سيوضع رأسُ مصعبٍ بين يدي عبدِ الملك بن مروان. ° يقول أعشى همدان: لقدْ نبّئْتُ وَالأنْبَاءُ تَنْمِي ...... بِمَا لاَقَى الْكَوَارِثُ بِالمَذَارِ وَمَا إِنْ سَرَّني إِهْلاَكُ قَوْمِي ..... وَإِنْ كَانُوا وَحَقِّكَ فِي خَسَارِ وَلَكِنِّي سُرِرْتُ بِمَا يُلاَقِي ...... أَبُو إِسْحَاقَ مِنْ خِزْي وَعَارِ وأراح اللهُ المسلمين مِن هذا الضالِّ المضِلِّ عام 67 هـ وزالت دولته، وفرح المسلمون بزوالها (¬1) بعدما انتقم به مِن قوم آخرِين من الظالمين، وذهب المختارُ إلى مَزبلة التاريخ، بعد أن نُعِت بـ "الكذاب" على لسانِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكلّ صاحبِ فِريةٍ ذليل في الدارين. * الحارثُ بنُ سعيدٍ مولى أبي الجُلاَّس: الحارث بن سعيد - لعنه الله -، كان مولًى لأبي الجلاس نزل دمشق (¬2) تعبَّد بها وتنسَّك وتزهَّد، ثم فكِر به، ورجع القَهْقَرى على عَقِبيه، وانسلخ من آياتِ الله تعالى، وفارقَ حزبَ الله المفلِحين، واتبع الشيطانَ، فكان من الغاوين" (¬3). وكانت بدايةُ ضلاله أنه "كان متعبِّداً زاهداً لو لَبسِ جُبَّةً من ذهب ¬

_ (¬1) "الفرق بين الفرق" (ص 50)، و"البداية والنهاية" (8/ 289)، و"تاريخ ابن الوردي" (1/ 176). (¬2) "البداية والنهاية" (9/ 27)، و"تلبيس إبليس" (ص 427). (¬3) "البداية والنهاية" (9/ 27)، و"تلبيس إبليس" (ص 427)، و"تهذيب ابن عساكر" (442/ 3).

لرأيتَ عليه زِهادة، وكان إذا أخذ في التحميد لم يُصْغ السامعون إلى كلامٍ أحسنَ من كلامه .. فكتب إلى أبيه: يا أبتاه، عجِّل عليَّ، فإنه قد رأيتُ أشياءَ أتخوَّف منها أن تكونَ من الشيطان .. فزاده أبوه غَيّاً، وكتب إليه: يا بُني أقبل على ما أمِرت به، إن اللهَ يقول: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)} [الشعراء: 221 - 222]، ولستَ بأفَّاكٍ ولا أثيم، فامْضِ لما أُمِرت به، وكان يجيءُ إلى أهل المساجد رجلاً رجلاً فيَذكرُ لهم أمره، ويأخذُ عليهم العهودَ والمواثيقَ إن هو رأى ما يُرضَى قَبِل وإلاَّ كَتَم عليه" (¬1). ° فعَرَض على القاسم بن مُخيمِرةَ وقال له: "إني نبيٌّ، فقال له القاسم: كذبتَ يا عدوَّ الله، ما أنت بنبيٍّ" (¬2). ثم أُخبر به قاضي دمشق وأَخبر بدوره الخليفةَ عبدَ الملكِ بنَ مروان. فاختفى الحارث بعد ذلك ببيت المقدس، وجَهل الناسُ خَبَره، فتسلَّط عليه رجل من أهل البصرة حتى عَرَف مَدْخَلَه ومَخْرَجه، وتظاهر له بالتصديق، وقال له: "إن كلامك لَحَسن، وقد وقع في قلبي، وقد آمنتُ بك، وهذا هو الدِّينُ المستقيم، فأَمَر ألاَّ يُحجَب عنه متى أراد الدخول عليه، فاتَّصل بعبد الملك، وأخبره الخبر، فسيَّر معه جنوداً مِن العجم، وتمَّ القبض عليه , وجيء به إلى عبد الملك , فأَمَر بخشبة فُنصِبت فصلبه , وأمر بحَرْبة، وأمر رجلاً فطَعَنه، فلما صار إلى ضِلع من أضلاعه فانكفأت الحربةُ عنه، ¬

_ (¬1) "تليس إبليس" (ص 724). (¬2) "البداية والنهاية" (9/ 28).

بيان بن سمعان المرتد، شيخ البيانية الرافضة الخارجة عن الإسلام

فجعل الناسُ يَصيحون ويقولون: الأنبياءُ لا يجوزُ فيهم السّلاح، فلما رأى ذلك رجلٌ من المسلمين تناوَلَ الحربةَ ثم مشى إليه، وأقبل يتحسَّسُ حتى وَافَى بيْن ضِلْعَيْن فطعنه بها فأنفذه فقتله" (¬1). ° "وقد كان عبدُ الملك حَبَسه قبل صَلْبِه، وأَمَر رجالاً من أهل الفقه والعلم أن يَعِظُوه ويُعلِموه أن هذا من الشيطان، فأبى أن يقبلَ منهم، فصَلَبه بعد ذلك" (¬2). ° "ومن مخاريقه أنه كان يأتي إلى رُخامةٍ في المسجد فيَنقِرُها بيدِه فتُسبِّحُ تسبيحاً بليغاً حتى يضجَّ مِن ذلك الحاضرون". * "وكان يُطعِمُهم فاكهةَ الشتاء في الصيف، وفاكهةَ الصيف في الشتاء، وكان يقول لهم: اخرجوا حتى أرُيكم الملائكة .. فيَخرجُ بهم إلى دَيرِ المراق، فيُريهم رِجالاً على خَيل بُلْقٍ فيَتْبَعُه على ذلك بَشَر كثير" (¬3). * بَيَانُ بنُ سَمْعان المُرْتَدُّ، شيخ البيانية الرافضةِ الخارجةِ عن الإِسلام: هو مُمَخرِقٌ، ظَهر بالعراق بعد المائة في أوائل القرن الثاني من الهجرة، يُسمَّى بيان بن سمعان النَّهْديُّ التميميَّ اليمنيَّ. ادَّعى أصحابهُ انتقالَ الإمامةِ من أبي هاشم بن محمد بن الحنفية إليه، ¬

_ (¬1) "تلبيس إبليس" (ص 429)، و "البداية والنهاية" (9/ 28). (¬2) "البداية والنهاية" (9/ 28 - 29)، و"تلبيس إبليس" (ص 430). (¬3) "البداية والنهاية" (9/ 27 - 28)، و"تلبيس إبليس" (ص 457)، و"معجم البلدان" (323/ 2 - 324).

وكان يزعمُ أن جُزءً إِلهيّاً حَلَّ في عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -، ثم انتقل إليه الجزءُ الإِلهيُّ بنوع من التناسخٌ (¬1)، وكان يزعم أنه يعرفُ الاسم الأعظم، وأنه يَهزمُ به العسكرَ، وأنه يدعو به الزُّهرة فتجيبه (¬2)، ثم زعم أنه هو المذكور في القرآن في قوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138]. وقال: "أنا البيان، وأنا الهدى، والموعظة". زعم بعض أتباعه أنه كان نبيّاً، وأنه نَسَخ بعضَ شريعةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، بل هو كان يزعم أنه نبيٌّ، ولهذا فقد كَتب كتاباً إلى محمد بن علي بن الحسين الباقر - رضي الله عنه - ودعاه إلى نفسه، وفي كتابه: "أسلم تَسْلَمْ وتَرْتَقِ في سُلَّم، فإنك لا تدري حيث يجعل الله النبوة" .. فأمر الباقر أن يأكلَ الرسولُ قِرطاسَه الذي جاء به، فأكله فمات في الحال، وقد اجتمعت طائفةٌ على بيان ابن سَمعان، ودانوا به وبمذهبه (¬4) .. وطائفتُه الخارجة عن الإسلام تُسمَّى "البَيَانية"، واختلف هؤلاء في "بَيَانٍ" زعيمِهم، فمنهم: مَن زعم أنه كان نَبِيّاً، وأنه نَسَخ بعضَ شريعةِ محمد. ومنهم: مَن زعم أنه كان إلهاً، وذَكر هؤلاء أن بياناً قال لهم: "إن رُوحَ الإلهِ تناسخت في الأنبياء والأئمةِ حتى صارت إلى أبي هاشم عبدِ الله بن محمد بن الحنفية، ثم انتقلت منه إليه -يعني نفسه-"، فادَّعى لنفسه الربوبيةَ على مذاهِب الحلولية. ¬

_ (¬1) "الملل والنحل" (1/ 152). (¬2) "الفرق بين الفرق" (ص 228)، و "مقالات الإسلاميين" للأشعري (1/ 67). (¬3) "الفرق بين الفِرَق" (ص 237). (¬4) "الملل والنِّحل (1/ 153)، و"ميزان الاعتدال" (1/ 357)، و "فِرَق الشيعة" للنُّوبختي (ص 50 - 51).

ومِن عقائد هذا الزِّنديق زَعْمُه أنَّ الإلهَ الأزليَّ رَجُلٌ من نور، وأنه يَفنَى كلُّه غيرُ وجهه، وتأوَّل على زعمه قولَه تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]، وقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] (¬1). ولو كان له أدنى عقلٍ أو فَهمٍ لَعَلِم أنَّ الله تعالى إنما أخبر بالفَناء عمَّا في الأرض فقط بنصِّ قوله الصادق {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (¬2). ورفع خبرُ بيانٍ هذا إلى خالد بن عبد الله القَسْريِّ في زمانِ ولايته في العراق، فاحتال على بيان حتى ظَفِر به وصَلَبه، وقَال له: "إنْ كنتَ تَهزمُ الجيوش بالاسم الذي تعرفُه، فاهزمْ به أعواني عنك" (¬3). ° وقال الشَّهرستاني: "صَلَبه وأحرَقه خالدُ بن عبد الله القَسْريّ مع المغيرة بن سعيد في يوم واحد، وجَبُنَ المغيرةُ بن سعيد عن اعتناق حِزمةِ الحطب جبناً شديداً حتى ضُمَّ إليها قَهراً، وبادر بيانُ بنُ سمعان إلى الحِزمة فاحتضنها من غير إكراه، ولم يظهر منه جَزعَ، فقال خالد لأصحابهما: في كلِّ شيءٍ أنتم مجانين، هذا كان ينبغي أن يكون رئيسُكم لا هذا الفَسْل" (¬4). وذهب بيان إلى ذاتِ السلاسل والنَّكال، تُشيِّعُه لعناتُ الصادقين إلى يوم الدين. ¬

_ (¬1) "الفرق بين الفرق" (ص 237). (¬2) "الفصل في الملل والنحل" (5/ 44). (¬3) "الفرق بين الفرق" (ص 237). (¬4) "الفصل في الملل والنحل" لابن حزم (5/ 44).

المغيرة بن سعيد العجلي -لعنه الله-

* المغيرة بن سعيد العِجْلي -لعنه الله-: المغيرةُ بن سعيد العِجلي (¬1) مولى خالد بن عبد الله القَسْري (¬2) وهو من أهل الكوفة (¬3). ادَّعى أنه الإمامُ بعد محمدِ بن عبد الله بن الحسن المعروف بالنفس الزكية (¬4)، ثم زَعَم بعد ذلك أنه رسولٌ نبيٌّ وأن جبرائيل يأتيه بالوحي من عند الله (¬5)، وادَّعى علمَه بالاسم الأعظم، وزَعَم أنه يُحيي به الموتى، ويهزم به الجيوش (¬6). ° ومن عقائده: أنه زعم أن معبودَه رجلٌ من نور، وله أعضاءٌ وقلبٌ ¬

_ (¬1) "الملل والنحل" (1/ 176). (¬2) "الملل والنحل" (1/ 176)، و"فرق الشيعة" (ص75). (¬3) "ميزان الاعتدال" للذهبي (4/ 161). (¬4) قال الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد محقق كتاب "الفرق بين الفرق" على هامش (ص 238 - 239): "محمد هذا هو المعروف "بالنفس الزكية"، وقد كانت وفاته في سنة 145 هـ، ولهذا نقرّر أنه لا يتم ادعاء أن المغيرة بن سعيد العجلي -الذي قدّمنا أنه مات محروقاً على يد خالد بن عبد الله القسري في سنة 119 - كان يدعو لمحمد بن عبد الله بن الحسن المعروف بالنفس الزكية، ونرجح أن الضال المغيرة بن سعيد ما كان يدعو ولا ينتسب لاحد بعينه من العلويين، وإنما كان يدعو إلى المهدي المنتظر "مهدي الشيعة" ولم تكن دعوته هذه صادرة عن نية وعزيمة صادقتيْن، وإنما كان يتخذها ستاراً للمخرقة والتضليل , وهو في نفسه كان يضمر الكفر أو يسعى لنقض عرى الدولة والرجوع إلى الجاهلية الجهلاء، وكذلك خيَم هؤلاء الضالُّون المفسدون". (¬5) "فرق الشيعة" (ص 75)، و"الملل والنحل" (1/ 177)، و"شرح النووي على مسلم" (100/ 1)، و"ميزان الاعتدال" (4/ 161)، و "الفرق بين الفرق" (ص 239). (¬6) "الفرق بين الفرق" (ص 239).

ينبعُ منه الحكمةُ، وأن أعضاءَه على صورِ حروفِ الهجاء، وأن "الألف" منها مِثالُ قدمَيه، و"العين" على صورةِ عينه، وشَبَّه "الهاء" بالفَرْج (¬1). وله في بَدءِ الخَلق كلامٌ عجيب وهذيانٌ غريب، كزعمه أن الله تعالى لمَا أراد أن يخلقَ العالَمَ تكلمَ باسمِه الأعظم، فطار ذلك الاسم ووقع تاجاً على رأسه، وتأوَّل على ذلك قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى: 1]، وزعَم أنَّ الاسم الأعلى إنما هو ذلك التاجُ، ثم إنهَ بعد وقوع التاج على رأسه كتب بإصبَعه على كفِّه أعمالَ عباده، ثم نظر فيها فغَضب من معاصيهم، فعَرِق، فاجتمع من عَرَقه بَحْران، أحدهما مُظلِمٌ مالحٌ، والآخرُ عَذبٌ نيّر، ثم اطَّلَع في البحر فأبصَرَ ظِلَّه، فذهب ليأخذَه، فطار، فانتزع عيني ظِلِّه، فخَلَق منهما الشمسَ والقمرَ، وأفنى باقيَ ظِلِّه، وقال: "لا ينبغي أن يكون معي إلهٌ غيري .. " (¬2)، إلى آخر ذلك الكلام الذي يَعجبُ منه كلُّ من قرأه أو سمعه، ولا يُصدِّقُ أن لقائله مُسْكةً من عقل، بَلْهَ أن يكون نبيّاً رسولاً. وزَعم كذلك أن الله تعالى خَلق الناسَ قبل أجسادهمِ، فكان أولَ ما خَلَق ظِلَّ محمدٍ .. قال: فذلك قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81]، قال: ثم أرسل ظِلَّ محمدٍ إلى أظلال الناس (¬3) .. إلخ ما ذكره من ذلك الهراء. ومن تُرَّهاته أنه كان يُحرِّمُ ماءَ الفرات، وكلَّ ماءِ نهرٍ أو عينٍ أو بئرٍ ¬

_ (¬1) "الفرق بين الفرق" (ص 239). (¬2) "الفرق بين الفرق" (ص 239 - 245)، و"مقالات الإسلاميين" (69، 72، 73). (¬3) "الملل والنحل" (4/ 175).

وقعت فيه نجاسة، وكان من تشريعاته كذلك استحلالُ المحارم (¬1). وكان يزعمُ أنه "لو أراد أن يحييَ عاداً وثمودَ وقروناً بين ذلك كثيراً لأحياهم" (¬2). حَكى ذلك عنه الأعمشُ (¬3). وعندما اطلع عليه خالدُ بن عبد الله القَسريّ قَبض عليه، وأوقد له نارًا، وأمره أن يعتنقَها، فأبى، فقتله خالدٌ وقتل أصحابَه (¬4). وقيل: بل أُحرق بالنار، أمَرَ خالدٌ بالقصب والنِّفط فأُحضِر، ثم أجَّج النارَ وأحرقه ومَن معه، وذلك في سنة 119 (¬5). ° قال عبد القاهر البغدادي عن المغيرة بن سعيد وطائفته "المغيرية" الغلاة الخارجة عن فرق الإسلام: "وكان جابرٌ الجُعْفيّ على هذا المذهب، وادَّعى وَصِيَّة المغيرةُ بنُ سعيد إليه بذلك .. ". ° قال عبد القاهر: "كيف يعَدّ في فِرَق الإسلام قومٌ شبَّهوا معبودَهم بحروفِ الهجاء، وادَّعوا نُبُوَّة زعيمهم؟ لو كان هؤلاء من الأُمَّة لصَحَّ قولُ مَن يزعمُ أن القائلين بنبُوَّة مسيلِمة وطُليحةَ كانوا من الأمة" (¬6). ¬

_ (¬1) "الفِصل" (175/ 4). (¬2) "تاريخ ابن جرير" (7/ 128) , و "فرق الشيعة" (ص 75). (¬3) هامش "الفرق بين الفرق" (ص 238). (¬4) "البداية والنهاية" (9/ 323)، و"تاريخ الطبري" (7/ 128 - 129). (¬5) "تاريخ الطبري" (7/ 128)، و"فوق الشيعة" (ص 75)، وهامش (ص 238) من كتاب "الفرق بين الفرق". (¬6) "الفرق بين الفرق" (ص 242).

أبو منصور المستنير العجلي

* أبو منصور المستنير العِجلي: أبو منصور العِجْلي، رجلٌ من أهل الكوفة من عبدِ القيس، وله فيها دارٌ، وكان منشأه بالبادية، وكان أميًّا لا يقرأ (¬1). ولم يَدعَّ النبوةَ من أولِ أمره، بل قَدَّم لذلك بمقدِّمات وتمهيدات، وصل بعدها إلى ما يريد. فأولَ ما ادَّعى أنه خليفةُ أبي جعفر محمدِ بنِ علي بن الحسين المسمَّى بالباقر، وأنه فَوَّض إليه أَمْرَه، وجَعَله وصيَّه من بعده (¬2). ثم زَعَم أن الرسل لا تنقطع أبداً، وأن الرسالة لا تنقطع (¬3). وبعد ذلك ادَّعى أن عليَّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - نبيٌّ ورسول، وكذا الحسن والحسين وأبناء الحسين، ثم لَمَّا كان هو خليفةَ الباقر محمدِ بن علي ابن الحسين -وقد كان هذا في زعمه نبيّاً-، فإن النبوَّةَ تحوَّلت إليه، وقال: أنا نبي ورسول، والنبوةُ في سِتَّةٍ من ولدي يكونون بعدي أنبياءَ آخِرهم القائم (¬4). وزعم أن جبرائيل - عليه السلام - يأتيه بالوحي من عند الله - عزَّ وجلَّ -، وأن الله بَعث محمداً بالتنزيل، وبعثه هو -يعني نفسه- بالتأويل (¬5). وادَّعى أنه عُرج به إلى السماء، وأن الله تعالى مَسَح بيده على رأسه، ¬

_ (¬1) "فرق الشيعة" (ص 54). (¬2) "الفرق بين الفرق" (ص 234)، و"فرق الشيعة" (ص 54). (¬3) "الملل" (1/ 179)، و"مقالات الإسلاميين" (1/ 75)، والفصل، (4/ 185). (¬4) "فرق الشيعة" (ص 54). (¬5) "فرق الشيعة" (ص 54).

وقال له: يا بنيَّ، بلِّغْ عني .. ثم أنزله إلى الأرض، وزعم أنه الكِسْفُ الساقطُ من السماء المذكور في قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44)} [الطور: 44] (¬1). وزعم أنَّ أولَ ما خَلق الله تعالى هو عيسى بن مريم - عليه السلام -، ثم عليُّ بن أبي طالب كرم الله وجه (¬2)، وزعم أن الله اتخذه خليلاً (¬3). وهو لا يؤمن بالجنة والنار (¬4)، وزعم أن الجنةَ رجلٌ أُمرنا بموالاته، وهو إمامُ الوقت، وأن النار رجلٌ أُمِرنا بمعاداته، وهو خَصم الإِمام (¬5). ومن تأويلاته في الشريعة أنه تأوَّل المحرَّماتِ كلَّها على أسماءِ رجالٍ أَمَرنا اللهُ بمعاداتهم، وتأول الفرائض على أسماءِ رجالٍ أَمَرنا بموالاتهم (¬6). وقد أباح المحرمات من الزنا والخمر والميتة والخنزيرِ والدم (¬7). وقال: لم يُحرِّم اللهُ ذلك علينا , ولا حرَّم شيئاً تقوى به أنفسنا (¬8). وأسقط الصلاة والزكاة والصيام والحج (¬9). ¬

_ (¬1) "الفرق بين الفرق" (ص 244)، "فرق الشيعة" (ص 54)، و "الملل" (1/ 178)، و"الفصل" (185/ 4). (¬2) "الملل" (1/ 179)، و"الفصل" (4/ 185)، و"مقالات الإسلاميين" (1/ 85). (¬3) "فرق الشيعة" (ص 54). (¬4) "مقالات الإسلاميين" (1/ 75)، و"الفرق بين الفرق" (ص 245). (¬5) "الملل" (178/ 1)، و"مقالات الإسلاميين" (1/ 75)، و"الفرق بين الفرق" (ص 245). (¬6) "الملل" (1/ 179)، و"مقالات الإسلاميين" (1/ 75)، و"الفصل" (4/ 185). (¬7) "الفصل" (4/ 185)، و"مقالات الإسلاميين" (1/ 75). (¬8) "مقالات الإسلاميين" (1/ 75). (¬9) "الفصل" (4/ 185)، و"الملل" (1/ 179)، و"المقالات" (1/ 75).

° وكان يأمر أصحابَه بخَنقِ مَن خالَفَهم وقَتْلهم بالاغتيال، ويقول: "مَن خالَفكم هو كافر مُشرك، فاقتلوه، فإن هذا الجهادُ الخفيُّ". وذكر هشامُ بنُ الحكم الرافضى في كتابه المعروف بـ "الميزان"، وهو أعلمُ الناس بهمَ -لأنه جارُهم بالكوفة وجارُهم في المذهب- أن الكِسْفيةَ خاصة يقتلون مَن خالفهم (¬1). استمرت فتنتُهم على عادتهم، إلى أن وقف يوسفُ بنُ عمرَ الثقفيُّ والي العراق في زمانه على عَورات المنصورية، فأخذ أبا منصور العِجْلي وصَلَبه (¬2)، وذلك في أيام هشام بن عبد الملك (¬3). ° يقول الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد في قول عبد القاهر البغدادي في "الفَرْق بين الفِرَق" عن أبي منصور العِجْلي: "زَعْمُ أنه الكِسْفُ الساقط من السماء": "الذي ذَكره الشهرستانيّ في "الملل والنحل" أن عليًّا هو الكِسْفُ الساقط من السماء، وربما قال: الكِسفُ الساقط من السماء هو الله -عز وجل-"، ولكن الأشعريَّ ذكر مثل ما ذكره المؤلِّفُ هنا (¬4). ° قال: "وإن أبا منصور قال: آلُ محمد هم السماءُ، والشيعةُ هم الأرض، وأنه هو الكِسْفُ الساقط مِن بني هاشم". ¬

_ (¬1) "فرق الشيعة" (ص 54)، و"الفرق" (ص 235) , "الفصل" (4/ 185)، و"أصول الدين" (ص 331)، و"الفصل" (5/ 45). (¬2) "الفرق" (ص 235)، و"المقالات" (1/ 75). (¬3) "الملل" (179/ 1). (¬4) وبذا قال ابن حزم في "الفصل" (5/ 45): "وكان يُقال: إنه المراد بقول الله عز وجل: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا}.

الحسين بن أبي منصور العجلي - لعنه الله -

° يقول عبد القاهر البغدادي عن "المنصورية" الخارجة عن فرق الإسلام وهي فرقة أبي منصور العجلي، وتُسمى أيضاً "الكِسْفِيَّة": "كَفَرت هذه الطائفةُ بالقيامة والجنة والنار، وتأوَّلوا الجنةَ على نَعيم الدنيا، والنار على مِحَنِ الناس في الدنيا، واستحلُّوا خَنْقَ مُخالفيهم، وهذه الفرقةُ أيضاً غيرُ معدودةٍ في فِرق الإسلام، لكُفرِها بالقيامة والجنة والنار" (¬1). * الحُسين بن أبي منصور العِجْليّ - لعنه الله -: ° قال ابن حزم في "الفِصَل": "إنه الحسن بن أبي منصور العجلي". ° قال: "وكانوا بعد موت أبي منصور يُؤدُّون الخُمُس مما يأخذون ممن خَنَقُوه إلى الحسن بن أبي المنصور" (¬2). كان هذا الضالُّ الزنديقُ يَسكنُ "ألْمُوت" مع أبيه، وقد ادَّعى النّبوَّة بعدَ مقتل أبيه، وأنَّه في مرتبةِ أبيه، فأُخذَ وأُتي به إلى المَهْديِّ العباسيِّ، فأقرَّ أمامَه بما نُسِب إليه، فقَتَله وصَلَبه، وأَخذ منه مالاً عظيماً، وطلب أصحابه فقَتل منهم جماعةً وصَلَبهم (¬3). * عبدُ الله بن عَمرو بن حَرْب الكِنْدِيُّ: كان أولُ أمرِه على دين "البيانية" في دعواها أن رُوحَ الإِلهِ تناسخت في الأنبياء والأئمةِ إلى أن انتهت إلى أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، ثم زعمت "الحربية" أن تلك الروحَ انتقلت من عبد الله بن محمدِ بن الحنفية ¬

_ (¬1) "الفرق بين الفرق" (ص 245). (¬2) "الفصل" (45/ 5). (¬3) هامش "الفصل" (5/ 45)، وهامش "الفرق بين الفرق" (ص 244).

أبو الخطاب الأسدي زعيم الخطابية

إلى عبد الله بن عمرِو بن حرب، وادَّعت "الحربيةُ" في زعيمها عبدِ الله بن عمرو بن حرب مثلَ دعوى البيانية في سمعانَ من دعوى النبوة أو الربوبية، وهي مرتدة عن الإسلام (¬1). * أبو الخَطَّاب الأسَدِيُّ زعيم الخطَّابية: أبو الخطَاب الأَسَديُّ، هو محمد بن أبي زينب، ويُكنى "أبا إسماعيل"، و"أبا الظبيان" وكان مولًى لبني أسد (¬2). ° وكان -لعنه الله- يقول: "إن الإمامةَ كانت في أولاد عليِّ، إلى أن انتهت إلى جعفرِ الصادق". ويزعمُ أنَّ الأئمةَ كانوا آلهة، وكان أبو الخطاب يزعمُ أولاً أنَّ الأئمة أنبياء، ثم زعم أنهم آلهة، وأن أولادَ الحسنِ والحسينِ كانوا أبناءَ الله وأحبَّاءَه، وكان يقول: إنَّ جعفراً إلهٌ، فلمَّا بَلَغ ذلك جعفراً لَعَنه وطرده (¬3). ثم "ادَّعى النبوة لنفسه" (¬4)، وقد تابعه أصحابُه على ذلك، وزعموا "أنَّ الأئمة أنبياءُ محدَّثون" (¬5)، و"أنَّ أبا الخطاب كان نَبِيًّا" (¬6). ° وقال أتباعه: "إن جعفراً إلهٌ؛ غيرَ أن أبا الخطاب أفضلُ منه وأفضل ¬

_ (¬1) انظر "الفرق بين الفرق" (ص 243). (¬2) انظر "الفصل في الملل والأهواء والنحل" (5/ 46)، و"مقالات الإسلاميين" (1/ 76)، وهامش (ص 247) من كتاب "الفرق بين الفرق". (¬3) "الفرق بين الفرق" (ص 247)، و"الملل والنحل" (1/ 179، 180). (¬4) "لوامع الأنوار البهية" للسفاريني (1/ 82). (¬5) "مقالات الإسلاميين" (1/ 76). (¬6) "مختصر التحفة الاثنى عشرية" (ص 12)، و"فرق الشيعة" (81).

من عليٍّ" (¬1). والخطابية يَرَوْن شهادةَ الزُّور لموافقيهم على مخالفيهم، ثم إنَّ أبا الخطَاب نَصَب خيْمةً في كُنَاسةِ الكوفة ودعا فيها أتباعَه إلى عبادةِ جعفر (¬2). وقد كان من غُلُوِّ أتباعه أنهم خَرَجوا يوماً من الأيام مُحْرِمين ينادُون بأعلى أصواتهم: لبَّيك جعفر لبَّيْك جعفر (¬3). ° وأنكر أبو الخطاب الجنةَ والنارَ، وقال: "الجنةُ نعيم الدنيا، والنار آلامُها" (¬4). ثم استباح هو وأتباعُه المحرَّمات، وترك الفرائض (¬5). ° وأتباعُه كانوا يقولون: "ينبغي أن يكون في كلِّ وقتٍ إمامٌ ناطقٌ، وآخرُ ساكتٌ، والأئمة يكونون آلهة، ويَعرِفون الغيبَ". ° ويقولون: "إن عَليّاً كان في وقتِ النبي صامتاً، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ناطقًا، ثم صار عليٌّ بعده ناطقًا، وهكذا يقولون في الأئمة، إلى أن انتهى الأمرُ إلى جعفر، وكان أبو الخطاب في وقته إماماً صامتًا، وصار بعدَه إماماً ناطقًا" (¬6). والخطابيةُ قد كَفروا أبا بكر وعمر وعثمان وأكثَرَ الصحابة بإخراجهم عليًّا من الإمامة في عصرِهم (¬7). ¬

_ (¬1) "الفرق بين الفرق" (ص 247). (¬2) المصدر السابق (ص 247). (¬3) "الفصل" (4/ 187). (¬4) "لوامع الأنوار البهية" (1/ 82)، و"مختصر التحفة الإثنا عشرية" (ص12). (¬5) "مختصر التحفة الإثنا عشرية" (ص 12)، و"فرق الشيعة" (ص 81). (¬6) "الفرق بين الفرق" (ص 248). (¬7) "المصدر السابق (ص 250).

بزيغ الحائك زعيم البزيغية

° وقد خرج أبو الخطَّاب على والي الكوفة في أيام المنصور، فبَعَث إليه المنصور بعيسى بنِ موسى في جيش ٍكثيف، فأسَرُوه، فصُلب في كُناسة الكوفة (¬1). وقال الشهرستاني: "إنه قُتِل بسبخة الكوفة" (¬2). * بُزَيغ الحائك زعيم البُزَيْغِيَّة: ° قال ابنُ حزم في "الفصل" عن البُزَيغِية: "وقالت فرقةٌ بنبوَّة بُزَيغ الحائك بالكوفة، وإن وقوع هذه الدعوى لهم في حائكٍ لطريفة!! " (¬3). وهذه الفرقةُ من فرق الخطَّابية. ° وقال ابنُ حزم: "فإن قال قائل: فإن المجوسَ تُصَدِّق بنبوَّة "زرادشت"، وقومٌ من اليهود يُصَدِّقون بنبوَّة "أبي عيسى الأصبهاني"، وقومٌ من كَفَرة الغالية يصدِّقون بنبوَّة "بزيغ الحائك"، و"المغيرة بن سعيد"، و"بيان ابن سمعان التميمي" وغيرهم من كِلاب الغالية. فالجوابُ -وبالله تعالى التوفيق-: أن أبا عيسى, وبيان، وبُزيْغاً، وسائر من تدَّعي له الغاليةُ بنبوَّةٍ أو إلهيةٍ مِن خيار الناس وشرارهم، لم تظهر لواحدٍ منهم آيةٌ بوجهٍ من الوجوه؛ والآيات لا تصحُّ إلاَّ بنقل الكوافّ، وكل هؤلاء كانوا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد أَخبر الذي جاءت البراهينُ بِصِدْقه - صلى الله عليه وسلم - أنه "لا نبي بعده"، فقد صحَّ البرهانُ ببطلان ما ادُّعي لهؤلاء من النبوة" (¬4). ¬

_ (¬1) "الفرق بين الفرق" (ص 247). (¬2) "الملل والنحل" (1/ 180). (¬3) "الفصل في الملل والنحل" (5/ 46). (¬4) "الفصل" (196/ 1).

معمر بائع الحنطة، دجال "المعمرية"

° وزعم بزيغ أن جَعفرًا كان إلهاً , ولم يكن جعفرٌ الذي يراه الناس، بل كان يظهر للناس بتلك الصورة. ° وزعموا أيضاً أن كلَّ مؤمن يُوحَى إليه، وتأوَّلوا على ذلك قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 145] أيْ: بوحي منه إليه، واسْتَدَلوُّا أيضاً بقوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} الآية [المائدة: 111]، وادَّعوا في أنفسهم أنهم هم الحواريُّون، وذَكَروا قول الله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} الآية [النحل: 68]، وقالوا: إذا جاز الوحيُ إلى النَّحْل فالوحي إلينا أوْلى بالجَوَاز. ° وزعموا أيضاً أنَّ فيهم مَن هو أفضلُ من جبريل، وميكائيل، ومحمد - عليهم صلوات الله وسلامه -. ° وزعموا أيضاً أنهم لا يموتون، وأن الواحد منهم إذا بلغ النهاية في دينه رُفع إلى الملكوت. ° وزعموا أنَّهم يَرَوْن المرفوعين منهم غَدوةً وعشية. اهـ (¬1). ألاَ لعنةُ الله على الكاذِبين الظالمين. * مَعْمَرُ بائع الحنْطَة، دجَّال "المَعْمَريَّة": ° قال ابنُ حزم: "وفرقةٌ قالت بِنُبُوَّة معمر بائع الحنطة بالكوفة، وذكر الأشعريُّ هذه الفرقةَ تحت اسم "المعمريَّة" , وقال: إنها الفرقة الثانية من الخطَّابية , وهي الفرقةُ السابعة من الغالية, يزعمون أن الإمام بعد أبى الخطَاب رجلٌ يُقال له: "معمر"، وعَبَدوه كما عَبَدوا أبا الخطَّاب، واستحلُّوا ¬

_ (¬1) "الفرق بين الفرق" (ص 248 - 249).

عمير بن بيان التبان العجلي

سائر المحرَّمات، وهم يُسَمَّون "المَعمريَّة": ويُقال: إنهم يُسَمَّوْن "اليعمرية" (¬1) "وكانوا يزعمُون أن الدنيا لا تفْنى، وأن الجنَّة هي التي تصيب الناسَ من خير ونِعمةٍ وعافية، وأنَّ النار هي التي تصيبُ الناسَ من شرٍّ ومشقَّةٍ وبليَّة .. ودانوا بترك الفرائض، وكانوا يُنكرون القيامة ويقولون بتناسخ الأرواح" (¬2). * عُمَير بنُ بيان التبَّان العِجْلي: ° قال ابن حزم: "وقالت فرقة بنبُوَّة عمير التبَّان بالكوفة، وكان -لعنه الله- يقول لأصحابه: "لو شئتُ أن أعيدَ هذا التِّبْن تِبرًا لفعَلْتُ، وقَدِمَ إلى خالد بن عبد الله القَسْريِّ بالكوفة، فتجلَّد وسَبَّ خالداً، فأمر خَالد بضرب عُنُقه، فقتِل إلى لعنة الله" (¬3). وذكر الأشعريُّ هذه الفرقةَ تحت اسم "العُمَيْرِيَّة"، وهي الفرقة الرابعة من الخطَّابية، والتاسعة من الغالية، وهم منسوبون إلى عُمَير بن بيان العجلي -ولم يذكر وَصفُه بالتبَّان-، وكان هؤلاء قد ضَربوا خيمةً في كناسةِ الكوفة، ثم اجتمعوا إلى عبادةِ جعفر، فأخذ يزيدُ بنُ عمرو بنِ هُبَيْرة عميرَ بن البيان، فقتله في الكناسة" (¬4). ° وقد قالت العُمَيرْية: "بتكذيب الذين قالوا منهم: إنهم لا يموتون، وقالوا: إنا نموت، ولكن لا يزال خَلَفٌ مِنَّا في الأرض أئمةً أنبياءَ .. وعَبَدوا ¬

_ (¬1) "مقالات الإسلاميين" (1/ 78). (¬2) "الفرق بين الفرق" (ص 248). (¬3) "الفصل" (5/ 46). (¬4) "مقالات الإسلاميين" (1/ 79).

عمار بن موسى الساباطي، الملقب "بخداش"

جعفراً وسَمَّوْه ربّاً" (¬1) * عمَّار بن موسى الساباطي، الملقب "بخدَّاش": ° قال ابن حزم: "وقالت فرقة من أوائل شيعةِ بني العباس بنبوة عمَّار الملَقَّب بخدَّاش، فظفر به أسدُ بنُ عبد الله أخو خالدِ بن عبد الله القَسْري، فقتله إلى لعنة الله" (¬2). وطائفته تسمى "العَمَّارية" وتُسمَّى "الإفْطَحِيَّة" أو "الفُطْحية"، يسوقون الإمامةَ إلى جعفر الصادق، ثم زعموا أن الإمامَ مِن بعده ولدُه عبد الله، وكان أفطَحَ الرِّجْلَين (¬3). واستظهر الشيخُ محمد محيي الدين عبد الحميد أن عمَّاراً هذا هو عمارُ ابن موسى الساباطي، وله كتابٌ كبير معتمد عندهم (¬4). * أحمدُ بنُ خابط، والفضلُ الحُدَثي، وأحمدُ بن نانوس ثالوثُ الكفر والزندقة: أحمدُ بن خابط، والفضلُ الحدَثيُّ البَصْريَّان، وكانا تلميذَينِ لإِبراهيمَ النَّظَّام، كانا يَزعُمانِ أن للعالَم خالقينِ، أحدهما قديم -وهو الله تعالى-، والآخرُ محدَثٌ -وهو كلمةُ الله عزّ وجلّ المسيح عيسى التي خَلَق الله بها العالَمَ-، وكانا -لعنهما الله- يَطعنانِ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بالتزويج، وأن أبا ذر كان أزهدَ منه. ¬

_ (¬1) "الفرق بين الفرق" (ص 249). (¬2) "الفصل" (5/ 46). (¬3) أفطح الرجليْن: إذا اعوَجّت رجله حتى ينقلب قدمها إلى إنسيها. (¬4) انظر "مقالات الإسلاميين" (1/ 99)، و"الفرق بين الفرق" هامش (ص 62).

علي بن الفضل الحميري

وكان أحمدُ بنُ خابط -لعنه الله- يقول: إنَّ في كلِّ نوع من أنواع الطير والسَّمك وسائرِ حيوانِ البَر حتى البقِّ والبراغيثِ والقُمَّل والقُرود والكِلاب والفيران والتيوس والحمير، والدود والوزغ والجُعْلان أنبياءَ لله تعالي رسالةً إلى أنواعهم مما ذكرنا ومن سائر الأنواع. وكان -لعنه الله- يقول بالتناسخ والكُرور، وأن الذي يَجيءُ يومَ القيامة مع الملائكة في ظُلَلٌ من الغمام إنَما هو المسيحُ عيسى بنُ مريم - عليه السلام -، وأن الذي خَلَق آدمَ على صورته إنَّما هو المسيحُ عيسى بنُ مريم - عليه السلام -، وأنَّ الذي يُحاسِبُ الناس يومَ القيامة إنَّما هو المسيحُ عيسى بنُ مريم - عليه السلام -. وكان -لعنه الله- يقول: إنَّ للثواب دارَيْنِ: أحدهما لا أكلَ فيها ولا شُرب، وهي أرفعُ قدْراً من الثانية .. والثانية فيها أكلٌ وشربٌ وهي أنقصُ قَدْراً (¬1). ° أما أحمد بنُ أيوب بن نانوس أو "مَانوس" فإنه تلميذ الكافر أحمدَ بن خابط وعلى مذهبه، وكان يقول بقول مُعَلِّمه في التناسخ، ثم ادَّعى النّبوَة وقال: إنه المُراد بقول الله - عز وجل-: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] (¬2). * عليُّ بنُ الفَضل الحِمْيَريُّ: عليُّ بنُ الفضل بنِ أحمدَ الخَنْفري الحمْيَري (¬3)، قيل: إنه سار ليَحُجَّ ¬

_ (¬1) "الفصل في الملل والنحل" (5/ 64، 65). (¬2) "الفصل" (5/ 65)، (1/ 165 وهامشها). (¬3) "أشعة الأنوار" للبيحاني (2/ 9).

ثم ليزورَ قبرَ الحُسين بكربلاء، والتقى هنالك بجَدِّ الفاطميين عُبيدِ الله بنِ ميمونَ القَدَّاح، فتفرَّس فيه الذكاءَ والنبوغَ، فانتدبه للقيام بالدعوة، وأمره بالعَودة إلى اليمنِ (¬1)، وبعد وصوله اليمن أظهر التنسُّكَ والعبادة، وكان الناسُ يطلبون منه الدعاءَ، ويَرَون فيه الرجلَ الصالح، ولَمَّا كثر أتباعُه أَعلَنَ التمرُّدَ واستولى على أجزاءَ كثيرةٍ في اليمن، وصل بعدها إلى "زَبيد وصنعاء"، وهناك أعلن مذهبَه ومُعتقَدَه (¬2) السيئ. وبعد أن دَخل صنعاءَ، صَعِدَ المنبر، وقال قصيدتَه المشهورةَ التي صَرَّح فيها بدعوى النبوَّة، وهذا مَطلعُها: خُذِي الدُّفَّ يا هذه واضرِبي ... وغنِّي هَزَاركِ ثم اطرَبِي تولَّى نبيُّ بني هاشمٍ ... وجاء نبيُّ بني يَعْرُبِ أَحَلَّ البناتِ مع الأمهات ... ومِن فضله زاد حِلَّ الصَّبي لكلِّ نبيٍّ مضى شِرْعةٌ ... وهذي شريعةُ هذا النَّبِي (¬3) لقد حَطَّ عنَّا فروضَ الصلاة ... وحَطَّ الصيامَ ولم يُتعِبِ إذا الناسُ صَلَّوا فلا تنهضي ... وإن صُوِّمُوا فكُلي واشربي ولا تمنعي نفسَكِ المُعَرِّسين ... مِنَ الأقربين أو الأجنبي فلمْ ذا حَللتِ لهذا الغريب ... وصِرْتِ مُحَرَمَة للأبِ؟! أَليس الغِراسُ لمَنْ رَبَّه ... وسَقَّاه في الزمنِ المجدِبِ؟! وما الخمرُ إلاَّ كماءِ السماء ... حَلالٌ فقُدِّستِ من مَذهبِ ¬

_ (¬1) "غاية الأماني في أخبار القطر اليماني" (1/ 191) ليحيى بن الحسين بن القاسم. (¬2) "أشعة الأنوار" (1/ 10). (¬3) "أشعة الأنوار" (1/ 10).

"الجناحية" من غلاة الشيعة

° وكان يخاطبُ نُوَّابه وأمراءَه في كتبه بقوله: "مِن باسِطِ الأرضِ وداحيها، ومزلزِلِ الجبالِ ومُرسيها عليِّ بن الفضل". ثم يتبجَّحُ بالرسالة والاتِّصال بالله - عزَّ وجلَّ -، حتى كان مؤذِّنهُ يقول في أذانه: "أشهد أن عليَّ بن الفضل رسول الله" (¬1). فأقر الداعي الإسماعيليُّ إدريسُ عماد الدين بأن عليَّ بن الفضل "ادَّعى النبوة"، وبعد فترةٍ قاسيةٍ عاشها أهلُ اليمن في عهده، سَخِط عليه فيها أهلُ السماء وأهلُ الأرض حتى أقرباؤه وحاشيته لانغماسه في المحرمات والخروج على شريعة الإِسلام، بعد ذلك أهلكه الله على يدِ أحدِ الأطباء عام 303هـ (¬2)، فأراح الله منه البلاد والعباد. * "الجَنَاحِيَّة" من غُلاة الشِّيعة: فرقةٌ ضالةٌ من غُلاة الشيعة، يزعمون أن عبدَ الله بنَ معاوية بنِ عبدِ الله ابنِ جعفرَ ذي الجناحيْن يَنبُتُ العلمُ في قلبه كما تَنبُتُ الكَمَأةُ والعُشْبُ، وأنَّ الأرواحَ تَنَاسخت، وأنَّ رُوحَ اللهِ جَل اسمُه كانت في آدمَ، ثم تناسخت حتى صارت فيه. وزعموا أنه ربٌّ، وأنه نبيٌّ، فعَبَده شيعتُه، وهم يَكفُرون بالقيامة، ويَدَّعون أن الدنيا لا تَفْنى، ويَستحلُّون المَيْتَة والخَمْرَ وغيرَهما من المحارم (¬3) وهؤلاء - لعنهم الله - لا يَرَوْن وجوبَ الصلاةِ والصوم والزكاةِ والحج وغيرِها ¬

_ (¬1) "الإسماعيلية" لإحسان إلهي ظهير (ص 99). (¬2) "مذهب الباطنية وبطلانه" (ص 82)، و "أشعة الأنوار" (2/ 11). (¬3) "مقالات الإسلاميين" (1/ 67).

"الغرابية" من غلاة الشيعة

من الطاعات، ويزعمون أن المرادَ بأسماءِ هذه العبادات جماعةٌ من أهلِ البيت أوجب اللهُ تعالى على الناس موالاتَهم وسَتَر أسماءَهم، وكنَّى عنهم بأسماءِ هذه العبادات، ويَدَّعون أن عبدَ الله بنَ معاوية -الذي ينتسِبون إليه- لم يَمُتْ، وأنه حي في جبال أصبهانَ، وأنه لا يزال حيًّا حتى يخرجَ إليهم. والثابت أن أبا مسلم الخُراساني سار إلى عبد الله بن معاوية وشيعته وقتله، ثم أظهر الدعوة العباسية (¬1). * "الغُرَابيَّة" مِن غُلاَة الشِّيعة: وهذه الطائفةُ مرتدة ٌكافرة. ° قال عبد القاهر البغدادي: "الغُرابية قومٌ زعموا أن اللهَ -عزَّ وجلَّ- أرسل جبريلَ - عليه السلام - إلى عليٍّ، فغَلِطَ في طريقه فذهب إلى محمدٍ؛ لأنه كان يُشبهه، وقالوا: كان أشبهَ به من الغُرَاب بالغُرَاب، والذُّباب بالذُّباب، وزعموا أن عَلِيًّا كان الرسولَ وأولادُه بعده هم الرُّسُل. ° وهذه الفرقة تقولُ لأتباعها: "العَنُوا صاحب الرِّيشَ" .. يَعْنُون جبريل - عليه السلام -" (¬2). ° ثم قال: "والغُرَابية من الرَّافِضة يلعنون جبريلَ ومُحمداً عليهما السلام، وقد قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98]، وفي هذا تحقيقُ اسم الكافر ¬

_ (¬1) انظر "الفرق بين الفرق" (ص 138، 150, 154, 163) , وهامش "مقالات الإسلاميين" (ص 68). (¬2) "الفرق بين الفرق" (ص 250).

لمُبغِضِ بعضِ الملائكة، ولا يجوزُ إدخالُ مَن سَمَّاهُمُ اللهُ كافرين في جملة فِرَقِ المسلمين" (¬1). ° وقال ابنُ حزم: "الطائفة التي أوجبت النبُّوَّة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فِرَق، فمنهم الغُرابيةُ وقولُهم: إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان أشبَهَ بعليٍّ من الغُراب بالغراب، وأنَّ اللهَ -عز وجل- بَعَث جبريل - عليه السلام - بالوحي إلى عليٍّ، فغَلِط جبريلُ - عليه السلام - بمحمد، ولا لومَ على جبريل في ذلك لأنه غلِط!!. وقالت طائفة منهم: بَلْ تعمَّد ذلك جبريلُ، وكفَّروه ولَعنوه -لعنهم الله-. ° قال أبو محمد بن حزم: "فهل سُمع بأضعفَ عقولاً، وأتمَ رَقَاعةً من قوم يقولون: إنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان يُشبِهُ عليَّ بنَ أبي طالب!!! فيا للناس!!! أين يقعُ شبهُ ابنِ أربعين سنةً من صبيٍّ ابنِ إحدى عشْرةَ سنة، حتى يغلَط به جبريل - عليه السلام -!!، ثم محمد - صلى الله عليه وسلم - فوق الرَّبعة إلى الطُّول، قويمُ القناة، كثُّ اللحية، أدعجُ العينيْن، ممتلىُء السَّاقيْن، قليلُ شعر الجسد، أَفرعُ .. وعليٌّ دون الرَّبعة إلى القِصر، مُنْكَبٌّ شديدُ الانكباب كأنهْ كُسِر ثم جُبر، عظيم اللِّحية، قد ملأت صَدْرهُ من مَنْكِبٍ إلى مَنْكِبٍ إذا التحى، ثقيل العينيْن، دقيقُ السَّاقين، أصْلَع، عظيمُ الصَّلَع، ليس في رأسه شعر إلاَّ في مُؤخِّره يسير ,كثيرُ شعر اللِّحية .. فاعجَبوا لحُمق هذه الطَّبقة. ثم لو جاز أن يَغْلَطَ جبريلُ -وحاشا لروحِ القُدُس الأمين- كيف غَفَل الله - عز وجل - عن تقويمه وتنبيهه، فتركه على غَلَطِه ثلاثاً وعشرين سنةً!! ¬

_ (¬1) "الفرق بين الفرق" (ص 251).

"الذمية" .. من غلاة الشيعة

ثم أظرفُ من هذا كُلِّه: مَنْ أخبرهم بهذا الخبر، ومَن خَرَّفهم بهذه الخرافة؟ وهذا لا يعرفُه إلاَّ مَن شاهَدَ أمرَ الله تعالى لجبريلَ -عليه السلام-، ثم شاهَدَ خِلافَه، فعلى هؤلاء لعنةُ الله ولعنةُ اللاعنين، والملائكةِ والناسِ أجمعين، ما دام للهِ في عالمه خَلْق" (¬1). ° قال عبدُ القاهر: "وكُفْر هذه الفرقة أكثرُ من كُفْر اليهود الذين قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يأتيك بالوحي مِن الله تعالى؟ فقال: "جبريلُ"، فقالوا: إنَنا لا نُحِبُّ جبريلُ؛ لأنَّه ينزل بالعذاب، وقالوا: لو أتاك بالوحي ميكائيلُ الذي لا ينزل إلاَّ بالرحْمة لآمَنَّا بك"، فاليهودُ -مع كفرهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومَع عَدَواتهم لجبريلَ - عليه السلام - لا يَلعنون جبريلَ، وإنما يزعُمون أنَّه مِن ملائكة العذاب دون الرحمة" (¬2). * "الذمِّيَّة" .. من غُلاة الشيعة: ° قال الشيخ عبد القاهر البغدادي في بيانه للفِرَقِ الخارجة عن هذه الأمة: "وأمَّا الذَّمَيَّة منهم: فقومٌ زعموا أن عَلِيًّا هو الله، وشتموا محمَّدًا، وزَعموا أن عَلِيًّا بَعَثه ليُنبئَ عنه، فادعى الأمرَ لنفسه. وهذه خارجَةٌ عن فِرَق الإسلام لكفرِها بنبوَّة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - مِن الله تعالى" (¬3). * فِرْقة من الكَيْسانِيَّة: ° قال الإمامُ ابنُ حزم في قوله عن الغالية من الشيعة التي أوجبت ¬

_ (¬1) "الفِصَل" (42/ 5 - 43). (¬2) "الفرق بين الفِرَق" (ص 251). (¬3) "الفرق بين الفِرَق" (ص 251).

أحدهما

النبوَّة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغيره: "وفرقةٌ قالت بنبوَّة على وبَنِيه الثلاثة: الحسنِ والحسيْنِ ومحمد بن الحنفِيَّة فقط، وهم طائفةٌ من الكَيْسانية". والكَيْسانية من الرافضة هم أتباع المختارِ بنِ أبي عُبيد الثقفِيِّ، وكان المختارُ يُقال له: "كَيْسان"، وقيل: إنه أخذ مقالتَه عن مَوْلًى لعلي - رضي الله عنه - كان اسمه "كَيْسان". وافتَرقت الكَيْسانية فِرَقاً يجمعُها شيئان: أحدهما: قولُهم بإمامةِ محمدِ بن الحنفِيَّة، وإليه كان يدعُو المختارُ بن أبي عُبَيْد. والثاني: قولُهم بجواز البَدَاء على الله - عز وجل -، ولهذا البدعةِ قال بتكفيرهم كل مَن لا يُجيز البداءَ على الله سبحانه. وزعم قومٌ منهم -وهم "الكَرْبية" أصحابُ أبي كرب الضرير- أن محمدَ بنَ الحنفيةِ حي لم يَمُت، وأنه في جَبَل "رَضْوَى"، وعنده عينٌ من الماء وعين من العَسَل يأخذ منهما رِزقه، وعن يمينه أسد، وعن يساره نَمِر، يحفظانه من أعدائه إلى وقت خروجه، وهو المهديُ المُنْتَظَر!! " (¬1). ° قال كُثيِّر عَزَّة - وكان من هذه الطائفة: ألاَ إن الأئِمَّة من قُرَيْش ...... ولاةُ الحَقِّ أربعةٌ سَوَاءُ عَلِيٌ والثَّلاثَة من بنيه ...... هُمُ الأسْبَاط ليسَ بهِمْ خَفَاءُ فَسِبْطٌ سِبْط إِيمانٍ وبِر ...... وسِبْط غَيّبتْه كَرْبَلاء ¬

_ (¬1) "الفصل" (5/ 43).

وسبْط لا يَذوقُ الموتَ حتى ..... يقود الخَيْلَ يَقدُمها اللِّواءُ تَغَيَّبَ لا يُرَى فيهم زَمَانًا ..... بِرضْوى عنده عسَلٌ ومَاءُ (¬1) ° وقال كثيِّرُ عزةَ في قصيدة أيضاً: أَلاَ قل للوَصِيِّ فَدَتْكَ نَفْسِي ...... أَطَلتَ بِذَلِكَ الجَبَل المُقَامَا أَضَرَّ بَمِعْشَرٍ وَالَوْكَ مِنَّا ...... وسَمَّوْكَ الخَليفةَ وَالإمَامَا وما ذاقَ أبنُ خَوْلةَ (¬2) طَعْمَ مَوْتٍ ...... ولا وَارَتْ له أرضٌ عِظَامَا لقد أَمْسَى بِمَجْرى شِعْب رَضْوَى ...... تُراجِعُهُ الملائكةُ الكَلاَمَا وإِنَّ لهُ لَرزْقًا كُلًّ يَوْمٍ ....... وأَشْرِبَةً يُعِلُّ بِها الطَّعَامَا ° فأجابه عبد القاهر البغدادي: لقد أَفْنَيْتَ عمرَكَ بانتظار ...... لمن وراى الترابُ له عِظَامَا فليس بشِعْبِ رَضْواءَ إِمَامٌ ..... تُرَاجِعُهُ الملائكةُ الكَلاَمَ ولاَ مَن عِنْدَه عَسَلٌ ومَاءٌ ...... وأشربةٌ يُعلُّ بها الطَّعَاما وقد ذاقَ ابنُ خَوْلَةَ طَعْمَ مَوْتٍ ..... كما قد ذاقَ والِدُه الحِمَامَا ولو خَلَدَ امرؤٌ لعُلُوِّ مَجْدٍ ..... لعاشَ المصطفى أبدًا ودَامَا (¬3) * * * ¬

_ (¬1) "الفرق بين الفرق" (ص 38، 39، 41). (¬2) هو محمد بن الحنفية. (¬3) "الفرق بين الفِرَق" (ص 42 - 43).

الإسماعيلية

* الإِسماعيليَّة (¬1): كل مَن كَتَب عن عقائد الخطابيَّة -كالأشعريِّ والملطيِّ والبَغدادي وابنِ حزم والشَّهْرِستانيّ والجُويني وَابنِ الأثير- يقرِّرُ أنَّ أبا الخطاب مولى بني أسد وأصحابَه كانوا يقولون: "إنَّ لكلِّ ظاهر باطنًا، وإن ظاهرَ القرآن يحتاجُ للفهم الصحيح إلى التأويل"، وقالوا بالتناسخ وتكفيرِ الصحابة، فأبو الخطَّاب هو المؤسسِّ الحقيقي للعقائد التي تبنّتها الإسماعيليةُ فيما بعد، وإن ميمونَ القَدَّاحَ وابنَه عبدَ الله كانا من دُعاته وأكابرِ علماءِ طائفته، وإن أولَ مَن قام بالدعوة الإسماعيلية أبو شاكر ميمون، كان ممن صَحِبَ أبا الخطاب محمدَ بنَ أبي زينب. والإِسماعيليةُ هم أبناءُ ميمونَ القَدَّاح، ولا صِلَةَ لهم مطلقًا بالبيت العَلَوِيِّ، وهم -كما قال أهلُ السنة-: "ظاهرهم الرفض، وباطنُهم الكفرُ المحض". ادَّعى الفاطميون -وهم الإسماعيلية- نِسْبَتَهم إلى البيت العَلَويِّ، وأنكر ذلك عليهم علماء الإِسلام من أهل السنة والعلويون أيضاً، ومنهم الشريفُ الرضي، وكتبوا وثيقةً بذلك. وأنكرَ نسْبَهم إلى بيتِ النبوة كبارُ علماء الإِسلام كالبغداديِّ وابنِ كثير وابن تيمية والذهبيِّ وابن حجر والسَّخاوي، وابن تَغْرِي بَرْدي، وابنِ ¬

_ (¬1) كل ما أوردناه عن الإسماعيلية فهو تلخيص من كتاب "الإسماعيلية" للشيخ إحسان إلهي ظهير -رحمه الله - وخاصة الفصل الثاني من الباب الرابع "معتقدهم في النبوة والأنبياء" (ص 321 - 345) والباب السادس مبحث "الإسماعيلية ونسخ شريعة محمد صلوات الله عليهم" (ص 546 - 591) - مُلَخصاً.

والإسماعيلية يعتقدون بـ

الجوزي والسُّيوطي وغيرِهم. فعُبيد الله الملقَّبُ بالمَهديِّ هو سعيدُ بنُ الحُسين بنِ أحمدَ بنِ عبدِ الله بن ميمون القَدَّاح بن دِيصان الثنوِي الأهوازي, وأصلُهم من المجوس. وقال هؤلاء الملاعنة بنبوَّة محمدِ بن إسماعيل بن جَعفر .. وانظر إلى كلامهم في النبوَّة ترى العَجَبَ العُجاب والكفرَ المَخض. * والإِسماعيليةُ يعتقدون بـ: أولاً: أنَّ النبوةَ مكتسَبة، وأنَّ الإِنسانَ يستطيعُ أن يُصبحَ نبيّاً بعد التحلِّي بعد الارتياض والمجاهرة. ثانياً: وهي فَيضٌ يَفيضُ من أحدِ العقول العَشَرة. ثالثاً: أن جبرئيلَ ليس من ملائكِ الرحمن. رابعاً: الرسولُ تَعلَّم من بشر، وهو المعبَّر عنه بالوحي. خامساً: وأن القرآنَ ليس بكلام الرحمن الذي تكلَّم به الربُّ جل وعلا، بل هو من كلامِ الرسول المركَّبُ من خَطَرات النفس. سادساً: أن الرسولَ أقامه أبو طالب، وهو الذي جَعله رسولاً. سابعاً: وأبو طالب هو إمامُ الزمان والربّ. ثامناً: ودعوةُ الرسول- صلى الله عليه وسلم - ومَن سَبَق من الأنبياء كانت إلى عليٍّ. تاسعاً: وعليٌّ هو مرسِلُ الرسل، باعثُ الأنبياء. عاشراً: وكان يفضِّل محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، بل كان مولى له، وهو عبدُه (¬1). الحادي عشر: الاعتقادُ بإتيان رسولٍ بعد خاتمِ المرسلين وهو ¬

_ (¬1) "الإسماعيلية" لإحسان إلهي ظهير (ص 338) إدارة ترجمان السنة.

الثاني عشر

محمدُ بن إسماعيل. الثاني عشر: انقضاءُ دَوْرِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونَسخ شريعته بشريعة أخرى. الثالث عشر: رَفعُ التكاليف الشرعية، والاكتفاءُ بالباطن المحض (¬1). * فهل هناك كفرٌ فوقَ هذا الكفر؟!! وسنأتي بنصوصٍ من كُتُبهم تبيِّن ذلك .. فالنبيُّ عندهم شخصٌ يتحلَّى بالخصالِ الاثنتَىْ عشْرة: أولاً: أن يكون تامَّ الأعضاء. ثانيًا: أن يكون جيِّدَ الفهم. ثالثاً: أن يكون جيّدَ اللفظ. رابعاً: أن يكون فَطِنًا ذكيًّا. خامساً: أن يكون حَسَنَ العبارة. سادساً: أن يكون محبًّا للعلم والإفادة. سابعاً: أن يكون محبًّا للصدق. ثامناً: أن يكون غَيرَ شَرِهٍ في الأكل والشرب والنكاح. تاسعاً: أن يكون كبيرَ النفس. عاشراً: أن يكون زاهداً في الدنيا. حادي عشر: أن يكون محبًّا للعدل. ثاني عشر: أن يكون قويَّ العزيمة (¬2). ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 588). (¬2) انظر "رسائل إخوان الصفاء" (ج 4 الرسالة السابعة والأربعون، الرسالة السادسة من العلوم الناموسية والشرعية في ماهية الناموس الإلهي وشرائط النبوة" (ص 129 - 130).

° وقالوا: "إذا اجتمعت هذه الخصالُ في واحدٍ من البشر، في دَور من أدوار القِرانات في وقتٍ من الزمان، فإن ذلك الشخصَ هو المبعوثُ، وصاحبُ الزمان، والإمامُ للناس ما دام حيًّا .. فإذا بلَّغ الرسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصَح الأمة، ودَوَّن التنزيل، ولوَّح التأويل، وأحكمَ الشريعة، وأوضحَ المنهاج، وأقام السُّنة، وألف شملَ الأمة، ثم تُوفِّي ومَضَى إلى سبيله، بَقِيَتْ تلك الخِصالُ في أُمَّته وِرَاثَةً منه .. وإنِ اجتَمعت تلك الخصالُ في واحدٍ من أمته أو جُلُّها، فهو الذي يَصلُحُ أن يكون خليفة في أمته بعد وفاته" (¬1). ° فإذن النبوَّة مكتسبة، وبذلك صرحوا، حيث قالوا: "إنَّ العلماءَ ذَكروا أن العلومَ ثلاثُ مراتب: أولها الرياضيات، وبعدها الطبيعيات، وبعدها الإلهيات. فمن ابتدأ أولاً بتعلُّم الرياضيات وأَحكمها كما ينبغي، سَهُل عليه تعلُّم الطبيعيات، ومن أَحْكم الطبيعياتِ كما ينبغي، سَهُل عليه تعلُّم الإلهيات. فهكذا نقول: مَن يريد أَن يهذِّب نفسُه ويهيئَها لقَبول إلهامِ الملائكة إذا ابتدأ أولاً فأَصلح أخلاقَه الرديئةَ التي نشأ عليها منذ الصبا، ثم سار سِيرةً عادلةً في مُتصرَّفاته كما رُسِم له في الشريعة، ثم نظر في العلوم الحسِّية فأَحكمها كما يجب، مِثل ما ذكرنا في رسالة "الحاسَ والمحسوس"، ثم نظر في الأُمور العقليةْ فأحكَمَها كما يجبُ ليحل بها عن ضميره , والآراءِ ¬

_ (¬1) أيضاً (ص 135).

الفاسدة التي اعتقدها قبل البحث عن حقائقِ الأشياء، كما بيَّنا في رسالة "العقل والمعقول"، فأَقول: إنَّ نفسه عند ذلك متهيئةٌ لقبول إلهام الملائكة، وكلما زاد في المعارف استبصاراً، صارت نفسُهُ لقَبول إلهام الملائكة أَسهلَ طبعاً , ولطاعةِ العقل أَشدَّ تشبُّها، وإلى السمائيَّة أقربَ قُربةً .. وأعلمُ أن الحيواناتِ متفاوتةٌ في شعورها ومعارفها .. وذلك أنَّ منها ما له حاسةٌ واحدة، ومنها ما له حاسَّتان، ومنها ما له ثلاثُ حواسَّ، ومنها ما له أربعُ حواسَّ، ومنها ما له خَمسُ حواسَّ، كما بينَّا في رسالة "الحيوانات". وهكذا أيضاً الناسُ متفاوِتون في معارِفهم وعلومهم: وذلك أنَّ مِن الناس عقلاءَ وبُلَهاء، ومِن العقلاء علماءَ وجهلاء، والعلماء متفاوِتون في درجات العلوم .. وذلك أن منهم مَن يُحسِنُ عِدَّةَ علوم، ومنهم مَن هو أكثرُ منه، ومنهم دون ذلك، وأن المُفيدِين في العلوم يتفاوَتون في درجاتهم: وذلك أنَّ منهم مَن تكونُ معلوماتُه كلُّها جُسمانية، ومنهم مَن تكونُ معلوماتُه رُوحانية. وأعلمُ أنَّ كلَّ عالِم تكونُ أكثرُ معلوماته روحانيةً فهو إلى الملائكة أقربُ رتبةً، ومن أَجل هذا جَعَل اللهُ طائفةً من بني آدمَ واسطةً بين الناس وبين الملائكة، لأنَّ الواسطةَ هي التي تُناسِبُ أحدَ الطرَفين من جهةٍ، والطرفَ الآخر من جهةٍ: وذلك أن الأنبياء - عليهم السلام- كانوا يناسِبون الملائكة بنفوسهم وصفاءِ جَوهرهم، ومِن جهةٍ أخرى كانوا يناسِبون الناسَ بغِلَظِ أجسامهم. واعلم يا أخي أن كلامَ الملائكةِ إنما هو إشاراتٌ وإيماء، وكلامُ الناس

عبارات وألفاظ، وأما المعاني فهي مشتركةٌ بين الجميع، وكانت الأنبياءُ تأخذ الوحيَ والأنباءَ عن الملائكة إيماءً وإشارات، وذلك بلطافة ذكاءِ نفوسهم وصفاء جوهرها، وكانتْ تعبِّرُ عن تلك المعاني للناس باللسان الذي هو عضوٌ من الجسد لكلِّ أمةٍ بلُغتها وبالألفاظ المعروفة بينها. واعلم يا أخي أن نفسك مَلَكٌ بالقوَّة، ويمكن أن تصيرَ مَلَكاً بالفعل إن أنت سَلكت مَسلك الأنبياء وأصحابِ النواميس الإلهية، وعَمِلت بوصاياهم المذكورة في كتبهم المفروضةِ في سنن شرائعهم، وإنَّ نفْسَك أيضاً شيطان بالقوة، ويمكن أن تصيرَ يومًا شيطانًا بالفعل إنْ أنت سلكتَ مَسْلَكَ الأشرارِ والكفار (¬1). وأيضاً: إن كلَّ إنسانٍ تكونُ نفسُه أصفى جوهراً، وأذكى فهماً كما بيَّنَّا في رسالةِ "كيفية الطريق إلى الله تعالى"، فكانت أخلاقهُ وسجاياهُ لأخلاق الكرامِ أقربَ وأَشبهَ، كما بيَّنَّا في رسالة "الأخلاق"، وكان مذهبُه واعتقادُه باعتقادِ الأنبياء ومذهب الحكماء أشدَّ تحقيقاً، كما بيَّنَّا في رسالة "الناموس"، وكانت أعمالُه وسيرتُه بأفعال الملائكة وسيرتها أشدَّ تشبُّهاً، كما بينَّا في رسائل "إخوان الصفاء" .. فأقول: إن قَبول نفسِه إلهامَ الملائكة والوحيَ والأنبياءَ أَمكنُ. والدليل على صحَّةِ ما قلنا وصايا الأنبياءِ والحكماءِ بهذا الأمر، وذلك أن موسى - عليه السلام - أوصى أولادَ هارون أن يَلزمَوا -بعد قيامهم بشريعة التوراة- خِدمةَ الهيكل المسمَّى "الزمان"، ويتعبَّدوا فيها، ويتركوا لذَّاتِ نعيم الدنيا ¬

_ (¬1) "رسائل إخوان الصفاء" (4/ 120، 121، 122).

واتِّباعَ شهواتِ النفوس، ويقتصِروا على ما لا بدَّ منه من القُوت، وما يَستر العَورة من اللباس، ويَتركوا ما سوى ذلك من الفضول، كلُّ ذلك كيما تصفو نفوسُهم، وتتهذبُ أخلاقهم، وتصير نفوسهم متهيئةً لقَبول الوحي والإلهام، وقال لهم: "مَن تعبَّد منكم على ما رَسمتُ له في هذا الهيكل أربعين سنةً مُخلصاً، جاءه الوحيُ من الله - عزَّ وجل -، ونزلت عليه الملائكة بالروح" (¬1). ° وأما الشريعةُ فقالوا: "إن الشريعةَ الإلهيةَ هي جبِلَّةٌ رُوحانية تبدو من نفسٍ جزئيةٍ في جسدٍ بشريٍّ بقوَّةٍ عقليّةٍ تَفيضُ عليها من النفس الكلية بإذن الله تعالى في دروس الأدوار، وقرآن من القرآنات، وفي وقتٍ من الأوقات" (¬2). ° ويوضِّحُ السِّجستاني أبو يعقوب إسحاقُ الداعي الإسماعيلي أيامَ المُعِزِّ لدين الله: "إنَّ النبوَّةَ لا تَحدُث بغتةً في قلبِ النبي، بل جُزءٌ، وعملٌ بعد عمل، وزيادةٌ بعد نُقصان، ونُقصانٌ بعد زيادة إلى أن يكمُلَ كونُها فتظهر مصوَّرةً مُجلاَّةً، فلا تزالُ في ارتفاع إلى أن تبلغَ منتهاه في الرِّفعة" (¬3). ° وأخطر مِن ذلك ما صَرَّح به السِّجستاني أيضاً تحت عنوان "كيفية قبول الرسالة من المرسِل"، فيقول: "إن القبولَ قَبولان: قبولُ سمع، وقبولُ ¬

_ (¬1) أيضاً الرسالة الخامسة من العلوم الناموسية - الرسالة السادسة والأربعون (ص 116، 117). (¬2) أيضًا (ص 129). (¬3) "كتاب إثبات النبوءات" للسجستاني، الفصل التاسع من المقالة السادسة (ص 111) ط بيروت - لبنان.

وَهْم، فالقبولُ السمعيُّ يكون بالكلام، والقبولُ الوَهْمِي يكونُ بالخطرات، والكلامُ يكونُ من المتكلِّم فيه آلاتُ الكلام، والخطرات من متفكِّر فيه خزائنُ العقل .. فصَحَّ مِن هذه الجهة أن قبولَ الرسل قبولٌ وَهْميٌّ يخطُرُ في أفئدتِهم ما أُرسلوا به، ثم يؤدُّون إلى الأمم بلسانهم ولغتهم" (¬1). ° ثم أجاب عن قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51]: "يعني ما كان للناطق أن يَصِلَ إليهَ خَطرٌ من كلمةِ الله تعَالى: {إِلاَّ وَحْيًا}، يعني: إلا ما يؤيِّده من جهةِ السابق {أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} يعني: أو ما يؤيِّده به من جهة السابق هن وراء التالي، فالتالي حجابٌ بين الطبيعة والعقل، إذ هو المتوسِّطُ بينهما، {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ}، يعني: أن الناطقَ إذ رَقى إلى حدِّ الناطقية فقد فُرض عليه أن يُغيِّر بلسانِه كما قَذَفَ في قلبه الروحُ الأمين من صناعةِ الأشياء ليُبَلِّغَ بذلك إلى الأمة، فنظرنا في الكلام فوَجَدْنا صوتَ الموضوع بالاتفاق والاصطلاح دالاًّ على الزمان، وإذا فُرِّقت أجزاؤه لم تَدُلَّ على شيءٍ من الكلام" (¬2). ° وقال أيضاً في كتابه الآخر: "هذا وَهْمٌ من العوامِّ أن الرسالة إنما هي إرادةُ الله تعالى أن يُرسِلَ رسولاً إلى خَلقِه فيُرسلَ إليه مَلَكاً من الملائكة" (¬3). ° وأمَّا ما يُقالُ بأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُوحَى إليه بواسطة جبرائيلَ هو من الملائكة، فليس الأمر كذلك، لأن جبرائيلَ عند الإسماعيلية ليس بمَلَكٍ من ¬

_ (¬1) "إثبات النبوءات" للسجستاني الفصل الثاني من المقالة الخامسة (ص 147، 148). (¬2) أيضاً الفصل الثالث من المقالة الخامسة في كيفية كلام الله (ص 149). (¬3) "كتاب الافتخار" للسجستاني (ص 61) ط بيروت لبنان.

ملائكة الرحمن، الذي خُصِّص بسفارةِ الرب إلى أنبيائه، ونزولِ كلامه إلى رسله، بل هو إما عبارةٌ عن أحد العقولِ العَشَرة أو عن الخيال، أو البَشَرِ الذي يزعمُ الإسماعيلية أنه كان يعلِّمُ اَلرسولَ - صلى الله عليه وسلم -. عياذاً بالله مِن اتِّهام الكَفَرة المخالِفين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، المعادِين له ولدعوته التي كان يدعو بها بأمرٍ من الله ووحيه، الذين أخبَرَ عنهم الربُّ تبارك وتعالى بقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103]، وأنهم: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30]. ° فيقولون: "إن الإمامَ نَفْس، وجبرائيلَ عَقلُ المُكنَى عنه بالخيال" (¬1). ° وأما السِّجستاني فيقول: "إن جبرائيلَ كنايةٌ عن ثقة الله الذي لا يُجاوِزُه ولا يَعدُوه" (¬2). ° وأما كون جبرائيلَ بشراً، فصَرَّح به الداعي الإسماعيلي طاهرُ بنُ إبراهيم الحارثي اليماني: "وكان العقلُ العاشرُ هو المحتجِبُ لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، المؤيِّد له، الناظرُ إليه، المُمْدِدُ له بواسطةِ الجدِّ والفتحِ والخيال عند كماله وبلوغه رتبةَ الحِجابية؛ لأن كلَّ ناطقٍ ووَصِيٍّ وإمامٍ لا بدَّ له من التعليم والترقِّي رُتبةً رتبةً، كما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]،فكان محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -آحذاً من أُبىِّ بنِ كعبٍ في حال تعليمه ابتداءً, وهو المَكنِيُّ عنه بجبرائيل" (¬3). ¬

_ (¬1) "كنز الولد" للحامدي (ص 165). (¬2) "كتاب الافتخار" للسجستاني (ص 44). (¬3) "الأنوار اللطيفة" الفصل الثاني في السرادبي الثالث (ص 126، 127).

ومعناه أن أُبَيَّ بنَ كعبٍ هو الذي كان يُعلِّمُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -عياذاً بالله- وليس هو فحسب. بل يقولون بكلمة الكفر اكبرَ من ذلك وأعظمَ، حيث يُصرِّحون أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُعلِّمُه ويُربِّيه ويُوحِي إليه خمسةٌ, لا أُبيُّ بنُ كعب وحدَه كما صرح بذلك الحامدي وغيرُه من الدعاة الإسماعيلية الكبارِ، حيث كَذَبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تَسلَّمتُ من خمسة"، وهو عَلِم ما تَسلَّمه من مراتبِ النُّطقاءِ الخمسةِ من قَبله، فأولُ مَن وقع في يدِه أبيُّ بن كعب، ورَبَّاه بحقيقةِ الوِصاية التي هي حظُّ آدم، فَعَلِمَها وقام بها، ثم رَفَعه إلى زيدِ بن عمروٍ، فربَّاه بمعاني الطهارةِ التي هي حظُّ نوح، فَعَلِمها وقام بها، ثم رَفَعه إلى عمرِو بنِ نُفيل، فربَّاه بمعاني الصلوات التي هي حظُّ إبراهيم، فعَلِمَها وقام بها، ثم رفعه عمرُو بنُ نفيل إلى زيدِ بن أسامةَ، فربَّاه بمعاني الزكاة التي هي حظُّ موسى، فَعَلِمها وقام بها، ثم رفعه إلى بحيرا الراهب، فربَّاه بمعاني الصيام الذي هو حَظُّ عيسى، فعَلِمَها وقام بها، ثم رفعه إلى حُجَّةِ صاحب الوقت التي هي خديجةُ بنتُ خويلد، وذلك بعد مزاوجته لها، وقد صار ماهراً في الشرائع ورموزها المراد بها، فرَفعت خديجةُ منزلتَه، وعَلَت رتبتُه في معاني الحجِّ وفرائضِه وسُنَنِه الذي هو حظُّه وَقِسْمُه من دعائمِ الدين. ثم أَمَرها إمامِ الوقت بتسليم وديعته إليه، من الرسالة والنبوة، فهؤلاء النُّطقاء الخمسةُ الذين تسلَّم منهم، والخمسةُ التي هي بينه وبين ربّه .. أي بينه وبين إمام زمانه مُربِّيه وكفيلِه، فهم: أُبَي بن كعب، وزيدُ بنُ عمرو، وعمرو بنُ نفيل، وزيدُ بن أسامة، وبَحِيرَا الراهب (¬1). ¬

_ (¬1) "كنز الولد" للحامدي الباب الحادي عشر بعنوان (القول على الحدود العلوية والسفلية =

° ونَظَم هذا الداعي الإسماعيليُّ محمدُ بن علي الصُّوري في قصيدته تحت عنوان "القول في محمد": "ومات للحِين أبوه وأمُّهُ ....... وكان ذو الكفلِ الكريمُ عمَّهُ حتى إذا تُوِّج بالجلال ....... وصار في مرتبةِ الكمالِ زَوَّجه خديجةَ المبجَّلةْ ...... لأنَّ منها فاطمةَ المفضلةْ مِن بعدما صاحَبَ حِينًا مَيسرةْ ...... وهو الذي أفاده وأبصَرَهْ ثم أتى زيدٌ وعمروٌ بعدَهُ ....... فاض عليه الفتح والجد ... " (¬1) وأما الربُّ وإمامُ الزمان، الذي يقول الإسماعيلية: إن الرسولَ صرَّح به في قوله: "أخذت من خمسة، وسُلِّمتُ إلى خمسة، وبيني وبين ربي خمسة"، كما روى ذلك الحارث اليماني الداعي الإِسماعيلي إبراهيم، وأشار إليه الحامدي أيضاً. فالربُّ في قوله عليه الصلاة والسلام هو "أبو طالب"؛ لأنه هو الذي أرسله وأقامه، وهو كان إمامَ الوقت الذي كانت خديجةُ حُجَّته أيضاً كما ذكر ذلك الحارثي واضحاً وجليًّا. فقال: "قولُ ناطقِ دَوْرِنا - صلى الله عليه وسلم -: "أخذتُ من خمسة، وسُلِّمتُ إلى خمسة، وبيني وبين ربِّي خمسة"، فالخمسةُ الذين أَخذ منهم هم الخمسةُ ¬

_ = ومعرفتهم الذين هم أسماء الله الحسنى الذين إذا دُعي بهم أجاب خيرته من خلقه" (ص 210)، أيضًا "المجالس المستنصرية" (ص 25) بتحقيق دكتور محمد كامل حسين ط دار الفكر العربي، أيضاً "كتاب أجزاء عن العقائد الإسماعيلية" للداعي إبراهيم (ص 72) ط. باريس بتحقيق كويارد. (¬1) رسالة إسماعيلية واحدة "القصيدة الصورية" (ص 57).

المتقدِّمون عليه الذين تعلَّم كُتُبَهم المنزَّلةَ عليهم، وشرائعَهم التي شَرَعوها، وأوضاعَهم التي وضعوها، وتحقَّق تأويلاتِها ومعانيَها وحقائقَها، فالخمسةُ الذين بينه وبين ربِّه هم الحدودُ الدينية الذين أَخذ منهم، وتَعلَّم في بَدءِ أمرِه منهم، ورَقَّوه في مراتبِ الدين شيئاً بعد شيءٍ إلى أن بَلغ ذُورتَها، وهم: أُبيٌّ، وزيدُ بن عمرو، وعمرُو بن نفيل، ومَيسرة، وخديجةُ بنتُ خويلد، وهم حدود صاحب الوقت المقيم له المُعلي رُتْبَتَه، المسلِّم له وهو عمُّه أبو طالب" (¬1). وخلاصة ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُقِمْه على مَنصبِ النبوَّة، ولَم يَبعثْه رسولاً إَلاَّ أبو طالب، كما أنه لم يُوحِ إليه، ولم يُعلِّمْه ولم يُفِدْه ويُبصِّرْه إلا أُبَيّ، وميسرة، وزيدُ بن حارثة، وعمرو بن نفيل، وبَحيرا الراهب، مع حُجَّة أبي طالب خديجة -رضي الله عنها -، فمحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - هو رسول الربِّ -أي أبي طالب-، وموحّى إليه من قِبَل أُبيٍّ وغيرِه، ومُعَلَّم من قبل خديجة -عياذًا بالله-. ° وهذه نصوصٌ زيادةٌ على ما ذكرناه آنفاً: ° فيقول الحامدي مفسِّرًا وشارحاً كلام المؤيَّد الذي نقله في كتابه: "وقوله -أي: المؤيَّد الشيرازي- بأربابٍ أدوارٍ تقدَّمت فيها الأنبياءُ والأسبابُ، يدلُّ على أن هذه الأربابَ المتقدِّمة على الأنبياء هم الذين أقاموهم مثل هُنيد مقيم آدم , وهود مقيم لنوح , ومثل صالح لإبراهيم، وآد لسوسي , وخُزَيمة لعيسى، ومثل أبي طالب لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. فهذا معناه في أربابِ النقطاء، والأسباب هم الأوصياء والأئمة ¬

_ (¬1) "الأنوار اللطيفة" الفصل الثاني من السرادق الثالث (ص 160 - 161).

القائمون مقامَهم مِن بعدِهم، وحدودهم، بيانُ ذلك قوله: أربابُ أدوارٍ فيها تقدمت الأنبياء والأسباب" (¬1). ° وقال الحارثيُّ اليمانيُّ ببيانٍ أوضحَ من ذلك وأظهر: "فقام أولُ نُطقاءِ دَورِ السِّتر وهو آدمُ - عليه السلام - بأمرِ ذلك الإِمام الذي هو صاحبُ الزمان .. ولا يزالُ ذلك كذلك إلى أن يُقيمَ أساساً يَخلُفه في أمته، وانتقل إلى دارِ كرامةِ الله تعالى، وجَرَت الإمامةُ متسلسلةً من إمامٍ إلى إمام إلى وفاءِ دَورِه، وقام بعدَه الناطقُ الثاني، وهو نُوح - عليه السلام - وقيامُه عن أمرِ إمام زمانه، وهو هود - عليه السلام -، وضِدُّه عَوْج بن عَنق، فقنَّن قوانين، وشَرعَ شرعاً غير ذلك الأول، ودعا إلى عبادةٍ ظاهرة، هي رُموزٌ واشاراتٌ إلى حدود الله الروحانية والجُسمانية، الدالة على توحيده وتنزيهه، إلى وفاءِ ما عليه من الخِدمة، ثم أقام وصية "ساما" - عليه السلام - خَلَفاً في أمته، ومؤوِّلاً لباطنِ شريعته، ثم نَصَّ عليه، وانتَقَل إلى دارِ كرامة الله تعالى، وجَرت الإمامةُ متسلسلةً إلى تمام دَوره، وقام إبراهيمُ - عليه السلام- عن أمرِ إمامِ زمانه، الذي هو صالح -عليه السلام- ,فكان ضدَّه النمروذُ بن كنعان، فقنَّن قوانين، وشَرعَ شرعاً جَعَل فيه رموزًا وإشارات، إلى معرفةِ حدودِ الله الرُّوحانية والجُسمانية الدالةِ على معرفةِ توحيد الله وتنزيهه، إلى وفاء ما عليه من الخِدمة، وأقام وصيَّه إسماعيل -عليه السلام- وانتَقل إلى دارِ كرامة اللًّه، وجَرَت الإمامةُ متسلسلةً في عَقِبهِ إلى وفاءِ دوره، وقام موسى - عليه السلام- عن أمرِ إمام زمانِه الذي هو "أد" -عليه السلام-، وكان إبليسه فرعون, قائماً بإزائه , ففعل كما فَعل مَن كان قبله إلى وفاء ¬

_ (¬1) "كنز الولد" للحامدي (ص 206، 207).

دَوره، وقام عيسى -عليه السلام- عن أمرِ إمام زمانِه الذي هو حُزيمة -عليه السلام-، ففعل كفِعل مَن كان قبلَه إلى وفاءِ دَوره، وقام محمدٌ -عليه السلام- عن أمرِ إمام زمانه الذي هو أبو طالب وكان له ضِدَّان أبو لهب وأبو جهل، إلى أن أوفى ما عليه من الخِدمة، وأكمَلَ قوانينَ شريعتِه التي هي رموزٌ وإشاراتٌ إلى حدودِ الله تعالى الرُّوحانية والجسمانية الدالةُ على توحيد الله تعالى وتنزيهه، ثم أقام وَصيَّه عليَّ بنَ أبي طالب -عليه السلام-، وانتقل إلى دارِ كرامةِ الله تعالى" (¬1). ° وذكر الحامديُّ أيضاً في كتابه مفصِّلاً ما أجمَلَه في شرح وتفسير كلام المؤيد: "وذلك أنَّه لَمَّا آنَ قيامُ الناطقِ السادسِ الذي هو ممثولُ اللحم في الشرائع، وزَوَّجه صاحبُ الوقتِ بخديجةَ بنتِ خويلد -عليها السلام- وهي حُجّته، فزاوجها على الظاهرِ والباطن، كما زاوَجَ إبراهيم سارة، فرَفعت "خديجة" منزلته -كما ذكرنا- بأمرِ وليِّ الأمر، وسَلَّمت إليه رُتبةَ النبوةِ والرسالة، وهو ما رُوي أن خديجة أسلمت يوم الإثنين وقتَ الظُّهر، وهو اليومُ الذي بُعث فيه، والوقتُ الذي قام به مرسَلاً، وقولهم: "إن عليًّا أسلم يوم الثلاثاء وقتَ الظهرِ بعد مَبْعثهِ بيوم، فكان بين إسلام خديجةَ وإسلامِ على خمسُ صلوات في خمسةِ أوقات"، والمعنى في ذلك أنَّه لَمَّا تَسلَّم من خديجةَ رتبةَ النبوَّةِ والرسالة في الظاهرِ المحض، الذي هو حَظُّ النّطقاء قبلَ إسلام عليٍّ، ومعنى "إسلام علي" يعني أن المَقامَ -الذي هو صاحب الوقت- لمَا كان في كهفِ التقيَّة وحُجُب الاستتار من قريشٍ وغيرهم، لحَسَدهم وتكبُّرِهم، وانكتام الأمرِ من إسماعيلَ بنِ إبراهيم ¬

_ (¬1) "الأنوار اللطيفة" (ص 108 , 109).

-عليه السلام-، تَنَبَّه، فأَمر حُجتَه "بنت خويلد خديجة" بإحضارِها، والخمسة حدود الذين هم بينه وبين ربَه -الذين تقدَّم ذكرهم- بأمرِ الله له ووحيهِ إليه، أن يَستكفلَ محمدًا لعليٍّ رُتبةَ الوِصايةِ والإمامةِ، ويستودعَها فيهم له، فشَرَحت خديجةُ عليه ما أُمرت، وبَيَّنت له أنَّه وصيُّه ووارث عِلمِه، والذي تجتمعُ إليه المراتب، وهو مستقَرُّ الباطنِ ومركزُه، وأساسُ الدين، وأَخذت عليه عَهدَ الكَفالة والوفاءِ بالوديعة لوصيِّه مِن بعدِه، لأنه مقامُ النور، والحجابُ المشهور، والبابُ المستور، الذي اسمُه في العصور والدهور: نهايةُ النهايات، وغايةُ الغايات، صاحبُ الظهورِ اللطيف المتسلسل معناه من أولِ السُّلالةِ الشرعيةِ إلى ظهورِه مع الرتبة اللحمية، فبَسَط يَدَه للعهد على ذلك، وأقرَّ بما هنالك، فرضي عليٌّ بكفالته ووديعته، وسَلَّم الأمرَ لصاحبِ الأمر، واستسلم بالدخول تحتَ طاعتِه وخِدمته، إلى وفاءِ مُدَّته، فذلك معنى "إسلام علي"، وهو الرضاء والتسليم بالحقيقة" (¬1). ° وأما الداعي الإسماعيليُّ عليُّ بن الوليد، فقد ذكر في هذا المعنى: "كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَجْمَعًا لعلومه تلك الظاهرة، ونَفَخ فيه مُقيمُه ومؤيِّدهُ الذي هو عمُّه الروحَ الحياةَ التي مَن نُفِخت فيه فقد نال ثوابَ الدنيا وحُسنَ ثوابِ الآخرة، وأعلى قَدْرَه على جميع العالَمين، وجَعَله دونَ الناس مبلِّغاً , لمَا يَنزلُ به الروحُ الأمينُ على قلبه، ليكون من المُنذِرين، بلسانٍ عربيٍّ مُبين، فصار للكل مَجمعاً , ولمتفرِّقاتِ الفضائِل مَحِلاًّ وموضِعاً، - صلى الله عليه وسلم -" (¬2). ¬

_ (¬1) "كنز الولد" (ص 216، 217). (¬2) "الذخيرة في الحقيقة" لعلي بن الوليد بتحقيق الأعظمي الفصل الثامن عشر (ص 108،=

° وبصراحةٍ أكثرَ ما ذكره المفسر الإسماعيليُّ ضياءُ الدين في سورة "القصص" تحت آية: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} [القصص: 85]: "يعني المولى عِمْران (¬1) بدعائِك إلى العين عليٍّ {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]، يعني: لَمُرقِّيك بالانضمام إلى العين، وأيضاً إن الحجابَ النبويَّ المقيمَ لحجابه الوصيِّ رادُّه العين ينضمُّ إلى ذلك الحجاب الذي أقامه، وذلك كائنٌ في كل دَورٍ لموجَبِ الأسباب الأصلية" (¬2). ° وأيضاً ما ذكره تحت قول الله - عزّ وجلّ -: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} [النمل: 91]، قال: " {إِنَّمَا أمِرتُ}، أي: من عمران {أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ}، يعني: أن أتوجَّهَ بالدعاء إلى العين -يعني: عليَّا- والبلدة هي دائرتُه الذي حَرَّمها، يعني: دخولَها على أهلِ البغي، {وَلَهُ كلُّ شَيْءٍ}، يعني: من التدبير والإنشاء والتصوير" (¬3). ° وعلى ذلك قال شهابُ الدين أبو فراس: "ولما كانت الأعدادُ مبدؤها من الواحد، وعودتها إليه عند انحلالها، كذلك الرسلُ مبدؤهم من الإِمام القائم بدَوره في الابتداء، ومنتهاهم إليه في الانتهاءِ في دَور الكشف، فالإمامُ عِلَّةُ المخترعات، وبه تَرتَّبَ الخَلقُ والدِّين، وعندما تنتهى مُدُّته وتَحين فَترته، ينتقلُ الأمرُ إلى شخصٍ آخَرَ من دعوته وهو الذي ينصُّ ¬

_ = 109) دار الثقافة بيروت 1971 م. (¬1) عمران اسم لأبي طالب. (¬2) "تفسير مزاج التسنيم" سورة القصص الجزء الثالث من القسم الرابع (ص 359). (¬3) أيضاً سورة النمل (ص 342).

عليه ويشير إليه" (¬1). ° والجديرُ بالذِّكر أن أبا طالب هو الثاني بعدَ نبيِّ الله إبراهيم، الذي اجتمع فيه الرتبُ الأربع: "الوصاية، والإِمامة، والنبوة، والرسالة": "وقام أبو طالب بالرُّتبِ الأربع، إلى أن بَلَغَ محمدٌ أشدَّه" (¬2). هذا وإن الأنبياءَ لا تكونُ دعوتُهم إلا إلى عليٍّ، وخاصةً نبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - لم تكن دعوتُه حَسْبَ زعمِ الإِسماعيلية- إلا إليه. ° وبذلك صرَّح جعفرُ بنُ منصور اليمن باب الأبواب للإِمام الإسماعيلي المعزِّ لدين الله، في كتابه الباطني المشهور تحت قوله الله -عز وجل-: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}: "معنى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}، أي: على الله سبحانه يتعبَّدُ الخَلق بما يختارون لأنفسِهم {وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ}، يعني: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَدعُوه إلى اتِّباع عليٍّ، وهو أولُ مَن أسلم، فاسمه وطاعتُه الإِسلام" (¬3). ° وبمثل ذلك قال المفسر الإِسماعيلي: "قال تعالى للميم "محمد"، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}، يعني: ادعُ إلى المَقام العُلويِّ، حَمدُ الربِّ لك وهو المقام العمراني {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ}، يعني: قبل اتصال النصِّ عليه من العاشر" (¬4). ¬

_ (¬1) "مطالع الشموس في معرفة النفوس" لشهاب الدين (ص 33) من أربع رسائل إسماعيلية. (¬2) "الأنوار اللطيفة" الفصل الخامس من السرادق الثالث من الباب الأول (ص 124). (¬3) "كتاب الكشف" (ص 158, 159) (¬4) "مزاج التسنيم" سورة طه (219).

وأيضًا: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ}، "يعني: إيضاحَ مقامٍ العينَ "عليٍّ" في كلِّ دور لكونك الداعى إليه" (¬1). ° وأيضًا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، "يعني: بإيضاح مقامٍ "العين"، وكذلك الرحمة لمن اعتَرف بمَقامه في القديم، فجرى على ذلك في الحديث، ثم قال تعالى "للميم": {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ}، يعني: "العين"، {إِلَهٌ وَاحِدٌ}، يعني: متوحِّدٌ في مقام العظمة" (¬2). ولو أنه قَصَّر في الدعوة إليه لَهَبطت منزلته، وسُلبت منه نبوّتُه ورسالته، كما قال الصوري: "فأنزل الله على نبيِّهْ ....... أن يُظهرَ النصَّ على وَصيِّهْ فخاف مِن أصحابِه لعِلمِه ..... بكيدِهم وما نَوَوْا مِن ظُلمهْ وقيل: لا تُشرك فإن أشركتْ ...... ليُحْبِطنَّ اللهُ ما عَمِلتْ فقُمْ وبَلِّغْ لا تَخَفْ فرحمتي ...... تنالُك اليومَ وكنْ في عصمتي" (¬3) ° وأما أنه إليه الدعوةُ في كلّ عصرٍ وزمان، فكما قاله صاحب "الكشف": "قال النبي - عليه السلام -: {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} [الأنبياء: 24]، أراد بذلك أن الذِّكرَ الذي معي هو الذِّكرُ الذيَ كان يدعو إليه مَن كان قبلي , العلم الذي قام به أميرُ المؤمنين صلواتُ الله عليه الذي إليه ¬

_ (¬1) أيضًا تفسير سورة مريم (ص 199). (¬2) أيضاً تفسير الأنبياء (ص 239). (¬3) "القصيدة الصورية" (ص 60).

الدعوة في كلِّ عصرٍ وزمان {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 24] أراد بذلك أصحابَ العَقَبة، لأنهم أعرَضوا عن الحقِّ وعن الأقرارِ به، وهو الإمام صلوات الله عليه عنده عِلم ما يحتاج الناس إليه من جميع البلايا والمنايا والوصايا والأسباب والأقسامِ والآجال" (¬1). ° ونَقل إبراهيمُ الحامدي أيضاً عن جعفر بنِ منصور اليمن أنه قال: "إن الله لا يقبل توبةَ نبيٍّ، ولا اصطفاءَ وَصِيٍّ، ولا إمامةَ وليً، ولا عَملَ طاعةٍ من عاملٍ -ولو تقطَّع في العبادة واجتهد- إلا بولاية علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وآله، فمَن أتى بغيرِ ولايةِ علي بن أبي طالب صلوات الله عليه أُسقطت نبوَّته ووصايتُه وولايته وصالحُ عمله، ولم يَقبل اللهُ منه، ولا زَكَى عَمَلَه، وعليٌّ منه السلام مِن وَلَدِ إسماعيلَ بن إبراهيم، لا مِن ولد إسحاق صلى الله عليهم أجمعين، وأيّ فضلٍ أعظم من هذا الذي ما له شَريك فيه - بل هو مخصوصٌ به وحده؟!. فكما أن الله واحدٌ أحدٌ فردٌ صَمَد، لا شَريكَ معه في مُلكه، ولا صاحبةَ ولا ولد، كذلك مولانا عليٌّ - عليه السلام - واحدٌ في فَضله، أحدٌ فَردٌ صَمدٌ لا شريكَ له فيه، ليس له كفواً أحد" (¬2). وبمثل ذلك قال الحارثي اليماني (¬3). ومعنى هذا كله أن الأصلَ هو عليٌّ، لا محمدٌ. ¬

_ (¬1) "كتاب الكشف" (ص 84). (¬2) "كنز الولد" للحامدي (ص 218). (¬3) "الأنوار اللطيفة" الفصل الثاني من السرادق الثالث الباب الثالث (ص 126).

° لأنَّ الرّتبَ الأربعَ لمَ تجتمعْ في أحدٍ بعد أبي طالب إلاَّ في عليٍّ ابنه: "والذي تجتمعُ إليه المراتبُ الأربع، هو مستقَر الباطن ومركزُه وأساسُ الدين .. وأنه مقامُ النور، والحجاب المشهور، والبابُ المستور، الذى اسمه في العصور والدهور: نهايةُ النهايات وغاية الغايات" (¬1). ° وقال الحارثي: "ولما كان أمير المؤمنين بهذه الحالةِ التي لَم يَبلُغْها أحدٌ غيره، اتَّصل به العقلُ العاشر اتصالاً كليّاً , ولَحِظَتْه القُوى الإِبداعية لحظًا سرمديًّا، ورَمَته بأشعتها، واتصلت به الموادُّ الإِلهيةُ فوقَ ما اتَّصلت بكلِّ مقامٍ قبلَه" (¬2). ° "وعليٌّ هو الحائزُ لرتبةِ الظاهر والباطن" (¬3). ° "ومعلومٌ أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لَم يَحُز إلا رتبةَ الظاهرِ فقط .. وأكثرُ من ذلك أن محمدًا كان مؤيَّدًا بعلي" (¬4). ° "ومنصوراً به" (¬5). ° وبه عَظُم شأنُه كما قال القاضي النعمان: "وإنما عظُم فضله، وعَلَمت منزلتُه بوصيِّهِ علي إمام المتقين، صاحب التأويل، ومبيَنِ الشرائع للمرسلين" (¬6). ¬

_ (¬1) "كنز الولد" (ص 216)، أيضاً "كتاب الكشف" لجعفر بن منصور اليمن (ص 158). (¬2) "الأنوار اللطيفة" الفصل الأول من السرادق الثالث من الباب الثاني (ص 125). (¬3) انظر "المسائل المجموعة" (ص 130) من "أربعة كتب إسماعيلية". (¬4) "المجالس المؤيدية " للشيرازي (ص 192). (¬5) "أساس التأويل" للنعمان القاضي (ص 357). (¬6) "الرسالة المذهبة" للقاضي النعمان (ص 86) من "خمس رسائل إسماعيلية" تحقيق عارف تامر.

ولِمَ لا يكون كذلك؟. ° لأنه هو الذي أنبأ النبيِّين، وأرسل المرسَلين، وهو بكلِّ شيءٍ عليم -عياذًا بالله - كما قالوا: "وإنه هو مَجْمَعُ الأنبياءِ والأولياءِ والأئمَّةِ مِن أولِ الأدوار إلى قيامه" (¬1). ° و"هو الأول والآخر والظاهرُ والباطن، وهو الذي سَمَك السماء، وسطَح الأرض، وأجرى الأنهار، وأنبَتَ الأشجار، وبسببه دارتِ الأفلاك، وتناظَرت الأملاك، وتمخَّدت الطبائع والأمهات، أُذنُ الله الراعية، ويدُه المبسوطة، والمَخرجُ لهم من الظلمات إلى النور" (¬2). ° "وهو الذي كان يَنزِلُ على قلبه" (¬3). ° وهو الذي قال عنه الرسولُ - عليه السلام - كما يكذبون عليه-: "علي أبو عِترتي، وساترُ عَورتي، ومُفَرِّجُ كربتي، وغافرُ خطيئتي" (¬4). ° "وأنه كان مولَى رسول الله، ورسولُ الله عبده " اهـ. ° اللهم إني أعوذُ بك من نَقل هذه الكلماتِ الكفرية، كما ذكر ذلك الحارثيّ اليمانيُّ في كتابه بعد ذِكر كلامِ جعفر بن منصور اليمن الذي ذكرناه سابقاً "أن عليًّا هو مَجْمَعُ الأنبياء والأولياء والأئمَّةِ من أول الأدوار إلى قيامه". ° قال: "ومِن هذه الجهة والحالة صَحَّ قولُ الداعي عَبدان: إن الجمعةَ ¬

_ (¬1) "الأنوار اللطيفة" (ص 125، 126). (¬2) "كنز الولد" (ص 217 و 219). (¬3) "تأويل الزكاة " لمنصور اليمن (ص 16) مخطوط. (¬4) "سرائر النطقاء" لجعفر بن منصور اليمن (ص 209) مخطوط.

على خِدمة المولى لعبده في هذا الدَّور؛ لأن أصحابَ الدعوةِ الظاهرةِ في الأدوار الماضية - الذين هم أولاد إسحاق -عليه السلام - كانوا حُجَجًا ودُعاةً وخَدَماً لأربابِ الدعوات الباطنية - الذين هم أولاد إسماعيل - عليه السلام -، واجتمعت أولاد إسحاقَ عند ناطق الدور - صلى الله عليه وسلم -، وَجَب في مزيَّةِ عدلِ الله تعالى خِدمةُ أميرِ المؤمنين لمحمد - صلى الله عليه وسلم - قضاء بما سبق من خِدمةِ أولاد إسحاق، ولأولاد إسماعيل ميزانُ العدل قائم، وهذا معنى خدمةِ المولى لعبده، وقيامِه معه بين يديه، وسَعيه معه، ومحاربتِه لأضداده، وقَتلِه لمن أنكر منزلتَه، وجانَبَ عن طاعته وجهادِه لأهل الكفر المعانِدين له، كما كان خادمًا له في دَور إبراهيم وموسى وعيسى، حَذْوا بحذوٍ، لا يغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها" (¬1). ° وإليه أشار الصُّوري في قصيدته عند ذِكرِ النبيِّ ومحاولةِ الأعداء قتله: واقتَرَنَ المُبغِضُ بالحسودِ ....... به مِن الكفار واليهودِ واجتَهدوا في قَتلِه واشتركوا ...... ولو استطاعوا قتلَه لَفَتَكوا لكن حَمَاه منهم مولاهُ ....... فقام بالفِديةِ واجتباه" (¬2) ° فهذه هي العقائدُ الإسماعيلية في النبوة والأنبياء، وفي رسول الله الصادق الأمين، المخالفة لنصوص القرآنِ وصريح السُّنة، والمبنيَّةُ على الكفر المحض، حيث أن الله يقول: * {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75]. ¬

_ (¬1) "الأنوار اللطيفة" الفصل الثاني من السرادق الثالث من الباب الثاني (ص 126). (¬2) "القصيدة الصورية" (ص 57).

* {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64]. * {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38]. * {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ} [الحجر: 10]. * {أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]. * و {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28]. * و {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. * و {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} [الجن: 28]. * و {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144]. * و {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر: 6]. * و {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]. * و {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. * و {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71]. * و {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]. * و {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} [البقرة: 151]. * و {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]. * و {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأحزاب: 2].

الإسماعيلية وقولهم بنسخ شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -

* و {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ} [آل عمران: 44]. * و {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف: 43]. * و {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [الأنبياء: 108]. * و {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الأحزاب: 2]. * و {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114]. * و {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [الأعراف: 117]. * و {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. * و {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [الأنعام: 48]. * و {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 79]. * و {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61]. * و {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة: 99]. * الإسماعيلية وقولُهم بنَسخ شريعةِ محمد - صلى الله عليه وسلم -: ° ذكر الإِمام الغزاليُّ فيِ كتابه "فضائح الباطنية" أو كتاب

"المستظهري" تحت عنوان "الطرف الخامس في اعتقادهم في التكاليف الشرعية": "والمنقولُ عنهم الإباحةُ المطلقة، ورفعُ الحجاب، واستباحة المحظورات واستحلالُها وإنكارُ الشرائع، إلاَّ أنهم بأجمعِهم يُنكرون ذلك إذا نُسب إليهم، وإنما الذي يَصحُّ من معتقَدِهم فيه أنهم يقولون: لا بدَّ مِنَ الانقيادِ للشرع في تكاليفه -على التفصيل الذي يُفصِّلُه الإِمام-، من غير متابعةٍ للشافعيِّ وأبي حنيفة وغيرهما؛ وإن ذلك واجبٌ على الخَلق والمستجيبين إلى أن ينالوا رُتبةَ الكمال في العلوم، فإذا أحاطوا من جهةِ الإِمام بحقائقِ الأمور، واطَّلَعوا على بواطنِ هذا الظواهر، انحلَّت عنهم هذه القيودُ، وانحطَّت عنهم التكاليفُ العَمَلية، فإنَّ المقصودَ من أعمال الجوارح تنبيهُ القلبِ لينهضَ لطلب العلم، فإذا ناله استعدَّ للسعادة القُصوى، فيَسقطُ عنه تكليفُ الجوارح، وإنما تكليفُ الجوارح في حق مَن يَجري بجهلِه مَجرى الحُمُرِ التي لا يمكنُ رياضتُها إلاَّ بالأعمالِ الشاقَّة، وأمَّا الأذكياء والمدركون للحقائق فدرجتُهم أرفعُ من ذلك. وهذا فنٌّ من الإِغواء، شديدٌ على الأذكياء، وغرضُهم هدمُ قوانين الشرع، ولكنْ يخادعون كلَّ ضعيفٍ بطريقٍ يُغويه ويليقُ به، وهذا من الإِضلال البارد، وهو في حُكم ضربِ المثال، كقول القائل في الاحتماء عن الأطعمة المُضِرَّة: "إنما يجبُ على مَن فسَد مزاجُه؛ فأمَّا مَنِ اكتَسَب اعتدالَ المِزاج , فليُواظب على أكل ما شاء أىَّ وقتٍ شاء"، فلا يلبث المُصغي إلى هذا الضلال أن يُمعن في المطعومات المضرَّة إلى أن تتداعى به إلى الهلاك" (¬1). ¬

_ (¬1) "فضائح الباطنية" لأبي حامد الغزالي (ص 46 - 47) - طبع مؤسسة دار الكتب الثقافية - الكويت.

والإسماعيليةُ يقولون برفع التكاليف العَملية، ونسخ الشريعة المحمديَّة .. وعندهم أنَّ النطقاءَ السَّبعةَ في دَور السِّتر: آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، وقائم الزمان. وأكبرُ دليلٍ على ما قلناه هو دُعاءُ "المعزِّ لدين الله" الإِمام الإسماعيليِّ الرابع في دَور الظهور، الذي له منزلةٌ كبيرة في أعينِ الإِسماعيلية، حيث إنه هو الرابعُ من الظهور، والسابعُ من محمد بن إسماعيل، والسابعُ هو مُتِمُّ الدَّور، وله منزلةٌ عالية ودرجةٌ سامية في الفلسفة الإسماعيلية، وكذلك هو الرابعُ من الهدي الإِسماعيلي، وللرابع مكانةٌ كبيرة أيضاً لدى الإسماعيلية، إضافةً إلى أنه هو الذي فَتح مصر، وأقامَ فيها الدعوةَ الإسماعيلية, والمذهبَ الإسماعيلي، ونشر هذا المذهبَ من مصرَ إلى أطرافِ الأرض وأكنافها، كما أن "المعِزَّ" هذا صرَّح نفسُه بأنه يَسبقُ جميعَ مَن تقدَّمه من الأئمة والوَصِي، وحتى الناطق محمد صلوات الله وسلامه عليه (¬1). ° يقول "المعِزُّ" هذا، في دعاءِ يومِ السبت، من أدعية الأيام السبعة: "اللهم صلِّ على أبينا آدمَ الذي شرَّفتَه وكرَّمتَه .. وصلِّ على بابه ووصيه شَيثِ بن آدم، وعلى أئمَّة دَوره وهم ستة .. اللهمَّ صل على رسولك نوح .. الذي شرفتَه وكرًّمتَه، وعطلَّلت ظاهرَ شريعةِ آدم، وجعلتَه ثانيَ النطقاء .. اللهم صلِّ على خَليك إبراهيمَ بنِ تارخ الذي شرَّفتَه وكرَّمتَه، وعَطَّلتَ به ظاهرَ شريعة نوح، وجعلتَه ثالثَ النطقاءِ .. اللهمَّ صلِّ على نَجِيِّك موسى بنِ عمران الذي شرَّفتَه وكرَّمتَه، وعَطَّلتَ به ظهرَ شريعةِ إبراهيم، وصيَّرته رابعَ النطقاء .. اللهم صلِّ على رُوحِك المسيح عيسى ابن ¬

_ (¬1) انظر "المجالس والمسامرات" للنعمان (ص 107) الجزء الثالث - طبع تونس.

مريم الذي شرَّفتَه وكرَّمتَه، وعَطَّلتَ به ظاهرَ شريعةِ موسى، وصيَّرته خامسَ النطقاء .. واخصُصِ اللَهمَّ محمدَ بنَ عبدِ الله من ولدِ إسماعيلَ الذي شرَّفتَه وكرمتَه، وعَطَّلتَ به ظاهرَ شريعةِ عيسى، وصيَّرتَه سادسَ النطقاء .. وعلى القائم بالحقِّ والناطقِ بالصِّدقِ، التاسع من جدِّه الرسول، والثامنِ من أبيه الكوثر، السابع من آبائه الأئمَّة من البررة .. الذي شرفتَه وعظَّمتَه وكرَّمتَه، وخَتَمتَ به عالَمَ الطبائع، وعطلتَ بقيامه ظاهرَ شريعةِ محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتملأ به الأرض عدلاً وقِسطًا كما مُلِئَتْ جَورًا وخَبْطًا كالذي قال النبي: "المهديّ منا أهل البيت، رجلٌ أشمُّ الأنف، أقنى اكحل، يملأُ الأرضَ عدلاً كما مُلئت جورًا وخَبْطًا"، وهو مُترجِمُ القرآن ومفسرُه ومُظهِرُ بيانِه ومنوِّرُه، وهو قائمٌ يومَ القيامةِ والفصل والتغابُنِ والبعثِ والنشر: يومَ لا ينفع الظالمين معذرتُهم .. وصلِّ على الخلفاءِ الراشدين الذين يقضُون بالعدل وبه يعدلون" (¬1). وذَكَر المُعِزُّ هذا في دعاءِ يوم السبت؛ لأنه دليل على القائم، كما أن يوم الأحدِ دليلٌ على آدم، والإِثنين على نوح، والثلاثاءِ على إبراهيم، والأربعاءِ على موسى، والخميسِ على عيسى، والجمعةِ دليل على محمدٍ صلوات الله عليهم (¬2). ¬

_ (¬1) "أدعية الأيام السبعة" للمعز لدين الله الإِمام الإسماعيلي الرابع عشر، دعاء يوم السبت، أيضاً "زهر المعاني" للداعي إدريس (ص 56) من "المنتخب" لايوانوف ط مطبعة أجمل بريس بومبي، وكذلك "الأنوار اللطيفة" الباب الثاني من السرادق الثالث الفصل الخامس (ص 130). (¬2) انظر "رسالة الأصول والأحكام" للداعي حاتم بن عمران (ص 116) من "خمس رسائل إسماعيلية" ط. بيروت 1956 م.

وعباراتُ هذا الدعاءِ صريحةٌ في معناها، ظاهرةٌ في مفهومها , لا تحتاج إلى توضيحٍ وبيان بأنَّ محمدَ بن إسماعيل نَسِخَ شريعةَ محمدٍ رسول الله الذي جَعَله اللهُ خاتَمَ النبيين، وأكمَلَ به الدين، كما أن محمداً صلوات الله وسلامه عليه نَسخ بمجيئه شريعةَ عيسى - عليه السلام -، وكما أن عيسى نَسخ شريعةَ مَن قَبله .. وهلمَّ جرًّا. واستعمَلَ المُعزُّ -وهو إمامٌ معصومٌ لدى الإسماعيلية لا يخطىُء ولا يَلحَن، ولا يَنطِقُ عن الهوى إن هو إلاَّ وحيّ يوحَى- نفسَ العبارة، وعَيَّن الألفاظَ لمحمدِ بنِ إسماعيل، التي استعملها لمحمدِ بن عبد الله وغيرِه من النطقاء الخمسةِ الذين نسخوا شريعةَ مَن قبلَهم من الأنبياء والنطقاء. ثم إنَّ هذا لم يُنقل عن المعزِّ وحدَه، ولو كان منه وحدَه لكان كافياً للحُجة والتدليل؛ لأنه إمامٌ معصوم -حسب زعم القوم-، وحائزٌ على مرتبة الألوهيَّة والربوبيَّة -كما مرَّ بيانُه في مبحث الإِلهيات ومبحثِ الإِمامة-، بل وصرَّح بهذه الحقيقة الآخرون أيضاً، كما أنه لَم يَرِدْ ولم يُنقل في كتابٍ واحد، ولا من كتابٍ واحد، بل وَرَد هذا الدعاءُ في الكتب الكثيرة الإِسماعيلية. هذا ولقد ذَكر هذه الحقيقةَ كثير من الدعاة الإسماعيلية، وأثبتوها في كتبهم الباطنية بأساليبَ متعددةٍ وطرقٍ مختلفة. ° فيقول الداعي إدريسُ عماد الدين المتوفَّى سنة 872 هـ: "وقام محمد بن إسماعيل صلوات اللَّه عليه وهو سابعُ الأئمَّة وقائمُهم مقابل لجده عليٍّ أمير المؤمنين تمام الدَّور الرّوحاني، والخلق الآخر الذي هو نفس الشيء ورُوحُه ومعناه، وهو تمامُ الدَّور الأول، ومنه ابتدأ الدورُ الثاني .. فقام

محمدٌ باللسان، وصَمَت عنه السيفُ إلى بلوغ الكتاب أجَلَه، فأظهر العلومَ، وبيَّن الحقائق، وكَشَف لخلفائِه منها السرَّ المكتوم، فظَهَرت منه حقائقُ معجزاتٌ ودلائلُ وآياتٌ لَم تَظهر في الأئمَّة من قبله، ولا قام أحدٌ منهم كمِثله لأنه السابعُ صاحبُ القوَّةِ والظهور، والضياءِ والنور، ومبيِّن العلم المستور. وكان محمدُ بنُ إسماعيل مُتِمَّ الدَّور المنتهيةَ إليه غايةُ الشرائعِ المختومة به، المشتملَ على مراتبِ حدودها، المحيطَ بعلومهم، وهو قائمٌ بالقوة، صاحبُ الكشفة الأولى؛ لأن القائمَ بالفعل هو القائمُ الكلِّي الذي هو صاحبُ الكشفة الأخرى، والبطشةِ العظمى، وقائمُ القيامةِ الكبرى؛ لأن القياماتِ كثيرة .. وإنما وقع عليه "محمد بن إسماعيل" اسمُ الناطق السابع لنُطقه بالأمرِ الإِلهي، وجَمْعِه للفضل الذي هو إليه متناهي، وليس بمتمٍّ ولا رسول، بل هو منفردٌ برتبةِ الوحدة، وقد تمَّ التمام واتَّسق النظام. وإنما خُصَّ "محمد بنُ إسماعيل" بذلك لانتظامِه في سِلك مقاماتِ دَورِ السِّتر، لأنك إذا عَدَدْتَ آدمَ ووصيَّه وأئمةَ دَورِه كان خاتمهم الناطقُ وهو نوحٌ -عليه السلام- .. وإذا عددت عيسى ووصيَّه وأئمَّةَ دوره، كان محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - متسلِّماً لمراتبهم، وهو الناطق الخاتم للنطقاء، وكان وصيُّه -عليه السلام- بالفضل منفرداً، وإذا عددتَ الأئمَّة في دَوره كان "محمدُ بنُ إسماعيل" سابعُهم، وللسابع قوةٌ على من تقدَّمه، فلذلك صار ناطقاً وخاتماً للأسبوع وقائماً، وهو ناسخُ شريعةِ صاحبِ الدَّور السادس" (¬1). ¬

_ (¬1) "زهر المعاني" للداعي الإسماعيلي المطلق إدريس عماد الدين -الذي له العصمة الكبرى مثل الإِمام- (ص 53) وما بعد من "المنتخب" لايوانوف.

فالعبارةُ صارخةٌ بمدلولها، ناطقةٌ بمنطوقها ومفهومها, لا تحتاجُ إلى توضيح وتبيين. ° وقال أيضاً في الباب السابع عشر من هذا الكتاب: "إسماعيلُ بنُ جعفر خاتمُ الأتماء والخَلقِ الآخر، ولدُه محمد - صلى الله عليه وسلم - قد كان ظَهَر شخصُه، وبان رَسمُه، وهو في رُتبةِ القِائم سابع النطقاء - صلى الله عليه وسلم - روح الحياة" (¬1). ° وبمثل ذلك قال داعٍ إسماعيلي أقدمُ منه وهو طاهرُ بنُ إبراهيمَ الحارثيُّ المتوفَّى سنة 584 هـ: "ولما قام الناطقُ السادسُ الذي هو محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - بالأمر، وأعلن بالشهادتين، وأقام دعوتَه الظاهرة دون الباطنة، أسلم له مَن أسلم، وجاهَد معه مَن جاهد .. فلما كَمُلت فاطمةُ زوَّجها أبوها أميرَ المؤمنين - صلى الله عليه وسلم - بأمرِ الله تعالى ووحيِه، فتمَّ التمام، واتَّسق النظام، وازدوج الإِيمانُ والإِسلام، وجَرَت الدعوة الظاهرة على حالتها، والدعوةُ الباطنة في ضمنه، واستمرَّ أمرُها إلى أن استَخرج من الدعوة الظاهرة الحَسَن، ومن الدعوة الباطنة الحسين، وكانت الدعوةُ الظاهرة قِسطَ الناطق، والدعوةُ الباطنة قِسطَ الوصِيِّ .. وانساق الأمرُ بعد مولانا الحسين - عليه السلام -، كذلك في باقي الأئمَّة المتمِّين، إلى أن انتهى الأمرُ إلى مولانا "محمدِ بنِ إسماعيل"، فكان "محمدُ بن إسماعيل" مُتِمَّ الدورِ وخاتمَ الرسل المنتهيةَ إليه غايةُ الشرائع المختومة به, المشتمل على مراتب حدوده , المحيط بعلومهم، وهو القائمُ بالقوة، صاحبُ الكشفة الأولى ... وإنَّما وقع عليه اسمُ الناطقِ السابع لنُطقِه بالعلم الإِلهي، وقوله: "أنا" لأنه غير منتظم في مَسلكِ نطقاءِ دَور الستر، إذ هو بخلافهم، وليس له مُتِمٌّ ولا رُتَبٌ بحدوده، ولا هو برسول، بل هو ¬

_ (¬1) أيضاً (ص 47).

منفردٌ برُتبة الإلهية، وإنما مولانا محمدُ بنُ إسماعيل المخصَّصُ بذلك لانتظامِه في سِلك مقاماتِ دَوْرِ السِّتر ونطقائه، فإذا أعددت آدم - عليه السلام - ووصيَّه ومُتِمُّ دُورِه السَّبعة، كان سابعُهم ناطقاً .. وإذا عددت محمداً ووَصيَّه ومتمِّي دَورِه السِّتة، كان سابعُهم ناطقاً، وهو "محمدُ بن إسماعيل". ومُتمِّي دَوره السِّتةُ الثلاثةُ الأئمةُ المستوِّرون وأبوابُهم الثلاثة، الذي أَمَر كلُّ إمام بابه الذي هو أَخذ عنه هذه الثلاثةَ الأبواب أن يتسمَّى بالإِمام لهذا المعنى، إذ بقيامه تمامُ الدَّور الستر، واعتقادُ دَورِ الكشف، ونَسْخ شريعةِ الرسول السادس" (¬1). * وهل هناك أكثر من ذلك؟!. ° نعم، هناك أكثرُ من ذلك وأصرح، يقول الداعي الإسماعيلي الآخرُ في كتابه "مسائل مجموعة من الحقائق العالية والدقائق والأسرار السامية، التي لا يجوزُ الاطِّلاع عليها إلا بإذنِ مَن له العقد والحَل"، في هذا الكتاب، العريض العنوان، يقول في جواب سائلٍ سأله في المسألةِ الحادية والعشرين عن معنى تسليم الرسول: "ولما كان محمدُ بنُ إسماعيل عليهما السلام سابعَ الأئمة وخاتمَ دَورِ الأتماء، وكان كلُّ سابعٍ يقومُ مقامَ الناطق، إن أوجب الوقتُ ذلك كان ناطقًا، وإلاَّ كان حافظًا لرتبته، وقد قيل: إن شهادةَ رسولِ الله لمحمدٍ بالرسالة إشارةٌ بها إلى محمدِ بن إسماعيل صلوات الله عليهما، وذلك معنى تسليمِه إليه" (¬2). ¬

_ (¬1) "الأنوار اللطيفة" لطاهر بن إبراهيم الحارثي اليماني الفصل الرابع والخامس من الباب الثاني من السرادق الثالث (ص 128، 129, 130). (¬2) "مسائل مجموعة من الحقائق العالية" (ص 99) من "أربعة كتب إسماعيلية" جمع ونشر =

° هذا ولقد عَقَّب الداعي المذكور جوابَه هذا بعدما لاحظ فيه التعقيد والإِجمال، فقال: "بَقِيَ من معاني هذه الألفاظ ما لا يُسَطَّرُ في القراطيس .. وهذا سؤالٌ يُمتنع جوابُه لكونه لا يتحققُ ما يشيرُ إليه مَن أعلى اللهُ قُدسَه لاتساع المعاني، وكثرةِ الفنون فيها وفيما ورد من الأجوبة مُقنعٌ إن شاء الله" (¬1). ° ولكنَّ الداعيَ الإِسماعيليَّ الآخَرَ القديمَ كان أصرحَ منه وأوضحَ في كلامه حين قال: "وتسليمه -أي: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمحمد بنِ إسماعيل شهادتَه له بالأذان عند قوله: "أشهد أن محمداً رسول الله "؛ لأن شهادته لنفسه غيرُ جائزة، وإنما كانت شهادتُه لمحمد بن إسماعيل عليه السلام- ما أصرَحَه وأقبَحَه- وأما شهادةُ الأئمَّة وسائرُ المسلمين فهي له -أي: لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه الناطقُ السادس، وكونُ الشهادة مُثنَاةً في الأذان لَمَّا كانت الشهادةُ الأولى له، والثانية لمحمد بن إسماعيل الذي هو مُتِمُّ دَورِه، وهو سابعُ الرسل، وإليه أشار مولانا المُعِزُّ في دعائه يوم السبت إذ هو الناطقُ السابع" (¬2). * ولا أظنُّ أنه خَفِيَ المعنى والمطلوب بعد هذا التصريح والتوضيح، والصراحة التي بلغت حدَّ الوقاحة. * يقول هؤلاء الدَّجَّالون الكافرون: إن محمدَ بنَ إسماعيل أفضلُ من ¬

_ = شتروطمان ط. المجمع العلمي غونتيغن- ألمانيا. (¬1) أيضاً (ص 100). (¬2) "الأنوار اللطيفة" للحارثي اليماني المتوفى سنة 584 هـ (ص 161) الفصل الثاني من الباب الخامس من السرادق الرابع.

الفاطميون والأغاخانية والبهرة

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: "إنَّ كلَّ خَلَفٍ يكونُ أفضلَ من كلّ سَلَف، فنوحٌ أفضلُ من آدم، وإبراهيمُ أفضلُ من نوح، إلى أن تهيّأَ ظهورُ مَن هو أفضلُ من إبراهيم -وهو موسى-، ثم ظَهَر مَن هو أفضلُ من موسى -وهو عيسى-، إلى أن تهيّأَ ظهورُ مَن هو أفضلُ من عيسى -وهو محمد-، إلى أن تهيَّأ ظهورُ من هو أفضل من محمد -وهو القائم-" (¬1). ولا عجبَ مِن ذا، أليس هو الناسخَ لشريعته!!!. * {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5]. ° يقول جعفرُ بنُ منصور داعي دعاةِ الإسماعيلية -وهي أكبرُ منزلةٍ يحصلُ عليها واحدٌ من الإسماعيلية بعدَ الإمام-: "القائمُ لا شريعةَ له، بل هو يُزيلُ كلَّ الشرائع وينسخُها بإقامةِ التأويل المحض" (¬2). * الفاطميون والأغاخانية والبَهَرة: * هذه العقائدُ السوداءُ للإِسماعيليةِ المرتدَّةِ عن الإسلام حتى لا يَنطلِيَ بَهْرَجُها وزَيفُها على دعاةِ الإسلام .. هذه هي الفاطمية. ثم انقسمت الإسماعيلية إلى: 1 - الإِسماعيلية النِّزارية - أو الأغاخانية - أتباع أغاخان. 2 - الإسماعيليَّة المُسْتعلية- أو البَهرة. ¬

_ (¬1) انظر كتاب "الإيضاح" لأبي فراس (ص 43) طبع عارف تامر- المطبعة الكاثوليكية - بيروت. (¬2) "تأويل الزكاة" لجعفر بن منصور (ص 119).

القرامطة -لعنهم الله-

لعنهم الله في الدنيا ويومَ يقومُ الأشهاد بما كَذَبوا على ربِّهم وعلى رسله وأنبيائه، ألاَ لعنة الله على الكافرين. * القَرَامطة -لعنهم الله-: فرقةٌ تفرَّعت من الإسماعيلية. ° قال ابنُ حزم عنهم: "وفرقةٌ قالت بنبوَّة محمدِ بن إسماعيل بنِ جعفر فقط، وهم طائفة من القرامطة" (¬1). وهم منسوبون إلى "حَمْدان الأشعث" المعروف بـ "قِرمط" لقِصَرِ قامتِه ورِجليه وتقاربِ خَطْوِه، في سَنَة 264 هـ، وكان ظهورُه بسَوَادِ الكوفة، فاشتُهر مذهبُه بالعراق، وقام ببلاد الشام صاحب الحال، والمدثِّر المطوَّق، وقام أبو سعيد الجُنَّابي بالبحرين، وعَظُمت دولته ودولة بنيه حتى أوقعوا بعساكر الخلفاءِ العباسيِّين، وغَزَوْا بغدادَ والشامَ ومِصرَ والحجاز، وانتشر دعاتُهُم بأقطارِ الأرض. ° أوَّلَ هؤلاء المارقون المرتدُّون شرائعَ الإِسلام، وصَرَفوها عن ظواهرها إلى أمورٍ زعموها مِن عند أنفُسِهم، ويَرى ابنُ كثير "أنَّ ظهورَهم كان في سنة 278 هـ في سواد الكوفة، وأن الرجُلَ الذي دعاهم إلى مذهبه كان شيخاً، وقد تمرَّض بقريةٍ من سواد الكوفة، فحَمَله رجلٌ من أهل القرية يُقال له "كرميته" لحمرة عينيه، وهو بالنبطية اسمٌ لحُمرة العَين، فلمَّا تعافَى الشيخُ المذكور سُمِّى باسم ذلك الرجل الذي آواه ومَرَّضه، ثم خُفِّف، فقالوا: "قِرْمَط" بكسْر القاف، ودعا قومًا مِن أهل البادية ممَّن ليس لهم دينٌ ¬

_ (¬1) "الفصل" (5/ 43).

ولا عقل إلى دينه، فأجابوه". وزعم هؤلاء أنَّ محمدَ بنَ إسماعيل حيٌّ إلى اليوم، ولم يَمتْ، ولا يموت حتى يَملِكَ الأرضَ، وأنه هو المهديُّ الذي تقدَّمت به البشارة (¬1). وقد حارَبَ "المعزّ الفاطميّ" وقائدُه "جوهرٌ" القرامطةَ حروباً داميةً سنةَ 362 هـ. ° دخل قائدُهم أبو طاهر بن أبي سعيد الجنَّابي مكةَ في ذي الحجة سنةَ سبع وثلاثِمِئة، وقَتَل فيها ثلاثةَ عشَرَ ألفًا، وقطَعَ الرُّكن يومَ النحر، وهو القائل - لعنه الله -: فلو كان هذا البيتُ للهِ ربِّنا ..... لصَبَّ علينا النارَ فوقَنا صَبَّا لأننا حَجَجْنا حَجةً جاهِليَّةً ..... مُجلَّلةً لم تُبق شرْقًا ولا غَرْبا وأَنا تركْنا بين زمزمَ والصَّفا ..... كتائبَ لا تبغي سِوى ربِّها رَبَّا ولكنَّ ربَّ العرشِ جلَّ جلالُه ...... لم يتَّخذْ بيْتًا ولَمْ يتخْذ حُجُبا (¬2) قَتل اللعينُ في المسجد الحرام نحوَ ألفٍ وسَبْعِمِئةٍ من الرجال والنساء، وهم متعلِّقون بالكعبة، ورَدَمَ بها زمزم، وفَرَش بهم المسجد وما يليه. وقَتَل في سِكك مكة وشِعابها من أهل خراسانَ، والمغاربةِ وغيرهم زهاءَ ثلاثين ألفاً، وسَبَى من النساء والصِّبيانِ مثلَ ذلك. واقتَلع الحجرَ الأسودَ من موضعِه يومَ الإثنين لأربعَ عشْرةَ ليلةً خَلَتْ ¬

_ (¬1) "الشيعة والتشيع فرق ومذاهب" (ص 235) لإحسان إلهي ظهير -نشر إدارة ترجمان السنة- باكستان. (¬2) "كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة" (ص 63) - لمحمد بن مالك الحمّادي.

من ذي الحِجَّة، وذَهَب به معه إلى "هَجَر"؛ فأقام عند القرامطة، إلى أن رُدَّ في يوم الثلاثاء يوم النحر من سنة تسعٍ وثلاثين وثلاثِمِئة (339 هـ)، وبَطَل الحجُّ من العراق بسببِ هذا القرمطيِّ اللعين ثلاثَ سنين متواليةً من هذه السنة" (¬1). * هذا اللعينُ الذي كان يقولُ عند الكعبة: "أين الطير الأبابيل؟! ". ° وفي هذا كان يقول شاعرُهم على منبر الجامع في الجند: خُذي الدُّفَّ يا هذه والعَبِي ...... وغنّي هزاريكِ ثم اطرَبي تولَّى نبيُّ بني هاشمٍ ...... وهذا نبِيُّ بني يعرُبِ لكلِّ نبيٍّ مَضى شِرْعَةٌ ...... وهذي شرائعُ هذا النبي فقط حطَّ عنا فروضَ الصلاة ...... وحَطَّ الصيامَ ولم يُتعِبِ إلى آخر القصيدة المذكورة من قبل: وما الخمرُ إلاَّ كماءِ السماء ..... حَلاَلاً فقُدِّستِ مِن مَذْهَبِ ° وقد ذَكَر الذهبيُّ في حوادثِ سنةِ 311 أن أبا طاهر سليمان بن الحسن الجَنَّابي دخل البصرة ليلاً في ألفٍ وسَبْعمئة فارس، نَصَبوا السلالم على السُّور، ثم نزلوا فوضعوا السيف في أهل البلد، وأحرقوا الجامع وسَبَوا الحريم "العبر" (2/ 147)، ثم ذكر في حوادث سنة 312 هـ أن أبا طاهر هذا عارض رَكبَ العراق، فوضع السيفَ واستباح الحجيجَ، وساق الجِمالَ بالأموال والحريم "العبر" (2/ 150)، ثم ذكر أحداثه في كلِّ سنة، وذكر في حوادث سنة 316 هـ: أنه بني داراً سمَّاها "دار الهجرة" ودعا إلى ¬

_ (¬1) "العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين" - للفاسي المكي (ص 74، 185) - تحقيق د. محمد زينهم- دار الصحوة للنشر- مطبعة السنة المحمدية.

المهدي، وتسارَعَ إليه كل مريب "العبر" (163/ 2)، وفي سنة 317 هـ وافى الحُجَّاج يومَ التروية بمكة، فقتلهم قتلاً ذريعاً في المسجد الحرام وفي فِجاج مكة، وقَتَل أميرَ مكة، وقَلَع بابَ الكعبة، وقَلَع الحجرَ الأسود، وأخذه إلى "هَجَر" "العبر" (2/ 167)، ثم ذكر إفسادَه في سنة 323 هـ، وأخْذَه رَكْبَ الحُجَّاج العراقي، ودخوله الكوفة في سنة 325 هـ وضَرْبَه إتاوةً على ركب الحجاج في سنة 327 هـ، إلى أن ذكر وفاته في شهر رمضان من سنة 332 بهجر من جُدَرِيٍّ نزل به فأهلكه، وقام بأمر القرامطة بعده أبو القاسم الجَنَّابي "العبر" (229/ 2). ° وقال عبدُ القاهر البغدادي في "الفَرْق بين الفِرَق" عن سليمان بن الحسنِ بنِ سعيدٍ الجَنَّابي: "تعرَّض للحجيج، وأسرفَ في القتل منهم، حتى دَخَل مكة، وقَتَل من كان في الطَّواف، وأغار على أستارِ الكعبة، وطَرَح القتْلى في بئر زمزم، وكَسَر عساكرَ كثيرةً من عساكر المسلمين، وانهزم في بعضِ حُروبه إلى "هجر"، فكتب للمسلمين قصيدةً يقول فيها: أَغَرَّكُمُ منِّي رُجوعي إلى هَجَرْ ...... وعمَّا قليل سوف يأتيكُمُ الخَبَرْ إذا طَلَع المَرِّيخُ في أرض بابلٍ ....... وقارنه النَّجمانِ فالحَذَرَ الحَذَرْ ألستُ أنا المذكورَ في الكُتبِ كلِّها ...... ألستُ أنا المبعوثَ في سورة الزُّمَرْ سَأمْلِكُ أهل الأرض شرقًا ومَعرِبًا ..... إلى قيروانِ الروم والتُّرْك والخَزَرْ وأراد بالنَّجميْن "زُحَل والمشترى"، وقد وُجد هذا القِرانُ في سِنِي ظهوره , ولم يملِك من الأرض شيئاً غير بلدته التى خرج منها، وطَمع في أن يَملِكَ سبعَ قِرانات وما مَلَك سبع سنين، بل قُتِلْ بـ "هيِت"، ورمته امرأةٌ

من سَطحِها بلبنة على رأسه فدَمَغته، وقتيلُ النساءِ أخسُّ قتيل وأهْوَنُ فقيد" (¬1). وانتهت بقتله شوكةُ القرامطة، وذُبح على فراشه ممَّن تولَى بعده وهو "ابن أبي زكريا الطامي" الذي أسَن اللواط، وأوجَبَ قتل الغلامِ الذي يمتنع على من يريد الفجور به. ° قال عبد القاهر البغدادي في كتابه القيم "الفَرق بين الفِرق" عن الباطنية -ويعني بذلك دعوةَ ميمون بن القَدَّاح وحَمدان قِرمطَ من الإسماعيلية والقرامطة-: "ومنهم مَن نَسَب الباطنيةَ إلى الصابئين الذين هم بحَرَّان، واستدلَّ على ذلك بأن حَمْدان قِرْمِط داعيةَ الباطنية بعد ميمونَ بنِ ديصان كان من الصابئة الحرَّانية، واستدلَّ أيضاً بأن صابئةَ حَرَّان يكتمون أديانَهم ولا يُظهرونها إلاَّ لمن كان منهم، والباطنيةُ أيضاً لا يُظْهرون دينَهم إلاَّ لمن كان منهم بعدَ إحْلاَفهم إياه على أن لا يَذكر أسرارَهم لغيرهم". ° قال عبد القاهر: "الذي يصحُّ عندي من دِينِ الباطنية أنهم دُهْرية زَنَادقة، يقولون بقِدَم العالم، ويُنكرون الرسلَ والشرائعَ كلَّها, لِميلها إلى استباحةِ كلِّ ما يَميل إليه الطبع. والدليلُ على أنهم كما ذكرناه ما قرأته في كتابهم المترجم بـ "السياسة والبلاغ الأكيد، والناموس الأعظم"، وهي رسالة عبَيْد اللَّه بن الحسين القَيْرَوَاني (¬2) إلى سليمانَ بنِ الحسنِ بن سعيد الجَنَّابي، أوْصَاه فيها بأن قال ¬

_ (¬1) "الفرق بين الفرق" (ص 287). (¬2) هو عُبيد الله المُلَقب بالمهدي والد الخلفاء العبيديين الفاطمين، والذي افترى أنه من ولد =

له: "ادعُ الناسَ بأن تتقرَّبَ إليهم بما يَمِيلون إليه، وأوْهِمْ كلَّ واحدٍ منهم بأنك منهم، فمن آنَسْتَ منه رُشْدًا فاكشِفْ له الغِطاء، وإذا ظَفِرتَ بالفلسفيِّ فاحتفِظْ به، فعلى الفلاسفة مُعَوَّلُنا، وإنا وإياهم مُجْمِعُون على رد نَوَاميس الأنبياء، وعلى القول بقِدَمِ العالم، لولا ما يخالفنا فيه بعضهم من أن للعالَم مُدبِّراً لا نعرفه". وذَكَر في هذا الكتاب إبطالَ القول بالمَعَاد والعقاب، وذَكَر فيه أن الجنةَ نعيمُ الدنيا، وأن العذابَ إنما هو اشتغالُ أصحابِ الشرائع بالصَّلاةِ والصيام والحجَ والجهاد. ° وقال أيضاً في هذه الرسالة: "إنَّ أهلَ الشرائع يَعْبُدون إلهًا لا يعرفونه ولا يَحضلون منه إلاَّ على اسمٍ بلا جسم". ° وقال فيها أيضاً: "أكْرِم الدُّهْرِيَّةَ فإنهم منَّا ونحن منهم"، وفي هذا تحقيق نسبة الباطنية إلى الدهرية، والذي يؤكِّد هذا أن المجوس يَدَّعون نبوَّة "زرادشت" ونزولَ الوحيِ عليه من الله تعالى، وأن الصابئين يَدَّعون نبوةَ "هَرمس، وواليس، وذروثيوس، وأفلاطن" وجماعةٍ من الفلاسفة، وسائرُ أصحاب الشرائع كلّ صنفٍ منهم مقِرّون بنزولِ الوحي من السماء على الذين أقرَّوا بنبوتهم، ويقولون: إنَّ ذلك الوحيَ شاملٌ للأمر والنهي والخبرِ ¬

_ = جعفر الصادق، وكان بسلمية -وهي بليدة في ناحية البرية من أعمال حماة بينهما مسيرة يوميْن، وكانت تعَدُّ من أعمال حِمص-، فبعث دعاته إلى اليمن والمغرب، واستولى على بلاد المغرب، وأنشأ فيها دولة، وامتدت أيامه بضعاً وعشرين سنة، ثم هلك في شهر ربيع الأول من سنة 322 بالمهدية التي بناها، وكان يُظهر الرفض ويبطن الزندقة"، انتهى من "العبر" (2/ 193).

عن عاقبة بعد الموت، وعن ثوابٍ وعقاب، وجنةٍ ونار، يكون فيها الجزاءُ عن الأعمال السالفة .. والباطنيةُ يرفضون المعجزات، وُينكِرون نزولَ الملائكة من السماء بالوَحْي والأمر والنهي، بل ينكرون أن يكون في السماء مَلَك، وإنما يتأوَّلون الملائكةَ على دُعَاتهم إلى بِدْعَتهم، ويتأوَّلون الشياطين على مخالفيهم، والأبالسةَ على مخالفيهم. ويزعُمون أن الأنبياءَ قومٌ أحَبُّوا الزعامةَ، فساسُوا العامة بالنواميس والحيل طلباً للزعامة بدعوى النبوة والإمامة، وكل واحد منهم صاحبُ دَورٍ مسبَّعٍ إذا انقضى دَورُ سبعة، تَبِعهم في دَورٍ آخر، وإذا ذكروا النبيَّ والوحي قالوا: إن النبي هو الناطق، والوحيَ أساسُه الفاتق، وإلى الفاتق تأويلُ نطقِ الناطق على ما تراه يميلُ إليه هواه، فمَن صار إلى تأويله الباطنِ فهو من الملائكة البَرَرَة، ومَن عَمِل بالظاهر فهو من الشياطين الكَفَرة. ثم تأوَّلوا لكلِّ ركنٍ من أركانِ الشريعة تأويلاً يُورِثُ تضليلاً، فزعموا أن معنى "الصلاة" موالاةُ إمامهم، و"الحجَ" زيارتُه وإدمانُ خِدمته، والمرادُ "بالصوم" الإمساكُ عن إفشاءِ سرّ الإمام دون الإمساكِ عن الطعام، و"الزِّنى" عندهم إفشاءُ سرهم بغير عهدٍ وميثاق. وزَعَموا أنَّ مَنْ عرف معنى العبادة سَقَط عنه فرضُها، وتأوَّلوا في ذلك قوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، وحَمَلوا "اليقينَ" على معرفةِ التأويل. ° وقد قال القَيرواني في رسالته إلى سليمانَ بنِ الحسن: "إني أوصيك بتشكيك الناسِ في القرآنِ والتوراة والزبورِ والإنجيل، وبدَعوتِهم إلى إبطال الشرائع، وإلى إبطالِ المعاد والنشور من القبور، وإبطالِ الملائكة في

السماء، وإبطالِ الجنِّ في الأرض، وأوصيك بأن تدعوَهم إلى القول بأنه قد كان قبلَ آدم بَشَر كثيرٌ، فإن ذلك عَوْنٌ لك على القول بقدم العالم". وفي هذا تحقيق دعوانا على الباطنية أنهم دُهْرِية يقولون بقِدَمِ العالَم، ويَجحدون الصانع، ويدلُّ على دعوانا عليهم القولَ بإبطال الشرائع أن القيرواني قال أيضاً في رسالته إلى سليمان بن الحسن: "وينبغي أن تُحِيطَ علماً بمخاريقِ الأنبياء ومُناقضاتِهم في أقوالهم، كعيسى ابنِ مريم قال لليهود: "لا أَرفعُ شريعةَ موسى"، ثم رَفَعها بتحريم الأحدِ بدلاً من السبت، وأباح العملَ في السبت، وأبدل قِبلةَ موسى بخلافِ جهتها , ولهذا قَتَلَتْه اليهودُ لَما اختلفت كلمته". ° ثم قال له: "ولا تكن كصاحبِ الأُمةِ المنكوسة حين سألوه عن الروح فقال: {الروحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} لمَا لَم يعلم ولم يَحْضُره جوابُ المسألة، ولا تكن كموسى في دعواه التي لم يكن له عليها برهانٌ سوى المَخرقةِ بحُسنِ الحِيلة والشعبذة، ولما لم يجد المحقّقُ في زمانه عنده برهانًا قال: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي}، وقال لقومه: {أَنَا رَبّكُم الأَعْلَى}؛ لأنه كان صاحب الزمان في وقته". ° ثم قال في آخِرِ رسالته: "وما العَجَبُ من شيءٍ كالعجب من رجلٍ يدَّعي العَقْلَ ثم يكون له أختٌ أو بنتٌ حَسْناء وليست له زوجةٌ في حُسنها فيحرِّمُهَا على نفسه ويُنْكِحها من أجنبي، ولو عَقَل الجاهلُ لَعَلم أنه أحقّ بأختهِ وبنته من الأجنبي، وما وَجهُ ذلك إلاَّ أن صاحبَهم حَرَّم عليهم الطيِّبات، وخَوَّفهم بغائبٍ لا يعقل، وهو الإلهُ الذي يزعمونه، وأخبرهم بكَوْنِ ما لا يَرَونه أبداً من البعْث من القبورِ والحسابِ والجنةِ والنار، حتى

استَعبدهم بذلك عاجلاً، وجَعَلهم له في حياتِه ولذريَّته بعد وفاته خَوَلاً (¬1)، واستباح بذلك أموالهم بقوله: {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]، فكان أمرُه معهم نَقْدًا وأمرُهم معه نَسِيئة، وقد استَعجل منهم بَذْلَ أرواحِهم وأموالِهم على انتظار موعودٍ لا يكون، وهل الجنةُ إلاَّ هذه الدنيا ونعيمُها؟ وهل النارُ وعذابُها إلاَّ ما فيه أصحابُ الشرائع من التعبِ والنصَبِ في الصلاة والصيام والجهاد والحج؟ ". ° ثم قال لسليمانَ بنِ الحسن في هذه الرسالة: "وأنت وإخوانُك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس، وفي هذه الدنيا ورثتم نعيمَها ولذَّاتِها المحرمةَ على الجاهلين المتمسكّين بشرائعِ أصحابِ النواميس، فهينئاً لكم ما نِلْتُم من الراحة عن أمرهم". وفي هذا الذي ذكرناه دلالةٌ على أن غَرضَ الباطنيةِ القولُ بمذاهبِ الدهرية واستباحة المحرَّمات وترك العبادات" (¬2). فانظرْ ما يقول المنتسِبُ زُورًا إلى أولاد النبي -وهو عدوُّهم على الحقيقة-، المُكفِّرُ للصحابة -وعلى رأسهم الصِّديق- إلى تلميذه الشقيِّ، في هذه الرسالة التي فضحت شأنَ الإِسماعيلي والقِرْمطي -وكلاهما غبيّ-: أتطمَعُ أنتَ في جنَّات عدنٍ ...... وأنت عَدُوُّ أولادِ النبيْ وهُمْ تركوك أَشْقى من ثمودٍ ...... وهُم تركوك أفصحَ مِن دَعي وفي نار الجحيم غداً سَتَصلي ..... إذا عَادَاك سيدِّنا النبيْ ¬

_ (¬1) الخَوَل: الخدم والأتباع. (¬2) "الفرق بين الفرق" (294 - 298).

الدروز -لعنهم الله-

* الدُّروز -لعنهم الله-: ° يقول الشيخ إحسان إلهي ظهير (¬1) -رحمه الله وطيَّب ثراه- فاضحاً هذه الفرقةَ اللعينة، ومُبَيِّناً عداوتَهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - ودينه: "إن الباحثَ لا يستغربُ -بعدما يدرسُ المذهبَ الإِسماعيليَّ دراسةً متعمقة- أن ينشأ فيه طوائفُ، وأن يخرجَ منه فِرَقٌ تَدينُ بألوهيةِ الرجال، وتركِ الأعمال، وإلغاءِ الشرائع، واستباحةِ المحظورات، مِثل الدروز، والبديعية (¬2)؛ لأن الديانةَ الإِسماعيلية لم تُبْنَ إلاَّ على مثل هذه المعتقدات، ولم تُروِّجْ إلاَّ نظيرَ هذه الأفكار كما بَسَطنا القول فيها في الأبواب السابقة، ولكنَّ الفَرقَ بينها وبين هذه الفِرَقِ المتفرِّعة عنها أنها حافظت على خفاياها وبواطنِ أمورِها وصانت أسرارَها، وكَتَمت حقيقتَها، وأخفَتْ أصليَّتها في ألفاظٍ وعباراتٍ فلسفية غامضة، واصطلاحاتٍ أفلاطونيةٍ معقدة، حيث إن هؤلاء جاهَروا بمعتقداتهم، وأعلَنوا عقائدَهم أمامَ الملأِ بدون تحفُّظٍ وتورُّع، وبدون حزمٍ واحتياط، ودون لُجوءٍ إلا الألفاظِ المنمَّقة والعباراتِ المزوَّرة. فإنَّ حَمْزة بنَ على الزُّوزني، والحسنَ بنَ حَيدرة الفرغاني الأخرم، ومحمدَ بنَ إسماعيل الدُّرزي -بُناةَ المذهبِ الدُّرزيِّ-، لم يكونوا إلاَّ من دعاةِ الإِسماعيليَّة البارزين، والمقرَّبين إلى الإِمام الإسماعيلي الحاكم بأمرِ الله، والمدعَّمين منه هو، وما قالوا فيه، وما أظهروا من الآراء إلاَّ ما أخذوها من الديانة الإسماعيلية نفسِها، وبإيعازٍ من الإمام الإِسماعيلي "المعصوم" وتأييدٍ منه، بل وبتحريصِه وتشجيعه إيَّاهم كما ذكره المؤرِّخون وصَرَّحوا به , ¬

_ (¬1) "الإسماعيلية" (ص 722 - 733). (¬2) فرقة ضالة نشأت عن الإسماعيلية.

فهؤلاء هم المؤرِّخون يذكرون هؤلاء الدعاةَ وعلاقتَهم بهم، فيقول ابنُ المحاسن وهو يذكر الحسن الفرغاني المعروف بالأخرم: "ثم عَنَّ له -أي: للحاكم- أن يدَّعي الربوبية، وقَرَّب رجلاً يُعرفُ بالأخرم ساعَدَه على ذلك، وضمَّ إليه طائفةً بَسَطَهم للأفعالِ الخارجة عن الديانة. فلما كان في بعضِ الأيامِ خَرَج الأخرمُ من القاهرة راكباً في خمسين رجلاً من أصحابه، وقَصَد مصر ودخل الجامع راكبًا دابَّته، ومعه أصحابُه على دوابِّهم وقاضي القضاة ابن أبي العوام جالسٌ فيه ينظرُ في الحكم، فنَهَبوا الناسَ، وسَلبوهم ثيابَهم، وسَلَّموا للقاضي رُقعةً فيها فتوى، وقد صَدَرت باسم "الحاكم الرحمن الرحيم"، فلما قرأها القاضي رَفع صوته منكِراً، واسترجع، وثار الناسُ بالأخرم، وقتلوا أصحابَه وهَرَب هو، وشاع الحديثُ في دعواه الربوبية، وتقرَّب إليه جماعة من الجهال، فكانوا إذا لقُوه قالوا: "السلام عليك يا واحدُ يا أحدُ يا محيي يا مميت"، وصار له دعاةٌ يَدْعُون أوباشَ الناس ومَن سَخِفَ عقلُه إلى اعتقادِ ذلك، فمال إليه خَلقٌ كثيرٌ طمعًا في الدنيا والتقرُّب إليه، وكان اليهوديُّ والنصرانيُّ إذا لَقِيَه يقول: "إلهي قد رغبتُ في شريعتي الأولى"، فيقول الحاكم: "افعلْ ما بدا لك"، فيرتدّ عن الإِسلام .. وزاد هذا الأمر بالناس (¬1). ويذكرُ الأمامُ الذهبيُّ أن حَسَن بن حيدرة الفرغاني المعروف بالأخرم لَمَّا بدأ يدعو الناسَ إلى ما كان يدعو إليه من التناسخ والحلول وألوهيةِ الحاكم استدعاه الحاكم، وخَلَع عليه، وأركبه فرساً مطهَّمًا، وسَيَّره في ¬

_ (¬1) "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" (4/ 183).

موكبه، وأولاه عَطفَه ورعايته، ولَمَّا قتله أحدٌ من المسلمين السُّنة غَضِب الحاكمُ لذلك أيَّما غضب، وأَمر باعدامِ القاتل في الحال، وكَفَّنه الحاكمُ (¬1) بأكفانٍ من القصر، ودُفن في حَفلٍ رسمي، وحَمَل أهلُ السُّنة صاحبَهم، ودفنوه مكرَّمًا، وهرع الناس أيامًا لزيارة قبرِه، ولكنَّ القبرَ نُبش بعد أيامٍ واختفت جُثّته بأمرٍ من الحاكم (¬2). وأما الدُّرزِيّ، فيَذكره أبو الحسن نقلاً عن الإمام الذهبيِّ أيضاً في "تاريخه": "إن رجلاً يُعرف بالدُّرزيِّ قَدِمَ مصرَ، وكان من الباطنية القائلين بالتناسخ، فاجتمع بالحاكم، وساعَدَه على ادعاءِ الربوبية، وصَنَّف له كتاباً ذَكَر فيه أن رُوحَ آدمَ - عليه السلام - انتَقلت إلى عليِّ بنِ أبي طالب، وأن رُوحَ عليٍّ انتقلت إلى أبي الحاكم، ثم انتَقلت إلى الحاكم، فنَفَق على الحاكم وقَرَّبه وفَوَّض الأمورَ إليه، وبَلغ منه أعلى المراتب، بحيث أن الوزراءَ والقُوَّادَ والعلماء كانوا يَقِفون على بابه، ولا يَنقضي لهم شُغلٌ إلاَّ على يَدِه، وكان قَصدُ الحاكم الانقيادَ إلى الدرزيِّ المذكور فيطيعونه، فأظهر الدرزيُّ الكتابَ الذي فعله وقرأه بجامع القاهرة، فثار الناسُ عليه وقَصدوا قَتْلَه، فهرب منهم، وأنكر الحاكمُ أمره خوفًا من الرعية، وبحث إليه في السرِّ مالاً، وقال: "اخرجْ إلى الشام وانشرِ الدعوةَ في الجبال، فإنَّ أهلَها سريعو الانقياد" .. فخرج إلى الشام، ونزل بِوادِي "تَيم الله بن ثعلبة"، غربيَّ دمشق من أعمال "بانياس"، فقرأ الكتابَ على أهله، واستمالهم إلى الحاكم ¬

_ (¬1) أي: كفَّن الأخرمَ. (¬2) ملخص ما ذكر الذهبي في "مرآه الزمان" المجلد الحادي عشر (ج 3 ص 304) نقلاً عن "الحاكم بأمر الله" لمحمد عبد الله عنان (ص 199).

وأعطاهم المال، وقرَّر في نفوسهم الدرزيُّ التناسخَ، وأباح لهم شُربَ الخمر والزنا، وأخذَ مالِ مَن خالفهم في عقائدهم وإباحةَ دمه، وأقام عندهم يُبيحُ لهم المحظوراتِ إلى أن انتهى (¬1). وأمَّا المَقريزيُ المتعاطفُ مع الإسماعيلية، وفاطميُّ النزعة -كما يُسمَيه البحَّاثةُ الكبيرُ محمد عبد الله عنان-، فقد أقرَّ اتصالَ الدُّرزيَّ بالحاكم حيث كتب: "قدم مصرَ داعٍ أعجميٌّ اسمُه محمدُ بنُ إسماعيل الدرزي، واتَّصل بالحاكم فأنعم عليه، ودعا الناس إلى القولِ بإلاهية الحاكم، فأنكر الناسُ عليه ذلك" (¬2). ° "ثم ظَهَر داعٍ آخَرُ اسمُه حمزةُ بنُ أحمد، وتلقَّب بالهادي، وأقام بمسجدِ "تبر" خارج القاهرة، ودعا إلى مقالةِ الدرزي، وبَثَّ دعاتَه في أعمال مصر والشام، وترخَّص في أعمالِ الشريعة، وأباح الأمهاتِ والبناتَ ونحوَهن، وأسقط جميعَ التكاليفِ مِن الصلاة والصوم ونحو ذلك، فاستجاب له خَلقٌ كثيرٌ، فظَهر من حينئذٍ مذهبُ الدُّرزيِّ ببلاد "صيدا وبيروت" وساحل الشام" (¬3). وذكره المؤرِّخون الآخَرون الكثيرون، منهم ابنُ عذارى المراكشي، والذهبي، والخزرج المصري، وابن سعيد الأنطاكي، والمكين بن عميد وغيرهم. ¬

_ (¬1) "النجوم الزاهرة" (ص 184). (¬2) "اتعاظ الحنفاء بإخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء" للمقريزي (2/ 113) بتحقيق د/ محمد حلمي محمد ط. القاهرة سنة 1971 م. (¬3) المصدر السابق.

° فأما ابن عذارى المراكشيُّ، فيقول وهو يَذكر نِزارًا أبا المنصور، وبعده الحاكم بأمر الله: "ثم وَلِيَ بعدَه الحاكمُ فأظهَرَ أكثرَ مذهبِهم، ثم إنه ادعى الربوبيةَ من دون اللَّه، وجَعل داعيًا يدعو الناسَ إلى عبادته، وسمَّاه المهدي، فكتب داعِيهِ الكتاب، وكان اسمه حمزة، وذلك في سنة 410، وقُرئ بحضرة الحاكم -لعنه الله- على أهل مملكته، ذَكَر فيه -تعالى الله عن إبطالِ المبطلين علوًّا كبيراً-: "الحمد لمولاي الحاكم وحدَه! باسمِك اللهمَّ الحاكم بالحق"، ثم تمادى، فقال: "توكَّلت على إلاهي أمير المؤمنين -جل ذكره-! وبه نستعين في جميع الأمور"، ثم طَوَّل في الكتاب بالتخليط: فمرة يجعله أمير المؤمنين، ومرة يجعله الإِله، وقال فيه: "وأمرني بإسقاط ما لا يلزمكم اعتقاده من الأديان الماضية، والشرائع الدارسة". وذكر أشياءَ يَطول ذكرُها، وكانت له راية حمراء تحتَ قصرِه، فاجتمع إليه خلقٌ نحو خَمسةَ عَشَرَ ألف رجل فيما قيل" (¬1). ° وأما البقية، فلخَّص أقوالَهم محمد عبد الله عنان بقوله: "إن حمزةَ ابنَ عليٍّ عَكَف مدى حين على بثِّ دعوته سرّاً , ولم يِجاهِر بها إلاَّ في أواخِرِ سنةِ 407 هـ أو أوائل سنة 408 هـ، وعندئذٍ يبدو على مسرح الحوادث الظاهرة، ويلازم الجلوسَ في مسجدِ "ريدان" -أو مسجد "تبر"- بظاهِرِ باب النصر، ويدعو جَهراً إلى عِبادةِ الحاكم، وينادي بالتناسخ في الأديانِ الشرائع وبالحلول، ويَزعم أن الحاكمَ ليس بشراً، وإنما هو رمزٌ حَلَّ فيه الإلهُ , فاجتَمَع إليه طائفةٌ كبيرةٌ من غلاةِ الشيعةِ الإسماعيلية، وتلقَّب ¬

_ (¬1) "البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب" (1/ 286) ط. الكتبة الأندلسية أوفست دار الثقافة بيروت الطبعة الثالثة 1982 م بتحقيق المستشرقين كولان وليفي بروفنسال.

بـ"هادي المستجيبين"، ولَقَّب الحاكم بـ "قائم الزمان"، وبَثَّ دعاتَه في أنحاءٍ مصرَ والشام، ورَخَّص في أحكامِ الشريعة، وأباح الأمهاتِ والبناتَ وسائر المحارم، وأسقَطَ جميعَ التكاليفِ في الصلاة والصوم وغيرِهما، فاستجاب له كثيرٌ من الكافة، وكثُر جَمعُه، وذاع أمره، وكان الحاكم حين يَمرُّ رَكْبُه بالمسجد، يخرجُ إليه حمزةُ، ويحادثُه طويلاً على انفراد، ولم يَلبثْ أنْ أَولاه الحاكمُ رعايتَه بصورةٍ ظاهرة، وبَعَث إليه وإلى أتباعِه بالسلاح ليدافعوا عن أنفسِهم وقتَ الحاجة، إذ كانوا يُوجِسون شرًّا من الكافَّة، ثم تمادى حمزةُ في مشروعِه، فاتَّخذ له بطانةً قويةً من الدعاةِ والرسل، وَلقَّب أحدَهم -وهو إسماعيلُ بنُ محمد التميمي- بـ "سفير القُدْرة"، وكان يُنفِذُه لأخذِ البَيعةِ من الرؤساء والكبراء للحاكم في صفته الجديدة التي أسبغها عليه حمزة وشيعتُه -أعني باعتباره "قائمَ لزمان"-، فكان الكثيرُ منهم يَضطَرُّ إلى التظاهر بالقبول خَوفًا من البطش والانتقام" (¬1). فهؤلاء هم مؤسِّسو المذهبِ الدرزيِّ وبُناةُ هذه النِّحلة، وهذه هي علاقتهم بالإِمام الإسماعيلي المعصوم -حسب زعم القوم- الحاكم بأمر الله. ولقد ذَكر المؤرخون أنَّ عَزْمَ الحاكم على إحراقِ مصر، وهَتكِ أعراض الناس، وخطفِ نسائهم وبناتهم، ونَهْبِ أموالهم، وسَفكِ دمائهم لم يكن إلاَّ نقمة ًمنه عليهم بأنهم لَم يَقبلوا ادعاءاته السخيفة، ولم يؤمنوا بألوهيته ¬

_ (¬1) انظر "الحاكم بأمر الله" لمحمد عبد الله عدنان (ص 197)، ط مكتبة الخانجي القاهرة نقلاً عن "تاريخ الأنطاكي" (ص 220 و 223)، و"المكين ابن العميد" (ص 264 و265)، والمقريزي في "اتعاظ الحنفاء" (المخطوط) لوحة 169، وراجع أخبار الدول المنقطعة (المخطوط) وأورده فستنفلد في "تاريخ الفاطميين" (ص 205, 602).

المزعومة، ولم يَصْغَوا إلى دُعاته المجاهِرين بربوبيته والطائفين حولَ قَصْرِه بإرادة الحج، فنَكَّل بهم وبأهلهم، وعَمِل بهم ما لم يَعْمَلْه طاغيةُ الروم في الروم. وأما علاقةُ الديانة الدرزية بالديانة الإسماعيلية، فإنها علاقةٌ متَّصلةٌ وثيقة، وليس في الدرزية ما لا يوجَد في الإسماعيلية، بل إنها هي عينُها ببعضِ الفروق الزمنية وفَرْقِ الجُرَأة والمجاهرة بالمعتقدات طالَمَا خَفِيت وكُتمت عن الآخرين، ولقد صَدَقَ الدكتور محمد كامل حسين حيث عَنْوَنَ بابه الثالث في كتابه "طائفة الدروز" بعنوان "عقيدة الفاطميين أساسُ عقيدةِ الدروز"، ثم كتب تحته: "إن الباحثَ في عقيدة الدروز يجبُ أن يكون مُلِمًّا إلمامًا تامًّا بعقيدةِ الشيعة الفاطمية، ولذلك رأيتُ أن أوجِزَ هنا الحديثَ عن عقائدِ الفاطميين التي أعتَبرُها الأساسَ الأول لعقيدةِ الدروز، فالمصطلحاتُ المذهبيةُ الفاطمية تكادُ تكونُ هي المصطلحاتِ المذهبيةَ عند الدروز، وأحيانًا نَرى الذين وَضعوا عقيدةَ الدروز يستعملون مصطلحاتِ الفاطميين لمدلولاتٍ جديدة كل الجِدَّة، ومع ذلك كلِّه، فهي ليست بعيدة كلَّ البُعدِ عن آراء الفاطميين" (¬1). وكان بَدءُ هذه الدعوة كما تشيرُ الرسائلُ الدرزية سنة 400 هـ، ولكن لم يُجهرْ بها حَسبَ ما ذكره المؤرخون إلاَّ سنة 408 هـ، أو سنة 407 هـ. ومن الطرائف أن الدرزيَّ وحَمزةَ اختلفا فيما بينهما على غنيمةِ ألوهية الحاكم وثمرتِها، وهي النبوةَّ، وأراد كلُّ واحدٍ منهما أن يكونَ هو نبيّاً ¬

_ (¬1) "طائفة الدروز" الدكتور محمد كامل حسين (ص 86) ط دار المعارف مصر 1962 م.

مذهب الدروز

ورسولاً للإلهِ الجديد، وكَفَّر كلُّ واحد منهما الآخر (¬1). وإن الدروزَ اليوم يَنفُون نسبتَهم إلى الدرزيِّ، بل إنهم يُكفِّرون الدرزيَّ ومَن والاه، ولا يتَّبعون إلاَّ حمزةَ وتعاليمَه، ويُسمُّون أنفسَهم بالموحِّدين، ولكنهم لَم يُعرفوا في التاريخ الطويل إلاَّ بهذا الاسم واقتنعوا به. مع الملاحظة أن تعاليمَ الدرزيِّ وتعاليمَ حمزة لا تَختلفانِ في جَوهرِها، بل إنها متفقةٌ تمامَ الاتفاق، اللهمَ إلاَّ ما أراد كلُّ واحدٍ منهما من احتكارِ الزعامة والقيادة لنفسه. * مذهب الدروز: ° وتتلخَّصُ عقيدة الدروز في: 1 - ألوهية الحاكم. 2 - التناسخ والحلول. 3 - الغَيبة والرجعة. 4 - إبطال الشرائع وأصولِ الإسلام. 5 - نبوَّة ورسالة حمزة بن علي. ° فأمَّا ألوهيةُ الحاكم، فيقول فيه حمزةُ بنُ عليِّ بنِ أحمدَ الزَّوزني: "فالحذر الحذر أن يقول واحدٌ منهم بأنَّ مولانا جلَّ ذِكره: ابن العزيز، أو أبو علي؛ لأن مولانا سبحانه هو في كلّ عصرٍ وزمانٍ يَظهر في صورةٍ بشريةٍ ¬

_ (¬1) انظر "رسائل حمزة والدرزي".

وصفةٍ مرئيةٍ كيف يشاءُ حيث يشاء .. إلى أن يقول: وهو سبحانه لا تُغيِّرُه الدهورُ ولا الأعوامُ ولا الشهور، وإنما يتغيَّرُ عليكم بما فيه صلاحُ شأنِكم، وهو تغييرُ الاسم والصِّفة لا غير، وأفعالُه جلَّ ذكره تظهرُ مِن القوَّة إلى الفعل كما يشاءُ {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]، أي: كلَّ عصر في صورةٍ لا يشغلُه شأنٌ عن شأن. وأما مَن قال واعتَقد بأن مولانا جلَّ ذِكرُه سَلَّم قدرتَه ونَقَل عظمتَه إلى الأمير عليٍّ، أو أشار إليه بالمعنويَّة، فقد أشرك بمولانا سبحانه غيرَه وسَبَقه بالقول .. فمن منكم يعتقدُ هذا القولَ فليرجعْ عنه ويَسْتَقِلْ منه ويستغفرِ المولى جلَّ ذِكرُه وتقدَّسَ اسمُه من ذلك .. ولا يجوز لأحدٍ يُشركُ في عبادته ابناً ولا أباً , ولا يشيرُ إلى حجابٍ يحتجبُ مولانا جلَّ ذكرُه فيه إلاَّ بعد أن يُظهرَ مولانا جلَّ ذكره أمرَه، ويجعل فيمن يشاءُ حِكمَتَه، فحينئذٍ لا مردَّ لقضائه ولا عاصيًا لحكمه. وما أدراك ما حقيقةُ الحاكم؟ ولِمَ تسمَّى بالحاكم في هذه الصورة دون سائرِ الصور؟ ومولانا جلَّ ذكرُه غيرُ غائبٍ عن ناسوته، فِعلُه فِعلَ ذلك المحجوب عنا في نُطقِهِ ذلك النطق، لا يَغيبُ اللاهوتُ عن الناسوت إلا أنكم لا تستطيعون النظر إليه، ولا لكم قُدرةٌ بإحاطة حقيقته. وأراد بالحاكم، أي يحكمُ على جميع النطقاءِ والأسسِ والأئمَّةِ والحُجج وَيستعبدُهم تحتَ حُكمه وسلطانه، وهي عَبيدُ دولته ومماليكُ دعوتِه الحاكم بذاته .. وتركُ الاعتراض فيما يفعله مولانا جلَّ ذِكر، ولو طَلَب من أحدكم أن يَقتل ولدَه لوجب عليه ذلك بلا إكراهِ قلب؛ لأنَّ مَن فَعَل شيئاً هو غيرُ راضٍ به لم يُثَب عليه، ومَن رَضِي بأفعالِه وسَلَّم الأمرَ إليه، ولم يُراءِ

إمامَ زمانه، كان من الموحِّدين الذين لا خوفَ عليهم. واعلَموا أن الشركَ خَفِيُّ المدخل، دقيقُ السِّتر والمَسبل، وليس منكم أحدٌ إلاَّ وهو يُشركُ ولا يَدري، ويَكفرُ وهو يَسري، ويَجحد وهو يزدري، وذلك قولُ القائل منكم: بأن مولانا سبحانه صاحب الزمان، أو إمامُ الزمان، أو وليُّ الله، أو خليفتُه، أو ما شاكَلَ ذلك من قولكم: الحاكم بأمر الله، أو سلام الله عليه، أو صلواتُ الله عليه" (¬1). هذا وقد ورد في مصحفِ الدروز العهدُ الذي يقولون: إن الحاكم بأمر الله أمَرَ بكتابته على جَميع الموحِّدين الذين آمنوا به، فيقول المؤمن به: "آمنتُ بالله، ربي الحاكم، العليِّ الأعلى، ربِّ المشرقَينِ وربِّ المغربين، وإلهِ الأصلَين والفَرعين، منشئِ الناطق والأساس، مُظهِرِ الصورةِ الكاملة بنوره، الذي على العرش استوى، وهو بالأُفق الأعلى، ثم دنا فتدلَّى، وآمنت به، وهو ربُّ الرُّجعى وله الأولى والآخرة، وهو الظاهرُ والباطن. وآمنتُ به, بأولي العزمِ من الرسل، ذَوِي مشارقِ التجلِّي المبارَك حولها وبحاملي العرش الثمانية، وبجميع الحدودِ، وأُومِنُ عاملاً قائماً بكلِّ أمرٍ ومَنعٍ ينزلُ من لَدُن مولانا الحاكم، وقد سَلَّمتُ نفسي وذاتي وذواتي، ظاهرًا وباطناً، علماً وعملاً، وأن أُجاهدَ في سبيل مولانا، سرًّا وجَهراً بنفسي ومالي وولدي وما مَلَكَت يداي، قولاً وعملاً، وأشهدتُ على هذا الإِقرارِ جميع ما خُلق بمشارقي ومات بمغاربي. وقد التزمتُ وأَوجبتُ على هذا نفسي ورُوحي بصحَّةٍ من عقلي ¬

_ (¬1) "رسالة البلاع والنهاية والتوحيد" لحمزة بن علي الزوزني.

وعقيدتي، وإني أُقِرُّ بهذا، غيرَ مُكرَهٍ أو منافق، وإنني أُشهدُ مولايَ الحق الحاكمَ، مَن هو في السماء إلهٌ وفي الأرض إله، وأُشهد مولايَ هادي المستجيبن، المنتقمَ من المشركين المرتدّين، حمزةَ بنَ علي بنِ أحمدَ، مَن به أشرقت الشمسُ الأزلية، ونَطقت فيه وله سُحُبُ الفضل: إني قد بَرئتُ وخرجتُ من جميع الأديانِ والمذاهبِ والمقالاتِ والاعتقاداتِ قديمها وحديثها، وآمنتُ بما أَمر به مولانا الحاكمُ الذي لا أُشرِكُ في عبادتِه أحدًا في جميع أدواري. وأُعيد فأقول: إنني قد سَلَّمتُ رُوحي وجسمي وما ملكَتْ يداي وولدي لمولانا الحاكم جل ذِكره، ورَضِيتُ بجميع أحكامه لي أو علي، غيرَ معترضٍ ولا منكِر منها شيئاً، سرَّني ذلك أم ساءني، وإذا رجعتُ أو حاولتُ الرجوعَ عن دِينِ مولانا الحاكم جلَّ ذِكره، والذي كتبتُه الآن، وأشهدتُ به على رُوحِي ونفسي، أو أشرفُ بالرجوع إلى غيره، أو جَحدتُ أو خالفتُ أمراً أو نهيًا من أوامر مولايَ جل ذكره ونواهيه: كان مولاي الحاكمُ جلَّ ذِكرُه بريئًا مني، واستُحِقَّتْ عليَّ العقوبةُ في جميع أدواري من بارئِ الأنامِ جلَّ ذكره، وعلى هذا أُشهدك ربِّي ومولاي، مَن بيدك الميثاق، وأُقِرةُ، فاجعلني من الموحِّدين الفائزين الذين جَعلتَهم في أعلى عليين، {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ}، مولاي إن تشاء .. آمين" (¬1). ¬

_ (¬1) "مصحف الدروز" (ص 107، 108). ولقد أكرم الله أحد المصريين، فقتل الحاكم إله الدروز غيرة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -.

° وأما الحلول والتناسخُ، فيقولون: إن الجسدَ لا يرجعُ بعدَ الموت، ولكنَّ النفسَ تَحلُّ في جسدٍ آخر، فنَفسُ الموحِّدِ تنتقلُ إلى موحِّد، ونَفْسُ المُشرك إلى مشرك، ولا تتغيَّرُ الأنفس، ولكنها تُغيَّرُ قحصانها -أي: أشكالها- الخارجية" (¬1). ° وقال الأستاذ عبد الله نجار الدرزي نقلاً عن الرسالة الموسومة "من دون قائم الزمان والهادي إلى طاعة الرحمان": "إنَّ البَشَر، وهم عالم السواد الأعظم -سواءٌ في العالم العلوي، أعني الفلك وما فيه من المدبَّرات والنيرات والاستقصات، أم في العالم السفلي-: لم يتناقَصوا ولم يتزايدوا، مِن حيثُ الأرواح التي هي معدودةٌ من أول الأدوار، تظهر بظهوراتٍ مختلفاتِ الصور على مقدارِ إكتسابها من خير وشرٍّ" (¬2). ° ويقولون: "إن اللاهوت ظَهر في صورةِ الناسوت، فظهر أولَ ما ظهر العليُّ، ثم البار، ثم أبي زكريا، ثم عليًّا، ثم المعل، ثم القائم، ثم المنصور، ثم المُعز، ثم العزيز، ثم الحاكم" (¬3). وكلُّهم نَفسٌ واحدة!. ° "وكان الحاكم هو الظاهرُ فيهم جميعًا" (¬4). ° وأما الغَيبةُ والرَّجعة، فيقولون بغَيبةِ الحاكم ورَجعتِه في آخِرِ الزمان ¬

_ (¬1) انظر "رسالة الأسرار ومجالس الرحمة للأولياء والأبرار" من رسائل الدروز. (¬2) انظر "مذهب الدروز والتوحيد" للأستاذ عبد الله نجار (ص 56) ط دار المعارف، مصر 1965م. (¬3) المصدر السابق (ص95، 96). (¬4) رسالة "السيرة المستقيمة" للدرزية.

كما ذكر ذلك حمزة في رسالته المُعَنونة "بنسخة السِّجِلِّ الذي وُجد معلَّقًا على المشاهد في غيبة مولانا الإمام الحاكم" كتب في آخره: "فقد غَضِب الله تعالى ووليُّه أميرُ المؤمنين سلامُ الله عليه مِن عِظَمِ إسراف الكافة أجمعين، ولذلك خَرَج من أوساطكم .. فإذا أطلَّتَ عليكم الرحمةُ خَرج وليُّ الله أمامَكم باختيارِه راضيًا عنكم ظاهرًا في أوساطكم" (¬1). ° أما إبطالُ الشرائع ونسخُ الأديان، فقد ذكرناه سابقاً، وكما ذَكر المؤرِّخون أن الحاكمَ بأمر الله نفسَه أبطلَ بعضَ الشعائر الدينية -مِثل الجمعة وغيرها-، وكان يريدُ إبطالَ الصوم وغيرِه من العبادات، ولكنه قُتل قبل ذلك، وقد ذكر الأستاذ محمد عنان ملخصاً لمذهب الدروز بقوله: "فهم على ما دعا إليه حمزةُ منذُ أكثرَ من تسعةِ قرون، يُنكرون الألوهية في ذاتها، ويعتقِدون في ألوهية الحاكم بأمر الله، وفي رَجعته آخِرَ الزمان، ولهم في تصويرها أقوالٌ مغرقةٌ أشرنا إليها من قبل، ويُنكرون الأنبياءَ والرسلَ جميعاً، وينكرون أصولَ الإسلام والنصرانيةَ واليهودية، بَيْدَ أنهم ينتسِبون ظاهراً إلى الإسلام، ويتظاهَرون أمامَ المسلمين بأنهم مُسلِمون، وأمام النصارى بأنهم نصارى، ويبغضون في الباطن جميعَ أبناءِ الأديانِ الأخرى ولا سيَّما المسلمون، ويَستبيحون دماءَهم وأموالَهم عند المَقدِرة، ويَعتقِدون أن الشياطين هم باقي الملل، وأن العقلاءَ أو خِيارَهم هم الملائكة، ولا يأخذون بشيءٍ من أصولِ الإسلام -كالصوم والصلاة والزكاة والحج-، ¬

_ (¬1) انظر السجل المذكور ضمن رسائل حمزة المدرج بكامله في آخر كتاب "الحاكم بأمر الله" (ص 397) و"مذهب الدروز والتوحيد" لعبد الله نجار (ص 119، 0 12).

النصيريون -لعنهم الله-

بل يُنكرون أصولَ الإسلام جميعَها والشريعةَ الإِسلاميةَ كلَّها، والألوهيةُ البشرية -وهي لُبُّ مذهبِهم-، عندهم مِنةُ المِنَن، ونِعمةُ النِّعم" (¬1). ° وأما نبوةُ حَمزة ورسالتُه، فيقول صاحبُ كتاب "النقط والدوائر" الدرزي وهو يذكر حمزة: "فهو صلوات الله عليه النورُ الكُلِّي، والجوهر الأزلي، والعنصر الأوَّلي، والأصلُ الجَلِي، والجنسُ العَلِي، فيه بدأت الأنوار، ومنه بَرزت الجواهر، وعنه ظهرت العناصر، ومنه تفرعت الأصول، وبه تنوَّعت الأجناس .. إلى أن يقول: فهو الإمامُ والدليلُ على عبادة الله، والداعي إلى توحيدِ الله، والناطقُ بحقِّ الله، والبرهانُ على الله، والرسولُ الذي أرسله الله بالهدى ودينِ الحق ليظهره على الدين كله ولو كَرِه المشركون" (¬2). * لعن الله الدروزَ وأسكنهم النار جزاءَ ما عَطَّلوا ونسخوا من شريعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبدَّلوا دينه وعادَوه. * النُّصَيريُّون -لعنهم الله-: النُّصَيريون أو "العلويُّون" فرقةٌ انشقَّت عن الإِمامية الاثنا عَشْرية، قالوا: إن أبا شُعيب "محمدَ بنَ نُصير البَصري النُّمَيري" مؤسِّسَ النُّصيرية كان بابًا للإمام الحادي عشرَ من الشيعة الإمامية، وهو "الحسن العسكري". ° "وقد اتَّخذ محمدُ بنُ نُصير من مدينة "سامَرَّاء" مقرًّا له، وظَلَّ المرجعَ الأعلى للمذهب النُّصيري إلى أن هَلَك عام 260 هـ، وكان قد ادَّعى ¬

_ (¬1) "الحاكم بأمر الله" (ص 316). (¬2) "النقط والدوائر" (ص 12) نقلاً عن "عقيدة الدروز" للخطيب (ص 110).

النُّبوَّة، وأن الذي أرسلَه هو أبو الحسن -علي بن أبي طالب- وكان يقول بالتناسخ، والغلوِّ في أبي الحسن، ويقول فيه بالربوبيَّة، والإباحة للمحارم" (¬1). وعند وفاةِ محمد بن نُصير حَلَّ مَحِلَّه بابٌ آخرُ هو أبو محمد "عبد الله ابن محمد الحنان الجنبلاني" صاحب الطريقة الجنبلانية الصوفية. ° والنُّصيريون يؤلهون عليًّا، ويقولون: "إن عليًّا خَلق محمدًا، ومحمدٌ متَّصلٌ بعليٍّ ليلاً، منفصلٌ عنه نهارًا، ومحمدٌ خَلَق سلمانَ الفارسيَّ، وسلمانُ خَلَق الأيتامَ الخمسةَ الذين بيدهم مقاليدُ السماوات والأرض، وهم: المقداد: ربُّ الناس وخالقُهم المُوَكَل بالرُّعود والصواعق والزلازل. وأبو الدُرِّ: أي "أبو ذرٍّ الغفاري" المُوَكَّل بدَوَران الكواكب والنجوم. وعبد الله بن رَوَاحة الأنصاري: المُوَكَّل بالرياح وقبض أرواح البشر. وعثمانُ بن مَظْعون: الموكَلُ بالمَعِدة وحرارةِ الجسد وأمراضِ الإنسان. وقَنْبَر بن كادان: الموكَّلُ بنفح الأرواح في الأجسام". ° ويقولون: "إن عَلِيًّا إمامٌ في الظاهر، إلهٌ في الباطن، لا يأكلُ ولا يشربُ ولم يَلِدْ ولم يُولَد، فأمَّا الظاهر .. فهو القسم بالبشريُّ منه "الناسوت" الذي يأكلُ ويشربُ ويلدُ ويولد". والإلهُ لم يَحُل في عليٍّ فقط -حسب مزاعم النصيريين، إنما حَلَّ في ¬

_ (¬1) "طائفة النصيرية -تاريخها وعقائدها" (ص 39) تأليف الدكتور سليمان الحلبي- المطبعة السلفية بالقاهرة، و"فرق الشيعة" (ص 78).

الأئمَّة من بعده. ° ويؤيد ذلك ما ورد في كتابهم المقدس "الهفت الشريف" عن قصةِ مقتل الحُسين - رضي الله عنه - ما نصُه: "وقامت الحربُ .. حينئذٍ دعا مولانا الحُسينُ جبريلَ، وقال له: يا أخي، مَن أنا؟ قال: أنت اللهُ الذي لا إلهَ إلا هو الحيُّ القيومُ، والمميتُ والمحيي!! أنت الذي تأمرُ السماءَ فتُطيعُك، والأرضَ فتنتهي لأمرك، والجبالَ فتجيبُك، والبحارَ فتُسارعُ إلى طاعتِك .. وأنت الذى لا يُصلُ إليك كَيدُ كائد ولا ضَرَرُ ضارٍّ! " (¬1). ° والإِمامُ عند النُّصيَرية أعلى منزلةً من النبي .. لأن الأنبياءَ يوحَى إليهم بواسطةِ جبريل .. والأئمةُ يُكلِّمون اللهَ تعالى بغير واسطة .. فهم -كما ورد في كتابهم المقدس "الهفت الشريف" عن لسان جعفر الصادق، وهو منه بريء-: "نحن يَدُ الله وجَنبُه، ونحن وجهُ الله ويمينُه، وأينما نَظَر المؤمنُ يقصد النصيريَّ يرانا .. إن شئنا شاءَ الله .. والحمدُ لله الذي اصطفانا من طِينةِ نورِ قدرتِه .. وَوَهبنا سِرَّ عِلم مشيئتِه" (¬2). ° والأئمَّةُ في اعتقاد النُّصيريين لا يُولَدون كغيرهم من بني البشر .. بل يولَدون بكيفيةٍ خاصةٍ لا يزاحمُهم فيها غيرُهم. ° يقول كتابهم "الهفت الشريف" ما نصه: "فإذا أراد اللهُ إظهارَ الإمامِ في الظاهر، تأديبًا لهذا الخَلْق، أرسلَ رُوحاً من عنده، فيتدخَّل في المولود الذي قد يتطهَّر مِن كلِّ دَنَس ولم يُزاحِمه رَحِمٌ .. ولكن تدخلُ الروح فيه ¬

_ (¬1) "الهفت الشريف" (ص 121) نقلاً عن "طائفة النصيرية" (ص 49). (¬2) "الهفت الشريف" (ص 221 - 222)، و"طائفة النصيرية" (ص 50).

تأديباً للناس، أتدري يا مُفضَّلُ ما مَثَلُ ذلك؟ قلت: لا يا مولاي. قال: إن ميلادَ الإمامِ وموتَه ليس بميلادٍ ولا موت، وإنما مَثَلُه كمَثَل رجلٍ لبس قميصاً ونَزَعه حينما شاء" (¬1). ° وانظر إلى هذا القَسَم النُّصيري الذي أورد نَصُّه "ابنُ فضل الله العُمري" في كتابه "التعريف بالمصطلح الشريف" ونَقَله عنه القَلْقَشندي في كتابه "صبح الأعشى" (13/ 250 - 251)، وهذا نصُّه: "إنني وحقِّ العليِّ الأعلى، وما أعتقدُه في المظهر الأسنى، وحَقِّ النور وما نشأ منه، والسَّحابِ وساكنِه، وإلاَّ برئتُ من مولايَ "علي" العليِّ العظيم، وولائي له، ومظاهرِ الحق، وكَشَفتُ حجابَ سليمانَ بغير إذن، وبَرئتُ مِن دعوةِ الحُجة "نُصير" وخُضت مع الخائضين في لعنةِ ابنِ مُلجم .. وكَفَرتُ بالخطاب، وأذعتُ السِّرَّ المصون، وأنكرت دعوى أهل التحقيق، وإلاَّ قَلَعتُ أصلَ شجرةِ العنب من الأرض بيدي، حتى أجتثَّ أصولَها وأمنعَ سبيلها، وكنتُ مع قابيل على هابيل، ومع النُّمرود على إبراهيم، وهكذا مع كلِّ فرعونَ قام على صاحبه، إلى أن ألقَى العليَّ العظيم وهو عليَّ ساخط، وأبرأُ مِن قول قَنبر، وأقول: إنه بالنار ما تطهَّر". فهُم في هذا القَسَم يلقِّبون عليَّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - بالعليِّ العظيم وهما من أسماء الله، ويدَّعون أن سلمانَ هو صاحبُ الحجاب، وأن شجرةَ العنب مقدَسةٌ عندهم، بحيث لا يجوزُ اقتلاعُها؛ لأن من ثَمَرها تُصنَعُ الخَمر .. وهمُ يُعظِّمون الخمر" (¬2). ¬

_ (¬1) "الهفت الشريف" (ص 113 - 114). (¬2) انظر "طائفة النصيرية" (ص 54 - 55).

° وهم يُسقطون التكاليف، ويُؤَوِّلونها إلى تأويلاتٍ باطنية: فالصلاةُ عندهم والزكاة كما جاء في كتابهم المقدس "الهفت الشريف": -"فأمَا معنى قوله تعالى: {وَكَانَ يَأْمُر أَهْلَه بِالصًلاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم: 55]، فالصلاة أميرُ المؤمنين .. والزكاة معرفته، أما إقامة الصلاة فهي معرفتُنا وإقامتنا" (¬1). حتى وإنْ صَلَّوْا أحيانًا، فصلاتهم -كما قال الدكتور مصطفى الشكعة- "ليس فيها سُجود، وإنْ كان فيها ركوع أحيانًا .. كما وأنَّهم لا يُصَلُّون الجمعةُ، ولا يعترفون بها كفَرض .. ولا يتمسَكون بالطهارة قبلَ أداءِ صلواتهم مِن وُضوء ورفع جَنابة .. فهم يقولون عن الجنابة "النجاسة": إنها موالاةُ الأضداد، والجهلُ بالعلم الباطني، و"الطهارةُ": معاداةُ الأضداد، ومعرفةُ العلم الباطني" (¬2). ° "والصيامُ عندهم ليس امتناعا عن الأكل والشرب، بل هو امتناع عن معاشرة النساء فقط طوالَ شهر رمضان .. ولا يعترفون بالحج .. بل يعتبرون الحجَّ إلى بيت الله الحرام كفرًا وعبادةَ أصنام" (¬3). وقد ذكر الدكتور عبد الرحمن بدوي (¬4) أنه تُوجد خلاصةٌ وافية لتعاليم النُصيرية وعقائدِها في كُتيب صغير بعنوان: "كتاب تعليم ديانة النصيرية"، ومنه مخطوط في المكتبة الأهلية بباريس تحت رقم (6182) وهو على طريقة السؤال والجواب، ويتألف من (101) سؤال .. منها: ¬

_ (¬1) "الهفت الشريف" (ص64). (¬2) "طائفة النصيرية" (ص58). (¬3) "طائفة النصيرية" (ص66). (¬4) انظر (ص474) من كتاب "مذاهب الإسلاميين" -للدكتور عبد الرحمن بدوي- دار العلم للملايين بيروت.

س1: مَن الذي خَلَقنا؟ جـ - علي بن أبي طالب أمير المؤمنين. س2: مِن أين نعلم أن عليًّا إله؟. جـ: مما قاله هو عن نفسِه في خطبة البيان .. وهو واقف على المنبر، إذْ قال: "أنا سر الأسرار، أنا شجرةُ الأنوار، أنا دليلُ السماوات، أنا أنيسُ المستجاب، أنا سائقُ الدعوة، أنا شاهدُ العهد، أنا زاجرُ القواصف، أنا محرِّكُ العواصف، أنا مُزْنُ السحاب، أنا نورُ الغياهب، أنا حُجَّةُ الحُجج، أنا مُيَمِّنُ اليمْن، أنا سببُ الأسباب، أنا مُسدِّد الخلائق، أنا محقِّقُ الحقائق، أنا جوهرُ القِدم، أما مُرتِّبُ الحِكم، أنا الأولُ والآخرُ، والظاهرُ والباطن .. ". س5: كم مرة تحوَّل ربُّنا ليتجلى في صورةٍ إنسانية؟. جـ: سبع مرات .. فقد احتجب: (أ) في شخصِ "آدم" باسم "هابيل". (ب) وفي شخصِ "نوح" باسم "شيت". (جـ) وفي شخص "يعقوب" باسم "يوسف". (د) وفي شخص "موسى" باسم "يوشع". (هـ) وفي شخص "سليمان " باسم "آصف". (و) وفي شخص "عيسى" باسم "بطرس". (ز) وفي شخص "محمد" باسم "علي"، س43: ما أسماء أمير المؤمنين في مختلَف اللغات؟ جـ: سماه العربُ باسم "عليٍّ"، وهو نفسُه سمَّى نفسه:

"أرسطوطاليس"، وفي الإِنجيل اسمه "إيليا" "إلياس". س 66: ما أسماءُ النجباء في العالم الصغير الأرضي؟. جـ: يورد (25) إسما أولها " أبو أيوب" .. وآخرها "عبد الله بن بأ". س 72: ما القرآن؟ جـ: هو المُبَشِّر بظهور مولانا في صورة بشرية. س 74: ما علامة إخواننا المؤمنين الصادقين؟ جـ: ع. م. س: وَ (ع) تدل على "عليٍّ"، و (م) تَدُلّ على "محمد"، و (س) تدل على سلسل أي: "سليمان". س 76: ما القدَّاس؟. جـ: تقديس الخمر التي تُشرب على صحة النقباء أو النجباء. س 86: هل يحقُّ للمؤمن أن يبوحَ لإِنسانٍ آخر بِسِر الأسرار؟ جـ: لا يبوحُ به إلا لإِخوانه في الدِّين، وإلاَّ باء بسَخَط الله (¬1). والنُصَيريُّون يقولون بالتناسخ، وهو انتقالُ الروح من بدنِ إنسانٍ إلى بدنِ إنسان آخر .. أمَّا إذا انتقلت إلى بَدنِ حيوان، فإنهم يُسمُونه "مسخ" .. وإذا انتقلت إلى جِسم حَشرة فهو "فسخ"، وإذا انتقلت إلى الشجر والنبات فهو "رسخ" (¬2). ° ويقول النصيريُّون بأن الجَنَّة هي معرفةُ ألوهِيةِ مولاهم -علي بن أبي ¬

_ (¬1) انظر "طائفة النصيرية" (ص 66 - 69). (¬2) "طائفة النصيرية" (ص 76).

طالب- والجحيمَ هو الكفر والجهلُ بها (¬1). ° وفي إحدى رسائل الدروز وهي رسالة "السؤال والجواب" (¬2) يقول السؤال رقم (44) بالنَّص: "س 44: كيف انفَصَل النُّصيرية عن الموحَدين "الدروز" وخرجوا من دين التوحيد؟. ويقول الجواب: جـ: انفَصلوا بدعوى النُّصَيْريَ لهم .. حيث زَعم أنه عَبد مولانا أميرِ المؤمنين "علي"، وأنكر لاهوت مولانا "الحاكم بأمر الله"، واعترف بلاهوت عليِّ بنِ أبي طالب، وقال: إن اللاهوت ظَهر في الأئمة الإثنى عشر" (¬3)، ومسيحيُّهم الحقيقيُّ الحيُّ الأبدي. ° ويقول نبيُّ الدروز "حمزة بن علي" في رسالة تحت عنوان: "الرسالة الدامغة للفاسق، والرد على النصيريِّين "المارقة" لعنهم الله في كل كَوْرٍ ودَوْر" (¬4): "وَمن اعتقد التناسخ مثل النّصَيْريَّة الملعونة .. في عليِّ بن أبي طالب، وعَبدِه، خَسِر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين". ° ويقول حمزة: "ثم إنه -أي: النصيري- إذا ذَكَر عَلِيًّا يقول: "علينا سلامُه ورحمتُه"، وإذ ذكر مولانا "الحاكم" جَلَّ ذِكره يقول: "علينا ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 76 - 77). (¬2) انظر "مذاهب الإسلاميين" (ص 823). (¬3) "طائفة النصيرية" (ص 78). (¬4) الرسالة مخطوطة تحت رقم (1423) عربي بباريس .. انظر "مذاهب الإسلاميين" (ص 816)، و"طائفة النصيرية" (ص 79، 81 - 82).

ادعاء النبوة والألوهية في العصر الحديث عند النصيريين

سلامُه"، فيطلب الرحمةَ مات المفقود المعدوم، ويجحد الموجودَ "الحاكم" بذاته المنفرد عن مُبدِعاته .. ولا يكون في الكفر أعظم من هذا .. فصَحَ عند الموحِّد العاوف بأن الشركَ الذي لا يُغفر أبدًا هو بأن يُشرِكَ بين علي بن أبي طالب وبين مولانا جل ذكره. ويقول: عليٌّ مولانا الموجود، ومولانا: هو عليٌّ .. لا فرقَ بينهما. والكفرُ ما اعتَقدَه هذا الفاسقُ "النصيري" من العبادة في عليِّ بن أبي طالب والجحودِ بمولانا جَلَّ ذكره". فهذا يدلُّ على عُمقِ العداوة بين الطائفتين الذي يَصلُ إلى تكفيرِ كل منهما للأخرى. * ادعاء النُّبُوّة والألوهية في العصر الحديث عند النُّصيريين: ° "وقد ادَّعى الألوهيَّةَ في زماننا هذا النُصَيريُّ "سلمان المرشد" وهو من قرية "جوبة برغال" شرقي مدينةِ اللاذقية بسوريا، وآمن به واتَّبعه كثير من النصيريين .. وقد مَثَّل الدورَ تمثيلا جيِّداً، فكان يَلبَسُ ثيابًا فيها أزرار كهربية، ويحملُ في جَيبه بَطَّريةً صغيرةً متصلة بالأزرار .. فإذا أوصل التيارَ شَعَّتِ الأنوارُ من الأزرار، فيخرُّ له أنصارة ساجِدين .. ومن الطريف أن المستشار الفرنسيَّ الذي كان وراء هذه الألوهية المُزَيَّفة كان يسجدُ مع الساجدين .. ويخاطب سلمانَ المرشد بقوله: "يا إلهي"! .. ° وقد اتخذ "سلمانُ المرشد" رسولاَّ اسمه: "سلمان الميدة" وكان يَشتغلُ جَمَّالاً عند أحدِ المزارِعين في "حمص" في حين كان "سلمان المرشد" -مُدَّعي الأَّلوهية- راعيَ أبقار .. وهكذ! يكون الإله راعيا

° سئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-

والرسولُ جَمالاً!! " (¬1). وقد أعُدم "سلمانُ المرشد" شنقا في دمشق عام 1946م (¬2) مِن قِبَل الحكومة السورية. ° "وقد سُئل مرة قبلَ هلاكه: أنت إلهٌ؟! و"أغاخان" -زعيم الإِسماعيلية الأغاخانية- إلهٌ؟ فكيف تَتَّسعُ الأرضُ لإلهين؟ فأجاب: إن الخالق يُبث رُوحَه فيمن يشاءُ، وقد يبثها في مئةٍ من مخلوقاته، فيُصبحون أربابا مِثلي". وظلَّ النصيريُون مُخلِصين لإِلههم المشنوق، وبعد شَنقِه أَلَّهوا ابنَه "مجيب بن سلمان المرشد"، ومع أن هذا الأخيرَ قُتِل أيضًا .. إلاَّ أنهم لا زالوا يُؤَلِّهونه" (¬3) ° سُئِل شيخُ الإِسلام ابن تيمية -رحِمه الله تعالى-: ما تقولُ السادةُ العلماءُ أئمةُ الدين -رضي الله عنهم-، وأعانهم على إظهارِ الحق المبين، وإخمادِ شَغَبِ المُبطِلين - في "النصيرية" القائلين باستحلالِ الخمر، وتناسُخ الأرواح، وقِدَمِ العالم، وإنكارِ البعثِ والنشورِ والجنةِ والنارِ في غيرِ الحياد الدنيا، وبأن "الصلوات الخمس" عبارة عن خمسةِ أسماء، وهي: "علي، وحسن، وحسين، ومُحسِّن، وفاطمة"، فذِكرُ هذه الأسماء الخمسة -على رأيهم- يُجزيهم عن الغسل من الجنابة، والوضوء، وبقيةِ شروطِ الصلوات الخمسة وواجباتها .. وبأن "الصيام" عندهم عبارة عن اسم ثلاثين رجلاً، واسم ¬

_ (¬1) "إسلام بلا مذاهب" (ص 309) للدكتور مصطفى الشُّكعة- بيروت. (¬2) "الأعلام" لخير الدين الزركلي (3/ 170) - دمشق. (¬3) "طائفة النصيرية" (ص 53)، و"الأعلام" (3/ 170).

ثلاثين امرأة، يَعدونهم في كتبهم، ويَضيق هذا الموضعُ عن إبرازهم، وبأن إلاهَهم الذي خَلق السماوات والأرض هو عليُّ بن طالب رضى الله عنه، فهو عندهم الإِلُه في السماء، والإمامُ في الأرض، فكانت الحكمة في ظهورِ اللاهوت بهذا الناسوت -على رأيهم- أن يؤنِسَ خَلْقَه وعبيدَه؛ ليُعلِمَهم كيف يَعرِفونه ويعبدونه. وبأن النُّصيريَ عندهم لا يصيرُ نُصيريًّا مؤمنًا يجالسونه، ويشربون معه الخمر، وُيطلعونه على أسرارهم، ويُزوِّجونه من نسائهم، حتى يخاطبَه مُعلَمُه، وحقيقةَ الخطاب عندهم أن يحلَفوه على كتمانِ دينه، ومعرفة مشائخِه وأكابر أهل مذهبه، وعلى ألاَّ ينصحَ مسلما ولا غيرَه إلاَّ مَن كان مِن أهل دينه، وعلى أن يَعرفَ ربه وإمامَه بظهوره في أنوارِه وأدوارِه، فيعرفُ انتقالَ الاسم والمعنى في كلِّ حين وزمان، فالاسم عندهم في أول الناس "آدمُ"، والمعنى هو "شيث"، والاسم "يعقوب"، والمعنى هو "يوسف"، ويستدلون على هذه الصورة -كما يزعمون- بما في القرآن العظيم حكايةً عن يعقوبَ ويوسف -عليهما الصلاة والسلام-، فيقولون: أمَا يعقوب، فإنه كان الاسم، فما قَدَر أن يتعدَى منزلته فقال: {سَوفَ أَسْتَغْفرُ لَكُمْ رَبّي} [يوسف: 98]، وأما يوسفُ، فكان المعنى المطلوب، فقال: {لا تَثْريب علَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: 92] فلم يُعلِّقِ الأمرَ بغيره؛ لأنه عَلِم أنه الإلُه المتصرف، ويجعلون "موسى" هو الاسم، و"يوشعَ" هو المعنى، ويقولون: "يوشع رُدَت له الشمسُ لَمَا أمرها فأطاعت أمره، وهل تُرد الشمس إلاَّ لرِّبها؟! "، ويجعلون "سليمانَ" هو الاسم، و"آصفَ" هو المعنى القادر المقتدر، ويقولون: سليمانُ عَجَز عن إحضارِ عَرش بلقيس، وقَدَر عليه

آصف؛ لأن سليمان كان الصورةَ، وآصفُ كان المعنى القادِرَ المقتدر، وقد قال قائلهم: هابيلُ شَيثُ يوسفُ يوشعُ ... آصفُ شمعونُ الصفا حَيدرُ ويَعُدُون الأنبياءَ والمرسلينَ واحدا واحدا على هذا النمط إلى زمنِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقولون: "محمدٌ" هو الاسم، و"علي" هو المعنى، وُيوصِّلون العَددَ على هذا الترتيب في كل زمانٍ إلى وقتنا هذا، فمِن حقيقةِ الخطاب في الدين عندهم أن عليًّا هو الرب، وأن محمدًا هو الحجاب، وأن سلمانَ هو الباب، وأنشد بعضُ أكابرِ رؤوسائهم وفضلائِهم لنفسه في شهور سنةِ سَبْعمئة فقال: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ ... حَيدرةُ الأنزعُ البطينُ ولا حجابَ عليه إلاَّ ... محمدُ الصادقُ الأمينُ ولا طريقَ إليه إلاَّ ... سلمانُ ذو القوة المتينُ ويقولون: إن ذلك على هذا الترتيبِ لم يَزل ولا يزال، وكذلك الخمسةُ الأيتام، والاثنا عشر نقيبًا، وأسماؤهم مشهورة عندهم، ومعلومةٌ من كتبهم الخبيثة، وأنهم لا يزالون يَظهرون مع الربِّ والحجابِ والبابِ في كلِّ كَور ودَور أبدًا سرمدًا على الدوام والاستمرار، ويقولون: إن إبليسَ الأبالسةِ هو عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه -، ويَليه في رتبةِ الإبليسيةِ أبو بكر - رضي الله عنه - ثم عثمان- صلى الله عليه وسلم - وشرَّفهم وأعلى رتبهم عن أقوال الملحدين وانتحالِ أنواع الضالين والمفسدين-، فلا يزالون موجودين في كلِّ وقتٍ دائمًا حسبما ذكر من الترتيب، ولمذاهبهم الفاسدةِ شُعبٌ وتفاصيل تَرجعُ إلى هذه الأصول المذكورة.

وهذه الطائفةُ الملعونة استَولت على جانبٍ كبير من بلاد الشام، وهم معروفون مشهورون متظاهرون بهذا المذهب، وقد حَقَّق أحوالَهم كلُّ مَن خالَطهم وعَرَفهم من عقلاءِ المسلمين وعلمائهم، ومن عامةِ الناس أيضًا في هذا الزمان؛ لأنَّ أحوالَهم كانت مستورةً عن أكثرِ الناس وقتَ استيلاءِ الإِفرنج المخذولِين على البلاد الساحلية، فلما جاءت أيامُ الإِسلام انكشف حالُهم وظَهر ضلالُهم، والابتلاءُ بهم كثير جدًّا. فهل يجوزُ لمسلم أن يُزوَجهم، أو يتزوَّجَ منهم؟ وهل يَحِل أكل ذبائحهم والحالةُ هذه، أم لا؟ وما حُكمُ الجُبنِ العمول من إنْفِحَّةِ ذبيحتِهم؟ وما حُكم أوانِيهم وملابسهم؟ وهل يجوز دفنُهم بين المسلمين، أم لا؟ وهل يجوزُ استخدامُهم في ثغورِ المسلمين وتسليمُها إليهم؟ أم يجب على وليِّ الأمر قَطعُهم واستخدامُ غيرِهم من رجالِ المسلمين الكفاة، وهل يأثم إذا أخَّر طَردَهم؟ أم يجوزُ له التمهُّل مع أنَّ في عزمه ذلك؟ وإذا استَخدَمَهم وأقْطَعَهم أو لم يُقطِعْهم، هل يجوزُ له صَرفُ أموالِ بيتِ المالِ عليهم، وإذا صَرَفها وتأخَّر لبعضِهم بقيةٌ من معلومه المسمَّى، فأخره وليّ الأَّمر عنه وصَرَفه على غيرِه من المسلمين أو المستحقين، أو أرصده لذلك: هل يجوزُ له فِعلُ هذه الصور؟ أم يجبُ عليه؟ وهل دماءُ النصيريةِ المذكورين مباحة وأموالُهم حلال، أم لا؟ وإذا جاهَدهم وليُّ الأمر -أيَّده الله تعالى- بإخمادِ باطلهم، وقَطْعِهم من حصون المسلمين، وحَذر أهل الإسلام من مناكحتهم، وأكل ذبائحهم، وألزَمَهم بالصوم والصلاة، ومَنَعهم من إظهارِ دينهم الباطل وهم الذين يَلُونه من الكفار: هل ذلك أفضل وأكثرُ أجرًا من التصدي والترصُّد لقتال التتار في بلادهم وهدم بِلاد "سيس" وديارِ الإِفرنج

فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية

على أهلها؟ أم هذا أفضل من كونه يجاهد النُّصيريةَ المذكورِين مرابطًا؟ ويكونُ أجرُ مَن رابط في الثغور على ساحِل البحر خشيةَ قَصدِ الفرنج أكبرَ، أم هذا أكبر أجرًا؟ وهل يجبُ على مَن عَرَف المذكورين ومذاهبَهم أن يُشهِرَ أمرَهم ويساعدَ على إبطالِ باطِلِهم وإظهارِ الإسلامِ بينهم، فلعلَّ اللهَ تعالى أن يَهدِيَ بعضَهم إلى الإسلام، وأن يجعلَ مِن ذريتِهم وأولادهم مسلمين بعد خروجهم من ذلك الكفرِ العظيم، أم يجوز التغافُل عنهم والإِهمال؟ وما قَدرُ المجتهدِ على ذلك، والمجاهدِ فيه، والمرابطِ له والملازم عليه، ولْتَبسطوا القولَ في ذلك مثابين مأجورين -إن شاء الله تعالى-، إنه على كل شيءٍ قدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل؟ (¬1). * فأجاب شيخُ الإِسلام تقيُّ الدين أبو العباس أحمد بن تيمية: الحمد لله رب العالمين، هؤلاء القومُ المسمَّون بالنصيرية هم وسائرُ أصنافِ القرامطة الباطنية أكفرُ من اليهود النصارى، بل وأكفرُ من كثير من المشركين، وضَررهم على أمةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظمُ من ضررِ الكفار المحارِبين مثل كفارِ التتار والفرنج وغيرهم؛ فإن هؤلاء يتظاهَرون عند جُهَّالِ المسلمين بالتشيع، وموالاةِ أهل البيت، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا بكتابِه، ولا بأمر ولا نهي، ولا ثوابٍ ولا عقاب، ولا جَنة ولا نار، ولا بأحدٍ من المرسلين قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا بملَّةٍ من المِلل السالفة، بل يأخذون كلام الله ورسوله المعروف عند علماء المسلمين يتأوَلونْه على أمورٍ يفترونها، ¬

_ (¬1) هذا سؤال الشيخ العلاّمة شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمود بن مري الشافعي -رحمه الله- الشيخ الإسلام ابن تيمية .. انظر "النصيرية طغاة سورية" أصدرتها دار الإفتاء بالرياض، وانظر "طائفة النصيرية" هامش (ص 127).

يَدَعون أنها علمُ الباطن، من جنس ما ذكره السائل، ومِن غير هذا الجنس، فإنه ليس لهم حدٌّ محدود فيما يدَّعونه من الإلحادِ في أسماء الله تعالى وآياته، وتحريفِ كلام الله تعالى ورسوله عن مواضِعه؛ إذ مقصودُهم إنكارُ الإيمانِ وشرائع الإسلام بكلّ طريق، مع التظاهُرِ بأنَّ لهذه الأمورِ حقائقَ يعرفونها من جِنسِ ما ذَكَر السائل، ومِن جنس قولهم: إن "الصلوات الخمس" معرفة أسرارهم، و"الصيام المفروض" كتمانُ أسرارهم، و"حج البيت العتيق" زيارةُ شيوخهم، وأن "يدَا أبي لهب" هما أبو بكر وعمر، وأن "النبأ العظيم" والإمامَ المُبين هو علي بن أبي طالب، ولهم في معاداة الإسلام وأهلِه وقائعُ مشهورة وكُتب مصنَفة، فإذا كانت لهم مُكْنة سفكوا دماءَ المسلمين؛ كما قَتَلوا مرة الحُجاجَ وألقَوهم في بئرِ زمزم، وأخذوا مرةً الحَجَرَ الأسود وبَقِي عندهم مُدة، وقَتَلوا من علماءِ المسلمين ومشايخهم ما لا يُحصِي عددَه إلاَّ الله تعالى، وصنَفوا كتبًا كثيرةً مما ذكره السائلُ وغيره، وصنَّف علماءُ المسلمين كتبًا في كشفِ أسرارهم وهَتكِ أستارهم، وبيَنوا فيها ما هم عليه من الكُفرِ والزندقة والإلحاد، الذي هم به أكفرُ من اليهود والنصارى، ومِن براهمةِ الهندِ الذين يعبُدون الأصنام .. وما ذكره السائل في وصفهم قليلٌ من الكثير الذي يعرفُه العلماء في وصفهم. ومن المعلوم عندنا أن السواحلَ الشاميةَ إنما استولى عليها النصارى مِن جهتهم، وهم دائمًا مع كلِّ عدوِّ للمسلمين، فهم مع النصارى على المسلمين، ومِن أعظم المصائب عندهم فتح المسلمين للسواحل، وانقهارُ النصارى، بل ومن أعظم المصائبِ عنْدهم انتصار المسلمين على التتار، ومِن أعظم أعيادِهم إذا استولى -والعياذ بالله تعالى- النصارى على ثغور

المسلمين، فإن ثغورَ المسلمين ما زالت بأيدي المسلمين، حتى جزيرةُ "قبرص" يسَّر الله فتحها عن قريب، وفَتَحها المسلمون في خلافةِ أمير المؤمنين عثمانَ بنِ عفان - رضي الله عنه - فَتَحها معاوية بن أبي سفيان إلى أثناء المئة الرابعة. فهؤلاء المحادُّون لله ورسوله كثُروا حينئذٍ بالسواحل وغيرها، فاستولى النصارى على الساحل، ثم بسببهم استولَوا على "القدس الشريف" وغيره؛ فإن أحوالَهم كانت من أعظم الأسباب في ذلك، ثم لما أقام الله ملوكَ المسلمين المجاهِدين في سبيل الله تعالى كنُورِ الدين الشهيد، وصلاح الدين وأتباعهما، وفَتَحوا السواحلَ من النصارى، وممن كان بها منهم، وفتحوا -أيضًا- أرضَ مصر، فإنهم كانوا مُستَوْلِين عليها نحوَ مئتي سنةٍ، واتَّفقوا هم والنصارى، فجاهَدَهم المسلمون حتى فَتَحوا البلاد، ومِن ذلك التاريخ انتشرت دعوةُ الإِسلام بالديار المصرية والشامية. ثم إنَّ التتارَ ما دَخلوا بلادَ الإِسلام وقَتلوا خليفةَ بغداد وغيرَه من ملوك المسلمين إلاَّ بمعاونتهم ومؤازرتهم؛ فإن منجِّم هولاكو الذي كان وزيرَهم -وهو "النصير الطوسي"- كان وزيرًا لهم بـ "الألموت"، وهو الذي أَمر بقتل الخليفةِ وبولاية هؤلاء. ولهم ألقابٌ معروفة عند المسلمين، تارةً يسمَّون "الملاحدة"، وتارةً يُسمَّون "القرامطة"، وتارةً يُسمَّون "الباطنية"، وتارةً يسمَّون "الإسماعيلية"، وتارةً يُسمَّون "النصيرية"، وتارةً يُسمَّون "الخُرَّمِيَّة"، وتارةً يسمَّون "المحمرة"، وهذه الأسماء منها ما يَعُمُّهم، ومنها ما يخصُّ بعضَ أصنافهم، كما أن "الإسلام والإِيمان" يعمُّ المسلمين، ولبعضِهم اسم يخصه: إما

لنَسَبٍ، وإما لمذهب، وإما لبلد، وإما لغير ذلك. وشَرحُ مقاصِدِهم يطول، وهم كما قال العلماء فيهم: "ظاهرُ مذهبِهم الرفضُ، وباطنُه الكفرُ المحض"، وحقيقةُ أمرِهم: أنهم لا يؤمنون بنبيٍّ من الأنبياء والمرسلين؛ لا بنوح، ولا إبراهيم، ولا موسى، ولا عيسى، ولا محمد -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، ولا بشيءٍ من كتب الله المنزَّلة؛ لا التوراة، ولا الإنجيل، ولا القرآن، ولا يقِرون بأن للعالم خالقًا خَلَقه، ولا بأن له دينًا أَمَر به، ولا أن له دارًا يَجزِي الناسَ فيها على أعمالهم غيرَ هذه الدار. وهم تارةً يبنُون قولَهم على مذاهبِ الفلاسفة الطبيعيين أو الإلهيين، وتارةً يَبنُونه على قولِ المجوس الذين يعبُدون النور، ويضمُّون إلى ذلك الرفضَ. ويحتجُّون لذلك من كلام النبوات، إمَا بقولٍ مكذوب ينقلُونه، كما ينقُلُون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أولَ ما خَلَق الله العقل"، والحديث موضوعٌ باتفاقِ أهل العلم بالحديث، ولفظه: "إن الله لما خلق العقل، قال له: أَقبِلْ، فأقبل. فقال له: أَدبِرْ، فأدبر" (¬1)، فيُحرفون لفظه فيقولون: "أولُ ما خلق الله العقل"، ليوافقوا قولتَ المتفلسفة أتباع أرسطو في أن أول الصادراتِ عن واجبِ الوجود هو العقل، وإما بلفظٍ ثابث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيُحرِّفونه عن مواضعه كما يَصنع أصحابُ "رسائل إخوان الصفا" ونحوهم، فإنهم من أئمتهم. ¬

_ (¬1) ابن الجوزي في "الموضوعات" (1/ 74)، وقال: "هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... " إلخ.

وقد دخل كثيرٌ من باطلهم على كثير من المسلمين وراج عليهم، حتى صار ذلك في كتبِ طوائفَ من المنتسبين إلى العلم والدين، وإن كانوا لا يوافقونهم عدى أصلَ كفرهم؛ فإن هؤلاء لهم في إظهارِ دعوتهم الملعونةِ التي يُسمُّونها "الدعوة الهادية" درجاتٍ متعددةً، ويُسمُّون النهاية "البلاغ الأكبر والناموس الأعظم"، ومضمون البلاع الأكبر جَحْدُ الخالق تعالى، والاستهزاءُ به، وبمن يُقِرُّ به، حتى قد يكتبُ أحدُهم اسمَ الله في أسفل رِجله، وفيه -أيضًا- جَحدُ شرائعِه ودينِه وما جاء به الأنبياء، ودعوى أنهم كانوا من جنسهم طالِبين للرئاسة، فمِنهم من أحسن في طلبها، ومنهم مَن أساء في طلبها حتى قتل، ويجعلون محمدًا وموسى من القِسم الأول، ويجعلون المسيحَ من القسم الثاني، وفيه من الاستهزاء بالصلاة، والزكاة والصوم، والحج، ومن تحليل نكاح ذوات المحارم، وسائر الفواحش، ما يطولُ وصفه. ولهم إشاراتٌ ومخاطَباتٌ يَعرفُ بها بعضُهم بعضًا، وهم إذا كانوا في بلاد المسلمين التي يكثُر فيها أهلُ الإيمان فقد يَخفَون على مَن لا يعرفُهم، وأما إذا كثروا فإنه يعرفُهم عامةُ الناس -فضلاً عن خاصَّتهم-. وقد اتَّفق علماءُ المسلمين أن هؤلاء لا تجوز مناكحتهم، ولا يجوزُ أن يَنكح الرجل مولاتِه منهم، ولا يتزوج منهم امرأةً، ولا تُباح ذبائحهم. وأما "الجبن المعمول بإنفِحَتهم"، ففيه قولان مشهوران للعلماء، كسائر إِنفِحَّة الميتة، وكإِنْفحَّة ذبيحةِ المجوس وذبيحةِ الفرنج الذين يقال عنهم: إنهم لا يُذكُّون الذبائح، فمذهب أبي حنيفة وأحمدَ -في إحدى الروايتين-: أنه يَحِل هذا الجبن؛ لأن إنفِحَّةَ الميتةِ طاهرة على هذا القول؛ لأن الإِنفِحَّةَ لا

تموتُ بموتِ البهيمة، وملاقاةُ الوعاء النجس في الباطن لا ينجس. ومذهبُ مالك والشافعيِّ وأحمدَ -في الرواية الأخرى-: أن هذا الجبنَ نجس؛ لأن الإِنفحَّة عند هؤلاء نجِسة؛ لأنَّ لبنَ الميتةِ وإنفحّتَها عندهم نجس .. ومَن لا تؤكلُ ذبيحتُه فذبيحته كالميتة، وكلٌّ مِن أصحابِ القولَين يحتجُّ بآثارٍ ينقلُها عن الصحابة، فأصحابُ القول الأولِ نَقَلوا أنهم أكَلوا جبن المجوس، وأصحابُ القول الثاني نقلوا أنهم أكلُوا ما كانوا يظنون أنه من جُبنِ النصارى، فهذه مسألةُ اجتهاد؛ للمقلِّد أن يُقلِّدَ مَن يُفتي بأحدِ القولين. وأما "أوانيهم وملابسهم"، فكأواني المجوس وملابسِ المجوس، على ما عرف من مذاهب الأئمة، والصحيحُ في ذلك أن أوانيهم لا تُستعمل إلاَّ بعد غسلها؛ فإن ذبائحَهم ميتة، فلا بدَّ أن يصيب أوانيَهم المستعملةَ ما يَطبخونه من ذبائِحهم فتَنجُسَ بذلك، فأمَّا الآنية التي لا يغلِبُ على الظن وصولُ النجاسة إليها، فتُستعمل من غيرِ غَسْل كآنيةِ اللبن التي لا يَضَعُون فيها طبيخَهم، أو يغسِلونها قبلَ وضع اللبن فيها، وقد توضَّأ عمرُ بنُ الخطاب - صلى الله عليه وسلم - من جَرة نصرانيةٍ، فما شُكَّ في نجاسته لم يُحكم بنجاسته بالشك. ولا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين، ولا يُصلَّى على من مات منهم، فإن الله - سبحانه وتعالى - نهى نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة على المنافقين، كعبدِ الله ابن أبي، ونحوه، وكانوا يتظاهَرون بالصلاة والزكاة والصيام والجهاد مع المسلمين، ولا يُظهرون مقالةً تخالف دينَ الإِسلامٍ، لكن يسِرُّون ذلك، فقال الله تعالى: {وَلا تصَل عَلَى أَحَدٍ مِّنْهم مَاتَ أَبدا ولا تَقم عَلى قَبره إنَّهم

كفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسقُون} [التوبة: 84]، فكيف بهؤلاء -الذين هم مع الزندقة والنفاق- يظهرون الكفر والإلحاد. وأما استخدامُ مثل هؤلاء في ثغورِ المسلمين أو حُصونهم أو جُندهم، فإنه من الكبائر، وهو بمنزلةِ مَن يستخدمُ الذئابَ لرعي الغنم، فإنهم مِن أغشِّ الناس للمسلمين ولولاة أمورهم، وهم أحرصُ الناس على فسادِ المملكة والدولة، وهم شرٌّ مِن المخامِر الذي يكون في العسكر؛ فإن الخامِر قد يكونُ له غَرضٌ، إما مع أميرِ العسكر، وإما مع العدو، وهؤلاء مع المِلَّة ونبيِّها ودينِها، وملوكِها، وعلمائِها، وعامَّتِها، وخاصَّتِها، وهم أحرصُ الناس على تسليم الحصونِ إلى عدوِّ المسلمين، وعلى إفسادِ الجند على وليَ الأمر، وإخراجِهم عن طاعته. والواجبُ على ولاةِ الأمور قَطعُهم من دواوينِ المقاتِلة، فلا يُتركون في ثَغر، ولا في غير ثغر؛ فإنَّ ضَررهم في الثغرِ أشد، وأن يُستخدمَ بدَلَهم من يُحتاجُ إلى استخدامه من الرجال المأمونين على دينِ الإسلام، وعلى النُّصح لله ورسوله، ولأئمَّةِ المسلمين وعامتهم، بل إذا كان وليُّ الأمرِ لا يَستخدمُ مَن يَغُشُّه -وإن كان مسلما-، فكيف بمن يَغُشُّ المسلمين كلَّهم؟!. ولا يجوزُ له تأخير هذا الواجب مع القُدرة عليه، بل أيَ وقتٍ قَدَر على الاستبدال بهم وجب عليه ذلك. وأما إذا استُخدموا وعَمِلوا العمل المشروطَ عليهم، فلهم إمَّا المسمَّى، وإمَّا أُجْرة المِثْل؛ لأنهم عُوقدوا على ذلك، فإن كان العقد صحيحًا وجب المسمَّى، وإن كان فاسدًا وجبت أُجرةُ المِثل، وإن لم يكن استخدامُهم منْ

جنس الإِجارة اللازمة، فهي من جنسِ الجِعالة الجائزة، لكن هؤلاء لا يجوزُ استخدامُهم، فالعقدُ عقدٌ فاسد، فلا يستحقُّون إلا قيمةَ عملِهم، فإن لم يكونوا عمِلوا عملاً له قيمة، فلا شيءَ لهم، لكن دماؤهم وأموالهم مباحة. وإذا أظهروا التوبةَ ففي قبولها منهم نزاعٌ بين العلماء، فمَن قَبِل توبتَهم إذا التزموا شريعةَ الإِسلام أقرَّ أموالَهم عليهم، ومَن لم يَقبَلْها لم تُنقل إلى وَرَثَتهم مِن جنسهم، فإن مالَهم يكون فيئًا لبيت المال؛ لكنَّ هؤلاء إذا أُخذوا فإنهم يظهرون التوبة؛ لأن أصلَ مذهبِهم "التقيَّة" وكتمانُ أمرهم، وفيهم مَن يَعرف، وفيهم مَن قد لا يعرف. فالطريقُ في ذلك أن يُحتاطَ في أمرهم، فلا يُتركون مجتمِعين، ولا يُمكَّنون من حَمل السلاح، ولا أن يكونوا من المقاتلة، ويلزَمون شرائعَ الإِسلام، من الصلوات الخمس، وقراءةِ القرآن، ويُترك بينَهم مَن يُعلِّمُهم دين الإسلام، ويُحال بينهم وبين معلِّمهم. فإن أبا بكر الصديق - صلى الله عليه وسلم - وسائرَ الصحابة لَمَّا ظهروا على أهل الردَّة، وجاؤوا إليه، قال لهم الصديق: "اختاروا: إما الحربَ المُجلِية، وإما السِّلم المخزية. قالوا: يا خليفةَ رسول الله، هذه الحرب المُجلية قد عرفناها، فما السِّلم الخزية. قال: تَدُون قتلانا، ولا نَدي قتلاكم، وتَشهدُون أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، ونَقْسم ما أصبنا من أموالكم، وتردُّون ما أصبتم من أموالنا، وتُنزع منكم الحَلْقة والسلاح، وتمنعون من ركوب الخيل، وتتركون تتَّبعون أذنابَ الإِبل حتى يريَ الله خليفةَ رسولهِ والمؤمنين أمراً بعد ردَتِكم". فوافقه الصحابة على ذلك، إلاَّ في تضمين قتلى المسلمين، فإنَّ

عمر بن الخطاب - صلى الله عليه وسلم - قال له: "هؤلاء قُتلوا في سبيل الله، فأجورُهم على الله"، يعني: هم شهداءُ، فلا دِيةَ لهم، فاتفقوا على قول عمر في ذلك. وهذا الذي اتَّفق الصحابة عليه هو مذهبُ أئمةِ العلماء، والذي تنازعوا فيه تنازعَ فيه العلماء، فمذهب أكثرِهم أنَّ مَن قَتَله المرتدُّون المجتمعون المحارِبون لا يُضمَّن، كما اتفقوا عليه آخرًا، وهو مذهبُ أبي حنيفةَ وأحمدَ في إحدى الروايتين، ومذهبُ الشافعيِّ وأحمدَ في الرواية الأخرى هو القولُ الأول. فهذا الذي فَعله الصحابة بأولئك المرتدِّين بعد عَودهم إلى الإِسلام يُفْعل بمن أظهر الإِسلامَ والتُّهمة ظاهرةٌ فيه، فيمنع أن يكونَ من أهل الخيل والسلاح والدِّرع التي تلبسُها المقاتِلة، ولا يُترك في الجند مَن يكون يهوديًّا ولا نصرانيًّا. ويُلزمَون شرائعَ الإِسلام حتى يَظهرَ ما يفعلونه من خير أو شر، ومَن كان من أئمَّةِ ضلالهم وأظهر التوبةَ أُخرج عنهم، وسُيِّر إلى بلادٍ المسلمين التي ليس لهم فيها ظهور، فإما أن يَهديَه الله تعالى، وإما أن يموت على نِفاقه من غير مضرّةٍ للمسلمين. ولا ريبَ أن جهادَ هؤلاء وإقامةَ الحدودِ عليهم من أعظم الطاعات وأكبرِ الواجبات، وهو أفضلُ من جهادِ مَن لا يُقاتِلُ المسلمين من المشركين وأهل الكتاب؛ فإن جهادَ هؤلاء من جنس جهادِ المرتدِّين، والصِّدِّيقُ وسائرُ الصحابة بدؤوا بجهاد المرتدين قبلَ جهادِ الكفار مِن أهل الكتاب؛ فإنَّ جهادَ هؤلاء حُفظ لما فتح من بلاد المسلمين، وأن يدخل فيه مَن أراد الخروج عنه، وجهاد مَن لم يقاتِلنْا من المشركين وأهل الكتاب من زيادةِ إظهارِ الدين .. وحِفظُ رأسِ المال مقدمٌ على الربح.

وأيضًا: فضررُ هؤلاء على المسلمين أعظمُ من ضررِ أولئك، بل ضررُ هؤلاء من جنسِ ضررِ مَن يقاتلُ المسلمين مِن المشركين وأهل الكتاب، وضررُهم في الدين على كثير من الناس أشدُّ من ضرر المحارِبين من المشركين وأهل الكتاب. ويجبُ على كل مسلم أن يقومَ في ذلك بحسب ما يَقدِر عليه من الواجب، فلا يحلُّ لأحد أن يكتمَ ما يعرفُه من أخبارهم، بل يُفشيها وُيظهِرُها ليعرفَ المسلمونَ حقيقةَ حالِهم، ولا يَحِلُّ لأحدٍ أن يعاونَهم على بقائهم في الجُند والمستخدَمين، ولا يحلُّ لأحدٍ السكوتُ عن القيام عليهم بما أَمَر الله به ورسوله، ولا يَحِلُّ لأحدٍ أن يَنهى عن القيام بما أمَرَ الله به ورسوله؛ فإن هذا من أعظم أبوابِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى، وقد قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {يَا أَيُّهَا النَّبِي جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم: 9]، وهؤلاء لا يَخرُجون عن الكفار والمنافقين. والمعاوِنُ على كفِّ شرهم وهدايتهم -بحسب الإمكان- له من الأجرِ والثوابِ ما لا يعلمُه إلا الله تعالى؛ فإن المقصودَ بالقصد الأول هو هدايتُهم، كما قال الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّه أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -. "كنتْم خيرَ الناس للناس، تأتون بهم في القيود والسلاسل حتى تُدخِلوهم الإسلام"، فالمقصود بالجهاد، والأمرِ بالمعروف، والنهي عن المنكر: هدايةُ العبادِ لمصالح المعاش والمعادِ بحسب الإمكان، فمَن هداه الله سَعِد في الدنيا والآخرة، ومَن لم يَهْتَدِ كَف الله ضرَرَه عن غيره.

• ومعلومٌ أن الجهادَ والأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر هو أفضل الأعمال، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "رأسُ الأمرِ الإسلام، وعمودُه الصلاة، وذروة سَنامه الجهاد في سبيل الله تعالى". • وفي "الصحيح" عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن في الجنة لمَئَةَ درجةٍ ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض، أعدَها الله -عز وجل- للمجاهِدين في سبيله" (¬1). • وقال - صلى الله عليه وسلم -: "رِباطُ يومٍ وليلة في سبيل الله خيرٌ من صيام شهرِ وقيامه، ومَن مات مرابطا مات مجاهدا، وجَرى عليه عَمَله، وأُجرِي عليه رِزقُه من الجنة، وأمِن الفتنة" (¬2). * والجهاد أفضلُ من الحج والعمرة، كما قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِندَ الله وَالله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزونَ (20) يُبَشِّرَهُمْ رَبّهُم بِرَحْمَة مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فيهَا نَعِيمٌ مقيمٌ (21) خَالدينَ فيهَا أَبَدًا إنَّ اللهَ عندَه أَجْرٌ عَظِيمٌ} التوبة: 19 - 22]، والحَمد لله رب اَلَعالمينَ، وصلاته وسَلامه على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري في "الجهاد" (2790) عن أبى هريرة. (¬2) رواه مسلم في "الإمارة" (1913/ 16). (¬3) "مجموع فتاوى ابن تيمية" (35/ 89 - 97).

وسئل -رحمه الله تعالى- عن "الدرزية" و"النصيرية": ما حكمهم؟

وسُئِل -رحمه الله تعالى- عن "الدُّرزية" و"النُّصيرية": ما حُكمهم؟. فأجاب: "هؤلاء "الدرزية" و"النصيرية" كفَّار باتفاق المسلمين، لا يَحِلُّ أكل ذبائحهم، ولا نكاحُ نسائهم، بل ولا يُقَرُّون بالجزية؛ فإنهم مرتدُّون عن دين الإسلام ليسوا مسلِمين، ولا يهود، ولا نصارى، ولا يُقِرُّون بوجوبِ الصلوات الخمس، ولا وجوبِ صوم رمضان، ولا وجوبِ الحج، ولا تحريم ما حريم اللهُ ورسولُه من الميتة والخمر وغيرهما .. وإن أظهروا الشهادتين -مع هذه العقائد- فهم كفارٌ باتفاق المسلمين. فأما "النصيرية" فهم أتباع أبي شعيب "محمد بن نصير"، وكان من الغلاة الذين يقولون: "إن عليا إله"، وهم ينشدون: أشهدُ ألاَ إلهَ إلاَّ ... حَيدرةُ الأنزعُ البطين ولا حِجابَ عليه إلاَّ ... محمدُ الصادقُ الأمينُ ولاطريقَ إليه إلاَّ سلمانُ ... ذو القُوَةِ المتينُ وأما "الدرزية" فأتباع "هشتكين الدُّرزي"، وكان من موالي الحاكم، أرسله إلى أهل وادي تَيم الله بن ثعلبة، فدعاهم إلى إلاهيَّةِ "الحاكم"، ويُسمُّونه "الباري، العلامِ"، ويَحلِفون به، وهم من الإسماعيلية القائلين بأن محمد بنَ إسماعيل نسخ شريعةَ محمد بنِ عبد الله، وهم أعظمُ كفرًا من الغالية، يقولون بقِدَم العالم، وإنكارِ المعاد، وإنكارِ واجباتِ الإِسلام ومحرَماته، وهم من القرامطةِ الباطنيةِ الذين هم أكفر من اليهود والنصارى ومشركي العرب، وغايتُهم أن يكونوا "فلاسفة" على مذهبِ أرسطو وأمثاله، أو "مجوسًا" .. وقولهم مركَّبٌ من قول الفلاسفة والمجوس

وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- ردا على طوائف من "الدروز"

ويظهرون التشيُّع نفاقًا .. والله أعلم" (¬1). * وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- ردًّا على طوائف من "الدروز": "كُفرُ هؤلاء مما لا يَختلفُ فيه المسلمون، بل مَن شك في كُفرهم فهو كافرٌ مِثلُهم، لا هم بمنزلةِ أهل الكتاب ولا المشركين، بل هم الكَفَرةُ الضالُّون فلا يُباحُ أكل طعامِهم، وتُسبى نساؤهم، وتؤخَذُ أموالُهم، فإنهم زنادقة مرتدُّون لا تُقبل توبتُهم، بل يُقتَلون أينما ثُقِفوا، ويُلعنون كما وُصِفوا، ولا يجوز استخدامُهم للحراسة والبوابةِ والحِفاظ، ويجبُ قتل علمائهم وصلحائهم لئلاَّ يُضِلُوا غيرَهم، ويَحرمُ النومُ معهم في بيوتهم، ورِفقتُهم، والمَشْيُ معهم، وتَشييعُ جنائِزِهم إذا عُلم موتُهم، ويحرمُ على ولاةِ أمور المسلمين إضاعةُ ما أَمَر اللهُ من إقامةِ الحدود عليهم بأيِّ شيء يراه المُقيم لا المقام عليه .. والله المستعان وعليه التكلان" (¬2). * الخرْمِيَّة -لعنهم الله-: ° قال عبدُ القاهر البغدادي في "الفرق بين الفِرَق": "زعَمت الخَرْميَّةُ أن الرسل تَتْرَى لا آخِرَ لهم" (¬3). فهم يُكذِّبون صريحَ القرآن في وصفِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه {خَاتَم النَّبيِّين" [الأحزاب: 40]. وصَدق الله ورسوله، وكَذب الدجَّالون المرتدُّون. ¬

_ (¬1) المصدر السابق (35/ 98). (¬2) "مجموع فتاوى ابن تيمية" (35/ 98 - 99). (¬3) "الفرق بين الفرق".

المقنع الخراساني الزنديق -لعنه الله-

* المُقَنَّع الخُراسانيُّ الزِّنديق -لعنه الله-: ° قال الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" في أحداث سَنَةِ إحدى وسِتِّين ومئة (161 هـ): "وفيها خرج رجل يُقال له: "المقَنَّع" بخراسانَ في قرية مِن قُرَى "مَرْوَ"، وكان يقول بالتناسخ، واتبعه على ضَلاَلته، خَلْق كثيرٌ، فجهَّز له المهديُّ عِدَّةً من أُمرائِه، وأنفَذَ إليه جيوشًا كثيرةً، منهم مُعاذ ابنُ مسلم أميرُ خراسان، فكان مِن أمره وأمرهم ما سنذكره" (¬1). * وقال -رحمه الله - في "البداية والنهاية" في أحداث سنة ثلاث وستين ومئة (163 هـ) (¬2): "فيها حُصِر "المُقَنَّع" الزنديقُ الذي كان قد نبغ بخُراسان وقال بالنتاسخ، واتَّبَعه على جَهَالتِه وضَلالتِه خَلْقُ من الطَّغَام وسُفَهاء الأنام، والسَّفِلَة من العَوامِّ، ومنعوه من الجنودِ في ذلك العام (¬3)، فلما كان في هذه السّنَة لجأ إلى قَلْعَةِ كَشٍّ، فحاصَرَه سعيد الحرَشِيُّ، فألحَّ عليه في الحِصَار، فلمَّا أحَسَّ بالغَلَبة تَحَسَّى سُمًّا وَسَمَ نساءَه، فماتوا جميعًا -عليهم لعائن الله-، ودخل الجيشُ الإِسلاميُّ قَلْعَته، فاحتزُّوا رأسه، وبعثوا بها إلى المهديِّ، وكان المهديُّ حين جاءه رأسُ المُقَنَّع بحلب". ° قال ابن خَلِّكان (¬4): "المُقَنَّعُ الخراساني: قيل: اسمُه "عَطاءٌ"، ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" (13/ 489). (¬2) انظر "تاريخ الطبري" (8/ 144 - 149)، و"الكامل" (6/ 60 - 62)، و"المنتظم" (8/ 263 - 265)، و"تاريخ الإسلام" للذهبي وفيات سنة (ص 14 - 16). (¬3) المقصود عام (161 هـ). (¬4) "وفيات الأعيان" (3/ 263 - 265).

مدعو النبوة من زعماء البابية

وقيل: "حَكيمٌ"، والأول أشهرُ، وكان أوَلاً قَصَّارًا (¬1)، ثم ادعى الربوبية، مع أنه كان أعْوَرَ قبيحَ المَنْظَرِ، وكان يتَخذ له وَجْها من ذهب، واتَبعه على جَهَالَتِه خَلْقٌ كثيرٌ مِن الجَهَلة، وكان يُرِي الناسَ قمرًا يُرَى من مَسِيرةِ شهرَيْن، ثم يغيبُ، فعَظُم اعتقادُهم فيه، ومَنَعُوه بالسِّلاح، وكان يزْعُمُ -لعَنه الله، وتعالى عمَّا يقول الظالمون عُلُوًّا كبيرًا - أَنَّ الله ظَهَر في صورة آدم، ولهذا سَجدت له الملائكةُ، ثم في نوح، ثم في الأنبياءِ وَاحِدًا فواحدًا، ثم تحوَّل إلى أبي مسلم الخُراساني، ثم تحوَّل إليه، ولما حاصره المسلمون في قلعته التي كان جَدَّدَها بناحية "كَش" ممَّا وراء النهر، وُيقال لها: سَنَامٌ، سَقَى نسَاءَه وأهلَه سُمًّا، وتَحسَّى هو أيضا منه، فماتوا كلهم -لعنهم الله أجمعين-، واستحوذ المسلمون على حواصِلِه وأمواله كلها". ° قال الرازي عن "المقنَّع": "إنه ادَّعى بعدُ -أي: بعد أبي مسلم الخراساني- النبوة، فعَظمُ أمرُه، واجتمع عليه خلَقٌ كثير، ثم ادَّعى الألوهيَة" (¬2). * مُدَّعو النُّبُوَة من زعماء البابيَّة: * المِرْزَة علي محمد (الباب) الشيرازي زعيم البابية: المِرزة عليُّ محمد الشِّيرازي المُلَقَّب بالباب، مُنشِئُ "البابية"، وعميلُ روسيا الصليبية (آنذاك)، مُدَّعي النبْوَّة ثم الربوبية .. أيُ كذبٍ وخرافة وسخافةٍ وتفاهةٍ وسفاهةٍ وبَلادةٍ انطوى عليها عقل ذلك القزم المأفون!!. ¬

_ (¬1) القصَّار: المبيض للثياب (ق ص ر). (¬2) "اعتقادات فرق المشركين" للرازي (ص 76) - طبع مصر.

ولد هذا الملعونُ بـ "شِيراز" في أول المحرم سنة 1235 هـ الموافق 20 أكتوبر سنة 1819م من بيت يَدَّعي زورًا الانتسابَ إلى البيت النبويِّ، وهذا كَذِبٌ ظاهر، فلَقب "المرزة" لا يُطلَق على من ينتسب إلى أهل بيت النبوة. تلقى هذا المأفون ديانتَة من طائفة "الشيخيَّة" إحدى الطوائف الشيعية الغلاة التي أحدثها الشيح أحمد الإحسائي المتوفى سنة 1242 هـ (1826 م) ورَوَّجها تلميذه كاظمُ الرشتي المتوفي عام 1259 هـ (1843 م) .. وأخذ تعاليمَ "الشيخية" من شيخه "الرشتي"، وكان من تلامذةِ الرشتي البارزين، وكان الرشتيُّ يُكرِّم الشيرازيَ ويُجلُّه، وفي حياة الرشتي بدأ هذا الملعونُ يقول للخاصة: "إنه سيكونُ المهدي المعهودَ والموعود، بَيْد أن الوقتَ المناسِبَ لهذه الدعوى لم يأتِ بعدُ، وكان في مجالس الرشتي التي يُظهرُ فيها كل الحفاوةِ بالشيرازي، ويَجعلُ كل الحاضرين يظنُون أنه الموعودُ، وأنه القائم المنتظَر. وكان هناك في تلك المجالس جاسوسٌ روسيٌّ "كنياز دالغوركي" المُتظاهِر باسم الشيخ "عيسى النكراني"، يبحث عن عميل يستعملُه للتفرقة بين المسلمين وتوهين قواهم وتشتيتِ شملهم، فكان هو الحائزَ الآخرَ على مراده ومَرامه، ولقد نشَر هذا الجاسوس مذكِّراته باسم "مُذَكِّرات دالغوركي" في مجلةٍ روسية "الشرق" عام 1924م بعث زوال القيصرية وانقلاب "بالشويك"، ذَكَر فيها تلك الحوادثَ والوقائعَ بالتفصيل، وأنه كيف دَفَع هذا الغِرَّ المأفونَ إلى المَهدوِيَّة، ومنها إلى الرسالة والربوبية!!. ° وبحسب الخطة المرسومة -التي أُحْكِمَتَ خيوطُها مِن قَبْل في

تطاوله على النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -، وادعاؤه النبوة

كربلاء-، أَعلن الشيرازيُّ سنة 1226هـ في 5 جُمادى الأولى الموافق 23 مارس 1884م - "أنه الباب المُوَصِّل إلى الإمام الغائب المنتظَرِ عند الشيعة، أن "المَلاَّ حسين البشروئي" (¬1) هو "باب الباب" (¬2). وسَلَّم أكثرُ "الشيخية" له بالزعامة والسيادة، واعترفوا بأنه هو الركنُ الرابعُ لهم بعد "الرشتي"، كما اجتمع حولَه ثمانيةَ عَشَر شخصًا من كبارِ تلامذة الرشتي، وزعماءِ الشيخية سماهم "حروف حي"؛ لأن "ح" و"ي" يعادل الثمانية عَشَرَ من العدد بحسابِ الحروف الأبجدية، وآمَن بالباب أغلبُ "الشيخية" وتَسَمَّوا بالبَابِيِّين. "فتلاميذ "الباب" الثمانيةَ عشَرَ -وبإضافةِ الباب عليهم يكونون تسعةَ عشر-، عُرفوا بحروف "الحي" وهم الذين أرسلهم البابُ إلى جهاتٍ مختلفة في إيران وتركستان لنشر أخبارِ مجيئه وظهوره". * تطاولُه على النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -، وادعاؤه النُّبُوَة: ° وبعد ذلك تطاوَلَ هذا القزمُ على مَقام النبوَّة، واجترأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وادَّعى النبوَّةَ، فقال: "إنه هو النبيُّ، وإن الله قد أنزل عليه كتابًا يسمَّى بـ "البيان"، وإنه المُشارُ إليه بقوله تعالى: {خَلقَ الإِنسَان (3) عَلَّمَهُ الْبَيَان} [الرحمن: 3 - 4]، والإنسانُ هو عليُّ محمد، والبيان هو هذا الكتاب المنزَّل عليه" (¬3). ¬

_ (¬1) أحد تلامذة الرشتي، وأحد المساهمين المخَطِّطين لهذه المؤامرة. (¬2) "نقطة الكاف" (ص 106) للكاشاني "فارسي" نقلاً عن "البابية" لإحسان إلهي ظهير (ص 60) - إدارة ترجمان السنة بلاهور. (¬3) "دائرة المعارف" للبستاني (5/ 26) ط طهران.

وتلقب بـ "النقطة، والنقطة العليا، ونقطة البيان" (¬1). وما دام الناسُ أقروا واعترفوا بإمكانِ حلولِ رُوح المهديَ والقائم فيه ورُوح عليٍّ أيضًا، فأيُ مانع من أن يَحُل فيه رُوحُ النبي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -؟!. ° وقال عمرُ عنايت: "وعندهم "الشيخية" الشخصيةُ الإنسانيةُ التي تُميِّزُ الأفرادَ عن بعضهم ليست أكثرَ من مجموعةِ صفاتٍ وأخلاقٍ، إنْ وُجدت تامةً في شخصيةٍ أخرى في أيَ زمانٍ ومكان، دَلَّت على رجوع الشخصيةِ السابقِ وجودُها إلى الوجود" (¬2). فلم يكتفِ هو الآخَرُ بُرتبةٍ دونَ رتبة ومنصبٍ دون منصبَ ما دام المعطُون راضين، والمطيعون مستسلمين. ° فيقول في "بيانه" الفارسي: "محمد - صلى الله عليه وسلم - نقطةُ الفرقان، وأنا نقطة البيان، وكلانا واحد" (¬3). وإن النبيَّ بصفته -حسبَ زعمه- حَل فيه رُوحُ الأنبياء السابقين (¬4). ° فحلَّ فيه أرواحُهم أيضًا: "كنتُ في يوم نوح نوحًا، وفي يوم إبراهيمَ إبراهيمَ، وفي يوم موسى موسى، وفي يوم عيسى عيسى، وفي يوم محمدٍ محمدًا، وفي يوم (عليٍّ قبل نبيل) عليًّا، ولأَكُونَنَّ في يوم مَن ¬

_ (¬1) "تاريخ الشعوب الإسلامية" لبروكلمان (3/ 566). (¬2) "العقائد" لعمر عنايت. (¬3) "البيان الفارسي" للشيرازي الباب الخامس عشر من الواحد. الواحد. (¬4) أيضا، الباب الثالث من الواحد، الثالث.

يُظهِرُه الله مَن يُظهرُه الله، وفي يوم مَن يُظهرُه مِن بعدِ مَن يظهر الله من بعد من يظهره الله .. إلى آخِرِ الذي لا آخِرَ له قبل أول الذي لا أول له .. كنتُ في كل ظهور حُجةَ اللهِ على العالَمين" (¬1). ° ويقول في "البيان الفارسي": "في كلِّ الظُّهورات من آدمَ إلى محمد -وقبلَ آدمَ- لم يكن مَظهرُ المشية إلاَّ نقطةَ البيان ذاتُ الحروفِ السَّبعة، إلا أنه كان طِفلاً في وقتِ آدم، والآن شاب وسيم" (¬2). ° ويقول "اسلمنت" الداعية البهائيُّ الكبير: "ولكنَّ البابَ لم يكتفِ بدعوة المهدويَّة، بل تلقَّب بلَقَب "النقطة الأولى"، وهذا لَقَبٌ لَقَّبه المسلمون لحضرةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، حتى إن الأئمَّة أنفسَهم كان يُعِدُّون لأنفسهم مقامًا بعد مقام النقطة، وكانوا يستمدُّون منها قوَّتهم وأحكامَهم، وباتخاذِ هذا اللقبِ ادَّعى البابُ أنه من عِدادِ كبارِ مؤسسي الأديان كمحمد" (¬3). ° ويقول الشيرازي في "البيان العربي" عن نفسه: "إنه ما خُلق له من كُفْءٍ وعَدل، ولا شَبَهٍ، ولا قرينٍ، ولا مثال" (¬4). ° وإن ما نَزَل عليه فهو أعظمُ وأفضلُ ممَّا نَزَل مِن قبلُ مِن القرآنِ وغيره، "ما ينزل عليك في آخِرِيِّك أعظمُ عما نزَّلنا عليك في أوَّليك -كذا-، فكنْ من الشاكرين، وإنَّ فَضْلَ ما نَزَّلنا عليك على ما نزلنا عليك من قبلُ ¬

_ (¬1) "التراث اليوناني" (ص 237). (¬2) "البيان الفارسي" الباب السادس عشر من الواحد، الثالث. (¬3) "بهاء الله والعصر الجديد" (ص 24). (¬4) الباب الثالث من الواحد الرابع من البيان العربي.

كفضل القرآنِ على الإنجيل" (¬1). ° ويقول حسين علي المازندراني الملقب بالبهاء وهو يذكر الشيرازي وكتابه: "يا قوم، اتَّبعوا حدودَ الله التي فُرضت في "البيان" من لدُن عزيزٍ حكيم، قل إنه -أي: الشيرازي- لَسلطانُ الرسل، وكتابه لأَمُّ الكتاب، إن أنتم من العارفين" (¬2). وكان ذلك سنة 1263 هـ و 1264 هـ أيامَ حَبسِه في قلعة "ماهكو" في ولاية آذربيجان، وهناك ألَّف كتابَه "البيان" الفارسي و"دلائل السبعة" أيضًا. ومن لوازم النبوةِ والرسالةِ كان نَسخُ الشريعة الإِلهية الأخيرة إلى الناس كافةً، فكان كالآتي: عَقَد أقطابُ البابيين الذين عددُهم واحد وخمسون، أو واحد وثمانون شخصًا -مِن بينهم المَلاَّ حُسين البشروئي "باب الباب"، ومحمدُ علي البارفروشي الملقب "بالقدوس"، والمِرزة يحيى اللقَّب "بالوحيد" وصبح الأزل، وقرة العين زرين تاج الملقَّبة "بالطاهرة" (بطلة المؤتمر)، والمرزة حسين علي المازندراني- مؤتمرًا في بيداء "بدشت" على شاهرود بين خراسان ومازندران في شهر رجب سنة 1264 هـ، الموافق يونيو 1848 م، فعملوا فيه المنكر، وارتكبوا الفواحش والإباحيات، حتى قال "باب الباب" البشروتي ¬

_ (¬1) الباب الرابع من الواحد الثالث من البيان العربي. (¬2) "لوح أحمد" لحسين علي البهاء (ص 154) المنشور في "الكلمات الإلهية" ط لجنة النشر البهائية بكراتشي بباكستان.

مرةً: "أنا أقيم الحَدَّ على البدشتيين" (¬1) -وهو منهم-، وفعلوا غير ما فعلوا. إنهم بحثوا في الأمرين الرئيسيين: 1 - انقاذ الباب من معتَقلِه، ونقلُه إلى مكان آمن. 2 - نسخ الشريعة المحمدية، وإنشاءُ دين جديد باسم "البابية". ° "ففيما يتعلق بالأمر الأول: تقرر إرسالُ المبلِّغين إلى النواحي والأكنافِ ليَحثُّوا الأحباب على زيارةِ الباب في "ماه كو" مستصحِبين معهم مَن يتسنَّى استصحابُه مِن ذَوِي قُرباهم ووُدِّهم، وأن يجعلوا مركزَ اجتماعهم "ماه كو"، حتى إذا تمَّ منهم العددُ القيم الكافي، طَلبوا من محمد شاه الإِفراجَ عن حضرةِ الباب، فإذا لبَّى الشاهُ طلبَهم فبها ونِعْمت، وإلاَ أنقذوه بصارم القوةِ وحَدِّ الاقتدار". وأما فيما يتعلق بالأمر الثاني: فقد ظَهَر بعدَ المُذاكراتِ الطويلةِ أن مُعظمَ المؤتمِرِين "يعتقد بوجوبِ النَّسخ والتجديد، ويرى أن مِن قوانين الحكمةِ الإِلهية في التشريع المديني أن يكون الظهور اللاحقُ أعظمَ مرتبةً وأعم دائرةً من سابقه، وأن يكون كلُّ خَلَفٍ أرقى وأكملَ من سَلَفِه، فعلى هذا القياس يكون البابُ أعظمَ مقامًا وآثارًا من جميع الأنبياء الذين خَلَوا من قَبله، ويَثبُتُ أن له الخيارَ المطلَقَ في تغييرِ الأحكام وتبديلِها، وذهب قلائلُ إلى عدم جوازِ التصرف في الشريعةِ الإسلامية مستندِين إلى أن حَضرةَ الباب ليس إلاَّ مُروِّجًا لها ومُصلِحًا لأحكامها .. وكانت "قُرةُ العين الطاهرة" من القسم الأول، لذا أصرَّت على وجوبِ إفهام جميع الأحبَّاء ¬

_ (¬1) "نقطة الكاف" (ص 155) للبابي الكاشاني ط ليدن بتحقيق بروفسور براؤن.

وإشعارِهم بأنَّ للقائم مقامَ المشرع وحقَّ التشريع، وعلينا وجوبُ الشروع فِعلاً في إجراء بعضِ التغييرات كإفطارِ رمضانَ ونحوه" (¬1). وخَطَبت "قُرة العين" في الحاضرين، ودَعت إلى نَسخ الشريعة الإسلاميَّة بأحكام الشريعة البابية الجديدة، وأُرسلت قراراتُ هذا المؤتمرِ إلى المِرزة علي محمد الشِّيرازي إلى مُعتقَلِه، فوافق على هذه القرارات، وخاصةً على نسخ الشريعة الإسلامية. ° فقال في "بيانه العربي": "لا تتعلَّمُنَّ إلاَّ بما نزل في "البيان" أو ما يُنشَى فيه من عِلم الحروف وما يتفرع على البيان .. لا تتجاوَزُنَّ على حدودِ البيان فتحزنون .. ومَنْ يتجاوزْ لن يُحكمَ عليه بالهدى، قلْ أنْ يا أولو الهدى بهدايَ تهتدون" (¬2). ° ويَذكرُ محمدُ مهدي خان عنه أنه قال مخاطبًا العلماء: "ألم يأنِ لكم أيها العلماءُ أن تنبِذوا الهواء، وتتَّبِعوا الهدى، وتتركوا الضلال؟! إنَّ نبيَكم لَم يُخلِّفْ بعدَه غيرَ القرآن، فهاكم كتابي "البيان"، فاتلُوه واقرؤوه، تجِدوه أفصحَ عبارةً من القرآن وأحكامَه ناسخةً لأحكام القرآن" (¬3). ° وقال الشيرازي أيضًا: "والبابُ السادس في حُكم مَحوِ الكتب كلها، إلا ما أنشأت أو تنشأ في ذلك الأمر" (¬4). ¬

_ (¬1) الباب العاشر من الواحد الرابع من "البيان" العربي. (¬2) "مفتاح باب الأبواب" (ص 137) ط عربي. (¬3) الباب السادس عن الواحد والسادس من "البيان" العربي. (¬4) "الإيقان" لحسين علي المازندراني البهاء، (ص 171) ط باكستان و (ص 138) ط عربي.

كتابه "البيان" ومحاكاة القرآن

° وقال تلميذه المِرزة حسين علي المازندراني في كتابه "الإيقان " الذي كتبه إثباتًا لدعاويه ومزاعمه: "ففي عهدِ موسى كانت التوراةُ، وفي زمن عيسى كان الإنجيلُ، وفي عهد محمدٍ كان الفرقان، وفي هذا العصر البيان" (¬1). ° وقال عباسُ بنُ المازندراني: "إن النسخَ والفسخَ لم يكن مِن قِبَل الباب، بل كان مِن قِبل أبيه والقُدُوس والطاهرة" -أي قرة العين-. * كتابه "البيان" ومحاكاة القرآن: انظر إلى هذا القِزم المأفون يحاولُ محاكاةَ القرآن في كتاب البابية المقدَّس "البيان" الذي يقول عنه: إنه أفضلُ من القرآن .. فانظرْ إلى مهازِل "البيان" الذي نَسَخ به القرآن حسب زعمه: "ولا تكتُبُنَّ السور إلاَّ وأنتم في الآيات على عددِ المستغاثِ لا تتجاوزون، ومِن أولِ العَدَد أُذن لكم يا عبادي لتدُقُّون، وأذِنتُ أن يكون مع كل نفسِ ألفِ بيتٍ مما يشاء ليتلذَّذون، حينما يتلو وكان من المحرَزين، قل: إنما البيتُ ثلاثين (¬2) حرفًا إن أنتم تَعرِبون، لتحسبون (¬3) على عدد الميم ثم على أحسَنِ الحَسِن تكتبون وتحفظون، ذلك واحدُ الأول أنتم بالله تسكنون، ثم الثاني أنتم في كل أرضِ بيت حرٍّ تبنيون، ولْتَلْطَفَنَّ كلُّ أرضِكم وكلُّ شيء على أحسنِ ما أنتم مقتدرون، لئلاَّ يشهدَ عينْي على كُرهٍ أنْ يا عبادي فاتقون" (¬4). ¬

_ (¬1) "تذكرة الوفاء" (ص 307) فارسي، البابية لإحسان إلهي ظهير من (ص 184 - 190). (¬2) والصواب: "ثلاثون". (¬3) والصواب: "لتحسبوا". (¬4) الباب الأول والثاني من الواحد السادس من "البيان العربي".

وقد قيل قديمًا في الفارسية: "النقل "المُحاكاة" يحتاجُ إلى العقل". ولقد كان أبلَهَ الناسِ وأضعفَهم وأجهلَهم من جميع الدجَّالين الذين حاولوا مقابلةَ القرآن ومنافسته، مِن مُسيلِمةَ الكذَّاب، والأسودِ العنسي إلى يومنا هذا. هذا وأمَّا من ناحيةِ المعاني والمقصود، فإنه في كلتا اللغتين العربية والفارسية اللتين ألَّف فيهما ففقيرٌ محض ومفلسٌ خالص -كما يقوده العامة - حيث لا يُدرِكُ ولا يعرفُ القارئُ وهو يقرأُ الصفحات أنه ماذا يقصدُ مِن ورائها وماذا يريد؟! فعباراته مهملة، غامضة، معقدة، لا يُدرَكُ منها مطلوب. وأجزمُ وأُوقن أنه هو نفسُه ما كان يعرف ماذا يقول ويكتب، وماذا يهدف من ورائها؟!. ° فمثلاً يقود أيضًا: "تبارك الله من شَمخ، مُشْمَخ، شَمِيخ، تبارك الله من بَذخ مُبذخ، بذيخ، تبارك الله من بَدء، مبتدئ، بَدِيء، تبارك الله من فَخِر، مفتخِر، فخير، تبارك الله من ظَهِر، مُظهِر، ظهير، تبارك الله من قَهِر، مُقهِر، قهير، تبارك الله من غَلِب، مغتلب، غليب، تبارك الله من عَلِمٍ، معتلم، عليم" (¬1). ° وأيضًا. "تبارك الله مِن سَلطِ مُستلِطٍ رفيع، تبارك الله من وَزِر مؤتزرٍ وزير، تبارك الله من حكَم محتكِم بديع، تبارك الله من جَمِل مُجتمل جميل" (¬2). ¬

_ (¬1) "مفتاح الأبواب" (ص 282). (¬2) أيضًا (ص 276).

° ومثله في "بيانه العربي": "ولا تُضيِّعَن خَلْقَ أحدٍ بعدما أكمل اللهُ خَلْقه لِمَا تُريدون مِن عزِّ أيام معدودة، فإنَّ كلتاهما ينقطعُ عنكم وأنتم من بعدِ موتِكم في النار تدخلون، تتمنَّون كأنكم ما خُلقتم وما اكتَسبتم في حقّ نفس من حُزن، وإن تتعقَّلون تتمنَّون كأنكم ما قد خلقتم" (¬1). هذا نص ما قاله، فهل هناك عربيٌّ أو متعَلِّم اللغةَ العربيةَ يفهمُ ويُبيِّنُ ماذا يريدُ بهذا الخَلْطِ والخَبْط والعَمَهِ والجَهل، صاحبنا الجَهولُ المجهول المجعول هذا؟ .. فعدلاً يا عباد الله!. ° وأيضًا: "إنني أنا الله الأسلطُ الأسلط، والأثبتُ الأثبت، والأغيثُ الأغيث" (¬2) .. وغيرها من الخرافات. ° ولْننظُرْ ما كتب الشيخ عبد الرحمن الوكيل: "إن القارئَ لكتبِ الباب "الشيرازي" يشعر شعورًا صادقًا يطابقُ الحقيقةَ والواقعَ أنه رجل خُولط في عقلِه، وأن ما في هذه الكتب أمشاج متباينةٌ متناقضة اختارها غلامٌ يتنازعُهُ فكرٌ مضطرب، وخيالاتٌ هاذِية، فلا ترى فيها فكرةً نابهة، أو عاطفةً صادقة، أو تصويرًا جميلاً، أو أسلوبًا مشرقًا. وإنما ترى جُمَلاً ينفِرُ بعضُها من بعض، وأشدُّ ما يُثير الدهشةَ والسخرية تلك السَّجَعاتُ التي يختمُ بها فقراته، فهي حروف مركَّبة تركيبًا لا يُوحي بمعنًى، ولا يُومئُ إلى دلالة" (¬3). ¬

_ (¬1) الباب الثامن عشر من الواحد العاشر من "البيان العربي". (¬2) "البيان العربي". (¬3) "البهائية" لعبد الرحمن الوكيل، ط القاهرة.

لغته وجهله

ولا أدري كيف استساغ لرجالٍ يدَعون العقلَ والفهمَ أن يتَبعوا مِثل هذا المجنون ويعتنقوا أفكاره وآراءه، ويعتقدوا بمهدويته ونبوَّته بلَ وألوهيته؟!. * قال تعالى: {لهمْ قُلوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبصِرونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعون بِهَا أُولْئَكَ كَالأَنْعَامِ بلْ هُم أضلُّ} [الأعراف: 179]. * لُغتُه وجَهلُه: وأما لغته فتنضَحُ جَهلاً، وكان قليلَ العلم، كثيرَ الجهل، فاقدَ البصيرة والفِكرة، غزيرَ السفاهةِ والبلاهة، مغترًّا مغرورًا، وكان يَرى نفسَه مع وَفرَةِ بلادتِه وجَوْدةِ حُمقِه أنه أعقل الناس وأفقههم، ومع غفلته وعدم إلمامه بالعلوم العربية والشرعية أنه أعلم الناس وأمهرُهم، فلم يَكَدْ يتكلم بكلمةٍ إلاَّ وقد أظهر "عُمقَ علمه" و"غَورَ معرفته" مع تلك الدعاوى الفارغةِ الكبيرة، والمزاعم الموهومة الرفيعة، فلقد ادَّعى الرسالةَ والنبوة، وأخيرًا الألوهيَّة، والربوبيَّة، واستَدلَّ عليها واستند بقوله: "إن أقوى دليل وأقنَعَه على صحةِ دعوةِ رسول الله هو كلامه"، كما دَلَّل على ذلك بقوله: "ألَم يكفِهم أنا أنزلنا عليك الكتاب (¬1)، ولقد آتاني الله هذا البرهان، ففي ظرفِ يومين وليلتين أُقرِّر أني أَقدِرُ أن أُظهِرَ آياتٍ تُوازي في الحجم جميعَ القرآن" (¬2). ° وأيضا: "إنني أفضل من محمدٍ، كما أن قرآني أفضل من قرآن ¬

_ (¬1) والسفيه لم يفهم أنه ليس كلامه - صلى الله عليه وسلم - بل هو كلام الله. (¬2) "مطالع الأنوار" لنبيل الزرندي البهائي، (ص 150) ط عربي.

محمد، وإذا قال محمد بعجزِ البشرِ عن الإتيان بسورةٍ من سور القرآن، فأنا أقولُ بعجزِ البشر عن الإِتيان بحرفٍ مثل حروف قرآني" (¬1). ° وقال مخاطبًا علماء المسلمين: "إنَّ نبيَّكم لَم يُخلَّفْ بعده غيرَ القرآن، فهاكم كتابي "البيان" فاتلوه واقرؤوه تجِدوه أفصحَ عبارةً من القرآن، وأحكامَه ناسخةً لأحكام الفرقان" (¬2). فلنفْحَصْ كلامَه. ونُلْقِ عليه نظرةً -ولو عابرة طائرة-، حتى نَرى صدقَ دعواه أو كَذِبَه، ونعرفَ حقيقةَ تطاوُلِه أو بطلانه. ° ولْنبدأْ مِن أولِ كتابه الذي كتبه -حسبَ زعمهم- تحقيقًا لرغبة الملاَّ حسين البشروئي، دليلاً على دعواه المهدوية، فيكتب فيه: "ولا يقولوا: كيف يُكلِّمُ عن الله مَن كان في السن خَمسةً وعشرونَا، فوربِّ السماء والأرض إني عبدُ الله آتاني البينات من عندِ بقيةِ الله المنتظَرِ إمامكم، هذا كتابي قد كان عند الله في أُمِّ الكتاب بالحقّ على الحق مسطورًا، وقد جَعَلني اللهُ مباركًا أينما كنتُ وأوصاني بالصلاة والصبر ما دمتُ فيكم على الأرض حيًّا، وإن الله قد أنزلَ له بصورة من عنده والناسُ لا يقدِرون بحرفه على المِثل دون المثل تشبيرا" (¬3). ويدركُ القارئ أنه جَمَع عباراتِ القرآن المختلِفة، وكلَّما خَرج عنه بدأ ينزلقُ على قدميه، ويعثَرُ على وجهه، وإلاَّ فأيُّه لغةٍ هذه؟! "والناسُ لا ¬

_ (¬1) "مفتاح باب الأبواب" (ص 20). (¬2) المصدر السابق (ص 138). (¬3) "تفسير سورة يوسف" لعلي محمد الباب الشيرازي نقلاً عن كتاب فارسي "في بهائي باب وبهاء" (ص 88).

يقدرون بحرفه على المثل دون المِثل تشبيرا"؟ - وما معناها؟!. ويقول مفسرًا قوله تعالى: {إِذ قالَ يُوسُفُ لأبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْت أَحَدَ عَشَرَ كَوْكبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتهُمْ لِي سَاجِدِينَ}. ° يقول: "وقد قَصَد الرحمن من ذِكْر يوسف نَفْسَ الرسول، وثَمَرةَ البَتول حسين بن علي بن أبي طالب مشهودًا، وقد أراد الله فوق العرش مُشعِرُ الفؤاد أن الشمسَ والقمرَ والنجومَ قد كانت ساجدةً لله الحق مشهودا" (¬1). ويلاحَظُ في هذه العبارة القصيرة ما يدل على ركاكة التأويلَ، ووضاعة التفكير، ورداءة التركيب واللغة، وتفاهةِ الأسلوب والنطق، وإتيانِ الكلمات المهمَلة التي لا علاقةَ لها بالمعنى. ° وأما كتابه الثاني الذي يُعِدّه بمنزلة القرآن وأفضلَ منه -عياذًا بالله- في الفصاحة والبلاغة والبيان، ويُعِدُّه معجزةً من معجزاته، ألاَ وهو تفسير سورة الكوثر يقول فيه: "فانظر لطرفِ البَدءِ إلى ما أردتُ أرشحناك من آياتِ الختم إن كنتَ سكنتَ في الأرض إلاهوت، قرأت تلك السورة المباركة في البحر الأحدية وراءَ قلزم الجبروت، فأيقن كلُّ حروفها حرفٌ واحدة، وكلٌّ يغاير أنقاظها ومعانيها ترجع إلى لفظة واحدة؛ لأن هنالك المقامَ والفؤادَ ورتبةَ مشعِر التوحيد .. وإن ذلت هو الأكسير الأحمر الذي مَن مَلكَه يَملِكُ ملكَ الآخرة والأولى، فوربِّ السماوات والأرض لَم يعدل كلُّها كتبُ كاظم عليه السلام، وقبل أحمد صلوات الله عليه في معارف الإلهية، ¬

_ (¬1) المصدر السابق.

والشؤونات القدسية، والمكفهرات الإفريدوسية بحرف، أنَّا إذا ألقيت إليك بإذن اللهِ فاعرفْ قَدْرها، واكتمها بمثل عينيك على أرض الجبروت، وتقرأُ تلك السورَ المباركةَ فاعرفْ في الكلمة الأولى من الألف ماءَ الإبداع، ثم من النون هواءَ الاختراع، ثم مَن الألف الظاهر ماءَ الإنشاء، ثم ركن المخزون المقدَّم لظهورِ الأركان الثلاثة حَرْفَ الغيب بعنصر التراب .. وإني لو أردتُ أن أُفضِّل حرفًا من ذلك البحر المواج الزَّاخر الأجاج، لَنَفِدَ المداد، وانكسر الأقلام لا نفاد لما ألهمني الله في معناه" (¬1). ° ويقول في حرف "الألف" مبينا ومفسِّرًا لكل جُزءِ من أجزائه في تفسير هذه السورة: "ثم الألفُ القائمةُ على كل نفس التي تعالت واستعالت، ونَطَقت واستنطقت، ودارت واستدارت، وأضاءت فاستضاءت، وأفادت واستفادت، وأقامت واستقامت، وأقالت واستقالت، وسُعِّرت واستسعرت، وتشهَّقت واستشهقت، وتصعَّقت واستصعقت، وتبلبلت واستبلبت، وإنَّ في الحينِ أَذِنَ الله لها فتلجلجت ثم فاستلجلجت، وتلألأت ثم فاستلألأت، وقالت بأعلى صوتها تلك شجرة مباركة طابت وطَهُرت، وزَكَت وعَلَت، نبتت بنفسها من نفسها لنفسها إلى نفسها" (¬2). وربِّي لا يتكلَّمُ بمثل هذا الكلام حتى المجانين والصبيان!. أبهذه السخريةِ والأضحوكة يريدون أن يُضاهِئوا كلامَ الله المنزل من السماء رحمة للعالمين على الحبيب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وساطةِ الرّوح الأمين عليه السلام؟ ¬

_ (¬1) "تفسير سورة الكوثر" لعلي محمد الشيرازي، نقلاً عن كتاب فارسي "بهائيكري" لأحمد الكسروي الإيراني. (¬2) نقلاً عن "بهائيكري" (ص 78)، و"البابية" لإحسان إلهي ظهير (ص 113).

وإن كانت المعجزاتُ مثلَ هذه الكلمات المهمَلة التافهة، فما كان للمعجزات معنًى ولا قيمة. ويَعلم أهلُ العلم، وغيرُ أهل العلم أيضًا من العرب وأطفالهم ونسائهم وشيبانهم أن المتفوِّهَ بمثل هذا الكلام لا يقال له "عاقل" دون العالم والبصير والمتفقه، ولا يمكنُ لطبيعةٍ عربية، وقريحةٍ مهذَّبةٍ أدبية، أن تَعُدَّه مقبولاً للسماع فضلاً عن الإِصغاء والانتباه. وأكرِّر قولي -وأنا على ثقةٍ ويقين-: إن بلهاءَ العرب وسفهاءَهم، وحَمْقاهم ومجانينَهم لا يتكلَّمون بمثل هذا الكلام المهمَل الرديء الذي لا معنَى له ولا مفهوم أصلاً، وحتى لا يوجدَ فيه الرونقُ اللفظيُّ ولا الابتهاج السَّماعي، فلا لفظَ ولا معنى. فهل هناك شك لشاكٍّ وريبٌ لمرتابٍ أن الشيرازي لم يكن إلاَّ الأفيوني الحشَّاش من الذين يُعمِيهم الأفيون، ويسلُب عقلَهم البِنج، ويُخِل بحواسِّهم الحشيش. وهل يُتصور صدور مثل هذه الخرافات والهذيان من طالبٍ مستبصر، ودارس متنوِّرٍ دون مَن يدَّعي المَهدوية والنبوةَ والرسالةَ بل والربوبيةَ والألوهية؟. ولقد كان الشيرازي أجهلَ المتنبئين، وأغبى الدجَّالين الكذابين، وأسفل السافلين من مدعي الألوهية والربوبية -وهي الغباوة والسفاهة- منذ اليوم الذي بدأ الكذّابون والدجَّالون يظهرون على وجهِ هذه البسيطة الغَبراء.

ويثير عَجَبي وحيرتي أناسٌ يعتقدون بمثل هذا البليد، ويؤمنون بمثل هذه السخافات، رجلاً سطحيَّ الثقافة، مُعوجَّ التفكير، جاهلاً عن قواعد اللغة ومعانيها، بعيدًا كلَّ البعدِ عن أساليب الكلام ومواقعه، وصياغةِ الجُمل والكلماتِ والحروف، كثيرَ الأخطاء واللحن، غيرَ عارفٍ مقتضياتِ العصر ومتطلَّباته، ويَزدادُ التعجُّبُ عندما نَسمعُ من مبلِّغيهم أو نقرأُ في كتبهم: "إن أكثر المؤمنين بالشيرازي في أولِ الأمر كانوا علماء، والملاَّ (¬1) حُسين البشروئي سمع تفسير سورة "يوسف" وآمن به، ولُقِّب بـ "أول من آمن" و"باب الباب"، والمُلاَّ يحيى الدارابي الملقب بـ "الوحيد" قرأ تفسير سورة "الكوثر" واعتنق دينه، والملاَّ حسين اليزدي الملقب بـ "كاتب الوحي" والمُلاَّ يحيى النوري الملقب بـ "صبح الأزل" والمُلاَّ محمد علي البرفروشي المقلب بـ "القدوس"، والمُلاَّ علي الزنجاني الملقب بـ الحُجة" والمُلا حسين علي المازندراني الملقب بـ "البهاء" وابنة المُلاَّ قرة العين الملقبة بـ "الطاهرة" وغيرهم. ويدرَك من كلام الشيرازي، وقيمتِه ومقامه، مدى عِلم هؤلاء الجَهَلة المغرورين بألقابٍ فخمة، وأسماءٍ ضخمة، ويُدرَكُ حقيقتُهم وأصلُهم، فإن كان هؤلاء علماءَ فخلت الأرض من الجهل والسفه. وما ندري عن الملا الدارابي جَذبه أيَّ شيءٍ من هذا التفسير الذي يسمونه تفسيراً حتى رَهَن نفسَه لإشارته، ودفعه إلى البابية إن كان عالمًا؟. وأيةُ فصاحةٍ وبلاغة، وأيُّ جمال في قوله في "الألف": "وأقالت ¬

_ (¬1) كلمة "الملا" تطلق على العالِم في بلاد العجم.

واستقالت "أي الألف" وسُعِّرت واستسعرت، وتشهَّقت واستشهقت، ونَطقت واستنطقت، وتبلبلت واستبلبت، وإن في الحين إذنَ الله لها فتلجلجت ثم فاستلجلجت". نعم هناك أناس علماءُ في اللغة، وفقهاءُ في الفهم والتعبير والمعنى، سمعوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصادق الأمين كلام ربه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِن شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [سورة الكوثر]. فاضطروا إلى القول: "ما هذا بكلام البشر". نعم وإن هناك رجالاً هم أشدُّ أعداء الله ورسوله، وأكبر المعاندين والمخالفين للشريعة السماوية الإلهية، وألدُّ خصوم الإسلام ومَن جاء به، قالوا في كلام البارئ المتعال: "إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لَمُغدِق، وإن فَرْعَه لَجُناة" (¬1) -ولقد قال هذا الوليدُ بنُ المغيرة أحد سادة قريش-. وحتى اليومَ مع مُضِيِّ أربعةَ عَشَرَ قرنًا على نزوله من لُدُنْ عليم خَبير لم يستطع كُفَّار الشرق والغرب أن يأتوا كتابًا مِثلَه في عُذوبةِ البيان ونُدْرةِ الخيال والتفكير، وقوَّةِ المنطق والبرهان، وسلامةِ الأسلوب، ورَوعةِ الخيال، وغزارةِ العلم والحكمة، وعَظمةِ الأحكام، ومُرونةِ الشريعة، وسلامةِ القواعد والأصول، ومتانةِ اللغة ورصانتها، وكرامةِ التعليم وشرافته، ولَبَاقةِ القولِ ولياقته، فما أعظمَه شأنًا، وما أعلاه مَقامًا، وما أجمَلَه، وما أحسَنه، وما أكملَه!. يَزيدك وجهُه حُسنًا ... إذا ما زِدتَه نَظرَا ¬

_ (¬1) "السيرة" لابن هشام (1/ 270).

فسبحانَ ذي المُلكِ والملكوت الذي أنزله هدايةً للبشر كافةً، وحُجةً على الخلق إلى يوم النشور: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذنبِ وَقَابِلِ التَوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطٌوْلِ لا إِلَهَ إلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [غافر: 2 - 3]. وصَدَق اللهُ مولانا العظيم، {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرٌتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسيرٌ} [الملك: 3 - 4]. ° وأخيرًا نتكلَّمُ على كتابه "البيان" الذي يدَّعي فيه حُسينُ علي المازندراني البهاء "أنه هو كتاب العصر" كما قال في كتابه "الإِيقان" الذي ألفه ببغداد تأييدًا لأستاذه الشيرازي ودعاويه، وحمايةً له ولها كأحد المخلِصين له والمؤمنين به، قال فيه: "فمثلاً في عهد عيسى كان الإنجيل، وفي زمن موسى كانت التوارة، وفي عهد محمدٍ رسول الله كان القرآن، وفي هذا العصر البيان" (¬1). ° وقال فيه الشيرازي نفسه: "إن الله يبعثُ في كل زمان كتابًا وحُجةً للخَلق وفي سنة 1270 هـ مِن بعثة محمد رسول الله أنزل الكتاب "البيان" وجَعل حجته ذات الحروف السبعة - ع ل ي م ح م د-" (¬2). ° وأيضًا: "إنما البيان حُجّتنا على كل شيء، يَعجِزُ عن آياتِه كل العالَمين" (¬3). ¬

_ (¬1) "الإيقان" لحسين علي المازندراني (ص 138). (¬2) "الواحد الأول من مقدمة البيان العربي" مترجمًا عن كلمة فارسية أدرجها فيه. (¬3) الواحد الأول من البيان العربي.

° وأيضا: "إن فَضلَ ما نزلنا عليك على ما نزلنا عليك من قبل، كفضل القرآن على الإنجيل" (¬1). ° وأيضًا: "قد نزَّلتُ "البيان" وجعلتُه حجةً من لدُنَّا على العالَمين، فيه ما لَم يكن له كُفْوَ ذلك آياتُ الله قلْ كل منها يعجِزون، فيه ما لم يكن له عَدلُ ذلك ما أنتم به تدَّعون، فيه ما لم يكن له شَبَهُ ذلك ما كنَّا فيه لمَفسرين، فيه ما لَم يكن له قرين ذلك جوهر العلم والحكمة أنتم به تجيبون، فيه ما لم يكن له مِثلُ ذلك ما ينطق به الفارسيون وأنتم في الواحد لتنظمون" (¬2). ° وأكثر من ذلك: "فلتمحُوُنَّ كل ما كتبتم، ولَتستدِلُّنَ بـ "البيان" وما أنتم في ظِلِّه تُنشِئون" (¬3). ° وقال: "لا يجوزُ التدريس في كتبٍ غير البيان، ولا تتعلمون إلاَّ بما نزل في البيان، أو ما ينشئُ فيه من علم الحروف وما يتفرعُّ على البيان .. ولا تتجاوزون عن حدودِ البيان فتحزنون" (¬4). ° وأيضًا: "اعرفْ قُدرةَ ربِّك في الآيات، ثم اشهد ذِكرًا لا نهايةَ في كل شيء، ثم عَجْزَ الناسِ عما نزل في البيان، فإنَّ به يَثبُتُ ما تُريد" (¬5). هذا فلْنَرَ ما فيه من العجائبِ والغرائب، والمضحِكات والمُبكِيات من السخريات والتُّرَّهات. ¬

_ (¬1) الباب الرابع، الواحد الثالث من الواحد. (¬2) الباب الأول من الواحد السادس من "البيان" العربي. (¬3) الباب السادس من الواحد السادس من "البيان" للشيرازي. (¬4) الباب العاشر من الواحد الرابع من "البيان" العربي. (¬5) الباب الأول من الواحد الثاني.

° فيقول في هذا الكتاب -وبأسلوبٍ- لم يعرفْه العرب منذ ما خُلقوا، ولن يعرفوه إلى أبدِ الدهر عن غير هذا المنتحِل الكذاب، فيقول في بدايته: "وإنَّا قد فَرَضْنا في باب الأول -كذا- ما قد شَهِد الله على نفسِه -كذا- على أنه لا إلهَ إلاَّ هو ربُّ كل شيءٍ، وأن ما دونه خُلق له .. وأن ذاتَ حروفِ السبع -كذا- بابُ الله لمن في ملكوتِ السماوات والأَرَضين .. ثم كل بابٍ ذِكْرُ اسم حق -كذا- من لدُنَّا، وذكرُ أحدٍ من حروفِ الحيِّ بما رجعوا -كذا- إلى الحياة الأولى محمدٍ رسول الله -كذا- والذين هم شُهداءُ مِن عند الله ثم أبوابُ الهدى وخُلقوا في النشأة الأخرى -كذا- بما وَعَد اللهُ في القرآن إلى أن يظهرَ عدد الواحد، ذلك واحد الأول -كذا- من الواحد المعدد يذكر في شهرِ البهاء قد بدأنا ذلك الخَلق به ولنعيدَنَّ كلاًّ به وعدًا علينا" (¬1). والعبارةُ غنية عن النقد والتبصرة، وناطقة بتفاهةِ عقل المتفوِّه بها وجهلِه بأبسط القواعدِ اللغوية وأسهلِها التي يعرفُها حتى الأطفالُ والصبيان. ثم وماذا يقصدُ من هذا الكلام المبهَم المعقَّد الفضولي؟!. ° وهناك مُضحك أكثرَ وأكثرَ ومثيرُ السخرية والهُزْء، فانظره ماذا يقول وكيف يقول: "لا تسألُنَّ في أولاي ولا في أخراي -كذا- إلاَّ في كتاب، ولَتَعْلَمُنَّ كل واحدٍ في مسالككم -كذا- لعلكم تتأدَّبون .. قل إنه لشمس أم نجعلنكم وآثارَكم مرآتا -كذا- تَرَونْ فيها ما أنتم تحبُّون إذا أنتم بالحق تقابلون" (¬2). ¬

_ (¬1) الواحد الأول من "البيان" العربي. (¬2) الباب الثالث عشر من الواحد الثالث من "البيان" العربي.

° وكذلك: "من ينشئُ كلماتا -كذا- لله، قلْ خُذْ لنفسك على أجذبِ خط -كذا- ثم تَهَبُ من تشاء، فإن ذلك قِسطاسُ حق مبين" (¬1). وهل يُتصوَرُ من مبتدئٍ في تعلم اللغة العربية أن يلحن مثلَ هذا اللحنِ الفاحش؟!. ° ومِثُله كثيرٌ في هذا الكتابِ الذي يَعُدُه أفصحَ عبارةً من القرآن -عياذًا بالله- كقوله: "يا محمدُ معلَّمي، فلا تَضرِبْني قبل أن يمضيَ عليَّ خمسُ سنة -كذا- ولو بطرف عين" (¬2). ° وأيضًا: "قل أنْ يا أولو الهدى -كذا- بهداي تهتدون" (¬3). ° وأيضًا: "فلَتقرأُن آيةَ الأولى -كذا- إن أنتم تقدرون" (¬4). ° "وأنتم في الرضوان خالدون، وإلا أنتم فانيون -كذا-" (¬5). ° و: "قل إنما البيت ثلاثين -كذا- حرفًا، ذلك واحدُ الأول -كذا- أنتم بالله تسكنون .. أنتم في أرض بيتٍ حرٍّ تبنيون -كذا-" (¬6). ° ويجتمع رداءةُ اللغة، وجهلُ القواعد النحوية، وضَعف التركيب، وقصور التعبير، والتعقيدُ اللفظي والمعنوي، والإبهام في كلمةٍ مختصرة في مقدمةِ "البيان العربي": "وإنا قد جعلنا أبوابَ ذلك الدينِ عدد "كل شيء" ¬

_ (¬1) الباب الثامن عشر من الواحد الثالث من "البيان" العربي. (¬2) الباب الحادي عشر من الواحد الرابع من "البيان" العربي. (¬3) الباب الحادي عشر من الواحد الرابع من "البيان" العربي. (¬4) الباب الثالث من الواحد الثاني من "البيان" العربي. (¬5) الباب السادس من الواحد الثاني من "البيان" العربي. (¬6) الباب الأول الثاني من الواحد السادس من "البيان" العربي.

عددُ الحَول، لكل يوم بابا -كذا- ليدخُلَن كل شيءٍ في جنةِ الأعلى -كذا- وليكونَن في كل عدد واحدٍ ذَكَر حرفٌ من حروف الأول -كذا- لله رب السماوات" (¬1). ° وبهذه المناسبة نذكرُ أيضًا جملة من "بيانه الفارسي" التي جاء فيها ببعض العبارت العربية فيقول: "لَم تَرَ عينُ الوجود بمثلِه لا من قبلُ ولا مِن بعد، ذلك اسم الألوهيةِ وطَلعةُ الربوبية -كذا- المستقرة في ظلِّ وِجهةِ الألوهية -كذا- والمستدلَّة على سلطان الوحدانية -كذا-، ولو علمت أن يذوقَنَّ كلُّ شيء حبَّه ما ذكرت ذكرنا؟ وإذا أنها لَمَّا لَم تسجد لها -كذا- خُلقت كينونتها بما هي فيها وعليها؟ وإلاَّ كما لَمَّا يذوقَنَّ -كذا- من حُبه نور في نور من نورٍ إلى نور يَهدي الله لنوره من يشاء ويرفعنَّ الله -كذا- لنوره من يريد أنه هو المبديء المعيد" (¬2). فهذه العبارةُ المشحونةُ بالأخطاء الفاحشة، والأغلاطِ الظاهرة الصريحة، والإبهام في المعنى والمقصود، وغموضِ الفكرة، وعدم المقدرة على التعبير لِمَا يريد تعبيرَه، والعبارةُ السابقة من مقدِّمة "البيان العربي" تعطي فكرةَ واضحة لعقلية الرجل وثقافته، وعن عدم معرفتهِ بقواعد اللغة وأسلوبِ البيان، غير الأدب الرفيع، وسموِّ المعاني، وقوةِ المنطق والفكر، ورزانةِ العقل، ومتانةِ الحِجَى، وإن تدل على شيء تدل على أن المتكلِّمَ بها والمتفوّهَ ليس إلاَّ رجلٌ جاهل صرف، وكان مسكينًا مستكينا خالطه ¬

_ (¬1) مقدمة "البيان" العربي من الواحد الأول. (¬2) مقدمة "البيان" الفارسي لعلي محمد الشيرازي.

الوسواسُ ففعل أفعالَ المجانين، وتكلَم مثلَ كلامهم. وهل هناك شيء أدلُّ على ما قلناه من قوله لَمَّا اعتُرض عليه في مثل هذه الأخطاء اللغوية والنحوية، وفي كثرةِ لحنِه وغلطِه مع ادعاءاته الكبيرةِ من الرسالة والنبوة والألوهية، والحال أن النبي والرسول، والإِلهَ والربَّ لا يخطيء ولا يلحن، وحاشا للهِ أن يَلْحَنَ هذا اللحنَ الفاحش؟!. ° أجاب بقوله المضحِكِ والمبكِي معًا، مزدرياً العقولَ التافهةَ السخيفةَ التي تؤمن بهذا المخبولِ المجنون المأفون، أجاب: "إن الحروفَ والكلماتِ كانت قد عُصمت، واقتَرفت خطيئةً في الزمن الأول، فعوقبت على خطيئتها بأنْ قيِّدت بسلاسل الإعراب، وحيث إن بَعثتنا جاءت رحمةً للعالمين فقد حَصَل العفو من جميع المذنبين والمخطئين حتى الحروف والكلمات، فأُطلقت من قَيدِها تذهبُ إلى حيث تشاء من وجه اللحن والغلط" (¬1). ° وأيضًا: "إن الله أجلُّ من الخضوع إلى هذه القواعدِ التي إنْ هي إلا صفات بشرية ونقص من نواقص الإنسانية" (¬2). ° ومؤِّرخُ البهائية "عبد الحسين آواره" يذكر في كتابه: أن الباب (الشيرازي) قرأ الخُطبةَ بحضرةِ وليِّ العهد "ناصر الدين شاه القاجار" "بتِبريز"، وفي بداية الخطبة قال: "الحمد لله خلق السماواتَ والأرضين"، -ونَصَب التاء في "السماواتَ"-، فاعترض عليه وليُّ العهد -وهو ليس من علماء اللغة الغربية- قائلاً: إن تاء السماوات لا تكون إلا مكسورة في موقع ¬

_ (¬1) "دائرة المعارف" للبستاني، (5/ 26)، ط طهران. (¬2) "الكواكب" (ص 225)، ط فارسي.

الجرِّ والنصب، واستشهد بابن مالك في "ألفيته": وما بتاء وألف قد جُمِعا ... يُكسَرُ في الجرِّ وفي النصب معا (¬1) ° فمن يقول للجهل المركَّب هذا: "إن كلامَ الله لا يكون إلا محكمًا بليغًا متقنًا وواضحًا جليًّا، يقفُ أمامه فطاحل الشعراءِ وأئمَةُ الفصحى والبلغاء مشدوهين متحيِّرين، ولا يَسَعُهم في ذلك المقام إلاَّ الإِظهارُ بالعجز وقصورِ الباع، ولقد كان نزول القرآن في عصرِ الفصحاء الذين كانوا لا يَعُدُّون أحدًا مقابلهم ومُنازِلهم في ميادين الفصاحة والبلاغة، وإتقانِ اللغة وإحكامِها مع السلاسة في الأسلوب، والدقَّةِ في التفكير، والروعةِ في التعبير، والجمالِ المنطقي، والحُسنِ المعنوي، والتصويرِ الفني، ورونقِ العبارة، وبهجةِ العلم، وبهاءِ المعرفة، فلما سمع هؤلاء كلامَ الله وفي لُغتهم وبَعْدَ التحدي: {أَمْ يَقُولُون افْتَرَاة قُل فَأْتوا بِسْورةٍ مِّثلِهِ وَادْعوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِن دونِ اللهِ إِن كنتمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38]. وأيضًا: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَت الإِنسُ وَالجِن عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْل هَذَا الْقرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضهُمْ لِبَعَضٍ ظَهِيرًا} [الإِسراء: 88]. ما استطاعوا مع هذه التحديات -ورَغْمَ المخالفاتِ والعِداءِ الشديدِ له وللذي نزل عليه- أن يأتوا ولو بآيةٍ لمنافسته ومعارضته. وأما هذا الأعجميُّ الجهول، فلم يَستح من أن ينسِبَ هذا الكلامَ الملحونَ- المحشوَّ من الأغلاظ والأخطاءِ اللفظيةِ والمعنوية والخالي عن المقصد والمعنى، والمهمل المبهم الصبياني، والمثيرِ للهُزءِ والسخرية- إلى ¬

_ (¬1) "الكواكب الدرية في مآثر البهائية" (ص 225) أيضًا.

الوحي والإلهام، وليس هذا فحسب، بل يَعُدُّه أفصحَ وأفضل من ذلك الكتابِ القيم المهيمن على كتب الأولين والآخرين!!. ° ولْنُلق نظرة أخرى على بيانه وأسلوب بيانِه والمقاصدِ التي يُضمنها، فيقول في الواحد العاشر: "إنما السابع، فلتبلُغن إلى مَن يُظهره اللهُ كلُّ نفس منكم بلَّوْر عطر ممتنع -كذا- رفيع -كذا- من عندِ نقطةِ البيان، ثم بين يدي الله تسجدون بأيديكم -كذا- لا بأيدي دونكم -كذا- وأنتم لا تستطيعون -كذا- فلا تسجدون إلاَّ على البلَّور -كذا- فيها من ذرَاتِ طين الأولى -كذا- والآخر -كذا- ذكراً من الله (يا الله!) في الكتاب لعلكم شيء -كذا- غيرُ محبوب لا تشهدون، فلَيَمْلِكُن من كل نفس -كذا- من أسباب بلور -كذا- ممتنع رفيع عدد الواحد -كذا- على قَدْرِ ما يتمكن" (¬1). فهل تحتاجُ هذه الجملُ المتفككّةُ المتنافرة بعضها من بعض، والمفعمةُ من الأخطاء والأغلاط، والخارجةُ عن حدود اللغة العربية، قواعدِها وأصولِها، والباغيةُ على صاحبها ومتكلِّمها، والمهمَلُة الأطفاليةُ الصبيانيةُ، والمضحِكةُ الجنونية، إلى النقد والتبصرة؟!. فهل لأولي الأبصارِ أن يعتبروا؟! وأولي الأحلام أن يتَّعظوا؟!. ° ومثل هذه العبارة عبارةٌ أخرى تجمعُ جميعَ السيئات في طياتها، وهي: "ولتأمرن كلَّ أرض -كذا- أن ينتظمون -كدا- بيوتَها وأسواقَها وأماكنَها -كذا- وتميز كل صِنف -كذا- في مقعده -كذا- عن الآخَرِ حيث لا يختلط اثنين -كذا- منهم إلا في مكانهما؟ وكلُّ صنف كانوا -كذا- في مكان ¬

_ (¬1) الباب الثامن والتاسع من الواحد العاشر من "البيان العربي".

واحدٍ على أحسنِ نَظمٍ محوب، ولتأمرن أن يكونَ كل صنفٍ في خان، فإن ذلك أقربُ للنفع والتقوى -يا للتقوى- .. ولا تأمرُون ولا ترضيون -كذا-" (¬1). ° أهذا هو الكتابُ المقدَّس للبابية لمهديِّها الموعود، والقائم المُنتظَر، والنبي الأعظم، والرسول الأكبر من جميع الأنبياء والمرسلين؟! وقال فيه إلهُ البهائية حسين علي البهاء: "إنه لسلطان الرُّسُل، وكتابه "البيان" لأمُّ الكتاب" (¬2). بل وأكثرُ من ذلك، يعتقدون فيه "أنه إلهٌ ورب" كما أثبته بالأدلةِ الثابتة والبراهين القاطعة -حَسْبَ زعمه- المازندراني في كتاب "لوح ابن ذئب" و"الإيقان" وغيرهما. فسبحان الله ذي العرش المجيد، الذي أظهر كَذِبَ الدجَّالين المُفتَرِين عليه ببهتان من كلامهم أنفسِهم. ويا أسفَا على السَفْلةِ الذين يَجعلون مثلَ هؤلاء المهابيل والأفَّاكينَ رسلاً وآلهةً، ويظنون هذه الخزعبلاتِ والترَّهاتِ كلامَ الرب المتعال، تعالى الله عما يأفِكون. وهل مِثلُ هذا المأفونِ المعتوهِ الذي لا يَقدِر على تعبيرِ ما يختلجُ في صدره وما يريدُ أداءه، ولا يعرفُ الفَرقَ بين "أن ينتظمون" و"أن ينتظِموا" وبين "كل أرض" وصيغتها، أو إعادة الضمير في "بيوتها وأسواقها ¬

_ (¬1) "البيان العربي" للشيرازي المخبول الجهول، الباب السابع عشر والثامن عشر من الواحد العاشر. (¬2) "لوح أحمد" لحسين علي المازندراني (ص 154) -طبع باكستان- في "الألواح الستة".

وأماكنها"، ولا يجدُ المقدرةَ على التعبير لقوله على حدِّه: ويستعملُ لها "مقعد" ولا يدركُ معناه، ولا يُفرق بين الفاعل والفعول في "لا يختلط اثنين"، وإعادة الضمير في "منهم"، ولا يشعر استعمال أداة الاستثناء في قوله: "إلا في مكانهما" ومواضع استعمالها، ولا يفرَقُ بين الأسماء والأفعال في "كل صنف كانوا في مكان"، ولا ينتبه لمعنى "النفع والتقوى"، حيث يجعلُهما مقارنًا لوضع الأصناف في مَحِلِّها، فأيُّ التقوى فيه؟! ويجهلُ العمل لأداةِ الطلب والنهيَ في "لا تأمرون ولا تفعلون" وتصريف الأفعال في "لا ترضيون". أوَ مِثل ذلك الجهولِ المفتري الكذابِ الدجَّال يريدُ منافسةَ القرآن كلام الله ربِّ العالمين؟!. هذا مِن قِبَل الألفاظ والقواعد. وأما من جهة المعاني، فهل مِثل هذا يكونُ كلام الله؟ معاذَ الله أن يكونَ كلامُه تلك الخرافاتِ والهذيانات. فانظر كلامَ الله، ومعاذَ الله أن نُورِدَه للموازنة بتلك البذاءة والتفاهة، بل لتعطيرِ الأذهان، وتزكيةِ القلوب، وطهارةِ الأرواح بعد أدرانها وتلوُّثِها بتلك النجاسة الظاهرة والباطنة، ولانشراح الأنفس وابتهاجها بعدما انقبضت بسماع تلك المهمَلات والبَشِعات واشمئزازها. * فيقول الله -عز وجل- في كتابه الخالد الذي: {لا يأتيه البَاطل مِن بين يًدَيه وَلا مِنْ خَلْفهِ} [فصلت: 42] يقول فيه: {وَهذا كتَاب أَنزَلنَاه مبَارَك مصدق الذي بين يَدَيْهِ وَلتُنذرَ أُمَّ القُرَى ومًنْ حوْلها وَالَّذِينَ يُؤمنون بالآخرة

يؤمِنُون به وهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافظُونَ (92) وَمَنْ أَظلَمُ مِمنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كذِبًا أَو قَال أوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شيْءٌ ومَن قالَ سَأُنزِلُ مثلَ مَا أنزَلَ اللهُ وَلوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ والْمَلائِكَة بَاسِطُوا أَيدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَق وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 92 - 93]. وصدق الله مولانا العظيم. ولْنُعِرْ الانتباهَ أنَّ النبي والرسولَ لا يتكلَّم بكلام إلا لِيَفهمَه السامعون والحاضرون، وإنْ لَم يفهموه -أو لا يكون ذلك الكلام قابلاً للفهم-، فما الفائدة بالتكلم به والتلفظ؟!. * وإليه أشار الله -عز وجل- في كلامه المجيد: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَان قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إِبراهيم: 4]. * وقال تعالى: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلنا عَلَيكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِن فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكرَى لقِوْمٍ يُؤْمِنُون} [العنكبوت: 51]. فكلامُ الله يَنزِلُ لهدايةِ البشر، والهداية لا تتأتَّى إلا بعد فَهمِه وإدراكِ مطالبِه، ولكنَّ الأمورَ منعكسةٌ عند الشيرازي تمامًا، فالكتابان اللذان يَعُدُّهما معجزةً من معجزاته منافستَينِ للقرآن في الفصاحة والبلاغة والمتفِّوقتين عليه من حيث المعاني والمطالب هما "تفسير سورة الكوثر" و"البيان" وكلاهما في اللغة العربية غيرُ لغة القوم، قومه. ولَم يختَر هذه اللغةَ إلا لجهل الإِيرانيين بها وإرعابهم وتهديدهم بغزارةِ علمِه وكثرةِ فهمه، ونفاذِ بصيرته، وإظهارِ تفوُّقِه عليهم، وتغطيةَ

على عيوبه، وجهلِه، ونقصِه، حيث أكثرُهم لا يدرِكون ماذا يقول؟ وكيف يقول؟ ومِن أين يقول؟. لأنه لو قال في الفارسية ما قاله في العربية لَعَرف القوم الحقيقةَ من الجهل البادئ المتدفق من كلامه الضئيل الضعيف، ولذلك كلَّما تكلَّم في مجلس في لغته -أي الفارسية- أُدرك وأُفحم، ثم لم يَجِدِ النجاةَ إلا في السكوت والصمت، وأما في العربية، فأطلق عنانا يذهبُ أينما يشاء، ويروحُ أينما يريدُ، لا القوم ترتعدُ عند سماع الفقرات الفخمة المكبرة "لا إله إلا هو البهي البهي، لا إله إلا هو هو المبتهي، ولله بهي بهيان بهاء السماوات والأرض" (¬1). فكان السُّذُّجُ من الناس والأعاجم يَسمعون هذه الكلماتِ المُهمَلة في ملبوس عربي، وُيعظِّمونها متوهَمين أنها تدل على جلالةِ قَدْرِ المتكلِّم، غيرَ عارفين أنْ لا معنى لها على الإطلاق، وليست إلا صنيعةَ الماكرِ الخدَّاع الكذوب الهارب من مواجهة الحقيقة، والمتستِّر والمتقنِّع بسِتارِ الباطل وقناع الزور. ° وخيرُ دليل على ما قلنا: إن البهائيين -وَرَثَةَ الباب- يكتمون كُتب الباب ويمحونها إنْ وَجَدوها خوفَ الفضيحة والذلة، وشَهِد بذلك أكبر المحبِّين لهم من المستشرقين، برفسور "براؤن" في "مقدمة نقطة حرف ك" وكتبِه الأخرى عنهم -كما ذكرنا سابقًا-، وحتى الآن لَم يَطبع البهائيون والبابيون كتابا واحدا من كتب الشيرازي ومؤلفاته. ¬

_ (¬1) "البيان الفارسي" نقلا من كتاب "فصاح الأبواب" (ص 275).

توبته مرة ثانية

° ولله درّ من قال: "إن أقوى الدليل على صِدقِ رجل وكَذِبِهِ هو كلامُه". وشاء الله أن يُذِلَّ هذا الدجال المفتري على الله ببهتان مرَّةً أخرى، وبعد أن ادَّعى هذه الدعاوَى الكبيرةَ والمزاعمَ الفارغة الكاذبة. * توبته مرةً ثانية: ويذكر المؤرِّخون أن الأنباء عن هذا المؤتمر وصلت إلى مسامع الحكومة، فأمرت بنقل الشيرازي من قلعة "ماه كو" إلى قلعة "جهريق"، وفي أثناء السفر مرُّوا "بتِبريز"، ومكثوا فيها أيامًا جرى فيها نِقاش مشهور بين العلماء وهذا الدجَّال بحضرةِ ولي العهد "ناصر الدين شاه القاجاري"، "ضُرب بعدَه ثماني عشْرةَ ضربةً في رجليه" (¬1). اللهم إلا أنه اضطرب بالضربات هذه، ورجع إلى الصواب، وقدَّم الاعتذارَ والمعذرةَ عن دعاوِيه، وتاب مرةً أخرى عن النبوة والمَهْدَوِيَّة والقائمية وغيرها. * وثيقة توبته التاريخية: وأثبت البروفسور "براؤن" المُوالي للبابية ورَاوِيتُهم في الغرب توبتَه هذه بوثيقتين تاريخيتين، وإبقاءً على تلك الوثيقتين التاريخيتين نُورِدُ واحدةً منها بنصِّهما وترجمتِها من الفارسيَة حرفيًّا. ° فلقد كَتب الشيرازي علي محمد إلى وليِّ العهد ناصر الدين شاه ما نصه: "فداك روحي، الحمدُ لله كما هو أهلُه ومستحقُّه، فالحمدُ لله الذي ¬

_ (¬1) "نقطة الكاف" (ص 138).

دعواه الألوهية والربوبية

يحيطُ كافةَ عبادِه بظهوراتِ فضله ورحمتهِ، ثم الحمد لله أنه جَعَلك يُنبوعَ الرأفة والرحمة، وعَطوفًا على المجرمين، ورحيمًا على العصاة المذنبين، أُشهِدُ الله أنه لَم يكن لهذا العبدِ الضعيف -الذي وجودُه الذنبُ المحضُ -أيُّ قصدٍ خلافَ رضا الله وأهل ولايته، وبما أن قلبي موقِنٌ بوحدانية الله ونبوَّةِ رسوله وولايةِ أهل الولاية، ولساني مُقِرٌّ بكل ما نزل مِن عند الله أرجو رحمته، ولَم أُرِدْ مخالفةَ الحقِّ مطلقًا -وإن صَدَر عني وعن قَلَمي كلماتٌ تخالف الحقَّ-، فلم يكن قصدي المعصية، ففي كلِّ الأحوال أنا مستغفر وتائبٌ، وأنه ليس لي أيُّ ادعاءٍ وزَعْم، وأستغفرُ اللهَ ربي وأتوبُ إليه من أن يُنسَبَ إليَّ أمر، وأما بعضُ الكلمات أو المناجاة التي جَرَت من لساني لا تدلُّ على أيِّ شيء، وأنا لا أدَّعي لا النيابة عن حضرة "المَهديِّ" وغير النيابة، ولن أدعيَ أيضًا، وأنا أرجو من ألطافِ حضرةِ الشاهنشاه وحضرتِكم أن تجعلوني مَوْرِدَ ألطافِكم ورأفتِكم ورحمتِكم، والسلام" (¬1). فهذه حقيقةُ المفتري الدجَّال، ولكنَّ افتراءآته لم تكن مقصورةً إلى هذا الحد -ولا حدَّ للجنون-، فإنه بعد هذه الفضائح والويلات والصرخات ارتقى مرةً أخرى إلى درجةٍ أخرى، ولَم تكن تلك الدرجةُ بعد ادِّعائه النبوة والرسالة إلاَّ درجةً واحدةً وهي الربوبية والألوهية. * دعواه الألوهيَّة والربوبيَّة: فاعتلى منْبرَها، ومَن كان يمنعه عن ذلك ما دام لم يَمتنع مع التوبات ¬

_ (¬1) انظر "الدراسات في الديانة البابية" لبراؤن (ص 257) طبع إنجيلزي، و"البابية" لإحسان إلهي (ص 193).

والرجوعات عن النبوة والمهدوية؟! وما دامت البقيةُ الباقيةُ من الباطنية والهمجيةِ الشيعيةِ موجودة في حواليه وحوله، فالقومُ منهم مَن كان يؤلِّه "عليًّا"، ومنهم مَن يجعل "الحاكمَ" ربًّا وغيرَه -كما مر بالتفصيل-. فهل يُستبعد مِن أولئك الأنعام من الناس الذي اتخذوه نبيا ورسولا ونَسَخوا بخرافاته وهفواته القرآن المجيد، أنْ لا يجعلوه ربًّا ينصرهم وهو خَذلان، ويَسقيهم وهو عطشان، ويَهديهم وهو حَيران في تِيهِ الضلالة وسكران؟!. وما دام تجلَت فيه رُوحُ باب المهدي أولاً، ورُوحُ المهديِّ ثانيًا، ثم روح عليٍّ، وروحُ النبي الأُمي أخيرًا، فلم لا تتجلَّى فيه روحُ الله نفسه؟!. ° فلم يَكًدْ أن يُرمى في غياهب قلعة "جهريق" إلا وقد اكتملت ألوهيَّته وانتضجت ربوبيتُه، وبدأ يقول: "كنتُ في يوم نوح نوحًا، وفي يوم إبراهيم إبراهيم .. " إلى آخر ما ذكرناه قبل ذلك قريبًا. ° وأيضا: "أنا قيُّومُ الأسماء، مَضىَ من ظُهوري ما مضى، وصَبَرت حتى يُمَحَّصَ الكلُّ ولا يَبقى إلاَّ وجهي، وأعلمُ بأنه لست أنا، بل أنا مرآة فإنه لا يُرى فيَّ إلاَّ الله" (¬1). ° وقال عنه بروكلمان: "وبينْا لَم يرغب أولَ الأمر إلاَّ أن يعتبر الإِمام المهدي .. فإننا نجدُه يدعو نفسَه بعد ذلك "المرآة" التي يستطيع المؤمنون أن يشاهدوا بها الله نفسه" (¬2). ¬

_ (¬1) "العقيدة والشريعة" لجولدزيهر (ص 242) ط عربي و"مفتاح باب الأبواب" (ص 100). (¬2) "تاريخ الشعوب الإسلامية" (3/ 665).

° وعلى ذلك الأساس ولقوله بأنَّ: "أرفعَ المراتبِ الحقيقيةِ الإِلهيةِ حَلَّت في شَخصه حُلولاً ماديًّا وجسمانيا" (¬1). ° كتب وصيته إلى المرزة يحيى "صبح الأزل" كالرب والإله، ووصيُّ الرب والإلهِ لا يكونُ إلا إلها، فهو رب أيضًا. وهذا نصُّ الوصية بألفاظها العربية نَقَلها بروفسور "براؤن" في مقدمة "نقطة الكاف": "الله أكبر تكبيرًا كبيراً، هذا كتابٌ من عند الله المهيمنِ القيوم، قلْ كلٌّ من الله مبدَؤون، قلْ كلٌّ إلى الله يعودون، هذا كتاب مِن عليٍّ قبل نبيل (¬2). ذِكرُ الله للعالمين إلى مَن يَعدِلُ اسمُه اسمَ الوحيد (¬3)، ذِكرُ الله للعالَمين، قلْ كلٌّ مِن نقطةِ البيان ليبدؤون أنْ يا اسمَه الوحيد فاحفظْ ما نزل في البيان وأمُرْ به، فإنك لَصراطُ حق عظيم" (¬4). وكان البابيون يسمُونه "الرب" كما ورد عدةَ مراتٍ في كتاب التاريخ البابي "نقطة الكاف"، وفي غيره "حضرة الرب الأعلى" (¬5). وحُسين علي البهاء أيضًا كان يسميه "الرب والإله"، وكان يستدلُّ من الآية القرآنية على ألوهيته: {إِلاَّ أَن يَأْتيَهُمُ اللهُ في ظُلَلٍ منَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وقضِيَ الأَمرُ} كما كان يطلق عليه اسم "مالك الغيب والشهود" (¬6). ¬

_ (¬1) "العقيدة والشريعة" (ص 242). (¬2) يريد به نفسه أي علي محمد لأن النبيل يطابق محمدًا في العدد بحساب الجمل. (¬3) يعني به يحيى؛ لأنه يطابق عدداً بالوحيد. (¬4) "مقدمة نقطة الكاف" لبروفسور براؤن، ص "لد" و"له" ط فارسي. (¬5) "نقطة الكاف" (ص 213 و 240) ووو. (¬6) لوح ابن ذئب، (ص 78)، و (ص 83) للمازندراني ط باكستان.

شريعة البابية الناسخة للشريعة الإسلامية -كما يزعم الدجالون-

° وذُكر في "دائرة المعارف للأديان والمذاهب": "أن البابيين كانوا يعتقدون في الشيرازي الربوبيةَ، ويخاطبونه بحضرة الربِّ الأعلى .. ويَظهرُ أيضًا من بيانه وما كَتب عنه المِرزة الكاشاني أنه كان فائزًا على مقام الأُلوهية ومرتبته" (¬1). ° ويقول داعيةُ البهائيين "أبو الفضل الجلبائيجاني" في مقدمة كتابه "الفرائد": "نحن لا نعتقدُ في المِرزة علي محمد الباب إلاَّ أنه ربٌّ وإله" (¬2). فهذه هي القصةُ بكاملها، بدأت من الشوقِ إلى رؤية المهدي المنتظَرِ الموعود الغائب الموهوم بناءً على الأساطير البالية القديمة، وانتهت من البابية إلى المهدوية، ومِن المهدوية إلى المسيحية، وإلى النبوة المستقلة، ثم أخيرًا إلى الألوهية والربوبية. * شريعةُ البابية الناسخةُ للشريعة الإِسلامية -كما يزعم الدَّجالون-: ° تقول البابيةُ بلسانِ مؤسِّسها وبانيها الشيرازي، وفي أقدس كتاب لها "البيان" الذي قيل فيه: "إنه ناسخٌ للقرآن، وإن الله كان ولا يزال، وفي كلِّ زمانٍ يُقدِّر اللهُ -عز وجلَّ- كتابًا وحُجَّةً لِخَلْقِه، وفي سنة 1270 هـ بعد بَعثةِ محمدٍ رسول الله قَرَّر اللهُ أن يكونَ كتابُه "البيان" وحُجّتَه على محمد" (¬3). ° والذي قال فيه: "وإذا قال محمدٌ: "يعجِزُ البشر عن الإتيان بسورةٍ ¬

_ (¬1) "دائرة المعارف للمذاهب والأديان" ص1 م 3ج 2 ط إنجليزي. (¬2) "الفرائد" (ص 15) ط باكستان. (¬3) الواحد الأول من "البيان" العربي.

من سور القرآن"، فأنا أقول: يعجِزُ البشرُ عن الإِتيان بحرفٍ مثل حروف قرآني" (¬1). ° يقول الشيرازي على محمد الباب: "قد فُرض على كُلِّ مَلَك يُبعث في دين "البيان" أن لا يجعلَ أحد -كذا!! - على أرض ممن لم يَدِن بذلك الدين، وكذلك فُرِض على الناس كلِّهم أجمعون -كذا- إلاَّ مَن يتَّجِرُ تجارةً ينتفع به -كذا- الناس" (¬2). ° ولقد أقر بهذا "عباس أفندي بن حسين المازندراني" في مكاتيبه: أن الباب والبابيين كانوا يأمرون بقَتل جميع مَن لا يعتنقُ البابية، فيقول: "وفي يوم ظهور حضرة الأعلى كان منطوقُ البيان ضربُ الأعناق، وحَرقُ الكتب والأوراق، وهَدْمُ البقاع، وقتلُ الجميع إلاَّ مَن آمن به وصَدَّقه" (¬3). * أين هذا مِن قول الله تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكونُوا مؤْمنينَ} [يونس: 99]. ° ليس هذا، بل وزيادةً على ذلك أَمَرَ هذا المأفونُ المجهولُ بمحوِ كل الكتب المقدسة "فلَتَمْحُوُنَّ كلَّ ما كتبتم، ولَتْستَدِلُّنُ بالبيان وما أنتم في ظِلِّه تنشأون" (¬4). ° ويدَّعي هذا الكافرُ أن اللهَ ليس هو خالقَ كل شيءٍ، بل الخالقُ ¬

_ (¬1) "مفتاح باب الأبواب" (ص 20). (¬2) الباب السادس عشر من الواحد السابع من "البيان" العربي. (¬3) "مكاتيب عبد البهاء" لعباس (2/ 266). (¬4) الباب السادس من الواحد السادس من "البيان العربي".

للأشياء كلِّها هي المشيئة التي تظهرُ في مظاهِرِ الله كما يقول، والمَظهَرُ هذا الذي ظهرت فيه المشيئة الخالقة للأكوار هو الشيرازي علي محمد المأفون المجنون في الماضي والحاضر: يقول: "والتي تظهرُ في المظاهر هي المشيئةُ التي تَخلقُ كلَّ الأشياء، ونِسبتُها إلى الأشياء نسبة العلَّةِ إلى المعلول، والنارِ إلى الحرارة، وتَظهرُ هذه المشيئة في الأكوارِ حسب تلك الأكوار" (¬1). ° "وما كان مُظهِرُ المشيئة في العصور كلِّها إلاَّ نقطةُ البيان ذاتُ الحروف السبعة -علي محمد-" (¬2). ° "وهو نفسُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - الذي كان نقطةَ الفرقان" (¬3). ° والفرق: "أن ظهورَه في هذا العصر في إيرانَ أقوى وأكملُ وأعلى وأشرفُ من ظهورِه في العرب قبلَ ثلاثةَ عشَرَ قرنًا (بصورة محمد - صلى الله عليه وسلم -) وقبل اثني عشَرَ ألفَ سنةٍ بصورة آدم عياذًا بالله-" (¬4). ° ويقول عن نفسه صراحةً: "كنتُ في يوم نوحٍ نوحًا، وفي يوم موسى موسى، وفي يوم عيسى عيسى، وفي يوم محمدٍ محمدًا، وفي يوم عليٍّ قبل نبيل عليًّا، ولأكونَنَّ في يوم مَن يُظهره الله مَن يُظهِرُه الله .. إلى آخر الذي لا آخِرَ له قبلَ أول الذي لا أول له، كنتُ في كلِّ ظهورٍ حُجةَ اللهِ ¬

_ (¬1) الباب الثالث عشر من الواحد الثاني، والباب السابع والثامن من الواحد الثالث من البيان الفارسي. (¬2) الباب الثالث عشر من الواحد الثالث من البيان الفارسي. (¬3) الباب الخامس عشر من الواحد الأول، والباب الثالث من الواحد الثامن من البيان الفارسي. (¬4) الباب الثالث عشر من الواحد الثالث من البيان الفارسي.

على العالَمين" (¬1). ° ويعتقد البابيون أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليس هو بخاتَم المَظَاهِر، كما صَرَّح ذلك المجنون، وحتى الشيرازي ليس بخاتم المظاهر: "يكونُ بعد ظهور من يُظهِرُه اللهُ ظهوراتٍ أخرى إلى ما لا نهاية لها" (¬2). ° وهذا خلاف ما يعتقدُه البهائيون كما يقول البهاء المازندراني بأنه هو آخِرُ المظاهِرِ كما صَرَّح به في كتابه "إشراقات": "فلما أراد الخَلقُ البديع فَصْلَ النقطةِ الظاهرة المشرقة من أُفق الإرادة، وأنها دارت في كل بيتٍ على كل هيئة إلى أن بلغت مُنتهى المقام أمرًا من لدى الله مولى الأنام، وأنها هي مركزُ دائرةِ الأسماء ومختم ظهوراتِ الحروف في ملكوت الإنشاء، وبها بَرَز ما دَلَّ على السرِّ الأكتم الحاكي عن الاسم الأعظم في الصحيفة النوراء والورقةِ المقدسة المباركة البيضاء" (¬3). والبابيون ينكرون جميعَ أمورِ الآخرةِ -من القيامة والبعث والصراط والحساب والميزان والجنة والنار وغير ذلك-، مما يُقرُّها الإسلام وجميع الأديان السماوية الإِلهية الأخرى. ° أما القيامة، فيقول الشيرازي عنها: "إنها عبارةٌ عن وقتِ ظهورِ شجرةِ الحقيقة في كل الأزمنة مثلاً، إن بعثةَ عيسى كانت قيامةً لموسى، وبِعثةَ رسول الله قيامةً لعيسى، وبعثته هو قيامةً لرسول الله، وكل مَن كان ¬

_ (¬1) "التراث اليوناني" ترجمة الدكتور البدوي (ص 237). (¬2) البيان الثالث عشر من الواحد الرابع من البيان الفارسي. (¬3) "إشراقات" للمازندراني (ص 93).

على شريعة القرآن كان ناجيًا إلى ليلةِ القيامة أي مِن يوم الساعة، وهي الساعة الثامنة والدقيقة الحادية عشرة من غروب الشمس من اليوم الرابع وأولِ الليلةِ الخامسة من شهر جمادى الأولى سنة 1260 هـ" (¬1). ° والميزانُ: يقول عنه "البيان الفارسي": "إن الميزانَ هو الكتابُ الذي يُقدَّمُ إلى الأمة، فكان القرآنُ ميزانا في عصره، كما هو "البيان" في هذا العصر" (¬2). ° والحساب والميزان: يقول عنه الشيرازي: "أتحسَبون أن الحسابَ والميزان في غير هذا العالم، قل سبحان الله عما يظنون" (¬3). ° وأما الجنة والنار: فيقول عنهما ذلك الدجَّال: "إن الجنةَ حُب الله، ثم رضاؤه، وإن ذلك حقٌّ لا عدل له، إنا كنا فيها خالدين .. وإنما النارُ قبل أن يُبدل بالنور نار الله ذلك مَن يُظهره الله قبل أن يُعرِّفكم نفسَه أنتم في نارِ الحبِّ تدخلون" (¬4). ° ومَنَعوا صلاةَ الجماعة: "ولتصَلُن كلكُم مرة، فُرادى تقعدون" (¬5). ° أما كيف تُؤدَّى الصلاة، فلا ذكر لها، اللهم إلاَّ السجود على البِلَّور "فلا تسجدون فيها إلاَّ على البِلور" (¬6). ¬

_ (¬1) الباب السابع من الواحد الثاني من "البيان" الفارسي. (¬2) البيان الفارسي. (¬3) البيان الفارسي. (¬4) الباب السادس عشر من الواحد الثاني من "البيان" العربي. (¬5) الباب الثالث عشر من الواحد الثامن من "البيان" العربي. (¬6) الباب الثامن من الواحد العاشر من "البيان" العربي.

° وللصلاة معنًى آخرُ عندهم كما قال المرزة "جاني الكاشاني" أحد البابيِّين الأوائل: "إنَّ المقصودَ من الصلاة التكبيرُ والتحميدُ والتعظيم قولاً وفِعلاً لحضرة النقطة -أي: الشيرازي-، وهذا هو المفهوم لقولِ الأمير عليه السلام: "نحن الصلاة" .. " (¬1). ° والوضوء لا يكونُ إلاَّ بماءِ الوردِ والعِطر: "ولتُوَضّئنَّ كل هيكل الواحد بمثل طِيبِ مثل وردٍ لعلَّكم بين يَدَي يوم القيامة بماء الورد والعطر تدخلون" (¬2). ° وأباحوا تعرِّي النساء لأزواجِهن في الصلاة. ° وتأمر الديانة البابيةُ معتنقيها "إبقاءَ الأموات في البيت تسعةَ عشَرَ يومًا وليلة، وأن يُدفن في قبر من البلور أو المرمر المصقول". ° وتجبر البابيةُ الأراملَ اللائى تُوفِّي عنهن أزواجُهُنَّ، أو الذين تُوفِّيت عنهم زوجاتُهم أن لا يَصْبِرْنَ فوقَ خمسةٍ وتسعين يوما، ولا يصبرون فوقَ تسعين يوما مهما كان من الأمر، سواءً كنَّ يائِساتٍ أم حاملاتٍ أو شبابًا أو شابات .. وإن صبروا فوقَ ما كتب اللهُ عليهم أوْ هُن فوقَ ما قد كتب اللهُ عليهنَّ بعد ما يستطِعْنَ ويَقْدِرْن، أو يستطيعون ويقدرون، عليهم أن ينفقوا تسعين مثقالاً من ذهب، وعليهنَّ أن يُنفِقن خمسةً وتسعين مثقالاً من ذهب (¬3). ¬

_ (¬1) "نقطة الكاف" بتحقيق براؤن (ص 148) - طبع ليدن. (¬2) الباب العاشر من الواحد الثامن من "البيان" العربي. (¬3) الباب العاشر من الواحد العاشر من "البيان" العربى.

قتل الشيرازي نبي البابيين وإلههم

° والقِبلة عندهم فيها إبهام وغموض: فمرةً يقولون: إنها بيتُ الشيرازي، أو مستقر الشيرازي. ° والزكاةُ فيها مثلُ الغموضِ والإِبهام. ° وأما الصوم فهو "كَفُّ النفس عن كل ما لا يرضاه الشيرازي" (¬1). ° والشهر عند البابيين تسعةَ عشَرَ يومًا، والسَّنة تسعَةَ عشر شهرًا. ° والحجُ عندهم هو زيارة البابيين للبيت الذي وُلِد فيه الشيرازي أو البيت الذي عاش فيه، أو بيوت أصحابه الثمانيةَ عشَرَ "حروف الحي" والحجُّ مفروض عندهم على الرجال دون النساء. ويَحرُمُ على النساء لُبسُ النقاب، ويُجوِّزون نكاحَ الأخت .. إلى آخِرِ هذه التُّرهات والأباطيلَ والخرافات والخزعبلات (¬2). * قَتل الشيرازي نبي البابيين وإِلهِهم: أفتى علماءُ إيران بوجوبِ قتله، وتقرَّر تنفيذُ الحكم في صبيحةِ يوم إلإِثنين في السابع والعشرين من شعبانَ سنة 1266 هـ - الثامن من يوليو 1850 م، ولما عَلِم بذلك الشيرازي انهارت قواه، وأُسقِط في يده، وصار يبكي وينوح، وغَمَرَه الذهولُ العميق والشرود، حتى فَهِم أصحابُه في السجن أنَّ هناك أمرًا قد قُرِّر، ولكنهم ما أرادوا أن يسألوه. ° وبدأ يُردِّدُ هذه الأبيات: تروم الخُلدَ في دارِ المنايا ... فكم قد رام مثلُك ما ترومُ ¬

_ (¬1) "نقطة الكاف" (ص 148). (¬2) انظر "الشريعة البابية" من (ص- 197 246) من كتاب "البابية" لإحسان إلهي ظهير.

تنامُ ولم تنمْ عينُ المنايا ... تنبَّه للمَنِيَّة يا نؤومُ لهَوْتَ عن الفناءِ وأنت تفنى ... فما شيءٌ من الدنيا يدومُ ° ويَروي الكاشاني أنه قال في تلك الليلة أيضًا: "سيقتلوني صباحًا بالذِّلَّة والإهانة، فيا حبَّذا لو وُجِد مَن يقتلُني هذه الليلةَ في هذا السجن حتى لا أرى الذلةَ والمهانة من الأعداء، إنه لو فَعل أحدٌ من الأحبَّاءِ لكان عَمَلُه عين الصواب" (¬1). ° ولَمَّا استعدَّ لذلك المُلاَّ محمد علي الزنوزي المجنون، ارتعَد مرةً أخرى، وتراجع حينما رأى سَيْفَه مسلولاً، "وبدأ ينتحب ويبكي كما بكى أصحابُه وأتباعُه في السجن"، وكان يظن أن مربيه الروس والإنجليزَ سيحاولون كل الجهد لبقائه وإنقاذه من مخالب الموت، وفعلاً عمِلوا كل ما في وُسعِهم، وما آلَوْا جهدًا، ولكن لم يكن ليرد قضاءُ الله وقَدَرُه و"صباح ذلك اليوم طافوا بالشيرازي واليزدي والزنوزي في شوارع "تبريز" حيث نُقلوا هناك للإِعدام" (¬2). فأَغلقَ الناسُ دكاكينَهم، وصكُّوا متاجِرَهم، واندفعوا إلى الميدانِ الكبير الذي اختِير كساحةٍ للقتل، واحتَشَد هناك الرجالُ والنساءُ حتى لم يَبْقَ مَحِلٌّ في الميدان، فطَلَع الناسُ على سُطوح البيوت المُطِلَّة على الميدانِ وجُدرانها .. ولما رأى كاتبُ وحيه "حسين اليزدي" هذا المنظرَ الرهيب أخَذَه الرعبُ والخوفُ وبدأ يُمطِرُه سَبًّا ولَعنًا، ويتبرأ منه، ويَتَنكَّرُ للبابية، ويَرجعُ ¬

_ (¬1) "نقطة الكاف" (ص 246). (¬2) "نقطة الكاف" (ص 248).

إلى الإسلام، فأطلق سراحه. ° "وسيق الشيرازي والزنوزيُّ إلى محل الإِعدام، وَوُثِقا بحبلٍ من القنب المحكم بالعمود الغليظ الذي كان بجانب حُجرات الثكَنة العسكرية، فَرَبطوهما به، وعُلِّقا على ارتفاع من الأرض" (¬1). وكان البابُ الشيرازي خائفًا مرتعدًا مرعوبًا نادمًا، بينما كان صاحبه رابط الجأش، وكان مِن بين الحاضرين لهذا المشهد القُنصل الروسيُّ أيضًا، ولم يكن يائسًا حتى ذلك الوقت، وكان يَرى أن عَمَله وخُطّتَه ستُجدي، وفِعلاً كاد أن يَظفرَ وينجحَ في مقاصِدِه لولا قُدرةُ القادِرِ القَهار. ° فإنه "لما أَطلَقَ الجُندُ الرصاصَ، ودَوَّتِ البنادقُ في الفضاء، واغبرت الساحةُ بالدُّخَانِ الكثيف، رأى الناسُ بعد إنكشافِ الدخان قتيلاً واحدًا ممزَّقًا مضرَّجًا بالدماء، ولا أثر للثاني (الشيرازي) هناك، حيث أُحكمت الرصاصة إلى الحبل الذي كان الشيرازي مشدودًا به وقُطعت بالتدبير المدبَّر من قبل، فتهلَّل وَجهُ القُنصل ورفاقة لَمَّا كانوا هَيَّؤوا الأسبابَ لاختطافه من قبلُ وإخفائه في أحدِ المنازل التابعة للقيصرية، أو انقاذِه من الموت على الأقل حسب الدستور الرائج: أن الذي ينجو من الموت مرَّة لا يُعدَم ثانية. ولكنهم فشِلوا في المحاولتيْن، حيث لم يستطيعوا الذهابَ به إلى المكان المُمَهَّد له من قبل، والإشاعة بين الناس "أن المهدي لا يغلبه أحد ولا يَقتلُه أحد"، كما لم يتمكنَّوا مِن مَنْع جَرِّه إلى ساحةِ القتل مرَّةً أخرى، حيث قُبض عليه في مخبأه الذي اختبأ فيه هاربًا في ظلام الدُّخَان الكثيف في ¬

_ (¬1) "نقطة الكاف" (ص 248).

حجرته التي كان مسجونًا فيها على رواية البابيين، أو في المِرحاض الذي كان بجانبِ الحجرات للأسارى حسب رواية المسلمين. لأنَّ الجنود أحاطوا كل الحجراتِ والطُرق المؤديةِ إلى خارج الساحة، وما لَبِثوا بُرهة يسيرة إلاَّ وقد عَثُروا عليه" (¬1). واقتادوه إلى الساحة مرةً ثانية. ° وكان البابيون الموجودون هنالك بدؤوا يُذيعون ويُوسوِسون للناس: "أن الباب رَجع إلى غَيْبته، وارتفع إلى السماء، ولكنهم فشِلوا في تلك المحاولات، حيث وجدوه عاجلاً في إحدى الحجرات للثكنة العسكرية" (¬2). ° وبدأ ذلك الدَّعيُّ الزور، والكاذبُ على الله، والمدَّعي للألوهية والربوبية يرتمي في أيديهم وأرجلهم ويسألُهم الرحمة. ° وشرع في تحريضهم على تشيُّعهم والاستعطاف والاسترحام بقوله: "أنا ابنُ رسول الله فلا تظلموني، ولا تَعدموني، فاتقوا اللهَ، واستحيوا من الرسول، ولا تقتُلوا ابنَه، ولم أُذنب مطلقًا" (¬3). ولكن ما أثَّرَت فيهم صرخاتُه هذه حيث عَلَّقوه بالحبل من جديد، وغيِّر الجنود المرتشون، وجيء بالوِحدة العسكرية الأخرى، فما أطلقوا الرصاصَ إلاَّ وقد مَزَّق جسدَه وسَقط كُتلةً واحدةً لحمًا وعظمًا ودمًا، حيث اختَرق جِسمَه بِضْعٌ وعشرون رصاصة لم تخطيء منها واحدة، فانهار قنصلُ ¬

_ (¬1) "دائرة المعارف" لوجدي (ص 7، 8) نقلاً عن جوبينو الفرنساوي. (¬2) "دائرة المعارف" للبستاني (5/ 27)، و"نقطة الكاف" (ص 249). (¬3) "نقطة الكاف" (ص 249).

الروس "واعتلاه الغمّ والألم، وبدأ يبكي أسفًا وحسرةً من هول وقع هذه الكارثة" (¬1)، ولعدم نجاحِه في المحاولة الأخيرة لإنقاذِ عميله وآلةِ دولةِ الروس، وعدوِّ الأمة المحمديَّةَ -على صاحبها الصلاة والسلام-، وخَصْمِ شريعته السمحاء البيضاء التي ليلُها كنهارها. أمَّا المؤمنون فسُرُّوا باستئِصال هذه الفِتنة وشأفتها، وقتْل هذا المفترِي الكذَّاب، وأظهروا الفرحَ بذلك الحكم، وسبُّوا الشيرازي ولعنوه. ° "ورَبَط المأمورون الجثَّتيْنِ بالحبال، وجَرّوهما إلى المَيدان، وألقَوْهما في خندق خارج المدينة". ° "وبَقيَتْ جثتُه ونَعْش الزنوزي في ذلك الخندق ثلاثَ ليالٍ حتى أكلتهما الطيور الجارحة، ولَقَمَتْهما الكلابُ والسِّباع" (¬2). ° رَوى محمدُ مهدي الإيراني قال: "ذهب أبوه في اليوم الثاني بعد قتله، فوجد الكلابَ أكلوا من الشيرازي إحدى رِجليه وبعضَ الجسم" (¬3). ° وكان عُمر الشيرازي يومَذاك إحدى وثلاثين سنة وسبعةَ أشهر وعشرين يومًا على أصحِّ الأقوال وأدقِّها (¬4). فيا له من إلهٍ مسكينٍ!!! وربٍّ تَعِس جبان!!. ويا لَلدموع المسكوبة من خالقِ الكون ومالكِ الغيب والشهود!!. ¬

_ (¬1) "نقطة الكاف" (ص 249). (¬2) "دائرة المعارف" للبستاني (5/ 27). (¬3) "مفتاح باب الأبواب" تحت ذكر جثة الباب. (¬4) "البابية" لإحسان إلهي ظهير (ص 97 - 103).

مدعي النبوة: الملا محمد علي البارفروشي

ويا له من انهيارٍ وشرودٍ وذهولٍ عميق ليلةَ قتله، وفُقدانِه الشهامةَ والرجولةَ -التي لم تكن فيه يومًا ما- وحتى رَمَقِها الأخير!!. ويا له من أنينٍ تنبثقُ منه حقيقةُ شخصيته وكُنهُها!!. يا له من إله تأكلُه الكلابُ والسِّباع!!. * ولقد صَدَق الله -عز وجل- حيث قال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)} [الأنعام: 93 - 93]،وصدق الله مولانا العظيم. * مُدّعي النّبوَّة: المُلاَّ محمد علي البارفروشي: يلي في المرتبة بعدَ "زرين تاج قرة العين"، محمد علي البارفروشي عشيقُها وحبيبُها، عند البابيين، وكان له سيطرةُ عظيمة وتأثيرٌ كبير عليهم، حتى إنَّ البشروئي الذي لقِّب بـ "باب الباب" من قِبَل الشيرازي وأول المؤمنين به كان يحترمه ويعظمه ويَخضع أمامه ويخشع، "ويقف بين يديه كالعبد الذليل بين يدي طَلعةِ مولاه الجليل" (¬1). "وحتى الباب الشيرازي نفسه سَجَد له مرتين" (¬2). وُلد محمد علي هذا على فراش المِرزة مهدي البارفروشي أحد أعيانِ "الشيخية" في مدينة "بارفروش" من مقاطعة مازندران. ¬

_ (¬1) "نقطة الكاف" (ص 161). (¬2) "تاريخ البابية" (ص 209).

وكان ولد الزنا كما يصرِّح به أحد أتباعه المخلص والمبالغ في حبه "المرزة جاني الكاشاني" الذي كان من أوائل البابيين الذين قتلوا في هذا السبيل. ° يقول ذلك البابي في كتابه "نقطة الكاف" -وهو أول كتاب على الإطلاق في تاريخ وحوادث هذه الديانة، وخاصة من شخص بابي ومخلص كهذا-، يقول: "إن والدة القدوس لما زُفَّت إلى والده كانت حُبلى من ثلاثة أشهر، وبعد ستة أشهر من الزواج وضعت حملها، وأنجبت حضرته -أي: محمد علي القدوس- لذلك كان الأعداء يعرضون به، وينسبون إلى أمه التهمة، ويطعنون في نسبه، ولكن الأحباء والمخلصين يؤولون هذا بالخير ويعدونه معجزة، حكاية عيسى" (¬1). ° وليس هذا وحسب، بل أقر بذلك البارفروشي أمام الذي ولد على فراشه، حيث قال له مرة: "فاعلم أني لست بولدك .. بل أنا عيسى، وظهرت بصورة ابنك، واعترفت بأبوتك مصلحة" (¬2). ° ونقول للبابيين الذين يفتخرون بهذه المعجزة ويعدونها كرامة للبارفروشي: نعم هذه كرامة، ولكنها كرامة أمه لا كرامته هو. وكان شابًّا وسيما متألقا وجميلاً، وطموحا في المعلي، وحريصا في المناصب، ولكن وصمة العار كانت في جبينه، والكل كانوا يعرفون حقيقته وأصله، ولم يكن في وسعه أن يغسل هذا العار ما دامت "بارفروش" وأهلُها أحياءً. ¬

_ (¬1) "نقطة الكاف" (ص199) .. والمقصود أنهم يرونه كعيسى عليه السلام!. (¬2) المصدر السابق (ص199 و 200).

° "وكانت دراستُه دراسةً سطحيةً؛ لأنه لم يكن مِن بيتِ العلم والعلماء، ولكنه دَرَس بعضَ العلوم الدينية منها وغير الدينية، كعادةِ أبناءِ ذلك العصر". ° وكانت دراستُه أيضًا على الطريقة الشيخية، وكان من أصدقاء الُملاَّ حسين البشروئي وزملائِه مع التفاوت في السنِّ، فإن البشروئي كان أسن منه، ولَمَّا سَمع الملاَّ البارفروشي من البشروئي أن أحدًا من "شيراز" أعلنَ بابيته ويطلبُ منه -أي: البشروئى- أن يَجمعَ له أنصارًا ونقباءَ، فأدرك بذكائه أنَّ هذا المدَّعي ليس إلاَّ الشيرازي، فاعترف ببابيته بدون أدنى تأمل، قائلاً للبشروئي: "أعلم قطعيًّا وأقولُ يقينًا: إن المدَّعي ليس إلاَّ علي محمد الشيرازي"، ثم لُقِّب من قِبَله بـ "القدوُّس"، ولم يكن عمرُه آنذاك أكثرَ من واحد وعشرين سنةً، "وارتقى بعد ذلك إلى دعوى المهدوية والقائمية" (¬1). لقد وصل "القدوس" البارفروشي إلى النبوة والمسيحية (¬2). ° وادعى الزنيمُ الذي صار "قدوسًا" "أنه عيسى الذي وُلد بلا والد بقُدرة الله وإظهارًا للمعجزة الربانية" (¬3). ° ولَمَّا رأى البُلهاءَ أنهم صدَّقوه وصدَّقوا ذلك المجنونَ الذي أدَّعى الأُلوهيَّةَ والربوبية، ادعى ثالثةً "أنه هو رَجعةُ رسولِ الله نفسِه -عياذًا بالله-" (¬4). ¬

_ (¬1) "نقطة الكاف" (ص 201) وأيضًا (ص207) طبع ليدن. (¬2) "نقطة الكاف" (ص199، 207). (¬3) "نقطة الكاف" (ص 199). (¬4) "نقطة الكاف" (ص152، 153).

° ثم انهمك في الفسوق والفجور، وجَهر بالمنكر والفحشاء مع الباغية الطاغية "قرة العين"، وعاش معها عِيشةً فاجرةً مع زواجها من المُلاَّ محمد وعدم طلاقه إياها ظاهرًا، عيشةَ الدُّيوثة حيث يراها تلعبُ بهذا وذاك مع جَعلها إياه سيدًا لجسمها، ومالكًا لعِرضها، ويظهرُ من سيرته وحياته أنه كان غريقًا في الفجور إلى حدٍّ لم يكن ليفرِّق بين الرجالِ والنساء، وعباراتُ "نقطة الكاف" في كثير من المواضع تشيرُ إلى هذا، وخاصةً عند ذِكره وذِكر المِرزة "يحيى صبح الأزل": "لَمَّا رأى البافروشي المرزة يحيى، ورأى حُسنَه وجمالَه سُرَّ جدًّا، واستقبله استقبالاً حافلاً للغاية، وذهب به بعيدًا عن الأصحاب، وأظهر له لُطفَه ومودته، فحادثه مُدَّةً، وأنشأ خُطبةً في حُسنِه وجماله وأوصافه، وأخذ يُغنِّي بلحن يُحيي الأموات مِثل نفخ عيسى في الأرواح، وزَرعَ بَذْرَ حُبِّه في مزرعة قلبه، وخَطَّ وُدَّه على لوح فؤاده، وجَذَبه إليه بالنفحات السِّرية والعلنيَّة، وسقاه من خَمره النادر المؤثِّر، وجَعَله سَكرانًا أبد الدهر، ولم يرجع إلاَّ وقد ظهر على المرزة يحيى آثارُ الجمال والجلال مِن طلعته البهيَّة، ثم أرسله إلى الطاهرة؛ لتلعبَ به دورَها في دَورتها، وفعلت به ما فعلت" (¬1)!!!. ° كلُّ هذا باسم الدِّين الجديد؛ لأنه هو الذي طهَّره من ذلك العار، وجعل له مرتبةً ومقامًا "يحقُّ له أن يحرِّمَ الحلال ويُحِلَّ الحرام" (¬2). ومَن يكن هذا شأنُه، فما لَه وللحرام؟!. ¬

_ (¬1) "نقطة الكاف" (ص 241). (¬2) "نقطة الكاف" (ص 185).

قتل هذا النبي الدجال الدعي

وإن كان هناك فَرْقٌ بين الحرام والحلال، فلماذا الدِّينُ الجديدُ ونسخُ الشريعة الإِسلامية الحقة؟!. * قتل هذا النبي الدجَّال الدَّعِي: قتل هذا الزنيمُ بعد العذابِ الشديد بدلَ ما كان يفعل بالمسلمين، "ويأمر بنَصبِ رؤوسِهم على أبراج القلعة بعد قتلِهم خيانة وغدرًا" (¬1)، وبدل الشناعات التي ارتكبها هو وأصحابُه، فقُتل في مدينةِ "بارفروشَ، وأُحرقَ نعشُه، ورُمِي به في خرابةِ إحدى المدارس هناك، وذلك في أول رجب سنة 1265 هـ بعد حوادث قلعة الطبرسي، وكان عمره يومئذ سبعة وعشرين سنة. ° وكان هذا الدَّعِي قد تنبَّأ "سيرتفع البناءُ على قبره، ويأتي لزيارته الناسُ من البلاد البعيدة" (¬2). ° وقد تنبأ أيضًا البابُ الشيرازي بهذا، "أنه في المستقبل القريبِ سترتفع الأبنيةُ الرفيعة والضريحُ الكبير على قبره، ويأتي الناسُ فوجًا فوْجًا من كل العالم لزيارةِ ضريحه" (¬3). ° "وبكى عليه الشيرازيُّ تسعةَ عشَرَ يومًا كاملاً، وترك المطاعم، وأرسل شخصاً واحداً من أقربائه ليأتي ترابًا مِن تُربته هديةً له" (¬4). ¬

_ (¬1) "نقطة الكاف" (ص 177). (¬2) المصدر السابق (298). (¬3) "نقطة الكاف" (ص 209). (¬4) المصدر السابق.

أسد الله التبريزي الملقب بالديان

والحالُ أنه إلى يومنا هذا لا يُعرَف قبرُه دون البناءِ والضريح والأبنية الرفيعة، فكذَّب اللهُ الكذابين، وفيه عبرة لمن يعتبر. ° ولقد نقل مؤرِّخُ البابية "الكاشاني" عن المرزة حسين المازندراني البهائي "أن "القدوس" كان يُريد ادِّعاءَ شيء، ولكنه لم يُمهِله الأَجَل" (¬1). ° وفعلاً ادَّعى هذا الدجَّالُ "أن أصلَ النقطة والربِّ هو، وليس الشيرازي إلاَّ بابُه وداعيته" (¬2). ألا لعنةُ الله على الكاذبين!!. * أسدُ الله التِّبريزي المُلَقَّب بالديان: ° "هو الذي أرسله الشيرازيُّ إلى المرزة يحيى، ونَصَّبه على مَنصِبِ كاتب وحيه -أي: وحيِ صبح الأزل-، وكان عارفًا باللغة العبرية والسريانية" (¬3). ولَمَّا رأى هذا جَهْلَ النوريِّ "صبح الأزل" وعدمَ معرفتِه بالعلوم ومُسايرةِ الأمور وعجزَه عن إدراك الحقائق، ظن أنَّ أمَلَه قد خاب. ثم رأى أن يدَّعيَ بنفسه بدلَ أن يكتفيَ على كتابةِ آياتِ ذلك الجاهل الذي هو دونَه بكثيرٍ في اختراع الآيات وافترائه على الله. ° فادَّعى وهو في بغداد بأنه هو الذي أخبَرَ بظهوره الشيرازي "أن مَن يُظهرُه الله سيظهرُ قريبًا". فقال: أنا هو .. "فناظره المازندراني المرزة حسين علي البهاء وجادله، وطَلَب منه أن يرجعَ عن دعواه، ولكنه لَم يرجع ولَم ¬

_ (¬1) "نقطة الكاف" (ص 200). (¬2) "نقطة الكاف" (ص 207). (¬3) مقدمة "نقطة الكاف".

ذبيح البابي

يَرْضَ، فقَتَله البابيُّون وأغرقوه في شَطِّ العرب بعد أن أوثقوا برجلَيهِ الحَجَرَ الثقيل" (¬1). وكان أتباعُه يُسمَّون "الأسديون". * ذبيح البابي: ° ادَّعى المَظهريَّةَ والنبوَّةَ طفل مدلَّلٌ ومراهقٌ جَميل "ذبيح"، وكان حُلوانيًا، ولَم يبلغ السابعةَ عشَرَ من العمر، "وكان طَلعةُ جمالِه جَذابةً للغاية، وحُسنُه محييًا للأموات، وقَدُّه كالغصن في الطول، وعيناه المباركة كأنها عينُ الله الناظرة، وحواجبُه كالقوس، وأُذناه اللطيفة كسمع الله، ولسانُه الحلوُ كلسانِ الله الناطق، وكان يَقتلُ ويصطادُ الناسَ بلحظاته، فمِشيتُه العزَّة لله، ونظرُه جذبُ الله، وسكوتُه الحِكمة، وتكلُّمه الرأفة، ووقوفُه القيامة، وحركتُه إيجادُ العوالم البديعة، فسبحان اللهِ ما أجمله، والشمس تخجلُ من لَمَعانِ بهائِه وجماله، فاللسان أعجزُ مِن أوصافه ونعوته" (¬2). وليس هذا من الشِّعر الغَزَلي، ومن أبيات ليلى والمجنون، وجميل بُثينة، وكُثيِّر عزة، بل هي نصوصٌ أثبتها البابي القتيلُ المرزة جاني الكاشاني في كتابه التاريخي "نقطة الكاف". فمَن كان هذا وصفُه وشأنُه لا بدَّ وأن يكون نبيًّا ووسولاً!!. فادَّعى النبوَّةَ والرسالةَ أولاً، ثم الألوهيةَ والربوبيةَ، ومِثل الشيرازي ¬

_ (¬1) مقدمة "نقطة الكاف"، وانظر "البابية" لإحسان إلهى ظهير (ص 279). (¬2) "نقطة الكاف" (252، 253).

بصير الهندي -لعنه الله-

حَذْوا بحذوٍ، ونعلاً بنعل قائلاً: "إنني أنا اللهُ لا إلهَ إلاَّ أنا"، وتبعه بعضُ البابيين (متأثِّرين من حُسنه وجماله). وخالفه الأكثرون، ومَنعوه جبراً وقهراً بأن لا يُظهِرَ دعاويه أمامَ أحد" (¬1). وكان هذا في السَّنة الثانية بعدَ قتل الشيرازي. * بَصيرُ الهندي -لعنه الله-: كان رجلاً أعمى سَمَّاه المِرزة يحيى "بصيراً"، واشتُهر بعد ذلك باسم "السيد بَصير الهندي"، ومكث طويلاً عنده وعند أخيه حسين علي. ° وأنزل فيه المِرزة يحيى آياتٍ: "أن يا حبيبُ قد اصطفيناك بين الناس"، وأنزل آيةً "باسمه الأبصر الأبصر" (¬2). فغرَّته تلك الألقابُ الفارغةُ التي أُعطِيَت للبابيين بكلِّ جُودٍ وسخاء، وادَّعى أخيراً أنه هو أيضاً مَن يُظهره الله، "فاعتَنَق دعاويه ناسٌ من البابية بأصفهانَ وغيرها من المُدن الأخرى بإيران" (¬3). * ودَجَّالون كاذِبون آخرون ادَّعوا النُّبُوَّة: ادَّعى آخَرون دَجَّالون كذَّابون مِن زعماءِ البابية النُّبوَّة: "المِرزة عبد الله الغوغا، وحسين الميلاني، والسيد حُسين الهندياني، وآغا محمد الكردي وغيرهم، ادَّعى كلّ واحدٍ مِن هؤلاء النبوةَ والرسالةَ والمظهرية" (¬4). ° وحتى المِرزة زرندي المعروف بالنبيل صاحب كتاب تاريخي بهائي ¬

_ (¬1) "نقطة الكاف" (ص 255)، وانظر "البابية" لإحسان إلهى (ص 279 - 280). (¬2) "نقطة الكاف" (ص 258). (¬3) "دائرة المعارف للمذاهب والأديان" (2/ 302). (¬4) مقدمة "نقطة الكاف" لبراؤن ص "م" طبعة ليدن 1910 م.

صبح الأزل خليفة الشيرازي وزعيم "الأزلية"

"مطالع الأنوار" أيضًا ادعى بهذه الدعوى، حتى قال الشيخ أحمد الكِرماني البابي الملقب "بروحي أزلي": "وصل أمرُ الادعاءات إلى هذا الحدِّ بأنه ما كان أحدٌ يقومُ صباحًا ويستيقظُ مِن نَومه إلاَّ وقد بين نفسَه بهذه الدعوى" (¬1). * صُبح الأزل خليفة الشيرازي وزعيم "الأزلية": كان من أتباع الشيرازي الباب علي محمد أخوانِ لأبِ المرزة يحيى النوري والمرزة حسين علي النوري .. آمَنَ يحيى النوريُّ بالشيرازي، وكان عمرُه يومَذاك ستةَ عشَرَ أو سبعةَ عشَرَ عامًا" (¬2). حَضَر مؤتمر "بدشت" الذي نُسخ فيه الإسلام، وأحبته قُرة العين الداعرة. ° يقول "براؤن" وهو يَذكُره: "إن الشيرازي أحبه لتقشُّفه وزُهده وانهماكه في تبليغ الديانة البابية، وجمالِه وعُمرِه كالبارفروشي وشاعرة قزوين "قُرَّة العين" حتى بعد قتل البارفروشي وهلاك البشروئي والدارابي في السنة الخامسة من دعواه لقبه الشيرازيُّ بـ "صُبح الأزل"، ليجعلَه مِصداقًا لتلك الرواية الشيعية -الموضوعة-: نور أشرق من صبح الأزل، فيلوح على هيكل التوحيد آثارُه" (¬3). وجمَع الشيرازي مكتوباتِه وخاتَمَه ولباسَه ومَقْلَمَته ومخلَّفاته في جُعبةٍ، وأرسَلها مع مفتاحِها إليه، وأمَرَه أن يُتمَّ "البيان" بكتابةِ الأوحاد ¬

_ (¬1) مقدمة "نقطة الكاف" ص "م"، و"مقالة سائح" تعليق براؤن (ص357، 358). (¬2) "نقطة الكاف" (ص 39). (¬3) مقدمة "نقطة الكاف" ص "لد".

الثمانية التي تركها لخليفته، ونصَّ على أنه لا يُكمِلُها إلاَّ وَصِيُّه ووليُّه، كما نصَّ على خلافتِه في ورقةِ الوصية التي خَتَمها بخَتمِه، وأرسلها إليه أيضًا بتوقيعه قال فيها: "الله أكبر تكبيرًا كبيرًا، هذا كتابٌ من عند الله المهمين القيومُّ إلى الله المهيمن القيُّوم، قل كلٌّ من الله مبدؤون، قل كل إلى الله يعودون، هذا كتاب مِن علي قبل نبيل (¬1) ذِكرُ الله للعالمين إلى مَن يَعدلُ أسمُه اسمَ الوحيد (¬2). ذِكر الله للعالمين، قل كلٌّ مِن نقطةِ البيان ليبدؤون أنْ يا اسمَ الوحيد فاحفظْ ما نزل في البيان، وأمر به، فإنك لصراط حق عظيم" (¬3). واتَّفق جميعُ المؤرِّخين على أن المرزة يحيى كان وصِيًّا للباب وخليفتَه بلا نزاع كائنٍ بين البابيين، ولم تختلف فيه اثنان. وقد أعترف عباس أفندي الملقب "بعبد البهاء" نبيُّ البهائيين وابن ربِّهم المرزة حسين علي البهاء في "مقالة سائح" بأن أصل الوصيِّ والخليفة للشيرازي كان صبح الأزل لا أباه (¬4). وبعدَ الخلاف بينه وبين أخيه البهاء المازندراني كان كبارُ "البابيين"، وبقيةُ السيف من "حروف الحي" معه .. ومات هذا اللعينُ عن عمر يناهز "82" سنة. ¬

_ (¬1) معناه علي قبل محمد يعني به علي محمد؛ لأن نبيل عدده عدد محمد حيث الحروف الأبجدية. (¬2) يعني به يحيى؛ لأن عدد الوحيد يُطابق عدد يحيى بحساب الحروف الأبجدية. (¬3) مقدمة "نقطة الكاف" ص "لد" و"له" و"نقطة الكاف" (ص 244). (¬4) "مقالة سائح" (ص 55).

بهاء الله المازندراني، مؤسس "البهائية"

وألف كتبًا عديدةً، منها "تكملة البيان الفارسي" -حسب وصيةِ الباب الشيرازي-، و"المستيقظ"، و"آثار الأزلية"، و"أحكام البيان"، و"ألواح أزل"، و"رياض المهتدين"، و"صحائف الأزل"، وكتاب "النور"، و"مرآة البيان"، وكتاب "الهياكل". وأشهرها "المستيقظ" الذي يظنون فيه أنه ناسخٌ للبيان، كما كان "البيان" ناسخًا للقرآن. والأزليُّون تفرَّقوا بعد موت يحيى، ولبُعدِ الدار انقطعت الروابطُ بينه وبين البابيين، حتى إن ابنَه الكبير تنصَّر، ومات بقيَّتُهم في الفقر والإِفلاس (¬1). * {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} (¬2). * بَهاءُ الله المازندراني، مُؤَسِّس "البَهَائِيَّة": وُلدِ هذا الكذَابُ الملعون في قرية "نور" من قرى المازندران بطَهْرانَ من إيرانَ سنة 1817 م (1233هـ)، وفي عام 1260 هـ (1844 م) - لَمَّا أعلن البابُ الشيرازي دعوتَهَ اعتَنق المِرزة حسينُ بن عليٍّ البهاء أَمْرَ الدِّينِ الجديد بشجاعة، وكان إذ ذاك في السابعةِ والعشرين من عمره. ولم يدخله الشيرازيُ في "حروف الحيِّ" -أي: خاصَّته- وإن أدخل ¬

_ (¬1) دائرة "المعارف الأردية" و"البابية" لإحسان إلهي ظهير (ص278). (¬2) كل ما كتبناه عن "طائفة البابية" إلى هنا مُلَخصٌ عن كتاب "البابية" للشيخ إحسان إلهي ظهير -رحمه الله- وأجزل له المثوبة.

أخاه الأصغر "صبح الأزل" في عداد هؤلاء (¬1). واستطاع البهاءُ البروزَ في "مؤتمر بدشت" المعروف في تاريخ البابيَّة، حيث تمكَّن من الوصول إلى "قرة العين" غانية البابييِّن، وزعيمتِها الأولى، والتقرُّبِ إليها، وتأييدِه المطلَق لها بكلِّ ما تريدُه من الفِسق والفجور وهَتكِ الأعراض، وكسرِ الحدود الشرعية، والقِيَم الرُّوحية، وفوقَ ذلك نَسخُ شريعة الله التي تَفرِض على الناسِ هذه الحدودَ حفاظًا على شرفِ الإنسانية وكرامتِها. ولَمَا قام الهياجُ وتعالت الأصواتُ على مُنكرات قرَّة العين في "مؤتمر بدشت" وتَجَرُّئِها على القول بنسخ الإسلام، أيَّدَها حَسين علي البهاء بكل قوةٍ وصرامة، ففتح المصحفَ وقرأ منه سورةَ "الواقعة"، وفسَّرَها يُؤَيِّد ما قالته قرَّة العين ويُصوِّبها، وكتب بعد ذلك إلى الباب الشيرازي بـ "ماه كو" يطلبُ منه الفصلَ في القول، فوافق الشيرازي قرَّة العينَ وحسينَ علي وعصابتَهما القائلين بنسخ الإسلام. ° ويُصرِّحُ المؤرِّخُ البهائي: "أن قُرَّة العين تأثرت بحسين علي بعدما لَقِيَته وعَرَفَتْه إلى حَدٍّ لم تكن تأمرُ بشيء أو تفعلُ فَعلةً إلاَّ بعد إذنٍ منه". فبها وبواسطتها وعلى عِرْضِها، بني عمارةَ عزِّه وجاهِه، والجديرُ بالذكَرِ والطريفُ أنَّ لقب "بهاء الله" منحته قرَّةُ العين له، خلافَ مشاهير البابيَّة الآخرين، فإنهم كلَّهم أو جُلَّهم، ما منِحوا ألقابَهم إلاَّ مِن قِبَل الباب الشيرازيِّ نفسه، أما البهاء، فمنحته هذا اللقبَ قرَّةُ العين، وخلعته عليه، ¬

_ (¬1) "نقطة الكاف" للمرزه جاني الكاشاني ص (239، 240).

عمالته

ورَوَّجته بين الناس، ولقد اعترف بذلك أول مؤرِّخ بابي بهائي في كتابه التاريخي"الكواكب الدُّرِيَّة في مآثر البهائية"، حيث ذَكَر "أنَّ أوَّل المتفوِّهين بكلمةِ "بهاء الله" كانت قرَّةُ العين" (¬1). والجدير بالذِّكر أن سفير روسيا الصليبيَّة آنذاك "كنياز دالغوركي" سهم عمليًّا في تكوينِ وتخليقِ الديانة البابية والبهائية كما هو واضحٌ في مذكِّراته التي نشرتها مجلة سوفياتية "الشرق" سنة 1924 م. * عمالته: ° وعندما اعْتُدِي على الشاه مِن قِبَل "المُلاَّ شيخ علي" تدخل السفير الروسي "كنياز" لتبرئة البهاء، واعترف البهاءُ بذلك، فقد قال في كتابه "سورة الهيكل": "يا ملكَ الرُّوس .. ولما كنتُ أسيرا في السلاسل والأغلال في سجن طهران نَصَرني سفيرك" (¬2). بلَ وسارعت الحكومةُ الروسيةُ بتقديم الجنسيَّةِ الروسية، وحضورِ مندوبِ السفارة الروسية عند استجوابه، وتدَّخل السفيرُ الإِنكليزي لصالحه. ومما لا شكَّ فيه أنَّ المازندراني وابنَه عباس أفندي أفادا الإِنجليز في الإطاحةِ بالخلافة العثمانية، وساعداها على الاستيلاء على البلاد العربية، وفلسطينَ على الوجه الأخصِّ. ¬

_ (¬1) "الكواكب الدرية" لآ وازه (138)، انظر "البهائية" لإحسان إلهي ظهير (14) - دار ترجمان السنة بلاهور بباكستان. (¬2) "سورة الهيكل" للمازندراني المندرج في كتابه "لوح ابن ذئب" (ص42) - طبع باكستان بلاهور بباكستان.

° "ولقد اعترف الداعيةُ البهائي "اسلمنت" بكلِّ وقاحةٍ وفضاحة بما فعله نبيُّ البهائيَّة عباس عبد البهاء، وفرحِه باحتلال بريطانيا بـ "حيفا" وطردها للأتراك، وإنعامِ الإمبراطورية البريطانية عليه بنيشان فرسان الإِمبراطورية البريطانية في احتفالٍ وقع في حديقة الحاكم العسكري بـ "حيفا" في 27 أبريل سنة 1920 م" (¬1). ° أما خيانُته للإِسلام والمسلمين في فلسطين، وإغداقِ العطاءِ الفاحش عليه من اليهود، فذلك متواترٌ يعلمه القاصي والداني. ° والبهائيةُ مبنيةٌ على البابيِّة ومؤسَّسةٌ عليها، وكان البابُ الشيرازي يكثِرُ من ذِكرِ مَن يأتي بعده الذي يُعَبِّر عنه بـ "مَن يظهره الله" أي شخصًا يظهره الله برسالته ونبوَّته بعده، حَسبَما كان يعتقد بأن النُّبُوَّةَ والرسالةَ ما انقطعت على يد سيِّد الخلق وأفضل البشر محمدٍ الصادق الأمين - صلى الله عليه وسلم - رسول الله إلى الناس كافةً، بل يتسلسلُ بعده مجئ الرسل والأنبياء، فهو نبيٌّ بعدَه حسبَ ظنِّه ووهمه ووحي الشيطان، وبعده أيضًا سيأتي الأنبياء، ومَن يأتي بعدَه يكونُ ناسخًا لديانته "البابية"، وكتابُه يكون ناسخًا "للبيان" كتاب الشيرازي، كما كان "بيانه" ناسخًا للقرآن، وعلى ذلك بدأ ينصحُ أتباعَه وأُمَّته أن يؤمنوا به حين ظهوره وبَعثتِه وألا يؤذوه مطلقًا. ° فيقول في "بيانه العربي" بعبارته المعقدة الرديئة لغةً ومعنًى ما نصُّه: "الثالث: ما أنتم مِن ملك تورثون .. لتؤمِنُنَّ بمن يُطهِرُه اللهُ ثم بآياته لتوقنون" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "بهاء الله والعصر الجديد" (ص 70). (¬2) الواحد العاشر، الباب الثالث من "البيان العربي" للشيرازي.

° وقوله: "إن "البيانَ" ميزانُ الحق إلى يوم مَن يظهرُه الله .. وإن قيامةَ البيان تقومُ يومَ ظهورِ مَن يظهره الله" (¬1). وبعد قتل علي محمد الباب الشيرازي، ادعى كثير من البابين أنهم "مَن يظهره الله" مِثل المرزة أسد الله التبريزي الملقب بالديان، والمرزة عبدِ الله الغوغاء، وحسين الميلاني المعروف بحسين جان، وسيد حسين الهندياني، والمرزة محمد الزرندي الملقَّب بـ "النبيل"، حتى قال الشيخ أحمد الكِرماني البابي في كتابه "هشت بهشت" (الجنات الثمانية): "وصل الأمر إلى حدِّ أن كلَّ مَن كان يقومُ من النوم صباحًا كان يُزيَنُ جسدَه بلباس هذا الادِّعاء .. أي أنه مَن يُظهره الله" (¬2). وبعد وصيةِ الباب لصبح الأزل نازعه أخوه البهاءُ بعد أنْ أقرَّ وسَلَّم له، إلاَّ أن هذا الملعونَ البهاء ادعى بايعازٍ من المرزة "آقاجان الكاشي" بأنه هو "من يظهره الله" الذي بشَّر به الباب الشيرازي في كتبه وألواحِهِ سنة 1279 هـ يوم الأربعاء ثالث ذي القعدة الموافق 21 أبريل 1863 م في حديقة نجيب باشا خارج بغداد حسب قول "اسلمنت" و"الحسني"، وسنة 1280هـ، على قول النبيل المورخ البهائي، وعلى قول حسين علي كما سيأتي، وسنة 1283 هـ في "أَدِرْنة" حسب تحقيق المستشرق "براؤن" (¬3). وهذا ما يؤكده "جولدزيهر" (¬4) و"بروكلمان" (¬5). ¬

_ (¬1) الباب السادس والسابع من الواحد الثالث من "البيان" الفارسي. (¬2) "هشت بهشت" للكرماني نقلاً عن "مقدمة نقطة الكاف" لبرؤان. (¬3) مقدمة "نقطة الكاف" ص مج ومد. (¬4) "العقيدة والشريعة" لجولدزيهر (ص 144). (¬5) "تاريخ الشعوب الإسلامية" لبروكلمان (3/ 165).

° وعلى كلٍّ يُخبر عن هذا الادعاء "اسلمنت" الداعية البهائي: "صَدَر أمر الحكومة التركية باستدعاء بهاء الله إلى "الأستانة" بناءً على طلب الحكومة الإيرانية، وبعد جملةِ مخابراتٍ معها، ولَمَّا وَصلت هذه الأخبارُ وقع أحبَّاؤه في اضطرابٍ، إذ حاصرت الدولةُ منزلَ رئيسِهم المحبوبِ، لدرجةِ أن أُسرته اتَّخذت حديقةَ نجيب باشا خارج المدينة مقرًّا لهم مدةَ اثني عشَرَ يومًا ريثما تتجهَّزُ القافلةُ للسفر الطويل، وفي اليوم الأول من هذه الاثني عشر يومًا-21 أبريل سنة 1863 م لغايةِ 3 مايو سنة 1863 م -أي في السَّنة التاسعةَ عشْرةَ بعد ظهور دعوةِ الباب بَشَّر بهاءُ الله الكثيرين من أتباعه بأنه هو الموعود الذي أخبر عنه البابُ وسمَّاه بـ "من يظهره الله" وأنه هو الموعودُ أيضًا من جميع الأنبياء السابقين، وقد عُرِفت تلك الحديقةُ التي أُعلنت فيها الدعوة بـ "حديقة الرضوان"، وعُرفت الأيام التي قضاها بهاء الله فيها بـ "بعيد الرضوان" .. " (¬1). ° ويقول المازندراني نفسه مخاطبًا البابيين: "انظروا بعينِ الإنصاف إلى مَن أتى من سماء المشية والاقتدار، ولا تكونُنَّ من الظالمين، ثم اذكروا ما جرى من قلم مبشِّري في ذِكرِ هذا الظهورِ وما ارتكبه أُولو الطغيان في آياته، إلا أنهم من الأخسرين" (¬2). ° وأيضًا: "يا ملأ البيان اتَّقوا الرحمن". ° ثم انظروا ما أنزله في مقامٍ آخَرَ، قال: "إنما القبلةُ مَن يُظهره الله، ¬

_ (¬1) "بهاء الله والعصر الجديد" لاسلمنت (ص37). (¬2) "الأقدس" للمازندراني.

متى يَنقلب تنقلب إلى أن يستقرَّ، كذلك نَزَل مِن لدُن مالكِ القَدَر إذا أراد ذكر هذا المنزل الأكبر، تفكَّروا يا قوم ولا تكونُنَّ من الهائمين، لو تنكرونه بأهوائكم إلى أيَّةِ قِبلةٍ تتوجَّهون يا معشر الغافلين .. ليسر لأحدٍ أن يتمسَّك اليومَ إلا بما ظَهَر في الظهور، هذا حكم الله من قبلُ ومن بعدُ وبه زَيِّن صحفَ الأولين .. مَن عرفني فقد عَرف المقصود، ومَن توجَّه إليَّ قد توجَّه إلى المعبود، وكذلك فُصل في الكتاب وقضي الأمر من لدى الله رب العالمين" (¬1). ° و: "يا ملأ البيان أُقسِمُكم بربِّكم الرحمن بأن تَنظروا فيما نزل بالحق بعين الإنصاف ولا تكونن من الذين يرون برهان الله وينكرونه، ألاَ إنهم من الهالكين، فقد صرح نقطة البيان في هذه الآية بارتفاع أمري قبلَ أمره، يشهدُ بذلك كلُّ منصفٍ عليم، كما ترونه اليومَ أنه ارتفع على شأن لا يُنكره إلاَّ الذين سَكِرت أبصارهم في الأولى وفي الأُخرى لهم عذاب مهين، قل تالله إني لمحبوبه والآن يَسمعُ ما ينزلُ من سماءِ الوحي، وينوحُ بما ارتكبتم في أيامه، خافوا اللهَ ولا تكونُنَّ من المعتدين، قل يا قوم إنْ لم تؤمنوا به لا تعترضوا عليه، تالله يكفي ما اجتمع عليه من جنودِ الظالمين" (¬2). ° وأطال قولَه حولَ دعواه هذا في كتابه "لوح ابن ذئب"، وأورد جميعَ أقوال الشيرازي عن "من يظهر الله"، وطَبَّقها على نفسه، وأثبت أنه هو المقصود منها. ° وقال في إحدى ألواحه: "إن حضرة المبشِّر "أي: الشيرازي" روحُ ¬

_ (¬1) "الأقدس" للمازندراني. (¬2) "الأقدس" للمازندراني.

ما سواه، فَدَاه بَشَرُ سَنَةِ سِتِّين بالروح الجديد، وفاز العالَم سنةَ ثمانين بالنور الجديد والروح البديع" (¬1). ومثله كثيرٌ في جميع كتبه وألواحه يطولُ بذِكره الكلام. ° وخلاصةُ القول: إن المازندراني البهاء ادَّعى وقال: "إنه هو مِصداقُ بشائرِ الشيرازي وأقوالِه، وإنه هو مَن يُظهِرُه اللهُ، ولأجل ذلك تلقَّب بالبهاء، حيث الشيرازي علي محمد الباب كان يلقِّبُ مَن يظهره الله بهذا اللقب، ويُكثِرُ استعماله في كلامِه بمناسبة أو بدون مناسبة". ° وقَطعُ النظر عن حقيقة هذا الادِّعاء وحقَّانيته في نفس الأمر نقول: "هذه أُكذوبة أخرى كبيرة عن البهائيين وبهائهم، ونتحيَّرُ كيف يَجترأُ على مثل ذلك رجلٌ يدَّعي النبوةَ والرسالة -بل الألوهية والربوبية-؟! مِع أنها لا تُتصوَّرُ من رجلٍ عاديٍّ سُوقيٍّ عامِّيٍّ؛ لأن كلام الشيرازي عن "من يظهره الله" كلامٌ واضحٌ لا غُبارَ عليه، حيث إنه وقتما يُبشِّرُ ويُخبِرُ عنه، يُعلن ويعرفُ وقتَ ظهوره أيضًا، كما أنه يبيِّنُ ببيانٍ واضحٍ وجَليٍّ أنه لا يَظهرُ إلا بعدما يَكمل دينُه "البابية" ويعتنقُه أكثر أهل العالَم، وخاصةً بعد دخول إيران كلِّها فيه، وليس هذا فحسب، بل إنه يُحدِّدُ التاريخَ كي يكونَ الناسُ على معرفةٍ وبصيرةٍ تامة. ° فيقول الشيرازى في بيانْه الفارسي ما معناه: "كل الأديانِ لا تقومُ قيامُتها إلا بعد وصولها درجةَ الكمال، فلمَا بَلَغ دين موسى هذه الغايةَ قامت قيامتُه ببعثة عيسى، وشريعة عيسى عند وصولها الغاية والعُروج ¬

_ (¬1) "لوح العالم" للمازندراني.

الحقيقي قامت قيامتُها ببعثةِ رسول الإسلام، وبعد 1270 سنة على وصولِ الإسلام غاية الكمال قامت قيامتُه بشجرةِ الحقيقة وشجرةِ البيان "أي: نفسه" في سنة 1280هـ؛ لأن الشيءَ ما لم يَبلغْ كمالَه ومنتهاه لا تقوم قيامتُه، وقيامة البيان تقوم يومَ ظهورِ مَن يُظهِرُه الله بعد وصولِه غايتَه القصوى وحَدَّه الأعلى" (¬1). ومعناه أن مَن يُظهره الله لا يَظهرُ إلا بعد وصول دينِ الباب حدَّ الكمال واعتناقِ العالَم كلِّه أو جُلِّه إياه والتشبثِ بأذياله، لأنه -حَسْبَ قوله- لا تقومُ قيامةُ دينٍ ومذهبٍ إلا بعدَ وصولِه منتهى الرُّقي والتقدُّم والازدهار، ولأجل ذلك كان يتنبأُ أن إيرانَ يومًا ما ستعتنق البابية، وأن مُلوكَ العالَم يَحكمون بشريعتِه كما هو ظاهرٌ من تعليمات "البيان" وكتبه الأخرى، وهذا لم يحصلْ إلى هذا اليوم فضلاً عن ذلك اليوم الذي ادعى فيه دعواه زعيمُ البابية وأحد تلامذةِ الباب المِرزة حسين علي المازندراني. وأكثر من ذلك أن الباب الشيرازي صرَّح أيضًا بأن عُروجَ دين البيان وكمالَه وثُمَّ قيامَتَه لا يكون إلاَّ بعد ألفَيْ سنةٍ تقريبًا، كما قال في البيان الفارسي (¬2). ° وثَبَت من كلام الشيرازي إلهِ البابية الكذاب أنَّ "مَن يظهرُه الله" -حسب زَعمه- لا يَظهر إلاَّ بعدَ 1511 سنة على الأقل، أو 2001 سنة على الأكثر -كما جاء في بيانه الفارسي والعربي-، غيرَ أن المِرزة حسين علي أحدَ تلامذة الشيرازي لم يَصبر على هذا أكثرَ من عشرين سنة، وكَذَب على ¬

_ (¬1) انتهى ملخصًا من الباب السابع، الواحد الثاني من "البيان" الفارسي للشيرازي. (¬2) "البهائية" لإحسان إلهي ظهير (ص 291 - 294).

لعنة الله على البهاء

أستاذه، حديث نسَبَ إليه بأنه ظهر مِصداقَ بشائِرِه وأخبارِه، مع أنه لم يكن وحيدًا من الذين ادَّعوا هذه الدعوى. فالرجلُ ليس بكذَّابٍ وخَدَّاع عند المسلمين فحسب، بل إنه لَكذَّابٌ عند البابيِّين أيضًا، حيث كَذَب عليهم وعلى زعيمهم الذي هو ربُّهم. فهذا هو الكَذَّابُ الكذوب، ربُّ البهائية ومؤسِّسُ دينِهم. ° وكِذْبةٌ أخرى كبيرةٌ مِثلُ سابقتها، وهي أن حُسين علي المازندراني البهاء بعدما ادعى أنه "مَن يظهره الله" "أي: النبي" الذي بَشَّر عنه عليُّ محمد الشيرازي الباب، تقدَّم خُطوةً أخرى وقال: إنه هو الذي أنزل "البيان" على "الباب" وما هو إلاَّ وحيُه هو ومُرسِلُه نفسُه، فيقول: "قد نزَّلنا البيان وجعلناه بِشارةً للناس؛ لأن لا يَضِلُّوا السبيل، فلمَّا أتى الوعدُ وظَهَر الموعودُ أعرضوا إلاَّ الذين ترى في وجوههم نَضرةَ النعيم، إذا قيل لهم: بأيِّ حُجةٍ آمنتم بالله؟ يقولون "البيان"، فلمَّا جاءهم مُنزِلُه "يعني نفسَه" كفروا بالرحمن، ألاَ إنهم هم الخاسرين، قل البيان نزل لنفسي، وزُيِّن بذِكري لولا ظهوري ما ظهر حرف منه" (¬1). وفي موضعٍ آخَرَ مِن "الأقدس" كتابه المقدس ينسبُه إلى الشيرازي، فهذا هو الكذبُ الناطق الصارخ، وهذا هو ربُّ البهائية المدَّعي النبوةَ والرسالةَ، بل وللألوهية والربوبية كما سنبين. * لعنة الله على البهاء: ° لما وَجَد الكذَّابُ البهاءُ أن خُزعبلاته قد لاقت القبولَ من البابيِّين ¬

_ (¬1) "المبين" للمازندراني (ص 4).

الجهلةِ، انتقل مِن ادِّعاءِ النُّبوَّة ونزولِ الوحي إليه إلى القول بأنه هو الذي أَخبر بمجيئِه جميعُ الأنبياء والرسل: "وفي ليلةٍ من الليالي في عالم الرؤيا سمعتُ هذه الكلمةَ العليا من جميع الجهات: إنا ننصرُك بك وبقلمِك، لا تحزنْ عما وَرد عليك ولا تَخَف، إنك من الآمنين، سوف يبعثُ اللهُ كنوزَ الأرض وهم رجالٌ ينصرونك بك وباسمك الذي به أحيا الله أفئدةَ العارفين" (¬1). ° و: "استمِعوا مَن الذي يدعوكم تحتَ السيف إلى الله العليم الحكيم، هل الذي يدعوكم في غَمَرات البلايا ينطقُ عن الهوى، لا وربِّكم العليِّ الأعلى .. كذلك أشرقت عليك شمسُ البيان مِن أُفق الوحيِ لتكونَ مطمئنًا بفضل ربِّك الرحمن" (¬2). ° وأيضًا: "سبحان الذي نزَّل الآياتِ بالحقِّ في هذا السِّجن الذي جَعَله اللهُ النظر الأكبر، تنزلُ فيه ملائكة الله الأمر في العشيِّ والإشراق" (¬3). ° ويكتب في رسالته التي أرسلها إلى الشاه ناصر الدين القاجار: "يا سلطان، إني كنتُ كأحد من العباد، وراقدًا على المِهاد، مرَّت عليَّ نسائمُ السبحان، وعلَّمني عِلمَ ما كان، ليس هذا من عندي، بل من لدُن عزيزٍ عليم، وأمرني بالنداء بين الأرض والسماء بذلك، ورد عليَّ ما ذَرَفَتْ به عيونُ العارفين .. هذه ورقةٌ حرَكَتْها أرياح مَشِيَّةِ رِبِّك العزيز الحميد .. قد ¬

_ (¬1) "لوح ابن ذئب" (ص14) - طبع باكستان. (¬2) "الكلمات الإلهية" مجموعة الألواح للمازندراني (ص 102). (¬3) "الكلمات الإلهية" مجموعة الألواح للمازندراني (ص 102).

جاء أمرُه المبرَمُ وأنطقني بذكره بين العالمين، إني لم أكن إلاَّ كالميت تلقاءَ أمرِه قلَّبتني يدُ إرادة ربك" (¬1). ° وأيضًا يقول: "قد كنتُ راقدًا هزَّتني نَفحات الوحي، وكنتُ صامتًا أنطقني ربُّك المقتدر القدير، لولا أمرُه ما أظهرتُ نفسي، قد أحاطت مشيَّتُه مشيتي، وأقامني على أمر به، ورَدَّ على سِهام المشركين" (¬2). ° ويقول: "يا ملأ الفرقان قد أتى الوعودُ الذي وُعدتم به في الكتاب" (¬3). ° ويزدادُ في التعالي والتفاخر ويقول: "الحمد لله الذي أظهر النقطةَ وفَصَل منها علمَ ما كان وما يكون، وجعلها مناديةً باسمه ومبشِّرةً بظهوره الأعظم الذي به ارتعدت فرائصُ الأمم .. هذا هو الذي ذكره محمدٌ رسول الله ومِن قبلِه الروح ومِن قبله الكليم .. وهذا الذي كان مكنونًا في أفئدةِ الأنبياء ومخزونًا في صدور الأصفياء" (¬4). ° وصرَّح بكونه مسيحًا، حيث قال: "قل يا قومُ قد جاء الروحُ مرةً أخرى ليتم ما قال مِن قبل، كذلك وُعدتم به في الألواح إن كنتم به من العارفين" (¬5). ° و: "اعلم بأنَّ الذي صَعِد إلى السماء قد نزل بالحق، وبه مرَّت روائحُ الفضل على العالم، وكان ربُّك على ما أقول شهيدًا، قد تعطَّر العالَمُ ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 128). (¬2) "الرسالة السلطانية" (ص 3 و 4). (¬3) "لوح مبارك" (ص 35 و 36) ط باكستان. (¬4) المصدر السابق (ص 37 و 38). (¬5) "إشراقات" للمازندراني (ص 94 و 95) من المجموعة.

برجوعه وظهوره" (¬1) ° وهذا كان في "بغداد"، وأما في "أدِرْنه"، فزاد الجنونُ والمُجون، إلى أن قال: "وإنك أنت أيقِنْ في ذاتك بأنَّ الذي أعرض عن هذا الجَمال أعرض عن الرسل من قبل، ثم استكبر على الله في أزلِ الآزال إلى أبد الآبدين" (¬2). ° ثم ادعى الربوبيةَ والألوهيَّةَ في عباراتٍ غامضة، وبَعْضُ المَكَرَةِ من البهائيين يَخدعون عامَّةَ الناسِ بقولهم: "إن المقصودَ من هذه العبارات كلِّها نَبيٌّ ورسولٌ لا غير؛ لأنها تُطلَقُ عليهم هذه الألفاظ والأوصاف تجوُّزًا" (¬3). ° والحقيقةُ غيرُ هذا كما بيَّناه من عباراتهم الصريحة، من المازندراني وابنه، والداعية الجلبائيجاني، و"اسلمنت" وغيرهم. ° ولقد صرَّح العباس ابن المازندراني، أن المازندراني لم يكن كالأنبياءِ السابقين -مثل موسى وعيسى وغيرهم-، بل كان من طرازٍ آخر، فاسمعْ منه ماذا يقول: "إن الأيام التي ظَهر فيها موسى كانت أيامَ موسى، والأيامَ التي ظَهَر فيها المسيح كانت أيامَ المسيح، وأيام إبراهيم .. وهكذا أيام الأنبياء كلّها، وأما ذلك اليوم، (يومَ ظهور المازندراني الكذاب) كان يوم الله" (¬4). ° وقَبْلَه الدجَّالُ نفسُه بيَّن لِمَ سَمَّى هذا اليومَ يومَ الله قائلاً: "هذا يومٌ فيه أتى الرحمنُ على ظُللِ العرفان بسلطانٍ مشهود، إنه هو الشاهدُ على ¬

_ (¬1) "مفتاح باب الأبواب" (ص 386) للدكتور محمد مهدي. (¬2) المصدر السابق (ص 382). (¬3) "كتاب القيامة"، وغيره من الكتب. (¬4) "مفاوضات عبد البهاء" (ص 214) للعباس.

الأعمال وإنه هو المشهود" (¬1). ° وهل هناك أوضحُ من ذلك؟ نعم هنالك أوضحُ من هذا: "إن الجمال الأقدس الأبهى (حسين علي المازندراني) قد استوى ذلك اليوم -يومَ دعواه الخبيث- على عرش ربوبية الكبرى، وتجلَّى على أهل الأرض والسماء بكل أسمائه الحسنى وصفاته العليا" (¬2). ° وعلى ذلك يقول "جولدزيهر": "فبهاء الله أعظمُ مِن الباب؛ لأن البابَ هو القائم والبهاء هو القيوم، أي: الذي يَظَلُّ ويبقى" (¬3). ° يقول عباس أفندي نبيُّ البهائية وخليفةُ المازندراني وهو يبيِّن مقامه ومقام أبيه بقوله: "اسمي عبد البهاء، وحقيقتي عبد البهاء، والعبوديةُ للجمال المبارك -أي: المازندراني- هي تاجي، إلهي الأبهى .. إذًا يجبُ على الأحباء أنْ يساعدوا عبد البهاء في العبودية لله الواحد الحق -أي: المازندراني- أبيه" (¬4). ° وبعد أن كان عابدا ذليلاً خاضعًا للشيرازي -حَسْبَ زعمه- صار معبودًا ومسجوداً حتى للشيرازي -حَسب مزاعمه-، وادَّعى أنه هو الذي كان يَنزلُ عليه الوحيُ كما أُنزل عليه "البيان" شريعة البابية، وها هو يتبختر في مزاعمه ويقول: "لو أن النقطة (أي: الشيرازي) حَضَر اليوم لقال بأنني أنا أولُ العابدين" (¬5). ¬

_ (¬1) "لوح مبارك" (ص 112) من الكلمات. (¬2) "دروس الديانة" (ص 81) للبهائية. (¬3) "العقيدة والشريعة" (ص 244). (¬4) "مكاتيب عبد البهاء" (ص 429). (¬5) "تجليات" للمازندراني (ص 173) من المجموعة.

° و: "قد طلع الفجرُ والقوم لا يفقهون، قد أتت الآياتُ ومُنزِلُها (المازندراني) في حُزنٍ مشهود .. ثم اذكرْ إذ كنتَ قائمًا لدى المظلوم ونُلقي عليك آياتِ الله المهيمن القيوم" (¬1). ° و"يا ملأ البيان واللهِ قد أتى منزلُه ومرسلُه، اتَّقوا الرحمان ولا تكونوا من الظالمين" (¬2). هذا وقد أعلن المازندراني أكثرَ من مرةٍ بعباراتٍ صريحة أن إلهٌ وربٌّ، مثل اللعين الأكبر فرعون، وها هي الشواهد: ° يقول في كتابه "مبين": "يا قوم طهِّروا قلوبَكم، ثم أبصارَكم لعلكم تعرِفون بارِءَكم في هذا القميص المقدَّس اللميع" (¬3). ° و: "تالله قد أتى الرحمنُ بقُدرةٍ وسلطان .. قل هذا يومٌ فيه استوى مُكلِّمُ الطور على عرشِ الظهور وقام الناسُ لله ربِّ العالمين .. طوبى لِمَن عرفه وفاز به، وويلٌ لمن أنكره وأعرض عنه" (¬4). ° و: "وقد أشرق النورُ من أُفقِ الظهور، وأضاءت الآفاقُ، إذ أتى مالكُ يوم الميثاق، قد خَسِر الذين ارتابوا ورَبحَ مَن أقبل بنورِ اليقين إلى مَطْلَع الإِيقان" (¬5). ° ويقول مخاطبًا: "جبل كِرْمل" حينما جعله مسكنًا لنفسه: "يا كِرْمِل ¬

_ (¬1) "كلمات فردوسية" للمازندراني "فارسي" (ص 174، 175). (¬2) "الأقدس" للمازندراني. (¬3) "مبين" (ص 30). (¬4) "إشراقات" (ص 103، 104). (¬5) "إشراقات" (ص 121).

انزلي بما أقبل إليك وجهُ الله مالكُ ملكوتِ الأسماء وفاطرُ السماء، إذا أخذها اهتزاز السرور ونادت بأعلى النداء: نفسي لإقبالك الفِداء، ولعنايتك الفداء، ولتوجُّهك الفداء" (¬1). ° ويكتب في إحدى ألواحه: "فلمَّا أتى الرحمنُ بملكوتِ البيان كَفَروا به، ألاَ لَعنةُ الله على الظالمين" (¬2). ° وأصرحُ من هذه العبارات كلِّها ما ننقِلُها من كتابِ البهائيين، الذي يزعُمونه أرفع الكتب السماوية، وأعلاها مرتبة وشأنًا، وناسخًا لجميع الكتب السماوية بما فيها كتابُ الله الخالد -القرآن العظيم-، ننقل عن هذا الكتاب حرفيًّا ما قاله طاغوتُ البهائية وشيطانُها، حيث يذكر يومَ ظهوره فيقول: "هذا يوم لو أدركه محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقال: قد عرفناك يا مقصودَ المرسلين، ولو أدركه الخليل لَيضعُ جبهتَه على التراب خاضعًا لله ربِّك ويقول: قد اطمئن قلبي يا إلهَ مَن في ملكوتِ السماوات والأرضين" (¬3). ° وفي مقامٍ آخَرَ استدلَّ على ربوبيته بقول الباب الشيرازي مخاطبًا أحد مُريديه البابيين: "خف عن الله أن المبشِّر قال: إنه -يعني: الموعود- ينطق في كل شأن: "إنني أنا الله لا إلهَ إلاَّ أنا المهيمنُ القيوم" .. " (¬4). ° وأيضًا: "إذا يراهُ أحدٌ في الظاهر يجدُه على هيكل الإِنسان بين أيدي الطغيان، وإذا يتفكَّرُ في الباطل يراه مهيمنًا على مَن في السماوات ¬

_ (¬1) "لوح ملكة كرمل" للمازندراني (ص 22) - طبع باكستان. (¬2) "لوح البقاء" (ص 8) - طبع عربي. (¬3) "الأقدس" للمازندراني. (¬4) "طرازات" (ص 197) من المجموعة.

والأرضين" (¬1). ° وهل هناك أكثرُ من هذا؟ نعم هناك أكثرُ مِن هذا وأكثر، فانظره كيف يهذي: "لا يُرى في هيكلي إلا هيكلُ الله، ولا في جمالي إلا جمالُه، ولا في كينونتي إلا كينونته، ولا في ذاتي إلا ذاتُه، ولا في حركتي إلاَّ حركتُه، ولا في سُكوني إلا سكونُه، ولا في قلمي إلا قلمُه العزيز المحمود، قل لم يكن في نفسي إلا الحق، ولا يُري في ذاتي إلا الله" (¬2). ° وقبل ذلك كان المازندراني أعلن عن نفسه بأنه هو المستغاثُ، حيث قال: "يا معشرَ الروح لعلكم في زمنِ المستغاث توفَّقون، ومِن لقاءِ الله في أيامه لا تحتجبون" (¬3). وهل من العجائب أكبرُ من هذا بأنَّ عاجزًا وذليلاً كذابًا مثل المازندراني يُجعل إلهًا يُستغاثُ به وربًّا ينادى؟! وهو الذي يعترفُ بعبوديته الفانية وعجزِه، ويمدُّ يديه أمام الآخرين طالبًا المددَ والعونَ بقوله وهو في بغداد: "وها قد مَضى الآن سَنَتانِ والأعداءُ قائمون بنهايةِ الجِدِّ والاهتمام على إهلاك هذا العبدِ الفانيَ مع ذلك ما قام أحدٌ من الأحباب لنصرتنا" (¬4). ° ويشكو نفسَه من الآلام والهموم وهو في "عكا" في آخِرِ حياته، حيث كتب إلى السلطان ناصر الدين شاه "شاه إيران المعظَّم" ما نصه: "ما وجدتُ في أيامي مَقرًّا من على قدرِ أضعُ رجلي عليه، كنتُ في كلِّ ¬

_ (¬1) "اقتدار" للمازندراني (ص 114) - طبع عربي. (¬2) "سورة الهيكل" للمازندراني نقلاً عن "بهاء الله والعصر الجديد" (ص 50). (¬3) "الإيقان" (ص 139) - طبع عربي. (¬4) "الإيقان" (ص 174).

الأحيانِ في غَمَرات البلايا التي ما اطَّلع عليها أحد .. كم من أيامٍ اضطربت فيها أحبَّتي لضُرِّي! وكم من ليالٍ ارتفع فيها نحيب البكاء من أهلي خوفًا لنفسي، ولا ينكرُ ذلك إلا مَن كان عن الصدق محرومًا" (¬1). ° ويعترفُ بفقره وذِلَّته مقلِّدوه ومتَّبِعوه، حيث يكتب عنه "اسلمنت": "ولم يكن الفقرُ ولا السلاسل ولا الذلَّةُ الظاهرية بمانعةٍ لهم عن إدراكِ جلالِ ربِّهم" (¬2). نعم حينما يُعمِي اللهُ أحدًا لا يرى الأشياءَ الواضحةَ ولا يُبصر. ° ويبكي وينوحُ ويشتكي هذا الكذَّابُ الدجال إلهُ البهائيين وناصرُهم ومُعينُهم بأنْ لا ناصر له ولا معين، ويُعلي الصُّراخ والعويل ويقول: "كم من ليالٍ فيها استراحت الوحوشُ في كنائسها، والطيورُ في أوكارها، وكان الغلام -الغلام والرب؟ - في السلاسل والأغلال، ولم يَجِدْ لنفسه ناصرًا ولا معينًا" (¬3). إلهٌ يستصرخ، وربٌّ يحتاجُ إلى ناصرٍ ومعين؟ فالعدلَ العدلَ!!. هل يُستغاث بهذا الفقير، الحقير، والمحتاج، الذي لا يستطيع مَدَدَ نفسه ونصرة شخصه، فهل يَنصُرُ الآخرين ويُنجِيهم من المآزِقِ والمهالك؟. فيا للأبصار التي عَمِيت، والأُذنِ التي صُمَّت، والقلوبِ التي قَسَت، والعقولِ التي تحجَّرت، {فَمالِ هؤُلاء الْقَوْمِ لا يَكَادونَ يَفقَهُون حَديثًا} [النساء: 78]. ¬

_ (¬1) "الرساله السلطانية" للمازندراني (ص 4). (¬2) "بهاء الله والعصر الجديد" (ص 65). (¬3) "الرسالة السلطانية" (ص 3).

* وصدق الله عز وجل: {لَهُم قُلُوب لاَّ يَفْقَهونَ بِهَا ولَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغافِلونَ} [الأعراف: 179]. ° ولا أدري أنه كيف يَجترئ مع ذِلَّته وهوانه، وعجزِه ومسكنته أن يدَّعي ويقول: "إذا غريب شمسُ جمالي .. أنا معكم في كلِّ الأحوال، وننصركم، إنا كنا قادرين! " (¬1). فأنت يا غلام، ما استطعتَ أنْ تدفعَ عنك الهمومَ والآلامَ وكيدَ الأعداءِ في حياتك .. فكيف استطعمتَ بعد موتِك وفَنائِك، وبعد صيرورتِك رميمًا تحتَ الترابِ، أن تَنصرَ شِاطينَك وبُلهاءَك الذين اغترُّوا بك وانخدعوا بتُرَّهاتِك؟!. * وما أصدقَ قولَ الحقِّ وما أجْمَلَه: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُون} [الأعراف: 191 - 192]. * وقوله جل وعلا: {إِن يَدْعونَ مِن دونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللهُ} [النساء: 117 - 118]. * وقوله عز وجل: {إِن الّذِينَ تَدْعُونَ من دُون الله لَن يَخْلُقُوا ذُبَابَا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لهُ وَإِن يسْلُبْهُمُ الذبَابُ شيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذوَهُ مِنْهُ ضَعف الطَّالبُ والمَطْلُوب (73) مَا قدًرُوا الله حَق قَدْرِهِ إٍن اللهَ لقَوِيّ عَزيزٌ} [الحج: 73 - 74]. * ولقد صدق الله -عز وجل- حيث قال: {اللهُ يَسْتَهْزِئ بِهمْ وَيَمُدهُمْ ¬

_ (¬1) "الأقدس" للمازندراني.

فِي طغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15]. ° فانظرْ لهذا الكذَّابِ المفترِي الدَّجالِ الذي يَصِفُ نفسَه مرةً بأنه مظلومٌ ومسجون، ثم يتقَّلبُ ويدعي أنه مهيمنٌ على السماوات والأرض، وأنه الرب الذي أتى بمجدِه الأعظم بين الأمم!!. ° وما أكذبَ المازندرانيَّ حين يَجمع في كلامه في سطر واحد تناقضًا عجيبًا، حيث يقول: "قد كان المظلوم معكم يسمع ويَرى وهو السميع البصير" (¬1). فانظر ما أبلَهَه! وما أحمَقَه! أهذا هو إله البهائية؟ واللهِ ما أجهلَهم! وما أسفَهَهم! أمظلومٌ وإلهٌ؟! وإله ومسجون؟!. ضِدَّانِ مفترِقانِ أيَّ تفرُقِ ولكن مِن أين لهولاءِ البهائم العقول، وأنَّى لهم البصائرُ، الذين يتركون أُلوهيَّةَ الحيِّ القيوم الصمد، ويؤلِّهون عبدًا حقيرًا ذليلاً. يعبدون مقهورًا مظلومًا مطرودًا منفيًّا تارةً، ومسجونًا تارةً أخرى، المسجونُ الذي مات في سِجنه حَسَبَ إقرارِه واعترافه، ويستغيثون بمَن لم يستطع الخروجَ منه طوالَ الحياة، ويُنادون لدفع المشكلات مَن لم يقدِر على دَرءِ مصائبِه وآلام نفسه، ويَخضعون أمامَ الذليل الحقير الذي كان يَخضع أمامَ جبابرةِ الأرض ويسجدُ بين يدي طغاتها. * ويتركون إلهَ العالمين، إلهَ المسلمين، الذي لو اجتمع أهلُ العالَمين بأجمعِهم أن يُصيبوه بشيءٍ ما أستطاعوا، أو أن يأخذوا منه شيئًا لم يقدِروا عليه، وهوِ الذي وَصف نفسَه جل وعلا بكلامِه الذي لا يأتيه الباطلُ من بين ¬

_ (¬1) "الأقدس".

مؤلفات المازندراني

يديه ولا من خلفه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)} [الحشر: 22 - 24]. * مؤلَّفات المازندراني: وقد ألف المازندراني كتبًا عديدةً، وبعبارةٍ صحيحةٍ رسائلَ كثيرة، إذ لا يتجاوزُ أكثرُ مؤلَّفاته من عشراتِ الأوراق، فمثلاً كتابه "الأقدس" الذي هو أهم ما كتبه وألفه، ذلك الكتابُ الذي يظنُّه ناسخًا لجميع الكتب السماوية الأخرى -بما فيه القرآن الكريم-، قد طبعه السيد الحَسَني ملحقًا بكتابه "البابيون والبهائيون" في 22 صفحة بالحرفِ الكبير والخطِّ الجليِّ، و"الرسالة السلطانية" في 14 صفحة، وأكثر ما كَتب من السور والألواح لا يتجاوز حَجمًا 10 صفحات، والبعضُ أقل منها حجمًا، مثل "لوح أحمد"، و"لوح علي"، و"سورة الأمين"، و"لوح طرازات" و"بشارات"، و"تجليات"، وغيرها لا يتجاوزُ كلُّ واحد من هذه الكتب أن تسمَّى كتبًا عن خمس وخمس ورقات، وهكذا دواَليك؛ ولقد نبَّهنا إلى ذلك لأن البهائيين يُرعِبون الغَفَلَة من الناس بذِكرِ الأسماء الكثيرة والأعدادِ الكبيرة لمؤلَّفات حسين علي المازندراني. هذا من ناحيةِ الكمية .. وأمَّا من ناحية الكيفية، فلقد خَصَصْنا لأسلوبه واللغةِ التي استعملها في كتبه مقالاً خاصًّا بعنون "لُغة حسين علي

"الأقدس" أو "الأنجس" كتاب البهائيين المقدس

وجهله"، بحثنا فيه عن أسلوبه المُعوَجِّ، والغامق، الغامض، وعن استعماله الألفاظ للمعاني الغيرِ المقصودةِ، والمطالبِ الغيرِ المفهومة. ونذكرُ هاهنا أنَّ أهمَّ ما ألَّفه هو كتابه "الإيقان"، فقد ألفه أثناء إقامته في بغداد تأييدًا للشيرازي ومزاعمه، وشرع في كتابةِ "ألواح الملوك"، في "أدِرْنة"، وأتمَّه في "عكا"، وكتب "الرسالة السلطانية" وهو في عكا، وكتب "الأقدس" أيضًا في عكا. وكذلك "ألواحُ الملوك"، "وسورة الهيكل"، و"لوح ابن ذئب" وغيرها من الكتب والرسائل، كتَب أكثرها في "حيفا وبهجة". * "الأقدس" أو "الأنْجَس" كتاب البهائيين المقَدَّس: ° مثلما ادَّعى البابيون -عليهم لعنة الله- بأن كتابهم "البيان" ناسخٌ للقرآن، أتى الكذَّابُ الدجَّال المازندراني، فادَّعى أن كتابه "الأقدس" ناسخٌ للقرآن "والبيان"، يزعمون أن "الأقدس" ناسخ لجميع الكتبِ السماوية، و"آية واحدة منه خير من كتبِ الأوَّلين والآخرين" (¬1). ° قال الشيخ إحسان إلهي ظهير عن "الأقدس" في كتابه "البهائية": "لم يَطبعوه إلاَّ بعدما نقَّحوه من الأخطاء وصحَّحوه من الأغلاط، والذي ذكره الشيخُ الكبير محمد رشيد رضا في تفسيره "المنار" بقوله: "وإن لحسين علي البهاء كتابًا سماه "الأقدس" حاول فيه محاكاةَ القرآن في فواصل آياته وفي أنباء الغيب، ولكن أتباعه الأذكياء لم يجدوا بُدًّا من إخفاءِ هذا الكتاب وجَمع ما كان تفرَّق من نُسَخِه المطبوعة في الأقطار، ولا يَدري إلاَّ الله ماذا يفعلون فيه بعد أن يَثقِوا بأنهم استردوا سائر نُسَخه من تصحيحٍ وتنقيح" (¬2). ¬

_ (¬1) "الأقدس" للمازندراني. (¬2) "المنار" للشيخ محمد رشيد رضا المصري.

والجديرُ بالذكر أن البهائيين لم يَطبعوا "الأقدس" مدة طويلة، وبعكس ذلك كانوا يمنعون الآخرين من أتباعهم من طبعه خوفًا من الخزي والفضيحة، ورغبةً في إخفاء الجهل الشائن والحُمقِ المطلَقِ المتدفِّقِ في كل سطر من سطوره وفَقرة من فقراته، لا يقع في مِثله متعلِّمٌ مبتدئٌ، فضلاً عن العالِم والعارف المثقَّفِ، لِمَا فيه من أخطاءَ فاحشةٍ، وتراكيبَ ساقطةٍ، وعبارات مهمَلةٍ فاسدة، وعُجْمةٍ بيِّنةٍ ظاهرة، وأسلوبٍ ركيك، وعربيةٍ ضعيفة. فهذا هو ابنُ المازندراني وزعيم البهائية عباس أفندي، يردُّ على مَن يستأذنُ منه طبع "الأقدس" أن الكتاب "الأقدس" لو طُبع لانتشر ووقع في أيدي الأراذل والمتعصبين، لذا لا يجوز طبعه" (¬1). ° وعلى ذلك ذِكر البروفسور "براؤن" كبير المؤيِّدين للبابية والبهائية في مقدمة "التاريخ الجديد": "أستطيع أن أقول بعد تجاربي الشخصيةِ: إنه لا يمكن الحصولُ على كتبِ البهائية الأصلية لأحدٍ، هديةً ولا استعارةً، وفي مركزهم "عكه" تعد النظرةُ الطارئةُ على كتبهم معجزةً من المعجزات" (¬2). ومع كل هذه الاحتياطات والتحفظات أراد الله إفضاحَهم وإظهارَ زيغِهم واطّلاعَ الناس على قبائحِهم وسقطاتهم. ° ولنبدأ ونَقُل: يوجد عندنا وفي أيدينا عدَّةُ نُسخ "للأقدس": 1 - النسخة المطبوعة على الحَجَر في "بومباي" التي حصلنا عليها من المركز البهائي بالسيالكوت - باكستان. ¬

_ (¬1) "مكاتيب عبد البهاء" (3/ 444). (¬2) "مقدمة التاريخ الجديد" لبراؤن (ص28).

2 - نسخة طبعها القاديانيون في منطقة "ربوة". 3 - نسخة مطبوعة ملحقة بكتاب السيد الحسني "البابيون والبهائيون". 4 - نسخة خطيَّة وجدناها في إحدى المكتبات العامة بلاهور. ونعتمدُ في سَرد العبارات على نسخة الحسني ونسخة بومباي لكونهما مسلَّمتان معترَفَتان عند البهائيين، ولا نستشهدُ إلاَّ على الأخطاء التي توجَد في جميع النسخ، ولقد أعطينا لهذا الكتاب وكتاب "الإيقان" أهميةً أكثرَ، لكونِ كل واحدِ منهما أساسًا للديانة البهائية، ومعجزة لحسين علي وعِلمِه وفصاحته وبلاغته، فيبدأ حسين علي في كتابه "الأقدس" الذي يشتمل على أثنتين وعشرين صفحةً من الحجم المتوسِّط وخمسين صفحة من القطعة الصغيرة ويقول: "إن أولَ ما كتَب الله على العبِاد عرفانُ مشرق وحيه .. مَن فاز به قد فاز بكلِّ الخير، والذي مَنع إنه من أهل الضلال ولو يأتي بكل الأعمال" (¬1). وقطع النظر عن الغموض والتعقيد المعنوي، فقد استعمل "مَن فاز به قد فاز" وكان الأفصحُ والأنسبُ "مَن فاز به فقد فاز". ثم قال: "والذي منع أنه .. إلخ" ويريد من المنع الامتناع، والفرق بين المنع والامتناع واضحٌ وجَلِيٌّ يعرفه الطالب المبتدئ. وأيضًا أيَّةُ فصاحةٍ وبلاغةٍ في قوله: "أنه من أهل الضلال ولو يأتي بكلِّ الأعمال". وإن أراد محاكاةَ القرآن الكَريم -الذي لا يمكن لأحد لأحد أن يحاكيه بعقل ¬

_ (¬1) "الأقدس" للمازندراني.

وفهم-، كان الأجدرُ به أن يقول: "مِن قبله فقد فاز فوزًا عظيمًا، ومن امتنع فقط حَبِط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين"، ولكن كما قيل قديمًا في الفارسية: "النقل أيضًا يحتاج إلى العقل". وهل هنا عاقل يتبارى لمضاهاة أفصح الكتب وأبلغها وأعلاها حكمةً وعلمًا وحسنًا وجمالاً ورونقًا، كتاب الله الخالق المتعال الكبير. ° ويقول في الفقرة الرابعة: "إنا أمرناكم بكَسرِ حُدودات النفسِ والهوى، لا ما رُقم من القلم الأعلى" (¬1). فأولاً لفظة "حدودات" لا يَنطقُ بها العربُ؛ لأن "الحدَّ" جمعُه "حدود" لا غير. وثانيًا: لا معنى لـ "حدودات النفس والهوى" أصلاً. وثالثًا: لفظة "رقم" لا تحتاجُ إلى صلة "مَن" إن كان معروفًا، وتُوصَل بـ "الباء" إن كان مجهولاً، أي: "ما رُقم بالقلم الأعلى"، لا "من القلم الأعلى". ورابعًا: الفقرة كلُّها مهمَلة، وإلاَّ فما المقصودُ من كسرِ حدوداتِ النفس والهوى، وعدم كسر ما رَقَمه القلمُ الأعلى؟!. ° والفقرةُ الثالثة من الكتاب "يا ملأَ الأرض، واعلَموا أن أوامري سُرُجُ عنايتي بين عبادي، ومفاتيحُ رحمتي لبريَّتي، كذلك نزَل الأمر من سماءِ مشيَّةِ ربِّكم مالك الأديان" (¬2). ¬

_ (¬1) "الأقدس". (¬2) المصدر السابق.

"فالعناية" التي يُكثِرُ استعمالها المازندراني لفظةٌ فارسية بمعناها، وليست بعربية؛ لأن العناية معناها في الفارسية الحب والرحمة واللطف والكرم، وهذا ما يقصده ها هنا وفي المواضع الأخرى الكثيرة في "الأقدس" وغيره. أما العناية في اللغة العربية، فمعناها "الحفظ والاهتمام" -كما لا يخفى على أحدٍ له أدنى صِلةٍ باللغة العربية-. وأما استعمالُه "العناية" العربية في معناها الفارسي، لا يدلُّ إلاَّ على جهله بمدلولات الألفاظ ومنابعها. والفقرهُ السابعة من "أقدسه" لا يتُقدَّرُ بلاغتُها وفصاحتُها بمقادير، فقد فاق بها الإِنسَ والجن، الأولين منهم والآخرين، وأجبَرهم على الخضوع والانحناء أمامَه، وأمام عبارته الرائعة البديعة، وأدهش الأخفشَ وسيبويهِ والخليلَ والصمعيَّ!! الفقرة التي لا يمكنُ لطلاَّبِ اللغةِ العربية في الابتدائية أن يأتوا بمثلِها في الرداءة والبذاءة، وسوءِ الصياغة، وضعفِ التأليف، ولو كان بعضُهم لبعض ظهيرًا!!. ° وإليكم الفقرةَ هذه: "لو يجدُ أحدٌ حلاوةَ البيان الذي ظَهر من فم مشيَّةِ الرحمن لينفقَ ما عنده ولو يكون خرائنُ الأرض كلُّها ليثبت أمرًا مِن أوامره المشرقة من أفق العناية والألطاف" (¬1). ° وأمَّا الفقرةُ الثامنة، فهي: "قل من حدودي يمرُّ عَرْف قميصي، وبها تُنصب أعلام النصر على القنن والأطلال، قد تكلم لسانُ قدرتي في ¬

_ (¬1) "الأقدس" للبهاء.

جبروت عظمتي مخاطبًا لبريَّتي أن اعملوا حدودي حبًّا لجمالي" (¬1). فلنضربِ الصفح عن المعاني ومفهوم الفقرة -التي لا مفهومَ لها-، ونقول "لفارس المعاني في مضمارِ الحكمة والبيان" و "صاحب القلم الأعظم": إن فعلَ المرور لا يتعدى "بمِن" ولا يوجدُ له شاهدٌ في كلام العرب قديمًا وحديثًا، بل إنه يتعدى "بالباء" و"على" أو بنفسه عند البعض كما قيل قديمًا: أمرُّ على الديارِ ديارِ ليلى ... أقبِّل ذا الجِدارَ وذا الجدارَا وما حُبُّ الديارِ شَغفْنَ قلبي ... ولكن حُبُّ مَن سَكن الديارَا ° وأما "بالباء"، فكما قال جرير في رواية: مررتم بالديار ولم تَعُوجوا ... كلامُكم عليَّ إذًا حرامُ ° ورُوي أيضًا: تمرون الديارَ ولم تَعوجوا أي تعديته بنفسه. وثانيًا: العَرْف -بفتح العين وسكون الراء-: الرائحة طيبةً كانت أم مُنتنة، وقصدُه هاهنا الرائحة الطيبة، ونلفِتُ النظرَ إلى أن العربَ لا يستعملون لفظة المرور بالعَرف بمعنى الرائحة الطيبة، بل يستعملون لفظة "تَضوَّع، ونفح، وفحَّ، وتفرَّق، وانتشر، وسطع"، ولكن البليدَ هذا لا يعرف استعمالاتِ العربِ، ويصوغ التراكيبَ كيفما يشاءُ غيرَ عارفٍ بأن لكل لغةٍ قواعدَ ومناسبات، ولا تَجمُلُ الجُمل وتَحسُنُ الصياغةُ إلاَّ حسب ¬

_ (¬1) "الأقدس".

دستور اللغة ونظامها، ولا يُحكمُ على الكلام بالفصاحة والبلاغة أو الرداءة والبذاءة إلا حسب ذلك الدستور وتلك القواعد. ° فانظر كلامَ العرب، وأنهم كيف يستعملون لفظةَ: "الريح والعَرف"، فيقول أحد الشعراء المتقدمين: إذا التفَّتْ نَحوي تضوَّع ريحُها ... نسيمُ الصَّبا جاءت بريا القرنفلِ ° وقال الشاعرُ الثقفي عبد الله بن نُمير: تضوَّع مِسكًا بطنَ نَعمانَ إن مَشَتْ ... به زينبُ في نِسوةٍ عطراتِ ° ومثال استعمالِ "النفح" في كلام العرب: قول "جران العود" يذكر امرأته: قد عالجتني بالقبيحِ وصَوبُها ... حديدٌ ومِن مِردانِها المسكُ يَنفَحُ إلى غير ذلك. وثالثًا: إنه قال "مخاطبًا لبريَّتي - و -أن اعمَلوا حدودي-"، وكان الأفصح والأنسبُ والصحيحُ أن يقول "مخاطبًا بريتي" بدون الصَلة باللام، وإتيانِ الصِّلةِ على الحدود؛ لأنه لا معنى لـ "اعملوا حدودي". فالمقصودُ أن حُسين عليِّ المازنذراني إلهَ البهائية وربِّهم، ومدَّعِي الفصاحة والبيان يتخبطُ العشواءَ حيث لا يدري ماذا يختارُ من الألفاظ والحروف وماذا يترك!! وهذا بقطع النظر عن المعاني والمفاهيم طبعًا؛ لأن كلامه خال من المطالب والمقاصد والمفاهيم، ولم يكن غرضه إلا حشو الكتب من الغث والسمين -ولا سمين له- كي يقال إنه مؤلف ومصنف!!. أبهذه السفاهةِ والحُمق والبلاهةِ والجهل أراد مخالفةَ كتاب الله الخالد

المعجِزِ ومعارضته؟ فتلك إذًا قسمةٌ ضيزى. * وإليك بعضَ الآيات المباركة من ذلك الكتاب العظيم: {الرحمن (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)} [الرحمن: 1 - 13]. * وصدق الله مولانا العظيم: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88 - 88]. * وأما الفقرة التاسعة فهي: "طوبى لحبيبٍ وَجد عَرفَ المحبوب من هذه الكلمة التي فاحت منها نفحاتُ الفضل على شأن لا توصفُ بالأذكار" (¬1). فالفقرةُ كلُّها نموذجٌ لركاكةِ الأسلوب وضَعف اللغة العربية، وهَلُمَّ جرًّا .. إلى آخرِ فقرات "الأقدس"، الكتاب الذي تَعُدُّه البهائيةُ ناسخًا لجميع الكتب السماوية والصحف الإِلهية، والذي قال فية طاغوتُهم المازندراني نفسه: "تاللهِ لا تغنيكم اليومَ كتبُ العِلم ولا ما فيه من الصحف ¬

_ (¬1) "الأقدس" للمازندراني.

إلاَّ بهذا الكتاب الذي يَنطِقُ في قطبِ الإبداع أنه لا إلهَ إلاَّ أنا العليم الحكيم" (¬1). فكلُّ فقرةٍ من فقراته وعبارةٍ من عباراته مُهمَلَةٌ رديئة، ومليئةٌ بالأخطاء من حيثُ اللغة والقواعد، بل وكلُّ جُملةٍ من جُمَلِه وكلمة من كلماته تخالفُ محاوراتِ العرب وأساليبَهم، فلا تجد عربيًّا يكتبُ مثلما كَتب، ولا ينطقُ مثلما نَطَق، لا الأوَّلين ولا الآخِرِين، وأطفالُهم وجهلتُهم يشمئزُّون وينفِرون من تلك العربية التي يصوغُها حسين علي إلهُ البهائية وربهم. ° أمَا ترى فقرته: "لا يُبطِلُ الشَّعرُ صلواتِكم، ولا ما مَنع عن الرُّوح مِثل العِظام وغيرها، البَسوا السمور كما تلبسون الخزَّ والسنجاب وما دونهما، وإنه ما نُهي في الفرقان، ولكن اشتَبه على العلماء أنه لهو العزيز العلام" (¬2). فما معنى: "لا يُبطل الشَّعر صلواتكم"؟ ثم وأيةُ لغةٍ هذه: "ولا ما منع عن الروح مثل العظام"؟!. ولعلَّه يريد أن يقول: ما خَلِيَ عن الروح، أو: ما لا رُوحَ فيه، وعلى كل، فالعرب لا يعرفون هذا الأسلوب قطعًا ومطلقًا. ثم ومن المفهوم من العبارةِ هذه: "إن الشَّعر والعِظامَ وغيرَها لا تُبطلُ الصلوات"؟ هل يريدُ أنْ يا تُرى أنه لو لَبِس أحد العظامَ أو الشَّعر لا تَبطُلُ صلواتُه؟ أو من صَلَّى عليها جازت صلاتُه؟ وهل يُلبس الشَّعر أو العظام، أو يمكن الصلاةُ على العظام؟. ¬

_ (¬1) "الأقدس" للمازندراني. (¬2) "الأقدس" الفقرة 20.

لا ندري ماذا يقصد من كلامه هذا، فعندنا في اللغة الأردية مثلٌ يضرب به "ما كَتَبه موسى لا يقرأه إلا هو"، أي: لا يفهمه أحد غيره. وخير مَن يصدُقُ عليه هذا المثل هو صاحبنا هذا المسكين!. ثم وما المحلُّ لاستعمالِ كلمة "وما دونهما" بعد الخزِّ والسِّنجاب بدل "سواهما"، وكذلك كلمة "إنه ما نهي في الفرقان"، فمن الذي نَهى، والضمير يرجع إلى الغير المذكور في كل الفقرة إن كان "نهى" معروفًا، وإن كان مجهولا فعن أيِّ شيء "مَنع"، كما هو غير مذكور بعد النهي؟! والعبارةُ لا تستقيمُ إلاَّ بعدَ القول: "ما نُهي عنها"، أو: "ما نهى الله في الفرقان عنها". ونُلخص القولَ، ونذكرُ بعضَ أخطائه النحوية بعدما فَصَّلنا القول في لغته وجهلِه باللسان العربي المبين. ° ومنها قوله: "تفكروا في هذه الآية، ثم أنصِفوا بالله، لعل تجدون لآليء الأسرار من البحر الذي تموج" (¬1). وما أكثر استعمالَه "لعل" هكذا، والمعروفُ أن "لعل" من الحروف المشبهة بالفعل، ولا تدخل إلا على الأسماء أو الضمائر، وهذا ما يعرفه التلامذةُ، فضلاً عن المَهرة والأساتذة، وقد كثر استعمالها عند العرب: أحبُّ الصالحين ولستُ منهم ... لعل الله يهديني صلاحا ° وقال مجنونُ بني عامر: يقول أناس عليَّ مجنونُ عامر ... يرومُ سَلُوا قلتُ: إني لمَا بيا ¬

_ (¬1) "الأقدس".

° ودخولها على الضمائر مثل قول الشاعر: أيا سِربَ القَطا! هل مَن يُعير جناحه ... لعلِّي إلى مَن قد هَوَيتُ أطيرُ ° ولكن ما أكثرَ ما أدخلها هذا الجهولُ على الأفعال، مثل قوله في "الأقدس" أيضًا: "انظروا ما نزل في مَقامٍ آخر، لعل تَدَعون ما عندكم" (¬1). ° و"اغتمِسوا في بحرِ بياني، لعل تَطلُعون بما فيه" (¬2). ° ويقول في مقامٍ آخر من "الأقدس": "اتقوا اللهَ يا أُولي الأبصار ولا تنكرون" (¬3). فهل يمكن لأحدٍ يعرفُ القواعدَ البدائيةَ أن يقول "تنكرون" بعد صيغة الأمر. ° ومن أخطائه أيضًا قوله: "ليس هذا أمر تلعبون به" (¬4). فهذا السفيهُ لا يعرفُ عملَ "ليسِ" بأنه يرفعُ الاسم وينصبُ الخبر. ° ويقول: "لعل الأحرارَ يطَّلعْن على قَدْرِ سُمِّ الإِبرة" (¬5). فمن يخبره أن "أحرار" جمع "حُرَّ" والذكورُ لا تُرجعُ إليهم ضمائرُ التأنيث، وإن أراد التأنيثَ أي "الحُرّة" فجمعُها "الحرائر" لا "الأحرار". فهذا هو الحال لأهم كتب البهائيين وأقدسها بعد ما صحّحوه ونقَّحوه مرات عديدة من الأخطاء، وما كانوا يريدون طبعه خوفًا من الفضيحة التي حَصَلت والخِزيِ الذي لَحِق، فلا راد لقضاء الله وقَدَره. فقد أعطينا أمثلة قليلة، وأوردنا منها ما يكفي لأخذ الفكرة، وإلاّ الوريقات هذه، فإنها مليئة كلها من مئات الأخطاء النحوية واللغوية، ما ¬

_ (¬1) "الأقدس". (¬2) "الأقدس". (¬3) "الأقدس". (¬4) "الأقدس". (¬5) "الأقدس".

تُثبت قطعًا أنه ليس من الوحي السماويِّ الإِلهيِّ الذي هو مُنزَّهٌ عن النقص والعيب اللفظي والمعنوي، وتنبئُ أنه لم يتفوَّه بها إلاَّ حاطبُ ليل لا يدري الهابلَ من الوابل والغث من السمين. والباحثُ والقارئُ يدركُ أيضًا خلالَ عباراتِ "الأقدس" أنه تكلَّفَ مَحضَ محاولةٍ عابثةٍ لمنافسة القرآن سجعًا وإرسالاً وازدواجًا؛ لأن السجعَ والإِرسال والازدواج المهمَل لا يجعلُه مشابهًا للقرآن، بصرفِ النظرِ عن سياق الكلام وصياغته وتركيبه وألفاظه وحُروفه، وإلا ما كان لداعيةِ البهائية الكبير أبي الفضل الجلبائيجاني أن يردَّ على كتاب "يحيى صبح الأزل" أخ البهاء ومنافسِه في وصاية الباب وولايته قائلاً: "إنَّ كتابه -أي يحيى الماندراني- يحتوي على عباراتٍ عربيةٍ ركيكةٍ وسخيفةٍ وملفَّقةٍ على مِنوالِ آياتِ القرآن الشريف صورةً، ولكنها خاليةٌ عن المعنى، وغير مرتَّبةٍ، ومليئةٌ من الأغلاطِ اللفظيةِ والمعنويةِ، ومُخالِفة لقواعدِ اللغة العربية، حيث لا يمكنُ أن يَتحمَّل سماعَها مَن له أدنى إلمام باللغة العربية .. وهذا دليلٌ على أنه أسطورة بشريةٌ، لا نَغمةٌ سماوية" (¬1). وقد يَصدُقُ كل هذا على كلام أخ "يحيى صبح الأزل"، حسين علي البهاء حيث كان نسيجًا وحدَه وإتباعًا لجَهولٍ واحدٍ علي محمد الباب الشيرازي، فلا يمكن أن يصيرَ القُبحُ حَسنًا، والحسنُ قُبحًا بتبديل الأشخاص، فإنَّ النَّقص نَقص، والكمالَ كمال، نُسب إلى مَن كان وأيٍّ كان" (¬2). ¬

_ (¬1) "مجموعة رسائل" للجلبائيجاني (ص 145، 146، 147) ط مطبعة سعادة بمصر. سنة 1920 م. (¬2) "البهائية" لإحسان إلهي ظهير.

"الإيقان" كتاب المازندراني

* "الإِيقان" كتاب المازندراني: ° أما كتابُ "الإِيقان"، فقد قال عنه: "إنه الذي جَرى من قلم الرحمن في نواحي هذه الأزمان فإنه مع وِجازته تبيان الزُّبر والألواح، ومترجمُ كتبِ الله فالقِ الإِصباح، به فُكَّ خَتمُ النبيِّين وَحَل عِقدَ إشاراتِ السابقين، فابذل غايةَ الجهد والتدبُّرِ في هذا الكتاب المستطاب، ليُلهمك الصوابَ في كل باب، واحفظْ قلوبَ الأحباب عن مَظان الشكِّ والارتياب" (¬1). ° يقول المازندراني البهاء في كتابه "الإِيقان": "وعلى اللهِ أتوكَّل، وبه أستعين، لعل يجري من هذا القلم ما يُحيي به أفئدةَ الناس، ليقومَنَّ الكُل عن مراقدِ غفلتهم، وليسمَعَن أطوارُ ورقات الفردوس من شجرٍ كان في الروضة الأحَديَّة من أيدي القدرة بإذنِ الله مغروسًا" (¬2). ركاكة أسلوب، وضعف تعبير، وعباراتٌ سقيمة لفظًا ومعنى، لغة وصرْفًا .. فالعربية تأفَّفُ من هذا الجزَّار، وتترفَّع عن أن يكون الفصحاءُ والبلغاءُ سُوقةً جهلةً كهذا الدجال المازندراني. فأين مُسيلِمة الكذَّاب والأسودُ العنسيُّ -مع كذبهما ودَجَلِهما- من هذا المفتري صاحبِ الأضحوكات والحماقات والجنون والهذيان!!. * أبمثل هذه العبارات التافهةِ المهمَلةِ يُضاهى القرآن؟ كَلاَّ ثم كَلاَ، {بل هو قرآن مجيد (21) في لوح محفوظ} [البروج: 22:21]. * وقال تعالى: {لا يَأْتونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كَانَ بعضهم لِبَعْضٍ ظهِيرًا} [الأحزاب: 88]. ¬

_ (¬1) "مجموعة رسائل" للجلبائيجاني (ص 36). (¬2) "الإيقان" (ص14) طبع المحفل البهائي- باكستان عام 1955م.

البهاء المازندراني الدجال

* البهاء المازندراني الدجال: ° هذا المجرم الأثيم هو قِبلةُ البهائيين، يقول: "وإذا أردتم الصلاةَ ولُّوا وجوهَكم شَطري، الأقدس المقام المقدس الذي جَعله اللهُ مطافَ الملإِ الأعلى، ومَقبلُ أهل مدائن الباقاء، ومصدرُ الأمر لمن في الأرضين والسماء" (¬1). * انظر إِلى الدِّين الذي أَتَى بهِ دَجَّال الدجاجِلة: ° الصَّلاَةُ: من يطالع كتبَهم المقدسة -النجِسة-، لا يجد فيها طريقة أدائها، إلاَّ ما كتبه البهاء في كتابه "الأقدس" الفقرة 19: "قد فصَّلنا الصلاةَ في ورقةٍ أخرى، طوبى لمن عمِل بما أُمر به من لدُن مالكِ الرِّقاب". ° فأين ذهبت هذه الورقة؟ قالوا: "إن خصومَ البهاء سَرقوها منه، وهم لذلك يبكون ويتألمون!!! ". ° ويُحرِّمُ الصلاةَ جماعة بقوله: "كتب عليكم الصلاة فُرادى، قد رُفع حُكمُ الجماعةِ إلا في صلاة الميت، إنه لهو الآمرُ الحكيم" (¬2). ° الصَّوْمُ: "قد كُتب لكم الصيام في شهر العلاء، صوموا لوجهِ ربِّكم العزيزِ المتعال" (¬3)، و"شهرُ العلاء" هو آخرُ الشهورِ البهائية التسعةَ عشَرَ، ويشتمل على الأيام التسعةَ عَشَر، وأما فريضة الصوم، فقد عُفي عنه المسافرُ والمريضُ والحاملُ والمرضع والهَرِم والكسول. ¬

_ (¬1) "الأقدس" الفقرة 14. (¬2) "الأقدس" الفقرة (30). (¬3) "لوح كاظم" للمازندراني، و"خزينة حدود وأحكام" (ص 36).

المحرمات عند البهائيين

° و"عند التكسُّر والتكاسُل لا يجوزُ الصلاةُ والصيام، وهذا حُكمُ الله من قبل ومن بعد" (¬1). ° الزَّكَاة: قال البهاء: "سوف نُفصِّل لكم نِصابها -إذا شاء الله وأراد-، إنه يفعل ما يشاء بعلم من عنده، إنه لهو العلاَّم الحكيم" (¬2). والعلام الحكيم لم يستطع بيانَ نصابها وتفاصيلها!!. ° بل قالوا: "يُعمل في الزكاة، كما نَزل في الفرقان" (¬3)، أي: القرآن، والمعروفُ لمن له أدنى إلمام بالإِسلام أن تفاصيل الزكاة ونصابها في السُّنة لا في القرآن! ". ° الحَجُّ: "الحج للبيت الأعظم في بغداد، وبيتِ النقطة في شيراز، وهو واجب على الرجال دون النساء". ° الطَّهَارَةُ: "رُفع حكمُ دون الطهارة عن كل الأشياء -قذِرةً كانت أم نَجسة- وعن مِللٍ أخرى، موهبة من الله إنه هو الغفور الكريم" (¬4). فهذه شريعة البهائيين، مُنتنةٌ خبيثة؛ كأحكامِها، وقذِرةٌ نجسة. * المُحرَّمَاتُ عنْدَ الْبهائِيِّينَ: لا يُحرِّمون إلاَّ زوجةَ الأب، وبقية نساءِ العالَم حلالٌ عندهم في كُتبهم، ويُحرِّمون تعدُّدَ الزوجات فوق الاثنين. ¬

_ (¬1) "خزينة حدود وأحكام" (ص 37). (¬2) "الأقدس" الفقرة 351. (¬3) "لوح رين المقربين"، للمازندراني. (¬4) "الأقدس" الفقرة 161.

كذبه على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التحليل والتحريم

° وانظر ما يقول الفاجر: "ومن اتخذ بِكرًا لخدمته لا بأس عليه؛ كذلك كان الأمرُ من قَلم الوحي بالحق مرقومًا" (¬1). بل من قلم الشيطانِ أيها العربيد: أَمَّا الزِّنا: فإنهم لا يَعُدُّون الزنا إلاَّ ما لم يَرضَ به أحدُ الطرفين، ومن اقترف هذه الجريمةَ بدون الرضا لا عقابَ عليه، بل يؤخَذُ منه الأُجرة؛ لأنها بالأجرة تنقلِف السيئةُ حسنةً. ° يقول المازندراني: "قد حَكم اللهُ لكلِّ زانٍ وزانيةٍ ديةً مُسَلَّمةً إلى بيتِ العدل، وهي تِسعةُ مثاقيلَ من الذهب". أما الزاني المحصن والزانيةُ المحصنة، فلا حُكم عليهما، إلاَّ أن يحكمَ عليهما بيتُ العدل .. هذا قول نبي البهائية عباس عبد البهاء. هذا الفاجرُ البهاء قصَّتُه وفجورُه مع "قرَّة العين" شيطانةِ البابية -وقد كانت متزوجة-، والغريبُ أنها هي التي منحته هذا اللقب "بهاء الله"، "فالطاهرةُ" -كما كانوا يلقِّبونها- أسمته: "بهاء الله"، فهي أول المتفوِّهين بكلمة "بهاء الله"، وكفاه هذا جزاءً. وهذا المأفونُ مَنع من إلارتقاء على المنابر. * كَذِبُه على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في التحليل والتحريم: ° كَذَب هذا الأفاك الأثيم على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن استدلاله من قول الله -عز وجل- {ولله عَلى النَّاسِ حِج البَيْتِ} باستدلال باطني خبيثٍ، حيث قال: إنه - صلى الله عليه وسلم -: "لو يحكُمُ على الصواب حُكْم الخطأ، وعلى الكفر حكم ¬

_ (¬1) "الأقدس" الفقر 142.

الكذاب يظهر الله كذبه ويفضحه

الإِيمان حقٌّ من عنده، "هذا مقام لا يُذكر ولا يوجد فيه الخَطاءُ والعصيان" (¬1). ° وكل مَن له أدنى إلمامٍ ومعرفةٍ بالشريعة السماوية السمحاء يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس له أن يحكمَ على شيءٍ من قِبَل نفسِه، وليس له أن يُحِلَّ ما حَرَّمه اللهُ، أو يقول عن الكفر: إنه إيمان. * الْكَذَّابُ يُظْهِرُ اللهُ كَذِبَهُ وَيَفْضَحُهُ: ° يقول البهاء في رسالته إلى الشاه: "قد جَعل اللهُ البلادَ غاديةً لهذه الدسكِرة الخضراء، وذُبالةً لصباحه الذي به أشرقت الأرض والسماء". ° يقول "اسلمنت" داعيةُ البهائية: "وقد تنبأ بهاءُ الله وعبدُ البهاء بأصرح وأوثقِ عبارة، عن النصر السريع للأمور الروحانية". ° وَلمَا سُئل عباسٌ عبد البهاء: "إذا كانت دولةٌ من دول العالم العظيمةِ تؤمنُ بالديانة البهائية، أجاب: سيؤمن جميعُ أهل العالم". ° وصرَّح أيضًا: "هذا القرنُ قرنُ شمس الحقيقة، وهذا القرنُ قرنُ تأسيس ملكوتِ الله على الأرض، بل وصرَّح أيضًا بأن سنة 1957 تتأسَّسُ وِحدةُ الإِنسانية". وكَذَب الكذابُ وابنُه. انظر لعميل الروس الذي ادَّعى الألوهيةَ، كيف أظهر اللهُ عَجزَه ومسكنته؟ ينوح ويبكي ويشتكي، ويُعلِي العويل والصُّراخ لشاه إيران!! رَبٌّ في السلاسل والأغلال لا يجدُ ناصرًا ولا مُعينًا .. إله يستصرخ، ¬

_ (¬1) "إشراقات" للمازندراني (ص 105).

جزاؤه ونهايته

وربٌّ يحتاج!!!! {فَمَالِ هَؤلاء الْقَومِ لا يَكَادُونَ يَفْقهُونَ حَديثًا} [الحج: 78] .. * جزاؤه ونهايته: هذا الدجَّالُ الكَذابُ فَضَحه الله في الدنيا قبل الآخرة، ونُفي من بلده بدلاً من إعدامه، وقبك ذلك لَقِيَ كل الذل والمهانة. وأظهر الله كَذَبَه في كل نبواَته: ° فقد ادعى هذا الدَّعي متنبئا باعتناقِ أهل العراق البهائيةَ وافتخارِهم بها في المستقبل وهذا نصُّه: "ينبغي لأهل العراقِ أن يفتخروا بك، سوف يفتخرون، ولكن اليومَ لا يفقهون" (¬1). وأظهر اللهُ كَذِبَه، فلا يوجد في العراق -مُدنِها أو قراها- مَحْفلٌ بهائيٌّ أو مركز بهائي واحد. ° وتنبأ هذا الأفَّاكُ الأثيم أن "طِهران" عاصمةَ إيران ستكون مركزًا للبهائيين ومحلاًّ لانطلاقهم، وسيحكمها مَن يرفع شأنَ البهائيين، وكان عكس ذلك، وكانت طهران هاويةً ومأتمًا لهم. ° وتنبأ بأن البهائية ستسودُ العالَمَ، وأنها ستغلبُ وتسودُ على الأديان كلها، ويعتنق أكثرُ أهل العالم ديانتَه، وكَذَّب اللهُ هذا الأفَاك الأشِر، والواقعُ خيرُ شاهد، فما يعتنقُ البهائيةَ إلاَّ كُلُّ قِزم مأفونٍ مخبول تافه. ° ونُقل عن أحد أبناء حُسين علي المازندراني أنه جُنَّ في آخِرِ حياته وقبل موته بمدَّة كما ذَكَره "عمر عنائت" نقلاً عن ابنه: "إن البهاءَ جُنَّ في ¬

_ (¬1) "سورة الأمين" للمازندراني (ص 19) طبع باكستان.

نبي البهائية الدجال ابن الدجال، عباس أفندي عبد البهاء

أواخِرِ أيامه، وكان ابنه "عباس عبد البهاء" يعمل كحاجب له، فاستأثر بالأمر، وأغدق على الجماعة أموالاً، فحبَّب فيه الاتباع" (¬1). ولم يكنِ المجنون طارئًا عليه قبل موتهِ فحسب، بك كان مَجنونًا منذ البداية، ويدل على جنونه اعتناقُه البابيةَ ثم ادعاؤه النبوَّة والرسالة والألوهية. ومات هذا الدَعِيُّ الأفَّاكُ بعدَ إصابتِه بالحمى في 28 مايو سنة 1892 م، ودُفن قرب منزله بعكا. * نبيُ البهائية الدجَّال ابن الدجال، عباس أفندي عبد البهاء: ° قال الجلبائيجاني، والعراقيُّ، والعَلمي -وهم من كبار دعاة البهائية- "بتسلسل الأنبياء والرسل، والمظاهر الإِلهيَّة، ونَعَقوا بأنَّ انقطاع الوحيِ نقصٌ وعيب" (¬2). عباس أفندي المسمِّي نفسَه بـ "عبد البهاء" وَصِيُّ المازندزاني وخليفتُه وأمينُه على مؤامراته، ومشاركُه في قتلِ المخالفين. ° كتبَ البهاء كتابَ وصيته، وخَتَمه بمهره، وجَعَل الأمرَ مِن بعده في العباس "الغصن الأعظم"، وبعده لابنه الثاني المِرزة محمد علي "الغضن الأكبر": "قد اصطفينا الأكبرَ بعد الأعظم أمرًا من لدن عليم خبير". ° ودَبَّ الخلافُ بين الابنين الكذَّابَينِ، وافترقت البهائية إلى فرقتين: - فرقة تتبع "العبَّاس"، وتُسَمَّى "العباسية"، ويسمِّيهم مخالفوهم "المارقين". ¬

_ (¬1) "العقائد" لعمر عنائت (ص 156). (¬2) "الفوائد" للجلبائيجاني، و"التبيان والبرهان" للعراقي، وكتاب "القيامة" للعملي.

- وطائفة اتَّبعت المِرزة "محمد علي" الابن الأصغر، وتُسمَّى "الموَحِّدون"، ويلقَّبهم أعداؤهم بـ "الناقضين". وحَلَّ بينهما قتالٌ وخطف، وقَتل العباسُ -الذي ادعى النبوَّةَ بعد أبيه- خادم أبيه "المرزة آقاجان الكاشاني" "خادم الله"، وسَلَبه أمواله. ° ادَّعى المرزة "عباس أفندي" نَجْلُ البهاء النُّبوَّة والرسالة مخالفًا النصوصَ الصريحة لأبيه في انقطاع الأمرِ بعدَه إلى ألفِ سنةٍ، فقد قال: "مَن يَدَّعي أمرًا قبل إتمام ألفِ سنةٍ كاملةٍ إنه كذَّاب مُفتر، نسألُ اللهَ بأن يؤيِّدَه على الرجوع إن تاب إنه لهو التوَّاب، وإن أصرَّ على ما قال يُبعث إليه عن لا يرحمهُ، إنه لشديد العقاب، مَن يُؤوِّلُ هذه الآيةَ أو يُفسِّرُها بغيرِ ما نزل في الظاهر، إنه محروم من رَوح الله ورَحمته التي سبقت العالمين" (¬1). ° ادَّعى هذا الدَّعِيُّ أنه "رسولُ الميثاق"، كما ذكر ذلك المِرزة "أحمد سهراب البهائي" في "يومياته": "إن العباس كَتب إلى أتباعه بعدما رجع من أسفاره الطويلة: سيأتي يومٌ لا أكون فيه معكم، فإن أيامي أصبحت محدودة، ولا يوجد عندي فَرحٌ إلا في ذلك الأمر، فكم أُحبُّ أن أرى الأحبَّاء متَّحِدين كأنهم عِقدُ لؤلؤ مُضيئ، أو نجوم الثريا، أو أشعةُ الشمس الواحدة، أو غزلان مرعًى واحدٍ .. هذه حَمامةُ القُدس تُغنِّي أفلا يُنصِتون؟ هذا مَلاكُ الملكوت الأبهى يناديهم أفلا يُلبُّون؟ وهذا رسولُ الميثاق يدافعُ أفلا ينتبهون؟ إني منتظرٌ لأسمع .. ألاَ يستمعون لتمنِّياتي ويُتمِّمون آمالي ويُلبُّون دعاني؟ ها أنا ذا منتظرٌ منتظرٌ بفراغ صبر" (¬2). ¬

_ (¬1) "الأقدس" للمازندراني. (¬2) "يوميات مرزة أحمد سهراب" 2 إبريل سنة 1914 نقلاً عن "بهاء الله" (ص68).

° وقد ذَكر المستشرق "براؤن" في مقدمة "نقطة الكاف": "أنه مع اطلاعه الكثير على أمر البابية والبهائية لا يَعرفُ حقيقةَ دعاوى العباس، اللَّهم إلاَّ أنَّ أتباعَه يعتقدون فيه بأنه مَظهَرُ العصر الحالي، واعتقادًا بأنَّ فيضَ الله لا ينقطعُ يَعُدُّونه نبيًّا ومَظهرًا إلهيًّا" (¬1). ° ويقول في مقالته لدائرة المعارف للمذاهب والأديان: "إن العباس ادَّعى بعد وفاةِ المازندراني بأنَّ الوحيَ وسلسلتَه والإِلهامَ لم ينقطع بعد أبيه، وأنه هو موردُ ذلك الوحي والإلهام بعد أبيه" (¬2). ° وذكر في كتابٍ آَخَرَ نقلاً عن المِرزة "جاويد القزويني": "أن عباس ادَّعى بعد أبيه في أمريكا بأنه هو المسيح الذي وعد بمجيئه وابن الله، وادَّعى في إحدى خطاباته في الهند أنه هو البهرام الذي وعد بمجيئه للزراد شتيين" (¬3). ° وقد قال العباس نفسُه عن نفسه: "إنه مُطلعُ الوحدة بين البشر، والمنادي باسم الحقِّ الواحد بين الأمم بقوةٍ رُوحانية، وهو المُبين للكتاب حسب النصِّ القاطع، وهو الغِذاءُ لكلِّ فردٍ من الأحبَّاء في هذه الدارِ الفانية" (¬4). ° وأيضًا: "أنا الذي أكشفُ الكتابَ الجليَّ وإن لم أوثِّقْ كتابَ الله لا يؤتَمَن عليه" (¬5). ¬

_ (¬1) "مقدمة نقطة الكاف" (ص 5). (¬2) "دائرة المعارف للمذاهب والأديان" (2/ 304). (¬3) "الدراسات في الديانة البابية" (ص 77). (¬4) "مكاتيب عبد البهاء" (2/ 429) ط انكليزي. (¬5) "مجلة نجمة الغرب" (ص 23) الصادرة 1913 م.

النبوءات الكاذبة لعباس عبد البهاء الدجال

° و: "وليس الحقُّ إلا ما يَنطق به لساني، فاسألوا من الآيات ومتونِها منِّي، وليس لأحد أن يتكلَّمَ بغير رضايَ بلفظة ولا كلمة" (¬1). ° وعلى ذلك قال المرزة "جاويد": "إنه ادعى الادعاءات التي لا تليقُ لغيرِ النبي والرسول" (¬2). ° وعلى ذلك حَصَل الخلاف بينه وبين "جورج خير الله" والمرزة "محمد علي" و"القزويني" و"الكاشاني" وغيرهم كما مر سابقًا. وحقيقةً لما انفتح بابٌ النبوة ما كان لأَنْ ينغلق بتلك السهولة، وما دام الشيرازي والمازندراني دخلوا هذا البابَ، فليس لهما أن يمنعا الآخرِين، وكان العباس بدهائه وذكائه وملعونيته أحقَّ وأولى من أن يدخلَه كما أن لغيره حقًّا ممن لعب الشيطان بعقلِهم أن يتجاوز هذا البابَ، وفعلاً دخلوه وتجاوزوه. * النبوءاتُ الكاذبةُ لعباس عبد البهاء الدجَّال: حتى يفضحَه الله مثلما فَضَح والده من قبل، أخبر عباس بنبوءات ظهَر كذبها: ° ولقد ذكر "اسلمنت" داعية البهائية في الكتاب الدعائي البهائي في باب "نبوءات بهاء الله وعبد البهاء"، نبوَّة للأب والابن معًا بعنوان "مجيئ ملكوت الله" ويقول: "ومِن بين هذه الأوقات العصيبة ينشأُ وينمو أمر الله، ويُسبِّبُ كثرةَ المصائب الناتجة عن النزاع الذاتي للبقاء والفردي والكسب ¬

_ (¬1) المصدر السابق نقلاً عن "الدراسات في الديانة البابية" (ص 238). (¬2) المصدر السابق.

الوطني أو المذهبي أو الجنسي، يلتجئُ الناسُ أخيرًا إلى التوجُّهِ بعد اليأس إلى العلاج الذي قدَّمَتْه الكلمةُ الإلهية، وكلَّما زادت المصائبُ كلَّما زاد توجُهُ الناسِ إلى هذا العلاج الحقِّ". ° ويقول بهاء الله في رسالته إلى الشاه: "قد جَعل الله البلادَ غاديةً لهذه الدسكرة الخضراء وذُبالة لمصباحه الذي به أشرقت الأرضُ والسماء". ° ويكتب "اسلمنت" بعد ذلك: "وقد تنبأ بهاءُ الله وعبدُ البهاء بأصرح وأوثقِ عبارةٍ عن النصر السريع للأمور الروحانية وفوزِها على الأمور المادية وعن تأسيسِ الصُلح الأكبر بعدها، وقد كَتب عبدُ البهاء في 1904: اعلم أن الصعوباتِ والمصائبَ تزدادُ يومًا فيومًا ويقع العَالمُ في الضِّيق، وتغلق أبوابُ السرور والسعادة من كل الجهات وتنشأ الحروبُ الفظيعة، ويُحيطُ اليأسُ والحزنُ كل الأمم منَ كل الجهات إلى أن يضطروا للرجوع إلى الله، وإذ ذاك تُضئُ أنوارُ الفرح الأعظم جميعَ الآفاق حتى يرتفعَ ضجيج "يا بهاء الأبهى" من جميع الجهات" (¬1). ° ولَمَّا سُئل "عباس أفندي" الملقب "بعبد البهاء" في فبراير 1914م إذا كانت دولةٌ من دول العالم العظيمة تؤمنُ بالديانة البهائية والأمرِ البهائي أجاب: "سيؤمن جميعُ أهل العالم .. الآن قد أحاط أمرُ الله جميعَ العالم، وبدون شك سوف يأتي الجميعُ ويدخلون في ظل أمر الله -أي أمر البهائي-" (¬2). ¬

_ (¬1) "كتاب الحرب والإسلام" (ص 187) نقلاً عن "بهاء الله والعصر الجديد" لاسلمنت (ص 239). (¬2) "صحيفة بهائية إنجليزية" "نجمة الغرب" (ص 9)، (ص 31).

° وقد قرَّر صراحةَّ بَقُربِ حصول ذلك، وبأنه يَتِمُّ في هذا القرن الحالي، ففي خطابةٍ خطبها قال: "هذا القرن قَرنُ شمس الحقيقة، وهذا القرنُ قرنُ تأسيسِ ملكوت الله على الأرض" (¬1). ° ويقول "اسلمنت" بعد هذا كله: "إن عبد البهاء عباس الملهَم والموحَى إليه حَسْبَ زعمهم -صرَّح في محادثة على المائدة بحضرته: يتأسس الصلحُ العامُّ على أساس متين، وتترقَّى اللغةُ العامَةُ، ويزولُ سُوءُ التفاهم، وينشر الأمر البهائي في جميع الأقطار، وتتأسسُ وِحدةُ الإِنسانية سنة 1957 الميلادية حَسب البشارات القديمة" (¬2). فهذه هي النبوَّة الآخرى الكبيرة التي تنبَّأ بها حسينُ علي ربُّ البهائية، وفسَّرها وبينها ببيانٍ واضحٍ جليٍّ ابنُه عباس عبد البهاء نبي البهائية وشارحها. ولقد أطلنا فيها النقل لأنها مهمة، حيث لا تَقبلُ التأويل وحَمْلَها على محمل آخر، وحدَّدها عبد البهاء بعام مخصوص وهي 1957م، وهي السَّنة التي جاء ذِكرُها في البشارات القديمة أيضًا حسب زعمه وزعمهم. وهي آخرُ السنوات التي تعمُّ فيها البهائيةُ العالَمَ، وتُنشر في أرجائه وأنحائه، وتَعتنقُ الدولُ العظيمةُ السخافةِ البهائية إلى هذه السنة، ويرتفع فيها ضجيجُ هُتافِ البهائية، وشعارُها "يا بهاء الأبهى" من جميع الجهات، ويجعلُ الله البلادَ غادية لهذه الدسكرة الخضراء وذبالةً لمصباحه الذي به ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) "بهاء الله والعصر الجديد" (ص 240).

أشرقت الأرضُ والسماء، فماذا حدث أيها الناسُ إلى عام 1957 م، بل حتى إلى عام 2006 م أي بعده بخمسين سنة؟!. فأيةُ دولةٍ من الدول العظيمةِ اعتنقت البهائية؟ وأيُّ العالَم وأرجاؤُه وأنحاؤة انتشر فيه البهائيون، وأي الدنيا ارتفع فيها ضجيجُ الشعار البهائي، وفي أيةِ قطعةٍ مِن قِطاع الأرض عَمت فيها تعليماتُهم، فضلاً من أن تُحيطُ العالَمَ بأسرِه؟!. لا توجدُ دولةٌ من الدول .. فالبهائية طريدة مطرودة .. شريدةٌ مشرودة في جميع أطرافِ العالم وآفاقه فَطُرِدت من إيران يومَ ولادتها لغدرها وخيانتها وولائها للدولة الاستعمارية الروسية آنذاك، وشُرِّدت من العراق يوم نشأتها لفسادها ودمارها، ثم أُجليت من "أدرنه" واستانبول إلى أن آواها الاستعمارُ البريطاني، واحتضنتها الصهيونية في فلسطين المغصوبة لخدماتها الجليلة لصالح العُصبة الصهيونية والأمبريالية الإنكليزية، ومِن بعد ذلك لم يستقر لها المَقام، حتَّى هُوجمت في مصرَ التي بدأت تتمركزُ فيها، واستُئصِلت شأفتُها من ليبيا العربية وسوريا ومراكش، وقُضي عليها في باكستان وأفغانستان في بدايةِ أمرها حيث تدارَكَ العلماءُ والساهرون على مصالح أمةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - خَطَرَها الكبيرَ والدهماءَ التي كانت تَكِنُّ من وراءِ دعوتها الخلابةِ الجذابةِ بطريق المكر والخداع والدعارة العلنية، والإِباحية المطلقة، والتجمعات الخليعة المكشوفة بين الرجال والنساء باسم "مساواة الرجال والنساء". ولا توجد الآن ضلالتها وظلامُها إلا في بعض الإمارات وفي بعض البيئات المنحلَّة وبعض الأعاجم الغاضبة الحاقدة على الرسالة العربية والأَّمةِ المجيدة .. فهذا هو شأنُها في العالم الإسلامي.

° وأما العالَم الغربي الأوروبي، ولم يأبه بها رغم الدعاوى الزائفة الكبيرة الباطلة، فالدولةُ الأوروبية لا يوجد في أكثرها بهائي صرفا إلا أمريكا، فإن يهودَها يُربُّونها ويموِّلونها، وأخيرا أنشؤوا لها مركزا في "شيكاغو"، وهذا مع أنهم -أي: اليهود- منعوهم من التبليغ لدينهم في "عكا وحيفا" المراكز الأصلية لهم في فلسطين، حيث تقر فيها الحفرة التي دُفن فيها المازندراني والهُوة التي رمي فيها ابنُه عباس. وهذه هي حالتهم في إفريقيا، رغم الجهود التي بُذلت، والأموالِ الطائلة التي صُرفت، والمؤامرات التي نُسجت خيوطُها لإحباط الإِسلام في هذه القارة، وإبعادِ الناس عن الرسول العربي الكريم، البشيرِ والنذيرِ للناس كافةً - صلى الله عليه وسلم -. وإلاَّ أيةُ دولة يحكَمُها البهائيُّون؟! وأيةُ بلادٍ ينتشرون فيها وقد مضى على 1957 أكثر من خمسين عاماً؟!. فأين نُبوءةُ حسين علي البهاء؟! وأين نُبوءةُ ابنِه عبد البهاء؟! حيث يقول: "سيؤمن جميعُ أهل العالَم .. " إلخ؟. وأين دعوى الداعية "اسلمنت": "ومن بين هذه الأوقات العصيبة ينشأُ وينمو أمرُ الله .. " إلخ؟!. ° فماذا يقول عن دعواه: "ومن ذلك يتضح جليا بأن بهاء الله هو مبِينُ حق، ولسانُ صِدق لإِرادةِ الله الخلاقية، وزيادةَ التمعن في تنبوأت بهاء الله وتحققها في الأعيان يُثبت حقيقته إثباتًا قويا مؤكّدًا" (¬1). فماذا يا "اسلمنت" الكذاب، متبع الكذاب ابن الكذاب؟!. ¬

_ (¬1) "بهاء الله والعصر الجديد" (ص 231).

ونبوءةٌ أخرى: ° وهناك نبوءة أخرى لعبد البهاء عباس آفندي، حينما يخبر أن أمرَ البهائية يؤول إلى حفيده "شوقي آفندي" ومِن بعده بِكرًا بعد بِكر من أولاده، فيقول: "إن الجميعَ يتوجَّهون بعدي إلى آيةِ الله وغُصْنِه الممتاز، ووليِّ أمرِ الله ومرجع الأغصان والأفنان وأيادي أمر الله وأحبائه، الذي هو مُبينُ آياتِ الله، ومِن بعده بِكرًا بعد بكر من سُلالته الذي يكَونُ في حفظِ جمال الأبهى ورعايته .. مَن خالفه فقد خالف اللهَ، ومَن عارضه فقد عارض الله، ومَن نازعه فقد نازع الله، ومَن جادله فقد جادل الله، ومَن أنكره فقد أنكر الله، ومَن انحاز وافترق واعتزل عنه فقد اعتزل واجتنب وابتعد عن الله .. عليه غضبُ الله، عليه قهرُ الله، وعليه نِقمةُ الله" (¬1). فأخزاه الله وأذلَّه حث مات "شوقي آفندي" صبيحةَ الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1957، ولم يُنجب بِكرًا ولا غيرَ بكر، ولم يُخلف بعده أحدا، فكذبه الله كما كذب أباه من قبل حينما أخبر بولايةِ العهد وخلافته لولده "العباس عبد البهاء"، ومِن بعده لولده الثاني "المرزة محمد علي"، كما نصَّ في الكتاب "العهدي": "يتوجَّهُ عمومُ الأغصان والأفنان والمنتسبين إلى الغُصن الأعظم "عبد البهاء عباس"، انظروا إلى ما أنزنناه في كتابي "الأقدس" إذا غيض بحرُ الوصال، وقُضي كتابُ "المبدأ في المآل"، توجَّهوا إلى من أراده الله الذي انشعب من هذا الأصل القديم، وقد كان المقصود من هذه الآية المباركة الغصنُ الأعظم، كذلك أظهرنا الأصل فضلاً من عندنا، ¬

_ (¬1) "ألواح وصايايَ المباركة" لعباس أفندي (ص 11، 12).

هلاك عباس أفندي الكذاب

وأنا الفضال الكريم، قد قَدَّر اللهُ مقامَ الغصن الأكبر "المرزة محمد علي ابنه الثاني" بعد مقامه إنه هو الآمر الحكيم، قد اصطفينا الأكبر بعد الأعظم أمرًا من لدن عليم خبير" (¬1). ° والحالُ أن ذلك "المصطفى" والذي قد "قَدَّر الله له ذلك المقام" لم ينل حقَّه، بل طُرد من البهائية، وسُمِّي هو ومَن والاه من البهائين "الناقضون للميثاق"، وشُتم ولُعن، حيث يقول عنه البهاء عباس عنده في وصاياه: "فرجع كيدُ مركز النقضِ إلى نحرِه، وباء بغضبٍ من الله، وضُربت عليه الذِّلَّةُ والهوان إلى يوم القيامة، فتبًّا وسحقًا وذلاَّ لقوم سَوءٍ أخسرين" (¬2). ° و: "إن مركز النقض وقُطبَ الشِّقاق الميرزة محمد علي "المصطفى، والغصن الأكبر كما سماه أبوه المازندراني ربُّ البهائية"، انحرف عن ظلِّ الأمر "البهائي" ونَقض الميثاق، وحَرَّف آيات الكتاب، وأوقع الخللَ العظيم في دينِ الله، وشتَّت حِزب الله، وقام ببغض عظيم لإيذاء عبد البهاء، وهجم بعِداءٍ شديدٍ على الأستانه المقدسة" (¬3). * هلاك عباس أفندي الكذَّاب: هَلَك عباسٌ الدجَّال بعدما ترك أربع بناتٍ كن مساعداتٍ لأبيهنَّ في دَجله، وزوجتُه "منيرة خاتم" التي كانت عشيقتَه قبل زواجه بها (¬4)!!! في ¬

_ (¬1) "الكتاب العهدي" للمازندراني نقلاً عن كتاب "البابيون والبهائيون" للحسني (ص 43 44). (¬2) "ألواح وصاياي المباركة" (ص 26) ط باكستان. (¬3) المصدر السابق (ص 4). (¬4) "بهاء الله والعصر الجديد" (ص 60).

سماء الله البهائي -لعنه الله- و"السماوية"

28 تشرين الثاني سنة 1921 م الموافق 28 ربيع الأول سنة 1340 هـ. وحَزِن الإِنجليزُ على وفاته حزنًا عميقًا؛ لأنهم لم يَجِدوا عميلاً وَفِيًّا لهم مثلَه، فأبرقت حكومةُ بريطانيا عن طريق وزير المستعمرات مستر "تشرشل" إلى حاكم فلسطين السير "هربرت صمويل" -المندوب السامي في فلسطين- أن يُبَلِّغ آلَ البهاء والبهائيين عامةً تعازِي الحكومة، وأنها تشاركهم الأحزان، كما أن الجنرال "اللنبي" -حاكم مصر- أرسل برقية عبّر فيها عن شديدِ أسَفِه وألمه عن هذا المصاب الأليم وفقدانِ السير عبد البهاء العظيم!!! وشَيَّع جنازتَه المندوبُ السامي وفاءً لعميلهم وجاسوسهم في فلسطين المسلمة، والخائنِ الغادرِ لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، المفتري على الله ورسوله وأمته .. فهو المؤسس الحقيقي والمطوِّر للبهائية الموجودة. ودفن في حفرتَه في سفح جبل "الكِرمِل" قرب حفرة "الشيرازي". * سَماء الله البهائي -لعنه الله- و"السماوية": بعد هلاك بهاءِ الله المازندراني انقسمت البهائيةُ إلى أكثرَ من فرقة، وكانت الفرقةُ السادسةُ من فرق البهائية هي "السماوية" التي أوجدها وأنشأها شابٌّ بهائيٌّ إيرانيٌّ، وهو المدعو "جمشيد ماني"، ولد في بيئة بهائية في خُراسان، ونشأ وترعرع في أحضان البهائية، ودَرَس الدراساتِ العصريةَ في مختلفِ جامعات أوربا، ولما رأى أن البهائية فتحت باب النبوَّة والرسالة على مصراعيه، وأن المازندراني لم يَقتنع بالنبوَّة والرسالة فحسب، بل ارتقى إلى عرشِ الربوبيَّة والأُلوهيَّة، ومع سفاهته وجهلِه استطلاع جَلبَ الكثيرين من الإِيرانيين وغيرِهم من الأوربيين التائهين إلى ديانته السخيفة،

أراد "جمشيد" أن يُجرِّب حظه في ذلك أيضًا، وبعدما أكمل دراستَه الجامعية وانتُدب للتدريس في إحدي جامعات إندونوسيا، وفعلاً في سنة 1966 م وفي شهر يناير أَعلن فجأة بين البهائيين بأنه عُرج به إلى السماء، وفاز برؤية الله ولقائه، وتشرَّف بالكلام معه، واختير نبيا ورسولاً لهذا العصر، ولقب من قِبَل حَضرةِ الباري بـ "سماء الله"، وبدأ يُنزل الألواح ويكتبُ الصحف مثل المازندراني والباب الشيرازي، فاتبعَتْه طائفة من البهائية أيضا، وسُمِّيت "السماوية". وهذه هي الفرقة السادسةُ من الفرق البهائية، يعتقدون "الباب الشيرازي" مبشِّرا، و"بهاءَ الله المازندراني" ربًّا، و"العباسَ عبدَ البهاء" نبيا ورسولاً، و"جمشيد سماء الله" مَظهرًا إِلهيا آخِرًا مثل العباس، ولقد رأيتُه (¬1) يومَ زيارته إلى باكستان قبل أعوام، وكان آنذاك في مُقتبل شبابه لم يتجاوزِ الثلاثينَ من العمر، فاستطاع اصطيادَ الكثيرين من البهائية في إندونوسيا وإيران وباكستان، كما فَتح مركزًا له في كاليفورنيا في أمريكا، وكانت حجته الوحيدةُ أقوال "الشيرازي" حول "مَن يظهره الله" مثل "إن أيَّ شخص يدَّعي النبوةَ والرسالةَ لا ينبغي أن يَرُدَّ عليه ويُنكرَ دعواه" (¬2). وأيضًا عبارت "البهائيين" عامةً "بأن فيض الله لا ينقطع"، فما دام لم ينقطع بعد محمدٍ رسول الله، كيف انقطع بعد المازندراني والعباس؟!. ° ولقد ذكر أحد الذين كتبوا في البهائية من إيران "بأنَّ كلام سماء الله ¬

_ (¬1) "الكلام" للشيخ إحسان إلهي ظهير. (¬2) "برنس دالغوركي" (ص76).

لا يقِلُّ عن كلام المازندراني والشيرازي فصاحةً وبلاغةً ورداءةً وركاكة" (¬1). وألَّف كُتُبه التي يُسمِّيها ألواحًا وصُحُفًا في اللغة الفارسية الفصحى أحسنَ مما ألَّفه الشيرازيُّ والمازندراني ودُونَ لغة العباس، ولكن الأُسلوبَ والتعبير هو عينُ أسلوب الشيرازي والمازندراني، بل هو محاكاةٌ حرفيةٌ لهما وللعباس. ° وأما ما ألَّفه في اللغة العربية، فركيكٌ أكثَرَ ركاكةً من المازندراني وأقربَ إلى جهل الشيرازي، وعندي بعضُ الرسائل من مؤلَّفاته المترجمة إلى اللغة الإنكليزية، ولكني لا أريدُ إضاعةَ وقتِ القارئ بنقل العبارات عنها، حيث إنها لا تشتملُ إلا على الكلام الفارغ المتكرر، المقتَبَسِ المسروق من كتب الشيرازي والمازندراني والعباس وغيرهم من البهائية وأكابرِ مجرميها، اللهم إلاَّ عبارةٌ موجزةٌ من كتابه "العرفان"، فإنه يؤولُ فيها كلامَ المازندراني حولَ مسألةِ انقطاع الوحي بعدَه إلى ألفِ سنةٍ، فيقول: 1 - إن حضرةَ عبدِ البهاء شارح الكتاب "الأقدس" ومُبيِّنُ آياتِ الرب حسب النصوص "البهائية"، أول هذه الآيةَ المباركةَ، حيث قال: "بأن كل يوم من هذه الألف سنةٍ كألفِ سنةٍ، فيصيرُ كل سنة كثلاثِمئةٍ وخمس وستينَ ألف سنة، ومعناه بأنَّ الانقطاعَ يمتدُّ إلى أبد الآبدين". ومعنى هذا بأن هذه الآية المباركة "للمازندراني" تَحتملُ التأويلَ، حيث أوَّلها حضرةُ عبد البهاء. 2 - إن حضرةَ عبد البهاء لم يَعُدَّ هذه الآيةَ مانعةً من ادِّعاء النبوة، ¬

_ (¬1) "رحيق مختوم" لأشراق الخاوري (ص 320، 321).

ولذلك ادَّعى كما هو معروف، وكما نحن نعتقدُ فيه. 3 - لقد عَلمِنا من كلام حضرةِ المبشِّر وحضرة بهاءِ الله وحضرةِ عبد البهاء بأن الفيضَ الإلهيَّ لا انقطاعَ له، ومَن ينكر هذا ينكر سُنَّةَ اللهِ التي لن تَجدَ لها تبديلاً. وبناء على ذلك أقول: إن للمَظهرِ الإلهي حقَّ أن يُبيِّنَ تأويلَ هذه الآيةِ وتأويلَ كلمةِ "ألف"، وقيمتُها العددية: "ألف" مركبةٌ من حروف ثلاثة: (أ) و (ل) و (ف)، و (أ) عدده (1) و (ل) عدده (30) و (ف) عدده (80)، فيَصيرُ المجموع (111)، ومعنى ذلك بأنَّ حضرةَ بهاءِ الله بين مُدَّةَ الديانةِ البهائية إلى (111) سنة، وبعده تنتهي الديانةُ البهائية بمَظهر جديد ورسولِ جديد" (¬1). والجديرُ بالذِّكر أنه يَعُدُّ بَدءَ الديانة البهائية من يوم إعلانِ الباب، وكان إعلانُ الباب في شهرِ جُمادى الأولى سنة 1260 هـ الموافق مايو 1844 م. فهذا قليل من كثير أردنا ثَبْتَه نموذجًا للتأويلات الكاسدةِ الباطنية التي أخذتها البهائيةُ كمطيَّةٍ سهلةٍ لها، فاستعملها الآخرون لهدم ما بَنَوه، أعاذنا اللهُ منها ومنهم .. ولا يزال "السماويون" موجودين في باكستان بعد ما كانوا بهائيين عباسيين قبل ذلك، ومن الطرائف أنه لم يعتنقِ البهائيةَ أحد في باكستان إلاَّ وكان قاديانيًّا قبل ذلك، اللَّهم إلا عددَا يُعدُّ على الأنامل من متطرِّفي الشيعة والفقراءِ من الناس خُدعوا أم أغرُوا بالمال" (¬2). ¬

_ (¬1) كتاب "عرفان" لجمشيد سماء الله و"برنس دالغوركي". (¬2) والحمد لله لم يبق هؤلاء أيضًا في "البهائية والسماوية" حيث انتهى أمرهم تقريبًا في باكستان.

النبي الأوربي "ميسن ريمي"!!!

* النبيُّ الأوربي "ميسن ريمي"!!!: كان أحدَ المقرَّبين إلى "شوقي أفندي" شخصٌ أوربي يدعى "ميسن ريمي"، وكان جميلاً وسيمًا، ويقولون عنه بأنه هو الذي أفسد "شوقي آفندي" وعرَّفه على كثير من زوايا الحياة الأوربية المتفسِّخة، وبعد أنْ صار "شوقي آفندي" وليًّا للأمر البهائي، جَعَله من أقربِ مقرَّبيه، ولَقَّبه بلقب "رئيس"، وبعد ما مات "شوقي آفندي" أبترَ لا خَلْفَ له ادَّعى "ميسن ريمي" ولاية الأمرِ البهائي بعده، ثم ارتقى إلى منصبِ النبوة والرسالة، وتبعه بهائيو فرنسا وبعضُ البهائين من بلدان أوربية أخرى، ويسمَّون بـ "ميسن ريميين" أو أتباع" الرئيس" (¬1) (¬2). * غلام أحمد القادياني، دَجَّال الهند -لعنه الله- (¬3): ° عميلُ الإنجليز، الكذَّابُ الدجَّال، انظر إلى عقيدته، ثم انظرْ بعد ذلك إلى نهايته. يقول المتنبِّي القادياني "غلام أحمد": "قال لي الله: إني أُصلِّي وأصوم، وأصحو وأنام" (¬4). ° ويقول الكذَّاب: "قال الله: إني مع الرسول أُجيب، أُخطيءُ وأصيب، إني مع الرسول محيط" (¬5). ° ويقول أيضًا: "أنا رأيتُ في الكَشف بأني قَدَّمتُ أوراقًا كثيرةً ¬

_ (¬1) "برنس دالغوركي" (ص 76، 77). (¬2) "البهائية" لإحسان إلهي ظهير (ص 348 - 351، 352). (¬3) من كتاب "القاديانية دراسات وتحليل" تأليف الأستاذ: إحسان إلهي ظهير. (¬4) "البشرى" (2/ 97) للغلام القادياني. (¬5) "البشرى" (2/ 79).

إلى الله، ليوقِّعَ عليها، ويُصدِّقَ على الطلباتِ التي اقترحتُها، فرأيتُ أن الله وقَّع على الأوراق بحبرٍ أحمر، وكان عندي وقتَ الكشف رجلٌ من مريديَّ، يقال له: "عبد الله"، ثم نَفَض الربُّ القلمَ، وسَقَطَتْ منه قطراتُ الحبرِ الأحمر على أثوابي وأثوابِ مريدي عبد الله" (¬1). ° ويقول: "نستطيع أن نَفرضَ لتصويرِ وجودِ الله بأنَّ له أيادي وأرجلاً كثيرة، وأعضاؤه بكثرة لا تُعدُّ ولا تُحصى، وفي ضخامةٍ لا نهايةَ لطولها وعرضها، ومثلُ الأخطبوط له عُروقٌ كثيرة، التي هي امتدَّت إلى أنحاء العالم وأطرافها" (¬2). وهؤلاء القاديانية المرتدُّون يعتقدون أن الله جامَعَ وباشَرَ نبيَّهم "غلام أحمد"، وليس هذا فحسب؛ بل هو النتيجةُ أيضًا لهذه المباشرة. فأولاً: الذي باشره اللهُ هو نبيُّهم "غلام أحمد". ثانيًا: ثم وهو الحامل. ثالثًا: هو المولود. ° قال القاضي يار محمد القادياني: "إنَّ المسيح الموعود -أي: الغلام- بيَّن مرةً حالتَه فقال: إنه رأى نفسَه كأنه امرأة، وإن الله أظهر فيه قوته الرجولية" (¬3). ° ويقول المتنبي القادياني بنفسه: "قد نُفخ فيَّ روح عيسى، كما نُفخ ¬

_ (¬1) "ترياق القلوب" (ص 33). (¬2) "توضيح المرام" للقادياني (ص 75). (¬3) "ضحية الإسلام" ليار محمد (ص 34).

في مريم، وحُبلتُ بصورةِ الاستعارة، وبعد أشهر لا تتجاوزُ عن عشَرةِ أشهر، حُوِّلتُ عن مريم، وجُعلتُ عيسى، وبهذا الطريق صرت ابنَ مريم" (¬1). ° ويقول: "إن الله سمَّاني بمريم التي حَبَلت بعيسى، وأنا المقصودُ من قوله في سورة التحريم: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ التَّي أَحْصَنَتْ فرْجَهَا فَنَفَخْنَا فيه مِن رُّوحِنَا} (¬2). وعلى هذا الأساس تعتقدُ القاديانيةُ بأن "غلامَ أحمد" هو ابنُ الله، بل هو عين الله. ° يقول المتنبي الكذَّاب: "قال لي الله: أنت من مائنا، وهم من فشل -أي الجُبن" (¬3). ° ويقول: "خاطبني الله بقوله: اسمعْ يا ولدي" (¬4). ° وقال: "قال لي الربُّ: أنت مني، وأنا منك، ظهورُك ظهوري" (¬5). تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا. ° ونريدُ أن نشيرَ بأن الإلهَ، الذي ادَّعى القاديانيةُ بأن الغلامَ ابنٌ له، كان إِنكليزيًّا، كما صرَّح "غلام أحمد"، فيقول: "أنا أُلهمت عِدَّةَ إلهامات في الإنكليزية، وفي المرة الأخيرة ألهمت: " I CaN What I Will do" يعني: ¬

_ (¬1) "سفينة نوح" للغلام القادياني (ص 47). (¬2) "هامش حقيقة الوحي" للغلام (ص337). (¬3) "انجام آتم" للغلام (ص 55). (¬4) "البشرى" (1/ 49) للغلام. (¬5) "وحي المقدس" للغلام (ص 650).

الطاعون يقع بالقاديان، والجزاء من جنس القول والعمل

"أنا أعمل ما أشاء"، فظننتُ من اللهجة والتلفُّظ كأنه إنكليزيٌّ قائمٌ عَلى رأسي يتكلم" (¬1). ° ويعتقد "غلام أحمد" أن النبوة ما خُتمت برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقول هذا الدجال: "أحلفُ بالله الذي في قبضته رُوحي، هو الذي أرسلني وسماني نبيًّا، وناداني بالمسيح الموعود، وأنزَلَ لصِدقِ دعواي بينات، بلغ عددُها ثلاثَمئة ألف بينة" (¬2). ° ويقول: "هو الإلهُ الحق، الذي أَرسل رسولَه في القاديان، وأن الله يحفظُ القاديان، ويحرسها من الطاعون، ولو يستمرُّ إلى سبعينَ سنة؛ لأنها مَسكنُ رسولِه، وفي هذا آية للأمم" (¬3). * الطَّاعُونُ يَقَعُ بالْقَاديَانِ، وَالجْزَاءُ مِن جِنْسِ الْقَوْلِ والْعَمَلِ: ° ومِن قُدرة القهَّار الجبَّار أنْ وقع الطاعون في هذه القرية التي أنجسها "غلام أحمد"، وعَمَّ القرى الجاورة، بل ودخل إلى بيتِ "غلام أحمد" نفسِه، فيقول في رسالةٍ أرسلها إلى صِهره: "ودخل الطاعون حتى في بيتنا". والجزاء من جنس قولِ الكذَّاب، ففضحه الله في حياته: ° ويقول القادياني: "أنا وحدي أُعطيت كلَّ ما أُعطي لجميع الأنبياء" (¬4). ¬

_ (¬1) "براهين أحمدية" للغلام القادياني (ص 480). (¬2) "تتمة الوحي" للغلام (ص 68). (¬3) "دافع البلاء" للغلام (ص 10، 11). (¬4) "در ثمين" لغلام أحمد (ص 287).

° ويقول بنزول جبريل عليه السلام: يقول الغلام: "إن جبريل جاء إليَّ واختارني، وأدار أُصُبعَه، وأشار إلي بأن اللهَ يحفظُك من الأعداء" (¬1). ° بل وحيُه كوحيِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وإلهامتُه كالقرآن: يقول الغلام: "واللهِ العظيم، أؤمن بوحيي، كما أؤمن بالقرآن، وبقيةِ كتبٍ أُنزلت من السماء، وأنا أومنُ بأن الكلامَ الذي ينزل عليَّ ينزلُ من الله، كما أؤمن بأن القرآنَ نزل من عنده" (¬2). ° ويقول: "إيماني بالإلهامات التي تنزلُ عليَّ، كالإيمان بالتوراة والإنجيل والقرآن" (¬3). ومن اعتقادات القاديانية أنه نزل على "غلام أحمد" الكتاب، كما نَزل على بعض الرسل، وأن الذي أُنزل عليه أكثرُ مما أُنزل على كثير من الأنبياء، واسمُ هذا الكتاب المنزل عليه: "الكتاب المبين". ° يقول "غلام أحمد": "نزل عليَّ كلامُ الله بهذه الكثرة، لو يُجْمَعُ لَمَا يَقِلُّ عن عشرين جزءً". ويعتقدون أن "القاديان" -قريةَ الكذابِ الخبول- أفضلُ من مكةَ والمدينة، وفيها قطعةٌ من قطعات الجنة. ° يقول الغلام القاديانى: "قد أنزل الله قوله في القرآن: {ومَن دَخَلَهُ كَان آمِنًا} [آل عمران: 97] وصْفًا لمسجدي في القاديان" (¬4). ¬

_ (¬1) "مواهب الرحمن" للغلام (ص 43). (¬2) "حقيقة الوحي" للغلام القادياني (ص 211). (¬3) "تبليغ رسالة" (6/ 64). (¬4) "إزالة الأوهام" للقادياني (ص 75).

عقيدة الجهاد نجسة عند عميل الإنجليز

° وقال "غلام أحمد": "إن الذي لا يَجيءُ إلى القاديان أخافُ على إيمانه" (¬1). ° ويقول محمود أحمد بن الغلام: "قد انقطع ثمرةُ مكة والمدينة، ولكن ثمرةَ القاديان ما زالت طازجة" (¬2). الْحَجُّ: "الحج عندهم هو حضورُ المؤتمر السنوي في القاديان". ° يقول ابن الغلام: "إن مؤتمرنا السنويَّ هو الحج، وإن الله اختار المقامَ لهذا -الحج- القاديان" (¬3). ° وقال الغلام الكذَّاب: "إن البقاء في القاديان أفضلُ من الحجِّ النَّفْلي" (¬4). ° وفي قرآن القاديان "الكتاب المبين" آيات، ومِن بعض آياته: "إن الله ينزل في القاديان" (¬5). ° "يَحمَدُك اللهُ من عرشه وَيمشي إليك" (¬6). * عَقِيدَةُ الْجِهَادِ نَجِسَةٌ عِنْدَ عَمِيلِ الإِنْجِلِيزِ: ° قال المتنبِّي الدجال: "إن هذه الفِرقةَ "الفرقة القاديانية" لا تزالُ تجتهد ليلاً ونهارًا، لقمع العقيدةِ النجسة، عقيدةِ الجهاد من ¬

_ (¬1) "أنوار الخلافة" (ص 117). (¬2) "حقيقة الرؤيا" (ص 46). (¬3) "بركات الخلافة" لمحمود أحمد (ص5، 7). (¬4) "مرآة كمالات الإسلام" للغلام (ص 52). (¬5) "البشرى" للغلام (ص 56). (¬6) "عاقبة آثم" للغلام (ص 55).

المتنبي القادياني وإهانته للأنبياء والصحابة

قلوبِ المسلمين" (¬1). * الْمُتَنَبِّي الْقَادِيَانِي وَإِهَانته لِلأَنْبِيَاءِ وَالصٌحَابَةِ: * يفضِّل نفسَه على آدم: ° فيقول: "صار آدم ذليلاً مصغَّرًا، ثم خَلَقني الله لكي أهزمَ الشيطان" (¬2). * وَيُفَضِّلُ نَفْسَهُ عَلَى نَبِيِّ اللهِ نُوحٍ: ° فيقول: "إن الله أنزل لصِدقِ دعواي آياتٍ وبيناتٍ بهذه الكثرة، لو أُنزلت على نوح لم يغرَقْ أحد من قومه" (¬3). * ويُفَضِّل نَفْسَهُ عَلى نَبِيِّ اللهِ يُوسُفَ: ° فيقول: "إنا يوسف هذه الأمة -يعني: أنا العاجز الحقير- أفضلُ من يوسف بني إسرائيل؛ لأن الله شهد لبراءتي بنفسه، وبآياتٍ كثيرة، حينما احتاج يوسفُ بنُ يعقوب لبراءته إلى شهادة الناس" (¬4). * وَيُفَضلُ نَفْسَهُ عَلَى عِيسَى: ° فيقول: "إن الله أرسل من هذه الأمةِ المسيح، الذي هو أعظمُ شأنًا من المسيح الأول بمراتب، واللهِ الذي في قبضته روحي، إنْ كان عيسى في زمنِ الذي أعيشُ فيه أنا، ما كان يستطيعُ أن يعمل ما أعملُه أنا" (¬5). ¬

_ (¬1) "عريضة الغلام إلى الحكومة المندرجة في ريويواف ريليجنز، نمرة 5، 1922 م. (¬2) "ما الفرق في آدم والمسيح الموعود" للغلام. (¬3) "تتمة حقيقة الوحي" للغلام (ص 137). (¬4) "براهين أحمدية" للغلام. (¬5) "حقيقة الوحي" للغلام (148).

أفضل من كل الأنبياء

* أَفضلُ من كل الأَنْبِيَاءِ: ° يقول: "جاء أنبياءُ كثيرون، ولكن لم يتقدَّمْ أحدٌ عليَّ في معرفةِ الله، وكلُّ ما أُعطي لجميع الأنبياء أُعطيت أنا وحدي بأكمله" (¬1). * وَيَقْذِفُ الأَنْبِيَاءَ: ° يقول: "أنا أرى بأن المسيح ما كان يتنزَّهُ عن شرب الخمر" (¬2). ° ويقول الكذاب: "إن أسرةَ عيسى أسرةٌ عجيبة، كانت جَدَّاتُه الثلاثُ فاجراتٍ، ومِن هذا الدم المطهَّر! تكَوَّن وجودُ عيسى، ولعلَّه كان مَيَلانُ عيسى إلى المومساتِ لهذه النسبة، وإلاَّ لا يسمحُ أحد من المتقين، أن يَمسَّ رأسَه شابةٌ زانية، وتُعطِّرَه بمالها الحرام، فلْيَفهَم الناسُ كيف كان أخلاقَ هذا المسيح". ° والحمد لله أن هذا الخبيث يردُّ على نفسه، فيقول: "الذي يسبُّ أو يشتمُ الأخيارَ المقدَّسين فليس إلاَّ خبيث، ملعون، لئيم". * تَطَاوُله عَلَى الرَّسُولِ الْكَرِيمِ - صلى الله عليه وسلم -: ° يقول الدجال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - له ثلاثةُ آلاف معجزة، ولكنَّ معجزاتي زادت على مليون معجزة" (¬3). ° ويقول ابنه وخليفته: "إن الارتقاءَ الذهنيَّ لإمامنا كان أزيدَ وأكثرَ من النبي الكريم" (¬4). ¬

_ (¬1) "در ثمين" للغلام (ص 287، 288). (¬2) "ريويو" (1/ 123)، 1902 م. (¬3) "ضميمة آنجام آتتهم" للغلام (ص 7). (¬4) "البلاغ المبين" (ص 19).

ويقول "غلام أحمد"

* ويقول "غلام أحمد": لهُ خُسِفَ القَمَرُ المُنِيرُ وَإنَّ لي ... غَسَا القَمَرَانِ المُشْرِقَانِ أَتُنْكِرُ (¬1) ° ويقول: "إن الإسلام بدأ كالهلال، ثم قُدِّر له أن يكونَ في هذا القَرنِ كالبدر، وإلى هذا أشار الله -عز وجل-: {وَلَقَدْ نَصَرَكمُ اللهُ بِبَدْرٍ} (¬2) [آل عمران: 123] ". ° وقال هذا الدجالُ: "وأما تجلِّياتُ كمالاتِ رسولِ الله، ما كانت راقيةً إلى منتهاها، بل هذه التجلِّياتُ بَلغت إلى ذُروتها في عهدي وفي شخصي" (¬3). ° ويقول: "إن المراد في قول الله -عز وجل-: {مُحَمَّدٌ رسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] هو أنا؛ لأن الله سماني في هذا الوحيِ محمدًا ورسولاً" (¬4). ° ويقول: "أنا هو المِصداق؛ لقول الله -سبحانه وتعالى-: {هُوَ الَذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَق لِيظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (¬5) [الصف: 9] ". ° ويقول: "أنا المراد في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (¬6) [الأنبياء: 107] ". ¬

_ (¬1) "تذكرة الشهادتين" للغلام (ص 41). (¬2) "ريويو القادياني" مايو سنة 1939 م. (¬3) "خطبة إلهامية" (ص 177) للغلام. (¬4) "قول الغلام المندرج في تبليغ رسالت" (10/ 14) لقاسم القادياني. (¬5) "إعجاز أحمدي" للغلام، "ضميمة نزول المسيح" (ص 7). (¬6) "أربعين" نمرة 3، للغلام (ص 25).

° ويقول: "وأنا المقصود في قوله: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقَامًا مُحْمودًا} (¬1) [الإِسراء: 79] ". ° ويقول محمود أحمد خليفة القاديانية: "لو أن أحدًا يريدُ أن يتقدَّم على رسول الله مرتبةً وشأنًا يستطيعُ أن يتقدم". فأيُّ كُفر وخَبثٍ ونجاسةٍ أعظمُ من هذا؟! وهكذا يجتريءُ الأوباشُ على مَقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ° كتب أحدُ القاديانيين أنه سمع من أحد مُبلِّغي القاديانية، الذي هو من أهل بيت -يريدُ أولادَ الغلام- أنه يقول: "أين أبو بكر وعمرُ من "غلام أحمد"؟ إنهما لا يستحقَّانِ أن يَحمِلاَ نعلَيه". ° ويقول الغلام الكذاب: "أنا هو المهديُّ الذي سُئل عنه ابنُ سيرين، هل هو في مرتبةِ أبي بكر؟ فقال: أين أبو بكرٍ منه؟ بل هو أفضل من بعض الأنبياء" (¬2). ° ويقول: "يوجد فيكم عليٌّ حيٌّ فتتركونه، وتبغُون عليًّا ميتًا" (¬3). ° ويقول: "يقولون عنِّي بأني أفضِّلُ نفسي على الحسن والحسين، فأنا أقول: نعم، أنا أفضِّلُ نفسي عليهما، وسوف يُظهِرُ اللهُ هذه الفضيلة" (¬4). ° وقال ابنه: إن أبي قال: "مئةُ حسين في جيبي، فالناسُ يفهمون معناه، إنه يساوي مئةَ حسين، ولكني أقولُ أكثرَ من هذا، وهو: إن تضحيةَ ¬

_ (¬1) "أربعين" (ص 102) للغلام. (¬2) "معيار الأخبار" لغلام المدرج في تبليغ رسالت (9/ 30). (¬3) "ملفوظات أحمدية" (1/ 131). (¬4) "إعجاز أحمدي" للغلام (ص 58).

الغلام رجل أفيوني خمار

ساعةٍ واحدةٍ لخدمةِ الدين من أبي، أفضلُ من تضحياتِ مئةِ حسين" (¬1). * الغلامُ رجلٌ أفيوني خَمَّار: ° يقول ابنه: "كان أبي يقول: إن الأفيون نِصفُ الطب، ولذا استعمالُه للتداوي يجوزُ ولا بأسَ به، وإنه صَنع دواءً باسم "ترياق إلهي"، بهَدي الله وعونه، وكان الجزءُ الأكبر في هذا الدواء الأفيون، وكان يُعطي هذا الدواءَ لخليفتِه الأول "نور الدين"، كما كان يستعمله هو أيضًا حينًا بعد حينٍ لمختلف الأمراض". ° وأرسل الغلام إلى أحدِ مريديه في "لاهور" أن يرسلَ إليه "وائن"، ويشتريه من دكان رجل يقال له "بلومر"، وحينما سأل "بلومر" عن "وائن" ماذا هو؟ فقال: "إن وائن قِسم قَويٌّ مُسكر، من أقسام الخَمر الذي يُستوردُ من إنجلتر في القوارير المختومة" (¬2). * جَزَاءُ الْكَذَّابِ فَضْحُهُ وإِظْهَارُ كَذِبِه: هذا الذي كَذَب على الله، وكَذَب على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أظهر اللهُ كَذِبَه وشَهَره بهذا. ° يقول الكاذب: "لا يوجدُ أيُّ شيءٍ أحسنُ وأفضل لاختبارِ صِدقي وكَذبِي من تنبؤاتي" (¬3). ° ونقول له: "يداك أوكتا، وفُوك نَفَخ". ¬

_ (¬1) خطبة الجمعة في القاديان، المنشورة في مجلة قاديانية "الفضل" الصادرة في 26 يناير سنة 1926. (¬2) "مكتوب الإمام باسم الغلام" للطبيب القادياني، محمد حسين (ص5). (¬3) "مرآة الكمالات" للغلام (ص 232).

النبوءة الأولى

* النُّبُوءَةُ الأولى: تناظر "غلام أحمد" مع "عبد الله آثم" المسيحي في إحدى مدن الهند سنة 1893، وبعد نقاش طويل ما وصلا إلى نتيجة، ولم يَفُزْ واحد منهما على الآخر، فما أصبح الصباح يوم 5 يونيو سنة 1893، إلاَّ وقد أعلن بأنه أَخبر عن الله بأن "عبد الله آثم" سيموت في خمسةَ عشَرَ شهرًا، أي إلى 5 سبتمبر سنة 1894، فعاش "عبد الله آثم" المذكور طويلاً، ونُكِّس رأس الملعون، وأذلَّه الله في هذه الدنيا أمامَ الملإِ. * النّبُوءَةُ الثَّانِيةُ: ° ذهب رجلٌ من أقربائه -يُسمى "أحمد بك"- إليه في أمر كان يتعلَّقُ به، واستدعاه للمساعدة، فقال له: أساعدك بشرطِ أن تزوِّجني ابنتَك "محمدي بيجوم"، فأبى أحمدُ أن يقبلَ هذا الشرط، فجُنَّ جنون "غلام أحمد"، وبدأ يُهدِّدُه ويتوعَّده، وبَلَغ به الولعُ بهذه البنت أن قال: "إن الابنةَ الكبيرة لأحمد بك تُزوَّجُ لي، مع أن أهلها يخالفون ويمانعون، ولكنَّ الله يزوِّجها لي، ويَرفعُ كلَّ الحواجز، ولا يستطيعُ أحدٌ أن يحولَ دون تحقيق هذا" (¬1). ° ويقول: "قد قال الله -عز وجل-: زوَّجناكها نحن بأنفسنا، ولا يستطيعُ أحد أن يُبدِلَ كلماتي" (¬2). ° ويقول: "إن لم يتحققْ هذا النبأ، فأكونُ أخبثَ الخبثاء، هذا ليس افتراءً من إنسان، ولا لُعبةَ خبيثٍ مفتري، بل هذا وعد الله الحق، الإلهِ الذي ¬

_ (¬1) "إزالة الأوهام" للغلام القادياني (ص 396). (¬2) "الحكم السماوي" لغلام أحمد (ص 40).

النبوءة الثالثة

لا تبديلَ لكلماته، والربِّ الذي لا مانع لأرداته" (¬1). ° وظَلَّ يتذلَّل أمام أحمد بك، ويسترحمه: "أنا أرجو منكم بكلِّ أدبٍ وعجز أن تَقبلوا زواج ابنتكم مني". وحَرَم "غلام أحمد" ابنَه "سلطان" من الإرث وطلَّق أمه، وحَرَم ابنه "فضلاً" من إرثه أيضًا؛ لأنهم لم يساعدوه في الزواج من هذه المرأة. وفَضَحه الله على رؤوس الأشهاد، وتزوَّجت من غيره. * النُّبُوءَةُ الثَّالِثَةُ: وهي بموت زوج هذه المرأة وزواجِها منه، ولكن الكاذبَ يموت، وتظلُّ هذه المرأةُ حيَّةً مع زوجها، حتى ماتت في نوفمبر سنة 1966، ومات هذا الكذَّابُ سنة 1908. * النّبُوءَةُ الرَّابِعَةُ: ° في سنة 1866 م، وبتاريخ 20 فبراير، حينما كانت امرأةُ "غلام أحمد" حُبلى، أَعلن أنه أُلهم من الله ما نصه: "إن الله الرحيمَ الكريم، الذي هو قادرٌ على كلِّ شيءٍ، أخبرني بأنه يُظهر آيتَه، آيةَ الرحمة، آيةً بينة، ولدٌ جميلٌ وجيهٌ زكي، مَظهرُ الأولِ والآخر، مظهرُ الحقِّ والعلاء؛ كأن اللهَ نزل من السماء، وهذا الولدُ يكبرُ عَجِلاً، ويفكُّ الأسارى، ويَتبرَّكُ به الأقوام". فولدت امرأةُ الغلام بعد هذه الإعلانات الطنانة ابنةً، وليس ابنًا، وسُمِّيت "عصمت"، ثم ماتت بعد خمس سنوات فقط، أي سنة 1891 م. ¬

_ (¬1) "ضميمة الجام آثم" لغلام أحمد (ص 54).

النبوءة الخامسة

* النُّبوءَة الخَامِسَة: أَعلن بتاريخ 20 فبراير، سنة 1886: "إن الله بشَّرني بأنه يكونُ لي ذُريةٌ كثيرة من النسوة ذواتِ البركات اللاتي أتزوَّجُ بعضَهن بعد هذا الإلهام". وكَذَّبه الله، فما تزوَّج بعد هذا؛ لا النسوةَ، بل ولا امرأةً واحدة، والأولاد!!. * النّبُوءَةُ السَّادِسَةُ: ° وُلد له ولدٌ بتاريخ 14 يونيو سنة 1899 وسمَّاه: "مبارك أحمد"، وبعد ولادته بأيام أعلن الدجال: "إن هذا الولدَ نورٌ من نور الله، ومُصلِحٌ موعود، وصاحبُ العظمة، ومسيحيُّ النفس، ومُشفِي الأمراض، وكَلمةُ الله، وسعيدُ الحظ، وهذا يَشتهرُ في أنحاءِ العالم وأطرافِها، يَفُكُّ الأُسارى، ويتبرَّكُ به الأقوام" (¬1). * فمَرِض هذا الولدُ سنة 1907، وفي تاريخ 27 أغسطس سنة 1907، حينما خَفَّ مرضُه، أعلن الدجالُ: "ألهَمَني اللهُ بأنه قد قَبِل الدعاء، وذَهب المرض". وما إن أعلنَ المتنبِّي القاديانيُ هذا الافتراءَ على الله حتى عاد المرض من جديد، وفي 16 سبتمبر سنة 1907، مات هذا المصلحُ الموعودُ الذي يَفُكُّ الأُسارى، ويضعُ عنهم إصرَهم والأغلالَ التي كانت عليهم. * النُّبُوءَة السَّابِعَةُ: ° عن الطاعون، وأنه لا يقعُ في القاديان، فوقع، وقال: "إن بيتي ¬

_ (¬1) "ترياق القلوب" للقادياني (ص 43).

النبوءة الثامنة

كسفينةِ نوح، من دخله حُفِظ عن كل الآفات والمصائب" (¬1). فدخل الطاعون بيتَه، حتى أصابه هو. * النّبُوءَةُ الثَّامِنَةُ: تنبؤه بمولودٍ لأحدِ مُريديه، فولدت زوجةُ هذا المريد بنتًا، وأخبره أنه لن تموتَ زوجة هذا المريد إلا أن تضعَ الابن، فماتت. * النُّبُوءَةُ التَّاسِعةُ: ° تَناقَشَ مرةً مع المتنبي رجلٌ من المسلمين -دكتور عبد الحكيم- وتحدَّاه بأنه كذَّاب، وأعلن: "أن عبد الحكيم يموت في حياتي؛ لأنه يُهينُني ويُذِلُّني". ° ويقول: "لكن الله بشَّرني بأني أُعمَّرُ ثمانين سنةً أو أكثر". فلم يَمتْ عبدُ الحكيم في حياته، بل بَقِي حيًّا بعده، وعُمِّر ومات وهو في الثامن أو التاسع بعد السِّتين من عمرِه. وكم كَذَب الدجَّال، وما تحقَّقت نبوءة له واحدة، عقابًا مِن الملك القهَّار لهذا المفتري الكذَّاب، وألبَسَه اللهُ رداءَ قولِه في الدنيا. والجزاء من جنس القول والعمل. * عَاقبَتُهُ وَمَوْتُهُ: وموت الغلام كان فضيحةً له، وجزاءً وفاقًا؛ فقد كان دجَّال القاديان يجلبُ اللعنات على نفسه؛ لافتراءاته على الله، والرسول، والقرآن، والأنبياء، ونْزَله العلماء، وأفتَوا بالإجماع بكفره ودَجَله، وكان على رأسِ هؤلاء العلماء الشيح الجليل العلامة: "ثناء الله الأمر تسري"، مناظِرُ ¬

_ (¬1) "سفينة نوح" للغلام (ص 27).

الإِسلام، ومحامي المسلمين في القارة الهندية، فقد جرى بينه وبين الغلام القادياني عدةُ مناظراتٍ ومناقشاتٍ تحريرية وتقريرية، ودومًا كان الانتصارُ حليفًا لرجلٍ إلهي (¬1)، وبطل الإسلام، فاستشاط من ذلك المتنبي القادياني غضبًا، وأصدر نشرةً سنة 1907 م، وبتاريخ 15 إبريل بالضبط، وكتب فيها ما يلي: "بسم الله الرحمن الرحيم: نحمدُه ونصلِّي على رسوله الكريم، {وَيَسْتَنْبِئونَكَ أَحَقٌ هوَ قلْ إِي وَرَبِّي إِنه لَحَق} [يونس: 53]. إلى خدمة الأستاذ ثناء الله. السلامُ على مَن اتَّبع الهدى، من زمانٍ وأنا أُكَذَّبُ وأُفَسَّقُ في مجلَّتكم "أهل حديث"، ودائمًا تسمونني في مجلتكم هذه "ملعونًا كذابا"، و"دجالاً مفسدًا"، وتُشهِرُني في العالم بأني مفتري كذابٌ دجَّال، وأَفتري في دعواي المسيحية، فأنا تأذَّيتُ منك كثيرًا وصبرت، ولكني لَمَّا رأيتُ نفسي بأني مأمورٌ لنشر الحقِّ، وأنت تمنعُ العالَم من التوجُّه إليَّ بسبب افتراءاتك عليَّ إنْ أنا كذَّاب ومفتري، كما تذكرني في مجلتك، فأهلِكُ في حياتك؛ لأني أعلمُ أن عمْرَ الكذَّابِ والمفسدِ لا يكونُ طويلاً، بل هو يموت خائبًا في حياةِ أشدِّ أعدائِه بالذِّلة والهوان، وتكون في موته منفعةٌ لعباد الله، حيث لا يُضِلُّهم، فإن لم أكن كذابًا ومفتريًا، بل أكون متشرِّفًا بمخاطبة الله والمكالمةِ معه، وأكون مسيحيًّا موعودًا، فأدعو أن لا تنجوَ من عاقبةِ المكذِّبين، حسبَ سُنةِ الله فأعلن: إن لم تمتْ أنت في حياتي بعقابِ الله، الذي لا يكونُ من عند الله محضًا، مثل أن يموتَ بمرضِ الطاعون أو الكوليرا، فلن أكون مرسلاً من الله تعالى، وهذا لا أقولُ نبوءة، بل طلبتُ القضاءَ من الله ¬

_ (¬1) هكذا سمّاه العلاّمة الشيخ محمد رشيد رضا في مجلته "المنار".

تبارك وتعالى، وأدعو اللهَ، يا مولاي البصير القدير، العليم الخبير، يا عالمَ أسرار القلوب، إنْ أنا كاذبٌ ومفسِدٌ في نظرك، وأفترِي عليك ليلاً ونهارًا يا الله، فأهلِكْني في حياة الأستاذ "ثناء الله"، وسُرَّه وجماعتَه بموتي، آمين. ويا الله، إنا صادق، و"ثناء الله" على باطل، وكذَّاب في التُّهم التي يُلصِقها بي، فأهلِكْه -يا رب العالمين- في حياتي بالأمراض المهلِكة، مثلِ الطاعون أو الكوليرا أو غيرِه من الأمراض، آمين .. يا رب، أنا أوذيتُ وصَبرتُ، ولكني أرى الآن أنه قد تجاوز الحدَّ، وأنه يظنني أفسقَ من السارقين والغاصبين الذين يَضُرُّون العالَم، ويَحسبني أرذلَ خلق الله، وقد شَهَرني في البلدان النائية بأني في الحقيقة مُفسِد، ونَهَّابٌ، وطمَّاع، وكذاب، ومفتري، وخبيث، وإن لم يكن لهذه الكلماتِ صدًى، كنتُ صبرتُ عليه، ولكنَّي أرى أن "ثناء الله" يريدُ بهذه التهم أن يُفنِيَ دعوتي، ويهدمَ عِمارتي التي بَنَيْتها أنت يا رب، ويا مَن أرسلتني، ولذا ألتجأ إليكَ يا الله، آخذًا بذيل رحمتِك وتقدُّسِك، فاقضِ بيني وبين "ثناءِ الله" بالحق، وأهلِكِ الكذَّابَ والمفسدَ في حياةِ الصالح، أو ابتليه في آفة، تكونُ مثلَ الموت، فافعلْ هكذا يا ربي الحبيب، آمين ثم آمين: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْر الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89]. وأخيرًا، أرجو من الأستاذ "ثناء الله" أن ينشرَ هذه النشرةَ في مجلَّته، ثم يعلِّقَ عليها ما يشاء، فالقضاء الآن بيد الله. الراقم عبدُ الله الصمد غلام أحمد المسيح الموعود، عافاه الله وأيَّده" (¬1). ¬

_ (¬1) "إعلان الغلام القادياني" المنشور بتاريخ 15 إبريل سنة 1907، المندرج في "تبليغ رسالت" (10/ 120)، "مجموعة إعلانات الغلام المرتبة من قاسم القادياني".

° وبعد هذا الإعلان والدعاء بعشرة أيام، نَشَر الغلامُ القادياني في جريدة قاديانية: "إن كل ما قيل من "ثناءِ الله" ليس من عند أنفسنا، بل من قِبَل الله، كما أُلهمتُ الليلةَ عن الدعاء الذي دعوتُه {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ}، ومعنى هذا الإلهام أن دعوتي قد قُبلت" (¬1). وفِعلاً قُبلت دعوته هذه، وقُضي بينه وبين "ثناء الله" بالحقِّ، فبعد ثلاثةَ عشَرَ شهراً وعشرةِ أيام بالضبط جاءه قضاءُ الله وقَدَرُه، بصورةٍ بشعة، كان يتمنَّاها للشيخ الجليل "ثناء الله"، نعم بنفس الصورة، وبنفسِ المرض الذي نص عليه هو! بالكوليرا، وإليك بيانه: ° يكتب ابنُ الغلام القادياني وزعيم القاديانية "بشير أحمد" في سيرته: "أخبرتني أمي أن حَضْرَتَه -أي الغلام- احتاج إلى بيتِ الخلاء بعد الطعام مباشرة، ثم نام قليلاً، وبعد ذلك احتاج مرةً أخرى إلى بيتِ الخلاء، فذهب مرةً أو مرتين إليها بدون أن يُشعِرَني، ثم أيقظني، فرأيتُ أنه ضَعُف جدًّا، وما استطاع الذهابَ إلى سريره، فلذا جلس على سريري أنا، فبدأت أمسحُه وأمسِّجُه، وبعد قليل أحسَّ الحاجة مرةً أخرى، ولكن الآن ما استطاع الذهابَ إلي بيتِ الخلاء، فلذا قضاها عند السرير، واضطجع قليلاً بعد القضاء، ولكن الضعفَ بَلَغ إلى منتهاه، فجاءته الحاجةُ مرة أخرى، فقضاها، ثم جاءه القَيء، وبعدما فرغ من القيء خَرَّ على ظهره، واصطدم رأسه بخشب السرير، وتغيَّرت حالته" (¬2). ° وكتب "رحيمه" -أبو زوجه-: "الليلةَ التي مرِضها حَضرته -الغلام- ¬

_ (¬1) جريدة بدر القاديانية، الصادرة في 25 أبريل سنة 1907. (¬2) "سيرة المهدي" لبشير أحمد بن الغلام (ص 109).

كنتُ نائمًا في غرفتي، ولَمَّا اشتدَّ مرضُه أيقظوني، فذهبت إلى حضرته، ورأيتُ ما يُعانيه من الألم، فخاطبني قائلاً: أُصبتُ بالكوليرا، ثم لم يَنطِقْ بعد هذا بكلمةٍ صريحة، حتى مات اليوم الثاني بعد العاشرة من الصباح" (¬1). ° هذا، وقد نَشرت الجرائد الهندية آنذاك: "إن "غلام أحمد" المتنبي القادياني، لما ابتُلي بالكوليرا كانت النجاسةُ تخرجُ من فمِه قبل الموت، ومات وكان جالسًا في بيت الخلاء لقضاء الحاجة". ° كما نُشر بيان محمد إسماعيل القادياني في جريدة قاديانية: "إن المخالفين يقولون: إن النجاسةَ كانت تخرج من فم حضرة المسيح الموعود وقت الموت" (¬2). يا لله .. النجاسةُ تخرجُ من الفم الذي طالَمَا أخرجَ النجاسات، وافترى على الله وأنبيائه وأوليائه. مات "غلام أحمد" في العاشرة والنصف صباحًا بتاريخ 26 مايو، سنة 1908 (¬3)، فمات وكان "ثناء الله" حيًّا، وبقى حيًّا بعد موته قريبًا من أربعين سنة يهدمُ بنيانَ القاديانية، ويقمعُ جُذورَهم. وهكذا كَذَّب اللهُ الكذَّاب، حتى آخِرِ لحظةٍ من حياته، وعَذَّبه في الدنيا، وعذابُ الآخرة أشدُّ وأنكى. ومات "غلام أحمد" في "لاهور"، ثم نُقلَ نَعشُه إلى القاديان، وهكذا إلى بعد الموت، أَثبت أنه كان كذابًا في دعواه النبوة، فكلُّ نبيٍّ يُدفن حيث ¬

_ (¬1) "حياة ناصر" لرحيم الغلام القادياني (ص14). (¬2) "بيان محمد إسماعيل القادياني في جريدة قاديانية: بيغام صلح"، في 3 مارس، سنة 1939. (¬3) "جريدة الحكم القاديانية" 28 مايو سنة 1908، و"سيرة المهدي".

محمود محمد طه السوداني مدعي النبوة

قُبض، فذَهب الكذَّابُ إلى مزبلة التاريخِ، وصَدَق الله ورسوله. * قال تعالى: {وِيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوَى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60]. * محمود محمد طه السوداني مُدَّعي النُّبُوَّة: ولد عام (1911 م)، وتَخرَّج فِي جامعة الخرطوم، أنشأ حزبًا سَمَّاه الحزب الجمهوري عام (1945م) إبَّانَ الاستعمارِ البريطانِي على السودان .. سُجن عدةَ مرات، واعتكف عدةَ سنوات، وخَرج على إثرِها بآراءَ عقائدية وفكريةٍ وسياسيةٍ شاذَّةٍ ومشوَّشةٍ ومضطربة، استخلصها من أديانٍ وآراءَ ومذاهبَ كثيرةٍ قديمةٍ وحديثة، تتكونُ من العقائد الصوفية الباطنية، وآراءِ الفلاسفة، والاشتراكية الماركسية، والنصرانية .. وقد زَعم أنه رسول الرسالة الثانية، أما مُحمد - صلى الله عليه وسلم - فهو رسولُ الرسالة الأولَى!! كما زعم أن الإِنسان يتَرقَّى حتَّى يكون الله!!. وأسقط أصولَ التكليف -كالصلاة، والزكاة، والحج، وغيرها-، وله في القرآن تأويلاتٌ باطنيةٌ تَصرِفُه عن ظاهره. كَثُر أتباعُه ومُناصروه، ومعظمُهم من النساء والمثقفين الذين خلا فكرهم من الثقافة الدينية الإسلاميَّة. حُكم عليه بالإعدام بتهمة الزندقة، وأُمهِل ثلاثةَ أيامٍ فلم يتُب، فنُفِّذ فيه الحكمُ شنقًا يوم الجمعة (27 ربيع الثاني 1405 هـ .. 18/ 1/ 1985م) على مرأًى من الناس، وانْحسر أتباعه (¬1). ¬

_ (¬1) "الثبات على دين الله وأثره في حياة المسلم" للشيخ الأمين الصادق الأمين (1/ 67) طبع دار ابن الجوزي، وانظر "الموسوعة الميَسَّرة في الأديان والمذاهب المعاصرة" (ص 183 - 190).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وميض البرق في ذكر شانئي سيد الخلق

وَمِيضُ البَرق في ذِكرِ شَانئي سيد الخَلق

وَامُحَمَّدَاهُ {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف الطبعة الأولى 1427 هـ - 2006 م رقم الإيداع بدار الكتب المصرية رقم الإيداع: 22691/ 2006 دار العفاني 3 درب الأتراك خلف الجامع الأزهر - القاهرة ت/ 025108257 - ت/ 0125775711 فرع بني يوسف - برج الري - حي الرمد - بجوار مجمع المحاكم - بني سويف ت/ 0822317344 مطبعة العمرانية تليفون 3756299

هشام بن الحكم الرافضي، يجوز المعصية على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجوزها على الأئمة

وَمِيضُ البَرْق في ذِكرِ شَانئي سيد الخَلق * هشامُ بنُ الحَكَم الرَّافضي، يُجوِّزُ المعصية على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يُجوّزُها على الأئمَّة: شيخ الهشاميَّة من الرافضة .. ضَمَّ إلى حَيْرته في الإمامة، ضلالتَه في التجسيم، وبدعتَه في التشبيه. ° قال عبدُ القاهر البغدادي في "الفرق بين الفرق": "كان هشامٌ يُجيز على الأنبياء العصيانَ، مع قوله بعصمةِ الأئمة من الذنوب، وزَعم أن نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - عصَى ربَّه -عز وجل- في أخْذِه الفداءَ من أُسارى بدر، غيرَ أن اللهَ -عز وجل- عفا عنه، وتأوَّل على ذلك قولَ الله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]، وفَرَّق في ذلك بين النبي والإمام: بأن النبي إذا عَصَى أتاه الوحْيُ بالتنبيه على خطاياه، والإمامَ لا يَنزلُ عليه الوحيُ، فوجب أن يكون معصومًا عن المعصية. وكان هشامٌ على مذهب "الإمامية" في الإمامة، وأَكْفَره سائرُ الإمامية بإجازته المعصيةَ على الأنبياء" (¬1). ° "وذَكر هشامُ بنُ الحكم أن معبودَه ذو حَدٍّ ونهاية، وأنه طويلٌ، عريضٌ، عميقٌ، وأن طْولَه مثلُ عرضِه، وعَرضِه مِثلُ عمْقِه .. وزعم أيضًا أنه نورٌ ساطعٌ يتلألأُ كالسَّبيكةِ الشافعية من الفِضة، وكاللؤلؤةِ المستديرة من ¬

_ (¬1) "الفرق بين الفرق" (ص 268)، وانظر "مقالات الإسلاميين" للأشعرى (1/ 102، 104، 107، 109، 110) وما بعدها.

أبو إسحاق إبراهيم بن سيار "النظام" شيخ المعتزلة

جميع جوانبها، وزعم أيضًا أنه: ذو لَون، وطعم، ورائحة، ومجَسَّة، وأن لونه هو طَعمُه، وطعمَه هو رائحته، ورائحته هي مجسَّته، ولم يُثبت لونًا وطعْمًا هما غيرُ نفسه، بل زعم أنه هو اللونُ وهو الطَّعْم. وذَكَر أبو الهُذَيْل العَلاَّف -شيخ المعتزلة- في بعض كُتُبه: "أنه لَقي هشامَ بنَ الحكم في مَكَّةَ عند جبل "أبي قُبَيْسٍ"، فسأله: أيهما أكبرُ: معبودُه أم هذا الجبل؟ قال: فأشار إلى أن الجبل يُوفي عليه تعالى، وأن الجبل أعظمُ منه". وذكر أبو عيسى الوَراقُ في كتابه: أن بعض أصحابِ هشام أجابه إلى أن الله -عَز وجَل- مماس لعرْشه، لا يفضلُ عن العرْش، ولا يفضل العرشُ عنه. وقد رُوي أن هشامًا -معَ ضلالته في التوحيد- ضلَّ في صفاتِ الله أيضًا؛ فأحالَ القولَ بأن الله لم يزَل عَالِمًا بالأشياء" (¬1). * أبو إِسحاقَ إِبراهيمُ بنُ سَيارٍ "النَّظَّام" شيخ المعتزلة: هو أبو إسحاقَ، إبراهيمُ بنُ سَيار، المعروف بـ "النظَّام"، وهو ابنُ أختِ أبي الهُذَيل العَلاَّف (¬2)، ومنه أَخذ الاعتزال .. وقيل له "النَّظام"؛ لأنه كانَ يَنظِمُ الخَرَزَ في سُوق البصرة. اطلَع على كثيرٍ من كتب الفلاسفة الطبيعيين والإلهيِّين إلى أن ذهب المذهبَ الذي أنكره عليه المسلمون. ¬

_ (¬1) "الفرق بين الفرق" (ص 65، 66، 67). (¬2) يُنظر في "عصمة الأنبياء" كتابي الآتي "الكوكب الدريّ في خصائص النبي".

° قال عبدُ القاهر البغدادي في "الفَرق بين الفِرق": "وكان في زمانِ شبابه قد عاشرَ قومًا من "الثنَوية"، وقومًا من "السُّمنية" القائلين بتكافؤِ الأدلة، وخالَط بعد كِبَره قومًا من مُلْحِدَةِ الفلاسفةِ، ثم خالَطَ هشامَ بنَ الحكم الرافضي، فأخذ عن هشام وعن مُلحدةِ الفلاسفة قولَه بإبطال الجزء الذي لا يتجزَّأ، ثم بنى عليه قولَه بالطفْرة التي لم يَسْبِق إليها وَهْمُ أحدٍ قبله .. ودَوَّن مذاهبَ الثنوية، وبِدعَ الفلاسفة، وشُبَهَ الملحدة في دينِ الإسلام، وأُعْجِب بقول البَراهِمة بإبطال النُّبُوَّات، ولم يَجْسَرْ على إظهارِ هذا القولِ خَوْفًا من السيف، فأنْكَر إعجازَ القرآن في نَظْمِه، وأنْكَر ما رُوِي من معجزاتِ نبينا صلى الله عليه وسلم -مِن انشقاقِ القمر، وتسبيح الحَصَى في يده، ونبوع الماء مِن بيْن أصابعه-، ليتوصَّلَ بإنكار معجزات نبيِّنا - عليه السلام - إلي إنكارِ نُبُوَّته. ثم إنه استَثقل أحكامَ شريعة الإسلام في فروعها، ولم يجْسَرْ على إظهار دفْعها، فأبطل الطرق الدَّالةَ عليها، فأنكر لأجل ذلك حُجة "الإجماع" وحُجَّةَ "القياس" في الفروع الشرعية، وأنْكَر الحُجةُ من الأخبار التي لا تُوجبُ العلمَ الضروريَّ، ثم إنه عَلِم إجماعَ الصحابة على الاجتهاد في الفروع الشرعية، فذَكَرهم بما يقرؤه غدًا في صحيفةِ مخازيه، وطَعَن في فتاوى أعلام الصحابة - رضي الله عنهم -. وجميعُ فرقِ الأمة -من فريقيِ الرأي والحديث، مع الخوارج، والشيعة، والنجَّارية، وأكثر المعتزلة- متَّفقون على تكفير النظَّام، وإنما تَبِعه في ضلالته شِرذمةٌ من القَدَريَّة -كالأسواري، وابن خابط، وفضل الحدثي، والجاحظ-، ومع مخالفة كل واحدٍ منهم له في بعضِ ضلالاته وزيادةِ بعضهم عليه فيها.

وإعجابُ هؤلاء النَّفرِ اليسير به كإعجابِ الجُعَل بِدُحْرُوجته. وقد قال بتكفيره أكثرُ شيوخِ المعتزلة، منهم أبو الهذيل، والجُبَّائي، والإسكافي، وجعفرُ بن حرب. وأما كتب أهل السُّنة والجماعة في تكفيره، فالله يُحصيها، ولشيخنا أبي الحسن الأشعري - رحمه الله - في تكفيرِ النَّظَام ثلاثةُ كتب، وللقلانسي عليه كتبٌ ورسائل. وللقاضي أبي بكر محمدِ بنِ الطيب الأشعريِّ - رحمه الله - كتاب كبير في نقضِ أصول النَّظَّام" (¬1). وفضائحُه كثيرةٌ كثيرة .. فَضَحه اللهُ في الدنيا بها قبل الآخرة. ° فمن فضائحه: "قوله بأن أفعالَ الحيوانِ كلَّها من جنسٍ واحد، وهي كلُّها حركة وسكون، والسكونُ عنده حركةُ اعتماد، والعلومُ والإرادات عنده من جُملةِ الحركات -وهي "الأعراض"-، والأعراضُ كلُّها عنده جنسٌ واحد، وهي كلها حركات، فأمَّا الألوانُ والطعومُ والأصواتُ والخواطر، فهن عنده أجسامٌ مختلفةٌ ومتداخِلة، ونتيجةُ قوله "بأن أفعالَ الحيوان جنسٌ واحد" توجِبُ عليه أنْ يكون الإيمانُ مثلَ الكفر، والعِلمُ مثلَ الجهل، والحبُّ مثلَ البغض، وأن يكون فِعلُ النبي - عليه السلام - بالمؤمنين مِثلَ فِعل إبليسَ بالكافرين، وأن تكون دعوةُ النبي - عليه السلام - إلى دينِ الله تعالى مِثلَ دعوةِ إبليسَ إلى الضلالة، وقد قال في بعض كتبه: "إن هذه الأفعال كلَّها جنسٌ واحد، وإنما اختلَفت أسماؤها لاختلافِ أحكامها، وهي في الجنسِ واحد؛ لأنها ¬

_ (¬1) "الفرق بين الفرق" (ص 131 - 133) بتصرف بسيط.

كلَّها أفعالُ الحيوانات". ولا يَفعلُ الحيوانُ عنده فِعلَينِ مختلفين، كما لا يكونُ من النار تبريدٌ وتسخين. ويلزمُه على هذا الأصل أن لا يغضبَ على مَنْ شَتَمه ولَعَنه؛ لأنَّ قولَ القائل: "لعن الله النَّظام" عند النظام مثلُ قوله: "رَحِمه الله"، وقوله: "إنه ولدُ زنى" كقوله: "إنه ولد حَلال"، فإنْ رَضِيَ لنفسه بمثل هذا المذهب، فهو أهلٌ له ولِمَا يلزمُه عليه" (¬1). ° ومِن فضائحه: "وهي التي تكادُ السماواتُ يتفطَّرن منه، وهي دَعْوَاه أنه لا يُعْلَم -بإخبارِ الله عَزَّ وَجَلَّ ولا بإخبارِ رسوله - عليه السلام -، ولا بإخبارِ أهل دينه- شيءٌ على الحقيقة، ودعواه أن الأجسامَ والألوان لا يُعلمانِ بالأخبار. والذي ألجأه إلى هذا القولِ الشنيعِ قولُه بأن المعلوماتِ ضربان: "محسوسٌ، وغير محسوس"، والمحسوس منها أجسام، ولا يصح العلمُ بها إلاَّ من جِهةِ الحِسِّ، والحسُّ عنده لا يقعُ إلاَّ على جسم، واللونُ والطعمُ والرائحةُ والصوتُ عنده أجسام. قال: "ولهذا أدركتُ بالحواس". وأما غيرُ المحسوس فضربان: قديم، وعَرَض، وليس طريقُ العلمِ بهما الخبر، وإنما يُعْلَمانِ بالقياسِ والنظر، دون الحسِّ والخبر. فقيل له على هذا الأصل: "كيف عرفتَ أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كان في ¬

_ (¬1) "الفرق بين الفرق" (ص 138).

الدنيا، وكدْلك سائرُ الأنبياء والملوك، إن كانتِ الأخبارُ عندك لا يُعلم بها شيء؟ ". فقال: "إن الذين شاهَدُوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اقتَطعوا منه حين رأوه قطعةً توزَّعُوها بينهم، ووصَلُوها بأرواحهم، فلما أَخبروا التابعين عن وجوده خرج منهم بعضُ تلك القطعةِ، فاتصل بأرواح التابعين، ففرقه التابعون لاتصالِ أرواحِهم ببعضه، وهكذا قَصَّهُ الناقلون عن التابعين ومَن نقلوا عنهم إلى أن وصل إلينا". فقيل: "قد عَلِمَتِ اليهودُ والنصارى والمجوس والزنادقة أن نبينَّا - عليه السلام - كان في الدنيا، أفتزعمُ أن قِطعةً منه اتَصلت بأرواحِ الكفرة؟ ". فالتَزَم ذلك، فأُلزِمَ أن يكون أهلُ الجنة إذا اطلَعُوا على أهل النار ورآهم أهلُ النار أو خاطَبَ كل واحد من الفريقين الفريقَ الآخر أن تنفصلَ قطعة من أرواح كل واحدٍ منهم فتتصل بأرواح الفريق الآخر، فيدخل الجنةَ قطعٌ كثيرةٌ من أبدان أهل النار وأرواحهم، ويدخُل النارَ قطعٌ كثيرةٌ من أبدان أهل الجنة وأرواحهم، وكفاه بالتزام هذه البدعة خزيًا" (¬1). ° ومن فضائحه: قوله: "إن نَظْمَ القرآن وحُسْنَ تأليف كلماته ليس بمعجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا دلالةٍ على صِدقهِ في دعواه النبوةَ، وإنما وَجْهُ الدلالة منه على صِدقِه ما فيه من الإخبار عن الغيوب، فأما نَظمُ القرآن وحسنُ تأليف آياته، فإن العِبادَ قادرون على مِثله، وعلى ما هو أحسن منه في النظم والتأليف". ¬

_ (¬1) "الفرق بين الفرق" (ص 140 - 141).

* وفي هذا عِنَاد منه لقول الله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، ولم يكن غَرضُ منكرِ إعجازِ القرآن إلاَّ إنكارَ نبوَّة مَن تحدَّى العربَ بأن يعارضوه بمثله" (¬1). ° ومن فضائحه: "قوله: بأن الخبر المتواتر -مع خروج ناقليه عند سامعِ الخبر عن الحصر، ومع اختلاف هِمَم الناقلين واختلافِ دواعيها- يجوزُ أن يقعَ كذبًا، هذا مع قوله: بأن من أخبارِ الآحادِ ما يُوجِبُ العلمَ الضروريَّ. ْوقد كَفَّره أصحابُنا مع موافقيهِ في الاعتزال في هذا المذهب الذي صار إليه". ° ومن فضائحه: "تجويزُه إجماعَ الأمةِ في كلِّ عصرٍ وفي جميعِ الأعصارِ على الخطأ من جهةِ الرأي والاستدلال. ويلزمُه على هذا الأصلِ أنْ لا يثقَ بشيءٍ مما اجتَمَعت الأمةُ عليه؛ لجوازِ خطئهم فيه عنده، وإذا كانت أحكامُ الشريعةِ منها ما أخذه المسلمون عن خبرٍ متواتر، ومنها ما أخذوه عن أخبارِ الآحاد، ومنها ما أجمعوا عليه وأخذوه عن اجتهادٍ وقياس، وكان النَّظَّامُ دافعًا لحُجَّةِ التواتر، ولحُجَّةِ الإجماع، وقد أبطل القياسَ وخبرَ الواحد إذا لم يُوجَدِ العلمُ الضروريُّ، فكأنه أراد إبطالَ أحكام فروع الشريعة لإبطالِهِ طُرُقَهَا" (¬2). ° ومن فضائحه: "قوله في الإيمان: "إنه اجتنابُ الكبيرة فحسب". ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 143). (¬2) "الفرق بين الفرق" (ص 143 - 144).

ونتيجة هذا القول أن الأقوالَ والأفعالَ ليس شيء منها إيمانًا، والصلاةُ عنده وأفعالها ليست بإيمانٍ، ولا مِن الإيمان، وإنما الإيمانُ فيها تَركُ الكبائرِ فيها" (¬1). ° ومن فضائحه: "قوله في باب المعاد بأن العقاربَ والحيَّاتِ والخنافسَ والذبابَ والغِربانَ والجُعْلانَ والكلابَ والخنازيرَ -وسائر السِّباع والحشرات- تحْشَر إلى الجنة، وزَعَم أن كلَّ مَن تفضل الله عليه بالجنَّة لا يكونُ لبعضهم على بعضٍ درجة في التفضيل، وزعم أنه ليس لإبراهيمَ ابنِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنة تفضيل درجةٍ على درجاتِ أطفالِ المؤمنين، ولا لأطفالِ المؤمنين فيها تفضيلٌ بدرجةٍ أو نعمةٍ أو مرتبةٍ على الحيات والعقاربِ والخنافس؛ لأنه لا عَمَلَ لهم كما لا عَمَلَ لها .. فحَجَرَ على ربِّ العالمين أن يتفضَّل على أولادِ الأنبياء بزيادةِ نعمةٍ لا يتفضلُ بمثلِها على الحشرات، ثم لم يَرْضَ بهذا الحَجْرِ حتى زَعَم أنه [سبحانه] لا يَقدِرُ على ذلك. وزعم أيضًا أنه لا يتفضَّلُ على الأنبياءِ عليهم السلام إلاَّ بمثل ما يتفضلُ به على البهائم؛ لأن بابَ الفضلِ عنده لا يختلفُ فيه العالِمون وغيرهم، وإنما يختلفون في الثواب والجزاء لاختلافِ مراتبهم في الأعمال. وينبغي للنظَّام على هذا الأصل أن لا يغضبَ على من قال له: "حَشَرك الله مع الكلاب والخنازير والحيَّات والعقارب إلى مأواها" .. ونحن ندعو له بهذا الدعاء الذي رَضِيَ به لنفسه" (¬2). ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 144). (¬2) "الفرق بين الفرق" (ص 145).

° "ثم إن النظام -مع ضلالاته التي حكيناها عنه- طَعَن في أخيار الصحابة والتابعين من أجل فتاويهم بالاجتهاد، فذكر الجاحظُ عنه في كتاب "المعارف" وفي كتابه المعروف بـ "الفتيا" أنه عَابَ أصحابَ الحديث ورواياتِهم أحاديثَ أبي هريرة - رضي الله عنه -، وزَعم أن أبا هريرة كان أكْذَبَ الناسِ، وطَعَن في الفاروق عمر - رضي الله عنه -، وزعمِ أنه شكَّ يوم الحُدَيْبية في دينه، وشكَّ يومَ وفاةِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه كان فيمن نفَر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ العقبة، وأنه ضَرَب فاطمة، ومَنَع ميراث العِترة، وأنكر عليه تغريبَ نَصْرِ بنِ الحجاج من المدينة إلى البصرة، وزعم أنه ابتدع صلاة "التراويح"، ونهى عن مُتْعَة الحج، وحرَّم نكاح الموالي للعربيات. وعاب عثمانَ - رضي الله عنه - بإيوائه الحكَمَ بنَ العاص إلى المدينة واستعمالِه الوليدَ بنَ عُقْبةَ على الكوفة حتي صَلَّى بالناس وهو سكران. وعابه بأن أعان سعيدَ بنَ العاص بأربعين ألف درهم على نكاح عَقَده، وزعم أنه استأثر بالحِمى. ثم ذكر عليًّا - رضي الله عنه -، وزعم أنه سُئِل عن بَقرةٍ قَتلت حمارًا، فقال: "أقول فيها برأيي"، ثم قال بجهله: "مَنْ هو حتى يَقضيَ برأيه؟ ". وعاب ابنَ مسعود - رضي الله عنه - في قوله في حديث تزويج بِرْوَعِ بنتِ واشق: "أقول فيها برأيي، فإن كان صوابًا فمن الله -عز وجل-، وإن كان خطأ فمني". وكذَّبه في روايته عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "السعيدُ مَنْ سَعد في بطن أمه، والشقِيَّ مَن شَقِيَ في بطنِ أْمْه". وكذَّبهْ أيضًا في روْايته انشقاقَ القمر، وفي رُؤْية الجنِّ ليلة الجن.

* فهذا قولُه في أخيار الصحابة وفي أهل بَيْعَةِ الرضوان الذين أنزل الله تعالى فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18]. ومَنْ غَضِب على من - رضي الله عنه - فهو المغضوبُ عليه دونه. ثم إنه قال في كتابه: "إن الذين حَكموا بالرأي من الصحابة إمَّا أن يكونوا قد ظَنُّوا أن ذلك جائزٌ لهم، وجَهِلوا تحريمَ الحكم بالرأي في الفتيا عليهم .. وإما أنهم أرادوا أن يُذْكَرُوا بالخلاف وأن يكونوا رؤساءَ في المذاهب، فاختاروا لذلك القولَ بالرأي". فنَسَبهم إلى إيثارِ الهوى على الدين، وما للصحابة - رضي الله عنهم - عند هذا الملحدِ الفرِيِّ (¬1) ذنبٌ غيرُ أنهم كانوا موحدِينَ لا يقولون بكفرِ القَدَريَّة الذين ادعَوْا مع الله تعالى خالِقِينَ كثيرين. وإنما أنكر على ابن مسعود روايته: "إن السعيد مَن سَعِد في بطنِ أُمِّه، والشقيَّ مَن شَقِيَ في بطنِ أمه"؟ لأن هذا خلافُ قول القَدريَّةِ في دعواها في السعادة والشقاوة، ليستأمنَ قضاءَ الله -عز وجل- وقَدَرَه. وأما إنكارُه انشقاقَ القمر، فإنما كَره منه ثبوتَ معجزةٍ لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، كما أنكر معجزتَه في نظم القرآن، فإن كان أحال انشقاقَ القمرِ -مع ذِكرِ الله عز وجل ذلك في القرآن مع قوله مِن طريق العقل-، فقد زَعَم أن جامعَ أجزاءِ القمر لا يُقْدَرُ على تفريقها، وإن أجاز انشقاقَ القمر في القُدْرة والإمكان، فما الذي أوجب كَذبَ ابنِ مسعود في روايته انشقاقَ القمر مع ذِكرِ الله -عز ¬

_ (¬1) تقول: هذا رجل فَرِيٌّ -بوزن غنيٌّ- تريد أنه يفتري الكذب ويختلقه.

وجل- ذلك في القرآن في قوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 1 - 2]؟! فقول النظَّام بأن انشقاقَ القمرِ لم يكن أصلاً، شرٌّ من قول المشركين الذين قالوا لما رأوا انشقاقه: "إن ذلك واقع بسِحر"، ومنكِرُ وجودِ المعجزة شرٌّ ممن تأولهَا على غيرِ وجهها. وأما إنكارُه رؤيَةَ الجن أصلاً، فيلزمه أن لا يَرى بعضُ الجن بعضًا، وإن أجاز رؤيتَهم، فما الذي أوجب تكذيبَ ابنِ مسعود في دعواه رؤيتَهم؟. ثم إن النظَّام -مع ما حكيناه من ضلالاته- كان أفْسَقَ خلقِ الله -عز وجل-، وأجْرَأَهم على الذنوب العِظام، وعلى إدْمانِ شرب المُسكِر، وقد ذكر عبدُ الله بن مُسْلم بن قتيبة - رحمه الله - في كتاب "مختلف الحديث" أن النظَّام كان يغدو على مُسكر، ويروحُ على مسكر، وأنشد قوله في الخمر: ما زلتُ آخُذُ رُوحَ الزقِّ في لُطفٍ ... وأسْتَبِيحُ دَمًا مِنْ غَيْرِ مَذْبُوحِ حَتَّى انْتَشَيْتُ وَلِي رُوحَانِ في بَدَنٍ ... وَالزِّق مُطَّرحٌ جِسْم بِلاَ رُوحِ ومَثَلُه في طعنِه على أخيارِ الصحابة -معِ بدعتِه في أقواله وضلالته في أفعاله-، كما قيل في الأمثال السائرة: "إن منْ كان في دينه ذَميمًا، وفي أصله لئيمًا، لم يترك لنفسه عارًا يُتَّهمُ به إلاَّ نَحَلَه كريمًا، واستباح به حريمًا"، وهل يَضُرُّ السحابَ نُبَاحُ الكلاب؟ وكما لا يضرُّ السحابَ نباحُ الكلاب، كذلك لا يضر الأبرارَ ذمُّ الأشرار، وما مَثَله في طعنه على أخيار الصحابة -مع بدعته وضلالته- إلاَّ كما قال حسان بن ثابت: مَا أُبالِي أنَبَّ بِالحزنِ تَيْسٌ ... أمْ لحَانِي بِظَهْرِ غَيْبٍ لَئِيمُ

° وقال غيرهُ (¬1): مَا ضَرَّ تَغْلِبَ وَائلٍ أَهَجَوْتَهَا ... أمْ بُلتَ حَيْثُ تَنَاطَحَ البَحْرَانِ" (¬2) ° وصَدَق: هل يَضُرُّ البحرَ أمسى زاخرًا ... أنْ رَمَى فيه غلامٌ بحَجَرْ لعن اللهُ مَن أنكر المعجزات، وطعَنَ في الصحابةِ الأبرار. * أبو هاشم الجُبَّائي: هو أبو هاشم، عبدُ السلام بنُ محمدِ بنِ عبد الوهاب، الجُبائي شيخُ المعتزلة "البهشِميَّة"، ويُقال لهم "الذَّمِّية" لقولهم باستحقاقِ الذَّمِّ لا على فِعل، وقد شاركوا المعتزلةَ في أكثرِ ضلالاتها، وانفردوا عنهم بفضائحَ لم يُسبَقُوا إليها. وقد كفره سائرُ المعتزله لمواضعَ ثلاثةٍ عنده: أحدها: قولُه باستحقاق الذمِّ والعقاب لا على فعل. والثاني: استحقائقُ قِسْطيْنِ من العذاب إذا تغيَّر تغيرًا قبيحًا، أحدهما: للقبيح الذي فعله، والثاني: لأنه لم يَفعل الحسنَ الذي أُمِر به. والثالث: قوله: إنه لو تغير تغيرًا حَسَنًا وأطاع بمثلِ طاعةِ الأنبياء عليهم السلام، ولم يفعل شيئًا واحدًا ممَّا أمَره اللهُ تعالى به ولا ضِدَّه، لاستحقَّ الخلودَ في النار (¬3). ¬

_ (¬1) هو الفرزدق. (¬2) "الفرق بين الفرق" (ص 147 - 155). (¬3) انظر "الفرق بين الفِرَق" (ص 185، 187).

ثمامة بن الأشرس النميري المعتزلي القدري

° قال ابن حزم: "وكان أبو هاشم أيضًا يقول: إنه لو طال عُمُرُ المسلمِ المحسنِ، لَجاز أن يَعملَ من الحسناتِ والخيرِ أكثرَ ممَّا عَمِل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. ° قال أبو محمد: لا واللهِ ولا كرامة، ولو عُمِّر أحدُنا الدهرَ كلَّه في طاعاتٍ متَّصلةٍ ما وازى عملَ امرئٍ صَحِبَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم -من غير المنافقين والكافرين المجاهرين- ساعةً فما فوقها، مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه لو كان لأحدنا مثلُ أُحُد ذهبًا فأنفَقَه، ما بَلَغ مُد أحدِهم ولا نَصِيفه" (¬1) .. فمتى يطمعُ ذو عقل أن يُدرِك أحدًا من الصحابة مع هذا البون الممتنع إدراكُه قطعًا؟ " (¬2). ولقد كفَّره أبو محمد بنُ حزم في "الفِصَل" (¬3). ° قال عبد القاهر البغدادي: "وكان أبو هاشم -مع إفراطِه في الوعيد- أفْسَقَ أهل زمانه، وكانَ مُصِرًّا على شُربِ الخمر، وقيل: إنه مات في سكْرِه، حتى قال فيه بعض المُرْجِئِة: يَعِيبُ القولَ بالإرْجَاءِ حَتَّى ... يَرَى بعضَ الرَّجاءِ من الجَرَائرْ وأعظمُ مِن ذَوِي الإرجاءِ جُرْمًا ... وعِيدِيٌّ أصَرَّ على الكبائرْ (¬4) * ثُمامةُ بنُ الأشرس النُّميريُّ المعتزليُّ القَدَريُّ: ° هو أبو مَعنٍ -ويُقال أبو بِشْر-، ثمامةُ بنُ الأشرس النُّميريُّ، من ¬

_ (¬1) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهَبًا ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه". رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي سعيد. (¬2) "الفصل في الملل والنحل" (5/ 68، 69). (¬3) "الفصل" (5/ 68). (¬4) "الفرق بين الفِرَق" (ص 191).

مواليهم، وهو شيخُ "الثمامِيَّة"، "وكان زعيمَ القدرية في زمانِ المأمون والمعتصم والواثق، وقيل: إنه هو الذي أَغْوَى المأمونَ بأَنْ دعاه إلى الاعتزال. ° وانفرد عن سائرِ أسلاف المعتزلة ببدعتين أكْفَرَتْه الأُمةُ كلُّها فيهما: إحداهما: أنه -لَمَّا شارَكه أصحاب المعارف في دعواهم أن المعارف ضروريةٌ- زعم أن مَنْ لم يضطرَّه اللهُ إلى معرفتِه لم يكن مأمورًا بالمعرفة ولا منهيًّا عن الكفر، وكان مخلوقًا للسُّخْرة والاعتبارِ فحسب، كسائر الحيواناتِ التي ليست بمكلفة. وزَعم لأجلِ ذلك أن عَوَامَّ الدهريةِ والنصارى والزنادقة يَصيرون في الآخرة ترابًا. وزعم أن الآخرةَ إنما هي دارُ ثوابٍ أو عقابٍ، وليس فيها لمن ماتَ طفلاً ولا لَمِن لا يعرفُ اللهَ تعالى بالضرورة طاعةٌ يستحقُّون بها ثوابًا، ولا معصيةٌ يستحقون عليها عقابًا؛ فيصيرون حينئذٍ ترابًا؛ إذ لم يكن لهم حظٌّ في ثوابٍ ولا عقاب. والبدعة الثانية من بدع ثمَامة: قوله بأن الأفعالَ المتولِّدةَ أفعالٌ لا فاعلَ لها .. وهذه الضلالةُ تجرُّ إلى إنكارِ صانعِ العالَم؛ لأنه لو صحَّ وجودُ فعلٍ بلا فاعل، لَصحَّ وجود كل فعلٍ بلا فاعل، ولم يكن حينئذٍ في الأفعال دلالةٌ على فاعلها، ولا كان في حدوثِ العالم دلالةٌ على صانعه، كما لو أجاز إنسانٌ وجودَ كتابةٍ لا من كاتب، ووجودَ مبنيٍّ أو منسوخٍ لا من بانٍ أو ناسخ. ويقال له: إذا كان كلامُ الإنسان عندكْ متولِّدًا ولا فاعلَ له عندك، فلِمَ

تَلُومُ الإنسانَ على كَذِبه وعلى كَلِمةِ الكفر؟ وهو عندك غيرُ فاعلٍ للكذب ولا لكلمةِ الكفر؟. ومن فضائح ثمامةَ أيضًا: أنه كان يقول في دارِ الإسلام: "إنها دارُ شِرك"، وكان يحرِّم السَّبي؛ لأنَّ المسبِي عنده ما عَصى ربَّه إذ لم يعرِفْه، وإنما العاصي عنده مَن عَرَف ربه بالضرورة ثم جَحَده أو عصاه. وفي هذا إقرارٌ منه على نفسه بأنه ولد زنى؛ لأنه كان من الموالي، وكانت أمه مسبيةً، ووَطء مَن لا يجوزُ سبيُها على حُكم السبيِ الحرام زنى، والمولود منه ولدُ زنى .. فبدعةُ ثمامةَ على هذا التقديرِ لائقةٌ بنَسَبه. ° وقد حكى أصحابُ التواريخ عن سخافة ثمامة ومُجونه أمورًا عجيبة: منها: ما ذكره عبدُ الله بن مسلم بن قتيبة في كتاب "مختلف الحديث"، ذَكَر فيه أن ثمامةَ بنَ أشرس رأى الناسَ يومَ جُمعةٍ يتعادَوْنَ إلى المسجد الجامع لِخَوفهم فَوْتَ الصلاة، فقال لرفيقٍ له: "انظر إلى هؤلاء الحَمير والبقر! "، ثم قال: "ماذا صنع ذاك العربيُّ بالناس؟ " .. يعني: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ° "وذكر الجاحظُ أيضًا أن غلامَ ثُمَامةَ قال يومًا لثمامة: "قُمْ صَلِّ"، فتغافَل، فقال له: "قد ضاق الوقت، فقم وصَلِّ واسترح"، فقال: "أنا مستريحٌ إِن تركتَني". وذكر صاحب "تاريخ المَرَاوزة" أن ثمامةَ بنَ أشرس سَعى إلى الواثق بأحمدَ بنِ نصرٍ المَرْوَزيَ، وذَكَر له أنه يُكفر من يُنكرُ رؤيةَ اللهِ تعالى، ومَن ¬

_ (¬1) "الفرق بين الفرق" (ص 172 - 173).

يقول بخَلق القرآن، فاعتصَمَ المعتصِمُ ببدعةِ القدريَّة فقتله (¬1)، ثم نَدِمَ على قتلِه، وعاتَبَ ثمامة، وابن أبي دُواد، وابنَ الزيات في ذلك، وكانوا أشاروا عليه بقتله. ° فقال له ابنُ الزيَّات: "وإن لم يكن قتلُه صوابًا، فقَتَلني اللهُ بين الماء والنار". ° وقال ابن أبي دُؤَاد: "حَبَسَني الله في جِلْدِي إن لم يكن قتلُه صَوَابًا". ° وقال ثمامة: "سَلَّط اللهُ تعالى عَليَّ السيوفَ إن لم تكن أنتَ مصيبًا في قتله". فاستجاب الله تعالى دعاءَ كلِّ واحدٍ منهم في نفسه: أمَّا ابنُ الزيَّات، فإنه دخل في الحمَّام وسَقَط في أتونه، فمات بين الماء والنار (¬2). وأمَّا ابنُ أبي دُوَاد، فإن المتوكِّلَ - رحمه الله - حَبَسه، فأصابه في حبسه الفالجُ، فبَقِيَ في جلده محبوسًا بالفالج إلى أن مات. وأما ثمامةُ، فإنه خرج إلى مكة، فرآه الخزاعيُّون بين الصفا والمروة، فنادى رجلٌ منهم فقال: "يا آلَ خُزَاعة، هذا الذي سَعى بصاحبكم أحمدَ بنِ نصر، وسعى في دمِهِ" .. فاجتمع عليه بنو خزاعة بسيوفهم حتى قتلوه، ثم أخرجوا جِيفتَه من الحرَم فأكلته السِّباع خارجًا من الحرم، فكان كما قال الله ¬

_ (¬1) أي: قَتَلَ المَرْوَزِيَّ. (¬2) في "العبر" (1/ 414): "قبض عليه المتوكل وعذبه وسجنه حتى هلك في سنة 233".

يزيد بن أبي أنيسة الخارجي، زعيم اليزيدية من الخوارج

تعالى: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} [الطلاق: 9] ". * يَزيدُ بنُ أبي أُنيسةَ الخارجيُّ، زعيم اليَزيدية من الخوارج: ° في "الملل والنحل" وفي "مقالات الإسلاميين"، وفي "أصول الدين" لعبد القاهر البغدادي: "يزيدُ بن أُنَيْسَة"، وفي "الفَرق بين الفِرق": "يزيد بن أبي أُنيسَة الخارجيُّ"، وتُنسَب إليه "اليزيديَّة" من الخوارج الخارجة عن فِرَق الإسلام، "وكان من البصرة، ثم انتقل إلى "جُورَ" من أرض فارس، وكان على رأي الإباضيَّة من الخوارج، ثم إنه خرج عن قولِ جميعِ الأمة؛ لدعواه أن الله -عز وجلَّ- يبعث رسولاً من العَجَم، ويُنْزِل عليه كتابًا من السماء، ويَنسخُ بشَرْعِه شريعةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وزعم أن أتباعَ ذلك النبيِّ المنتظَرِ هم الصابئون المذكورون في القرآن، فأما المُسَمَّوْنَ بالصابئة من أهل واسطَ وحَرَّان، فما هم الصابئون المذكورون في القرآن. وكان -مع هذه الضلالة- يتولَّى مَنْ شهِد لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بالنبوَّة من أهل الكتاب وإن لم يدخلْ في دينه، وسَمَّاهم بذلك مؤمنين، وعلى هذا القول يجبُ أن يكون العيسوية والموشكانية من اليهود مؤمنين؛ لأنهم أقَرُّوا بنبوة محمد - عليه السلام - ولم يدخلوا في دينه. وليس بجائز أن يُعَدَّ في فِرَقِ الإسلام مَن يَعُدُّ اليهود من المسلمين، وكيف يُعدُّ من فِرق الإسلام من يقول بنسخِ شريعة الإسلام؟! " (¬1). ¬

_ (¬1) "الفرق بين الفرق" (ص 279 - 280).

الميمونية من الخوارج، أتباع ميمون بن خالد (أو ابن عمران)

* الميمونيَّة من الخوارج، أتباع ميمونَ بنَ خالد (أوْ ابن عمران): ° "هؤلاء أتباعُ رجلٍ من الخوارج العجاردة، كان اسمُه "ميمونًا" (¬1)، وكان على مذهب العَجَاردة من الخوارج، ثم إنه خالَفَ العجاردة في الإرادة والقَدَر والاستطاعة، وقال في هذه الأبواب الثلاثة بقول القَدَريةِ المعتزلة عن الحق، وزعم -مع ذلك- أن أطفالَ المشركين في الجنة. ولو بَقِيَ ميمونُ هذا على هذه البِدَع التي حكيناها عنه ولم يَزدْ عليها ضلالةً سواها لنسبناه إلى الخوارج؛ لقوله بتكفيرِ عليٍّ وطلحةَ والزبيرِ وعائشةَ وعثمانَ، وقولِه بتكفيرِ أصحابِ الذنوب، وإلي القَدَرية لقوله في باب الإرادة والقَدَر والاستطاعة بأقوال القَدَرية فيها. ولكنه زاد على القَدَرية وعلى الخوارج، بضلالةٍ اشتقَّها من دينِ المجوس، وذلك أنه أباح نكاحَ بناتِ الأولاد من الأجداد، وبناتِ أولادِ الأخوة والأخوات، وقال: "إنما ذَكَر اللهُ تعالى في تحريم النساءِ بالنسب الأمهاتِ، والبناتِ، والأخواتِ، والعمَّاتِ، والخالاتِ، وبناتِ الأخ، وبناتِ الأخَوَات .. ولم يذكر بناتِ البنات، ولا بناتِ البنين، ولا بناتِ أولادِ الإخوة، ولا بناتِ أولادِ الأخوات". فإن طَرد قياسه في أمهاتِ الأمهاتِ وأمهاتِ الآباء والأجداد، انمحض في المجوسية، وإن لم يُجِز نكاحَ الجدَّات وقاسَ الجداتِ على الأمهات لزِمه قياسُ بناتِ الأولاد على بنات الصلب. ¬

_ (¬1) سمَّاه في "الملل والنحل": "ميمون بن خالد" وسماه السفاريني "ميمون بن عمران" وكذلك في خطط المقريزي (2/ 354).

بابك الخرمي وأتباعه " البابكية"

وإن لم يُطَرِّهْ قياسَه في هذا الباب نقض اعتلاله. وحَكى الكرابيسيُّ عن "الميمونيَّة" من الخوارج أنهم أنكروا أن تكون سورةُ "يوسف" من القرآن، ومُنكِرُ بعضِ القرآنِ كمنكرِ كلِّه. ومَن استحل بعضَ ذواتِ المحارم فهو في حُكم المجوسِ، ولا يكونُ المجوسيُّ معدودًا في فِرَقِ الإسلام" (¬1). وكيف لا يكونُ من شانِئي الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - مَن أنكر بعضَ ما نُزِّل إليه من ربه؟!. * بَابَك الخُرَّمي وأتباعُه " البَابَكِية": "البابَكية" و"مازيَّارية"، كِلتاهُما معروفة بـ "المُحَمرَة" وهم من الإباحِيِّين، ظهروا في دولةِ الإسلام. فالبابكيَّةُ منهم: أَتباع بَابَك الخُرَّمِي، وهو رجلٌ فارسيُّ الأصل، دَخل في الإسلام، وتسمَّى "الحسن"، (وفي بعض الأصول: الحسين)، وكان قويَّ النفس، شديدَ البطش، وصعبَ المِراس، وحَدَّثته نفسُه الخبيثةُ بأن يسترجعَ مُلكَ فارس ودينَها. وللبابكية في جَبَلهم لَيلةُ عيدٍ لهم يجتمعون فيها على الخَمرِ والزمْر، وتختلطُ فيها رجالُهم ونساؤهم، فإذا أطْفِئَتْ سُرُجُهم ونِيرَانهم افتَضَّ فيها الرجالُ النساءَ على تقدير "مَن عَزَّ بَزَّ". والبابكيةُ يَنسِبون أصْلَ دينهم إلى أميرٍ كان لهم في الجاهلية اسمه ¬

_ (¬1) "الفرق بين الفرق" (ص 280 - 281).

"شروين"، ويزعمون أن أباه كان من الزنج، وأمة بعضُ بناتِ ملوك الفرس، ويزعمون أن "شيروين" كان أفْضَلَ من محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ومن سائر الأنبياء، وقد بَنَوْا في جبلهم مساجدَ للمسلمين يؤذِّن فيها المسلمون، وهم يعلِّمون أْولادَهم القرآن، لكنهم لا يُصَلُّون في السرِّ، ولا يصومون في شهر رمضان، ولا يَرَوْنَ جهادَ الكفرة. ظَهَر بابك الخُرَّمِي في جبل "اليدين" من أصل الران بناحية أذربيجان، وكثر بها أتباعُه، واستباحوا المحرمات، وقتلوا الكثيرَ من المسلمين، وجَهَّز إليه خلفاءُ بني العباس جيوشًا كثيرةً مع "أفشين" الحاجب، ومحمدِ بنِ يوْسفَ الثَّغْرِيِّ، وأبي دُلَفَ العِجْليِّ وأقرانِهم، وبَقِيت العساكرُ في وجهه مقدارَ عشرين سنةً. ففي سنة 212 هـ جهز له المأمونُ جيشًا بقيادة "محمد الطُّوسي"، والتقي الجيشانِ في سنة 214 هـ، فَهَزم بابَكُ جيشَ الخليفة، وقُتل محمدُ بن حميد الطوسي. وفي سنة 220 هـ جَهَّز المعتصمُ جيشًا بقيادةِ "الأفشين"، فالتقي الجيشان، فهزم بابك جيشَ بابك، وقُتِل من الخُرَّمية -أتباع بابك- نحوُ الألف، ثم هَرَب بابكُ إلى "موقان". ثم التقيا مرةً أخرى في سنة 222 هـ فهزمهم الأفشينُ هزيمةً منكرة، ونجا بابكُ، فلم يزل الأفشينُ يتحيَّلُ له حتى أَسَره في جبال "أرمينيَّة"، ثم أخَذه إلى المعتصم. وفي سنة 223 أمو المعتصم بقطعِ أطرافه وصَلبه في مواضعَ شتى هو

الإمامية الإثنا عشرية الجعفرية، وقولهم باستمرار الوحي وعدم انقطاعه بعد موت - صلى الله عليه وسلم -، وتنقصهم للأنبياء، وقولهم بتحريف القرآن

وأخوه إسحاقُ بنُ إبراهيم. ° وقال عبدُ القاهر: "صُلِبا بـ "سُر مَن رأى" في أيام المعتصم". أما "المَازيارية"، فهم أتباعُ "مَازِيار بن قارن بن بندار"، ودَخل في الإسلام، وتسمَّى "محمدًا"، وأظهر بعد ذلك دين "المحمَّرة" بجرجان، وكانت فتنتُه قد عَظُمت في ناحية جُرجان، وكان يعتقدُ دينَ الثنَوية والمجوس، وكان يُظهرُ الإسلامَ ويُبطِنُ الكُفر، فكتب المعتصمُ إلى عبدِ الله ابن طاهر بن الحسين يأمرُه بحَربِه في سنة 224 هـ بعد أن أظهر العصيان بـ "طَبَرستان"، فكتب المعتصمُ إلى عبد الله بن طاهر بن الحسين يأمره بحربه، فسير إليه عمه الحسنَ بنَ الحسين، فكانت له معه حروبٌ كثيرة، وما زال حتى أسَرَه، وحَمَله إلى "سامرَّا"، فأقرَّ على "الأفشين" أنه حَرَّضه على الخروج والعصيان، وزعم أنهما -هو والأفشين- كانا اجتمعا على مذهبٍ من مذاهبِ الثنوية والمجوس، فضُرب "المازيَّارُ" بالسوط حتى مات بعد أن شُهر، وصُلب إلى جانب بابك، وفيه يقول أبو تمام: ولقد شَفى الأحشاءَ مِن بُرَحائِها ... أن صار بابكُ جارَ مازيارْ ثانيه في كبدِ السماءِ ولم يكن ... لاثنين ثانٍ إذ هما في الغارْ (¬1) * الإِمامية الإِثنا عَشْرية الجَعفريَّة، وقولهم باستمرارِ الوحي وعدمِ انقطاعِه بعد موت - صلى الله عليه وسلم -، وتنقُّصهم للأنبياء، وقولهم بتحريف القرآن: الإماميةُ الإثنا عشرية الجعفرية، هم الرافضة الذين رَفَضوا إمامةَ الصِّديق والفاروق وذي النورين، وقالوا بتكفيرِ عامةِ الصحابة ما عدا عليًّا ¬

_ (¬1) انظر "الفرق بين الفرق" (ص 266 - 269)، و"العبر" (1/ 389).

ادعاء نزول الوحي عند الإمامية

وثلاثةً أو أربعةً من شيعته كسلمانَ والمِقدادِ وأبا ذرٍّ. وقد غالت الإماميةُ في أئمتهم، وأسبغوا عليهم صفاتِ التعظيم والتقديس التي تخرجُهم عن دائرةِ البشر العاديين، فادَّعَوا لهم عِلمَ الغيب (¬1)، وأنهم يحيطون بكِلِّ شيءٍ عِلمًا، وأن الله -عز وجلَّ- يشاورهم عندما يطرأُ على علمِه جديد (¬2) - كما يزعمون-، تعالى الله عما يقول الكافرون الظالمون عُلوًّا كبيرًا. وسنذكر أقوالَهم من أهمِّ مراجعهم، وهو كتابُ "أصول الكافي" والذي له من المكانة عندهم ما لـ "صحيح البخاري" عند أهل السُّنة، ونذكرُ تجويزَهم نزولَ الوحي على الأئمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونذكر بعده ما ورد في أهم كتبهم من تصريحهم حولَ منزلةِ الإِمام، وأنه أعلى منزلةً من جميعِ الأنبياء وأنه رسولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). * ادِّعاء نزولِ الوحي عند الإِمامية: ° أول وحيٍ ادَّعت الإماميةُ وقوعَه بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو لـ "فاطمة" بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد أُسند في كتاب "أصول الكافي" إلى أبي عبد الله -جعفر الصادق- أنه قال: "وإن عندنا لَمصحفُ فاطمةَ -عليها السلام-، وما ¬

_ (¬1) "الكافي" لمحمد بن يعقوب الكليني (3/ 240)، والكليني عند الإمامية هو مجدِّد القرن الثالث. وكتابه "الكافي" كما يقول أحد علماء الشيعة عبد الحسين بن عبدا الله المظفر "لم تعمل الإمامية مثله، وعليه اعتماد العلماء منذ أن دوَّنه مؤلفه حتى اليوم". (¬2) " الكافي" (3/ 232 - 0 24). (¬3) "التحفة الإثنا عشرية" (ص 52، 115، 117) - الحاشية، و"ضحى الإسلام" لأحمد أمين (3/ 313).

يُدريهم ما مصحف فاطمة". قال: مصحفٌ فيه مثلُ قرآنكم هذا؟! -ثلاثَ مرات-، واللهِ ما فيه مِن قرآنكم حرفٌ واحد" (¬1). ثم ذكر أن الله أرسل إليها جبرائيلَ يُسليها ويُحدثها، وأن ذلك المصحفَ كان عبارةً عن ذلك الحديث، كتبه عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -" (¬2). فقد أُثبت في هذا الأثر أن فاطمةَ - رضي الله عنها - كان ينزلُ عليها جبرائيلُ، وكَتبت عنه مصحفًا أكبرَ من مصحفِ أبيها، وفيه ما ليس فيه كذلك، وأُسند إليه كذلك أنه قال: "إن عِلْمَنا غابرٌ ومزبور، ونُكت في القلوب، ونُقر في الأسماع .. فقال: أما الغابر، فما تقدم من علمنا .. وأما المزبور، فما يأتينا .. وأما النَّكتُ في القلوب، فإلهام .. وأما النَّقْرُ في الأسماع، فأَمْرُ المَلَك" (¬3). ° وأورد بسنده كذلك أن الحسنَ بنَ العباس المعروفيَّ كَتَب إلى الرضا: "جُعلتُ فداك، أخبرني ما الفرقُ بين "الرسول" و"النبيِّ" و"الإمام"؟ فكتب -أو قال-: الفرقُ بين "الرسول" و"النبي" و"الإِمام" أن "الرسول" الذي يَنزلُ عليه جبرائيل فيراه ويسمعُ كلامه وينزل عليه الوحي، وربَّما رأى في منامِه نحوَ رؤيا إبراهيم، و"النبيُّ" ربما سمَع الكلام، وربما رأى الشخصَ ولم يَسمع، و"الإمام" هو الذي يَسمعُ الكلام ولا يرى الشخص". ¬

_ (¬1) "الكافي" (1/ 199). (¬2) "الكافي" (1/ 202). (¬3) "الكافي" (1/ 248).

ولقد استَشهد على ذلك بآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الحج: 52] (¬1). ففي هذين الأثرين إثباتُ سماع المَلَكِ لأئمتهم، ولا شك أن المَلَك إنما ينزلُ بأمرٍ من الله -عز وجلَّ-، كما قال الله في الملائكة: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64]. ° وفي الأثر الثاني أكثرُ توضيحًا من الأول، إذ فيه أن الوحيَ للنبيِّ على طريقين: الأول: السَّماع من المَلَك مع رؤية شخصه. والثاني: السَّماع دون الرؤية، و"الإِمام" يشارك "النبيَّ" في هذه الطريق من الوحي. وبذلك يُسمى "نبيًّا"، يشهدُ لذلك الأثر الآتي عن أبي عبد الله الذي قال فيه: الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات: - فنبيٌّ مُنبِئٌ في نفسه لا يعدوها. - ونبيٌّ يَرى في النوم، ويَسمعُ الصوت، ولا يعاينه في اليقظة، ولم يبعثه إلى أحدٍ، وعليه إمامٌ مثلُ ما كان إبراهيمُ على لُوط عليهما السلام. - ونبيٌّ يرى في منامه، ويسمعُ الصوت، ويعاين المَلَك، وقد أُرسل إلى طائفةٍ قلُّوا أو كثروا -كيونسْ- قال الله ليونس: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]، قال: يزيدون ثلاثين ألفًا، وعليه إمام. - والذي يَرى في نومه، ويَسمعُ الصوت، ويعاينُ في اليقظة، هو إمامٌ ¬

_ (¬1) "الكافي" (3/ 30).

مثل أولي العزم (¬1). ففي الأثر السابق قبل هذا أن الإِمام يَسمعُ صوتَ الملائكة، ولا يرى أشخاصهم .. وفي هذا الأثر أن السماعَ للصوت دون الرؤية للشخص إحدى درجاتِ النبوة عندهم. ٍفالأئمة إذن أنبياءُ؛ لأنهم يسمعون أصواتَ الملائكةِ من غيرِ أن يروهم. ° ولما كانت هذه هي مرتبةُ الإمام في عُرفِ الإمامية، فقد أَلزمت الناسَ بطاعته، كما ورد ذلك عن أبي عبد الله، حيث قال: "أُشرِكَ بين الأوصياء والرسل في الطاعة" (¬2) مما جعل بعضَ الشيعة يستفسرُ من جعفر الصادق عن مكانةِ الإِمام الذي قد أمر بطاعته: أيوحَى إليه أم لا؟ فأجاب أبو عبد الله -جعفر الصادق- بأنْ: نعم، كما رواه الكليني، حيث قال: "إن المُفضَّلَ سأل أبا عبد الله بقوله: "جُعلتُ فداك، يَفرضُ اللهُ طاعةَ عبدٍ على العباد، ويَحجُبُ عنه خَبَر السماء؟ قال أبو عبد الله: لا، اللهُ أكرمُ وأرحمُ وأرأف بعباده من أن يفرضَ طاعةَ عبدٍ على العباد، ثم يحجبُ عنه خبر السماء صباحًا ومساء" (¬3). ° ويقول الشارح "للكافي": "كيف يَفرضُ الله سبحانه وتعالى على الناس طاعةَ عبدٍ، وهو ليس له من العلم ما يحتاجونه؟! بل اللهُ أعزُّ وأكرمُ ¬

_ (¬1) "الكافي" (3/ 123). (¬2) "الكافي" (4/ 61). (¬3) "الكافي" (3/ 241).

من أن يَحجُبَ عنه عِلمَ سمائِه وأرضه". ولذلك الإمامية ذهبوا إلى أن الإمامةَ لا تصلحُ إلا لمن له منزلةُ النبوة" (¬1). ° وفي أثرٍ آخَرَ أن رجلاً سأل أبا عبد الله عن كيفية العلم الذي يأتيهم؟! فقال أبو عبد الله: "كما كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمُ، إلا أنهم يَرَون ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَرى؛ لأنه كان نبيًّا وهم محدَّثون" (¬2). ° ولهذا فإن الأنبياءَ والأوصياءَ متساوون في علومهم لتساويهم في مصدرِ التلقِّي، كما ورد ذلك في مخطوطة بعنوان "كتاب أنوار الإسلام في علم الإمام"، حيث قال مؤلفها: "أما العلم الحق، فهو علمُ الأنبياء والأوصياء، إذ لا يعتريه الخطأ ولا السهو ولا النسيان، فهو علم لَدُنِّيٌّ شهوديٌّ صادرٌ عن الوحي والحَدْسِ والإلهام، والله ضامن لصحةِ هذا العلم؛ لأنه مِن لَدنْه، وكل ما يحصل لغير المعصومين والأوصياء فِكرًا، يحصل لهم حَدْسًا أو بداهةً، وما يحصل للناس بالحواس يتم لهم بالشهود والقياس. وليس المقصود القياسُ العقلي، وإنما الانتقال من الظاهر إلى الباطن، وليس علمُهم وَقفًا على شرائع الدين وأحكامِه، وإنما شؤون الدنيا كذلك، غيرَ أن الشريعةَ تصدر عنهم عن وحيٍ وما يتعلقُ بمسائل الدنيا عن إلهام" (¬3). ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 3/ 244). (¬2) المصدر السابق (3/ 205). (¬3) ذكر ذلك الدكتور أحمد محمود صبحي في كتابه "نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثني عشرية" (ص 145 - 146).

° وقد ادَّعَوا لأئمتهم أمورًا غيبيةً لا يعرفُها البشر إلاَّ بالوحي، وذلك تحت عناوين عِدَّةٍ في كتابهم ذلك -"أصول الكافي"-، وهذه بعض تلك العناوين: - باب: أنَّ الأئمةَ يعلَمون متى يموتون، وأنهم لا يموتون إلاَّ باختيارٍ منهم (¬1). - باب: أنَّ الأئمةَ إذا شاؤوا أن يعلموا علِموا (¬2). - باب: أن الأئمةَ عليهم السلام يعلمون ما كان وما يكون، وأنه لا يخفى عليهم الشيءُ -صلوات الله عليهم- (¬3). ونحن نعلمُ أن معرفةَ الغيب خاصة بالله سبحانه وتعالى، ولا يصلُ إلى معرفته إلا صِنفٌ واحدٌ من الخلق وهم "الرسل"، وذلك لإطْلاعِ الله لهم، فإما أن يكون هؤلاء -أي: أئمَّتهم- آلهةً أو رسلاً، وهم لا يَدَّعون لهم الألوهية -كالغلاة-، فإذن يكونون رسلاً، والرسل لا يعلمون ذلك إلا بالوحي، فأئمتهم إذن يوحَى إليهم علي أقلِّ تقدير (¬4). * يقول الله- عز وجلّ- {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 26 - 28]. ¬

_ (¬1) "الكافي" (3/ 232). (¬2) "الكافي" (3/ 271). (¬3) "الكافي" (3/ 249). (¬4) أي: بهذه الأوصاف.

هذه هي عقائدهم من أهم مصادرهم

ولتكتملَ صفات الأنبياء في أئمتهم، فقد زعم بعضُهم أن الأئمةَ تَظهرُ على أيديهم المعجزات (¬1). * هذه هي عقائدُهم من أهمِّ مصادرهم: فقد رأينا أنهم بدؤوا بإثباتِ الوحي لفاطمةَ حتى ادَّعوا لها مصحفًا خاصًّا نزل به عليها جبرائيل، ونَسَخه عليُّ بن أبي طالب، وهذا المصحفُ مستقلٌّ عن القرآن، وليس فيه ممَّا في مصحفِ المسلمين الذي أنزل الله على محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ولا حرفٌ واحد .. إلى آخِرِ تلك الدعاوى السابقة. ثم لَمَّا مَهَّدوا لتلك العقيدة -نزول الوحي- بوقوعه لفاطمةَ بنتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنها، سَهُل عليهم أن يَصِلوا إلى إثباتِه للأئمة الذين هم الأوصياءُ على الشيعة بعد عليٍّ - رضي الله عنه -، وذلك عن طريقِ سماعِ صوتِ المَلَك دون رؤيةِ شخصه. ° وهذه الطريقُ هي إحدى طُرق الوحي في درجاتِ النبوة، كما تقدم في تقسيمهم الأنبياء إلى طبقات، قالوا فيها: "ونبيٌّ يَرى في النوم، ويسمعُ الصوت، ولا يعاينه في اليقظة"، وكانت حُجتهم على ذلك -كما سبق آنفًا- أن الله لا يأمرُ بطاعةِ عبدٍ لا يأتيه الخبرُ من السماء، ولا شكَّ أن الخبرَ الذي يأتيهم من السماء هو وحيٌ يأتي به المَلَك، "لأن الإمامةَ لا تصلحُ إلا لمن له منزلةُ النبوة"، كما يقول شارح "الكافي". ¬

_ (¬1) "مقالات الإسلاميين" (1/ 123) حيث ذكر اختلاف الروافض في ذلك، وهو يعني بهم الإمامية انظر (ص 88) من نفس الجزء.

وانظر إلى ما خلعوه على الأئمة من أمور

° وأخيرًا، فإنَّ "الشريعة تصدرُ عنهم عن وحيٍ، وما يتعلق بمسائل الدنيا عن إلهام"، كما في المخطوطة السابقة. هذه هي عقيدتُهم في نزول الوحي على الأئمة كما صَوَّرتْها مصادرُهم، وليست تلك العقيدةُ عند الإمامية من الأمور الخفيَّة التي لم تَظهر إلا اليوم، بل هي أمرٌ واضح من قديم الزمن، فقد تحدَّث عنها أبو الحسن الأشعريُّ - رحمه الله - في أواخِرِ القرن الثالث، حيث ذَكَر أنه يوجدُ في طائفةِ الروافض -الإِمامية- مَن يزعمُ نزولَ الملائكة على أئمَّتهم بالوحي، كما يَذكر أن فيهم مَن جَوَّز نَسخَ الشرائع وتبديلَها على أيديهم (¬1)، ممَّا يؤكِّدُ لنا أن هذه العقيدةَ قد عُرفت عنهم من قبلُ، ثم لا تزالُ مراجعُهم -كما رأينا- تحتفظُ بها وترويها. * وانظر إِلى ما خَلَعوه على الأئمة من أمور: أولاً: تصريح الإِمامية بأنَّ مرتبةَ "الإِمامة" أعلى وأسمى من مرتبة "النبوَّة": وقد صَرَّح علماؤهم -بكلِّ جُرأةٍ وتطاولٍ- بذلك .. فممن قال بذلك: 1 - يقول آيتُهم العظمى "ناصر مكارم الشيرازي" عند تفسيره للآية (124) من سورة البقرة في تفسيره "الأمثل": "يتبيَّن من الآيةِ الكريمة أن ¬

_ (¬1) في "مقالات الإسلاميين" (1/ 123)، وذكر النسخ صاحب "مختصر التحفة الاثنى عشرية" (ص 115)، وذكر الوحي الأستاذ أحمد أمين في كتابه "ضحى الإسلام" (3/ 214).

مَنزلةَ "الإِمامة" الممنوحةَ لإِبراهيم -بعدَ كلِّ هذه الاختبارات- تَفُوقُ منزلةَ "النبوة" و"الرسالة" .. فمنزلة "الإِمامة" أسمى مِمَّا ذُكر، بل أسمى من النبوة والرسالة". ° وقال في "نفحات القرآن" (9/ 19): "ما هو هذا المَقامُ الذي ناله إبراهيمُ في آخِرِ عمره بعد نَيلِه مقامَ النبوة والرسالة، وبعدَ ذلك الجهادِ الطويل؟ .. من المُسلَّم به أنه كان أسمى وأرفع منهما جميعًا". ° وقال أيضًا (ص 17): "كما يعيرُ القرآنُ أهميةَّ خَاصةً للإِمامة، ويعتبرُها آخِرَ مرحلةٍ من مسيرةِ تكامُلِ الإِنسان". ° وقال أيضًا (7/ 81): "على أيةِ حال، إنه -مقام الإِمامة- مقامٌ يَفوقُ النبوة". 2 - يقول آيتهم العظمى "السيد كاظم الحائري" في "الإِمامة وقيادة المجتمع" (ص 26): "إن الذي يبدو من الروايات أن مقامَ "الإِمامة" فوقَ المقامات الأخرى -ما عدا مقام الربوبية قطعًا- التي يمكن أن يَصِل إليها الإِنسان". ° وقال (ص 28): "وكذا قولُه - عليه السلام -: "إن الله اتَّخذه خليلاً قبل أن يَتَّخذ إمامًا"، يدلُّ في ظاهره على تفوُّقِ مقام "الإِمامة" على مقام " العبودية، النبوة، الرساله، الخلَّة" .. ". ° وقال (ص 29): "فمقامُ "الإِمام " إذن فوقَ مقام النبوة". 3 - يقول "كمال الحيدري" في "العصمة" (ص 17): "ومِن خلال هذه الشواهد يَتَّضح لنا أن مقامَ "الإِمامة" يختلفُ عن "النبوة والرسالة"،

ثانيا: تصريحهم بأن الأئمة أفضل من الأنبياء

بل هي أسمى منهما وأرفع" .. ونسبه إلى الطباطبائي في "الميزان" (1/ 267). 4 - قال "هادي الطهراني" في "ودائع النبوة" (ص 114): "الإمامةُ أجلُّ من النبوة، فإنها مرتبة ثالثة شرَّفه الله تعالى بها بعد النبوة والخُلَّة" .. نقلًا عن "أصول مذهب الشيعة" للقفازي (ص 656). 5 - ذكر "ابن بابويه" في "إكمال الدين" (ص 617 - 618) "والنبوة والرسالة من الله جل جلالُه سُنن، والإِمامة فريضة، والسنن تنقطع ويجوزُ تركها في حالات، والفرائض لا تزولُ ولا تنقطعُ بعد محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - .. فالرسالةُ والنبوة سُنن، والإِمامة فرض". 6 - ذكر الحِلِّي فيَ "الألفين" (ص 3): "الإِمامة لُطف عام، والنبوة لطف خاص، لإِمكان خلوِّ الزمان من نبيٍّ حيٍّ -بخلافِ الإِمام-، وإنكارُ اللطفِ العامِّ شرٌّ من إنكارِ اللطف الخاص". ثانيًا: تصريحهم بأن الأئمةَ أفضلُ من الأنبياء: ° وهذه أقوالُ علمائِهم في ذلك: 1 - ذكر الشيخ "المفيد" في "أوائل المقالات"، باب "القول في المفاضلة بين الأئمة والأنبياء" (ص 85): "قد قَطع قوم من أهل الإِمامة بفضل الأئمَّة (ع) من ال محمد - صلى الله عليه وسلم - على سائر من تقدم من الرسل والأنبياء سوى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأوجب فريقٌ منهم الفضلَ على جميع الرسل والأنبياء سوى أولي العزم". 2 - ذكر العلامة السيد "نعمة الله الجزائري" في "الأنوار النعمانية"

(1/ 20 - 21): "اعلمْ أنه لا خلافَ بين أصحابنا -رضوان الله عليهم- في أشرفية نبينا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - على سائر الأنبياء -عليهم السلام- للأخبار التواتر، وإنما الخلافُ بينهم في أفضيلة أميرِ المؤمنين والأئمة الطاهرين عليهم السلام على الأنبياء ما عدا جدَّهم - صلى الله عليه وسلم -، فذهب جماعة إلى أنهم أفضلُ من باقي الأنبياء ما خلا أولي العزم، فإنهم أفضلُ من الأئمَّة عليهم السلام، وبعضُهم إلى المساواة، وأكثرُ المتأخِّرين إلى أفضليةِ الأئمةِ عليهم السلام على أولي العزم وغيرهم، وهو الصواب". 3 - ذكر محدِّثكم "الحر العاملي" في كتابه "الفصول المهمة في أصول الأئمة" (1/ 403) بابًا يثبت هذا التفضيل وهو الباب رقم (101) بعنوان: "إن النبي والأئمة الاثني عَشَر أفضلُ من سائر المخلوقات من الأنبياء والأوصياء السابقين والملائكة وغيرهم، وأن الأنبياء أفضلُ من الملائكة"، وذكر روايتين تُرجِّحان عنوان الباب. 4 - ذكر "ابن بابويه" في "عيون أخبار الرضا" (1/ 262) فصلاً بعنوان "أفضلية النبيِّ والأئمة على جميعِ الملائكة والأنبياء عليهم السلام". 5 - قال السيد "أمير محمد كاظم القزويني" في كتابه "الشيعة في عقائدهم وأحكامهم" (ص 66): "فإنك تجدُ أن عليًّا كان جامعًا لجميع هذه الصفات المتفرقة في هؤلاء الأنبياء عليهم السلام من أولي العزم، وأنه - عليه السلام - أفضلُ منهم". ° وقال (ص 73) تحت عنوان "الأئمة من أهل البيت عليهم السلام

ثالثا: الملك الذي ينزل على الأئمة دون الأنبياء هو أعظم من جبريل

أفضلُ من الأنبياء عليهم السلام بنص القرآن": "وأما تفضيل الشيعةِ لأئمتهم على الأنبياء عليهم السلام إلاَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. لذا وجب أن يكونوا أفضلَ منهم". 6 - يقول آيتهم العظمى "الميرزة جواد التبريزي " تحت عنوان "التفضيل بين الأئمة والأنبياء" حول سؤالٍ وُجِّه إليه: "س: هل هناك تفضيل بين الأئمة عليهم السلام والأنبياء باستثناء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وإذا كان، فما هو الدليل على ذلك؟ جـ: باسمه تعالى: أئمَّتُنا أفضل من الأنبياء ما عدا الرسولَ - صلى الله عليه وسلم -، والله العالم" (¬1). 7 - وخَتَمها "الخميني" في "الحكومة الإِسلامية" بقوله: "وإن مِن ضروريات مذهبِنا أن لأئمتنا مقامًا لا يبلغُه مَلَك مقرَّب ولا نبيٌّ مرْسلْ" (¬2). ثالثًا: المَلَك الذي ينزلُ على الأئمة دون الأنبياء هو أعظمُ من جبريل: دَّعت الإمامية أن هناك مَلَكًا يدْعى "الرُّوح"، كان مع الأئمة يسدِّدهم ويخبرُهم بأخبارِ السماء، ولهذا المَلَكِ مِيزتان، كلُّ واحدةٍ منهما تدلُّ بصراحةٍ على تفضيل الأئمة على الأنبياء هما: أ- أنه أعظمُ من جبريل: فبما أنهم يعتقدون بتفضيل الأئمة على الأنبياء، فيجبُ أن يكونَ المَلَكُ ¬

_ (¬1) "الأنوار الإلهية في المسائل العقائدية" للميرزة جواد التبريزي (ص 179). (¬2) "الحكومة الإسلامية" للخميني (ص 47).

النازلُ عليهم أعظمَ من المَلَكِ النازلِ على الأنبياء. ب - أن هذا المَلَك لم يكن مع الأنبياء، بل فقط مع الأئمة: أي أن ما عند الأئمةِ أفضلُ مما عند الأنبياء؛ لأن هذا المَلَكَ -وهو الروح- كان مع الأئمة فقط، ولم يكن مع الأنبياء، وهو ما نَصَّت عليه الرواية الرابعة التالية بقوله: "لم يكن مع أحدٍ ممن مضى، غيرِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وهو مع الأئمة يسدِّدُهم". فهو غير موجودٍ مع الأنبياء السابقين لِتستيقِنَ بأنكم تُنزِّهون مرتبةَ الإِمامة من أن تنحدرَ مِن عِزها ورِفعتِها إلى مرتبةِ النبوة. ° وإليك نصَّ الروايات من أصحِّ كتبهم ألاَ وهو "الكافيَ" للكِليني: 1 - عن أبي بَصير قال: "سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن قول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52]. قال: خَلقٌ مِن خَلقِ الله -عز وجل- أعظمُ من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يُخبِرُه ويُسددُه، هو مع الأئمَة مِن بعده". 2 - عن أسباطِ بنِ سالم قال: "سأله رجل من أهل "هِيت" -وأنا حاضر- عن قول الله -عز وجل-: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}. فقال: منذ أَنزل الله -عز وجل- ذلك الروحَ على محمد - صلى الله عليه وسلم - ما صَعِدَ إلي السماء وإنه لفينا". 3 - عن أبي بصير قال: "سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن قول الله -عز وجل-: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]. قال: خَلق أعظمُ من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،

رابعا: تصريحهم بأن الأنبياء مع علو منزلتهم مأمورون باعتقاد إمامة الأئمة الاثني عشر

وهو مع الأئمة، وهو من المَلكوت". 4 - عن أبي بصير قال: "سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]. قال: خَلقٌ أعظم من جبرئيل وميكائيل، لم يكن مع أحدٍ ممن مضى، غيرِ محمدٍ- صلى الله عليه وسلم -، وهو مع الأئمة يُسدِّدُهم، وليس كلُّ ما طُلب وُجد" (¬1). رابعًا: تصريحُهم بأن الأنبياءَ مع عُلُوِّ منزلتهم مأمورون باعتقادِ إِمامةِ الأئمة الاثني عشر: وقد ذكروا لذلك عِدَّةَ رواياتٍ صريحةٍ، ذكرها خاتمة مُحدِّثيهم "محمدُ باقر المجلسي" في كتابه "بحار الأنوار" منها: 1 - ابن يزيد، عن ابن محبوب، عن محمدِ بن الفضيل، عن أبي الحسن - عليه السلام - قال: "ولايةُ عليٍّ مكتوبة في جميع صُحف الأنبياء، ولن يَبعثَ الله نبيًّا إلاَّ بنبوةِ محمدٍ ووصيةِ عليٍّ صلوات الله عليهما". 2 - أحمد بن محمد، عن العباس، عن ابن المغيرة، عن أبي حفص عن أبي هارونَ العبديِّ، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يا عليُّ، ما بَعث اللهُ نبيًّا إلاَّ وقد دعاه إلى ولايتك طائعًا أو كارهًا". 3 - الحسن بن عليِّ بنِ النعمان، عن يحيى بنِ أبي زكريا، عن أبيه، ومحمد بن سَماعة، عن فيض بنِ أبي شيبة، عن محمد بن مسلم قال: ¬

_ (¬1) "الكافي" (1/ 273).

سمعت أبا جعفر - عليه السلام - يقول: "إن الله تبارك وتعالى أخذ ميثاقَ النبيين على ولايةِ عليٍّ، وأخذ عهدَ النبيين بولايةِ عليٍّ". 4 - أحمد بنُ محمدِ بنِ علي بنِ الحكم، عن ابنِ عميرة، عن الحضرميِّ، عن حذيفةَ بنِ أسيد قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تكامَلَتِ النبوةُ لنبيٍّ في الأظلة حتى عُرضت عليه ولايتي وولايةُ أهل بيتي، ومَثُلوا له، فأقرُّوا بطاعتِهم وولايتهم". 5 - السِّنديُّ بن محمد، عن يونسَ بنِ يعقوب، عن عبدِ الأعلى قال: قال أبو عبد الله - عليه السلام -: "ما نُبِّئ نبيٌّ قطُّ إلاَّ بمعرفةِ حقِّنا وبفضلنا على مَن سوانا". 6 - محمدُ بنُ عيسى، عن محمدِ بنِ سلمان، عن يونسَ بنِ يعقوب، عن أبي بَصير، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: "ما مِن نبىٍّ نُبئ، ولا مِن رسْولٍ أُرسل، إلاَّ بولايتنا وتفضيلنا على مَن سوانا". 7 - ابن يزيد، عن يحيى بنِ المبارك، عن ابن جَبَلة، عن حُميد بن شعيب، عن جابر قال: قال أبو جعفر - عليه السلام -: "ولايتُنا ولايةُ الله التي لم يَبعث نبيًّا قطُّ إلاَّ بها". 8 - محمدُ بنُ أحمد، عن ابنِ يزيدَ، عن ابنِ محبوب، عن محمدِ بنِ الفضيل، عن أبي الحسن - عليه السلام - في قول الله -عز وجل-: {يوفُونَ بِالنَّذْرِ} قال. "يُوفون بالنذر الذي أُخذ عليهم في الميثاق مِن ولايتنا". 9 - أحمد بنُ محمدِ بنِ عليِّ بنِ الحكم، عن داودَ العِجلي، عن

خامسا: تصريحهم بأن الأنبياء ما نالوا الفضل والرفعة من جهة نبوتهم واصطفائهم من الله تعالى، بل من جهة إقرارهم بإمامة الأئمة والخضوع لهم

زُرارةَ، عن حُمران، عن أبي جعفر - عليه السلام - قال: "إن الله تبارك وتعالى أَخذ الميثاقَ على أولي العزم أني ربُّكم، ومحمدٌ رسولي، وعليٌّ أمير المؤمنين، وأوصياؤه من بعده وُلاةُ أمري وخُزَّانُ عِلمي، وأن المهديَّ أنتصرُ به لِدِيني" (¬1). فإمامةُ الأئمةِ إذًا عندهم من ضرورياتِ الأديان السماوية التي لم يُبعثْ نبي إلاَّ بالدعوة إليها، بل إن الأنبياءَ جميعَهم كانوا مأمورِين بالإيمان بإمامةِ عليٍّ وأولاده التي لا تُدانيها النبوةُ في الفضلِ والشرف، ولا تَصِلُ إلى عُشْرِ معشارِها، بل ولا إلى قَطرةٍ من بحارها. خامسًا: تصريحهم بأنَّ الأنبياء ما نالوا الفضلَ والرِّفعةَ من جهةِ نبوَّتهم واصطفائهم من الله تعالى، بل من جهةِ إِقرارِهم بإِمامةِ الأئمةِ والخضوعِ لهم: ° وإليك روايتانِ تَذكُرانِ هذا المعنى، هما: 1 - ذكر شيخُهم "المفيد" في كتابه "الاختصاص" (ص 250): "ابن سنان، عن المفضل بن عمر قال: قال لي أبو عبد الله - عليه السلام -: إن اللهَ تبارك وتعالى تَوحَّد بمُلِكه، فعَرَّفَ عبادَه نفسَه، ثم فَوَّض إليهم أمَره، وأباِح لهم جَنَّتَه، فمن أراد اللهُ أن يُطهِّرَ قلبَه من الجنِّ الإِنس عَرَّفه ولايتَنا، ومن أراد أن يطمس على قلبه أمسك عنه معرفتنا. ثم قال: يا مفضَّل، واللهِ ما استوجب آدمُ أن يخلقَه الله بيده وينفخَ ¬

_ (¬1) "بحار الأنوار" لمحمد باقر المجلسي (26/ 280 - 282).

فيه من رُوحه إلاَّ بولايةِ عليٍّ - عليه السلام -، وما كَلَّم الله موسى تكليمًا إلاَّ بولايةِ عليٍّ - عليه السلام -، ولا أقام اللهُ عيسى ابن مريم آيةً للعالين إلاَّ بالخضوع لعليٍّ - عليه السلام -. ثم قال: أجملُ الأمر ما استأهل خَلق من الله النظر إليه إلاَّ بالعبودية لنا". 2 - ذكر "المجلسي" في "بحار الأنوار" (26/ 282): "عن حَبَّةَ العُرنيِّ قال: قال أميرُ المؤمنين - عليه السلام -: إن الله عَرَض ولايتي على أهل السماوات وعلى أهل الأرض، أَقَرَّ بها مَن أَقَر، وأنكرها مَن أنكر، أنكرها يونسُ فحَبَسه اللهُ في بطنِ الحوت حتى أقرَّ بها". فانظر إلى هذه المرتبة الخيالية للإمامة التي بفضلِ انحناءِ الأنبياء لها وخضوع أعناقِهم أمامَها نالوا ما نالوا من المراتب؛ لأن النبوةَ التي أنعم الله بها عليهم -وبكلِّ بساطة- لا قيمةَ لها بدون إمامةِ الأئمة، حتى إن نبيَّ الله تعالى يونسَ - عليه السلام - لما أبى الإِقرارَ بها وأنكرها -ظنًّا منه بأنَّ النبوة أعلى منها بالشرف والأهمية- حَبَسه الله تعالى في بطنِ الحوت عقوبة له، ولم يُخرِجْه منها إلاَّ بعد خضوعِه لها واعترافِه بفضلها على نبوته المسكينة الخاضعة!!! (¬1). فهذه خمسُ مجموعاتٍ صَرَّح بها علماءُ الإماميَّة بتفضيل مرتبةِ "الإِمامة" على "النبوة"، وأنهم لن يرضَوا أبدًا بأن يَهبِطوا بمرتبة الإمامة إلى مرتبةِ النبوَّة؛ لأن في هذا حَطًّا من قَدْرِها ورِفعتها. ° قال محمد باقر المجلسي: "وبالجملة لا بُدَّ لنا من الإِذعان بعدمِ كونهم -عليهم السلام- أنبياءَ، وبأنهم أشرفُ وأفضلُ من غيرِ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - من ¬

_ (¬1) انظر "إمامة الشيعة دعوة باطنية لاستمرار النُّبوة" (ص 124) لعبد الملك بن عبد الرحمن الشافعي - مكتبة الرضوان.

أولا: أن الملك يحدث الإمام ويكلمه

الأنبياء والأوصياء" (¬1). حتى إنه أورد بابًا في كتابه "المذكور" (26/ 267). بعنوان "تفضيلهم عليهم السلام على الأنبياء وعلى جميع الخلق". ° ودعوى الإمامية التفريقَ باختصاصِ النبيِّ بصفةِ الوحي وتكليمِ المَلَك دون الإِمام: لم يقفوا عندها، بل نسوق مَرْويَّات ونصوصَ علمائِهم التي أَثبتت هذه الصفة للإِمام صراحةً أوْ ضِمنًا: أولاً: أن المَلَك يُحَدِّثُ الإِمام ويُكلِّمه: ° ومن رواياتهم التي أثبتت هذا: ما ورد في أصحِّ الكتب عندهم وهو "الكافي" للكليني: 1 - عن محمد بن مسلم قال: ذُكر "المُحدَّث" عند أبي عبد الله - عليه السلام - فقال: "إنه يَسمعُ الصوتَ، ولا يرى الشخص. فقلت له: جُعلتُ فداك، كيف يَعلمُ أنه كلامُ المَلَك؟ قال: إنه يُعطَى السكينةَ والوقارَ حتى يعلمَ أنه كلامُ مَلَك". 2 - عن حُمرانَ بنِ أعيَنَ قال: "قال أبو جعفر - عليه السلام -: إن عليًّا - عليه السلام - كان مُحدَّثًا، فخرجتُ إلى أصحابي فقلت: جئتكم بعجيبةٍ، فقالوا: وما هي؟ فقلت: سمعتُ أبا جعفر - عليه السلام - يقول: كان عليٌّ - عليه السلام - محدَّثًا! فقالوا: ما صنعتَ شيئًا، ألاَ سألتَه مَن كان يُحدِّثُه؟ فرجعتُ إليه، فقلت: إني حَدَّثتُ أصحابي بما حدثتَني، فقالوا: ما صنعتَ شيئًا، ألا سألتَه مَن كان يُحدِّثُه؟، فقال لي: يُحِّدثُه مَلَك" (¬2). ¬

_ (¬1) "بحار الأنوار" (26/ 82). (¬2) "الكافي" للكليني (1/ 270).

ثانيا: أن الملك الذي يكلم الإمام هو جبريل - عليه السلام -

3 - عن زُرارةَ قال: "سألت أبا جعفر - عليه السلام -، قلت: الإمامُ ما منزلته؟ قال: يسمعُ الصوت، ولا يرى، ولا يُعاينُ المَلَك" (¬1). 4 - عن بُريد العِجلي قال: "سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن الرسول والنبي والمحدَّث، قال: المحدَّث الذي يَسمعُ كلامَ الملائكة، ويُنقَرُ في أذنه، ويُنكَتُ في قلبه" (¬2). 5 - عن أبي عبد الله أنه قال: "إنَّ عِلَمنا غابرٌ ومزبور، ونَكْتٌ في القلوب، ونقرٌ في الأسماع، فقال: أما "الغابر"، فما تقدم مِن عِلمنا .. وأما "المزبور"، فما يأتينا .. وأما "النَّكْت" في القلوب فإلهام .. وأما "النَّقْر" في الأسماع، فأمر المَلَك" (¬3). وهذه الروايات متضمِّنةٌ لمعنى الوحي؛ لأن نُزولَ المَلَك وتكليمَه للإِمام لا يكونُ من تلقاءِ نفسه، وإنما بأمر من الله تعالى، كما قال تعالى على لسان الملائكة: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]. ثانيًا: أن المَلَكَ الذي يُكلِّمُ الإِمامَ هو جبريل - عليه السلام -: وهذا يُثبِتُ صفةَ الوحي للإِمام بوضوحٍ أقوى من سابقِه؛ لأن مَلَكَ الوحي هو جبريل - عليه السلام -، وهو أمينُ السماء، وقد أَثبت الشيعةُ أنه هو المَلَكُ الذي يُكلِّمُ الإمامَ، ويسمعُ الإمامُ كلامَه وحديثه، فمِن نصوصهم في ذلك: ¬

_ (¬1) "الكافي" (1/ 176). (¬2) "بحار الأنوار" للمجلسي (26/ 74). (¬3) "الكافي" (1/ 264).

1 - لقد اعترف آيتهم العظمى "جعفر سبحاني" بأن المَلَك الذي يُكلِّمُ الإمامَ في الروايات هو جبريل - عليه السلام -، حيث قال في "مفاهيم القرآن" (4/ 390): "الظاهر أن المراد من المَلَك في هاتيك الروايات هو جبرائيل". 2 - يقول فيلسوفُهم "صدر الدين الشيرازي" في كتابه "الحجة" بأن جبريل هو رُوح القدس، وذلك (ص 91): "جبرائيل هو المسمَّى بـ "روح القدس" .. ". ثم أثبت بأن الإمامَ يسمعُ كلامَ الله تعالى بواسطةِ رُوح القدس -أي بواسطة جبريل-، فقال (ص 93): "قوله: "والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص"، أي: يَسمعُ كلامَ الله بواسطةِ الروح القدسي سماعًا في اليقظة لكن بصورةِ الألفاظ، ولا يَرى الواسطةَ متمثلةً متشخِّصةً، لا في اليقظة ولا في النوم أيضًا". 3 - نستطيعُ أن نتيقَّنَ بأنه جبريل؛ لأن نَفْسَ المَلَكِ الذي كان يُكَلِّم الأنبياء والمرسلين كان يكلِّم الإمامَ؛ لأن الروايات أثبتت أنه نفس المَلَك لا غيره، وهو جبريل - عليه السلام -. 4 - هناك رواياتٌ عديدةٌ تُثبت أن جبريلَ - عليه السلام - كان يَنزلُ على الإِمام ويكلِّمُه أكثرَ من مرةٍ، وفي أكثرَ مِن حادثة، فمنها: أ- عن حُمران بنِ أعينَ قال: "قلت لأبي عبد الله - عليه السلام -: جعلتُ فداك، بَلَغني أن الله تبارك وتعالى قد ناجي عليًا - عليه السلام -. قال: أجل، قد كان بينهما مناجاة بالطائف، نزل بينهما جبرائيل" (¬1). ¬

_ (¬1) "بحار الأنوار" (39/ 157).

ب - عن عبد الله بن أبي يعفور قال: "قلت لأبي عبد الله - عليه السلام -: إنا نقول: إن عليًّا لَيُنكتُ في قلبه أو يُوقَرُ في صدره، فقال: إن عليًّا كان محدَّثًا. قال: فلما أكثرتُ عليه قال: إن عليًّا لَمَّا كان يومَ بني قريظة وبني النضير، كان جبرائيلُ عن يمينه وميكائيلُ عن يساره يُحدِّثانِه" (¬1). ج- عن رفاعة بن موسى، عن أبي عبد الله - عليه السلام - "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُملي على عليٍّ - عليه السلام - صحيفةً، فلمَّا بَلغ نصفَها وضع رسولُ الله رأسَه في حِجر عليٍّ - عليه السلام -، ثم كتب عليٌّ - عليه السلام - حتى امتلأت الصحيفة، فلما رَفع رسولُ الله رأسه قال: مَن أملى عليك يا علي؟ فقال: أنت يا رسولَ الله، قال: بل أملى عليك جبرائيل" (¬2). د- عن ابن سدير، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: سمعته يقول: "دعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عليًّا - عليه السلام - ودعا بدفتر، فأملى عليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بَطنَه، وأُغمي عليه، فأملى عليه جبرائيلُ ظهره، فانتبه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: مَن أملى عليك هذا يا عليُّ؟ فقال: أنت يا رسول الله، فقال: أنا أمليتُ عليك بطنه، وجبرائيل أملى عليك ظَهَره، وكان قرآنًا يُملى عليه" (¬3). والروايةُ الأخيرةُ تصرِّحُ بأن الذي أملاه جبريل على علي - رضي الله عنه - كان قرآنًا فهل يوجدُ أصرحُ من ذلك على أن الوحيَ حاصلٌ للإِمام. ¬

_ (¬1) "بحار الأنوار" (40/ 140 - 141). (¬2) "بحار الأنوار" (39/ 152). (¬3) "بحار الأنوار" (39/ 152).

ثالثا: مفهوم النبوة والوحي متحقق في الإمام، ولم ينف عنه إلا اسمها

ثالثًا: مفهوم النبوَّةِ والوحي متحقِّقٌ في الإِمام، ولم يُنفَ عنه إلاَّ اسمُها: ° وهذا ثابت -وبكل صراحةٍ - في الرواية الثابتة في "نهج البلاغة"، وهذا نصُّها: "ولقد كنتُ أَتبعهُ اتِّباعَ الفصيل أثَرَ أُمِّه، يَرفع لي في كلِّ يومٍ من أخلاقِه علمًا، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاورُ في كلِّ سَنةٍ بحِراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يَجمع بيتٌ واحدٌ يومئذٍ في الإسلام غيرَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وخديجةَ وأنا ثالثهما، أرىَ نورَ الوحي والرسالة، وأشُمُّ ريحَ النبوة، ولقد سمعتُ رَنَّةَ الشيطان حين نزل الوحيُ عليه - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله، ما هذه الرَّنة؟ فقال: هذا الشيطانُ أيِس من عبادته، إنك تسمعُ ما أسمع، وترى ما أرى، إلاَّ أنك لستَ بنبيٍّ، ولكنك وزيرٌ، وإنك لعلى خير" (¬1)، ويمكن إثبات ذلك من وجهين: الأول: وهو المتعلِّق بقوله: "إنك تسمعُ ما أسمع، وترى ما أرى"، فهي تُثبت بأن الإِمام يسمعُ ويرى الوحيَ كالنبي - صلى الله عليه وسلم - حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذّة دون أدنى فرقٍ بينهما، وهذا يبطلُ زَعْمَك بأن الوحيَ هو الفارقُ بين النبيِّ والإِمام؛ لأنه متحقَقٌ في الإِمام بنصَ الرواية" وإليك اعترافَ علمائِك عند شرحهم لهذه العبارة: 1 - يقول ابن مِيثم البحراني: "وروي عن الصادق - عليه السلام - أنه قال: كان عليٌّ - عليه السلام - يَرى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلَ الرسالة الضوءَ، ويسمعُ الصوت". وقال في نفس الصفحة: "ويؤيدُ ذلك قولُه - صلى الله عليه وسلم - حين سأله عن ذلك: ¬

_ (¬1) "نهج البلاغة" - خطب الإِمام علي (2/ 157 - 158) خطبة (234).

"إنك تسمعُ ما أسمع، وتَرى ما أرى، إلاَّ أنك لستَ بنيٍّ"، فإنه شَهِد له في ذلك بالوصول إلى مقام سماع الوحي وكلام المَلَك وصوتِ الشيطان وسائرِ ما يراه - صلى الله عليه وسلم - ويسمعه" (¬1). فهو يُصرِّحُ بوصولِ الإِمام إلى مَقام يسمعُ فيه كلامَ الوحي والمَلَكِ والشيطان، ولم يَحصُرِ السماعَ في ذلك، بل زاد عليه وأطلقه بكلِّ ما يراه ويسمعُه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - دون أدنى فَرقٍ، فأين الفَرقُ بالله عليكم يا مُنصِفين؟!!. 2 - يقول حبيب الله الهاشمي الخوئي: "ما أشار إليه بقوله: "إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى"، ظاهرُ هذا الكلام يُفيد أن الإمامَ يسمعُ صوتَ المَلَك ويُعاينه كالرسول" (¬2). 3 - يقول الحسيني الشيرازي: "ثم قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعليٍّ - عليه السلام -: "إنك تسمعُ ما أسمع" من صوتِ الوحي ورَنَّةِ الشيطان، وما أشبه .. "وترى ما أرى" من صُورةِ الملائكة والشيطان" (¬3) (3/ 225). الثاني: بالإضافة لِمَا تقدَّم من نصِّ الرواية وتصريحِ العلماء، فإن الذي يؤكِّدُ أن مفهومَ النبوة متحقِّقٌ في الإِمام هو النفيُ الوارد في الرواية بقوله: "إلاَّ أنك لست بنبي"، وهذا يؤكِّدُ أن الوصفَ المتقدِّمَ ينطبقُ على مفهومِ النبوة تمامًا، مِمَّا اضطره لنفيِ الاسم عنه بعد ثبوت الوصفِ له، فيقول حبيب الله الخوئي حولَ النفي الوارد: "ولَمَّا كان ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنك ¬

_ (¬1) المصباح (الشرح الكبير) لميثم البحراني (4/ 318). (¬2) "منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة" للميزرا حبيب الله الهاشمي الخوئي (12/ 42 - 43). (¬3) "توضيح نهج البلاغة" للسيد محمد الحسيني الشيرازي (3/ 244).

تسمع ما أسمع، وترى ما أرى" موهِمًا للمساواة (¬1) بيَنه - عليه السلام -، وبيَنه - صلى الله عليه وسلم -، استدرك ذلك بقوله: "إلا أنك لست بنبي" .. " (¬2). ° ويقول الموسوي: "ثم لَمَّا أشار إلى أن الإمامَ يسمعُ كما يسمع النبي ويَرى مِثلَما يرى، ولَمَّا كان يَخشى أن يظنَّ أحدٌ بتساويهما، نَفى عنه النبوة" (¬3). بمعنى أدقَّ: إن نفيَ النبوة عن الإِمام ليس من جهةِ عدم اتصافه بالنبوة وعدم تحقُّقِ مفهومها فيه، بل من جهةٍ أخرى، وهي كونه - صلى الله عليه وسلم - خاتمَ النبيين فلا يجوزُ أن يُطلَقَ اسم "النبي" على أحدٍ بعده (¬4)، وإلاَّ فوصفُ النبوَّة متحقِّقٌ في عليٍّ - رضي الله عنه - بنصِّ الرواية وتصريحِ العلماء من سماعه ورؤيته للوحي وكلامِ المَلَك. وهكذا تبيَّن لنا من خلالِ الوجهين أن مفهومَ "النبوة" متحقِّقٌ في الإِمام بنصِّ الرواية" ولم يُنْفَ عنه إلاَّ اسم النبوة دونَ حقيقتِها. رابعًا: إنَّ الاتصال بالسماء لم ينقطع بعد موتِ النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه ثابتٌ للأئمة، وهذا قد صرَّح به عالِِمُهم "محسن الخرازي" معتمدًا على ما ورد ¬

_ (¬1) في الكتاب "للسماوات"، ولعل الأصح ما أثبتناه. (¬2) "منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة" (12/ 42). (¬3) "شرح نهج البلاغة" للسيد عباس علي الموسوي (3/ 348). (¬4) ولذا ينقل حبيب الله الخوئي في شرحه السابق للنهج (12/ 43) قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه -: "وقال - صلى الله عليه وسلم -: لولا أني خاتم النبيين لكنت شريكًا في النبوة"، وقال البحراني في "شرحه" (4/ 318) ناقلاً نفس الحديث: "وقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: لولا أني خاتم النبيين لكنتَ شريكًا في النبوة".

عندهم من روايات، وذلك حين أورد اعتراضًا على "خَتمِ النبوة" بأن فيه حِرمان البشر من رحمة الاتصال بالملأ الأعلى، فقال: إن هذا الاتصالَ ثابتٌ للأئمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينقطع، حيث قال في كتابه "بداية المعارف الإلهية" (1/ 281): "ومنها أنَّ لازمَ خَتمِ النبوة هو قَطعُ ارتباطِ الأمة مع المبدأ الأعلى، وفيه أن الارتباطَ بالمبدإِ الأعلى لا ينحصرُ في النبوة، إذ الارتباط بواسطةِ الأئمة ميسور وممكن -بل واجب-، إذ الإِمامةُ غيرُ منقطعة إلى يوم القيامة، والإِمامُ محدَّث، والملائكة تتنزل إليهم وتُخبرُهم بما يكونُ في السَّنة من التقديرِ والقضاءِ والحوادث وبأعمال العباد وغير ذلك، لتواترِ الروايات الدالَّةِ على ذلك، مِن جُملتِها ما رُوي عن الباقر -عليه السلام -: "إن أوصياءَ محمدٍ عليه وعليهم السلام محدَّثون" .. " .. "أصول الكافي" (1/ 270). فهو يُثبتُ الوحيَ للأئمة بكلِّ صراحةٍ؛ لأنه نَفَى حصولَ انقطاعِ الاتصال بالسماء بعد رحيلِ النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤكِّدًا استمرارَه وثبوتَه للأئمة، وبما أن الاتصالَ الذي كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - في السماء هو الوحيُ، فهو إذًا بعينه ثابتٌ للأئمة, ولم ينقطع بموتِ النبي - صلى الله عليه وسلم -. خامسًا: أن الأئمةَ يَعلمون أخبارَ السماءِ صباحًا ومساءً عن طريق المَلَك: لقد صرَّحوا بأن الإِمام يعرفُ أخبارَ السماء صباحًا ومساءً، وهذا إمَّا أن يكونَ عن طريق وحيٍ ظاهرٍ وهو المَلَك، أو باطنٍ وهو الإلقاءُ في القلب، ولكنهم قد أثبتوا له الوحي الظاهر، وهو تكليمُ المَلَكِ للإِمام (¬1)، ¬

_ (¬1) سبق ذكر روايات الكليني التي تثبت تكليم المَلَك للإمام.

سادسا: إن "روح القدس" الذي به تحمل النبوة، ينتقل من النبي إلى الإمام

وهذا هو معنى الوحي الذي ينزلُ على الأنبياء، ولكنهم لم يُثبتوا هذا للإِمام فحسب، بل جعلوا مَنْعَ اللهِ تعالى لهذا الوحي -وهو إخبارُ الإِمامِ بأخبار السماء والأرض صباحًا ومساءً عن طريق الملَك- عن الإِمام منافٍ لرحمته ولطفه بعباده، وبالتالي يكون القولُ بانقطاع الوحي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ينافي رحمةَ الله تعالى بعباده ولُطفَه بهم .. فمِن رواياتهم التي أثبتوا فيها نفس المعنى الذي نقول به ما يلي: أ- ذكر الكِلِّيني في "الكافي" (1/ 261) الحديث (3): "عن جماعة ابن سعد الخثعمي أنه قال: كان المفضَّلُ عند أبي عبد الله - عليه السلام - فقال له المفضَّل: جُعلت فداك، يَفرضُ اللهُ طاعةَ عبدٍ على العباد ويَحجُبُ عنه خبرَ السماء؟ قال: لا، اللهُ أكرمُ وأرحمُ وأرأفُ بعباده من أن يفرضَ طاعةَ عبدٍ على العباد، ثم يَحجُبُ عنه خَبَرَ السماء صباحًا ومساءً". ب - ذكر أيضًا (ص 262) الحديث (6): "عن أبي حمزة قال: سمعتُ أبا جعفر يقول: لا واللهِ لا يكونُ عالم (العالم الذي افترض الله طاعته) جاهلاً أبدًا، عالمًا بشيء جاهلاً بشيء، ثم قال: اللهُ أجلُّ وأعزُّ وأكرمُ أن يَفرضَ طاعةَ عبدٍ يَحجبُ عنه عِلمَ سمائه وأرضه، ثم قال: لا يَحجبُ ذلك عنه". وهذا هو بعينه الذي أثبته "الرازي"، إذ أثبت أن الاتصالَ بالسماء عن طريق الملائكة حاصل للأئمة، وهذا بلا شك هو مفهوم الوحي. سادسًا: إنَّ "روحَ القدس" الذي به تَحمَّل النبوة، ينتقل من النبي إِلى الإِمام: وقد أثبتوا هذه الروحَ -أي: روح القدس- في رواياتهم والتي ميَّزوها

عن باقي الأرواح بأنها لا تسهو ولا تلهو، وبها يَعلمُ النبيُّ والإِمامُ أنباءَ الغيب من تحت عرشِ الرحمن إلى ما تحت الثرى - كما عَبَّر عنه شارح "الكافي "عند تعليقه على الرواية الثانية الآتية. وهناك مَزِيَّةٌ أخرى لروح القدس، وهي أن النبوةَ تُحمل بها، فبروح القدس تحمل النبوة -حيث صرَّح بذلك في الرواية الثالثة-. والفاجعةُ التي سيُصاب بها القارئُ حين يعلم أن هذه الروحَ التي تُحمل بها النبوة قد إنتقلت إلى الإِمام، كما ورد في الرواية الثالثة بقوله: "وروح القدس فبه حَملُ النبوة، فإذا قُبض النبي - صلى الله عليه وسلم -، انتَقل رُوحُ القدس، فصار إلى الإِمام". بمعنى أن الإِمام سيحمل النبوةَ عن طريق روح القدس التي انتَقلت إليه، فكيف يزعمون بأنهم لم يُثبتوا النبوة للإِمام. ° ومن الروايات حول "روح القدس" هذه ما رواه الكليني في "الكافي" (1/ 271 - 272): 1 - عن جابر الجُعْفيِّ قال: "قال أبو عبد الله -عليه السلام-: يا جابر، إن الله تبارك وتعالى خَلق الخلقَ ثلاثةَ أصناف، وهو قولُ الله -عز وجل-: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 7 - 11]. فالسابقون: هم رسل الله عليهم السلام وخاصَّةُ الله من خلقه، جَعل فيهم خَمسةَ أرواحٍ أيَّدهم بروح القدس، فبه عَرفوا الأشياء، وأيَّدهم بروح

الإيمان، فبه خافوا اللهَ -عز وجل- وأيَّدهم بُروحِ القوة، فبه قَدَروا على طاعة الله، وأيَّدهم برُوح الشهوة، فبه اشتهَوا طاعةَ الله -عز وجل- وكَرِهوا معصيته، وجَعل فيهم رُوحَ المدرج الذي به يَذهبُ الناسُ ويجيؤون، وجَعل في المؤمنين وأصحابِ الميمنة رُوحَ الإيمان، فبه خافوا الله، وجَعل فيهم رُوحَ القوة، فيه قَدَروا على طاعة الله، وجَعل فيهم رُوحَ الشهوة، فبه اشتَهَوا طاعةَ الله، وجعل فيهم رُوحَ المدرج الذي به يذهبُ الناس ويجيؤون". 2 - عن جابر، عن أبي جعفر - عليه السلام - قال: "سألته عن عِلمِ العالَم، فقال لي: يا جابر، إن في الأنبياء والأوصياء خمسةَ أرواح: روح القدس، وروح الإيمان، وروح الحياة، وروح القوة، وروح الشهوة .. فبروح القدس -يا جابر- عَرفوا ما تحتَ العرش إلى ما تحت الثرى. ثم قال: يا جابر، إن هذه الأربعةَ أرواح يصيبها الحَدَثانِ، إلاَّ رُوحَ القدس، فإنها لا تلهو ولا تلعب". 3 - عن المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: "سألته عن عِلمِ الإمام بما في أقطارِ الأرض وهو في بيته مُرخًى عليه سِترُه، فقال: يا مفضَّل، إن الله تبارك وتعالى جَعل في النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسةَ أرواح: رُوحَ الحياة، فبه دَبَّ ودَرَج .. ورُوحَ القوة , فبه نَهض وجاهد .. وروح الشهوة، فبه أَكَل وشرب وأتى النساء من الحلال .. وروح الإيمان، فبه آمَنَ وعَدَل .. وروح القدس، فبه حَمَل النبوة، فإذا قُبض النبي - صلى الله عليه وسلم - انتقل روح القدس فصار إلى الإمام، وروح القدس لا ينام ولا يغفل، ولا يلهو ولا يزهو، والأربعة الأرواح تنامُ وتغفلُ وتزهو وتلهو، وروُح القدس

سابعا: مفهوم "العصمة" يتضمن إثبات الوحي، وهي متحققة في الإمام

كان يَرى به" (¬1). سابعًا: مفهوم "العصمة" يتضمن إِثباتَ الوحي، وهي متحقِّقةٌ في الإِمام: ° إن مفهومَ "العصمة" متضمِّنٌ معنى "الوحي" من خلال إخبارِه وتصويبِه للمعصوم، فيذكر الدكتور "عبد الهادي الحسني" في كتاب "العصمة" (ص 71): "أي: أن الأئمةَ يُوحَى إليهم، وإلا كيف تكونُ العصمة؟! أمَا قال الله -عز وجل- وهو يُخبِرُ عن عصمةِ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - وكونِها بالوحي-: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 1 - 3]؟! وهذه هي العصمة؛ ثم قال بعدها مبينًا عِلَّتها وسببَها: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} عن طريق جبريل - عليه السلام - الذي أَخبر عنه بقوله تعالى بعدها: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 1 - 5]. ثامنًا: لم يُثبتوا نزولَ الوحي فقط على الإِمام، بل زادوا عليه: فقد أثبتوا للأئمةِ نزولَ مَلَكٍ أعظمَ من جبريل - عليه السلام -، فلم يكْتفوا بنزولِ جبريل على الإِمام؛ لأن هذا في نظرهم شيءٌ مشتركٌ بينهم وبين الأنبياء، وبما أنهم يعتقدون علُوَّ منزلة الأئمة على منزلةِ الأنبياء، وأنها أعظمُ منها، فلا بدَّ أن يضيفوا إليها تنزُّلَ ملائكةٍ أعظمَ عن جبريل وميكائيل، فمِن الروايات التي أثبتت ذلك، والتي وردت في كتاب "الكافي" للكليني ما يلي: 1 - عن أبي بَصير قال: "سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن قول الله تبارك ¬

_ (¬1) قال محقق الكتاب: "يعني ما غاب عنه في أقطار الأرض وما في عنان السماء، وبالجملة ما دون العرش إلى ما تحت الثرى".

وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52]. قال: خَلقٌ من خَلقِ الله -عز وجل- أعظمُ من جبرائيل وميكائيل، كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُخبره ويُسدِّدة، وهو مع الأئمة من بعده". 2 - عن أسباطَ بن سالم قال: "سأله رجلٌ من أهل "هِيت" -وأنا حاضر- عن قول الله -عز وجل-: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} فقال: منذ أَنزل اللهُ -عز وجل- ذلك الروحَ على محمد - صلى الله عليه وسلم -، ما صَعد إلى السماء وإنه لفينا". 3 - عن أبي بَصير قال: "سألتُ أبا عبد الله - عليه السلام - عن قول الله -عز وجل-: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]، قال: خَلقٌ أعظمُ من جبرائيل وميكائيلَ، كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو مع الأئمة، وهو من الملكوت". 4 - عن أبي بَصير قال: "سمعت أبا عبد الله - عليه السلام -. يقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}، قال: خَلقٌ أعظمُ من جبرائيل وميكائيل، لم يكن مع أحدٍ ممن مضى، غيرِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وهو مع الأئمةِ يُسدِّدُهم، وليس كلُّ ما طُلب وُجد". وانظر بعين البصيرة لهذه العبارة عن هذا المَلَك الذي هو أعظمُ من جبريل وميكائيل , حيث قال عنه: "لم يكن مع أحدٍ ممن مضى، غيرِ محمد، وهو مع الأئمة يسدِّدهم"، فهو غير موجودٍ مع الأنبياء السابقين، لِتستيقنَ بأنهم ينزهون مرتبةَ الإِمامة من أن تنحدرَ من عِزِّها ورفعتها إلى

تاسعا: مفهوم "النبوة التبليغية" وتعريفها ينطبق تماما على الأئمة -بزعمهم-

مرتبة النبوة" (¬1). تاسعًا: مفهوم "النُّبُوَّة التبليغيَّة" وتعريفُها ينطبقُ تمامًا على الأئمة -بزعمهم-: يتبيَّن لنا فيما تقدَّم أن الإِمامية يُثبتون الوحيَ للإِمام المتمثِّل بتكليم جبريلَ له وإملائه عليه قرآنًا وإخبارِه له بأخبار السماء صباحًا ومساءً (¬2)، بما يجعله في مصافِّ الأنبياء لتحقُّقِ مفهوم النبوَّة فيه، دون أدنى فَرقٍ معقول، وهذا التحقُّق يتأكَّدُ أكثرَ من خلال طرحهم مَفهومَين للنبوة. وهما النبوة التشريعية والتبليغية على ما صَرَّحَ به آيتهم العظمى "جعفر سبحاني" (¬3) والذي عرَّفهما بقوله: 1 - النبوة التشريعية: هي أن يُبعث النبيُّ بشريعةٍ جديدةٍ وكتابٍ جديد، وهذه قد انحصرت في خمسةٍ ذُكرت أسماؤهم في القرآن الكريم. 2 - النبوة التبليغية: هي أن يُبعث النبيُّ لغايةِ الدعوةِ والإرشاد إلى أحكامٍ وقوانينَ سَنَّها الله تعالى على لسان نبيِّه المتقدِّم، وهم الأكثرية من ¬

_ (¬1) "الكافي" للكليني (1/ 273). (¬2) قال علاَّمتهم محمد جميل حمود مثبتًا الوحي للإمام بالإضافة لما تقدم في كتابه "الفوائد البهية" (2/ 102): "فنزول جبرائيل - عليه السلام - والملائكة المقربين على نبينا محمد وعترته الطاهرة .. وعليه فوساطة جبريل أو روح القدس في علمهم في هذه النشأة"، وقال عن الوحي الذي ينزل على الرسل وأولي العزم (2/ 107): "وهذا القسم من الوحي يشمل العترة الطاهرة أيضًا لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73]. (¬3) وذلك في، كتابه "مفاهيم القرآن" (3/ 217 - 218).

الأنبياء، حيث بُعثوا لترويج الدِّين الذي جاء به أُولو العزم الخمسة. ولو تأملنا التعريفين بتجرُّدٍ وإنصافٍ نستطيعُ أن ننفيَ عن الإمام النبوةَ التشريعية؛ لأنه لم يأتِ بشريعةٍ جديدةٍ غيرِ شريعةِ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -، ولكنَّهم -واللهِ- لا يستطيعون إيجادَ فَرقٍ بين "النبيِّ التبليغي" الذي ينزلُ عليه الوحي، وبين "الإمام" لادعائهم نزولَ الوحي على الإمام أيضًا. ° قال "جعفر سبحاني" عن وظيفة النبيِّ التبليغي وتعريفه: "بأنه الذي يقوم بنشرِ الشريعة وجِلائها وتجديدِها لكي لا تندرسَ، ويتمُّ إبلاغُها من السلف إلى الخَلَف بأسلوبٍ صحيح" (¬1). ° وفي الوقت نفسِه، أثبتوا هذا للإمام، حيث يقول "مرتضاهم" الملقب "بعَلَم الهدى": "لأن أصحابَنا قد ذكروا وجوهَ الحاجة إليه في ذلك، فمنها تأكيدُ العلوم وإزالةُ الشبهات .. ومنها أن يُبين ذلك ويُفصِّله، ويُنبِّه على مُشكِلِه وغامِضِه .. ومنها كونه من وراءِ الناقلين، ليأمنَ المكلَّفون من أن يكونَ شيءٌ من الشرع لم يَصِل إليهم" (¬2). ° وقال أيضًا: "فيجبُ أن يكونَ من وراءِ ما يُنقل إلينا بعد وفاتِه - صلى الله عليه وسلم - مِن شريعته معصومٌ يتلافى ما يَجري في الشريعة من زَللٍ وترك الواجب". فانظر إلى ما اقترفوه، وانظر إلى هذا التطابق الذي يلوحُ لكلِّ ذي عَينيْن بين النبي التبليغي وبين الإِمام، حيث تحقَّق فيه مفهومُ النبوة التبليغية تمامًا دون أدنى فَرقٍ إلاَّ إطلاقَ الاسم، وما استطاع الكذَّابُ إيجادَ فَرقٍ ¬

_ (¬1) "مفاهيم القرآن" (3/ 218). (¬2) "الشافي في الإمامة" للشريف المرتضى (1/ 75 - 76).

عاشرا: تصريح علماء الإمامية بأن الإمام يجب أن يتصف بصفات النبي

صحيحٍ بين "النبي التبليغيِّ" وبين "الإمام" بعد الصفاتِ التي خَلعوها على أئمتهم زُورًا وكذبًا وبهتانًا، عامَلَهم اللهُ بما يستحقُّون. ° يقول فيلسوفُهم الشيرازي: "لكنَّ النبوةَ خُتمت بالنبيِّ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -أي: نبوةَ الرسالة والتشريع-، وبَقِيت الإِمامةُ التي هي باطن النبوة إلى يوم القيامة" (¬1). ° وقال في نفس الكتاب (ص 97): "فإن هذه الأحوالَ السَّنية مما يقع فيه الاشتراكُ بين الأنبياء والرسل والمحدَّثين من هذه الأمة، بل أن الأرضَ ما خَلت عن النبوة الباطنية إلاَّ نُبوَّةَ التشريع وإطلاق الاسم". عاشرًا: تصريحُ علماءِ الإِماميةِ بأن الإِمامَ يجبُ أن يَتَّصفَ بصفاتِ النبي: فقد صرَّحوا بوجوبِ اتصافِ الإِمام بصفاتِ النبيِّ؛ لأنه نائب عنه، فيجب أن يكون مماثلاً له تمامًا -أي: نُسخةً طِبقَ الأصل-، فممن صرح بذلك من علمائهم: 1 - قال عبد الحسين دستيغيب في كتاب "الإمامة" من سلسلة "أصول الدين" (2/ 6): "يجبُ أن يكونَ الإِمامُ مشابهًا للرسول - صلى الله عليه وسلم - تمامًا". ° وقال: "فالنائبُ لأيِّ شخصٍ يجبُ أن يكونَ مماثلاً لذلك الشخص , فخليفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجبُ أن يماثِلَ الرسول من حيث العلمِ والعمل بحيث لو رآه أيُّ شخصٍ فكأنما رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم -". ¬

_ (¬1) "كتاب الحجة" لصدر الدين الشيرازي (ص 133).

2 - قال "محمد تقي مصباح اليزدي" (ص 331): "الإِمامُ الذي يمتلكُ خصائصَ نبيِّ الإِسلام - صلى الله عليه وسلم - كلَّها عدا النبوة والرسالة". 3 - قال "محسن الخرازي" في "بداية المعارف الإلهية" (1/ 11): "كما أنه -أي: الإمام- يتَّصفُ بصفاتِ النبي أيضًا لكونه خليفة له، فإنْ كان النبيُّ معصومًا، فهو أيضًا معصوم .. وهكذا فالإِمامُ يقومُ مقام النبيِّ في جميع صفاته عدا كونه نبيًّا". ° ويقول أيضًا (2/ 40): "فكل ما كان النبيُّ معصومًا عنه، كذلك يكونُ الإمام معصومًا عنه". ° وقال (2/ 44): "إن مقتضى كونِ الإِمام قائمًا مقامَ النبي في جميعِ شؤونه إلاَّ تلقِّي الوحي، هو تخلُّقُه بأخلاقِهِ، واتصافُه بصفاته، إذ بدون ذلك لا يتمُّ الاستخلافُ والنيابةُ، ومعه لا يتمُّ اللُّطفُ، وهو نقضٌ للغرض، ومخالفٌ لمقتضى عنايتِه الأولى ورحيميته". 4 - "محمد رضا المظفر" في "عقائد الإمامية" (ص 104): "ونعتقدُ أن الإِمامَ كالنبي، يجبُ أن يكون معصومًا". 5 - قال عالمهم وأبرزُ أعلام المذهب "علي بن موسى بن جعفر بن طاووس" في كتاب "الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف" (ص 0 1): "وإن القائم مَقامَه على صفاتِ نبيِّه في العصمة؛ وكلُّ ما يجبُ له يجبُ للنائب من صفاتِ الكمال". فهم يوجبون أن يتَّصفَ الإِمامُ بصفاتِ النبي، فكيف تقولُ: "لَم نُشرِكهم بالصفات"؟!

الحادي عشر: تصريح علماء الإمامية بأهلية الأئمة لمنصب النبوة لولا عقيدة "ختم النبوة"

* الحادي عشر: تصريحُ علماءِ الإِمامِيَّة بأهليةِ الأئمةِ لمنصبِ النّبُوَّة لولا عقيدة "خَتمِ النبوة": ومِمَّن صَرَّح بذلك: 1 - المفيد في "أوائل المقالات" (ص 49 - 50) باب "القول في الفرق بين الرسل والأنبياء": "وإنما مَنع الشرع من تسميةِ أئمتنا بالنبوة دون أن يكون العقلُ مانعًا من ذلك". أي: لولا الشرعُ لأطلقوا على أئمتهم لفظةَ النبي؛ لأن العقلَ يُجوِّزه. 2 - قال "هبة الدين الشهرستاني" في "أوائل المقالات" (ص 178): "وما يُدريك أنْ لو كانت النبوةُ باقيةً مستمرةً لكانت النبوةُ في هؤلاء متسلسلةً، فما قَصَّروا عنها إلا لمانعٍ في الحِكمة الإلهية العامةِ، لا لقصورٍ في استعداد هؤلاء خاصةً، والله أعلم بحقائق الأمور". 3 - قال السيد "أمير محمد كاظم القزويني" في كتابه "الشيعة في عقائدهم وأحكامهم" (ص 73) حول استحقاق الأئمة للنبوة والمانع منه هو ختم النبوة: "ولا يَرِدُ عليه بأنه إذا كانت مرتبة الإمامة فوقَ مرتبةِ النبوة كان افتراقُ الإمامةِ عنها منافيًا لهذا القول؛ لأنه مردودٌ باستحقاقِ المرتبة العالية وهي الإمامة، متفرع على استحقاقِ المرتبة التي هي دونها -أي: النبوة-، وهذا الاستحقاقُ ثابتٌ في الأئمة من البيت النبوي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما كان المانعُ عنها هو مرتبة "ختم النبوة" الثابتة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -".

الثاني عشر: تصريح فليسوفهم الشيرازي بأن الإمامة هي نبوة باطنية وأنهما حقيقة واحدة

* الثاني عشر: تصريحُ فليسوفهم الشيرازي بأن الإِمامةَ هي نبوَّةٌ باطنيةٌ وأنهما حقيقة واحدة: ° فقد اعترف "صدر الدين الشيرازي" في كتابه "الحجة" بأن الإمامةَ نبوةٌ باطنية، وهي متفقة في حقيقتها مع النبوة، فمن أقواله: 1 - صرَّح بأن الإمامةَ هي باطن النبوة، فقال (ص 133): "لكنِ النبوةُ خُتمت بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم -أي: نبوة الرسالة والتشريع-، وبَقِيت الإمامةُ -التي هي باطنُ النبوة- إلى يوم القيامة". ° وقال (ص 97): "فإن هذه الأحوالَ السَّنية مِمَّا يقعُ فيه الاشتراكُ بين الأنبياء والرسل، والمُحدَّثين من هذه الأمة، بل إن الأرضَ ما خَلَت عن النبوة الباطنية إلاَّ نبوةَ التشريع وإطلاقَ الاسم". 2 - قال (ص 51): "فيجب أن لا تنقطعَ الإمامةُ -التي هي والنبوة حقيقةٌ واحدة بالذات متغايرةٌ بالاعتبار- عن ذريته، بل لا بد أن لا ينقطع معنى النبوة وما يجري مجراه عن وجهِ الأرض أبدًا كما توضح سابقًا". * الثالث عشر: آخِرُ قاصمةٍ للظهر، صَرَّح بها المجلسي بأن عقولهم لم تستطعِ الوقوفَ على فَرْقٍ مُقنِعٍ بين النبيِّ والإِمام: فمسكينٌ مجلسيِّهُم هذا، رغم أنه خاتمةُ محدِّثي الشيعة، وألَّف كتاب "بحار الأنوار" والذي طُبع مؤخرًا فبلغت مجلداته (110) مجلد لتتصور سَعَةَ عِلمه واطلاعه على المذهب بمرواياته ونصوص علمائه، بعد أن أجهد نفسه ليجدَ فَرْقًا حقيقيًّا مقنعًا -وليس فرقًا لفظيًّا أو شكليًّا- بين النبي وإمامهم المعصوم، عَجَز عن ذلك؛ لأن أوصافَهم متطابقةٌ تمامًا -كما نقلنا

قَدْرًا منها آنفًا-، فبعد أن غاص في بحارِ روايات الشيعة ونصوصِ علمائهم والتي بلغت (110) أبحر -أي: بعدد مجلدات كتابه- والجهدِ المُضني الذي بَذَله، كَتب لنا تقريرَه النهائيَّ واعترافَه الخطيرَ الذي يُعدُّ بمثابةِ كلمةِ الفصلِ وصَفعةٍ قويةٍ لكلِّ مَن يزعمُ وجودَ فرقٍ حقيقي بين النبي وإمام الشيعة، بأن عقولَهم لم تَصِلْ إلى فرقٍ بينٍ ظاهر بين النبي والإمام، واستغرب أيضًا لعدم وجود جهةٍ وعِلَّةٍ مقنعةٍ لعدم اتِّصافهم بالنبوة إلاَّ جهةً واحدةً، وهي أن الشرعَ قال: "لا، إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين"، فقال: "وبالجملة لا بد لنا مِن الإِذعان بعدم كونهم عليهم السلام أنبياءَ، وبأنهم أشرفُ وأفضلُ من غيرِ نبينا - صلى الله عليه وسلم - من الأنبياء والأوصياء، ولا نعرفُ جِهةً لعدم اتصافِهم بالنبوة إلا رعايةَ جلالةِ خاتم الأنبياء، ولا تَصِلُ عقولُنا إلى فرقٍ بيِّن بين النبوة والإِمامة، وما دلت عليه الأخبار فقد عرفتَه (¬1)، والله تعالى يعلم حقائقَ أحوالهم صلوات الله عليهم أجمعين" (¬2). وبعد: فهذه اثنا عشر وجهًا تُبطل محاولاتهم للتفريق بين النبي والإمام بفارقِ الوحي، وكلُّ واحدٍ من هذه الوجوه كافٍٍ لوحده على أن يَجعلَ محاولةَ التفريقِ هباءً منثورًا، فكيف لو اجتمعت جميعُها؟!! .. أفبعد كلِّ ما نسبتموه للأئمة من صفاتٍ بعضُها لا يليقُ إلاَّ بالله، ومعظمُها ¬

_ (¬1) فقال عن الأخبار التي ذكرت الفرق بين النبي والإمام قبل هذا الكلام بقليل: "بيان: استنباط الفرق بين النبي والإمام من تلك الأخبار لا يخلو من إشكال، وكذا الجمع بينها مشكل جدًّا". (¬2) "بحار الأنوار" للمجلسي (26/ 82) , وكرر نفس الكلام بنصِّه في كتابه "مرآة العقول" الذي شرح به كتاب "الكافي" للكليني وذلك في (2/ 290).

ينطبق على النبيِّ تَكذِبون على أنفُسِكم وعلى الدنيا بأسرها؟! فوالله ما فتح البابَ إلى ادِّعاءِ النبوةِ من الدجَّالين إلاَّ عقائدكم الفاسدة، وحَظُّكم من مرتبة النبوة وإعلاء الإمامة فوقها. ° وهكذا حَصَل التآمرُ من علماءِ الشيعة على مرتبةِ النبوة بالإِجهاز عليها، وبالفعل قاموا بذبحها وسَلْخها عن شرفِها وفضلها بمرأىً ومَسمَعٍ من جميع المسلمين في العالم، غيرَ مكترِثين لهذا الأصل العظيم الشريف عند الله تعالى، حتى عدَّها سبحانه من أعظم النِعَم على العباد، وذلك حين بيَّن لنا سبحانه العِبادَ الذين أنعم الله بنِعمِه وفضلِه عليهم ذاكرًا في مقدمتهم الأنبياء؛ لأنهم فازوا بوِسام النبوة والسبق في القرب من الله تعالى، حيث قال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]. ° ويقول السيد "أبو الحسن الندوي" في كتابه "صورتان متضادتان" حول خَطرِ إمامةِ الشيعة على أصل النبوة (ص 97 - 98): "يحسُنُ بنا إلى تلقِّي نظرةٍ على معتقداتِ فرقةِ الإثنا عشرية ومبادئها التي ننقلُها ملتقَطةً من كتابهم "أصول الكافي"، هذه الفرقةُ ترى أن خليفةَ الرسول والخليفةَ الإِمام أيضًا قد تم تعيينُهم من عند الله، وهم كالنبي معصومون ومفترَضوا الطاعة، وأن منزلتهم تساوي منزلةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وتفوقُ منزلةَ الأنبياء الآخرين , وأن حُجَّةَ اللهِ لا تقوم على خَلقة بدون إمام، وأن هذا لا يتمُّ ما لا يعلم به، وأن الدنيا لا تقومُ من دون إمامٍ، وأن معرفة الأئمة شرطٌ للأيمان، وأن طاعةَ الأئمة واجبةٌ كطاعة الرسل، وأن الأئمةَ لهم الخيار في تحليل الأشياء

وتحريمِها، وأنهم معصومون مثلَ الأنبياء، وأن المؤمن بالأئمَّةِ المعصومين من أهل الجنة وإن كان ظالمًا وفاسقًا وفاجرًا، وأن درجةَ الأئمة كدرجةِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأرفعُ من جميع الخلق ومن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لقد كان الأئمةُ يتمتَّعون بعِلم ما كان وما يكون، وتُعرَضُ أعمالُ العباد على الأئمة في ليلهم ونهارهم، وأن الملائكة تترددُ إلى الأئمةِ ليل نهار، وفي ليلة كلِّ جمعة يُكرَمون بالمعراج، وعلى الأئمة ينزلُ كتابٌ من عند الله كلَّ عامٍ في ليلة القدر، والموتُ يكون في سلطتهم، وأنهم يملِكون الدنيا والآخرة، فيُعطُون من شاؤوا ما شاؤوا ولقد استنبط المحقِّقون من غيرِ المسلمين نفسَ هذا المفهوم من تَصوُّر الإِمامة المذكور، فهذا البطريق "هوجيش" يقول: "إن الشيعةَ إنما يَخلَعون على الأئمة صفاتِ الله"، ومحقِّقٌ آخَر" إيوانو" يقول: "إن استمرار ضوءِ الإمامة في العالم بصفةٍ دائمة إنما يَمنحُ النبوة مكانةً جانبية" .. ". ° وينقلُ كلامَ "وليِّ الله الدهلوي" (ص 103) قائلاً: "إن بطلانَ الإمامية يُعرفُ من لفظ الإمام، فإن الإمام عندهم هو المعصوم المفترَضُ الطاعة، الموصَى إليه وحيًا باطنيًّا، (بل إنه وحي ظاهر بتكليم المَلَك، كما أثبتنا ذلك)، وهذا هو معنى النبي، فمذهبهم يستلزم إنكارَ النبوة". نعم إن اعتقاد قضيةِ الإمامة بمفهومها الشِّيعيِّ يُعطي النبوةَ مكانةً جانبيةً ونسطيعُ أن نلمسَ هذا من خلالِ واقع تعامل الشيعة مع شخصِ نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، إذ إنها تؤثِّرُ على مكانته في قلوب المسلمين مات خلال تقليلها لمحبته - صلى الله عليه وسلم - عما أوجبه له دينُ الإسلام، حيث قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه

مسلم في "صحيحه" (1/ 49): عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"، وروى البخاري (7/ 218): حدثني أبو عقيلَ زُهرةُ بنُ مَعبد أنه سَمع جدَّه عبدَ الله بنَ هشام قال: كنا مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو آخِذٌ بيدِ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحبُّ إليَّ من كلِّ شيءٍ إلاَّ من نفسي. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - له: "لا والذي نفسي بيده، حتى أكونَ أحبَّ إليك من نفسك". فقال له عمر - رضي الله عنه -: فإنه الآن واللهِ لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الآن يا عمر". وهذا المعنى تضمَّنه قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]. ° ويؤكِّد السيد أبو الحسن الندوي ما أثبته الشرعُ من وجوب تفرُّدِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بمحبةٍ لا مشارِكَ ولا مزاحِمَ ولا مساوٍ له فيها مهما كان إيمانُه وتقواه، فقال في كتابه "صورتان متضادتان" (ص 96 - 97): "أما الشرط الرابع الذي كنا قد اشترطناه للنبوة الدائمةِ والأُمةِ الخالدة هو أن تكون شخصيةُ الرسولِ هي مركزُ الهداية ومِحورُ العلاقة القلبية والتفويضِ العقليِّ للأمة، وأن يكون النبيُّ هو مصدرُ التشريع والمستحِقُّ لأن يُطاعَ ويُمتَثَلَ أمرُه، لا يشاركه في ذلك أحدٌ من أفراد أمته". ° وإلى أن قال (ص 104): "أما شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلا يكفينا أن نتَّصلَ بها اتصالاً قانونيًّا فحسب، بل المطلوب منا أن نرتبط بها ارتباطًا روحيًّا وعاطفيًّا، ونُحبَّه حبًّا خالصًا عميقًا يفوقُ كلَّ الحبِّ للمال والنفس والأهل والأولاد، ولا تُشارَكُ في ذلك أيُّ شخصيةٍ بعد ذات الله تعالى،

وإن كان من كبارِ الأولياء، أو من الرجال الكاملين، أو فردًا عظيمًا من أفراد أهل البيت. إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - شمس مشرقة للعالَم كلِّه، وكل مَن عداه -سواء كان من الصحابة الكرام، أم المجدِّدين، أو مؤسِّسي الحكومات والممالك، أو قادة الثورات-، فهو ذَرَّةٌ تستنيرُ بنورِ هذه الشمس المشرقة وتُنير، وهو ترابٌ يتحوَّل إلى أكسيد، وحديد "حجر الفلاسفة"، وهو أحقُّ وأجدرُ بالوصف الذي جاء في بيتين عربيين قديمين: ألاَ إنَّ واديَ الجِذعِ أضحى تُرابُه ... في المِسك كافورًا وأعوادُه رَنْدا وما ذاك إلاَّ أن هِندًا عشيةً ... تمشَّت وجَرَت في جوانبه بُرْدا فهذه المحبةُ التي أوجبها الشرعُ لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، إلاَّ أنها لم تَصْفُ ولم تَسلمْ للشيعة -بسبب عقيدةِ الإِمامة- كما أَمر بها الشرعُ، وكما هي موجودة عند أهل السنة، لأنهم جَعلوا له مساويًا في الصفات، ومِن ثَمَّ يكونُ مساويًا له في الحب وهم الأئمة المعصومون، وليس هذا افتراءً عليهم، بل هو واقع يلمسُه كل مَن عاش بين أظهُرِهم". ° فها هو -وهو من عاش في بلادهم وطاف بها- مثبتًا ذلك، حيث يقول في كتابه "صورتان متضادتان" (ص 5 10 - 106): "ولكنَّ هذه المعتقداتِ عن الإِمامة والأئمة لا تُعارِضُ الإِعجابَ والحُبَّ للنبي - صلى الله عليه وسلم - فحسب بل إنها تضادُّة وتتصادم معه، فكانت النتيجةُ الطبيعيةُ والنفسيةُ أن الشيعةَ لم يتمكَّنوا من تأليفِ كتابٍ قويٍّ مؤثِّر في السيرة النبوية، ولا أن شُعراءَهم النابغين وقفوا إلى نَظم نبوياتٍ قويةٍ مؤثَِّرة، ومدائح نبويةٍ تتجلَّى فيها العاطفةُ القلبية في المديح الشِّعري للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وتتدفق فيه القريحة

الفرية الكبرى للإمامية: ادعاؤهم تحريف القرآن والحذف والزياة فيه

الوقَّادة، كما نرى ذلك في شِعر المراثي ومناقبِ أهل البيت وتصوير ما حدث في "كربلاء" بأسلوبٍ ساحر وشاعريةٍ بليغة، ولا نَبَغ فيهم شاعرٌ للمديح يضاهي شعراءَ الهند الذين علا كعبُهم في شِعر المديح -دع عنك شعراء الفارسية في المديح النبوي مثل القدسي والجافيَ-، وهذا ما يقتضيه القياس، وهي قضيةٌ معلومة، ومن المناسب في هذه المناسبة أن أنقل ما قلتُه في رحلتي إلى إيران في كتاب "من نهر كابل إلى نهر اليرموك": "إننا شعُرنا في كلِّ مجتمعٍ ينتمي إلى الطريقةِ الإمامية أن الصِّلةَ العاطفيةَ والحماسَ الداخليَّ في حبِّ أهلِ البيت وتعظيم الأئمة الذين كانوا أئمةَ الهدى ومصابيح الدجى -ولا يَشكُّ في ذلك مسلم- كاد يَشغلُ كل فراغٍ في النفس والعاطفة والعقل والضمير، ويُخشى أن يكون قد أخذ الشيءَ الكثير من حقِّ النبوة التي هي مَصدرُ كل خيرٍ وسعادةٍ، ومن شخصيةِ الرسولِ الأعظم - صلى الله عليه وسلم - الذي نال به أهل البيت الشرفَ، واستحقوا الحبَّ والتعظيم، وأنه نما وازدَهَر على حساب الصِّلةِ العميقة التي يجبُ أن تكونَ بين المسلم ونبيِّه - صلى الله عليه وسلم -". فالخَطبُ أدهى وأمرُّ، فقد أضافوا إلى ذلك الحَطَّ من شرفِ النبوة وقَدْرِها، وفتحوا البابَ إلى نَسفِ ختم النبوة .. والعجيب أن أغلبَ مَن ادَّعَوا النبوةَ خرجوا مِن فِرَقٍ تفرعت عن فِرقتهم، فاللهُ يُحاسبهُم بما أوردوا الناس من مهالكَ ومخازٍ. * الفريَة الكبرى للإِماميَّة: ادعاؤهم تحريف القرآن والحَذْفَ والزياةَ فيه: أعظم جنايةٍ للإِمامية وأكبر طعنٍ لهم وعِداءٍ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: قولُ كبارِهم بتحريف القرآن بالزيادةِ فيه والنقصان، وكَذَّبوا صريح القرآن الذي تلاه محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - على صحابته -بل والدنيا بأسرها-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ

لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. * وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41 - 42]. * وقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]. * وقال تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111]. فكتبَ دجَّالوا الشيعة وكبارُ كذَّابيهم -لعنهم الله- بما يخالفُ صريحَ القرآن. ويُنكر متواتِرَه، فيطعنون في أُسِّ الإسلام، وما نزل على خيرِ الأنام - صلى الله عليه وسلم - .. إي والله يطعنون في القرآن .. يوصِي الأوائلُ منهم بذلك الأواخرَ .. وكبارُهم المتقدِّمون منهم الصغارَ والعشائرَ .. وهاك افتراؤهم. ° أول كتابٍ من كتبهم الذي وردت فيه هذه الفِريةُ هو كتاب "الكافي" -وهو أجلُّ كتب الشيعة عندهم- لثقة الإسلام!! "محمد بن يعقوب بن إسحاق الكِلِّيني" المتوفى سنة 328 هـ وهو مجدِّدُ مذهبِ الإِمامية على رأس المئةِ الثالثة، كما يقول مؤلف "الكافي" تحت باب "ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة": "ثم قال (¬1): وإن عندنا لَمصحفَ فاطمة - عليها السلام -، وما يُدريهم ما مصحفُ فاطمةَ - عليها السلام -؟ قال: قلت (¬2): وما مصحفُ فاطمة - عليها السلام -؟ قال: مصحفٌ فيه مثلُ ¬

_ (¬1) أي جعفر الصادق - رحمه الله - وهو من كبار العلماء الربانيين .. ومن كبار أهل البيت .. نسب إليه الشيعة -وهو من ذلك بريء كل البراءة- كلَّ كذب وزور. (¬2) الراوي عن جعفر وهو أبو بصير -الكذّاب الدجَّال-. َ

قرآنِكم هذا ثلاثَ مرَّات، واللهِ ما فيه من قرآنكم حَرفٌ واحد، قال: قلت: هذا واللهِ العلم، قال: إنه لَعلمٌ وما هو بذاك .. " (¬1). لعن اللهُ الكليني. ° ومن الكتب التي أُلفت في زمنِ الأئمة المعصومين "تفسير القُمِّي" الذي يبجِّلُونه كثيرًا -كما قال السيد "طيب موسوى الجزائري": "إن هذا التفسيرَ أصلُ أصولٍ للتفاسير الكثيرة، ومؤلِّفُه كان في زمنِ إمامهم الحسن العسكري-. ° يقول القُمِّي في مقدمة تفسيره: "فالقرآنُ منه ناسخٌ ومنسوخ، ومنه مُحْكَمٌ ومتشابه، ومنه عامٌّ ومنه خاصٌّ، ومنه تقديمٌ ومنه تأخير، ومنه مُنقطع ومنه معطوف، ومنه حَرفٌ مكانَ حرفٍ، ومنه على خلاف ما أنزل الله" - لعن اللهُ القمي (¬2). ° ومن الكتب التي يعتمدها القومُ "تفسير العياشي" -محمد بن مسعود- أحدِ مشايخ الكَشِّي، ومن طبقة ثقةِ الإِسلام "الكلِّيني" كما يذكر الطهراني في كتاب "الذريعة" (4/ 295)، حيث يذكرُ العياشي في مقدمة تفسيره عن مْيسر عن أبي جعفر - عليه السلام -: "لولا أنه زيد في كتاب الله ونُقص منه ما خَفي حقُّنا على ذِي حجى". ° ورابعهم: "محمد بن الحسن الصفَّار" صاحب كتاب "بصائر الدرجات"، حيث يُورِد في كتابه عقيدتَه في القرآن، فيذكر في "البرهان" ¬

_ (¬1) "الكافي" (1/ 239 - 240). (¬2) "تفسير القمي" (1/ 5).

(1/ 15): "عن أحمدَ بنِ محمدٍ، عن الحسنِ بن محبوب، عن عمرو بن أبي المِقدام، عن جابر قال: سمعتُ أبا جعفر - عليه السلام - يقول: "ما من أحدٍ من الناس ادَّعى أنه جَمع القرآنَ كلَّه كما أَنزل الله إلاَّ كَذَب، وما جَمَعه وحَفِظه كما أنزله الله إلاَّ عليُّ بن أبي طالب والأئمة من بعده". ° وخامسهم: "فرات بن إبراهيم الكوفي" الذي سَرَد رواياتٍ كثيرةً تدلُّ دلالةً واضحةً على أن القرآن مُحرَّفٌ فيه ومغَيَّر فيه، كما أنه في مقدمة كتابه أورد روايةَ عليِّ بنِ أبي طالب: "أُنزل القرآن أربعة أرباع" (¬1). ° وسادسهم: محدِّث القوم السيد "نعمت الله الجزائري" صاحب كتاب "الأنوار النعمانية في بيان معرفة النشأة الإِنسانية"، قال: "إن تسليم تواترها عن الوحي الإِلهي، وكونَ الكلِّ قد نزل به الرُّوح الأمين يُفضِي إلى طَرحِ الأخبار المستفيضةِ بل المتواترة الدَّالةِ بصريحها على وقوعِ التحريف في القرآن كلامًا ومادةً وإعرابًا، مع أن أصحابَنا قد أطبَقوا على صحتها والتصديق بها" (¬2). ° وسابعهم: "محمد بن مرتضى" المدعو بالمولى محسن الكاشاني صاحب التصانيف الكثيرة الشهيرة كـ "الكافي والوافي والشافي" إلى غير ذلك مما يقربُ من مئةِ تصنيف، المتوفى سنة (1091 هـ)، قال هذا في تفسير بعد ما ذكر كلام الطبرسي والمرتضى: "أي أن العِلمَ بصحة نقل ¬

_ (¬1) "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب .. عرض ونقد" تأليف الدكتور أحمد عثمان خليفة (ص 28) - دار السلف - الرياض. (¬2) "الأنوار النعمانية" لنعمت الله الجزائري (2/ 357).

القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث": "أقول: لقائلٍ أن يقول: كما أن الدواعي كانت متوفِّرةً على نَقلِ القرآن وحِراستِه والاعتناء به من قِبَل المؤمنين، فكذلك كانت هذه الدواعي متوفرةً لدى المنافقين على تغييره وتحريفِه المغيِّرَينِ للخلافة والمبدِّلينِ للوصية؛ لأنَّ هذا القرآنَ تضمَّن ما يخالفُ آراءهم وأهواءَهم. ولقائل أن يقول: "إنه ما تغيَّر في نفسه، وإنما التغييرُ في كتابتهم إياه أو تلفُّظهم به، فإنهم ما حرَّفوا إلاَّ عند نَسْخهم من الأصل، وبَقِيَ الأصلُ على ما هو عليه عند أهله، وهم العلماء به". فما هو عند العلماء به ليس بمحرَّف، وإنما المحرَّف ما أظهروه لأتباعهم" (¬1). ° وثامنهم: عالمُ الإمامية الفقية صاحب كتاب "تفسير القرآن" السيد "هاشم البحراني"، قال ذلك في مقدمة تفسيره في الفصل الرابع تحت عنوان "بيان خلاصة أقوال علمائنا في تفسير القرآن وعدمه، وتزييف استدلالِ مَن أنكر التحريف. ° وتاسعُهم: الشيخ "أبو علي الطبرسي" في "مجمع البيان" فقد قال: "وإلى طبقتِه لم يُعرَفِ الخلافُ صريحًا إلاَّ مِن هؤلاء المشايخ الأربعة" (¬2). والمشائخُ الأربعة هم مشايخ الإِمامية الذين قالوا بعدم تحريفِ كتاب اللَّه بخلاف بقية علمائهم وهم: "ابن بابويه القُمِّي" أستاذ الفقيه المفيد الذي ¬

_ (¬1) "الصافي" لفيض الكاشاني (1/ 35، 36)، المقدمة السادسة. (¬2) "فصل الخطاب" (ص 34).

لقبوه بالصدوق، وذلك في كتابه "الاعتقادات"، و"السيد المرتضى" مؤلف "نهج البلاغة" ومُرَتِّبه المتوفى سنة 436 هـ، وثالث القوم "أبو جعفر الطوسي" تلميذ السيد المرتضى المُتوفَى سنة 460 هـ، والرابع هو "أبو علي الطبرسي" المتوفى سنة 548 هـ صاحب تفسير "مجمع البيان". ° ومنهم "آيةُ الله ميرزا حسين نُوري المازندراني الطبرسي" المتوفى سنة 1320 هـ والمدفون في عتباتهم المُقدَّسة بالنجف، وذلك -على حَدِّ زعمهم- تقديرًا لعلمه وفضلِه وغزارةِ إنتاجِه وإثرائِه الكتبةَ العربية الإسلامية بمؤلَّفاته وأسفارِه التي منها كتاب "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب" الذي يفضحِ خبايا نفوسِ القوم وحقيقةَ دعوتهم وادعائِهم الإسلام، ويكشفُ زيفهم، وَيفضحُ أستارَ القوم، ويُبيِّن عَوارَهم، ويُشهِرُ زُورَهم وبهتانَهم وأضغانَهم. ° ومن علمائهم الدجَّالين اللعانين "المجلسي" صاحب "حياة القلوب". ° و"ملا محمد تقي الكاشاني" في كتابه "هداية الطالبين" تحت فصل "مطاعن عثمان". ° ومنهم الشيخ "علي أصغر البروجردي" من أعيان القرن الثالث عشر في كتابه "عقائد الشيعة". ° ومنهم "زين العابدين الكِرماني" في رسالته "تذييل في الرد على هاشم الشامي". ° ومنهم السيد "حامد حسين الكهنوي" صاحب "استقصاء الأفهام واستيفاء الانتقام".

° ومن كتبهم التي قالت ونصَّت على تحريف القرآن "تصحيف كاتبين أو تاريخه قرآن مبين" كما ذكره صاحب "الذريعة": "تصحيف كاتبين أو تاريخه قرآن مبين" لمرزا أحمد سلطان. و"رشق النبال على أصحاب الضلال" للسيد ناصر حسين. و"مصباح الظُّلَم" لشمس العلماء السيد إمداد الإمام زيدي المستبصر العظيم آبادي، مطبوع بلغة أردو. و"ضربت حيدري" للسيد محمد دلدار علي. و"عماد الإسلام" لأبيه السيد دلدار علي، وقد ذكرهما سابقًا. و"الإنصاف في الاستخلاف" للمرزا أحمد علي. "الإنصاف في تحقيق آية الاستخلاف" لمرزا أحمد علي الأمرتسري الهندي، المطبوع بلغة أردوا. و"ضميمه مقبول ترجمة" للمولوي مقبول أحمد المتوفى سنة 1340 هـ، الذي ذكره الطهراني في "الذريعة" خَصَّص فيها بابًا لبيان هذه العقيدة. ° ونختم بما قال "الطبرسي اللعين" في كتاب "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب": "المقدمة الثالثة "في ذكر أقوال علمائنا رضوان الله تعالى عليهم أجمعين في تغيير القرآن وعدمه": "فاعلم أن لهم في ذلك أقوالاً، مشهورها اثنان: الأول: وقوع التغييرِ والنقصانِ فيه. وهو مذهب الشيخ الجليل "علي بن إبراهيم القمي" -شيخ الكليني في تفسيره-، ومذهبُ تلميذِه ثقةِ الإسلام "محمد يعقوب الكليني" رحمه الله،

واستظهر المحقق السيد "محسن الكاظمي" في شرح "الوافية" مذهبه، وبه صَرَّح أيضًا العلامة "المجلسي" في "مرآة العقول"، وبهذا يُعلم مذهب الثقة الجليل "محمد بن الحسن الصفار" في كتاب "البصائر" .. وهذا مذهب صريح الثقة "محمد بن إبراهيم النعماني" تلميذ الكليني صاحب كتاب "الغيبة" المشهور في تفسيره الصغير. وصريح الثقة الجليل "سعد بن عبد الله القُمَّي" في كتاب "ناسخ القرآن ومنسوخه"، عقد فيه بابًا ترجمته "باب التحريف في الآيات"، وصريح السيد "علي بن أحمد الكوفي" في كتاب "بدع المحدِثة". وقد أجمع أهلُ النقل والآثار من الخاصِّ والعام أن هذا الذي في أيدي الناس من القرآن ليس هذا القرآن كلَّه! وأنه ذهب من القرآن ما ليس هو في أيدي الناس!. وهو أيضًا ظاهر مذهب أجلَّةِ المفسرين وأئمتهم الشيخ الجليل "محمد ابن مسعود العياشي" والشيخ "فرات بن إبراهيم الكوفي" والثقة النقة "محمد بن العباس الماهيار" وأنهم ملؤوا تفاسيرَهم من الأخبار الصريحة في هذا المعنى. وممن صرَّح بهذا القولِ ونَصَره الشيخُ الأعظم "محمد بن محمد النعمان- المفيد"، فقال في "المسائل السروية": "قال جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام: أمَا واللهِ لو قرئ القرآن كما أنزل لألفيتمونا فيه مسمَّينَ كما سمُي من كان قبلنا"، وقال - عليه السلام -: "نزل القرآنُ أربعةَ أرباع: رُبُع فينا، ورُبُع في أعدائنا، ورُبُع قصصٌ وأمثالٌ، ورُبُع قضايا وأحكام". ° ثم قال: "غير أن الخبرَ قد صَحَّ عن أئمتنا عليهم السلام أنهم قد

أقرَّوا بقراءةِ ما بين الدفَّتين، وأن لا نتعدَّاه إلى زيادةٍ فيه ولا إلى نقصانٍ منه إلى أن يقوم القائمُ - عليه السلام -، فيقرأَ الناسُ على ما أنزل الله تعالى وجَمَعه أميرُ المؤمنين - عليه السلام -؛ لأنه متى قرأ الإنسانُ بما يخالِفُ ما بين الدفتين غَرَّر بنفسه من أهل الخلاف وأغرى به الجبَّارين وعَرض نفسَه للهلاك، فمنعونا من قراءةِ القرآن بخلافِ ما أثبت بين الدفتين"!!!. ° وقال في موضع من كتاب "المقالات": "واتفقوا -أي: الإمامية- على أن أئمةَ الضلال خالفوا في كثيرٍ من تأليفِ القرآن، وعَدَلُوا فيه عن موجِبِ التنزيل وسُنَّةِ النبي - صلى الله عليه وسلم -". ويأتي إن شاء الله ما رواه في "إرشاده" من الأخبار الصريحة في وقوع التغيير فيها (ص 26 - 27). "وممن ذهب إلى هذا القول الشيخ الثقة الجليل الأقدم "فضل بن شاذان" في مواضع من كتاب الإيضاح، وممن ذهب إليه من القدماء الشيخ الجليل "محمد بن الحسن الشيباني" (¬1) صاحب تفسير "نهج البيان عن كشف معاني القرآن"، ومنهم الثقة "محمد بن خالد"، عَدَّ النجاشي من كتبه كتاب التنزيل والتغيير، ومنهم الشيخ الثقة "علي بن الحسن بن فضال" عُدَّ مِن كُتبه كتابُ "التنزيل من القرآن والتحريف"، ومنهم "محمد بن الحسن الصيرفي" في الفهرست له "كتاب "التحريف والتبديل"، وكذا الشيخ "حسن بن سليمان الحِلّي" تلميذ الشهيد في "مختصر البصائر"، وسماه "التنزيل والتحريف"، ومنهم "محمد بن العباس الماهيار" المعروف بـ "ابن الحجام" ¬

_ (¬1) الشيعي وليس هو محمد بن الحسن الشيباني - رحمه الله - تلميذ أبي حنيفة.

صاحب التفسير المعروف، وقد أكثر من نقل أهلِ التحريف في كتابه، ومنهم صاحب كتاب "الرد على أهل التبديل"، ذكره ابن شهر آشوب في "مناقبه" كما في "البحار"، ونقل عنه الأخبار على أن مراده من أهل التبديل هم العامة. ° وقال السيد المحدث "الجزايري" في "الأنوار" ما معناه: "إن الأصحاب قد أطبقوا على صِحَّةِ الأخبار المستفيضة -بل المتواترة- الدالةِ بصريحها على وقوع التحريف في القرآن كلامًا ومادةً وإعرابًا". ° وقال الشيخ الفاضل "يحيى" تلميذ "الكركي" في كتاب "الإمامة" في الطعن التاسع على الثالث: " .. مع إجماعِ أهلِ القبلة من الخاص والعام أن هذا القرآن الذي في أيدي الناس ليس هو القرآنَ كلَّه". والشيخ "أبو الحسن الشريف" جَدُّ شيخنِا صاحب "الجواهر" وجعله التحريف في تفسيره المسمى بـ "بمرآة الأنوار من ضروريات مذهب التشيع وأكبر مفاسد غصب الخلافة" (ص 28 - 32). الثاني: عدم وقوع التغيير والنقصان. وإليه ذهب "الصدوق" (¬1) في عقايده، والسيد "المرتضى" و"شيخ الطائفة" (¬2) في "التبيان"، ولم يُعرف من القدماء موافقٌ لهم. ° ففي "العقايد": "مَنْ نسب إلينا أنا نقولُ: إن القرآنَ أكبرُ من ذلك فهو كاذب". ثم استدل على ذلك بإطلاق لفظ القرآن على هذا الموجود (ص 33). ثم لا يخفى على المتأمل في كتاب "التبيان" أن طريقتَه فيه على نهاية ¬

_ (¬1) هو ابن بابويه القمي. (¬2) هو أبو جعفر محمد بن الحسن بن الطوسي صاحب "التبيان في تفسير القرآن".

المداراة والمماشاة مع المخالفين (¬1)، فإنك تراه اقتصر في تفسير الآيات على نقلِ كلامِ الحسن وقتادة والضحاك والسُّدِّي وابن جريج والجُبَّائي والزجَّاج وابن زيد وأمثالهم، ولم يَنقل عن أحدٍ من مفسِّري الإمامية، ولم يَذكر خبرًا عن أحدٍ من الأئمة عليهم السلام إلاَّ قليلاً .. وممَّا يؤكِّد كونَ وَضْعِ هذا الكتاب على التقية ما ذكره السيد الجليل "علي بن طاوس" في "سعد السعود"، وهذا لفظه: "ونحن نذكر ما حكاه جَدي أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في كتاب "التبيان"، وحَمَلَتْه التقية على الاقتصار .. إلخ" (ص 35). ° "ولم يُعْرَفِ الخلافُ صريحًا (¬2) إلاَّ من هذه المشايخ الأربعة كذا -أي: الصدوق والمرتضي والطوسي والطبرسي-"، ولعل المتتبعَ يجدُ صِدقَ ما قلناه، ومع ذلك كلِّه فَالمُتَّبَعُ هو الدليلُ وإن لم يذهب إليه إلا القليل" (ص 36). ° فهؤلاء علماءُ الإمامية وآياتُهم الملاعين، القائلون بتحريف القرآن والتغيير، الحاطُّون من قَدْرِ كتابِ الله وقَدْرِ مَن أُنزل عليه - صلى الله عليه وسلم -، وهم أعداؤه ¬

_ (¬1) قوله: "طريقته فيه على نهاية المداراة والمماشاة مع المخالفين" يريد أن أسلوبه في الكتاب انبنى على أقصى درجات التقية، ومجاملة المخالفين من أهل السنة والجماعة. ومع ذلك فإن فيه من تحريف المعنى ما هو أشد من تحريف اللفظ، والنتيجة واحدة لإثبات تحريف القرآن لفظًا ومعنى، أو معنى فقط للتقية وانظر دراسة الشيخ الدكتور علي السالوس لهذا التفسير فقد أتى بالأمثلة الواضحة الكثيرة المتنوعة لتحريف هذا الإِمام، وهذا مهم؛ لأن تفسير الطبرسي "تفسير مجمع البيان" من أشهر تفاسيرهم. (¬2) قوله: "ولم يُعرف الخلاف صريحًا .. " أقول: وهو في هذا صادق. حيث لم يصرّح بعدم النقص والتحريف في القرآن خلافًا لما عليه الأئمة والعلماء وعامة أهل الطائفة إلا أربعة أشخاص على سبيل التقية. حيث من المعروف أن تكذيب الإِمام، أو القول بخلاف ما يقوله ويراه، كفر في الدين ومحاربة لله رب العالمين في عقيدتهم لا يقدم عليه الشيعي إلا من باب التقية ويكون مع ذلك مأجورًا.

النبوة عند الخميني

وشانؤوه -والله- على الحقيقة .. فحَشَرهم اللهُ مع أبي جهل والوليد بن المغيرة وغيرهما من المكذِّبين للقرآن. * الخميني، شيخ الكُفر، وكبير الإمَاميَّة الاثنا عَشْريةِ في عَصرِنا: * نُكِّفرُ الخُميني بتفضيله مَهديَّ الشيعة المنتظر على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -: ° فقد قال الخُميني في خطابٍ له بمناسبة ذكرى مولد الإِمام المهديِّ -كما يعتقدون- في الخامسَ عشَرَ من شهرِ شعبان 1400 هـ، وأُذيع من راديو طهران: "لقد جاء الأنبياءُ جميعًا من أجلِ إرساء قواعدِ العدالة، لكنهم لم ينجَحوا، حتى النبيُّ محمدٌ خاتمُ الأنبياء -الذي جاء لإصلاح البشرية- لم ينجح في ذلك، وإن الشخص الذي سينجحُ في ذلك هو المهديُّ المنتظر" (¬1). * النُّبُوَّةُ عند الخُميني: أفرزت لَوثاتُ التصوُّفِ عند الخُميني دعوى غريبةً وكفرًا صريحًا، حيث يرسِم للسالك أسفارًا أربعة: ينتهي السَّفر الأول إلى مقام "الفناء". وينتهي السَّفر الثاني إلى "الفناء عن الفناء"، وتتم دائرة "الولاية". أما في السَّفر الثالث، فإنه: "يَحصُلُ له الصَّحوُ التامُّ، ويبقى بإبقاءِ الله، ويسافرُ في عالَم الجبروت والملكوت والناسوت، ويَحصُلُ له حظٌّ من النبوة وليست له نبوة التشريع، وحينئذٍ ينتهي السَّفر الثالث، ويأخذ في السفر الرابع" (¬2). ¬

_ (¬1) "مجلة المجتمع الكويتية" العدد (488) في 8/ 7/ 1980 م، و"نهج الخميني في ميزان الفكر الإسلامي" لبشّار عَوّاد (ص 45 - 47) - دار عمّار للنشر. (¬2) "مصباح الهداية" (ص 149).

الخميني ضال مضل

وبالسفر الرابع: "يكون نبيًّا بنبوةِ التشريع" (¬1). فمراحلُ السفر عنده هي: "الفناء، والولاية -وفيها الفناء عن الفناء-، والنبوة بلا تشريع، ثم النبوة الكاملة". وقولُه هذا يتضمَّنُ أن النبوةَ مكتسَبةٌ عن طريق "رياضات" و"مجاهدات" أهل التصوف .. ونحن نُكفِّرهُ بقوله هذا. ° قال القاضي عياض: "نُكفِّرُ من ادَّعى النبوةَ لنفسه، أو جَوَّزَ اكتسابَها والبلوغَ بصفاءِ القلب إلى مرتبتها -كالفلاسفة وغُلاةِ الصوفية-" (¬2). ° وقد ذكر الخُميني في كتابه "الحكومة الإسلامية": "أن الفقيهَ الرافضيَّ بمنزلةِ موسى وعيسى" (¬3). ° وادَّعى فَخرٌ الحجازي: "أن الخُميني أعظمُ من النبيِّ موسى وهارون"، فعيَّنه نائبًا عن "طهران" ورئيسًا لمؤسسة المستضعَفين أعظم مؤسسة مالية في البلاد (¬4). * الخُمينيُّ ضالٌّ مُضِلٌّ: الخُميني ضالٌّ مُضِلٌّ، وارجع إلى كتابه "الحكومة الإِسلامية" أو "ولاية الفقيه"، وكتابِه "تحرير الوسيلة"، و"مختصره" "من هنا المنطلق"، وكتابه "جهاد النفس" أو "الجهاد الأكبر". ¬

_ (¬1) "مصباح الهداية" (ص 149). (¬2) "الشفاء" اللقاضي عياض (2/ 1070 - 1071). (¬3) "الحكومة الإسلامية" (ص 95). (¬4) "الثورة البائسة" لموسى الموسوي (ص 147).

الخميني الضال يذهب إلى تحريف القرآن، ونحن نكفره بهذا

والأحاديثُ الواردةُ في الصِّحاح -والتي بدونها يضيعُ دينُنا- لا تَرِدُ على لسانه أبدًا، بل يَرِدُ في كتابه "الحكومة الإسلامية" (ص 37 وما بعدها) أنه لا يعترف بها. ° يترحَّمُ الخُميني على "النوري" صاحب كتاب "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب ربِّ الأرباب"، والذي طُبع سنة 1298 هـ، وقد قال علماء الشيعة عنه: "إنه من أعظم علماءِ الشيعة وكبارِ رجالِ هذا القرن". ويُحيل الخميني في كتابه "الحكومة الإسلامية" عند ذكرِه لأحد الأحاديث إلى كتاب "دعائم الإسلام"، وهو الكتابُ الأكبر عند الإسماعيلية الباطنية الغلاة. ويَرجعُ الخُمينيُّ إلى كتاب "الكافي" للكِلِّيني، وفيه من الكفريات والضلالات الشيءُ الكثيرُ، كالأحاديث الواردة فيه بنقضِ القرآن وتحريفه، وأنَّ الأئمةَ يوحَى إليهم، وأنهم يعلَمون عِلمَ ما كان وما يكون، وأنه لا يَخفَى عليهم شيء، وأنهم إذا شاؤوا أن يعلموا علِموا، وأنهم يعلمون متى يموتون، ولا يموتون إلاَّ باختيارٍ منهم، وفيه تكفيرُ أبي بكر وعمر وعمرو وعثمان، وعقيدةُ الكِلِّيني في القرآن أنه ناقصٌ محرَّف. * الخُمينيُّ الضالُّ يَذهبُ إِلى تحريفِ القرآن، ونحنُ نُكَفرْه بهذا: هناك إجماعٌ من الشِّيعة -وعلى رأسهم الخميني- على تقدير "النوري"، صاحب كتاب "مستدرك الوسائل"، ويترحَّمُ عليه، و"الكافي" للكِلِّيني، و"الوسائل" للحر العاملي، و"الاحتجاج" لأحمد الطبرسي .. وكلُّها تقول بتحريف القرآن.

وبين أيدينا وثيقةٌ، وهذه الوثيقةُ كتابٌ باللغة الأُردية موثَّقٌ من عددٍ من آياتهم المعاصرة -ومنهم الخميني-، وهو طبقًا لما جاء في صدر الكتاب مراعِين في ذِكرهم النصَّ الأردي: 1 - آية الله العظمى .. محسن حكيم طباطبائي، مجتهد أعظم نجف أشرف. 2 - آية الله العظمى .. أبو القاسم خوئي نجف أشرف. 3 - آية الله العظمى .. روح الله خميني. 4 - آية الله العظمى .. محمود الحسيني. 5 - آية الله العظمى .. محمد كاظم شعر يعتمداري. 6 - مصدقة ماليجناب سيد العلماء علامة سيد علي تقي النقودي مجتهد لكهنو. ويتضمن هذا الكتاب نصًّا بالعربية في حدود صفحتين، كلُّه يدورُ حولَ كيفيةِ لعنِ صَنَمَيْ قريشٍ، وهما -حسب اعتقادهم- أبو بكر وعمر!! واتهامُهما بتحريفِ القرآن الكريم!! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5]. ° وسنكتفي من هذا النصِّ بموضع الشاهد لحديثنا: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .. اللهم العن صنمي قريشٍ وجِبتيها وطاغُوتيها وإفكيها وابنتيهما، اللذين خالفا أمرَك، وأنكروا وَحَيك، وعصيا رسولَك، وقَلَبا دينك، وحَرَّفَا كتابك" (¬1). ¬

_ (¬1) "تحفة العوام" مقبول جديد (ص 422).

° الخميني: الذي يقول في كتابه "جهاد النفس" (ص 18) عن معاوية - رضي الله عنه -: "معاوية ترأَّس قومَه أربعين عامًا ولكنه لم يكسِب لنفسه سوى لعنةِ الدنيا وعذاب الآخرة". ° ويقول في "الحكومة الإسلامية" (ص 71): "ولم تكن حكومةُ معاويةَ تُمثِّلُ الحكومةَ الإِسلامية أو تشبُهها من قريبٍ ولا بعيد". ويَتَّهمُ الصحابيَّ الجليلَ "سَمُرةَ بنَ جندب" بأنه يفتري أحاديثَ تَمَسُّ من كرامة أمير المؤمنين (¬1). ° يعتقد الخميني في نصوصِ "الكافي" للكلِّيني، وقد ورد فيه أن الصحابة ارتدوا إلاَّ ثلاثة. ° الخميني: الذي يتهجَّمُ على هارونَ الرشيد، فيصفُه بالجهل، فيقول: "وها هو التاريخ يحدَثنا عن جُهَّالٍ حَكموا الناسَ بغير جَدارةٍ ولا لياقة، هارون الرشيد، أيةُ ثقافةٍ حازها؟ وكذلك مَن قبله ومَن بعده" (¬2). ° الخميني: الذي يَطعنُ في خِيارِ الإِمة، وينال من شرفِ رُوَّادِها، يُثني على الأقزام الملاحدة -مثل النصير الطُّوسي-، فيقول: "ويَشعرُ الناس بالخسارة أيضًا بفقدانِ الخواجة "نصير الدين الطوسي" وأمثالِه ممن قَدَّموا خِدماتٍ جليلةً للإِسلام" (¬3). والطُّوسيُّ هذا هو "محمد بنُ محمدِ بنِ الحسن الخواجة" نصير الدين ¬

_ (¬1) "الحكومة الإسلامية" للخميني (ص 71). (¬2) "الحكومة الإسلامية" (ص 133). (¬3) المصدر السابق (ص 128).

الخميني الضال المضل المغالي في أئمته الاثنا عشر

الطوسي، المسؤول مع عدو الله "ابن العَلْقَمِيِّ" ومستشارِه "ابنِ أبي الحديد" عن الذبح العام الرهيب الذي ارتكبه الوثنيُّ هولاكو في أمةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - عند استيلائه على عاصمة الإسلام "بغداد" سنة 655 هـ، وكان الطُّوسيُّ قبلَ ذلك من ملاحدةِ الإِسماعيلية. ° قال ابنُ القيم: "ولما انتهت النَّوبةُ إلى نَصيرِ الشِّرك والكفرِ المُلحِدِ وزيرِ الملاحدة "النصير الطوسي" وزيرِ هولاكو، شَفَى نفسَه من أتباعِ الرسول وأهل دينه، فعَرَضهم على السيف حتى شفى إخوانَه من الملاحدة واستشفى هو، فقَتل الخليفةَ والقضاةَ والفقهاءَ والمحدِّثين .. ونَصر فى كُتبه قِدَمَ العالم وبُطلانَ المعاد .. وبالجُملة فكان هذا الملحِدُ هو وأتباعُه مات الملحِدين الكافرين بالله وملائكتِه وكتبِه ورسلِه واليوم الآخر" (¬1). * الخميني الضالُّ المضِلُّ المغالي في أئمته الاثنا عَشرَ: ° فيقول: "إن للإِمام مقامًا محمودًا ودرجةً ساميةً وخلافةً تكوينيةً، تَخضعُ لولايتها وسيطرتها جميعُ ذرَّات هذا الكون" (¬2). ° ويقول في (ص 52): "والأئمةُ كانوا قبلَ هذا العالَم أنوارًا، فجعلهم اللهُ بعرشه مُحدِقِين، وجَعل لهم من المنزلة والزُّلفى ما لا يعلمُه إلاَّ الله، وقد قال جبرائيل -كما ورد في روايات المعراج-: لو دنوتُ أنملةً لاحترقتُ". ° ويقول: "والأئمةُ الذين لا نتصوَّرُ فيهم السهوَ أو الغفلة" (¬3). ¬

_ (¬1) "إغاثة اللهفان" لابن القيم (2/ 263). (¬2) "الحكومة الإسلامية" (ص 52). (¬3) المصدر السابق (ص 91).

ونحن نقول عن الخميني: إنه إمام من أئمة الكفر

° ويقول في (ص 52): "وإن من ضروراتِ مذهبِنا: أنَّ لأئمتنا مقامًا لا يبلغُه مَلَكٌ مقرَّبٌ ولا نبيٌّ مرسَل". ° قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: "ومَن اعتَقَد في غيرِ الأنبياء كونَه أفضلَ منهم -أو مساويًا لهم- فقد كفر، وقد نَقل على ذلك الإجماعَ غيرُ واحدٍ من العلماء" (¬1). وهذا هو مذهبُ غلاةِ الرافضة -كما قال ابن تيمية في "منهاج السنة" (1/ 177) -. ° ونحن نقول عن الخميني إمام "حزب الله": إنه إمامٌ من أئمة الكفر. ° جاء في بيان التنظيم الدولي للإِخوان المسلمين وصفُ حُكمِ الخميني بأنه "الحكم الإسلامي الوحيد في العالم" (¬2). ° وقالت مجلة "الاعتصام": "إن ردودَ الفعلِ التي أحدثتها "حركة الخميني" كان مبعثُها أن حركةَ الخميني حركةٌ إسلاميةٌ مئةً في المئة" (¬3). * ونحن نقول عن الخميني: إِنه إِمامٌ من أئمَّة الكفر: ° ونُدلِّلُ على هذا بما سبق وقلناه عن عقيدته، وبالآتي أيضًا: (1) الاتجاه الوثني عنده: ° في كتابه "كشف الأسرار" تحت عنوان "ليس من الشِّرك طلبُ ¬

_ (¬1) "الرد على الرافضة" لشيخ الإسلام ابن عبد الوهاب (ص 23). (¬2) انظر "الشيعة والسنة ضجة مفتعلة" وهو من سلسلة الكتب التي تصدرها دار المختار الإسلامي (ص 52). (¬3) "مجلة الاعتصام" - العدد الخامس - السنة الثانية والأربعون ربيع أول 1399 هـ.

(2) اعتقاده تأثير الكواكب والأيام على حركة الإنسان، وهو قول الصابئة الكفار

الحاجة من الموتى"، يقول: "يمكن أن يقال: إن التوسُّلَ إلى الموتى وطلبَ الحاجةِ منهم شرك؛ لأن النبيَّ والإمامَ ليس إلاَّ جَمَادَينِ، فلا يُتوقَّعُ منهما النفعُ والضرر؟!. والجواب: إن الشرك هو طلبُ الحاجةِ من غيرِ الله، مع الاعتقاد بأن هذا الغيرَ هو إلهٌ وربٌ. وأمّا إذا طَلب الحاجةَ من الغير من غيرِ هذا الاعتقاد، فذلك ليس بشرك، ولا فَرقَ في هذا المعنى بين الحيِّ والميت، ولهذا لو طَلب أحدٌ حاجتَه من الحَجَر والمَدَر لا يكون شِركًا، مع أنه قد فَعل فعلًا باطلاً!!. ومن ناحيةٍ أخرى، نحن نستمدُّ من أرواح الأنبياءِ المقدَّسةِ والأئمةِ الذين أعطاهم الله قُدرةً. لقد ثَبت بالبراهين القطعيةِ والأدلةِ العقليةِ المُحكمةِ: حياةُ الروح بعد الموت، والإحاطة الكاملة للأرواح على هذا العالم!! " (¬1). (2) اعتقادُه تأثيرَ الكواكبِ والأيامِ على حركةِ الإِنسان، وهو قولُ الصابئة الكفار: ° يقول الخُميني: "يُكره إيقاعُه -يعني: عقدَ الزواج- والقمر في برج "العقرب" وفي محاق الشهر، وفي أحد الأيام المنحوسة في كلِّ شهر وهي سبعة: يوم 3، ويوم 5، ويوم 13, ويوم 16، ويوم 21، ويوم 24، ويوم 25 - وذلك من كل شهر-" (¬2). ¬

_ (¬1) "كشف الأسرار" للخميني (ص 30). (¬2) "تحرير الوسيلة" للخميني (2/ 238).

(3) قوله بالحلول والاتحاد

° ويقول صاحبُ "التحفة الاثنا عشرية": "إن الصابئين كانوا يحترِزون عن أيامٍ يكونُ القمرُ بها في العقرب، أو الطرف، أو المحاق، وكذلك الرافضة .. وكانت الصابئةُ يعتقدون أن جميعَ الكواكبِ فاعلةٌ مختارة، وأنها هي المدبرةُ للعالَم السُّفلي، وكذلك الرافضة" (¬1). (3) قولُه بالحلول والاتحاد: وله كتابانِ خطيران في ذلك: "مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية"، و"سر الصلاة". * قوله بالحلول الخاص: ° يقول عن أميرِ المؤمنين عليٍّ - رضي الله عنه -: "خليفتُه [يعني: خليفةَ الرسول - صلى الله عليه وسلم -]، القائمُ مقامَه في المُلكِ والملكوت، والمتَّحِدُ بحقيقته في حَضرةِ الجبروت واللاهوت , أصلُ شجرةِ طوبى، وحقيقةُ سِدرةِ المنتهى، الرفيقُ الأعلى في مقامٍ أو أدنى، مُعلِّمُ الرُّوحانيين، ومؤيَدُ الأنبياءِ والمرسلين، عليٌّ أمير المؤمنين" (¬2). ° ومِن منطلق دعوى حلولِ الرب بعليٍّ -كما يَفتري- يَنسبُ الخمينيُّ لأميرِ المؤمنين عليٍّ أنه يقول: "كنتُ مع الأنبياء باطنًا، ومع رسول الله ظاهرًا" (¬3). ¬

_ (¬1) "مختصر التحفة الاثنا عشرية" (ص 299) لشاه عبد العزيز الدهلوي، واختصره الشيخ محمد شكري الألوسي -المطبعة السلفية-. (¬2) "مصباح الهداية" للخميني (ص 1). (¬3) "مصباح الهداية" (ص 142).

° ويُعلِّقُ الخميني قائلاً: "فإنه - عليه السلام - صاحبُ الولاية المطلَقة الكُلية، والولايةُ باطنُ الخلافة .. - عليه السلام - بمقام ولايتهِ الكليةِ قائمٌ على كلِّ نَفْسٍ بما كسبت (!!) ومع كلِّ الأشياء مَعيَّةً قيُّوميةً ظِلِّيَّةً إلهيةً، ظِلَّ المعية القيوميةِ الحقَّةِ الإلهية، إلاَّ أن الولايةَ لَمَّا كانت في الأنبياء أكثرَ، خَصَّهم بالذِّكر" (¬1). * ويقول في قوله -عز وجل-: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2]، قال: "أي: ربكُم الذي هو الإِمام" (¬2). ب: قولُه بالحلول والاتحاد الكُلِّي: ° يقول: "النتيجة لكلِّ المقاماتِ والتوحيداتِ عدمُ رؤيةِ فعلٍ وصفةٍ حتى من الله تعالى، ونَفيُ الكثرةِ بالكلية، وشهودُ الوحدةِ الصرفة" (¬3). ° ثم ينقل عن أحدِ أئمته أنه قال: "لنا مع الله حالاتٌ، هو هو، ونحن نحن، وهو نحن , ونحن هو" (¬4). ° ثم يُعلَّقُ على ذلك بقوله: "وكلماتُ أهل المعرفة- خصوصًا الشيخُ الكبير محي الدينَ مشحونةٌ بأمثالِ ذلك، مِثلُ قوله: الحق خَلْق، والخَلقُ حق، والحقُّ حق، والخلق خلق". ويستدلُّ على مذهبه في "وحدة الوجود" بقول "ابن عربي"، والذي يَصِفه بالشيخ الكبير (¬5) , و"القونوي" , ويَصِفه بـ "خليفة الشيخ ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 142). (¬2) "مصباح الهداية" (ص 145). (¬3) "مصباح الهداية" (ص 134). (¬4) المصدر السابق (ص 114). (¬5) المصدر السابق (ص 84، 94، 112).

الخميني يكفر صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامة، ويصرح بتكفير الشيخين

الكبير محي الدين" (¬1). "وهكذا يتبيَّنُ أن الخُمينيَّ قد أخذ منهجَ أهلِ الحلول والاتحاد" (¬2). * الخُميني يُكفِّرُ صحابةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عامةً، ويُصرِّحُ بتكفيرِ الشيخين: ° يُقرر الخميني في كتابه "تحرير الوسيلة" مشروعيةَ التبرِّي من أعداء الأئمة في الصلاة (¬3) .. وأعداءُ الأئمةِ في قاموس الشيعة هم صحابةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ثلاثةً أو سبعةً. وهو في كتابه "كشف الأسرار" يُصرِّحُ بتكفيرِ الشيخين (¬4). وقد ذكر الشيخ أبو الحسن الندوي في ترجمته لبعض نصوص "كشف الأسرار" ما يتضمن مجاهرةَ الخميني بهذا الكفر (¬5). * تكفيرُ الأئمةِ للإِماميَّة الاثنا عَشْريَّة الجعفرية "الرافضة": ° قال النووي: "إن المذهبَ الصحيحَ المختار الذي قاله الأكثرون والمُحقِّقون: إن الخوارجَ لا يَكفُرون كسائرِ أهلِ البدع" (¬6). ° قال الشيخ مُلاَّ علي القاري: "قلت: وهذا في غيرِ حقِّ الرافضةِ ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 11). (¬2) "أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثنا عشرية" للدكتور ناصر القفاري (3/ 1151). (¬3) "تحرير الوسيلة" للخميني (1/ 169). (¬4) "كشف الأسرار" (ص 112) وما بعدها، وانظر "صورتان متضادتان" لأبي الحسن الندوي (ص 57 - 58). (¬5) "صورتان متضادتان لنتائج جهود الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - الدعوية والتربوية وسيرة الجيل المثالي الأول عند أهل السنة والشيعة الإمامية" لأبي الحسن الندوي -ندوة العلماء- الهند. (¬6) "شرح صحيح مسلم" للنووي (2/ 50).

الخارجةِ في زماننا، فإنهم يعتقدون كُفرَ أكثرِ الصحابةِ -فضلاً عن سائرِ أهل السنة والجماعة-، فهم كَفَرةٌ بالإجماع بلا نزاع". وذَكَر النوويُّ في "شرح مسلم" أن الإماميَّةَ لا يُكفِّرون الصحابة، ويرى أنَّ التكفير إنما هو عند غُلاة الشيعة. فالإماميةُ في عصر النووي كانوا لا يُكفِّرون الصحابة، أو أن الإمامَ النوويَّ - رحمه الله - لم يَعرِفْ ذلك عنهم. ° وكُتب الشيعة الاثنا عشرية الرئيسية تطفحُ بهذا الرُّكام: "الكافي" للكلِّيني، و"من لا يحضره الفقيه" لابن بابويه القُمِّي، و"بحار الأنوار" لمحمد باقر المجلسي، و"وسائل الشيعة" للحر العاملي، و"مستدرك الوسائل" للنوري الطبرسي. ° وقد ذهب إلى كُفرهم الإمامُ مالكٌ، وأحمدُ، والبخاريُّ، وغيرهم -كالقرطبيِّ وابن تيميَّةَ والألوسي-: ° الإِمام مالك: رَوى الخَلاَّلُ عن أبي بكر المَروذي قال: "سمعت أبا عبد الله يقول: قال مالكٌ: الذي يَشتُمُ أصحابَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس لهم اسمٌ -أو قال: نصيب- في الإسلام" (¬1). * قال ابن كثير عند قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ¬

_ (¬1) "السُّنَّة" للخلاّل (2/ 557). وإسناده صحيح.

الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]. ° قال: "ومِن هذه الآية انتَزعَ الإِمامُ مالك -رحمةُ الله عليه- في روايةٍ عنه تكفيرَ الروافض الذين يُبغِضون الصحابة - رضي الله عنهم - قال: لأنهم يَغيظونهم، ومَن غاظه الصحابةُ - رضي الله عنهم - فهو كافر لهذه الآية، ووافقه طائفةٌ من أهل العلم" (¬1). ° قال القرطبيُّ: "لقد أحسَنَ مالكٌ في مقالته، وأصاب في تأويله، فمَن انتَقَص واحدًا منهم، أو طَعَن عليه في روايته، فقد رَدَّ على الله ربِّ العالَمين، وأبطل شرائعَ المسلمين" (¬2). ° الإِمام أحمد: وردت عنه رواياتٌ عديدةٌ في تكفيرهم: فقد روى الخَلاَّل عن أبي بكر المَرُّوذي قال: "سألت أبا عبد الله عمن يشتم أبا بكرٍ وعمرَ وعائشة؟ قال: ما أراه على الإِسلام". ° وقد جاء في كتاب "السنة" للإِمام أحمد قولُه عن "الرافضة": "هم الذين يتبرؤون من أصحابِ محمد - صلى الله عليه وسلم - ويَسُبُّونهم، وينتقصونهم، ويُكفِّرون الأئمةَ إلاَّ أربعة: عليٌّ وعَمَّارٌ والمِقدادُ وسَلْمان .. وليست الرافضةُ من الإسلام في شيء" (¬3). ° وقال البخاري - رحمه الله -: "ما أُبالي صَلَّيتُ خَلْفَ الجهميِّ والرافضي، أم صلَّيتُ خلفَ اليهود والنصارى، ولا يُسلَّمُ عليهم، ولا ¬

_ (¬1) "تفسير ابن كثير" (4/ 219)، وانظر "روح المعاني" للألوسي (26/ 116)، فقد ذهب إلى تكفيرهم، وانظر أيضًا في استنباط وجه تكفيرهم من الآية في "الصارم المسلول" (ص 579). (¬2) "تفسير القرطبي" (16/ 297). (¬3) "السنة" للإمام أحمد (ص 82) تحقيق الشيخ إسماعيل الأنصاري.

يُعادون، ولا يناكَحون، ولا يُشهَدون، ولا تؤكَلُ ذبائحُهم" (¬1). ° وقال عبدُ الرحمن بن مَهدِي: "هما مِلَّتانِ: الجهمية والرافضة" (¬2). ° وسأل رجلٌ الفريابيَّ عمن يشتمُ أبا بكر؟ قال: "كافر، قال: فيُصلَّى عليه؟ قال: لا. وقال: لا تَمَسُّوه بأيديكم، ارفعوه بالخُشُب حتى تواروه في حَفرته" (¬3). ومِمَّن كَفرهم: أحمدُ بن يونس، وأبو زُرعةَ الرازي، وابنُ قُتيبة. ° قال عبدُ القاهر البغدادي: "وأما أهل الأهواء من الجارودية والهِشامية والجهمية والإِمامية -الذين أكفروا خيارَ الصحابة-، فإنا نُكفِّرُهم، ولا تجوزُ الصلاةُ عليهم عندنا ولا الصلاةُ خَلْفَهم" (¬4). ° وقال القاضي أبو يَعلى: "وأما الرافضةُ، فالحكم فيهم: إن كَفَّر الصحابةَ أو فَسَّقهم بمعنى يستوجب به النار، فهو كافر". ° وقال ابنُ حزم: "وأما قولهم -يعني: النصارى- في دعوى الروافضِ تبديل القرآن، فإنَّ الروافضَ ليسوا من المسلمين .. وهي طائفةٌ تجري مجرى اليهود والنصارى في الكذب والكفر" (¬5). ° ثم قال: "ومِن قولِ الاماميةِ قديمًا وحديثًا: إن القرآن مبدَّل". ° ثم قال: "القولُ بأن بين اللوحين تبديلاً كُفرٌ صريح، وتكذيبٌ ¬

_ (¬1) "خلق أفعال العباد" للإمام البخاري (ص 125). (¬2) المصدر السابق (ص 125)، و"مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (35/ 415). (¬3) "الصارم المسلول" لابن تيمية (ص 570). (¬4) "الفرق بين الفرق" لعبد القاهر البغدادي (ص 357). (¬5) "الفصل" لابن حزم (2/ 213).

لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). ° وقال الإسفرايني: "ليسوا في الحال على شيءٍ من الدين، ولا مزيدَ على هذا النوع من الكفر، إذ لا بَقاءَ فيه على شيءٍ من الدين". ° وقال أبو حامد الغزالي: "فلو صَرَّح مصرِّحٌ بكفرِ أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، فقد خالفَ الإجماعَ وخَرَقه، ورَدَّ ما جاء في حقِّهم من الوعد بالجنة والثناءِ عليهم والحُكمِ بصحةِ دينهم وثباتِ يقينهم وتقدُّمِهم على سائرِ الخلق في أخبارٍ كثيرة". ° ثم قال: "فقائلُ ذلك -إنْ بَلَغَتْه الأخبارُ واعتَقَد مع ذلك كُفرَهم-، فهو كافر" (¬2). ° وقال القاضي عياض - رحمه الله -: "نقطعُ بتكفيرِ غُلاةِ الرافضة في قولهم: إن الأئمةَ أفضلُ من الأنبياء". والشِّيعةُ المعاصرون يَعُدُّون هذا من ضروراتِ مذهبِهم، ومُنكِرُ الضروريِّ كافرٌ عندهم. ° وقال السَّمعاني: "واجتمعت الأُمةُ على تكفيرِ الإمامية؛ لأنهم يعتقِدون تضليلَ الصحابة، ويُنكِرون إجماعَهم وَينسِبونهم إلى ما لا يَليقُ بهم" (¬3). ° وقال شيخُ الإسلام ابن تيمية: "مَن زَعَم أن الصحابةَ ارتدُّوا بعد ¬

_ (¬1) "الفصل" (5/ 40). (¬2) "فضائح الباطنية" لأبي حامد (ص 149). (¬3) "الأنساب" للسمعاني (6/ 341).

رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ نفرًا قليلاً لا يبلغون بضعةَ عَشَر نَفْسًا، أو أنهم فَسَّقوا عامتهم، فهذا لا ريبَ -أيضًا- في كُفرِه؛ لأنه مُكذِّبٌ لمَا نصَّه القرآنُ في غيرِ موضعٍ من الرضى عنهم والثناء عليهم .. بل مَن يُشكِّكُ في كفرِ مثل هذا؟ فإنَّ كُفْرَه متعيَّن" (¬1). ° وساق الإمامُ ابنُ كثير بعضَ الأحاديث الثابتة في السنة، والمتضمنةَ نَفْيَ دعوى النصِّ والوصيةِ التي تدَّعيها الرافضةُ لعليٍّ، ثم قال بعدَها معقِّبًا: "ولو كان الأمرُ كما زَعموا، لَمَا رَدَّ ذلك أحدٌ من الصحابة، فإنهمِ أطوعُ لله ولرسوله في حياته وبعده وفاته مِن أن يفتاتوا عليه فيُقدِّموا غيرَ من قدَّمه، ويؤخِّروا مَن قدَّمه بنصِّه، وحاشا وكلاَّ، ومَن ظن بالصحابة - رضي الله عنهم - ذلك فقد نَسَبهم بأجمعِهم إلى الفجور، والتواطُؤِ على معاندةِ الرسول، ومضادَّته في حُكمه ونصِّه، ومَن وَصَل من الناس إلى هذا المقام، فقد خَلَع رِبْقةَ الإسلام، وكَفَر بإجماع الأئمةِ الأعلام، وكان إراقةُ دمِهِ أحلَّ مِن إراقةِ المُدام" (¬2). ° وكَفَّرهم شيخُ الإسلام ابنُ عبد الوهاب في رسالته "الرد على الرافضة"، والشيخ شاه عبد العزيز الدهلوي في "مختصر التحفة الاثنا عشرية" (ص 300). ° وكفَّرهم الإمامُ الشوكاني: فقال: "وبهذا يتبيَّنُ أن كل رافضيٍّ خبيثٍ يصيرُ كافرًا بتكفيره لصحابيٍّ واحد، فكيف بمن كفَّر كلَّ الصحابةِ ¬

_ (¬1) "الصارم المسلول" (ص 586 - 587). (¬2) "البداية والنهاية" لابن كثير (5/ 252).

سلوا التاريخ يخبركم عن الرافضة الإثني عشرية

واستثنى أفرادًا يسيرة" (¬1). ° وعندما جاء بعضُ آياتهم لمناظرةِ العالِمِ الربانيِّ الشيخ الشنقيطي صاحب "أضواء البيان" قال لهم: "لو كنَّا نتَّفقُ على أصولٍ واحدة لناظرتُكم، ولكنْ لنا أصولٌ ولكم أصول، وبصورةٍ أوضح: لنا دينٌ ولكم دين" (¬2). ° وكَفَّرهم الشيخ تقيُّ الدين الهلالي في رسالته "مناظرتان بين، رجلٍ سُنِّيٍّ وإمامين مجتهدَين شيعيين" (¬3). * سَلُوا التاريخ يُخبِرْكم عن الرافضة الإِثني عشريَّة: ° "مَن الذي تآمَرَ مع التتار حتى استولَوا على بغداد وقَتلوا الخليفة المستعصِم، وقَتلوا معه غَدْرًا وفي ساعةٍ واحدة - مئتي ألفِ شخصيةٍ من العلماءِ والوجهاء والقضاة، واستمرت المذابح فيها بضعًا وثلاثين يومًا، قُتِل فيها حوالي ثمانِمِئةِ ألفِ مسلمٍ ومسلمة؟!. ° ومَن الذي تسبَّب في انحسارِ المَدِّ الإسلاميِّ العثماني في أرجاء أوربة، وطَعَن الخليفةَ العثمانيَ في ظهرِه بزحفه على عاصمةِ الخلافة، بينما كان يتغلغلُ بجيوشه في أحشاءِ "النمسا" إلى أن دَخَل قلب "فيينا"، وكادت أوروبا تدخل في حظيرة الإِسلام، لولا اضطرار الجيشِ العثماني إلى الانسحاب والرجوع إلى الرافضة لدحرهم ودفعهم؟! " (¬4). ¬

_ (¬1) "نثر الجوهر على حديث أبي ذر" للشوكاني. (¬2) "وجاء دور المجوس" (ص 151). (¬3) المصدر السابق (ص 148). (¬4) انظر "الحروب العثمانية الفارسية وأثرها في انحسار المد الإسلامي عن أوربا" للدكتور =

نقول للمخدوعين في رافضة إيران والعراق، ولبنان

° ومَن الذي تحالَفَ مع مَلِكِ "المَجَر" ضدَّ الدولة العثمانية؟ (¬1). ° يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "كانوا من أعظم الأسباب في استيلاءِ النصارى قديمًا على بيت المقدس، حتى أستفقَذَه المسلمون منهم" (¬2). ° "ومَن الذي سَلَّم أرضَ المسلمين في "باكستان الشرقية" لُقمةً سائغةً للهندوس حتى يُقيموا عليها الدولةَ المَسْخ "بنجلاديش"؟ " (¬3). ° يقول الشيخ إحسان إلهي ظهير: "وها هي باكستانُ الشرقية، ذهبت ضحية بخيانةِ أحدِ أبناء "قزلباش" الشيعة "يحيى خان" في أيدي الهندوس (¬4). ° "وقد عارض شيوخُ الشيعة في باكستان تطبيقَ الشريعةِ الإِسلامية، وقد قال زعيمُ الشيعة "مفتي جعفر حسين" في مؤتمر صحفي: بأن الشيعة يرفضون تطبيقَ الحدودِ الإسلامية؛ لأنها ستكون على مذهبِ أهل السُّنَّة" (¬5). * نقولُ للمخدوعين في رافضة إِيران والعراق، ولبنان (¬6): ° إن لم ترضَوا بأقوالِ هؤلاء العلماء الجهابذة من أساطين الإِسلام، ¬

_ = محمد عبد اللطيف هريدي - دار الصحوة - القاهرة. (¬1) مقدمة كتاب "حقبة من التاريخ" لعثمان الخميس والمقدمة للدكتور محمد إسماعيل المقدم (ص 9 - 10) دار الإيمان. (¬2) "منهاج السنة" لابن تيمية (4/ 11). (¬3) مقدمة "حقبة من التاريخ" (ص 1). (¬4) "الشيعة والسنة" لإحسان إلهي ظهير (ص 11). (¬5) "الأنباء الكويتية" - العدد 17 - ربيع الثاني 1412 هـ (ص 71، 72). (¬6) رافضة لبنان هم "حزب الله" وهو اثنا عشرية إمامية.

الفلاسفة .. الفارابي وابن سينا ومن على شاكلتهم ويقول برأيهم

فاقرؤوا رسالة الشيخ "محب الدين الخطيب": "الخطوطُ العريضةُ التي قام عليها دينُ الشيعة الإمامية الاثني عشرية"، والشيخ محمد بهجة البيطار في كتابه "حياة شيخ الإسلام ابن تيمية" (ص 131)، والقاسمي، ومحمد رشيد رضا، والدكتور مصطفى السباعي في مقدمة كتابه: "السنة ومكانتها في التشريع" (ص 17)، وهو شيخ الإِخوان في سوريا - رحمه الله -، والشيخ ابن باز، والشيخ الألباني، وشيخ علماء الجزائر البشير الإِبراهيمي، وأحمد أمين، والدكتور محمد رشاد سالم. * الفلاسفة .. الفارابيُّ وابنُ سينا ومَن عَلَى شاكلتهم ويقولُ برأيهم: كان أبو حامد الغزالي واحدًا من جملةِ أولئك الذين أظهروا للناس فسادَ الفلسفة، بعد أن أمضى قريبًا من سَنَتَينِ يدرسُ غَوْرَ وغوائلَ هذا المذهبِ، حتى اطلع على ما فيه من خِداعٍ وتلبيسٍ وتخييل، ومِن ثَمَّ قسَّمهم إلى ثلاثةِ أصناف: الصنف الأول: الدهريون. والصنف الثاني: الطبيعيَّون. والصنف الثالث: الإِلهيُّون. ثم قَطَعَ بتكفيرِ أصحاب الصِّنف الثالث -وهم الإِلهيُّون- وتكفير متَّبعيهم من المتفلسفة الإسلاميين -كابن سينا والفارابي وغيرهما-، حيث إن أحدًا من المسلمين لم ينقل عِلمَ "أرسطاطاليس" كقيام هذين الرجلين (¬1). [على حد قوله]. ¬

_ (¬1) "المنقذ من الضلال" للغزالي (ص 18 - 22).

والسببُ في تكفيرهم بالإلهيات قولُ الغزالي بأنه قد كثرت فيها أغاليطُهم، فما قُدَروا على الوفاءِ بالبراهين على ما شرطوه في المنطق، ومجموعُ ما غَلِطوا فيه يرجعُ إلى عشرينَ أصلاً، يجبُ تكفيرهم في ثلاثةٍ منها، وتبديعُهم في سبعةَ عَشر، وهذه الثلاثة هي كالآتي: 1 - قولُهم: "إن الأجسادَ لا تُحشر، وإنما المُثابُ والمعاقَبُ هي الأرواحُ المُجَرَّدة، والمثوباتُ والعقوباتُ رُوحانيةٌ لا جُسمانية". 2 - قولهم: "إن الله يَعلمُ الكلِّيَّات دون الجزئيات" .. وهذا أيضًا كفرٌ صريح. 3 - قولهم بقِدَمِ العالَم وأزليَّته (¬1). لقد كان هذا الموقفُ عظيمًا من الغزالي، حيث استطاع مجابَهَتَهم وتفنيدَ آرائهم، ثم أظهر تهافتها في كتابه المسمَّى بـ "تهافت الفلاسفة" (¬2)، في الوقت الذي لم يكن فيه الكثيرُ من النُّظَّار قادِرِين على ذلك، إذْ كان لدى الفلاسفة من الحجج الباطلةِ والقواعدِ الجدليَّة ما يُلبس ثوبَ الشكِّ لدى خَصمِهم في القُدرة على مواجهتهم بذلك، حتى جاء الغزاليُّ وأبطل هذه الحجَج بقَدَمٍ ثابتة، وثقةٍ بالغة، وجُرأةٍ نادرة، وسَجَّل له التاريخُ الإسلاميُّ هذا الفضلَ العظيم (¬3)، (¬4). ¬

_ (¬1) نفس المصدر (27 - 28). (¬2) ذهب الغزالي إلى تكفير الفلاسفة بهذه المقولات الثلاثة في كتابه "تهافت الفلاسفة" - طبع دار المعارف. (¬3) "أبو حامد الغزالي والتصوف" (68 - 69) لعبد الرحمن دمشقية - دار طيبة الرياض. (¬4) أجاد الغزالي في الردّ على الفلاسفة، لكنه عاد وأظهرها في قالب التصوف والعبارت الإسلامية؛ وخاصةً في "الإحياء" و"مشكاة الأنوار" و"معارج القدس" و"ميزان العمل"، حتى رَدَّ عليه أخصّ أصحابه وهو أبو بكر بن العربي حيث قال: "شيخنا أبو =

° قال شيخُ الإِسلام ابن تيمية: "إن الفلاسفةَ الإِلهيينَ المشَّائين وغيرَهم متَّفِقون على الإقرارِ بواجبِ الوجود، وببقاءِ الرُّوح بعد الموت، وبأن الأعمالَ الصالحة تنفعُ بعد الموت، ويخالفهم في ذلك فلاسفة كثيرون من الطبيعيِّين وغيرهم، بل وبين الإِلهيين من الفلاسفة خلافٌ في بعض ذلك، حتى الفارابي -وهَو عندهم المعلِّمُ الثاني- يقال: إنه اختلف كلامه في ذلك. فقال تارةً ببقاءِ الأنفسِ كلِّها، وتارةً ببقاءِ النفوس العالِمة دون الجاهلة، كما قاله في آراء المدينة الفاضلة، وتارةً كَذَّب بالأمرْين، وزَعَم الضال الكافرُ: أن النبوَّة خاصَّتها جَودَةُ تخييلِ الحقائق الرُّوحانية، وكلامُهم المضطرب في هذا الباب كثير" (¬1). ° وقال ابنُ تيمية في كتابه "النبوَّات": "قد غَلِط في النبوة طوائفُ غيرُ الذين كَذَّبوا بها إما ظاهرًا وباطنًا، وإمَّا باطنًا كالمنافق المَحْض، بل الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنزِل إلى الرسول وإلى مَن قَبْلَهَ، وهم خَلْقٌ كثير فيهم شُعبةُ نفاقٍ -وإن لم يكونوا مُكذِّبين للرسول مِن كلِّ وجه-، بل قد يعظِّمونه بقلوبهم، ويعتقدون وجوبَ طاعته في أمورٍ دون أمور. وأبعدُ هؤلاء عن النبوة: المتفلسِفةُ والباطنية والملاحدة؛ فإن هؤلاء لم يَعرفوا النبوةَ إلاَّ من جهةِ القَدْرِ المشترك بين بنيَ آدم -وهو المنام-، وليس في كلام أرسطو وأتباعه كلام في النبوة، والفارابيُّ جَعَلها من جنس المنامات فقط، ولهذا يُفضلَ هو وأمثالُه "الفيلسوف" على "النبي"، وابنُ سينا عَظَّمها أكثر من ذلك، فجعل للنبيِّ ثلاث خصائص: ¬

_ = حامد دخل في بطون الفلأسفة ثم أرأد أن يخرج فما قدر". (¬1) "مجموع فتاوى ابن تيمية" (2/ 86).

° أحدها: أن يَنالَ العلمَ بلا تَعلُّم، ويُسمِّيها "القوَّة القُدْسيَّة"، وهي "القُوَّةُ الحَدْسِيَّة" عنده. ° والثاني: أن يتخيَّل في نفسه ما يَعلمُه، فيرى في نفسه صُورًا نورانيَّةً، ويَسمعُ في نفسِه أصواتًا، كما يرى النائمُ في نومه صُورًا تكلِّمُه، ويسمع كلامَهم، وذلك موجودٌ في نفسِه لا في الخارج. فهكذا عند هؤلاء جميعُ ما يختصُّ بالنبي مما يراه ويسمعُه دون الحاضِرين، إنما يراه في نفسِه ويسمعه في نفسه، وكذلك الممرور عندهم. ° والثالث: أن يكون له قوَّةٌ يتصرَّفُ بها في هيولَى العالم بإحداثِ أمورٍ غريبة وهي عندهم آياتُ الأنبياء. وعندهم ليس في العالَم حادثٌ إلاَّ عن قوى نفسانيةٍ أو مَلَكيَّةٍ أو طبيعيَّةٍ، كالنفس الفلكية والإِنسانية والأشكالِ الفلكية، والطبائع التي للعناصر الأربعة والمولِّدات، لا يُقرُّون بأن فوقَ الفَلَكِ نفسِه شيءٌ يَفعلُ ولا يُحدِثُ شيئًا، فلا يتكلمُ ولا يتحرَّكُ بوجهٍ من الوجوه لا مَلَك ولا غير مَلَك فضلاً عن ربِّ العالم. والعقولُ التي يثبتونها عندهم ليس فيها تحوُّلٌ من حالٍ إلى حالٍ ألبتة، لا بإرادةٍ ولا قولٍ ولا عملٍ ولا غير ذلك، وكذلك المبدأ الأول. وهؤلاء عندهم جميعُ ما يحصل في نفوسِ الأنبياء إنما هو من فَيضِ "العقل الفعال"، ثم إنَهم لَمَّا سَمِعوا كلامَ الأنبياء أرادوا الجَمَع بينه وبين أقوالهم، فصاروا يأخذون ألفاظَ الأنبياء فيضعونَها على معانيهم، ويسمُّون تلك المعاني بتلك الألفاظِ المنقولة عن الأنبياء، ثم يتكلمون ويَصِفون الكتب

بتلك الألفاظ المأخوذةِ عن الأنبياء، فيَظنُّ مَن لم يعرف مرادَ الأنبياء ومرادَهم أنهم عَنَوا بها ما عَنَتْه الأنبياءُ .. وضَلَّ بذلك طوائفُ، وهذا موجودٌ في كلام ابن سينا ومن أخَذَ عنه، وقد ذَكَر الغزاليُّ ذلك عنهم تعريفًا بمذهبهم، وربَّما حَذَّر عنه، ووقع في كلامِه طائفةٌ من هذا في الكتب المضنون بها على غير أهلها وفي غير ذلك، حتى في كتابه "الإحياء" يقول: "الملك والملكوت والجبروت"، ومقصوده الجِسمُ والنَّفس والعَقل الذي أثبتته الفلاسفة، وَيذكُرُ اللوحَ المحفوظ، ومرادُه به النفسَ الفلكية .. إلى غير ذلك مما قد بسط في غير هذا الموضع، وهو في "التهافت" وغيرِه يُكفِّرُهم، وفي "المضنون به" يذكرُ ما هو حقيقةُ مذهبِهم، حتى يَذكرَ في النبوَّات عَينَ ما قالوه، وكذلك في الإلهيات، وهذه الصفاتُ الثلاثُ التي جَعلوها خاصةَ الأنبياء توجَدُ لعمومِ الناسِ، بل توجدُ لكثيرٍ من الكفار من المشركين وأهلِ الكتاب، فإنه قد يكونُ لأحدهم من العلم والعبادة ما يتميَّز به على غيره من الكفار، ويَحصلُ له بذلك حَدْسٌ وفراسةٌ يكون أفضلَ من غيره. وأما التخييلُ في نفسه، فهذا حاصلٌ لجميعِ الناس الذين يَرَون في مناماتهم ما يَرَون، لكن هو يقولُ: إن خاصَّةَ النبيِّ أن يَحصلَ له في القيظةِ ما حَصَل لغيرِه في المنام، وهذا موجودٌ لكثيرٍ من الناس، قد يحصلُ له في اليقظة ما يَحصُلُ لغيرِه في المنام، ويَكفيك أنهم جَعَلوا مثلَ هذا يحصلُ للممرور وللساحر، ولكن قالوا: الساحر قَصدُه فاسد، والممرور ناقص العقل .. فجعلوا ما يَحصل للأنبياء من جنسِ ما يحصُل للمجانين والسحَرة، وهذا قولُ الكفار في الأنبياء، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ

قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 51 - 53]. وهؤلاء عندهم ما يحصلُ للنبيِّ من المكاشفة والخطاب هو من جنسِ ما يحصُلُ للساحر والمجنون، لكنَّ الفَرْقَ بينه وين الساحر: أنه يأمرُ بالخير، وذلك يأمر بالشر، والمجنون ما له عقل، وهذا القَدْرُ الذي فرقوا به موجودٌ في عامةِ الناس، فلم يكن عندهم للأنبياء مَزِيَّةٌ على السحَرة والمجانين إلاَّ ما يُشاركُهم فيه عمومُ المؤمنين، وكذلك ما أثبتوه من القوَّةِ الفعَّالةِ المتصرِّفة، هي عندهم تَحصلُ للساحر وغيرِه، وذلك أنهم لا يَعرِفون الجنَّ والشياطين، وقد أَخبروا بأمورٍ عجيبة في العالَم، فأحالوا ذلك على قوَّةِ نفسِ الإنسان، فما يأتي به الأنبياءُ من الآيات، والسَّحَرةُ والكُهَّانُ وما يُخبِرُ به المصروعُ والممرورُ: هو عندهم كله من قوَّةِ نفسِ الإنسان، فالخبرُ بالغيب هو لاتِّصالها بالنفسِ الفَلَكية، ويُسمونها "اللوح المحفوظ"، والتصرُّفُ هو بالقوة النفسانية، وهذا حِذقُ ابن سينا وتصرُّفه لَمَّا أَخبر بأمورٍ في العالَم غريبة لم يُمكِنْه التكذيبُ بها، فأراد إخراجَها على أصولهم وصَرَّح بذلك في "إشاراته"، وقال: "هذه الأُمور لم نُثبتها ابتداءً، بل لَما تحققنا أن في العالَم أمورًا من هذا الجنس أردنا أن نبين أسبابها". وأما أرسطو وأتباعُه، فلم يعرِفوا هذه الأمور الغريبة، ولم يتكلَّموا عليها ولا على آياتِ الأنبياء، ولكنْ كان السحرُ موجودًا فيهم، وهؤلاءِ من أبعدِ الأُمم عن العلوم الكلية والإلهية، فإنَّ حدوثَ هذه الغرائبِ من الجنِّ واقترانَهم بالسَّحَرةِ والكهَّان مما قد عَرَفه عامَّةُ الأمم وذكروه في كتبهم غيرُ العرب، مثل الهند والترك وغيرهم من المشركين وعُبادِ الأصنام وأصحابِ الطلاسم والعزائم، وعَرفوا أن كثيرًا مِن هذه الخوارق هو مِن الجنَّ

والشياطين، وهؤلاء الجهَّالُ لم يعرفوا ذلك، ولهذا كان من أصلِهم أن النبوة مُكتسَبةٌ، وكان السُّهْرَوَرديُّ المقتولُ يطلبُ أن يكون نبيًّا، وكذلك ابنُ سبعين وغيره، والنبوةُ الحقُّ هي أنباءُ الله لعبدِه، ونبيُّ الله مَن كان اللهُ هو الذي ينبِّئه، ووَحْيه من الله، وهؤلاء وحيُهم منَ الشياطين، فهم من جنسِ المتنبئين الكذَّابين كمسيلِمةَ الكذَّاب وأمثاله، بك أولئك أحذقُ منهم، فإنهم كانت تأتيهم أرواحٌ فتكلِّمُهم وتُخبرُهم بأمورٍ غائبةٍ، وهي موجودة في الخارج -لا في أنفسهم-، وهؤلاء لا يعرِفون مثلَ هذا، ووجودُ الجن والشياطين في الخارج وسماعُ كلامهم أكثرُ من أن يمكنَ سَطرُ عُشرِه هنا، وكذلك صَرعُهم للإِنس وتَكلُّمُهم على ألسنتِهم. والفَرقُ بين النبي والساحر أعظم من الفرقِ بين الليل والنهار، والنبي يأتيه مَلَكٌ كريم من عند الله يُنبئه الله، والساحرُ والكاهن إنما معه شيطانٌ يأمرُه ويُخبرُه، قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء: 221 - 223]. فلا الخبرُ كالخبر، ولا الأمر كالأمر، ولا مُخبِرُ هذا كمُخبِرِ هذا، ولا آمِرُ هذا كآمِرِ هذا، كما أنه ليس هذا مثلَ هذا، ولهذا قال تعالى لَمَّا ذكر الذي جاء بالقرآن إلي محمد، وأنه ملَكٌ منفصِلٌ ليس خيالاً في نفسه -كما يقوله هؤلاء-: قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير: 19 - 27].

فالقرآنُ قولُ رسولٍ أرسله الله -لَم يرسِلْه الشيطان-، وهو مَلَكٌ كريم ذو قوةٍ عند ذي العرش مَكينٌ، مطاع ثَمَّ أمين، فهو مطاعٌ عند ذي العرش في الملأ الأعلى، والشياطين لا يُطاعون في السموات، بل ولا يَصعدون إليها" (¬1). ° وقال الذهبي: "قد سقت في "تاريخ الإسلام" أشياءَ اختصرتُها، وهو رأسُ الفلاسفة الإِسلامية، لم يأتِ بعدَ الفارابيِّ مثلُه، فالحمدُ لله على الإِسلام والسُّنَّة. وله كتابُ "الشفاء" وغيرُه، وأشياءُ لا تُحتَمل، وقد كَفَّره الغزاليُّ في كتاب "المُنقِذ من الضلال"، وكفَّر الفارابي" (¬2). ° وقال ابنُ كثير عن أبي عليٍّ بن سينا، الحُسينِ بن عبد الله بن سينا: "وقد لَخَّص الغزاليُّ كلامَه في "مقاصد الفلاسفة"، ثم ردَ عليه في "تهافت الفلاسفة" في عشرين مسألة، كفَّره في ثلاثِ مسائلَ مِنْهنَّ؛ وهي قوله بِقِدَم العالَم، وعدم المَعادِ الجُسْمَانيِّ، وأن اللهَ لا يَعْلمُ الجزئيات، وبَدَّعه في البواقي .. ويُقال: إنه تاب عندَ الموت .. فالله سبحانه وتعالى أعلم" (¬3). ° يقول شيخ الإِسلام - رحمه الله - في كتابه "درء تعارض العقل والنقل" وهو بصدد البحث عن انحراف الفلاسفة: "ولهؤلاء في نصوصِ الأنبياء طريقتان: طريقة التبديل، وطريقة التجهيل: ¬

_ (¬1) "النُّبوّات" لابن تيمية (ص 168 - 170) - طبع مكتبة السنة المحمدية. (¬2) "سير أعلام النبلاء" (17/ 535). (¬3) "البداية والنهاية" (15/ 668) - دار عالم الكتب.

أما أهل التبديل: فهم نوعان: أهلُ الوهم والتخييل، وأهلُ التحريف والتأويل. فأهلُ الوهم والتخييل هم الذين يقولون: إن الأنبياءَ أخبروا عن الله وعن اليوم الآخر، وعن الجنةِ والنار، وعن الملائكة، بأمورٍ غيرِ مطابقةٍ للأمر في نفسه، لكنهم خاطَبوهم بما يتخيَّلون به ويتوهَّمون به أن اللهَ جسمٌ عظيم، وأن الأبدانَ تُعاد، وأن لهم نعيمًا محسوسًا، وعقابًا محسوسًا -وإن كان الأمرُ ليس كذلك في نفسِ الأمر-، لأن من مصلحةِ الجمهور أن يخاطَبوا بما يتوهَّمون به ويتخيَّلون أن الأمرَ هكذا، وإن كان هذا كذِبًا فهو كذبٌ لمصلحة الجمهور، إذ كانت دعوتُهم ومصلحتُهم لا تُمكِنُ إلاَّ بهذه الطريق. ° وقد وَضح ابنُ سينا وأمثالُه قانونَهم على هذا الأصل، كالقانون الذي ذَكره في رسالته "الأضحوية" (ص 44 - 51)، وهؤلاء يقولون: "الأنبياءُ قَصَدوا بهذه الألفاظ ظواهرَها، وقصدوا أن يفهمَ الجمهورُ منها هذه الظواهر، وإن كانت الظواهرُ في نفس الأمر كذِبًا وباطلاً ومخالفةً للحق، فقصدوا إفهام الجمهور بالكذب والباطلِ للمصلحة". ثم مِن هؤلاء من يقول: "النبيُّ كان يَعلمُ الحقَّ، ولكن أظهَرَ خلافَه للمصلحة". ومنهم من يقول: "ما كان يعلمُ الحقَّ كما يعلمُه نُظَّارُ الفلاسفة وأمثالهم". وهؤلاء يُفضِّلون الفيلسوفَ الكاملَ على النبي، ويُفضِّلون الوَلِيَّ الكاملَ الذي له هذا المشهَد على النبي، كما يُفضِّلُ ابنُ عربي الطائى خاتَمَ الأولياء -في زعمه- على الأنبياء، وكما يُفضِّلُ الفارابي ومبشِّرُ بن فاتك

وغيرُهما الفيلسوفَ على النبي. وأما الذين يقولون: "إن النبي كان يعلمُ ذلك"، فقد يقولون: "إن النبي أفضلُ من الفيلسوف؛ لأنه عَلِم ما عَلِمه الفيلسوفُ وزيادةً، وأمكنه أن يخاطِبَ الجمهورَ بطريقةٍ يَعجِزُ عن مثلها الفيلسوفُ" .. وابنُ سينا وأمثاله من هؤلاء. وهذا في الجملة قولُ المتفلسفةِ والباطنية، كالملاحدة الإسماعيلية، وأصحابِ رسائل "إخوان الصفا"، والفارابي وابن سينا والسُّهْرَوَرْدي المقتول وابن رُشد الحفيد، وملاحدة الصوفية الخارجين عن طريقةِ المشايخ المتقدِّمين من أهل الكتاب والسنة، كابن عربي وابن سبعين وابن الطفيل صاحب رسالة "حي بن يقطان"، وخَلق كثير غير هؤلاء" (¬1). ° وقد خَصَّ شيخُ الإسلام قسمًا كبيرًا من هذا الكتاب العظيم في تتبعِ سقَطاتِ ابن سينا وضلالاته، وبيان ما فيها من زيفٍ وانحرافٍ بالحجة والبرهان على طريقةِ السلف الصالح من لدن صحابةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومَن تَبِعهم بإحسانٍ من الأئمة والعلماء المشهودِ لهم بالعلمِ والإيمان والاستقامة والعرفان. ° وقال ابن تيمية عن تسمية ابن سينا للَّوح المحفوظ بالنفس الفلكيَّة: "وقد بَينا أن اللوحَ المحفوظَ الذى ذَكَره الله ورسوله ليس هو "النَّفسَ الفلكية" وابنُ سينا ومَن تبعه أخذوا أسماءَ جاء بها الشرعُ، فوضعوا لها مسَمَّياتٍ مخالِفةً لمُسَمَّياتِ صاحبِ الشرع، ثم صاروا يتكلمون بتلك ¬

_ (¬1) "درء تعارض العقل والنقل" لابن تيمية (1/ 8).

الأسماء، فيَظنُّ الجاهلُ أنهم يقصِدون بها ما قَصَده صاحبُ الشرع .. وهؤلاء أخذوا مُخَّ الفلاسفة، وكَسَوه لِحاءَ الشريعة" (¬1). ° وقال ابنُ سينا: "إن الشرائع واردةٌ لخطابِ الجمهور بما يفهمون بتقريب ما لا يفهمون إلى إفهامهم بالتشبيه والتمثيل، ولو كان غيرُ ذلك لما أغنت الشرائعُ ألبتة" (¬2). وهذه الدَّعْوى من أخطر ما بنى عليه الفلاسفةُ والقرامطةُ منهجَهم في هَدم الإِسلام والإعراضِ عن القرآن والسنة، والاستغناءِ عنهما بالفلسفة وتعاليم الأئمة المعصومين. ° ويرى ابنُ سينا أن النبيَّ له ثلاثُ قوى: الأولى: قوةٌ قُدسيَّة، وهي متابعة لقوَّةِ العقل النظري، ويَتمكَّنُ بها النبيُّ من إدراكِ الحدِّ الأوسط دَفعةً واحدة. الثانية: قوَّةُ التخييل والحسِّ الباطن: بحيثُ يتمثَّلُ له ما يَعلمُه في نفسه فيراه ويسمعه، فيرى في نفسه صُورًا نورانيةً هي ملائكةُ الله، ويسمعُ في نفسِه أصواتًا هي -عنده- كلامُ الله، وذلك من جنسِ ما يحصلُ للنائم في منامه، ويحصلُ لغير الأنبياء بالرياضة. الثالثة: قوةٌ نفسانيةٌ يتصرَّفُ بها في هَيولى العالَم، ويتمكَّنُ بها النبي والوليُّ في التأثير في مادة العلم، وهو يزعم أن خوارقَ العاداتِ التي للأنبياء والأولياء هي من هذا النمَط" (¬3). ¬

_ (¬1) "مجموع فتاوى ابن تيمية" (10/ 402). (¬2) "رسالة أضحوية في أمر المعاد" (ص 39، 50) لابن سينا تحقيق سليمان دنيا. (¬3) "الإشارات والتنبيهات" لابن سينا (2/ 368) تحقيق د. سليمان دنيا - و"الشفاء" =

° وابنُ سينا هو أول من سَمى الله بـ "واجب الوجود" (¬1)، وهذا إلحادٌ منه في أسماء الله، وابن سينا وأمثالُه يُثبِتون وجودًا مطلقًا بشرط الإطلاق، والموجودُ المطلَقُ بشرط الإطلاق يُمتنعُ وجودُه خارجَ الذهن، فيكون وجودُ الربِّ وجودًا ذهنيًّا فقط (¬2). ° وإنما راج كلامُ ابنِ سينا على مَن سَلَك طريقَ المتفلسفة؛ لأنَّه قرَّب لهم معرفةَ الله والنبوَّات بحسب أصولِ الصابئة، لا بحَسَبِ الحقِّ في نفسه كما فعل "نسطور"، و"يحيى بن عديٍّ" النصرانيَّان (¬3). ° ولقد رَكَّب ابن سينا فلسفتَه من كلام اليونان والجهميَّة والصوفية وسَلَك طريقةَ الإسماعيلية دِينَ أصحاب "رسائل إخوان الصفا" (¬4). ° يقول الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (17/ 531): "كان أبوه كاتبًا من دُعاة الإِسماعيلية، فقال: كان أبي تولَّى التصرُّفَ بقريةٍ كبيرة، ثم نزل "بُخاري"، فقرأتُ القرآن - وكثيرًا من الأدب ولي عشرٌ، وكان أبي ممَّن آخى داعي المصريين، ويُعَدُّ من الإسماعيلية". ° ولا يُعظِّمُ المتفلسفةَ ومذاهبَهم إلا أبعدُ الناسِ عن العقل والدين كالقرامطة والباطنية (¬5). ¬

_ = " النفس" (ص 244)، وانظر "الصفدية" لابن تيمية (1/ 6 - 7)، و"النبوات" (ص 168، 240) ط. دار الفكر. (¬1) انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" (9/ 148، 149). (¬2) انظر "مجموع الفتاوى " (2/ 22، 23، 26، 104 - 106، 179)، (3/ 7). (¬3) "مجموع الفتاوى" (2/ 58). (¬4) "مجموع الفتاوى" (17/ 281)، (32/ 140). (¬5) انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" (9/ 95، 96).

أما أبو نصر محمد بن محمد الفارابي: التركي الذي من كتبه تفقه ابن سينا

° فقد قالت الفلاسفة: "إن الملائكةَ هي العقولُ العَشَرةُ، وإنها قديمةٌ أزلية، وإن العقلَ ربُّ ما سواه، وإن العقلَ الفَعَّال -وهو جبريلُ- مُبدع كلِّ ماْ تحت فَلَك القمر". وهذا لم يَقلْ مِثلَه اليهود والنصارى ومشركو العرب ولم يَصِلْ إلَيه كفرهم (¬1). * أما أبو نصر محمد بن محمد الفارابيُّ: التركي الذي من كُتبُه تَفَقَّه ابنُ سينا: ° قال عنه ابن كثير: "وكان يقولُ بالمَعادِ الرُّوحانيِّ لا الجُثمانيِّ، ويخَصِّصُ بالمَعادِ الأرْواحَ العالمةَ لا الجاهلةَ، وله مَذاهِبُ في ذلك يُخالِفُ المسلمين والفَلاسِفةَ مِن سَلَفِه الأقْدَمِين، فعليه -إن كان مات على ذلك- لَعْنَةُ ربِّ العالمين. مات بدمشقَ - فيما قاله ابنُ الأثيرِ في "كاملِه" (¬2)، ولم أرَ الحافظَ ابنَ عساكرَ ذكَره في "تاريخِه " لنَتْنِه وقَباحتِه .. فاللهُ أعْلمُ" (¬3). * نظرية النُّبُوَّة عند الفارابي: الفارابي: محمدُ بنُ محمدِ بنِ طَرْخانَ بنِ أولغ، شيخُ الفلاسفة، أخَذَ المنطقَ عن "مَتَّى بنِ يونُس" النصراني، وسار إلى "حَرَّان"، فلزم بها "يوحنَّا ابن جيلان" النصوانى، ومُصنفاتُه مَن أبتَغى الهدى منها ضلَّ وحَارَ، ومنها ¬

_ (¬1) انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" (9/ 58). (¬2) "الكامل" (8/ 491). (¬3) "البداية والنهاية" (15/ 207).

تخرَّج ابنُ سينا. ° يقول الدكتور "إبراهيم مدكور": "وقد كان فلاسفةُ الإسلام حريصين كل الحرصِ على أنْ يُوفِّقوا بين الفسلفةِ والدِّين، وبين العقلِ والنقل .. وبَيَّنوا الدينَ في اختصارٍ على أساسٍ عقلي، فكوَّنوا نظريةَ "النبوَّة" التي هي أهمُ محاولةٍ قاموا بها للتوفيق بين الفلسفةِ والدين .. والفارابيُّ هو أوَّلُ مَن ذَهَب إليها، وفَصَّل القولَ فيها، وقد كَتَب الفارابيُّ كتابًا سمَّاه "آراء أهل المدينة الفاضلة"، جارى فيه أفلاطون في كتابه "الجمهورية" إلى حَد كبير، وَيحوِي كثيرًا من الآراء الأفلاطونية التي ضمَّنها نظريتَه في النبوُّة" (¬1). ° وتظهرُ تفاصيلُ هذه النظرةِ إلى "النبوَّة" عند الفارابي فيما وَضعَه من شروطٍ لرئيسِ مدينتِه الفاضلة حيث يقول في ذلك: "وإذا جُعِلتِ الهيئةُ الطبيعيةُ (¬2) مادةَ العقلِ المنفعل (¬3) الذي صار عقلاً بالفعل (¬4)، والمنفعلُ ماد ¬

_ (¬1) "في الفلسفة الإسلامية .. منهج وتطبيق" للدكتور إبراهيم مدكور - (ص 69 - 70) - دار المعارف. (¬2) هي النفسُ الناطقةُ القابلةُ للإدراك، والتي هي مادةُ العقلِ المنفعل .. انظر "المدينة الفاضلة" للفارابي (ص 74) تأليف الدكتور علي عبد الواحد، وهو عبارة عن نصوصٍ نقَلَها المؤلفُ من كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة" للفارابي، ثم شرحها وعَلق عليها. (¬3) العقلُ المنفعلُ عندهم هو العقلُ في حالةِ تقبله للصور الذهنية .. انظر "المعجم الفلسفي" (ص 120). (¬4) ذهب أرسطو إلى أن هناك عقلاً بالفعل وعقلاً بالقوة، فأحدُهما فاعل، والآخر منفعل، ولا يستغني واحدٌ منهما عن الآخر. وذهب شُرَّاحُ فلسفتِه المُتأخرون إلى تسميةِ "العقل" بالفعل "عقلاً فَعَّالاً"، وأغدقوا عليه صفاتٍ تسمُو به على عالَم المادة وتُبرئه من الفناء .. وذهب "الفلاسفةُ المنتسبون إلى الإسلام إلى عَدِّ العقل الفعَّال في نهايةِ سلسلةِ العقول =

المستفاد، والمستفادُ مادةَ العقلِ الفَعَّال، وأخذت جملة ذلك كشيءٍ واحد، كان هذا الإنسانُ هو الذي يَحُل فيه العقل الفعَّال، وإذا حَصَل ذلك في كِلا جُزئَي قوته الناطقة -وهما النظرية والعَمَلية- (¬1)، ثم في قُوَّته المتخيِّلة، كان هذا الإنسانُ هو الذي يوحَى إليه، فيكونُ اللهُ عز وجل يُوحي إليه بتوسُّطِ العقلِ الفَعَّال، فيكون ما يَفيضُ من الله تبارك وتعالى إلى العقلِْ الفَعَّال يفيضُه العقلُ الفعَّالُ إلى عقلِه المنفعل بتوسُّطِ العقل المستفاد، ثم إلى قُوَّته المتخيلة؛ فيكونُ بما يَفيضُ منه إلى عَقلِه المنفعل حكيمًا فيلسوفًا ومتعقِّلاً على التمام، وبما يَفيضُ منه إلى قُوَّتِه المتخيِّلة نَبِيًّا منذِرًا بما سيكون، ومُخبرًا بما هو الآن .. وهذا الإِنسانُ هو في أكملِ مراتبِ الإنسانية وفي أعلى درجاتِ السعادة، وتكونُ نفسُه مُتَّحدةً بالعقل الفَعَّال على الوجهِ الذي قلنا .. وهذا الإنسانُ هو الذى يَقِفُ على كلِّ فعلٍ يمكن أن يَبلغَ به السعادة، فهذا أولُ شرائطِ الرئيس" (¬2). ° فمِن ها النصِّ نلاحظ الآتي: 1 - يذهبُ الفارابي إلى أنَّ الوحيَ إنما يكونُ لمن حَلَّ العقلُ الفعَّالُ في ¬

_ = الفلكية، وسَموه "العقل العاشر" الذي يُديرُ شؤونَ الأرض .. قال الفارابي: "العقل الفعَّال صورةٌ مُفارِقة، لم تكن في مادةِ ولا تكونُ أصلاًَ"، وعَده ابنُ سينا حَلْقةَ الوصلِ بين عالَم الغيبِ وعالَم الشهادة" .. . انظر "المعجم الفلسفي" (ص 120). (¬1) يقصد "بالعملية": الناحية النزوعيةَ المتَصلةَ بالفِكر، والتي تمثلُ في النزوع إلى فهم شيءٍ ما .. أما النواحي الأُخرى من القوةِ العملية النزوعية التي تمثل في عمل شيءٍ ما أو إحساسِ شيءٍ ما، فليست من القوةِ الناطقة في شيء .. انظر "المدينة الفاضلة" للفارابي تأليف د. علي عبد الواحد وافي (ص 75). (¬2) المرجع السابق (ص 74 - 75).

قوَّتيْهِ الناطقة والمتخيلة .. ويَجعلُ هذه القوى من خصائصِ النبوةِ التي تؤثِّرُ على العالَمِ الخارجيِّ، فتكونُ بذلك المعجزاتُ. ° وفي هذا يقول الفارابي: "النبوةُ تختصُّ في رُوحها بقوةٍ قُدْسيةٍ تُذعِنُ لها غريزةُ عالَم الخَلقِ الأكبر، كما تُذعِنُ لروحِك -عالم الخلقِ الأصغر-، فتأتي بمعجزاتٍ خارجةٍ عن الحيلة" (¬1). 2 - يُسَوِّي في الرتبة بين الفلاسفةِ والأنبياء من حيث الأخذ عن العقلِ الفَعَّال، ثم يُقدمُ الفلاسفةَ على الأنبياء، حيث جَعَل إفاضةَ العقلِ الفَعَّالِ إلى صاحبِ العقلِ المنفعلِ حكيمًا فيلسوفًا ومتعَقِّلاً على التمَّام، وبعد الإفاضة على العقلِ المنفعلِ -التي هي مرتبة الفلاسفة-، تأتي الإفاضةُ على القوَّةِ المُتَخيلة -التي هي مرتبة الأنبياء- مُتراخية عن رتبة الفلاسفة، كذلك الإفاضةُ إذا كانت على العقولِ، فهي أوْلَى من أن تكونَ على آلةِ الخيال. 3 - يقول الدكتور "علي وافي" مُعَلِّقًا على قول الفارابي: "فهذا أولُ شرائطِ الرئيس": "ويلاحَظُ أنَّ هذا الشرطَ الروحيَّ قد انفرد الفارابيُّ باشتراطه في رئيسِ المدينة الفاضلةِ دونَ فلاسفةِ اليونان الذين اغتَرَف فلسفتَهم مِن مَعِينِهم، فلم يَرِدْ لمثلِ هذا الشرطِ ذِكرٌ في "جمهوريةِ أفلاطون" التي اعتَمَد عليها الفارابي اعتمادًا كبيرًا". فظَهر بهدْا سُوءَ اعتقاد الفارابي في "النبوَّة"، وأنه إذا وُجِد شخصٌ لديْه قوَّة تخيُّلٍ سيكون نبيًّا، وسيستمَرُّ وجودُ أنبياءَ إلى قيامِ الساعة. وهذا ردٌّ واضحٌ لعقيدةِ "خَتم النُّبوَّة" بنبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بجانبِ اعتقادِه ¬

_ (¬1) "فصوص الحكم" (ص 72) للفارابي.

علي بن مسكويه

عدمَ اصطفاءِ الله تعالى لأنبيائِه ورسُله -صلوات الله وسلامه عليهم-: ° وفي هذا المعنى يُعَلِّقُ ابنُ طُفيل (¬1) على مقالةٍ للفارابي حول السعادةِ الإنسانية قائِلاً: "فهذا قد أيأسَ الخَلقَ جميعًا عن رحمةِ الله تعالى، وَصَيَّر الفاضلَ والشِّريرَ في رُتبةٍ واحدة؛ إذ جَعَل مصيرَ الكُلِّ إلى العَدَم، وهذه زَلَّة لا تُقالَ، وعَثْرةٌ ليس بعدَها جَبْرٌ .. هذا مع ما صَرَّح به مِن سُوءِ مُعْتَقَدِهِ في "النبوة"، وأنها -بزعمه- للقوةِ الخياليَّة، وتفضِيله الفلسفةُ عليها" (¬2). * عليُّ بن مَسكُويه (¬3): وممن تأثَّر بنظرية الفارابي في النبوَّة "عليُّ بن مَسكُويه"، فنَجدُه قد فصَّل تلك النظريةَ ورتَّبها ترتيبًا زاد في وضوحها. ° حيث يقول: "يرتقي الإنسانُ مِن قوةِ الحسِّ إلى قوةِ التخيُّل، إلى قوةِ الفِكر، ومِن قوَّةِ الفِكر إلى إدراكِ حقائقِ الأمورِ التي في العقل، فيؤثِّرُ حينئذٍ العقلُ في القوةِ الفكرية، وتؤثِّرُ القوةُ الفكريةُ في القوة المُتخيِّلة، وتؤثِّرُ القوةُ المتخيِّلةُ في الحِسِّ، فيرى الإنسانُ أمثلةَ الأمورِ المعقولة -أعني حقائقَ الأشياءِ ومباديَها وأسبابَها- كأنها خارجةٌ عنه، وكأنما يَراها بنظره ويَسمعُها بأذنه، فإذا شاهد هذه الحالَ، ولاحظ تلك الأمورَ، لم يَشُكَّ في ¬

_ (¬1) محمد بن عبد الملك بن طُفيل الأندلسي، فيلسوف صاحب القصة الفلسفية "حي بن يقطان" ت. سنة 581 هـ انظر "الأعلام" للزركلى (6/ 249). (¬2) حي بن يقظان: لأبي بكر بن طفيل الأندلسي (ص 62). (¬3) أحمد بن محمد بن يعقوب بن مسكويه .. اشتغل بالفلسفة والكيمياء والمنطق مدة، ت سنة 421 هـ .. "الأعلام" (1/ 211).

ابن الراوندي الزنديق المرتد

صحَّتها، وخَضَعت لها نفسُه، واعتَرفت بها. وهذه رتبةٌ واسعةُ العرض، تتفاوتُ فيها دَرَجُ الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- ومنازلُهم، فربَّما ظَهَر لهم من الأمورِ ظهورًا بينا، وربما كان فيه غموض، فيَلُوِحُ لهم ما يَلوحُ، وكأن عليه سترًا من دُونه حِجاب .. وكذلك حالُ ما يَرونه من الأمورِ المستقبَلةِ في عالمَنا هذا من الفتنِ والحروبِ وغيرِها، فإنهم ربَّما رَأَوُا الشيءَ الذي يكونُ إلى مئةِ سنةٍ فقط، وربما بَلَغ نظرُهم إلى ألفِ سَنةٍ" (¬1). ° قال ابن تيمية: "فهؤلاء الفلاسفةُ ما قَدَروا النبوَّةَ حقَّ قَدْرِها، وقد ضلَّ بهم طوائفُ من المتصوِّفةِ المُدَّعين للتحقيق وغيرُهم، وابنُ عربي وابنُ سبعين ضَلُّوا بهم، فإنهم اعتَقدوا مذهبَهم وتصوَّفوا عليه؛ ولهذا يقول ابنُ عربي: "إنَّ الأولياءَ أفضلُ من الأنبياء، وإن الأنبياءَ -وسائرَ الأولياء- يأخذون عن خاتَم الأنبياءِ عِلمَ التوحيد، وأنه هو يأخذُ مِن المَعدِنِ الذي يأخذُ منه المَلَكُ الذي يُوحِي به إلى الرسولِ"، فإن المَلَكَ عنده، الخيالُ الذي في النفس -وهو جبريلُ عندهم-، وذلك الخيالُ تابع للعقل، فالنبي عندهم يأخذُ عن هذا الخيالِ ما يَسمعُه من الصوتِ في نفسه" (¬2). * ابنُ الرَّاوَندي الزنديقُ المرتد: ° قال ابن الجوزي: "كم من زنديق في قلبه حِقدٌ على الإسلام، خَرَج فبالغ، واجتهد فزخرف دعاوى يَلقَى بها من يَصحبُه، وكان غَورُ قصدِه في ¬

_ (¬1) "الفوز الأصغر"، لأبي علي أحمد بن مسكويه (ص 101 - 103). (¬2) "النبوات" لابن تيمية (ص 280).

الاعتقاد الانسلالَ من الدين، وفي العمل نيلَ الملذَّات، واستباحةَ الحظورات. ومنهم مَن لم يَبْرَحْ على تعثيره، ففاتته الدنيا والآخرة؛ مثل ابن الراوَندي، والمَعرِّي. ° وعن التنوخي قال: "كان ابن الراوَندي ملازمَ الرافضة، وأهلَ الإِلحاد، فإذا عَوتب قال: انما أريد أن أعرفَ مذاهبهم، ثم كاشَفَ وناظر". ° قال ابنُ الجوزي: "مَن تأمل حالَ ابنِ الراوندي، وَجَده من كبارِ المُلحِدة، وصَنَّف كتابًا سماه "الدامغ"، زعم أنه يَدمغُ به هذه الشريعةَ؛ فسبحان مَن دَمَغه، فأخذه وهو في شرخ الشباب!! ". وكان يعترضُ على القرآن، ويدَّعي عليه التناقضَ وعدمَ الفصاحة"، وهو يعلم أن فُصحاءَ العرب تحيَّرت عند سماعِه، فكيف بالأَلكَن؟! " (¬1). ° قال ابنُ كثير: "أحدُ مشاهير الزندقة، كان أبوه يهوديًّا، فأظهر الإسلام، ويقال: إنه حَرف التوراة، كما عادى ابنُه القرآن، وألحد فيه، وصَنَّف كتابًا في الرد على القرآن سماه "الدامغ"، وكتابًا في الرد على الشريعة والاعتراضِ عليها سماه "الزمردة"، وكتابًا يقال له "التاج" في معنى ذلك. ° قال الجُبَّائي: قرأتُ كتابَ هذا المُلحِدِ الجاهل السفيهِ ابنِ الراوندي، فلم أجِدْ فيه إلاَّ السَّفَةَ والكَذبَ والافتراء، قال: وقد وَضع كتابًا في قِدَم العالم، ونفيِ الصانع، وتصحيحِ مذهب الدهرية، والردِّ على أهلِ التوحيد، ووَضَع كتابًا في الرد على محمدٍ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبعةَ عَشَر موضعًا، ونَسَبه إلى الكذب -يعني النبيَّ صلى الله عليه وسلم -، وطَعَن على القرآن، ووضع ¬

_ (¬1) "تلبيس إبليس" لابن الجوزي (ص 111 - 112) - مطبعه الجزيرة - دار السلام - مصر.

كتابًا لليهود والنصارى، وفَضَّل دينَهم على المسلمين والإِسلام، يَحتجُّ لهم فيها على إبطالِ نبوَّةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، إلى غيرِ ذلك من الكُتب التي تبيَن خروجَه عن الإسلام .. نَقَل ذلك ابن الجوزي عنه. ° وقد أورد ابن الجوزي في "منتظَمه" طَرَفًا من كلامه وزندقته وطَعْنِه على الآيات والشريعة، ورَدَّ عليه في ذلك، وهو أقل وأخسُّ وأذلُّ من أن يُلتفتَ إليه وإلى جهله وكلامِه وهَذَيانِه وسَفَهِه وتموُّهِه، وقد أَسند إليه حكاياتٍ من المَسْخرة والاستهتارِ والكفرِ والكبائر؛ منها ما هو صحيحٌ عنه، ومنها ما هو مفتعَل عليه ممن هو مثله، وعلى طريقِه ومَسلكِه في الكفر والتستر في المسخرة، يُخرجونها في قوالبَ مسخرة، وقلوبهم مشحونة بالكفر والزندقة، وهذا كثيرٌ موجود فيمن يَدَّعي الإسلام، وهو منافقٌ، يتمسخرون بالرسول ودينِه وكتابه، وهؤلاء ممن قال الله تعالى فيهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65 - 66]. وقد كان أبو عيسى الوَراق مصاحبًا لابن الراوندي -قبَّحهما الله-، فلما عَلِم الناسُ بأمرهما طَلب السلطانُ أبا عيسى، فَأُودع السجنَ حتى مات .. وأما ابنُ الراوندي؛ فلجأ إلى "ابن لاوي" اليهودي، وصَنَّف له في مدة مُقامِه عنده كتابه الذي سماه "الدامغ"، فلم يلبث بعده إلاَّ أيام يسيرةً حتى مات -لعنه الله-، ويقال: إنه أُخِذَ وصُلِب. ° قال أبو الوفاء بن عقيل: "ورأيت في كتابٍ مُحقَّقٍ أنه عاش ستًّا وثلاثين سنةً، مع ما انتهى إليه من التوغُّل في المخازي في هذا العمرِ

القصير -لعنه الله-، وقبحه، ولا رَحِم عظامه" (¬1). ° قال الذهبي عنه: "الملحد، عدوُّ الدين، الرِّويندي، صاحبُ التصانيف في الحط على المِلة". ° قال ابنُ الجوزي: "كنتُ أسمعُ عنه بالعظائم، حتى رأيتُ له ما لم يَخطُرْ على قلب، ورأيتُ له كتاب "نعت الحكمة"، وكتاب "قضيب الذهب"، وكتاب "الزمردة"، وكتاب "الدامغ"، الذي نَقَضَه عليه الجُبائي، ونَقَض عبدُ الرحمن بنُ محمدٍ الخَياط عليه كتاب "الزمردة". ° قال ابن عقيل: "عَجَبي! كيف لم يُقتل؟ وقد صَنف "الدامغ" يدمغ به القرآن، و"الزمردة" يُزري فيه على النبوات؟! ". ° قال ابنُ الجوزي عن "الزمردة": "فيه هَذَيانٌ بارد، لا يتعلَّقُ بشبهة، يقول فيه: "إن كلامَ أكثمَ بنِ صيفي فيه ما هو أحسنُ من سورة الكوثر، وإن الأنبياء وقعوا بطلاسم". وألَّف لليهود والنصارى يحتجُّ لهم في إبطالِ نبوَّة سيِّد البشر". ° قال أبو العباس بنُ القاصِّ الفقيه: "كان ابنُ الراوندي لا يستقرُّ على مذهبٍ ولا نِحْلة، حتى صَنَّف لليهود كتابَ النصرة على المسلمين لدراهمَ أُعطيَها من يهود، فلما أَخذ المال، رام نقضَها، فأعطَوه مئتي درهم حتى سكت". قال في بعض المعجزات: "يقول المُنجِّمُ كهذا". وقال: "في القرآن لحن". ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" (11/ 120 - 121).

أبو العلال المعري المشهور بالزندقة

وقال. "يقولون: "لا يأتي أحدٌ بمثل القرآن"، فهذا إقليدس لا يأتي أحدٌ بمثله، وكدْلك بطليموس". قيل: إنه اختلف إلى المُبرِّد، فقال المُبرد: لو اختلف إليَّ سنةً لاحتجتُ أن أقوم وأُجلسَه مكاني. لعن الله الذكاءَ بلا إيمان، ورَضِي الله عن البلادة مع التقوى" (¬1). فكان جزاءُ الزنديق من جنسِ عمله، ودَمَغه الله ولم يُمهِلْه بعد ما ألَّف "الدامغ" جزاءً وفاقًا. ° قال ابنُ كثير بعدَ ذِكْرِهِ شيئًا مِن مَزَاعِم ابنِ الرَّاوَنْدِيِّ وافتراءاتِهِ وتُرَّهاتِهِ: "إلى غيرِ ذلكَ مِن الكُتُبِ التي تُبَيِّنُ خُروجَهُ عن الإِسلام". ° ثم قال: "وهُو أَقلُّ وأَخَس وأَذَلُّ مِن أَنْ يُلْتَفَتَ إليهِ وإلى جَهْلِهِ وكلامِهِ وهَذيانِهِ وسَفهِهِ وتَمْويهِهِ". وكانت نهايةُ هذا المُلحدِ الزنديقِ أَنْ أَخَذهُ أُولو الأمرِ وصَلَبوهُ؛ كما نَقَلُه ابنُ كَثير (11/ 113). * وصدق الله تعالى القائل في أمثال ابن الراوندي: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79]. * وقال تعالى: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 25]. * أبو العلال المَعَرِّي المشهور بالزَّنْدقة: أحمدُ بنُ عبدِ الله بنِ سُليمانَ، أبو العلاء ألمَعَرِّي التنوخِيُّ الشاعر، ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" (14/ 59 - 62).

المشهور بالزندقة، اللغوي، صاحبُ الدواوين والمصنَّفات في الشعر واللغة (¬1). ° قال ابن الجوزي: "كم من زنديق في قَلبِه حقدٌ على الإِسلام، خَرَج فبالغ، واجتهد فزَخرف دعاوى يَلقَى بها مَن يَصحبه، وكان غَور قَصده في الاعتقادِ الانسلالَ من الدين، وفي العمل نَيلَ المَلذَّات، واستباحةَ المحظورات. ومنهم مَن لم يَبرحْ على تعثيره، ففاتته الدنيا والآخرة؛ مثل ابن الراوَندي والمَعرِّي" (¬2). ولد المَعَرِّي سنةَ ثلاثٍ وستِّين وثلاثِمِئة، وكانت وفاته بـ "مَعَرَّة" عن سِتٍّ وثمانينَ سنةً إلاَّ أربعةَ عَشَرَ يومًا. ° قال ابنُ الجوزي: "وأما أبو العلاء المَعَرِّي؛ فأشعارُه ظاهرةُ الإلحاد، وكان يُبالغُ في عَداوةِ الأنبياء، ولم يَزَلْ متخبِّطًا في تعثيرِه، خائفًا من القتل، إلى أن مات بخسرانه" (¬3). وكل صاحبِ فِريةٍ ذليل؛ جَزاءً وفاقًا، أعثَرُ الناس، وأَخْسَؤُهم قَدْرًا، وأردؤهم عَيشًا. ° قال ابن كثير (¬4): "قال الشِّعرَ وله إحدى عشْرةَ أو ثِنْتا عشْرةَ سنةً، ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" (15/ 745)، وانظر "تاريخ بغداد" (4/ 240)، و"سير أعلام النبلاء" (18/ 23)، و"المنتظم" (16/ 22)، و"وفيات الأعيان" (1/ 113). (¬2) "تلبيس إبليس" لابن الجوزي (ص 111). (¬3) المصدر السابق (ص 112). (¬4) انظر ترجمته في "البداية والنهاية" (15/ 745 - 753).

ودخلَ بغدادَ سنةَ تسع وتسعين وثلاثِمئةٍ، فأقام بها سنة وسبعةَ أشهرٍ، ثم خَرج منها طَريدًا مُنْهزمًا؛ لأنه قال شِعرًا يَدُلُّ على قِلةِ دينِه وعلمِه وعقلِه، وهو قولُه (¬1): تناقضٌ ما لنا إلاَّ السُّكوت له ... وأن نَعوذَ بمَوْلانا من النارِ يدٌ بخمسِ مئِينٍ عَسجَدٍ فدِيَتْ ... ما بالها قطِعَت في ربع دينارِ! يقول: اليدُ دِيتها خَمْسُمِئةِ دينارٍ، فما لكم تَقْطَعونها إذا سرَقَت ربعَ ديِنارٍ؟! وهذا مِن قَلَّةِ عقله وعلمِه، وعَمَى بَصيرتِه؛ وذلك أنها إذا جنِي عليها يُناسِبُ أن يكونَ دِيتها كثيرةً؛ لينْزَجِرَ الناسُ عن العدْونِ، وأما إذا جنَت بالسوقةِ فيُناسِبُ أن تَقِلَّ قيمتُها؛ ليُنْزجَرَ عن أخذِ الأموالِ، وتُصانَ أموالُ الناسِ، ولهذا قال بعضُهم (¬2): "كانت ثمينةً لَمَّا كانت أمينةً، فلما خانَت هانَت". ولَمَّا عَزَم الفُقهاءُ على أخْذِه بهذا الكلام، هَرب ورجَع إلى بلدِه، ولَزِمَ منزلَه، فكان لا يَخرج منه". ° ويقول ابن كثير: "كان ذكيًّا، ولَم يكن زكيًّا، وله مصنفاتٌ كثيرةٌ أكثرها في الشعر، وفي بعضِ أشعاره ما يَدُل على زندقةٍ وانحلال، ومن الناس من يَعتذر عنه، ويقول: "إنه إنما كان يقول ذلك مجونًا ولعبًا، ويقول بلسانهِ ما ليس في قلبه، وقد كان باطنُه مُسلِمًا". ¬

_ (¬1) "البيتان في اللزوميات" (1/ 386). (¬2) هو القاضي عبد الوهاب المالكي .. انظر "تفسير ابن كثير" (3/ 103).

° قال ابنُ عَقيلٍ (¬1): "وما الذي كان يُلجِؤُه أن يقول في دارِ الإِسلامِ ما يُكفرُه به الناسُ؟ قال: والمنافِقون مع قِلَّةِ عقلِهم وعلمِهم ودينِهم أجْود سِياسةً منه، حافَظوا على قَبائحِهم في الدنيا، وهذا أظهَر الكفرَ الذي تسَلَّط به عليه الناسُ، واللهُ تعالى أعلمُ أن باطِنَه كظاهِرِه". ° قال ابنُ الجوزي (¬2): "وقد رأَيْتُ لأبي العَلاءِ المَعَرِّي كتابًا سماه "الفُصول والغَاياتِ في مُعارَضةِ السوَرِ والآياتِ" على حُروفِ المُعْجَمِ في آخرِ كلماتِه، وهو في نهايةِ الرَّكاكةِ والبُرودةِ، فسبحانَ مَن أعْمَى بصرَه وبَصيرتَه". ° قال: "وقد نَظَرْتُ في كتابِه المُسَمَّى "لُزومَ ما لا يَلْزَمُ" .. ". ثم أوْرَد ابنُ الجوزيِّ مِن أشعارِه الدالةِ على اسْتِهْتارِه أشياءَ كثيرةً، فمِن ذلك قولُه (¬3): إذا كان لا يَحْظَى برِزقِك عاقلٌ ... وتَرْزُقُ مَجنونًا وتَرْزُقُ أحْمقَا فلا ذنبَ يا رب السماء على امرِئٍ ... رأَى منك ما لا يَشْتَهِي فتزَنْدَقَا ° وقولُه (¬4): وهيهاتَ (¬5) البَرِيَّةَ في ضَلالٍ ... وقد نظَر (¬6) اللَّبيبُ لِمَا اعْتَراها تقَدم صاحبُ التَّوراةِ موسى ... وأوْقَع في الخَسارِ مَن افتَراها ¬

_ (¬1) "المنتظم" لابن الجوزي (16/ 23)، وابن عقيل هو أبو الوفاء علي بن عقيل شيخ الحنابلة. (¬2) "المنتظم" (16/ 24). (¬3) المصدر السابق (16/ 24، 25). (¬4) في "اللزوميات" (2/ 415، 416، 417). (¬5) في نسخة "ألا إن". (¬6) في نسخة "فطن".

فقال رجالُه: وحْيٌ أتاه ... وقال الناظرون: بلِ افْتَراها وما حَجِّي إلى أحجارِ بيت ... كؤوسُ الخمرِ تشْرب في ذُراها إذا رجَع الحليمُ إلى حِجاة ... تهاوَن بالمذاهِبِ وازْدَراها ° وقوله (¬1): هَفَتِ الحَنِيفةُ والنَّصارَى ما اهْتَدَتْ ... ويهودُ حارَت والمجوسُ مُضَلَّلَهْ اثنانِ أهلُ الأرضِ: ذو عقلٍ بلا ... دينٍ وآخرُ ديَنٌ لا عقلَ لهْ ° وقولُه (¬2): فلا تَحْسَبْ مَقال الرُّسلِ حقًّا ... ولكن قول زورٍ سطَّروهُ فكان الناسُ في عَيش رَغِيدٍ ... فجاؤوا بالمُحالِ فكدَّروهُ ° وقلت (¬3) أنا في مُعارَضةِ هذا: فلا تَحسَبْ مَقالَ الرسلِ كِذْبًا (¬4) ... ولكن قولُ حَق بَلغوهُ وكان الناسُ في جَهْل عظيمٍ ... فجاؤُوا بالبَيانِ فأذهبوه (¬5) ° ومن ذلك أيضًا قولُه (¬6): إن الشرائعَ ألقَت بينَنا إحَنا (¬7) ... وأوْرَثَتْنا أفانِينَ العَداواتِ ¬

_ (¬1) في "اللزوميات" (2/ 201). (¬2) في "المنتظم" (16/ 25). (¬3) الكلام للإمام ابن الجوزي. (¬4) وفي نسخة: زورًا. (¬5) وفي نسخة: فأوضحوه. (¬6) في "اللزومات" (1/ 186). (¬7) الإِحَن: جمع إحنة وهي الحقد.

وهل أُبيحَ (¬1) نساءُ الروم عن عُرُضٍ ... للعرْبِ إلاَّ بأحْكام النُّبُواَّتِ ° وقولُه: وما حَمْدي لآدمَ أو بَنيه ... وأَشْهدُ أنَّ كلَّهم خَسِيسُ (¬2) ° ومنَ ذلك أيضًا قولُه (¬3): أَفيقوا أفيِقوا يا غُواةُ فإنا ... دِياناتكم مكرٌ مِن القُدَماءِ قضى اللهُ فينا بالذي هو كائنٌ ... فتَمَّ وضاعتْ حِكمةُ الحكماءِ ° ومن ذلك أيضًا قولُه: صَرْفُ الزمانِ مُفَرِّقُ الإلفيْنِ ... فاحْكُمْ إلهي بينَ ذاك وبيني أنَهَيْتَ عن قتل النفوسِ تَعَمدًا ... وبعَثْتَ أنت لقَبضِها ملَكَيْنِ؟! وزعَمتَ أن لها معادًا ثانيًا ... ما كان أغناها عن الحالَيْن؟! ° ومن ذلك أيضًا قولُه (¬4): ضحكْنا وكان الضحْك منا سَفاهةً ... وحقَّ لسُكَّانِ البَسيطةِ أن يَبْكُوا تُحَطِّمُنا الأيامُ حتى كأننا (¬5) ... زُجاج ولكنْ لا يَعودُ له سَبْكُ ° ومن ذلك أيضًا قولُه (¬6): أمور تسْتَخِفُّ بها حلومٌ ... وما يَدْرِي الفتى لمن الثُّبورُ كتابُ محمدٍ وكتابُ موسى ... وإنْجيل ابن مَرْيَم والزَّبورُ ¬

_ (¬1) وفي نسخة: أُبيحت. (¬2) في "اللزوميات" (2/ 18). (¬3) في "اللزوميات" (1/ 64). (¬4) في "اللزوميات" (2/ 143). (¬5) في الديوان: يحطمنا ريب الزمان كأننا. (¬6) في "اللزوميات" (1/ 324).

° ومن ذلك أيضًا قولُه (¬1): قالت مَعاشرُ: لم يَبْعثْ إلهكُمُ ... إلى البَرِيَّةِ عِيساها ولا مُوسَا وإنما جعَلوا الرحمنَ مَأكَلَةً ... وصيَّروا دينَهم في الناسِ ناموسَا وذُكِر له أشياءُ غير ذلك، وكلُّ قِطْعةٍ مِن هذه تَدلُّ على كفرِه وانحلالِه وزندقتِه وضلاله، ويقال: إنه أوْصَى أن يُكْتَبَ على قبره: هذا جَناه أبي عليَّ ... وما جنَيْتُ على أحدْ معناه أن أباه بتَزَوُّجِه لأمِّه أوْقَعه في هذه الدارِ، حتى صار بسببِ ذلك إلى ما إليه صار، وهو لم يَجْنِ على أحدٍ بهذه الجِناية، وهذا كلُّه كفرٌ وإلحادٌ، قبَّحه اللهُ، وقد زعمَ بعضُهم أنه أقْلَع عن هذا كلِّه وتاب منه، وأنه قال قصيدةً يَعْتَذِرُ فيها مِن هذا كلِّه، ويَتَنَصَّلُ منه، وهي القَصيدةُ التي يقولُ فيها: يا مَن يَرَي مدَّ البَعوضِ جَناحَها ... في ظلْمةِ الليل البَهيم الأليَلِ ويَرَى مَناطَ عُروقِها في نحرِها ... والمخ في تلك العِظام النُّحَّلِ امْنُنْ عليَّ بتوبةٍ تَمْحُو بها ... ما كان منِّي في الزمانِ الأوَّلِ وقد كانت وفاتُه في ربيع الأولِ من هذه السنةِ بَمَعَّرةِ النُّعمانِ، عن ستٍّ وثمانين سنةً إلاَّ أربعةَ عشَرَ يومًا، وقد رَثَاه جَماعةٌ مِن أصحابِه وتَلامذتِه، وأُنْشِدت عندَ قبرِه ثمانون مَرْثاةٌ، حتى قال بعضهم في مَرْثاتِه: إن كنتَ لم ترِقِ الدماءَ زهادةً ... فلقد أرَقْتَ اليومَ من جَفْني دمَا ° قال ابن الجوزي (¬2): "وهؤلاء إمَّا جُهَّال بأمرِه، وإمَّا ضُلاَّلٌ على ¬

_ (¬1) في "اللزوميات" (2/ 22، 23). (¬2) "المنتظم" (15/ 27).

مذهبِه وطريقتِه. وقد رأى بعضُهم في المنامِ رجلاً ضَريرًا على عاتقيه حَيتانِ مدَلَّيَتانِ إلى صَدْرِه رافعتانِ رُؤوسَهما، وهما يَنْهَشان مِن لَحْمه، وهو يَسْتَغِيثُ، وقائلٌ يقولُ: هذا المَعَريُّ المُلْحِدُ. وقد ذكَره ابنُ خَلكانَ في "الوفيات"، فرفِع في نَسَبِه كما ذكَرْنا، وقد ذكَر له مِن التصانيفِ كتبًا كثيرةً، وذكَر أن بعضهم وقَف على المجلدِ الأولِ بعدَ المئةِ مِن كتابِه المُسَمى بـ "الأيْكِ والغُصونِ". وهو المعروفُ بـ "الهَمْزِ والرَّدفِ" وأنه أخَذ العربيةَ عن أبيه، واشْتَغَل بحلَبَ على محمدِ بنِ عبد الله بن سعدٍ النَّحْويِّ، وأخَذ عنه أبو القاسم عليُّ ابنُ المُحَسِّنِ التَّنوخيُّ، والخطيبُ أبو زكريا يَحْيىَ بنُ عليٍّ التبرِيزيُّ، وذكَر أنه مكَث خمسًا وأربعين سنة لا يَأْكُلُ اللحمَ على طريقةِ الحكماءِ، وأنه أوصَى أن يُكتَبَ على قبرِه: هذا جَناه أبي عليَّ ... وما جَنَيْتُ على أحدْ قال ابنُ خَلِّكانَ (¬1): "وهذا أيضًا مُتَعَلق باعْتِقادِ الحُكماءِ، فإنهم يقولون: إيجادُ الولدِ وإخْراجُه إلى هذا الوجودِ جِنايةٌ عليه، لأنه يَتَعَرض للحَوادثِ والآفاتِ". قلتُ (¬2): "وهذا يَدُل على أنه لم يَتَغَيَّر عن اعتِقادِ الحكماءِ إلى آخرِ وقتٍ، وأنه لم يقْلعْ عن ذلك كما ذكَره بعضُهم، واللهُ أعلمُ بظَواهِر الأمورِ ¬

_ (¬1) "وفيات الأعيان" لابن خلكان (1/ 115). (¬2) الكلام للإمام ابن كثير.

وبَواطنِها. وذكَر ابنُ خَلكانَ (¬1) أن عينَه اليمنى كانت ناتِئةً، وعليها بَياضٌ، واليسرى غائرةٌ، وكان نَحيفًا، ثم أوْرَد مِن أشعارِه الجيِّدةِ أبياتًا، فمنها قوله: لا تَطلُبَن بآلة لك رتبةً ... قَلَمُ البَليغ بغيرِ جَدٍّ مغْزَلُ سكَن السِّماكانِ (¬2) السماءَ كلاهما ... هذا له رُمحٌ وهذا أَعزَلُ ° يقول عنه الذهبي: أبو العلاء، شيخُ الآداب، اللغويُّ الشاعر، صاحبُ التصانيف السائرة، والمتَّهمُ في نِحْلَتِه. ومِن أراد تواليفه: "رسالة الغفران" -في مجلد-، وقد احتَوَتْ على مَزْدَكةٍ وفراغٍ .. و"رسالةُ الملائكةَ"، و"رسالة الطير" على ذلك الأنموذج. ° قال الباخرزي: أبو العلاء ضرير ما له ضَريب، ومكفوفٌ في قَميصِ الفضل ملفوف، ومَحجوب خَصْمُه الألدُّ مَحجوج، قد طال في ظِلِّ الإسلام آناؤه، ورَشَحَ بالإلحاد إناؤهُ، وعندنا خَبَرُ بصره، واللهُ العالمُ ببصيرته، والمطَّلعُ على سريرته، وإنما تحدثَّتِ الألسُنُ بإساءته، بكتابِه الذي عارَضَ به القرآن، وعَنْوَنَه بـ "الفصول والغايات في معارضة السور والآيات". وقال غرس النعمة محمدُ بنُ هلال بن المحسن: له شِعرٌ كثير، وأَدبٌ ¬

_ (¬1) "وفيات الأعيان" لابن خلكان (1/ 113). (¬2) السماكان: نجمان نيران، أحدهما في الشمال وهو السماك الرامح، والآخر في الجنوب وهو السماك الأعزل - الوسيط (س م ك).

غَزير، ويرمَى بالإِلحاد، وأشعاره دالةٌ على ما يُزَنُّ به (¬1). ويظهِرُ الصومَ دائمًا، قال: ونحن نذكُرُ مما رُمي به، فمنه: قِرَانُ المُشتَرِي زُحَلاً يُرَجَّى ... لإيقَاظِ النَّوَاظِرِ مَنْ كَرَاهَا تَقَضَّى النَّاسُ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ ... وَخُلِّفَت النُّجُومُ كَمَا تَرَاهَا تَقَدَّمَ صَاحِبُ التَّوْرَاةِ مُوسَى ... وأوقعَ بِالخسَارِ مَنِ اقْتَرَاهَا وَما حجى إلى أَحْجَارِ بَيْت ... كُؤُوسُ الخَمرِ تُشْرَبُ في ذراهَا إذا رجَعَ الحكِيمُ إلى حِجَاهُ ... تَهَاوَن بِالمَذاهِبِ وازدرَاهَا ° ومنه (¬2): قُلتُمْ لَنَا خَالِقٌ قَدِيمٌ ... صَدَقتُمُ هَكَذا نَقُولُ زعَمْتمُوهُ بِلاَ زَمَان ... ولاَ مَكَانٍ أَلاَ فَقولُوا هَذا كَلاَمٌ لَهُ خَبِيءٌ ... مَعْنَاهُ لَيْسَتْ لَكُمْ عُقُولُ ° ومنه (¬3): دِينٌ وَكُفْرٌ وَأَنْباء تُقَالُ وَفُرْ ... قَانٌ يُنَصُّ وتَوْرَاةٌ وإِنْجِيلُ في كُلِّ جِيلٍ أَبَاطِيلٌ يُدَانُ بِهَا ... فَهَلْ تَفَرَّدَ يَوْما بِالهُدَى جِيلُ فأجبته: نَعَم أَبُو القَاسِم الهَادِي أُمتهُ ... فَزَادَك اللهُ زلاًّ يَا دجَيْجِيلُ ¬

_ (¬1) ما يرمى به ويتهم. (¬2) "اللزوم" (2/ 270). (¬3) "اللزوم" (2/ 268)، وفيه: وأنباء تُقَصُّ بدل: تقال.

° ومنه (¬1): وِإنَّمَا حَمَّلَ التورَاةَ قَارِئَهَا ... كَسْبُ الفَوَائد لا حُب التِّلاوَاتِ وهَلْ أُبِيحَتْ نِسَاءُ الرُّوم عَنْ عُرُضٍ (¬2) ... للعُرْبِ إلاَّ بِأحْكَام النبُوَّاتِ ° وعن التِّبريزي قال: لَما قرأتُ على أبي العلاء: تَنَاقُضٌ مَا لَنَا إلاَّ السكُوتُ لَهُ ... وأَنْ نَعُوذَ بِمَولاَنَا منَ النارِ يَد بِخَمْسِ ميءٍ (¬3) مِنْ عَسْجَدٍ وُديَتْ ... مَا بَالُهَا قُطِعَتْ في ربَع دِينَارِ سألته فقال: هذا كقولِ الفقهاءِ: "عبادةٌ لا يعَقلُ معناها". قال كاتبه: لو أراد ذلك، لقال: "تعبُّدٌ"، ولَمَا قال: "تناقضٌ"، ولَمَا أردفه بيتٍ آخَرَ يَعترضُ على ربِّه. وبإسنادي: قال السلَفي: إنْ كان قاله معتقِدًا معناه، فالنارُ مأواه، وليس له في الإسلامِ نصيب، هذا ما يُحكى عنه في كتاب "الفصول والغايات"، فقيل له: "أين هذا من القرآن؟ فقال: لم تَصْقلْهُ المحاريبُ أرْبَعَمِئة سنة". ° قال الذهبيُّ: "ويَظهرُ لي من حال هذا المخذولِ أنَّه متحيِّر، لم يَجزمْ بنِحلةٍ .. اللهم فأحفظ علينا إيمانَنا". ° قال الذهبي: "قد طال المَقالُ، وما على الرجلِ أُنْسُ زُهَّادِ المؤمنين، واللهُ أعلم بما خُتم له .. ومن خبيث قوله (¬4): أتَى عيِسَى فَبَطَّل شَرع موسى (¬5) ... وَجَاءَ محَمدٌ بِصَلاَةِ خَمْسِ ¬

_ (¬1) "اللزوم" (1/ 228). (¬2) يضربون الناس عن عرض: لا يبالون من ضربوا. (¬3) ميءٍ بميم مكسورة وهمز منونة: من جمع المئة وفي "اللزوم" (1/ 544) بخمس مئين. (¬4) "اللزوم" (2/ 55 - 56). (¬5) في "اللزوم": دعا موسى فزال وقام عيسى.

أبو العلاء كان منكرا للنبوات

وَقَالوا لاَ نَبِيٌّ بَعْدَ هَذَا ... فَضَلَّ النَّاسُ بَينَّ غَدٍ وأمسِ (¬1) ومَهْمَا عِشْتَ مِنْ دُنيَاكَ هَذي ... فَمَا تُخْليكَ مِنْ قَمَرٍ وَشَمْسِ إِذَا قُلتُ المُحَالَ رَفَعْتُ صَوْتِي ... وإنْ قُلتُ اليَقينَ أطَلتُ هَمْسِي (¬2) [أَبو العلاء كان مُنكِرًا للنبوَّات] ° قال طه حسين في "تجديد ذكرى أبي العلاء": "أَبو العلاء كان مُنكِرًا للنبوَّات، جاحدًا لصحَّتها، وقد نَصَّ على ذلك في "اللزوميات" صراحةً غيرَ مَّرة، فَطوْرًا يُثبِتُ أنها "زُور"، وطورًا يجعلها "مصدر الشرور"، وافتَنَّ في ذلك افتنانًا عجيبًا، فلم يَكتفِ بإنكارِ النبوَّات، حتى أنكر الدياناتِ عامةً. ° ويقول في التعريض بالإسلام خاصَّةً: تَلَوْا بَاطِلاً وَجَلَوْا صارِمًا ... وَقَالُوا صَدَقْنَا فَقُلنَا نَعَمْ ° ويقول في التعريض بالنبي - صلى الله عليه وسلم -: وَلَسْتُ أقُولُ إنَّ الشُّهْبَ يَوْمًا ... لِبَعْثِ مُحَمَّدٍ جُعِلَتْ رُجُومَا ° ويقول في ذلك معرِّضًا بقصةِ "خيبر": ومحمدٌ وهو المُنَبَّأ يَشتكي ... لِمكانِ أَكْلَتِهِ انقطاعَ الأبْهَرِ ° ويقول: وَإذَا مَا سَألتَ أصْحَابَ دِينٍ ... غيرُوا بِالقِياسِ مَا رَتبوهُ لاَ يَدِينُونَ بِالعُقُولِ وَلَكِنْ ... بِأبَاطِيلِ زُخْرُف كَذبوهُ ° ويقول بنَتِ النَّصَارَى للمسِيح كَنَائِسًا ... كادَتْ تَعِيبُ الفِعْلَ مِنْ مُنتَابِهَا ¬

_ (¬1) في "اللزوم": وقِيلَ يَجِيءُ دِينٌ غَيْرُ هذا ... وَأَوْدَى النَّاسُ بَيْنَ غَدٍ وَأَمسِ (¬2) وإن قلت الصحيح ... "سير أعلام النبلاء" (18/ 23 - 39).

وَمَتَى ذَكَرْتَ مُحَمدًا وَكِتَابَهُ ... جَاءَتْ يَهُودُ بِجَحْدِهَا وَكتَابِهَا ° وانظر إلى السخرية في قوله: أفَمِلَّةَ الإسْلاَمِ ينكِرُ منكِرٌ ... وَقَضَاءُ ربِّكِ صَاغَهَا وَأَتَى بِهَا ° ويقول: غَدَا أهْلُ الشَّرَائِع في اخْتلاَفٍ ... تُقَضُّ بِهِ المَضاجِعُ وَالمُهُودُ فَقَدْ كَذَبَتْ عَلَى عِيسَى النَّصارَى ... كمَا كَذَبتْ عَلَى موسَى اليَهُودُ ° وانظر إلي تعريضه بالإسلام: وَلَمْ تَسْتَحْدِثِ الأيَّامُ خَلقًا ... وَلاَ حَالَتْ مِنَ الزَّمَنِ العُهُودُ ومثلُ هذا كثيرٌ في "اللزوميات"، لم نَشَأْ أن نُسرِفَ في روايتِه اتقاءَ الإطالة، وخشيةَ الإملال، وهو يدلُّ على أن رُوحَ الرجل لم يكن روحَ مؤمن بالنبوَّات، ولا مصدقٍ للأنبياء" (¬1). ° وقال أيضًا: "وقال في إنكار ما في القرآن من تقسيم فرائض الميراث: حَيْرَانُ أنْتَ فَأيَّ النَّاسِ تَتَّبعُ ... تَجْرِي الحُظُوظُ وَكُلٌّ جَاهِلٌ طَبِعُ وَالأمُّ بِالسُّدْسِ عَادَتْ وَهِيَ أرْأفُ من ... بِنْتٍ لَهَا النِّصْفُ أوْ عِرْسٍ لَهَا الرُّبعُ وقد أجمع المؤرِّخون على أنَّ أبا العلاء، عارَضَ القرآنَ بكتابٍ سماه: "الفصول والغايات في محاكاةِ السور والآيات"، وأبو العلاء نفسه لم يُنكِرْ هذا الكتاب، بل أثبته في ثَبَتِ كتبه، الذي رواه القِفْطيُّ والذهبي، والناسُ يُكفِّرون أبا العلاء بهذا الكتاب، وبما في "رسالة الغفران" من سخريةٍ، وبما ¬

_ (¬1) "تجديد ذكرى أبي العلاء" لـ "طه حسين" طبع دار المعارف (ص 269 - 271).

أما موقفه من البعث

في "اللزوميات" من إنكار النبوات" (¬1). * أمَّا مَوْقِفُهُ مِنَ الْبَعْثِ: ° فيقول طه حسين: "اضطرب رأيُ أبي العلاءِ في البَعْثِ اضطرابًا شديدًا، فمرةً أثبَتَه، فقال: قال المُنَجِّمُ وَالطبِيبُ كِلاَهُما ... لا تُحْشَرُ الأجْسَامُ قُلتُ إِلَيكُمَا إن كَانَ رَأيُكمَا فَلَستُ بِخَاسِرٍ ... أو صَحَّ قَوْلِي فَالخَسَارُ عَلَيْكمًا (¬2) وتَارةً يُنكِرُه نصًّا، بل نفاه أكثَرَ من ستينَ مرةً في "اللزوميات" ومِن أشنع قوله في ذلك: وزَعَمْتَ أنَّ لَهَا مَعَادًا ثَانِيًا ... مَا كَانَ أَغْنَاهَا عَنِ الحَالَيْنِ وتَارةً يقفُ في أمرِ البعثِ موقفَ الشك فيقول: يا مَرحَبًا بِالمَوْتِ مِن مُتَنَظَّرٍ ... إنْ كَانَ ثَمَّ تَعَارُفٌ وتَلاَقِ (¬3) * الجن والْمَلائِكَةُ: قال طه حسين: "أبو العلاء أنكر الجِنَّ والملائكةَ في "اللزوميات" نصًّا، فقال: قد عِشْت عُمْرًا طَوِيلاً ما عَلِمْتُ بِهِ ... حِسًّا يُحَسُّ لِجِنِّيٍّ ولاَ مَلَكِ وقال: فاخشَ المَليكَ ولا تُوجَدْ علي رَهَبٍ ... إن أَنْتَ بِالجِنِّ في الظَّلمَاءِ خُشِّيتَا ¬

_ (¬1) "تجديد ذكرى أبي العلاء" (ص 272 - 273). (¬2) "تجديد ذكرى أبي العلاء" (ص 274 - 276). (¬3) المصدر السابق (269).

أصل الإنسان

فَإِنَّما تِلكَ أخبَارٌ مُلفَّقَةٌ ... لخِدعةِ الغَافِلِ الحَشَوِيِّ حُوشِيتَا و"رسالة الغفران" مملوءةٌ بالسخرية المؤلمةِ من الجنِّ والملائكةِ جميعًا، وقد نَظَم الشِّعرَ في "رسالة الغفران" على ألسِنَةِ الجنِّ الذين دَخلوا الجنة، فقال: -وإنما يُريدُ الهُزْءَ والسخرية-: مَكَّةُ أقْوَتْ من بَنِي الدَّرْدبسْ ... فَمَا لِجِنِّيٍّ بِهَا حَسِيسْ * أصل الإِنسان: "شكَّ في أصل الإنسان، فقال: جَائِزٌ أن يَكُونَ آدَمُ هَذَا ... قَبْلَهُ آدَمٌ عَلَى إِثْرِ آدَمْ ثم جزم بذلك، فقال: وما آدَمٌ في مَذْهَبِ العَقْلِ وَاحِدٌ ... وَلَكِنَّهُ عِنْدَ القِيَاسِ أَوَادِمُ وتمنَّى أبو العلاء لو أنَّ الإِنسانَ لم يُوجَد؛ لأنه شرير مفسِد في الأرض، فقال: يا ليتَ آدَم كَانَ طَلقَ أُمَّهُمْ ... أو كانَ حَرَّمَهَا عَلَيْه ظهَارُ وَلَدَتْهُمُ في غَيْرِ طُهْر عَارِكًا ... فَلذَاكَ تُفْقَدُ فِيهِمُ الأَطَهَارُ وهو لا يُفرِّقُ في حُكم العقل بين ابنِ الحَرةُ وابنِ الزانية، فيقول: وسِيَّانِ مَنْ أُمُّهُ حرَّةٌ ... حَصَان ومَنْ أُمُّهُ زَانِيَهْ ويقول: ما مَيَّزَ الأَطفالَ في أشبَاحِهَا ... للعَينِ حِل وِلاَدَةٍ وَظهَارُ وبَالَغ أبو العلاء في كُرهِ الوجودِ حتى استَحسَن من وَأْد البنات ما حَرمه الله: ودفْن والحَوَادِثُ فَاجِعَاتٌ ... لإِحْدَاهنَّ إِحدى المَكرُماتِ

واستَحسَنَ غيرَ مرةٍ تحريقَ الهند موتاهم وأحبَّه، وفي ذلك يقول: فَاعْجَبْ لِتَحْرِيقِ أهْلِ الهِنْدِ ميتهُمْ ... وَذَاكَ أرْوَحُ من طُولِ التَّبَارِيحِ إنْ حَرَّقوه فَمَا يَخْشَوْنَ من ضَبُعٍ ... تَسْرِي إِلَيْهِ ولا خَفي وتَطرِيحِ والنَّارُ أطيَبُ مِنْ كَافُورِ ميِّتِنَا ... غِبًّا وأذهَبُ لِلنَّكراءِ والرِّيحِ وذَهَب المَعرِّي إلى تحريم أكلِ الحيوان وما يَخرجُ منه، فمن ذلك قوله: غَدَوْتَ مَرِيض العَقْلِ والدينِ فَالقَنِي ... لِتَسْمَعَ أنبَاءَ الأمُورِ الصَّحَائِحِ فَلاَ تأكلَنْ ما أخْرَجَ البَحْرُ ظَالِمًا ... ولا تَبغْ قُوتًا من عَرِيضِ الذبائِحِ ولا بَبْضَ أُمَّات أرَادَتْ صَرِيحَهُ ... لأطفَالِهَا دُونَ الغَوَانِي الصَّرَائِحِ ولا تَفْجَعَنَّ الطَّيْرَ وهي غَوَافِلٌ ... بِمَا وَضَعَتْ فَالظُّلمُ شرُّ القَبَائِحِ وَدع ضَرَبَ النَّحلِ الَّذي بَكَرَتْ لَهُ ... كَوَاسِبَ من أزهَارِ نَبْتٍ فَوَائِحِ فَمَا أحرَزَتْهُ كَيْ يَكُونَ لِغَيرِهَا ... ولا جَمَعْتَهُ لِلنَّدَى والمَنائِحِ مَسَحْتُ يَدِي مِنْ كُلِّ هَذَا فَلَيْتَنِي ... أَبَهْتُ لشَانِي قَبْلَ شَيْبِ المَسَائِحِ وجازاه اللهُ بنِحْلَتِه، وبما قال عن مِلَّتِه بحَبسِ الدنيا قبل الآخرة، فحَبَسَه في جَسَده، وهذا أشدُّ الحَبْس. واللفظُ الذي اختاره لنفسه، وكان أن ينادَى به "رهينَ المَحْبَسَينِ"، وإنما أراد بالمحسبين منزلَه الذي احتَجَب فيه، وبَصَرَه، على أنه ذكر لنفسه في "اللزوميات" سجونًا ثلاثةً. أحدها: منزله، والآخر: ذَهابُ بصره، والثالث: جِسمُه الماديُّ الذي احتَبَست فيه نَفْسُه أيامَ الحياة، وذلك حيث يقول: أُرَانِي في الثَّلاَثَةِ من سُجُونِي ... فَلاَ تَسْألْ عنِ الخَبَرِ النَّبِيثِ

في "أباطيل وأسمار" يفند الشيخ محمود محمد شاكر خبر لقاء المعري بالراهب

لِفَقْدِي نَاظِرِي ولُزُومُ بَيْتِي ... وَكَوْنُ النَّفْسِ في الجِسمِ الخَبِيثِ فهذه صورةُ الأديبِ الفليسوفِ الذي خُدع الناسُ به طويلاً، والذي أنكر النبَّوات، وعَرَّض بالتكليف، وعارض القرآن، وهَزَء بشيء من أحكامه (¬1): سَيسْألُ قَوْمٌ مَا الحَجِيجُ ومَكَّة ... كما قال قَوْمٌ ما جَدِيسٌ وما طَسَمْ هذا الذي رأى التَّقِيَّة: لا تُخْبِرَنَّ بِكنهِ دِينِكَ مَعْشَرًا ... شُطُرًا وإنْ تَفْعَلْ فَأنْتَ مُغَرَّرُ وقال: فَاكْتُمْ حَدِيثَكَ لا يَشْعُرْ بِهِ أحَدٌ ... مِنْ رَهْطِ جبْرِيلَ أو مِنْ رَهْطِ إبْلِيس لقد حُبس في جسده ذليلاً في دارِ الدنيا، واللهُ الموعد، ويَكفيك أنه رأى أنَّ مِنَ الظلم أن يُضافَ إلى التصعيد والعُلو، وإنما العَدلُ أن يُضافَ إلى السقوطِ والهبوط، وبها نَطَقَ جزاءً وِفاقًا، فقال: دُعِيتُ أَبَا العَلاَءِ وذَاكَ مَيْنٌ ... ولَكِنَّ الصَّحِيحَ أَبَا النُّزُولِ * في "أباطيل وأسمار" يفنِّد الشيخ محمود محمد شاكر خَبَرَ لقاء المَعَرِّيِّ بالراهب: يَذهب الشيخ محمود شاكر إلى أنَّ خَبر لقاءِ المَعَرِّيِّ بالراهب الذي أفسَدَ عليه دِينَه خبر باطل، واستعان على ذلك بقولِ ثلاثةٍ من المعاصِرِين لأبي العلاء، وهم "الثعالبي" مُسنِدًا ذلك إلى أبي الحسن الدُّلفيِّ المِصِّيصِي ¬

_ (¬1) انظر "تجديد ذكرى أبي العلاء" لـ "طه حسين" - دار المعارف.

الشاعر، و"الخطيب البغدادي"، والمعاصر الثالث وهو "الباخَرزيُّ" (467 هـ): القائل عن المعري: "وقد طال في ظلالِ الإسلام آناؤه، ولكن ربَّما رَشَحَ بالإلحاد إناؤه". ويَذهبُ الشيخ محمود شاكر إلى أنه "إلى أن كانت سنة 398 من الهجرة على الأقلِّ، لم يكن دِينُ أبي العلاء موضعَ تُهَمةٍ، ولا كانت مقالةُ السُّوء قد سارت عنه في الناس، وهو يومئذٍ في الخامسةِ والعشرين شابًّا ملءَ شبابِهِ رُجولته، وفي أوَّل الطريقِ الأعظم إلي الشهرة التي سوفَ تتردَّد في جَنَباتِ بلادِ الإِسلام. ° قال الثعالبيُّ في "تَتِمَّة يتيمة الدهر" (350 - 429 هـ): "كان حَدثني أبو الحسن الدُّلفيُّ المِصِّيصِيُّ الشاعر "والمِصِّيصة التي ينسب إليها ببلاد الشام"، وهو ممَّن لقيتُه قديمًا وحديثًا في مدةِ ثلاثين سنةً، قال: لقيتُ بالمَعَرَّةِ عجبًا من العجب! رأيتُ أعمى شاعرًا، ظريفًا، يكنى "أبا العلاء"، يَلعبُ بالشِّطْرنج والنَّرْدِ، ويدخُل في كلِّ فنٍّ من الجِدِّ والهَزْل، وسمعتُه يقول: أنا أحمدُ الله على العمى، كما يَحمَده غيري على البصَر، فقد صنع لي وأحسَنَ بي إذْ كفاني رؤيةَ الثقلاءِ البُغَضاء .. قال: وحضرتُه يومًا وهو يُملي في جوابِ كتابٍ وردَ عليه من بعضِ الرؤساء، ثم ذكر ثلاثةَ أبياتٍ أملاها الشاعرُ الأعمى، ولم يزدْ على ذلك شيئًا، وهو خلو "أي خالٍ خلوًّا تامًّا" من كل إشارةٍ إلى اتهام الرجُل في دينه (¬1). وتحليل خبر الثعالبي المعاصر الأوَّل له مسندًا إلى أبي الحسن الذي رآه ¬

_ (¬1) "أباطيل وأسمار" (1/ 45) للشيخ محمود محمد شاكر - مكتبة الخانجي.

ابن المقفع .. المشهور بالزندقة

بعينيهِ في "مَعَرَّة النعمان" مرارًا، قد دلَّ دلالةً قاطعة على أن هذه القالَة لم تكن إلاَّ بعدَ عودتِه من العراق، واعتزالهِ، وتأليفه ما كَثرت عليه فيه المآخذ، كلزوم ما لا يَلزم، و"استغفر واستغفري" بعد (سنة 400 من الهجرة) (¬1). والعلم عند الله تعالى، وقد أفضى الرجل إلى ما قدَّم. * ابنُ المُقفَّع .. المشهورُ بالزندقة: أَعلى من شأنِه طه حُسين وأحمد أمين وبطرس البستاني، ويُقرِّرُ طه حسين كتابَ "كليلة ودمنة" مع ما فيهِ من سمومٍ على طلاَّبِ المدارس الثانوية. ° قال الخليفة "المهديُّ" عن ابن المقفَّع: "ما وجدتُ كتابَ زندقة قطُّ إلاَّ وأصلُه ابن المقفَّع". ووصف دُعاةُ التغريب ابنَ المقفَّع بأنه من أعلام الفِكر الحُر، وأنه مُصلحٌ اجتماعيٌّ (!!) .. وهم يَعلمون أنه أكبرُ طاعن على الإسلام، قدَّم أولَ ما قَدَّمَ -للقضاء على نظام الإسلام الاجتماعي- "كتاب مَزْدك"، ثم كتاب "بروزيه"، لِيُثبِتَ تناقضَ الأديانِ -وبخاصةٍ الإِسلام-. وكشف إبراهيمُ أبو القاسم في كتابه "الردُّ على اللعين عبدِ اللهِ بن المقفَّع" أنه كان يُعارض القرآن. ويكفي لزندقته "باب بروزيه" الذي أضافه أضافه إلى كتاب "كليلة ودمنة" قاصدًا به تشكيك الناسِ في دينهم. ¬

_ (¬1) "أباطيل وأسمار" (1/ 47) للشيخ محمود محمد شاكر - مكتبة الخانجي - القاهرة.

أبو بكر الرازي الزنديق

ثم اتصالاتُه بخلفاء الشعوبيِّين والمُجانِ المتَّهمين بالزندقة من أمثالِ "إقبال البقلي" الذي أنكر البعثَ والقيامة، و"عَمَّارِ بن حمزة"، و"أبانَ اللاحقي"، و"سهل بن هارون"، و"حماد عجرد" .. ولقد ارتبط اسمُ ابن المقفع بالزندقة عند ابن خَلكان والبَيروني والصَّفَدي (¬1). * أبو بكر الرَّازي الزنديق: نَبَش المستشرق "باول كراوس" في كتابات "أبي بكر الرازي" وهي تفوقُ الحَصْرَ في الطب والعلوم حتى عثر فيها على أقوالٍ فيها زندقة، فنَشَرها سنةَ 1939 م في القاهرة تحت عنوان "رسائل فلسفية" تحدَّث فيها عن كتابَينِ من الميراثِ الإلحادي للرازي هما "مخاريق الأنبياء" و"نقض الأديان". ° يقول أبو بكر الرازي مشككًا في الدين: "من أين أوجَبتم أن اللهَ اختَصَّ قومًا دون قوم، وفَضَّلهم على الناس، وجَعَلهم أدلَّةً لهم، وأحوَجَ الناسَ إليهم؟ ومن أين أجَزْتُم في حكمةِ الحكيم أن يختارَ لهم ذلك وُيعلي بعضَهم على بعض، ويؤكدُ بينهم العداوات، ؤيكثِر المحارَبات، وُيهلِك بذلك الناسَ؟! ". ° ويقول أبو بكر الرازي أيضًا: "إنكم تَدعون أن المعجزةَ قائمة موجودة وهي القرآن، وتقولون: من أنكر ذلك فليأتِ بمِثلِه". ° ثم قال: "إن أردتم "مِثلِه" في الوجوه التي يتفاضل بها الكلام، فعلينا أن نأتيَكم بألفٍ مِثلِه من كلام البُلغاء والفُصَحاءِ والشعراء، وما هو ¬

_ (¬1) "مقدمات العلوم والمناهج" للأستاذ أنور الجندي (1/ 517).

قسطا بن لوقا

أطلقُ منه ألفاظًا، وأشد اختصارًا في المعاني، وأبلغ أداءً وعبارةً، وأشكَلُ سَجعًا؛ فإن لم تَرضَوا بذلك، فإنا نُطالبكم بمِثل الذي تطالبونا به". ° ويقول: "وأيمُ الله، وأقسِمُ بالله لو وَجَبَ أن يكونَ كتاب حجةً لكانت كتبُ أصول الهندسة والمجسطي "كتاب الفلك تأليف بطليموس" الذي يؤدِّي إلى معرفةِ حركاتِ الفَلَكِ والكواكب، وكتبُ المنطق، وكتب الطبِّ التي فيها علومُ مصلحةِ الأبدان: أولى بالحُجة ممَّا لا يُفيدُ نَفعًا ولا ضَرًّا، ولا يَكشِفُ مَستورًا" .. "يعني القرآن الكريم". ° ويقول أيضًا: "مَن ذا يَعجِر عن تأليفِ الخرافاتِ بلا بيانٍ ولا برهان إلاَّ دعاوَى أن ذلك حُجَّةٌ؟! وهذا بابٌ إذا دعا إليه الخَصْم سَلَّمناه وتركناه وما قد حَل به من سَكْرةِ الغَفلةِ والهوى، مع أننا نأتيهِ بأفضلَ منه من الشِّعر الجيِّد، والخطَب البليغة، والرسائل البديعة ممَّا هو أفصحُ وأطلقُ وأسجع منه، وهذه معاني تفاضل الكلام في ذاته، فأما تفاضل الكلام على الكتاب، فلأمورٍ كثيرةٍ، فيها منافع كثيرة وليس في القرآن شيءٌ من ذلك الفضل، إنما هو في باب الكلام والقرآن خِلْوٌ من هذه التي ذكرناها". لولا أن ناقلَ الكفرِ ليس بكافر، ولولا أن كَشفَ ما يفعلُه المستشرقون يستلزم تقديمَ نماذجَ ممَّا يقولون وما يَستنِدون إليه من كتاباتِ الزنادقةِ المسلمين، لَمَا وجدتُ في نفسي الجرأةَ على كتابةِ مثل هذا الكلام السفيه، وتعالى الله عما يصفون. * قسطا بن لوقا: ولكن مسيلِمة الكذاب وابنُ المقفع والرازي لم يكونوا وحدَهم،

ولكن هناك غيرُهم مثل "قسطا بن لوقا" (820 - 912). ° يقول ابن أبي أُصيبعة عنه في كتابه "عيون الأنباء في طبقات الأطباء": "قسطا بن لوقا البَعْلُبَكِّيُّ، قال سليمانُ بنُ حسانَ: إنه طبيبٌ حاذقٌ نبيلٌ، فيلسوفٌ، مُنجِّمٌ عالِمٌ بالهندسةِ والحسابِ، وكان في أيام "المقتدر بالله" .. ونَقَل كُتبًا كثيرةً من كُتبِ اليونانيين إلى اللغة العربية، وكان جيِّدَ النقل، فصيحًا باللسان اليونانيِّ والسُّريانيِّ والعربيِّ، وأصلح نقولاً كثيرةً، وأصلُه يونانيٌّ، وله رسائلُ كثيرةٌ في صناعةِ الطبِّ وغيرها، وكان حَسَنَ العبارةِ جَيِّدَ القريحة. وكَتَب أبو عيسى "يحيى بن المنجِّم" إلى قسطا بن لوقا وحنين بن إسحاق رسالةً في إثباتِ نبوَّةِ محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكيف كان رَدُّ قسطا بن لوقا على هذه الرسالة؟ لقد سعى إلى التشكيك في أُسسِ الإسلام متهكِّمًا على نظريةِ إعجازِ القرآن، مهاجمًا لغةَ الوحي، طاعنًا في صِحَّة الإسلام". ° يُقارِنُ قسطا بن لوقا بين النصِّ القرآنيِّ من ناحية وشِعر "هوميروس" من ناحيةٍ أخرى، في محاولةٍ للتشكيك في إعجازِ القرآن، ويقول: "لَمَّا كان "لهوميروس" قدرةٌ على تأليفِ الشِّعر، ولا يمكنُ لأحدٍ أن يأتيَ بمثلِ شِعر "هوميروس"، يكون هوميروس عندك نبيًّا، سيما وقد أتى فيه بمعانى جليلةِ القَدْرِ جدًّا، ومِن أجلِّ الصناعات، حتى ذَكَر فيه معانيَ في الطبِّ عجيبةً". ° إلى أن يقول: "ولم أرَ الأمرَ في كتابك -القرآن- جاريًا على هذا المجرى، فإنك لا تَرجعُ فيه إلى صنعةٍ من الصناعات، فيقول مِن حِفظِه وفهمِه أقصى فهم. إنَّ أخبارَه جَعَلته في تلك الصناعةِ رئيسًا، فإنك إن

إبراهيم الفزاري، الشاعر الزنديق، عدو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يتحول عن القبلة عند الموت

ذَكَرتَ الإعرابِ كان الذي يُفادُ عن الأعراب من كتاب سيبويه وغيره من كتب العرب أكثرَ ممَّا يُفاد منه "أي: من القرآن"، وإن ذَكَرت الفقه كان الذي يُعلَمُ من كتبِ أبي حنيفة وابن عُلَّيةَ وغيرِهما من الفقهاءِ أكثرَ مِن الذي يُفادُ منه "القرآن"، وإن ذَكَرت الشِّعرَ والخُطَبَ كان الذي يُفادُ مِن علمهما من الكتبِ بهما أكثرَ مِن الذي يُفاد منه "القرآن"، وإن ذكَرت الأخبارَ كان في التوراةِ والمسنَد وغيرِ ذلك من كتبِ الأخبارِ أكثرُ ممَّا فيه "القرآن" .. ". ° ويواصِل طَعْنَه في القرآن، فيقول قسطا بن لوقا: "على أني رأيتُ قومًا يأتون بلفظٍ من هذا الكتاب "القرآن"، ويُقيمون لفظًا آخَرَ بحِذائِه، ويقولون: لو حَصَلت هذه اللفظةُ لكان أحسَنَ وأليقَ بالمعنى، مِن ذلك قولُهم: "لو كان مكان قوله "تعالى" {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}، يقول: "والنجم إذا علا" لكان ذلك أقربَ إلي المعنى، لأن ذلك حَلِفٌ، ولا يُحلَفُ بالنجم في هُوِيه، بل في أحسنِ حالاته، أعني علوَّه وارتفاعَه". ومثل هذه الأقوالُ يَبحثُ عنها المستشرِقون ليستخدموها في تعميقِ الكراهيةِ والعِداءِ للإِسلام في الغرب. * إِبراهيمَُ الفزَاريُّ، الشاعرُ الزنديق، عدوُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يتحوَّلُ عن القِبلة عند الموت: ° نقَل القاضي عياض من كتاب "المُعرِب عن أخبار المغرب" أنه في أيام أبي العبَّاسِ عبدِ الله بنِ طالبٍ التَّميمي -قاضي "القيرُوان"-، تمَّ إعدامُ إبراهيمَ الفزاريِّ". ° ثم قال: "وكان إبراهيمُ شاعرًا متفننًا في كثيرٍ من العلوم، مع استهزاءٍ

الحلاج، زنديق الصوفية، ورأس أهل الحلول والاتحاد

وطَيشٍ، وكان يَحضرُ مجلسَ ابنِ طالبٍ لِمناظرةِ الفقهِ، فقِيل: إنه كان يُزرِي به، ويتضاحكُ بأمره، ونَمَتْ عنه أمورٌ منكَرة، فانتهى ذلك إلى ابنِ طالب، فطَلَبه وحَبَسه، وشَهِد عليه أكثرُ من مِئتينِ بالاستهزاء بالله وبكتابِ الله وأنبيائِه وبنبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - .. قيل: وكان منهم ثلاثون عدلاً. فجَلَس له ابنُ طالب، وأحضَرَ العلماءَ -يحيى بنَ عُمرَ وغيرَه-، وأُمَر بقَتله، فطُعِن بسكِّينٍ في حَنجرته، وصلِب مُنَكَّسًا، ثم أُنزِل بعد ذلك، وأُحرِق بالنار. وحكى بعضُهم أنَّه لَما رُفِعت خَشبتُه، وزالت عنه الأيدي استدارت وتحوَّلتْ عن القِبلةِ، فكانت آيةً للجميع، فكَبَّر الناس، وجاء كَلبٌ فوَلَغ في دَمِه، فقال يحيى بنُ عمر: صَدَق رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - .. وأسند حَديثًا عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يَلِغُ الكلبُ في دَمِ المُسْلم" .. " (¬1). * * * * الحَلاَّج، زنديق الصوفية، ورأسُ أهلِ الحلول والاتحاد: هو الحُسينُ بن منصورِ بنِ مَحْمِيٍّ الحَلاَّجُ أبو مُغيث، رأسُ أهل الحلول والاتحاد. ° قال سفيان بن عيينة: "مَن فَسَد من علمائنا كان فيه شَبَةٌ من اليهود، ومَن فسَد من عُبادِنا كان فيه شَبَهٌ من النصارى". ولهذا دَخَل على الحلاَّج الحُلول، فصار من أهل الانحراف. ¬

_ (¬1) "ترتيب المدارك" (4/ 313).

° صَحَّ عنه أنه دَخَل إلى الهند، وتعلَّم بها السِّحر، وقال: "أدعو به إلى الله". ° وكان أهلُ الهند يكاتبونه "بالمُغيث"، ويكاتبُه أهلُ سركسان بـ "المُقيت"، وأهلُ خراسان بـ "المميز"، وأهل فارس بـ "أبي عبد الله الزاهد"، وأهل خُوزستان بـ "حلاَّج الأسرار"، وكان بعضُ البغاددة يقولون له: "المصطلَم"، وأهل البصرة يقولون له: "المحيَّر". ° ومن شعره: سبحَانَ مَنْ أظهَرَ نَاسُوتَهُ ... سِرُّ سَنَا لاَهُوتِهِ الثَّاقِبِ ثُمَّ بَدَا فِي خَلقِهِ ظَاهرًا ... فِي صُورَة الآكلِ وَالشَّارِبِ حَتَّى لَقَدْ عَايَنَهُ خَلَقُهُ ... كلَحْظَةِ الحَاجٍِب بالحَاجِبِ ° قال عمرُو بن عثمان المكي: "كنت أُماشي الحلاَّج في بعض أزِقَّةِ مكة، وكنتُ أقرأُ القرآن، فسمع قراءتي، فقال: يمكنني أن أقولَ مثلَ هذا؛ ففارقته". ° وقال القُشيري في "رسالته" في باب "حفظ قلوب المشايخ": "إن عمرو بن عثمان دخل على الحلاَّج، وهو بمكة، وهو يكتبُ شيئًا في أوراق، فقال له: ما هذا؟ فقال: هو ذا أُعارِضُ القرآن". وكَتب عمرو بن عثمان إلى الآفاق كتبًا كثيرةً يلعنه فيها، ويُحذِّرُ الناسَ منه، فشَرَد الحلاَّجُ في البلاد، فعاث يمينًا وشِمالاً، وجَعَل يُظهرُ أنه يدعو إلى إلله، ويستعينُ بأنواعٍ من الحِيَل، ولم يَزَلْ ذلك دَأَبَه وشأنَه حتى أحَلَّ اللهُ به بأسَه الذي لا يُردُّ عن القوم المجرمين، فقتله بسيف الشرعِ الذي

لا يقعُ إلاَّ بين كَتِفَيْ زنديق"، واللهُ أعدلُ مِن أن يُسلِّطه على صِدِّيق، فكيف وقد تَهجَّم على القرآن العظيمِ، وقد أراد معارضتَه في البلد الحرام؛ حيث نزل به جبريل، وقد قال: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]! ولا إلحادَ أعظمُ من هذا. وقد أشبه الحلاجُ كفارَ قريش في معاندتهم، كما قال تعالى عنهم: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (¬1) [الأنفال: 31]. ° قال الذهبي: "كان يُصحِّحُ حالَه ابنُ عطاء، ومحمدُ بنُ خفِيف، وإبراهيمُ أبو القاسم النصر آباذي، وتبرأ منه سائرُ الصوفية والمشايخ والعلماء؛ لسُوءِ سيرته ومروقِه، ومنهم مَن نَسَبه إلى الحلول، ومنهم من نَسَبه إلى الزندقة، وإلى الشعبذة والزُّوكرة، وقد تستَّر به طائفة من ذَوِي الضلال والانحلال، وانتحلوا ورَوَّجوا به على الجهال. ° وقال له الجُنيد يومًا: "أيُّ خشبةٍ تفسدها؟ يريدُ أنه يصلب". ° وقال عنه إبراهيم بن شيبان: "مَن أحبَّ أن ينظرَ إلى ثمراتِ الدعاوَى الفاسدة، فلينظرْ إلى الحلاج، وما صار إليه". ° وكان يقول: "ما انفصلت البشرية عنه، ولا اتَّصلت به". لمَّا أحضَره الوزير عليُّ بن عيسى فلم يجده يحسِنُ القرآنَ والفقهَ ولا الحديث، فقال: تعلُّمك الفرضَ والطهور، أجدى عليك من رسائلَ لا ¬

_ (¬1) ترجمة الحلاج كاملة مفصلة في "سير أعلام النبلاء" (14/ 313 - 355)، و"البداية والنهاية" (11/ 141 - 154)، وهنا سأجمع بين الكتابين، وأنقل مقتطفات.

صفة مقتل الحلاج

تدري ما تقول فيها، كم تكتبُ -ويلك- إلى الناس: "تباركُ ذو النور الشعشعاني"؟! ما أحوجَك إلى أدب! وأمر به فصلب، ووُجد في كتبه: "إني مُغرِقُ قوم نوح، ومُهلِك عادٍ وثمود". ° وكان يقول للواحد من أصحابه: "أنت نوح"، ولآخر: "أنت موسى"، ولآخر: "أنت محمد". ° قال ابن عقيل: "قد قتل بإجماع فقهاء عصره، فأصابوا، وأخطأ هو وحده". * صِفَةُ مَقْتَلِ الْحَلاَّجِ: ° قال الخطيبُ البغدادي: "كان الحلاج قد قَدِمَ آخِرَ قَدْمةٍ إلى بغداد، فصَحِبَ الصوفيةَ وانتسب إليهم، وكان الوزير إذ ذاك "حامدَ بن العباس"، فبَلَغه أن الحلاجَ قد أضلَّ خلقًا مِن الحَشَم والحجَّاب في دارِ السلطان، ومِن غلمانِ "نصر القشوري" الحاجب، وجعل لهم في جُملةِ ما ادعاه أنه يحيي الموتى، وأن الجنَّ يَخدِمونه، ويحضِرون له ما شاء، وقال: إنه أحيا عدةً من الطير، وسُلِّمِ إلى الوزير حامد بن العباس، فحَبَسه في قيودٍ كثيرة في رِجليه، وجَمع له الفقهاء، فأجمعوا على كُفره وزندقته، وأنه ساحر مُمَخْرِق. ولما كان آخرُ مجلس، أَحضر الوزير حامدُ بنُ العباس القاضي أبا عمر محمدَ بنَ يوسف وجِيء بالحلاج، وقد أَحضر له كتابًا من دُورِ بعض أصحابه، وفيه: "ومَن أراد الحج، ولم يتيسر له، فلْيَبْنِ في داره بيتًا، لا ينالُه شيءٌ من النجاسة، ولا يُمَكِّنْ أحدًا من دخوله، فإذا كان في أيام

الحج، فليَصُمْ ثلاثةَ أيام، ولْيَطُفْ به كما يُطافُ بالكعبة، ثم يَفعلُ في دارِه ما يفعله الحجيجُ بمكة، ثم يستدعي بثلاثين يتيمًا؛ فيُطعِمُهم من طعامه، ويتولَّى خِدمتَهم بنفسه، ثم يكسوهم قميصًا قميصًا، وُيعطِي كلَّ واحدٍ منهم سبعةَ دراهم، فإن فَعَل ذلك قام له مَقامَ الحج .. وإن مَن صامَ ثلاثة أيام لا يُفطِرُ إلاَّ في اليوم الرابع على وَرقاتِ هُندُبا أجزأه ذلك عن صيام رمضان .. ومَن صلَّى في ليلةٍ ركعتين مِن أول الليل إلى آخِرِه أجزأه ذلكِ عن الصلاةِ بعد ذلك .. وأن مَن جاور بمقابِرِ الشهداء، وبمقابرِ قريشٍ عَشَرة أيام يُصلي ويدعو ويصوم، ثم لا يُفطِرُ إلاَّ على شيءٍ من خُبزِ الشعير، والمِلح الجريش، أغناه ذلك عن العبادة في بقية عمره. فقال له القاضي أبو عمر: مِن أين لك هذا؟ فقال: من كتاب "الإخلاص" للحسن البصري". فقال له: كذبتَ يا حَلالَ الدم، قد سمعنا كتاب "الإخلاص" للحسن بمكة، ليس فيه شيءٌ من هذا، فأقبل الوزيرُ على القاضي، فقال له: قد قلتَ: "يا حلال الدم"، فاكتب ذلك في هذه الورقة، وألَح عليه، وقَدَّم له الدواةَ، فكتب ذلك في تلك الورقة، وكَتب مَن حَضَر خُطوطَهم فيها، وأنفذها الوزيرُ إلى المقتدر. فجاء الجواب بأن يُسلَّمَ إلى محمدِ بنِ عبدِ الصمد، صاحبِ الشرطة، ولْيَضْرِبه ألف سَوط، فإن مات، وإلاَّ ضُربت عُنقه. وبعث به إليه، وهو راكب على بَغلٍ عليه إكاف، وحَولَه جماعةٌ من السيَّاسة, على مثل شَكله، فاسْتقرَّ منزله بدارِ الشرطة في هذه الليلة، فذُكر أنه بات يُصلِّي تلك الليلة، ويدعو دعاءً كثيرًا.

وقالوا: ولَمَّا أُخرج الحلاج من المنزل الذي بات فيه لِيذهبَ إلى القتل أَنشد: طَلَبْتُ المُسْتَقَر بِكُلِّ أرْض ... فَلَمْ أرَ لِي بِأرْض مُسْتَقرَّا وَذُقْتُ مِنَ الزمَانِ وَذَاقَ مِنِّي ... وَجَدْتُ مَذَاقَهُ حَلْوًا وَمُرَّا أطَعْتُ مَطَامِعِي فَاسْتَعْبَدَتْنِي ... وَلَوْ أنِّي قَنِعْتُ لَعِشْتُ حُرَّا فلمَّا أُخرج للصَّلْب مَشى إليه، يتبختر في مشيته، وفي رِجليه ثلاثةَ عَشَر قيدًا وجعل ينشد ويتمايل: نَدِيمِي غَيْرُ مَنْسُوبِ ... إِلَى شَيْء مِنَ الحَيْفِ شَرِبْنَا مِثْلَ مَا يَشْرَبُ ... فِعْلُ الضَّيْف بِالضِّيْفِ فَلَمَّا دَارَتِ الكأسُ ... دَعَا بالنِّطع وَالسَيْفِ كَذَا مَنْ يَشْرَبُ الرَّاح ... َ مَعَ التِّنِّينِ فِي الضَيْفِ ثم قُدِّمَ، فضرب ألفَ سوط، ثم قُطعت يداه ورِجلاه، وهو في ذلك كلِّه ساكت، ما نَطَق بكلمة، ولم يتغيَّر لونه. وقال الخطيب: قال لنا أبو عمر بن حيُّويه: "لَمَّا أُخرج الحسينُ بنُ منصور الحلاَّج؛ ليُقْتَلَ مَضَيْتُ في جُملة الناس، ولم أزل أزاحِمُ عليه حتى رأيتُه، فدنوتُ منه، فقال لأصحابه: "لا يَهولَنََّكم هذا الأمرُ، فإني عائدٌ إليكم بعد ثلاثينَ يومًا" .. ثم قُتل فما عاد!. قال الذهبي: "هذه حكايةٌ صحيحة، توضِّحُ لك أن الحلاجَ مُمَخْرِقٌ كذَّاب، حتى عند قتله (¬1) .. ثم قُطعت يداه ورجلاه، وحُزَّ رأسه، وأُحرقت ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" (14/ 346).

جُثَّتُه، وأُلقي رَمادُها في "دِجْلة"، ونصب الرأسُ يومين ببغداد على الجِسر، ثم حُمل إلى خُراسانَ، وطِيف به في تلك النواحي". ° قال الإِمامُ الفقيه المُحَدِّثُ بقية السلف -كما يقول الذهبي- ابن أيوب: "لا شك أن الحَجَّاجَ قَتَل من العلماء خلائقَ يتعسَّرُ حَصْرُهم، وشَتَّت شملَهم وأبادهم، وقَتل سعيدَ بن جبير، وأهلُ الأرض محتاجون إلى عمله، وخَلَعه العلماء، وخَرَجوا عليه، وقاتلوه، ومع هذا كلِّه لم يَقُلْ أحدٌ منهم: "إنه كافر"، بل قالوا: إنه من عُصاة المسلمين؛ لا تَحِلُّ إمرتُه لذلك، والحَلاَّجُ ما تعرَّض لأحدٍ من أهل العلم بأذى في دنياه، وأجمع أهلُ زمانه منهم على كُفره، واستباحةِ دمه، فلو كان العلماءُ يقولون بالهوى، لقالوا في الحجاج الذي ما تَرك نوعًا من الأذى حتى رماهم به، فثبت أنهم لا يقولون بالهوى" اهـ. ° وَرَد في "الطواسين" للحلاج أنه قال: ألاَ أبْلِغََّ أَحِبَّائِي بِأَنِّي ... رَكبْتُ البَحْرَ وَانكسَرَ السَّفِينَهْ عَلَى دِينِ الصَّلِيبِ يَكُونُ مَوْتِي ... فَلاَ البَطحَا أُرِيدُ وَلاَ المدَينَهْ فَصُلِبَ؛ جزاءً وفاقًا. ° مِن كلمات هذا الزنديق: "أُنََزِّهُك عما قَرَفَك به عِبادُك، وأَبرأُ إليك مما وَحَّدك به الموحدون". ° قال الذهبي: "هذا عينُ الزندقة". ° وجدوا كتابًا للحلاَّج عنوانه: "من الرحمن الرحيم إلى فلان بن فلان"، فوجِّه إلى بغداد، فأُحضِر وعُرض عليه، فقال: "هذا خَطِّي وأنا

ابن عربي، دجال الصوفية، القائل بتفضيل خاتم الأولياء على خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم -

كتبته، فقالوا: كنتَ تدَّعي النبوة، صِرتَ تدَّعي الربوبية؟! قال: لا، ولكن هذا عَينُ الجَمعِ عندنا، هل الكاتبُ إلاَّ اللهُ وأنا؟ فاليدُ فيه آلة". بات الحلاَّجُ في جامع "الدينَور" ومعه جماعة، فسأله واحدَّ منهم، فقال: "يا شيخُ، ما تقول فيما قال فرعون؟ قال: قال كلمةَ حقٍّ، قال: فما تقولُ فيما قال موسى - عليه السلام -؟ قال: قال كلمةَ حق؛ لأنهما كلمتان جَرَتا في الأبد، كما أُجرِيَتَا في الأزل" (¬1). ° وقال: "ما وَحَّد اللهَ غيرُ الله". ° وقال: "الكفرُ والإِيمان يفترقانِ من حيث الاسم، فأما من حيثُ الحقيقة، فلا فرقَ بينهما". ° عن جُندبِ بنِ زاذانَ تلميذِ الحلاَّج قال: "كتب الحسينُ إليَّ: السلام عليك يا وَلَدي، سَتَر اللهُ عنك ظاهرَ الشريعة، وكَشف لك حقيقةَ الكفر، فإن ظاهرَ الشريعة كفر، وحقيقةَ الكفرِ معرفةٌ جليلة، وإني أُوصيك ألاَّ تغترَّ بالله، ولا تيأسَ منه، ولا ترغبَ في محبَّته، ولا تَرْضَ أن تكونَ غيرَ مُحِب، ولا تقلْ بإثباته، ولا تَمِلْ إلى نَفيهِ، وإياك والتوحيد، والسلام" (¬2). * ابنُ عربيٍّ، دَجَّالُ الصوفية، القائل بتفضيل خاتم الأولياء (¬3) على خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم -: مُحيي الدين بنُ عربي الحاتمي الذي تُطلِق عليه الصوفية لقبَ "الشيخ ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" (14/ 354). (¬2) "سير أعلام النبلاء" (14/ 352 - 353). (¬3) يعني نفسه.

الأكبر" (¬1) والذي "كانت ولايته أعلى قمةٍ بلغها التصوفُ" (¬2) عندهم، حتى عُدَّ رئيسَ مدرسةِ التصوف المتأخر (¬3). وقد كانت ولادته بـ "مَرَسية" في الأندلس عام 560 هـ، وانتقل إلى "أشبيلية"، وقام برحلةٍ زار فيها الشامَ وبلادَ الروم والعراقَ والحجازَ، واستقر أخيرًا بدمشق، وتوفي بها عام 638 (¬4). ° يقول ابن عربي في "الفتوحات المكيَّة": "وخَتم بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - الرسل عليهم السلام، وخَتم بشرعه جميعَ الشرائع، فلا رسولَ بعده يُشَرعِّ، ولا شريعةَ بعد شريعتِه تنزلُ من عند الله" (¬5). ونلاحظُ في هذه الجمل الأربع التي عَرَض بها عقيدته أنه يحتاطُ في كلِّ جملةٍ منها بلفظ يوهِم مشاركتَه للأمة في عقيدتها، ولكنه في الواقع غيرُ ذلك، وبتحليل ذلك يتضح الأمر في الأذهان: (1) قوله: "وختم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - جميع الرسل"، نعم هذا صحيح، ولكنه هنا يَستبدل لفظ "الرسل" بلفظ "النبيين" الذي وَرَد في الآية {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، وقد ورد كما سبق في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وخُتم بي النبيون" فلماذا يفعل ابن عربي ذلك؟ يفعلُه لأن النبي أعمُّ من الرسول، ونَفْيُ النبوة يعني: نَفْيَ الوحي -كما تقدم-، أما نفى الرسالة فلا ¬

_ (¬1) "هذه هي الصوفية" للوكيل (ص 23). (¬2) "الصلة بين التصوف والتشيع" (ص 376) للدكتور كامل مصطفى. (¬3) المصدر السابق (ص 378). (¬4) "البداية والنهاية" (13/ 156)، و"ميزان الاعتدال" (3/ 658). (¬5) "الفتوحات المكية" (4/ 75).

يلزمُ منه نَفيَ الوحي؛ لأنه قد يَنزلُ الوحيُ فيُكسِبُ صاحبَه صفةَ النبوة، ولا يُكسِبُه صفةَ الرسالة، وذلك إذا لم يطالَبْ بالتبليغ، وابنُ عربي يفهمُ ذلك وُيدرِكُه حقَّ الإدراك، فلو التزم باللفظ القرآني لَقَطع على نفسِه منزلة الولاية كما يتصوَّرها هو، والتي يتلقَّى صاحبُها الوحيَ من الله سبحانه. (2) قوله: "وختم بشرعه جميع الشرائع"، وهذه كذلك لازمةٌ للخَتم الذي انقطع به الوحي، فكأنه يُكثِّرُ العباراتِ للدلالة على إيمانه بالختم -كما يريده هو-، لأنه لا يدَّعي هو نزولَ شرعٍ جديد. (3) قوله: "فلا رسول بعده يُشرِّع"، وهذا تأكيدٌ ثالثٌ لصورةِ تلك العقيدة التي يؤمن بها، فيكررُ نفيَ الرسالة مرةً أخرى، ثم يؤكد بصفةٍ أخرى يُغني عنها لفظُ الرسول؛ لأن الرسول لا يكونُ إلا مشرِّعًا، ولكنْ لعله يريدُ أن يدَّعي الرسالةَ التي لا شَرعَ معها -كذلك-، فيُمهِّدُ بهذا القَيد. ° فقد قال في "الفتوحات": "اعلم -وفقنا الله وإياك- أنه من كرامةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - على ربه أنْ جَعَل مِن أُمته رُسلاً، ثم إنه اختص من الرسل مَن بَعُدت نسبتُه من البشر، فكان نصفه بشرًا، ونصفُه الآخرُ رُوحًا مطهَرةً مَلَكًا؛ لأن جبريلَ وَهَبه لمريمَ بشرًا سويًّا .. " (¬1) إلخ قوله ذلك الذي بدأه بإثباتِ الرسل بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فهذه هي عقيدتُه، لم يَنْف نزولَ الوحي، بل كل عبارةٍ فيها تُمهدُ لِمَا سيدَّعيه من الاتصال بخبر السماء. وبعد هذه المقدمة لعقيدته في "ختم النبوة"، نعرضُ طريقتَه في فهم ¬

_ (¬1) "الفتوحات المكية" (4/ 58).

النصوص النبوية المتعلقةِ بهذه العقيدة، لنرى مدى محاولاتِه المتنوِّعة في تطويع كلِّ شيءٍ في هذه العقيدة لفكره الصوفي، فهو عندما يَرَى النصَّ النبوي: "لا نبيَّ بعدي" يُسارعُ في تقييده بقوله: "إنما ارتفعت نبوة التشريع" (¬1). ° ويؤكِّدُ ذلك وَيزيدُه إيضاحًا بقوله: "أي: لا شرعَ خاصة، لا أنه لا يكون بعدَه نبيٌّ" (¬2). وكأنه يستدركُ على اللفظ النبويِّ في صورةِ النفي التي وَردت باستعمالِ نفي النبوة، وقد صرح بأن هذا الحديثَ قد أزعج إخوانَه الأولياء، فقال: "إن حديثَ "لا نبي بعدي" قد قَصَم ظهورَ الأولياء" (¬3). فلماذا يقصم ظهورْهم؟ ألاَ يَرضَون ما رَضِيَه اللهُ لهم ورسولُه؟ ألاَ يكفيهم ما تركه لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والسنة؟ ولكنَّ الفيلسوفَ الصوفيَّ يُطمئنُهم، ويخفِّفُ من انزعاجهم بإخبارهم: "أنَّ الله لَطَف بعباده، فأبقى لهم النبوةَ العامةَ التي لا تشريعَ فيها" (¬4). ° والمرادُ بعباده هنا هم الأولياء، كما ذكر ذلك في موطنٍِ آخَرَ بقوله: "أعلم أن الولايةَ هي الفَلَكُ المحيطُ العامُّ، ولهذا لم تنقطعْ، ولها الإِنباءُ العام، أما نبوةُ التشريع والرسالة، فمنقطعة" (¬5). ¬

_ (¬1) "الفتوحات المكية". (¬2) "فصوص الحكم" (ص 134). (¬3) "فصوص الحكم" (ص 134). (¬4) "فصوص الحكم" (ص 48). (¬5) "فصوص الحكم" (ص 134).

فالأولياء هم الذين لهم الإِنباءُ العام، وبهذا يتضحُ أنه يعتقدُ بقاءَ النبوة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وليس لأحدٍ أن يسألَه؛ لأن علومَ الأولياء لها مَصدرٌ فوق النقدِ، كما وَرَد عن أحدِ أسلافه من أقطابِ الصوفية وهو يَزيدُ البِسْطامي، حيث قال: "أخذتم علمَكم ميتًا عن مَيْتٍ، وأخذنا عِلمنا عن الحيِّ الذي لا يموت" (¬1). ° وبعد هذا التقرير النظري الذي انتهى منه ابنُ عربي إلى إثباتِ النبوة العامة، يَشْرعُ هو في دعوى الاتصال بالله، وأنه كَتب كتابه "فصوص الحكم" "تحت تأثير من الوحي والإِلهام فأنزل في سطورها ما أُنزل به عليه، لا ما قَضى به منطقُ العقل" (¬2) كما ورد نصُّ ذلك في مقدمة "الفصوص" حيث قال: "فما أُلقي إلاَّ ما يُلقَى إليَّ، ولا أُنزل في هذا المسطور إلاَّ ما يُنزل به عليَّ" (¬3). ° ولَمَّا كان يدَّعي أن الولاية كالنبوة لها خاتم "واحد لا في كلِّ زمان، بل هو واحدٌ في العالَم يَختمُ به الله الولاية المحمدية، فلا يكونُ في الأولياء المحمَّديين أكبرُ منه" (¬4). ° فإنه يزعمُ أنه هو ذلك الخاتمُ بقوله: "فإني أنا الخَتمُ، لا وَلِيَّ بعدي ولا حاملَ لعهدي بفقدي، تذهبُ الدول وتلتحقُ الأُخريات بالأول" (¬5). ¬

_ (¬1) "الفتوحات المكية" (2/ 135). (¬2) "محقِّق الفصوص" أبو العلا عفيفي (ص 10). (¬3) "فصوص الحكم" (48). (¬4) "الفتوحات" (2/ 11). (¬5) "عنقاء مغرب" (ص 15) من "الصلة بين التصوف والتشيع" (ص 473).

° ثم يدَّعي أنهَ مصدرُ عِلم الرسل، وأنهم لا يقتبسونه "إلاَّ من مشكاة خاتمِ الأولياء" (¬1)؛ وذلك لأنه أخذ عِلمَه "من المعدنِ الذي يأخد منه المَلَكُ الذي يوحَى به إلى الرسل" (¬2). ولذلك فإن الوليَّ بَلَغ درجةً من العلم الصحيح دونه كلُّ الرسل، بل حتى خاتمُ الرسل محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الوليَّ يَرى العلومَ على صُورتها الصحيحة كما هي في عِلم الله، أما الرسلُ، فقد يَرَون الظواهرَ ولا يَصِلُون إلى بواطنِ الأمور، حتى لو كان ذلك سيِّدَ البشر - صلى الله عليه وسلم -!! .. وذلك يتضح بما يأتي: • قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلي ومَثَلُ الأنبياء قَبْلي كَمَثلِ رجلٍ بني بيتًا، فأحسَنه وأَجمَله إلا موضعَ لَبِنة من زاوبة، فَجعَل الناسُ يَطوفون به ويتعجَّبون له، ويقولون: هلاَّ وُضِعَتْ هًذه اللبنةُ! قال: فأنا اللبنةُ، وأنا خاتمُ النبيين" (¬3). فهو يُقرِّرُ في هذا الحديثِ أن الدارَ التي مَثل بها كَمُل بناؤها، ولم يَبْقَ فيها إلا موضعٌ واحدٌ فقط لا يتَّسعُ إلاَّ للبنةٍ واحدة، ثم كان - صلى الله عليه وسلم - هو تلك اللبنةَ. ° وابنُ عربي يرى أن تلك الرؤيةَ منه - صلى الله عليه وسلم - رؤيةٌ ناقصة -وحاشاه صلى الله عليه وسلم -، وأن الواقع أن الدارَ بَقِيَ فيها موضعُ لبنتينِ: إحداهما فضة، والأخرى ذهب .. والرسول هو اللبِنة الأقل ثمنا وقيمةً، والوليُّ هو اللبنةُ ¬

_ (¬1) "الفصوص" (ص 62). (¬2) السابق (ص 63). (¬3) رواه البخاري ومسلم وأحمد والحميدي.

الأكثر ثمنًا وقيمةً، وهذا هو كلامُه بعد ذِكر الحديث ورؤية النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لها، قال: "والولي يراها مَوضعَ لبنتينِ! لبنةَ فضةٍ -وهو النبيُّ صلى الله عليه وسلم -، وأخرى ذهب -وهو الوليُّ-" (¬1). ° ولذلك فالوليُّ مستقلٌّ في الشريعة وإن كان يبدو "أنه تابعٌ لشرعِ خاتمِ الرسل في الظاهر" (¬2)؛ لأنه -بناءً على تلك النظرةِ السابقة- أعلى مكانًا من الرسل وأصحُّ عِلمًا منهم، وإنْ بدا للناس أن متَّبعٌ للشرع ظاهرًا، فالصحيحُ أنه "أخذ عن الله في السرِّ ما هو بالصورة الظاهرة متَّبعٌ فيه" (¬3). وهكذا ينتهي ابن عربي في تدرُّجه ذلك إلى "الخروج على عقيدةِ ختم النبوة" التي قَرَّرها اللهُ -عزَّ وجلَّ- ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأجمعت الأمةُ عليها، ثم لا يكتفي بذلك الخروج فقط، بل ويَصِل به الأمرُ إلى أنْ جَعَل الأولياءَ يستدركون على الأنبياء، ويصحِّحون علومَهم؛ لأن رؤيةَ الأولياء هي المطابِقَة للواقع الذي خَفِيَ على الرسل؛ وذلك لأنَّ الأولياءَ يتلقَّون العلومَ تلقِّيًا مباشرًا .. أما الأنبياء، فيأتيهم بالعلوم وُسطاءُ بينهم وبين اللوح المحفوظ .. ولذلك، فإنَّ الوليَّ -وإنْ بدا أنه متبعٌ في الظاهر للرسول صلى الله عليه وسلم -، فهو في الحقيقة مستقِلٌّ في التشريع لاستقلالِه في تلقِّي العلوم .. وأما المتابعة، فإنما هي للعوامِّ الذين لم يَبلُغوا ذلك، فيكفيهم تلك الظواهرُ التي أخذوها عن الأموات، ومرةً أخرى ندرك معنى "أخذتم علمَكم ميتًا عن ¬

_ (¬1) "الفصوص" (ص 63). (¬2) "الفصوص" (ص 163). (¬3) "الفصوص" (ص 163).

مناقشة ابن عربي

مَيتٍ، وأخذنا عِلمَنا عن الحيِّ الذي لا يموت"!!. ° وذلك التدرجُ وتلك النهايةُ التي وصل إليها ابن عربي هي التي جَعلت ابنَ تيمية - رحمه الله - يقول: "ففي هذا الكلام من أنواعِ الإِلحاد والكفرِ وتنقيصِ الأنبياء والرسل ما لا تقولُه لا اليهودُ ولا النصارى، وما أشبَهَه في هذا الكلام بما ذُكر في قول القائل: "فخرَّ عليهم السقف من تحتهم": "إنَّ هذا لا عَقْلَ ولا قرآن"، وكذلك ما ذكر هنا من أن الأنبياءَ تستفيدُ من خاتم الأولياء الذي بعدَهم هو مخالفٌ للعقل، فإنَّ المتقدِّمَ لا يستفيدُ من المتأخِّر، ومخالفٌ للشرع، فإنه معلومٌ بالاضطرار من دينِ الإِسلام أن الأنبياءَ والرسلَ أفضلُ من الأولياء الذين ليسوا أنبياءَ ولا رُسلاً" (¬1). * مناقشة ابنِ عربي: في هذا العَرضِ الموجَز لكلام ابن عربي تتبيَّن لنا عقيدتُه في بقاءِ النبوة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث يَرى أن النبوَّةَ لا تزالُ باقيةً، ولا يزالُ هناك أنبياء .. ولما كانت تلك العقيدةُ تتعارضُ مع عقيدةِ ختم النبوة بنبوةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -كما رأينا ذلك من قبل-، فإنه لا بد من وقفةٍِ مع عقيدةِ ابن عربي تلك التي تخالفُ عقيدةَ الإسلام وتُناقضُه. أولاً: العبارة التي يُبَّينُ بها ابن عربي عقيدتَه في ختم النبوة، حيث قال: "وخَتَم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - جميع الرسل" عبارةٌ قاصرةٌ عن أداءِ المعنى الشرعي كما وردت به النصوص، ففي القرآن الكريم: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: ¬

_ (¬1) من رسالة حقيقة مذهب الاتحادية ضمن مجموع "المسائل والرسائل" (4/ 85).

40]، وفي الحديث: "وخُتم بي النبيون"، إذ في هذه النصوص أن الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - خاتمُ النبيين، والنبوَّةُ أعم من الرسالة، ونفيُها نَفي لها وللرسالة .. ولهذا فالنصوص الشرعيةُ لا تتركُ مَنفذًا لدعوى نبوةٍ جديدة أو رسالةٍ جديدة .. أما ابنُ عربي، فلا يَنفي النبوةَ، وإنما ينفي الرسالة، فيبقى احتمالُ وجودِ النبوة، وهذا ما أراده هو بهذه العبارة، وذلك ليتسنَّى له فيما بعدُ أن يدَّعيَ بقاءَ النبوة -وقد فعل-، حيث زَعَم بقاءَ النبوة العامة. ثانيًا: تقييدُه نصَّ الحديث النبوي: "لا نبيَّ بعدي" بنفي النبوةِ التشريعية تقييدٌ باطل، وذلك أن نفيَ النبوة -كما رأينا من قبلُ مِرارًا- أعمُّ من نفي الرسالة، والذي يتلقَّى النبوةَ قد يؤمرُ بتبليغ ما أُوحى إليه من تشريعٍ أو غيره، فيصبح نبيًّا رسولاً، وقد لا يؤمرُ بذلك، فيكون نبيًّا فقط، والنصوصُ الشرعية قد نَفَت كِلتا الحالتين، وذلك بنفي الأعمِّ -وهو النبوةَ- وانتفاءُ النبوة يعني انقطاعَ الوحي، وهذه هي عقيدةُ الأمة الإسلامية من عهدِ - رضي الله عنهم - ولما قيل لابن عمر: "إن المختار يزعمُ أنه يوحَى إليه. قال: صدق: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] "، فهو يَرى أن الوحيَ الربَّانيَّ قد انقطع، وإنما هو الوحيُ الشيطانيُّ .. ولو لم يكن كذلك لَمَا سارعَ بذلك الرد. ثالثًا: قولُ ابن عربي: "إن حديث: "لا نبيَّ بعدي"، قد قَصَم ظهورَ الأولياء"، يكشفُ لنا عن موقفِ أولياء الصوفية من النصوص الشرعية، وهو موقفٌ لا يتفقُ مع الولايةِ الصحيحة .. وإلاَّ فأيُّ ولايةٍ تلك التي لا تَرضى ما قَضَى الله به -عزَّ وجلَّ-؟ واللهُ يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ

إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، والله يقول كذلك: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، فهو التحكيمُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم انتفاءُ الحرج من النفس، وأخيرًا لتسليمُ الكاملُ الذي ينتفي معه حَظُّ النفسِ، وإلاَّ فقد عَرَّض نفسَه لنقصِ الإيمان أو نقضِه، وقد كان ينبغي عليهم -وهم يزعمون الولاية- أن يستقبِلوا شرعَ الله وقضاءَه بقلوبٍ طائعةٍ راضية، وذلك ما يستقيمُ مع دعوى الولاية. ثم إن ابن عربي يُخفِّفُ على الأولياء بأن الله لَطَفَ بعباده فأبقى لهم النبوة العامة!! يا لها من جرأةٍ تلك التي أقدم عليها ابنُ عربي!! فمِن أين له تلك القَولة؟! فالقرآنُ والسنةُ وإجماعُ الأمة، كلُّها تثبث انقطاعَ النبوةِ مطلقًا، فكيف أقدم ابنُ عربي على هذه القولةِ العظيمة التي تُعارضُ كلامَ الله سبحانه وتعالى وكلامَ رسوله - صلى الله عليه وسلم -؟! إذ يخبرُنا الله ورسولُه بانقطاعِ النبوة، وابنُ عربي يدَّعي بقاءَها واستمرارَها! فهل استجدَّ في علم الله سبحانه وتعالى جديدٌ، ثم أخبر به ابنَ عربيٍّ بعد أن قَضَى على لسانِ رسولِه - صلى الله عليه وسلم - أنْ لا نبوةَ بعدَه، وأنه آخرُ الأنبياء؟! اللهم إنها قَولةٌ كاذبة لا تصدرُ مِن مُسلِمٍ عاقل، بَلْهَ أن يكون وليًّا يزعم أنه خاتم الأولياء. رابعًا: ادَّعى أنه كَتب كتابه "الفصوص" بوحيٍ من الله، حيث قال: "فما أُلقِي إلاَّ ما يُلقى إليَّ، ولا أُنزل في هذا المسطور إلاَّ ماُ ينزَلُ به عليَّ". فهذا الكتاب المذكور أأُنزل موافقًا للقرآن أم مخالفًا له؟ فإنْ كان موافقًا فما الحاجة إليه؟ وإن كان مخالفًا، فهل هو مخالفٌ للأحكام أم للأخبار؟ فإنْ كان مخالفًا للأحكام فهذا نَسخٌ، وقد ادَّعى هو أنه يعتقدُ أنْ لا شرعَ بعد

شرع الإسلام .. وإن كان في الأخبار، اقتضى تكذيبَ القرآن والقرآنُ وحيُ الله -عزَّ وجلَّ- إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، والوحيانِ الثابتانِ لا يتناقضان. ثم ما يُدرينا صِدقَ تلك الدعوة؟ وما الفرقُ بينها وبين دعوى أيِّ كاتبٍ آخَرَ ادَّعى أن كتابَه وحيٌ من الله؟ فلا بدَّ إذن من برهانٍ مُعجِز ليضمنَ لنا صِدقَ دعواه .. وذلك لم -ولن- يتمَّ، لأنه من خصائصِ الأنبياء فقط، والنبوةُ قد انقطعت، والمعجزةُ هي التي تؤكَد لصاحبها ولغيرِه صِدقَ دعواه تلك .. وإلا فما يُدرينا أن ذلك الوحيَ من وحيِ الشياطين .. وهو الوحيُ الذي لم يُختَمْ بعد. خامسًا: ابتدع ابنُ عربي اصطلاح "خاتم الأولياء"، وأحاطه بهالاتٍ من التقديس والتعظيم حتى جَعَله مصدرَ علوم الرسل .. وتلك بدعة لا أصلَ لها في شرع الله -عزَّ وجلَّ-، وهو إحدى حلقاتِ تلك السلسلة من الأدِّعاءات المجرَّدة من الأدلة الشرعية، ويكفي ذلك إبطالاً لها، ثم إن دعواه تلك تعني انتهاءَ بقاءِ أولياءِ بعده كما صرَّح بذلك بنفسه، حيث يقول: "بفقدي تذهبُ الدولُ، وتَلحقُ الأُخرَياتُ بالأول". يعني أن تنتهي الحياةُ وتنتهي الولاية، وهذا واضحُ البطلان، إذ لم تذهب الدول، ولم تَنتهِ الولاية، وذلك تحقيقًا لنبوةِ نبينا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - الذي يقول: "لا تزال طائفة من أمتي يُقاتِلون على الحقِّ ظاهرين إلى يوم القيامة"، أي: تبقى طائفةٌ من المؤمنين المجاهدين إلى انتهاءِ العالَم، فالعالمُ موجود، والمجاهدون في سبيل الله في كل مكان، وكلُّ مؤمن متَّقٍ فهو من أولياءِ الله، كما أخبر الله بذلك، حيث يقول: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62 - 63]، ولم

يقل: "إن أولياءَ الله الذين كان يُوحَى إليهم" .. فالمؤمنون المجاهدون في الحديث لا شك أنهم متَقون، وهم على الحق، وقد وَعَد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ببقائهم، وهي نبوةُ صدق وحقٍّ. ° يقول ابنُ تيمية - رحمه الله -: "وخاتمُ الأولياء كلمةٌ لا حقيقةَ لفضلها ومرتبتها، وإنما تكلم أبو عبد الله الترمذي بشيءٍ من ذلك غلطًا لم يُسبق إليه، ولم يتابَعْ عليه، ولم يَستندْ فيه إلى شيءٍ، ومسمَّى هذا اللفظِ هو آخِرُ مؤمنٍ يبقى، ويكون بذلك خاتمَ الأولياء، وليس ذلك أفضلَ الأولياء باتفاقِ المسلمين، بل أفضل الأولياء سابقُهم وأقربُهم إلى الرسول، وهو أبو بكر، ثم عمر، إذ الأولياءُ يستفيدون من الأنبياء، فأقربُهم إلى الرسول أفضلهم، بخلاف خاتم الرسل، فإن الله أكرمه بالرسالة ولم يُحِلْها على غيره، فقياسُ مسمَّى أحدِ اللفظين على الآخَرِ في وجوب كونه أفضلَ، من أبعد القياس" (¬1). سادسًا: وأما زَعمُه بأن الرسلَ لا يقتبسون عِلمَهم إلا من مشكاته فهذا في غايةُ السَّفَةِ والأزراء بمقام الأنبياء، كما أنه مخالفٌ للعقل أن يَتلقَّى الحيُّ الموجود من إنسان لم يُخلق بعد، ويَكفي ردًّا على هذا الادعاء ما سبق من قول ابن تيمية - رحمه الله -. سابعًا: دعواه أن سيدَ الخَلق محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يَرَ إلا موضعَ لبنةٍ واحدة، مع أنه موضعُ لبنتين -كما يراها الوليُّ-، بل ويدَّعي أنه لبنةُ الذهب والنبيَّ لبنة الفضة. ¬

_ (¬1) "بغية المرتاد" (ص 84)، "ضمن الفتاوى الكبرى" (ج 5).

دعوى ابنِ عربي هذه يَصِلُ بها إلى آخِرِ درجاتِ الهبوط العقلي التي يصاب بها كلُّ مَن تجارت به الأهواء وعَبَثت بخياله الشياطين .. إذ كيف يكونُ أشرفُ البشر على الإِطلاق وسيدُ ولد آدم وقائدُ الأنبياء وأكرمُهم على الله، والذي أُعِدَّ له في أعلى الجنة مكانٌ لا يَصِلُ إليه سواه؛ لِمَا له عند الله من المكانة والتكريم: كيف يكونُ أقلَّ من أحدِ أتباعه مِمَّن يزعُمون لأنفسِهم الولاية والتي لا تنالُ إلاَّ بمتابعته - صلى الله عليه وسلم -، فلا يَرى الأمورَ على حقيقتها حتى يأتي ابنُ عربي في أعقابِ الزمن ينعى عليه - صلى الله عليه وسلم - رؤيته ويتَّهمُه بفسادها .. وإنها تهمةٌ تتعدَّى مقامَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مقام الله سبحانه وتعالى الذي أخفى عن رسوله الصورةَ الصحيحة وأراه خلافَها. وإن ذلك الاتهامَ ليهدمُ الإسلامَ من أساسه، إذ مَن يَعجِزُ عن رؤيةِ أحد أصول العقيدة على حقيقته عاجزٌ عن أن يَرى بقيةَ أمورِ الشريعة على حقيقتها، فلا يؤمَنُ جانبُه في تبليغ شرع الله .. هذا ما تَعنيه تلك القولةُ الآثمةُ التيَ تَحُطُّ من قَدرِه - صلى الله عليه وسلم -وحاشاه عن ذلك-. ثامنًا: يدَّعي ابنُ عربي أن الوليَّ متبعٌ ظاهرًا مستقلٌّ باطنًا، حيث قال: "أخذ عن الله في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبعٌ فيه"، وهذه نتيجةٌ طبيعيةٌ يَصِلُ إليها ابنُ عربي بعد تلك الضلالات المتراكمة، فما دام أن الوليَّ يتْلقَّى الوحيَ من الله، وأن رؤيته أصحُّ من رؤيةِ النبي، فلا حاجةَ له إلى الأخذِ عن النبي؛ لأنه أصحُّ رؤيةً وأصدقُ تصورًا منه. تاسعًا: إن جميعَ هذه المصطلحات التي جاء بها ابن عربي: "من قوله: "إنما ارتفعت نبوةُ التشريع"، وقوله: "لا شَرع خاصة، لا أنه يكون بعده نبي"، وقوله: "إن الله لطف بعباده فأبقى لهم النبوَّةَ العامةَ التي لا تشريع

فيها"، وقوله: "إني أنا الختمُ لا وليَّ بعدي"، بعد أن ذَكَر أن هناك خاتمًا للأولياء، وزَعْمِه أن الرسلَ لا يقتبِسون علومَهم "إلا من مشكاةِ خاتم الأولياء"، وزعمه أن الوليَّ يرى موضعَ لبنتينَ لا كما رآها النبيُّ موضعَ لبنةٍ واحدةٍ، وأن أحدهما فضةٌ -هي النبي-، والأخرى ذهب -وهي الولي-. ثم أخيرًا الوليُّ مستقلٌّ بـ "أخذ عن الله في السرِّ ما هو بالصورة الظاهرة متبعٌ فيه" .. إن هذه المصطلحات التي أحدثها ابن عربي، وبَنى عليها مذهبه في القول بتجدُّدِ الوحي باطلةُ الأساس لا يثبت عليها بناء .. وهي مصطلحات مبتدَعة دخيلة على التصوُّر الإِسلامي لا تصدرُ عن مسلمٍ يحترمُ عقلَه ودينه .. إذ كل واحدةٍ منها تكفي لتكفيرِ صاحبها وإخراجه من دينِ الإِسلام؛ لأنها تعارضُه فيما قرَّره من الأصول الثابتة التي تعرفُ من دينِ الإِسلام بالضرورة، فكيف بها إذا اجتمعت؟!. ° ولابن عربي بعضُ العبارات الأخرى التي توحِي لقارئها بأنه سَلَفيٌّ متبع يقفُ عند كلِّ حدِّ من حدودِ الله لا يتجاوزُه ولا يتعدَّاه، ومِن ذلك قوله في أول كتاب "الفصوص": "ومن الله أرجو أن أكونَ ممن تأيَّد فتأيَّد، وقُيِّد بالشرع المحمدي المطهَّر فتقيد وقُيِّد" (¬1). ولكنه لم يُقيَّد ولم يتقيَّد، وإلا لَمَا اشتَط به الفكرُ والهوى إلى تلك الضلالات المخالفةِ لعقيدة الإسلام .. وإن هذا التناقضَ قد يؤيِّدُ قوله الذهبيِّ فيه: إنه "أثَّرت فيه تلك الخَلَواتُ والجوعُ فسادًا وخيالاً وَطَرف جُنون" (¬2). ¬

_ (¬1) "فصوص الحاكم" (ص 48). (¬2) "ميزان الاعتدال" للذهبي (3/ 659).

إذ الرجل كان من أربابِ التصوف والرياضاتِ النفسيه. وإنا لنرجو أن يكونَ قد تاب مِن هذه الشطحات، ومات على حالِ أخرى (¬1). ° قال شيخُ اليمن الإمامُ ابنُ المُقِرئِ الشافعيُّ مبينًا حالَ ابنِ عربيٍّ زنديقِ الصوفية وإمامِ القائلين بوحدة الوجود: ألاَ يا رسولَ الله غَارَةَ ثائرٍ ... غَيُورٍ على حُرُمَاتِهِ والشَعائِرِ يُحاطُ بها الإسلامُ مِمَّن يَكِيدُهُ ... ويَرمِيهِ مِن تلبيسِهِ بالفواقِرِ فقد حَدَثَتْ بالمسلمين حَوادثٌ ... كبارُ المعاصي عندها كالصغائرِ حَوَتهُنَّ كتبٌ حارَبَ اللهَ ربها ... وغَرَّ مَن غُرَّ بين الحواضِرِ تجاسَرَ فيها ابنُ عربي واجتَرَى ... على الله فيما قال كلَّ التجاسُرِ فقال بأن الرب والعَبدَ ... واحدٌ فربِّي مربوبي بغير ِتغايُرِ وأنكر تكليفًا، إذ العبدُ عندَه ... إلهٌ وعبدُه، فهو إنكارُ فاجِرِ وخَطأَ إلاَّ مَن يَرى الخَلقَ صورةً ... وهُوِيةً لله عندَ التناظُرِ وقال: وتَجلَّى الحق في كلِّ صورةٍ ... تجلَّى عليها فهى إحدى المَظاهِرِ وأنكر أنَّ الله يَغنى عن الورى ... ويَغْنَون عنهْ لاستواءِ المقادِرِ كما ظلَّ في التهليلِ يَهزءُ بنَفيِهِ ... وإثباتِهِ مستجمِلاً للمغايرِ وقال: الذي يَنفيهِ عينُ الذي ... أتى به مثبِتًا لا غيرَ عند التجاورِ فأفسدَ معنىْ ما بِهِ الناسُ أسلموا ... وألغاه إلغًا بيناتِ التهاترِ ¬

_ (¬1) "عقيدة ختم النبوة" (ص 157 - 166) لأحمد بن سعد بن حمدان الغامدي - دار طيبة الرياض.

فسبحان ربِّ العرشِ عما يقولُه ... أعاد به من أمثالِ هذي الكبائرِ ْفقال: عذابُ الله عَذبٌ وربنا ... يُنَعِّمُ في نيرانِه كل فاجِرِ وقال بأنَ اللهَ لَم يُعصَ في الورى ... فما ثَمَّ مُحتاج لعافٍ وغافرِ وقال: مرادُ الله وِفقٌ لأمرِهِ ... فما كافر إلاَّ مُطيعُ الأَوامِرِ وكل امرئ عند المهيمِنِ مرتَضى ... سعيد فما عاصٍ لديه بخاسِرِ وقال: يموت الكافرون جميعُهم ... وقد آمنوا غيرَ المفاجَأِ المبادَرِ وما خَصَّ بالإيمان فرعونَ وحدَه ... لدى موتِهِ بل عمَّ كل الكوافِرِ فكذِّبْه يا هذا تكنْ خيرَ مؤمنٍ ... وإلاَّ فصَدِّقْه تكنْ شرَّ كافِرِ وأثنى على مَن لَم يُجِبْ نُوحًا إذ دعا ... إلى تَركِ وُدٍّ أو سُواعَ وناسِرِ وسَمَى جهولاً مَن يطاوِعُ أمرَه ... على تركها قولَ الكفور المُجاهِرِ ولم يَرَ بالطوفان إغراقَ قومِه ... ورَدَّ على مَن قال رَدَّ المُناكِرِ وقال: بلى قد أغرِقوا في معارفَ ... مِن العلم والباري لهم خيرُ ناصِرِ كما قال: فازت عاد بالقُربِ واللِّقا ... مِنَ الله في الدنيا وفي اليومِ الآخِرِ وقد أخَبَر البارِي بلعنتِه لهم ... وإبعادِهم فاعجَبْ له من مُكابرِ وصَدَّق فِرعونًا وصَحَّح قولَه ... أنا الربُّ الأعلى وارتَضَى كل سامِر وأثنى على فرعون بالعلم والذكا ... وقال: بموسى عَجلَةُ المتبادِرِ وقال: خليل الله في الذبح واهمٌ ... ورؤيا ابنِهِ تحتاجُ تعبيرَ عابِرِ يُعظِّمُ أهلَ الكفرِ، والأنبياءُ لا ... يعامِلهم إلاَّ بحطِّ المقادرِ ويُثني على الأصنام خيرًا ولا يَرى ... لها عابدًا ممن عَصَى أمرَ آمرِ وكم من جَرَاءاتٍ على الله قالها ... وتحريف آياتٍ لسوءِ تفاسرِ ِ

ولَم يَبْقَ كفرٌ لَم يُلابِسْه عامِدًا ... ولَم يتورَّطْ فيه غيرَ مُحاذِرِ وقال: سيأتينا مِنَ الهين خاتَمٌ ... من الأولياءِ للأولياءِ الأكابرِ له رُتبةٌ فوقَ النبيِّ ورُتبةٌ ... له دُونَه فاعْجَبْ لهذا التنافرِ فرُتبتُه العَليا تقولُ لأخذِهِ ... عن الله لا وحيًا بتوسيطِ آخَرِ ورُتبتُه الدنيا تقول لأنه ... من التابعيَّةِ في الأمور الظواهِر وقال اتِّبِاعُ المصطفى ليس واضعًا ... لمقداره الأعلى وليس بحاقِرِ فإن تدْن منه لاتِّباعٍ فإنه ... يرى منه أعلى من وجوهٍ أواخِرِ ترى حالَ نقصانٍ له في اتَباعه ... لأحمدَ حتى جاء بهذي المعاذِرِ فلا قدَّس الرحمنُ شخصًا يُحِبُّه ... على مَن يَرى مِن قبحِ هذه المَخابِرِ وقال بأنَّ الأنبياءَ جَميعَهم ... بمشكاة هذا تستضيء في الدياجِرِ وقال: فقال الله لي بعدَ مُدةٍ ... بأنك أَنت الخَتمُ ربُّ المَفاخِرِ أتاني ابتدأ بيضاء سطَّر ربُّنا ... بإنقاذِه في العالَمين أوامِري وقال: فلا تَشْغَلك عني ولايةٌ ... وكنْ كل شهرٍ طُول عُمرِك زائري فرِفْدُك أجزَلنا وقَصدك لَم يَخِبْ ... لدينا، فهل أبصرتَ يا ابنَ الأخايِرِ بأكذبَ مِن هذا وأكفَرَ في الورى ... وأجرأَ على غَشَيانِ هذي الخواطِرِ؟! فلا يدعو مَن صدَّقوه ولايةً ... وقد خُتمت فليؤخَذوا بالأقادِرِ فيا لعباد الله ما ثَمَّ ذو حِجًى ... له بَعض تمييزٍ بقلبٍ وناظِرِ؟! إذا كان ذو كفر مطيعًا كمؤمنٍ ... فلا فَرق فينا بين برٍّ وفاجِرِ كما قال هذا: إن كل أوامرٍ ... منَ الله جاءت فهى وفِق المقادرِ فلِمَ بُعثت رسْلٌ وسُنَّت شرائعٌ ... وأنزل قرآنٌ بهذي الزواجِرِ؟!

أيخلَعُ منكم رِبْقةَ الدينِ عاقلٌ ... بقَولِ غريقٍ في الضلالة جائرِ ويَتركُ ما جاءت به الرسلُ من هُدى ... لأقوالِ هذا الفيلسوفِ المُغادِرِ فيا مُحسِني ظنًّا بما في "فصوصه" ... وما في "فتوحات" الشرورِ الدوائرِ عليكم بدينِ الله لا تُصبحوا غدًا ... مساعِر نارٍ قبحت من مساعِرِ فليس عذابُ الله عذابًا كمثلِ ما ... يُمنِّيكم بعض الشيوخِ المَدابرِ ولكنْ أليم مِثلُ ما قال ربُّنا ... به الجِلدُ إن يَنْضَجْ يُبدَلْ بآخِرِ غدًا يعلمون الصادقَ القولَ منهما ... إذا لَم يتوبوا اليومَ عِلمَ مُباشِرِ ويَبدُو لكم غيرُ الذي يَعِدُونكم ... بأن عذابَ الله ليس بضائِرِ ويْحكم رب العرش بيَّنَ لمحمدٍ ... ومَن سَنَ عِلمَ الباطِل المُتهاتِرِ ومَن جاء بدينٍ مُفترًى غيرِ دينهِ ... فأهلَكَ أغمارًا به كالأباقِرِ فلا تَخدَعَنَّ المسلمين عن الهدى ... وما للنبيِّ المصطفى من مآثِرِ ولا تؤثِروا غيرَ النبي على النبيِّ ... فليس كنورِ الصبحِ ظَلماءُ الدياجِرِ دَعُوا كلَّ ذِي قولٍ لقولِ مُحَمَّدٍ ... فما آمِنٌ في دينِه كمُخاطرِ وأمَّا رِجالاتُ "الفصوص" فإنهم ... يَعُومون في بحرٍ للكفر زاخرِ إذا راح بالريح المتابِعُ أحمدَا ... على هَديِه راحُوا بصفقةِ خاسِرِ سيَحكي لهم فرعونُ في دارِ خُلدِهِ ... بإسلامِهِ المَقبولِ عند التجاورُ ويا أيها الصوفْي خَفْ من "فصوصه" ... خواتِمَ سَوء غيرها بالخناصِرِ وخُد بنهجِ سَهلٍ والجُنيدِ وصالِحٍ ... وقومٍ مَضَوا مِثلَ النجوم الزواهِرِ على الشرع كانوا ليس فيهم لوِحدةٍ ... ولا لحلولِ الحقِّ ذكرٌ لذاكِرِ رجالٌ رأوا ما الدارُ دار إقامةٍ ... لقومٍ ولكن بلغةٌ للمسافرِ

كلام ابن عربي في الأخذ عن الله مباشرة بدون وساطة النبي - صلى الله عليه وسلم -

فأحيَوا لياليَهم صلاةً وبيَّتوا ... بها خوفَ ربِّ العرشِ صومَ البواكِرِ مَخافَةَ يومٍ مستطيرٍ بشرِّه ... عَبوسِ المُحيَّا قمطريرِ المظاهِرِ فقد نَحِلَتْ أجسادُهم وأذابَها ... قيامُ لياليهم وصومُ الهواجِرِ أولئك أهلُ الله فالزَمْ طريقَهم ... وعُدْ عن دواهي الابتداعِ الكوافِرِ (¬1) • كلام ابنِ عربيٍّ في الأخذ عن الله مباشرةً بدون وساطةِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: ° قال العلامة المَقْبَليُّ - رحمه الله - في "العَلَم الشامخ" (557) ما نصه: "ومِن نصوصهم على الأخذِ عن الله بجميع الشريعة بدون واسطةِ النبي: قولُ ابن عربي في "الفصوص" قال: "دقيقةٌ لا يعلمُها إلاَّ أمثالُنا، وذلك في أخذِ ما يَحكُمون به مما شُرع للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فالخليفةُ عن الرسول يأخذُ الحُكمَ بالنقلِ عنه - صلى الله عليه وسلم -، وبالاجتهادِ الذي أصلُه أيضًا منقولٌ عنه - صلى الله عليه وسلم -، وفينا مَن يأخذُه عن الله تعالى، فيكونُ خليفةً عن الله بعينِ ذلك الحُكم، فتكونُ المادةُ له من حيثُ كانت المادةُ للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهو في الظاهرِ متَبعٌ لعدم مخالفته في الحُكم، كعيسى - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل فيَحكمُ كالنبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90] ". ° إلى أن قال هذا المارق الزنديق: "وكذلك أَخذُ الخليفة عن الله غيرُ ما أَخذه منه الرسولُ، فنقول فيه بلسانِ الكشف: "خليفة الله"، وبلسان ¬

_ (¬1) "العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين" للفاسي المكي (2/ 192) - نشر محمد سرور الصبان - مكة المكرمة، و"كتاب ابن عربي الصوفي في ميزان البحث والتحقيق" لعبد القادر بن حبيب الله السندي (ص 84 - 86) - نشر دار البخاري - بريدة.

الظاهر: "خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، ولهذا مات رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وما نصَّ بخلافةٍ عنه إلى أحد، ولا عَيَّنه لعِلمِهِ أنَّ في أُمتِهِ مَن يأخذُ الخلافةَ عن ربِّه فيكونُ خليفة عن الله مع الموافقة بالحُكم المشروع، فلما عَلِم ذلك - صلى الله عليه وسلم - لَم يُحجِّرِ الأمرَ، فللَّه خلفاءُ في أرضه يأخذون عن معدِنِ الرسول - صلى الله عليه وسلم -" .. " اهـ. ° قال العلامة عبد القادر بن حبيب السِّندي: "قلت: هذا نصُّ كلام ابن عربي نقله عن "فصوصه"، وكلامُه هذا واضحٌ ومُبيِن في الإِلحاد والزندقة والكفرِ بجميع معانيه الظاهرةِ والباطنة، وكما أنه صرح أن الخليفةَ يأخذُ عن الله غيرَ ما أَخَذه منه الرسولُ - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يُبَيِّنُ ويوضِّح ما عندهم من الكفرِ والإِلحاد، ثم يَنسبِونه إلى الله تعالى ظُلمًا وعدوانًا وبهتانًا، وإلى هذا يشير قول ربنا جل وعلا في عِدَّةِ سُورٍ قرآنية، ومنها قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93] ". هكذا فَصَّل القرآن الكريم ووضَح وبيَّن كُفْرَهم وزَندقتَهم وإلحادَهم في القول على الله كذبا وزورًا وبهتانًا بجميع ألوانه وأشكاله وأنواعه دون حياءٍ ولا خجل .. والله أعلم" (¬1). ¬

_ (¬1) كتاب "ابن عربي الصوفي" (135 - 136).

تفضيل نفسه على الأنبياء

* تفضيل نفسِهِ على الأنبياء: ° ثم قال العلامة الشيخ صالح المَقْبَلي في "العَلَم الشامخ" (ص 555) في ابن عربي هذا: "ولَمَّا كَثُر تبجُّحُ ابنِ عربيٍّ وادعاؤه لِمَا فوق الفوق، كما يَخاف المؤمنُ من إملاءِ كلامِه الخَسْفَ -نعوذ بالله من الضلال-، ولَمَّا خاف من التشنيع ونُفْرةِ مَن بَقِيَ فيه رائحةٌ من الإسلام مِن حظِّ ما رَفَع الله من درجاتِ الأنبياء، قال ما معناه: "إنَّ رَفْعنَا على الأنبياءِ تابعٌ لرفعِ مَن نحنُ تَبَعٌ له، ومثاله: أن يكون للمَلِكِ وزيرٌ فوقَ جميع رعيته، وهذا الوزيرُ يَستخلف وزراءَ، فإذا جاء المستخلَفون ورَفَع مقامَهم على سائرِ الأمراء وأدخَلَهم حَضْرَته -والأمراءُ خارجَ الحضرة- كان ذلك مناسبًا". وهذا المثالُ إنما قُرِّر لرِفعةِ أصحابه على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، على أنهم متحجِبون بذلك لفظًا ومعنى" اهـ (¬1). * قولُ ابنِ عربي في الولايةِ والنبوة: ° ثم قال العلاَّمة المَقْبَلي في "العَلَم الشامخ" (ص 558) -مشيرًا إلى أنَّ ابن عربي كان يُفضِّلُ الولايةَ على النبوة-: "إذ قال -عامَلَه الله تعالى بما يستحقه، كما نُقل عنه من "فصوصه" في "الكلمة العزيزية"-: واعلمْ أن الولايةَ هي الفَلَكُ المُحيطُ العامُّ، ولهذا لم تنقطع، ولها الإنباءُ العام، وأما نبوة التشريع والرسالةِ فمنقطعةٌ، وفي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - قد انقطعت، فلا نبيَّ بعدَه -يعني مشرِّعًا-, أو مشرِّعًا له, ولا رسول وهو المشرِّع" .. إلى قوله: "واللهُ لم يَتَسَمَ بنبْيٍّ، ولا رسول، وتسمَّى بالولي" .. إلى قوله: "إلاَّ أن الله ¬

_ (¬1) كتاب "ابن عربي الصوفي" (134).

لطيفٌ بعباده، فأبقى لهم النبوةَ العامةَ التي لا تشريعَ فيها .. "، إلى سائر ما ذكره من هذا النمط من الحطِّ على الأنبياء، حتى في الكتاب المذكور: "أنه لا شيءَ لهم -أي: الأنبياء- من النظر، بل عقولُهم ساذجة"، قال: "يدلُّك على سذاجتها قولُ عُزير: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259]، ليس لهم إلاَّ ما يتلقَّونه من المَلَك ثم يُلقُونه" (¬1) .. " اهـ. ° قال عبد القادر السندي: "قلت: هذا الكفرُ الصريح لمَ يصدُرْ عن أحدٍ من الفِرَقِ الكفريةِ الضَّالَّة مِثلُه إلاَّ هذا الزنديقِ المارقِ، كما ترى قولَه واضحًا جليًّا -الذي نقله العَلاَّمة المَقْبَلي من "فصوصه"- بهذه الجُرأة الكافرة الفاجرة التي اتَّسم بها في تفضيلِه الولايةَ التي في نظرِه ونظرِ أتباعِه -أهلِ الزيغ والفساد- بذلك الدليلِ الباطل الذي ساقه في تفضيل الولاية على النبوة، ثم طَعنِه في الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام بقوله: "إن عقولَهم ساذجة". ربما يَقصِدُ ابنُ عربي من كلمتِه الخبيثة مشيرًا إلى الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام - والتي نَقَلها عن "فصوصه" الكفريِّ والإِلحادي العلامة المَقْبَلي في "العَلَم الشامخ": "لا شيءَ لهم من النظرِ، بل عقولُهم ¬

_ (¬1) لعن الله من يقول: إن عقول الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - والرسل ساذجة، بل إنهم أرفع وأعظم منزلة وأسمى مكانة أعطاهم الله تعالى إياهم، وقد اختارهم واصطفاهم ربهم جل وعلا على حمل هذه الأمانة المقدسة التي أدَّوها بالوفاء والتمام والشمول لما علم منهم جل وعلا بعلم أزلي أبدي صفاء العقول والضمائر ونقاء قريحتهم الفطرية، لم يسبق أحد إليها قبلهم ولا بعدهم، مع تفضيله إياهم على سائر الكائنات، وابن عربي هو القائل: "وخُضنا بحرًا وقف الأنبياء بساحله .. ".

ساذجة، فقال: يدلُّ على سذاجتها قولُ عُزير .. " إلخ. وقد قَصَد منها بأن عقولَ الأنبياء فارغةٌ وخاليةٌ من أيِّ فقه أو رُشدٍ أو عقلٍ أو إدراكٍ وغيرِ ذلك، وهذا هو الكفرُ الصريحُ، والإلحادُ الظاهرُ، والزندقةُ العلمانية اللادينية التي اتصف بها هذا الرجل. وأما قوله واستدلالُه بأن الله لَم يَتَسَمَّ بنبيٍّ ولا رسول، وتسمَّى بالولي، فهذا يدلُّ على تفضيل الولي على النبي والرسول، وهو وليٌّ -حسب زعمه-. ° فأقول لهؤلاء الذين قد يتمسَّكون باستدلاله هذا على ما ذهب إليه من الباطل والفساد والتحريفِ والتبديل والتغيير لمعاني الكتاب الكريم -كما نُقل سابقًا من قول العَلامة المِزِّي وغيره من أئمة السنة والحديث والتفسير في هذا التحريف الخطير-: لقد استَعمل ربنا -عز وجل- في كتابه الكريم "الولي" بمعنيين: 1 - الولي: هو الذي يتولى اللهَ سبحانه وتعالى بامتثالِ أوامرِهِ واجتنابِ نواهيه التي جاءت على لسانِ نبيِّه محمد - صلى الله عليه وسلم - كتابًا وسُنةً، وقد وَضَّح القرآنُ الكريم في عِدَةِ آياتِه وسُوره هذا المعنى، ومنها قوله تعالى في سورة "البقرة" إذا قال -جل وعلا-: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257]، فهذه الآية الكريمة جَمَعت المعنيين للوليِّ الذي زَعَمه ابنُ عربي بأن الله تسمَّى به -أي: بالولي وحده-، ومع أن هذْا الأمرَ واضحٌ جَلِيٌّ لا يَخفى على أحدٍ إلاَّ مَن

كان جاهلاً بعيدًا عن العلم، أو كان زنديقًا ملحِدًا معاندًا ومكابرًا، فالله تعالى قال في هذه الآية: بأنه "وليٌّ للذين آمنوا" سواء كانوا أنبياءَ أو رسلاً، أو كانوا صالحين أو صديقين أو شهداء، وحسن أولئك رفيقًا، ثم ثَنَّى اللهُ تعالى في هذه الآية الكريمة، إذ قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ}، فالكافر وليُّه الطاغوتُ - وهو الشيطان. * ومِن هنا عرفنا تمامًا بأنَّ الوليَّ يُستعمل في المعنيين معًا: "وليٌّ للَّه تعالى"، و"ولي للشيطان"، وهكذا الوَلايةُ التي زعمها ابنُ عربي، وهي ولايةُ الشيطان لمن تمسَّك بالشيطان خُلقًا وعقيدةً وكفرًا وشركًا وانحرافًا وإلحادًا وزندقةً -وغير ذلك من المعاني السيئة-، وأصرحُ من هذه الآية الكريمة ما قاله -جلا وعلا- في سورة "الجاثية" إذ قال: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18 - 19]. * وقد سَبَق أن قال -جلا وعلا- في سورة النساء: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ الله وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء: 116 - 119]، والشاهد في هذه الآيات الكريمات وهو قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ

عودة إلى كلام المقبلي في ابن عربي

اللَّهِ .. } الآية. وهنا في هذه الآيةِ الأخيرة قد نَسَب الله تعالى الولايةَ للشيطان اللعين فابنُ عربيٍّ قد اتخذ الشيطانَ وليًّا دونَ أن يشعر به أو يُحِسَّ، وقد فَقَد عقله ورُشدَه وبصيرته في هذا التحريف أو المغالطة كما ترى واضحًا جليًّا. * وهكذا وَضَّح القرآن الكريم هذا المعنى على لسانِ نبيِّه وخليلِه إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام، كما في سورة "مريم"، إذ قال -جلا وعلا-: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ منَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 45]. فكلُّ من يخالفُ طريقَ الحقِّ والصواب والرشدِ -وهي طريق سائر الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام إلى دعوتهم إلى توحيد الله تعالى الذي خالفه هؤلاء الزنادقة-، فسمَّاه الله تعالى وليًّا للشيطان اللعينِ أو الطاغوت، فسَمَّى الشيطانَ وليًّا أيضًا لأولئك الذين يتبعونه في غَيِّه وضلاله وكفرِه وإلحاده بجميع معانيه الظاهرة والباطنة، فلم يَبْقَ أيُّ إشكالٍ أثاره ابنُ عربي كما نقل عن "فصوصه" -الخبيث- العلامةُ الشيخُ صالح المَقْبَلي اليماني في "العَلِم الشامخ" كما مضى نقله وبيانه .. واللَّه أعلم" (¬1). * عودةٌ إِلى كلامِ المَقْبَلي في ابن عربي: ° ثم قال العلامة المَقبَليُّ في ابن عربي هذا في "العلم الشامخ" (ص 558): "وعلى الجملة، فقد رَفع أعداءَ الأنبياء عليهم السلام، لتصويبه السامريَّ، وتخطئة هارون - عليه الصلاة والسلام -، وكذلك قومُ ¬

_ (¬1) "كتاب ابن عربي" (ص 136 - 139).

نوح وقومُ هود، وأبو جهل وأصحابه، فتتبعْ كتابَه تعلمْ ما قلنا -إن كنت من المسلمين-. ° وقد حَط في أول الكتاب على الملائكةِ أشدَّ الحط، ثم دار كلامه إلى رَفعِ أهل نِحلتِه، ثم رَفعَ نفسه بأنه "الختامُ الذي لا يستضيءُ الأنبياءُ والأولياءُ إلاَّ مِن مِشكاته، وما بَقِي إلاَّ اللهُ سبحانه وتعالى بعد، فأخذ ينازعُه في مُلكِه"، فادَعى أنه فوَضه في العالمين، ثم في أُلوهيته، فإنه تقدس ليس يستقل بكماله، فقال في "المقالة الإبراهيمية" كلامًا فظيعًا، ثم عَقَده بقوله: فيَحمَدُني وأحْمَدُه ... ويَعبُدُني وَأعْبُدُهُ ففي حالٍ أُقرِّبهُ ... وفي الأحوالِ أجحَدُهُ فيعرفُني وأُنكِرُهُ ... وأعرفُهُ فأشهَدُهُ فأنى بالغِنَى وأنا ... أُساعِدُه وأسعِدُهُ لذاك الحق أوجَدَني ... فأعْلَمُه فأُوجِدُهُ بذا جاء الحديثُ لنا ... وحُقِّق فِي مَقصِدُهُ ° وانظر قوله: "فأنى بالغنى"، أي: من أين لله الغنى، تعالى الله عما يقول الكافرون علوًا كبيرًا. اهـ. ° قال الشيخ عبد القادر السندي: "قلت: هذا كلامُ ابنِ عربي الزنديق، نَقَله عن "فصوصه" الكفرية العلامة الشيخ صالح المَقْبَلي -رحمه الله تعالى- في كتابه "العَلَم الشامخ" وهو ثقةٌ وفَهِمٌ وعَدْلٌ فيما ينقله عن هؤلاءِ الملاحدة والزنادقة، وانظر بدقةِ وتعمُّق في هذا الكلام الكفري في

كفر ابن عربي لحكمه بإيمان فرعون وتفضيله السامري على هارون، وتصويبه قول فرعون {أنا ربكم الأعلى}

أبياته ونثره، وهو نصٌّ وظاهر على الكفر والإلحاد لَم يَسبق له أحدٌ من الكفار الأوَّلين من اليهود والنصارى والمجوس -عليهم لعائن الله تعالى- في هذا الكفرِ فيما علمتُ، وعَلِمَ معي آلاف من المسلمين في مشارقِ الأرض ومغاربها .. إلى أن قال العلاَّمة المَقْبَلي في "العَلَم الشامخ" (559): وحاصلُ زعمِه الخبيثِ احتياجُ الباري تعالى إلى المُظهِر، وإنما يتعلَّقُ عِلمه مثلاً بمعلومٍ على ما المعلوم عليه في نفسه .. فالحكمُ عليه ونحو ذلك، وهو مُصرِّحٌ بهذه الجهالات متبجِّح بها، وحاصلُها مبارزةُ الله بأنه يحتاجُ إليه، مع تصريحه أيضًا بأن العالَم قديم، فيكونُ مستغنيًا عن العالَم، إذ لا ظُهورَ له، فلا يَحتاجُ إلى مُظهِر كما كان في حقِّه تعالى، ومقالة هذا المريد ولوازمِها السخيفةِ أطولُ وأوسعُ، وعباراته أقطعُ ممَّا يَحكي الحاكي وأشنع، فانظرها -إن شئت- وطَهِّرْ قلبَك من دُخَانِها بكلمةِ الإسلام: أشهد أنْ لا إلهَ إلاَّ الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1) اهـ. * كفرُ ابنِ عربي لحُكمه بإِيمانِ فرعونَ وتفضيله السامِرِيٌّ على هارونَ، وتصويبِه قولَ فرعون {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}: ° قال ابنُ عربي في "فصوص الحكم" -وهو الكُفرُ ظاهرًا وباطنًا، وهو واللَّهِ فصوصُ الكفر-، قال بعد ذِكرِ أخذِ فرعونَ لتابوت موسى - عليه السلام - وأنه أراد قتلَه، وأن امرأته - رضي الله عنها - قالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ}، فبه قرَّت عينها بالكمال الذي حَصَل لها كما قلنا قال: "وكان قرَّة عينٍ لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق، فقَبَضه طاهرًا مُطَهَّرًا، ليس فيه شيءٌ ¬

_ (¬1) "كتاب ابن عربي الصوفي" (ص 140 - 141).

من الخَبَث؛ لأنه قَبَضه عند إيمانِه قبل أن يكتسبَ شيئًا من الآثام، والإسلامُ يَجُبُّ ما قَبْلَه، وجَعَله آيةً على عِنايته سبحانه وتعالى بمَن شاء، حتى لا ييأسَ أحدٌ من رحمة الله، فإنه {لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] " (¬1). * وكلُّ مَن شمَّ رائحة العِلم من المسلمين -أو غيرهم- يعلمُ كُفرَ فرعونَ بالمتواتر من كتاب الله -عز وجل-، وقولِ الله تعالى في دعاء موسى - عليه السلام -: {فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ} الآية [يونس: 88] مع قوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} الآية [يوسف: 89]، وقوله تعالى مُنِكرًا على فرعون {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91]. * وقوله -تعالى-: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} [المؤمنون: 48]. * وقوله -تعالى-: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس: 83]. * وقوله -تعالى-: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 43]. • وأمّا السنة: فعن ابنِ عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قال جبريلُ: لو رَأَيْتَني وأنا آخِذٌ مِنْ حَمَاءِ البَحْرِ، فَأدُسُّهُ في فِيْ فِرْعَونَ، مخافةَ أن تُدْرِكَهُ الرحْمَة" (¬2). ¬

_ (¬1) "فصوص الحكم" (ص 201)، وانظر "مصرع التصوف" أو "تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي" (ص 127 - 128) لبرهان الدين البقاعي - تحقيق عبد الرحمن الوكيل. (¬2) صحيح: رواه أحمد، والحاكم عن ابن عباس، ورواه الطيالسي، والترمذي، وابن جرير والخطيب وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4353).

فرعون عند ابن عربي رب موسى وسيده

* فرعونُ عند ابن عربي ربُّ موسى وسيِّده: ° قال ابنُ عربي في "فصوص الحكم": "وهنا سِرٌّ كبير، فإنه -أي موسى - عليه السلام - أجاب بالفعل لمن سألوه عن الحدِّ الذاتي -أي: بقوله: وما ربُّ العالمين؟ -، فجعل الحدَّ الذاتي عينَ إضافتِه إلى ما ظَهَر به من صُورِ العالم، أو ما ظَهَر فيه مِن صُور العالم (¬1)، فكأنه قال في جواب قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] قال: الذي تظهرُ فيه صورةُ العالمين مِن عُلوٍّ - وهو السماء، وسُفْل -وهو الأرض- {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 24] " (¬2). ° ثم قال: "فلمَّا جَعَل موسى المسؤولَ عنه عين [صور] العالَم، خاطَبَه فرعونُ بهذا السؤال -والقومُ لا يشعرون-، فقال له: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29]، والسين في "السِّجن" من حروف الزوائد، أي: لأسترنَّك، فإنك أجبتَ بما أيَّدْتَني به، أْن أقولَ لك مثلَ هذا القول، فإن قلت لي: فقد جهلتَ يا فرعونُ بوعيدك إيايَ -والعين واحدة- فكيف فرَّقت؟ فيقول فرعونُ: إنما فرَّقتُ المراتبَ العينَ، ما تفرَّقت [العين] ولا انقسمت في ذاتها، ومرتبتي الآن التحكمُ فيك يا موسى بالفعل، وأنا أنت بالعين، وغيرُك بالرُّتبة" (¬3). ° ثم قال: "ولَمَّا كان فرعون في مَنصبِ التحكُّم صاحبَ الوقت , وأنه الخليفةُ بالسيف، وإن جار في العُرف الناموسيِّ، لذلك قال: {أَنَا ¬

_ (¬1) يفتري هذا الزنديق العربيد على موسى بأنه أجاب أن الله عين كل شىء. (¬2) "فصوص الحكم" (ص 208). (¬3) نفس المصدر السابق (ص 209).

رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] أي: وإنْ كان الكلُّ أربابًا بنسبةٍ ما، فأنا الأعلى منهم، بما أُعطِيتُه في الظاهر من التحكم فيكم، ولمَّا عَلِمَتِ السحرةُ صِدقَه فيما قاله، لم يُنكروه، وأقرُّوا له بذلك، فقالوا له: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72] فالدولةُ لك، فصحَّ قوله: "أنا ربكم الأعلى"، وإنْ كان عينَ الحق، فالصورةُ لفرعون، فقطع الأيدي والأرجل، وصلَّب بعين حق في صورة باطل .. " (¬1). ° ويقول ابن عربي في تعليله لإنكار موسى على السامِري: "وكان موسى يُربِّي هارونَ - عليهما السلام - تربيةَ عِلم -وإنْ كان أصغَرَ منه في السنِّ-، ولذلك لما قال له هارونُ ما قال، رجع السامريُّ، فقال له: {فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} [طه: 95]، يعني: فيما صنعتَ من عُدُولِك إلى صورةِ العِجْل على الاختصاص، وصُنْعِك هذا الشَّبَح من حلِيَّ القوم، حتى أخذتَ بقلوبهم من أجل أموالهم (¬2)، وليس للصور بقاءٌ، فلا بدَّ من ذهابِ صورة العِجل -لو لم يستعجل موسى بحرقه-، فغلبت عليه الغَيرة، فحرقه، ثم نَسف رَمَادَ تلك الصورة في اليمِّ نَسْفًا، وقال له: انظر إلى إلهك، ¬

_ (¬1) "فصوص الحكم" (ص 210). (¬2) "يريد هذا الزنديق بتصويب عبادة العجل، فيزعم أن السامري لم يخطئ إلا في أنه فهم أن الذات الإلهية تعيَّنت في العجل وحده، فدعا قومه إلى عبادته لهذا، على حين أن كل شيء -لا العجل وحده- هو الله!! فلو أن السامري كان عارفًا مكملاً لأمر قومه بعبادة كل شيء مع عبادة العجل!! بيْدَ أن السامري عند ابن عربي أعرف بالحقيقة من هارون، إذ علم -وهارون جهل!! - أن العجل إله حق يجب أن يُعبد؛ لأنه مجلى إلهي!! .. " قاله الشيخ عبد الرحمن الوكيل في هامش (ص 124) من "تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي".

فسماه (¬1) "إلهًا" بطريق التنبيه، للتعليم؛ لِمَا عَلم أنه بَعضُ المجالي الإلهية (¬2)، {لَنُحَرِّقَنَّهُ} فإن حيوانية الإِنسانِ لها التصرُّفُ من حيوانية الحيوان .. " (¬3). ° قال الشيخ زَينُ الدين العراقي: "قوله في قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]: أنه صح قولُه ذلك، مستدلاًّ عليه بأنَّ السَّحَرة صدَّقوه، كَذِبٌ وافتراء على السحرة، فلقد كَذَّبوه، وخالفوه، ودعواه كاذبة، وبها أخذ اللهُ فرعونَ وأهلكه، فقال تعالى حكايةً عنه: {فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} [النازعات: 23 - 25] ". ° ثم قال: "ولا شك أن مَن صَحَّ عنه أنه قال هذا؛ واعتقدَه مع وجود عقلِه، وهو غير مُكْرَه، ولا مُجْبَرٍ الإجبار المُجَوِّزَ للكُفر، فهو كافر، ولا يُقبل منه تأويلُها على ما أراد، ولا كرامة، كما قدمنا ذِكرَه، وهذا ما لا نعلمُ فيه خِلافًا بين العلماء بعلومِ الشريعة المطهَّرة في مذاهبِ الأئمةِ الأربعة، وغيرهم من أهل الاجتهاد الصحيح .. والله أعلم" (¬4). ° قال ابن عربي في "فصوص الحكم" (ص 192): "وكان موسى - عليه السلام - أعلمَ بالأمرِ من هارون؛ لأنه عَلِم ما عَبَده أصحابُ العِجل، لِعِلْمه بأن الله قد قضى ألاَّ نعبُدَ إلاَّ إيَّاه، وما حَكَم الله بشيءٍ إلاَّ وقع، فكان عَتْبُ ¬

_ (¬1) الضمير راجع إلى عجل السامري. (¬2) الضمير راجع إلى عجل السامري. (¬3) "فصوص الحكم" (ص 192). (¬4) "مصرع التصوف" (ص 134).

تكفير شيخ الإسلام العراقي لابن عربي

موسى أخاه هارون؛ لَمَّا وقع الأمرُ في إنكاره وعدم اتساعه، فإنَّ العارفَ مَن يرى الحقَّ في كلِّ شيءٍ، بل يراه عينَ كلِّ شيء". * تكفير شيخ الإِسلام العراقي لابن عربي: ° قال الشيخ زين الدين العراقي: "هذا الكلامُ كُفْرٌ مِن قائله منِ وجوه: أحدها: أنه نَسَب موسى - عليه السلام - إلى رضاه بعبادةِ قومه للعجل. الثاني: استدلالُه بقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإِسراء: 23] على أنه قَدَّر أن لا يُعبَدُ إلاَّ هو، وأن عابدَ الصنم عابدٌ له. الثالث: أن موسى - عليه السلام - عَتَبَ على أخيه هارونَ - عليهما السلام - إنكارَه لِمَا وقع، وهذا كذبٌ على موسى - عليه السلام -، وتكذيبٌ للَّهِ فيما أَخبَرَ به عن موسى من غَضبهِ لعبادتهم العجلَ. الرابع: أن العارفَ يَرى الحق في كلِّ شيء، بل يراه عَينَ كلِّ شيء، فجَعَل العجلَ عينَ الإِله المعبود. فلْيَعْجَب السامع لمثلِ هذه الجرأة التي تصدرُ ممن في قلبه مثقالُ ذرَّة من إيمانْ" (¬1). * تحريفُ ابنِ عربي لآيات الله: وانظر إلى زنديقِ الصوفية وهو يُكَذِّب صريحَ القرآن ويُحَرِّفه: ° قال ابن عربي في "فصِّ حِكمةٍ أحديةٍ في كلمةٍ هُودية": {مَا مِنْ ¬

_ (¬1) "مصرع التصوف" للبقاعي (ص 121 - 122).

دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]: "فكلُّ ماشٍ [فعلى] صراطِ الربِّ المستقيم، فهم غيرُ مغضوب عليهم من هذا الوجه، ولا ضالُون، فكما كان الضلالُ عارضًا، فكذلك الغضب الإِلهي عارضٌ، والمآل إلى الرحمةِ التي وسعت كل شيء" (¬1). ° قال الشيخ عبد الرحمن الوكيل: "وابن عربي يُكذِّب بهذا البهتانِ قولَه سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} وغيرَها من الآيات، فالقرآن يقرِّر أن الناسَ بالنسبةِ إلى الحقِّ ثلاثة أقسام: قومٌ عَرَفوا الحق وآمنوا به، وهم الذين وَصَفهم الله بأنهم على صراطٍ مستقيم. وقومٌ عرفوا الحقَّ وأعرضوا عنه كُفْرًا وجحودًا، وهم المغضوبُ عليهم (¬2). وقومٌ لم يحاوِلوا معرفة الحقِّ فلم يهتدوا، وهم الضالُّون (¬3). وقد خَصَّ الله الفريقَ الأول برضاه ورحمتِه، والآخَرين بغضبه ولعنته، ولكن ابنَ عربي يجعلُ الجميعَ سواءً، هادفًا من وراءٍ ذلك إلى تقريرِ أسطورةِ "وحدة الأديان" التي تَزعمُ أن الأديانَ -سماوِيَّها وَوضعِيَّها- واحدٌ، وأن الحقَّ والهدى فيها جميعًا، لا يختصُّ بها دينٌ عن دين، فالشِّركُ عينُ ¬

_ (¬1) "فصوص الحكم" (ص 106). (¬2) وهم اليهود كما جاء في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) وهم النصارى كما جاء في الحديث الصحيح.

التوحيد، والمجوسيةُ عين الإسلام، فعابدُ العِجلِ عندَهم كعابدِ الله، يقول لك الصوفية (¬1): كنْ مشركًا، كن بوذيًّا، كن يهوديًّا، فأنت على صراط مستقيم". (¬2) ° وانظر إلى تحريف هذا الزنديق الفاحشِ لكلام الله -عز وجل-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 6، 7]. ° قال أبو زرعة العراقي: "سمعتُ والدي - رحمه الله - غيرَ مرةٍ يقول: سمعتُ قاضي القضاة برهان الدين بنَ جَماعة يقول: نقلتُ من خطِّ الحافظ جمالِ الدين المِزِّي قال: نقلتُ من خطِّ ابن عربي في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية: سَتَروا محبَّتهم، {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} استوى عندهم إنذارُك وعدمُ إنذارك، لِمَا جَعلنا عندهم، {لَا يُؤْمِنُونَ} بك ولا يأخذون عنك، إنما يأخذون عنَّا، {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، فلا يعقِلون إلاَّ عنه، {وَعَلَى سَمْعِهِمْ}، فلا يسمعون إلاَّ منه، {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} فلا يُبصِرون إلاَّ منه، ولا يلتفتون إليك وإلى ما عندك بما جَعلناه عندهم، وألْقَيْنا إليهم، {وَلَهُمْ عَذَابٌ}، من العذوبة {عَظِيمٌ} انتهى" اهـ. ¬

_ (¬1) يعني فلاسفة الصوفية كابن عربي وابن الفارض والعفيف التلمساني القائلين بوحدة الوجود أو الاتحاد وليس كل الصوفية. (¬2) هامش (ص 88) من "مصرع التصوف".

ذم ابن عربي لنبي الله نوح - عليه السلام -

° وكلام هذا الزنديق يخالفُ تفسيرَ ابنِ عباسٍ لهاتين الآيتيْن؛ إذ قال - رضي الله عنهما -: "نزلت في اليهود الذين كانوا بنواحي المدينة على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توبيخًا لهم في جُحودهم نبوةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبِهم به مع عِلمِهم به ومعرفتِهم بأنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافةً". ° وساق ابنُ جرير بإسنادِه عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن صَدْرَ سورة البقرة إلى المئة منها نزل في رجالٍ سمَّاهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبارِ اليهود ومن المنافقين من الأوسِ والخزرج" (¬1). * ذمُّ ابنِ عربيٍّ لنبي الله نوح - عليه السلام -: ° قال ابنُ عربي: "لو أنَّ نوحًا جمع لقومه بين الدعوتيْن لأجابوه، فدعاهم جِهارًا، ثم دعاهم إسْرارًا، ثم قال لهم: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] وقال: { .. إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا}، وذَكَر عن قومه أنهم تصامَمُوا عن دعوته، لِعِلمهم بما يجبُ عليهم من إجابةِ دعوته، فعِلمُ العلماءِ بالله ما أشار إليه نوحٌ - عليه السلام - في حقِّ قومِه من الثناءِ عليهم بلسانِ الذمِّ (¬2)، وعَلِم أنهم إنما لَم يُجيبوا دعوته لِمَا فيها من الفرقان، والأمرُ قرآنٌ لا فرقان، ومَن أُقيم في القرآنِ لا يُصغِي إلى الفرقان، وإنْ كان فيه، فإن القرآنَ (¬3) يتضمنُ الفرقانَ، والفرقانَ ¬

_ (¬1) كتاب "ابن عربي الصوفي" (ص 81، 82)، و"تفسير ابن جرير" (1/ 108 - 115). (¬2) لعن الله القائل هذا، فهو بهذا يذهب إلى ثناء نوح - عليه السلام - على قومه بعبادتهم للأوثان!!. وفي هذا من الكفر بالله ما فيه .. فحاشا لنبي الله نوح - عليه السلام - أن يفعل هذا، وقاتل الله ابن عربي الأفاك الزنديق. (¬3) يريد ابن عربي بالقرآن: الجمع بين الحق والخلق، أي: إدراك أنهما وجهان لحقيقة =

لا يتضمَّن القرآن، ولهذا ما اختصَّ بالقرآن إلاَّ محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، فـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} يَجمع الأمرين في أمر واحد، فلو أن نُوحًا أتى بمثل هذه الآية لفظًا أجابوه، فإنه شَبَّه ونَزَّه في آية واحدة، بل في نصف آية، ونوحٌ دعا قومه "ليلاً" من حيث عقولهم، ورُوحانيَّتهم، فإنها غَيبٌ، و"نهارًا" دعاهم أيضًا من حيث ظاهرِ صورِهم وحسِّهم، وما جمع في الدعوة مِثل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فنَفَرت بواطنهم لهذا الفرقان [فزادهم] فِرارًا، ثم قال عن نفسه: إنه دعاهم ليغفر لهم، لا ليكشفَ لهم، وفهِموا ذلك منه - صلى الله عليه وسلم -، لذلك {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ}، وهذه كلُّها صورةُ السِّتر التي دعاهم إليها، فأجابوا دعوتَه بالفعل، لا بلبَّيْك، ففي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} إثبات المِثْل ونَفيه، وبهذا قال عن نفسه - صلى الله عليه وسلم -: "إنه أوتي جوامعَ الكَلِم"، فما دعا محمدٌ قومه ليلاً ونهارًا، بل دعاهم ليلاً في نهار، ونهارًا في ليل، فقال نوحٌ في حكمته لقومه: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11]، وهي المعارف العقليَّةُ في المعاني والنظرِ الاعتباري، {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ}، أي: بما يَميل بكم إليه، فإذا مال بكم إليه، رأيتم صورتَكم فيه، فمن تَخيَّل منكم أنه رآه فما عَرَف، ومَن عَرَف منكم أنه رأى نفسه، فهو العارفُ، فلهذا انقسم الناس ¬

_ = واحدة سمِّيت حقًا باعتبار باطنها، وخَلْقًا باعتبار ظاهرها. ويريد بالفرقان: التفرقة بينهما. ولهذا يبهت نوحًا عليه بأنه جهل حقيقة الدعوة إلى الله سبحانه، أو أنه مكر بقومه في دعوته؛ إذ دعاهم إلى الإيمان بالحق مجردا عن الخلق. "قاله الشيخ عبد الرحمن الوكيل هامش (ص 46) من "مصرع التصوف" للبقاعي.

إلى غيرِ عالِم، وعالم، {وَوَلَدُهُ} وهو ما أنتجه لهم نظرُهم الفكريُّ، والأمرُ موقوفٌ عِلْمُه على المشاهَدة، {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} لأن الدعوةَ إلى الله تعالى مَكْر بالمدعُوِّ؛ لأنه ما عدِم من البداية، فيُدعَى إلى الغاية {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} فهذا عين المكر" (¬1). ° قال الإمام البقاعي: "فهذا، وأشكالٌ من قوله -كما يأتي في الفصِّ اليُوسفي- يُدَنْدِن به على تصحيحِ قولِ الكفار: "إن القرآن سحر"، ولا يقدر على التصريح به" (¬2). ° ثم يقولُ ابن عربي: "فقالوا (¬3) في مكرهم: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}، فإنهم إذا تركوهم جَهِلوا من الحق على قَدْرِ ما تركوا من هؤلاء، فإن للحقِّ في كلِّ معبودٍ وجهًا يعرفُهِ مَن عرفه، ويجهلُه مَن جَهِله في المحمديِّين: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإِسراء: 23]، أي: حَكَم (¬4)، فالعالِمُ يعلمُ مَن عَبَد، وفي أيِّ صورةٍ ظَهَر حتى عبد، وإن التفريقَ والكثرة كالأعضاءِ في الصور المحسوسة، وكالقوى المعنويَّة في الصورة الرُّوحانية، فما عُبد غيرُ الله في كلِّ معبود" (¬5). ° وقال ابن عربي الزنديق في "الفصِّ النوحي" أيضًا: " {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا}، أيْ: حَيَّروهم في تعدادِ الواحد بالوجوه والنِّسب، {وَلَا تَزِدِ ¬

_ (¬1) "فصوص الحكم" (ص 772). (¬2) "مصرع التصوُّف" (ص 50). (¬3) يعني قوم نوح الوثنيين. (¬4) بل أمر ووصَّى. (¬5) "فصوص الحكم" (ص 72).

الظَّالِمِينَ} (¬1) لأنفسهم "المصطفَيْن" الذين أُورثوا الكتاب، فهم أول الثلاثة، فقدّمه على المقتصد والسابق {إِلَّا ضَلَالًا} إلاَّ حيرة المُحَمَّدي: "زِدْني فيك تحيُّرًا" (¬2). {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} (¬3) فهي التي خَطَت بهم، فغرقوا في بحارِ العلم بالله، وهو الحيْرة .. {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا}، فكان اللهُ عينَ أنصارِهم، فهلكوا فيه إلى الأبد .. " (¬4). فأيُّ زندقةٍ وإفكٍ وفجورٍ يحوي كلامُ ابن عربي!!. ° قال البقاعيُّ في "مصرع التصوف": "وقال شيخُ شيوخنا الإمامُ ¬

_ (¬1) يقصد ويشير إلى الثلاثة الذين ذُكروا في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32]، وقد سوى ابن عربي بين مفهوم "الظلم" هنا، وبين مفهوم "الظلم" في قوله: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا}، يهدف بهذه التسوية إلى تقرير أن عُبَّاد الأصنام من قوم نوح من الذين اصطفاهم الله سبحانه!! ناسيًا عن عمدٍ كفور أن الظلم في قوله سبحانه: {ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [الكهف: 35] مُقَيَّد، وأنه هناك مطلق، وأن الظالم لنفسه في الآية مذكور في مقام ثناء بخلاف الظالمين من قوم نوح ذُكروا في مقام الذم. (¬2) لا يصح: قال ابن تيمية في "مجموعة الرسائل والمسائل" (4/ 45): "لم يرو هذا الحديث أحدٌ من أهل العلم بالحديث، ولا هو في شيء من كتب الحديث". (¬3) يقصد قوله تعالى عن قوم نوح: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح: 25]، ويُمجد الفاجر الزنديق خطايا الوثنيين من قوم نوح، ويزعم أنها خَطَت بهم إلى قدس أقداس الحقيقة، فعرفوا أنهم أرباب تُعَبد آلهة، ويُفسر الإغراق بأنه إغراق في بحار العِلم بالله!. (¬4) "فصوص الحكم" (ص 72 - 74).

القدوة العارف شيخ الإسلام حافظُ عصره الشيخ زَينُ الدين عبدُ الرحيم بنُ الحُسين العراقي في كَرَّاسةٍ أجاب فيها سؤالَ مَن سأله عن بعضِ كلام ابن عربي هذا: "وقوله في قوم نوحٍ {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ .. } إلى آخره، كلامُ ضلالٍ وشركٍ واتحادٍ وإلحاد، فجَعَلَ تَرْكَهم لعبادةِ الأوثان التي نهاهم نوحٌ عن عبادتها جَهْلاً يُفَوت عليهم من الحقِّ بقَدْرِ ما تركوا" انتهى (¬1). ° وانظر إلى تحريفه لِمُحكَم الذِّكر، ولصريح القرآن، قال: "ألاَ ترى عادًا قومَ هودٍ كيف قالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24]، فظنُّوا خيرًا بالله تعالى -وهو عند ظنِّ عبده به-، فأضرب لهم الحقُّ عن هذا القول، فأخبرهم بما هو أَتَمُّ وأعلى في القرب، فإنه إذا أمطرهم، فذلك حظ الأرض، وسَقْيُ الحَب، فما يَصلِون إلى نتيجةِ ذلك المطر إلاَّ عن بُعد، فقال لهم: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}، فجعل الريحَ إشارةً إلى ما فيها من الراحة، فإنَّ بهذهِ الرِّيح أراحهم مِن هذه الهياكل المظلِمة، والمسالكِ الوَعْرة، والسُّدَفِ المدلهمة، وفي هذه الريحِ عذاب، أي: أمرٌ يستعذبونه، إذا ذاقوه، إلا أنه يُوجِعُهم لغرقةِ المألوف". وهو يُكذِّبُ أصدقَ القائلين في قوله: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} [الأعراف: 71]، وقوله تعالى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 59 - 60]. ¬

_ (¬1) "مصرع التصوف" (ص 52).

كذب ابن عربي وإفكه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

* كَذِبُ ابنِ عربيٍّ وإِفكُه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ° انظر إلى بهتانِ ابن عربي وإفكِه وكَذبِهِ أنه يَنسب الأقوال الكفريةَ التي جاء بها في "فصوص الحكم" إلى إذنِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الماحي لجميعِ الإِشراك، المُخَلِّص لِمُتَّبعيه من حبائلِ سائر الأشراك، فقد قال ابن عربي في خُطبةِ كتاب "فصوص الحكم": "أما بعد، فإني رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مُبَشِّرةٍ [أريتُها في العشر الآخر من محرم سنة سبع وعشرين وسِتِّمئة بمحروسة دمشق] وبيده كتاب، فقال لي: هذا كتابُ "فصوص الحكم"، خذه، واخرج به إلى الناس ينتفعوا به، فقلت: السمعُ والطاعة لله ولرسوله وأولِي الأمر منَّا كما أمِرْنا، فحَقَّقتُ الأمنية، وأخلصتُ النيَّة، وجَرَّدتُ القصدَ والهمة إلى إبرازِ هذا الكتاب كما حَدَّه لي رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من غيرِ زيادةٍ ولا نقصان .. فمِن الله فاسمعوا .. وإلى الله فارجعوا .. " انتهى. ولا شك أن النومَ والرؤيا في حدِّ ذاتهما في حيِّز الممكن، لكن ما أصله من مذهبِه الباطل ألزمه أن يكونَ ذلك مُحالاً، وذلك أن عنده أن وجودَ الكائناتِ هو الله، فإذن الكلُّ هو الله لا غير، فلا نبيَّ ولا رسول، ولا مُرسِل، ولا مُرسَل إليه، فلا خفاءَ في امتناع النوم على الواجب، وفي امتناع افتقارِ الواجب إلى أن يأمرَه النبيُّ بشيءٍ في المنام، فمن هنا يُعلم أنه لا يتحاشى من التناقضِ لهدم الدين بنْوعٍ مما ألِفْه أهلُه .. نبه على ذلك الإِمام علاء الدين البخاري "فاضحة الملحدين، وناصحة الموحِّدين" .. " (¬1). ¬

_ (¬1) "مصرع التصوف" (ص 37).

طعن أبو زرعة أحمد بن شيخ الإسلام العراقي في ابن عربي

* طَعنُ أبو زُرعَة أحمدَ بنِ شيخ الإِسلام العراقي في ابن عربي: ° قال العلامة الفاسي المكي في "العقد الثمين": "وسئل شيخنا العلاَّمة المحقِّق، الحافظ المفتي، المصنِّف أبو زرعة أحمدُ ابنُ شيخنا الحافظ العراقي الشافعي -أبقاه الله تعالى-، فقال: لا شكَّ في اشتمالِ "الفصوص" المشهورة على الكفر الصريح الذي لا يشَكُّ فيه، وكذلك "فتوحاته المكيَّة"، فإن صحَّ صدورُ ذلك عنه واستمر إلى وفاتِه، فهو كافر مُخَلَّد في النار بلا شك" (¬1) اهـ. * قولُ عزِّ الدين بن عبد السلام في ابن عربي: ° حكى العلامة ابن دقيق العيد أنه سمع الشيخ عزَّ الدين ابنَ عبد السلام يقول عن ابن عربي أنه: "شيخ سوء كذَّاب، يقوله بقِدَم العالَم ولا يُحرِّمُ فَرْجًا". ° وقال ابنُ دقيق العيد أيضًا: "سمعت الشيخ عزَّ الدين -وجَرَى ذِكرُ ابنِ عربيٍّ الطائي-، فقال: هو شيخُ سوء مقبوحٌ كذَّاب" (¬2) اهـ. * قول الذهبي عن ابن عربي: ° "أثَّرَت فيه تلك الخَلَواتُ والجوع فسادًا وطَرَفَ جُنون، وصَنَّف التصانيف في تصوَّف الفلاسفة وأهلِ الوحدةِ، فقال أشياء مُنكرة عَدَّها طائفة من العلماء مُروقًا وزندقةً". ° ثم قال: "وكذلك من أمعن النظر في "فصوص الحِكَم" أوْ أمعن التأمُّلَ ¬

_ (¬1) "العقد الثمين" للفاسى (2/ 190). (¬2) كتاب "ابن عربي الصوفي" (ص 110).

لاح له العَجَب، فإن الذكيَّ إذا تأمَّل في تلك الأقوالِ والنظائر والأشباه، فهو أحدُ رجليْن: إمَّا من الاتحادية في الباطن، وإمَّا من المؤمنين بالله الذين يَعُدُّون أن هذه النِّحْلةَ من أكفرِ الكفر .. نسأل اللهَ العفو، وأن يكتبَ الإيمانَ في قلوبنا، وأن يُثبتنا بالقولِ الثابت في الحياةِ الدنيا وفي الآخرة، فواللهِ لأنْ يعيشَ مُسْلم جاهِلاً خَلْفَ البقر لا يَعرِفُ من العِلم شيئًا سوى سُورٍ من القرآن يُصلِّي بها الصلوات ويؤمنُ بالله واليوم الآخر: خيرٌ له بكثيرٍ من هذا العِرْفان وهذه الحقائق، ولو قرأ مئةَ كتاب أو عمل مئة خلوة" (¬1) اهـ. ° وقال عنه في "سير أعلام النبلاء": "تَزَهَّد، وتفرَّد، وتعبَّد، وتوحَّد، وسافر، وتجرَّد، وأَتْهَمَ، وأَنْجَدَ، وعَمِل الخَلَوات، وعَلَّق شيئًا كثيرًا في تصوُّفِ أهل الوحدة، ومَن أراد تواليفه فعليه بكتاب "الفصوص"، فإنْ كان لا كُفرَ فيه، فما في الدينا كُفر، نسأل الله العفوَ والنجاة، فواغوثاه بالله، وقد عظمه جماعةٌ، وتكلَّفوا لِمَا صَدَر منه ببعيد الاحتمالات" (¬2). ° ثم نقل قولَ عزِّ الدين بن عبد السلام عنه بأنه "شيخُ سُوءٍ كذَّابٌ، يقول بقدَمِ العالم ولا يُحرمُ فَرْجًا". ° وقال الذهبي في كتابه "تاريخ الإسلام" بعد خطِّ الحافظ سيف الدين ابن المجد علي الحريري المتصوِّف: "فكيف لو رأى الشيخُ كلامَ ابنِ عربيٍّ الذي هو مَحض الكفرِ والزندقة، لقال: "هذا الدجال المنتظَر"، ولكن كان ابنُ عربي منقطِعًا عن الناس، إنما يجتمعُ به آحادُ الاتحادية، ولا يُصرح بأمرِه لكلِّ أحد، ولم تُشتَهَرْ كُتبُه إلاَّ بعد موته، ولهذا تمادَى أمرُه، فلما كان ¬

_ (¬1) "ميزان الاعتدال" للذهبي (3/ 659 - 660) ترجمة (7984). (¬2) "سير أعلام النبلاء" (23/ 48 - 49) ترجمة (34).

رأي شيخ الإسلام البلقيني في ابن عربي

على رأس السَّبعِمئة جَدَّد الله لهذه الأمة دينَها بهَتْكِه وفضيحتِه، ودار بين العلماء كتابُه "الفصوص"، وقد حَطَّ عليه الشيخُ القدوة الصالح إبراهيم بن معضاد الجُعْبَري فيما حَدَّثني به شيخُنا ابنُ تيمية عن التاج البارنباري أنه سمع الشيخ إبراهيم يذكر ابن عربي: كان يقولُ بقِدَم العالَم، ولا يُحرمُ فرْجًا، وحكى عنه ابنُ تيمية أنه لما اجتمع بابن عربيِّ قال: رأيتُ شيخًا نَجِسًا يُكذِّب بكلِّ كتاب أنزله الله، وبكلِّ نبي أرسله الله" (¬1). * رأيُ شيخ الإِسلام البُلقِيني في ابن عربي: ° قال الإمام البقاعي بعد نقله طائفةً ممَّن كفَّروا ابن عربي: "ومنهم شيخُنا شيخُ الإسلام حافظُ عصرِه قاضي القضاة أبو الفضل ابن حجر، وشيخُه شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رَسْلان البُلقيني، فقال في ترجمة عمرَ بنِ الفارضي في "لسان الميزان" بعد أن ذكر ترجمة الذهبيِّ له بأنه شيخُ الاتحادية، وأنه يَنعِقُ بالاتِّحاد الصريح في شِعره: "وقد كنتُ سألتُ شيخَنا سراجَ الدين البُلقِيني عن ابن عربي، فبادَرَ بالجواب بأنه كافر، فسألتُه عن ابنِ الفارض، فقال: لا أحبُّ التَكلُّمَ فيه، فقلتُ: فما الفرقُ بينهما، والمَهْيَعُ واحد؟! وأنشدتُه من "التائية"، فقطع عليَّ بعد إنشادِ عِدَّةِ أبيات بقوله: هذا كُفر، هذا كفر" .. " (¬2). * قوله الحافظ ابن حجر العسقلاني فيه: ° قال الحافظُ ابنُ حجر في "اللسان" بعد أن نَقَل قول الذهبي في ¬

_ (¬1) "تاريخ الإسلام"، و"مجموعة الرسائل والمسائل" لابن تيمية (4/ 76)، و"مصرع التصوف" للبقاعي (ص 178). (¬2) "لسان الميزان"، و"مصرع التصوف" (ص 176).

دعاء ومباهله

"ميزان الاعتدال": "وكان ظاهريَّ المذهب في العباداتِ، باطنيَّ النظر في الاعتقادات .. ". ° إلى أن قال: "وله مصنَّفات عديدة وشِعرٌ كثير، وله أصحابٌ يعتقدون فيه اعتقادًا عظيمًا مفرِطًا يتغالَون فيه، وهو عندهم نحو درجةِ النبوة، ولم يَصحَبْه أحد إلاَّ وتغالى فيه، ولا يَخرج عنه أبدًا، ولا يُفضل عليه غيرَه، ولا يُساوِي به أحدًا من أهل زمانه، وتصانيفُه لا يُفهم منها إلاَّ القليل، وفي تصانيفه كلمات ينبو السمع عنها، وزَعَم أصحابه أن لها معنى باطنيًّا غيرَ الظاهر" (¬1) اهـ. * دعاءٌ ومباهله: ° قال البِقاعيُّ بعد إنتهائه من نَقدِ "فصوص الحكم": "هذا آخِرُ الكتاب، المباعِدِ للصواب، الرادِ للشكِّ والارتياب، لَعنةُ الله على معتقِده، ورحمة الله على منتقِده، قد تم -ولله الحمد- ما أردتُ انتقاده منه، مُتَرْجمًا بسوء السيرة وقُبحِ السريرة عنه، وانتهى ما وَقَع انتقادي عليه، وأدَّانى اجتهادي إليه: من واضح كفره، ودقيقِ مَكْرِه، وَجَلِيِّ شره، أعاذنا الله بحوله وقوَّته من شكوكه، وعَصَمَنا مِن زَيغِ طريقه، وباعَدَنا من سلوكه، ورأيت أن أختم ذلك بحكايةٍ طالَما حدَّثنَا بها شيخنا شيخ الإِسلام حافظ العصر، قاضي القضاة، أبو الفضل شهاب الدين أحمدُ بنُ علي بن حَجَر الكناني، العسقلاني الأصل، المصري الشافعي، ثُم رأيتها منقولةً عن كتاب الحافظ تقي الدين الفاسي في تكفيرِ ابن عربي، وقد أصلحَ شيخنا بعضَها ¬

_ (¬1) "لسان الميزان" لابن حجر العسقلاني (5/ 311 - 315).

بخطِّه، قال: كان في أيام الظاهر برقوق شخصٌ يقال له: "ابنُ الأمين"، شديدُ التعصُّبِ لابن عربي صاحبِ هذا "الفصوص"، وكنتُ أنا كثيرَ البيانِ لعَوَاره، والإظهارِ لعارِه وعِثاره، وكان بمصرَ شيخ يقال له: "الشيخ صفا"، وكان مقرَّبًا عند الظاهر، فهدَّدني المذكورُ بأنه يُعرفه بي، ليذكرَ للسطان أن بمصرَ جماعة -أنا منهم- يذكرون الصالحين بالسوء، ونحو ذلك، وكانت تلك الأيامُ شديدةَ المظالم والمصائبِ والمغارم، وكنتُ ذا مالٍ، فخِفتُ عاقبتَه، وخشِيتُ غائلتَه، فقلتُ: إنَّ هنا ما هو أقربُ مما تريد، وهو أن بعضَ الحُفَّاظِ قال: إنه وقع الاستقراءُ بأنه ما تَباهَلَ اثنانِ على شيء، فحال الحَولُ على المُبْطِل منهما، فَهَلُمَّ، فلنتباهلْ، لِيُعْلَم المُّحِقُّ منا من المُبْطِل، فتباهلتُ أنا وهو، فقلت له: قل: اللَّهمَّ إنْ كان ابنُ عربيٍّ على ضلال، فالْعنِّي بلعنتك، فقاله , فقلتُ أنا: اللَّهم إن كان ابنُ عربيٍّ على هُدى فالعني بلعنتك .. وافترقنا، وكان يسكن "الرَّوضة"، فاستضافه شخص من أبناء الجُند جميل الصورة، ثم بدا له أن يتركَهم، فخرج في أولِ الليل، فخرجوا يُشيِّعونه فأحسَّ بشيء مَرَّ على رِجله، فقال لأصحابه: مَر على رِجله شيء ناعم، فانظروا ما هو؟ فنظروا فلم يجدوا شيئًا، فذهب، فما وصل إلى منزلِه إلاَّ وقد عَمِيَ، ولَم يُصبحْ إلاَّ وهو ميت، وكان ذلك في ذِي القَعدة سنةَ سبعٍ وتسعين وسَبْعمئة، وكانت المباهلةُ في رمضْانَ منها، قال: وكنتُ عند وقوع المباهلة عَرَّفَتُ مَن حَضَر أنَّ مَن كان مُبْطِلاً في المباهلة لا تمضي عليه السَّنة، فكان ولله الحمد ذلك، واسترحتُ من شرِّه، وأَمنتُ من عاقبةِ مكره" (¬1). ¬

_ (¬1) "مصرع التصوف" (ص 149 - 150).

[ممن كفره من العلماء]

[ممن كفَّره من العلماء] ° وقال العلاَّمة الإمامُ ابنُ كثير في "البداية والنهاية": "محيي الدين ابن عربي صاحب "الفصوص" وغيره" .. ثم ذكر اسمه ونسبه، ثم قال: "طاف البلاد، وأقام بمكة مدَّةً، وصَنَّف فيها كتابَه المسمى بـ "الفتوحات المكية" في نحو عشرين مُجَلَّدًا منها ما هو يُعْقَل، وما لا يعقَل، وما ينكَر وما لا يُنكَر، وما يُعرَف وما لا يُعرَف، وله كتابُه المسمَّى بـ "فصوص الحكم" فيه أشياء كثيرةٌ ظاهرُها كفرٌ صريح" (¬1). ° وقال ابنُ طولون (¬2) في "القلائد الجوهريَّة في تاريخ الصالحية" (¬3) عن العلماء الذين يعتقدون ضلاله: "وفرقةٌ تعتقدُ ضلالَه، وتَعُدُّه مبتدعًا اتحاديًّا كافرًا، وهم غالبُ فقهاءِ أبناء العرب وجميعُ المحدثين، وقد سَمعَتُ -وعدَّهم بعضُ المتأخِّرين إلى نحو خَمْسِمئةٍ-، ومنهم: قاضي القضاة تقيُّ الدين عبد الرحمن بن قاضي القضاة تاجِ الدين عبدِ الوهَّابِ بنِ بنتِ الأعزِّ المصري، والعلاَّمة شهابُ الدين أحمدُ بنُ حَمْدان الحرَّاني نزيلُ حَلَب، وعلاَّمةُ زمانِه تقيُّ الدين ابن تيميَّة، والعلاَّمةُ كمالُ الدِّين جعفر الإِدْفَوي، والعلاَّمة شهابُ الدين أحمدُ بنُ يحيى بنِ أبيٍّ، والحافظُ عمادُ الدينِ بنُ كثير، ونادَرةُ زمانِه عِلمًا وعملاً علاءُ الدِّين محمد البخاري، وقاضي القضاة وليُّ الدين أبو زُرعةَ أحمد العراقي، وقاضي القضاء بَدرُ الدين محمود العَيني، وشيخ الإِسلام شمسُ الدين البلاطنسي؛ والعلاَّمة محمد ابنُ إمام الكاملية الصُّوفي، وحافظُ العصر شهابُ الدين أحمدُ بنُ حجر، ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" (13/ 156). (¬2) المتوفى سنة 953 هـ. (¬3) (2/ 538 - 539).

والفقيهُ الأصوليُّ تقيُّ الدين بنُ الصلاح، وقاضي القضاة تقيُّ الدين بن دقيق العيد، وقاضي القضاة بَدر الدين بن جَماعة، وشيخُ الإسلام تقيُّ الدين السُّبكي" (¬1) اهـ. ° ومِمَّن كفَّره من العلماء الشيخ العلامة محمدُ بن محمدِ بنِ محمدِ ابنِ عليِّ بنِ يوسف المعروف بابن الجَزَري الشافعي (¬2). ° وممن تابعهم في الإنكار الشيخ الإمام بركةُ الإسلام قطب الدين ابنُ القسْطَلاَّني، وحَذَّرَ الناسَ من تصديقه، وبيَّن في مصنَّفاته فسادَ قاعدتِه، وضلالَ طريقهِ في كتابٍ سماه بـ: "الارتباط"، ذَكر فيه جماعةً من هؤلاء الأنماط، ومنهم قاضي القضاة قدوةُ أهل التصوف إمامُ الشافعية بدرُ الدين محمد بن جَماعة قال: "وحاشا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأذنَ في المنام فيما يُخالف، أو يضادُّ قواعدَ الإسلام (¬3)، بل ذلك من وساوسِ الشيطانِ ومِحنته، وتلاعبِه برأيه وفِتنته، وأمَّا إنكارُه -يعني ابن عربي- ما وَرَد في الكتاب والسُّنة من الوعيد، فهو كافرٌ به عند علماءِ التوحيد، وكذلك قولُه في نوح وهود - عليهما السلام - قولٌ لَغوٌ باطل مردودٌ" (¬4). ° والقدوةُ العارفُ عمادُ الدين أحمدُ بنُ إبراهيم الواسطي (¬5)، وقال: ¬

_ (¬1) نقلا عن "مصرع التصوف" (ص 151). (¬2) وُلِد بدمشق سنة 751 هـ، وتُوفي سنة 814 هـ. (¬3) رد على ما زعمه ابن عربي في خطبة المنصوص أنه رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في النوم، وأنه قال له: هذا كتاب الفصوص خذه واخرج به إلى الناس ينتفعون به، وعلى ما زعمه ابن الفارض عن مثل هذا بالنسبة للتائية الكبرى. (¬4) انظر نص هذه الفتوى في "العلم الشامخ" للمقبلي (ص 494). (¬5) ولد سنة 657 وتوفي سنة 711 هـ.

"إنه عَلَّق في ذَمَ هذه الطائفةِ (¬1) ثلاثَ كراريس، الأول سماه: "البيان المفيد في الفَرق بين الإِلحاد والتوحيد"، والثاني: "لوامع الاسترشاد في الفرق بين التوحيد والإِلحاد"، والثالث: "أشعة النصوص في هَتك أستار الفصوص". كلُّ ذلك ليبقى المؤمنون منهم على بصيرةٍ، يَحذَرون مِن طرقِهم وزَندقتِهم، وحاصل ذلك كلِّه بكلامٍ وجيز مختصر: "أن هؤلاء جَميعَ ما يبدونه من الكلام الحَسَن في مصنفاتهم إنما هو رَبطٌ واستجلاب، فإن الدعاةَ إلى البدعةِ إنْ لم يكونوا ذَوِي بصيرةٍ يَستدرِجون الخَلْقَ في دَعوتهم، حتى يَحلُّوهم عن أديانهم لا يستجابُ لهم. هذا ابنُ عربي، عنده في أصوله: أنه يَجعل المعدوماتِ أشياءَ ثابتةً -عُلويَّها وسفْليَّها- قبلَ وجودِها، فهي عنده ثابتةٌ في القِدم، لكن ليس لها وجود، ثم أفاض الحقُّ عليها من وجوده الذاتي، فقَبِل كلُّ موجودٍ من وجود عينِ الحق بحسب استعداده، فظهر الكون بعينِ وجودِ الحق، فكان الظاهر هو الحق، فعنده: أنه لا وجودَ إلا للحقِّ، ويستحيل عنده أن يكونَ ثَمَّ وجودٌ محدَث، كما يقوله أهل الحق، فإنهم يقولون: "وجودٌ قديم، ووجودٌ حادث"، وهذا عنده، وعند أصحابه: أنه ليس بوجود حادث، وليس ثَم إلاَّ وجودُ الحقِّ الذاتي، وهو الذي فاض على الأعيان والممكنات، وهو من حديث الوجود عينُ الموجداتِ، ومَن شك أنَّ هذا اعتقاده، فليراجع كتابَه "الفصوص" (¬2) وغيره، وعنده أنه لمَّا فاض على الأكوانِ عينُ ¬

_ (¬1) طائفة ابن عربي ومن دان دينه. (¬2) "فصوص الحكم" (ص 76).

ومنهم أبو حيان الأندلسي

وجودِ الحق، كان هو الظاهرَ فيها بحكم الموجود، وكانت هي الظاهرَ فيه بحكم الأسماء، فإنها كثيرةٌ متعدِّدة (¬1)، وعنده أن الكونَ افتَقر إلى الحقِّ بسبب إفاضةِ الموجود، وأن الحقَّ أيضًا افتَقر إلى الكونِ لظهورِ أسمائه، وكلٌّ منهما يَعبدُ الآخر". ° ومِن جوابه: "وقولُه في قوم هود كفرٌ؛ لأن الله تعالى أخبَرَ في القرآن العظيم عن عادٍ: أنهم كَفَروا بربهم، والكفارُ ليسوا على صراطٍ مستقيم، فالقول بأنهم كانوا عليه، مكذِّبٌ لصريحِ القرآن، ويأثمُ مَن سمَعه، ولم ينكِرْه إذا كان مكلَّفًا، وإنْ رَضِيَ به كَفر". * ومنهم أبو حيَّان الأندلسي: الإِمام أبو حيانَ محمدُ بنُ يوسفَ الأندلسي (¬2)، ذكر ذلك في تفسير سورة المائدة عند قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة: 17] الآية في أوئلها: "ومِن بعضِ اعتقادِ النصارى استَنْبَطَ مَن أقرَّ (¬3) بالإِسلام ظاهرًا، وانتمى إلى الصوفية: حلولَ الله في الصورِ الجميلة، ومَن ذهب مِن ملاحِدَتهم إلى القولِ بالاتِّحاد والوحدة: كالحلاَّج ¬

_ (¬1) قال القاشاني في "شرح الفصوص": "لِلذاتِ بحسب كل عينٍ اسمٌ، وتلك الأعيانُ أيضًا أسام، لكونها عينَ الذات مع التعين"، ويقول ابن عربي: "فأسماؤنا أسماء الله تعالى". (¬2) ولد سنة 654 هـ. قال عنه الذهبي: "حجة العرب وعالم الديار المصرية"، كان من خلصاء ابن تيمية، حتى لقد امتدحه بقصيدة منها: قام ابن تيميةٍ في نَصرِ شِرْعتنِا ... مقامَ سيدِ تَيْمٍ إذ عَصَت مُضَرُ وفي مناظرة بينهما خطأ ابن تيمية سيبويه، فلم يطقها منه أبو حيان، فكان أن بَهَتَه أبو حيان في تفسيره "البحر". (¬3) في "البحر": تستر.

ومنهم شيخ الإسلام تقي الدين السبكي

والشْعوذي وابن أحلى وابن عربيٍّ المقيم بدمشق، وابنِ الفارض، وأتباعِ هؤلاء كابن سبعين، والتُّستري تلميذِه، وابن مطرف المقيم بمرسية، والصَّفَّار المقتول بغرناطة، وابنِ اللبَّاج، وأبو الحسن المقيم كان بلورقة، ومَن رأيناه يَرمي بهذا المذهب الملعون: العفيفُ التِّلمساني، وله في ذلك أشعارُ كثيرة، وابنُ عياش المالقي الأسودُ الأقطعُ المقيم كان بدمشق، وعبدُ الواحد بنُ المؤخَّر المقيم كان بصعيد مصر، والأيكي العَجَمي الذي كان تولَّى المشيخة بخانقاه سعيدِ السعداء بالقاهرة من ديارِ مصر، وأبو يعقوب بن مبشِّر تلميذُ التسْتَري المقيم كان بحارة زويلة، والشريف عبدُ العزيز المنوفي، وتلميذُه عبدُ الغفار القُوصي. وإنما سَردتُ هؤلاء نُصحًا لدين الله، يَعلمُ الله ذلك، وشَفقةً على ضُعفاء المسلمين، وليحذروا، فهم شرٌّ من الفلاسفة الذين يُكذبون اللَّهَ ورُسُلَه، ويقولون بقِدَم العالَم ويُنكرون البعث، وقد أولع جَهَلةٌ ممن يَنتمي إلى التصوُّفِ بتعظيم هؤلاء، وادِّعائهم أنهم صَفوةُ الله وأولياؤه، والردُّ على النصارى، والحلوليةِ والقائلين بالوحدة هو من علمِ أصول الدين" (¬1). * ومنهم شيخُ الإِسلام تقيُّ الدين السُّبكي: ° قال العلاَّمة قاضي القضاة شيخُ الإِسلام تقيُّ الدين عليُّ بنُ عبدِ الكافي السُّبكي الشافعي: "ومَن كان مِن هؤلاءِ الصوفيةِ المتأخِّرين كابنِ عربيٍّ وغيره، فهم ضُلاَّلٌ جُهَّال، خارِجون عن طريقةِ الإسلام، فضلاً عن العلماء". ¬

_ (¬1) انظر تفسير سورة المائدة من "البحر" لأبي حيَّان.

قال ذلك في "باب الوصية" من "شرح المنهاج"، ونَقَله الكمالُ الدُّمَيْري، والتقيُّ الحصني. ° وقال الحافظ تقيُّ الدين الفاسي في كتابه فيه: "وقد أحرقتُ كتبَ ابنِ عربي غيرَ مرَّةٍ". ° ومنهم العلاَّمة القاضي شَرف الدين عيسى بنُ مسعود الزواوي (¬1) المالكي شارح "صحيح مسلم"، فقال (¬2): "وأما ما تضمَّنه هذا التصنيفُ من الهذيان، والكفرِ والبهتان، فهو كلُّه تلبيسٌ وضَلال، وتحريفٌ وتبديل، فمن صَدَّق بذلك واعتقد صحَّته كان كافرًا ملحدًا، صادًّا عن سبيل الله، مخالفًا لسُنَّةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، مُلحدًا في آيات الله، مُبَدِّلا لكلماته، فإنْ أظهَرَ ذلك، وناظَرَ عليه، كان كافرًا يستتاب، فإن تاب، وإلاَّ قتِل، وإن أَخفى ذلك، وأسرَّه كان زنديقًا، فيُقتل متى ظَهَر عليه، ولا تُقبل توبته إن تاب؛ لأن توبتَه لا تُعرف، فقد كان قَبلَ أن يظهرَ عليه يقولُ بخلافِ ما يُبطِن، فعلم بالظهور عليه خُبثُ باطنِه، وهؤلاء قومٌ يسمَّون "الباطنية"، لَم يزالوا من قديم الزمان ضُلاَّلاً في الأمة، معروفِين بالخروج من الملَّة، يُقتلون متى ظَهَر عليهم، ويُنفَون من الأرض، وعادتُهم التَّمَصْلح والتديُّن، وادعاءُ التحقيق، وهم على أسوإ طريق، فالحذر كلَّ الحذرِ منهم، فإنهم أعداءُ الله , وشرٌّ من اليهود والنصارى؛ لأنهم قومٌ لا دينَ لهم يتَّبِعونه، ولا ربَّ ¬

_ (¬1) ولد سنة 664 هـ، وتوفي سنة 743 هـ، وانتهت إليه رئاسة الفتوى في المذهب المالكي بمصر والشام، وقد شرح "صحيح مسلم" في اثني عشر مجلدًا وسماه "إكمال الإكمال". (¬2) انظر نص الفتوى في "العلم الشامخ" (ص 498).

يَعبدونه، وواجبٌ على كلِّ مَن ظَهَر على أحدٍ منهم أن ينهِيَ أمرَه إلى ولاة المسلمين، ليحكموا فيه بحكمِ الله تعالى، ويجب على مَن وَليَ الأمر إذا سَمع بهذا التصنيف البحث عنه، وجَمْعُ نُسَخِه حيثُ وَجَدها وإحراقها، وأدَّب مَن اتُّهم بهذا المذهب، أو تسبب إليه، أو عُرف به، على قَدْرِ قُوَّةِ التهمةِ عليه؛ حتى يعرفَه الناسُ ويَحذروه". ° ومنهم الشيخ الإمامُ المحقِّق الزاهدُ القدوةُ العارفُ نور الدين عليُّ ابنُ يعقوب البكري الشافعي، قال: "وأما تصنيفٌ تُذكر فيه هذه الأقوال، ويكون المراد بها ظاهرُها، فصاحبُها ألعَنُ وأقبحُ مِن أن يُتَأَوَّل له ذلك، بل هو كاذبٌ فاجر، كافرٌ في القول والاعتقاد، ظاهرًا وباطنًا، وإن كان قائلُها لَم يُرِد ظاهرها، فهو كافرٌ بقوله، ضالٌّ بجهله، ولا يُعذَرُ في تأويلِه لتلك الألفاظ إلاَّ أن يكون جاهلاً بالأحكام جَهلاً تامًّا عامًّا ولا يُعْذَرُ في جهلِه لمعصيته، لعدمِ مراجعةِ العلماءِ والتصانيفِ على الوجهِ الواجبِ من المعرفةِ في حق مَن يخوضُ في أمرِ الرُّسُل ومُتَّبعيهم، أعني معرفةَ الأدبِ في التعبيرات، على أنَّ في هذه الألفاظِ ما يتعذَّر، أو يتعسَّرُ تأويله، بل كلُّها كذلك، وبتقديرِ التأويل على وجهٍ يصحُّ في المراد، فهو كافرٌ بإطلاقِ اللفظ على الوجهِ الذي شرحناه .. وأما دلائلُ ذلك، فهي مذكورةٌ في تصانيفِ العلماء، وفيما ألَّفتُه أيضًا في بعض المسائل، وليست هذه الورقةُ مما تَسَعُ الكلام على أقوال هذا المصنَّف (¬1) لفظةً لفظة". ¬

_ (¬1) يعني: "فصوص الحِكَم".

ابن هشام النحوي

* ابن هشام النحوي: ° ومنهم العلاَّمة جمالُ الدين عبد الله بن يوسف بن هشام (¬1) صاحبُ "المغني" وغيره من المصنفات البديعة، وكَتَب على نُسخةٍ من كتاب "الفصوص": هذا الذي بضلالِهِ ... ضلَّت أوائلُ معْ أواخرْ مَن ظنَّ فيه غيرَ ذا ... فلينأ عني، فهو كافرْ هذا كتاب فصوص الظُّلَم، ونَقِيضُ الحِكَم، وضلالُ الأمم، كتابٌ يَعجزُ الذمُّ عن وصفِه، قد اكتنفه الباطلُ من بين يديه ومن خَلفه، لقد ضَل مؤلِّفُه ضلالاً بعيدًا، وخَسِر خُسرانًا مبينًا؛ لأنه مُخالف لِمَا أرسل الله به رُسُلَه، وأنزل به كُتُبَه، وفَطَر عليه خَليقتَه" اهـ. * ابنُ خلدون: ° ومنهم العلاَّمة قاضي القضاة أبو زيد عبدُ الرحمن بنُ خلدون (¬2)، حيث قال: "إنَّ طريقَ المتصوفةِ منحصرٌ في طريقتيْن: الأولى: وهي طريقة السنة، طريقة سَلَفِهم الجاريةُ على الكتاب والسنة (¬3)، والاقتداءِ بالسَّلف الصالح من الصحابة والتابعين. ¬

_ (¬1) ولد سنة 708 هـ وتوفي سنة 761 هـ، يقول عنه ابن خلدوان: "ما زلنا -ونحن بالمغرب- نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له: ابن هشام، أنحى من سيبويه". (¬2) ولد سنة 732 هـ وتوفي سنة 808 هـ تولى قضاء المالكية بمصر، يقول عنه المستشرق ديبور في كتابه "تاريخ الفلسفة في الإسلام": "مفكر متزن يحارب صناعة النجوم بالأدلة العقلية، وكثيرًا ما يعارض النزعة الصوفية العقلية عند الفلاسفة بمبادئ الدين". (¬3) لم يُسَمَّ واحد من الصحابة ولا التابعين "صوفيًّا"، وهذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة =

والطريقة الثانية: وهي مَشُوبةٌ بالبدع، وهي طريقةُ قومٍ من المتأخِّرين، يجعلون الطريقةَ الأولى وسيلةً إلى كشفِ حِجابِ الحِسِّ؛ لأنها من نتائجها. ومن هؤلاء المتصوِّفة: ابن عربي، وابن سبعين، وابن بَرْجان وأتباعُهم ممَّن سَلَك سبيلهم، ودانَ بنِحلتِهم، ولهم تواليفُ كثيرة يتداولونها مشحونة بصريح الكفر ومستهجَنِ البدع، وتأويل الظاهر لذلك على أبعدِ الوجوه، وأقبحها مما يَستغربُ الناظرُ فيها من نِسبتها إلى المِلَّة، أوْ عَدِّها في الشرِيعة، وليس ثناءُ أحد على هؤلاء حُجَّة، ولو بَلَغ المُثنِي ما عَسَى أن يَبلغَ من الفضلِ؛ لأن الكتاب والسُّنَّة أبلغُ فضلاً أو شهادةً من كل أحد. وأما حُكم هذه الكتب المتضمِّنة لتلك العقائد المُضِلَّة، وما يوجَدُ من نسخها بأيدي الناس مثل "الفصوص" و"الفتوحات المكية" لابن عربي و"البد" لابن سبعين، و"خلع النَّعْلَيْن" لابن قسي، و"عين الرجاء" لابن برجان، وما أجدر الكثير من شعر ابن الفارض، والعفيف التلمساني، وأمثالهما أن يُلحَقَ بهذه الكتب، وكذا شرحُ ابن الفرغاني للقصيدة "التائية" من نَظْم ابنِ الفارض، فالحكمُ في هذه الكتب وأمثالِها إذهابُ أعيانها متى وُجِدَت بالتحريق بالنار، والغسلِ بالماء، حتى يمنحيَ أثرُ الكتاب؛ لِمَا في ذلك من المصلحةِ العامَّةِ في الدين بمَحْوِ العقائد المُختَلَقه، فيتعينُ على وليِّ الأمر إحراقُ هذه الكتبِ دَفْعًا للمَفْسَدةِ العامةِ، ويتعيَّنُ على مَن كانت عنده ¬

_ = في الملة كما يقول ابن خلدون. ولكن ابن خلدون يعني هنا أولياء الرحمن كالجنيد وإبراهيم بن أدهم وسهل بن عبد الله التستري، وقد أثنى عليهم ابن تيمية وعلماء الأمة.

عز الدين بن عبد السلام

التمكينُ منها للإِحراق" (¬1). * عزُّ الدين بنُ عبد السلام: ° قال شيخُ الإسلام عمادُ الدين إسماعيلُ بن كثير من لفظه غيرَ مرة: "حدَّثني شيخ الإسلام العلاَّمة قاضي القضاة تقيُّ الدين أبو الحسن عليُّ بنُ عبدِ الكافي السُّبكي، حَدَّثنا الشيخ العلامة شيخُ الشيوخ قاضي القضاة تقي الدين أبو الفتح محمدُ بنُ عليٍّ القُشيريُّ المعروف بابن دقيق العيد القائل في آخِرِ عمره: لي أربعون سنةً ما تكلَّمت بكلمةٍ إلاَّ أعددتُ لها جوابًا بين يدي الله تعالى، قال: سألت شيخَنا سلطانَ العلماء عزَّ الدين أبا مُحمدٍ عبدَ العزيز بنَ عبدِ السلام الدمشقيَّ عن ابن عربي، فقال: شيخُ سَوءٍ كذَّاب، يقولُ بقِدَم العالَم، ولا يحرِّم فرجًا". ° وقال ابنُ تيمية في جوابِ السيف السعودي: "فكفَّره الفقيه أبو محمدٍ بذلك، ولَم يكن بَعْد ظَهَرَ من قوله: إنَّ العالَم هو الله، والعالَمَ صورةُ الله، وهوية الله". * شيخُ الإِسلام ابنُ تيميَّة يَكشِفُ عَوَارَ ابنِ عربيٍّ ومَن تابَعَه مِن أهلِ وِحدة الوجود: ° سئِل ابن تيمية - رحمه الله -: "ما تقول السادة العلماء أئمةُ الدين وهداةُ المسلمين، في كتابٍ بين أظهرِ الناس، زَعَم مُصنفْه أنه وَضَعه وأخرجه للناس بإذن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في مْنامٍ زَعَم أنه رآه، وأكثَر كتابِه ضدٌّ لمَا أنزله الله مِن كتبه المنزلة، وعكسٌ وضدٌّ عن أقوالِ أنبيائه المرسَلة، فمما قال ¬

_ (¬1) "العلم الشامخ" (ص 500)، و"مصرع التصوف" (165 - 168).

فيه: "إن آدم - عليه السلام - إنما سمِّي "إنسانًا" لأنه للحقِّ تعالى بمنزلةِ إنسانِ العينِ من العين، الذي يكون به النظر" .. وقال في موضع آخر: "إنَّ الحق المنزَّه هو الخلْقُ المُشبَّه" .. وقال في قوم نوح - عليه السلام -: "إنهم لو تركوا عبادتَهم لودٍّ، وسواعٍ، ويَغوثَ، ويَعوقَ، ونَسرٍ: لَجَهِلوا من الحقِّ بقَدْرِ ما تركوا من هؤلاء"، ثم قال: "فإن للحقِّ في كلِّ معبودٍ وجهًا، يعرفُه مَن عَرَفه، ويَجهلُه مَن جَهِله، فالعالِم يعلم مَن عَبَد، وفي أيِّ صورةٍ ظَهَر حتى [عُبد]، وإن التفريق والكثرة: كالأعضاء في الصورة المحسوسة". ثم قال في قوم هود - عليه السلام -: "بأنهم حَصَلوا في عينِ القُرب، فزالَ البعد فزال مسمَّى "جهنم" في حقِّهم، ففازوا بنعيم القُرب من جهةِ الاستحقاقِ مما أعطاهم هذا المَقامُ الذوقيُّ اللذيذ من جِهةِ المِنَّة، فإنما أخذوه بما استحقَّته حقائقُهم من أعمالِهم التي كانوا عليها، وكانوا على صراطِ الربِّ المستقيم". ثُم إنه أنكر فيه حكمَ الوعيد، في حقِّ كلِّ مَن حقَّت [عليه] كلمةُ العذاب من سائر العبيد، فهل يَكفر مَن يُصِّدقُه في ذلك أم لا، أو يَرضى به منه أمْ لا؟ وهل يأثمُ سامِعُه إذا كان عاقلاً بالغًا ولم يُنكِرْه بلسانِه أو قلبه أم لا؟. أفتونا بالوضوح والبيان، كما أُخذ الميثاق للتبيان، فقد أضرَّ الإهمالُ بالضعفاءِ والجُهَّال، وباللَّه المستعان، وعليه الاتكالُ أن يُعجِّل بالملحدين النَّكال؛ لصلاحِ الحال، وحَسْم مادة الضلال. ° فأجاب: الحمد للَّه، هذه الكلمات المذكورة المنكورة، كلُّ كلمةٍ منها هي من الكفر، الذي لا نِزاعَ فيه بين أهلِ المِلل؛ من المسلمين؛ واليهود

والنصارى؛ فضلاً عن كونِه كفرًا في شريعة الإسلام. فإن قولَ القائل: "إن آدمَ للحقِّ تعالى بمنزلة إنسانِ العَين من العين، الذي يكونُ به النظر": يقتضى أن آدمَ جُزءٌ من الحقِّ تعالى وتقْدَّس، وبعضٌ منه وأنه أفضلُ أجزائِه وأبعاضِه؛ وهذا هو حقيقة مذهب هؤلاء القوم , وهو معروفٌ من أقوالهم. الكلمةُ الثانية: تُوافِقُ ذلك، وهو قوله: "إن الحق المنزَّه، هو الخَلقُ المشبَّه". ولهذا قال في تمام ذلك: "فالأمرُ الخالقُ المخلوق، والأمرُ المخلوقُ الخالق، كلُّ ذلك من عينٍ واحدة، لا بل هو العينُ الواحدة، وهو العيونُ الكثيرة {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} والولدُ عين أبيه، فما رَأَى يَذبحُ سوى نفسِه {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}، فظهر بصورة كبشْ: مَن ظَهَر بصورةِ إنسان وظَهَر بصورةٍ؛ لا بحكم ولدِ مَن هو عينُ الوالد، {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، فما نكح سوى نفسه". وقال في موضع: "وهو الباطنُ عن كلِّ فهم، إلاَّ عن فهم مَن قال: إن العالَم صورتُه وهويته". وقال: "ومن أسمائه الحسنى "العَلِيُّ"، على مَن! وما ثَم إلاَّ هو، وعن ماذا! وما هو إلاَّ هو، فعُلُوُّه لنفسه، وهو من حيثُ الوجودِ عينُ الموجودات، فالمسمى مُحدَثات هي العليَّة لذاتها, وليست إلاَّ هو"، إلى أن قال: "فهو عينُ ما ظَهَر، وهو عينُ ما بَطَن في حالِ ظُهوره، وما ثم مَن يراه غيره، وما ثَم مَن يَنطِقُ عنه سواه، فهو ظاهرٌ لنفسِه باطنٌ عنه -وهو المسمَّى

أبو سعيد الخراز- وغير ذلك من أسماء المُحدَثات". إلى أن قال: "فالعَلِيُّ لنفسه: هو الذي يكونُ له الكمال، الذي يَستغرقُ به جميِعَ الأمور الوجودية، والنِّسبِ العَدَميَّة، سواءٌ كانت محمودةً عُرفًا وعقلاً وشرعًا، أو مذمومةً عُرفًا وعقلاً وشرَعًا , وليس ذلك إلاَّ لمسمَّى الله خاصةً". وقال: "ألاَ ترى الحقَّ يظهرُ بصفاتِ المُحدَثات؟ وأَخْبَر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص والذمِّ، ألاَ ترى المخلوقَ يَظهرُ بصفاتِ الحق؟! فهي مِن أوَّلِها إلى آخِرِها صفاتٌ له، كما هي صفات المحدَثات حقٌّ للحق". وأمثالُ هذا الكلام. فإنَّ صاحبَ هذا الكتاب المذكور الذي هو "فصوص الحكم" وأمثاله مثل صاحبه القونوي، والتلمساني، وابن سبعين، والششتري، وابن الفارض وأتباعهم، مذهبُهم الذي هم عليه: أن الوجودَ واحدٌ، وُيسمَّون "أهل وِحدة الوجود"، ويدَّعون التحقيقَ والعرفان، وهم يجعلون وجودَ الخالق عينَ وجودِ المخلوقات، فكلُّ ما يتَّصفُ به المخلوقاتُ مِن حُسنٍ، وقُبحٍ، ومَدحٍ، وذَمٍّ، إنما المُتَّصِفُ به عندَهم: عينُ الخالق، وليس للخالق عندهم وجودٌ مبايِنٌ لوجودِ المخلوقات منفصِلٌ عنها أصلاً؛ بل عندهم ما ثَمَّ غيرُ أصلاً للخالق، ولا سواه. ومِن كلماتهم: "ليس إلا الله" .. فعبَّادُ الأصنام لَم يعبُدوا غيرَه عندهم؛ لأنه ما عندهم له غيرٌ؛ ولهذا جعلوا قولَه تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإِسراء: 23] بمعنى "قَدَّرَ ربُّك أنْ لا تعبدوا إلاَّ إياه"، إذ ليس عندهم غيرٌ له تتصوَّر عبادتُه، فكلُّ عابدِ صنمٍ إنما عَبَدَ الله. ولهذا جَعل صاحب هذا الكتاب: عُبَّادَ العِجل مُصيبين، وذَكر أن

موسى أنكر على هارونَ إنكارَه عليهم عبادةَ العجل، وقال: "كان موسى أعلمَ بالأمرِ من هارون؛ لأنه عَلِمَ ما عَبَدَه أصحابُ العجل؛ لِعِلمه بأن الله قد قَضَى أنْ لا يعبدوا إلاَّ إياه، وما حَكَم الله بشيءٍ إلا وَقَع؛ فكان عَتبُ موسى أخاه هارون، لِمَا وَقَع الأمر في إنكاره وعدمِ اتِّباعه، فإن العارفَ مَن يرى الحقَّ في كلِّ شيء، بل يراه عينَ كلِّ شيء". ولِهذا يجعلون فرعونَ من كبارِ العارفين المحقِّقين، وأنه كان مُصيبًا في دعواه الربوبية، كما قال في هذا الكتاب: "ولَمَّا كان فرعونُ في مَنصِبِ التحكُّم صاحبَ الوقت، وأنه جارٍ في العُرفِ الناموسيِّ لذلك، قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] أي: وإنْ كان الكلُّ أربابًا بنسبةٍ ما: فأنا الأعلى منهم؛ بما أُعطِيته في الظاهر مِن الحكم فيهم .. ولَمَّا عَلِمتِ السحرة صِدقَ فرعون فيما قاله: لَم يُنكروه، بل أقرُّوا له بذلك وقالوا له: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه: 72]، فالدولةُ لك، فصحَّ قولُ فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}، وأنه كان عينَ الحق"!!. ويكفيك معرفةَ بكفرهم: أنَّ مِن أخفِّ أقوالِهم: "إنَّ فرعونَ مات مؤمنًا؛ بريًّا من الذنوب"، كما قال: "وكان موسى قُرَّة عَينٍ لفرعون بالإيمان، الذي أعطاه الله عند الغَرَق، فَقَبضه طاهرًا مطهَّرًا، ليس فيه شيءٌ من الخبث؛ لأنه قَبَضه عند إيمانه قبلَ أن يكتسبَ شيئًا من الآثام، والإسلامُ يَجُبُّ ما قَبْله". وقد عُلم بالاضطرار من دينِ أهل المِلل -المسلمين، واليهود، والنصارى-: أن فرعونَ من أكفرِ الخَلقِ بالله؛ بل لَم يَقصَّ الله في القرآنِ قِصَّةَ كافرٍ باسمه الخاصِّ، أعظمَ من قصةِ فرعون، ولا ذَكَر عن أحدٍ من

الكفار مِن كُفرِه، وطُغيانه وعُلوِّه: أعظمَ مما ذَكر عن فرعون. وأخَبَر عنه وعن قومهِ أنهم يدخُلون أشدَّ العذاب، فإن لفظَ "آل فرعون" كلفظ "آل إبراهيم"، و"آل لوط"، و"آل داود"، و"آل أبي أوفى"، يدخلُ فيها المضافُ باتِّفاقِ الناس، فإذا جاؤوا إلى أعظم عدوٍّ لله من الإنس، أو مَن هو مِن أعظم أعدائه: فجعلوه مصيبًا، محقًّا فيما كفَّره به الله: عُلم أن ما قالوه أعظمُ من كفرِ اليهود والنصارى، فكيف بسائر مقالاتهم؟. وقد اتَفق سَلَفُ الأمةِ وأئمَّتها: على أن الخالقَ تعالى بائنٌ من مخلوقاته، ليس في ذاتِه شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيءٌ من ذاته. والسلفُ والأئمةُ كَفَّروا الجهميَّة لَمَّا قالوا: "إنه في كل مكان"، وكان مما أنكروه عليهم: أنه كيف يكونُ في البطون، والحشوشِ، والأخلِية؟ تعالى الله عن ذلك .. فكيف بمن يَجعلُه نَفْسَ وجودِ البطونِ، والحشوش، والأخلية، والنجاسات، والأقذار؟!. وكان عبدُ الله بنُ المبارك يقول: "إنا لَنحكِي كلامَ اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكيَ كلامَ الجهميَّة"، وهؤلاء شرٌّ مِن أولئك الجهمية؛ فإن أولئك كان غايتهم القول بأن الله في كلِّ مكان، وهؤلاء قولهم: إنه وجودُ كلِّ مكان، ما عندهم موجْودانِ؛ أحدهما حالٌّ والآخر مَحِل. ولهذا قالوا: "إن آدمَ من الله بمنزلةِ إنسانِ العَينِ من العين"، وقد عَلم المسلمون، واليهودُ، والنصارى, بالاضطرار من دينِ المرسلين: أن مَن قال عنْ أحدٍ من البشر: "إنه جزءٌ من الله"، فإنه كافرٌ في جميعِ الملل، إذ

النصارى لَم تَقُل هذا -وإن كان قولُها مِن أعظم الكفر- لَم يقُلْ أحدٌ: إن عينَ المخلوقاتِ هي جزءُ الخالق، ولا أن الخالقَ هو المخلوق، ولا الحقُّ المنزَّهُ هو الخَلقُ المشبَّه. وكذلك قولُه: "إن المشركين لو تَركوا عبادةَ الأصنام لجهلوا من الحق بقَدر ما تركوا منها": هو من الكفرِ المعلوم بالاضطرار من جَميع المِلل، فإنَّ أهلَ المِلل متَّفِقون على أن الرسلَ جميعَهم نَهَوا عن عبادةِ الأصنام، وكفَّروا مَن يفعلُ ذلك، وأن المؤمنَ لا يكونُ مؤمنًا حتى يتبرَّأ من عبادةِ الأصنام، وكلّ مبعودٍ سوى الله، كما قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]. وقال الخليلُ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77]. وقال الخليل: {لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26 - 27]. وقال الخليل- وهو إمامُ الحنفاءِ الذي جَعل الله في ذرِّيتَّه النبوةَ والكتاب, واتَّفق أهلُ المِلل على تعظيمه لقوله: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 78 - 79]. وهذا أكثرُ وأظهرُ عند أهل الملل من اليهود والنصارى -فضلاً عن

المسلمين- مِن أن يَحتاجَ أن يستشهدَ عليه بنصٍّ خاصٍّ، فمن قال: إن عبَّادَ الأصنام لو تركوهم لَجَهِلوا من الحقِّ بقَدْرِ ما تركوا من هؤلاء، فهو أكفرُ من اليهود والنصارى، ومَن لَم يكفِّرْهم فهو أكفرُ من اليهود والنصارى , فإن اليهودَ والنصارى يكفِّرون عبَّادَ الأصنام، فكيف مَن يَجعل تارك عبادةِ الأصنام جاهلاً من الحق بقَدْرِ ما تَرَك منها؟ مع قوله: "فإن العالِمَ يَعلمُ مَن عَبَد، وفي أيِّ صورةٍ ظَهَر حتى عَبد، وإن التفريق والكثرة كالأعضاءِ في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في الصورة الرُّوحانية، فما عُبد غير الله في كلِّ معبود"، بل هو أعظمُ من كفرِ عبَّاد الأصنام، فإن أولئك اتَّخذوهم شفعاءَ ووسائطَ، كما قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 2]. * وقال الله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} [الزمر: 43]. * وكانوا مقرِّين بأن الله خالقُ السماوات والأرض، وخالقُ الأصنام، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]. * وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]. ° قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "تسألهم: مَن خَلَق السماواتِ والأرضَ؟ فيقولون: الله .. ثم يعبدون غيره"، وكانوا يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريكَ لك، إلاَّ شريكٌ هو لك، تَملِكُه وما مَلَك"، ولهذا قال تعالى:

{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الروم: 28]. وهؤلاء أعظمُ كفرًا، مِن جهةِ أن هؤلاءِ جَعلوا عابدَ الأصنام عابدًا للَّه لا عابدًا لغيره، وأنَّ الأصنامَ من الله، بمنزلةِ أعضاءِ الإنسان من الإنسان، وبمنزلةِ قُوى النفسِ من النفس، وعُبَّادُ الأصنام اعترفوا بأنهم غيرُه، وأنها مخلوقة، ومِن جهةِ أن عبَّادَ الأصنامِ من العرب كانوا مُقرِّين بأن للسماوات والأرض ربًّا غيرَهما خَلَقَهما، وهؤلاء ليس عندهم للسماوات والأرض -وسائر المخلوقاتِ- ربٌّ مُغايِرٌ للسماوات والأرض وسائرِ المخلوقات، بل المخلوق هو الخالق!. ولهذا جَعل قومَ عاد -وغيرَهم من الكفار- على صراطٍ مستقيم، وجَعَلهم في عَينِ القرب، وجَعَل أهلَ النار يتمتَّعون في النار، كما يتمتَّعُ أهلُ الجنةِ في الجنة. وقد عُلم بالاضطرار مِن دِينِ الإسلام: أن قومَ عادٍ وثمودَ وفرعونَ وقومَه -وسائرَ مَن قَصَّ الله قصَّته من الكفار- أعداءُ الله، وأنهم معذَّبون في الآخرة، وأن الله لَعَنهم وغَضِبَ عليهم، فمن أثنى عليهم وجَعَلهم من المقربين ومن أهل النعيم: فهو أكفرُ من اليهودِ والنصارى، مِن هذا الوجه. وهذه الفتوى لا تَحتملُ بَسْطَ كلام هؤلاء وبيانَ كُفرِهم وإلحادهم، فإنهم من جِنسِ القرامطة الباطنية والإسماعيلية، الذين كانوا أكفَرَ من اليهود والنصارى، وإن قولهم يتضمَّنُ الكفْرَ بجميعِ الكتب والرسل، كما قال الشيخ إبراهيمُ الجعبري، لَما اجتَمَع بابن عربي -صاحبِ هذا الكتاب- فقال: "رأيته شيخًّا نجسًا، يُكذِّبُ بكلِّ كتابٍ أنزله الله، وبكلِّ نبيٍّ

أرسَلَه الله". وقال الفقيه أبو محمد بن عبد السلام -لَما قَدِمَ القاهرة وسألوه عنه- قال: "هو شُيخُ سَوءٍ كذابٌ مقبوح، يقول بقِدَم العالَم، ولا يحرِّم فَرجًا". فقوله: "يقول بقِدَم العالَم"؛ لأن هذا قوله، وهذا كفرٌ معروف، فكَفَّره الفقيه أبو محمد بذلك، ولم يكن بعد ظَهَر مِن قوله: "إن العالَم هو الله، وإنَّ العالَم صورةُ اللَّهِ وهويَّة الله"، فإن هذا أعظم من كفرِ القائلين بقِدَم العالم، الذين يُثبِتون واجبَ الموجود، ويقولون: "إنه صَدَر عنه الوجود المُمكن". ° وقال عنه مَن عايَنه من الشيوخ: "إنه كان كذَّابًا مفترِيًا"، وفي كتبه -مثل "الفتوحات المكية" وأمثالها- من الأكاذيب ما لا يَخفى على لبيب، هذا وهو أقرب إلى الإسلام من ابنِ سَبعين، ومن القونوي، والتلمساني، وأمثالِه من أتباعه، فإذا كان الأقربُ بهذا الكفر -الذي هو أعظم من كفرِ اليهود والنصارى-، فكيف بالذين هم أبعد عن الإسلام؟ ولَم أَصِفْ عُشْرَ ما يذكرونه من الكفر. ولكن هؤلاء التَبَس أمرهم على مَن لَم يَعرِفْ حالَهم، كما التبس أمرُ القرامطةِ الباطنيةِ لَمَّا ادَعَوا أنهم فاطِميُّون، وانتَسبوا إلى التشيُّع، فصار المتَّبِعون مائلين إليهم، غيرَ عالمِين بباطنِ كُفرهم. ولهذا كان مَن مال إليهم أحدَ رجلين: إما زنديقًا منافقًا, وإما جاهلاً ضالاًّ. وهكذا هؤلاء الاتِّحادية: فرؤوسهم هم أئمة كُفرٍ يَجبُ قَتلهم، ولا

تُقبلُ توبةُ أحدٍ منهم -إذا أُخذ قَبل التوبة-، فإنه من أعظمِ الزنادقة الذين يُظهِرون الإِسلام، ويُبطِنون أعظمَ الكفر، وهم الذين يَفْهَمون قولَهم، ومُخالفتهم لدينِ المسلمين، ويجبُ عقوبةُ كلِّ مَن انتسَبَ إليهم، أو ذَبَّ عنهم، أو أثنى عليهم، أو عَظَّم كُتبَهم، أو عُرِف بمساعدتِهم ومعاونتهم، أو كَرِهَ الكلامَ فيهم، أو أَخَذ يعتذر لهم بأن "هذا الكلامَ لا يُدرَى ما هو؟ " أو: "من قال: إنه صنَّف هذا الكتاب؟ "، وأمثالُ هذه المعاذير، التي لا يقولُها إلاَّ جاهل، أو منافق, بل تجبُ عقوبةُ كلِّ مَن عَرَف حالَهم، ولَم يعاونْ على القيام عليهم، فإن القيامَ على هؤلاءِ من أعظمِ الواجبات؛ لأنهم أفسَدوا العقولَ والأديان على خَلْقٍ من المشايخِ والعلماء، والملوك والأمراء، وهم يَسْعَون في الأرض فسادًا، ويصدُّون عن سبيل الله. فضررُهم في الدين أعظمُ من ضَررِ من يُفسِدُ على المسلمين دنياهم، ويتركُ دِينَهم كقُطَّاعِ الطريق، وكالتتارِ الذين يأخذون منهم الأموال، ويُبقُون لهم دينهم، ولا يستهينُ بهم مَن لَم يعرفهم، فضلالُهم وإضلالُهم أعظمُ مِن أن يوصَف، وهم أشبهُ الناس بالقرامطة الباطنية. ولهذا هم يريدون دولةَ التتار، ويختارون انتصارَهم على المسلمين، إلاَّ مَن كان عامِّيًّا مِن شِيَعهِم وأتباعهم؛ فإنه لا يكونُ عارفًا بحقيقةِ أمرهم. ولهذا يقرُّون اليهود والنصارى على ما هم عليه، ويَجعلونهم على حق، كما يَجعلون عُبَّادَ الأصنام على حقٍّ، وكل واحدةٍ من هذه مِن أعظمِ الكفر، ومَن كان مُحسِنًا للظن بهم -وادَّعى أنه لَم يعرِفْ حالَهم- عُرِّف حالَهم، فإنْ لم يبايِنهم ويظهِر لهم الإِنكار، وإلاَّ أُلْحِقَ بهم وجُعل منهم. وأمَّا من قال: "لكلامهم تأويلٌ يوافقُ الشريعة"؛ فإنه من رؤوسهم

بعض ألفاظ ابن عربي التي تبين مذهبه الذي قد لا يفهمه أكثر الناس

وأئمتهم؛ فإنه إن كان ذكيًّا فإنه يَعرِف كَذِبَ نفسِه فيما قاله، وإن كان معتقِدًا لهذا باطنًا وظاهرًا فهو أكفرُ من النصارى، فمن لم يكفِّرْ هؤلاء، وجَعل لكلامهم تأويلاً كان عن تكفيرِ النصارى بالتثليث والاتحاد أبعدَ .. والله أعلم" (¬1). ° ومذهب ابنِ عربيٍّ له أصلان: أولهما: أن المعدومَ شيءٌ ثابتٌ في العدم. الثاني: أن وجودَ الأعيانِ نفس وجودِ الحقِّ. * بعضُ ألفاظ ابن عربيٍّ التي تُبيِّنُ مذهبَه الذي قد لا يَفهمُه أكثرُ الناس: ° قال في "فصِّ يوسف" -بعد أن جَعل العالَم بالنسبة إلى الله كظِلِّ الشخص، وتناقَضَ في التشبيه-: "فكلُّ ما تُدرِكه فهو وجودُ الحقِّ في أعيانِ الممكِنات، فمن حيث هُوِيةِ الحقِّ هو وجوده، ومِن حيث اختلافِ الصُّور فيه هو أعيانُ الممكنات، فكما لا يزول عنه باختلافِ الصور اسم "الظل"، كذلك لا يَزول عنه باختلافِ الصور اسم "العالَم" أو اسم "سوى الحق"، فمن حيث أَحَدِيَّةِ كونِه ظلاًّ هو الحقُّ؛ لأنه الواحد الأحد، ومِن حيث كثرةِ الصُّور هو العالَم، فتفطَّن وتحققْ ما أوضحناه لك. وإذا كان الأمرُ على ما ذكرتُه لك: فالعالَم متوَّهمٌ ما له وجودٌ حقيقي، وهذا معنى الخيال أي: خُيِّل لك أنه أمرٌ زائدٌ قائم بنفسه، خارجٌ عن الوجود الحق، وليس كذلك في نفسِ الأمر؛ ألاَ تراه في الحسِّ متَّصلاً بالشخص الذي امتدَّ عنه، يستحيل عليه الانفكاكُ عن ذلك الاتصال؛ لأنه ¬

_ (¬1) "مجموع فتاوى ابن تيمية" (2/ 121 - 133).

يستحيلُ على الشيءِ الانفكاكُ عن ذاته، فاعرِفْ عَيْنَك ومَن أنت وما هُويتك؟ وما نسبتك إلى الحق، وبما أنت حقٌّ، وبما أنت عالَم، وسوى، وغيرٌ؟ وما شاكَلَ هذه الألفاظ". ° وقال في أول "الفصوص" -بعد "فص: حكمة إلهية في كلمة آدمية"، وفص: حكمة نفسية، في كلمة شَيثية"-: "وقد قُسم العطاءُ بأمرِ الله، وإنما يكون عن سؤال وعن غير سؤال -وذَكَر القِسمَ الذي لا يُسأل-؛ لأن شيثًا هو هِبةُ الله". ° إلى أن قال: "ومِن هؤلاء مَن يَعلمُ أن عِلمَ الله به في جميعِ أحوله: هو ما كان عليه في حالِ ثُبوتِ عينهِ قبل وجودِها، ويَعلمُ أن الحقَّ لا يُعطيه إلاَّ ما أعطاه عينَه من العِلم به، وهو ما كان عليه في حال ثبوته، فيَعلمُ عِلمَ الله به مِن أين حصل، وما ثَمَّ صِنفٌ من أهل الله أعلى وأكشفُ من هذا الصِّنف، فهم الواقفون على سِرِّ القدر، وهم على قسمين: منهم مَن يعلم ذلك مجمَلاً، ومنهم مَن يعلم ذلك مفصَّلاً. والذي يعلمُه مفصَلاً أعلى وأتمُّ من الذي يَعلمُه مُجمَلاً، فإنه يَعلمُ ما تَعيَّن في علم الله فيه، إمَّا بإعلام الله إياه بما أعطاه عَينَه من العلم به، وإما بأن يَكشفَ له عن عينهِ الثابتة، وعن انتقالاتِ الأحوالِ عليها إلى ما لا يتناهى، وهو أعلى، فإنه يكونُ في عِلمه بنفسه بمنزلةِ عِلم الله به؛ لأنَّ الأخذَ من معدِن واحد، إلا أنه من جِهةِ العبدِ عنايةٌ من الله سبَقَتْ له، هي من جملةِ أحوالِ عَينه، يعرفها صاحبُ هذا الكشف إذا أَطْلَعَه اللهُ على ذلك -أي على أحوال عَينه-، فإنه ليس في وُسعِ المخلوق إذا أطْلَعَه الله على أحوالِ عينه الثابتة -التي تقع صورةُ الوجودِ عليها- أن يَطَّلعَ في هذه الحال

على اطِّلاع الحقِّ على هذه الأعيانِ الثابتة في حال عَدَمِها؛ لأنها نِسَبٌ ذاتية لا صورةَ لها. فبهذا القَدْر نقول: إن العناية الإلهيةَ سَبَقت لهذا العبدِ بهذه المساواة في إفادتها العلم، ومن هنا يقول الله: "حتى نعلم" وهي كلمة محققةُ المعنى، ما هي كما يَتوهَّمُ مَن ليس له هذا المَشْرَب، وغايةُ المُنزِّه أن يجعلَ ذلك الحدوثَ في العلم للتعلُّق، وهو أعلى وجهٍ يكونُ للمتكلِّم يعقِلُه في هذه المسألة، لولا أنه أَثبت العلم زائدًا على الذات، فجَعل التعلُّقَ له لا للذات، وبهذا انفصل عن المحقِّقِ من أهل الله صاحبُ الكشف والشهود. ثم نرجعُ إلى الأُعطيات فنقول: إن الأُعطيات إما ذاتية أو أسمائية، فأما المنَحُ والهِبات، والعطايا الذاتية، فلا تكونُ أبدًا إلاَّ عن تَجَلٍّ إلهيٍّ، والتجلِّي من الذات لا يكونُ أبدًا إلاَّ لصورةِ استعدادِ العبدِ المتجلَّى له، وغير ذلك لا يكون، فإذن المتجلَّى له ما رأى سِوى صورتِه في مِرآةِ الحق، وما رأى الحق، ولا يمكن أن يَراه مع عِلمِه أنه ما رأى صورتَه إلاَّ فيه، كالمِرآة في الشاهد, إذا رأيتَ الصورَ فيها لا تراها مع عِلمِك أنك ما رأيتَ الصورَ أو صورتَك إلا فيها. فأبرَزَ اللهُ ذلك مثالاً نَصَبه لتجلِّيه الذاتي، لِيعلم المتجلَّى له أنه ما رآه، وما ثَمَّ مثالٌ أقربُ ولا أشبه بالرؤية والتجلِّي من هذا، واجهَدْ في نفسِك عندما ترى الصورةَ في المرآة أن ترى جِرمَ المِرآة، لا تراه أبدًا البتةِ، حتى إن بعض مَن أدرك مثل هذا في صورةِ المرئي: ذَهَب إلى أن الصورة المرئيةَ بين بصر الرائي وبين المرآة، هذا أعظم ما قَدَر عليه مْن العلم، والأمر كما قلناه وذهبنا إليه.

وقد بيَّنَّا هذا في "الفتوحاتِ المكيَّة"، وإذا ذُقتَ هذا: ذُقتَ الغايةَ التي ليس فوقَها غايةٌ في حق المخلوق، فلا تطمعْ ولا تُتعِب نفسَك في أنْ تَرْقَى أعلى من هذا الدَّرَج، فما هو ثَمَّ أصلاً، وما بعده إلاَّ العدمُ المَحض، فهو مرآتُك في رؤيتك نفسَك، وأنت مِرآته في رؤيتِه أسماءَه وظهورِ أحكامها، وليست سوى عَينهِ، فاختلَطَ الأمر وانْبَهَم، فمنا مَن جَهِل في عِلمه، فقال: "والعجزُ عن دَرَكِ الإِدراك إدراك"، ومنَّا مَن علم فلم يقل مثلَ هذا القول، وهو أعلى القول، بل أعطاه العلمُ السكوتَ ما أعطاه العجز، وهذا هو أعلى عالِم بالله. وليس هذا العِلمُ إلاَّ لخاتَم الرسل، وخاتَم الأولياء، وما يراه أحدٌ من الأنبياء والرسل إلاَّ من مِشكاةِ الرسول الخاتم، ولا يراهُ أحد من الأولياء إلاَّ من مِشكاة الوليِّ الخاتم، حتى إن الرسلَ لا يَرَونه متى رَأَوْه إلا من مشكاةِ خاتم الأوليَاء، فإن الرسالةَ والنبوة -أعني نبوةَ التشريع ورسالته- ينقطعانِ، والولايةَ لا تنقطع أبدًا. فالمرسَلون من حيثُ كونُهم أولياء: لا يَرَون ما ذكرناه إلا من مشكاةِ خاتم الأولياء، فكيف مَن دونَهم من الأولياء؟ وإن كان خاتَم ُالأولياء تابعًا في الحكم لِمَا جاءَ به خاتمُ الرسل من التشريع، فذلك لا يَقدح في مقامِه، ولا يُناقضُ ما ذَهَبْنا إليه، فإنه مِن وجهٍ يكون أنزَل، كما أنه من وجهٍ يكون أعلى. وقد ظَهَر في ظاهِرِ شرعنا: ما يؤيِّدُ ما ذَهَبْنا إليه في فَضلِ عمر: في أُسارى بدرٍ بالحُكم فيهم، وفي تأبيرِ النخل؛ فما يَلزمُ الكاملَ أن يكونَ له التقدُّمُ في كلِّ شيء وفي كلِّ مرتبة، وإنما نَظَرُ الرجالِ إلى التقدم في مرتبة العلم بالله، هنالك مطلبهم .. وأما حوادثُ الأكوانِ، فلا تَعَلُّقَ لخواطِرِهم

بها، فتحقَّقْ ما ذكرناه. ° ولَمَّا مَثَّل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - النبوةَ بالحائطِ من اللَّبِن وقد كَمُل سِوى موضع لبنةٍ، فكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تلك اللبنة، غيرَ أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يراها -إلاَّ كما قال- لبنة واحدة. ° وأمَّا خاتمُ الأولياء: فلا بدَّ له من هذه الرؤية، فيَرى ما مَثَّل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيرى في الحائط موضعَ لبنتين، واللَّبِن من ذَهَبٍ وفضةٍ، فيرى اللبنتين اللتين يَنقص الحائطُ عنهما ويَكمُلُ بهما لَبنةَ ذهبٍ ولبنةَ فضةٍ، فلا بد من أن يَرى نفسَه تنطبعُ في موضع تَينِكَ اللبنتينِ، فيكون خاتمُ الأولياء تَينِكَ اللبنتين، فيَكملُ الحائط. والسببُ الموجِبُ لكونه رآها لَبِنَتَينِ: أنه تابعٌ لشرعِ خاتم الرسل في الظاهر، وهو موضعُ اللبنةِ الفِضةِ وهو ظاهره، وما يَتبعُه فيه من الأحكام كما هو آخِذٌ عن الله تعالى في السرِّ ما هو بالصورة الظاهرة مُتَّبع فيه؛ لأنه رأى الأمرَ على ما هو عليه، فلا بد أن يراه هكذا، وهو موضعُ اللبنةِ الذهبيةِ في الباطن، فإنه آخِذٌ من المعدنِ الذي يأخذُ منه المَلَك، الذي يوحِي به إلى الرسول. فإن فهمتَ ما أشرتُ به، فقد حَصَل لك العلمُ النافع، فكلُّ نبيٍّ مِن لدن آدمَ إلى آخرِ نبيٍّ , ما منهم أحد يأخذْ إلا من مِشكاةِ خاتم النبيين، وإن تأخر وجودُ طِينتِه، فإنه بحقيقته موجود، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كنتُ نبيًّا وآدم بين الماء والطين"، وغيرُه من الأنبياء ما كان نبيًّا إلاَّ حينَ بُعث. وكذلك خاتم الأولياء، كان وليًّا وآدمُ بين الماء والطين، وغيرُه مِن الأولياء ما كان وليًّا إلاَّ بعد تحصيلِه شرائطَ الولاية، مِن الأخلاق الإلهية،

بطلان مذهب ابن عربي

والاتصافِ بها من أجل كَونِ اللَّهِ يسمَّى بالولي الحميد. فخاتم الرسل من حيثُ ولايتِه، نِسبتُه مع الختم للولاية مِثلُ نسبةِ الأنبياء والرسلِ معه، فإنه الوليُّ الرسولُ النبي. ° وخاتمُ الأولياء: الوليُّ الوارث، الآخِذُ عن الأصل المشاهِد للمراتب، وهو حَسنةٌ من حسنات خاتم الرسل محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، مقدَّمِ الجماعة، وسيِّدِ ولدِ آدمَ في فتح باب الشفاعة, فعيَّن بشفاعته حالاً خاصًّا ما عمم، وفي هذه الحال الخاص تقدَّم على الأسماءِ الإلهية؛ فإنَّ الرحمنَ ما شَفَع عند المنتقم في أهلِ النبلاء إلاَّ بعد شفاعةِ الشافعين، ففاز مُحمَّدٌ بالسيادة في هذه المقام الخاص. فمن فَهم المراتبَ والمقامات لَم يَعسُرْ عليه قبولُ مثلِ هذا الكلام" اهـ. * بطلانُ مذهب ابن عربي: فهذا "الفصُّ" قد ذَكر فيه حقيقةَ مذهبِه التي يبني عليها سائرَ كلامه، فتدبر ما فيه من الكفر الذي: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 90]، وما فيه من جَحدِ خلقِ الله وأمره، وجُحودِ ربوبيتِهِ وألوهيتِهِ وشَتْمِه وسَبِّه، وما فيه من الإزراء برُسُله، وصِدِّيقِيهِ، والتقدُّمِ عليهم بالدعاوَى الكاذبة، التي ليس عليها حُجَّة، بل هي معلومةُ الفساد بأدنى عقل وإيمانٍ وأيسرِ ماْ يُسمَعُ من كتابٍ وقرآن، وجَعَل الكفارَ والمنافقين والفراعنةَ هم أهلُ الله وخاصَّته أهلَ الكشوف، وذلك باطلٌ من وجوه: أحدها: أنه أثبت له عَينًا ثابتةً قبلَ وجودِه ولسائرِ الموجودات، وإن ذلك ثابتٌ له ولسائرِ أحوالِه، وكل ما كان موجودًا من الأعيان والصفات

والجواهر والأعراضِ، فعينُه ثابتة قبلَ وجوده .. وهذا ضلالٌ قد سبق إليه كما تقدم. الثاني: أنه جَعل عِلمَ اللَّهِ بالعبد إنما حَصَل له مِن علمِه بتلك العينِ الثابتةِ في العَدَم التي هي حقيقةُ العبد، لا من نفسِه المقدَّسة، وأن عِلمَه بالأعيان الثابتةِ في العدم وأحوالِها تمنُعه أن يَفعلَ غيرَ ذلك، وأنَّ هذا هو سرُّ القَدَر. فتضمَّن هذا وصفَ اللَّهِ تعالى بالفقرِ إلى الأعيانِ وغِناها عنه، ونَفيَ ما استحقه بنفسه مِن كمال عِلمِه وقُدرتِه، ولزومَ التجهيل والعجيز، وبعض ما في هذا الكلام مضاهاةٌ َلِمَا ذَكَره الله عمن قال فيه: {لَقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] الآية، فإنه جَعَل حقائقَ الأعيان الثابتةِ في العدم غَنيَّةً عن الله في حقائقها وأعيانها، وجَعَل الربَّ مفتقِرًا إليها في علمِه بها، فما استفاد عِلمَه بها إلاَّ منها، كما يستفيدُ العبدُ العلمَ بالمحسوسات من إدراكه لها، مع غِنَى تلك المُدرَكات عن المدرِك. والمسلمون يعلمون أن اللَّهَ عالِمٌ بالأشياء قبلَ كونها بعلمه القديم الأزليِّ الذي هو من لوازم نفسِه المقدَّسة، لَم يستفِدْ عِلمَه بها منها: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، فقد دلت هذه الآية، على وجوبِ عِلمه بالأشياء. الثالث: أنه زعَم أن من الصنف الذي جَعَله أعلى أهلِ الله مَن يكونُ في علمِه بمنزلةِ علم الله؛ لأن الأخذَ مِن مَعدِنٍ واحدٍ إذا كُشف له عن أحوالِ

الأعيانِ الثابتة في العدم، فيَعلمُها من حيث عَلمَها الله، إلاَّ أنه من جهة العبد عناية من الله سَبَقت له، هي من جُملةِ أحوالِ عينه، يعرفُها صاحب هذا الكشف إذا أَطْلَعَه الله على ذلك، فجعل عِلمَه وعِلمَ الله من مَعدنٍ واحد. الرابع: أنه جَعل اللَّهَ عالِما بها بعد أن لَم يكن عالِمًا، واتَّبَعَ المتشابِهَ الذي هو قوله: {حَتَّى نَعْلَمَ} [محمد: 31]، وزَعَم أنها كلمةٌ محقَّقْةُ المعنى، بِناءً على أصلِه الفاسد أن وجودَ العبدِ هو عين وجودِ الربِّ، فكلُّ مخلوقٍ عَلِمَ ما لَم يكن عَلِمَه، فهو الله عَلِم ما لَم يكن عَلِمَه. وهذا الكفرُ ما سبقه إليه كافر، فإنَّ غايةَ المكذِّبِ بقَدَرِ الله أنْ يقول: إن اللَّهَ عَلِم ما لَم يكن عالِمًا؛ أمَّا أنه يَجعلُ كلَّ ما تجدَّد لمخلوقٍ من العلم فإنما تجدَّد للَّه، وأنَّ اللَّهَ لم يكنْ عالمًا بما عَلِمه كلُّ مخلوق، حتى عَلِمَه ذلك المخلوقُ، فهذا لم يَفْتَرِهِ غيرُه. الخامس: أنه زَعم أن التجلِّي الذاتي، بصورةِ استعداد المتجلِّي والمتجلَّى له، ما رأى سوى صورتِه في مرآةِ الحق، وأنه لا يمكنُ أن يَرى الحقَّ مع عِلمِه بأنه ما رأى صورتَه إلاَّ فيه، وضَرَبَ المَثَلَ بالمِرآة؛ فجَعَلَ الحقَّ هو المرآة، والصورةَ في المِرآة هي صورته!. وهذا تحقيقُ ما ذكرتُه من مذهبه: أنَّ وجودَ الأعيانِ عنده وجودُ الحق، والأعيان كانت ثابتةً في العدم فظهَر فيها وجودُ الحق، فالمتجلَّى له -وهو العبد- لا يرى الوجودَ مجرَّدًا عن الذْوات، ما يَرى إلاَّ الذواتِ التي ظَهر فيها الوجودُ، فلا سبيلَ له إلى رؤيةِ الموجود أبدًا، وهذا عنده هو الغاية التي ليس فوقَها غايةٌ في حقِّ المخلوق، وما بعدَه إلاَّ العدمُ المَحضُ، فهو مِرآتُك

في رؤيتِك نفسَك، وأنت مِرآتُه في رؤيتهِ أسماءَه وظهورِ أحكامِها. وذلك لأنَّ العبدَ لا يَرى نفسَه -التي هي عينُه- إلاَّ في وجودِ الحق، الذي هو وجودُه، والعبدُ مِرآتُه في رؤيته أسماءَه وظهورِ أحكامها؛ لأن أسماءَ الحق عنده هي النسَبُ والإضافات، التي بين الأعيان وبين وجودِ الحق؛ وأحكامُ الأسماء هي الأعيانُ الثابتةُ في العدم، وظهورُ هذه الأحكام بتجلِّي الحق في الأعيان. والأعيان التي هي حقيقةُ العِيان: هي مِرآةُ الحقِّ، التي بها يَرى أسماءَه؛ وظهورَ أحكامها، فإنه إذا ظَهَر في الأعيان، حَصَلت النسبةُ التي بين الوجود والأعيان -وهي الأسماء-، وظهرت أحكامُها -وهي الأعيان-، ووجودُ هذه الأعيان هو الحق؛ فلهذا قال: "وليست سوى عينِه"، فاختلط الأمر وانبهم. فتدبر هذا من كلامه وما يناسبه؛ لِتعلمَ ما يعتقدُه مِن ذاتِ الحقِّ وأسمائِه، وأن ذاتَ الحقِّ عنده هي نفسُ وجودِ المخلوقات وأسماءَه هي النِّسَبُ التي بين الوجودِ والأعيان، وأحكامُها هي الأعيان، لتعلمَ كيف اشتَمل كلامُه على الجحودِ لله ولأسمائِه ولصفاتِه وخَلْقِهِ وأمرِه، وعلى الإلحادِ في أسماءِ الله وآياته! فإن هذا الذي ذَكَرَه غايةُ الإلحاد في أسماءِ الله وآياته؛ الآيات المخلوقة والآياتِ المَتْلُوَّة، فإنه لَم يُثبِتْ له اسمًا ولا آيةً، إذ ليس إلاَّ وجودًا واحدًا؛ وذاك ليس هو اسمًا ولا آيةً، والأعيانُ الثابتةُ ليست هي أسماءَه ولا آياته؛ ولمَّا أثبَتَ شيئينِ فَرق بينهما بالوجودِ والثبوت -وليس بينهما فرقٌ- اختلط الأمرُ عليه وانبهم. وهذا حقيقةُ قوله وسرُّ مذهبه؛ الذي يدَّعي أنه به أعلمُ العالَم بالله،

تفضيله نفسه على الرسل

وأنه تقدَّم بذلك على الصِّدِّيق، الذي جَهِل فقال: "العجزُ عن دَرَكِ الإدراكِ إدراكُ"؛ وتقدَّم به على المرسلين، الذين ما عَلِموا ذلك إلاَّ من مِشكاته، وفيه مِن أنواع الكفرِ والضلال ما يطولُ عدُّها: منها: الكفرُ بذات الله، إذ ليس عنده إلاَّ وجودُ المخلوق. ومنها: الكفر بأسماءِ الله، فإنها ليست عنده إلاَّ أمورًا عَدَميَّةً، فإذا قلنا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، فليس الربُّ عنده إلاَّ نِسبة إلى الثبوت. السادس: أنه قال: "فاختلط الأمرُ وانبهم"، أو هو على أصلِهِ الفاسد مختلِطٌ منبهِم، وعلى أصل الهدى والإيمان متميِّزٌ متبيِّن، قد بيَّن الله بكتابه الحقَّ من الباطل والهدى من الضلال. قال: "فمنا مَن جَهِل في عِلمِه، فقال: العجزُ عن دَرَكِ الإدراكِ إدراكُ"، وهذا الكلامُ مشهورٌ عندهم نسبته إلى أبي بكر الصديق، فجعله جاهلاً، وإن كان هذا اللفظُ لَم يُحفظ عن أبي بكر، ولا هو مأثورٌ عنه في شيءٍ من المنقول المعتمَدة، وإنما ذَكر ابن أبي الدنيا في كتاب "الشكر" نحوًا من ذلك عن بعضِ التابعين غيرَ مُسمًّى، وإنما يرسَل عنه إرسالاً من جهةِ مَن يَكثُرُ الخطأُ في مراسِيلهم. * تفضيلُه نفسَه على الرسل: السابع: أنه قال: "ومنَّا مَن عَلِم فلم يَقُلْ مثلَ هذا، وهو أعلى القول، بل أعطاه العلمَ والسكوتَ ما أعطاه العَجْز، وهذا هو أعلى عالِمٍ بالله، وليس هذا العِلمُ إلاَّ لِخاتَم الرسل وخاتَمِ الأولياء، وما يراه أحدٌ من الأولياء

والرسل إلاَّ من مِشكاةِ الرسول الخاتم، ولا يراه أحدٌ من الأولياء إلاَّ من مِشكاةِ الوليِّ الخاتم؛ حتى إن الرسلَ لا يَرَونه متى رأوه، إلاَّ من مشكاة خاتَمِ الأولياء. فإنَّ الرسالةَ والنبوةَ -أعني نبوةَ التشريع ورسالتَه- ينقطعانِ، والولايةَ لا تنقطعُ أبدًا؛ فالمرسَلون مِن كونهم أولياءَ: لا يَرَون ما ذكرناه إلا من مشكاةِ خاتم الأولياء، فكيف مَن دونَهم من الأولياء؟ وإن كان خاتَمُ الأولياء تابعًا في الحكم لِمَا جاء به خاتم الرسل من التشريع، فذلك لا يَقدح في مَقامِه، ولا يناقِضُ ما ذهبنا إليه، فإنه من وجهٍ يكونُ أَنْزَلَ، كما أنه من وجهٍ يكون أعلى" .. إلى قوله: "ولَمَّا مَثل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - النبوةَ بالحائطِ من اللَّبِن .. ". ففي هذا الكلامِ من أنواعِ الإلحاد والكفر، وتنقيصِ الأنبياء والرسل ما لا تقوله لا اليهودُ ولا النصارى: وما أشبَهَه في هذا الكلام بما ذُكر في قوله القائل: "فَخَرَّ عليهم السقفُ مِن تحتهم": "إن هذا لا عقلَ ولا قرآن". وكذلك ما ذَكره هنا -من أن الأنبياءَ والرسلَ تستفيدُ من خاتم الأولياء الذي بعدَهم- هو مخالفٌ للعقل، فإنَّ المتقدِّمَ لا يستفيدُ من المتأخِّر، ومُخالفٌ للشرع، فإنه معلومٌ بالاضطرار من دينِ الإسلام: أن الأنبياءَ والرسل أفضل من الأولياء، الذين ليسوا أنبياءَ ولا رسلاً. وقد يزعُم أنَّ هذا العِلمَ -الذي هو عنده- أعلى العلم "وهو القول بوحدة الوجود"، وأن وجودَ الخالقِ هو وجودُ المخلوق، وحقيقتُه تعطيلُ الصانع وجَحدُه، وهو القولُ الذي يظهِرُه فرعون، فلم يَكْفِهِ زعمُه أن هذا حَقٌّ، حتى زعم أنه أعلى العِلم، ولَم يَكفِهِ ذلك حتى زَعَم أن الرسلَ إنما

يَرَونه من مشكاةِ خاتم الأولياء. فجعل خاتَمَ الأولياء أعلمَ بالله من جميع الأنبياء والرسل، وجَعَلهم يَرَون العلمَ بالله من مِشكاته. ثم أخذ يُبيِّن ذلك، فقال: "فإنَّ الرسالةَ والنبوة -أعني نبوة التشريع ورسالتَه- ينقطعانِ والولايةُ لا تنقطعُ أبدًا، فالمرسَلون من كونهم أولياءَ لا يَرَون ما ذكرناه إلاَّ من مشكاةِ خاتم الأولياء، فكيف بالأولياء الذين ليسوا أنبياءَ ولا رُسلاً؟ "، وذلك أنه لم يمكِنْهم أن يَجعلوا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا ورسولاً، فإن هذا كفرٌ ظاهر، فزعموا أنه إنَّما تنقطعُ نبوةُ التشريع ورسالته، يعني وأمَّا نبوةُ التحقيق ورسالةُ التحقيق -وهي الولاية عندهم- فلم تنقطع، وهذه الولايةُ عندهم هي أفضلُ من النبوةِ والرسالة، ولهذا قال ابنُ عربيٍّ في بعض كلامه: مقامُ النبوَّةِ في بَرزخٍ ... فويقَ الرسولِ ودُونَ الوليِّ ° وقال في "الفصوص" في: "كلمة عُزَيريَّة": "فإذا سمعتَ أحدًا من أهلِ الله تعالى يقولُ أو ينقُل إليك عنه، أنه قال: "الولايةُ أعلى من النبوة"، فليس يريد ذلك القائلُ إلاَّ ما ذكرناه. أو يقول: إن الوليَّ فوقَ النبيِّ والرسول؛ فإنه يعني بذلك في شخصٍ واحدٍ وهو أن الرسول - عليه السلام - من حيثُ هو وِلِيٌّ- أتمُّ منه من حيثُ هو نبيُّ ورسولٌ، لا أنَّ الوليَّ التابعَ له أعلى منه، فإنَّ التابعَ لا يُدرِك المتبوعَ أبدًا فيما هو تابع له فيه، إذ لو أدركه لَم يكن تابعًا له". وإذا حُوققوا على ذلك قالوا: "إن وَلايةَ النبيِّ فوقَ نبوَّته، وإن نبوَّتَه

فوقَ رسالته؛ لأنه يأخذ بولايتهِ عن الله". ثم يَجعلون مِثلَ ولايتِه ثابتةً لهم، ويَجعلون ولايةَ خاتم الأولياء أعظمَ من ولايته، وأن ولايةَ الرسول تابعةٌ لولاية خاتمِ الأولياء الذي ادَّعوه". وفي هذا الكلام أنواعٌ قد بيَّناها في هذا الموضع: منها: ما ادَّعاه من "خاتم الأولياء" الذي يكون في آخِرِ الزمان، وتفضيلِه وتقديمِه على من تقدَّم من الأولياء، وأنه يكونُ معهم كخاتم الأنبياء مع الأنبياء. وهذا ضلالٌ واضح؛ فإن أفضلَ أولياءِ الله من هذه الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وأمثالُهم من السابقين الأوَّلين مِن المهاجرين والأنصار، كما ثبت ذلك بالنصوص المشهورة. ثُم إن "خاتم الأولياء" هذا صار مرتبةً موهومةً لا حقيقةَ له، وصار يدَعيها لنفسِه أو لشيخِه طوائفُ، وقد ادَّعاها غيرُ واحد، ولَم يدَّعِها إلاَّ مَن في كلامه من الباطل ما لَم تَقُلْه اليهودُ ولا النصارى، كما ادَّعاها صاحب "الفصوص"، وتابعه صاحبُ "الكلام في الحروف"، وشيخٌ من أتباعهم كان بدمشق، وآخَر كان يزعمُ أنه "المهديُّ" الذي يُزوجُ بنتَه بعيسى بن مريم، وأنه خاتمُ الأولياء، ويدَّعي هؤلاءِ وأمثالهم مِن الأمور ما لا يصلحُ إلاَّ للَّه وحده، كما قد يدَّعي المُدَّعي منهم لنفسِه أو لشيخه ما ادَّعته النصارى في المسيح. ثم صاحب "الفصوص" وأمثاله بَنَوُا الأمرَ على أن الوليَّ يأخذُ عن الله بلا واسطة، والنبيُّ يأخذْ بواسطةِ المَلَك؛ فلهذا صار خاتمُ الأولياء أفضلَ عندهم من هذه الجهة، وهذا باطلٌ وكذب، فإنَّ الوليَّ لا يأخذُ عن الله إلاَّ

بواسطةِ الرسول إليه، وإذا كان مُحدثًا قد أُلقِيَ إليه شيءٌ: وجب عليه أن يَزِنَه بما جاء به الرسولُ من الكتاب والسنة. ومِن الأنواع التي في دعواهم أن خاتمَ الأولياء أفضلُ من خاتم الأنبياء، من بعضِ الوجوه، فإن هذا لَم يَقُلْه أبو عبد الله الحكيمُ الترمذي، ولا غيرُه من المشايخ المعروفين، بل الرجلُ أجل قَدْرًا، وأعظمُ إيمانًا، من أن يَفتريَ هذا الكفرَ الصريح، ولكن أخطأ شبْرًا، ففرَّعوا على خَطئِه ما صار كُفرًا. وأعظمُ من ذلك: زَعمُهم أن الأولياءَ والرسلَ من حيثُ وَلايتِهم تابعون لخاتم الأولياء، وآخِذون من مِشكاته، فهذا باطلٌ بالعقل والدين، فإن المتقدِّمَ لا يأخذُ من المتأخر، والرسلُ لا يأخذون من غيرهم. وأعظم من ذلك: أنه جَعلهم تابعين له في العِلم بالله -الذي هو أشرف علومهم-، وأظهرُ من ذلك أنه جَعل العِلمَ بالله هو مذهبُ أهلِ وحدة الوجود، القائلين بأن وجودَ المخلوق هو عينُ وجودِ الخالق. فلْيتدبَّرِ المؤمنُ هذا الكفرَ القبيح درجةً بعد درجة، واستشهادَه على تفضيل غيرِ النبي عليه بقِصَّةِ عمر، وتأبيرِ النخل، فهل يقولُ مسلمٌ: "إن عمرَ كان أفضلَ من النبي - صلى الله عليه وسلم - برأيه في الأسرى؟!! أو إن الفلاحين الذين يُحسِنون صناعةَ التأبير أفضلُ من الأنبياء في ذلك؟ "!!. ثم ما قَنع بذلك حتى قال: "فما يلزمُ الكاملَ أن يكونَ له التقدُّمُ في كلِّ علم وكلِّ مرتبة، وإنما نَظَرُ الرجالِ إلى التقدُّم في مرتبةِ العلم بالله، هنالك مطلبُهم". فقدَ زعَم أنه أعلمُ بالله من خاتم الأنبياء، وأن تقدُّمَه عليه بالعلم بالله،

وتقدُّمَ خاتمِ الأنبياء عليه بالتشريع فقط؛ وهذا من أعظمِ الكفرِ الذي يقعُ فيه غاليةُ المتفلسفة، وغاليةُ المتصوِّفة، وغاليةُ المتكلِّمة، الذين يزعُمون أنهم في الأمور العِلميَّة أكمل من الرسل، كالعلم بالله ونحو ذلك، وأن الرُّسُلَ إنما تقدَّموا عليهم بالتشريع العامِّ، الذي جُعل لصلاحِ الناس في دنياهم. وقد يقولون: "إن الشرائعَ قوانينُ عَدْليَّةٌ، وُضعت لمصلحة الدنيا"، فأمَّا المعارفُ والحقائقُ والدرجاتِ العاليةُ في الدنيا والآخرة: فيُفضَّلون فيها أنفسَهم، وطُرُقَهم على الأنبياء وطُرقِ الأنبياء. وقد عُلم بالاضطرار من دينِ المسلمين أن هذا من أعظمِ الكفر والضلال، وكان ذلك من سببِ جَحدِ حقائقِ ما أخبرت به الرسلُ، مِن أمرِ الإيمانِ بالله واليوم الآخر، وزَعْمِهم أن ما يقولُه هؤلاء في هذا الباب هو الحق. وصاروا في أخبارِ الرسل، تارةً يُكذِّبونها، وتارةً يُحرِّفونها، وتارةً يُفوِّضونها، وتارةً يزعُمون أن الرُّسُلَ كذَبوا لمصلحةِ العموم. ثم عامَّةُ الذين يقولون هذه المقالات: يُفضِّلون الأنبياءَ والرسلَ على أنفسهم، إلاَّ الغاليةَ منهم -كما تقدم-، فهؤلاء من شرِّ الناس قولاً واعتقادًا. وقد كان عندنا شيخٌ من أجهل الناس، كان يُعظِّمُه طائفةٌ من الأعاجم , ويقال: "إنه خاتمُ الأولياء"، يزعم أنه يُفسِّر العلمَ بوجهين، وأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنما فسَّره بوجهٍ واحد، وأنه هو أكملُ من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا تلقَّاه من صاحب "الفصوص"، وأمثالُ هذا في هذه الأوقات كثيرون، وسببُ ضلالِ المتفلسفةِ وأهل التصوفِ والكلامِ: الموافقةُ لضلالهم، وليس هذا

موضعَ الإطنابِ في بيان ضلالِ هذا، وإنما الغرضُ التنبيهُ على أن صاحب "الفصوص" وأمثالَه قالوا قولَ هؤلاء. فأمَّا كُفرُ مَن يُفضِّلُ نفسَه على النبي صلى الله عليه وسلم -كما ذَكر صاحب "الفصوص"- فظاهر، ولكنْ مِن هؤلاء مَن لا يرى ذلك؛ ولكنْ يرى أنَّ له طريقًا إلى الله غيرَ اتِّباعِ الرسول، ويُسَوِّغُ لنفسِه اتِّباعَ تلك الطريقِ -وإنْ خالَفَ شَرعَ الرسول-، ويحتجُّون بقصةِ موسى والخَضِر. الوجه الثامن: أنه قال: "ولَمَّا مَثَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - النبوَّةَ بالحائط .. "، إلى آخِرِ كلامه وهو متضمِّن أنَّ العلمَ نوعان: أحدهما: عِلمُ الشريعة، وهو يأخذ عن الله كما يأخذُ النبيُّ، فإنه قال: "والسببُ الموجِبُ لكونه رآها لَبِنَتَينِ أنه تابع لشرع خاتَمِ الرُّسُلِ في الظاهر وهو موضعُ اللبنةِ الفضيَّة، وهو ظاهرُه، وما يَتبعُه فيه من الأحكام، كما هو آخِذٌ عن الله في السرِّ ما هو بالصورة الظاهرة متَّبعٌ فيه؛ لأنه يَرى الأمر على ما هو عليه، فلا بد أن يراه هكذا". وهذا الذي زَعَمه -من أن الولِيَّ يأخذُ عن اللَّهِ في السرِّ ما يَتبعُ فيه الرسلَ كأئمةِ العلماء مع أتباعهم- فيه من الإِلحادِ ما لا يَخفَى على مَن يؤمنُ بالله ورُسُلِه، فإن هذا يدَّعي أنه أُوتِيَ مثلَ ما أُوتي رُسلُ الله، ويقول: "إنه أُوحِيَ إليَّ"، ولم يُوحَ إليه شيء، ويَجعل الرسُلَ بمنزلة معلم الطب والحساب والنحو وغير ذلك إذا عَرف المتعلِّمُ الدليلَ الذي قال به مُعلِّمُه، فينبغي موافقتُه له لمشاركتِه له في العلم، لا لأنه رسولٌ وواسطةٌ من الله إليه في تبليغِ الأمر والنهي.

وهذا الكفر يشبِهُ كفرَ مسيلِمةَ الكذَّاب ونحوه ممن يدَّعي أنه مشارِكٌ للرسول في الرسالة، وكان يقول مؤذِّنه: "أشهدُ أن محمدًا ومسيلِمةَ رسولاَ الله". والنوع الثاني: عِلمُ الحقيقة، وهو فيه فوقَ الرسول، كما قال: "هو موضعُ اللبنةِ الذهبيةِ في الباطن، فإنه أخذٌ من المعدِنِ الذي يأخذ منه المَلَك، الذي يوحَى به إلى الرسول". فقد ادَّعى أن هذا العلمَ الذي هو موضع اللبنةِ الذهبيةِ -وهو علمُ الباطن والحقيقة- هو فيه فوقَ الرسول؛ لأنه يأخذه من حيثُ يأخذ المَلَكُ العلمَ الذي يُوحِي به إلى الرسول، والرسولُ يأخذُه من المَلَك، وهو يأخذُه من فوقِ المَلَك، من حيث يأخذُه المَلَك، وهذا فوقَ دعوى مسيلِمة الكذَّاب، فإن مسيلمةَ لَم يَدعَ أنه أعلى من الرسول في علم من العلوم الإلهية، وهذا ادَّعى أنه فوقَه في العلم بالله. ثم قال: "فإن فهمتَ ما أشرت به: فقد حَصَل لك العلم النافع". ومعلومٌ أن هذا الكفرَ فوقَ كفرِ اليهود والنصارى، فإن اليهودَ والنصارى لا ترضَى أن تجعلَ أحدًا من المؤمنين فوق موسى وعيسى، وهذا يزعم أنه هو وأمثاله -ممن يدَّعي أنه خاتم الأولياء- أنه فوقَ جميع الرسل، وأعلم بالله من جميع الرسل؛ وعقلاءُ الفلاسفة لا يَرْضَون بهذا، وإنما يقولُ مثلَ هذا غُلاتهم وأهلُ الحُمقِ منهم، الذين هم من أبعدِ الناس عن العقلِ والدين. التاسع: قوله: "فكلُّ نبيٍّ مِن لَدُن آدم .. " -إلى آخِرِ الفصل-، تضمن

أن جميعَ الأنبياءِ والرسل لا يأخذون إلاَّ من مشكاةِ خاتم النبيين، ليوطِّنَ لنفسه بذلك أن جميعَ الأنبياء لا يأخُذون إلاَّ من مشكاةِ خاتمِ الأولياء، وكلاهما ضلال، فإنَّ الرسلَ ليس منهم أحدٌ يأخُذُ من آخَر، إلا مَن كان مأمورًا باتباع شريعته، كأنبياءِ بني إسرائيل والرسل الذين بُعثوا فيهم الذين أُمِروا باتباع التوراة، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} الآية [المائدة: 44]. وأما إبراهيم: فلم يأخُذْ عن موسى وعيسى، ونوحٌ لَم يأخذ عن إبراهيم، ونوحٌ وإبراهيمُ وموسى وعيسى لَم يأخذوا عن محمدٍ، وإن بشَّروا به وآمنوا به، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} الآية [آل عمران: 81]. ° قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "ما بَعَث الله نبيًّا إلاَّ أَخَذ عليه العهدَ في أمرِ محمدٍ، وأَخَذ العهدَ على قومِه ليؤمنُنَّ به، ولئن بُعث وهم أحياءٌ لَيَنصُرُنَّه". العاشر: قوله: "فإنه بحقيقته موجود، وهو قولُه: "كنت نبيًّا وآدمُ بين الماء والطين"، بخلافِ غيره من الأنبياء، وكذلك خاتمُ الأولياء، كان وليًّا وآدمُ بين الماءِ والطين": كذبٌ واضح، مخالفٌ لإجماعِ أئمة الدين، وإن كان هذا يقولُه طائفةٌ من أهل الضلال والإلحاد. فإنَّ الله عَلِمَ الأشياء، وقَدَّرها قبل أن يُكونها , ولا تَكونُ موجودةً بحقائقِها إلاَّ حين تُوجد، ولا فَرْقَ في ذلك بين الأنبياء وغيرهم، ولم تكنْ حقيقتُه - صلى الله عليه وسلم - موجودةً قبلَ أن يُخلق، إلاَّ كما كانت حقيقةُ غيرِه، بمعنى أن الله عَلِمها وقدَّرها.

لكن كان ظُهورُ خَبَرِه واسمِه مشهورًا أعظمَ من غيره، فإنه كان مكتوبًا في التوراة والإنجيل وقبل ذلك، كما روى الإمام أحمد في "مسنده"، عن العِرباض بنِ سارية، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إني لَعبدُ الله، مكتوبٌ "خاتمَ النبيين" وإن آدم لَمُنْجَدلٌ في طِينتِه، وسأنبئكم بأول ذلك: دعوةُ أبي إبراهيم، وبُشرى عيسى، ورؤيا أُمِّي، رأت حين وَلَدَتْني كأنه خَرَج منها نورٌ أضاءت له قصورُ الشام". وحديثُ مَيْسَرَةَ الفجرِ: قلت: يا رسول الله، متى كنتَ نبيًّا؟ -وفي لفظٍ: متى كُتبت نبيًّا؟ - قال: "وآدمُ بين الروح والجسد"، وهذا لفظُ الحديث. وأما قوله: "كنتُ نبيًّا وآدمُ بين الماءِ والطين"، فلا أصلَ له، لَم يَرْوِهِ أحدٌ من أهلِ العلم بالحديث بهذا اللفظ، وهو باطلٌ، فإنه لم يكنْ بين الماء والطين، إذ الطينُ ماءٌ وتراب، ولكن لَمَّا خَلَق الله جَسَدَ آدمَ قبل نَفخِ الروح فيه: كَتَبَ نبوَّةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وَقدَّرَها، كما ثبت في "الصحيحين" عن ابن مسعود، قال: حَدثنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق والمصدوق-: "إنَّ خَلقَ أحدكم يُجعل في بطنِ أُمِّه أربعينَ يومًا نطفة، ثم يكونُ عَلَقةً مثلَ ذلك، ثم يكوَنُ مُضغةً مثلَ ذلك، ثُم يُبعث إليه المَلَكُ، فيؤمَرُ بأربعِ كلمات، فيقال: أكتبْ رزقَه وعَمَلَه , وأجَلَه، وشقيًّا أو سعيدًا, ثُم يُنْفخ فيه الروحُ". فأين الكتابُ والتقديرُ من وجود الحقيقة؟. الحادي عشر: قوله: "وخاتم الأولياء كان وليًّا وآدمُ بين الماء والطين .. "، إلى قوله: "فخاتمُ الرسلِ من حيث ولايته، نِسبتُه مع الخَتم للولاية، كنسبة الأولياءِ والرسل معه .. " إلى آخر الكلام.

ذَكَر فيه ما تقدَّم من كونِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع هذا الختم المدَّعى كسائرِ الأنبياء والرسل معه، يأخذُ من مِشكاته العلمَ بالله -الذي هو أعلى العلم، وهو وحدةُ الوجود-، أنه مقدَّمُ الجماعة، وسيِّدُ ولدِ آدم في فتح باب الشفاعة، فعيَّن حالاً خاصًّا ما عَمَّم .. إلى قوله: "ففاز محمدٌ بالسيادة في هذا المَقامِ الخاصِّ". فكَذَبَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "إنه قال: أنا سيِّدُ ولدِ آدمَ في الشفاعة خاصةً"، وألْحَدَ وافتَرى من حيثُ زَعَم أنه سيِّدٌ في الشفاعة فقط، لا في بقيةِ المراتب؛ بخلافِ الختمِ المفترَى، فإنه سيدٌ في العلم بالله، وغيرِ ذلك من المقامات. ولقد كنتُ أقول: لو كان المخاطِبُ لنا ممَّن يُفضِّلُ إبراهيمَ أو موسى أو عيسى على محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، لكانت مُصيبةً عظيمة، لا يَحتملُها المسلمون، فكيف بمن يُفضِّلُ رجلاً من أُمَّةِ محمدٍ على محمدٍ، وعلى جميعِ الأنبياء والرسل في أفضل العلوم؟! ويدَّعي أنهم يأخذون ذلك من مِشكاته؟ .. وهذا العلمُ هو غايةُ الإِلحاد والزندقة. وهذا المُفضِّل مِن أضلِّ بني آدم، وأبعدِهم عن الصراط المستقيم، وإن كان له كلامٌ كثير، ومصنَّفات متعدِّدة، وله معرفةٌ بأشياء كثيرة، وله استحواذٌ على قلوبِ طوائفَ من أصنافِ المتفلسفة، والمتصوِّفة، والمتكلِّمة، والمتفقِّهة, والعامة، فإن هذا الكلامَ من أعظمِ الكلام ضلالاً، عند أهل العلم والإيمان والله أعلم. وقد تبيَّن أن في هذا الكلام من الكفرِ، والتنقيصِ بالرسل، والاستخفافِ بهم، والغَضِّ منهم؛ بل والكفرِ بهم، وبما جاؤوا به: ما لا

يَخفى على مؤمن، وقد حدَّثني أحدُ أعيانِ الفضلاء: أنه سَمع الشيخَ إبراهيمَ الجعبري -رحمة الله عليه- يقول: "رأيتُ ابنَ عربي -وهو شيخٌ نجس- يُكذِّبُ بكلِّ كتابٍ أنزله الله، وبكل نبيٍّ أرسله الله"، ولقد صدق فيما قال, ولكنَّ هذا بعضُ الأنواع التي ذَكرها من الكفر. ° وكذلك قولُ أبي محمد بنِ عبدِ السلام: "هو شيخُ سَوءٍ، مقبوحٌ كذاب، يقول بقِدَم العالَم، ولا يُحرِّمُ فَرْجًا"، هو حقٌّ عنه؛ لكنه بعضُ أنواع ما ذكره من الكفر، فإن قوله [هذا حين] لم يكن قد تبيَّن له حالُه وتحقق، وإلاَّ فليس عنده ربٌّ وعالَم، كما تقوله الفلاسفة الإلهيون، الذين يقولون بوجبِ الوجود، وبالعالم الممكن، بل عنده وجودُ العالَم هو وجودُ الله، وهذا يطابقُ قولَ الدهرية الطبائعية، الذين يُنكِرون وجودَ الصانعِ مطلقًا ولا يُقِرُّون بوجود واجبٍ غيرِ العالَم -كما ذَكر الله عن فرعون وذَوِيه-، وقولُه مطابقٌ لقول فرعون، لكنَّ فرعونَ لم يكن مقرًّا بالله، وهؤلاءُ يقرُّون بالله، ولكن يُفسِّرونه بالوجود الذي أقرَّ به فرعون، فهم أجهلُ من فرعونَ وأضلُّ، وفرعونُ أكفرُ منهم: إذ في كُفرِه من العنادِ والاستكبارِ ما ليس في كفرهم، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]، وقال له موسى - عليه السلام -: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإِسراء: 102]. ° وجُمَّاعُ أمرِ صاحبِ "الفصوص" وذَوِيه: هدمُ أصولِ الإيمان الثلاثة؛ فإن أصول الإيمان: "الإيمان بالله, والإيمان برُسُله، والإيمان باليوم الآخر".

العفيف "أو الفاجر" التلمساني .. شيطان وحدة الوجود

° فأما الإيمانُ بالله: فزَعموا أن وجودَه وجودُ العالَم، ليس للعالَم صانعٌ غير العالَم. ° وأما الرسول: فزعموا أنهم أعلمُ بالله منه، ومن جميع الرسل، ومِنهم من يأخذُ العلم بالله -الذي هو التعطيلُ ووحدةُ الوجود- من مِشكاته، وأنهم يُساوُونه في أخذِ العلم بالشريعة عن الله. ° وأما الإيمان باليوم الآخر، فقد قال: فَلم يَبْقَ إلاَّ صادقُ الوعدِ وحدَه ... وبالوعيدِ الحقِّ عينٌ تُعايِنُ وإنْ دَخَلوا دارَ الشقاء فإنهم ... على لذَّةٍ فيها نعيمٌ يُباينُ فهذه أقوالُ الزنديقِ الفاجرِ، نقلناها لنُبيِّن عَوَارَ دجَّالِ الصوفيَّة (¬1) الأكبر. * العفيف "أو الفاجر" التِّلمِساني .. شيطانُ وحدة الوجود: ° قال ابن تيمية - رحمه الله -: "حَدثَني الشيخُ العالمُ العارفُ، كمالُ الدين المَرَاغي شيخُ زمانه، أنه لَمَّا قَدِم وبَلَغه كلامُ هؤلاء في التوحيد قال: قرأتُ على العفيفِ التلمساني من كلامهم شيئًا، فرأيته مخالفًا للكتاب والسنَّة، فلمَّا ذكرتُ ذلك له قال: "القرآن ليس فيه توحيد، بل القرآن كلُّه شرك، ومَن اتَّبع القرآنَ لم يَصِلْ إلى التوحيد، قال: فقلتُ له: ما الفرقُ عندكم بين الزوجة والأجنبية والأخت، الكلُّ واحد؟!. قال: لا فرقَ بين ذلك عندنا، وإنما هؤلاء المحجُوبون اعتقدوه حرامًا، فقلنا هو حرامٌ عليهم عندنا، وأما عندنا، فما ثَمَّ حرام". ¬

_ (¬1) انتهى ملخصًا من "مجموع فتاوى ابن تيمية" (2/ 206 - 242).

وحدَّثني كمالُ الدين المراغي، أنه لما تحدَّث مع التلمساني في هذا المذهب قال: "وكنتُ أقرأُ عليه في ذلك، فإنهم كانوا قد عَظَّموه عندنا، ونحن مشتاقون إلى معرفة "فصوص الحكم"، فلما صار يشرحُه لي أقولُ: هذا خلاف القرآنِ والأحاديث، فقال: ارْمِ هذا كله خلفَ الباب، واحضُرْ بقلبٍ صافٍ، حتى تتلقى هذا التوحيد -أو كما قال- ثم خاف أن أُشيعَ ذلك عنه، فجاء إليَّ باكيًا وقال: استُرْعنِّي ما سمعتَه مني". وحدَّثني أيضًا كمالُ الدين، أنه اجتمع بالشيخ أبي العباس الشاذلي -تلميذ الشيخ أبي الحسن-، فقال عن التمساني: "هؤلاء كفارٌ، هؤلاء يعتقدون أن الصَّنعةَ هي الصانع" (¬1). ° قال ابنُ تيمية: "أما الفاجرُ التلمساني، فهو أخبثُ القوم وأعمقُهم في الكفر؛ فإنه لا يُفرق بين الوجودِ والثبُوت كما يُفرِّق ابنُ عربي، ولا يُفرِّقُ بين المطلَق والمعيَّن كما يفرق الرُّومي (¬2)، ولكن عنده ما ثَمَّ غيرٌ ولا سِوى بوجه من الوجوه، وإن العبدَ إنما يشهد السوَى ما دام محجوبًا، فإذا انكشف حِجابُه رأى أنه ما ثَمَّ غيرٌ يُبيِّنُ له الأمر .. ولهذا كان يَستحِلُّ جميعَ المحرَّمات. وكان يقول: "القرآن كلُّه شركٌ ليس فيه توحيد، وإنما التوحيدُ في كلامنا". وكان يقول: "أنا ما أُمسِكُ شريعةً واحدة، وإذا أحْسَنَ يقول: "القرآن ¬

_ (¬1) "مجموع فتاوى ابن تيمية" (2/ 244 - 245). (¬2) أي الصدر الرومي.

يُوصِّل إلى الجنة، وكلامُنا يُوصِّل إلى الله تعالى" .. وصنَّف للنصيرية عقيدة" (¬1). ° ويقولُ أيضًا ابنُ تيمية: "وقد قال مرةً شيخُهم الشِّيرازي، لشيخه التلمساني -وقد مرَّ بكلبٍ أجربَ ميِّتٍ-: هذا أيضًا مِن ذاتِ الله؟ فقال: وثَمَّ خارجٌ عنه؟ ومرَّ التلمسانيُّ ومعه شخص بكلبٍ، فرَكضَه الآخرُ برِجلِه، فقال: لا تَرْكُضِيهِ فإنه منه". وهذا من أعظم الكفر والكذب الباطل في العقل والدين" (¬2). ° وقال ابنُ تيمية: "وهذا الرجلُ وابنُ عربيٍّ يشتركانِ في هذا -أي: في القول بوحدة الوجود-، ولكن يفترقان من وجهٍ آخَرَ: فإن ابن عربيٍّ يقول: وجودُ الحقِّ ظَهَر في الأعيان الثابتة في نفسها، فإنْ شئت قلتَ: "هو الحق"، وإن شئت قلت: "هو الخَلْق"، وإن شئت قلت: "هو الحق والخلق". وأما التلمساني، فإنه لا يُثبت تعدُّدًا بحالٍ، فهو مِثلُ يَعَاقِبةِ النصارى، وهم أكفُرهم" (¬3). ° وقال: "إن هذا الملحِدَ في أسماءِ الله جَعَل هذه العُقدةَ -التي سمَّاها "عقدة حقيقة النُّبوَّة"، وجَعَلها صورةَ عِلم الحقِّ بنفسه، وجَعَلها مرآةً لانعكاسِ الوجود المطلَق-: محلاًّ لتميُّز صفاتِه القديمة، وأنَّ الحقَّ ظَهَر فيه بصورته واصفًا يَصِف نفْسَه، ويَحيط به، وهو المُسَمَّى بالرحمن، ثم ذَكر أنه ¬

_ (¬1) "مجموع فتاوى ابن تيمية" (2/ 271 - 272). (¬2) "مجموع الفتاوى" (2/ 309). (¬3) "مجموع الفتاوى" (2/ 185).

ابن الفارض، صاحب "التائية" الكفرية

أعطى محمدًا هذه العُقدة. * ومعلوم أن المسمَّى بالرحمن هو المسمَّى باسم الله، كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]، فيكون هو سبحانه هذه العُقدة التي أعطاها لمحمد، وإنْ كانت صفةً له أو غيره، فتكونُ هي الرحمن، فهذا المُلحِدُ دائرٌ بين أن يكونَ الرحمن هو خَلْقٌ مِن خَلقِ الله أو صفةٌ من صفاتِه، وبين أن يكونَ الرحمنُ قد وَهَبَه الله لمحمد، وكلٌّ من القسميْن من أسمج الكفر وأبشعِه" (¬1). فلعنةُ الله على الفاجر التلمساني زنديقِ الصوفية. * ابنُ الفارض، صاحب "التائيَّة" الكُفْرِية: أبو حفص وأبو القاسم عمرُ بنُ عليِّ بنِ المرشِدِ بنِ علي، حَمَوِيُّ الأصل، مِصريُّ المَولدِ والدارِ والوفاة، وُلد في الرابع من ذِي القَعدة سنةَ 576 هـ، وتُوفِّي في الثاني من جُمادى الأولى سنة 632 هـ (¬2). ° وقال الذهبي عنه: "شاعرُ الوقت، شرفُ الدين عمرُ بنُ عليِّ بنِ مُرشدٍ، الحَمَويُّ ثم المِصريُّ، صاحب الاتحاد (¬3) الذي قد ملأ به "التائية" .. فإنْ لم يكن في تلك القصيدةِ صريحُ الاتحاد الذي لا حِيلةَ في وجودِه، فما في ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (2/ 182). (¬2) "ابن الفارض والحب الإلهي" (ص 23، 40) للدكتور محمد مصطفى حلمي -دار المعارف-. (¬3) يعني: وحدة الوجود وهو نفس مذهب ابن عربي .. أما الحلول والاتحاد فمذهب ابن الفارض.

العالم زَندقة ولا ضلال، اللَّهم ألهِمْنا التقوى، وأعِذنا من الهوى، في أئمةَ الدِّين، ألاَ تغضبون للَّه؟! فلا حولَ ولا قوَّةَ إلاَّ بالله" (¬1). ° وقال في "ميزان الاعتدال": "حَدَّث عنه القاسمُ بنُ عساكر، يَنعِقُ بالاتحاد الصريح في شِعره، وهذه بليَّةٌ عظيمة، فتدبَّر نَظْمَه ولا تستعجلْ، ولكنك حَسَنُ الظن بالصوفيَّة، وما ثَمَّ إلا زِيُّ الصوفية وإشاراتٌ مُجمَلةٌ، وتحت الزي والعبارةِ فلسفة وأفاعٍ فقد نصحتُك، والله الموعِد" (¬2). ° وقال الحافظُ ابن كثير: "ابنُ الفارض، ناظم "التائية في السلوك" على طريقةِ المتصوِّفة المنسوبين إلى الاتحاد، كان أبوه يَكتبُ فروضَ النساء والرجال، وقد تكلَّم فيه غيرُ واحد من مشايخنا بسبب قصيدتِه المشار إليها، وقد ذَكَره شيخُنا أبو عبد الله الذهبي في "ميزانه" وحَطَّ عليه" (¬3). ° وحين تكلَّم عن ابنِ إسرائيلِ الحَريري قال: "ولكن في كلامه ونَظمه ما يُشيرُ إلى نوعٍ من الحلول والاتحاد على طريقة ابنِ عربيٍّ وابنِ الفارض وشيخه الحريري" (¬4). ° وقال عنه الحافظ ابنُ حَجَر العسقلاني بعد أن نَقَل كلامَ الذهبي في "ميزان الاعتدال": "وابنُ الفارض المذكورُ له صورةٌ كبيرة عند الناس، لِمَا كان فيه من الزهد والانقطاع، قد عَمِلَ له سِبْطُه ترجمةًّ حَكى فيها أشياءَ عجيبةً من أموره، وكان أبوه يتلو الفروضَ بالقاهرة". ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" (22/ 368). (¬2) "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" للذهبي (3/ 214 - 215). (¬3) "البداية والنهاية" (17/ 222). (¬4) "البداية والنهاية" (4/ 550).

° وقال الذهبي في "تاريخ الإسلام": "كان سيِّدَ شعراءِ عصرِه وشيخَ الاتحادية". ° وقال المنذري: "سمعتُ منه من شِعره". ° وقال في "التكملة": "كان قد جَمَعَ في شِعره بين الحوالة والحلاوة". ° قال الذهبي: "إلاَّ أنه شابَهُ بالاتحاد في ألذِّ عبارة وأرقِّ استعارةٍ كفالوذجٍ مسمومٍ" ثم أنشد من التائية التي سَمَّاها "نظم السلوك" أبياتًا منها: لها صلواتي بالمَقام أُقيمُها ... وأشْهَدُ فيها أنها لي صَلَّتِ كِلانا مُصلٍّ واحدٌ ساجدٌ إلى ... حقيقتُه بالجَمْعِ في كُلِّ سَجْدَةِ ° ومنها: وها أنا أُبدِي في اتِّحادي مبدأي ... وأُنهِي انتهائي في مواضعِ رِفعتي وفي موقفي لا بَلْ إلى توجُّهي ... ولكنَّ صلاتي لي ومِنِّي كعبتي ° ومنها: ولا تكُ ممَّن طَيَّشَتْهُ دُروسُه ... بحيث استقلَّتْ عَقْلَه واستفزَّتِ فثَمَّ وراءَ العقل عِلمٌ يَدِقُّ عن ... مَدَارِكِ غاياتِ العقولِ السَّليمةِ تلقيتُه عنِّي ومني أخذتُه ... ونفسي كانت من خَطاتي مَحيدتي ° ومنها: وما عَقَدَ الزُّنَّارَ حُكمًا سوى يَدِي ... وإنْ حَلَّ بالإقرار فهي أحلَّتِ وإن خرَّ للأحجار في البدِّ عاكفٌ ... فلا تَعد بالإنكار بالعصَبيةِ وإن عَبَد النارَ المجوسُ ومَا انطَفَت ... فما قصدوا غيري لأنوارِ عِزَّتي

° قلتُ (¬1): ومن هذه القصيدة: وَجُد في فنونِ الاتِّحادِ ولا تَحِدْ ... إلى فئةٍ في غُرِّةِ العمرِ أصْبَتِ ° ومنها: إليَّ رسولاً كنتَ مِنِّي مُرْسَلاً ... وذاتي أمانييُّ عليَّ استَقَلَّت وفي قصائده من هذا النمط فيما يتعلَّقُ بالاتحاد شيءٌ كثير، وقد كنتُ سألتُ شيخَنا الإِمامَ سِراجَ الدينِ البلقينيَّ عن ابن عربي، فبادَرَ الجواب بأنه كافر، فسألته عن ابن الفارض فقال: لا أحبُّ أن أتكلَّم فيه. قلتُ: فما الفرقُ بينهما والموضعُ واحد -وأنشدته من "التائية"-، فقطع علَيَّ بعدَ إنشادِ عِدَّةِ أبياتٍ بقوله: "هذا كفرٌ هذا كفر". ورأيتُ في كتاب "التوحيد" للشيخ عبد القادر القوصي قال: حَكى لي الشيخُ عبدُ العزيز بن عبدِ الغنيِّ المنوفي قال: كنتُ بجامعِ مصرَ وابنُ الفارض في الجامع وعليه حَلقة، فقام شابٌّ من عندِه وجاء إلى عندي، وقال: جَرَى لي مع هذا الشيخ حكايةٌ عجيبة -يعني ابن الفارض- قال: دَفَعَ إليَّ دراهمَ، وقال: اشتر لنا بها شيئًا للأكل، فاشتريت، ومَشَيْنا إلى الساحل، فنزلنا في مَركب حتى طَلَع النهنسا (¬2) فطرق بابًا، فنزل شخصٌ، فقال: "بسم الله"، وطلَع الشيخ، فطلعت معه، وإذا بنسوةٍ بأيديهم الدُّفوف والشبَّابات وهم يغنون له، فرقص الشيخ إلى أن انتهى وفرغ، ونزلنا وسافرنا حتى جئنا إلى مصر، فبَقِيَ في نفسي، فلما كان في هذِهِ الساعة جاءه الشخصُ الذي فَتَح له الباب، فقال له: يا سيدي، فلانة ماتت -وذَكَر واحدةً من أولئك ¬

_ (¬1) الكلامُ السالف كله للحافظ ابن حجر، وما يأتي أيضًا. (¬2) قرية بصعيد مصر بمحافظة المنيا.

كذب ابن الفارض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

الجواري-، فقال: اطلبو الدَّلاَّل، وقال: اشتَرِ لي جاريةً تُغَني بَدَلَها، ثم أمسك أُذُني، فقال: لا تُنْكِر على الفقراء" (¬1). * كَذِبُ ابنِ الفارض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ° هذه "التائية" وأبياتُها تطفحُ بالكفر والقولِ بوحدةِ الوجود، يدَّعى ابنُ الفارض أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - هو الذي اختار له اسمَها -كما هو مذكور في "ديباجة ديوانه"-: "سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنَ الفارض مرَّةً أخرى في المنام عن قصيدته "التائية الكبرى": "ماذا سمَّاها؟ "، فأجابه بأنه سمَّاها "لوائح الجَنان وروائح الجِنان"، فقال له النبيُّ: لا، بل سَمِّها "نظم السلوك" .. " (¬2). ومن هنا كانت شهرةُ هذه القصيدةِ بهذا الاسم. فكيف يَفتري على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه هو الذي سمى له هذه الكلماتِ الكفريةَ؟! حاشاه. * وِحدةُ الأديانِ عند ابنِ الفارض: فبي مجلسُ الأذكار سَمع مطالعٍ ... ولي حانةُ الخَمارِ عَينُ طليعةِ وما عَقَد الزُّنَّارَ (¬3) حُكمًا سوى يَدِي ... وإن حُل بالإقرار بي، فهْي حَلَّتِ وإِن نَارَ بالتنزيلِ مِحرابُ مسجدٍ ... فما بارَ بالإنجيل هَيكلُ بَيعةِ وَأسفار توراةٍ الكليم لقومِه ... يناجِي بها الأحبارَ في كلِّ ليلةِ وإن خرَّ للأحجارِ في البُدِّ عاكفٌ ... فلا تَعْدُ بالإنكارِ بالعصبيةِ ¬

_ (¬1) "لسان الميزان" لابن حجر (4/ 317 - 319) مؤسسة الأعلمي - بيروت. (¬2) "ديباجة ديوان ابن الفارض" لسبط ابن الفارض (ص 6 - 7). (¬3) الزنَّار: ما على وسط النصارى والمجوس.

الوحدة عند ابن الفارض

فما زاغت الأبصارُ مِن كلِّ مِلَةٍ ... وما رَاغَتِ الأفكارُ مِن كلِّ نِحْلةِ وما اختار مَنْ للشمس عن غُرَّة صبا ... وإشراقُها من نورِ إسفارِ غُرتي وإنْ عَبَدَ النارَ المجوسُ وما انْطَفَتْ ... كما جاء في الأخبار في ألفِ حِجةِ فما عَبَدوا غيرِي، وإنْ كان قَصدُهم ... سوايَ وإنْ لَم يَعقِدوا عَقْدَ نِيتِي رَأوْا ضوءَ نارِي مرةً فتوهمو ... هُ فضَلُّوا في الهُدى بالأشِعِّةِ ° قال الشيخ عبد الرحمن الوكيل: "يحكمُ سلطانُ الزنادقة بأن أولئك جميعًا -وهم المجوسُ، والوثنيون، واليهود، والنصارى- مؤمنون موحِّدون، لم يَعبُدوا غيرَ الله، إذ كل ما -أوْ مَن- عبدوه ليس شيئًا غيرَ الله". * الوحدةُ عند ابن الفارض: ° قال ابن الفارض: فلا تَكُ مفتونًا بحِسك مُعْجَبًا ... بنفسِك موقوفًا على لَبْسِ غرةِ وفارِق ضلالَ الفَرْقِ فالجمعُ منتجٌ ... هُدَى فُرْقَةٍ بالاتحاد ِتَحَدَّتِ وصرِّح بإطلاقِ الجَمَال ولا تَقُل ... بتقييدِه مَيلاً لزخرفِ زِينةِ فكلُّ مليحٍ حُسنُه مِن جَمالها ... معَارٌ له، أو حُسنُ كلِّ مليحةِ بها قيسُ لُبنى هام، بل كل عاشِقٍ ... كمجنون ليلى، أو كُثيِّرِ عَزةِ فَكُلٌّ صَبَا منهم إلى وصفِ لَبْسها ... لصورةِ حُسْنٍ لاح في حُسنِ صورةِ

وما ذاك إلاَّ أنْ بَدَتْ بمظاهرٍ ... فظنُّوا سواها، وهْي فيها تجلَّتِ بَدَتْ باحتجابٍ، واختفت بمظاهرٍ ... على صِبَغ التلوينِ في كل بَرْزَةِ (¬1) ففي النشأةِ الأولى تراءت لآدمٍ ... بمظهرِ حَوَّا قبل حُكم الأمومةِ فهام بها كيما يصيرُ بها أبًا ... ويظهَرُ بالزَّوجَينِ حُكمُ البُنُوَّةِ وما بَرحَت تبدو وتَخفَى لِعِلَّةٍ ... على حَسَبِ الأوقاتِ في كلِّ حِقبةِ وتَظهرُ للعشَّاقِ في كلِّ مَظهرٍ ... من اللَّبْسِ في أشكالِ حُسنٍ بديعةِ ففي مرةٍ لُبنَى، وأخرى بثينةٌ ... وآونةً تُدْعى بِعَزَّةَ عزَّتِ وَلَسْنَ سواها لا ولا كُنَّ غيرَها ... وما إنْ لها في حُسنِها مِن شريكةِ (¬2) كذلك بحكم الاتِّحاد بحُسنِها ... كما لي بَدَتْ في غيرها، وتَزَيَّتِ بدوْتُ لها في كلِّ صَبٍّ متيمٍ ... بأيِّ بديعٍ، حسنُه وبأيَّتِ (¬3) وليسوا بغيري في الهوى لِتَقَدُّمٍ ... عَلَيَّ لِسَبْقٍ في الليالي القديمةِ وما القومُ غيري في هواها وإنما ... ظهرتُ لهم لِلَّبْسِ في كلِّ هيئةِ ففي مرةٍ قيسًا، وأخرى كُثيِّرًا ... وآونةً أبدو جميلَ بُثينةِ تَجلَّيتُ فيهم ظاهرًا وأحتجبتُ با ... طِنًا بهمُ فاعجَبْ لِكَشْفٍ بِسُتْرَةِ أسامٍ بها كنت المسمَّى حقيقةً ... وكنتُ ليَ البادي بِنَفسٍ تَخَفَّتِ ¬

_ (¬1) البَرْزَة: المرة من البروز، أو المرأة العفيفة تَبرُزُ للرجال، وتتحدَثُ معهم. (¬2) يفتري سلطانُ الزنادقة أن الذاتَ الإلهيةَ تتجلَّى في صورِ النساء الجميلات، ويَفتري أنها تجلَّت في صورِ "ليلى وبُثينة وعزَّة"، وقَدْ رَمَزَ بِهِنَّ عن كلِّ امرأةٍ جميلةٍ عاشقةٍ معشوقة، ثم يفتري أيضًا بأن العاشقَ ليس غيرَ العشيقة، بل هو هي!. (¬3) يفتري سلطانُ الزنادقة أن الذاتَ الإلهيةَ تتجلَّى في صورِ النساء الجميلات، ويَفتري أنها تجلَّت في صورِ "ليلى وبُثينة وعزَّة"، وقَدْ رَمَزَ بِهِنَّ عن كلِّ امرأةٍ جميلةٍ عاشقةٍ معشوقة، ثم يفتري أيضًا بأن العاشقَ ليس غيرَ العشيقة، بل هو هي!.

إفك على الله

وما زِلتُ إيَّاها، وإيايَ لَم تَزَلْ ... ولا فَرْقَ، بل ذاتي لذاتي أَحَبَّتِ (¬1) وليس معي في الكونِ شيءٌ سواي وال ... مَعِيَّةُ لَم تخطر على ألمعِيَّتي (¬2) * إِفكٌ على الله: ° يقول ابنُ الفارض في ضلالِه: وجاء حديثٌ في اتحادي ثابتٌ ... روايتُه في النقلِ غيرُ ضَعيفةِ مشيرًا بحبِّ الحقِّ بعد تقرُّب ... إليه بَنقْلٍ أو أداءِ فريضةِ وموضعُ تنبيه الإشارةِ ظاهرٌ ... بـ "كنتُ له سَمعًا كنور الظَّهيرةِ" فَكلِّي لكلِّيَ طالب متوجِّهٌ ... وبَعضي لبعض جاذبٌ بالأعنَّةِ ¬

_ (¬1) هذا وما قبلَه بين الدلالةِ على إيمان ابنِ الفارض بالوحدة، لا بالاتحاد، فإنه حين عَبر بقوله: "وما زلتُ إياها" خَشِيَ أن يقال عنه: إنه ما زال يستشعر إثنينيةً ما -لوجودِ محمولٍ وموضوع في تعبيره، وإن كان الحملُ صُوريًّا، إذ المجمولُ عَينُ الموضوع-، أقول: خَشِي أن يقال عنه هذا، فعقبه بقوله: "ولا فرق"، حتى لا تَفهمَ أن الذاتَ المعبرَ عنها بضميرِ المتكلم، وهو التاء في "ما زلتُ" غيرُ المعبرِ عنها بضمير الغائب في "إياها"، وإنما هي هي. وزاد ابنُ الفارض إيغالاً في كفره، فقال: "بل ذاتي لذاتي"، لِيُجرد الذاتَ الإلهية من وجودِها الخاص، وليؤكدَ أنْ ليس لها من وجودٍ إلاَّ هذا الوجودُ المقيدُ المتعين في هذا أو ذاك من أفرادِ الخَلْق، ولإثباتِ الوحدة التامة بين الحقِّ والخلق -لا في الباطنِ فحسب- بل في الظاهر، ثم لغرضٍ آخر، وهو أن الذاتَ الإلهية، نالت كمالَها بتعينها في صورةِ ابن الفارض. هذا هو دين مَن لا يزال كِبارُ الشيوخ -بَلْهَ الزنادقة الصوفية- يُلقبونه: "سلطان العاشقين". (¬2) هذا توكيدٌ لمَا يَدينُ به من الوحدة، ولذا يُلح في نَفْيِ المعية، نَفْيِ أن يكونَ ثَمَّ في الكون "غيرٌ" أو "سِوى" إذ ما ثَمَّ إلاَّ حقيقةٌ واحدة، هي هُوِيةُ الحقَ، تكثرت بمظاهرِها الخَلْقية والألمعية: الذكاة والفطنة.

ومني بَدَا لي ما عَلَيَّ لَبستُه ... وعنِّي البوادِي بي إليَّ أُعِيدْتِ وفيَّ شَهِدَتُ الساجِدِين لَمظهَري ... فحقَقَّتُ أني كنتُ آدمَ سَجْدَتِي (¬1) تعانَقَتِ الأطرافُ (¬2) عندي وانطوى ... بِساطُ السِّوى عَدلاً بحُكم السَّويةِ ¬

_ (¬1) قال الشيخ عبد الرحمن الوكيل: "وأقولُ في قصة آدم، وأمرِ الملائكةِ بالسجود له، وطاعتِهم لهذا الأمر، وتَمرُّدِ إبليس عليه: في كل هذا ما يَنقضُ دعاوى الصوفيةِ في الحلولِ والوحدةِ والاتحاد؛ لأنها -أي القصة- تُثبِتُ ربًّا آمرًا بالسجود، وتثبت أغيارًا كثيرين همِ: آدم، والملائكة، وإبليس، لهذا يُحاولُ ابنُ الفارض تصويرَ القصة، بما يتواءمُ وهوى زندقته، أي: بما يرفعُ في زَعمِه هذا التعدُّدَ في الوجودِ والذوات، ويرفعُ المُغايرةَ بين الماهيات، فيقول: لا تحسبَن الآمرَ بالسجودِ غيرَ من أُمروا به، أو غيرَ مَن وقع الملائكةُ له ساجدين، أو غيرَ مَن تمرَّد على هذا السجود، فإنهم جميعًا عينٌ واحدة، هي الذاتُ الإلهية، فالآمِرُ هو الله باعتبارِ الهُويةِ المجردةِ عن التعين، وآدمُ هو مَظهرُ تعينِ الذات أو الهوية، والملائكة هم تعينات الصفات، وكذلك إبليسُ، فلا تعدُّدَ في الوجود، ولا غَيريةَ في الماهيات، فآدم هو الذاتُ، والملائكةُ وإبليسُ هم الصفات، وما كان السجودُ الذي وقع سجودَ ذاتٍ لغيرها، بل كان من صفاتٍ لموصوفها .. ثم ينتقل ابنُ الفارضُ من هذا التصوير الصوفيِّ إلى تقريرِ أنه كان عينَ آدم، وكان عينَ الملائكة، أي: عينَ الذات الإلهية، وعينَ صفاتها! هذا هو دينُ سلطان العاشقين، أو قلْ: هذه زندقةُ شيخ الصوفين!! " انتهى بتصرف. (¬2) يزعمُ أنه ليس في الوجود متناقضاتٌ، ولا أضدادَ ولا أغيارَ -بل ولا أمثال-، إذ الوجودُ كله حقيقةٌ واحدة، والحقيقةُ الواحدةُ لا يقالُ عنها: إنها تُنَاقِض أو تُضادُّ، أو تغايرُ، أو تُماثِلُ نفسَها ولهذا يؤمنُ الزنديقُ أن القِدَمَ عَينُ الحدوثِ والفوقَ عينُ التحت، وَالنورَ عينُ الظلمة، والأولَ عينُ الآخِرِ، والأزلَ عينُ الأبد، والآن عينُ الماضي وعينُ المستقبل، وهذه هي الأطرافُ الوجوديةُ والمكانيةُ والزمانيةُ التي يزعمُ ابنُ الفارض أنها تعانقت عنده، والتي يقولُ بعدَها: إنه حين رأى النقيض عينَ نقيضه، والضد والغَيْرَ نفسَ ضده وغيرِه، انجَلَت عن بصيرته أوهامُ السِّوية، والغَيرية، فبَدَت له الحقيقةُ التي غلَّفتها بالستر =

وليس "ألستُ" (¬1) الأمسِ غَيْرًا لمن غَدَا ... وجنحِي غَدًا صُبْحي ويَومي ليلتي وسِرُّ "بلى" للَّهِ مِرآةُ كشفِها ... وإثباتُ معنَى الجمعِ نَفْيُ المعيَّةِ (¬2) ظهورُ صِفاتي عن أسامى جَوارحي ... مجازًا بها للحُكمِ نفسي تَسَمَّتِ رُقومُ علومٍ في سُتورِ هياكلٍ ... على ما وراءَ الحسِّ في النَفْسِ وَرتِ وأسماءُ ذاتِي عن صفاتِ جوانحي ... جَوازَ الأسرارِ بها الرُّوحُ سَرتِ مظاهرُ لي بَدَوتُ فيها ولَم أكن ... عَلَيَّ بخافٍ قَبْلَ موطنِ بَرْزَتي وَلما شَعَبْتُ الصَّدع، والتامَتْ فطَو ... رُ شملٍ بفَرقِ الوصف غيرُ مشتَّتِ (¬3) تحقَّقتُ أنَّا في الحقيقةِ واحدٌ ... وأَثْبَتَ صحوُ الجَمعِ محوَ التَّشَتتِ (¬4) ¬

_ = أوهامُه، تلك هي أن الوجود حقيقةٌ واحدة، وأن الخالقَ عينُ الخلق!!! هذا دين سلطانِ العاشقين -كما يُسمُّونه-. (¬1) يعني قولَه سبحانه: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ويريدُ بالغد في هذا البيت "يوم القيامة" في عُرف الشرع. (¬2) يشيرُ بـ "بلى" في قوله: "وسر بلى" إلخ إلى قوله سبحانه: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}: الجوابُ بـ "بلى" يستلزم وجودَ سائلٍ ومُجيب، أعني يستلزمُ الإثنيية، بيدَ أن ابنَ الفارض يدَّعي هنا أن السائلَ عينُ المجيب، وهذا في قوله: "وإثبات معنى الجمع نفي المعية". (¬3) [انظر الهامش التالي]: (¬4) يقول: لَمَّا جَمعتُ ما تفرَّق في الوجود، مِن صفاتٍ وأسماءٍ وأفعال، تيقنتُ أن كلَّ شيءٍ هو عينُ الذاتِ الإلهية، وأن الوجودَ عينُ وجوده، ثم ينتقلُ إلى نفسه، فيقرِّرُ أنه آمَنَ عن بينةٍ، ويقظةِ بصيرة: أنه هو الله ذاتًا وصفةً واسمًا وفعلاً، ومشاعرَ وجوارح!. وهكذا يؤكِّدُ ما قررتُه من قبلُ، وهو أن ابنَ الفارض ممن يَدينون بالوحدة، لا بالاتحاد، ألا تراه يكررُ دائمًا أنه آمَنَ عن يقينٍ أنه ما كان في حالٍ ما , ولا زمانٍ ما غيرٌ ولا سوى! =

دين ابن الفارض

وإني، وإنْ كُنتُ ابنَ أدم صورةً ... فلي فيه معنى شاهدٌ بأُبوَّتي * دِينُ ابنِ الفارض: ° يقول ابن الفارض: وَجُلْ في فنونِ الاتحاد، ولا تَحِدْ ... إلى فئةٍ في غيرِه العمرَ أَفْنَتِ فواحدُه الجمُّ الغفيرُ ومَن عَدا ... هـ شِرذمةٌ في غيرِه العمرَ أفنتِ فمُتْ بمعناه، وعشْ فيه، أو فمُتْ ... معناه، واتَّبِعْ أُمةً فيه أُمَّتِ فأنت بهذا المَجدِ أَجدَرُ مِن أخي اجـ ... ـتهادِ، مُجِدٍّ عن رجاءٍ وخِيفةِ فألغِ الكُنى عنِّي (¬1) ولا تُلغِ الكُنى ... بها، فهي من آثارِ صيغةِ صنعتي وأيَّ بلادِ الله حَلَّت بها، فما ... أراها، وفي عيني حَلَّتْ غيرَ مكةِ وأيَّ مكانٍ ضمَها حَرَمٌ كذا ... أَرى كل دارٍ أوطنت دارَ هِجرةِ وما سكنتُه، فهو بيتُ مَقدسٍ ... بُقرَّةِ عيني، فيه أحشايَ قَرَّتِ ومَسجدِي الأقصى مَساحِبُ بُردها ... وطيبي ثَرَى أرضٍ عليها تمشَّتِ وشُكري لي، والبِرُّ منِّي واصلٌ ... إليَّ، ونفسي باتحادي استبدَّتِ ¬

_ = وإنما كان ثَمَّ حقيقةٌ واحدةٌ هي الذات الإلهية تجلَت في صور خَلْقية، أما الاتحاد، فيستلزمُ أنه كان قبلُ وجودان، ثم اتحد أحدُهما بالآخر، وهذا ما يُنكرُه ابنُ الفارض وَينفيه نفيًا باتًّا .. قد يقال: وما لابن الفارض إذن يُعبرُ عن مُعتقَده بالاتحاد؟ أقول: مما يُفصِّلُ به ابنُ الفارض في "التائية الكبري" نجزمُ بأنه يستعملُ الاتحادَ بمعنى الوحدة، والعبرةُ بمعانيه، لا بألفاظه. (¬1) هذا كفر يُنابذُ الشرع، ولهذا يُلحُّ ابنُ الفارض في البيت الذي قبلَ هذا في تحذيرِ أتباعه مِنَ المَيلِ إلى الأئمة المُجِدين المجتهدين الذين يَعبدون اللهَ وحده، وتمتلئُ قلوبُهم بالخَوفِ والرجاء من الله وحده.

وثَمَّ أمورٌ تَمَّ لي كَشفُ سِترِها ... بصحوٍ مفيقٍ عن سواى تَغَطَّتِ بها لَم يَبُحْ مَن لم يُبِحْ دَمَه، وفي ... الإشارة معنى ما العبارةُ حَدَّتِ وقلبي بيتٌ فيه أسكنُ دونَه ... ظهورُ صِفاتي عنه مِن حَجْبيَّتي ومنها يميني في رُكنٌ مقبَّلٌ ... ومِن قبِلتي للحُكم في فيَّ قِبلَتي وحَولِي بالمعنى طوافي حقيقةً ... وسَعي لوجهي من صفائي لِمَرْوَتي (¬1) وفي حَرَمٍ من باطني أمنُ ظاهرِي ... ومِن حَوله يُخشى تخطُّف جِيرتي (¬2) وشَفع وجُودي في شُهودي ظَلَّ في ... اتحادي وِترًا في تيقُّظِ غَفْوَتي (¬3) ¬

_ (¬1) يقصد: الصفا والمروة، يريدُ أن يقول: إنه إذا طاف فإنما يطوفُ حولَ نفسه، وإذا سعى بين الصفا والمروة، فإنما يسعى لوجهه، ذلك لإيمانه بأن العابدَ والمعبودَ عينٌ واحدة، ولقد أقسَمَ لي صوفيٌّ: أنه ليس ممن يَطُوفُون حولَ الكعبة، بل هو ممن تطوفُ حولهم الكعبة!!. (¬2) يريد أن يقول: إنه هو الحَرَم، ويشير إلى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}، يا لزنديقٍ يزعمُ أن باطنَه الخبيثَ هو هذا القُدسُ الَطَّهور!. (¬3) الشفعُ عند الصوفية: وجودُ الرب شُفِّع بوجود العبد، والوِترُ عندهم وجودُ الرب فردًا باقيًا بعد فناءِ وجودِ العبد، ولِمَا يستلزمُه الشفعُ من الإثنينية راح ابنُ الفارض يَنفيه هنا نفيًا باتًا، ثم يؤكدُ أنه تجلى له عن شهودٍ جليٍّ، ويقظةٍ شاعرةٍ تمامَ الشعور أن الوجود -وجود الرب، ووجودَ العبد- واحدٌ في أزليته وأبديته وأنه ما ثَمَّ إلاَّ عينٌ واحدة سُميت باعتبارِ الباطن "حقًا أو ربًّا"، وباعتبارِ الظاهر "خَلقًا أو عبدًا". تلك هي الذاتُ الإلهية، ويؤكدُ الزنديقُ كذلك أن ما كان يُضيفُه من سماتِ الموجود وصفاتِه لنفسه، ويَحسبه غيرَ الموجود الإلهي، كان وهمًا من الأوهام استبد بخياله الغافلِ المغرور، هذا لأنه أدركَ تمامَ =

ولَم أله باللاهوتِ عن حكم مَظهرَي ... ولم أَنْسَ بالناسوت مَظهَرَ حِكمتي وقد جاءني منِّي رسولٌ عليه ما ... عَنِتُّ عزيزٌ بي، حريصٌ لرأفةِ ومِن عَهدِ عَهدِي قبلَ عَصرِ عناصري ... إلى دارِ بَعثٍ قبلَ إنذارِ بَعثةِ إليَّ رسولاً كنتُ منِّي مرسِلاً ... وذاتي بآياتي عليَّ استدلَّتِ ° وقال ابن الفارض: ولا تَحسَبَنَّ الأمرَ عني خارجًا ... فما ساد إلاَّ داخلٌ في عُبودتي ولولايَ لَم يوجدْ وجودٌ، ولَم يكن ... شهودٌ، ولَم تُعْهَد عهودٌ بذمَّةِ وفي عالَم التركيب في كلِّ صورةٍ ... ظَهَرَتْ بمعنى عنه بالحُسنِ زِينتي وضربي لك الأمثالَ منِّي مِنةٌ ... عليك بشأني مرةً بعدَ مرَّةِ تأمَّلْ مقاماتِ السُّرُوجِيِّ (¬1) واعتبِرْ ... بتلوينه، تَحْمِلْ قبولَ مَشورتي وتَدْرِ التباسَ النفسِ بالحسِّ باطنًا ... بمَظهرها في كلِّ شكلٍ وصورةِ وشاهِدْ إذا استجليتَ نفسَك ما ترى ... بغير مَراءٍ في المَرَائي الصَّقيلةِ (¬2) ¬

_ = الإدراك أنه ما ثَمَّ غيرٌ ولا سوى، بل وِحدةٌ مطلقة تشمل كلَّ مظاهِرِ الموجود، هذا وغيره يجعلنا نوقنُ أن ابنَ الفارض ممن يؤمنون بالوحدة، لا بالاتحاد؛ لأن الاتحادَ "افتعالٌ" يستلزمُ ثبوتَ وجودَينِ اتَحد أحدُهما بالآخر، في حين أنه هنا -وفي مواضعَ كثيرةٍ- يقرِّرُ وحدةَ الوجودِ في أزلٍ وأبدٍ وسَرمدٍ وآنٍ، وأنه ما كان في حالٍ ما ولا آنٍ ما ثنائيًّا أبدًا، بل كان دائمًا هو الوجودَ الواحد. (¬1) اسم الشخص الذي بنى عليه الحريري "مقاماته". (¬2) يَرُدُّ الشيخُ الجليلُ ابنُ تيميَّة على هذا المَثَلِ الذي يُمثِّلُ به ابنُ الفارض الوحدة بين الحقِّ والخلق، فيقول: "فلو قُدِّرَ أن الإنسانَ يَرى نفسَه في المرآة، فالمرآةُ خارجةٌ عن نفسه، فرأى نفسَه، أو مثالَ نفسِه في غيره، والكونُ عندهم ليس فيه غيرٌ ولا سِوًى، فليس هناك مَظهرٌ مخالفٌ للظاهرِ، ولا مرآةٌ مغايرةٌ للرائي، وهم يقولون: إن الكونَ مَظاهرُ الحق، =

أغَيْرُكَ فيها لاحَ، أم أنت ناظرٌ ... إليك بها عند انعكاسِ الأشعَّةِ وأصْغِ لِرَجعِ الصوتِ عند انقطاعهِ ... إليك بأكنافِ القُصورِ المَشِيدةِ أهَلْ كان مَن ناجاك ثَمَّ سواك، أَم ... سمعتَ خِطابًا عن صداك للمُصَوِّتِ؟ وقل لي: مَن ألقى إليك عُلومَه ... وقد رَكَدَتْ مِنك الحواسُّ بَغفلةِ وما كنتَ تدرِي قبل يومِك ما جرى ... بأمسِك، أو ما سوف يَجرِي بَغدْوَةِ فأصبحتَ ذا عِلمٍ بأخبارِ مَن مضى ... وأسرارِ مَن يأتي مُدِلاًّ بخِبرةِ أتحسَبُ مَن جاراك في سُنَّة الكَرَى ... سواك بأنواعِ العلومِ الجليلةِ وما هي إلاَّ النفسُ عند اشتَغالها ... بعالَمها عن مظهرِ البشريةِ تَجلَّت لها بالغَيب في شكلِ عالَمٍ ... هَداها إلى فَهم المعاني الغريبةِ ولا تك مِمَّن طيشَتْهُ دُروسُه ... بحيث استقلَّت عقلَه واستفزَّتِ فثَمَّ وراءَ النقلِ عِلمٌ يَدِقُّ عن ... مَدارِكِ غاياتِ العقولِ السليمةِ (¬1) ¬

_ = فإن قالوا: "المظاهرُ غيرُ الظاهر"، لَزِم التعدُّد وبَطَلتِ الوحدة، وإن قالوا: "المَظاهر هي الظاهر"، لم يكن قد ظَهَر شيءٌ في شيء، ولا تجلى شيءٌ في شيء، ولا ظَهَر شيءٌ لشيء، وكان قوله -يعني: ابن الفارض- "ومشاهد إذا استجليت .. " إلخ، كلامًا متناقضًا؛ لأن هنا مخاطِبًا، ومخاطَبًا، ومرآة تُستجلى فيها الذات، فهذه ثلاثةُ أعيان، فإنْ كان الوجودُ واحدًا بالعين، بَطَلَ هذا الكلام، وكلُّ كلمةٍ يقولونها تَنقضُ من أصلهم" (1/ 87) "مجموعة الرسائل والمسائل". (¬1) يقصدُ بالنقل نصوصَ الشرائع السماوية .. أي دعْ عنك عِلمَ الظاهرِ عند ابن عربي ليس فيه أثارةٌ من الحقَّ ولا لُمَعٌ من الهداية، ولا إشراقٌ من الحقيقة وتعالَ إلي أعلمْك عِلمًا دقيقًا جليلاً يُهيمنُ على الهُدى والحقِّ!! وهو العلمُ الذي يقول عنه زنديقُهم الأكبر: يا ربِّ جَوهرُ عِلْمٍ لوْ أبوحُ به ... لَقيلَ لي أنتَ مِمَّنْ يعبدُ الوثنَا ولاستحَلَّ رجالٌ صالحون دمِي ... يَرَوْن أقبحَ ما يأتونَهُ حسنَا =

تلقيتُه (¬1) مني، وعنِّي أخذتُه ... ونَفسي كانت من عَطائي مُمِدَّتي ولا تكُ باللاهي عن اللهوِ جُملةً ... فَهَزْلُ المَلاهي جِدُّ نفسٍ مُجِدَّةِ ° وقال ابن الفارض: أَمَّمتُ أمامي في الحقيقة، فالورى ... وَرائي وكانت حيثُ وَجَّهتُ وِجهتي يراها أمامي في صلاتي ناظري ... ويَشهدُني قلبي إمامَ أئمَّتي ولا غَرْوَ أنْ صَلى الأنامُ إليَّ، أنْ ... ثَوَتْ بفؤادي وهي قِبلةُ قِبلتي لها صلواتٌ بالمقام أُقيمها ... وأَشهدُ فيها أنها ليَ صَلَّتِ كِلانا مُصَلٍّ ساجدٌ إلى ... حقيقتهِ بالجَمعِ في كلِّ سجدةِ وما كان لي صَلَّى سواى، ولَم تكن ... صلاتي لغَيري في أدَا كلِّ ركعةِ إلى كم أُواخِي (¬2) السِّتْرَ، ها قد هَتكتُه ... وحلُّ أَواخي (¬3) الحُجْبِ في عَقدِ بَيعتي أفاد اتخاذي حُبَّها لاتِّحادِنا ... نَوادر عن عادِ المُحبِّين شَذَّتِ وفي الصَّحْوِ بعد المَحْو (¬4) لم أَكُ غيرَها ... وذاتي بذاتي إذ تَحلَّتْ تَجلَّتِ ¬

_ = وإذا كان عِلمُ ابنِ الفارض يَدِقُّ عن مَدارك العقولِ المُشرِقة، فمَن للدراويش؟ مَنْ للذين هم ليسوا بأقطاب؟. ولازمُ كلامِه -وهو يقول بوحدة الوجود- أنَّ أولئك الذين لا يَعلمون عِلمَه همُ الله في عُرف زندقته؟ أليس معنى هذا أن له عِلمًا يَدِقُّ حتى عن الله سبحانه؟ ومعناه أن زندقتَه أبرُّ بالحق والهدى من شرائع الله سبحانه؟! (¬1) يعني: ابن عربي. (¬2) من المواخاة يعني: الملازَمة. (¬3) جَمْع آخِيَة، وهي ما يَبرُزُ -كالحَلْقة- من الحَبْل المدفونِ طرفاه في الأرض - وتُشَدُّ إليها الدابة، ويرادُ بها الحرْمة والذمَّة. (¬4) الصحو عند الصوفية: هو رجوعُ العارف إلى الإحساس بعد غَيبته وزوال إحساسه .. =

خطر صرف الكلام عن ظاهره

فوصفي إذ لم تَدعُ باثنينِ وَصفُها ... وهيئتُها -إذ واحدٌ نحن- هيئتي فإنْ دُعيتُ كنتُ المُجيبَ، وإن أكن ... منادِي أجابت مَن دعاني وَلبتِ وإن نَطَقَتْ كنتُ المناجي، كذاك إن ... قصصتُ حديثًا، إنما هي قَصَّتِ فقد رفعتُ تاءَ المخاطَبِ بيننا ... وفي رَفعِها عن فِرقةِ الفَرْقِ رِفعتي فجاهِد تشاهِدْ فيك منك وراءَ ما ... وَصفتُ سكوتًا عن وجودِ سكينةِ فمِن بعد ما جاهدتُ، شاهدتُ مَشهَدي ... وهاديَّ لي إيايَ، بل بي قُدوتي فبي موقفي، لا، بل إليَّ توجُّهي ... كذاك صلاتي لي، ومنِّي كَعبتي * خَطَرُ صَرفِ الكلامِ عن ظاهره: ° قال الغزَّاليُّ في أولِ "الإحياء" من كتاب "العلم" ما حاصله: "إن الكلامَ إن كان ظاهرًا في الكفر بالاتحاد، فقَتلُ واحدٍ ممن يقولُ به أفضلُ من إحياءِ عَشَرةِ أنفُس، وإن كان فَهمُه مشكِلاً، فلا يَحِلُّ ذِكرُه". ¬

_ = والمحو: إسقاطُ إضافةِ الوجودِ إلى الأعيان، ولا موجودَ عندهم إلاَّ الحقُّ سبحانه وحده، فهو العابدُ باعتبارِ تعيُّنه وتقيده بصورِ العبدِ التي هي شأنٌ مِن شؤونه الذاتية، وهو المعبودُ باعتبارِ إطلاقه .. انظر "التعريفات" للجرجاني، و"جامع الأصول في الأولياء" للكمشخانلي تحت مادتي "الصحو والمحو" .. وابن الفارض هنا يغلو في إثبات الوحدة، فيزعمُ أنه هو الله، لا في حال المَحو فحسب، بل في حال الصحو أيضًا، وهذا يؤكدُ لك أنه يعني ما يقول، ويؤمنُ بالوحدة صحوًا ومحوًا، فما هي شطحات، ولكنها عقيدةٌ يَنبُتُ عليها قلبُه ودينُه، وما هو بَهَذيانِ سَكرانَ كما يهرفُ الصوفية، ليقولوا: وكلامُ السكرانِ معفوٌّ عنه، فيُطوى، ولا يُروَى!!.

"التائية" و"الفصوص"

° وقال: "إن الألفاظ إذا صُرفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصامٍ بنقلٍ عن صاحب الشرع، وبغير ضرورةٍ تدعو إلى ذلك من دليلِ العقل، اقتَضى ذلك بُطلانَ الثقةِ بالألفاظ". ° ثم قال: "والباطنُ لا ضَبْطَ له، بل تتعارَضُ فيه الخواطر". ° ثم قال: "وبهذا الطريق توصَّل الباطنيةُ إلى هَدمِ جميعِ الشريعة" (¬1). * "التائية" و"الفصوص": لا فرق بين "التائية" و"الفصوص" إلا بكونه نثرًا، وكونِها نظمًا. ° ورَوى ابنُ المِقرِي أن ابنَ عربيٍّ طَلَب إلى ابن الفارض أن يَضَعَ شرحًا لتائيته الكبرى، فأجابه ابنُ الفارض بقوله: "كتابك "الفتوحات المكية" شرحٌ لها" (¬2). ° قال الدكتور محمد مصطفى حلمي: "هذه الروايةُ ليست من الوضوح بحيث نتبيَّنُ منها أكان ما طَلَبَه ابنُ عربي إلى ابن الفارض بطريقِ الاتصالِ الشخصي، أم كان بطريقٍ آخَرَ كإيفادِ رسولٍ أو إرسالِ كتاب" (¬3). ° وقد حُكي عن صَدرِ الدين محمدِ بنِ إسحاقَ القُونوي -وهو تلميذ ابن عربي-، أنه عَرَض لهذا الأخيرِ في شرح "التائية"، فقال ابنُ عربي للصدر: "لهذه العروس بَعْلٌ مِن أولادك"، فَشَرَحها الفَرغاني وعفيفُ الدين سليمان بن علي التلمساني، وكلاهما من تلاميذ صدر الدين (¬4)، ¬

_ (¬1) "مصرع التصوف" (ص 67 - 68). (¬2) "نفح الطيب" (1/ 100). (¬3) "ابن الفارض والحب الإلهي" للدكتور محمد مصطفى حلمي (ص 41). (¬4) "كشف الظنون" (2/ 85 - 86).

الذي كان بدورِه تلميذًا لابن عربي، كما كان القاشَاني والنابلسي تلميذَينِ من تلاميذِ مدرسته، غير أن الأستاذ "نلِّينو" يرى أن القاشاني أكثرَ أمانةً في شرحه من النابلسي، وذلك لأن القاشاني تُوفِّي بعد ابن الفارض بقرنٍ من الزمان، في حين أن النابلسي تُوفِّي بعده بأكثر من خمسةِ قرون (¬1). ° ورُوي أن الفَرغاني قرأ "التائية" على جلالِ الدين الرومي وشَرَحها بالفارسية، ثم بالعربية، وسَمَّى شرحه "منتهى المدارك" (¬2). وقد بدأ ابنُ عربي كتابة "فصوص الحكم " في أوائل سنة 627 هـ وانتهى منه سنة 628 هـ، فإن صَحَّ هذا التاريخُ كان معناه أن كتاب الفصوص تمَت كتابته قبلَ وفاةِ ابن الفارض بأربعة أعوام، وإذن فلا يَبعُدُ أن يكون ابنُ الفارض قد اطَلع على هذا الكتاب عندما أخذ يُملِي ديوانَه بـ "القاهرة" فيما بين سنتي 628 أو 629 هـ و632 هـ، وأن تكون بعضُ العناصرِ الموجودة في "الفصوص" قد امَتَزَجَت ببعضِ أبياتِ "التائية الكبرى"، غير أننا لا نعتقدُ مع ذلك ما يعتقدُه بعض القدماء -كالشيخ مدين وغيره- من أن "التائية" هي "الفصوص" لا فرقَ بينهما إلاَّ في أنَّ هذه نثرٌ وتلك شِعرٌ (¬3)؛ وإنما الذي نعتقدُه هو أن يكونَ ابنُ الفارض قد استعان ببعضِ الألفاظِ والعباراتِ والأمثلةِ التي وَرَدَت في "الفصوص" إلى هذا ذهب الدكتور محمد مصطفى حلمي في كتابه (¬4). ¬

_ (¬1) "ابن الفارض والحب الإلهي" (ص 98، 100). (¬2) "ابن الفارض والحب الإلهي" (ص 98، 100). (¬3) "تنبيه الغبي" (ص 12). (¬4) "ابن الفارض والحب الإلهي" (ص 339 - 340).

أعاذنا الله من اعتقادِ ابنِ الفارض، وابن عربي، والعفيفِ التلمساني، والقونوي، وابن هود، وابن سبعين، وتلميذِه الشيشتري، وابن مظفَّر، والصَّفَّار، وعامرِ البوصيري، ونجم الدين بن إسرائيل، وأوحد الدين الكِرماني. ° وإني لأعجبُ مما كَتَبه شيخ الأزهر "مصطفى عبد الرازق" من مقدمة لكتاب الدكتور محمد مصطفى حلمي عن "ابن الفارض والحب الإلهي" وقوله عنه: "ولكنْ واضعُ الكتاب قد وفِّق في كثير من الأمور إلى أن يكشفَ وجهَ الحقِّ عن هذه الطعون التي وجِّهت إلى ابنِ الفارض، وأن يخلقَ منها تمجيدًا لهذا الصوفيِّ ورَفعًا لشأنه" (¬1). ° وابن الفارض عند ابن تيمية من القائلين "بوحدة الوجود" التي يَصدر فيها أصحابها عن أصلَينِ باطِلَينِ يُخالفانِ دينَ المسلمين واليهود والنصارى مخالفتَهما للمعقول والمنقول: وأحدُ هذين الأصلين: هو الحلول والاتحاد، وما يقاربُهما من قولٍ بوحدة الوجود، وهو مذهب القائلين بأن الوجودَ واحدٌ لا فرقَ في ذلك بين الموجود الواجبِ للخالق، والوجودِ الممكن للمخلوق (¬2). وعند ابن تيمية أن مَثَلَ القائلين: بـ "وحدةِ الوجود" كمَثَل النصارى وغالية الشِّيعة في القول: بـ "الاتحاد والحلول"؛ إلاَّ أن هؤلاء يقولون: بـ "الحلولِ المقيَّد الخاصِّ" الذي ينتهي بتأليه السيح أو عليٍّ، وأولئك ¬

_ (¬1) "ابن الفارض والحب الإلهي" - المقدمة (ص 8). (¬2) "مجموعة الرسائل والمسائل" (1/ 66 - 67).

يقولون: بـ "الحلول المطلَق العام"، ولا يشكُّ ابنُ تيميةَ في أنَّ في قولِ هذا الفريقِ الأخير من الكفر والضلال ما هو أعظمُ مما في قولِ اليهود والنصارى (¬1). أما ثاني الأصلين: فهو الاحتجاجُ بالقَدَر على فِعل المحظور، والقَدَرُ -في رأي ابن تيمية- يجبُ الإيمانُ به، ولا يجوزُ الاحتجاجُ به على مخالفةِ أمرِ الله ونهيه، ووعدِه ووعيده (¬2). ° قال ابنُ تيمية في "مجموع الفتاوى" (2/ 365 - 366): "وكذلك ما في شِعرِ ابنِ الفارض في قصيدته التي سمَّاها "نظم السلوك" كقوله: لها صَلواتي بالمَقام أُقيمُها ... وأَشهَدُ فيها أنها لي صلَّتِ كِلانا مُصَلٍّ واحدٌ ساجد إلى ... حقيقتِه بالجمعِ في كلِّ سجدةِ وما كان لي صَلَّى سِواىَ، ولم تكنْ ... صلاتي لغيرِي في أدا كُلِّ سَجدةِ ° وقوله: وما زلت إيَّاها، وإيَّاي لم تَزَلْ ... ولا فَرْقَ، بل ذاتي لذاتي أَحَبَّتِ ° وقوله: إليَّ رسولاً، كنتُ مني مُرْسَلاً ... وذاتي بآياتي عليَّ استدلَّتِ ° فأقوال هؤلاء ونحوها: باطنُها أعظمُ كُفرًا وإلحادًا من ظاهرها؛ فإنه قد يُظنُّ أن ظاهرها من جنسِ كلام الشيوخ العارفين، أهلِ التحقيق والتوحيد، وأما باطنُها فإنه أعظمُ كفرًا وكَذبًا وجهلاً من كلامِ اليهود ¬

_ (¬1) المرجع نفسه (1/ 68). (¬2) المرجع نفسه (1/ 72).

والنصارى وعُبَّادِ الأصنام" (¬1). ° وممن كَفَّر ابنَ عربيٍّ وابنَ الفارض الإمامُ بُرهانُ الدين إبراهيم البِقاعي المتوفَّى سنة 858 هـ، فقد أفرد كتابيْن تناوَلَ فيهما ابنَ عربي وابنَ الفارض، وأبان عن ضلالِ مذهبهما، وفسادِ عقيدتهما، وانحلالِ خُلقُهما، هذان الكتابان هما: "تنبيهُ الغبيِّ على تكفير ابن عربيِّ"، و"تحذير العِباد من أهل العناد، ببدعة الاتحاد"، وقد جَمَع البقاعيُّ أسماءَ طائفةٍ كبيرةٍ من علماء الدين، وذَكَرَ كثيرًا من الكتب إلى كلِّ أولئك في إثباتِ ما يقولُه عن ابن عربيٍّ وابن الفارض من مطاعن تَنالُ من خُلقهما وعقيدتهما الدينية ومذهبِهما الصوفي، وتَضعُهما في زُمرةِ الكَفَرةِ أو الزنادقة أو المُلحِدين، فهو ينقلُ مثلاً عن عَضُدِ الدين الإيجي صاحب "المواقف" قولَه عن ابن عربي وهو: "أنه كان كذَّابًا حشَّاشًا كأوغِاد الأوباش" (¬2)، وقوله عن ابن الفارض الذي يُبيِّن فيه أن الشاعرَ كان متابعًا لابنِ عربي في ذلك وهو: " .. وقد تَبِعه في ذلك ابنُ الفارض حيث يقول: "أَمَرني النبي - صلى الله عليه وسلم - بتسميةِ التائية: نظم السلوك"، إذ لا يَخفى على العاقل أن ذلك من الخيالاتِ المتناقضة الحاصلة من الحشيش، إذ عندهم أن وجودَ الكائناتِ هو الله تعالى، فإذن الكلُّ هو الله، فلا نبيَّ ولا رسول، ولا مُرسِلَ ولا مرسَلَ إليه .. " (¬3). ويحاول البقاعيُّ في كتابيه المشارِ إليهما أن يوازِنَ بين "فصوص الحكم" لابن عربي وبين "تائية" ابن الفارض الكبرى، وتنتهي به الموازنة إلى أن المذهبَ الذي يُقرِّرُه الرجلانِ في هذين الأثرين هو مذهبُ وحدةِ ¬

_ (¬1) "مجموع فتاوى ابن تيمية" (2/ 365 - 366). (¬2) "تبيه الغبي على تكفير ابن عربي" (ص 53). (¬3) "تبيه الغبي على تكفير ابن عربي" (ص 53).

الوجود، وأنه لا فرقَ بين "الفصوص" و"التائية" إلاَّ في أن هذه شِعر، في حين أن تلك نثر: فابنُ الفارض من هذه الناحيةِ كابنِ عربي مِن القائلين بـ "وِحدة الوجود" .. وذهب إلى أن ابنَ الفارض لم يُوجَد لأحدٍ من أهلِ عصره -الخبيرِينَ بحاله- ثناءٌ عليه بعدالةٍ أو ولاية، ولا ظَهَر عنه علمٌ من العلوم الدينية، ولا مَدَح النبي - صلى الله عليه وسلم - بقصيدةٍ واحدة على كثرةِ شعره، فدل ذلك على سُوء طويته، وأن القَدْحَ قد نُقل فيه نقلاً قطعيًّا عن مُحبِّيه ومبغضيه: فقد قال شُرَّاح "تائيته"، التابعون لطريقته، والمنتقِدون عليه من أهل السُنة: "إن أهلَ زمانه -وكلُّهم من أهلِ الشريعة- رَمَوه بالفِسق والإباحة" (¬1)، وقد أيَّد البِقاعيُّ مذهبَه في ابنِ الفارض، فعدَّد نحوًا من أربعين عالِمًا، هم دعائمُ الدينِ من عصرِ ابن الفارض إلى عصرِ البقاعي، وكلهم يَرمي الرجلَ بما يَنظمُه في سِلك الكَفَرة أو الزنادقة أو الملحِدين أو الإباحيين، ويجرحَ مذهبَه فيجعلُه في عدِادِ المذاهب الضالَّة، والعقائدِ الفاسدة (¬2)، ومن هؤلاء العلماء عزُّ الدين بنُ عبد السلام، وابنُ دقيق العيد، وتقيُّ الدين السبكي، وبَدرُ الدين ابنُ جَماعة وزينُ الدين الحَنَفي، وشرفُ الدين الزواوي المالكي، وسعدُ الدين الحنبلي (¬3). ولم يَقِفِ البقاعيُّ عند هذا الحدِّ من ذِكرِ أسماء العلماء، بل تجاوَزَه إلى ذِكرِ أسماءِ الكتب التي لأصحابها رأيٌ في كلٍّ مِن ابنِ عربىِّ وابنِ الفارض ومذهبيهما: فهو يذكرُ من هذه الكتب "الميزان" و"لسان الميزان" وكلاهما ¬

_ (¬1) "تحذير العباد" للبقاعي (ص 64). (¬2) المرجع نفسه والصفحة. (¬3) "تنبيه الغبي" (ص 48).

لابن حجر العسقلاني، و"تاريخ ابن كثير" و"ناصحة الموحدين وفاضحة الملحدين" للعلاء البخاري، و"الفتاوى الكنية" للعراقي، و"تاريخ العيني"، و"شرح التائية" للبساطي، و"كشف الغطاء" لابن الأهدل. وهكذا يَتَّهمُ البقاعيُّ ابنَ الفارض وابنَ عربي في خُلقهما، ويؤيِّدُ اتهامَه بما زَعَمه صاحبُ "المواقف" من أنهما كانا يصطنعانِ الحشيش، ومِن أن ما انتهيا إليه من تقريرِ "الوحدة" ونفيِ الإِثنية والكثرة إنما هو ضربٌ من الوهم والخيال الذي يحصلُ في العقل من فعلَ الحشيش. ° ويقولُ العلاَّمة صالح بن مهدي المَقْبَليُّ اليمني صاحب كتاب "العَلَم الشامخ، في "إيثارِ الحق على الآباء والمشايخ": " .. يكفيك في كلامِ ابن الفارض الذي أذعنوا له طرًّا ما ظاهرُه الاتحاد، والتزامُ الكفر، والتَرفُّعُ على الأنبياء، وعلى الجُملة فلم يَبْقَ ما يمكنُ دعواه من المقاماتِ الرفيعة، ولا ما تأتي به الخلاعةُ من البَذاءة الشنيعة إلاَّ ادَّعاه" (¬1). ° يقول ابن الفارض: خَلَعتُ عذاري واعتذارِي لابِسَ الـ ... خلاعةِ مسرورًا بخَلعي وخَلعَتي وخَلعُ عذاري فيك فرضي وإنْ أبى اقـ ... ـترابي قومي والخلاعةُ سُنَّتي وليسوا بقومي ما استعابوا تهتُّكي ... فأبدَوا قِلى واستَحسَنوا فيك جَفْوَتي وأهلي في دين الهوى أهله وقد ... رَضُوا لي عارِي واستطابوا فضيحتي ° وقد دافع السيوطي عن ابنِ الفارض، وألَّف في ذلك كتابه "قمع المُعارض بنصرة ابن الفارض"، ولا عِبرةَ بكلامه - رحمه الله -، إذ يقول عن ¬

_ (¬1) "العلم الشامخ" (ص 378).

ابن الفارض: "ألَم يجتمعْ به الشهابُ السُّهْرَوَرْدي، وحَلاَّه بالطراز اللازوردي، ومقامُه في علم الشريعة والحقيقة معروف، ومَحِلُّه في العَظَمة والجلالة مرسومٌ وموصوف؛ وقد كان داعيًا مرشدًا، ومَسْلكًا به يُقتدي، فلا أنكَرَ عليه، أو حَذَّر الناسَ مما لديه، بل شَهِد له بالمحبَّة، ودَلَّ عليه تلامذتَه وصَحبَه؟! ألم يجتمع به حافظُ عصرِه وزاهدُه الشيخ زكي الدين المنذري وغيرُه من حُفَّاظِ الحديث؟. وكم إمامٍ كان في عصره، في حجازِهِ وشامه ومصره، فما منهم أحدٌ وجَّه إليه إنكارًا ولا حطَّ مقدارًا ولا هَدَمَ له مَنَارًا، وذلك لِمَا شاهَدوه من سَنِيِّ أحوالِه، وتواتَرَ عندَهم من أنه مُحِبٌّ عاشقٌ واله" (¬1). هذا قول السيوطي!!!. ° وانظر ما قاله الدكتور محمد مصطفى حلمي في كتابه "ابن الفارض والحب الإِلهي": "هناك قصةٌ أخيرة تُظهِرُنا على أن ابن الفارض: انتهى في آخِرِ لحظاتِ حياتِه إلى رؤية الله، وهي عند القومِ غايةُ الكرامة: فقد قصَّ بُرهانُ الدين الجَعبري على ولدِ ابنِ الفارض قصةً وصَف فيه الشاعرَ وما وَقَع له عند احتضارِه، وقد كان الجعبريُّ أحدَ الذين حَضَروا ذلك الاحتضارَ من الأولياء، ومِن هذه القصة نتبيَّنُ أن ابنَ الفارض عندما حَضَرته الوفاةُ تمثَّلت له الجنةُ أمامَ عينيه، ولكنه ما كاد يراها حتى تأوَّه وصَرَخَ صرخةً عظيمةً وبكى بكاء شديدًا وتغيَّر لونه وقال: إن كان منزلتي في الحُبِّ عندكمُ ... ما قد رأيتُ فقد ضيَّعتُ أيامي ¬

_ (¬1) "قمع المعارض بنصرة ابن الفارض".

أمنيةٌ ظَفِرَتْ رُوحي بها زمنًا ... واليومَ أحسَبُها أضغاثَ أحلامِ وهنا قال له الجعبري: إن هذا مقامٌ عظيم، فردَّ عليه ابنُ الفارض قائلاً: "يا إبراهيم، رابعة العدوية تقول وهي امرأة: وعزّتِك ما عَبَدتُك خوفًا من نارك ولا رغبةً في جنتك، بل كرامةً لوجهك الكريم ومحبةً فيك، وليس هذا المقام الذي كنت أطلبُه، وقَضيتُ عُمري في السلوك إليه. قال الجعبري: فسمعتُ قائلاً يقول بين السماء والأرض أسمعُ صوتَه ولا أرى شخصه: يا عمر، فما تروم؟ فقال: أرومُ وقد طال المَدَى منك نظرةً ... وكم من دماءٍ دونَ مرمايَ طَلَّتِ قال الجعبري: ثم بعد ذلك تهلَّل وجهه وتبسَّم وقَضَى نَحْبَه فَرِحًا مسرورًا، فعَلِمتُ أنه أُعطى مرامه" (¬1). فإن صحَّ فَهمُ الجعبري لهذا المرام على أنه رؤيةُ الله، وظَفِر ابنُ الفارض بهذه النظرةِ التي طالما رامها، وسُفكت في سبيلها الدماء، فإنه ينبغي على ذلك أن يكون شاعرُنا قد تحقَّق أخيرًا بأسمى الكرامات وأرقى خوارق العادات، ومع هذا فإنَّ هناك فريقًا من الصوفية قد أجمع على أن الله لا يُرى في الدنيا بالأبصار ولا بالقلوب إلاَّ من جهةِ الإيقان؛ لأنه غايةُ الكرامة وأفضلُ النِّعم، ولا يجوزُ أن يكونَ ذلك إلاَّ في أفضلِ المكان، ولو أُعطى القومُ في الدنيا أفضلَ النِّعم، لَم يكن بين الدنيا الفانية والجنة الباقية فَرق، ٌ ولَمَّا مَنَع الله سبحانه كليمَه - عليه السلام - ذلك في الدنيا، كان مَن هو دونه أحرى؛ وأخرى أن الدنيا دارُ فناء، ولا يجوزُ أن يُرى الباقي في ¬

_ (¬1) "ديباجة الديوان" (ص 12).

الدار الفانية (¬1). وهذا الإنكارُ لرؤيةِ الله في الدنيا، إن صَحَّ بالقياس إلى مَن يَدَعي هذه الرؤية من الصوفية وهو ما يزالُ غارقًا في بحرِ الحياة، فإنه لا يصحُّ بالقياسِ إلى حالِ ابنِ الفارض كما تُصوِّرُها القصةُ المذكورة آنفًا: فهو هنا قد وَلَّى من الحياة وتولَّت عنه الحياة بما فيها من متاعٍ دنيويٍّ ماديٍّ، وأقبل عليه الموتُ، وأصبح من العالَم العلويِّ قابَ قوسين أو أدنى؛ فليس ثَمَّةَ ما يمنعُ إذًا من أن يُكرمَه الله برؤيته في هذه اللحظةِ الأخيرة من حياته التي ستصعدُ رُوحُه فيها إلى السماءِ، وستَنعمُ في ظلِّ بارئها بكلِّ ألوانِ النعيم والسعادة والسَّناء" (¬2). فإن كان هؤلاء الناسُ يَجهلون ما يعرفُه عوامُّ المسلمين من أن الله لا يُرَى في الدنيا لأحدٍ من البشر، إن كان لم يَرَه موسى وهو كليمُه فكيف يراه ابنُ الفارض؟!! ثم يتكلَّمون بعدَ هذا في دينِ الله -عز وجل-. ° ولكنِ انظر إلى الثقةِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيمية ما يقول في موت ابن الفارض: "حدثني الشيخ رشيد الدين بن المعلِّم، عن الشيخ إبراهيم الجعبري أنه حَضَر ابنَ الفارض عند الموت وهو ينشد: إنْ كان منزلتي في الحُبِّ عندكمُ ... ما قدْ لَقيتُ فقد ضيَّعت أيامي أمنيةٌ ظَفَرتْ نفسِي بها زَمنًا ... واليومَ أَحسَبُها أضغاثَ أحلامِ وحدَّثني الفقيهُ الفاضل تاجُ الدين الزنباري، أنه سمع الشيخَ إبراهيم الجعبري يقول: "رأيتُ في منامي ابنُ عربي، وابنَ الفارض، وهما شيخانِ ¬

_ (¬1) "التعرف لمذهب أهل التصوف". (¬2) "ابن الفارض والحب الإلهي" (ص 77 - 78).

أعْمَيانِ يَمشِيانِ ويتعثَّران، ويقولان: كيف الطريق؟ وأين الطريق؟ ". ° وحدثني شهابُ الدين المِزِّي، عن شرف الدين بن الشيخ نجم الدين ابن الحكيم عن أبيه أنه قال: قَدِمتُ دمشقَ، فصادفت موتَ ابن عربي، فرأيتُ جنازتَه كأنما ذُرَّ عليها الرماد، فرأيتُها لا تشُبه جنائزَ الأولياء" (¬1). ° وقال ابنُ تيمية: "وقد صنَّف بعضُهم -أي: أهل الاتحاد- كُتُبًا وقصائدَ على مذهبِه، مِثْلِ قصيدةِ ابنِ الفارض المُسمَّاه بـ "نظم السلوك"، يقول فيها: لها صلواتي بالمقام أُقيمها ... وأشهَدُ فيها أنها لي صَلَّت كلانا مُصَل واحدٌ ساجدٌ إلى ... حقيقتِه بالجمع في كُلِّ سجْدَةِ وما كانَ لي صَلَّى سوايَ ولمْ تكُن ... صلاتي لغيري في أدا كُلِّ ركعةِ ثم قال: إلى مثل هذا الكلام -أي: الدالِّ على الاتحاد-، ولهذا كان عند الموت يُنشِد: إن كان منزلتي في الحبِّ عندكمُ ... ما قد رأيتُ فقد ضَيَّعتُ أيامي أُمْنَيةٌ ظفِرتْ رُوحي بها زمَنًا ... واليوم أحسَبُها أضعاثَ أحلامِي فإنه كان يظنُّ أنه الله، فلمَّا حَضَرت ملائكةُ الله لقبضِ روحه، تبيَّن له بطلانَ ما كان يظنه" (¬2). ¬

_ (¬1) "مجموع الفتاوى" (2/ 246). (¬2) "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" (ص 83) وما بعدها، و"مجموعة الرسائل والمسائل" (4/ 76).

عبد الكريم الجيلي، يزعم ويفتري أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يظهر في الكنائس وفي صور مشايخه

* عبدُ الكريم الجَيْلي، يَزعمُ ويَفتري أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يظهرُ في الكنائس وفي صُورِ مشايخه: ° قال شيخُ الإِسلام ابنُ تيمية: "وبالجُملة فهو -يعني: ابنَ عربيٍّ- لم يَتَّبع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في شيءٍ، فإنه أَخذَ -بزعمه- عن الله ما هو متابعٌ فيه في الظاهر، كما يوافق المجتهدُ الرسولَ، فليس عنده شيء من اتِّباعِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - والتلقِّي عنه شيءٌ أصلاً، لا في الحقائقِ الخَبَريَّة، ولا في الحقائقِ الشرعيَّة" (¬1). فَبعَد أن زَعَم ابنُ عربيٍّ وجودَ أنبياءَ بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - سَمَّاهم "أنبياء الأولياء"، لا يَتَّبِعون الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - في شيءٍ ممَّا جاء به .. جاء بعده عبدُ الكريم الجَيْلي بفِرْيةٍ أعظمَ مما جاء به ابنُ عربيٍّ، فليس جميعُ بني آدم يمكنُ أن يكونوا أنبياءَ فحسب، بل يمكنُ أن تتقمَّصَ روحُ النبيِّ الخاتمِ - صلى الله عليه وسلم - أرواحَ مشايخِ الصوفية، ويَتصوَّرُ بصورِهم، بحيث إذا قال هذا الصوفيُّ: "أنا رسولُ الله"، يجبُ أن يُصَدَّق، بل وَصَل عند الجَيليِّ الاستهزاءُ والاستخفافُ بشخصِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - حيث جَعَل النبي - صلى الله عليه وسلم - يظهرُ في الكنائسِ .. إلى غير ذلك من أنواعِ الكفرِ والإِلحاد. ° يقول الجَيْلي: "أعلَمْ -حَفظك الله- أن الإنسانَ الكاملَ هو القُطبُ الذي تدور عليه أفلاكُ الوجودِ من أوَّله إلى آخِره , وهو واحدٌ منذ كان الوجود إلى أبدِ الآبدين , ثم تَنوَّع في ملابس، ويَظهرُ في كنائس، فيسمَّى به باعتبارِ لباس، ولا يُسمى به باعتبارِ لباسٍ آخر؛ فاسمه الأصليُّ الذي هو له ¬

_ (¬1) "نقض المنطق" لابن تيمية (ص 141).

"محمد" وكُنْيتُه "أبو القاسم"، ووصفه "عبد الله"، ولَقبه "شمس الدين"، ثم له باعتبارِ بملابسَ أُخرى أسامٍ، وله في كلِّ زمانٍ اسمُ ما يَليقُ بلباسِه في ذلك الزمان، فقد اجتَمعتُ به - صلى الله عليه وسلم - وهو في صورةِ شيخي الشيخ "شرف الدين إسماعيل الجبرتي"، ولَستُ أعلمُ أنه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وكنتُ أعلمُ أنه الشيخ، وهذا من جُملةِ مشاهدَ شاهدتُه فيها بـ "زَبيد" سنةَ ستٍّ وتسعين وسَبْعِمِئة، وسِرُّ هذا الأمرِ تمكُّنه - صلى الله عليه وسلم - من التصوُّرِ بكلِّ صورة، فالأديبُ إذا رآه في صورتِه المحمَّدِيَّة -التي كان عليها في حياته-، فإنه يُسمِّيه باسمِه، وإذا رآه في صورةٍ ما من الصُّور -وعَلِم أنه محمد-، فلا يُسَمِّيه إلاَّ باسم تلك الصورة، ثم لا يُوقع ذلك الاسمَ إلاَّ على الحقيقةِ المحمديَّة، ألاَ تراه - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا ظهر في سورة "الشِّبلي" - رضي الله عنه - قال الشِّبليُّ لتلميذه: "أشهدُ أني رسولُ الله" -وكان التلميذُ صاحِبَ كَشْفٍ فعرفه-، فقال: "أشهد أنك رسول الله"، وهذا أمرٌ غيرُ منكور، وهو كما يرى النائمُ فلانًا في صورةِ فلانِ، وأقلُّ مراتبِ الكشف أن يَسوغَ به في اليقظة كما يَسوغُ به في النوم، لكنْ بين النوم والكشفِ فرقٌ، وهو أنَّ الصورةَ التي يُرى فيها محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - في النوم لا يُوقَعُ اسمُها في اليقظة على الحقيقة المحمدَّيةِ؛ لأن عالَمَ المثالِ يَقعُ التعبيرُ فيه، فيعبِّرُ عن الحقيقةِ المحمدَّيةِ إلى حقيقةِ تلك الصورة في اليقظة، بخلافِ الكشفِ، فإنه إذا كُشف لك عن الحقيقةِ المحمدَّية أنها متجلِّيةٌ في صورةٍ من صُوَرِ الآدميِّين، فيلزُمك إيقاعُ اسم تلك الصورة على الحقيقة المحمدَّية، ويجبُ عليك أن تتأدَبَ مع صاحب تلك الصورة تأدُّبَك مع محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - لمَا أعطاك الكشفُ أتى محمدًا - صلى الله عليه وسلم - مُتَصور بتلك الصورْة، فلا يجوزُ ذلك -بعد شهودِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فيها- أن تُعامِلَها بما كنتَ تعاملُها مِن قبل".

فهذا الكلام يلزم منه لوازمُ باطلةٌ، منها: 1 - قوله: "إن الإنسانَ الكامل -الذي يَعْنون به النبيَّ صلى الله عليه وسلم - تدورُ عليه أفلاكُ الوجود ... وهو واحدٌ منذ أن كان الوجود إلى أبدِ الآبدين" .. هذا كلُّه مفرَّعٌ عن نظريةِ "الفيض" وما فيها من مفاسد" (¬1). 2 - قوله: "له التصوُّر بكلِّ صورةٍ"، يفسِّر قوله: "ويَظهر في كنائس" فيلزمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يظهر في صورة النَّصارى مِن رهبان وقساوسة، وهو على هذه الصورة، إمَّا أن يدعوَ الناسَ إلى الإسلام -وهذا ما لا يُتصَوَّر-، وإما أن يدعوهَم إلى النصرانية -وهذا هو القريبُ من فهْم الجَيْلي-. 3 - كما لا يلزم من قوله: "يُتصوَّر بكلِّ صورة"، اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بخصائصَ لم تكنْ عنده من قبل، وإنما خاصيَّةُ "التشكُّل" أو "التصوُّر" ثَبَتَتْ للملائكة عليهم السلام والشياطين. 4 - كما يَلزمُ مِن قوله: "يَتصوَّرُ بكلِّ صورة": العموم من لفظِ "كل"، فيَشمل التصوُّرَ بالصورِ الآدميَّةِ وغيرِ الآدميَّةِ من الكائناتِ والمخلوقاتِ الأخرى. * {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (¬2) [النور: 16]. والحمد للَّه أنْ حَفِظَ عقولَنا عن ترهَّاتِ فلاسفةِ الصُّوفيةِ ودَجَلِهم وكفْرِهم. ¬

_ (¬1) "الإنسان الكامل في معرفة الأوائل والأواخر" للجيلي (2/ 74 - 75) - دار الفكر - بيروت. (¬2) "خصائص المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بين الغلو والجفاء" تأليف د. الصادق محمد إبراهيم (ص 219 - 221) - مكتبة دار المنهاج - الرياض.

السهروردي المقتول

* السُّهْرَوَرْدي المقتول: شهابُ الدين السُّهروردي -يحيى بن حبِش بن أميرك-، ولد بين سَنَتي 545 - 550 هـ، وَصَل إلى حَلَب بعد أن طَوَّفَ بعددٍ من مُدنِ إيرانَ والعراق، وبعد أن دَرَسَ فلسفةَ التصوُّفِ الإشراقية في علومِ الأوائل ولدى حُكماءِ الفرسِ قبل الإِسلام، وهي ما يُعرَف بـ "الأفلاطونية الحديثة" (فلسفة أفلوطين ومن تابعه). كان السُّهْرَوَرْديُّ يقول بمذهبِ "الإِشراق"، أي أن ظاهرةَ إشعاعِ النور الأصيلِ هي الظاهرةُ المولِّدةُ الأصليَّةُ للوجودِ والكشفِ عن الوجود .. وفكرةُ "الإشراقِ" تقومُ في صميم الحكمةِ الأفلاطونية الحديثة واللاهوتِ المنبثقِ عنها .. والذي يَختلطُ فيه الفِكرُ الهِلينستي بالزرادشتيَّة، ويدخلُ عن هذا الطريقِ إلى الفِكر الإسلامي. وللسُّهْرَوَرْديِّ كتبٌ ورسائلُ كثيرةٌ في صورةِ أمثالٍ ورموزٍ، وهي منظوماتٌ فكريَّةٌ تدخلُ في بابٍ "الميتافيزيقا الروحية"، على أنه في شطحاتِه الفِكريةِ كان يلامسُ -أو يخترقُ- حدودَ الإيمان. من ذلك: أنَّ الذي يقرأ القرآنَ لا يكونُ "هو" الذي يقرؤه؛ ولكنَّ اللَّهَ هو الذي يتلُوه من خلاله، فعلى المؤمنِ الذي مُنحَ -مؤقَّتًا- حقَّ قراءتِه ألاَّ يَنسِبَ القراءةَ إلى نفسِه، وألاَّ يُعمِيَه "أناه" الخاص، وألاَّ يَضَعَ نفسَه موضعَ "هو". وقوله: "إنَّ التوحيدَ لا يقصَدُ به ما انتَشَر عن إدراكِ اللَّهِ بالوحدانيةِ الذاتية والقيُّوميَّةِ، وإنما يَعني بتجريد الكلمة "أي: النفس" عن علائقِ الأجسام في المكانِ حتى يَنطويَ في الربوبيَّةِ القيُّوميةِ كلُّ نظرٍ في مبادئِ الوجود ومراتبِه , ولا مقامَ فوقَ هذا المقام".

وثَمَّ في درجات أربعٌ تتدرَّج حتى الكمالِ النهائيِّ للتوحيد الذي هو الدرجة الخامسة: أولاً: مَن يقولون: "لا إله إلا الله" وهي درجةُ سائر الناس. ثانيًا: مَن يقولون: "لا إله إلاَّ هو"، وهؤلاء يَنفُون عن "الهوَ" الإلهيِّ كلَّ أنواع "الهوَ". ثالثًا: مَن يقولون: "لا إله إلاَّ أنت"، وهم يسَمُّون اللهَ بضميرِ الغائب، ويُنكرِون كلَّ "أنت" تريدُ أن يشهدَ على نفسِها بهذا. رابعًا: كلُّ مَن يخاطَبُ، تقومُ بينه وبين من يُخاطِبُه مسافةٌ، وهو لهذا مُشركٌ؛ لأنه يقولُ بوجودِ "الثُّنائية" وجودًا فعلِيًّا , ولهذا فإن الصيغةَ التي يَكمُل بها التوحيدُ هي: "لا أنا إلا أنا". مِثلُ هذه المقالاتِ والصِيَغِ الفكريَّةِ تُعَدُّ كُفرًا عند الفقهاءِ والعلماءِ الذين لا يمكنُ أن يَفهموا أنَّ "الأنا" عند الصوفيِّ هي توحدُ الإنسانِ في الله. والمتقدِّمون في الطريق "الصوفية" يُغرِقُون هذه الكلماتِ الثلاث "هو، أنت، أنا" في بحرِ "الفَناء". في هذه القضايا وأمثالِها جَرَت مجاولاتٌ متزايدةُ العُنفِ بين السُّهْرَوَرْديِّ والعلماءِ والفقهاء، وعُقِدت مجالسُ للجَدَل، لعلَّ "الظاهر" -حاكمَ حلب- حَضرها وتأثَّر بها. ° وسببُ الخلافِ أن الطرفَين يتكلَّمانِ بلغتينْ مختلفتيْنِ , ويتناقشانِ وفي ذِهنِ كلٍّ منهما صورةٌ من التفكيرِ مختلفة، ويبدو أن السُّهرورديَّ قد

خَلعَ مع الفقهاء والعلماء الذين يناقشونه كلَّ تحفُّظ؛ لأنه يَحتقرهم، ولأنه كان يتحدَّاهم مستندًا إلى ما صار له من تقديرٍ لدى "الظاهر"، ولهذا صَرَّح في نوع من التحدِّي الخاطئِ بكلِ ما في أعماقِ فِكره .. مستخدمًا تعبيراتٍ شائكةً تَمَسُّ -مِن وجهةِ نظرِ العلماء- قناعاتِهم الإيمانية؛ فما أسرعَ ما ضَجَّ هؤلاء! وتحدَّثوا مع "الظاهر" عن كُفره؛ وظاهرُ قوله كفرٌ .. وبَلَغ الأمرُ حَدَّه حين وَجَّه الفقهاء إلى السُّهرورديِّ التهمةَ بأنه قال في كتبه: "إنَّ اللَّهَ يَملكُ إنْ شاء أن يخلق نبيًّا، فهو قادرٌ على كل شيء"؛ وقال العلماء: "إلاَّ على خَلْقِ نبيٍّ، فالرَّسولُ الأعظمُ خاتمُ الأنبياء". فقال السُّهْرورديُّ: "هل هذه الاستحالهُ هنا مطلقةٌ أو غيرُ مطلقة؟ فقالوا: أنت كافر". وزعموا أنه ادَّعى النُّبوَّة! ولَمَّا لم يَستجِبِ "الظاهر" لغضبِ العلماء، كَتَبوا لصلاحِ الدين يطلبون قتلَ الكافرِ الملحِدِ؛ ولم يَستَجِبِ "الظاهرُ" أوَّل الأمرِ لأبيه، فأعاد العلماءُ الكَرَّةَ، وكتبوا في دعواهم أنَّ السهروردي إذا تُرك حَيًّا أفسَدَ عقيدةَ المَلِكِ "الظاهر"، وإذا أُطْلِق سراحه عَمَّ فسادُه البلاد، ممَا جَعَل صلاح الدين يأمر ابنَه بقتل الرجل، ويُهدِّدُه بخَلعِه عن إمارةِ حَلب إنْ لم يفعل. وهكذا قتِل السُّهرورديِّ بشكلٍ غير معروف، بعضهم يقول: مخنوقًا وبعضهم يقول: بالسيف، وبعضهم يقوله: امتَنع عن الطعام حتى مات جوعًا. والواقع أن مقتلَ السُّهرورديِّ كان نتيجةَ تَهَوُّرِهِ واستهتارِه، ونتيجةَ كلامِه مع العلماءِ بلغةٍ لا يَفهمونها أبدًا .. ونتيجةَ عقيدتِه التي تَعَتبرُ الموتَ

أقصى التوحُّد مع الله وتسعى إليه. ولم يكن بوسعِ صلاحِ الدين أن يتركَ هذا الزَّيغَ ينتشرُ في الناسِ، لا سيما وهو غارقٌ في الحروبِ مع الكفَّارِ، وكان تراصُّ الجبهةِ الإسلاميةِ ضرورةً مطلقةً لدَحرِ الاحتلال الصليبي (¬1). ° وفي "عيون الروضتين" لأبي شامة في ذكر صلاحِ الدين أنه كان "مُبغضًا للفلاسفة والمعطِّلة والدَّهْريَّة، ومَن يُعاندُ الشريعةَ المُطَهَّرة. وقد أَمَر ولده "الظاهر" صاحبَ حلب بقَتلِ شابٍّ كان نَشَأَ يُقال له السُّهْرَوَردي، قيل عنه: إند كان معاندًا للشرائع مُبْطلاً، وكان قد قَبَض عليه ولدُه المذكور لِمَا بلغه مِن خَبَره، وعَرَّف السلطَانَ به، فأمَر بقتله وصَلْبه أيامًا، فقَتَله" (¬2). ° وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" عن "صلاح الدين": "كان كثيرَ التعظيم لشرائع الدين .. كان قد صَحِبَ ولدَه "الظاهر" وهو بحلب شابٌّ يقال له "الشهاب السُّهرورديُّ"، وكان يَعرف الكيميا وشيئًا من الشعْبذة والأبوابِ النيرنجيات، فافتُتِن به ولدُ السلطان "الظاهرُ" وخالَفَ فيه حَمَلَةَ الشرع، فكتب إليه أنْ يَقتلَه لا محالة، فصَلَبه عن أمرِ والدِه وشَهَرَه .. وُيقال: بل حَبَسه بيْن حَيطيْنِ حتى مات كمدًا، وذلك في سنة سِتٍّ وثمانين وخمسِمئة" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "صلاح الدين الفارس المجاهد، والملك الزاهد المُفْترى عليه" (ص 56 - 61) لشاكر مصطفى - دار القلم - دمشق. و"شخصيات قلقة" للدكتور عبد الرحمن بدوي. (¬2) "عيون الروضتين في أخبار الدولتين" لأبي شامة (4/ 385) - مؤسسة الرسالة. (¬3) "البداية والنهاية" (13/ 6) - دار الريان - للتراث.

الكوجلي وغيره من المنتسبين إلى الشيخ يونس القتات

* الكَوْجلي وغيرُه من المنتسبين إِلى الشيخ يونس القَتَّات: ° سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمن يقول: إن يونس القَتَّات يُخلِّص أتباعَه ومُريديه من سُوءِ الحساب وأليم العقاب .. ومنهم مَن يَدَّعي النبوة .. فأجاب: "أما المنتسبون إلى الشيخ يونس: فكثيرٌ منهم كافرٌ بالله ورسوله، لا يُقرِّون بوجوب الصلوات الخمسِ وصيام شهر رمضان، وحجِّ البيتِ العتيق، ولا يُحرِّمون ما حَرم الله ورسولُه؛ بل لهم من الكلام في سَبِّ اللَّهِ ورسولِه والقرآنِ والإسلامِ ما يعرفُه مَنْ عَرَفهم. وأما مَن كان فيهم من عامَّتهم لا يَعرفُ أسرارَهم وحقائقهم، فهذا يكونُ معه إسلامُ عامَّةِ المسلمين، الذي استفاده من سائرِ المسلمين لا منهم؛ فإن خواصَّهم مثلَ الشيخ "سلول، وجهلان، والصهباني" وغيرهم، فهؤلاء لم يكونوا يُوجِبون الصلاة؛ بل ولا يشهدون للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة. وفي أشعارهم -كشِعر الكوْجلي وغيرِه- من سبِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسَبِّ القرآنِ والإِسلامِ ما لا يَرضى به لا اليهودُ ولا النصارى، ثم منهم مَن يقول هذا الشعر ليونس، ومنهم من يقول: هو مكذوبٌ على يونس، لكن من المعلوم المشاهَد أنهم يُنشِدون الكفرَ ويتواجَدون عليه، ويَبولُ أحدُهم في الطعام، ويقول: يَشرح كبدي يونس، أو ماءُ وِرْدِ يونس، ويَستحلُّون الطعامَ الذي فيه البولُ، ويَرَون ذلك بركةً!. وأما كُفريَّاتهم، مثلُ قولهم: "وأنا حَمَيتُ الحمى، وأنا سكنتُ فيه وأنا تركتُ الخلائقَ في مجارِي التِّيه، موسى على الطور لمَّا خرَّ لي ناجَا، وصاحب أقرب أنا جنبوه حتى جا، يوم القيامة يرى الخلائق أفواجَا، إلى نبيه عيسى يقضي لهم حاجَا".

الإسحاقية من غلاة الشيعة

ويقولون: تعالوا نُخرِّب الجامع ونجعلُ منه خَمَّارة، ونكسِرُ خَشَبَ المِنبرَ ونَعمَل منه زُنَّارة، ونحرقُ وَرَقَ ونعملُ منه طُنبارة، نَنتِفُ لحيةَ القاضي ونعملُ منه أوتاره، أنا حملتُ على العرش حتى صَجّ، وأنا صرخت في محمد حتى هَجّ، وأن البحار السبعة من هيبتي ترتَجّ" (¬1). * الإِسحاقيَّة من غُلاة الشِّيعة: ° قال الشيخ عبدُ الرحمن الوكيل: "أحدَثَها إسحاقُ بنُ زيدِ بنِ الحَرَّاث من القائلين بالإباحة وإسقاطِ التكاليف، وأنَّ لِعَليٍّ شركةً مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم تطوَّرت، فقالت بـ "الحلول" كـ "النُّصيرية" .. " (¬2). * ابنُ أبي العَزاقِر (¬3) -لعنه الله-: هو أبو جعفر محمدُ بن عليِّ الشَّلْمَغانيُّ، ويُقال له: ابنُ أبي العَزَاقِر. ° قال الحافظُ ابن كثير في "البداية والنهاية": "ذُكِر عنه أنه يدَّعي ما كان يدَّعيه الحَلاَّجُ من الإلهيَّةِ، وكان قد مُسِك في دَولةِ "المقتدر" عند حامدِ ابنِ العباس، واتُّهِمَ بأنه يقول بالتناسخ، فأنكر ذلك .. ولَمَّا كانت هذه المرَّة أحْضَره "الراضي"، وادَّعى عليه بما ذُكِر عنه، فأنكر، ثم أقرَّ بأشياء، فأفتى قومٌ أنَّ دَمَه حَلالٌ، إلاَّ أن يتوب من هذه المقالة، فضُرب ثمانينَ سوطًا، ثم ضُرِبت عنقُه وصُلِب، وأُلْحِق بالحلاَّج -قبَّحهما الله-، وقُتِل معه صاحبه ابنُ ¬

_ (¬1) "مجموع فتاوى ابن تيمية" (2/ 104، 106، 107). (¬2) هامش (ص 80) من كتاب "تنبيه الغبي". (¬3) وفي "المنتظم" (13/ 342): "العزاقير"، وفي "الكامل" (8/ 290): "القراقر"، وفي "تنبيه الغبي" "الغراقيد".

أبي عَون -لَعَنه الله-، وكان هذا اللعينُ من جُملةِ طائفةٍ قد اتبعوه وصَدَّقوه فيما يزعمُه من الكُفر -لعنهم الله-". وقد بَسط ابنُ الأثير في "كامله" (¬1) مذهبَ هؤلاء الكفرة بسْطًا جيِّدًا، وشَبَّه مذهبَهم بمذهب النُّصيرية -لعنهم الله أجمعين-" (¬2) (¬3). ° قال الشيخ عبد الرحمن الوكيل عنه: "كان يعتقد أنه إلهُ الآلهة، وأنَّ اللَّهَ سبحانه يَحُلُّ في كلِّ شيءٍ على قَدْرِ ما يَحتمل، وأنه قد حَلَّ في آدم، وفي إبليس، وأن اللَّهَ تعالى إذا حلَّ في جسدٍ أظهر من القُدرة والمعجزة ما يدلُّ على أنه هو الله، له كتابٌ اسمه "الحاسَّة السادسة"، صَرَّح فيه برفضِ الشريعة، وإباحةِ اللواط، وزَعَم أنه إيلاجُ نور الفاضل في المفضول، ولذا أباح أتباعُه نساءَهم له، طمعًا في إيلاجِ نورِه فيهنَّ، وكان يُسَمِّي محمدًا وموسى "بالخائنيْنِ"، زْعمًا منه أن هارونَ أَرسَل موسى، وأن عَليًّا أَرسل محمدًا فخاناهما" (¬4). ° يقول الحافظُ ابن كثير في "البداية والنهاية" (15/ 208) أحداث سنة أربعين وثلاثِمِئة: "وفيها رُفع إلى الوزير أبي محمد المُهَلَّبي رجلٌ من أتباع أبي جعفر محمدِ بنِ عليِّ بنِ أبي العَزاقِر الذي كان قُتِل على الزندقة ¬

_ (¬1) "الكامل" (8/ 90، 94). (¬2) "البداية والنهاية" (15/ 82). (¬3) وفي أحداث هذه السنة (322 هـ) قال ابن كثير في "البداية والنهاية" (15/ 82): "وادَّعى رجلٌ ببلاد الشاس النبوَّة، وأظهر مخاريق وأشياء كثيرة من الحِيَل فجاءته الجيوش، فقاتلوه، فقتلوه واضْمَحَلَّ أمره". (¬4) هامش (5) (ص 29 - 30) من "تنبيه الغبي"، وانظر "الشذرات" (2/ 293).

قرة العين، غانية "البابية"، والداعية إلى نسخ الشريعة المحمدية

كما قُتل الحلاَّج، وقد اتَّبعَه جماعة من الجَهَلة ببغداد، وصَدَّقوه في دَعْواه الرُّبوبية، وأن أرواحَ الأنبياءِ والصدِّيقين انتقلت إليهم، ووُجِد في منزله كتبٌ تدلُّ على ذلك". * قُرَّة العين، غانيةُ "البابية"، والداعية إِلى نَسخِ الشريعة المحمدية: هذه البَغِيُّ الكافرةُ أولُ مَن دَعَتِ البابيِّين إلى نَسخِ الشريعة، وخَطَبت بذلك في مؤتمرَ "بدشت". ° وذَكَر خُطبتَها "محمد مهدي خان" في كتابه "تاريخ البابية" أنها خَطَبت بذلك قائلةً: "أيها الأحباب والأغيار، اعلَموا أن أحكامَ الشريعةِ المحمَّدية قد نُسِخت الآنَ بظهورِ الباب، وأن أحكامَ الشريعةِ الجديدةِ البابية لم تَصِلْ إلينا، وأنَّ اشتغالَكم الآن بالصوم والصلاة والزكاة -وسائرِ ما أتى به محمدٌ كلُّه- عملٌ لَغوٌ وفعلٌ باطل، ولا يَعملُ بها بعدَ الآن إلاَّ كلُّ غافلٍ وجاهل .. إنَّ مولانا "الباب" سيَفتح البلادَ، ويُسخِّرُ العبادَ، وستَخضعُ له الأقاليم السَّبعةُ المسكونة، وسيُوحِّد الأديانَ الموجودةَ على وجهِ البسيطة، حتى لا يَبقى إلاَّ دينٌ وحد، وذلك الدينُ هو دينُه الجديد وشَرعُه الحديث الذي لم يَصِلْ إلينا إلى الآن منه إلاَّ نَزْرٌ يسير، فبِناءً على ذلك أقولُ لكم: لا أَمْرَ اليومَ ولا نَهْيَ ولا تعنيف، وإننا نحن الآنَ في زمنِ الفترة، فاخرجوا من الوحدة إلى الكثرة، ومَزِّقوا هذا الحجاب الحاجزَ بينكم وبين نسائِكم بأن تشارِكوهنَّ بالأعمال، وتقاسِموهنَّ بالأفعال، وواصلوهُنَّ بعد السَّلْوَة، وأخرِجُوهنَّ من الخَلْوة إلى الجَلْوة، فما هُنَّ إلاَّ زهرةُ الحياة الدنيا، وإنَّ الزَّهرة لا بدَّ من قَطْفِها وَشمِّها؛ لأنها خُلِقت للضَّمِّ وللشَّمِّ، ولا ينبغي أنْ

يُعَدَّ ولا يُحَدَّ شامُّوها بالكيف والكم؛ فالزهرةُ تُجنَى وتُقطف، وللأحباب تُهْدَى وتُتْحَف، وأمَّا ادخارُ المال عند أحدِكم وحرمانُ غيرِكم من التمتُّعِ به والاستعمال، فهو أصلُ كلِّ وِزْرٍ، وأساسُ كلِّ وَبَال، ساوُوا فقيركم بغنيكم، ولا تَحجُبوا حلائِلَكم عن أحبابكم، إذ لا رَدْعَ الآن ولا حَدَّ ولا مَنْعَ ولا تكليفَ ولا صدَّ، فخذوا حظَّكم من هذه الحياة، فلا شيء بعد الممات" (¬1). و"قرة العين" اسمها الحقيقي "أمُّ سَلمى"، وُلدت في "قَزْوين" سنة 1231 هـ (¬2) أو 1233 هـ أو 1235 هـ .. وُلدت للمُلاَّ "محمد صالح القزويني" أحدُ علماءِ الشيعة، وأخٌ أصغرُ لعالِمٍ شيعيٍّ معروفٍ، وإمامِ الجمعة لمدينة "قزوين" المُلاَّ "محمدِ تقيٍّ القزويني"، وأخٌ أكبر لملاَّ "علي الشيخي" تلميذ "الرشتي". فدَرَستِ العلومَ من والدها "محمد صالح" وعمِّها "محمد تقي"، ومالت إلى "الشيخية" بوساطة عمِّها الأصغر "الملاَّ علي"، تعلَّقت بتعاليمها، وتأثَّرت بها إلى الغاية، وبدأت تُكاتبُ السيد "كاظم الرشتي"، وتُدافع عن أفكارِه وعقائدِ "الشيخية" بحماسةٍ وقوَّة، واشتُهرت بذكائها المدهش وفصاحتِها وطلاقةِ لسانها، بجانب الجمالِ الفائقِ والحُسنِ البارع والشبابِ المتوقِّد، وكانت تُلقَّب بـ "الزرين تاج" "أي: التاج الذهبي" لجمال شَعْرِها الذهبيِّ اللون. ¬

_ (¬1) "مفتاح باب الأبواب" (ص 180)، و"البابية" (ص 187 - 188) لإحسان إلهي ظهير. (¬2) "الكواكب الدرية في مآثر البهائية" (ص 60).

° ويقول "هيوارت": "زرين تاج الملقبة بقرة العين، وهي ابنة الملاَّ صالح، كانت فائقةَ الجمال، شديدةَ الذكاء" (¬1). ° ويقول الكونت "جوبينو الفرنسي" وهو يذكرها في كتابه: "وكانت هذه من مدهشاتِ العصر لعِلمِها وفَضلِها وحماستِها الدينية "الشيخية والبابية بعد ذلك"، وفصاحتِها المتدِّفقة، وجمالِها البارع" (¬2). ° ويقول "البستاني" نقلاً عن السيد "جمال الدين الأفغاني": "فُتَيَّةٌ بارعةُ الجمال، متوقِّدةُ الجَنان، فاضلةٌ عالِمة، تُسمَّى باسم "سلمى" (والصحيح: أم سلمى) من بنات أحدِ المجتهدِين في العلم" (¬3). ولَقَّبها الرشتي بـ "قُرَّة العين" (¬4). فخاف عليها أبوها وعمها، على جمالِها اللامع، وشبابِها الوحشيِّ في المراهقة، والذكاء المُفرِطِ، والإِحساسِ المرهَف، فزوَّجوها مبكرًا من ابن عمِّها الملاَّ محمد ابن الملاَّ تقيٍّ إمام الجمعة (¬5). ولَم تَبلغِ الثالثةَ عَشْرَةَ من عُمرها يومَ ذاك (¬6). فوَلدت له ثلاثة من الأولاد -ذَكَرَينِ وأنثى-، ولَمَّا بَلَغَتِ الرشدَ، وأدركت قوَّةَ تأثيرِها الكلاميِّ، وفتنةَ شبابِها النَضِرِ، تنفَّرت من الجوِّ، ¬

_ (¬1) "دائرة المعارف الإسلامية" (3/ 228). (¬2) "الديانات والفلاسفة في آسيا الوسطى" نقلا عن "دائرة المعارف" لوجدي (2/ 6). (¬3) "دائرة المعارف" للبستاني (5/ 28). (¬4) "الكواكب" (ص 61) لعبد الحسين آواره. (¬5) "الكواكب الدرية في مآثر البهائية" (ص 60) ط فارسي. (¬6) "قرة العين" (ص 32) لمارتاروت ط باكستان.

واحتَقرت الملاَّ محمد زوجَها، وبدأت تشعرُ الاشمئزازَ من قُربه، فلجأت إلى بيت أبيها، وتركت بيتَها بيْتَ الزوج، فلم تهدأ ثورتُها، بل زاد جنونُها بمرورِ الأيام وكَرِّ الليالي، وأَحسَّت بأنها تَحتاجُ إلى مَن يُهدِّيءُ ثورتَها المشتعلة، ويعبدُها عبادةَ الوَلْهانِ والعبدِ راكعًا وساجدًا أمام صَنَمِه ومعبودِه مُرغِمًا أنفَه ومُذِلاً وجهَه. ولكنَّ البيئةَ التي نشأت فيها كانت لا تزالُ محافظةً على القيمَ الرُّوحيةِ وبَقيَّةِ الأخلاق الإنسانية والإسلامية، فالتجأت منها إلى الشِّعرِ الغَزَليِّ الفاجرِ السافل، تشكو فيه اشتعالَ الحُسنِ، ووَهَجَ الشباب، والثورةَ الراعنةَ التي أحاطت وجودَها، والرغبةَ المُجتاحة، ولوعةَ الحبِّ والعشق، وظُلْمَ البيئة، وقَسوةَ الحرمان، فاشتُهرت قصائدُها بالغزلِ المشبوبِ باللهفة، والمُهيِّج للعواطفِ الشَّهْوانيةِ الحيوانية، وشَعُرت أنْ لا سبيلَ إلى قَضَاءِ شهواتها وطلبِ رغباتِها والفسقِ والفجورِ إلاَّ برفعِ القيودِ الإسلاميةِ والحدودِ الأخلاقية، فبدأت تُفكِّرُ في كَسرِ القيود وحَلِّ الحدود. وها هنا في هذا المقام أُريدُ تنبيهَ القرَّاءِ والتفاتَ الباحثين إلى أن "أم سلمى" "زرين تاج" "قرة العين" الطاهرة هذه هي المُوجدِة الحقيقةُ والمؤسِّسةُ الأصليةُ للديانة البابية، ومحرِّكتها ومُحَرِّضتها على ذلك الإلحاد والفساد، لتضايُقِها عن تلك القِيَم والتعاليمِ التي تَفرضُ عليها التستُّرَ والحِجاب، والكفَّ عن الخلاعة والمجون في الشِّعرِ والقولِ، والردعَ عن الفسق والفجور. ° ولأجل ذلك كانت تُردِّدُ ذلك القولَ كثيرًا: "يا أوَّاه .. متى يَطلُعُ ذلك اليومُ الذي تَظهرُ فيه شريعةٌ جديدة؟! ومتى يأتي ربِّي وإلهي بتعاليمه

الحديثةِ وأتشرفُ بأن أكونَ أولَ نساءِ العالَم التي تَعتنقُها وأُلَبي دعوتَه؟! " (¬1). ° وأيضًا: "كانت تُفكِّرُ كثيرًا في ظهورِ ذلك المَظْهَرِ الجديدِ الذي سيَظهرُ، وكانت تقولُ لعمِّها الشيخي الملاَّ علي: لأَكونَنَّ أنا أولَ المؤمناتِ به" (¬2) ° وعبارةٌ أخرى عن مؤرِّخ البابيين والبهائيين "عبد الحسين آواره"، حيث يَروي: "أن قُرةَ العين توقَّفت في سَفَرِها بكربلاء، وامتَنعت عن الرجوع إلى أهلها، ناظِرةً ومنتظرة ظهورَ وبلوغَ ذاك الجمالِ المقصود" (¬3). ° وعبارةٌ أخرى عن "الزرندي البهائي": "إن المرزة "محمد علي القزويني" -زوج أخت قرة العين- لَما أرادَ السفرَ من قزوين إلى كربلاء، أعطته القرةُ رسالةً مختومةً مُغلقةً قائلةً له: إنه سيجدُ في سفَرِه ذلك الموعودَ المعهودَ المنتظَرَ، وإنْ وَجَدَه أو لَقِيَه فيُقدِّمُ إليه رسالتَها، ويُبلِغُه أشواقَها" (¬4). ° وذكر البروفسور "إدوارد براؤن" -المستشرق الإنجليزي المعروف والمُحبُّ للبابيين وراويتهم في أوروبا-، ذَكَر معلقًا على التاريخ الجديد: "إن تلامذة "الرشتي" لمَّا سافروا إلى الجهاتِ المختلفة والأطرافِ المتفرِّقةِ للبحث عن غائِبِهم المنتظر، أَعطت قرةُ العين رسالةً للملاَّ "حسين البشروئي"، قائلةً له: إنك أنت الذي ستجدُ الذاتَ الموعودةَ وتَلتقي بحَضْرَتِه، فتَقَدَّمْ إليه ¬

_ (¬1) "قرة العين" (ص 39) ط المحفل الملي البهائي الباكستاني عام 1966 م. (¬2) نفس المصدر (ص 39). (¬3) "الكواكب" (ص 61). (¬4) "مطالع الأنوار" للزرندي البهائي نقلاً عن "قرة العين" (ص 43).

برسالتي واعتقادي وإيماني به قبل إعلانه" (¬1). فهذه النقولُ كلُّها والنصوصُ والعبارات تدلُّ على لَهفتها واضطرابها في الخروج على الإسلام والانسلاخ منه ومن حُدوده وقيوده، كما تبيَّن أهميتُها ودَوْرُها واهتمامها في تكوين نِحْلةٍ جديدةٍ ودينٍ جديد. وقبلَ أن ننتقلَ من كلامِنا هذا، نَسرُدُ بعضَ أبياتها الشعرية الغَزَليَّةَ، ليأخذَ القارئُ والباحثُ فكرة عن حقيقةِ هذه الفاجرة الباغية وعما قُلنا عنها: ° ونبدأ بغَزَلها الذي قالته باللغة العربية: يا نَديمي قُمْ فإنَّ الديكَ صاح ... غَنِّ لي بيتًا وناولْ كأسَ رَاحْ لستُ أصبرُ عن حبيبي لحظةً ... هل إليه نظرةٌ منِّيَ تُباحْ؟ بَذْلُ رُوحي في هواه هيِّنٌ ... تَحْمدُ القومُ السُّرى عند الصباحْ قاتَلتْني لَحْظةٌ من غير ِسيفٍ ... أسكرتْني عَينُه من دونِ راحْ قد كَفَتْني نظرةٌ منِّي إليه ... مِن بهائي في غَدَاةٍ في رَواحْ هام قلبي في هواه كيف هام ... راح رُوحي في قفاه أين راح؟! لم يفارِقْني خيالٌ منه قطُّ ... لم يَزَلْ هو في فؤادي لا بَرَاحْ إن يشاءُ يَحرق فؤادي في النَّوَى ... أويشاءُ يَقتل، له قتلي مباح (¬2) ° ولها قصيدةٌ غزليةٌ أخرى صَدرُ أبياتها في اللغة الفارسية وعَجُزُها ¬

_ (¬1) "تاريخ جديد" ط كيمبردج تعليقة براؤن، و"نقطة الكاف" (ص 140) و"الكواكب" (ص 161). (¬2) أبيات لقرة العين البابية المنقولة من كتاب بهائي "ظهور الحق" (ص 366).

باللغة العربية، نُورد بعضًا منها ها هنا مترجَمة بصَدْرِها بالنصِّ العربي: يريدون وَصْلَكَ ويَتِيهون فيه ... افتَح يا مُفتِحَ الأبوابْ متى يَحصل لهمُ اللقاءُ ... كم بَقوا ناظِرِينَ خَلفَ البابْ إلى متى الصبرُ والحِرمانُ؟ ... طال تِطوافُهم وراءَ حِجابْ ليس مَطَلبُنا ومَقصِدُنا غيرَك ... ما لديهم سِوى لِقاك ثوابْ إلى متى تَبقَى وراءَ الحَسَراتِ ... أَرِهِم نظرةً بلا جِلبابْ (¬1) ° ومن أبياتها في اللغة الفارسية: يا حبيبي إن حَصَل الوصالُ يومًا ما لأُخبِرَك بما حَصَل لي من المصائب والمَشَاقِّ في سبيلِ رُؤيتِك يا حبيبي تجوَّلتُ بيتًا بيتًا وزُقًا زُقًا وقريةً قريةً ومدينةً مدينةً لرؤيتكَ مِثلَ الصَّبا لرؤيةِ خَدِّكْ حبيبي في فِراقِك جَرَت عيونُ الدم من العيون وأُصبغت مياهُ دِجْلة وعيونٌ وبُحور حبيبي رُموشُ عيونِك قَتَلَتْني وخالُ خدِّك أَسَرَني وحُبُّك خَتَمَ على قلبي وسَمْعِي وبَصَري ° ومنها: يا صَنَمي عشقك أوقَعَني في المعاصي أهَجَرْتَني وقَتَلتَنْيَ وأخذتَني بجنْايتي ¬

_ (¬1) "ظهور الحق" (ص 366) ط فارسي.

والآنَ لَم يَبْقَ لي قوةُ الصبرِ وطاقةُ الانتظارِ إلى متى فِراقِك إن جِسمي بجميع أجزائه صار كالناي يَحكِي عن هَجْرِك يا ليتَ تضعُ قَدَمَكَ على فِراشي ليلةً ما فَجْاءةً بكرمك فأطيرُ فَرَحًا وسرورًا بْدونِ أجنحة (¬1) فهذا موجزُ ما أردنا إيرادَه ها هنا، لأَخْذِ الفكرةِ السريعة عن مُجونها واستهتارها في شِعْرِها الغَزليَ السافر، وقد أوردناها من كُتبهم هم. فهذه هي قرةُ العين، وقد أَرغَمَتْ أهلَها على السماح لها بسفرِها من "قزوين إيران" إلى "كربلاء العراق" لزيارة "العتبات المقدسة" -على زعم القوم-، وفرارًا من الضِّيقِ العائلي، وهَرَبًا من التقاليد، وذلك قبلَ موتِ "كاظم الرشتي" بقليل، ووصلت إلى كربلاء مع زوجِ أُختها الشاب "محمد علي القزويني" الذي لَم يبلُغِ العشرينَ -وهي أيضًا في رَوعة الشباب وأَوْجِه- في العشرين أو زيادةً عليه بسَنَة، فمكثت مدةً فيها وفي النجف، ودَرَسَتْ على السيد كاظم الرشتي وخاصة في الإلهيات" (¬2). ° وبعد موت الرشتي جَلست على مَسنَدِ الشيخية، وبدأت تُدرِّسُ تلامذةَ الرشتي، "وتمكَّنت من الجلوسِ في مَقام الرشتي، وأبهرت عقولَ الدراويش في تلك المدرسةِ بخَطاباتها الرنَّانة الفتَّانة، وخَلَبت قلوبَهم بجمالها المدهش وشبابِها القاتلَ المُحرِق، فبدؤوا يظنُّونها رُكنًا رابعًا للشيخية ¬

_ (¬1) قصيدة قرة العين لمنقولة من كتاب بهائي "قرة العين" (ص 138) ط باكستان. (¬2) "مقالة سائح" لعباس أفندي ابن حسين علي المازندراني البهاء، (ص 26) ط لاهور 1908 م.

وزعيمتهم" (¬1). وآثَرَتِ المكوثَ هنالك بين الشباب الشيخيين المتحرِّرين أكثَرَ من الآخرين في ذلك الزمان، حيث إن النساءَ والفَتَياتِ كنَّ يَحضُرْنَ دُروسَ الرشتي معهم. ° وأنكرت الرجوعَ إلى أهلها , ولَبِثَ المرزةُ محمد علي القزويني معها أولَ الأمر، ثم تَرَكها وحدَها بين الطلاَّب والرجال، فأفتت أول ما أفتت: "يجوزُ للمرأة أنْ تتزوَّجَ تِسعةَ رجال" (¬2). ° ثم رَفعت الحجاب، "وكانت تظهرُ سافرةً في الأماكن العامة، وتختلطُ بالرجال وتُدرِّسُهم وتَخطُبُهم بدون حاجز بينها وبينهم" (¬3). ° وُيروى عنها أنها كانت تقول: "بحِلِّ الفروج ورفعِ التكاليف بالكلية" (¬4). ° مستندة بقول الرشتي أنه قال في كتابه "رسالة في الفروع": "إن نظرةَ آلِ الله تُطهرُ الأشياء، وآلُ الله في الحقيقة هم المعصومون الأربعةَ عَشَرَ -أي النبي والوَصِيُّ وزوجتُه فاطمةُ وأولادُهُما الأئِمَّةُ الأحَدَ عشر حَسْبَ زعمهم-، ونظرةُ آلِ الله إرادتُهم، وإرادتُهم هي عينُ إرادةِ الله وأمرِه، والحلالُ والحرامُ موقوفٌ على إرادةِ الله، وهو موقوفٌ بإرادتهم ¬

_ (¬1) "نقطة الكاف" للكاشاني، (ص 140، 141). (¬2) "مفتاح باب الأبواب" (ص 176). (¬3) "مطالع الأنوار" (ص 214) على الهامش. (¬4) "مختصر التحفة الاثني عشرية" (ص 24) ط القاهرة.

هم بهذا المعنى. ° فاحتجَّت بأنها مَظهَرُ فاطمة "بنت النبيِّ وزوجةُ عليٍّ" -عليها السلام-، وقالت: "حُكمُ عيني حُكمُ عينِها، وكلُّ شيءٍ أَلقيتُ عليها نظرتي ورأيتُها بعيني طَهُرت وحَلَّت مع حُرمتها ونجاسِتها"، وأيضًا: "فأتوا إلى الأشياء حتى أحِلَّها واُطَهِّرَها بنظرتي إليها" (¬1). ولَمَّا أعلن الشيرازي -بإيعازٍ من البشروئي وتحريضًا منها هي- مَهْدَوِيَّتَه وقائميَّتَه، أدخلها في حُروفِ الحيِّ مع رفيقِ سفرِها وخائنِ أُختِها ومَحْرَمِ سِرِّها المرزةِ "محمد علي القزويني" (¬2). "ولُقِّبت بـ "الطاهرة" مِن قِبَلَه هو" (¬3). فبَلَغَتْ إلى أمنيَّتِها القديمةِ من إيجادِ شريعةٍ جديدة، مُنحَلَّةٍ عن جميعِ القيود والحدود، ثم سافرت من كربلاء إلى بغداد في جَمْعٍ خَليطٍ من الرجال، مثل "صالح العرب، وطاهر الواعظ، وإبراهيم المحلاَّتي، ومحمد المليح" (¬4) ومن النساء "خورشيد خانم، وأخت البشروئي وغيرهن"، ولَمَّا خرجت من كربلاء مع أصحابها ورفيقاتِها كان أهالي كربلاء يرمُونهنَّ وهم بالأحجار" (¬5). ¬

_ (¬1) "نقطة الكاف" (ص 141) ط مطبعة بريل مندن 1910 م. (¬2) "قرة العين" (ص 43). (¬3) "الكواكب" (ص 62) ط فارسي. (¬4) "نقطة الكاف" (ص 141). (¬5) "قرة العين" (ص 46).

وعَمِلَتِ المنكرات، وارتَكبت الفواحش، وأطلَقت نفسَها للشهوات، وقَدَّمَتْها فريسةً لكلِّ مفترسٍ، وصيدًا لكلِّ مصطاد، فتَهتَّكت، ونزلت في السَّفالةِ والوَضَاعةِ إلى أدنى حدٍّ، واقتَرَفت من المعاصي والمآثم إلى غاية، حتى اضْطَرَبَ رِفاقُها وزملاؤها في السفر، وصرخوا بأعلى الصوت من لهيبها واحتراقِها وطُغيانها، "فسَبُّوها ولَعنوها وقَدَّموا الشكاوى منها إلى مقام الحَضْرة "الشيرازي"، فردَّ عليهم "الشيرازي": "ماذا عسى أن أقولَ فيمن سَمَّاها لسانُ العظمة والقدرة: "الطاهرة"؟! " (¬1)، "ولا تُرَدُّ الطاهرةُ في حُكمها، فإنها أدرى بمواقع الأمر من غيرها" (¬2). وذَمَّ "الشيرازيُّ" الذين كَتبوا الشكاوى ضِدَّها، وخاصة السيد "علي" الذي خَطَّ الرسالةَ بقلمه، فَلمَّا رأى هؤلاء الأمورَ منعكسة، ورَأَوُا النجاسةَ طهارة والحرامَ حلالاً، لعنوها ومَن لَقَّبها بـ "الطاهرة". وارتدَّ عن البابية السيد علي، والسيد طه، والكاظم، والسيد حسن جعفر وغيرهم (¬3). "وطَلَّقت نفسَها من زوجِها "عليٍّ" خلافَ حُكمِ شريعة الإِسلام" (¬4). وأثناء سفرِها هذا لَمَّا نَزلت في "كرمانشاه" مع أحبائها -وهذا هو عينُ التعبير البهائي- ورفاقِها مُصَعِّرةً أسواقَ الفُحشِ والمنكرِ والبَغْي، "انكبَّ عليهم أهلُ تلك المدينة، وهاجموهم، وأخرجوهم من مدينتهم، وطهَّروها ¬

_ (¬1) "نقطة الكاف" (ص 141) ط فارسي. (¬2) "الكواكب الدرية" (ص 112) ط فارسي. (¬3) المصدر السابق (ص 122). (¬4) "دائرة المعارف" للبستاني (5/ 28).

من نجاستهم ورِجْسِهم" (¬1). وكانت تَجمعُ حولَها المراهقين خاصةً، وتفتحُ لهم قلبها وأحضانها. ° فمثلاً المرزة "يحيى صُبح الأزل" الذي وصفه المؤرِّخون بأنه كان شابًّا وسيمًا جذابًا طويلَ القامة أنيقًا رشيقًا في السابعةَ عَشْرةَ من عمره .. يَكتبُ عنه وعنها أولُ المؤرِّخين البابيين المرزة "جاني الكاشاني": "كان المرزة "يحيى" مركزُ الجَمال والجَلال يتكرَّرُ إلى "الطاهرة"، وكانت -وهي في الثانيةِ والعشرين من عُمرها- شابةً ملتهبة -أُمَّ الإمكان تحتضنُ ذلك الطفلَ الأزلي -وهو في السابعة عَشْرة من العمر- عُمرِ المراهقةِ والفتوَّةِ والشباب المُقبل-، وتُرضعُه من لَبَنٍ لَم يتغيرْ طَعمُه، وتُربِّيه في مَهْدِ الآداب الحَسَنةِ والأخلاقِ الطيِّبة، (فيا لها من تربية؟) وتُلبِسُه ملابسَ أهلِ الفكرةِ المستقيمة، إلى أن قَوِيَتْ بِنيتُه" (¬2). ° وعَمِلت من المنكرت، واقَتَرفت من الذنوب، وارتكبت من الفواحش في بيداءِ "بدشت" إلى أنِ اضطُرَّ البشروئي بأن يقول: "إني أُقيمُ الحدَّ على شُركاءِ مؤتمر بدشت" (¬3). وقد مرَّ تفاصيلُ تلك الفضائحِ سابقًا (¬4) ما تُغنِي عن إعادتِها، اللهم إلاَّ لَفتُ الأنظارِ إلى أمرٍ هام، ألاَ وهو إعادةُ القول بأنَّ قرة العين كانت هي المؤسِّسةَ الحقيقيَّةَ للبابية كما ذكرنا قريبًا مُستندِين إلى شهاداتِ القوم ¬

_ (¬1) "الكواكب" (ص 115). (¬2) "نقطة الكاف" (ص 241) نص الترجمة حرفيًا. (¬3) المصدر السابق (ص 155). (¬4) انظر "مقال البابية تاريخها ومنشؤها" و"الشيرازي ودعواه".

أنفسِهم، وأيضًا مؤتمر "بدشت" بتفاصيله أكبرُ دليلٍ وسَنَدٍ على ذلك الأمر، حيث إن المؤرِّخين قاطبةً -بابيِّين كانوا أو مسلمين، مسيحيين أو بهائيين- اتفقوا على أن أولَ مَنِ اقتَرَح بنَسخِ شريعةِ اِلإسلام ورَفعِ أحكامِها كانت هي الفاتنةُ الفاجرة، فلقد كانت توجِب نَسْخ تلك الشريعةِ الغَرَّاءِ التي طالَمَا مَنَعَتْها ورَدَعَتْها عن الجَرْي وراءَ الشهواتِ واللذاتِ النفسية الخبيثة، وأرغمَتْها على قَهْرِ نفسِها عن وطئِها الرجال وتمرُّغِها في أوحال الذنوب والخطايا، وأجبَرَتْها بالبقاءِ مع زوجها، والإقناع والاكتفاءِ به وحدَه، وكفِّها عن الارتماءِ والاحتضان كل يوم بين قَدَمَيْ رجلٍ جديدٍ وزوجٍ جديد. وكان صَدرها مليئًا بالبغضِ والانتقامِ من ذلك الناموس الإلهيِّ السَّماويِّ الذي كان يَردعها مِنِ استبدالِ زوجٍ مكانَ زوجٍ، وعَشيقٍ مكانَ عشيقٍ، وحبيبٍ مكانَ حبيبٍ في كلِّ ليلةٍ ويومٍ، معتقدِةً بأن النساءَ ما هنَّ إلاَّ زهرةَ الحياة الدنيا، "وإن الزهرة لا بدَّ مِن قَطْفِها وشَمِّها؛ لأنها خلقت للضمِّ والشمِّ .. فالزهرة تُجنَى وتقطف، وللأحباب تهدَى وتُتْحَف" (¬1)، "ولا تَحجِبوا حلائلَكم عن أحبابكم، إذ لا رَدْعَ الآنَ، ولا حَدَّ، ولا مَنْعَ، ولا تكليفَ، ولا صدَّ، فخذوا حظَّكم من هذه الحياةِ، فلا شيءَ بعد الممات" (¬2). ولقد أَحبَّت الملا "محمد البارفروشي" حبًّا جنونيًّا، وقدَّمت له نفسَها وكلَّ ما تَمْلكُ، وسَمَحتْ له أن يستذلَّها ويمرِّغَها ويَستعبدَها , ولكنها لَم تَكتفِ به وحدَه، وسَخت بنفسِها، وجادت للمرزة "حسين علي ¬

_ (¬1) "مفتاح باب الأبواب" (ص 181) من خطبة قرة العين في مؤتمر بدشت. (¬2) المصدر السابق، وقد مر تفاصيل ذلك في مقال "الشيرازي ودعواه".

المازندراني" -البهاء-، مع امتصاصِ أخيه الصغير المرزة "يحيى صُبح الأزل". ووَهَبَها المرزة "حسين علي" لشابٍّ شيرازي اسمه المرزة "عبد الله" في "نيالا" -موضع من مواضع مازندران-، وذهب بها إلى "النور" -قرية حسين علي (¬1) -، لما كان عارفًا لعاصفتها وهيجانها. فقُرَّةُ العين هذه هي التي كانت تُملِي عليَّ الشِّيرازي -البابَ-، وتأمرُه أن يعملَ هذا وذاك، وحتى هي التي أمَرَتْه باعتلاءِ عرشِ الربوبية، واستوائِه عليه، وادعائه الألوهية. ° ولقد ذَكَرَتِ المبشِّرةُ البهائية مس "مارتا روت" وغيرها من المؤرِّخين البابيين البهائيين، أنها كَتبت إلى المرزة "علي محمد الشيرازي" -الباب- وهو سجينٌ في قلعة "ماه كو" في قصيدةٍ غَزَليَّةٍ طويلةٍ هذه الأبيات، بعضُها في الفارسية، وبعض منها في العربية الركيكة: لمَعاتُ وَجهِك أشرقت وشُعاعُ طَلْعَتِك اعتلى جَذَباتُ شَوقِك ألجمت بسلاسل الغمِّ والبَلا وإذا رأيتُ جمالَه طَلَع الصباحُ كأنما ° إلى أن قالت في اللغة الفارسية: فلماذا لا تقول: ألستُ بربِّكم؟! فنقول: بلى بلى" (¬2). وعلى إِثرِ ذلك ادَّعى المأفونُ المجنونُ الألوهيةَ والربوبيةَ. ¬

_ (¬1) "مطالع الأنوار" (ص 299) ط إنجليزي. (¬2) "قرة العين" لمس مارتروت (ص 43).

وأخيرًا، اشتركت في مؤامرة قَتلِ عمِّها ورحيمِها "أب الزوج" الملاَّ "تقي" إمامِ الجمعة بقزوين لَمَّا أرادَ الحيلولةَ بينها وبين لَهوِها واستهتارها عام 1263 هـ، فسُجنت في قزوين، ولكنها استطاعت الفرارَ من السِّجن مع أصحابها وعُشَّاقها، وخاصةً بمساعدةِ ومعونةِ المرزة حسين علي البهاء (¬1). ثم "اشتركت في مؤامرة اغتيال الشاه "ناصر الدين القاجاري" بعد قَتلِ الشيرازي، وقَبَض عليها، وحَكم بأن تُحرقَ حية، ولكنَّ الجلاَّدَ خَنَقَها قبل أن تَلعَبَ النارُ بالحطب الذي أُعِدَّ لإِحراقها" (¬2). "ورُميت جُثَّتها في حفرةٍ بعد ما مُلئت بالحجارة والتراب" (¬3)، وكان ذلك "في أول ذي القعدة سنة 1268 هـ الموافق 1852 م" (¬4)، أي: بعد سَنَتَينِ وشَهرَينِ من قَتل الشيرازي، وكان عمرُها آنذاك من اثنين وثلاثين إلى سَبعٍ وثلاثين على مختلفِ الأقوال. ولقد أطَللْنا الكلامَ في سيرتها، وفَصَّلْنا القولَ في حياتها لِمَا لها من أهميةٍ خاصةٍ في الديانة البابية والبهائية أيضًا. ° ولقد كَتب المستشرق الإنجليزي "إدوارد براؤن" في مقال له: "إن الشخصيةَ الجذَّابةَ الخلاَّبةَ لأنظارِنا وانتباهِنا في تكوينِ الديانة البابية -غيرَ الباب الشيرازي- هي الجميلةُ الذكيةُ التي وُهبت حظًّا وافرًا وقِسطًا وافيًا من الحُسن والجمال والعقل والذكاء "قُرةَّ العين" التي كانت شاعرةً وعالِمةً ¬

_ (¬1) "الكواكب الدرية في مآثر البهائية" (ص 125) ط فارسي. (¬2) "دائرة المعارف" للبستاني (5/ 28) ط طهران. (¬3) "الكواكب" (ص 322) ط فارسي و"قرة العين" (ص 97). (¬4) "الكواكب" (ص 320).

[العلمانيون]

وخَطيبةً، ولُقِّبت بالطاهرة" (¬1). ° ويقول السير "فرانسيس ينج" في كتابه: "إن أقوى الشخصيات في الحركة البابية وأَمْيَزَها من الجميع هي "قرة العين" التي كانت شاعرةً ممتازةً وخطيبةً بليغةً مؤثِّرةً" (¬2). ° وقال "ويلينيتائن": "ما كان لأحدٍ تأثيرٌ ونفوذٌ في البابيين مِثلَما كان لشاعرة قزوين قرة العين الطاهرة" (¬3). [العلمانيون] * الرَّجل الصَّنَم مُصْطَفَى كَمَال أَتَاتُورْك -عدوُّ اللَّهِ ورسولِه- (¬4): ° لا تَعْجَبْ من قولِ كثيرٍ من المؤرِّخين: "إن أتاتورك كان صِربيًّا أو بلغاريًّا"!!. لم يتحدَّثْ عن والدِه يومًا، ورواياتٌ كثيرةٌ -لا تَقِلُّ نسبتها عن تسعينَ في المئة من الروايات- أنه كان من سِفاحٍ. تناظُرٌ مدهش وعادل بين كون مصطفى كمال ثَمَرةَ حرام من الناحية الروحية، وبين كونهِ ثَمَرةَ حرامٍ من الناحية المادية، يَحملُ في طيَّاته معنًى كبيرًا، كيف أن هذه الرُّوحَ السافلةَ كانت تستند في عالَمِ المادة إلى أساسٍ سافل؟ وأن هذه السَّفالةَ في الروحِ والمادة تأتي في الحقيقة مِن كون "مصطفى ¬

_ (¬1) "جرنل آف في رائيل ايشياتيك سوسايتي" (21/ 934). (¬2) "دي جليم" (ص 202). (¬3) "سؤال الشرق الأوسط" (ص 132). (¬4) هذه الترجمة مأخوذة بتصرف من كتاب "الرجم الصنم" تأليف ضابط تركي سابق، ترجمة عبد الله عبد الرحمن -مؤسسة الرسالة-.

كمال" عدوًّا للَّه، وعدوًّا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ° مصطفى كمال القائل: "لقد انتهى العهدُ الذي كان الشَّعبُ فيه يُخدعُ بكلماتٍ، هي خاصةٌ بالطبقاتِ الدنيا، أمثال: كربلاء، حفيد الرسول، الإيمان، السيف، القدس". ° مصطفى أتاتورك الذي أَلغى الخلافةَ العثمانية سنة 1922 م، وقال عن الذين يقولون: "إن الخلافةَ والسَّلطنةَ وِحدةٌ لا يمكن تجزئتها"؛ قال: "إنها سَفسطةٌ معهودة". وفي اليوم الأول من شهر "تشرين الثاني"، سنة 1923 م، تُعْلَن الجمهورية، وانتخابُ مصطفى كمال أتاتورك رئيسًا للجمهورية التركية. ° وبعد 4 أشهر من انتخابه رئيسًا يُوفِّي لأسياده الإنجليز وللحاخام "نعوم"، مُنفِّذِ الخُطَّةِ اليهودية لهدم الخلافة العثمانية، فيُعطي قرارَه: "لقد آن وقتُ إلغاءِ الخلافة، وتُلغى معها وَزارةُ الشرعية، ووزارةُ الأوقاف، ولن نَدَعَ هناك مدرسةً دينيةً". يتقرَّرُ إخراجُ الخليفةِ مع جميعِ أفراد عائلتِه من البلاد، وبعد ذلك يُجبِرُ الأتراكَ على ارتداء القُبَّعة، وهي العلامةُ الثالثة عند النصارى بعد الصليب والزُّنَّار، كانت علامةً دينيةً وُضعت من قِبَل المسيحين أثناءَ المعارك الصليبية، ثم أصبحت قوميةً، وقد اعتُبرت القبعةُ كعلامةٍ للكفر بفتوًى من الإمام النووي، وتُنصَبُ المشانقُ من أجل المعارِضين لارتدائها، ويَفرضُ العِلمانيةَ على تركيا، ويقول عنها: "إنها تعني أن نكونَ آدميين آدميين"، وُيغيَرُ أحرُفَ الكتابة إلى الأحرف اللاتينية.

عدوه الأكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

مصطفى أتاتورك الذي باع أذْرَبِيجان للروس، عندما طَلب من الأذربيجانين السماحَ بدخولِ الجيوشِ الروسيةِ بحجَّةِ أنها متوجِّهةٌ إلى مساعدةِ تركيا، وبعد أن دَخل البلاشفةُ إلى أذْرَبِيجان لم يَخرجوا منها, ولم يُرسِلوا جيوشًا إلى تركيا. مصطفى أتاتورك على مائدةِ الخمر، وَسَطَ الدَّعارةِ والفجور، يشيرُ إلى راقصةٍ داعرة "نبيلة هانم"، فتقرأ أذانَ الفجر. * عدوُّه الأكبرُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ° كان في فندق "بارك"، وكان المؤذِّن يقرأُ الأذانَ في المسجد الصغير الكائنِ أمامَ الفندق مباشرةً، يلتفتُ أتاورك لمن حوله قائلاً: "مَن قال بأننا مشهورون؟ وما شهرتُنا نحن؟ انظروا إلى هذا الرجل (¬1) كيف أنه وَضَع اسمًا وشُهرةً بحيث أن اسمَه يتكرَّرُ في كلِّ لحظة، وفي جَميعِ أنحاءِ العالَم إذا أخذنا فَرْقَ الساعاتِ بنظرِ الاعتبار!! ليهدِموا هذه المنارة". مصطفى أتاتورك الذي أراد أن تكونَ لغةُ الصلاة التركية!!. مصطفى أتاتورك الذي مِن على مائدةِ الخَمْرِ يُصدِرُ أمرًا بتحويل مسجدِ "أيا صوفيا" إلى متحف. أما فحشُه وشذوذُه وعَرْبدته وسكرُه ومُجونه؛ فحَدِّثْ ولا حَرَج , وحَدِّث عن ليالي "جانقايا" ولا حرج. ° يقول شاعره: لا عنكبوتَ ولا سِحر .. ¬

_ (¬1) يعني: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

لتبقى الكعبةُ لدى العرب .. لأن جانقايا تكفينا .. ° يتزوَّج من "لطيفة هانم"، وتَجِده رجلاً سكيرًا، ويشاءُ الله أن يَفضَحَه على لسان زوجته؛ فهو عديمُ الرجولة وعِنِّين، بل وشاذٌّ، وشذوذه مع "وَدَّاد ابن خالد ضياء" معروفٌ، وكان سببًا لطلاق زوجتِه منه؛ قائلةً له: "لقد رأيتُ كلَّ شيءٍ فيك، وتحمَّلت كلَّ شيءٍ، ولكني لا أستطيع تحمُّلَ هذا! " .. بعد ما رأته مع هذا الشابِّ الأمرد. هذا الفاجرُ الذي حاول الاعتداءَ على المَحارم؛ فقد حاول الاعتداءَ على شقيقةِ زوجتِه الصغرى، ولكن البنتَ تخلَصت من يديه بصعوبة، وهَرَعت إلى غُرفةِ شقيقتها، ودَخَل مصطفى كمال إلى الغرفة -وفي يده مسدس-، واحتضنت زوجتُه شقيقتَها، وأصبَحَتْ سَترًا بينهما، وسَحَبَ مصطفى كمال الزناد، ولكنْ لِحُسْنِ الحظ؛ فإن خادمه "بكر" أسرع إليه، وأمسك بيده، فطاشَتِ الرصاصاتُ الثلاث. ° كانت حياته شرابًا شرابًا شرابًا للخمر وللعَرَق، لا يَكادُ يُفيقُ منه، يقتربُ من صبيٍّ ويسأله: "لو وُضع أمامَ حِمارٍ دَلوانِ، في أحدهما ماء، وفي الآخر عَرَق (¬1)، فمن أيهما يشرب؟ فقال له الصبي: من العَرَق يا سيدي". ° وكان يقول: "إن هذا العَرَق يُعطي النشوةَ للإِنسان". الغازي أتاتورك الذي كان يَذهبُ إلى دار المعلِّمات، ويأخذُ جَبْرًا بناتِ الأمة البرئيات؛ ليفسُقَ بهنَّ؛ إنه يَخطفُ البنات مثلَ قُطَّاعِ الطرق. ¬

_ (¬1) خمر.

وكان يستعملُ وزيرَ خارجيته توفيق رشدي سمسارًا لشهواته. أما عشيقاتُه, فحدِّث ولا حَرَج، "صالحة"، و"فكرية"، و"آفة هانم" عشيقته الدائمة، التي أوصى لها عند موته, زِدْ على ذلك كانت ما بين 20 إلى 30 من النساء والفتيات الشاباتِ المختارَات بشكل خاصٍّ، وأطلَقَ عليهنَّ: "بناته بالتبنِّي"، ويُوصِي لهنَّ عند موته بمقاديرَ ثابتةٍ طيلةَ حياتِهِنَّ، وكنَّ يَقُمْنَ بالرقص في حفلاته، وهن شِبْهُ عاريات!. بل في قصره كانوا يلبِسون الجَرسونات الرجالَ ملابسَ النساء ويُرَقِّصونهم، كانت رائحةُ الغَلْمَنةِ والشذوذ حتى أمامَ أنظارِ النساء. وفي مرضِ موته -في قَصْره- ابتلاه الله بحشراتٍ صغيرةٍ حمراء، لا تُرى بالعين، حتى اضطرته إلى الحَكِّ، والحكِّ الشديدِ أمامَ زوَّاره، حتى ظَهرت على وجِهه، وأَمَر بتعقيم البيت بأقوى الأدوية وأكثرِها فاعليةً. ويَكتب مستشارُ وزارةِ الصحَة ما يلي: نعم صحيح أنه وُجد نملٌ في بعضِ أرجاء القصر، حتى إن المختصِّين أثبتوا أنه نوعٌ من النمل المهاجِر من الصين إلى أوروبا ,ولم يكن يَخطرُ ببالِ أحدٍ احتمالُ أن هناك وراءَ الحَكةِ سببًا آخر، لذلك فقد رُوجعَتْ هيئةُ الأركان العامة؛ حيث أُحيلَ الأمرُ إلى متخصِّصين من القوَّة البحْرية، ويَحضر طاقم من مدمِّرة "ياووز"؛ لِتَصَيدِ النمل الذي في القصر، مدمرة "ياووز" الموجودة في ميناء "أزميت" يا للجنون!! فلِمَ لَم يطلبوه من حاميةِ أنقرة؟! جنودٌ ومدمرةٌ لسَحقِ النمل!!. * قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى

لِلْبَشَرِ} [المدثر: 31]. وانظر إلى حِكمة اللَّهِ؛ فإنه بالرغم من كونه مُحاطًا بالأطباء والأخصائيين وأساتذةِ الطبِّ، لم يكتشِفوا أنه كان مريضًا بالكبد، وذَاقَ مرَّ العذاب من سنة 1936 حتى اكتشفوا المرض سنةَ 1938، الذي يَعرفُه أقلُّ الأطباء معرفةً بالطب، وابتلاه اللهُ بتليُّفِ الكبد الذي أدَّى إلى الاستسقاء، واحتاج إلى سَحبِ الماء من بطنه بالإبَر، وكان يَصيحُ بمن حولَه والأطباء: "اسحبوا المياه (¬1) حالاً، اسحبوها كلَّها لا تَدَعوا شيئًا منها". وفي يوم الخميس العاشر من أكتوبر، يَرحلُ إلى مزبلةِ التاريخ، يرحلُ عن هذا العالَم، ويَدورُ جِدالٌ حولَ الصلاةِ عليه، وكان مِن رأي رئيسِ الوزراء ألاَّ يُصلى عليه، وحَدَث خلافٌ مع قائدِ الجيش الأول، وأخيرًا -وبعدَ جَدَلٍ- وافقوا أن يُصلى عليه، ولكن مَن الذي أمَّ الناس؟ .. إذَا كَانَ الغُرابُ دَلِيلَ قَوْمٍ ... فَلا َفَلَحُوا وَلاَ فَلَحَ الغُرَابُ إنه مديرُ الأوقاف "شرف الدين أفندي"، الذي أصبح رئيسًا للشؤون الدينية في عهد "أينونو"، حاوَلَ إقناع "أينونو" بالقيام بكُفرٍ لم يستطع أتاتورك نفسُه القيامَ به، وهو جَعلُ الترجمةِ التركيةِ للقرآن الكريم لغةً للعبادة، وفَرْضُ قراءتِها في الجوامع، بقوَّةِ القانون، ويالَلَّه! أتاتورك يُصلِّي عليه "شرف الدين" هذا .. وافَق الشَّنُّ الطبق. * وَعَرَضُوا جثْمَانَهُ لِزَيارَة النَّاسِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا: ومات نتيجةَ الازدحام الشديد أربعةَ عَشَرَ شخصًا، وفَقَدت بعضُ ¬

_ (¬1) أي: من بطنه.

أتاتورك الجبان

البناتِ بكارَتَهُنَّ بأصابع عديمي الحياء، مارسوا هذا أمامَ تابوته الرصاصي؛ كعادة الصليبيين. * أتاتورك الجبان: ° "مَن خاف الله أخافَ منه كل شيء، ومَن لم يَخَفِ اللهَ أخافه اللهُ من كلِّ شيء". كان في مدرسة الزراعة على إحدى القِمم، وكانت الرياحُ شديدة، وكانت تُثيرُ الغبارَ؛ ولأجلها تُحرَّك الأبواب، فتُحدِثُ أصواتًا، ويَهبُّ الغازي من مكانه مذعورًا قلقًا، قائلاً: "أليس هذا صوت رشَاشة؟ "، ولم يحدث هذا مرةً واحدةً فقط، بل عِدَّةَ مرات، فيقولون له: "إنه صوتُ البابِ المندفِع بسببِ الريح"، ولكنه لا يُصدِّقُ، فيقومُ ويتطلَّعُ من النافذة، ثم يرسِلُ من يُحقِّقُ السبب، وأخيرًا حاوَلَ في أحدِ الأيام الهروب من هذا المكان بعدَ أن جَمَع جميعَ ملابسه، ولكنَّ "جلال عارف" وآخرين وقفوا أمامه ومنعوه، هذا عِلمًا بأن حرَّاسًا له كانوا موجودِين على الدوام في خَيمةٍ في الحديقة الخلفية للمدرسة. ° وقصة أخرى يَحكيها المارشال "فوزي جاقماق": "في أحد الأيام، وبينما كانوا جلوسًا في مجلسِ الأمة الأعلى، ظَهَرت عَبْرَ النافذةِ الخلفية للبِناء سحابةٌ كبيرة من الغُبار؛ وكأنها صادرةٌ من عشراتِ الألوف من الأقدام المُسرِعة في ناحية السَّهْل، وعندما رأى أتاتورك هذا المنظرَ تهيأ للهرب قائلاً: "هذه جيوشُ الخليفة آتية" ثم ظَهَر بأنه لم يكن هناك سِوى قطيع كبير من الغنم، فأُرسل رجلٌ خلفَ الغازي؛ لتأمين رجوعه".

إيهٍ يا أتاتورك، يا مَسْخرةَ التاريخ .. نملٌ وغنمٌ .. فلِمَ التطاول؟ والجزاءُ من جنس العمل. أتاتورك الذي ألغى أعيادَ الفطرِ والأضحى، وجَعَل يومَ الأحد هو يومَ العُطلةِ الأسبوعية بدلاً من الجمعة، ومَنَعَ الحَج، بل وأَغرب من هذا، أن هذا الذي رمرم من فُتات الغرب قُوتًا، له واقعةٌ مثيرةٌ تنقلها جريدة "الأهرام" التي قامت بنقلها من جريدة: "صنداي تايمز" في يوم الخميس 15 فبراير سنة 1968، تحت عنوان: "كمال أتاتورك رَشَّح سفير بريطانيا ليخلُفه في رئاسة الجمهورية التركية". هل بعد هذا تبعيةٌ وولاءٌ لبريطانيا، التي أسقطت دولةَ الخلافة على يدِ عمِيلها أتاتورك. وأخيرًا: "لم تظهر الفاحشةُ في قومٍ قطُّ، حتى يُعلِنوا بها، إلاَّ فَشَا فيهم الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تكن في أسلافهم" (¬1). وأيُّ ظهورٍ للفاحشةِ أكثرُ من الرقص، والعُهر، والاغتصاب، والعشيقات، والبنات بالتبنِّي لِممارسةِ الرذيلة، ورَقصِ النساء عاريات وَسَطَ موائدِ الخمر؟!. أراد أتاتورك أن يُمتِّعَ نفسَه بالشهوة الحرام، فابتلاه اللهُ بالأوجاع والأسقام .. والجزاء من جنس العمل. وحَرَمه الله من الرجولة، ونِعمةِ الأولاد؛ لأنه كان عقيمًا بسبب إصابتِه بالزُّهري، وبسببه أصيبت زوجته بالسيلان المزمن، ولم تتورع امرأتُه ¬

_ (¬1) حديث صحيح: رواه ابن ماجه والحاكم.

عن إذاعةِ سِرِّ عُقمِه. والجزاء من جنس العمل. هذه صفحةٌ سوداء لقِزم دجَّال، ألغى الخلافةَ، هذا الماسونيُّ الذي جَعله عِلمانيُّو العرب مَثَلَهم الأعلى!! .. عَادَتْ أغَانِي العُرْسِ رَجْعَ نُواحِ ... ونُعيتِ بَينَ مَعَالِمِ الأفْرَاحِ كُفِّنْتِ في لَيْلِ الزَّفَافِ بِثَوْبِهِ ... ودُفِنْت عِنْدَ تَبلُّج الإصْبَاحِ شيِّعْتِ مِنْ هَلَعٍ بَعَبْرَةِ ضَاحِكٍ ... فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ وسَكْرَةِ صَاحِ ضَحَّتْ عَليْكِ مآذِنٌ وَمَنَابِرٌ ... وَبَكَتْ عَلَيْكِ مَمَالِكٌ وَنَوَاحِ الهِنْدُ وَالَهِةٌ وَمِصْرُ حَزِينَةٌ ... تَبكي عَلَيْك بمَدْمَعِ سحَّاحِ وَالشَّامُ تَسْألُ وَالعِرَاقُ وَفَارسٌ ... أَمَحَى مِنَ الأَرِض الخِلاَفَةَ مَاحِ؟! أتتْ لَكِ الجمعُ الجَلائِلُ مَأتمًا ... فَقَعَدْنَ فِيهِ مَقَاعِدَ الأنْوَاحِ يَا للرِّجَالِ لِحُرَّةٍ مَوؤودَةٍ ... قُتِلَتْ بِغَيْرِ جَرِيَرةٍ وَجُنَاحِ إنَّ الَّذِينَ أَسَتْ جِرَاحكَ حَرْبُهُمْ ... قَتَلَتْكَ سَلمُهُمو بِغَيْرِ جرَاحِ هَتَكُوا بِأيْديهِمْ مُلاءَةَ فَخْرِهِمْ ... مَوْشيَّةً بمَوَاهِبِ الفَتَّاحِ نَزَعُوا عَنِ اَلأعْنَاقِ خَيْرَ قِلاَدَةٍ ... وَنَضَوْا عَنِ الأَعْطَافِ خَيْرَ وُشَاحِ حَسَبٌ أَتَى طُولُ اللَّيالِي دُونَهُ ... قَدْ طَاحَ بَيْنَ عَشِيَّةٍ وَصَبَاحِ وَعَلاَقَةٌ فُصِمَت عرى أسْبَابِهَا ... كَانَتْ أَبَرَّ عَلاِئِقِ الأرواحِ جَمَعَت عَلَى البِرِّ الحضْورَ وَربَّمَا ... جَمَعَت عَلَيْهِ سَرَائِرَ النُّزَّاحِ نَظَمَتْ صُفوفَ المُسلمينَ وَخَطوَهُمْ ... في كُلِّ غَدْوَةِ جُمْعَةٍ وَرَوَاحِ بَكَتِ الصَّلاَةُ، وَتِلكَ فِتْنَةُ عَابِثٍ ... بِالشَّرْع عِربِيدِ القَضَاءِ وَقَاحِ

أفْتَى خُزَعْبَلَةً وَقَالَ ضَلاَلةً ... وَأتَى بِكُفْرٍ في البِلاَدِ بُوَاحِ إنَّ الغَرُورَ سَقَى الرَّئِيسَ بِرَاحهِ ... كَيْفَ احْتِيَالُكَ في صَرِيعِ الرَّاحِ؟ نَقَلَ الشَّرَائِعَ وَالعَقَائِدَ وَالقُرَىَ ... والنَّاسَ نَقْلَ كتَائِبٍ فِي السَّاحِ تَرَكَتْهُ كالشَّبح المولَّهِ أمَّةٌ ... لَمْ تَسْلُ بَعْدُ عِبَادَةَ الأشْبَاحِ هُمْ أَطلَقُوا يَدَهُ كَقَيْصَرَ فِيهمُو ... حَتَّى تَنَاوَلَ كُلَّ غَيْرِ مُبَاحِ غَرَّتْهُ طَاعَاتُ الجُمُوع وَدَوْلَةٌ ... وَجَدَ السَّوَادَ لَهَا هَوَى المُرتاحِ فَلَتَسْمَعَنَّ بِكُلِّ أرْضٍ دَاعِيًا ... يَدْعُو إِلَى الكَذَّابِ أوْ لِسِجَاحِ وَلَتَشْهَدَنَّ بِكُلِّ أرْضٍ فِتْنَةً ... فِيهَا يُبَاعُ الدِّيْنُ بَيْعَ سَمَاحِ يُفْتى عَلَى ذَهَبِ المُعِزِّ وَسَيْفِهِ ... وَهَوى النُّفُوسِ وَحِقْدِهَا المِلحَاحِ * * * يَا أُخْتَ أنْدَلُسٍ عَلَيْكِ سَلاَمُ ... هَوَتِ الخِلاَفَةُ عَنْك وَالإسْلاَمُ نَزَلَ الهِلاَلُ عَنِ السَّمَاءِ فَلَيْتَهَا ... طُوِيَتْ وَعَمَّ العَالمينَ ظَلاَمُ أَزْرَى بِه وَأزَالَهُ عَنْ أوْجه ... قَدَرٌ يَحُطُّ البَدْرَ وَهْوَ تَمَامُ خَفَتَ الأذانُ فَمَا عَلَيْكِ مُوحَّدٌ ... يَسْعَى وَلاَ الجُمَعُ الحِسَانُ تُقَامُ وَخَبَتْ مَسَاجِدُ كُنَّ نُورًا جَامِعًا ... تَمْشِي إلَيْهِ الأُسْدُ وَالآرَامُ (¬1) وعَفَتْ قُبُورُ الفَاتِحينَ وَفُضَّ عَنْ ... حُفَرِ الخَلائِفِ جَنْدَلٌ وَرِجَامُ (¬2) * * * ¬

_ (¬1) الرئم: الظبي الأبيض. (¬2) الجندل: الحجارة، والرجام: ما يُبنى على البئر، وتعرض فوقه الخشبة للدلو.

علي بن عبد الرازق وكتابه القبيح الأسود "الإسلام وأصول الحكم"

* عليُّ بنُ عبد الرازِق وكتابُه القبيح الأسود "الإِسلام وأصول الحكم": أزهريٌّ سَوَّد كتابَه "الإسلام وأصول الحكم"، يدَّعي أن الشريعةَ الإسلاميةَ لا عَلاقةَ لها بالحكم في أمور الدنيا!! وكان قرارُ هيئةِ كبار العلماء بإخراجِ الشيخ عليٍّ من زُمْرتهم قرارًا صحيحًا، وقد حَصَرت الهيئةُ الموقَّرةُ مواضعَ مؤاخذتها العلميَّة في هذه النِقاط: 1 - القولُ بأنَّ الشريعةَ الإسلاميةَ شريعةٌ رُوحيَّةٌ محضةٌ، لا علاقةَ لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا. 2 - القولُ بأن الدينَ لا يَمنعُ مِن أنَّ جهادَ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في سبيلِ المُلْك لا في سبيل الدين، ولا لإبلاغِ الدعوة إلى العالمين. 3 - القولُ بأن نظامَ الحُكمِ في عهدِ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مَوضعَ غموضٍ وإبهامٍ واضطرابٍ ونقصٍ، ومُوجِبًا للحَيْرة. 4 - القولُ بأنَّ مهمَّةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كانت بلاغًا للشريعة مُجَرَّدًا عن الحُكم والتنفيذ. 5 - إنكارُ إجماعِ الصحابة على وجوبِ نَصْبِ الإمام، وعلى أنه لا بُدَّ للأُمَّة ممن يقومُ بأمرها في الدين والدنيا. 6 - إنكارُ أن القضاءَ وظيفةٌ شرعية. 7 - القولُ بأن حكومةَ أبي بكر والخلفاءِ الراشدين مِن بَعدِه كانت حكومةً لا دينيَّة (¬1). ¬

_ (¬1) مجلة المنار - مجلد 26 صفر 1344 هـ، و"كتاب الإسلام وأصول الحكم في الميزان" للأستاذ الدكتور محمد رجب البيومي (ص 32) - هدية مجلة الأزهر صفر 1414 هـ.

سعد زغلول ينقد كتاب "الإسلام وأصول الحكم"

* سعد زغلول ينقدُ كتاب "الإِسلام وأصول الحكم": ° قال الأستاذ: "محمد إبراهيم الجزيري" السكرتير الخاص لسعد زغول الزعيم المصري: "قلت له: ما رأيُكم في كتاب "الإسلام وأصول الحكم"؟ فقال مُهْتمًّا كمن يستعدُّ لإلقاء محاضرة: "لقد قرأتُه بإمعان، لأعرفَ مَبْلَغَ الحَمَلات عليه من الخطإ والصواب، فعَجِبتُ أوَّلاً: كيف يكتبُ عالمٌ دينيٌّ بهذا الأسلوب في مِثلِ هذا الموضوع؟! وقد قرأتُ كثيرًا للمستشرقين، وَلِسِواهُم، فما وَجدتُ ممَّن طَعَن منهم في الإسلام حِدَّةً كهذه الحِدَّةِ في التعبير، على نحوِ ما كتب الشيخ علي عبد الرازق، فقد عَرَفتُ أنه جاهلٌ بقواعِدِ دينه, بل بالبسيط من نظريَّاته، وإلاَّ فكيف يدَّعي أن الإسلامَ ليس مدنيًّا , ولا هو بنظامٍ يَصلُحُ للحُكم؟ فأيُّ ناحيةٍ مَدَنيَّةٍ من نواحي الحياة لم ينصَّ عليها الإسلام؟ هل البَيعُ أو الأجارة أو الهِبة؟ أو أيُّ نوعٍ آخَرُ من المعاملات؟ ألم يدرُسْ شيئًا من هذا في الأزهر؟ أوَلَم يقرأْ أنَّ أُممًا كثيرةً حكَمَتْ بقواعد الإسلام -فقط- عهودًا طويلة كانت أنضَرَ العصور؟! وأنَّ أُممًا لا تزالُ تحكمُ بهذه القواعد، وهي آمِنةٌ مطمئنةٌ؟! فكيف لا يكونُ الإسلامُ مَدَنِيًّا ودِينَ حُكْم؟!. وأعجبُ من هذا ما ذَكَرَه في كتابه عن الزكاة!. أين كان هذا الشيخ من الدراسة الدينيَّة الأزهريةِ؟. إني لا أفهمُ معنًى للحَمْلةِ المتحيِّزة التي تُثيرُها جريدةُ "السياسة" حولَ هذا الموضوع، وما قرارُ هيئةِ كبارِ العلماء بإخراجِ الشيخ عليٍّ من زُمرتهم، إلاَّ قرارٌ صحيحٌ لا عَيْبَ فيه؛ لأنَّ لهم حقًّا صريحًا -بمقتضى القانون، أو

سعد يلقم العلمانيون حجرا

بمقتضى المنطقِ والعقلِ- أن يُخرجوا مَن يَخرُجُ على أنظمتِهم من حظيرتهم؛ فهذا أمرٌ لا علاقةَ له مُطلَقًا بحُرِّيةِ الرأيِ التي تعنيها السياسة" (¬1). * سعد يُلقِمُ العلمانيون حجرًا: ° إن كلام رئيس الوزراء المِصريِّ الذي صرَّح بما لم يَستطع أيُّ مسؤولٍ مصريٍّ قبلَه أن يقولَه غيرُ السادات، فقد قال الدكتور أحمد نظيف في حديث إلى قناة "العربية" الفضائية، على هامش مُنتدى دافوس في شرم الشيخ: "إنَّ مصرَ دولةٌ عِلمانية تفصلُ الدينَ عن السياسة، لكنها تعتمدُ الشريعةَ مصدرًا أساسيًّا للتشريع"، ثم يعودُ بعدها في اليوم التالي وُيدلي بتصريحٍ إلى "وكالةِ أنباءِ "الشرق الأوسط" يقول فيه حَرْفِيًّا: "إنَّ مصر دولةٌ إسلامية طِبْقًا للدستور، وإنَّ مبادئ الشريعة الإسلامية هي مصدرٌ أساسي للتشريع، ومع ذلك فإن ممارسة الحقوقِ والواجباتِ العامة في مصر لا تُميِّزُ بين المواطنين بسبب الجنسِ أو الأصلِ أو اللغة أو الدينِ أو العقيدة" (¬2). ° وسَوَّد أحمدُ بهاء الدين مؤلَّفًا سَمَّاه "أيام لها تاريخ" تحدَّث فيه عن كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لا يَمُتُّ إلى الحقيقة بصِلَةٍ، وما هو إلاَّ تخيُّلاتٍ موهومة، إلى أن قال: "والتقط الإِنجليزُ فِكرةَ الخلافةِ الواقعة على الأرض، نعم! لماذا لا يُنشِؤون هم خلافةً إسلاميةً جديدةً تنمو تحتَ رعايتِهم، وأنَّ الخلافةَ لحُجَّةٌ قديمة للتغريرِ بالمسلمين، وخَلْفَ عباءتها خَرَجَت من مكة (كذا!!) وتنقلت بين دمشقَ وبغدادَ والقاهرة واستامبول، ¬

_ (¬1) "سعد زغلول - ذكريات تاريخية" للأستاذ الجزيري (ص 92) - كتاب اليوم. (¬2) جريدة الأسبوع - العدد (479) (ص 1).

ويَمتطيها الحاكمُ الذي يستبدُّ بالمسلمين" (1). وكتب الدكتور محمد ضياء الريِّس كتابَه الرائع "الإِسلام والخلافة في العصر الحديث - نَقَد كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، وفنَّد فيه - رحمه الله - الأباطيلَ الموهومة. ° ثم يأتي العِلمانيُّ "التقدُّميُّ المستنير" د. جابر عصفور، فيُعيد نشر كتاب علي عبد الرازق في سلسلة "المواجهة والتنوير"، ويَكتبُ له مقدِّمةً وُيزكِّي هذه المقدمةَ العِلمانيُّ الكارهُ لحكم الشريعة، والكاتبُ الكريهُ أحمد عبد المعطي حجازي، فيُسوِّد سطورًا في مدحِ هذه المقدِّمة في مقالٍ نَشَره بـ "الأهرام" في 26/ 5/ 1393 هـ، يَكذِبُ فيه الكَذِبَ الصَّراح، ويَنقلُ باطلاً عن باطلٍ دون التفات حتى إلى حقائقِ التاريخ ووقتِ كتابة علي عبد الرازق لكتابه .. ثم يدَّعي بعد ذلك البحثَ العلميَّ!! .. دَعْوَى إذا حَقَّقتَها ألفَيْتَها ... ألقابَ زُورٍ لُفِّقَتْ بِمُحالِ ° كَتب الدكتور جابر عصفور في مقدمة طبعةِ الكتاب: "بعد أن قام كمال أتاتورك بحركته الإِصلاحيَّة (¬1) في تركيا، وما ترتَّب عليها من إلغاءِ الخلافة العثمانية وإعلانِ الجمهورية، بدأت محاولاتٌ متعدِّدةٌ لإقامةِ الخلافة في أكثرَ من قُطْر، بعضُ هذه المحاولاتِ حَدَثت في القاهرة، وكانت مرتبطةً بدافعِ تنصيبِ المَلِك "فؤاد" خليفةً للمسلمين، وبينما كانت محاولاتُ أنصارِ المَلِك فؤاد قائِمةً متَّصِلةً، وفي الوقتِ الذي كان فيه الحوارُ دائرًا حولَ معنى "الخلافة" في عصرنا، أصدر علي عبد الرازق القاضي الأزهري -الذي ¬

_ (¬1) "أيام لها تاريخ" لأحمد بهاء الدين (ص 153).

علي بن عبد الرازق تلميذ "مرجليوث وأرنولد" الوفي

يَعملُ رئيسًا للمحكمة الشرعية في المنصورة- كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، الذي فرغ منه في مَطَلَعِ إبريل عام 1925 م، وطبع في العام نفسِه أكثرَ من مرَّة، وكان الكتاب قنبلةً بكلِّ معنَى الكلمة، وعلى مستوياتٍ متعدِّدة، نَسَفَ الكتابُ فكرةَ "الخلافة الإِسلامية" التي كان يَحلُمُ بها المَلكُ فؤاد وأعوانُه، ونَسَفَ الكتابُ كثيرًا من الرَّواسبِ العالقةِ في أذهانِ القراء عن الدولة الدينية، ونسَفَ الكتابُ السَّطوةَ التي يَزعُمُها بعض رجالِ الدين عندما يتحدَّثون عن الحكم، وكان الكتابُ بمثابةِ تأكيدٍ من أزهريٍّ مستنيرٍ لدعائمِ الدولةِ المدنيَّة، وفي الوقتِ نفسِه كان ثورةً هائلةً على المفاهيمِ السائدةِ عند أقرانه من المشايخ، وكان من الطبيعي أن يُحارَبَ الكتابُ، وأن يعاقَبَ صاحبُه، واتَّفَقَ القصرُ مع لجنة كبار العلماء على العقاب، صَدَر قرارٌ بسَحبِ "العالِمِية" من الرجل، وتَبع هذا القرارَ فَصْلُه من عَمَله بالقضاء، وقامت الدنيا ولم تَقعد، وتولَّت الدفاعَ عن الكتاب كلُّ قوى الاستنارةِ في مصر، وكلُّ الفصائل السياسية المؤمنةِ بالديمقراطية، وكلُّ دعاةِ الدولةِ المدنية والمجتمعِ المدني". ° إلى أن يقول: "وبَقِيَ الكتابُ نفسُه وثيقةً رائعةً من وثائِقِ التنوير". عامَلَك اللهُ بما تستحقُّ يا جابر عصفور!!. * علي بن عبد الرازق تلميذ "مرجليوث وأرنولد" الوَفيُّ: ° نال عليُّ بنُ عبد الرازق عالِمِية الأزهر سنة 1911، وقضى بـ "الأزهر" عامًا واحدًا يُدرِّسُ مادةَ "البلاغة"، وقد ألَّف فيها كتابًا عن عِلمِ البيان سمَّاه "الأمالي"، ثم سافر إلى "إنجلترا" سنة 1912 ليدرس السياسةَ أو الاقتصاد، فعاد عند نُشوبِ الحربِ العالَمية سنة 1914 م ليعَّين بعدَ وقتٍ

قصير قاضيًا شرعيًّا، وفي هذا الوقت رَحَّبَتْ صحافة أوربا بالهجوم على الخلافة، وكان "مرجليوث" -المستشرق الإنجليزي- بالذات من أكبر أعداءِ الخلافةِ الإسلامية، وقد أخذ يقرِّرُ: "أن مبدأَ الحكومة الأتوقراطية -أي: الاستبدادية- قد ظَلَّ مسَلَّمًا به لا يجادِلُ أحدٌ فيه في الأقطار الإِسلامية حتى القرن التاسَعَ عَشَر! وذلك حين وَصَلت المَوجةُ التي صدرت عن الثورة الفرنسية عن طريق تركيا إلى المنطقة الحارة! " (¬1). ° "كذلك كان المستشرق الإنجليزي "أرنولد" الذي قَرَّر أن الحكومةَ الإسلاميةَ أتوقراطية ادُّعي لها أنها مبنيَّةٌ على الوحيِ الإلهيِّ، وقد جعِل واجبًا دينيًّا على الفردِ المسلم أن يطيعَ الحكومةَ الاستبداديةَ التي يقومُ على رأسِها الخليفة" (¬2). ° وقد كان الأستاذان "مرجليوث، وأرنولد" من كبار أستاذة "أكسفورد" التي التَحَقَ بها الأستاذ علي عبد الرازق على مدى عامَيْنِ متتابِعَيْن! وموضوعُ حديثهما في الجامعة هو "السياسة الإسلامية"، فاستجاب الأستاذ لِمَا سمع! وهذا موضع العَجَب؛ لأنه أزهريٌّ، يفترضُ فيه أن يكون قد دَرَسَ أصولَ الحكم في الإسلام، وقرأ ما كَتَبه أساطين العلماء! ولكنَّ كتابَه الذي ألَّفه يَنطِقُ بأنه لم يلِمَّ بما قاله هؤلاء الأعلامُ، فكان فريسةً سهلةَ الوقوع!!. ¬

_ (¬1) كتاب "النظريات السياسية الإسلامية" للدكتور الريِّس (ص 292). (¬2) المصدر السابق (ص 274).

هذيان علي عبد الرازق ودجله

* هَذَيان علي عبد الرازق ودَجَلُه: ° يقول علي عبد الرازق: "ولايةُ الرسولِ على قَومِه ولايةٌ رُوحِيَّة، منشؤُها إيمانُ القلبِ وخضوعُه خضوعًا تامًّا يَتبعُه الجِسم، وولايةُ الحاكمِ ولايةٌ مادية تعتمدُ على إخضاعِ الجسم من غيرِ أن يكون له بالقلوب اتصال، تلك ولايَةُ هدايةٍ إلى الله وإرشادٍ إليه، وهذه ولايةُ تدبيرٍ لصالحِ الحياة، وعَمَارِ الأرض، تلك للدِّين، وهذه للدنيا، تلك لله، وهذه للناس، تلك زعامةٌ دينيةٌ، وهذه زعامةٌ سياسية، ويا بُعدَ ما بين السياسة والدِّين" (¬1). ° ويقول أيضًا: "والدنيا مِن أوَّلها إلى آخِرِها، وجميعُ ما فيها من أغراضٍ وغاياتٍ أهونُ عند الله من أن يُقيمَ على تدبيرها غيرَ ما رُكِّب فينا من عقول، وحَبَانا مِن عواطِفَ وشهوات، وعَلَّمنا من أسماءَ ومسميات، هي أهونُ عند الله من أن يَبعثَ لها رسولاً!! وأهونُ عند رُسُل الله -تعالى- من أن يَشتغِلوا بها، ويَنصَبوا لتدبيرها" (¬2). ° وقال: "إنَّ كلَّ ما جاء به الإسلامُ من عقائدَ ومعاملاتٍ وآدابٍ وعقوبات، فإنما هو شرعٌ دينيٌّ خالصٌ لله تعالى، ولمصلحةِ البشرِ الدينيةِ لا غير، وسِيَّانِ بعد ذلك أن تتَّضحَ لنا تلك المصالحُ الدينية أم تَخفى علينا؟ وسِيَّانِ أن يكونَ منها للبشرِ مصلحةٌ مدنيةٌ أم لا؟ فذلك ما لا ينظرُ الشرعُ السماويُّ إليه، ولا ينظر إليه الرسول" (¬3)!!. ¬

_ (¬1) "الإسلام وأصول الحكم" (ص 69) - الطبعة الأولى. (¬2) "الإسلام وأصول الحكم" (ص 78) - الطبعة الأولى. (¬3) المصدر السابق (ص 85).

دعواه أن جهاده - صلى الله عليه وسلم - كان في سبيل الملك، لا في سبيل الدين

* هل يرى علي عبد الرازق والعلمانيُّون معه أن تدبيرَ أمورِ الدنيا وسياسةَ الناس أهونُ عند الله مِن مِشْيَةٍ يقول الله في شأنها: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [الإِسراء: 37]؟ وأهونُ عند الله من صاع شعير أو رَطْلِ مِلحٍ يقول الله في شأنهما: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [الشعراء: 181، 182]؟. * وماذا يَعملُ الشيخ علي في مثل قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}؟ [النساء: 105]. * وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}؟ [المائدة: 49]. * دعواه أن جهادَه - صلى الله عليه وسلم - كان في سبيلِ المُلْكِ، لا في سبيل الدين: ° قال علي عبد الرازق: "وظاهرٌ أولَ وهلةٍ أنَّ الجهادَ لا يكونُ لمجرَّدِ الدعوة إلى الدين، ولا لِحَمْلِ الناس عَلى الإيمانِ بالله ورسوله" (¬1). ° ثم قال: "وإذا كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد لَجَأَ إلى القوةِ والرَّهْبة، فذلك لا يكونُ في سبيل الدعوة إلى الدين، وإبلاغِ رسالته إلى العالمين، وما يكونُ لنا أن نفهمَ إلاَّ أنه كان في سبيلِ المُلك" (¬2). ° ويقول: "قلنا: إن الجهادَ كان آيةً من آياتِ الدولة الإسلامية، ومِثالاً من أمثلةِ الشؤون المَلَكيَّة .. وإليك مثلا آخَرَ: كان في زَمَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 52). (¬2) المصدر السابق (ص 53).

عَمَلٌ كبيرٌ متعلِّقٌ بالشؤون الماليَّة من حيثُ الإيراداتُ والمصروفات، ومِن حيثُ جَمعُ المالِ من جهاتِه العديدة -الزكاة والجِزية والغنائم- إلخ .. ومن حيث توزيعُ ذلك كلِّه بين مصارفه، وكان له - صلى الله عليه وسلم - سُعَاةٌ وجُبَاةٌ يتولَّوْن ذلك له، ولا شكَّ أن تدبيرَ المالِ عَمَلٌ مَلَكيٌّ، بل هو أهمُّ مقوِّماتِ الحكومات" (¬1). ° ثم قال: "إذا ترجَّح عند بعضِ الناظرين اعتبارُ تلك الأمثلةِ، واطمأنَّ إلى الحُكم بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان رسولاً ومَلِكًا، فسوف يَعترضُه حينئذٍ بحثٌ آخَرُ جديرٌ بالتفكير، فهل كان تأسيسُه للمَملكة الإسلامية وتصرُّفها في ذلك الجانبِ شيئًا خارجًا عن حدودِ رسالته - صلى الله عليه وسلم -؟ أم كان جُزءً ممَّا بَعَثَه الله له وأوحى به إليه؟. فأمَّا أنَّ المملكةَ النبويَّةَ عَمَلٌ منفصلٌ عن دعوة الإسلام وخارجٌ عن حدودِ الرسالة، فذلك رأيٌ لا نَعرِف في مذاهبِ المسلمين ما يُشاكِلُه، ولا نَذكُرُ في كلامِهم ما يدلُّ عليه، وهو على ذَلك رأيٌ صالح لأنْ يُذهَبَ إليه، ولا نَرى القولَ به يكونُ كفرًا ولا إلحادًا، وربما كان محمولاً على هذا المذهبِ ما يراه بعضُ الفِرَقِ الإسلامية من إنكارِ الخلافة في الإسلام مرةً واحدة، ولا يَهُولَنَّك أن تسمعَ أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - عملاً كهذا خارجًا عن وظيفةِ الرسالة، وأن مُلْكَه الذي شيَّده هو من قَبيل ذلك العمل الدنيويِّ الذي لا عَلاقةَ له بالرسالة، فذلك قولٌ إنْ أنْكَرَتْه الأُذن لأنَّ التشدُّقَ به غيرُ مألوف في لغةِ المسلمين، فقواعدُ الإسلام ومعني الرسالة ورُوحُ التشريع وتاريخُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، كلُّ ذلك لا يُصادِمُ رأيًا كهذا ولا يَستفظِعُه، بل ربُّما وَجَد ما ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 54).

دعوى أن نظام الحكم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان موضع غموض أو اضطراب أو نقص

يَصلُحُ له دِعامةً وسَندًا , ولكنه على كلِّ حالٍ رأيٌ نراه بعيدًا" (¬1). ° وقال: "إن الجهادَ كان مثالاً مِن أمثلةِ الشؤون المَلَكيَّة، فهو إذن في سبيل المُلْكِ لا الدين" (¬2). * فأين علي عبد الرازق من قول الله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}؟ [النساء: 84]. * وقول الله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [النساء: 74]؟. * وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}؟ [البقرة: 193]. * وقول الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60]؟. * وقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]؟. * دَعوى أن نِظامَ الحُكمِ في عهدِ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مَوْضِعَ غموضٍ أو اضطرابٍ أو نقصٍ: ° فقد قال في (ص 40): "لاحَظْنا أنَّ حالَ القضاءِ زَمَن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 55). (¬2) المصدر السابق (ص 54).

غامضةٌ ومبهمةٌ في كلِّ جانب". ° وقال في (ص 46): "كلَّما أمْعَنَّا تفكيرًا في حالِ القضاء في زَمَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي حال غيرِ القضاء من أعمالِ الحُكمِ وأنواعِ الولاية، وَجَدْنا إبهامًا في البَحثِ يتزايدُ، وخَفَاءً في الأمرِ يَشتدُّ، ثم لا تَزال حَيرةُ الفِكرِ تَنقُلُنا مِن لَبْسٍ إلى لَبْس، وتَرُدُّنا من بَحثٍ إلى بحثٍ، إلى أن ينتهيَ النظرُ بنا إلى غايةِ تلك المجال المشتبهِ الحائر". ° وقال في (ص 57): "إذا كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد أسَّس دولةً سياسية، أو شَرعَ في تأسيسِها، فلماذا خَلَتْ دولتُه إذنْ من كثيرٍ من أركانِ الدولةِ ودعائمِ الحكم؟ ولماذا لم يُعرف نظامُه في تعيين القُضاةِ والوُلاة؟ ولماذا لم يَتحدَّث إلى رَعيَّته في نظام المُلْكِ وفي قواعدِ الشُّورى؟ ولماذا تَرَك العلماءَ في حَيرةٍ واضطرابٍ من أمرِ النِّظام الحُكوميِّ في زمنه؟ ولماذا ولماذا؟ نريدُ أن نعرفَ مَنْشَأَ ذلك يبدُو للناظر كأنه إبهامٌ أو اضطرابٌ أو نقصٌ أو ما شئت فَسَمِّه في بِناءِ الحكومةِ أيامَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - .. وكيف كان؟! وما سِرُّة؟! ". * فأين علي عبد الرازق من قول الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]؟. * وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}؟ [النحل: 44]. * وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]؟.

دعواه أن مهمة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت بلاغا للشريعة مجردا عن الحكم والتنفيذ

* دعواه أن مهمةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت بلاغًا للشريعةِ مجرَّدًا عن الحُكم والتنفيذ: ° قال علي عبد الرازق في (ص 71): "ظواهرُ القرآنِ المجيدِ تُؤيِّدُ القولَ بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكنْ له شأنٌ في المُلكِ السياسي، وآياتُه متضافِرةٌ على أنَّ عَمَلَه السماويَّ لم يتجاوَزْ حدودَ البلاغِ المجرَّد من كلِّ معاني السلطان". ° ثم عاد فأكَّد ذلك، فقال (ص 73): "القرآنُ صريحٌ في أنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن من عَمَلِه شيءٌ غيرُ إبلاغِ رسالةِ الله تعالى إلى الناس، وأنه لم يُكَلَّف شيئًا غيرَ ذلك الإبلاغ، وليس عليه أن يأخذَ الناسَ بما جاءهم به، ولا أن يَحمِلَهم عليه". ولو كان الأمرُ كما زعم هو، لكان ذلك رفضًا لجميعِ آياتِ الأحكام الكثيرةِ في القرآن الكريم، ودُونَ ذلك خَرْطُ القَتَاد!!. * هل تراجع علي عبد الرازق عن قوله؟: ° قال الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومي: "كتبتُ في مجلة "الثقافة المصرية" (1978 م) مقالاً تحت عنوان "يرجعان إلى الحق" (¬1) وقد جاء فيه فيما يختصُّ بالأستاذ علي عبد الرازق ما نقلته عن مجلة "رسالة الإسلام" التي كانت تُصدرُها جماعةُ التقريب، حيث وَجدتُ في العدد ¬

_ (¬1) أعاد الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومي نشر المقال في الجزء الثاني من كتابه "قضايا الإسلام" (ص 123) وما بعدها، وانظر "كتاب الإسلام وأصول الحكم في الميزان" (ص 62 - 64).

الثالث من السَّنة الثالثة الصادرِ في رمضان 1380 هـ الموافق يوليو 1951 م مقالاً لحضرة صاحب السعادة علي عبد الرازق باشا -كما وصفته المجلة- يقعُ في صفحتيْ 246، 247 تحت عنوان: "الاجتهادُ في نظر الإِسلام"، وفيه يقول: "قرأت بحْثًا قيِّمًا لصاحب العزَّة الكاتبِ الكبير الأستاذ الدكتور أحمد أمين، جاء في صدره أنه كان يتجادل معي، فقلتُ: إن دواءَ ذلك أن نَرجعَ إلى ما نشرتُه قديمًا مِن أن رسالةَ الإسلام روحيةٌ فقط، ولنا الحقُّ فيما عدا ذلك من مسائلَ ومشاكلَ، وقد وَقَفْتُ أمامَ كلمةِ "رسالة روحانيَّة" ولم تَشَأْ أن تَمُرَّ مِن غيرِ أن تُثيرَ ذكرَى قِصَّةٍ قديمةٍ لهذه الكلمة معي، فقد زَعَم الطاعنون أنني في هذا البحثِ قد جَعَلتُ الشريعةَ الإسلامية شريعةً روحانيةً مَحضةً، ورَتَّبوا على ذلك ما طوَّعت لهم أنفُسُهم أن يَفعلوا .. أمَّا أنا، فقد رَدَدتُ عليهم أنني لم أقُلْ ذلك مطلقًا -لا في هذا الكتاب ولا في غيره-، ولا قلتُ شيئًا يُشْبِهُ ذلك الرأيَ أو يُدانيه، أسوقُ هذا الحديثَ ليذكُرَ الأستاذُ الكبير أن فِكرة "رُوحانية الإسلام" لم تكنُ لي رأيًا يومَ نَشَرتُ البحثَ المشارَ إليه، وأنِّي رفضتُ يومئذٍ رفْضًا باتًّا أن يكون ذلك رأيي". ° قرأت هذا الكلامَ، فزادت حَيرتي؛ لأني أعرفُ أن الرجلَ قد قال هذ الكلامَ بمضمونه إنْ لمْ يكنُ بلفظِه، فكيف يقول: "إنه لم يقُلْ ذلك ولا شيئًا يدانيه؟! " ولو كانَ يُنكر صدورَ كلمة "رُوحانية"، فإن مادَّتها صريحةٌ في قوله في الطبعة الأولى (ص 69) "ولايةُ الرسول على قومه ولايةٌ رُوحية، منشؤُها إيمانُ القلب .. ". ° ويقول (ص 78) من الطبعة الأولى: "والدنيا مِن أوَّلها إلى آخِرِها .. أهون عند الله مِن أن يَبعثَ لها رسولاً، وأهونُ عند رسلِ الله

العلمانيون الفاسدون المفسدون وزبالة أذهانهم، هم -والله- من شانئي محمد - صلى الله عليه وسلم -

-تعالى- مِن أن يَشتغلوا بها، ويَنْصَبوا لتدبيرها". ° ويقول كثيرًا مِن أمثالِ ذلك ممَّا يثبِث أنَّ الشريعةَ لا صِلَةَ لها بالحياة، وأنها مسألةٌ روحِيَّة بين العبدِ وربِّه، فكيف يُنكِر الأستاذُ ما قالَه للأستاذ أحمد أمين، مدَّعِيًا أن كلمة "روحانية الإسلام" تسرَّبت على لسانِه خطأً، ولم يُرِد مَعْنَاها؟! ولعلَّ الشيطانَ مَن ألقَى في حديثه بتلك الكلمة!!. الحقُّ الذي لا مِرْيةَ فيه أن الرَّجُلَ يتراجعُ عمَّا قال، وكان عليه أن يكونَ صريحًا في التراجع، دون أن يَلُفَّ تراجُعَه في أقنعةٍ تكشِفُ عمَّا تَسْتُرُ، وحَسبنا منه أن نعرفَ أن رأيَه الأخيرَ بمجلة "رسالة الإسلام"، قد عَصَف بما سَبَق أن زعم!! هذا ما عَنَّ لي ولا أزيدُ". انتهى. ° ونختم بما قال علي عبد الرازق في وصفِه للخلافة بأنها: "خُططٌ دنِيويَّةٌ صِرفة، لا شأنَ للدين بها .. وليس لنا حاجةٌ إليها في أمورِ ديننا ولا دنيانا , ولو شئتُ لقلنا أكبرَ من ذلك، فإنَّما كانت الخلافة -وَلم تَزَلْ- نَكبةً على الإِسلام والمسلمين، ويُنْبوعَ شرٍّ وفساد (¬1). * العِلمانيُّون الفاسدون المُفْسِدون وزُبالةُ أذهانهم، هم -والله- من شانِئِي محمد - صلى الله عليه وسلم -: ° يقولُ العَصرانِيُّون العِلمانيُّون الآن أكثَرَ مما قال علي عبد الرازق، ويَدَّعون -وهم أهلُ الفساد المفسِدون- أنهم أصحابُ الفِكِر الديني المستنير، وأهلُ العقول الراجحةِ المواكِبةِ للتطوُّر والرقيِّ .. وتطفحُ أذهانهم بزُبالتِها، ¬

_ (¬1) "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" (2/ 83) للدكتور محمد محمد حسين.

محاولات تنحية الشريعة

وتَقِيءُ أفكارُهم السَّوداءُ كلَّ خبيثٍ .. فتعال معي: * محاولاتُ تنحيةِ الشريعة: ° ما كان أحدٌ يظن أنَّ المسلمين قد يتنازلون عن تحكيمِ شريعتهم بعد أن سادت أحكامها ثلاثةَ عَشَرَ قرنًا، وما كنَّا نظنُّ أن يَنبرِي نَفَرٌ من أبناءِ جِلدتنا -ممَّن يتكلَّمون لُغتَنا- لهدمِ شرعِ اللَّهِ واستبدالِه بقوانينَ أرضيةٍ وافدة، باسم "التجديد والتطوير"، "على أنَّ هنالك اتفاقًا عامًّا بين أصحابِ "الفِكرِ الديني المستنير"!! على ضرورةِ تجديدِ الإِسلام ذاتِه، بمعنى تعديلِ أحكامِه وتشريعاتِه، أو نَسْفِها واقتلاعِها من الجذور" (¬1). ° فالدكتور محمد أحمد خلف الله: "يرى ضرورةَ انعتاقِ الأحكام من إسارِ الشريعة إلى بحْبُوحةِ القوانين الوضعيَّة، التي تُحقِّقُ لها الحُرِّيَّةَ والتقدُّمَ المذهِلَينِ، وأنَّ خروجَ المعاملات من نِطاقِ الشرعِ إلى نِطاقِ القانون، قد حَقَّق لها ألوانًا من الحُريَّةِ والانطلاق، لم يكن لهم بها عَهدٌ مِن قبلُ" (¬2). ° "ويَرى أن العدلَ الإسلاميَّ أمنيةٌ من الأمانيِّ، وليس واقعًا يتحقَّقُ، وذلك أن هذه المعاييرَ -معاييرَ العَدلِ الإسلامي- مِنَ القِدَم بحيثُ تَعجِزُ عن أن تحِقَّ حقًّا أو تبطِلَ باطلاً! وأن تُقيمَ عَدلاً فيْ العصر الذي نَعيشُ فيه .. ". ° "ولذلك فهو يَعْجَب من هؤلاء الجامِدِين الذين يتمسَّكون بتلك المعاييرِ البالية، لمجردِ أنها وردت في القرآن والسُّنَّة" (¬3). ¬

_ (¬1) ينظر: "غزو من الداخل" جمال سلطان (ص 34 - 35). (¬2) من مقال بعنوان: المعاملات بين الشرع والقانون - الطليعة القاهريَّة فبراير 1976 م. (¬3) الطليعة القاهرية - نوفمبر 1975 م، بعنوان العدل الإسلامي وهل يمكن أن يتحقق؟!.

إنَّ دُعاةَ "التغريب" قد انتَهَوا من المجاملات، وصارت طُروحاتهم صريحةً واضحةً, لأنَّ قرنًا من التخريبِ والتشكيك قد آتى ثِمارَه هذه الأيام. ° فالتبجُّحُ في مخالفةِ الأحاديث الصحيحة أصبح لا يُحرِّك ساكنًا عند هؤلاء المتغرِّبين، وحُجةُ تحقيقِ المصلحةِ هي الأساسُ لديهم -حتى لو خالفت الأحاديثَ الصحيحة-. ° يقول محمد عمارة: "نحن مطالَبون حتى نكونَ متَبِعينَ للرسولِ بالتزام سنَنِه التشريعية -أي: تفسير القرآن- لأنها دِين، أما سُنته غيرُ التشريعية -ومنها تصرُّفاته في السياسة والحَرب والسِّلْم والاجتماع والقضاء ومِثلِها ما شابهها من أمور الدنيا-!!، فإن اقتداءَنا به يتحققُ بالتزامِنا المِعيارَ الذي حَكَمَ تصرُّفه - صلى الله عليه وسلم -، فهو كقائدٍ للدولة كان يَحكم منها على النحو الذي يحقِّقُ "المصلحة"، للأُمَّة، فإذا حَكَمنا "كساسةٍ" بما يُحققُ مصلحةَ الأمة، كنَّا مُقتَدِينَ بالرسول، حتى -ولو خالفَتْ نُظُمُنا وقوانينُنا ما رُوي عنه في السياسة من أحاديث-، لأن المصلحةَ -بطبيعتها- متغيرةٌ ومتطوِّرة" (¬1). ° بل يعبِّرُ "عمارة" بصراحةٍ أشدَّ عن عَدمِ مُلائمَة الشريعةِ لقضايا العصر، عندما يقول: "فإنَّ أحدًا لن يستطيعَ الزعمَ بأنَّ الشريعةَ، يمكنُ أن تَثبُتَ عند ما يقرره نبيٌّ لعصره" (¬2). ° ويدعو عمارة كذلك إلى مدنيةِ السُّلطة، وجَعْلِ حقِّ التشريع في يدِ ¬

_ (¬1) "الإسلام وقضايا العصر" محمد عمارة (ص 25). (¬2) "المعتزلة وأصول الحكم" (ص 330) - محمد عمارة سلسلة الهلال العدد (400) 1984 م.

جمهورِ الأُمَّة عندما يقول: "فأصحابُ السُّلطةِ الدينيةِ قد احتَقَروا جمهورَ الأمة، عندما سَلَبوها حَقَّها في التشريع، وسلطاتِها في الحكم". ° على حينِ قرَّر القائلون بمدنيةِ السُّلطة: "أنَّ الثِّقةَ -كلَّ الثقةِ- بمجموعِ الأمة، بل جَعَلوها مَعصومةً من الخطأ والضلال" (¬1). فأبواقُ التغريب من اليمين إلى اليسار، قد تنادَوا من كلِّ وادٍ لهَدم مقوِّماتِ الإسلام من الداخل، متعاوِنِين مع أساتذتِهم من الشرق والغرب. ° فالدكتور "أحمد كمال أبو المجد" يرفضُ رفضاً باتًّا تلك "النظرة الشُّموليَّة للدين، والتي تستغرقُ أحوالَ الفردِ والجماعة"، ويرى "أن الدينَ -والإِسلامَ بصفةٍ خاصَّةٍ- يمتدُّ اختصاصُه إلى جميعِ جوانبِ الحياة الفرديةِ والجماعيةِ للمؤمنين به، ولكنه امتداد عنايةٍ وتوجيهٍ، وليس -بالضرورةِ- اختصاصَ تدخُّلٍ مباشرٍ بالتنظيم، وتقديمِ الحلولِ النهائيةِ الثابتة". ° "ولذلك فهو يتعجَّبُ ويتأفَّف من هؤلاء المسرِفين الذين يَرَون ضرورةَ إسقاطِ القوانين الوضعية، ويدعو مِن ثَمَّ إلى زَلزلةِ قواعدِ الشريعة، حيث لا يَقصُرُ الاجتهادَ على الفروع فحسب، بل والأصولِ أيضًا" (¬2). ° ويَعتبر الدكتور "زكي نجيب محمود" أن الشريعةَ "شريعةَ الأسلاف" لم تَعُدْ تصلحُ لواقعنا المعاصر، ثم علينا أن نَبنيَ حضارتَنا على النموذج الغربيِّ الماديِّ الحديث، دونَما التفاتٍ إلى أيِّ أُسسٍ أخلاقيةٍ أو قِيمةٍ ثقافيةٍ ¬

_ (¬1) "الإسلام والسلطة الدينية" (ص 7). (¬2) "حوار لا مواجهة" أحمد كمال أبو المجد (ص 10 - 13)، وانظر "غزو من الداخل" جمال سلطان (ص 41 - 42).

سقوط الخلافة في منظور العصرانيين

أو عَقَدية. ° ويقول: "وتسألُني: ماذا نحن صانعون بآدابنا وفنونِنا ومعارفِنا التقليدية؟! فأُجيبُك بأنها مادةٌ للتسلية في ساعاتِ الفراغ .. لم أَعُدْ أقولُ: إنها خليقةٌ بأن يُقذَفَ بها في النار" (¬1). وهكذا فقد تَوَصَّل هؤلاءِ الكُتَّابُ إلى أن يَهدِموا تراثَ أُمَّتِهم الدينيِّ والثقافي، بما في ذلك إلغاءُ شريعةِ الإسلام، وفي ذلك مَخاطِرُ على عقيدتِهم ودينِهم، ورِدَّةٌ شديدةٌ في اتباع أحكامِ الجاهلية. * سقوطُ الخلافةِ في منظورِ العصرانيين: ° لقد تكالَبَ أعداءُ هذا الدين على إسقاطِ الخلافة؛ وكان من أهمِّ شروطِ اتفاقية "سايكس بيكو" 1915 م، عندما خَرَجت تركيا مهزومةً من الحرب: "أنِ اشترطَ الحُلفاءُ إلغاءَ نظامِ الخلافة وطَرْدَ السلطانِ العثمانيِّ خارجَ الحدودِ ومصادرةَ أمواله، ثم إعلانَ عِلمانيَّةِ الدولة" (¬2). ورَكَّز العصرانيون حَمْلَتَهم للتشكيكِ بنظام الخلافة، متَّبعِين في ذلك كبيرَهم الشيخ "علي عبد الرازق"، وجاء العصرانيُّون العلمانيُّون الجُدد ليُكمِلوا المِشوارَ ضمنَ حَلْقاتٍ من التآمُرِ ضدَّ الإسلام، وضِدَّ نظام الخلافة، وتحكيمِ الشريعة (¬3). ° ويقول "محمد أحمد خلف الله": "نِظامُ الحكم في الإسلام نظامٌ ¬

_ (¬1) "غزو من الداخل" جمال سلطان (ص 40) وانظر كتاب "التراث والتجديد" حسن حنفي (ص 69) طبعة 1980 القاهرة. (¬2) انظر "تاريخ الدولة العثمانية" علي حسون - المكتب الإسلامي بيروت ودمشق. (¬3) "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" د. محمد محمد حسين (2/ 83).

مصدرُه الاجتهاد وليس النصَّ .. وعلى الجماعاتِ الدينية أن تتركَ هذه القضيةَ لتكونَ مَحِلَّ اجتهادٍ جديد، والفِكرُ السياسيُّ في نظام الحُكم هو فِكرٌ بشريٌّ خالص، وتستطيعُ المؤسَّساتُ العِلميةُ -من أمثالِ كلياتِ العلومِ السياسية- أن تجتهدَ فيه" (¬1). ويَرى أنَّ النظامَ الملائمَ والحُكمَ الحضاريَّ هو "الديمقراطية"، والديمقراطيةُ التي نَقصِدُ هي الديمقراطيةُ الغربية، التي وَفَدت إلينا كعنصرٍ حضاريٍّ من عناصرِ الثقافةِ الإسلامية (¬2). ° ويزعُم الدكتور "محمد عمارة": "أنَّ اشتراطَ قُرَشِيَّةِ الخليفةِ كان تعبيرًا عن موقفٍ قوميٍّ عربيٍّ ضدَّ عُجْمَةِ الدولة، مُمَثَّلةً في رأسِ سُلطتِها وقائدِها الأعلى. وجديرٌ بالذِّكر أنَّ هذا الشرطَ لم يَظهرْ في الفِكرِ السياسيِّ الإسلاميِّ إلاَّ عندما بَدَأ تَغَلُّبُ الأُسَرِ الأعجميةِ والاتجاهاتِ الشُّعوبيةِ على الخلافةِ العربيةِ العباسية، وظَهَرت السيطرةُ المملوكيةُ التركيةُ على الدولة منذ عصرِ "المتوكِّل" العباسي" (¬3). وهذه مُغالطاتٌ عجيبة، إذ يناقِضُ صاحبُها حقائقَ التاريخ ونُصوصَ الحديثِ النبويَ الشريف. ¬

_ (¬1) "الاجتهاد والحكم في الإسلام" محمد أحمد خلف الله - مجلة العربي العدد 307 - رمضان - 1404 هـ. (¬2) مجلة اليقظة العربية القاهرية: العدد الأول السنة الأولى - نقلاً عن كتاب: "غزو من الداخل (ص 47) لجمال سلطان. (¬3) "الإسلام والعروبة والعلمانية": محمد عمارة (ص 18) - دار الوحدة بيروت 1405 هـ.

حقيقة دعوتهم في الحكم: علمانية جديدة

• قال - صلى الله عليه وسلم -: "الأئمةُ مِن قريش" (¬1). • وجاء في الحديث الشريف: "فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاءِ الراشِدِين المهديِّين مِن بَعدي" (¬2). وبعدَ كلِّ هذه الأحاديثِ يَفتري الدكتور "عمارة" فيقول: "إن اشتراطَ قُرَشِيةِ الخليفةِ كان تعبيرًا عن موقفٍ قوميٍّ عربيٍّ ضد الشُّعوبية"!!. * حقيقةُ دعوتهم في الحُكم: عِلمانية جديدة: يُصرِّحُ بعضُ العصرانيين بحقيقةِ دعوتهم في الحُكم وفَصلِ الشريعةِ عن قضايا المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويَدْعُون إلى عِلمانيةٍ مصبوغةٍ بمفهومهم عن الإسلام. فالدكتور "حسن حنفي" يرى أنَّ العلمانيةَ هي أساسُ الوحي (!!). ° ويقول: "نشأت العلمانيةُ استردادًا للإنسان، ولحُرِّيتِه في السلوكِ والتعبير، وحُرِّيتِه في الفهمِ والإدراك، ورَفضٍ لكلِّ أشكالِ الوِصايةِ عليه، ولأيِّ سُلطةٍ فَوقيةٍ، إلاَّ من سُلطةِ العقل والضمير (!!). العلمانية إذن هي أساسُ الوحي، فالوحيُ عِلمانيٌّ في جوهره، والدينيةُ طارئةٌ عليه مِن صُنع التاريخ تظهرُ في لحظاتِ تخلُّفِ المجتمعاتِ وتوقُّفِها عن التطوُر" (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح: رواه الإمام مسلم "كتاب الإمارة". (¬2) حسن صحيح: رواه أبو داود والترمذي وقال: "حسن صحيح". (¬3) "التراث والتجديد" (ص 69) د. حسن حنفي.

والإسلامُ عند د. "محمد عمارة" هو العِلمانيةُ ذاتُها، لا شأنَ للدينِ فيها بالحكمِ والقضاءِ والإمامةِ والسياسة. ° يقول: "إنَّ للدين مَفاهيمَ عُليا ومُثُلاً عليا، ثم للناس أن يُحدِّدوا وُيشرِّعوا ويطوِّروا حياتَهم وِفقَ المصلحةِ بعد ذلك" (¬1). ومِن ثَمَّ يرى كذلك أنَّ الإسلامَ قد قَرَّر الفصلَ بين "أُمَّةِ الدِّين" و"أُمَّة الدولة"، وأنَّ سُنَّته - صلى الله عليه وسلم - تنقسمُ إلى "سُنَّةٍ دينيةٍ مُلزِمة" و"سُنَّةٍ دنيويةٍ غيرِ مُلزِمة". "فالإسلامُ الدِّين" عند الدكتور عمارة: تَمَثَّلَ ويَتمثَّلُ في النصِّ القرآني، وفي السُّنةِ النبويةِ التشريعية التي جاءت تفصيلاً لمجملِ القرآن وشَرحًا لمُوجَزِه، وهذان المصدرانِ هما اللذان تجسَّدَا ثمرةً "للاجتهاد" في علومِ الوحيَ -أي: العلوم الشرعية-. هذا هو الإسلام الدين (!!). وهناك "الإسلام الحضارة" كما تَمَثَّل ويَتَمثَّلُ في ثمراتِ "العقل المسلم وتجرِبةِ المسلمين في مختلفِ نواحي الحياة الدنيا". ° ثم يقول: "فلم تكن الدولةُ هدفًا من أهدافِ الوحي، ولا مُهمةً من مهامِّ النبوَّة والرسالة، ولا رُكنًا من أركانِ الدين، وإنما اقتَضَتْها ضرورةُ حمايةِ الدعوةِ الجديدة، والدفاع عن المؤمنين ضدَّ اضطهادِ المشركين. فكان تأسيسُها وتدعيمُها إنجازًا سياسيًّا وحضاريًّا وقوميًّا حَفِظَ الدين، وساعَدَ على انتشاره، على الرغم من أنه ليس جُزءً أصيلاً من مهامِّ النبوَّةِ ¬

_ (¬1) "المعتزلة وأصول الحكم" د. محمد عمارة (ص 295).

والرسالة، ولا هو أصلٌ من أصول الدين" (¬1). هذه نفسُ آراءِ علي عبد الرازق وسادتِه من المستشرقين. ° ومن ثَم يقول: "إنَّ موقفَ "الإسلام الحضارة"، كان هو التطبيقَ في مجالِ السياسةِ والدولة لموقف "الإسلام الدين" الذي يُنكِرُ وجود "سُلطةٍ دينية" لبَشَرٍ خارجَ نطاقِ الموعظةِ والإرشادِ، والذي لم يُحدِّدْ نِطاقًا معيَّنًا للحكم" (¬2). * هذه تقسيماتٌ لم يَقُلْ بها أحدٌ قبلَ أن يَطلُعَ علينا أصحابُ "الاستنارة والتجديد"، وإلاَّ؛ فما الفرقُ بين مقولةِ النصارى: "دع ما لقيصرَ لقيصر، وما لله لله" وبين مقولتهم؟! وما معنى قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57]؟!. ° قال ابن كثير: "أخبَرَهم أنَّ الحُكمَ والتصرُّفَ والمشيئةَ والمُلْكَ كلَّه لله" (¬3) وهذا يَشملُ شؤون الحياة كلها -سياسةً أو غيرَ سياسية-، حتى الأعداءُ لم يُنكِروا أنَّ الإسلامَ دينٌ ودولة. ° قال المستشرق "فيتز جرالد": "ليس الإسلامُ دينًا فحسب، ولكنه نظامٌ سياسيٌّ أيضًا .. وإنَّ صَرْحَ التفكيرِ الإسلاميّ كله قد بُني على أساسِ أن الجانبَينِ متلازمانِ لا يمكنُ أن يُفْصَلَ أحدُهما عن الآخر" (¬4). ¬

_ (¬1) "الإسلام والعروبة والعلمانية" (ص 5). (¬2) المصدر السابق (ص 66). (¬3) "تفسير ابن كثير" (4/ 496). (¬4) "النظريات السياسية في الإسلام" محمد ضياء الريس.

محمد سعيد العشماوي، صاحب كتاب "أصول الشريعة" الذي خصصه لإثبات أن الشريعة الإسلامية قد أصابها التحريف والتغيير، ولذلك فهي لا تصلح للحكم في هذا العصر

فالعصرانيون بفَصْلِهِمُ الدينَ عن شؤون الدولة والحياة، يَدْعُون إلى عِلمانيةٍ قد يُسمُّونها "إسلامية"، ولكنها في الحقيقة أشدُّ بُعدًا عن الدينِ من العلمانية اللادينية -كما اتَّضح من تصريحاتهم السابقة واللاحقة-، إذ هنالك كُتَّابٌ معاصِرون حَمَلوا لواءَ العِلمانيةِ باسم "الإسلام" أيضًا .. من هؤلاء: * محمد سعيد العشماوي (¬1)، صاحب كتاب "أصول الشريعة" الذي خَصَّصه لإِثباتِ أن الشريعة الإِسلامية قد أصابها التحريفُ والتغييرُ، ولذلك فهي لا تصلُحُ للحكم في هذا العصر (!!): * ويتلخَّصُ مضمونُ الكتاب فيما يأتي (¬2): 1 - في أنَّ كلمة "الشريعة" غيرُ واضحةٍ في أذهانِ المسلمين، فهم يطالِبون بتطبيقها دونَ أن يَفهَموها، وقد وَقَع التغييرُ في مفهومِ الشريعة بين أهلِ الإسلام، مِثلَما وَقَع في مفهومِ التوراة لدى اليهود (!!). 2 - الارتدادُ عن الإسلام يأتي ضِمْنَ حُريَّةِ الاعتقاد، فلا يصحُّ إقامةُ الحدِّ على المرتدِّ، كما أنَّ رَجْمَ الزاني المُحصَنِ ليس من أحكام الدين الثابتة الباقية كحدٍّ شرعي (!!). 3 - الدينُ كاملٌ منذ "أوزوريس"، ومِن قَبلِ أن يُبعثَ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، والمرادُ بالآية القرآنية بإكمالِ الدين (¬3) إكمالُ شعائِرِ الحجِّ -لا الدينِ نفسه-، والشريعة تكتملُ بتطوُّرِها، ومُسايَرَتِها للتطوُّرِ الإنساني (!!). ¬

_ (¬1) العشماوي: هو رئيس محكمة الجنايات ومحكمة أمن الدولة العليا بمصر، والأستاذ المحاضر في "كلية أصول الدين والشريعة". (¬2) ينظر: مجلة البلاغ، في - 8 صفر - 1404 هـ (ص 37 - 38). (¬3) أي: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}.

4 - الخَمرُ مأمورٌ اجتنابُها فقط، دون التنصيصِ بتحريمها في القرآن (!!). 5 - إنَّ قَطْعَ اليدِ وَبتْرَ الأعضاءِ في العقوبة لا يُلائمُ رُوحَ الشريعةِ الإِسلامية (!!). ولا شكَّ أن إطلاقَ هذه الأحكامِ كُفرٌ صريح -كما سيأتى بيانه-. ° وممن سار على النهج نفسه: "فرج فودة" في كتابه "قبل السقوط" ومما جاء في هذا السقوط: - فصلُ الدينِ عن الدولة، باعتبار أن هناك فرقًا بين "الإسلام الدين" و"الإسلام الدولة" -كما يرى الكاتب-. - تعطيلُ الحدودِ الشرعية، حيثُ إن تطبيقَ الشريعةِ يَقودُ إلى دولةٍ دينية تحكُمُ بالحقِّ الإلهيِّ، فتطبيقُ حد الزنا -مثلاً- يترتَّبُ عليه مَنْعُ ملاهي شارع الهرم (!!). - خُصِّص الإسلامُ بالقضايا الرُّوحية، ويرفضُ الكاتبُ أن يكونَ الدينُ موجِّهًا للسياسة باسم الإسلام (¬1) (!!). يريدُ هؤلاء الكُتَّابُ حُكمًا عِلمانيًّا، وفي أحسنِ أحوالِه ديمقراطيًّا برلمانيًّا على طريقةِ الغرب في أن يكون للأُمَّةِ حقُّ التشريع .. يريدون أن يتلهَّوا بلُعبةِ الديمقراطية التي وضعها "تشرشل" حين ثار المصريُّون ثَورتَهم الوطنية عام (1919)، وكان وزيرًا في حكومةِ المحافِظين آنذاك، عندما سأل: "ماذا يريدُ المصريون؟! قيل له: يريدون أن يكونَ لهم برلمان ¬

_ (¬1) انظر: مجلة منار الإسلام - عدد رمضان - 1406 هـ (ص 150 - 152).

يقول "حسن حنفي

ودستور. فقال ساخرًا: أعطوهم لُعبةً يتلهَّون بها"!! (¬1). ها هو واقعُ "الديمقراطية الغربية" يَشهدُ بإفلاسِ شِعاراتِها عند التطبيق في مَنبعِها، فما بالُك بتطبيقِها في ديارِ المسلمين؟!. إن فَصْلَ الدينِ عن الدولة كان هَدَفًا أساسيًّا من أهدافِ حَمْلةِ التنصير والاستشراق، وها هو يُحقَّقُ على أيدي الأجيال التي رُبِّيت في محاضِنِ مدارسهم وساسَتِهم، منذ أوائل هذا القرن .. وكان إبعادُ هيمنةِ الدينِ عن الحياة مِن أخطرِ ما انزلق إليه المسلمون، حتى وَصَلوا إلى مَهاوِي الذُّلِّ والتمزُّقِ والهوان .. "ولن يَصلُحَ آخِرُ هذه الأُمَّةِ إلا بما صَلَح عليه أوَّلُها"، وهو الإسلام، ولعل دُعاةَ الإسلام الصادِقِين يُعيدون الأُمَّةَ إلى رُشدِها، وُيرجِعونها إلى التمسُّكِ في دينِها في جميع مجالاتِ الحياة" (¬2) اهـ. وانظر إلى قَيْئِ أفكارِهم وقُبْحِ كلامهم: ° يقول "حسن حنفي": "إن المصلحةَ أصلٌ مستقلٌّ في التشريع، وإنه لا سُلطةَ إلاَّ لضرورةِ الواقعِ الذي نعيشُ فيه، لقد أصبَحَ الواقعُ هو المجدِّدُ للاختياراتِ والقوانين، أما دَورُ الشرع، فثانويٌّ .. لأنَّ اختياراتِنا هي التي تحدِّدُ طبيعةَ القوانين، وذلك يعني أنَّ القوانينَ والأحكامَ المُنَزَّلةَ في القرآن، والواردةَ في السُّنَّة قابلةٌ للتأويل والتعطيل، ونحن في كلِّ ذلك نَستلهِمُ رُوحَ الشريعةِ ومقاصدَها .. ولَعلَّنا لا نكونُ بَعِيدِينَ عن الماديَّة التاريخيَّة إنْ لم ¬

_ (¬1) عن كتاب: "هلم نخرج من ظلمات التيه" للأستاذ محمد قطب -نشر دار الوطن للنشر- 1415 هـ (ص 47). (¬2) "العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب" (ص 274 - 284) لمحمد حامد النَّاصِر - مكتبة الكوثر.

نكنْ من أكبرِ ممثِّليها والداعِينَ إليها" (¬1). ° ويقول "حسن حنفي" عن التمسُّك بالنصوص من قرآنٍ وسُنَّةٍ: "لقد احتَمَيْنا بالنصوصِ، فجاءنا اللصوص" (¬2). والعبارةُ استعارها حنفي من الشاعر الماركسي الفلسطيني محمود درويش (¬3). وصار المهمُّ عنده مُسايرةُ روحِ العصر فقط، وتساوَتْ لديه النصوصُ الدينية في حُجِّيتها مع الأمثالِ العامِّيَّةِ والأغاني الشَّعبية (!!). ° يقول حسن حنفي: "ما يُهِمُّنا هو رُوحُ العصر، وما نَهتمُّ به هي مشاكلُ العصر؛ لذلك نَهتمُّ بالأمثالِ العامِّيَّةِ وبسِيَرِ الأبطال، كما نفعلُ تمامًا مع النصوص الدينية، ونهتمُّ بالأغاني الشعبية" (¬4). ° وانظر إلى كفريَّات الدكتور حسن حنفي في كتابه "قضايا معاصرة في فكرنا المعاصر"، فقد بَثَّ فيه الشكوكَ والإلحاد، ودعا إلى أن "الفِكرَ الغَيْبي" أقربُ إلى الأساطير منه إلى الفِكر الديني، وأنَّ قَصصَ آدمَ وحوَّاء والملائكةِ والشياطينِ كلُّها رموزٌ، أو جُزءٌ من الأدبِ الشَّعبي، ويرى أن العقلَ ما كان في حاجةٍ إلى الشرع؛ لأن الإنسانَ لا يَحتاجُ إلى الوحي، وأن ابنَ تيميَّة وابن القيم يؤمنانِ بوجودِ الجنِّ والشياطين، وهذا هو أحدُ وجوهِ ¬

_ (¬1) مجلة "اليسار الإسلامي" - العدد الأول (ص 15 - 21) حوار مع د. حسن حنفي. (¬2) "التراث والتجديد" (ص 119 - 120) لحسن حنفي - نشر مكتبة الجديد - تونس. (¬3) انظر "ظاهرة اليسار الإسلامي" لمحسن الميلي (ص 53 - 55). (¬4) "ما يعني اليسار الإسلامي" مقال لحسن حنفي - مجلة اليسار الإسلامي - العدد الأول.

الضَّعفِ في هذه المدرسة، وأن الإنسانَ لا يحتاجُ لكونه مُسْلِمًا إلى الإيمانِ بالجن والملائكة" (¬1). ° يقول حسن حنفي: "يُمكِن للمسلمِ المعاصر أن يُنكِرَ كلَّ الجانبِ الغيبِيِّ في الدين، ويكون مسلمًا حقًّا في سلوكه" (¬2). ° ويدعو إلى التجديد على مستوى اللغة والمصطلحات، ويرى حسن حنفي أن اللغةَ التقليديةَ في تراثنا قاصرة، وتتضمَّن عيوبًا كثيرةً منها: أنها لغةٌ إلهيَّة، تدورُ الألفاظُ فيها حَولَ "الله" .. بل إنَّ لفظ "الله" لا يُعبِّرُ عن معنًى مُعيَّنٍ، فهو "صَرخةٌ وجوديَّة" .. إذ أن "الله" عند الجائع هو الرغيف، وعند المُستعبَدِ هو الحريَّة، وعند المظلوم هو العَدْل، أي: أنه في مُعظَمِ الحالات "صرخةُ المضطهدين". ثم ينتهي "حنفي" إلى أنه لا يمكنُ إيصالُ أيِّ معنًى بلفظِ "الله"؛ لأن "الله" حوَى كثرةً من المعاني لدرجةِ أن يَدُلَّ على معانٍ متعارضة (¬3). فلا داعيَ إذن -طبقًا لهذا الكلام- إلى استعمالِ لفظ الجلالة، لِتَحُلَّ محلَّها كلماتُ: "الخبز، والحرية، والعَدْل، والحب، والإشباع، والإِنسان الكامل"!!!. ° يقول: "إن اللغةَ القديمةَ لغةٌ دينيَّةٌ تشيرُ إلى موضوعاتٍ دينيَّةٍ خالصةٍ مثل: "دين، ورسول، ومُعجِزة، ونبوة" .. وهي لغةٌ عاجِزةٌ عن إيصالِ ¬

_ (¬1) "قلاع المسلمين مُهدَّدة من داخلها" للدكتور محمد عبد القادر هنادي (ص 42). (¬2) "قضايا معاصرة في فكرنا المعاصر" للدكتور حسن حنفي (ص 91 - 93) - دار التنوير بيروت. (¬3) "التراث والتجديد" (ص 129) وما بعدها.

مضمونِها في العصرِ الحاضر (!!)، وهي -كذلك- لُغةٌ تاريخيةٌ صُوريَّةٌ مُجَرَّدةٌ .. ولذلك فاليسار يرومُ تأسيسَ لغةٍ جديدة تَستعملُ الألفاظَ التي يقبلُها العصر"!!. ° ويقول: "إنَّ في العصر ألفاظًا تجري مجرى النارِ في الهشيم، مثل: "الأيديولوجيا، والتقَدم، والحركة، والتغيُّر، والتحرُّر، والجماهير، والعدالة" .. وهي ألفاظٌ لها رصيدٌ نفسيٌّ لدى الجماهير، والتي يُمكنُ أن تُعبِّرَ عن ثقافةٍ وطنية" (¬1). ° "وهذه اللغةُ مفتوحةٌ وعقلانيةٌ، أما ألفاظ "الله" و"الجنة" و"النار" و"الحساب" و"العقاب"، فهي ألفاظٌ قطعيَّة صِرفة لا يمكنُ التعاملُ معها دونَ فهمٍ أو تفسير أو تأويل". ° ويضيف قائلاً: "بأن الألفاظَ يَجبُ أن يكونَ لها مُقابِلٌ في الواقع الحِسِّي، فألفاظ "الجن، والملائكة، والشياطين؛ بل والخَلْق، والبَعث، والقيامة" ألفاظٌ تَجاوَزَها الحِسُّ والمُشاهَدة، ولا يمكنُ استعمالُها؛ لأنها لا تُشيرُ إلى واقعٍ، ولا يَقبلُها كلُّ الناس. وفي نظر "اليسار" أنَّ ذلك سينقُلُ عصرَنا من مرحلةِ التمركز حولَ "الله" إلى مرحلة التمركز حول "الإنسان"، وتلك مُهَّمةُ التراث والتجديد في أوَّلِ محاولاتِه من أجل إعادِة بناءِ علم أصول الدين، على أنه علمُ الإنسان" (¬2). ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 140) وما بعدها. (¬2) "التراث والتجديد" (ص 140).

° أما المستشار "سعيد العشماوي" الكارهُ لشرعِ الله، المحطِّمُ لثوابتِ الإِسلام، فإنه هو المُتولِّي كِبْرَ العِلمانية في عصرنا. ° إنه "العشماوي" الدالُّ على الموت لفظًا ومعنًى .. الذي يُصرِّحُ بأن ما في القرآن الكريم من آياتِ الأحكام والتشريع هو من الضآلةِ بحيث ينفي عن الإِسلامِ وشريعتِه الاهتمامَ بالتشريع والقانون .. وبنصِّ عبارته قال العشماوي: "فإنَّ القرآن الكريم سِتَّةُ آلافِ آيةٍ، وما يتضمَّنُ منها أحكامًا للشريعة أو "تشريعات" في العبادات أو في المعاملات لا يَصِلُ إلى سَبْعِمِئةِ آيةٍ، منها حَوالَي مِئتي آيةٍ فقط هي التي تقرِّر أحكامًا للأحوالِ الشخصيةِ والمواريثِ أو للتعامل المدني أو الجزاءِ الجِنائي، أي أنَّ الآياتِ التي تُعَدُّ تشريعاتٍ "قانونية" للمعاملات هي مجردُ جزءٍ من ثلاثين جزءً من آيات القرآن (200/ 6000) بعضُها منسوخٌ ولا يُعْملَ به، أي أن الأحكامَ الساريةَ أقلُّ من واحدٍ على ثلاثين، وعلى وَجْهِ التحديد (80 آية)، أي (80/ 6000 = 1/ 75) " (¬1). ° ويقول: "كانت شريعةُ موسى هي الحق، فهي تَضَعُ الحدودَ مع الواجبات، وتُحدِّدُ الجزاءَ لكلِّ إثم، وشريعةُ عيسى هي الحبُّ، وشريعةُ محمدٍ هي الرحمة" (¬2). ° ويقول: "فرسالةُ محمدٍ ليست كرسالةِ موسى -رسالةَ تشريعَ-، وإنما هي رسالةُ رحمة، ورسالةُ أخلاق، بحيث يُعَدُّ التشريع صفةً تاليةً ¬

_ (¬1) "الإِسلام السياسي" للعشماوي (ص 35)، و"معالم الإِسلام" للعشماوي (ص 119، 168، 170). (¬2) "أصول الشريعة" للعشماوي (179، 180).

ثانويةً غير أساسية .. وإنَّ دَفْعَ رسالةِ محمدٍ لتكونَ رسالةَ تشريعٍ أصلاً وأساسًا - مع أنها ليست كذلك .. هو اتجاهٌ يَجعلُ من الإِسلام صِيغةً عربيةً لليهودية، أو اتجاهًا يَفهمُ الإسلامَ بمنطقِ الإسرائيليات" (¬1). وهذا جهلٌ منه، فإنَّ هذه الآيات ليست كلَّ آياتِ الأحكام، وإنما هي الآياتُ التي دلالتها على الأحكام دلالةٌ ظاهرة، لا التي تَحصُرُ الأحكام في القرآن الكريم". ° وبعبارةِ الزَّركشي: "لعلَّهم قَصَدوا بذلك الآياتِ الدالةَ على الأحكامِ دلالةً أوَّليَّةً بالذات، لا بطريق التضمُّنِ والالتزام". ° يقول شيخ الإِسلام ابن دقيق العيد: "إنَّ الأمرَ غيرُ منحصِرٍ في هذا العدد، بل هو مختلِفٌ باختلاف القرائحِ والأذهان، وما يَفتحُه اللهُ على عبادِه من وجوهِ الاستنباط" (¬2). ° ولقد صِيغَ هذا المعنى صياغةً واضحةً وحاسمةً، قالت عن القرآن الكريم: "إنه لا يخلو شيءٌ منه عن حُكمٍ يُستَنبط منه؛ ذلك لأنَّ الذين ذكروا أن الآيات التي تتعلَّق بالأحكام خَمْسُمئةِ آية، كأنهم أرادوا ما هو مقصودٌ به الأحكامُ بدلالةِ "المطابقة"، أم بدلالةِ "الالتزام" فغالبُ القرآن، بل كلُّه؛ لأنه لا يخلو شيءٌ منه عن حُكمٍ يُستنبَطُ منه" (¬3). ¬

_ (¬1) "الإِسلام السياسي" (ص 45). (¬2) "البحر المحيط" للزركشي (6/ 199) تحرير د. عبد الستار أبو غُدّة - طبع وزارة الأوقاف - الكويت. (¬3) "شرح الكوكب المنير" لابن النجار (4/ 460) - تحقيق د. محمد الزحيلي، د. نزيه حمّاد -السعودية-.

ومحمد عركون

° ومحمد عركون: العِلمانيُّ الجزائري، الذي يدعو إلى التعامُلِ مع الإِسلام والقرآنِ والسُّنَّةِ بالمقاييس الغربية، وبالاستفادة من المعطَيَاتِ التي خَلَّفها "ماركس ونيتشه" وغيرهما. ° يقول هذا المأفون: "إنَّ الفِكرَ الإسلاميَّ لا يمكنه أن يتهرَّبَ طويلاً!!! إنَّ فِعلَ الإيمانِ "الأرثوذكسي" (¬1) المحتسِب دومًا يقومُ على التأكيد بأن الدين يَرتكزُ على الوحي الذي أنزله الله للناس بواسطةِ الأنبياء، لكنَّ الواقعَ العِلميَّ الحديث يَنزعُ إلى أن فَرضَ فكرةِ أن الدين كلَّه من المجتمع، الله -سبحانه وتعالى- بذاته بحاجةٍ إلى شهادةِ الإنسان له!!! ". هل بعد هذا الكفرِ والوقاحة والجرأة على الله وقضاءٍ على الدين يتكلَّمون باسم "التنوير"؟!. ° ويقول مُسيلِمة العصر محمد عركون: "إن أشكالَ الإِسلام المدعوَّة "مستقيمة أو أرثوذكسية" (هكذا والله) كالاتجاه السُّنِّيِّ والشِّيعيِّ والخارجي (!!) الذي يدَّعي كلٌّ منها أنه يَحتكِر الإسلامَ الصحيح دونَ غيره، هي عبارةٌ عن انتقاءات اعتباطية (!!) واستخداماتٌ أيديولوجية لمجموعةٍ من الأفكارِ والعقائدِ والممارسات المقدَّمةِ والمصَوَّرة على أساسِ أنها دينيَّة محضة" (¬2). ° وُيلمِّحُ "عركون" إلى أن الماركسيةَ لم تأخذ حَظَّها في تقييمِ الإِسلام والحكمِ عليه!! وأنها ينبغي أن تكون منطلقًا لِعَلْمَنَةِ الإِسلام، فيقول: ¬

_ (¬1) يقصد السني الملتزم بالنصوص القرآنية المُقدِّس لها. (¬2) مجلة "الفكر العربي المعاصر" - (العدد 39).

ويصرح بإنكاره لأصول الإسلام

"نلاحظُ أن الماركسية لم تُعرف بصورتها الإيجابية حتى الآن، لا في الفكر العربيِّ المعاصر، ولا في الفكر الإسلاميِّ بشكلٍ عامٍّ، نفسُ الشيءِ يُمكنُ أن يُقالَ بخصوصِ نقدِ القِيَم التي قام به "نيتشه" تُجاهَ المسيحية، وهذا النقدُ قابلٌ للتطبيق على الإِسلام (!!) وإذا ما نَظَرْنا للتاريخ بكليَّة ضِمْنَ هذا المنظور، فإنه يُصبحُ ممكنًا تعبيدُ الطريق وتمهيدُه نحو ممارسةٍ علمانيةٍ للإسلام .. يمكنُ للعلمنة عندئذٍ أن تنتشرَ في المجتمعاتِ التي اتخذت الإسلامَ دينًا" (¬1). * ويصرّح بإِنكاره لأصول الإِسلام: ° يقول الأستاذ عبد السلام البسيوني: "ومن اللافت للنظر أيضًا إيهامُهم للقارئ أن الإسلامَ سَلَّم بكثيرٍ من التقاليد الجاهلية المتخلِّفة وقَبِلَها، لذلك فهم يَرفضونها ... وهذا واضحٌ في كلام "حسين أحمد أمين"، وفي كلام "محمد عركون" في أكثرَ من موضعٍ حين فسَّر بعضَ القرآن الكريم بطريقتِه الخاصَّة، واعتَبَر وضعَ المرأةِ وقضايا الجِنس والميراث من الجاهلية، وُيطالِبُ بإعادةِ النظر فيها بمعاييرَ جديدةٍ تُخالفُ المعاييرَ الجاهلية التي أقرَّها القرآن" (!!!). ° يقول في حديثٍ له بمجلة "لونوفيل أوبزر فاتور 7/ 2/ 1986": "إنَّ التفسير يَبقى دائمًا جائزًا، على شرطِ أن يُعادَ التفكيرُ في مسألةِ التنزيل على ضوءِ التاريخانية (!!) الحجاج مثلاً -ككلِّ ما يَمُتُّ إلى الجِنس، وإلى وضع المرأة في الإِسلام -ينتمي إلى قانونٍ عِرقيٍّ سابقٍ على الإِسلام، ¬

_ (¬1) "تاريخية الفكر العربي المعاصر" لمحمد عركون - مركز الإنماء القومي 1986.

ويدعو إلى قراءة القرآن قراءة نقدية من خلال منظور "نيتشه، وفرويد، وكارل ماركس"

الإسلامُ صادَقَ على تقاليدَ قديمةٍ متعلِّقةٍ بأسُسٍ قَبْلَه، وأعطاها بُعْدًا مُقَدَّسًا (!!) ويتعلَّقُ الأمرُ اليومَ بإعادةِ التفكير في هذه المفاهيم في ضوءِ التاريخ، وللأسف فإنَّ هذا العملَ في بدايةِ الإِسلام يُحكِمُ سيطرة الأيديولوجيا". * ويَدعو إلى قراءة القرآن قراءةً نقديَّةً من خلال منظورِ "نيتشه، وفرويد، وكارل ماركس": ° يقول مسيلِمةُ العصر "محمد عركون": "إنَّ إعادةَ قراءةِ القرآن من جديد قراءةً نقديَّةً متخصِّصةً -لا قراءةً أيديولوجيَّةً تقليديَّةً- هي الخُطوةُ الأولى التي لا بد منها من أجل فَهمِ المُناخِ الفكريِّ والنفسي للشخصيةِ العربية الإسلامية .. إنَّ هذه القراءةَ مضطرةٌ لأنْ نأخذَ في الاعتبارِ كلَّ المسارِ الفلسفيِّ والنقديِّ الذي قَطَعه الفِكرُ الغربي، ابتداءً من "نيتشه"، وانتهاءً "بفرويد"، مرورًا بطبيعة الحال "بكارل ماركس" .. " (¬1). ° وعلى نَفْسِ الخطِّ العلماني سار الماركسي "حسين أحمد أمين" مؤلف كتاب "دليل المسلم الحزين" ومفسِّرُ القرآن تفسيرًا ماركسيًّا والطاعنُ في ثوابتِ الأحكام الشرعية يقول: "لجأ الفقهاءُ والعلماءُ إلى تأييد كل رأيٍ يَرَونه صالحًا ومرغوبًا فيه؛ فهم يَصنعون أو "يُفَبْركون" الأحكامَ ويختلقونها بحديثٍ يرفعونه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬2). ° ويقول هذا "المستنير": "ومع أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يَدَّعِ قطُّ أنه معصومٌ من الخطأ إلاَّ حينَ يُملِي أو يتلو آياتِ ربِّه (!!) بل ونَبَّه القرآنُ إلى ¬

_ (¬1) "اليسار الإسلامي" (ص 41 - 42). (¬2) انظر "اليسار الإسلامي" (ص 33)، و"جولة في فكر محمد عركون" (ص 266).

محمد عابد الجابري وإنكار الوحي

أخطاءٍ بَدَرَتْ منه؛ فقد افتَرض أنصارُ الالتزام بالسُّنَّة (¬1) أن العنايةَ الإلهيَّة إنما كانت توجِّه كلَّ عملٍ أتى به، وكل كلمة صدرت عنه، منذ بَعَثه اللهُ رسولاً إلى قومه، إلى أن مات، ومن ثَمَّ فقد رأوا أنَّ أحكامَ السُّنَّةِ ملزِمةٌ في الحالاتِ التي لم يَرِدْ بصددِها نصٌّ قرآني". * محمد عابد الجابري وإِنكار الوحي: ° ويرى الدكتور محمد عابد الجابري: "أن الوحي سُلطةٌ مرجعيةٌ تُضايقُ الحاضر، وتُنافِسُ المستقبلَ والجديد"، فهو ينكرُ أن يكون هناك وحيٌ -وإن آمن به-، فهو يعتبرُه وليدَ زمانه، أي هو جزءٌ من التاريخ أو تجربةٌ تاريخية (¬2). * والدكتور محمد فتحي عثمان صاحب كتاب "الفكر الإِسلامي والتطور": ° يقول عن كتابه: "إنه محاوَلةٌ لمناقشةِ قابليَّةِ الإِسلام في أصوله للتطوُّر، ورصيدِ المسلمين التاريخيِّ في التطور، وللواقعِ المعاصر، واحتياجنا للوعي بحقيقةِ التطوُّر عندنا وعند غيرنا" (¬3). ويدعو إلى تقييد الطلاق، وتقييد تعدُّد الزوجات، وإلى الاختلاط، وتَرْكِ الحِجاب، والضابطُ لذلك كلّه هو "الظروف وواقع العصر" (!!). ° يقول: "إن قضيةَ المرأة وأشباهَها وثيقةُ الارتباط بواقعِ البيئةِ ¬

_ (¬1) يقصد جمهور أهل السنة والجماعة عن عصر الصحابة إلى أيامنا هذه. (¬2) انظر "الخطاب العربي المعاصر" لمحمد عابد الجابري (ص 55 - 56) نقلاً عن "ظاهرة اليسار الإسلامي" (ص 132). (¬3) "الفكر الإسلامي والتطور" (ص 75، 39) للدكتور محمد فتحي عثمان ط 2 الكويت - الدار الكويتية (1969 م).

هؤلاء في ميزان الإسلام

الاجتماعيَّةِ، والمجتمعُ الواحدُ يختلفُ من زمنٍ لآخر .. ولذلك يجبُ ألاَّ يُحمَّل "الدينُ" عِبءَ هذه الفوارقِ الطبيعيةِ الحتميَّة، بل أوْلى للجميعِ أن ينسِبوا هذه الأحكامَ الاجتهاديةَ لواقع العصر والبيئة" (¬1). * هؤلاء في ميزان الإِسلام: * محمد علي باشا، مؤسِّسُ العلمانية بمصر الحديثة: ° كتب محمد عبده في "المنار" 1902 م/ 1322 هـ بمناسبة مرور مئةِ سَنةٍ على تأسيس مُلكِ هذه الأسرة قال: "إن لمحمد علي ثلاثةَ أعمالٍ كبيرة، كان كلٌّ منها موضعَ خلافٍ -نافعًا كان أو ضارًّا- بالمسلمين في سياستهم العامة: 1 - تأسيسُ حكومةٍ مدينة في مصر "أي: علمانية"، كانت مقدِّمةً لاحتلالِ الأجانب لها .. ". ° وكتب الشيخ محمد عبده في العدد التالي مقالةً بإمضاء "مؤرِّخ" قال: "هذا يعني أن محمد عبده ومدرستَه لا ينْسَون مساوئَ محمد علي في نسخ الأحكام الشرعية وإعلانَه "العلمانية" في مصر، وهو أولُ مَن تجرَّأ في العالم الإِسلاميِّ على استبدالِ القوانين الأوربيَّة بالشريعة الإِسلامية، ولا ينسَون قِتالَه لخليفة المسلمين ممَّا يُعَدُّ "حِرَابة"، ولا ينسَون قضاءَه على دَولةِ السعوديين العربيَّةِ المسلمةِ المُصلِحة السَّلفية .. " (¬2). * عبد الرحمن الكواكبي، أول مَن نادى بفكرة "العلمانية" حسبَ مفهومها الأوربي الصريح: ° يقول الكواكبي: "يا قومُ -وأعني بكم الناطقين بالضادين غير ¬

_ (¬1) "الفكر الإِسلامي والتطور" (ص 222). (¬2) "معالم تاريخ الإِسلام المعاصر" لأنور الجندي (ص 184) - دار الاعتصام.

ساطع الحصري، فيلسوف القومية العربية الزائفة

المسلمين-، أدعوكم إلى تناسِي الإساءات والأحقاد، وما جناه الآباءُ والأجداد، فقد كَفَى ما فَعَل ذلك على أيدي المثيرين، وأُجِلُّكم من أن لا تهتدوا لوسائل الاتحادِ وأنتم المتنوِّرون السابقون فهذه أممُ "أوستريا وأمريكا" قد هداها العلمُ لطرائقِ الاتحاد الوطنيِّ دون الدينيِّ، والوفاقِ الجنسيِّ دون المَذْهبيِّ، والارتباطِ السياسيِّ دون الإداري .. ". ° "دَعُونا نُدبِّر حياتَنا الدنيا، ونجعلُ الأديانَ تحكُمُ الآخرة فقط (!!) دَعُونا نجتمعُ على كلماتٍ سواء، ألاَ وهي: فلتحيا الأمَّة، فليحيا الوطن، فلنحيا طُلَقاءَ أعِزَّاء" (¬1). * ساطع الحُصري، فيلسوفُ القوميَّة العربيَّة الزائفة: هو أول مسؤول عن التعليم العالي التركيِّ في الوزارة التي شَكَّلها الاتحاديُّون بعد سقوطِ الخلافة مباشرةً، وأوَّلُ مَن صَرَّح بأن قومِيَّة إسرائيل تقومُ على الدين، وأنَّ الإِسلامَ دينُ تعبُّدٍ .. ويُنكِرُ أنه نظامُ حياةٍ ومجتمعٍ، والحقيقةُ أنه ما ذَنْبُ العروبةِ والإِسلام إذا كان ساطعُ الحُصري غَربيَّ الفِكر والذَّوقِ، أعجميَّ النطق، يتجاهلُ أن لُغتَنَا لغةُ فِكرٍ وعقيدةٍ، وأن دِينَنا يجمعُ بين المادة والروح، وبين العقل والقلب، وبين الدنيا والآخرة. ° يقول الأستاذ أنور الجندي: "حَدَّثني الدكتور مختار الوكيل -مدير مكتب "الجامعة العربية" في "جنيف" -وهو رجل صادق مؤتَمَن-، أنه في خلال عَمَلِه زار الأستاذ ساطعَ الحصري في "سويسرا"، ورأى السيد "عبد الفتاح حسن" السفير المصري دَعْوَتَه إلى طعامٍ للغداء، فلمَّا قَدِم مع ¬

_ (¬1) "طبائع الاستبداد" لعبد الرحمن الكواكبي (ص 112 - 113).

طه حسين ومحو الهوية الإسلامية والتشكيك في القرآن والحكومة الإسلامية

الدكتور الوكيل حَيَّاه السفير المصري فقال: "مرحبًا بالمناضلِ الكبير في خِدمةِ العروبة والإِسلام"، وقد عَجِبَ الرجلان من ساطع الحصري الذي رَدَّ بعنفٍ وحِدَّةٍ: "عرب نعم .. إسلام لا .. أنا لاييك" .. وكلمة "لاييك" تعني: أن صاحبَها عِلماني أو لا ديني" (¬1). ولا تَعجَبْ، فقد كان أكبر أساتذته في مفهوم القوميَّات "ماكس مولر" و"نوردو" وهما فيلسوفان يهوديَّان قَصَدَا من وراءِ نظريةِ اللغة إلى إحياء القوميَّة اليهودية (¬2). * طه حسين ومحوُ الهُويَّة الإِسلامية والتشكيكُ في القرآن والحكومة الإِسلامية: ° طه حسين القائل: "لأمرٍ ما اقتَنَع الناس أن النبيَّ يجبُ أن يكونَ من صفوة بني هاشم، ولأمرٍ ما شَعُروا بالحاجة إلى إثباتِ أنَّ القرآنَ كتابٌ عربيٌّ مطابقٌ في ألفاظه للغة العرب". ° طه حسين التلميذُ الوفيُّ لـ "كازانوفا" الذي يَنسبُ القرآنَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويُنكِر الوحيَ والنبوَّة .. فإذا بطه حسين يسيرُ على نفس الخطِّ، ويقولُ في كتابه "الشِّعر الجاهلي" مشكِّكًا في القرآن: "ونحن لا نستطيعُ أن نَظْفَرَ بشيءٍ واحدٍ يُؤيِّد ما أشَرْنا إليه هو: أن الكتابَ شيءٌ غير القرآن، كان موجودًا قبلَ إنزال القرآن، والقرآن صورةٌ عربية منه، وقد أَخَذ صُورًا من قبلُ كالتوراة والإنجيل". ¬

_ (¬1) انظر "جيل العمالقة" للأستاذ أنور الجندي (ص 151 - 153). (¬2) انظر المصدر السابق.

° ويقول: "وإذن فالقرآنُ دِينٌ مَحِليٌّ، لا إنسانيٌّ عالَمي، قيمتُه وخَطَرُه في هذه المحليَّة وحدها، قاله صاحبُه متأثِّرًا بحياته التي عاشها وعاش فيها، ولذلك يُعَدُّ تعبيرًا صادقًا عن هذه الحياة، أمَّا أنه يُمثِّلُ غير الحياة العربيَّة، أو يرسُمُ هدفًا عامًّا للإِنسان، فليس ذلك بحقٍّ، إنه دينٌ بشريٌّ وليس وحيًا إِلهيًّا، والقرآنُ مُؤَلَّف، ومؤلِّفُه نبيُّه محمد، ويُمثِّل تأليفُه بأنه يمثِّل حياةَ العربِ المحدودةَ في شِبه الجزيرة في اتجاهاتِ حياتها المختلفة -السياسية والاقتصادية والدينية-". ° ويقول في محاضرةٍ له بكلية الآداب بقَصْرِ الزعفران (1927 - 1928) بعد ضَجَّةِ "الشِّعر الجاهلي": "ليس القرآنُ إلاَّ كتابًا كَكُلِّ الكتب الخاضعةِ للنقد، فيجبُ أن يُجِرَى عليه ما يُجرَى عليها، والعِلمُ يُحَتِّمُ عليكم أن تَصرِفوا النظرَ نهائيًّا عن قَدَاستِه التي تتصوَّرونها، وأن تعتبروه كتابًا عاديًّا، فتقولوا فيه كلمتَكم .. ويجبُ أن يختصَّ كلُّ واحدٍ منكم بنقدِ شيءٍ من هذا الكتاب، ويُبيِّنُ ما يأخذُه عليه". ° ويقول: "لا شكَّ أن الباحثَ الناقدَ والمفكرَ الحُرَّ الذي لا يُفرِّقُ في نَقدِه بين القرآن وبين أيِّ كتابٍ أدبيٍّ آخَرَ، حيث يلاحِظُ أن في القرآن أسلوبَينِ متعارضيْن لا يَربطُ الأولَ بالثاني صِلةٌ ولا عَلاقة، ممَّا يَدفُعنا إلى الاعتقادِ بأن هذا الكتابَ قد خضع لظروفٍ مختلفةٍ وتأثيرِ بيئاتٍ متباينة". فهو يقول ببشريَّةِ القرآن، وهذا كفرٌ أكبرُ مُخرِجٌ من المِلَّة بعد قيامِ الحُجَّة على صاحبه من قِبَل عُلماءِ الأمة. ° ومِن أخطرِ مَزَاعِمِه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أَحَبَّ "زينبَ بنتَ جَحْش"،

"على هامش السيرة" تهكم صريح

وهي زوجةٌ لزيدٍ، وهذا بهتانٌ عظيم (¬1). * "على هامش السيرة" تهكُّمٌ صريح: وَصَف الأستاذ "مصطفى صادق الرافعي" كتاب "على هامش السيرة" بأنه "تَهكُّمٌ صريحٌ". ° وقال الدكتور محمد حسين هيكل: "في رأيي أن لا تُتَّخَذَ حياةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - مادَّةَ الأدبِ الأسطوري، وإنما يُتَّخَذُ من التاريخ وأقاصيصِه مادةً لهذا الأدب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرتُه وعَصرة تتصل بحياةِ ملايين المسلمين جميعًا، بل هي فَلْذَةٌ من هذه الحياة، ومِن أعزِّ فَلَذاتِها عليها وأكبرِها أثرًا، واعلمْ أن هذه الإسرائيلياتِ قد أُريدَ بها إقامةُ "ميثولوجية إسلامية" لإفسادِ العقول والقلوب من سواد الشعب، ولتشكيكِ المستنيرين ودفعِ الرِّيبة إلى نفوسهم في شأنِ الإِسلام ونبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، وقد كانت هذه غايةَ الأساطير التي وُضِعت عن الأديانِ الأخرى، مِن أجل ذلك ارتفعت صيحة المُصْلِحين الدينيِّين في جميع العصور لتطهير العقائدِ من هذه الأوهام" (¬2). وهذا اتهامٌ صريحٌ من الدكتور محمد حسين هيكل للدكتور طه حسين في اتجاهه، وتحميلٌ له لمسؤوليةٍ من أخطرِ المسؤوليات، وهي إعادةُ إضافةِ الأساطير التي حَرَّر العلماء سيرةَ الرسول منها طوالَ العصور، وإعادتُها مرةً أخرى لِخَلْقِ جوٍّ مُعَيَّنٍ يُؤدِّي إلى إفسادٍ في عقولِ سواد الشَّعب، وتشكيكِ المستنيرين ودفع الرِّيبة إلى نفوسِهم في شأن الإِسلام ونبيِّه - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) "محاكمة فكر طه حسين" (ص 185، 187). (¬2) المصدر السابق (ص 189).

ولقد أشار الدكتور "محمد برادة" إلى أن طه حسين كَتَب على "هامش السيرة" تقليدًا لكتاب "على هامش الكتب القديمة" لـ "جيل لومتير". وقد ذكر الأستاذ عبد الله كنون في كتابه "التعاشيب" بأن كتاب طه حسين وُضع على نمط كتاب غَرْبيٍّ كتبه "ألفريد أورشيم" الأستاذ بجامعة أكسفورد تحت عنوان "على هامش سيرة المسيح". ° ويقول الأستاذ غازي التوبة: "إن طه حسين يُنَصِّبُ نفسَه إمامًا للأساطير اليونانية، ويَضعُ السيرةَ في مصافِّ "الإلياذة"، ويَطلبُ من المؤلِّفين والكُتَّابِ أن يَفتتِنوا في الحديثِ عنها افتتانَ أوربا بأساطيرِ اليونان، كي يُرضُوا مُيولَ الناس إلى السَّذاجة، وُيمتِّعوا عواطفَهم وأَخْيِلَتَهم، ولكن هل يتساوى الأثَرَانِ في المجتمعيْنِ: "الألياذة" في المجتمع اليوناني، و"السيرة" في المجتمع الإِسلامي؟! وهل كانت "السيرة" يومًا ما في التاريخ موضوعًا لتسليةٍ قصصيةٍ أو مباراةٍ لفظيَّة؟! " (¬1). ° ونَشرت مجلة "الشباب الجزائرية" (ذي القعدة عام 1352 هـ - 1934 م) تحت عنوان "دسائس طه حسين" قالت: "ألَّف طه حسين كتابًا أسماه "على هامش السيرة" -يعني السيرةَ النبوية الطاهرة-، فملأه من الأساطير اليونانية الوثنية، وكتب ما كَتَب في السيرة الكريمة على مِنوالها، فأظهرها بمَظْهَرِ الخرافات الباطلةِ وأساطيرِ الخيال، حتى يُخيِّل للقارئِ أن سِيرةَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما هي إلاَّ أسطورةٌ من الأساطير، وفي هذا من الدَّس والبُهت ما فيه" (¬2). ¬

_ (¬1) "محاكمة فكر طه حسين" (ص 188 - 189). (¬2) المصدر السابق 189.

موقف طه حسين العلماني من الشريعة الإسلامية

* موقف طه حسين العِلماني من الشريعة الإِسلامية: إن مقالَ طه حسين "بين العلم والدين" الذي نشره في مجلة "الحديث" عام 1927 هو بمثابة تقريرٍ كَتَبه الدكتور إلى أساتذته عُتاة التغريب، ليكشفَ لهم عن الخَطَرِ الذي يُواجِهُه تحتَ مادَّةِ "دِينِ الدولة الرسمي الإِسلام"، وفيه يكشفُ مفهومَه للإِسلام بأنه لا يَزيدُ عن أن يكونَ صلاةً وصِيامًا واحتفالاً بالمولد النبويِّ والأعيادِ الرسميِّةِ وإطلاقِ المدافعِ في رمضان وقيامِ المحمل إلخ .. (!!). أمَّا بالنسبةِ للنُّظُم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فإنه يدعو مصرَ إلى اعتناقِ النظرية الغربية، يرى أنه لا سبيل غير ذلك. ° يقول طه حسين في عِدائه للحكومة الإِسلامية والتشريعِ الإِسلامي: "لقد اعتَزَمْنا أمامَ أوروبا أن نذهبَ مذهبَها في الحُكم، ونسير سِيرتَها في الإدارة، ونَسلُكَ طريقَها في التشريع، والتَزَمْنا هذا كلَّه أمامَ أوربا، وهل كان إمضاءُ معاهدةِ الاستقلال ومعاهدةِ إلغاء الامتيازات إلاَّ التزامًا صريحًا قاطعًا أمام العالَم المتحضِّر بأننا سنسيرُ سِيرةَ الغربيِّين في الحُكم والإِدارة والتشريع؟! فلو هَمَمْنا الآن أن نعودَ أدراجَنا وأن تُحيَا النُّظُمُ العتيقة، لَمَا وَجَدْنا إلى ذلك سبيلاً". ° ويقول في "الفتنة الكبرى": "ليس من شكٍّ أن عَلِيًّا قد أخفَقَ في بَسْطِ خلافته على أقطارِ الأرض الإِسلامية، ثم هو لم يُخْفِقْ وحدَه، وإنما أخْفَقَ معه نظامُ الخلافةِ كلُّه" (¬1). ¬

_ (¬1) "الفتنة الكبرى" لطه حسين (2/ 155).

أما توفيق الحكيم

° وقال: "إنَّ الإِسلام لم يُغيِّرْ حياةَ العرب، وإنه بَقِيَ على هامشِ حياةِ المسلمين، وإنه لم يستطعْ أن يَفرِضَ حياةَ المسلمين بين أصحابِ الحضاراتِ الأخرى". * أما توفيق الحكيم: ° فقد قال عنه الأستاذ محمد المجذوب: "كُتُبُه أكبرُ شاهدٍ على تنكُّره لِمُثُلِ أُمَّتِه، حتى ما كان منها متَّصِلاً بالسيرة النبوية، ككتابه "محمد - صلى الله عليه وسلم -"، أو مسرحية "أهل الكهف"، وبه مَواطنُ دسائِسِه على الرسول". وتوفيق هذا أنكر رؤية الله يوم القيامة، ورَوَّج لنظرية "وحدة الوجود"، كما حاول أن يُسقِطَ إسقاطاتٍ عِلمانيةً وإلحاديةً رَوَّجَ لها الفِكرُ الوافد منذُ منتصفِ القرنِ الرابعَ عَشَرَ الهجريِّ، انطلاقًا من المفاهيمِ الكَنَسيَّة التي لا تتطابقُ بحالٍ مع فِكرنا الإِسلامي. توفيق الحكيم الذي قَصَرَ الإيمانَ على المعرفةِ، وألغى التلفُّظَ بمنطوقِ الشهادة، فهو عنده إيمانٌ تعبُّديٌّ لفظيٌّ لا معنَى له. ° وتوفيق الحكيم الذي خَوَّل لنفسِه أن يتكلَّمَ باسم الله "قُلْ على لساني ما تشاءُ على مسؤوليتك" (¬1). * زكي نجيب محمود: يَسخَرُ من الشريعة، ويَنتقِصُ من شأنِها، ويَصِفُها بأنها "قاصرةٌ ومجافية للعصر"، ويُطالِبُ بتخطِّيها في سبيل تحقيق المعاصَرة. ° وكتابه المعروف "خرافة الميتافيزيقا" إنكارٌ صريحٌ لمفهوم الغَيب الذي ¬

_ (¬1) انظر "جيل العمالقة" (205 - 217).

الدكتور زكي مبارك يشارك طه حسين في التشكيك في القرآن الكريم، وذلك في كتابه "النثر الفني"

جاء به الإِسلام، والادعاءُ بأنه خرافة .. وهو يفاخرُ بأنه يُمثِّلُ مدرسة الفيلسوف الأوربي الملحد المنكر للأديان "أوجست كُوْنت". وأثنى "زكي نجيب محمود" على "ابن الراوَندي" و"مَزْدك" و"ماني" و"الحلاَّج" و"الباطنية" و"الشُّعوبية" و"إخوان الصفا وتلاميذهم". ° وزكي نجيب محمود يَعتبرُ عُقوبةَ قطعِ اليدِ أمرًا وَحْشِيًّا يُهدِّدُ كرامةَ الآدميِّين .. ويُهاجمُ حجاب المرأة المسلمة. ° يقول الأستاذ أنور الجندي: "وإني لأسألُ الدكتور زكي نجيب محمود: هل يُؤمِن بالوحي؟ هذا هو مَقْطَعُ المفاصَلة بيننا وبينه، وإذا كان يُؤمنُ به فلماذا لم يُعلِن فسادَ منهجِ كتابه "خرافة الميتافيزيقا"؟!. ولماذا لا يؤمن بهذا الوحي الذي جاء به القرآن شريعةً ومنهجَ حياة؟ " (¬1). * الدكتور زكي مبارك يشارك طه حسين في التشكيك في القرآن الكريم، وذلك في كتابه "النثر الفني": لقد لَمَزَ زكي مبارك القرآنَ، وجارى المستشرقينَ الفرنسيين الذين دَرَسَ وأخذ عنهم في جامعة "السوربون" بباريس أثناءَ تحضيرِ أُطروحته للدكتوراة المُسمَّاة "النثر الفني في القرن الرابع الهجري"، حين ذهب الدكتور مبارك يُجاري آراءَ أساتذته، خاصةً منهم "المسيو مرسيه" و"ديموبين" .. فلم يَلبثْ زكي مبارك أن أعلنَ في "أطروحته" أن القرآنَ كتابٌ أرضيٌّ لا سماوي (كذا والله) .. فالقرآنُ عنده "أثَرٌ نثريٌّ جاهلي"!!! ¬

_ (¬1) انظر "جيل العمالقة" (188 - 201).

وأنا هنا لا أَتحاملُ عليه أو أُقَوِّلُه ما لم يَقُلْ، بل أكتفي بنقل أسطرٍ قليلةٍ مُوثقةٍ من كتابه "النثر الفني". ° قال: "فلْيعلم القارئُ أن لدينا شاهدًا من شواهدِ النثرِ الجاهلي يَصحُّ الاعتمادُ عليه -وهو القرآن-، ولا ينبغي الاندهاشُ مِن عَدِّ القرآنِ أثرًا جاهليًّا، فإنه من صُورِ العصرِ الجاهلي، إذ جاء بُلغتِه وتَصَوُّراتِه وتقاليدِه وتعابيره، وهو -بالرغم ممَّا أجَمع عليه المسلمون من تفرُّدهِ بصفاتٍ أدبيةٍ لم تكن معروفةً في ظنِّهم عند العرب - يُعطينا صورةً للنثر الجاهلي" (¬1). ° ويقول: "القرآنُ شاهدٌ من شواهِدِ النثر الفنيِّ، ولو كَرِه المُكابِرون، فأين نَضعُه من عهود النثر في اللغة العربية؟ أنضعُه في العهد الإِسلامي؟ كيفَ والإِسلامُ لم يكن موجودًا قبلَ القرآن حتى يغيِّر أوضاعَ التعابير والأساليب؟ فلا مفرَّ إذن من الاعترافِ بأن القرآنَ يُعطي صورةً صحيحةً من النثر الفني لعهد الجاهلية" (¬2). ° قال الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله -: "أراد الدكتور زكي مبارك أن ينالَ إجازتَه العلميَّةَ من "باريس"، فكيف يَصنعُ الدكتور الذَّكيُّ؟؟ رأى أن يَسوقَ ألفَ دليلٍ على أنه وَعَى جيِّدًا دروسَ أساتذته، وأنه اقتنع بالفكرةِ التي يُصرحون بها حينًا، ويلمِّحُون بها حينًا آخَرَ، فكرةِ أن القرآنَ مِن وَضْعِ محمد، وأنه ليس وَحْيًا مصونًا كالإِنجيل أو التوراة "كذا"، فاسمَع العبارات ¬

_ (¬1) "النثر الفني في القرن الرابع الهجري" للدكتور زكي مبارك (1/ 43) - دار الجيل - بيروت. (¬2) المصدر السابق (ص 44).

التي بَثَّها بَثًّا دنيئًا وسط مئتي صفحةٍ من كتابه "النثر الفني"، وتَمَلَّقَ بها مشاعرَ السادة المستشرِقين الذين يوجِّهون العلمَ والأدبَ لخدمةِ المستعمِرين ونصرةِ الصليبيين" (¬1). ° يقول الشيخ محمد الغزالي: "ولا ندري هل رَجَع الدكتور زكي إلى الله بعد هذا الكُفران المبين؟ أم مات على زَيغه؟ لقد كَتَب بعد هذا كتاباتٍ حسنةً في التصوُّف! وإن كان الرجلُ ظلَّ يُدمِنُ الخمرَ حتى صَرَعه "السُّكْر"، فقَضى على حياته وهو نشوان" (¬2). والقارئُ المسلمُ لا يَغُضُّ طَرْفَه، ولا يَنْسى إذا تَعلَّقَّ الأمرُ بلَمْزِ كتابِ ربِّه والحطِّ من منزلة الوحي الكريم (¬3). إنَّ هذا تكذيبٌ صريحٌ لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. ° ولقد انبرى للردِّ على الدكتور زكي مبارك الدكتور محمد أحمد الغمراوي ردًّا في فصولٍ مطوَّلةٍ نشرفها الرسالةُ المصرية في مجلد عام 1944 وفنَّد فيها ما قاله الدكتور زكي مبارك مِن: أولاً: دعوتِه إلى نقد القرآن. ثانيًا: إنكارِه إعجازَ القرآن. ثالثًا: أنه يكادُ يُصرِّحُ بأن القرآن من كلام البشر. ¬

_ (¬1) "الاستعمار أحقاد وأطماع" للشيخ محمد الغزالي (ص 228) - دار الكتب الإِسلامية - القاهرة. (¬2) المصدر السابق (ص 231). (¬3) مقالة بعنوان "زكي مبارك شارك طه حسين التشكيك في القرآن الكريم" - المجلة العربية - العدد 315 - السنة 28 - ربيع الآخر 1424 هـ/ يونيو 2003 م (ص 34 - 35).

رابعًا: أنَّ الأديانَ كلَّها من نَبْتِ البيئة ومِن وَضْع الأنبياء. ° يقول زكي مبارك محاولاً أن يصِف القرآنَ بكلِّ ما لا يُصَدَّق، وأنه نِتاجُ البيئةِ -كبُرَتْ كلمةً تخرجُ من فِيهِ إن يقولُ إلاَّ كَذِبًا-: "فمن الواجبِ أن يَتركَ الباحثون ذلك المَيدانَ الذي أولعوا بالجَرْي فيه -وهو عصر الدولة العباسية-، وأن يَجعلوا مَيدانَ النِّضال "عصرَ النُّبُوَّة" نفسَه، وأن يحدِّثونا ما هي الصِّلاتُ الأدبيةُ والاجتماعية التي وَصَلت إلى العرب من الخارج فأعطت نَثْرهم تلك القوَّة وذلك الزُّخرفَ اللذيْن تراهما مجَسَّمَيْنِ في القرآن؟ هنالك نعرف بالبحث: أكان القرآنُ صورةً عبقريَّةً أم تقليديةً". فهذا الكلام الصريحُ الذي لا يَقبلُ الشكَّ ولا التأويلِ أن زكي مبارك يرى أن القرآنَ من كلامِ العرب تأثَّر بما تأثروا به، أو يصحُّ أن يكونوا تأثَّروا به من صِلاتٍ أدبيةٍ واجتماعيةٍ أتتهم من الخارج، وأنَّ ما امتلأ به -في زعمه- من "الزخرف والصنعة المحكمة، ليس طبيعيًّا، ولكنه مُكتَسَبٌ مجلوبٌ من الخارج". ° وما معنى قول زكي مبارك: "ولا يُنكِرْ مُتَعَنِّتٌ أن القرآنَ وَضع للصلوات والدعوات ومواقفِ البكاء والخوفِ والرجاء سُورًا مسجُوعةً تماثِل ما كان يُرتِّله المتديِّنون من النصارى واليهود والوثنيِّين، ولا تَنْسَ أن الوثنيةَ كانت دينًا يؤمِنُ به أهلُه في طاعةٍ وخشوع، وكانت لهم طقوسٌ في هياكلهم، وكانت تلك الطقوس تؤدَّى على نحوٍ قريب ممَّا يفعلُ أهل الكتابِ من النصارى واليهود". ° وانظر إلى ما يقوله زكي مبارك: "انتفَعَ الصوفيةُ بسماحةِ الإِسلام، وهو دينٌ يأبى أن يكونَ بين المسلم وربِّه وسيطٌ، فقرَّروا أنهم أرفعُ من

محمد عبد الله عنان متطرف في تأييده لأتاتورك والهجوم على الشريعة الإسلامية

الأنبياء .. وهذا كفرٌ بظاهر القول، ولكنه في الجوهر غايةُ الإِيمان"!!!!. * محمد عبد الله عَنان متطرِّفٌ في تأييده لأتاتورك والهجوم على الشريعة الإِسلامية: كشف الشيخ مُحِبُّ الدين الخطيب في مجلة "الفتح" وِجهة محمدِ عبد الله عنان في تأييدهِ للصهيونية وتأييدِه لكمال أتاتورك، واشتراكه مع "سلامة موسى" في إنشاء أولِ حِزبٍ شيوعيٍّ في مصر. ° يقول محمد عبد الله عنان مهاجمًا موقف الشريعة الإِسلامية من المرأة -كما يدَّعي- في "مجلة الثقافة" (7 يوليو 1952) حيث يقول تحت عنوان: "المرأة والحقوق الدستورية": "لا محلَّ للاحتكامِ بشأنها إلى الدين .. تقول الحقيقة: إن هذا الاتجاهَ خاطئٌ من أساسِه، ولا مَحِلَّ له على الإطلاق، إنَّ تنحيةَ الدينِ أساسٌ في هذا الموضوع، سواءٌ لتوكيد التحريم أو الإِباحة، وإذا كانت مصرُ دولةً إسلاميةً، فليس معنى هذا أنها دولةٌ دينية، أو أنها دولة تُطبِّق أحكامَ الدِّين في سائرِ النواحي، فالنُّظُمُ الأساسيةُ والقوانينُ المدنية والجنائيةُ المصريةُ كلُّها نظُمٌ وقوانينُ تَطبَعُها الصفةُ الأوربية، ولا يُطبَّقُ في مصرَ شيءٌ من أحكام الشريعة الإِسلامية في العبادات والمعاملات أو الحدودِ بصورةٍ جبريَّةٍ، والقضاءُ الشرعي يُعتبر قضاءً استثنائيًّا بالنسبةِ للقضاء الوطني العام". ° ويَصلُ من هذه السمومِ والمغالَطاتِ كلِّها إلى أن يقول: "لا مَحِلَّ لأنْ يَحتلَّ الدين حُكمًا في مسائِلَ لا علاقةَ لها بالدين، ولا يَمَسُّ العقيدة، ولا مَحِلَّ إذًا لنرجعَ بمطالبِ المرأةِ السياسية والاجتماعية لأحكامِ الدين".

حسين فوزي من غلاة التابعين للحضارة الغربية

ولا ريبَ أن رأىَ عنان هذا فاسدٌ على إطلاقه؛ فإنَّ الإِسلام ليس دينًا بالمعنى اللاهوتي، ولكنه نظامُ مجتمعٍ ومنهجُ حياة؛ ولذلك كان له حقُّ تنظيم العلاقات الاجتماعية، وخاصةً ممَّا يتعلقُ بالمرأة والأسرة (¬1). * حُسين فوزي من غلاة التابعين للحضارة الغربية: ° مُجمَل دعوتِه التي رَدَّدَها أكثرَ من أربعين عامًا هي على الوجه الآتي كما لَخَّصَها لمجلة "الآداب" (إبريل 1962): "دَرَجتُ على حُبِّ الغرب والإيمانِ بحضارةِ الغرب، واستحالَ الحبُّ والإعجابُ إيمانًا لكلِّ ما هو غربيٌّ، لم يَعْتَوِرْ إيماني ضَعفٌ بضرورةِ الحياة الغربية .. وسِمةُ الحضارةِ الغربيةِ أن العقلَ فيها مطلَق". ° ويقول: "لا صِلَةَ للعقيدةِ الدينيةِ بمسائلِ الأمم". ° والدكتور حسين فوزي عِلمانيٌّ خبيثٌ مِن غُلاةِ التبَعيَّةِ للحضارةِ الغربية، وهو يُركِّزُ على جانبها الخاصِّ بالفنون والمسارح والموسيقى والرَّقص .. ويتابعُ طه حسين في الدعوة إلى نَقلِ كلِّ ما تُمثِّله هذه الحضارةُ "خيرِها شرِّها، وحُلوِها ومرِّها، وما يُحمد منها وما يُعاب" (¬2). * اليساري محمد مندور رئيس تحرير مجلة "الشرق" الشيوعية ودعوتُه إِلى فَصل الدين عن الدولة: ° كتب محمد مندور اليساري مقالاً بعنوان "الدين والتشريع" عام 1944 في جريدة "المصري" التي كان يعملُ بها، دعا فيه صراحةً إلى فصلِ ¬

_ (¬1) "جيل العمالقة" (ص 538 - 540). (¬2) المصدر السابق (ص 542 - 543).

نجيب محفوظ: والإساءة إلى "قاسم" في أولاد حارتنا

الدين عن الدولة، وضرورةِ سَنِّ القوانينِ الوضعيةِ التي لا ترتبطُ بالشريعةِ الإِسلامية، ولكنَّ الجريدة رَفَضَت نَشْرَه، وُيعَلِّق لويس عوض على دعوة مندور قائلاً: "وواضحٌ أن هذا الكلامَ الذي نَشَره مندور في 1944 مُؤَسَّسٌ على ذلك الركن الركين في الفلسفة الديمقراطية الليبرالية، وهو فصلُ الدين عن الدولة، وإقامة فِقهٍ دستوري وفقهٍ تشريعيٍّ على أساسٍ وضعيٍّ بدلاً من الأساس الثيوقراطي الذي كانت تقومُ عليه المجتمعاتُ الإقطاعية في العصور الوسطى". ونحن نرفضُ محمد مندور لرفضه للشريعة .. نرفضُه ونرفضُ فكره. * نجيب محفوظ: والإِساءة إِلى "قاسم" في أولاد حارتنا: بالرجوع إلى كتاب "جُوَّانيات الرموز المستعارة لكبار "أولاد حارتنا" أو "نقض التاريخ المديني النبوي" للدكتور عبد العظيم المطعني، يَرمِزُ نجيبُ محفوظ إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - بـ "قاسم" وإلى خديجة - رضي الله عنها - بـ "قمر". ° وأكبر المدافعين عن محفوظ وهو الأستاذ محمد جلال كشك يقول: "ولا شك أن قاسم يرمز إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). فماذا قال نجيب عن "قاسم": نَسَبَتْ إليه الرواية اختلاسَ ثمارِ الجوافة، والجَرْيَ في الطريقِ العامِّ وهو عارٍ تمامًا من ملابسه، مع تضاحُكِ الأطفال عليه!!!. وهذا افتراءٌ مَحضٌ وكذبٌ صارخ على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وصانَه من "العبث" في جميع مراحِلِ عُمره المبارك قبلَ البَعثةِ وبعدَها. ¬

_ (¬1) "أولاد حارتنا فيها قولان" لمحمد جلال كشك (ص 58) - الزهراء للإِعلام العربي.

° ثم جَعَلتْه الرواية "بيَّاع بطاطة" ينادِي على بضاعتِه ويقول وهو "يَزُق" عربة يد "كارو": "بطاطة العمدة" .. "بطاطة الفرن"!!. وهذا كذلك افتراءٌ خالص، وليس له سَنَدٌ من الواقع ولا من الوهم!!. - وجعلته الروايةُ مُغْرمًا بمعاكسةِ الفتياتِ، يترصَّدُهُنَّ في الطريق العامِّ قُبيلَ الغروب!!. - وجعلته الروايةُ كسولاً لا يُحِبُّ العمل، ويَخلُدُ إلى الراحةِ والدَّعَةِ حتى أكرهته السيدةُ "قمر" على العملِ في إدارة أملاكها!!. - ثم أجلسَتْه الروايةُ على "المقاهي" وسَقته الـ .. على الجُوزة. - ووصفت الرواية حَفلَ زفافه إلى "قمر" وصفًا مزرِيًا للغاية، كانت الخمورُ تجرِي فيه أنهارًا، وكلُّ المدعوِّين كانوا سُكارى ومساطيل!!. - وجَعلت الرواية "قاسمًا وقمرًا" يسيرانِ في ليلةِ زفافهما خلفَ راقصةٍ تتمايلُ وتهتزُّ وكأنها تُلقِي عليهما الدرس الأخير في العلاقات الـ .. !!. - وعَيَّرَتْه الرواية مَرَّاتٍ بأنه راعي غَنَم لليهود والنصارى وغيرهم!!. هكذا صَنعت الرواية مع خير خلق الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي تعلمُ عمَّن تتحدَّثُ جلالاً وعظمةً، وهيبةً ووقارًا؟!. إن الرواية تجارِي العِلمانية في تفسيرها المادِّيِّ للتاريخ -رَضيَ المؤلِّفُ أم لَم يرضَ-، وهي تُترجم في وضوح أنَّ كاتِبَها ساعةَ كَتَبَها كان زاهدًا في "الدين" كلَّ الزهد، مُعرضًا عنه كلَّ الإعراض، ضائِقًا به صدره، أعجميًّا به لسانُه، فراح يَشفِي نفسَه الثائِرة، وُيعبِّرُ عن آرائه في وحيِ الله الأمين، بهذه الأساليب الرمزية الماكرة، والحِيَلِ التعبريَّةِ الغادرة، رافعًا من شأن العِلمِ

أحمد لطفي السيد "أستاذ الجيل"!!

الحديث إلى مكانِ الثريَّا، واثِقًا فيه كل الثقة، حتى أجلَسَه في روايتِه على "عرْش الدَّيَّان" مناصرًا للعلمانية الجاهلة على دينِ الله القيِّم، ورسالتِه السامية (¬1). ونحن نُحيل القارئ إلى ما قاله سكرتير لجنة الجائزة في حفلِ التسليم باستوكهولم عام 1988 حيث أشار في غضون إطرائه على الرواية إلى ما تضمَّنته من مفهوم "موت الإله" (¬2). * أحمد لطفي السيد "أستاذ الجيل"!!: خَصْمُ العروبةِ والوحدةِ الإِسلاميَّة، وصاحبُ شعار "مصر للمصريين" والنَّعرةِ الفرعونيَّة، ويكفي في بيانِ عِدائه للهُويَّةِ الإِسلامية أنه كان يَصِفُ نصَّ الدستور على أنَّ الدينَ الرسمي للدولة هي الإِسلامُ بأنه: "النص المشؤوم" (¬3). ويَكفيه هذا عارًا يُلاحِقُه إلى يوم الدين. ° لقد ضاعت الأمةُ بين أستاذِ الجيل هذا وبين عميدِ الأدب العربي الذي قال: "إنَّ الدينَ الإِسلامي يجبُ أن يُعلَّمَ فقط كجزءٍ من التاريخ القوميِّ، لا كدينٍ إلهيٍّ نَزَل بَيَّنَ الشرائعَ للبشر، فالقوانين الدينيةُ لَم تَعُدْ تصلحُ في الحضارةِ الحديثة كأساسٍ للأخلاق والأحكام، ولذلك لا يجوزُ أنْ يَبقى الإِسلامُ في صميمِ الحياة السياسية! أو يُتَّخذ كمنطلقٍ لتجديدِ ¬

_ (¬1) "جوانيات الرموز المستعارة" (ص 208 - 229). (¬2) "الطريق إلى نوبل عبر حارة نجيب محفوظ" لمحمد يحيى ومعتز شكري (ص 6) - أمة برس للطباعة والنشر. (¬3) "هويتنا أو الهاوية" للشيخ محمد إسماعيل المقدم.

عبد الرزاق السنهوري، واضع القانون المدني الوضعي الذي حجب نور الشريعة

الأمَّة (!!)، فالأمة تتجدَّدُ بمعزلٍ عن الدين" (¬1). * عبد الرزاق السَّنْهوري، واضعُ القانون المَدَنيِّ الوَضعي الذي حَجَب نُورَ الشريعةِ: قَبْلَ وضعِه للقانون المَدَنيِّ والعمل به منذ سنة 1949، فإنَّ القانونَ المدنيَّ المصريَّ القديمَ الذي حَكمَ مِصرَ قُرابةَ سبعين عامًا من سنة (1883 م) إلى سنة (1949) هو قانون نابليون الفرنسي. ° ثم أتى عبدُ الرزَّاق السَّنهوري ليضعَ هذا القانون الذي انتَقل إلى كثيرٍ من الدولِ العربيَّة ليتولَّى السنهوريُّ كِبْرَ هذا، ويبوءَ بإثم هذا التشريع الوضعي. ° قال السَّنهوري: "إنَّ القانونَ المصريَّ الجديدَ ليُؤذِنُ بعهدٍ جديد، لا في مصرَ فحسب، بل أيضًا في البَلَدَينِ الشقيقيْنِ العَرَبيَّينِ: "سورية والعراق"، ويكفي أن يكونَ هذا الشرحُ للقانون المِصريِّ الجديد في الوقت ذاتِه شرحًا للقانون السُّوريِّ الجديد" (¬2). ° ومصادر هذا القانونِ المدني: القانون المدني الذي وَضَعه الصَّليبي "مانوري"، والتقنيناتُ التي أُخذ منها القانونُ الجديد كثيرة: "التقنينات اللاتينية -قديمها وحديثها-، فالقديمُ يأتي على رأسِه التقنين الفِرنسيُّ، ومعه التقنين الإيطاليُّ القديم، والتقنينُ الأسبانيُّ، والتقنين البرتغاليُّ، والتقنينُ الهولندي، والتقنينات اللاتينيةُ الحديثةُ تَشتملُ على التقنينِ التونسيِّ والمَرَاكِشِيِّ، والتقنينِ اللبناني، والمشروع الفرنسيِّ الإيطاليِّ، والتقنينِ ¬

_ (¬1) "علل وأدوية" للشيخ محمد الغزالي (ص 79 - 81). (¬2) "الوسيط" لعبد الرزاق السنهوري (1/ 9).

ومسائل من الفقه الإسلامي.

الإيطاليِّ الجديد، وتشتملُ على التقنيناتِ الجِرْمانية وأهمها: التقنينُ الألمانيُّ، والتقنينُ السويسري، والتقنين النِّمساوي .. ورَجَع أيضًا إلى التقنينِ البُولوني، والتقنينِ البرازيلي، والصِّيني، والياباني، وهذه التقنيناتُ استَقَتْ من المدرسة اللاتينية والجِرمانية" (1). ° ويقولُ واضع القانون: "مِن كلِّ هذه التقنينات المختلفةِ النزعةِ، المتباينةِ المناحي -ويبلغ عددُها عشرين تقنينًا- استَمدَّ المشروعُ ما اشتَمل عليه من النصوص، ولم يوضع نصٌّ إلاَّ بعد أن فُحصت النصوصُ المقابِلة في كلِّ هذه التقنينات المختلفة، ودُقِّق النظر فيها". * ومسائلُ من الفقه الإِسلامي. وهذا القانونُ لا يُمثِّلُ الشريعةَ الإِسلاميةَ بحالٍ من الأحوال: 1 - لأن التشريعَ الإِسلاميَّ واضعُه ربُّ العالمين، أما هذا القانونُ، فواضعُه الدكتور "عبد الرزاق السنهوري" المصري، والأستاذُ "إدوارد لامبير" الصليبي الفرنسي، وقد عاوَن في وضعه الصليبيَّانِ "استويت" و"ساس". 2 - أخذ واضعو هذا القانونِ أكثرَ من 85% من نصوصِه من قوانينِ الكُفَّار الصليبيِّين -كما سبق بيانه-، ولذلك نراه يُبيحُ أحكامًا حَرَّمتها الشريعةُ حُرمة قطعيَّة كالرِّبا والقِمار. 3 - النصوصُ القليلةُ التي أُخذت من الشريعةِ الإِسلامية والفقهِ الإِسلاميِّ روعِيَ فيها أن تكونَ متَّفقة مع المبادئ التي قام عليها القانون، فالقانون هو المُهيمِنُ على الشريعة الإِسلامية، يأخذُ منها ما يوافقه، ويَرفضُ

ما لا يتَّفقُ مع مبادئِه. ° يقول الدكتور السنهوري في هذا: "يُراعَى في الأخذِ بأحكامِ الفقه الإِسلامي التنسيقُ بين هذه الأحكامِ والمبادئ العامَّةِ التي يقومُ عليها التشريعُ المدني في جُملته، فلا يجوزُ الأخذُ بحكمٍ في الفقهِ الإِسلامي يتعارضُ مع مبدإٍ من هذه المبادئ، حتى لا يَفقِدَ التقنينُ المَدنيُّ تَجانُسَه وانسجامَه" (¬1). ° وفي ضَوءِ كلام الدكتور السنهوري يمكنُنا أن نَفهمَ مرادَه من جوابه على سؤالِ الشيخ "عبد الوهاب طلعت" باشا، فقد سأله الشيخ: "هل رجعتُم إلى الشريعة الإِسلامية؟ "، فقال السنهوري: "أوكَدُ لك أننا ما تركنا حُكمًا صالحًا في الشريعة الإِسلامية يمكنُ أن يوضَعَ في هذا القانون إلاَّ وضعناه" (¬2). فمَدى صلاحِ الحُكم الموجودِ في الشريعةِ الإِسلاميةِ للقانونِ المدنيِّ مبنيٌّ على موافقتِه للمبادئ التي بُني عليها القانونُ الوضعي!! وهل يَليقُ بالدكتور السنهوري أن يُقسِّمَ أحكامَ الشريعةِ إلى أحكامٍ صالحةٍ وأحكامٍ غيرِ صالحة، ويُنَصِّبَ نفسَه حَكَمًا يأخذُ منها ما يشاء ويَدعُ ما يشاء!!. ولاحِظْ قوله: "يمكنُ أن يُوضَعَ في هذا القانون"، لِتعلمَ أنَّ بَعضَ الأحكامِ التي يُمكنُ أن تكونَ صالحةً في رأيه لم يأخُذْ بها؛ لأنه لا يُمكنُ وَضعُها في ذلك القانونِ لمعارضةِ مبادئ القانونِ لها. ° وفي إجابةٍ أخرى للدكتور السنهوري على سؤالٍ من الشيخ ¬

_ (¬1) "الوسيط" (1/ 61). (¬2) "القانون المدني - الأعمال التحضيرية" (1/ 159).

عبد الوهاب طلعت قال الدكتور السنهوري: "لقد أخَذْنا كلَّ ما يمكن أَخْذه عن الشريعةِ الإِسلاميةِ، مع مراعاةِ الأصولِ الصحيحةِ في التقنينِ الحديث" (¬1). لاحِظْ في الإجابة قولَه: "كلَّ ما يُمكن أخذَه"، وقوله: "مع مراعاةِ الأصولِ الصحيحة في التقنين الحديث"؛ لتعلمَ أنه أقام نفسَه وأصولَ التقنين الحديثِ حاكمًا على شريعة الله، يأخذُ منها ما وَافَقَ أصولَ التقنينِ الحديث، ويتركُ ما خالَفَه، كأنما حُكْمُ الله وشَرعه متروكٌ لأحكام البشر وأهوائهم. * قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85]. ° وقد اقترح الدكتور السنهوري أن تكونَ المادَّة الأولى في القانونِ هكذا: "تَسري النصوصُ التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوصُ في لفظِها أو في فحواها. فإذا لم يُوجَدْ نصٌّ تشريعيٌّ يمكنُ تَطبيقُه، حَكَم القاضي بمقتضى "العُرف"، فإذا لم يوجَد، فبمقتضى مبادئ الشريعةِ الإِسلاميةِ الأكثرِ ملاءمةً لنصوصِ هذا القانون .. " (¬2). فهو يريدُ تقييدَ القاضي عندما لا يجدُ نصًّا في القانون ولا في العُرف فيأخذ من الشريعةِ، أن يكونَ أخذُه من الشريعة محكومًا بالمبدإ الأكثرِ ¬

_ (¬1) المصدر السابق (1/ 159). (¬2) المصدر السابق (1/ 190).

ملاءمة لنصوصِ القانون، فيَجعلُ القانونَ هو الحاكمَ والمهيمنَ على الشريعةِ الإِسلامية، وفي هذا ما فيه. ° والمادةُ الأولى من القانونِ المدنيِّ تقول: "تَسري النصوصُ التشريعيةُ على جميعِ المسائل التي تتناولُها هذه النصوصُ في لفظِها أو في فحواها، فإذا لم يوجَدْ نصٌّ تشريعيٌّ يُمكن تطبيقُه، حَكَم القاضي بمقتضى "العُرف"، فإذا لم يوجد فبمقتضى الشريعةِ الإِسلامية، فإذا لم يوجَد فبمقتضى القانونِ الطبيعيِّ وقواعِدِ العدالة" (¬1). وهذه المادةُ تُحرِّمُ على القاضي الرجوعَ إلى الشريعة الإِسلامية التي ألزَمَ اللهُ الحُكَامَ المسلمينَ بتحكيمِها -ما دام الحكمُ منصوصًا عليه في القانون المدنيِّ الوضعي-، فإذا لم نَجِدِ الحكمَ في نصوصِ القانونِ، فيُوجِبُ علينا واضعُه الرجوعَ إلى "عُرف البشر"، ويَجعلُ أعرافَ البشر مقدَّمةً على أحكامِ الشريعةِ الإلهيَّة!! ثم يَمُنُّ علينا واضعُ القانونِ بأنْ جَعَل الشريعةَ الإِسلاميةَ المَصْدَرَ الثالثَ، ويَمُنُّ علينا أنه قَدَّمها على القانونِ الطبيعيِّ وقواعِدِ العدالة!!. ° يقول الدكتورُ السنهوري في هذا: "الشريعةُ الإِسلاميةُ هي المصدرُ الثالثُ للقانونِ المَدَني المِصري، وهي إذا أتت بعدَ النصوصِ التشريعيةِ والعُرف، فإنها تَسبقُ مبادئ القانونِ الطبيعيِّ وقواعد العدالة" (¬2)!!. وكونُها تَسبقُ مبادْئَ القانونِ الطبيعيِّ وقواعِدَ العدالة ليس مبرِّرًا لأَنْ يسبقَها التشريعُ الذي أُخذت معظمُ نصوصُه من القوانين الوَضْعِية وأعرافِ ¬

_ (¬1) "القانون المدني - الأعمال التحضيرية" (1/ 182). (¬2) "الوسيط" (1/ 59).

البشر التي كثيرًا ما تكونُ أعرافًا خاطئةً. ° ونحنُ نَرفضُ قولَه بعد ذلك: "ولا شكَّ أن ذلك يَزيدُ كثيرًا في أهميَّةِ الشريعة الإِسلامية" (¬1). ° ونرفضُ قولَه: "وَيجعلُ دراستَها دراسةً علميةً في ضَوءِ القانون المقارَن أمرًا ضروريًّا، لا من الناحيةِ النظرية فحسب، بل كذلك من الناحية العلمية التطبيقية" (¬2)!!. أمَّا أولاً: فلأَنَّ جَعْلَ الشريعةِ الإِسلاميةِ المَصْدَرَ الثالثَ ظُلْمٌ للشريعة الإِسلامية وانتقاصٌ من حقِّها، وتقديمٌ لقوانينِ البشر وأعرافِهم على شريعةِ ربِّهم، لا كما يقول السنهوريُّ من أنه يَزيدُ من أهميتها!!. ثانيًا: لأنَّ الشريعةَ الإِسلاميةَ لا تُدْرَسُ في ضَوءِ القانونِ المقارَن بحيث يُهيمنُ عليها، ويَنتقصُ منها، وهي الشريعةُ التي أُنزلت حاكمةً على الشرائع كلِّها والقوانينِ والكُتبِ السماويةِ السابقةِ وغيرِ السماوية. وثالثًا: لأنَّ النتيجةَ التي يُمكنُ تَحقيقُها من وراءِ كلِّ هذا محدودةُ الأهمية، بل تكادُ تكونُ سَرابًا -كما يقول الدكتور "توفيق فرج" أحد رجال القانون-، وُيعلِّلُ ذلك بقوله: "ذلك أن التشريعَ في الدولةِ الحديثةِ يكادُ يَستوعبُ كلَّ شيء، وإذا وُجد مجالٌ يُحتمل أن تقومَ فيه بعضُ الثغرات، فإن العُرفَ من وراءِ التشريع مُحيط به في شِبْهِ شُمولٍ، ولا يَبقى لمبادئِ الشريعةِ إلاَّ النَّزْرُ اليسير" (¬3). ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) المصدر السابق. (¬3) "المدخل للعلوم القانونية" للدكتور توفيق فرج (ص 279).

كيف جعلت الشريعة الإسلامية المصدر الثالث؟!

ويَرى أيضًا: "أنَّ الدَّورَ الذي يُتركُ لمبادئِ الشريعةِ يزدادُ انكماشًا -إذا أُخِذَ بما يَتَّجهُ إليه البعضُ مِن أنه لا يُلْجَأُ إلى مبادئ الشريعةِ الإِسلامية كمصدرٍ للقانون- إلاَّ إذا لم تكن تلك المبادئُ تتعارضُ مع المبادئ العامةِ التي يقوم عليها التشريعُ المَدنيُّ في جُملته" (¬1). ° ثم يَنقُلُ عبارةَ الدكتور السنهوري الذي يَرى هذا الرأيَ، والتي يقول فيها: "فلا يجوزُ الأخذُ بُحكمٍ في الفقه الإِسلاميِّ يتعارَضُ مع مبدإٍ من تلك المبادئ، حتى لا يَفقِدَ التقنينُ المَدَنيُّ تجانُسَه وانسجامَه" (¬2). * كيف جُعلت الشريعةُ الإِسلاميةُ المصدرَ الثالث؟!: ° على الرَّغم من أنَّ جَعْلَ الشريعةِ الإِسلاميةِ المصدَرَ الثالث الذي يَرجعُ إليه القاضي غيرُ مقبولٍ بحالٍ من الأحوال، فإنَّ واضِعِي القانونِ لم يتكرَّموا بوضعها ابتداءً، فقد كان نصُّ المادَّةِ في المشروع التمهيديِّ هكذا: "تَسري النصوصُ التشريعيةُ على جميعِ المسائلِ التي تتناولُها هذه النصوصُ في لفظِها أو في فحواها .. فإذا لم يُوجَدْ نصٌّ تشريعيٌّ يمكنُ تطبيقُه، حَكَم القاضي بمقتضى "العُرف"، فإذا لم يَوجد، فبمقتضى مبادئ القانونِ الطبيعيِّ وقواعِدِ العدالة. ويَستلهِمُ في ذلك الأحكامَ التي أقرَّها والفقهَ -مصريًّا كان أو أجنبيًّا-، وكذلك يَستلهمُ مبادئ الشريعةِ الإِسلامية" (¬3). ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) "الوسيط" للسنهوري (1/ 49). (¬3) "القانون المدني - الأعمال التحضيرية" (1/ 182).

دعوى موافقة القانون المدني للشريعة الإسلامية!!

وهذه المادةُ جَعلت الشريعةَ الإِسلامية في الذيلِ كما ترى!!. وعندما طُبع مشروعُ القانون، ووُزِّعَ على الهيئاتِ القضائيةِ والقانونية، وتَحدَّثتْ عنه الصحفُ في الديار المصرية: طالَبَ الشعبُ المصريُّ أن تُجعلَ الشريعةُ الإِسلاميةُ المصدَرَ الرسميَّ الوحيدَ لكلِّ تشريعٍ يَصدُرُ في البلاد .. ولَم تُستَجَبْ رَغبةُ الشَّعب، وفرض عليه القانونُ الذي أُخِذ أربعةُ أخماسِهِ -أو أكثرُ- من القوانينِ الكافرة، وحاوَلَ الذين وضعوه وناقَشوه استرضاءَ الرأيِ العامِّ، بجَعلِ الشريعةِ الإِسلاميةِ المصدَرَ الثالث، يَرجعُ إليها القاضي حينما لا يَجِدُ مرادَه في نصوصِ القانونِ ولا العُرف (¬1)!!. * دعوى موافقةِ القانونِ المَدَني للشريعةِ الإِسلامية!!: زَعم واضعُ القانونِ المَدَنيِّ أنَّ نصوصَه موافقة للشريعةِ الإِسلامية، ولا تعارُضَ بينهما!!. ° يقول في "المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي": "ما وَرَد في المشروع من نصوصٍ يُمكنُ تخريجُه على أحكام الشريعةِ الإِسلاميةِ دونَ كبيرِ مشقَّةٍ، فسواءٌ وُجد النصُّ أم لم يُوجَدْ، فإنَّ القاضيَ بين اثنين، إما أنه يُطبِّقَ أحكامًا لا تتناقَضُ مع مبادئ الشريعةِ الإِسلامية، وإما أنه يُطبِّقُ الشريعةَ الإِسلاميةَ ذاتَها" (¬2). والدكتور السنهوري يتناقَضُ مع نفسِه، ففي المناقشة التي جَرَت بينه وبين الأستاذ الدكتور "حامد بك زكي" أستاذِ القانون المَدَني في كلية الحقوق ¬

_ (¬1) "المدخل" لعلي علي منصور (ص 103). (¬2) "القانون المدني - الأعمال التحضيرية" (1/ 20).

بجماعة فؤاد، قال الدكتور السنهوري: "المشروع في أساسِه وفي بعضِ نصوصه يَتَّفق مع أحكامِ الشريعة الإِسلامية" (¬1). فهو هنا يقول: "إنَّ القانونَ متَّفقٌ مع الشريعة في بعضِ أحكامه لا كلِّها". ° وأُحبُّ أن أنقُلَ للقاريء الكريم شيئًا من المناقشة التي جَرَت بين "حامد بك" و"السنهوري" في "مجلس الشيوخ المصري". - قال حامد بك زكي: إن الجزءَ العامَّ في القانون خاصٌّ بنظريةِ الالتزامات ومصادرها، وهذا الجزءُ -على ما أذكر- قد تناولته المواد من (91 إلى 450)، فهو كلُّه أوربيٌّ أي: رُومانيٌّ. - معالي السنهوري باشا: إنه قضاءٌ مِصريٌّ متَّفق مع الشريعة الإِسلامية (¬2). - حامد بك زكي: أنا عندما أقول: "إنه أوربي"، إنما أعنِي بذلك أنه رُوماني. - معالي السنهوري باشا: قلْ ما شئت، والمهمُّ أنني أقول: إن هذا إنما هو قضاءٌ مصري. - حامد بك زكى: أُريدُ أن أصلَ إلى القولِ بأن الأحكامَ الخاصَّةَ ¬

_ (¬1) المصدر السابق (1/ 90). (¬2) هذا الاتفاق لا قيمةَ له، فإن الشريعةَ الإِسلاميةَ وِحدةٌ منسجمة مستقلَّة، وما يلاحَظُ بينها وبين غيرها فإنما هو اتفاقٌ عَرَضي، ثم إن هذه القوانين -كما يقول الدكتور محمد عبد الجواد- مهما نُقلت أو اقتُبست من الشريعة لا تزال تحتفظُ بأصولها الأجنبية، راجع "بحوث في الشريعة والقانون" (ص 39).

بالعقودِ إنما هي تطبيقاتٌ للأحكامِ الواردة في باب الالتزامات تحت اسم "العقود"، وأنا -من هذه الناحية- أُعلِن صراحةً أن المشروعَ إنما هو مشروعٌ أوربيٌّ بَحْتٌ، وأُعلِن أنني أوافقُ على هذه الفِكرة، ولكنْ أُريدُ أن أَصِلَ إلى القولِ بأنَّ الشريعةَ الإِسلاميةَ قد رُجعَ إليها في بعضِ المسائِل الخاصَّة باستلهامِ بعض أحكامها. - الرئيس: إذا نظرنا إلى العلاقاتِ بين الأفراد منذ الخليقةِ الأبديَّة، نَجِدُ أن فلسفةَ الحياة الموضوعيةَ تتقارب (¬1). ° لقد كان حامد زكي صريحًا عندما أَعلن أمرين: الأول: أن القانونَ المدنيَّ قانونٌ أوربيٌّ رومانيٌّ بَحْتٌ. والثاني: أنه راضٍ عن هذا، وأنه لا يَرضى بأن تكونَ الشريعةُ الإِسلاميةُ مصدرًا للتشريع، وقد وَضَّح رأيه هذا في بقية المناقشة. أما الدكتور السنهوري، فإنه يريد أن يَجعلَ القانونَ المأخوذَ من القوانين الأوربية موافقًا للشريعة الإِسلامية (¬2). لقد كان رجالُ القانونِ الذين وَضعوا هذا القانونَ يَعرِفون أن القانونَ بعيدٌ عن الشريعة الإِسلامية، ولكنهم كانوا يخافون من ثورةِ الأمةِ وانتقادِ العلماء. ¬

_ (¬1) "القانون المدني - الأعمال التحضيرية" (1/ 91). (¬2) هذا الذي قام به السنهوري لا يأبى أضل أهل الأرض عن القيام به، فالكفار لا يمتنعون من الاقتباس من الشريعة، فالمستشرق "سانتيدانا" وضع الكثير من قواعد فقه المذهب المالكي في "مجلة الالتزامات والعقود التونسية" التي صدرت سنة 1906 في عهد الاحتلال الفرنسي.

العلماء الأوربيون يقررون ألا لقاء بين القانون الأوربي والإسلامي

° يقول رئيس: "اللجنة القانونية لمجلس الشيوخ" لدى مناقشةِ مشروع القانون (¬1): "وقد قُلنا كلُّنا: إنَّ إغفالَ الشريعةِ الإِسلاميةِ من شأنِهِ أن يَعملَ هيجانًا كبيرًا في الأفكار، ولَمَّا وَجَدْنا أن المشروعَ لا يقولُ بما يخالِفُ الشريعةَ الإِسلامية قلنا: نُقدِّمُ الشريعةَ الإِسلاميةَ على القانون الطبيعي" (¬2). فالتقديم للشريعة إنما كان خَشيةَ هياج الأفكار!!. * العلماءُ الأوربيُّون يقرِّرون ألاَّ لِقاءَ بين القانونِ الأوربيِّ والإِسلاميِّ: لا يَجوزُ لِمُنْصفٍ صادقٍ في حديثهِ أن يَزعُمَ أن قانونًا أُخذت أصولُه من القانونِ الرومانيِّ، وأُخذت نصوصُه مِن أكثرَ من عشرينَ قانونًا أوروبيًّا: أنه قضاءٌ يتفقُ مع الشريعةِ الإِسلامية، يقول "فتزجيرالد" Fitz Gerald - وقد كان أستاذَ القانونِ الإِسلامي في مدرسة "الدراسات الشرقية والإفريقية بلوندرا"-، يقول في مقالٍ نَشَره في مجلة "القانون الفَصْلية الإنكليزية" عدد يناير 1951 م: "الواقعُ أن النِّظامَينِ -الروميَّ والإِسلاميِّ- متضادَّانِ إلى حدٍّ لا يمكنُ معه التوفيقُ بينهما فيما يتعلَّقُ بالمسائل الأساسية، وهي المأخَذُ الصحيحُ للقانون، فالقانونُ الإِسلاميُّ هو قانونُ اللهِ المُشرِّعُ الوحيد، ولا سُلطةَ لأيِّ أميرٍ في وَضْع القوانين، ومَشيئةُ العوامِّ لا اعتبارَ لها، إلاَّ إذا مَثَّلت إجماعًا عامًّا كافيًا" (¬3). ¬

_ (¬1) "القانون المدني - الأعمال التحضيرية" (1/ 92). (¬2) هذا هو الدافع لوضع المادة التي جعلت الشريعة المصدر الثالث، أفيليق بالسنهوري ورجال القانون أن يملئوا الدنيا ضجيجًا بأنهم أنصفوا الشريعة؟! ولسان حالهم بل لسان المقال يقول: مُكرهٌ أخاك لا بطل. (¬3) انظر كتاب "هل للقانون الرومي تأثير على الفقه الإِسلامي" (ص 165).

° ويقول أيضًا: "الشريعةُ -كما ذكرنا مِن قبلُ- تختلفُ اختلافًا أساسيًّا عن القانون الرومي -سواء في طبيعتِها، أو في غَرَضها-، فالقانونُ الروميُّ -حتى في خالِصِ ناحيتِه المجرَّدة والعِلميَّة- ليس إلاَّ قانونَ العلماءِ القانونيين، أو كما يُقال في المثل اللاتيني: "كلُّ قانونٍ وُضع، فإنه وُضع بسبب إنسان"، أمَّا القانونُ الإِسلاميُّ، فهو -أولاً وقبلَ كلِّ شيءٍ - نظامُ أهل دينٍ يُطبِّقُون الأحكامَ (الموجودة) على الوقائع، وغَرَضُهم وَصْلُ كلِّ نَفْسٍ إنسانيةٍ بالله تعالى .. " (¬1). إنَّ الفقهَ الإِسلاميَّ -وهو قانونُ المسلمين- جُزءٌ من الدينِ الإِسلاميِّ لا يَنْفَكُّ عنه .. أمَّا القانونُ الوضعي، فهو عِلمٌ ماديٌّ من أمورِ الدنيا. ° يقول المستشرق الإيطالي "نالينو" Nallino: " جَعَل المسلمون الفِقهَ جزءً من عِلم الدين لا يَنفكُّ عنه، ولم يَجعلوه عِلْمًا ماديًّا من أمورِ الدنيا" (¬2). ° ولقد تَصَدَّى الشيخُ حَسن الهُضيبي - رحمه الله - لهذا القانون في "مجلس الشيوخ المصري" لدى مناقشته سنة 1948 م، وكان فارسَ الدفاع عن الشريعة الإِسلامية، وقال: "اعتقادِي في أنَّ التشريعَ في بلادنا كلِّها -وفي حياتِنا جميعًا- يجبُ أن يكونَ قائمًا على أحكام القرآن، وإذا قلتُ: "القرآن"، فإنِّي أعنِي كذلك -بطبيعةِ الحال- سُنَّةَ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن طاعته من طاعةِ الله". نعم، يجبُ أن يكونَ هذا المصدران هما المصدرانِ لكلِّ تشريعٍ، فإذا ما ¬

_ (¬1) المرجع السابق (ص 166). (¬2) المرجع السابق (ص 21).

أَرَدْنا أن نأخد شيئًا من التشريعات أو النُّظُمِ الأجنبية، فيجبُ أن نردَّها أولاً إلى هذين المصدرين. * قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. فإذا كان هذا التقنينُ صادرًا عن أحكام القرآن والسُّنة، كان بها، وإلاَّ فيجبُ أن نرفضَه رفضًا باتًّا، ونَردَّ أنفُسَنا إلى الحدودِ التي أَمَر اللهُ بها" (¬1) اهـ. ° وخلاصةُ القول في هذا القانون: "إنه قانونٌ بعيدٌ عن الشريعة الإِسلامية، وإنه قد أقرَّ أعيُنَ الكافرين، وأدمى قلوبَ المؤمنين، لقد خَدَعَنا أعداءُ الإِسلام عندما سَمَحوا لنا أن نُغيِّرَ القانونَ الفرنسيَّ، وقالوا لنا: خُذُوا قوانينَكم من أيِّ قانونٍ شئتم، إلاَّ أن يكونَ القانونُ المُحَكَّمُ هو الشريعةَ الإِسلامية، فظننَّا أننا بذلك نِلْنا استقلالَنا. لقد سَمَح الكُفَّارُ لنا بصياغةِ قوانيننا بعد أن وَجدوا رِجالاً رَضَعوا ثقافتَهم وأُعجِبوا بقوانينهم، وبعد أن رضينا بإقصاءِ شريعة الله. لقد حَكَّم السنهوريُّ -واضعُ القانون المدني- "في رقابِ المسلمين قانونًا وَضَعَه هو، واستمدَّه من أكثرَ من عشرينَ قانونًا، بعد أن كان يَحكُمُ في رقابنا قانونٌ مترجَمٌ هو قانون "نابليون"، والقوانينُ الوضعيةُ عندنا سواءٌ الذي يضعُه نابليون، أو أبو جهل العربي، أو السنهوري، فكلُّ القوانين الوضعية تُحادُّ شريعةَ الله، ونحن نريدُ أن نتحاكَمَ إلى ما أنزله اللهُ لا إلى ما ¬

_ (¬1) انظر "الشريعة الإلهية لا القوانين الجاهلية" للشيخ عمر الأشقر (ص 123 - 146) - دار النفائس.

أحمد بهاء الدين الماركسي: تشريعات الإسلام لا تلزم عصرنا ومجتمعنا

وَضَعه البشرُ. قد يكونُ في القوانين الوضْعِيَّةِ قانونٌ أفضلُ من قانون، ولكنها جميعًا مرفوضةٌ عند المسلم الصادق؛ لأنها اعتداءٌ على ألوهيَّةِ الله وحُكمِه" (¬1). ° ونختمُ بما قال السنهوري: "السيادةُ في القانونِ الإِسلاميِّ لله وحده، ولكنه يُفوِّضُها للأُمَّة -كلِّ الأمة-، وليس لشخصٍ، ولا لأيِّ مجموعة من الناس أيًّا كانت". ° قال الدكتور عمر الأشقر بعد أن رَدَّ شُبَهَ السنهوري وأمثالِه: "لا يَخفى على المسلم ما في هذه الأقوالِ من كفرٍ وضلال" (¬2). * أحمد بهاء الدين الماركسي: تشريعاتُ الإِسلام لا تَلْزَم عصرَنا ومجتمعَنا: ومن شانئي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: شانئُ الشرع الذي جاء به أحمد بهاء الدين الصحفي الماركسي الذي صال وجال في "الأهرام" أيامَ الفترة الناصرية، هو و"هيكل ولويس عوض وتوفيق الحكيم وحسين فوزي ونجيب محفوظ"!!. ° يقول أحمد بهاء الدين: "لا بدَّ من مواجهة الدعواتِ الإسلاَميَّةِ في أيَّامنا مواجهةً شُجاعةً بعيدًا عن اللفِّ والدوران، وإنَّ الإِسلامَ -كغيرِه من الأديان- يَتضمَّنُ قِيمًا خُلُقيَّة يُمكن أن تُسْتَمَدَّ كنوعٍ من وازعِ الضمير، أما ما جاء فيه من أحكامٍ وتشريعات دنيويةٍ، فقد كانت من قَبيلِ ضَرْبِ المَثَل، ومن بابِ تنظيمِ حياةٍ نزلت في مجتمعٍ بدائيٍّ إلى حدٍّ كبير، ومِن ثَمَّ فهي لا تَلْزَم عَصْرَنا ومجتمعَنا" اهـ. ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 146). (¬2) المصدر السابق (ص 111) - الطبعة الثانية.

محمد أحمد خلف يسير على درب أستاذه أمين الخولي، ويزعم أن القرآن يحوي الأساطير، ويهاجم الشريعة

ولا تعليقَ على هذا الكفرِ الصارخ. * محمد أحمد خلف يَسيرُ على درب أستاذه أمين الخولي، ويَزعُمُ أن القرآنَ يحوِي الأساطير، ويهاجمُ الشريعة: ° محمد أحمد خلف الله هو القائل: "ما عدا القرآن -يَقصِدُ السُّنَّةَ المشرَّفةَ- فِكرٌ بَشَرِيٌّ نتعاملُ معه بعقولنا، وتفسيرُ رسولِ الله للقرآن قولُ بشر" (¬1). ° محمد أحمد خلف الله هو القائل: "إنَّ النصَّ القرآنيَّ إنْ لم يكن قادرًا على تحقيق المصلحةِ تَرَكْناه، ولجأنا إلى الفِكرِ البشري، فإنَّ مَدَارَ النصوصِ على المصالح، فهي أصلٌّ والنصوصُ فرع" (¬2). كتب محمد أحمد خلف الله "الفن القصصي في القرآن الكريم" بتوجيهٍ ومباركةٍ من شيخه أمين الخولي، فوصف قَصصَ القرآنَ بالخرافة، وزَعَم أن القرآنَ نفسَه لا يَنفِي أنه يحوي أساطير!!!. ° "وممَّا يُذكَرُ أن محمد أحمد خلف الله قد خاض بعد ذلك في مَيدانٍ آخَرَ يهاجِمُ فيه الإِسلامَ، وهو موضوعُ الشريعةِ الإِسلامية" (¬3). ° يقول محمد أحمد خلف الله: "إن القرآنَ يتقوَّلُ على اليهود، ويُنطِقُهم بما لَم يَنطِقوا به، ويتقوَّلُ أمورًا لم تَحدُث، ويُقرِّر أمرًا خُرافيًّا أو أسطوريًّا، ثم يعود فيقرر نقيضَه ويُغيِّرُ الواقعَ، ويُبدِّلُ ويَزيدُ ويَنقصُ، ¬

_ (¬1) "اليسار الإِسلامي" (ص 40). (¬2) "اليسار الإِسلامي" (ص 34). (¬3) "محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل، "المجلد الرابع" للأستاذ أنور الجندي (ص 535 - 536) - دار الأنصار - القاهرة.

بحُكم هذه الحريَّة الفنيَّة". ومن مفاسدِ هذه الرسالة اعتبارُها أنَّ مصادرَ القصصِ القرآني هي التوراةُ والإنجيلُ والأقاصيصُ الشعبيةُ، وما امتَزَج بها من عناصرَ فارسيةٍ وإسرائيليةٍ، وأنه جَرَى خَلْفَ قساوسةِ المستشرقين أمثال "مرجليوث"، حتى إنه لم يُدرِكْ ما هنالك من تناقضٍ بين نسبةِ القرآن إلى الله سبحانه وتعالى والحكم على قَصصِ القرآن بأن أكثَرَه غيرُ صحيح. ° يقول الأستاذ أحمد الشايب في دراسة عن حياته العلمية (1913 - 1970): "أُشيرُ في إيجازٍ إلى هذه المعركة العلميَّة التي دارت في "كلية الآداب"، عام 1947 حولَ مشروعِ رسالة "الفن القصصي في القرآن الكريم" تقدَّم به طالبٌ يُدعى محمد أحمد خلف الله، بإشراف الأستاذ الشيخ أمين الخولي، وتأييده والدفاعِ عنه. وقد قام هذا المشروع على أساسِ أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - مؤلِّفُ القرآن، وأنَّ القرآنَ في قَصَصِه لم يَتحرَّ الصدقَ، وأنه كان يُغيِّرُ ويُبدِّلُ في القَصص نزولاً على ظروفِه الخاصَّةِ التي كانت تحيطُ بالدعوة الإِسلامية، وأنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - في القَصص القرآني الكريم كان يَخلُقُ من الحوادثِ ما لم يَقَعْ، وُيصوِّرُه على أنه الواقعُ التاريخيُّ .. إلى نحوِ ذلك ممَّا لَم يستنِدْ إلى برهانٍ عِلميٍّ، وإنما كان مُجاراةً للمبشِّرين. وقد شَغلت هذه المسألة الجهاتِ الجامعيَّةَ والأزهريَّةَ والبرلمانيَّة، والصحافةَ، ومجلسَ الدولة، وقد رَفض أحمد الشايب هذا المشروعَ، إذْ كان مُعَيَّنًا لفحصِه، وبرأيه أَخَذتْ كلُّ الهيئاتِ المذكورة، وقد أبُعد صاحبُه عن الجامعة".

° عامَلَك الله -يا محمد أحمد- بما تستحقُّ، إذ تقول بالنصِّ في رسالتك: "إنَّ القَصَصَ القرآنيُّ لَم يُراع الحقيقةَ التاريخيَّة"!!. ° وقولُك (ص 26 سطر 10): "إنَّ القرآن أنطَقَ اليهودَ بما لم ينطِقوا به، وذلك في قوله تعالى في سورة "النساء": {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ} [النساء: 157] ". ° وفي (ص 66) تُقرِّرُ عن قوله تعالى في سورة "المائدة": {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة: 116]، أن هذا القولَ وهذا الحوارَ تصويرٌ لموقفٍ لم يحدُثْ بعدُ، بل لعلَّه لن يحدث!!. ° وفي (ص 89) تُقرِّر أن قصَّة موسى - عليه السلام - في سورة "الكهف" لم تَعتمِدْ على أصلٍ في واقع الحياة!!. وفي هذا مخالفةٌ ظاهرة لقوله سبحانه وتعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف: 13]، ولقوله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف: 111] ". ° لقد لَقِيَ قولُ محمد أحمد خلف الله "دَعْمَ وإعجابَ كثيرٍ من المشبوهين ومن المستشرقين الذين انبَرَوْا للدفاعِ عنه وتقريظِه، حتى إنَّ "ج بالجون"، و"ج - جومييه " -من القساوسة الدومينيكان- وصَفَاه بأنه البحثُ الوحيدُ الذي يُمثِّل "الاستنارةَ الحقيقيةَ في الفكر الإِسلامي عن حركةِ المجتمع العربيِّ المعاصر"، وقَصَرَ القرآنَ على العبادات والمساجِدِ كضرورةٍ حتميةٍ لتقدُّم المجتمع العربي" (¬1)!!. ¬

_ (¬1) انظر "الوعي الإِسلامي" من مقالة للأستاذ جمال سلطان، و"اليسار الإِسلامي" (ص 34 - 35).

° يقول محمد أحمد خلف الله عن الأنبياء: "إنهم أبطالٌ وُلدِوا في البيئة، وتأدَّبوا بآدابها، وخالَطوا الأهلَ والعشيرةَ، وقَلَّدوهم في كلِّ ما يُقال وُيفعَل، وآمنوا بما تؤُمِن به البيئةُ من عقيدة، ودانوا بما تَدِينُ به من رأيٍ، وعَبَدوا ما تعبُدُ من آلهةٍ". ° ويقول الشيخ محب الدين الخطيب: "ما ذهب إليه المؤلِّف في هذه الرسالة تلميحٌ بتكذيبِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في أنَّ القرآنَ مُوحًى إليه من الله عزَّ وجلَّ، وزَعْمٌ أنه من تأليفِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأن ما فيه من القَصَصِ عملٌ فنيٌّ خاضعٌ لِمَا يَخضعُ له الفنُّ مِن خَلْقٍ وابتكارٍ، مِن غير التزامٍ بصدقِ التاريخ!!. والواقع أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - "فنَّانٌ" بهذا المعنى، وأن الأنبياءَ "أبطال" ولدوا في البيئة وتأدَّبوا بأدبها، وخالَطوا الأهلَ والعشيرةَ، وقَلَّدُوهم في كلِّ ما يُقال ويفعَل، وآمنوا بما تؤمن به البيئةُ من عقيدة، ودانوا بما تَدين به مِن رأيٍ، وعَبدوا ما تَعبُدُ مِن إلهٍ، هذا ما ذهب إليه المؤلِّف، وكَذَب". كما زَعَم أنَّ القرآنَ مُتناقِضٌ، فكان يُقرر أولاً أنَّ الجنَّ تَعلمُ بعضَ الشيءِ، ثم لَمَّا تقدَّم الزمنُ قَرَّر أنهم لا يَعلَمون شيئًا!!، وأنَّ قصةَ موسى في سورة "الكهف" لم تَعتَمِدْ على أصلٍ من واقعِ الحياة، بل ابتُدِعت على غيرِ أساسٍ من التاريخ"!! اهـ. ° وقد طَلَب الدكتور عبد الرزاق السنهوري -وزيرُ المعارف حينذاك- إلى الشيخ محمود شلتوت - رحمه الله - فَحْصَ هذه الرسالةِ، وكتابةَ تقريرٍ عنها؛ فإذا بهذا التقريرِ يَدْمَغُها بالكفرِ والجَهلِ والفسادِ؛ لأنها قامت على أُسسٍ فاسدةٍ وأنها غارقةٌ في تكذيبِ القرآن، وأنَّ كاتِبَها افترى على العلماء، وأنه جاهلٌ لا يَفهمُ النصوص .. وخَتَم تقريرَه: بأَنْ تُطهَّرَ الجامعةُ

تغريد عنبر، ثمرة مرة من شجرة الحنظل -مدرسة أمين الخولي- ورسالتها "أصوات المد في تجويد القرآن"

من هذه الدراسةِ التي تُنافِي الحريةَ العِلميَّة وتنتهي إلى الفوضى، وتَهدِمُ الأصولَ الإِسلاميةَ في هذا البلد الإِسلامي. كما أفتى أكثر من مئةِ عالم أزهريٍّ في طائفةٍ كثيرةٍ من نصوصِ هذه الرسالة بأنها مُكفِّرةٌ يَخرجُ بها صاحبُها عن الدين الإِسلامي. * تغريد عنبر، ثمرةٌ مُرَّةٌ من شجرة الحنظل -مدرسة أمين الخولي- ورسالتُها "أصوات المَدِّ في تجويد القرآن": زَعَمت "تغريد عنبر" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُغيِّر ويُبَدِّلُ في القَصَصِ القرآنيِّ، وأن النصَّ القرآنيَّ لم يتعرَّضْ للتغيير والتبديل على يدِ رسولِ الله وحدَه، بل تَعَرَّض لهذا التغيير والتبديلِ على أيدِي الصحابة، ولَمَّا طالَبَ الدكتور محمد محمد حسين الجامعةَ بالتوقُّفِ عن مَنْحِ الدرجة واستجابت الجامعة، شَنَّعَ أعوان الشرِّ على الدكتور محمد محمد حسين، وتولَّى كِبْرَ هذه الحملة مجلة "المصوِّر" التي يُشرف عليها محمود أمين العالم، وتزَّعَمَت الحملةَ "أمينة السعيد" بمقالاتٍ بدأت في "مجلة المصور" في 27/ 5 / 1966. ° وزعمت تغريد عنبر أن القرآن ليس مُنَزَّلاً من عند الله بلفظِه، ولكنه مُنَزَّلٌ بمعناه، فجاء في (ص 10 سطر 4): "ويبدو ليَ الأمرُ على النحو التالي: حين نَزَل القرآنُ في أولِ عَهدِه، كان الهدفُ الأولُ للمسلمين نَشْرَ الدعوةِ الإِسلامية، وطبيعيٌّ أن يتركَّزَ الاهتمامُ على الفِكرةِ، وأنْ يَنشغلَ بها الجميع، فكان الرسولُ يَقرأُ النصَّ ويغيِّرُ فيه حَسْبَ الظروف (!!)، ويَسمحُ لِمَنْ يَقدِرُ عليه بقَدْرٍ من المخالفة، وكذلك الأمرُ فيما يتعلق بالأداء" (!!).

الدكتور صادق العظم، من كبار المنكرين لثوابت الدين في كتابه "نقد الفكر الديني"

° ويقول الدكتور محمد محمد حسين: "زَعَمت الطالبةُ أن المسلمين لم يَتَّفِقوا على نصٍّ موحَّدٍ للقرآن، وكلُّ ما وَصَلوا إليه -في زعمها- هو شيءٌ يُشبِهُ النصَّ المُوَحَّد، فكانوا حين يُردِّدُون القرآنَ يَحرِصون -حَسْبَ تعبيرها- على الاتفاقِ على ما يُشبِهُ النصَّ الموحدَّ، وقَبِلَ منهم الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - ذلك؛ لأنه كان مطمئنًّا إلى أنَّ التحريفَ لن يدخلَ القرآنَ، فلُغته العربية بين قومٍ يتكلَّمون بها، وفي الغالب لم يَكُنِ الفردُ من الصحابةِ ليُغيِّرَ النصَّ في كلِّ مرَّةٍ يَقرأ بها" (ص 13 سطر 14). ° وتعودُ الطالبةُ إلى تأكيدِ تلك المزاعِم الفاسدة، فتقول (ص 37 سطر 7): "وعَرْضُ الأمرِ على هذا النحو يُساعِدُ على هَدْم فكرةِ التوقيف في قراءةِ القرآن، تلك الفكرةُ التي لا يُقرِّهُا الدرسُ اللغويُّ أو الواقعُ التاريخي، ومن الواضع أن نَفْيَ فكرةِ التوقيفِ هو نفيٌ لتواتُرِ القرآن" (¬1). * الدكتور صادق العَظْم، من كِبارِ المنكِرين لثوابتِ الدينِ في كتابه "نقد الفكر الديني": ° يقولُ هذا القِزمُ في كتابه: "نقد الفكر الديني" وكلُّه كُفريَّاتَ: "إن الملائكةَ والجنَّ وإبليسَ كائناتٌ أسطوريَّة، وإن الإِسلامَ نقيضُ العلم، وإنَّ قصَّةَ آدَمَ وحوَّاءَ في القرآن أسطورة". ° يقول: "هل يُفترَضُ في المسلم -في هذا العصر- أن يَعتقِدَ بوجودِ كائناتٍ مثلِ الجنِّ والملائكةِ وإبليسَ وهاروت وماروت، ويأجوج ومأجوج، وجودًا حقيقيًّا غيرَ مرئيٍّ باعتبارِها مذكورةً كلِّها في القرآن؟!، أم يَحِقُّ له أن يعتبرَها كائناتٍ أسطوريةً، مَثَلُها مَثَلُ آلهةِ اليونان وعَروسِ البحر والغُول ¬

_ (¬1) "حصوننا مهددة من الداخل" للدكتور محمد محمد حسين (ص 252، 267، 268).

والعنقاء؟ يا حَبَّذا لوْ عالج المُوَفِّقون بين الإِسلامِ والعِلمِ مِثلَ هذه القضايا المُحَدَّدة، وأعطَونا رأيَهم فيها بصراحةٍ ووضوحٍ بدلاً من الخطابة حول الانسجام الكاملِ بين العلمِ والإِسلام". ° ويقول في كتابه "الشيطاني" (ص 36): "يُشدِّدُ القائلون بالتوافق التامِّ بين الإِسلام والعلم على أن الإِسلامَ دينٌ خالٍ من الخرافات والأساطير، باعتبار أنه هو والعلمُ واحدٌ في النهاية .. لِنمحِّص هذا الادعاءَ التوفيقيَّ بشيء من الدِّقةِ بإحالته إلى مسألةٍ محدَّدةٍ تمامًا. جاء في "القرآن" مثلاً: أنَّ الله خَلَق آدمَ من طين، ثم أَمَر الملائكةَ بالسجود له، فسجدوا إلاَّ إبليسَ، مما دعا اللهَ إلى طردِه من الجنة .. هل تُشكِّل هذه القصَّةُ أسطورةً أم لا؟! .. نُريدُ جوابًا مُحَدَّدًا وحاسمًا من المُوَفِّقين -وليس خطابةً- .. هل يُفترض في المسلم أن يعتقدَ في "النصف الثاني من القرن العشرين" بأنَّ مِثلَ هذه الحادثةِ وَقَعت فعلاً في تاريخ الكَون؟ إنْ كانت هذه القصةُ القرآنيةُ صادقةً صِدْقًا تامًّا، وتَنطبقُ على واقعِ الكون وتاريخِه، فلا بدَّ من القولِ: إنها تتناقضُ تناقضًا صريحًا مع كلِّ معارفِنا العِلمية، ولا مَهْرَبَ عندئذٍ من الاستنتاج بأنَّ العِلمَ الحديث على ضلالٍ في هذه القضية، وإنْ لم تنطبِقِ القصةُ القرآنيةُ على الواقع، فماذا تكونُ إذن "في نظر الموفِّقين" إن لم تكن أسطورةً جميلة" (¬1). وهذا القولُ الكُفريُّ هو قولُ المشركين قديمًا، الذين قالوا عن القرآن: إنه أساطير الأولين!!. ¬

_ (¬1) "كلهم سلمان رشدي" (ص 23 - 24).

صلاح جاهين، الماركسي العلماني، الكاره للإسلام

* صلاح جاهين، الماركسِيُّ العِلمانيُّ، الكارهُ للإِسلام: يومَ أن وَقَفَ الشيخ الغزالي في المؤتمر القوميِّ العامِّ الذي عُقِد سنة 1962 م في القاهرة، ودعا الشيخُ إلى وجوب التحريرِ من الاستعمار التشريعيِّ بالرجوع إلى أحكامِ الشريعة، وعَرَّج الشيخُ في نهايةِ كلمتِه على ضرورة التخلُّصِ من التقليد والتَّبَعيَّةِ في الأزياء، وأن يكونَ للأمةِ أزياؤها الخاصَّةُ بها، سواءٌ ما يتعلَّقُ بالرجالِ أو النساء، وضرورةِ عودةِ المرأةِ إلى الاحتشام (¬1). ° "وهنا ثارت ثائرةُ الشيوعيِّين والمنحلين وأعداءِ الإِسلام المتستِّرين بالثورة والمحتمِين بحماها، وكتب رَسَّامُ الكاريكاتير الملحد المعروف بـ "صلاح جاهين"، المحرِّر بـ "الأهرام" ما كَتَبَ من سخريةٍ بالشيخ وكلامه، وما يرمزُ إليه من بقاءِ الإِسلام والأزهر. ° نَشَر صلاح جاهين المعروف بانتمائه الشيوعيِّ 14 رسمًا ساخرًا تحت عنوان "تأمُّلات كاريكاتورية في المسألة الغزالية"، إنْ دَلَّتْ على شيء، فإنما تَدُلُّ على أن كلمةَ الغزالي قَلَبَتْ موازينَهم، وأصابت منهم مقتلاً، وهو فردٌ، وهم ألوفٌ معهم الدولة والسلطانُ والصحافةُ والإعلام. ° وقد بَلَغَ التبجُّحُ بصلاح جاهين أن بعضَ الناس قالوا له: "كيف تهاجمُ الإِسلامَ ورجالَه، وهو دينُ الدولةِ الرسميِّ؟ فقال لهم: إذا كان الإِسلامُ دينَ الدولةِ فسأحاربُ الدولة". ° ولقد غاظ الجماهيرَ المسلمةَ أن يتعرَّض شيخُها لهذه السخرياتِ من ¬

_ (¬1) "الشيخ الغزالي كما عرفته" (ص 59 - 60) للشيخ القرضاوي.

عبد الرحمن الشرقاوي، يسود كتابه "محمد رسول الحرية"، وينسب القرآن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

صحفي مُلحِدٍ أثيم، فخرجت يومَ الجمعة 1/ 6/ 1962 م من "الجامع الأزهر" في صورةِ مظاهرٍ شعبيةٍ غاضِبة مزمجِرة، ضَمَّت عشراتِ الألوف، وقد اتَّجَهتِ الجموعُ الصاخبةُ إلى دار "الأهرام" القديمة تُعلِنُ احتجاجَها وسُخْطَها. ° لقد سَخِرَ الشيوعيُّ جاهين من عِمامةِ الشيخ الغزالي، ولكنَّ الشيخ وقف في المؤتمر في اليوم التالي يقول جَهْرةً: "إن تحتَ هذه العمامةِ رأسُ مُفَكِّرٍ، كان يُحارِبُ الظُّلمَ والإقطاع، أيامَ كان أمثالُ هذا الكاتبِ قَوَّادينَ لفاروق". * عبدُ الرحمن الشرقاوي، يسوِّدُ كتابه "محمد رسول الحرية"، ويَنسِبُ القرآنَ إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قَدَّم الشيخُ محمد أبو زهرة تقريرًا إلى المسؤولين، وسَجَّل فيه تعمُّدَ إساءةِ عبد الرحمن الشرقاوي إلى الرسالة المحمدية وجوهِرِ العقيدة، وبرغمِ خطورةِ ما ورد في التقرير، لم يَلْقَ حَظَّه من النشرِ في وسائل الإعلام على نطاقٍ واسع، ولم يَلتفتْ إليه المسؤولون .. وبَقِيَ الكتابُ -المذكور أعلاه- متداوَلاً بالأسواق إلى وقتنا الحاضر، وعلى الصفحاتِ التاليةِ نَعرِضُ الحقائقَ التي تَعمَّد عبدُ الرحمن الشرقاوي بها الإساءَة إلى الرسالة وصاحبِ الرسالة، وذكَرها الشيخ أبو زهرة في تقريره (¬1). وللأمانة التاريخية، فإنَّ تقريرَ الشيخ أبي زهرة أولُ مَن حَصَلَ عليه ¬

_ (¬1) انظر "جيل العمالقة" لأنور الجندي (ص 226 - 240)، و" أبو زهرة إمام عصره" (ص 163 - 172).

اتجاه غير ديني!

الأستاذ "محمد نعيم" من الشيخ أبي زهرة قبلَ وفاته، وقد احتَفظ به حتى أُتيحت له فرصةُ نشره في "الاعتصام" عام 1975 م، وهو الذي قام بتلخيصه على هذا النحو المنشور الآن: * اتِّجاهٌ غيرُ ديني!: ° يقول الشيخ أبو زهرة في مستهلِّ تقريره: "أن الكتابَ لم يَسْلَمْ من الخطأ، أو بالأحرى كان له اتجاهٌ غيرُ دِينيٍّ، وفي دراستِه فهو ما دَرَس محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على أنه رسولٌ يُوحَى إليه، بل على أنه رجلٌ عظيمٌ له آراءُ اجتماعيةٌ، فسَّرها الكاتبُ على ما يُريد، وقد تكونُ هذه الكتابةُ مفيدةً لقومٍ يُصغِّرون من شأنِ محمدٍ، ويُهوِّنون من أمره، فتُزيلُ عنه ما يتوهَّمون، وتُبيِّنُ أن له شأنًا ومقامًا في تفكيرِه ومنحاه، وإذا لم تكنِ الكتابةُ صادقةً من كلِّ الوجوه، فهي في ذاتها تصويرٌ حَسَنٌ في الجُملة لغيرِ المسلمين، وفي هذه الحال فقط. وأما نَشرُ هذه الكتابة بين المسلمين الذي يَعرِفون مَقامَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عند الله، ومقامَ الرسالةِ الإلهيةِ التي يَحمِلُها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، والتي هي مَصدرُ عِلمِه، فإنه لا فائدةَ فيها من جهةٍ، وتوهينٌ للعقيدةِ الإِسلامية من جهةٍ ثانية، وهي غيرُ صادقةٍ من جهةٍ ثالثة .. وإذا بُرِّر نَشرُها بين غير المسلمين لتقريب نفوسِهم من مبادئ محمد، فنَشرُها بين المؤمنين باعثٌ على الفتنة، ومُنقِّرٌ للقلوب، ومُضعِفٌ للإِيمان. * لماذا يقتطعُ جُملةً من آية؟!: وإنَّ أولَ ما يَلمَحُه القارئُ من الكتاب -بعد استيعابِه جُملةً وتفصيلاً-،

أنَّ الكاتِبَ يَقطعُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الوحي، فكلُّ ما كان من النبيِّ من مبادئَ وجهادٍ في سبيلها، إنما هي مِن عنده، لا بوحيٍّ من الله تعالى، وهي به بمقتضى بشريَّتِه، لا بمقتضى رسالته، ولعلَّ العنوانَ الذي اختاره للكتاب -مع إرادفِه بعنوانٍ آخَرَ صغيرٍ- يُشير إلى بشريةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقط، وهذا العنوان قوله: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، فقد اختار هذه الجملةَ لِيُعلِنَ أنَّما وَصَل إليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من مبادئَ جَاهَدَ لأجلها، إنما هو صادرٌ عن بشريةٍ كاملةٍ، لا عن نبوة!!. ولكي يَتِمَّ له الاستشهاد، اقتَطَع الجملةَ اقتطاعًا مِمَّا قَبْلَها وممَّا بَعْدَها، فإن هذه الجملة وردت في نَصَّينِ من نصوصِ القرآن الكريم، أولهما: في سورة "الكهف"، وهو قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، وثانيها: في سورة "فُصِّلَت"، وهو قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت: 6]. ونرى النصَّ الذي اختاره شِعارَ كتابِه مقطوعًا عمَّا قبلَه وما بعدَه، فما قبلَه هو قولُه تعالى -يُخاطِب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله-: {قُلْ}، وهو يصرِّح بخطابِ الله تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وما بعدَه هو قوله تعالى: {يُوحَى إِلَيَّ}، وقد أبعَدَه ولم يأتِ به؛ لأنه لا يتَّفق مع غرَضِه لأنه يَنفِي الوَحْيَ عن الحياةِ المحمَّدية.

الوحي في الغار كان مناميا

* الوحيُ في الغار كان مناميًّا: ° وإن القارئَ لَيسيرُ قليلاً في الكتاب، حتى يَجِدَ الكاتِبَ يَنفي الخطابَ السماويَّ للرسول، لا يَذكر أن جبريلَ خاطَبَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في العِيان، فهو يقول عن أولِ نزولِ الوحي بالقرآن ما نصه: "ولكنه في تلك الليلةِ من رمضانَ أغفَى قليلاً ثم نام، فرأى مَن يَعرِضُ عليه كتابًا، ويَطلبُ منه أن يقرأَ، فقال: "ما أنا بقارئ"، ولكنه ألَحَّ عليه أن يقرأ، فسأله: "ماذا أقرأ؟ "، فقال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5]، وعندما استيقظ من نَومه كان يَحفظُ ما سَمِعه في النوم، ويَستوضحُ حُلْمَه فيما بينه وبين نفسه، فإذا به هو بين اليقظةِ والنومِ كأنه يَسمعُ صوتًا بعيدًا يقول له: "أنت رسول الله وأنا جبريل" .. " .. (ص 68، 69). وإن تصويرَ الوحي بِالحُلْم في النوم يُخالِف ما أجمَعَ عليه المسلمون من أن جبريلَ - عليه السلام - كان يُخاطِبُ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعِيانِ لا في المنام .. نعم، قبلَ ذلك الخطابِ بقوله: "اقرأ" ونزولِ سورة "القلم"، كان الوحيُ يجيءُ إليه في رؤيا منامية، حتى إنه كان يَرى الرؤيا تَجيءُ في الصَّحْوِ مِثْلَ فَلَقِ الصبح -كما صرح البخاري-، ولكنْ لم تكن تُعتبر خطابًا من السماء، حتى نزولِ الوحي ومخاطبةِ جبريل الأمين - عليه السلام - الذي تردَّد ذكره في القرآن الكريم على أنه رسول الله إلى الذين يصطفيهم من الأنبياء لتبليغ الرسالة الإِلهية إلى الأرض.

نسبة القرآن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -

* نسبةُ القرآن إِلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: وإنه إذ يَقطعُ الرسالةَ عن الرسول، ويَقطعُ الوَحْيَ عنه، يتَّجه إلى القرآن، فيَذكرُ عباراتِه أحيانًا منسوبةً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنها من تفكيرِه ومِن قوله -لا أنها قرآنٌ موحًى بها، قائلُه هو الله سبحانه وتعالى-، وإن ذلك مبثوتٌ في الكتاب بكثرةٍ، ولْنضرِبْ على ذلك بعضَ الأمثلة: * إِنذاره عشيرتَه الأقربين: ° ذكر في صفحة 80 ما نصه: "رأى محمدٌ أن يَجمعَ أُسرتَه من بني عبد المطلب، وأن يدعوَهم إلى الإيمان بما جاء به، فليس أحبُّ إليه من عشيرته الأقربين". ونراه يذكرُ ذلك على أنه رأيٌ ارتآه، ويُغفِلُ الأمرَ القرآنيَّ الثابتَ، وهو قولُه تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 214 - 215] .. فنراه في هذا الكلام الذي قاله يَنسِبُ كل ما يكون بوحيٍ قرآنيٍّ إلى أن رأيٌ رآه النبي - صلى الله عليه وسلم -!!. ° وفي هذا المَقام اعتَرض أبو لهب عمُّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيَذكُرُ ما نصُّه في ذلك: "فاسمع يا أبا لهب، اسمع إذن -سمِعتَ الرعد-، تبًّا لك أنت، تبًّا لك سائرَ يومِك وسائرَ حياتك، تَبَّت يدا أبي لهب وتب" (ص 83). فنراه في هذا يَنسِبُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قولَه تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}.

القتال في الشهر الحرام

° وبهذا نرى أنه ينسب هذه السورةَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، لا إلى الله سبحانه وتعالى، ومِثلُ ذلك جاء في (ص 87) من الكتاب، ففيها ما نصه: "تبًّا لها "أي لامرأة أبي لهب" كما تبَّت يدا أبي لهب، وتبَّت يدا أبي لهب، وتب، وأمرأته حمَّالةَ الحطب". * القتال في الشهر الحرام: ° يذكرُ استنكارَ المشركين لأمرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه قاتَلَ في الأشهُر الحرُم، ويَذكرُ الردَّ على أنه للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فيقول في صفحة (183): "إنها لكبيرةٌ أنْ يقتل عبدُ الله -أي: ابنُ جحش- أحدًا في الشهر الحرام، ولكنَّ الفتنةَ أكبرُ من القتل، وصَدُّ الناس عن البيت العتيق وإخراجُ أهلِه منه أكبر". يذكرُ هذا الكلامَ منسوبًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنه من عنده، مع أنه من القرآن الكريم، والله تعالى يقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217]. * أسرى بدر: ° استشار النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعدَ غزوة "بدر" أصحابَه في شأنِ الأسرى، فأشار عمرُ - صلى الله عليه وسلم - بقتلهم، وأشار أبو بكر - رضي الله عنه - بالعفو، وتوسَّطَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فاختار أن يُفْتَدَوْا من أهلهم، وقد بيَّن الله سبحانه لنبيِّه الحُكْمَ في أخذِه أسرى والمعركةُ دائمةٌ مستمرةٌ؛ لأنه لا أسرى إلاَّ بعد أن يَعجِزَ العدوُّ عن القتال، وقد نزل في ذلك قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

إبطال التبني من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟!

(67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 67 - 68]. ° هناك في القضية عَمَلٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولومٌ وتوجيهٌ من الله، ولكنَّ الكاتِبَ يقولُ: إن النبي -بعد تأمُّلٍ وتدبُّرٍ قَرَّر خطأَ الفِداء، وهذا نصُّ كلامِه: "قد أطَلَق كثيرًا من الأسرى، ولم يَعُدْ -أي: لم يَبْقَ- غيرُ قليل، فانقطع يُفكِّر، وخَرَج على أصحابِه يقول: إنه أخطأ هو وأبو بكر حين لم يستمعا لنصيحة عمر، فما كان له أن يتركَ لقريشٍ أَسْرَاها لتستعينَ بهم على حَرْبه مرةً أخرى، ما كان لنبيٍّ أن يكون له أسرى حتى يُثخِنَ في الأرض" (ص 203 - 204). وبهذا يتبين أنه يَرى أن هذا ليس وحيًا، ولكنه من تأمُّلاتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّ القرآنَ من عندِ محمدٍ، لا من عند الله!!. * إِبطالُ التبنِّي من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟!: ° يَنسِبُ إبطالَ التبنَي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يَنسِبُه إلى الله، مع أنه قد حُرِّم التبنِّي بقولِ الله تعالى في نصٍّ قرآني، إذ يقول سبحانه: {مَا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ الله غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 4 - 5]. * ويقول سبحانه: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ

رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]. ° فهو يَذكرُ قصةَ "زيدِ بنِ حارثة" مع زوجِه "زينب بنت جحش"، وشكواه منها، وقولَ النبيِّ له: "أمسِكْ عليك زَوْجَك"، ويُبيِّنُ أن الزوجَينِ أصبحا لا يُطيقانِ الاستمرارَ، ويَذكرُ إشاعةَ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - طَمعَ في جَمالها، وما كان للنبيِّ أن يتزوَّج زَوْجَةَ متبنَّاه -لأنه ابنه-، ثم يقول: "ولكنَّ محمدًا خَرَج يقول لهم: إنَّ المتبنَّى ليس كالابن تمامًا، فالولدُ شيءٌ آخَر، وإنه إنما تزوَّج لكي يُدرِكوا هذا، ولكيلا يكون على المؤمنين حَرَجٌ في أزواجِ أدعيائهم، فلا حاجةَ له بجمالِ زينب، ولديه عائشةُ وحفصة" (ص 216). فهو في هذا يدَّعي أن التحريمَ للتبنِّي مِن محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ويدَّعي أنَّ محمدًا تزوَّج "زينبَ" مِن تلقاءِ نفسِه، مع أنه بأمرٍ من الله تعالى في قوله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا .. } [الأحزاب: 37]. فنراه يَنسِبُ التحريمَ إلى النبيِّ؛ ويَنسِبُ الزواجَ لرأيٍ ارتآه الرسولُ، مع أنه ثابتٌ بالقرآن، ولكنه يَنسِبُ القرآنَ دائمًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإنَّا لَنحمدُ له أنه لم يَسِرْ وراءَ المستشرقين في ادِّعائهم -كما جاء في روايةٍ ضعيفةٍ عن بعض التابعين- أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فُتِن بجمال "زينب" -وكان الطلاقُ لذلك- فله منَّا التقديرُ لهذا!!.

* عِبرةُ "أُحُد": ° ذَكر -بعد أنْ قَصَّ أخبارَ موقعةِ "أُحد"- العِبَرَ فيها على أنها من قولِ محمد، مع أنها من قولِ الله تعالى، فهو يقول: " .. وأقبل محمدٌ على الناس يُحدِّثهم عن مِحنةِ "أُحد"، ويَستخلصُ العِبرةَ من أخطائهم، عسى أن تُضيءَ التجربةُ القاسيةُ طريقَ المستقبل". وإن العِبرةَ في "أُحد" كانت بقولِ الله تعالى في آياتٍ كثيرةٍ من سورة "آل عمران" في مثلِ قولهِ تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)} [آل عمران: 152 - 153]. ولكنه دائمًا يَنسِبُ ما جاء في القرآن إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، مما يدلُّ على أنه يَرى أن القرآنَ من قولِ النبي، ولم يُذكرْ في الصحيح من السنن أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بيَّن العِبَرَ في "أُحد" بغير تلاوةِ القرآن عليهم. * تقسيم أموال بني النضير: ° يَذكر أن تقسيمَ أموالِ "بني النضير" كان بقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقول في ذلك، قال لهم: "إنَّ إخوانَكمُ المهاجرين ليس لهم مالٌ، فإن شِئتُم، قَسَمتُ أموالَ بني النضير وأموالَكم بينَكم جميعًا، وإن شئتُم أمسكتُم أموالَكم وقَسَمتُ هذه فيهم خاصة".

أين ذكر الله في الكتاب؟!

* والحقُّ أنه لا يُوجَدُ ذلك التخييرُ، وأن النصَّ القرآنيَّ في صريحه يُبيِّنُ هذا، فاللهُ سبحانه وتعالى يقول: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 8 - 9]. ولكنه -كمنهاجه- يَنسِبُ ما في القرآن دائمًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وزاد هنا مسألةَ التخيير التي لا نَعلمُ لها مصدرًا تاريخيًّا .. (ص 255). * معاني القرآن وأحكامُه يَنسِبُها للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ° وهكذا نَجِدُه يذكرُ كثيرًا من معاني القرآن، ويَنسِبُها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو يذكر سورة "الكافرون": {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} على أنها من كلامِ النبي - صلى الله عليه وسلم - .. (ص 108). ويَنسِبُ تحريمَ الخمرِ على أنه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويُشيرُ إلى تدرُّجِ التحريم في القرآن الكريم .. ويتركُ الآياتِ المختلفةَ الدالةَ على ذلك. * أين ذِكرُ الله في الكتاب؟!: ° ويقول الشيخ أبو زهرة في تقريره: "هذه أمثلةٌ سُقناها، وإنها لَكثيرةٌ في الكتاب، وهي تدل على أنه يَرى -أي: الكاتِبُ- أن القرآنَ من كلامِ محمدٍ، وفي الحقيقة إنه لم يَذكُرْ -قطُّ- أن الله سبحانه وتعالى مُنزِلُ القرآن، وباعثُ محمدٍ بالرسالة، بل إنَّ ذِكْرَ الله تعالى يَندُرُ في الكتاب، بل

القرآن من همهمة الرسول!!

لا تَجِدُ له ذِكرًا قط .. {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} ". * القرآنُ من هَمْهَمةِ الرسول!!: لم يَذكُرِ "القرآنَ" إلاَّ نادرًا، بل إنك تقرأُ الصفحاتِ الكثيرةَ التي تَبلغُ مئتَينِ أو أكثر، فلا تَجِدُ ذِكْرًا لكلمةِ "القرآن الكريم"، بل لكلمةِ "القرآن" فقط، وأذكرُ آيةً ذَكَر أنها هَمْهَمَةُ نَفْسِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولْنضرِب لذلك مثلاً .. لقد ذَكَر أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَذِنَ لبعضِ الناس بالعَودةِ من حيثُ خَرَجوا، وكان ذلك في بعضِ الغزوات، ثم يقول: "فأَذِنَ لمن يريدُ أن يعودَ إلى بيتِه أن يعودَ فهذا خيرٌ من أن يَبقى في الصفوف لِيُشيعَ الانهزامَ، وَيثْبُتَ في الصفوفِ من يَجِدُ في نفسِه القُدرةَ على مواجهةِ الخَطَرِ والرَّغبةَ الصادقةَ في الاستشهاد دفاعًا عما يؤمنُ به، وهَمْهَمَ لنفسِه وهو يتقدَّمُ الصفوف: "عفا اللهُ عنك لِمَا أَذِنْتَ لهم"، ولكنه عاد فرأى الخيرَ في تخليص صفوفِه من العناصر الحائرة، ثم أخذ يتلو عليهم: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 13]، {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 16] " (ص 288). فهو يذكر الهمهمةَ، ثم يَقرِنُها بآيةٍ على أنها من هَمْهَمَتِه، ثم يتلو آيةً أخرى غيرَ ناسِبِها لله -ولا لأحدٍ-، فهي -بمقتضى منطِقِه- من هَمْهَمتِه أيضًا، ثم يُشيرُ إلى نوع من التشكيك؛ لأنَّ الآيتَينِ يبدو بينهما تعارضٌ، مع أنَّ الآيتَينِ مختلفتانِ من حيثُ موضعِ قولهما، فآية {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} كانت في غزوة "تبوك"، وقوله: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ

د. نصر أبو زيد، يقول عن القرآن: "إنه نص بشري، ومنتج ثقافي لا قداسة له"، ويرفض الاحتكام إلى الشريعة

يَثْرِبَ} كانت في غزوة "الأحزاب"!!. وخَتَم الشيخ أبو زهرة - رحمه الله - تقريرَه بطلبِ مَنْعِ تداوُلِ الكتاب؛ لأنه يُسِيءُ إلى الناس في دينهم. * د. نصر أبو زيد، يقول عن القرآن: "إنه نصٌّ بشريٌّ، ومُنتَجٌ ثقافيٌّ لا قداسةَ له"، ويَرفضُ الاحتكامَ إِلى الشريعة: ° يقول هذا القِزمُ المرتدُّ عن القرآن: "إنه نصٌّ بشريٌّ، ومُنتَجٌ ثقافيٌّ .. لا قداسةَ له! وإن بينَه وبين الشِّعرِ الجاهليِّ -وخاصةً شِعر الصعاليك- شَبَهًا كبيرًا"!، وبنصِّ عباراته -التي لا تحتاجُ إلى تعليق يقول: "مِن الواقع تكوُّنُ النصِّ "القرآن"، ومن لُغتِه وثقافته صِيغَتْ مفاهيمُه، فالواقعُ هو الذي أنتج النصَّ .. الواقعُ أَوَّلاً، والواقعُ ثانيًا، والواقعُ أخيرًا. لقد تشكَّل القرآنُ مِن خلالِ ثقافةٍ شِفاهيَّةٍ .. وهذه الثقافةُ هي الفاعل، والنصُّ مُنفعِلٌ ومفعول .. فالنصُّ القرآني في حقيقتِه وجَوهرهِ منْتَجٌ ثقافيٌّ، والمقصودُ بذلك أنه تَشَكَّل في الواقع والثقافةِ فترةً تَزيدُ على العشرين عامًا .. فهو "ديالكتيك صاعد"، وليس "ديالكتيكًا هابطًا" .. والإيمانُ بوجودٍ ميتافيزيقيٍّ سابقٍ للنص يَطمِسُ هذه الحقيقة .. والفِكرُ الرَّجعيُّ في تيارِ الثقافةِ العربية هو الذي يُحَوِّلُ النصَّ من نصٍّ لُغويٍّ إلى شيءٍ له قَداستُه. والنصُّ القرآنيُّ منظومةٌ من مجموعةٍ من النصوص، وهو يتشابَهُ في تركيبته تلك مع النصِّ الشِّعريِّ، كما هو واضحٌ من "المعلَّقاتِ الجاهلية" مثلاً، والفارقُ بين القرآن وبين المعلَّقة -مِن هذه الزاوية المَحَدَّدة- يتمثَّلُ في

النبوة عند نصر أبو زيد ثمرة لقوة "المخيلة"

المَدَى الزَّمنِيِّ الذي استغرقه تكوُّنُ النصُّ القرآني .. فهناك عناصرُ تَشَابُهٍ بين النصِّ القرآني ونصوصِ الثقافة عامةً، وبينه وبين النصِّ الشِّعْري بصفةٍ خاصة .. وسياقُ مخاطبةِ النساء في القرآن -المُغايرُ لسياقِ مخاطبةِ الرجال- هو انحيازٌ منه لنصوص الصعاليك"!!. * النبوَّةُ عند نصر أبو زيد ثمرةٌ لقُوَّةِ "المُخَيِّلة": ° "النبوة" و"الرسالة" و"الوحي" عند هذا الحَدَاثيِّ الماركسيِّ: ظواهرُ إنسانية، وثَمَرَةٌ لقوة "المُخيِّلةِ" الإنسانية، وليس فيها إعجازٌ ولا مفارقةٌ للواقع وقوانينه .. فالأنبياءُ مِثلُ الشعراءِ والمتصوِّفة، مع فارق في درجةِ "المُخيِّلة" فقط لا غير .. وهذا نصُّ عبارته: "إنَّ الأنبياءَ والشعراءَ والعارِفين قادرون -دون غيرِهم- على استخدام فاعليَّةِ "المُخيِّلة" في اليقظة والنومِ على السواء .. ومِن حيثُ قُدرةِ "المخيِّلة" وفاعليَّتها، فالنبيُّ يأتي على رأسِ قمَّةِ الترتيب، يليه الصوفيُّ العارف، ثم يأتي الشاعرُ في نهاية الترتيب. وتفسيرُ النبوة اعتمادًا على مفهوم "الخيال" معناه أن ذلك الانتقالَ من عالَمِ البَشَر إلى عالَم الملائكة انتقالٌ يَتِمُّ من خلال فاعليةِ "المُخيِّلةِ" الإنسانيةِ التي تكونُ في "الأنبياء" أقوى منها عند سواهم من البشر .. إنها حالةٌ من حالاتِ الفاعليَّةِ الخلاَّقة، فالنبوَّةُ في ظلِّ هذا التصوُّر، لا تكونُ ظاهرة مفارِقةً .. وهذا كلُّه يؤكِّدُ أن ظاهرةَ "الوحي" لم تكن ظاهرةً مفارِقةً للواقع، أو تُمثِّلُ وَثْبًا عليه وتجاوُزًا لقوانينه، بل كانت جُزءً من مفاهيمِ الثقافةِ، ونابعةً من مواضعاتها" (¬1). ¬

_ (¬1) "مفهوم النص" لنصر حامد أبو زيد (ص 56، 38) - طبعة القاهرة سنة 1990 م.

القرآن عنده خطاب تاريخي

* القرآنُ عنده خطابٌ تاريخي: ° وبعد تحويلِ القرآنِ إلى نصٍّ بشريٍّ .. والوحيِ والنبوَّةِ إلى قوَّةٍ في "المُخيِّلةِ" الإنسانية .. يَذهبُ هذا الحَدَاثيُّ الماركسيُّ إلى تطبيق "التاريخية والتاريخانية" على معاني ومضامينِ وأحكامِ القرآن -كلِّ معانيه ومضامينه وأحكامه- مِن العقائد إلى الأحكام، وحتى القِيَمِ والأخلاقِ والقَصَص الأمرُ الذي يعني نَسْخ كلِّ مضامينِ القرآن وتجاوُزِها .. فيقول: " .. فالقرآنُ خطابٌ تاريخيٌّ، لا يتضمَّنُ معنًى مفارِقًا جوهريًّا ثابتًا .. وليس ثَمَّةَ عناصرُ جوهريةٌ ثابتةٌ في النصوص .. فالقرآنُ قد تَحوَّل من لحظةِ نُزوله مِن كونِه "نصًّا إِلهيًّا" وصار فهمًا "نصًّا إِنسانيًّا"؛ لأنه تحوَّلَ من التنزيل إلى التأويل. وهذه التاريخيةُ تنطبقُ على النصوصِ التشريعية، وعلى نصوصِ العقائدِ والقَصَص .. وهي تُحرِّكُّ دلالةَ النصوص، وتَنقُلُها -في الغالبِ- من الحقيقةِ إلى المجاز" (¬1). هكذا يتمُّ العَبَث الحَدَاثيُّ بالثوابتِ والمقدَّسات -القرآن .. والنبوة والرسالة .. والوحي- على هذا النحوِ اللامعقول!! (¬2). ° نصر أبو زيد الذي يُريدُ من الناس أن يتعامَلوا مع القرآن كنصٍّ أدبيٍّ، وليس وحيًا إِلهيًّا بل يقول في آخِرِ كتابه: "وقد آنَ أوانُ المراجعةِ ¬

_ (¬1) "نقد الخطاب الديني" لنصر حامد أبو زيد (ص 83، 94، 82 - 84) - طبعة القاهرة 1990 م. (¬2) "مستقبلنا بين التجديد الإِسلامي والحداثة الغربية" (ص 30 - 31) للدكتور محمد عمارة.

رفض الاحتكام إلى كتاب الله -عز وجل-

والانتقالِ إلى مرحلةِ "التحرُّر" لا من سُلطةِ النصوص وحدَها، بل من كلِّ سُلطةٍ تَعُوقُ مسيرةَ الإِنسانِ في عالَمِنا، علينا أن نقومَ بهذا الآنَ وفورًا، قبل أن يَجرِفَنا الطوفان" (¬1). * رَفضُ الاحتكامِ إِلى كتابِ الله -عز وجل-: ° ونصر أبو زيد يُريدُ زحزحةَ القرآن عن حياةِ المسلمين، فيقول: "إنَّ الاحتكامَ إلى كتابِ الله -عز وجل- لم يكن موجودًا إلاَّ عندما ظهر الخوارج" (¬2). * أحمد عبد المعطي حجازي والتبجُّحُ العِلماني: بَلَغَ التطرُّفُ بالعِلمانيِّ النَّكِرَةِ القِزْم أحمد عبد المعطي حجازي أنْ طَلَبَ من المسؤولين حِرمانَ الدكتور السيد أحمد فرج من التدريس بالجامعة؛ لأنه أخطرُ على الطُّلاَّبِ من كتابه "أدب نجيب محفوظ" الأهرام 7/ 7/ 1999 م. ° وكان من حيثيَّات هذه الدعوةِ ما قرأه حجازي للدكتور فرج في بعضِ كُتبه من أنَّ "الدين هو الرابطةُ المقدَّمةُ على أيَّةِ رابطةٍ أخرى، "فالدين في نظر السيد فرج ليس مجرد اعتقاد، أو علاقةٍ بين الإنسانِ وخالِقِه، وإنما هو أيضًا قوميَّةُ وجنسية" (¬3). ¬

_ (¬1) "الإمام الشافعي، وتأسيس الأيدلوجية الوسطية" لنصر أبو زيد (ص 110). (¬2) المصدر السابق (ص 21). (¬3) انظر مقال الدكتور جابر قميحة -مجلة "آفاق عربية"- العدد (610) - 5 من ربيع الآخر 1424 هـ - 5 من يونيه 2003 م.

فرج فوده الزنديق القمئ، الرافض لتطبيق شرع الله، هو من أكبر شانئي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

* فرج فوده الزنديقُ القمِئُ، الرافضُ لتطبيق شرع الله، هو من أكبر شانئي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف لا يكونُ ذلك وهو الكارهُ الرافضُ لِمَا جاء به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، ويدَّعي تَفوُّقَ القانونِ الوضعيِّ على الشريعة الإِسلامية، وهذا كفرٌ أكبرُ مُخرجٌ من المِلَّة، كما جاء في "شرح الطحاوية في عقيدة أهل السنة والجماعة" التي تلقَّاها علماء الأمة بالقبول. ° يقول: "أنا أرى أنَّ حَجْمَ الانحلالِ الموجودِ في المجتمع المصري أقلُّ بكثيرٍ اليومَ على مدى التاريخ الإِسلامي كلِّه .. ورأيي أن القانونَ الوضعيَّ يُحقِّقُ صالحَ المجتمعِ في قضايا الزِّنا -مثلاً-، وأكثَرَ مما ستُحقِّقُه الشريعةُ لو طُبِّقَت" (¬1). ° ويقول في كتابه "الحقيقة الغائبة": "والنتيجةُ ببساطةٍ: أنَّ القانونَ الحاليَّ يُعاقِبُ على جرائمَ يَعْسُرُ على الشريعةِ أن تُعاقِبَ عليها، ويَعكِسُ احتياجَ المجتمعِ المعاصِرِ بأقدَرَ ممَّا تفعلُ الشريعة" (¬2). ° يقول فرج فودة في كتاب "حوارات حول الشريعة" لأحمد جودة (ص 14 - 15): "ببساطةٍ أنا ضدَّ تطبيقِ الشريعة الإِسلامية فورًا أو خطوةً خطوةً". ¬

_ (¬1) "حوار حول قضايا إسلامية" لفرج فودة (ص 178 - 179) نقلاً عن كتاب "مَن قتل فرج فودة" للدكتور عبد الغفار عبد العزيز (ص 32) - دار الإعلام الدولي، وكتاب "أحكام الردَّة والمرتدين" للدكتور محمود مزروعة (ص 316). (¬2) "الحقيقة الغائبة" لفرج فودة (ص 121) نقلاً عن "مَن قتل فرج فودة" (ص 32)، و"أحكام الردة والمرتدين" (ص 316).

° ويقول أيضًا في نفس المصدر: "وعمومًا هناك قاعدةٌ إسلاميَّةٌ تقول: "ويجوزُ ارتكابُ معصيةٍ اتقاءَ فتنة"؛ لذلك فأنا أقولُ: إذا كان عَدَمُ تطبيقِ الشريعة معصيةً، فلتكنْ معصيةً نَسْعَدُ بارتكابها اتقاءً لِمَا هو أسوأُ، وهو "الفتنة الطائفيَّة" .. الدولةُ الدينيَّةُ سوف تَقودُ للحُكمِ بالحقِّ الإلهي .. وهو حكمٌ جاهل، وكثيرًا ما أَدَّى لمظالِمَ ومفاسِدَ تقشعرُّ منها الأبدان". {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5]، واللهِ ما غاب الحقُّ والعدلُ والنورُ والتمكينُ في الأرض إلاَّ بغيابِ الخلافةِ، حتى في أحطِّ عصورها التي حاد فيها الناس كثيرًا عن التطبيق الشامل لشرعِ الله. فليس مَن قَصَدَ الحقَّ فأخطأه كمن تعمَّد قَصْدَ الباطل. ° يقول الكذَّاب الأشِرُ فرج فودة: "ولهذا كلِّه أرفضُ تطبيقَ الشريعة، وصوتي عالٍ جدًّا في هذا الصَّدد". ° ويقول في كتاب "الطائفية إلى أين": "إنَّ الدعوةَ لإِقامةِ دولةٍ دينيةٍ في مصر تمثِّلُ رِدَّة حضاريَّةً شاملةً بكلِّ المقاييس" (¬1). ° وفي كتاب "حوار حول قضايا إسلامية" (ص 172) يقول: "إنَّ الإِسلامَ دينٌ -وليس دولة-، وإنَّ الدولةَ الإِسلاميةَ- على مَدى التاريخِ الإِسلامي كله -كانت عِبْئًا على الإِسلام وانتقاصًا منه، وليس إضافةً إليه" (¬2). ° وفي محاورةٍ معه يقول لمن يحاوره: "وأنا شخصيًّا أرفضُ تمامًا ¬

_ (¬1) "الطائفية إلى أين" لفرج فودة (ص 20). (¬2) انظر "أحكام الرِّدَّة والمرتدين" (ص 314 - 315).

إباحته للزنا

الدولةَ الدينيةَ أَيًّا كان شَكْلُها، وبالتحديد في المجتمعِ المِصريِّ .. أرفضُ قيامَ دولةٍ إسلاميةٍ دينية" (¬1). * إِباحته للزنا: ° يقول الدكتور عبد الغفَّار عبد العزيز رئيس قسم الدعوة بجامعة الأزهر ورئيس ندوة العلماء في كتابه "مَن قتل فرج فودة؟ " عن فرج فودة: "والغريبُ أنه كان يُفتي بجرأةٍ في كثير من قضايا الدين إلى حَدِّ إباحتِه للزنا في الإِسلام، ويَستدِلُّ على ذلك بقول الله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33]، ويرى أن عمليةَ "الإكراه والإجبار" هي الممنوعة، أمَّا إنْ تمَّ ذلك من غيرِ إجبارٍ، فلا شيءَ في ذلك" (¬2). ° قال الشيخ محمد الغزالي: "فرج فودة -بيقينٍ- كان خَصْمًا للإسلام، وهو لم يكن يُداري هذا .. هو كان صريحًا في خصومتِه للإِسلام كشريعةٍ ونظامٍ ومعاملاتٍ وشؤونٍ سياسيةٍ واقتصادية" (¬3). ° ويقول الشيخ الغزالي عن فرج فودة: "كيف أُقنعُ رجلاً بأنَّ الإِسلامَ دولةٌ، وهو لا يُؤمنُ بأنه دين؟! إنَّ المقتنعَ بالوحي يَكفي أن أقولَ له: قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، ليقتنعَ بأن القرَآن نَزَل ليحكُمَ .. المشكلةُ أن يقولَ لك امرؤٌ: "أنا مسلم، ولكنِّي أُبيحُ الخمر، وأنا أعرفُ منك بالإِسلام"!!. ¬

_ (¬1) "من قتل فرج فودة" (ص 30). (¬2) حوار خاص مُسَجَّل معه في 29/ 7/ 89 نقلاً عن "مَن قتل فرج فودة" (ص 28). (¬3) صحيفة الوفد الصادرة في يوم الخميس 25 يونيو سنة 1992.

لقد هَزُلَتْ حتى بَدَا مِن هُزالِها ... كُلاها وحتى سامَها كلُّ مُفْلِسِ ثم يجيءُ بعدئذٍ مَن يَصِفُ مُستبيحَ الخمرِ بأنه "المفكِّرُ الإِسلاميُّ الكبير" .. ما هذا الهَذَر؟ " (¬1). ° وقد قال الشيخ محمد الغزالي في نفس المقال: "أمَّا رأيي في الدكتور فرج فودة، فهو صورةٌ عربيةٌ للعقيد جون جارانج الزنجي الذي يُحاربُ الإِسلامَ في السودان، ويريدُ وَضْعَ دستورٍ علمانيٍّ لشَمَالِهِ وجَنوبه معًا". ° يقول المجرم فرج فودة: "إنَّ التيارَ الإِسلاميَّ كلَّه خِداعٌ وكَذِبٌ وتلفيقٌ وتزويرٌ للحقائق، تدفعُ للاعتقاد بأنه وراءَ كلِّ خسيسةٍ ونقيصةٍ في العالَم، وحتى لا يكونَ الوصفُ قاصرًا على الزمنِ الحاضر، فإنَّ تاريخَ المسلمين كلَّه ليس إلاَّ امتدادًا للقهر والاستبداد" (¬2). * وبَقِيَ الإِسلام وذهب فرج فودة إلى مَزبلةِ التاريخ تُشيِّعُه لعناتُ اللاعنين إلى يوم الدين. ـ[بعضُ زُعماءِ وحُكَّامِ المسلمين القائلين بفَصْلِ السياسة عن الدين:]ـ منذ أن نَعِقَ "كمال أتاتورك" بالعِلمانية، وفَصَلَ الدينَ عن الدولة في تركيا الحديثة -بعد أنْ ألغى الخلافةَ ونَصَبَ المشانق لعلماء الإِسلام وكادَ للإِسلام وأهله-، تابَعَه على قوله هذا بعضُ زعماءِ وحُكَّامِ المسلمين، وأظهر البعضُ مَدْحَه وإعجابَه بأتاتورك، ولم يَستطعِ البعضُ أن يُعلِن .. ¬

_ (¬1) جريدة "الشعب" 30/ 6/ 92 مقالة للشيخ الغزالي بعنوان "هذا ديننا". (¬2) "من قتل فرج فودة" (ص 105).

مصطفى النحاس، زعيم "الوفد"

ولكنْ لسانُ حاله -كلُّ حاله- يقول: "كلُّنا أتاتورك" .. واللهُ عَزَّ وَجَلَّ هو المطَّلعُ على خفايا الصدور، {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك: 13]، وكلٌّ منهم سيخلو بربِّه يومَ القيامة، ليس بينَه وبينَه تَرجُمان .. يسأله عمَّا فَعَل بالإِسلام وشرعه: * مصطفى النَّحاس، زعيم "الوفد": ° قال في تصريح له: "أنا معجَبٌ -بلا تحفُّظ- بكمال أتاتورك، ليس فقط بناحيتِه العسكريَّة، ولكن بعبقريَّته الخالصة، وفَهْمه لمعنى الدولة الحديثة". ° ورَدَّ عليه الشيخ الغيُور حسن البنا - رحمه الله -: "هذا التصريحُ ليس تصريحًا أجوف، وليس تصريحًا يَصدُرُ هكذا عن مُجاملةٍ أو عن غيرِ رَوِيَّةٍ سابقة، وفِكرةٍ مستقرَّةٍ تُريدُ أن تَبرُزَ إلى الوجودِ في الوقت المناسب، حتى تتهيَّأ لها الظروف؛ وإنْ سَبَق اللسانُ فأظهَرَ مكنونَ الضمير. فأنتم تُسَجِّلون في هذا التصريح أنَّ هناك شيئًا اسمُه "الدولة الحديثة"، وهي التي فَهِمَها كمال أتاتورك، وشَكَّل على غِرارِها "تركية"، وتُصرِّحون في كلامكم كذلك أنَّ هذه الدولة هي التي تستطيعُ وحدَها في الأحوالِ العالمية أن تعيشَ وأن تنمو. ومعلومٌ أن أتاتورك في دولته الحديثة قد تجرَّد من كلِّ المظاهر الإِسلامية، فكأنَّكم في هذا تُعلِنون -في صراحةٍ - أن مصرَ لا تستطيعُ أنْ تعيشَ وأن تنموَ في الأحوالِ العالَميةِ الحاضرةِ إلاَّ إذا تجرَّدت في الأخرى من كلِّ مظاهِرِ الإِسلام -كما فَعَلت "تركية"-.

الرئيس السادات

وكأنَّ هذا هو عنوانُ مِنهاجِكم ومِحورُ الإِصلاح الذي تريدونه لهذا الوطنِ بعدَ الانتهاء من قضاياه الخارجية، ولستَ رجلاً من آحاد الناس، بل أنت زعيمٌ يؤولُ إليه الحُكْمُ، وتُلقَى إليه مقاليدُ الأمة. هذا التصريحُ دليلٌ ماديٌّ بين يَدَيِ الذين يَرَوْن أن "الوفد" يَعملُ على سياسةٍ إنْ لم تكن تناوِيءُ الإِسلامَ، فهي -على الأقلِّ- لا تستمدُّ منه، ولا تُعنَى بشأنه، ويَسُرُّها أن تتخلَّص مِن تِباعتِه" (¬1). * الرئيس السادات: ° نشرت جريدة "الأخبار" أولَ مارس 1979 م في مَطلعها العنوان الكبير "الرئيس السادات يتحدَّثُ إلى أساتذةِ جامعةِ الإسكندرية": "لا دينَ في السياسة، ولا سياسةُ في الدين". * أين هذا من قول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ الله إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49 - 50]. ° وردَّ عليه الليثُ الهصور الشيخ "محمود عبد الوهاب فايد" في مجلة "الاعتصام" ربيع الآخر 1399 هـ، ونَشَره في كتابه "صيحة الحق"، فقال: "قال رئيس الجمهورية: "لا سياسةَ في الدين"، أيُّ دينٍ يَعنيه رئيسُ الجمهورية؟ إن كان يريدُ المسيحيةَ فهذا صحيح .. ولكنْ بالنسبةِ للديانة ¬

_ (¬1) "حسن البنا" لأنور الجندي (ص 402 - 403) - دار القلم.

مدح القذافي لأتاتورك، وإعجابه به وبمنهجه العلماني

الإِسلامية، فإنَّ الأمرَ يختلف كلَّ الاختلاف .. بل المسلمون جميعًا -وعلى رأسهم علماؤهم قديمًا وحديثًا- يؤمنون بأن الإِسلامَ دينٌ ودولة، هدايةٌ وسياسة، عقيدةٌ وحُكم، عبادةٌ ومعامَلة، تهذيبٌ وأخلاق، قِيمٌ رُوحيةٌ وإنسانيةٌ ودَولية، آمَنَ بهذا المسلمون، واستقرَّ في أذهانِهم، لم يَجْهَلْه أحدٌ من العوامِّ، بل اعتَرَف به خصومُ الإِسلام" (¬1). ° ودخل أحدُ المراسلين الأجانب في مكتب الرئيس، فوجد صورةَ أتاتورك، فقال المراسل: "توقَّعتُ أن أرىَ صورةً لزعيمٍ عربي، فإذا أنا بصورة أتاتورك!! وقال الساداتُ مشيرًا إلى الصورة: هذا مَثَلي الأعلى". وعلى الدَّرب سار مَن بعده وقالها في خطابٍ له. * مَدْحُ القذَّافي لأتاتورك، وإِعجابُه به وبمنهجه العِلماني: ° قال القذافي: "عندما جاء أتاتورك .. وكان على الأقل مش كيف هو حاصل الآن، قال واللهِ ما نَبقى نَفصِلُ الدينَ عن الدولة، وهو مسلم، اسمُه "مصطفى كمال أتاتورك"، اسمه "مصطفى" على اسم النبي، لم يَقُل إن تركيا يجبُ أن تكونَ مُلْحِدَة، قال: تركيا دولةٌ إسلامية، وتبقوا مسلمين، ولكن قال: أنا عندي طلب واحد، قال لهم: أريدُ أنْ أفصلَ الدينَ عن الدولة .. كيف؟ إنَّ الدولة وهي دولة وضعية تُعالج مشاكلَها الاجتماعيةَ والاقتصاديةَ وفقًا للعصرِ التي هي فيه، أما الدين خلُّوا كلَّ واحد يُصلِّي ويحجُّ ويصوم .. يصلِّي بالمسجد، يَبني مسجدًا. جاء المتعصِّبون الذين سَمَّوْا أنفسَهم "علماء" في ذلك الوقت، وقالوا ¬

_ (¬1) "صيحة الحق" للشيخ محمود عبد الوهاب فايد (ص 34 - 50).

وفرية أخرى: ادعاء النبوة

له: مستحيل، هذا كفر، إذا فصلتَ الدين عن الدولة هذا كفر، ناداهم وقال لهم: أرجوكم هاتوا لي فتوى، فقط فتوى تجعلُني أُعْلِن باسم الإِسلام، وإنَّ الإِسلامَ يُبيحُ لي فَصْلَ الحكومة عن الدين، اجعلوا الحكومة لوحدها، واتركونا مسلمين كما كُنَّا، قالوا له: مستحيل .. هذا كُفر .. قال لهم طالَمَا هُوَّ كُفْر، فأنا ذاهبٌ إلى قِمَّة الكفر، وهذا هو القرآن .. وهذا هو الإِسلام .. وأحضِر لي السيف لأقطع رقابهم، وهَرَب من الشبابيك علماءُ الإِسلام كلُّهم .. ومن تلك اللحظة كانت نكبةً على الإِسلام، أُعلِن الإلحادُ والكفر .. قال: هذا الدين الذي يُكبِّلُني ولم يتركْني أتصرَّف في تركيا لكي تواجِهَ أعداءَها وتنهضَ من جديد، قال: أنا لا أُريد هذا الدين .. وأتاتورك مظلوم" (¬1). * وفرية أخرى: ادِّعاء النبوة: أعدَّت الكاتبةُ الإيطالية "ميريلا بيانكو" كتابًا باللغة الفرنسية، صَدَر عن شركة " stoc" في باريس، وطُبع في مطابع "دار الشورى" ببيروت في 15/ 2/ 1974 م تحت عنوان "القذافي رسول الصحراء". وكان سؤالُ المؤلِّفة لمعمَّر القذافي بهذه العبارة: "يا رسول الله!! أرعيتَ الغَنَم؟ فأجاب العقيد: بلى، فلم يكن هناك نبيٌّ لم يفعلْ ذلك". Envoyed. allah tuas donce etetre de moutons؟ Qui etil yapas de prophete Qui ne laitete. ¬

_ (¬1) " وثائق خطابات وأحاديث القذافي" ونقل عنه يوسف كمال في كتابه "العصريُّون معتزلة اليوم" (ص 57).

° وكتب إليه الشيخ ابن باز: "وهنا أمرٌ عظيمٌ يُهِمُّ القُرَّاء والمسلمين يتعلَّقُ بفخامة العقيد، ويجبُ علينا التنبيهُ عليه وبيانُ حُكمِه، وهو أن الكاتبة الإِيطالية "ميريلا بيانكو" قد ذكرت في كتابها "القذافي رسول الصحراء" (ص 241) عن فخامةِ العقيد ما يدلُّ على أنه يدَّعي أنه رسولٌ من رُسُلِ الله، وقد خاطَبَتْه في الصفحة المذكورة بقولها له: "يا رسول الله، أكنتَ راعيَ غنم؟ فأجابها بقوله: بلى، فلم يكن هناك نبيٌّ لم يفعلْ ذلك"، وهذا الجواب يقتضي إقرارَه لها على أنه رسولُ الله؛ لأنه لم يُنكِرْ عليها، ولم يَقُلْ: "لَستُ برسول"، ومعلومٌ أن دعوى الرسالةِ أو النبوةِ بعد نبيِّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - كفرٌ أكبرُ، وضلالٌ عظيمٌ، ورِدَّةٌ عن الإِسلام بإجماعِ المسلمين؛ لأن ذلك تكذيبٌ لقول الله -عز وجل-: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، وتكذيبٌ لِمَا تواترت به الأحاديثُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدالةُ على أنه خاتَمُ النبيين والمرسلين -لا نبيَّ بعدَه ولا رسول-، وقد قاتَلَ الصحابة - رضي الله عنهم - مَن ادَّعى النُّبوةَ بعدَه، واعتَبروه كافرًا حلالَ الدمِ والمالِ، كالأسود العَنْسيِّ، ومسيلِمةَ الكذَّاب، والمختارِ بن أبي عُبيدٍ الثَّقَفي، وقد أجمَعَ علماءُ الأمةِ إجماعًا قطعيًّا على أن نبيَّنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - هو خاتمُ النبيين والمرسلين -لا نبيَّ بعدَه ولا رسول-، وقد كَفَّر العلماءُ في عصرِنا -وقَبْلَ عصرِنَا- "مرزا غلام القادياني" لَمَّا ادَّعى النبوة، وكَفَّروا مَن صَدَّقه في ذلك. فالواجبُ على فخامةِ العقيد أن يُعلِنَ في وسائل الإعلام تكذيبَه لِمَا زَعَمَتْه هذه الإيطالية، وأنه يَبْرأ إلى الله من ذلك -إن كان ذلك لم يَقَع منه-،

فإن كان وقع منه، فالواجبُ عليه إعلانُ التوبةِ النَّصوح من ذلك، ومَن تاب تاب اللهُ عليه، كما دَلَّ على ذلك كتابُ اللهِ المجيدُ وُسنَّةُ رسولِه الكريم -عليه من ربِّه أفضل الصلاة والتسليم-، ومن قول الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159 - 160]، فبيَّن سبحانه أنه لا بدَّ من إعلانِ التوبة وبيانِ ما كُتم من الحق، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "التوبةُ تَهدِمُ ما كان قبلها"، والآياتُ والأحاديثُ في هذا المعنى كثيرة، ونسألُ اللهَ أن يهديَنا وإياه سواءَ السبيل، وأن يَمُنَّ علينا وعليه -وعلى سائر المسلمين- بالتوبةِ النصوح من جميعِ الذنوب، إنه وَليُّ ذلك والقادرُ عليه، وصَلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان" .. انتهى رد فضيلة الشيخ ابن باز على القذافي (¬1). * * * ¬

_ (¬1) مجلة "البحوث الإِسلامية" - العدد الخامس محرم - جماد الثاني 1400 هـ تحت عنوان "إيضاحات وتنبيهات" لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز (ص 262 - 263)، ومجلة "المجتمع الكويتية" العدد 393 (ص 21)، وكتاب "السنة باعتبارها مصدرًا من مصادر التشريع الإِسلامي" لمحمود صالح شريح (ص 353 - 354). وهذه رسالة ماجستير في الشريعة الإِسلامية بالجامعة بالمدينة المنورة.

عدو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الوجه الكالح للعلمانية: الرئيس التونسي بورقيبة وتلامذته

* عدوُّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، الوجهُ الكالحُ للعلمانية: الرئيسُ التونسيُّ بورقيبة وتلامذته: الوجهُ الكالحُ للعِلمانية .. القزمُ القميئ .. المحادُّ للهِ ورسولهِ بورقيبة رئيسُ تونس السابق وعِصابتُه الذين ضيَّعوا الإِسلامَ وهُوَّيةَ تونسَ الإِسلامية وجامعةَ الزيتونة الغرَّاء، واستبدلوا به قبَّعةَ الغربِ ورِجسَه وإيدزه .. يُرَمْرِمُ مِن فُتاتِ الكفْرِ قوتًا ... ويَعْلُقُ من كؤوسِهِمُ الثُّمَالةْ يُقَبِّل راحةَ الإفْرِنجِ دومًا ... ويَلثُمُ دونما خَجَلٍ نِعالهْ بورقيبة الذي أَجبر الشعبَ التونسيَّ على الإفطارِ في رمضان لزيادةِ الإنتاج، وسَنَّ هو وتلامذتُه التشريعاتِ الوضعيَّةَ لمساواةِ المرأةِ بالرجل في الميراث .. وسار بتونسَ في رِكابِ الغرب، وعند الله جزاؤه هو وعصابته .. وللإِسلام منهم كلَّ يوم ألفُ مُبكية. وفي زمنِ خليفتِه "زين العابدين" .. عَقَد وزيرُ الداخلية التونسيُّ مؤتمرًا صحفيًّا كبيرًا، وقال فيه: "إن تونس أقرَّت نظامًا جديدًا لتنظيم صلاة المسلمين"، وشَرَح "جَنَابُه" كيف قرَّر الحاكم -صانعُ التغييرِ- أن يُنَظِّم للناسِ كلَّ شيءٍ، حتى مكانَ وزمانَ الصلاة. ° فقد ذكَرَت صحيفة "صوت الحق والحريَّة" التونسية أن وزيرَ الداخلية حذَّر المواطنين من مخالفة هذا القرار الخطير، وقال: "إنه يَتعيَّن على كلِّ تونسيٍّ الحصول على "بطاقةِ مُصَلًّ" وأنْ يُودِعَها عند أقربِ قِسمِ شرطةٍ أوْ حَرَسٍ وطنيٍّ، وستَحملُ البطاقةُ صورةَ المُصَلِّي وعنوانَه، واسمَ المسجدِ الذي يَنوي ارتيادَه، وحَسْبَ الإِجراءاتِ الجديدةِ يتعيَّن وُجُوبًا على

المُصَلِّي اختيارُ أقرب مسجدٍ لمكانِ إقامتهِ أو عملِه". ° وزيرُ الداخلية حرَّض أئمة المساجد على المُصَلِّين، وحذَّرهم من اختراقِ هذا القرار، وطالَبَهم بطَردِ أيِّ مواطنٍ ليس معه بطاقةُ صلاة، وأن يُنبِّهوا على هؤلاءِ المصلِّين بإبرازِ البطاقةِ على بابِ الجامع كيْ يُسمَحَ له بالدخول!! ° الأجملُ أن البطاقةَ لا تجوزُ إعارتُها، ويمُنع التنازلُ عنها للغَير، وإذا قرَّر صاحُبها الانقطاعَ عن الصلاة، فإنَّه مُطَالَبٌ بتسليم بطاقتهِ لأقربِ مركزِ شرطة!!. ° شدَّد الوزير ونَبَّه وعَمِلَ ما عليه، وقال للناس حتى تَفهم: "مِن حقِّ كلِّ مُصَلٍّ أداءُ الصلواتِ الخمسِ -طبعًا والنوافل-، لكنْ في مسجدٍ واحدٍ فقط". ° ولم يَتركْ ثغرةً في القرار، ولم يَفُتْهم شيءٌ، حتى زُوَّارُ تونس من المسلمين أبناءِ البلاد المنكوبة الأخرى، فسيُطَبَّق عليهم القرارُ فَورَ دخولهم، بل عليهم أن يَطلبوا بطاقاتِهم من نِقاطِ شرطةِ الحدود، لكنْ يا لَحَظِّ وسَعَادة الزُّوَّار، فقد سَمَح لهم الرئيسُ ووزيرُه بالصلاة في أيِّ مسجد .. أيِّ مسجد؛ فالبطاقةُ التي يحملونها مِثل "الماسْتَرْكِي" تَفتحُ أيَّ باب، لكنْ عليهم إعادةُ البطاقةِ قبل المُغادَرة!!. ° وللأسف اختلط الأمرُ على بعضِ المواطنين مِمَّن لم يفهموا ويستوعبوا، واختلط علينا كذلك كمسلمين في دولةٍ إسلاميةٍ وعربيةٍ مُجاورةٍ لتونس.

العلمانية دجل وكذب

فلم نَعرفْ حتى الآن: هل يَسري القرارُ على صلاة الفَردِ في منزله، أو في أيِّ مكان؟ وماذا لو صلَّى جماعةً بأهلِه أو زملائِه مثلاً؟ هل يَقبلُ الرئيسُ صلاتَه ويَضمُّها إلى ميزانِ حسناتِه كمواطن، أم تُعَدَّ لاغيةً؛ لأنها من غيرِ بطاقة؟! إننا نجري بسرعةِ الصاروخ نحوَ المُتحف، فمكانُنا محجوزٌ إلى جِوار الديناصورات. إيهٍ يا بورقيبة .. يا بؤسَ مَن يموتُ وتبقى ذنوبُه مِن بعدِه. إيهٍ يا زينَ العابدين؛ صَدَق الله العظيم وكذبتَ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114]، ونحن على موعدٍ مع خِزيك وذُلِّك. * العلمانيَّة دَجَلٌ وكَذِب: ° يقول الشيخ محمد الغزالي عن العلمانيِّين: "لِماذا لا نسَمِّي هؤلاء بأسمائِهم الحقيقيَّة؟ والاسمُ الحقيقي لهؤلاء: "المرتدون"، فهؤلاء قد مَرَقوا من الدينِ مُرُوق السَّهْمِ من الرَّمِيَّة، ولم يَعُدْ في قلوبهم توقيرٌ لله تعالى، ولا تعظيمٌ لكتابه، ولا احترامٌ لرسوله، ولا انقيادٌ لشريعته". ويَعْجَبُ الغزاليُّ من موقفِ هؤلاء المرتدين في حقيقة أمرهم، لماذا يحرِصون على أنْ يحتفِظوا باسمِ الإِسلام، وأن يَظَلُّوا محسوبين على المسلمين، والإِسلامُ منهم براء؟! وهؤلاء هم الذين ينطبق عليهم قولُ

مؤتمر "الثقافة العربية" بالقاهرة، "نحو خطاب ثقافي عربي - من تحديات الحاضر إلى آفاق المستقبل" في 3/ 7/ 2003

المثقَّب العَبْدي: فَإمَّا أن تكونَ أخي بصدْقٍ ... فأعرفُ منكَ غثِّي من سَمِيني وإلا فاطَّرِحْنِي واتَّخِذْني ... عَدُوًّا أتَّقيك وتتَّقيني كان هؤلاء العلمانيُّون يَظْهرون في أثوابٍ متباينةِ الأشكال، فقد يَلْبَسون لُبوسَ "اليسار الثوري"، وقد يَلبَسُون لبوس "اليمين الليبرالي"، وقد يتحلَّون بعباءة "القوميَّة العربية"، وقد يَبدُون في أثوابٍ أُخَرَ، ولكنَّهم جميعًا شركاءُ في الجُرأةِ على الله -تباركت أسماؤه-، وفي التعالُمِ عليه جَلَّ عُلاه، والاستدراكِ على شرعه! فهم يَزعُمون أنهم أعلمُ من الله بخَلْقِه، وأبرُّ منه بعبادِه، وأنه تعالى حين شَرعَ لهم ما شَرعَ لم يكن يَدرِي ما يَحدثُ لهم من تطوُّرات، وما يَجرِي عليهم من أحداث، فهم لذلك يرفضون حُكمَه، وحُكمَ رسولِه، ولا يرتَضُون مَرجعيَّةَ الإِسلامِ فيما شَجَر بينهم". * مؤتمر "الثقافة العربية" بالقاهرة، "نحو خطاب ثقافي عربي - من تحديات الحاضر إِلى آفاق المستقبل" في 3/ 7/ 2003: هذا المؤتمر المشبوهُ النَّكِد هو مُؤتمرُ ترحيلِ الإِسلام واستباحتُه الذي عَقَدته وزارةُ الثقافة المصرية بمقر المجلسِ الأعلى للثقافة، وحَشَدت له نحوَ سبعين ومئةٍ من المثقَّفين العرب والمصريين، معظمُهم من الشيوعيِّين وبعضِ الليبراليين على مدى ثلاثةِ أيامٍ -من الأول إلى الثالث من يولية- تطاوَلَ الأقزامُ واستباحوا الإِسلام، وعَبَروا مرحلةَ الخِداع والمداراة إلى مرحلةِ المباشرة والفجور .. وكان المؤتمر حَربًا ضروسًا على الإِسلام -أصولِهِ

وفروعِه-، تمهيدًا لترحيلِه من مصرَ وطرده منها حقيقةً لا خيالاً .. فقد قالوا: - إنَّ القرآنَ لم يَعُدْ صالحًا لإدارةِ شؤون الحياة؛ لأنه "مُنْتَهٍ" أيْ ضيِّقٌ محدودٌ، وواقعُ الحياةِ غيرُ مُنتهٍ، فكيف يَصلحُ المنتهي "القرآن" للحكمِ غير المنتهي؟!. - وأنَّ الأحاديثَ النبويَّةَ كلهَّا مكذوبةٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا عَشَرةَ أحاديث، فلا يجوزُ العملُ بهذه الأحاديث المكذوبة. - لا يجوزُ الاقتداءُ بأصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم هم الذين زَوَّروا الأحاديثَ النبويَّة. - حَذفُ المادةِ التي تجعلُ الإِسلامَ هو دينُ الدولةِ الرسميِّ، لتصبحَ مصرُ دولةً لا دِينَ لها. - إلغاءُ الحلال والحرام (¬1). - "ودعوةُ الحكومات إلى اتخاذِ موقفٍ محايدٍ في صراعِ الأفكار والاجتهادات، دون توظيفٍ دينيٍّ للسياسة، أو توظيفٍ سياسيٍّ للدين "يعني بالعربي الفصيح دَعُوا كلَّ مَن يحاربُ الإِسلامَ يعملُ براحته دون أن يزعجَه أحدٌ أو يردَّ عليه أحدٌ، فضلاً عن إقصاءِ الإِسلام من الحياةِ الإِسلامية، وِفقًا لِمَا دعا إليه أحدُهم من ضرورةِ حذفِ "المادة الثانية" من الدستور التي تتحدَّثُ عن الشريعة الإِسلامية بوصفها المصدرَ الأساسيَّ ¬

_ (¬1) "ترحيل الإِسلام عن مصر" مقالة للدكتور عبد العظيم المطعني بجريدة "آفاق عربية" العدد (616) الخميس الموافق 17 من جمادى - يوليو 2003 م.

الدكتور العفيف الأخضر التونسي، يدعو إلى حذف كلمة "الكفار" من الفقه الإسلامي، وتحرير الوعي الإسلامي من قيمة "الحلال والحرام"!!!

للتشريع، وضرورةِ الفصلِ بين الدين والدولة! " (¬1). * الدكتور العفيف الأخضر التونسي، يدعو إِلى حذفِ كلمة "الكُفَّار" من الفقه الإِسلامي، وتحريرِ الوعي الإِسلاميِّ من قيمة "الحلال والحرام"!!!: العفيفُ الأخضر، صاحب مدرسة "التغيير الديني" في تونس، الذي يتباهَى بأنه كان وراءَ إغلاقِ "جامعة الزيتونة"!!. وطَرَح العفيفُ في هذا المؤتمر مشروعَ "تعليم تنويري" -على حد قوله-، قائمًا على تعميم التجربة التونسيَّة في جميعِ البلاد العربية، وأن هذا التعليمَ قائمٌ على تحرير العِلمِ من الوِصايةِ والنصوصِ الدينية، والاعترافِ الكاملِ بحقوقِ المرأةِ في كلِّ شيء. كما ذَكَّر العفيفُ بالعمل على ضرورةِ إقصاء كلمة "الكُفَّار" من الفقه الإِسلامي، واعتبَرَ هذه التسميةَ تَفْرِقةً عنصريةً، وطالَبَ بضرورةِ تدريسِ مادة "حقوق الإنسان"، في كافَّةِ مِنَاحِي الحياة بجميع الدول العربية كما هو الحال في تونس لتحرير الوعي الإِسلامي من قيمة الحلال والحرام" (¬2). ¬

_ (¬1) من مقالة "استباحة الإِسلام" للدكتور حلمي القاعود - جريدة آفاق عربية - العدد (616) الصفحة الأخيرة (14). (¬2) مقال "مصيبة" - جريدة الشعب - العدد (331) (ص 3).

الشامتون بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - "حركة البغاء بحضرموت" أيام الردة

* الشامِتُون بموتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - "حركة البِغاء بحَضرمَوْت" أيامَ الرِّدَّة: قامت بعضُ بناتِ اليمن من يهودَ أوْ مَن لفَّ لَفَّهم، في حَضْرَموت، فقد طِرْنَ فَرَحًا بموتِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقَمْنَ الليالي الحمراءَ مع المُجَّانِ والفسَّاق، يُشَجِّعْنَ على الرذيلة، ويُزرِينَ بالفضيلة، فقد رَقَص الشيطانُ فيها معهنَّ وأتباعهُ طَرَبًا لنكوصِ الناس عن الإِسلام والدعوةِ إلى التمرُّد عليه وحَربِ أهله (¬1)، لقد حَنَّتْ تلك البغايا إلى الجاهلية وما فيها من المنكَرات، وانجَذَبْنَ إليها انجذابَ الذُّبابِ إلى أكوامٍ من الأقذار، فقد تَعَوَّدْنَ على الفاحشة في حياتِهنَّ الجاهلية، فلما جاء الإِسلامُ حَجَزَتْهنَّ نظافته عنها، فشَعُرْنَ وكأنهنَّ بسِجنٍ ضيق يَكَدْنَ يَختَنِقْنَ فيه، ولذا ما إنْ سَمِعْنَ بموتِه - صلى الله عليه وسلم - حتى أظْهَرْنَ الشماتةَ، فخَضَبْنَ أيديَهنَّ بالحِنَّاء، وقُمْنَ يَضْرِبْنَ بالدفوف، ويُغنِّينَ فَرَحًا، فقد تحقق لهن ما كنَّ يتمنَّينَه على السُّلطة الجديدة، وكان معظَمهنَّ من عِلْيةِ القوم هناك، وبعضهن يهودياتٌ، وقد كان لِكلا الطرفَين مِن أشرافِ القوم -العربِ واليهودِ- مصلحةٌ في الانتقاضِ على مبادئِ الإِسلام، والانقضاضِ على كِيانه، لقد عرفت هذه الحركة في التاريخ بـ "حركة البغايا"، وكنَّ نيِّفًا وعشرينَ بغيًّا متفرِّقاتٍ في قرى "حَضْرَمَوْت"، وأشهرهنَّ "هر بنت يامِن" اليهودية التي ضُرب المَثَلُ بها في الزنا، فقيل: "أزنى مِن هر"، وَيذكر التاريح أن الفُسَّاقَ كانوا يتناوَبونها لهذا الغرض في الجاهلية، ولكنَّ هؤلاء السواقطَ لم يُتْرَكْنَ وشأنَهُنَّ يُفسِدْنَ في ¬

_ (¬1) "حركة الردة" للعتوم (ص 119).

المجتمع كما يحلو لهنَّ (¬1)، فقد وَصَل الخبرُ إلى الصِّدِّيق، وأَرسل رجلٌ مِن أهلِ اليمن إليه هذه الأبيات: أبلِغْ أبا بكرٍ إذا ما جِئْتَه ... أنَّ البغايا رُمْنَ أيَّ مَرامِ أظهَرْنَ من موتِ النبيِّ شماتةً ... وخَضَبْنَ أيديَهُنَّ بالعُلاَّمِ (¬2) فاقطَعْ هُدِيتَ أكُفَّهُنَّ بصارمٍ ... كالبَرقِ أمضَى من مُتونِ غَمامِ (¬3) ° فكتب أبو بكر - رضي الله عنه - إلى عامِله هناك "المهاجر بن أبي أمية" كتابًا في منتهى الحزم والصرامة جاء فيه: "فإذا جاءك كتابي هذا فسِرْ إليهنَّ بخَيْلِك ورَجلِك حتى تقطعَ أيديَهنَّ، فإنْ دَفَعَك عنهنَّ دافعٌ فأعذِرْ إليه باتخاذِ الحُجَّةِ عليه، وأعلِمْه عظيمَ ما دَخَل فيه من الإثم والعدوان، فإنْ رَجَعَ فاقبلْ منه، وإن أبى فنابذْه على سواء، إن اللهَ لا يهدي كيد الخائنين .. "، فلما قرأ "المهاجرُ" الكتاب جَمَع خَيْلَه ورَجْلَه، وسار إليهنَّ، فحال بينه وبينهنَّ رجالٌ من "كِنْدة وحَضْرَمَوْت"، فأعذَرَ إليهم، فأبَوْا إلاَّ قِتالَه، ثم رجع عنه عامَّتُهم، فقاتَلَهم، فهَزمهم، وأَخَذ النِّسوةَ، فقَطَّع أيديَهنَّ، فمات عامُّتهنَّ، وهاجر بعضُهنَّ إلى الكوفة. لقد نِلْنَ جَزاءَهنَّ في مَحكمة الإِسلام العادلة، إذ أَخَذَهنَّ عاملُ أبي بكر على تلك البلاد، وطَبَّق عليهن حدَّ "الحرابة" (¬4). ° ونُقلت الأخبار للخليفة في امرأتين من بلاد حَضرَمَوْتَ تغنَّتا بهجاءِ ¬

_ (¬1) "حركة الردة" للعتوم (ص 119). (¬2) العلاَّم: الحِنّاء. (¬3) "حروب الردة" للعتوم (ص 184). (¬4) "حروب الردة" (ص 119).

الساخرون المستهزؤون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالإسلام .. تبا لهم

رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، والمسلمين، وكان قد عاقَبَهما "المهاجرُ بن أبي أمية" والي تلك البلاد، بقَطعِ أيديهِما ونَزْع ثنيَّتيهما، فلم يَرْضَ أبو بكر، وعدَّها عقوبةً خفيفةً في حقِّ هاتين المجرمتَين، وقد وجَّه إليه كتابًا بهذا الخصوص، قال فيه بحق الناعقة بشتم صاحب الرسالة: "بَلَغني الذي سِرْتَ به في المرأة التي تَغنَّت وزَمَّرت بشتيمةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلولا ما قد سَبَقْتَني فيها لأَمرتُك بقَتلِها؛ لأنَّ حدَّ الأنبياء ليس يُشبهُ الحدود، فمَن تعاطَى ذلك من مستسلمٍ فهو مرتد، أو معاهَد فهو محارِبٌ غادر" (¬1). ° وقال في الأخرى: "بلغني أنك قطعت يدَ امرأةٍ في أنْ تغنَّت بهجاءِ المسلمين ونزعتَ ثنيتها، فإن كانت ممَّن تدَّعي الإِسلام، فأدبٌ وتقدِمةٌ دون المُثْلة، وإن كانت ذمِّيَّةً لَعَمْري لَمَا صفحت عنه من الشرك أعظم، ولو كنتُ تقدَّمتُ إليك في مِثل هذا لبلغتُ مكروهًا، فأقبل الدَّعَةَ، وإياك والمُثْلَةَ في الناس، فإنها مأثم ومنفرة إلا في قصاص" (¬2). الساخرون المستهزؤون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالإِسلام .. تَبًّا لهم: * صلاح جاهين .. ومصطفى حسين: ° لله درُّ القائل في صلاح جاهين ومصطفى حسين وأمثالِهما ممن طَفَوْا على سطح المجتمع المصري، ونال من المجدِ الزائف والشهرةِ الكاذبة قسطًا كبيرًا، وصَفَّق لهما الدجَّالون طويلاً، وفُتِحت أمامَهما الأبواقُ ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" (4/ 157). (¬2) "تاريخ الطبري" (4/ 157)، و"الانشراح ورفع الضيق بسيرة الصديق" (ص 244 - 246) للدكتور علي محمد الصلابي - دار الفجر - مصر.

والصحف: زَبَدُ البَحْرِ أنتَ؟ أنت قَذَى البحر ... وما أنتَ دُرُّهُ والجواهرْ إنْ تكنْ قد كَسَوْتَ مِن صفحةِ الماءِ ... وهَوَّمتْ بالعُبابِ الزاخرْ بعضَ ريحٍ أتى بوفْرِك يومًا ... بعضُ ريحٍ يُزيل ذاك الوافرْ إنَّ مَا ترى تِجارةُ بغيٍ ... ذَلَّ في عصيرها نقاءُ الحرائِرْ وخطابٌ عَلاَ بثَغْرٍ كَرِيه ... ثُم دانتْ له جميعُ المنابرْ ° تطاوَل صلاح جاهين، ومَسَّ برسومِه الكاريكاتيرية وصورِه الساخرة علماءَ الدين وزِيَّ المرأةِ المسلمة، وغَمَزَ الصومَ والصائمين، وتهجَّم على شهرِ رمضان، وقد كان مِن أسوإِ هذه الصور كاريكاتير: "الشيخ متلوف" الذي استمرَّ في مجلة "روز اليوسف" سنواتٍ في نقدٍ لاذعٍ لكلِّ القِيمَ التي يُمثلها عالِمُ الإِسلام. ° انظرْ إليه وهو يَسخَرُ في شِعرِه العامِّيِّ من علماءِ الأمة حين جاء نابليون الصَّليبيُّ بحَمْلَتِه الفِرنسيَّةِ، فيَنسِبُ دَجَلاً وكَذِبًا إلى علماءِ الأمة كلَّ نَقِيصةٍ، ويقول في أبياتٍ له تَقْطُرُ سُمًّا وسُخريةً: زَحَف الفرنسيس وزَحَفَتْ قبلَهم جواسيسْ غايصين لقاعها وعارفين بَاعْها من باريسْ وايش عمل القاع قصير الباع .. في القِمَّة وايش تِعْمِل العمَّة في البرنيطة يا أئمة؟ العِمَّة ما اتكَلمتْ؟ (!!) وِتَنَّ صُوتْها حَبِيسْ غير مَرَّة لما البُوليس قال: نَوَّروا الفوانيسْ!

وِدَه كُفرْ طَبْعًا، ولا يُدْخل لنا في ذِمَّهْ اطَّمَن الغرب إِنَّ في بلدنا نَاس رِمَّةْ وانهش يا ديب فينا واقضي بمنتهى الهمة على اسمِ مِصر نَسَب إلى العلماء أنه عندما أنار الفرنسيُّون القاهرة، تَحرَّك علماءُ الأزهر محتجِّين بإنَّ إبقاءَ المصابيح كفر، وإشاعةَ الظلام بالليل هو ما يَعملُ له علماءُ الدين (الرِّمَم)!!. فالظُّلْمة طاعة والضوء معصية. فهذا تطاوُلٌ من القَمِيءِ القَذِر، وإفكٌ ودَجَلٌ خسيس، فقد قامت الثورة من الأزهر. ° يقول صلاح جاهين: وأنا لوا "نابيلون" لكنتْ عَدَمتُهم تقتيلْ ما دُمت أقدر أَسَيَّح دَمَّهُم في النيلْ وأخلع ذقونهم وأَبيِّن إنها تضليل على اسمِ مِصر بل إنَّ صلاح جاهين قد جاوَزَ بعد ذلك كلَّ الحدود، حين أجرى الكاريكاتير على أعلى قيَم الإِسلامِ، وسَخِرَ هذا المُلحِدُ كثيرًا من الإِسلام، وجعل كاريكاتيرَه للغَمْزِ واللمْزِ وحرْبِ الإِسلام. ° وجاء مصطفى حسين، فرسم "الديك" وزوجاته، وكتب تحته "محمد أفندي والزوجات التسع"، يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوجاته أمهاتِ المؤمنين!!. ونشرت أيضًا جريدة "المساء" المصرية التي يَملكُها مجلس قيادة الثورة المصرية سنة 1382 هـ - 1962 م صورةً كاريكاتيريةً تتمثَّل في وجه إنسان،

الشيخ ابن باز يحكم بردة من تنقص الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويرد على جريدة "المساء" المصرية

ورجل يقول: "أهو دا محمد أفندي اللي اتجوَّز 9"، والهدف معروف من وراء هذه الإشارة!!. وعلى إثْر حادث الإِرهابيين في "فيينا" رَسَمَ صورةً كَتَب تحتها يَصِفُ الإرهابيين بهذه الأوصاف: "خديجة مائير"، و"أحمد ليفي" .. إلى آخر هذه الأسماء .. لماذا اختار هذه الأسماءَ الإِسلامية الكريمة كاسم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وزوجتِه أمِّ المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - ليَصِلَها بأبغضِ الأسماء؟!!!. عامَلَه اللهُ بما يستحق، وحَشَره مع مَن هم على شاكلتِه ومَن كان ذَنَبًا لهم. * الشيخ ابنُ باز يَحكمُ بِردَّةِ مَن تَنقَّصَ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم -، ويَرُدُّ على جريدة "المساء" المصرية: حُكم مَنِ استهزأ بالرسول العظيم عليه الصلاة والسلام أو سَبَّه، أو تَنَقَّصَه، أو استَحلَّ شيئًا ممَا حَرَّمه (¬1) بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله .. لقد اطَّلعتُ على ما نَشَرَتْه صحيفةُ "صوت الإِسلام" بالقاهرة نقلاً عن صحيفة "المساء" المصرية الصادرة في 29 يناير الماضي مِنَ الجُرأةِ على الجنابِ الرفيع والمقامِ العظيم مَقامِ سيِّدنا وإمامِنا: محمدِ بنِ عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسَلَّم تسليمًا كثيرًا، بتمثيلِه بحيوانٍ من أدنى الحيوانات -وهو الدِّيك-، لا يَشكُّ مسلمٌ أنَّ هذا التمثيلَ كُفرٌ بَوَاح، وإلْحادٌ سافرٌ، واستهزاءٌ صريحٌ بمقام ¬

_ (¬1) نداء من الجامعة الإِسلامية إلى العالم الإِسلامي "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" (6/ 253).

سيِّدِ الأوَّلين والآخِرِين ورسولِ ربِّ العالمين، وقائِدِ الغُرِّ المُحَجَّلين، إنها لَجرأةٌ تُحزِنُ كلَّ مسلم، وتُدمِي قلبَ كل مؤمن، وتُوجِبُ اللعنةَ والعار، والخلودَ في النار، وغَضَبَ العزيزِ الجبار، والخروجَ من دائرةِ الإِسلام والإِيمانِ إلى حَيِّزِ الشِّركِ والنِّفاقِ والكفران، لِمَن قالَها أو رَضِيَ بها، ولقد نَطَق كتابُ الله الكريمُ بكفرِ مَنِ استهزأ بالرسول العظيم، أو بشيءٍ من كتابِ الله المُبين، وشَرْعِه الحكيم، قال الله عز وجل: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65 - 66] الآية، فهذه الآيةُ الكريمة نصٌّ ظاهرٌ وبُرهانٌ قاطعٌ على كُفرِ مَنِ استهزأ باللهِ العظيم، أو رسولِه الكريم، أو كتابِه المبين، وقد أجمَعَ علماء الإِسلام في جَميعِ الأعصار والأمصار على كُفرِ مَنِ استهزأ باللهِ أو رسولِه أو كتابِه أو شيءٍ من الدِّين، وأجمَعوا على أنَّ مَنِ استهزأَ بشيءٍ من ذلك -وهو مسلمٌ- أنه يكون بذلك كافرًا مرتدًّا عن الإِسلام يجبُ قَتلُه؛ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "مَن بَدَّل دِينَه فاقتُلُوه". ° ومن الأدلةِ القاطعةِ على كُفرِ مَنِ استهزأ بالله أو رسوله أو كتابه -أنَّ الاستهزاءَ تنقُّصٌ واحتقارٌ للمستهزَأ به، واللهُ سبحانه له صفةُ الكمال، وكتابُه من كلامه، وكلامُه من صفاتِ كمالِه عَزَّ وجل، ورسولُه محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - هو أكملُ الخَلقِ، وسيِّدُهم، وخاتمُ المرسلين، وخليلُ ربِّ العالمين، فمَنِ استهزأَ باللهِ أو رسولِه أو كتابِه أو شيءٍ من دينِه فقد تنقَّصه وأحتَقَره، واحتقارُ شيءٍ من ذلك وتنقُّصُه كفرٌ ظاهرٌ، ونفاقٌ سافرٌ، وعِداءٌ لربِّ العالمين، وكفرٌ برسوله الأمين. وقد نَقَل غيرُ واحدٍ من أهلَ العلم إجماعَ العلماء على كُفرِ مَن سَبَّ

الرسولَ الكريمَ - صلى الله عليه وسلم - أو تَنَقَّصَه، وعلى وجوبِ قتله. ° قال الإمامُ أبو بكر بنُ المنذِر - رحمه الله -: "أجمَعَ عوامُّ أهلِ العلم على أنَّ حَدَّ من سبَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - القتلُ، وممن قاله مالكٌ والليث وأحمدُ وإسحاقُ، وهو مذهبُ الشافعي" انتهى. وقوله: "عوامُّ": جَمعُ "عامة"، والعامة هنا بمعنى الجماعة، فمرادُه - رحمه الله - أن جماعاتِ العلماءِ أجمعوا على وجوبِ قَتلِ مَن سبَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. ولا شكَّ أن السبَّ يتنوَّعُ أنواعًا كثيرةً، ولا رَيبَ أن الاستهزاءَ به -عليه الصلاة والسلام- وتنقُّصَه وتمثيلَه بحيوانٍ حقيرٍ، مِن أقبحِ السبِّ وأعظمِ التنقُّص، فيكونُ فاعلُ ذلك كافرًا حلالَ الدمِ والمالِ. ° وقال القاضي عياض - رحمه الله -: "أجمعت الأمة على قَتْلِ مُتنقِّصِه من المسلمين وسابِّه" انتهى. ° وقال محمد بن سُحنون -من أئمَّة المالكية-: "أجمع العلماء على أنَّ شاتِمَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والمتنقِّصَ له كافر، والوعيدُ جاء عليه بعذابِ الله له، وحُكُمه عند الأمَّةِ القتلُ، ومَن شَكَّ في كفرِه وعذابِه كَفَر" انتهى. ° وقال شيخُ الإِسلام أبو العباس بن تيمية - رحمه الله - بعد ما نَقَل أقوالَ العلماء في شاتِمِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومتنقِّصِه في كتابه: "الصارم المسلول على شاتم الرسول" ما نصُّه: "وتحريرُ القولِ فيه: أن السابَّ إن كان مسلمًا أنه يَكفُرُ ويُقتَلُ -بغير خلاف-، وهو مذهبُ الأئمةِ الأربعةِ وغيرِهم، وقال حنبل: سمعتُ أبا عبد الله يقول: مَن شَتَم الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - أو انتَقَصه -مسلمًا

كان أو كافرًا- فعليه القتلُ، وأرى أن يُقتلَ ولا يُستتاب" انتهى. وكلامُ العلماء في هذا الباب كثير، وفيما نَقَلْنا عنهم كفايةٌ لطالب الحق. ولقد وُفِّقت صحيفةُ "صوت الإِسلام" القاهرية في رَدِّها على جريدة "المساء" المصرية ما اقتَرَفَتْه من المحاربةِ للإِسلام ومِنَ الجُرْمِ الفظيع والمُنكَرِ الشنيع في حقِّ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وشريعتِه، بقلم رئيس التحرير الشيخ "محمد عطية خميس"، ولقد أحسَنَ فضيلتُه إحسانًا عظيمًا، حيث أنكَرَ ما فَعَلَتْه هذه الصحيفةُ من الكفرِ الصريحِ والاستهزاءِ السافِرِ بسيِّد عِبادِ اللهِ وأفضل رسولٍ، واحتَجَّ على حُكَّام مصر، وطَالَبهم بوَضع حدٍّ لهذه الفتنة. وإلى القُرَّاء بعضَ كَلمتِه، قال -وفَّقه الله- بعد كلامٍ سَبَق في ردِّ مقالاتٍ شنيعةٍ كتبتها بعضُ الصحفِ المأجورة ما نصُّه: "فلا عَجَبَ بعد كلِّ هذا أن يتجرَّأَ صحفيٌّ من صَحَفِيِّي جريدة "المساء" لِيُعرِّضَ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في صورةٍ كاريكاتورية في عددها الصادر في 29 يناير الماضي، فيَرسُمُ شخصًّا له جِسمُ الدِّيك، ويقول تحت هذه الصورة: "اهوه ده -يا سيدي- محمد أفندي اللي متجوِّز تسع" .. بمثل هذا الخُبثِ تُنشرُ مِثلُ هذه الصورة التي تُعرِّضُ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وبشريعةِ الإِسلام. ° مَن الذي تزوَّج تِسعًا غيرَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أيصلُ الأمرُ إلى أنْ يُنشرَ مِثلُ هذا الرسم في جريدةٍ يوميةٍ يُشرِفُ عليها الاتحادُ القومي، وتَصِلُ السخريةُ المنكرة على شخصِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يقال عنه: "محمد أفندي"، ويُرمَزُ إليه بمِثلِ هذا الرمز؟! لماذا اختار المحرِّرُ أو الرسَّامُ "محمد

أفندي" بالذات، ولم يَختَرْ "علي أفندي" أو "سعيد أفندي" أو أيَّ اسم آخر؟ ولماذا حَدَّد العددَ بتسعٍ بالذات؟ ولم يُحدِّد بسبعٍ أو عشرٍ أو اثنَي عشر؟!. إن خُبثَ الرسَّام ظاهرٌ واضح، ولا يَحتاجُ إلى تأويلٍ والتماسِ عُذرٍ له، إنَّ مِثلَ هذا الرسم لو نُشر في أيَّةِ صحيفةٍ إنجليزيةٍ أو أمريكيةٍ أو فِرنسيةٍ -أو حتى إسرائيلية-، لقامت الدنيا وقَعَدت، ولاتُّخذت سلاحًا بتَّارًا للدعايةِ والتشهير، أمَّا أن يُنشرَ في جريدةٍ من جرائدِ هذه الأمة فتُغْمَضَ عنها الأعيُنُ، وتَمُرُّ بها مرورًا عابرًا، ومِن المؤسِفِ المؤلِمِ أن يَحدُثَ هذا في صحافتِنا، في الوقت الذي يَعملُ فيه الأعداءُ أكثرَ من حسابٍ لمشاعِرِنا نحن المسلمين، فأمريكا وإيطاليا يُريدانِ إنتاجَ فيلمٍ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا بهم يلجؤون إلى مَشيخةِ الأزهر والجامعةِ العربية ليأخذوا رأيَها وموافقتَها في كلِّ ما يتعلَّقُ بهذا الفيلم -من حوارٍ وسيناريو وخلافه-، وكان باستطاعةِ هاتَينِ الدولتينِ أن تُخرِجَا الفيلمَ كما تشاءان، وعلى النحو الذي يَتَّفق مع رُوحِهِما العِدائيةِ لنا، هذا ما يَحدثُ من أعدائنا، وهذا ما يَحدثُ من أبناء أُمَّتنا. إلى متى يَسكتُ المسؤولون عن هذه الصحافة؟ وإلى متى نَسكتُ نحن -أبناء هذه الأمة-؟ هل ننتظرُ إلى أن يَلجأَ هؤلاء الخَوَنةُ والمفسِدون إلى التصريحِ بدلاً من التلميح؟ أننتظر إلى أن يُسخَرَ من إسلامِنا في الشوارع والطرقات؟ واللهِ إنها لَفتنةٌ سوداء، يُوقِدُها هؤلاء الجُهلاءُ المأجورون، تُنذِرُ بالخطرِ الفادحِ -إنْ لم يُوضَعْ لها حدٌّ-، فإننا لن نستطيعَ أن نسكتَ بعد هذا على هذا التمادي في محاربةِ الإِسلام والأخلاق، وفي التعريضِ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشريعتِه، فالأُمةُ لا تزالُ معتزَّةً بدينها، غَيُورةً على

رسولها، فإن أرادت هذه الصحافةُ الماجنةُ أن تُعلِنَها حَربًا فلْتُعلِنْها كما تريد، ولكنْ لن نَقِفَ مكتوفي الأيدي .. وكفى! فإسلامُنا هو وطنُنا، ولا وطنَ لنا غيرُه، وإسلامُنا هو رُوحنا، ولا حياةَ لنا بسواه، وإسلامُنا هو رِزقُنا، ولا قِيمةَ للطعامِ والشرابِ عندنا بدونه، وإسلامُنا هو كلُّ شيءٍ في الوجود بالنسبة لنا .. وأقولُ هذا باسم أكثَرَ من عشرينَ مليونِ مسلم من أبناءِ هذا الشعب العزيز، ونحنُ في انتظارِ بيانٍ رسميٍّ من الاتحادِ القوميِّ وما صَنَعه مع جريدةِ "المساء" ورسَّامها والمسؤولين عنها، ومع صحافتِنا على العموم، حتى نَطمئنَّ إلى مستقبَل دينِنا، واللهُ أكبر، والعزةُ لله ولرسوله وللمؤمنين" .. انتهى كلام الشيخ محمد عطية خميس. ولقد أجاد وأفاد، وصَدَع بالحق، فجزاه اللهُ على ذلك خيرًا، وزاده من الهدى والتوفيق، وكَثَّر في المسلمين من أمثالِه من الصادِعِين بالحق بين الظَّلَمةِ اللِّئام، والحمدُ لله الذي أوجَدَ في مصرَ مَن يَنطِقُ بالحقِّ، ويَصدَعُ بالردِّ على مَن حادَ عنه، وإنْ دَل ذلك على شيءٍ، فإنما يدلُّ على أنَّ بالزوايا خبايا، وأنَّ في الرجال بقايا، ولا شكَّ أن ذلك مِن حِفْظِ الله لدينِه، وحِمايتِه لخاتمِ أنبيائِه وسيِّدِ أصفيائه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ولقد أخبَرَ اللهُ سبحانه في كتابه المجيد عن أعدائِه من الكفار والمنافقين أنهم يَسخَرون بالمرسلين والمؤمنين، ويَضحكون منهم، فلا غرابةَ أنْ سَلَك القائمون على صحيفة "المساء" مَسْلَكَ أئمَّتِهم من المشركين والمنافقين، وساروا على مِنهاجِهم الوخيم وطريقِهم الذميم، {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغونَ} [الذاريات: 53]. * قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 29 - 30] الآيات.

* وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 109 - 111]. * وقال جلَّ وعلا عن رسوله نوحٍ وقومه: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود: 38 - 39]. * وقال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79]. ففي هذه الآياتِ المُحكماتِ والبراهينِ البيناتِ دِلالةٌ ظاهرة وحُجَجٌ قاهرةٌ على أن الاستهزاءَ بالمرسلين والمؤمنين من صفاتِ الكفارِ والمنافقين والمشركين، ومِن عدِائِهِمُ السافِر وكُفرِهِمُ الظاهر. ولقد تَخَلَّقَ بعضُ القائمين على صُحفِ القاهرة في هذا العصر بأخلاقِهم، وساروا سِيرَتَهم، ونَهَجوا نَهْجَهم، فلهم حُكمُهم في الدنيا والآخرة، وقد ثَبَت عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَن تَشبَّه بقومٍ فهو منهم"، فليس مِن شكٍّ عند كلِّ مَن له أدنى مُسْكَةٍ من عِلمٍ وهُدًى أنَّ مَن شَبَّه الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - بشيءٍ من الحيواناتِ الحقيرةِ، قد تَنَقَّصه واحتَقَره، ومَن فَعل ذلك أو رَضِيَه من حاكمٍ أو صَحَفِيٍّ -أو غيرهما-، فهو كافرٌ مُلحِدٌ حلالُ

الدمِ والمال. وهنا أمرٌ عظيمٌ يَنبغي التنبيهُ له، وهو أنْ يقال: "ما السرُّ في تَشبيهِ صحيفةِ "المساء" القاهرية للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالديك دون بقيَّة الحيوانات؟ ". إنه ظاهرٌ لِمَن تأمَّله، ألاَ إنه الجحود لنبوَّته، والإِنكار لرسالته، ورَميُه بأنه ثائرٌ شَهْوانيٌّ، ليس له همٌّ إلاَّ إشباعُ نَهْمَتِه من النساء، وهذا إمْعانٌ في الكفر، وإيغالٌ في الاستهزاء والاحتقارِ للجَنَاب العظيم والمَقَام الرفيع، لَعَن الله مَن تَنقَّصَه أو رَماه بما هو بَرَاءٌ منه، وقاتَلَ اللهُ صحيفةً "المساء" القاهرية والقائِمِين عليها الراضِين بهذا الاستهزاء، فما أعظَمَ ما تجرَّؤُوا عليه من الباطل!! وما أقبَحَ ما وَقعوا فيه من الإسفافِ والاستهزاء!!. ولقد صان اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - وحماه مما قاله المُبطِلون ورماه به المفترون، فقد كان أعفَّ الناس، وأنصَحَهم لله ولعباده، وأرفَعَهم قَدْرًا، وأشرَفَهم نَفْسًا، وأشدَّهم صبرًا، وأقوَمَهم بحق اللهِ وتبليغِ رسالته، وأخشاهم لله، وأتقاهم له، وأزهَدَهم في كلِّ ما يُلوِّث مقامَه العظيم، أو يَعُوقُه عن مُهمَّتِه في الجهاد والنُّصح والتبليغ، وإنما تزوَّج النساءَ كَسنَّةِ مَن قَبْلَه من المرسلين، كما قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38]. وفي تزوُّجِه - صلى الله عليه وسلم - بتسعٍ من النساء، حِكَمٌ كثيرة، وأسرارٌ بديعة، ومصالحٌ عظيمة. منها: إعفافهن، والإحسان إليهن. ومنها: أن يَتعلَّمْنَ منه - صلى الله عليه وسلم - أصولَ الشريعة وأحكامَها، ويُعلِّمْنَها الناسَ

بعدَه -كما قد وقع-، فقد كان بَيتُ كلِّ واحدةٍ منهن مدرسةً للمسلمين والمسلمات، يَرِدُونها للتعلُّم، ويَشربون من مَعِينها الصافي عَلَلاً بعد نَهَل، ويَسألون أمَّهاتِ المؤمنين عن حياته - صلى الله عليه وسلم - وشمائِلِه وأخلاقِه وأعمالِه داخلَ بيوته وخارجَها. ومن ذلك: ما في تَعدُّدِهِنَّ من مصلحةِ التأليفِ والتعاونِ على البرِّ والتقوى، وتبليغِ القرآنِ والسُّنةِ بواسطةِ أصهارِه ومَن يَتَّصلُ بهم؛ لأنَّ أزواجَه كُنَّ مِن قبائلَ شتَّى، وذلك أبلغُ في مَقامِ الدعوةِ والتأليفِ، وأنفعُ للأُمَّةِ، وأكملُ من جِهةِ التبليغ والتعليم. ومن ذلك: ما في تَعدُّدِهِنَّ من راحته - صلى الله عليه وسلم - وأُنسِه، فإنَّ الله سبحانه قد حَبَّب إليه النساءَ والطِّيب، وجَعَل قُرَّةَ عَينِه في الصلاة، وقد صَحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الدنيا متاعٌ، وخيرُ متاعِها الزوجةُ الصالحة"، وقد جَبَل اللهُ الرجالَ على حُبِّ النساء والمَيلِ إليهِنَّ، وجَعَلَهُن سَكَنًا للرجال، كما قال عَزَّ وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]، وأعطى نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك من كمالِ الرُّجولةِ والقوةِ على القيام بأمرِ الزوجات وحقوقِهِنَّ ما لم يُعطِهِ الكثيرَ ممن قبلَه، وليس هذا بمستنكَرٍ في الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، فإنهم أكملُ الرجال رجولةً، وأعفُّهم فَرْجًا، وأقومُهم بحقِّ الله وحقِّ عبادِه، وقد كان لنبيِّ الله داودَ زوجاتٌ كثيرة، ولابنه -نبي الله سليمان بن داود- كذلك، وقدْ قوَّاهما اللهُ على الطَّوَافِ عليهِنَّ والقيامِ بحقِّهنَّ، فكيف يُستغربُ على مَن هو أفضلُ منهما وأرفعُ عند الله منزلةً -وهو محمدٌ صلى الله عليه وسلم - أن يُبيحَ الله له تِسعًا من النساء؟! مع ما في ذلك من المصالحِ الكثيرةِ -التي

تَقَدَّم بعضها-، وكلُّها تعودُ على الأمةِ بالخيرِ والإِحسان والنفعِ العام، وقد خَصَّ اللهُ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بخصائصَ عظيمة، وحباه بصفاتٍ كريمة، فبَعَثه إلى الناسِ عامةً، وجَعَله رحمةً للعالمين، واتَّخذه خليلاً كما اتَّخذ إبراهيمَ خليلا، ورَفَع منزلتَه في أعلى الجنة -وهي الوسيلة-، وجَعَله سيِّدَ أولادِ آدمَ كلِّهم، وأعطاه المَقامَ المحمودَ والشفاعةَ العُظمى يومَ القيامة، ونَصَره بالرعبِ مسيرةَ شهرٍ، وشَرَح له صَدْرَه، وغَفَر له ذَنْبَه، ووضع عنه وِزْرَه، ورَفَع له ذِكْرَه، فلا يُذكرُ سبحانه إلاَّ ذُكِرَ معه، كما في الخُطَبِ والتشهُّدِ والإقامةِ والتأذين، وخصائصُه وشمائلُه - صلى الله عليه وسلم - كثيرةٌ جدًّا، فكيف -بعدَ هذا كلِّه- تَجترئُ صحيفةُ "المساء" المصرية والقائمون عليها على الاستهزاء به والحطِّ مِن قَدْرِه وتمثيلِه بحيوانٍ من أحقرِ الحيوانات وأدناها، إمعانًا في الاحتقارِ ومبالغةً في الاستهزاء، سبحان الله ما أعظَمَ شأنه!! والله أكبر ما أوسَعَ حلمه!! {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 59]. وليس هذا الكفرُ الظاهرُ والنفاقُ السافرُ والاستهزاءُ الصريحُ بأشرفِ عِبادِ الله ومَن أخرَجَ الله به العِبادَ من الظلماتِ إلى النور -بغريبٍ من صُحُفِ الخلاعةِ والمُجون، وأبواقِ الكفرِ والإِلحاد، ومنابِرِ الظُّلمِ والعدوان ومحاربةِ الفضائلِ والدعوةِ إلى الرذائل، ليس ذلك بغريبٍ على بعضِ القائمين على صُحف القاهرة، الذين باعوا أنفسَهم للشيطان، وأعرضُوا عما جاءت به الرسل ونَزَل به القرآن، واهتمُّوا بالفراعنة والمَلاحدة وعُبَّادِ الصُّلْبان، وجَنَّدوا بعضَ صُحُفِهم لمحاربةِ الإِسلام، وطَمْسِ شعائِرِه العظِام، والتضليلِ والتلبيسِ على خفافيش الأبصار

وسفهاءِ الأحلام. ° ثم أقول: ليس هذا وحدَه جُرْمَ صحف القاهرة، فكم لهم من جرائمَ! وكم لهم من مَخازٍ! وكم لهم من مكفِّراتٍ ونواقضَ للإسلام! أليسوا هم الذين أعلنوا في كثيرٍ من صُحفهم الدعوةَ إلى الاشتراكيةِ الكافرةِ والشيوعيةِ الحمراءِ المشتملةِ على الظُّلم للعِباد؟! وزعموا -تلبيسًا وتضليلاً- أنها من الإِسلام؟! والإِسلام براءٌ من ذلك، الإِسلامُ حَرَّم على الناس دِماءَهم وأموالَهم وأعراضَهم، الإِسلامُ يحترمُ مالَ الفردِ والجماعةِ، ويَحرُسُه، ويَحميه بقَطعِ يدِ السارق، وقَتْلِ المحارِب إذا قَتَل، وقَطْعِ يدِهِ ورِجْلِه مِن خِلافٍ إذا أَخَذ المالَ فقط، ويقولُ الرسولُ العظيم - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوداع يومَ النحر: "إنَّ دِماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ، كحرمةِ يومِكم هذا، في شهرِكم هذا، في بلدِكم هذا"، متفق على صحته. • ويقول - صلى الله عليه وسلم -: "مَن ظَلَم شِبرًا من الأرضِ، طَوَّقه اللهُ إياه يومَ القيامةِ مِن سَبعْ أرَضِينَ"، متفق على صحته. • ويقول - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اقتَطَع حقَّ امرئٍ مسلمٍ بيمينِه، فقد أوجَبَ اللهُ له النار، وحَرَّم عليه الجنة"، خرجه الإمام مسلم في "صحيحه". * ويقولُ الله في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. * وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]. • وقال سيِّدُ الخَلْقِ - صلى الله عليه وسلم - فيما يَروِيه عن ربِّه عَزَّ وجل أنه قال: "يا

عبادي، إني حَرَّمتُ الظُّلمَ على نَفْسي، وجَعلتُه بينكم مُحرمًا، فلا تَظَالَموا". • وقال - صلى الله عليه وسلم -أيضًا: "لا يَحِلُّ مالُ امرئٍ مسلمٍ إلاَّ عن طِيبةٍ من نفسه". والآياتُ والأحاديثُ في هذا المعنى كثير، وقد أجمعت الرسلُ -عليهم الصلاة والسلام- في شرائِعِهم المتنوِّعةِ على عِصْمَةِ مالِ المسلم، وتحريمِ دَمِه وماله وعِرْضِه إلاَّ بحقٍّ، وأجمع علماءُ المسلمين على ذلك، ومع هذا كلِّه فدعاةُ الاشتراكية والشيوعية -وأعوانُهم على الظُّلم والعدوان- استباحوا أموالَ الناس ودماءَهم بغيرِ حق، ونَبَذوا كتابَ الله وسُنَّةَ رسولِه - صلى الله عليه وسلم - وراءَهم ظِهريًّا، ولو أنهم قالوا: قد عَرَفْنا أنه ظُلمٌ وعُدوانٌ وأقَدْمنا عليه، لكان أسهلَ عند الله وعند المؤمنين، ولكنَّ بعضَهم -مع الظلم السافِر والكفرِ الظاهر- يزعُمون أنَّ أعمالَهمُ الماركسيةَ، وتصرُّفاتِهم الشيوعيةَ، وسِيرَتَهم الكفريةَ والإِلحادية، مِن الإِسلام، ويَزعمُ لهم أذنابُهم وعَبيدُهم -تلبيسًا وتضليلاً-. أن الإِسلامَ جاء بذلك، والله سبحانه ورسوله ودينُه بَراءٌ من ذلك كلِّه: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5]، {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]. * ولقد صَدَق الله سبحانه حيث يقول -وهو أصدق القائلين-: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}. [الفرقان: 43 - 44]. ومَن زَعَم أنَّ ما يفعلُه دعاةُ الاشتراكيةِ والشيوعيةِ -من الظُّلمِ والاستبدادِ والتعدِّي على حُرُماتِ المسلمين- من الإِسلام، فهو كافرٌ ضالٌّ

كاذبٌ على الله ورسوله وعلى شرعه، كما أنَّ من أنكَرَ الحدودَ -كحدِّ السرقة أو غيره- وزعم أنها ليست من شرعِ الله -كما ينعق بذلك دعاةُ الإِلحاد من الشيوعيين وغيرهم-، فهو كافرٌ مكابرٌ مكذِّبٌ لقول الله سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38]. * ومن زعم أن الاشتراكية الماركسية مباحةٌ، وأنها من الإِسلام، أو أنها خيرٌ من الإِسلام، وأرحمُ من الإِسلام، فهو من أكفرِ عباد الله وأضلِّهم عن سواء السبيل؛ لأنه لا شيءَ أحسنُ من الإِسلام، ولا حكَمَ أعدَلُ من حكمه، ومَن جَعَل الظُّلمَ منه، ونَسَبه إليه، فقد تَنَقَّصَه وكَذَب عليه، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105]. * وقال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116 - 117]، والله سبحانه قَسَم بين الناس معيشتَهم، ورَفَع بعضَهم فوقَ بعضٍ درجاتٍ، لِتنتظمَ أمورُهم، ويَستعينَ بعضُهم ببعض، فتَكمُلُ مصالِحهم، وتَظهرُ مواهبهم، ويتميَّزُ غنيُّهم من فقيرِهم، وشاكِرُهم من كافِرِهم، وناصِحُهم من خائِنِهم، وطيِّبُهم من خَبيثهم .. إلى غير ذلك من الحِكَمِ والأسرارِ الكامنةِ في حكمةِ التفاوتِ بينهم في المعيشة والأسباب والأخلاق والعقول، كما قال تعالى -منكِرًا على المشركين الأوَّلين: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ

نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]. * وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165]. فلو سَوَّى بينهم سبحانه في المعيشةِ والأخلاق والعقولِ والأسبابِ، لَتعطَّلَتْ مصالِحُهم، ولم تَظْهرْ هذه الحِكَمُ والأسرار التي رَتَّب عليها الثوابَ والعقابَ في الدنيا والآخرة، ولم يَعرِفِ العِبادُ معانيَ أسمائه الحسنى وصفاتِه العُلى، ولم يَخضعْ أحدٌ لأحد، ولم يَعرِفْ أحدٌ قَدْرَ نِعمةِ الله عليه، ولم يؤدِّ ما يجبُ عليه منَ الشكر .. إلى غير ذلك من الأسرار والمعاني الشريفةِ والحِكَم الرفيعة التي لا يُدرِكها ولا يُوفَّقُ لها إلاَّ أهل الإيمانِ بالله واليوم الآخِرِ وأربابُ العِلم النافع والبصائر. والاشتراكيةُ استوردها أربابُها لِيُغْنُوا بها الفقراء -بزعمهم-، وإنما جَلَبوها في الحقيقة لِيُفقِروا بها الأغنياءَ، ويَسلُبوا بها أموالَ الناس بالباطل باسم "رحمة الفقراء"، ويَصرِفوها في مطامِعِهم الأشعبية وأغراضِهم الدنيئة، وشهواتهم البهيمية، ويُخمدوا بها جَذْوَةَ الحركةِ والعلم، ويَصُدُّوا بها الناس عن التفكيرِ في: حق رب العالمين، والتنافس في مصالح الحياة، والثورةِ على الكَفَرةِ والطُّغاة الملحدين. هذه حالُ الاشتراكية وأهلها، حَسدوا الناسَ على ما آتاهمُ الله مِن فضله، وتجرَّؤوا على شَرعه، وظَلَموا العبادَ، واستبدُّوا بالأموالِ والعَتاد، وحارَبوا اللهَ في أرضِه، واستكبروا عن طاعتِه وحقِّه، تبًّا لهم ما أخسَرَ صفقتهم! وأخسَّ مُروءَتهم! وأسوأَ عاقبتَهم!.

فالحَذَرَ الحَذَرَ -أيها المسلمون- من أربابِ هذه الفتنةِ العمياءِ، والبدعةِ النَّكْراء، والكُفرِ الصريح، والمعاداةِ لله ولرسوله وشرعه لعلكم تفلحون. وقد شَرعَ اللهُ في الإِسلام ما يُغني عن هذا المذهبِ الهَدَّام وُيبطِلُ كيدَ مخترعِيه الكَفَرةِ اللئامِ، فأوجب سبحانه في أموالِ الأغنياء من الزكاة وصنوفِ النفقات، وشرَع لعباده عزَّ وجلَّ من أنواع الكفَّارات والصدقات وسُبلِ الإحسان، ما تُسَدُّ به حاجاتُ الفقراء، ويستغنى به عن ظُلمِ العباد، والتحيُّلِ على سَلْبِ أموالهم، بل جَعَل سبحانه وتعالى أداءَ الزكاةِ أحدَ أركانِ الإِسلام ومبانِيهِ العِظام، وتَوعَّد مَن يُخِلُّ بها بأنواعِ العذابِ والآلام، ووعَدَ مَن بَذَلها -كما شَرع الله- بالطُّهرةِ والزكاةِ لهم ولأموالِهم، ومضاعفةِ الأجورِ وعظيم الخُلْفِ، كما قال عَزَّ وجلَّ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56]. * وقال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]. * وقال عَزَّ وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]. * وقال -وهو أصدقُ القائلين-: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]. * وقال سبحانه وتعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

والآياتُ في هذا المعنى كثيرة، فالواجبُ على المسلمين جميعًا أن يؤدُّوا ما أوجَبَ اللهُ عليهم لإِخوانهم الفقراء، وأن يَطِيبُوا نَفْسًا بذلك، وأن يَرحموهم ويَعطِفوا عليهم، أداءً لِمَا أوجَبَ اللهُ، ورَجاءً لرحمةٍ من الله، وحَذَرًا من غَضبِ الله، وسدًّا لأبوابِ الفِتَنِ والفساد، وإغلاقًا لسُبُلِ الكُفرِ والإِلحاد، وشكرًا للهِ على إنعامه، وطمعًا في المزيدِ من فضلِه وكرمه، وإرغامًا لأنوفِ الكفارِ والمُلحدِين الذين قد ساءت ظنونُهم بالإِسلام، واعتَقدوا أنه قد أَهمل جانبَ الفقراء ولم يُعطِهم حقَّهم، ولقد أخطأ ظنُّهم، وخَسِرت صفقتُهم، وكَذَبوا على الله، وحادوا عن الحقِّ الواضح. فاتقوا اللهَ -أيها المسلمون-، ومَثِّلوا الإِسلامَ في أعمالِكم وأقوالِكم، وارحَموا فقراءَكم، وأدُّوا ما أوجَبَ اللهُ عليكم من الزكاة وغيرها، لتفوزوا بالسعادةِ والنجاة، وتَسْلَموا من غَضَبِ الله وأليمِ عقابه في الدنيا والآخرة، واللهُ المسؤول أن يُصلحَ أحوالَ المسلمين جميعًا، وأن يَمنحَهَمُ الفِقهَ في دينه، وأنْ يَهديَ زُعماءَهم وقادتَهم لصراطِهِ المستقيم، وأن يُقيمَ عَلَمَ الجهاد، ويَكبِتَ أهلَ الشِّركِ والكفرِ والإِلحاد، إنه وَلِيُّ ذلك والقادرُ عليه. وصلَّى الله وسلم على عبدِه ورسولِهِ محمد وآلِهِ وصَحْبِه. نائب رئيس الجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة عبد العزيز بن عبد الله بن باز

جلال طالباني، دجال العراق وحاكمه، يسخر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

* جَلال طالباني، دَجَّال العراق وحاكِمُه، يَسخرُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ° رئيسُ العراق الحالي .. قال عنه الدكتور "محمد عباس" في مقالِهِ: "يا قرَّاء، ها هو الطوفان" (¬1): "إنه قال منذ ثلاثين عامًا: "متى نعيدُ لمحمدٍ أوراقَه الصَّفراءَ التي أتى بها على جَمَلٍ أجرَبَ؟ ". "السبيل" الأردنية بتاريخ 6/ 10/ 2004 م - دكتور أحمد نوفل. ° طالباني .. الرجل الذي لا مبادئَ له ولا ثوابتَ عنده .. الرجلُ الذي كَتب عنه الأستاذُ "طلال سلمان" في "السفير" منتصفَ التسعينات مقالةً ذائعةَ الصِّيت، عنوانها "الكُرديُّ التائه"، قال فيها: "إنه يَتلوَّنُ حَسْبَ الظروفِ والمواسم، تَجدُه كردِيًّا يُزايد على "ملاَّ مصطفى"، وشيعيًّا ينافس "الخُميني"، وناصريًّا يسابق "عبد الناصر"، وبَعْثِيًّا يتفوَّقُ على "مشيل عفلق"، وصهيونيًّا يُجادل "شيمون بيريز" .. ". والآن يَنعقدُ المزاد .. فليأتِ الأصلُ، ولْتَعرِضِ البدائلُ نفسَها .. كعرضِ الجواري والنخَّاسين للعبيد .. مَن يكْفُر أكثر من طالباني؟! من يَتَسفَّلُ أكثرَ منه؟! مَن .. مَن .. مَن؟!. ° يقول "هيكل" في حَلقةٍ مُذاعةٍ على "قناة الجزيرة" في 19/ 8/ 2004: "أنا بعرف مثلاً واحد زيَّ جلال طالباني، جلال طالباني كان صديقي. وهو موجود في القاهرة .. وأنا كنت مسؤول عن ولاده لما اضطر يسافر" .. إنه لا يعرفُه فقط .. إنه صديقُه .. وليس صديقًا عادِيًّا .. ¬

_ (¬1) مقال بمجلة المختار الإِسلامي - العدد (273) - غرَّة جماد أول 1426 هـ - 8 يونيو 2005 م (ص 80 - 95 - ص 92) بها كلام طالباني.

بل بلغت الصداقةُ مرحلة أنْ يُوصِيَه بأبنائه إذا حَدَث له شيء!!. ° ويكتب "جمال الغيطاني" في "أخبار الأدب" ملفًّا خاصًّا عن جلال طالباني في العدد (589) - تاريخ 24 تشرين الثاني 2004 يرسل الغيطاني لطالباني واحدًا من كُتَّابِ الروايات التي صادرتها وزارة الثقافة -تصوَّروا- ليكتبَ عنه كلامًا لا يجوزُ إلاَّ على الصِّدِّيقين، ثم إنَّ جمال الغيطاني يكتبُ بنفسِه افتتاحيةَ العدد مقدِّمًا للملف، مشيرًا إلى اللقاء الذي جرى في الستينات بين الزعيم الكُردي "جلال طالباني"، والرئيس المصري "جمال عبد الناصر"، وكيف أنَّ الأخيرَ عَامَل طالباني معاملة خاصةً ومتميِّزةً .. وفي أماكنَ أخرى من الملف تتَّضحُ لنا واقعةٌ مُذهِلةٌ في ضراوتها .. لقد كان جمال عبد الناصر أولَ مَن أعطى السلاح للأكراد ليبدؤوا المقاومةَ المسلَّحة ضدَّ الحكومةِ العراقية. ما علاقةُ "أخبار الأدب" بطالباني؟؟!!. ولْتقرؤا معي جُملةً في التحقيق .. جُملةً تأتي في ملف "أخبار الأدب" تُمزِّقُ السِّتر على العورات القبيحة: ° يقول مراسل "أخبار الأدب" إلى طالباني: " .. لدينا صورةٌ لامرأةٍ مقتولةٍ بسكِّينٍ في ظهرِها والجنودُ يلعبون الوَرَقَ عليها؟ هل ثَمَّةَ صورةٌ أقصى من هذه؟؟ .. ". وأين كانت تلك الأصواتُ التي تُحرِّمُ الآنَ على الكُرْد الترحيبَ بالأمريكي المُحَرِّرِ!! حينما كان "صدَّام" يقومُ بهذه البشاعات والفظاعات؟؟؟ الموضوعُ كلُّه كان إذن تزيينًا للباطل كما يُزيِّن القَّوَّادُ الزنا

لِبَغِيٍّ .. ولكي يُصبحَ الأمريكيُّ محرِّرًا والمقاومُ إِرهابيًّا، وجلال طالباني في النهاية رئيسًا .. أمَّا كلُّ مَن ذكرتُ فلِكُلٍّ منهم وظيفتُه ودَورُه في دولاب المخابرات الأمريكية والإسرائيلية .. والحلقات تُكتشف .. والسِّرُّ يَخرج من مخبئه!!. لقد كان "هيكل" مع "طالباني" في لقائه مع "عبد الناصر" عام 1963 م .. " اهـ. ° والطيورُ على أشكالها تَقَعُ .. افتَضحوا فاصطلحوا: أمَّا سماسرةُ البلاد فعُصْبَةٌ ... عارٌ على أهلِ البلادِ بقاؤُها إبليسُ أعلن صاغرًا إفلاتَه ... لَمَّا تحقَّقَ عنده إغراؤها يتنعَّمون مُكَرَّمَينَ كأنَّما ... لِنعيمِهم عَمَّ البلادَ شقاؤها هم أهلُ نجدتِها وإنْ أنْكَرْتَهُم ... وهُمُ وأنفُك راغمٌ زعماؤُها وحماتُها وبهم يَتِمُّ خرابُها ... وعلى يديهم بَيعُها وشراؤهُا ومن العجائبِ إنْ كشفتَ قُدوَرهم ... أن الجرائدَ بعضَهُنَّ غِطاؤها كيف الخلاصُ إذا النفوسُ تزاحَمَت ... أطماعُها وتدافعت أهواؤها؟! (¬1) ° يَصدُقُ في "طالباني" قول القائل: ولنا أنظمةٌ لولا العِدا ... ما بَقِيَتْ في الحكم ليلة هذا القبيح الشائهُ الكريهُ الكذَّابُ الأشِرُ المرتدُّ، يقول ما يقول عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ويُصبحُ حاكمًا لبغداد التي تولَّى خلافتَها يومًا هارونُ الرشيد مؤدِّبُ الزنادقة ومُبيدُهم من أمثال طالباني!!. ¬

_ (¬1) للشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان.

سقط الدَّرْبُ في الظَّلامِ المريرِ (¬1) ... فطواه الأسى، وما مِن مُجيرِ إنه الليلُ طال غَدْرًا وبَغْيًا ... داعرَ القلب ما له من نظيرِ لاعنًا وجهَهُ الكئيبَ سُهيلٌ ... والثريا (¬2) وكلُّ نَجمٍ زهيرِ والضِّفافُ الخَضراءُ ماجت بشَوكٍ ... قاتِلِ الوَخْزِ عابسٍ قمطريرِ (¬3) أين يا ضِفافُ ما كنتِ فيهِ ... من رياضٍ تَضُمُّ كلَّ نَضيرٍ؟! قد نماها الجَمَالُ، والسِّحرُ فيها ... ساطعَ النورِ والشَّذا والعبيرِ كنتِ للتائِهِ المعذَّبِ أمنًا ... وحِمَى الجائعِ الطرِيدِ الكَسيرِ لم تعودي -كما عهدناكِ- عِيدًا ... من لحُونٍ، ومنْ سنًا وعُطورِ * * * ويْح قلبي!! وأين نهرٌ عظيمٌ ... حاتميُّ العطاءِ بالمَوفورِ؟ كيفَ أمضي إليه؟ إني أُعاني ... عَطَشًا حارقًا كجَمْرِ السَّعيرِ هل ضَلَلتُ الطريقَ للنهرِ؟ وَيْحي ... إذْ أرى الهَوْلَ صارخًا بالنذيرِ فعلى النَّهرِ عاتياتُ الأفاعي ... بين أنيابِها اغتيالُ المَصيرِ مَن يَرُمْ (¬4) قطرةً من النهرِ ثارتْ ... بعُضالٍ (¬5) من السُّموم خطيرِ كلَّما شَبَّتِ العزائمُ منَّا ... أخرسَتْها رُؤى الفحيحِ (¬6) الهَصُورِ ¬

_ (¬1) المرير: الشديد القوي. (¬2) سهيل والثريّا: نجمان. (¬3) قمطرير: شديد قوي. (¬4) يرم: يطلب. (¬5) العضال: القاتل الذي لا شفاء منه. (¬6) الفحيح: صوت الحيَّات.

فتهاوت خُطَى الشريفِ المُعنَّى (¬1) ... نازِفَ القلب ما له مِن نَصيرِ كيف نمضي والزَّيفُ دينٌ وطبعٌ ... والنفاقُ الخسيسُ جِسْرُ العبورِ؟ والأصيلُ الأصيلُ يحيا غريبًا ... بحقوقِ الإنسان غيرُ جديرِ والعدوُّ الغريبُ فينا سعيدٌ ... ومُحاطٌ بالحبِّ والتقديرِ فاختلالُ المِعيارِ أضحْى صوابًا ... والصوابُ التَّمَامُ شرُّ الشرورِ وأُنادي بَلابِلَ الدَّوحِ عَلِّي ... أتعزَّى بشَدْوها المسحورِ فلتُجيَبي بلابلَ الدوحِ صبًّا (¬2) ... ظامئَ القلبِ والهوى والشعورِ لا أرى بُلبلاً على الدَّوحْ يشدُو ... بلْ خفافيشَ في رِياشِ الصقورِ باغِياتٍ تَعيثُ دوْمًا فسادًا ... بمغانِيهِ في غِيابِ النسورِ ونَعيقُ الغِربانِ يَسْري لحونًا ... في جِنازاتِ فكرِنا المنحورِ والسُّكارى تُميلُهم نشوةٌ حرَّ ... ىَ للحنٍ ممزَّقٍ مخْمورِ وارتدتْ لِبْدةَ الأسودِ كلابٌ ... وقَطيعُ الحميرِ جلدَ النمورِ وذُرا الراسياتِ أمستْ مطايا (¬3) ... لِحَصَى الأرضِ والبُغاثِ (¬4) الحقيرِ والفقاقيعُ قد عَلَتْ قمةَ السَّيْـ ... لِ وصارتْ أميرةً للبحورِ والخريرُ المصدورُ في الجدول الذَّا ... بل يَطغَى على هَزيمِ (¬5) الهَديرِ (¬6) ¬

_ (¬1) المُعَنَّى: المجهَد المتعَب. (¬2) صبًّا: محبًّا عاشقًا. (¬3) الذرا: القمم. (¬4) البغاث: ضعيف الطير. (¬5) الهزيم: الصوت القويّ. (¬6) الهدير: صوت البحر.

والنقيُّ الشريفُ في السِّجنِ يُلقَى ... بينما اللِّصُّ في النعيمِ النضيرِ والخَؤونُ اللئيمُ يُدْعَى أمينًا ... والأمينُ النبيلُ جِدُّ خطيرِ غيرُ مستغْربٍ فهذي أمورٌ ... عَكسُها فتنةٌ وضدُّ المَسيرِ فزمامُ الأمُورِ في كفٍّ أعمى ... أسودِ القلبِ مستباحِ الضميرِ والعَمَى ليس في العُيون ولكنْ ... في قلوبٍ مطموسةٍ في الصدور * * * وأمير العُميان يُدلِي ... ببيانٍ من قَصرِه المسعورِ ابتداءً من نشرة اليوم حتى ... تُبعثَ الأرضُ أرضُنا للنشورِ ليس "سَحْبانُ" (¬1) للبيانِ أمير ... فأنا للبيان خيرُ أميرِ لا ولا "خالد" بسيفٍ عُضاب (¬2) ... سلَّه اللهُ عاتيًا كالسعيرِ لا ولا "طارق" به قد تَجلَّتْ ... نُصرةُ الحقِّ والهدى والنورِ وصلاحُ الدين الذي قِيل عنه: ... فاتحُ القدسِ بالسلام الجَسورِ كلُّ هذا رجعيَّةٌ وادعاءٌ ... وانسحابٌ إلى ظلامِ العصورِ فاستنيروا بحِكمتي ومَسَاري ... ما هدى الشعبَ مثلُ عقلٍ خبيرِ وأنا الفذُّ قد رصدتُ حياتي ... وجهادي للنورِ والتنويرِ * * * يا أميرَ العُميان حَسبَك زورًا ... قد تماديْتَ في هَوى التزويرِ فلتَقُل ما تشاءُ فالحقُّ أبْقى ... لستَ في العِيرِ أنت أو في النَّفْيرِ ¬

_ (¬1) سحبان: أفصح أهل عصره، ويضرب به المثل في الفصاحة. (¬2) العُضاب: القويُّ القاطع.

فلقد عِشتَ مُنكِرًا كلَّ حقٍّ ... وجهولاً مُتَوَّجًا بالغرورِ غيرَ أني أَقولُ قَولةَ صِدقٍ ... لا تُبالي بسُلطة أو أميرِ تَعِسَتْ أمةٌ تراختْ فصارت ... مَرْكبًا هيِّنا لغِرٍّ (¬1) ضريرِ يَدَّعي أنه البشيرُ بطبٍّ ... قادرٍ ناجعٍ جديدٍ مثيرِ فإذا طِبُّهُ خداعٌ وزورٌ ... يَجعلُ السَّهْل ألفَ ألفِ عسيرِ يُنكرُ الأصلَ والجُذورَ ويُبقِي ... في حِماهُ الملعونِ كلَّ عَقورِ وإذا أنكر الجذورَ نباتٌ ... ماتَ في لَفحةِ اللَّظى والهجيرِ * * * وأُراني أقول: مهلاً أفيقي ... يا خفافيشُ للنذيرِ الأخيرِ إنَّ تحتَ الرَّمادِ نارًا توارتْ ... سوفَ ترمي بجمرِها المستطيرِ يا خفافيشُ قد ملِلنا فخلِّي ... ما تبقَّى من عُمرِنا المقهورِ يا خفافيشُ للخرائب عُودِي ... ها هو الفجرُ قادمٌ بالبشيرِ ارجعي -لا سَلِمْتِ- للقاع حَسْرَى ... رجعةَ الخاسرِ الذليلِ الحقيرِ فالنسورُ التي طواها غيابٌ ... عائداتٌ لوكرِها المهجورِ والظلامُ الذي علا كلَّ أُفْقٍ ... سوفَ يُمحَى أمامَ سيلِ النورِ (¬2) ¬

_ (¬1) الغِرّ: الساذج ضعيف الفهم. (¬2) العدد (2837) من مجلة "الأسرة العربية" - الأثنين 9 جمادى الأولى 1427 هـ - الموافق 5 يونيو 2006 م - (ص 10) - قصيدة للدكتور جابر قميحة.

خليل عبد الكريم و"سنوات التكوين"

* خليل عبد الكريم و"سنوات التكوين": كتب خليل عبد الكريم "سنوات التكوين في حياة الصادق الأمين"، وأصدَرَ "مَجْمَع البحوث الإِسلامية" قرارًا بحَظْرِ تداولِ وطبعِ الكتاب، بناءً على تقريرٍ قدَّمَتْه إدارةُ الثقافة والبحوث في المجمعِ، وكتبه الشيخ عبد العظيم المطعني .. واتهم تقريرُ الشيخ المطعني الكتابَ بإنكارِ الديانات السماوية والإساءةِ للرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬1). * صلاح الدين محسن، القَزم وتطاولُه وسخريتُه من القرآن الكريم: في شهر مارس من عام 2000 - أي قبل صدور رواية "وليمة أعشاب البحر" بنحو شهرين، ألقت سلطاتُ الأمن المصرية القبض على "صلاح الدين محسن"، بعد نشره رواية وصف فيها القرآن الكريمَ بأنه "كتاب الجهل البدويِّ المقدَّس" .. وفي شهر يوليو من نفس العام، قَضت محكمة أمنُ الدولة بحبس صلاح الدين محسن "ستةَ أشهُرٍ مع وقف التنفيذ"!!!! وا إسلاماه .. وا إسلاماه .. واعترضت النيابةُ العامة على الحكم، واعتَبَرتْه "في غايةِ الرأفة"، فيما رفض رئيس الوزراء "د. عاطف عبيد" المصادقة عليه، وقَرَّر إعادةَ محاكمته، وقالت النيابة: "إنَّ كُتُبَه تضمَّنت ازدراءً للإِسلام، وإثارةً للنقمة، ومسًّا بالذات الإلهية، وإنه زَعَم أنَّ الدينَ الإِسلاميَّ هو السببُ في تخلُّفِ الدول العربية، ودعا إلى قيام رابطةٍ للملحدين". وعلى أثره أُلقِيَ القبضُ عليه، وصدر في حقه حكمٌ قضائي، بحبسه ¬

_ (¬1) مجلة "روز اليوسف - العدد (3809) (ص 18) - 15/ 6/ 2001.

حيدر حيدر، وروايته "وليمة أعشاب البحر"

ثلاثَ سنواتٍ مع الشغل والنفاذ .. وقرَّر اتحادُ الكُتَّابِ المصريَين فَصْلَه من عضويَّته (¬1). * حيدر حيدر، وروايته "وليمة أعشاب البحر": ° قال الأستاذ محمود سلطان في مقاله عن "وليمة أعشاب البحر" لحيدر حيدر السُّوري: "فمن المعروف أنَّ رواية "حيدر حيدر" كانت من النوع -الذي لا يقتربُ فحسب من توصيفه- إلى ما يُشبِهُ أفلام "البورنو الجنسيَّة"، ولكنها نالت من "القرآن والسُّنة" بلغةٍ مبتذَلةٍ رخيصة، وبمفرداتٍ وخطابٍ تهكُّمِيٍّ ساخر .. ويكفى هنا أن نستعرضَ خلاصةَ رأيِ "مجمع البحوث الإِسلامية"، التابع لمشيخة الأزهر في الرواية" إذ يقول البيان: إنَّ الروايةَ مليئةٌ بالألفاظ والعبارات التي تُحقِّرُ وتُهينُ جميعَ المقدَّساتِ الدينية، بما في ذلك ذاتُ الله سبحانه وتعالى، والرسولُ - صلى الله عليه وسلم -، والقرآن الكريم، واليومُ الآخر، والقيمُ الدينية" (¬2). * الشيطان إِبراهيم خلاص: ° الضابطُ إبراهيم خلاص، الشيطان الذي نَشرت له جريدة "جيش الشعب" مقالاً قال فيه: "إنَّ اللهَ والأنبياءَ والكُتبَ المقدَّسةَ ليست سوى محنَّطاتٍ يجبُ أن تأخذَ مكانَها في مُتحف المخلَّفاتِ الأثرية" (¬3). ¬

_ (¬1) من مقالة "العلمانيون العرب من محنة الحداثة إلى محنة التنوير" لمحمود سلطان (ص 139 - 143) - مجلة "المنارِ الجديد" - العدد (23) - يوليو 2003 م - جمادى الأولى 1424 هـ. (¬2) المصدر السابق. (¬3) نقلاً عن مجلة "الدعوة المصرية" عدد (7) في 26 غرة محرم 1397.

أدونيس عراب الحداثة الكاره للإسلام: الدكتور عدنان النحوي يدعو أدونيس إلى التوبة والعودة إلى الإسلام

* أدونيس عَرَّاب الحداثة الكارهُ للإِسلام: الدكتور عدنان النحوي يدعو أدونيس إِلى التوبة والعودة إِلى الإِسلام: ° قال الدكتور عدنان النحوي في مقدمة قصيدته "لآلئ الشعر أوزان وقافية": "كتبتُ قصيدةً في "أدونيس" على إثْر إعلانه في جريدة "الشرق الأوسط" أنه يبحث عن مهندسٍ يُصمِّمُ له قبره!! قلتُ القصيدة لأُبين له ثلاثَ نقاط: - إذا مات على كفرِه المُعلَنِ الصريح هلك، وكان من أهل النار. - وما أدراه كيف يموت وأين يموت؟!. - وأخيرًا أدعوه إلى الإِسلام، عسى الله أن يغفرَ له إذا أسلم، وبَعثتُ بالقصيدة إلى مجلةٍ إسلاميةٍ معروفة، عسى أن تبلِّغه هذه الرسالةَ، وتبلِّغَه دعوتي له إلى الإِسلام عن طريقِ نَشْرِ هذه القصيدة. وبعد فترةٍ ليست بالقصيرة، وَجَدت أنَّ المجلةَ لم تنشُرْها، فاتصلتُ هاتفيًّا برئيس التحرير المسلم، أو الداعية المسلم، فماذا أجاب؟ .. قال: "القصيدةُ شديدةٌ عليه"! قلتُ له: الذي تحدَّى اللهَ وسَبَّه وسَبَّ رسولَه - صلى الله عليه وسلم -، وأنكر الإيمانَ، وحارَبَ الإِسلام، ولم يُبالِ بالعالَم الإِسلامي كلِّه، وتحدَّاهم جميعًا، أفأنت ترى القصيدةَ شديدةً عليه؟ وقلت: مع ضعفِنا هذا حُقَّ لأدونيس وغيرِه أن يستخِفُّوا بالمسلمين ويتحدَّوهم" (¬1). أدونيس عرَّاب الحداثة كان صريحًا في أطروحاته، أراد نَفْيَ الدينِ، ¬

_ (¬1) "الشعر المتفلِّت بين النثر والتفعيلة وخطره" للدكتور عدنان النحوي (ص 55) - دار النحوي.

أو إسقاطَه من معادلةِ الوجود العربي، ويَستتبعُ ذلك إسقاطُ كلِّ ما يتعلَّقُ بالإِسلام من مقوِّماتٍ حضاريةٍ ولُغويَّةٍ وتصوُّرية، وهو ما عَبَّر عنه أدونيس بالانفصال كُلِّيًا عن الماضي الذي صَنَعه الإِسلام، ولذا نَشر أدونيس في مجلته "مواقف" موضوعاتٍ عديدةً تتعرَّضُ بالنقد للدِّين والوَحْي، وتكلَّمَ عمَّا سَمَّاه بالتناقض في الوحي (!!). ° انظر إلى هذا الشيطانِ الأفَّاكِ الأثيم الذي يَمضي في عالم التِّيهِ والسَّرابِ والظُّلماتِ والوادي السحيق، يَنتقلُ بعد ذلك إلى أخطرِ جريمة، وأسوءِ كلمةٍ، وأقبحِ تَصَوُّرٍ، وأوقحِ تعبيرٍ، ينتقلُ بشكل سافرٍ واضحٍ ليهدمَ العقيدةَ والإيمانَ بهجومٍ مباشر فيقول: "اللهُ في التصوُّرِ الإِسلاميِّ التقليديِّ نقطةٌ ثابتةٌ متعالية، منفصلةٌ عن الإنسان، التصوُّفُ ذَوَّبَ ثباتَ الألوهية، جَعَل حركةَ النفسِ في أغوارِها، أزالَ الحاجزَ بينه وبين الإنسان .. وبهذا المعنى قَتَله "أي: الله"، وأعطى الإنسان طاقاته. المتصوِّفُ يحيا في سُكْرٍ يَسكر بدَورِه العالَم، وهذا السُّكرُ نابعٌ من قدْرتِه الكامنةِ على أن يكونَ هو واللهُ واحدًا، صارت المعجزةُ تتحرَّك بين يديْه" (¬1). وهكذا يَسِفُّ أدونيس ويَهوي في وادٍ سحِيق، يَهوِي في وُحول، وَيسقطُ في رجْس، ونستحي أن نُعيدَ ألفاظَه، فهي أقبحُ من كل تعليق، ورِدَّةٌ واضحة كالشمس في رابعةِ النهار، لا يختلفُ فيها اثنان. ° يقول الدكتور عدنان النحوي: "هذا كاتبٌ واحدٌ مِن كُتَّابِ ¬

_ (¬1) "مقدمة في الشعر العربي" لأدونيس (ص 131).

نزار قباني الزنديق، شاعر الإباحية وتطاوله على الذات العلية ومقام الأنبياء

"الحَدَاثة"، فما بالُك بغيرِه من الكُتَّاب، وإني أعترفُ أن استعراضَ كتاباتِهم جميعِها ضروريَّة، حتى نعرفَ الخطَّ الذي يُرسَم، والحربَ التي تُشَنُّ". ° وقال الأستاذ محمد مصطفى هَدَّارة عن "الحداثة": "إنها اتِّجاهٌ فِكريٌّ أشدُّ خطورةً من "الليبرالية والعلمانية والماركسية" وكلِّ ما عَرَفَتْه البشريةُ من مذاهبَ واتجاهاتٍ هدَّامة -ذلك أنها تتضمَّنُ كلَّ هذه المذاهبِ والاتجاهات، وهي لا تخصُّ مجالاتِ الإبداع الفنِّيِّ أو النقدِ الأدبي، ولكنها تَعُمُّ الحياةَ الإنسانية في كلِّ مجالاتها الماديَّةِ والفِكريةِ على السواء" (¬1). * نزار قبَّاني الزنديق، شاعر الإِباحية وتطاوُله على الذات العَليَّة ومَقامِ الأنبياء: ° يقول: لا تَخْجلي منِّي فهذِي فُرصتي لأكونَ ربًّا أو أكونَ رسولاً (¬2) ° ويقول: وطنٌ بدونِ نوافذٍ هَرَبتْ شوارعُه .. مآذنُه .. كنائسُه .. وَفَرَّ اللهُ مذعورًا وَفَرَّ جميعُ الأنبياء (¬3). ° وهو القائل: شكرًا لحُبِّك .. فهو مَروحةٌ .. وغَمامة وَرديَّة .. ¬

_ (¬1) "الحداثة من منظور إيماني" لعدنان النحوي (ص 40) - دار النحوي. (¬2) "المجموعة الكاملة" لنزار قباني (2/ 761). (¬3) قصيدة "هل تسمعين صهيل أحزاني" (ص 188).

وهو المفاجأة التي قد حار فيها الأنبياء (¬1). ° ويقول: مارستُ ألفَ عبادةٍ وعبادةٍ فوجدتُ أفضلَها عبادةَ ذاتي (¬2). ° ويقول: أين غرورُ الله من غروري (¬3). ° وهو القائل: لو كنتُ حاكمًا لألغيتُ مؤسسة الزواج، وختمتُ أبوابَها بالشمع الأحمر. ° وهو القائل: العُريُ أكثرُ حِشمةً من التستر. ° وفي قصيدته: "أفتح صندوق أبي" أعلن رَفْضَه لكل ما هو عربيٌّ وإسلاميٌّ (¬4). ° وهو القائل: حين وَزَّع اللهُ النساءَ على الرجال وأعطاني إياكِ شعرت أنه انحاز بصورةٍ مكشوفةٍ إليَّ وخالف كلَّ الكُتبَ السَّماويةَ التي ألَّفَها فأعطاني النبيذَ وأعطاهم الحِنطة حين عرَّفني اللهُ عليكِ ذَهب إلى بيته فالله كما قالوا لي لا يَستلمُ إلاَّ رسائلَ الحبِّ (¬5). ¬

_ (¬1) "أشعار خارجة على القانون" لنزار قباني (ص 27). (¬2) "ديوان الرسم بالكلمات" لنزار (ص 17). (¬3) "خطاب من حبيبتي" لنزار (ص 426). (¬4) "الصحافة والأقلام المسمومة" لأنور الجندي (ص 167 - 168). (¬5) "الأعمال الشعرية- الكاملة لنزار" (2/ 402).

حسن طلب مسيلمة الكذاب وكتابه "آية جيم" الذي يعارض به القرآن الكريم

° وعلى الدرب سار محمود درويش القائل: نامِي فعينُ اللهِ نائمةٌ عنَّا .. وأسرابُ الشحارير (¬1). ° والقائل: كلُّ قاضٍ كان جَزَّارًا تدرَّج في النبوءةِ والخطيئة (¬2). ° وصلاح عبد الصبور، وعبد الوهاب البياتي، وبدر شاكر السيَّاب، وبلند الحيدري، ويوسف إدريس، ويوسف السباعي، وأنيس منصور، وأمينة السعيد، ونوال السعداوي، وإقبال بركة، وعبد العزيز المقالح، وأمل دنقل .. وغيرهم وغيرهم. هذا النَّبْتُ الشيطانيُّ لا يُسْكَتُ عليه أبدًا، فهم جنودُ الشياطين الذين فاقُوه مَكرًا ودَهاءً وكَيدًا للإِسلام وشعائرِه، وعوامُّ المسلمين لا يَفطِنون لشُبَهِهِم لقِلَّةِ عِلمهم وضعفهم. ° يقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: "أليس ضعفُ المسلمين في هذه الأوقات يُوجبُ لأهل البصائر والنجدةِ منهم أن يكونَ جِدُّهم ونشاطُهم وجِهادُهم الأكبر متضاعِفًا، ويقوموا بكلِّ ما في وُسعِهم لينالوا المقاماتِ الشامخة، ولينجوا من الهُوَّةِ العميقة التي وقعوا فيها؟ أليس هذا مِن أفرضِ الفرائضِ وألزَمِ اللازمات في هذه الحال؟ " (¬3). * حَسَن طلب مُسيلمة الكذَّاب وكتابُه "آية جيم" الذي يعارض به القرآن الكريم: الاعتمادُ على حرفٍ من حروفِ المعجم هو تقليعةٌ "مملوكية"، بَعَثها ¬

_ (¬1) "الأعمال الكاملة" لمحمود درويش. (¬2) "الأعمال الكاملة" لمحمود درويش. (¬3) "انتصار الحق" (ص 7) للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي - المكتبة السلفية.

كُتَّابُ وشُعراءُ "الهالوك" مرةً أخرى، وزَعموا "حداثيَّتها"، حيث كان الشعراءُ في أواخِرِ العصرِ المملوكيِّ يأخذون من أحدِ الحروف -أو أكثرَ من حرفٍ- وسيلةً في نَظْمِهم للتدليل على قُدرتِهم اللغويةِ، والعَرُوضية، وقُدرتِهم أيضًا في مجال القافية، وأبرزُ الأمثلة على ذلك ما عُرف بالبديعيات والألغاز والتواريخ، وقد ازدَهَرت جميعًا في العصرِ العثماني، وجاء "الهالوك"، ليخدَعوا الناسَ بقُدرتِهم على التجديدِ والإتيانِ بما لم تأتِ به الأوائل، وما دَرَوا أنهم قَدَّموا "تقليعةً" رديئةً كانت مَظهَرًا من مَظاهِرِ الضَّعفِ والخَواء في العَصرَينِ المملوكيِّ والعثماني. صاحب "آية جيم" لم يُقدِّمْ فيها أكثرَ مِن نَظمٍ لمعاني "حرف الجيم" الموجودةِ في المعاجِم، وهو نَظمٌ باردٌ وركيك، يدلُّ على أن صاحبَه يَهزأُ بالعقولِ والأفئدةِ، فضلاً عن جَراءتِه على المفهومِ القرآنيِّ لمعنى كلمة "آية" حيثُ اتَّخذ منها عُنوانًا لمنظومتِه الرديئةِ، فضلاً عن ادِّعائِه وافترائِه بأن القرآنَ قد ظَلَم حرف "الجيم" بعدم استخدامِ ألفاظٍ تعتمدُ عليه .. تُرى ماذا في هذا النصِّ من قِيَمٍ شعريةٍ عالية؟ يقول: "جيمٌ جَمَزتْ أم جيمٌ بَجمَتْ؟ جيمٌ من يأجوج ومأجوجَ تَجُخُّ وتجأرْ جيمٌ كالجلواز الأعْجَرْ وجُهَاداها: إجهاضُ الجيمِ المسجونةِ بين الجامع والمتجَرْ أم جيم تتهجَّى وتجاهِرُ:

الهيئة المصرية للكتاب تطبع قرآن مسيلمة الكذاب!!

جيمٌ تتفجَّرْ؟! ". ° ترى بماذا نَخرجُ من هذا الكلام؟ وما هي القِيَمُ الجَماليَّةُ التي يُمثِّلها ويؤدِّيها؟! ثم لنقرأْ قوله: "جيمٌ حَجْناءُ، وجِيمٌ جَبَّاءُ، وجيمٌ بَجْراءُ، وجيمٌ عَجراءُ، وجيمٌ جيميه. مَن جَعَل الجيمَ مفاجأةً وأهازيج جزافيه؟ " (¬1). هل زاد المذكور على رَصِّ معاني "الجيم" المعجمية؟!. هل أضاف جديدًا بتساؤله عن الجيم المفاجأة والأهازيج الجزافية؟! ألاَ يذَكِّرُنا ذلك بمَن كان يقول: "الأرضُ أرضٌ والسماءُ سماءٌ"؟!. ° وإليك مَقطعًا آخَرَ، يقول فيه صاحبُ "الجيم العجراء": "الجيمُ الجعرانية جابَهَت الجيمَ السنجانية فانبَعَجت جيمُ الأيديولوجية وتوجَّست الجيمُ الجيماء فما جدوى جيمين هما جيم الشجب أو الجيم الجلاتينية؟ " (¬2). * الهيئة المصرية للكتاب تَطبعُ قرَآنَ مُسيلِمة الكذَّاب!! ° تحت هذا العنوان كَتب الشيخ صفوت الشوادفي - رحمه الله - في ¬

_ (¬1) حسن طلب، مجلة "إبداع"، عدد 12، ديسمبر 1991، (ص 51)، والمنشور في "إبداع" جزء مما نشر بالديوان. (¬2) انظر "آية جيم" لحسن طلب - الهيئة العامة للكتاب 1992، و"الورد والهالوك شعراء السبعينات في مصر" لحلمي القاعود (ص 198 - 200) - دار الاعتصام.

مجلة أنصار السنة المحمدية: "في هذه السَّنة ظَهَرت كُتبٌ وأقلامٌ كثيرةٌ تُحاربُ الإِسلامَ وتَنالُ منه في بلده، ولكنَّ العجيبَ والغريبَ أن يَظهَرَ كِتابٌ يُضاهِي القرآن، يُقسِّمُه مؤلِّفُه إلى سور ويسميه: "آية جيم"!!!. والأعجبُ والأغربُ أن تقومَ "الهيئة المصرية للكتاب" التابعة لوزارة الثقافة بطَبعه ونشره!. ° ومؤلِّفُ الكتابِ يَستعيذُ بالشَّعبِ بدلاً من الله، فيقول: "أعوذُ بالشَّعبِ من السلطانِ الغشيم، باسم الجيم". ولا نَدري مَن هو السلطانُ الغَشيمُ الذي يَقصِدُه. ° ثم يُقسِّمُ الكتابَ إلى خَمسِ سُورٍ، وكلُّ سُورةٍ لها اسمٌ يَختصُّ بها، وكلُّ السورِ تتحدَّثُ عن حَرفِ الجيم إلاَّ السورةَ الخامسة، ففيها قرآنُ الشيطانِ -أو قرآن مسيلِمة الكذابَ-، فهو بَعدَ الاستعاذةِ بالشعب يقول: "باسم الجيم، والجنَّة والجحيم، ومجتمع النجوم، إنكم ستفجأون، كم وددتم لو ترجأون، إلى يوم لا جيم ولا جيوم، فإذا جد الهجوم، فأجهشت الجسوم، فسجرت الجيم، ومن أدراك ما الجيم، فإذا مزجنا الأجيام مزجًا، ثم مخجنا جُرْجَهُنَّ مخجًا، ثم مججناهن مجًّا، قل يا أيها المجرمون إنكم يومئذ لفي وجوم، تستنجدون فلا تُنجدون، وقل يا أيها الراجون، إنكم يومئذ الناجون، جاءتكم الجيم بما كنتم تستعجلون، ما لكم كيف لا تبتهِجون، ولآية الجيم لا تسجدون، وبإعجازها لا تلهجون". ° إلى أن قال في نهاية السورة: "الجيم جلَّ جلالُها .. صَدَقَ الحرفُ الرجيم".

° ومع هذا فليس العَجَبُ في طَبعِ الكتاب، بل العَجَبُ الذي لا يَنقضي أن تَطبعَ وزارةُ الثقافة هذا الكتابَ ضمنَ كتبِ الهيئةِ في الوقتِ الذي يتَّفقُ فيه الجميعُ على وجوبِ الدعوةِ إلى استقرارِ المجتمع. ° ومَن المسؤول عن علامةِ الاستفهام التي كُتب قبلها: كيف يُطبعُ مثلُ هذا الكتابِ في دولةٍ مُسلِمةٍ يُعلَنُ فيها أننا لسنا ضدَّ الشريعة؟ ولماذا يَظهرُ الكتابُ في هذا الوقتِ بالذات؟ ومَن الذي وراءَ مخطَطِ الإثارةِ والتخريب في هذا البلد؟؟ أليس هذا الكتابُ وغيرُه من مطبوعاتِ الهيئة يُحقِّقُ أحْدَ أهدافِ الصهيونية العالمية الذي يَنصُّ على ضرورةِ إثارةِ الحكومةِ ضدَّ الشعب، وإثارةِ الشعب ضد الحكومة؟!!. ° وهل تَغَلْغَلَتِ الماسونيةُ العالميةُ إلى هذا الحدِّ الذي تُسيطرُ فيه على وزارة الثقافة المصرية وتُوجِّهُ مسيرتَها داخلَ الهيئةِ وخارجَ الهيئة، وإذا لم يكن هذا تطرُّفًا، فماذا يكون التطرُّف؟!!. ° وآخِرُ سؤال: مَنِ المسؤول عن حمايةِ الشبابِ المسلم من هذه الأخطار الفِكريةِ التي تؤدِّي به إلى عواقبَ لا يَخفَى على أحدٍ خَطرُها؟ إنَّ الاستقرارَ الذي نَنشُده لهذا البلدِ له طريقٌ واحدٌ يَعرفُه مَن يَعرِفُ جوابَ الأسئلةِ السابقةِ ويَجهلُه مَن يَجهلُها!!. واللهُ يقولُ الحقَّ وهو يَهدِي السبيل، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه" (¬1). ¬

_ (¬1) "مصابيح أضاءت لنا الطريق" لصفوت الشوادفي - رحمه الله -.

نفاق علماء السوء وخطبائه، والتعريض خفية، والإساءة إلى مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

نِفاقُ علماء السُّوء وخُطبائِه، والتعريضُ خُفيةً، والإسَاءةُ إلىَ مَقامِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - * الشيخ محمد المهدي يعرِّض برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمام السلطان فيأمر الشيخ محمد شاكر المصلين بإِعادة صلاة الجمعة ظهرًا لكفر الخطيب الإِمام: ° قال الشيخ أحمد محمد شاكر في كتابه "كلمة الحق": "كان الشيخ "طه حسين" طالبًا بالجامعةِ المصريةِ القديمةِ حين كانت متشرِّفة برياسةِ سُمُوِّ الأميرِ فؤاد "حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد" - رحمه الله -، وتَقَرَّر إرسالُه في بَعثةٍ إلى أوربا، فأراد صاحبُ العظمة "السلطان حسين" - رحمه الله - أن يُكرِمَه بعطفِهِ ورعايته، فاستقبَلَه في قَصْرِه استقبالاً كريمًا، وحَبَاهُ هَدِيَّةً قيِّمةَ المَغْزَى والمعنى. وكان من خُطباءِ المساجدِ التابعين لوزارةِ الأوقاف، خطيبٌ فصيحٌ متكلِّمٌ مقتدرٌ، هو الشيخ "محمد المهدي" خطيب مسجد "غربان"، وكان السلطانُ حسين - رحمه الله - مواظِبًا على صلاةِ الجمعة في حَفلٍ فَخمٍ جليلٍ، يَحضُرُه العلماءُ والوزراءُ والكُبَراءُ. فصَلَّى الجمعهً يومًا ما، بمسجد "المدبولي" القريب من "قصر عابدين" العامر، ونَدَبَتْ وَزارةُ الأوقاف ذلك الخطيبَ لذلك اليوم، وأراد الخطيبُ أن يَمْدَحَ عَظَمةَ السلطان، وأنْ يُنَوِّهَ بما أكرَمَ الشيخ طه حسين -وحُقَّ له أن يَفعل-، ولكن خانَتْه فصاحتُه، وغَلَبَه حبُّ التغالي في المَدح، فزَلَّ زَلَّةً لم تَقُم له قائمةٌ من بعدها، إذ قال أثناءَ خُطبته: "جاءه الأعمى، فما عَبَسَ في وجهه وما تَوَلَّى".

وكان مِن شُهودِ هذه الصلاة والدي الشيخ "محمد شاكر" وكيل الأزهر سابقًا - رحمه الله -، فقام بعدَ الصلاة يُعلِنُ للناس في المسجدِ أنَّ صلاتَهم باطلة، وأمَرهم أن يُعيدوا صلاةَ الظُّهرِ، فأعادُوها، ذلك أن الخطيبَ كَفَر بما شَتَم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - تعريضًا لا تصريحًا .. وجاء الخطيبُ الأحمقُ الجاهلُ يريدُ أن يَتملَّقَ عظمةَ السلطان - رحمه الله -، فمدَحَه بما يُوهِمُ السامعَ أنه يريدُ إظهارَ مَنْقَبَةً لعظمته، بالقياسِ إلى ما عاتَبَ اللهُ عليه رسولَه، واستغفَرَ من حكايةِ هذا، فكان صُنع الخطيبِ المسكينِ تعريضًا برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يَرضى به مسلمٌ، وفي مُقَدِّمَة من ينكرُه السلطان نفسُه. ثم ذَهَب الوالدُ - رحمه الله - فورًا إلى "قصر عابدين" العامر، وقابل "محمود شكري باشا"، وهو صديق له حميم، وكان رئيسَ الديوانِ إذ ذاك، وطَلَب منه أن يَرفعَ الأمرَ إلى عظمةِ السلطان، وأن يُبلِّغَه حكمَ الشرعِ في هذا بوجوبِ إعادة الصلاةِ التي بَطَلَتْ بكُفْرِ الخطيب، ولم يَتردَّدْ "شكري باشا" في قَبولِ ما حُمِّل من الأمانة، واعتقد أن عَظمةَ السلطانِ لم يتردَّدْ في قَبولِ حُكمِ الشرعِ بإعادةِ الصلاة. ولكن اللهَ لَم يَدَعْ لهذا المجرِم جُرْمَه في الدنيا، قَبْل أن يَجزِيَه جزاءَه في الأخرى، فأُقسِمُ بالله، لقد رأيتُه بعَيْنَيْ رأسي، بعد بِضْعِ سِنين، وبعد أن كان عاليًا متنفِّخًا، مستعِزًّا بمَن لاذَ بهم من العظماء والكبَراء، رأيته مَهينًا، خادمًا على باب مسجدٍ من مساجدِ القاهرة يتلقَّى نِعالَ المُصَلِّين يَحفظُها في ذِلَّةٍ وصَغار" (¬1). ¬

_ (¬1) "كلمة الحق" للشيخ أحمد محمد شاكر (ص 149 - 153) - مكتبة السُّنَّة.

أحمد حسن الزيات، ينافق عبد الناصر، فيقول: "الوحدة الناصرية أبقى وأنمى من الوحدة المحمدية"، فيرد عليه الشيخ محمود فايد بمقالين

* أحمد حسن الزَّيَّات، يُنافقُ عبدَ الناصر، فيقول: "الوحدةُ الناصريَّة أبْقى وأنْمى من الوحدةِ المحمديَّة"، فيرُدّ عليه الشيخ محمود فايد بمقاليْن: * كتب الشيخ "محمود فايد" تحت عنوان: "الوحدة المحمديَّة خيرٌ وأبقى من الوِحدةِ الناصريَّة" "ردٌّ على مقال أحمد حسن الزيات بمجلة الأزهر" "نُشرت في "الاعتصام"، عدد ربيع الأول عام 1383 هـ الموافق أغسطس عام 1963 م في حياة عبد الناصر". ° في مجلة "الأزهر" شهر المحرم سنة 1383 هـ كَتب مديرُها ورئيسُ تحريرها "أحمد حسن الزيات" مقالاً تحت عنوان: "أُمَّةُ التوحيد تتوحَّد"، وقد جاء فيه ما نصه (ص 4 - س 7 - 18): "إنَّ الوحدةَ المحمديةَ كانت كُلِّيَّةً عامةً؛ لأنها قامت على العقيدة .. ولكنَّ العقيدةَ مهما تَدُم قد تَضْعُفُ أو تُحوَّل .. وإنَّ الوحدةَ الصلاحيةَ كانت جُزئيةً خاصةً؛ لأنها قامت على السلطان .. والسلطانُ يَعتريه الوَهْنُ فيزول .. أمَّا الوحدةُ الناصرية، فباقيةٌ ناميةٌ؛ لأنها تقومُ على الاشتراكية في الرزق، والحريةِ في الرأي، والديمقراطيةِ في الحكم .. وهذه المقوِّماتُ الثلاثةُ ضَمانٌ دائمٌ للوِحدةِ ألاَّ تَستأثرَ فتُستغلَّ .. وألاَّ تَستبدَّ فتَطغى .. وألاَّ تَحكُمَ فتتحكم. والأَثَرَةُ والطماعية، والطغيانُ والحَسدُ كانت -وما زالت- عِلَّةَ العِللِ في فساد الزمان وهلاك الأمم". هذا نصُّ ما كتبه "الزيات" في مجلةٍ تَنطقُ بلسان "الأزهر" وتحملُ

مناقشة الزيات في مقاله

عنوانه، وتتكلَّمُ باسم علماء الإِسلام .. ولو قرأنا هذا في مجلة "روز اليوسف" لقلنا: "الشيء من مَعدِنِه لا يُستغرب"، ولكنِ الذي يَحُزُّ في النفسِ أن يُنشَرَ مثلُ هذا الضلالِ في مجلة "الأزهر"، وأن يكونَ الكاتبُ والناشرُ مديرَها ورئيسَ تحريرها، وأن يُستدعى الزياتُ من خارج الأزهر بعد أن تجاوَزَ سِنَّ المُحالين على المعاش من أبنائه لِيقبضَ على مِثل هذا المقالِ الهَّدام مئةَ جنيه من نفسِ خِزانةِ الأزهر .. وأشدُّ مِن هذا وأنكى أن يُباعَ مثلُ هذا الهُراءِ للناس على أنه دينٌ خالص، وعِلمٌ مصفًّى .. رَحِم اللهُ الشاعرَ الذي يقول: ولو كان همًّا واحدًا لاحتملتُه ... ولكنَّه همٌّ وثانٍ وثالثُ * مناقشةُ الزيات في مقاله: ° يقول الزيات: "إنَّ الوِحدةَ المحمدية كانت كُلِّيَّةَ عامةً؛ لأنها قامت على العقيدة .. ولكنَّ العقيدةَ مهما تَدُمْ قد تَضعُفُ أو تُحوَّل". ماذا يَقصدُ الزياتُ بهذا؟ أيقصِدُ أن يَصرِفَ الناسَ عن رِسالةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأن يُوجِّهَ أنظارَهم إلى جهةٍ أخرى يُقيمون عليها وِحدتَهم، ويَجِدون لديها من وسائلِ الهناءةِ والسعادةِ ما لا يَجدونه لدى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟! وهل يؤمنُ معي بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقولهِ تعالى: {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، وقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ

تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 151 - 152]؟!. لقد أنقَذَتِ الرسالةُ المحمديةُ العَرَبَ من الضلالة، وعَلَّمَتْهم بعدَ جَهَالة، وأزالت عن قلوبهم العَمَايةَ والغِواية، وأبعَدَتْ عنهم خُرافاتِ الجاهلية، وأباطيلَ الوثنية، وحَرَّرَتْهم من العُبودية، وألَّفت بين قلوبِهم كما يقول تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63]. * يا أستاذ زيات: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أُوحِي إليه، وما جاء به هو مِن قِبَل الله .. ولقد كان يقولُ كما عَلَّمه المولى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأحقاف: 9]، أفَتَرَى أن ما جاء به البَشرُ أحكَمُ مما جاء به ربُّ البشر؟! صَدَق اللهُ العظيم إذ يقول: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 140]. * يا أستاذ زيات: إن الوحدةَ المحمديةَ التي تَزعمُ أنها قامت على أساسٍ قد يَضعُفُ ثم ينهار، هي الوحدةُ التي أشاد اللهُ بها، ونَوَّه بذِكْرِها في هذه الآية الكريمة. {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].

إنَّ هذه الوحدةَ المحمديةَ قامت على أساسٍ من تعاليم الإِسلام .. والإِسلامُ ليس عقيدةً فحسب -كما حَسِبتَ-، بل هو عقيدةٌ وشريعة .. ونظامٌ كامل .. ومنهاجٌ وافٍ للناس في كلِّ نواحي الحياة .. عقيدةٌ تُوثِّقُ العلاقةَ بين العبدِ والربِّ .. وشريعةٌ تُوثِّقُ العلاقةَ بين الناسِ بعضِهم مع بعض .. عقيدةٌ تملأُ القلبَ أمنًا وإيمانًا .. وشريعةٌ تملأُ الكَوْن سلامًا وإسلامًا، ومَحبَّةً ووِئامًا .. لقد تَذوَّقَ العربُ طَعْمَ الوِحدة، وأحسُّوا بحلاوتها، وشَعُروا بلذَّتها بعد أن بايعوا النبيَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، واتَّبعوا النورَ الذي أُنزل معه، فآمنوأ بأن ربَّهم واحد، ورسولَهم واحد، وكتابَهم واحد، ودينَهم واحد، وقِبلَتَهم واحدة .. فاجتمعوا على وِحدةِ العقيدة، ووحدةِ العبادة" (¬1). * ثم كتب بعد كلامٍ طويلٍ رائع: الزيات ينافقُ طُول حياته: ° "طبيعةُ النفاق يبدو أنها متأصِّلةٌ في الأستاذ الزيات .. نَمَا عليها وشَبَّ، وشاخ فيها .. ونَضَعُ أمامَ القُرَّاءِ عَيِّنةً مما كَتَب، وهو الأديب الذي يقول: "الأدبُ رسالةٌ، يُوجِّه ولا يُوجَّه". في أُخرَيَاتِ أيامِ "فاروق"، وبالضبط في 25 مايو سنة 1952 كتب الأديب الكبير في مجلة "الأزهر" مجلد 23 جزء 9 ما نصه: "بسم الله جلَّ اسمه، وعزَّ حُكمُه .. مُنزلِ كتابِه هُدًى، ومُرسِلِ رسوله رحمةً، وبهَدْيِ صاحبِ الرسالةِ محمدٍ صلواتُ الله عليه .. لسانِ الوحي، ومِنهاجِ الشرع، ¬

_ (¬1) كتاب "صيحة الحق" للشيخ محمود عبد الوهاب فايد (ص 57 - 59).

ومعجزةِ البلاغ .. وبعطفِ صاحبِ الجلالةِ الفاروق .. ناصرِ الإِسلام، ومؤيِّدِ العروبة، وحامي الأزهر، أعزَّ اللهُ نَصْرَه، وجَمَّل بالعلوم والآداب عَصْرَه". هذا نصُّ ما افتَتَح به الأديبُ الزياتُ مجلة "الأزهر" قَبْلَ طَرْدِ "فاروق" بشهرين .. وننشرُ إلى جانبِ ذلك ما افتَتَح به مجلة "الأزهر" في يولية سنة 1960 مجلد 32 جزء 2: "كان مَلِكًا على مصر قبلَ يوم 23 يوليو، وكان آيةً من آياتِ إبليسَ في الجُرأةِ على دينِ الله، وعلى حُرُمِ الناس .. بَلَغَ مِن جُرْأتِه على اللهِ أنه كان -كما حَدثَّني أحدُ بِطانتهِ المُقَرَّبين إليه- إذا اضطرَّتْه رسومُ المُلْكِ أنْ يَشْهُدَ صلاةَ الجمعة، خَرَج إليها من المَضْجَعِ الحرامِ، فصَلاَّها مِن غيرِ غُسْلٍ ولا وُضوء، وأدَّاها من غيرِ فاتحةٍ ولا تَشَهُّد، وكان يقول: "إنَّ أخوفَ ما أخافُه أنْ يَغْلِبَنِي الضَّحِكُ وأنا أتابعُ الإمامَ في هذه الحركاتِ العجيبة" .. وبَلَغ مِن جُرأته على المُحرَّمات أنه كان يَغتصِبُ الزوجةَ ويَقتُلُ الزوج، ويَسرقُ الدولة، ويُسفِّهُ الحق، ويأخذُ الرِّشا .. ثم أمْلَى له الغرورُ، فتبجَّحَ وتَوَقَّح وطَغى (!!!) ". هكذا تَجرَّأ الزيَّاتُ على فاروق بعد طردِه .. وقد كان يُدبِّجُ له المدائحَ في عهده .. وهكذا يكتبُ عنه جليسُ بطانته، وأنيسُ حاشيته!!. نعم .. لقد عاش الزيَّاتُ هكذا طولَ حياتِه، يَكتُبُ ما يَرُوجُ، وَينشُرُ ما يَجْلِبُ له النِّعمةَ والعافية .. وحَسْبُه أنه ظَفِرَ في عهد فاروق بلقب "صاحب العِزَّة"، وظَفِرَ في هذا العهد بأكرمِ جائزةٍ .. وفي مجلة "الأزهر"، لا زال "يستأثر فيستغلُّ"، فيقبضُ منها مئةَ جنيهٍ ليُخرجَ عَدَدَ ذي القَعدة ضِمنَ ذي الحجة، وليُصدِرَ عدد محرم في شهر صفر، وليكتُبَ فيها

كلامًا إِنشائِيًّا يَمُجُّه كل مَن كان له ذَوقٌ سليم". (¬1) ثم قال: "لا نخافُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - منِ استهانةِ بعض الكُتَّابِ بوِحدتِه التي جاء بها .. ولكِنَّا نَخافُ على الأُمَّةِ إذا هي انحَدَرتْ إلى هذا المستوى. لقد بَلَغ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مكانًا عالِيًا لم يَبْلُغْه نبيٌّ .. فَضْلاً عن أن ينالَه وَلِيٌّ أوْ غيرُ وليٍّ .. كيف تَرقَى رُقيَّكَ الأنبياءُ ... يا سماءَ ما طاوَلتها سماءُ! لم يُساوُوكَ في عُلاكَ وقدْ ... حال سَنًا منك دونَهم وسناءُ ° إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في غنًى عنَّا وعن دفاعِنا جميعًا بما حَبَاه اللهُ من مكانةٍ عالية، ومنزلةٍ ساميةُ .. وإذا كنتُ قد بادرتُ بالردِّ على الأستاذ الزيَّات .. فذلك لاعتقادِي أني أدافعُ عن "الأزهر" ومحلَّتِه وسُمْعتِه ورسالتِه .. بل لاعتقادي أني أُدافعُ عن وجودِي ووجودِ المسلمين الذي وَجَدوا العِزَّةَ والكرامةَ، والهناءةَ والسعادة، والقُوَّةَ والغِنى، والحضارةَ والمَدَنيَّةَ، والمساواةَ والحُريَّةَ، والعدالةَ الاجتماعيةَ في مبادئِ الوحدةِ المحمديَّة التي جاء بها سيِّد البشريةِ صلواتُ الله وسلامه عليه .. وما ضَرَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يأتيَ أحدُ الكُتَّابِ يَنتقِصُ مما جاء، أو يستهينُ بمبادئه: ما ضرَّ شمسَ الضحا في الأُفْقِ طالعةً ... ألاَّ يَرَى ضوءَها مَنْ ليس ذا بصرِ إن محمدًّا - صلى الله عليه وسلم - لا يزالُ اسمُه يُدَوِّي على المنابِرِ والمآذِنِ في مشارِقِ الأرضِ ومغارِبها، آناءَ الليل وأطرافَ النهار .. وحَسْبُه أَن اللهَ رَفَعَ ذكرَه، ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 77 - 78).

مقالة ثانية للشيخ محمود عبد الوهاب فايد نصرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وردا على الزيات

وطَيَّب نَشْرَه، وخَلَّدَ أثَرَه، وجَعَل له لسانَ صِدِقٍ في الآخِرين، وفي أفواهِ الملايين .. * قال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 1 - 4] ". اهـ. * مقالةٌ ثانية للشيخ محمود عبد الوهاب فايد نُصرةً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورَدًّا على الزَّيات: مع الزيَّات .. مَرَّةً أخرى: * مَن لم يحترمِ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - فلا حُرْمةَ له (¬1): لم يَكُنْ في نِيَّتي أن أكتبَ عن الزيات بعد ما كتبتُه عنه في العدد السابق .. غيرَ أن الحقائقَ المؤسِفةَ التي سَمعتُها عنه، والهُراءَ الذي قرأتُه له .. دَفَعني كلُّ ذلك إلى الكتابةِ عنه مرةً أخرى .. ردعًا له بعد أن خانَ البيتَ الذي نَمَّاه، والأزهرَ الذي آواه .. حَضَرتُ جزءً من التحقيق الشَّفويِّ الذي قام به أمينُ "مجمع البحوث الإِسلامية" في مَقالِ الزيات .. فهالَني أن أسمعَ أنَّ مُصحِّحَ المجلة نَبَّه الزياتَ لخطئِه وضلالِه قبل طَبْعِ مَقالِه .. ولكنه أبى واستكبر، وعانَد وأصرَّ، وأخذَتْه العِزُّةُ بالإثم، فاستبقى هذه الفقرةَ الخطيرةَ المثيرة: "إن الوحدةَ المحمديةَ كانت كلِّيةً عامةً .. لأنها قامت على العقيدة .. ولكنَّ العقيدةَ مهما تَدُمْ قد تَضعُفُ أو تُحوَّل، وإن الوحدةَ الصلاحيةَ كانت جزئيةً خاصةً .. لأنها قامت على السلطان .. والسلطانُ ¬

_ (¬1) نشرت بمجلة "الاعتصام" في عدد ربيع الآخر سنة 1383 هـ - الموافق سبتمبر سنة 1963.

يعتريه الوَهْنُ فيزول .. أما الوحدةُ الناصرية، فباقيةٌ نامية؛ لأنها تقومُ على الاشتراكيةِ في الرزق، والحريةِ في الرأي، والديمقراطيةِ في الحُكم". أصرَّ الزياتُ على نَشرِ هذه الفقرة، وأعرَضَ عن نُصحِ الناصحين له، وتجاهَلَ القِيَمَ الإِسلامية، وتطاوَلَ على الحَضْرةِ النبويَّة، واعتَدى -مع سَبق الإِصرارِ والترصُّد- على "الأزهر" ورسالته، وأساء بقَصدِ الاستغلال إلى مجلته وكرامته، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 204 - 206]. لقد أراد الزياتُ أن يحظَى بالمالِ الوفير، والمرتَّبِ الكبير، فكتَبَ يُعلِنُ عن نِفاقِهِ مُبديًا سَوْأَتَه، كاشِفًا عورته .. وأقامَ البرهانَ -بتجاهُلِه لِنُصحِ الناصحين- على أنه ليس في قَلبه لله خَشية، ولا في نفسِه لرسولِه هَيبة، وأنه -على شَيخوخته- لا يزالُ تائهًا في ضلالاته، حائرًا في ظُلماته، لا يُحرِّكُ قلمَه إلاَّ رنينُ الدينارِ والدرهم، ولا يُغذِّي خيالَه إلاَّ بريقُ المرتَّبِ والمَغنَم!!. نَشَر الزياتُ ثيابَه القذِرةَ على مرأًى من الناس، وفَوق مِئذنةِ الأزهر، فثار الأزهريُّون، وهاجت الأمة، وارتَفعت أصوات الشعبِ تُطالِبُ بتنحيته، وأصدرت جبهة العلماء بيانًا حَكَمت فيه بإلحادِه ورِدَّته، وشَنَّتِ المجلاَّتُ الدينيةُ الحرَّةُ -أمثالُ "الاعتصام" و"لواء الإِسلام" و"العشيرة المحمدية"- حَمْلَتَها عليه، ووَجَّهت سِهامَ نَقْدِها إليه، وخَشِيَ الزياتُ أن يَستجيبَ الحُكَّامُ لرغبة الأمة فحَنَى قامَتَه، وطأطأ هامَتَه، وطَلَع على الناسِ

بإيضاحٍ وبيانٍ عسى أن تهدأَ النفوسُ الهائجة .. ولكنَّ البيانَ الذي أصدره -على الرغمِ من أنه أُشير عليه بتعديلِه ثلاثَ مراتٍ- كان بيانًا متهافتًا يَفضحُ صاحبَه، ويُخزِي كاتبَه، ولْننظُرْ في بيانه، ولْنقرأْ مقالَه من عنوانه: "وحدة .. لا وحدتان". ° يا زيات، لقد ذَكَرْتَ في مقالِك المسمومِ المشؤومِ ثلاثَ وِحدات، وجَعَلْتَ لكلِّ وِحدةٍ خصائصَ ومميزات، وحَكَمتَ عليها بأحكامٍ متغايرةٍ متباعدةٍ .. فكيف يُمكنُ أن تكونَ الثلاثُ أو الاثنتانِ واحدة؟! .. جعلوا الثلاثةَ واحدًا لو أنصَفوا ... لم يَجعلوا العددَ الكثيرَ قليلاَ لقد قلتَ في مقالِك: "إنَّ وِحدةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - قامت على العقيدة .. والعقيدةُ قد يَطرأُ عليها الضَّعفُ والفناء" .. أما الوِحدةُ الناصريةُ، فقد حَكَمْت عليها -أيها الأديبُ المُلهَمُ- بالبقاء والنَّماء .. أيمكنُ بعدَ هذا أن تكونَ الوِحدتانِ وحدةً؟ .. إنْ قلتَ: "إن الوحدةَ الناصريةَ ترجعُ إلى وحدةِ النبيِّ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -" .. فالوحدةُ الناصريةُ إذن -بحُكمِ مَنطِقِكَ- مهما تَدُمْ قد تَضُعفُ أو تُحوَّل. وإن قلت: "إن وحدةَ النبيِّ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - تَرجعُ إلى الوحدة الناصرية" .. فقد جَعَلتَ التابعَ متبوعًا، والمتبوعَ تابعًا، وذلك -لَعَمْرُ الحقِّ- غايةُ الضلال .. بل غايةُ الخبال. لقد كان مقالُك شؤمًا على الوحدة .. فلم تَكَدْ تَفرُغُ من كتابتِه حتى تَعثَّرْتَ وتعسَّرت، ووجدتَ نفسَك في حَرَجٍ وأنت تعالجُ خَطَأَك، فقلتَ -لِتستُرَ موقفَك-: "الوحدةُ الناصريةُ المقترَحة"، خَشيةَ أن يبدوَ تهافتُك في دَعوى بقائِها ونمائِها أنَّ الوحدةَ -وهي مَطمعُ الأنظار، ومُلتقى الأفكار،

وهَدفُ كلِّ مُسلمٍ غَيُور، وغايةُ كلِّ عربيٍّ مخلصٍ -لا تقومُ بِمَلَقِ المُتملِّقِين ونِفاقِ المنافقين .. ولكنها ستقوم وتدوم، وتتحقَّق وتتوثَّقُ بجهودِ المؤمنين، وجهادِ المخلِصين، وكسح المضللين. لقد كَتب الزيات ما كَتَب طَعَمًا في الرِّبح الحرام، وغاب عنه -وهو الأديب الكبير- ما وَرَد في الأمثال: "تجوعُ الحُرَّةُ ولا تأكلُ بثدييها"، وعاد بعد أن تعالَت أصواتُ الأُمةِ بالاستنكارِ يُخاتِلُ ويُخادع، ويَلتوِي هذا الالتواءَ الذي ضَحِكَتْ منه العامَّةُ، وسَخِرَتْ منه الخاصَّة، راح يُلقِي التهمةَ على الإِيجازِ الذي أدَّى إلى هذه الجُملة، وقد كانت أمامَه فُرصةٌ لِيُطنِبَ ويُوضِّحَ فكرتَه يومَ نُبِّه إلى ذلك قَبْلَ الطبع .. فلو كان في قلبه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهابةٌ لَرجع عن ضلاله، وأصلَح من مَقالِه .. ولكنه -بدافع النفاق- أبي وأصرَّ، وآذى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - من فوقِ منارة الأزهر .. فلْيَسْمَعْ قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 61 - 63]. * ولْيَسْمَع قولَه تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 8 - 12].

° يا زيات .. لقد حَكم اللهُ على أمثالِك بالخِزيِ العظيم، والعذابِ الأليم .. فلْتَهْنَأْ إلى حينٍ في مجلة "الأزهر" بمئةِ جنيه تَقبِضُها من خِزانته -على الرغم من أنوفِ الأزهريين- .. ولْتَهْنأ إلى حينٍ في مجلة "الرسالة" بمئات الجنيهات تَقبضُها من خِزانةِ الدولة -على الرغم من أنُوفِ أبناءِ الدولة المؤمنين- .. ولْتَهْنأ إلى حينٍ بحُرِّيَّةِ الرأيِ قَدْحًا في وِحدةِ خَيرِ الأنام .. على الرغم من أن دِينَ الدولة هو الإِسلام .. ولْتَهْنأ إلى حينٍ بالاشتراكية في الرزق تَسوقُ إليك من عَمَلِك الجديد مِئاتَ الجنيهات بعد مقالِك المشؤوم بأسبوعين -على الرغمِ من أنوفِ العامِلين المخلِصين الذي يَظفَرون بجنيهَينِ علاوةً كلَّ سنتين-. ليَسْمَحْ ليَ الزياتُ أن أستعيرَ منه وإليه .. فأقول: "إنه اندَسَّ -في مجلة الأزهر- اندساسَ الإِثم في الضمير، والداءِ في البدن .. فكان في الوِحدةِ مَظهَرَ تفريق، وفي النهضةِ مَصْدَرَ تَعويق، وفي العقيدةِ مَثَارَ شُبهةٍ .. وحَسبُه أن مجلة "الأزهر" صارت في عهده (مَذَلَّة) بعد أن كانت (مجلة) " (¬1). ° ثم خَتم مقالَه بالردِّ على ما قاله الزياتُ من إطراءِ العهدِ الناصري فقال: "لقد غالَى في إطراءِ هذا العهدِ حتى انتَقَصَ الوِحدةَ المحمدية، وأقحَمَ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - في المقارَنةِ دون أدبٍ ولا رَوِيَّةٍ .. وما فَعَل ذلك عن إخلاصٍ وإيمان .. بل جَرْيًا وراءَ الذهبِ الرَّنَّان .. تمامًا كما صَنَع أيامَ "فاروق" قبلَ طرده .. وإلى أواخِرِ عهدِه .. وهكذا الزياتُ طُولَ حياته ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 80 - 88).

يُنافقُ بُغيةَ القُوت، ويكتبُ بقلمٍ نُقش عليه هذا المَثل: "طالبُ القوت ما تعدى". يا زيات، إن الرئيس عبد الناصر لو أَنْفَقَ مثلَ أُحُدٍ ذهبًا ما بَلَغ -بنصِّ الحديث- مُدَّ أحَدٍ من أصحابِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نَصيفَه، فكيف له -يا جهول- أن يَبلغَ مبلغَ الرسول؟!. ألاَ فلتَسْمَحْ لي -أيها الزيات، وقد استضفتُك اليومَ على مائدةِ "الاعتصام"- أن أُقدِّمَ لك فاكهتَك، وأسوقَ إليك هديَّتَك: "إنَّ الكفر خيرٌ من النفاق .. وإنَّ العداوةَ أفضلُ من الخديعة .. وإنَّ الصراحةَ على كلِّ حالٍ عَظَمة، وإن المُراءاة على أيِّ وجهٍ حقارة". * وخيرُ ما نختمُ به هذه الكلمةَ قولُ الله تعالى: {وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19]. * وقوله سبحانه: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ الله لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51]. * وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 88 - 89] " (¬1) اهـ. * * * ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 89 - 90).

منكرو السنة من أكبر شانئي الرسول - صلى الله عليه وسلم -

مُنكِرُو السُّنَّةِ مِن أكبرِ شانِئي الرسول - صلى الله عليه وسلم - اعلمَ يا أخي أن الاعتصامَ بالسُّنةِ نجاة .. قال تعالى عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}. وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}. - ولا بدَّ للمسلم في كلِّ نَفَسٍ من أنفاسِه هِجرةٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حَرَكاتِه وسَكَناتِه الظاهرةِ والباطنة، بحيث تكونُ موافقةً لشَرعِه الذي هو تفضيلُ مَحَابِّ الله ومَرضاته، ولا يَقبلُ اللهُ مِن أحدٍ دِيَنًا سواه، وكلُّ عَمَلٍ سواه فعَيشُ النفس وحَظُّها -لا زادُ المعاد-. ° قال بعضُ العارفين: "كلُّ عملٍ بلا متابعةٍ فهو عيشُ النفس" (¬1) والمؤمنونَ في أهلِ الإِسلام غُرباء، وأهلُ العِلمِ في المؤمنين غرباء، وأهلُ السُّنةِ -الذين يُميِّزونها من الأهواء والبدع- فيهم غرباء، والدَّاعون إليها الصابرون على أذى المخالِفِين هم أشدُّ هؤلاء غربةً .. ولكنَّ هؤلاءِ هم أهلُ الله حقًّا، فلا غُربةَ عليهم، وإنما غُربتُهم بين الأكثرين الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]. فأولئك همُ الغرباءُ عن الله عَزَّ وَجَلَّ ورسولِه ودينه، وغربيُهم هي الغربةُ المُوحشة، وإن كانوا هم المعروفين المشارَ إليهم، كما قيل: فليس غريبًا مَن تناءتْ ديارُهُ ... ولكنَّ مَن تَنْأيْنَ عنهُ غريبُ * وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ ¬

_ (¬1) انظر "طريق الهجرتين" لابن القيم (ص 7).

يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .. وخيرُ أمورِ الدِّينِ ما كان سُنَّةَ ... وشرُّ الأمورِ المحدَثَاتُ البدائِعُ ° وقال إمامُ دار الهجرة مالك: "أكلَّما جاءنا رَجُلُ أَجْدَلُ من رجلٍ، تَرَكنا ما نَزَل به جبريل على محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - لَجَدَله" (¬1). ومَن وَقَّر مُنكري السُّنة فقد أعان -واللهِ- على هدم الإِسلام. ومَن تَرَك السُّنَّةَ ولَّاه الله ما تولَّى، وأصلاه جهنَّمَ وساءتْ مصيرًا. ° وقال الشافعي: "لولا أصحابُ المحابِر، لَخَطَبَتِ الزَّنادقة على المنابر". ° وقال الشافعي: "لَم أسمعْ أحدًا نَسَبَتْه عامَّةٌ -أو نَسَبَ نَفْسَه- إلى عِلمٍ، يُخالِفُ في أنَّ فَرضَ الله: اتَباعُ أمرِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، والتسليمُ لحُكمِه، فإن الله لم يَجعل لأحدٍ بعدَه إلاَّ اتَباعَه .. وإنَّ فَرْضَ الله علينا -وعلى مَن بعدنا وقَبْلَنا- في قَبولِ الخبرِ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدٌ، لا يُختَلَفُ فيه أنه الفرضُ، وواجبٌ قَبولُ الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" اهـ. ومَن رَدَّ حديثَ رسولِ الله بالهوى، وأنكر حُجِّيَّةَ السُّنةِ، أدخَلَه اللهُ أسفلَ سافلين، وحَشَره مع فرعونَ وهامانَ وقارون. ° قال ابنُ حزم: "اتَّفقوا على أن مَن شكَّ في التوحيد أو النبوَّة، أو في حرفٍ مما أتى به - عليه السلام -، أو في شريعةٍ أتى بها - عليه السلام -، ممَّا نُقِل عنه نَقْلَ كافةٍ، فإنَّ مَن جَحَد شيئًا ممَّا ذكرناه، أو شكَّ في شيءٍ منه، ومات على ذلك، فإنه كافرٌ مشرِكٌ مُخلَّدٌ في النار أبدًا" (¬2). ¬

_ (¬1) "حلية الأولياء" (6/ 324)، و"السير" (8/ 99). (¬2) "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص 177) - دار الكتب العلمية - بيروت.

السيد أحمد خان، دجال الهند، ومدرسته الشيطانية

° قال ابنُ حزَم: "والقرآنُ والخَبَرُ الصحيح بعضُها مضافٌ إلى بعض، وهما شيءٌ واحدٌ في باب وجوبِ الطاعةِ لهما" (¬1). * وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكرَ وَإِنَّا لَه لَحَافِطونَ} [الحجر: 9]. نَبَتَتْ نَبْتَةٌ شيطانيَّةٌ على أبوابِ جهنَّمَ، أرادت أنْ تجحَدَ حُجِّيَّةَ السُّنة، وتَصُدَّ الناسَ عن السُّنةِ والإِسلام صدًّا، وهم -واللهِ- أكبرُ شانِئِي الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهم أعداؤه حقًّا، فلهم الخُسرَان المُبين والذِّلَّةُ والصَّغار، والفَضحُ على رؤوسِ الأشهاد في الدنيا قبل الآخرة، وها نحن نُعريِّهم، ونَكشِفُ للناس أسماءَهم، ليَلعنوهم صباحَ مساء، وليتقرَّبوا إلى الله ببُغضِهم وكَشْف عارِهم وعَوَارِهم .. فواللهِ ما يُريدون إلاَّ هَدْمَ الإِسلام .. لِيصبحَ رَسْمًا بعدَ عَيْنٍ .. {وَالله متِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرونَ} [الصف: 8]. * السيد أحمد خان، دَجَّالُ الهند، ومدرسته الشيطانية: وُلد في 17 أكتوبر عام 1817، وتوفِّي في 27 مارس 1897 م، أنشأ جامعةِ "عُلَيكرة". ° يقول الأستاذ أبو الأعلى المودودي: "ما إنْ حَلَّ القرنُ الثالَثَ عَشَرَ الهجرى حتى دَبَّتِ الحياةُ في هذه الفِتنة "فتنة إنكار حُجِّيَة السُّنة" من جديد، فكانت ولادتُها في العراق (¬2)، وترعرعت في الهند، وإنَّ بدايتَها لَتعودُ في الهندِ إلى "سيد أحمد خان، ومولوي (شيخ) جَرَاغ علي"، ثم كان فارسُها المِقدامُ "مولوي عبد الله جكرالوي"، ثم استَلَم الرايةَ "مولوي أحمد الدين ¬

_ (¬1) "الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم (1/ 98). (¬2) لعلّ الصواب في مصر.

أمر تسري"، ثم تَقدَّم بها مولانا "أسلم جراجبوري"، وأخيرًا تولى رياستها "غلام أحمد برويز" الذي أوصَلَها إلى ساحلِ الضلال" (¬1). يُمثِّلُ هذا الرجلُ الاتِّجاهَ الفكريَّ المُماليء للغرب -والاستعمارِ الإنجليزي على وجهِ الخصوص-. وتقومُ حركتُه على الافتتانِ بحضارةِ الغرب المادِّية، ومن هنا فقد أنكر المُعجزاتِ وخَوارِقَ العادات، واعتَبَر أنَّ النبوَّةَ غايةٌ تُكتَسبُ عن طريقِ الرياضة النفسيَّة (¬2). لقد أنكر "سيد أحمد خان" ما تُنكِرُه الثقافةُ الغربية -ولو كان دِينًا-، وأثبَتَ ما تُثبِتُه -ولو كان مخالفًا للدين وإجماع المسلمين-. "لقد قامت مدرستُه الفِكرية على أساسِ تقليدِ الحضارةِ الغربية وأُسُسِها المادِّية، واقتباسِ العلوم العصريَّةِ بحذافيرها، وعلى عِلاَّتها، وتفسيرِ الإِسلام والقرآنِ تفسيرًا يُطابقُ ما وَصَلت إليه المَدَنَّيةُ والمعلوماتُ الحديثة في آخِرِ القرنِ التاسَعَ عَشَرَ المَسيحيِّ، ويُطابقُ هَوَى الغربِّيين وآراءَهم، ومن ثَمَّ الاستهانةُ بما لا يُثبتُه الحِسُّ والتجربة" (¬3). ° وتَبلُغُ التَّبعيَّةُ أَوْجَها، إذا عَرَفْنا أن "أحمد خان"، كان يُعارِضُ في إنشاءِ دراساتٍ عِلميةٍ تجريبيةٍ في الجامعة التي أنشأها في الهند -وهو ممَّن ¬

_ (¬1) "القرآنيون وشبهاتهم حول السنة" لخادم حسين إلهي بخش (ص 99) - دار الصديق - السعودية، نقلاً عن "مكانة السنة التشريعية" للمودوي (ص 16). (¬2) انظر: "الفكر الإِسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" د. محمد البهي - الطبعة التاسعة 1981 م - مصر (ص 33 - 37). (¬3) "الصراع بين الفكرة الإِسلامية والفكرة الغربية" لـ أبو الحسن الندوي (ص 71) - الطبعة الثالثة - القاهرة مطبعة المتقدم 1977 م.

ظهور حياته

قَضَوْا حِقبةً في بلاد الإِنجليز-، قال في مقالٍ له نُشر في مجلة "عليكرة" في 19 فبراير 1898 م: "إنَّ الهند -نظرًا إلى حالتها الراهنة- ليست في حاجةٍ إلى تعليم الصنائع، إنَّ الأهمَّ المقدَّمَ هو الثقافةُ الفكريةُ من المستوى الأعلى" (¬1). هذا رَغْمَ حاجةِ البلادِ إلى العلوم التطبيقية.!!. ومن المعلوم أنَّ حركة "أحمد خان" في الهند كانت مُعاصرةً للمدرسة الإصلاحية وشيخها "محمد عبده"، وسوف نلاحظُ أنَّ المنطلقاتِ متشابهةٌ، والانحرافاتِ واحدةٌ، والإعجابَ بالغربيين واحد. * ظهور حياته (¬2): نشأ "أحمد خان" في أُسرةٍ فقيرة، وفي جوٍّ مُشْبَعٍ بالتصوُّف، وعاش في شبابه حياةَ مَرَحٍ، فحَضَر حَفَلاتِ الرقصِ والغناء، ثم التَحَق بخِدمةِ الحكومةِ الإنجليزية في سِلْكِ القضاء، وبعد فترةٍ ثاب إلى رُشدِه، أقبل على إصلاحِ نفسه وتعليمها. وكان لإخفاق "الثورة الهندية" أَثَرٌ في حياته، وكان يُدرِكُ أنَّ مآلَ الثورةِ الفشلُ، ولذلك كان يُناصِرُ الإنجليز، ويُساعِدُ في حمايتِهم ونجاةِ بعضِ عائلاتهم من القتل. وأَيقَنَ بعدها أنَّ ولاءَ المسلمين للحُكم الإنجليزيِّ هو السبيلُ الوحيدُ لإنقاذهم، وكان ذلك نابعًا من إعجابِه المُفرِطِ بالإنجليز وحضارتهم، ولذلك ¬

_ (¬1) "الابتعاث ومخاطره" الأستاذ محمد الصباغ - المكتب الإِسلامي (ط 2/ 1403 هـ، 1983 م). (¬2) انظر "مفهوم تجديد الدين" بسطامي محمد سعيد (ص 120 - 123).

آراء سيد خان

جَعَل هَدَفَه طُولَ حياتِه أن يُقلِّدَ المسلمون الإِنجليزَ، ويَتْبَعوا حضارةَ الغربِ في كلِّ شيء. وبعد زيارته لبريطانيا (1869 م) -التي استمرت سَبْعَةَ عَشَرَ شهرًا، وكان قد نَزَل ضيفًا مبجَّلاً على الأوساط الإِنجليزية "الراقية"، ونال الوِسامَ المَلكِيَّ، ولَقَبَ الشرف-، قابَلَ المَلكةَ ووَلِيَّ العهد، والوزراء الكِبار. وعاد إلى بلاده وقد أَخَذ على عاتِقِه أن يَفتَح أعينَ المسلمين على عَظَمةِ الحضارة الغربية، ويَشُقَّ لهم طريقًا للاقتباس منها، وكانت وَسيلتُه إلى ذلك التعاوُنِ في المجال السياسيِّ، واستيعابُ علومِ الغَرْبِ في المجالِ الثقافي، وتكييفُ وإعادةُ تأويِل الإِسلام في المجال الفِكريِّ. * آراء سيد خان: اعتمد "سيد خان" على مُعطِياتِ العقل، وإيحاءِ الغربيين فيما سماه "تجديدًا عصريًا". فقد اعتبر أن القرآن وحدَه هو الأساسُ لفهم الإِسلام .. ذلك أنه في ضَوءِ الظروفِ الجديدة وتوسُّعِ المعرفةِ الإنسانية، لا يُمكنُ الاعتمادُ في فَهم القرآنِ على التفاسير القديمةِ وَحْدَها، تلك التي اشتَمَلت على كثيرٍ من الخرافات، ولكنْ ينبغي الاعتمادُ على نصِّ القرآن وحدَه (¬1). ° "وقد هَيَّجَ الرأيَ العامَّ ضدَّه، وزاد في هَياجِ الرأيِ العامِّ المسلمِ وتشديدِ النكير عليه من العلماء -حتى حَكَموا بكفره- لِمَا قَرَّره في تفسيره من أنَّ القرآنَ نَزَل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمعنى فقط، ثم صاغ الرسولُ ألفاظَه من عنده" (¬2). ¬

_ (¬1) "مفهوم تجديد الدين" بسطامي محمد سعيد (ص 123) وما بعدها. (¬2) "كفاح المسلمين في تحرير الهند" د. عبد المنعم نمر (ص 44 - 45) - طبعة أولى نشر مكتبة وهبة - القاهرة 1384 هـ.

° فيقول: "مِن المُسَلَّم به أنَّ القرآنَ نَزَل بلفظِه على قلبِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، أوْ أُوحِي إليه، سواءً سلَّمنا أنَّ جبريلَ أوصَلَه إليه بلفظِه كما هو اعتقادُ علماءِ الإِسلام، أو وَصَل إليه بمَلَكَةِ النبوَّة -التي عَبَّر عنها "برُوحِ الأمين" دون توسُّطِ جبريل- الملقاةِ على قَلْبه - عليه السلام - كما أعتقدُه وأدينُ اللهَ به" (¬1). وقد أكثَرَ من التأويل في الغيبَّات في مقالاتِه الدينية. مِثلُ تأويلِه في تعريفِ الشيطان بأنه: "القُوى العِدائيةُ التي لا يَمِلكُ الإنسانُ السيطرةَ عليها". ومِثلُ إنكاره للأمرِ الخارِقِ للعادة، فما كان منه في القرآن نَفَاه على أنه لم يَقَعْ، كَنْفِيهِ إلقاءَ إبراهيمَ في النار، وولادةَ عيسى - عليه السلام - من غيرِ أبٍ، وابتلاع الحوتِ ليونس. وما كان من الخوارقِ في السُّنَّةِ أنكَرَه استنادًا على أنه مخالِفٌ للقوانين الطبيعية (¬2). وأنكر الجِنَّ على المعنى المعهود بالخَلْقِ النارِيِّ، ففَسَّرها بسُكَّانِ الغابات والصحارِي من البشر (¬3)، وأوَّلَ الملائكةَ على أنهم القُوى المدَبِّرةَ للعالَم التي يُمكنُ السيطرةُ عليها، أوْ هيَ القوى التي في مقدورِ الإنسانِ تسخيرُها (¬4). ¬

_ (¬1) "تحرير في أصول التفسير" لسيد خان (ص 19). (¬2) "مقالات سر سيد" للسيد أحمد خان، جمع وترتيب محمد إسماعيل (1/ 128) -طبع لاهور - نقلاً عن "القرآنيون" لخادم حسين إلهي بخش. (¬3) "تفسير الجن والجان على ما في القرآن" لسيد أحمد خان (ص 5). (¬4) "مقالات سر سيد" لسيد أحمد خان (1/ 220).

تشكيكه في السنة النبوية

* تشكيكُه في السُّنَّة النبويَّة: أنكر "السيد" جُزئياتٍ من السُّنَّة: مثل إنكاره السُّنََّةَ الواردةَ في مماثَلَةِ الأرضينَ للسماوات في العدد، وقال: "إن هذا التصوُّرَ مما كان يقول به الجاهليُّون دون من سواهم .. وبناءً على لفظِ {مِثْلَهنَّ} في الآية (¬1) وُضِعت تلك الرواياتُ كلُّها في هذا الباب، واللهُ ورسولُه بَرِيءٌ منها" (¬2). وأنكر أحاديثَ الجنِّ الثابتة. ° ثم وَضَع لَبنَةً عامَّةً للتشكيك في السُّنَّةِ كلِّها، فقال: "بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ظَلَّت الرواياتُ تتناقلُ على الألسِنةِ إلى عهدِ التصنيف في الكُتب المعتَمَدة، غيرَ أننا لا نَستطيعُ أن نَغُضَّ -الطَرْفَ عن الهيئةِ التي دُوِّنت بها تلك الأحاديثُ، تلك التي كان مبناها من الذاكرة، بينما البُعدُ الزمنيُّ كَفيلٌ بمَزْجِ الزائدِ بها وإضافةِ الجديدِ إليها" (¬3). وهذه الفِريةُ الظالمةُ والشُّبهةُ التي يَسُوقُها شيطانُ الإِنس، يَرُدُّ عليها علماءُ الحديث، ودُوِّنت فيها الكتبُ، ومن أعظمِها ما كُتب حديثًا وهو "السُّنَّةَ قبل التدوين" للدكتور "محمد عجاج الخطيب". ° ويُضيف دَجَّالُ الهند: "بأنَّ ما دُوِّن في هذه الكُتب من الأحاديث، إنما هي ألفاظٌ للرواة، ولا تَعرفُ ما بين اللفظِ الأصليِّ -الصادِرِ من شفتَيْهِ عليه الصلاة والسلام- والمعبَّرِ به من وِفاقٍ أو خِلافٍ، وليس من العَجَبَ أن ¬

_ (¬1) يعني قول الله تعالى: {الله الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12]. (¬2) "مقالات" (1/ 257). (¬3) انظر "مقالات" للسيد أحمد خان (1/ 23).

يُخطئَ أحدُ الرواةِ في فهْمِ الحديث ممَّا يكونُ سببًا في ضَياعِ المفهومِ الصحيح" (¬1). وبِناءً على موقفه هذا جَعَل الأحكامَ المستنبَطَةَ من السُّنَّةِ بوجهٍ عامٍّ أحكامًا لا يَجبُ على المسلمين اتباعُها، "وأنَّ ما استَخرج العلماءُ من نصوصِها الحاليةِ إنما هي أحكامٌ اجتهاديةٌ -لا نَصِّيَّةَ فيها ولا حتميَّة-، لاحتمالِ ألاَّ يكونَ ذلك مقصودَه -عليه الصلاه والسلام-" (¬2). ° وهو -بزَعْمِه الكاذب- يُحمِّل المحدِّثين التقصير في عدمِ تمحيصِ مُتونِ السُّنَّةِ مِثل السَّند، ويقول: "وإنا لا ندري عن الأحاديث التي وُثِّقت أَوُجِّهت الجهود إليها من حيثُ المضمون والمُحْتوى أم لا؟ وأيُّ السُّبُل سُلِكَت في ذلك" (¬3). وهذا إن دَلَّ إنما يدلُّ على جَهلِه وقِلَّةِ بضاعتِه في العلم، وإلاَّ، فأين كُتبُ الجرح والتعديل وكتبُ الضعفاءِ والمتروكين، وأين كتبُ العِلَل لابن المدِيني والدَّارَقطْني؟! قبَّح الله "سيد أحمد خان! ". ° وأخيرًا يحاولُ الكذَّاب الأشِرُ أن يُجهِزَ على السُّنَّةِ بوضعِه الشروطَ التي يتعذَّرُ توفُّرُها في أغلبِ الأحاديث، فقال: "والمعيارُ السَّليم لقَبولها هو أن ينظر إلى المَرْوِيِّ بمِنظارِ القرآن، فما وافَقَه أخذناه، وما لم يوافِقْه ¬

_ (¬1) "مقالات" (1/ 49). (¬2) "مقالات" (1/ 69). (¬3) "مقالات" (1/ 23).

نَبَذْناه .. وإِنْ نُسِب شيءٌ من ذلك إلى الرسول، فيَجبُ فيه توفُّرُ شروطٍ ثلاثة: 1 - أن يكون الحديثُ المرويُّ قولَ الرسولِ بالجَزْم واليقين. 2 - أن تُوجَدَ شهادةٌ تُثبِتُ أن الكلماتِ التي أتى بها الراوي هي الكلماتُ النبويَّةُ بعينها. 3 - ألاَّ يكونَ للكلماتِ التي أتى بها الرواةُ معانٍ سوى ما ذَكَره الشُّرَّاحُ، فإنْ تَخَلَّفَ أحدُ هذه الشروط الثلاثة لم يَصحَّ نسبةُ القولِ إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو أنه حديث من أحاديثه" (¬1). وهذه الشرُوط لا تتوفَّرُ إلاَّ في المتواتر اللفظي دون سائِر السُّنةِ الصحيحة المتواترةِ تواترًا معنويًّا، أو السنَّة الآحادية التي عليها مدارُ الأحكامِ الشرعيَّةِ عند المسلمين (¬2). وهو يَقبَلُ من الأحاديث فقط ما يَتَّفقُ مع نصِّ ورُوح القرآن، وما يتَّفقُ مع العقل والتجربةِ البشرية، وما لا يُناقِضُ حقائقَ التاريخَ الثابتة .. ولا يَقبلُ مِن الأحاديثِ إلاَّ المتواتر، أما أحاديثُ الآحادُ فهو لا يَميلُ إلى قَبولِها مطلقًا. وحتى الأحاديثُ المقبولةُ لديه، فهو يُقَسِّمُها إلى قِسمين: أحاديثُ خاصَّةٌ بالأمورِ الدينية -كالعقيدة والعبادة-. وأحاديثُ خاصةٌ بالأمور الدنيوية -كقضايا السياسة والاقتصاد والاجتماع-. ¬

_ (¬1) "مقالات" (1/ 40). (¬2) "القرآنيون" (ص 106).

وهو ينكر الإجماع كمصدر من مصادر التشريع

فالأولى مُلزِمةٌ في نظرة .. أما الثانية، فغيرُ ملزِمةٌ؛ لأنها من أمورِ الدنيا المتغيِّرة (¬1). * وهو ينكرُ الإِجماعَ كمصدرٍ من مصادِرِ التشريع: أما مسائلُ الفقه: فقد كانت نظرتُه فيها تَسير وِفقَ مَنهجِه، لتقريبِ أمورِ الدين من مفاهيم الحضارةِ الغربية: ففي فقهِ العبادات كان مَنهجُه يَتمثَّل في تفسيرِ ممارساتِ العبادةِ بمنطقٍ عقليٍّ بحت، فغَسلُ الأعضاءِ عنده في الوُضوء نظافةٌ ورمزٌ للطهارةِ المعنوية، ويُقصَدُ من الصلاةِ توجيهُ انتباه المَرءِ لخالقه، أمَّا الإحرامُ والطوافُ ورَميُ الجَمَراتِ، فهي عاداتٌ باقيةٌ من الأديانِ الأولى في طفولة البشرية، واحتفظ بها الإِسلامُ مع أنها عاداتٌ بدائية، مثل لُبسِ الثوبِ من غيرِ مخيطٍ (¬2). أما الرِّبا المحرم: فهو عنده يَقتصرُ على الرِّبح المركَّب، ولا يَعتبرُ الفائدةَ البسيطة -في البنوك والمعاملات التجارية- ربًا ولا حرامًا. ويناقش "سيد أحمد خان" قضيةَ تعدُّدِ الزوجات الذي أُبيح بنصِّ القرآن، ويَرى أن الأصلَ فيه زواجُ الواحدة، أما التعدد فهو حالةٌ استثنائية، وفي دائرة الحدود يرفضُ إقامتَها -كما أوجب الشرع-، وُينكِرُ عقوبةَ الرَّجْمِ للزاني، ويَعتبرُ أنَّ عقوبةَ قَطعِ الأيدي والأرجل عقوباتٌ وحشية، ينبغي الكفُّ عنها؛ لأنها تنافي التمدُّنَ والحضارة. أما الجهاد: فيرى أنه مشروعٌ "فقط" للدفاع عن النفس، وفي حالةٍ ¬

_ (¬1) "مفهوم تجديد" (ص 126) لبسطامي محمد سعيد. (¬2) المصدر السابق (ص 129 - 130).

واحدة، هي اعتداء الكافرين على المسلمين إذا أرادوا حَمْلَهم على تغيير دينهم!! أما إذا كان الاعتداءُ من أجلِ أمرٍ آخر -كاحتلالِ الأراضي-، فالجهادُ غير مشروعٍ عنده، وذلك حتى يَجِدَ مبررًا لمسالمةِ الإِنجليز المحتلِّين لبلاده (¬1). ومِن الملاحَظِ أن "أحمد خان" يُكرِّر نفسَ المسائل التي قال بها الإصلاحيون، ومِن ثَمَّ المستشرقون، وإن كان أكثَرَ صراحةً في الإعلانِ عن بعضها من الإصلاحيين. ° يقول الشيخ "عبد الحي الحَسَني" مؤرِّخُ الهند: "كان كبيرَ العقل، قليلَ العلم، قليلَ العمل، لا يُصلِّي ولا يصومُ غالبًا" (¬2). ° ولَقد اتَّفقتِ المصادرُ التي بَحثَتْ عن نشأةِ "القرآنيِّين" وخروجِهم إلى حيِّز الوجود وإدلائِهم بالآراءِ المخالفةِ في الدين، على أنهم الثمرةُ الطبيعية التي بَذَرَ بذورَها "السيد أحمد خان" وحركته (¬3). ° يقول أسد البنجاب وشيخها "ثناء الله الأمر تسري": "ما أشام ذلك اليومَ الذي خَرَّف فيه صوتُ عليكرة (¬4) المخالفُ لجميع الأمةِ الإِسلامية، الداعي إلى الاعتمادِ على القرآن وحده في الدين، وأنَّ السُّنَّة لا تكوِّنُ دليلاً شرعيًّا، فأثَّر هذا الصوتُ على الحافظ "محب الحق عظيم أبادي" في "بَتْنَة" بالهند، كما أثَّر على "عبد الله جكرالوي" في "لاهور" بباكستان أعظمَ تأثير" (¬5). ¬

_ (¬1) المصدر السابق (130 - 131). (¬2) "نزهة الخواطر" (8/ 30). (¬3) "القرآنيون" (ص 21). (¬4) يعني به: السيد أحمد خان. (¬5) مجلة أهل حديث الأمر تسرية (ص 3) عدد مارس 1933. وكان الشيخ ثناء الله الأمر =

جراغ علي عدو السنة، وتلميذ سيد أحمد خان

* جَرَاغ علي عدوُّ السُّنَّة، وتلميذ سيد أحمد خان: ولد سنة 1844 م، وكان بحقٍّ تلميذَ سيد أحمد خان الوفيَّ والرجلَ البارزَ بعد سيد خان في حركة "عليكرة"، وأحدَ أعمدتها .. وتُوفِّي في 15 يونيو 1895 م. رَضَع جراع -أو شراغ- علي من لُبانِ تلك المدرسة؛ بل أسْهَمَ في الدِّفاعِ عن آرائها أيَّما إسهام، وحاوَلَ صَبْغَ الإِسلامِ بالحضارةِ الغربية مِثل أستاذِه سيد أحمد خان، فأوَّل نصوصَ الإِسلام بما يتلاءَمُ مع تلك الحياة الأوربية. ° يقول الدكتور محمد مصطفى أعظمي: "إنَّ المستعمرين قد تنبَّهوا لخطورةِ رُوحِ الجهادِ بالسَّيف، فشَرَعوا بالطعن في أحاديثِ الجهاد، وكان "جَرَاغ علي" و"المتنبي الكذَّاب القادياني" من قادةِ هذه المدرسة، كما أنتجت الروحُ الانهزامية رجالاً مثل "السيد أحمد خان" و"عبد الله جكرالوي" و"أحمد الدين أمر تسري" وآخرين، وأخيرًا جاء "غلام أحمد برويز" الذي أبدى نشاطًا ملحوظًا، فأسسَّ جميعةً باسم "أهل القرآن"، كما أصدَرَ مجلةً شهريةً ونشر عدَّةَ كتبٍ في هذا الصدد" (¬1). ° ويَكشفُ "جَرَاغ علي" عن موقفه من السُّنَّةِ فيقول: "إنَّ القرآنَ كاملٌ من كلِّ الوجوه، ويواكبُ سَيْرَ الحضارة وتطوُّرَها، ويَرفعُ متَّبعيه إلى ¬

_ = تسري مدير تحريرها. وقد ردَّ على كل من عبد الله جكرالوي وغلام أحمد القادياني، والشيعة والبريلوية وكثيرٍ من فرق الهندوس. (¬1) "دراسات في الحديث النبوي" لمحمد مصطفى أعظمي (ص 38).

وله انحرافات كثيرة تتلخص في

أعلى درجات الرُّقيِّ والتمدُّنِ، فإنْ أحْسَنَّا تفسيرَه وتعبيرَه سَلَكَ بنا هذا المَسْلك، وإنْ قيَّدْناه بآراءِ المفسِّرين ومَنْهَجِهم وحَصَرْناه في الرواياتِ، فإن الوضعَ يَنقلبُ رأسًا على عَقِب، فنسيرُ نحوَ الهاوية بدلاً من التقدُّمِ ومسايرةِ الرَّكْب؛ لأنَّ الرواياتِ لم يصح منها إلاَّ القليل، بل جُلُّها فرضيَّات وأوهامٌ للعلماء، أو أنها دلائلُ قياسيةٌ وإجماعيَّة، وهذا المَسْلَكُ هو ما يَسيرُ عليه قانونُ الشريعةِ والفقه، ولا شكَّ أنَّ مِثلَ هذا المَسْلَكِ يَحجُزُ عن الرُّقِيِّ والتقدُّم ومسايرةِ ظروفِ الحياة" (¬1). ° وأضاف في موضعٍ آخر فقال: "إنَّ المحقِّقين الذين جَمَعوا الأحاديثَ وميَّزوا بين سقيمها وصحيحها، صَرَّحوا بأنَّ الحديثَ مهما قَوِيَ سَنَدُه لا يُمكنُ الاعتمادُ عليه، وما ذُكِرَ فيه غيرُ حتميٍّ قطعًا، فلو أمعنَّا النظرَ في هذه الحقيقةِ لاضطررْنا أن نقول: إنَّ معاييرَ الصِّدقِ والأصولِ العقليةِ لا حاجةَ لإقامتها لتمييز الحديث؛ لأنَّ الحديثَ في حدِّ ذاته شيء لا يمكنُ الاعتمادُ عليه، ولا اعتبارَ لِمَا يَتحدَّثُ عنه" (¬2). ° وله انحرافاتٌ كثيرةٌ تتلخَّصُ في: أ- نفي أن يكونَ الحِجابُ ممَّا أَمَر به الإِسلام. ب - حروبُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كلُّها دفاعية، وأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يَخُضْ حَربًا هجوميةً في حياته. ¬

_ (¬1) "تحقيق الجهاد" (ص 121) لجراغ علي ترجمة غلام حسين - لاهور - باكستان. (¬2) "أعظم الكلام في ارتقاء الإِسلام" (1/ 30) لجراغ علي ونواب يارجنك ترجمة مولانا عبد الحق - لاهور.

محب الحق عظيم آبادي في "بهار" بالهند وإنكاره للسنة

جـ- لم يُعيِّنِ القرآنُ المقصودَ من الزكاة، وإنما أَمَر بإعطاءِ الفقراءَ ما زاد عن الحاجة. ° ومن أشهر مؤلفاته: "الإصلاحاتُ السياسيةُ القانونية، والاجتماعيةُ المقترَحةُ للإمبراطوريةِ العثمانية والدولِ الإِسلامية الأخرى". ° وفي هذا الكتاب تَظهَرُ الدعوةُ إلى التوفيق بين الإِسلامِ والعصر، بالطريقةِ المفضَّلةِ لهذه المدرسة، وخلاصةُ ما فيه: "أنه يرى ضرورةَ الفصلِ بين الدين والدولة؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُوحِّدْ بين الدينِ والدولةِ مطلقًا" (¬1). * مُحبُّ الحق عظيم آبادي في "بهار" بالهند وإِنكارُه للسُّنَّة: هو الحافظُ محبُّ الحق المنسوبُ إلى مدينة "عظيم آباد" بالهند، البهاري البَتْني، وُلد في آخِرِ السَّبعينات من القَرْنِ التاسعَ عَشَر، وكان حَنَفِيَّ المَسْلَكِ في أوَّلِ أمرِه، يَتَّبعُ طريقةَ الصوفية النَّقشبنديَّة، ثم تَحَوَّل عنها ليصبحَ عُضوًا غيرَ بارزٍ في زُمرة "القرآنيين"، وله مؤلَّفاتٌ عديدة منها: "دعوة الحق" و"شرعة الحق" و"منهاج الحق" و"بلاغ الحق". وقد صَنَّف كتابَه الأولَ والثاني قبل أن ينضمَّ إلى الحركةِ القرآنية، والثالثَ أثناءَ تذبذُبه، والأخيرُ فيه التصريحُ بعدم أخذ السُّنَّةِ في الدين، وكان يَكتب في كلٍّ من مجلتي "البيان" و"طلوع الإِسلام" .. تُوفي في آخِرِ الخمسينات من القرن العشرين "بكراتشي" بعد استقلال باكستان. ° يقول مؤلِّف كتاب "القرآنيون": "وقد تزعَّم حركةَ القرآنيين في ¬

_ (¬1) "مفهوم تجديد الدين" (ص 131) وما بعدها.

القرآنيون وزعماؤهم

بدايةِ الأمر شخصيَّتانِ: "محب الحق عظيم آبادي" في "بهار" -شرقي الهند-، و"عبد الله جَكْرَالَوِي" في "لاهور" في آنٍ واحدٍ من مَنبعٍ متَّحدٍ، غيرَ أنَّ الأولَ -محب الحق- لم يُخالِفِ المسلمين في الأعمال الظاهرة، بل كان يَمتثلُ لها كأيِّ فردٍ من المسلمين باستنباطِ ذلك من القرآن الكريم، دون اللجوءِ إلى السُّنَّةِ المُشرَّفة، مما جَعَل الأنظارَ لا تَلتفِتُ إليه بدهشةٍ واستغراب، مع ما سَجَّله من المخالفات الظاهرة كقوله: "اللهم امْحُ وثنيَّة عقيدةِ البرزخ كما مَحَيْتَ الأصنامَ من جَوفِ الكعبة" (¬1). وإنكارهُ وجودَ منصبِ الإمامة في الإِسلام لعدم ذِكْرِ القرآن له (¬2). القرآنيُّون وزعماؤهم قبل مُضِيِّ أرْبَعِ سنواتٍ من موتِ "سيد أحمد خان" ظهرت حركةُ "القرآنيين" في "بِنجاب" بأواسط الهند، وما أسوأَ حظَّ هذه البقعةَ من الأرض، إذْ نَبَعَتْ منها حركتانِ هَدَّامتانِ للإِسلام: "القاديانية"، و"القرآنيون". ففي سنة 1900 م نهض من تلك البقعة "غلام أحمد القادياني"، وادَّعى النبوَّة. ومنها في عام 1902 م بدأ "غلام نَبِي" المعروف بـ "عبد الله جَكْرَالَوي" مؤسِّسُ الحركةِ القرآنيةِ نشاطَه الهدَّام بإنكارِ السُّنَّة كلِّها مُتخِذًا "مسجدَ جِيْنيان" بلاهور مقرًّا لحركتِه. ¬

_ (¬1) "منهاج الحق" لمحب الحق (ص 49). (¬2) "بلاغ الحق" لمحب الحق (ص 29).

ومن أكبر زعماء هذه الحركة

وسَنَعْرِضُ ذِكْرَ أكبرِ زعمائِهم، ثم بعد ذلك نَذكرُ أهمَّ آرائهم: * ومن أكبر زعماء هذه الحركة: * مؤسِّسُ حركة "القرآنيِّين" عبد الله جَكْرَالَوِي عدوُّ السُّنَّة: هو عبدُ اللهِ بنُ عبدِ اللهِ الجَكْرَالَوِي، نزيل "لاهور" الذي دعا الناسَ إلى مذهبٍ جديدٍ سَمَّى أتباعَه "أهلَ الذِّكر والقرآن"، وأنكر الأحاديثَ قاطبةً، وصَنَّف الرسائلَ في ذلك (¬1). وُلد عبدُ الله في بلدة "جَكْرَالَهْ" بمقاطعة "مِيَانْوَالِيْ" بـ "بنجاب" بـ "الباكستان"، في نهاية العِقدِ الثالثِ من القرنِ التاسعَ عَشَرَ الميلادي في أُسرةِ عِلمٍ ودِين، وكان والدُه ممن يَستظلُّ بظلِّ مشيخة "تَونْسَة بِرَاج"، ولهذه الصِّلةِ الرُّوحيةِ ذَهَب والدُه به إلى مُتَولِّي المَشيخةِ آنذاك، فحَنَّكه ومَسَحَ على رأسه وأسماه "غلام نَبِي"، وظَلَّ معروفًا بهذا الاسم حتى سنةِ 1899 م، إذ سَجَّله مع اسمِه المختار "عبد الله" في نهاية مقدِّمة تفسيرِه، ثم تحاشاه بعد ذلك التاريخ لشُبهةِ الشِّركِ فيه حتى الممات. * صِلته بالاستعمار: اختَلفت النقولُ في اتِّصالِ "عبدِ الله" بالإِنجليز وممالأتِه لهم، "فغلام أحمد برويز" -ومَن يرى رأيَه يَذهبون إلى أنَّ المِرزا "غلام أحمد القادياني" كان من البذور التي تَولَّت الحكومةُ البريطانيةُ بَذْرَها، وأنَّ دعوتَه أتت من صميمِ النداء الإِنجليزي، بَيْدَ أن "عبد الله" نراه سليمَ النيَّة، اكتَوَى بنارِ ما ¬

_ (¬1) "نزهة الخواطر" (8/ 289).

أُصيب به الإِسلامُ في عصرِه من الفِرَق المتعددة. ° وفريقٌ آخَرُ من المحقِّقين -أمثال "محمد علي قَصُورِي"- يَرَى أنَّ الحكومةَ البريطانيةَ كانت لها يَدٌ وراءَ الحركتين: "القاديانية، والجكرالوية"، حيث يقول: "وفي هذه الآوِنةِ اتَّخذ المشروعُ الإِنجليزيُّ نوعًا جديدًا من المناورات المناوِئةِ للإِسلام، فضَمَّت صُفوفُه السياسيةُ كثيرًا من القساوسة المبشِّرين، مما مَكَّنها من اصطيادِ بعضِ الشخصيَّاتِ الإِسلامية، وإيقاعِها في شَبكةِ التحريفِ ضدَّ الإِسلام، كما انضمَّ إلى هؤلاءِ بعضُ من يُريدُ الدنيا، فحرَّضَتْهمُ السلطاتُ الإِنجليزيةُ على أن يقوموا بأعمالٍ تُبعِدُ الثِّقةَ عن النفوس تُجاهَ الحديثِ الشريف، ويَستغِلُّوا الضمائرَ المنافقةَ من المسلمين، وكان على رأسِ هؤلاء جميعًا "عبد الله جكرالوي"، وقد اختاره المسيحيُّون لأداءِ هذه المهمَّة، فرَفَعَ صوتَه بإنكارِ السُّنةِ كلها، وأَخَذَ يدعو إلى هذا المشروعِ الهدَّام، فأَخَذَتْ كُتبُ التأييدِ والرسائلِ تَصِل إليه من المبشِّرين بالمسيحية، وتَعِدُه بالمساعدات المالية، وتشكرُه على هذا المجهود الجبَّار، وقد عَرَفْنا كلَّ ذلك مِن قِبَل أحدِ أصدقائِنا الصادقين، الذي كان يقومُ بدَورِ الترجمة لهذه الرسائل، لعدمِ معرفةِ "عبدِ الله" باللغةِ الإِنجليزية، ولو بَذَلْنا قليلاً من الجَهدِ لأمكَنَنَا الحصولُ عليها، غيرَ أنَّا لا نريدُ ذلك" (¬1). ولعلَّ الذي مَنَع الدكتور "محمد علي" من التصريح باسم صديقِه أو نَشرِ شيءٍ من الرسائل، هو قُربُ عهدِ الاستقلالِ للدولة الباكستانية، وتوغُّلِ القاديانين والقرآنيين في مناصِبها الحسَّاسة، والبَطشُ بكلِّ مَن ¬

_ (¬1) "القرآنيون" (ص 31).

موقف العلماء من أفكاره

يُخالفُهم أو يُبدي مَساوءَهم، والذي يَتحقَّقُ للمُتَتبِّعِ لأحداثِ تلك الحِقبةِ التاريخيةِ هو وجودُ الصِّلَةِ بين "الحركة الجكرالوية" والدولة المستعمِرة آنَذَاك، ولو صِلَةً خَفِيَّةً، ولعلَّ الزمنَ يَكشِفُ لنا عنها -عاجلاً أو آجلاً-. * موقفُ العلماءِ من أفكاره: اتَّخذ "عبد الله" مدينة "لاهور" -مدينة العلم- سنة 1902 م مقرًّا دائمًا لإبلاغِ رسالته إلى المسلمين، ونَشْرِ أفكارِه بين الناس، بَيْدَ أنَّ مجلة "إشاعة السنة" كانت له بالمرصاد، إذ أسرعت إلى جَمْعِ أفكارِه وإجراءِ استفتاءٍ عامٍّ حولَها، ووضعَتْها على بِساطِ البحثِ في الأوساطِ العِلميَّة، بَعدَ عَرضٍ وجيزٍ لبعضِ أفكارِ "عبد الله" الانحرافية، وطالَبَت من علماءِ الدين وقادةِ فِكرِه بيانَ موقفِ الإِسلام من مِثل صاحبِ هذه الأفكار، وهل يَبقَى الرجلُ مُسلِمًا مع اعتناقِ هذه الأفكار؟ أو يَخرجُ من دائرةِ الإِسلام، ولا يَبقى له به صِلَةٌ؟!. فأفتى بكُفرِ "عبد الله" جُلُّ علماءِ شِبهِ القارَّةِ الهندية في باكستان والهند وبنغلاديش، وفي نهاية سنة 1902 م تولَّت "إشاعةُ السنة" نَشْرَ عَشَراتِ التوقيعاتِ لعلماءِ الدينِ الذين أفتَوا بكُفرِ "عبد الله" وخروجِه من بَوْتَقَةِ الإِسلام، وأنه مقطوعُ الصِّلَةِ عن الدين والمسلمين (¬1). غيرَ أن "عبد الله" لَقِيَ مستمرًّا في دَعوتِه حتى اختَرَمَتْه المنيةُ، ولَقِيَ ربَّه عَزَّ وَجَلَّ عام 1914 في مدينة "مِبَانْوَالي" القريبة من "جكراله". ¬

_ (¬1) انظر مجلة "إشاعة السُّنَّة" مجلد 19 ملحق 7 (ص 211).

أحمد الدين الأمرتسري

* أحمد الدين الأَمْرَتْسَرِّي: هو الخَواجةُ أحمد الدين، ابنُ الخَواجة ميان محمد، بن محمدِ إبراهيمَ، دعامةُ الفكرِ العميق للحركة القرآنية، ولد عام 1861 بمدينة "أمْرتسر" بالهند، وتُوفِّي في 2 يونيو عام 1936 وكان يُجيدُ اللغات: العربية، والفارسية، والأُرْدية، والبنجابية، والإِنجليزية. أ- صلته بأحمد خان: لقد استفاد الخواجة "أحمد الدين" من نظرياتِ السيد أحمد خان، وإن لَم يَجْعَلْها أساسًا ومركزًا لأفكارِه، لشدَّةِ نَقْدِ العلماءِ لها والنكيرِ على قائلِها آنذاك، فاتَّخذ الخواجةُ جانبَ الحَذَر والحَيْطَة، فلم يَجْهَرْ بما جَهَرَ به السيد "أحمد خان"، وإنما كَنَّى واستعارَ ووَرَّى. ° يقول "ضياء الله" الابن البكر لأحمد الدين الذي رَتَّبَ ترجمةَ حياةِ أبيه حول هذه الصِّلة ما نصه: "يبدو أنَّ أولَ مَن وَضَعَ أساسَ استدلالِه على القرآن الكريم وحده هو "السيد أحمد خان" .. وقد قَضَتْ أفكارُه على الجُمودِ الذي ساوَرَ على عقولِ المسلمين، ثم نَسَجَ على مِنوالِه "عبدُ الله جكرالوي"، وظَلَّ الخواجة مدَّةً يَستفيدُ من أفكارِه وأفكارِ عبدِ الله، ولأفكارِ الأخيرِ تأثيرٌ بالغٌ في تعديل الوضع للسُّنةِ النبويَّة، فأصبح الذين كانوا يُفضِّلونها على القرآن يجعلونها بعدَ القرآن" (¬1). ب - صِلته بعبد الله جكرالوي: اتَّصل "أحمد الدين" لعبد الله منذ أنْ صَدَعَ الأخير بدعوته عام ¬

_ (¬1) مجلة "بلاغ" (ص 88) عدد سبتمبر 1936 م العدد الخاص بترجمة أحمد الدين.

نشاطه في دعوته، وآثاره العلمية

1902 م، وكثيرًا ما كان الخواجةُ يَزورُه في العُطَلِ الصيفية أيامَ تدريسِه بالمدرسة الإِسلامية، لِتَبادُلِ الآراءِ والمناقشةِ حولَ العديدِ من المسائل العلمية، فيُقنعُ عبدُ الله الخواجةَ حيْنًا، كما كان يَقتنعُ هو بآراءِ الخواجةِ أحيانًا أخرى. ° وحينما نَشَر عبدُ الله كتابه "صلاة القرآن" في العِقدِ الأولِ من القرنِ العشرين، قام الخواجةُ بزيارةٍ خاصةٍ له، ونَصَحه بعدمِ إصدارِ مِثل هذه الكتب في الوقتِ الحاضر، وأثناءَ النقاشِ حَضَرَتْ صلاةُ العصر، فصلَّى الخواجةُ على الطريقةِ الجكرالوية، فقال له عبد الله: "كيف تعترضُ على الكتاب وتُصلِّي بمثله؟ " فردَّ الخواجةُ عليه بقوله: "إني لا أَراها باطلةً، ولكنَّ التَّفرقةَ لا تجوزُ بين المسلمين" (¬1). * نشاطه في دعوتهِ، وآثارُه العلمية: قام الخواجة "أحمد الدين" عام 1926 م بتأسيس طائفتِه المنفصلةِ بـ "أمرتسر" والتي اختار لها اسم "أمة مسلمة"، فتسارَعَ الناسُ إلى اختيارِ عضويتها، بالإضافة إلى إصدارِ مجلة "بلاغ" الخاصةِ بهذهِ الجماعة، تَحملُ أفكارَهم، وتَنشرُ نظرياتُهم الخاصة. هذا وقد شَمَّر أعضاءُ "أمة مسلمة" ودُعاتُها عن ساعِدِ الجِدِّ، فأخَذوا يَطبَعون الكُتُبَ على حسابهم الخاص، ويُرسلونها إلى كلِّ من عَرَفوا عُنوانه دونَ مقابلٍ، ممَّا ساعَدَ في نَشرِ أفكارِهم وانضمامِ الناسِ إليهم. وممَّا يلاحَظُ في فِكرِ أحمد الدين نَقْدُه اللاذعُ للنظامِ السائد في الميراث ¬

_ (¬1) مجلة "بلاغ" (ص 20) عدد سبتمبر 1936 م.

الحافظ أسلم جراجبوري

عند المسلمين، والدعوةُ بالاكتفاءِ على ما وَرَدَ في القرآنِ الكريم دون السُّنة، كتوريثِ ابنِ الابنِ مع وجودِ الابنِ للميِّت .. وجَعَل الوصيةَ فَرْضَ عينٍ على المتوفَّى لمن شاء مِن وَرَثَتِه، وإعطاءَ الإرثِ لمستحقِّه -بقَطعِ النظرِ عن ديانتِه وحريتهِ- إلى غير ذلك من الآراء الغريبة المخالفةِ لإِجماعِ المسلمين. ° وله: (1) "معجزة القرآن"، وهو مجلد واحد. (2) "أصل مطاع"، وهو مجلد واحد. (3) تفسير "بيان للناس"، وهو سبع مجلدات وصل فيه إلى قوله تعالى: {وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70]. (4) "برهان الفرقان"، وهو مجلد واحد. (5) "ريحان القرآن"، وهو مجلد واحد. (6) "قرآن مجيد ورسول حميد"، وهو مجلد واحد. * الحَافِظ أسْلم جِرَاجْبُوْرِي: هو محمد أسلم، ابن العلامة سلامةِ الله البهوبالي، المؤرِّخُ الفيلسوفُ، أحدُ أركان القرآنيين البارزين. ولد في "جراجبور" 1299 هـ/ 1880 م بمقاطعة "أَعْظَمْ كَرَهْ" بالهند في أسرةِ أهلِ الحديث -أثناءَ أداءِ والدِه مناسِكِ الحجِّ، وحَفِظَ القرآنَ الكريم قبل أن يناهزَ التاسعةَ من عمره، فلذلك لُقِّب بالحافظ، ثم أَخَذ في دراسةِ اللغة الفارسية -لغةِ العلوم الدينية آنذاك-، ثم الرياضياتِ، فاللغةِ الإِنجليزية، كما أنه درس العربيةَ على مولانا فتح الله، وتُوفِّي في 28 ديسمبر 1955 م.

غلام أحمد برويز، عدو السنة اللدود

° أما صِلتُه بالخواجة "أحمد الدين" وتأثُّرُه بأفكارِه، فتبدو واضحةً في ترجمتِه كتابَ الخواجة "معجزة قرآن" إلى اللغة العربية، ونَشْرِه بين البلاد العربية، كما أنَّ "الحافظ" سار في موضوعِ "الإِرث" على نَهجِ الخواجة، فأخرج كتابه "محجوب الإرث" نَقْدًا لقواعِدِ الميراث المُجْمَعِ عليها بين المسلمين، كما أنَّ لِفِكْرِ "الحافظ" نصيبًا وافرًا في صَبغِ الأفكار الاشتراكية بالإِسلام، كتحويلِ مِلْكِيَّةِ الأرضِ إلى الدولة، واختراعِ مَنصبِ "مركز المِلَّة" لِيَحُلَّ مَحَلَّ "مجلس التشريع الحاكم" عند الاشتراكيين. ° يقول هذا المأفونُ في مَدحِ الاتحاد السوفيتي ما نصُّه: "إن المِلَّةَ الرُّوسيةَ جَدَّدتِ العملَ الإِسلاميَّ الذي وُجِد في العهود السابقة، بل أجودَ منه، إذْ أطاحت بالرأسماليين ومُلاَّكِ الأرضِ وأصحابِ الإماراتِ الصغيرة، وهذا معنى "لا" من كلمة "لا إله إلاَّ الله"، وهي أولُ لَبِنَةٍ في الإِسلام، وهذا العمل هو عَينُ الامتثالِ لمبدأِ الشهادتين" (¬1). ومما لا يَسَعُ الباحثَ إنكارُه أنَّ "الحافظ أسلم" هو الرجلُ الثاني بعد "بَرويز" (¬2) الذي نَبَغَ من حيث التأليف، وقام بالنشر لأفكارِ القرآنيين، وتُوفِّي في مارس 1955 م ولَحِقَ بربِّه ليلقَى جزاءَ أعمالِه. * غلام أحمد بَرْويز، عَدُّو السُّنَّة اللَّدُود: هو غلام أحمد برويز بنُ فضلِ دين، وُلِد في 9 يوليو 1903 م، في بلدة "بَتَالة" القريبة من "قاديان" بالبِنْجاب الشرقية في الهند. ¬

_ (¬1) "نوادرات" (ص 115) للحافظ أسلم. (¬2) برويز هو تلميذ الحافظ أسلم.

فكره ونشاطه لدعوته

في سنة 1938 م أصدر السيد "نذير أحمد" -بتمويلٍ من صديقه برويز- مجلة "طلوع إسلام" دونَ تسجيلها باسمه الخاص. وبعد استقلال باكستان، وبعد أن أصبحَ "محمد علي جناح القادياني" أولَ زعيمٍ ورئيسٍ لباكستان!!! انتَقل "برويز" من الهند إلى باكستان مع مجلته "طلوع إسلام". * فِكرُه ونَشاطه لدعوته: بَعدَ ما وصَلَ "برويز" إلى "كراتشي" وطاب له المُقامُ فيها، نَشِطَ في دعوتِه نشاطًا بالغًا لِخُلُوِّ الجوِّ من المعارضةِ القويَّةِ من جهةٍ، وللإِعانةِ الفعليةِ من أربابِ الحُكمِ من جهةٍ أخرى، فوجَدَ أرضًا خِصبةً لنَشرِ أفكاره، فوَضَع لمؤيِّديه أُسُسًا واضحةً، وجَعَل لهم مكاتبَ فِكرٍ تحتَ إدارته، وأَطلقَ عليها اسم "نوادي طلوع الإِسلام" تَبَعًا لاسم مجلته، ولم تَمضِ بِضعُ سنواتٍ على مجيئِه حتى عمَّ ذِكرُه في أرجاء باكستان، بل تجاوَزَها إلى الدول العربية والأوربية والأميركية، فأخذ الناسُ يَهرعون للانضمامِ إلى دعوته. وعلى جانبٍ آخَرَ أَخذت أجهزةُ الإِعلام للدولة تُكِيلُ له المَدْحَ كَيلاً، فانضمَّ إلى صُفوفه كثيرٌ من المثقفينَ والمحامِيينَ والقُضاةِ والمُحاضِرِينَ وأساتذةِ الجامعات والطلاَّبِ والمهندسين. وفي نوفمبر سنة 1956 م عُقد أولُ اجتماعٍ عامٍّ لجميع نوادي "طلوع إسلام" في "لاهور"، ثم تتابعت الاجتماعاتُ السَّنَويةُ لاتخاذِ اللازم، والبحثِ في المشاكل التي تَعترضُ طريقَهم لنشرِ الأفكارِ في أرجاءِ الوطنِ الإسلامي الكبير.

وفي هذه السَّنةِ نفسِها كان "برويز" قد عُيِّن عُضوًا في "لجنةِ التقنين" في باكستان، غيرَ أنه لم يَستمرَّ بها طويلاً، إذ عُطِّل الدستورُ بأكملِه إثْرَ انقلابٍ عسكريٍّ قام به الجنرال "أيوب خان"، وأَمَر بالغاءِ جميعِ الحركاتِ والأحزابِ ما عدا حركةَ "طلوع إسلام"، ولعلَّ السببَ في ذلك يعودُ إلى ملاءمةِ الأفكارِ البرويزية لكلِّ حاكم. ومركز "المِلَّة" عند برويز يتولاَّه كلُّ مَن تمكَّن منه، وقد مُنح لهذا المركز سلطاتٌ تشريعيةٌ واسعة، من الحَظْرِ والإباحةِ والإِجبار، وهذا ما يَبتغيه كلُّ حاكمٍ لبقائه في الحُكم، ولعلَّ هذا هو أحدُ الأسبابِ الخَفِيَّةِ العاملةِ في إلغاءِ قانونِ الأحوالِ الشخصيةِ الإِسلامية إبَّانَ حُكمِ هذا الجنرال، وإحلالِ القوانينِ الوضعيةِ -المقدَّمةِ من لجنةِ الأحوال الشخصية- مَحِلَّه. والحقُّ أن فِكرَ "برويز" يمتازُ بالاطِّلاع الواسع على الأفكار الأوربية، ويَرى وجوبَ صَبْغِ الإِسلام بها .. وبالإضافةِ إلى ذلك يعتقدُ أنَّ النظرياتِ العلميةَ حقائقُ لا تَقبلُ الجَدَلَ والمناقشة؛ لذا يجبُ تفسيرُ القرآنِ بمقتضاها، كالقول بالتطوُّر في وجودِ الخَلْق، وإنكارِ خوارِقٍ العادات .. أمَّا التأويلُ وصَرفُ الكلماتِ عن معانيها الحقيقيةِ في كُتُبه، فحدِّثْ ولا حَرَجَ، فما من مُعتقَدٍ إسلاميٍّ إلَّا مَسَّه قلمُ "برويز" بالتأويل. و"غلام أحمد برويز" يُقلِّدُ "توفيق صدقي" تقليدًا تامًّا -مع دعوى الاجتهادِ والانفراد-؛ لأنه يُنكِرُ إنكارًا تامًّا أن يكونَ للأحاديث أيُّ قيمةٍ تشريعيةٍ (¬1). ولعلَّ أولَ إعلانِه بأفكارِ القرآنيين، وإثارةِ الشبهاتِ حولَ السُّنةِ لإِزالةِ ¬

_ (¬1) "دراسات في الحديث النبوي" لمحمد مصطفى الأعظمي (ص 28).

الثِّقة عنها، ودعوةِ الجماهير إليها جِهارًا: يعودُ تاريخُه إلى مسجد "سكرتارية دهلي" الذي كان قد مَنح "برويز" مِن قِبَلِ مسؤوليِ المسجدِ حُقوقَ خُطبةِ الجمعة فيه، لِحُسنِ نواياه السابقة، لكنه سَرعانَ ما أَخذ أسلوبُه يتلوَّنُ من يومٍ لآخر، فبدأ بالتأويل في السُّنة، فالتعريضُ بها، وأخيرًا إنكارُ حُجِّيَّتِها وعدمُ الاعتمادِ عليها في شَرعِ الله عزَّ وجل، غيرَ أنه لَم يَمْضِ وقتٌ طويلٌ على هذه الأفكار حتى استولى الحماسُ الدينيُّ على "موسى" الفَرَّاش، بالسكرتارية، فأخذ بتلابيبِ الخطيب، ونهاه عن إلقاءِ مِثلِ هذه التُّرَّهاتِ، ما كان سببًا مباشرًا لعَدَمِ عودتِه إلى المسجدِ للخطبةِ مرةً أَخرى. وكان "برويز" قد اتَّصل في هذه الآونةِ بأستاذه الفكري "الحافظ محمد أسلم جراجبوري"، فتتلمذ عليه، ووَرِثَ منه جميعَ مُخلَّفاتِ الخواجةِ الفكرية حولَ السُّنة، وما أضاف "الحافظ إليها طُوالَ عمرِه الطويل، بَيْدَ أن الأرضَ لم تكن خِصبةً لنشرِ أفكارِه بين المسلمين آنَذَاك لكثرةِ ما كانت تكتظُّ به "دهلي" من العلماء الأجلَّاء من جهةٍ، والتغيُّراتِ السياسيةِ التي أوشكت أن تَحُلَّ بالمسلمين وقتَئذٍ من جهةٍ أخرى، فَبقِيَتْ أفكارِه تختلجُ في صدرِه حتى نالت باكستان استقلالها، فجاءها مهاجِرًا كبقية المسلمين، واتخذ "كراتشي" مقرًّا مؤقَّتًا لنشر دعوته. وإذا أردنا أن نعرفَ موقفَ الرجل من "السيد أحمد خان" وأفكاره، فنراه يُبجِّلُه، ويَضَعُه في قائمةِ مفكِّري هذا العصر، ويقول: "وفي عصرِنا الحاضرِ يُعتبر "السيد أحمد خان" والدكتور "محمد إقبال" أشهرَ مُفكِّري هذا العصر" (¬1). * أما موقفهُ من "عبدِ الله جكرالوي"، فنراه يَمدحُ مَنهجَه، ويُنكِرُ ¬

_ (¬1) "فرقة أهل القرآن" لبرويز (ص 8).

موقف العلماء من أفكاره

عليه تعيينَ الجزئياتِ من القرآنِ الكريم، غيرَ أن "برويز" يُخَوِّلُ تعيينَ الجزئياتِ إلى مركز "المِلَّة" فالرجلانِ متَّفقانِ في المبدأِ والغاية، غيرَ أنهما اختَلَفا في السبيِل الموصِّلِ إليها، فكلاهما ادَّعى كمالَ الدينِ في القرآنِ وعدمَ التسليم لغيرِه في الحُجَّةِ والبرهان، واختلفا في تعيينِ هذا الكمالِ، فيَرى "عبد الله" كمالَه لشُمولِه جزئيَّات الدين، ويرى "برويز" كمالَه وشموله بذِكرِ الأصولِ وتركِ الجزئيات إلى مركزِ المِلَّة، وبذا يكونُ قد وَصَلا إلى الغاية المنشودةِ، وهي إلغاءُ السُّنةِ من مصادِر التشريعِ في الإِسلام. * يقول "برويز" في ذلك ما نَصُّه: "وإنا نرى "عبدَ اللهِ جكرالوي" كان سَليمَ النيَّةِ، اكتوى بنارِ ما أُصيب به الإِسلامُ في هذا القَرنِ من الفِرَقِ المتعدِّدة، فانتَحَل عِلاجَ هذه المُعضِلةِ، فنادى بجمع المسلمينَ على القرآن الكريم، وإلى هذا الحدِّ كان سليمَ الممشى صحيحَ المَسْلَك، غيرَ أنه تقدَّم فوَقَعَ في اللَّبْسِ حين قال: إنَّ العمل على الإِسلام ليس بحاجةٍ إلى غيرِ ما في القرآن" (¬1). وُيعتبر "برويز" أكثرَ القرآنيِّين تأليفًا، بل هو مؤلِّفُ الحركةِ القاديانية، وقد زادت مؤلَّفاتُه على ثلاثين مُؤَلَّفًا. * موقفُ العلماءِ من أفكاره: أصبحت مدينة "لاهور" مدينة إقبال منذ عام 1958 م مقرًّا دائمًا لدعوةِ "طلوع إسلام"، لكنَّ العلماءَ كانوا لها بالمرصاد، إذ جَعَل مولانا "المودودي" "لاهور" نفسَها مقرًّا للجماعةِ الإِسلامية، وسَلَّط أضواءً مستفيضةً على دَعوة "برويز"، وحَذَّر الناسَ مِنِ اتِّباعِها وعواقِبِها الوخيمةِ ¬

_ (¬1) "فرقة أهل القرآن" لبرويز (ص 8).

فرق القرآنيين المعاصرة

التي تَنتظرُ متَّبعيهِ يومَ القيامة. وفي سنة 1961 م وُضعت أفكارُ "برويز" ومعتقداتُه على مَحَكِّ البحث الإِسلاميِّ أمامَ العلماءِ لِيُفُتوا فيها، ولِيبيِّنوا حُكمَ الإِسلام فيمنَ اعتَنَق هذه الأفكار، وهل تَبقى له صِلةٌ بالإِسلام، أو أنَّ الإِسلامَ بريءٌ منه؟ .. وقد تولَّى إجراءَ هذا الاستفتاء أركانُ المدرسةِ العربيةِ الإِسلاميةِ بـ "كراتشي"، فأفتَى ما لا يَقِلُّ عن ألفِ عالِمٍ من علماءِ الدينِ من باكستانَ والهندِ والشامِ والحجازِ بتكفيرِه وخُروجِه عن رِبْقَةِ الإِسلام. * فِرَقُ القرآنيِّين المعاصرِة: يُوجَدُ في الوقتِ الحاضِرِ أربعُ فِرَقٍ من القرآنيِّين، يَجمعُهم أمرانِ: 1 - القولُ بالاقتصار على القرآنِ وحدَه في أمورِ الدنيا والآخرة. 2 - وأنَّ السُّنةَ النبويَّةَ -على صاحبها أفضل الصلاة والسلام- ليست بِحُجَّةٍ في الدين، فلا مَجالَ لإِقحامِها فيه. 1 - الفرقة الأولى: "فرقة أُمَّتْ مُسلِم أهل الذكر والقرآن": وهذه الفئةُ هي البقْيةُ الباقيةُ من أصلِ فِرقة "عبد الله" مؤسِّسِ الحركةِ القرآنية، ضَمَّت في تسميتِها حِزْبَه وحِزْبَ الخواجةِ "أحمد الدين"، والواقعُ أنها لا تَمُتُّ إلى فرقة الخواجة بصِلةٍ، وقد وَضَع حَجَرَ أساسِها "محمد رمضان" تلميذُ "عبد الله جكرالوي"، وكان لها نَشاطٌ ملموسٌ أيامَ بانِيها، غيرَ أنها بعدَ وفاته أَخَذت تَضمحِلُّ شيئًا فشيئًا، وهي في طريقها إلى الانقراضِ عاجلاً أو آجلاً، وَينتمي إليها بِضعةُ آلافٍ من البشر، وقلَّما تَعثُرُ على النشءِ الجديدِ في صفوفها. ولهم مجلةٌ خاصةٌ بهم تَحملُ اسم "بلاغ القرآن"، ولِفِئةِ بلاغِ القرآن

2 - الفرقة الثانية: فرقة "أمة مسلمة"

مساجد خاصةٌ في أكثر مدن باكستان، يُقيمون فيها الصلواتِ اليوميةَ الثلاثَ بطريقتِهم الشاذَّة. 2 - الفرقةُ الثانية: فرقة "أمة مسلمة": أسَّسها الخواجة "أحمد الدين" في "أمر تسر" بالهند، وكان لهما مَجلَّتانِ: "بلاغ" و"البيان" .. ولا تخلو مدينةٌ مِن مُدن باكستان من أعضاءِ هذه الحركة، وللأمةِ المسلمةِ مراكزُ متعدِّدةٌ في أغلبِ مُدنِ باكستان الرئيسية، وأمَّا مركزُهم الرئيسيُّ ففي "لاهور"، والذي تَجدُرُ الإشارةُ إليه أنَّ المنتمِينَ إلى هذه الفئةِ يُوافِقون المسلمينَ في الأعمالِ الإِسلاميةِ الظاهرة -من الصلواتِ الخمسِ وصيام الشهرِ كلِّه-، وذلك ما يَحُولُ دون تمييزهم منِ بينِ المسلمين، ولعلَّ مجلة "فيض إسلام" الرَّوَالْبَنْديَّة تُمثِّلُ وجهةَ نظرِهم غيرَ الرسمية في الوقت الحاضر، وبالإِضافةِ إلى أن أعضاءَها يَسْعَون لإعادةِ إصدارِ "البيان" من جديد. 3 - الفرقةُ الثالثة: فرقة "طلوع إِسلام": مؤسِّسُها "برويز"، وفرقةُ "طلوع إسلام" من أنشط فِرَقِ القرآنيين في الآونةِ المعاصرة، وقد خَفَّ نشاطُها عن عهدها السابق بسبب فتوى العلماء بكفر "برويز". وفرقهُ "طلوع إسلام" قام بتأسيسها "غلام أحمد برويز" في الهند قَبلَ استقلال باكستان، إلَّا أنه نَشِطَ في الحركةِ بعدَ انتقالِه من "دهْلي" إلى باكستان، فما مِن مدينةٍ من مُدُنِ باكستان إلَّا وفيها فَرعٌ من فروعِ "طلوع إسلام"، بل لم يَقِفِ الأمرُ عند هذا الحدِّ، فقد تَجاوزَ ذلك إلى الدولِ

الأوربية عَبْرَ البحار، إذ "لطلوع إسلام" فروعٌ في المُدن الأوربية تتولَّى الدعوةَ إلى الأفكارِ البرويزية. والجدير بالذِّكر في أمر "طلوع إسلام" أنَّ داعيتَها يقومُ بإلقاءِ درسٍ في تفسير القرآن الكريم منذُ بِضعٍ وثلاثينَ سَنةً في يومِ العطلةِ الأسبوعية، وتُحفظُ دروسُه عن طريقِ آلاتِ التسجيل، ويُستَمَعُ إليها في الأيام المُقبِلةِ في أكثَرَ مِن عَشْرِ مُدُنٍ مِن مُدُنِ باكستان الرئيسة بالإضافة إلى فرُوعها عَبْرَ البحار. ومما لا شكَّ فيه أنَّ الأفكارَ البرويزية لها نفوذٌ في صفوفِ المثقَّفين، ولا سيَّما بين أولئك الذين يُريدون البقاءَ تحت الدَّوْحةِ الإِسلامية مع تلبيةِ رغباتهم الجامحة، والشيءُ المُلفِتُ للنظر أن أغلبَ كُتَّابِ "الأمة المسلمة الأمر تسرية" قد إنضمُّوا إلى صفوفِ "طلوع إسلام" مواصِلِين مَسيرتَهم الكتابية، كما انضمَّ إلى صفوفِه العديدُ من أفرادِ أهلِ الذِّكر والقرآنِ أيضًا. ولـ "طلوع إسلام" مركزٌ رئيسي في "25 B كُلْ بَرْك لاهور". كما أن لهذه الفرقةِ مجلَّتُها الرسميةُ الشهريةُ الدائمةُ "طلوع إسلام" تَنشرُ آراءَها منذُ بِضعٍ وأربعين سنةً، وفي أواسِطِ السِّتينات من هذا القَرْن تَحوَّلَتْ إلى أسبوعيةٍ لفترةٍ من الزمن، بسبب الدعمِ الماليِّ الخَفِيِّ الذي حَصَلت عليه مِن بَعضِ الجهاتِ الخَفيَّة، ولا زالت مجلة "طلوع إسلام" تَصدرُ في غُرَّةِ كلِّ شهرٍ لاتيني مُعلِنةً بذلك تحدِّيها المستمر لمشاعِر الأمة الباكستانية المسلمة. هذا وقد اختَلَفَتِ التقديراتُ لِتعدادِ أتباع "طلوع إسلام"، فمِن مُكثِرٍ يَبلُغُ بهم إلى بضعةِ ملايين، ومِن مُقِلٍّ يَصِلُ بهم إلى عَشَراتِ الألوف،

4 - حركة -أو فرقة- "تعمير إنسانيت"

والحقيقةُ تكمُنُ بين التقديرين، ولعلَّ المكثِرِين قَدَّروا الأتباعَ أيامَ ازدهارِ الحركةِ في أواخِرِ الستينات، بينما المُقِلُّون بَخَسوا عَدَدَهم لعدمِ إدراكِهمُ التامِّ لنشاطِ الحركةِ داخلَ الدولةِ وخارجَها. والواقعُ المؤسفُ حقًّا هو أنْ نَرَى المثقَّفين وأصحابَ المسؤوليةِ ينجرِفون وراءَ تيارِ "طلوع إسلام"، وينَخدِعون بسُحُبِه الكاذبة!. 4 - حركة -أو فرقة- "تعمير إِنسانيت": أما حركة "تعمير الإنسانية"، فهي فرقةٌ من فِرَقِ القرآنيين الموجودةِ في الآوِنةِ المعاصِرة، حديثةُ الولادةِ والنشوء، إذ بَرَزَتْ على صفحةِ الوجود منذُ ثلاثِ سنوات، يُمَوِّلُها الثَّرِيُّ "عبد الخالق مَالْوَادَه"، وهي تَجِدُّ وتَجتهدُ لكسبِ ثقةِ الشَّعب في أقربِ وقتٍ ممكن، كما أن رياسةَ هذه الحركةِ تعودُ إلى "عبدِ الخالق" نفسِه. ° ولهذا الحركة خطيبٌ مُفوَّةٌ هو القاضي "كفاية الله"، وهو مُعجَبٌ بأفكارِ "الجكرالوي"، ويقول عنه: "إن أفكارَه حَولَ السُّنة لم تتجاوَزْ ما أَمَرَ اللهُ به مِنِ اتِّباعِ ما أَنزَلَ اللهُ، وإنَّ لأفكارِ "عبد الله" اليدَ الَطُّولَى في القضاءِ على الجمودِ العقليِّ الذي كان مفروضًا على المسلمين قبلَه". وهذه الحركةُ تَبُثُّ دَرْسَها الأُسبوعيَّ "يومَ الجملة" كلَّ أربعاء في صحيفة "مشرق" اليومية، والمجموعُ الكُلِّيُّ لأفرادِ فِرَقِ القرآنيِّين جميعًا لا يتجاوزُ 3% من مجموع سُكَّانِ باكستان في الوقت الحاضر، ففتوى علماءِ الإِسلام ضدَّ مؤسِّسِ هذه الحركة، وضدَّ برويز قَلَّلتْ من شعبيتهما بصورة كبيرة، والحمدُ لله أنَّ وجودَهم لا يُهدِّد الكِيانَ الإِسلاميَّ في باكستان،

آراء القرآنيين

ومآلهم ومآلُ كلِّ باطلٍ إلى مزابِلِ التاريخ. * آراءُ القرآنيين: أولاً: موقفُهم من السُّنَّة: أنكَرَت فِرَقُ القرآنيِّين السُّنَّةَ جُملةً وتفصيلاً .. وكان إنكارُهم لها إنكارًا كليًّا، وأثاروا بباطلهم الشبهاتِ التي لا تَثبُتُ بحالٍ من الأحوال أمامَ رُدودِ أهلِ السُّنة. ° فقالوا: حسبُنا كتابُ الله؛ لأنه تكفَّلَ بذِكرِ الأمورِ الدينيَّةِ كلِّها بالشرحِ والتفصيل، فلم يَبقَ للمسلمين حاجةٌ إلى السُّنَّةِ كمصدرٍ للتشريع وأخذِ الأحكامِ منها. ° قال "عبد الله الجكرالوي": "إنَّ الكتابَ المجيدَ ذَكَرَ كلَّ شيءٍ يُحتاجُ إليه في الدين مفصَّلاً مشروحًا من كلِّ وَجهٍ، فما الداعي إلى الوَحْيِ الخفيِّ؟ وما الحاجةُ إلى السُّنَّة؟ " (¬1). ° ويقول: "كتابُ اللهِ كاملٌ مفصَّلٌ، لا يَحتاجُ إلى الشرح، ولا إلى تفسيرِ محمدٍٍ - صلى الله عليه وسلم - له وتوضيحِه إياه، أو التعليمِ العَمَليِّ بمقتضاه" (¬2). ° ويقول "الحافظ أسلم" ما نَصُّه: "قدِ انحَصَرت ضروريَّاتُ الدين في اتِّباعِ القرآن المفصَّل ولا نتعداه". والتفصيل المقصودُ في الآية {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ ¬

_ (¬1) مجلة "إشاعة القرآن" (ص 49) - العدد الثالث سنة 1902 م. و"إشاعة السنة" (19/ ص 286) عام 1902 م. (¬2) "ترك افتراء تعامل" (ص 10).

كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف: 111] معناه البيانُ وذِكرُ الأصولِ والقوانين، وليس المرادُ به العمومُ وتعيينُ الجزئيات -كما فهموا من لُغتهم الأُرْديَّة-، "فالتفصيلُ" في اللغة الأُرْدِيَّة غيرُه في اللغة العربية (¬1). ° قال الراغب: "الفَصْلُ: إبانةُ أحدِ الشَّيئينِ عن الآخر" (¬2). ° وقالوا في إنكارهم مَصدريَّةَ السُّنَّة: "إنها لم تكن وحيًا من الله، وإنما هي أقوالٌ نَسَبها الناسُ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - زُورًا وتزييفًا، وإنه لم يَنْزِلْ عليه من الوحي سوى ما حَوَاه القرآن". ° قال "عبد الله" مؤسِّس الحركة: "إنا لم نُؤمَرْ إلَّا باتباعِ ما أنزَلَه اللهُ بالوحي، ولو فَرَضْنا جدَلاً صِحَّةَ نِسبةِ بعضِ الأحاديثِ بطريقٍ قطعيٍّ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنها -مَع صِحَّةِ نِسبتِها- لا تكونُ واجبةَ الاتباع؛ لأنها ليست بوحيٍ منزَّلٍ من عندِ الله عز وجل" (¬3). ° ويقول: "يَعتقدُ أهلُ الحديثِ أن نزولَ الوحيِ من الله -عز وجل- إلى نبيِّه عليه الصلاة والسلام قِسمان: جَلِيٌّ متلوٌّ، وخَفِيٌّ غيرُ متلوٍّ، والأولُ هو القرآن، والثاني هو حديثُ الرسول على الصلاة والسلام .. غيرَ أنَّ الوحيَ الإلهيَّ هو الذي لا يُمكنُ الإِتيانُ بمثِلهِ، بَيْدَ أنَّ وَحْيَ الأحاديثِ قد أُتي له مثيلٌ بمئاتِ الألوفِ من الأحاديثِ الموضوعة" (¬4). ¬

_ (¬1) "مقام حديث" للحافظ أسلم (ص 143)، و"نكات قرآن" للحافظ أسلم (ص 79). (¬2) "مفردات القرآن" للراغب الأصفهاني (ص 381). (¬3) "إشاعة السنة" (19/ 291) سنة 1902 م. (¬4) مجلة "إشاعة القرآن" (ص 35) العدد الرابع 1903 م ومجلة "إشاعة السنة" (19/ 315) - العدد العاشر 1902 م.

° ويقول "برويز": "إن هذا التقسيمَ للوَحْيِ مُعْتَقَدٌ مستعارٌ من اليهود "شَبْكَتَب" المكتوبِ "وَشَبْعَلْفة"، المنقولِ بالرواية، وإنه لا صِلَةَ له بالإِسلام" (¬1). ° وقالوا في رفضِ السُّنَّةِ وإنكارِ حُجِّيَّتِها: "إن اتِّباعَ السُّنَّةِ إشراكٌ في الحُكمِ، وقد نَهَى القرآنُ عنه {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} الآية [الأنعام: 57] "!!!. ° قال الخواجة "أحمد الدين الأمرتسري": "قد وَضَع الناسُ لإحياءِ الشِّركِ طُرُقًا متعدِّدةً، فقالوا: إنا نؤمنُ أنَّ اللهَ هو الأصلُ المُطاع، غيرَ أنَّ اللهَ أمَرَنا باتِّباع رسوله، فهو اتِّباعٌ مضافٌ إلى الأصلِ المُطاع، وبِناءً على هذا "الدليلِ الفاسدِ" يُصحِّحون جميعَ أنواعِ الشِّرك، فهل يُصبحُ الأجنبيُّ زوجًا لمتزوِّجةٍ بقولِ زوجِها "إنها زوجته"؟! ألاَ وإنَّ اللهَ لم يأمرْ بمِثل ذلك، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} الآية [الأنعام: 57] " (¬2). ° وقَبْلَه قال "الجكرالوي": "الحضُّ على أقوالِ الرسُل وأفعالِهم وتقريراتِهم -مع وجودِ كتابِ الله- عِلَّةٌ قديمةٌ قِدَمَ الزَّمَن، وقد بَرَّأ اللهُ رُسُلَه وأنبياءَه من هذه الأحاديثِ، بل جَعَل تلك الأحاديثَ كُفرًا وشركًا" (¬3). أإتباعُ السُّنةِ شِركٌ؟! أمِ الشِّركُ في جَعْلِ القرآنيِّين حقَّ التشريعِ -وهو حُكْمٌ- لِمَا أَسْمَوه "مركز الملَّة"؟!. ° وقالوا -افتراءً وكذِبًا وزورًا-: "إن السُّنَّة لم تكن شَرْعًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفهِمَها الصحابةُ على هذا المنوال"!. ¬

_ (¬1) "مقام حديث" لبرويز (ص 46). (¬2) "تفسير بيان للناس" لأحمد الدين (2/ 395 و445). (¬3) "ترك افتراء تعامل" لعبد الله جكرالوي (ص 10).

° قال "برويز": "لو كانت السُّنَّةُ جُزءً من الدين، لَوَضعَ لها الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - مَنهجًا كمنهجِ القرآن من الكتابةِ والحفظِ والمذاكرة، ولا يُفارقُ الدنيا إلَّا بعدَ راحةِ بالٍ على هذا الجُزءِ من الدين؛ لأنَّ مَقامَ النبوَّة يقتضي أن يُعطِيَ الدينَ لأمتِه على شَكلٍ محفوظ، لكنه - صلى الله عليه وسلم - احتاط بكلِّ الوسائلِ الممكنةِ لكتاب الله، ولم يَفعلْ شيئًا لسُنَّتِه، بل نَهى عن كتابتها" (¬1). ° ويقول "الحافظ أسلم": "الأمرُ الذي لا مِراءَ فيه أنَّ الصحابةَ قد أدركوا نَهْيَ النبيِّ عن كتابةِ سُنَّتِه، وعَرَفوا أنَّ الأمَم السابقةَ لم تَضِل إلَّا بسببِ كتابةِ رواياتِ أنبيائها" (¬2)!!!. ° وقال: "والشيءُ المُلْفِتُ للنظر هو أنَّ الأحاديثَ لو كانت لها الصفةُ الدينيةُ، لَمَا اشتَدَّ نَهْيُ النبيِّ وصحابتِه عن كتابتها، ولهيَّؤوا السبلَ لحفظِها وتدوينِها" (¬3). ° ويقول الخواجة "أحمد الدين": "اعلمْ أنَّ طاعةَ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - كانت طاعةً مُقَيَّدةً بزمنه، وامتثالِ أحكامِه لا تتجاوزُ حياتَه، وقد أُوصِد هذا البابُ منذ وفاتِه عليه الصلاة والسلام" (¬4). ° وقالوا: "إنَّ السُّنَّةَ قد انتُقِدت سَندًا ومَتْنًا، وما دَخَله النَّقدُ لا يَصلُحُ أن يكونَ دينًا". ° وقال "الحافظ أسلم": "الاعتراضاتُ الموجَّهةُ للإِسلام من غير أهلِه ¬

_ (¬1) "مقام حديث" (ص 7). (¬2) "مقام حديث" (ص 104). (¬3) "مقام حديث" (ص 110). (¬4) مجلة "البيان" (ص 32) عدد أغسطس 1951 م.

لا تأتي إلَّا عن طريقِ الأحاديثِ التي أقرَّ المسلمون بصحَّتها، وهي موضوعةُ الأصلِ، لا صِلَةَ لها بالدين" (¬1). * وقالوا: "إنَّ القرآن حَضَّنا على الوِحدة، أمَّا السُّنَّةُ، فهي مُشَتِّتَةٌ للمسلمين"!!. * قال عبد الله: "لا ترتفعُ الفُرقةُ والتشتيتُ عن المسلمين، ولن يَجْمَعَهم لِواءٌ، ولا يَضُمُّهم مَكتبُ فِكرٍ مَوَحَّدٍ ما بَقُوا متمسِّكين برواياتِ زيدٍ وعَمرو" (¬2)!!. * ويقول "حشمت علي" -الكذَّابُ الأشِر-: "لن تتحقَّقَ وِحدةُ المسلمين ما لم يَتْرُكوا كُتُبَهم الموضوعةَ في طاعةِ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولن يَرَوا سبيلَ الرُّقِيِّ والتقدُّم ما لم يُمْحَ عنهم التشتُّتُ والفُرقة" (¬3). * ويقول "برويز": "قد فاق تقديسُ هذه الكُتبِ "كتب السُّنَّة" كلَّ التصوُّراتِ البشريةِ، مع أنها جزءٌ من مؤامرةِ أعجميةٍ استَهدَفَتِ النَّيلَ من الإِسلام وأهله" (¬4). * ويُعلِّلُ ذلك -كذبًا منه وجهلاً-، فيقول: "فما أصحابُ الكُتبِ السِّتَّةِ إلَّا جُزءً من تلك المؤامرة، لذا نَجِدُهم إيرانيِّين جميعًا، لا وجودَ لساكِنِ الجزيرة بينهم، والشيءُ المُحَيِّرُ للعقول أنَّ العربَ لم يُسهِموا في هذا العملِ البَنَّاء، بل أسنَدوا جَمْعَ الأحاديث وتدوينَها إلى العَجَم، حتى تمَّ بناءُ ¬

_ (¬1) "مقام حديث" (ص 154). (¬2) مجلة "إشاعة القرآن" (ص 39) عدد شعبان 1321 هـ نوفمبر 1903 م. (¬3) مجلة "إشاعة القرآن" (ص 10) عدد 15 ديسمبر 1927 م. (¬4) "شاهكار رسالت" لبرويز ومعناها "فارس الرسول".

ثانيا: موقفهم من القرآن وتفسيره

هذا الصَّرح المُؤَامَر" (¬1)!!!. * ثانيًا: موقفُهم منَ القرآنِ وتفسيره: * تبنَّى القرآنيُّون في تفاسيرهم أصولاً ثلاثةً، وهذه الأصول هي: 1 - حَسبُنا كتابُ الله، لكفايته في تلبية كلِّ ما له صِلَةٌ بالحياةِ الإِسلامية. فعبد الله وأصحابُ "بلاغ القرآن" يردُّون كفاية القرآن وكمالَه بذِكرِ الأصول والجزئيَّاتِ (¬2). وأما "برويز" وأستاذُه "الحافظ أسلم"، فإنهما يَرَيَانِ كمالَ القرآن بشُموله الأصولَ كلَّها، وذِكرِ جزئياتٍ يسيرةً (¬3)، وأما الجزئياتُ التي لم تَرِدْ في القرآنِ، فيتولَّى تقنينَها "مركز المِلَّة". و"مركز المِلَّة" هي السُّلطةُ العليا عندَ القرآنيِّين في الحكومةِ الحاكمة بالقرآن وحدَه. * وأجمَعَ القرآنيُّون على أنَّ ما بين دَفَّتَيِ القرآنِ لا وجودَ فيه لآياتٍ منسوخة!!. 2 - الأصلُ الثاني: الاعتمادُ الكُلِّيُّ على اللغةِ العربية في فَهمِ الكتابِ المجيدِ، ما لَم يُقصَدَ استنباطُ نظريةٍ مُعَّيَّنَة. * وبِناءً على هذا المَسْلَكِ اللُّغويِّ نَفَى أكثرُ القرآنيِّن جُلَّ الحقائقِ ¬

_ (¬1) "مقام حديث" (ص 22). (¬2) "برهان الفرقان" (ص 2)، و"ترجمة القرآن" (1/ 11) لعبد الله. وانظر مجلة "بلاغ القرآن" (ص 25) عدد فبراير 1975 م. (¬3) "تبويب القرآن" لبرويز (1/ 446)، و"مقام حديث" للحافظ أسلم (ص 142).

الشرعيَّةِ، المستفادةِ من الألفاظِ التي خَصَّها الشارعُ لشيءٍ معيَّن -كالصلاة والزكاة والطواف وما شاكل ذلك-، فقالوا في تفسيرهم للطواف: "ليس معنى الطوافِ أن ندورَ حولَ البيت، بل معناه أن نتردَّدَ إليه بين الحين والآخرِ، وهو المقصودُ من قوله عز وجل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور: 58] " (¬1). 3 - الأصل الثالث: الإلحاد والتأويلُ وتحكيمُ العقل في بيانِ مرادِ الله، بقطع النظرِ عن اللغة ومدلولاتها الظاهرة، لاستنباطِ نظرياتٍ معينةٍ اعتَنَقها القرآنيُّون وِفقَ أهوائِهم، ومِن هذه النظريات: أ- نظرية مركز المِلَّة: أولُ مَن تشدَّق بها "الحافظ أسلم"، ووَضَّح حدودَها ومعالِمَها تلميذُه "برويز" .. ويتلخَّصُ مَفهومُهم "لمركز المِلَّة" في النقاط الآتية: 1 - الآيات الواردةُ في طاعةِ الله ورسوله، مفهومُها الآن طاعة "مركز المِلَّة". 2 - "مركز المِلَّة" هو النظامُ الذي يَحكم بوفقِ القرآن. 3 - مِن صلاحياتِ هذا المركز تعيينُ حُكمِ الشرعِ في الأحكامِ التي لم يَرِدْ ذِكرُها في القرآن، دونَ أن يلتزمَ بما سَبَقَتْه من الأنظمة. 4 - من حقِّ مَن يَخلُفُ هذا النظامَ ألَّا يوافِقَ النظامَ القرآنيَّ السابقَ في الأحكام التي عيَّنها وفقَ بصيرته. ¬

_ (¬1) مجلة "بلاغ القرآن" عدد يناير 1975 م.

نظرية "نظام القرآن الاقتصادي"، أو "اشتراكية الأموال"

5 - يتمتعُ هذا النظامُ القرآنيُّ بالتحريمِ والإطلاقِ والتقييد لِمَا يَرَاه غير مَوافقٍ لظروفِه من الأحكامِ القرآنية (¬1). * نظرية "نظام القرآن الاقتصادي"، أو "اشتراكية الأموال": ° يقول "برويز": "في ظِلِّ هذا النظام "نظام القرآن الاقتصادي" لا يجوزُ جَمعُ المادَّةِ ألبتَّة، وقد جاء الوعيدُ الشديدُ على مَن يجمعُها: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]. وفي النظامِ القرآنيِّ لا يمكنُ البقاءُ للأموالِ النافلةِ في أيدي أصحابها، ولا يَسَعُنا أن نتصوَّرَ المِلكيَّة الفَرديَّةَ تحتَ حُكم هذا النظام، بل تُعَمَّمُ الأرضُ والأموالُ والمصانعُ والتجارةُ للمِلكيَّة الجماعية، حتى يستطيعَ هذا النظامُ القيامَ بتلبية ما يَحتاجُ إليه أفرادُه" (¬2). فالدجَّالُ "برويز" أتى بأفكارِ الاشتراكيين الاقتصادية، فكساها أثوابًا قرآنيةً حتى يَتسنَّى له نشرُها بين المسلمين. ونَفْيُ المِلكيَّةِ الفرديَّةِ مخالفٌ لصريح القرآنِ والسُّنةِ والإجماعِ، ولا يقولُ به إلَّا كذَّابٌ مفتر. فأين هو من قولِ الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس: 71]؟. وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ¬

_ (¬1) "القرآنيون" (ص 280، 281). (¬2) "قراني قوانين" لبرويز (ص 157، 159).

آراء القرآنيين الاعتقادية

وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 262]؟. ° آراءُ القرآنيِّين الاعتقادية: 1 - الشِّركُ بالله: يَذهبُ "عبد الله" و"الخواجة أحمد" إلى أن العمل بالسُّنَّةِ والنُّزول عند أحكامِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الواردة في الأحاديث شِركٌ، وأنَّ الامتثال لتلك الأحكامِ طريقةٌ من طُرُقِ إحياءِ الشِّركِ وتصحيحِ المعتقَدَاتِ الشركيَّة (¬1). ويرَى "برويز" أنَّ اتِّباعَ أحكامِ غيرِ الله "يعني النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -" شِركٌ، وأنَّ افتراقَ المسلمين إلى العديد من الفِرَقِ والطوائفِ المتناحِرةِ شِركٌ (¬2). 2 - العرش واستواء الرحمن عليه: ذهب "عبدُ الله" و"برويز" إلى أن المقصودَ بعَرشِ الرحمن: "السُّلْطةُ والمُلْك" وليس عَرشًا حقيقيًّا، والمقصودُ باستوائه على العرش مِلْكُ جميعِ نُظُم الكائنات، وأنَّ له السُّلطةَ المتفرِّدةَ عليها (¬3). 3 - النُّبُوَّات: أ- المعجزاتُ وخَرقُ العادة على يد نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -: أجمع القرآنيُّون على إنكارِ وُقوعِها من محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ما عدا معجزةَ القرآن. ¬

_ (¬1) انظر "ترك افتراء تعامل" (ص 10) لعبد الله، و"تفسير بيان" للخواجة أحمد (2/ 395، 445). (¬2) انظر "تبويب القرآن" (2/ 893) لبرويز، و"منزل به منزل" لبرويز (ص 24). (¬3) انظر "برهان الفرقان" لعبد الله (ص 262) و"تبويب القرآن" لبرويز (3/ 1032).

ب - قالوا عن ولادة المسيح عيسى بن مريم

أما المسلمون، فلم يختلِفوا في صدورِ خوارقِ العاداتِ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد أوصَلَها بعضُهم إلى ما يَزيدُ على ألفِ خارقٍ (¬1). ° قال "الحافظ أسلم": "لم يُعْطَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - معجزةً سوى القرآن، بينما الأحاديثُ ذكَرَت له معجزاتٍ حِسِّيَةً كثيرةً" (¬2). ° وموقفُهم من "خَرْق العادة" قبلَ عهدِ النبوة على قولَين: 1 - فريق يعترفُ بخوارقِ العاداتِ السابقةِ المذكورة في القرآن للأنبياء والصالحين .. وعلى رأس هؤلاء "عبد الله" مؤسِّسُ الحركة القرآنية و"الحافظ أسلم". 2 - والفريقُ الآخَر مَنَعَ الخوارقَ بالكليَّةِ، وحَمَل الواردَ منها في القرآنِ على المعاني المجازيَّة. وهذا مسلك "برويز" و"الخواجة أحمد". ب - قالوا عن ولادة المسيح عيسى بن مريمَ: "إنه وُلِد من أبويْن شَرْعِيَّينِ، لا مِن مَريمَ وحدَها"!! وهذا قولُ "الخواجة أحمد" و"برويز" وأصحاب "بلاغ القرآن". ° أما عن عَودةِ المسيح قبلَ يومِ القيامة، فَهُمْ فريقان: 1 - فريقٌ يَرى عَدَمَ عودتِه إلى الأرض مرةً أخرى .. وهذا قولُ "الخواجة أحمد" و"مقبول أحمد" والحافظ "محب الحق" وأصحاب "بلاغ القرآن" و"برويز" .. وصَرَّح "الخواجة وبرويز" بوفاته - عليه السلام - في كُهولته (¬3). ¬

_ (¬1) "الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح" (1/ 140) لابن تيمية. (¬2) "تعليمات قرآن" (ص 150)، و"نكات قرآن" (168) للحافظ أسلم. (¬3) "تفسير بيان للناس" (2/ 931).

4 - موقفهم من الحياة البرزخية

وأما "الحافظ أسلم" و"عبد الله"، فيَرَون أن عيسى - عليه السلام - حيٌّ على هذه الأرض، وأنه سيظهرُ مرةً أخرى قبل يوم القيامة، لقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف: 61] ولقوله: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159]. ° وذهب الكذَّابُ الأشِرُ "مقبول أحمد" في "خَتْم النبوة": "أنَّ الرسل جاءت تترى لهداية الخَلْق أجمعين، وأنها ستستمرُّ في المجيءِ ما دام للجهلِ والظلماتِ بقاءٌ على هذه الأرض". 4 - موقفُهم من الحياةِ البرزخيَّة: اتَّفق القرآنيُّون جميعًا على إنكارها. ° قال "الحافظ أسلم": "عالَمُ البَرزخِ عالَمٌ مَوَاتٌ، لا حياةَ فيه ولا إدراك بأيِّ شكلٍ من أشكاله" (¬1). ° ويقول "برويز": "القبرُ لا حقيقةَ له بُروحِ القرآنِ الكريم؛ لأنه مَدفنُ جِسمِ ميِّتٍ يَقِي الجوَّ الخارجيَّ من عُفونتِه ما لَوْ بقِيَ ذلك الجِسمُ على ظَهرِ الأرض بارزًا، لا أنه موضعُ سؤالٍ وعذاب" (¬2). 5 - موقفُهم من الشََّفاعة يوم القيامة: ° أجمَعَ القرآنيُّون على نَفيِها ألبتَّة .. يقول "عبد الله" مؤسِّس الفرقة: "مسألةُ الشفاعةِ عمومًا، ومِن الرسلِ خصوصًا، جَعَلَتِ الناسَ تقولُ: "لن ¬

_ (¬1) "نكات القرآن" للحافظ أسلم (ص 43)، "تعليمات قرآن" (ص 190)، و"نكات قرآن" (ص 157) للحافظ أسلم. (¬2) "تبويب القرآن" لبرويز (3/ 1304).

6 - موقفهم من الجنة والنار

ندخلَ النارَ إلَّا أيامًا معدودة، وستَخرجُ منها"، فعامَّةُ الناسِ كالأنعام لا تَعِي ما تقول، بل المعتَقَدُ بِرُمَّتِه وَرَد من أهلِ الحديث، وهو افتراءٌ منهم على هذه الشخصِيَّاتِ المباركة. ويُقال: الشفاعةُ نوعان: صُغرى وكُبرى، والأخيرةُ هي ما تكونُ للخَلاص من مَيدان الحَشْر، وإنَّا نُنكِرُ هذه الشفاعة، وإنَّا لها خُصُوم؛ لأنها افتراء وبُهتانٌ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو بَريءٌ من مِثل هذه المُنكراتِ الشَّنعاء". والأولى نوعان: أ- نجاةُ بعض المؤمنين مِن دخولِ جَهنَّمَ ممَّن يَستحقُّها. ب - أو تخفيفُ العذابِ عنهم، وهذه التُّهمةُ أيضًا تبرَّأَ القرآنُ منها؛ لأنَّ الاستشفاعَ عَمَلٌ مخالِفٌ للعقلِ والنقل، بل هو ظُلمٌ في حدِّ ذاتِه، إذ لا يُتصَوَّرُ وقوعُ مِثلِه في محاكم الدنيا العادلة، فما بالُك في الآخِرة؟!، فلو شَفَع عاقلٌ لمجرمٍ وأُفرج عنه، لَمَا حُمدَت عقباه" (¬1). 6 - موقفُهم من الجنَّة والنار: القرآنيُّون بإزائهما فِرقٌ ثلاث: أ- ذهب "عبد الله" ومَن نحا نحوه - إلى "أنَّ الجنَّةَ والنارَ أمكِنةٌ حقيقيةٌ ستُخلَقُ يومَ القيامة، وأنه لا وجودَ لهما في الآونةِ المعاصرة؛ لأنَّ وجودَهما الآنَ يخلو عن الحِكمةِ والمصلحةِ، وأفعالُ الله لا تَعْرَى عنهما ألبتَّة" (¬2). ¬

_ (¬1) "ترجمة القرآن" للجكرالوي (3/ 125، 126)، و"تبويب القرآن" لبرويز (3/ 1022، 2/ 886)، و"تفسير بيان للناس" (2/ 494، 313، 720، 723، 843). (¬2) "ترجمة القرآن" (4/ 32).

آراء القرانيين التشريعية

ب - وأما "الحافظ أسلم" و"مقبول أحمد" -ومَن تَبِعَها-، فيرَوَن أنَّ "الجنةَ والنارَ وما وُصِفتا به مِن نعيمٍ وعذابٍ صُورتانِ تمثيليَّتان، حَسبما كانت تَعرفُه وتُحِسُّ به البشريةُ عَصْرَ نزولِ القرآن، وقد اختلفَ الحسُّ البشريُّ في النعيم والعذابِ في الآونةِ المعاصِرة، فلذا ينبغي وَضعُ تعريفاتٍ جديدةٍ للجنَّةِ والنار، فلا يَلزمُ مِنِ احتراقِ النار احتراقٌ حِسِّيٌّ للجسم، بل المرادُ المشقَّةُ والكربُ التي تجعلُ الإنسانَ يُحِسُّ بالاحتراقِ داخلَ نفسِه" (¬1). جـ- أمَّا "برويز" والخواجة "أحمد الدين" و"جعفر شاه بلواري" (¬2) ومن نحا نحوهم، فيَرَوْن أنَّ الجنَّةَ والنارَ طَوْرٌ من أطوار الحياة البشرية، وأنَّ نُموَّ الحياةِ وإزدهارَها يعني حياةَ الجنَّة، وتوقُّفَها وعدمَ الرُّقِيَّ فيها يعني الجحيمَ والنارَ، كما أنَّ الجنَّةَ والنارَ ليستا الحَلْقَةَ الأخيرةَ من حياةِ البشر، ولا من الأشياءِ التي لا نَجِدُها إلَّا بعد الموت، بل الحياةُ أمرٌ أبديٌّ، والرُّقِيُّ مِن منزلةٍ إلى أخرى قائمٌ فيها على قَدَمٍ وساق، وسيَبقى إلى الأبد، فالجنةُ والنارُ تعبيراتُ لكيفيَّاتِ الحياةِ، لا أنهما أسماءُ أمكِنةٍ خاصةٍ" (¬3). هذه معتقدات الدجَّالين الكذَّابين. ° آراءُ القرَانيِّين التشريعية (¬4): ممَّا يُلفِتُ النَّظَرَ أنَّ آراءَ هؤلاءِ في التشريع كثيرةٌ جدًّا، وسوف نَعرِضُ ¬

_ (¬1) "تعليمات قرآن" للحافظ أسلم (ص 212، 225). (¬2) أحد زعماء "طلوع إسلام"، وأحد المكثرين في الكتابة في الآونة المعاصرة عن آراء القرآنيين. (¬3) "تبويب القرآن" لبرويز (2/ 255، 557)، ومجلة "طلوع إسلام" (ص 24) عدد أكتوبر 1951 م. (¬4) "القرآنيون وشبهاتهم حول السنة" لخادم حسين إلهي بخش (ص 365 - 440).

فيما يلي نماذج مختصرةً من آرائهم في العبادات والمعاملات: أ- ففي العبادات: خَرَجت بعضُ فِرَقهم على أركان الصلاةِ عند المسلمين، وتوصَّلوا إلى شُذوذاتٍ عجيبةٍ قد تُخرِجُهم من المِلَّةَ -والعياذ بالله-: ففي الصلاة: لهم اختلافاتٌ في كيفيَّتها -حَسْبَ طوائِفهم-، من ذلك وَصفُها كما وردت في كتاب "صلاةُ القرآن كما عَلَّم الرحمن" لمحمد رمضان -أحد دعاتهم-، وقد سَمَّوها: "صلاةَ أهلِ الذِّكر والقرآن"، وتتلَّخصُ في: 1 - أن المفروضَ من الصلواتِ ثلاثٌ، وأنَّ أداءَ العصرِ والمغربِ هو اتِّباعٌ لهوى النفس. 2 - ولكلِّ صلاةٍ ركعتان، وما زاد على ذلك فهو تعيينٌ من الناس لا مِن ربِّ الناس. 3 - تكبيرةُ الإحرام هي: "إنَّ الله كان عليًّا كبيرًا". 4 - الرفعُ من الركوع مُخالِفٌ لتعليم القرآن، فيَجبُ أن يَخِرُّ المُصلِّي منَ الركوعِ إلى السجود مباشرةً، دونَ الرفع منه. 5 - لكلِّ ركعةٍ سَجدةٌ واحدةٌ لا غير. 6 - حين الانتهاء من أذكارِ السجود تنتهي الصلاة (¬1). ومِن الجديرِ بالذِّكرِ أنَّ هذه الصلاة تُطبَّقُ حتى الآنِ عند أصحاب "مجلة بلاغ القرآن" جُملةً وتفصيلاً. ¬

_ (¬1) "القرآنيون وشبهاتهم حول السنة" لخادم حسين إلهي بخش (ص 365 - 440).

° ويقول المؤلِّف "خادم حسين إلهي بخش": "وقد شَهدتُ لهم صلاةً بمركزِهم في "لاهور" حيث تُطبَّقُ صلاتُهم، وكان الإمامُ يقرأ القرآنَ من آياتٍ حدَّدها لهم "محمد رمضان"، وهي (25) آيةً من مختلِف سور القرآن" (¬1). وترى طوائفُ أخرى أنَّ هنالك وقتَين للصلاة: الفجر والعشاء، وما عدا ذلك، فلا يجوزُ القيامُ به، ولا يَرى إمامُ هذه الطائفة- وهو "الخواجة أحمد الدين" استقبالَ القِبلةِ في الصلاة، بل تَجُوزُ الصلاةُ عنده إلى الشرقِ والغرب!!. ولا شك أنَّ هذا الانحرافَ قد جاء نتيجةً طبيعيةً لإنكارِ السُّنة، وعدمِ الاعتراف بها في شرعِ الله (¬2). ومِن شذوذات القرآنيين: أن بعضَهم لا يُجيزُ المَسحَ على الخُفَّينِ؛ لأنَّ القرآن أَمَر بمَسح القَدَمين، ويَرَون أنَّ الأحاديثَ الواردةَ في المَسحِ باطلةٌ لا أساسَ لها منَ الصِّحَّة، ولا يَرَون أنَّ للصلاة أذانًا؛ لأنَّ القرآنَ لم يأمرْ به، فالمُنبِّهُ الحقيقيُّ عندهم "للصلاة" هو دخولُ الوقتِ -وليس الأذانَ-. ولا يَرَون تفضيلَ بُقعةٍ على أخرى في الصلاة، ولذلك فهم يُكذِّبون ما ورد عن المعصومِ - صلى الله عليه وسلم - في المساجدِ الثلاثة وفضلها .. أمَّا صلاةُ التراويح، فيرى بعضُهم أنها بدعةٌ وضلالةٌ مُفضيةٌ إلى النار (¬3). ¬

_ (¬1) "القرآنيون" (ص 371 - 372). (¬2) المصدر السابق (ص 373، 378). (¬3) هذه الآراء منسوبة إلى طائفة عبد الله جكرالوي .. انظر "القرآنيون" (ص 367) وما بعدها.

وفي الزكاة: نُلخِّصُ آراءَ فِرَقِهم بما يأتي (¬1): أ- يجبُ إعطاءُ نِصفِ الخُمسِ للزكاة، سواءٌ كانت كَسْبًا من عَمَلِ يدٍ، أم ممَّا أَنْتَجَتْه أرضٌ زراعية. ب - ثم تحدَّثوا عن المِقدارِ الذي يجبُ إعطاؤُه للزكاة، دونَ أن يكونَ لها نِصابٌ مُقدَّرٌ في المالِ الذي تَجبُ فيه الزكاة، فقالوا: "على المسلمين أن يَجتمعوا لصلاةِ الصبح في مسجدِ حَيِّهم كلَّ يوم، عند فُقدانِ الحكومةِ الإِسلامية، ويُقدِّموا إلى أميرِهم عُشْرَ ما اكتَسَبوه في اليومِ السابقِ زكاةً مفروضة، لِيَضُمَّه الأميرُ إلى خِزانةِ بيت المال، ولِيصرفَ الأميرُ منه على تبليغ القرآن وعلى الأفرادِ التُّعَساء" (¬2). جـ- وَيرى آخرون رأيًا آخَرَ في وقتِ وجوبِ الزكاة، فقالوا: "صاحبُ الأجرِ يجبُ أخذُ الزكاةِ منه يومَ تَسَلُّم أَجْرِه .. وأنه لا داعيَ للانتظار سنةً كاملةً، ولا جَدوى منه" (¬3). أما الصوم (¬4): فقد وافَقَ أعيانُ الحركةِ القرآنيةِ المسلمينَ على صيام الشهر القَمَريِّ؛ لأنَّ القرآنَ صَرَّح بصيامه، ولم يَشُذُّ عنهم إلَّا الخواجة "أحمد الدين"، والسيد "محمد رفيع الدين". ° حيث يرى الأولُ: "أن المطلوبَ هو صيامُ شهرَينِ من أشهُرِ السَّنة، دونَ التقيُّدِ برمضان .. وللمسلمِ أن يتقدَّمَ أو يتأخَّرَ في صيامِ الشهرِ حَسْبَ حاجتِه". ¬

_ (¬1) ينظر "القرآنيون" (ص 383 - 395) خادم حسين إلهي بخش. (¬2) هذا الرأي ينسب لعبد الله جكرالوي و"أصحاب بلاغ القرآن". (¬3) هذا رأي الخواجة أحمد الدين وأتباعه. (¬4) ينظر "القرآنيون" (ص 396 - 397).

° ويَرى الثاني: "أنه يجبُ صيامُ ثلاثينَ يومًا، بالشهر الشَّمسيِّ؛ لأنه لا يَختلفُ من سَنَةٍ إلى أخرى". وقد انضمَّ إلى قائمةِ الشذوذ كلٌّ من السيد "مقبول أحمد" والخواجة "عباد الله أختر" إذ يَرَيانِ: أن الصيامَ المفروضَ على المسلمينَ وِفْقَ رُوحِ القرآن يَبدأُ بالحادي والعشرينَ من رمضان، وينتهي بصباحِ يومِ العيد، لقوله تعالى: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍٍ}، فالأيامُ جَمعُ "يوم"، وهي إحدى صِيَغِ جَمعِ القِلَّة، يبدأ إطلاقُها من ثلاثٍ إلى تِسعٍ. ب - وفي المعاملات: خالَفَ القرآنيون كذلك ما أجمَعَ عليه المسلمون في كثيرٍ من القضايا. ففي الحدود (¬1): أنكروا حَدَّ الرَّجمِ للزاني المُحصَن، لأنه لم يَرِدْ في القرآن، وعقوبةُ الزِّنا -برأيهم- في جميع صُورَهِ مئةُ جَلْدةٍ لا غير، والشهودُ لا يَثبُتُ بهم الزِّنا عند بعضِ دعاتهم. وأنكروا حَدَّ الخمر بتاتًا؛ لأنه لم يُذكَرْ في القرآن، وقد سبَقَهم إلى ذلك أحدُ رؤساءِ الخوارج "نَجْدَةُ بنُ عامرٍ الحَنَفي"، فقد أسقط حَدَّ الخمرِ عن أصحابه لِعَدَمِ ذِكرِه في القرآن، وكذلك فَعَل المعتزلة، إذا اعتَبَروا أنَّ إجماعَ الصحابةِ على حدِّ شارِبِ الخمرِ كان خطأً (¬2). وفي حدِّ السرقة: كان يَرى أحدُ دعاتهم "برويز" أنه ليس المرادُ من قطعِ اليدِ بَتْرُها، بل معاقبةُ المجرمِ بما يَمنعُه من ارتكابِ الجُرْم، ويقولُ ¬

_ (¬1) ينظر "القرآنيون وشبهاتهم حول السنة" (ص 402 - 417). (¬2) ينظر "الفرق بين الفرق" (ص 89).

أصحاب "بلاغ القرآن": "إنَّ المقصودَ بقوله عز وجلَّ {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، هو بَترُ تلك القوى التي أَجْبَرَتْه على السرقة، وبمعنًى آَخَرَ هو تنبيهُ الحُكَّام لسَدِّ حاجاتِ المجتمعِ المسلم"، مع أنَّ النصوصَ واضحةٌ في الكتابِ والسُّنةِ على قَطْع يَدِ السارق، أي بتْرِها من مِفصَل الكَفِّ. أما حَدُّ الرِّدَّة: فقد شَذَّ "برويزُ" بتصريحِ إنكارِ عقوبةِ المرتد، إذ يَعتبرُ أنَّ الإنسانَ لا يُجبَرُ على الإِيمانِ أو الكفر، وللإِنسانِ أن يَختارَ من الأديانِ ما يراه مناسبًا معقولاً .. وما جاء في قَتل المرتدِّ، إنما هو حُكمُ الرواياتِ التي تُخالِفُ منهجَ القرآن. وفي تعدُّد الزوجات (¬1): قد أباح الإِسلامُ تعدُّدَ الزوجاتِ، ووَضَعِ له قَيْدَ "العَدْل"، إلَّا أنَّ بعضَ القرآنيين لا يرى التعدُّدَ مطلقًا، وتطاوَلوا -كالعادة- على الشرع الحنيف. ° يقول "عبد الله جكرالوي": "إنَّ ما نُسب من التعدُّدِ إلى الأنبياء كَذِبٌ وافتراءٌ على أولئك الأطهار .. وما يُسنَدُ من ذلك إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فهو بهتانٌ عليه أيضًا؛ لأنه أولُ المخاطَبينَ بقوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} [النساء: 129] ". ويرَى "برويز" -ومن تَبِعه- أنَّ التعدُّدَ لا يُباحُ إلَّا إذا ازداد عددُ اليتامى النساء، سواءٌ كنَّ أراملَ، أو غيرَ متزوِّجاتٍ. وفي الميراث (¬2): خالَفوا إجماعَ أئمةِ المسلمين، فيقول الخواجة ¬

_ (¬1) "القرآنيون" (ص 419 - 430). (¬2) "القرآنيون" (ص 419 - 430).

"أحمد الدين": "إنَّ اختلافَ الدينِ بين الوارِثِ والموروثِ لا يَمنعُ من الميراث". ° ويقول "الحافظ أسلم": "إنَّ اسم الولدِ يُطلَقُ على الذَّكَرِ والأنثى، ولا فَرْقَ بين الابنِ والبنتِ وولدِ الابنِ وولدِ البنتِ في الميراث". وقد جاء في الحديث الشريف أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَرِثُ المُسلمُ الكافرَ، ولا يَرِثُ الكافرُ المسلمَ" (¬1). والحديثُ عامٌّ يَشملُ الزوجةَ وغيرَها، ولذا أجمَعَ العلماءُ على عدمِ إرْثِ الكافرِ من المسلم. ولكنَّها التَّبَعِيَّةُ للأمم الضالَّةِ من اليهود والنصارى، هي التي أَخرجت هؤلاءِ عن حُدودِ النصوصِ القَطعيَّةِ من الكتاب والسُّنَّة، وأَرْدَتْهم في هُوِّةِ الضلال. وهكذا، فإنَّ الحَرْبَ المُعلَنةَ على السُّنَّةِ النبويَّةِ في شِبْهِ القارَّة الهندية، وتأليهَ العقلِ، وتقديمَه على النصوص الشرعية، مع اتباعِ الهوى، والهزيمةِ أمامَ تيَّارِ الحضارةِ الغربية، كلُّ ذلك ساهم في حَلْقاتِ الانحراف، لِتستلِمَه أجيالٌ لاحقه، تدعو إلى إكمالِ المِشوارِ باسم "التجديد والتطوير"، لِفَصلِ الدينِ عن الحياةِ العامَّة. ° "وقد كان للحركةِ القاديانيةِ وأفكارِ القرآنيين وحركةِ السيد "أحمد خان" تأثيرٌ في الحياةِ العامَّةِ عند المسلمين. فبَعدَ استقلالِ باكستان، استَولى على مراكزِها الحساسةِ كثيرٌ من ¬

_ (¬1) رواه "البخاري" (8/ 11)، و"مسلم" (5/ 59).

منكرو السنة كليا من العرب

القاديانيين وأصحابِ الأفكارِ القرآنية، وفي عام 1958 م عُقِد مؤتمرٌ عالميٌّ تحتَ إشرافِ الدولةِ لقادةِ الفِكرِ الإِسلاميين، ولإِعطائِهم الجُرْعَاتِ الأَوَّلِيَّةَ للدعوة إلى الأفكارِ القرآنية، غيرَ أن علماءَ الشامِ ومصرَ والمغرب، صاحوا في وجه "برويز" مُعلِنِين تكفيرَ تلك الأفكار. وعلى إثْرِ إخفاقِ هذا المؤتمر، عُقد مؤتمرٌ آخَرُ أقامته إحدى الشركاتِ الأمريكية، غيرَ أنَّ مصيرَه لم يَختلفْ عن مصيرِ صاحبه، ثم كَثَّفَ العلماءُ جُهودَهم لمقاومةِ هذه الحركاتِ في الأوساط الشعبية، وقد أثمرت هذه الجهودُ آنَذَاك -والحمدُ لله-. والغريبُ أن كثيرًا من علماءِ باكستان حينما يتحدَّثون عن هذه الحركات، لا يَذكُرون عنها سوى أنها تُنكِرُ السُّنة، أمَّا ما يترتَّبُ على هذا الإنكارِ من نتائجَ، فقلَّما يَذكُرون عنها شيئًا" (¬1). منكرو السُّنَّةِ كلِّيًّا منَ العَرَب ° الطبيب محمد توفيق صدقي وموقفُه من السُّنَّة 1298 [هـ]- 1338 هـ: ° أولُ مَن نَشَر شُبهاتِة حولَ السُّنَّةَ -عن حُسن نيَّةٍ- مجلة "المنار" في عَددَيْها التاسع والثاني عَشَرَ من السَّنةِ التاسعة عام 1906 م - 1324 هـ، فكَتَب السيد رشيد رضا وهو يُترجِمُ لطبيبِ عائلته "محمد توفيق صدقي": "أكبرُ شُذوذٍ وقع للمترجَم -رحمه الله تعالى- وحاوَلَ إثباتَه والدفاعَ عنه: هو ما عَرَض له منَ الشُّبهةِ على كَونِ السُّنةِ ليست من أصولِ الدين .. ولَمَّا ¬

_ (¬1) "السنة ومكانتها في التشريع الإِسلامي" للدكتور مصطفى السباعي (ص 460)، و"القرآنيون" (ص 65، 66).

عَرَض له ذلك، واقتَنَع به هو وصديقُه الطبيب "عبده إبراهيم" -عفا الله عنهما-، جاءاني -كعادتهما-، وعَرَضاه عليَّ .. وإنني كنتُ أعلمُ أنَّ هذا الرأيَ عَرَض لغيرِه من الباحثين المستقلِّين، وأنه رأيٌ منتشرٌ في كثيرٍ من الأمصار التي يَسكُنُها المسلمون، وأعلمُ أيضًا أن كثيرًا من المَباحِثِ الكبيرة التي تختلفُ فيها الأنظار، لا تتمحَّصُ إلَّا بالكتابةِ والمناظرة، ولهذين السببينِ، ولتوفيرِ الوقتِ عليَّ في تمحيصِ المسألةِ لصاحب الترجمة وصديقِه، اقتَرَحتُ عليه أن يكتبَ رأيَه ليُنشرَ في "المنار" .. " (¬1). إذن ما كَتَبه الطبيب "توفيق صدقي" في المقالَين تحت عنوان "الإِسلام هو القرآن وحده"، إنما هو إنتاجُ طبيبَينِ -أحدُهما مسلمٌ ولِدَ من أَبَوَينِ مُسلِمَين، والآخرُ قِبطيٌّ أسلَمَ على يدِ السيد "رشيد" خُفيةً، ولم يُعلِنْ إسلامَه إلَّا بعدَ سنتَينِ (¬2) -، وبإيماءِ السيد "رشيد رضا" رَغْمَ تذييلِ المقالَينِ بإمضاء "توفيق" وحده، واستَغرقتِ المناقشةُ أربعةَ أعوامٍ في بِضعةَ عَشَرَ عددًا من "المنار"، وتصدَّى للردِّ على الطبيبين "أحمد منصور الباز" (¬3)، والشيخ "طه البشري" نَجْلُ الشيخ "سليم البشري" شيخ الجامع الأزهر .. فكتب تحت عناوينَ متعددةٍ -منها: "الدينُ كلُّ ما جاء به الرسول" (¬4) - و"أصولُ الإِسلام: الكتابُ، السُّنَّةُ، الإِجماعُ، القياسُ" (¬5) على الترتيب-، ¬

_ (¬1) مجلة "المنار" (21/ 492). (¬2) مجلة "المنار" (21/ 488). [قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: الطبيب الأول (من أبوين مسلمين) هو محمد توفيق صدقي، والثاني (الذي أسلم على يد محمد رشيد رضا) هو عبده إبراهيم، صديق الطبيب الأول، والأمر مبسوط في المجلد 21 من مجلة المنار] (¬3) "مقالة منصور في المنار" (9/ 610). (¬4) مجلة "المنار" (9/ 610). (¬5) مقالة الشيخ طه البشري هذه في "المنار" (9/ 699).

ثم أعقَبَهما الردُّ المفصَّل من الهند، حين كَتب الشيخ "صالح اليافعي الحيدر آبادي الدكَّنِي" للمنار تحت عنوان "السُّنن والأحاديث النبوية" (¬1). ° قال الطبيبان: إن اتباع السُّنَّة تقليد لأحد أفراد البشر، وذلك ممنوع شرعًا "وَلعَ الناسُ في الأعصُرِ الأولى بالروايات القَوليَّةِ وُلوعًا، وتفاخَروا بكثرةِ جَمعِها جُموعًا، حتى ملأت الأحاديثُ الآفاقَ، وكَثُر فيها التضاربُ والاختلافُ، وصار من المستحيل أن يَعملَ الإِنسانُ بدينِه بدون أنْ يُقلِّدَ غيره" (¬2). الجهلُ آفةٌ، والعِلمُ طريقُ النجاة، فعندما تَوَغَّلَ أمثالُ هؤلاءِ في بُستانٍ لا يُفرِّقون بينَ ثِمارِ أشجاره، حَسِبوا الحَبْحَبَ كالحَنْظَل لتوافقهِما في اللون، وسَوَّوْا بين أشواكِ الغَرْقَدِ وأشواكِ الورد، وشَتَّانَ بين الشوكَينِ والثَّمَرَتَينِ، فالاتِّباعُ ناتجٌ عن تحقُّقِ العبوديةِ لله عزَّ وجلَّ، والخضوعِ لأمره .. واتباعُ أمرِ الرسولِ أمرٌ منطقيٌّ ممَّن أقرَّ بالألوهية، بينما التقليدُ أَخْذُ قولِ العالِمِ دونَ معرفةِ دليله، والفَرقُ واضحٌ بين الوضعَينِ، فالأولُ مطلوبٌ شرعًا، دونَ الثاني، ولا يَقبلُ اللهُ صَرْفًا ولا عَدْلاً حتى يَتَّبعَ المَرءُ طريقةَ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فيما شَرَعه الله. ولم يكن للطبيبَينِ مَنْدُوحةٌ -بعد إنكارِ السُّنةِ- أنْ يُقدِّما صورةً مُضحِكةً للإِسلام، وأولُ ما جابَهَتْهما "الصلاةُ"، وإليك استنباطُها من القرآن في ضَوءِْ قَوْلَةِ المُنكِرِين: ° يقول الطبيب "صدقي" -بعد أن أورد آية صلاة الخوف: {وَإِذَا ¬

_ (¬1) مجلة "المنار" (21/ 493). (¬2) مجلة "المنار" (9/ 516).

ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ .. } [النساء: 101]-: "فإذا كانت صلاةُ الخوفِ ركعةً واحدةً للمؤتَمِّ، وظاهرٌ منَ السِّياقِ أنَّ هذا قَصْرٌ -أي دونَ الواجب-، فيكونُ الفَرْضُ في أوقاتِ عدمِ الخوف هو أكثرَ من ركعة، أي: أن القرآنَ يَفرِضُ على المسلمِ أنْ يُصلِّيَ في كلِّ وقتٍ من أوقاتِ الصلاة أكثَرَ من ركعة، ولَم يُحدِّدْ له عددًا مخصوصًا، وتَرَكَه يتصرَّفُ كما يشاء، وبعبارةٍ أخرى: إن الإنسانَ يَجبُ عليه أن يُصلِّيَ ركعتَينِ على الأقلِّ، وله أن يَزيدَ على ذلك ما شاء أن يَزيد، بحيث لا يَخرجُ عن الاعتدالِ والقصد، فإنَّ الغُلوَّ في الدين مذموم، وكذا في كلِّ شيء" (¬1). ° "لذا، فإننا إذا نَظَرْنا إلى عددِ الركعاتِ التي كان يُصلِّيها النبيُّ في أوقاتِ الصلاة -مع قَطْعِ النظرِ عما سَمَّاه المجتهدون سُنَّةً وما سَمَّوه فَرضًا-، نَجِدُ أنه لم يُحافِظْ على عددٍ مخصوص، فكان تارةً يَزيدُ، وتارةً يَنقُص، ولذلك اختَلفت المذاهبُ في عددِ السنن، وفي المندوب، والمستحب، والرغيبة، إلى غير ذلك من التقسيمات والأسماء التي ما كان يَعرفُها الرسولُ نفسُه، ولا أصحابه". ° "ثم إنَّ عددَ الركعاتِ التي كان يُصلِّيها في الأوقاتِ المختلِفةِ من اليوم هو مُختلِفٌ أيضًا، فصلاةُ الصبحِ مثلاً أربعُ ركعات، والظُّهرُ عَشْرُ رَكعاتٍ أو اثنتا عَشْرَةَ ركعةً، ولكنَّ الشيءَ المُطَّرِدَ الذي نلاحِظُه أنه ما صَلَّى وقتًا أقلَّ مِن ركعتين، ولا تَقيَّدَ بعددٍ مخصوصٍ، وهذا يؤيِّدُ ما ذهَبْنا إليه" (¬2). ¬

_ (¬1) "المنار" (9/ 518). (¬2) "المنار" (9/ 519).

° وقَدَّم الطبيبانِ صورةَ "الزكاة" مِن أن الذي "يكادُ يَجزِمُ به العقلُ أنهَ قِيمةَ النِّصابِ مِن كلِّ صِنفٍ لا بدَّ أنها كانت عند العرب متساويةً، أي أَنَّ مَن كان عنده منهم 20 دينارًا كمَن كان عنده 200 درهم أو 5 جِمال أو 40 شاة، ولذلك تؤخَذُ شاةٌ واحدةٌ ممن عنده أربعونَ شاةً، وكذا مَن عنده 5 جِمال، ولو لمِ يكنْ جَميعُ هذه المقاديرِ متساويةً لكان هناك ظُلمٌ لبعضِ الناس دونَ الآخرِين". ° "ومن ذلك نعلمُ أن ما بَيَّنَتْه السُّنةُ للعرب في ذلك الزمنِ لا يَصلحُ لجميع الأمم في الأوقاتِ المختلفة، ولذلك لَم يَرِدْ شيءٌ من ذلك في القرآن مطلقًا .. وتُرِكَتْ مِثلُ هذه التفاصيلِ فيه لتِتصرَّفَ كلُّ أُمَّةٍ في الأمور بما يناسبُ حالَها، فيجبُ على أولياءِ الأمورِ بعد الشورى ومراجعة نصوصِ الكتاب أن يَضَعُوا للأمةِ نِظامًا في هذه المسألة .. ثم إن رُبعَ العُشرِ إذا قام بإصلاح حالِ الفقراء والمساكين وأبناءِ السبيل في زمنٍ أو بلد، فليس ضروريًّا أن يكونَ كافيًا كذلك في زَمَنٍ آخَرَ أو في بلدةٍ أخرى، ومِن ذلك تعلمُ حِكمةَ اللهِ في عَدَمِ تعيينِ شيءٍ من ذلك في كتابه تعالى" (¬1). وللطبيبين في كلٍّ مِن حَدَّيِ "الرَّجْم" و"قتل المرتد" موقفٌ شبيةٌ بموقفِ الهنود، من أن الرجمَ لم يَرِدْ في القرآن (¬2)، وأنَّ قَتْلَ المرتدِّ مخالفٌ للآياتِ القرآنية التي ضَمِنَتْ حُريةَ العقيدة والتدين (¬3)، وأنَّ إعدامَهما تعزيرًا أو محاربةً لا حَدًّا هو ما وقع في الأزمنةِ السالفة، وللإمام تطبيقُهما كعقوبتَينِ ¬

_ (¬1) "المنار" (9/ 521). (¬2) راجع رأيهما في "المنار" (9/ 523). (¬3) راجع رأيهما في "المنار" (9/ 523).

تعزيريَّتَينِ- إنْ رأى مصلحةً في ذلك-، وأنَّ القطعَ لا يجب لأولِ مرةٍ، بل يُعطى السارقُ فرصةَ الإِصلاح، فإنْ تابَ وأصلح، وإلَّا قُطعت يَدُه. ° هذا وقد رَجَع "محمد توفيق صدقي" عن بعضِ شذوذه، بعد مناقشةِ العلماء الكتابية، مما جَعَل صاحب "المنار" يَتنفَّسُ تنفُّسَ الصَّعَداء: "نحمدُ اللهَ أنْ ظَهَر صِدقُ قولِنا في الرجل وأنه مُعتقِدٌ، ويُذعِنُ لِمَا يَظهرُ له أنه الحق" (¬1). ° مع أن الرجلَ كَتب في وثيقةِ الاعتراف بعد إبداءِ السيد "رشيد رضا" رأيَه في جزئياتٍ من المناقشة، فقال: "وأهمُّ ذلك في الحقيقة مسألةُ ركعاتِ الصلاة، وأرى أن ما كَتَبه صاحب "المنار" الفاضل في هذه المسألة كافٍ في الردِّ عَلَيَّ، فأنا أعترفُ بخطئي هذا على رؤوس الأشهاد، وأستغفرُ اللهَ تعالى مما قلتُه أو كتبتُه، وأُصرِّحُ بأنَّ اعتقادي الذي ظَهَر لي مِن هذا البحث -بعدَ طولِ التفكُّرِ والتدبُّر- هو أنَّ الإِسلامَ هو القرآنُ، وما أجمَعَ عليه السلفُ والخَلَفُ من المسلمين عملاً واعتقادًا، إنه دين واجب .. وبعبارةٍ أخرى أنَّ أَصْلَيِ الإِسلام اللذينِ عليهما بُنِيَ هما "الكتاب والسنة النبوية" بمعناها عند السلف، أي طريقتُه - صلى الله عليه وسلم - التي جَرى عليها العملُ في الدين"، "ولا يَدخلُ في ذلك السُّننُ القَوليَّةُ غيرُ المُجمَع على اتِّباعها، ولا ما كان ذا عَلاقةٍ شديدةٍ بالأحوالِ الدنيويةِ كبعضِ الحدود، ومقاديرِ زكاةِ المالِ والفطر، والأصنافِ التي تؤخَذُ منها، وغيرِ ذلك مما لم يُذكَرْ في الكتابِ العزيز، فأُبيحُ بعضَ التصرُّفِ في أمثالِ هذه المسائِل إذا وُجد عندنا مقتضٍ" (¬2). ¬

_ (¬1) "المنار" (10/ 140). (¬2) "المنار" (10/ 140).

محمود أبو رية عدو السنة

° ولا أدري كيف التوفيقُ بين مَدْح السيد "رشيد رضا"، لطبيب عائلته ثلاثةَ مرات، مرةً عند كتابةِ الرجل عن إنكارِ السُّنة (¬1)، ومرةً بعد اعترافِه السابقِ المُبيح للتصرُّفِ في الحدود وغيرِها، وثالثةً عند التأبين، "فإني أعرفُه سليمَ العقيدة، مؤمنًا بالألوهيةِ والرسالة؛ على وِفقِ ما عليه جماعةُ المسلمين، مؤدِّيًا للفريضة" (¬2)، وبين قوله: "إنَّ العقلَ لَيَعْسُرُ عليه أن يتصوَّرَ أن مؤمنًا مذعِنًا لدينِ الله يَعتقدُ أنَّ كتابَه يَفرضُ عليه حُكمًا، ثم هو يُغيِّرُه باختياره، ويَستبدلُ به حُكمًا آخَرَ بإرادته، إعراضًا عنه، وتفضيلاً لغيره عليه ويُعتَدُّ مع ذلك بإيمانِه وإسلامه" (¬3). ° محمود أبو ريَّة عدوُّ السُّنَّة: لقد كان هذا الكَذَّابُ المُفترِي سَبَّاقًا في جُرأتِه على النبيِّ الكريم - صلى الله عليه وسلم - بما لم يتجرَّأْ به أحدٌ. ° نَشَر مقالاتِه في مجلة "الرسالة" منذ إبريل 1951 م، ونُشرت أبحاثُه تحت عنوان "في الحديث النبوي"، ثم جُمعت في كتاب "أضواء على السُّنة المحمديَّة"، ورَدَّ عليه الشيخ "محمد عبد الرزَّاق حمزة" في كتاب "ظلمات أبي رِيَّة أمامَ أضواء السُّنَّةِ المحمدية". ° ثم رَدَّ عليه الشيخ "عبد الرحمن المُعَلِّمي" اليماني في كتابه "الأنوار الكاشفة لِمَا في كتابِ "أضواء على السنة" من الزلل والتضليل والمجازَفة"، ¬

_ (¬1) "المنار" (9/ 524). (¬2) "المنار" (21/ 492). (¬3) "المنار" (17/ 263).

ثم سَوَّد كتابًا آخَرَ فيه من الفُحشِ والفِسقِ والفُجورِ والطعنِ على أبي هريرة - رضي الله عنه - ما يَعِفُّ اللسانُ عن نُطقِه، ويأبى القلمُ أن يَخُطَّه على الورق، يَتَّهمُ فيه أبا هريرة بالكذب، هذا الدجَّالُ عدوُّ أبي هريرة لَمَّا مات اسوَدَّ وجهُه، وجَعل يقول: "ما لي ولأبي هريرة"؟!. ° هذا الذي ما أقرَّ بعدالة الصحابة ولم يُسَلِّم بهذا، وقال طعنًا في حُفَّاظِ الحديث وحَمَلَةِ سُنَّة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ساخرًا منهم: "ماذا تكونُ حالُ كثيرينَ منَ الذين يزعُمون اليومَ أنهم من المُحدِّثين -أولئك الذين يَتسلَّلون بين أشباههم منَ العامَّة- ومَبلَغُ علمِهم أنهم قرؤوا بعضَ كُتبِ الحديث، واستَظهروا عددًا مما فيها، يجترُّونه ليؤيِّدوا به باطلَ المعتقَدَات وسُوءَ العادات ويُروِّجوا به ما فَشَى بين الناس من الترَّهاتِ والخرافات، لكي يختلِسوا احترامَ الدَّهْماء وثِقَتَهم، ويأكلوا بالباطل والإثم أموالَهم. على أنهم لو عَرَفوا قَدْرَ أنفُسِهم، وأن ما يحفظونه مما لا يَزيدُ أكثرُه عند أحفظهم على عَشَرَات من الأحاديث، وأن كتابًا من كُتب الحديث لا يَزيدُ ثَمنه عن بِضعةِ قروشٍ يُغني عنهم جميعًا! لو أنهم عرفوا ذلك كلَّه واستيقنوه لَقَبَعوا في جُحورهم، ولأراحوا الناسَ من نقيقهم. ورَحِم الله أستاذَنا الإِمامَ "محمد عبده" -رحمه الله - حيث قال في رجلٍ وصفوه بأنه قد جَدَّ واجتَهَد حتى بَلَغ ما لم يَبْلُغْه أحد، فحَفِظَ مَتْنَ البخاريِّ كلَّه: "لقد زادت نُسخةٌ في البلد". حقًّا -واللهِ- ما قاله الإمام، أي أن قيمةَ هذا الرجل- الذي أُعجب الناسُ جميعًا به لأنه حَفِظ البخاري- لا تَزيدُ عن قيمةِ نسخةٍ من كتاب

البخاري لا تتحرَّكُ ولا تَعِي" (¬1). * {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}: ° وصَدَق أبو حاتمٍ الرازيُّ لَمَّا قال: "علامةُ أهلِ البدعِ الوقيعةُ في أهل الأثر" (¬2). ° وقال الإمام أبو عثمانَ الصابوني: "وعلامات البدعِ على أهلِها باديةٌ ظاهرة، وأظهرُ آياتِهم وعلاماتِهم: شِدَّةُ معاداتِهم لِحَمَلَةِ أخبارِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - واحتقارُهم واستخفافُهم" (¬3). ° وقال ابنُ أبي داودَ في قصيدتِه الشهيرة: ولا تَكُ من قومٍ تلَهَّوْا بدينِهم ... فَتْطعَنَ في أهلِ الحديثِ وتَقْدحُ ° ورَحِم الله الفضيلَ لَمَّا قال: "الملائكةُ حُرَّاسُ السماء، وأهلُ الحديثِ حُرَّاسُ الأرض". ° ولله دَرُّ مَن قال: "مَن لم يُقِرَّ بأنَّ أهلَ الحديثِ هم أنصارُ هذا الدِّينِ، فإنه يُعَدُّ في ضُعفاءِ المساكين الذين لا يَدِينون للهِ بدينٍ". ° وقال السَّفَّاريني: "ولسنا بصَدَدِ ذِكرِ مناقبِ أهلِ الحديث، فإنَّ مناقبَهم شهيرة، ومآثِرَهم كثيرة، وفضائِلَهم غَزيرة، فمَنِ انتقَصَهم فهو خسيسٌ ناقص، ومَن أبغَضَهم فهو مِن حِزب إبليسَ ناكص" (¬4). ¬

_ (¬1) "أضواء على السنة المحمدية" لأبي رية (ص 329). (¬2) "السنة" للالكائي (1/ 179). (¬3) "عقيدة السلف" للصابوني (2/ 355). (¬4) "لوائح الأنوار" للسفاريني (2/ 355).

° يقول الدكتور فهدُ بن عبد الرحمن الرومي: "في عام 1377 هـ الموافق 1957 م ظَهَر كتابٌ جديد، وأعني بالجديد فيه ذلكم الأسلوبَ الذي نَهَجه صاحبُه -وما رأيتُ مِثلَه-، رجلٌ يَحمِلُ مِعْوَلَ هَدمِ السُّنةِ، يُنكِرُ أحاديثَها، ويُلقي أفظعَ السِّبابِ والشتائمِ على ناقِلِها الأول أبي هريرة - رضي الله عنه -، ثم يَزعُمْ بعد هذا أنه يُدافعُ عن الحديث!!!. أما المؤلِّف، فمحمود أبو رِيَّة، وأما الكتاب، فـ "أضواء على السُّنة المحمدية"، أو"دفاع عن الحديث"؟!!!. ومِنَ التوافُقِ العجيبِ أن الذي قَدَّم لهذا الكتاب الذي أَنكَرَ حُجِّيَّةَ السُّنةِ هو الذي أنكَرَ صِدقَ قَصَصِ القرآن، وأنكَرَ حُجِّيَّتَه فيما يُخبِرُ به -كما مرَّ بنا-، وأعني به "طه حسين" .. ". ° أنكر محمود أبو رية حُجيَّةَ السُّنة، وإذا ما قال له قائلٌ: "كيف تُنكِرُ حُجِّيَّةَ السُّنةِ وأنت تَستدِلُّ على ما ذَهَبْتَ إليه بأحاديثَ منها؟ أجاب: "إن الأحاديثَ التي أُورِدُها في سياق كلامي للاستدلال بها على ما أُريدُ في كتابي، إنما أَسُوقُها لكي نُقنعَ مَن لا يَقنَعُ إلَّا بها على اعتبارِ أنها عندَه من المسلَّمات التي يُصدِّقُها ولا يُماري فيها، "ويُشبَّهُ أسلوبُه هذا باحتجاج" المسلم على النصرانيِّ بما في الإِنجيل، وهو في نفسِه غيرُ مؤمنٍ بما يَحتجُّ به أو عكسُ ذلك" (¬1)؟!!. ° ويَتَّهمُ هذا الأفَّاكُ الأثيمُ جُهودَ العلماءِ في فحصِ السُّنَّةِ لتمييزِ صحيحِ السُّنَّةِ من سقيمِها بأنها غيرُ مُجدية؛ لأنَّ الاطلاعَ على خَبايا النفوسِ ¬

_ (¬1) "أضواء على السُّنَّة المحمدية" لأبي ريَّة (ص 33).

أمرٌ عسير، "وأنَّى لهم أن يَنَفُذُوا إلى دخائلِ النفوس وبواطنِها، حتى يَطَّلِعوا على حقيقتِها، ومِن أجل ذلك جاءت كُتُبُهم كلُّها وليس فيها مما جاء عن رسولِ الله حديثٌ يُعتَبَرُ متواترًا، بل نَجِدُها قد جَمَعَتْ بين ما هو صحيحٌ في نظرِ الرواة، وما هو موضوعٌ لا أصلَ له، ولا يَخلُو من ذلك كتاب، حتى التي سَمَّوها "الصِّحاح" وهي صحيحُ البخاريِّ ومسلمٍ" (¬1). ° ويَزعُمُ -قاتله الله- أن الحديثَ سببٌ أساسيٌّ لتقسيم الأُمَّة وتشتيتِها إلى فِرَقٍ متباينةٍ. ° ويُقدِّمُ أبو ريَّة أمثلةً للأحاديث الموضوعة، يذكرُ منها الحديثَ المتواترَ: "مَن كَذَبَ عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأ مَقْعَدًا من النار"، فيقول: "غَمَرني الدَّهَشُ لهذا القَيْد "متعمِّدًا" الذي لا يُمكنُ أن يَصدُرَ من رسولٍ جاء بالصِّدقِ وأَمَرَ به، ونهَى عن الكَذِبِ وحَذَّر منه" (¬2). ° وخامةُ هذا التكذيبِ لهذا الحديث المتواترِ نسَجَ لُحْمَتَها وسُداها صاحب "فجر الإِسلام" في قوله: "ويظهر أنَّ هذا الوضعَ حَدَثَ حتى في عهدِ الرسول، فحديث: "مَن كَذَبَ عليَّ متعمِّدًا فليَتبوَّأ مَقْعَدَه من النار"، يَغلِبُ على الظنِّ أنه إنما قيل لحادثةٍ حَدَثَتْ، زُوِّر فيها على الرسول" (¬3). ° وَوَضعُ أبي رِيَّة لا يَعدُو فيما كَتَبَه عن السُّنةِ قولَ الشاعر: وليس يَصِحُّ في الأذهانِ شيءٌ ... إذا احتاج النهارُ إلى دليلِ ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 258، 286، 17). (¬2) "أضواء على السنة المحمدية" (ص 19). (¬3) "فجر الإِسلام" لأحمد أمين (ص 211) - الطبعة العاشرة 1969 - نشر دار الكتاب العربي ببيروت.

° تلك حُرِّيةُ الرأيِ الكتابيةِ التي طالَبَ بها الكُتَّابُ أمثالُ أبي رِية لهدمِ عقيدةِ الأمة، نتيجةَ سُقمِ عَقْلِه، أو تلبيةً لحاجةٍ في نفسِ يعقوب، ذلك هو المِحورُ الذي يَدورُ عليه بَحثُه عن السُّنة. ° وأخطرُ خُطوةٍ خطاها أبو رية تُجاهَ هدمِ السُّنة، هو رَميُ الصحابةِ وأولِ ناقِليها بالغباء، وأنَّ أحبارَ اليهود نَشَروا بين صفوفهم أحاديثَ نَسَبوها زُورًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتَقَبَّلها الصحابةُ لضَعفِهم مقابلَ دَهاءِ الأحبار، "أخذ أولئك الأحبارُ يَبُثُّون في الدينِ الإِسلاميِّ أكاذيبَ وتُرَّهاتٍ يَزعُمون مرةً أنها في كتابهم، أو من مكنونِ عِلمِهمِ، ويدَّعون أخرى أنها ممَّا سَمِعُوه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي في الحقيقةِ مِن مُفتَرَياتهم، وأنَّى للصحابةِ أنْ يَفطِنوا لتمييزِ الصِّدقِ مِن الكذبِ مِن أقوالهم؟!. وهم من ناحيةٍ: لا يَعرِفون "العبرانية" التي هي لُغةُ كُتبهم. ومن ناحيةٍ أخرى كانوا أقلَّ منهم دَهاءً، وأضعفَ مَكرًا، وبذلك راجَتْ بينهم سُوقُ هذه الأكاذيب، وتلقَّى الصحابةُ ومَن تَبِعَهم كلَّ ما يُلقِيه هؤلاء الدُّهاةُ بغيرِ نَقدٍ أو تمحيص، معتبِرِينَ أنه صحيحٌ لا ريبَ فيه" (¬1). ° ولَمَّا كان أبو رِية وقحًا في عباراته، صريحًا في اتهاماتِه المكذوبة، ولا سيَّما لِرَاويَةِ وحافِظِ السُّنة "أبي هريرة" - رضي الله عنه -، فمرةً يُسمِّيه "شيخ المضيرة" -الطعام الدسم-، ومرةً يَصِفُه - رضي الله عنه - "لا في العِيرِ ولا في النفير"، "تفاهة أمره" "حقارة مَنْبَتِه" وأمثال هذه الكلماتِ النابيةِ والبذاءاتِ المُشينة التي يَترَّفعُ عنها رجلُ الشارع في تعامله: كان من المألوفِ أن يكونَ مُرشدُه ¬

_ (¬1) "أضواء على السُّنَّة المحمدية" (ص 147).

فارسُ الميدان، ومَن خاض المُعتَرَكَ، فقد كتب "طه حسين" في جريدة "الجمهورية" كلمةً عن "أضواء على السُّنة المحمدية" موضحًا طريقة الهجوم فقال: "فمِن الظُّلمِ لأبي هريرةَ أن يقال: "إنه لم يُصاحبِ النبيَّ إلَّا ليأكلَ من طعامه"، والذي نَعَلُمه أنه أسلم، وصَلَّى مع النبيِّ، وسَمع منه بعضَ أحاديثه، فلْيَقُلْ فيه المؤِّلفُ: إنه لم يُصاحِبِ النبيَّ إلَّا ثلاثةَ سنين، وقد رَوى من الحديثِ أكثَرَ مما رَوَى المهاجرون الذين صَحِبوا النبيَّ بمكةَ والمدينة، وأكثَرَ من الأنصار الذين صاحَبوا النبيَّ منذ هاجَرَ إلى المدينة حتى آثَرَه اللهُ بجواره، وهذا يكفي للتحفُّظِ والاحتياطِ بإزاءِ ما يُروى عنه من الحديث" (¬1). أخي: ° هل تتخيَّلُ أن عدوَّ السُّنةِ "أبا رِيَّة" يقول عن الإمام أبي هريرة - رضي الله عنه -: "إنه شخصيةٌ وَهميَّةٌ لم يَقِفْ أحدٌ على اسمِه، فكان حَرِيًّا عدمُ الثقةِ في شخصِه والتشكيكُ في كلِّ ما يُروى على لسانه" (¬2)؟!. ° وقال عنه - رضي الله عنه - إنه: "نَقَلَ من الأحاديث أكثَرَ مما يُطيقُ عَقلُ بَشَر". ° لقد قال الدجَّال "أبو رية" عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "إن كِبارَ الصحابةِ جَرَّحوه، وشَكُّوا في روايتِه لأجلِ إكثارِه من الحديث، واتَّهَمه بالكذب عمرُ وعثمانُ وعليٌّ" (¬3)!!. ° وقال: "إنَّ عُمَرَ ضَرَبه بالدِّرَّة، وأوعَدَه إنْ لم يَترُكِ الحديثَ ليُلْحِقَنَّه ¬

_ (¬1) عدد الثلاثاء 25 نوفمبر 1958. (¬2) "شبهات وشطحات منكري السُّنَّة" لأبي إسلام أحمد عبد الله (ص 32). (¬3) "أضواء على السُّنَّة المحمدية" (ص 154 - 155).

بأرضِ "دَوْس" أو بأرضِ "القردة"، ولذا لم يُحدِّثْ إلَّا بعدَ قَتلِ عمر" (¬1)!!. ° ويقول عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أيضًا: "إنه كان كثيرَ النسيانِ لضَعفِ ذاكرتِه، فاختَلَق قِصَّته لِيُسَوِّغَ بها كثرةَ أحاديثه، وُيثبِتَ صِحَّةَ ما يَروِيهِ في أذهانِ السامعين" (¬2)، وإنه "لم يكن له عِلمٌ ولا فِقهٌ ولا رأيٌ ولا نصيحة، ولذا لم يَجْعَلْه عمرُ في أهل شُورته" (¬3)، وإنه "كان من عامَّةِ الصحابة، ولم يكن بينهم في العِيرِ ولا في النفير (¬4)، ولم يُذكَرْ في طبقةٍ من طبقاتهم، ولم يَرِدْ في فضله حديث" (¬5)، وإنه "كانت به غَفْلَةٌ وغِرَّةٌ وسذاجة، ولذا استَغلَّه أعداءُ الإِسلام في بَثِّ الخرافاتِ والأوهام في الدِّين الإِسلامي" (¬6). ° أما زَعمُه بأن أبا هريرة - رضي الله عنه - "غيرُ فقيه"، فلا يُؤخَذُ بما رواه مخالِفًا للقياس، فهو زَعْمٌ واهٍ ضعيف، وهذا قال الحافظ ابن حجر: "وهو كلامٌ آذَى قائلَه به نفسَه، وفي حكايتِه غِنًى عن تكلُّفِ الردِّ عليه" (¬7). ° وقد ذكر ابنُ سعدٍ أبا هريرة - رضي الله عنه - في النَّفَرِ من الصحابة الذين صارت إليهم الفتوى بالمدينة، وهم: "ابن عباس، وابن عمر، وأبو سعيد الخُدْرِيُّ، وأبو هريرة، وجابر - رضي الله عنهم -" (¬8). ¬

_ (¬1) المرجع السابق (ص 163 - 197). (¬2) المرجع السابق (ص 177). (¬3) المرجع السابق (ص 203) الهامش. (¬4) المرجع نفسه (ص 152). (¬5) المرجع نفسه (ص 184 - 185). (¬6) المرجع نفسه (ص 172 - 173). (¬7) "فتح الباري" (4/ 364). (¬8) "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 372).

الطبيب أحمد زكي أبو شادي (1892 - 1955 م)

° وقال الذهبيُّ: "احتجَّ المسلمون قديمًا وحديثًا بحديثه، لحِفظِه وجلالتِه وإتقانِه وفِقهِه، وناهيك أنَّ مِثلَ ابنِ عباس يتأدَّبُ معه، ويقول: أفْتِ يا أبا هريرة" (¬1). ° ويأبى الدكتور "طه حبيش" إلَّا أن يَكشِفَ لنا النِّقابَ ويَفُكَّ اللغزَ المُحيِّرَ في سببِ هذا الكمِّ من حِقدِ أبي ريةَ الجاحد على أبي هريرة - رضي الله عنه -، إذ اشتُهر عن محمود أبي ريَّة فَشَلُه في الدراسة الأوَّليةِ بالأزهر الشريف، وتردُّدُه الدائمُ على بعضِ الأَدْيِرَةِ والكنائس، والتقاؤه فيها بمَن أَوْهَمَه بأنه سوف يكونُ رجلاً ذا شأنٍ إذا ما سَلَك هذا الطريقَ الوَعْرَ" (¬2). ° يقول الشيخ "صلاح الدين مقبول أحمد" في مقدمته لكتاب "موقف الجماعة الإِسلامية من الحديث النبوي" (ص 5) عن أبي رية: "وكتابه "أضواء على السنة المحمدية" صادَفَ رغبةَ أعداءِ الإِسلام، حتى اشتَرَت إحدى السِّفاراتِ الأجنبيةِ في القاهرة أكثَرَ نُسَخِه، وأرسَلَتْها إلى مكتباتِ الجامعاتِ الغربية لتكونَ بين يَدَيِ الحاقِدِينَ على الإِسلام ورسولِه وصحابتِه، وليستَندوا إليها فيما أورده من أكاذيبَ وأباطيل" (¬3). ° الطبيب أحمد زكي أبو شادي (1892 - 1955 م): هو الشاعرُ المِصريُّ المعروف، ابنُ المحامي الشهير "أبو شادي محمد"، غَزَاه التغريبُ منذَ غَضاضةِ شبابِه، ونُعومِه عُودِه، ففي العشرينَ ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" (2/ 609). (¬2) "شبهات وشطحات مُنكري السنة" لأبي إسلام أحمد عبد الله (ص 33). (¬3) "موقف الجماعة الإِسلامية من الحديث النبوي" للشيخ صلاح مقبول أحمد (ص 5).

من عُمره عام 1912 م أرسله والدُه لدراسةِِ الطبِّ في "إنجلترا"، ومَكَث فيها عَشْرَ سنين، ثم عاد إلى بلاده، وله إنتاجٌ أدبيٌّ وفير، جُمع شِعرُه في عِدَّةِ دواوينَ، منها "الشفق الباكي"، "أشعة وأطلال". 1 - والذي يُهِمُّنا مِن إنتاجِه هو كتابُه "ثورة الإِسلام" الذي مَزَج فيه الحَقَّ بالباطل، واستهزأ بالسُّنةِ وجامِعِيها، وزَعَم أنَّ الأحاديثَ كلَّها مختلَقة، ولا يُرضيه نِسبتُها إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - .. فيقول: "وهذه "سنن ابن ماجه" و"البخاري" -وجميعُ كُتبِ الحديث والسُّنة- طافحةٌ بأحاديثَ وأخبارٍ لا يُمكنُ أن يَقبَلَ صحَّتَها العقلُ، ولا نَرضى نسبتَها إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأغلبُها يدعو إلى السخرية بالإِسلام والمسلمين والنبيِّ الأعظم" (¬1). ° ويَتَّهمُ المتمسِّكَ بالحديث بالخيانةِ لرسالةِ الإِسلام .. فيقول: "وأما التغنِّي "بأبي داود، والنسائي، ومسلم"، وترديدُ الأحاديثِ الملفَّقةِ التي لا تَنسجمُ وتعاليمَ القرآن، وأمَّا سُوءُ تفسيرِ آياتِ الكتابِ العزيز، وأما الجهلُ برُوحِ القرآن، وأمَّا التنازلُ عن صلاحيةِ الإِسلام لكلِّ زمانٍ ومكان: فبمثابةِ الخيانةِ لرسالةِ الإِسلامِ الخالدة" (¬2). 2 - ويزعمُ الشاعرُ أنَّ أحكامَ القرآنِ والحديثِ قابلةٌ للتغيير بتغيُّرِ الزمان والمكان؛ لأنها جاءت عن سَببٍ، وبزوالِه لَزِمَ زوالُ المسَّببِ .. فيقول: "والقرآنُ الشريفُ والأحاديثُ النبويةُ مجموعةُ مبادئَ خُلُقيَّةٍ وسلوكيةٍ مسبَّبةٍ، بحيث إنَّ أحكامَها عُرْضَةٌ للتبدُّلِ بتبدُّلِ الأحوالِ والأسباب، ففيه ¬

_ (¬1) "ثورة الإِسلام" (ص 25) - لأحمد زكي أبو شادي - مكتبة الحياة بيروت. (¬2) "ثورة الإِسلام" (ص 17).

شواهدُ هادئةٌ على ضوئِها وأسبابِها وظروفِها، لا أحكامٌ متزمِّتة، لا تَقبلُ التعديلَ وفَاقًا لتبدُّلِ الأسباب والظروف" (¬1). ° ويشرحُ هذا المبدأَ في موضعٍ آخر بصورةٍ أوضح، فيقول: "إنَّ العقيدةَ العالَميةَ لا يمكنُ أن تتدعَّمَ في دولةٍ يكونُ المواطِنون طبقاتٍ أو مراتبَ .. ولا بدَّ من المساواةِ التامَّةِ بين جميعِ المواطنين شرطًا حتميًّا لنجاح الدولةِ الإِسلاميةِ الديمقراطيةِ في عصرِنا هذا، وشتَّانَ بين ظروفِ الإِسلام الأولى الضيِّقةِ نسبيًّا، وبين ظروفِه العالَميَّةِ الحاضِرة .. فما كان يَصلُحُ عمليًّا في أولِ عهدِ الرسالة -بل حتَّى في ضُحى الإِسلام-، لم يَعُدْ يَصلحُ الآنَ لشَعبٍ متقدم -كالشَّعبِ المِصريِّ مثلاً-، تجاوَزَ تِعدادُه العشرين مليونًا، بينهم مليونانِ من خِيَرَةِ المواطنين العريقِي المِصريَّةِ يَدِينون بغير الإِسلام" (¬2). ° ومِن الأمثلة التي تَقبَلُ التغييرَ في نظره، وقَدَّمها للتعديل في ضَوءِ الحياةِ الأوروبية: "قِوامةُ المرأة"، فيقول: "إنَّ رُوحَ الإِسلام التي تُقِرُّ مبدأ الصالح العامِّ تَسمحُ في هذا العصرِ بأن تكونَ المرأةُ قَوَّامةً على الرجل، بقَدرِ ما تَسمحُ بأن يكونَ الرجلُ قوَّامًا على المرأة، إذ إنَّ مَرَدَّ ذلك إلى الاعتبار الاقتصادي -لا أكثَرَ ولا أقلَّ-، بخلافِ ما كان عليه الحالُ في فجرِ الإِسلام" (¬3). فالرجلُ لا يُهمُّه أن يُلغيَ دلالةَ الآية الكريمة: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ¬

_ (¬1) "ثورة الإِسلام" (ص 63). (¬2) "ثورة الإِسلام" (ص 115). (¬3) "ثورة الإِسلام" (ص 24).

النِّسَاءِ} [النساء: 34]. غيرَ أن مُنكِرِي الهندِ أقدَمُ منه في هذا الادِّعاء، وسيَمُرُّ بك شيءٌ منه في فَصل "آراؤهم التشريعية"، فالطبيبُ بحكم دراستِه في أوروبا، وقضاءِ أواخِرِ حياتِه في أمريكا بعد هَجْرِ مصرَ -نتيجةَ قسوةِ النقدِ الذي وُجِّه إلى شِعره، وعدمِ استقرارِ الأحوالِ السياسةِ في مصرَ قبلَ ثورة 1952 - ، لا نَستبعدُ منه مِثلَ هذا الكلام، بل نراه يُغالِي أكثَرَ مِن ذلك، فيَحُثُّ المسلمين على نَيلِ أكَبرِ قَدرٍ ممكنٍ من الحضارة الأمريكية؛ لأنَّ الحياة الأمريكيةَ -فِكرًا وواقعًا- في نظره قريبةٌ من الإِسلام، بل هي صِنوُ الإِسلام حيث يقول: "إنَّ مبادئَ الإِسلامِ نظريًّا وَعَمليًّا هي أقربُ ما تكونُ لمبادئِ الحضارةِ الأميريكية والحياةِ الأميريكية -تفكيرًا وسلوكًا-، فهل يَتنَبَّهُ المسلمون إلى هذه الحقيقةِ الراسخةِ فيُفلِحوا؟ " (¬1). ° ويقول: "وما الدفاعُ الذي تقومُ به أميركا اليومَ عن العالَم الحُرِّ إلَّا صِنْوُ الدفاعِ الذي رَفَع لواءَه محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -" (¬2). فالرجلُ أَجيرٌ يَخدُمُ قضيةً معيَّنةً، لا يُهمُّه إذا ذَهَب يَمْنَةً أو يَسْرةً، فنظرتُه إلى الإِسلام محفوفةٌ بالمطاعن، ويتَّخذُ من هَدمِ السُّنةِ جِسرَ عُبورٍ إلى هدِم القرآن، ومِن ثَمَّ يَتسنَّى له هَدمُ الدين، ولتحقيقِ هذه الغايةِ نراه يدعو كلَّ مسلمٍ أن يكونَ "مسيحيًّا" قبلَ الإِسلام (¬3)، بل ويَشتركُ في تأسيسِ "حركة البرلمان العالَمي للديانات" للجمع بين التوحيد وعبادة الأصنام، ¬

_ (¬1) "ثورة الإِسلام" (ص 57). (¬2) "ثورة الإِسلام" (ص 61). (¬3) "ثورة الإِسلام" (ص 124).

الدكتور إسماعيل أدهم (1911 - 1940)

وبين الإِسلام واليهودية والمسيحية والبُوذية (¬1). فما دام "أبو شادي" أحدَ دُعاةِ توحيدِ الأديان، فلا يُهمُّه أن يَتَّهمَ أبا هريرة وأنسَ بنَ مالكٍ وعَبدَ اللهِ بنَ عباسٍ بوَضع الحديث على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -حاشا أن يكونوا كذلك-، ونِسبتُه إليه كَذِبًا وزورًا فيقول: "وقد خُدع بهم بـ "الزنادقة" عددٌ من المسلمين المتقدِّمين، ناهِيكَ بِغَفلةِ أمثالِ أبي هريرةَ وأنسِ بنِ مالكٍ وعبدِ الله بنِ عباس، وكلُّهم انتَحَلوا الأحاديث، وتأثَّروا بالإسرائيلياتِ الغريبة" (¬2). ° الدكتور إِسماعيل أدهم (1911 - 1940): كاتبٌ تُركيٌّ، وُلد بالإِسكندرية، ونال الدكتوراة في العلوم من "جامعة موسكو"، وكان عُضوًا مراسلاً في "أكاديمية العلوم السوفيتية"، وعَمِل مُدرِّسًا للرياضيات لبعضِ الوقتِ في جامعة "سان بطرُسْبرج"، ثم في "معهد أتاتورك" بأنقرة، ثم عاد إلى مصر، فاتَّجه إلى البحثِ في الأدب والتاريخ، أُصيب في أواخِرِ حياته بالسِّلِّ، فمات منتحرًا (¬3). نَشَر الشابُّ كتابًا عام 1353 هـ تحت عنوان "مصادر التاريخ الإِسلامي"، أَعلَن فيه أن هذه الثروةَ الغاليةَ من السُّنة، التي تَضُمُّها كتبُ الصِّحاح، ليست ثابتةَ الأصول والدعائم، بل هي مشكوكٌ فيها، يَغلِبُ عليها صِفةُ الوضع، وكان الدكتور يأخذُ كتابَه مَلزَمةً مَلزَمةً، خشيةَ أن يَطَّلعَ عليه أحدٌ فيحاسبَه، غيرَ أن "الأزهر" -فيما يبدو- لم يكن قد أُصيب بالهَرَمِ ¬

_ (¬1) "ثورة الإِسلام" (ص 131). (¬2) "ثورة الإِسلام" (ص 174). (¬3) انظر لمزيد من المعلومات عنه "الموسوعة العربية الميسرة" (ص 150).

محمد أبو زيد الدمنهوري

بعد، حيث طالَبَ مشايخُه سَحْبَ هذا الكتابِ من الأسواق، ومصادرتَه من الأيدي التي تملَّكته (¬1). وبعد إتلافِ هذا الجَهدِ المُسْوَدِّ لا نجدُ لإِسماعيلَ اتِّجاهًا كهذا، رغم كثرةَ كتاباتِه في مجلة "الرسالة"، وظلَّ مرتبطًا بها منذ عام 1356 هـ حتى الانتحار، ومن غيرِ المشكوكِ فيه أنَّ الاتجاهَ الذي استولى على الدكتور وساقَه إلى الهاوية، بل جَعَله طالبًا في "المجمع الشرقي لنشر الإِلحاد" (¬2) بعد عودته إلى مصر هو نتيجةٌ منطقيةٌ للدراسة في "موسكو"؛ لأنَّ الطالبَ لا يَكتسبُ المعلوماتِ عندِ التعلُّم فحسب، بل يَرضعُ الفِكرَ والهدفَ والمنهجَ الذي صِيغت في قالَبِه تلك المعلومات، فما دامت "موسكو" عَدُوَّةً للأديان، فلن تُخرجَ إلَّا مَن يَحمِلُ مِعْوَلَ الهدمِ على الدين الذي ينتمي إليه. ° محمد أبو زيد الدمنهوري: فيما له صِلةٌ بالحديث من مؤلَّفات هذا الرجل: كتاباه "الزواج والطلاق المدني في القرآن"، "تفسير القرآن بالقرآن". ويتلخَّصُ قولُه في السُّنة أنها نَكبة على المسلمين، وعلى دِينِ الله -عز وجل-، ويتمنَّى إحراقَها وإعدامَها من الوجود، وتكونُ نُقطةُ بدايةِ التحريق من "صحيح البخاري" و"مسلم" ليرتاحَ الناسُ من شرِّ ما فيهما (¬3)!. ° والغريبُ في أمرِ هذا الرجلِ أنه تلقَّى تعليمَه في "دار الدعوة ¬

_ (¬1) انظر مصطفى السباعي، "السنة ومكانتها في التشريع الإِسلامي" (ص 237) الطبعة الثانية 1967 م. (¬2) انظر "الفتح" (8/ 780). (¬3) "الفتح" (2/ 504).

الكذاب المفتري "السيد صالح أبو بكر" عدو السنة

والإِرشاد" التي كان يُشرِفُ عليها السيد رشيد رضا!! ويدَّعي الدمنهوري أنَّ الرِّقَّ والتسرِّي ليسا من الإِسلام، وهو ينكر النَّسْخَ في القرآن، يقول: "وأما نحن، فمِن الذين لا يَرَون في آياتِ القرآن نسخًا، وكلُّ ما فيه واجبٌ تلاوتُه، والعملُ به إلى يومِ القيامة" (¬1) وينكر نبوَّةَ آدمَ، ويقول بَتعدُّد الأصولِ البشرية (¬2). ° الكَذَّابُ المُفتري "السيد صالح أبو بكر" عدوُّ السُّنَّة: "كأنَّ خِداعَ العناوين مَرَضٌ انتَقَل من "أبي رِيَّة" -في زَعمِه الدفاعَ عن الحديث النبويِّ في عنوان كتابه- إلى المدعو "السيد صالح أبو بكر"، فنَشَر كتابًا زَعَم أنه "الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية، وتطهيرِ البخاريِّ منها"، زَعم فيه أنَّ من أهدافِه: "تقديمَ حَصيلةِ الفحصِ الدقيقِ للأحاديث المعارِضة للقرآن، والمنافيةِ لِمَا يَليقُ بالله وبرسوله، والتي جَمَعناها من "صحيح البخاري" باعتباره عُمدةَ المراجع في هذا المجال، وعددُها مئةٌ وعشرون حديثًا والتعقيبُ القرآنيُّ على كلٍّ منها بما يُثبِتُ أنها دَخيلةٌ على كلام النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -" (¬3). ° وعَدَّ مِن أهدافِه: "القضاءَ على منازعةِ الحديثِ الباطل للقرآن الكريم" (¬4). ¬

_ (¬1) مجلة "الرابطة الشرقية" (1/ 70). (¬2) "المنار" (21/ 49). (¬3) "الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية". (¬4) "الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها" للسيد صالح أبو بكر (ص 3 - 6).

"الرد القويم على المجرم الأثيم"، لفضيلة الشيخ حمود التويجري

° ومنها: "إدراكُ العواقبِ المترتِّبةِ على تَركِ الأحاديثِ المخالفةِ للقرآن الكريم دون تجريحٍ وإظهارٍ لعيوبها"، و"إثباثُ أن دينَ الله هو القرآنُ بدايةً ونهايةً"، وقال أخيرًا: "كتابُنا هذا يَستندُ إلى كتابِ الله نصًّا ومعنًى" (¬1). والحقُّ أننا في حاجةٍ ماسَّةٍ إلى مِثلِ هذه الأهداف، والحقُّ أيضًا أنَّ هذا الرجلَ بعيدٌ كلَّ البُعدِ عن المنهجِ الذي زَعَم بأن عِمادَ نَقلِه وأُسَّه "محمود أبو ريَّة" -السالف ذِكره-، فهو كثيرًا ما يَنقُل عنه، بل نستطيعُ القولَ: إن الجزءَ الأولَ منه خلاصةٌ لكتابِ أبي رية، ثم أراد المؤلِّفُ منافسةَ أبي رِيةَ على مَناهِلِه الأولى، فنقل أيضًا عن محمد عبده وعن رشيد رضا وغيرِهم من "مدرسة المنار". بل إنَّ بَدْءَ هُجومِه على أبي هريرة - رضي الله عنه - يُصدِّرة برأي "مدرسة المنار"، فيَضعُ عنوانًا: "أبو هريرة ورأيُ علماءِ الحديث فيه ممثَّلاً في مدرسة المنار" (¬2). وقد خَصَّص المؤلِّفُ الصفحاتِ من (58 إلى 63) للتشكيك في أبي هريرة - رضي الله عنه - وفي روايته. ° "الرَّدُّ القويم على المُجرم الأثيم"، لفضيلة الشيخ حَمُّود التُّوَيجري: لقد رَدَّ الشيخ "حمود التويجري" على "السيد صالح أبي بكر" في كتابه "الرَّدُّ القويم على المُجرم الأثيم" -في جُزأين- فأفحمه. ° قال الشيخ: "لقد رأيتُ كتابًا لبعضِ أهلِ الزَّيغ والفسادِ والإِلحادِ من ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 3 - 6). (¬2) المصدر السابق (ص 58).

العصريِّين، تَهَجَّم فيه على بعضِ الصحابةِ والتابعين، وعلى مئةٍ وعشرينَ حديثًا في "صحيح البخاري" الذي هو أصحُّ الكتب بعد القرآن، وزَعم أنها أحاديثُ إسرائيليةٌ، وأنه يَكتسِحُها بالأضواءِ القرآنية، وُيطهِّرُ البخاري منها!! وتَهجَّم أيضًا على غيرِ ذلك من الأحاديث الصحيحة، وقابَلَها بالردِّ والإنكار. • وقد سَمَّى المؤلِّف نفسَه بـ "السيد صالح أبي بكر"، وليس بسيدٍ ولا صالح، ولا كرامةَ ولا نُعمةَ عَينٍ، ولِمَا رواه أبو داود والنسائي والبخاري في "الأدب المفرد" عن بُريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقولوا للمنافق: "سيد"، فإنه إن يكُ سيدًا فقد أسخطتم ربَّكم عزَّ وجلَّ" .. ورواه الحاكم في "مستدركه" والبيهقي بنحوه، وصحَّحه الحاكم. وفي تَهجُّمِه على بعضِ الصحابةِ والتابعين وعلى الأحاديث الصحيحةِ أوضح دليلٍ على زَيغِه وفسِادِ عقيدتِه، وأنه ليس بصالحٍ في الحقيقة. وقد سمَّى المُلحِدُ كتابه "الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية، وتطهير البخاري منها" .. وكلام المُلحِدِ كلُّه شُبهاتٌ، وحَمْلٌ لكتابِ الله على غير مَحامِلِه، فهو في الحقيقة ظُلماتٌ بعضُها فوق بعض، وكما سأبيِّنه -إن شاء الله تعالى-. ومن تأمَّل كتابَه لم يشكَّ أنه محاربٌ للإسلام والمسلمين، وأنه إنما أراد بكتابه الطعنَ في الإِسلام وأهل الإِسلام، وإنْ أظهَرَ ذلك في قالبِ الإصلاح، فهو بلا شكٍّ ممن يَسعى في الأرضِ فسادًا -وإن كان يزعم أنه مُصلِح-، وقد قال الله تعالى مخبِرًا عن سَلَفِ هذا المُلحدِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ

لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11 - 12]. وهذه الآيةُ الكريمةُ مطابِقةٌ لحالِ الملحِدِ غايةَ المطابقة، طَهَّر اللهُ الأرضَ منه ومن أمثالِه من المفسِدين في الأرض، إنه سميع مجيب. وقد رأيتُ مِن الواجب الردَّ على أباطيلِ هذا الزائغِ المفترِي على الله وعلى رسولِه - صلى الله عليه وسلم -، وتطهيرَ الأحاديثِ في "صحيح البخاري" -وغيرِه من كتب السُّنة- من تلطيخِ هذا الظالم المعتدي" (¬1). ° قال الشيخ التويجري "وقد قال المؤلِّفُ (¬2) في صفحة (4) ما نصُّه: "سابعًا: الاستكشافُ الفِعليُّ لانحرافِ عقائدِ مَن سبقونا من أُمم الدراويش وجماعاتِ التنسُّكِ الشَّكْلِيِّ وأصحابِ الدعاوَى، بخروج بشريَّتِهم أو بشريَّةِ شيوخِهم على سُنَنِ اللهِ في خَلقه، ادعاءً للكراماتِ المصطَنَعة، وزعمًا للمعجزات الخيالية التي مَلأت المدوَّناتِ الصفراءَ، وليس لهم فيها من سَنَدٍ ولا أصلٍ إلَّا أحاديثُ الخيالِ المفتَرَاةُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، تلك التي استقرَّت في كُتبِ الأحاديثِ المعتَمَدةِ لدى المسلمين بحُسنِ القصدِ من الناشِرِين والمستطلِعين". والجواب: أن يُقال: هذه الجملةُ في أولِ كتابِ المؤلِّف الجاهل كافيةٌ في بيانِ عداوتِه للرسولِ - صلى الله عليه وسلم - وللسلفِ الصالح مِن الصحابة والتابعين وأئمةِ ¬

_ (¬1) "الرد القويم على المجرم الأثيم" للشيخ حمود التويجري (ص 1، 2) - مكتبة دار العليان الحديثة. (¬2) يعني السيد صالح أبو بكر.

العلم والهدى مِن بعدِهم، وبيانُ ذلك من وجوهٍ: أحدها: زَعمُه أن معجزاتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خيالية، وأن كراماتِه وكراماتِ غيرِه من أنبياءِ الله وأوليائِه مصطَنَعة .. وهذا قولُ أعداءِ اللهِ من الإفرنج وغيرِهم من أمم الكفر والضلال، وقد تلقَّاه هذا الجاهلُ -وأشباهُه من زنادقةِ العصريين- بالقَبول والرضا .. وهذا القَدرُ كافٍ في الحُكم برِدَّةِ المؤلِّف وخروجِه من الإِسلام. وقد أجمَعَ العلماءُ على تكفيرِ مَن عَبَثَ في جهةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بسُخْفٍ من الكلام وهُجْرٍ ومُنكرٍ من القول وزُور .. وأجمَعوا على تكفيرِ مَنِ استخفَّ بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو استهزأَ به، أو بشيءٍ من أفعاله، أو نَسَب إليه ما لا يَليقُ بمنَصِبه .. ذكر ذلك القاضي عياض وابن حجر الهَيتمي .. وكلامُ المؤلِّف ها هنا داخلٌ فيما أَجْمَعَ العلماءُ على تكفيرِ قائله. الوجه الثاني: زَعمُه انحرافَ عقائدِ الذين يؤمنون بمعجزاتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وكراماتِه وكراماتِ غيرِه من أنبياءِ الله وأوليائه .. وهذا يتضمَّنُ القَدْحَ في جَميع أهلِ السُّنةِ والجماعة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا يَقدحُ فيهم إلَّا من هو متَّبعٌ لغيرِ سَبيلهم، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. وقد قال في "الإقناع" في ذِكرِ ما يَصير به المسلمُ كافرًا: "أو قال قولاً يتوصَّلُ به إلى تضليلِ الأمةِ -أي أمةِ الإجابة-، فهو كافر؛ لأنه مكذِّبٌ للإِجماع على أنها لا تجتمعُ على ضلالة" انتهى.

ولا يَخفى ما في كلامِ المؤلِّفِ من تضليلِ الأمة على إيمانهم بمعجزاتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وكراماتِه وكراماتِ غيرِه من أولياءِ الله تعالى، فيكون بهذا كافرًا حلالُ الدمِ والمال. الوجه الثالث: تسميتُه علماءَ السلف وأئمةَ الخلف بـ "الدراويش"، و"جماعات التنسُّكِ الشَّكليِّ" و"أصحاب الدعاوى"، وزَعُمه أنهم قد خَرجوا ببشريتهم على سُننِ الله في خَلقه، وهذه الأوصافُ أولى به وبأشباهِه من زنادقةِ العصريِّين وملاحدتهم. الوجه الرابع: تسميتُه كُتبَ الحديثِ المعتَمَدةَ عند المسلمين بـ "المدوَّنات الصفراء" تحقيرًا لها وتصغيرًا لشأنها، وزَعمُه أن الأحاديثَ الواردةَ فيها في المعجزاتِ والكراماتِ أحاديثُ مفتراةٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا من أعظمِ المحادَّةِ لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والمخالَفةِ لِمَا عليه المسلمون من الاعتناءِ بكُتبِ الحديث والتعظيمِ لشأنِها والإيمانِ بما جاء في الصحيح منها من أخبارِ الغيوب والمعجزاتِ والكراماتِ، واعتقادِ أن ذلك حقٌّ وصِدق. الوجه الخامس: رَميُه المسلمين بالغَباوة والتغفيل مِن أجل اعتمادِهم على كُتب الحديث وإيمانِهم بما جاء في الصحيح منها من أخبارِ الغيوبِ والمعجزاتِ والكرمات، والواقعُ في الحقيقةِ أن المؤلِّفَ هو الغبيُّ المُغَفَّلُ الذي انقاد للشيطانِ فأغواه وتلاعَبَ به حتى انسلَخَ من الدين وهو لا يَشعر، وصار حربًا لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وللأحاديث الصحيحة والمحدِّثين وسائرِ المؤمنين، وقال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا

صبحي منصور الدجال منكر السنة، نائب مسيلمة الكذاب "رشاد خليفة خليفة" مدعي النبوة بـ "توسان"

تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23] " (¬1). ° صبحي منصور الدَّجَّال مُنكِر السُّنَّة، نائب مُسيلِمة الكذاب "رشاد خليفة خليفة" مُدَّعِي النبوة بـ "توسان": من مدينة "كفر الزيات" خَرَج علينا مسيلِمة الكذاب "رشاد خليفة" المولود في 18/ 11/ 1935، تَخرَّج مهندسًا زراعيًّا، وعَمِل بالهيئةِ العامةِ للإِصلاح الزراعي في 1957 م، وصدرت ضدَّه الجزاءات، ومع هذا حَصَل على بَعثةٍ علميةٍ لدراسةِ الدكتوارة في أمريكا 30/ 8/ 1959 م، وعاد الخائنُ ومعه زوجُه الأمريكيةُ السافرةُ، ثم سافر إلى ليبيا، ومنها إلى أمريكا، وبعد أشهُر معدودةٍ أصبح "رشاد خليفة" خبيرًا بالأمم المتحدة، ثم إمامًا لمسجد مدينة "توسان" ومعه مئاتُ الألوف من الدولارت. ومن قرية "حريز" مركز "كفر صقر" بمحافظة "الشرقية" جاء "صبحي منصور"، وانضمَّ في بداية أمره إلى "الطريقة الرفاعية" والتحق بالأزهر، وأصبح أستاذًا مساعِدًا بكلية "اللغة العربية"، ولَفَت الأنظارَ إليه بما يَطرحُه من آراءَ مخالفةٍ لإِجماعِ المسلمين، ليس بعِدائِهِ للصوفية فحسب، إنما بعِدائه للسُّنة النبوية. والتقى بـ "رشاد خليفة"، ووَجَد كلٌّ منهما ضالَّته في الآخَر، فرشاد يَملِكُ السلطانَ والمالَ بالدولار، ويَسكُنُ بلادَ اللحمِ الأبيضَ والحاسوبِ الذي يُحصِي كلماتِ القرآن وحُروفَه وآياتِه في لَمحِ البصر، ويُنبئك على الفورِ عمَّا إنْ كنتَ تصلحُ نبيًّا أو مساعَد نبيٍّ. ¬

_ (¬1) "الرد القويم على المجرم الأثيم" للشيخ التويجري (ص 49 - 51).

وراح "صبحي منصور" داخلَ الأزهر يَعبَثُ بعقولِ خيرِ شبابِ الأمة، وُينكِرُ السُّنَّة، ويَنالُ من عِصمةِ الأنبياء، ويُسيءُ إلى الصحابة، ويحُقِّرُ من شأنِ رُواةِ الأحاديث النبوية، حتى فُضح أمره عام 1982 م، وشكى الطُلَّابُ إلى أساتذتهم، وتَمَّ جَمعُ كُتبه، فحاول أن يُقدِّم استقالتَه، إلَّا أن الأزهر أصدر قرارًا بفصله. لَفَظَ الأزهرُ "صبحي منصور"، ولكنْ أيدٍ خفيَّةٌ حافَظَت له على المسجد الذي يخطبُ فيه، بل إن مساجدَ جديدةً فَتحت له أبوابها في الجيزة والقاهرة، وفي مسجد "إسماعيل منصور" صاحب كتاب "إنكار عذاب القبر" (80 جنيه للنسخة) ومقالات إنكار "حجاب المرأة". وهاجر "صبحي" إلى الشيطان "رشاد خليفة"، وذهب إلى أمريكا. وفي إحدى الصحف المصرية، كتب الدكتور "سعد ظلام" عميد كلية اللغة العربية الذي حَمَلَ العِبءَ الأكبرَ في التصدِّي لهذا المنكِر لسُنَّةِ خاتمِ الأنبياء، يوضِّحُ حقيقتَه ويَفضحُ باطلَه، ويُشرِكُ أهلَ العلم والتخصُّصِ فيما اتَّخذ ضدَّه من إجراءاتٍ موضحًا عقيدةَ الأزهر الشريف في الإيمانِ بالله وكُتبِه ورُسله واليومِ الآخِر والقضاءِ والقدر، ومؤكِّدًا على شهادةِ التوحيدِ أنه "لا إلهَ إلا الله، وأن محمدًا رسول الله"، وعلى الصلاة والزكاة والصوم والحج، كما وردت في "الصحاح" ومذاهبِ الأئمةِ الأعلام، ومبشِّرًا المسلمين بسَفَر "صبحي منصور" إلى خارج البلاد. ولم تَمضِ أيامٌ معدودةٌ حتى انهال سَيلُ الخطابات من "رشاد خليفة" من أمريكا، حيث استُقبل البطلُ المجاهد "صبحي منصور" هناك!! يكتبون

إلى الدكتور ظلام، وهم في حالةِ هَذَيانٍ تترنَّحُ رؤوسهم في كلِّ اتجاه، وتَقَيَّؤُوا كلَّ ما في بطونهم ضدَّ العميدِ وكُلِّيتِه وأزهرِه والمسلمينَ في أنحاءِ مصرَ بلا استثناء، فيكتبُ قبلَ أن يُعلِنَ النبوَّةَ بخَمسةِ أشهرٍ فقط أول رسائله: ° في 4/ 1/ 1988 م كتب يقول: "لقد اخترتُم أنتم وأربابُكم تكذيبَ الله -سبحانه وتعالى عما يصِفون-، وقرَّرتم وجودَ مصادِرَ إبليسيةٍ -يقصد السُّنَّة- أخرى إلى جانبِ كلام الله". ° وفي 9/ 1/ 1988 م كتب يقول: "لقد وَفَّق اللهُ الدكتور "صبحي" إلى كشف الانحرافات التي جَعلت إسلامَ اليوم مختلفًا تمامًا عن الإِسلام الذي دعا إليه خاتم الأنبياء" .. "ذلك قبل أن يدَّعى النبوة". ° ثم في خطاب بتاريخ 26/ 1/ 1988 م وصفه الدكتور "طه حبيشي" في كتابه "مسيلمة في مسجد توسان" بأنه خطابٌ هابطُ الأسلوب نازلُ المعاني أشبهُ بعَبَثِ الصبيان، قال فيه رشاد: "لعلَّك استلمتَ عددَ فبراير من مجلتنا "الإِسلام الحقيقي"، ولعلك قرأتَ أولَ مقالةٍ يكتبها د "صبحي" اسمًا على مسمَّى "منصور في أرض الحرية" التي مَنَّ اللهُ علينا بها". ثم يُشير إلى ما بذلته الحكومةُ الأمريكيةُ من تقديم التسهيلات وتذليل العقبات أمام "صبحي منصور" حتى وَصَل سالِمًا إلى أمريكا "أرضِ الحرية والعِزَّة والفَخَار"، هاربًا من أرضِ "أزهر الشيطان والقهر والفقر والانحطاط"، حيث وافق "الكونجرس" الأمريكي على طلب "رشاد خليفة" باعتبار "صبحي" لاجئًا سياسيًّا .. والرواية على لسان صبحي نفسه.

° وفوجئ الرأيُ العامُّ المصريُّ بـ "أحمد بهاء الدين" يكتبُ في صحيفة "أخبار اليوم" 17/ 4/ 1988 قائلاً: "أُحِبُّ أن أُنبِّهَ الأزهرَ والمؤسَّساتِ الإِسلاميةَ إلى نَشرةٍ بالغةِ الخطورةِ والغرابة، تلقَّيتُها بالبريدِ من ولاية "أريزونا" الأمريكية تقول: "الأزهر منكر القرآن يقود مصر إلى الهلاك، وإنه يوصي الله ورسوله بابتداعِ العصمةِ للأنبياءِ والشفاعةِ لغيرِ الله متمسِّكًا بالبدع الإِبليسيةِ المسمَّاة بالحديث والسُّنََّة، تلك أُولى غرائبِ هذه النشرة. ثاني غرائبها أنها تَصدُرُ عن جمعيةٍ إسلاميةٍ تَملِكُ من وسائلِ التكنولوجيا الشيءَ الكثير، فهي تَبيعُ شرائطَ الفَيديو والكاسيت في جميعِ الموضوعات، والأسماءُ السائدةُ في النشرة تأليفًا وإخراجًا وخُطبةً كانت للدكتورين: "رشاد خليفة" و"صبحي منصور" وبعضِ الأسماء المسيحية الأمريكية التي كانت مُسلِمةً من قبلُ"!!. ° وتقول النشرة: -وما زال الكلام لأحمد بهاء الدين في صحيفة الأخبار-: "إن الخالق يُعلِّمُنا أن نتيجةَ رفضِ كلامه وتكذيبِ آياتِه -كما فعل الأزهرُ وأتباعُه- هي الهلاكُ وحتميةُ جفافِ النيل ووقوعُ الكوارث؛ لأنَّ أُسَّ البلاءِ هو ممارسة الأزهر للقهر الفكري"!!. ° وفي اليوم التالي 18/ 4/ 1988 يواصل أحمد بهاء الدين تعليقَه على نشرة مسجد "توسان"، فيقول: "إنَّ الملحوظاتِ التي تَستوقفُ النظرَ ونُضيفها: أنها تبدو مموَّلةً تمويلاً جيدًا، خصوصًا بإنتاجها التلفزيوني، والكثير مما سجَّلته على أشرطة فيديو للبيع، والإِسلام الوحيد الذي يقابلُه تعريفٌ واضح هو الدكتور "صبحي منصور" المحاضِر في جامعة "أريزونا"، والمنتشِرُ في الصحافة والإِذاعة والتلفزيون عن القهرِ الفكريِّ الأزهري".

° "في فبراير 1988 عَرَضت النشرةُ الشهرية لمسجد الضِّرار والضلال في "توسان" بأريزونا مقالاً لصبحي منصور بعنوان "الأزهر يَكفُرُ بالقرآن" ردًّا على مقالٍ نُشر بمجلة "منبر الإِسلام" -لسانِ حالِ وزارةِ الأوقاف المصرية- في عددها "يناير 1988" قال فيه: "يقول جُهلاءُ الأزهر: إنه من المعلوم أنَّ القرآنَ جاء دستورًا، ومِن شأن الدساتيرِ أن تكونَ مُجمَلةً في حاجةٍ إلى تفصيل، لكنَّ المشكلةَ الأزَليَّةَ للأزهر أنه مسجدٌ سيِّئُ الاستخدام "مسجد ضرار" يقوم على حِمايةِ التراث البشريِّ "يقصد السُّنةَ النبوية" الذي يناقِشُ القرآنَ، ويتَّهمُ كتابَ الله بأنه غامضٌ يَحتاجُ إلى توضيحٍ، وأنه ناقصٌ يحتاجُ إلى تفصيل، ومِن الواضحِ أنَّ الأزهريِّين لا يؤمِنون، ولا يعلمون، ولا يَذكُرون، بعد ما أعماهم اللهُ عن القرآن الكريم، ولقد أدَّت الأكِنَّةُ على قلوبهم والوَقْرُ في آذانِهم إلى تكذيبِ ربِّ العِزَّة في تقريره أن القرآنَ كاملٌ وتامٌ ومفصَّل". ° وفي ذيل المقال تعليقًا لنبيِّ الزور "رشاد خليفة" يقول فيه: "كما هو مُدعَّمٌ بالوثيقة في الصفحة السابقة، فإن الأزهرَ يَرفضُ التأكيداتِ المتكرِّرةَ للقرآن بأنه كاملٌ وتامٌّ ومفصَّل تمامًا. إنَّ الأزهرَ يأخذ موقفًا رسميًّا من أن القرآنَ ليس كاملاً، ومِن ثَمَّ فإنَّ الأزهرَ يُعزِّزُ تلك البِدَعَ الشيطانيةَ -مِثلَ الحديثِ والسُّنة-، وإنَّ أيَّ مسلِمٍ يمتلكُ أقلَّ قَدرٍ من التفكيرِ والبداهةِ يَستطيعُ أن يَرى الأزهرَ لا يحترمُ إرادةَ الربِّ، وإنما يحترمُ إرادةَ إبليس، و"صبحي منصور" هو أول عالمٍ أزهريٍّ يكتشفُ الحقيقة، ويَقِفُ في وَجهِ السُّلْطات في قلعةِ إبليس "الأزهر"، ففي هذه السلسلة التاريخية من المقالات، يُوضِّحُ "منصورٌ" الطبيعةَ المحمديةَ

للأزهر، ودَوْرَه في تحويلِ المسلمين المخلِصِين إلى محمِّديِّين مؤلِّهين للوثنية" (¬1). ° ومرَّةً أخرى حلَّ "صبحي منصور" بهمِّه وغمِّه وضلالِه على مصرَ، وترك شَيخَه المزعومَ بعد عام واحدٍ فقط، وقال "صبحي" عن "رشاد خليفة": "إنه علا وتكبَّر بعد ما أصبح نبيًّا"!!. عاد "صبحي منصور" يَبُثُّ سمومَه في المساجد، إلى أن قُبض عليه بنفسِ التهم التي وُجِّهت إلى المُتشيِّع "حسن شحاته" من إثارةِ الفِتَنِ والتعدِّي على صحابةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - والتشكيكِ في السُّنةِ النبويةِ المطهَّرة. ولقد عَرَض "رشاد خليفة" على "صبحي منصور" النبوَّة فرَفَضها!! ثم لم يَلبثْ أنِ ادَّعى النبوَّةَ لنفسِه في مايو 1988، ولم يَخطُرْ ببالِه هذا من قَبل، هذا قول "صبحي منصور" .. أما "رشاد خليفة"، فقال عن نفسه: إن الوحيَ قد هَبط عليه وهو في سِنِّ الخامسةِ والأربعين، أي في عام 1980 .. ولقد قُتِل هذا الدَّجَّالُ الكذَّاب. ° هذا المهووسُ الدجَّال أَطلق على الآياتِ التي لم تَخضع للرقم (19) "آياتٍ شيطانية"، وهما الآيتانِ الأخيرتان من سورة "التوبة"، وأنكرهما وقال: "إنهما أُقحِمَتَا على القرآنِ وليستا منه" .. وقال: "اسمِي جاء في القرن 19 مرةً، ومِثلُه اسم أبي". ° وقال: "إن المسلمين عندَهم عقيدةُ التثليث: "الإجماع، والحديث، والسُّنة"، وهذا يتنافَى مع القرآن". ¬

_ (¬1) "شبهات وشطحات منكري السنة" (ص 67).

° وكَفَّر البخاريَّ، وقال: "جميعُ الأنبياء مِن قبلي لم يُؤتَوْا مِعشارَ ما آتاني ربِّي، والأنبياءُ ثلاثة فقط هم: إبراهيم ومحمد وأنا". ° ويقول: "ليس هناك نصٌّ قرآنيٌّ يُلزِمُ زوجتي الأمريكيةَ بتغطيةِ شعرِها ووجهِها أو خَلعِ البنطلون". ° وقال: "أخبَرَني جبريلُ الأسبوعَ الماضي أنَّ كلَّ مَن يُنكِرُ السنَّةَ لن يموت، ولن يُوضَعَ في قبر، بل يَدخلُ الجَنَّةَ ومباشرةً .. كما أخَبَرني مِن قبلُ أنَّ مَن يؤمنُ بي لن يُسألَ عمَّا ارتكبه من ذنوبٍ ومعاصٍ وفواحشَ قبلَ الأربعين". ° ولقد أعدَّ "صبحي منصور" بخطِّ يدِه رسالةَ مُدَّعي النبوةِ إلى العالَم، وكان العنوانُ "رسالةٌ إلى العالم الجديد" جاء فيها: "إنَّ اللهَ يُحبُّ أمريكا التي تأسَّسَت على حُريِّةِ العقيدة، والتي تَنفردُ في كلِّ بلادِ الدنيا بأن تكتبَ على عُملِتها "الدولار": "نحن نُؤمن بالله"، ولذا فإن أمريكا هي أحبُّ الشعوبِ إلى الله؛ ولأن العالَمَ القديم قد أُرسل إليه العديدُ من الرسل؛ فقد حان أن تتلقَّى أمريكا بَرَكَةً عظيمةً "رسولاً من عند الله"، يُساعِدُهم، ويَهديهم، ويَحُلُّ مشاكلَهم المستعصيةَ مع العقاقيرِ والكحولياتِ والجريمة والفقر. وكما جاء الأنبياءُ مِن قَبلُ بمعجزاتهم، فإنَّ رسولَ الله إلى العالَم قد جاء بدليلٍ مُثبَتٍ بالكمبيوتر!!! والذين فَحَصوا البرهانَ جيدًا توصَّلوا إلى قناعةٍ مُطلَقةٍ أنني رسولُ الله، وباعتباري مكلَّفًا من قِبَلِ الله مؤيَّدًا ببرهانٍ ماديٍّ -لا يُمكنُ أن يَدحَضَه أيُّ باحثٍ شريفٍ- يتمثَّلُ في قانونٍ رياضيٍّ هائلٍ ضِمنَ رسالةٍ إلهيةٍ إلى العالَم، وقد ذُكر اسمي "رشاد" في

منكر السنة مصطفى كمال المهدوي الليبي: صاحب كتاب "البيان بالقرآن"

القرآن مرتين" اهـ. ° وعند وقوع الخلافِ بينه وبين "صبحي منصور" قال عنه "صبحي منصور": "رشاد خليفة خليفة، هو الكاذبُ في كلِّ نَفَسٍ من أنفاسه، وقد ظَلَّ يَكذبُ ويتحرَّى الكَذِبَ حتى خالَطَ الكَذِبُ كلَّ خَليَّةٍ من خلايا لَحمِه وعَظْمِه؛ لأن رشاد خليفة حين ادَّعى النبوة والرسالة كان نبيًّا للشيطان ورسولاً من إبليس" اهـ. نقلاً عن "منكري السنة" لأبي إسلام أحمد عبد الله. ° مُنكِر السُّنَّة مصطفى كمال المهدوي الليبي: صاحب كتاب "البيان بالقرآن": هذا الدجال المولود في الإِسكندرية عام 1934 م لأبٍ ليبي، وعمل بالقضاء في ليبيا منذ عام 1960 م حتى أحيل للتقاعد على وظيفة مستشار عام 1994 م، أشار إلى إنكاره للسنة طه حبيشي. ° كَتب هذا الضالُّ سلسلةَ مقالاتٍ في الصُّحُفِ الليبيةِ تحت عنوان: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [محمد: 24]، ثم نَشَرها في كتابِه الذي يَحمِلُ فكره "البيان بالقرآن"، وقام الشيوخُ في ليبيا ضِدَّه، وعلى رأسهم الشيخ المستشار القضائي علي ونيس "أبو زغيبة" الذي كان يَقِفُ على منبرِ مسجدِه كلَّ جُمعةٍ، ويَصِفُه "بالجَهول الظلومِ السَّفيهِ المُتسلِّط"، ورَدَّ عليه الأديبُ "عبد الكريم الوثَّاق" بعنوان "محاكمة البيان بالقرآن"، جَمَع فيه ما نُشِر في الصحافةِ من هجومٍ ونَقدٍ ضدَّ الكتاب. ° يقول هذا المأفونُ في إنكاره لحدِّ الرجمِ للزانية المحصنة: "إنَّ لَفْظَي

"الزاني والزانية" جاءا مُعَرَّفينِ بالألف واللام، بما يدلُّ على ثباتِ الحالِ ودوامِه في ممارسةِ الزنا .. ولذا، فلا يَنطبقُ الحدُّ الشرعيُّ على الزاني والزانية إلَّا إذا كان ذلك عَمَلاً مستمرًّا وثابتًا، أما الذي يَزني مرةً أو اثنين لشهوةٍ أو نَزوةٍ -أو غيرِ ذلك-، فلا يُقامُ الحدُّ عليه .. أما المرأة، فتُحبَسُ في بيتها حتى يتوفاها الموتُ أو يجعلَ اللهُ لها سبيلاً". ولقد أطلَقَ هذا الضالُّ لفظَ "أوصياء على الدين" بصفةِ الذمِّ على "أبي هريرة، وابنِ عباس، وأمِّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنهم-". ° ويقول: "الإِسلامُ قرآن وسُننُ الأنبياءِ جميعًا!!! ليس قرآنًا وسُنةً". ° وحينما سُئِل: "ماذا تَقصِدُ بسُننِ الأنبياء؟ قال: أن نصبِرَ كصبرِ يعقوب". ° وهو يقول: إن الصلواتِ المفروضةَ خمسُ صلوات: "الصلواتُ الخمسُ -حَسْبَ القرآن- هي: فجر، وصبح، وظهر، وعصر، وصلاةٌ واحدةٌ من دُلوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل". ° ويقول: "الصلاةُ ركعتانِ -لجميعِ الصلواتِ من صلاةِ الصبح وحتى صلاة الدُّلوك". ° وكان يقول: "السُّنةُ ليست منهاجي، ولا أَقبلُ غيرَ مَنهجِ القرآن، ليس عِندي غيرُ القرآن، ولا تَلزَمُني السُّنة .. والسُّنةُ نَعرِضُها على القرآن". ° ويقول عن "العمرة" في كتابه (ص 94): "والعمرةُ هي عِمارةُ المسجدِ الحرام، وهي واجبةٌ للمساجد جميعًا، وتكونُ بالبناءِ والترميمِ والفرشِ والإضاءةِ والمصاحِفِ والصلاة فيها"!!. أمَّا الحجُّ عنده، فطُوالَ سِتَّةِ أشهرٍ تقريبًا.

° يقول هذا المأفون: "إن اللهَ تبارك وتعالى حَفِظ لنا كتابَه، وفيه الدينُ كلُّه مُفصَّل، وفيه السُّنَّةُ أيضًا، فيما تَصِفُ الآياتُ الكريمةُ خُلُقَ الرسولِ الكريم وأفعالَه وأقوالَه، فيجبُ أن نكتفيَ بذلك، ونَهجُرَ ما سواه .. إنه من الصَّعبِ أن نتأكَّدَ مِن أن الذي كَتب "صحيح البخاري" هو البخاريُّ نفسه. إن ما يُوصَفُ بأنه "سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" من حيث كونُها تكميلاً للقرآن، أو تفصيلاً، أو تفسيرًا، لهوٌ مردودٌ مرفوضٌ بآيات القرآن". ° ويقول عن "الصلاة" في كتابه: "قراءة الفاتحة ليست شرطًا في الصلاة، وإنما تُقرأ لأنها من القرآن، والفاتحة ليست هي "السَّبعَ المثاني"، و"السبعُ المثاني" هم: العينان والشفتان والأذنان .. إثباتًا لبشرية النبيِّ. تسبيحُ المُصلِّي في ركوعٍ أو سجودٍ، وقولُ: "سمع الله لمن حمده"، كلُّه باطل. ليست هناك صلاةٌ جهريةٌ وأخرى غيرُ جَهرية، ولا تَشهُّدٌ أوسطُ أو أخير، إذ تنتهي الصلاة بالسجود. لا صلاةَ جمعةٍ، إنما المقصودُ بآيةِ النداء هو قولُ: "الصلاة جامعة" عند كلِّ صلاةٍ مفروضةٍ في يوم الجمعة، إذ لا أذانَ للصلاة في بقيةِ الأيام" (¬1). ° وفي فتوًى له عن حُكمِ أكل لحوم الكِلاب قال: "إن القرآنَ الكريمَ لم يَرِدْ فيه نصٌّ واحدٌ يُحرِّمُ على العموم أكلَ الكلابِ الضالَّةِ والمستأنَسة، ¬

_ (¬1) "شبهات وشطحات منكري السنة" لأبي إسلام أحمد عبد الله (ص 79 - 94) ملخصًا.

وتبقى السنة، ويذهب منكروها إلى مزابل التاريخ

ولذا فإنَّ لحمَ الكلابِ طعامٌ شهيٌّ لمن يريدون أَكْلَه، ولا إثمَ عليهم فيما يفعلون". * وتبقى السُّنَّةُ، ويَذهبُ منكروها إلى مزابل التاريخ: ° قيل لعبد الله بنِ المبارك -شيخ الإِسلام-: "هذه الأحاديثُ الموضوعةُ ما نَصنعُ فيها؟ قال: يعيشُ لها الجهابذةُ من الرجال". ° قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] تبقى السُّنةُ ما بَقِيَ ذِكرُ صاحبِها - صلى الله عليه وسلم - على مَرِّ الزمان .. أما منكروها، فإلى مزابل التاريخ {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر: 10]. ° ورَحِم الله القائلَ: "افتضحوا فاصطلحوا": انظر إلى هذا التواطؤِ الخسيسِ والخُيوطِ الخفيَّةِ بين مُنكرِي السُّنَّة في الهند ومصر: ° فـ "أحمد أمين" يُثنِي على السير "أحمد خان مرزا"، ويقول عنه: "إنه في الهند كالشيخ محمد عبده في مصر". وَينشر "أحمد خان مرزا" -من خلالِ مجلته الداعية لإنكار السنة- حلقاتٍ متتابعةً من كتابِ "تحرير المرأة" لقاسم أمين. ومِثلما وَضع "حسرت موهاني" و"نيار فتحبوري" أُسُسَ الضلالِ، وأصدَرَا مجلةً تحمل اسم "إنكار" في الهند، وَضَع "صبحي منصور" يَدَه في يدِ "فرج فودة"، وأصدر مجلة تحمل اسم "التنوير" في مصر، وطَعَنت المجلَّتانِ في العقيدة، وأثارتا الشبهاتِ حَولَ الوحي والقرآن وحُجِّيةِ الأحاديثِ النبويةِ، وحَطَّتا من أهميةِ الفقهِ الإِسلاميِّ في حياةِ المسلمين. وكانت جَماعتا "القاديانية والأحمدية" بأمريكا على اتصالٍ دائمٍ بمركزِ

المنكرون للسنة جزئيا

"توسان"، حيث يَقبَعُ مُسيلِمةُ الكذَّاب مُدَّعي النبوة "رشاد خليفة" بمسجد "توسان" .. كبهيمةٍ عمياءَ قادَ زِمامَها ... أعْمَى عَلَى عِوَجِ الطريقِ الحائرِ! * * * المنكرون للسُّنَّة جزئيًّا وهم كثيرون يَجمعُهم جميعًا إعمالُ العقلِ وتقديمُه فوقَ النَّقلِ الصحيح، فمنهم مَن يُنكرُ أحاديثَ مسألةٍ معينةٍ من مسائلِ الشرع، وهذي أمثلة: * على درب الوالد سار الابن: مَشَى الطَّاووسُ يومًا باعوجاجٍ ... فَقلَّدَ شَكلَ مِشْيَتِهِ بَنُوهُ فقال: عَلامَ تختالون؟ فقالوا: ... بدأتَ بِهِ ونحن مُقَلِّدُوهُ فخالِفْ سَيْرَكَ المُعْوَجَّ واعْدِلْ ... فإنَّا إنْ عَدَلْتَ مُعَدِّلُوهُ أمَا تَدْري -أبانا- كلُّ فَرعٍ ... يُجارِي بالخُطَى مَن أدَّبوهُ! وينشأُ ناشِئُ الفتيان منَّا ... على ما كان عَوَّدَهُ أبوهُ "حسين أحمد أمين" على دَربِ والده، وللابن كتابُ "دليل المسلم الحزين إلى مقتضى السلوك في القرن العشرين"، وهذا الكتابُ أَخَذ جائزةَ أحسن كتاب في معرض القاهرة الدولي 1984 م، وكلُّه طَعنٌ في السُّنَّة. ° يقول هذا الرجل: "ما كان أبي "أحمد أمين" يَفرِضُ علينا الصلاة"!. ° وله فتوًى عجيبةٌ في حدِّ السرقة، فيقول: "لقد كان الاعتداءُ على الساري في الصحراءِ بسرقةِ ناقتِه بما تحَمِلُ من ماءٍ وغذاءٍ وخَيمةٍ وسلاحٍ في

وعلى الدرب سار الدكتور "مصطفى محمود"

مَصافِّ قَتلِه، لذلك كان من المهمِّ للغاية أن تُقرِّرَ الشريعةُ عقوبةً جازمةً رادعةً بالغةَ الشدة لجريمةِ السرقةِ في مِثلِ هذا المجتمع" (¬1). ° وقال عن الحِجاب: "وَهْمٌ صَنَعه الفُرسُ والأتراك، وليس في القرآن نصٌّ يُحرِّمُ سُفورَ المرأة أو يعاقِبُ عليه"، و"إن الرجالَ يتمسَّكون بالحجاب ليستبِدُّوا بالمرأة، فيُنفِّسوا عن قَهرهم سياسيًّا واجتماعيًّا" (¬2). ° وأتى "عبد الله عنان"، فأنكر أحاديثَ "المهديِّ المنتظَر والمسيح"، وكَتَب تحت عنوان "أساطيرُ دينيةٌ عمادُ حوادثَ كبرى في التاريخ": "لم تزدهر هذه الأساطيرُ من الوجهةِ العلميةِ قَدْرَ ازدهارِها في الدولِ الإِسلامية، وكانت "أسطورةُ المهدي" مِن بينها أقواها وأبعدَها أثَرًا .. ومِثلُ أسطورةِ المهدي المنتظر "أسطورة المسيح"، وهي تَرجعُ إلى أصلٍ يهوديٍّ، ولها في الإِسلامِ مكانٌ أيضًا، بل تُمزَجُ أحيانًا بأسطورةِ المهدىِّ، فيُقال: إن المسيحَ المنتظرَ يَظهرُ في إثْرِ المهديِّ أو يَظهرُ معه ويأتمُّ به". * وعلى الدرب سار الدكتور "مصطفى محمود": فأنكر شفاعةَ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأنكر الرجمَ، ورَدَّ الأحاديثَ منذ ربعِ قرنٍ من الزمان حين أفادتنا مجلة "صباح الخير" في العدد (1093) بتاريخ 16/ 12/ 1976 بوقوف الدكتور على فِقهِ مُنكِري السُّنَّة وتأييدِه لهم، فهو يسير على مِنوالِهم. ¬

_ (¬1) "دليل المسلم الحزين" لحسين أحمد أمين (ص 141) -طبعة مدبولي نقلاً عن "إسلام آخر زمن" للأستاذ منذر الأسعد (ص 84) - دار المعراج 1411 هـ. (¬2) "موقف القرآن من حجاب المرأة" لحسين أحمد أمين/ الأهالي القاهرية 28/ 11/ 1984 م. عن كتاب "غزو من الداخل" (ص 55).

العقيد معمر محمد عبد السلام أبو منيار القذافي، وإنكاره للسنة، وتصدي العلماء له، وعلى رأسهم شيخ الإسلام عبد العزيز بن باز - رحمه الله -

° وصَدَق القائل: "إنَّ الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفِتنة، فعليكم بالعتيق" (¬1). * العقيد معمَّر محمد عبد السلام أبو منيار القذافي، وإِنكارُه للسُّنة، وتصدِّي العلماءِ له، وعلى رأسهم شيخ الإِسلام عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: ° في 3/ 7/ 1978 م عُقدت في طرابلس "ليبيا" ندوةٌ علميةٌ حول منزلة السُّنَّةِ النبويَّةِ من القرآن الكريم، شارَكَ فيها عددٌ من مفكِّري البلادِ الإِسلامية، تحدَّث فيها الرئيسُ "معمَّر القذافي"، مُركِّزًا على التناقضاتِ التي ادَّعاها في الأحاديثِ النبويةِ التي تحتويها كتبُ الصِّحاحِ والسُّننِ، مستشهِدًا بعددٍ من النصوصِ الحديثيَّةِ التي يَتصوَّرُ أنَّ بينَها تناقضًا، ثم ختم حديثَه قائلاً: "إنَّ في البخاريِّ ومسلمٍ أحاديثَ منسوبةً إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا تتَّفقُ مع القرآن، وقد دُوِّنت بعدَه بأكثرَ من مِئتَي سَنَة، يَرتفعُ فوقَها علامةُ استفهام". ° ثم يُضيف: "إذن لِنَجْمعْ كلَّ ما قيل من حديثٍ، ونُقارنْه بالقرآن، فالذي يتَّفقُ معه نَعملُ به، والذي لا يتَّفقُ معه لا نَعملُ به، ولا نقول: "قال البخاري، وقال مسلم"، فالقرآنُ معروفٌ ومحفوظٌ، ولا يَختلفُ فيه المسلمون من "جاكرتا" إلى "طنجة" .. ". بَثَّت قنواتُ الإذاعةِ والتلفازِ الليبية، ونَقَلت على الهواءِ مباشرةً هذه الكلماتِ القاسيةَ على كلِّ نَفْسٍ تنتمي إلى عقيدة الإِسلام، فكانت صَدمةً أَلْجَمَت كلَّ أَلْسِنَةِ المسلمين في ليبيا الشقيقة، وهم يستمعون إلى رئيسِهم في أطولِ حديثٍ وأجرءِ حديثٍ سَهِرَ أمامَه الشَّعبُ الليبيُّ حتى الثانيةِ من صباحِ ¬

_ (¬1) "السياسة الأسبوعية" (ص 17) العدد 95 بتاريخ 31/ 12/ 1927 م.

اليوم التالي. وقبل أن تُشرِقَ شمسُ اليوم الجديد، كانت ليبيا ثلاثةَ أحزاب: أولها: الحزبُ الذي صَفَّق طويلاً سعيدًا بما أسمَوْه في صُفحهم "بروتستانتية" إسلامية جديدة (!!). وثانيها: الحزبُ الذي حَبَسَ غَضَبَه في صَدره مكلُومًا، يضربُ أهلُه كفًّا في حسرةٍ وألمٍ قائلين: "وإنْ سَلَّمْنا جَدَلاً أن هناك بعضَ الأحاديث النبوية المنسوبة كَذِبًا إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في كتب الحديث، فهل يجوزُ أن نتَّخذَ ذلك تُكأةً لهدمِ كلِّ معتقداتِ المسلمين؟! ". أما ثالث الأحزاب: فهم هؤلاء الذين التزموا الصمت، إمَّا جهلاً بخطورةِ ما سمعوا، أو خوفًا من تَبِعَةِ الغضبِ -فيما لو عَبَّروا عن مشاعرهم-، أو تجاهلاً متعمَّدًا" (¬1). ° وجاء الرد "ببيانٍ من الرئاسةِ العامةِ للمجلسِ الأعلى للمساجدِ حولَ ما دار مع العقيد "معمَّر القذافي" حولَ إنكارِه للسُّنَّة النبوية كمصدرٍ للتشريع، كما تناقَلَتْها الصحف والأنباء": على لسان الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "قام وفدٌ من الأمانةِ العامةِ للمجلسِ المذكور برئاسةِ فضيلة الشيخ "صالح بن محمد اللحيدان" عضوِ "مجلس القضاء الأعلى بالمملكة العربية السعودية" وعضويةِ كل من فضيلة الشيخ "أبي بكر محمود جومي" كبيرِ قضاةِ نيجيريا وعضو الرابطة ومجلس المساجد، وفضيلة الشيخ "أحمد الحماني" رئيس "المجلس الإِسلامي الأعلى في الجزائر" وعضو الرابطة ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 118).

ومجلس المساجد، وفضيلةِ الشيخ "علي مختار" الأمينِ العام المساعد للمجلس الأعلى العالمي للمساجد بزيارةِ الجماهيرية الليبية بِناءً على ما دار بين "الأمانة" و"الجماهيرية" للبحث مع فخامةِ العقيد "معمَّر القذافي" حول ما تناقَلَتْه الصحفُ والأنباءُ من إنكارِه للسُّنة النبويَّةِ أن تكونَ مصدرًا من مصادر التشريع الإِسلامي. وقد تَمَّ بالفعل اجتماعُ الوفدِ بفخامته في الساعة السابعة والنصف من مساءِ يوم الأربعاء الثاني عَشَرَ من شهرِ صَفَر 1399 هـ في مدينة "بني غازي" بليبيا، وتبادَلَ الجميعُ وِجهاتِ النظر، وبَيَّن الوفدُ لفخامته الأدلةَ الشرعيةَ من الكتاب والسُّنةِ على عظيمِ منزلةِ السُّنةِ في الإِسلام، وأنها الأصلُ الثاني في إثباتِ الأحكام، وأن العلماءَ قد عُنُوا بها، وعَرَفوا صحيحَها من سقيمها، ووَضعوا لذلك قواعدَ وأصولاً يُعرَفُ بها صحيحُ الأحاديث من ضعيفها، وأجمَعوا على اعتمادِ ما صَحَتْ به الأحاديثُ، فأظهر اقتناعَه بأكثرِ ما قاله الوفد، وأوضَحَ فخامتُه للوفد موقفَه من الكتاب والسُّنَّةِ والحديث، وأنكر بشدَّةٍ ما نُسِب إليه من أنه حَذَف كلمة "قل" من "قل هو الله أحد"، أو أنه صَلَّى العصرَ ركعتينِ حَضَرًا، كما أوضح للوفد بأنه يعترفُ بالسُّنةِ الفعليةِ فقط -كالصلاة والحج-، أما الأحاديثُ القوليةُ، فإن ما يَصحُّ عنده منها يُعمل به، ووعد أنه سيُعلن ذلك على الملأ. هذا ملخَّص قرارِ الوفد، وقد سَرَّنا كثيرًا رجوعُ فخامةِ العقيد إلى الصواب في الأخذِ بالسنةِ الصحيحة، وقد دَلَّتِ الأدلةُ من الكتابِ والسُّنةِ الصحيحةِ واجتماعِ أهلِ العلم على أنَّ السُّنةَ الصحيحةَ القوليةَ والفِعليةَ والتقريريةَ أصلٌ عظيمٌ من أصولِ الإِسلام، وهي الأصلُ الثاني في إثباتِ

الأحكام الشرعية وبيانِ الحلالِ والحرام، وهي الوَحيُ الثاني، كما أجمَعَ العلماءُ أيضًا على أن مَن جَحَد كونَ السُّنةِ أصلاً معتَبَرًا يُرجَعُ إليه في الأحكام، وزَعَم أنه يَكتفي بالقرآنِ عنها، فهو كافرٌ مرتدٌّ عن الإِسلام، وقد صَنَّف في ذلك الحافظُ السيوطي رسالةً سَمَّاها "مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة"، ذَكَر فيها الأدلةَ من الكتابِ والسُّنةِ والآثارِ على وجوبِ تعظيم السُّنةِ والأخذِ بها، وأنها الأصلُ الثاني من أصولِ الإِسلام، كما ذَكر فيها إجماعَ العلماءِ على كُفرِ مَن أنكر السُّنةَ، وزَعَم أنه لا يُحتجُّ إلَّا بالقرآن، ولا شكَّ أن مَن أنكر السُّنةَ فقد أنكر القرآن وكَذَّبه؛ لأنَّ القرآن الكريمَ قد أَمَر في مواضعَ كثيرةٍ بطاعةِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتِّباعِه، وعَلَّق الرحمةَ والهدايةَ ودخولَ الجنةِ والنجاةَ من النار على ذلك. وقد كَتَبْنا في هذا المَقام مقالاً أبسَطَ من هذا البيانِ، ننشرُه قريبًا إن شاء الله. فالواجُب على فخامةِ العقيد أن يُعلِنُ توبتَه إلى الله سبحانه من إنكارِه ما أنكَرَ من السُّنة، وأن يُعلِنَ التزامَه بما صَحَّ منها عند أهل العلم -كأحاديثِ الصحيحين وغيرها- ممَّا صَحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قولاً، أو فعلاً، أو تقريرًا- ... " (¬1). ¬

_ (¬1) مجلة "البحوث الإِسلامية" - العدد الخامس محرم - جماد الثاني 1400 هـ تحت عنوان "إيضاحات وتنبيهات" للشيخ ابن باز (ص 262 - 263)، ومجلة "المجتمع الكويتية" العدد 393 (ص 21)، وكتاب "السنة باعتبارها مصدرًا من مصادر التشريع الإِسلامي" لمحمود صالح شريح (ص 353 - 354) وهذه رسالة ماجستير بالجامعة الإِسلامية بالمدينة.

وا إسلاماه

* وا إسلاماه: في يوم الإِثنين 18 من ذي الحجة 1400 هـ، الموافق 27 من أكتوبر 1980 م صدرت جريدة "أخبار العالم الإِسلامي" التي تُصدِرُها "رابطة العالم الإِسلامي" من مكةَ المكرمة، تَحملُ مانشيتًا رئيسيًّا: "القذافي رأسُ حربةٍ ضدَّ الإِسلام" .. أما الخَمْسَ عَشْرةَ صفحةً التالية من الجريدة، فكانت عبارةً عن مَلَفٍّ صحفيٍّ عن إنكارِه حُجِّيَّةَ السُّنةِ النبويةِ، وادعائِه النبوَّة، وإنكارِه تعدُّدَ الزوجات، وحِجابَ المرأةِ في القرآن، وإلغائِه العملَ بالتاريخِ الهجريِّ، وتأييدِه الاستعمارَ الروسي لأرض أفغانستان، ثم دعوتِه المُصلِّين في صباحِ عيدِ الأضحى من هذا العام إلى تَركِ الحج قائلاً: "فلْيعلمِ المسلمون في كلِّ مكانٍ من العالَم أن مكةَ الآن، والكعبةَ الشريفة -بيتَ الله-، وأن المدينةَ المنوَّرةَ وقَبرَ الرسول، وأن جبلَ عرفاتٍ المقدَّسَ: تَقعُ الآن تحتَ طائلةِ الاحتلالِ الأمريكي، فأيُّ معنًى للحجِّ هذا العامِ أو في الأعوامِ القادمة إذا استمرَّ الاحتلال؟! إنَّ المعنى الوحيدَ هو القتالُ والجهادُ لتحريرِ بيتِ الله، ومَن يُمارِسُ شعائرَ الحجِّ متجاهِلاً هذه الحقيقةَ، إنما هو يُمارسُ عِبادةً ساذجةً ليست هي التي أرادها الله، والآن المسلمون يؤدُّون شعائرَ الحجِّ تحت ظلالِ الطائرات الأمريكية (¬1)، وعندما يرفعون رؤوسَهم إلى السماء وهم يَدْعُون تَسقُطُ عليهم نفاياتُ وفضلاتُ الطائراتِ الأمريكية، ويعتقدون أنهم سيعودُون وقد غُفرت ذنوبهم وقُضيت حوائجُهم!! ولن تغفرَ الذنوبُ، ولن تُقضى الحوائجُ إلَّا إذا تَحوَّل الحجُّ إلى معركة، وتَحوَّل الدعاءُ للغفرانِ ¬

_ (¬1) أي صفقة طائرات التصنت.

إلى دعوةٍ للجهاد والقتال" (¬1). ° انظر إلى شَطحِ العقيد وطوامِّه: - يُبيحُ التعدُّدَ من اليتيمات فقط!!. ° ويقول: "كلُّ مَن يَخرجُ على القرآن هو من الخوارج -ولو كان مسلمًا-، وبذلك تنتهي مشكلة: هذا مسلم، وهذا مسيحي" (¬2). ° وعن مجموعتِه القَصَصِيَّةِ التي هلَّلَت لها وسائلُ الإعلام المسموعةُ والمقروءةُ والمرئيةُ بالجماهيرية الليبية ابتداءً من ديسمبر 1993 م، يقول الأستاذ الدكتور جابر قميحة أستاذ الأدب العربي بكلية الألسن جامعة عين شمس: "تَهَكَّمَ في قَصَصِهِ الأدبية هذه بأسلوبٍ سُوقيٍّ على بعضِ صحابةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من أمثالِ خُبَيبِ بنِ عديٍّ، وخالدِ بن الوليدِ، وأمِّ أيمن .. إلى أن بَلَغ به الأمرُ إلى التهكُّم على أمِّ المؤمنين زينب - رضي الله عنها -. وحتى لا يَظنَّ ظانٌّ بنا سُوءً، فالمجموعةُ القَصصيةُ يمكنُ الحصولُ عليها، والتهكُّمُ والاستهزاءُ ليس فيه تَوريةٌ مما قد يكونُ حَمَّالاً للتأويلِ أو التجنِّي على الكاتب، إنما كان الكاتبُ العقيدُ واضحًا في ذلك تمامَ الوضوح" (¬3). ° يقول القذافي في خطبة 12 ربيع الأول 1387 هـ (19/ 2/ 1978 م) ¬

_ (¬1) "شبهات وشطحات منكري السنة" لأبي إسلام أحمد عبد الله - جريدة "الأحرار" 11 جمادى الأولى 1420 هـ - 22 أغسطس 1999 - الحلقة (11). (¬2) "شبهات وشطحات منكري السُّنة" (ص 126). (¬3) المصدر السابق (ص 140) - انظر جريدة "الأحرار" 20 جمادى الأولى 1420 هـ - 31/ 8/ 1999 - الحلقة (20).

عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نصًّا بأنه "مجرد بوسطجي"، وقال بالنصِّ في هذه الخطبة: "إنَّ المسلمين ابتَعدوا عن الدينِ الإِسلاميِّ، وهم في طريقِهم إلى النتيجةِ التي وَصَل إليها المسيحيون، ونحن الآن بدأنا عبادةَ الأصنام، وبالأحرى في بدايته، فنحن نُجَسِّمُ النبيَّ حتى يَحجُبَ اللهَ، ولو قلتُ لكم "رسولُ الله" لقلتُم كلُّكم "صلى الله عليه وآله وسلم"، ولو قلتُ لكم: "الله" لَمَا تَكلَّم أحدٌ، وهذا نوعٌ من الاستعبادِ والوثنية". ° وقال نصًّا: "إنَّ صلاتَنا على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تَعني أننا نخافُه أكثَرَ من الله، أو أننا نَرى الرسولَ أقربَ إلينا، مِثلَ المسيحيينَ الذين قالوا: إن عيسى أقربُ من الله". ° ويقولُ في خِطابِه هذا المطبوع (ص 14): "النبيُّ لو كان يقول: اتَّبِعوا حديثي، يَعمَلُ بديلاً للقرآن، لكنه باستمرارٍ كان يؤكِّدُ تمسُكَه بالقرآنِ فقط"!!!. ° و (ص 16): "القرآنُ لم يَرِد فيه أن النبيَّ قال: عليكم أن تتَّبعِوا كلَّ الكلام الذي قُلتُه، وإلَّا فأين الكلامُ الذي قاله لمدةِ أربعينَ عامًا قبلَ البعثة؟! " (¬1). ° وقال (ص 23): "لو كان الحديثُ الذي يقولُه الرسولُ يُعتدُّ به أو يُؤخَذُ كشريعةٍ، لَوَجب أَخذُ كل كلامِه حتى الذي قبلَ الرسالة". ° و (ص 26): "سُنَّةُ النبيِّ هي عَمَلُه، وليس كلامَه، فهل النبيُّ كان يَسرق؟ طبعًا لا، هذه سُنَّةٌ من سُننه، ومن أخلاقِه أنه لا يَكذِبُ ولا يَسرِقُ، ¬

_ (¬1) هو نفس كلام رشاد خليفة.

حسن الترابي السوداني، يرد السنة، وينحرف عن قواعد الدين، ويطعن في الصحابة، وينكر حد الردة والرجم، ويمجد الفن ورقص الباليه!!

وَيتَّصف بالأمانةِ والنزاهة، هذه هي السُّنَّة، أي أنها تصرُّف النبيِّ وطريقتُه في ذلك، إذن كيف نأتي بعد ألفَيْ سَنةٍ، ونقول: إنَّ الحديثَ هو السُّنَّة؟! ". ° وفي عَمَله "وانتهت الجمعة بدون دعاء" يقول مستهزئًا متهكِّمًا من "أمِّ أيمن" - رضي الله عنها -والتي كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يناديها "يا أمي"، ويقول: "هذه بقيَّةُ أهلِ بيتي"-، يقول عنها: "أمُّ أيمنَ كادت تموتُ عَطَشًا بين مكةَ والمدينةِ وهي صائمة، فنزل عليها حِساءٌ من "شوربة بالمعدنوس"، ودَلوُ ماءٍ معدنيٍّ ماركة "أفيان"، ولم تَعْطَشْ طِيلةَ عُمرِها بعد "أفيان" .. ". ° ويقول عن خُبيبِ بنِ عديٍّ - رضي الله عنه -: "وهل العِنبُ الذي كان يَسقطُ على خُبيبِ بنِ عديٍّ، وهو أسيرٌ عند المشركين في مكة، كان من كوكبِ الزُّهرة، أم من كوكب [عُطارد]؟! لأنَّ مكةَ لا عِنب فيها". ° ويقول عن سيف الله خالد: "إنَّ خالدًا حاصَرَ حِصنًا منيعًا للروم، وطَلَب منهم التسليمَ، فقالوا له: لا نُسلِّمُ حتى تشربَ السُّمَّ، فَشرِبَ قَدَحَينِ منه ولم يُوجِعْه مُصرانٌ واحدٌ من مصارينه" (¬1) انتهى ولا تعليق. * حسن التُّرابيُّ السُّوداني، يَرُدُّ السُّنَّةَ، ويَنحرفُ عن قواعِدِ الدين، ويَطعنُ في الصحابةِ، ويُنكِرُ حَدَّ الرِّدَّةِ والرجم، ويُمجِّدُ الفَنَّ ورَقْصَ الباليه!!: مَن أراد أن يعرفَ ضلالَ هذا الرجل، فلْينظرْ إلى بعضِ أخطائِه كما يُعدِّدُها فضيلةُ الدكتور "جعفر شيخ إدريس": ¬

_ (¬1) "شبهات وشطحات منكري السُّنَّة" (ص 147، 148)، و"جريدة الأحرار"، جمادى الأولى 1420 هـ - 1/ 9/ 1999 - الحلقة (21).

آراؤه في العقيدة

- نظرتُه للسُّنةِ النبويَّةِ المطهرة. - نظرتُه لصحابةِ رسولِ الله - رضي الله عنهم -. - نظرتُه إلى فُقهاءِ أُمَّةِ الإِسلام. - نظرتُه إلى مَجمَعِ تاريخ المسلمين. - إنكارُه لبعضِ الحدودِ الشرعية. - آراؤه المتناثرةُ في الاجتهادِ والمرأةِ والموسيقى. وزِدْ على ذلك نظرتَه أنه لا ضابَط لتفسيرِ القرآن، إلَّا ما يُملِيه تجديدُ اللغة، والاستحداثُ الاجتماعيُّ، والإِعمالُ العقليُّ لفَهم الدلالة -دون أيَّةِ قيودٍ أو قوالب-. وقد تَصدَّتْ له جماعةُ أنصارِ السنة بالسودان بشيوخها من علماءِ الدعوة السَّلَفية، وتَصدَّى له الدكتور "عصام البشير" -وهو من قياداتِ العملِ الإِسلاميِّ بالسودان-، وفي خُطَبِ الجُمعة أعلن هذا الداعيةُ الصادقُ بكلِّ وضوحٍ وعلى الملأِ الحربَ على فِكرِ الترابي، وأهال كلَّ ترابِ السودان على رأسه، وما تحويه من نظرياتٍ تجديدية. * آراؤه في العقيدة: ° يَذهبُ الرجلُ إلى قولٍ ما سَبَقه إليه أحدٌ، وهو "تجديد العقيدة"، فيقول: "لا بدَّ إذن من تجديدِ الفكرِ العَقَديِّ الإِسلاميِّ في كلِّ طَوْر؛ لأنَّ الشِّركَ في كلِّ عهدٍ من العهود يتَّخذُ مَظهرًا مختلفًا" (¬1). ¬

_ (¬1) "تجديد الفكر الإِسلامي" لحسن ترابي (ص 42) - الدار السعودية للنشر طبعة 2 - 1407 هـ.

وهو ينكر نزول السيح - عليه السلام -

° ويقول: "كذلك ينبغي لفقهِ العقيدةِ اليومَ أن يستغنيَ عن علمِ الكلام، ويتوجَّه إلى علمٍ جديدٍ غيرِ معهودٍ للسلف" (¬1). ° ويقول: "لا تَجدُ في مباحِثِ العقيدةِ حديثًا عن الفن، كأنَّ التوحيدَ يَجمعُ الحياة كلَّها -صلاتَها ونُسُكَها ومَحياها ومماتها-، ويتركُ الفنَّ، ولكنِ الواقعُ أن مباحَثَنا العَقَديَّةَ الإِسلاميةَ مباحثُ فقيرةٌ، وليست مباحثَ توحيديةً" (¬2). ° ويقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ما برضه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يَعلمُ الغيب، ومرَّات مرَّات يقول أخبار تطلع غَلَط" (¬3). ° ويقول عن حديث الذبابة: "إنه أمرٌ طِبِّيٌّ آخذٌ فيه بقولِ الكافرِ، ولا آخذ بقولِ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا أجدُ في ذلك حَرَجًا ألبتة" (¬4). ° ويقول فىِ عِصمةِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ولا إيه تقول في القرآن في العملوه الأنبياء دول والرسول ذاتو {لِيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]، و"ويتوب الله عليك"، وكان الرسول يستغفر، يستغفر من إيه؟ من الصلاة؟ هآ هآ هآ هآ". * وهو يُنكِرُ نزولَ السيح - عليه السلام -: ° قال محمد سرور بن نايف: "أنكر أستاذُ الحقوقِ الدستوريةِ في ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 44). (¬2) من محاضرة له ألقاها في الخرطوم وقوله هذا مسجّل بصوته. (¬3) "الصارم المسلول علي الترابي شاتم الرسول" لأحمد بن مالك جامعة أم درمان قسم الدراسات العليا. (¬4) نقلاً عن محاضرة له بصوته.

الجامعات السودانية الدكتور "حسن عبد الله الترابي" نُزولَ المسيح - عليه السلام - في آخِرِ الزمان، فقلتُ له في مجلسٍ ضمَّنا قبلَ أكثَرَ مِن إحدى عَشْرَةَ سنةً: كيف تُنكِرُ حديثًا متواترًا؟ قال: أنا لا أناقِشُ الحديثَ من حيثُ سَنَدُه، وإنما أراه يتعارضُ مع العقل، وُيقدَّمُ العقلُ على النقلِ عند التعارض". ° وقال أيضًا: "هناك أحاديثُ قالَها الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - بصِفتِه البشريةِ، فهي ليست حُجَّةً رغم صِحَّةِ أسانيدِها" .. وتَوَسَّع في ذِكرِ نماذجَ من هذه الأحاديث (¬1). ° ويقول في محاضرةٍ له مسجَّلةٍ بصوته: "كلُّ الصحابةِ عدول؟ ليه؟!! " (¬2) أي لماذا؟!. ° ويقول عن تنظيمه الذي يترأَّسُه في السودان مفضِّلاً له على مُجتمع الصحابة: "يعني نحن هسع (¬3) مثلاً تنظيم جماعة كالجماعة الإِسلامية، طبعًا أدقُّ من تنظيمِ جمهور المسلمين في عهدِ الصحابة، طَلَّعوا لهم مجتمع "أي: الصحابة" نحن مآخذين منه نفسَ الآيات ونفسَ الأحاديث، طلَّعْنا مجتمع أدقَّ وأكفأَ وكده" (¬4). ° ويقول في سخرية عن ابن عباس: "وابن عباس ده كم مرة قال كلام كده، زرَّوه (¬5)، الآخر كده قال: ما قال الرسول، في الحقيقة كلَّمني ¬

_ (¬1) "الصارم المسلول" (ص 6)، وكذلك قوله هذا مسجل بصوته في محاضرة له. (¬2) "دراسات في السيرة النبوية" لمحمد سرور بن نايف (ص 308) طبع دار الأرقم، وتاريخ كتابة المقال في شوال 1406 هـ. (¬3) الآن. (¬4) محاضرة مسجلة له. (¬5) أي: ضيّقوا عليه حتى يبّين الحقيقة.

إنكاره لبعض الحدود

الفضل ابن عباس" (¬1). ° ويقول: "الصحابة، السيدة عائشة ما كانت تُناقِشُ الصحابةَ .. وتقول: كَذَبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬2). * إِنكارُه لبعض الحدود: ° في محاضرةٍ له بجامعةِ الخرطوم أجازَ للمسلم أن يرتدَّ عن دينه، فقد قال: "وأودُّ أن أقولَ: إنه في إطارِ الدولةِ الواحدةِ والعهدِ الواحدِ، يَجوزُ للمسلمِ كما يجوزُ للمسيحيِّ أن يُبدِّل دينَه" (¬3). ° ويقول عن الحُكم في "الرِّدَّة": "هو حُكمٌ اجتهاديٌّ في تقديري، وليس حُكمًا حَدِّيًّا". ° وجَوزَّ هذا المأفونُ زواجَ المسلمةِ من الكِتابيِّ .. نَقل ذلك عنه الدكتور محمود الطحان في كتابه "مفهوم التجديد بين السُّنة النبوية وأدعياء التجديد"، ويقول: "إن الشيخ "السنانيري" ظلَّ يُحاوِرُه على مفهومِه هذا الخاطئِ طويلاً، وما اقتَنَع، وما عَدَل عن رأيه". وهو يُنكِرُ حَدَّ الرجمِ بالنسبة للزاني المُحصَن (¬4). ° أمَّا حدُّ شُربِ الخمرِ، فيقول الترابي: "وكانت العقوباتُ التي افترضناها "أي: في لجنة تعديل القوانين" لشُربِ الخمر رفيقةً لا تتعدَّى ¬

_ (¬1) من محاضرة له مسجلة. (¬2) "الصارم المسلول" (ص 8). (¬3) من محاضرة "تحكيم الشريعة" بجامعة الخرطوم نقلاً عن "الصارم المسلول" (ص 12). (¬4) انظر "مفهوم التجديد بين السنة النبوية وأدعياء التجديد المعاصرين" للشيخ محمود الطحان (ص 31) مكتبة دار التراث. وكتاب "الصارم المسلول" (ص 12).

موقفه من الفن

الجَلْدَ بين عشرينَ وأربعينَ، ولا تتعدَّى السجنَ نحوَ شهرٍ أو أكثَرَ من ذلك بقليلٍ وغرامةً قليلة" (¬1). ° ويقول هذا الضالُّ في هَذيانه بدعوى تجديدِ أصول الفقه: "لا بدَّ أن نَقِفَ وقفةً مع عِلم الأصول تَصِلُه بواقع الحياة؛ لأن قضايا الأصولِ في أَدَبنا الفقهيِّ أصبحت تُؤخذُ تجريدًا، حتى غَدَتْ مقولاتٍ نظريةً عقيمةً، لا تكادُ تَلِدُ فقهًا البتة، بل تولِّدُ جَدَلاً لا يتناهى" (¬2). ° وانظر إلى قولِه في تجديد "الإِجماع"، وهو الأصل الثالث من أدلة الشرع بعد الكتاب والسُّنة، وكما هو معلومٌ فإنه إجماعُ المجتهدين من الأمةِ لا إجماعُ الجهال .. يقول: "فيمكنُ أن نَردَّ إلى الجماعةِ المسلمةِ حقَّها الذي كان قد باشَرَه عنها الفقهاء .. وهو سُلطةُ الإِجماع؛ ويمكن بذلك أن تَتغيَّرَ أصولُ الفقهِ والأحكامُ، ويصيرُ إجماعُ الأمةِ المسلمةِ أو الشَّعبِ المسلم، وتصبحُ أوامرُ الحكَّامِ كذلك أصلَينِ من أصولِ الأحكام في الإِسلام" (¬3). * موقفُه من الفنِّ: ° انظر إلى مُدَّعي التجديدِ والمزكِّي لنفسه، يقول نصًّا: "كما قَدَّر اللهُ وأَرسل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وتلا (أي: تاليًا) للأنبياء ليجدِّدَ رسالتَهم، فبتوفيقٍ من الله أرسَلَني لتجديدِ فقهِ محمد". ° ويقول عن الفنَّانين: "قد يكونُ بابُ الجنة الذي يدخلون به، اسمُه ¬

_ (¬1) "الصارم المسلول" (ص 12). (¬2) "تجديد أصول الفقه" للترابي (ص 7) الدار السعودية للنشر ط 1404 هـ. (¬3) المصدر السابق (ص 58).

باب الفنانين في الجنة" (¬1). ° وقال محذِّرًا من إهمالِ الفن: "فلا بدَّ إذًا من اتخاذِ الفنِّ لعبادةِ الله، فمِن تلقائه يضلُّ كثيرٌ من الضالِّين، وبه يمكنُ أن يَهتديَ المهتدون، فمَن أهمَلَه تَرَك بابًا واسعًا للفتنة المُلهِيةِ عن الله والداعيةِ إلى معاصيه، ومَن أَخَذه بما ينبغي فَتَح بابًا واسعًا للدعوة إلى الله بدفعِ جاذبيةِ الجمالِ، ولعبادتِه أجملُ وُجوهِ العبادة" (¬2). وخذْ آخِرَ الطوامِّ لهذا الضالِّ الذي يَجعلُ للراقصين والراقصاتِ والمطربين والمطربات وممثلاتِ الإغراء وعرايا الفنِّ السابع بابًا في الجنة باسمِهم!!. ° يقول عن "الرقص" لجريدة "الصحافة" السودانية: "الرقص تعبيرٌ جميلٌ، يُصوِّرُ معنًى خاصًّا بما تَنطوِي عليه النفسُ البشريةُ من شعور". ° إلى أن يقول: "ولا نُنكِرُ أنَّ في الغربِ رَقصًا يُعبِّرُ عن معاني أُخَرَ كريمةٍ" (¬3). أخزاك الله، فليس بعد هذا إسفافٌ وابتذالٌ وجُنون. ¬

_ (¬1) "الدين والفن" للترابي (ص 106)، الدار السعودية للنشر ط 1/ 1408 هـ، ومحاضرة له - وقوله هذا مُسجل فيها بصوته. (¬2) "الدين والفن" (ص 110). (¬3) جريدة الصحافة الصادرة في الخرطوم 15/ 11/ 1979 م نقلاً عن "الصارم المسلول" (ص 12).

خليل عبد الكريم وكتابه الأسود "فترة التكوين في حياة الصادق الأمين"

* خليل عبد الكريم وكتابُه الأسود "فترة التكوين في حياة الصادق الأمين": خليل عبد الكريم كاتبٌ يَسَاريٌّ، يَدُسُّ السُّمَّ في العسل، ويتطاوَلُ هذا القِزمُ على مَقامِ سيِّد الأنبياء، فيُلْقِمُه الحَجَرَ الدكتورُ إبراهيم عوض في كتابه: "ولكنَّ محَمَّدًا لا بواكيَ له .. هَتْكُ الأستار عن خَفايا كتاب "فترة التكوين في حياة الصادق الأمين". ° قال الدجَّالون الكذَّابون: إن كتاب رَفِيقهم خليل عبد الكريم "فترة التكوين في حياة الصادق الأمين": "يُدافعُ عن الإِسلام، ويَجلُو وجهَه الصحيح"!. لكنَّ المؤلِّفَ يَذكر أن هذا الكتابَ من أوَّلِه إلى آخِرِه إهانةٌ لسيد البشر - صلى الله عليه وسلم -، واستهزاءٌ شديدٌ به، لم تَشهدْ مِصرُ والعالَمُ الإِسلاميُّ له مثيلاً، وحتى جاءت رسومُ الكاريكاتور الدانماركية، ويتساءل: أين الكرامة؟ أين العزَّة؟ أين حُبُّنا لنبيِّنا ودينِنا؟ ماذا سنقول لربِّنا إذا وَقَفْنا أمامَه وسألَنا: كيف رَضِيتم أن يُهانَ رسولي على مرأى منكم، ثم لا تُحرِّكون ساكنًا؟ ويَرى أن المسألةَ ليست مسألةَ إيمانٍ وكُفرٍ أو حريةِ عقيدةٍ وتعبير؛ لأنَّ كلَّ إنسانٍ حُرٌّ في أن يؤمنَ بما يشاءُ ويَكفرَ بما يشاءُ، بل المسألةُ مسألةُ سفاهةٍ ورغبةٍ في إهانةِ الرسول الأكرم. وقد أستوحى المؤلِّفُ عنوانَ كتابه "لكنَّ محمدًا لا بواكيَ له" من عبارة الرسول العظيم - صلى الله عليه وسلم - التي قالها بعد انكسارةِ "أُحُد" حين رأى نساءَ المسلمين آخِرَ النهارِ يَبكِينَ الشهداءَ إلَّا حَمزة، فلم يكن يَبكِيه أَحدٌ، فقال - صلى الله عليه وسلم -

الرد على كتاب "فترة التكوين"

متوجِّعًا: "لكنَّ حمزةَ لا بواكي له"، فعندئذ بَكَتْه الباكياتُ أشدَّ البكاء. * الردُّ على كتاب "فترة التكوين": يُشير المؤلِّفُ إلى أنَّ خليل عبد الكريم لم يكن سِوى مجردِ محامٍ مغمور، حتى شَرَعت بعضُ الصحفِ اليسارية تنشرُ له المقالاتِ والأحاديث التي تَلمِزُ القِيَمَ الإِسلاميةَ مِن طَرْفٍ خَفيٍّ، ولم يكن له إسهامٌ في مجالِ الفِكرِ والكتابة، إلى أن ظَهَر فجأةً بعد أن أصبحَ شيخًّا كبيرًا؛ حيث لم يكن لمقالاتهِ قيمة كبيرة في أسلوبها ومضمونها وبنائِها الفِكريِّ، ثم انقلب الحالُ فجأةً، وصدرت كُتبٌ أسلوبُها مختلفٌ تمامًا، ومخدومةٌ من ناحية المصادر. ويَرصُدُ المؤلِّفُ مفارقةً شكليةً هي: أن كُتبَ عبد الكريم يجتمعُ فيها غَريبُ الألفاظِ والصِّيَغ، مع الجهلِ بأصولِ النحوِ والصرف، مستنتِجًا أن هناك أكثرَ مِن يدٍ تشتركُ في تأليفِ هذه الكتب، وبالنسبة لكتاب "فترة التكوين" فإنه يستبعدُ أن يكونَ مؤلِّفُه مسلِمًا؛ إذ فيه من الإساءةِ الجارحةِ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن التفسيرات العجيبةِ لنبوَّته ما لا يمكن صُدورُه إلَّا من مبشِّرٍ مُتعصِّبٍ مَطموسِ البَصَرِ والبصيرة، وهو ما يَعرِضُ الأدلةَ عليه في الصفحاتِ التاليةِ للكتاب. وُيعطِي بعضَ الأدلةِ على استخدامِ الكلماتِ الغريبةِ مثل كلمة "اليعسوب" التي من معانيها في الاستعمالاتِ المَطمورة في طَيَّات المعاجم "الرئيس الكبير"، وتُستعملُ الآنَ في عِلمِ الأحياء عند الحديث عن النَّحلِ وعَسَلِه، فتَعنِي "مَلِكةَ النحل" والكلمةُ هي في الواقع للأنثى لا للذكر، لكنْ صاحبُ كتاب "فترة التكوين" لَقَّبَ بها ورقةَ بنَ نوفل؛ لأنه -حَسْبَ إفكِه-

غرائب اللغة

هو الذي تولَّى كِبْرَ تثقيفِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أو "قَلْوَظَتُه وصَنْفَرتُه وتلميعه" بُغيةَ "تصنيعه" نبيًّا، والحقُّ أن "ورقةَ" كان رجلاً شريفًا نبيلاً، عندما استبان له أن محمدًا نبيٌّ من عند ربِّ العالمين آمنَ به، وأعلنها مُدوِّيةً- وهو الشيخُ الطاعنُ في السنِّ- أنه إذا امتَدَّ به العمُرُ، فسوف يَنصُرُه ويؤازِرُه ضدَّ سفهاءِ قومِه الذين يُؤذُونه. * غرائب اللغة: ° وكَرَّر صاحب كتاب "فترة التكوين" كلمة "النسوان" وأسقط أَلِفَها في عشراتِ المواضع، وجعلها "نسون"، ويحاولُ أن يتحذلقَ دائمًا في الحديث كقوله: "من المحال أن يتَّصفَ المنتظَرُ -أي: النبي المنتظر- بأه مُهتَلسُ العقل، أو هِجزع أو ذو زعارة"، وقوله مرارًا: "الأيئة" عوضًا عن الهيئة، وهو ما لم يَجدِ المؤلِّفُ له تفسيرًا، إلَّا أن كاتب "فترة التكوين" قد ارتدَّ طفلاً لا يَقدِرُ على نُطقِ الهاء!. ° ومِن دواعي جَهلِه قولُه عند كلامه عن الرسول الكريم، وحُسنِ منطقِه، وفصاحةِ لسانه: "إنَّ "ميسرة" قد تحدَّث إلى خديجة عن "رهافة مذرب محمد" يقصد رهافةَ لسانهِ - صلى الله عليه وسلم - .. أفلم يَجِدْ إلَّا كلمةَ "مذرب" التي تَدلُّ مْعظمُ اشتقاقاتِ مادَّتِها على سَلاطةِ اللسانِ والبذاءة. ° وهناك أمثلةٌ على التحذلقِ بغرائبِ اللغة مع الجهل بقواعِدِ النحوِ والصرف، مثل: "بَيْدَ أنه فتًى يَفيضُ شبابًا وقوةً وحيويةً وسيمًا قسيمًا"، وصوابها: "وسيم قسيم"؛ لأنهما النعتان الثاني والثالث لـ "فتى"، أمَّا النعتُ الأول فهو "يَفيضُ شبابًا"، و"يقع تحت تأثير عَمَّاته؛ إذ تُعلن له .. "

وصوابها "يُعلن": "ولا تعصي له أمرًا، ويا فلان"، وصوابها: "لا تعصِ" بحذف الياء من آخِرِ الفعل على البناء للأمر، وقوله: "إن هذا ما يؤكِّدُه علماءُ الفِرنجة المدقِّقين في تواريخ الأديان"، بدلاً من "المدققون" التي هي نعت لـ "علماء الفرنجة"، وكذلك قوله: "ما لك مسرع؟ ما لك مسرو؟ بدلاً من "ما لك مسرعًا؟ ما لك مسرورًا؟ " بالنصب على الحالية. ° كما يقول عن خديجة - رضي الله عنها -: "إنها قد تيقَّنت على بَكرةِ أبيها بنفسِها من فصاحةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - أيامَ كان يَشتغلُ في تجارتِها قبلَ أن يتزوَّجها". فماذا يعني بعبارة "على بكرة أبيها؟ "، إننا نقول مثلاً عن جماعةٍ من الناس: "جاؤوا على بَكْرةِ أبيهم"، أي: لم يتخلَّفْ منهم أحد، أمَّا أن يقالَ عن شخصٍ واحدٍ: "إنه جاء على بكرة أبيه"، فهذا هو البَلَهُ بعينه، "غِلٌّ على الإِسلام والنبوة". ° ويؤكِّدُ المؤلِّفُ أن الكتابَ فوقَ ذلك يَفيضُ بالوقاحة -حَسْبَ تعبيره- والغِلِّ الغليلِ على الإِسلام ورسوله، ورموزِه الكريمة، ويذكر بعض الأمثلة منها: "هذا الكتاب يقدِّمُ رؤيةً جديدةً، نزعمُ أنها غيرُ مسبوقةٍ لحلِّ هذا اللغز، الذي ملأ الدنيا، وشَغَل الناس"، يقصِدُ باللغز: نبوَّة سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -!!. ° وقال: "بدأنا مع محمدٍ قبلَ أن يلتقيَ أبوه بأمه، ثم وهو جَنينٌ في بَطنِ أمه، ثم صاحَبْناه ليلةَ مولده، ثم وهو مولود، ثم طفلٌ، ثم صبيٌّ، ثم شابٌّ، حتى التقطته سيدةُ قريش"، فتصور الوقاحةَ أن سيِّدَ الأنبياء، وكأنه صبيٌّ متشرِّدٌ يَهيمُ على وجهٍ دون أهلٍ أو مأوى!!.

° وقال: "إن هاجس قيامِ شابةٍ بكرٍ أو ثَيِّب مِثلها في "بكة"، أو ما حولَها بنَشلِ الحبيبِ المصطفى، ونِكاحِهِ أَرَّقَ خديجةَ، وطَيَّرَ النومَ من عينيها الاثنتين". ° وهي لُغةٌ سُوقيةٌ ساقَها الكاتبُ على لسانِ خديجة أمِّ المؤمنين - رضي الله عنها -: "مِن ألزم اللازمِ أن أنكِحَه، بل وأسارعَ حتى لا تَنتِشَه منِّي إحدى عذراوات أو أيامى قريش". تبيَّن لنا أن سيدة قريش "خديجة" جَفَّ رِيقُها، وحَفِيت قَدماها، وداخت السَّبْعَ دُوخات، حتى وافق إمامُ الأولين والآخِرين على خطبتها". ° "إن هذا الحَشدَ القويَّ .. وهذا الحِصارَ المُحكَمَ له حتى رَفَعَ الرايةَ البيضاء، وسَلَّم لها بطلبها، ورَضِيَ أخيرًا بنكاحها إياه. أما من جانب الخاشع -أي: محمد، استهزاءً به - صلى الله عليه وسلم - كما سيتضح فورًا-، فلا شكَّ أن القارئَ لم يَفُتْه أنه أصبح مَثَلاً، فذًّا في المطاوَعةِ والمُلاينة، "اجلس على فخذي"، يجلس، "تعالى في حِجري" يأتي، "ادخل بين قميصي وجسدي .. " يدخل". ثم يتحدَّثُ صاحبُ الكتاب عن "خوارق الولد المبروك". ° ويقول عن أمِّ المؤمنين خديجة - رضي الله عنها -: "أطعَمَتْه الخَمير، فصار لها عاشقًا، وكيف لا يفعلُ وهي قد نَقَلَتْه نَقلةً لم يَحلُمْ بها مجرَّدَ حُلمٍ، من عَسِيفٍ "أي: أجير" يَكدحُ من مكةَ إلى حُباشة، ومن قريةِ القَدَاسة "أي: مكة" إلى الشام". ° "فقد ذاق "محمد" الحرمانَ، وكابَدَ المَسْغَبَه، وكواه الفَقر، فلا

يَسكُنُ رَوعُه، ويهدأُ بالُه، ويُطَمْئِنُ نفسَه، ويُريحُ خاطَره سوى أن يوضعَ المالُ جميعُه بين يديه". وهي جُرأةٌ وصَفاقة -كما يقول المؤلف- في حقِّ الرسولِ الأعظمِ لاطمئنانه أن مَن يُهينُهم من المسلمين لا يغضبون بعد أن فَقَدوا كلَّ نَخْوة. ° ثم يَمتهنُ أسمى علاقةٍ زوجيةٍ في تاريخِ البشر، بلغةٍ قذرةٍ قائلاً: "الذي تَرجَّح أنه رأى الرسولَ في البداية عَصْلَج (عن التقدم لخطبة خديجة)، وامتَنَع واحتَجَّ .. إلخ ولكنَّ الطاهرةَ -أي: خديجة- بما لها من كَيْسٍ وفَطانةٍ ولباقةٍ وتَجرِبةٍ في معالجةٍ البُعول، استطاعت أن تَثنِيَه عن موقفِه، وتأخذَ منه صَكَّ القبول، وشارةَ الرِّضا، وعلامةَ الوفاق". ° ويتَّهمُ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - بأنه جاهلٌ، وليس أكثرَ من بائعٍ يشتغلُ بأجرٍ قليلٍ عند إحدى مُعلِّمات السوق الكبار قائلاً: "الذي حاز الثقافةَ الدينيةَ آنذاك -أي: في مكةَ عشيَّةَ البَعثةِ النبوية المشرَّفة-، أهمُّ نَفَرٍ من النُّخبةِ القُرَشية، أما الآخرون، وهم العامةُ الذين يَكِدُّون في سبيلِ لُقمة عيش، فلا يُفكِّرون فيها مُجرَّدَ تفكير؛ إذ هي بالنسبة إليهم تَرَفٌ لا يَقِدرون عليه، ونحن إذا نَظَرْنا إلى الأمرِ نظرةً عقلانيةً مجردةً، لا بدَّ أن نتساءل: أنَّى لفتًى صغيرٍ خَرَج بالكاد من مرحلةِ الطفولة واشتَغَل برعْي الغنم، ثم بعد أن شَبَّ قليلاً عَمِل أجيرًا، أنَّى له أن يَحوزَ ثقافةً دينيةً أو ثقافةً من أيِّ أنوع؟ ". ° وتتحوَّلُ خديجةُ أمُّ المؤمنين على يدِ الكاتبِ اللئيم إلى "مُخرِجةِ أفلام"، كما يتحوَّل أبو بكر إلى "كومبارس" في فيلم "تصنيع" النبي، الذي سيَضربُ الدنيا ويَقلِبُها رأسًا على عَقِب: "فردٌ واحدٌ من غيرِ هؤلاء -أي:

افتراءات على أم المؤمنين خديجة والصحابة

غيرِ ورقة وبحيرَا وعَدَّاس وسرجيوس - أَسندت إليه "هندوز" التجربة -يقصد خديجة- دورًا صغيرًا، حقيقةَ أنه لا يعدو ما يؤدِّيه كومبارس في شريطٍ سينمائي، بَيْدَ أنه بكلِّ المقاييس يُعَدُّ مشاركةً، ولو أنها عَجفاءُ هزيلةٌ ضامرةٌ ناحِلةٌ، والفردُ الذي نَعنيه هو أبو بكر بن أبي قحافة". * افتراءاتٌ على أمِّ المؤمنين خديجة والصحابة: ° ويقول المؤلِّف: "إن فكرةَ الكتاب تقومُ على أن ورقةَ بنَ نوفل وخديجةَ بنتَ خُويلد، قد التقطا محمدًا مِن بين أهل مكةَ ليُثقِّفاه، "ويُصنْفِراه ويُقَلْوِظاه ويُلَمِّعاه" -كما يقول المبشِّر الذي وراءه- كي يصنعا منه نبيًّا؛ إذ شاع وقتَها بين العربِ وأهلِ الكتاب أن هناك نبيًّا قادمًا، فأخذ الجميعُ ينتظرونه، لكنَّ ورقةَ وخديجةَ سَبَقا الباحِثِين، فاختارا محمدًا لِمَا سَمِعاه من الكراماتِ التي كان يقال: إنها تحدُثُ له منذُ أنْ كان في بَطنِ أُمِّه وأخضَعاه لبرنامجٍ تدريبيٍّ قاسٍ يتلخَّصُ في أنْ تَقرأَ له خديجةُ ما يُترجِمُه ابنُ عمِّها ورقةُ من الإِنجيل وتشرحُه له، وتَطلُبُ منه أن يُحفِّظَه، ثم يُعيدَ تسميعَه، بالإِضافة إلى تفريغِها إياه من همِّ السَّعيِ وراءَ المَعاش بوَضعِ كلِّ ما تَملِكُ من ثَرَواتٍ طائلةٍ بين يديه يفعلُ به ما يشاءُ، مع دَفعهِ إلى غَشَيانِ الأسواق والتجمُّعاتِ التي يَرتادُها الرهبانُ والمبشِّرون من كلٍّ دينٍ كي يحتكَّ بهم، ويتعلمَ منهم ما ينفعُه مستقبَلاً في الوظيفةِ التي تُعدُّه لها هي وابنُ عمِّها إعدادًا". ° وهو يؤكِّدُ أن "ورقة" كان قَسًّا لكنيسةِ مكةَ وما يجاورُها، وكان كثير من أفرادِ قبيلةِ بني أسدٍ نَصَارى، ومنهم خديجة - رضي الله عنها -. ° ثم يمضي قائلاً: "إنهما قد انتقلا بمحمدٍ بعد ذلك إلى مرحلةٍ

ورقة بن نوفل ليس قسا

أخرى، هي مرحلةُ الوِحدةِ والابتعادِ عن الناس بالتحنُّثِ في "غار حراء"، وشَجَّعه بكل ما يساعدُه على أن يَرى في منامِه الرؤى التي يَنبغي أن تحدُثَ للقادمِ المنتظَر، حتى وقعت الواقعةُ فعلاً، ورأى منامَ الغارِ الذي خَيَّل إليه أنه هو النبيُّ الموعود، فعندئذٍ أَعلنت خديجةُ للعرب -وهي في غاية السعادة بنجاحها هذا الذي لم تكن تتوقَّع رغم ذلك أن يكون بذلك الشكل الباهرِ- أنهم هم أيضًا قد أصبح لهم نبيٌّ كأهل الكتاب". ° ويقول المؤلف: "إن الكاتبَ يُردِّدُ في غرورٍ وانتفاخٍ وتَعالٍ أنَّ دراستَه هي دراسةٌ جديدة تمامَ الجِدَّة، رغمَ أن هذه الأفكارَ -وغيرُها كثيرٌ- مأخوذةٌ من كتابٍ صَدَر في العام 1979 م في لبنان بعنوان "قس ونبي" لمن سَمَّى نفسه على غلاف الكتاب "أبو موسى الحريري"، والواضحُ أنه نَصراني، وإن كان من غيرِ المعروف هل هو لُبنانيٌّ أصيل، أم من المبشِّرين الذين يَعيشون في لبنان أو يتردَّدون عليه. * ورقة بن نوفل ليس قسًّا: أبو موسى الحريري هذا يؤكِّدُ أن الوجودَ النصرانيَّ في مكة -بل في الحجاز كلِّه- قُبيلَ البعثةِ النبويةِ كان كبيرًا، وأن ورقةَ بن نوفل كان قَسًّا لقريش في كنيسةِ مكة، وأنه هو الذي عَقَد قِرانَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على خديجة - رضي الله عنها -، وألقى خُطبةَ النِّكاحِ بوَصفِه كاهنًا يقوم بطُقوسِ الزواجِ النصرانية، لا بوَصفِه مجردَ قريبٍ للعروس، وأنَّ خديجةَ كانت أنَذَاك على دينِ النصرانية، وكذلك محمد - عليه السلام -، وأن ورقةَ هو الذي دَرَّبه على التأمُّلِ الرُّوحيِّ والصلاةِ في "غارِ حراء"، وتولَّى إعلانَ نبوَّتهِ على العرب، فالقَسُّ ورقة هو الذي نَقل كلمةَ "الله" من العِبرية إلى العربية، والنبيُّ قام بتبليغِها

تشكيك وبراهين

إلى قومِه بالعربية، وأن القَسَّ الأستاذ رَغْمَ هذا كان حريصًا على التوارِي في الظلِّ خَلْفَ تلميذه، وأنَّ النبيَّ التلميذَ قد تَفوَّقَ على أستاذه، وعَمِل على أن تَجِئَ رسالتُه مناسبةً لظروفِ البيئة والمجتمع، وأنه ليس هناك في الحقيقة وَحْيٌ سَماوِيٌّ، بل مجردُ تلقينٍ بَشَريٍّ من القَسِّ للنبي، وأنَّ واقعة "غارٍ حراء" لم تكن إلَّا رؤيا في المنام لا حقيقةَ لها في الواقع، وأنَّ الوحيَ قد فَتَر مُدَّةً بعدَ وفاةِ ورقةَ، بما يدلُّ على أنه هو مَهدُ الوَحيِ لا السماءُ ولا جبريل، وأنه إلى جانبِ ورقةَ كان هناك خديجةُ وبَحيرا وأبو بكر. كما أن الرهبانَ المذكورِين في كتاب "قَس ونبي" بصِفَتِهم أصحابَ دَورٍ مؤثِّرٍ في حياةِ محمدٍ هم هم الذين ذكرهم صاحب كتاب "فترة التكوين في حياة الصادق الأمين" كقَسِّ بن ساعِدة وبَحيرا وعَدَّاسٍ وغيرهم، والشيءُ الوحيد الذي يمكنُ أن يميِّزَ بين الكتابَينِ هو أنَّ الأخيرَ يُعطِي لخديجةَ دَورًا أكبرَ في توجيهِ محمدٍ وإعداده وتصنيعِه أكبرَ ممَّا يُعطيه إياها الكتابُ الأول، وبالمناسبة فكِلا الكاتبَينِ يؤكًّد أن ما أتى به هو شيءٌ جديد لم يَسبِقْه إليه سابق، وإن كان الحريريُّ يقول ذلك دون طَنطنةٍ أو ثرثرة. * تشكيك وبراهين: ويُشكِّكُ الكاتبُ في أن "خليل عبد الكريم" هو الذي ألَّف هذا الكتابَ على اعتبارِ أن ما فيه يَتشابهُ مع كتاب "قس ونبي"، مع اختلافِ بعضِ التفاصيل هنا وهناك، مما لا يؤثِّرُ في فِكرةِ الكتابين الرئيسية، ممَّا يَعني أن هناك جِهةً واحدةً وتبشيريةً فرنسيةً -حَسْبَ ما يرى المؤلف- وراءَ هذن الكتابين، وَزَّعَتِ الأدوار، بحيث يَبدُوانِ وكأنهما من تأليف شَخصين مختلفينِ يحاوِلانِ أن يُدخلاَ في رُوعِ القارئِ المسلمِ أن محمدًا ما هو إلَّا

صنَيعةَ أيدٍ بشريةٍ نصرانية، وأنه لم يأتِ بأيِّ شيءٍ جديد، ولا علاقةَ له بالسماءِ ولا بالوحي الإلهي. ° وممَّا يَجعلُ المؤلِّفَ يستبعدُ تأليفَ "خليل عبد الكريم" للكتاب: "ما فيه من مصطلحاتٍ غريبةٍ لا تعرفُها العقليةُ التي تربَّت في جوٍّ إسلاميٍّ مثل: تسمية أنبياء بني إسرائيل بالبطاركة أو بمرادفها العِبري "الآباء الأولين" وتسميتِه إبراهيمَ ويحيى -عليهما السلام - بـ "إبراهام ويوحنا"، ومثل ذلك اسم "ملاك الرب" الذي تردَّد كثيرًا في الكتاب، وهو مُصطلحٌ نصرانيٌّ لا يمكن أن تخطئَه العينُ ولا الأُذُن، كما ينحازُ الكتابُ دون أدنى داعٍ إلى "صَفِيَّةَ" ضدَّ "عائشة"، رافعًا الأولى وقومَها اليهود إلى عَنانِ السماء، ولامزًا الثانيةَ لمزًا يظنُّ أنه يسيء إليها، وُيحقِّرُ من شأنِها هي وأبيها. ° ومِن الأدلة التي يَسوقُها أيضًا أن الكتاب يُكرِّرُ الاستشهادَ بالكتاب المُقدَّس في مسائِل الرؤى الدينيةِ والوحي باعتبارِه الفَيصلَ في الموضوع، والقولُ بأنَّ خَلْوةَ محمدٍ في "غارِ حراء" هي تقليدٌ يهوديٌّ نصرانيٌّ أخذَه - عليه السلام - عن خديجةَ عن ورقةَ عن التوراة والإنجيل، وكذلك اختصارُ اسم "سفر إشعياء" مثلاً إلى "إش" على عادةِ أهلِ الكتاب، بخلافِ المسلمين الذين يَذكرون الاسمَ في هذه الحالةِ كاملاً، كذلك تَحسَّر الكتابُ على دخولِ الإِسلام مصرَ وتسميته فتحَ عمرو بن العاص لمصر "استعمارًا عربيًّا استيطانيًّا أتت في ركابه قبائلُ كثيرةٌ دَهَسَت صعيدَ مصر المحروسة". ° ومن أوجُهِ المشابَهاتِ بين الكتابَينِ تفسيرُهما الخاطئُ للآياتِ القرآنية، فنَرى المسمَّى "بأبي موسى الحريري" يُفسِّرُ قوله تعالى في سورة "الأحزاب": {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ

وَرَسُولُهُ} [الأحزاب: 22] بالقول: "إن المراد بـ "الأحزاب"، فِرَقُ النصارى التي تتصارع فيما بينها حولَ طبيعةِ المسيح وصَلْبِه"، وما إلى ذلك .. مع أن الآيةَ الكريمةَ إنما تتحدَّثُ عن أحزابِ المشرِكين الذين تجمَّعوا من كلِّ صوبٍ لمحاربةِ النبيِّ والمسلمين في غزوة "الخندق". ° وبالمِثلِ يَشرحُ قولَه تعالى في سورة "المائدة": {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة: 68] بأن الخِطابَ فيه موجَّهٌ إلى المسلمين، وأن القرآنَ يُطالبُهم بالعملِ بالتوراةِ والإِنجيلِ والقرآنِ جميعًا، لا بالقرآنِ وحده، وقام باقتطاع عبارة {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}، التي تدلُّ دِلالةً قاطعةً على أنَّ الحديثَ موجَّهٌ لليهود والنصارى لا للمسلمين. وعلى نفسِ النهج يتناولُ قولَه تعالى في الآيات التالية: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ} [التوبة: 112]، {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55]، و {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29]، قائلاً: "إنها تتحدَّثُ عن رُهبانِ النصارى وقِسِّيسيهِم"، مع أنه لا صِلةَ بينها وبين الرهبان والقِسِّيسين على أيِّ نحوٍ من الأنحاء؛ إذ إنها تتحدَّثُ عن اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -. ثم إن كتاب خليل عبد الكريم يَستعملُ أسماءً غريبةً بدلاً من لَقَب "النبوة" أو "الرسالة" بطريقةٍ تَنُمُّ عن استهزاءٍ مثل: "الخاشع، والخاضع، والمسعود، وآكل الشعير، والمعطى الوسيلة، وسعد الخلائق، والبهيِّ، والخالص، وراكب الأتان، وصاحب النعلين ... " إلخ.

هجوم أعمى تحت عباءة إسلامية

* هجومٌ أعمى تحت عَباءة إِسلامية: ويَرى المؤلِّفُ أن حَمْلَ كتابٍ يُهاجِمُ دينَنا اسمَ مؤلِّفٍ إسلاميٍّ أقربُ أن يكونَ له تأثيرٌ أقوى في نفوسِ القُرَّاء المسلمين، والجميعُ يعرفُ قِصةَ الرسالة التي حَصَل بها "منصور فهمي" على درجةِ الدكتوراة في أوائلِ القرن العشرين مِن فرنسا، والتي صَوَّب فيها سِهامَ الاتهام الحَمْقاءَ إلى الإِسلام ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ثم تبرَّأ ممَّا جاء فيها، وعاد إلى دِينِه، هذه الرسالةُ قام بطبعها وكتابتها بعضُ المستشرقين في هولندا، وأخذوا فهمي إلى هناك، واقتَصَر دَورُه على قبولِ وضعِ اسمِه عليها، حتى تَرُوجَ بين المسلمين ويكونَ أثرُها أعنفَ. كذلك أورد د. "محمد سيد أحمد المسير" حالةً أخرى، وهي كتاب: "لماذا القرآن؟ " الذي صَدَر في ليبيا لمؤلِّفٍ يُدعى د. "عبد الله الخليفة"، وكتاب: "قراءة في صحيح البخاري " لمؤلِّف يدعى د. "أحمد صبحي"، فهما كتابانِ متشابهانِ تشابهًا ضخمًا، بل يكادانِ يتطابقانِ، ومع ذلك فقد صَدَر كلٌّ منهما في بلدٍ مختلفٍ والمؤلِّفٍ مختلف. ويَسعى المؤلِّفُ إلى كشفِ بعضِ التناقضاتِ في كتاب "فترة التكوين"، فيلاحِظُ أن كتاب: "شدُّوا الربابةَ بأحوال مجتمع الصحابة - محمد والصحابة"، الذي يحملُ اسمَ خليل عبد الكريم أيضًا، يتَّهمُ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - بأنه كان يَحرِصُ على الاطلاعِ على الكَنزِ المَعرِفيِّ الدينيِّ الثمين، الذي كان في جُعْبةِ سلمانَ الفارسيِّ ليستعينَ به في صناعة القرآن، متسائِلاً: لماذا يحرصُ النبيُّ على ذلك إذا كان ورقةُ وخديجةُ -حَسْبَما جاء في كتاب "فترة

التكوين"- ظلَّا يُعلِّمانِه ويَقرآنِ عليه الكُتبَ الدينية، ويَشرحانِها له، وَيستعيدانِه ما سَمعَ نحوَ خَمْسَةَ عَشَرَ عامًا إلى أن تأكَّد لها أنه قد تمَّت -كما يقول الكتاب- بَرْمَجَتُه بما لَقَّنَّاه إياه، حتى صارَ لا يَخرِمُ منه شيئًا بسبب ذاكرتِه الحديديةِ التي لم يكن يُفِلتُ منها شيء. وفي الصفحة (19) نراه يؤكِّدُ أن تَجربةَ تصنيعِ النبي التي قامت بها خديجةُ وورقةُ لا تَنفِي جانبَها الغَيبي؛ إذ لا تعارُضَ بين الأمرَينِ، لكنه بعدَ قليلٍ يَبني أن الإيمانَ بالخوارقِ والمعجزاتِ التي يُسمِّيها "مخاريقَ وشعبذات"، وهي تَسميةٌ لها دلالتُها المفضوحةُ التي لا تَخفَى على أحدٍ، وهو جُزءٌ من ثقافةِ البيئةِ العربيةِ المتخلِّفة. وزاد فنَفَى في الصفحة (185) أن تكون حادثةُ "الغار" من الخوارق، بل هي نتيجةُ المجهودِ البشريِّ الذي قام به الاثنان. ° والكتابُ يُكرِّرُ أن ورقةَ وخديجةَ قد تعاوَنا إلى أقصى مَدًى بهَدفِ تثقيفِ محمدٍ وقَلْوَظَتِه وصَنْفَرَتهِ وتَلْميعه -كما يقول-، فكيف يتمُّ ذلك إذا كان الكتابُ نفسُه يَذكرُ أن ورقةَ أراد قبلَ ذلك أن يتزوَّجَ خديجة، لكنه لم يوفَّق؛ لأن أخته حاولت أن يعاشِرَها عبد الله -والدُ الرسول عليه السلام- كيما ينتقلَ إليها النورُ المقدَّس، الذي كان في وجهه، فصَدَّها وذَهَب إلى آمِنة زوجته، فعاشَرَها، فحَمَلت منه بالقادم المنتظَر (ص 36)، فكيف يمكنُ أن يَنسَى ورقةُ هذا كلَّه، ويَمُدُّ يدَ التعاونِ إلى خديجةَ ليصنعَ من محمدٍ نبيًّا، رَغمَ أنه نال هو وأختُه على يدِه ويدِ أبيه الهزيمةَ المُذِلَّة؟!. ° وفي مواضعَ عديدةٍ من الكتاب (ص 39، 41، 42، 51، 52،

64، 66، 310)، يقول: "إن خديجة قد جَفَّ رِيقُها وداخت السَّبْعَ دُوخات، حتى وافق إمامُ الأوَّلين والآخِرِين على خِطبتها، وظَلَّت تُحاصرُه إلى أن سَلَّم لها، ورَفَع الرايةَ البيضاءَ بعدَه لمصلحةٍ منه شديدة". ° ثم نراه في موضعٍ آخَرَ يُعدِّدُ الفوارقَ التي تُميِّزُ خديجةَ على محمدٍ في الحَسَبِ والمالِ والخبرةِ والثقافة، ثم يَختمُ قائلاً: "إنَّ محمدًا لم يكن يُصدِّقُ أن خديجةَ ترضَى بالزواج منه" (ص 289). فبأيِّ الكلامَين نأخذ؟ حسبُنا اللهُ ونعم الوكيل. ويَمضي المؤلِّفُ مع مخازِي الكتابِ الأخرى متسائلاً عن فِكرته الأساسية: إذا كانت خديجةُ تؤمنُ بأن هناك نبيًّا قادمًا، فكيف يَخطُرُ في ذهنِها -مجردَ خُطورٍ- أن تقومَ هي بتعليمِه وتدريبِه وتثقيفِه وتوجيهِه، أو حَسْبَ لُغتِه "صَنْفَرَتِه وقَلْوَظَتِه وتلميعِه"؟ كيف يا تُرى لبَشَرٍ عاديٍّ أن يصنعَ نبيًّا؟ وحتى لو جارَينْاه، فهل تَستغرقُ هذه العمليةُ خمسةَ عشَرَ عامًا؟. إن المقصودَ بالتثقيف هنا هو قراءةُ التوراةِ والإنجيل، وشرحُهما له، فما الذي فيهما مما يمكنُ أن يستغرقَ شرحُه وفَهمُه خمسَةَ عَشَر عامًا؟ ولماذا أرادت خديجةُ أصلاً أن تصنعَ نبيًّا ما دام الأمرُ كلُّه تدبيرًا بشريًّا؟ وأيُّ تدبير؟ تدبيرٌ هو إلى التآمُرِ أقربُ منه إلى استقامةِ الخُلُقِ والضمير. ° ويقول الكتاب: إن مكةَ بها أبرشية، وتَعُجُّ بالنصارى، ولم يُورِدْ أيَّ مُصدرٍ لهذا الكلام، وَيردُّ عليه المؤلِّفُ بالقول: إنَّ دائرةَ المعارِفِ الإِسلاميةِ لم تَذكرْ أن مكةَ كان بها كنيسة، كما أن المبشِّرَ "بلابنس" يقول في كتابه: ( Islam Croyances) " إن النصارى المكيِّين كانوا حِفنةً ضئيلةً".

مقتطفات من الكتاب

فما معنى هذه الطنطنةِ بأن كثيرين من بَنِي أسدٍ كانوا نصارى؟. إنَّ الروايات لا تَذكرُ لنا منهم سوى اثنينِ، هما ورقة، وابن عمِّه عثمانُ بن الحُويرث، الذي ذَهَب إلى قيصر، واقتَرح عليه أن يُولِّيَه مكةَ، ففعل، فلما عاد ودعا قومَه إلى النصرانية هَبُّوا في وجهِه على بَكرةِ أبيهم، وطَرَدوه شرَّ طَرْدة، مما يدلُّ على أن هذه الديانةَ لم يكن لها أيُّ أتباعٍ تقريبًا في مكة. ° ويَدَّعي الكتابُ أن خديجةَ - رضي الله عنها - كانت نصرانية، ولم ترضَ أن يتزوَّج عليها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وتخيَّل حِوارًا بين خديجةَ - رضي الله عنها - والرسولِ الأكرمِ - صلى الله عليه وسلم - تقول فيه: "إنَّ ثقافتَنَا الدينيةَ تَحظُره حَظْرًا باتًّا، وماذا يقول بَحِيرَا وورقةُ وعَدَّاس، وناضحٌ ومَيسرة عنِّي؟ " سيقولون: إن ملفِّقَ هذا الكلامِ مُبشِّرٌ رَقيع، وسيقولون: إن لجدِّ خديجةَ وأبيها وأعمامِها -نوفل وحبيب والمطلب- وأخيها العوَّامِ أكثرَ من زوجة، بل إن أخاها العوَّامَ قد خَلَف أباه على إحدى زوجاته. وإذا كانت خديجةُ هي التي صَنعت من محمد نبيًّا، فما العملُ إذا قلنا له: إنَّ عددًا من إخوةِ خديجةَ قد تأخَّروا في الإيمانِ بنبوَّةِ محمدٍ وحاربوه، بل إن بعضَهم مات وهو كافرٌ به؟ ومع هذا لم نَسمع أيًّا منهم يَرفعُ في وجهه - صلى الله عليه وسلم - هذا السلاحَ؟ لماذا لم يُعايِرْه أحدٌ منهم بأن أختَهم هي التي صَنْفَرَتْه وقَلْوَظَته؟. * مقتطفات من الكتاب: ° "إن مرجعيَّته دينيةٌ ذاتُ مَقامٍ محمود، ورُتبةٍ عالية، ودرجةٍ رفيعة

لدى خديجة، أشارت عليها بأنَّ هذا الفتى هو المأمول، وأنه حَتمٌ لازمٌ أن تُباعِلَه لكي تبدأَ معه تَجربةَ التأهيلِ والإعدادِ والتصنيعِ والتحضيرِ والصَّقْلِ والتهيئةِ الضرورية، كيما يَنتقلُ مِن فتًى قُرشيٍّ هاشميٍّ إلى القادم المنتظر" (ص 38). ° "كان الأسى المريرُ على فَقدِ خديجةَ أمرٌ بديهي؛ لأنها الأمُّ الرؤومُ، والوالدةُ الحنون، والزوجةُ الحبيبة التي آزَرَتْه، والتي لولاها لَمَا أكمَلَ التجربةَ حتى نهايتها، وهي التي فَتحت له خزائنَها يَغرِفُ منها كيفما يشاء، وهي التي أتاحت له التماسَّ بالقَسِّ "ورقة" وغيره، مثل: "عداس وبحيرا"، وقضاءِ الليالي الطِّوال مع ابنِ نَوفل في المُدارسةِ والمذاكرة والمحاورة" (ص 95). ° "ولم يَقتصر اعتناقُ بَني أسدٍ للنصرانيةِ على الرجال فقط، بل تعدَّاهم إلى النِّسون، فهناك ثالثٌ أو ثالثةٌ أبناءُ عمِّ الطاهرة الذين يَتنصَّرون وهي قُتيلة أو أُمُّ قتال، وقيل: فاطمة بنت نوفل، أي: أخت ورقة، وهي واحدةٌ من المرأتين اللتين تعرَّضتا لأبي محمدٍ عبدِ الله بنِ عبد المطلب، وهو في طريقه مع أبيه كيما ينكحُ آمنةَ، بعد أن رأتا بين عينيه نورَ النبوة، وله مئةٌ من الإبل" (ص 117). ° "والخلاصة أن الحَلْقةَ الكتابيةَ الخارجيةَ التي رَبطت خديجةُ حَبْلَها بها، وتَشكَّلت من القَسِّ "ورقة" والراهب "عدَّاس" والراهب "سرجيوس"، ومُقدَّمُها الراهب "بحيرا"، قد وَصَلت إلى درجةٍ رفيعةٍ من العِلم بالكتاب، وهذا أمرٌ له دلالة، وهو أن الطاهرةَ شدَّتها صِلةٌ وثيقةٌ، وعلاقةٌ حميمةٌ، وأصِرةٌ متينةٌ برؤوسِ أهلِ الكتاب في مكة والحجاز، وإلَّا لَمَا نَجحت في

إنجازِ التجربة الفذَّة" (ص 143). ° "ابنةُ أبي بكر تلميذةٌ وتابعةٌ ومتلقِّيةٌ، أمَّا سيدةُ نساءِ الدنيا فهي الأمُّ الرؤوم، وهندوز التجربة التي خرج منها "صاحبُ المَغنم" من الفتَى الهاشميِّ الذي طال التشوُّقُ إليه، والذي رَدَّ الاعتبارَ إلى العرب، وصار لهم حاملَ كتابٍ مثل "موسى" بالنسبة لليهود، و"عيسى" عند النصارى، ابنةُ أبي بكر طَفِقَتْ تُناديه بصفةٍ مستمرة: "يا رسول الله"، أما سيِّدةُ نِسوانِ قريش، فلمَّا توجِّهُ إليه خِطابًا تقول: "يا أبا القاسم"، أو "يا محمد"، هي التي تُوجِّهُ وتَطلُبُ إليه، وتُشيرُ عليه، بينما ابنةُ أبي بكر، فعلى العكسِ، هي التي تُلبِّي وتُطيع وتأتمرُ بأمرِه، وتُنفِّذُ وتَسمعُ ... إلخ، وهو الفَرقُ الواضحُ الذي لا يَحتاجُ إلى زكانةٍ لمعرفته أو حتى إلى لَمسِه باليدِ بين خطابِ الهندوز واستجابةِ التلميذة" (ص 154). ° "ووَلَجْنا بوابة التصديق (للمعجزات) لا من بوابةِ المعقولية ومَدخلِ المنطقيَّة، ولكن من طريقِ اتفاقِ المعجزات مع المستوى الحضاريِّ والثقافيِّ والمعرفيِّ والعِلميِّ والإدراكيِّ، ومطابقتِها لخصائصِ مجتمعِهم وبيئتِهم ووسطِهم وتفكيرِهم، مِن هذه المناظيرِ تصبِحُ صحيحةً، بل ونُصدِّقُهم، ونَفهمُ عِلَّةَ تصديقِهم إيَّاها أو قبولِها ممَّن يتفوَّهُ بها، لماذا؟ لأننا قِسناها بمقاييسهم، ووَزَنَّاها بموازينِهم، وكِلناها بمكاييلهم، ونَظَرنا إليها بعيونهم، وعايرْناها بمعاييرهم" (ص 260). ° "مِن الأسباب القويَّةِ التي حالت دُون زواجِ محمدٍ بزوجةٍ أخرى على الطاهرة، هو أنَّ "الثقافةَ الدينيةَ" التي هَيمنت على بَنِي أسدٍ رَهطِ أمِّ هندٍ تُحرِّمُ الجَمْعَ يين بَعْلَتَينِ، كما أنها تُحرِّمُ الطلاق؛ لأن ما رَبَطه الربُّ لا

يَفُكُّه العبد، هذا المَلْحَظُ البالغُ الأهميةُ غاب عن فَطانةِ كلِّ مَن زَبَرَ "نَسَخ" سُطورًا في السيرة المحمدية المِعطار، سواءٌ من القُدامى والمُحدَثين من العرب والأعاجم والفرنج" (ص 278 - 279). ° "ومن ناحيةٍ أخرى فقد ذاق الحِرمانَ، وكابَدَ المَسْغَبة، وكَوَاهُ الفَقر، فلا يَسكنُ رَوعُه مِن هذا الجانب، ويُهدِّئُ بالَه، ويُطَمْئِنُ نفسَه، ويُرِيحُ خاطِرَه سوى أن يوضَعَ المالُ جميعُه بين يديه، ومن ناحيةٍ ثالثةٍ بهدفِ أن يُحكِمَ قبضةَ رِعايتها، وتشدَّ وَثاقَ عنايتِها له، وتُضاعِفَ من لَحظِها إياه، وجُمَّاعُ ذَيَّاكَ كلِّه يؤدِّي إلى سُهولةِ المطاوعة، وُيسرِ المهاوَدة، وسَلَسِ المُوافقة، ممَّا يُوصِّلُ في نهايةِ الأمرِ إلى نجاحِ التجربة" (ص 309). ° "في ليالي مكةَ الطويلة، تُشمِّرُ أمُّ هندٍ عن ساعدها، وتجلسُ إلى ابنها وزوجِها "الأمين"، تقرأُ على مَهَلٍ، وتُطالعُ له بتؤُدةٍ صفحاتٍ من تلك الأبعاضِ والإِصحاحات، وتَشرحُها له بَقدْرِ ما تتَّسعُ ثقافتُها الدينيةُ التي حَصَّلَتْها، كلُّ هذا مع استمرارِه في المَشي في الأسواقِ والسماع والمُحاورَة؛ لأنَّ هذه شعيرةٌ أساسيةٌ قَنواتُها متباينةٌ ودائمةُ الفَيض، وإذا أُشكِلَ عليها أمرٌ، أو التَبَس عليها شأنٌ، أو أعجَزَتْها مسألةٌ هَرَعت إلى اليعسوب "ورقة" تستوضحُه ليفسِّرَ لها ما أُبهِم، وُيبيِّنَ لها ما غَمُض، وَيشرحَ ما خَفِيَ. في تلك المدرسةِ أعطى اليعسوبُ خلاصةَ عِلمِه، وحَشاشةَ معارِفِه، وزُبْدَةَ تحصيلِه إلى "المعصوم" بحضورِ الطاهرة، وخديجة تُنصِتُ وتُلاحِظُ وتُشجِّعُ "بطل التجربة" على مَزيدٍ من التدقيق، ومضاعفةِ التمحيصِ، والإِكثارِ من المراجعة؛ لأنها لم تَكتفِ بإسْداءِ الفَضل الماديِّ (وهو إعفاؤه من لجري وراءَ لُقمةِ العَيش، وإطعامُه الخَمير، وإلباسُه الحرير)، بل

أضافت إليه جَميلاً معنويًّا يَبُزُّه ويفوقه" (ص 330). ° "تأثَّر محمدٌ تأثرًا عميقًا إذن بما قُرئ عليه بمعرفة الطاهرة من الإصحاحاتِ والأبعاض، التي ترجمها "ورقةُ" إلى اللغة العربية، وما حَصَّله قَبلَها وهو يَجُوبُ الأسواقَ من قَصَصِ أنبياءِ بني إسرائيل والرائين (جمع راءٍ من رؤيا)، وما يَسمعونه من أصواتٍ مثل: إشعيا وعاموس" (ص 356). ° "إعلان نجاحِ التجربةِ العُظمى، وبوقوعها حُقَّ لخديجةَ أن تخاطِبَ أهلَ مكةَ بأعلى صوتها: ها هو القادمُ المأمولُ الذي طال انتظارُكم له، وكذا سائرُ عَرَب الجزيرة لتُفاخِروا به اليهودَ، ولتنافِروا به النصارى؛ إذ لم يَعُدْ لأيٍّ منهما فضلٌ عليكم، وسوف يَرفعُ بيمينه كتابًا مِثلَ كُتُبِهم، وستَرَونه رائعًا" (ص 368). ° "والذي نَدرِيه -على وجهِ التحقيق- أنه لا يَغُضُّ من قَدْرِ "الأطيب" أن يأتيَ لقاؤه بجبريل أو ملاك الرب أو الشيء .. إلخ في المنام، وأنه مجرد رؤيا؛ لأن إبراهيمَ أبا الأنبياء رأى مع المنام أنه يَذبحُ ابنَه، ويوسُفُ الجميل المليحُ الذي استأثر بشَطرِ الحسن -وتَرك لسائِرِ البشرِ ذكورًا وإناثًا منذ زمانِه حتى الآن الشطرَ الآخر- رأى عِدَّةَ أحلامٍ نصَّ عليها القرآنُ المجيد، فَضلاً عن أنَّ عددًا من أنبياء بني إسرائيلَ رأى رُؤًى، بل مِن بين هؤلاءِ مَن أَخَذ يُصرِّحُ بأن كلامَ الربِّ الذي يَنقُلُه إلى بني إسرائيل إنما جاء وحيًا مناميًّا، إذن لو دَرَس أولئك الكُتَّابُ المعاصِرون ورجالُ مؤسَّسةِ شؤون التقديسِ نُتَفًا في عِلمِ الأديان المقارَن، أو طَرَفًا من تاريخِ الأديان لَفَقُهوا أنَّ بُدُوَّ المَلاك جبرائيل "إلهي" وهو نَعسانُ في "مغارة حِرى"، أمرٌ لا غُبارَ عليه، ولا يَهبطُ

بُوصةً واحدةً بمقامِهِ العالي ودرجتِه الرفيعة" (389 - 391) (¬1). في ذِمَّةِ العلماءِ هذا كُلُّه ... إن كان فيما بينَنَا علماءُ • قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى لا يَقبِضُ العلمَ انتزاعًا يَنتزِعُه من العِباد، ولكنْ يَقبضُ العلمَ بقَبضِ العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا، اتَّخَذَ الناسُ رؤساء جُهَّالاً، فسُئِلوا، فأفَتوا بغيرِ علمٍ، فضَلُّوا وأضلُّوا" (¬2). • وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ لا يَنزِعُ العِلمَ منكم بعد ما أعطاكموه انتزاعًا، ولكن يَقبِضُ العلماء بعِلمهم، ويَبقى جُهَّالٌ، فيُسألون، فيُفتُون، فيَضِلُّون ويُضِلُّون" (¬3). ° وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: "قُرَّاؤُكم يَذهبون، ويتَّخذُ الناسُ رُؤساءَ جُهَّالاً يَقِيسون الأمورَ برأيهم". ¬

_ (¬1) انظر مجلة "حصاد الفكر" العدد (168) ربيع الأول 1427 هـ - أبريل 2006 م (ص 17 - 24). (¬2) رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي، وابن ماجه عن ابن عمرو. (¬3) حسن: رواه الطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1857).

سلمان رشدي الدجال الهندي المرتد

* سَلمان رُشدي الدَّجَّالُ الهندي المرتدُّ: قِزمٌ حقير وشيطانٌ من شياطين الإِنس، رواية "آيات شيطانية" وهي روايةٌ شيطانية كتبها حَشَّاشٌ في ماخور أُصيب بانفصامِ الشخصية، فصار يتردَّدُ بين القرد والحشاش .. يَسخرُ فيها ذلك المرتدُّ من كلِّ جميلٍ وطاهرٍ ونقيٍّ، ويناصبُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - العَداوةَ في أحقر صُورها. أُقدَّمُ تلخيصًا كاملاً عنه وعن روايته، حتى يَستشعِرَ المسلمون مَدَى جُرمِه في حقِّ الله وأنبيائه ورسله .. واللهُ يعلمُ أني أكتبُ بعضَ فِقراتها والألمُ يَعتصِرُني، والحياءُ والخجلُ يفعلانِ بي ما يَفعلانِ أمامَ قُحَّتِه وفُحشِه وبَذاءَةِ قَلَمِهِ ودَنَسِهِ وحَقَارته. * النشأةُ والخَلْفيَّة: وُلد سلمان رشدي في "بومباي" بالهند سنة 1947 - عام التقسيم وإنشاء الدولتين: الهند وباكستان- من أبٍ هنديٍّ يدعى "أَنيس رشدي"، مرتدٍّ عن الإِسلام، وتلقَّى تعليمَه الأوَّليَّ في إحدى مدارسِ التبشير المنتشرةِ آنذاك في الهند، حيث كان المبشِّرون يُقدِّمون له ولزملائه الطعامَ والكساءَ وغيرَه لاستمالتهم، فشَرِبَ في هذه السِّنِّ المبكِّرةِ كراهيةَ الإِسلام وكلِّ ما يتَّصلُ به .. وهكذا تضافَرَ البيتُ والمدرسةُ في بناءِ شخصيةٍ مهتزَّةٍ، صِلتُها بالإِسلام مجرَّدُ تسميةٍ تُثبت في شهادةِ ميلادٍ أو بطاقةٍ شخصيَّةٍ، وعواملُ انتزاعها من الإِسلام أقوى وأبقى من عواملِ إدخالها فيه. ولمَّا كانت بَلدُهُ تُعاني أزَماتٍ اقتصاديةً بسبب خُضوعها للاستعمار مئاتِ السنين، وأخيرًا بسبب الحرب بين الهند وباكستان، فقد كانت أُسرتُه

ضِمنَ مَن هاجَرَ إلى "إنجلترا" سعيًا للرزق، وهناك التَحَقَ بالتعليم الثانوي، ثم بكليةِ "المَلِك" في جامعة "كمبردج". وبعد تخرُّجه بَحَث عن وظيفةٍ مناسبة هناك فلم يجد، فقرَّر العَودةَ إلى موطنه الأصلي "شِبه القارة الهندية"، ولكنْ هذه المرةَ إلى باكستان، حيث أُتيحت له فرصةُ عملٍ في التليفزيون، بَيْدَ أن رَوائحَ الكفرِ والزندقةِ والطعنِ في الإِسلام بدأت تفوحُ منه، ففُصِل من عملِه، وعاد إلى لندن يجرُّ أذيالَ الخَيبةِ والإحباطِ، بعد أنِ امتلأ قلبُه حِقدًا على الإِسلام والمسلمين، وأخيرًا وَجد عملاً في إحدى وكالاتِ الإعلان، أعطَتْه دخلاً ثابتًا استطاع معه أن يتَّجهَ إلى التأليف الرِّوائي. ° وفي عام 1975 أصدَرَ روايتَه الأولى "جريموس"، وعُمرُه آنَذَاك 28 عامًا، فلم يَلتفتْ إليها أحدٌ، فماتت في مَهدِها، وأصابه لذلك إحباطٌ شديد، ثم تزوَّج بعد ذلك بفتاةٍ إنجليزية تُدعى "كلاريسا لوارد"، وعن طريقِها تعرَّف إلى الناشِرِين، فأصدر روايته "أطفال منتصف الليل"، وَصَف فيها حالَ الأولاد الذين يدخُلون الحياةَ وقلوبُهم خاويةٌ من الإيمان والقِيمَ الأخلاقية، ويأتُون إلى عالَمٍ مَليءٍ بالمتناقضات، ولقد قال عن نفسه: "إنه يُشبِهُ إحدى شخصياتِ هذه الرواية، ففي داخله ثُقْبٌ لم يُبقِ قَطرةً واحدةً من الإيمان عنده. ولقد أثارت روايتُه ضدَّه ضجةً في الهند، إذ كانت تُوجِّهُ نقدًا عنيفًا لسياسة السيدة "أنديرا غاندي" الخاصَّة بتعقيم الرجال، فأَدْلَتْ بتصريحٍ تتوعَّدُ فيه صاحبَ الرواية بتقديمه إلى القضاء. وفي تلك الأثناء مَنَحَته "إنجلترا" جائزة "بُوكر"، وكأنها تَغيظُ الهند

-الدولة المستقلة- والتي كانت يومًا ما إحدى مستعمراتِها. لقد بدأ يطفو على السطح، فها هي روايتُه "أطفال منتصف الليل"، تثيرُ ضَجَّهً في موطنه الأصلي -الهند-، وها هو يُمنحُ عليها جائزةً في موطنِ هِجرته، "إنجلترا". بعد ذلك كَتب روايةً بعنوان "العار"، وانتظر أن يَحصُلَ بها على جائزة "بوكر"، إلَّا أن لجنةَ التحكيم أسقطتها من الفوز. ثم ما لَبِثَ أن طَلَّق زوجتَه الإِنجليزية، وتزوَّج كاتبةً أمريكية اسمها "ماريان ويجينز"، لعلَّها تؤدِّي نفسَ الدَّورَ مع الناشِرِين الأمريكيين. وبالرغم مِن تعرُّفهِ إلى كثير من الناشرين في إنجلترا والولايات المتحدة، وتعرُّفِهم إلى ما تتضمَّنه كتاباتُه من حقدٍ دفينٍ على الإِسلام والمسلمين وتشجيعِهم لاتِّجاهه هذا، إلا أنه ظَلَّ مغمورًا، بعيدًا عن أضواءِ الشهرةِ العالَمية التي كان يَحلُمُ بها (¬1). ° ثم كانت روايته "آيات شيطانية"، التي تجرَّد فيها من كلِّ حياء، وقَذَف بنفسِه عاريًا أمامَ الجميع، في مستنقعات الكفرِ والفجورِ والأكاذيب، فعَبَثَ بكلِّ المقدَّسات، ومِن بينِها المقدَّسات المشتركةُ بين اليهود والمسيحيين والمسلمين: "إبراهيم خليل الله"، أبو الأنبياء، والأبُ الروحي لأصحاب الديانات الثلاث، كما عَبَثَ بملائكةِ الله في السماء، وعلى رأسهم "جبريل" أمينِ الوحي وأمينِ العَرش، إضافةً -بطبيعة الحال- إلى عَبَثهِ بمقدَّسات الإِسلام. ¬

_ (¬1) "آيات سماوية" للدكتور شمس الدين الفاسي (ص 11 - 14).

عاصفة كان يمكن تفاديها

° لقد انتهى هذا الدجالُ الهنديُّ من تأليفِ روايته الشيطانية هذه في سنة 1988، ونَشَرَتْها له دار "فايكنج برس"، وظَلَّتْ راقدةً في المكتبات لا تتحرَّك، ولا تمتدُّ إليها يَدُ قارئ، ثم ما لَبِثت دار "فايكنح برس" أن تخلَّصت منها، فباعتها إلى دار "بنجوين"، وبقي الحالُ كما هو عليه من رُكودِ تلك السِّلعة البائرة، إلى أن تنبَّه المسلمون إلى ما فيها من فُحشٍ وأكاذيب، وتعريضٍ فاجرٍ بمقدَّساتِ الإِسلامِ والمسلمين، فتحرَّكوا لوقفها، لكنَّ المتآمِرِين كانوا يتوقَّعون هذا، فحَشَدوا طاقاتِ إعلامِهم لإثارةِ الغربِ المسيحيِّ كلِّه ضدَّ الإِسلام والمسلمين، وخاطَبوا وُجدانَه وما استقرَّ فيه من كراهيةٍ وعِداءٍ دفين، فانطَمَستِ الأبصارُ وعَمِيَتِ البصائر. ° وفي هذا الجوِّ المشحون، فَقَد العقلُ سلطانه، وتحوَّل المجرمُ الحقيقي "سلمان رشدي" إلى ضحيةٍ بريئة، ووقف الغربُ جميعًا يُعلِنُ حمايتَه تحتَ شِعارٍ برَّاق، استُخدم بخداع، هو "حماية حقوق الإنسان"، ومن بينها "حقُّه في حرية التعبير"!!. * عاصفةٌ كان يُمكنُ تفاديها: عندما صَدَر الكتابُ في بريطانيا، حاوَلَتِ اللجنةُ المتحرِّكةُ للشؤون الإِسلامية هناك اللجوءَ إلى القضاء الإِنجليزي للاحتكام ضدَّ الرواية، فاتَّضح لها أن القانونَ الإِنجليزي يَحِمي فقط المذهبَ المسيحي الإنجليكاني، فحاوَلَتِ اللجنةُ بعد ذلك مفاوضةَ الناشرِ على أساسِ أن يَكتبَ على غلافِ الرواية عبارة: "هذا الكتاب يُسيءُ إلى الإِسلام" كالعبارات التي تُكتب على السجايرِ وتُحذِّرُ من التدخين .. ولكنَّ الناشرَ رفض!!.

وأمامَ المعارضةِ الإِسلامية، قرَّرت إحدى دُورِ النشرِ البريطانية مَنحَ ْالكتابِ جائزةً أدبيةً، وإخراجَه في طبعةٍ شعبية، عندئذٍ قامت المؤتمراتُ الشعبيةُ الإِسلامية بمناقشةِ الحل الأمثل لمواجهةِ هذا التحدِّي، فتوجَّهوا إلى أسقُفِ إحدى الكنائسِ بمدينة "برادفورد"، وقام مجلس مساجد برادفورد بتقديم احتجاجٍ إلى الأسقُف، وطالبوه بأنْ يستخدمَ نُفوذَه ويُناشِدَ الحكومةَ البريطانيةَ وناشِرِي الكتابِ عدمَ نَشْرِه، ولكنْ لا جَدوى .. فقامت الجماهيرُ الإِسلامية بشراءِ الكتاب من الأسواق وأحرَقَتْه، ولكنَّ المطابعَ في استطاعتها أن تُنتجَ المزيد. فقام سكرتير اتحاد المنظَّمات الإِسلامية في لندن بتوجيهِ خطابٍ إلى السيدة رئيسةِ مجلسِ الوزراء، يدعوها فيه "من منطلقِ الحرصِ على المقدَّسات الدينية" إلى الأمرِ من موقِعها كمسؤولٍ رئيسيٍّ "باتخاذ إجراءاتٍ قانونيةٍ ضدَّ الرواية ومؤلِّفها". ثم قام سُفراءُ كلٍّ من باكستان وقَطَر والصومال بتقديم طَلَبٍ إلى وزارةٍ الداخلية البريطانية، يطالِبون فيه باتِّخاذ إجراءٍ حاسم نحو الرواية. ° وأخيرًا جاء إعلانٌ من القصر الملكي: "أنَّ الكتابَ لا يَعرِضُ لعَمَلٍ يعاقَبُ عليه"!!. ° ثم أعلن وزيرُ الداخلية بيانًا جاء فيه: "إن الحكومةَ لا تَنوِي إحداثَ تغييرٍ في قانونِ الطعنِ في المقدَّسات الذي يتعلَّقُ فقط بالديانة المسيحية". وأمامَ التعَّصب "الديمقراطي"! انفجرتِ المشاعرُ الإِسلاميةُ التي لم يَستطعِ الشيطانُ تلجيمَها، انفجرت أولاً في بريطانيا، فسارت المظاهراتُ

تُطالِبُ باتخاذِ موقفٍ حاسم ضدَّ "آيات شيطانية" (¬1)، ثم انفجرت بعد ذلك في العالَم كلِّه، ثم توالت رُدودُ الأفعالِ من كِلا الجانبين. ° لقد كان بالإِمكان تفادِي هذه العاصفةِ التي أَحدثت -حتى الآن- تصدُّعًا خطيرًا في علاقاتِ المسلمين بالغرب المسيحي، بعد أن أظهرت قضيةُ "الدجَّال الهندي" أن صليبيَّته العمياءَ في نهايةِ القرن العشرين لا تزالُ كما كانت في نهايةِ القرنِ الحادي عَشَر، وكان بإمكان بريطانيا أن تعالجَ الموقفَ بحكمةِ الساسةِ المتمرِّسين، وذلك بإعادة النظرِ في قانونِ الطعنِ في المقدَّسات، بجَعلِه يتضمَّنُ حمايةَ اليهوديةِ والمذاهبِ المسيحيةِ الأخرى مثل "الكثلكة والأرثوذكسية"، إضافة إلى الإِسلام، بدلاً مِن قَصْرهِ على المذهبِ الإِنجليكاني فقط، وما كان هذا العملُ -لو تمَّ- إلَّا لِيحظَى بتقديرٍ عالَمِيٍّ، باعتبارِه برهانًا على تأكيدِ حريةِ المعتقدات، ووسيلةً فعَّالةً للتعايُشِ السِّلميِّ بين أصحابِ الأديان. ° لكنَّ الحكومةَ الخفيَّةَ لا تَرضى بذلك، وهي تُمسِكُ بيدِها خيوطَ دُمًى كثيرةٍ تُحرِّكُها كيفما تشاء .. وكان أنِ ازداد الموقفُ اشتعالاً .. فنُشِرت إعلاناتٌ مدفوعةَ الأجرِ شَغَلت مساحاتٍ كبيرةً من الصحف العالمية، وظَهَرت حملةٌ واسعةٌ من التحقيقات الصحفية واستطلاعاتِ الرأي، وقامت محطَّاتُ التليفزيون بالدَّقِّ على حواسِّ المشاهدين، وكلُّها تسيرُ في خطٍّ واحدٍ، هو "إثارة الغربُ ضدَّ الإِسلام والمسلمين"، وبَلَغت إحدى مَوجاتِ الإثارة قِمَّتَها حين قام بعضُ طلبةِ جامعةٍ في "النمسا" بعَقدِ نَدوةٍ، ¬

_ (¬1) "سلمان رشدي شيطان الغرب" سعيد أيوب (ص 86، 87).

هي في حقيقتها "قُدَّاسُ صلاةٍ مسيحيٌّ"، تُليت فيه فَقراتٌ من كتابِ ذلك "الدجَّال الهندي" .. سبحان الله!!. ° كأن الغربَ قد عَثُرَ على إنجيلٍ مخفيٍّ، جاء به ذلك "الدجَّال المنتظر"، كما سَبق أن عَثُر على بعضِ أسفارِ الكتابِ المقدَّس جنوبَ البحرِ الميِّت عام 1947 م. لقد بَلَغَ الاستفزازُ داه، وخاصةً عندما تتحدَّثُ الصحفُ والإذاعاتُ العالَمية -وعلى رأسها هيئةُ الإذاعةِ لبريطانية التي توجِّهُ إذاعاتِها خصيصًا إلى العالَم الإِسلامي-، فتَصِفُ ذلك "الدجَّال" باسم: "الكاتب المسلم سلمان رشدي"!!. مَن -يا تُرى- ذلك الكاتبُ الأُسطوريُّ، الذي حَظِيَ فجأةً باهتمام الغرب والعالَم، وصار حديثَ كلِّ لسان، كأنه ظاهرةٌ غيرُ مألوفةٍ أو مرضٌ خطير -كالإِيدز- لم تَعرِفْه البشريَّةُ مِن قبل؟! فلم يَحدُثْ أنِ اصطَدَمَتْ عينايَ في أيٍّ مِن مكتباتِ لندن على مجرَّد ورقةٍ تحملُ هذا الاسم، ولم يَخدِشْ بَصَري أيُّ مُلصَقٍ من إعلاناتِ الحائط يَحملُ ولو نِصفَ اسمه .. وها هي قائماتُ الكتب التي تُصدِرُها دَوْريًّا بعضُ دُورِ النشر، تَصِلُني تِباعًا، ولا يوجدُ في أيٍّ منها ذِكرٌ لهذا النكرة!!. هنالك، صَدَرت عن "إيران" فتوًى تُبيحُ إهدارِ دمِ مؤلِّف رواية "آيات شيطانية"، فتلقَّفها رؤوسُ الفتنة في الغرب، واستطاعوا تصعيدَ المواجهة من مستوى الأفرادِ والهيئاتِ إلى مستوى العمل السياسيِّ الرسمي، فانعقد المجلسُ الوَزاريُّ للسُّوق الأوربية المشتركة في اجتماعٍ غيرِ عاديٍّ، وأدانَ إيرانَ بعنف، وقرَّر سَحبَ سُفراءِ دُوَلِه من طَهران، وفَرَض عقوباتٍ عليها،

وقد عَلَّق وزيرُ خارجية أسبانيا على هذا الموقف الجماعي الأوربي، بقوله: "إنها أولُ مرة -في حدودِ علمي-، التي تُعرِبُ فيها المجموعةُ الأوربيةُ عن غَضَبها على هذا النحو"!. ° وفي "أوتاوا" رَفَض سفراءُ 25 دولةً إسلاميةً طَلَبًا من "كندا" بإدانة إيران، كما رَفَضت الحكومةُ الكندية -في نفسِ الوقت- طلبًا من السفراءِ المسلمين بمَنْعِ تداوُلِ الكتاب أو ادخالِه إلى كندا. ° وفي "واشنطن"، تعهَّد المدَّعي العامُّ الأمريكي، أمامَ عددٍ من ناشري الكتب، باستخدامِ كلِّ الوسائلِ الممكنةِ لوقفِ الجهودِ الرامية إلى مَنعِ نشرِ الكتاب في أمريكا. ° وأصدر البرلمان الألماني بيانًا جاء فيه: "إن إعلانَ الإمام الخُميني عن قتلِ سلمان رشدي هو بمثابةِ إعلانِ الحرب على القِيَم الغربية". ° وفي لندن -مسرح المؤامرة-، وقَّع 34 عضوًا من مجلسِ العموم على مشروعِ قرارٍ يَحُثُّ الحكومةَ على ضمانِ سلامةِ رشدي. ° ووصفت السيدة "مارجريت تاتشر" -رئيسة الوزراء- فتوى إيران بأنها تهجُمُ على حريةِ الكلمة التي هي من الحريَّات الأساسيةِ للإِنسان. لقد اختلطت الأوراقُ تمامًا، وهذا ما يريدُه المتآمرون. ° ولقد حَوَّل الغربُ صِدامَه السياسيَّ مع إيران إلى صدامٍ مع الإِسلام والمسلمين، وأستهانَ بمشاعر 1000 مليون مسلم، بينهم 50 مليونًا في إيران، ولا أدلَّ عن مدى التخبُّطِ السياسيِّ الذي وقعت فيه دُول الجماعة الأوربية من أنها بدأت تُعيدُ سفراءَها إلى إيران بعد أسابيعَ من سَحبِهم،

"مقاطع شيطانية"

ودون أيِّ تغييرٍ في الموقفِ الإيراني، سواءٌ بالتراجع عن الفتوى أو حتى بإدخال تعديلٍ عليها. * "مقاطعُ شيطانية": هذه هي الروايةُ الرابعة في سلسلة إنتاج "الدجال الهندي" سلمان رشدي لهذا النوع من الروايات الخيالية، وهذا يعني أننا أمامَ عملٍ لا علاقةَ له بالدراسات العلميَّةِ الجادَّةِ التي تقومُ على المنطقِ والبرهان واستجلاءِ الحقائق وتقريرِها، وكَشْفِ الشبهاتِ ودَحْضِ الأكاذيب. تبدأُ الرواية بإهداء: "إلى ماريان"، زوجتِه الأمريكية الثانية التي تزوَجها بعدَ طلاقِ زوجته الإِنجليزية "كلاريسا"، وقد عُرف عن "ماريان" هذه أنها كاتبةٌ مُلحِدة، تهاجمُ الأديان -ومِن بينها المسيحية-. ° وتتكوَّنُ الروايةُ من تِسعةِ فصول: الأول، باسم: "المَلَك جبريل"، وهذا يعطِي انطباعًا مبدئيًّا للقارئ أنه بصددِ قراءة شيءٍ عن الوحي والدين .. ويتحقَّقُ توقُّعُ القارئِ، حيث يأتي: الفصل الثاني مباشرةً باسم: "ماهوند"، وهو ما كانت تُنادِي به أوروبا عصورِ الظلام، النبيَّ محمدًا، بعد أن اخترعه رجالُ الكنيسة والكتاب والشعراء، تحقيرًا وإهانةً! ثم تتعاقبُ الفصول: الثالث باسم: "الودين ديووين". والرابع: "عائشة"!. والخامس: "مدينة مرئية لكن مخفية". والسادس: "عودة إلى الجاهلية"!.

والسابع: "المَلَك عزرائيل". والثامن: "شق بحر العرب". والتاسع: "مصباح عجيب". ° وقد أُلحقت صفحة شُكر -رقم 549 - في آخِرِ الرواية، حسب طبعة فايكنج 1989، يتحدَّثُ فيها المؤلِّفُ عن اقتباساتٍ مِن بعض تراجم معاني القرآن، فيعترفُ بأن تلك الاقتباساتِ إنما هي "تركيبة" من مجموعةٍ من أعمالِ المترجِمين السابقين مثل: "داود" ومولانا "محمد علي" وغيرهما، إلا أن أخطرَ ما في الموضوع هو اعترافُه بإحداث تغييراتٍ من عنده. وهو يَذكُرُ في تلك الصفحة مجموعةً من الروايات التي اقتَبس منها وكانت مصدَرَ إلهامٍ له، إلَّا أنه يُقِرُّ باعترافٍ خطير آخَرَ، جاء في آخِرِ سطرين، يقول فيه: "أرجو أن تكونَ هُوِيَّةُ كثيرٍ من المؤلِّفين الذين تعلَّمتُ منهم واضحةً من خلالِ النصِّ .. أمَّا هُوِيَّةُ الآخرِين فيجبُ أن تبقى غُفْلاً". ° ويلاحقُه هنا سؤال: لماذا أغفَلَ ذِكرَ أسماءِ هؤلاء؟!. إن الإجابة المنطقية، التي تتبادرُ إلى الذهن، هي أنهم شركاؤه في المؤامرة. ولقد حَدَث ما هو متوقَّعٌ من اعتراف "الدجَّال الهندي" بالعبث بتراجم القرآن، فهو يقتبسُ آياتٍ من سورة النجم -التي زَعَم كالزنادقةِ السابقين أن النبيَّ أضاف إليها عبارتَين شيطانيَّتَينِ تَمدَحُ آلهةَ المشركين-، ثم هو يَعبَثُ بصيغةِ الآيات المقتبسَة، فُيحوِّل بعضَها من صيغةِ الضمير الثالث "المفرد الغائب" إلى صيغة الضمير الأول "المفرد المتكلم"، وبذلك يوحِي للقارئ بأن القرآن من عَمَل محمدٍ، لكنه -في تزويره هذا- نَسِيَ -ككلِّ مجرمٍ- أن

يُحكِمَ جريمته، فجاء الجزءُ الأول من الآياتِ المقتَبَسة بصيغةِ الضميرِ الثالث، بينما تلاه الجزءُ المحرَّفُ بصيغةِ الضمير الأول. * فآيات سورة "النجم" تقول: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم: 1 - 12]. ° لقد استبدل الدجال كلمة "الثريا" مكان كلمة "النجم"، واستمر يستخدمُ هذه الصيغةَ إلى أن انتَقل إلى الصيغة الأخرى بكلامٍ وضعه على لسانِ النبيِّ يقول فيه: "ولقد رأيتُه مرة أخرى، عند سِدرةِ المنتهى، عندها جنةُ المأوى، إذ يَغشى السدرةَ ما يَغشى، ما زاغ بصرِي وما طَغَى، لقد رأيتُ من آياتِ الربِّ الكبرى" (¬1). فخالف بذلك جميعَ التراجم المعروفة والتي أشار إلى بعضِها مثل: "داود، وبكتال، وعلي" أن القرآنَ لا يُورِد صيغةَ المتكلِّم المفردِ على لسانِ النبيِّ إلا مسبوقة بكلمة: "قل"، مثل قول الله -سبحانه- لنبيه: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ ¬

_ (¬1) I saw him. also at the lote tree of the uttermost end, near which lies the Garden of Repose. When that tree was covered by its covering my eye was mot averted, neither did my gaze wander; and I saw some of the greatest signs of the Lord.

أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 14]. {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110]. ولقد وردت كلمة: "قل"، في القرآن 332 مرة، في آياته التي تبلغ 6236 آية. نحن -إذن- نتعامل مع خائنٍ غيرِ مؤتَمَنٍ على أيسرِ الأمانات، "أمانة النقل". ° "ما هذا النبيُّ إلَّا رسولُ الله إلى الناس، يُبلِّغُهم رسالاتِ ربِّهم، ويَنقُلُ إليهم كلماتِه، فيكون مُحدِّثَهم الأمينَ باسم الله، تحقيقًا لِمَا تنبَّأتْ به التوراةُ، وحيًا من الله لموسى، في قوله: "أُقيمُ لهم نبيًّا من وسط إخوتِهم، مِثْلَك، وأجعلُ كلامي في فمِه، فيُكَلمُهم بكلِّ ما أُوصيه به. ويكونُ أن الإِنسانَ الذي لا يَسمعُ لكلامي الذي يتكلَّمُ به باسمي، أنا أطالبه" - (تثنية 18: 18 - 19). ° لم يَقُلِ الله: "أقيم لهم إلهًا، أو ابن الله"، لكنه قال: "أقيمُ لهم نبيًّا" مثلَ موسى من بين إخوة بني إسرائيلَ بنِ إسحاق، أي: من العرب بني إسماعيل أخي إسحاق، مهمَّتُه الأساسيةُ نَقلُ كلام الله إلى الناس، ومَن لا يسمعُ لذلك الكلام -الذى يقرؤه عليهم قرآنًا- فإن الرب ينتقمُ منه". إن الأمرَ واضحٌ تمامًا، لكنَّ القومَ يصِمُّون الآذان، ويُغمِضون العيون. ° بعد ذلك، تبدأ أولُ سطورِ الرواية بحديثٍ عن عقيدةٍ هندوكية تُعرف باسم "تناسخ الأرواح"، أي الموتُ والولادةُ مرةً ثانية، أو تكرارُ

الولادة، ويَحدُثُ ذلك -حسبَ ظنِّ مَن يعتقدون في هذا- بعدَ موتِ الإنسان، فيَبْلَى جَسدُه، أمَّا رُوحُه، فتعودُ إلى الحياةِ متقمِّصةً جسدًا جديدًا، قد يكونُ إنسانًا أو حيوانًا، أو حشرة، فتبدأُ الروحُ بذلك دَورةَ حياةٍ جديدةٍ. إن استخدامَ هذه الفكرةِ يَسمحُ باللعبِ بالأشخاص والأزمنة، فتتداخلُ الأحداثُ، وتختلطُ الصورُ والأوراق، ويُتركُ القارئُ متحيِّرًا، أو واقعًا تحتَ إيحاءاتِه، فهو -بهذا- يَهربُ من الجديَّة والموضوعية التي تتطلَّبُهما الدراسات العِلمية، وَيجنحُ إلى روايةٍ يُفرغُ فيها سُمومَه وخيالاتِه، فيَعبثُ بالحقائقِ المعروفة، ويُزيِّفُ التاريخَ كما يشاء، ويَتركُ القارئَ -بذلك- يسبحُ في هواء. وفي الفصل الأول: "المَلَك جبريل"، نجدُ "الدجَّالَ" يخلعُ اسمَه على مواطنٍ هندي أسماه: "جبريل فارشتا"، الذي يذهبُ من "بومباي" إلى لندن، ومعه على نَفسِ الطائرة مواطنٌ آخَرُ هو "صلادين شمشا"، والذين تَقعُ بهما الطائرة في القنال الإِنجليزي، ثم يَنجُوانِ من الموت بمعجزة، فيصابُ جبريلُ بانفصامِ الشخصية. ويَحلُمُ جبريلُ، ويَحلُمُ كثيرًا، ويَبُثُّ أحلامَه إلى "ماهوند" -في الفصل الثاني-، فيَربطُ الوحيَ إلى نبيِّ الجاهلية بذلك التزييفِ المستمَدِّ من فكرة "تناسخ الأرواح". ° لقد عَمَدَ هذا المحتالُ -كما قال بحقٍّ الناقد "سامي خشبة"- إلى أن: "يَضَعَ ثقافتَه الخاصَّة مكانَ ثقافةِ كلِّ شخصياته، ويَضَعَ فِكرَه وعَقْله الخاصَّينِ، مكانَ فِكرِ كلِّ شخصياتِه وعقولها .. والمؤلِّفُ يسوقُ أفكارَه

سَوقًا، من وراءِ شخصياته التي تبدو كالأقنعةِ أو المشْجَبِ حاملِ الأفكار، نحوَ هدفٍ محدَّدٍ هو: إلى أيِّ اتِّجاهٍ ينبغي -ويُمكِنُ للمسلمين الذين يُخاطبُهم في الغربِ أو في أوطانهم- أن يتَّخذوه .. لقد لَمْلَمَ سلمان رشدي كتابه "آيات شيطانية"، من ثلاثِ قَصَصٍ طويلةٍ لا يَربطُ بينها رابطٌ ما، ووزَّع فصولَ القَصصِ الثلاثِ توزيعًا اعتباطيًّا تقريبًا .. أما "رشدي"، المتواضعُ الموهبةِ، والفاقدُ الإِيمانِ بشيءٍ أو بعقيدةٍ محدَّدةٍ، فإنه عَجَزَ عن أن يُقيمَ من أكوام خيالاتِه ومعلوماتِه وتأليفاته، وما نَقَله عن المصادِرِ المختلفةِ وألبَسَه كِساءً خياليًّا رديئًا ومفتَعلاً، عَجَز عن أن يقيمَ من كلِّ ذلك بِناءً فنيًّا موحَّدًا، ليس فقط لضَعفِ موهبته، وإنما لأنه أراد أن يَجمعَ بين ما لا يَجتمعُ، وهو: تصوُّرُه الذاتي عن تجربةِ اغترابِ المثقَّفِ الشرقيِّ "الهندي" عن هُوِيَّةِ أُمَّتِه، وعن تجارِبِ المسلمين المغترِبين في أوروبا "لندن"، أو المُقيمين في وطنهم "بومباي" .. ثم مجموعةِ الأكاذيب والمخترَعاتِ والإهانات -التي ألَّفَ بعضها بنفسه-، والتي وجَّهها إلى الإِسلام وكتابِه ورسوله .. ويَضمَنُ السيد "رشدي" أن يستمرَّ خَلط الأوراقِ بلا نهاية، عندما يَستخدمُ لتسميةِ الأشياء والظواهر، أسماءَ متناقضةً لحقيقةِ الأشياء والظواهر، حتى يتحقَّقَ التشويشُ المطلوبُ على الحُلولِ العلميَّةِ الحقيقية، والحلول التي تسعى إليها الشعوبُ الآن -في الشرقِ والغربِ على السواء، بصرفِ النظرِ عن جهودِ البرابرة المعاصِرِين عندهم وعندنا-، الحلولُ التي تتلخَّصُ في الديمقراطية والعقلانية اللتين تَحفظَانِ لكلِّ شعبٍ، ولكل طائفةٍ من شَعبٍ، الحقَّ في سِماته -أو سيماتِها الخاصة- في إطارِ ثقافةٍ إنسانيةٍ عامة، وثقافاتٍ قوميةٍ متمايزة، مستنيرةٍ ومثقَّفةٍ بحقيقتها وبحقائق الثقافاتِ

الأمكنة والأشخاص

الأخرى، ومتخلِّصةٍ من تعصُّباتها المتهوِّسة، ومن الرغبة في تلويثِ ثقافاتِ الآخَرِينَ وتدنيسِ مقدَّساتهم، ومتخلِّصةٍ من الرغبة في استخدامِ الإِبداع لنَصبِ الفِخَاخِ وإشعالِ الحرائق" (¬1). * الأمكنة والأشخاص: "ماهوند": يتيم، سريعُ الخُطى، يتسلَّقُ الجَبَلَ الحارَّ في الحجاز ليبقى هناك شهرًا في وِحدته، إذا نُطق اسمُه صحيحًا فإنه يعني: ذلك الذي يجبُ أن يُخَصَّ بالحمد، لكنه يأخذ اسم "ماهوند"، مرادفًا لاسم الشيطان! (ص 93). بهذا يتحدَّث الدجالُ عن محمدِ بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -. "الجاهلية": بُنيت كلُّها من الرمال، ويأتي ماؤُها من مجارٍ وينابيعَ جوفية، واحدةٌ منها تسمَّى "زمزم"، وتقعُ في قلبِ المدينة، ملاصقةٌ بيتَ "الحَجَرِ الأسود"، وفي هذه المدينة يؤسِّس "ماهوند" واحدةً من أكبرِ دياناتِ العالَم، ويَهمِسُ صوتٌ في أُذنه: "أيُّ نوعٍ من الإنكار أنت؟ إنسانٌ أم فأرٌ؟! " (ص 94، 95). "فالجاهليةُ" تعني "مكة". "يثرب": واحةٌ في شمالِ مدينةِ الجاهلية، تتمتَّعُ بجوٍّ رَطْبٍ، انتقل إليها المهاجرون أتباع عقيدةِ الإِسلام الجديدة (ص 363). "أتباع ماهوند في مدينة الجاهلية": كان من أوائلهم: "خالدٌ سَقَّاءُ الماء الحقير، ثم ذلك المتسكِّعُ من فارس ويَحملُ اسمًا غريبًا: سلمان، ولتكملة ¬

_ (¬1) صحيفة "الأهرام" في 26/ 5، 2/ 6/ 1989.

هذا الثلاثيِّ من حُثالةِ المجتمع، هناك العبدُ بلالٌ الذي حرَّره محمد، ثم حمزة عمه" (ص 95، 101). "أعداء ماهوند في مدينة الجاهلية": "أبو سِمبل"، سيِّد الجاهلية، وزُوجُ "هند" الجميلة الرهيبة، وكانت عشيرةُ هندٍ تتحكَّمُ في معبد "أللات" وتتلقَّى عائداتِ مَعْبَدَي "مناة والعُزَّى" .. كما كان "بعل" خادمًا لـ "أللات" وشاعرَ هجاءٍ مشهور .. وكان "أبو سمبل" ديُّوثًا، يَعلمُ أن "بعل" عشيقٌ لزوجِهِ "هند"، التي كانت شديدةَ النهم الجنسيِّ، حتى أنها ضاجَعَت كلَّ مؤلِّفي مدينة الجاهلية! (ص 96، 100، 361). "فأبو سمبل" يعني: "أبا سفيان"، وأما "بعل" شاعر الهجاء، فهو اختراعٌ من الدجال. "الحجاب": جَعَل "الحجاب" اسمًا لأشهرِ ماخُورٍ في مدينة الجاهلية، له فناءٌ واسعٌ تُحيطُ به غُرَفُ الجِنس. ° "كم زوجةً؟ اثنتا عَشْرة، وسيِّدةٌ عجوز تُوفِّيت منذ زمنٍ بعيد .. وكم مُومِسٍ في الماخور؟ اثنتا عَشْرة! .. وكانت المؤمسُ "عائشةُ"، ذاتُ الخمسةَ عَشَرَ عامًا، أكثرَ العاملات رواجًا، تمامًا كما كانت سَمِيَّتُها مع "ماهوند" .. وكانت أكبَرُهُنَّ سنًّا المومسُ البدينةُ "سودة"، وكان لها زُوَّارٌ كثيرون .. أما المومس "حفصة"، فكانت حادَّةَ الطبعِ مِثلَ سَمِيَّتها .. وكان الماخور مرآةً للجماعاتِ السياسية في مسجد يثرب، فكان هناك -مثلاً- تحالُفٌ بين "عائشة وحفصة" ضدَّ "أم سلمة" المخزومية "ورَمْلة بنتِ أبي سمبل"، وكان هناك "زينب بنت جحش"

الألفاظ والتراكيب

و"جويرية" و"صفية" و"ميمونة"، ثم أكثَرُهنَّ إثارةً للشهوة الجنسيَّة، الفاتنةُ المصرية "مارية القبطية"، التي رَفَضَتْ أن تُعلِّمَ "عائشة" ألاعيبَها. وعندما فكَّرت المومساتُ في مُستقبلِهِنَّ، رأَيْنَ أنْ يكونَ لهنَّ زوجٌ صُوريٌّ هو "بعل" .. وفي هذا الوكرِ الداعرِ أصبح "بعلٌ" زوجًا لنساءِ رجلِ الأعمال السابق، "ماهوند"! " (ص 376، 380، 383). لقد كَبْكَبَ الدجَّالُ على وجهه، وعَبَثَ بعقولِ قُرَّائِه، كعادته في طولِ الرواية وعَرْضِها، فبعدَ أن انتحلَّ لمؤمساتِ ماخوره أسماءَ زوجاتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، إذا به يعود بفُجْرِه المعهود، فيَجعلُ مِن "بعل" "زوجًا لنساءِ "ماهوند"، بدلاً مِن أن يحترمَ قُرَّاءَهَ، ولو مرةً واحدة، فيقول: "زوجًا لسميات نساء ماهوند"!. ° {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} [هود: 18 - 22]. * الألفاظُ والتراكيب: تمتلئُ هذه الرواية الشيطانيةُ بأقذرِ الألفاظِ وأشدِّها فُحشًا. وأغلبُها مما يتداولُه الزناةُ مع المومسات في المواخير من مسميَّاتٍ وأوصاف. ونذكر فيما يلي بعضًا منها، نُشير إلى اللفظِ المبتذَلِ بحرفٍ أو حَرفين منه، مما يتداوله

السِّفْلةُ من الناس: - فرج المرأة: "كـ"، والجمع: "أكـ". ° يتحدَّثُ الدجَّالُ عن أصغرِ مومسٍ في الماخور فيقول: "قبلَ تكميمِ أصغرِ الـ أكـ، صَرَخت قائلة ... " (¬1). - ممارسة الجنس: ن كـ. ° قال أبو سمبل "أبو سفيان" لتابعه شاعِرِ الهجاء "بعل": "أيها القَوَّاد! أنا أعلمُ أنك .. ن كـ امرأتي" (¬2)!. ° وصل خطابٌ لمحمود يقول: "يا آكِلَ الخِراء! إنك .. ن كـ امرأتي" (¬3). ° ويقول جبريل: "أحلام ن كـ الأمهات سببُ كلِّ البلاءِ للجنسِ البشري .. " (¬4). ° وفي مدينة الجاهلية: "كان كلُّ الحديثِ منصبًّا على الـ ن كـ والمال" (¬5). ° ولقد امتلأت الروايةُ بالشتائم القذرة، بَدءً من صفحاتِها الأولى حتى صفحاتها الأخيرة، مثل: "ابن الزنا" .. "أبناء الزنا" (¬6). ° وامتلأت الرواية بتعابيرَ مُقزِّزة، لا تَخرجُ إلا من نَفسٍ قَذِرة تَسبحُ ¬

_ (¬1) ( before the youngest cunt wus gagged, she yelled ... ) (P.389) (¬2) (Pimpl - I know you fuck my wife (P.100 (¬3) (shit - eater, you're fucking my woman) (P.207) (¬4) (Mother - fucking dreams, cause of all the trouble in the human race..) (P.122) (¬5) (al the talk was of fucking and money) (P.408) (¬6) (Bastard.) .. (Bastards.) (PP.3,8.. 95, 105, 116, 367, 376)

دائمًا بفكرِها في المراحيضِ وأماكنِ القاذورات، ففي حديث "الأم الهندية" المسلمة لابنها، قالت له: "لا تَصِرْ قَذِرًا مثل أولئك الإِنجليز، فهم يمسحُون استاههم بورقٍ فقط" (ص 39). ° فردَّ عليها الابنُ المنبهر: "إن ما تقولينَه يا أمي لا يمكنُ تصديقه، إن إنجلترا حضارة عظيمة، وما تقولينه هُراء". ° "وكان يُسيئُه كثيرًا أن يقارَنَ بطفلٍ يَبولُ على نفسه" .. (ص 47). ° وَيعبثُ الدجَّالُ الهنديُّ بعقولِ قُرَّائه، فيستخدمُ أساليبَ ركيكةً هازلةً كأنه يَحكي قصةً للأطفال قبلَ النوم، فيقول: "كان ما كان في قديم الزمان .. " (ص 143). ° ولَمَّا كان مؤلِّفًا رديئًا، فاقدَ المواهب، كان مَثَلُه كمَثَلِ تلميذٍ خائبٍ تعلَّمَ جُملةً واحدةً مفيدةً، كانت كلَّ زادِهِ، فما انْفَكَّ يستخدمُها في كلِّ المناسباتِ دون تمييز. ° ولَمَّا كانت عبارةُ "ألف ليلة وليلة"، ذاتُ مذاقٍ خاصٍّ، فقد تَشبَّثَ بها، وبَدأَ يَستنسخُ صُورًا منها بلا وَعيٍ أو حساب، فيقول: " .. بسبب طَيشه الذي مارسَه ألفَ مرةٍ ومرة" (ص 26). ° "وفكَّر ألفَ مرةٍ ومرة .. " (ص 370). ° "وبعد مئةِ يومٍ ويوم .. " (ص 85). ° ومِثلُ ذلك، حَجمُ أوعيتِه الزمنية التي تؤكِّدُ، حقًّا، أنه كاتبٌ مُمِلٌّ هزيل، فهو يقول في صفحة (ص 392): "ولم تَرَ مخلوقًا حيًّا آخَرَ، طيلةَ سنتين وشهرين .. ".

تزييف الحقائق واختلاق الأكاذيب

° ثم يكرِّرُ ذلك في نفسِ الصفحة: "وبَقِيَتْ مدةَ سنتين وشهرين .. ". ° ويقول أيضًا: "وبعد مرورِ سنتين ويومًا واحدًا من بَدءِ "بعل" لحياتِه في ماخور الحجاب .. " (ص 385). هذا بعضُ العار الذي ألحقه ذلك الكاتبُ التافهُ بلغةِ قومِ شكسبير وبالأدب الإِنجليزي عامة، وبجامعةِ "كمبردج" التي يقال: إنه تخرَّج منها، على وجهِ الخصوص!. * تزييفُ الحقائقِ واختلاقُ الأكاذيب: ذلك دَأْبُ الدجالِ الهنديِّ في روايته الشيطانية .. والحديثُ في هذا يَطُول، نكتفي منه بعَرض أمثلةٍ محدودة، لهذا وذاك. أولاً - فمِن حقائق التاريخ الإِسلامي: 1 - أن "خالدًا" كان بَطَل المشركين في معركةِ "أُحد" التي وقعت في السنة الثالثة من الهجرة، وانهزم فيها المسلمون، وأُصيب فيها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وشُجَّ في وجهه، لقد كان ذلك بعد الهجرة إلى المدينة، حيث كان خالدٌ ما زال على شِركه، ولم يُسلِمْ خالدٌ إلا في السَّنةِ السابعة من الهجرة، بعد عُمرةِ القضاء، حيث تَرَك مكةَ وذهب إلى المدينة يُعلِنُ إسلامَه إمام النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. 2 - أن "حمزة" كان بَطَلَ المسلمين في معركة "بدر الكبرى" التي وقعت في السنة الثانية من الهجرة، حيث انتصر المسلمون، وقُتل فيها عتبةُ ابن ربيعة -والدُ هندٍ امرأةِ أبي سفيان "أبي سمبل في الرواية"- كما قُتل في بدر الوليدُ بن عتبة -أخو هند- وشيبةُ عمُّها.

فمن جهالات الدجال الهندي

3 - أن "سلمانَ الفارسيَّ" كان قد تعرَّضَ لعمليةِ اختطافٍ بِيْع على أثرِها ليهوديٍّ من بني قُريظة بالمدينة، فلما قَدم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ وسمعَ به سلمان، أسلم على يديه، وقد أعانه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وصحابتُه على تحريرِ رقبته، فأمَدُّوه بالمالِ الذي أَعْتَق به نفسَه بعد سنينَ من إسلامه، وكان الرِّقُّ قد حَبَسه عن حضورِ "بدرٍ وأُحد"، فكانت غزوةُ "الأحزاب" أولَ مشاهِدِه، حيث أشار بحَفرِ الخندق، وكان ذلك في السَّنة الخامسة من الهجرة، وقد عاش مُسلِمًا كريمًا، وتُوفِّي مسلمًا كريمًا بـ "المدائن" في خلافةِ "عثمان". ولقد اتَّخذ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - في مكةَ كَتَبَةً يكتبون الوحيَ قبلَ إسلامِ سلمانَ بأكثرَ من 15 سنة، كما استمرُّوا يكتبون له بـ "المدينة"، ويَزيدُ عددُهم على 20 كاتبًا، ليس منهم سلمان. فما كان سلمانُ الفارسيُّ يومًا ما من كَتَبَةِ القرآن!!. ° لكنَّ الكاتبَ الجهول "سلمان رشدي"، ما كان له إلا أن يُزِيِّفَ تاريخًا يجهلُه، فلو احتَرَم نفسَه مرةً واحدةً، أو احتَرَم قُرَّاءَه، لَقرأَ شيئًا عن تاريخِ صَدرِ الإِسلام لِيستعينَ به على حَبْكِ روايته. * فمِن جهالاتِ الدجَّال الهندي: 1 - أن "خالدًا وسلمان" كانوا من أوائلِ المسلمين بمكة "مدينة الجاهلية"، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك. 2 - وأن "حمزة" قَتل أخا هندٍ في مكةَ عندما هاجمِ هذا الأخيرَ مع زملاءَ له كُلاًّ من خالدٍ وسلمان وبلال، فأنقذ حمزةُ إخوتَه المسلمين من موتٍ محقق (ص 118).

تزييفه لحقائق الإسلام والتاريخ

3 - وأن "سلمان" كان الكاتبَ الرسميَّ للنبي - صلى الله عليه وسلم - (ص 365). 4 - وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد اشترى "بلالاً" وأعتقه (ص 101، 102)، والصحيحُ أن أبا بكر - رضي الله عنه - هو الذي اشتَراه وأعتقه. 5 - وأنه عَقِبَ موتِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، خَرَجَت عائشةُ من حُجرتها تقول: "من كان قد عَبَدَ الرسول، فليحزَنوا؛ لأن ماهوند "محمد" مات، ومَن كان يعبدُ اللهَ، فليبتهِجوا؛ لأنه حيٌّ لا يموت" (ص 394). ° ثم يُردِفُ الدَّجالُ، بعد ذلك قائلاً: "لقد كان هذا نهايةَ الحُلم"، "حلم جبريل بموت محمد" (ص 393). ° والحقيقةُ أن أبا بكر - رضي الله عنه - هو الذي قال عَقِبَ موت الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أيها الناس، إن مَن كان يعبدُ محمدًا، فإنَّ محمدًا قد مات، ومَن كان يَعبدُ اللهَ فإن اللهَ حيٌّ لا يموت"، ثم تلا قولَه -تعالى- في القرآن: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]. * تزييفُه لحقائقِ الإِسلام والتاريخ: زَيَّف هذا الدجَّالُ الهنديُّ حقائق الإِسلام والتاريخ .. وبدأ يوجِّه سِهامَه إلى حقيقةِ الإِسلام الخالدة: "توحيد الله -عز وجل-"، وخاب إفكُه وما افترى، فاسمع إلى دَجَلِه وكَذِبِه في حكايته لقصةِ "الغرانيق" التي نَسَفَها حُفَّاظُ الحديثِ ورجالُه، وفي عصرِنا هذا كتبَ مُحدِّثُ ديارِ الشام "الألباني" - رحمه الله - "نصب المجانيق لنسفِ قصةِ الغرانيق" .. فتعالَ معي:

صفقة مزعومة بين النبي وأبي سفيان!

* صفقة مزعومة بين النبي وأبي سفيان!: ° يبدأُ الدجَّالُ هذا الجزءَ من روايته الشيطانية بقول أبي سمبل "أبي سفيان" لأحدِ خِصيانه: "أرسِلْ رسولاً إلى بيتِ الكاهن "ماهوند"، سوف نُجرِي له اختبارًا بسيطًا، مباراةً عادلة: ثلاثةٌ ضدُّ واحد". ° يتغيَّب "ماهوند" على أصحابه: حمزة وخالد وبلال وسلمان، فيَقْلَقون عليه، وعندما يعودُ إليهم يُبادِرُه حمزةُ بقوله: "يا ابن أخي، هذا شيءٌ ملعون! عندما تنزلُ من الجَبَل يكون حولَك نورٌ ساطع، أما اليوم، فيوجد شيءٌ مُظلم"! ثم يجلس "ماهوند" على حافَّةِ بئرِ "زمزم" ويبتسمُ قائلاً: "لقد عُرضت عليَّ صفقة .. فيصيح خالد: مِن أبو سمبل؟ إن هذا شيءٌ لا يُتصوَّر! ارفُضْها .. يستأنف "ماهوند" قائلاً: إنه أمرٌ تافهٌ، حَبَّةُ رملٍ صغيرة، فأبو سمبل يَسألُ اللهَ أنه يَمنحَه امتيازًا واحدًا صغيرًا". ° يرى حمزةُ أثَرَ الإجهاد عليه، كما لو كان قد صارع شيطانًا، ويَصرُخ السَّقاء "خالد" قائلاً: "لا شيء! ولا ذَرَّةً واحدة! " يستأنفُ "ماهوند" قائلاً: "إذا كان إلهُنا العظيمُ قد وَجَد في قلبِه أنه إذا تمَّ التسليمُ بأن ثلاثةً -ثلاثةً فقط من بين ثلاثِمِئةٍ وستِّينَ صَنَمًا في البيت- هي التي تَستحقُّ العبادة" .. وهناك يَصيحُ بلالٌ: "لا إله إلا الله"! ويشاركه زملاؤه في القول: يا الله!. ° ويستأنف "ماهوند": "إنه يطلبُ موافقةَ الله على: أللات والعزى ومناة، في مقابل ذلك يُعطِي الضمانَ بالتسامح الديني، بل وبالاعترافِ بنا رسميًّا، ويكون الدليلُ على مِصداقيةِ الصفقةِ أن أُنْتَخَبَ عُضوًا في مجلس

الجاهلية "دار الندوة" .. هذا هو العَرْض". ° ويبدأُ التعليقُ من أصحابه، فيقول له سلمانُ الفارسي: "إنها مَصيدة! طِيلةَ كم من الزمنِ ونحن نتلو شهادةَ الإيمان الذي جِئتَنا به وهو: لا إله إلا الله؟! كيف يكونُ حالُنا عندما تتخلَّى عن ذلك الآن؟! ". ° ويقول "حمزة" في قلق: "إنك لم تهتمَّ بآرائهم مِن قبلُ، فلماذا تهتمُّ بها الآن؟! ولماذا تهتمُّ بها بعد الحديث مع "أبي سمبل"؟! ". ° فيجيب "ماهوند": "إنكم تعلمون واقعَ الأمر: لقد فَشِلنا في اكتسابِ مؤمنين، إن الناسَ لن يتخلَّوا عن آلهتهم". ثم ينهضُ مبتعِدًا عنهم، يغتسل في زمزم للصلاة. ° ويستأنفُ المناقشةَ بعد الصلاة قائلاً: "ليس المُقتَرَحُ أن يَقْبَلَ اللهُ المعبوداتِ الثلاثَ كُفُوًا له .. أن يُعطَوا فقط نوعًا من الواسطة .. وضعًا أقلَّ". ° وهنا يقول له "حمزة": "يا ابنَ أخي، اصعَدِ الجَبَل، واسأل جبريل" .. ويصعد "ماهوند" الجبل ويسأل جبريل: "هل يُمكنُ أن نُسمِّي "أللات ومَناةَ والعُزَّى" ملائكةً؟ هل لك أخواتٌ يا جبريل؟ هل هُنَّ بناتُ الله"؟ (ص 104 - 111). لقد عاد الرسول، لم يذهب هذه المرة إلى زمزم، إنه يَدخلُ خَيمةَ الشِّعر "التي يتبارَى فيها شعراءُ الجاهلية"، حيث يَجلسُ "أبو سمبل" سيِّدُ قومِه أعلى المِنَصَّة، وما إن يرى "ماهوند" حتى ينهضَ قائلاً له: "مرحبًا! مرحبًا ماهوند العرَّافُ والكاهن! ".

° ثم يبدأ "ماهوند" حديثَه قائلاً: "هذا تَجَمُّعٌ لشعراءَ كثيرين، ولستُ أزعمُ أني واحدٌ منهم، لكني رسولٌ آتي بآياتٍ من الواحد الأعظم. فيقول له أبو سمبل: إذا كان إلهك قد كَلَّمك حقًّا، فيجبُ أن يَستمعَ إليه كلُّ الناس .. ثم يَسُودُ صمتٌ يقطعُه ماهوند قائلاً: بسم الله الرحمن الرحيم، والثريَّا إذا هَوَت، ما ضَلَّ صاحبكم وما غوى، وما يَنطِقُ عن الهوى، إنْ هو إلَّا وحيٌ يوحى، عَلَّمه شديدُ القوى، ذو مِرَّةٍ فاستوى، وهو بالأُفق الأعلى، ثم دنا فتدلَّى، فكان قاب قوسَين أو أدنى، فأوحى إلى عَبدِه ما أوحى، ما كَذَب الفؤادُ ما رأى، أفتُمارُونه على ما يرى، ولقد رأيتُه مرةً أخرى، عند سِدرةِ المنتهى، عندها جنَّةُ المأوى، إذ يغَشَى السِّدرةَ ما يَغشى، ما زاغ بَصَرِي وما طَغى، لقد رأيتُ من آياتِ الربِّ الكبرى". ° وعند هذا الحدِّ، وبلا أدنى تردُّدٍ أو ارتياب، يتلو "ماهوند" مقطَعَينِ آخَرَين: "أفرأيتم اللاتَ والعُزَّى. ومَناةَ الثالثةَ الأخرى. هُنَّ الطيورُ العُلا. وإن شفاعَتَهُنَّ تُرتَجَى" (¬1). ° وعندئذٍ تُسمَعُ صيحاتٌ وهُتافٌ وصلواتٌ للمعبودة: "أللات" .. ويهتف "أبو سمبل": "الله أكبر"! ثم يسجد بعدها، وتتبعُه زوجُه "هند" .. ويسجدُ الحاضرون جميعًا بين يَدَيِ النبيِّ الذي اعترف بالآلهة التي تَحمِي مدينة الجاهلية"! (ص 113 - 115). ° وهكذا، يَعبثُ الدجَّالُ الهنديُّ بواحدةٍ من أكبرِ دِياناتِ العالَم، ديانةِ التوحيد النَّقِيِّ الذي هو سَمتُها المميَّز .. يأتي هذا المَسْخُ محاولاً أن ¬

_ (¬1) ( They are the exalted birds, and their intercession is desired indeed)

إيمانه بتوحيد الله وانشغاله بالعدالة

يُهاجمَها في أقوى حُصونها مَنَعَةً، وأشدِّ مداخِلِها صَرامةً .. ولكن هيهات هيهات!. لقد حدث في المؤتمر الثاني للحوار الإِسلامي المسيحي، الذي عُقد في قرطبة عام 1977، أن ألقى الكاردينال "ترانكون" رئيس أساقفة أسبانيا كلمة الافتتاح، وقال فيها: "إني -كأسقف- أَوَدُّ أن أنصحَ المؤمنين المسيحيين بنسيان الماضي، كما يريدُ المَجمعُ البابوي منهم، وأن يُعرِبوا عن احترامهم لنبيِّ الإِسلام .. إن هذا شيءٌ هامٌّ جدًّا بالنسبة للمسيحيِّ، إذ كيف يستطيعُ أن يُقدِّرَ الإِسلامَ والمسلمين دون تقديرِ نبيِّهم، والقِيَمُ التي بَثَّها ولا يَزالُ يبثُّها في حياةِ أتباعه؟. لن أُحاوِلَ هنا تِعدادَ قِيَمِ نبيِّ الإِسلام الرئيسية: الدينيةِ منها والإنسانيةِ، فليست هذه مهمتي، وسوف يُلقيها عليكم الأخصائيون واللاهوتيون المسيحيون بالمؤتمر .. غير أني أُريدُ أن أُبرِزَ جانبَينِ إيجابيَّينِ -ضمنَ جوانب أخرى عديدة- وهما: * إِيمانُه بتوحيدِ الله وانشغالُه بالعدالة: - أما إيمانه بالله الأحد، فهو سِمةُ حياته، إنها أهمُّ عقيدةٍ تَرَكها لأُمَّتِه. - وأمَّا دعوتُه إلى العدالة مع شَتَّى التطبيقات الدينية والاجتماعية، فهي ما تزال قائمةً .. بَيْدَ أنِّي أَوَدُّ أن أَخُصَّ بالذِّكر دعوتَه إلى سواسيةِ الناس، رجالاً ونساء، وإلى تحقيق العدالة بينهم". ° إنها واحدة من مشاكلِ البشرية عَبْرَ العصور، أن يوجَدَ أقزامٌ يتطاوَلون على عَمالقةِ الحقِّ والخيرِ والجمال.

النبي في غرفة نوم هند!

° ولقد كان من سُوءِ حظِّ البشرية أنْ أُعطِيَ هؤلاء -وأمثالُهم من صِغارِ النفوس- حظوظًا من مُختلَفِ الإِمكانات، فاستخدَموها في الهدم والتخريب .. لقد تحقَّق فيهم المَثَلُ الذي ضَرَبه المسيح "مثل الكلاب والخنازير"، حين عَلَّم الناس قائلاً: "لا تُعطُوا القُدْس للكلاب، ولا تَطرحوا دُرَرَكم قُدَّامَ الخنازير لئلَّا تدوسَها بأرجلِها وتلتفتَ فتمزِّقَكم" (متى: 6: 7). * النبيُّ في غرفة نوم هند!: ° يتخيَّلُ الدجَّالُ الهنديُّ أن "هند" زوجةَ أبي سفيان "أبي سمبل" عَثُرت على "ماهوند" ملقًى في أحدِ شوارع مكة "مدينة الجاهلية"، فنَقَلَه خَدَمُها إلى غُرفتها، وهناك استردَّ وَعْيَه، وفي هذا يقول: "يستيقظ النبيُّ بين مِلاءاتٍ من الحرير، وهو يُعانِي من صُداعٍ عنيف، في غُرفةٍ لم يَرَها مِن قبلُ .. ثم لا يَلبثُ أن يَتعرَّفَ على صوتِ هند، فينهضُ وقد وَجَد نفسه عاريًا تحتَ ملاءة، فيناديها قائلاً: هل تعرَّضتُ لهجوم؟ .. تُصفِّقُ هند بيديها، فيأتي الخَدَمُ بطعامِ الإفطار، ويرتدي النبيُّ جِلبابًا من الحرير .. تَسخَرُ منه هندٌ قائلة: أيها الرسول! .. يا له من رسولٍ لا يُغازِلُ النساء! أمَا كان في مَقدُورِك الحضور إلى غُرفتي بإرادتك، وأنت في كامل وَعيك؟ بالطبع، كلا، إني متأكدةٌ أني كنتُ طَردتُك .. يسألها النبيُّ: هل أنا سجين؟ فتضحكُ منه مرةً أخرى قائلة: لا تكنْ أحمق .. ثم تهزُّ كتفَيها استهزاءً وتقول له: كنتُ أتجوَّل ليلةَ أمس، وقد ارتديتُ قِناعًا، في شوارع المدينة، لأشاهدَ المهرجان، وما كان إلَّا أن تعثَّرتُ في جسدك فاقدِ الوعي، مِثلَ سكران سقط في بالُوعة، يا ماهوند! لقد أرسلتُ خَدَمي بحَمَّالةٍ

لإحضارك إلى بيتي، فلْتَقُل لي: "شكرًا". فقال لها: شكرًا .. ثم يتذكَّرُ ما حدث ويقول: لقد أُغمِيَ عليَّ. تأتي هند، وتجلسُ على السرير قريبةً منه، وتَمدُّ إصبَعَها في فَتحةِ الجلباب، وتَضربُ صَدرَه، ثم تُتمتم: أُغمي عليك! هذا ضَعفٌ يا ماهوند .. هل ضَعُفتَ؟ ثم تُردِفُ قائلةً له: أنا زوجةُ سيِّد قومه، وكلانا -أنا وهو- لسنا من أصدقائك، إن زوجي رجلٌ ضعيف، يعلمُ أنَّ لي عُشَّاقًا ولا يَفعلُ شيئًا، وذلك لأنَّ رِعايةَ بيوتِ العبادة في أُسرتي: "أللات والعزى ومناة". وتُقدِّمُ هندٌ للنبيِّ مكعَّباتٍ من البِطيخ، محاوِلةً إطعامَه بأصابعها، لكنه يرفضُ إطعامَها له، ويتناولُ البِطيخَ بنفسه. ثم تستطردُ قائلةً: "بَعل" هو آخِرُ عُشَّاقي .. وهنا تلمحُ الغَيظَ في وجهه .. وتقول له: لا بعل ولا أبو سمبل كفءٌ لك، أنا فقط .. أنا عَدلُك وأنا خَصمُك .. ثم تقتربُ منه واضعةً وجهها أقربَ ما يكون منه، وتقول: إذا كنتَ أنت نائبًا عن الله، فأنا نائبة عن أللات، وهي لن تؤمنَ بإلهِك عندما يَعترفُ بها، إن معارضَتَها له عنيدةٌ ونهائيةٌ للحرب بيننا، لا تنتهي بهُدنة -ويا لها من هُدنة!! - إنَّ إلهَك رَبٌّ متعالٍ، ولا يُوجد لدى أللات أقلُّ رغبةٍ في أن تكونَ ابنتَه، إنها كفءٌ له كما أني كفءٌ لك. عندئذٍ يسألها ماهوند: وبِناءً على ذلك، هو يَخونُ سيِّدُ قومِه عهدَه؟ وتجيبُ هند: مَن يدري؟ إنه ضعيف كما أخبرتُك، لكني أَصدُقُكَ القول: لا يمكن أن يوجَد سلامٌ بين الله وهذه الثلاث، أنا لا أُريد ذلك، أريدُ القتالَ حتى الموت، هذا ما أنا عليه .. ثم يرحل النبي" (ص 119 - 121).

عَبَثٌ ما بعده عَبَث، وفجورٌ ما بعده فجور (¬1). وغدًا: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]. ° ولله دَرُّ أحمد يسري حين يقولُ في قصيدته "سلمان والشيطان": تَبَّتْ يَداكَ أبا لَهَبْ ... قُتِل الكِتابُ ومَن كتَبْ يُوحِي لك الشيطانُ ... بالأفكارِ في صُوَرِ الأدبْ يَضَعُ الكمامةَ فوقَ ... عَينيك يا لَسُوءِ المُنقَلَبْ ويَقودُ خَطوَكَ باعوجاجٍ ... كي تُشارِكَه اللَّهَبْ قَدَحَ الشَّرارَ بعينِهِ ... ورَمَى خيالَك بالشُّهُبْ طافَ البلادَ فلمْ يَجِدْ ... إلَّاك مُخْتَلَّ العَصَبْ لا شكَّ أنك عندَه ... في الخَلقِ أدنى الرُّتَبْ سلمانُ، لا سَلِمَتْ يَداك ... ولا سَلِمْتَ منَ العَطَبْ وَخلَعْتَ دينَكَ ضَلَّةً ... وخَنِسْتَ تَرْقُبُ عن كثَبْ وهَجَرْتَ أًرْضَكَ مُفلِسًا ... تسعى فيُبلِيكَ الجَرَبْ أيقَنْتَ أنَّ محمدًا ... يُفدَى بأُمٍّ أو بأبْ ورأيتَ فيه نَموذجًا ... للخيرِ في كلِّ الحِقَبْ وإلى ديانةِ أحمدٍ ... قد كنتَ يومًا تَنتسبْ فتَمكَّنَ الشيطاَنُ منكَ ... مِنَ الدِّماغ إلى الذَّنَبْ وتَطاوَلَ القَلَمُ اللعينُ ... وراح يَسْكُبُ ما سَكَبْ ¬

_ (¬1) مختصر من كتاب "تعدد نساء الأنبياء، ومكانة المرأة في اليهودية والمسيحية والإِسلام" للواء أحمد عبد الوهاب (389 - 407)، ومن (ص 455 - 468) مكتبة وهبة - القاهرة.

مفتريات على سلمان الفارسي

أتُراكَ تَعلُو بالسِّبابِ؟ ... إذنْ فإبليسُ السَّبَبْ قد خاض قَلبَكَ عُصبةٌ ... وعليهمُ حَقٌّ وَجَبْ مُتْ كلَّ يومٍ مرةً ... وذُقِ العذابَ المُرتَقَبْ فكتابُكَ المنشورُ يُبعَثُ ... يومَ نَشْرِكَ بالغَضَبْ ويَسوءُ وجهَك لا الصُّراخُ ... يَقِيكَ منهُ ولا النَّصَبْ لا تَشترِي حَرَسًا هنالِكَ ... أو تُساوِمْ بالذَّهَبْ فبكلِّ حرفٍ في الكتابِ ... عذابُ دَهرٍ تَكتَسِبْ وبقَدْرِ ما انتسَخوه يُسلَخُ ... جِلدُ وَجهِكَ باللَّهَبْ ورفيقُك الشيطانُ يَرمي ... تحت رِجْلِكَ بالحطبْ يَتبرَّأُ الشيطانُ مِنك ... ومِن عذابك لَم تُجَبْ ذُقْ ما جَنَتْ كفَّاكَ، لا ... تجني من الشوكِ العِنَبْ سلمانُ والشيطانُ ضلاَّ ... واستشاطا في الغضبْ تَعِسَ الرِّفاقُ ومَن يناصِرُهم ... ويُجْمِلُ في الطلبْ * مفتريات على سلمان الفارسي: ° يتخيل الدجَّالُ مشهدًا حَدَث في غُرفة "بعل" -شاعر الهجاء، وتابع أبي سمبل "أبي سفيان" وزوجه هند-، فيقول: "عاد "بعل" إلى غرفته الحقيرة، فوجد فيها شخصًا مُقنَّعًا عاجَلَه بضَربةٍ أَدمَتْه، ثم بدأ بعدَها حوارٌ بينهما كشف أثناءَه المقنَّعُ وجهَه، فبانت شخصيته: إنه سلمان الفارسي! .. قال سلمانُ لبعل: ماهوند قادم. فارتعد بعل وقال له: إنك واحدٌ من أقربِ صَحابته. فرد سلمانُ: كلَّما كنتَ أقربَ إلى المُشَعْوِذِ، كلَّما سَهُل عليك

كشفُ ألاعِيبه"! (ص 362 - 363). ° ثم يقول الدجَّال: "وحَلُم جبريل بهذا: ظهر جبريلُ للنبيِّ وسط أشجارِ نخيل الواحة "يثرب"، ووجد نفسَه يتدفَقُ بتشريعات تشريعات .. بدأ سلمانُ يشكو لبعل ويقول: الوحيُ -القرآن- عَلَّم المؤمنَ مِقدارَ ما يأكلُه، وأن الأوضاعَ الجنسيةَ بين الرجل والمرأة كلُّها مقبولةٌ، عدا أن تكونَ المرأةُ فوق الرجل!. ولقد حدَّد كبيرُ الملائكة -جبريلُ- الطريقةَ التي تُوزَّعُ بها ثروةُ المتوفَّى، حتى إن سلمانَ بدأ يتساءل: أيُّ إلهٍ هذا الذي يبدو كرجلِ أعمال؟! .. وكان ذلك بدايةَ الفكرةِ التي حَطَّمت إيمانَه"! (ص 364). ° "ونظرًا لتعليم سلمانَ الراقي، فقد صار هو الكاتبَ الرسميَّ لماهوند، ومِن ثمَّ صار هو المسؤولَ عن كتابةِ تلك التشريعاتِ المتكاثرة .. وتكلَّم سلمانُ عن حَثِّه النبيَّ على حَفْرِ خندقٍ كبيرٍ حولَ الواحة "يثرب". وبعد هزيمةِ الجاهليين، قال سلمانُ لبعل برِثاءٍ: أين التكريمُ الشعبيُّ لي؟! أين اعترافُ ماهوند لي بالجميل؟! لماذا لم يَذكُرْني كبيرُ الملائكة في رسائله؟! ولا لفظةً واحدة؟!. ثم اشتكى سلمانُ لبعلٍ من أنَّ وَحْيَ جبريل كان ينزلُ مؤكِّدًا المواقفَ والتشريعاتِ التي يتَّخذُها ماهوند، ولذا بدأ يشُمُّ رائحةً كريهة .. بعد ذلك أخرج سلمانُ زجاجةَ مُسكِرٍ حارٍّ من عباءته، وبدأ هو وبعل يَعُبَّانِ منها عبًّا .. " (ص 365). ° وقال سلمان لبعل: "إن هذا الرجل -ماهوند- ساحر، لم يَقدِرْ أحدٌ على مقاومةِ إغرائه .. وعلى أيِّ حالٍ -قالها سلمانُ وهو يتجرَّعُ بقيةَ [الزجاجة]-

قرَّرتُ أن أختبرَه. فعندما جلس تحت قَدَمَي محمد ليكتبَ له الوحي، بدأ يُغيِّرُه خِلسةً .. لم يلاحظ ماهوند هذه التغييرات، وبهذا بدأتُ أُلَوِّثُ كلمةَ الله بكلماتي الدنسة!. بعد ذلك عَرفتُ أن أيامي في "يثرب" صارت معدودة، فرحلتُ عنها قبلَ الفجر على جَمَلٍ .. ولم يَعُد يُهِمُّني أن أرتبطَ ثانيةً بمدينةِ الجاهلية "مكة" .. إن ماهوند سيعودُ إليها منتصرًا، وأنا أعلمُ أني سأفقدُ حياتي .. " (ص 367 - 368). ° "بعد أن فَتَحَ ماهوند مدينة الجاهلية، وأمر بتطهيرِ بيتِ الحَجَرِ الأسود من أصنام الجاهلية -360 صنمًا-، جاء الناسُ إليه يُسلِّمون وُيعلنون: "لا إله إلا الله"، همس ماهوند في أُذُن خالد: شخصٌ واحدٌ لم يأتِ لِيركعَ أمامي، سلمانُ، ألم تَجِدوه؟!. وفي اليوم التالي، يُسحَب سلمانُ إلى حَضرةِ النبيِّ، يُمسِكُه خالدٌ من أُذُنه، وقد مَدَّ سِكِّينًا على رَقَبته، ويُحضِرُه باكيًا متشنِّجًا: وجدتُه أخيرًا مع مومسٍ تصرخُ في وجهه لأنه لم يَدفعْ أُجرتَها، وها هي رائحتُه نَتِنَةٌ من الخمر. "سلمان الفارسي"! قالها النبيُّ في بداية نُطقِه بالحُكم بإعدامه، لكنْ هذا الأسيرُ يصَرخُ بصوتٍ عال: "لا إله إلا اللهَ"! فيَهُزُّ ماهوند رأسَه قائلاً: إن تحريفَك يا سلمان لا يمكنُ غُفرانُه: أنْ تَضَعَ كلمتَك بَدَلَ كلمةَ الله! يُقسِمُ سلمان على تجديدِ إخلاصه للنبيِّ، ثم يَهمِسُ إليه باسمِ بعل "وشاية" .. وهنا يتدخل بلال لصالحه، فيعفو عنه النبيُّ. عندئذ يذهبُ خالدٌ للبحث عن بعل: من بيتٍ إلى بيت .. " (ص 374 - 375).

وماذا عن الماخور؟!

ذلك من مُفتَرَيات الدجَّالِ الهنديِّ سلمان رشدي على الصحابي التقيِّ سلمان الفارسي، لا لسببٍ إلَّا لكونه ينتسبُ إلى فارس "إيران الحديثة" التي اصطدمت بالغَرب كثيرًا بعد سقوط الشاه، إضافةً لتلك اللعبة الاستعمارية القديمة التي تَعمل على تفتيتِ المسلمين تحت مسمَّيات مختلفة مثل: "عَرَب وعَجَم، سُنَّة وشيعة، وسَلَفية وصوفية .. "، فجاء هذا المَسخُ من تشويهٍ لحقائقِ الإِسلام وعَبثٍ بتاريخه، خَلْطًا للأوراق وجَعْلَها في خدمةِ السياسة، التي تُعنَى بلغة ميكيافيلي "السفالة والانتهازية". وقبل ذلك وبعده، تأتي مفترياتُ هذا الدجَّال على أمين الوحي "جبريل"، وعلى خاتم الأنبياء "محمد رسول الله"، فيَسوقُها بلا حساب .. ولقد غَرَّته نفسُه فاستكبر، وطَفِقَ يَسخرُ منهما ومن قول: "لا إله إلا الله"! لقد كَذَبَ وظَلَمَ وأَجْرَم، والحقُّ والعدلُ والتاريخُ يشهدون على أنه لا جريمةَ بغير عقاب. ° إن له بُشرَى في القرآن، نَزُفُّها إليه وإلى أشياعِه الذين يُظاهِرونه، بُشرَى تقول فيه وفي أمثالِه من مَسْخِ البشر الذين يتكرَّرون عبر التاريخ: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الصافات: 33 - 39]. * وماذا عن الماخور؟!: ° يَفترى الدَّجالُ كعادته، فيقول عن "مكة" بعد أن فَتَحها النبيُّ،

ودَخَل المكيُّون في الإِسلام: "عاد ماهوند إلى يثرب مع زوجاته، تاركًا المدينة "الجاهلية" تحتَ إمرةِ قائدِ جيشِه خالد .. فمنذ مُدَّةٍ فكَّر ماهوند في أمرِ خالد بإغلاقِ مواخير الجاهلية، إلَّا أنَّ "أبو سمبل" نَصَحه بألَّا يُقدِمَ على مِثل هذا الإجراءِ المتهوِّر، فَلَفَت نَظرَه إلى أن الجاهليين حديثو عهدٍ بالإِسلام: "فلتأخذِ الأمورَ بتأنٍّ" .. ونظرًا لأنَّ ماهوند يُعتبر أكثرَ الأنبياءِ واقعيةً، فقد وافق على فترةٍ انتقالية. ولهذا، اندفع الجاهليون إلى ماخورِ الحِجاب، في غيابِ النبيِّ "في يثرب" .. ولأسبابٍ واضحةٍ لم يكن من الكَيَاسة أنْ يقفَ رُوَّادُ الماخور في صفٍّ طويلٍ في الشارع، وإنما كانوا يَلتفُّون حولَ نافورةِ الغرام، في الفِناء الداخليِّ للماخور، يطوفون حولَها، كما يطوفُ الحُجَّاجُ -لأسبابٍ أخرى- حولَ الحَجَرِ الأسود القديم .. كان كلُّ رُوَّادِ الماخور لابِسِي أقنعةَّ، وكان بعل "الزوج الصوري لمومسات الماخور" يُراقبُهم من أعلى. وبعد مرور سنتَينِ ويَومٍ واحِدٍ من ممارسةِ بعلٍ لحياته الجديدة "ديوثًا"، إذا بأحدِ زبائِن "عائشة" يتعرَّفُ عليه على الرغم من تنكُّره، قائلاً: "إذَنْ، هذا هو المكانُ الذي آواك"! لقد كان هذا سلمانَ الفارسيَّ، الذي دعاه بعل -عَقِبَ ذلك- إلى رُكنٍ، وقَدَّم له زجاجةً من النَّبيذ .. قال سلمانُ: "لقد جئتُ إلى هنا، لأني تاركٌ نهائيًّا هذه المدينةَ اللعينة، ولهذا أردت أن أستمتعَ بلحظةٍ من المتعة بعد كلِّ تلك السنين الخَرَّاء! لقد قَرَّرتُ أن أرحل إلى وطني .. إني راحلٌ غدًا دون أدنى تأخير"! (ص 381، 385).

مفتريات حول موت النبي - صلى الله عليه وسلم -!

* مُفتَرَياتٌ حولَ موتِ النبي - صلى الله عليه وسلم -!: ° يتردَّى الدجَّالُ في قَعرِ مستنقعاتِ الفجورِ والتضليل، فيتخيَّلُ موتَ النبيِّ، ويَنسِبُه لحُلْمٍ اعترى جبريل، فيقول: "جاءت الأخبارُ أنَّ النبيَّ ماهوند قد أُصيب بمرضٍ عُضال، وأنَّ رأسَه بها دَقٌّ ثقيلٌ كما لو كانت قد امتلأت بالشياطين!. وهذا ما حَلُم به جبريلُ حَول موتِ ماهوند: عندما بَدَأت رأسُ الرسول تُوجِعُه بآلامٍ لم يَعْهَدْها من قبلُ، أدرك أنها النهاية .. ثم صَرخ قائلاً: مَن هناك؟ هل هو أنت يا عزرائيل؟!. لكنَّ "عائشة" سمعت صوتًا مرعبًا لامرأةٍ تقول: لا يا رسول الله، إنه ليس عزرائيل!. وعاد ماهوند يَسأل: هل هذا المرضُ منكِ يا أللات؟. فقالت: إنه انتقامي منكَ، وهو يُرضيني .. ثم خَرَجت تلك المرأةُ المتكلِّمة .. وتمتم الرسولُ: ومع ذلك، فإني أشكرُكِ أيتها أللاتُ على هذه المنحة!. وما هي إلَّا لحظات، حتى مات" (ص 393 - 394). * أما بعد .. أمَا وقد تَردَّتِ الأمورُ إلى هذا الحد، فلم يَعُدْ هناك من حديث إلَّا اللعنة، نَصُبُّها على هذا الدجَّال الهندي من "الكتاب المقدَّس"، فلعلَّ حُماتَه من "أهل الكتاب" يُفيقون قبلَ أن تدركَهم، لقد كان تعليمُ نبيِّ الله داود أن نقول في مثل هذه المواقف: "يا إلهَ تسبيحي لا تسكت؛ لأنه قد انفَتح على

فمِ الشرير وفمِ الغُش، تكلَّموا معي بلسانٍ كَذِبٍ، بكلامِ بُغضٍ أحاطوا به، وقاتَلوني بلا سبب .. فأقم أنت عليه شريرًا، ولْيَقِفْ شيطانٌ عن يمينه، إذا حُوكم فلْيَخرجْ مذنبًا، وصلاتُه فلْتَكُنْ خَطِيَّةً، لَتكُنْ أيَّامُه قليلةً، ووظيفتُه ليأخْذها آخَرُ، ِليكن بنُوهُ أيتامًا، وامرأته أرملةً، لِيَتِهْ بنوه تَيهانًا، ويَستعطُوا، ويلتمِسُوا خُبزًا من خِرَبهم، لِيَصْطَدِ المُرابي كلَّ ماله، ولْيَنْهَبِ الغرباءُ تَعَبَه، لا يكن له باسطُ رحمة، ولا يكنْ مترأفٌ على يتاماه، لِتنقرضْ ذُريَّتُه في الجيل القادم، لِيُمْحَ اسمُهم، ليُذْكَرْ إثمُ آبائه لدى الرب، ولا تَمحُ خطيَّةَ أُمِّه، لتكنْ أمامَ الربِّ دائمًا، وليُقْرَضْ من الأرض ذِكرُهم. أَحَبَّ اللعنةَ فأَتَتْه، ولم يَسِرْ بالبركة فتباعَدَتْ عنه، ولَبسَ اللعنةَ مِثْلَ ثَوبه، فدَخَلت كمياهٍ في حَشاه .. لتكن له كثوبٍ يتعطَّفُ به، وكمِنطَقةٍ ينتطقُ بها دائمًا" (المزمور: 109). إنها حقًّا روايةٌ شيطانية، كَتَبها حشَّاشٌ في ماخور، أُصيب بانفصامِ الشخصية، فصار يتردَّدُ بين القِردِ والحشَّاش .. فحينَ ينظرُ في مِرآةٍ رأسيةٍ أمامَه، فإنه يَهذِي ويَشتدُّ هُراؤه، وحين ينظرُ في مرآةٍ أُفقيةٍ أسفَلَه، ينعكسُ أقبحُ ما فيه، فيَهيجُ ويشتدُّ جُنونُه، إنَّ قُبحَه يتضاعَف: قبحُ وجهه يُغذِّي قُبْحَ مُؤخِّرتِه، وقُبحُ مؤخِّرته يُغذِّي قُبحَ وجهه، تمامًا كدائرةٍ راديويةٍ تعملُ في حالةِ رنين .. قُبحٌ إلى ما لا نهاية (¬1). * "سلمان رشدي شيطانٌ من شياطين الإنس، مِمَّن نَجِدُ لعنَهُ في ¬

_ (¬1) "تعدد نساء الأنبياء" (ص 455 - 468).

قول الله في القرآن العظيم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]. "لقد أَحَبَّ اللعنةَ فأَتَتْه، ولم يَسرْ بالبركةِ فتباعَدَت عنه" -كما قال داود-، "ولكلِّ امرئٍ ما نوى"، فكان هذا عدُوًّا لخاتمِ النبيين، لقد قادته نيَّتُه السيئةُ إلى المهالك، إذ أراد أن يشتريَ الشُّهرةَ والمالَ بأيِّ ثمن، فدمَّرَ نفسَه تدميرًا، ولكن: "ماذا ينتفعُ الإنسانُ لو رَبِحَ العالَمَ كلَّه وخَسِرَ نفسه؟! " -كما قال المسيح-. * لقد اختار طريقَ اللعنة، فتهيَّأت له أسبابُها، صار الشيطانُ له قرينًا، {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم: 83 - 84]. وعندما نَقتبسُ ما جاء في الإنجيل عن إنسانِ الخيانة نقول: لقد دخل الشيطان في سلمان رشدي، وهو كان معدودًا من جُملةِ المسلمين. فمضى وتكلَّم مع رؤساءِ الكفرِ كيف يُنفِّذُ مؤامرتَهم، ففرِحوا وعاهَدوه أن يُعطُوه مالاً وشُهرةً، فواعَدَهم، وكان يَطُلُب فرصةَ أَنْ يُتِمَّ روايتَه الشيطانية، فيُفرغَ فيها كلَّ سُمومِه وسُمومِ المتآمِرِين. ولقد قام الخائنُ بتنفيذِ الدَّورِ المرسومِ له تمامًا، فاستحقَّ من سادتِه قَبْضَ الثمن: أموالاً وشُهرةً وإعلانَ حِمايةٍ، كما لو كان واحدةً من المستعمرات السابقة. ° ولكن -كما قال المسيح-: "ويلٌ لذلك الرجل .. كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد".

الدجال الهندي يسير على خطا الدجال اليوناني

* الدَّجَّالُ الهندي يسيرُ على خُطا الدَّجَّالِ اليوناني: أخرج الدجالُ الهنديُّ سلمان رشدي روايتَه الشيطانية لأولِ مرةٍ في عام 1988، تَطعنُ في محمدٍ رسولِ الإِسلام، وتُوجِّهُ للمسلمين أفظعَ الإِهانات. ولقد شَهِد نفسُ العام -1988 - حَدَثًا آخَرَ له نَفسُ الأسلوب والمحتَوى والأهداف، وهو إخراجُ فيلم: "التجربة الأخيرة للمسيح"، يَطعنُ في عيسى رسولِ المسيحية، ويُشوِّهُ سلوكياته، وأكثرُ من هذا أنه يُمجِّدُ تلميذَه الخائن "يهوذا". ويُظهرُه في شَكلِ بطلٍ غَيُور، يَتَّهم مُعلِّمَه بالخيانة!. لقد صَفَّق كثيرٌ في الغرب -وما يزالون- عندما سَمِعوا عن مضمونِ روايةِ الدجَّال الهندي وطَعْنِها في الإِسلام ونبيِّه، وهاجت قُطعانٌ كثيرةٌ تَطلُبُ حمايتَه باعتباره مُنقِذًا لهم من خطرٍ متوهِّمٍ للإِسلام، يُعشِّشُ في عقولِ الحمقى منهم والجهلاء، ونَسُوا -أو جهِلوا- في غَمْرةِ مَوْجاتِ الجنون -التي تُمثِّلُ ظاهرةً دوريَّةً تَعوَّدْنا على ظُهورها بين الحين والحين- أن رسول المسيحية المعبود، قد تحوَّل في هذا الفيلم إلى عِربيدٍ زانٍ ضعيف، خَدَعَه الشيطان!. * فيلم "التجربة الشيطانية": أُخرج الفيلم عن رواية الكاتب اليوناني "نيكوس كازانتزاكس"، التي صَدَرت عام 1955، وكانت من أكثرِ الكُتُبِ رَوَاجًا، وقد صَدَر ضِدَّه قرارٌ بالحِرمانِ من الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية.

° تقومُ أحداثُ الفيلم -كما تقول مجلة "تايم"- على "أنَّ "يسوع" إنسانٌ كامل وإلهٌ كامل، وقد أظهَرَه عِلمُ اللاهوت المسيحي على أنه متحرِّرٌ من الخطيئة، لكنه مُعرضٌ لكلِّ الإغراءات -بما فيها إغراءاتُ الجِنسَ-. ° وعلى خطى "كازانتزاكس" -المؤلف-، فإن "سكورسيس" -المخرجَ- أظهر "يَسوع" كإنسانٍ ضعيفٍ متردِّدٍ، متعاونٍ مع الرومان، إذ يَصنعُ لهم صُلبانًا (¬1)، يَعدِمون عليها الثُوَّارَ اليهود". ° أما صاحبُه "يهوذا"، فهو مقاوِمٌ للاضطهاد الروماني، لا يُعجِبُه سلوكُ يسوع، فيوبِّخُه بعنفٍ قائلاً: "أنت متعاونٌ معهم! يهوديٌّ تصنعُ صُلبانًا لهم"!. يَعتريه كَربٌ عظيم، فيَهيمُ على وجهِه حتى يقفَ أمام باب، وهناك يَجِدُ حَيَّتَينِ متشابكتَينِ -إحداهما سوداء، والأخرى بيضاء-. وخَلْفَ الباب يكتشفُ ماخورًا، تُمارِسُ فيه "مريم المجدلية" الدعارة، يَطلبُ منها المغفرة، ثم يَسقطُ في الإثم!. ويصيحُ قائلاً: "يا إلهي، أنا ابنُ الخوف (¬2) "!. وفيما بعد، أمامَ المنافقين البرجوازيين "من الكتبة والفريسيين"، يُنقِذُ "مريم المجدلية" من الرجم، قائلاً: "ومَن هو الذي لم يُخطِئْ أبدًا؟! " (¬3). ¬

_ (¬1) كان المسيح نجارًا: "كثيرون إذ سمعوا بهتوا قائلين: أليس هذا هو النجار ابن مريم، وأخو يعقوب ويوسى ويهوذا وسمعان" - "إنجيل مرقس 6: 2 - 3". (¬2)! ( Mon Dieu, je suis le fils de la peur) (¬3) يشير إلى قصة المرأة الزانية التي أحضرها له شيوخ اليهود للرجم فقال لهم: "من كان منكم بلا خطية، فليرمها أولاً بحجر" - "إنجيل يوحنا 8: 7".

ثم يرحلُ إلى الصحراء للتأمُّل. وهناك تجربةٌ حيَّةٌ، ويَتحدَّثُ معه أسدٌ، ويَسيلُ الدمُ من شجرةِ تفاحٍ عندما يأكلُ منها، وتَظهَرُ بَلْطَةٌ في الرمل. مِن الآن فصاعدًا، يبشِّرُ بالحرب .. وأمامَ تلاميذه يُدخِلُ يَدَه في صدره وينتزعُ قَلبَه، وُيريه لهم بإعجاب! ويصيرُ إلهَ الحرب!. وفي فَزعِهِ مِن فَرْطِ قُوَّته: يُقيم "لعازر" من الأموات. إلَّا أنه يبقى قَلِقًا ومُشوَّشَ الفِكرِ فيما يتعلَّق برسالتِه وحقيقةِ مهمَّتِه، وفي إحدى الليالي، على جبل "الزيتون"، يُحرِّض يهوذا -أفضلَ أصحابه- على خيانته من أجل تنفيذِ خُطةِ الله!. يقول يسوع ليهوذا: "افعلها من أجلي! فيجيبه يهوذا: لا أستطيع. فيُلحُّ عليه قائلاً: افعَلْها، من أجلِ الحبِّ"!. يفعلها يهوذا، وتسيرُ الأحداث حَسْبَ رواياتِ الأناجيل، حتى يُعلِّقونه على الصَّليب، وهناك في لحظةِ تفكيرٍ حالِمٍ يَظهرُ يسوع وهو يمارِسُ الجنس مع مريم المجدلية!. وعندما يُشرِفُ على الموت، تتراءى له فتاةٌ صغيرة، لعلَّها ملاك!! إنها تطلبُ منه أن يَنزِلَ وتقول له: لقد عانيتَ كثيرًا، إنك لستَ المسيح. وبطريقةٍ خَفِيَّةٍ يَنزلُ من على الصليب، ويرتحلُ تُجاهَ وادٍ أخضرَ نَضِرٍ، هناك يُمارسُ الجنس مع مريم المجدلية ثم يتزوَّجان. وبعد موتها يتزوَّجُ مريم أخت لعازر -الذي أقامه مع الأموات-، ثم يزني بأختها "مرثا"!.

ثم يرى يسوعُ "بطرس ويوحنا ويهوذا" قادِمين إليه، فيَسُبُّه يهوذا قائلاً: "أيها الخائن! لقد طلبتَ منِّي أن أَبيعَك، لكنك لم تَمُتْ على الصليب، إن الفتاةَ الصغيرةَ التي تراءت لك، لم تكن ملاكًا، إنها شيطان"! (¬1). يتوسَّلْ إليه يسوعُ مرةً أخرى، إنه يريدُ العَودةَ إلى الصليب، وهناك يموت! (¬2). وهكذا عَبَثوا بالمسيح. ° لقد احتوت القِصَّةُ الأصليةُ على عباراتٍ قَذِرةٍ، مثلِ قول يسوع -وحاشاه- لمريم المجدلية "الإلهُ ينامُ بين فَخَذَيْكِ" (¬3) وحَذَفوها من الفيلم. ° واحتوى الفيلمُ على عباراتٍ فظيعةٍ وردت على لسانِ يسوع، مثل قوله: "إني كذَّاب، إني مُنافق، إني خائفٌ من كلِّ شيء، إنَّ الشيطانَ في داخلي" (¬4). ° ومع ذلك، فقد وُجد مَن يدافعُ عن الفيلم -بل ويَشِيدُ به-، ليس فقط من بين المنحرفين من عامَّةِ الشعب، بل وأيضًا من بين المنحرفين من رجال الكنيسة!. ¬

_ (¬1) ( Traitre! Tu m'as demande de te vendre, et tu n'est pas mort sur La Croix! La petite file n'etait pas un ange, mais Satan) ! (¬2) (TIME; NEWSWEEK; U.S. NEWS& WORLD REPORT; PEOPLE; THE NEW REPUBLIC; PAENERE. (1988 (¬3) (God sleeps between your legs) (¬4) (I am a liar. I am a hupocrite. I am afraid of everything. Lucifer is in - side me)

بين شيطانيات الهندي .. واليوناني!

° فقد قَدَّم الأسقف "بول مور" -في كنيسة نيويورك- أقوى دفاعٍ عن الفيلم قائلاً: "إنه صحيح من الناحية اللاهوتية، وعلى الرغم من أن ممارسةَ "يسوع" للجنس مع مريمَ المجدلية، قد يؤذِي مشاعرَ البعض، فيجبُ علينا أن نتذكَّرَ أنه حُلْم، وأنه ليس إلا صورةً أخرى ليسوع، وعملاً فنيًّا يؤكِّدُ على جوانبَ معيَّنةٍ من شخصيته"!. إن الناس اليوم -يا جَنَاب الأسقف-، يعيشُون حقًّا عالَمَ الهلوسة!. ° كذلك قال القس "وليام فور" -من "المجلس الوطني للكنائس"-: "إنه يَرى الفيلم: "محاولةً أمينةً تحكي قصةَ "يسوع" من مَنظورٍ مختلف"!. ° وقال القسُّ اللوثري "تشارلز برجستروم": "لا يمكنُ اعتبارُ هذا الفيلم تجديفًا أو هجومًا على الأسفار المقدَّسة". ° وقال الأسقف "أنتوني بوسكو" -من "المجلس الوطني للأساقفة الكاثوليك"-: "إن مُعاداةَ السامية، والكراهيةَ التي سَبَّبها هذا الفيلمُ، يَصعبُ أن تُرضِيَ قلبَ المسيح"!. حقًّا أيها "الأتقياء" من رجال الكنيسة، لقد اغتِيل الحقُّ باسم الحب، وأنتم على ذلك من الشاهِدين، بل ومِن المبارِكِين! فباسم الحبِّ يُرتكبُ اليوم كل الموبقات. * بين شيطانيَّاتِ الهندي .. واليوناني!: صَدَرت روايةُ الدجَّال اليوناني "نيكوس كازانتزاكس" عام 1955 تحت اسم: "التجربة الأخيرة للمسيح"، وهى تعني التجربةَ الشيطانيةَ الأخيرة التي تعرَّض لها المسيحُ، وانتهت -حَسْبَ زَعمِه- بسقوطِ المسيح في

الخطيئة؛ بعد أن استحوَذَ عليه الشيطان، وأخضَعَه لسلطانه!. وبعد 33 عامًا، صَدَرت روايةُ الدجَّال الهندي "سلمان رشدي" -عام 1988 - تحت اسم "مقاطع شيطانية"، وهي تزعمُ أن للمَقْطَعَينِ -على شاكلةِ سَجْعِ الكُهَّانِ وسَدَنَةِ الأصنام- قد نَفَثَهما الشيطانُ أثناءَ قراءةِ النبيِّ محمدٍ لإحدى سُور القرآن -سورة "النجم"-، وكصَفقةٍ شيطانيةٍ بين النبيِّ وأبي سفيان، تُمجِّدُ ثلاثَ معبوداتٍ وثنيةً هي: "أللات، وألعزى، ومناة"، وهذا يعني -حَسْبَ زَعْمه- أن النبيَّ محمدًا استحوذ عليه الشيطانُ يومًا ما، وأخضعه لسلطانه!. ذلك هو الفِكرُ العامُّ الذي تتضمَّنُه كلٌّ من الروايتين، ولَمَّا كانت الأولى قد سَبَقتِ الثانيةَ بمدَّةِ ثُلُثِ قَرْنٍ، كان الانطباعُ العامُّ هو أن الثانيةَ قد جاءت كسَرِقةٍ أدبيةٍ من الأولى. وإذا تعمَّقْنا قليلاً في دراسةِ البِنيةِ الأساسيةِ لكِلا الروايتين، تَبَيَّنَ لنا صِدقُ القول بأن الهنديَّ سَرَق من اليوناني. ° لقد لَخَّص الناقد "جان لوقا سابلون" حقيقةَ التجربةِ الأخيرةِ للمسيح، بقوله: "هل هي حُلم؟ أم تقلُّص الزمن؟ أم خيال؟ .. الله والشيطان شيء واحد"! (¬1). وتلك هي حقيقةُ رواية "مقاطع شيطانية"، فلقد هَرَب الدجَّالُ الهندي من الجِدِّ إلى اللهو والعبث، وذلك باللجوء إلى الأحلام والتخيُّلاتِ التي ازدَحَمت بها روايته، وهو قد اعتَرف بذلك صراحةً في مِثل قوله: "لقد ¬

_ (¬1) ( Reve? Contraction du temps? Fantasme? Dieu et le diable sont un)

بَدَأَتِ الأحلامُ في نفسِ الليلة، وفي تلك الرؤى كان حاضرًا دائمًا، ليس كذاتِه، بل كسَمِيِّه .. أنا هو، وهو أنا، أنا كبيرُ الملائكة الدَّمَوي، جبريل نفسه"! (ص 83). "وهذا ما حَلُم به جبريل" (ص 363). "حَلُم جبريلُ بالحجاب" (ص 376). "حَلُم جبريل بموت بعل" (ص 390). "حَلُم جبريل بموت ماهوند" (ص 393). ° واستَخدم الهنديُّ فكرةَ تقلُّصِ الزمن -كما ذكرنا سلفًا- مستعينًا بتناسُخ الأرواح، والولادةِ مرةً ثانية، وممارسةِ الرُّوحِ لحياةٍ ثانيةٍ يَفصِلُها عن الحياةِ الأولى مُدَّةٌ زَمَنيَّةٌ كبيرة. ° وإذا كان الإغريقيُّ قد وضع على لسانِ المسيح قوله عن نفسه: "إني كذاب .. إن الشيطانَ في داخلي"!. ° فلقد وَضَع الهنديُّ على لسان النبيِّ قوله: "عندما يأتي جبريلُ أشعر كما لو أنه يأتي من أعماقي، مِن نفسي"! (ص 106). وإذا كان الإِغريقيُّ قد أشار إلى أنه عندما تختلِطُ الأمورُ على صاحب الرسالة -المسيح- يكون الله والشيطانُ واحدًا -حَسْبَ مزاعِمِه المضلِّلة-!! فإنَّ الهنديَّ اقتَبَس تلك الفكرةَ، ووَضَعها في مناقشةِ صحابةِ النبيِّ للصفقة المزعومة مع أبي سفيان حولَ وَضْعِ معبوداتِ الجاهليةِ الثلاث: "أللات، وألعزى، ومناة"، فهو يَزعُمُ أن النبيَّ كان يُبرِّرُ قبولَه للصفقة: بأن تلك المعبوداتِ الثلاثَ لن يَكُنَّ كُفُوًا لله، وغايةُ ما في الأمر أن يكون لهنَّ نوعٌ من الوسيلةِ إليه، أي يكنَّ ذاتَ وضعٍ أقلَّ!.

° وهنا يَصرخُ بلال: "مِثلُ الشياطين! فيقول له سلمان، لا، بل مثلُ ملائكةِ الطبقة العُليا". ° فيُعقِّبُ النبيُّ بقوله: "ملائكة وشياطين، شيطان وجبريل، إنَّنا جميعًا نَقبَلُ بوجودهم بين الله والإنسان"! (ص 107). ° "وعندما يستردُّ النبيُّ وَعْيَه، فإنه يصرخُ بكلِّ قوَّتِهِ، ويقول: "إنه الشيطان! في المرة الأخيرة، كان شيطانًا! .. لقد انخدَعَ وعَرَف أن الشيطانَ جاءه على هيئةِ كبيرِ الملائكة، وأنَّ المقاطعَ التي تلاها في خَيمةِ الشِّعرِ كانت شيطانيةً، فيَعودُ إلى مدينةِ الجاهلية بأسرعِ ما يكون، قاصدًا بيتَ الحَجَرِ الأسود، ويقفُ أمامَ التماثيلِ الثلاثةِ، ويُعلِنُ مَحْوَ تلك المقاطعِ التي هَمَسها الشيطانُ في أذنه" (ص 123 - 124). ° ولقد تكلَّم نُقَّادُ فيلم "التجربة الأخيرة للمسيح"، عمَّا به من أخطاءٍ عقائديةٍ من وجِهةِ نظرِ المسيحية، فقالوا: "إن تصويرَ المسيح وهو يلتقطُ أقذارًا وأحجارًا ويقول: هذا هو دَمِي أيضًا، فإنَّ هذا يَجعلُه مؤسِّسَ عقيدةِ وحدةِ الوجود، "التي تقول بأن اللهَ والطبيعةَ شيءٌ واحدٌ"، كما أنه مؤسِّسٌ للمسيحية". ° كذلك التَقَطَ الهِنديُّ هذه الفكرةَ، ونَسَج على مِنوالها، فاختَرَع مشهدًا يزعمُ فيه أنَّ النبيَّ صَعِدَ الجبلَ ليسألَ كبيرَ الملائكة "جبريل" في موضوع المعبودات الثلاث، وأنَّ جبريلَ عندما رآه يَصعَدُ صار يرتجفُ ويتمنَّى لو أن النبيَّ لم يَحضُرْ إليه، ثم يُحدِّثُ نفسَه قائلاً: "إنه يأتي إليَّ مِن أجلِ الوَحْي، يَطلبُ منِّي أن أختارَ بين أن يكونَ مؤمنًا بالإلهِ الواحد "موحِّدًا حقيقيًّا"، أو مؤمنًا بالإلهِ الواحدِ مع عبادةِ آلهةٍ أخرى "موحِّدًا

مزعومًا" .. " (ص 109). ° ولقد استخدم اليونانيُّ فِقراتٍ من الأناجيل، استنبط منها حينًا، ما استهواه خيالُه، واستَخدَمَ لفهمها -أحيانًا- تفاسيرَ منحرفةً ورواياتٍ منحولة، أوقعَتْه في هذه الضلالات. فمثلاً: تذكرُ الأناجيل المتشابهة "متَى ومُرقس ولُوقا" أنَّ الروحَ أخرج المسيحَ إلى البرِّيَّة، وهناك جَرَّبه الشيطان، وبعد أنِ اجتازَ التجارب بسلام، "تركه أبليسُ، وإذا ملائكةٌ قد جاءت فصارت تخدُمه - متى 4: 11". ° إلا أن "لوقا" خَتَم حديثَه عن تجربةِ الشيطان للمسيح بقوله: "ولَمَّا أكملَ إبليسُ كلَّ تجربةٍ، فارَقَه إلى حين - 4: 13". إن هذا يعني بداهةً أنَّ للشيطان عودةً أخرى لتجربةِ المسيح، وكان هذا هو ما استثمره اليونانيُّ في روايتِه "التجربة الأخيرة للمسيح"، إلَّا أنه ضَلَّ في روايتهِ لتلك التجربة التي اعتَمَد فيها على تفسيراتٍ خاطئةٍ ورواياتٍ متهرِّئة. كذلك يُقرِّرُ إنجيل "يوحنَّا" أن "يهوذا" كان أمينًا للصندوق (13: 29)، ولهذا وصفه اليونانيُّ بأنه "أفضلُ أصحاب المسيح"، وصَوَّرَه في صورةِ يهوديٍّ حريصٍ على الإِسرائيليين أكثرَ من حرصِ المسيحِ نفسِه. ° وكذلك يَذكرُ إنجيل "يوحنَّا" أنه في العَشَاء الأخير، قال المسيح ليهوذا: "ما أنت تعملُه، فاعْمَلْه بأكثرَ سرعة، وأمَّا هذا فلم يَفهَمْ أحدٌ من المتَّكِئين لماذا كلَّمه به - 13: 27 - 28". ° مِن هنا قال اليونانيُّ -وغيرُه من المدافِعين عن يهوذا-: "إن المسيحَ كان يرجوه أن يَخونَه لكي يقبِضوا عليه ويقتلوه صَلْبًا، بزَعمِ أن تلك كانت

خُطةَ الله لخلاصِ العالَمِ من الخطيئة"!. ولقد كان هذا ما فَعَله الهنديُّ في سَيرِه على خُطى اليونانيِّ، إذِ اعتَمَد في حديثِه عن المقاطع الشيطانية، على رواياتٍ متهالكةٍ قامت على تفاسيرَ منحرفةٍ لبعضِ آياتِ القرآن، مثل قول الله لنبيه: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 74 - 75]. إنَّ الفهمَ اللُّغوي لهذه الآياتِ ليس في حاجةٍ إلى خَلْفِيَّةٍ عِلميَّةٍ أو تاريخيةٍ بما كان بين هؤلاء -المشركين الذين تحدَّث عنهم القرآن- وبين الرسول، فالآيةُ الأولى تؤكِّدُ بوضوحٍ أن اللهَ ثَبَّته، وبالتالي لم يَركَنْ إليهم .. والآيةُ الثانيةُ تُبيِّن أنه لو فَعَل ورَكَن إليهم -ولو شيئًا قليلاً-، لكان عَذابُه مضاعَفًا. إنَّ القضيةَ واضحةٌ تمامًا، لكنْ هناك مَن تعامَوْا عن صَدْرِ الآية الأولى، ووقفوا يَنظُرون إلى بعضِ بقيَّتها نَظَرَ مَن يريدُ وقوعَ المنفيِّ وقوعُه، فاختَرعوا رواياتٍ باطلةً لا تَصمُدُ أمامَ التمحيص العِلميِّ ساعةً من نهار، وليس معنى ركونِ الرسولِ إلى المشركين -لو وقع- أنْ يأتيَهم بقرآنٍ من عنده ليرضيَهم افتراءً على الله، وكيف يكونُ هذا، واللهُ يُحذِّرُ المؤمنين من الركونِ إلى الظالمين، في قوله: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113]؟!. فالركونُ إليهم، يعني -لغةً- موالاتَهم، أو القعودَ عن مجاهدتهم، أو الاعتمادَ عليهم.

محاكمة سلمان رشدي، والحكم بردته، وحد المرتد القتل

وأخيرًا، نلاحظُ أن اليونانيَّ قد استَخدم النساءَ في حياِةِ المسيح أسوأَ استخدام، وعلى خُطاه سار الهنديُّ عاريًا، مجرَّدًا من كلِّ سِترٍ أو حياء. ولَمَّا كانت روايةُ "التجربة الأخيرة للمسيح" من أكثرِ الكُتُبِ رَواجًا عندما صَدَرت عام 1955، فقد سال لُعابُ الدجَّالِ الهنديِّ أن يكونَ لروايته الشيطانيةِ مِثلُ ذلك الرَّوَاج، ولَمَّا كان يَعلمُ في قَرارةِ نفسِه أنه كاتبٌ مغمورٌ فاقِدُ الموهبة، فلم يَجِدْ له مِن وسيلةٍ سوى إرضاءِ المِزاجِ الغربيِّ الذي تَربَّى على الخَوفِ من الإِسلام والطعنِ في نبيِّه وكتابِه وكراهيةِ المسلمين -كما قرَّر ذلك بحقٍّ "برنارد شو" قبل خمسين عامًا-، وذلك بترديدِ أكاذيبَ باليةٍ عن القرآن، والخَوضِ في مطاعنَ قديمةٍ حولَ تعدُّدِ زوجاتِ الرسول، وكلُّها من الموضوعات التي قُتلت بحثًا وتفنيدًا، ولم يَبقَ فيها مزيدٌ لمستزيد. ° "فليس تحت الشمس جديد، إن وُجد شيءٌ يقال له: انظر! هذا جديد، فهو منذ زمانٍ كان في الدهور التي كانت قَبلَنا - سِفر الجامعة 1: 9 - 10". ° وأخيرًا، نقول: إنه ليس عجيبًا أن تَصدُرَ هذه الأساطيرُ الشيطانيةُ عن بعضِ مَن ينتسبُ إلى الهند أو اليونان. اقرؤوا التاريخَ القديم -إن شئتم-، واقرؤوا مِن أين جاءت مِثلُ هذه الأساطير (¬1). * مُحاكمة سلمان رُشدي، والحكمُ برِدَّتِه، وحَدُّ المرتدِّ القَتلُ: ° نقول لأهل الكتاب: نحن نعلمُ أنَّ سلمان رشدي دَجَّالَ الهِندِ مرتدٌّ، وحَدَّه القتل في شريعتنا الإِسلامية؛ ولكنْ نُطالِبُكم بمحاكمتِه وِفقَ ¬

_ (¬1) "تعدد نساء الأنبياء" (ص 469 - 480) ملخصًا.

جرائم الدجال سلمان رشدي

نصوصِ كتابكم، فلقد طَعَن في الإِله والملائكةِ والنبيِّين، وكان لأمين العرش جبريل وأبي الأنبياء إبراهيم النصيبُ الأكبرُ من السخرية والشتائم والإهانات، وباختصارٍ لقد جَدَف على المقدساتِ، فماذا أنتم قائلون في جرائمةِ بالنسبة للمقدَّسات عندكم، وها هي جرائمه. * جرائم الدَّجَّال سلمان رشدي: 1 - السخريةُ من الإله ومِن خَلقِه البشر ذَوِي خيالٍ وأحلام، وذلك في قوله: "لو كنتُ اللهَ، لأبطلتُ الخيال فورًا من أذهانِ الناس، وآنَذَاك قد يستطيعُ أولادُ الزِّنا المساكينُ مِثلي أن يَحصُلوا على قِسطٍ طيِّبٍ من الراحة بالنوم بلا أحلامٍ بمضاجعةِ الأمهاتِ ليلاً"! (ص 122). 2 - الحديثُ عن اسمِ الله بسخريةٍ وتهكُّم، إذ يقول: "يوجَدُ إلهٌ يُسمُّونه هنا: "الله"، الذي يعني ببساطة: الإله، وإذا ما سألتَ الجاهليِّينَ عنه، فسيعترفون بأنَّ هذا الشخصَ له نوع من السُّلطان الكُلِّي، إلَّا أنه لا يتمتَّعُ بحَظوةٍ كبيرةٍ بينهم، فهو إلهٌ يقومُ بكلِّ الأدوار في زمنِ التماثيلِ المتخصِّصة"! (ص 99). وجديرٌ بالذِّكر أنَّ لفظ الجلالة "الله" -بهذا النطق الصوتي " ALAH" كما في العربية- هو ما ذَكَره عالِمُ اللاهوت الدكتور "سكوفيلد" في الطبعة الأولى من تفسيره للكتاب المقدَّس الإِنجليزي " ENGLISH BIBLE" - بمعاونةِ ثمانيةٍ من العلماءِ حَمَلَةِ الدكتوراة في اللاهوت-، وذلك في تعليقه على العددِ الأول من "سِفْر التكوين" الذي يقول: "في البَدءْ خَلق الله (¬1) ¬

_ (¬1) The three primary names of Diety: Elohim, Jehova, and Adoni, and =

السموات والأرض"، وللأسف، فإنَّ الطبَعاتِ التاليةَ لتفسير "سكوفيلد"، قد حَذفت كلمة " ALAH"، حتى لا يُدرِكَ عامَّةُ المسيحيين أن عليهم أن يَعبُدوا الإِلهَ الذي يَعبُدُه المسلمون، ويعرفونه باسم "الله". ° يقولُ اللهُ في قرآنه، تعليمًا للمسلمين: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]. 3 - الاستهزاءُ بالملائكةِ، والسخريةُ من تطويعِ اللهِ لهم بكلماتٍ معسولةٍ ووعودٍ براقة .. فهو يقول: "وماذا عن الحالة الملائكية؟ هي وَضعٌ وَسَطٌ بين الألوهيَّةِ والإنسيَّة، ألم يَعترِهِم الشكُّ أبدًا؟ بلى، فقد حَدَث ذاتَ يوم أنِ اعتَرَضوا على إرادةِ الله، حيث توارَوا تحتَ العرشِ متذمِّرين، ومتجاسِرِين على التساؤل عن أشياءَ محظورٍ السؤالُ عنها: هل من الصواب أن .. ؟ .. فكان طبيعيًّا أن يُهدِّئَ الإلهُ من تذمُّرِهم مستخدِمًا مهاراتِ الإِدارةِ الإلهيَّة، فلقد أشبَعَ غُرورَهم بقوله: "ستكونون وسائلَ تنفيذ إرادتي في الأرض، وأدواتي لخلاصِ الإِنسانِ وهلاكه، وكلِّ الهلُمَّ جرًّا المعتادة"! وآنذاك: هُتافاتُ فرحٍ سريعة، ونهايةٌ للاحتجاج، وعَودةٌ ثانيةٌ إلى العمل، تُصاحِبُهم الهالات!. إن الملائكةَ يمكنُ تهدئتُهم بسهولةٍ، فإذا جَعَلْتَهم وسائلَ في يَدِك، ¬

_ = the five most impori ant of the Compoumd names, occur in Genesis. Elohim (sometimes EL or Elah) , Engish from: God, formed from: El strength, or the strong one, and Alah, to swear, to bind oneself by, so implying faithfulness.

الحكم

فلسوف يَعزِفون لحنَ قِيثارتِك المفضَّل، أما البشرُ، فإنهم نوعٌ مُشاكِس، يستطيعُ الشكَّ في كلِّ شيءٍ، حتى ما تَشهَدُه عيونُهم" (ص 92). 4 - وفي تهكُّمٍ عابث، يقول: "في تلك السنوات هل من الممكن القولُ بأن كبيرَ الملائكةِ جبريل؟ أم أن نقول: الله قد تسلَّطَتْ عليهِ فكرةُ التشريع"! (ص 363). ° "أنا كبيرُ الملائكة الدَّموي، جبريل نفسه" (ص 83). 5 - وعن إبراهيمَ خليل الله، يقول: "في قديمِ الزمان، جاء الأبُ إبراهيم إلى هذا الوادِي بصُحبةِ هاجر وابنِهما إسماعيل، وهناك في تلك البرِّيَّةِ عديمةِ الماءِ تخلَّى عنها، فسألته: هل يمكنُ أن تكونَ هذه إرادةَ الله؟ فأجابها: إنها لكذلك .. ثم رَحَل ابنُ الزنا! منذ البَدْء، استَخدم الناسُ الإِلهَ لتبريرِ ما لا يُمكِنُ تبريره! " (ص 95). إن ذلك الكاتبَ الهنديَّ يشتُمُ أبا الأنبياء، ويَصِفُه بـ "ابن الزِّنا"، ثم يَتَّهِمُه بالكذبِ على الله!. 6 - ثم هو يتَّهمُ الأنبياءَ جميعًا بأنهم جاؤوا من عندِ أنفُسِهم، ومِن ثَمَّ كان منهم الواقعيُّ، ومنهم المثالِيُّ، ومنهم المُتزمِّت، ومنهم المتساهِل، وذلك ما يَنطوي عليه قوله: "ماهوند أكثرُ الأنبياءِ واقعيةً، فقد وافَقَ على فترٍة أنتقالية" (ص 381). * الحُكم: مِن الثابت أن الكاتبَ الهنديَّ "سلمان رشدي" قد ارتَكَب الجرائمَ الآتيةَ: - التجديفُ على الله.

سلمان رشدي قزم مرتد؛ لأنه

- التجديفُ على اسم الله. - التجديفُ على الملائكة. - سبُّ خليلِ الله إبراهيم والطعن فيه. - الطعنُ في الأنبياء والسخرية منهم. وتطبيقًا للأحكام الواردة في: (خروج 22: 28)، (لاويين 24: 15 - 16)، (لاويين 20: 9)، واسترشادًا بتعاليم المسيح في: (متى 12: 31 - 37)، (مرقس 7: 21 - 23) - تكون عقوبة الكاتب الهندي سلمان رشدي هي: "الرجم حتى الموت". ذلك هو الحُكمُ على سلمان رشدي، وِفقَ أحكامِ الكتاب المقدس عند اليهودِ والنصارى، وهو حُكمٌ لا رَجْعةَ فيه، ولا فُرصةَ عنده للنجاةِ منه (¬1). * سلمان رشدي قِزمٌ مرتدَّ؛ لأنه: - سَخِر واستهزأ بالله ربِّ العالمين، ووَصَف القرآنَ بأنه "أسطورةٌ خرافية". - ولقوله بأن الأصنامَ تَشفعُ للناس يومَ القيامة. - وأنَّ الشيطانَ استطاع أن يُلقيَ على لسانِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - آياتٍ تَمتدحُ الأصنامَ، وتعظِّمُ من شأنها. - ذمَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بكلمة "ماهوند"، ومعناها: "الشرير" أو "المخادع" أو "النبي المزيف"، وألصَقَ به كلَّ قبيح. - لَقَّب إبراهيم - عليه السلام - بأنه ابنُ زانية!. ¬

_ (¬1) "تعدد نساء الأنبياء" (ص 481 - 488).

رسالة إلى سلمان رشدي

- وصَف الفاجرُ الدَّعِيُّ زوجاتِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - الطاهراتِ بأنهن "مُومسات"، وأنهن يَعْمَلْنَ في بيوت الدعارة. - شنَّ هجومًا على السيدة عائشة - رضي الله عنها -، وكيف تَمَّ زواجُها من الرسول - صلى الله عليه وسلم -. - جعل مكةَ المكرَّمةَ "مدينةَ الجاهلية والأوثان". - وَصَف جبريلَ - عليه السلام - بأنه من المُنادِين والمؤيدِّينَ للواط. - ووَصَفه بأن لسانَه لا يعرفُ إلَّا الشتمَ واللِّعان. - وصفَ الصحابةَ - رضي الله عنهم - بأنهم "رجالُ همجيةٍ لا يَعرِفون إلَّا الفَوضويَّة". - وَصَف سلمانَ الفارسيَّ بأنه "مخادع وغَشَّاش". - شَكَّك في نزولِ الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. - ووَصَف المسلمين بأنهم متوحِّشين، وقاعدتُهم الأصليةُ في الحياة هي تعذيبُ الآخرين. اللهم أرِنا آيةً من آياتِك في هذا القِزْم الدَّنِسِ النَّجِس. * رسالة إِلى سلمان رشدي: ° كتب الشاعر "فاروق جُويدة" هذه القصيدةَ الطيبة، وكَتَب في مقدِّمتها: "سلمان رشدي كاتب مسلم، ارتدَّ عن الإِسلام، ولم يَكتفِ بذلك، بل وَجَّه في كتابه "آيات شيطانية" أكبر إساءةٍ يُوجِّهها كاتبٌ في التاريخِ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -": في زَمِن الردَّةِ والبُهْتَانْ

اكتبْ مَا شئْتَ ولاَ تَخْجَلْ الكفرُ مباحٌ .. يَا سَلْمَانْ ضَعْ أَلفَ صلِيبٍ .. وصَلِيبٍ فَوقَ القُرآن وارجُمْ آياتِ الله ومزِّقْهَا فِي كلِّ لِسانْ لاَ تَخْشَ اللهَ ولا تَطْلبْ صَفْحَ الرَّحمَن فَزَمَانُ الرِّدَّةِ نَعرفُهُ زمنُ المَعْصِية .. بِلاَ غُفْرَانْ إنْ ضَلَّ القَلْبُ فَلا تَعْجَبْ أَنْ يَسْكُنَ فِيهِ الشَّيطَانْ لاَ تَخْشَ خُيُولَ أَبِي بَكْرٍ أَجْهَضَهَا جبنُ الفرْسَانْ وبلالُ الصَّامتُ فَوقَ المَسجِدِ أَسْكَتَهُ سَيْفُ السَّجَّانْ أتراه يُؤذِّنُ بَينَ النَّاس بِلا استئذانْ؟

أَتْراهُ يرَتلُ باسمِ الله وَلا يَخْشَى بَطْشَ الكُهَّانْ؟ فاكْتبْ مَا شِئْتَ ولاَ تَخْجَلْ .. فالكُلُّ مهَانْ واكفُرْ مَا شِئْتَ ولاَ تَسأَلْ فالكُلُّ جَبَانْ * * * فالأَزهَرُ يَبْكِي أَمْجَادًا ويُعيدُ حَكَايا .. مَا قَدْ كَان والكَعْبَةُ تَصرُخُ فِي صَمْتٍ بَينَ القُضْبَانْ والشَّعْبُ القَابعُ فِي خَوْفٍ يَنْتَظِرُ العَفْوَ مِنَ السُّلطَانْ والنَّاسُ تهَروِلُ فِي الطُّرقاتِ يُطَارِدُهَا عَبَثُ الفِئرَانْ والبَابُ العَالي يَحْرُسُه بَطْشُ الطُّغْيَانْ * * * أيامُ الأُنسِ وبهجتُها والكأسُ الراقصُ والغِلمانْ

والمالُ الضائعُ في الحاناتِ تِسيلُ على أيدي النُّدْمانْ فالبابُ العالي ماخورٌ يسكنُه السِّفْلةُ والصبيانْ يحميه السارقُ والمأجورُ ويحكُمُه سِربُ الغِربانْ جلَّادٌ يَعبثُ بالأديانْ وآخَرُ يَمتهِنُ الإنسانْ والكلُّ يُصلِّي للطغيانْ * * * ومحمدُ نُورٌ مسْجُونٌ بَينَ الجُدْرَانْ وخَدِيجةُ تَبْكِي فِي شَجَنٍ أَيَّامَ النَّخْوة .. والفُرْسَانْ عَائشَةُ تُحدِّقُ فِي صَمْتٍ تَسْأَلُ عَنْ عُمَرٍ .. أَوْ عُثْمَانْ فَاطِمَةُ تُنَادِي سَيفَ اللهِ فَلاَ تَسْمَعُ غَيرَ الأَحْزَانْ * * *

أسألُكَ بربِّكَ يَا سَلْمَان هَلْ تَجْرُؤ أَنْ تَكسِرَ يومًا أَحدَ الصُّلْبانْ؟ أَنْ تَسْخَر يَوْمًا مِنْ عِيسَى أَوْ تُلقِيَ مَريمَ فِي النِّيرَانْ مَا بَيْنَ صَلِيبٍ .. وصَلِيبٍ أحْرَقْتَ جَمِيعَ الأَدْيَانْ فاكْتُبْ مَا شئتَ ولاَ تَخْجلْ فَالكُلُّ مُهَانٌ .. وجَبَانْ * * * خَبِّرنِي يَوْمًا .. حِينَ تُفِيقُ مِنَ الهَذَيَانْ هَلْ هَذَا حَقُّ الفنَّانْ .. ؟ أَن تُشْعِلَ حِقْدَكَ فِي الإنجِيلِ وتَغْرس سُمَّكَ فِي القُرآنْ أَنْ تَرجُمَ مُوسَى أَوْ عِيسَى أَو تَسْجُنَ مَرْيمَ في القُضْبَانْ أَن يَغْدو المَعْبَدُ والقدَّاسُ وبَيتُ اللهِ مجَالسَ لَهو للرهْبانْ

أَنْ يَسْكرَ عيسَى فِي البَارَاتِ ويَرقُصَ مُوسَى للغِلْمَانْ هَلْ هَذَا حَقَّ الفَنَّانْ؟ أَنْ تَحْرِقَ دِينًا فِي الحَانَاتِ لتبْنِيَ مَجْدَكَ بالبُهْتَان؟ أَنْ تَجْعَلَ ماءَ النَّهرِ سُمُومًا تُسْرِي فِي الأَبدَانْ .. لَن يُشْرقَ ضَوءٌ مِنْ قَلْبٍ لاَ يَعْرفُ طَعمَ الإيمَانْ لَن يَبْقَى شَيءٌ مِن قلمٍ يَسْفِكُ حُرُمَاتِ الإِنسَانْ فاكفُرْ ما شِئْت ولاَ تَخْجَلْ ميعَادُكَ آتٍ يَا سَلْمَانْ دَعْ بَابَ المَسْجِد يَا زِنْديقُ وقُمْ واسْكرْ بينَ الأَوثَانْ سَيَجِيئُكَ صَوتُ أَبِي بكرٍ ويصيحُ بخِالِد:

° بيان الدفاع عن سلمان رشدي

قُمْ واقْطَعْ رأْسَ الشَّيطَانْ فمحمَّدُ بَاقٍ مَا بَقيتْ ذُنْيا الرَّحْمَنْ وسيَعْلُو صَوْتُ الله .. وَلَوْ كَرِهُوا فِي كُلِّ زَمَانٍ .. وَمَكَانْ (¬1). ° بيان الدفاع عن سلمان رشدي: وَقَّع البيانَ خَمسةٌ من المصريين، في مقدِّمتهم الأستاذ "أنيس منصور" الذي يهاجم سلمان رشدي في الصحف المصرية، بينما يقول ضاحكًا: إنه وقَّع البيانَ العالَميَّ بالدفاع عنه بالفاكسميلي وهو في المدينة -المنورة- في ضيافة الحَرَس الوطنيِّ السعودي (¬2)!!! ما وَقَّع البيانَ كلٌّ من: أمينة السعيد، ونوال السعداوي التي مَولَّت "مؤسسةُ فورد" موتَمَرَها لتحرير المرأة .. وأحمد عثمان مرسى سعد الدين شقيق بليغ حمدي ولا فخر (¬3). * * * ¬

_ (¬1) قصيدة "إلى سلمان رشدي" من ديوان "زمان القهر علَّمني" للشاعر فاروق جويدة (ص 63 - 72) مكتبة غريب. (¬2) عاملك الله بما تستحق يا أنيس أليست هذه خيانة للمضيف الذي أكرمك ولا يعرف شيئًا عما تفعله وأنت في ضيافته. (¬3) "أولاد حارتنا فيها قولان" لمحمد جلال كشك (ص 34) - الزهراء للإعلام العربي.

الرد العلمي على قصة "الغرانيق"

الرِّدَّ العِلميُّ على قِصةِ "الغرانيق" • قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَحمِلُ هذا العِلمَ من كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، ينْفُون عنه تحريفَ الغالِين، وانْتِحالَ المُبطِلينَ، وتَأويلَ الجَاهلينَ" (¬1). وهذه بِشارةٌ مِن اللهِ سُبحانَه على لِسانِ نبيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -. فَلْيَطْمَئِنَّ المُسْلمونَ، ولْيَهْنَإ المُؤمِنونَ، فإنَّ هذا الدينَ -وللهِ الحمدُ- محفوظُ بحفظِ الله سُبحانَه له: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]؛ كتابًا وسُنَّةً. ° قال الشيخ "محمد الصادق عُرجون": "أَقحَمَ بعضُ كُتَّابِ السيرةِ النبويةِ، وجماعةٌ مِن المُفَسِّرينَ، وطوائفُ مِن المُحَدِّثينَ؛ في كُتُبهم ودَواينِهم ومؤلَّفاتِهم أُقصوصَةَ الغَرانِيقِ (¬2)، وأَلْصَقُوها بهجرةِ الحبشةِ، وجَعَلوها سَببًا لعوْدَةِ المَهاجرينَ الأوَّلينَ إلى مكَّةَ، وهي أُقصوصَةٌ مختلَقَةٌ، باطلةٌ في أَصلِها ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ. (¬2) وسيأتي إيرادُها بتفاصيلها كافَّة، وبطرُقها جميعًا. "والغَرانِيقُ: الذُّكور مِن طيرِ الماء، واحِدُها: غُرْنوق؛ كعُصْفور، أَو غِرْنَوْق؛ كفِرْدَوس، أَو غِرْنَيْق؛ كمِعْلَيْق، أَو غِرْنِيقِ؛ كَمِسْكين. وهي طيورٌ بيضٌ طويلةُ الأعناقِ والقوائمِ. وقيلَ: الغُرْنُوقُ: هو الكُرْكِيّ. ومَعْنى قولِ الشَّيطانِ: "تلكَ الغَرانِيقُ العُلَى": أَنَّ الأصنامَ في عُلُوِّ مَنْزِلَتِها ورفعَةِ شأْنِها؛ كالغرانيقِ المرتفعة نحو السماء في طَيرانها". كذا في "رحلة الحج إلى بيت الله الحرام" (ص 129) للشيخ العلامة محمد الأمين الشِّنقيطي.

وفصْلِها، وأُكذوبةٌ خبيثةٌ في جُذورها وأغَصانِها، وفِرْيَةٌ متزندِقَةٌ اختَرَقَها غِرْنَوقٌ أَبلهُ جَهولٌ، أَو شيخٌ حاقدٌ على الإِسلامِ زِنديقٌ، أَو منافِقٌ فاجرٌ عِربيدٌ، أَلقى بها إليهِ شيطانٌ عابِثٌ مَريدٌ، يتلَعَّبُ بعُقولِ البُلْهِ المُغَفَّلينَ، الذين يَتَكَثَّرون تَعالُمًا، ويَتَلَقَّفونَ كُلَّ شوهاءَ فَجُورٍ، فجَرَتْ إلى مَجتمعاتِ أَعداءِ الإِسلام، مِن كُلِّ يهوديٍّ خبيثٍ، وكُلِّ مُلحدٍ عَتِيٍّ. وسَرَتْ منهُم إلى كُلِّ مُسلمٍ أَبْلَهَ مُغَرَّرٍ، وكُلِّ متَعالِمٍ مُغَفَّلٍ، وكُلِّ جَدَليٍّ مَتفَيْهقٍ، وكُلِّ مغرورٍ مخدوعٍ بكواذبِ المدحِ والثَّناءِ، وكُلِّ حَفَّاظٍ صمَّامٍ، وكُلِّ مُلَبَّسٍ عليه يزعُمُ أَنه مجتهدٌ، وكُلِّ خابطٍ هنا وهناك يتكذَّب، وكُلِّ حاطبٍ في ظُلماتِ الجهلِ، يتلقَّفُ العلمَ مِن وراءِ طَنينِ الأسماءِ؛ دونَ تمحيصِ ناقدٍ أَو بحثِ مُسَدَّدٍ، وكُلِّ مُدَّعٍ دَعِيٍّ، وكُلِّ مُتَسَقِّطٍ يزعُمُ أَنَّهُ مجدِّدٌ، وكُلِّ ملتقطٍ يزعُمُ أَنَّهُ مُتَنَقٍّ، وكُلِّ مَزْهُوٍّ بالغُرورِ يزعُمُ أَنَّه وحيدُ دهرِهِ، وفريدُ عصرهِ، بل واحدُ أُمَّتِه، لو قيلَ له: "إنَّ الشيطانَ يُلَبِّسُ عليك في عِلْمِك، فيُوهِمُك ما ليس بحقٍّ أَنه حقٌّ"؛ لانتفخَتْ أَوداجُهُ غَضَبًا لنفسِه، ولكنَّه يُقْبِلُ ويدافعُ دفاعَ المستميتِ عن قِصَّةٍ مُزَوَّرةٍ تَهْدِمُ أَصلَ أُصولِ الإِسلامِ، وتَخرِقُ سياجَ النُّبُوَّةِ، وتُبطِلُ عِصمةَ الأنبياءِ؛ اعتمادًا على رَمْرَمَةٍ مِن مراسيلَ واهيةٍ. فباضَتْ هذه الأكذوبةُ البَلْهاءُ بينَ أَحضانِ هؤلاءِ، وفَرَّخَتْ في أَعشاشِهم، وزَقْزَقَتْ أَفراخُها في أَوكارِهِم، وطارتْ بأَجنحةِ الافتراءِ الأبلهِ إلى آفاقِ التاريخِ الإِسلاميِّ المظلومِ، فتَلَقَّفَها كُلُّ رَاوَنْدِيٍّ ملحدٍ، وحَمَلَها كلُّ زِنديقٍ مُفسدٍ؛ لِيْطعَنَ بها في سُويداءِ قلبِ القرآنِ الكريمِ الحَكيمِ المُحْكَمِ، ويفتِكَ بخنجرِها بالسُّنةِ المطهَّرةِ المُبيِّنةِ -وهما أَصلُ أُصولِ الإِسلام اللذانِ قامَ

على دعائِمِهِما شامِخُ صَرْحِ هذا الدينِ القَيِّمِ-؛ لِيُزَعْزعَ الثقةَ بأَصليهِ، فينْفَلِتَ مِن أَيدي المسلمينَ زِمامُ دينِهِم الذي أَنزلَهُ اللهُ تعالى هدًى ورحمةً للعالَمينَ، لِيَهْدِمَ بهِ كُلَّ بناءٍ للوثنيةِ والإلحادِ، ويَقْضِيَ بهدايِتِه على مَعالِمِ الشركِ والإِفسادِ، ويُضَعْضعَ بآياتِه كُلَّ تفلسُفٍ مُتَزَنْدِقٍ، وكُلَّ زندقةٍ متفلسفةٍ، ويُقيمَ بشرائعِهِ وأَحكامِهِ منائرَ التوحيدِ الخالِصِ للهِ تعالى وحدَهُ، وينْشُرَ بآدابِه في آفاقِ الحياةِ نورَ الحقِّ والخيرِ. هذه الأكذوبةُ الغِرْنَوقيَّةُ الخبيثةُ تريدُ من المسلمينَ أَن يَجْعَلوا مِن سيِّدِ المرسَلينَ، خاتَمِ الأنبياءِ، محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، أُلعوبةً في يدِ الشيطانِ، وأَنْ يَجْعَلوا منهُ - صلى الله عليه وسلم - مَعْبَثَةً للشِّركِ والمُشركينَ، وأُبطولةً يَرقُصُ مِن حَوْلِها المَلاحدةُ والحاقِدونَ!. ولكنَّ اللهَ تعالى يأْبى إلَّا أن يَجْعَلَ مِن دينِهِ -دينِ الإِسلامِ الذي رَضِيَهُ لأمَّةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - حِصْنًا حَصينًا، لا تَقْتَحِمُهُ الأباطيل والتُرَّهاتُ، ولا تَنْطَلي على حُذَّاقِ حَمَلَتِه مِن الجَهابذةِ زندقةُ المُتزندِقينَ. وقد أَخبرَ سُبحانَه إخبارًا -لا يتخالَجُهُ الرَّيبُ، ولا يَحومُ حولَ حِماهُ الشَّكُّ-، بأَنه هو الذي تولَّى بنفسهِ حِفْظَهُ بحفظِ دستورِهِ: القُرآنِ الحكيمِ المحكَمِ، فلا يدخُلُ إلى ساحتِهِ افتراءُ المُفْتَرينَ، ولا يَلجُ إلى حَظيرةِ قُدْسِهِ عَبَثُ الشياطينِ، فقالَ تَعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. ولْيَتَأَمَّلِ المُتَأَمِّلونَ في هذهِ الآيةِ الحكيمةِ المحكَمَةِ، وفي قولِ اللهِ تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا

لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: 44]؛ لِيَرَوا ما أَضْفَى رَبُّ العِزَّة تبارَكَ وتعالى على كِتابِهِ: القرآنِ الحكيمِ المحكَمِ مِن حفاوةِ الاختصاصِ بتَوَلِّي حفظهِ، وإسنادِ ما أَفاضَهُ على التَّوارةِ من فَضْلِهِ، فوَكَّلَ حفظَهُ إلى الرَّبَّانِيِّينَ والأحْبارِ. ° قالَ أَبو حَيَّانَ في "البحرِ": "وقد أَخَذَ اللهُ على العُلَماءِ حِفْظَ الكِتابِ -أَي: التوراةِ- مِن وجهينِ: أَحَدُهما: حِفْظُهُ في صُدورِهِم، ودَرْسُهُ بأَلسنَتِهم. والثاني: حِفْظُهُ بالعَمَلِ بأَحكامِهِ، واتِّباعِ شَرائِعِه. وهؤلاءِ ضيَّعوا ما اسْتُحْفِظوا حتى تبدَّلَتِ التَّوراةُ. وفي بناءِ الفعلِ للمفعولِ وكَوْنِ الفعلِ للطَّلَبِ ما يدلُّ على أَنَّه تعالى لم يتكَفَّل بحفظِ التوراةِ، بل طَلَبَ منهُم حِفْظَها، وكلَّفَهُم بذلك، فغَيَّروا وبدَّلوا، وخالَفوا أَحكامَ اللهِ؛ بخلافِ كتابِنا، فإنَّ اللهَ تعالى تَكَفَّلَ بحفظِهِ، فلا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فيهِ تَبْديلٌ ولا تَغْييرٌ، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ". أَفَلا يعْقِلُ الغِرْنوقيُّونَ؟!. هذه الأكذوبةُ الخبيثةُ البلهاءُ كانت إحدى الفِرَى الحاقِدةِ التي طوَّفَتْ ببعضِ مؤلَّفاتِ الجَمَّاعينَ للغَثِّ والسَّمينِ، فرواها في غَفْلَةٍ مِن عقلِهِ وعِلْمِهِ بعضُ المفسِدينَ، وأُدخِلَتْ على بعضِ المُحَدِّثينَ؛ مُغَلَّفةً بأَغْلِفَةِ الأسانيدِ، مُحاطَةً بهالاتِ بريقِ الأسماءِ، فردَّدَها بأَساليبَ مختلفةٍ، وفَرَطَحَها كثيرٌ ممَّنْ تلقَّفَها بالبُلْهِ والغَفْلةِ، ورَتَعَتْ في أَسفارِ المُؤرِّخينَ، فأَعادُوا فيها

وأَبْدَوْا، وزادُوا ونَقَصُوا، وأَثْبَتُوا وحَذَفُوا، وشَوَّهُوا وزَيَّنُوا، ومَسَخُوا وحَرَّفُوا، وتلقَّاها القَصَّاصُونَ فغَنَّوا بها، وكانَ إبليسُ هو عازفَ موسيقاها في أَنديَتِهم ومجالِسِهم، ومَصْمَصَتْ لسماعِ أَباطيلِها شفاهُ الجاهِلينَ مِن غَوْغَاءِ العامَّةِ، وعامَّةِ الغوغاءِ، الذينَ تَكْبُرُ في صدورِهِم الغَرائِبُ والأعاجيبُ مِن المُضْحِكاتِ المُبكِياتِ، فَيَهِشُّونَ لها، وَيتزاحَمونَ على محافِلِها. بَيْدَ أَنَّ هذه الأُقصوصَةَ الخبيثةَ والأكذوبَةَ البلهاءَ لم تُفْلِتْ مِن سِياطِ النَّقْدِ المُمَحِّصِ، فنَهَضَ إليها مِن الجَهابذةِ المَهَرَةِ، والحذَّاقِ العيالمِ مِن أَئمَّةِ الإِسلامِ، المشهودِ لهُم بالفضلِ والصِّدْقِ والتَّبَحُّرِ والتفقُّهِ في الدينِ مَن طَعَنَها في أَقتلِ مقاتِلِها، فبَهْرَجَ زَيْفَها، وكَشَفَ عن سَوْأَتِها، وعرَّاها شوهاءَ متزندقةً، وجَلَّاها بَلْهاءَ مُلْحِدةً، وأَظهَرَها فِرْيةً مستَخْبَثَةً. ولكنَّها ظَلَّتْ تَعيشُ في أَوديةِ الشياطينِ، تتربَّصُ للوثْبةِ؛ لتُفْسِدَ على المجتمعِ المسلمِ حياتَهُ الإِيمانيَّةَ، بتشكيكِهِ في أَصلِ أُصولِ دينِه، ودُستورِ حياتِه: القُرآنِ الحكيمِ المحكمِ، وتُزَعْزعَ ثقتَهُ في صِدْقِ نبيِّهِ، سيِّدِ الأنبياءِ والمُرسلينَ، محمدٍ خاتَمِ النَّبِيِّينَ - صلى الله عليه وسلم -؛ لِيُصْبحَ هذا المجتمعُ المسلمُ الذي اكْتَسَحَ حياةَ الوثنيَّةِ والإلحادِ المشركِ بهُدَى قُرآنِه وسُنَّةِ نبيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - فريسةً للإلحادِ الجديدِ على أَلسنَة المستَشْرِقينَ، والمُبَشِّرينَ الصَّليبِيِّينَ، واليهودِ السبائيِّينَ، والزنادقةِ الرَّاوَنْدِيِّينَ، والمُتَحَلِّلينَ مِن فجَّارِ الشُّيوعيِّينَ؛ الذينَ عَجَزوا عن مُوافَقَةِ القرآنِ في مواجهةٍ فكريَّةٍ، ومُحاجَّةٍ علميَّةٍ، فلاذوا إلى الافتراء يختَلِقونَهُ، وإلى الأباطيلِ يَزْرَعُونَها في أَرضهِ، في غَفْلةٍ مِن حُرَّاسِهِ الغُرِّ المَيامِينِ؛ لِيُغَيِّروا معالِمَ هدايَتِه، وُيشَوِّهوا حقائِقَ دُستورِهِ، ويَخْلَعوا عن

نبيِّهِ، سيِّدِ الأنبياءِ والمُرْسَلينَ، خِلْعَةَ العِصْمَةِ التي حَفِظَهُ الله بها عن أَيِّ خَطَإ فيما يُبَلِّغُهُ الرسولُ عن اللهِ تعالى مِن الشَّرائعِ والأحكامِ إلى الخَلْقِ كافَّةً، فكانَتْ عاصِمًا لهُ - صلى الله عليه وسلم - من أَنْ يكونَ للشيطانِ عليهِ سَبيلٌ. والعِصْمةُ عن الخطإ فيما يُبَلِّغُه الرسولُ عن اللهِ تعالى ثابتةٌ بإجماعِ طوائِفِ الأمَّةِ خَلَفًا عن سَلَفٍ، لم يُعْرَفْ في هذا مخالِفٌ؛ إلَّا مَن أَوَّلَ وحَرَّفَ وبدَّلَ، وذلكَ أَمرُهُ إلى الله، يتولَّى جزاءَهُ بما يستَحِقُّ مِن جزاءٍ. وقد تناوَلَ هذه الأقْصوصَةَ كثيرٌ مِن القُدَامى والمتأَخِّرينَ، وكانَ منهُمْ مَن لهُ دِرايةٌ بصناعةِ التَّحديثِ، ونقدِ الرواياتِ الحَدِيثيَّة، فأَجادَ في بيانِ زَيْفِ جميعِ رواياتِ الأقْصوصَةِ، وما فيها مِن وَهْيٍ ووَهَنٍ يَنْسِفانِها نَسْفًا، ويَذْرِيانِ رَميمَها في مَهَبِّ أَعاصيرِ الأباطيلِ، ولكنَّهُ كَعَّ عن الصَّراحَةِ في الردِّ على مَن أَثْبَتَها مِن الأكابِرِ ذَوِي الشُّهْرَةِ والرَّنينِ. وكُلُّ أحدٍ مِن النَّاسِ يؤخَذُ مِن قولِهِ ويُرَدُّ عليه؛ إلَّا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فهو وحدَهُ المعصومُ عن أَنْ يُبَلِّغَ عن اللهِ إلَّا ما هُو حقٌّ وهُدًى. والمتأَمِّلُ في صنيعِ الجهابِذَةِ مِن جُنْدِ اللهِ، ومَهَرَةِ عيالِمِ عُلومِ تفسيرِ القُرآنِ والسُّنَّةِ وحُذَّاقِها؛ فِقْهًا وتفقُّهًا وصناعةً، في تزييفِ أُقصوصةِ الغَرانيقِ البَلهاءِ وإبطالِها في مَنابِتِها، واستحالَةِ وُقوعِها؛ يَجِدُ هذا الصنيعَ أَقْوَمَ مَسْلَكًا، وأَسدَّ منهجًا، وأَعمقَ منبعًا، وأَرضى مَصْرِفًا، وأَصدَقَ بُرهانًا، وأَسطعَ حُجَّةً، وأَضْوَأَ مَشْرِقًا، وأَصْفَى مَشْرَبًا، وأَعدَلَ مَقْصِدًا، وأَبدَعَ مَشْرَعًا، وأَحقَّ مُتَقَبَّلاً، وأَعذَبَ مَذاقًا، وأَحلى مَوْرِدًا، وأَنجعَ شِفاءً، وأَقطعَ لجذورِ الفِتْنَةِ؛ لأنَّه يَجمَعُ النظرَ المُحكمَ من جميعِ جوانِبِه النقليَّةِ

والعقليَّةِ، فلا يَدَعُ منها جانبًا لغامزٍ، ولا يترُكُ فيها سَبيلاً لقولِ مُتكذِّبٍ" (¬1). ° قالَ الدُّكتور: "نبيل السَّمَّان" في كتابهِ "هَمَزات شَيطانِيَّة وسَلْمان رُشْدي" (ص 55): " .. أَما قصَّة الغَرانِيق العُلا التي يُرَكِّز عليها ويستثمرُها أَعداءُ الإِسلامِ أَسوأَ استثمارٍ، هي في الأصلِ أُكذوبةٌ معروفةٌ ومَأْلوفَةٌ ورائِجَةٌ، ثم جَاءَ سَلْمان رُشْدي لِيُثيرَها مِن جَديدٍ، وقَدْ وَقَعَتْ مِن نفْسِهِ موْقِعًا مُلائِمًا، فقدْ سَمَّاها بعضُ المستَشْرِقينَ في القرنِ التاسعَ عشَرَ بأَسماءٍ كَثيرةٍ؛ كـ "سَهْوة محمَّد" (!)، أَو "صُلْحٌ معَ الشِّركِ" (!)، وقد وَرَدَتْ كذلك في "المَوْسوعَة التَّاريخِيَّة للقُرونِ الوُسْطى" التي أَصْدَرَتْها جامعةُ "كامبرج" ( Cambridge) في لندن. فسلمان رُشْدي يُكَرِّر إذًا افتراءاتِ المُسْتَشْرقينَ؛ أَمثال "كارل بروكلمان" ( Carl Brocklman) في كتابهِ "تاريخ الشُّعوب الإِسلامِيَّة" (ص 34 - 35)، وكذلكَ ما وَرَدَ في كتاب "دراسات تاريخيَّة" باللغة الإِنجليزية للدكتور "فاخر عاقل" (!) تحت عنوان "بدء المعارضة والآيات الشيطانية" .. " (¬2). ° وقال الدُّكتور "شمس الدين الفاسِي" في كتابهِ "آيات سماويَّة في الردِّ على كتاب آياتٍ شيطانِيَّة" (ص 59): " .. كان سَلْمان رُشْدي يبحثُ عن مَطْعَنٍِ في القُرآن، أَو في عِصْمَةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلمْ يَجدْ ما يَنْقَعُ غُلَّتَهُ الشَّيطانيَّة، فدسَّ في روايتِه هذه قصَّةً مختَلَقةً على النبيِّ، أَثبتَ العُلَماءُ ¬

_ (¬1) "محمد رسول الله" للشيخ محمد الصادق عرجون (2/ 30 - 34). (¬2) "همزات شيطانية وسلمان رشدي" (ص 55) للدكتور نبيل السمَّان.

الثِّقاتُ كَذِبَها بالحُجَجِ البالغةِ، والأدلَّةِ الدَّامِغَةِ .. " (¬1). ° ثمَّ قالَ بعدَ كلامٍ: "هذه القصَّةُ الخُرافِيَّةُ أَسَّس عليها الزِّنديقُ سَلْمان رُشْدِي روايَتَهُ، فلم يَأْتِ إلَّا بكُفْرٍ قديمٍ قيلَ في مَكَّةَ قبلَ الهِجْرَةِ، وحاوَلَ المُسْتَشْرِقونَ أَنَّ يَتَّخِذوا مِنهُ مِعْوَلاً لهَدْمِ الإِسلامِ، فوَهَنَتْ قُواهُمْ، وبَقِيَ الإِسلامُ شامِخًا صُلْبًا رُغْمَ أَنْفِ المستَشْرِقينَ والزَّنادِقَةِ والمُلحِدينَ". ° وقالَ الأستاذُ "سعيد أَيُّوب" في كتابِهِ "شيطانُ الغَرْبِ سلمان رُشْدي: الرجل المارق" (ص 130): "ثم التقَطَ صاحِبُ "الشَّائِعاتِ الشَّيطانيَّةِ" حديثًا يُسَمَّى بحديثِ الغَرانيقِ، ونَسَجَ عليهِ ثوبَهُ، فما يقولُ هذا الحديثُ؟ " (¬2). ° ثم قالَ بعدَ إيرادِهِ لها وكلامِهِ عنها: "فأَيُّ شيطانٍ هذا الذي عَكَفَ عليهِ الحِلْفُ الشَّيطانيُّ، وقَذَفوا بهِ على رسولِ الفِطْرَةِ؟! إنَّ الطَّابورَ الشيطانِيَّ أَرادَها أُمنياتٍ شيطانِيَّةً بعدَ أَنِ الْتَقَطَ أَحاديثَ وأَقاصيصَ مِنْ هُنا وهناكَ سَنَدُها غيرُ مُتَّصِلٍ .. ". ° ثم خَتَمَ بحثَهُ قائلاً بعدَ كلامٍ: "وبناءً على ما ذَكَرْنا وما قَدَّمْنا؛ فإنَّ قصَّةَ الغَرانِيقِ وضَعَها الحِلفُ الإِبليسيُّ قديمًا؛ ليستغِلَّها الحِلْفُ الإبليسِيُّ حَديثًا، للصَّدِّ عن سبيلِ اللهِ، ولكنَّ كتابَ اللهِ تعالى تَصَدَّى لهذه المُحاوَلاتِ، وضَرَبَها في مقتَلٍ، فانْهارَتْ حُصونُ الضَّلالِ قَديمًا؛ كما ¬

_ (¬1) "آيات سماوية في الردِّ على كتاب آيات شيطانية" للدكتور شمس الدين الفاسي (ص 59). (¬2) "شيطان الغرب سلمان رشدي .. الرجل المارق" لسعيد أيوب (ص 130).

انهارَتِ اليومَ، وكما سَتَنْهَارُ مُستَقْبَلاً، وسَيَبْقى نبيُّ الإِسلامِ وكتابُ الإِسلامِ نورًا واحدًا يَشعُ على الطَّريقِ المُستقيمِ؛ ليكونَ حُجَّةَ اللهَ على جميعِ خَلْقِهِ". وهكذا يتناوَلُ سَلْمان رُشْدي هذه القصَّةَ الباطلةَ؛ لِيَجْعَلَها سيفًا مُصْلَتًا يُحارِبُ بهِ الإِسلامَ وأَهلَهُ!. وهو -لِفَرْطِ حَقْدِهِ- يجهَلُ أَو يتجاهَلُ أَنَّ هذه القصَّةَ مصنوعةٌ منكرةٌ باطلةٌ، أَنكرَها عُلماءُ الأمَّةِ، وصفوةُ الأئمَّةِ. ° قالَ الإمامُ ابنُ حَزْمٍ الأندلُسيُّ في "الفِصَل في الملَلِ والأهواءِ والنِّحَلِ": "والحديثُ الكاذِبُ الذي لَمْ يَصِحَّ قَطُّ فِي قِراءَتِه - عليه السلام - في: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}، وذَكَروا تلكَ الزِّيادةَ المُفْتَراةَ: "وإنَّها لَهِيَ الغَرانيقُ العُلاَ، وأنَّ شَفاعتَها لتُرْتَجى" .. ". ° ثم قال: "وأَمَّا الحديثُ الذي فيهِ الغَرانِيقُ؛ فكَذِبٌ بَحْتٌ مَوضوعٌ؛ لأنَّهُ لم يَصحَّ قَطُّ مِن طريقِ النَّقْلِ، ولا مَعْنى للاشتِغالِ بهِ، إذْ وَضْعُ الكَذِبِ لا يعْجِزُ عنهُ أَحَدٌ". ° "وهكذا .. في سلسلةٍ مِن المَقالاتِ المَتينَةِ القويَّةِ لجهابِذَةِ العُلماءِ الذين أَنْكَروا وقوعَ هذه الأُقصوصَةِ الباطلةِ، وأَثْبَتُوا أَنهَّا مِن المُحالِ وقوعُهُ في حَياةِ سيِّدِ المُرسَلينَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وزَيَّفوا رواياتِها، وكَشَفوا عن خَبْئِها، وما تضمَّنَتْهُ مِن شَرٍّ مُستطيرٍ، وفسادٍ كبيرٍ، يَجبُ أَنْ تُبَرَّأَ مِن شَناعَتِهِ ساحَةُ الرسالةِ المحمَّدِيَّةِ الخاتمةِ الخالِدَةِ الهاديةِ؛ لِنَسُدَّ على شَياطينِ الإِلحادِ مِن أَعداءِ الإِسلامِ مَداخِلَهُم؛ لإِفسادِ عَقائِدِ هذا الدِّينِ القَيِّمِ في نفسِ مُعتنِقيهِ،

من درر الألباني في رسالته القيمة "نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق"

وزَعْزَعَةِ الثِّقةِ بكتابِهِ المُبينِ ورسولِهِ الأمينِ - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). * مِن دُرَرِ الألبانيِّ في رسالته القيِّمة "نَصْبُ المجانيق لِنَسْفِ قِصَّةِ الغرانيقَ": ° رَحِمَ اللهُ ابنَ المبارك القائلَ حين سُئل: "هذه الأحاديثُ الضعيفةُ والموضوعة، ما نَصنعُ فيها؟ " قال: يعيشُ لها الجَهابذةُ من الرجال .. قال الله -عز وجل-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ". ولقد سَوَّد الدجَّالُ الهنديُّ المفترِي كتابَه "آيات شيطانية بقصَّةِ "الغرانيق"، ونحن نَنصِبُ المجانيق من كلامِ شيخِنا الألباني لنَسْفِ قصةِ الغرانيق: ° قال الألباني - رحمه الله -: "قبل أن أشرعَ في سَوقِ رواياتِ القصَّة، أرى أنه لا بدَّ مِن أن نذكرَ كلمةً، تتميمًا لفائدةٍ الرسالة، فأقول: إنَّ هذه القصةَ قد ذَكَرها المفسِّرون عند قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ الله مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 52 - 54]. وقد اختَلفوا في تفسير قوله تعالى: {تمنَّى} و {أُمْنِيَّتِهِ}، وأحسنُ ما قيل في ذلك: إن "تمنَّى" من "الأمنية" وهي التلاوة، كما قال الشاعر في عثمانَ - رضي الله تعالى عنه - حين قتل: ¬

_ (¬1) كتاب "محمد رسول الله" (2/ 35) لمحمد الصادق عرجون.

تَمنَّى كتابَ اللهِ أولَ ليلةٍ ... وآخِرَها لاقى حِمامَ المَقادِرِ وعليه جمهورُ المفسِّرين والمحقِّقين، وحكاه ابنُ كثير عن أكثرِ المفسرين، بل عزاه ابنُ القيم إلى السلف قاطبةً، فقال في "إغاثة اللهفان" (¬1) (1/ 93): "والسلفُ كلُّهم على أنَّ المعنى: إذا تلا ألقى الشيطانُ في تلاوته". وبيَّنه القرطبيُّ، فقال في "تفسيره" (12/ 83): "وقد قال سليمانُ بنُ حرب: إن "في" بمعنى: "عند"، أي ألقى الشيطانُ في قلوبِ الكفار عندَ تلاوةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، كقوله -عز وجل-: {وَلَبِثْتَ فِينَا} [الشعراء: 18]، أي عندنا، وهذا هو معنى ما حكاه ابنُ عطيَّةَ، عن أبيه، عن علماءِ الشرق، وإليه أشار القاضي أبو بكر بن العربي. قلتُ: وكلامُ أبي بكرٍ سيأتي في مَحِلِّه -إن شاء الله تعالى-، وهذا الذي ذَكَرْناه من المعنى في تفسيرِ الآية، هو اختيارُ الإمام ابنِ جرير، حيث قال بعد ما رواه عن جماعةٍ من السلف (17/ 121): "وهذا القولُ أشبهُ بتأويل الكلام، بدلالةِ قوله تعالى: {فَيَنْسَخُ الله مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ} [الحج: 52]، على ذلك؛ لأن الآياتِ التي أَخبر اللهُ جَلَّ ثناؤه أنه يُحكِمُها، لا شكَّ أنها آياتُ تنزيله، فمعلومٌ بذلك أن الذي ألقى فيه الشيطان، هو ما أخبر الله تعالى ذِكره أنه نَسَخ ذلك منه وأبطَلَه، ثم أحكَمَه بنسخه ذلك منه، فتأويلُ الكلام إذن: وما أرسَلْنا مِن قَبلِك مِن رسولٍ ولا ¬

_ (¬1) انظر طبعة المكتب الإِسلامي ودار الخاني، تحقيق الأستاذ محمد عفيفي، الطبعة الثانية، (1/ 150).

روايات القصة وعللها

نبيٍّ إلَّا إذا تلا كتابَ الله وقَرَأَ أو حَدَّث وتكلَّم، ألقى الشيطانُ في كتابِ الله الذي تلاه وقرأه، أو في حديثهِ الذي حَدَّث وتكلَّم، فيَنسخُ اللهُ ما يُلقِي الشيطانُ بقوله تعالى: فيُذْهِب اللهُ ما يُلقِي الشيطانُ من ذلك، على لسانِ نبيِّه ويُبطِلُه". هذا هو المعنى المرادُ من هذه الآية الكريمة، وهي كما ترى ليس فيها إلَّا أن الشيطانَ يُلقِي عند تلاوةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ما يَفتَتِنُ به الذين في قلوبهم مرضٌ، ولكنَّ أعداءَ الدين الذين قَعَدوا له في كلِّ طريق، وترصَّدوا له عند كلِّ مَرْصَد، لا يُرضِيهم إلَّا أن يَدُسُّوا فيه ما ليس منه، ولم يَقُلْه رسولُه، فذَكروا ما ستراه في الرواياتِ الآتية، ممَّا لا يَليقُ بمَقامِ النبوَّةِ والرسالة، وذلك دَيْدَنُهم منذ القديم، كما فَعلوا في غيرِ ما آيةٍ وَرَدَت في غيرِه - صلى الله عليه وسلم - من الأنبياء، كداودَ، وسليمانَ، ويوسفَ عليهم الصلاة والسلام، فرَوَوْا في تفسيرها من الإسرائيلياتِ ما لا يَجوزُ نسبتُه إلى رجلٍ مسلم، فضلاً عن نبيٍّ مُكَرَّم، كما هو مبيَّنٌ في مَحِلِّه من كتب التفاسير والقصص. فحَذارِ -أيها المسلمُ- أن تَغتَرَّ بشيءٍ منها فتكونَ من الهالكين، و"دع ما يَريبُك إلى ما لا يَريبك" كما قال نبيُّك - صلى الله عليه وسلم -، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 54]. * رواياتُ القِصَّةِ وعِلَلُها: بعد أن فَرَغْنا من ذِكرِ الفائدةِ التي وَعَدْنا بها، أعودُ إلى ذِكرِ رواياتِ القصةِ التي وَقَفْنا عليها لكي نسرُدَها روايةً روايةً، ونَذكرُ عَقِبَ كل منها ما فيها من علةٍ، فأقول:

1 - عن سعيد بنِ جُبيرٍ قال: "لَمَّا نَزَلت هذه الآية: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19]، قرأها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "تلك الغرانيقُ العُلى، وإن شفاعَتَهُن لتُرجَّى"، فسَجَد رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال المشركون: إنه لَم يَذكُرْ آلهتَهم قبلَ اليوم بخير، فسَجَد المشركون معه، فأنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ .. } إلى قوله: {عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج: 52 - 55] ". أخرجه ابن جرير (17/ 120) من طريقين عن شُعبةَ، عن أبي بِشرٍ عنه، وهو صحيحُ الإِسناد إلى ابنِ جُبير، كما قال الحافظ على ما يأتي عنه، وتَبِعه السيوطيُّ في "الدر المنثور" (4/ 366)، وعزاه لابن المنذر أيضًا وابن مَردُويه بعد ما ساقه نحوَه بلفظ: "ألقى الشيطانُ على لسانه: تلك الغرانيقُ العلى" الحديث، وفيه: "ثم جاءه جبريلُ بعد ذلك، قال: اعرِضْ عليَّ ما جِئتُك به، فلمَّا بَلَغ: "تلك الغرانيقُ العلى، وإن شفاعَتَهنَّ لتُرجَّى" قال جبريلُ: "لم آتِك بهذا، هذا منَ الشيطان! "، فأنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الحج: 52]. وهكذا أخرجه الواحِدِيُّ في "أسباب النزول" من طريقٍ أخرى عن سعيدِ بنِ جبير، كما سيأتي. وقد رُوي موصولاً عن سعيد، ولا يصحُّ: رواه البزَّار (¬1) في "مسنده" عن يوسفَ بنِ حَمَّادٍ، عن أُمَيَّةَ بن خالد، عن شُعبةَ، عن أبي بِشرٍ، عن سعيدِ بنِ جُبير، عن ابن عباس -فيما أحسبه، ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (12/ 12450)، والضياء المقدسي في "المختارة" من طريق الطبري.

الشك في الحديث- أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قرأ بمكة سورة "النجم" حتى انتهى إلى قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19]، وذكر بقيَّته، ثم قال البزَّار: "لا نَعلمُه يُروى متَّصِلاً إلَّا بهذا الإسناد، تفرَّد بوَصلِه أُميةُ بن خالد وهو ثقةٌ مشهور، وإنما يُروى هذا من طريق الكَلْبِيِّ، عن أبي صالحٍ، عن ابن عباس" .. كذا في "تفسير ابن كثير" (3/ 129). وعزا الحافظُ في "تخريج الكشاف" (4/ 144) هذه الروايةَ "للبزَّار، والطبري، والطبراني، وابن مردويه"، وعزوه للطبري سَهْوٌ، فإنها ليست في تفسيره -فيما علِمتُ- إلَّا إنْ كان يعني غيرَ التفسير من كتبه، وما أظنُّ يريدُ ذلك، ويؤيِّدُني أن السيوطيَّ في "الدر" عزاها لجميعِ هؤلاء إلَّا الطبريَّ، إلَّا أن السيوطيَّ أَوْهَمَ أيضًا، حيث قال عطفًا على ما ذُكر: "والضياء في "المختارة" بسندٍ رجالُه ثقات، من طريق سعيدِ بنِ جُبير، عن ابنِ عباس قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ .. "، فذكر الحديث مثلَ الروايةِ المرسَلةِ التي نقلناها آنفًا عن "الدر" نفسه، ومَحِلُّ الإيهامِ هو قوله: "بسندٍ رجاله ثقات"، بالإِضافة إلى أنه أخرجه الضياءُ في "المختارة"، فإنَّ ذلك يوهِمُ أنه ليس بمَعلول، وهذا خلافُ الواقع، فإنه معلولٌ بتردُّدِ الراوي في وَصلِه كما نَقلناه آنفًا عن "تفسير ابن كثير"، وكذلك هو في "تخريج الكشاف" وغيره، وهذا ما لم يَرِدْ ذكرُه في سياق السيوطيِّ، ولا أدري أذلك اختصارٌ منه، أم من بعضِ مُخرِّجي الحديث؟ (¬1) وأيًّا ما كان، فما كان يَليقُ بالسيوطيِّ أن يُغفِلَ هذه العِلَّةَ، لا سيَّما وقد صَرَّح بما يُشعِرُ أن الإسنادَ ¬

_ (¬1) ثم رأيت السيوطي قد أورده في كتابه "أسباب النزول" على الشك في رفعه فأصاب، فتبين أن لا مسؤولية فيه على غيره.

صحيح، وفيه من التغريرِ ما لا يَخفى، فإنَّ الشكَّ لا يُوثَقُ به، ولا حقيقةَ فيه، كما قال القاضي عياض في "الشفاء" (2/ 118)، وأقرَّه الحافظ في "التخريج"، لكنه قال عقب ذلك: "ورواه الطبريُّ من طريق سعيدِ بنِ جُبير مرسلاً، وأخرجه ابنُ مردويه من طريق أبي عاصمٍ النبيل، عن عثمانَ بنِ الأسود، عن سعيدِ بنِ جبير، عن ابنِ عباسٍ نحوَه، ولم يَشُكَّ في وَصْلِه، وهذا أصحُّ طرقِ الحديث .. قال البزَّار .. ". قلت: وقد نَقَلْنا كلامَ البزَّارِ آنفًا، ثم ذَكَر الحافظُ المراسيلَ الآتية، ثم قال: "فهذه مراسيلُ يُقوِّي بعضُها بعضًا". قلت: وفي عبارةِ الحافظ شيءٌ من التشويش، ولا أدري أذلك منه، أم مِن النُّسَّاخ؟ -وهو أغلبُ الظن-، وذلك لأن قوله: "وهذا أصحُّ طُرُقِ هذا الحديث" إنْ حَمَلناه على أقربِ مذكور -وهو طريقُ ابنِ مردُويه الموصولُ- كما هو المتبادَرَ، مَنَعَنا من ذلك أمور: الأول: قولُ الحافظ عَقِبَ ذلك: "فهذه مراسيلُ يُقوِّي بعضُها بعضًا"، فإنَّ فيه إشارةً إلى أنْ ليس هناك إسنادٌ صحيحٌ موصولٌ يُعتمَدُ عليه، وإلَّا لَعَرَّج عليه وجَعَله أصلاً، وجَعَل الطُّرُقَ المرسَلةَ شاهِدةً ومُقَوِّيةً له، ويؤيِّدُه الأمرُ الآتي، وهو: الثاني: وهو أن الحافظَ لَمَّا رَدَّ على القاضي عياض تضعيفَه للحديث من طريقِ إسنادِ البزَّارِ الموصولِ بسبب الشك، قال الحافظ: "أمَّا ضَعفُه، فلا ضَعفَ فيه أصلاً (قلت: يعني في رُواته)، فإنَّ الجميعَ ثِقات، وأما الشكُّ فيه، فقد يَجيءُ تأثيرُه ولو فردًا غريبًا -كذا-، لكنْ غايتُه أن يَصيرَ مرسَلاً،

وهو حُجَّةٌ عند عياض وغيرِه ممن يَقبَلُ مُرسَلَ الثِّقة، وهو حُجَّةٌ إذا اعتُضِدَ عندَ من يرُدُّ المرسَل، وهو إنما يَعتضِدُ بكثرةِ المتابعات". فقد سَلَّم الحافظُ بأن الحديثَ مُرْسَلٌ، ولكنْ ذَهَب إلى تقويتِه بكثرةِ الطُّرق، وسيأتي بيانُ ما فيه في رَدِّنا عليه قريبًا -إن شاء الله تعالى-. فلو كان إسنادُ ابنِ مردويه الموصولُ صحيحًا عند الحافظ، لرَدَّ به على القاضي عياض، ولَمَا جَعَل عُمْدَتَه في الردِّ عليه هو كثرةَ الطُّرُق، وهذا بَيِّنٌ لا يَخفى. الثالث: أن الحافظَ في كتابه "فتح الباري" لم يُشِرْ أدنى إشارةِ إلى هذه الطريق، فلو كان هو أصحَّ طُرقِ الحديث، لذكره بصريحِ العبارة، ولَجعله عُمْدَتَه في هذا الباب -كما سبق-. الرابع: أنَّ مَن جاء بعدَه -كالسيوطي وغيره- لم يذكروا هذه الرواية. فكلُّ هذه الأمورِ تَمنعُنا مِن حَمْلِ اسمِ الإشارة "هذا" على أقربِ مذكور، وتضطرُّنا إلى حَمْلِه على البعيد، وهو الطريقُ الذي قَبلَ هذا، وهو طريقُ سعيدِ بنِ جُبيرٍ المرسلُ؛ وهو الذي اعتَمَده الحافظُ في "الفتح" وجَعَله أصلاً، وجَعل الرواياتِ الأخرى شاهدةً له، وقد اقتَدَينا نحن به، فبدأنا أولاً بذِكرِ روايةِ ابنِ جُبيرٍ هذه، وإن كنَّا خالَفْناه في كونِ هذه الطرُقِ يُقوِّي بعضُها بعضًا. قلت: هذا مع العلمِ أن القَدْرَ المذكورَ من إسنادِ ابنِ مردويه الموصولِ رجالُه ثقات رجالُ الشيخين، لكن لا بدَّ أن تكونَ العِلَّةُ فيمَن دونَ أبي عاصم النبيل، ويُقوِّي ذلك -أعني كونَ إسنادِه مُعَلًّا- أنني رأيتُ هذه الروايةَ

أخرجها الواحِديُّ في "أسباب النزول" (ص 233) من طريق سَهلٍ العسكريِّ، قال: أخبَرَني يحيى (قلت: هو القطان)، عن عثمانَ بنِ الأسود، عن سعيدِ بنِ جُبير قال: "قرأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19 - 20]، فألقى الشيطانُ على لسانه: "تلك الغرانيقُ العلى، وشفاعتُهُنَّ تُرتَجى"، ففَرح بذلك المشركون، وقالوا: قد ذَكَر آلهتَنا، فجاء جبريل - عليه السلام - إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: اعرِضْ عَلَيَّ كلامَ الله، فلمَّا عَرَض عليه، قال: أمَّا هذا، فلم آتِكَ به، هذا من الشيطان، فأنزل الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الحج: 52] ". فرَجَع الحديثُ إلى أنه -عن عثمانَ بنِ الأسودِ عنِ سعيدٍ- مرسل، وهو الصحيح، لموافقةِ روايةِ عثمانَ هذه روايةَ أبي بِشْرٍ عن سعيد. ثم وقفتُ على إسنادِ ابنِ مردويه ومَتنهِ، بواسطةِ الضياء المقدسي في "المختارة" (60/ 235/ 1) بسنده عنه قال: حَدَّثَني إبراهيمُ بنُ محمد: حَدَّثَني أبو بكرٍ محمدُ بنُ عليِّ المُقْرِي البغدادي، ثنا جعفرُ بنُ محمدٍ الطيالسيُّ، ثنا إبراهيمُ بنُ محمدِ بنِ عَرْعَرة، ثنا أبو عاصمٍ النبيل، ثنا عثمانُ ابنُ الأسود، عن سعيدِ بن جبير، عن ابن عباس: "أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19 - 20]، "تلك الغرانيقُ العلى، وشفاعتهُنَّ تُرتَجى". ففرح المشركون بذلك، وقالوا: قد ذَكَر آلهتَنا .. فجاءه جبريل، فقال. اقرأ عليَّ ما جئتُك به، قال: فقرأ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19 - 20]، تلك الغرانيقُ العلى، وشفاعتُهنَّ تُرتَجى، فَقال: ما أتيتُك بهذا، هذا

عن الشيطان، أو قال: هذا مِن الشيطان، لم آتِكَ بها! فأنزل الله {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} إلى آخر الآية". قلت: وهذا إسنادٌ رجالُه كلُّهم ثِقات، وكلُّهم من رجالِ "التهذيب"، إلَّا مَن دُونَ ابنِ عَرْعَرة، ليس فيهم مَن يَنبغي النظرُ فيه غيرُ أبي بكرٍ محمدِ ابنِ عليِّ المُقْري البغدادي، وقد أورده الخطيبُ في "تاريخ بغداد" فقال (3/ 68 - 69): "محمدُ بنُ عليِّ بنِ الحَسَنِ، أبو بكر المُقرئُ، حَدَّث عن محمودِ بنِ خِداش، ومحمدِ بنِ عَمرٍو، وابنِ أبي مَذْعور .. رَوى عنه أحمدُ بنُ كاملٍ القاضي، ومحمدُ بنُ أحمدَ بنِ يحيى العطشي". ثم ساق له حديثًا واحدًا وَقع فيه مَكْنِيًّا بـ "أبي حرب"، فلا أدري أهي كنيةٌ أخرى له، أم تحرَّفت على الناسخ أو الطابع، ثم حكى الخطيبُ عن العطشي أنه قال: "تُوفِّي سنةَ ثلاثِمئِة"، ولم يَذكُرْ فيه جرحًا ولا تعديلاً، فهو مجهولُ الحال، وهو عِلَّةُ هذا الإِسناد الموصول، وهو غيرُ أبي بكرٍ محمدِ بنِ إبراهيمَ بنِ عليِّ بنِ عاصمٍ الأصبهانيِّ المشهورِ بـ "ابنِ المقرئ"، الحافظِ الثقة، فإنه متأخِّرٌ عن هذا نحوَ قرنٍ من الزمان، وهو من شُيوخِ ابنِ مردُويه، مات سنةَ (381) -إحدى وثمانين وثلاثِمِئة-، ووقع في "التذكرة" (3/ 172) "ومئتين"، وهو خطأ. فثَبَتَ ممَّا تقدَّم صوابُ ما كنَّا جَزَمْنا به قبلَ الاطلاعِ على إسنادِ ابن مردويه "أن العِلَّةَ فيه فيمَن دون أبي عاصمٍ النبيل"، وازدَدْنا تأكُّدًا من أنَّ الصواب عن عثمانَ بنِ الأسود إنما هو عن سعيدِ بنِ جبيرٍ مرسلاً كما رواه الواحدي، خلافًا لرواية ابن مردويه عنه.

وبالجملة، فالحديثُ مرسَل، ولا يصحُّ عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ موصولاً بوجهٍ من الوجوه. 2 - عن ابن شهاب: حَدَّثَني أبو بكرِ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ الحارث "أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكةَ قرأ عليهم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1]، فلما بَلَغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19 - 20]، قال: "إنَّ شفاعتَهُنَّ تُرتَجى" -سها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلَقِيَه المشركون الذين في قلوبهم مَرَضٌ، فسَلَّموا عليه، وفَرِحوا بذلك، فقال لهم: "إنما ذلك من الشيطان"، فأنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} حتى بلغ {فَيَنْسَخُ الله مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج: 52] ". رواه ابن جرير (17/ 121)، وإسنادُه إلى أبي بكرِ بنِ عبدِ الرحمن صحيح، كما قال السيوطي تَبَعًا للحافظ، لكنْ عَلَّتُه أنه مرسَل (¬1)، وعزاه السيوطيُّ لعبدِ بنِ حُميدٍ أيضًا، وأخرجه ابنُ أبي حاتم من طريقِ محمدِ بنِ فُليح، عن موسى بنِ عُقبة، عن ابنِ شهاب قال: فذكره مُطوَّلاً، ولم يذكر في إسناده أبا بكر بنَ عبدِ الرحمن، فهو مُرسَل، بل مُعْضَل، ولفظُه كما في "ابن كثير" و"الدر": "لَمَّا أُنزلت سورة "النجم"، وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجلُ يَذكُرُ آلهتَنا بخيرٍ، أقرَرْناه وأصحابَه، ولكنْ لا يَذكُرُ مَن خالَفَ دينَه من اليهودِ والنصارى بمِثلِ الذي يَذكُرُ آلهتَنا من الشَّتمِ والشر، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد اشتَدَّ عليه ما ناله وأصحابَه مِن أذاهم وتكذيبهم، وأحزَنَتْه ضلالتُهم، فكان يتمنَّى كفَّ أذاهم، (وفي "ابن كثير" هدايتهم)، ¬

_ (¬1) وقال النحاس: "هذا حديث منقطع، وفيه هذا الأمر العظيم" ذكره القرطبي (12/ 81).

فلمَّا أنزل اللهُ سورةَ "والنجم" قال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19 - 20]، ألقى الشيطانُ عندها كلماتٍ حين ذَكَر الطواغيت، فقال: "وإنهنَّ لَهنَّ الغرانيقُ العُلى، وإن شفاعَتَهُنَّ لَهِيَ التي تُرتَجى"، فكان ذلك من سَجعِ الشيطانِ وفِتنتِه، فوَقَعت هاتانِ الكلمتانِ في قلبِ كلِّ مُشرِكٍ بمكة، وذَلَّتْ بها ألسنتُهم، وتباشَروا بها، وقالوا: إن محمدًا قد رجع إلى دينهِ الأول ودينِ قومِه، فلمَّا بَلَغ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - آخِرَ "النجم" سَجَدَ، وسَجَد كلُّ مَن حَضَرَ مِن مُسلمٍ ومُشرِكٍ، ففَشَتْ تلك الكلمةُ في الناس، وأظهرها الشيطانُ حتى بَلَغت أرضَ الحبشة، فأنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الحج: 52]، فلمَّا بيَّن الله قضاءه، وبرَّأه مِن سَجعِ الشيطان، انقَلَب المشركون بضلالتهم وعُدوانهم للمسلمين، واشتدُّوا عليه" (¬1). وأخرجه البيهقيُّ في "دلائل النبوة" عن موسى بنِ عُقبةَ، ساقه من "مغازيه" بنحوه، لم يَذكُرِ ابنَ شهابٍ كما في "الدر" (4/ 367) وغيره. 3 - عن أبي العالية قال: قالت قريشٌ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جُلساؤك عَبِيدُ بني فلان، ومولَى بنِي فلان، فلو ذَكَرتَ آلهتَنا بشيءٍ جالسناك، فإنه يأتيك أشرافُ العرب، فإذا رَأَوْا جُلساءَك أشرافَ قومِك كان أرغَبَ لهم فيك، قال: فألقى الشيطانُ في أُمنيته، فنزلت هذه الآية: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19 - 20]، قال: فأجرى الشيطانُ على ¬

_ (¬1) هذا "سياق الدر" وهو مختصر عن سياق "ابن كثير" ومما فيه: "فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين، ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطانُ في مسامع المشركين".

لسانه: "تلك الغرانيقُ العُلى، وشفاعتهُن تُرتَجى، مِثْلُهن لا يُنسَى"، قال: فسَجَد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حين قرأها، وسَجَد معه المسلمون والمشركون، فلمَّا عَلِم الذي أُجرِيَ على لسانه، كَبُرَ ذلك عليه، فأنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52] ". أخرجه الطبري (17/ 120) من طريقين عن داودَ بنِ أبي هِندٍ عنه، وإسنادُه صحيحٌ إلى أبي العالية، لكنْ عِلَّتُه الإرسال، وكذلك رواه ابنُ المنذر، وابنُ أبي حاتم. 4 - عن محمدِ بنِ كَعبٍ القُرَظِيِّ، ومحمدِ بنِ قَيسٍ قالا: "جَلَس رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في نادٍ من أنديةِ قريشٍ كثيرٍ أهلُه، فتمنَّى يومئذٍ أنْ لا يأتيَه مِنَ الله شيءٌ فيَنفِروا عنه، فأنزل الله عليه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 1 - 2] فقرأها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا بَلَغ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19 - 20]، ألقى عليه الشيطانُ كلمتَينِ: "تلك الغرانيقُ العُلى، وإن شَفَاعَتَهُنَّ لتُرتَجى"، فتكلَّم بها ثم مَضى، فقرأ السورةَ كلَّها، فسَجَد في آخِرِ السورة، وسَجَد القومُ جميعًا معه، ورَفع الوليدُ بنُ المُغيرةِ ترابًا إلى جَبهتِه فسَجَد عليه، وكان شيخًا كبيرًا لا يَقدِرُ على السجود، فرَضُوا بما تكلَّم به، وقالوا: قد عَرَفْنا أن اللهَ يُحيي ويُميت، وهو الذي يَخلقُ وَيرزُق، ولكنْ آلهتُنا هذه تَشفعُ لنا عنده، إذا جَعَلْتَ لها نصيبًا فنحن معك، قالا: فلمَّا أمسى أتاه جبريلُ - عليه السلام -، فعَرَض عليه السورةَ، فلمَّا بَلَغَ الكلمتينِ اللتينِ ألقى الشيطانُ عليه قال: ما جِئتُكَ بهاتَينِ! فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "افتريتُ على الله، وقلتُ ما لم يَقُلْ"!! فأوحى الله إليه: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي

أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} (¬1) إلى قوله: {ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 73 - 75]، فما زال مغمومًا مهمومًا حتى نزلت عليه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى .. } [الحج: 52]، قال: فسمع مَن كان مِن المهاجرين بأرضِ الحبشةِ أنَّ أهلَ مكةَ قد أسلَموا كلُّهم، فرَجعوا إلى عشائرهم وقالوا: هو أحبُّ إلينا، فوَجَدوا القومَ قد ارتَكَسوا حين نَسَخ اللهُ ما ألقَى الشيطانُ". أخرجه ابنُ جرير (17/ 119) من طريق أبي مِعْشَرٍ عنهما، و"أبو مِعشَر" ضعيف، كما قال الحافظُ في "التقريب"، واسمُه "نُجَيحُ بنُ عبدِ الرحمن السِّندي". ثم أخرجه ابن جرير من طريقِ ابنِ إسحاق، عن يَزيدَ بنِ زيادٍ المَدَني، عن محمدِ بنِ كعبٍ القُرَظيِّ وحدَه به -أتمَّ منه-، وفيه: "فلما سَمِعَتْ قريشٌ ذلك فَرِحوا، وسَرَّهم وأعجَبَهم ما ذَكر به آلهتهم، فأصاخوا له، والمؤمنون مُصدِّقون نبيَّهم فيما جاء به عن ربِّهم، ولا يتَّهمونه على خطأٍ لا وهمٍ ولا زَللٍ .. "، الحديث، و"يَزيدُ" هذا ثِقةٌ، لكنَّ الراويَ عنه "ابنَ إسحاق" مدلِّس، وقد عنعنه. 5 - عن قتادةَ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يتمنَّى أنْ لا يَعيبَ الله آلهةَ المشركين، فألقى الشيطانُ في أُمنيته، فقال: "إنَّ الآلهةَ التي تُدعَى، إن شفاعَتهُنَّ لتُرتَجى، وإنها لَلْغرانيق العلى"، فَنَسخ اللهُ ذلك، وأحكَمَ الله آياته: ¬

_ (¬1) [وتمام الآية: {وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا}].

{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} (¬1) حتى بلغ {مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 19 - 23]، قال قَتادة: لَمَّا أَلقَى الشيطان ما ألقى، قال المشركون: قد ذَكر اللهُ آلهتَهم بخيرٍ، ففَرِحوا بذلك، فذَكَر قوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الحج: 53] ". ° أخرجه ابنُ جرير (17/ 122) من طريقين عن مَعْمَرٍ عنه، وهو صحيحٌ إلى قَتادة، ولكنَّه مرسَلٌ أو مُعضَل. وقد رواه ابنُ أبي حاتم كما في "الدر" بلفظٍ أتمَّ منه وهو: "قال: بينما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي عند المَقام، نَعِسَ، فألقى الشيطان على لسانِه كلمةً فتكلَّم بها، وتَعلَّق بها المشركون عليه، فقال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19 - 20]، فألقى الشيطانُ على لسانِه ولَغَى: "وإن شفاعتَهُنَّ لتُرتَجى، وإنها لَمَعَ الغرانيقِ العلى"، فحَفظِها المشركون، وأخبَرَهم الشيطانُ أن نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - قد قرأها، فذَلَّت بها ألسنتُهم، فأنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} الآية [الحج: 52]، فدَحَر الله الشيطانَ، ولَقَّنَ نبيَّه حُجَّتَه". 6 - عن عُروةَ -يعني ابن الزبير- في تسميةِ الذين خَرجوا إلى أرضِ الحبشة المرةَ الأولى (قلت: وفيه) "فقال المشركون: لو كان هذا الرجلُ يَذكُرُ آلهتَنا بخيرٍ، أقَرْرناه وأصحابَه، فإنه لا يَذكرُ أحدًا ممن خالَفَ دِينَه من اليهودِ والنصارى بمِثلِ الذي يَذكُرُ به آلهتَنا من الشَّتْمِ والشر، فلمَّا أنزل الله ¬

_ (¬1) [وتمام الآية: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ الله بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}].

-عز وجل- السورةَ التي يُذكر فيها: "والنجم" وقرأ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19 - 20]، ألقى الشيطانُ فيها عندَ ذلك ذِكْرَ الطواغيت فقال: "وإنهن لَمِنَ الغرانيقِ العُلى، وإن شفاعتهن لتُرتجى"، وذلك مِن سَجعِ الشيطان وفتنتِه، فوَقَعت هاتان الكلمتانِ في قلبِ كلِّ مُشرِكٍ، وذَلَّت بها ألسنتُهم، واستَبشَروا بها، وقالوا: إنَّ محمدًا قد رَجَع إلى دينهِ الأوَّلِ ودينِ قومه، فلما بَلَغ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - آخِرَ السورة التي فيها "النجم" سَجَد، وسَجَد معه كلُّ مَن حَضَره مِن مُسلِمٍ ومُشرِك، غيرَ أنَّ الوليدَ بنَ المغيرة -كان رجلاً كبيرًا-، فرَفَع مِلْءَ كَفِّه ترابًا، فسَجَد عليه، فعَجِب الفريقانِ كلاهما من جماعتِهم في السجودِ لسجود رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأما المسلمون فعَجِبوا من سجودِ المشركين من غيرِ إيمانٍ ولا يقين -ولم يكن المسلمون سَمِعوا الذي ألقى الشيطانُ على ألسِنَةِ المشركين-، وأمَّا المشركون فاطمأنَّت أنفُسُهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -[وأصحابِه لَمَّا سَمِعوا الذي ألقى الشيطانُ في أُمنيَّةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -]، وحَدَّثهم الشيطانُ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد قرأها في "السجدة"، فسَجَدوا لتعظيمِ آلهِتهم، ففَشَتْ تلك الكلمةُ في الناس وأظهَرَها الشيطانُ حتى بَلَغَتِ الحبشة .. فكَبُرَ ذلك على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فلمَّا أمسى أتاه جبريلُ [- عليه السلام - فشكا إليه، فأَمَره، فقرأ عليه، فلمَّا بَلَغها تبرَّأ منها جبريلُ - عليه السلام -] وقال: مَعَاذَ اللهِ من هاتين، ما أنزَلَهما ربِّي، ولا أمرَني بهما ربُّك!! فلمَّا رأى ذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شَقَّ عليه، وقال: "أطعتُ الشيطانَ، وتكلَّمتُ بكلامه، وشَرَكني في أمرِ الله" فنَسَخ الله -عز وجل- ما ألقى الشيطانُ، وأنزل عليه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} إلى قوله: {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج: 52 - 53]. فلمَّا برَّأه الله -عز

وجل- مِن سَجْعِ الشيطانِ وفِتنتهِ، انقلب المشركون بضَلالهم وعداوتهم". رواه الطبراني هكذا مرسلاً، كما في "المجمع" (6/ 32 - 34 و7/ 70 - 72) وقال: "وفيه ابنُ لَهِيعة، ولا يُحتمل هذا مِن ابنِ لَهيعة". 7 - عن أبي صالح قال: "قام رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال المشركون: إنْ ذَكَر آلهتَنا بخيرٍ ذَكَرْنا إلهه بخير، فأُلقي في أُمنيته: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19 - 20]، "إنهن لفي الغرانيقِ العُلى، وإنَّ شفاعَتَهُنَّ لتُرتَجى"، قال: فأنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ .. } الآية [الحج: 52] ". أخرجه عَبدُ بنُ حُميد كما في "الدر" (4/ 366) من طريق السُّدِّيُّ عنه، وأخرجه ابنُ أبي حاتمٍ عن السُّدِّيِّ لم يُجاوِزْه بلفظ: "قال: خَرج النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجدِ ليصلِّيَ، فبينما هو يقرأُ، إذ قال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19 - 20]، فألقى الشيطانُ على لسانِه، فقال: "تلك الغَرَانِقةُ العُلى، وإنَّ شفاعَتَهُنَّ لتُرجَّى"، حتى إذا بَلَغ آخِرَ السورةِ سَجَد وسَجَد أصحابه، وسَجَد المشركون لذِكرِ آلهتِهم، فلمَّا رَفَع رأسَه حَمَلوه، فاشتدُّوا به قُطْرَيْ مكةَ يقولون: نبيُّ بني عبدِ منافٍ، حتى إذا جاء جبريلُ عَرَض عليه، فقرأ ذَيْنِكَ الحرفَينِ، فقال جبريل: مَعاذَ اللهِ أن أكونَ أقرأتُك هذا! فاشتدَّ عليه، فأنزل الله يُطيِّبُ نفسه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ .. } الآية [الحج: 52] ". ° قلت: وقد رُويَ موصولاً عن ابن عباسٍ، أخرجه ابنُ مَردُويه من طريقِ الكَلْبيِّ، عن أبي صالحٍ، عن ابن عباس. وهذا إسنادٌ ضعيف جدًّا

-بل موضوع-، فقد قال سفيانُ: "قال لي الكَلْبيُّ: كلُّ ما حَدَّثتُك عن أبي صالحٍ فهو كذب"، والكَلْبيُّ هذا اسمُه "محمدُ بنُ السائب"، وقد كان مفسِّرًا نسَّابةً أخباريًّا. وقال ابنُ حبان: "كان الكَلبيُّ سَبائيًّا من أولئك الذين يقولون: إن عليًّا لم يَمُت، وإنه راجعٌ إلى الدنيا، ويملؤها عَدلاً كما مُلئت جَوْرًا، وإن رأوا سحابةً قالوا: أميرُ المؤمنين فيها". قال: "ومذهبُه في الدين، ووضوحُ الكذبِ فيه أظهرُ من أن يُحتاجَ إلى الإغراقِ في وَصفِه، يَروِي عن أبي صالحٍ عن ابن عباسٍ التفسيرَ، وأبو صالحٍ لم يَرَ ابنَ عباس، ولا سَمعَ الكلبيُّ من أبي صالحٍ إلَّا الحرفَ بعدَ الحرف، لا يَحِلُّ ذِكره في الكتب، فكيف الاحتجاج به؟! " (¬1). ° ورُوي من وجوهٍ أخرى عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - سيأتي ذِكرُها، ولا يصحُّ شيءٌ منها. 8 - عن الضحَّاك قال في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ .. } الآية [الحج: 52]: "فإنَّ نبيَّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكةَ أَنزل اللهُ عليه في آلهةِ العَرَب، فجَعل يتلو اللاتَ والعُزَّى، ويُكثِرُ ترديدَها، فسَمع أهلُ مكةَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يذكُرُ آلهتَهم، ففرِحوا بذلك، ودَنَوا يستمِعون، فألقى الشيطانُ في تلاوة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "تلك الغرانيق العلى، ومنها الشفاعةُ تُرجَى"، فقرأها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كذلك، فأنزل الله عليه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52] ". ¬

_ (¬1) نقلته من "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" للإمام الذهبي.

أخرجه ابنُ جرير (17/ 121) قال: "حُدِّثتُ عن الحُسينِ قال: سمعتُ معاذًا يقول: أخبَرَنا عُبيدٌ قال: سمعتُ الضَّحَّاكَ يقول .. ". قلت: وهذا إسنادٌ ضعيفٌ منقطعٌ مرسَل، الضَّحَّاكُ هذا الظاهرُ أنه ابنُ مُزاحِمٍ الهِلاليُّ الخُراسانيُّ، هو كثيرُ الإِرسال -كما قال الحافظ-، حتى قيل: إنه لَم يَثبُت له سَماعٌ من أحدٍ من الصحابة، والراوي عنه "عُبيد" لَم أعرِفْه (¬1)، وأبو مُعاذٍ الظاهر أنه سُليمانُ بنُ أرقمَ البَصْرِيُّ، وهو ضعيف -كما في "التقريب"-، والراوي عنه الحُسين هو ابنُ الفَرَج أبو عليٍّ، وقيل: أبو صالح، ويُعرف بـ "ابن الخَيَّاط" و"البغدادي"، وهو ضعيفٌ متروك، وله ترجمة في "تاريخ بغداد" وفي "الميزان" و"اللسان" ثم شيخ ابن جرير فيه مجهولٌ لم يُسَمَّ. 9 - عن محمدِ بنِ فَضَالةَ الظَّفَريِّ، والمُطَّلِبِ بنِ عبدِ الله بنِ حَنْطَبٍ قالا: "رأى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن قومه كفًّا عنه، فجلس خاليَا، فتمنَّى، فقال: "لَيتَه لا يَنزِلُ عليَّ شيءٌ يُنفِّرُهم عنِّي"، وقارَبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قومَه، ودنا منهم، ودنَوا منه، فجلس يومًا مجلسًا في نادٍ من تلك الأنديةِ حولَ الكعبة، فقرأ عليهم {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1]، حتى إذا بلغ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19 - 20]، ¬

_ (¬1) ثم تبيَّن لي أنه ابنُ سليمانَ الباهِلي، ورَوى عن الضحاك بنِ مُزاحم، وعنه جَمْعٌ، منهم أبو مُعاذِ الفضلُ بنُ خالدٍ النَّحْوي .. قال في "التقريب": "لا بأس به"، ومما ذكرنا نتبيَّنُ أيضًا أن أبا معاذٍ الراوي عن عُبيد، ليس هو سليمانَ بنَ أرقمَ، وإنما هو "الفضلُ بنُ خالد النحوي" أورده ابنُ أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (3/ 2/ 61) ولم يذكر فيه جرحًا أو تعديلاً.

ألقى الشيطانُ كلمتين على لسانِه: "تلك الغرانيقُ العُلى، وإن شفاعَتَهُنَّ لتُرتَجَى"، فتكلَّم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بهما ثم مضى، فقرأ السورةَ كلَّها، وسَجَد وسَجَد القومُ جميعًا، ورَفَع الوليدُ بن المغيرةِ ترابًا إلى جبهتِه فسَجَد عليه، وكان شيخًّا كبيرًا لا يَقدِرُ على السجود، ويقال: إن أبا أُحَيْحَةَ سعيدَ بنَ العاصِ أخذ ترابًا فسَجَد عليه رَفَعه إلى جبهته، وكان شيخًّا كبيرًا، فبَعضُ الناس يقول: إنما الذي رَفع الترابَ الوليدُ، وبعضهم يقول: أبو أُحَيحة، وبعضهم يقول: كلاهما جميعًا فَعَل ذلك .. فرَضُوا بما تكلَّم به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: قد عَرَفنا أن اللهَ يحيي ويميت، ويَخلُقُ ويَرزُق، ولكن آلهتَنا هذه تَشفعُ لنا عنده، وأمَّا إذ جَعَلتَ لها نصيبًا فنحن معك، فكبُر ذلك على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من قولهم، حتى جَلس في البيت، فلمَّا أمسى أتاه جبريلُ - عليه السلام -، فَعَرَض عليه السورة، فقال جبريل: جِئُتك (¬1) بهاتَينِ الكلمتَينِ؟!! فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُلْتُ على الله ما لم يَقُلْ"، فأوحى الله إليه: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 73 - 75] ". أخرجه ابنُ سعد في "الطبقات" (ج 1 ق 1 ص 137) (¬2): "أخبَرَنا محمدُ بنُ عمرَ قال: حدَّثَني يونسُ بن محمدِ بنِ فَضَالةَ الظَّفَرِيُّ عن أبيه، ¬

_ (¬1) كذا في الأصل وهو جائز على الاستفهام الإنكاري، وفي القرطبي نقلاً عن الواحدي "ما جئتك". (¬2) انظر طبعة دار صادر (1/ 205).

قال: وحَدَّثني كَثيرُ بنُ زَيدٍ، عن المُطَّلِبِ بن عبد الله بنِ حَنْطَبٍ قالا .. ". قلت: وهذا إسنادٌ ضعيف جدًّا؛ لأن محمدَ بنَ عُمرَ، هو الواقِدي، قال الحافظ في "التقريب": "متروك مع سَعَةِ عِلمه" وشيخُه في الإسنادِ الأول يونسُ بنُ محمد، ووالدُه محمدُ بنُ فَضالة، لم أجِدْ لهما ترجمةً، ثم رأيتُ ابنَ أبي حاتم أورَدَهما (4/ 1/ 55 و4/ 2/ 246) ولم يذكر فيهما جرحًا ولا تعديلاً، وفي إسناده الثاني "كثير بن زيد" وهو الأَسْلَمِيُّ المَدَنِيُّ، مُخْتَلَف فيه، قال الحافظ: "صدوق يخطئ". ثم هو مرسَل، فإن المطَّلبَ بنَ عبدِ الله بنِ حَنْطَبٍ كثيرُ التدليس والإرسال، كما في "التقريب"، ولذلك قال القرطبيُّ بعد أن ساق الرواية الثانية: "وحُكي عن النحاس تضعيفها كما سبق نقلُه عنه هناك". ° قلت: فذكره مختصرًا ثم قال: "قال النحَّاس: هذا حديثٌ مُنكَر منقطع، ولا سيما من حديث الواقدي". 10 - عن ابن عباس أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة "النجم" وهو بمكة، فأتى على هذه الآية {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19 - 20]، فألقى الشيطانُ على لسانه "إنهن الغرانيقُ اَلعُلى" فأنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ .. } الآية [الحج: 52]، وكذا أورده السيوطي في "الدر المنثور" (4/ 267) وقال: "أخرجه ابنُ مَردُويه من طريق الكَلبيِّ، عن أبي صالحٍ، عن ابن عباس، ومن طريقِ أبي بكر الهُذَليِّ وأيوبَ، عن عكرمة، عن ابن عباس، ومن طريقِ سُليمانَ التَّيمِيِّ، عمَّن حدَّثه، عن ابن عباس".

قلت: فهذه طُرُقٌ ثلاثٌ عن ابن عباسٍ، وكلُّها ضعيفة. أمَّا الطريقُ الأول: ففيها الكَلبيُّ، وهو كَذَّابٌ كما تقدَّم بيانُه قريبًا. وأما الطريق الثاني: ففيها مَن لَم يُسَمَّ. وأما الطريق الثالث: ففيها "أبو بكر الهُذَلي"، قال الحافظ في "التقريب": "أخباريٌّ متروكُ الحديث" لكن قد قَرَن فيها أيوب، والظاهرُ أنه السِّختياني، فلا بدَّ أن يكونَ في الطريقِ إليه مَن لا يُحتَجُّ به؛ لأن الحافظَ قال في "الفتح" (8/ 355) -بعد أن ساقَه من الطرق الثلاث-: "وكلُّها ضعيفٌ أو منقطع". وقد ذَكر ما يُفيدُ أن ابنَ مَردُويه أخرجَها من طريقِ عَبَّادِ بنِ صُهيب، وهو أحد المتروكين، كما قال الحافظ الذهبيُّ في ترجمته من "الميزان". وله طريقٌ رابع، أخرجه ابنُ جرير (17/ 120): حدَّثني محمدُ بنُ سعدٍ قال: ثني أبي قال: ثني عمِّي، ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس؛ "أن نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - بينما هو يُصلِّي إذ نَزَلت عليه قصةُ آلهةِ العرب، فجَعل يتلوها، فسَمِعه المشركون، فقالوا: إنَّا نَسمعُه يذكرُ آلهتَنا بخير، فدَنَوا منه، فبينما هو يقول: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19 - 20]، ألقى الشيطان: "إن تلك الغرانيقَ العُلى، َ منها الشفاعةُ تُرتَجى"، فجَعَل يتلوها، فنزل جبريل - عليه السلام - فنَسَخها، ثم قال له: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ .. } الآية [الحج: 52] ". رواه ابنُ مردُويه أيضًا كما في "الدر" (4/ 366). قلت: وهذا إسنادٌ ضعيفٌ جدًّا، مُسَلسَلٌ بالضعفاء: "محمد بن سعد"، هو

بيان بطلان القصة متنا

ابن محمد بن الحسن بن عطية بن جُنادة أبو جعفر العَوفيُّ، ترجَمَه الخطيبُ في "تاريخ بغداد" (5/ 322 - 323) وقال: "كان ليِّنًا في الحديث". ووالدُه "سعد بن محمد" ترجَمَه الخطيبُ أيضًا (9/ 126 - 127) ورَوى عن أحمدَ أنه قال فيه: "لم يكن ممن يستأهلُ أن يكتبَ عنه، ولا كان موضِعًا لذلك". وعمُّه هو "الحسن بن الحسن بن عطية بن سعد"، وهو متَّفقٌ على ضَعفِه، ترجَمَه الخطيب (8/ 29 - 32) وغيره. وأبوه "الحسن بن عطية" ضعيف أيضًا اتفاقًا، وقد أورده ابنُ حِبَّانَ في "الضعفاء" وقال: "مُنكَرُ الحديث، فلا أدري البَلِيَّةُ منه أو مِنِ ابنه، أو منهما معًا؟ "، ترجمته في "تهذيب التهذيب". وكذا والدُه "عطية"، وهو مشهورٌ بالضَّعف (¬1). * بيانُ بطلانِ القصة مَتنًا: تلك هي رواياتُ القصة، وهي كلُّها -كما رأيت- مُعَلَّةٌ بالإِرسالِ والضَّعف والجَهالة، فليس فيها ما يَصلُح للاحتجاج به، لا سيَّما في مثلِ هذا الأمرِ الخطير، ثم إنَّ ممَّا يؤكِّدُ ضَعفَها -بل بطلانَها-، ما فيها من ¬

_ (¬1) قلت: ومما يدلُّ على بطلانِ نسبةِ هذه القصةِ إلى ابن عباس، لا سيَّما من روايةِ أيوبَ عن عِكرمةَ عنه، أن الطبراني أخرجها مختصرًا في "المعجم الكبير" (ورقة 138 وجه 1) [المطبوعة 11/ 11866] من طريقين عن عبد الوارث: ثنا أيوبُ، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد وهو بمكة بـ "النجم" وسَجَد معه المسلمون والمشركون"، وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري، فهذا القَدرُ من القِصَّة هو الصحيح عن ابن عباس وغيرِه من الصحابة مما سيأتي ذكره.

الاختلافِ والنَّكارة ممَّا لا يَليقُ بمَقامِ النبوَّة والرسالة، وإليك البيان: أولاً: في الروايات كلِّها -أو جُلِّها- أن الشيطانَ تكلَّم على لسانِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بتلك الجُملةِ الباطلة التي تَمدحُ أصنامَ المشركين، "تلك الغرانيقُ العلى، وإن شفاعتَهن لترتَجى". ثانيًا: وفي بعضِها كالرواية الرابعة: "والمؤمنون مُصدِّقون نبيَّهم فيما جاء به عن ربِّهم، ولا يتَّهمونه على خطأٍ ولا وَهْمٍ"، ففي هذا أن المؤمنين سَمِعوا ذلك منه - صلى الله عليه وسلم -، ولم يَشعُروا بأنه من إلقاءِ الشيطان، بل اعتَقدوا أنه من وَحيِ الرحمن!! بينما تقولُ الرواية السادسة: "ولم يكن المسلمون سمِعوا الذي ألقى الشيطان"، فهذه خلافُ تلك. ثالثًا: وفي بعضِها كالرواية (1 و 4 و 7 و 9): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بَقِيَ مُدةً لا يَدرِي أن ذلك من الشيطان، حتى قال له جبريل: "مَعاذَ الله! لم آتِكَ بهذا، هذا من الشيطان!! ". رابعًا: وفي الروايةِ الثانية أنه - صلى الله عليه وسلم - سَهَا حتى قال ذلك! فلو كان كذلك، أفلا يَنتبهُ من سَهوِه؟!. خامسًا: في الروايةِ العاشرة الطريق الرابع: "أن ذلك أُلقِيَ عليه وهو يُصلِّي"!!. سادسًا: وفي الرواية (4 و 5 و 9) أنه - صلى الله عليه وسلم - تَمنَّى أن لا يَنزلَ عليه شيءٌ من الوحي يَعيبُ آلهةَ المشركين، لئلَّا ينفِروا عنه!! وانظر المَقامَ الرابعَ من كلامِ ابن العربي الآتي (ص 50). سابعًا: وفي الرواية (4 و 6 و 9) أنه - صلى الله عليه وسلم - قال -عندما أَنكر جبريل ذلك

كلام الحافظ ابن حجر والرد عليه

عليه-: "افتريتُ على الله، وقلتُ على الله ما لم يَقُل، وشَرَكني الشيطانُ في أمرِ الله!! ". فهذه طامَّاتٌ يجبُ تنزيهُ الرسولِ منها، لا سيَّما هذا الأخيرُ منها، فإنه لو كان صحيحًا لصَدَق فيه، عليه الصلاة والسلام -وحاشاه- قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 - 46]. فثبت ممَّا تقدَّم بطلانُ هذه القصةِ سَندًا ومتنًا، والحمد لله على توفيقه وهدايته" (¬1). * كلامُ الحافظِ ابنِ حَجَر والردُّ عليه: ° قال الحافظُ في "الفتح" (8/ 354 - 355) بعد أن ساقَ الروايةَ الأولى وخرَّجها هي وغيرَها مما تقدم: "وكلُّها -سِوى طريقِ سعيدِ بنِ جُبير- إمَّا ضعيف، وإما منقطع، ولكنَّ كثرةَ الطرُقِ تدلُّ على أن للقصةِ أصلاً، مع أن لها طريقَينِ آخَرَينِ مرسَلَينِ رجالُهما على شَرط "الصحيحين" (ثم ذكر الرواية الثانية والثالثة ثم قال): وقد تَجرَّأ أبو بكر بنُ العربي كعادته فقال: "ذكر الطبريُّ في ذلك رواياتٍ كثيرةً باطلةً لا أصلَ لها"، وهو إطلاقٌ مردودٌ عليه، وكذا قولُ عياض: "هذا حديث لم يُخرِجْه أحدٌ من أهل الصحَّة، ولا رواه ثِقةٌ بسَنَدٍ سليمٍ متَّصلٍ مع ضَعفِ نَقَلَتِه، واضطرابِ رُواياته، وانقطاعِ إسنادِه"، وكذا قوله: "ومن حُملت عنه هذه القصةُ من التابعين والمفسِّرين، لم يُسنِدْها أحدٌ منهم"، ثم رَدَّه من طريقِ النظرِ بأنَّ ذلك لو وقع ¬

_ (¬1) "نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق" للشيخ الألباني (ص 7 - 36) - المكتب الإِسلامي.

لارتدَّ كثيرٌ ممن أسلم، قال: "ولم يُنقل ذلك" انتهى. وجميعُ ذلك لا يتمشَّى مع القواعد، فإنَّ الطُّرُقَ إذا كثُرت وتبايَنَت مخارِجُها، دَلَّ ذلك على أنَّ لها أصلاً، وقد ذَكرتُ أن ثلاثةَ أسانيدَ منها على شرطِ الصحيح، وهي مراسيلُ يَحتجُّ بها مَن يَحتجُّ بالمرسَل، وكذا مَن لا يحتجُّ به لاعتضادِ بعضِها ببعض". ° ورَدَّ عليه الشيخ الألباني - رحمه الله - فقال: أوَّلاً: إنَّ القاعدةَ التي أشار إليها، وهي "تقويةُ الحديثِ بكثرةِ الطُّرُق"، ليست على إطلاقها، وقد نبَّه عَلَى ذلك غيرُ واحدٍ من علماءِ الحديث المحقِّقين -منهم الحافظُ أبو عَمرِو بنُ الصلاح-، فمن ذلك ضَعفٌ لا يَزولُ بكثرةِ الطرُقِ لقوَّةِ الضَّعفِ وتقاعدِ هذا الجابِرِ عن جَبرِه ومقاومتِه، وذلك كالضَّعفِ الذي ينشأُ مِن كَونِ الراوي مُتَّهَمًا بالكذب أو كونِ الحديث شاذًّا، وهذه تُدرَكُ بالمباشرة والبحث. ومِن هذا القَبيل حديثُ ابنِ عباسٍ في هذه القصة، فإن طُرُقَه كلَّها ضعيفةٌ جدًّا، فلا يتقوَّى بها أصلاً. الوجه الثاني: ضَعفُ الحديث المرسَل، فالحديث المُرسَل -ولو كان المُرسِل ثقةً- لا يُحْتَجُّ به عند أئمةِ الحديث، كما بيَّنه ابنُ الصلاح في "علوم الحديث" وجزم هو به (¬1). وقد يقول قائل: "إنه يَقوَى بمرسَلٍ آخَرَ". فاشترط الشافعيُّ في المرسل الآخَرِ أن يكون مُرسِلُه أَخَذَ العلمَ عن غيرِ ¬

_ (¬1) "علوم الحديث" لابن الصلاح (ص 58).

رجالِ التابعيِّ الأول، كما حكاه ابنُ الصلاح (ص 35)، وكأنَّ ذلك ليغلِبَ على الظنِّ أنَّ المحذوفِ في أحدِ المرسَلَيْنِ هو غيرُه في المرسَلِ الآخَر". ° قال الألباني: "إننا لو ألقينا النظرَ على رواياتِ هذه القصةِ، لألفيناها كلَّها مرسَلة، حاشا حديثَ ابنِ عباس، ولكنَّ طُرقَه كلَّها واهيةٌ شديدةٌ الضعف لا تَنجبِرُ بها تلك المراسيل، فيَبقى النظرُ في هذه المراسيل، وهي -كما علمت- سَبعةٌ، صَحَّ إسنادُ أربعةٍ منها، وهي مرسَلُ سعيدِ بنِ جُبير، وأبي بكر بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ الحارث، وأبي العالية (رقم 1 - 3)، ومرسَل قتادة رقم (5)، وهي مراسيلُ يَرِدُ عليها أحدُ الاحتمالَين السابقَين، لأنهم من طَبقةٍ واحدة، فوفاةُ سعيدِ بنِ جُبير سنةَ (95) وأبي بكرِ بنِ عبدِ الرحمن سنةَ (94)، وأبي العالية -واسمُه "رُفيع" مصغَّرًا- سنةَ (90)، وقتادةَ سنةَ بِضعَ عَشْرةَ ومِئةٍ، والأولُ كُوفيٌّ، والثاني مَدَنِيٌّ، والأخيران بَصْرِيَّان. فجائزٌ أن يكونَ مَصدرُهم الذي أخذُوا منه هذه القصةَ ورَوَوْها عنه واحدًا لا غير، وهو مجهول. وجائزٌ أن يكونَ جَمْعًا، ولكنَّهم ضَعفاءُ جميعًا، فمع هذه الاحتمالاتِ لا يُمكنُ أن تَطمئنَّ النفسُ لقَبولِ حديثِهمِ هذا، لا سيَّما في مِثلِ هذا الحَدَثِ العظيمِ الذي يَمَسُّ المَقامَ الكريمَ، فلا جَرمَ تتابَعَ العلماءُ على إنكارِها، بل التنديدِ ببطلانها، ولا وَجْهَ لذلك من جِهةِ الروايةِ إلَّا ما ذكرنا، وإن كنتُ لم أقِفْ على مَن صَرَّح بذلك كما ذكرتُ آنِفًا" (¬1). ¬

_ (¬1) "نصب المجانيق" (ص 45 - 46).

ونخلص إلى القول الفصل في قصة "الغرانيق" وهو بطلانها

* ونَخلُصُ إِلى القول الفَصلِ في قصةِ "الغرانيق" وهو بُطلانُها: أولاً: الأسانيدُ الوارِدَةُ عنِ الصَّحابةِ لم تَرِدْ إلَّا عنِ اثنَيْنِ: 1 - ابنُ عبَّاسٍ، وطُرُقُهُ المسنَدَة كُلُّها ضعيفةٌ، واخْتُلِفَ على رواتِهِ، فكانُوا يُرْسِلونَهُ تارةً، ويُسنِدُونَهُ تارةً، معَ اضطِرابٍ شَديدٍ في الألفاظِ والمُتونِ، وضَعْفٍ في الرُّواةِ والأسانيد. 2 - محمدُ بنُ فَضَالَةَ الظَّفَرِيُّ: وحديثُهُ مِن طَريقِ محمَّدِ بنِ عُمَرَ الواقِديِّ، وهو متروكٌ؛ كَذَّبَهُ جماعةٌ. ثانيًا: أَمَّا المَراسيلُ؛ فهِيَ كما يَلي: 1 - مُرْسَلُ ابنِ شِهابٍ: فيه جهالةٌ، واخْتُلِفَ على رواتِهِ على عِدَّةِ وجوهٍ، فَرُوِيَ مُعْضلاً دونَ ذِكْرِ ابنِ شهابٍ، ورُوِيَ عنهُ عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث. وهذا اضطِرابٌ شديدٌ لا تحْتَمِلُهُ هذه الأسانيدُ؛ على ضَعْفِ مفْرَادتِها، وإرسالِ أُصولِها. 2 - مُرْسَلُ محمَّدِ بنِ كعبٍ ومُحَمَّدِ بنِ قَيسٍ معًا: رُوِيَ مِن طريقِ راوٍ شَديدِ الضَّعْفِ. ثمَّ اضْطَرابَ رُواتُهُ، فرَوَوْهُ بإسنادٍ ضَعيفٍ جدًّا عن محمَّدِ بن كَعْبٍ وحْدَهُ!. 3 - مُرْسَلُ أَبي العالِيَّةِ: فيهِ راوٍ كَثيرُ الاضْطِرابِ والاخْتِلافِ. ورُوِيَتِ القِصَّةُ عنهُ على وَجْهٍ آخَرَ، فيه اخْتِلافاتٌ وتَناقُضاتٌ عدَّةٌ

ثالثا: ننظر: هل من الممكن تطبيق قاعدة تقوي الطرق على الأسانيد السالف ذكرها؟.

بالسَّنَدِ نفْسِهِ!!. 4 - مُرْسَلُ قَتادَةَ: فيهِ راوٍ له أَغلاطٌ، فمِثلُ هذا المَتْنِ لا يُحْتَمَلُ منهُ. 5 - مُرْسَلُ الضَّحَّاكِ: في إسنادِه مجهولانِ ومتروكٌ. 6 - مُرْسَلُ المُطَّلِبِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ حَنْطَبٍ. فيهِ راوٍ متروكٌ شديدُ الضَّعْفِ، وآخَرُ ضُعِّفَ مِن قِبَلِ حِفْظِهِ!. 7 - مُرْسَلُ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ: فيهِ راوٍ مَجْهولٌ، وآخَرُ ضَعيفٌ. ثالثًا: نَنْظُرُ: هَلْ مِنَ المُمْكِنِ تطبيقُ قاعِدَةِ تَقَوِّي الطُّرُقِ على الأسانيدِ السَّالِفِ ذِكْرُها؟. 1 - الرِّواياتُ المُسْنَدَةُ مستَبْعَدَةٌ؛ لاضطرابِها، وشِدَّةِ ضَعْفِ رواياتِها. 2 - نَستبعِدُ أَيضًا الرِّواياتِ المُرْسَلَةَ شديدةَ الضَّعْفِ، وهِيَ: أ- مُرْسَلُ محَمَّدٍ بنِ كَعْبٍ ومُحَمَّدِ بنِ قيسٍ؛ لشدَّةِ ضعْفِ راويهِ. ب - مُرْسَلُ المُطَّلِبِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ حَنْطَبٍ؛ لشدَّةِ ضَعْفِ راويهِ أيضًا. ت- مُرْسَلُ ابنِ شِهابٍ؛ لاضْطِرابِ رِواياتِهِ، واختِلافِ رُواتِهِ. ث- مُرْسَلُ الضَّحَّاكِ؛ فيهِ مَتْروكٌ. جـ- مُرْسَلُ أَبي العالِيَةِ، ومُراسيلُهُ رياحٌ؛ كما سَبَقَ عن الإمامِ الشافعيِّ، وذلك كِنايةٌ عن أَنَّهُ لا يُبالي كيفَ يأْخُذُها!!. إذا عُلِمَ ما تقدَّمَ؛ فلم يَبْقَ إلَّا ثلاثةُ مَراسيلَ:

رابعا: وقع في متن القصة اضطراب كبير في وجهين هما أساس القصة

أ- مُرْسَلُ قَتادَةَ. ب - مُرْسَلُ سَعيدِ بنِ جُبَيْرٍ. ت- مُرْسَلُ عُروةَ. وقتادَةُ بَصْرِيٌّ، وسَعيدٌ كوفِيٌّ، وعُروةُ مَدَنيٌّ، ولقد كانتِ المَدينةُ النبويَّةُ والبصْرَةُ -والكُوفَةُ حِذَاءَها- في ذلكَ الزَّمانِ مَحَطَّ أَنْظارِ كثيرٍ مِن الرُّواةِ وطَلَبَةِ الحَديثِ، وكانَتِ الرِّحْلَةُ في طَلَبِ الحَديثِ في أَوْجِها، "فجائِزٌ أَنْ يكونَ مصدَرُهُم الذي أَخَذوا منهُ هذه القِصَّةَ ورَوَوْها عنهُ واحدًا لا غير، وهو مجهولٌ. وجائِزٌ أَنْ يكونوا جَمْعًا، ولكنَّهُم ضُعَفاءُ جَميعًا. فمَعَ هذه الاحتمالاتِ لا يُمْكِنُ أَن تَطْمَئنَّ النَّفْسُ لِقَبولِ حَديثِهِم، لا سِيمَّا في مِثْلِ هذا الحَدَثِ العَظيمِ الذي يَمَسُّ المَقامَ الكَريمَ، فلا جَرَمَ تتابَعَ العُلَماءُ على إنكارِها، بل التَّنْدِيدِ ببُطلانِها" (¬1). ولا يَذْهَبَنَّ عنكَ أَنَّ مُفرَداتِ هذهِ المَراسِيلِ ضعيفةٌ أَصلاً -فوقَ إرسالِها-؛ كما سَبَقَ تحقيقُهُ!. فهذا وَجْهٌ آخَرُ يمنَعُ القولَ بتقوِّيها معًا. رابعًا: وَقَعَ في مَتْنِ القصَّةِ اضطرابٌ كبيرٌ في وجهَيْنِ هُما أَساسُ القصَّةِ: 1 - موضعُ القِصَّةِ. ففي بعضِ الرِّواياتِ أَنَّ ذلك حَدَثَ وهُو يُصَلَّي. ¬

_ (¬1) "نصب المجانيق" (ص 24).

وفي بعضِها أَنَهُ كانَ في نادٍ لِقُريشٍ. وبعضُها غُفْلٌ عن دْلكَ كُلِّهِ. 2 - الذي قالَه الشَّيْطانُ (!): ففي بعضِ الرِّواياتِ: "إنَّهُنُّ لَفِي الغرانيقِ العُلا، وإنَّ شَفاعَتَهُنَّ لتُرْتَجى"!. وفي بعضِها: "تلكَ الغَرانِيقُ العُلا، وإن شفاعَتَهُنَّ تُرْتَجى". وفي بعضِها: "إنَّ تلكَ الغَرانيقُ العُلا، منها الشَّفاعَةُ تُرْتَجى". وفي بعضِها: "وإنَّهُنَّ لهُنَّ الغَرانيقُ العُلا، وإنَّهُنَّ لهُنَّ التي تُرْتَجى". وفي بعضِها: "تلكَ الغَرانيقُ العُلا، وشفاعتهُنَّ ترْتَضى، ومثلُهُنَّ لا يُنْسَى". وفي بعضِها: "إنَّ شفاعَتَهنَّ لتُرْتَجى، وإنَّها لَمَعَ الغَرانيقِ العُلاَ". وفي بعضِها: "تلك إذنْ في الغَرانيقِ العُلا، تلكَ إذنْ شَفاعَةٌ تُرْتَجى". والقصَّةُ -كما يزعُمونَ- واحِدَةٌ، فما هذا الاختلافُ؟. وهل بمثلِهِ تثبُتُ الأخبارُ أَمْ تُنْقَضُ؟!. خامسًا: التَّناقُضُ السَّاري بينَ أَلفاظِ القصَّةِ ومفردَاتِها، وقد سبقَ التنبيهُ على بعضِها، ومنهُ: 1 - أَنَّ بعضَ الرِّواياتِ تذكُرُ سماعَ المسلمينَ لإلقاءِ الشَّياطينِ. وبعضَها الآخَرُ يذْكُرُ العكسَ. وقسمٌ ثالثٌ يسكُتُ عنْ هذا كُلِّهِ.

2 - وفي بعضِ الرِّواياتِ أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَقِيَ مُدَّةً لا يَدْري أَنَّ ذلكَ مِن الشَّيطانِ. وفي بعضِها أَنَّهُ سَهَا حتى قالَ ذلكَ!. وفي بعضِها إغفالٌ لهذينِ معًا!!. 3 - وفي بعضِ الرِّواياتِ أَنَّ جِبريلَ جاءَهُ فقرأَ عليهِ. وفي بعضِها أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - شَكا ذلك لِجِبْريلَ. وفي بعضِها عدمُ إيرادٍ لهذا كُلِّهِ!. إلى غيرِ ذلك مِن وجوهِ التَّناقُضِ والاضْطِرابِ. سادسًا: بِعَرْضِ هذه الرَّواياتِ المُتهافِتَةِ على "مقاييسِ النَّقْدِ" التي أَوْرَدْتُها في القسم الأوَّلِ مِن الكتابِ؛ نَرى أَنَّها جميعًا تنقُضُهُ، وتُثْبِتُ بُطلانَهُ. ومِمَّا يَنْبَغي أَنْ يُضافَ هُنا ما رواهُ أَبو داودُ (3646)، وأحمدُ (2/ 162 و 192)، والدَّارِمي (1/ 125)، والحاكم (1/ 105 - 106)، والرَّامَهُرْمُزِي في "المُحدِّث الفاصل" (321)، والخطيب في "تقييد العلم" (ص 80)، والقاضي عِياضٌ في "الإلماع" (146)؛ بسنَدٍ صَحيحٍ عنْ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ قالَ: كنتُ أكتبُ كُلَّ شَيءٍ أَسمَعُهُ مِن رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ أُريدُ حِفْظَهُ، فنَهَتْنِي قُرْيشٌ، وقالوا: أَتَكْتُبُ كُلَّ شيءٍ ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بَشَرٌّ؛ يتكَلَّمُ في الغَضَبِ والرِّضى؟! فأمسَكْتُ عنِ الكتاب، فذكَرْتُ لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأَوْمَأَ بإِصبُعِهِ إلى فيهِ، وقالَ: "اكْتُبْ،

سبب سجود المشركين مع النبي - صلى الله عليه وسلم -

فوالَّذي نفسي بيدِهِ ما يَخْرُجُ منْهُ إلا حَقٌّ". قلتُ: فهلْ أُسطورَةُ الغَرانيقِ ومدْحُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لها -وحاشاهُ- مِن هذا الحقِّ؟!. أَمْ أَنَّها باطلٌ غارِقٌ في الضَّلالِ، يتنَزَّهُ عنهُ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟!. سابعًا: أَنَّهُ قد صَحَّ سجودُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سورةِ "النَّجْمِ"، وسجودُ المُسلمينَ والمُشْرِكينَ معَهُ؛ كما تقدَّمَ إيرادُهُ، وذِكْرُ السَّبَبِ فيهِ. فعَدَمُ ذِكْرِ القصَّة الغِرْنَوْقِيَّةِ فيهِ دَليلٌ صَريحٌ على بُطلانِها" (¬1). * سبب سجودِ المشركين مع النبي - صلى الله عليه وسلم -: رُبَّ سائلٍ يقول: إذا ثَبَت بطلانُ إلقاءِ الشيطان على لسانِه عليه الصلاة والسلام جُملةَ "تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعَتَهنَّ لترتجى"، فَلِمَ إِذن سَجَد المشركون معه - صلى الله عليه وسلم -، وليس ذلك من عادتهم؟. والجوابُ ما قاله المحقِّقُ الآلوسي -بعد سطورٍ من كلامِه الذي نقلته آنفًا-: "وليس لأحدٍ أن يقول: إنَّ سجودَ المشركين يدلُّ على أنه كان في السورةِ ما ظاهرُه مَدحُ آلهتِهم، وإلَّا لَمَا سَجدوا؛ لأننا نقول: يَجوزُ أن يكونوا سَجدوا لدهشةٍ أصابَتْهم وخوفٍ اعتراهم عند سماع السورة، لِمَا فيها من قوله تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) ¬

_ (¬1) "دلائل التحقيق لإبطال قصة الغرانيق" لعلي حسن عبد الحميد (ص 229 - 236) - مكتبة الصحابة - جدة.

فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} إلى آخِرِ الآيات [النجم: 50 - 54]، فاستَشعروا نزولَ مِثلِ ذلك بهم، ولعلَّهم لم يَسمَعوا قبلَ ذلك مِثلَها منه - صلى الله عليه وسلم -، وهو قائمٌ بين يَدَيْ ربِّه سبحانه في مقامٍ خطيرٍ وجَمْعٍ كثير، وقد ظَنُّوا -مِن ترتيبِ الأمرِ بالسجودِ على ما تقدَّم- أن سجودَهم -ولو لم يكن عن إيمانٍ- كافٍ في دَفعِ ما توهَّموه، ولا تَستبعدْ خَوفَهم من سماعِ مِثلِ ذلك منه - صلى الله عليه وسلم -، فقد نزلت سورة "حم السجدة" بعد ذلك كما جاء مُصَرَّحًا به في حديثٍ عن ابن عباس - رضي الله عنهما -ذكره السيوطيُّ في أول "الإتقان"-، فلما سَمع عُتبةُ بنُ رَبيعةَ قولَه تعالى فيها: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13]! أمسَك على فَمِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وناشَدَه الرَّحِمَ، واعتَذَر لقومِه حين ظَنُّوا به أنه صَبَأَ، وقال: "كيف وقد عَلِمتُم أن محمدًا إذا قال شيئًا لم يَكذِب؟ فخِفتُ أن يَنزِلَ بكم العذابُ"، وقد أخرج ذلك البيهقيُّ في "الدلائل" وابنُ عساكرَ في حديثٍ طويلٍ عن جابرِ بنِ عبد الله - رضي الله عنهما -. ويمكنُ أن يقال -على بُعدٍ-: إنَّ سجودَهم كان لاستشعارِ مَدحِ آلهتهم، ولا يلزمُ منه ثبوتُ ذلك الخبر، لجوازِ أن يكون ذلك الاستشعارُ من قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19 - 20]، بِناءً على أن المفعولَ محذوفُ، وقَدَّروه حسبما يَشتَهُون، أو على أن المفعول: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} [النجم: 21]، وتوهَّموا أن مَصَبَّ الإنكارِ فيه كَونُ المذكوراتِ إناثًا، والحبُّ للشيء يُعمِي ويُصِمُّ، وليس هذا بأبعدَ مِن حَمْلِهم "تلك الغرانيق العلى، وإنَّ شفاعَتَهُنَّ لتُرتَجى" على المدحِ حتى سجدوا لذلك آخِرَ السورة، مع وقوعِه بين ذَمَّينِ، المانعُ من حَملِه على

بقية رد العلماء على قصة "الغرانيق"

المدح في البَيْن، كما لا يَخفى على مَن سَلِمَتْ عَينُ قلبِه من الغَين" (¬1). * بقيَّةُ رَدِّ العلماءِ على قِصَّة "الغرانيق": ° قال الفخرُ الرازي في "تفسيره": "رُوي عن محمدِ بنِ إسحاقَ بن خزيمةَ أنه سُئِل عن هذه القصةِ؟ فقال: "هذا من وَضع الزَّنَادقة"، وصنَّف فيه كتابًا. ° وقال الإمامُ أبو بكر أحمدُ بنُ الحُسين البيهقيُّ: "هذه القصةُ غيرُ ثابتةٍ من جهةِ النقل". ثم أخذ يتكلَّمُ في أنَّ رُواةَ هذه القصةِ مطعونٌ فيهم، وأيضًا فقد رَوى البخاريُّ في "صحيحه": "أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورةَ "النجم"، وسجد وسَجَد فيها المسلمون والمشركون، والإِنسُ والجنُّ"، وليس فيه حديثُ الغرانيق، ورَوى هذا الحديثَ من طرُقٍ كثيرةٍ، وليس فيها ألبتَّةَ حديثُ الغرانيق" (¬2). ° وقال القاضي أبو بكر بن العربي في تفسيره "أحكام القرآن": "اعلموا -أنار اللهُ أفئدتَكم بنورِ هداه، ويسَّر لكم مَقصِدَ التوحيد ومَغزاه- أن الهُدى هُدى الله، فسبحانَ مَن يتفضَّلُ به على مَن يشاء، ويَصرِفُه عمَّن يشاء، وقد بيَّنَّا معنَى هذه الآية في "فضلِ تنبيه الغبيِّ على مِقدارِ النبيِّ" بما نرجو به عند الله الجزاءَ الأوفى في مقامِ الزلفى، ونحن الآن نجلُو بتلك الفصولِ الغَمَاءَ، ونُرقِّيكم بها عن حَضيضِ الدهماءِ إلى بِقاعِ العلماءِ في عشرِ مقامات. ¬

_ (¬1) "نصب المجانيق" (ص 68 - 70). (¬2) "مفاتيح الغيب" للرازي (ص 6/ 193).

المقام الأول: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أَرسل اللهُ إليه المَلَكَ بوَحيِهِ، فإنه يَخلُقُ له العِلمَ به حتى يتحقَّقَ أنه رسولٌ مِن عنده، ولولا ذلك لَمَا صَحَّتِ الرسالة، ولا تَبيَّنَتِ النبوَّةُ، فإذا خَلق اللهُ له العلمَ به تَمَيَّز عنده مِن غيرِه، وثَبَت اليقينُ، واستقام سَبيلُ الدين، ولو كان النبيُّ إذا شافَهَه المَلَكُ بالوحي لا يَدري، أَمَلَكٌ هو، أم شيطانٌ، أم إنسانٌ، أم صورةٌ مخالِفةٌ لهذه الأجناسِ ألقَتْ عليه كلامًا، وبَلَّغت إليه قولاً؟ لم يَصحَّ أن يقول: "إنه من عند الله"، ولا ثَبَت عندنا أنه أَمْرُ الله، فهذه سبيلٌ متيقَّنةٌ، وحالةٌ متحقَّقةٌ لا بد منها، ولا خلافَ في المنقولِ ولا في المعقولِ فيها، ولو جاز للشيطان أن يتمثَّل فيها أو يتشبَّه بها، ما أَمِنَّاه على آية، ولا عَرَفنا منه باطلاً من حقيقة، فارتفع بهذا الفصلِ اللَّبْسُ، وصَحَّ اليقينُ في النفس. المقام الثاني: أنَّ اللهَ قد عَصَم رسولَه من الكفر، وأمَّنه مِن الشِّرك، واستَقرَّ ذلك من دينِ المسلمين بإجماعِهم فيه وإطباقِهم عليه، فمَنِ ادَّعى أنه يَجوزُ عليه أن يَكفُرَ بالله، أو يَشُكَّ فيه طَرْفَةَ عينٍ، فقد خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسلام من عُنقه، بل لا تَجوزُ عليه المعاصي في الأفعال، فضلاً عن أن يُنسَبَ إلى الكفرِ في الاعتقاد، بل هو المنزَّه عن ذلك فِعلاً واعتقادًا - صلى الله عليه وسلم -، وقد مَهَّدنا ذلك في كُتب الأصول بأوضحِ دليل. المقام الثالث: أنَّ الله قد عرَّف رسولَه بنفسه، وبَصَّره بأدلَّته، وأراه ملكوتَ سماواتِه وأرضِه، وعَرَّفه سُنَنَ مَن كان قبلَه من إخوتهِ، فلم يكن يَخفَى عليه مِن أَمْرِ اللهِ ما نعرفه اليوم، ونحن حُثالةُ أُمَّتِه، ومَن خَطَر له ذلك فهو ممن يَمشِي مُكِبًّا على وجهِه، غيرَ عارفٍ بنبيِّه ولا بربِّه.

المقام الرابع: تأملَّوا -فتح اللهُ أغلاقَ النظر عنكم- إلى قول الرواةِ -الذين هم بجهلهم أعداءٌ على الإِسلام ممَّن صَرَّح بعَداوته- أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا جَلَس مع قريشٍ تَمنَّى أنْ لا يَنزِلَ عليه مِن الله وَحيٌ [يَذُمَّ آلهتَهم]، فكيف يَجوزُ لمن معه أدنى مُسْكَةٍ أن يَخطُرَ ببالِه أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - آثَرَ وَصْلَ قومِه على وَصلِ ربِّه، وأراد أن لا يَقطعَ أُنسَه بهم بما يَنزِلُ عليه مِن عندِ ربِّه من الوحي الذي كان حياةَ جَسَدِه وقلبِه، وأُنْسَ وَحشتِه، وغايةَ أُمنيَّتهِ، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أجودَ الناس، فإذا جاءه جبريلُ، كان أجودَ بالخيرِ من الرِّيح المرسَلة، فيؤثِرُ على هذا مجالستَه للأعداء؟!. المقام الخامس: أن قولَ الشيطان: "تلك الغرانقةُ العلى، وإن شفاعتَهن لترتَجى" للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَبِلَه منه، فالتَبَس عليه الشيطانُ بالمَلَك، واختَلَط عليه التوحيدُ بالكفر، حتى لَم يفرِّق بينهما، وأنا مِن أدنى المؤمنين منزلةً، وأقلِّهم معرفةً بما وفَّقني اللهُ له، وآتاني مِن عِلمه لا يَخفَى عليَّ وعليكم أنَّ هذا كُفرٌ لا يَجوزُ وُرودُه من عندِ الله، ولو قاله أحدٌ لكم لتبادَرَ الكلُّ إليه قبلَ التفكيرِ بالإنكار والرَّدع والتثريبِ والتشنيع، فضلاً عن أن يَجهلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حالَ القول، ويَخفى عليه قولُه، ولا يَتفطَّنُ لصفةِ الأصنام بأنها "الغرانقةُ العلى، وأنَّ شفاعَتهنَّ ترتجى"، وقد عَلِم عِلمًا ضروريًّا أنها جماداتٌ لا تَسمعُ ولا تُبصر، ولا تَنطِقُ ولا تَضُرُّ، ولا تَنفعُ ولا تَنصُرُ ولا تشفع، بهذا كلِّه كان يأتيه جبريلُ الصباحَ والمساءَ، وعليه انبنى التوحيدُ، ولا يجوزُ نسخُه من جهةِ المنقول، فكيف يَخفى هذا على الرسول؟!. ثم لم يَكْفِ هذا حتى قالوا: إنَّ جبريلَ - عليه السلام - لَمَّا عاد إليه بعد ذلك ليعارضَه فيما أُلقي إليه من الوحي كرَّرها عليه جاهلاً بها -تعالى الله عن

ذلك- فحينئذٍ أنكرها عليه جبريلُ، وقال له: "ما جئتُك بهذه! "، فحَزِن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأُنزل عليه: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} [الإسراء: 73]. فياللهِ والمتعلِّمينَ والعالمينَ من شيِخٍ فاسدٍ موسوِسٍ هامدٍ لا يَعلمُ أنَّ هذه الآيةَ نافيةٌ لِمَا زَعَموا، مُبطِلةٌ لِما رَووْا وتقوَّلوا، وهو: المقام السادس: وذلك أن قولَ ابنِ العربي: "كاد يكونُ كذا" معناه "قارَبَ ولم يكن"، فأخبَرَ الله في هذه الآية أنهم قارَبوا أن يَفتِنوه عن الذي أُوحِيَ إليه، ولم تكن فِتنةً، ثم قال: {لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} [الإسراء: 73] وهو: المقام السابع: ولَم يَفْتَرِ، ولو فتنوك وافتريتَ، لا تخذوك خليلاً، فلم تُفتَتَنْ، ولا افتريتَ، ولا اتخذوك خليلاً، {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} [الإسراء: 74]. المقام الثامن: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً} [الإسراء: 74]، فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه ثبَّته، وقرر التوحيدَ والمعرفةَ في قلبه، وضَرَب عليه سُرادقَ العِصمة، وآواه في كَنَفِ الحُرمة، ولو وَكَلَه إلى نفسِه، ورَفَع عنه ظِلَّ عِصمَتِه لحظةً، لأَلْمَمْتَ بما راموه، ولكنَّا أمرنا عليك المحافظة، وأشرَقْنا بنورِ الهداية فؤادَك، فاستبصَرَ وأزاحَ عنك الباطلَ ودَحَر. فهذه الآية نصٌّ في عِصمته مِن كلِّ ما نُسب إليه، فكيف يتأوَّلُها أحدٌ عَدْوًا عمَّا نُسب إليه من الباطل إليه؟!. المقام التاسع: قوله: "فما زال مغمومًا مهمومًا حتى نزلت عليه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الحج: 52] (¬1)، فأما غمُّه وحُزنُه، فبأن ¬

_ (¬1) انظر الرواية: 3، 4، 6.

تمكَّن الشيطانُ مما تمكَّن مما يأتي بيانُه، وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعِزُّ عليه أن ينالَ الشيطانُ شيئًا -وإنْ قَلَّ تأثيرُه-. المقام العاشر: إنَّ هذه الآيةَ نصٌّ في غَرَضِنا، دليلٌ على صِحَّةِ مذهبِنا، أصلٌ في براءةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ممَّا نُسب إليه أنه قاله عندنا، وذلك أنه قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] (¬1). فأخبر الله تعالى أنَّ مِن سُنَّتِه في رُسُلِه، وسِيرتِه في أنبيائه، أنهم إذا قالوا عن الله قولاً، زاد الشيطانُ فيه مِن قِبَلِ نفسه، كما يَفعلُ سائرَ المعاصي، كما تقول: "ألقَيتُ في الدار كذا، وألقيتُ في العِكَمِ (¬2) كذا، وألقيتُ في الكِيس كذا"، فهذا نصٌّ في أن الشيطانَ زاد في الذي قاله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، لا أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قاله، وذلك أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأ تلا قرآنًا مقطَّعًا، وسكت في مقاطعِ الآيِ سُكوتًا محصَّلاً، وكذلك كان حديثُه مترسِّلاً فيه، متأنيًا، فتَبعَ الشيطانُ تلك السَّكَتَاتِ التي بينَ قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 20] وبينَ قوله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} [النجم: 21]، فقال -يُحاكي صوتَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم -: "وإنهن الغرانقة العلى، وإن شفاعَتَهُنَّ لترتَجى"، فأما المشركون والذين في قلوبهم مرضٌ لِقِلَّةِ البصيرةِ وفسادِ السريرة، فتَلَوْها عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ونَسَبوها بجَهلهم إليه، حتى سَجدوا معه اعتقادًا أنه معهم، وعَلِم الذين أُوتوا العلمَ والإيمانَ أنَّ القرآنَ حقٌّ من عندِ الله، فيؤمنون به، ويَرفضون غيرَه، وتُجيبُ قلوبُهم إلى الحق، وتَنفِرُ عن ¬

_ (¬1) الأصل "تلاوته". (¬2) بكسر العين: العدل.

كلام القاضي عياض في ذلك

الباطل، وكلُّ ذلك إبتلاءٌ من الله ومِحنةٌ، فأين هذا مِن قولهم؟! وليس في القرآن إلَّا غايةُ البيانِ بصيانةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الإِسرارِ والإِعلان، عن الشكِّ والكفران، وقد أودَعْنا إليكم توصيةً أن تجعَلوا القرآنَ إمامَكم، وحروفَه أمامَكم، فلا تحمِلوا عليها ما ليس فيها، ولا تَربِطوا بها ما ليس منها، وما هُدِي لهذا إلَّا الطبريُّ بَجلالةِ قَدْرِه، وصَفاءِ فِكرِه، وسَعَةِ باعِه في العلم، وشِدَّةِ ساعِدِه وذراعِه في النظر، وكأنه أشار إلى هذا الغرض، وصَوَّب على هذا المرمَى، فَقرْطَسَ بعد ما ذَكَرَ في ذلك رواياتٍ كثيرةً باطلةً لا أصلَ لها، ولو شاء ربُّك لَمَا رواها أحدٌ، ولا سَطَّرها، ولكنه فَعَّالٌ لِمَا يُريد .. عَصَمنا اللهُ وإياكم بالتوفيقِ والتسديد، وجَعَلنا من أهلِ التوحيد بفَضله ورحمته". * كلام القاضي عِياض في ذلك: ° وقال القاضي عِيَاضْ: "فاعلمْ -أكرمك الله-: أنَّ لنا في الكلام على مُشكِلِ الحديثِ مأخذَينِ: أحدهما: في توهِين أصله. والثاني: على تسليمه. أما المأخذ الأول: فيكفيك أن هذا الحديثَ لم يُخرِجْه أحدٌ من أهل الصِّحة، ولا رواه ثقةٌ بسَنَدٍ متَّصِل سليم، وإنما أُولعَ به وبمثلِه المفسِّرون والمؤرِّخون المولَعون بكلِّ غريب، المتلقِّفون من الصُّحُف كلَّ صحيحٍ وسقيم، وصَدَق القاضي بكرُ بنُ العلاء المالكي حيث قال: لقد بُلي الناسُ ببعضِ أهل الأهواء والتفسير، وتعلَّق بذلك الملحدون مع ضَعف نَقْلِه، واضطرابِ رواياتِه، وانقطاعِ إسنادِه، واختلافِ كلماته، فقائل يقول: "إنه

في الصلاة"، وآخَرُ يقول: "قالها في نادي قومه حين أنزلت عليه السورة"، وآخر يقول: "قالها وقد أصابته سِنَةٌ"، وآخَرُ يقول: "بل حدَّثَ نفسَه فسها"، وآخَرُ يقول: "إنَّ الشيطانَ قالها على لسانه، وإن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا عَرَضها على جبريل قال: ما هكذا أقرأتك؟! "، وآخَرُ يقول: "بل أعلَمَهمُ الشيطانُ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قرأها، فلما بَلَغَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك، قال: واللهِ ما هكذا أُنزلت" .. إلى غيرِ ذلك من اختلافِ الرواة، ومَن حُكيت هذه الحكايةُ عنه منَ المفسِّرين والتابعين لم يُسْنِدْها أحدٌ منهم، ولا رَفَعها إلى صاحبٍ، وأكثرُ الطُرقِ عنهم فيها ضعيفةٌ واهية، والمرفوعُ فيه حديثُ شُعبةَ، عن أبي بِشرٍ، عن سعيدِ بنِ جُبير، عن ابن عباسٍ فيما أحسب -الشك في الحديث- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بمكة، وذكر القصة. وقال أبو بكر البزَّار: "هذا الحديثُ لا نَعلمُه يُروى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بإسناد متَّصلٍ يَجوزُ ذِكرُه إلَّا هذا، ولم يُسنِدْه عن شُعبةَ إلَّا أُميَّةُ بنُ خالد، وغيرُه يُرسِلُه عن سعيدِ بنِ جبير، وإنما يُعرَفُ عن الكَلبيِّ، عن أبي صالح، عن ابن عباس". فقد بيَّن لك أبو بكر - رحمه الله - أنه لا يُعرَفُ من طريقٍ يجوزُ ذِكرُه سوى هذا، وفيه من الضعفِ ما نبَّه عليه مع وقوعِ الشكِّ فيه -كما ذكرناه- الذي لا يوثَقُ به، ولا حقيقةَ معه. وأما حديثُ الكَلبيِّ، فمما لا تَجوزُ الروايةُ عنه ولا ذِكرُه، لقوَّةِ ضَعفِه وكَذِبِه -كما أشار إليه البزَّار-، والذي منه في "الصحيح" "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ: "والنجم" وهو بمكةَ، فسَجَد معه المسلمون والمشركون والجنُّ والإنس" .. هذا توهينُه من طريق النقل.

فأما من جهةِ المعنى: فقد قامت الحُجَّة، وأَجْمَعَتِ الأمةُ على عِصمته - صلى الله عليه وسلم - ونزاهتِه عن مِثلِ هذه الرذيلة، إمَّا مِن تَمنِّيه أن ينزلَ عليه مِثلُ هذا مِن مدحِ آلهةٍ غيرِ الله وهو كُفر، أو أن يَتسوَّرَ عليه الشيطانُ وُيشبِّهَ عليه القرآنَ حتى يَجعلَ فيه ما ليس منه، ويَعتقدُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن من القرآن ما ليس منه حتى يُنبِّهَه عليه جبريلُ عليهما السلام!!. وذلك كلُّه ممتنعٌ في حقِّه - صلى الله عليه وسلم -، أوَ يقولُ ذلك النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من قِبَلِ نفسه عمدًا -وذلك كفرٌ أو سهوٌ-، وهو معصومٌ من هذا كله؟! وقد قرَّرنا بالبراهين والإِجماعِ عِصمتَه - صلى الله عليه وسلم - من جَرَيان الكفرِ على قلبِه أو لسانِه -لا عمدًا ولا سهوًا-، وأنْ يَشتَبِهَ عليه ما يُلقيه المَلَكُ بما يُلقي الشيطانُ، أو يكونَ للشيطان عليه سبيل، أو يَتقوَّلَ على الله -لا عَمدًا ولا سهوًا- ما لم يَنزِلْ عليه، وقد قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} الآية [الحاقة: 44]، وقال: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء: 75]. ووجه ثانٍ: وهو استحالةُ هذه القصةِ نَظَرًا وعُرفًا، وذلك أنَّ هذا الكلامَ لو كان كما رُوي، لكان بعيدَ الالتئام متناقضَ الأقسام، ممتزجَ المَدحِ بالذَّم، متخاذِلَ التأليفِ والنَّظم، ولَمَا كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولا مَن بحَضرته من المسلمين وصناديدِ المشركين ممن يَخفى عليه ذلك، وهذا لا يَخفى على أدنى متأمِّل، فكيف بمَن رجَحَ حِلمُه، واتَّسع في بابِ البيانِ ومعرفةِ فصيحِ الكلام علمُه؟. ووجهٌ ثالث: أنه قد عُلم من عادة المنافقين، ومُعانَدةِ المشركين، وضَعَفَةِ القلوب، والجَهَلة من المسلمين، نفورُهم لأولِ وَهْلةٍ، وتخليطُ العدوِّ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأقلِّ فِتنة، وتعييرُهم المسلمينَ، والشماتةُ بهم الفَنيةَ

بعدَ الفَينة، وارتدادُ مَن في قلبهِ مرضٌ ممن أظهر الإِسلام لأدنى شُبهة، ولم يَحْكِ أحدٌ في هذه القصةِ شيئًا سوى هذه الروايةِ الضعيفةِ الأصلِ، ولو كان ذلك لَوَجَدَتْ قريشٌ بها على المسلمين الصَّوْلَة، ولأقامت بها اليهودُ عليهم الحُجَّة، كما فَعلوا مكابرةً في قصة "الإِسراء"، حتى كانت في ذلك لبعضِ الضعفاء رِدَّة .. كذلك ما رُوي في قِصة القضية، ولا فتنةَ أعظمُ من هذه البلية -لو وُجدت-، ولا تَشغيبَ للمُعادِي حينئذٍ أشدُّ من هذه الحادثةِ -لو أمكنت-، فما رُوي عن معانِدٍ فيها كلمة، ولا عن مُسلمٍ بسببها بِنْتُ شَفَة، فدلَّ على بطلانها واجتثاثِ أصلها. ولا شك في إدخالِ بعضِ شياطينِ الإنسِ والجنِّ هذا الحديث على مُغفَّلي المحدِّثين، ويُلبِّسُ به على ضعفاءِ المسلمين. ووجهٌ رابع: ذَكَر الرواةُ لهذه القضيَّةِ أنَّ فيها نزلت: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ .. } الآيتين [الإسراء: 73 - 74]، وهاتانِ الآيتانِ تَرُدَّان الخَبَرَ الذي رَوَوْه؛ لأنَّ اللهَ تعالى ذَكَر أنهم كادُوا لَيفتِنونه حتى يفتريَ، وأنه لولا أنْ ثَبَّته لَكادَ يَركنُ إليهم .. فمضمونُ هذا ومفهومُه أن الله تعالى قد عَصَمَه من أن يفتريَ، وثَبَّته حتى لم يَركنْ إليهم قليلاً، فكيف كثيرًا؟ وهم يَروُونَ في أخبارِهم الواهيةِ أنه زاد على الركونِ الافتراءَ بمَدحِ آلهتهم، وأنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "افتريتُ على الله، وقلتُ ما لم يقل"!! وهذا ضدُّ مفهومِ الآية، وهي تُضعِّفُ الحديث -لو صحَّ-، فكيف ولا صِحَّة له؟. وهذا مثلُ قولهِ تعالى في الآية الأخرى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} [النساء: 113]. وقد رُوي عن ابن عباس - رضي الله عنهما-: "كلُّ ما في القرآنِ

"كاد" فهو ما لا يكون". ° قال القاضي: ولقد طالبَتْهُ قريشٌ وثقيفٌ إذا مَرَّ بآلهتِهم أن يُقبِلَ بوجِهه إليها، ووَعَدوه الإيمانَ به إنْ فعل، فما فَعَل ولا كاد أن يَضِلَّ، وقد ذُكِرَتْ في معنى الآيةِ تفاسيرُ أُخَرُ، ما ذكرناه من نصِّ الله على عِصمةِ رسولِه بردِّ سَفْاسفها، فلم يَبْقَ في الآية إلَّا أنَّ الله تعالى امتَنَّ على رسولِه بعِصمتِه وتثبيتِه بما كادَه به الكفارُ، ورامُوا مِن فتنته، ومرادُنا في ذلك تنزيهُه وعِصمتُه - صلى الله عليه وسلم - وهو مفهومُ الآية. وأما المأخذ الثاني: فهو مبنيٌّ على تسليمِ الحديث لو صَحَّ -أعاذنا الله من صحَّته-، ولكنْ مع كلِّ حالٍ فقد أجاب عن ذلك أئمةٌ بأجوبةٍ، منها الغَثُّ والسمين". ° قلت: فذِكرُ هذه الأجوبةِ، وضَعفُها -جُلِّها أو كلِّها-، إلَّا الأخيرَ منها، فإنه استظهره ورَجَّحه، وهو الذي أجاب به ابنُ العربيِّ فيما تقدَّم من كلامه: إنَّ الشيطانَ هو الذي ألقى ذلك في سَكتةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بين الآيتين، مُحاكيًا نَغَمَةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأشاع ذلك المشركون عنه - صلى الله عليه وسلم -، ولم يَقدح ذلك عند المسلمين لِحفظِ السورةِ قَبلَ ذلك على ما أنزلها الله، وتَحقُّقِهم مِن حالِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ذمِّ الأوثانِ وعَيبها على ما عُرف منه، وقد حَكى موسى بنُ عُقبةَ في "مغازيه" نحوَ هذا، وقال: "إنَّ المسلمين لم يَسمعوها، وإنما ألقى الشيطانُ ذلك في أسماعِ المشركين وقلوبهم" (¬1)، ويكون ما رُوي من حُزنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لهذه الإِشاعة والشبهةِ وسببِ هذه الفتنة. ¬

_ (¬1) ونحوه في رواية عروة "رقم 6"، وإن كان في آخرها ما يُخالف هذا.

كلام الشوكاني

* كلام الشوكاني: ° وقال الشوكاني -رحمه الله تعالى-: "ولم يصحَّ شيءٌ من هذا، ولا يثبُتُ بوجهٍ من الوجوه، ومع عدمِ صحته -بل بطلانهِ-، فقد دَفعه المحقِّقون بكتابِ الله سبحانه. ° قال الله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 - 46]، وقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]، وقوله: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} [الإسراء: 74] فنفى المقاربةَ؛ فضلاً عن الرُّكون". ° ثم قال: "والحاصلُ أن جميعَ الرواياتِ في هذا الباب إمَّا مُرسَلة، وإما منقطِعة لا تقومُ بها الحُجَّة". ° ثم قال: "وقال إمامُ الأئمةِ ابنُ خُزَيْمة: إنَّ هذه القصةَ مِن وَضعِ الزنادقة". * كلام الآلُوسيِّ في إبطالِ القصة: وعلى كلِّ حالٍ، فإن الحافظَ ابنَ حجر - رحمه الله - متَّفقٌ مع الذين أنكروا القصةَ على تنزيهه - صلى الله عليه وسلم - مِن أن يكونَ للشيطانِ تَكلُّمٌ على لسانِه عليه الصلاة والسلام، فالخلافُ بينه وبينهم يكادُ يكونُ شكليًّا أو لفظيًّا، وإنما الخلافُ الحقيقيُّ بينهم وبين بعضِ المتأخِّرين (¬1) حيث ذَهب إلى تصحيحِ القصةِ مع التسليم بها دون استنكارِ أيِّ شيءٍ منها، أو تأويلٍ ما! بل جَوَّز ¬

_ (¬1) هو الشيخ إبراهيم الكوراني كما صرَّح بذلك الآلوسي إبراهيم بن حسن بن شهاب بن حسن بن شهاب الكردي ولد في 1025 هـ وتُوفي في 1101 هـ.

على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - جميعَ ما فيها، زاعمًا أن ذلك لا يتنافى مع عِصمته، بل هو تأديبٌ له! -في كلامٍ له طويل يُغني وضوحُ بطلانِه عن إيرادِه وتسويدِ الصفحاتِ لردِّه-، وقد نَقَله الآلوسيُّ بِرُمَّته، ثم ردَّ عليه في كلامٍ متين، ولولا أن هذه العُجالةَ لم توضَعْ لهذه الغاية، لَسُقتُه بتمامِه، فأقتصِرُ من ذلك على قولِه في خاتمة بحثه: "لكنَّ إثباتَ صحَّةِ الخبر أشدُّ مِن خَرْطِ القَتاد، فإنَّ الطاعِنين فيه من حيثُ النقلُ علماءُ أجلَّاء، عارِفون بالغثِّ والسَّمين من الأخبار، وقد بَذَلوا الوُسعَ في تحقيقِ الحقِّ فيه، فلم يَروُوهُ إلَّا مردودًا، وهم أكثرُ ممن قال بقَبوله، ومنهم مَن هو أعلمُ منه، ويَغلبُ على الظنِّ أنهم وَقفوا على رُواته في سائرِ الطُرق، فرأَوهم مجروحين، وفات ذلك القائلَ بالقَبول (¬1)، ولَعَمْري إنَّ القولَ بأنَّ هذا الخبرَ مما ألقاه الشيطانُ على بعضِ ألسِنةِ الرواة، ثم وَفَّق الله تعالى جَمْعًا مِن خاصَّتِه لإبطاله، أهونُ من القول بأن حديثَ الغرانيق مما ألقاه الشيطانُ على لسانِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نَسَخَهُ سبحانه وتعالى، ولا سيَّما وهو ممَّا لم يَتوقف على صحَّته أمرٌ ديني، ولا معنَى آية، ولا سِوى أنها يتوقَّفُ عليها حصولُ شُبَهٍ في قلوبِ كثيرٍ من ضعفاءِ المؤمنين لا تكاد تُدفعُ إلَّا بجَهدٍ جَهيد" (¬2). ¬

_ (¬1) قلت: هذا فيه بعدٌ، لا سيما بالنسبةِ للحافظ ابن حجر، فلو كان هناك جَرح فلا يخفى عليه، والحق أن الحافظ جَرى على بعضِ القواعد الحديثية، فهو أعذر ممن خالَفها ولم يُجِب عنها، وقد أجبنا نحن فيما سبق، فالأقربُ أن يقال: إنهم وَقفوا على عِلَّةٍ وهي "الإرسالُ" حسبما فصَّلنا في سائر الطرق، ولكن لم يَرَها علَّةً فادحةً القائلُ بالقبول. (¬2) "نصب المجانيق" (ص 48 - 68) باختصار.

° ومِمَّن تكلَّم في بُطلانِ هذه القِصَّة: - محمد بن أحمد الأنصاري، أبو عبد الله القُرطبي في "أحكام القرآن" (12/ 80 - 84). - محمد بن يوسف بن علي الكِرْماني من شرَّاح "البخاري" (786 هـ)، وقد نَقل كلامَه في ذلك الحافظُ في "الفتح" (8/ 498). - محمودُ بنُ أحمد بدر الدين العَيْني (855 هـ) في "عمدة القاري" (9/ 47). - محمد بن علي بن محمد اليمني الشوكاني (1250 هـ) في "فتح القدير" (3/ 247 - 248). - السيد محمود أبو الفضل شِهاب الدين الآلوسي (1270 هـ) في "روح المعاني" (17/ 160 - 169). - صِدِّيق حسن خان أبو الطيب (1307 هـ) في تفسيره "فتح البيان". - محمد عبده المصري الأستاذ الإِمام (1323 هـ) في رسالة خاصة له في هذه القصة (¬1). ° وقال الشَّيخُ العَلَّامةُ أَحمد شاكِر -رحمه الله تعالى- في تَعْليقهِ على "سُنن التِّرمذيِّ" (2/ 464 - 465): "وهِيَ قِصَّةٌ باطلةٌ مَردودَةٌ؛ كما قالَ القَاضي عِياضٌ والنَّوَوِيُّ -رحمَهُما الله-، وقد جاءَتْ بأَسانيدَ باطلةٍ؛ ضعيفةٍ، أَو مرسلةٍ، ليس لها إسنادٌ مُتَّصِلٌ صحيحٌ. ¬

_ (¬1) في "أثارات في مشكلات" (ص 129 - 144) المطبوع مع "تفسير سورة الفاتحة" لتلميذه محمد رشيد رضا.

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -

* قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (¬1) - رحمه الله -: قالَ في "رحلةِ الحَجِّ إلى بيتِ اللهِ الحَرامِ" (128 - 135) ما نصُّهُ: "والعُلماءُ مختلِفونَ في أَصلِ قصَّةِ الغَرانيقِ؛ هلْ هِيَ باطلَةٌ أَو ثابِتَةٌ؟!. فعلى القولِ ببطلانِها؛ فالأمرُ واضحٌ. وعَلى القولِ بثُبوتِها؛ فمعنى إلقاء الشَّيطانِ على لِسانِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّه - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقرأُ القُرآنَ؛ يُرَتِّلُهُ تَرْتيلاً تتخَلَّلُهُ سَكَتاتٌ، فراقَبَ الشَّيطانُ بعضَ سَكَتاتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ حَاكَى قِراءَتَهُ - صلى الله عليه وسلم - بقولِهِ -عليهِ لعنةُ اللهِ-: "تلك الغَرانيقُ العُلاَ. وإنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لتُرْتَجى"! فظنَّ المُشْرِكونَ صوتَ الشَّيطانِ صوتَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الجوابُ عن قصَّةِ الغَرانيقِ -على القولِ بثُبوتِها- هو أَحسنُ الأجوبَةِ عنها، وارْتَضاهُ جَمْعٌ مِن المُحَقِّقينَ مِن أَجوبَةٍ كثيرةٍ. وحُجَّةُ القائل بأَنَّ قصَّةَ الغَرانيقِ باطلةٌ: اضطِرابُ رواتِها، وانقِطاعُ سَنَدِها، واختلافُ أَلفاظِها: فبعْضُهُم يقولُ: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ في الصَّلاةِ!. وبعضُهُم يقولُ: قَرَأَها وهُو في نادي قَوْمِه!. وآخَرُ يقولُ: قَرَأَها وقد أَصابَتْهُ سِنَةٌ!. وآخَرُ يقولُ: بل حَدَّثَ نَفْسَهُ، فَجرى ذلك على لِسانِهِ!. وآخَرُ يقول: إنَّ الشَّيطانَ قالَها على لسانِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وإنَّ النبيَّ لمَّا ¬

_ (¬1) وله - رحمه الله - في "أضواء البيان" بحث مختصر فيها.

عَرَضَها على جِبريلَ قالَ: ما هكذا أَقْرَأتكَ!. إلى غيرِ ذلك مِن اختلافِ أَلفاظِها. • والذي جاءَ في "الصحيح" مِن حديثِ عبد اللهِ بنِ مسعودِ - رضي الله عنه -: "أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ: {وَالنَّجْمِ .. }، فسَجَدَ فيها، وسَجَدَ مَن كانَ معَهُ؛ غَيْرَ أَنَّ شيخًّا من قرَيْشٍ أَخَذَ كَفًّا مِن حَصًى أو تُرابٍ، فرَفَعَهُ إلى جَبْهَتِهِ، فسجَدَ عليهِ". قالَ عبدُ اللهِ: "فَلَقَدْ رأَيتُهُ -بَعدُ- قُتِلَ كافِرًا". أَخرَجَهُ الشَّيخانِ في "صحيحَيْهِما". • وصحَّ مِن حَديثِ ابنِ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَجَدَ بـ {النَّجْمِ}، وسَجَدَ معهُ المُسْلِمونَ والمُشْرِكونَ والجِنُّ والإنسُ. رواهُ البخاريُّ - رحمه الله -. فهذا الذي جاءَ في "الصحيحِ" لم يُذْكَرْ فيهِ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ذكَرَ الغَرانيقَ، ولا شَفاعَتَها، ولا شَيْئًا مِن تلكَ القِصَّةِ. والذي ذَكَرَهُ المُفَسِّرونَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - في هذه القصَّةِ إنَّما هُو مِن طَريقِ الكَلْبيِّ عن أَبي صالحٍ عن ابنِ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -. والكَلْبِيُّ؛ ضعيفٌ جِدًّا، بل متروكٌ. ولذا قالَ ابنُ العَرَبيِّ المالِكِيُّ: "إنَّ قصَّةَ الغَرانِيقِ باطِلَةٌ لا أَصْلَ لها". ° وقالَ القاضي عِيَاضٌ: "إنَّ قصَّةَ الغَرانيقِ لم يُخْرِجْها أحدٌ مِن أَهْلِ الصِّحَّةِ، ولا رواها ثقةٌ بسَنَدٍ سليمٍ مُتَّصِلٍ، معَ ضَعْفِ نَقَلَتِها، واضْطِرابِ

رواياتها، وانقِطاعِ إسنادِها". وذَكَرَ أَنَّ مَنْ حُمِلَتْ عنهُ مِن التَّابِعينَ والمُفَسِّرينَ لم يُسْنِدْها أَحَدٌ منهُم، ولا رَفَعَها إلى صاحِبٍ. وأَكثرُ الطُّرُقِ عنهُم في ذلكَ ضعيفةٌ واهِيَةٌ. قالَ: "وقد بَيَّنَ البَزَّارُ أَنَّها لا تُعْرَفُ مِن طريقٍ يجوزُ ذِكْرُهُ إلا طريقَ أبي بِشْرٍ عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ - رضي الله عنه - معَ الشَّكِّ الذي وَقَعَ في أَصْلِهِ". ° قالَ مُقيِّدُهُ -عفا اللهُ عنهُ-: "وقد اعْتَرَفَ الحافِظُ ابنُ حَجرٍ العَسقَلانيُّ - رحمه الله - معَ انْتِصارِهِ لثُبوتِ هذه القصَّةِ بأَنَّ طُرُقَها كلَّها إمَّا منقَطِعَةٌ أَو ضعيفةٌ؛ إلَّا طريقَ سعيدِ بنِ جبَيرٍ. وإذا عَلِمتَ أنَّ طُرُقَها كلَّها لا يُعَوَّلُ عليها إلَّا طريقَ سعيدِ بنِ جُبيرٍ، فاعْلَمْ أَنَّ طريقَ سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ لم يَرْوِها بها أَحَدٌ مُتَّصِلَةً؛ إلَّا أُميَّةُ بنُ خالدٍ. وهُو وإنْ كانَ ثقةً؛ فقدْ شَكَّ في وَصْلِها. فقدْ أَخْرَجَ البَزَّارُ، وابنُ مَرْدَويهِ؛ مِن طريقِ أُمَيَّةَ بنِ خالدٍ عن شُعْبَةَ عن أَبي بشْرٍ عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ. فقالَ أُمَيَّةُ بنُ خالدٍ في إسنادِهِ هذا: عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ عن ابنِ عبَّاسٍ -فيما أَحسِبُ-. ثم ساقَ حَديثَ القصَّةِ المذكورَةِ. ° وقالَ البزَّارُ: "لا يُرْوَى مُتَّصِلاً إلَّا بهذا الإسنادِ، تفرَّدَ بوصْلِهِ أُمَيَّةُ ابنُ خالدٍ، وهو ثقةٌ مشهورٌ". ° وقالَ -أَعني البَزَّارَ-: "وإنَّما يُرْوَى مِن طريقِ الكَلْبِيِّ عن أَبي صالحٍ

عن ابنِ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما-". والكَلْبيُّ متروكٌ. فتحَصَّلَ مِمَّا ذَكَرْنا أَن قصَّةَ الغَرانيقِ التي لم تَثبُتْ مِن طريقٍ مُتَّصِلَةٍ يجوزُ ذِكْرُها إلَّا هذا الطَّريقَ الذي شَكَّ راويهِ -وهو أُمَيَّةُ بنُ خالِدٍ- في الوَصْلِ. ومَا لَمْ يَثْبُتْ إلَّا مِن طريقٍ شَكَّ صاحِبُهُ في الوَصْلِ؛ فضَعْفُهُ ظاهِرٌ. ° ولذا قالَ الحافِظُ ابنُ كَثيرٍ في "تفسيرِهِ" في قِصَّةِ الغَرانِيقِ: "إنَّهُ لمْ يَرَها مُسْنَدَةً مِن وجْهٍ صحيحٍ، واللهُ تعالى أَعْلَمُ". ° وقالَ البيهَقِيُّ فيها: "إنَّها غيرُ ثابتةٍ مِن جهة النَّقْلِ". وذَكَرَ الرَّازيُّ في "تفسيرِهِ" أَنَّها باطِلَةٌ. ° قالَ مُقيِّدُهُ -عفا الله عنه -: "إن القولَ بعَدَمِ صَحَّتِها لهُ شاهِدٌ مِن القرآنِ العظيمِ في سورةِ "النَّجْمِ"، وشَهادتُهُ لِعَدِمِ صِحَّتِها واضِحَةٌ: وهو أنَّ قولهُ تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19 - 20] الذي يقولُ القائِلُ بصحَّةِ القصَّةِ أنَّ الشَّيطانَ أَلقَى بعدَهُ ما أَلقى؛ قَرَأَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدُ في تلكَ اللحْظَةِ في الكَلِماتِ التي تليهِ مِن سورةِ "النَّجْمِ" قولَهُ تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ الله بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23]. فهذا يَتَضَمَّنُ مُنْتَهَى ذَمِّ الغَرانِيقِ التي هِيَ كِناية عنِ الأصْنامِ، إذْ لا ذَمَّ أَعْظَمُ مِن جَعْلِها أَسماءً بِلا مُسَمَّياتٍ، وجَعْلِها باطِلاً ما أَنزَلَ اللهُ بهِ مِن سَلطانٍ!!.

* فلَوْ فَرضْا أَنَّ الشَّيطانَ أَلقى على لِسانِهِ - صلى الله عليه وسلم -: "تلكَ الغَرانيقُ العُلا"؛ بعدَ قولِهِ: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 20]، وفَرحَ المُشْرِكونَ بأَنَّهُ ذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بخَيْرٍ، ثمَّ قالَ النبيُّ في تلكَ اللحظَةِ: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23]، وذَمَّ الأصنامَ بذلك غايَةَ الذِّمِّ، وأَبْطَلَ شفاعَتَها غايةَ الإِبطالِ! فكَيْفَ يُعْقَلُ -بعدَ هذا- سجودُ المُشْرِكينَ، وسَبُّ أَصنامِهِم هو الأخيرُ، والعِبْرَةُ بالأخيرِ؟!. ° وُيسْتَأنَسُ بقولِهِ أَيضًا -بعدَ ذلكَ بقَليلٍ في المَلائكَة-: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]؛ لأنَّ إبطالَ شَفاعَةِ الملائِكةِ -إلَّا بإذنِ اللهِ- معلومٌ منهُ عندَ الكُفَّارِ بالأحْرَوَيَّةِ إبطالُ شفاعَةِ الأصنامِ المزعُومَةِ. ° وقالَ الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ في "فتح الباري" في تفسيرِ سورةِ "الحَجِّ" ما يُفيدُ ثُبوتَ قِصَّةِ الغَرانِيقِ. وذَكَرَ أَنَّها ثَبَتَتْ بثلاثَةِ أَسانيدَ؛ كُلُّها على شَرْطِ الصَّحِيِح، وهِيَ مَراسيلُ؛ يَحْتَجُّ بمِثلِها مَن يَحتَجُّ بالمُرْسَلِ، وكذلكَ مَن لا يَحْتجُّ بهِ؛ لاعتضادِ بعضِها ببَعْضٍ. واحتَجَّ أيضًا بأَنَّ الطُّرُقَ إذا كَثُرَتْ وتَبايَنَتْ مَخارِجُها؛ دَلَّ ذلكَ على أَنَّ لها أَصلاً. ثُمَّ قالَ: "وإذا تَقَرَّرَ ذلك؛ تَعَيَّنَ تأويلُ ما وَقَعَ في القِصَّةِ مِمَّا يُسْتَنْكَرُ، وهو قولُهُ: "أَلقى الشَّيطان على لِسانِهِ: تلكَ الغَرانِيقُ العُلاَ، وإنَّ شفاعَتَهُنَّ لتُرْتَجى"، فإنَّ ذلك لا يجوزُ حَمْلُهُ على ظاهِرِهِ؛ لأنَّهُ يستَحيلُ عليهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ

يَزيدَ في القرْآنِ ما ليسَ منهُ عَمْدًا، وكذا سَهوًا؛ إذا كانَ مُغايرًا لِما جاءَ بهِ مِن التوحيدِ؛ لمكانِ عِصْمَتِهِ - صلى الله عليه وسلم -". ثمَّ أَخَذَ -أَعني الحافظَ ابنَ حَجَرٍ- في أَجوبةِ العُلَماءِ عنِ القِصَّةِ المذكورَةِ -على تَقْديرِ ثُبوتِها-، وذَكَرَ أَجوبَةً كثيرةً. وقدْ قَدَّمْتُ أَنَّ أَحْسَنَها ما استَحْسَنَهُ كَثيرٌ مِن المحَقِّقينَ مِن أَنَّ الشَّيطانَ هُو الذي قالَ: "تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلا"، فظنَّ المُشْرِكونَ أَنَّها مِن كَلامِ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -، وحاشاهُ مِن ذلك. ولذا اقتَصَرْتُ على هذا الجَوابِ، ولم أَذْكُرْ غيرَهُ. ° واللهُ تعالى في كتابِهِ العَزِيزِ أَسْنَدَ هذا الإلقاءَ للشَّيطانِ، حيثُ قالَ: {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52]، ونِسْبَتُهُ إيَّاهُ للشَّيطانِ تَدُلُّ على بَراءَةِ جَنابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ° قال مُقَيِّدُهُ -عفا اللهُ عنهُ-: اعْلَمْ أَنَّ براءَةَ ساحَةِ خاتَمِ الرُّسُلِ وأَشْرَفِهِم، وسَيِّدِ ولَدِ آدَمَ بالإِطلاقِ -عليهِ صلواتُ اللهِ وسَلامُهُ- ممَّا جاءَ في ظاهِرِ هذهِ القصَّةِ، تدلُّ عليهِ البَراهينُ القاطعَةُ، والأدِلَّةُ السَّاطِعَةُ؛ كما سَتَراهُ. وقولُ الشَّيطانِ: "تلكَ الغَرانِيقُ العُلاَ" شِرْكٌ أَكبرُ صُراحٌ، وكُفْرٌ بَواحٌ، وهو - صلى الله عليه وسلم - مَبْعوثٌ لإخلاصِ العبادَةِ للَهِ وحْدَهُ؛ مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ كلمةُ: "لا إلهَ إلَّا الله"؛ كجميعِ إخوانِهِ مِن المُرْسَلينَ: * قالَ تَعَالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

* وقالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. * وقالَ تَعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45]. فإخلاصُ العِبادَةِ للهِ وحدَهُ هُو دَعْوَةُ عامَّةِ الرُّسُل، وأشدُّهُم فيهِ احْتِياطًا خاتمُهُم - صلى الله عليه وسلم -. ولذا مَنَعَ بعضَ الأمورِ التي كانَتْ مُباحَةً عندَهُم؛ احتياطًا في توحيدِ اللهِ في عبادَتِه جَلَّ وعَلا، فالسجودُ لمخلوقٍ في شريعَتِهِ السَّمْحَةِ كُفْرٌ باللهِ تعالى، معَ أَنَّهُ كانَ جائِزًا في شَرْعِ غيرهِ مِن الرُّسُلِ -عليهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، كما قالَ تعالى عَنْ يَعْقوبَ وأَوْلادِهِ في سُجودِهِمْ لِيوسُفَ: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف: 100]. ولذلك أُمِرَ نَبِيُّنا - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَقولَ للنَّاسِ: إنَّهُ ما أُوْحِيَ إليهِ إلَّا توحيدُ اللهِ تعالى في عِبادَتِه في قولِهِ تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [الأنبياء: 108]. وقد تقرَّرَ عندَ الأصولِيِّينَ والبيانِيِّينَ أَنَّ لفظَ "إنَّما" مِن أدواتِ الحَصْرِ، فدلَّتِ الآيةُ على حَصْرِ الموحَى إليهِ - صلى الله عليه وسلم - في أَصلِهِ الأعظَم الذي هُو "لا إلهَ إلَّا الله"؛ لأنَّها دَعْوَةُ جميعِ الرُّسُلِ وغيرِها مِن شرائعِ الإِسلامِ وفُروعِها التَّابعَةِ لها. ولهذا صارَ مُكَذِّبُ رسولِ واحِدٍ مُكَذِّبًا لجميعِ الرُّسُلِ؛ لأنَّ دَعْوَتَهُم واحِدَةٌ.

* قالَ تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105]؛ أَي: بتكذيبِهِمْ نُوحًا. * {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 123]؛ أَي: بتكذيبِهِم هُودًا. * {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 141]؛ أَي: بتكذيبِهِم صالِحًا. * {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 160]؛ أَي: بتكذيبِهِم لُوطًا. * {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 176]؛ أَي: بتكذيبِهِم شُعَيْبًا. فهذه الآياتُ تَدُلُّ على أَنَّ مكَذِّبَ رسولٍ واحدٍ مُكَذِّبٌ لجميعِ الرُّسُل، وذلك لاتِّحادِ دعْوَتِهِم، وهِيَ مَضْمونُ: "لا إلهَ إلَّا اللهُ". * قَالَ تَعالى: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 150 - 151]. فإذا حَقَّقْتَ هذا؛ عَلِمْتَ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لا يَقولُ: "تِلَكَ الغَرانِيقُ العُلا، وإنَّ شَفاعَتَهُنَّ لتُرْتَجى"؛ لِمَا في هذا الكلام مِن الشِّرْكِ الصُّراحِ، والكُفْرِ البَوَاحِ، المُضادِّ لِما جَاءَ بهِ جَميعُ الرُّسُلِ -عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ-. ولا يَقْدِرُ الشَّيْطانُ أَنْ يُجْرِيَ ذلك عَلى لِسانِهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّه ليس لهُ عليهِ مِن سُلْطانٍ، بشهادَةِ القُرْآنِ وبإقرارِ الشَّيْطانِ. * قالَ جَلَّ وعَلا: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ

(98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 98 - 100]. ومَعْلومٌ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مِن الذينَ آمَنوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلونَ، وأَنَّهُ ليسَ مِن الذينَ يَتَوَلَّوْنَهُ والذينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكونَ. * قَالَ تَعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]. ومَعْلومٌ أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مِن عِبادِهِ الذينَ ليسَ للشَّيطَانِ عليهِمْ سُلْطانٌ، وأَنَّهُ لَيْسَ مِن الغَاوينَ الذينَ اتَّبَعوهُ. وأَقَرَّ الشَّيطانُ بأَنَّهُ لا سَبيلَ عَلى مَنْ هُو دُونَهُ - صلى الله عليه وسلم - وأَحْرَى هُو -صَلَواتُ اللهِ عليهِ وسلامُهُ- قالَ: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82 - 83]. * وقَالَ: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22]. * وقَالَ تَعالى في نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6]. * وقَالَ تَعَالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]. * وصَرَّح جَلَّ وعَلا بحِفْظِ القُرْآنِ مِن دَسائِسِ الشَّيْطانِ؛ قالَ: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41 - 42].

فقولُهُ تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ}؛ فِعْلٌ في سِياقِ النَّفْي، والفعلُ في سِياقِ النَّفْيِ مِن صِيَغِ العُمومِ؛ كالنَّكِرَةِ فِي سِياقِ النَّفْيِ عندَ المُحَقِّقينَ مِن عُلَماءِ الأصُولِ، ووجْهُهُ ظاهِرٌ؛ لأنَّكَ إذا حَلَّلْتَ الفِعْلَ انْحَلَّ إلى مَصْدَرٍ وزَمَنٍ؛ فهُو يدلُّ على نكرةٍ واقعةٍ في سِياقِ النَّفْي؛ لأنَّ نَفْيَ الفِعْلِ نفيٌ للمَصْدَرِ، الذي هُو جُزْءٌ مِن مَدْلولِهِ، فإذا قُلْنا: "لا يَقومُ زيدٌ"، عَمَّ النَّفْيُ أَفرادَ المَصْدَرِ، فكأَنَّما قلْنا: "لا قِيامَ لِزَيْدٍ". ° وقالَ أَبو حِنيفَةَ: "لا تَعْميمَ في الفِعْلِ بعدَ النَّفْيِ وَضْعًا، بل فيهِ تعميمٌ عقلِيٌّ؛ بدِلاَلَةِ الالتزامِ". وما قَصَرَ بهِ الرازِيُّ في "محصولِهِ" مذْهَبَ أَبي حَنيفةَ في عَدَم عُمومِ الفعْلِ في سِياقِ النفيِ لا يصحُّ التمسُّكُ بهِ، فانْظُرْ تحقيقَهُ في "حاشيةِ العَبَّادِي على شَرْحِ المَحَلِّي لجمعِ الجَوامعِ"؛ يظهَرْ لكَ ما ذَكَرْنا. فبهذا تَعْلَمُ أَنَّ قولَهُ تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} يَعُمُّ نَفْيَ كُلِّ باطلٍ يأْتي القُرآنَ. وقد أَكَّدَ هذا العُمومَ بقولِهِ: {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}، فلوْ قَدَّرْنا أنَّ الشَّيطانَ أَدَخلَ في القُرآنِ عَلى لِسانِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "تلكَ الغَرانِيقُ العُلاَ" -وحاشاه مِن ذلكَ-؛ لكانَ قدْ أَتى القُرآنَ أَعْظَمُ باطِلٍ مِن بينِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ؛ فيكونُ تَصْريحًا بتكذيبِ اللهِ جَلَّ وعَلا في قولِهِ: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}. ولا حُجَّةَ في أَنَّ الله جَلَّ وعَلا نَسَخَ ما أَلقاهُ الشَّيطانُ في القرْآنِ على لِسانِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ كما قالَ: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج: 52]؛

لأنَّ الباطِلَ إنْ أَتى القرآنَ أَوَّلاً ثُمَّ نُسخَ، فنَسْخُهُ بعدَ إتيانِه لا يَرْفَعُ اسمَ الإِتيان أَوَّلاً، وقولُهُ تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} نصٌّ صَريحٌ في نَفْي إتيانِ الباطِلِ؛ كَما قَدَّمْنا. * وقالَ تَعَالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. فهذه نصُوصٌ قرآنيَّةٌ قاطِعَةٌ تدلُّ على أَنَّ الشَّيطانَ لا سَبيلَ لهُ إلى أَنْ يَحْملَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - على أَنْ يُدْخِلَ في القُرْآنِ العَظيم ما ليسَ منهُ مِن الكُفْرِ الصُّرَاح والشِّرْكِ الأكْبَرِ. ولم يَبْقَ في الآيةِ الكريمَةِ المسؤولِ عنها إشكالٌ" اهـ. ° وقال الأستاذ سيد قطب (¬1): "واللهُ الذي يَحْفَظُ دعوَتَهُ مِن تكذيبِ المُكَذِّبينَ، وتعطيلِ المُعوِّقينَ، ومُعاجَزَةِ المُعاجِزينَ؛ يحفَظُها كذلكَ مِن كَيْدِ الشَّيطانِ، ومِن مُحاوَلَتِه أَنْ يَنْفُذَ إليها مِن خِلالِ أمْنِيَّاتِ الرُّسُلِ النابعةِ مِن طبيعَتِهِمُ البشريَّةِ، وهُم مَعْصومونَ مِن الشَّيطانِ، ولكنَّهُم بشَرٌ، تمتَدُّ نفوسُهُم إلى أَمانيَّ تتعلَّقُ بسرعَةِ نشْرِ دعوتِهِم، وانتِصارِها، وإزالَةِ العَقَباتِ مِن طريقِها، فَيُحاوِلُ الشَّيطانُ أَنْ يَنْفُذَ مِن خلالِ أَمانِيِّهِم هذه، فَيُحَوِّلُ الدعوةَ عنْ أُصولِها وعن مَوازينِها .. فيُبْطِلُ اللهُ كيدَ الشَّيطانِ، ويَصونُ دعوتَهُ، وُيبَيِّنُ للرُّسُل أُصولَها وموازينَها، فيُحْكِمُ آياتِه، ويُزيلُ كُلَّ شُبْهَةٍ في قِيَمِ الدَّعْوةِ ووسائِلِها: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ الله مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ وَاللَّهُ ¬

_ (¬1) "الظلال" (5/ 611 - 614).

عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 52 - 54]. لقد رُويَتْ في سَبَبِ نُزولِ هذه الآياتِ رواياتٌ كَثيرةٌ ذَكَرَها كثيرٌ مِن المُفَسِّرينَ. ° قالَ ابنُ كَثيرٍ في "تفسيرِهِ": "ولكنَّها مِن طُرُقٍ كُلُّها مُرْسَلَةٌ، ولم أَرَها مُسنَدَةً مِن وجْهٍ صَحيحٍ، والله أَعلمُ". ° ثمَّ قالَ بعدَ أَنْ سَاقَ شَيئًا مِن الرِّواياتِ بأَلفاظِها: "هذه خُلاصَةُ تلكَ الرِّواياتِ في هذا الحَديثِ الذي عُرِفَ بحديثِ الغَرانيقِ .. وهُو مِن ناحِيَةِ السَّنَدِ واهي الأصْل". ° قالَ عُلَماءُ الحَديثِ: "إنَّهُ لم يُخْرِجْهُ أَحدٌ مِن أَهلِ الصحَّةِ، ولا رواهُ بسندٍ سَليمٍ مُتَّصلٍ ثقةٌ". ° وقالَ أَبو بكرٍ البزَّارُ: "هذا الحَديثُ لا نعلَمُهُ يُرْوى عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بإسنادٍ مُتَّصلٍ يجوزُ ذِكْرُهُ". وهُو مِن ناحيةِ موضوعِهِ يُصادِمُ أَصلاً مِن أُصولِ العقيدَةِ، وهُو عِصْمَةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِن أَنْ يَدُسَّ عليهِ الشَّيطانُ شيئًا في تَبليغِ رِسالَتِهِ. وقد أُولعَ المُسْتَشْرِقونَ والطَّاعِنونَ في هذا الدِّينِ بذلك الحَديثِ، وأَذاعوا بهِ، وأَثاروا حَوْلَهُ عَجاجَةً مِن القولِ، والأمرُ في هذا كُلِّهِ لا يَثبُثُ للمُناقَشَةِ، بل لا يَصِحُّ أَنْ يكونَ موضوعًا للمُنَاقَشَةِ.

وهُناكَ مِن النَّصِّ ذاتِهِ ما يُستَبْعَدُ معهُ أَنْ يكونَ سَبَبُ نزولِ الآيةِ شيئًا كهذا، وأَنْ يكونَ مدلولُهُ حادثًا مُفْرَدًا وقعَ للرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم -. فالنَّصُّ يُقَرِّرُ أَنَّ هذه قاعِدةٌ عامَّةٌ في الرِّسالاتِ كُلِّها، مع الرُّسُلِ كلِّهم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ الله مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ ... }. فلا بُدَّ أَنْ يكونَ المقصودُ أَمرًا عامًّا، يستَنِدُ إلى صِفَةٍ في الفِطْرَةِ مشتَرَكَةٍ بين الرُّسُلِ جَميعًا بوصْفِهِم مِن البَشَرِ، مِمَّا لا يُخالِفُ العِصْمَةَ المقرَّرَةَ للرُّسُل". * صدق الله العظيم إذ يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. وكَذَب سلمان رشدي الدجَّالُ المرتدُّ الجَهول، وصلى الله وسلم على سيِّد البشر وأفضلِ رسول .. ما ضَرَّه ما قال عنه الغبيُّ القِزمُ الجهول: ما يَضُرُّ البحرَ أمسى زاخرًا ... أنْ رَمَى فيه غلامٌ بحَجَرْ * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَامُحَمَّدَاهُ {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف الطبعة الأولى 1427 هـ - 2006 م رقم الإيداع بدار الكتب المصرية رقم الإيداع: 22691/ 2006 دار العفاني 3 درب الأتراك خلف الجامع الأزهر - القاهرة ت/ 025108257 - ت/ 0125775711 فرع بني يوسف - برج الري - حي الرمد - بجوار مجمع المحاكم - بني سويف ت/ 0822317344 مطبعة العمرانية تليفون 3756299

ـ[قد بَدَتِ البغضاء من أفواههم وما تُخفي صدورهم أكبر]ـ

صليبيون حتى النخاع

صليبيُّون حتى النُّخاع * قال تَعَالي: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]؟! , وقالَ سبحانه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]؟!. * قال الله -عز وجل-: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118]. * وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] ". قلوبٌ سَوداءُ لا تَحملُ لرسولِ الإسلام - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ كل حِقدٍ وتحقير واستهزاءٍ ومكرٍ وكَيدٍ لئيمٍ وتبجُّحٍ فج، وإثارةِ الشبهاتِ حَولَ دعوتِه ورسالتِه، وخَلْقِ أجواءِ الرِّيبةِ والاتهامات، يَجمعُهم الحِقدُ الشديدُ على الإسلام ونبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، هم رُوَّادُ حَركةِ التغريب، وكِبارُ مخططيها، وأبرز دعاتِها، الذين حَمَلوا لواءَ العَمَل في ميادينِ التبشيرِ والاستشراقِ والكتاباتِ السوداءِ عن الإسلام ورسولِه - صلى الله عليه وسلم -، كأرنست رينان، وفولتير، وصمويل زويمر، وجبرائيل هانوتو، ومرجليوث، والقَسِّ لويس شيخو. ورابطةُ العِقد بينهم التطاولُ على نبيِّ الإسلام - صلى الله عليه وسلم -، وإنكارُ نبوَّتِه، والطعنُ في رسالتِه .. وما ضَرَّ الورُودَ وما عليها ... إذا المزكومُ لم يَطعَمْ شذاها أوْ: ما يَضُر البَحْرَ أمسَى زاخرًا ... أنْ رَمَى فيه غلامٌ بحَجَرْ

° وها هم حَمَلَةُ السموم والحِقدِ الواضح -لا الدفين- الذي تَطفحُ به مواقفُهم -لا كتاباتُهم-، أكاذيبُ وافتراءات وعِداءٌ ذو جذورٍ عميقة، يُوضحُها الجنرالُ الإنجليزي "جلوب باشا" -اللفتنانت جنرال جون باجوت (1897 - 1986) - والذي سَبَق وعمل قائدًا للجيش الأُردني حتى عام 1956، قال:"إن تاريخ مشكلةِ الشرق الأوسط (أي مشكلة الغرب مع الشرق الإسلامي) إنما يعودُ إلى القرنِ السابع للميلاد"!! أي إلى ظهور الإسلام (¬1). فنحن -إذن- أمامَ موقفٍ ثابتٍ وقديم .. ولسنا أمامَ مَقالٍ هنا أو رَسمٍ "كاريكاتوري" هناك. * قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]. * وقال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8]. لقد رُصدت الأكاذيبُ حولَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مشروع بَحثيٍّ أُنجز في "ألمانيا" فبلغت ثمانيةَ مُجلدات، وتُصَوِّرُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كاردينالاً كاثوليكيًّا رَشَّح نفسه في انتخاباتِ البابوية، فلمَّا رَسَبَ أحدَث انشقاقًا هو الأكبرُ والأخطرُ في تاريخ النصرانية. * يكفي قولُ الله -عز وجل-: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا ¬

_ (¬1) "الإسلام والغرب افترءات لها تاريخ" للأستاذ الدكتور محمد عمارة (ص 17) - مركز الإعلام العربي- القاهرة.

تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118] وقوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، يكفي كلامُ مَلِكِ الملوك -وكلامُ الملوك ملوكُ الكلام- لمن يُوقِنُ بهذا الدين ويتَّخذُه منهجًا لحياته .. ولكن نُريدُ أن نكشفَ القِناعَ لعوامِّ المسلمين، حتى لا يأتيَ الدَّجَاجلةُ بزَيفِهم وأخطائِهم وادعاءاتِهم -وهم عَبيدُ الغربِ وأذنابُه وصِبيانه-، فيُزعزِعوا العوامَّ عن دينِهم، وحالُ هؤلاءِ الصبيان يصوِّرُه الشاعر فيقول: يُرمرِمُ مِن فُتَاتِ الكفرِ قُوتًا ... ويَشرَبُ من كؤوسِهِمُ الثُّمالَةْ يُقبِّلُ راحةَ الإفرنج دومًا ... ويَلثُمُ دونما خَجَل نِعالهْ وقد جَمع الدكتور عبد الرحمن بدوي في كاتبه "دفاع عن محمد - صلى الله عليه وسلم - ضد المنتقصِين مِن قدْره" أقوالَ المتَّهِمين من مصادرها الأصلية، وتتبَّعها واستقصاها على ما في ذلك من مَشقةٍ بالغةٍ، وقد حَرِصَ في حصادِه الطويل والمرِّ من كتابات الغربيين على بيانِ أقوالِ أسماءٍ كثيرةٍ جدًّا مِن مثل: المؤرخ البيزنطي ثيوفان ت 818 م، وأنستاس 886 م، وقسطنطين بورفيرو جنتيا 959 م، سدرينو 1057 م، وجيوبرت 1124م، وكلوني 1156 م، وفانسبان دي بوفيه 1264 م، وبيير باسكاسيو 1300 م، وتاسو توسكا 1488 م، ونيقولاي كوزا 1464 م، وبركنهام 1515 م، وبيلياندر 1564 م، وأزد بالنجر 1575 وغيرهم. * * *

أسطورة محمد - صلى الله عليه وسلم - في أوروبا عشرة قرون من الأكاذيب والمؤامرات

أسطورة محمد - صلى الله عليه وسلم - في أوروبا عَشَرةُ قرون من الأكاذيب والمؤامرات (¬1) ° إذا حاوَلْنا استطلاع تاريخ الأوربيِّيَن خلالَ قرونٍ طويلةٍ عن نبيِّ الإسلام - صلى الله عليه وسلم -، سيصيبنا الفَزَع من جَهْلِهم وسُوءِ نيَّتِهم الواضح الجَلِيّ. ومِن بينهم فلاسفةٌ وعلماء ورجالُ دين ومؤرِّخون. ° ومنذ القرونِ التي شَهِدتِ انطلاقةَ الفكرِ الأوروبِّيِّ -أعني القرنَ الثالثَ عَشَر، والقرنَ السابعَ عَشَر-، لم يُحاول أن يبدأ أحدُ هولاءِ المفكِّرين دراسةً موضوعيةً وعادلةً للإسلام ورسولِه - صلى الله عليه وسلم -. أعني: "ألبرت جراند"، و"توماس داكين"، و"وبوبافنتير"، أو "روجيه باكون" -في القرن الثالث عشر-، أو "ديكارت"، و"باسكال" و"سبينوزا"، و"مالبرانش" -في القرن السابع عَشَرَ-. في العصور الوسطي -في النِّصف الأولِ منها- كانوا يتصوَّرون أن محمدًا -وكانوا يُسمُّونه "ماهوميه"- إلهًا يعبُده المسلمون، ويُقدِّمون إليه قرابينَ من البشر بسببِ ضلالِهم وغَيِّهم (¬2). ° وفي القرن الثانيَ عَشَر بدأ الأُوربيُّون في اعتبارِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - نبِيًّا مزَيفًا -أو مُدَّعِيًّا-، وحاوَلوا فقط إظهارَ وإثباتَ خِداعِه!!. ° كان الإمبراطور "شارلمان" يعتقد أن التمثالَ الذي يمَثِّل محمدًا في ¬

_ (¬1) من كتاب "الدفاع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -" لعبد الرحمن بدوي- دار النشر (أفكار) - باريس 1990م. (¬2) المصدر السابق (ص 10).

(1) ثم حاول المفكر الإيطالي "ألكسندر دانكونا"

مدينة "كاديكس" من الخطر هدمُه؛ لأنَّ مجموعةً من الشياطين تَسكنه!!!. ° ثم وَضَعه "دانتي" في مكانٍ مرموقٍ من الجحيم!!. ° وحينما كَتب "أوركانيا" اختارَ ثلاثَ شخصيَّاتٍ يستحقُّون النارَ، وهم: محمد - صلى الله عليه وسلم -، وابن رشد، والمسيحُ الدجَّال!!. ° في العصور الوسطي أيضًا تمَّ وصفُ محمدٍ بأنه "ساحر"، وبأنه "شخصٌ منحل"، وأنه "لِصُّ نُوق -جِمال- "!!!، وأنه "رجل من رجالِ الكنيسةِ لم يَنجحْ في الوصولِ إلى البابَوِيَّةِ"، فاخترع دِينًا جديدًا لِيقتص من أقرانِه رجالِ الدين المسيحيِّ!!. ° أمَّا عن سِيرته - صلى الله عليه وسلم -، فقد حَوَتْ كلَّ الجرائم التي يُمكن -والتي لا يُمكن- تخيُّلُها، حتى أصبحت مِثلَ حكاياتِ المغامرات!. أما عن القرنِ السادسَ والسابعَ عَشَر، فكما ورد في كتاب "إرنست رينان" فلم يكن أكثرَ عَدْلاً في الحكم على محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فلم يَهتمَّ "بيبلياندر وهوتينجر وماراسي" بالقرآن إلاَّ ليرفضوه جُملةً وتفصيلا (¬1). (1) ثم حاول المفكِّر الإيطالي "ألكسندر دانكونا" أن يَخُطَّ سُطورًا في كتابه "هذا التاريخ" في دراسته بعنوان "أسطورة محمد في الغرب" والتي ظهرت عام 1889 م. بدأ دراستَه بما قاله المؤرِّخ البيزنطيُّ "تيوفان" (- 817518)، والذي رَوَى أن موتَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - كان بسببِ ثمانيةٍ من اليهودِ عندما رَأَوْا فيه امتدادًا ¬

_ (¬1) "دراسات في التاريخي الديني"- لإرنست رينان (ص 171 - 173) - باريس1955.

(2) ثم أخذت الأسطورة منحى آخر مع رجل من رجال الكنيسة يسمي "جيلبار دي نوجان"

لرسالةِ السيد المسيح، في البدايةِ التفُّوا حوله، ثم انقَلَبوا عليه عندما وجدوه يأكلُ لَحْمَ الإبل -لأنَه مَحرَّمٌ في الديانة اليهودية-!!!. ثم يَستمر في عَرضِ حياةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: "إنه ذَهَب إلى فِلسطينَ، وتَحدَّث مع اليهودِ والنصارى هناك، ثُمَّ تعلَّم منهم مُحتوى ومضمونَ الكُتبِ السابقة -التوراة والإنجيل-" (¬1). (2) ثم أخذت الأسطورةُ مَنْحًى آخَرَ مع رجل من رجالِ الكنيسة يُسَمي "جيلبار دي نوجان" (1052 - 1124)، وحَسْبَ روايتِه، فإنه بعد وفاةِ بَطرِيَرْك الإسكندرية، حاول راهب أن يَخلُفَه، لكنه أخفَقَ في ذلك، فقرر أن ينتقم، عند ذلك أوحَى إلى شاب بعضَ الأفكارِ والمعتقداتِ الغريبة، ودَفَعَه لأن يُعلِنَ ويدعي أنه المسيح، ووَعَده بأن يُزوجه أرملةً ثَرِيَّةً تُدعَي"خديجة"، والتي وَعَدها الراهبُ أن يزوجها نبيًّا. ° بدأ "ماتومُس" -كما سمَّاه الراهبُ- يَنشُرُ خَبَرَ نبوَّتِه، فاجتَمَع الناسُ، وأعلَن لهم أن اللهَ سيُنزِلُ قانونًا جديدًا بشكل خُرافي ورائع. ° وأتَى "ماتومس" ببقرةٍ، ثم وَضَع بين قَرْنيْها كتابًا صغيرًا، وفي ذات يومٍ خَرجت البقرةُ أمامَ حُشودِ وجموع الناسِ من مَخبئِها، وعندما قرؤوا الكتابَ وَجَدوا فيه كل الانحلالِ الأخلاقي والفسادِ مسجَّلاً بالكتاب. وقد أَعجب هذا الكتابُ -الذي أحَل كل الرغباتِ البشريةِ- الناسَ، ممّا أساء إلى الديانةِ المسيحيَّة؛ لأن هذا المذهبَ انتَشَر في إفريقيا، وفي مصر، ¬

_ (¬1) "كرونوجرافيا" لتيوفان (ص 511) - مدينة بون "ألمانيا"1839.

(3) ومن هؤلاء الذين حاولوا إثبات هذا الافتراض "بييركلوني"

وفي إثيوبيا، وحتى في أسبانيا (¬1). ° قال الدكتور عبد الرحمن بدوي مُعَقِّبًا: كما نرى، هذه الأسطورةُ ارتَكزت على حَدَثَيْن: الأول: الراهب "بحيرَى" -المذكور في "سيرة ابن هشام"-. والثاني: السورة الثانية في القرآن- "سورة البقرة"-. على هذيْن الحَدَثَيْنِ ارتكز الخيالُ المريضُ للكُتَّابِ المسيحيين في العُصورِ الوسطي في أوروبا، فألَّفوا هذه الأسطورةَ المجنونةَ والمبالَغَ فيها. مِن كُل ما سبق يتَّضحُ لنا أن العصورَ الوسطي كانت تَعتبرُ الإسلامَ مجردَ هَرْطَقةٍ أو تحريفِ للديانةِ المسيحية .. أمَّا محمد، فقد جاءِ ليُحدِثَ زلزالاً بداخل المسيحيَّة. (3) ومن هؤلاء الذين حاولوا إثباتَ هذا الافتراض "بييركلوني" المتوفَّي عام 1156 م .. اختَلَق نَصًّا جاء فيه ذِكرُ نفسِ الراهب، والذي سَمَّاه "سيرجيوس"، والذي كان من أتباع صاحبِ "الهَرْطقة" الذي يُدْعَي "نستوريوس"، وعندما تمَّ طردُه من الكنيسة، جاء إلى الجزيرةِ العربية، وكان "سيرجيوس" قد علَّم محمدًا كل ما كان يَنقصُه -العهدَ القديم والعهدَ الجديد- لكن وفقًا لنظرية "نستوريوس" الذي يُنكِر أن المسيحَ إله (¬2). (4) "جاك ديفيتري" (المتوفَّى عام 1244 م)، سَلَك نفسَ الطريقِ ¬

_ (¬1) دوريَّات "مؤرِّخو الحروب الصليبية" لجستا دي بير فرانكوس- طبع أكاديمية الآداب بباريس- 1879 المجلد الرابع (ص 128). (¬2) "ماكوميتيس حياته ومذهبه" لبيبلياندر- المجلد الثالث (ص 3) - مدينة "بال"1547 م.

(5) "مارتان بولونكو"

مستخدمًا "بحيري الراهب" الذي نَسَجَ قصتَه مُدَّعيًا أن الشيطانَ أمدَّ محمدًا بالموالي والأعوانِ من بينهم، سَمَّى أحدَ الرُّهبانِ المرتدين الملحِدِين يُدْعَي "سوسيو"، وهذا الراهبُ أُدِينَ مِن قِبَل بابا روما، واعتبره مرتدًّا، وكان منبوذًا في قومه، فلَجَأَ إلى الجزيرةِ العربية، وأراد أن ينتقمَ لنفسه، فاتَّفق مع رجلٍ يهودي، والاثنانِ حثَّا محمدًا على أن يَدَّعيَ النبوَّة، وقد أخذ محمدٌ من التوراةِ والإنجيل شريعتَه الجديدةَ مضيفًا لها ما وَسْوَسَ إليه الشيطانُ (¬1). (5) "مارتان بولونكو" (المتوفَّي في 1274)، وَصَف محمدًا - صلى الله عليه وسلم - "بالمجوسيِّ مُدَّعي النبوة"، وبأنه "زعيم اللصوص" قُطع الطريق، ومحمدٌ بالنسبة له تعلَّم على يدِ راهبٍ يُدْعَي "سيرجيوس"، وشريعتُه أُمْلِيت عليه من قِبَل الشيطان، وبمساعدةِ هذا الراهب المُلحِدِ "سيرجيوس"، وأن شريعتَه التي أرساها محمدٌ تمَّ الدفاعُ عنها وفَرْضُها بحدَّ السيف، وتأسست على سَفْكِ الدماء (¬2). (6) ثم كتب "فانسون دي بوفيه" (¬3) الكاتبُ الشهير للموسوعة "المرايا" -وهي من أربعة أجزاء: الموسوعة الدينية، الموسوعة الطبيعية، والموسوعة التاريخية، والأخيرةُ هي تاريخُ العالَم منذ الخَلْقِ وحتى عام (1244) التي امتدَّت أيضًا بواسطة "فانسون" نفسِه حتى عام (1253) , وامتدَّت أبعدَ من ذلك بواسطةِ مَن جاء بعدَه. ومِن المعلوم أن "فانسون" كان راهبًا وواعظًا، وهو أحدُ الدومينيك في ¬

_ (¬1) إستور ياهير وسوليميت في مجلة "بونجزر" (ص 1056)، هانوفر لعام 1611. (¬2) مارتن بولو، كرونيكا (ص 273) لسنة 1574. (¬3) فانسون ولد في 1190 وتوفي في 1264م.

"دير بوفيه"، وأنشأ علاقاتٍ وطيدةً مع القِدِّيس "لويس التاسع" الذي قاد الحَمْلةَ الصليبيةَ السادسةَ في (1249 - 1250)، ولقد حَظِي بثِقةِ المَلِك، وكان قارئه وأمينَ مكتبته ومُعلِّمَ أولادِه، وهذا كلُّه يُفسِّرُ اهتمامَه بالإسلام الذي أطال الحديثَ عنه في موسوعته "المرآة التاريخية"، وأفرَدَ له صفحاتٍ طويلة (الثالثة والعشرون من الفصل 39 - 61). ° وفي حديثهِ عن الإسلام اقتَبَس من ثلاثةِ مصادر: المصدر الأول: لاكروناكا "كرونيكا"، لإيجور فلور ياسنيس الذي أخذ منه ذِكْرَ نَوباتِ الصَّرَع المزعومة التي تعرَّض لها النبي - صلى الله عليه وسلم - بزعمهم. المصدر الثاني: "ليبيلوس إن باركيبس تراتسمارين دوماشومتي فالاس"، وهو كُتيِّب عن "فِكر محمد فيما وراء البحار". المصدر الثالث: "ديسبو تاتيو كوجو سدام ساراسيني، كويسدام كربستياني". من المصدر الأول، استَوحى قصَّةَ السِّحرِ عند محمدٍ، وحالاتِ الصَّرَع المتتابعةِ عنده. ومن المصدر الثاني استَوحى مُلخصًا عن البقرة، وعن بَركةِ إناءِ اللبنِ والعسل، وعلى اليمامةِ (الحمامة) المُدَرَّبة على النَّقْرِ في أُذُنِ محمدٍ ما اعتقد هو أنه "الروح القدس"!!!. ويبدو أنَّ هذه القصةَ ظَهرت في أسطورة محمدٍ لأولِ مرةٍ في العالَم الغربيِّ كما يقول "دانكونا" في كتابه ( OP.Cit صفحة 235). ° ومن المصدر الثالث أخذ قصةَ الراهبِ "سرجيوس" الآثم في

(7) وأول من حاول استخدام المصادر العربية هو "جيوم دي تريبولي"

صومعته وطَرْدِه ولجوئِه إلى منطقة "تَيماء" في الجزيرة العربية حيث كان يعيشُ شبعانَ: الأول كان يعبدُ الاصنام، والآخرُ كان يهوديًّا، وهناك وَجد "سرجيوس" محمدًا الذي يَعشَقُ عبادةَ الأصنام، وكان مُعجبًا بالرهبان المطرودِين، ويرى التوفيقَ بينهم، لقد أقنع "سرجيوس" محمدًا بالتَخلِّي عن عبادةِ الأصنام وأن يُصبحَ نصرانيًّا نسطوريًّا. لقد نَجَحَ إذن في إقناع محمدٍ الذي صار تلميذَه، ولهذا أَخَذ اسمَ ولَقَبَ "نسطورس". لقد تعلَّم محمدٌ من "نسطورس" تعاليمَ العهدِ القديم والعهدِ الجديد، ورَكَّب منهما القرآن، وأدخَلَ عليهما قَصَصًا وأساطيرَ وأكاذيبَ أُخرى، ولكن اليهودَ رَأَوا أن محمدًا يمكنُه الوصولُ إلى "الحقيقة" النصرانية "المسيحية الحقة"، فاندسُّوا عنده كأتباعٍ له، وادَّعَوا طَلَبَ المعرفةِ عن الدين الجديد، وحاولوا تغذيةَ الإسلام بالطُقوسِ اليهودية، فأضافوا إلى القرآنِ بعضَ التغيُّرات، وعَدَّلوا أخرى، وحَذَفوا أجزاءَ ثالثةً ومقاطعَ كاملةً. ويُعتبر "فانسان دي بوفيه" أكبرَ كاتبٍ نصراني، بل قمَّةَ المؤلِّفين والكُتَابِ المسيحيّين الذين لم يَرجِعوا قط إلى المصادِرِ العربيَّة، ولم يَقتبِسوا منها. (7) وأول مَن حاوَلَ استخدامَ المصادر العربية هو "جيوم دي تريبولي" (الطرابلسي) (¬1)، وهو أيضًا كان راهبًا من المجموعة المُسمَاه "الفرير" (الدومنيك)، وفي عام 1217 م استقر به المُقامُ في دَير بالقرب من طرابلس، ¬

_ (¬1) طرابلس بلبنان.

وكَتب كتابًا عن رِحِلاتِه في سوريا الذي قدَمه إلى "تيدالد" عام 1273 في قصَته عن حياةِ محمدٍ، رَكَّز على دَور"بحيرى" الراهبِ الذي كان يعيشُ في صَومعتِه الواقعةِ على الطريق الذي يؤدي إلى عَرَب مكةَ ناحيةَ "جبل سيناء"، وذاتَ يومٍ مر رجل من عند "بحيرى"، ومن خلاله عَلِمَ أن الكنيسةَ مصيبة عظيمة، أتى هذا اليومُ، وعرَفَ "بحيرى" بواسطةِ التجلي الروحي الذي تمَ إخبارُه به مُسبقًا، وكان الأمرُ يتعلَّقُ بالطفل اليتيم السَقيم الفقيرِ راعي النوقِ "الجِمال". ° يقول "جويوم الطرابلسي": "إن المسلمين يَحْكُون أن البابَ الصغيرَ للصومعة كان مفتوحًا، ودَخَل منه هذا الطفلُ، وفي لحظةِ دخولِه ارتَفَع ودَخَل حتى أخذ قَوساً ملكيًّا، وقد استَقبل بحيرى الطفلَ بكل تِرحاب، وأعطاه طعامًا ولباسًا، واعتَبَره كابن له بالتبني، وعَلَّمه احتقارَ عِبادةِ الأصنام، وأن يَتضرع بإخلاص، ويَعبُدَ بكل قلبِه الرب "يسوع"!!. وبعد بُرهةٍ من الزمان غادَرَ الطفلُ الصومعةَ؛ لأنَّه كان في خِدمةِ تاجر غنيّ، ولكنه وَعَده بالرجوع. لقد مارس الطفلُ التجارةَ بنجاح، وعاد عِدَّةَ مراتٍ إلى بحيرى الراهب، وفي أثناءِ ذلك مات سيدُه، فتزوج بأرملتِه، واستمر في زيارةِ هذا الراهبِ، فتضايَقَ عَشَرةٌ من أصحابه، وفكَّروا في قَتل "بحيرى"، ولكنهم خافوا من غَضَبِ محمدٍ، وذاتَ ليلةٍ مَلُّوا من طُولِ النقاش وأحاديثِ "بحيرى" مِع محمد، وقَتلوا "بحيرى" بسيفِ محمدٍ نفسِه، واعتَذروا له بأنهم قد شرِبوا كثيرًا، وهذا هو السببُ الذي قادهم إلى أن يَضَعوا السيفَ

(8) والكاتب الثاني الذي اقتبس من المصادر العربية مباشرة هو "بيير باسكاسيو"

في بطنِ بحيرى، وصَدَّق محمد هذا الاعتذارَ الآثم، وسَبَّ الخَمْرَ، ومَنَعَ شُربَ الخمرِ بين أصحابه. ° وبعد موتِ الراهبِ بحيرى، انطلق أتباعُ محمدٍ يَسرقون البلاد، ويقتلون الرجالَ واستمروا في ذلك حتى وفاةِ محمدٍ. لقد عَرَض "جويوم" الدينَ الإسلاميَ بالتفصيل حَسْبَ إدراكِه الوعي، وخَتَمَ مؤكِّدًا أن المسلمينَ لا يزالون بعيدًا عن رُوح الديانةِ المسيحيةِ الحقَّة. إذن قصة "جويوم" الطرابلسي كانت أقربَ للحقيقةِ التاريخيةِ عنها من سابقِيهِ الأوربيِّين. (8) والكاتبُ الثاني الذي اقتَبَس من المصادرِ العربية مباشرةً هو "بيير باسكاسيو" (1228 - 1300)، الذي أتى من "غرناطة" بأسبانيا ثم من "جُون" -وكان راهبًا-، وكَتَب معالجاتٍ طويلةً عن مِلَّةِ المحمديِّين .. لقد هجَمَ بنفسِه على بحيرى الذي وَصَفه بالهَرْطقة، وأنه الراهبُ الضال، ومِن خِلاله حكي القصةَ بأسلوبٍ باطل، وهنا قال: إنَّ بحيرى كان راهبًا عالمًا ينغمسُ في الفنونِ التحرريَّة، طَموحًا للشرف، وطامعًا في مجدٍ متوهَّم. لقد أتى إلى روما , لكنه لم يَحصُلْ على شيءٍ مما كان يَطمعُ فيه، فأصابه الغَضَبُ، وامتلأ كراهيةً ضدَّ البلاط الروماني، وأراد أن يَنتقم لنفسهِ واضعًا الشِّقاقَ بين النصارى، وعندما قَرأ في العهدِ القديم أن المُنحدِرِينَ مِن نسل "هاجر" أم إسماعيلَ ولدِ إبراهيم ليس لهم أيُّ قيمةٍ، ونزوانيُّون وجَشِعون طلاَّبٌ للسلطة المادية، فرَحَل إلى الجزيرة العربية حيث يوجدُ نَسل"هاجر" ولقد وَجَد في الجزيرة العربية شعبًا قد اهتدى حديثًا

للنصرانية، فنزل بينهم وعاش في صومعةٍ في مكانٍ منعزل، وبعد بُرهةٍ قابَلَ الشاب محمدًا الذي كان يرعى الإبل، وعندما رآه يَتمتَعُ بهيئةٍ جميلةٍ وذَكاءٍ، وعَلَّمه أشياءَ كثيرةً، وعندما تأكَّد بأنه قد استولي على لُبِّه وَعَدَه بأن يجعلَه أميرًا لهذه البلدة وما حولها، وطَلَب منه أن يطيعَه في كلِّ شيءٍ، فوافق محمد على هذا، وكان بحيرى الراهب خبيرًا بتحضيرِ الأرواح والفَلَكِ واللغات، وفي هذا الوقتِ مات مَلِكُ تلك المنطقةِ بدون أن يتركَ وريثًا له، ونَشَب الشقاق بين الناس، ولجأ الكِبار إلى الراهبِ لكي يُخمِدَ هذه الفتنةَ، فردَّ عليهم أنه سيَستدعيهم إليهِ خلالَ ثمانيةِ أيام. وخلال هذه الفترةِ اتَّفق مع محمدٍ، ودبَّرا حيلةَ "اليمامة"، وقصةَ "الثور الأبيض"، وعندما عاد الناسُ إليه اقترح عليهم أن يختاروا رجلاً يكونُ بعد ذلك مَلِكًا عليهم، ولكنه يكون قادرًا على أن يَتصدَّى لثورٍ هائجٍ يجري بين الجبال، ومحمدٌ الذي تدرَّب على الثورِ هو الوحيدُ الذي رَوَّضه، وأتى به للناسِ الذين أنهِكت قواهم، وتَعطَّشوِا لصيدِ الثور، وأظهر لهم جَدولَ الماءِ الصافي الذي وضع فيه القِرَب، واهتمَّ بإخفائه، ولهذا اختارَ القومُ محمدًا مَلِكًا عليهم. ولقد نَشَر محمدٌ شريعتَه التي تَخدُم الربَّ، وأيضًا لشهوةٍ، وبمساعدةِ الراهب اخترع القرآنَ الذي وَضَعه على قَرنِ الثور، وعنده كانت "اليمامةُ المدرَّبة" بواسطته، وجَعَل الناسَ يعتقدون فيها بأنها الوحيُ التي تُوحي إليه في أذنه. في هذه القصة لم يذكر "بيير باسكاسيو" اسمَ الراهب، ولكنه قال أبعدَ من ذلك في "كتب المسلمين"، وذكر "سرجيوس" النصراني صاحبَ

محمدٍ الذي لم يَقتبسْ منه حِدَّةَ الذكاء ولا التدين، ولكن فقط المَيلُ إلى قَطع الطريق. وقال: "إن سرجيوس كان يَعلَمُ كل الطرقِ والمسالِكِ في الجزيرة، وعندما بدؤوا مشاريعَهم لجؤوا إلى استخدام الحِيَل، كان يَدُسُّ بَيضَ النَّعام المملوءَ بالماءِ في الرمال، ويُعطيها لأصحابه لكي يَشرَبوا عندما يشعرون بالعطش، والناسُ الذين نَهَبَهم قُطَاعُ الطريق لمِ يَتْبَعُوهم، وأنهم يموتون في وسطِ الصحراء من العطش، ولكنْ عندما يرَون قُطَاعَ الطريقِ يعودون أصحَّاءَ، يعتقدون في هذه المعجزة، وهذا زاد من صيتِ محمدٍ". وقال بيير باسكاسيو:"بواسطة سرجيوس تَفهمُ أيَّ نوع من الناس كان أوائلُ الأتْباع لمحمد، وأيَّ دِينٍ من الصحَّةِ البدنيَّةِ والروحية نادَى به إذن". بالنسبة لبسكاسيو ربما كان سرجيوس هو بحيرى نفسه، وفي نظره لم يكن راهبًا، ولم يكن في صومعةٍ، ولكن كان قائدًا ماهِرًا في قَطع الطريق. لقد ألَّف باسكاسيو الروايةَ كلَّها، والتي استعار فيها القَصَصَ من سابِقِيه الأوربيين، وبالرغم من أنه ادَّعي أنه لَجَأ إلى المصادر الإسلامية، ولكن لا يُوجدُ بُرهانٌ على ذلك، فروايتُه تُظهِرُ تخيُّلاً باطلاً بالكامل، بالرغم من أنه عاش بين المسلمين، وفي قلبِ المملكةِ الإسلامية في "غرناطة" التي ظَلت مسلمةَ حتى نهايةِ السيطرة الإسلاميةِ على أسبانيا في عام 1492م. إنه نَسِي أنه عاش يومًا بينهم، وكان في متناوَلِ يديه جميعُ أنواع الكُتبِ والوثائق، وكان لديه الفرصةُ أن يُطيلَ الحديثَ عن العلوم الإسلامية ليعرفَ جيدًا حقيقةَ الإسلام، أو حتى يكونَ لديه فكرةٌ قريبةٌ من الحقيقة بدلاً

(9) و"تومازو تيسكو"

من التحصُّنِ في قلعة الآراء المتعصبِّةِ والأفكارِ الخاطئةِ عن الآخرين، وما زلنا في أيامِنا هذه نُعَلِّق على القَسِّ النصراني في بلاد الإسلام الذي عنده نفسُ الموقفِ الذي تبنَّاه "بيير باسكاسيو" في القَرنِ الثالثَ عَشَرَ، والجديدُ في الأسطورة كالتي حُكيت بواسطة "باسكاسيو" أن مَجِيءَ "سرجيوس" إلى روما وأطماعَه في أكبرِ شرفٍ دينيٍّ على سبيل المثال، أن يكونَ كاردينالاً أوْ ربما يكونُ هو البابا. سرجيوس -أو بحيرى- لم يَعُدِ الراهبَ النصراني الذي يَعيشُ في صَومعتِه على الطريق المؤدي إلى "مكةَ "أو "تَيماء"، أو في جَبَل سَيناء، ولكنه رجل دين ذهب إلى روما لينالَ مكانةً كَنَسِيَّةً عاليةً، ويَذيعَ له صِيتٌ، ومات ولم يَحصُلْ على شيءٍ من ذلك، فأراد أن ينتقمَ لنفسه، فعمل خُطةً ليزرعَ الشِّقاقَ في عُقرِ دارِ النصرانية. (9) و"تومازو تيسكو" كَتَب في 1728 م قصة ادَّعي فيها أنَّه استعارَها من كتابٍ موجودٍ في كنيسةٍ في "بولونيا" شمالَ إيطاليا، روايتُه عن رواية باسكاسيو، إلاَّ في عِدَّة نِقاطٍ فرعيةٍ، وبعض الإضافات لها أهمية قليلة. (10) وفي هذه الآوِنة، لم تَهتمَ الأسطورةُ بوَصفِ القَس الذي جاء إلى رُوما لينالَ مكانةً دينيةً رفيعةً وسُمعةً، وأصبح بعد ذلك محرضًا على الانشقاق، إذن الأسطورةُ أخذت شكلاً آخر، ولم تَجعل من هذا الراهبِ أنه معلِّمُ محمدٍ وأستاذُه، ولكن هو محمدٌ بنفسه!. في هذا الشكل الجديد، أعطَوا لمحمدٍ اسم "نيكولا" في روايةِ "ليبر نيكولاي".

يقول: إن "نيكولا" هو محمد، كان أحَدَ الكهنة السبعةِ الكَرَادلةِ في الكنيسةِ الرومانية، كان مُنفتِحًا على جميع العلوم، خبيرًا بكلِّ القضايا الإنسانيةِ، وعالِمًا بكلِّ اللغات. والبابا الذي كان في أسبانيا وفي الدول البربريَّة شمالَ أفريقيا كان مُعَمَّرًا، وعندما كان "نيكولا" في بَعثتِه مات البابا، وكما يتطلَّب الأمرُ لا يُقبَرُ البابا حتى يختارَ خليفةً له يُعطيه الغُفران، فاختارُوا بابًا جديدًا ولُقِّب بـ"لورونزو"، وكان كاردينالَ الكهنة وكان مُسِنًّا، وأوشَكَ على الموتِ من لحظةٍ إلى أخرى، فأرسل الكرادلة إلى "نيكولا" يطلُبون منه العَودةَ إلى روما، واستَغرقت رحلةُ عَودتِه وقتًا طويلاً، مات خلالها البابا، واختاروا بابًا آخَرَ، كان ضعيفًا عندما كان كاردينالاً، وعندما صار بابًا أصبح صارمًا، وفي هيئةٍ قوية. وعندما وصل "نيكولا" إلى روما استقبله الكرادلة، وقدَّموا له الاعتذاراتِ على ما حَدَث، ووعدوه بأنهم لا يُقدِّرون شيئًا بدونِ موافقته، وعندما قَدَّم "نيكولا" نفسَه للبابا لم يُظهِرْ له أيَّ إجلالٍ، وأَمَره البابا ألا يأتيَ إلى البلاط الكَنَسيِّ بدونِ إذنه، ورَحَل "نيكولا" ساخطًا، ومِن هذه اللحظة كانت لديه نيَّةُ الانتقام، وشَكَّل دينًا جديدًا لهدم النصرانيَّة. وبَعدَما سَرَدَ الكاتب العقائدَ التي طالب بها "نيكولا" العرب، قال الكاف: إنَّ نيكولا "محمدًا" قُتل بواسطةِ أحدِ "المارزيكو" التي كانت زوجتُه تسَمَّى "كاريفا". كان محمد "نيكولا" حبيبًا إلى الناس، وعندما قَتل "مارزيكو"

وزوجتُه محمدًا اخترعوا هذه الأكذوبة حتى لا تفترسَهما عامةُ الناس، وأعلَموهم بأن الملائكةَ حَملت محمدًا "نيكولا" إلى السماءِ، فأمسكت "كاريفا" بقَدَمِه لتحتفظَ بها، وظَلَّت القَدَمُ في يدها، وأظهروا هذه القَدَمَ للناس!. ° وقصَّةُ القَدَم موجودةٌ عند "بيير باسكاسيو" صفحة (87) التي تحكِي أن محمدًا كان يَعشَقُ امرأةً يهوديةً التي دَعَتْه ليأتي إليها ذات ليلة، وتآمرت مع اليهود لقَتلِهِ، ويَقطعوا قَدَمَه اليُسرى، وباقي الجسدِ يُلْقُوه للخنازير، وهذه المرأة احتَفظت بالقَدَم، ودَهَنَت عليها بعضَ الدهانات وقالت لأتباع محمدٍ: إنه صَعِد إلى السماء، وبينما أتى المَلَكانِ لِيرفعَا الجُثة إلى السماء، أَمَسَكَت بالقَدَم، فظَلَتْ هذه القَدَمُ في يدها. ° وبهذا التخيل الجنوني عند الكُتَّابِ الأوربيِّين في القَرنِ الثالثَ عَشَرَ كونوا هذه القصَةَ الواهمةَ التي تَستندُ إلى حَدَثِ صغير مذكورِ في كُتب "سيراحي" تعني ما هو آتٍ: أن يهوديَّة تُدعي "زينبَ بنتَ الحارث" زَوْجَ "سَلام بن مِشكم" أحدِ زعماءِ اليهود، سَمَّت محمدًا في شاةٍ مسمومة، والتي وَضعت فيها سُمًّا قاتلاً وشديدًا. (انظر التفاصيل ص 135)، وانظر "سيرة ابن هشام" (ص 764، 765). "زينب" أصبحت "كاريفا" و"سلام بن مِشكم" أصبح "مارزيكو"، وبدلاً من محاولةِ السُّمِّ لمحمدٍ في شاةٍ مشويةٍ مملوءةٍ بالسُّمِّ، وليس لها أيُّ تأثير إلاَّ بعدَ أربع سنواب، هذه القصَةُ تتحدَّث عن محاولةِ اغتيالٍ بواسطةِ مجموعةٍ من اليهود، عِلاوةً على الخاتمةِ المثيرةِ للسخرية بأسلوبِ الأقاصيصِ الباطلة، هذا هو المِثالُ النموذجي لعقليةِ الكُتَّابِ الأوربيين

(11) وفي روايته "ليجوندا أورا"

المؤرخين، المحاضِرِين، علماء اللاهوت والشعراء. ° هذه الأقصوصةُ البابويَّةُ الموعودةُ غيرُ مختلِفةٍ كما عَلَّق "دانكونا" (ص250) ببعضِ الاختلافاتِ في التفاصيل، مرةً بذكرِ اسم "نيكولا"، ومرة بغيره، ومرة بذِكرِ الكاردينال المُلحِد الذي عَلَّم محمدًا، ومرة ذاكِرين أن هذا الراهبَ هو نفسُ شخصيةِ محمدٍ، ونشروا ذلك بين عامةِ الناس في أوروبا. لقد أَعطي "دانكونا" مثالَيْن أخذهما من شاعريْن: الأول: "نيكول ودكازولا" في قصيدته "أتاليا" في منتصف القرن الرابع عشر، والآخر هو مؤلِّفُ القصيدةِ الشعبية "لودانوا" التي أُلِّفت في منتصفِ القرن الخامسَ عشَرَ. (11) وفي روايته "ليجوندا أورا" اختار "جاكو بودا فاراجين" ثلاثةَ تراجمَ، اختار من بينِهنَّ الأقاصيصَ التي أشرنا إليها قبلَ ذلك، ولكنه حَكي قصَّةَ قتل محمدٍ بالسم بأسلوبِ مُحايِد، ووافق التاريخَ؛ لأنَه قالَ: إن النبيَّ مات بالسُّم الذي وُضع له في الشاةِ المَصْلِيةِ بعد عِدَّةِ سنوات. (12) وعلى نفسِ مِنوالِ الأساطيرِ نَصلُ الآنَ إلى كاتبٍ آخَرَ هو "ريكالدودا مونتيروس"، وهو راهبٌ دُومنِيكي مُدافعٌ عن النصرانيةِ، ورَحَّالةٌ كبيرٌ في بلادِ الإسلام، وُلِدَ في "فلورنسا" عام 1243، ومات في 31 أكتوبر 1320، وأصبح رجلَ دين عام 1267 م، وبأمرٍ من البابا "نيكولا الرابع"، بدأ رحلتَه نحوَ المشرقِ العربي، لَجَأ إلى فِلسطينَ، وفيها لُقِّب بـ"دامونتيروس"، ثُمَّ أرمينيا الصغرى، وتركيا، وإيران، والعراق،

(13) وخط جديد للأسطورة يوجد في شخص "جاكو بودا أكي"

والمَوصل .. وسَجَّل قصَّةَ رِحلاتِه في كتابِ يُسَمَّى "ليبر بيريقرينا شوني" ولكنَّ الأهمَّ بالنسبةِ لموضوعِنا هنا هو كتابُهُ "نَقدُ القرآن" الذي كَتَبَه في "فلورنسا" في 1340 عام وفاته، هذا الكتاب تُرجِم إلى اليونانية، ثم أُعيدت ترجمتُه إلى اللاتينية بواسطةِ "بي بيسرنو" (روما 1506)، ولكن التأثيرَ الأصلي على الترجمةِ كان اللاتيني، وفي بعض النسخ نلاحظُ الفَرقَ بين الترجمةِ اليونانيةِ والترجمةِ اللاتينية. ° وفي هذا الكتابِ يقول "ريكالدو": "إن الوحيَ الحقيقي لمحمدٍ هو الشيطانُ الذي كان مملوءَ بالحقدِ بسببِ انتصاراتِ "هرقل" الإمبراطورِ البِيزنطي على الفُرْس". ° وقال: "إن الشيطانَ مَنَحَ محمدًا بعضَ اليهودِ والنصارى ليُعلموه؛ لأنَه كان أُميًّا، ومن بين هؤلاء ذَكَر أسماءَ، منها "بحيرى الراهب" الذي قَتَلَه محمدٌ فيما بعد، و"عبد الله بن سلاَم"، وبعضَ النَسطوريين الذين يعتقدون في السيد المسيح أنه رجلٌ وليس ربًّا، وهو ابنُ السيدةِ مريم". وحَرَّف الحديثَ الذي يقول: "نَزَل القرآنُ على سبعة أحرف" إلى: "نَزَل القرآنُ على سبعةِ رجالٍ"، وهؤلاء الرجال هم: "نفل، عَون، عمر، عَمْرة، اليسار، أُسير بن سيزير، وابن عمر"، وهذا هو التحريفُ للقراءاتِ السبعة!. (13) وخَطٌّ جديدٌ للأسطورة يُوجد في شخصِ "جاكو بودا أكي" المتوفى عام (1337) مؤلفِ "صورة العالم"، ويدَّعي أن قضيةَ محمدٍ كلَّها أتت من عند النصارى، وقال: إن قسًّا نصرانيًّا يُسمَّى "نيكولا" الذي أتى

روما، فاستُقبل بكلِّ الإهانات، فيئس وتَخلَّي عن العقيدةِ النصرانية، وذَهَبِ إلى بلادِ ما وراءَ البحر، وكان رجلاً بارعًا وحقودًا، واستطاع أن يَعيشَ بينهم بجدارةٍ عالية، وبالفعل كان رجلاً مثقفًا، فصيحًا، بشوشًا، وذا أخلاقٍ حميدة، وَصَل إلى الفُرس، أخفى قداستَه الكبيرةَ وكلَّ شيءٍ يدلُّ على الزهد والعِفَّة. في هذه المناطق يُوجد النصارى والوثنيون، والأولون كانوا متخلِّفِين بسبب نقصانِ عددِ المبشرين وظهورِ كثير من الملحدين .. "نيكولا" هذا وجَدَ عَونًا له وصاحبًا الذي هيَّأه له الشيطانُ، وتعرَّف على تاجر وراعي الإبل الذي يُسمَّى "محمدً"، الذي تعامَل مع جميع الناس -نصارى، ويهود، ووثنيِّين-، وعلاوةً على مِهنتِهِ هذه، كان ذا ذكاءٍ حاد، متعلّما قليلاً، عالِمًا بعاداتِ وتقاليدِ هذه المناطق، "نيوكولا" القَسَّ و"محمد" اتَّحدا معًا، وتسمَّيا باسم "سرجيوس" الذي كان قبلَ ذلك راهبًا نصرانيًّا، واتَّفَقَا على تشكيل ديانةٍ جديدةٍ ضدَّ النصرانية، حيث عاشا حياةً مرِحةً، فاستدعيا مَن كانوا من نَسَبِ السيدة "هاجر"، وقالوا لهؤلاء الأجلاف: نحن لا نريدُ أن نسميكم باسم "عَبَدَةِ هاجر" ولكن باسم "السارسيِّين" نسبةً إلى السيدةِ "سارة"، ولأنَّ محمدًا كان يتمتَّعُ بهَيبةٍ كبيرةٍ قال عن نفسِه: إنه "نبيُّ العرب"، وهؤلاءِ الأجلاف اختَبروه، وتفنَّن هو في ترويضِ الحمامة، واقَتبس محمدٌ من شرائع النصارى واليهود، لِيُعجَبوا به، مضيفًا إليها شريعتَه الخاصة. "جاكوب دا أكي" أنهي قصته حاكيًا أن محمدًا مات مسمومًا، وكان

محمولاً على قَوس مُعلَّق في الهواء. هذه القصةُ الخياليةُ الأخيرةُ انتَشرت بين الأوربيين حتى القرنِ الثامنَ عَشَرَ، فنجد "بالي" في كتابِه "القاموس التاريخي والنقدي" (مقالة محمد ص1861 وكردام 1720) قال في موضوعه: "إن لا تناهيَ للناس الذين يقولون ويعتقدون أن نَعْشَ محمدٍ من الحديد وتحتَ القُبَّةِ الزرقاء من الحَجَرِ المُمغنَطِ المُعَلَّق في الهواء، وهذا هو الذي صَنَع معجزةً كبيرةً في رُوح مُعتنِقِي دينِه، هذه أقصوصةٌ باعثةٌ على الضحكِ عندما نعلمُ أن النصارى يحكونها كأنها حَدَثٌ مؤكَد". بَعدَ هذا العَرضِ التاريخيِّ "دانكونا" يُلخصُ هذا الغُموضَ الذي يَعتقدُ فيه الأوربيُّون خلالَ أكثرَ من أربعةِ قرونٍ، فقال: "بالفعل أستاذُ ومُعلِّمُ محمدٍ أَخَذَ مرةً من "بحيرى"، ومرةً أخرى من "ورقة بن نوفل"، وشَكَّل الأسطورةَ الإسلاميةَ، فمرَّةً كان معتقِدًا أو مدافِعًا عن النصرانية .. ومَرَّةً كان مرتدًّا، أو كان "آريًّا، أو يعقوبيًّا، أو نسطوريًّا". وطبقًا للترجمة: عَمِل للحصول على شُكرِ إخوانهِ الذين طَرَدوه. وحَسْبَ ترجمةٍ أخرى: عَمِلَ لينتقمَ لنفسه، كان راهبًا، بطريركًا كاردينالاً، اسمه كان "بحيرى، سرجيوس، سوسيو، أو جروسيو، نسطورس، نيوكولا". محمدٌ نفسُه عُرِض مرَّةً كوثني، ومرة أخرى كنصرانيٍّ ويُسمَّى "أوسان، بيلاجيوس، نيوكولا"، كان مجوسيًّا، أُميًّا، وعالِمًا في "بولوني"، أتى القسطنطينيةَ من "أنتيوش"، من "سميرن"، من مناطقَ

(14) في القرن الخامس عشر

أخرى للوثنيين أو للنصارى، كان عربيًّا، أسبانيًّا، رومانيًا من عائلة كولونا، وأحيانًا يختلط بالأستاذ، وكان شمَاسَه، أو الكاردينال، واقترب من منصب "البابا". وما زلنا نرى اختلافاتٍ أخرى، والتباساتٍ أخرى، ولَوثاتٍ من أساطيرَ متعدِّدةٍ، ومن أسطورةٍ إلى أخرى، الأسماءُ والأجزاءُ تتغيرُ، وتعكِسُ الالتباسَ الروحي، وهذا الاختلافُ الدائمُ في أن محمدًا كان نصرانيا، أو متعلِّمًا مِن قِبَل نصرانيٍّ، وأن الإسلامَ تفرع عن النصرانية. ° وبالنسبةِ لاسم "بيلاج" الذي أُطلق على النبيِّ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - يعترف دانكونا: "لا نعرفُ كل الاكتشافات وأصلَ وتحوُّلَ محمدٍ إلى بيلاج " (274 صفحة op. c: t) . هذا عن القرن الرابع عشر. (14) في القرنِ الخامِسَ عَشَرَ، لا نجدُ شيئًا جديدًا يَخُصُّ هذه الأسطورةَ، كتاب "نيكولا دوكيوس" المتوفَي سنة 1464، كتابُه "كربراتيو" يُقدَّم لدحضِ أو نَقدِ بعضِ الموضوعاتِ في القرآن، حيث يدَّعي فيه أنه وَجَد متناقضاتٍ في القرآن. (15) وفي القرن السادسَ عَشَرَ، نجدُ أوَّلاً نقدًا صغيرًا مطبوعًا في حوالَي سنةِ 1515، وهو موجود في مكتبة "بردش"، ليس له عنوان، مكوَّن من 6 ورقات، وهذه بعضُ تراجم ما قالوه عن محمد: "محمد هذا وُلِد في الجزيرةِ العربية، وعَمِلَ أوَّلاً أجيراً وحارسًا للخيل في إسطبل، ورَحَل بعد ذلك مع التجَّار، وهكذا حتى وَصَلَ إلى

مصرَ في قافلةٍ تجاريةٍ، وفي هذا العصرِ كانت مصرُ نصرانيَّةً، وكانت هناك كنيسة قريبة من الجزيرةِ العربيةِ، حيث كان يَعيشُ بها راهبٌ، وعندما دخل محمد إلى الكنيسة التي لم تكنْ إلاَّ بيتًا صغيرًا ببابٍ منخفضٍ، وبدأت هذه الكنيسةُ تكبرُ، حتى أصبَحَ بابُها مِثْلَ بابِ القصر، والمسلمون يقولون: إن هذه هي أولُ معجزةٍ لمحمدٍ في شبابه، وبعدما أصبح محمدٌ حكيمًا، صار عالِمًا بالفَلَك، وقال: إنه رعي مالَ أمراء "كوريدان"، فأداره ورعاه بحكمةٍ، وعندما مات أميرُ كوريدان تَزوَّج محمد بأرملتِه وهي السيدة التي تُسمَّى "كادريج" (خديجة)، وكان محمدٌ يُصرعَ، وهذا أغضَبَ هذه السيدة؛ لأنها أَخَذَتْه على أنه زَوج، ولكن محمدًا جَعَلها تعتقِدُ كلَّ مرَّةٍ أنه يُصرعَ؛ لأنَّ المَلَكَ جبريلَ يُحدِّثه، فيُصرعَ بسببِ عظمةِ نورِ هذا المَلَك، ولذلك يَسقطُ محمدٌ علي الأرض. ولقد سيطر هذا التاجرُ على الجزيرة في عام 620 م. ° ومحمد هذا ارتبط مع رجل عابدٍ يَعيشُ معزولاً على بُعد مِيل من جَبل سيناء، وكان محمدٌ يأتي غالبًا إلى هذه الصَّومعة، وهذا هو الذي هَيَّج الناسَ عليه؛ لأنَّه كان مُعجبًا بالسَّماع لهذا الراهبِ الخاطئِ، ويتركُ الرجالَ "التجار" يَمشُون في الطريقِ طوالَ الليل، وكان هؤلاء الرجال يتمنَّوْن موتَ هذا الراهبِ، وأتتْ ليلةٌ شرب فيها محمدٌ الخَمْرَ، فنام نومًا عميقًا، وأخذ هؤلاء الرجالُ سيفَ محمدٍ من غِمْدِهِ عندما كان نائمًا، وبهذا السيفِ قَتلوا هذا الراهبَ، ثم أعادوا السيفَ في غمدِه مُلطخًا بالدماء، وفي الغدِ وَجَد محمدٌ الراهبَ مقتولاً؛ فغَضِب غضبًا شديدًا، وأوشك على قتل هؤلاء الرجال، ولكنهم اتَّفقوا فيما بينهم وقالوا له: إنك أنتَ الذي قَتلتَ هذا

(16) وفي القرن السابع عشر

الراهبَ وأنت سكرانٌ، ورجَوْا من محمدٍ أن ينظرَ إلى سيفه، فاقتنع وصَدَّق مَقولتَهم، وهذا هو الذي جَعل محمدًا يَلعَنُ الخمرَ وشارَبها؛ ولهذا السبب لا يَجرؤُ المسلمون على شُربِ الخمر، لكنَّ بعضَهم يشربونها سِرًّا. ° ويذهبُ أحيانًا ويقول: إن هؤلاء الرجالَ النصارى أصبحوا مسلمين؛ بسبب فَقرِهم أو بسبب نسائِهم، وعندما كَفَروا بعقيدتِهم النصرانيةِ علَّموهم هذه العقائدَ الفاسدةَ، وأَمَروهم أن يقولوا: "لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله". فأضاف هذا الكُتيِّبُ للأسطورة قضيةَ "مال الأمير كوريدان". (16) وفي القرن السابع عشر: نُشيرُ إلى أكذوبةٍ سخيفةٍ مصنوعةٍ أو مكررة بواسطةِ "فرانسيس بيكون" (1561 - 1626 م) المؤسس المشهورِ بالطريقةِ التجريبية في كتاب له عنوانه "الخدعة"، حكي فيه مثالاً عن "الخُدعة" في شخصِ محمدٍ الذي قال ذاتَ يوم للعرب: إنه يستطيعُ أن يُنادِيَ على الجبل البعيد، ولكن بعد ما نادى عليه لم يأتِ ولم يتحرَّكْ، فقال لهم: "إذًا الجبلُ لم يأتِ إلى محمدٍ، محمدٌ سوف يذهبُ إلى الجبل". (17) "هيجود وجروت" أو باللاتينية "دوجر وتيوس" المؤلِّف المشهور بكتاباته تحت عنوان "مِن قانون الحرب والسلام" (امستردام 1630م) , كَتب "معالجةَ حقيقةِ الدين المسيحي" باللاتينية والذي ظهر في 1627م, في كتابه السادس حاول أن يَنقُضَ المِلَّةَ المحمديَّةَ، وأن يثبتَ مِيزةَ الدينِ المسيحي التي تَفُوقُ الدينَ الإسلامي -حَسْبَ كلماتِه- والذي يُهِمُّنا هنا هو المبدأُ الخاطئُ الذي صَنَعه عن محمدٍ والإسلام، وها هي الأُسس التي

قالها في هذا الموضوع: 1 - يدَّعي أن محمدًا قال: "إنه أتى لِيتَّبِعَه الناسُ، ليس بالمعجزات، ولكن بقوةِ السلاح" (ص 296). 2 - يُسنِدُ أتباعُ محمدٍ إليه المعجزةَ التي يَدَّعي فيها أن محمدًا عَلَّم حمامةً لتطيرَ إلى أُذنه. ° وقال جروت: "إن الأمرَ يتعلَّقُ بأنَّ لديه مُحادثاتٍ مستمرةً مع جَمَل أثناء الليل". ومعجزةٌ أخرى، يقول أتباعه: إنَّ جزءً من القمر سَقَط في كُمِّه، وأعاد هذا النجمَ إلى استدارته مرةً أخرى. 3 - قال: إنَّ صِيتَ محمدٍ ذاع بسببِ سَرِقاته، ونَهْبِه، وفجُوره!. 4 - ادَّعي أن محمدًا أخْبَرَ سيدةً تتمتعُ بجمالٍ طبيعي، تسمع منه ترتيلاً عجيبًا بالسِّرِّ العجيب في الصعودِ أو النزول من السماء، وهذه السيدةُ رَدَّدت ألفاظَ هذا الترتيل، وأرادت أن تَتحقَّقَ مما تعلَّمتْه، فصَعَّدت رأسَها في السماوات العُلَي، وعندما أوقفها الربُّ حوَّلها إلى الكوكبِ الذي نُسميه "فينوس"!!!. ° وقال جروت: إنَّ محمدًا قال: "إنَّ الفأرَ مخلوق من رَوَثِ النيل، وإن القِطَّ مولودٌ من نفخةِ أسد" (ص 305). 5 - "ادَّعي أن القرآنَ يقول: إن الموت سيتحوَلُ إلى كَبش، ويختارُ مأواه بين السماء والأرض" (ص 305). 6 - ووَصَفَ الدينَ المحمَّديَّ، فقال: "إن هذا الدينَ لم يأتِ إلاَّ

ليخضِّب الأرضَ مِن دماءِ الشعوبِ، هو كلُّه غريبٌ، مؤسسٌ على عددٍ كبير من الشعائر، يَقترحُ كل ما يريدُه ليعتِقده، ويجبُ أن يَخضعَ المرءُ له بطريقةٍ عمياءَ دون أي تجربة. ° لقد قال: إنَّ الكُتبَ التي تَحتوي على هذا الدين كُتب مقدَّسة، والقراءةَ فيها محرمة على الناس. ها هي الأكذوباتُ القاسيةُ لهذا الرجل الذي زَكَّتْه نفوسٌ كبيرةٌ في أوروبا: "لونيز" في كتابه "أنكومبارا بلنر دوكترنا"، و"بييربال" في "قاموسه التاريخي والنقدي" يَرى فيه أنه واحدٌ من أعظم رجالِ أوروبا. وآخَرون مَدَحوا أعماله القانونية التي تشيرُ إلى التجديدِ الدائم في القانونِ الدولي. 1 - فبأي هَلْوَسةٍ غريبةٍ يقول: "إن قراءةَ القرآن محرمةٌ على المسلم؟ ". 2 - وفي أي قرآنٍ قرأ "جروت" أن الموت سيتحولُ إلى كبش يختارُ مَصيره إلى السماء أو إلى الأرض؟!. 3 - كرَّر أليًّا قصةَ "الحمامة" التي دَرَّبها محمد، والتي تَهمِسُ في أُذنيه. 4 - لقد فاق أسلافَه، واختَرعَ قَصصًا أخرى، قِصةَ الجَمَل الذي اعتاد محمدٌ أن يُحادثَه، وقصةَ القمر وسقوطِ جزءٍ منه في يد محمد، وأُعيد لمداره، وأيضًا قصةَ المرأةِ المنقولةِ إلى السماء، ثم أوقفها الربُّ وحَوَّلها إلى الكوكبِ الذي نُسَمِّيهِ "فينوس"!. "هيجوه" لَقَّبوه بأعظم رجل في أوروبا بشيئيْن: إمَّا أنه ذا غباءٍ متناهٍ،

(18) يريدوكس

أو ذا خداعٍ متناهٍ. (18) يريدوكس: أفاض "يريدوكس" في ذِكرِ الأساطيرِ والأكاذيبِ السخيفة: 1 - فحكي بعضَ الأشياءِ المذهلةِ فيما يَخص الشاعرَ "كعبَ بنَ زُهير" صاحب القصيدة المعروفة والتي مَطلعها: "بانت سعاد"، فيدَّعي أن كعبًا كان يهوديًّا!! وما زال يقولُ: إن بعضَ الناسِ نَسَبوا إلى كعبٍ أنه ساعدَ محمدًا أكثرَ من أيِّ أحدٍ في خِداعه، وأيضًا في تأليفِ القرآن الذي يبدو أنه تأثَّر بفصاحةِ وطبيعةِ هذا اليهوديِّ. 2 - لقد ترك "يريدوكس" نفسَه تنساقُ وراءَ أسطورةٍ أخرى مختَرعة هذه المرَّة، وهي تدورُ حولَ "عبد الله بن سلام"، ويعتقدُ فيما قاله الراهب "ريكارد" في كتابه "نقض الشريعة المحمدية" في الفصل (13)، وقال: إن محمدًا كان جاهلاً، استخدم وزارةَ "عبديد بن سالون" اليهودي الفارسيَّ المتحدث بالعربية، ومَنَحه اسمَ "عبد الله بن سلام" (ص 62). ° وقال مدَّعيًا أن هذا الرجل "مِن المُحتَمَل أنه هو نفسُه الرجلُ الذي تحدَّث بالقرآن". ثم ادَّعي "يريدوكس" أن عبد الله بن سلام هو نفس الرجل الفارسي المُلقب بسلمانَ الفارسيِّ المذكور في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]

(19) رولاند

(19) رولاند: أولُ كاتبٍ أوربي يُنصِفُ الإسلام (¬1)، وُلِد في 17 يوليو 1676 م في شمال هولندا، ومات في الخامس من فبراير 1718 عن عمر 42 سنة .. والذي يُهمُّنا هنا هو كتابُه "الدين المحمَّدي"، وتُرجِم هذا الكتاب إلى الإلمانيةِ بعدَ موتِ رولاند في صيف 1721 م في مجلدٍ واحدٍ بواسطة "ديفيد ديراند". وُيعلِنُ رولاند عن هدفه الذي يقترحُه في الكتاب، هذا ما قاله بدون مراوغاتٍ: "هدفي ليس خفيًّا، وهو سقوطُ دينٍ أُبغضه، والابتعادُ عن أيِّ تحالُفٍ معه" (¬2) اهـ. كلُّ هذا نقلناه من كتابِ الدكتور عبد الرحمن بدوي الذي أجادَ في نقل الأساطيرِ المخترعةِ والتُّهَم والشتائم الملصَقة بالإسلام والمسلمين، فالغربيون لا ينفكُّون عن وصفِ المسلمين بأنهم حُمُرٌ وحشية، مَجَّانون، حَمقي، رَعني، هم الشياطين أنفسهم". خرافاتٌ مكدَّسة، وأكاذيبُ متراكمة منذ عَشَرةِ قرونٍ، هذا بخلافِ أكاذيبِ "فولتير، ومونتسكيو، وهيرد، وجيبون، وهيجل" التي سنعرضُ لها بالتفصيل. ¬

_ (¬1) إنصافه للإسلام ليس المقصود به الاعتراف به كدين أو بنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - كرسول، وإنما بنقدِ وتكذيب بعض الأساطير الغربية التي ألصقها أهل القرون الوسطي في أوربا بالإسلام. (¬2) انتهى النقل من كتاب الدكتور عبد الرحمن بدوي بعد ترجمته بواسطة الشيخ الفاضل عبده عويس من بني سويف -جزاه الله عنا خير الجزاء وأجزل له المثوبة-.

° يقول الدكتور "ميجيل إيرناندت" الأستاذ بجامعة "مدريد" -وذلك في بحث له بعنوان "الجذور الاجتماعية والسياسية للصورة المُزيَفَّة التي كونتها المسيحية عن النبي محمدٍ"، كان قد قدَّمه للمؤتمرِ الثاني للحوارِ الإسلامي المسيحي الذي عُقِد في "قرطبة" بأسبانيا عام 1977 - ، وقال فيه: "لا يُوجدُ صاحبُ دعوةٍ تَعرَّض للتجريح والإهانةِ ظُلمًا على مَدارِ التاريخ مثلُ محمدٍ؛ إن الأفكارَ حولَ الإسلام والمسلمين ونبيهم محمدٍ استمرت تَسودُها الخرافةُ حتى نهايةِ القَرنِ الثاني عَشَرَ الميلادي، ولَم يَمنع الاحتكاكُ المباشرُ بين الطائفتين من انتشارِ هذه الخرافات" (¬1). ° ويقول: "فيليب سيناك" في مولَّفه: "صورة الطرف الآخر": "حتى نهايةِ القرنِ الثالثَ عَشَرَ كانت أغلبُ الوثائقِ المكتوبةِ عن الإسلام صادرةً عن رجالِ الكنيسة، وهؤلاء كانت حِرفتُهم الطبيعيةُ نَقْدُ ديانةِ غيرِهم وتشويهُها، وذلك بالإضافة إلى أن المعلوماتِ التي عَكَسَتْها تلك القرونُ كانت ضئيلةً، وأن أقليَّةً فقط من رجالِ الدينِ المسيحي "الإكليروس" كانت تَعرِفُ القِراءةَ والكتابة .. لقد وُصِف المسلمون بأنهم شَعب غيرُ مَسيحيٍّ يَنبعُ أساسًا مِن "القوقاز"! وقد جاؤوا في أعدادٍ هائلةٍ ليستولُوا قَسْرًا وبكلِّ توحُّشٍ على القدسِ والإسكندرية وكل إفريقيا .. وفي النصفِ الأول من القرنِ الثامن استُخدِمت كلمةُ "سارسان"، لتَعني المسلمَ ثم الكافرَ بوجهٍ عام، وأنه محارِبٌ عُدوانيٌّ وَثَني" (¬2). ¬

_ (¬1) "الإسلام في الفكر العربي" (ص 12) للواء أحمد عبد الوهاب - مكتبة التراث الإسلامي. (¬2) L, I mage de L, Autre. pp.8,14,24.

عداء وإهانات لها تاريخ

° ويقول "جوزيف رينو" في مُؤَلَّفِه: "الفتوحات الإسلامية في فرنسا وإيطاليا وسويسرا": "إن الكُتَّابَ المسيحيين في العصور الوسطي كانوا يُطلقون على جميع فئاتِ الغُزاة المسلمين اسم "الوثنيين"، ولا توجد عقيدة أبعدُ عن الوثنيةِ من الإسلام الذي حَطَّم الأصنام، والواقعُ أنَّ الإسلامَ يُنادِي بعبادةِ إلهٍ واحدٍ لا شريكَ له، خالقِ السماواتِ والأرض، ولشدَّةِ استفظاع الإسلام للوثنية، فإنه يَمنعُ تصويرَ كلِّ ما هو حَيٌّ .. وقد زَعَمَ كاتبُ التاريخ المنسوب إلى رئيس أساقفة "تورين" أنه يُوجَدُ في الأندلس على شاطئِ البحر فوقَ عمودٍ شديدِ الارتفاع، صَنَمٌ من البُرونز صَنَعه محمدٌ بنفسه، ويَعبدُه المسلمون!. كذلك ادَّعي "فيلومين" في تاريخه القصصي حول غزوة شارلمان لمقاطعة "لانجدوك"، أنه كان يوجد تمثالٌ مصنوعٌ من فِضَّةٍ مُذهبة في مدينةِ "أربونة"،وضع في معبدٍ أثناءَ احتلالِ المسلمينَ لهذه المدينة". ° ثم قال: "فيا لَسُخريةِ القَدَرِ والجهل الأعمي بالإسلام!. ما هو السبب الذي دَفع آباءَنا إلى هذا الوَهم والخطأ يا تري؟!. ذهب بعضُ العلماءِ إلى أن "النورمانديِّين" وغيرَهم من الشعوب الوثنيَّة، كانوا ضِمْنَ الشعوبِ التي كان يَشملُها اسم "سارازين" الذين كانوا يَعبدون الأوثان , وهكذا خَلَطَ العامَّة بين المسلمين وهذه الشعوبِ بصورةٍ مُخجِلة" (¬1). * عداءٌ وإِهاناتٌ لها تاريخ: ° في كتاب "صورة الإسلام في التراث الغربي" "دراسات ألمانية" وهو ¬

_ (¬1) "الفتوحات الإسلامية في فرنسا وإيطاليا وسويسرا" تأليف جوزيف رينو (ص221 - 223).

كتاب مترجَم عن الألمانية كَتَب المفكِّر الألماني "هوبرت هيركومر" أستاذُ الأدبِ الألمانيِّ بجامعة "برن" بسويسرا مقالاً بعنوان "صورة الإسلام في الأدب الألماني الوسيط"، وقد نُشِر الأصلُ الألماني في عدد مجلة " du" السويسرية الصادر في صيف 1994، قال: "اعتَبر المسيحيُّون مَن سمَّاه المسلمون نبيًّا، وخاتمًا لسلسلةِ الأنبياءِ التي بدأت بآدمَ عليه السلام، رجلاً عاشَ حياةً داعرةً، وتجاوَزَ خُبثُه كل حدودِ الدَّناءةِ والانحطاط، ولم يتورَّعْ خيال مسيحييِّ أوربا المتعطشين للظفَرِ والتوسع، والذي نَتَجت عنه أساطير وَهميَّةٌ عَدائيَّة، عن خَلْقِ الأكاذيب وترويجها، بل إنَّ الأوربيِّين ادَّعَوْا أَنَّ رسولَ الإسلام كان في الأصل كاردينالاً كاثولكيًّا، تجاهلته الكنيسةُ في انتخاباتِ البابا، فقام بتأسيس طائفةٍ ملحدةٍ في الشَّرقِ انتقامًا من الكنيسة، واعتَبرت أوروبا المسيحيةُ في القرون الوسطي محمدًا - صلى الله عليه وسلم - المرتدَّ الأكبَرَ عن المسيحيَّة، الذي يتحمَّلُ وِزْرَ انقسامِ نصفِ البشرية عن الديانة المسيحية" (¬1). ° وفي نفس المقال يقول: "اتَّفق أورثوذكس أوربا ورجالُ دينِها .. اتفقوا على أنَّ الإسلام هو كَنِيفُ (حرفِيًّا: مجاري) الزندقةِ جميعًا" (¬2). ° "وبشهادةِ المستشرق الفرنسيِّ الشهير "مكسيم رودنسون" (1915 - 2004 م): "فلقد حَدَث أنَّ الكُتَّابَ اللاتين، الذين أَخَذوا بين عامَيْ 1100 م 1140م على عاتِقِهم إشباعَ الحاجةِ لدى الإنسانِ العامِّيِّ، أَخذوا ¬

_ (¬1) "صورة الإسلام في التراث الغربي" (ص 23، 24) ترجمة ثابت عيد، وتقديم د. محمد عمارة. طبعة دار نهضة مصر- القاهرة 1999 م سلسلة "في التنوير الإسلامي". (¬2) المصدر السابق (ص 23).

يُوجِّهون اهتمامَهم نحو حياةِ محمدٍ، دونَ أي اعتبارٍ للدِّقة، فأطلَقوا العِنانَ لـ "جهل الخيالِ المنتصِر" .. فكان محمد "في عرفهم" ساحرًا، هَدَم الكنيسةَ في إفريقيَّا والشرقِ عن طريقِ السِّحرِ والخديعة، وضَمِنَ نجاحَه بأن أباحَ الاتصالاتِ الجنسيةَ، وكان محمدٌ "في عرف تلك الملاحم" هو صَنَمُهم الرئيسيُّ، وكان مُعظَمُ الشُّعراءِ الجَوَالةِ يَعتبرونه كبيرَ آلهةِ السراسنة "البدو"، وكانت تماثيلُه "حسب أقوالهم" تُصنَعُ من موادَّ غنيةٍ، وذات أحجام هائلة!!. لقد اعتُبر الإسلامُ في العصورِ الوسطي نوعًا من الانشقاق الديني، أو هَرطقةً ضَمنَ المسيحيةِ، وهكذا رآه "دانتي" (1295 - 1321 م) .. " (¬1). تلك هي صورةُ الإسلام ورسولِه في الثقافةِ الشعبية الأوروبية، التي تَبلورت وشاعَت منذ العصور الأوروبية الوسيطة .. قَبلَ العلمانية، وقبل أن يَعرفَ الغربُ شيئًا اسمُه "حرية التعبير"! اهـ (¬2). وحاجتُنا ماسَّةٌ إلى دراسةِ كل ما يُكتب عنَّا وعن دينِنا في السابق واللاحق دراسةً عميقةً واعيةً؛ لأنَّ هذه الكتاباتِ تَمَسُّ أقدَسَ ما لدينا، وتَمَسُّنا في أخص خصائصِنا وهو عقيدتُنا التي نعتزُّ بها، وتَمس شَخصَ نبينا الذي جَعَله اللهُ لنا "أسوةً حسنة"، وتَمَسُّ قرآنَنا الذي جَعَله الله {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وتَمس سُنةَ نبينا التي هي مصدرُنا الثاني للتشريع، وبصفةٍ عامةٍ تَمسُّ تاريخَنا كله. ¬

_ (¬1) "الإسلام في عيونٍ غربيةٍ بين افتراءِ الجهلاء وإنصافِ العلماء" للدكتور محمد عمارة (ص 64) - طبعة دار الشروق- القاهرة 2005 م، و"الإسلام والغرب" افتراءات لها تاريخ للدكتور محمد عمارة (ص 26 - 27) - مركز الإعلام العربي- القاهرة 2006 م. (¬2) "الإسلام في عيونٍ غربيةٍ بين افتراءِ الجهلاء وإنصافِ العلماء" للدكتور محمد عمارة (ص 64) - طبعة دار الشروق- القاهرة 2005 م، و"الإسلام والغرب" افتراءات لها تاريخ للدكتور محمد عمارة (ص 26 - 27) - مركز الإعلام العربي- القاهرة 2006 م.

وربما تكونُ بعضُ هذه التصوراتِ الغربيةِ عن الاسلام ونبيِّه قد دَخلت إلى عالَم النسيان، وعفا عليها الزمن، وخاصةَ ما يتعلقُ منها بأساطيرِ العصورِ الوسطي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولكنها مع ذلك لا تزالُ وستظل جزءً أساسيًّا من تراثِ الغربيين، لابدَّ لنا من الاطلاعِ عليه ومعرفته. ومن المعلوم أن الكتاباتِ الغربيةَ عن الإسلام ونبيِّه تتراوحُ بين الجَهل التامِّ والمعرفةِ المُوجَّهة، بين الإسفاف الشنيع والموضوعيةِ النسبية، بين الافتراءِ والإنصاف، بين الاستعلاءِ والنزاهة، بين الفُحشِ الصارخ والتسامح العاقل. ونحن إذ نُترجِمُ هنا هذه الصفحاتِ بما تتضمنه أحيانًا من أوصافٍ شنيعةِ للنبى - صلى الله عليه وسلم - , وهجومٍ دنِيءٍ عليه وعلى دينه، دونَ أن نَحذفَ من ذلك شيئًا؛ فذلك لأننا على يقينٍ من أنه لن يُجدِيَ نفعًا إخفاءُ شيءٍ من ذلك، فهذا الكلامُ منشورٌ بشتَّى اللغاتِ الحيَّة، وكما لا يُجدي النعامةَ في شيءٍ إخفاءُ رأسِها في الرمال ظنًّا منها أنها ستكونُ بمَنجاةِ من الصياد، فكذلك لا يُجدينا في شيءٍ أنْ نتجاهلَ كل ما يُنشَرُ عنَا وعن ديننا؛ لأننا بذلك لن نستطيعَ أن نمحوَه من تراثِ الغربيين، أو نُبعِدَه من رُفوفِ المكتبات في بلادِ الغربِ المختلفة، أو نمنعَه من الوصولِ إلى أيدِي الباحثين. وقد يُلاحظُ القارئُ تِكرارًا لبعضِ الأقوالِ، وخاصةً الأساطير التي نسَجَها خيالُ الغربِ حول نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -، ومِن خلال هذا التكرارِ يتبينُ مَدَى الانتشارِ الواسع لمثل هذه الأساطير.

"ملحمة رولاند" .. المسلمون يعبدون الأصنام .. يعبدون محمدا

* "ملحمة رولاند" .. المسلمون يَعبُدون الأصنام .. يعبدون محمدًا: إذا كانت الملاحمُ الشَّعبيةُ إنما تُمثِّل أكبرَ المكوِّناتِ لثقافةِ جمهورِ أيةِ أُمةٍ من الأمم أو حضارةٍ من الحضارات، فإنَّ "ملحمة رولاند" الشعبية -حوالي عام 1000 م- تصوِّرُ المسلمين- الذين يَبلُغُ التوحيدُ الديني للألوهيةِ عندهم أرقي درجات التنزيه والتجريد-، تُصَوِّرهم هذه الملحمةُ الشِّعريةُ الشعبيةُ الأوربيةُ "وَثَنيِّينَ" يعبدون ثالوث!!. 1 - أبوللين Apollin. 2- تيرفاجانت Tervagant. 3- محمد Mahamed. ° يقول "هوبرت هيركومر" في مقاله السابق: "مِن غرائبِ الأوهام المسيحيَّةِ الكاذبة عن الإسلام اتِّهامُ المسلمين بعبادةِ الأصنام، وتذكر "أغنية رولاند" Chanson de Roland الفرنسيةُ القديمة (حوالي سنة 1100 م) أسماءَ هذه الأصنام: "أبوللين Apollin"، " وتيرفاجانت Tervagant"، " ماحوميت Mahumet" ( محمد). ثم إن هذا الثالوثَ الفَلكي قد تَمَّ تطويرُه في الترجمةِ الألمانية الوسيطة (عصر اللغة الأدبية الألمانية الوسيطة يمتد من القرن الحادي عشر حتى القرن الرابع عشر) لملحمة رولاند Rolandslied التي نَشَرها القِسِّيس "كونراد pfaffe Konrad" حوالي سنة 1170 م، عندما قام بتكليف مِن دُوق عائلةِ الفلفين "هنري الأسد Heinrich der Loewe " ( حوالي سنة 1129 - 1195 م) وزوجتِه الأنجلو- فرنسية "ماتهيلدا Mathilde" بتحويل تلك اللحمة إلى

روايةٍ صليبية. في تلك الرواية , يدعو الكَفَرَةُ "المسلمون" آلهتَهم -قبلَ معركةِ "رونسسفاليس Roncesvalles"" الفاصلة في جبالِ البِرانس- قائلين: "على هؤلاءِ الذين يُريدون الخلاصَ أن يَجتمعوا معًا، ها هو "تيرفاجانت- Tervagant" الرحيم، فلْنَعبُدْه، وكذلك "ماخميت" (محمد Machmet) العزيز، و"أبوللو Apollo" المجيد، ولَنَعبُدْ أيضًا المخلِّصِينَ الآخَرِينَ من الآلهة الخالدة". ° وعندما يَسمعُ الإمبراطورُ "كارل الأكبر Kalser Karl der Grosse" هذا الدعاءَ، تزدادُ ثِقتُه في نجاح مهمَّتِه، حيث يقول: "انظروا إلى هذا الشعبِ الملعون! إنه شَعبٌ ملحِد، لا علاقةَ له بالله، سوف يُمحى اسمُهم من فوق الأرض الزاخرةِ بالحياة؛ لأنهم يَعبُدون الأصنام، لا يمكنُ أن يكونَ لهم أيُّ خَلاصٍ، لقد حُكِم عليهم، فلنبدأ إذن في تنفيذِ الحُكم: بسم الله" .. ثم تبدأ المذبحة. وما زالت النسخةُ المنقَّحةُ لهذه القصة "ملحمة رولاند" التي نَشَرها "شتريكر Stricker" في كتاب بعنوان "كارل الأعظم Karl der Grosse " ( كتب بين سنة 1215 وسنة 1233م) تَحتوي على خُرافةِ الصنم "ماحميت" (محمد Mahmet) (¬1) . وفي "ملحمة رولاند" في النسخة الألمانية عند "شتريكر" يُطلَقُ لقب "الكَفَرةِ الملحِدين المنغمسِين في شهواتهم جيشِ الشيطان وسِرْبه" على ¬

_ (¬1) "صورة الإسلام في التراث الغربي" (ص 25 - 26).

صليبيان أرادا سرقة جسد النبي - صلى الله عليه وسلم - وضرب نور الدين زنكي لرقبتيهما

المسلمين!! بل وُيلَقَّبون بالكِلاب والكائناتِ الحقيرة (¬1). * صَلِيبيَّانِ أرادا سرقةَ جسدِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وضرب نور الدين زَنكي لرقبتَيْهما: ذَكَر "العماد الحنبلي" في "شَذَرات الذهب" -نقلاً عن المَطَريِّ في كتابه "تاريخِ المدينةِ"-: "أن السلطان "محمودًا" (¬2) رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلةٍ واحدةٍ ثلاث مراتٍ، وهو يقول له في كل واحدةٍ منها: "يا محمود، أنقِذْني مِن هَذيْنِ الشخصيْن" -لشخصيْن أشقَرينِ تُجاهه-، فاستحضَرَ وزيرَه قبلَ الصبح، فأخبره، فقال له: هذا أمر حَدَث في مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس له غيرُك، فتجهَّزَ نورُ الدين، وخَرَج على عَجَل بمقدارِ ألفِ راحلةٍ وما يتَبعُها مِن خيل وغيرِ ذلك، دَخَل المدينةَ على غَفلةٍ، فلما زار، طَلَبَ الناسَ عامةً للصَّدَقة، وقال: لا يَبقي بالمدينةِ أحدٌ إلاَّ جاء، فلم يَبقَ إلاَّ رجلانِ مُجاوِرانِ من أهل الأندلس نازِلانِ في الناحية التي قِبلةَ حُجْرَةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من خارج المسجدِ عند دارِ آل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - .. قالا-: نحنُ في كفاية .. فَجَدَّ في طلبِهما حتى جِيءَ بهما، فلما رآهما قال للوزير: هما هذانِ .. فسألهما عن حالهما وما جاء بهما؟ فقالا: لِمجاورةِ النبي- صلى الله عليه وسلم - .. فكرر السؤالَ عليهما حتى أفضي إلى العقوبة، فأقرا أنهما من النصَارى، وصلا لكي يَنقِلا النبي- صلى الله عليه وسلم -مِنْ هذه الحجرةِ الشريفة، ووَجَدهما قد حَفَرا نَقْبًا تحتَ الأرضِ مِن تحتِ حائطِ المسجد القِبْلِي، ويجعلانِ الترابَ في بئر عندهما في البيت. فضَرَب أعناقَهما عند الشُّباكِ الذي في شَرقِيِّ حُجرةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - خارجَ المسجد، ورَكِبَ مُتَوَجِّهًا إلى الشام راجعًا، فصاحَ بهِ مَن كان نازلاً خارج ¬

_ (¬1) المصدر السابق ص (30). (¬2) أي: نور الدين محمود زنكي.

دانتي الإيطالي صاحب "الكوميديا الإلهية"

السُّورِ، واستغاثوا أن يَبنيَ لهم سُورًا يَحفظُهم .. فأمر ببناءِ هذا السُّورِ، الموجودِ اليوم" (¬1). هذي المَكارمُ لا قُعبانُ من لَبَنٍ ... وذلك السَّيفُ لا سَيف بنِ ذي يَزَنِ * دانتي الإِيطالي صاحب "الكوميديا الإِلهية": ° "دانتي" الإيطالي (1295 - 1321 م) صاحب "الكوميديا الإلهية" التي غدت مَعْلمًا من معالِم ثقافةِ أوروبا منذ عصرِ النهضة وحتى هذه اللحظة، ونصًّا يَدرُسُهُ الطلاَّبُ في المدارس والجامعات .. "دانتي" هذا الكريهُ القِزمُ الكافرُ يقول عنه "هوبرت هيركومر" في مقاله السابق: "كان منطقيًّا -بِناءً على ما سبق- أن يقوم "دانتي" بإقصاء رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم -، وعليِّ بنِ أبي طالب -زوج ابنتِه فاطمة، والخليفة الرابع-، إلى الحُفرةِ التاسعةِ في ثامنِ حَلْقَةٍ من حَلقاتِ جهنم، حيث يقول في "الكوميديا الإلهية": "برميل فَقَدَ سَدَّادَتَه وضِلْعَه- ليس مشقوقًا مِثلَ شخصٍ هناك- كان مشقوقًا مِن ذَقنه حتى قَضيبِه- عندما أردتُ أن أتأمله بدقةٍ - نظر إليَّ، ثم مَزق صدرَه بيديه، قائلاً: "انظر كيف أمزِّق جِسمي- تعالَ وتأمل كيف يتألَمُ "محمد Mahomet " في جهنم- ¬

_ (¬1) "شذرات الذهب" (4/ 230 - 231) للعماد الحنبلي، و"الكواكب الدُّرية" لابن قاضي شهبة (ص 72، 73)، و"نور الدين محمود زنكي" للدكتور أنس أحمد كرزون (ص 39 - 40) - دار ابن حزم.

مارتن لوثر دجال البروتستانتية يشتم سيد البشر - صلى الله عليه وسلم -

وتَرى أمامي عليَّ بنَ أبي طالب يخطو باكيًا- وقد شُقَّت رأَسُه مِن الذقن حتى شَعْرِ الرأس- وجميعُ مَن تُشاهدُهم هنا في هذا الجزءِ من جهنم- كانوا في الحياةِ الدنيا أهلَ شِجارٍ وشقاق- ولذلك فقد قُطِعت أجسامُهم وشُوِّهت أجسادُهم هنا في دار السعير". اهـ " (¬1). * مارتن لوثر دَجَّال البروتستانتية يشتم سيِّدَ البشر - صلى الله عليه وسلم -: عندما قام السويسري البازلي "يوحنَّا أوبورين" سنة 1542 م بطبع الترجمة اللاتينية للقرآن، سارعت بلدية مدينة "بازل" بحَظرِ نشره، ولم تَسْحَبْ حظرها إلاَّ بعد التدُّخل المُكَثف "لمارتين لوثر Martin Luther" - مؤسسِ الكنيسة البروتستانتية الإصلاحية-، بَيْدَ أن حُجَّة لوثر في ذلك -كما صاغَها هو بنفسه-، كانت كما يلي: "لقد استيقنتُ أنه لا يُمكنُ عَمَلُ شيءٍ أكثرَ إزعاجًا لـ "لمحمدٍ Mahmet" أو الأتراك، ولا أشدَّ ضررًا (أشد من جميع أنواع السلاح)، من ترجمةِ قرآنهم ونَشرِه بين المسيحيين، عندئذٍ سيتضحُ لهم أيُّ كتابٍ بغيضٍ وفظيع وملعونٍ -هذا القرآن- مَلِيئٍ بالأكاذيبِ والخرافات والفظائع". ° إن "لوثر" البروتستانتي -الذي أهان نبي الإسلام بلا أدنى حياءٍ أو تأنيبِ ضمير، واصمًا إياه بأنه "خادم العاهرات، وصائد المومسات"، كان ينظر إلى قرآنٍ مترجَم إلى اللاتينيةِ في عصر الحروبِ التركية، على أنه ¬

_ (¬1) "صورة الإسلام في التراث الغربي" (ص 24).

توماس الأكويني THomas von Aquin الكذاب الأشر وافتراءاته على الإسلام

وَسيلةٌ مثالية لتسليح القلوبِ اليائسةِ للمسيحيين، ورَفع روحِهِمُ المعنوية، حيث أعلَنَ قائلاَ: "بعد ظهورِ الأتراك عي حقيقتِهم، أرى أن القساوسةَ عليهم أن يَخطُبوا الآنَ أمامَ الشَّعبِ عن فظائع محمد Mahmet حتى يزدادَ المسيحيُّون عداوةً له، وأيضًا ليتقوى إيمانُهم بالمسيحية، ولتتضاعفَ جَسارتُهم وبَسالتُهم في الحرب، ويضحُّوا بأموالِهم وأنفسِهم .. من شأنِ موعظةٍ كهذه أن يكونَ أثرُها النفسي على المسيحي أشدَّ من طُبولِ الحرب وأبواقها، بل إنها ستَمنحُه قَلْبَ أسدٍ حقيقي في ساحةِ القتال" (¬1). * تُوماس الأكويني THomas von Aquin الكَذُّاب الأشر وافتراءاته على الإِسلام: "لقد تَورَّط مفكِّرو أوروبا -باستثناءِ حالاتٍ قليلةٍ، ولكنها رائعة-، في علاقةِ طَعن وهجومٍ ضدَّ الإسلام، فصحيح أن توماس الأكويني قد تلقي دَفْعَاتٍ فكريةً هامةً من خلالِ دراستهِ العقلانيةِ للفيلسوف الأرسطوطالي العربي الأندلسي "ابن رشد" (1126 - 1198م)، ولكنه ظل في تقييمِه للإسلام ورسولِ الإسلام محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، على المستوى الوضيع المكرَّرِ والمعروفِ لعصره، والذي حدَّده "بطرس المبجَّل Petrus Venerabilis" (1126-1198 م) في مؤلفاته التي طَعن فيها الإسلام. ففي كتابه"الشامل في الردِّ على الكفرة" Summa contra gentiles - الذي مَهَّد الطريقَ أمامَ العمل التبشيري في إسبانيا للدفاع عن المسيحية والطعنِ في الإسلام- نَقل "توماس الأكويني" الاتهاماتِ القديمةَ، وادَّعي ¬

_ (¬1) "صورة الإسلام في التراث الغربي" (ص 20 - 21).

أوتو الفرايسنجي Otto von Freising ينفي تهمة عبادة الأصنام عن المسلمين، ولكنه يطعن في محمد - صلى الله عليه وسلم -

أن:"ماحوميت Mahmet" ( محمدًا) قد أغوى الشعوبَ من خلالِ وُعودِه لها بالمُتَع الشهوانية، وبالتالي لم يَجِدِ الشهوانيون من البشرِ أيَّ صُعوبةِ في اتباع تعاليمه. ° ويستطردُ "توماس الأكويني" قائلاً: "إن محمدًا لم يَرِدْ ذِكرُه في التوراة والأناجيل، ولا يمكنُه أن يدَّعِي أن الرسلَ الأسبَقِين قد تنبؤوا بظهورِه وبعثتِه من بعدِهم". واتهم "توماس الأكويني" رسولَ الإسلام بتحريفِ جميع الأدلةِ الواردةِ في التوراةِ والأناجيل من خلالِ الأساطيرِ والخرافاتِ التي كان يَتلُوها على أصحابِه، ولم يؤمِنْ برسالةِ محمد - صلى الله عليه وسلم -، إلاَّ المتوحشون من البشر homies bestiales الذين كانوا يَعيشون في البادية (¬1). * أوتو الفرايسنجي Otto von Freising ينفي تُهمةَ عبادةِ الأصنام عن المسلمين، ولكنه يطعنُ في محمد - صلى الله عليه وسلم -: كان بُوسع الأوروبيين أن يعرفوا في القرن الثاني عَشَرَ أن "السراسنة" Sarrazin- وهو اسمُ أعداءِ المسيحيين عند "شتريكر Stricker" - لم يَعبُدوا الأصنام، كان هذا على كلِّ حالٍ ما ذكره في تاريخه بوضوح "أوتو الفرايسنجي Otto von Freising (1111 / 15 - 1158 م) خال الإمبراطور "فريدريخ بارباروسا Friedrich Barbarossa" فهو- أي: أوتو الفرايسنجي Otto von Freising"- انتَقَد الروايةَ القائلة: (إن المسلمين قد قَتلوا رئيسَ الأساقفةِ"تيمو السالزبورجي Thiemo von Salzburg"؛ لأنه حَطَم أصنامَهم ¬

_ (¬1) "صورة الإسلام في التراث الغربي " (ص 32 - 33).

أرنست رينان، يصف الرسول محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالخداع والدجل، ويطعن في الإسلام، ويتهمه بأنه عدو العلم والعقل

بدلاً مِن أن يعبدَها، حيث يشيرُ إلى أن الرواياتِ الموثوقَ فيها تَذهبُ فقط إلى أن "تيمو" قد استُشهد من أجل الديانة المسيحية، ثم يذكرُ المؤرِّخ الدقيقُ في عمله: "أما القول بأن "تيمو" قد حَطَّم الأصنام، فيَصعُبُ تصديقه؛ لأنه من المعروف أن المسلمين Sarazenen لا يَعبُدون، إلاَّ إلهًا واحدًا , ولديهم شريعتُهم السماويةُ، ويمارِسون الختان، كذلك فإنهم يَعترِفون بالمسيح وحوارَّييه وأتباعِهم، وهم فقط بعيدون عن الخَلاصِ لأنهم يُنكِرون أن المسيحَ هو مُخلَّصُ الإنسانية، وأنه الربُّ وابنُ الربِّ في الوقت نفسه، ويقدِّسون المُضَلِّلَ محمدًا، الذي تحدَّثنا عنه سابقًا، باعتباره أعظمَ أنبياءِ الله تعالى" (¬1). * أرنِسْت رٍينان، يصِفُ الرسولَ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالخداع والدجل، ويَطعنُ في الإسلام، ويتهِمُه بأنه عدو العلم والعقلِ: أرنست رينان (1823 - 1892 م) فيلسوف ومستشرق فرنسي. لقد طَعَن "رينان" في الإسلام، وقال: "إنه دين طبيعي عَقلي يتصفُ بالجديةِ والليبرالية والبرود" (¬2). وقد وصَفَه أيضًا بأنه "عدوُّ العلم والعقل"، ووصَفَ العربَ بأن عقولَهم قاصرة بطَبعِها غيرُ مُستعِدَّةٍ لفهم ما وراءَ الطبيعة. ومع ذلك فإن آراءَ "رينان" حافلةٌ بالتناقضِ والاضطراب، فبينما هو يَمقُتُ الإسلام ويَحمِلُ عليه ويَنتقِدُه انتقادًا مُرًّا، يعترف برهبةِ هذا ¬

_ (¬1) "صورة الإسلام في التراث الغربي" (ص 26 - 27). (¬2) "الإسلام في تصوّرات الغرب" (ص 159) للدكتور محمود حمدي زقزوق- مكتبة وهبة - القاهرة.

الدينِ وعَظَمتِه!!. ورأيُ "رينان" في النبيِّ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - رأيُ كافر جهولٍ متعصِّب، فقد وَصَفه بالخِداع والدَّجَل، وقَرَّر أن الذي أسس الإسلامَ وَشيَّد صَرْحَه هو "عُمر"؛ لأنه يُماثِلُ القدِّيسَ "بولس" في المسيحية!!. ° وقال: "إن الإسلام دينٌ لا يَسمحُ بحريَّةِ الفِكرِ ورُوح النقد". ° وقال: "إنَّ الإسلامَ يُعادِي العلمَ والفلسفةَ، وإنه صارمٌ يتحكَّمُ في العبدِ وفي دنياه وفي آخرته، وإنه ذلك القَيدُ الثقيلُ الذي لم تُصَبْ بمثلِه الإنسانيةُ في تاريخها". ° والواقعُ أن "رينان" لم يُثبِتْ في نَظَرِ مؤرِّخيه بأنه باحثٌ مستقرٌّ الفِكرِ، بل عُرف باضطرابِ الرأي، وقد وَصَفه "بيكافيه" أكبرُ الباحثين في إثارة: "بأنه رجل يَقلِب أوضاعَ الأشياءِ والمسائل، وذلك لاختمارِ النَّزعةِ الصليبيةِ في عَقلِه الباطن، وتَمَلُّكها على أفكارِه في الحكم عَلَي مَن يُخالِفُ تعاليمَ دِينِه الأولِ قبلَ إلحادِه وكفرِه". ° وقال مؤرِّخوه: "إنه أفسَدَ الاستشراقَ الفِرنسي بهذه الآراء، وقد سار على نَهجه كازانوفا في كتابه "محمد ونهاية العالم" .. ". ° يقول "رينان" المُلحِد في كتابه "مقالات ومحاضرات": "أقولُ دائمًا -وَلَستُ بحاجةٍ إلى أن أكرِّر-: إن العقلَ البشريَّ يجب أن يُنزَّه من كلِّ المعتقداتِ الدينيَّة، وأنْ يَحصُرَ جُهودَه في مجالِهِ الخاص، وهو إقامةُ العلم الوَضعيِّ". ولرينانَ محاضرة مشهورة ألقاها في 29 مارس 1883 في "جامعة

السربون" عنوانها "الإسلام والعلم"، حَمَل فيها على الإسلام حَمْلَةَ متعصَّبةً عنيفة. ° وقال: "إن الدينَ الإسلاميَّ عَقبةٌ في سَبيل تقدُّم العلم بسببِ التعصُّب". ° وقال: "إنه اضطَهَد العِلمَ والفلسفة، ووَصَف العقليةَ الساميةَ بأنها مُجدِبَةٌ، كالصحراءِ التي نَبَتَتْ فيها". ° وقال: "إن انحطاطَ بلادِ الإسلام في العالَم واضح، وسببُ هذا الانحطاطِ هو أن عقولَ المسلمين بَلغت منَ الحُمقِ غايتَه حتى كأنَّ دِينَهم صار حِجابًا على قُلوبهم، مَنَعها من أن تَعِيَ شيئًا من العلوم". ° وقال: "إن العَجْزَ عن التقدُم ناتجٌ عن دينِ الإسلام، وإن دينَ الإسلام قد نَجَح، ولكن لشقائه، فإنه لَمَّا قَبِلَ الإسلامُ الفلسفةَ قَتَل نفسَه، وحَكَم عليها بالانحطاط التام". وقد رَدَّ على "رينان" رجالٌ من أبناء جِلْدَتِه، منهم "غوستاف لوبون" الذي قد أشار إلى محاضرةِ رينان، ووصَفَها بالتناقض، وأنه أراد أنْ يُثبِتَ عَجْزَ العربِ. ° وقال "لوبون": "ولكنْ ترَّهاتُه كانت تُنقَضُ بما كان يَجِيءُ في الصفحة التي تَليها، فبَعدَ أنْ قال "رينان": إن تقدُمَ العلوم مَدِين للعرب وحدَهم عِدَّةَ سِتمئةِ سنةٍ .. ذكَرَ أن عَدَمَ التسامُح ممَا لا يَعرفُه الإسلام إلاَّ بعدَ أن حَلَّت مَحِل العربِ شعوبٌ متأخِّرةٌ كالبَرْبر والتُرك .. ثم عاد فادَّعي أن الإسلام اضطَهَد العلمَ وقَضَي على العقل في البلادِ التي دَانت له!! ".

فكتور شوفان (1844 - 1913 م)

* فكتور شوفان (1844 - 1913 م): فكتور شوفان، مستشرق بلجيكي، عَمِل أستاذًا للغةِ العربية بجامعة "ليج"، ووضع فِهرسًا مفصلاً للكتابات التي صَدَرت حولَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وذلك في الجزء التاسع كتابه "فهرس المصنَّفات العربية أو المصنَّفات المتصلةِ بالغرب"، وقد وَضع الفهرسَ في اثنَىْ عَشَر جزءً. وفي القِسم الأول من هذا المؤلَّف يتناولُ "شوفان" المؤلَّفاتِ الحديثةَ - أي المؤلَّفات التي صَدَرت حولَ محمد - صلى الله عليه وسلم - في الفترة الممتدة من عام 1810 حتى عام 1908 - ، وبجانب ذِكرِه لعناوينِ هذه المؤلَفات بكلَّ دقةٍ، فإنه يُقدَّمُ لنا أيضًا بيانًا بمحتوياتِ المؤلَّفاتِ ذاتِ الأهمية، ويشيرُ إلى أهمِّ ما وُجِّه إليها من نَقدٍ. أمَّا القسمُ الثاني، فإنه يتضمنُ ذِكرَ المؤلَفاتِ السابقةِ على عام 1810، ويتناولُ بالتفصيل -بصفةٍ خاصةٍ - المؤلَفاتِ البيزنطيةَ والأسبانيةَ ومؤلَّفاتِ القرون الوسطي. وفي القسم الثالث يَتناولُ رسائلَ جامعيةً حولَ بعضِ المسائل الخاصة مثل: الوفود، بدر، بَحِيرى، الصَّرَع، فاطمة، نساء محمد، شجرة النَّسَب، المعجزات، وفاة محمد، مولده، نَبَالة نسبه، أسماء محمد، صورته الجسمية وأخلاقه .. إلخ. وأما القسم الرابع، فإنه يُخصِّصُه للأساطير الغربية عن محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - كما يُخصِّصُ القسمَ الخامسَ للحديثِ عن محمد - صلى الله عليه وسلم - في الأدب. ولعلَّ القارئَ يلاحظُ هنا أن موضوعَ "الصَّرَع" مُقحَم بين هذه

القسيس السويسري ببلياندر

الموضوعات التي تتحدَّثُ عن سيرةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأن الأمرَ هنا ربما يدورُ حولَ خطأٍ مطبعيٍّ أو خطأٍ من الترجمة! ولكن الأمرَ ليس كذلك، فالحديثُ عن "الصرع" هنا حديثٌ مقصود، إذ يَحلُو لبعضِ المستشرقين أن يُفسروا ظاهرةَ "وحي الله" إلى نبيِّه عليه الصلاة والسلام بأنها كانت عبارةً عن نَوباتٍ من الصرَع تَعتريه بين الحِين والحين، وذلك انطلاقًا مِن مبدأِ عدم الاعترافِ بنبوَّته، وبالتالي فليس هناك أصلاً -في زعمهم- وَحيٌ كان يأتيه. وهذا الموقفُ يَدخلُ في باب التعصُّبِ الأعمي الذي هو نفسُه مرضٌ لا أَمَلَ في شِفائه، ولا جَدوى من علاجِه. * القِسِّيس السويسري ببلياندر: وَضَع هذا القسيسُ كتابًا من ثلاثةِ مجلداتٍ، وصدر عام 1543 م، ويمثِّل الوضعَ الذي وَصَل إليه الجَدَلُ كلُّه ضِدَّ الإسلام حتى ذلك العصر، كما يمثل حاصلَ هذا الجدل، فالكتابُ لا يَشتملُ فقط على الترجمة اللاتينية للقرآن، والتي تَمَّتْ قبلَ ذلك بأرْبَعِمِئةِ عام، وإنما يَشتملُ أيضًا على عددٍ كبير من الكتاباتِ المضادَّةِ للقرآن والإسلام، ابتداءً من عَصرِ بطرس الموقَّر حتى عصرِ الإصلاح الديني (¬1). * هوتنجر السويسري (1620 - 1667 م): هذا المستشرقُ السويسري كان أستاذًا للغات السامِية في كل من "زيوريخ وهايدلبرج"، ويقدِّمُ في كتابه "تاريخ الشرق" الصادرِ في "زيوريخ" عام 1651م نقضًا للقرآن، إسهامًا في مكافحةِ الخُرافات ¬

_ (¬1) "الإسلام في تصورات الغرب" (ص 83).

الأب الإيطالي لودفيج ماراتشي

المحمدية -كما يدَّعي هذا الأفَّاك - (¬1). * الأبُ الإِيطالي لودفيج ماراتشي: أمضَى هذا الأثيم أربعين عامًا في دراسةِ القرآن، وكُتبِ التفسير العربية لكي يحاربَ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بنفسِ سلاحه، وقد كانت حَصيلةُ هذه الدراسةِ هذا العملَ الأسودَ الضحمَ الذي أنجزه، والذي تَضمَّن النصَّ العربيَّ الكاملَ للقرآن مع ترجمةِ لاتينيةٍ مصحوبةٍ بهوامشَ توضيحية، ونقضٍ مُفصَّلٍ لكل فقرةِ قرآنيةٍ على حِدَة، وقد أصدر "مراتشي" قبل ذلك في عام 1691 م كتابًا حَولَ نقضِ القرآن، قَدَّم فيه لَمحةً عن حياةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعن القرآن، ثم بَرْهَنَ -كما يزعمُ ويَفتري ويدَّعي- على بُطلانِ الإسلام وحقيقةِ الديانة المسيحية .. وكل ما كَتَبه عن محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - يلاحَظُ فيه النفورُ إزاءَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -وتعاليمه (¬2) .. يا ناطِحَ الجَبَلِ العالي لتُكْلِمَهُ ... أشفِقْ على الرأسِ لا تُشفِق على الجَبَلِ * ماراتشي Marracci: وقد قدَّم "ماراتشي" في كتابه "الرائد في تفنيد القرآن" (¬3) نَظرةً على حياةِ وأعمالِ محمدٍ مؤلِّف القرآن. وقد حاول جاهدًا -كما فَعل "بوكوك وهوتنجر"- أن يَرجعَ إلى مصادرَ عربية، وُيعبِّرُ "مارتشي" هنا عن الغايةِ مِن وصفه لحياةِ محمدٍ على النحو ¬

_ (¬1) انظر "الإسلام في تصورات الغرب" (ص 82، 83). (¬2) المصدر السابق (ص 83). (¬3) صدر الكتاب عام 1651 م وأُعيد نشره عام 1660.

التالي: "إذا أردتُ أصوِّرَ حياةَ محمدٍ حسبما كَتب في ذلك مؤلِّفونا وكُتَّابُنا، فسأجعلُ نفسي مَدْعاةً للسخرية لدى المحمَّديين، فالفرقُ كبير جدًّا بين ما يَروُونه وما نَرويه نحن، لدرجةِ أنَّ المرء لا يُمكنُه أن يُصدّقَ أنَّ كِلا الجانبيَنِ يتناولُ بالحديث رجلاً واحدًا، ومِن أجل ذلك فإنني أريدُ أن أتابعَ أولئك، ليس لأني آخُذُ كل شيءٍ على أنه حق، بل لأننا إذا تناوَلْنا عدوَّ الدينِ بالنقض والتنفيد، فإن محاربتَه بأسلحتِه هو أفضلُ مِن محاربته بأسلحتنا، وحينئذٍ يَسهُلُ التغلُّبُ عليه. وبالإضافة إلى ذلك، فإن كثيراً من كُتَّابنا يَروُونَ عن محمدٍ أشياءَ تُثيرُ الضحِكَ لدى المحمَّديين، ولا تُجدِي إلاَّ في زيادةِ تقويتهم في خرافاتِهم، وعلى ذلك فإني سأعتمدُ في الحديث عن حياةِ محمدٍ على أكثرِ المؤلفين العرب قَدرًا، وإذا كنتُ على عِلمٍ أيضًا بأن هؤلاء يأتون بالكثيرِ من الأكاذيب لإعلاءِ شأنِ نبيهم الزائفِ، فإنني لن أجعلَهم يعتبرونني كاذبًا". ° وقد ظل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لدى "ماراتشي" هو النبيَّ الزائفَ، والمُضَلِّلَ والغاصبَ، ومؤسِّسَ طائفةٍ تُثيرُ الاشمئزاز، ومؤلِّفَ كتابٍ -يعني: القرآن- مملوءٍ بالتناقضاتِ والخرافاتِ الكاذِبةِ والأباطيل (¬1). ° لقد كان "مارتشي" أحدَ رجالِ اللاهوت الإيطاليين، أمضى حياتَه كلَّها في إعدادِ دراساتٍ هَدَفُها البرهنةُ -كما يزعُم- على بُطلانِ الإسلام وحقيقةِ الديانة المِسيحية، وقد صَدَر كتابُه في "تفنيد القرآن" عام 1691 م، وقدَّم فيه أيضًا لَمحةً عن حياةِ محمدٍ، ثم نَشَر النص العربي الكاملَ للقرآنِ ¬

_ (¬1) "الإسلام وتصورات الغرب" (ص 135، 136).

همفري بريدو

عام 1698 م مع ترجمةٍ لاتينيةٍ مصحوبةٍ بهوامشَ كثيرةٍ، ومحاولةٍ فاشلةٍ لنَقْضِ القرآن فقرةً فقرة، وينطلقُ "مارتشي" في دراساته -مثلما يفعلُ غيرُه من اللاهوتيين ومعظمُ المستشرقين- من فرضيةٍ يَضَعونها كأنها حُجَّةٌ مسلِّمةٌ، ويَبنون عليها كل مزاعِمِهم، وتتمثَّلُ هذه الفَرْضيَّةُ في أن محمدًا ليس نبيًّا حقيقيًّا، وأنه هو الذي قام بتأليفِ القرآن، وقد سبق أنْ فَعَل الشيءَ نفسَه مشركو مكة، وقد وَصف "بفانموللر" نفسُه موقفَ "ماراتشي" بأنه "نُفورٌ داخليٌّ إزاءَ محمدٍ وتعاليمه"، فكيف يُنتظرُ منه -وقلبُه مليء هكذا بالحقدِ على الإسلام- أن يكون منصِفًا للإسلام ونبيِّه؟! وأين ذلك من تعاليم القرآن -التي لابدَّ أنه قد اطَّلَع عليها- والتي تتمثلُ في الإنصافِ المطلقِ الذي يعلو فوقُ كلِّ اعتبار؟! {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]. * همفري بريدو (1648 - 1724): هذا المستشرقُ الإنجليزى الذي جَعَل كتابه "حياة محمد" مرآةً تعكِسُ نُفورَه من محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وتعكِسُ الصورةَ الخاصَّةَ لكل من الكفَّارِ والزنادقةِ وأصحابِ مذهبِ "التأليه الطبيعي" والإباحيين (¬1). ° يقول نجيب العقيقي معلقًا على كتاب "حياة محمد" لـ "بريدو": "إنه ترجمةٌ تافهةٌ لا غَنَاء فيها" (¬2). ويُصوِّر "بريدو" محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليس بوَصفِه أكبرَ الدجَّالين فحسب، بل ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 83، 84). (¬2) "المستشرقون" (2/ 45).

هادريان ريلاند (1776 - 1818 م)

بوَصفه أيضًا أحد المجرمين. وقد أراد "بريدو" أن يكونَ كتابُه مجرد جزءٍ من تاريخ الكنيسة في الشرق، وأن يُثبِتَ فيه أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان بمَثابةِ سَوطِ الله لمعاقبةِ الكنائسِ الشرقية وحَمْلِها علي التوبة النصوح. وقد صَدَر الكتابُ في "لندن" عام 1697، وصَدَر بالفرنسية عام 1698 م. ويصف "بفانموللر" موقف "بريدو" من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه "حَمَاسٌ حَقود" (¬1). * هادريان ريلاند (1776 - 1818 م): هذا المسشرقُ الهُولندي كان أستاذًا للغات الشرقية في جامعة "أوترشت" بهولندا، ومن مؤلَفاته التي كان لها صَدَى بعيدٌ في أوربا كتابه عن الإسلام في مجلدَيْن: أحدهما عن "الديانة الإسلامية"، والثاني: "حول تصويب فكرة الأوربيين الخاطئة عن الإسلام"، وقد تُرجِم الكتابُ إلى عدَّةِ لغاتِ أوروبية، وكان "ريلاند" أولَ مَن قام بعرض عِلميٍّ للإسلام في أوروبا، ومع هذا حَرَّمت الكنيسةُ تَداوُلَ الكِتاب. ° يقول "بفانموللر" المستشرقُ الألماني في كتابه "موجز في أدب علوم الإسلام": "قال "ريلاند": هل مِن الممكن أن تَجِدَ ديانة متناقضة -كما يَصِفُها المؤلفون المسيحيون- ملايينَ الأتباع؟ دَعُوا المسلمين أنفسَهم ¬

_ (¬1) "الإسلام في تصورات الغرب" (ص 138، 139).

جان جانييه (1670 - 1740) العدو اللدود لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -

يَصفون لنا دينَهم. وفضلاً عن ذلك فإنه يَتحتَّم على المرءِ أن يعرفَ الإسلامَ جيِّدًا لكي يستطيعَ أن يُحاربَه بطريقةٍ فعَّالةٍ، ولكنْ ضرورةُ محاربتِه تنمو مع كلِّ يومٍ؛ لأن علاقاتِ الأوروبيين بالمحمديِّين في تركيا وإفريقيا وسوريا وإيران وجُزرِ الهند التابعة لهولندا تتَّسع دائرتُها باستمرار، وفي وُسْع المرءِ -عن طريقِ النقاش الدِّينيِّ- أن يَكسِبَ المسلمين إلى صفِّ العقيدةِ الحقَّة، وهذا أفضلُ بكثير منَ القيام بتوجيهِ الشتائم لهم بطريقةٍ حمقاء. والمعرفةُ الدقيقةُ بالإسلام وأتباعِه ستجعلُنا نَضَعُ مكانَ الكبرياءِ الساذجةِ الإحساسَ بالشكر لله الذي أنعَمَ علينا من فضلة بالمسيحية. وعلى الرغم من كلِّ ذلك، فإنه لم يَدُرْ بخَلَدِ "ريلاند" أن يقومَ بتمجيدِ الإسلام، فهو بالأحرى يستفظعه كما يوضح هو ذلك" (¬1). * جان جانييه (1670 - 1740) العدوُّ اللدود لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان هذا المجرمُ أستاذًا للعبريَّة ثم العربية في "أكسفورد"، وفي عام 1723 قام بترجمة "سيرة النبي" لأبي الفداء إلى اللاتينية ثم إلى الفرنسية، وقد ألَّف كتابًا عن حياةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في جزئينِ بالفرنسية (1732) م. وفي مقدِّمةِ كتاب جانييه يَصِفُ هذا المجرمُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه أكثرُ الناس شرًّا، وبأنه عدوٌّ لدودٌ لله (¬2). ¬

_ (¬1) "الإسلام في تصورات الغرب" (ص 84، 85). (¬2) المصدر السابق (ص 86).

جورج سيل (1697 - 1736)

* جورج سيل (1697 - 1736): مستشرقٌ إنجيلزي، ترجم القرآنَ إلى الإنجليزية، ونُشرت الترجمةُ في لندن عام 1734 م، وقد اشتملت على حواشٍ وشروح ومقدِّمةٍ مُسهَبَةٍ عن الدين الإسلاميِّ تَضمَنتِ الكثيرَ من الإفك واللغوِ والتجريح، ووَصَف الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - والنظرَ إليه على أنه مُضلِّل (¬1). ويَرى هذا الدَّجالُ أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن واحداً من أمثالِ جبابرة الملحِدين -كما يتصوَّرة المسيحيُّون عادةً-، والضرر الذي ألحقه محمدٌ بالمسيحية يُنسَبُ إلى جَهلِه أكثرَ مما يُنسَب إلى خُبثه!!. ° يقول الدكتور محمود حمدي زقزوق: "يَزعُمُ المستشرقون واللاهوتيون أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يَعرِفِ التعاليمَ "الصحيحة" للمسيحية، وبَنَى معارضتَه للتعاليم المسيحية على ما عَرَفه من صورةٍ زائفةٍ كانت شاسعةً حينذاك، ويُعبِّرُ مستشرقٌ معاصر هو "رُودي بارت" عن ذلك بقوله: لقد كانت معلوماتُ الناس عن المسيحية في مكةَ في العصر الذي عاش فيه محمدٌ معلوماتٍ محدودةً وناقصةً، ولم يكن المسيحيون العَربُ يَسلُكون النَّهْجَ الصحيحَ في معتقداتهم، وكانت تَرُوج هناك آراءُ بِدعيَّةٌ منحرفةٌ، ولولا ذلك -كما يزعمُ "بارت"- لَمَا كان محمدٌ على علم بأمثالِ تلك الآراءِ التي تنكِر صَلْبَ المسيح، وتَذهبُ إلى أن نَظريةَ "التثليث" لا تَعني الآب والابن وروح القدس، وإنما تَعني اللهَ وعيسي ومريم إلخ (راجع كتابنا: "الإسلام في الفكر الغربي" (67) وما بعدها). ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 87).

فولتير وروايته السوداء المأساوية الكاذبة "محمد أو التعصب" (1694 - 1778 م)

وهكذا يُنكِرُ المستشرقون أن يكون محمد - صلى الله عليه وسلم - قد تلقي معلوماتِه عن المسيحية من أعلي عن طريقِ وَحيٍ سَمَاوي أراد اللهُ به أن يُصحِّحَ العقائدَ التي أفسَدتها عقولُ البشرِ على مر العصور (¬1). * فولتير وروايتُه السوداءُ المأساوية الكاذِبة "محمد أو التعصُّب" (1694 - 1778 م): فيلسوف وأديب فِرنسي شهيرُ، يَعدُّ قُطْبَ عصرِ التنوير -كما يُسَمُّونه- في فرنسا. "فرانسوا ماري أرويه" المعروف باسم "فولتير Voltaire". ° كَتب فولتير مسرحيتَه السوداءَ الشهيرة -التي أسماها (التعصُّب أو محمد النبي" التي عُرِضت لأولِ مرةِ- في مدينة "لِيل" بفرنسا عام 1741 م وأهداها إلى "البناينوا الرابعَ عَشَرَ"، ويقول في تقديمه المسرحية: "إلى رئيسِ الديانةِ الحقيقية ضدَّ مؤسس ديانةِ كاذبةٍ بربريةٍ، أضَعُ عند مَوطِئِ قَدَمَيْك الكتابَ ومؤلِّفَه، إن صاحبَ القَدَاسةِ سيَغفرُ ولا شك الجُرأةَ التي يأخذُ أسبابَها أحدُ المؤمنين المتواضِعين في أنْ يُهديَ حبرَ أحبارِ الكنيسةِ الكاثوليكية الحَقَّةِ هذه المسرحية" (¬2). ولقد سب فيها "فولتير" رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سيدَ البشر سبًّا مُقذِعًا، ووَصَفه بأنه كان "دجَّالاً، ومستبدًا، تُحركه الشهواتُ الحِسيّةُ، ¬

_ (¬1) "الإسلام في تصورات الغرب" (ص 141). (¬2) "آفاق جديدة للدعوة الإسلامية في عالم الغرب" للأستاذ أنور الجندي- مؤسسة الرسالة.

ومُتعطِّشًا للدماء". ° يقول المستشرق الألماني "بفانموللر" في كتاب "موجز في أدب علوم الإسلام": (أما "فولتير"، فقد كَتب روايتَه المأساوية "محمد أو التعصُّب" دون أن يراعيَ الحقائقَ التاريخية، وقد كان "فولتير" نفسُه مقتنِعًا بأن كتابَه المنبثِقَ من خيالِه يَتناقضُ تناقضًا حادًّا مع التاريخ، ومع ذلك فقد أراد أن يَعرِضَ على الجمهورِ شَخصيةَ "تارتوف Tartuffe " (¬1) ممسكًا سلاحًا في يده، وكان يَعتقدُ أنه يستطيعُ أن يُعِيرَ "محمدًا" هذا الدَّورَ، ولكن "فولتير" لم يكن له أن يفعل ذلك، لو لم يكن التصوُّرُ السائدُ حينَذَاك هو أن محمدًا يُمثِّلُ التعصُّبَ والتضليلَ الديني. وهكذا كانت أوروبا تَمُوجُ بآراءَ كثيرةٍ حولَ عَمَل محمد، ولكن الحِس التاريخي الحقيقي الذي يَتمتُع به خِيرةُ علماءِ عصرِنا، كان لا يزالُ معدومًا تمامًا" (¬2). ° يقول الدكتور "محمود حمدي زقزوق": "إنه لأَمرٌ غريبٌ حقًّا أن يلجأَ "فولتير" إلى التشهير بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، جاعلاً منه في هذه الروايةِ التي مُثِّلت على المسرح "منافقًا لا يعرفُ الحياءَ، ومُضَلِّلاَ، وظالمًا تدفعُه النوازعُ الحِسيةُ والتعطُّشُ للدماء .. إلخ"، وهو يعلمُ تمامَ العلم أن كل ذلك غيرُ صحيح ولا يتفقُ مع الحقيقةِ التاريخية، ولكن "فولتير" أراد بذلك أن يتخذَ من محمدٍ ¬

_ (¬1) تارتوف اسم يطلق على شخصية الرجل المنافق في أحدى مسرحيات الأديب الفرنسي الشهير"موليير" Moliere" (1622- 1673) والتي تحمل نفس الاسم أيضًا. (¬2) "الإسلام في تصورات الغرب" (ص 87 - 88).

أداةَ حربٍ على الكنيسة على طريقةِ "أياك أعني، واسمعي يا جارة"، ولذلك يقول "بفانموللر": "لكن "فولتير" لم يُرِدْ إطلاقًا "بمأساته" أن يُصور شخصيةَ محمدٍ التاريخية، وإنما أراد بذلك فقط أن يُحوِّل دَفَّةَ الحديثِ ضدَّ المسيحية الكاثوليكية، وضدَّ التضليل الكهنوتي، وضدَّ الخرافات، وضدَّ الدينِ نفسِه وما يَرتبطُ به ضرورةً مَن تعصَّب". وقد مُثِّلت المسرحيةُ في مدينة "لِيل" عام 1741 م، ثم قَدَّمتها "الكوميدي فرانسيز" في باريس عام 1842 م، فاحتَجَّ عليها السفيرُ التركي لدى الحكومةِ الفرنسية، وعَقَد مؤتمرًا دعا إليه كُتَّابَ فرنسا الأحرار، فأَوقَفَتِ الحكومةُ تمثيلَها حينذاك (انظر: "الشرق والإسلام في أدب جوته" لعبد الرحمن صدقي ص 23). وبجانب هذه الصورةِ الظالمةِ، نَجِدُ "فولتير" في مقالته moeurs) Esai sur les) يُقدم لنا صورةً أخرى، يَصِفُ فيها "محمدًا" بأنه "الرجل العظيم الذي جَمع في شخصِه بين الفاتح والمُشرع والحاكِم والكاهن، والذي لَعِبَ أعظمَ الأدوارِ التي يُمكنُ أن يَلعَبَها إنسان على ظَهرِ الأرض" (انظر "بفانموللر" 172). وفي وَسَطِ هذا البحرِ المتلاطِم بأمواج التخبُّطِ الواضح والتناقضِ الصارخ، لم يكن هناك كان للحقيقةِ التاريخيةِ والموضوعيةِ النزيهة. وممَّا هو جديرٌ بالذكر أن "فولتير" كان يُعَدُّ من الملاَحِدِة حينًا، ومِن مُنكِرِي النبوَّاتِ عامة في أكثر الأحايين" (¬1). ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 88).

نِفاقٌ كَريهٌ، وتَضليل متعمد، وعَمَل لا أخلاقي، وحوادثُ وشخصيات مفتعَلَة قائمةٌ على التخيُّل أكثَرَ ممَا تقومُ على الواقعِ التاريخي، ثم لَم يتحرز من الأخطاءِ الكبرى لحقائقَ يعرفُها كلُّ مَن يعرفُ تاريخ الإسلام، فيَجعلُ "الزبير" زعيمًا لسادةِ قريش المناهِضِين لمحمد!! وهو يُوجِّهُ كتابَه على نحوٍ مثير، يَفضحُ دَخِيلةَ النفس، ويَكشِفُ عن الضعفِ البَشري لكاتبٍ وُصف بأنه "حُرُّ الفِكر". " فولتير" الذي قَدَمه المثقفون العِلمانيوُن في بلادنا باعتباره نموذجَ "الشجاعةِ الفكرية"، "المستعد للموت في سبيل حُريَّة الآخرين"!!! يَجعلُ هذا الأفاكُ الدَّجالُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو خيرُ المتسامِحِين الذي أرسله اللهُ رحمةً للعالمين-، يَجعلُه نموذجًا ورمزًا للتعصُّب، ويُخفِي "فولتير" في هذه المسرحيَّةِ جُبْنَه أمامَ الكنيسة، وخَوْفَه من مهاجمةِ المسيحية أو نَقدِها، بالهجوم على الإسلام ورسولِ الإسلام. ° وكتب "جمال الدين الأفغاني" كاشفًا لحقيقةِ الذي جعلوه فيلسوفًا للحرية والتنوير، كتب الأفغاني عن "فولتير" و"رُوسو" (1712 - 1778 م) فقال: "ولقد زَعَمَا حمايةَ العَدْلِ، ومُغالبةَ الظُلم، والقيامَ بإنارةِ الأفكار، وهدايةِ العقول، فنَبَشَا قَبْرَ "أبيقور الكلبي" (341 - 270 ق. م)، وأحيَيَا ما يَلي من عِظامٍ الدهريين، ونَبَذا كل تكليفٍ ديني، وغَرَسَا بُذورَ الإباحيةِ والاشتراك، وزَعَما أن الآدابَ الإلهيةَ "جَعْلِياتٍ خرافيَّة"، كما زَعَمَا أن

الأديان "مخترعاتٌ أحْدَثَها نقصُ العقل الإنساني"، وجَهَر كِلاهما بإنكارِ الألوهية، ورَفَع كل عقيرتَه بالتشنيع على الأنبياء -برَّأهم اللهُ ممَّا قالا-، وكثيرًا ما ألَّفَ "فولتير" مِن الكتب في تخطئةِ الأنبياءِ والسخريةِ بهم والقدح في أنسابهم وعَيبِ ما جاؤوا به" (¬1). ° "وقد واجَهَ توفيقُ الحكيم هذه القصة، فقال: قرأتُ قصةَ "فولتير" التمثيلية "محمد"، فخَجِلتُ أن يكونَ كاتبُها معدودًا في أصحابِ "الفكر الحر"، فقد سَبَّ فيها النبي سبًّا قبيحًا عَجِبتُ له وما أَدركتُ له عِلَّةً، لكن عَجَبي لم يَطُلْ، فقد رأيتُه يُهديها إلى "البابا بنوا الرابع عشر"، وعَلِمتُ أن "روسو" كان يتناولُ بالنقدِ أعمالَ "فولتير" التمثيلية، فاطَّلعتُ على ما قال في قصة "محمد"، عَلَّني أجدُ ما يَرُدُّ الحقَّ إلى نِصابه، فلم أَرَ هذا المُفكرَ الحر أيضًا يَدفعُ عن النبي ما أُلْصِقَ به كَذِبًا، كأن الأمرَ لا يَعنِيه، وكأنَّ ما قيل في النبي لا غبارَ عليه ولا حَرَج منه، ولم يتعرض للقصَةِ إلاَّ مِن حيثُ هيَ "أدبٌ وفن"، وقد قرأتُ بعد ذلك ردَّ "الباب بنوا" على "فولتير"، فألفيته ردًّا رقيقًا كيِّسًا لا يُشيرُ بكلمةٍ واحدةٍ إلى الدين، وكلُّه حديث في الأدب، فعَظُم عَجَبي لأمرِ "فولتير"، وسألتُ نفسي طويلاً: أيستطيعُ عقل مثقَّفٌ كعقل هذا الكاتبِ العظيم أن يعتقدَ ما يقول؟! دينٌ يتبعُه آلافُ الملايينِ من البشر على مَدَى الأجيال، هو في نظرِه حقًّا دينٌ كاذب؟! ومبادئُ إنسانية كالتي جاء بها الإسلامُ هي عنده حقًّا مبادئُ بربرية، أم أنه التملُّقُ والزَّلفي ¬

_ (¬1) جمال الدين الأفعاني "الأعمال الكاملة" (ص 161) - دراسة وتحقيق د. محمد عمارة- طبعة القاهرة 1968.انظر "الإسلام والغرب .. افتراءات لها تاريخ" (ص 31).

والنفاق، وأن الزمن والتاريخ يضعان أحيانًا أقنعةً زائفةً على نفوسٍ تَزعُم أنها خُلقت للدفاع عن حريَّةِ الفكر؟!!. منذ ذلك اليوم وأنا أُحِسُّ كأني فُجِعتُ في شيءٍ عزيز لديَّ: الإيمانِ بنزاهةِ الفِكرِ الحُرِّ، ولقد كنتُ أحيانًا التمسُ الأعذار لـ"فولتير"، وأزعُمُ أنه قال ما قال لا عن مجاملةٍ أو مَلَقٍ، بل عن عقيدةٍ وحُسنِ طَوِيَّةٍ، استنادًا على عِلم خاطئٍ بأخبارِ النبي، ولكن كتابه إلى البابا كان يتَّهمُه اتهامًا صارخًا، ولا يَدَع مجالاً للشك في دَخيلةِ أمرِه، إني قرأتُ لـ"فولتير" كُتبًا أخرى كانت تَكشِفُ عن آراءَ حُرَّةٍ حقًّا في مسائِل الأديانِ، وتنمُّ عن رُوح واسعةِ الآفاقِ تكرهُ التعصُّبَ الذميمَ، فما بالُه عندما عَرَض لذِكرِ "محمدٍ والإسلام" كَتب شيئًا هو التعصبُ بعينه، تَعصُّبٌ لدينهِ ذهب فيه إلى حدّ السجودِ وتقبيل الأقدام، لا لرب العِزة والخَلقِ، بل لبشر هو رئيسُ الكنيسة التي ما أرى أن "فولتير" كان ذاتَ يومٍ من خُدَّامها المخلِصين. وإنما هي الأطماعُ التي كانت تَدفعُ "فولتير" -فيما أرى- إلى التمسُّح بأعاتبِ الملوك والبابوات، وقد يُقدمُ ثَمَنًا لذلك أفكارَه الحُرة أحيانًا، منذ ذلك الحين، و"فولتير" عندي مُتَّهمٌ، ولن أبرِّئه أبدًا , ولن أَعُدَّه أبدًا من بين أولئك العِظام الذين عاشُوا بالفِكرِ وحدَه، وللفكرِ، وأحسَبُ أن التاريخَ العادلَ سوف يَحكُمُ عليه هذا الحُكمَ، فينتقمُ للحقِّ بما افتراه على نَبيٍّ كريم ظلمًا وزُورًا. على أن الذي يدعُو إلى الدَّهَشِ أكثَرَ مِن كل هذا: أن الشرقَ والإسلامَ وَقَفَا مِن هذا الأمرِ موقفَ النائم الذي لا يَعِي ولا يَشعُرُ بما يَحدُثُ حولَه،

المستشرق الفرنسي اللعين "كيمون" وكتابه "باثولوجيا الإسلام"

فلم نَرَ كاتبًا من كُتَّابِ الإسلام قام في ذلك الوقت يدفعُ عن دِينه هذا الهُراءَ الذي قاله "فولتير"، ويَقذِفُ في وجهِ هذا الكتاب بالحقائقِ الباهرةِ القاطعة، أو أن مؤلِّفًا وَضَع كتابًا يُبرِزُ فيه شخصيةَ النبيِّ الخيرةَ العظيمةَ واضحةً جليةً، لقد كان الشرقُ في ليلٍ هادئٍ بَهيم لم تُثِرْ فيه حركةُ "فولتير" يومئذٍ ساكنًا. ولكنَّ الأمرَ قد تغيَّر اليوم، ولاحت في أُفُقِ الشرقِ خُيوطُ الفجر، وقام في هذا القَرنِ كُتَّابٌ يَمجِّدون عقيدتَهم وهم يَعلمون أن ذلك تمجيدٌ للحق وللشرق، فإنَّ المسألةَ ليست مسألةَ دين فقط، وإنما هي مسالةُ جِنس وقومية (¬1)، وإذ تقولُ أوروبا عن "الإسلام" -وتعني في غالِبِ الأحيان "الشرق"-: "إن الحربَ الصليبيةَ لم تكن في حقيقتها إلاَّ حربَ الغربِ على الشرق"، وهذا المَدُّ والجَزْرُ بين الغربِ والشرقِ يَفهمُه مُفكِّرو الأوربيين تمامَ اللهم، ويَحسَبون له الحسابَ، فالدفاعُ عن شخصيتِنا وعقيدتِنا دفاعٌ عن حياتِنا" (¬2). * المستشرق الفرنسي اللعين "كيمون" وكتابه "باثولوجيا الإِسلام": ° يقول هذا الدجَّالُ المجنونُ القِزمُ في كتابه "باثولوجيا الإسلام": "إن الديانةَ المحمديةَ جُذامٌ تَفشَّي بين الناس، وأخذ يَفتِكُ بهم فتكًا ذريعًا، بل هو مَرَضٌ مُريع، وشَلَلٌ عامٌّ، وجُنونٌ ذُهوليٌّ يَبعثُ الإنسانَ على الخُمولِ والكَسَل، ولا يوقظُه من الخُمولِ والكَسَل إلاَّ ليدفعَه إلى سَفْكِ الدماء، ¬

_ (¬1) لا للجنس، لا للقومية، وإنما الدين والدين فقط. (¬2) انظر "مقدمات العلوم والمناهج" و"الفكر الإسلامي والثقافة الغربية" وكلاهما للأستاذ أنور الجندي -رحمه الله-.

أرناط اللعين صاحب الكرك، عدو الله ورسوله

والإدمانِ على مُعاقَرَةِ الخمور، وارتكابِ جميع القبائح، وما قَبرُ محمدٍ إلاَّ عمودٌ كهرُبائيٌّ يَبعثُ الجنونَ في رؤوسِ المسلمين، فيأتون بمظاهِرِ الصَّرَع والذُّهولِ العَقلي إلى ما لا نهاية، ويَعتادون على عاداتٍ تنقلبُ إلى طِباع أصليةٍ، ككراهةِ لحم الخنزيرِ والخمرِ والموسيقي .. إنَّ الإسلام كله قائمٌ على القَسوةِ والفجورِ في اللذات". ° وُيتابع هذا المستشرقُ المجنون: "أعتقدُ أنَّ مِن الواجبِ إبادةَ خُمْسِ المسلمين، والحكمَ على الباقين بالأشغالِ الشاقَّة، وتدميرَ الكعبة، ووَضعَ قَبرِ محمدٍ وجُثَّتِه في مُتحف اللوفر" (¬1). * أرناط اللعين صاحب الكَرَك، عدوُّ اللهِ ورسوله: هو Reginald de chatllon المعروف عند المؤرخين بـ "أرناط صاحب الكَرَك"، شيطانٌ من أكابرِ مُجرِمِي وشياطينِ الإنس، أراد في سَنة 577 هـ أن يقصدَ "تيماء" وهي دهليز المدينة النبوية، وحَدثَتْه نفسُه الخبيثةُ بذلك، فما زال نائبُ دمشق ابن أخي السلطان صلاح الدين الأيوبي "عز الدين مُزَّخشاه" في مقابلته حتى نَقَصَ اللعينُ على عَقِبَيْه ذليلاً، ولم تجِدْ إلى ما حَدَّثته به نفسُه سبيلاً، وكَتَب السلطانُ صلاح الدين الأيوبي إلى الخليفة ببغداد باللفظ العِمِادي: "وابنُ أخينا غائبٌ في أقصي بلادِ الفرنج في أولَ بريَةِ الحجاز، فإنَّ طاغيةً منهم جَمَع خَيْلَه ورَجْلَه، وحدَّثته نفسُه الخبيثةُ ¬

_ (¬1) "الاتجاهات الوطنية" للدكتور محمد محمد حسين (ص 321)، ونقل ذلك عنه جلال العالم في كتابه "قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدوا أهله" (ص 60 - 61) -مكتبة ابن تيمية- القاهرة.

بقصد "تيْماء"، وهي دِهيلزُ المدينة -على ساكنها السلام-، واغتَنَم كونَ البريةِ مُعْشِبَةً مُخْصِبةً في هذا العام. والعجبُ أنَّا نُحامِي عن قبرِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، مشتغِلِين بهَمّه، والمذكورُ -يعني صاحبَ المَوْصل- يُنازعُ في ولايةِ هي لنا ليأخذَها بيَدِ ظُلمِهِ .. " (¬1). ° وفي سنة 578 هـ كتب أبو شامة في "عيون الروضتين" فصل "في أخذ الفرنج السَّالكين لقَصدِ الحجاز": "قال العماد: وفي شوَّال سنة ثمانٍ وسبعين كانت نُصرةُ الأسطولِ المتوجهِ إلى "بحر القُلْزمُ" (¬2)، والمُقدَّم فيه الحاجبُ "حسام الدين لؤلؤ" لطلب الفرنجِ السالكينَ بَحرَ الحجاز؛ وذلك أن الإبرنس -أرناط- صاحب الكَرَك لَمَّا صعُب عليه ما توالي عليه من نكايةِ أصحابنا المقيمين بقلعةِ "أَيْلَة" -وهي في وَسَط البحر، لا سبيل عليها لأهل الكفر-، وأفكر في أسبابِ احتياله، وفَتَح أبوابَ اغتياله، فبَنَي سُفُنًا، ونَقَل أخشابَها على الجِمالِ إلى الساحل، ثم ركَّب المراكب، وشَحَنها بالرجال وآلاتِ القتال؛ ووقَّف منها مركبينِ على جزيرة القلعة، فمَنَع أهلَها من استقاءِ الماء، ومضى الباقون في مراكبَ نحوَ "عَيْذَاب"، فقطعوا طريقَ التجَّار، وشَرَعوا في القتلِ والنَّهْبِ والإسار، ثم توجهوا إلى أرضِ الحجاز، فتعذَّر على الناسِ وجهُ الاحتراز، فعَظُمَ النبلاء، وأعضَل الدَّاء، وأشرفَ أهلُ المدينةِ النبوية منهم على خطَر، ووَصَل الخبرُ إلى مصرَ وبها ¬

_ (¬1) كتاب "عيون الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" (3/ 82، 83) لأبي شامة- مؤسسة الرسالة. (¬2) هو البحر الأحمر.

"العادلُ" أخو السلطان، فأمر الحاجبَ "حسامَ الدين لؤلؤ"، فعَمَر في بحر القُلْزُم مراكبَ بالرجال البحريَّة، ذَوِي التجربةِ من أهل النَّخْوة للدين والحَميَّة، وسار إلى أَيْلَة، فظَفِر بالمركبِ الفِرنجي عندها، فخرق السفينة وأخذ جُنْدها، ثم عدَّى إلى "عَيْذَاب"، وشاهَدَ بأهلها العذاب، ودُل على مراكبِ العدوِّ فتبِعها، فوقع بها بعدَ أيامٍ، فأوقع بها وواقعها، وأطَلَق المأسورِينَ من التجَّار، ورَدَّ عليهم كل ما أُخِذ لهم، ثم صَعِد إلى البَر، فوَجَد أعرابًا قد نزلوا منه شِعابًا، فركِبَ خَيْلَهم وراءَ الهاربين، وكانوا في أرضِ تلك الطُرق ضارِبينَ، فحَصَرهم في شِعْبٍ لا ماءَ فيه، فأسَرهم بِأسْرِهم، وكان ذلك في أشهُرِ الحج، فَسَاقَ منهم أسيرَيْن إلى "مِنى" كما يُساق الهَدي، وعاد إلى القاهرة ومعه الأُسارى، فكتب السلطانُ إليه بضربِ رقابِهم وقطع أسبابهم، بحيثُ لا تَبقَي منهم عَينٌ تطرِف، ولا أحدٌ يَخْبُرُ طريقَ ذلك البحرِ أو يَعْرف" (¬1). حَبَّذَا لؤلؤٌ يصيدُ الأعادي ... وسِوَاهُ من اللآلي يُصادُ ° وفي كتاب آخَرَ إلى بغداد: "كان الفِرْنج قد رَكبوا من الأَمْر نُكْرًا، وافتضوا من البحر بِكْرًا، وعَمَّروا مراكبَ حربيَّةً شحنوها بالمقاتِلة والأسلحة والأزواد، وضربوا بها سواحلَ اليمن والحجاز، وأثخنوا وأوْغلوا في البلاد، واشتدَّت مخافة أهل تلك الجوانب، بل أهلُ القبلةِ لِمَا أومَضَ إليهم مِن خَلَل العواقب، وما ظَنَّ المسلمون إلاَّ أنَّها الساعة، وقد نُشِرَ مَطوِيُّ أشراطِها، والدنيا قد طُوِي مَنشورُ بِساطها، وانتظرَ غضبُ الله لفناءِ بيتِه ¬

_ (¬1) "عيون الروضتيْن" (3/ 133 - 135).

المحَرَّم، ومقام خليلِه الأكرم، وتراثِ أنبيائِه الأقدم، وضَريح نبيه الأعظم - صلى الله عليه وسلم -، ورَجَوا أن تَشْحَذَ البصائرَ آيةٌ كآيةِ هذا البيت، إذ قَصَده أصحاب الفيل، ووَكَلوا إلى الله الأمر، وكان حَسْبَهم ونعمَ الوكيل. وأما السائرةُ إلى بحر الحجاز، فتمادتْ في الساحل الحجازي إلى "رابغ" إلى سواحل "الحوراء" (¬1)، فأخذت تجَّارًا، وأخافتْ رِفاقًا، ودَلَّها على عَوْراتِ البلاد من الأعرابِ من هو أشدُّ كفرًا ونفاقًا، وهناك وَقَع عليها أصحابُنا وأُخذت المراكبُ بأسرها، وفَرَّ فِرنجُها بعدَ إسلام المراكب، وسَلَكوا في الجبالِ مهاوِيَ المهالك، ومعاطِنَ المعاطب، ورَكِبَ أصحابُنا وراءَهم خَيلَ العربِ يَشُلُّونهم شلاًّ، ويقتنِصونهم أسرًا وقتلاً، وما زالوا يتبعونهم خمسةَ أيامٍ خيْلاً ورَجْلاً، ونهارًا وليلاً، حتى لم يتركوا عنهم مُخبرًا , ولم يُبقوا لهم أثرًا، {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر: 71]، وقُيِّد منهم إلى مصر مئةٌ وسبعون أُسرَا" (¬2). ° قال الذهبيُّ عن بطل هذه المعركة "حسام الدين العادلي": "لؤلؤ العادلي الحاجب بَطلٌ من أبطالِ الإسلام، وهو كان المندوبَ لحرب فرنج الكَرَك الذين ساروا لأخذِ "طَيبة"، أوْ فرنج سواهم، ساروا في البحر المالح، فلم يَسِرْ "لؤلؤ" إلاَّ ومعه قيودٌ بعددهم، فأدركهم عند "الفحلتيْن"، فأحاط بهم، فسلَّموا نفوسهم، فقيَّدهم، وكانوا أكثَرَ من ثلاثِمئةِ مقاتل، وأقبل بهم ¬

_ (¬1) الحوراء: كورة من كور مصر القِبليّة في آخر حدودها من جهة الحجاز، وهي على البحر في شرقي القُلْزُم "البحر الأحمر". انظر "معجم البلدان" (2/ 316). (¬2) "عيون الروضتين" (3/ 139، 140 - 141).

"قولوا لمحمد: لم لم يخلصكم؟! "

إلى القاهرة، فكان يومًا مشهودًا" (¬1). ° وقال الذهبي أيضًا: "وقيل: إن الملاعين التجؤوا منه إلى جبل، فترجَّل وصَعِد إليهم في تِسعةِ أجناد، فأُلقي في قلوبهم الرُّعْب، وطَلبوا منه الأمان، وقُتلوا بمصر، تولَّي قَتْلَهم العلماءُ والصالحون" (¬2). * "قولوا لمحمدٍ: لِمَ لَمْ يُخَلِّصكُمْ؟! ": في سنة 582 هـ عَبَر "بالشوبك" قَفْلٌ من الديار المصرية في حالةِ الصُّلح مع أرناط برنس الكَرَك، فنزلوا عنده بالأمان، فغَدَر بهم وقَتَلهم، فناشَدوه اللهَ والصلحَ الذي بينه وبين المسلمين، فقال ما يتضمَّنُ الاستخفافَ بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "قولوا لمحمد: لِمَ لم يُخلِّصكم؟! "، وبلغ ذلك السلطانَ -صلاح الدين -رحمه الله-، فحمَلَه الدينُ والحَمِيَّة على أنه نذر إنْ ظَفِر به قَتَله (¬3). ° قال أبو شامة في "عيون الرَّوْضتَيْن": "كان إبرنسُ "الكَرَك" أَغْدَر الفرنجيَّة وأخبَثَها، وأفحَصَها عن الرديِّ والرَّداءة وأبْحَثها، وأنقضَها للمواثيقِ المُحْكَمةِ والأيمانِ المبرَمة وأنكثَها وأحنثَها، ومعه شِرْذِمةٌ لها شَرُّ ذِمَّة، وهي مِن شرِّ أمة، وهم على طريقِ الحجاز، ومِن نَهج الحجّ على المجاز، وكُنَّا في كلّ سنةٍ نغزوه، وبالبوائقِ نَعرُوه، ويصيبه منَّا المكروه، فأظهر أنه على الهُدْنة، وجَنَح للسَّلْم، وأخذ الأمانَ لبلدِه وأهلِه وقومِه ¬

_ (¬1) "سير أعلام النبلاء" (21/ 384 - 385). (¬2) "السير" (21/ 385). (¬3) "عيون الروضتين" (ص 3/ 296).

ها أنا أنتصر لمحمد - صلى الله عليه وسلم -

ورُوحِه، وبَقِيَ الأمنُ له شاملاً، والقُفْلُ من مصرَ في طريقِ بلدِه متواصلاً، وهو يَمكُسُ الجائي والذاهب، حتى لاحتْ له فرصةٌ في الغَدْر، فقَطَع الطريق، وأخاف السبيل، ووَقَع في قافلةٍ ثقيلة، معها نَعَمٌ جليلة، فأخذها بأسْرِها، وكان معها جَماعةٌ من الأجناد، فأوقعهم في الشَّرَك، وحَمَلَهم إلى الكَرَك، وأخَذَ خَيْلَهم والعُدَّة، وسامَهم الشدَّ والشدَّة، فأرسلنا إليه، وذَمَمْنا فِعَالَه، وقَبَّحْنا احتيالَه واغتيالَه، فأبَى إلاَّ الإصرارَ والإضرار، فنَذَر السلطانُ دَمَه، ووفَّى في إراقةِ دمه بما التزمه، وذلك في السنَة الآتية". * ها أنا أنتصرُ لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: ° ففي سنةِ ثلاثٍ وثمانين وخَمْسِمئة (583) وهي السنةُ الحَسَنَةُ المُحْسنة كانت كَسْرَة "حِطِّين"، وفيها أسَرَ صلاحُ الدين جميعَ ملوكِ الفِرنجة سوى "قومس" طرابلس، فإنه انهزم في أول المعركة. ° قال أبو شامة في "عيون الروضتين": "جلس السلطانُ لِعَرضِ أكابرِ الأسارى وهم يتهادَون في القيود تَهادِي السُّكارى، فقُدم بدايةً مقدَّم "الدَّاوية"، وعِدَّةٌ كثيرةٌ منهم، ومن الإسبتاريةِ، وأُحضِر المَلِكُ "كي" وأخوه "جفري"، و"أوك" صاحب جُبيل، و"هنفري"، والإبرنس "أرناط" صاحب الكَرَك، وهو أوَّل مَن وقعِ في الشَّرَك، وكان السلطانُ قد نَذَر دَمَه، وقال: "لأعجِّلَنَّ عند وِجْدانه عَدَمه". فلمَّا حضر بين يديْه، أجلسه إلى جَنب المَلِكِ والمَلِكُ بجنْبه، وقرَّعه على عذرِه، وذَكَّره بذَنبه، وقال له: كم تَحْلْفُ وتَحْنَث، وتعهَدُ وتنكُث، وتُبرِمُ الميثاقَ وتَنقُض، وتُقْبِلُ على الوِفاقِ ثم تُعْرِض؟!. فقال الترجمان عنه: إنه يقول: قدْ جَرَت بذلك عادةُ الملوك، وما

سَلَكْتُ غيرَ السنَن المسلوك. وكان المَلِكُ يَلهَثُ ظمأ، ويَمِيلُ مِن سَكْرَةٍ الرُّعْب مُنْتَشِيَا، فآنَسَه السلطانُ وحاوره، وفثَأَ سَوْرَةَ الوَجَل الذي ساوَره، وسكَّن رُعْبَه، وأَمَّن قلبَه، وأَمَر له بماءٍ مَثلُوج فشَرِبه، وأطفأَ به لَهَبه، ثم ناول المَلِكُ الإبرنسَ القَدَح، فاستشفَّه، وبَرد به لَهْفَه، فقال السلطانُ للمَلِك: لَمْ تأخذ في سَقْيه مني إذْنًا، فلا يُوجبُ ذلك له مِني أَمْنًا، ثم ركب وخلاَّهُما، وبَنارِ الوَهَل (¬1) أصْلاَهُما ,ولم ينزلْ إلى أن ضُرِب سُرَادقُه، ورَكزَت أعلامُه وبَيَارقُه، وعادت إلى الحِمَي عن الحَوْمهِ فَيَالِقُه. فلمَّا دَخَل سُرَادقَه استَحضَرَ الإبرنسَ، فقام إليه، وتلقَّاه بالسَّيف، فَحَل عاتقَه، وحين صُرع أمرَ برأسِه فَقُطع، وجُرَّ برِجلِه قُدَّامَ المَلِكِ حين أخرج، فارتاع المَلِكُ وانزَعَج، فعَرَف السلطانُ أنه خامَرَه الفَزَع، وساوَرَه الهَلَع، وسَامَرَه الجَزَع، فاستدعاه واستَدْناه، وأَمَّنه وطمَّنه، ومكَّنَه من قُرْبهِ وسَكَّنه، وقال له: ذاك رداءتُه أَرْدَتْه، وغَدْرته كما تراه غادَرَتْه، وقد هلك بِغيه وبَغْيِه، ونبا زَنْدُ حياتِه وَوِرْدُها عن رِيه ووَرْيه" (¬2). ° وقال أبو شامة أيضًا: "لَمَّا فَتَح اللهُ عليه بالنصر والظَفَر، جَلَس في دِهليز الخيْمة؛ فإنها لم تكُنْ نُصبتْ بعدُ، والناسُ يتقرَّبون إليه بالأُسارى وبمن وَجدوه من المتقدِّمين، ونُصِبت الخَيمةُ، وجَلَس فَرِحًا مسرورًا، وشاكرًا لِمَا أنعَمَ اللهُ به عليه، ثم استَحَضَر الملك "جفري" وأخاه والبرنس ¬

_ (¬1) الوَهَل: الفَزَع. (¬2) "عيون الروضتين" (3/ 288 - 289).

"أرناط"، وناوَلَ المَلِكَ شَرْبةً من حُلابٍ مُبَرَّد بثلج، فشَرِب منها، وكان على أشدِّ حالٍ من العَطَش، ثم ناول بعضَها البرنس، فقال السلطانُ للتَّرجُمان: قُلْ للمَلِك: أنتَ الذي سَقَيْتَه وإلاَّ أنا ما سَقَيتُه، وكان على جميل عادةِ العرب وكريم أخلاقِهم أن الأسيرَ إذا أَكَل أو شَرِب من مالِ مَن أسَرَه أَمِن، فقَصَد السلطانُ بذلك الجرْيَ على مكارم الأخلاق. وأُقعِد المَلِكُ في الدِّهليز، واستُحضر البرنس، ووافقه على ما قال، ثم قال له:" ها أنا أنتصرُ لمحمد - صلى الله عليه وسلم - " (¬1)، ثم عَرَض عليه الإسلامِ، فلم يَفْعل، فقام إليه وسَلَّ المِجنَّاةَ وضربه بها، فَحَلَّ كَتِفه، وتمم عليه مَن حضَر، ثم رُمي على باب الخيمة" (¬2). ° ومن كتابٍ للقاضي الفاضل: "فأُخِذ الملكُ أسيرًا، {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 26]، وأُسِر الإبرنسُ -لعنه الله-، فحُصِدَ بذْرُه، وقَتَله الخادم -يعني السلطانَ صلاحَ الدين- بيده، ووفَّى بذلك نَذْرَه". ° ولله درُّ القائل: وأنجَزَ اللهُ للسُّلطانِ مَوْعِدَه ... ونَذْرَه في كَفُورٍ دِينُهُ البَطَرُ وعايَنَ المَلِكُ الإبرنسَ في دَمِه ... فمات حَيًّا وحَيًّا وهْو يعتذِرُ (¬3) ° والقائل: ألمْ تَرَ للسلطانِ صُدِّق نَذْرُهُ ... دَم الغادرِ الإبرنسِ فاقتيد أربَدَا ¬

_ (¬1) وفي "البداية والنهاية": "نعم أنا أنوب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الانتصار لأمته". (¬2) "عيون الروضتين" (3/ 313). (¬3) المصدر السابق (3/ 406).

وباشرَهُ بالقتلِ وَسْطَ خِبائه ... وعاينه الكند المليك فأرعدا (¬1) ° وقال العمادُ -رحمه الله-: يا طُهْرَ سيفِ بَرَى رأسَ البرنسِ فقد ... أصاب أعظم من بالشرك قد نجُسا وغاص إِذ طار ذاك الرأسُ في دَمَهِ ... كأنه ضفدعٌ في الماء قد غطسا ما زال يَعْطُسُ مَزْكُومًا بغَدْرَتِه ... والقتل تشميت من بالغدر قد عطشا عرَّى ظُباه مِنَ الأغمادِ مُهْرَقَةً ... دمًا من الشرك ردَّاها به وكسَا (¬2) ° وقال العمادُ أيضًا: شكَا يَبَسًا رأسُ البِرْنسِ الذي به ... تندي حسامٌ حاسمٌ ذلك اليُبسا حَسَا دَمَه ماضي الغِرارِ (¬3) لِغَدْرِه ... وما كان لولا غدره دمُهُ يحسَي فلله ما أهْدَى يَدًا فَتكَتْ بِهِ ... وأطهر سيفًا معدمًا رجسَه النَّجسا نَسَفْتَ به رَأسَ البرنسِ بِضَرْبَةٍ ... فأشبه راسي رأسه العهن (¬4) والبرسا (¬5) تَبوَّغَ (¬6) في أَوْدَاجِه دَمُ بَغْيِه ... فصال عليه السيف يلحسُه لحسا ¬

_ (¬1) المصدر السابق (3/ 408). (¬2) "عيون الروضتيْن" (3/ 301). (¬3) الغرار: حَدُّ السيف. (¬4) العهن: الصوف. (¬5) البِرس: بكسر الباء وضمها: القطن. (¬6) تبوَّغ به الدم: هاج به، وذلك حين تظهر حمرته في البدن .. انظر "لسان العرب" (بوغ- بيغ).

السير وليم موير (1819 - 1905)

بَعَثْتَ أمام أُمةِ النَّار نحوَها ... إمامَهُمُ أرناطَها ذلك الجِبْسَا (¬1) (¬2) * السِّير وليم موير (1819 - 1905): السير "وليم موير" مستشرقٌ أسكتلندي، عَمِل في الهند، ثم اختِير رئيسًا لجامعة "أَدِنْبَره"، ومن مؤلَّفاته "حياة محمد" في أربعةِ أجزاء، وقد صَدَر في لندن من 1858 حتى 1861. وهو -على الرغم من أرثوذوكسيته الإنجليزية- فإنه قد اكتَسَب خلالَ دراسته تعاطُفًا مُعيَّنًا لرجل (يقصد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، ظَهَر أنه كان ضحيَّةَ للشيطان" (¬3). أو أن محمدًا كان أداةً من أدواتِ الشيطان، ولكنه مع ذلك اعترف بأن هذا الشيطانَ قد ظَهر لمحمدٍ في صورةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ومحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - ليس في حاجةٍ إلى مِثل هذا التعاطُفِ المردودِ على صاحبه، وقد سَبَق لمشرِكي مكةَ أنْ زَعَموا أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - به مَسٌّ من الجن، فلا جديدَ في زَعم "موير"، فهو ترديدٌ من كافر لمزاعمَ قديمةٍ في صورةٍ أُخرَى. * ثيوفانس Theophanes البريطاني: كاتبٌ دجَّالُ بريطانيٌّ، تولَّى كِبْرَ اتهام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصرع، وهو أولُ ¬

_ (¬1) الجبس: الجبان الضعيف اللئيم .. انظر "اللسان" (جبس). (¬2) "عيون الروضتين" (3/ 303). (¬3) "الإسلام في تصورات الغرب" (ص 91 - 92). (¬4) المصدر السابق (ص 171).

اشبرنجر ( sprenger)

منَ أذاع في الغربِ "أسطورةَ الصَّرَع" انظر (ص 522) مِنْ Hand woer terbuch des Islam) وقد كان الكُتَابُ البريطانيون هم المصدرُ الوحيدُ الذي تلقي منه الغربُ معلوماتِه الأولى عن الإسلام، وإليهم تَرجعُ أغلبُ الأساطيرِ التي شاعَت في الغرب حولَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في العصورِ الوسطي (¬1). * اشبرنجر ( sprenger) : لويس اشبرنجر (1813 - 1893) مستشرقٌ نمساويُّ الأصل، تجنس بالجنسية البريطانية عام 1838، عَمِل في الهند، ثم عَمِل أستاذًا للغات الشرقية في جامعة "بِرن" بسويسرا، ومن مؤلَّفاته "حياة محمد" في ثلاثة أجزاء، وقد صَدَر الجزءُ الأول في "الله آباد" عام 1851 بالإنجليزية، ثم صدرت الأجزاءُ الثلاثةُ بالألمانية في "برلين" من 1861 حتى 1865، وأُعيد طبعُه عام 1869. ويُعلِّقُ المستشرقُ الألماني المعاصرُ "رودي بارت" على كِتاب اشبرنجر "حياة محمد" بأنه كتابٌ جاء مُخيبًا للآمال في أكثرَ من ناحية، وأنه لم يُراع شروطَ ومتطلَّباتِ التقريرِ العلمي (¬2). ° في هذا الكتابِ "حياة محمد وتعاليمه" يَخلُصُ "اشبرنجر" الأفَاكُ الأثيمُ إلى الاقتناع -كما يدَّعي- بأن محمدًا كان "إنسانًا هستيريًّا"، وقد نَقَد "فيلهاوزن" في كتابه "محمد في المدينة" (ص 20) وما بعدها آراءَ "اشبرنجر". ¬

_ (¬1) انظر "الإسلام في تصوّرات الغرب" (ص 93). (¬2) انظر "الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية" لبارت ترجمة مصطفي ماهر (ص 23).

وما قاله "اشبرنجر" ودجَّالو المستشرقين من أنَّ ظاهرةَ الوحي للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لم تكن إلاَّ نَوْباتٍ من الصرع تَعتريه، أو ما يقولُه "اشبرنجر" من أنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كان مصابًا بالهستيريا، فهذه مزاعُم قَذِرةٌ كلُّها تَكمُنُ في محاولةِ استبعادِ القولِ بنبوَّتِه وإنكارِ تلقِّيه الوحيَ من عند الله، وما دام هذا هو الموقف المبدئي لهذه المزاعِم، فلن يستطيعَ القائلون بها فَهمَ ظاهرةِ الوحي، ولو طَبقْنا هذه المزاعمَ على جميع الأنبياءِ والمرسَلين لأَبْطَلْنا الأديانَ السماويةَ جميعًا. وهذا الموقفُ ليس أمرًا جديدًا، فقد سَبَق لمشركي مكةَ أن اتَّخذوا موقفًا مماثلاً من محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، كما اتخذ المعانِدون من أقوامِ الأنبياء السابقين مواقفَ مشابهة، والقرآنُ نفسُه يُخبرُنا أن محمدًا عليه الصلاة والسلام- والمرسَلين مِن قبلِه- قد وُجِّهت إليهم تُهمةُ الجنون من أقوامهم. * ومن ذلك قوله تعالى حكايته عنهم: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)} [الحجر: 6]. * وقوله: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)} [الذاريات: 52]. * وقوله: {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)} [الدخان: 14]. * وقوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)} [القمر: 9]. ولسنا هنا في حاجةِ إلى مناقشةٍ مستفيضةٍ لأسطورَتَي "الصرع والهستيريا"، فكل مَن يعرفُ أعراضَ هذين المَرَضَينِ وما لهما من آثارٍ في

أساطير العصر الوسيط في الغرب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

شخصيةِ المصابِ بأيٍّ منهما، ويَعرفُ السيرةَ الصحيحةَ لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، يَعرفُ حتمًا أن هذه المزاعمَ لَغوٌ باطلٌ وافتراءٌ كاذبٌ لا يستحقُّ أن يأخذَه المرءُ مأخَذَ الجِدِّ. وقد أساء المستشرقون -عن جَهل أو عن عَمدٍ- فَهْمَ الظواهر التي كانت تُصاحبُ الوحيَ عند نزوله على النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنه -كما يقول الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - نفسه- كان يأتيه مِثلَ صَلصلةِ الجَرَس، وكما تقولُ عائشة - رضي الله عنها -: "رأيتُه يَنزلُ عليه الوحيُ في اليوم الشديدِ البَرْدِ، فيَفصِمُ عنه وإن جَبينَه لَيتفصَّدُ عَرَقًا"، كما روى ذلك البخاري في "صحيحه" في حديثٍ مشهور (¬1). * أساطيرُ العصرِ الوسيط في الغرب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ° أسخفُ التصوُّراتِ الجنونيَّة، وأخبثُ الافتراءات سَوَّدَتْها أقلامُ الغربِ الكافر في العصر الوسيط عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ولله درُّ القائل: والحق أبلجُ لو يَبغُونُ رؤيتَه ... هيهات يُبْصِرُ مَن في ناظِرَيْه عَمَى وصرخةُ الحق تأباها مَسَامعُهم ... مَن يسمع الحق منهم يَشتكي الصَّمَمَا محمدٌ سيِّدُ البَشر - صلى الله عليه وسلم - يَصِفُونه بأقبح الصفات، وهو النورُ الذي أضاء بهَديه وبقرآنه جَنَباتُ الكون، {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)} [المائدة: 15]. . والنورُ هو محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - كما قال الطبري شيخ المفسرين. أشرق النور .. هَلَّ النور .. سَطَع النور .. بَزَغَ النور .. بَثَق النور .. بَرِقَ النور .. أبرَقَ النور .. أضاء النور .. فاض النور .. بَدَا النور .. اتَّسَع النور .. تأَلَّق ¬

_ (¬1) "الإسلام في تصوُّرات الغرب" (ص 93).

اليهودي الأسباني المتنصر بتروس ألفونسوس

النور .. أَلِقَ النور .. ائتَلَق النور .. تلألأ النور .. ظَهَر النور .. بَهَر النور .. لَمَع النور .. طَلَع النور .. أبلَجَ النور .. ازدَهَر النور .. زَهَا النور .. أزهَرَ النور .. سَفَر النور .. أسفَرَ النور .. انتَشَر النور .. أومَضَ النور .. سَنَا النور .. انفَجَر النور .. تهاطَل النور .. هيَطَل النور .. نَبَع النور .. شَفَا نورَ القلبِ والروح والجسد، وأزال عن البشريةِ آلامَها وكُدورَها، وأبرأَ جِراحَها .. عندما أتى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - برسالته العظيمة. ولكنَّ خنازيرَ أوروبا وكلابَ الغَرب المسعورةَ يأتون بأقبح الأقوالِ وأسمج الأساطير عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)} [الكهف: 5] أسطِّرُ ذلك والقلبُ ينفطرُ ألمًا وحياءً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. أُسطِّرُ ذلك إقامة للحجَّةِ على صِبيان الغرب .. الأغبياءِ الأقزام الذين يسيرون في فَلَك الغرب، ويردِّدون كالببَّغاوات مقالتَهم .. ويَدَّعون أنهم لا يعرفون هذا الجانبَ القبيحَ المظلِمَ عن معتقداتِ الغربِ عن - صلى الله عليه وسلم - وافتراءاتِهم عليه. * اليهوديُّ الأسبانيُّ المتنصِّر بتروس ألفونسوس: حاوَلَ هذا اللئيمُ نقضَ القرآن في بدايةِ القرنِ الحادي عَشَر، وألَّف كتابًا بعنوان: " Forta litium fidei". * الأب بطرس "الموقر" بل "الأحقر" وأباطيله: يُسمونه "الموقر"، وهذه جريمةٌ في حقِّ التاريخ، بل هو "الأحقر، والمُضلِّل، والكذَّاب، والدجَّال"، ولا يبقى مكانٌ أبدًا لدى عاقلٍ بوَصفه بالتوقير والاحترام، بل هو الذي ازداد كُفرًا فوقَ كُفرِه بتطاوُلِه الفجِّ القَذِر

على أطهرِ مَن مَشَى على الأرضِ - صلى الله عليه وسلم -. بطرس الموقر (1094 - 1156) هذا راهبٌ فِرنسيٌّ، ينتمي إلى "جماعةِ الرهبانية البندكتية" التي شَيَّدت "ديركلوني" عام 910 في فرنسا، وكان بطرسُ رئيسًا لرهبان "كلوني". وقد عَمِل "بطرس" في البداية على إنجازِ ترجمةٍ للقرآن إلى اللغةِ اللاتينية، وتمَّت هذه الترجمة عام 1143م على يد العالم الإنجليزي "روبرت أوف كيتون" بإيعازٍ من بطرس الموقَّر، وبالإضافةِ إلى ذلك أَمَر بترجمةِ كتابيْن آخريْن، أحدهما عن سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والثاني عَرضٌ للنقاط الأساسية في تعاليم العقيدة المحمدية في شكل حوار. وأخيرًا قام بتاليفِ أربعةِ كتبٍ "ضدَّ الزندقة البغيضة لطائفة المسلمين"، وهذه الأعمالُ التي قام بها هذا "الرجلُ الكلوني" المتحمِّس لا تَرسمُ مجردَ بدايةِ الجَدَلِ الأوروبي ضدَّ الإسلام فحسب، بل أصبَحَتِ المصدَرَ الرئيسي أيضًا للتصوَّرات غيرِ المعقولةِ التي صارت فيما بعدُ مألوفةَ لدى المسيحيين عن حياةِ محمدٍ وتعاليمه، وإلي مؤلَفات "بطرس الموقر" ترجعُ غالبيةُ المؤلَفات الجَدَليةِ العديدةِ التي نشأت في العصر الوسيط ضدَّ الإسلامِ، سواءٌ أكانت نثرًا، أو في شكل شِعريٍّ، أو في صيغةِ أخبارٍ وتقارير حَولَ المناقشاتِ التي جَرَت -زعمًا كان ذلك أو حقيقةً- بين رجالِ الدينِ المسيحيين والمحمَّديين، وفي هذه المناقشاتِ يَظهرُ محمد ليس فقط نبيًّا زائفًا ومضلِّلاً، وإنما أيضًا محتالاً وَضيعًا ومِن عُشَّاق اللذة (¬1). ¬

_ (¬1) "الإسلام في تصورات الغرب" (ص 117).

تيوفانس البيزنطي" Theophanes"

° "ومِن بين التصوُّراتِ التي كانت منتشرةً بصفةٍ خاصةٍ: القولُ بأن المحمَّديِّين لم يكونوا يُجلُّون محمدًا لمجرَّدِ كونِه نبيَّهم ومؤسِّس دينِهم، بل كانوا يَعبُدونه بوصفِه يُمثِّلُ الالوهية، وبالإضافة إلى ذلك وُصفَ دين محمدٍ -على النقيضِ تمامًا من الحقيقة التاريخية- بأنه دين الشِّرك وتعدُّدِ الألوهية. وقد اتُّهم المحمَّديون أيضًا -دون سَندٍ تاريخيٍّ- بأنهم يمارِسون عبادةَ التماثيل بطريقةٍ فَظَّة، وكذلك كان المَرءُ يَهْزأ من أُميةِ النبيِّ، ويَسخرُ من الراعي السابق للأبل والحمير" (¬1) -كما يقول "بفانموللر"-. * تيوفانس البيزنطي" Theophanes": صاحبُ أقدم التقاريرِ التاريخية عن نشأةِ الإسلام، وقد عَرَضه أمينُ المكتبة الروماني "أناستاسيوس" في كتابه عن تاريخ الكنيسة، وإلي هذا التقريرِ ترجعُ غالبيةُ الأساطير التي قِيلت عن محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في العصر الوسيط. وبعد ذلك قَدَّمت الحَمَلاتُ الصليبيةُ دافعًا جديدًا، ومِن هنا اتَّخذت صورةُ محمدٍ باستمرارِ لونًا أشنَّعَ مِن ذي قبل، وعُرضت باستمرارٍ بصورةٍ أكثرَ فظاعة، ويُقدِّمُ لنا أولاً "جيبير النوجنتي Guibert de nogent Sous Coucy" صورةً شاملةً، وكثيرًا ما عُرضت أسطورةُ محمدٍ أيضًا في صورٍ شِعرية، وهكذا قام "هيلديبرت" المنتسب إلى "ليمو Lemans " والذي كان ¬

_ (¬1) لا يضير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يقوله عنه أوباش الغرب، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم" رواه البخاري.

دانكونا D.ancona

فيما بعدُ رئيسًا لأساقفةِ "تور Tours " ( تُوفي عام 1133 م) قام بكتابةِ تاريخ محمدٍ في صورةٍ شعريةٍ معينةٍ ( Distichen) تتضمَنُ ذكرياتٍ كلاسيكية، وقد ظَهرت فيما بعدُ قصيدةٌ مشابِهة، وهي "أساطير محمد لدى فالتيري" ( Otia Walteri de Mahomet) وعلى هذه القصيدةُ اللاتينيةُ تعتمدُ اعتمادًا تامًّا "رواية محمد" ( Roman de Mahomet) التي كتبها "الكسندر دو بون" du pont، وفي العَرضِ الذي قدمه لنا "أندريا داندولو الفينيسي Andrea Den dolo" تتجمعُ عناصرُ الأساطيرِ البيزنطية عن محمد، مع الاختراعاتِ التي يجبُ أن توضَعَ على حسابِ خيالِ المحارِبين الصليبيين، وعلى حسابِ قادتِهم الروحيين. ونحن نجدُ التجميعَ الكاملَ لكل ما يتعلَّقُ بمحمدٍ من أساطيرَ وخرافاتٍ ومخترعاتٍ افترائيةٍ للعصر المسيحي الوسيطِ في كتاب "فينسينز Vincenz" المنتسب إلى "بوفيه Beauvais" والمسمى" المرآة التاريخية Speculum historiale (¬1) . * دانكونا D.ancona: له بحث نُشِر في العدد رقم (13) من المجلة التاريخية للآداب الإيطالية بعنوان "أسطورة محمد في الغرب"، ويرسمُ الكاتبُ صورةً لأسطورة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في الغرب، ويتناولُ "دانكونا" على وجهِ الخصوصِ التأثيرات المسيحيةِ على محمدٍ (الراهب بحيرَى)، والأخبار المختلفة حولَ وفاةِ محمدٍ، ويبين "دانكونا" الوحدةَ المميزةَ لهذه الأساطيرِ منذ زمنِ المؤرِّخ ¬

_ (¬1) "الإسلام في تصورات الغرب" (ص 118 - 119).

البيزنطي "تيوفانس Theophanus"، وطِبقًا لهذه الأساطير يَظهرُ محمدٌ على أنه "زنديق"، وأنه "آريوس" جديد أسوأ من "أريوس الأول" (¬1). ¬

_ (¬1) آريوس (270 - 336 م) وُلد في الاسكندرية، وكان قسيسًا بها، وقد عارَضَ أسقفَ الإسكندرية الذي كان يذهب إلى القول بأن المسيحَ ابن الله وأنه مساوٍ للآب وأنَّ له طبيعة وذاتًا واحدةً مع الآب، وقد ذهب آريوس إلى القول بأن المسيحَ غيرُ مساوٍ للآب فيِ الجَوهر والعظمة، وأنه مخلوقٌ بإرادة الأب حادثٌ غير أزلي .. إلخ. وقد تَبع آريوس كثيرون، وعندما طُرد من الإسكندرية خَرح قاصدًا فلسطين وسوريا، فتحزَّب له أساقفةٌ كثيرون في تلك الجهات، ولا سيَّما أسقف "قيصرية" وغيره من أساقفة بيروت وصُور واللاذقية وغيرها. وقد عُقدت عدة مجامعَ كنَسية لمناقشة تعاليمه، منها "مَجمع الإسكندرية" عام 319، و"مجمع نيقية" عام 325 بأمر الإمبراطور "قسطنطين"، و"مجمع القسطنطينية" عام 336، وعلى الرغم من أن الغَلَبةَ في النهاية استقرت لآراءِ مخالفيه الذي جَعلوا من المسيح إلهًا وقالوا بالتثليث، فإن تعاليمَه قد انتَشرت بعد موتِه أكثرَ مما انتَشَرت في حياته، واعتَنق الملكُ "قسطنس" خليفة "قسطنطين" آراء آريوس، وقد أمَرَ "قسطنس" بعَقد "مجمع" في مديولان "ميلان" حَضَره أكثرُ من ثلاثمئةِ أسقف، وتبيَّن أن أكثريةَ الآراءِ فيه كانت للآريوسيين، وقد بَقِيت التعاليمُ الآريوسيةُ ممتدَةَ في أسبانيا والولاياتِ الجِرمانية أكثرَ من ثلاثة قرون. ولكن عندما وَقع الانشقاقُ بين الآريوسيين وانقَسموا إلى فِرَقٍ عديدةِ ضَعُفت قوتهم، وتمكن منهم خصومُهم، وفي أيام "ثيودوسيوس الثاني"صَدَر الأمرُ باستئصالِ الآريوسيين وإبادتهم، وكان ذلك في عام 428 م، ويقال: إن "سرفتس" أحيا تعاليم الآريوسية في القرن السادس عشر، فذاعت هذه ب التعاليم، وسَببت إزعاجًا للكنيسة التي سارعت بالقضاء على معتنقيها (راجع "دائرة المعارف للبستاتي"). والأمرُ الجديرُ بالذكر هو أن الرأيَ الذي كان يقولُ به آريوس هو الرأيُ الذي يَعتبرُه القرآنُ الكريمُ العقيدةَ المسيحيةَ الصحيحةَ التي ترفضُ التثليثَ وترفضُ ألوهية المسيح، ومِن هنا جاء هذا الاتهامُ الموجهُ إلى محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -بأنه آريوس جديد؛ لأنه أكَّد بنص القرآنِ بشريةَ المسيح ورَفَض ما عدا ذلك من تعاليمَ مصط

ر. شرودر R.Schroeder

وأسطورتُه تَنهجُ نهجَ أسطورةِ الزنادقةِ الكَنَسِيين الكبار من أمثال "سيمون ماجوس S.Magus " أو " نيكولاوس Nikolaus". وتُضيف المولَّفاتُ الشعبيةُ إلى ذلك افتراءاتٍ شنيعةً، وأن محمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا حِيل بينه وبين مَنصبِ "البابوية" الذي يستحِقُّه، تَحوَّل إلى مُنشَق على الكنيسة، وهذه أسطورةٌ مضحِكةٌ لا تستحقُّ الوقوفَ عندها. ويُصبحُ محمد - صلى الله عليه وسلم - عند هؤلاء الأوباش مشابهًا لـ "نيكولاوس" و"بلاجيوس pelagins"، أجل، فالبعضُ كان يرى أنَّ الإسلام قد انبَثَق من النزاعاتِ الداخليةِ الخبيثةِ للكرادلة الرومانيين! وأخيرًا تبقي الأسطورةُ عند موت محمدٍ، مع إحساسٍ بنوع خاصٍّ من الغبطة، فالخنازيرُ قد التهمته وهو في حالة سُكر! ولهذا السبب أصبح أكلُ لحم الخنزيرِ محرمًا لدى المحمَّديين -أي: المسلمين- (¬1). هكذا يَروي أوباشُ الغرب وكتَّابُهم ومُفَكِّروهم بشَغفٍ قصةَ موتِ النبي محمدِ - صلى الله عليه وسلم - الذي يُرثى له، فالخنازيرُ قد وَجَدَتْه مخمورًا فوقَ كَومةٍ من القمامة فالتهمته!!!! (¬2) هكذا يزورون التاريخَ ويزيِّفونه .. وقد كان موتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أطيَبَ موتِ وأعطَرَه وأطهَرَه مثلما كانت حياتُه - صلى الله عليه وسلم -: قد تُنكِرُ العينُ ضوءَ الشمسِ من رَمَدٍ ... ويُنكر الفَمُ طَعْمَ الماءِ من سَقَم * ر. شرودر R.Schroeder: أما "ر. شرودر"، فإنه قد جَمَع الخطوطَ الرئيسيةَ لأسطورةِ محمدٍ في ¬

_ (¬1) "الإسلام في تصوُّرات الغرب" (ص 122). (¬2) المصدر السابق (ص 124).

العصر الوسيط، كما تتمثلُ في الشَّعر الفرنسي القديم، وذلك في كتابه الذي صَدَر بالألمانية عام 1886 بعنوان "العقيدة والخرافة في الأشعار الفرنسية". وحسبما وَرَد في هذا الشعر، فإن محمدًا وَحده هو صاحبُ نظرية التعدُّدِ في الألوهية بكامِلها، تلك النظريةُ التي يقولُ بها المسلمون، وفي الأساطير الشعبيةِ الأصيلةِ لا يَظهرُ محمدٌ أبدًا بوصفه "نبيًّا"، وإنما يَظهرُ باستمرار بوصفه "إلها"، وعلى وجهِ التحديد بوصفه أعظمَ وأقوى الآلهةِ الوثنية، وقبل أن يتحوَّل محمدٌ إلى هذا الاعتقادِ كان مسيحيًّا مؤمنًا، وكان هو نفسُه يؤمنُ بعقيدةِ "الخلاص" المسيحية. ويُعَدُّ محمد لدى الوثنيَّين (أي: المسلمين!!!) خالقَ هذا العالَم وحافظَه، وتَحدُثُ عبادتُه بطبيعة الحال في شَكِل عبادةِ التماثيل، هذا الشكلُ الذي اعتادَتْه جماعةُ المحمديين، وكما هو الحالُ مع إلهِ المسيحيين فإن محمدًا محاطٌ أيضًا في السماء بالقدَّسين، ومِثلما تُعَدُّ القُدسُ مدينةً مقدَّسةً بالنسبةِ للمسيحيين، فكذلك تُعدُّ مكةُ مدينةً مقدسةً بالنسبة للوثنيين، حيث يوجدُ داخلَ أسوارِها قَبرُ إلههم .. أما العيدُ الكبيرُ السنويُّ الذي يُقامُ لتمجيدِ محمدٍ، فيُوصَفُ بأنه يتوافقُ مع "عيدِ الفِصح". وأشدُّ التناقضاتِ بين المؤسَّسات المسيحية والوثنية تتمثَّلُ في رأي الجانبين في الزواج، والمحمَّديُّون يكرهون إلهَ المسيحيين، وكذلك لا تَعرفُ كراهيةُ المسيحيين لأتباع محمدٍ حُدودًا تقفُ عندها، فالمسيحيون يُشككون بشتى الطُرقِ الممكنةِ في طهارةِ محمدٍ من الذنوب أثناءَ حياته الأرضية،

دوتيه Doutte

وتَروي بشَغَفٍ خاصٍّ قصةَ موتهِ الذي يُرثى له (¬1). * دُوتيه Doutte: يتناولُ "دوتيه" في كتابه بالفرنسية "محمد الكاردينال" الصادرِ في باريس عام 1899 الخرافةَ التي انتشَرَت انتشارًا واسعًا في العصرِ الوسيط والتي تقولُ بأنَّ محمدًا كان في الأصل "كاردينالاً رومانيًّا" يسعى للحصول على تاج البابوية، ولكنه عندما فَشَل في الحصول عليه أسس الطائفة المحمديَّة، وصَرَف آلافًا كثيرةً من النفوسِ عن المسيحية (¬2). * باسيه Basset: باسيه مستشرقٌ فِرنسيٌّ (1855 - 1924)، له العديدُ من الأبحاثِ والدراساتِ الإسلامية والعربيَّة، ورَأَسَ مؤتمرَ المستشرقين بالجزائر عام 1905، وأسهَمَ في دائرة المعارف الإسلاميَّة، وله بحثٌ بعنوان "هرقل ومحمد" نشره عام 1903 في مجلة العلماء من (ص 391 - 402) تناول فيه أسطورةً أخرى عن محمدٍ، كانت هي الأخرى منتشرةً أيضًا انتشارًا واسعًا في العصر الوسيط، وتقولُ هذه الأسطورةُ: إن القيصرَ "كارل الكبير" قام بتحطيم كل تماثيل الآلهةِ التي كانت قائمةً في "أسبانيا" ما عدا تمثالاً واحدًا فقط كان موجودًا في "قادس " Cadiz" (¬3) وَيروي المسلمون أن محمدًا نفسَه قد قام بعمل هذا التمثالِ أثناءَ حياتِه باسمه هو، وأنه بفضل ما لديه من فنٍّ ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 123 - 124). (¬2) "الإسلام في تصورات الغرب" (ص 125 - 126). (¬3) قادس: مدينة أسبانية هي عاصمة إقليم قادس.

سِحريٍّ قام بحبسِ كتيبةٍ من الجنِّ بداخله، وقد عَمِلت هذه الكتيبةُ -بما لها من تأثير- على مَنع تحطيم هذا التمثالِ من جانبِ أيِّ أحدٍ يريدُ تحطيمَه. وقد أثبت "باسيه" بالتفصيل انتشارَ هذه الأسطورةِ في المصادر المسيحية والعربية والأسكندنافية، وبَرهَنَ على أن الأمرَ هنا يدور -على الأرجح- في الأصل حولَ تمثالِ لهرقلَ ظنَّ المحمَّديون خطأً أنه يرمز إلى محمد! ثم انتَقلت الأسطورةُ عن طريقِ المسلمين إلى المسيحيين في أسبانيا، ومن هناك تسرَّبت إلى الأدب الفرنسيِّ في العصر الوسيط (¬1). ° قال الدكتور محمود حمدي زقزوق في كتابه "الإسلام في تصوُّرات الغرب": "إذا رُويت هذه الأساطير على ألسِنةِ الغربيِّين، ودُوِّنت في مؤلَّفاتهم، فهذا أمرٌ مفهومٌ، وقد اعتدنا عليه، أمَّا أن يُقالَ: إن المسلمين أنفسَهم قد قالوا بهذا الهُراء، وإن مصادِرَهم قد دُوِّن فيها هذا الباطلُ، فهذا أمرٌ لا يمكنُ تصديقُه، وذلك لأسبابٍ كثيرةٍ أهمُّها ما يأتي: أولاً: المسلمون يَعرِفون تمامًا أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد حَرَّم التماثيل لأنها تُذكِّر بالأصنام من ناحية؛ ولأن فيها محاكاةً لخَلِق اللهِ من ناحيةٍ أخرى، وقد وَرَد في هذا الصددِ العديدُ من الأحاديث الصحيحة، ومن ذلك ما رواه مسلم في "صحيحه" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تدخلُ الملائكةُ بيتًا فيه تماثيلُ أو تصاوير"، وقوله: "يا عائشة: أشدُّ الناسِ عذابًا عند الله يومَ القيامة الذين يُضاهُون بحلِق الله"، وفي روايةٍ أخرى: "الذين يُشبِّهون بخَلقِ الله". فهل يُعقلُ -بعد هذا التحذير الشديدِ- أنْ يَنسِبَ المسلمون إلى نبيهم أنه ¬

_ (¬1) "الإسلام في تصورات الغرب" (ص 126 - 127).

صَنَع لنفسه تمثالاً أو أوعَزَ بصُنعِه؟ وقد يقال: إن بعضَ العلماءِ في العصرِ الحديث قد قال بتأويل مثل هذه الأحاديث، ولكن هذا التأويلَ لم يكن بالقطع قائمًا لدى المسلمين في الأندلس. ثانيًا: المسلمون يتحرَّجون حتى اليوم -بعد مرورِ أكثرَ من أربعةَ عَشَرَ قرنًا على ظهورِ الإسلام- من مجردِ ظهورِ شخصياتٍ تمثل أدوار أحدٍ من الصحابة في مشاهدَ هادفة، ناهِيك عن إقامةِ تماثيلَ لهم، فما بالُك إذا كان الأمرُ يتعلَّقُ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟! وإذا كان هذا شأنَ المسلمين اليومَ حيث تنتشرُ التماثيلُ في كل مكان، وحيثُ أصبَحَ التمثيلُ أمرًا مألوفًا، فما بالُك بالمسلمين منذ قرونٍ عديدة، وفي بلادٍ أحرقت كتاب "الإحياء" للغزالي ظنًّا منها أنه رُبما يحمل أفكارًا فلسفيةً لا يَرضى عنها الإسلام؟!. إن الأمرَ الأقربَ إلى المعقول هو أن هناك أسطورةً كانت قائمةً قبلَ أن يدخلَ المسلمون إلى هذه البلاد، ثم حَوَّرها الأوروبيُّون أنفسُهم -وإيمانُهم بالأساطيرِ كان شديدًا في العصرِ الوسيط-، ورَوَّجوها على أَلسِنَةِ المسلمين" (¬1). هذه مَورُوثاتُ وتصوُّراتُ العصورِ الوسطي عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، ولا يزالُ الغربيُّون الصليبيون أسرى هذه التصوُّرات والأساطيرِ والتجني الواضح على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لقد بَلَغ ما كَتَبه المستشرقون عن الإسلام في قرنٍ ونصفٍ (منذ أوائل القرن التاسعَ عَشَرَ حتى منتصفِ القرن العشرين) نحوَ ستينَ ألفَ ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 127).

كريل

كتابٍ (¬1) مُعظمُها يَطفحُ بالعَداء لنبيِّ الإسلام - صلى الله عليه وسلم - وأتباعِه، {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118]. ° قال "كارلايل": "إن الأكاذيبَ التي عَمِل على تراكُمها الحماسُ المنبعثُ بحُسنِ نيَّةٍ حولَ محمدٍ لا تَسُبُّ أحدًا غيرَنا" (¬2). وتعالَ معيَ مرةً ثانيةً لنتابعَ ما يقولُه الصليبيون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: * كريل: ° يقول هذا المأفونُ: "يجبُ أن يعترفَ المَرءُ بأنَّ محمدًا كان -رَغْمَ كلِّ أخطائه- مؤسسَ المدنيَّةِ العربية، وأنه قد وَضَع شَعْبَه على دَرجةٍ عُلْيَا من التديُن" (¬3). فأيَّةُ أخطاءٍ كانت للمعصوم سيِّدِ ولدِ آدمَ - صلى الله عليه وسلم - الذي أقسَمَ اللهُ بحياته؟!. * ألكسندر دوبون: في الرواية التي كتبها "الكسندر دوبون A. du pont" عن محمد " Romande Mahomet"، يَظهَرُ محمدٌ بوصفِه أحدَ قُطَّاع الطُّرُق، وقد أصابه مَسٌّ من الشيطان، ويقومُ بفعِل كلِّ نوع من أنواع الأفعالِ الدنيئةِ والتضليل (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "الاستشراق" لإدوارد سعيد (ص 39) ترجمة كمال أبو ديب- مؤسسة الأبحاث العربية- بيروت، و"الإسلام في تصوُّرات الغرب". (¬2) "الإسلام في تصورات الغرب" (ص 130). (¬3) المصدر السابق (ص 131). (¬4) المصدر السابق (ص95 - 96).

دورييه Du Ryer

° وظَهَر دَجَلُ الصليبيين وسُوءُ طَوِيتِهم وقُبحُ ما يُكِنُّونَه للنبي - صلى الله عليه وسلم - في كتاب "القانون لدى المسلمين Livrede La Loi au sarrasin" فإنه يتضمَّنُ أكثَرَ خرافاتِ المسلمين زِرايةً -كما يدَّعي الغربُ الصليبيُّ-، ويجعلون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا مزَيَفًا، وزنديقًا مارقًا، وجعلوا منه كاردنيالاً أسلمَ نفسَه للشيطان ليأسِه من أن يَظفَرَ بمنصبِ "البابا"! وقد كان حُكمُ العصرِ على شخصية محمدٍ كلها هو الانغماسُ في المُتَع والخديعة (¬1). * دورييه Du Ryer: تُعَدُّ ترجمةُ دورييه للقرآن التي ظَهرت عام 1647 أولَ ترجمةٍ فرنسيةٍ للقرآن، وقد عَمِلَ دورييه مدةً طويلةً قُنصلاً لبلاده في مصر، وهناك تَعلَّم العربية، وقد طُبعت هذه الترجمةُ مرَّاتٍ عديدةً على مَدى قرنٍ ونصفٍ، وأقبل الناسُ على قِراءتها إقبالاً كبيرًا , ولم يكن "دورييه" منصِفًا للإسلام بأيِّ حالٍ من الأحوال، وقد ظلَّت ترجمتُه تمارِسُ تأثيرَها الأسودَ في عقولِ الغربيِّين، حتى قام "سافاري" بإنجازِ ترجمةٍ فرنسيةٍ أخرى للقرآن ظهرت عام 1783 م (¬2). * بليس بسكال Blaise Pascal (1623- 1662 م): هو الفيلسوفُ الفرنسي المعروف، وقد صَدَر كتابُه "خواطر حول الدين" ( pensees sur la religion) في باريس عام 1670، وقد كان "بسكال" يرى في محمدٍ العدوَّ اللدودَ للكنيسة، ولهذا كان حريصًا كلَّ الحرصِ على ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (ص 96). (¬2) "الإسلام في تصوُّرات الغرب" (ص 97).

محاربتِه، ففي كتابِه السابقِ يتناول محمدًا - صلى الله عليه وسلم - في تِسْع شَذَراتٍ من بينِ الشَّذَرات التي يَضُمُّها هذا الكتاب، ويَعقِدُ في أحدِها مقارنةً بين محمدٍ والمسيح، يقول فيها: "إن محمدًا لم يَجْرِ التنبؤُ بظهورِه في "العهدِ القديم" في حينِ جرى التنبؤُ بظهور المسيح، ومحمدٌ كان يقترفُ القتلَ في حين كان المسيحُ يَدَعُ أتباعَه يُقتلون، ومحمدٌ كان يُحرِّمُ القراءةَ في حين كان الحواريُّون يأمُرون بالقراءة، ومحمدٌ صادف نجاحًا دنيويًّا، في حين كان المسيحُ مغلوبًا على أمرِه، وانتهى به الأمرُ إلى الصلب .. " إلخ. وكان "بسكال" يَفتقدُ لدى محمدٍ عدمَ إتيانِه بالمعجزات، كما أن تعاليمَه لم تشتملُ على أسرارٍ (كما هو الشأن في المسيحية)، ويُنكر "بسكال" على محمدٍ الأخلاقَ "السيئة" التي أتى بها، كما يُنكِرُ عليه تصوُّراتِه الحسِّيةَ للجنة، ويقول:"إنه لم يَجِدْ في هذا الدينِ سببًا يحملُه على قبولِه؛ لأنه دينٌ ليس فيه أيُّ أمارةٍ من أماراتِ الحقيقة" (راجع بفانموللر ص 149). هذا هو "بسكال" الفيلسوف، والفلسفةُ تعني البحثَ عن الحقيقة -كما يدَّعون- وتَعني التجرد التامَّ والنزاهةَ والموضوعية، وتَرفُضُ التقليدَ وقبولَ الأحكام المسبقة، ولكنَّ "بسكال" كان في موقفِه من الإسلام ونبيِّه يَفتقدُ كلِّ هذه الصفات، وبَرهَنَ على جَهلٍ فاضحٍ، وراح يتبنَّى الآراءَ الكاذبةَ السائدة حينَذاك حولَ الإسلام ونبيّه، شأنُه في ذلك شأنُ رجل الشارع، فأساء لنفسِه وللفلسفةِ وللحقيقةِ بصفةٍ عامة (¬1). أساطيرُ وأكاذيبُ ومزاعمُ وشتائمُ ووقاحةٌ وتطاولٌ وتسفُّلٌ من مفكِّري ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 97 - 98).

تور أندريه Tor Andrae (1885- 1947)

الغرب على السِّراج المنير - صلى الله عليه وسلم -، ثم بَعد هذا يدَّعون العلمَ والمعرفة .. ألاَ شاهت الوجوه النَّكِدةُ، وزُبالاتُ الأذهانِ العَفِنة، وانتكاسُ الفطرة. ° وفي أثناء العصر الوسيط كلِّه، وكذلك في القرْنَيْن السادسَ عَشَرَ والسابعَ عَشَر، كان الحُكمُ على محمدٍ حُكْمًا سيئًا إلى أبعدِ الحدود، إذ يُوصَفُ بأنه "دجَّال" و"نبيٌّ مُزَيف"، و"مؤسِّس طائفةٍ " وتجسيد لشتَّي ألوانِ الرذائل والمنكرات (¬1). * تور أندريه Tor Andrae (1885- 1947) : تور أندريه مستشرقٌ سويدي .. عَمِل أستاذًا للعلوم الدينية في جامعتَي "استوكهلم"، و"أوبساله"، ومن مؤلَّفاته: "مَن هو محمد؟ " و"شخصُ محمدٍ في تعاليم وعقيدةِ أتباعِه" وهو رسالةُ الدكتوراة التي تقدَّم بها إلى جامعة "استوكهلم" عام 1917م، وقدْ تُرجم هذا الكتابُ إلى الإيطالية والإنجليزية والألمانية. ° يقولُ هذا المفترِي: إن "التغييرَ غيرَ المتوقع لظروف -رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخارجية -وبصفةٍ خاصَةٍ انتصارُه في بدر- كان له تأثيرٌ قويٌّ على وَعي النبي باصطفائه، وأخيرًا أصبح الوحيُ الذي كان يَظهرُ في البدايةِ بوصفِه تأثيرًا من جِهةٍ عُليا فوقَ التشخص -دونَ أن يكونَ ذا صِلَةٍ واعيةٍ بحياةِ النبي النفسية- أصبح بالتدريج يأتيه أيضًا مرتبطًا بوعي عاديٍّ، وهذا الارتباطُ جَعل الوحيَ أخيرًا واقعًا إلى حدٍّ ما تحتَ مراقبةٍ نفسيةٍ، وهكذا وَصل الأمرُ بالنبيِّ بالتدريج إلى الحدِّ الذي جَعله يَعتبرُ ما يبدُو له من أفكارٍ وقراراتٍ ¬

_ (¬1) "الإسلام في تصورات الغرب" (ص 104).

على أنها وحيُ الله، ويتحدَّثُ عن اللهِ ورسولِه حديثًا يكادُ يجعلُهما في مكانةٍ واحدة" (¬1). وهذا واللهِ عَينُ الكَذِبِ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، واتهامٌ له -حاشاه- بالكَذِبِ على الله، إذ يَنسِبُ إليه ما لَم يَقُلْه .. وإنكارٌ للوحي بُرمَّتِه. ° ويقول هذا الدجال المفتَري: "وكنتيجةٍ للتطوُّرِ الذي وَصَل إليه الوعيُ النبويُّ لدى محمدٍ بتأثير من انتصاراتِه العظيمةِ، نَجِدُ الاقتناعَ لديه بأن رسالتَه جاءت عامةً للعالَم كلِّه، وأن دِينَه قد قُدِّر له أن يُحققَ النصرَ على كل الديانات الأخرى، وأنه هو نفسُه "خاتم النبيين"، وأفضلُ الأنبياءِ وآخِرُهم، وأنه كان مَقصِدَ تطوُّرِ النبوَّةِ كله في حقيقة الأمر، وعلى هذا النحوِ كان في وُسع التقديس الذي نشأ فيما بعدُ للنبي أن يَجِدَ في الواقع أيضًا نِقاطَ ارتباطٍ معينةٍ في الشهاداتِ الذاتيةِ لمحمد" (¬2). وهذا أيضًا عينُ الكذبِ وصريحُه .. فعموميةُ رسالتِه للعالَمين كانت وحيًا من الله لا لانتصاراتهِ - صلى الله عليه وسلم - الخارجية. ° ويَكذِبُ الدجالُ "أندريه" ويتكلَّمُ في الفصل الأولِ عن نشأةِ "أسطورة النبي" وكيف كانت بصفةٍ خاصةٍ عملاً من أعمالِ القُصَّاص، وهم أولئك الذين احتَرفوا مِهنةَ حكايةِ الأساطير، وتُصادفُنا آثارُ نشاطِهم في كتاب ابنِ إسحاق، فحياةُ محمدٍ كلُّها يُتْمٌ نَسَجها هكذا بالتدريج في شَبكةٍ من المعجزات، وَيبسُطُ "أندريه" القولَ بوجهٍ خاصٍّ في قصةِ ميلادِ محمدٍ والمعراج، ومعجزاتِ الطعام والماء، ومعجزة الشفاء، وشق الصدر، ¬

_ (¬1) "الإسلام في تصورات الغرب" (ص 105). (¬2) المصدر السابق (ص 106 - 107).

ميشيل بودييه Michael Baudier

وانشقاقِ القمر .. والمصدرُ الرئيسيُّ لهذا المعجزات هو أساطيرُ وأقاصيصُ دوائرِ الحضارة الهللينية (¬1) وبعدَ مَضِى بعضِ الوقتِ (على أعمال القُصَّاص) ظهرت مؤلَفاتٌ حولَ معجزاتِ محمد، وقد حَظِيت هذه المؤلَّفات أيضًا بعرضٍ تفصيليٍّ من جانبِ "أندريه" .. ". يَستكثر "أندريه"، ويُنكِرُ المعجزات، وهم يَرَون ألوانًا شتَّى من الأقاصيصِ والغرائبِ عن حياةِ القديسينَ المسيحيين، ويُسارعُ برد المعجزات وقَصَصِها إلى الحضارة اليونانية، فأيُّ منطقٍ هذا؟ وأين وكيف اتصل هؤلاءِ "القُصَّاصُ" الذين رَوى عنهم ابنُ إسحاقَ هذه المعجزاتِ بالحضارة اليونانية؟!. ° ويَجعل "أندريه" مفهومَ الوحي ضمنَ العناصرِ التي دَخلت إلى الإسلام "السني" بتأثير شيعيٍّ .. فالمعروفُ أن مفهومَ الوحي مفهومٌ قرآنيٌّ خالص قبلَ ظهورِ الفِرَق!!. * التراجمُ الحديثةُ لسِيرة الرسولِ محمد - صلى الله عليه وسلم - عند الغرب: * ميشيل بودييه Michael Baudier: يَرجعُ الفضلُ إلى "ميشيل بودييه" (¬2) في أنه أولُ مَن قام بوضع وصفٍ شامل لحياةِ محمدِ بدلاً من الكتاباتِ الجَدَليةِ الكَنَسية، وقد كان "بودييه" ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 108). (¬2) صدر كتاباً "بودييه" بالفرنسية في باريس عام 1625 و 1632 ثم بعد ذلك بأكثر من قرن من الزمان في عام 1741 تحت العنوان التالي: ( Histoire de la religion des Turcs avec la naissance. la vie et la mort de leur faux prophete Mahomet) .

بالنسبة لعصره -على أيِّ حالٍ - مؤرِّخًا معتَبَرًا، كما كان كاتبًا شعبيًّا، ويَدينُ له الجمهورُ الفرنسي بالفضل لكتابِه الذي استطاع أن يُعرفه فيه بالإسلام، ويُباهِي "بودييه" بحقٍّ بأنه أولُ مَن جَمَع هذه المادةَ "المتعلقة بحياة محمد"، وذلك في كتابه "تاريخ ديانةِ الأتراك ومولدِ وحياةِ ووفاةِ نبيِّهم المزيِّف محمد" الصادرِ في باريس 1625، وقد أعيد طبعُه عام 1632، وعام 1741، وقد كان "بودييه" أولَ مَن قام بتأليف مسيرةٍ لمحمد بالفرنسية، وكان لكِتابِه تأثيرٌ يفوقُ الوصفَ على التصوُّرات الغربيةِ عن الإسلام وعن محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن هذا العملُ -على وجهِ اليقين- عملاً محايدًا، فقد كانت غايةُ "بودييه" هي "الكشف عن أباطيل ورذائل نبيِّ الأتراك وفُحشِه وخدائع محمدٍ وزَيفِ طائفتِه، والكشفُ عن تضليله وتفاهةِ طائفتهِ وتعاليمه المضحِكة والوحشية". وقد كان "بودييه" كاثوليكيًّا متدينًا، يستقي معلوماتِه من مصادرَ كَنَسيَّةٍ فقط، وكان يَنقُلُ عنها دونَ نقد، وبفضل كتاباته لم يَرَ القرنُ السابَعَ عَشَرَ في محمدٍ إلاَّ دجَّالاً أو مُضلِّلاً، ولم تكن لدى هذا القرنِ إلاَّ الرغبةُ في دَفنِ محمدٍ تحتَ أكوام من النَّقضِ والتفنيد. ولقد أُغرِمَ "بودييه" بوَصفِ أعمالِ السَّلبِ والنَّهبِ والقَسوةِ والفجورِ مِن جانبِ النبيِّ -كما يدَّعي هذا الكذَّابُ الأشر-. ° وتحت عنوان "إلحاديات محمد" يصف "بودييه" بإسهابٍ المواضعَ القرآنيةَ التي أفسد فيها النبي الزائف -حاشاه- الديانةَ المسيحية، ولكي يَجعلَ "بودييه" الخديعةَ أو التضليلَ واضحًا بقَدْرِ الإمكان أمامَ الجمهورِ، فإنه

هوتنجر Hottinger

يَقتبسُ آياتٍ من القرآن بجانبِ نصوصٍ من الكتاب المقدَّس (¬1). ونقول لهذا المفترِي: موعدُك مع محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - يومَ القيامة .. واللهُ الموعد .. يومَ أنَ ينادَى على رؤوس الأشهادِ: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]. * هوتنجر Hottinger: في كتابه "تاريخ الشرق" (¬2) " Historia Orientalis" حاول المستشرقُ السويسري "يوهان هينريش هوتنجر" (1620 - 1667) الذي تَخرج بوصفِه مستشرقًا في كلٍّ مِن "جروننجن وليدن"، ثم أصبح أستاذًا لتاريخ الكنيسة واللغاتِ الشرقية في "زيوريخ" أنْ يتكلَّم عن تاريخ العرب بوجهٍ عامَ وتاريخ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بوجهٍ خاصٍّ. ويرى "هوتنجر" في مقدمة كتابه أن من الضروري أنه يجبُ عليه أن يعتذرَ لقيامه بتقديم عرضٍ لحياة محمدٍ وتعاليمه، ولكي يبرِّرَ عَمَلَه هذا يَستشهدُ بعلماءَ من أمثال "بوللينجر Bullimger" و"ميكونيوس Myconius" و"ببلياندر Bibliander"، وكذلك يَستشهدُ بالشخصياتِ المعاصرةِ الشهيرةِ من أمثال " لامبرور L. Empreur" الأستاذ بجامعة "ليدن". ويريد "هوتنجر" أنْ يُسْهمَ في محاربةِ خيانةِ المحمَدِيين وغَدرِهم ومحاربةِ السيادةِ التركية، ويَعتقدُ "هوتنجر" أن تفنيدَ الديانةِ التركية يُعَدُّ أيضًا بمثابةِ توجيهِ ضربةٍ للسيادةِ التركية (¬3). ¬

_ (¬1) "الإسلام في تصورات الغرب" (ص 133 - 134). (¬2) صدر الكتاب عام 1651 م وأعيد نشره عام 1660. (¬3) "الإسلام في تصورات الغرب" (ص 135 - 136).

ألكسندرروس A. ROSS

* ألكسندرروس A. ROSS: بعد ظهور كتاب "هوتنجر" "تاريخ الشرق" بعاميْن ظَهر في "إنجلترا" في عام 1653 أولُ كتابٍ في تاريخ الأديانِ العامِّ، من تأليف "ألكسندر روس" تحت عُنوان "التقديس الشامل" أو " Pansebeia" وقد تُرجم أيضًا إلى الألمانية بعد ذلك بخَمْسَهَ عَشَرَ عامًا تحت عنوان "العبادات المتبايِنة في العالَم كلِّه". ولا يُنكرُ "روس" في كتابه "أن محمدًا كان عَدُوًّا للمسيح!! لإتيانِه بتعاليمَ قام بترويجِها تُعارِضُ ألوهيةَ المسيح" (¬1). * ديدرو Didedro (1713- 1784) : " دينيه ديدرو" أحدُ أعلام الكُتَّابِ في عصرِ التنوير الفِرنسيِّ، كان رئيسَ تحريرِ دائرة المعارف الفرنسية الشهيرة، ومؤلِّفَ العديدِ من مقالاتها. في كتابه "رسائل إلى صوفي فولاند" وَصَف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه "كان أفضلَ صَديقٍ للنساء، وأكبَرَ عدوٍّ للعقل"، بجانب وصفِه له بعد ذلك بأنه "مُشَرِّعٌ ماهر، ورسولٌ من رُسُل الفضيلة"، وهذا يدل على التخبُّطِ والتناقضِ؛ إذ كيف يُوصَفُ المُشَرِّع الماهرُ الداعي إلى الفضيلةِ بأنه عدوٌّ للعقل؟! (¬2). ¬

_ (¬1) "الإسلام في تصورات الغرب" (ص 136 - 137). (¬2) "الإسلام في تصورات الغرب" (ص 143).

ليسنج "جوتهولد إفرايم" (1729 - 1778)

* ليسنج "جوتهولد إِفرايم" (1729 - 1778): من أعظم أدباءِ ألمانيا في القرن الثامنَ عَشَر. ° في "شذرات فولفنبوتل" يُرجعُ "ليسنج" تعاليمَ محمدٍ إلى الدينِ الطبيعي كما فعل "ليبنتز": "صحيحٌ أن قرآنَ محمدٍ والعقيدةَ التركيةَ لهما لدينا سُمعةٌ سيئة، وليس ذلك فقط لأن مؤسِّس هذا الدينِ قد استَخدم التضليلَ والعُنف، بل لأن هناك أيضًا (في هذه العقيدة) كثيرًا من الحماقاتِ والأضاليل مختلِطةً ببعضِ العاداتِ الخارجيةِ الوافدةِ التي لا ضرورةَ لها، ولستُ أريدُ أيضًا أن أتحدَّثَ باسمِه -أي باسم محمد-، وأقلُّ من ذلك كثيرًا أن أرفعَ من شأنِه على حساب الديانة المسيحية، ولكني على يقينٍ من أن هناك مِن بين مَن يُحَمِّلون الديانةَ التركيةَ مسؤولية هذا أو ذاك من الأخطاءِ قلَّةً قليلةً جدًّا ممَّن اطَّلع على القرآن، وأن هناك أيضًا قلةً قليلةً جدًّا مِن بين هؤلاءِ الذين قرؤوه كان لديهم القصدُ لإعطاءِ كلماتِ القرآن معنًى معقولاً يمكنُ للمرءِ أن يَفهَمه، وفي وُسعي -إذا كان هذا مَقصِدي الأساسي- أن أُبيِّنَ أفضلَ ما في الدينِ الطبيعي من القرآنِ معروضًا بوضوحٍ ومُعبِّرًا عنه إلى حدٍّ ما تعبيرًا جميلاً" (¬1). * جُوته Goethe: " يُوهان فولفجانج فون جوته" (1749 - 1832) يُعَدُّ أعظمَ شعراءِ ألمانيا على الإطلاق. ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 145، 146).

° يقول الدكتور محمود حمدي زقزوق في كتابه "الإسلام في تصوُّرات الغرب" (ص 147): "كان منصفًا للشرقِ وللإسلام ونبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، وقرأ القرآنَ وتأثَّر به واقتَبَس منه الكثيرَ، وبخاصةٍ في الديوانِ الذي أطلق عليه اسم "الديوان الشرقي الغربي". ° ويقول عنه (ص 101): "قرأ القرآنَ بإمعانٍ في ترجمتين، إحداهما لاتينية، والأخرى ألمانية، واقتَبس منه الكثير، ويَظهرُ تأثرُه بالقرآن بوجهٍ خاصٍّ في الديوانِ الذي أسماه "الديوان الشرقي الغربي"، ومِن بين ما نقرؤه له في هذا الديوان قوله: "لله المشرق ولله المغرب، وفي راحتَيه الشَّمالُ والجَنوبُ جميعًا، هو الحقُّ، وما يشاء بعباده فهو الحق سبحانه، له الأسماء الحسني، وتبارك اسمُه الحق، وتعالي علوًّا كبيرًا". وفي بعض أشعارِ الحِكمة من ديوانه يقول عن الإسلام: "مِن حماقةِ الإنسانِ في دنياه أن يتعصَّبَ كلٌّ منَّا لِمَا يراه، وإذا الإسلامُ كان معناه التسليمَ لله، فإننا أجمعين، نحيا ونموت مسلمين". وقد وَضع "جوته" مشروعَ تمثيلةٍ عن محمدٍ تدلُّ على إعجابهِ وتقديرِه لنبي الإسلام، مما يدل على سَعَةِ أُفقِه، وسُموِّ فِكرِه، ونزاهةِ حُكمه، وترفُّعِه عن التعصُّب الشُّعوبي والديني "انظر مزيدًا من التفصيل عن ذلك في كتاب: "الشرق والإسلام في أدب جوته" للأستاذ عبد الرحمن صدقي (ص 14) وما بعدها من سلسلة المكتبة الثقافية رقم 10) ". ° يقول المستشرق الألماني "بفانموللر": "وفي خريف عام 1773 ظهر "نشيد محمد" وفيه يُقارن "جوته" محمدًا بنهرٍ ينمو باستمرارٍ ويجذبُ في

سَيرِه إخوتَه معه إلى الأب الخالد. ° وفي كتابه "الشعر والحقيقة" يقول "جوته": "إن هذا النشيدَ المَدْحِيَّ كان قد قُصد به في الأصل أن يكونَ إضافةً شِعريةً لمسرحيةٍ عن محمد كان قد خُطط لها"، وقد كان يريدُ أن يُصوِّرَ فيها كيف تؤثِّرُ العبقريةُ في الناس عن طريقِ الأخلاقِ والعقل، وكيف تنتصرُ العبقريةُ في ذلك وكيف تَخسر. وفي عام 1799 عاد "جوته" مرةً أخرى إلى الاشتغالِ بموضوع محمد، بأنْ قام بِناءً على رغبةِ الدُّوق "كارل أوجسطس Augusts " وضدَّ إرادتِه هو تمامًا -بترجمة مسرحية "فولتير" عن محمدٍ وإعدادِها للمسرح. وهناك أخيرًا أكثرُ من اثنَتَيْ عَشْرَةَ قصيدةً من أشعاره في "الديوان الشرقي الغربي" تهتمُّ بمحمدٍ وبالقرآن، وفي الملاحظات والمَقالاتِ حولَ هذا الديوان يَعودُ "جوته" -بوصفه مؤرِّخًا- للحديث عن محمدٍ وتعاليمه" (¬1). ° إلاَّ أن المستشرقَ الألماني "جيرنوت روتر" يقول في بَحثه ومقاله "الإسلام والغرب- الحوار المفقود" التي تضمَّنه كتاب "صورة الإسلام في التراث الغربي" "دراسات ألمانية": "تحدَّث "جوته" عن العرب بحماسٍ وهُيام، ولكنَّ حَماسَه هذا فَتَر عندما تَعرض لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه نَصَب حولَ العَرَب غلافًا دينيًّا كئيبًا، وعَرف كيف يَحجُبُ عنهم الأملَ في أيِّ تقدُّمٍ حقيقيٍّ" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "الإسلام في تصوُّرات الغرب" (ص 148). (¬2) "صورة الإسلام في التراث الغربي" (ص 57)، و "صناعة العداء للإسلام" (ص 235) لرجب البنا -دار المعارف- مصر.

هردر Herder (1744-1803)

° وقال "جوته" عن "القرآن": "إنه الكتابُ الذي يكرِّرُ نفسَه تكراراتٍ لا تَنتهي، فيثير اشمئزازَنا دائمًا، كلَّما شَرَعْنا في قراءته" (¬1). * هردر Herder (1744-1803) : " يوهان جوتفريد فون هردر" كاتبٌ ألماني معروف، وعالِمٌ في اللاهوت، وقد تأثر به "جوته" في شبابه. يصفُ هردر محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بأنه: "مزيجٌ خاصٌّ من كلِّ ما يُمِكنُ أن تُعطيَه الأمَّةُ والقَبيلةُ والزمانُ والمكان، فقد كان تاجرًا ونبيًّا وخطيبًا وشاعرًا وبطلاً ومُشرِّعًا، وكلُّ ذلك حَسَبَ الطريقةِ العربية". ° ويَبدُو أن سَبب نبوَّتهِ يتمثَّلُ في البُغضِ لشناعةِ عبادةِ الأصنام والتحمُّس لتعاليم توحيدِ الله وطريقةِ التعبُّدِ له بالطهارةِ والذِّكرِ والعمل الصالح، "وقد كانت التقاليدُ الفاسدةُ لليهودية والمسيحية، وطريقةُ التفكير الشاعريةُ لأُمَّته، ولغةُ قبيلته، ومواهبُه الشخصية -كانت كلُّها كأنها الأجنحةُ التي حَلَّقت به فوقَ نفسِه وخارجَ نفسه". ° ولكن "هردر" يُعبِّرُ عن حُكمه على القرآن على النحو التالي: "هذا الخليطُ الفريدُ من فنِّ الشِّعرِ وحُسنِ البيانِ والجَهل والذكاءِ والتكبُّرِ، هو مرآةُ نفسِه التي تُبين مواهِبَه ونقائصَه ومُيولَه وأخطاءَه وخِداعَ نفسِه والمعوناتِ الوقتيةَ التي خدَع بها نَفسَه، وخَدَع الآخرين، وذلك كله بدرجةٍ أكثرَ ¬

_ (¬1) من نصوص تحت الطبع ترجمها الباحث ثابت عيد مترجم "صورة الإسلام في التراث الغربي"، ونقلها عنه ا. د محمد عمارة في كتابه "الإسلام والغرب- افتراءات لها تاريخ" (ص 32).

أولزنر Oelsner

وضوحًا ممَّا يتبينُ في أي قرآنٍ آخَرَ لنبيٍّ من الأنبياء" (¬1). فالفكرةُ الأساسيةُ لدى "هردر" وأمثالِه هي أن القرآنَ مِن تأليفِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -؛ ولذلك فهو مِرآةُ نفسِه وإنتاجُ عقلِه، ومن هنا فإذا وَرَدَ في القرآن أنه "وحيُ اللهْ " اعتَبروا ذلك نوعًا من الخِداع أو التضليل، وإذا كان هذا هو موقفُهم الأساسي الذي يُسيطرُ عليهم قبلَ التعرُّف على القرآن، فلن يَصِلوا إلى حقيقةِ الإسلام أبدًا، إلاَّ إذا أزالوا مِن على أعيُنهم وقلوبِهم هذه الغِشاوةَ المتمثلة في الأوهام والأحكام السابقة، وتخلَّصوا من التعصُّبِ الذي يَحجُبُ عنهم نُورَ الحقيقة. * أولزنر Oelsner: عنده يُعَدُّ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - في الأصل متحمِّسًا وَجَد الدليلَ على بَعثتِه في قوةِ اعتقاده فقط، ومن السهل أن يَخلِطَ المرءُ بينه وبين مجردِ إنسانٍ دجَّال، وإذا لم تكن هناك أيضًا أغراضٌ طُموحية قد عَمِلت على تحريكِه في البداية، فإنها قد أتت في أعقابِ الحماس، وبنفسِ القَدْرِ الذي بَرَد فيه الحَماسُ لقضيةِ "الله" أو قضيةِ "الوطن" اشتدَّ لديه الغَرضُ الأنانيُّ عن طريقِ كل الوسائل المساعِدةِ التي أكسَبَها له حَماسُه الناري السابق، وبطبيعةِ الحال لا يمكنُ تحديدُ التوقيتِ الذي انتَهى فيه خِداعُ الذاتِ وبدأ فيه الدَّجَلُ تحديدًا دقيقًا. وَيصِفُ "أولزنر" محمدًا بالتفصيل بأنه الداعي للإلهِ الواحدِ، وبأنه أستاذٌ في الديبلوماسية، وبأنه رجلُ دولةٍ وقائدُ جيشٍ عبقريٌّ، ولكنْ بمرورِ ¬

_ (¬1) "الإسلام في تصورات الغرب" (ص 149).

هامر بورجشتال ( Hammer-Purgstall)

الزمن تحوَّل دينه من دين يدعو للسلام ويمقت الحربَ إلى دينٍ للسيف، وإنْ كان "أولزنر" أيضًا -كما كان "فولتير" من قبلِه- لا يَرى إطلاقًا أن النجاحاتِ التي حقَّقها الإسلام يعودُ الفضل فيها إلى السيف وحده (¬1). * هامر بورجشتال ( Hammer-Purgstall) : أمَّا المستشرق النسماوي الشهير "يوسف فون هامر بورجشتال" الذي أصدر أولَ مجلةٍ استشراقيةٍ متخصِّصةٍ في أوربا عام 1809 وهي مجلة "ينابيع الشرق"والذي كان لمولَّفاته تأثيرٌ قوي على "جوته"-، فقد تناول محمدًا أيضًا في المَقام الأول في كتابه "صورة لحياة الحُكَّام المسلمين العظام". ويُلَخِّصُ "هامر برجشتال" حُكمَه على محمدٍ في نهاية كتابِه على النحو التالي: "على الرغم من ضلالِ شَهوانيته، وعلى الرغم من الجرائم التي سَولَتْها لنفسه حِدةُ الطبع، وبصفةٍ خاصةٍ الثأرُ لشَرَفِه المهانِ عن طريق السخرية والاستهزاء، وعلى الرغم مِن وجهةِ النظرِ المتناقضةِ التي عَبَّر عنها مؤرِّخون مشهورون ومستشرقون، والتي تتمثَّلُ في أنَّ محمدًا لم يكن إلاَّ مجردَ كذَّابٍ ودجَّالٍ من منطَلَقِ حُبِّه للسيطرة -على الرغم من كل ذلك، فإننا يجب أن نثبُتَ على رأينا، وهو أن محمدًا لم يَنطلِقْ فقط من الفكرةِ العظيمة التي تتمثَّلُ في هدايةِ شَعبِه من ضلالِ الوثنية إلى الطريق المستقيم بعبادةِ الله وحدَه، بل كان يتمتَّع أيضًا بمواهب شِعريةٍ ومشاعرَ دينيةٍ حيَّةٍ، وكان مقتنعًا ببَعثتِه في ساعاتِ حماسه، ورأى -كما رأى غيرُه من الأنبياء الذين سَبقوه- أنه أداةُ السماءِ لهدايةِ شَعبه، وأنه مؤسِّسُ واحدٍ من الأديان ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 150).

توماس كارلايل- أو كارليل- (1795 - 1881)

الثلاثة التي انتَشرت من مصرَ وسوريا وبلاد العرب إلى كلّ بِقاع الأرضِ، وأنه خاتم الأنبياء واللَّبِنةُ الأخيرة" (¬1). كَذب "هامر" حين قال عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "على الرغم من ضلال شهوانيته"، فالمعروف أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قد تزوَّج "خديجة" - رضي الله عنها - التي كانت تكبرُهُ بسنواتٍ، وعمرة خمسةٌ وعشرون عامًا، وكان قد سبق لها أن تزوَّجت قبل ذلك مرَّتين، وظَلَّت له زوجةً وحيدةً إلى أن ماتت بعد أن أمضى معها ثمانيةً وعشرين عامًا، وبعد ذلك -أي: وهو في العقدِ السادس من عُمرِه- تزوَّج "سَودةَ بنتَ زَمْعة" - رضي الله عنها - أرملةَ أحدِ صحابته، ثم تزوج باقي نسائِه لأسبابٍ إنسانيةٍ نبيلةٍ، أو أهدافٍ تشريعية، فأين هنا ضلال شهوانيته المزعوم؟!. أما الثأرُ لشرفه المهان وحِدَّة الطبع .. إلخ، فهذا لم يعرَفْ عنه إطلاقًا، فقد كان (رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) تمكَّن من أهل مكةَ الذين لاقي هو وأصحابُه على أيديهم الأمَرينِ، وكان يستطيعُ أن يَجمَعَهم ويأمرَ بقتلِهم جزاءً وِفاقًا على ما اقترفوه في حقِّه وحقِّ أصحابه من جرائم، ولكنه عفا عنهم يومَ "فتح مكة" عَفوًا مطلقًا، وقال قولَته الشهيرة: "اذهبوا فأنتم الطُّلَقاء". * توماس كارلايل- أو كارليل- (1795 - 1881): هو المؤرِّخُ الإنجليزى وأحد فلاسفة الحضارة "كارليل" أصدر عام 1840 كتابَه الشهير "حول الأبطال وتقدير الأبطال" الذي خَصَّص فيه المحاضرةَ الثانيةَ للحديث عن محمدٍ وعن الإسلام، و"كارلايل" لا يَعتبِر ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 152 - 153).

محمدًا أحق الأنبياء، ولكن يعتبرُه نبيًّا حقيقيًّا، أمَّا الرأيُ السائدُ عن حقيقةِ محمدٍ -والذي يتمثلُ في أنه كان دجَّالاً متعمِّدًا، وأن دينَه عبارةٌ عن خليطٍ من الدَّجَل الطبِّي والإسفاف-، فإن "كارلايل" يعتبرُه رأيًا باطلاً. ° "فالأكاذيبُ التي عَمِل على تراكُمِها الحماسُ المنبعثُ بحُسنِ نيةٍ حول هذا الرجل -يقصد محمدًا- لا تَسُبُّ أحدًا غيرَنا". ° وأكثرُ من ذلك، يَصِفُ "كارلايل" محمدًا بأنه كان "نَفْسًا عظيمةً وهادئةً، لقد كان واحدًا من هؤلاء الذين استطاعوا أن يأخُذوا الأمورَ بجِدية، والذين وجهتهم الطبيعة نفسها لكي يكونوا مستقيمين". فالأصالةُ والاستقامةُ هما الصِّفتانِ المميِّزتانِ لأخلاقه، ولكن هذه الاستقامةَ كانت تشتملُ على شيءٍ إلهي، "فكلمةُ مثل هذا الإنسانِ هي صوتٌ مباشرٌ من قلبِ الطبيعة الحقيقية". ولم يكن محمدٌ في حياته الشخصية من عُشَّاقِ اللذَّةِ على الإطلاق، فقد كان مَتاعُ بيتِه يُعَدُّ من أكثرِ الأمورِ اعتدالاً، ومع ذلك "فلم يَحْظَ أيُّ قيصر بتاجِه بالطاعةِ مثلما حَظِيَ هذا الرجلُ بردائه الذي كان يُرقِّعُه بيده". أمَّا القرآنُ، فإن "كارلايل" يُطلِق عليه أنه "بَلبلةٌ ثقيلةٌ ومحيِّرةٌ، فهو ساذَجٌ ومُجدِبٌ، يشتملُ على تكرير وإسهابٍ وتشابُكٍ لا حدَّ له، وهو جافٌّ وغيرُ ناضج، وباختصارٍ هو سُخفٌ لا يُطاق". ومع ذلك تكمنُ فيه قيمةٌ أخرى تختلفُ تمامًا عن القيمةِ الأدبية، فهو بمثابةِ تخمُّرٍ مُبهَمٍ لنفس إنسانيةٍ كبيرةٍ وساذجة، غيرِ ناضجةٍ، وغيرِ مُثقفة، ولم تكن تستطيعُ حتى أن تقرأَ، ولكنها نَفْسٌ جادَّة، وتَفيضُ حماسًا،

جوستاف فايل Weil

وتَسعى سعيًا جبَّارًا لكي تُعبِّرَ عن ذاتِها في كلمات" (¬1). ° ويقول: "إن محمدًا شيءٌ، والقرآنَ شيء آخر، فالقرآنُ هو خَليطٌ طويل ومُمِلٌّ، ومشوَّش .. جافٌ وغليظ .. باختصار، هو غَباءٌ لا يُحتمَل" (¬2). * {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)} [الكهف: 5] , {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)} [مريم: 90]. فالموقفُ الأساسي الغربيُّ يُصِرُّ على أن القرآنَ من تأليف محمد، و"كارليل" كما هو واضح لا يَشُذُّ عن هذا الموقفِ مع حديثهِ الإيجابيِّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وما يُجدِي شيئًا هذا الحديث بعد أن طَعَن في قُدْسِ الأقداس .. القرآنِ كلام الله. * جوستاف فايل Weil: مستشرقٌ ألماني (1808 - 1889) له كتاب عن "حياة محمد" و"مقدمة تاريخية نقدية في القرآن"، ويذهبُ إلى أنَّ القرآنَ يُمثِّل مزيجًا مختلفَ الألوان من الأناشيدِ والصلواتِ والأساطيرِ والعقائدِ والمواعظِ والقوانين والتنظيماتِ (¬3) أساطير الأولين .. هكذا يقول مفكر الغرب .. مثلما قال كفار قريش .. اللهم إنا نعوذُ بك من عِلم لا ينفع .. اللهم لا تَحشُرْنا مع ¬

_ (¬1) "الإسلام في تصورات الغرب" (ص 153 - 154). (¬2) "نصوص تحت الطبع" ترجمة ثابت عيد- انظر "الإسلام والغرب .. افتراءات لها تاريخ" (ص 33). (¬3) "الإسلام في تصورات الغرب" (ص 156).

أوجست موللر A.Muller (1848- 1892)

قومٍ طالمَا عادَيْناهم فيك بذمِّهم لكتابك وقولِهم عنه: "إنه أساطير الأولين". * أوجست موللر A.Muller (1848- 1892) : " أوجست موللر" مستشرقٌ ألماني .. كان أُستاذًا للعربية في جامعة "فيينا"، كَتَب "الإسلام في الشرق والغرب"، صَدَر في "برلين" عام 1885، تكلَّم فيه عن حياةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. ° يقول "موللر": "بالمعني التاريخيِّ الخالصِ يكونُ من الصَّعبِ على المَرءِ أن يُنكِرَ على محمدٍ اسم "النبي"، حقًّا لا يستطيعُ المرءُ أن يُنكِرَ أنه كان واقعًا تحتَ حالاتٍ عصبيَّةٍ مختلفةٍ نتيجةً لِمِزاجهِ الذي كان سريعَ الانفعال بطريقةٍ غيرِ عادية، وقد ارتَفعت هذه الحالاتُ في بعضِ الأحيانِ إلى درجةِ الهلوسة، ولكنَّ هذه الحالاتِ لم تكن أبدًا ذاتَ طبيعةٍ صَرْعيَّة، بل كانت تتلاءمُ أيضًا مع الانفعالات العصبيةِ المعروفة (التي تعتري) الأشخاصَ مِن ذَوِي الحِسِّ المرهفِ دينيًّا , ولكن قُدرتَه الكاملةَ على التمييزِ بصفةٍ خاصةٍ لم تكن تعاني تحت (وطأةِ) هذه الحالات، ولا يستطيعُ المرءُ أيضًا أن يُشكِّكَ في إخلاصِه الكامِل في الفترةِ المكيَّة". وإذا كان المرءُ لا يَستطيعُ أن يُنكِرَ على محمدٍ صِفَة "نبيّ حقيقيٍّ"، فإن "موللر" له مع ذلك بعضُ التحفظات، فهو يَعيبُ على محمدٍ أنه لم يُدرِك إلا جانبًا واحداً فقط من الطبيعةِ الإلهية، وأنه يَنقُصُه تمامًا مفهومُ القَداسةِ بوجهٍ خاص، وبذلك يَنقُصه الأساسُ لتشكيل عميقٍ بطريقةٍ ما لفكرةِ نظامٍ أخلاقيٍّ للحياة، ثم يَصدُمُنا لدى محمدٍ في المدينة على وجهِ الخصوصِ أنه قد حَوَّل الدينَ إلى السياسة في تزايُدٍ مستمرٍّ: فقد استعان بالكَذِبَ لكي

هوبرت جريمه H. Grimme (1864-1942)

يَفرضَ الحقيقة، وربَّما كان ذلك في البداية دون وعيٍ، ثم بنصفِ وعيٍ، وفي النهاية بوعي كامل! " (¬1). وهو هنا يُحاولُ أن يُطبِّقَ مفاهيمَ النصارى وتَصوُّراتِهم على الإسلام .. ثم كيف يَعترفُ له بالنبوَّة ويَتَهمه بالكذب -حاشاه- وبأنه يَنقصُه تمامًا مفهومَ "القداسة"؟! ثم بجهله ونصرانيَّته المحرَّفة يَعيبُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قد حَوَّل الدينَ إلى السياسة، وليس في الإسلام مقولةُ النصارى القاصرة "ما لقيصر لقيصر .. وما لله لله". * هوبرت جريمه H. Grimme (1864-1942) : " هوبرت جريمه" مستشرقٌ ألماني كان أُستاذًا للغات الشرقية في "مونستر" بألمانيا، ومن مؤلَّفاته "محمد" في جزئين، وله دراساتٌ حولَ اسم "محمد"، وله مقدمةٌ في القرآن، ونَسَّقَ علمَ الإلهيات القرآني، ولهذا الدجَّال الأشِر كلامٌ عن شكل السُّور القرآنية وتتابُعِها الزَّمني، وسار فيه على دَربِ مَن سَبَقه من النصارى .. والأمر الذي عليه المسلمون أن هذه القضيةَ قضيةٌ توقيفية لا تَخضعُ للاجتهاد البشريِّ، والنبى - صلى الله عليه وسلم - لم يَترك الأمر في ذلك للأهواءِ والأغراض، بل حَسَمه بتوجيهٍ إلهيٍّ تَمَّ بِناءً عليه ترتيب الآياتِ والسُّوَر على النحوِ المعروفِ في المصحف. ° ويذهب "جريمه" إلى القول بأن محمدًا كان في المَقام الأوَّلِ مثيرًا للفِتَنِ أو محرِّضًا " Agitator" ذكيًّا وسياسيًّا كبيرًا، وفي المدينة تطوَّر محمدٌ -حَسْبَ رأي "جريمه"- في تزايدِ مستمر إلى دجَّالِ عن وَعي بذلك، ولكن ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 168).

الأمرَ الجديدَ تمامًا هو دعوى "جريمه" بأن محمدًا عند ظهورِه الأول "بدعوته" لم يكن يدعُو إلى دين إطلاقًا، بل كان يدعو إلى شكل من أشكالِ الاشتراكية، فالإسلام "لم يَظهرْ إطلاقًا بوصفِه نَسَقًا دينيًّا في الحياة، وإنما بوَصْفِه محاولةً لشكل من أشكالِ الاشتراكية، ليواجهَ ما كان سائدًا إلى حدٍّ بعيدٍ من أحوالٍ أرضيةٍ سيئةٍ معيَّنة. وقد كان التناقُضُ المُخيفُ بين الأغنياءِ والفقراء -والذي كان سائدًا في مكة- هو الذي دَفع محمدًا إلى المطالبةِ بضرورةِ أن يَدفعَ كلُّ فردٍ ضريبةً معينةً لمساعدةِ المحتاجين، ولكي يَجِدَ محمدٌ آذانًا صاغيةً لهذه الدعوة، استخدم عقيدةَ "يوم الحساب" كوسيلةِ إجبارٍ رُوحية" (¬1). وما قاله عن الإسلام والاشتراكية، وأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو إلى لَونٍ من ألوانِ الاشتراكية: دعوى لا يُوافقُه عليها مُعظَمُ المستشرقين؛ بل لعل هذا الكذابَ الأشِرَ قد انفَرَد بها وحدَه، يُحاسِبُه الله عليها يومَ القيامة. وقد عارَضَ هذا الرأيَ في محمدٍ "سنوك هورجرونيه" في مقالةٍ مُسهَبةٍ في "مجلة تاريخ الأديان" (¬2). ° ثم تعالَ إلى دَجَلٍ آخَرَ لهذا الكذابِ المفترِي "جريمه"، فإن حديثَه عن محمد - صلى الله عليه وسلم - في كتابه "تاريخ العالم في صور مميزة"، يأتي بفرضيةٍ جديدةٍ يُحاولُ إثباتَها، وهي الأصلُ العربي الجنوبي لأفكارِ محمدٍ الدينية، ومن أجل هذا الغَرَض خَصَّص النصفَ الأولَ كله من دراستِه لبحث التاريخ ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 169، 170 - 171). (¬2) المصدر السابق (ص 171).

الأقدم لبلادِ العرب، وهنا نتعرَّف على التاريخ السياسيِّ والحضاريِّ لبلادِ العربِ القديمةِ الشماليةِ والجنوبية. والآنَ، فإن الاقتباسَ من جنوبِ العرب لا يُعدُّ فقط أمرًا محتمَلاً، بل هو أمر راجح إلى أقصي حدٍّ .. أجل، فهناك في عبادةِ الإسلام، على كلِّ حالٍ أمورٌ كثيرةٌ مما كان في بلادِ العربِ القديمةِ بقَدْرٍ أكثرَ ممَا كان يفترضُه المرء في العادة. ولكن الأمرَ الذي يُعدُّ بعيدَ الاحتمال جدًّا هو أن تكونَ التأثيراتُ العربيةُ الجنوبيةُ وحدَها هي كل شيء، فالأحرى أنه لا يَجوزُ التغاضي عن التأثيراتِ اليهوديةِ والمسيحيةِ والفارسية، ويُضافُ إلى ذلك أن مكةَ كانت مَدينةً لها صِبغةٌ عالميةٌ لدرجةٍ كبيرة، ومِن ناحيةٍ أخرى كان ظهورُ محمدٍ أمرًا غيرَ عاديٍّ إلى حدٍّ كبير (¬1). ¬

_ (¬1) الديانات السماوية تختلف في طبيعها عن الديانات البشرية، فهذه تخضعُ لمنطقِ التأثير والتأثر .. ومن هنا يُمكنُ البحثُ عن أصولها وفروعها في حضاراتِ وديانات قديمة، أما الدياناتُ السماوية القائمةُ على الوحي الإلهي، فلا تخضعُ لهذا المنطق، وما يبدو فيها من تشابهِ يَرجعُ إلى وحدةِ الأصل الإلهي، والوحيُ اللاحقُ يصحِّحُ ما طرأ على الوحيِ السابق من عناصرَ غريبة، وقد بيَّن القرآن -وهو النصُّ الدينيُّ الذي لم تَنَلْه يدُ التحريف والتبديل باعترافِ كثير من المستشرقين، وعلى رأسهم "رودي بارت" صاحب أحدث ترجمة المانية للقرآن- بين ما طرأ على اليهودية والمسيحية من تصوُّرات لم يتضمنها الوَحْي الأصلي ولا صِلَةَ لها بالوحي الحقيقي، ومنذ أن كَشَف القرآنُ عن ذلك والحَملةُ مستمرةٌ من أتباع هذين الدينين ضدَّ الإسلام، ولا تزالُ قائمةَ لإظهاره بمظهر الدين البشريِّ الملفَّق من ديانات وحضاراتِ سابقة .. اهـ. ما قاله الدكتور محمود حمدي زقزوق في كتابه "الإسلام في تصورات الغرب" (ص 182).

° ومن الطبيعي أن تتوقَّفَ التأثيراتُ العربيةُ الجنوبيةُ بالهجرة (إلى المدينة)، ومِن هذه اللحظة فصاعدًا فَقَدَ "جريمه" أيضًا كلَّ اهتمامٍ بالتطوُّرِ الديني لمحمد، فكلُّ شيءٍ بعدَ ذلك يُعَدُّ بالنسبةِ "لجريمه"، مناورةً سياسيةً لدجَّالٍ امتَهَن الدينَ من أجل غاياتٍ دنيوية، وقد كان هذا الرأيُ عن محمدٍ رأيًا عامًّا شائعًا في السابق، ولا يزالُ الآنَ أيضًا قويَّ الانتشار، ولكنَّ محمدًا لم يكن يَجعلُ هناك أبدًا فارقًا بين الأمور الدينيةِ والأمورِ السياسية، فهو يريدُ الإنسانَ كلَّه، والارتباطُ السياسيُّ هو النتيجةُ البديهيةُ تمامًا للتحوُّل إلى الإسلام، والرعايةُ السياسيةُ لأتباعه تُعَدُّ جانبًا أساسيًّا لنبوَّته، وأيضًا فإنَّ ضَمَّ الكعبةِ إلى دائرةِ نظرتِه أو تأمُّلِه لا يُعَدُّ مناورةً سياسيةً، بل يُعَدُّ تطوُّرًا دينيًّا داخليًّا. ° وفي مقالٍ خاصٍّ نُشر في "مجلة الشرق" الشهرية النمساوية عَرض "جريمه" مرةً أخرى "أصول دين محمد" باختصار، فبجانبِ اليهوديةِ والمسيحيةِ كان هناك دين قائم في الجنوبِ العربي هو "دين الرحمانان"، بِناءً على شهاداتِ النقوش السبئية. ويحاولُ "جريمه" أن يَصِفَ هذا الدينَ من واقع النفوشِ وصفًا دقيقًا، وأن يُبيّنَ صِلَتَه الوثيقةَ بدينِ محمد، ونتيجةً لبحوثه يُقرِّرُ "جريمه" أن الإسلامَ "لم يكن شيئًا وُلد في رأسِ محمدٍ ثمرةً لتأمُّل أصيل دون أيِّ تأثير من العالَم المحيطِ به، بل كان في بداياتِه الأولى كما كان في استمرارِ تطوُّره -طالمَا كان هذا التطوُّرُ يَحدُثُ على أرضِ مكة- متشابكًا تشابُكًا وثيقًا مع "دين الرحمانين" الجنوبي العربي".

سنوك هورجرونيه ( Hurgronje)

وبصرفِ النظرِ عمَّا إذا كان "دين الرحمانان" هذا لم يَثبُتْ إطلاقًا أنه كان دينًا خاصًّا، فإنه يبدو أن "جريمه" هنا أيضًا لم يُقدِّرْ قيمةَ التأثيراتِ اليهوديةِ والمسيحيةِ إلا في أقلِّ القليل، والأمرُ كلُّه لا يعدُو أن يكونَ فَرْضيَّةً طريفة! (¬1). ° قال الدكتور محمود حمدي زقزوق: "إنها فرضية باطلةٌ تَستهينُ بعقولِ الناس، فإذا كان "دينُ الرحمانان" هذا المزعومُ لم يَثبُتْ إطلاقًا كما يقول "بفانموللر" نفسه: "إنه كان دينًا خاصًّا له كيانٌ متميِّز"، فكيف يمكنُ أن يَنتُجَ عنه هذا الدينُ العالمي المتمثِّلُ في الإسلام؟! " (¬2). * سنوك هورجرونيه ( Hurgronje) : يَذهبُ "سنوك" في مقالِهِ المُسَهب في "مجلة تاريخ الأديان" إلى أن "أفكارَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - الرئيسيةَ هي -مع بعضِ التغييراتِ في الشكل- تلك الأفكارُ التي تشتركُ فيها كلٌّ من اليهوديةِ والمسيحية، وفي التفاصيل يُبدِي وَحْيُه تارةً الصِّبغةَ اليهودية، وتارةً أخرى الطابعَ المسيحي، وتارةً ثالثة يُبدي أمورًا متنوعةً لخيالٍ حرٍّ نسبيًّا مبنيٍّ على أساسٍ يهوديٍّ مسيحيٍّ. ولكن محمدًا لم تكن لديه إلاَّ معلوماتٌ ناقصةٌ وقاصرةٌ عن اليهودية والمسيحية، فلم يكن يَعرفُ مثلاً الكتابَ المقدَّس، أو عِلمَ العقيدة الأرثوذكسية، بل كان يعرفُ فقط الأدبَ والتراثَ المشكوكَ في صحَّته ¬

_ (¬1) "الإسلام في تصورات الغرب" (ص 182 - 183). (¬2) المصدر السابق هامش "96 " (ص 183).

( Die apokryphe Literatur) لهذين الدينين (¬1)، وقد كان محمدٌ -فضلاً عن ذلك- رجلاً أُمِّيًّا، وهكذا ظَلَّت الكُتبُ المقدَّسةُ اليهوديةُ والمسيحيةُ غريبةً عنه، وعن طريقِ الحديثِ فقط مع أتباع هذين الدينينِ تعرَّف محمدٌ عليهما كما كانا قائمَينِ في بلادِ العربٍ حينذاك، ويضافُ إلى ذلك أن من الأمور التي تركت لديه انطباعًا خاصًّا كان فنُّ قراءة النصوص المقدَّسة، أو فنُّ تلاوتها وترتيلِها في صلواتِ اليهود والمسيحيين، خاصةً وأنه قد سَمع الناسَ يقولون -واعتقد (ما يقولون) بلا حدود- أن الكُتبَ والألواحَ التي يقرؤُها اليهودُ والمسيحيُّون في صلواتهم، والتي تتضمَّنُ شرائعَهم ومؤسساتِهم ليست ذاتَ مصدرٍ إنسانيٍّ، بل مصدرُها إلهيٌّ. ¬

_ (¬1) يحاول "سنوك هورجرونيه" هنا -وفيما يلي من تفاصيل- بيانَ أن الإسلام دين مأخوذ أساسًا من اليهودية والمسيحية، وقد كانت المعلوماتُ التي تلقَّاها محمد عن هذين الدينين معلوماتٍ ناقصةً وقاصرةً، نظرًا لاعتمادها على مصادرَ مشكوكِ فيها، وهذا الاتجاهُ يكادُ أن يكونَ اتجاهًا عامًّا لدى المستشرقين الذين يُريدون أن يُظهِروا الإسلامَ بمَظهرِ الدينِ البشري الملفقِ من تلك المعلوماتِ التي عَرفها محمدٌ عن طريقِ لقاءاته مع أتباع هذين الدينين، ولكن السؤال هو: لماذا لا يكونُ الإسلامُ دينًا أصيلاً مأخوذًا مباشرةً من نفس النبع الذي أُخذت عنه الدياناتُ السماويةُ قبلَ أن تتدخِّل أيدي الشرِ لتحريفها؟ لماذا لا يكونُ الإسلامُ هو الحَلقةُ الأخيرةُ من حلقاتِ الوحي الإلهي الذي أقام الاتصالَ بين السماء والأرض على مَدى تاريخ الشرية؟ هل مبدأُ جواز اتصالِ السماءٍ بالأرض عن طريقِ الوحي مبدأْ مسلَّمٌ به أم لا؟ إنه إذا كان هذا المبدأُ مسلَّمًا به فلا معنى لأن تحتكرَه اليهوديةُ والمسيحيةُ وتمنعه عن الإسلام، وإذا لم يكن -في عُرفهم- مبدأً مسلَّمًا به فلا مجالَ للديانات جميعًا .. راجع في مناقشة هذا الموضوع كتابنا: "الإسلام في الفكر الغربي" (ص 67 - 73). انتهى ما قاله د. محمود حمدي زقزوق في كتابه "الإسلام في تصورات الغرب" (ص 172) هامش "81".

ولكن كيف تكوَّنَ لدى محمدٍ مفهومُ "الوحي"؟!. في البداية لم يكن محمدٌ يلحَظُ إطلاقًا الموقفَ العَدائي الذي تتَّخذه الطوائفُ والكنائسُ المختلفةُ من بعضِها بعضًا، فالفرقُ بين اليهود والمسيحيين، ووجودِ الطوائفِ والكنائسِ العديدةِ التي كانت تُعادِي بعضُها بعضًا خارجَ هذين الدينين، كل ذلكُّ قد بدا في التصوُّرِ الساذج لمحمدٍ أنه يرجعُ إلى اختلافِ الأجناس أو القوميَّات، فقد تصوَّر البشريةَ -من حيث إنها تَملكُ نِعمةَ الوحي- مقسَّمةً في "جماعات" يمكنُ أن تتميزَ كُتبُها وألواحُها في الشكل والمضمون، ولكنها جميعًا قد جاءت وحيًا من لَدُنْ إلهٍ واحدٍ وللغاية ذاتها. وقد تأسست كل جماعةٍ -في رأيه- عن طريقِ إنسانٍ اصطفاه اللهُ من بين شَعبِه، وتَحمَّل مُهمَّةَ دعوةِ قومِه إلى كلمةِ الله بوصفه نبيًّا ومبعوثًا أو نذيرًا، وهناك عددٌ كبيرٌ من الأنبياء، وليس بينَهم فرقٌ جَوهريٌّ، ولم يَكُنِ اصطفاْءُ محمدٍ للعرب -في نظرِ محمدٍ - أمرًا مختلِفًا عن اصطفاءِ الأنبياءِ السابقين، فقد كان كلُّ منهم مختارًا لشَعبِه الذي ينتمِي إليه (¬1). ¬

_ (¬1) لم يكن ذلك كلُّه اجتهادًا من محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، بل كان وحيًا تلقَّاه من ربه -عز وجل-، وفي هذا الوحي تأكيدٌ على وِحدةِ الأصل البشري وإشارةٌ إلى أن اللهَ سبحانه وتعالي قد جَعل الناسَ شعوبًا وقبائلَ لكي يتعارفوا، وجعل أكرَمَهم عنده أتقاهم، كما أشار الوحيُ إلى أنه ليست هناك أمَّةٌ إلاَّ خلا فيها نذير، وأن اللهَ قد أَرسل إلى كلَّ أمَّةٍ رسولاً بلسانِ قومه، وهناك آياتٌ قرآنيةٌ عديدة توضحُ هذه القضيةَ بجِلاء، ثم كانت رسالةُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - رسالةً عامةً للناس جميعًا , وليس للعرب فقط -كما يزعُم "هورجرونيه"-، وفي أولِ إعلانٍ جَهريٍّ بالدعوة أعلن محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه أُرسِلَ إلى العرب -خاصةً- وإلي الناس- كافةً-، وجاء ذلك في الوحيِ المكيَّ أيضًا في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28] , وفي قوله تعالي: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 1

وهكذا كان في وُسع محمدٍ أن يفترضَ بلا عَناءٍ أنَّ أتباع الدينَينِ القائمينِ الموحَى بهما يُمكنُهم أن يعترفوا به بوصفِه نذيرًا مرسَلاً من الله للغرب، دون أن يَلحَقَ ذلك أيُّ ضررٍ بمعتقداتهم (اليهودية والمسيحية)، ولكن عندما اتَّصل محمدٌ باليهود في المدينة اتصالاً مباشرًا كان لابدَّ له حينئذٍ أن يَعرفَ أن اليهودَ الحقيقيين والمسيحيين الحقيقيين لن يَعترفوا إطلاقًا بأصالةِ بَعثتِه الدينية. ولكنْ نظرًا لأنه من ناحيتِه كان مقتنعًا بشرعيةِ بعثتِه، وكان يعتقدُ أنها من جِنسِ بَعثةِ موسى وعيسي وأسلافهما، فقد أدَّى به ذلك بطبيعةِ الحال إلي نتيجةٍ مؤدَّاها أنَّ اليهودَ والمسحيين قد فَسَّروا الوحيَ الذي لديهم تفسيرًا سيئًا، وعليه إذن أن يقومَ بواجبِ تصحيحهم! وتلك مهمةٌ صعبةٌ لمن لم يَستطعْ أن يقرأَ كُتبَهُم المقدَّسةَ، وكانت لديه أيضًا فضلاً عن ذلك مفاهيم مشوَّشةٌ عن طبيعةِ هذه الكُتبِ وعن مضمونها (¬1). وفي الفترةِ الثانية من نشاطِه شَرعَ محمد أيضًا شروعًا حقيقيًّا في التعرُّف بعضَ الشيءِ عن قُربٍ على التاريخ التقليديِّ الموروثِ للوحي السابق، وحَصَل -مع بعض التغييرات الضرورية- على ما أمكن أن يَخدُمَه في التحرُّرِ من اليهودية والمسيحية اللتين استَشهَدَ بهما في السابق أكثَرَ من ¬

_ (¬1) لم يكن محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - في حاجه إلى قراءةِ كُتبِ اليهود والنصارى، ولم تكن لديه معلوماتٌ مشوَّشةٌ عن تلك الكتب؛ لأن الله الذي أنزل التوراة والإنجيل هو نفسُه الذي أخبَرَ محمدًا عن طريقِ الوحي بما طَرَأ على هذين الدينينِ من تحريفٍ وتبديل، وبين له طبيعةَ هذا التحريف.

مرةٍ على حقيقةِ بَعثته، ولم يكن في ذلك الاستشهادِ شيءٌ من الحِكمة (¬1). ولن نَقِفَ عند المراحل الجزئيةِ لعمليةِ التحرُّر هذه، وسنقتصرُ على إثباتِ أن محمدًا لم يتوصَّلْ إلى حَل المشكلةِ دَفعة واحدةً، بل تمَ ذلك بالتدريج شيئًا فشيئًا، ففي حين كان إبراهيمُ يُعَدُّ في الوحيِ السابق [الذي نزَل على محمد] واحدًا من أسلافِ محمدٍ العديِدينَ فحسب، يُصبحُ الآن [بالنسبة لمحمد] رائدَه ومَثَلَه الأعلى على الإطلاق، وقد استَمدَّ إبراهيمُ هذه المنزلةَ العالية لدى محمدٍ من أمرينِ توصَّل محمدٌ إلى معرفتِهما أولاً في المدينة. الأمرُ الأول: يتمثلُ في أن إبراهيمَ -الذي يُقدسُه اليهودُ والمسيحيون بنفس الطريقةِ بوصفِه "رجلَ الله"- لم يكن يهوديا ولا مسيحيًّا (¬2)، وكونُ محمدٍ قد جَعل اصطفاءَه مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بتلك الأبوَّةِ، مَكَّنه مِن تفادِي اتهاماتِ اليهودِ الذين رَمَوه بأنه لم يُراع شريعتَهم مراعاةً تامةً، واتهاماتِ المسيحيين أيضًا الذين عارَضوه بعقيدةِ الخلاصِ عن طريق المسيح وحدَه. ¬

_ (¬1) ما يقوله "هورجرونيه" في كلِّ تفصيلاته حولَ موضوِع علاقةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - باليهودية والمسيحية مبني على افتراضِ أن الإسلامَ دين بشري تفتَق عنه ذهنُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ومِن هنا نجدُ هذا الحِرصَ الشديدَ على تفسيرِ كل شيءٍ من هذا المنطلق، وبناءً على هذا الفَرض الذي يَعُدُّه المستشرقون حُجَّة مسلَّمة، فالأمرُ إذن يدورُ حولَ رفض مُسبَقٍ للإسلام بوصفه دينًا سماويًّا، وهذا الرفضُ ليس له من علاج إلا دراسةُ الإسلام دراسةً نزيهةً محايدةً دون أن تكون هناك أوهام وتصورات أو أحكام سابقة. (¬2) لم يكن ذلك معرفةً تَوصَّل إليها محمدٌ، بل كان وحيًا قرآنيًّا جاء في قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67].

أما الأمر الثاني: فقد كان يَتمثَّلُ في أنَّ محمدًا قد عَرَف أن الكتابَ المقدَّس قد جَعَل من إبراهيمَ الأبَ الأولَ للعرب، وهكذا كان محمدٌ يَميلُ بطبيعةِ الحال إلى الاستنادِ إلى أبي الجِنس الذي ينتمي هو إليه، وقد وَصف محمدٌ نفسَه من الآنِ فصاعِدًا بأنه ذلك النبي الذي جاء لإكمالِ العمل الذي بدأه الأبَوانِ إبراهيمُ وإسماعيل، فالإسلامُ الذي دعا إليه محمدٌ كان هو نفسَه تمامًا ذلك الذي دعا إليه إبراهيم، وقد كان إبراهيمُ -الأبُ الأولُ للعرب- مثلَ محمدٍ تمامًا مُسلِمًا وحَنِيفًا, ولكن إبراهيمَ لم يكن بالنسبةِ لمحمدٍ المحرِّرَ من اليهوديةِ والمسيحية فحسب، فقد خَدَم النبي الأبُ محمدًا أيضًا في إدخالِ طقوسِ العبادةِ المَكيَّةِ في الإسلام بعدَ أن خَلَّصها من بعضِ المراسِم التي تكشِفُ بوضوح عن أصلٍ وَثَني. وكان إبراهيمُ قد دَفع بإسماعيلَ وأمه إلى بلاد العرب، وفي وُسع المرءِ إذن أن يَفترضَ أنهما قد جاءَا إلى مكةَ وأسسا الكعبةَ هناك بِناءً على أمر إلهيٍّ، وهذا الافتراضُ يَتضمَّنُ بطبيعةِ الحال أن نَسْلَ إسماعيلَ قد أفسَدَ بصفةٍ عامةٍ العبادةَ والدينَ بطريقةٍ مُزعجة. إنَّ صِلاتِ محمدٍ باليهوديةِ والمسيحية -كما وصفناها هنا- وتاريخَ تطوُّرِ أسطورةِ إبراهيمَ في عَقِل محمدٍ بصفةٍ خاصة-، كلُّ ذلك يَستبعدُ الآنَ تمامًا الرأيَ الذي يَذهبُ إلى القولِ بأن دَعوةَ محمدٍ قد استَندت إلى جماعةِ الحنفاءِ الذين كانوا مِن قَبلِه يَدْعُون إلى شيءِ من اليهودية والمسيحية تحت اسم "دين إبراهيم" (¬1). ¬

_ (¬1) لقد ورد ذكرُ إبراهيمَ عليه السلام في القرآن في تِسع وستين موضعًا، منها اثنتانِ وثلاثون مرةً في =

وبعد أنْ وَصَف "سنوك هورجرونيه" صِلاتِ محمدٍ باليهودية والمسيحية يَطرحُ السؤالَ عن الدافع المحدَّدِ لبَعثتِه النبوية. لقد كان المرء في السابق يَرى بطريقةٍ عامةٍ أن مِحورَ دعوةِ محمدٍ يتمثَّلُ في كِفاحِه ضدَّ الوثنيةِ لصالح "عقيدةِ" التوحيدِ الصارم، ومن المؤكَّد -كما يرى "سنوك هورجرونيه"- أن وِحدةَ الله كانت تُمثِّلُ أحدَ الأعمدةِ الرئيسيةِ للإسلامِ، وقد نالت هذه العقيدةُ -فيما بعدُ- أهميةً متنامِيةً باستمرار، ولكن الحماس للدفاع عن الوحدةِ الالهيةِ ضذَ الوثنيةِ وضدَّ التثليث .. إلخ لم يكن بالنسبةِ لمحمدٍ هو الدافعَ المحدَّدَ لبعثتِه النبوية، فقد كانت هناك بالأحرى منذُ البدايةِ فكرةٌ احتَلَّت مكانَ الصدارة من تفكيره وسلوكِه، وهي فكرةُ "يوم الحساب"، فالأمرُ الذي كان يُقلِقُه هو الاقتناعُ بأن الناسَ جميعًا سوف يُضطرُّون في يومٍ من الأيام للمُثول أمامَ الله للحساب، وأنه لن يكونَ أمامَهم مَخرجٌ آخَرُ غيرُ بابِ النارِ أو بابِ الجنة (¬1). ¬

_ = آياتٍ مكيةٍ وسَبعٌ وثلاثون مرةً في آيات مدنية. وقد جاء الأمرُ باتباع مِلَّةِ إبراهيم أولاً في آيةٍ مكية في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123]، وتكرر هذا المعنى في أكثرَ من آيةِ مَدَنية، مثل قوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78]، وقوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة: 4]، أما بِناءُ الكعبةِ، فقد تم علي يد إبراهيمَ وإسماعيل عليهما السلام، كما ورد ذلكَ في قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127]. ويريد "هورجرونيه" -كعادةِ غالبية المستشرقين- أن يُصوِّرَ علاقة محمد - صلى الله عليه وسلم - بإبراهيمَ وإسماعيلَ -عليهما الصلاةُ والسلامَ- بأنها أسطورةٌ كانت تدورُ في عقل محمد إنطلاقًا من زعمه الباطل بأن القرآن ليس وحيًا حقيقيًّا من عند الله. (¬1) الإيمانُ باللَه الواحدِ الذي لا شريكَ له مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بالإيمانِ باليوم الآخر، والقرآ

وقد كانت هناك فكرتانِ تتنازعانِ في عَقلهِ على السيطرة. فمن ناحيةٍ كانت هناك فكرةٌ محكمةٌ عامةٌ للناس جميعًا بعد بَعثِ الأموات. ومن ناحيةٍ أخرى كان هناك الخوفُ من المحاكَماتِ الجزئيةِ التي تتعرَّض لها من عصر إلى عصر الشعوبُ التي تتمرَّدُ على رُسُل الله. وقد كانت هذه الأفكارُ المتمثِّلةُ في الكارثةِ النهائيةِ وبَعثِ الأمواتِ والحسابِ والنارِ والجنة، هي التي دَفعت محمدًا إلى إنعامِ الفِكرِ وإلي النبوَّة، وقد عَرَضت أقدمُ الآياتِ القرآنيةِ هذه القضايا بإثارةٍ عاطِفِيَّةٍ تكاد أن تكونَ في صورةٍ وحشيَّة، وقد اتَّخذت هذه القضايا فيما بعدُ اشكالاً أكثرَ ثَباتًا وأكثرَ تقليديةً، وأخيرًا عندما أصبح النبيُّ على رأسِ جماعةٍ تَحتَّمَ عليه أن يقومَ بتنظيمها، وعندما توقَّف الصراعُ ضدَّ الكفارِ -في مُحيطه- ظَلَّت عقيدةُ "العالم الآخر" عنصرًا أساسيًّا من عناصرِ الإسلام، ولكنَّ التصويرَ المثيرَ للعواطفِ بشأنِ يوم الحساب لم يَعُدْ يَظهرُ في الوحي المحمديِّ إلاَّ نادرًا (¬1). ¬

_ = الكريمُ يَربطُ باستمرارٍ بينهما، فالإيمانُ باليوم الآخر ينبني على الإيمان بالله، ولا يُتصوَّرُ إيمان باليوم الآخر دونَ الإيمانِ بالله، يقول الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ .. } [البقرة: 177]. وقد ورد تعبير "الإيمان باليوم الآخر" مسبوقًا "بالإيمان بالله" في كل المواضع القرآنية التي ذُكر فيها اليوم الآخر. (¬1) لم تكن هذه أفكارًا تتنازعُ في عَقل محمدٍ كما يزعمُ "هورجرونيه"، وإنما كانت وحيًا من عند الله، أمَّا كونُ الحديثِ عن البعثِ والحسابِ والجنةِ والنار .. إلِخ قد جاء في البداية في صورة تُثيرُ العواطفِ وتَهُز القلوبَ، فذلك يرجعُ إلى أن القلوب كانت فِعلاً في حاجةٍ =

إنَّ فِكرةَ "المَحكمة الإلهية" -التي كانت فكرةَ مشتركةَ بين اليهود والمسيحيين- قد أرَّقت محمدًا، واقَضَّتْ مَضْجَعَه إذن منذ البداية، ولكن اليهودَ والمسيحيين كانوا قد عَرفوا عن طريقِ الوحي يقينيَّةَ يوم الحساب، وليس هذا فحسب، بل عَرفوا أيضًا الأوامرَ التي أعطَتْهم مراعاتُها اليقينَ بأنهم سيكونون من الناجِين في يوم الحساب، (أما العرب فلم يأتهم نذير) {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص: 46]. ولم تكنِ المساواةُ التي أقرَّها محمدٌ بين الشعوبِ أو الأجناسِ والطوائفِ الدينيةِ تَسمحُ له بالاعتقادِ بأن وَحيًّا مِن هذا الوَحيِ السابقِ (في اليهودية والمسيحية) كان مقرَّرًا لشعبهِ أو مقرَّرًا له هو، فكيف إذن يَتجنَّبُ محمدٌ وقومه العذابَ المقيم؟. لقد أجابت عن هذه القضيةِ الحياتية "المصيرية" آياتُ القرآن التي يُنظَرُ إليها بالإجماع على أنها أقدمُ الآياتِ، سواءٌ من جانبِ المسلمين الأصوليين ¬

_ = إلي هذه الإثارةِ العاطفيةِ، نظراً لتحجُّرها وجُمودها وانغلاقها، وقد سَجَّل الوحيُ المكي ذلك في قوله تعالي: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] ومن هنا كان حديثُ القرآنِ عن نهايةِ العالَم ويوم القيامة بأوصاف "الزلزلة، والقارعة، والراجفة، والصاخَّة، والطامَّة الكبري". وبعد أن فتح اللهُ القلوب الغُلْفَ والآذانَ الصُم والأعينَ العُمْيَ، ودَخَل الناسُ في دين الله أفواجًا، لم يكن القرآنُ في حاجةٍ إلى تكرير نفسِ الأسلوب، فلكل مَقامٍ مَقال، ولكن هذا الأسلوبَ سيظل أيضًا قائمًا في كل العصور للقلوب التي يُصيبُها الوَهْنُ والعقولِ التي يَعتريها الغرور، فيكون عِلاجًا مستمرًّا ناجعًا لأمراض القلوب.

مرجليوث Margoliouth (1858-1940)

أو من جانبِ النظرةِ النقديةِ أيضًا. فإذا أراد المرءُ أن يَعتبرَ محمدًا إنسانًا قد أوحي إليه حقًّا من عند الله، أو إذا أراد المرء أن يَعتبرَ أنه قد أُعطي له حدٌّ أدنى فقط من الرُّوح النبويِّ، أو إذا أراد أن يَعتبرَ أن الشيطانَ قد تَلبَّسه، أو أنه إنسان هِستيريٌّ، أو مصابٌ بالصرع، فإن الأمرَ الذي لا جِدالَ فيه أنه كان لديه المِزَاجُ العقليُّ الخاصُّ الذي يَدفع أُناسًا معيَّنين إلى إنعام الفِكرِ وتعذيبِ أنفسِهم بمسائلَ دينيةٍ إلى أن يَجِدوا حَلاًّ لها , ولم يكن هناك في الماضي "بالنسبة لمحمد" أحدٌ من رجالِ الله استطاع أن يُجيبَ عن الشدَّةِ والمعاناةِ التي أقَضت مَضْجَعَ محمدٍ بوَحيٍ يَشتملُ على الحقيقةِ الواضحة عن البَعث ويوم الحساب، والأمرُ الأقل مِن ذلك بكثير أنه لم يكن هناك أحدٌ مِن أمثالِ هؤلاءِ بين معاصِرِيه وقد أتى إليه الخلاص من أعلي! وقد كان هو نفسه مُعيَّنًا مِن قِبَل اللهِ لإخراج قومِه من الظلماتِ إلى النور! (¬1). * مرجليوث Margoliouth (1858-1940) : " د. س. مرجليوث" (1858 - 1940) مستشرقٌ إنجليزي معروف، كان أستاذًا للعربية في جامعة "أكسفورد" منذ عام 1889، ومن مؤلَّفاته "محمد ونهضة الإسلام" (1905 م)، و"أصول الشعر العربي" (1925) وهذا البحث الأخيرُ هو الذي اعتَمد عليه الدكتور "طه حسين" في كتابه عن "الشعر الجاهلي" عام 1926 م. ¬

_ (¬1) "الإسلام في تصورات الغرب" (ص 171 - 178).

"مرجليوث" -وهو من كبار المستشرقين- كان له اتصالٌ واسع المدى مع المصريِّين بعد الاحتلالِ البريطاني، وقد اتَّصل به الشيخ "عبد العزيز جاويش" وهاجَمَه عندما أصدر كتابه "محمد وظهور الإسلام". ومنذ عام 1907 تناوَلت الصُّحُفُ في مصرَ آراءَه، فقد أَصدرَ في ذلك الوقتِ كتابًا عن النبيِّ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وجَعله حَلْقةً من سلسلةِ "عظماء الأمم"، وَصَفه "سليمانُ النَّدْويُّ" فيما بعدُ بأنه لم يؤلَّف بالإنجليزية كتابٌ أشدُّ تحامُلاً على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - منه، حاوَل فيه "مرجليوث" أن يُشوِّهَ كل ما يَتعلَّقُ بالسيرة، وأن يُشكِّكَ في أسانيدها , ولم يَأْلُ جَهْدًا في نَقضِ ما أَبْرمَه التاريخُ ومعارضةِ ما حَقَّقه المحقِّقون من المُنصِفين، وقد أشار الشيخ "جاويش" إلى آراء "مرجليوث"، وقال: "إنه -أي مرجليوث- حارَبَ التاريخَ كما حارَبَ الإنصَافَ، وحَمَل على الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - حَمْلاتٍ مُنكَرَةً "، وأشار إلى قولِ "مرجليوث": " إنَّ المسلمَ معناه في الأصل: الخائن"، وعَلَّل ذلك بأن هذه الكلمة مشتقَّةٌ من اسم مسلم، وادَّعي "مرجليوث" أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانت تنتابهُ النُّوَبُ العصبيةُ كثيرًا، وزَعَم المؤلِّفُ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عاشَرَ بعضَ النصارى، فاستفاد كثيرًا من القَصص، واقتَبَس بعضَ أساليبِ التعبير، وعَلَّل زَواجَه بخديجةَ بطَمَعِه في مالها. وقد صارت آراءُ "مرجليوث" مَصدرًا للمتعصِّبين من الكُتَّابِ الغربيِّين، ومن ذلك ما نَقَله عنه مستر "سكوت" وأثار كثيرًا من الاعتراضات، وقد أشار رضا إلى أن السببَ في أكثرِ غَلَط "مرجليوث" وخَطأه في السيرة هو التحكُّمُ في الاستنباطِ والقياسِ الجُزئيِّ وبيانِ أسبابِ

الحوادث، كما هو شأنُهم في أَخذِ تاريخ الأقدمِين من الآثارِ المكتَشَفة واللغات المَنسِيَّة ونَقصِ فهمهم. ° كما أشار صاحبُ المقبس "محمد كرد علي" إلى كتابه "عظماء الأمم" فقال: "إنه لم يؤلَّفْ كتابٌ بالإنجليزية أشدُّ تحامُلاً على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مما جاء بهذا الكتاب، فقد حاول "مرجليوث" أن يُشوِّهَ كلَّ ما يَتعلَّقُ بالسيرة الشريفة، وأن يُشكِّك في أسانيدها , ولم يَأْلُ جَهدًا في نقضِ ما أَبرمه التاريخ ويعارِضُ ما حَقَّقه من المثقفين، و"مرجليوثُ" له فَرضٌ في الشَّعر الجاهلي، نَشَره في يوليو 1935 في إحدى المجلات الاستشراقية، وفي 1926 نَقَله "طه حسين" في كتابه المشهور عن الشعر الجاهلي، يقول "مالك بن نبي": "ربما لم يكن فَرضُ "مرجليوث" ليحتويَ على شيءٍ خاصٍّ غيرِ عادي لو أنه حينَ نُشِر لم يُصادِفْ ذلك الترحيبَ الحارَّ من المجلاَّت المستغربة، ومِن بعض الرسالاتِ التي يقومُ بها دكاترةٌ عَرَب مُحدَثون، حتى لقد كَسَب هذا الفرضُ قيمةَ المقياسِ الثابتِ في دراسةِ الدكتورِ "صبَّاغ" عن "المجاز في القرآن"، وقد رفض الدكتور "صبَّاغ" رفضًا مقصودًا مغرضًا الاعترافَ بالشِّعر الجاهليِّ كحقيقةٍ موضوعيةٍ في تاريخ الأدب العربي". وكَتَب "مرجليوثُ" مقالاً نشر عام 1904، فردَّد قولَ "برايس" مِن أنَّ الإسلام لم يَبْقَ من عُمرِه إلاَّ قَرنان، كما أعاد ما قاله أحدُ المبشِّرين مِن أن الإسلام لا يَلبثُ أن يَذوبَ ذَوَبانَ الثلْج بين يَدَيِ العِلو والتمدُّنِ والنصرانية، كما نَقَل رأْيَ الدكتور "بروين" الذي قال: "إن الإسلام يذهبُ بذَهابِ الدولةِ العثمانية"، ومضى يُردِّدُ الكلماتِ التقليديةَ التي يُرددها المتعصِّبون وخُدَّامُ الاستعمار من أنَّ الإسلام لن يَبقَي بعدَ احتكاكِه بالتمدُّنِ الحديث،

ويموتُ لا محالةَ، كما رَدَّدَ ما قاله أحدُ كُتَّاب التغريب من أنَّ الانحطاطَ الذي يَعيشُه المسلمون -في هذه الفترة- يَرجع إلى أسبابٍ متَّصلةٍ بالإسلام نفسه؛ لأنه لا يوافقُ رُوحَ التمدُّنِ، وهكذا يَتكشَّفُ في كتاباتِه جُمَّاع مُنَسَّقٌ لِمَا تُورِدُه حَمْلاتُ التشكيك التي لا يَرقي كُتَّابُها إلى مَقام العلماء، ونَقَد العلاَّمة "عبد العزيز جاويش" هذا الكتاب "محمد وظهور الإسلام" لـ"مرجليوث"، فقال: كتاب وَضَعه مستر "مرجليوث": ظهر هذا الكتابُ من نحوِ سبعةِ أعوامٍ، ونُفوسُ الإنجليز والأمريكيين تَرقُبُه لِمَا لذلك الرجل عندهم من المكانةِ العِلميَّةِ الرفيعة، ولا سيَّما وهو مشغوفٌ بدعوى أنه محيطٌ بأكثرِ لغاتِ العالم، فتراه يَدَّعَي العِلمَ بالإسبانيةِ والفِرنسيةِ والإيطالية والألمانيةِ والعَربيةِ والفارسية والعِبرانية، وقد كُنتُ إِبَّانَ ظُهورِ الكِتابِ في مدينة "أكسفورد" حيث المؤلّف، لَمَّا ذَكرتُ له رغبتي في شراءِ كتابه، وَعَد أن يُقدِّمَ لي منه نُسخةً، ثم جَعَل يتباطأ تارةً، ويتناسى أخرى، حتى مَلِلتُ وُعودَه، وظَننتُ أنه لا بد لهذا الكِتابِ مِن سرٍّ يُريدُ إخفاءَه عني، ولا سيَّما والمؤلفُ يَعلمُ أنني ضعيفُ الثقةِ بكثير من المستشرقين، سيئُ الظنِّ بهم، وقد كنتُ في الواقع كذلك، ولكنْ بعد أن خَبَرتُهم، وسَبَرْتُ غَوْرَ معلوماتِهم، وتَتبَّعتُ مَبلغَ كفاءتَهم، ولولا أنني وَجدتُ مِن بينهم أفذاذًا قليلينَ جدًّا، لَمَا اطمأنَّت نفسي إلى أحدٍ منهم , فلما حَصُلتُ على الكِتابِ وتصفَّحتُه ثم درستُه بابًا بابًا وكلمةً كلمةً، حتى جِئتُ على آخِرِه، فوجدتُه عند ظنِّي به، وجدتُه حارَبَ التاريخ كما حارَبَ الإنصافَ، وحَمَل على الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - حَمْلاتٍ منكرةً، ويَظهرُ أن المؤلِّفَ توقَّع أنْ لا يَقَعَ كتابُه إلاَّ في أيدي البُلْهِ، ولا يَطَّلعُ عليه إلاَّ الأغرارُ، فلم يُبالِ أنْ جاء فيه بمُحدَثاتٍ لو أنه تَدبَّر لَمَا

اجترأَ على الإقدام عليها، فمِن ذلك أنه يقول: إن "المسلم"معناه في الأصل "الخائن"، وعَلَّل ذلك بأن الكلمةَ مشتقَّةٌ من اسمٍ مسلم، ثم زَعَم أن المسلمين سَمَّوا أنفُسَهم بذلك من غيرِ تدبُّر، ثم حَوَّلوا هذه المادةَ إلى معنَى "التسليم" المشهور اليومَ، وادَّعى المسترُ "مرجليوث" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت تنتابُه النُّوَبُ العصبيةُ كثيرًا، وفَسر بذلك ما كان يُصيبُه - صلى الله عليه وسلم - من الجَهدِ خلالَ نزولِ الوحي، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - لَم يُعرفْ في تاريخ حياته أنه كان يُصابُ بأمثالِ تلك النوْباتِ العصبيةِ قبلَ زَمَنِ البعثةِ ومُقدماتِها. وزَعَم أنَّ ما كان من بلاغ النبي ورسالاتِه لم يكن وحيًا يُوحى، وإنما آراءٌ وأنباء يَجيئُه بها جواسيسُه وعُيونُه. وقال: إن محمدًا والذين آمنوا به قد كَوَّنوا جماعةً سِرِّيَّةً على نحوِ ما يفعل الماسون، وإن هذا الجَمْعَ السِّرِّيَّ قد اتَّخذ له بِضعَ رُموزٍ، منها قولهم: "السلام عليكم". وللمستر "مرجليوث" عِدة تأويلاتٍ من أعجبِ ما يَرى الراؤون، فمِن ذلك ما قاله في "التوحيد" -الذي هو رُوحُ الإسلام-، فلقد زَعَم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نَظَر في تعاليم النصارى واليهود، فأخرج منها ما لا يَقبلُه العقلُ، وكان "الله" أحدَ أصنام الكعبة قبلَ الإسلام، فوفَّق بين إلهِ اليهود والنصارى، وجَعَلهما واحدًا، فكيف يكونُ التوحيدُ هو عينَ التثليث، إلاَّ في نَظَرِ مَن يُغالِطون في القضايا الحسابية العقلية؟! ولو أن الكاتبَ أراد أن يُنصِف الحقَّ والتاريخَ لقال بما قال به القرآنُ -في أكثرَ مِن آيةٍ- من أن التوحيدَ هو دينُ جميع رُسُل الله وأنبيائه.

ومما وَرَد في الكتاب في تعليل إسلام عُمرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنه - بأن سِرَّ انقلابِ عُمرَ من اضطهادِ أُختِهِ وضَربِها إلى مجاراتِها والمبادرةِ باعتناقِ الإسلام، بأنه تأثر مِن رؤيتِها مجروحةً بسببِ قَسوتِه وتَسرُّعِه، فأحبَّ أن يُكفِّرَ عن سيئته هذه، فأظهر إعجابَه بالقرآن، ورَضِي الإسلام دينًا (¬1). يتصفَّحُ الناقدُ هذا الكتابَ فيتمثلُ صاحبَه إذ أَخذ يُدافعُ عن اليهود كأنه يهوديُّ المنبَت، وإذا كتب للدفاع عن النصارى فكأنه هو نصرانيٌّ صميم .. وإذا ذَكَر حوادثَ الوثنيين من العرب، وما أصاب النبيَّ من أذاهم وكيدِهم طَرِبَ طَربه ممن دبَّر تلك الحكايةَ، وأمعن في إيصالها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وقد اشتُهر مستر "مرجليوث" بقُدرتِه البليغةِ وعلمه الواسع باللغة العربية، وأنا لا أريدُ أن أذكرَ هنا رأيي في هذا المستشرق الشهيرِ اكتفاءً بحادثةٍ وقعت لنا في جامعة "أكسفورد"، ذلك أنني كنتُ مدعوًّا معه في بعض المنازل، فلمَّا كنَّا على المادة، سألني بعضُ الحاضرين: هل سَبَق لي أكلُ لَحم الجَزُور، فأجبته أنني لا أذكرُ ذلك، وربما اتفق لي هذا وأنا صغير، فلمَّا سمع الأستاذ "مرجليوث" هذا الكلام قال: كيف ذلك، وعلى كلِّ مسلم فَرضٌ أن يأكلَ لَحمَ الجِمالِ ولو مرةً واحدةً في حياته؛ لأنه من قواعدِ الإسلام، عند ذلك أجبتُه -وأنا دَهِشٌ مما قال-: يا سيدي، إنَني أَعرِفُ أن قواعدَ الإسلام خمس، أمَّا هذا السادسُ، فلا أعرفُه، بَيْدَ أني أستميحُ الأستاذَ عَفوًا أن يذكرَ لي مأخذَ هذا الحُكم! فقال: إنه وَرَد في "صحيح البخاري" أنه قد جاء أحدُ اليهود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال له: "إني جئت ¬

_ (¬1) هذه القصة مشهورة في بعض كتب التاريخ، لكنها لا تصحُّ -كما ذَكَر حُفَّاظُ الحديث .. فانتبه.

أشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ الله وأنك رسول الله، فأجلَسَه الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - وأَمَر له بلَحم جَزورٍ"، ومِن هنا استنبط مِستر "مرجليوث" أنه يَجب على كلِّ مسلم أن يأكلَ لَحم الجَزور وأنَّ هذا من العوائدِ الإسلامية التي يَنهدم الدين بانهدامها، فلمَّا فَرَغ قلت له: إنْ صَح وجود هذا الحديثِ في "البخاريِّ" فالذي يَفهمُه المسلم الذي يَفقَه اللغةَ العربيةَ منه أحدَ أمرين: فإمَّا أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أراد يُقدِّم لذلك اليهوديِّ شيئًا من الطعام؛ لأنه ضَيفُه في بيته. وإمَّا أنه أراد أن يَمتحنَ إيمانَ اليهوديِّ بإطعامه شيئًا ممَّا حَرَّمه اللهُ على بني إسرائيلَ في التوارة من أجزاءِ اللحم. ثم تَلَوث الأدلةَ المفيدةَ لذلك، فبُهت الأستاذ، ولكنْ لم تَجْسَر قُوَّةُ المكابَرة وشِدُّة العنادِ التي فطر عليها الأوربيون -ولا سيَّما المستشرقون منهم- على أن تحوله عن رأيه، وبمثل كلام هذا الأستاذِ يَقتدي واضِعوا الكتبِ التاريخيةِ القانونية، وعن مِثلِه يَنقل أمثالُ مستر "سكوت" آدابَ الإسلام ودقائقَ أسراره. ° يقول "بفانموللر" المستشرقُ الألماني: "ويَرى "مرجليوث" في محمدٍ دَجَّالاً ماكرًا معدومَ الضمير، وسياسيًّا يَخدعُ الآخَرين بشعوذاته، وبذلك يَسُدُّ "مرجليوث" على نفسِه الطريقَ لفَهم أخلاقِ محمدٍ وتطوُّره" (¬1). فيا لَه من إسفافٍ وتطاولٍ وافتراءٍ وكذبٍ على سيِّد البشر - صلى الله عليه وسلم -!. وتَتَبَّعَ "مرجليوث" بشَغَفٍ ظاهرة الوحي لدى محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ويقارنُها بأقوالِ المذهبِ الرُّوحيِّ الحديث وبالمذهبِ المورموني ( Mormonism) (¬2) . ¬

_ (¬1) " الإسلام في تصوُّرات الغرب" (ص 185). (¬2) المصدر السابق (ص 185).

ماير ( Meyer) (1855-1930)

* ماير ( Meyer) (1855-1930) : " إدوارد ماير"، مستشرق ألماني، وقد صدر كتابه عن "أصل المورمون وتاريخهم مع نظرةٍ حول بدايات الإسلام والمسيحية" في "هاله" بألمانيا عام 1912م، وقد قام "ماير" باستخلاصِ أوجُهِ الشبَّهِ بين ظهورِ محمدٍ ومؤسِّسِ طائفةِ المورمون "جوزيف سميث" ° والمورمون طائفةٌ مسيحية، أسَّسها في الولاياتِ المتَحدة عام 1830 "جوزيف سميث" (1805 - 1844)، وادَّعي أنه يُوحَى إليه، وقد أسَّس المورمون عام 1848 مدينةَ "المورمون" انتظارًا لعودة المسيح، والسؤالُ الآن هو: أيُّ أوجُهِ شَبَهٍ يريد أن يستخلصَها "ماير" من مقارنتِه بين بَعثةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ومؤسسِ هذه البدعةِ الجديدةِ "جوزيف سميث"؟ إنَّ هذا ضربٌ من العَبَث، واستهانةٌ بعقليةِ القارئ الذي لا تَخفي عليه أهدافُ هذا العَبَثِ الذي ليس له مبرِّرٌ ديني أو أخلاقي (¬1). وَيرى الدَّجَّالُ "ماير" أن "سِدْرةَ المنتهى" مكان معيَّن لدى "مكة" ضاعت مَعالمُه بَعدَ ذلك -متفِقًا في ذلك مع "اشبرنجر"-، وهذا فَهمٌ أَبْلَهُ ليس له ما يُبرره إلاَّ محاولةُ فَهم الإسلام بأنه مقطوعُ الصِّلة بالسماء!. * ليوني كيتاني (1859 - 1926): ° الأمير "ليوني كيتاني"، مستشرقٌ إيطالي، قال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يقوله "بفانموللر": "كيف تَحوَّل الداعيةُ المتحمِّسُ للهِ تحوُّلاً سريعًا، بمجردِ ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 195).

هنري لامنس، الراهب اليسوعي المورخ الكذاب (1862 - 1937)

أنِ استقرت أقدامُه في المدينة، إلى سيدٍ دُنيويٍّ وسياسيٍّ عبقريٍّ، دونَ أن يَحدُثَ في باطنِه تصدُّعٌ واعٍ وحقيقي؟! والأمرُ الهامُ أن محمدًا أيضًا في شتَّى تنظيماتِه وأعمالِه التي تَجرحُ شعورَنا الأخلاقي جُرحًا بالغًا لم يَفقدِ الوعيَ بأنه أداةُ إلهِهِ، هذا الإلُه الذي هو نَفسُه لديه نِقاطُ ضعفٍ إنسانيٍّ إلى حدٍّ ما. ° يقول الدكتور حمدي زقزوق معلِّقًا:"الإسلام دينٌ ودنيا، وسياسةٌ وأخلاق، عقيدةٌ وشريعة، وهذا أمرٌ لا يُريدُ المستشرقون أن يَفهموه، ثم ما هي تلك الأعمالُ التي صَدرت من محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وتَجرحُ الشعورَ الأخلاقي لدى الأوربيين جُرحًا بالغًا؟!! وما هي نِقاطُ الضعفِ الإنسانيِّ التي يُريدُ أن يَنسِبَها "كيتاني" إلى الله -عز وجل-؟!!!! هذا كلامٌ غريبٌ لا سَندَ له على الإطلاق من عقائد الإسلام وتشريعاته، فالإسلام جاء لِيُتَمِّمَ الله به مكارمَ الأخلاق، وتنزيهُ الله في الإسلام عن صفاتِ المخلوقين، ومخالفتُه للحوادثِ من الأمورِ المشهورة التي لا تَحتاج إلى مزيدِ بيان". * هنري لامنس، الراهبُ اليسوعي المورِّخُ الكذاب (1862 - 1937): يُعدُّ "هنري لامنس" من أشدِّ المستشرقين تعصُّبًا على الفِكرِ العربيِّ الإسلاميِّ، وقد بالَغ في التعصُّبِ على الإسلام، حتى أعلَن المنصِفون شَكَّهم في أمانتِه العلمية، وقالوا: "إنه لا يَنسَى عواطفَه فيما يكتبُ عن النبيِّ والإسلام، وإنه كان داعيةً ولم يكن عالِمًا"، وقد عُرف بتهكُّمِه على النصوص العربية، كما وُصف بإرهاقه للنصوص وتحميلِها أكثرَ مما تحتمل، فإذا وَجد في الإسلام موضعًا للفضل ذَهب بنسبتِه إلى مَصدَرٍ

غيرِ إسلامي. ولد عام 1862 في "بلجيكا"، واتَّخذ "لبنان" موطِنًا، ودَرَس في "الكلية اليسوعية" ببيروت، واشتَغل بالتدريس فيها من 1886، وتَخصَّص في "تاريخ الشرق الأدنى وحضارة أهله"، وأتقن اللغةَ العربيةَ، وعُيِّن 1907 أستاذًا في "مَعهدِ الدراساتِ الشرقيَّةِ" في الكليَّةِ اليسوعية ببيروت، وتُوفِّي في مايو 1937، ووصف بالراهب المؤرِّخ، وأخذ عن "جولد زهير" و"نولدكه" و"كيناني" و"ولهوزن"، وله كتابٌ عن حياةِ محمدٍ، لم تُوافِقْ دوائرُ الفاتيكان على نَشره، خَشيةَ أن يؤدي ما فيه مِن طعن وتهجُّم إلى احتجاج الأُمم الإسلامية، وله كتابُ "فاطمة وبنات محمد"، وكتابه عن الثلاثة: " أبو بكر وعمر وأبو عبيدة"، و"مغزى الرَّبط بينهم هو ادعاؤه بأنهم تآمروا على الخلافةِ بعدَ وفاةِ النبي دون عليٍّ "!! ويقول "فييت": "إن كتابه عن فاطمة وبناتِ محمد يَسُودُه التعصبُ والاتجاهُ العَدائي". وقد تَحيَّز "لامنس" للأمويين، ووقف جانبًا كبيرًا من جهودِه العِلميةِ لدرسِ تاريخِهم السياسي وخلافِهم مع العباسيين، ومَصدرُ إعجابِه ببني أمية أن دولتَهم كانت في تقديره -لا دينية-، ولأنهم أقاموا مُلكَهم في الشام، وتأثَّروا بالمدنيةِ القديمةِ التي أقامت في رُبوعه. يتَّهمُ "الأب لامنس" في جميع مؤلَّفاته رُواةَ السِّيرةِ بأنهم مخترِعون، ولكنه لا يُحجِمُ عن الاعتمادِ على روايةٍ من رواياتهم إذا استطاع أن يَلمَحَ فيها مَطعنًا على الإسلام. وهو إن تكلَّم عن "السيدة عائشة" لم يَجِدْ من مفرداتِ الفرنسية إلاَّ

كلمة " Favorite" ليَصِفَ بها زوجةَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقربُ ترجمةٍ لها بالعربية "مَحْظية". ويَذكرُ هذا المجرمُ أن "رُقيَّة" ابنةَ النبي - رضي الله عنها - كانت جميلةَ، وأن عثمان ابنَ عفان - رضي الله عنه - إنما اعتَنق الإسلام ليتزوجها. وقد سَجَّل عليه تَعَصُّبه زملاءُ له من أعلام الاستشراق، في مقدمتهم: "بيكرودسو، وجور فروا، وبمومبين، وماسيه". ° وقال "فييت" في نَعيِ "لامنس" بجلسة 10 مايو 1937: "إنه من الصَّعب أن نَقبلَ كتابَ "فاطمة وبنات محمد" في ثقةٍ ودونَ تحفُّظٍ، فإنَّ التعصُّبَ والاتجاهَ العُدوانيَّ يَسُودانِهِ إلى حدٍّ كبير". وهكذا ترى أن "الأب لامنس" كان من أشدِّ المتعصبين على الإسلام، وكان المستشرقون يَعرِفون في "لامنس" هذا العَيبَ الكبيرَ ويأخذونه به. وادَّعي هذا الكاذبُ أن أبا بكر وعمرَ وأبا عبيدةَ - رضي الله عنهم - اجتَمعت كَلِمتهم في أواخِرِ عهدِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يَحتكِروا الحُكمَ بعد وفاتِه ويتداولوه واحدًا بعد واحد، وأن اثنتينِ من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - هما عائشة وحَفصةُ - رضي الله عنهما - مَهَّدَتا لهم السبيل، وأن هذه المؤامرةَ قد نَجحت إلى حدٍّ بعيد، وقد رَدَّ عليه الأستاذُ "عبد الحميد العبادي" فأفحمه، وممَّن رَدَّ على "لامنس" فأجاد الأستاذُ "كرد علي". وقد ذَكَر أن عالِمَ قريش خالد بن يزيد تلميذُ راهبٍ، ولم يَقُلْ كلمةً واحدةً في أَثَرِ هذا الراهبِ عليه. وادَّعي أن شيخَ الإسلام ابنَ تيميَّةَ هو صاحبُ "المَذهب الارتجاعي"،

وأن عَمَلَه مُختَلٌّ، وأنه كان لا يَفتُرُ عن مُقاتَلَةِ البِدع، وقضْي حياتَه وهو يَسُوقُ أبناءَ أمَّتِه في سبيل التعصُّب. ° وادَّعي هذا الدجَّالُ بأن الفقهَ الإسلاميَّ قد تأثر بالفقهِ اليوناني، ووصف "صلاحِ الدين الأيوبي" بـ "الطَمَّاع"، ووصف الحروبِ الصليبيةِ بـ "البسالة"، وصوَّر ملوكَ الصليبيين على الغاية من النجدة والعقل، وقال: "إن تَرْكَ صلاح الدين للأسرى الصليبيين يومَ فتح بيتِ المقدس أحياءً، ولم يُعمِل السيف فيهم مِثلَما فَعلوا هم يومَ أَخذوا القُدس قال: إن هذا العملَ كان عن "عَجزٍ وخوف" واعتذر عن فَعْلَةِ الصليبيين في بيتِ المقدس بأنَّ هذه المدينة عُوملت بما تقضي به الأخلاقُ الحربيةُ في ذلك العهد. ° وقال: "إن دَورَ الأكرادِ الأيوبيين كان قليلَ البهاء". ولا يعترف "لامنس" الدجَّال بأنه قامت للعدل سُوقٌ في ديارِ الشام منذ فتحها العرب. ° وقال "كُرد علي": "إن "لامنس" ألَّف تاريخًا مختصرًا للشام، لم يَذكرْ فيه للإسلام ولا للعربِ مَحْمَدةً من ثلاثةَ عَشَرَ قرنًا ونصفِ قرن، ووَصَف العربي بأنه ليس شجاعًا، وأنه على استعدادٍ للنَّهبِ، كما تَمدَّح الصليبيين -وهم بشهادة المؤرخين من أهل الخُبثِ والفجور-، وادَّعي أن الصليبيين عاملوا الأهالي في الحروب الصليبية معاملةً حسنةً، وفي تقديرِ الباحثين أن "لامنس" أضعَفَ مِن شأنِ أكثرِ مؤرِّخي العرب -أمثال الطبري والبلاذري وابنِ سعد والأصفهاني وابن الأثير وابن خلدون وأبي الفداء-، ووثَّق بعضَ القُصَّاصِ الوُضَّاع , وقد ذَكر "إميل درمنجم" -وهو من كُتَّاب

الغرب- "الأبَ لامنس" باللوم، وقال: "إن كُتبَه قد شَوَّهت محاسنَها بما بدا في تضاعيفها من كراهيةِ الإسلام ورسولهِ، وإنه استَعمل إلى التاريخ طُرقًا بالغ فيها بالنقد". ° وقال "كرد علي": "إن "لامنس" نَشَر أخطاءَه وأكاذيبَه في "دائرة المعارف الإسلامية"، ومِن عَمَلِه تحريفُ آيات القرآن، وحَذْفُ ما لا يروقُه من كُتب المسلمين، وخَلْطُ الآياتِ القرآنيةِ بأبياتٍ من الشِّعر، وبجَعل الأحاديثِ النبوية من كلامِ بعضهم، ومن ذلك اقتطاعُ جُملةٍ واحدةٍ من نصٍّ طويل، وإيرادُ الخرافاتِ المنقولةِ من كُتب الوضَّاعين والقصَّاصين، مُدَّعيًّا أنها منقولةٌ من كُتب الثقات الأثبات. وادَّعي هذا الدجَّالُ الراهبُ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان رجلاً غير أمين!!! قليلَ الشجاعة أكولٌ ونَؤُومٌ .. قال هذا في كتابه "هل كان محمدًا مخلصًا صادقًا"، ويعتقد "لامنس" أنه يتحتم الإجابة بالنفي على هذا السؤال (¬1). ووصفه بأنه أسلَمَ نفسَه للتمتع بلذات العيش، وأنه مصروع، وادَّعي أن النبي لم يكن له ولد يُسمَّى "القاسم"، وأن فاطمة عليها السلام تزوَّجت في سنٍّ متقدِّمةٍ، وأنها لم تكن حَسَنةَ الصورة. ولقد أبدى هذا الراهبُ إعجابًا كبيرًا في مقالٍ له "نظرة في حاضر الإسلام" نَشَره في "المشرق" سنة 1930 لَمَّا بَلَغ إليه الأمرُ مِن أن التعليمَ القرآنيَّ في تأخر مستمر ومُطَّرِدٍ في البلاد الإسلامية المستقلَّة، وأن تطوُّرَ التعليم الرسمي في المعاهِدِ العاليةِ والثانوية يتحرَّرُ شيئًا فشيئًا من تأثيرِ الدين ¬

_ (¬1) "الإسلام في تصوُّرات الغرب" (ص 190).

القس اليسوعي لويس شيخو، الصليبي المتعصب، ورسالته "خرافات القرآن"

حتى يُصبحَ "لا دينيًّا" محضًا، وأن دعاةَ التطُّورِ قد مَدُّوا أصابَعهم داخلَ "الجامع الأزهر"، و"الزيتونة"، وأشار إلى أن ذلك سيؤدِّي إلى اضطرابِ الشبيبةِ الإسلامية في مبادئِها وعقائدِها، وأن ذلك سيؤدِّي إلى صَدمةٍ قويةٍ يُعانيها الإسلام. * القَسُّ اليَسوعي لويس شيخو، الصليبيُّ المتعصِّب، ورسالتُه "خرافات القرآن": يُعَدُّ "لويس شيخو" من أقسى المستشرقين على الإسلام والفكرِ الإسلامي وفي مجلة "المشرق" التي أصدرها منذُ رُبع قرنٍ حَمْلاتٌ متَّصلةٌ وإثارةٌ مستمرةٌ للشبهات، وفي مجالِ دراساتِه الأدبية لا يَنسى خصومتَه وتعصُّبه، ففي عشرات المجالات والأبحاث يتناولُ الإسلام والفكرَ الإسلاميَّ على نحو لا يُشرِّفُ العالِمَ أو الباحث، ومِن أبرز آثارِه رسالةٌ أسماها "خرافات القرآن"، ترجَمَها "زويمر" عام 1914، وانتفع بها دعاةُ التبشير في مصرَ والبلادِ العربيةِ في الطعنِ على الإسلام ونَشَرَها في مجلةِ "العالم الإسلامي". و"لويس شيخو" قَسٌّ يسوعيٌّ وُلد بـ "ماردين"، وتَعلَّم بمدرسةِ الآباءِ اليسوعيين في "غزير" بلبنان، وانتَظم في سِلكِ الرهبانية اليسوعية، وَتنقَّل في بلادِ أوربا والشرق، وقد عُهد إليه بتعليم الآدابِ العربيةِ في جامعة "القديس يوسف"، وأنشأ مجلة "المشرق" (1898)، وتُوفي في بيروت (1927 م)، وله مؤلَّفات متعدِّدةٌ أهمُّها "شعراءُ النصرانية"، وقد وُجِّه إليه النَّقدُ من زملائه المستشرقين لتعصُّبه، ومما ذكره "إميل درمنجم" عنه قوله:

اللورد كرومر وهجومه على الإسلام في كتابه "مصر الحديثة"

"وشيخو مِثلُ لامنس، لم يَألُ جهدًا في إثباتِ دعواه أن العربَ -قبلَ الإسلام وبَعدَه- لا شأنَ لهم في المدنية، وإذا كان هناك حضارة، فإن أصحابَها هم نصارى العرب". هذا القزمُ الذي كَتب مُعظمَ مقالاتِ مجلَّته مُدةَ خمسٍ وعشرينَ سنةً؛ كلُّها سمومٌ تَقْطُرُ حِقدًا على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى كتابِ الله "القرآن"، ولو لم يكنْ له إلاَّ كتابُه المسمَّي بـ "خرافات القرآن"، لكفي به عداوةً للنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي نزل عليه القرآن. * اللورد كرومر وهجومُه على الإِسلام في كتابه "مصر الحديثة": يُعَدُّ "إفيلنجُ بارنج كرومر" من كِبارِ دُعاةِ التغريب والاستعماريين في العالم الإسلامي، وواحدًا من الذين وَضعوا مُخطَّطَ السياسة التي جَرى عليها الاستعمارُ -ولا يزال-، في محاولةِ القضاء على مقوماتِ العالَم الإسلامي -والأمةُ العربية جزءٌ منه-، والإيمانِ بأن هذا العملَ الفكريَّ هو أهمُّ الأعمالِ القادرةِ على دَعم نفوذِ الاستعمار وتركيزِ قُوى الغربِ في قلبِ المنطقة، وتُمثلُ كتاباته في تقاريره -وفي كتابه "مصر الحديثة"- خُطَّةَ عَمل كاملةٍ، وأيدلوجيا شاملةً للقضاء على مقوِّمات الفكرِ العربي الإسلامي، وتمزيقِ وِحدةِ العالَم الإسلاميّ، ومقاومةِ القِيَم والمفاهيم العربيةِ والإسلامية. ولقد أمضى "لورد كرومر" في مصرَ ما لا يَقلُّ عن رُبع قرنٍ قابضًا على زِمام السُّلطات (1882 - 1906)، وأُتيح له مِن قَبلُ أن يمضِيَ وقتًا في الهند، دَرَس في خلالها مناهجَ الاستعمارِ البريطاني هنالك، وقد عَمِلَ أولَ

أمرِه في مصرَ مندوبًا في "صندوق الدين المصري" 1877، ثم ما لَبِث أن عُين بعدَ الاحتلالِ البريطاني مباشرةً -مندوبًا ساميًا، ومعتمَدًا لبريطانيا، وُيهِمُّنا في هذه الدراسة أن نتناولَ آثارَه في مجالِ الفكرِ العربي الإسلامي، ومخطَّطَه الذي سار عليه مِن بَعدِه كل دعاةِ التغريبِ، والذي اتخذته منظَّماتُ التبشيرِ ومعاهدُ الإرساليات وكل مَنِ اشتَرَك في مُخططِ العمل (دستورًا) من أجل تأكيدِ النفوذِ الأجنبيِّ عن طريق الفكر. ° وقد تبلورت حَمْلاتُ "كرومر" في نقاطٍ هامةٍ قليلة: 1 - إثارةُ الشبهاتِ حولَ الإسلام، وذلك بالادعاء بأنه دينٌ مُنافٍ للمدنية، ولم يكن صالحا إلاَّ للبيئةِ والزمانِ اللذَينِ وُجد فيهما. 2 - أن المسلمين لا يُمكنُهم أن يَرْقَوْا في سُلَّم الحضارةِ والتمدُّنِ إلاَّ بعدَ أن يَتركوا دينَهم وَينبِذوا القرآنَ وأوامرَه ظِهريًّا؛ لأنه يأمرُهم بالخُمولِ والتعصُّب، ويبحث فيهم رُوحَ البُغضِ لمن يُخالفُهم والشِّقاقِ وحُبِّ الانتقام، وأن المانعَ الأعظمَ والعَقبةَ الكؤودَ في سبيل رُقِيِّ الأمةِ هو:"القرآن والإسلام". 3 - أن الإسلام يُناقضُ مدنيةَ هذا العصرِ من حيثُ المرأةُ والرقيقُ، وأن الإسلامَ يجعلُ المرأةَ في مركز مُنحَطٍّ. 4 - الطعنُ في شريعةِ الإسلام وسياستِه ومعاملاته. 5 - أن الشابِّ المصريَّ المسلمَ أثناءَ ممارستِه التعليمَ الأوربي يَفقدُ إسلامَه، أو أَفضلَ قِسمٍ منه، ويَقطعُ حَبْلَ المَرساةِ الذي يَربطُه بمرفإِ إيمانه، وأن الشُّبَّانَ الذين يَتلقُّونَ عُلومَهم في أوربا يَفقِدون صِلَتَهم الثقافيةَ

1

تُعطَي لهم" , وقال: "إن هؤلاء هم حُلفاءُ الأوربيِّ المُصلح ومساعِدوه، وسوف يَجِدُ محبُّو الوطنية المصريةِ أحسَنَ أمل في ترقِّي أتباع الشيخ "محمد عبده"، للحصول على مصرَ مستقلةٍ بالتدريج". وهذه النصوصُ المنقولةُ من كلماتِ "كرومر" تُمثل جُمَّاعَ ما دعا إليه المبشِّرون والمستشرقون دُعاةُ التغريبِ والشُّعوبيون -وما يزالون يَدْعُون إليه حتى الآن-، وهي مجموعةٌ من الأكاذيبِ المنبعثةِ من التعصُّبِ واستخدام سلاح الشُّبهاتِ للقضاءِ على مقوِّمات الأُمةِ وقِيَم فِكرها، بعد أن تأكَّدَ الاستعمارُ والنفوذُ الأجنبيُّ مِن أن هذه المقوِّماتِ هي مَصدرُ القُوَّةِ في العالَم الإسلاميِّ لمقاومةِ كل ضَغطٍ أجنبي. وقد استَهدفت هذه الحَملةُ أساسًا قَتْلَ رُوح المقاومةِ والحَمْلةِ على الاستعمار، وخَلْقَ رُوح تدعو إلى تَقَبُّلِه والرضا به والاستسلام له، على أساسِ أنه أمرٌ لا يُمكنُ مقاومتُه، ومِن المصلحة الانتفاعُ بالمستعمِرِين وقَبولُ فِكرِهم وحضارتِهم، وتَقَبُّلُ الحريةِ والاستقلالِ على مراحل، وهذا التيارُ الذي دُعي فيما بعدُ بـ"تيار التعقيل" أو "الالتقاء مع الإنجليز في منتصف الطريق"، وقد ارتَفع هذا الصوتُ في السنواتِ الأخيرة لكرومر، وحاوَلَ خَلْقَ فَلسفةٍ قوامُها تقبلُ الاستعمارِ وصداقتُه وعدمُ معارضته، وذلك بتصويرِ الاحتلالِ على أنه حقيقةٌ واقعة، وكانت حُجَّةُ دعاةِ هذه الحركةِ -التي تُعَدُّ خُطواتُ التغريبِ والشُّعوبيةِ القائمة الآنَ في العالم الإسلامي امتدادًا لها-، كانت حُجَّةُ هذه الحركةِ في "الاعتدال" أو "التعقيل"على أساسِ فَهم سلبي قِوامُه أن التخلُّص من الاحتلالِ يَحتاجُ إلى قوة ليست

موجودةً لدى المصريين، وأن الدعوةَ إلى مقاومةِ الاستعمارِ هو إنفاقٌ للوقتِ فيما لا طائلَ تحتَه، وما دام الإنجليزُ هم الذين يُمسِكون زِمامَ الأمورِ وحدَهم، فلا سبيلَ إلى الإصلاح إلاَّ بمُصادقتِهم .. ذَكَره كرومر، وأعاد إلى الذاكرةِ ما وَجَّهه إلى المستشار الإنجليزي عام 1905 عندما هاجَمَ الشريعةَ الإسلامية، وقد جاء في ذلك قولُه إلى كرومر: "هل عَنَيتَ بما قُلتَ في تقريرِك الأخيرِ عن الحُكم بالشريعة الإسلامية -التي وُضعت منذُ أكثرَ مِن ألفِ سَنةٍ- الدينَ الإسلاميَ نفسَه الذي هو عبارة عن القرآنِ الكريم والسُّنةِ النبويةِ؟ أم عَنيتَ بذلك الفقهَ الإسلاميَّ الذي وَضَعه الفقهاء؟! ". وقد رَدَّ كرمر في مَكر ولؤم، فقال: "إنه إنما قَصَد الفقهَ، ولم يَقصِدِ الدينَ الإسلاميَ نفسَه". ° وكان كرومر في تقريره 1906 قد هاجَمَ الإسلامَ والفِكرَ العربي الإسلامي في ثلاثةِ مواضع: 1 - إباحة الاسترقاق. 2 - المرأة. 3 - اجتماع الأصول المدنية والقانونية في الإسلام. وقد رَدَّ عليه كثيرون، في مقدمتهم "فريد وجدي"، و"مصطفي الغلاييني"، والدكتور "شبلي شميل". وإن لم يكن "كرومر" عدوًّا لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فليس على ظهرِ الأرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدوٌّ.

جبرائيل هانوتو يأمر الأوربيين بقطع الصلة بين المسلمين والإسلام، ويدعي أن الإسلام يدعو أتباعه إلى الكسل

* جبرائيل هانوتو يأمرُ الأوربيين بقَطع الصِّلَةِ بين المسلمين والإِسلام، ويدَّعي أن الإِسلامَ يدعو أتباعه إِلى الكسل: نَشَر "هانوتو" -أحدُ وزراءِ خارجيةِ فرنسا- في "الجورنال" الفرنسية 1910 بعضَ مقالاتٍ هاجَمَ فيها الإسلامَ والثقافةَ العربيةَ الإسلامية، وقد تَرجم هذه المقالاتِ "محمد مسعود" في "المؤيد" (2 - 15) إبريل 1900، وقد نَشر الشيخ "محمد عبده" على الإثرِ مقالاتٍ ردَّ فيها على اتهاماتِ "هانوتو"، كما نشر "فريد وجدي" فصلاً مطوَّلاً. وقد حَمَلت كلماتُ "هانوتو" عباراتٍ غايةً في العُنف والتعصُّب، ومن ذلك قوله: "الإسلام دين بشري يُثقِلُ معتقديهِ دائمًا، ويغريهم بالكسل أو التسكُّع والتبرء من شرِّ الفسوق، وإن السياسةَ التي تجبُ على أوربا المستعمِرة في الشرق أن تجتذبَها مع المسلمين: هي تلقيحُ أفكارِهم بجانبٍ من الأخلاق الأوربية، وقَطعُ الصِّلةِ بينهم وبين كعبةِ الإسلام". وأشار إلى كلمات "كيمون" وردَّدها، وقال: "إن "كيمون" دعا إلى نَسفِ الكعبة، ونَقل قبرِ محمدٍ إلى مُتحفِ اللوفر". وهاجَمَ "هانوتو" أصولَ الإسلام، ودعا قومَه إلى قِتالِ المسلمين والقضاءِ عليهم. ° وقال الشيخ "محمد عبده" في الرد عليه: "لو لم يَعترَّضْ "مسيو هانوتو" إلى الطعنِ في أصل من أصول الإسلام، ما حَرَّكتُ قلمي لذِكرِ اسمِه، وكان حظي من النظرِ في مقالِه هو العظةُ والاعتبار .. يرى الناظرُ في كلام "مسيو هانوتو" لأولِ وَهلةٍ أنه مُقلِّدٌ في التاريخ كما هو مقلِّدٌ في

العقائد، وأنه جَمَع خليطًا من الصور، وحَشَرها في ذِهنه، ثم هو سَلَّط قَلَمَه يَنثُرُها كما يشاءُ القَدَرُ لِيُدهِشَ بها مَن لا يَعرفُ الإسلام من الفرنساويين". ° وقال: "يجبُ على الباحثِ في الإسلام أن يَطلُبَه في كِتابه، كما يجبُ عليه أن يَطلُبَ آثارَه، والإسلامُ إسلامٌ، والمسلمون مسلمون، لا أُنكِرُ أن الزمانَ تَجَهَّمَ للمسلمين، كما كان قد تَنكَّر لغيرهم وابتلاهم بمن فَسَد من المتصوِّفة من عِدَّةِ قرون، فبَثُّوا فيهم أوهامًا لا نِسبةَ بينها وبين أصولِ دِينهم، فلَصِقَتْ بأذهانهم لا على أنها عقائدُ، ولكنها وساوس، قد تَملِكُ الجاهلَ وتُربِكُ العاقل، إذا لم يَغلِبْها بعوامل الدينِ الصحيح، فنَشَأ الكسلُ بين المسلمين بفُشُوِّ الجهل بأصولِ دينهم، أمَّا لو رَجَع المسلمون إلى الحقيقةِ مِن دينهم، لأَدوا فرضَهم، واستنبتوا أرضَهم، واستعزُّوا من الثروة، واعتَمدوا في نجاحٍ أعمالهم على مَعونةِ القَدَر، وأيقنوا في صَولتِهم عِلمًا أنْ ليس منَ الموتِ مفرٌّ، ثم سأل صائلُهم على مكانِ العِزة منها، ونال ما يَنالُ القَوِيُّ من الضعيف. أما لو رَجَع المسلمون إلى كِتابهم، واستَرجعوا باتباعه ما فَقَدوه من آدابهم، لَسَمَتْ نُفوسُهم من العَيب، وطلبوا من أسباب السعادة ما هداهم اللهُ إليه في تنزيله وعلى لِسانِ نبيِّه، واستَجمعت لهم القوة، ودَبَّت فيهم الروحُ قوةً، وكان ما يلقاه "هانوتو وكيمون" من دينٍ صحيح شرًّا عليهما مما يَخْشوه من دين شوهته أيديهما. ويرى "كيمون" أن يُخلَي وجهُ الأرضِ من الإسلام والمسلمين، ويستحسنُ رأيَ "هانوتو"، لولا ما يَقفُ في طريقِ ذلك من كثرةِ عددِ المسلمين .. وبئسما اختارَا لسياسةِ بلادهما أن يُظهِرا ضِغْنَهما وُيعلِنا رأيهما

نشيد الجنود الإيطاليين عند غزو "ليبيا"

وضَعْفَ حُلْمِهما. أمَا فلْيَعلما -ولْيَعلمْ كلُّ مَن يَخدعُ نفسَه بمِثل حُلمِهما- أن الإسلامَ إنْ طالت به غَيبة فله أَوْبَة، وإن صَدَّعَتْه النوائبُ فله نَوْبة. وقد يقول عنه المُنصِفون اليومَ من الإنكليز -مثل "إسحاق طيار"، وهو قَسٌّ شهير ورئيسُ كنيسة-: " إنه يَمتدُّ في إفريقيا، ومعه تَسيرُ الفضائلُ حيث سار، فالكرمُ والعفافُ والنجدةُ من آثارِه، والشجاعةُ والإقدامُ من أنصاره، ثم هو لا يَزالُ ينتشرُ في الصِّين وغيرِه من أطرافِ آسيا، وستُرشِدُه الحوادثُ إلى طريقِ الرجوع إلى إظهاره، وتَنثني به المُلِمَّاتُ إلى ما كان عليه لأولِ نشأتِه، وتُدرِكُ عند ذلك الأممُ منه خيرَ ما ترجُو إن شاء الله" .. ". * نشيدُ الجنود الإيطاليين عند غَزْو "ليبيا": صليبيُّون حتى النخاع .. وعَداءٌ متأصِّل للإسلام، "كان جُنْدِيُّهم يُنادِي بأعلي صوته، حين كان يَلبَسُ بَدلةَ الحرب قادمًا لاستعمارِ بلادِ الإسلام: أُمَّاه ... أَتِمِّي صَلاَتَكِ .. لا تَبكي .. بل اضحَكي وتأمَّلي .. أنا ذاهبٌ إلى طرابلس .. فرحًا مسرورًا .. سأبذُلُ دَمي في سبيل سَحقِ الأمَّةِ الملعونة .. سأحاربُ الديانةَ الإسلامية ..

غلادستون

سأقاتلُ بكل قوَّتي لِمَحْوِ القرآن (¬1). * غلادستون: ° قال "غلادستون" -رئيس وزراء بريطانيا سابقًا-: "ما دام هذا القرآنُ موجودًا في أيدي المسلمين، فلن تستطيعَ أوربا السيطرةَ على الشرق، ولا أن تكونَ هي نفسُها في أمانٍ" (¬2). * وليم جيفورد بالكراف: ° قال المبشِّرُ "وليم جيفورد بالكراف": "متى توارَى القرآنُ ومدينة "مكة" عن بلاد العرب، يمكنُنا حينئذٍ أن نرى العربي يتدرج في طريقِ الحضارة الغربية بعيدًا عن محمدٍ وكتابه" (¬3). * تاكلي: ° قال المبشر "تاكلي": "يجبُ أن نستخدمَ القرآنَ -وهو أمضى سلاح في الإسلام- ضِدَّ الإسلام نفسِه حتى نقضيَ عليه تمامًا، يجبُ أن نُبين للمسلمين أن الصحيحَ في القرآنِ ليس جديدًا، وأن الجديدَ فيه ليس صحيحا" (¬4). * غاردنر: ° يقول "غاردنر": "إن الحروبَ الصليبيَّةَ لم تكن لإنقاذِ القُدسِ، إنها ¬

_ (¬1) "قادة الغرب يقولون: دمِّروا الإسلام أبيدوا أهله" (ص 10). (¬2) المصدر السابق (ص 40، 67 - 68). (¬3) المصدر السابق (ص 68). (¬4) المصدر السابق (ص 68).

مورو بيرجر

كانت لتدميرِ الإسلام" (¬1). * مورو بيرجر: ° يقول "موروبيجر" في كتابه "العالم العربي": "لقد ثبت تاريخيًّا أن قوَّة العربِ تعني قوةَ الإسلام، فليُدَمِّروا العربَ لِيدمِّروا بتدميرهم الإسلام" (¬2). * اليونسكو: وضع الغربُ الصليبي الكُتُبَ التي تَطعَنُ في الإسلام، وتُشككُ في مبادئِه، وتَغمِزُ نبيه - صلى الله عليه وسلم - .. وشاركت في هذا المنظَّماتُ الدولية. من هذه الكتب "موسوعة تاريخ الجنس البشري وتقدُّمه الثقافي والعلمي" الذي أصدرته "منظمة العلوم والثقافة" (اليونسكو) للأمم المتحدة فقد جاء في الفصل العاشر من المجلد الثالث ما يلي: 1 - الإسلامُ ترتيب مُلَفَّقٌ من اليهودية والمسيحية والوثنية العربية. 2 - القرآنُ كتاب ليس فيه بلاغة. 3 - الأحاديثُ النبويةُ وُضِعت من قِبَل بعضِ الناس بعدَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بفترةٍ طويلةٍ، ونُسِبت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 4 - وَضَع الفقهاءُ المسلمون الفِقهَ الإسلاميَّ مُستنِدِين إلى القانونِ الروماني والقانونِ الفارسي والتوراةِ وقوانين الكنيسة. 5 - لا قيمةَ للمرأة في المجتمع الإسلامي. ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 59). (¬2) المصدر السابق (ص 78 - 79).

اليهود عند دخولهم "القدس" عام 1967

6 - أرهَقَ الإسلامُ أهلَ الذِّمَّة بالجزية والخَرَاج (¬1). هكذا يكتبون بهذا الحِقد وهذه الحقارةِ والكذبِ في أعلي هيئةٍ ثقافيةٍ تابعةِ للأمم المتحدة دون حياءٍ، إنه حِقدُهم الأسود (¬2). * اليهود عند دخولهم "القدس" عام 1967: عندما دخلت قوَّاتُ إسرائيل القدسَ عام 1967 م تجمهر الجنودُ حولَ "حائط المبكَي"، وأخذوا يَهتفون مع "موشى ديان": "هذا يومٌ بيوم خيبر .. يا لَثاراتِ خيبر". وتابعوا هتافَهم: حُطُّوا المشمش عالتفَّاح، دين محمد ولَّى وراح ... وهتفوا أيضًا: محمد مات .. خَلَّف بنات .. ° كلُّ ذلك دعا الشاعر "محمد الفيتوري" إلى تنظيم قصيدتهِ في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: يا سيدي .. عليك أفضلُ الصلاةِ والسلام. مِن أُمَّة مضاعَةٍ تَقذِفُها حضارةُ الخرابِ والظلام .. يا سيِّدي .. منذُ رَدَمنا البحر بالسُّدود ¬

_ (¬1) مجلة "التمدن الإسلامي" مجلد (44) عدد 7، (ص 508)، تموز 1977. (¬2) "قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام وأبيدو أهله" (ص 78).

تيودو نولدكه [1836 - 1930م]

وانتصبَتْ ما بيننا الحدود متنا .. وداستْ فوقنا ماشيةُ اليهود (¬1). * تيودو نولدكه [1836 - 1930م]: ° تكلَّم المستشرقُ الألماني "تيودر نولدكه" في كتابه "من تاريخ القرآن" عن: "لغة القرآن المتراخية والركيكة .. وتكراراتِه التي لا تنتهي، والتي يَستحي الرسولُ من استخدام الكلماتِ نفسِها فيها، والبراهينِ التي تُعوِزُها الدِّقةُ والوضوح، والتي لا تُقنعُ إلاَّ المؤمنين من البداية بالعاقبة النهائية .. والقصصِ التي لا تُقدِّم إلاَّ قليلاً من التنوُّعُ، والتي كثيرًا ما تَجعلُ آياتِ الوحيِ أقربَ إلى المَلَل والسآمة .. فأسلوبُ القرآن فيه عيوبٌ كثيرة، عيوبٌ غيرُ موجودة في القصائِدِ العربيةِ القديمةِ ولا في أخبارِ العرب .. وأفكارُه ضَحْلَةٌ وساذَجة وبدائية"!!! (¬2). * إِيجانس جولد تسيهر (1850 - 1921): مستشرقٌ يهوديٌ من أصلٍ مَجَريٍّ، عَمِل أستاذًا في جامعة "بودابست" .. يُعَدُّ من كبارِ أئمَةِ الدراسات الإسلامية في أوروبا، كَتَب العديدَ من البحوثِ عن الإسلام باللغاتِ الألمانية والإنجليزية والفرنسية وغيرها، وقد شَكَّك في الأحاديثِ النبوية، واعتبرها في جُملتِها تَعكسُ ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 36 - 37). (¬2) "الغرب والإسلام .. أين الخطأ؟ وأين الصواب؟ ... " (ص 72) - للدكتور محمد عمارة- مكتبة الشروق الدولية- القاهرة.

تطوُّرَ الإسلام الديني والتاريخي والاجتماعيَّ في القرنَيْنِ الأولِ والثاني، وقد تلقَّف كثيرٌ من المستشرقين مِن بعده هذا الزَّعْمَ، وبَنَوا عليه الكثيرَ من النتائج. ومن مؤلَّفاته: "العقيدة والشريعة في الإسلام"، و"دراسات إسلامية" في جزأين، وكان يهوديًّا متعصبًا متحامِلاً على الإسلام. ° قال عنه الشيخ "محمد الغزالي" في كتابه "دفاع عن العقيدة والشريعة ضدَّ مطاعِنِ المستشرقين": "إنه من أعمدةِ المستشرقين ودُهاتِهم، ولا شكَّ أنه قرأ كثيرًا من الأصولِ والمصنَّفاتِ الإسلامية، ولكنه منذ قرأ وكَتَب، لم يَحمِلْ بين جَنبَيْهِ إلاَّ فؤادًا مُترَعًا بتكذيبِ الإسلام، فهو يَدُسُّ إصبَعَه في كل شيءٍ، لِيتَّخذَ من أيِّ شيءٍ دليلاً على أنَّ محمَّدًا كاذب، وقرآنَه مُفتَعَلٌ، وسُنّتَه مختلَقةٌ، والإسلامَ كلَّه منذ جاء -وإلى أن بلغنا- "مجموعة مفتريات" .. ". ° وقال عنه الدكتور "محمد البهي" في كتابه "الفكر الإسلامي الحديث وصِلته بالاستعمار الغربي": "عُرِف بِعَدائه للإسلام، وبخطورةِ كتاباتِه عنه، ومِن مُحرري "دائرةِ المعارف الإسلامية"، وكَتب عن القرآنِ والحديث، ومن كُتبه "تاريخ مذاهب التفسير الإسلامي" .. ". هذا المستشرقُ أشاد به أساتذة ومُفكرون مسلمون كبار، مثل الدكتور "عبد الرحمن بدوي"، والدكتور " أبو العلا عفيفي" رَغمَ ما في كتاباته من تشكيكٍ في أصولِ الإسلام، والدَّأبِ في إثباتِ أنَّ رسولَ الإسلام - صلى الله عليه وسلم - لم يأتِ بجديد، ولكنه سَرَق كلَّ شيءٍ من اليهود والمسيحيين؛ ولأنه كان ذا

جوزيف فان إس، العدو اللدود للنبي - صلى الله عليه وسلم -

منزلةٍ كبيرةٍ بين المستشرقين وصاحبَ مدرسةٍ في الاستشراق، فقد أثر في كثير من الدارِسين للإسلام الألمانِ وغيرِ الألمان، ومازال تأثيرُه مستمرًّا إلى اليوم، ولا تزالُ كُتبُه المليئةُ بالسموم تُعتبر من أهم مراجع طَلَبةِ الدراساتِ الإسلاميةِ في جامعات أوربا .. بل والجامعات العربية! (¬1). * جوزيف فان إِس، العدوُّ اللَّدود للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أما المستشرق "جوزيف فان إس" الذي يَعملُ أستاذَ كرسيٍّ في "معهدِ الاستشراق بجامعة تيبنجن" في ألمانيا، فيقول الدكتور "ثابت عيد": "إنه قابَلَه ليناقشَه في موضوع "الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم" فوجده يَشُنُّ هُجومًا عنيفًا على لُغة القرآن، ويُدافعُ عن "مسيلِمة الكذاب"، ويُوجِّهُ الشتائمَ إلى المؤرخين المسلمين لأنهم أطلقوا عليه اسم "الكذاب" .. ". ° وحينَ قال له "ثابت عيد": "إن محاولةَ "مسيلِمة الكذاب" تقليدَ القرآن مُضحِكة، ولُغتَه في غايةِ الركاكة"، زأر في وجهه غاضبًا وقال: "هذه أقاويلكم أنتم -المسلمون- وهي كاذبة". وما كاد هذا المستشرقُ يَسمعُ عن مشروع الباحث العراقي الدكتور "عبد الأمير الأعسم" لِجَمع كل ما كتبه ابنُ الراوَندي وكل ما كُتب عنه، حتى سارع بتشجيعِه ومساعدته، بل إنه ساهَم ببحثٍ خاصٍّ في هذا المشروع بعنوان "الفارابي وابن الراوَندي" .. ويتهكَّمُ "جوزيف فان إس" على الله -سبحانه وتعالي-، ويسخرُ من المسلمين في كتابه عن ¬

_ (¬1) "صناعة العداء للإسلام" لرجب البنا (ص 322).

الإسلام ويقول فيه: "إن اللهَ يتكلَّمُ اللغةَ العربيةَ ولا يخطئ في النحو! " .. أستغفر الله. ° ويقول ثابت عيد: "إن "جوزيف فان إس" شديدُ التحامل على الإسلام عندما يكون في قلعته في جامعة "تيبنجن"، ولكن عندما تضطرُّه الظروفُ للسفر إلى دولةِ إسلامية فإنه يَلبَسُ قِناعًا آخَرَ، فلا يتحدَّثُ عن الإسلام إلاَّ بالمدح، ومنذ سنواتٍ جاء إلى القاهرة لإلقاءِ محاضرةٍ في الجامعة الأمريكية، فتحدَّث عن الجامعات في بلاد الإسلام، وامتَدَح الإسلام، ولما عاد إلى ألمانيا استمر يواصلُ السَّبَّ واللعنَ في الإسلام". ° ويقول ثابت عيد: "إن عداء "جوزيف فان إس" للإسلام أشدُّ من عداء سَلمان رُشدي صاحب رواية "آيات شيطانية" التي تضمنت اتهاماتٍ مُقذِعةً للإسلام وللرسول - صلى الله عليه وسلم - وزوجاته وبناته" (¬1). كذلك "اهتمَّ "فان إس" بما جاء في "سِيرة ابن هشام" عن النضْرِ بنِ الحارث الذي سَبَق مسيلِمةَ الكذابَ في محاولةِ تقليدِ القرآن، وقال عنه ابن هشام: " .. وكان النضرُ بنُ الحارث من شياطينِ قريش، وممن كانوا يُؤذُون رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، ويَنصِبون له العَداوة، وكان قد قدم "الحِيرةَ"، وتعلَّم بها أحاديثَ ملوك الفرس، وأحاديثَ رُستم واسفنديار، فكان إذا جَلس رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسًا فذكر فيه اللهَ، وحَذَّر قومَه ما أصاب مَن قبلهم من الأمم مِن نقمة الله، خَلَفَه في مجلسه، ثم قال: أنا واللهِ -يا معشر قريش- أحسنُ حديثًا منه، فهلمَّ إلي، فأنا أحدثكم أحسنَ من حديثه، ثم يُحدثهم ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 324 - 325).

عن ملوك فارس ورستم واسفنديار، ثم يقول: بماذا محمدٌ أحسنُ حديثًا منِّي؟ ". ° وقال ابنُ هشام عن النضرِ بن الحارث: "وهو الذي قال -فيما بلغني-: سأنزِلُ مثلَ ما أنزل الله! " (¬1). لماذا يَهيمُ وَيعجَبُ "فان إس" كل هذا الإعجاب بابن الراوَندي أكبرِ شخصيتهٍ مُلحِدةٍ في تاريخ الإسلام؟!. ابنُ الراوندي الذي "وضع لليهود كتاب "البصيرة" ردًّا على الإسلام مقابلَ أربَعمِئةِ درهم أخَذَها من يهود "سامرا"، فلمَّا أخَذَ المالَ أراد نَقضَ ما في كتابه هذا، حتى أعطوه مئةَ درهم أخرى، وله كتابُ "الزمرد" يُبرهِنُ فيه على إبطالِ النبوَّات، وكتاب "الفرند" في الطعن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكتاب "التاج" في الردِّ على الموحدين، وكتاب "عبث الحكمة" وكتاب "الدامغ" في الردِّ على القرآن، وكتب "فضيحة المعتزلة" .. وتصدَّى له فلاسفةُ المعتزلة من أمثالِ أبي الحسن الخياط، وأبي علي الجُبائي، والقاضي عبد الجبار. ° وقال ابنُ الراوَندي: "إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أتى بما كان منافرًا للعقولِ مثل الصلاة، وغُسل الجنابة، ورَمْي الحجارة، والطوافِ حولَ بيتِ لا يَسمعُ ولا يُبصِر، والعَدْوِ بين حَجَرَينِ لا يَنفعانِ ولا يَضُران، وهذا كله لا يَقتضيه عقل، فما الفرقُ بين "الصفا والمروة" إلاَّ كالفَرقِ بين "أبي قبيس وحِرَى" (جبلان في مكة) وما الطواف بالبيت إلا كالطوافِ على غيره من البيوت". ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 328 - 329).

المستشرق جاك فاردينبورج وزوجته

° ويقول: "إن الملائكةَ الذين أنزلهم الله يوم "بدر" لنُصرةِ النبي - صلى الله عليه وسلم -بزعمكم-، كانوا مغلولي الشَّوكة، قليلي البَطْشة على كثرةِ عَددهم واجتماع أيديهم وأيدِي المسلمين، فلم يَقدِروا على أن يَقتُلوا زيادةً على سبعين رجلاً .. أين كانت الملائكةُ يومَ "أُحُد" لَمَّا توارَى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما بين القتلى فَزَعًا، وما بالُه ما ينصروه في ذلك المقام؟ ". ° ويقول عن القرآن: "إنا نجدُ في كلام أكثَمَ الصيفي شيئًا أحسَنَ من {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] ". وما قاله ابنُ الراوَندي كثير .. ولا أُريدُ أن أنقُلَ كل ما قاله وذكره الدكتور "ثابت عيد" في بحثه، أُريدُ فقط أن أُدلِّلَ على أن صناعةَ العَداءِ للإسلام كانت من خارج الإسلام، وكانت أيضًا من الطابور الخامس الذي كان محسوبًا على المسلمين وأساء إلى الإسلام، وأعطي للمستشرقين وأعداءِ الإسلام في الخارج ما يُحارِبون به الإسلام. وهدفي من ذلك أن أُحذِّرَ المسلمين لكي ينتبِهوا إلى كلِّ كلمةٍ تُقال على لسانِ مسلم أو غير مسلم، ولا يستبعدوا أن يكون في صفوفِ المسلمين خائنٌ لربِّه ودينه" (¬1). * المستشرق جاك فاردينبورج وزوجته: ويذكر "ثابت عيد" المستشرقَ اليهوديَّ الهولنديَّ "جاك فاردينبورج"، وهذا المستشرق أستاذُ كرسي الأديان بجامعة "لوزان" بسويسرا , وله كتاب بعنوان "الإسلام في مِرآة الغرب"، وزوجتُه أيضًا يهودية متعصِّبة، حَصَلَت ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 332).

أوجست فيشر

على الدكتوراة في الأدب العربي في جامعة "أكسفورد" تحت إشراف أستاذ مصري هو الدكتور "مصطفي بدوي"، وعندما سألها "ثابت عيد": لماذا اختارت الأدبَ الإسلامي قالت له: لكي أتحاشى المواقفَ الصعبةَ عندما أذهبُ إلى الدولِ الإسلامية .. مع أنها هي التي قالت: "إن محمدًا سَرَق منا الصيامَ في يوم عاشوراء وإنه كَتَب القرآن بنفسه" (¬1). * أوجست فيشر: المستشرق الألماني "أوجست فيشر"، له مقالٌ بعنوان "في مسألة ترجمات القرآن"، وقد أثبت فيه أنه ليس هناك كتابٌ عربي له هذا القَدْرُ الهائلُ من الترجمات مِثلُ القرآن، وتزدادُ هذه الترجماتُ من سَنَةٍ إلى أخرى، ولكنْ لم تتمَّ ترجمةُ معاني القرآن إلى اللغات الأخرى ترجمةً دقيقةً وصادقةً، لصعوبة نَقل هذه المعاني إلى لغاتٍ أخرى، وعدم وجودِ المؤهَّلين لهذا العمل، و"فيشر" ينتقدُ جَميعَ المُترجِمِين الألمان لمعاني القرآن الكريم لأسبابٍ كثيرة؛ مِن بينها عدمُ إلمام معظمِهم بقواعدِ النحوِ العربي وبالأساليبِ والتعبيراتِ اللغويةِ العربية، ولأن غايتَهم هي البحثُ في القرآن عن عناصرَ مسيحيةٍ ويهوديةٍ، وتجاهُلُهم لحقيقةِ أن هذا القرآنَ عربي. ° ويضربُ "فيشر" مثلاً على الأخطاءِ التي وقع فيها المستشرقون الألمان الذين ترجَموا معاني القرآن فيقول: "إنهم لم يَفهموا معنى أربع آياتٍ من الآياتِ الخمسِ المكوِّنة لسورة "المسد"، فقد أخطؤوا في ترجمة معاني ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 325).

المستشرق الألماني رودي بارت

أربع آيات، والآيةُ الوحيدةُ التي نَجَحوا في ترجمتها كانت الآية الثالثة {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} ". ومع ذلك فقد لاحظ الدكتور "ثابت عيد" أن "فيشر" نفسَه وقع في خطأٍ فاحشٍ مِثلَ كلِّ المستشرقين، إذِ اعتَبَر القرآنَ من تأليفِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ونظر إليه على أنه نصٌّ أدبيٌّ لا يختلفُ كثيرًا عن النصوص الأدبية في الشِّعر والنثر العربي، وبالتالي اعتقد أن يُمكنُ إخضاعُه للتحليل اللغوي والتاريخي والتعامل معه كما يتمُّ التعاملُ مع أيِّ نصٍّ آخَرَ في التراثِ العربي، وعلى ذلك قال: إن القرآن يَعيبه انعدامُ النظام في تركيبِ وترتيبِ الآيات، وإنَّ السورَ الطويلةَ تتكوَّنُ من آياتٍ غيرِ متجانسةٍ، ونَزَلت في أوقاتٍ متبايِنةٍ ومتباعِدة، وهذا يجعلُ مهمةَ المترجِمِين أكثرَ صعوبةً!! " (¬1). * المستشرق الألماني رودي بارت: له ترجمةٌ لمعاني القرآن تَحظَي باحترامٍ كبير في معاهِدِ الاستشراق، في أوربا، ويعتبرونها أفضلَ ترجمةٍ ألمانيةٍ لمعاني القرآن، وقد ظهرت هذه الترجمةُ في مجلَّدين؛ أولهما يتضمَّن ترجمةَ النصِّ القرآني صدر عام 1966 .. والثاني: يتضمنُ تعليقاتٍ وفهارسَ، وصدر عام 1971، ولكن "رودي بارت" عاد في عام 1974 ونَشَر مقالاً بعنوان "البحوث القرآنية" أشار فيه إلى أنه كرَّس الجُزءَ الأكبَرَ من حياتِه العلميةِ في دراسةِ القرآنِ وترجمةِ معانيه إلى اللغةِ الألمانية، وأنه قرأ ترجمةَ "ريتشارد بيل" الإنجليزية لمعاني القرآن التي ظهرت سنة 1937، وعلى ترجمة "بلاشير" الفرنسية ¬

_ (¬1) "صناعة العداء للإسلام" (ص 333).

التي نشرت عام 1949، واطَّلع اطلاعًا وافيًا على "تفسير الطبري" في أجزائِهِ الثلاثين المطبوع في القاهرة عام 1903، في عشرةِ مجلَّدات، وعلى "تفسير الزمخشري" في أربعةِ مجلدات الصادر في القاهرة عام 1953، وكذلك رَجَع في بعضِ المواضع إلى "تفسير البيضاوي"، في مجلَّدين طبعة "ليبزج" سنة 1846، وأنه في منتهي الحِرص والحذرِ وهو يرجعُ إلى هذه الكتب، على عكسِ المترجِمين الآخَرِين الذين نَقَلوا بعضَ التفسيرات الغامضة، وأنه كان على وعي بضرورةِ ترجمةِ النصِّ بمعناه الذي أَخبَرَ به محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما أنه حَرِص على تفسيرِ القرآن بالاستعانةِ بالقرآن ذاتِه، ومع ذلك فإنه يعترفُ بأنه وَقَع في بعضِ الأخطاء في ترجمتِه لمعاني القرآن. ° ويُعلِّق "ثابت عيد" على ذلك بأن "رودي بارت" عبقري، ولكن ماذا تنفعُنا عبقريته إذا كان لا يؤمنُ أصلاً بصحَّةِ ما يُترجِمُه، وإذا كان همُّه الأكبرُ إثبات أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - سَرَق هذا وذاك من النصاري واليهود، وإذا كان يتعاملُ مع القرآن كما يتعاملُ مع أيِّ نصٍّ أدبى، وقد ظَهَر ما يُخفيه في ضميره دون أن يَدري حين قال: "إن السورة الثانية "البقرة" تتحدَّثُ في الآيات من 67 حتى 73 عن ذبح بقرة، ويبدو أن الآيات من 67 حتى 71 مطابقة تمامًا لِمَا ورد في التوراة". ولا يَملِك الإنسانُ إلاَّ أن يتفقَ مع ما توصَّل إليه "ثابت عيد" من أن ترجمةَ معاني القرآن إلى اللغاتِ الأجنبية يستحيلُ على غيرِ المسلمين أن يقوموا بها بدقَّة .. ولقد أخطأ "رودي بارت" في ترجمة "النبي الأمي"،

الفيلسوف الفرنسي بونودي كونديلاك

ولأن المستشرقين يَدَّعون أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو مؤلِّفُ القرآن، فهم يَرَون أنه لابدَّ أن يكونَ مُتقنًا للقراءة والكتابة، ولذلك جاءت قريحةُ "رودي بارت" بترجمةِ كلمة "الأمي" إلى كلمة "الوثني" أو "الكافر"، وهكذا يُحرِّفون الكَلِمَ في مواضِعه، كذلك فعل "رودي بارت" بلفظ "الجهاد" الذي يُعرفه الجُرجانيُّ في كتابه "التعريفات"، فيقول: "الجهاد هو الدعاءُ إلى الدين الحق"، إلاَّ أن الأوربيين ما زالوا مُصممين على أن الجهادَ يَعني "الحربَ المقدَّسةَ ضدَّ غيرِ المسلمين"، وحتى "رودي بارت" -الذي يُعتبر أكثَرَ المترجمين دِقَّةً- ترجَمَ لفظَ "الجهاد" إلى لفظ "الحرب" .. وهكذا، فإن الترجمةَ التي تُعتبرُ أفضلَ ترجمةٍ لمعاني القرآن تتضمَّنُ طَعنًا في الإسلام، وتُشكِّكُ في قواعِدِه وأصوله (¬1). * الفيلسوف الفرنسي بونودي كونديلاك: ° قال الفيلسوف الفرنسي "بونودي كونديلاك" في كتابه "التاريخ الحديث" عن نزولِ القرآن على الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لقد كَوَّن مشروعَه بمحض الصدفة، وسانَدَه بفضل جُرأةِ احتياله، واستطاع أن يُتِمَّه لأنَّ الظروفَ ساعَدَتْه على ذلك، فقد كان مصابًا بالصَّرَع، وذاتَ يوم فاجأَته زوجتُه "كاديج" في إحدى النَّوبات، وتَخيَّلت أنه في حالةِ وَجْدٍ .. واستَغلَّ محمدٌ سذاجتَها، وأكَّد لها أنه يَرى الرؤيا، وأن اللهَ يُحدثه خلالَها عن طريقِ الملاك "جيريل"، وقامت "كاديج" بنَقل ذلك إلى نساءٍ أُخرَيَاتٍ مُعلِنةً أن زوْجَها نبيٌّ، وانتَشَر الخَبَرُ، وتراكمت النبوءاتُ مع تراكُم الكلام وتزايُدِه، فقامت ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 334 - 336).

الأب لويس موريري

الجماهيرُ باتباع ذلك الرجل المهمِّ الذي أقنعهم بسَخَاءِ خياله، وقد صَدَر هذا العامَ "عام 1767" (¬1). * الأب لويس موريري: ° وقبل ذلك قال الأب "لويس موريري" في "القاموس التاريخي الكبير" سنة 1674: "محمدٌ نبيٌّ مزيف، عربيُّ المَوطن، ولد عام 571، فقد والدَيهِ وهو طفل، وقام عمُّه أبو طالب بتربيته، ودَفَعَه الفقرُ إلى أن يَخدُمَ عند أحدِ التجار العرب، وعند وفاةِ هذا التاجر قام بإمتاع أرملتِه "كاديج" لدرجةِ أنه تزوَجها، وأصبح وريثَها الوحيد، فاستخدم أموالَها في خِدمةِ طموحاته .. وبعد ذلك شارك كلّ مِن "باتيراس" -وهو هرطقي يعقوبي-، والأب "سرجيوس" -وهو واهب نسطوري-، وعاونه بعضُ اليهود على تجميع قرآنه، وبذلك أصبح دينُه مكونا جزئيًّا من اليهودية، وجُزءً آخَرَ من أحلام هَرطقيةٍ واستسهالاتٍ جِنسيةٍ لطبيعةٍ منحرفة .. وقامت جماعةٌ من اللصوص الذين لا يَعرِفون اللهَ ولا الدين باعتناقِ هذه الديانة" (¬2). * دومنيك بودييه الفرنسي: ° قال عالِمُ الإنسانياتِ الفرنسي "دومنيك بودييه" في سنة 1632 في كتابه "التاريخ العام للأتراك": "إن المعجزات من علاماتِ الأنبياء .. وبما أن محمدًا لم يكن بُوسعِه أن يُقدِّمَ للناس ما يؤكِّدُ معجزاتهِ، فقد استعان بالخُدعَ والخرافةِ لِيسوقَ أفكارَ شَعبِهِ الفظِّ الجاهل، ويَفرِضَها على كلِّ العرب، وفي ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 336). (¬2) المصدر السابق (ص 336).

جان بيرك

محاولةٍ منه لاستتبابِ المَشْرَع بمعجزاتٍ جديدة كان يجمعُ الشعبَ في المَيدانِ العام ليكونَ شاهدًا على أن رُوحَ الله يَنزلُ عليه، وبينما هو منساقٌ في اختراع الأقاصيصِ الجديدة، كانت هناك حَمامة مدرَّبةٌ تطيرُ من مكانٍ، ما قُربَ مَنكِبَيهِ، وتَلتقطُ الحَبَّ الذي كان يَضعُه لها في فتحةِ أُذنه، مُوهِمًا العربَ بذلك أنها كانت تُملِي عليه إرادةَ الله وكلماتِ شريعته". هل يُمكنُ أن يُصدقَ إنسانٌ عاقلٌ مِثلَ هذه الخرافات؟! ولكن ما حَدَثَ أن كثيرًا من الأوربيين صَدَّقوها ضِمنَ الحَملةِ على الإسلام وكتابِه ونبيِّه .. وفي كتاب الدكتورة "زينب عبد العزيز" مئاتٌ من النصوص والإشاراتِ إلى كُتبٍ ومراجعَ من هذا النوع منذ القرنِ السادس الميلادي حتى اليوم .. وحتى "اللورد كرومر" في كتابه "مصر الحديثة" سنة 1908 قال: "إنَّ القرآنَ هو المسؤول عن تأخُّر مصرَ في مِضمارِ الحضارةِ الحديثة" .. وذلك ما اتَّبعه المستشرقُ الفرنسيُّ الشهورُ "جاك بيرك" في ترجمتِه للقرآن التي صَدَرت عام 1990 م. * جان بيرك: والحقيقةُ أن ما جاء في دراسة الدكتورة "زينب عبد العزيز" لترجمة "جاك بيرك" لمعاني القرآن إلى الفرنسية يُعتبر مفاجأةً للعرب وللمسلمين؛ لأن "جاك بيرك" معروفٌ عند الباحثين العربِ والمسلمين بأنه مُنصِفٌ للعرب وللمسلمين، حتى إنه حَصَل على عُضوية مَجْمَع اللغةِ العربية في مصر، وهذه الترجمةُ استغرقت ما يَزيدُ على عَشْرِ سنواتٍ -على حدِّ قوله-، وهو يقول: "إنه أقدَمَ على ترجمةِ معاني القرآن لأنه لاحَظَ أن كثيرًا من

الناس والمفكرين يَنبِذُون الآنَ الصورةَ الماديةَ للحياة المعاصِرة، ويَرفُضون المجتمعَ الاستهلاكي، هذَا المجتمعُ المادي المحض، ويُفضلون مدينةَ الإسلام الروحيةِ على المدينة المعاصِرة، ويُنادون بالعَودةِ إليها، فكأنه أراد بهذه الترجمةِ الحدَّ من هذه المَوجةِ الآخِذةِ في الانتشارِ في الانجذاب إلى الإسلام. ° وتُلخصُ الدكتورة "زينب عبد العزيز" المَحاوِرَ الأساسيةَ التي تَناوَلَها في المقدمة، ومنها: - التشكيك في نزولِ وترتيبِ وتجميع القرآن. - تأثر القرآنِ بالشعر الجاهلي، وبالفكرِ اليوناني القديم. - تأثُّرُ القرآن بمزاميرِ داود. - احتواءُ القرآنِ على أساطيرَ ترى التاريخَ سلسلة من الكوارث. - فظاظةُ صورةِ "الله" كما هي واردةٌ في القرآن. - غموضُ التعبيرِ في الأحكام مما سَمَح للمفسِّرين بحريَّةِ التصرُّف، وكانت النتيجة أن كل مَذهبٍ غير مقبولٍ من المذاهب الأخرى. - تناقضُ الشريعةِ التي جاء بها القرآن، ممَا أدَّى إلى ظهورِ الجماعاتِ الإسلامية، وإلي القول بعدم فَصل الدين عن السياسة. - ضرب العِلمانية الحديثة. - إثارةُ قضيةِ "خلق القرآن" التي تحوَّلت إلى فتنةٍ بين المسلمين. - تحريفُ القرآن للأساطير. - اتهامُ المفسِّرين بإلغاءِ بعضِ الآياتِ أو تحريفِ معناها. - وجودُ تشابهٍ بين مفهوم "اللَّه" في القرآن ومفهوم "الله" في الفِكرِ اليوناني، وخاصة "بارمنيدس"، وتأثرُ القرآن بأصداءِ القانون المدنيِّ وتقنينِ

الكنيسةِ السورية، والأخذُ من الميراثِ الجاهليِّ وميراثِ اليونانيين بعد أنْ فَرَضَ على كل منهما تعديلاتٍ استعلائيةً صارمة. - إن مشكلةَ الإسلام اليوم "الانفصالُ بين العقيدة ومسيرةِ العالم الفعلية، بل مسيرة العالم الإسلامي نفسه"، فالإسلامُ يَلجأ إلى الأصول، ولا يَنقُلُها إلى الحاضر، و"الذكي" الحقيقي هو الذي يُحوِّلُ الذكرى إلى مستقبل، وهي عمليةٌ خَلافة تُدمجُ العَصريةَ بالأصالةِ لمواجهةِ التجديدات التي يَجبُ على كلِّ نظام في العالَم الحالي أن يَقترحَ الحلولَ الممكنةَ لها، فالثورةُ التكنولوجية والعلمية تتعدَّى مراحلَ لم تَصِلْ إليها مِن قبلُ، وانعكاساتُ هذه الثورةِ على التصرفاتِ الفرديةِ والجماعية، والتوحُّدِ المتزايدِ للكُرة الأرضية والتحدياتِ الناتجة عنه، بالإضافة إلى متطلَّباتِ جماهيرِ العالَم الثالث في مجال الحريَّات، وحقوق الإنسان، والرفاهية. "جاك بيرك" ترجم سورة "الإسراء"، فجعلها "المسيرة الليلية"، وأضاف إلى هذا العنوان عنوانًا آخَرَ هو "أو أبناء إسرائيل"، وهذا -طبعًا- غيرُ واردٍ في المصاحف، وترجَمَ اسم سورة "غافر" إلى "المؤمن أو المتسامح"، وسورة "النصر" ترجَمَها إلى "النجدة المنتصرة"، ولم يَستخدْم كلمة "النصر" الفرنسيةَ أبدًا رغم أنها تكرَّرت في القرآنِ ما يَقرُبُ من مئةِ مرة، وكأنه يأبى كتابةَ "النصر للإسلام" أو كتابة "أن الإسلام انتصر"، وسورة "الفتح" ترجَمَها بما معناه "أنَّ كلَّ شيءٍ ينفتح"، وسورة "الروم" ترجَمها باسم "روما" عاصمة إيطاليا!، وسورة "الملك" ترجمها بكلمةٍ تعني "المِلكية"، عِلمًا بأن كلمة "المُلك" بمعنى "ملكوت الله" موجودةٌ في اللغةِ

الفرنسية، ومستخدَمةٌ في "العهد القديم" و" العهد الجديد" في الإنجليل، وسورة "التكاثر" ترجَمَها إلى ما معناه "التنافسُ عن طريق العدد". ° تقول الدكتورة "زينب عبد العزيز": "إنه لا يمكنُ أن تكونَ هذه الأخطاءُ صَدَرت عن المستشرق الكبير "جاك بيرك" بدون قصدٍ، فهذا مستبعَدٌ لمن كان في مِثل مكانته العلمية، والتفسيرُ الوحيدُ لذلك أنه تمَّ بسُوءِ قَصدٍ، بدليل أنه أصر على ترجمةِ كلمة "الرسول" ومعناها في القرآن "النبي" - صلى الله عليه وسلم -، فلم يستخدم كلمة "النبي" ليُبعِدَ عن ذِهنِ القارئِ معنى "النبوَّة"، واستَخدم كلمةً معناها "المرسَل" أو"المِرسال"، ولم يستخدم كلمة "مسجد" -ولها مقابلٌ بالفرنسية معروف-، واستخدم كلمةً تعني "جُزءً من الكنيسة حول المذبح" تتمُّ فيه المراسِمُ الطقسية، وقد تعني "مكانًا مقدَّسًا" بصفةٍ عامة، كما استخدم كلمةً أخرى مشتقةً من اللاتينية معناها "كنيسة صغيرة تستخدمها جماعة معينة"، وبهذه المعاني ترجم "المسجد الحرام"، وترجَمَ "إسراء الرسول إلى المسجد الأقصي" بأنه "إسراء في لحظةٍ من الليل إلى النهائي"، لكيلا يربطَ القدسَ بالإسلام!. و"جاك بيرك" يعرفُ اللغةَ العربيةَ جيدًا، بل هو ضليعٌ في اللغة العربية، ويعرفُ معنى كلِّ كلمةٍ بمنتهي الدقة، فكيف يُترجمُ كلمةَ "الألباب" إلى كلمة "النخاع" في الفرنسية، وهو يعلمُ أن وَقْعَها في الترجمةِ يثيرُ السخريةَ لدى القارئ الفرنسي، ومع أن كلمة "الألباب" وردت في القرآن ستَّ عَشْرةَ مرةً، إلاَّ أنه لم يُترجِمْها بمعناها المقصودِ أو المنطقيِّ والذي يعني "ذوي العقول" أو"ذوي الأفهامَ"، وكيف يُترجُم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} , فلا يقول: إن "الميعاد" هو "وعدُ الله أو وعيده"، ولكن يترجمُها

جورج بوش الجد وكتابه "محمد مؤسس الدين الإسلامي، ومؤسس إمبراطورية المسلمين"

بكلمة "راندفو"؛ وحذف من سورة "آل عمران" في الآية قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}، فلم يذكر هذه العبارة، وتوقف عند منتصف الآية الرابعة عند قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ}. أما أسلوبه في وصف الله، فقد ترجم ما ورد منه في القرآن بكلماتٍ معناها أن القرآن يشير بروعةٍ مرعبةٍ إلى الذعر الذي سيصيبكم أمام الحاكم (ويقصد الله)، وها هي ذي القشعريرة تسري في أبدانكم عند مجرد ذكر اسمه، وتناول مضمون الآية {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}، إلى ما معناه: "أن الله يمحو ويبدل ويؤكد النبواءات وفقًا لهواه"، ويترجم: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} بما يفهم منه أن القرآن هو المقصود، وأن القرآن له أجل، وينسب هذا المعنى -زورًا- إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، ويضع في الهامش أن مصدره في ذلك "الطبري" في المجلد 13 صفحة 111 السطر 14، وهو متأكد أن هذا التزوير لن يكتشفه أحدٌ، ولن يرجع أحدٌ إلى المرجع الأصلي للتأكد منه" (¬1). * جورج بوش الجد وكتابه "محمد مؤسس الدين الإسلامي، ومؤسس إمبراطورية المسلمين": "جورج بوش" (1796 - 1859)، هو علم من أعلام الاستشراق الأنجلو ساكسون، درس في "كلية اللاهوت" ببرنستون، وعُيِّن راعيًا لإحدي الكنائس في "إنديانا بولس"، وعين أستاذًا للغة العبرية والآداب الشرقية في جامعة "نيويورك"، وقد ذكر الباحث والناقد "منير العكش" في ¬

_ (¬1) "صناعة العداء للإسلام" (ص 337 - 340).

كتابه "حق التضحية بالآخر" أمريكا والإبادة الجماعية - بيروت 2002، حيث ذَكَر في صفحة (96) أن مؤلِّف الكتاب هو الجدُّ الأكبرُ لأسرة "آل بوش" التي ينحدرُ منها رئيسًا الولايات المتحدة "بوش" الأب والابن. وكتابَ جورج بوش "محمد مؤسِّسُ الدين الإسلامي ومؤسِّسُ إمبراطورية المسلمين" (¬1) مشحونٌ بالافتراءات على خاتم النبيِّين - صلى الله عليه وسلم -، ويدلُّ على خُبثِ طويَّهِ جورج بوش لسيِّد البشرية، ويُعرِّفُنا بالفِكرِ الصليبيِّ الأسود الذي يَسُودُ رأسَ الرئيسِ الحالي وقلبَه كما ساد قلبَ جِدِّه الأكبر. وجورج بوش القِزمُ يَصِفُ سيدَ البشريةِ - صلى الله عليه وسلم - بـ "الدَّعيِّ". * يقول بوش: "لقد وَضَع محمدٌ أساسَ إمبراطوريةٍ استطاعت في ظَرفِ ثمانين سنةً فقط أن تَبسُطَ سلطانَها على ممالكَ وبلادٍ أكثرَ وأوسعَ مما استطاعته روما في ثمانِمئةِ سَنَة، وتزدادُ دهشتُنا أكثَرَ وأكثَرَ إذا ترَكْنا هذا النجاحَ السياسيِّ، وتحدَّثنا عن صعودِ دِينه وانتشارِه السريع واستمرارِه ورسوخِه الدائم .. والحقيقةُ أنَّ ما حَقَّقه نبيُّ الإسلام والإسلامُ لا يمكنُ تفسيرُه إلاَّ بأنَّ اللهَ كان يخصُّهما برعايةٍ خاصةٍ، فالنجاحُ الذي حقَّقه محمدٌ لا يتناسبُ مع إمكاناتِه، ولا يمكنُ تفسيرُه بحساباتِ بشريةٍ معقولة. لا مناص إذن من القولِ أنه كان يَعملُ في ظلِّ حمايةِ الله ورعايته، لا تفسيرَ غيرُ هذا التفسير لهذه الإنجازاتِ ذات النتائج الباهرة، ولا شك أنه يجبُ علينا أن تنظرَ للدين المحمديِّ في أيامنا هذه بوصفِه شاهدًا قائمًا ¬

_ (¬1) ترجمة وتحقيق وتعليق د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ - دار المرّيخ للنشر، والكتاب موجود بمكتبة الكونجرس الأمريكي.

ينطوي على حِكمةٍ غامضةٍ للَّه سبحانه لا ندري مغزاها .. حكمةٌ لا تفهمُها عقولُ البشر أو على الأقلِّ لا تفهمُها عقولُ البشرِ حتى يتحقَّق الغرضُ منها" (¬1). * ويقول: "إن اللهَ أراد للإسلام أن ينتصرَ على يد هذا النبيِّ المحارِب ليؤدِّبَ الكنائسَ المسيحيةَ "أي الكنائس الشرقية" التي ضَلَّت السبيلَ إلى حين، وإنَّ مَن أسلموا سيَتركون إسلامَهم مَرَّةً أخرى ليعودوا إلى حِضنِ كنيسةٍ أخرى سليمةِ العقيدة .. وربَّما كان هذا عند عودةِ المسيح في الألفيَّة". * ويقول جورج بوش في "الملحق الأول" لكتابه (ص 208): "وإذا كان ما يُذكَرُ بشأنِ ظهورِ الإسلام وتقدُّمِه وسلطانِه غيرَ كاف، وإذا كانت الأسبابُ البشريةُ التي عادةً ما يَجري اقتباسُها لشرحِ النجاح المُذهِلِ للادِّعاء الإسلامي "المحمدي" لا تزالُ تبدو لنا غيرَ كافية، وإذا كانت أعظمُ ثورةٍ على الإطلاق واجَهَت الكنيسةَ المسيحيةَ تبدو مُعْضِلةً لا حَلَّ لها، فَلم نتردَّدُ في أنْ نعزوَ هذا مباشرةً إلى إرادةِ الله ومشيئتِه، وبذا نجدُ الحلَّ الذي يُفسِّرُ كل هذه الأسرار. لماذا نحن توَّاقين للهرب من الاعترافِ بالتدخُّل الإلهيِّ في قيامِ هذه الهرطقة التي هي رأسُ الهرطقات؟ إن صحَّ تفسيرُنا لنبوءتَي دانيال ويوحنا، فإنَّ الخِداعَ المحمديَّ "الإسلام" كما هو حقيقةٌ تشهدُ بصحَّةِ النبوءة". ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 156 - 157).

يزعم جورج بوش الدجال أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - هو إنسان الخطية التي تنبأت به الكتب المسيحية

* يزعمُ جورج بوش الدجَّالُ أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - هو إِنسانُ الخطيَّة التي تنبَّأت به الكتب المسيحية: عند المسيحيين نبوءة عمَّا يُسَمَّى "إنسان الخطيَّة" أو "الخطيئة"، يَظهرُ ويَستعلي قبلَ المجيءِ الثاني للمسيح، فقد وَرَدَ في "رسالة بولس الثانية إلى أهل تسالونيكي" (في اليونان) عن "إنسان الخطية" أن المسيحيين من أهلِ هذه البلاد اعتقدوا أنَّ المجيءَ الثاني للمسيح قد حَلَّ أوانه، فقال لهم بولس: "إنه -أي المسيح- مجيئه الثاني لم يأت إنْ لم يأتِ الارتدادُ أوَّلاً، ويَستعلِنُ إنسانُ الخطيَّة (أي: يَجهر بدعوته) ابن الهلاك، المقاوم والمرتفع على كلِّ مَن يُدعى إلهًا أو معبودًا حتى إنه يجلسُ في هيكلِ الله كإلهٍ، مظهرًا أنه إلهٌ". ويُذكِّر بولس أهلَ تسالونيكي (في اليونان) أنه سَبَق أن قال لهم هذه النبوءة، وأنَّ أوانها لم يأتِ بعدُ لأنه "سيُستعلَنُ في وقته"، "لم يأتِ الوقتُ حتى يُستعلنَ الأثيمُ الذي الرَّبُّ يُبيده بنفخة فمه ويُبطِلُه بظهورِ مجيئهِ" .. "السفر الثاني من رسالة بولس إلى أهل تسالونيكي". والمؤلف جورج بوش وطائفةٌ من المسيحيين يعتبرون محمدًا - صلى الله عليه وسلم - هو "إنسان الخطيئة" المشارُ إليه في النبوءةِ السابقة، ويَعتبرون "الارتداد" الذي يَسبقُ المجيءَ الثاني للمسيح هو "انتشارُ الإسلام"، وَيعتبرون جلوسَ إنسانِ الخطيَّة في هيكل الله، هو فتح المسلمين للشامِ وللقُدسِ خاصةً حيث الهيكل. لذا وجدنا المؤلِّفَ "جورج بوش" في مقدمة كتابه "الصفحة 21 من النصِّ الإنجليزي والصفحة المقابلة لها في النص العربي" يؤكّد على أنَّ

الإسلام عند جورج بوش "هرطقة"

المقصودَ بإنسان الخطيَّة هو محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، والمؤلِّفُ وطائفتُه الدينيةُ يتوقَّعون عند بدايةِ كلِّ ألفيَّةِ مجيءَ المسيحِ ثانيةً وعودةَ المسلمين إلى المسيحيةِ ثانيةً وارتدادَهم عن الإسلام. ° ثم نتتبعُ المؤلفَ مع أقواله من بدايةِ الكتاب، لترى سُمَّه يقطرُ في كتابته وكَذِبَه وخُبثَه وتطاوُلَه عن سيِّد ولد آدمَ - صلى الله عليه وسلم -. ° يقول "جورج بوش" (ص5): "فكلُّ ما يمكنُ أن نتوقَّعه الآنَ هو تناولُ تاريخ هذا الدَّعيِّ" .. يعني: رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -. ° وقال في (ص5): "فالمؤلِّفُ بَذَل قُصارَى جَهده في استخلاصِ صورةٍ عادلةٍ من خلالِ المصادرِ المُتاحةِ له لشخصيةِ مؤسِّسِ الإسلام" .. يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فلا ينظر "جورج بوش" إلى الإسلام كأنه دين. * الإِسلام عند جورج بوش "هرطقة" (¬1): ° يقول في (ص 17): "إنَّ كثيرين من الكُتَّابِ المتميِّزين الذين دَرَسوا -بعُمقٍ- أصولَ هذا الدين، وعبقريتَه وتاريخَه، فينظرون إليه بوصفه هرطقة مسيحيَّةً أوْ نتاجًا لهرطقاتٍ قال بها بعض المسيحيِّين، أكثر من وصفهم له بأنه خُرافةٌ وثنية". ° وقال أيضًا في نفس الصفحة: "ومِن هنا فقد كان قَدَرُ هذا الدين أن يرتبطَ بكلِّ العقائدِ الفاسدةِ التي أفسَدَتِ الإنجيل، وبقَدْر ما نَفضحُ هذه النُّبُوَّة ونْكشفُها، أوْ بَقْدرِ ما نكشفِ الادِّعاءَ الحاليَّ الموجودَ على ظهر الأرض، كلَّما عَجَّلنا بسقوطِ الخداع، وكلَّما عجَّلنا بتأثيلِ الحق، وكلما زاد اهتمامُنا -بعمقٍ- بهذه المناطقِ التي طالت فيها سيادةُ هذا الدين". ¬

_ (¬1) هرطقة: أي مذهب غير صحيح.

° وقال في (ص 19): "لذا، فإن عَرْضًا موجَزًا لحالةِ المسيحية وقتَ ظهورِ محمدٍ -خاصةً في المنطقة التي شَهِدت ظهورَ دعواه-، ربَّما تُلفِتُ انتباهَ القارئِ في هذه المقدمة، هذا سيَظهرُ بوضوء أكثَرَ لماذا حَكَم اللهُ بأن ينقضَّ التضليلُ الإسلاميُّ على كنيسةِ المسيح، وبدون فَهم أحوالِ الكنيسةِ وقتَ ظهورِ الإسلام لاستحالَ الحكمُ الصحيحُ تمامًا على الإسلام". ° وقال في (ص 23، 24) عن فساد رجال الدين المسيحيين عند ظهور محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: "هذا الفسادُ المُحزنُ في عقائدِ رجالِ الدين وأخلاقِهم، أعقَبَه -كما هو متوقَّعٌ- فسادٌ عامٌّ بين الجمهور، ورغمَ أننا لا يمكنُ أن نفترضَ أن اللهَ قد تَرك نفسه تمامًا وليس من شاهدٍ عليه في هذه الحِقبةِ المُظلِمة، فقد كان هناك عددٌ من المؤمنين الصادِقين قد تضاءلوا حتى أصبحوا أشبَهَ ما يكونون بمجردِ بقايا، وبدا أنَّ الرِّدةَ عن الدين الصحيح قد انتَشرت انتشارًا واسعًا، وبدا أن هذا الأمرَ في حاجةٍ إلى حُكم يأتي من السماء بالنظرِ لهذه الحال البائسة التي وَصلت إليها المسيحيةُ في الفترةِ التي سَبقت ظهورَ محمدٍ، فإننا نكونُ مهيَّئين لقبولِ حُكمِ الله بالسماح لهذا البلاءِ الكئيبِ بالظهور (يقصد الإسلام) أثناءَ هذه الأزمةِ التي ألَمَّتْ بالعالم". ° يقول "بريدو": "أخيرًا فَقَدَ اللهُ صَبْرَه، فقد طالت مُعاناتُه، فبَعث العربَ والمسلمين "السرسريَّة" ليكونوا أداةَ سَخطةٍ ليعاقبَهم لهذا، فانتهز المسلمون فرصةَ ضَعفِهم والتهائِهم بالمَجَامع الكَنَسيةِ التي سَبَّبت انقسامَهم، فاجتاحوهم، وألحَقوا بهم تدميرًا مرعبًا، واستولَوا على كلِّ الولاياتِ الشرقيةِ للإمبراطورية الرومانية، وثبَّتوا حُكمَهم الطاغيَ في هذه الولايات، وحَوَّلوا كنائسَهم في كلِّ مكانٍ إلى مساجد، وحَوَّلوا طقوسَ عباداتِهم إلى

جورج بوش يدعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم القراءة والكتابة

خرافةٍ بشعةٍ كريهة، وفرضوا عليهم الادِّعاءَ المحمديَّ البغيضَ بدلاً من هذا الدين المقدَّسِ (الإلهي) الذي شوَّهوه. وبذا أطلق اللهُ على هذه الكنائسِ عقابًا لها لضعفها أسوأَ الأعداء، فأهانوها ودمَّروها واحتقروها، لقد اجتاحوها اجتياحًا مرعبًا، وأوصلوها إلى هذه الحال المنحطَّة البائسة، ومِن يومِها وهذه الكنائسُ تَرزَحُ وتئنُّ متوجِّعةَ تحت هذا الطغيان. لقد رأى اللهُ بحِكمته الكليَّة أنْ يَظَلُّوا حتى يومِنا هذا يئنُّون تحت الاضطهادِ المحمَّديِّ، لا لشيءٍ إلاَّ ليكونوا عِبرةً للمسيحيين الآخَرين، فلا يَضعُفوا ولا ينقسموا ولا ينفصلُ بعضُهم عن بعضِهم الآخر". * ويقول في (ص 32): "محمدٌ الذي وُلد بمكةَ في سنة 569، أصبح بعد ذلك مشرِّعًا لبلادِ العرب، ومؤسِّسًا للدين الإسلامي -أو الدين المحمديِّ-، فشرَّف نفسه -وشرَّفه أتباعُه- بالقول بأنه نبيُّ الله ورسولُه". * جورج بوش يدَّعي أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يَعلَمُ القراءةَ والكتابة: ° يقول في (ص 38 - 39): "حقيقةً إنَّ أتباعَ محمدِ رغبةً منهم في المبالغة في مواهب نبيِّهم، وعَزْوها إلى قوًى خارقة، ورغبةً منهم في إضفاءِ مزيدٍ من الإعجاز على القرآن (الكَريم)، فإنهم يؤكِّدون عمومًا على أن محمدًا كان يَجهلُ القراءةَ والكتابةَ تمامًا، حقيقةً إنَّ هذا الادعاءَ أكَّده محمدٌ نفْسُه، فهو يقول: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48]، وفي السورةِ السابقة أيضًا آية 158 الأعراف نقرأ: { .. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ

وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]. لكنْ آخِرُ ما نتوقَّعُه من القرآن -وهو ادِّعاءٌ بكلِّ ما في الكلمة من معنًى- أن يكونَ صادقًا دالاًّ على الحقيقة، فهناك أدلَّةٌ كثيرةٌ من هذا الوحي الزائفِ نفسِه تدلُّنا على أن الكتابةَ كانت شائعةً بين العرب في تلك الأيام، فالوصيةُ التالية التي وردت في القرآن (الكريم) تؤكِّدُ ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ .. } [البقرة: 282]. نحن نعلمُ أيضًا أنَّ عليًّا بنَ أبي طالب -وهو ابنُ عم محمدٍ الذي تربَّى مع محمد- أصبح بعد ذلك أحدَ الذين كَتبوا له (المقصود أحدُ كُتَّابِ الوحي)، وقد اختار منهم محمدٌ عددًا لعملِ نُسَخٍ من القرآن (الكريم) مرتبةً على حَسَبِ تعاقُبِ نزولها .. كيف يُعقل إذَنْ أن أبا طالبٍ عَلَّم ابنَه الكتابةَ ولم يُعلِّم ابنَ أخيه؟. وأكثرُ من هذا، فقد كانت مكةُ ملتقَى حركةٍ تجارية، ولابد أن التجَّارَ كانوا يُحِسُّون -كلَّ ساعةٍ- بحاجتهم إلى تسجيلِ صَفقاتهم ومعاملاتِهم المالية، ونعلمُ أن محمدًا ظلَّ لعدَّةِ سنواتٍ يعملُ في التجارة قبلَ أن يبدأ دعوتَه إلى الدينِ الجديدِ، فمِن غيرِ المحتمَل ألاَّ يكونَ عارفًا باستخدامِ الحروف". * ويقول (ص 42): "لكنَّنا لا ندري كيف ساعد آخَرون محمدًا في تدبيج القرآن؟ إننا لا نستطيعُ أنْ نَحُلَّ هذه المشكلة، أو بتعبيرٍ آخَرَ لا نستطيعُ أن نَصِلَ فيها إلى نتيجةٍ مُرضِية".

° ويقول في (ص 45): "وممَّا يُؤسَفُ له كثيرًا أن سياسةَ الدَّعيِّ، وما ألَمَّ بعصرِه من خرابٍ هي كلُّ المصادر المتاحة لنا .. ". ° ويقول في (ص 46 - 47): "كان من الطبيعيِّ أن تُؤَدِّي به ظروفُ تنسُّكِه إلى ترسيخِ هذه المعاني بشكل أعمقَ في عقلِه ونفسِه، ومِن المفترَضِ أنه -بهذه الطريقة- بدأ مُهمَّته، لكنه -وقد وَجَد نفسَه قد حَقَّق نجاحًا فاق ما كان يتوقَّعُه، وزادت شعبيتُه وقُوَّتُه -طغى أخيرًا حُبُّه لنفسه على أمانته، وفاق طموحُه إخلاصَه وتقواه، وراحت خُطَطُه تتَّسعُ وتزدادُ كلَّما حَقَّق نجاحًا .. لقد بدأ مشروعَه بدافعِ التقوى، فأصبح في خاتمةِ المَطافِ مدَّعيًا عنيدًا، وحاكمًا (إمبراطورًا) بلا مبادئَ، منغمسًا في الملذَّات". وهذه فِريةٌ من الدجَّال الكذاب "جورج بوش"، فما عَلِمَ العالَمُ أزهَدَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أرحَمَ منه .. كيف وقد قال الله عنه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]. ° وقال في (ص 47): "راح يتظاهر بأنَّ المَلَكَ يأتيه تِباعًا، كما راح يُظهِرُ بين الحينِ والحين سُوَرًا من القرآن باعتبارِها وحيًا إِلهيًّا، ولم يكن هذا كلُّه إلاَّ متضاربًا مع فِكرةِ كونِه مجرَّد متعصِّبٍ مخادع، وتغطيةً على عَدمِ قُدرتهِ على الإتيانِ بالمعجزات -التي هي الشاهدُ الكبيرُ الدالُّ على الرسولِ المبعوثِ من الله-، وكان لابد أن يكونَ هذا كافيًا لإبعادِ الرغبةِ في الخداعِ عن عقلِه ونفسِه. ويُقال ما هو أكثرُ من هذا، فإن ظروفًا كثيرةً قد تكونُ زامَنَت جهودَه، فساعدت على ترسيخِ هذا الادِّعاءِ الكبير". ° ويقول في (ص 49 - 50): "وبرغم كلِّ شيءِ، فليس من المستبعَدِ

أن الحكمةَ اللانهائية (المقصود إرادةُ الله سبحانه) قد قَضَت بهذا، أي بضرورةِ أن تَجثُمَ هذه الظُلْمةُ غيرُ المفهومة على دوافع الدَّعي (المقصود محمد - صلى الله عليه وسلم -) كي يتحقَّق هذا التدبيرُ الخاصُّ في ظهورِ هذا الضلالِ الكبير ورسوخِ قمَّةٍ في عالمَنا. ففي غيابِ أسبابٍ بشريةٍ كافيةٍ لتفسيرِ هذه الظاهرة، لا بد أن نعترفَ بأن الله أراد هذا، أو بتعبيرٍ آخَرَ لا بد أن نعترفَ بأن الله تدخَّلَ ليَتمَّ هذا الأمرُ (انتشار الإسلام)، فالعقلُ والوحيُ -كلاهما- يُعلِّمانِنا أن نعترفَ بيَدِ الله سبحانه تُحرِّكُ الأحداثَ لعِقابِ المذنِبين، بصرفِ النظرِ عن القائمين على هذه الأحداث الذين لم يتحرَّكوا إلاَّ بأمرِ الله، والذين كانوا بمثابةِ يدِهِ الفاعِلة، وبصرفِ النظرِ عن الدوافعِ التي حرَّكتهم. يقول الربُّ: "أهناك شرٌّ في المدينة وأكونُ أنا لستُ فاعلَه؟! " والشرُّ في هذه الآية (العبارة) يعني المعاناةَ وليس الخطيئة. لا يمكنُنا أن نشكَّ في حقيقةِ أن ظهورَ الدينِ المحمديِّ (الإسلام) نَتَجَ عنه بلاءٌ بكنائسِ الشرقِ المرتدَّة (عن الدين المسيحي الصحيح)، لقد كان سَوطًا مرعبًا هَوَى عليها، بل وهَوَى على أجزاءٍ أخرى من المملكةِ المسيحية (المقصود العالم المسيحي)، فإذا لم نستبعدْ إرادةَ اللهِ وتدخله -على وِفقِ إرادته في شؤون خَلقِه-، لم يُجانِبْنا الصواب، فالبشرُ وُكلاءُ عنه سبحانه وَكالة معنويةً في تحقيقِ إرادته في تأديبِ العصاة (المقصود بالعصاة هنا الكنائس الشرقية على نحوٍ خاص كما يفيد السياق). إن حياة محمدٍ وأفعالَه ودعوتَه إلى دينِ القرآن ليست سوى حَلْقةٍ في سلسلةِ الثورات السياسية، إلاَّ أنها في حَجمها وأهميَّتِها لا تَقِلُّ عن الثورات

العظمى التي شهِدها التاريخ، فالثوراتُ يَظهرُ فيها بوضوح العقوقُ وعدمُ التقوى، لدرجةِ أنها تَستبعدُ كلَّ فكرةٍ عن قضاءِ الله وقَدَرِه، أو بتعبير آخَرَ تستبعدُ ما قَضى اللهُ به. وعلى هذا، فإننا إذا اعترفنا بتدخُّل إلهيٍّ خاصٍّ في هذا النجاحِ المدهشِ الذي حقَّقته جيوشُ المسلمين (العرب أو السرسريَّة) بعد موتِ محمدٍ، فلابد أن نعترفَ أيضًا أن هذا النجاحَ يَرجعُ إلى أن هذا الدينَ هو الذي وَحَّد العربَ وجَعَلهم تحتَ قيادةِ "رأسٍ" واحدةٍ أو "زعيمٍ" واحد، وأن هذا الدينَ هو الذي ألهمهم مِثلَ هذه السلسلةِ من الفتوحاتِ السريعةِ الباهرة. لقد راح النبيُّ الدَّعيُّ يُنضجُ خُطَطَه، ويتدبَّرُها لفترةٍ طويلةٍ قبلَ أن يَضَعَها موضعَ التنفيذ بالتدريج وبحذرٍ شديد". * ويقول في (ص 52): "وفي القرآن ما يُفيدُ أن النبيَّ محمدًا ودينَه الزائفَ يَجِدُهما أهلُ الكتاب عندهم -في كتبهم المقدَّسة في العهد القديم-: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)} [الشعراء: 192 - 197]. ° ويقول في (ص 54): "بعد أن نَجَح محمدٌ في إقناع زوجِه خديجة، واصَلَ حياةَ العُزلةِ والتقشُّفِ ليكتسبَ شهرةً في مجالِ التقوى والورع، وقبل ذلك ضمَّ خادِمَه زيدًا بنَ حارثة إلى قائمةِ المهتدين، وكافأه

على ذلك بأن أعتقه، وأصبحَ من القواعِدِ المقرَّرةِ بعد ذلك أن يُصبحَ العبدُ إذا ما اعتَنق الإسلام حرًّا. وكان عليُّ بنُ أبي طالب -ابنُ عمِّ الرسول- هو ثالثُ من أسلم، لكنه اعتَبر نفسَه أولَ المسلمين؛ لأن هذا الشابَّ المندفعَ اعتَبر مَن سَبَقاه إلى الإسلام (خديجة وزيد بن حارثة) قَلِيلِي الشأن (¬1)، وكان رابعُ مَن تحوَّل للإسلام -وهو الأكثر أهميةً- هو أبو بكر- وهو رجلٌ قويٌّ من أهل مكة-، دخل في الإسلامِ على يديه عددٌ من ذَوي المكانةِ والنفوذِ، ونعني بهم: عثمانَ والزبيرَ وسعدًا وعبدَ الرحمن وأبا عُبيدة، الذين أصبحوا فيما بعدُ القادةَ الرئيسيين في جيوشِه والأدواتِ الأساسيةَ التي استخدمها في ترسيخ ادِّعائِه (المقصود دينه) وإمبراطوريتِه (المقصود دولته). لقد مضى أربعُ سنواتٍ قضاها في جَهدٍ جَهيدٍ ليضُمَّ إلى دينه هؤلاء التِّسعة، وكان بعضهم من رجالِ مكة المهمِّين، هؤلاء هم كلُّ المؤمنين به قبلَ أن يَجهَرَ بدعوته، لقد بَلَغ من العُمرِ الآنَ أربعةً وأربعين عامًا. ويلاحَظُ أن هناك تزامنًا غريبًا يدعو للدهشة بين فترةِ اعتكافِ محمدٍ في "غار حراء" لتدبيرِ أمرِ نَشرِ دينه الدَّعيِّ (المفبرَك)، وفترةِ ادِّعاءِ "بونيفاس" بابا روما بمساندةٍ من الطاغية "فوكاس" لقبَ "الباب العالمي" أو "الراعي الكنسي لكلِّ أمورِ العالم"، أو بعبارةِ أخرى "اليونيفيرسال بوستر" زاعمًا إشرافَه الروحيَّ على كنيسةِ المسيح، وظَلَّ أخلافُه يدَّعُون هذا لأنفسهم. ¬

_ (¬1) هذه محاولةٌ من هذا الخبيث الدجَّال "جورج بوش" للطعن في رموزِ الإسلام العظيمة.

يقول بريدو: "ومنذ ذلك الوقت عَمِل الاثنان (باب روما ومحمد) على أن يكوِّنَ كلٌّ منهما لنفسِه إمبراطوريةً من الادعاء، وعَمِل أتباعُهما منذ ذاك الوقت، متَّخِذين الوسائلَ نفسَها المتمثِّلةَ في النار والسيف، لنَشرِ دعوتِهم بين البشر، حتى بَدَتِ الحركةُ المعاديةُ للمسيح في ذاك الوقت تَطَأُ بقَدَمِها على العالَم المسيحيَّ في وقتٍ واحدٍ أحدَ فَرْعَي الحركةِ في الشرق، والفرع الآخر في الغرب .. لقد داسا كنيسةَ المسيح، فعانت منهما كثيرًا في العصور التالية". إنَّ اتفاقَ التواريخ (تاريخ اعتكاف محمدٍ في غار حراء، وتاريخ دعوة بابا روما -بونيفاس- إشرافه العالمي على كنيسة المسيح) أمرٌ يستحقُّ الالتفات، فكِلاَ الحدثين جَرَيَا في السنواتِ الستِّ أو الثمانِ الأولى من القرن السابع للميلاد، لكننا لا نملكُ بُرهانًا يُقنِعُنا باعتبارِ محمدٍ يستحقُّ أن نُطلقَ عليه لقب: عدو المسيح، أو المناهض له .. ". ° ويقول (ص 58 - 59) عن عقيدةِ التوحيد وعن سورة "الإخلاص": "وهي تتكوَّنُ من جُملةٍ واحدة: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4]. وتتردُّد هذه العقيدةُ تِباعًا في سور القرآن وآياته، والمؤلفُ (يقصد واضع القرآن) لا يَهدِفُ بهذا التكرارِ مجردَ خطأِ تعدُّدِ الآلهة والوثنية اللتين كانتا شائقين آنَئذٍ بين أُممِ الشرق، وإنما هو يُوجِّهُ أيضًا ضربةً قاضيةً للعقيدةِ المسيحيةِ القائلةِ بأن المسيحَ هو ابنُ الله "الابن الوحيد لله". إنَّ محمدًا مَثَلُه في ذلك مَثَلُ آخَرِينَ في عصورٍ أخرى، لم يستطعْ أن

يَتصوَّرَ عقيدةَ المسيحيين في نسبةِ المسيح إلى الله، أو بتعبير آخَرَ لم يستطعْ أن يَفهمَ بنوَّةَ المسيح لله أو تحدُّرَه منه، مع أن هذه الفكرةَ لا تؤثِّرُ بشكلٍ مباشرٍ في حقيقةٍ أن اللهَ جلَّ جلالُه واحدٌ، أو بتعبيرٍ آخَرَ: مع أن هذه الفكرةَ لا تؤثِّرُ مباشرةً، وفيما يرى محمدٌ أن أكبرَ السخافاتِ هو التأكيدُ على أن المسيحَ هو ابنُ الله، أو أنه مُساوٍ للآب (الله) في النِّديَّةِ والأزليَّة، وعلى هذا فإعلاناتُ العهدِ الجديد (الأناجيل وملاحقها) فيما يتعلقُ بشخصِ المسيح وطبيعتِه، هاجَمَها واضعُ القرآنِ بلا هوادةٍ؛ لأنه لم يكن لديه الصِّدقُ والموضوعيةُ أو القُدرةُ على فَهم الفَرقِ بين عقيدةِ الثالوث الأقدس (كون الآب والابن والروح القدس إلهًا واحدًا) وعقيدةِ التثليث التي تعني وجودَ ثلاثةِ آلهةٍ منفصِلين (أي الفرق بين عقيدة الترينيتي وعقيدة التريثزم). * وقال في (ص 61): لقد قَدَّم محمد -لفترةٍ- حقيقةَ أن كتابَيِ العهدِ القديم (التوراة وملاحقها) والعهد الجديد (الأناجيل وملاحقها) كانت في الأصل وحيًا من الله، إلاَّ أنها حُرِّفت -ويا للخجل- بعد ذلك، وأن النُّسَخَ الموجودةَ الآنَ غيرُ جديرةٍ بالتصديق أبدًا، وبالتالي فهو قلَّما يَقتبسُ منهما في القرآن". ° ويقول في (ص 62 - 63) عن نزولِ القرآن مُنَجَّمًا: "وكانت هذه الطريقةُ التدريجيةُ في نزولِ الوحي، بالتأكيد، ضربةً شديدة، فنحن نقرأ في القرآن، سورة (الفرقان): {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32]. فلو أنَّ القرآنَ ظَهَر جُملةً واحدةً لأدَّى التمعُّنُ في محتوياته ومقارنةِ سوره وآياتِه بعضِها ببعضِها الآخَر إلى اكتشافِ عدم اتِّساقِه، ولربَّما صَعُب

عليه (أي على محمد - صلى الله عليه وسلم -) أن يَجِدَ إجابةً لِمَا يواجهُه من أسئلةٍ بهذا الشأنِ، ولاستحال عليه أن يكون مقنعًا. لكن بتظاهُره أنه يتلقَّى الوحيَ مفرَّقًا (كلُّ جزءٍ منفصلٌ عن الآخَر) في أزمنةٍ مختلِفةٍ على وِفقِ ما تُمليه الضرورةُ أو على وِفقِ ما يَطلبُ أتباعُه، فإنه بذلك يكونُ قد أوجَدَ لنفسِه طريقًا لإسكاتِ كلِّ الاعتراضاتِ، ولتخليصِ نفسِه مِن كلِّ الصِّعاب، فلا شيءَ يَمنعُ تعديلَ ما نَزل من وحيِ اليوم -أو حتى نسخه (إبطاله) - غدًا. وبهذا الطريق مضى ثلاثٌ وعشرون سنةً قبل أن تكتملَ سلسلةُ الوحي، رَغمَ أن النبيَّ أَخبَرَ صاحبتَ أنه تعزَّى برؤيةِ القرآن كاملاً مجلَّدًا بالحريرِ ومُحلًّى بذهبِ الجنةِ وجواهرها، مرَّةً كلَّ عام، إلاَّ أنه رآه مرَّتين (المقصود في الرؤيا) في آخِرِ عامٍ من حياته. وقد كان جزءٌ من هذا الوحي الزائف في مكة، أما الباقي ففي المدينة المنوَّرة. ويقال: إن الطريقةَ الخاصةَ بتدوين الوحي كانت كالتالي: عندما تنزلُ سورةٌ على النبيِّ، يَشْرَعُ في إذاعتِها لصالح العالم، فيُمليها أولاً على سكرتيره (المقصود كاتب الوحي)، وبعدها يُسلِّمُ الورقةَ المكتوبةَ لأصحابه، ليقرؤوا ما فيها ويُكرِّروه، حتى يرسَخَ تمامًا في ذاكرتهم، ومِن ثَمَّ يُعيدون الورقةَ للنبيِّ الذي يَحفظُها بعنايةٍ في صندوقٍ (خزانة) يُسمِّيها "خزانة الوحى" .. ". * ويقول في (ص 75 - 76): "إن علاماتِ الادعاءِ أصبحتِ الآنَ أكثَرَ

وضوحًا في صفحاتِ وحيهِ على شكلٍ مُتوالٍ، ففي هذه الصفحاتِ حَدَّد أهدافًا خاصةً ذاتَ طابعٍ شرير، ولم يكتفِ بمجردِ الدعوةِ علنًا في الاجتماعاتِ العامةِ، بل راح يدعو لدينِه في تلك الأفكارِ الرئيسية التي تتضمَّنُها تحذيراتُه، وهو يُحذَّرُ الناسَ من مَخاطِرِ الكفرِ، ويَحُثُّهم بلغتِه البليغةِ الفصيحةِ على تجنُّبِ اللعنة بالإيمانِ به رسولاً من الله، وبالإضافةِ هذه البواعثِ القويةِ التي تَجعلُ المَرءَ يتحسَّبُ لِمَا سيواجهُه في الآخرة، فقد أسرف أيضًا في التهديدِ بعقوباتٍ مُرعبةٍ في هذه الحياةِ الدنيا إذا لم يُصغُوا لِمَا يقول. * ولتحقيقِ هذا الغرضِ بَسَط أمامَهم المصائبَ التي حَلَّت بأممٍ قَبْلَهم رفضوا طاعةَ الأنبياء الذين أُرسلوا إليهم: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)} [الأنعام: 10 - 11]. ° وفي السورة نفسها نقرأ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)} [الأنعام: 42 - 45]. لقد اقتبس حالاتِ أهل العالَمِ الذين لم يَسمعوا المواعظِ نُوح .. ". ° في (ص 80 - 81) يدَّعي هذا الكذَّابُ أنَّ الإسلامَ انتشر بحدِّ

السيف: "وفي الفترةِ اللاحقة -عندما كان في المدينة على رأس جيشٍ- كان لديه طريقٌ مختصرٌ آخرُ لَحِلِّ كلِّ المشاكلِ الناجمةِ عن هذا المصدر (عدم الإتيان بالمعجزات)، ذلك أن عقيدتَه ساعَتَها كانت هي أن اللهَ سبحانه أرسل موسى وعيسى مزوِّدًا إيَّاهما بقوةِ صُنع المعجزات، ومع هذا فإن الناسَ لم يؤمنوا، لذا فإن اللهَ أرسله (أي محمدًا - صلى الله عليه وسلم -) بوصفه نبيًّا من نوعٍ آخَرَ، نبيٍّ مكلَّفِ بفَرضِ العقيدة الصحيحة بقوةِ السيف، وبالتالي فقد أصبح السيفُ هو الأداةُ الحقيقةُ لفرضِ رسالته، ولقد لاحظ المورِّخ -عن حقّ- أن "محمدًا حاملاً سيفًا في إحدى يديه، والقرآن في اليد الأخرى أقام عَرشَه على أطلالِ المسيحية وأطلالِ روما" (¬1). لكنَّ بعضَ أتباع النبيِّ الأكثرِ سذاجةً عَزَوْا إليه عِدَّةَ معجزاتٍ -كشَقِّ القمر، وتقدُّم الأشجارِ لِلُقياهُ، ونَبعِ الماءِ من بينِ أصابعِه، وتحيَّةِ الأحجارِ له، وحَنينِ الجِذع إليه، وشكوى الجَمَل له، وإخبارِ كَتِفِ الضأنِ له أنه مسمومٌ، وغير ذلك-، لكن محمدًا نفسَه لم يؤكِّد هذه المعجزات، كما أن الكُتَّابَ المسلمين الموثوقَ بهم لم يُوردوها. * والمعجزةُ الوحيدةُ التي أكَّدها هو نفسُه وأكَّدها أنصارُه الأذكياءُ هو القرآن الكريم: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)} [البقرة: 23]. ° وفي الفصل السابع يدَّعي "جورج بوش" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تظاهَرَ بقيامه ¬

_ (¬1) وقد رددنا على هذه الفِريةِ والمقولة الظالمة من قبلُ، بل ورَدَّ عليها "غوستاف لوبون" في كتابه "حضارة العرب".

برحلةٍ ليليةٍ إلى السماء السابعة (المقصود: المعراج) ودوافعُه لاختلاقِ هذه القصةِ المبالغ فيها -حَسْبَما قال الكذَّاب "جورج بوش"-، إذ يقول في (ص 89): "آثَرَ اللهُ محمدًا في السَّنةِ الثانيةَ عَشْرةَ لبعثتِه المزيَّفة برحلةٍ ليلةٍ -فيما يقول هو- من مكةَ (المكرمة) إلى القُدس، ومِن القُدس إلى السماءِ السابعة بصُحبة جبريل، ونجدُ إشارةً لهذا في مَطْلَعِ سورة "الإسراء" من القرآن الكريم: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1] الآية الأولى من سورة الإسراء، بالإضافة إلى هذه الحكايةِ التافهةِ المبالَغ فيها التي لم تَردْ في القرآن، وإنما تَنقُلُها الرواياتُ (يقصد المعراجِ)، ربما ابتَدَعها المُدَّعي كي يُحقِّقَ لنفسِه شُهرةً بوصفه قدِّيسًا، وربما ليرفع نفسَه فوقَ مَقامِ موسى كليم الله فوقَ الجَبَلِ المقدس .. وعلى أيَّةِ حالٍ، فإن المسلمين يؤمنون بقصةِ عُروج النبيِّ إلى السماء إيمانًا يقينيًّا". ° ويقول أيضًا عن "رحلة الإسراء والمعراج" (ص 91 - 92): " .. لندخلْ في حقيقةِ هذه القصةِ الصِّبيانيةِ، نشعرُ على الفور أن خيالَ النبيِّ يُعاني من خَلَلٍ .. والسُّخْفُ البائسُ الذي يَظهرُ في التلفيقِ الذي قدَّمه لنا النبيُّ". ° ويقول (ص 96 - 98): "تلك هي التصوُّراتُ أو الخيالاتُ الصبيانيةُ للنبي، تلك هي القصةُ المَلحميَّةُ الغَبيَّةُ التي خَدَع بها السُّذَّجَ من أتباعه بما فيها من وصفٍ حيٍّ، وعلى أيَّةِ حالٍ، فإن هذه القصةَ بما فيها من سُخفٍ أدَّت إلى تخلِّي عددٍ من أتباعه عنه، وبدا أنَّ دعوتَه قد اقتَربت من نهايتها، وأخيرًا جاء دَورُ أبي بكرٍ ذي النفوذِ الأكبرِ بين صحابةِ النبيِّ، إذ صَدَّق ما

قاله النبيُّ مُلقِيًا الملامةَ على مَن لم يُصدِّقوه، وبذا خَلَّص زعيمَه (يقصد النبي - صلى الله عليه وسلم -) من هذه الورطةِ التَّعِسة، لقد أعلَنَ بجسارةٍ تصديقَه للنبيِّ قائلاً: "إنه إن كان قد قال ذلك فقد صَدَق". إن هذا الحَدَثَ الملائمَ لم يُجدِّدْ -فحسب- الإيمانَ بالنبيِّ، وإنما زادَه لدرجةٍ جَعَلَتْه متأكِّدًا من قُدرتِه على وَضعِ أيِّ حكايةٍ يريدُ أن يُصدِّقَها أتباعُه سريعي التصديق، وهكذا وجدنا أن هذه الحكايةَ الرديئةَ عديمةَ المعنى -التي هَدَّدت في البداية بدفنِ كلِّ ادعاءاته في مهدها- قد عَمِلت في الحقيقةِ على زيادةِ نجاحاتِه لمواكبتها لبعضِ الظروف، وهكذا حَمَل أبو بكر لقبَ التشريف والكرامة، ألا وهو "الصدِّيق". ونَعلمُ مِن "سيل" الإنجليزي الذي شَرَح القرآن أنه لَا يزالُ هناك خلافٌ -على نحوٍ ما- بين العلماءِ المسلمين حولَ ما إذا كان العروجُ بالنبيِّ إلى السماوات كان بالجسدِ أم بالروح (أي أنه رؤيا منامية)، فبعضُهم يَرى أنه مجردُ رؤيا أو حُلمٍ، معتمِّدِين على روايةِ معاوية (بن أبي سفيان)، ويرى آخرون أنه أُسرِي به ببدنه إلى القدس، أما العروجُ للسماء فكان بالروح. لكنَّ الرأيَ السائدَ أن الإسراءَ والمعراج كانا بالجسد، ويَرُدُّ القائلون بهذا على المعترِضين بأن الله على كلِّ شيءٍ قدير، وليس من المُحتَمَل أن يكون هدفُ محمدٍ مجردَ إدهاشِ أتباعه، فالمراقِبُ اليَقِظُ لخصائصِ الإسلام المميِّزةِ له لن يَفشَلَ في اكتشافِ ما لا يُحصى من أوجُهِ الشبه بين هذا النظام (الإسلامي) والدينِ اليهوديِّ الذي أَوحى به الله، ويبدو أن المدَّعي (يقصد المصطفى عليه الصلاة والسلام) يَقصِدُ التشُّبهَ بموسى - صلى الله عليه وسلم - على قَدْرِ ما يُمكنُه، وَيقصِدُ أن يُدخِلَ في دينِه أكبرَ قَدْرٍ من التفاصيل الموجودةِ في

اليهوديةِ دون أن يُدمِّرَ البساطةَ التي اتَّسم بها دينُه". ° وقال في (ص 100): "إنَّ المدَّعي كان توَّاقًا جِدًّا لأن يُؤمنَ الناسُ إيمانًا راسخًا بعجائبه التي يَرويها". ° وقال (ص 112): " {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ... } [التوبة: 111]. هذه الروحُ الدمويةُ العُدوانيةُ غيرُ المتسامحةِ سنجدُها تُميِّزُ معظمَ سُوَرِ القرآن التي نَزلت في المدينة، إذ يمكنُ في أحيانٍ كثيرةٍ أن نحكمَ -من خلالِ الروحِ السائدةِ في السورة والمزاج العامِّ فيها- ما إذا كانت قد نَزلت في المدينةِ أم في مكة دونَ الخوضِ في تاريخ نزولها". ° ويقول في "الفصل العاشر" (ص 120): "لقد كان تغييرُ القِبلةِ -حقيقةً- مَصْدَرَ إزعاجٍ لكثيرين من أتباعِه، إذ كان يعني بالنسبة لهم تقلُّبًا في عقائدِ النبيِّ، فتخلَّوا عنه، لكنَّ تناميَ كراهيتِه لليهود جَعَله يؤكِّدُ هذا التغييرَ في اتجاهِ القبلةِ من القُدس إلى الكعبة". ° ويقول في "الفصل الحادي عشر" (126) عن سَيرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة "أُحد": "إنه قرَّر في البداية أن ينتظرَهم حتى يَصِلُوا إلى المدينة المنوَّرة وَيصُدَّ هجومَهم داخلَها، ولكنَّ حماسَ رجالِه الذي أشْعَلَه نصرُهم السابقُ في "بدر" لم يكن له حدودٌ، وطالبوا بالخروج لمواجهةِ الأعداء، فوافقهم النبيُّ، ولم يكن حكيمًا في هذا، بل لقد وَعَدهم بالنصر الأكيدِ دون حَذَرٍ مندفعًا برُوحِ الثقة التي تلبَّسَتْه، لقد كانت القُوى النبويَّةُ للرسولِ محمدٍ على

مَحَكِّ أحداثِ هذا اليوم، لقد كان محمدٌ متمتعًا بدرجةٍ كبيرةٍ بمواهبِ الجنرال (القائد العسكري) ". ° يَكذِبُ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأنه وَعَد أصحابَه بالنصر قبلَ "أُحُد"، ثم يكذبُ على الصحابة وعلى التاريخ فيما يقولُه عن أحداثِ ما بعد المعركة (ص 12): "لقد راح أتباعُه يُهمهِمون حولَ النتيجةِ المشؤومةِ للمعركة، وحولَ ما إذا كان النبيُّ قد خَدَعهم، وأن إرادةَ اللهِ لم تَنكشفْ له (لم تُوحَ إليه)، فقد تنبَّأ تنبُّؤَ الواثِقِ بالنصرِ، بينما النتيجةُ كانت هي الهزيمة". ° ثم قال (ص 129 - 130): "ولكي يُخمِدَ محمدٌ هَمهمةَ هؤلاء الذين اجتاحهم الحزنُ لفَقدِ رِفاقهم وأقارِبهم، ذَكَر لهم أن لكلِّ أجلٍ كتابًا، وأن الذين قُتلوا في المعركة ما كانوا لِينجُوا من الموتِ المقدَّر عليهم لو أنهم مَكَثوا في بيوتهم، وهم الآن قد ماتُوا شهداءُ، وتلك مِيزَةٌ عظيمة لأنهم سُينعَّمون بدخول الفردوس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)} [آل عمران: 156 - 157]. بهذه المرواغةِ تَملَّص من الوعد الذي سَبَق أنْ وَعَد به أصحابَه بالنصر، وغَطَّى على خِزيِ هزيمتِه". ° وفي الفصل الثاني عشر (ص 135) يقول: "لقد أدَّى عنادُ اليهود إلى تحوُّلِ اتجاهِ محمدٍ إلى كراهيةٍ شديدة، وظَلَّ إلى آخِرِ لحظةٍ في حياته

يَحُثُّ على اضطهادِ هؤلاءِ البائسين اضطهادًا لم يَضطهِدْه المسلمون لأيِّ شَعبِ آخَر". ° ويقول في (ص 136): "إنَّ القلبَ يأسَى أن يجد النبيَّ رسولَ الله يَنتقلُ من مَشهدٍ دمويٍّ إلى مشهدِ دمويٍّ آخر، ومن مذبحةٍ إلى أخرى، جاعلاً دعاوى الدين عَباءةَ يُغطِّي بها طموحاتِه التي لا حدَّ لها ومباهجَه الحسِّيَّة التافهة .. إن المرءَ المتأمِّلَ هنا يُدرِكُ المعنى العميقَ لطهارةِ دينِ يسوع المسيح وجنوحِه للمسالمة، فهذا المعنى يزدادُ تألقًا إذا ما قارناه ببريقِ الانتصارات (الحربية) التي حقَّقها النبيُّ المغازي، تلك الانتصاراتُ التي تَفتقدُ الهدفَ الديني. إن الشخصَ الذي يَشعُرُ بقوةِ المبادئِ المسيحيةِ لن يرتاحَ -أو يَعْجَبَ- بهذه المعاركِ الضاريةِ التي انتصر فيها مؤسِّسُ الإسلام وأمثالُه من الغزاة بحصارِهم الناجحِ، ولا بالمُدن التي نَهَبوها أو أخضعوها، وإن فاق المسلمون غيرَهم في هذا". ° ويقول في (ص 140) ساخِرًا مستهزئًا عن سَمِّ اليهودية للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "وإنْ كان لنا أن نؤيِّدَ الذين يتحدَّثون عن معجزاتِ محمدٍ، فإنَّ الكَتِفَ أخبَرَتْه أنها مسمومة، ولا شكَّ أن هذه المعلومةَ وَصَلَتْه متأخِّرًا، لقد راحت بذورُ المَوت تنخَرُ فيه منذ هذا الوقت". ° وقال في "الفصل الثالث عشر" (ص 143) عن إسلامِ أبي سفيان والعباسِ قبلَ "فتح مكة": "في هذه الظروفِ لم يكن أمامَ أبي سفيان -العدوِّ اللدودِ لمحمدٍ ودينه- والعباسِ- عمِّ النبي- إلاَّ أن يُسلِّموا مفاتيحَ مكةَ للفاتح، وكان هذا موقفًا مَهينًا لأهل مكة، ولم يتوقفِ الأمرُ عند هذا الحدِّ، بل إنهما

اعتَرفا بالدعاوى النبويةِ لسيدهما الجديد، وأقرَّا أنه رسول الله ويمكننا أن نفترضَ هنا أن إسلامَهما كان بالإكراه تحت وطأةِ سيفِ عمر (بن الخطاب) المرفوع -وكان عمرُ شديدَ الوطأة-، لقد أسلما إذن إنقاذًا لحياتهما، ورغمَ أن محمدًا كان فاتحًا (غازيًا) ودَعِيًّا، إلاَّ أنه -في المعتاد- لم يكن قاسيًا، لقد كان غضبُه موجَّهًا ضدَّ صالحِ بلدِه (مكة) أكثَرَ منه ضدَّ أهلها". ° وفي "الفصل الخامس عشر" (ص 156) يقول: "وهكذا انتهت مهمةُ محمدٍ على ظَهرِ الأرض، هكذا انتهت مهمةُ واحدٍ من أبرزِ الرجال وأكثرِهم جدارةً بالالتفاتِ على الإطلاق، هكذا انتَهت المهمةُ الدنيويةُ لأكثرِ المدَّعين نجاحًا وتصميمًا، لقد استطاع بطموحِه الواسع أن يُوجِّهَ المواهبَ الوطنيةَ، فتطوَّرت بداياتُه المتواضعةُ إلى ذُروةِ القوة بين العرب، وكان قد بدأ قبلَ أن يموتَ ثورةً من أعظم الثوْرات التي عَرَفها تاريخُ البشرية، لقد وَضَع أساسَ إمبراطوريةِ استطاعت في ظرفِ ثمانين سنةً فقط أن تَبسُطَ سلطانَها على ممالكَ وبلادٍ أكثَرَ وأوسعَ مما استطاعته روما في ثمانِمئة سَنة. وَتزدادُ دهشتُنا أكثَرَ وأكثَرَ إذا تركنا نجاحَه السياسيَّ، وتحدَّثْنا عن صعودِ دينِه، وانتشارِه السريع، واستمراره، ورسوخه الدائم، والحقيقةُ أن ما حقَّقه نبيُّ الإسلام والإسلامُ لا يمكنُ تفسيره إلاَّ بأن اللهَ كان يَخُصُّهما برعايةٍ خاصة، فالنجاحُ الذي حقَّقه محمدٌ لا يتناسبُ مع إمكاناته، ولا يمكنُ تفسيرُه بحساباتٍ بشريةٍ معقولة". ° ويقول في (ص 158 - 159): "ويَمتدحُ الكُتَّابُ المسلمون شخصيةَ

نبيِّهم بغير حدود، بل إنَّ مِن بينِهم مَن ابتَدعوا حكاياتٍ توصَفُ بالغباء، مؤدَّاها أن مَلَكانِ (بفتح الميم والسلام) أخذاه وهو في طفولته، وشقَّا بَدَنَه بسكينٍ، واستَخرجا قَلْبَه، وضَغَطَا عليه، وعَصَراه حتى استخرجا منه الفسادَ الأصلي (أو المتأصِّلَ في الإنسان)، فتساقَطَ على هيئةِ قِطراتٍ سوداءَ نَتِنَةٍ، ثم أعادوا قلبَه إلى موضعِه طاهرًا نقيًّا، أمَّا الجُرحُ الناتجُ عن شَقِّ الصدر (النص: البدن) فقد التَأَمَ بشكلٍ إعجازيٍّ، لذا فإنَّ أخلاقَه ظَلَّت فوقَ مستوى الجِنسِ البشريِّ، لكننا نجدُ هنا أن تاريخَ حياتِه وصفحاتِ القرآنِ تُمكنِّنُا من النظر إلى هذه الأمورِ التي نَسبوها إليه مِن خلال إنجازاتِه الشخصية، مما يجعلُنا نتشكَّكُ فيها ولابد، لقد مَجَّده أتباعُه لتقواه وصدقِه وعدالتِه وتواضعِه وصِدقِه وإنكارِه لذاته، إنهم لا يُساوِرُهم أدنى شكَّ في أنه نموذجٌ كاملٌ للإيمان والصدق، إنهم يتحدَّثون عن إحسانِه، ويُركِّزون عليه بشكلٍ خاص، فهم يقولون: إنه كان محسِنًا بشكلٍ واضحٍ لا يمكنُ إغفالُه، فقلَّما كان يَحتفظُ في بيته بمالٍ أكثَرَ مما يكفي لإعاشةِ أسرته، بل إنه كان يُؤثِرُ على نفسِه، فيُقدِّمُ للفقراءِ ما يَحتاجُ هو إليه، ربما كان الأمرُ كذلك، لكن عندما نكوِّنُ رأيًا حولَ هذه الصفات الخُلُقية التي تحلَّى بها لا يمكنُ أن نَنسى أنه كانت له غاياتٌ خاصةٌ يريدُ تحقيقَها، لذا فمن المُحالِ أن نَفصِلَ بين دوافعِه لعمل الخيراتِ الصادرةِ عن قلبٍ نبيل، ودوافعِه لعملِ الخيراتِ لتحقيقِ مصالحَ سياسية، ليس مِن غيرِ المعتادِ أن يُصاحِبَ الرغبةَ الشديدةَ في الحكم عواطفُ أو رغباتٌ أخرى أحيانًا ما تكون متناقضةً تناقضًا شديدًا وغيرَ متَّسِقةٍ بأيةِ حالٍ من الأحوال، ومع هذا نجدُها متَّسقةً يَخضعُ بعضُها لبعضِها الآخر بحكم الضرورة، فالطموحُ -أحيانًا- يُسيطرُ على نَزعةِ

حُبِّ المال أو الجشع، وحُبُّ المسرَّات لا يَحكمُ كليهما (الطموحُ والجشع) كما نلاحظُ في حالاتٍ كثيرة، فالإنسانُ قد يَهدِفُ لأن يكون عادلاً كريمًا، وأن يتصرفَ بوصفِه قِدِّيسًا عندما لا يكونُ لديه باعثٌ سِوى تقمُّصِ شخصيةِ نبيٍّ وسُلطانٍ مَلِكٍ، فإنْ كان محمدٌ حقيقةً قد تحلَّى بفضائلِ نبيٍّ، فلا شك أنه كان يضعُ عينيه على ما يَحُوزُه النبيُّ من مكافأةٍ أو جزاء، لكن لا ينبغي أن نقسوَ في حكمنا -دون مُبرِّرٍ- على صفاتِه الخُلقية، إننا نظنُّ أنه من غيرِ المُحتَمل ألاَّ تكونَ تصرُّفاتُه طيبةً وطبيعيةً ومتفتحةً ونبيلةً جذابةً وربما عظيمةً متسمةً بالشهامة وسَعَةِ الأفق، ونحن نظنُّ أن الكُتَّابَ المسيحيين ظلموا الرجل (يقصد محمدًا - صلى الله عليه وسلم -) نظرًا لمقتهم له، لكن طالمَا نحن نبغي الحقيقةَ التاريخيةَ فيما يتعلَّقُ بالإسلام ومؤسسِه، فإننا نجدُ أنه من الواضح أنه إذا كان يَمتلكُ في طبيعتِه صفاتٍ جديرةً بالثناء، فيجبُ أن يتوقفوا عند التعرُّفِ عليه في مِراحل تطورِ حياته، لأن صفاتِه السيئةَ تواكبُ نجاحاته، ومَيلُه لانتهاكِ القانون زاد كلَّما امتدَّ به العمرُ". ° وقال في (ص 161): عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ربما كان مستواه (الحضاريُّ) عظيمًا بين القبائل البدوية، ولكنه ما كان ليكونَ أكثرَ من إنسانٍ عاديٍّ لو عاش في المحيط الأوربيِّ المتحضِّر .. كان منَ الممكنِ أن يَغرقَ مؤسِّسُ الإسلام وإمبراطوريتُه في بحرِ النسيان مع ملايينَ مجهولينَ من بني جِنسه كما تمتصُّ الرمالُ قطراتِ المطر في صحارى بلاده". ° وقال أيضًا في نفس الصفحة: "إن تاريخَ محمدٍ كلَّه يُظهِرُ أن التعصُّبَ والطموحَ والشهوةَ كانت هي الدوافعَ التي تحرِّكُه، كما كانت هي العواطفُ والانفعالاتُ المتأجِّجةُ في صدره، ويبدو أن التعصبَ قد راح

يخبو تدريجيًّا بزيادةِ قوةِ العاطفتين الأخرَيَينِ (الطموح والشهوة)، ومع أنه كان متحمِّسًا بطبعه، إلاَّ أنه أصبح -بحكم الظروف السياسية- مُرائيًا، وكلَّما زادت مُيولُه ونزعاتُه انحرافًا، لم يتورَّعْ عن إشباعِها على حسابِ الحقِّ والعدلِ والصداقةِ والروح الإنساني، حقيقةً إنه يجبُ علينا عند تقويمِ سلوكه في جوانبه الأكثرِ بغضًا أن نضعَ في اعتبارنا جَهلَ مَن كان يعيشُ بينهم وإجحافَهم وجاهليتَهم وطبيعةَ شرائعهم، فالشعبُ الوثنيُّ البربريُّ لا يمكنُ حُكمُه على وفقِ المقاييسِ المسيحية أو القواعدِ المسيحيَّة". ° ويقول في (ص 162 - 166): "حقيقةً إننا يجبُ أن نفكِّرَ في أخلاقِ هؤلاء الناس (المقصود العرب والمسلمين) -مع استثناءاتٍ قليلة- بسُخطٍ عليهم وعلى أيِّ نبيٍّ دعِيٍّ، وفي الوقت نفسِه نعترفُ بأن هذا النبيَّ طهَّر شرائعَ قومِه الأخلاقية، مع أنه عَمِل على استمرارِ ممارسةِ أسوأِ ما كان لديهم من أفكار، هنا -في الحقيقة- نُوقعُ أثقلَ اللوم على محمدٍ، إنه لم يُراعِ القواعدَ الأخلاقيةَ التي قال بها هو نفسُه، والتي فَرَضها على الآخَرين بأوامرَ صارمةٍ مرعبة، ليس مِن عُذر نقدِّمه لمحمدٍ في هذا، لقد أساء استعمالَ حقوقِ النبوَّة التي ادَّعاها ليسترَ إسرافَه في حياته الشخصية، فتَحتَ سِتارِ الوحيِ أعفى نفسَه من شرائعَ أتى بها دينُه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ

عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)} [الأحزاب: 50]. هذه المِيزةُ المبالَغُ فيها التي تمتَّعَ بها النبيُّ ربما تناقضت مع ما هو مسموحٌ لأتباعه أو ما هو مسموحٌ به لسائر المسلمين: { .. فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً .. } [النساء: 3]. ويمنعُنا الحياءُ من الدخولِ في تفاصيلِ هذا الجانبِ من حياةِ محمدٍ وشخصيته (يقصد الجانب المتعلق بالزواج ومِلْكِ اليمين)، لكن القارئَ يستطيعُ مِن خلال ما ذكرناه آنفًا أن يُدركَ كيف استغلَّ النبي نبوَّته بوصفِها أداةً لإشباع الرغبات الحسية، ومِن الأمثلة الصارخةِ ما حَدَث مِن اتصالِه بالجاريةِ المصرية مارية (القبطية)، لقد وصل خَبَرُ هذا الحُبِّ المحظور (الاتصال بمِلْكِ اليمين) لِمَسْمَعِ إحدى زوجاته الشرعيات، بل لقد رأت بعينيها ما حدث (أي هذا الاتصال الجنسي)، فوَّبخته توبيخًا مريرًا، فوَعَدها مُقسِمًا -ليهدِّيها- ألاَّ يعودَ لهذا، لكن طبيعتَه غَلبت عليه بعد ذلك بوقتٍ غيرِ بعيد، فلجأ إلى الوحي ليغطيَ هذا الخِزيَ، فكان لا بد من نصٍّ قرآني يُحِلُّه من قَسَمِه الآنِفِ ذِكرُه، وتلك صفحة سوداء لوَّثت القرآنَ ومؤلِّفَه (يقصد محمدًا - صلى الله عليه وسلم -): {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)} [التحريم: 1 - 2]. هنا نجدُ الأمرَ يتناقض مع ما يَفرضُه نبيُّ الحقِّ على أتباعه، فنحن نقرأ في القرآن ما فرضه عليهم في الآيات التالية: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا

تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ .. } [النحل: 91، 92]. وفي السورة نفسها: {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 94]. هذه مجردُ أمثلةٍ من الطبيعة العامةِ القرآن، إن الجزءَ الأكبرَ منه -إلى حدٍّ كبير- قد صِيغ لتحقيقِ أغراضٍ خاصةٍ ليكونَ ذريعةً قلَّما تَفشلُ إذا تَعذَّرَت الذرائعُ الأخرى، فجبريلُ يَنزلُ بوحيٍ جديد -دائمًا- مطابقٍ للغرض (¬1) المطلوبِ تحقيقُه، إنْ شَرعَ النبيُّ في مشروعٍ جديد، وإن واجَهَ اعتراضاتٍ جديدةً، وإن كانت هناك صعوباتٌ يجبُ حَلُّها أو تجاوُزُها، وإنْ نَشَبَ نزاعٌ بين أتباعه .. لذا فإننا نجدُ -كنتيجةٍ حتميةِ لهذا- اختلافاتٍ وتناقضاتٍ في هذا الكتاب (يقصد القرآن الكريم) يصعبُ إنكارها، ومفسِّرو القرآن والمسلمون عامةً يعرفون هذه الحقيقةَ، لكنهم يُبرِّرون ذلك بقولهم: إذا ناقَضَ الوحيُ اللاحقُ الوحيَ السابقَ، فإن الوحيَ اللاحقَ نَسَخ -أو ألغى- الوحيَ السابقَ، وهناك أكثرُ من مئةِ وخمسين آيةً ينطبقُ عليها هذا (حكم الناسخ والمنسوِخ)، بل إنَّ الدَّعِيَّ نفسَه (يقصد محمدًا - صلى الله عليه وسلم -) يؤكِّدُ هذا، ففي القرآن: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ ¬

_ (¬1) هذا ما يقوله الدَّعِيُّ الدجَّالُ "جورج بوش"، نضعه بين أيدي المسلمين ليقفوا على جذور ومرجعية ما يختصِمُه الآخرون مع هذا الدين منذ وقتٍ مبكِّر، ونحن أشدُّ حِرصًا على سيرة نبيِّنا المُطهَّرةِ وخُلقه الذي هو خُلُق القرآن الكريم .. وهو -والله- أحبُّ إلينا من أنفُسِنا وأهلينا وأموالنا.

عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)} [البقرة: 106]. * {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 101]. وإذا وُوجِهَ المسلمون المعاصرون بهذا -كما حدث أثناءَ نِقاش "هنري مارتين" معهم -أجابوا: هذا الاعتراضُ تافهٌ لا جدوى منه؛ لأن الله سبحانه يُراعي دائمًا ما هو لازمٌ لعبيده، ولا شك أن الآياتِ المنسوخةً نَزلت في وقتٍ اختَلفت أحوالُه عن أحوالِ لاحقةٍ كان لها مقتضياتٌ أخرى، فاللَّهُ واهبُ الشريعةٍ الإلهية لابدَّ أن ننظرَ إليه بوصفِه معالجًا رُوحيًّا لعبيده تمامًا، كما يصفُ الطبيبُ لمريضه المناسبَ لعلَّته". إنَّ التلميذَ هنا (يقصد المسلم القائل بهذا) جديرٌ بأستاذه (المقصود نبيُّه محمد - صلى الله عليه وسلم -) لأنهما متَّفقان على أن مبادئَ الأخلاقِ الكبرى ليست خالدةً دائمةً غيرَ قابلةٍ للتغيير مرتبطةً بالعلاقةٍ الدائمةٍ بين الخالق وخَلْقه، وإنما هي مجردُ قواعدَ أو أحكامٍ اضطراريةٍ قابِلةٍ للتخفيف والتعديل أو حتى التغيير على وِفقِ ما تُملِيه الظروف، وبالنظرِ إلى هذه الوسيلةٍ الهزيلةٍ (التافهة) لإبطالِ أو لنسخِ بعضِ الواجبات التي فَرضها الله سبحانه، لاستخدامها -أي هذه الوسيلةٍ التافهةٍ أو الهزيلة- لصالحِ الضَّعفِ البشريِّ وتقلُّبِ الأهواء، فإن المرءَ يَدهَشُ أن يَعمَى أتباعُه (المسلمون) عن هذا التضليلِ والخداع، ليس هناك ما هو أقوى من هذه الحُجَّة، وليس هناك ما هو أسخفُ من هذا في أيِّ دِينٍ، ومع هذا فالمسلمون مؤمنون به، إنه دليلٌ على سذاجتهم وسُرعةِ تصديقِهم، إنه استخفافٌ بعقولهم".

° ويقول جورج بوش المفتري عن دخول الناس في الإسلام أفواجًا (ص 194 - 195): "نودُّ الإشارةً إلى أن الآلافَ قَبِلوا الحياة "بسلامٍ" أو باطمئنانِ، وقَبِلوا "الدينَ الدَّعِيَّ" الذي أدخله الغُزاةُ أثناءَ تقدُّمِ جُيوشهم المنتصرة، هذا ما تعنيه الكلمات "وبالسلام (أو بالاطمئنان) حطَّم الكثيرين"، أي أنه أفسدهم بالشروط التي فَرضها عليهم لإتاحةٍ السلام (الاطمئنان) لهم، وهذه الشروطُ سيئةُ السمعةٍ تتمثَّلُ في: "الموت أو دفعِ الجزية أو الالتزام بالقرآنِ أو بعبارةٍ أخرى اعتناقِ الإسلام"، وإذا نجت الأمَمُ التابعةُ من حدِّ السيف، دمَّرتهم العقائدُ الخرافيةُ المشوَّهةُ التي اعتنقوها. وتَمضي نبوءةُ دانيال قائلةً: "لكنه سوف يُدمَّرُ دونَ يدٍ تدمِّرُه" (أو على حد صياغة الترجمة العربية المأخوذ بها لهذا السفر: وبلا يد ينكسر)، وهذا يعني أنه سينكسر بغيرِ يدٍ بشريةٍ تَكسِرُه وبغيرِ سُلطةٍ بشريةٍ، إنه سَينكسر (سيُهزم) بطريقةٍ مختلفةٍ عن الطريقةٍ التي تنكسرُ (تنهزم) بها القُوى الأخرى، ستنتهي هذه الهيمنةُ الروحيَّةُ للإسلام عندما يَتصدَّع الحَجَرُ (دون أيدٍ تُصدِّعه) في مواجهةٍ التمثال (أو الصنم) فتتحول كلُّ قوى الطغيان (الاستبداد والحكم المطلق desptism) والضلالِ إلى هباء، وكثيرون من شارِحي نبوءةٍ دانيال مقتنعون أن الخداعَ المُحمَّديَّ (يقصد الإسلام) سيبدأ انكسارُه، دون يدٍ تكسِرُه في الوقت الذي تُدمَّر فيه البهيمة الرومانية المتمثِّلةُ في كنفدراليةٍ مناهضةٍ للمسيحية، وفي الحِقبةٍ التي تبدأُ فيها الألفيةُ (المقصود بالألفية الألف سنة التي يحكم فيها المسيحُ العالَمَ فيملأه خيرًا وعدلاً على وِفقِ الاعتقادِ المسيحي، وفكرةٍ عودةٍ المسيح تترددُ أيضًا في الفكرِ الإسلامي لكن بأبعادٍ أخرى)، في هذه الفترةٍ سيبدأ التبشيرُ بالإنجيل بنجاحٍ في العالَم

كلِّه، وسينضمُّ كلُّ الأغيار (وهو تعبيرٌ يهوديٌّ يعني غيرَ اليهود، لكن بوش هنا يستخدُمه ليعني غيرَ المسيحيين) إلى حظيرةٍ الكنيسة المسيحية، خلالَ هذه الفترة سيتركُ المسلمون دينَهم ليدَخلوا في العقيدةٍ الحقَّة (المسيحية)، وعندما يتحولُ المسلمون جميعًا إلى المسيحية، ستنكسرُ -بلا شك- مملكةُ القَرنِ الصغيرِ الشرقية (دولة الإسلام على حد تفسيره للعبارات الرمزية لنبوءة دانيال)، مِن الواضح أن انكسارَها عندئذٍ يكونُ بلا يدٍ (بلا يد تنكسر) لأنها ساعتَها لا تكونُ قد انكسرت بحدِّ السيف على يدِ غازٍ من بني البشر، وإنما بتأييدٍ من الروح القُدُس الذي يُميل قلوبَ الناس ليعلنوا خطأهم وليؤمنوا بعقيدةٍ نبيِّ الله الحق. وهكذا رأينا أن القرنَ الصغيرَ لهذا الخروف (التيس) الرمزيِّ يُشيرُ إلى نجاح ادِّعاءِ محمدٍ، وإن كان هذا النجاحُ عَرَضيًّا -أي سيزول، وقد تم المرادُ (أي وصل هذا النجاحُ لنهايته وحان وقت إزاحته)، وعلى هذا فنتيجةُ كلِّ هذا الاستقصاء يجبُ أن تكون هي أن القَرنَ الصغيرَ كما وصُف في "سِفرِ دانيال"، يَرمِزُ إلى مملكةٍ الإسلام (أو دولة الإسلام) ". ° ويقول في (ص 192 - 193): "استأصل أتباعُ محمدٍ المبشِّرين بالإنحيل، وحَوَّلوا إلى الإسلام خَلقًا كثيرًا بحدِّ السيف، وفرضوا دينَهم على الشعوب التي امتدَّ إليها حُكمُهم الدنيويُّ، وكلمةُ السياسة هنا (في الترجمة العربية المتداوَلة للسِّفر تُوجَدُ كلمة "حِذاقة" بدلاً من كلمة سياسة)، ربما أمكن فَهمُها بمعنَى الدهاءِ الخالي من المبادئ، أو الدَّهاء الذي لا يَضعُ صاحبُه القيمَ والمبادئ في اعتباره، أو العملُ بذكاءٍ لكن دون وَضعِ اعتبارٍ للأخلاق أي بمعنى وَضعِ الخُططِ بنعومةٍ أفعوانية، ووضعها موضعَ التنفيذ

بجرأةٍ وتهوُّرٍ كامِلَينِ، بصرفِ النظر عن الطبيعةٍ الأخلاقيةٍ للوسائل المستخدمة، وبهذه الطريقة كَلَّل النجاحُ قوى الإسلام، لقد ازدهرت -بشكلٍ غريبٍ فنونُهم الوضيعةُ وحِرَفُهم وخياناتُهم التي هي طبيعةٌ من طباعهم، لا أحدَ يُجارِي محمدًا وأتباعَه في طباعهم المميَّزة هذه، يقول "جيبون - gibbon": " في مجال ممارسة سياسةٍ الحكم، اضطُر محمد لأبطالِ حِدَّةِ التعصب إذعانًا منه -إلى حدٍّ ما- لمشاعِرِ أتباعه وما حاق بهم من ضرر، كما اضطُر حتى لاستخدام رذائلِ البشريةٍ كأداةٍ لتحقيقِ الخلاصِ لهم (أو لتحقيق النجاة لها)، وكان استخدامُ الاحتيالِ والخداع والقسوةٍ والظلمِ من العواملِ المساعدة في نشرِ العقيدة (أي الإسلام) " .. ويقول "جيبون" أيضًا: "ولدعم العقيدةِ (أو الحق) لم يكن محمدٌ يَعتبرُ فنونَ الخداعِ وتلفيقِ القصصِ جُرمًا كبيرًا، وقد يبدأُ بالوسائل القذِرة، إذا لم يَرْضَ بالنهاية العادلة". ° ويقول في (ص 189): "وعلى هذا فمحمدٌ بوصفه مُلفِّقًا للقرآن (هكذا يدَّعي بوش صاحب هذا التلفيق المغرض) أكَّد دعواه بتميُّزه النبويِّ في فهم "الجُمل الغامضة" أو الظلمة (المترجم: سبق القول أن هذه العبارت التي تشير إلى تأويل الأحاديث منسوبةٌ في القرآن الكريم إلى يوسفَ - صلى الله عليه وسلم -)، ذلك لأنه (أي محمد) أَعلن في القرآن -ذلك الوحيِ المُدَّعى- أن هدفَه هو إحياءُ تراثٍ دينيٍّ قديمٍ عن الله والدين (¬1)، بل وأعلن أنه يفكُّ مغاليقَ الحياةِ بعد الموت وأسرارَ الغيب (ادعاء من بوش، وإلا فالله سبحانه علام الغيوب/ المترجم) ". ¬

_ (¬1) المقصود به مِلَّةُ إبراهيمَ أو الحنيفية.

° وقال في (ص 188): "إنَّ من الحقائقِ التي يتجنَّبُ المسلمون الإعلانَ عنها أن نبيَّهم (مؤسِّسَ دينِهم) كان يستخدمُ السيفَ كأداةٍ أساسيةٍ لإدخالِ الناس في الإسلام، وقد شاركه المؤمنون برسالتهِ في كل العصور -غالبًا- في هذه الروح القاسية، على أيةٍ حال، فإن البعض يَرى أن الترجمةَ الصحيحة هي "ذو الوجه الصارم أو الثابت"، ويعنون بذلك الوقاحةَ والبرودَ اللذَينِ يتميَّزُ بهما الكذابُ ذو الوجهِ المكشوف (قليل الحياء) والمتَّسمُ بالصفاقة، وهي صفاتٌ اتَّصف بها محمدٌ وخلفاؤه، فدينُهم -حقًّا- خداعٌ وادِّعاء لا لَبْسَ فيهما، تَسبَّب في لوم البشرِ لسذاجتِهم وسُرعةٍ تصديقِهم". ° ويقول هذا الدجَّالُ الكذَّابُ الأشِرُ عن زوجاتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - في "الفصل السادس عشر" قال عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - (ص 166): "وقد أُشيع ما يُفيدُ عدمَ إخلاصِ عائشة، ولم تَزُل هذه الوصمةُ عن عائشة تمامًا حتى أيامنا هذه، وعلى أيَّةٍ حال فإن النبيَّ نفسَه لم يُصَدِّق ما نُسِب إليها (¬1) ". ° وقال عن أمِّ المؤمنين زينب بنت جحش (ص 169 - 170): "وزينبُ زوجةٌ أخرى للنبيِّ، وكانت متزوِّجةً من "زيد"، وقد أنعم اللهُ عليها -فيما يقول القرآن- بأنها كانت مِن بين أوَّلِ مَن أسلم، وحكايةُ زواج النبي بها حكايةٌ جديرةٌ بأنْ تُرْوَى، لقد ذهب محمدٌ يومًا إلى منزل زيدٍ لأمر، ولم يجِد زيدًا، وتَصادَف أنْ وقعت عيناه على "زينب" الجميلة، فافتُتن الرسولُ بمفاتنها (¬2) من أولِ نظرةٍ، فلم يتمالَكْ نفسَه، فرفع صوتَه ذاكرًا أنْ "سبحان ¬

_ (¬1) يقصد حادثة الإفك. (¬2) لعن الله الكذاب جورج بوش بما أساء لسيد البشر - صلى الله عليه وسلم -.

الله مقلِّبِ القلوبِ كيفما شاء"، ومِن وقتها توتَّر حُبُّها لزيد، وأدَّى هذا إلى كثير من الإرباكات، لقد راح زيدٌ يُوازِن بين حُبِّه لزوجتهِ ورغبتِه في الإبقاء عليها من ناحية، وإحساسِه بالالتزام والإخلاصِ لسيدِه (أي: محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -) الذي أعتقه، بل وتبنَّاه أي اعتبره ابنًا له ووريثًا، ووثَّق هذا بطقوسٍ دينيةٍ علنيَّةٍ عند الحَجَرِ الأسود في رُكنِ الكعبة، وقرَّر زيدٌ بعد تفكيرٍ متأنٍّ أن يُطلِّقَ زينب ليتزوَّجها المنعِم عليه، أو بتعبيرٍ آخر صاحبُ الفضل عليه، الذي كان يعرف -بشكل شخصي- هدفَه، وفي الوقت نفسه راح النبي يعلن أنه لم يعد يريد الزواج منها ويقول لزيد: "أَمْسِك عليك زوجَك"، وكان محمدٌ واعيًا بالخزي الذي سينتج عن هذا والذي يُثيرُ انتقادَ الناسِ لاتخاده زوجةً هي بمثابةٍ ابنتِه، فخَدَع الناسَ بانصرافِه عن هذا، وكَبَح عاطفتَه، ولكنه وَجد أنَّ شَغَفه بها أصبح شديدًا لا يُقهر، فتخلَّص من المشكلة بآياتٍ قرآنيةٍ أراحته وأزالت كلَّ الموانع الشرعيةٍ القائمةٍ أمامَ ارتباطِه بها بزوجةٍ زيد ابنهِ بالتبني: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)} [الأحزاب: 37]. ° ويقول هذا الأفَّاكُ عن النبيِّ الكريم - صلى الله عليه وسلم - (ص 178 - 179): "وعلى أيةِ حالٍ، فإننا لا نشكُّ في أن كُتُبَنا المقدَّسةَ قد تنبَّأت بهذا الدَّعيِّ الكبيرِ ودينِه، لكن بمعنًى آخَرَ يختلفُ عما ذكره محمدٌ وأتباعه، فلم تكن كُتبُنا المقدسةُ لِتُغفِلَ التنبؤَ بهذا الدينِ الذي أتى به محمدٌ وهذه الأمبراطوريةٍ التي

شاهدها بوصفهما سَوطَ عذابٍ نَزل على الكنيسة والعالَم المتحَضِّر". ° ويقول عن ظهور الإسلام (ص 182): "ليس هناك حَدَثٌ أعظمُ من هذا، كان له تأثيرٌ كاسحٌ على وضع الكنيسةٍ المسيحي في ترسيخ هذا الدَّجَل واسع النطاق" المقصود ظهور الإسلام وانتشاره. ° ويقول في تفسيره لنبوءة دانيال (ص 183): "إنَّ الإسلام قد حقَّق هذه النبوءةَ بوضوح برفعِ مقامِ مؤسِّسه (النبي محمد) إلى درجةٍ من التوقير والتشريفِ مساويةً لدرجةٍ التوقير والتشريف التي يَحظى بها يسوعُ المسيح، بل إن الإسلامَ يرفعُ نبيَّه محمدًا درجة فوق درجةٍ المسيح، فالدَّعيُّ العربيُّ (يقصد محمدًا - صلى الله عليه وسلم -) جَعل من المسيح مجرَّد نبيٍّ، بل واحتَفظ لنفسِه بمكانةِ أعظمِ الأنبياء، وقال: إن القرآنَ نَسَخ الأناجيل Gospel، بل إن الإسلامَ جَعل من نبيِّه أميرًا للحشدِ (مجموعة المؤمنين المتقين host كما يفيد استخدام المؤلف للكلمات) "اهـ. ° ويقول هذا الدجَّالُ في (187 - 188) عن رجلِ الخطيَّة (ويعني بذلك رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -): "إننا نعلمُ من التاريخ المدني، ومن التاريخ المقدس (الديني) الأحوالَ وقتَ ظهورِ محمد، فقد كانت الكنيسةُ المسيحيةُ قد وصلت إلى ذُروةٍ الانحرافِ في العقيدة وفي الممارسة والتطبيق، وهو الأمرُ الذي كان قد تنبأ به بوضوح القديسُ "بولس Paul" عن "رجل الخطية Man of Sin"، لقد كان النجاحُ غيرُ العاديِّ الذي حَقَّقه الخِداعُ المحمديُّ (التضليل الإسلامي) عقابًا لهذا التقصيرِ الكبيرِ (أو عقابًا للارتداد عن الدين الصحيح defetion والمقصود خروج المذاهب المسيحية الأخرى عن النهج الصحيح فيما يراه بوش/ المترجم)، لقد عُوقب هؤلاء النجومُ (وفقًا للتعبير المجازي)

بسبب ابتعادِهم عن الحق، فتم إخضاعُهم -لهذا- لطغيانِ القَرنِ الصغير (المقصود ثم إخضاعهم للمسلمين عن وفق تصير بوش لنبوءة دانيال)، لكن هذه الرِّدَّة (أو الانحراف عن الدين المسيحي الحق فيما يراه بوش) التي استَشْرَتْ لفترةٍ طويلةٍ في الشرق والغرب على سواءٍ كانت قد اكتَملت أو بَلغت ذُروتَها في حوالَي بدايةٍ القرن السابع للميلاد عندما ظهر نبيُّ الإسلام لأوَّل مرة، والمؤرِّخُ "جيبون" يقدم لنا رؤيتَه للإسلام (النص: الدين المحمدي) بملاحظته "أن المسيحيين في القرن السابع -دون وعي منهم- أصبحوا مِثْلَ الوثنيين". وعلى هذا، فمنذ ذلك الوقتِ وقعت النجوم (المقصود: المسيحيون) في أيدي القَرن الصغير (المسلمون على وِفق تفسير بوش لنبوءة دانيال)، لقد غَضِب الربُّ عليهم، فهَوى بعصاه على رؤوسهم، لقد أُخضِعوا لطغيانه (أي طغيان الإسلام) بسبب ارتدادِهم إلى خرافاتِ الأغيار الوثنية، ومرة أخرى فما دُمنا نقصِدُ في بحثنا هذا الإسلامَ (الدين المحمدي) فإنَّ هذه السيطرة الدينية العجيبةَ يُمكن أن تُوصِفَ بأنها "مملكة الوجه المُتَجَهِّم" (¬1)، ذلك أن من الحقائق التي يتجنَّبُ المسلمون الإعلانَ عنها أن نبيَّهم (مؤسس دينهم) كان يستخدمُ السَّيفَ كأداةٍ أساسيةٍ لإدخالِ الناس في الإسلام، وقد شاركه المؤمنون برسالته في كلِّ العصور -غالبًا- في هذه الروح القاسِية .. على أيَّةِ حالٍ، فإن البعضَ يَرى أن الترجمةً الصحيحةً هي "ذو الوجه الصارم أو الثابت Firm "، ويعنونُ بذلك الوقاحةً والبرودَ اللذيْنِ يتميَّزُ بهما ¬

_ (¬1) أوْ على حدِّ الترجمة العربية المُعتمَّدة: مملكة على رأسها "مَلِك جافي الوجه".

جورج بوش راعي البقر

الكذَّابُ ذو الوجهِ المكشوف "قليل الحياء"، والمتَّسمُ بالصَّفاقة، وهي صفاتٌ اتَّصف بها محمدٌ وخلفاؤه، فدينُهم -حقًّا- خداعٌ وادِّعاءٌ لا لَبْسَ فيهما تسبِّب في لَومِ البشر لسذاجتهم وسرعةٍ تصديقهم". * جورج بوش راعي البقر: يزعم "جورج بوش" أن القرآنَ منقولٌ من التوراة والأناجيل، ويعترفُ "بوش" بأن ما ورد في القرآن الكريم -ممَّا يخالِفُ ما هو موجودٌ في التوارة والأناجيل موجودٌ أيضًا في أناجيلَ وأسفارٍ شاعت في القرون الأولى للمسيحية، ويَصِفُ هذه الأناجيلَ بأنها خاطئة (¬1). ° وأعفانا بوش من ردِّ بعضِ مَن قال: "إن الراهبَ بَحيْرا ساعد محمدًا - صلى الله عليه وسلم - على وَضْعه"، فبوش نفسُه يُنكر هذا، ويستشهدُ بباحثٍ مسيحيٍّ آخَرَ أثبت أن "بَحيرا" أو "سرجيوس" لم يغادرْ مكانَه في الشام متوجِّهًا لشِبهِ الجزيرة العربية، والأهمُّ من كلِّ هذا أن القرآنَ الكريم نزل منجَّمًا -أيْ مُفَرَّقًا- وليس دَفعةً واحدة، فهل كان الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - كلما أراد (تأليف) آية "حاشاه، وعياذًا بالله"، ارتحل إلى الشام ليستعينَ "ببَحيْرا" هذا؟ أم أنه كان يستدعيه بشكل سِرِّيٍّ ليأتيَ إليه قاطعًا الفيافي مارًّا بكلِّ هَذه القبائل التي تتشمَّمُ ريحَ الغريب مِن بُعْدِ فرسخ؟! " (¬2). ° يقول "جورج بوش" (ص 228): "ومِن الواضح أنه ليس هناك ¬

_ (¬1) "محمد مؤسس الدين الإسلامي ومؤسس إمبراطورية المسلمين" (ص 571) - دار المريخ. (¬2) المصدر السابق (ص 571).

شيء يُشبهُ التخطيطَ أو المنهجَ في ترتيب السور أو الآيات، وليس هناك بيانٌ بوقتِ نزولها ولا بموضوعها (محتواها)، فليس أيٌّ منهما هو أساسُ الترتيب، فالآياتُ والسور -في الحقيقة- موضوعةٌ كيفما اتُّفق دون نظامٍ أو معنًى، فقلَّما ترتبطُ آيةٌ بالتي تليها، فليست هناك حالةٌ واحدةٌ ارتبطت فيها اثنتا عَشْرةً آيةً إلاَّ في حالةٍ القَصص القرآني (السور التي تناولت قصص الأنبياء مثلاً)، مثل قصةٍ إبراهيم وقصةٍ يوسف وفرعون، وكِلا القصَّتين محرَّفتانِ عن الكُتب المقدسة المسيحية واليهودية (هكذا يعتقد المؤلف)، وفيما عدا هذا فالآياتُ تبدو فُرادى منعزلةً عن أيِّ سياقٍ، ومن الصعب -بل من المستحيل- أن نكتشفَ الصِّلَةً بينها، كذلك من الصعب فَهمُ تتابعِ السور في القرآن، ويكفي أن نَذكُرَ للقارئ عناوينَ السور التِّسع الأولى، فهذا يُعطيه فكرةً حرَّةً عن ترتيب السُّور وطبيعةٍ الموضوعات التي تعالجها: -1 - الفاتحة. 2 - البقرة. 3 - آل عمران. -4 - النساء. 5 - المائدة. 6 - الأنعام. -7 - الأعراف. 8 - الأنفال. 9 - براءة (التوبة). وبالنسبة لِخُطَّةٍ هذا الوحي الزائف وتكوينه، يُلاحَظُ أنَّ محمدًا جَعل اللهَ هو المتكلِّم في هذا النصِّ (القرآني)، هذا ما يتبادرُ للقارئ عندما يقرأُ -بتمعُّنٍ- المقتطفاتِ القرآنيةَ التي أوردناها، فالخطابُ في القرآنِ موجَّهٌ -مباشرةً- للنبي مخبرًا إيَّاه بما يُبلِّغُه لأهل بلدِه وللعالَم، وفي حالاتٍ أخرى يوجِّهُ القرآنُ أوامرَه ووصاياه ووعودَه وتهديداته -مباشرةً- إلى غير المؤمنين أو إلى المؤمنين على وِفقِ ما يقتضيه السِّياق".

° وفي (ص 230) يقول: "وبشكل عامٍّ نجدُ أن القرآنَ يتفقُ مع العهدِ القديم في التفاصيل التاريخيةٍ التالية: قصة الخَلْق، وعصيان آدم لربِّه، ونجاةِ نوح وأهلِه بركوبهم الفُلْك، وبدعوة إبراهيم، وقصَّتي إسحاق وإسماعيل، وقصة يعقوب وآباء البشر، واعتبار اليهود هم شَعبُ الله المختار (!)، وبنبوَّة موسى ومعجزاته، وبصحَّةِ ما قاله المؤرِّخون والأنبياءُ وأصحابُ المزاميرِ اليهودُ -خاصةً داود وسليمان-، وأخيرًا يقول الإسلام بعَودة المسياح وما يرتبط به من نبوءات. ومرةً أخرى نجدُ القرآن يتَّفقُ مع العهد الجديد (الأناجيل) في الاعترافِ بأن يسوع المسيح هو نفسُه المسياح Messiah المنتظر الذي ينتظره اليهود، ويتَّفقُ مع العَهد الجديد في الحَمْلِ الإعجازي بالمسيح، وأن هذا تم بالنفخ أو بتعبير آخَرَ النفخُ من روح الله، وفي طهارةٍ مريم العذراء، وفي تسميةِ المسيح بكلمةٍ الله، وفي الميلادِ الإعجازي ليوحنا المَعمدان ابن زكريا الذي مهَّد الطريقَ لعيسى (بن مريم)، أو بتعبير آخر كان بشيرًا به، وفي قيام المسيح بِكثيرٍ من المعجزات كإبراءِ المريضِ، وإحياءِ الموتى، وإخراج الشياطين". ° وفي (ص 231) يقول: "وعلى أيةِ حالٍ، فإن محمدًا بعد أن تأثَّر ببعضِ الهَرْطقات القديمة -كما سيظهر من الفقرات (يقصد الآيات) التالية-، عاد فأنكر صَلْبَ المخلِّص (المقصود المسيح Saviour) : { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 156 - 158].

* {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)} [آل عمران: 52 - 54]. (المترجم: النص الإنجليزي للآية كما أوردها المؤلف يختلف شيئًا ما إذ يجري هكذا: وحَبَك اليهود المؤامرات ضده، وحَبَك الله المؤامرات ضدهم والله هو خير الماكرين). وكلمة "المكر Stratagem" على وِفق فهم المسلمين لها، تعني رَفْعَ اللهِ المسيحَ إلى السماء وإلقاءَ شِبْهِهِ على شخصٍ آخَرَ، فتمَّ صَلبُه (أي هذا الشخص الآخر) بدلاً من المسيح عليه السلام. هذا التوافقُ بين القرآن والأناجيل في مواضعَ كثيرةٍ قد اختلط بشكلٍ غريبٍ بأمورٍ متضاربةٍ تضاربًا شديدًا أدَّت إلى تحريفٍ غريبٍ ومبالغاتٍ لا محلَّ لها، وهذا يجعلُنا نقول: إن الحقائقَ الصادقةً التي أوردها القرآن عن المسيح، استقاها مباشرةً من الأناجيل القانونية (المعتمدة)، أما القصصُ والحكاياتُ غير الصادقة، فقد استقاها -في جانبٍ منها- من الروايات التلمودية وكتاباتِ الرابيين (الحاخامات) اليهود، واستقى بعضَها الآخَرَ من الأناجيل غيرِ المعترَف بها (الأبوكريفا)، أو من أسفار آدمَ وشَيْث ونوح وغيرِها من الأسفار الموضوعة (الكاذبة أو المفبركة) المعروفة جيدًا في تاريخ الكنيسة والتي انتشرت بين الهراطقة في القرون الأولى، انتشارًا كبيرًا". ° ويقول في (ص 233): "مع اتفاقِ القرآنِ مع العهدَين القديم

(التوراة وملحقاتها) والجديد (الأناجيل وملحقاتها)، فإنه -أي القرآن- يَضِلُّ عن التزامه بما ورد في الكتابِ المقدس المسيحي (بعهدَيه القديم والجديد) بسبب إغفالِه ما ورد به من مشاعرَ ودلالاتٍ خياليةٍ وأسلوبٍ مميَّز .. الحقيقةُ أن أفضلَ منظورٍ ننظرُ منه للقرآن هو أنه تقليدٌ زائف للوحيَيْن اليهودي والمسيحي، وقلَّما يتبيَّنُ المرءُ الذي لم يَدرُس محتوى كليهما (القرآن، والكتاب المسيحي المقدس بعهديه) مدى التشابهِ بينهما، بمعنى مَدى انتحالٍ القرآن لِمَا ورد فيهما، وعلى أيةِ حالٍ، فإن القرآنَ قد تمت صياغةُ محتواه -إلى حدٍّ كبير- مِن موادَّ مِن العهدين القديم والجديد، وهذا أمرٌ لا جدال فيه ولا يمكن لأحد أن ينكره". ° وبعد سوقه للآيات (البقرة: 262)، (البقرة: 87)، و (المائدة: 45)، و (الأنعام: 25) و (الأنعام: 37)، و (آل عمران: 47)، و (الأنعام: 73)، و (يونس: 16)، و (يوسف: 104)، و (الأنعام: 73)، و (إبراهيم: 48 - 51)، و (الكهف: 28)، و (النحل: 61)، و (طه: 55)، و (الإسراء: 7)، و (فصلت: 34)، و (الأعراف: 194)، و (المعارج: 43)، و (الحج: 47)، و (الكهف: 23)، و (الأعراف: 187)، وقد قارن هذه الآيات بما جاء في كتاب المسيحيين المقدس عندهم. ° ثم قال هذا الدَّعيُّ الدجالُ راعي البقر: "سيظهرُ من الأمثلةِ التي سقناها آنفًا مَدى وضوحِ انتحالِ القرآنِ، وأن كَوْنَ القرآن منحولاً ليس قَصْرًا على حقائقِ التوراةِ والأناجيل ورواياتهما، وإنما يمتدُّ إلى كثيرٍ مما ورد بهما من تفاصيلَ دقيقة: في منهجِ التفكير والشخوص (الأعلام)، بل وحتى في أشكالِ التعبير، بل إننا نقابلُ أمثلةً عديدةً تدلُّ على هذا الانتحالِ

الغريبِ تُدينُ هذا الناسخَ (أو الناقل)، ووقوعُه في تزييفاتٍ محضةٍ تدلُّ على الجهل، فهو يجعلُ النبيَّ "إيليا Elijah" ( الخضْر) معاصرًا لموسى، ويجعل إبراهيمَ الخليل على وشكِ ذبع ابنه إسماعيل بَدلاً من إسحاق، ويجبل "شاول Saul" هو الذي قادَ العشرةَ آلافِ إلى حافة النهرِ بدلاً من "جدعون"، بل ويقعُ في خطأٍ شنيع بأنْ جَعَل مريمَ أمَّ يسوع هي نفسَها مريم أخت موسى". إن الاحتذاءَ الواضحَ لهذا الوحي الزائفِ للكتب المقدسةِ السابقة عليه، والعجزَ الحقيقيَّ أو المفترضَ لمؤلِّفه (مفبركِه) كان -وهذا طبيعيٌّ تمامًا- من المحتَّم أن يُثيرَ قضايا وأسئلةً عن تاريخِ تأليفه (يَقصد القرآن الكريم)، غالبيةُ من كتب عن الإسلام (يقصد من الأوربيين) يأخذون بما أَخذ به المسيحيون الشرقيون، إذ يتَّفقون بشكلٍ عامٍّ على الافتراضِ القائل بأن محمدًا عند تأليف القرآنَ كان يَلجأُ لمساعدةِ واحدٍ أو أكثرَ اشتركوا معه، ومن المؤكَّد -من خلالِ النصِّ القرآني نفسِه- أن هذا الاتهامَ قد واجَهه في مستهَلِّ الدعوة: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الفرقان: 4]. * {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]. لكنَّ هذا الإنكارَ المتشدِّدَ الذي أبداه هذا النبيُّ لم يكن مُقْنِعًا، فغير المصدِّقين في المملكة المسيحية استمروُّا إلى جانبِ أهل مكة، فلم يدخلِ الدينَ الدَّعيَّ -ولم يشترك في الدعوة إليه- إلاَّ عددٌ لا يتجاوزُ الثمانيةَ

أشخاص أو العَشَرة (المقصود في المرحلة المكية)، والاعتقادُ الأكثر شيوعًا هو أن محمدًا تبقَّى العَونَ الرئيسي (على وضع القرآن أو تأليفه) من راهبٍ مسيحيٍّ على المذهبِ النَّسطوري اسمُه "سرجيوس Sergius" يُفترض أنه هو نفسه "بَحيْرا" الذي تَعرَّف به -أي محمد - صلى الله عليه وسلم -- في فترةٍ باكرةٍ من حياته، في "بُصْرى Bosra، في "الشام Syria"، وعن هذه المسألة يُحدِّثنا الكاتبُ "سيل Sale " فيقول: "إنْ كان بحيْرا وسرجيوس اسمَين لشخص واحدٍ، فإنني لا أجدُ أدنى إشارةٍ لدى الكُتَّابِ المسلمين أنه ترك دَيْرَه ليتوجَّه إلى شِبهِ الجزيرة العربية، كما أنَّ تعرُّفه على محمدٍ في بُصرى كان في فترةٍ باكرةٍ جدًّا مما يَدحضُ القولَ بأنه ساعَده في (إعداد) النص القرآني، رغم أنَّ محمدًا ربما يكونُ قد عَلم بعضَ المعارفِ عن المسيحية، والكِتابُ المقدس المسيحي استخدمها في هذا الأمر". وعلى أيةِ حالٍ، فإن هذا الكاتبَ نفسَه يتَّفقُ مع الكاتب "بريدو Pri-deaux" وغيرِه في أن محمدًا يُعتبر هو المخطِّطَ الأصلي للقرآن ومؤلِّفه، وربما أعانه في ذلك -على نحوٍ ما- آخرون، رَغْمَ حِذْرَه الشديد -أي محمد- الذي جَعَلَنا حتى هذا اليومِ غيرَ قادِرين على معرفةِ هؤلاء الذين ساعدوه، ولا إلى أيِّ مدًى كانت هذه المساعدة، فلم تتأكد أبدًا هذه الدعوى القائلة بأن آخرينَ ساعدوا محمدًا على تأليف القرآن، وليست هناك أدلةٌ مقنعةٌ على هذا، فالمسألةُ كلُّها لا تعدو قصصًا افتراضيَّةً صِيغت لمواجهةِ صعوبةِ تفسيرِ هذه المسألة (مسألة النص القرآني وكيفية ظهوره)، فالصعوباتُ حولَ هذا الموضوعِ لم تَنقشعْ جميعًا رغمَ الاعتقادِ العامِّ السائد (بين الكُتَّاب المسيحيين الذين أوردناهم آنفًا)، فمَن هو هذا القادرُ في هذه الفترةِ الحالكة

على وَضع نصٍّ كهذا؟ (التساؤل هنا يعني: كهذا النص الراقي)، هذا الوحيُ المدَّعى بادعائه استقلاليَّتِه عن كُتبنا المقدسة، يضمُّ رَغمَ هذا -فقراتٍ (آيات) أرقى كثيرًا من أيِّ بقايا أدبيةٍ تعودُ للقرن السابع -سواءٌ كانت يهوديةً أو مسيحيةً، فهذه الآثارُ الأدبيةُ أدنى كثيرًا بلا شك من محتوياتِ ذلك الكتابِ المقدَّس الذي يَفترض القرآن -مجدِّفًا- أنه يشبهه ويكمله، وعلى هذا فستظلُّ مسألةُ حقيقةِ القرآن مسألةً لا حلَّ لها إلى الأبد، فليس لدينا أدلةٌ حاسمةٌ على تاريخ "وضع" القرآن، ولا نعرف إلى أيِّ مدًى كان محمدٌ عارفًا بالكُتب المسيحية المقدسة. وليس من السهلِ ترجمةُ القرآن، وبالنسبة للذين تعرَّفوا عليه في لُغته الأصلية، فهناك اعترافٌ عالمي بأنه -أي القرآن- يتَّسمُ بامتيازٍ لا حدَّ له لدرجةِ أنه لا يمكنُ ترجمتُه لأيةِ لغةِ أخرى، إنه -أي القرآن- نموذج يحتذيه اللسانُ العربي، إنه مكتوبٌ في مُعظَمه بأسلوبٍ نقيٍّ أنيقٍ، تَكثُرُ فيه الشخصياتُ الجرئيةُ على النسقِ الشرقيِّ، ويَجْنَحُ إلى الإيجاز مما يؤدِّي به -غالبَا- إلى الغموض، ورَغمَ أنه مكتوبٌ بالنثر، إلاَّ أن آياتِه عادةً ما تنتهي بسجعٍ (كأنه قافية)، وقد تتباعدُ القوافي مما يؤدِّي إلى تداخُل المعاني، وإلى تكرارِ لا مبرِّرَ له .. وخصائصُ النص القرآني -برغم استعصائه على الترجمة- تحظى بتقديرٍ يفوقُ الوصفَ لدى العرب الذين أَلِفَتْ آذانُهم إيقاعَه وتكوينَ فِقراتِه وكيفيةَ انتهاء آياته. وإذا ما انتقلنا من مجردِ الصوت إلى طريقةِ الأداء التي تَسم "الكتاب الثاقب أو الحاد ذهنه The perspicuous book" وجدنا من الثابت أن أجملَ آياتِه هي تلك التي لا تتسمُ بالأصالة (ربما يقصد: غير المستقاة من الكتب

المقدسة السابقة عليه)، يلاحِظُ السير "وليم جونز" أن "القرآن -حقًّا- يتألَّقُ بنورٍ مستعار، طالما أن معظَمَ ما فيه من جَمالٍ مأخوذٌ من كتبنا المقدسة، لكنه يتَّسمُ بجمالٍ عظيم لدرجةِ أن المسلمين لن يقتنعوا بأنه جمالٌ مستعار"، فعند تعرُّضه لجلال اللَّه وصفاتِه وتنوُّعِ الخَلْقِ وعظمتِه، نجدُه -أي القرآن- غالبًا ما يسمو سُمُوًّا هائلاً لدرجةٍ مؤثِّرةٍ تفوقُ الوصفَ، ومع هذا ففي معظم الأمثلة من هذا النوع يجدُ الكاتبُ أنها دائمًا أدنى من الأصل المأخوذةِ عنه، بل إن نتيجةَ الفحصِ النزيهِ غيرِ المتحيز لكتاب المسلمين المدَّعى (يقصد القرآن الكريم) حتى في طبعتِه الإنجليزية كما توصَّل إليها الكُتَّابُ المسيحيون، سواءٌ فيما يتعلَّقُ بما فيه من جمال أو فيما يتعلق بالمعاني المبثوثة فيه، قلمَّا تكونُ عادلةً، رغمَ ما يَعتري تأليفَه من عيوبٍ، ورغم الاقتناع بما فيه من نقصٍ شائن. وعلى أيةِ حالٍ، فإنه (يقصد القرآن) أدنى من مستوى كثيرٍ من الإنتاج (الأدبي) البشري الموجود بمختلفِ اللغاتِ وفي أنحاء الأرض، بصرف النظر عن دعواه بأنَّه ليس من كلامِ البشرِ بلاغةً ومعنًى. فمع وجود آياتٍ ذوتِ جمالٍ حقيقيٍّ وقوةٍ يصادفُها المرءُ فيه، إلاَّ أنه بشكلٍ عامٍّ مختلطٌ اختلاطًا غريبًا، ففيه ما هو سامٌّ، وقد ارتبط أيضًا ارتباطًا وثيقًا بما هو سخيف، مضحك، مرعب، حتى إنَّ كلَّ سورةٍ فيه، بل وكلَّ صفحةٍ أو فقرةٍ فيه، كثيراً ما تضمُّ بالتأكيد عواطفَ متناقضةً كأشدِّ ما يكونُ التناقض، فمشاعرُ الاحترامِ والازدراء والإعجابِ والاشمئزازِ تتوالى تواليًا سريعًا، أو بتعبيرٍ آخَرَ يَعقُبُ بعضُها بعضًا في نفسِ المرءِ بشكلٍ متوالٍ، بحيثُ لا تتركُ انطباعًا ثابتًا وحدًا في النفس (أو العقل) "اهـ.

جيري فالويل وعداوته للنبي - صلى الله عليه وسلم -

هذا ملخَّصُ ما قاله "جورج بوش" الجَد، وسار على نهجه "جورج بوش" الابن، والحفيد .. ومَن جَعَل الغرابَ له دليلاً ... يَمُرُّ به على جِيَفِ الكلاب * أو كما قال القائل: إذا كان ربُّ البيتِ بالدُّف ضاربًا ... فشيمةُ أهلِ البيت كلِّهم الرقصُ * مارك توين: كَتب "مارك توين" في عام 1869 كتابه "أبرياء بالخارج" وقال فيه: "إن أتْباع محمدٍ وثنيُّون .. ملاحدةٌ متوحشون .. عيونُهم قاسية، ومليئة بالكراهية (¬1). * جيري فالويل وعداوتُه للنبي - صلى الله عليه وسلم -: القَسُّ "جيري فالويل"، من المقرَّبين إلى الرئيس الأمريكي "جورج بوش"، وهو من تيَّار اليمين الديني الذي ينتمي إليه بوش، وهو أيضًا من الذين ساعدوه بقوَّةٍ في الوصول إلى البيتِ الأبيض، وله مَوقعٌ باسمه على "الإنترنت" مليءٌ بالمعلومات المشوَّهة عن العقيدة الإسلامية والتاريخِ الإسلامي، وفي شهر أكتوبر 2002 ظهر في برنامجٍ تليفزيوني على شبكة "سي. بي. إس" قال فيه: "إنه قرأ التاريخَ الإسلاميَّ جيِّدًا، والنتيجةُ التي توصَّل إليها من قراءاته هذه أن رسولَ الإسلام - صلى الله عليه وسلم -، رجلُ عُنفٍ، وإرهابي"، وإنْ كان قد حاول التهرُّبَ من انتقاداتِ المسلمين في أمريكا ¬

_ (¬1) "صناعة العداء للإسلام" (ص 114).

بات روبرتسون راعي البقر الدجال

بالقول بعدَ ذلك بأنه لَم يقصد الإساءةَ إلى المسلمين الملتزمين بالقانون دونَ أن يتراجع عمَّا قاله عن الرسول وعن الدين الإسلامي" (¬1). و"جيري" نفسه خسر دعوةً أقامها أمام المحكمة العليا ظهر الأربعاء 23/ 2/ الماضي ضد إحدى مجالات الجنس التي اتهمته بممارسة الجنس مع والدته وصوَّرته في كاريكاتور أثار ضجةً واسعةً. ° "وقد ظهر في البرنامج الشهير "ستون دقيقة" في شبكة "سي. بي. إس" قال: "إنَّ نبيَّ الإسلام إرهابي" (2). وقد ادعى هذا الدجَّال بأن إلهَه ذاتَ ليلة توسَّل إليه أن يُعيدَ كتابةَ الإنجيل بلغةٍ حديثة سلسة، وأن يزوِّد الإنجيل الجديدَ بالصور والقصص المشوِّقة حتى يجذبَ الشباب ويشيع محبة ابنه في الأرض، و"جيري فالويل"؛ هو المبشِّرُ الشهيرِ بسِبابه وتطاوله على الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام (¬2). * بات روبرتسون راعي البقر الدجَّال: هو مؤسِّسُ "الائتلاف المسيحي" وصاحبُ برنامجٍ دينيٍّ للتبشير في التلفزيون، وقد قال: "إنَّ الظنَّ بأنَّ الإسلامَ دينُ سلامٍ هو نوعٌ من التفكير المخادع". ° وقال عن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -: "إنه متعصِّبٌ، راديكالي، لصٌّ يَسرقُ ¬

_ (¬1) "صناعة العداء للإسلام" (ص 200). (¬2) مقالة "حرابة القرن" للدكتور عبد الفتاح الحسيني (ص 51) من العدد 286 من مجلة "المختار الإسلامي" - غرة جمادى الآخر 1427هـ - 26 يونيو 2006م.

علنًا، وقاتِلٌ يَقتل علنًا" (¬1). روبرتسون يبشِّر الذين يتبرَّعون له ولمركزه بمحبَّةِ مسيحِهِ لهم، وأنه سيهبطُ عليهم، ويَطيرُ بهم، ويرفعهم إليه ليصطحبوه، ويحَلِّقوا معه في السماواتِ العلا عندما يشرعُ أبوه في تحطيمِ الأرض ويبيدُ مَن عليها ممَّن لا يستمعون إلى برنامج "نادي 700" الذي يَبُثُّه يوميًّا، والذين لا يجزلون لوكيله "روبرتسون" العطاءَ حتى يتوسَّعَ في إمبراطوريته وتمتلئَ خزائنُه بالأموالِ ولنشرِ رسالة المحبةِ بين الناس، والتي بمُقتضاها يَنقضُّ إلهه على البشرِ، فلا يُبقي ولا يَذَر، ويفني الناسَ جميعًا سوى الصفوةِ من الذين يَبذُلون له العطاءَ ممن يقومُ "روبرتسون" بتدوين أسمائِهم في سِجِلِّه ويُسلِّمها إلى إلهه بيده. ° ومن أعمال "روبرتسون" التي يتفاخرُ بها أنه أسَّس محطةً فضائيةً أو كما يُسمِّيها البعض "كنيسةً على الهواء" تُبَثُّ من لبنان بالعربية، قام بتمويلها أثرياءُ متأسلِمون وأعراب، وقد زاد التمويلُ الأعرابيُّ المتأسلمُ لها بعد أن أفحَشَ "روبرتسون" في سَبِّ الإسلام والتجنِّي على المسلمين وعلى قرآنهم الكريم ورسولِ البشرية أجمعَ - صلى الله عليه وسلم -؛ بل إن دولةً إسلاميةً كبرى تتكفَّلُ بتلك القناة، بعد أن حدبتها برعايتها واحتضنتها. وقد رَشَّح "روبرتسون" نفسَه للرئاسة الأمريكية، لكنه فشِل، فحوَّل جهودَه في العمل الدؤوب على تجميعِ مَن يُسمُّون أنفسَهم "بالمسيحيين اليمينيين" لتأييد مرشحه للرئاسة. ° وربما مِن حظِّ المسلمين إصرارُه على أنَّ إلهَه غيرُ إلهِ المسلمين، وأن ¬

_ (¬1) "صناعة العداء للإسلام" (ص 199).

مسيحَه غيرُ عيسى - صلى الله عليه وسلم - الذي يؤمنُ المسلمون به كرسولٍ نبيٍّ. ° وقد أعلن "بات روبرتسون" -بفخرٍ وزهوٍ- عَقِبَ هبوبِ أعاصيرَ مُدمِّرةٍ على شرقِ الولايات المتحدة الأمريكية أنه التقى مع إلهه في مقابلةٍ وديَّةٍ، وطلب منه أن يوجِّهَ مسارَ الإعصارِ الذي كاد يهبُّ على بلده، وما يرافقُه من عواصفَ بعيدًا عن مَقَرِّ مركزِه الضخمِ الذي يحتلُّ مساحةً شاسعة على ساحلِ "فرجينيا"، والذي يَشغَلُه "كنيسةُ الهواء" الذي يَبُثُّ منه برنامجَه على التلفاز. وبالطبع لم يُخبر إلهَه الغافلَ عمَّا يجري في الدنيا بأنه لا يتورَّعُ عن ابتزازِ العجائز والمُعدِمين والفقراءٍ، لقاءَ وعدِهم بالشفاعةِ لهم حتى ينعَموا بحظيَّةِ ومحبةِ ومعيَّةِ ولده -عسى أن تكونَ أُخراهم أفضلَ من دنياهم- وبناءً على تعهُّدٍ من إلهه اتَّجهت عاصفتانِ إلى مكانٍ بعيدٍ عن المركز، ودَمَّرت ممتلكاتٍ غنيَّةً عن الحصر، وشرَّدت الخلقَ الكثيرَ من حُثالةِ المخلوقات التي لا تستحقُّ الحياة، على حَسْبِ قوله عن الأمريكيين الذين تضرَّروا من إعصارِ "جلوريا" في نيويورك و"فيليكس" في الولايات المحيطة به. جاء إعلان "روبرتسون" عن محادثاتِه الخاصةِ مع آلهته التي تُلاغيه وتأتمرُ بأمرِه خلال الفترة التي ترقَّب فيها المواطنون بهَلَعٍ مسيرةَ إعصار "كاترينا" قبلَ يوميْن من ضربهِ لشواطئ ولاياتِ جنوبِ الساحل الشَّرقيِّ للولايات المتحدة الأمريكية، فما كان من فريقٍ من الشباب -مِمَّن استمعوا إليه وهو يعدِّد بركاته ونفوذَه عند إلهه- إلاَّ التجمُّعَ في شارعٍ بالحيِّ الفرنسي بمدينةِ "نيو أورليانز"؛ ليلةَ مرور "إعصار كاترينا" على ولاية "لويزيانا" تحدِّيًا لروبرتسون وآلهته الخاصةِ به، وقضَوْا وقتَ مرور العواصف بالمدينة في

السُّكر والعربدة والرقصِ والغناء والسخريةِ من الشخصيةِ الشهيرة التي تُروِّجُ للحروبِ والاغتيالاتِ والنَّكَباتٍ، والذي يَدَّعي مجالستَه لإلهٍ ومسيحٍ من صنيع يديْه، والذي يتوعَّدهم بالهلاك إن لم يقتصدوا في الإنفاقِ على مجونهم ليُنفِقوا عليه وعلى كنيسته الفضائية .. وشاء اللهُ أنْ غَمَرت المياهُ المدينةَ بأسرها سوى رُقعةٍ صغيرةٍ من الحيِّ الفرنسي، فاعتبره الشبابُ انتصارًا على "روبرتسون" الذي ادَّعى -ككثيرٍ غيره- السيطرةَ على آلهةٍ خَلقوها لأنفسِهم ومَن هو على شاكلتهم. * قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93]. ولعلَّ أثرياءَ المسلمين العرب الذين يُموِّلون حَمْلَتَه وفضائياتِه يَخْشَوْن من غضبِ إلهِ "روبرتسون" ومسيحِه عليهم، لذا فهم يتسارعون في تقديمٍ القرابين إليه، خاصةً بعد إعلان "روبرتسون" أنَّ الإسلام دينُ إرهابٍ وشعوذة، وأن العربَ حُثالةُ الأرض، وأنَّ إلههَ يَندمُ على أنه خَلَقهم على صورة بشر" (¬1). ° ولهذا الدجَّال "بات روبرتسون" مؤسسةٌ يُسمِّيها "عمليَّة حلول البركة الثانية"، وتاريخها حافلٌ بأعمال النَّصْب والاحتيال على الأبرياء ¬

_ (¬1) مقالة "حرابة القرن" (ص 48 - 50).

الذين تسلُبُ منهم المؤسسةُ أموالَهم بسيفِ إله "روبرتسون" ومسيحه؛ فقد جَمعت المؤسسةُ في منتصفِ العِقدِ التاسعِ من القرن الماضي تَبرُّعاتٍ طائلةً لتمويلِ أسطولٍ جوِّيٍّ لنقل المعونات للاجئي رواندا الفارِّين إلى زائير، وتبيَّن في التحقيقاتِ التي أعقبت حَمْلَةَ جمع التبرُّعات أنَّ الطائراتِ كانت تنقلُ معدَّاتٍ لمناجمِ ماسٍ في زائير يملكُها "بات روبرتسون"، ولولا دعمُ "روبرتسون" اللنائب العام آنذاك في حَملته الانتخابية في ولاية "فرجينيا" لانتهى به المطافُ إلى السجن بتهمةِ الاحتيال. وعَقِبَ ذلك قام بالترويج على ناديهِ التلفازيِّ للديكتاتور "تشارلز تيلور" حاكم ليبريا السابق الذي أُدين بالبلطجةِ والقتل الجماعيِّ، على أنه راعي الديمقراطية في أفريقيا وناشر المحبة بين الناس، وقد نجح "روبرتسون" في جمعِ التبرُّعات لعدةِ زياراتٍ قام بها إلى ليبريا للإشراف على مناجمِ الذهب التي كان يُشاركُ فيها "تيلور" آنذاكَ بدعوى أنه ذهب لدعم محبة الليبريين لابن إلهه" (¬1). ° يقول "بات روبرتسون" الأب الروحي لجورج بوش: "إنَّ الدينَ الإسلاميَّ دعا إلى العنف .. وإننا في هذه الحربِ إنما نعلي كلمةَ الربِّ الذي يقفُ معنا، مع الحق، في هذا الصراعِ الديني الذي نخوضُه وُيحيطنا بعنايته" (¬2). ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 54، 55). (¬2) صحيفة "الشرق الأوسط" في 3/ 2/ 2002، و "الحياة" - لندن في 26/ 2/ 2002، و"الأهرام" في 11/ 12/ 2003.

بيل جراهام الأب الروحي لجورج بوش

* بيل جراهام الأبُ الروحي لجورج بوش: وَصَف هذا المجرمُ الاثيمُ محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه إرهابيٌّ ووثنيٌّ كما قالت مجلة "النيوزويك" الأمريكية، وتَرجمت مقالها جريدةُ الأسبوع في 14/ 4/ 2003م، وهذا الضال هو الأب الروحي لـ "جورج بوش". ° والذي قال عنه بوش: "إنه الرجل الذي قادني إلى الرب .. وهو الذي جَعل بوش يواظبُ يوميًّا على القراءةِ في كتابِ القَس "أوزوالد شامبرز"، الذي مات سنة 1917 م وهو يَعِظُ الجنودَ البريطانيين والاستراليين بالزحف إلى القُدسِ وانتزاعِها من المسلمين" (¬1)!!. * القَسُّ فرانكلين جراهام: ° تقول "واشنطن بولست" -وهي أقربُ الصحف الأمريكية إلى البيت الأبيض والمخابرات الأمريكية عن القادة البارزين في تيارِ "اليمين الديني" في أمريكا، وهم من الحلفاء المقرَّبين للرئيس الأمريكي، والرئيسُ بوش نفسه لا يعارضُ الأفكار التي يعلنونها والخُططَ التي يُنفِّذونها تعبيرًا عن التعصُّب الديني المعادي للمسلمين. ومِن هؤلاء القسُّ "فرانكلين جراهام"، وهو ابنُ وخليفةُ "بيل جراهام" وقد شارك في مراسم تسلُّم الرئيس بوش رئاسةَ أمريكا، وقد أعلن: "أن الإسلام دينٌ شرِّير وكريهٌ جدًّا" (¬2). ° ذَكَرت صحيفة "هيرالد تريبيون" الأمريكية ما أعلنه القَسُّ "فرانكلين ¬

_ (¬1) جريدة "الأسبوع" في 14/ 4/ 2003 نقلاً عن "النيوزويك" الأمريكية. (¬2) "صناعة العداء للإسلام" (ص 199).

القس جيمي سويجارت

جراهام" في خطابه يوم تولِّي الرئيس "بوش" الابنُ السلطةَ، فقد قال: "نحن لا نهاجمُ الإسلام، ولكنَّ الإسلامَ هو الذي يهاجمُنا .. إن إلهَ الإسلام ليس هو نفسَ الإله، إنه ليس ابنَ الإله كما في العقيدة المسيحية، إنه إلهٌ مختلف، وإنني أعتقدُ أن هذا الدينَ دينٌ شِرِّيرٌ ويدعُو لإيذاءِ الغير". * القَسُّ جيمي سويجارت: "المُنصِّرُ الصليبيُّ القسُّ "جيمي سويجارت" صاحبُ الأحاديث التلفزيونيَّة التي يشاهدُها أكثرُ من ميلونَيْ شخصٍ في الولايات المتحدة، وتَصِلُ لأكثر من 140 بلدًا، واستطاع أن يَحصُل على أكثرَ من 140 مليون دولار سنويًّا، ويعتبر من أكثرِ المُنصِّرين نفوذًا في العالم" (¬1). ولقد أفحمه الشيخ "أحمد ديدات" وبَيَّن دَجَلَه وكَذِبَه في المناظرة التي تطاوَل فيها على سيِّد البشر - صلى الله عليه وسلم - .. ولقد سارع المسلمون لشراء تسجيلات هذه المناظرة الشهيرة .. والذي زاد حَماسةَ المسلمين للمتابعة هو السمعةُ غيرُ الحَميدةِ التي كَسَبها "سواغرت" بتطاوُلِه المستمرِّ على القرآن الكريم، وسَبِّه لشخصِ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ودعايتِه المغرضةِ ضدَّ الإسلام والمسلمين. ففي أحدِ أحاديثه التليفزيونية -التي يشاهدُها أكثرُ من مليونَيْ شخصٍ في الولايات المتحدة وتصلُ لأكثرَ من 140 بلدًا-، قال سواغرت: "إن الخطر الذي يُهدِّدُ الحضارةَ الغربيةَ الآن ليس هو الشيوعيةَ والاتحادَ السوفيتي، إنما الإسلامُ الذي يغزو بلادَ الغرب بصورةٍ مذهلة". ¬

_ (¬1) من كتاب الشيخ أحمد ديدات: "بين الإنجيل والقرآن" (27: 30) - كتاب "المختار الإسلامي".

وذَكَر المشاهدين بأن "لندن" عاصمة "فكتوريا" التي كانت تحكمُ العالَمَ الإسلاميَّ كلَّه، أصبحت تأوِي أنشطَ مركز إسلاميٍّ في العالَم، وأن عددَ المراكز الإسلاميةِ في الولايات المتحدة أصبح يفوقُ عددَ أعضاءِ الحزبِ الشيوعي الأمريكي، وفي حين يتراجعُ الأخير "الحزب الشيوعي"، يتزايدُ عددُ المراكز، وتَقوَى جموعُ المسلمين، وأكَّد "أن الشيوعيةَ هي من صُلبِ الحضارة الغربية وإن تعارضت مع قِيَمها الروحية"!. ° وأخيرًا، تعرَّض للقرآن الكريم والرسول - صلى الله عليه وسلم - بكلماتِ بذيئةٍ جارحةٍ وأكاذيبَ ملفَّقةٍ، وهو يُعتبر الوحيد من بينِ رجالِ الدين المسيحيين الأمريكيين الذي لا يتورَّع عن مهاجمةِ الدياناتِ الأخرى، ولا يَعصِمُ لسانَه من الطعنِ في زملاءِ عقيدتِه وكنيسته. ° في العام الماضي استطاع "سواغرت" القضاءَ على منافِسِه "جيم بيكر" بإشاعةِ علاقاتِه الجنسية المحرمة وممارساتِ زوجتِه "تامي بيكر" اللا أخلاقية، وقال حَملةَ التشهير بها، وقال عن "بيكر": إنه "سرطانٌ في جَسَدِ المسيح" يجبُ اجتثاثه، وقد فعل. ° وفي العام 1986م، اعترف القَسُّ "مارفن غورمان"، من مدينة "نيو أورليانز" بولاية "ليويزيانا" بارتكابه لـ "عمل غير أخلاقي" مع امرأة، فما كان من "سواغرت" إلاَّ انتهازُ الفرصة والتشهيرُ بـ "غورمان" واتهامُه بقضايا أخلاقيةِ لا تُحصى، قام على إثرها "غورمان" برفع دعوى قضائيةٍ ضدَّ "سواغرت" مطالِبًا فيها بـ 90 مليون دولار كتعويضٍ، ولكنَّ القضيةَ شُطبت في وقتٍ لاحق. ° وكان "سواغرت" دائمًا يردد: "الغلمانُ الصِّغارُ الذين صَفَّفوا

شعورهم، وقاموا بطلاء أظافرهم، وسمَّوا أنفسَهم مبشِّرين"، ويعني بذلك زملاءَه القساوسةَ والمنصَّرين، ومنهم "جيم بيكر" و"غورمان" وغيرهما. ° ولكنْ دارت الأيام، وجاءت الأخبارُ بما لا يشتهي "سواغرت"، وإذا بالخَصمِ القديم "مارفن غورمان" يضعُ يدَه على سانحةِ الثأر وقاصمةِ الظهر بعد أن تَجمَّعت لديه المعلوماتُ والصورُ عن ممارسات "سواغرت" اللا أخلاقية، فقدم الصورَ والبراهينَ إلى مجلس "جمعيات الرب"، التي يقفُ على رأسها "سواغرت"، حيث بادَرَ المجلسُ إلى الاجتماع بـ "سواغرت" في جلسةِ تحقيقٍ دامت عَشْرَ ساعاتٍ يوم الخميس 18 شُباط "فبراير" بمدينة "سبرينغ فيلد" بولاية "ميسوري"، وعقب الاجتماع، قال "فورست هال" سكرتير خزانةِ جمعيات الرب: إن سواغرت "اعترف بحوادثِ سقوطٍ أخلاقيٍّ محددة .. "، وأضاف: "أنه في اعترافه لم يحاوِلْ أن يُلقيَ بلائمةِ سقوطِه على أيِّ أحد". ° وفي عُطلة الأسبوع، قدَّم "سواغرت"، اعترافًا أمام أفراد أسرته، تلاه باعترافاتٍ أمامَ جمهورٍ من أتباع كنيسته بَلَغ حوالي 8 آلاف شخص، ونَقلت الاعترافَ كلُّ كاميرات التليفزيون عَبْرَ الولايات المتحدة، وقد أجهَشَ بالبكاء وهو يُقدِّمُ اعترافاتهِ في 21/ 2/ في "مركز الإيمان العالمي" في مدينة "باتن روج" بولاية "لويزيانا"، فقال: "ليست لديَّ النيَّةُ بتاتًا لنكرانِ خطيئتي .. ولا أُسمِّيها غَلطةً .. جريمةً .. أنا أُسمِّيها خطيئة". وأشار إلى خطيئةٍ بأنها "أحداث" قادت إلى اعتراف، هكذا أشار إليها بصيغة الجَمع دون أن يُعطي تفصيلاتٍ لهذه الأحداث. واتَّجه في اعترافاته يوم الأحد 21/ 2، نحوَ زوجته "فرانسيس"،

وقال: "أوه، لقد ارتكبتُ الخطيئة ضدَّك .. "، وأضاف: "إنَّ خطيئتي كانت في الخفاء"، وطلب مِن "كلِّ مَن جَلَبت لهم الفضيحةُ العارَ والإحراج .. السماح". وكانت المعلومات قد أوضحت أن "سواغرت" كان على علاقةٍ بعددٍ من "المومسات"، وقد التُقطت له صور وهو يدخلُ ويخرجُ بعضَ فنادق "نيو أورليانز"، وقد دفع أموالاً للمومسات للقيام بأعمالٍ داعرةٍ لإشباع رغبةٍ نشأ عليها ولم يستطع التخلُّصَ منها رَغمَ وضعِه الديني وتقدُّم سِنِّه. "سواغرت" -الذي يبلغ من العمر 52 سنة- وصلت شهرتُه إلى 142 قطرًا، واستطاع أن يَحصُلَ على أكثرَ من 140 مليون دولار سنويًّا، ويُعتبر من أكثرِ المنصِّرين نفوذًا في العالَم. وقد أنفق "سواغرت" على بناءِ مَجْمَعٍ له في مدينة "باتن روج"، ما قيمتُه 123 مليون دولار، راح معظمُها في شراءِ الأراضي وأعمالِ التشييد التي استمرت من العام 1981 وحتى آذار "مارس" من العام الماضي، ويحتوي المَجمعُ على كليةِ الإنجيل، وإرسالياتٍ، ومراكزِ خدماتٍ طبية، ويَعملُ بالمَجمع موظفون كانت جُملةُ مستحقَّاتهم الشهريةِ في العام الماضي 16 مليون دولار. ° وقال قسيس من "جماعات الرب": "إن المسؤولين قرَّروا "الإجراءاتِ التأديبيةَ المناسبة" ضدَّ سواغرت، وقال: إن العدلَ أحيانًا يمكنُ أن يتحققَ بالرحمة"، لقد تقرَّر مَنعُ "سواغرت" من الوعظِ لمدةِ ثلاثةِ أشهر، وإخضاعُه للعلاج النفسي تحتَ إشراف مجموعةِ من القساوسة على أن يُقدِّمَ هو تقريرًا مكتوبًا عن حالتِه كلَّ أسبوع، وتقريرًا آخَرَ كلَّ شهرٍ يبين

فيه التقدمَ الذي حقَّقه بشأنِ التزامِه الأخلاقي، وقد مُنع كذلك من الحديث للصحفيين أو أيِّ أحدٍ آخَرَ غيرِ أساقفة كنيسته. وهذه الإجراءاتُ التأديبيةُ التي فُرضت من قِبَل مقاطعة "لويزيانا" الكنسية، يوم الإثنين 22 شباط (فبراير) الماضي، ولمِ تَجِد موافقةَ "جماعات الرب" في مركز "سبرينغ فيلد" الرئيسي، حيث صرَّح مصدرٌ بأن مجلسَ "جماعاتِ الرب" رَفض قبول "توصيات قساوسة لويزيانا"، وقال: إنه لن يسمحَ لـ "سواغرت" بالعودة للوعظ في وقتٍ قريب، كما أنه لم يَسمحْ من قبلُ بعودةِ منصِّرٍ واعظٍ ارتكب جُرْمًا أخلاقيًّا بالعودة إلى الخدمة الكهنوتية مرةً ثانية. وفي رَدِّه على سؤالٍ عمَّا إذا كانت شبكةُ التليفزيون المسيحية ( CBN) ستستمر في عرضِ حلقاتِ برنامج "سواغرت"، قال "بنتون ميلر" التحدِّثُ باسم الشبكة: "أعتقد أننا سنكون في وضعٍ أفضلَ للتعليق على هذا بعد مراجعةِ كلِّ المعلومات المتاحةِ الآن، ولكن في الموعد المتحدَّد لِبَثِّ حلقةِ الأحد (21/ 2) اعتذرت الشبكةُ عن تقديم برنامج "سواغرت" واضعةً بذلك حدًّا عمليًّا للوعظ الذي كان يشاهدُه أكثرُ من مليونَين في الولايات المتحدة وتَصحبُه ترجمةٌ فوريةٌ لأكثرَ من 16 لغةً لتعادَ مشاهدتُه في 142 قطرًا. وإذا كانت فضيحتا "غورمان وبيكر" قد أضعفت مصداقيةَ وُعَّاظِ التليفزيون في أمريكا، وتسبَّبت في هُبوط معدَّل التبرعات والمشاهدين، فإن جريمةَ "سواغرت" قد هبطت ككارثةٍ عنيفةِ الوَقْعِ على المؤسَّسات التنصيرية، وزادت الفتنُ في جَرحِ الكنيسة الذي لم يندملْ بعد، والفضيحةُ

الجنرال الأمريكي "ويليام م. ج. بويكن" نائب وزير الدفاع الأمريكي

الجديدةُ بكلِّ المقاييس أكبرُ، وستكونُ لها آثارُها الوخيمة" (¬1). * الجنرال الأمريكي "ويليام م. ج. بويكن" نائب وزير الدفاع الأمريكي: ° قال راعي البقر الدجَّالُ الجنرال الأمريكي "ويليام م. ج. بويكن" نائبُ وزير الدفاع الأمريكي -وهو يخطب في إحدى الكنائس- وهو بزيِّه العسكري: "إنَّ إلهَنا أكبرُ من إلههم .. إنَّ إلهَنا إلهٌ حقيقي، وإلهَ المسلمين صَنَمٌ .. وإنهم يَكرَهون الولايات المتحدة الأمريكية؛ لأنها أُمةٌ مسيحيةٌ يهودية، وحَربُنا معهم هي حربٌ على الشيطان، وإن دينَ الإسلام دينٌ شيطانيٌّ شرير .. ومحمدٌ هو الشيطان نفسه" (¬2) {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5]. نسأل اللهَ أن يأخذَ منك ومِن دولتك لرسولِه حتى يرضى .. ولدماءِ المسلمين وعَوْراتِهم ونسائِهم وأطفالِهم حتى يرضَوا. * وزير العدل الأمريكي السابق "جون أشكروفت": ° لم يَقِفِ الأمرُ عند إساءةِ وزيرِ العدل الأمريكي السابق إلى الإسلام ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، بل يتطاولُ على الذاتِ الإلهية، فيقول: "إنَّ المسيحيةَ دينٌ أرسل الربُّ فيه ابنَه ليموتَ من أجلِ الناس، أمَّا الإسلام، فهو دينٌ ¬

_ (¬1) من كتاب "أحمد ديدات بين الإنجيل والقرآن" (ص 27 - 30) كتاب "المختار الإسلامي". (¬2) صحيفة "الحياة" لندن في 17/ 10/ 2003م، وصحيفة "الأهرام" - القاهرة في 18/ 10/ 2003م.

مور تايمر زوكارمان

يطلبُ اللهُ فيه من الشخصِ إرسالَ ابنِه ليموت من أجل هذا الإله" (¬1). * مور تايمر زوكارمان: كتب "مور تايمر زوكارمان" في يونيو 1996 م يقول: "إن النبيَّ محمدًا لم يكن أمينًا، وكان من مبادئه عدمُ احترامِ المعاهدات، وقد يقتدي "ياسر عرفات" بتصرُّفات محمدٍ، ولا يحترمُ اتفاقاتِه مع إسرائيل، فعرفات يتبعُ مبدأ النبيِّ محمدٍ بإبرام معاهداتٍ مع العدوِّ حينما يكونُ ضعيفًا، وانتهاكِها حينما يصير قويًّا" (¬2). * ريتش لوري يدعو لضرب مكة بقنبلة نوويَّة: نشرت مجلة "ناشيونال ريفيو" الأمريكية مقالاً بقلم ريتش لوري أحدِ كُتَّابِ المجلة، قال فيه: "إنَّ ضَرْبَ مكةَ بقنبلةٍ نووية سوف يكونُ رسالةً للمسلمين". هكذا يريدُ هؤلاء البربريون ضربَ الكعبةِ ومكةَ أقدسِ مكانٍ للمسلمين .. وتناقلت هذه الكلماتِ الصحفُ ومواقعُ الإنترنت بمختلفِ اللغات .. وهذا يدلُّ على الحِقدِ الأسودِ الكريه الذي يُكِنُّهُ الأمريكيون للإسلام ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. * الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن: بعد أحداثِ الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 م في أمريكا، وقبل ¬

_ (¬1) صحيفة "الشرق الأوسط" - لندن - في 21/ 2/ 2002م. (¬2) "صناعة العداء للإسلام" (ص 120).

بَدءِ التحقيق في هذه الأحداث التي انتهى التحقيقُ فيها دون توجيهِ أيِّ اتهامٍ قانوني لأي متهمٍ من المتهمين!! أعلن بوش الذي يقودُ اليمينَ الديني لأمريكا حربًا وَصَفها جورج بوش في 16 سبتمبر سنة 2001 م بأنها "حملة صليبية"، ثم جَرَت محاولاتٌ غربيةٌ ومتغرِّبةٌ للتخفيفِ من وَقْع هذه العبارة على العالَم الإسلاميِّ، بالقولِ بأنها "زلَّةُ لسانٍ" وليست -واللهِ- بزلَّةِ لسان، بل هي حربٌ صليبية. ° يقول الأنبا "يوحنا قَلْته" نائب البطريرك الكاثوليكي في مصر: "إن بوش يستخدمُ المسيحَ دِرعًا والصليبيةَ ثوبًا للدفاع عن مصالحِ أمريكا المادية .. وإنه كان يقصِدُ تمامًا معنى عبارة "الحملة الصليبية" .. ولم تكن أبدًا زلَّةَ لسان" (¬1). نعم .. هي حربٌ صليبية .. فقد أذاع الفاتيكان -وهو أكبرُ كنائسِ النصارى- من خلالِ إذاعته الرسمية، التي تُذاع بتسعٍ وثلاثين لغةً، وعلى لسانِ مدير هذه الإذاعةِ الرسميةِ الأبِ "باسكوالي بور جوميو" قال عن حملةِ أمريكا وحَربِها على العراق: "في الوقت الذي يدعو الفاتيكانُ إلى التعقل، ويُشجِّعُ العملَ الديبلوماسيِّ، ويدافعُ عن الحقِّ الدولي، نرى في الجانبِ الآخَرِ قوةً عُظمى تقودُها إدارةٌ خَوَّلت إلى نفسِها مهمةً إنقاذيةً [مقدَّسةً] واتخذت لهجةً ومواقفَ صليبية" (¬2). ° وأعلن السيناتور "إدوارد كيندي" والسيناتور "بابريك ليهي": أن ¬

_ (¬1) "الغرب والإسلام .. أين الخطأ .. وأين الصواب". (¬2) صحيفة "الحياة" - لندن في 29/ 2/ 2003م.

الإدارة الأمريكية مدفوعةٌ إلى هذه الحرب "بحماسةٍ مسيحية" (¬1). ° وكتبت "النيوزويك" الأمريكية عن "بوش - الصغير" "حامل البشارة"، فقلت: "إنه يؤمن أنَّ حربَه على العراق ستكون حربًا عادلة وفقَ المفهومِ المسيحيِّ كما شَرَحها القديسُ "أغسطين" -في القرن الرابع- وفصَّلها كلٌّ من "توما الأكويني" [1225 - 1274م] و"مارتن لوثر" [1483 - 1546] وآخرون، وأنه عندما استخدم مصطلح "الأشرار" في وصفِ خُصومه، قد "نَبَش هذه الكلمةَ مباشرةً من المزامير"، و"أنه يُفكِّرُ في سياسةٍ خارجيةٍ تستندُ إلى الإيمان .. ويُفكَّرُ في حربٍ باسمِ الحرية المدنيَّة -بما في ذلك الحرية الدينية- في القلبِ القديم للإسلام العربيِّ، ويحظى بدعمٍ قويٍّ من قاعدته في الجَناحِ السياسي للمؤتمر المَعْمَداني الجنوبي، من أمثال "ريتشارد لاند" و"فرانكلين جراهام" -الأب الروحي لبوش- والذي سَبَّ رسولَ الإسلام، ويُندِّدُ بالإسلام باعتبارِه إيمانًا عنيفًا وفاسدًا!. ولا يخفى -مع المبشِّرين الإنجيليين- رغبتهم تحويلَ المسلمين إلى المسيحية -لا سيَّما في بغداد-" (¬2). هذا ما كتبته "النيوزويك" -الأمريكية- قبل شَنِّ الحربِ على العراق. أما الـ "نيويورك تايمز"، فإنها كَتبت مقالَين - في 5، 6/ 4/ سنة 2003م -أي في ذُورةِ الحرب على العراق- عن انخراطِ المبشِّرين الإنجيليين، تحت قيادةِ الآباءِ الروحيِّين "لبوش"، في الحملةِ الأمريكيةِ على العراق، ¬

_ (¬1) المصدر السابق في 15/ 3/ 2003م. (¬2) مجلة "النيوزويك" الأمريكية عدد 11/ 3/ 2003م.

بصُحبةِ القواتِ الأمريكيةِ الغازيةِ .. الأمرُ الذي "صَبَغ الحربَ على العراق بصِبغةِ الحروب الصليبية، وأنَّ مِن بينِ تلك الجماعات التبشيرية المصاحبةِ للجيش الأمريكي مبشِّرين تابِعِين للكنيسةِ المعمدانية والكنيسةِ المنهجية، وكِلتا الكنيستين كانت ضِمنَ أهمِّ الجماعاتِ التي دَعَّمت الرئيسَ بوش .. وهناك 800 مبشِّر تطوَّعوا لمصاحبةِ الجيش الأمريكي الزاحفِ على العراق، لتقديم الدعمِ الروحيِّ والماديِّ للشعب العراقي .. ومِن بين هولاءِ المبشِّرين "فرانكلين جراهام"، الذي دشن حفلَ تنصيبِ جورج بوش رئيسًا .. ووالده "بيل جراهام"، الذي أثار عاصفةً داخلَ المجتمعات الإسلامية عندما وَصف النبيَّ محمدًا بأنه "إرهابيٌّ ووثني" .. ولقد أَعلن المبشِّرُ "فرانكلين جراهام" -في القاعدة الأمريكية في الكويت-: "لقد جئتُ إلى هنا تمهيدًا لدخولِ العراق، فرغم أن نِسبةَ المسلمين في العراق تُشكِّلُ 97% من إجمالي تِعدادِ السكان، إلا أننا يجبُ ألاَّ ننسى أن المسيحيةَ سَبقت الإسلامَ في دخول العراق .. إنني هنا لدعم مسيحيِّ العراق، لكننا في الوقت ذاتِه نُخطِّطُ لتقديمِ الدعمِ للمسلمين، ليس باسمنا، ولكن باسم الرب" (¬1). جورج بوش -أو "أوربان العصر الحديث"- يُريدُها حربًا صليبيةً تُريقُ دماءَ المسلمين -أو الكفار عنده- مثلما فَعَل الباب "أوربان الثاني" [1088 - 1099م]، مُشعِلُ الحروبِ الصليبيَّةِ الذي قال في خطابه الذهبيِّ للـ "فرسان الإقطاعيين" يوجِّهُهم لغسل أيديهم بدماءِ المسلمين -الكافرين- وليحتلوا ¬

_ (¬1) ترجمة مقالي "النيويورك تايمز" عن صحيفة "الأسبوع" - القاهرة في 14/ 4/ 2003م.

أرضَهم التي تُدِرُّ لبنًا وعَسَلاً، فقال: "يا من كنتم لصوصًا، كونوا الآن جنودًا .. لقد آنَ الزمانُ الذي فيه تُحوِّلون ضدَّ الإسلام تلك الأسلحةَ التي أنتم لحدِّ الآنَ تستخدمونها بعضُكم ضدَّ بعض .. فالحربُ المقدَّسةُ المعتمدةُ الآن .. هي في حقِّ الله عينه .. وليست هي لاكتسابِ مدينةٍ واحدة .. بل هي أقاليمُ آسيا بجُملتها، مع غِناها وخزاينها العديمةِ الإحصاء. فاتخِذوا محجةَ القَبرِ المقدس، وخَلِّصوا الأراضيَ المقدسةَ من أيادي المختلِسين، وأنتم املِكوها لذواتكم، فهذه الأرضُ -حَسْبَ ألفاظِ التوراة- تَفيضُ لبنًا وعسلاً .. ومدينةُ "أورشليم" هي قُطبُ الأرضِ المذكورة، والأمكنةِ المخصِبةِ المشابهةِ فِردوسًا سماويًّا. اذهَبوا وحارِبوا البربر -[يقصد المسلمين]- لتخليصِ الأراضي المقدسةِ من استيلائهم .. امضُوا متسلِّحين بسيفِ مفاتيحي البطرسية -[مفاتيح الجنة التي صنعها لهم الباب]- واكتسِبوا بها لذواتكم خزاينَ المكافآتِ السماويةِ الأبدية، فإذا أنتم انتصرتم على أعدائكم، فالمُلكُ الشرقيُّ يكونُ لكم قَسْمًا وميراثًا. وهذا هو الحينُ الذي فيه أنتم تَفُون عن كثرةِ الاغتصابات التي مارستموها عُدوانًا .. ومن حيث إنكم صَبغتم أيديَكم بالدمِ ظُلمًا، فاغسِلوها بدمِ غيرِ المؤمنين .. "!! (¬1). هكذا دعا الباب الذهبي "الفرسان -اللصوص" -بعدَ أن أعطاهم ¬

_ (¬1) "تاريخ حرب الصليب" لمكسيموس مونروند (1/ 13، 14) طبعة أورشليم سنة 1865م.

مفاتيحَ الجنة- إلى غَسل دماءِ أيديهم بدماءِ المسلمين، وذلك لامتلاكِ الأرض التي تُشبِهُ خصوبتُها فردوسَ السماء، والتي لا تُحصَى خزائنُ ثرواتها، والتي تَفيضُ لبنًا وعسلاً .. فالمُلك الشرقيُّ سيكونُ لهم ميراثًا، إذا هم غسلوا أيديَهم بدماءِ المسلمين -غيرِ المؤمنين-!!. فكيف غَسَل هؤلاء الفرسانُ "اللصوص" الذين حَشَدت البابويةُ أوربا من ورائِهم أيإيَهم الملطَّخةَ بدماءِ بعضِهم البعض - كيف غَسَلوها بدماءِ المسلمين؟!. ° يَصِفُ الكتابُ بأسلوبه الركيك نقلاً عن شهودِ العيان -كيف تمَّ ذلك في صفحاتٍ داميةٍ نكتفي منها بسطورٍ تقول: "على أنه باطلاً- أي: عبثًا -كان الإسلامُ- أي: المسلمون -في أورشليم، في اليوم المذكور- يوم دخول الصليبيين للقُدس- يَجِدُّون مفتِّشين عن مَهربٍ يَحمُون به حياتَهم؛ لأن هذه المدينةَ خَلَت من ملجإٍ لهم، فعددٌ كليٌّ منهم قد هربوا إلى جامع عُمرَ -مسجد قبة الصخرة- ظانين أنهم هناك يَحمُون ذواتَهم من الموت، ولكنْ ظنُّهم خاب، إذ إنَّ الصليبيين -خيَّالةً ومُشاةً مختلِطين- قد دَخلوا الجامعَ المذكور، وأبادوا بحدِّ السيف كلَّ الموجودين هناك. فالمؤرخون، بنوعٍ خاصٍّ، ذمُّوا قساوةَ هؤلاءِ الجنودِ البربريةِ عن هذا الفعل. وحَسْبَ تقرير "رايموند ده أجيلاس": قد طاف الجامعُ من الدماء حتى إنه تحتَ القناطرِ التي عند بابه احتَقَن الدمُ وعلا إلى حدِّ الركب، بل إلى لُجُم الخيل.

° وقال "روبارتوس" الراهب: إن جامع عُمرَ قد استَوعب من الدمِ المحتَقنِ فيه كَفَّيْ بحرٍ متموِّج، وذلك مما فَتكت به سيوفُ الجيوشِ الصليبية أرقاب -رقاب- الإسلام -المسلمين-" (¬1). ° ولم يكتفِ الصليبيون بذلك الذي صنعوه .. وإنما اجتمع "ديوان مشورتهم"، وقرَّر هذا "الديوانُ" إبادةَ جميع مَن بَقِي من المسلمين -وأيضًا من اليهود- في المدينة المقدَّسة .. أي إبادةَ جميع المخالفين! .. فأعمَلوا القتلَ والحَرْقَ والذبحَ في السكَّانِ العُزَّلِ أسبوعًا كاملاً .. حتى لقد شَمِل القتلُ مَن حَصَل على الأمانِ مِن بعضِ الأمراء الصليبيين!. ° وعن هذه المجزرة، يتحدَّثُ صاحبُ كتاب "تاريخ حرب الصليب"، فيقول: "إن ديوانَ المشورةِ العسكرية التيم -اجتمع- وقَطَع حُكما مُرْهِبًا، وهو: أن يُمات كلُّ مسلمٍ باقٍ داخلَ المدينة المقدسة، وهذا الحكمُ المَهيلُ قد تباشَرَ بالعمل .. ودامت هذه الملحمةُ مدةَ سمت -أي: سبعة أيام- كلمة. والمؤرِّخون يتَّفقون على أن الإسلام -أي: المسلمين- الذي ذُبحوا داخل أورشليم بلغوا سبعين ألفًا، ثم إن اليهودَ قد كانوا داخِلين في عددِ المحكوم؛ لأن ألفاظَ الحُكمِ كانت بالموت ضدَّ غيرِ المؤمنين، بدون تمييزِ المسلم من اليهودي، فهؤلاء العبرانيون قد هَربوا إلى كنيسهم محاصَرين فيه، إلاَّ أن الصليبيين أضرَموا النارَ في جهاتِ الكنيس، فأبادوه وإياهم جُملةً بالحريق، ولم يَبْقَ من مَعبَدهِم هذا إلاَّ بعضُ فضلاتِه الدالةِ على قديمته". ¬

_ (¬1) المصدر السابق (1/ 172، 173).

° وبعد أن كانت القُدس -في ظل السيادة الإسلامية- مُشاعةَ القُدْسيةِ لكل أصحابِ المقدسات؛ لأن الإسلامَ مؤتَمَنٌ على كلِّ المقداسات، لا يُفرِّقُ أهلُه بين أحدٍ من الأنبياء والمرسلين .. تم احتكارُ القدسِ للصليبيين اللاتين -الكاثوليك- ونُهبت كلُّ كنوزها، بما في ذلك كنوزُ المساجد .. وبعبارةِ مؤلف كتاب "تاريخ حرب الصليب": " .. ومَنظر أورشليم استحال بغتةً إلى مَشهدٍ جديد؛ لأنها في أيامٍ قليلةٍ انقلبت مِن ديانةٍ إلى أخرى، ومن شرايعَ إلى غيرها، ومن مراسيمَ وعوايدَ إلى أخرى، ومِن سُكَّانٍ إلى غيرهم، فالغالبون أضحَوا أغنيا بالغنائم التي امتلكوها بين أيديهم .. فالقايدُ "تنكريد" قد امتَلك جميع الغِنى الذي وَجد في جامعِ الإمام عُمر، وهذه قد كانت عظيمةَ المقدارِ والقيمة، حتى إنه -حسب تقريرِ أحدِ المؤرِّخين- لم يَكْفِها ستُّ عراباناتٍ كبيرةٍ لنقلها، وأنه قد استمر هو مدةَ يومين مباشرًا إخراجَها من ذلك الجامع .. ". أما الجنودُ والقادةُ الصليبيون، الذين -كما يقول "مكسيموس مونروند"- "قد كلَّت أيديهم من سفك الدماء"!! (¬1)، فإنهم أَخذوا يَعُبُّون خُمورَ المَعَاصِر حتى أتوا عليها، ثم ذهبوا يتضرَّعون إلى ربِّهم وهم سُكارى، وأيديهم مُخضَّبةٌ بدماء المسلمين .. ويا لها من "صلاة" تَصِفُها "دائرة المعارف البريطانية" - وهي تتحدثُ عن دخولِ القائدِ الصليبي "جودفري" (1061 - 1100م) القدس- فتقول: كانت المذابحُ رهيبةً، جَرَت دماءُ المغلوبين في شوارع المدينة حتى ارتفع مستوى الدمِ ووَصَل إلى ¬

_ (¬1) المصدر السابق (1/ 174 - 176).

رُكَبِ مَن سار فيها، وَلَا حَلَّ المساء، اندفع الصليبيون يبكُون من فرطِ الضحك!! -بعد أن أتَوا على نبيذِ المَعاصر- إلى كنيسةِ القيامة، ووَضعوا أكُفَّهم الغارقةَ في الدماءِ على جُدرانها، وردَّدوا الصلوات"!!. ° "جورج بوش" أو "ريتشارد قلب الأسد القرن العشرين" يفعلُ بالمسلمين في أفغانستان والعراقِ مِثلما فَعَل "ريتشارد قلب الأسد" (1189 - 1199)، فقد قام بذبح ثلاثةِ آلافِ جنديٍّ من أسرى المسلمين بعد أن قَطَع لهم عَهْدَ الأمان، وبشهادةِ وعبارةِ المستشرقةِ الألمانية الدكتورة "سيجريد هونكه": "فعلى العكس من المسلمين -الذين شَمِلوا أسرى الصليبيين بمُرُوءتهم، وأسبغوا عليهم من الجُودِ والرحمةِ ما صار مضربًا للمَثَل في التخلُّقِ بروح الفروسية العالية -لم تعرفِ الفروسيةُ النصرانيةُ أيَّ التزامٍ خُلقيٍّ تُجاهَ كلمةِ الشرف أو الأسرى، فالمَلكُ "ريتشارد قلب الأسد"، الذي أقسَمَ بشَرفِه لثلاثةِ آلافِ أسيرٍ عربي أن حياتَهم آمِنة، إذ هو فجأةً متقلِّبُ المِزاج، فيأمرُ بذَبحهم جميعًا" (¬1). ° "جورج بوش" هو "بونابرت القرن العشرين": "وفي العصر الحديث، رأينا "بونابرت" (1769 - 1821م) يقترفُ ذاتَ الجريمة -جريمةِ الغَدرِ بعهدِ الأمان الذي قطعه لأسرى معركة "يافا" (1214هـ/ 1799م) -، فلقد ذَبَح آلافَ الجنود المسلمين الذين استسلموا، والذين أعطاهم عهدَ الأمان!! ولقد وَصف المؤرِّخ الحُجَّة "عبد الرحمن الرافعي" هذا الغَدْرَ، والانتهاكَ لقداسةِ عهودِ الأمان، فقال -نقلاً عن المؤرخين الفرنسي-: "لقد ¬

_ (¬1) "الله ليس كذلك" (ص 34) - للدكتورة سيجريد هونكه - طبعة دار الشروق - القاهرة 1995 م.

وصل نابليون بجيشه تُجاهَ يافا يوم 3 من مارس 1799 م، وكان الجيشُ العثمانيُّ بقيادة "عبدِ الله باشا الجزار" (1132 - 1219هـ/ 0 - 1721804م) ممتنعًا بها، فحاصرها نابليون بجنوده، واستولى عليها يوم 7 من مارس، بعد معركةٍ شديدةٍ قُتل فيها من الجنود العثمانيين 2000 قتيل، ودخل الفرنسيون المدينة، وأعمَلوا فيها السيفَ والنار. لقد نهب الجنود الفرنسيُّون "يافا"، وارتكبوا فيها من الفظائع ما تقشعرُّ منه الأبدان -باعترافِ المؤرِّخين الفرنسيين- واستمرَّ النهبُ والقتلُ يومين متواليين، واضطُّرَّ الجنرال "روبان" -الذي عَيَّنه نابليون قائدًا للمدينة- أن يَقتلَ بعضَ الجنودِ لإعادةِ النظام، فذهب جَهدُه عَبثًا، ولم ينقطعِ النهبُ إلاَّ بعد أن كَلَّ الجنودُ من الاعتداءِ وسَفكِ الدماء!!. ولم يكدْ ينقطعُ النهبُ لمدينة "يافا"، حتى أعقبته مأساةٌ أخرى أشدُّ هَولاً وفظاعة، ذلك أنه بعدَ انتهاءِ المعركةِ ودخولِ الفرنسيين المدينة، كان بها من الجنودِ العثمانيين نحوُ ثلاثةِ آلاف مقاتِل، آثَروا التسليمَ وإلقاءَ السلاح في يدِ الفرنسيين بشروطٍ اتفقوا عليها مع اثنين من ياوران نابليون، وهما "بورهارنيه، وكروازييه"، ومن هذه الشروط: أن تُضمنَ لهم أرواحُهم بعد التسليم، وتَعهَّد الياوران بذلك باسم القائد العام "نابليون"، وتلقاهم الفرنسيون كأسرى حرب، ولكن نابليون -بعد أن فكر طويلاً في أسرهم، وتردَّد في شأنهم-، أَمَر بإعدامهم جميعًا رميًا بالرصاص، فسِيق أولئك الأسرى إلى شاطئِ البحر وأُعدِموا جميعًا رميًا بالرصاص" (¬1). ¬

_ (¬1) "تاريخ الحركة القومية" (2/ 29، 30) - طبعة القاهرة.

فضائح العدو اللدود للإسلام ورسوله - صلى الله عليه وسلم -: جورج بوش

* فضائحُ العدوِّ اللدود للإسلام ورسوله - صلى الله عليه وسلم -: جورج بوش: وفي القرن الحادي والعشرين .. وبعد احتلال أمريكا للعراق عام 2003م -بواسطة تحالفٍ صليبيٍّ غربيٍّ يُضاهي الحملاتِ الصليبيةَ الأولى -وَجَدْنا رُعاةَ البقرِ يتعمَّدون انتهاكَ كلِّ حُرماتِ المسلمين، مركِّزين على حُرْمَتَيِ "العِرْض" و"الدين". صَنعوا ذلك عندما انتَهكوا مقدَّساتِ الأعراض -للنساء والرجال- ومقدَّسات العقائدِ في سِجن "أبو غريب" -وغيره من السجون- على النحو الذي سَجَّلت نماذجَه الصورُ التي شاهدها الناسُ عبرَ الفضائيات والصحفِ والمجلات. وصَنعوا ذلك في مدينةِ "الفالوجة" العراقية في أكتوبر/ نوفمبر 2004م، ففي مدينة تِعدادُها 000، 350 - أي نحو ثُلث مليون-، ومساحتُها أربعةُ كيلو مترات في الطول والعرض: - دَمَّر الأمريكيون 40 مسجدًا -من جملةِ مساجدها السبعين. - وأَجهزوا على الجَرحى في المساجد، ورأى الناسُ ذلك، عَبرَ الصور، في الفضائيات. - ودنَّسوا ودمَّروا محتوياتِ المساجد -بما في ذلك المصاحفُ وكتبُ السنة النبوية المطهَّرة. - كما استَخدموا الأسلحةَ المحرمةَ دوليًّا -مثل الفوسفور الأبيض، والقنابل العنقودية- ضدّ المدنيين الأبرياء، بمن فيهم الأطفال والنساء. وصنع الأمريكيون ذلك -أيضًا- في مُعتقل "جوانتاناموا" حيث دَنَّسوا القرآنَ الكريمَ، ووضعوا صحائفَه في المراحيض؛ ليُهينوا الأسرى والمعتقَلين

هل ينسى الناس -يا بوش- اغتصاب الفتيات المسلمات؟

الذين يُقدِّسون هذا القرآن الكريمَ!!. وصَنعوا ذلك ببغداد -في يناير 2006م- عندما اقتَحم الجيشُ الأمريكيُّ مسجد "أم القرى" -مقرَّ "هيئة علماء المسلمين" بالعراق-، ودمَّروا ودنَّسوا المقدَّسات الإسلامية، بما فيها القرآنُ الكريم وكُتبُ السنة النبوية المطهرة، ثم رَسموا الصليبَ على جُدران هذا المسجد. فهل ينسى المسلمون -يا بوش- تبوُّلَ جنودِك على مُصحفِهم الطاهر واغتصابَ الرجالِ والنساءِ وهَتكَ الأعراضِ وتدنيسَ المساجد؟!. * هل ينسى الناسُ -يا بوش- اغتصابَ الفتيات المسلمات؟ هل ينسى لكم التاريخُ ما فَعله جنودكم في 6/ 2006م في قرية "المحمودية" بالعراق واغتصابَ "عبير" ابنة الخمسة عشر ربيعًا. يدخلُ الجنودُ ليقتادوا والدها وأمَّها وإخوتَها ويَقتلوهم بأربعين رصاصةً، ثم يغتصبُ عشرون جنديًّا أمريكيًّا "عبير"، ثم يقتلونها ويشعِلون النار فيها!. ونحن ننتظرُ فِعلَ اللهِ بهذا الدجالِ "بوش" جزاءَ ما فعل بالإسلامِ والمسلمين. * رئيس وزراء إِيطاليا "سيلفيو بيرلسكوني": أعلن رئيسُ وزراء إيطاليا "سيلفيو بيرلسكوني" في 26 سبتمبر سنة 2001م: "أن الحضارةَ الغربيةَ أرقى من الحضارةِ الإسلامية .. ولا بدَّ من انتصار الحضارةِ الغربيةِ على الإسلام، الذي يجبُ أن يُهزم؛ لأنه لا يَعرفُ الحريةَ ولا التعدُّديةَ ولا حقوقَ الإنسان .. وأن الغرب سيواصُل تعميمَ

وزير داخلية ألمانيا "أوتو شيلي"

حضارتهِ، وفَرْضَ نفسِه على الشعوب .. وأنه قد نَجح -حتى الآن- في تعميم حضارته وفَرْضِ نفسِه على العالم الشيوعي وقِسم من العالَم الإسلامي" (¬1)!!. ° وقال أيضًا: "إن الحضارةَ الإسلاميةَ تتَّسمُ بالانحطاطِ والجهلِ، وإنها حضارةٌ متخلِّفة ولم تقدِّم للبشرية شيئًا، بينما الحضارةُ الغربيةُ هي الحضارةُ القائدةُ والرائدة منذُ الحضارة اليونانية والرومانية حتى الحضارة الغربية الحديثة" (¬2). * وزير داخلية ألمانيا "أوتو شيلي": وَصَف وزيرُ الداخلية في ألمانيا "أوتو شيلي" عقيدةَ الإسلامِ بأنها "هرطقةٌ وضلال" (¬3). * وزير خارجية ألمانيا "يوشكا فيشر": أمَّا وزير خارجية ألمانيا "يوشكا فيشر"، فإنه يعلن -في محاضرةٍ حول "آفاقِ السياسة الدولية إثرَ اعتداءات 11 سبتمبر" أمامَ طلبةِ جامعةِ "فراي ببرلين"، يعلنُ شكوكَه في "قدرةِ الإسلام على التطوُّر"! ... ويتساءلُ: "هل يوجدُ طريقٌ إسلاميٌّ إلى الحَدَاثة؟ -بمعناها الغربي! - ثم يصفُ الأصوليةَ الإسلاميةَ الرافضةَ للحداثة والقيم الغربية- بأنها "التوتاليتارية الجديدة" (¬4) - أي الديكتاتورية والشمولية الجديدة!!. ¬

_ (¬1) صحيفة "الحياة" -لندن- في 30/ 9/ 2001م. (¬2) "صناعة العداء للإسلام" (ص 49). (¬3) "صحيفة الأهرام" في 2/ 3/ 2002م. (¬4) صحيفة "الشرق الأوسط" في 26/ 4/ 2002م.

"فرانسو فوكوياما"

* "فرانسو فوكوياما": "فرانسو فوكويامَا" مِنْ أساطين الفكر الاستراتيجيِّ الأمريكيِّ المشيرون على صانع القرار، والذين تُوضع نظريَّاتُهم في الممارسةِ والتطبيق، وقد كانت لديه الصراحةُ ليعلنَ أن الحربَ التي يَشهَدُها العالَمُ ليست حربًا على "جماعاتِ العنف العشوائي" الإسلامية .. ولا على ما يُسمَّى "بالإرهاب"، وإنما هي "حربٌ داخلَ الإسلام"، لتغييرِ طبيعتِه وخصوصيتِه، و"حتى يَقبَلَ الحَدَاثةَ - بمعناها الغربي"، أي القطيعةَ مع خصوصيته وماضيه، "فيُصبحُ عِلمانيًّا يَقبلُ المبدأَ المسيحي: دَعْ ما لقيصرَ لقيصر، وما لله لله"، فيقفُ عند ما له في ملكوتِ السماء والدارِ الآخرة، وخَلاصِ الروح، وَيتركُ دنيا العالَم الإسلامي وثرواتِه للهيمنةِ الأمريكية والغربية .. !. * وبعبارات "فوكوياما": "فإنَّ الحَداثةَ، التي تُمثِّلُها أمريكا- وغيرُها من الديموقراطيات المتطوِّرة-، ستبقى القوةَ المسيطرةَ في السياسةِ الدولية، والمؤسسات التي تجسِّدُ مبادئَ الغربِ الأساسيةَ ستستمرُّ في الانتشار عَبرَ العالم .. وهذه القيمُ والمؤسساتُ تلقى قبولاً لدى الكثيرِ من شعوب العالم غيرِ الغربية -إن لم نَقُلْ جميعَها-، لكنَّ السؤالَ الذي نحتاجُ إلى طرحه هو: "هل هناك ثقافاتٌ أو مناطقُ في العالم ستقاوِم، أو تُثبِتُ أنها منيعة على عمليةِ التحديث -بهذا المعنى الأمريكي والغربي-؟!. ثم يُجيب "فوكوياما" عن هذا التساؤل الذي طرحه، فيقول: "إنَّ الإسلام هو الحضارةُ الرئيسيةُ الوحيدةُ في العالَم التي يمكنُ الجدال بأن لديها بعضَ المشاكل الأساسيةِ مع الحداثة .. فالعالمُ الإسلام يختلفُ عن غيرِه من الحضاراتِ في وجهٍ واحدٍ مهم، فهو وَحده قد وَلَّد تكرارًا خلالَ الأعوامِ

الأخيرة حركاتٍ أصوليةً مهمة، تَرفضُ لا السياسياتِ الغربيةَ فحسب، وإنما المبدأَ الأكثرَ أساسيةً للحداثة: التسامح المديني .. والعلمانية نفسها .. وإنه بينما تجدُ شعوبُ آسيا وأمريكا اللاتينية ودولُ المعسكر الاشتراكي وأفريقيا الاستهلاكيةَ الغربيةَ مُغرِيةً، وتودُّ تقليدَها -لو أنها فقط استطاعت ذلك-، فإن الأصوليين المسلمين يَرَون في هذه الاستهلاكية دليلاً على الانحلال الغربي". ° وُيعلن "فوكوياما" أن الحربَ هي حربٌ على الإسلام الرافضِ للحَدَاثةِ الغربيةِ والعِلمانيةِ الغربيةِ والاستهلاكيةِ الغربية، فيقول في "صراحة عارية" يُحمدُ عليها: "إن الصراعَ الحالي ليس -ببساطةٍ- معركةً ضدَّ الإرهاب، ولا ضدَّ الإسلام كدين أو حضارةٍ، ولكنه صراعٌ ضدَّ العقيدة الإسلاميةِ الأصوليةِ التي تقفُ ضدَّ الحَداثةِ الغربية .. وإنَّ التحدي الذي يواجهُ الولاياتِ المتحدةَ اليومَ هو أكثرُ من مجرَّد معركةٍ مع مجموعةٍ صغيرة من الإرهابيين، فبحرُ الفاشية الإسلامية -الذي يسبحُ فيه الإرهابيون- يُشكِّلُ تحديًّا أيديولوجيًّا هو في بعض جوانبه أكثرُ أساسيةً من الخطر الذي شكَّلته الشيوعية". ° ثم يتحدَّث "فوكوياما" عن "التطور الأهم" الذي يجبُ أن يَحدُثَ للإسلام ذاتِه، والذي يجبُ أن يتمَّ داخلَ الإسلامِ لتعديلِ الإسلامِ حتى يُصبح قابِلاً للحداثة الغربية والعلمانية الغربية فيقول: "إنَّ التطوُّرَ الأهمَّ ينبغي أن يأتي من داخل الإسلام نفسه، فعلى المجتمع الإسلامي أن يقرِّر فيما إذا كان يريدُ أن يَصِلَ إلى وضع سِلْمِيٍّ مع الحَدَاثة خاصةً فيما يتعلَّقُ

دعاة على أبواب جهنم

بالمبدأ الاساسيِّ حولَ الدولة العلمانية أم لا؟! " (¬1). ° قال الكاتب البريطاني "باتريك سيل" في مقالٍ بعنوان "التحالف الأمريكي الروسي ضدَّ الإسلام"، نشرته صحيفة "الحياة" اللندنية في 18 يناير 2001م: "إنَّ الغربَ اعتاد الاختباءَ وراءَ عبارةِ "الأصولية الإسلامية"، بينما يقصد في الحقيقة "الإسلام" نفسه، ولذلك يتعمَّد الغربيون الخَلْطَ بين الإسلام والإرهاب؛ لأن مفهوم "الأصولية الإسلامية" عندهم هو الإسلام نفسه". * دعاةٌ على أبواب جهنم: ونَعَقَ على أثر "فوكوياما" وسار على نهجه حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ دعاةٌ على أبواب جهنم مِن بني جِلْدتِنا، يَمَّموا وجوهَهم شَطْرَ الغرب، وتبنَّوُا الحَدَاثةَ الغربيةَ منهاجًا للحياة. ° فقال "هاشم صالح" المتخصِّصُ في ترجمة وتسويق المشروع الحَدَاثي للدكتور محمد أركون .. فقال بعد أحداث 11 سبتمبر "إننا يجبُ أن نلتحقَ بفولتير [1734 - 1778م] وتصوُّرِه الطبيعيِّ عن الدين والأخلاق، فالدينُ الحقيقيُّ هو الدينُ الطبيعيُّ .. وإنَّ العبرةَ هي بأعمالِ الإنسان وليس بمعتقداتِه، أوْ حتى صَلواتِه وعباداتِه .. ولا بُدَّ مِن تأويلٍ جديد لتراثنا يختلفُ عن تأويل الأصولية -بل ويَنقُضُه- .. تأويلٌ يكشِفُ عن تاريخيةِ النصوصِ التأسيسية، ويُحِلُّ القراءةَ التاريخيةَ محلَّ القراءة التبجيليَّة لهذا التراث" (¬2). ¬

_ (¬1) "النيوزويك" العدد السنوي -ديسمبر سنة 2001م- فبراير سنة 2002م. (¬2) صحيفة "الشرق الأوسط" في 26/ 12/ 2001م.

° وقال الدكتور "علي حرب"

° وقال الدكتور "علي حرب"، والذي قال عن حَدَاثة مشروع "أركون وهاشم صالح": "إنها القولُ بمرجعيَّةِ العقلِ وحاكِمِيَّتِه .. وإحلالِ سيادة الإنسانِ وسيطرتِه على الطبيعة مكانَ إمبريالية الذاتِ الإلهية وهيمنتها على الكون" (¬1)!!!. فالعدوُّ -عند المشروع الأمريكي- هو الإسلامُ المُقاوِمُ للعِلمانيةِ الغربيةِ والحداثةِ الغربيةِ والاستهلاكيةِ الغربيةِ .. أي الإسلام المقاوِمُ للمَسْخ الغربيَّ والأمريكيِّ، والعدوُّ عند الحداثيين -الذين يَحمِلون الأسماءَ المسلمة- ليس الإمبرياليةَ الأمريكية وهيمنتها، وإنما إمبريالية الذات الإلهية وهيمنتها على الكون" .. ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله" (¬2). * "صموئيل هنتنجتون" و"صراع الحضارات": "صموئيل هنتنجتون" الأستاذ بجامعه "هارفارد"، ومِن المفكِّرين الكبار الذين لهم تأثيرٌ في صُنعِ القرارِ في البيتِ الأبيض، له نظريةٌ عن "صراعِ الحضارات" نشرها عام 1993م في مجلة "فورن إفيرز"، ثم طوَّرها في كتابٍ كامل وقال فيها: "إنه بعدَ انتهاء الحرب الباردةٍ، سوف تسيطرُ الصراعاتُ بين الحضارات". ° وقال: "إن الإسلامَ تحيطُ به حدودٌ دموية". ° ويقول كاتبُ المقال: "يبدو أن ما يَحدُثُ في "تِيمور الشرقية والشيشان وكوسوفا والعراق وكشمير" يؤكِّدُ هذه الملاحظةً، وسواءٌ اعتَقد المرءُ ذلك أم لم يعتقد، فإن اللومَ يقعُ على الإسلام! ". ¬

_ (¬1) صحيفة "الحياة" في 18/ 11/ 1996م. (¬2) "الغرب والإسلام .. أين الخطأ .. وأين الصواب" (ص 89 - 90).

وفي عام 1996 قدم "هنتنجتون" وِجهةَ نظرِه في كتابِ بعنوان "صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي"، وصفه "هنري كيسنجر" بأنه يُقَدِّمُ إطارًا جريئًا لفَهمِ السياساتِ العالمية في القرن الحادي والعشرين. ° وقال "كيسنجر": "إن تحليلاتِ هنتنجتون تُثبتُ صحَّتها ودقَّتَها إلى درجةٍ تُنذِرُ بالخطر، وتتلخَّص نظريتُه في أن الحضاراتِ الرئيسيةَ المعاصِرةَ هي الحضاراتُ الصينية، واليابانية، والهندوسية، والإسلامية، والأرثوذكسية، والغربية "أوروبا وأمريكا" وحضارةُ أمريكا اللاتينية، والحضاراتُ الأربع الكبرى في العالم هي: الحضاراتُ الصينية، والهِندوسية، والإسلامية، والحضارة الغربية، وكلٌّ مِن هذه الحضاراتِ تضمُّ حوالي مليار نَسَمة، وكلُّ حضارةِ منها لها دينٌ مؤسِّسٌ لها تشكَّلت وتبلورت حوله، وهذه الدياناتُ هي: الإسلام، والمسيحية، والكونفوشية، والهندوسية، وتُعتبرُ كلٌّ من الصين والهند قلبًا أو مِحورًا لحضارةِ كلٍّ منهما، أما الغربُ فينظر إليه على أنه مُنقسمٌ إلى مِحوَرَين رئيسيين هما: الولاياتُ المتحدة وأوروبا .. وبالنسبة للإسلام، فليست هناك دولةٌ تمثِّلُ قلبَ أو مِحورَ حضارته، وهذا ما يجعلُ من الصعوبةِ فَهمَ الإسلام وحضارته بالنسبة لمن هم خارجَ هذه الحضارة". ° ويقول هنتنجتون أيضًا: "إن صراعَ الإسلام والغربِ يُثيرُ مشكلاتٍ ضخمةً للعالَم بطريقة أو بأخرى". ° ويقول المقال: "إن الغربَ يُطالِبُ بسيطرةٍ فريدةٍ على العالَم، والمبرِّرُ لذلك أنه يُمثِّلُ القوةَ العالميةَ القائمةَ على أساسَين هما: تفوق التكنولوجيا الأمريكية، وتفوق الأيديولوجية العالمية القائمة على الليبرالية

وحقوق الإنسان، وتنظر الحضاراتُ الأخرى إلى الغربِ على أنه يَمتلكُ قوةً عسكريةً واقتصاديةً خطيرة، ولكنه منهارٌ من الناحيةِ الاجتماعية، ويتمثَّلُ هذا الانهيارُ الاجتماعيُّ في التفكك الأسرى، وعدمِ التمسُّك بالمعتقداتِ الدينيةٍ، وانتشارِ الجريمة، والمخدَّرات، وارتفاع نسبةِ المُسنِّين، وانتشارِ البطالة .. أما الغربُ، فإنه ينظرُ إلى نفسِه على أنه نموذجٌ لحضارةِ القرنِ الحادي والعشرين، وتنظرُ إليه الحضاراتُ الأخرى على أنه نموذَجٌ سيىءٌ يَحسُنُ نجنُّبُه وليس محاكاته. ° ويقول هنتنجتون: "إن الغربَ يُسيطرُ على العالَم الآن سيطرةً كاملة، وسيظلُّ مسيطرًا ومتفوقًا في القوةِ خلالَ القرن الحادي والعشرين، إلاَّ أن التغييراتِ التدريجيةَ والحتميةَ الأساسيةَ تؤثِّرُ أيضًا على توازُنِ القوى بين الحضارات، وستأخذُ قوةُ الغرب في الاضمحلال، فخلالَ خمسةٍ وسبعين عامًا من 1920 حتى 1995م تراجعت السيطرةُ السياسيةُ للغربِ على المناطقِ العالمية بنسبة 50%، وتراجعت نسبةُ من يُسيطرُ عليهم الغربُ من سكانِ العالم 80%، وتراجعت سيطرةُ الغربِ على الصناعةِ العالميةِ بنسبة 35%، أما سيطرةُ الغربِ على القوةِ العسكرية، فقد تراجعت بنسبة 60%. ° وحين يتحدث "هنتنجتون" عن الإسلام يقول: "إن في العالم 45 دولةً مستقلةً تنضوي تحتَ رايةِ الإسلام، وهو أقوى الديانات العالميةِ من حيثُ سيطرتُه الثقافية على المؤمنين به، كما أنه دينٌ له ميزةٌ اقتصادية كبرى، هي أنه يسيطرُ على معظمِ احتياطي البترول العالمي، ولن يَنضَبَ هذا البترولُ إلاَّ بعد سنواتٍ طويلةٍ جدًّا، ولا يزالُ الإسلامُ يمرُّ بمرحلةِ النمو السكاني السريع، ومن المتوقَّع أن يشكِّلَ المسلمون 30% من

توماس فريدمان

سكن العالم في عام 2025 م. ° أمَّا مستقبلُ العلاقةِ بين الحضارات الأربع: الحضارة الغربية، وحضارة الصين، وحضارة الهند، والحضارة الإسلامية: فإن "هنتنجتون" يَرى أن الصراعَ بينها حتمي، ويرى أن الإسلامَ يُمثِّلُ مشكلةً ليس لها حل، وهكذا فإن الخوفَ من الإسلام واعتبارَه هو "العدو" للحضارة الغربية وللحضارات الأخرى أصبح قائمًا على أساسِ نظريةٍ متكاملةٍ، لها جذورٌ تاريخيةٌ قديمة، اكتَملت وتبلورت على يد "صمويل هنتنجتون" أستاذ الدراسات الدولية في جامعة "هارفارد" .. النظرية إذن نظريةٌ أمريكية .. وهي في حقيقتها ليست إلاًّ تبريرًا فلسفيًّا للحرب ضد الإسلام .. وقد يُنكر بعض الأمريكيون أنهم يعتقدون في صحةِ هذه النظرية .. ولكن ما تفعلُه أمريكا ليس إلاَّ التطبيقَ العَمَليَّ لها (¬1). ° والدليل على نظرية "هنتنجتون" عن حتميةِ الصراع بين الإسلام والحضارةِ الغربية ما نراه من مناهجِ تدريسِ التاريخ للتلاميذ في أمريكا والدول الغربية وأسبانيا واليونان .. فالتاريخُ الذي يُدرَّسُ يقدِّمُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أنه شاعر يرى رؤًى خارقةً، ويُشارُ إليه بإلفاظٍ توحي بالشكِّ في مصداقيته (¬2). * توماس فريدمان: ° قال الصحفيُّ اليهوديُّ الأمريكي "توماس فريدمان" في مقالٍ له في ¬

_ (¬1) "صناعة العداء للإسلام" (ص 164 - 165، 166، 167). (¬2) المصدر السابق (ص 168).

مارجريت تيتشر رئيسة الوزراء البريطانية السابقة

"نيويورك تايمز": "إنَّ هناك حربَ مبادئَ وقيمٍ بين الغرب والعالَم الإسلامي" (¬1). ° وتوماس فريدمان كاتب معروف بأنه قريبٌ من البيت الأبيض ووزارةِ الخارجيةِ والمخابراتِ الأمريكية، يقول في مقالٍ له في صحيفة "نيويورك تايمز" في 17 ديسمبر 2001م بعنوان "لإنهاء التعصب مطلوب حركة تنوير إسلامي" يقول: "ما يُهمُّنا أن يبدأ المسلمون بأنفسهم بإصلاح الإسلام بطريقةٍ تجعلُه متوفقًا مع التعليم الحديث، ومع التسامح الديني، وقبول التعددية" .. ويدسُّ بين السطور أن الإسلامَ دين تعصبٍ وديكتاتورية وعُنفٍ (¬2). * مارجريت تيتشر رئيسة الوزراء البريطانية السابقة: ° كَتبت "مارجريت تيتشر" رئيسةُ الوزارء البريطانية السابقة مقالاً في "نيويورك تايمز" الأمريكية "والجارديان" البريطانية قالت فيه: "إن التيارَ الإسلامي هو البلشَفية الجديدة" (¬3). * بيريجرين ورستون: الإِسلام عدوٌّ بدائي: ° في أوائل التسعينات قال "بيريجرين ورستون": "إن الإسلامَ كان في يومٍ ما حضارةً عظيمةً تستحقُّ الحوارَ معها"، ولكنه غيَّر رأيه، وقال بعد ذلك: "إنَّ الإسلام تحوَّل إلى عدوٍّ بدائيٍّ لا يناسبُه إلاَّ أن يَتِمَّ إخضاعُه" (¬4). ¬

_ (¬1) "صناعة العداء للإسلام" (ص 55). (¬2) المصدر السابق (ص 172). (¬3) المصدر السابق (ص 55). (¬4) المصدر السابق (ص 64).

"فاي ويلدون"

* "فاي ويلدون": ° في الوقت الذي أُثيرت فيه قضيةُ "سلمان رشدي" ادَّعى "فاي ويلدون" في تعقيبٍ أصدره أن القرآن "غذاءٌ لعدم التفكير، وهو ليس شيئًا جميلاً يُمكن للمجتمع الاعتمادُ عليه، وهو فقط سلاحٌ وقوَّةٌ للنوايا العدوانية العسكرية" (¬1). * "الدكتور روبرت موري": الإِسلامُ ديانةُ إِلهِ القمر: وَصَل تشويهُ الإسلام إلى حدِّ أنَّ البعضَ يتحدَّثُ في أمريكا عن المسلمين على أنهم "يَعبدون القمر"، ويَذكرُ أمثلةً على ذلك ما ردَّدته "جانيت بارشالز" في الإذاعة يوم 15 مايو 1996، وكرره الدكتور "روبرت موري"، في محاضراتٍ ومطبوعاتٍ بعنوان "الله -إله القمر" و"الإسلام ديانة أهل القمر"، و"الغزو الإسلامي: التصدِّي لأسرع الأديان انتشارًا في العالم"، ويقول فيها: "إن دينَ الله -إلهِ القمرِ الصحراوي- يشقُّ طريقه إلى سجون كارولينا الجنوبية، وإن إله المسلمين إله وثني" (¬2). * تعالى الله عما يقول الظالمون عُلُوًّا كبيرًا. * مجلةِ "الإِيكونومست" البريطانية: وهذه يَعُدُّونها أكثر المجلاَّت احترامًا في العالم .. أعدَّت تقريرًا خاصًّا بعنوان "الإسلام والغرب، الحرب القادمة كما يقولون"، في عددها الصادر في 6 أغسطس سنة 1994، وأفردت له عشرين صفحة (¬3). ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 69). (¬2) المصدر السابق (ص 112). (¬3) المصدر السابق (ص 127).

وتصل "الإيكونومست" إلى نتيجةٍ، هي أنه من الصعب حدوثُ تغيير في أوضاع المرأة المسلمة؛ لأن وضعَها المُتَدنِّي راسخٌ في الأعماقِ بسببِ القرآنِ والرسول محمد (¬1). ° ثم تنتقل "الإيكونومست" إلى ما هو أهمُّ بالنسبة لها، فتقول: "إن القرآنُ مكتوبٌ بلغةٍ تناسبُ أسلوبَ القَرْنين السادس والسابع، وبلغةٍ أقربَ إلى الشِّعر، ولذلك فإنها تحتملُ أكثرَ من تفسير، والآية 34 من سورة "النساء" تُعدُّ أكبرَ هَنَاتِ القرآن -هكذا تقول الإيكونومست-، لأنها تنُصُّ على أن الرجالَ قوامونُ على النساء، وحين تَعصي المرأةُ زوجَها تستحقُّ الضرب، ولكنَّ البعضَ يتلطَّفُ فيقول: إن الرجالَ قوامون على النساء بمعنى أنهم مسؤولون عن حمايةِ المرأة، ربما لأن الرجلَ في القرنين السادس والسابع كان هو وحدَه الذي يكسِبُ المال، أما عن الضرب، فيقول بعضُ المفسرين المتلطِّفين: إن المقصودَ مجردُ لطمةٍ لطيفة، ولكنَّ هذه التفسيراتِ غيرُ مقنِعةٍ، وتظلُّ هذه الآية مثارًا للدهشة" (!). هذا ما تقولُه "الإيكونومست"، ولم يُفكِّرْ أحدٌ في إرسالِ ردٍّ يَشرحُ فيه التفسيرَ الصحيحَ لهذه الآية، وسكت الأزهرُ وعلماءُ الدين عن القول بأن هذه الآية "من هنات القرآن"! (¬2). ° وتقول: "إنَّ علماء الدين في أيديهم تفسيرُ القرآن، وهم الذين أخطؤوا في حق المرأة في العصور الماضية، ومازالوا مستمرِّين في الخطأ، ¬

_ (¬1) "صناعة العداء للإسلام" (ص 134). (¬2) المصدر السابق (ص 135).

ولابد أن يُغيِّروا ما في عقولهم، ويَسمَحوا للمرأة بالوصول إلى أعلى مراتبِ التعليم، وأعلى المناصب، وتحقيقِ العدالة التي يأمرُ بها القرآن -فيما عدا آية أو اثنتين-". ° وكالعادة أرجعت "الإيكونومست" سرَّ تخلُّفِ المسلمين إلى الإسلام ذاتِه، فقالت: "إن معارضةَ الديمقراطية تستندُ إلى أن القرآنَ فيه منهجٌ أكثرُ صلاحيةً للبشر، وأن الديمقراطية لها بديلٌ عند المسلمين هو "الشورى"، فالحكومة تستشيرُ الناس". ° وتتساءل "الإيكونومست" بسخرية: "هل هناك ديمقراطية أكثر من ذلك؟. ° وتقول: "إن هناك أمرَينِ مهمَّين: الأمرُ الأول: أن الرجال الذين يستعينون بالشورى هم على قائمةِ المبشَّرين برحمة الله حَسْبَما جاء في (سورة الشورى - آية 38) {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38]. وفي (سورة آل عمران - آية 159): {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]. ° وتتساءل "الإيكونومست": ما معنى الشورى؟ " وتجيب: "إنها ما كان يمارسُه باروناتُ العصور الوسطى، أو قادةُ الجيوش في العصرِ الحديث، فالحاكمُ يَسألُ الآخرين عما يَرَونْ، ثم يتَّخذُ هو القرار، فلا مكانَ للديمقراطية في الشورى! ". ° ولا تكتفي "الإيكونومست" في هذه الدراسة بتشويهِ مبدأ "الشورى"،

ميشيل هولبيك

ولكنها تواصلُ هجومَها على مبدأ "الإجماع" في الفقه، وتقول: "إنه قائمٌ على أن الأمة لا تُجمعُ على خطأ، فما اتفقت الجماعةُ على ما ينبغي عملُه، فهو ما يجبُ عمله، وقد يبدو ذلك ديمقراطيًّا، ولكنَّ المشكلةَ أن هذا الإجماعَ هو إجماعُ علماءِ الدين وهم الذين يُحدِّدون الرأيَ الصواب، وليس من حقِّ فردٍ من أفرادِ المجتمع أن ينطقَ بما يخالفُ ذلك، وإلاَّ يكونُ خارجًا على الإجماع، فالقرآنُ عند المسلمين هو "كلمة الله"، وكلمةُ الله تحتاجُ إلى تفسير، والتفسيرُ تحتكرُه مجموعةٌ تزعمُ قدرتَها على ذلك" (¬1). وتصلُ "الإيكونومست" إلى ما تريدُ أن تصلَ إليه منذ البداية وهو "أن الإسلام لا يزالُ يعيشُ في عصر الأوليجاركية (أي حكم الأقلية)، وأنه لا يزالُ يؤمنُ باليقين الثابت" (¬2). ° وتقول: "باختصارٍ، على الإسلام أن يعملَ على إصلاح نفسِه لكي يتحرَّك نحو عالَم الديمقراطية" (¬3). * ميشيل هولبيك: "ميشيل هولبيك" كاتب فرنسي، كَتب رواية "بلاتفورم"، وكلُّها إساءةٌ إلى الإسلام، وفي حديثٍ صحفي مع مجلة "ليز" الأدبية قال: "إن الإسلامَ أكثرُ الأديان غباءً، وإن قراءةَ القرآنِ تبعثُ على المَلل" .. ولا أحدَ يعرفُ ما هي مناسبةُ مِثل هذا الكلام إلاَّ أن يكون مساهَمةً في الحرب على الإسلام (¬4). ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 136). (¬2) المصدر السابق (ص 137 - 138). (¬3) المصدر السابق (ص 140). (¬4) المصدر السابق (ص 177، 200 - 201).

المستشرق الصهيوني برنارد لويس

° وعندما رَفعت أربعُ مؤسساتٍ إسلاميةٍ في فرنسا دعوى أمامَ المحكمة، وانضمَّت إليها رابطةُ حقوقِ الإنسان الفرنسية، وأَعلنت أن تصريحاتِ "هولبيك" تُعبِّرُ عن "إسلاموفوبيا" -أي الخوف من الإسلام- وقف الكاتبُ الفرنسي أمام المحكمة ليقول: "إنني لم أُظهِرْ أيَّ ازدراءٍ للمسلمين .. ولكنَّ ازدرائي الشديد للإسلام لم يتغيَّر، وإنني أشعرُ أنَّ القرآنَ أقلُّ منزلةً من الإنجيل من الناحية الأدبية، فالإنجيلُ له أكثر من كاتبٍ بعضُهم جيِّد وبعضُهم رديءٌ، أما القرآنُ فله كاتبٌ واحدٌ وأسلوبُه متوسط. وقد فاز "هولبيك" بجائزة "إمباك"، وهي أكبرُ جائزة أدبية في فرنسا. ° وكتب في روايته "بلاتفورم" على لسان بَطل الرواية: "إنني أشعرُ برِعشةِ سَعادة في كلِّ مرةٍ أسمعُ فيها بمقتلِ إرهابيٍّ فلسطيني". * المستشرق الصهيوني برنارد لويس: ° المستشرق الأمريكي الصهيوني "برنارد لويس" -هو من أعمدة المشيرين على صانع القرارِ الأمريكي-، يقول في كتابه الذي أصدره بعد "قارعة سبتمبر" بعنوان "ما هو الخطأ في العلاقة بين الإسلام والغرب؟ ": "إن إرهابَ اليوم هو جزءٌ من كفاحٍ طويلٍ بين الإسلام والغرب .. - فالنظامُ الأخلاقيُّ الذي يَستندُ إليه الإسلامُ مختلفٌ عمَّا هو في الحضارة اليهودية/ المسيحية -[الغربية]- وآياتُ القرآن تَصدُقُ على ممارسةِ العنفِ ضدَّ غيرِ المسلمين .. وهذا الحربُ هي حربٌ بين الأديان"!! (¬1). ¬

_ (¬1) صحيفة "الأهرام" في 2/ 3/ 2002م، نقلاً عن مقال "زخاري كاربيل" في "النيوزويك" الأمريكية بتاريخ 14/ 1/ 2002م.

وكتاب برنارد لويس "جذور الهياج الإسلامي" وكتاب صمويل هنتنجتون "صراع الحضارات" لهما من التأثير الخاصِّ والكبيرِ في العالم الغربي وتكوينِ فكره نحوَ الإسلام. لقد كان "برنارد لويس" هو الذي قَدَّم الصورةَ التي صَدَمت الغربَ عن الإسلام والمسلمين في كتابه "الأصولية الإسلامية" باعتبارِهم أصوليين مقاتِلين خَطِرين، وكان هذا الكتابُ في أصلِه محاضرةً ألقاها "برنارد لويس" لعام 1990 باسم "محاضرة جيفرسون"، وهي أعلى شرفٍ تُسبِغُه حكومة الولايات المتحدة على أي باحثٍ تقديرًا لمكانتِه التي وَصل إليها في مجالِ الدراساتِ الإنسانية، ثم نُشرت بعد ذلك منقَّحةً تحتَ عنوان "جذور الهياج الإسلامي" ونُشرت كموضوعٍ رئيسيٍّ في مجلة "أتلانتك" الشهرية، وبسبب مكانةِ "برنارد لويس" الدولية كباحثٍ وخبيرٍ في شؤون الشرق الأوسط، فقد كان لهذا المقالِ ردُّ فعلٍ واسع، وكان له تأثير عالمي في اللهم الغربي للإسلام. ومع عنوان المقال نَشرت مجلة "أتلانتك" صورةَ مسلمٍ معمَّمٍ بلحيةٍ كبيرة، وفي عينيه المتوهجتين أعلامُ أمريكية، وداخلَ المجلة نشرف رسمًا يُصوِّرُ حَيَّةً ضخمةً وعليها نجومُ العَلَمِ الأمريكيِّ وهي تزحفُ على الصحراء، ورَسْمًا آخَرَ لنفسِ الحية وهي كامنةٌ وراءَ مسلمٍ يؤدِّي الصلاة، والمسلمُ في هذه الرسوم يَظهرُ وكأنه يَعيشُ في العصورِ الوسطى، وقد عَلَّق على المقال والرسوم "جون اسبوزيتو" فقال: "إن عنوان "جذور الهياج الإسلامي" في ذاته يَخلُقُ توجُّسًا، فهل نَرى مقالاتٍ تتحدثُ عن الغضبِ المسيحي أو الغضبِ اليهودي؟ .. ولماذا الإصرارُ على تسميةِ القدرات

النووية الباكستانية "القنبلة الإسلامية"، وليس "القنبلة الباكستانية" كما يقال: "القنبلة الهندية"، وليس "القنبلة الهندوسية"، ويقال: "القنبلة الإسرائيلية"، ولا يقال: "القنبلة اليهودية"، وكما يقال: "القنبلة الأمريكية"، ولا يقال: "القنبلة المسيحية؟ .. ". ° يقول "برنارد لويس": "إن الصراعَ بين الإسلام والغربِ استمرَّ حتى الآن على مدى أربعةَ عَشَرَ قرنًا من الزمان، وقد جاء تكوينُه من سلسلةٍ طويلةٍ من الهَجمات والهجمات المضادة .. الجهاد .. والحملات الصليبية .. والغزو .. واليوم فإنَّ معظمَ العالَمِ الإسلاميِّ تسيطرُ عليه مرةً أخرى حالةُ استياءٍ عنيفةٍ ضدَّ الغرب، وفجأة صارت أمريكا العدوَّ الأكبر، وتجسيدًا للشر الذي يُهدِّدُ المسلمين ويهدِّدُ الإسلام .. لماذا؟ ". ويعلق "جون اسبوزيتو" على ذلك بأنه بسبب تصوير الإسلام والمسلمين في صورةِ المحرِّضين طوالَ أربعةَ عَشَر قرنًا .. أي أن الإسلامَ عدوانى .. والإسلامُ والمسلمون مسؤولون عن الهجمات، بينما الغربُ دفاعيٌّ يردُّ هجماتٍ مضادة. ° ويوردُ "اسبوزيتو" عبارةً لمعلِّقٍ إسرائيلي يقول فيها: "لا يُهمُّ كيف كانت الشيوعية سيئةً، فإنها لم تكن أبدًا خُطوةً للعودة إلى العصور الوسطى، أما ما يَصعبُ علينا تصوُّرُه هو كيف ستتمكنُ ديمقراطياتُ القرنِ الحادي والعشرين من العيشِ في سلامٍ مع قوًى عَقدت العزم على أن تُبرهِنَ أن الألفَ سَنةٍ الأخيرةِ لم تحدث وهو يقصد الإسلام والمسلمين" (¬1). ¬

_ (¬1) "صناعة العداء للإسلام" (ص 190 - 191).

كلير هولينجسورث

* كلير هولينجسورث: ° يقول "اسبوزيتو": "إن الصحافةَ البريطانية "التايمز، والديلي تلجراف، وسبكتاتور" عَكست الخوفَ من الإسلام "إسلاموفوبيا"، وكتبت "كلير هولينجسورث": "إن الأصوليةَ الإسلاميةَ أصبحت بسرعةِ التهديد الرئيسيِّ للسلام والأمن العالمي، كما تحوَّلت بالإرهاب إلى سَببٍ من أسبابِ الاضطرابِ الوطنيِّ والمَحَلي، وهي مثلُ التهديدِ الذي شكَّلته النازيةُ والفاشيةُ في ثَلاثيناتِ القرن العشرين، ثم الشيوعية في الخمسينات" (¬1). * مجلة "دير شبيجل" الألمانية: ° مجلة "دير شبيجل الألمانية" التي كَتبت بعد تفكك يوغسلافيا والحرب على المسلمين في البوسنة: "سرعانَ ما سيكون في أوروبا دولةٌ دينية "ثيوقراطية" متعصبةٌ جاثمةٌ على أعتابها". ° وكتبت أيضًا: "في الشرق الأوسط -على وجه الخصوص-، وهو المركز والمَهدُ للإسلام، يُمَثِّل الملتحون المتطرِّفون دائمًا صورةَ مقاتلٍ تتحددُ ملامحُه بالجهادِ والتضحيةِ بالدمِ والتعصبِ والعنفِ وعدمِ التسامح وقهر المرأة" (¬2). * وفي فرنسا: وفي فرنسا، فإن النزعةَ تُجاهَ المسلمين تتحدَّدُ باعتبارِهم قومًا معادِين للتقدُّمِ من أهل العنف، ويمكن شرحُ ذلك من خلالِ أصولِ دينِهم، فإنه دينٌ ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 192). (¬2) المصدر السابق (ص 192).

يدعو إلى الحربٍ، متعطِّشٌ للغزو، ومليءٌ بالاحتقارِ لغيرِ المسلمين. وعندما احتَلَّت فرنسا الجزائر (1346هـ-1830م) لم تُنْسِها علمانيتُها المتوحشة الحقدَ النصرانيَّ الصليبيَّ على الإسلام والمسلمين، فاعتَبرت انتصارَها هذا انتصارًا للمسيحية على الإسلام، وسَجَّل رفاعة الطهطاوي (1216 - 1290هـ / 1801 - 1873م) هذه الحقيقة -وكان شاهد عيان عليها يومئذ بباريس- فقال: "إن المُطران الكبير (بباريس) لما سَمع بأخذِ الجزائر، ودخل الملك "شارل العاشر" (1824 - 1830م) الكنيسةَ. يشكر اللهَ على ذلك، جاء إليه المُطرانُ ليهنئَه على هذه النصرة، فقال: إنه يَحمدُ اللهَ على كَونِ المِلَّةِ المسيحيةِ انتَصرت نُصرةَ عظيمةً على الملَّةِ الإسلامية، ولا زالت كذلك" (¬1). ° وعندما احتَفل الفرنسيون -العلمانيون- بمرور مئةِ عام على احتلالهم للجزائر (1349هـ/ 1930م) ماذا قالوا في الخطب والكلمات التي عبرت عن حقدهم الصليبي على الإسلام؟! لقد خطب أحد كبار ساستهم فقال: "إننا لن ننتصرَ على الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآنَ، ويتكلَّمون العربيةَ، فيجبُّ أن نُزيلَ القرآنَ من وجودهم، وأن نقتلعَ العربيةَ من ألسنتهم". ° وخَطَب سياسيٌّ آخر، فقال: "لا تظنوا أن هذه المهرجاناتِ من أجلِ بُلوغنا مئةَ سَنةٍ في هذا الوطن، فلقد أقام الرومان قَبلنا فيه ثلاثةَ قرون، ومع ¬

_ (¬1) "الأعمال الكاملة" لرفاعة الطهطاوي (2/ 219) - دراسة وتحقيق د. محمد عمارة - طبعة بيروت 1973م.

ذلك خرجوا منه، ألا فلتعلموا أن مغزَى هذه المهرجاناتِ هو تشييعُ جِنازةِ الإسلام بهذه الديار .. ". ° وخَطب أحد كرادلة الكنيسة الفرنسية، فقال: "إن عهدَ الهلالِ في الجزائر قد غَبَر، وإن عهدَ الصليب قد بدأ، وإنه سيستمر إلى الأبد .. وإنَّ علينا أن نجعلَ أرضَ الجزائر مَهْدًا لدولةٍ مسيحيةٍ مضاءةٍ أرجاؤها بنورٍ مدنيةٍ منبعُ وحيها الإنجيل .. " (¬1). وفي استفتاءِ تبيَّن أن ثلاثةً من بين كلِّ أربعةِ فرنسيين تَمَّ سؤالُهم يَرَون أن كلمةَ "متعصِّب" تنطبق تمامًا على الإسلام، وقضيةُ مَنع التلميذات من لُبس الحجاب تمَثِّلُ الفجوةَ التي تتسعُ باستمرارٍ بين المجتمعِ الفرنسي والأقلية المسلمة، وبعد ثلاثةَ عَشَر قرنًا تقريبًا من تصدِّي "شارل مارتل" للغزو الإسلامي لفرنسا عند مدينة بواتييه، فإن معركة "بواتييه" الجديدة تتضمنُ في طياتِها الشكِّ المتصاعِد والعداوةَ تُجاهَ الدينِ الإسلامي في أوروبا. ° ويقول "اسبوزيتو": "إن مخاوفَ الغربيين يُعبِّرون عنها بقولهم: لقد كان المهاجرون الذين وفدوا إلينا من قَبلُ أوروبيين، أما هؤلاء فليسوا كذلك .. البنات يُبدين الإصرارَ على ارتداءِ الحجاب في مدارسنا، فهن لسنَ فِرنسياتٍ، ولا يُرِدْنَ أن يكن كذلك .. إن ماضي أوربا أبيض، ويهودي - مسيحي، أما المستقبلُ، فليس كذلك، وهناك شك في أن مؤسساتِنا وهياكلَنا القديمةَ سوف تصمدُ لهذه الضغوط". وأقوالٌ أخرى كثيرةٌ يتقبسُها "اسبوزيتو" مثل: "بينما استطاعت أوروبا ¬

_ (¬1) "الإسلام والغرب افتراءات لها تاريخ" للدكتور محمد عمارة (ص42).

لوبن الصليبي الفرنسي المتطرف

أن تتغلبَ على الحربِ الباردة، فإنها تُخاطرُ الآن بخَلقِ نزاعاتٍ جديدةً باعتبارها القلعةَ البيضاءَ المسيحيةَ الغنيةَ التي تُصارعُ ضدَّ عالم إسلاميٍّ شديدِ الفقر". * لوبن الصليبي الفرنسي المتطرف: وعندما بدأ إنشاءُ الجامع الكبير في باريس ظهرت مخاوفُ، ووَجَد مقاومةٌ شديدةً من السلطات الفرنسية، وقيل: إنه سيكونُ مكانًا لتفريخ المتطرفين، انسياقًا وراءَ الفكرةِ السائدةِ بأن المسلمين متطرِّفون، وأنَّ كلَّ مسجدٍ هو مكانٌ لتفريخ المتطرفين، وأعلن حزب "الجبهة الوطنية" اليمينية المتطرفة التي يقودها "لوبن" -وهو حزب يُعادي الإسلامَ والمسلمين والمهاجرين- وزعيمُه يُعلنُ بكلِّ وضوح أنه عندما يَصِلُ إلى الحُكم فسوف يَطردُ كلَّ "الأجانب" من فرنسا لتبقى فرنسا للفرنسيين فقط. وفي حَملته الانتخابية حين كان "لوبن" مرشَّحًا للرئاسة ومنافِسًا للرئيس "جاك شيراك" أعلن عِداءَه الصريحَ لكلِّ ما يَمُتُّ للإسلام بصِلَةٍ، وكاد يُفوزُ بالرئاسة، وحَصَل على أصواتٍ جَعَلتْه يدخلُ انتخاباتِ الإعادة بينه وبين "شيراك"، مما يدل على القوةِ التي وَصَل إليها التيارُ المحافِظُ المُعادي للأجانبِ وللإسلامِ والمسلمين حتى في فرنسا بلدِ الحرية والإخاء والمساواة" (¬1). * "الإِسلاموفوبيا": في تقرير لجنة "رينميبر" البريطانية بعنوان "الإسلاموفوبيا"، قالت: "إن الخطابَ النابعَ من الخوفِ من الإسلام صاخبٌ أحيانًا، وغالبًا ما يكونُ ¬

_ (¬1) "صناعة العداء للإسلام" (ص 192، 193).

جون اسبوزيتو المفكر والباحث الأمريكي

محمَّلاً بالرموز هو جزءٌ من نسيجِ الحياةِ اليوميةِ في بريطانيا، بنفس الروح التي كان عليها خطابُ معاداةِ الساميةٍ، يؤخَذُ كأمرٍ مُسلَّمٍ به في فترةٍ سابقةٍ من القرن العشرين" (¬1). وها هو "توني بلير" رئيس وزراء إنجلترا يُعلن في 17 سبتمبر سنة 2001م -أي بعد ستةِ أيام من "قارعة سبتمبر"- أن هذه الحربَ التي أعلنها الغربُ على الإسلام: "هي حربُ المدنية والحضارة [في الغرب] ضد البربرية [في الشرق] ". ° ومارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا السابقة تقول عن الذين: "يرفضون القيم الغربية بأنهم أعداءُ أمريكا وأعداؤنا، وتدعو الغرب إلى معاملتهم كما عامل الشيوعية"!!. * جون اسبوزيتو المفكِّر والباحث الأمريكي: يَعُدُّونه أكثرَ الباحثين الأمريكيين إنصافًا للإسلام وفهمًا له، إلاَّ أنَّ صورةَ الإسلام -كما تنعكسُ في كتاباته- مليئةٌ بالتشويه، وهو يدَّعي أن الإسلامَ إذا وَصَل إلى السلطة لا يعرفُ إلاَّ الحكمَ الدكتاتوريَّ، ولا يَسمحُ باختلافٍ أو معارضةٍ سياسية؛ لأن الحاكمَ يحكمُ بالشريعة، أي أنه يحكمُ بما أَنزل اللهُ، وأيةُ معارضةٍ ستكونُ معارضةً له، ولن تكون للأقلياتِ حرية، ولن تجدَ المرأةُ إلاَّ المكانةَ المنحطَّةَ التي وَضَعَتْها فيها حكومةُ "طالبان" في أفغانستان. ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 192)، وصحيفة "الشرق الأوسط" في 14/ 2/ 2003م، و"الغرب والإسلام" (ص 85).

° ويقول "اسبوزيتو" أكثر من ذلك: "إن المسلمين يستسهلون الحديثَ عن التسامح وحقوقِ الإنسان في الإسلام، ولا يمارسونها في الواقع، والمسلمون يقولون: إن هناك فرقًا بين تعاليم الإسلام وما يفعلُه بعضُ المسلمين، وهذا نوعٌ من التضليل؛ لأن ما يفعلُه هؤلاء، البعضُ يستندون فيه إلى النصوصِ المقدَّسة، والمسلمون يقولون: إنهم يَعترفون بالأديانِ السابقة عليهم، وهذا غيرُ صحيح، بدليل أنهم يَعتبرون دينَهم قد نَسخ الأديانَ الأخرى، بينما يؤمنُ المسيحيون بأنهم أصحابُ الوحي الأخيرِ والكامل، وأن المسيحَ عندهم ابنُ الربِّ وليس نبيًّا، وأن لديهم تكليفًا عالميًّا بتحويل العالَم إلى المسيحية، وبعضُ المسلمين مِثلُ بعض المسيحيين، واليهود غير متسامحين قولاً وفعلاً، وبعضُ المسلمين والمسيحيين تَفرضُ عليهم مواقعُهم الدينيةُ نوعًا من الجمود المديني، وشعورًا بأنهم وحدَهم على الحق، والآخرون على الباطل، وهم يؤكِّدون على صحَّةِ ديانتهم، يُرحِّبون بالحِوارِ مع المؤمنين الآخَرين عندما يُدرِكون حقائقَ العالَم المعاصِرِ الذي يقوم على التعددية والاعتمادِ المتبادل، وبدون إعادةِ تفسيرِ الشريعةِ الإسلامية التي تَعتبرُ الأقلياتِ غيرَ المسلمةِ من أهل الذمة". ويؤكَّد "اسبوزيتو" مِثلَ جميع الباحثين في الغرب أن أيةَ دولةٍ إسلاميةٍ تقومُ على أيديولوجية دينيةٍ لن تكونَ دولةً ديمقراطية، وفي أحسنِ الفروضِ ستكونُ الديمقراطيةُ فيها محدودةً. كلُّ هذا و"جون اسبوزيتو" يُعتبر دارسًا موضوعيًّا ومُنصِفًا للإسلام!!. إذا كان هذا رأيَ أكثرِ الباحثين الأمريكيين فهمًا للإسلام وإنصافًا له، فماذا ننتظرُ ممن لم يَدرِسوه ولم يفهموه؟ وهل فَكَّرت جهةٌ إسلاميةٌ في

هيستيريا العداء للإسلام ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في أمريكا

دعوتِه وأمثالِه إلى حوارِ لتصحيحِ هذه المفاهيمِ الظالمةِ للإسلامِ والمسلمين؟ .. وهل فكَّرت جهةٌ في تكوينِ جماعاتٍ من المفكِّرين والمُثقَّفين الدارِسِين للإسلام والمتابِعين للتياراتِ المعاديةِ له في الغرب والمدرِكين لطبيعةِ عصرِ العولمة الذي أصبح مستعدًّا لإعلان الحربِ على كلِّ مَن يختلفُ مع القيم والمفاهيم السياسية والاقتصادية التي جاءت مع العولمة؟!. ماذا فعلنا .. وماذا يجبُ أن نفعل لإقناع العالَم بأن الإسلامَ دينُ الناسِ الطيِّبينٍ، وليس دينَ الشياطينِ والأشرارِ المخرِّبين (¬1). * هيستيريا العَداء للإِسلام ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في أمريكا: والهجومُ على الإسلام ليس وليدَ تفجيرات سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن، ولكنه قبلَ ذلك بعشراتِ السنين، وقد عبَّرت عن ذلك صحيفةُ "هيرالد تريبيون" الأمريكية في عدد 4 يناير 1995م في مقالٍ بعنوان: "إن اعتقاد واشنطن بكسب صداقة الإسلاميين وَهمٌ ساذج"، قالت فيه: "إن الإسلام مِثل جميعِ السلفيات الدينية الأخرى، كلُّها تتسمُ بالدكتاتورية بطبيعتها، وقد يكونُ من السهلِ رَسمُ صورةٍ كاريكاتورية للبحث عن "معتدلين" إسلاميين، وإن تبديدَ المفهوم عن الانتصارِ الإسلاميِّ المحتومِ يجبُ أن يُمثِّلَ الهدفَ الرئيسي لأيةِ استراتيجيةٍ أمريكية". ° وقالت الصحيفة في المقال الذي كتبه "بيترو رودمان": "إن عَداءَ المسلمين للغرب يرجعُ إلى الانحطاطِ الثقافيِّ والفسادٍ، وهما نِتاجُ العقيدةِ الاسلاميةِ ذاتِها، وَيرَون أن أمريكا القوةُ العظمى الوحيدة، فهي تُجسِّدُ كل ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 196 - 197).

ما يكرهونه وَيزْدَرُونه، والصحوةُ الإسلاميةُ هدفُها محاربةُ الحكوماتِ العربيةِ المعتدلةِ المواليةِ للغرب، وسَذاجةُ واشنطن أنها تصوَّرت أن في إمكانها كَسْبَ صداقةِ الإسلاميين لتغييرِ موقفهم من سياساتِ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ومن الممكن أن تكون عمليةُ السلام العربيةِ الإسرائيلية هي الضحيةَ، إذ يَعتبرُها الإسلاميون خيانةً". ° وقال كاتب المقال: "في النهاية لابد من التسليمِ بأن التيارَ الاسلاميَّ في أيِّ مكانٍ يُمثِّلُ ضررًا بالغًا للشعوبِ المتحضِّرةِ وللذين يَقِفون على خطوطِ المواجهةِ لمقاومةِ هذا التيار". ° وقد كتبت "تيريزا واتنابي" تقريرًا لوكالة "لوس أنجلوس تايمز" الأمريكية نشرته صحيفة "الشرق الأوسط" يوم 30 سبتمبر 2002 قالت فيه: "إن تعاملَ بعضِ الأمريكيين مع المسلمين يتَّسمُ بالقسوة". وقد نُشر خلال عام 2002 وحده أكثرُ من عشرين كتابًا عن "الخطر الإسلامي" وأكثرُ الكتب بيعًا في أمريكا كتاب "الإرهابيون بين ظهرانينا" من تأليف "ستيفن أميرسون" وكتاب "الإسلام المقاتل يضل إلى أمريكا" تأليف "دانيال بابيس" وقد أَصدر قادةُ طوائف إنجليكانية بياناتٍ تَزعمُ أن الإسلامَ دينٌ شرير، وتَدُلُّ الاستطلاعاتُ على أن الأمريكيين صاروا أقلَّ قبولاً للإسلام أو رضًا عنه، وفي استطلاعٍ أَجْرَتْه صحيفةُ "لوس أنجلوس تايمز" قال 37% من الأمريكيين: "إن انطباعهم عن الإسلام سلبي" (¬1). ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 210 - 211).

القس سام دوجلاس

* القس سام دوجلاس: قَسُّ المنطقة التي تُسمَّى "حزام الإنجيل" في أمريكا، وتَشملُ أماكنَ مِثلَ "جرينفيل وتكساس"، حيث تتزايدُ كثافةُ المَعْمَدانيين، وَيظهرُ التأثيرُ القويُّ للكنيسة المعمدانية. ° يقول القسُّ "سام دوجلاس" عن الإسلام: "إنه دَرَس الإسلامَ عندما كان قسِّيسَا في الجامعة، والدينُ الإسلامي لا يَحترمُ قيمةَ الحياة الإنسانية، ويُمثِّلُ تهديدًا لكلِّ مَن يُمكنُ أن يُوصفَ بأنه "كافر" أي أنَّ كلَّ مَن ليس مسلمًا معرَّض للخطر على أيدي المسلمين". ° وقال في ختام كلمته: "إنه يُحبُّ المسلمين، ولكنه لا يُحبُّ ديانتَهم" (¬1). * المسلمون يَعبُدون اللهَ وفينوس إِلاهةَ الحبِّ!!!: يضربُ المستشرق الألماني "جيرنوت روتر" في كتابه "الإسلام العدوُّ الوهمي الجديد للغرب" مثالَين على جَهل الغربيِّين في القرون الوسطى بحقيقة الإسلام، فقال: المثالُ الأول: إنَّ مؤلف "ملحمة رولاند" (¬2) Rolandslied " يجعلُ ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 211 - 212). (¬2) ملحمة رولاند Chanson de Roland يعود تاريخُ كتابتها إلى فترة ما بين سنة 1100م وسنة 1125م. وتتكونُ من أكثرَ من أربعةِ آلاف بيتٍ من الشعر البطولي باللغة الفرنسية القديمة، تُصوِّر هذه الملحمةُ فَناءَ مؤخرةِ الجيشِ الجرماني الغربي على يد المسلمين في ممر رونسفال، ثم انتقام شارلمان من المسلمين، وتدور أحداثُ هذه الملحمة حول المعركة البطولية التي سَقط فيها الشريف الألماني "رولاند"، أحد فرسان شارلمان، وفي سنة 1135 قام القسيس "كونراد" بنقل هذه الملحمةِ إلى اللغة الألمانية الوسيطة، حيث أصبحت تعرف بـ Rolandslied.

دجال القرون الوسطى الألماني "ايمبريخو"

العربَ يَعبدون محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأبوللو، وتيرفاجانت". فالثالثوث المسيحي كان حقيقةً بديهيةً في عقولِ الغربيِّين إلى الحدِّ الذي جعلهم يتَّهمون المسلمين به أيضًا، كذلك فإن عبادةَ محمدِ - صلى الله عليه وسلم -، كمؤسِّسِ دين، على التوازي مع عبادة المسيح، هي نقلٌ خاطئٌ تمامًا للتصورات الذاتية. المثال الثاني: يتمثَّلُ في تُهمةٍ أخرى محبَّبة، كانت تقول: إن المسلمين يعبدون -بجانب الله- "فينوس Venus" - إلاهة الحب عند الرومان-، ومما استند إليه أصحابُ هذا الزعم قولُهم بأن المسلمين قد رفعوا من شأنِ يوم الجمعة، وجَعلوه أفضلَ أيامِ الأسبوع، وأن يوم الجمعة - ( Dies veneis - vendredi, venerdi)) (¬1) قد كان في القرون الوسطى اللاتينية هو يومُ فينوس Venus - إلاهة الحب عند الرومان-، بينما كان يومُ الأحد ( domenica dies, dimanche) (¬2) هو يومُ الإله" (¬3). * دجَّالُ القرون الوسطى الألماني "ايمبريخو": ° يقول المستشرق الألماني "جيرنوت روتر": "بجانب عدوانيةِ الإسلام، تحتلُّ مكانةُ المرأة في المجتمعات الإسلامية مقامًا متميزًا في برنامج ¬

_ (¬1) يوم الجمعة باللغة اللاتينية veneris dies - وبالفرنسية vendredi وبالإيطالية venerdi - يعني يوم إلاهة الحب فينوس. (¬2) يوم الأحد باللغة اللاتينية domenica dies- وبالفرنسية dimanche - وبالإيطالية- domen ice - يعني يوم الإله. (¬3) "صورة الإسلام في التراث الغربي" (ص 42 - 43).

الغرب الخاص بصورةِ العدوِّ الوهمي، وهذه أيضًا فكرةٌ نمطيةٌ ثابتة " Topos" تعودُ جذورُها إلى القرون الوسطى، بَيْدَ أن بعضَ مظاهرِها قد تغيَّر كليةً في تلك الأثناء، فقد نَتَج عن التصوراتِ الإسلاميةِ الخاصةِ بالجنة -وما فيها من حُورٍ عين ذواتِ البكارة الأبدية، وكثرة زوجاتِ النبي، والحق الشرعي لكل مسلم في الزواج من أربع نساء-، إن القرون الوسطى المسيحية صوَّرت الإسلامَ على أنه الوليدُ الشهواني للشيطان، ومحمد على أنه وحشٌ جنسيٌّ آثم. وهكذا كَتب في نهاية القرن الحادي عشر رئيسُ كاتدرائية مدينة "ماينتس Maiz" في ألمانيا "ايمبريخو Embricho" يقول: "إن المسلمين يحتفلون بجميع أشكالِ الزواج التي تُحرِّمها الشريعةُ الإلهية، ولأنهم جرَّدوكِ -أيتها الطبيعة- من حقوقِك غصبًا، تسعى المرأةُ إلى ممارسةِ السِّحاق مع نظيرتها، ويمارسُ الرجلُ اللواط مع مثيله، بل -وخلافًا للتقاليد- يُجامعُ الشقيقُ شقيقتَه، ولا تُمانعُ الأختُ المتزوجةُ أن يباضعَها أخوها الشيطان، الأبناء يَهتِكون عِرْضَ أُمِّهم، والبنت تَغتصبُ أباها، وكلُّ ما هو محبَّبٌ على هذا المِنوال، كانت الشريعةُ الجديدة (الإسلام) تُحلِّله". نظرًا لِمثل هذه الكتابات السطحية الوضيعة، لا يستطيعُ المَرءُ أن يتخلَّصَ من الإحساسِ بأن هؤلاء الكُتَّابَ قد أرادوا إشباعَ تخيُّلاتِهم الجنسيةَ الشاذَّةَ من ناحية، وسَعَوا من ناحيةٍ أخرى إلى صَرفِ الأنظار عن أوضاعٍ معينةٍ موجودةٍ بالفعل في الغرب المسيحي، بما في ذلك الأديرة المسيحية، أو أنهم أرادوا توجيهَ الموعظةِ إلى الآثمين في المجتمعاتِ الغربية وبالرغم من أن الإسلام لم يَعُد يَتصدَّرُ تصوُّراتِنا العَدائيةَ كمركزٍ للدعارة الجنسية

ثالوث الفساد وتشويه صورة الإسلام في ألمانيا

والفجور في المقام الأول، إلاَّ أن لَفظَ "حريم Harem" ما زال يلعبُ دورًا محدودًا في هذا السياق، وكونُ نظامِ الزوجةِ الواحدةِ هو القاعدة، وتعدُّد الزوجات هو الاستثناء في العالَم الإسلامي، فهذه حقيقةٌ لم تتمكنْ من التقليل من هذه الأفكارِ الخاطئة، تمامًا مثلما لم تُقلِّلِ الإباحيةُ الجنسيةُ الموجودةُ بالفعل في الغرب من تلك التصوراتِ المشوَّهةِ عن الإسلام، وبالرغم من ذلك فلم يَعُدْ موضوعُ "تعدد الزوجات" هو أهمُّ النقاطِ التي يُهاجمُها الغرب، إذ احتلَّ مكانَه الفكرةُ النمطية الثابتة " Tpos" الخاصةُ باضطهاد المرأةِ في المجتمعات الإسلامية. إن الرواجَ المنقطعَ النظيرَ الذي حقَّقه كتاب "بيتي محمودي " Betty Mahmoody" وفيلمها "ليس بدون ابنتي" (¬1) ( Nich ohne meine Tochter) - يُرينا على أيِّ تربةٍ مُخصِبةٍ بالأوهامِ وقع ذلك العملُ الدنيءُ المشحونُ بالأقوال العنصرية" (¬2). * ثالوث الفساد وتشويه صورة الإِسلام في ألمانيا: (شول لاتور) و (جيرهارد كونسلمان)، و (بسام طيبي): اتفق العلماءُ على أن فِرسانَ تشويهِ صورة العرب وتلطيخِ سُمعةِ ¬

_ (¬1) رواية "ليس بدون ابنتي" كتبتها المسلمة الأمريكية الجنسية "بيتي محمود" التي ارتدَّت عن الإسلام، وهذه الرواية لعبت دورًا كبيرًا في تشويه مكانةِ المرأة في الإسلام، والإساءة إلى الإسلام بشكل عام، وقد بيع من الترجمة الألمانية لهذه الرواية ثلاثةُ ملايين نسخة، والرواية تحكي مأساة زواجٍ فاشلٍ بين مؤلفةِ الرواية ومسلمٍ إيراني، وعامةُ الغربيِّين يعمِّمون أحداثَ هذه الرواية. (¬2) "صورة الإسلام في التراث الغربي" (51 - 52).

جوسلين سيزاري

الإسلام في ألمانيا هم ثالوث الفساد: الصحفي الألماني "بيترشول لاتور"، وزميله "جيرهارد كونسلمان"، وثالثهم هو المهاجر السوري "بسام طيبي" كبير خبراء شتم العرب ولعن الإسلام (¬1). ° وذهب الدجَّال الدكتور "بسَّام طيبي"، أستاذُ العلاقات الدولية بجامعة "جوتنجن" إلى صياغةِ مصطلح "الإسلام الأوربي"، ويعني التزاوجَ بين الإسلام والقيم السياسيةِ الغربية مثل: التعددية والتسامح، وفصل الدين عن الدولة، والمجتمع المدني، والديمقراطية، وحقوق وحرية الفرد، ويردد "طيبي" أن أمام المسلمين خيارَينِ لا ثالثَ لهما، إما الإسلامُ الأوربي، وإما الانغلاقُ والانعزالُ عن المجتمع (¬2). * جُوسلين سيزاري: ° قالت في مقالٍ لها: "إن الإسلام هو دين الشيطان". * القائد الأعلى السابق لقوات حِلف الأطلنطي جون كلفان: ° قال القائدُ الأعلى السابق لقوات حِلف الأطلنطي "جون كلفان" بصراحةٍ ووضوح، ودون التفاف وراءَ عباراتٍ وكلماتٍ مراوغة، وأعلن في محاضرةٍ ألقاها في عام "1991": "لقد عَرف هذا القرنُ أطولَ مجابهةٍ بين الغرب والإسلام منذ أكثر من ألفِ سنة، امتَدَّت من الحروب الصليبية ¬

_ (¬1) راجع الدراسة الممتازة التي قامت بها الباحثة دورتيه يولكه تحت عنوان "ثلاثة في قارب واحد": التطرف الإسلامي عند جيتر جول لاتور وجيرهارد كونسلمان وبسام طيبي. (¬2) "صناعة العداء" (ص 212)، وهامش (ص 47) من "صورة الإسلام في التراث الغربي".

حتى العصر الحديث .. وبعدَ أن انتَصر الغربُ في الحربِ الباردة، ها هو ذا الصراعُ يعودُ إلى المحورِ الرئيسي، وهو المواجهةُ بين الغربِ والإسلام، والسؤالُ هو: هل سيستعيدُ التاريخُ العسكريُّ الغربيُّ مِحورَه الرئيسيَّ الصحيح، أي المجابهةَ مع الإسلام، بعدَ أن انشَغل عنه منذ هزيمةِ الجيشِ التركيِّ على أبوابِ "فيينا" عام 1683؟ هل سيُسلِّطُ "سيفُ الإسلام" الحربَ ضد أوروبا مدجَّجًا هذه المرةَ بأسلحةٍ حديثة، قد تكونُ منها القنبلة النووية الإسلامية؟! " (¬1). ° وُيضيفُ الباحث الألماني "هاينس ديترفنتر"، إلى أقوالِ قائدِ قواتِ حِلفِ الأطلنطي السابق أنه من الصعبِ التغاضي عن أقوالِ "كلفان" الذي يتهمُ اكثرَ مِن مليارِ مسلم في العالم بأنهم أعداءُ محتَمَلين للغرب، وهذا الرأيُ يَلقى انتشارًا في التفكير السياسي الغربي، فبعدَ عامين من إعلانِ قادةِ حِلفِ "الناتو" عن أن "العدو هو الإسلام" ظهرت نظريةُ "صموئيل هنتنجتون" عن صراعِ الحضارات، وقال فيها: "إن الصراعَ القائمَ في السياسةِ الدولية -بعدَ انتهاء الحربِ الباردة- هو صراعٌ بين الحضارة الغربية والحضارات الأخرى وأولها الإسلام". ولا شك أن مواقفَ "هنتنجتون وكلفان" وغيرِهما لها انعكاساتٌ سلبيةٌ على علاقةِ الغربِ بالعالَم العربي والإسلامي، وتشجِّعُ التفكيرَ العدائيَّ ضدَّ الإسلام في الغرب، وتجعلُ العقلَ الغربيَّ يَرى أن الإسلامَ هو الإرهابُ والأعمالُ المتطرفةُ للمجموعات الإسلامية (¬2). ¬

_ (¬1) "صناعة العداء" (ص 216). (¬2) المصدر السابق (ص 218 - 219).

الكاتب الألماني كارل ماي

لقد كان الاستقبالُ الإيجابيُّ لنظرية "هنتنجتون" مدير المعهد الشهير للدراسات الاستراتيجية بجامِعة "هارفاد" .. لقد كان هذا الاستقبالُ الإعلاميُّ مخيفًا حقًّا، مما يُثبتُ أن حرب الحضاراتِ التي تنبَّأ بها كانت قد بدأت بالفعل في عقول الغربيين من قبلِ أن يُعلِنَ "هنتنجتون" نظريتَه، كما يقول المستشرق الألماني "جيرنوت روتر" في دراسةِ له عن "الإسلام والغرب الجاران المتخاصمان" (¬1). ° ويقول المستشرق الألماني "جيرنوت روتر": "إنه إذا كان الغربيون قد استَمتعوا في ذلك الوقت -أي في القرون الوُسطى- بتصويرِ محمدٍ كوحشٍ شيطانيٍّ مخيف، وبالروايات التي تَصِفُ المسلمين وهو يُقطِّعون أطرافَ الصليبيين وهم أحياء، ويَنزِعون أحشاءَهم من أجسامهم، فقد احتلَّ مكانَها اليومَ كُتُبٌ مثل "سيف الله" و"سيف الإسلام" و"السيف الأخضر" .. إلخ .. ويأتي دائمًا الحديثُ عن "مشاعر الجماهير الإسلامية التي لا يمكنُ التنبؤُ بها" .. على حدِّ تعبير الصحفي الألماني "شول لاتور .. ". * الكاتب الألماني كارل ماي: كلَّما كثر الدجَّلُ والكَذِبُ على الإسلام والمسلمين، كلما ازداد إقبالُ الغربيين على المؤلَّف. ° قال المستشرق الألماني: "وأحسَنُ دليلٍ على ذلك هو نجاحُ أعمالِ الكاتب الشعبي "كارل ماي" Kari May (1842-1912 م) (¬2) الذي طَبع ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 229). (¬2) "صورة الإسلام في التراث الغربي" (ص 47).

النفي للإسلام على يد الدجالين: خالد أكشة وطارق متري

صورةَ الشرقِ لدى أجيالٍ بُرمَّتها من الناطقين بالألمانية، وفي صورةِ الشرق هذه إذا غَضَضْنا النظرَ عن بعضِ الشخصياتِ الغريبة والساذجة -يَظهرُ المسلمون بالذات كأشخاصٍ محتالين، وحشيِّين، متجهمين، ينتصرُ عليهم "كارا بن نيمسي " Kara Ben Nemsi" المجاهدُ في سبيل المسيح، ويَظهرُ عند "كارل ماي" إحساسُ الأوروبيين بالتفوق الذي كان في تزايدٍ مستمرٍّ منذ دخول نابليون مصر على أبعدِ تقدير .. وفضلاً عن ذلك يعتقدُ الأوروبيون في هذا السياق أنهم مُلزَمون بالقيام بمهمةٍ حضاريةٍ تُجاهَ الشرق" (¬1). * النفي للإِسلام على يد الدَّجالَيْنِ: خالد أكشة وطارق متري: كنائسُ الغرب التي خانت نصرانيَّتها مارست النفيَ للإسلام بالمجازرِ والمقابر الجماعية على أرضِ البلقان والشيشان، كما تمارسُه اليهوديةُ متحالفةً مع الصليبية الغربية على أرض فلسطين. هذه الكنائسُ لا تستحي عندما تُعلِنُ هذا النفيَ للإسلام، حتى في المؤتمرات التي "تحاور" فيها رموزَ الإسلام، في عُقرِ دار الإسلام!! .. ففي مؤتمر "الحوار الإسلامي - المسيحي"، والذي عُقِد بالقاهرة بدعوةٍ من "المنتدى العالمي للحوار" بجُدَّة، ومؤتمر "العالم الإسلامي" .. والذي انعقدت جلساتُه في فندق "شيراتون هليوبوليس" في 28 - 29 أكتوبر سنة 2001م، رفض ممثِّل الفاتيكان، نائبُ الأمين العام للمجلس البابوي للحوار بين الأديان، القَسُّ "خالد أكشة"، وممثِّلُ "مجلس الكنائس العالمي" الدكتور "طارق متري" .. رفضًا التوقيعَ على البيانِ الختاميِّ للمؤتمر؛ لأنه ¬

_ (¬1) "صورة الإسلام في التراث الغربي" (ص 58).

وَضَعَ الإسلامَ -مع اليهودية والنصرانية- تحت وصفِ "الأديان السماوية الربانيَّة"، وقالا: "إن وَصْفَ الإسلام كدينٍ سماوِيٍّ وربانيٍّ، لا يزالُ محلَّ خِلافٍ لم يُحْسَم بَعْدُ!!!. ° ولقد عَلَّق الدكتور "يوسف القرضاوي" -وكان مشاركًا مع شيخ الأزهر في هذا المؤتمر- على هذا الموقفِ، فقال: "إنني أستغربُ من توجُّسِ بعضِ رجالِ الدين المسيحيِّ من وصفِ الإسلام بالربَّانية والسماوية .. وإذا كان الفاتيكانُ والكنائسُ العالمية لا تعترفُ بالإسلام كدين سماويٍّ، فلماذا نجتمعُ إذن؟! وإذا لم يُقِرَّ رجالُ الدينِ المسيحي والفاتيكان بأن الإسلامَ دينٌ ربَّاني، فلا داعيَ من اللقاء والحوار" (¬1). ° هكذا "رمتني بدائها وانسلَّت" .. أفبَعْدَ تحريفِهم لدينِهم لا يعترفون بالدينِ الذي ارتضاه للبشرية .. وأين .. على أرض الإسلام؟!!! .. مَن يَهن يَسْهُلِ الهوانُ عليه ... ما لجُرْحٍ بميِّتٍ إيلامُ ° يقول المستشرق الفرنسي "جان بيرك" [1910 - 1995م]: "إن الإسلامَ الذي هو آخِرُ الدياناتِ السماويةِ الثلاث، والذي يَدينُ به أكثرُ من مليارِ نَسَمةٍ في العالم، والذي هو قريبٌ من الغرب جغرافيًّا، وتاريخيًّا، وحتى من ناحيةِ القِيم والمفاهيم .. قد ظلَّ ويَظَلُّ حتى هذه الساعةِ، بالنسبة للغرب: ابنَ العمِّ المجهول، والأخَ المرفوض .. والمنكورَ الأبديَّ .. والمُبعَدَ الأبدي .. والمُتَّهَمَ الأبدي .. والمشتبَهَ فيه الأبدي" (¬2). ¬

_ (¬1) صحيفة "الأسبوع" - القاهرة في 5/ 11/ 2001م، وصحيفة "العالم الإسلامي"- مكة في 16/ 11/ 2001م، وصحيفة "عقيدتي" - القاهرة في 6/ 11/ 2001م. (¬2) من حديث جان بيرك في 27/ 6/ 1995. "انظر "العرب والإسلام في نظر المستشرق=

هم يريدون إطفاءَ النورِ الذي أتى به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - إلى الناسِ كافةً .. يُريدون طيَّ صفحتِه من الوجود .. واللهُ متمُّ نورِه ولو كَرِه الكافرون. لقد سَعى هذا الغربُ النصرانيُّ برعايةِ ودعم العلمانيةِ الغربيةِ للكنائسِ الغربية! سَعِيَ إلى تنصيرِ المسلمين في ديارهم. ° فجاء في "بروتوكولات قساوسة التنصير"، الذين اجتمعوا في مؤتمر "كولورادو" بأمريكا مايو سنة 1978: "إن الإسلامَ هو الدينُ الوحيدُ الذي تُناقضُ مصادرُه الأصليةُ أُسسَ النصرانيَّة .. والنظامُ الإسلاميُّ هو أكثرُ النظُم الدينيةِ المتناسِقة اجتماعيًّا وسياسيًّا .. ونحن بحاجةٍ إلى مئاتِ المراكز لفَهم الإسلام، ولاختراقِه في صدقٍ ودهاء .. ولذلك لا يوجدُ لدينا أمرٌ أكثرُ أهميةً وأَوْلَويَّةً من موضوع تنصير المسلمين" (¬1). ° بل ويُسفِرون في هذا المؤتمر عن وَجهِهم القبيح، فيقولون: "إنَّ بياناتِ مجلسِ الكنائس العالمي ليس بديلاً عن تحويل غير النصارى إلى النصرانية، وهذه البياناتُ -"عن حرية الإقناع والاقتناع"- لا تَلزَمُ المجلس!!! .. فالحوارُ -عند مجلسِ الكنائس العالمي- ليس بديلاً عن تحويلِ غيرِ النصارى إلى النصرانية .. وهذه البياناتُ -عن حرية الاقناعِ والاقتناع- لا تعني تخلِّي المجلسِ عن مواقِفِه المناصِرة "للجهود القسرية والواعيةِ والمتعمِّدة والتكتيكية لجذب الناسِ من مجتمع دينيٍّ ما إلى آخر"!!! (¬2). ¬

_ = الفرنسي جان بيرك"، صحيفة "الشرق الأوسط" - لندن في 1/ 11/ 2000م. (¬1) "التنصير: خطة لغزو العالم الإسلامي" (ص 452، 22، 23) - وهو وثائق مؤتمر "كلو رادو" الطبعة العربية - مركز دراسات العالم الإسلامي - مالطة سنة 1991م. (¬2) المصدر السابق (ص 770).

الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون

° ويقولون: "إنه بينما يُوافقُ المُنَصِّرون على أن التحوُّلَ لدينٍ آخَرَ لا يجبُ ولا يُمكنُ أن يتمَّ بالقوَّة، فإنهم مازالوا يَشعرون أيضًا بأننا ينبغي "أن نجبرَهم على الدخولِ في النصرانية" (¬1). * الرئيسُ الأمريكيُّ السابق ريتشارد نيكسون: الرئيسُ السابق لأمريكا "ريتشارد نيكسون" مفكرٌ استراتيجيٌّ من غُلاة النصارى المتهوِّدين، دعا اتحاد الغرب "الأمريكي .. والأوروبي .. والروسي" لمواجهةِ البَعثِ الإسلاميِّ الذي يقودُه "الأصوليون الإسلاميون" الذين هم -كما يقول-: "مصمِّمون على استرجاعِ الحضارةِ الإسلاميةِ السابقة، عن طريقِ بَعثِ الماضي، ويَهدفون إلى تطبيقِ الشريعةِ الإسلامية، وينادُون بأن الإسلامَ دينٌ ودولة، وعلى الرَّغْم من أنهم ينظُرون إلى الماضي فإنهم يتَّخذون منه هدايةً للمستقبل، فهم ليسوا محافِظين، ولكنهم ثُوَّار"! (¬2). يدعو "نيكسون" الغربَ إلى "تحديد الخيار الذي تختارُه الشعوب المسلمة"!!! ليكونَ نموذجَ "تركيا العلمانية المنحازة نحو الغرب، والساعيةِ إلى ربط المسلمين بالغرب سياسيًّا واقتصاديًّا .. وذلك حفاظًا على مصالحِ الغربِ في الشرق .. لأن أكثَر ما يُهمُّنا في الشرق الأوسطِ هو "النِّفْط وإسرائيل" .. وإنَّ التزامَنا نحوَ إسرائيل عميق جدًّا، فنحن لسنا مجرَّد ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 770). (¬2) "الفرصة السانحة" لنيكسون (ص 140).

حلفاء، ولكننا مرتبطون ببعضِنا بأكثرَ مما يعنيه الوَرَق! نحن مرتبطون معهم ارتباطًا أخلاقيًّا .. ولن يستطيعَ أيُّ رئيسٍ أمريكيٍّ أو كونجرس أن يسمحَ بتدميرِ إسرائيل"!. ° فما يريدة "نيكسون" هو "الإسلام الأمريكي أو الأورُبي"، لا الإسلام الذي أنزله اللهُ على قلبِ سيِّد البشر - صلى الله عليه وسلم -: "إن الإسلامَ الذي يريدُه الأمريكان حلفاؤهم في الشرق ليس هو الإسلامَ الذي يُقاومُ الاستعمار، وليس هو الإسلامَ الذي يُقاومُ الطغيان، ولكنه فقط الإسلامُ الذي يُقاومُ الشيوعية، إنهم لا يريدون للإسلام أن يَحكم، ولا يُطيقون من الإسلام أن يَحكم؛ لأن الإسلامَ حين يَحكم سيُنشِّئ الشعوبَ نشأةً أخرى، وسيُعلِّم الشعوبَ أن إعدادَ القوةِ فريضة، وأن طَرْدَ المستعمِرِ فريضة، وأن الشيوعية -كالاستعمار- وباءٌ، فكلاهما عدوٌّ، وكلاهما اعتداء .. الأمريكان وحلفاؤهم إذن يُريدون للشرق "إسلامًا أمريكانيًّا"، يجوزُ أن يُسْتَفتَى في مَنع الحمل، ويجوز أن يُستفتى في دخول المرأة البرلمان، ويجوزُ أن يُستفتى في نواقضِ الوضوءٍ، ولكنَّه لا يُستفتَى أبدًا في أوضاعنا السياسيةِ والقومية وفيما يربطُنا بالاستعمارِ مِن صِلات، فالحُكم بالإسلام، والتشريعُ بالإسلام، والانتصارُ للإسلامَ لا يجوزُ أن يَمَسَّها قلم، ولا حديث، ولا استفتاء" (¬1) في الإسلام الأمريكاني!!! ¬

_ (¬1) من كتاب "أمريكا من الداخل" لسيد قطب نقلاً عن مقال "سيد قطب والسلام الأمريكاني" للدكتور جابر قميحة - صحيفة "آفاق عربية" - القاهرة في 27/ 12/ 2001م - انظر "مجلة الرسالة" سنة 1951.

جون كالفن السكرتير العام السابق لحلف شمالي الأطلسي

° ولقد أفصح "نيكسون" عن الموقف الأمريكي والغربيِّ الذي اتَّخذ الإسلامَ والمسلمينَ عدُوًّا، عندما قال: "إن الكثيرين من الأمريكيين قد أصبحوا ينظُرون إلى كلِّ المسلمين كأعداء .. ويتصوَّرُ كثيرٌ من الأمريكيين أن المسلمين هم شعوبٌ غيرُ متحضِّرة، ودَمَويُّون، وغيرُ منطقيِّين .. وليس هناك صورةٌ أسوأ من هذه الصورة -حتى بالنسبة للصين الشيوعية- في ذهن وضمير المواطنِ الأمريكي عن العالم الإسلامي .. ويُحذِّرُ بعضُ المُراقبين من أن الإسلامَ والغربَ متضادَّان .. وأن الإسلام سوف يُصبحُ قوةً جيبوليتيكية متطرِّفةً .. وأنه مع التزايُدِ السُّكاني والإمكانيَّاتِ الماديَّةِ المُتاحة، سوف يؤلِّفُ المسلمون مخاطرَ كبيرةً .. وأنهم يُوحِّدون صفوفَهم للقيام بثورةِ ضدَّ الغرب .. وسوف يَضطرُّ الغربُ إلى أن يتَّحدَ مع موسكو ليواجهَ الخَطَرَ العُدوانيَّ للعالَم الإسلامي" (¬1). هذا قاله "نيكسون" إبَّان "شهر العسل" بين أمريكا والغرب وبين كلِّ الحركات والدول الإسلامية إبَّانَ الجهادِ ضدَّ الشيوعية في أفغانستان .. فكيف يكون القولُ بعد "قارعة سبتمبر 2001م"؟!. * جون كالفن السكرتير العام السابق لحلف شمالي الأطلسي: ° قال "جون كالفن" السكرتير العام السابق لحِلفِ شمال الأطلسي -بعد هدم جدار برلين- ما ترجمته: "لقد كَسَبْنا الحربَ الباردة بين الشرق والغرب، ولكن هناك خلافًا قديمًا سوف يتجدَّدُ (إنْ عاجلاً وإن عاجلاً) بيننا ¬

_ (¬1) "الفرصة السانحة" لريتشارد نيكسون ترجمة أحمد صدقي مراد (ص 28، 140، 141، 152، 153، 135، 138، 139) - طبعة القاهرة سنة 1992م.

مايكل سالا

وبين الإسلام، ولا ندري مَن الذي سيكسبُ المعركة" (¬1). * مايكل سالا: من أساتذةِ الجامعة الأمريكية في واشنطن، ذَكَر أن العلاقاتِ بين السياسةِ الخارجية الغربية والإسلام سوف تكون علاقاتٍ عِدائيَّةً استئصاليَّةً على غِرارِ الاستراتيجيَّةِ التي اتَّبعتها الرأسماليةُ مع الشيوعية حتى أسقطت الاتحادَ السوفيتيَّ السابق حيث إنه لا يَرى أن هناك إسلامًا متطرِّفًا وآخَرَ معتدِلاً، فالفرقُ بينهما عنده في التكتيك -لا أكثر-، ومِن ثَمَّ فإنه يَرى -ومعه مدرسةٌ كبيرةٌ من غلاة الغرب- ضرورةَ دَعمِ الحكومات التي تقومُ على قمعِ الحركات الإسلامية لِمَا لتلك الحركاتِ من خطرٍ على الحضارةِ الغربية -حسْبَ زعمِه المريض- (¬2). * حَمْلاتٌ مسعورةٌ على الإِسلام ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في الغرب: يتزعَّمْ هذه الحملاتِ المسعورةَ نَفَرٌ من غلاةِ الصهاينة من أمثال برنارد لويس، وهنري كيسنجر، وبريجنسكي مستشار الأمن الأمريكي السابق، وجوزيف هوفان، وجوديث ميللر، ودانيال بايبسي وغيرهم. * "الإسلام والغرب بين التعاون والمواجهة" أو "المسلمون خلف الحصار الغربي"، لجراهام فوللر، وإِيان ليسر-: هذا الكتابُ من أخطر الكتب التي صدرت، تحت عنوان "شعور بالحصار .. السياسة بين الإسلام والغرب على أرض الواقع"، والمقصودُ ¬

_ (¬1) "الإسلام والغرب في كتابات الغربيين" (ص 23) للدكتور زغلول النجار - نهضة مصر. (¬2) المصدر السابق (ص 23).

بهذا العنوان: "المسلمون خَلفَ الحِصار الغربي" لمؤلِّفَيْه "جراهام فوللر" -النائب السابق لرئيس مجلس الأمن القومي الأمريكي-، وزميله "إيان لِسر"، وكلاهما يَعملُ في مؤسسةٍ تابعةٍ لمؤسسة "أرويو"، والكتابُ ثمرةُ مشروعٍ استكشافيٍّ أشرفَ عليه المؤلِّفانِ ضمنَ برنامج "الاستراتيجية والعقيدة" الذي أعدَّته مؤسسة "راند"، وقد صدر الكتابُ أيضًا تحت رعاية "المركز الأعلى لدراسات المشرق العربي"، وهو مركزٌ تابعٌ لمؤسسة "راند"، وتم نشرُ الكتاب في كلٍّ من بولدر - كولورادو - وسان فرانسيسكو - وكاليفورنيا - أكسفورد - وإنجلترا في سنة 1995، وقام "مركز الأهرام للترجمة والنشر" بترجمة الكتاب إلى العربية ونَشْرِه في القاهرة في سنة 1997م، وقام بترجمته الأستاذ "شوقي جلال" تحت عنوان "الإسلام والغرب بين التعاون والمواجهة". ° ذكر الكاتبان تحت عنوان "الإسلام كبدعةٍ مسيحية" ما ترجمتُه: "وهكذا فإنَّ نظرةَ الإسلام إلى المسيحية هي أنه -بَعْدَ أن قدَّم يسوعُ المسيحُ إلى العالَم بتعاليمَ جديدةٍ مهمةٍ أوحى بها اللهُ إليه- انحرف المسيحيون عن رسالته، واتخذوا الرسولَ المرسَلَ إليهم إلهًا يعبدونه من دون الله ذاتِه، وواقعُ الحالِ أنه باستثناءِ الزعم أنَّ يسوعَ المسيح ابنُ الله، وباستثناءِ الرواية عن قيامه، نجدُ أجزاءَ كثيرةً من التاريخ المسيحيِّ واليهوديِّ هي في صُلبِ الإسلام تمامًا، ذلك أن المسلمين يَرَوْن كُلاًّ من موسى وعيسى نبيِّين من أنبياءِ الله مِثلَ عددٍ كبير من أنبياءِ العهد القديم؛ ومعنى ذلك أن هناك مساحةً واسعةً من الاتفاقِ مع وجودِ بعضِ الخلاف، وإن كان من الصعب فَهْمُ مُبرِّراتِ أن يؤدِّيَ ذلك الخلافُ إلى صدامٍ حضاريٍّ على أساسٍ من العقيدةِ

الدجال أنيس شورش .. مسيلمة الغرب، وكتابه "الفرقان" أو القرآن الأمريكي" أضحوكة القرن الحادي والعشرين

الدينية وحدَها" (¬1). ° يقول الدكتور "زغلول النجار"، -حفظه الله-: "ونَسِيَ الكاتبانِ أنْ التشابُهَ في القَصَصِ الدينيِّ بين القرانِ والعهْدَيْن القديم والجديد يُرَدُّ إلى أنَّ أصلَ كلِّ الكُتبِ السماويةِ واحد، ومصدرَها واحد وهو اللهُ الواحدُ الأحدُ الفَردُ الصمد، الذي أَرسل الأنبياءَ والمرسلين وأنزل الدينَ على فترةٍ من الرسل .. وبدلاً من الإيمان بهذه الحقيقة المنطقيَّة المُوَثَّقةِ توثيقًا دقيقًا، لجأ الغربُ إلى إنكارِ بَعثةِ المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وإلى نَشرِ الادعاءِ الباطل بأن هذا النبيَّ والرسولَ الخاتَمَ - صلى الله عليه وسلم - قد نَقل أفكارَه الدينيةَ عن كُلٍّ من التوراة والإنجيل"، (¬2). * الدجَّال أنيس شورش .. مُسيلِمة الغرب، وكتابُه "الفرقان" أو القرآن الأمريكي" أضحوكة القرن الحادي والعشرين: الدجَّالُ "أنيس سورس - أو شورشَ" هو أيرلندي، تخصَّص في الطبِّ النفسي، وحَصَل على الأستاذية من الجامعاتِ الأمريكية، وتخصَّص بعدَها في الدراساتِ الإنجيلية، وأمُّه أردنية، وأبوه فلسطيني، وهو عربيٌّ يهوديٌّ، فكلمة "شورش" هي كلمةٌ عبرية تعني "الجواز"، وقد اعتَنق أجدادُه النصرانيةَ منذ خمسةِ قرونِ ماضية. هاجر "أنيس شورش" إلى الأردن، وواصل دراستَه بجامعةِ "مسيسبي Mississippi colleg"، وقبل حصولهِ على الدكتوراة دَرَس في جامعة Orleans Baptist new theological seminary، حَصَل على الدكتوراة ¬

_ (¬1) "الإسلام والغرب في كتابات الغربيين" (ص 54 - 55). (¬2) المصدر السابق (ص 55).

مرَّتين من جامعة Amercia Institute of Seminary ministry Dayton Tennessee، وجامعةِ International Luther Rice، وكان يعملُ في الأرض المحتلَّةِ مع اليهود، ومِن ذلك عَمَلُه في كنيسة "أورشليم بابتس" في القدس المحتلَّة، كما كان يعملُ في Judea وفي Samaria من سنة 1959 إلى 1966م. عَمِل كقسيسٍ لمدة (40) سنةً ما بين إسرائيل وأمريكا، وعَمِل مُنَصِّرًا في بلدان إفريقيا: كينيا، كيبتاون، ودوربان، جوهانسبرغ .. وفي التسعينات وفي سنة 1995م عمل في نيوزيلندا .. ثم انتقل إلى إنجلترا .. ثم إلى البرتغال. ° ناظره الشيخ "أحمد ديدات" -رحمه الله - مرتين: المرة الأولى: سنة (1980) في لندن والموضوع: "هل عيسى إله؟ " .. حضر المناظرة (5000) شخص. المرة الثانية: في برمنجهام، والموضوع: "القرآن والإنجيل: أيهما كلام الله؟ " .. وحضرها (12000) نفر (¬1). ° وفي مناظرته مع "ديدات" وقف "شورش"، وقال لديدات: "أنا أستطيعُ أن آتيَ بمِثل القرآن"، فقال له "ديدات": "لم يَستطعْ أجدادكُ أن يأتوا بسورةٍ مِن مِثله خلالَ أربعةَ عَشَرَ قرنًا، وأنت تستطيع؟! قال: "نعم" قال: "وأنا أتحدَّاك". ° وانتهت الفترةُ المحددةُ لديدات في تمام الخامسة إلاَّ خمسِ دقائق ¬

_ (¬1) "القرآن الأمريكي أضحوكة القرن الحادي والعشرون" (ص 55 - 56) لمحمد السيد عبده - دار الرضوان و"أحمد ديدات بين الإنجيل والقرآن" (ص 35) - كتاب المختار.

مساءً ليقفَ "شورش" بملابسه العربية ليُحيِّيَ الحاضرينَ باللغةِ العربية قائلاً: "أُحيِّيكم باسم يسوع المسيح، ابنِ بلدي الناصرة، مُخلِّصي .. ". ويبدأ "شورش" هجومَه على القرآن خلالَ تِسعينَ دقيقةً كاملة، يقرأُ من أوراقٍ مُعدَّةٍ سابقًا، وخالطًا بين ما يَنتهجُه المسلمون في بعضِ بلدان المسلمين وبين ما يُقرُّه الإسلام، منتقدًا لتعدُّدِ الزوجات، ومبالغةِ القرآن في بعض القصص، وزاعمًا بأن القرآنَ يَشملُ آياتٍ عديدةً مأخوذةً من مُعلَّقات "امرؤ القيس"! بالاضافة إلى وجودِ كلماتٍ مع سَبعِ لغاتٍ أجنبيةٍ في القرآن، وكذلك بعضُ الأخطاء النحوية!!. والحقيقةُ أن "شورش" لم يأتِ بجديد، فكلُّ مزاعِمِه قد ردَّدها إخوانُه من عشرات -بل ومئات- السنين، ووَجدت من المسلمين الردَّ الكافي والشافي عليها، وهو -كما يزعُم- قد عَكَف على دراسةِ القرآن سنين، وخرج بهذه الاستنتاجات، وقد أثار "شورش" جمهورَ الحاضرين بقراءاتِه الخاطئةِ لآياتِ القرآنِ على نحو يُساعدُ اتجاهاتِه الضالَّةَ في تفسيرها. وأنهى "شورش" حديثه في السادسة وخمسٍ وعشرين دقيقة، ووقف "ديدات" -الرجل المُسِنُّ- كالطَّودِ الشامخ، بِعزَّة من الله العظيم -ثم بتأييدٍ من المسلمين الحاضرين-، وقف دون أن يَبُلَّ ريقَه برشفةِ ماء، في الوقت الذي كان فيه الدكتور الشاب "أنيس شورش" يشربُ كأسًا من الماء، يَبُلُّ به "ريقه الناشف" كل بِضع دقائق .. وقف "ديدات" لِيدحضَ ضلالاتِ "شورس" ويفضحَ أخطاءَه في تفسير الآيات حَسْبَ مِزاجِه، وبما لا يتمشَّى مع قواعدِ اللغة العربية التي يدَّعي معرفتها، وأكَّد "ديدات" على تحدِّيه

لشورش على أن يأتيَ بمثالٍ واحدٍ مما زَعَم أنه مأخوذٌ في القرآن من الأناجيل، فلم يردَّ. وانتهت خمسَ عَشْرةَ دقيقةً ممتعةً أخرى، ضَجَّت فيها القاعةُ الكبرى بالتكبير والتهليل، وليبدأَ دَورُ الأسئلة، ولكن شورش -بعد حديثٍ هامسٍ مع مديرِ اللقاء -طَلَب خَمْسَ عشرةَ دقيقةً أخرى للردِّ على ديدات، فسَمَح له -على أن يَمنح ديدات نفس الفرصة-. وبدأت جولةٌ أخرى، لم يأتِ فيها شورش بجديد سوى أنه دعا المسلمينَ إلى قراءةِ الإنجيل بتمعُّنٍ، دون تحكيمِ العواطف. أما "ديدات"، فقد سَخِر من شورش الذي أضاع الوقتَ في مهاجماتٍ متواليةٍ وسريعةٍ تحتاجُ إلى مناقشةِ لكلِّ نقطةٍ فيها، بينما لم يردَّ شورش على قضيةٍ واحدةٍ من قضايا التناقضات التي أشار إليها "ديدات" في الأناجيل، وخلالَ هذه الجولة القصيرة ردَّ "ديدات" على بعضِ مزاعم شورش، فقال له: "لقد هاجمتَ تعدُّدَ الزوجات في الوقت الذي جاء فيه ذلك في القرآنِ مشروطًا بالعدل، وأنت أشرتَ إلى صَدرِ الآيةِ فقط، ولم تُشِرْ إلى باقيها .. كما أن تعدُّدَ الزوجاتِ جاء ليَحُلَّ مشاكلكم أنتم في أمريكا وأوروبا؛ وإلاَّ .. كيف تَجِدُ حلاًّ لِمَا يَقرب من سبعةِ ملايينَ امرأةً زيادةً على عددِ الرجال في أمريكا؟ وكيف تَجِدُ حلاًّ لآلافِ "المومسات" في إنجلترا؟ أتحدَّاك أن تَجِدَ حلاًّ لهذه القضايا في بلادكم .. الإسلام جاء لكم بالحل، وهو أن يتزوَّج الرجلُ أكثَرَ من امرأةٍ، بشرطِ أن يُحقِّق العدلَ بين زوجاتِه". أما عن زَعم "شورش" بأن الإسلام قد انتَشر بحدِّ السيف -في الوقت

أنيس شورش مؤلف "الفرقان" أو "القرآن الأمريكي"

الذي تقول فيه الآية: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]- وهذه فِريةٌ قديمةٌ وَجَدَتْ لها الردَّ الكافي على يَدَيْ كثير من المسلمين-، فقال له "ديدات": "هناك ما يَقرُبُ من 15 مليون مسيحي يَعيشون في وَسَطِ المسلمين بالعالَم العربي، لماذا لم يتمَّ إكراهُ هؤلاءِ بالسيف لاعتناقِ الإسلام؟! ولماذا لم يتمَّ إجبارُ أجدادِك في فلسطينَ على اعتناقِ الإسلام بالسيف؟ وعلى مدى 1400 عام مَنْ مِنَ المسلمين أجبَرَ مسيحيًّا على اعتناقِ الإسلام؟ إنَّ سيفَ الإسلام هو الحِكمةُ والموعظةُ الحسنة التي أَمَرنا اللهُ بها" (¬1). * أنيس شورش مؤلِف "الفرقان" أو "القرآن الأمريكي": ° رَمَز "أنيس شورش" لنفسه باسم "الصَّفِيِّ والمَهْدِيِّ" وهو يَدَّعي أنَّ وحيًا نزل عليه لأجلِ إصدارِ الكتاب. وقد صَرَّح باسمِه الحقيقيِّ لأوَّلِ مرةٍ في موقعِ "أمازون" على "الإنترنت" للترويج للكتاب، بعدَ أن كان يتخفَّى ويَرمِزُ لنفسِه باسم "الصَّفِيِّ والمهدي المنتظر". وقد ألَّف كتابًا بعد المناظَرَتين مع "ديدات" بعنوان: A Christian Islam reveald Arabic's View Of Islam، وذَكَر أن هذا الكتابَ يُوضِّحُ للناس أن الإسلامَ يَقتُلُ شخصًا من كلِّ خمسةِ أشخاصٍ في العالَم، وذَكَر فيه مناظرتَه مع الشيخ "ديدات". ° اتَّهم الإسلامَ بأنه يتضمَّنُ عقائدَ خاطئةً، وفيه الكثيرُ من الأخطاء، وأنه دينُ الإرهاب، ويدعُو إلى القتالِ وسَفْكِ الدماء، وأن المصدَرَ الأولَ ¬

_ (¬1) "أحمد ديدات بين الإنجيل والقرآن" (ص 37 - 38).

لهذا هو القرآن؛ ولذا لا بدَّ للمسلمين أن يستبدِلوا بالقرآن قرآنَه الذي سمَّاه "الفرقان الحق"، وقال عن قرآنه هذا: "قرآني أَجْود، كتبتُه باللغةِ العربيةِ الجيِّدةٍ، وتُرجم إلى اللغة الإنجليزية الجيِّدة" (¬1). ° وشورش -أو سوروس- هذا له باعٌ طويل في مهاجمةِ الإسلام والمسلمين، فعلى سبيل المثال: بعد يومين من أحداث (11 سبتمبر 2001م) قام بإلقاءِ محاضرةٍ حاقدةٍ في جامعة "هيوستن" في الولايات المتحدة الأمريكية، دعا فيها إلى إبادةِ المسلمين؛ لأن الإسلام -دينُ إرهابٍ وسَفكِ دماء -على حدِّ زعمه-، وأن القرآن هو المصدرُ الاولُ للإرهاب، وأنه يجبُ القضاءُ على هذا القرآنِ للقضاء على الإرهاب! واقترح على الحكومة الأمريكية طَرْدَ أيِّ مسلمٍ من أمريكا، وتجميعَ كل المسلمين في منطقةِ "الشرق الأوسط"، ثم إبادتَهم بالقنابل النووية، وطَلَب الدعاءَ إلى اللهِ كلَّ ليلةِ سبت لإزالةِ الإسلام والقرآن!!. ° وكانت محاضرتُه في الجامعة في غايةِ العنصرية والحقد، واحتوت على العديدِ من البذاءات والشتائم ضدَّ الإسلام مما اضطَّر رئيسُ الجامعة إلى الاعتذارِ عنها في اليوم التالي!!. ° قام "شورش" بشراءِ أشهَرِ قناةِ تلفزيونية في إندونيسيا، وسَلَّم إدارتَها للنصارى الإندونيسيين. ° حاوَلَ أن يَكسِبَ الكاتبُ القزمُ تعاطُفَ القُرَّاء حينما يقولُ في مقدِّمة كتابه: "إنَّ والدهَ وابنَ عمِّه قد قُتلا جَرَّاءَ عمليةِ اجتياح شنَّتها القواتُ ¬

_ (¬1) انظر: مجلة Garta رقم 1125 مايو 2002م.

الإسرائيليةُ على بلدته لأُسَرِ المقاوِمِين، مما جَعَله يهربُ هو وأسرتُه إلى الأردن، وكان ذلك في (يناير عام 1976م) "!!. ° ويُعرِّفُ "شورش" نفسَه من خلال كلمةٍ خاطَب بها المسلمين باللغة الإنجليزية مفسِّرًا ذلك في عُرفه أن كلمة " I Sincerely Love All Muslims"، أي إنني أحِبُّ بكلِّ الصدقِ والإخلاصِ كلَّ المسلمين، وأن هذا هو السببُ الحقيقيُّ وراءَ إصدارِ هذا الكتاب الذي يَصِفُه بأنه التتمةُ الهامةُ لكتابه السابق: "كشف حقيقة الإسلام". ° كما نَشَر له موقع " Israel - think" الصُّهيونيُّ مقالاً تحتَ عنوان: "الإسلام يستهدفُ أمريكا في مخطَّطٍ يمتدُّ عشرين عامًا"، ويتحدَّثُ فيه عن حقيقةِ تأليفهِ لكتاب "الفرقان الحق"، وكيف أنه جاء ليتحدَّى قرآنَ المسلمين في كل شيء "جوهره، أسلوبه، لغته، ومحتوياته"، كما أنه يَرى أن المسلمين أعدُّوا خُطَّةً بعيدةَ المدى لغزوِ أمريكا مع حُلول عام (2020 م)! في الوقت الذي يستغرقُ فيه الأمريكيون في النومِ مثلما فَعلوا عندما هاجمونا مع أحداثِ الحادث عشر من سبتمبر!. ويواصِلُ "شورش" التعريفَ بنفسه في هذا المقالِ على أنه عضوُ هيئةِ التدريس في جامعة "أوكسفورد"، وقام بزيارةِ أكثرَ من (76) دولة على مستوى العالَم، وهو كاتبٌ متخصِّصٌ في كشفِ حقيقة الإسلام، وتعريتهِ أمامَ المجتمع العالمي، ومتحدِّث لَبقٌ في العديدِ من المحَطَّات والقنواتِ التليفزيونية العالمية. ويَصِفُ "شورش" كتابَه بأنه الكتابُ الذي يتحدَّى القرآنَ في مَقتل، ويفنِّدُ مزاعمَ المسلمين، وأنه كتابٌ خالدٌ يتحدَّى أيَّ مؤلَّف، وذلك من

خلال الكتابةِ الشعريةِ والنثريةِ والمترجَمةِ للغتين العربية والإنجليزية جنبًا إلى جنب!. ° ويضيفُ قائلاً: "إن المسلمين يزعُمون أن القرآن جاء متحدِّيًا للعالَم كلِّه منذ (1400 سنة)، لذلك لم يَستطعْ أحدٌ تأليفَ كتابٍ مشابهٍ له يناسِبُ العصرَ وَيجمعُ ما بين التوراة والإنجيل ويقدِّمُ تفسيرًا معاصرًا لكلِّ الأديان الثلاثة، إلاَّ أن الفرقانَ الحقَّ جاء لِيدحضَ هذه المقولة"!!!. ° ويضيف: "لذلك جاء كتابُ "الفرقان الحق" ليكونَ نقطةَ الضعفِ الجديدة للعرب والمسلمين التي يُمكنُ اختراقُهم من خلالها بعد أن نَفَيْنا أسطورةَ قُرآنِهم وتحدِّيه للعالَم منذ (1400 سنة)، وليكونَ هذا الكتابُ هو القرآنَ الحقيقيَّ الذي يَشرحُ معانيَ التوراةِ والإنجيل ورسالةَ المسيح في الأرض أيضًا. ° ويقول: "إن قرآنَ محمدٍ نبيَّ المسلمين استغرق (23) سنةً من الوحي، أمَّا أنا، فلم استغرقْ أكثَرَ من (7) سنوات لإصدارِ القرآن الجديد، ومكتوبٌ باللغتين الإنجليزية والعربية، -وليس العربيةَ فقط-، حيث بدأت العمل به فعِليًّا في (عام 1999م) "!. ° وزَعَم "أن القرآنَ الكريمَ احتَوى على أكثرَ من (100) خطإٍ لُغويٍّ في قواعد النحو، أما الفرقانُ الجديد، فليس به أخطاء، كما أن كتابي يحتوِي على الحقائقِ وليس على مجرَّد نِكاتٍ مثل القرآن"!!. ° وبعد أن عَرَّفَنا هذا الشورش بنفسه، هذا تعريف موجز بالكتاب: الاسم: الفرقان الحق.

عدد الصفحات: (366) صفحة مقاس 15 × 20 سم. عدد السور: اشتمل هذا الفرقانُ الباطل على: المقدمة، والبسملة، والخاتمة، ثم (77) -سبعًا وسبعين- سورة. أسماء سور "الفرقان": كلُّ سورةٍ من سُورِ هذا العَفَنِ تتكوَّنُ من عددٍ من الآيات يتفاوتُ ما بين عددِ أصابع اليدِ الواحدةِ أو أصابع اليدين والقدمين، لا يَزيدُ عن ذلك، وقد اشتَملت هذه السورُ على موضوعاتٍ تكادُ تكونُ مكرَّرةً في كلِّ سورةٍ بصورةٍ مُملَّة، وهذا جدولٌ بأسماءِ وعددِ آياتِ وأهدافِ سورِ هذا "العفن الأمريكي": السورة ... آياتها ... الموضوع [البسملة] ... 7 ... التثليث الفاتحة ... 7 ... تمجيد للفرقان المحبة ... 10 ... الدعوة للاستسلام النور ... 7 ... تمجيد للفرقان والدعوة للإيمان به السلام ... 15 ... انتشار الإسلام بحد السيف - التنصير الإيمان ... 8 ... اتهام المسلمين بتحريف الإنجيل الحق ... 10 ... تمجيد الفرقان - إنكار الرسالة التوحيد ... 14 ... الدعوة للتثليث المسيح ... 27 ... صحة الإنجيل، واتهام المسلمين بالنفاق الصلب ... 17 ... إثبات صلب المسيح الروح ... 7 ... تشويه الاستشهاد والجنة

الفرقان الحق ... 27 ... تمجيد الفرقان والإنجيل الثالوث ... 31 ... التثليث -إنكار أسماء الله الحسنى الموعظة ... 7 ... ترك الجهاد - تشويه صورة الرسول الحواريون ... 14 ... التنصير - تشويه صورة الرسول الإعجاز ... 13 ... تشويه صورة الرسول [القدر] ... 11 ... تمجيد الفرقان - لا نبي بعد عيسى المارقين ... 15 ... تشويه صورة المسلمين الأضحى ... 10 ... التنصير - تشويه الأضاحى الأساطير ... 6 ... تشويه صورة الرسول والمسلمين الجنة ... 15 ... تشويه الجنة المحرضين ... 16 ... تشويه صورة الرسول البهتان ... 12 ... الإيمان بالإنجيل - تشويه صورة الصحابة اليسر ... 7 ... تشويه الإسلام الفقراء ... 8 ... سب المسلمين الوحي ... 18 ... سب المسلمين - تمجيد الفرقان [المؤمنين] ... 7 ... تمجيد النصرانية - تمجيد الفرقان [التوبة] ... 7 ... الإيمان بالإنجيل والفرقان الصلاح ... 8 ... نفي للولاء والبراء - ترك الجهاد الطهر ... 13 ... التعدد - الطلاق الغرانيق ... 15 ... شبهات حول المرأة العطاء ... 14 ... القصاص والجهاد - الإسلام نُشر بالسيف [النساء] ... 16 ... شبهات حول وضع المرأة في الإسلام الزواج ... 7 ... تجريم التعدد - الطلاق

[الطلاق] ... 12 ... الطلاق - تشويه صورة الرسول الزنا ... 13 ... تعدد الزوجات [المائدة] ... 5 ... التنصير المعجزات ... 8 ... تأييد الفرقان بالمعجزات [المنافقين] ... 17 ... تشويه صورة الإله عز وجل القتل ... 15 ... الإسلام نُشر بالسيف الجزية ... 14 ... تحريم القتال - الجزية الإفك ... 9 ... التنصير - الإسلام نُشر بالسيف الضالين ... 15 ... التثليث - تشويه الجنة والشهداء الإخاء ... 8 ... تشويه تعاليم الإسلام - الإيمان بالإنجيل المهتدين ... ... تشويه الإسلام والمسلمين - القصاص طوبى ... 14 ... التنصير الأولياء ... 12 ... تشويه معنى الشهادة - تمجيد الفرقان اقرأ ... 14 ... إنكار الأسماء الحسنى تشويه الإسلام [الكافرين] ... 12 ... التنصير - تحقير المسلمين الخاتم ... 14 ... تشويه المسلمين - تمجيد الفرقان الإصرار ... 11 ... تشويه الإسلام - الجنة التنزيل ... 8 ... تمجيد الفرقان والإنجيل الصيام ... 9 ... العبادات في الإسلام الكنز ... 6 ... الإيمان بالإنجيل [الأنبياء] ... 18 ... سب الرسول، لا نبي بعد عيسى الماكرين ... 18 ... تحقير الرسول والمسلمين - القصاص الأمَمِّيين ... 12 ... تحقير الرسول والمسلمين

المفترين ... 7 ... تحقير الرسول والإسلام والمسلمين الصلاة ... 10 ... تحقير الصلاة والمصلين الملوك ... 8 ... تشويه صورة الإله - الإسلام نُشر بالقوة الطاغوت ... 12 ... تشويه الرسول والإسلام - القصاص النسخ ... 14 ... النسخ في القرآن - القرآن غير معجز الرعاة ... 6 ... تشويه الإسلام والمسلمين الشهادة ... 7 ... تشويه صورة الرسول الهدى ... 11 ... تشويه صورة الرسول والمسلمين الإنجيل ... 6 ... تمجيد الإنجيل - تحقير المسلمين المشركين ... 30 ... وجوب عصيان الرسول الحكم ... 14 ... تمجيد الإنجيل - القصاص الوعيد ... 7 ... تشويه صورة الرسول والمسلمين الكبائر ... 15 ... تشويه الجنة التحريف ... 8 ... تمجيد الإنجيل والفرقان العاملين ... 13 ... الدعوة للردة عن الإسلام الآلاء ... 10 ... تحقير تعاليم الإسلام المحاجة ... 8 ... التنصير الميزان ... 13 ... تشويه الإسلام - التعدد - الطلاق القبس ... 8 ... التنصير الأسماء ... 25 ... إنكار الأسماء الحسنى الشهيد ... 8 ... اتهام المسلمين بقتل مؤلف الفرقان

_ لاحظ أن السور المظللة من أسماء سور القرآن الكريم. قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: وضعناها في هذه النسخة الإلكترونية بين [معكوفين] بدلا من التظليل في المطبوع

أماكن نشر الكتاب

اللغة: طُبع هذا "الهباب" المسمى بـ "الفرقان" باللغة العربية واللغة الإنجليزية، ولعلَّك - أيها اللبيب- ستُدرِكُ من أولِ وَهلةٍ السرَّ في كَونِ الكتابِ باللغتين العربية والإنجليزية، فالعربيةُ لأن العربَ هم المقصودون من الكتاب؛ ولأن الإنجليزية هي من أهمِّ اللغات العالمية والأكثرُ شيوعًا في العالم، وهي لُغةُ المؤلِّفُ -قَبَّحه الله- لذا كانت ضِمنَ اللغاتِ التي كُتب بها هذا الكتاب. دار النشر: كان الجزء الأول من "الفرقان الحق" قد صدر في مطلع هذا العام عن دارين للنشر في أمريكا هما: "وميجا 2001 OMEGA"، و"واين بريس PRESS WINE"، الأولى معنى اسمها "المقاومة" لسنة 2001، والثانية معنى اسمها "معصرة النبيذ" تمهيدًا لإصدار اثني عَشَر جزءً أخرى كتتمَّةِ له خلال السنواتِ الخمسِ القادمة. ثمن الكتاب: ذكرت مجلة "الفرقان" التي تُصدِرُها أسبوعيًّا جميعةُ إحياء التراث الإسلامي بالكويت أن النسخة الواحدة تُباع بما يساوي 3 دولارات، ويُباع الكتابُ حاليًا في المكتباتِ المختلفةِ في أمريكا وإسرائيل ولندن وبعضِ دول الاتحاد الأوربي، ويُباعُ الكِتابُ "المهزلة" عَبْرَ شبكة الإنترنت بمبلغ (19، 95) دولارًا للنسخة الواحدة، شاملةً تكاليفَ الإرسالِ لأيِّ مكان بالعالم!. أماكن نشر الكتاب: إن الأمنيةَ التي يَحلُمُ بها هؤلاء المُرْجِفون هي أن يَدخُلَ هذا الكتابُ بَيتَ كلِّ مسلم؛ بل قَلْبَه وعَقْلَه، ولكن لأنهم يَعلَمون عِلْمَ اليقين أن هذا

الكتابَ لا يَقْبَلُه أيُّ مسلم في العالم، وحتى لا يَصطدموا مع مشاعرِ المسلمين بدؤوا أولاً في عَرضِه في الأماكن الآتية: - نُشر الكتاب في المكتبات المختلفة في أمريكا بصفتها راعيةَ الحَملةِ على الإسلام. - ونُشر الكتاب أيضًا في لندن بصفتها راعيةَ الإرهاب والانحراف، فما موقفُها من سلمان رشدي -مسيلمة القرن العشرين- منكم ببعيد. - كما تم توزيعُ ونَشرُ الكتابِ في بعضِ دول الاتحاد الأوربي. - وقد أعطت أمريكا لربيبتها إسرائيل نُسخًا عديدةً من هذا الكتاب. - وذكرت "مجلة الفرقان" أن هذا الكتاب يوزَّعُ في الكويت على "المتفوقين" من الطلبة في المدارس الأجنبية الخاصة .. التي أصبحت مرتعًا خِصبًا للمُنصِّرين؛ للتأثير على فَلَذاتِ أكبادنا، وبَثِّ ثقافةِ الاستسلام في أذهان الأجيال القادمة من أبنائنا وبناتنا، حتى يَردُّوهم عن دينهم الإسلاميِّ الحنيف، لا سيَّما أن الشبابَ يُمثِّلون طموحَ الأمةِ وقادةَ المستقبل، فها هي أصابعُ التغيير وجهودُ التنصير ومخاطرُ حِقبةِ السلام تتسلَّلُ إلى عقولِ أبنائِنا، وتَعبَثُ بمعتقداتِهم وقِيَمِهم وأفكارِهم، حَربٌ باردةٌ خفيَّةٌ تدورُ على أبنائنا في ظِلِّ غفلتِنا وانشغالنا بأعباءِ الحياة، وتكالُبِ الأعداء على أمتنا الإسلامية!. والسؤال: لماذا اخْتِيرَت الكويت مقرًّا لهذه العملية؟ وهل الشرفاءُ في الكويت سيسطرُ عليهم الصمتُ والجمودُ وكُتَّابُ الكفر يُوزِّعون أباطيلَهمِ بأراضيكم؟! إن الأمورَ أخطرُ مما تصوَّرون، فأمةُ الإسلام لا يمكنُ أن تَحنِي

رأسَها لحربٍ إعلاميةٍ ولمزيدٍ من الدمار. والغريبُ أنه تم إعطاءُ السلطةِ الفلسطينية -عن طريقِ إسرائيل- نسخًا عديدةً منه تمهيدًا لتدريسه في المدارس الفلسطينية!!. والسؤال: لماذا فلسطين بالذات؟ وتبدو الإجابةُ سهلةً وبسيطةً عند مُطالعةِ ما جاء في هذا الكتاب الأضحوكةِ، فالكتاب يَخدُمُ الأهدافَ الإسرائيلية، فهو يدعو للاستسلام، والرضا بالأمرِ الواقع، ومقابلةِ الاعتداء بالحبِّ والسلام، ويُحذِّرُ من القتالِ والاستشهاد!!. ويُشيرُ أحدُ التقاريرِ إلى أن الكِتابَ تمَ توزيعُه على السفاراتِ العربيةِ والإسلامية في كلٍّ من باريس ولندن وواشنطن، والعديدِ من الهيئات والمنظَّمات الإسلامية والعربية في أوربا بتاريخ (17/ 4/ 2004م). كما تسلَّمت هيئةُ الإذاعةِ البريطانية ( BBC) نُسخًا من الكتابِ بتاريخ. (20 إبريل 2004م). كما أُرسلت نُسَخٌ منه بتاريخ (15 مايو 2004م) إلى كلِّ المجلاَّت والمطبوعات الدوريةِ التي تُطْبع في القدس مترجَمًا إلى كلٍّ من العربية والإنجليزية والعبرية. كما تسلَّمت بتاريخ 17 مايو أيضًا كل المطبوعاتِ والمجلاَّتِ الصادرةِ باللغة العربية في لندن نسَخًا من الكتاب. كما يُباع الكتابُ الكارثةُ على شَبكةِ المعلومات الدولية "الإنترنت" في العديدِ من المواقع، مِثل موقع "أمازون" الشهير وغيرِه من المواقع، والملاحَظُ أنهم في هذه الفترة لم يَعمَلوا على تعميمِ الكتاب في البلاد الإسلامية؛

الجهود الأمريكية والصهيونية لنشر هذا الكتاب

لأنهم يُدرِكون جيِّدًا أن رَدَّ الفعل الرسميَّ وغيرَ الرسميَّ سوف يكون قاسيًا، فكانت هذه المرحلةُ مرحلةً تمهيدية، لجسِّ نبضِ الشارع الإسلامي، ولا يَعلمُ ما في غدٍ إلاَّ الله. * الجهود الأمريكية والصهيونية لنشر هذا الكتاب: ذَكر "وليد رباح" رئيس تحرير "صوت العروبة" التي تَصدُر في أمريكا، حادثةً جرت له في مَطْلَع هذا العام، تتعلَّقُ بنشرِ ذلك الفرقان الحق" قائلاً: "قبل أشهُرٍ .. اتَّصل بي أمريكيٌّ يتحدَّثُ اللغةَ بلهجةِ أهل "تكساس"، وقال: أنا القسيس "إلياهو"، وأريدُ أن أقابلَك على وجهِ السرعة! قلت له: قسيس؟! كيف تكونُ قسيسًا واسمك يا سيدي "إلياهو"؟ لو قلتَ لي "جورج، ديفيد، سام" لصدَّقتُك! فقال لي بعدَ أن سمعتُ ضِحكته على الهاتف: إن معي هديةً ثمنيةً لك! فقلت له: على أيِّ حالٍ أنا على استعدادٍ للقائك، أين ومتي؟ قال: في جريدة "صوت العروبة"، قلت: هل تعرفُ المكان؟ قال: أحفظُه عن ظَهرِ قلب!! قلت له: تفضل، وذهبتُ فورًا إلى طاقم الجريدة في قاعة التحرير، وقلتُ لهم مضمونَ ما حدث، وطلبتُ إليهم أن يكونوا على أُهبةِ الاستعداد إن حَدَثَ مكروه، ويبدو أن الرجلَ كان يتحدثُ من هاتِفِه المحمول، فما هي إلاَّ دقائقُ ووجدتُه أمامي، رجل طويلُ القامة أشقرُ الشعر، يَرتدي بدلةً منمَّقةً، ويحملُ بيده شنطةً من نوع "سمسونايت"، وقال لي بلغةٍ مكسَّرةٍ ممطوطة: شلام العليكم، فقلت له: وعليكم السلام، تفضل واجلس، فقال: لا أريدُ أن آخذَ من وقتِك الكثير، ثم فَتَح حقيبتَه، وأخرج منها شيئًا ملفوفًا بورقٍ فضيٍّ

لامع، وقال: تفضلْ هذه هديتي لك، قلت له مازحًا: أمتأكِّدٌ أنت أنها ليست قنبلة؟ فأنا أعرفُ عاداتِكم تمامًا، فضحك وقال: بل هي حياةٌ جديدةٌ أَعرضُها عليك، وقام بفَضِّ الغلافِ الفَضِّي، وقَدَّم لي كتابًا قرأتُ عنوانَه بالعربية "الفرقان الحق"، وتركته يتحدَّثُ على سَجِيَّتهِ في الاقتصاد والسياسة والمال والأعمال والحياة التي سأعيشُها لمدةٍ تزيدُ على نصفِ ساعة دونَ أن أقاطعه، ثم قلتُ له: كم؟ فقال: ماذا تعني؟ قلت له ثانية: كم؟ فضحك وقال: أقصاه واحد، وقلتُ له: بل اثنين، فقال: ليكنْ، فقلت له: ماذا تعني بواحدٍ أو اثنين؟ قال: مليون أو اثنين مليون دولار، قلت: وما شروطُك؟ قال: أن يُنْشَرَ هذا الكتابُ على حلقاتٍ في "صوت العروبة" شَرْطَ أن تُضاعَفَ الطبعاتُ لمراتٍ عشرٍ على الأقل. قلت له: نحن صحيفةٌ صغيرةٌ ومتواضعةٌ، فلماذا لا تَذهبُ إلى الصحف المشهورة والعالمية؟ قال: نحن لا نريد حاليًا إلاَّ الجاليةَ العربيةَ والمسلمة في أمريكا، ونحن نعرفُ أن الجاليةَ العربيةَ والإسلاميةَ في أمريكا تقرأُ "صوت العروبة"، ثم تَمَلْمَلَ الرجلُ في جِلسته وقال: لقد أخذتُ من وقتِك الكثير، سوف أتَّصلُ بك لاحقًا لتعلنَ لي موافقتَك وتُحدِّد ميعادًا للنشر. ويُضيفُ رئيسُ تحرير "صوت العروبة" قائلاً: غادَرَ الرجل، وفَتحتُ الكتاب، فإذا به باللغتين العربية والإنجليزية معًا: وقرأتُ مقدِّمتَه التي تقول: "إلى الأُمة العربية خاصةً .. وإلى العالم الإسلاميِّ عامةً، سلامٌ لكم ورحمة من الله القادِرِ على كل شيء .. يُوجَدُ في أعماقِ النفسِ البشرية أشواقٌ للإيمان الخالصِ والسلامِ الداخليِّ والحرية الروحيةِ والحياةِ الأبدية ..

وإننا نَثِقُ بالإلهِ الواحِدِ الأوحدِ بأن القُرَّاءَ والمستمِعين سيَجِدون الطريقَ لتلك الأشواق من خلالِ "الفرقانِ الحق" .. إنَّ خالقَ البشريةِ يُقدِّمُ هذه البركاتِ السماويةَ لكلِّ إنسانٍ بحاجةٍ إلى النور بدون تمييزٍ لعُنصرِه أو لونِه أو جِنسِه أو لُغتِه أو أصلِه أو أُمَّتِه أو دِينهِ .. فاللهُ يهتمُّ كثيرًا بكل نَفْسٍ على هذا الكوكب .. أُوحيَ إلى الصفي .. تَرجم معانية المهدي!!. ثم تصفَّح رئيسُ التحرير الصفحةَ الأولى منه، فإذا بها البَسملة التي تقول: "باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد (2) مُثلِّثِ التوحيد موحِّدِ التثليث ما تعدد (3) فهو آبٌ لَم يلد (4) كلمةٌ لم يولد (5) رُوح لم يفرد (6) خلاَّقٌ لم يخلق (7) فسبحانَ مالِكِ المُلك والقوةِ والمَجد (8) مِن أزلِ الأزلِ إلى أبدِ الأبد". ثم عَرَّج على سورة الفاتحة التي تقول: "هو ذا الفرقانُ الحقُّ نوحِيه فبلِّغْه للضالِّين من عِبادنا وللناس كافةً ولا تَخْشَ القومَ المعتدين". تقول بسملتهم: "بسم الأب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد، مُثلِّث التوحيد، موحِّد التثليث ما تعدد". وهي خَلطٌ واضحٌ لمعنى "الإله"، فهو الأبُ كما زعمت النصارى، ومثلَّثُ التوحيد، وهو الإلهُ الوحد الأحدُ كما يعتقد المسلمون. وفي سورة (الثالوث: 6) زعموا كُفرًا: "ونحن اللهُ الرحمنُ الرحيمُ ثالوثٌ فردٌ إلهٌ واحدٌ لا شريكَ لنا في العالمين". فأيُّ طفلٍ يُصَدِّقُ وحدانيةَ الله -عز وجل- بعد هذا السياقِ الثالوثيِّ الساذج؟! وأيُّ معادلةٍ تحتملُ الوحدانيةَ والثالوثيةَ، ثم الخاتمةَ بأنه لا شريك له؟!.

إثبات صلب المسيح

وهم كما يقول البوصيري: جَعَلوا الثلاثةَ واحدًا ولَو اهتدوا ... لم يَجْعَلوا العَدَدَ الكثيرَ قليْلاً (¬1) * إِثباتُ صَلْبِ المسيح: وفي سورة (الصلب: 10) قالوا: "إنما صَلَبوا عيسى المسيحَ ابنَ مريم جسدًا بشرًا سويًّا وقَتلوه يقينًا". وهم بذلك يردُّون قول الله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157 - 157]. عَجبًا للمَسيحِ بينَ النصارَى ... وإلى أيِّ والدٍ نسَبُوهُ؟! أسْلمُوه إلى اليهودِ وقالوا ... إنهم بعدَ ضَرْبهِ صَلَبُوهُ فإذا كانَ ما يقُولون حقًّا ... وصَحيحًا فأيْن كانَ أبُوه؟! حين خَلَّى ابْنَه رَهِينَ الأعَادي ... أتراهُم أرْضَوْه أمْ أغْضَبُوه؟ فلَئِن كانَ راضيًا بأذاهم ... فاحْمَدوهُم لأنهم عَذَّبوه ولئن كانَ ساخطًا فاتركُوه ... واعبُدوهُم بأنهمُ غَلبُوه (¬2) * تشويهُ صورة الإِله: ومن الأهداف الخبيثة لهذا الكتاب تشويهُ صورةِ الإله، وهذا التشويهُ يؤكدُ أن لليهود دَورًا كبيرًا في إعدادِ هذا الكتاب، ومِن صُورِ هذا التشويه: ¬

_ (¬1) "منظومة البوصيري في الردِّ على النصارى" (ص 7). (¬2) "تفسير القاسمي" (3/ 408).

إنكار أسماء الله الحسنى

إنكارُ أسماءِ الله الحسنى: فقد أنكر هؤلاء الأقزامُ أسماءَ الله الحسنى وصفاتِه العُلى إنكارًا سافرًا بقولهم كفرًا: "إنَّ أهلَ الضلال من عِبادنا أشركوا بنا شركًا عظيمًا فجعلونا تِسعةً وتسعين شريكًا بصفاتٍ متضاربةٍ وأسماءٍ للإنس والجانِّ يدعونني بها وما أنزَلْنا بها من سلطان، وافتَرَوا علينا كذبًا بأنَّا الجبَّارُ المنتقمُ المُهلِكُ المتكبِّرُ المُذِلُّ، وحاشا لنا أن نتَّصفَ بإفكِ المفترين ونُزِّهنا عما يصفون" (الثالوث 8: 10)!!. وَصفُ إله المسلمين بصفاتٍ قبيحة: ووصَفَ الكتابُ إلهَ المسلمين -حَسْبَ زعمِه- بالشيطان: " .. وقام منكم ناعٍ يَنْعِقُ بنقمةِ الباطل على الحقٍّ، وحِقدِ الكفرِ على الإيمان، ونُصرةِ الشرِّ على الخير، فكان لوحي الشيطان سميعًا" (المسيح: 15). وتكرر هذا الوصفُ في أماكنَ كثيرة: "والذين آمنوا بالإنجيل الحقِّ وعمِلوا الصالحات، أولئك هم خيرُ البرية، والذين كفروا وآمنوا بالشيطان ورُسُله أولئك هم شرُّ البرية" (الإخاء: 8). "يا أيها الناس إنما تُتلى عليكم آياتُ الشيطان مضلِّلات، لِيُخرجَكم من النور إلى الظلمات، فلا تتبعوا وحيَ الشيطان، واتخذوه عدوًا لدودًا" (الإخاء: 15). تشويهُ صورة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: وأما عن موقفِ القرآنِ الأمريكي من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فحَدِّث ولا حَرَج، فلقد بَلَغت وقاحةُ مَن أعدُّوا هذا الكتابَ مبلغًا كبيرًا، حيث وَصفوا الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - بصفاتٍ هم أحقُّ بها وأهلُها، ومِن هذه الصفات:

وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالطاغوت

الأفَّاك: يقول كتاب أمريكا: "وحَذَّرْنا عبادنَا المؤمنين من رسولٍ أفَّاكٍ تَبَيَّنوه من بيِّنات الكفر، وعَرَفوه من ثمارِ أفعاله، وكَشفوا إفكَه وسِحرَه المبين، فهو رسولُ شيطانٍ رجيم لقومٍ كافرين" (الأنبياء: 18). إنكارُ رسالته: لا يُقِرُّ الكتابُ برسالةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ويقول: "وما بَشَّرْنا بني إسرائيلَ برسولٍ يأتي من بعدِ كلمتِنا، وما عساه أن يقولَ بعد أن قُلنا كلمةَ الحقِّ، وأنزلنا سُنَّةَ الكمال، وبَشَّرْنا الناسَ كافةً بدِينِ الحق، ولن يجدوا له نسْخًا، ولا تبديلاً إلى يوم يبعثون" (الأنبياء: 16). وَصفُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - بالطاغوت: وقد خَصَّه بسورة (الطاغوت)، واتَّهمه فيها بإشعالِ الحروب، وإخراج الناس من النورِ إلى الظلمات، والسَّلبٍ، والزنى، والكفر .. وفي سورة (الشهادة: 41): "وعَلَّم الأميين كافرٌ، فزادهم جهلاً وكفرًا". وصفُه بالغواية والضلال: ويقول في سورة (الإعجاز 5: 9): "وما نُرسلُ من رسولٍ إلاَّ لخيرِ عِبادنا يُريهم صراطنَا المستقيم، وأمَّا مَن أغواهم وأضلَّهم فهو رسولُ شيطانٍ رجيم، فصراطُه عِوَجُ، وإعجازُه عُجمة، ونُورُه ظُلْمة، فلا تتَّبِعوه، ولا تُنصتوا له، واتخذوه مهجورًا، ولا يزالُ الذين كفروا في مِريةٍ من الفرقانِ الحقِّ حَتى تأتيَهم الساعةُ بغتةً أو يأتيَهم عذابٌ مقيم، ومِن الناس مَن يجادلُ فيه بغيرِ علمٍ ولا هُدًى ولا كتابٍ منير". وجوب عصيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخيانتُه: ويُوجبُ الكتابُ عصيانَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما، يَعُدُّ طاعةَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - والرجوعَ له في التنازع، والإيمانَ به، وعدمَ خيانته، وعدمَ عصيانه: من الشرك بالله! كما جاء في سورة (المشركين: 50).

تشويه صورة الإسلام والمسلمين

والفرقان الأمريكي يُنكِرُ القرآنَ الكريمَ ورسالةَ الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "وما نزَّلنا عليكم كتابًا، أو سورةً، أو آيةً، ولا أوحينا إليكم قولاً بلسانِ أحدٍ منكم، وما ألْهمناه، ولكن شُبِّه لكم فصَدَّقتموه، فَضَللْتُم سواءَ السبيل" (التنزيل: 2: 24). وزَعم بأن القرآنَ الكريمَ من الأساطير: "وقام منكم مَن انتَحَل أساطيرَ الأولين اكتَبَها وأُمليت عليه، بُكرةً وأصيلاً، وهي إفكٌ افتراه وأعانه عليه قومٌ آخرون" (الأساطير: 1، 2). ويصفُه بالكُفر والمرُوق: ففي سورة (الزنى: 11) في "ضلالهم المبين"، الكلمة التالية: "ووَصَّينا عبادَنا ألاَّ يَحلِفوا باسمنا أبدًا وجوابُهم نَعَمْ أَوْ لا، فقلتم بأن من كان حالفًا فلْيَحْلِفْ باسمِ الإله أو يَصمُت، وهذا قولُ الكَفَرة المارقين". * تشويه صورة الإِسلام والمسلمين: ومِن أهدافِ فرقان أمريكا تشويهُ صورةِ الإسلام المسلمين، فوَصَفهم مؤلِّفُ هذا العَفَنِ بأقبحِ الصفات، ويَستخدمُ فرقانُهم أقسى عباراتِ القَذْع والقَدْحِ والشَّتمِ ضدَّ المسلمين، ويَصِفُهم بأبشعِ الأوصاف، وَيقدَحُ في إلههم ودينِهم ونبيِّهم وقُرآنِهم بعباراتٍ فيها من العَداءِ واللددِ والحقدِ والخصومةِ ما يَفوقُ الوصف. وكثيرٌ مما وَصَفَ به القرآنُ الكريمُ اليهودَ والنصارى أسقَطَه على المسلمين، وذلك بعد تحريفِ الآيات لتحقيقِ هذا الغرض، حتى إن أسماءَ الموضوعات (السور) تنضحُ بهذا الحِقدِ والعَداء مثل: "الماكرين، والأميين،

والمفترين، والطاغوت، والكبائر، والمحرِّضين، والبهتان، والكافرين". ويمكنُ القولُ: إن الكتابَ يدورُ كلُّه من أوَّله لآخِرِه على المسلمين ونبيِّهم والكتابِ الذي أنزله الله عليه: لا يَشتُمُ غيرَهم، ولا يحاولُ أن يَخْتِلَ أحدًا عن دينهِ سواهم، ولا يترك شيئًا أيَّ شيءٍ في دينهم دونَ أن يُسفهِّه ويُزْرِيَ به مناديًا إياهم في مُفتَتَحِ كلِّ سورةٍ تقريبًا من سور "ضلالهم المبين" بـ "يا أَهل الجهل"، أو "يا أهل الظلم من عبادنا"، أو "يا أيها الذين ضلُّوا من عبادنا"، أو "يا أيها الذين أشركوا من عبادنا الضالين"، أو "يا أيها الذين كفروا من عِبادنا الضالين"، أو "يا أيها المنافقون من عِبادنا الضالين"، أو "يا أيها المفترون من عبادنا الضالين"، أو "يا أهل التحريف من عبادنا الضالين"، ولكن لِمَ يا تُرى؟ السببُ هو أن المسلمين يُوحِّدون اللهَ ولا يَنسِبون له وَلَدًا سبحانه! ولأنهم يُصَلُّون له وحدَه ولا يُشرِكون في عبادتِهم له أحدًا من خَلقِه، قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8]. ° أو لَم تجِدوا في طولِ الأرض وعَرضِها على رَحْبها واتِّساعها مَن يَحتاجُ إلى الهِدايةِ إلاَّ المسلمين؟ أوَ لَم يأتِكم نبأُ عُبَّادِ البقرِ أو عُبَّادِ النارِ أو عُبَّادِ الشيطانِ أو الشيوعيين مثلاً؟ أَوَقَدْ نَسيتم ما كنتم تقولونه في اليهود الذين تتهمونهم بقتل ربِّكم؟! ألاَ يَحتاجُ أيُّ مَن هؤلاء أن تُولُوه شيئًا مِن هذا الحَنان الزائفِ الذي تُغدِقُونه علينا بالإكراه والذي تُسمُّونه: "المحبة"؟. ثم تقولون لنا بعد ذلك: إن دينَكم هو دينُ المحبة! أيَّةُ محبةٍ تلك التي تُسوِّلُ لكم التطاولَ علينا واتِّهامَنا مع ذلك كلِّه بأننا نحن المعتدون القاتِلون اللصوصُ السارقون، وفي الوقت الذي تَهجمون فيه على بلادِنا وتُدمِّرونها

تدميرًا، وتُقتلون رجالَنا ونساءَنا وأطفالَنا، وتَسرِقون بترولنا، وتحتلُّون بلادَنا، وتُعذِّبوننا وتُهينوننا وتنتهكون أعراضَ نسائِنا، وتَضربوننا بالقنابل والصواريخ والطائرات والدبابات والبوارج .. إلخ؟! إن جنودَكم ومجنَّداتِكم يَعتدون على إخواننا وأخواتِنا في السجون والمعتقلات في أرض الرافدَينِ بكسرِ عظامهم، وإبقائهم عَرايا في صَبَارَّة الشتاء مع غَمْرِ الزَنَازين بالماءِ الوَسخ حتى لا يستطيعَ المساكينُ النوم، وتسليطِ الكلابِ المتوحشةِ عليهم تَنهشُ خُصَاهم وغراميلَهم فينزِفون حتى الموت، فضلاً عن اغتصابِ النساء والفتياتِ العفيفاتِ اللاتي يُفَضِّلنَ الموتَ بعد خروجِهنَّ من المعتقل على الحياة مع هذا العار، طالِبين منهم ومنهن أن يشتمُوا اللهَ ورسولَه (¬1)، قائِلين: إنهم جاؤوا إليهم يَحمِلون رسالةَ المحبة، وهم لم يَحمِلوا إلاَّ رسالةَ اللواط والسِّحاق والتعذيب والتقتيل والتدمير البربريِّ الذي لا يتركُ شيئًا يمرُّ عليه إلاَّ جعله أنقاضًا وأحجارًا، لا يُعْفي من ذلك ¬

_ (¬1) نشرت جريدة "الجمهورية" (الأحد 6 من ذي الحجة هـ - 16 من يناير 2005) أن محكمةً عسكريةً أمريكية أدانت الجندي الأمريكي "تشارلز جرانر" الحارس السابق في سجن أبو غريب بتهم تعذيب وإساءة معاملة السجناء العراقيين في الفضيحة التي فجَّرت سُخطًا واشمئزارًا دوليًّا واسعًا ضد الولايات المتحدة، قالت هيئةُ المحلَّفين العسكرية المؤلَّفة من عشرةِ أعضاء إن "جرانر" 36 عامًا مُدان في كل الاتهامات الموجهة إليه، وهي سوء معاملة معتقلين، والعجز عن حماية معتقلين من تعرضهم لتجاوزات وأعمال وحشية، وخدش حياء، وعرقلة عمل القضاء. وذكر محامي الدفاع أن موكِّله وحُرَّاسًا آخرين كانوا يتبعون "تعليمات رئاسية مستمرة تطلب منهم تقليل مقاومة المعتقلين"، وقد وُصف التعريف "جرانر وزميليه الآخرين" بأنهم كانوا كِباشَ فداءٍ قُدمت للمحاكمة لحماية ضباط كبار بالجيش الأمريكي.

مَدرسةً ولا مَصنعًا ولا مَتحفًا ولا بيتًا ولا مسجدًا؟ أيَّةُ محبةٍ جئتمونا بها أيها الوحوش؟ أيُّ جنونٍ ذلك الذي طَوَّع لكم أننا يمكنُ أن نتركَ توحيدَنا الطاهرَ العظيمَ، وندخلَ معكم في تثليثكم وتصليبكم؟ فلتحتفظوا بهذه المحبةِ لأنفسِكم بدلاً من اللُّهاثِ وراءَ إضلالِ مَن هداهم الله وعافاهم من هذا الرِّجس، وذلك البلاءِ والعياذ بالله!. ويُوغِلُ في ذمِّ المسلمين ووصفِهم بأقبح الأعمالٍ، فيقول في سورة (الكبائر: 3) "فسيماؤكم كفرٌ وشركٌ وزنًى وغزوٌ وسَلبٌ وسَبْيٌ وجَهلٌ وعصيان". ويصف الفرقانُ الأمريكيُّ الشريعةَ الإسلاميةً، بأنها شريعةُ الكفر والقتلِ والضلالِ (الهدى: 48)، كما وَصف الدينَ الإسلاميَّ بأنه دينٌ لَقيط: "ولا تَغْلُوا في دينٍ لقيط، ولا تقولوا علينا غيرَ الحق المبين". ويصفُ الفرقانُ المزعومُ شِرْعةَ المسلمين فيقول: "فشِرعةُ أهلِ الكفرِ شِرعةُ قومٍ حُفاةٍ، عُراةٍ، غُزاةٍ، زُناةٍ، أميِّين مُفتَرِين، ومُعتَدين ضالِّين ظالمين" (سورة الجنة: 14). ولقد خَصَّص أصحابُ هذا الإفك سورةً من سُورِه للنَّيل من أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - هي "سورة الرعاة"، وفيها هِجاء للصحابة والعربِ الأوائِل الذين حَمَلوا الإسلامَ إلى العالَمين، والذين يُحاولُ أولئك اللصوصُ السُّطَاةُ أن ينالوا منهم بالقولِ بأنهم لم يكونوا متحضِّرين ولا أغنياءَ، بل كانوا مجردَ رعاةٍ، وكان التلاميذَ الذين كانوا يَلتفُّون حولَ المسيح عليه السلام كانوا من أصحابِ القصورِ ومِن خرِّيجي الجامعات، ولم يكونوا من صيَّادِي السمكِ والعُرْجِ والبُرْصِ والعُمْيِ والمخلَّعين والممسوسن والعشَّارين

القران الأمريكي يلغي فريضة الجهاد

والخُطاةِ -على حَسب ما جاء في الأناجيل نفسها-!. إننا بطبيعةِ الحال لا نَبغي أن ننالَ من الفقراءِ والمساكين والمسحوقين، فنحن لسنا من أغنياءِ القومِ ولا من السادة، لكننا أردنا فقط أن نُنبِّهَ هؤلاء المأفونين إلى مَدى السُّخفِ والسفالةِ التي ينساقون إليها في العدوانِ على ديننا ورسولِنا وصحابتِه الكرام. وبالمناسبة فلم يكنِ الصحابةُ جميعًا من الرعاة، بل كان فيهم التجارُ والزُّرَّاعُ والصُّناعُ والعلماءُ والقادةُ العسكريون، وكان منهم الأفرادُ العاديون والرؤساء، وكان منهم العربُ وغيرُ العرب، كما كان فيهم كثيرٌ ممن كانوا هُودًا أو نصارى ثم أسلموا .. وهكذا يستمر هؤلاء الأفَّاكون المجرمون إلى آخِرِ السُّوَر الشيطانيةِ المفتراةِ كذِبًا على الله (¬1). * القرَان الأمريكي يلغي فريضة الجهاد: من أهمِّ الأهدافِ الخبيثة لهذا الكتاب: العملُ على استعبادِ المسلمين، وذلك بإرغامِهم على تركِ الجهادِ في سبيل الله، ودَفع الضرِّ عن أنفسِهم، وتركِهم للسلاح، فيحتلُّ هؤلاء الكفرةُ بلدانَنا ونكون خُدَّامًا مطيعين لهم فيها، وسببُ ذلك خوفُهم من الجهاد، ورغبتُهم في نشرِ ثقافةِ الاستسلام ¬

_ (¬1) لقد أخبر الله تعالى في كتابه أن الكافرين قلوبهم تغلي حقدًا وبغضًا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29].

والخضوع والضعف والجُبن في ديار المسلمين وعقائدِهم، فقد زعم هذا "الفرقان" أن اللهَ سبحانه لم يأمرْ بالجهادِ في سبيله، وحَرِص على نَفي هذه الشعيرةَ، وبدا هذا الحرصُ في أكثرَ مِن مكان؛ لهدمِ هذه الفريضة، ويَصِفُها أنها مِن تحريضِ الشيطان: "وزعمتم بأننا قلنا: قاتِلوا في سبيل الله، وحرِّضوا المؤمنين على القتال، وما كان القتالُ سبيلَنا، وما كنَّا لنحرِّضَ المؤمنين على القتال، إنْ ذلك إلاَّ تحريضُ شيطانِ رجيمٍ لقومٍ مُجرِمين" (الموعظة: 2)، وبَلَغ به حدُّ إنكارِ الجهادِ بأن سمَّى إحدى سوره بسورة (المحرضين: 57)!. أما فيما يُسمَّى: "سورة الطاغوت"، فإنه عند مهاجمته لشريعةِ الجهاد التي يتَّهمُها زُورًا بالعُدوانيةِ والظلم وتقتيل الأبرياء، يَنقلُ على نحوٍ محرَّف ما جاء في سورة "التوبة" {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} [التوبة: 111]، إذ يقول: "وافترَوْا على لساننا الكَذبَ: بأنَّا اشتَرَينا من المؤمنين أنفسَهم بأن لهم الجنةَ يقاتِلون في سبيلنا وعدًا علينا حقًّا في الإنجيل، ألاَ إن المُفتَرين كاذبون .. " (الطاغوت: 8). * وواضحٌ أن الأفَّاكين قد أسقَطوا عِدَّة كلماتٍ من الآيةِ القرآنية الكريمةِ عمْدًا، حتى لا يُضْطرُّوا إلى الإقرارِ بأن في التوراةِ أمرًا بالقتال دفاعًا عن النفس والعِرْض فقط كما في الإسلام، بل بالقتل بدافعِ الكراهية للأمم الأخرى وإبادتِها لمجردِ الإبادة، وهو ما يَعضُدُ قولَ مَن قال: إنَّ هذا "الضلال المبين" هو ثمرةُ التعاون الأثيم بين الصهيونية والصليبية، فلذلك

يَعملون على إظهارِ اليهودِ في صورة المسالم البرئ. وفي سورة (الموعظة)!! ما يؤكِّدُ توافُقَ هذه الحربِ على الإسلام والاستماتةَ في استسلامنا لهم، ونَشرِ ثقافةِ الذلِّ والخنوع لجبروتهم والتخاذلِ أمامَ سَطوتهم وإجرامهم: "زعمتم بأنا قلنا: قاتِلوا في سبيل الله وحرِّضوا المؤمنين على القتال، وما كان القتالُ سبيلَنا، وما كنا لنحرِّضَ المؤمنين على القتال، إنْ ذلك إلاَّ تحريضُ شيطانٍ رجيم لقومٍ مجرمين" (الموعظة: 2). فهل أصبح الجهادُ إجرامًا؟! وهل أصبح أمرُ الله بتحريضِ المؤمنين قولَ شيطانٍ رجيم؟! تعالى الله عمَّا يقولون عُلوًّا كبيرًا. وفي سورة "الصلاح" المكذوبة نَفيٌ لمعاداةِ الكافرين والبراءةِ من الضالين المُلحِدين بقولهم افتراءً على الله: "يا أيها الذين ضلُّوا من عِبادنا هل ندلُّكم على تِجارةٍ تُنجيكم من عذابٍ أليم؟ تحابُّوا ولا تباغضوا، وأحِبُّوا ولا تكرهوا أعداءَكم، فالمحبةُ سُنَّتُنَا وصراطُنا المستقيم، وسكوا سيوفكم سككًا ورماحكم مناجلَ ومِن جنى أيديكم تأكلون". ويتوالى الجُرْمُ الأعظمُ والتعدِّي على الله -عز وجل- بقولهم رفضًا للقرآن العظيم في السورة ذاتها: "ولا تطيعوا أمرَ الشيطانِ ولا تُصدِّقوه إنْ قال لكم: كلوا مما غنمتم حلالاً طيبًا واتقوا الله إن الله غفور رحيم". ويتواصلُ الرفضُ لاستخدامِ القوة في قتالِ الكفار أعداءِ الله بقولهم في السورة المزعومة نفسها: "وكم من فئةٍ قليلةٍ مؤمنةٍ غَلبت فئةً كثيرةً كافرةً بالمحبةِ والرحمةِ والسلام"!! وهم يَعنُون بهذا قول الله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ

قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)} [البقرة: 249]. • والجهادُ كما أخبَرَ المعصومُ - صلى الله عليه وسلم - ذُروةَ سَنامِ الإسلام، فقال: "رَأسُ الأمْرِ الإسْلاَمُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ" (¬1). ويُخْطئ مَن يظنُّ أن الجهادَ في الإسلام هو فقط حَملُ السلاح ضدَّ العدوِّ، وهذا ما يحاولُ أن يروِّجَ له أعداءُ الجهاد، فالجهادُ في الإسلام أشملُ وأعمُّ من هذا، فمن صور الجهاد في الإسلام: - أن يَعملَ كلٌّ في موقعِه لزيادة الإنتاج، وتحقيقِ ما يُسمَّى بالاكتفاء الذاتي، حتى لا يكونَ المسلمون عالةً على غيرهم. - الدعوةُ للدين، والردُّ على شبهاتِ المستشرقين والمُلحدِين. - إعدادُ العُدَّةِ للدفاع عن الدينِ والوطن مِن مطامع المعتدِين، ومِن أعظم صُورِ الجهاد ما قام به عالِمُ الذرَّةِ الباكستاني الدكتور "عبد القدير خان"، الذي ساعَد باكستان لعمل توازنٍ عسكريٍّ مع الهند، ولولا هذا لَنَشِبت حَربٌ بين الدولتين لا يَعلمُ إلاَّ الله كيف ستكون نتائجُها الوخيمةُ على العالَم أجمع. * فالإعدادُ للقوة قَدْرَ الاستطاعة هو أمرٌ إلهيٌّ، العملُ به هو قِمَّةُ العبادة، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]. ¬

_ (¬1) حديث صحيح: رواه الترمذي في رقم (2541)، وقال: هذا حديث حسن صحيح وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه" (2/ 2314).

تشويه معنى الشهادة في سبيل الله

* تشويه معنى الشهادة في سبيل الله: ولم يَنْسَ صاحبُ الفرقان -في غِمارِ حَملتهِ على الجهاد والمجاهدين- أن يُشوِّهَ صورَ الشهيد، وذلك من خلالِ إظهارِ كلِّ مَن يُستشهد في سبيل الله لا يقومُ بعملٍ وطنيٍّ أو دينيٍّ، وإنما "لرغبتهِ الجنسية"، ففي سورة (الروح: 3: 1) ينكشفُ وبشكلٍ واضحٍ نياتُ هذا الكتابِ والأهدافُ التي ابتغاها مُعِدُّوه، ففيها يتطرَّفون إلى "الشهادة"، ويَعكِسُ مضمونُها هَدفَ المجموعة من ترويج هذا الكتابِ هذه الأيامَ في المناطقِ الفلسطينيةٍ، حيث العملياتُ الاستشهاديةُ التي تُنفِّذُها التنظيمات الفلسطينية في إسرائيل. تقول السورةُ المشوَّهة والتي لا عَلاقةَ لها بالقرآن: "يا أيها الذين ضلُّوا مِن عبادنا: إذا سُئل أحدُكم عن الروح قال: الروحُ مِن أمرِ ربي، فما أوتيتم من العلم كثيراً أو قليلاً، وما سألتُم أهلَ الذكرِ الذين بَشَّروا بالروح قبل جاهليةِ مِلَّتِكم بمئاتِ السنين، وإذا استُشهدتم في سبيل جَنَّةِ الزنى فقد نَعِمَ كَفَرةُ الرومِ قبلَكم بجنةٍ تجري من تحتها الأنهارُ يَلبسون فيها ثيابًا خُضرًا وحُمرًا متقابِلين ومتكئين على الأرائك يطوفُ عليهم وِلدانٌ ونساءٌ بخمورٍ ولحمِ طيرٍ وما يشتهون وهم الكافرون، وبَزَّت جنَّتهم جنتَّكم التي استُشهدتم في سبيلها فرِحين طمعًا بما وعدتم به من زنًى وفجور .. ". ولم تَسلَم الجنةُ دارُ النعيم التي أعدَّها اللهُ تعالى لعباده الموحِّدين الصالحين من تحريفِ هؤلاء، فوَصفوا جنةَ المسلمين بأنها مواخرُ للزناة، ومغاوِرُ للقَتَلة، ومَخادعُ رِجسٍ للزانيات، ونُزُلُ دَعارةٍ للسُّكارى والمجرمين، كما في (سورة الكبائر: 53).

وَيرى المؤلفُ في هذا الكتابِ أنه لا زواجَ ولا طعامَ ولا شرابَ في الجنة، وإنما كالملائكةِ يُسبِّحون بحمدِ الله، هذه هي جنةُ المؤمنين، أما الشياطينُ (ويعني بهم المسلمين) فهم في كهوفٍ تَعُجُّ بالقَتَلةِ والكَفَرةِ والزُّناة يتمرَّغون في حَمْأة الفجورٍ، تَلفَحُهم زَفَراتُ الغرائز، وتَسُوطهم شهوةُ البهائم، فهم في الرِّجسِ والمُوبقاتِ غارِقون، وفي شُغلٍ فاكهون، متَّكؤون على سُررٍ مصفوفة، والمسافِحاتُ مسجوراتٌ في المواخِرِ يطوفُ عليهم ولدانُ اللواطِ بأكوابِ الرجسِ والخمرِ الحرام، يَلِغُون فيها فلا هم يُطفؤون أُوارهم، ولا هم يرتوون" (الجنة: 1: 4). وحُجةُ هؤلاء الأقزام في التنفير من جنةِ المسلمين أنها جنةٌ مادية! والسؤالُ: وماذا في الجنة المادية؟ ألاَ تُحبُّون الأكل؟ ألاَ تُحبُّون الشُّرب؟ ألاَ تُحبُّون الجِنس؟ ألاَ تحبُّون التمتعَ بالظِّلالِ والجمالِ والهدوء؟ ألاَ تُحبُّون أن تَستمعوا إلى الأصوات العَذبةِ الجميلة؟ ألاَ تُحبُّون راحةَ البال وسكينةَ النفس بعد كلِّ هذا القلقِ الذي اصطفيناه في الدنيا؟ إنَّ من يقول: "لا" لأيٍّ من هذه الأسئلة، لَهُوَ ثُعْلُبَانٌ كذابٌ أَشرٌ عريقٌ في النفاقِ والدجل! فما الحالُ إذا عرفنا أن هذه المُتَعَ الفردوسيةَ ستكونُ مُتَعًا صافيةً مبرَّأةً مِن كلِّ ما كان يَتلبَّسُ بها على الأرض مِن نُقصانٍ ونَفادٍ ومَللٍ أو كِظَّةٍ وغَثيانٍ أو قلقٍ وآلامٍ وأوجاعٍ وإفرازاتٍ وعِلَلٍ وتعبٍ وكَدْحٍ وصِراعٍ وخوفٍ، وكذلك مِن كلِّ ما كان يَعقُبُها من إخراجٍ وتجشُّؤٍ وفتورٍ وإرهاقٍ ونومٍ ومرضٍ .. إلخ؟. لقد ذُكر القرآنُ المجيدُ أن أهلَ الجنة {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48]، وأنهم سيَبْقَوْن {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: 108]، فما وجهُ التنطُّعِ والاشمئزازِ الكاذبِ إذن؟.

لقد لاحظَتُ أن الذين يُزْرُون على جَنَّةِ القرآن هم من أشدِّ الناس طلبًا للدنيا وتطلُّعًا إليها وانخراطًا فيها وسُعارًا محمومًا خَلفَ لذائذِها، ومنهم هؤلاء المُبشِّرون الذين كانوا ولا يزالون يُمثِّلون طلائعَ الاستعمارِ والاحتلالِ الغربيِّ لبلادنا وبلادِ كلِّ الشعوبِ المستضعَفة، ذلك الاستعمارُ الذي يريدُ أن يستمتعَ بطيباتِ الحياة دونَنا، ويتركُ لنا الجوعَ والفقرَ والجهلَ والمرضَ والقذارةَ والذِّلَّةَ والتخلُّفَ والشقاءَ! أليس مُضحِكًا أن يأتيَ هؤلاء بالذات ليُظْهِروا النفورَ من تلك اللذائذ؟ فمَن هم إذن يا تُرَى الذين سُعروا بحبِّ الجِنسِ على النحوِ الذي نَعرفُه في بلادِ الغرب واقعًا مَعِيشًا، وأدبًا مكتوبًا، ولَوحاتٍ مصوَّرَةً، وأفلامًا عاريةً، ومسرحياتٍ عاهرة؟. أفإن جاء الرسولُ الكريم - صلى الله عليه وسلم - وقال لنا: إنكم ستستمتعون بهذه الطيباتِ في الجنة، لكنْ مصفَّاةً مما يَحُفُّها هنا على الأرض من أكدارٍ وشوائب، ومصحوبةً بالمحبة بين أهلِ الجنةِ، ومشاهدتِهم لوجهِ ربِّهم العظيم ذِي الجلال والإكرام، وتمتُّعِهم بالرضا الإلهي السامي عنهم، وانتشائِهم بالتسبيحات الملائكية حولَهم، نَلْوِي عنه عطْفنا، ونشمخُ بأنوفِنا، ونُبْدِي التأففَ والتنطُّس؟ إنَّ هذا -وَايْم الحق- لَنِفاقٌ أثيم!. سنسمعُ هؤلاءِ المنافقين المنغمِسين في شهواتِ الجسدِ يتحدَّثون بتأفُّفٍ عن هذه اللذائذِ التي لا تَليقُ في نظرِهم ببني الإنسان، وهم الذين يمارِسون اللِّواطَ والسِّحاق مما يَنزِلُ بهذا الجسدِ وصاحبهِ أسفلَ سافلين. وها هو السيدُ المسيحُ عليه السلام نفسُه في الفقراتِ التي سَبقت جوابَه على سؤال اليهود، حين أراد أن يُوضِّحَ ملكوتَ السماوات، وهو ما يُقابلُ الجنةَ عندنا، ضَرَبَ لمستمعيه مثلاً مِن عُرْسٍ أقامه أحدُ الملوك لابنه أَوْلَمَ فيه وليمةً

قُدِّمتْ فيها الذبائحُ والمسمَّنات، وحَضرها المدعوُّون وقد لَبِسوا الحُلَلَ التي تَليقُ بهذه المناسبةِ السعيدة، فعلامَ يدلُّ هذا؟ وهل يَختلفُ يا تُرى عما نقولُه نحن عن الجنة؟ أَوَلَمْ يَقُلْ (مرقس: 14: 25، ولوقا: 22: 18): "إنه سيشربُ عصيرَ الكَرْمة في ملكوتِ الله جديدًا"، أي على نحوٍ آخَرَ غيرِ ما كان عليه في الدنيا، وهو ما يقولُه الإسلام؟ أو لم يقلْ لتلاميذِه: إنهم سيأكلون ويشربون معه على مائدته في الملكوت (لوقا: 22: 29 - 30)؟ فما الفرقُ بين الشرابِ والطعامِ وبين الجنس؟ أليست كلُّها مُتَعًا من مُتَعِ هذه الدنيا التي تتأفَّفون منها نُفاقًا ورياءً، وأنتم غارقون فيها إلى أذقانكم؟. ثم أين كان آدمُ وحَوَّاءُ في بَدءِ أمرهما؟ ألم يكونَا في الجنةِ؟ فماذا كانا يفعلانِ هناك؟ يقول "كتابكم المقدس": "إن هذه الجنةَ كان فيها أشجارٌ حسنةُ المنظرِ طَيبةُ المأكل، وإن الرجلَ يَتركُ أباه وأمه ويَلزمُ امرأتَه فيصيرانِ جسدًا واحدًا، وإن آدمَ وزوجَه كانا عُرْيانَينِ لا يشعُرانِ بخجل، وإن الله قد ضَمِن لهما الخلودَ فيها .. " إلخ (تكوين: 2: 8 - 9، 24). فما معنى كلِّ هذا؟ وماذا كان أبوانا الأوَّلان يعملانِ في الجنة؟ أكانا يكتفيانِ بتمضيةِ وقتهما في التأملات الروحانيةِ واضعَيْنِ أيديَهما على خُدودهما ليلاً ونهارًا؟ كذلك يتحدَّثُ "بولس" في رسالته الأولى لأهل كورنتس (15: 35 فصاعدًا) عن "الأجساد الأخروية" التي لا تَعرفُ الفسادَ ولا التحلُّلَ، والتي يُسمِّيها أيضًا بـ "الأجساد السماوية" و"الأجساد الروحانية"، وفي السِّفْر المسمَّى بـ "رؤيا القديس يوحنا" وَصْفٌ مفضَّلٌ لكثيرٍ من مُتَعِ الفردوسِ وعَذاباتِ الجحيم، وكلُّها ماديةٌ كالمُتع والعذاباتِ التي نَعرفُها في دنيانا هذه، مع التنبيهِ بين الحين والحين إلى أن كلَّ شيءٍ من هذه

الأشياءِ سيكونُ جديدًا، ولا يجري عليه ما كان يَجري على نظيرِه في الأرض من فسادٍ ونقصان، وهو ما لا يختلفُ عما قلناه، فلِمَ التعنُّتُ إذن ومهاجمةُ الإسلام نفاقًا وحِقدًا؟!. ولعلك -أخي الحبيب- تعرفُ سببَ تنفيرِهم من الجنة وسَلْبِها ما فيها من نعيم، إنهم يريدون تشويهَ صورتِها في أعيُنِ المسلمين؛ حتى لا يَعمَلوا لها ويُقبِلوا على ملذَّاتِ الدنيا دونَ النظرِ إلى جنةِ الآخرة وما فيها من نعيم مقيمٍ أخبَرَ به الصادقُ الأمين، فقال فيما أخبر عن ربِّ العالمين: "أعْدَدْتُ لعبَادِي الصَّالحينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأتْ، وَلاَ أذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلبِ بَشَرٍ، فَاقْرَؤُوا إنْ شِئتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] (¬1). * بثُّ الشبهات حول الإِسلام: لقد أثار واضعوا هذا الكتاب الكثيرَ من الشبهاتِ الساقطةِ التي باستطاعة المسلم العادي -فضلاً عن العالِم- أن يقومَ بالردِّ عليها، وهم بذلك يَهدِفون إلى تشويهِ صورةِ الإسلام عند غيرِ المسلمين ممن لا يعرِفون عن الإسلام إلاَّ اسمَه .. ومن هذه الافتراءات: 1 - الزعمُ أن بالقرآن أخطاءَ لغويةً ونحويةً!!: بمنتهى الصفاقةِ زَعم "شورش" أن القرآن الكريمَ احتوى على أكثرَ من (100) خطإٍ لغويٍّ في قواعد النحو، أما الفرقانُ الجديد فليس به أخطاء، وكنا نودُّ منه أن يذكرَ لنا هذه المواضعَ، والحقيقةُ أن كتابَ "الفرقان" المزعوم ¬

_ (¬1) رواه البخاري في "بدء الخلق" برقم (3005)، ومسلم في "الجنة وصفة نعيمها" برقم (5050).

بدأ الكلام بواو العطف

يَطفحُ بالأخطاء الساذجة التي لا يقعُ فيها طفلٌ في المرحلةِ الابتدائيةٍ، ولكنْ يأبى اللهُ إلاَّ أن يكشفَ سِتْرَ هذا الكذاب، وسوف أنقلُ بعضًا من أخطائِه اللغويةِ الساذجةِ التي سقط فيها سقوطَ الجرادل: * بدأ الكلام بواو العطف: هل رأيتم أحدًا قطُّ يبدأ كلامًا جديدًا له بواو العطف؟ إن هذه الواو إنما تعنى أن هناك كلامًا سابقًا، وأن الكلام الحاليَّ هو امتداد لفظيٌّ ومعنويٌّ له، وهو ما لا وجودَ له هنا؛ لأن هذه هي بدايةُ السورة، وهل قبل البدايةِ شيء؟ وعلى رغم وضوح المسألة -بل نصاعتها- فإن هؤلاء اللصوصَ لا يُراعُون هذه البديهيةَ في عالَم النحوِ والكتابةِ والأساليب، فتجِدُهم يقولون مثلاً في مطلع "سورة الطهر": "ودعانا الشيطانُ بأسماءٍ قُبْحَى غيَّبها بأسماءٍ حُسنى مكرًا منه .. ". وكذلك في مطلع سورة "الرعاة" و"الإيمان" و"الحق" و"الطهر" و"الزنى" و"المعجزات و"الضالين" و"الصيام" و"الماكرين" و"الأميّين" و"الصلاة" و"الملوك" و"الهدى". * "رمتني بدائها وانسلَّت": هذا "الشورش" الدجَّال الذي يَدَّعي وجودَ الأخطاءِ في القرآن، وأتى بُفرقانِه المليءِ بالأخطاءِ مِن رفعِ "خبر كان"، ونَصْبِ "الفاعل" كما في سورة "الصلاة: 3" والجهل بالضمائر، وعدم التفريق بين "جَمع المؤنَّثِ السالم"، و"جمع التكسير"، ونصبِ "المضارع" بغير ناصبٍ، وهذا لا يفعلُه إلاَّ خَواجة أعجميٌّ لا يَعي شيئًا من العربية .. فكيفَ يدَّعي هذا المأفونُ بأن

كيف يكون الفرقان بلغة العرب؟!

فرقانه مُنزَّلٌ من ربِّ العالمين؟! .. فدعْ عنك الكتابةَ لست منها ... ولو سَوَّدتَ وجهَكَ بالمِدادِ * كيف يكون الفرقان بلغة العرب؟!: أمرٌ آخرُ من التناقض وقع فيهِ هؤلاءُ العُلُوجُ، فقد ردَّدوا ما جاءَ في كتابنا العزيز من أنه ما مِن نبيٍّ أُرْسِل إلاَّ بلسانِ قومه، فما معنى نزول هذا "الضلال المبين" بالعربية؟ بل بالعربية المسجوعة؟ معناه أنه نَزل للعرب؛ لأنهم هم الذين يتكلَّمون العربية، أليس هذا هو ما تقتضيه العبارةُ التي قالها هؤلاء العُلوجُ، والتي سرقوها بنصِّها من القرآن المجيد ووضعوها في هذا الموضع الدَّنِس؟ بَيْدَ أنهم يقولون: إنَّ النبوةَ لا تكونُ إلاَّ في بني إسرائيل، فليس للعرب فيها -إذن- أيُّ نصيبٍ (حقدًا منهم على إسماعيل وأُمِّه هاجر، التي يقولون إنها أَمَة، وابنُ الأمَة لا نصيبَ له عندهم في البركة النبوية). وبطبيعةِ الحال فالعربُ لا يُمكنُ أن يكونوا قومَ نبيٍّ من بني إسرائيل، إذ إن بني إسرائيل هم ذريةُ يعقوب عليه السلام، أمَّا العرب، فهم ذريةُ إسماعيل عليه السلام هو معروف. * هل يأتي المَلاكُ الرحيم بمكرٍ للشياطين؟!: يقول بعد البسملة التثليثية في أول ما يسمَّى بـ "سورة الحق" -والحقُّ منها ومن مُزيِّفيها براء-: "وأنزلنا الفرقانَ الحقَّ نورًا على نورٍ مُحقًّا للحق ومُبطِلاً للباطل وإن كَرِه المُبطِلون * ففضح مَكرَ الشيطانِ الرجيم ولو تَنَزَّل بوحيِ مَلَكٍ رحيم". بالله هل هذا كلامُ إلهٍ يدري ما يقول؟ ما معنى أنه سيَفضحُ مكرَ

كيف يكون المؤمن منافقا؟

الشيطانِ الرجيم حتى لو جاء به مَلاكٌ رحيم؟ تُرَى كيف يُمكنُ أن يأتيَ بالوحي الشيطاني مَلاكٌ رحيم؟ هل الملائكةُ تتصرَّفُ من تلقاء نفسها؟ بل هل يمكن أن يقعَ منها أيُّ عِصيانٍ لأوامرِ الله؟ ومِثلُ ذلك رَقاعةً وسُخْفًا قولُهم في الفقرة الثانية من "سورة الطهر": "ولو كنتم أنبياءَ وأُوتيتُم الحكمةَ واطَّلعتم على الغيب وأَتيتم بالمعجزاتِ دون محبةٍ، فلا حولَ لكم ولا مِنَّةً، وإنما أنتم مفترون". كيف بالله يمكنُ أن يكون إنسانٌ ما نبيًّا مؤيَّدًا بالحكمة وعِلم الغيب والمعجزات جميعًا، ثم يرفضُ اللهُ تعالى أن يعترفَ به نبيًّا؟ فمَن الذي أرسله إذن وجَعَله نبيًّا وأيَّده بكلِّ هذه المواهبِ الإعجازية؟ إنَّ القومَ إنما يَصدُرون هنا عن الفِكرِ الوثني، إذ يتصوَّرون أن هناك إلهًا آخَرَ يُمكنُ أن يُرسِلَ نبيًّا من لدنه على غير هوَى الله فيرفضُ اللهُ مِن ثَمَّ أن يَعترفَ بنبوته. * كيف يكون المؤمن منافقًا؟: يقول الفرقان الأمريكي في سورة (الكبائر/ 9) و"مؤمنين منافقين" ولا أدرى كيف يُوصَف المؤمن بأنه منافق؟!. * التأييد بالمعجزات: لقد زَعم هذا المخبولُ أنه قد أيَّد هذا "الضلال المبين" بالمعجزاتِ حسبما جاء في الفقرتين الرابعة والخامسة من "سورة المعجزات"، فأين تلك المعجزاتُ يا ترى؟ أَفتُوني بعلمٍ أيها العقلاء! إن النبيَّ الكذابَ صاحبَ هذا الكتاب لم يجرؤْ على الظهورِ للناس في أولِ الأمر، فكيف يمكنُ أن يكونَ قد أتى بمعجزاتٍ أراناها فصدَّقْنا به وبها، ونحن لم نتشرَّفْ أصلاً بطَلْعته الغبيَّة؟.

البشارة هل يمكن أن تكون للضالين؟

* البشارة هل يمكن أن تكون للضالين؟: وفي تلك السورة نفسها نقرأُ هذا الكلامَ العجيبَ الذي لا يُمكنُ أن يصدرَ عن أميٍّ، بَلْهَ ربِّ العالمين الذي خَلق العقلَ والبيان، فلا يُعْقَل أن يَصِلَ لهذا الدَّرْك الأسفل من العِيِّ واللامنطق، إذ جاء في الفَقرة الثامنة منها وصفًا لـ "الضلال المبين" الذي يُسمُّونه كذبًا بـ "الفرقان الحق": "صِنْوُ الإنجيل، ورَجْعُ الصَّدَى، وبيانٌ للناس كافةً، وتذكرةٌ للكافرين، ونورٌ ورحمةٌ، وبَشيرٌ ونذير، وهدًى للضالين لعلَّهم يتذكرون ويهتدون". تُرى كيف يكونُ بَشيرًا للضالين؟ إنَّ البشارةَ إنما تكون للمهتدين لا للضالين!!. * الزعمُ بأن الإسلامَ انتشر بحدِّ السيف: حاول المؤلِّفُ القِزمُ إثباتَ أن الإسلامَ انتشر بحدِّ السيف، وردَّد هذه الفِرْيةَ في أكثرَ من سورة من سُورِهم المزيفةِ مثل: سورة القتل" و"سورة الماكرين" و"سورة الطاغوت"، و"سورة المحرِّضين" و"سورة الملوك" و"سورة الجزية" فقال: "وحَمَل الذين كفروا على عِبادنا بالسيف، فمِنهم مَن استسلم للكفر خوفَ السيفِ والرَّدى، فآمَنَ بالطاغوت مُكرَهًا، فسَلِم وضَلَّ سبيلاً، ومنهم مَن اشترى دِينَ الحقِّ بالجزية عن يدٍ صاغرًا ذليلاً، ومنهم مَن تمسَّك بالدينِ الحقِّ فقتلوه في سبيلنا" (الجزية: 5). وجاء في (العطاء: 10): "ورُحتم تقتلون المؤمنين من عِبادنا، وتُكرِهون الناسَ بالسيف على الكفر، وهذه سُنَّةُ المجرمين، ألاَ تَعْسًا للمنافقين الذين يقولون ما لا يفعلون".

القرآن الأمريكي وقضايا المرأة

وفي سورة (القتل: 5): "وبأنهم هَدَموا الكنائس، وقَتلوا القائمين عليها .. واعتديتُم على بيوتِ أَذِنَّا أن تُرفعَ ويُذكَرَ فيها اسمُنا، وهدمتُم كنائسَ وبِيَعًا يُسبِّحُ لنا فيها بالغدوِّ والآصال، وسعيتم لخرابها، وقتلتم القانتين المؤمنين من عِبادنا، وتلكم أفعالُ المجرمين". وإمعانًا في وصف المسلمين بالقَتَلة وسَفكِ الدماء خَصَّهم بسورةٍ سماها سورة (القتل: 31). وهذا الاتهام، الإسلامُ منه بريءْ براءةَ رَحِم الفيل من وَلِدِ الأتَان. * القرآن الأمريكي وقضايا المرأة: تناول الفرقانُ المزعومُ المرأةَ في مواضعَ كثيرة، بل خَصَّها بأربع سُورٍ هي: (النساء: 24)، و (الزواج: 25)، و (الطلاق: 26)، و (الزنى: 27)، وأثار فيها قضايا التعدد، والسَّبْي، وقِوامةِ الرجل، والميراث، وشهادةِ المرأة، وملامستِها، وزَعموا أن الإسلامَ امتَهَن المرأةَ، كما تَزعمُ جمعياتُ حقوقِ الإنسان الغربيةِ الكافرةِ بأن الإسلامَ جَعَل المرأةَ سِلعةَ تُباعُ وتُشترى بقولهم على الله كفرًا وزُورًا: "وهنَّ حَرثٌ لكم تأتون حرثَكم أنى شئتم، ذلك هو الظلمُ والفجورُ، فأين العدلُ والخُلقُ الكريم؟ وبدأنا خَلْقَكم بآدمَ واحدٍ وحواءَ واحدةٍ، فتُوبوا عن شِركِ الزنا ووحِّدوا أنفسَكم بأزواجكم .. فللزوج الذكَرِ الواحدِ زوجةٌ أُنثى واحدة وما زاد عن ذلك فهو من الشيطان الرجيم .. فالمرأةُ بشِرعتكم نصفُ وارثٍ، فللذكرِ مِثلُ حظِّ الأنثيين، وهي نصفُ شاهدٍ، فإن لم يكن رجلان فرجلٌ وامرأتان، فللرجالِ عليهن درجة، وهذا عدلُ الظالمين .. هذا خَشِيتم عليهن الفتنةَ

غيرةً احتبستموهن بقولكم: قَرْنَ في بيوتكن، ألاَ ساءَ حُكمُ الظالمين قرارَا .. فأيُّ سلعةٍ تبتاعون، وأيُّ بهيمةٍ تقتنون وتسوسون؟!. وقالوا: "يا أيها الناس: لقد زنى مَن كان أحد أربعة: مشركًا بزوجته أخرى، أو مُطلِّقَها دون زناها، أو زوجَ مطلقة، أو ذا عينٍ زانية، وفعلٍ ذميم" (الزنى: 12). ويقول: "مَن طلّق زوجتَه إلاَّ لزناها فقد زنى، ومَن أشرك بزوجته أخرى فقد زنى، وما للزاني إلى الجنة من طريق" (الطلاق: 10). وجاء في سورة "النساء الأمريكية: "يا أهلَ الظلم من عبادنا الضالِّين، فقد اتخذتم من المرأة سِلعةَ تُباع وتُشترى، وتُنبَذُ نَبْذَ النوى، ومَهيضةَ الجَناح، هضيمةَ الجانب، وما كان ذلك من سُنَّةِ المُقسِطين، تقتنون ما طاب لكم من النساء كالسوائم تأسِروهن حبيساتٍ وهنَّ حَرثٌ لكم تأتون حَرثَكم أنَّى شئتم، ذلك هو الظلمُ والفجور، فأين العدلُ، فللذكر مثلُ حظِّ الأنثيَينٍ، وهي نصف شاهد، فإن لم يكن رجلانِ فرجلٌ وامرأتان، فللرجلِ عليهنَّ درجةٌ، وهذا عدلُ الظالمين، وملامسةُ المرأة نَجَسٌ تأنفون منها قائلين: إذا جاءَ أحدُكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمَّموا صعيدًا طيبًا، واتخذتم من المرأةِ مَوْرِدَ غريزةٍ تطلبونها أنَّى شئتم ولا تطلبكم، وتُطلِّقونها أنَّى شئتم ولا تُطلِّقكم، وتهجرونها ولا تهجركم، وتضربونها ولا تضربُكم، وتُشركون بها مَثنى وثُلاثَ ورُباعَ وما مَلَكَتْ أيمانُكم، ولا تُشرك بكم أحدًا" (النساء: 1: 8). إلى غير ذلك من السخف الذي لا ينطلي على عاقل.

المرأة في الغرب

° ويُمكن جمعُ شبهاتِ أصحابِ هذا الكتاب بالنسبة للمرأة فيما يأتي: - تعدد الزوجات. - الطلاق. - مساواة المرأة بالرجل. - ميراث المرأة. - لمس المرأة. * المرأة في الغرب: ظهرت إحصائيةٌ بلندن عن وضع المرأةِ في الغرب في صحيفةٍ عربيةٍ تصدرُ في لندن، جاء في هذه الإحصائية (29/ 5/ 1980) أن 75% من الأزواج يخونون زوجاتِهم في أوروبا، وأن نسبةً أقلَّ من المتزوجات يَفْعَلْنَ الشيءَ ذاته (¬1)، وقد أفادت بعضُ الإحصائيات أنه: - يُغتصب يوميًّا في أمريكا (1900) فتاة، 20% منهن يُغتَصَبْنَ من قِبَلِ آبائهن!!. - (1.553.000) حالة إجهاض أُجريت على النساء الأمريكيات سنة 1980م (30%) منها لفتياتٍ لم يتجاوَزْنَ العشرينَ من أعمارهن. بينما تقول الشرطة: إن الرقم الحقيقي ثلاثةُ أضعاف ذلك!!. - 82 ألف جريمة اغتصاب، منها 80% وقعت في محيط الأسرة والأصدقاء. - يتم اغتصابُ امرأةٍ واحدة كل (3) ثوان سنة 1997م. - مليون امرأة تقريبًا عَمِلن في البغاء بأمريكا خلال الفترة من (1980م إلى 1990م). ¬

_ (¬1) "عمل المرأة في الميزان" لمحمد علي الباز (ص 131).

بث ثقافة الانحلال والإباحية

- (2500 مليون) دولار الدخل المالي الذي جنته مؤسساتُ الدعارة وأجهزتها الإعلامية سنة 1995م. - في بريطانيا (170) شابة تحمل سفاحًا كل أسبوع (¬1). * بث ثقافة الانحلال والإِباحية: ولأن الكِتابَ الأمركي يُعَدُّ بحقٍّ مستنقعًا للقاذورات، فلا غرابةَ إذا كانوا يتعمَّدون فيه مساواةَ الطُّهْرَ بالخبث والنجاسات!! ومساواةَ النكاحِ بالزنا!! ففي سورة "الطهر" بقولهم على الله زورًا وكذبًا: "وما كان النجسُ والطمْثُ والمحيضُ والغائطُ والتيممُ والنكاحُ والهجرُ والضربُ والطلاقُ إلا كومةَ رِكسٍ لَفَظها الشيطان بلسانكم، وما كانت مِن وَحينا وما أنلنا بها من سلطان". * وفي السورة المزعومة ذاتها منتهى التألِّي على الله -عز وجل- والكفرِ بما أنزل من آياتٍ بينات بقولهم افتراءً عليه: "وقُلتم إفكًا: لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشةً وساء سبيلاً .. وأُمرتم باقترافه مثنَى وثُلاثَ ورُباعَ أو ما مَلكت أيمانُكم، ولا جُناحَ عليكم إذا طلقتم النساءَ فإن طلقتموهنَّ فلا يَحْلِلن لكم من بعدُ حتى ينكحن أزواجًا غيرَكم فهل بعد هذا من زنًى وفحشٍ وفجور". تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا .. إنهم يَصِفون تعدُّدَ الزوجاتِ بالزنى، والطلاق كذلك!!. وفي سورة "الزنا" افتروا على الله القول: "يا أهل السِّفاحِ من عِبادنا ¬

_ (¬1) انظر: www.lahaonline.com

ذم العبادات في الفرقان الأمريكي

الضالين: لقد دفعتم بأنفسِكم إلى الزنا بما طاب لكم من النساء مثنَىَ وثُلاثَ ورُباعَ أو ما مَلكت أيمانُكم، فعارضتم سُنَّتنا في الإنجيل الحقِّ بأن مَن نظر لأنثى بعينِ الشهوة فقد زنا بها في قلبه السقيم، ومَن أشرك بزوجةٍ أخرى فقد زنا وأوقعها في الزنا والفجور". وتمشِّيًا مع هذه السياسةِ الإباحيةِ عاب صاحبُ الضلالِ المبينِ على الإسلام إقامةَ حدِّ الرجمِ على الزاني، فمما جاء في سورة (الزنا: 8): "ورجمتُم الزناةَ كأنكم أبرياء، فمَن بَرَّأ نفسَه فلْيكنْ أولَ الراجمين". * ولعلك تعرفُ -أخي الكريم- السبب، فأصحابُ هذا العفن يَغُوصون في إباحيةٍ عفنة. * ذمُّ العباداتِ في الفرقان الأمريكي: ولم يَنْسَ مُلفِّقو هذا الباطل المسمَّى بالفرقان أن يُشوِّهوا العبادات، فتارةً يزعمون أنها لا تُقبل، وطَورًا يُنفِّرون من أداءِ الصلاةِ في جماعة، وهاكم ما قالوه. 1) الصلاة والدعاء: أراد المؤلِّفُ أن يَحُطَّ من شأنِ الصلاة في المساجد والدعاء، فهو يَعُدُّ الصلاة في المساجدِ والأماكنِ العامةِ من الرياء، فقال في سورة (الصلاة: 3: 7): "إن الذين يُقيمون الصلاةَ في زوايا الشوارع والمساجدِ رياءً كي يَشْهَدَهم الناسُ، ذلك هم المنافقون. وهم في الحقيقة لا يُصلُّون، فمَن نَوى أن يُصلِّيَ فليدخلْ دارَه، وليُغلقْ بابَه، ويُصلِّ خُفْيةً تجزيه علانيةً بعين العالمين * تُكرِّرون الكلامَ لَغْوًا كعَبَدَة أوثانٍ تظنون أنكم بالتكرار تُسْتَجَابون * إننا

2) الصيام

نَعلم سُؤْلكم قبلما تَسْألونِ * وتُردِّدون الدعاءَ طمعًا بدخولِ الجنة، فلن تُفْتَح أبوابُ الجنة للمنافقين، أما الذين يعملون بمشيئتنا فهم الذين يدخلون". 2) الصيام: ولَم تَنجُ فريضة الصيام هي الأخرى من كيدهم لماذا؟ لا أحدَ يدري؟! يقول فرقانهم المزعوم في سورة (الصيام: 3: 8): "يا أيها المنافقون من عبادنا: إن صيامَكم غيرُ مقبول لدينا وغيرُ ممنون * فما كان الصومُ تضوُّرًا لأجَلٍ معلوم * تَتْخَمون صُوَّمًا أكثر منكم مفاطرَ وكالأنعام تَطْعَمون * تُرهقون أجسادكم ونفوسَكم نَهمًا فكأنكم ما طَعمْتم من قبلُ ولن تكونوا من بعدُ طاعمين * وتأكلون السَّنةَ في شهر جَشَعًا لِضعفكم وتضوُّركم فخيرٌ لكم ألاَّ تصوموا فإنه لا أجرَ للضعفاء والمتضوِّرين * وتكلِّحون وجوهكم وتُصعِّرون خدودَكم للناس لتَظْهَروا صائمين إنما يفعلُ ذلك القومُ المنافقون". 3) ذبح الأضاحي: من الشعائر التي يتقرَّبُ بها المسلمون إلى ربهم ذبحُ الأضاحي، والمسلمُ حين يذبحُ أُضحِيَتَه يَلهَجُ لسانُه وقلبُه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]. وأصحابُ هذا "العَفَن" لا يُحبُّون هذه الشعيرة، وهذا البغضُ قديمٌ وليس جديدًا، يقول شاعرُهم الأخطلُ، الذي فقد حاسةَ الحياء والتذوق: ولستُ بصائمٍ رمضانَ طَوعًا ... ولستُ بآكلٍ لَحْمَ الأضاحي (¬1) ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" لابن كثير (9/ 263).

وانظر إلى "الفرقان الباطل" وهو يقول: "يا أهلَ العُدوان من عِبادنا الضالين: تَسفِكون دماءَ البهائم أُضحياتٍ تبتغون مغفرةً ورحمةً من لدُنَّا عما اقترفَتْ أيديكم من قتل وزنًى وإثمٍ وعدوان * إنما أُضحيةُ الحقِّ قلبٌ طهيرٌ يتفجَّرُ رحمةً ومحبةً وسلامًا لعبادِنا ورِفقًا بالبهائم، فلن ينالَنا لحومُها ولا دماؤها ولكن ينالُنا تقوى المتقين" (الأضحى: 7). ومن الواضح أن مَثَلهم حين يتظاهرون بالعَيب على دينِ ربِّ العالمين كَمَثَل المومسِ التي لا يُعجِبُها عِفَّةُ الحرائرِ الشريفاتٍ، فتَذهبُ تَعِيبُهنَّ قائلةً في تَبَاهٍ وتشامخٍ كاذبٍ داعر: إنها عشيقة لفلانٍ وفلانٍ من أكابرِ القوم وليست زوجةً لرجل لا هو صاحبُ شهرةٍ ولا ذو منصب كبير من السِّفلة المجرمين! ماذا في إفرادِ الله سبحانه وتعالى بالعبادةِ والصلاةِ والصيام؟ وماذا في الصلاة في المساجد بحيث يُزْرِي عليها الكَفَرَةُ المارقون؟. وماذا في الأضاحي؟ إنكم تُظْهِرون الشفقةَ عليها، فهل نَفهمُ مِن هذا أنكم لا تذبحون الحيواناتِ ولا تأكلونها؟ وهل يَكرهُ اللهُ من عباده أن يُطْعِموا مِن أضاحيهم الفقراءَ والمساكين؟ فأين المحبةُ والرحمةُ التي تُصدِّعون رؤوسَنا بها ليلَ نهار؟ أم أن اللحمَ لا يَصلحُ إلاَّ إذا كان مِن جَسَد المسيحِ تأكلونه كما يَفعلُ الوثنيون؟ كيف يا إلهي يأكلُ الإنسانُ جَسَدَ ربِّه وَيشربُ دَمَه؟ (¬1) والذي يجعلُكم تُبغضِوننا وتحقِدون علينا إلى يوم الدين! إننا حينَ نَذبحُ الأضاحي إنما نذبحُها ليَطْعَمَ معنا منها المحتاجون والجائعون لا ليتمتعَ برائحتها اللهُ ربُّ العالمين، وكأنه إله من آلهة الوثنيين حسبما ¬

_ (¬1) "البداية والنهاية" لابن كثير (9/ 263).

إنكار النسخ في القرآن

صوَّرتموه في "الكتاب المقدس" لديكم، ولذلك تُتْرَك فلا يَأكلُ منها أحد. * وهذا معنى قوله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37] الذي سرقتموه كعادتكم ونقلتموه إلى "ضلالكم المبين" دون فهمٍ، كالحمارِ الذي يَجلسُ إلى مكتبٍ ويُمسِكُ كتابًا بحوافرِه يظنُّ أنه بذلك سيكونُ من الآدميين الذين يفهمون. * إِنكار النَّسْخ في القرآن: أنكر صاحبُ هذا الضلال النسخَ في القرآن فقال: "وافتريتم على لسانِنا الكذبَ، وقلتم بأننا متى نَنسخُ من آيةٍ أو نُنسِها نأْتِ بخير منها أو مثلها، فما أخطأنا ولكن كنا غافلين" (النسخ: 8). وقد عابوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه أتى بالنسخ، ويُكفِّرونه من أجلِ ذلك، وتناول ذلك في صورةٍ سماها (سورة النسخ: 45). إبطال القِصاص: وَيَعُد صاحب "الفرقان" القِصاصَ من أحكام الجاهلية، فقال في سورة (الحكم: 10): "أفحكم الجاهلية تبتغون، بأن النفسَ بالنفس، والعينَ بالعين، والسِّنَّ بالسِّنَّ، إنْ هو إلاَّ سُنَّة الأوَّلين، وقد خَلَتْ شِرْعةُ الغابرين" (¬1). ويقول في "سورة العطاء": "يا أيها الذين ضلُّوا من عبادنا، لقد قيل لكم: النفس بالنفس والعينُ بالعين والسِّنُّ بالسن .. ". ¬

_ (¬1) انظر "قراءة في الكتاب المزعوم - الفرقان الحق" للدكتور محمد سالم بن شديد العوفي الأمين العام لمجمع الملك فهد لطباعة المصحف.

الحلف بالله محرم في القرآن الأمريكي

ويعودُ هذا الغافل في الفقرة السادسة فيقول بخصوص هذه الآية نفسها: "ورحتم تُضِلُّون المهتدين وتفترون علينا الكذبَ إنه لا يفلح المفترون". فشورش هنا يَعيبُ على الإسلام أنْ سَنَّ تشريعَ القِصاص، ولا يَدري هذا الجاهلُ أن هذا تشريعٌ وَرَد في التوراة التي يُسمِّيها بالعهد القديم، وهذا هو النصُّ جاء في القرآن الكريم: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] أي كتبنا على بني إسرائيل، ولا أحدَ في اليهوديةِ أو النصرانيةِ إلاَّ ويؤمنُ بأن التوراةَ هي من عند الله، والقرآنُ لم يَقُلْ شيئًا آخَرَ غيرَ هذا. وجاء ذلك فيما يسمَّى (سورة الحكم/ 10): "أَفَحُكْمَ الجاهلية تبتغون بأن النفسَ بالنفس والعينَ بالعين والسِّنَّ بالسن إنْ هو إلاَّ سُنَّةُ الأولين وقد خَلَتْ شِرْعةُ الغابرين". الحلفُ بالله محرمٌ في القرآن الأمريكي: لقد وردت في الفقرة الحادية عشرة من (سورة الزنى: 11) في "ضلالهم المبين" الكلمة التالية: "ووصَّينا عبادَنا ألاَّ يحلِفوا باسمنا أبدًا، وجوابُهم: نَعَمْ أَوْ: لا، فقلتم بأنَّ مَن كان حالفًا فلْيَحلِفْ باسمِ الإله أو يصمت، وهذا قولُ الكَفَرةِ المارقين". تحطيم مبدأ الولاء والبراء: وكي يُمرِّرَ استراتيجيةَ تحسينِ الصورةِ له في بِقاع المسلمين وخَلخلةِ

نَمُوذجهم العقدي فيما يتعلَّقُ بالولاءِ والبراء، فقد ضَمَّنوا هذا الكتابَ ما يتَّفقُ والسياقَ العقديَّ المرغوبَ فيه الخاليَ من أيِّ موقفٍ دينيٍّ صارمٍ تُجاهَ أعداءِ الإسلام، فيذكر في سورةِ ما يقال عنها "الصلاح" المكذوبة من نفي المعاداة الكافرين، والبراءة من الضالين والملحدين بقولهم: "يا أيها الذين ضَلُّوا من عِبادنا هل ندلُّكم على تجارةٍ تُنجيكم من عذابٍ أليم، تحابُّوا ولا تباغَضوا، وأحِبُّوا ولا تكرهوا أعداءكم، فالمحبةُ سنَّتُنا وصراطُنا المستقيم .. وسُكُّوا سيوفَكم سككًا ورماحَكم مناجلَ ومِن جنى أيديكم تأكلون". ويستمرُّ الإجرامُ في منهجيته في الآياتِ المزعومة القائلة: "وكم من فئةٍ قليلةٍ مؤمنةٍ غَلبت فئةً كثيرةً كافرةً بالمحبةِ والرحمةِ والسلام"!!. • وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُبايعُ أصحابَه على الولاءِ للمسلمين والبراء من الكافرين، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "أبايعُكَ على أن تعبدَ اللهَ، وتُقيمَ الصلاةَ، وتؤتيَ الزكاة، وتُناصِحَ المسلمين، ونُفارِقَ المشركين" (¬1). ° قال أبو الوفاء بن عقيل: "إذا أردت أن تعرفَ محلَّ الإسلام من أهلِ الزمان، فلا تنظرْ إلى زِحامهم في أبوابِ المساجد، ولا ضجيجِهم في الموقفِ بـ "لبَّيكَ"، وإنما انظرْ إلى مواطأتِهم أعداءَ الشريعة، عاش ابنُ الرَّاوندي والمَعَرِّي عليهما لعائن الله يَنظِمون وينثرون كُفرًا .. وعاشوا سِنين .. وعُظِّمت قبورُهم، واشتريتُ تصانيفهم، وهذا يدلُّ على برودة الدين في القلب" (¬2). ¬

_ (¬1) حديث صحيح: رواه النسائي في "البيعة" (6 - 41)، وصححه الألباني في "صحيح النسائي". (¬2) "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/ 268).

{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121]. * صدق الله العظيم: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221 - 222]. صَدَق اللهُ وكَذَب "شورش"، كما كذب "رشاد خليفة" من قبله الذي ادَّعى النبوةَ، وزَعَم في مطلع عام 1980 أن جبريل - صلى الله عليه وسلم - قد أتاهُ بالوحي، ثم أخزاهُ اللهُ ووَجدت الشرطةُ جثَّته في فبراير عام 1990 مضرجةً بالدماء في مطبخِ منزله، وتبيَّن بعدَ المعاينة أنه قُتل ذبحًا وطَعنًا بالسكاكين، وبعد عامين على مَقتلِه أُعْلِن عن إلقاءِ القبض على بعضِ أتباعِه بتهمةِ ارتكابهم لجريمةِ القتل، وكان مقتل "رشاد خليفة" موضوعَ غلافٍ لمجلة "المجلة السعودية" التي تصدُر في لندن (العدد رقم 536 الصادر في 22 مايو 1990" (¬1). * يبقى القرآنُ ما بَقِيَ الحق، ويذهبُ الدجَّالون الكذَّابون إلى مزابلِ التاريخ قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38]. * وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13]. ¬

_ (¬1) "القرآن الأمريكي أضحوكة القرن الحادي والعشرين" (ص 51).

القس "رونار سوجاود"

* وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23 - 24]. ° يقول المستشرق الفرنسي "موريس بوكاي": "صحَّةُ النصِّ القرآني المَنَزَّل على محمدٍ لا تَقبلُ الجَدَل، وتُعطي النصَّ مكانةً خاصةً بين كُتبِ التنزيل، ولا يَشتَركُ مع نصِّ القرآن في هذه الصَّحَةِ لا العهدُ القديم ولا العهدُ الجديد، وسببُ ذلك أن القرآن قد دُوِّن في عصرِ النبي، ولم يتعرَّض النصُّ القرنيُّ لأيِّ تحريفٍ من يومِ أنْ أُنزِل على الرسول حتى يومنا هذا" (¬1). ° ونختمُ بما قال "لاكوست" وزير المستعمرات الفرنسي: "وماذا أصنعُ إذا كان القرآنُ أقوى من فرنسا" (¬2). * بل أقوى من الدنيا والخلائق أجمعين .. يبقى القرآن لأنه كلام الله. * القس "رونار سوجاود": تاريخ السويد في الإساءاتِ إلى الإسلام ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أسود، فالقَسُّ "رونار سوجارد" انتقد في عِظةٍ ألقاها في "استوكهولم" في 20 مارس ¬

_ (¬1) "التوراة والإنجيل والقرآن والعلم" لموريس بوكاي (ص 151)، ترجمة حسن خالد المكتب الإسلامي، ونُحيل القارئ إلى ما كتبه "موريس بوكاي في كتابه "دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة" -دار المعارف- لبنان 1977. (¬2) "قادة الغرب يقولون"، جريدة "الأيام" عدد 7780، الصادر في 6 كانون أول 1962.

مجلة ناشيونال ريفيو الأمريكية

2005 زواجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - من السيدة عائشة - رضي الله عنها - موجِّهًا عباراتٍ مسيئةً في حقِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). * مجلة ناشيونال ريفيو الأمريكية: رَوَّجت المجلة لكتابين في مارس الماضي (2005م) هما "حياة ودين محمد" و"سيف الرسول" وكلاهما يحتوي على إساءاتٍ واضحةٍ موجَّهةٍ ضدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم تعتذرِ المجلة، وإنما قَبلت -تحتَ وطأةِ الضغوط- أن تُوقِف الإعلان (¬2). * المذيع الأمريكي "جرام": والمذيعُ الأمريكي "جرام" في إذاعةِ "دبليو. إم. إيه" الأمريكية في أغسطس 2005م يَصِفُ الإسلامَ بأنه منظمةٌ إرهابية، ويُردِّدُ عباراتٍ مثلَ "المشكلة ليست التطرفَ، بل المشكلةُ تكمُنُ في الإسلام نفسِه"، و"نحن في حربٍ مع منظمةٍ إرهابية تُدعى الإسلام" (¬3). أما آخر ما ابتُلي به الإسلامُ من عنصريةِ وإهاناتٍ، فكان وَصفُ المذيع الأمريكي الذي كان يَصفُ الحجَّ من الطائرة الهليوكبتر لإذاعة ( KFI) الأمريكية بأن الحجيجَ هم قطيعٌ من الماشية (¬4). ¬

_ (¬1) مقال "التاريخ الأسود للهجوم على الإسلام" لنفيسة عبد الفتاح مجلة "الأسبوع" العدد 464 (ص 12) - 14 من المحرم 1427هـ - 13 من فبراير 2006م. (¬2) نفس المصدر. (¬3) نفس المصدر. (¬4) نفس المصدر.

قناة إباحية فرنسية تهين القرآن

* قناة إِباحية فرنسية تُهين القرآن: فوجئ الناسُ بعد الرسومِ الكاريكاتيرية الدنماركية بالإعلام الفِرنسي المرئيِّ يتبنَّى حَملةً جديدةً وسافرةً تُسيئُ إلى الإسلام وتَفوقُ في خطورتها أزمةَ الرسوم الكاريكاتيرية، حيث يبثُّ القمرُ الأوربي طوالَ الساعة إرسالَ قناةٍ إباحية تحمل " XXL " هذه القناة التي ترفع شعار الجنس والابتذال في كلِّ ما تبثه، لجأت إلى فكرةٍ شيطانيةٍ حيث استبدَلت الموسيقى التصويرية لمشاهد الجنسِ والغرام بآياتٍ من القرآن الكريم لمشاهير القرَّاء في الوطن العربي والإسلامي (¬1). * اليهود المغضوب عليهم ورسم النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة ... : ما اقترفه اليهودُ في حق نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -، وحق إسلامنا فوقَ الوصف، ومسلسلُ الإهاناتِ التي اقترفها المستوطنون الصهاينة -المدعومين من أمريكا والغرب- بحق القرآنِ الكريم تمزيقًا وتدنيسًا، وبحق المساجد الإسلامية بكتابةِ الشعاراتِ المُهينة للإسلام والمسلمين على جُدرانها وباغتصابِ الجزء الأكبر من "الحرم الإبراهيمي"-بمدينة الخليل- وحتى برسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صورة خنزير!! (¬2). * ملكة الدنمارك "مارجريت": "إن للدانمرك تاريخًا طويلاً من الإساءات للإسلامِ والمسلمين، أهمُّها أن ملكة الدنمارك "مارجريت" ألفت كتابًا عن الحضارة الأوروبية، وكانَ ¬

_ (¬1) نفس المصدر. (¬2) جريدة "النبأ" -عدد 861 (ص 14) - الأحد 5/ 3/ 2006.

التطاول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرسوم الكاريكاتيرية في الدانمارك

طَرَفُ النَّقيض لتلك الحضارة العظيمة طبعًا هو الإسلام، فتهجَّمت على الإسلام والمسلمين والرسول - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). * التطاولُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرسوم الكاريكاتيرية في الدانمارك: تعود قصةُ الرسومِ الكاريكاتيرية إلى مؤلفِ كتب أطفالِ دانماركي يُدعى kaara Bluitgen، أراد أن يُزيَّن كتابًا وضعه للأطفال عن خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - بصورٍ لشخصيةِ بَطَل كتابه، ولكنَّ المؤلفَ لم يجد بين الرسَّامين مَن قَبِل الفكرة، فكان أن أُقيمت مسابقة شارك فيها 12 رسَّامًا، وتَبنَت صحيفةُ "جيلاندر بوستن" الدانماركية اليوميةُ نَشرَ رسوماتهم المسيئة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في 30 سبتمبر 2005 م، حيث صوَّرته - صلى الله عليه وسلم -. في أشكالٍ مختلفة، من بينها رَسم لوجهٍ غير مُحبَّبٍ للنبى الكريم - صلى الله عليه وسلم -، وعلى رأسه عمامةٌ مزخرفة بالشهادة، وتظهر قنبلةٌ يدويةٌ مغروسةٌ في ثنايا هذه العمامة، ولقد صنعوا ذلك في حَملةٍ صحيفةٍ منظَّمةٍ لمواجهة ما أسمَوه "الخوف من نقد الإسلام"، وانتَقلت الصور إلى شبكةِ "الإنترنت" فيما بعد. وعندما استفزَّت هذه الرسومُ سُفراءَ 11 دولة إسلامية -من بينها مصر وتركيا وباكستان وفلسطين والبوسنة وأندونيسيا- طالبوا في رسائل بعثوا بها إلى رئيسِ الوزراء الدانماركي "أندرس فوراسموسن" باعتذارٍ رسميٍّ من الصحيفة، وطلبوا مقابلةَ رئيسِ الوزراء، فرفض مقابلتَهم قائلاً: "إنَّ ما ¬

_ (¬1) "الإسلام والغرب افتراءات لها تاريخ" (ص 46)، وانظر جريدة "العربي" العدد (1500) مقال محمد حسين هيكل (ص 20) (3/ 12/ 2006) "صراع الحضارات" حيث قال: "فإن ذات الطرف رسم خنزيرًا وكتب عليه اسم الرسول الأعز الأكرم".

نشرته الصحيفة لم يَخرجْ عن حدود القانون، وإن الحكومةَ الدانماركيةَ لا تتدخل فيما هو من حرية التعبير". وليست هذه هي الواقعةَ الأوْلى التي تبث فيها وسيلةٌ إعلاميةٌ دانماركيةٌ إساءاتٍ إلى الإسلام والمسلمين، فقد توالت هذه الإساءات في الشهور الأخيرة، وأدين "كاي فيلهيلمسين" المعلق في الإذاعة الدانماركية بانتهاك قوانين مكافحةِ العنصريةِ بسبب إبدائه ملاحظاتٍ معاديةً للمسلمين، حيث طالَبَ بالقيام "بإبادةٍ جماعيةٍ للمسلمين في أوربا"، كما تواجِهُ محطة إذاعة "هولجر" المحلية ذات الميول اليمينية المتطرفة احتمالَ سَحبِ ترخيصها حولَ قضيةٍ تتعلَّق ببَث موادَّ عنصريةٍ ضدِّ المسلمين. وأقدمت الصحيفة النرويجيةُ "مغازينات" بإعادةِ نشر هذه الرسوم مرةً ثانيةً صبيحةَ عيد الأضحى لتكون الشريكة الثانية، وكانت السويد الثالث وأعادت نَشْرَ الرسومِ مرةً ثانيةً صحفٌ كثيرةٌ في فرنسا وإيطاليا والمانيا وهولندا وبلجيكا والبرتغال وأسبانيا واستراليا وسويسرا وأمريكا والنرويج والسويد وروسيا، فضلاً عن إسرائيل التي أعادت نشرَ الرسومِ المسيئة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). بل أعادت نشرَ الرسوم صحيفةٌ في مملكة الأردن الهاشمية!!! إي والله. "وهدَّدت مُفَوَّضِيَّةُ الاتحادِ الأوربي الدولَ الإسلاميةَ التي تقاطعُ ¬

_ (¬1) "الإسلام والغرب افتراءات لها تاريخ" (ص 14 - 15)، ومجلة "منار الإسلام" العدد (373) - مقال موسم التهجَّم على الذات النبوية الشريفة (ص 6 - 9) بقلم مدير التحرير. د. علي محمد العجلة.

البضائعَ الدانماركيةَ بتطبيقِ العقوبات عليها؛ لأن مقاطعةَ الدانمارك هي مقاطعةٌ لكل دولِ الاتحادِ الأوربي الخمس والعشرين!!!. ووَصَل الأمرُ إلى حدِّ أن أحَدَ الوزراء في إيطاليا دعا إلى شن حربٍ صليبيةٍ ضدَّ الإسلامِ والمسلمين، وإلى طبع هذه الرسومِ المُسيئةِ إلى رسول الإسلام، على القمصانِ ليرتديَها ويتزيَّن بها الأوربيون "!!! بل وقام هو بلُبْسِها. ° "وفي حوار أجرته مجلة "البيان" في عددها "222" مع الشيخ "رائد حليحل" رئيس اللجنة الأوروبية لنُصرة خير البريَّة": البيان: ما سببُ عدم اعتذارِ الصحف الدانماركيَّة للمسلمين من سُخريتها برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهل تَراه كافيًا لو حَدَث تُجاهَ تَصرفهم الأرعن؟ - حتى نعرفَ هل يمكنُ لهؤلاء أن يعتذروا، فإنه لا بد مِن تسليطِ الضوء على أمرٍ مهمٍّ، ألاَ وهو أنَّ مِّمَا يُميِّزُ الشعبَ الدانمركي أنه معتزُّ بنفسِه كثيرًا، لا يَقبلُ النقدَ لما يقوله، ويَصعبُ عليه الاعتذار، وينظرُ لغيره -لا سيمَّا إذا كان مخالفًا له في ثقافته- نظرةَ ازدراء، وكأنهم يقولون: مَنْ هؤلاء حتى يُعلِّمونا ما يجبُ علينا؟ ولكأني بهم يريدون {أَنَا خَيْر مِنْهُ}، هذا من ناحية، ثم ناحيةٍ ثانية: إذا عَلِمنا لماذا فَعل هؤلاءِ هذه الفَعْلةَ "ما دوافعهم وما النتائج التي يَصْبَون إليها"، فإني أستبعدُ جدًّا أن يعتذِروا، لأنهم جعلوا القضيةَ قضيةَ قِيَم ومبادئَ وطنيةٍ ناضلوا من أجلها، ومن ثمَّ ليسوا على استعدادٍ لاعتذارٍ يَعُدُّونه هزيمةً وتراجعًا، فالمسألةُ عندهم معركةُ وجود -والعياذ بالله-؛ علمًا أن مطلبَ الاعتذار يُعدُّ مناسبًا لحجم وفادحةِ تلك الجريمة، ولكن لخطورةِ الفِعل من جهة ولعِلْمِنا بطبع هؤلاء وثقافتِهم اكتفينا

بهذا الطلبِ على أنْ يَصْحَبَه شيءٌ من إصلاح تلك الصورة السيئة التي وَصلت للقارئ الدانمركي بأنْ يَسمَحوا لنا بإخراج بعضِ الصور المُشرِقةِ التي تُسلِّطُ الضوءَ على جوانب مشرقةٍ من حياةِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن يكون منهم ضمانةٌ بعدم تكرارِ مِثل هذا الفعل، ولكنْ للأسف الاعتذارُ عن ذلك يُعدُّ عندهم بمثابةِ الرِّدَّة عندنا. فاللهُ المستعان. البيان: ما دَورُ الحُكَّام -العلماء- رجال الأعمال -الشعوب- الهيئات، تجاه تلك الحملةِ الشرسةِ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وهي ترى أن موقفَ المسلمين كان مناسبًا؟. - إن حقَّ الرسولِ الكريم - صلى الله عليه وسلم - كبيرٌ جدًّا ,ولِئن كان يجبُ على المسلم الذبُّ عن أخيهِ المسلم ونُصرتُه، ولا يجوزُ له أن يُسلِمَه، ولا أن يَخذُلَه؛ فما بالُكم بحقِّ المصطفى - صلى الله عليه وسلم -؟ وإننا نُهيبُ بعالَمنا الإسلاميِّ كلِّه أن يتحركَ حركةَ تُناسبُ الحَدَثَ من جهةِ شناعةِ الفَعلةِ، ومِن جهةِ حُرمةِ النبيِّ الكريم - صلى الله عليه وسلم - وضرورةِ نصرتِهِ، ولقد طالَبْنا من أولِ أيام تلك المِحنةِ أن يُناضِلَ كلٌّ بحَسَبه؛ فما يُطلبُ من الحُكَّام يَعجِزُ عنه العامة، وما يُطلَبُ من العلماءِ ويُتوقَّعُ منهم لا يُجيدُه دَهماءُ الناس، وما ننتظرُ من أهل الدثور لا يُحسِنُه مَن قُدِرَ عليه رِزقُه؛ وهكذا أقولُ للجميع: كلٌّ منكم أدرى بنفسه وقُدرته، فلا يتوانَ أحدٌ عن هذه النصرةِ الواجبة: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14]، واللهُ -عز وجل- لا يُكلِّفُ نفسًا إلاَّ وسعها، فاستعينَوَا باللهِ ولا تَعجِزوا، واعلَموا أنكم إنْ ساهمتم فأنتم في معركةِ معلومةِ العواقب، فاتقوا اللهَ في رسوله علَّكم تنالون بذلك شفاعتَه يوم القيامة. وإنني أقولها بصراحةٍ: على قَدْرِ ما كنتُ حزينًا أولَ أيامٍ الأزمة؛ لأننا

سَعَينا جاهِدين أن نُوصِّلَ القضيةَ للعالَم ليتحرك، وقد تناولت بعضُ القنواتِ الفضائيةِ ذلك في مَطْلَع شهرِ رمضان، ومع ذلك لم نسمعْ ما يُثلجُ صُدورَنا حتى إني كنتُ أقولُ لنفسي: أيُعقل هذا من أُمةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أن تَخذُلَه، وقد لُمْتُ وعاتبتُ البعضَ، ولكنَّ ما رأيتُه في هذه الأيام أعاد لي الأملَ في هذه الأمةِ وأنها ما زالت بخير والحمد لله، ولكني أُهيبُ بالجميع أن لا يكونَ ذلك رِدَّةَ فِعل عاطفية مع أن العواطفَ مطلوبة، لكنْ نأملُ أن نضعَ خُطةً متكاملةً فيها الذبُّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً، فنواجِهُ مَن يعتدي عليه، وعلينا أن نجتهدَ في تعريفِ العالَم بشخصيةِ النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - على شتَّى الصُّعُد، ولعلَّنا بذلك إنِ اجتَهدنا أن نُكفِّر عن تقصيرِنا، ونُساهمَ في رفع العقاب عنا لو سكتنا عن مُنكر عظيم كهذا. البيان: ما رأيُك بالمقاطعةِ الإسلاميَّة لمنتجاتِ الدانمارك: هل ستؤثَّرُ سلبيًّا على المنتجات الدانماركيَّة؟ لأنَّ بعضَهم يقول: إنَّ المقاطعةَ فِكرةٌ غيرُ ذاتِ جدوى اقتصاديًّا؛ لأنِّ هذه المنتجاتِ الدانماركيِّةَ تندرجُ تحت قائمةِ الامتيازِ التجاري، فالمتضرِّرُ من المقاطعةِ هم الوكلاءُ التجاريون، الذين يَحمِلون امتيازَ بيعها في البلاد، فما رأيكم بهذا القول؟. - موضوعُ المقطاعة من باب: "آخِرُ الدواءِ الكَيُّ "، واسمَحوا لي أن أقول: إن المقاطعة ستؤثر دون شكٍّ اقتصاديًّا على الدانمرك، لكنَّ خسارةَ الدانمرك القيميةَ والمعنوية أكبرُ بكثير من خسارتِها المادية؛ لأن خسارةَ المال قد تُعوَّضُ مثلاً من الاتحادِ الأوروبي أو غيرِ ذلك، لكن الذي خَسِرته الدانمركُ اليومَ هو سُمعتُها التي ينبغي أن تكون جميلة على مستوى العالم، وهي التي لديها مُقدَّراتٌ تُعينُها على أن تتبؤَّأ منزلة قويَّةَ في عالَمنا اليوم.

ونحن حَذَّرنا الدانمرك أنَّ عواقبَ العِنادِ على هذه الإساءةِ قد تكونُ أكبرَ من كل التوقعات، وما حَصَل اليومَ خيرُ دليل على صِدقِ نُصحِنا للمجتمع الدانماركي، وحتى لا يتضررَ بسببِ فَعلةِ الجريدة وتغاضي الحكومة. لذا فإن ضررَ هذه الحَملةِ لن يقتصرَ على وكلاءِ الشركات، بل على الشركات نفسِها -ولو لم يكن لها فعل في ذلك-، لكنا نعلمُ أنه ما مِن أسلوبٍ يُراد منه الضَّغطُ لانتزاع حقٍّ إلا وسيكونُ معه مِثلُ ذلك، ولكنه مفيدٌ عندما يتأثَّرُ المتضرِّرُ ماديًّا فيَضغطُ مع المسلمين المتضررين معنويًّا لانتزاع الحق بالقهرِ بعد أن سُلب ولم يرجع بالنقاش والحوار. البيان: ما العواملُ الدافعةُ للنيْل من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وهل ذلك يُمثِّل مخطَّطًا صليبيًّا للكيد للإسلام؟. -أرى والله أعلم- أنه في المخزون الفكري لدى غالبيةِ الأوروبيين نوعٌ من توارثِ عَداءٍ تقليديٍّ للإسلام وللنبي - صلى الله عليه وسلم - ولو اتَّصفوا بالعلمانية؛ لذا لا أستطيعُ أن أنفي وجودَ دوافعَ دينيةٍ غيرِ ظاهرة، إلا أن الدافعَ السياسيَّ أظهر؛ وذلك من تصريحاتٍ عِدةٍ تَدُّلُّ على أن الغايةَ منها هو تحدِّي المسلمين لاستفزازِهم تمشِّيًا مع نَغَمةِ الجُرأة على الإسلام على وقع أنغام (الحرب على الإرهاب)، واختيار النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذات للطعنِ به، وذاك مقدِّمةٌ للطعن بدينهِ كله، ولعلمِهم بمكانته وقُدسِيته؛ فهو أفضلُ اختيارٍ لاستفزازِ المسلمين عبره. البيان: هل ترى أنَّ هذه السخريةَ لجسِّ نبضِ المسلمين، تُجاهَ دفاعِهم عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؟.

- إن التأمُّلَ في الواقع ليس داخلَ الدانمرك فحسب، بل على صعيدِ أوروبا قاطبةً، إن لم نَقُلْ العالَم؛ يدفعُ إلى الخشيةِ من أن تكونَ هذه الفَعلةَ عبار عن (بالون اختبار) لجسِّ نبضِ الساحة داخليًّا وخارجيًّا، ومِن ثَمَّ سيكونُ مستوى الردِّ مؤشرًا على حَجم وقوة وتفاعل المسلمين ومدى بقاءِ الإسلام حيًّا في نفوسهم، ثم يَتبعُ ذلك تعميمٌ لهذه التجربة ونتائجها، وهذا ما نخشاه أن يُجعَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مَحلَّ تجربةٍ "والعياذ بالله"، ويَعقُبُ ذلك خطوط متبنَّاة في الغرب حسبَ إيحاءاتِ مستوى ردَّةِ الفعل الإسلامي. البيان: ألاَ يتعارضُ ذلك مع حرية التعبير؟ وهل تجرؤُ الصحفُ الدانماركيَّة بفتح المجال لنقدِ الصهاينةِ وبخاصَّةٍ مسألة (الهولوكولست) التي استُغلَّت أيما استغلال مما يفضحُ ديمقراطيَّتهم المزعومة؟. - المشكلةُ أن التخفِّي وراءَ شعارِ حرية التعبير، يُعتبرُ حَيدةً عن الحقيقة، وذلك أننا نجدُ المعاييرَ مزدوجةً، وإننا لَنعجبُ لَمَّا تكونُ الحريةُ في أوسع مجالاتها عندما يتعلَّقُ الأمرُ بالإساءة للاسلام، أما في غيرِه فإنَّا نجدُ لها حُدودًا، فإن الكلامَ عن الساميةِ عمومًا فضلاً عن التشكيك في المحرقة أصلاً أو وصفها حجمًا وكمًّا، ومجردَ الحديث عن ذلك لا يُسمح به تحتَ ذريعةِ حريةِ الرأي والتعبير؛ فهذه الأمورُ رَيبٌ وشُكوك؛ علمًا أن الحريةَ بمعناها المعروفِ أنها التي تنتهي عندما تبدأُ حريةُ الآخرين. وقد يكون حَسَنًا هنا التنبيهُ في وقتٍ يُرادُ أن يصوَّر فيه المسلمون على أنهم الأعداءُ العِظامُ للحرية، فنقول: إن الحريةَ أمرٌ قد نادى به دينُنا حتى في أدقِّ الأمور، بل أجلِّها وهو التوحيد: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، فالخلاصة أن الحريةَ تَكفُلُ لك أن تَدينَ بما تشاء، لا أن تتهكمَ بمن تشاء.

ومن العَجَبِ أن يُطالَبَ المسلمون دائمًا باحترام الآخرين وقِيَمِهم ومقدَّساتهم مهما كانت باطلةً، ونَجِدُ في الوقت نفسه مَحِلَّ هَجمةٍ شرسةٍ علينا، فنطالَب إذًا بعملٍ متناقضٍ أن لا ننتقدَهم، وأن نقبلَ في اللحظة ذاتها إساءتهم فتأمل!. البيان: ما دورُ عقلاءِ النصارى أمام هذه الهجمة؟ ولماذا هذا السكوتُ الكنسي عن سبِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟. - إن دينَنا عَلَّمنا الإنصافَ {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8 - 8]، وقد سَمِعنا بعضَ الأصواتِ المستنكِرةِ هنا لهذا الفعل، لكنها كانت خافتةً، وهذا طبيعي، فلن تكونَ بحجم ردَّة فعل المسلم، وما كان منها وإن كان قليلاً هادئًا ليس فيه الحماسةُ الكافيةُ، إلاَّ أنه لم يَبرُز بالشكل الكافي حتى لا يُعَكِّرَ على الجوِّ العام السائدِ الذي يريدُ تفعيلَ هذه الأزمة -للأسف-. البيان: ألاَ ترى أنْ ذلك يُسبِّب مشكلةً وخطورةً على الدانمارك، بمعنى أنه سيفتحُ عليها جبهاتٍ قد تؤذيها مَّمَا يؤجِّج ويَزيدُ حالَ العداوةِ من المسلمين تجاه الغرب؟. - لقد حَذرْنا مرارًا الدانمارك من مَغِبَّةِ تلك الفَعلة النكراء، ولكن للأسف بدل أن يَحمِلَ كلامَنا مَحْمَلَ المُشفِقِ الناصح الأمين، حُوِّر الكلامُ حتى صُوِّر وكأنه تهديد، وقلنا مرارًا: إن هذا سيَزيدُ الإحساسَ بالغَبْن ممَّا يُضاعِفُ من مشاعرِ الكراهيةِ من المسلمين للغرب والعكس أيضًا ,ولكنَّ العنادَ لم يكن يومَا طريقًا صحيحًا للحوار والتفاهم، ويُكرِّسُ الهُوَّةَ الكبيرةَ

بين الثقافتين إن لم يكن مقدِّمة عمليَّةً لتأجيج حربِ حضارات. البيان: ما رأيك ببعض المواقع على الإنترنت وتدَّعي الانتسابَ للإسلام، تضعُ استفتاءً عن سبِّ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهل هو مقبولٌ بدعوى حرية الرأي أم لا؟!. - إن قضيةَ تعظيم الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - عمومًا لا سيَّما مقابل أيِّ إساءةٍ أو إرادةِ انتقاص، فإنه ينبغي أن لا تَحمِلَ في ثناياها أيَّ ضعف، بل ينبغي أن تكون كلُّ المؤشِّراتِ في سياقٍ واحدٍ وهو التعظيم، وإني أرى أنه من الخطأ أصلاً التقليلُ من شأنها لتُجعل محلَّ نقاش، بل ينبغي أن يكون مستقرًّا أنها لا دَخلَ لها إطلاقًا بمبدأِ حريةِ الرأي، بل كان ينبغي أن يكونَ التساؤلُ حاملاً في طيَّاتِه النكيرَ الكبيرَ، وليس هذا الأسلوبَ الذي يُوهِمُ أنه من الممكن أن تكونَ هذه القضيةُ قابلةً للنقاش. البيان: كلمتُكم تُجاهَ رجالِ الأعمال الكبار الذين قاطعوا المنتجات الدانماركيَّة؟ - من الأمور القطعية التي لا مِريةَ فيها أن حُبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظمُ من حبِّ الولد والوالد والمالِ بل والنفس؛ وعليه فإنَّنا نَفديه بآبائنا وأمهاتِنا، وكلُّ شيءٍ يَرخصُ فِدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنَّ كلَّ مَن ضَحَّى بشيءٍ إكرامًا لرسول الله فإني أقول له: عَوَّضك اللهُ خيرًا، بل قد عوَّضك؛ لأن مجردَ حُبِّك للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو أخيرُ وأفضلُ من الدنيا وما فيها. وأقول للجميع: إن مَن تَرَك شيئًا لله عَوَّضه اللهُ خيرًا في الدنيا والآخرة، وإنه لَجميلٌ جدًّا أن نرى أن الكل يُعبِّرُ عن حُبِّه لرسوْلِ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ كلٌّ بحَسَبه، وكلٌّ بطريقته ,

وإنه ما دامت النوايا خالصةً فإنه لا يَضيعُ شيء عند الله، ويكفي مَن يَفدِي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَطمَحَ إلى نَيل شفاعته يوم القيامة وصُحبتهِ في جناتِ النعيم .. اللَّهم آمين. البيان: سمِعنا أنَّ الدانماركيين بيَّتوا نيَّةَ إحراقِ المصاحفِ في أكبرِ ساحةٍ في "كوبنهاجن"، نرجو منك التوضيحَ لملابسات هذا الحدث؟. - الحمد والمِنَةُ لله وحده أنه لم يَحصُلْ شيءٌ من ذلك أبدًا، والقضيُة قد بدأت بالظهورِ بعد إحراقِ العَلم الدانمركي أولَ مرةٍ في فلسطين، والعَلَمُ عندهم له قدسيةٌ مما مكَّننا أن نحتجَّ عليهم ألاَّ يُنكِروا علينا انزعاجَنا من إهانةِ مقدَّساتنا كما حَصَل لهم عند إحراقِ عَلَمهم. المهمُّ أنه بُعَيْدَ ذلك انتشرت رسالةٌ قصيرةٌ عَبْرَ الجوال، وكان انتشارُها سريعَا جدًّا -كعادةِ الفتن- ولم يُعرف مصدرُها الأصلي، وطبعًا لم تتجرَّأ أيُّ جهةِ على تبنِّيها، وكان فيها دعوةُ الشباب الدانمركي للتجمُّع في الساحةِ العامةِ يوم السبت في 4/ 2/ 2006 وذلك لإحراق المصحفِ الشريف -عياذبًا بالله- ولكن وبعدَ إبلاغنا الجهاتِ الأمنيةَ وتحذيرِنا لهم من كونِ هذا العمل سيُحدثُ رِدَّةَ فِعل أعظمَ مما أحدثته الرسوماتُ، فإنهم وَعدوا بملاحقةِ الأمرِ ومَنْع حدوثه، ونحن بدورِنا نَصَحْنا بعدم تناقُل تلك الرسالةِ حتى لا تَشيع بل تُخبت، ونَعملُ على وأدها، وفي هذا اليوم الموعود احتشد عددٌ كبير من المسلمين -لا سيَّما الشباب- مع وجودٍ مكثَّفٍ للشرطة، بل مع وجود بعضِ الدانمراكيين المتعاطفين أو الخائفين من عواقبِ هذا الفعل، وقد حصَلت هناك مواجهاتٌ ولَغَطٌ أعقبه توقيفُ البعض، وتحوِّلت الحشودُ من ساحةٍ لأخرى، ولكن باءت كلُّ المحاولاتِ بإحراقِ المصحف بالفشل

الذريع؛ فالحمدُ لله على ذلك؛ عِلمًا أن شعارَ المسلمين يومَها كان "لا يمكن أن يُحرَقَ المصحفُ وفِينا عِرقٌ يَنبض"، وطبعَا كلُّنا يعلمُ أن الحكومةَ ليس من مصلحتها الإذنُ بمثِل هذا الأمرِ حتى لا تُدخِلَ نفسها في أزمةٍ أكبر. البيان: هل صحيح أن الجريدة التي رسمت صورًا مسيئةً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رَفضت قبل سنتين أن ترسمَ صورًا للمسيح عيسى بن مريم؟ وإذا كان ذلك صحيحًا أفلا ترى أن في ذلك تناقضًا صارخًا في دعاوى الحرية؟. - نعم! لقد صرَّح غيرُ واحدٍ من المطلعين بل المتخصِّصين أن الجريدة في عام 2003 عُرضت عليها رسوماتٌ للمسيح عليه السلام تحكي قيامتَه -عندهم-، إلا أنهم بادَروا برفضها، وعَلَّلوا ذلك أنه سيُغضِبون القُرَّاء، ولن يَروقَ لهم مشاهدةُ تلك الرسومات، وقد تُثيرُ احتجاجاتٍ هم بغِنًي عنها، وقد أورَدَتْ هذا الخبرَ جريدةٌ محليةٌ دانمركية إلى جانب المواقع العالمية. وقد شاع خبرُ أن الصحيفةَ ستَنشرُ هذه الصورَ ورسوماتٍ عن اليهود يوم الأحد القادم، ولعل ذلك مَرَدُّه إلى مقابلةٍ أجرتها ( CNN) مع المحرِّرٍ الثقافي الذي نَشَر الرسومات المسيئة لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، وقد رَفع أثناءَ المقابلةِ رَسْم قُنبلةٍ عليها نجمة الصهاينة؛ إلاَّ أنه بُعَيْدَ المقابلةِ وعلى موقع جريدتِهم ظَهَر اعتذارٌ واضحٌ وصريحٌ على لسان هذا الشخص امتثالاً لأمرِ رئيس التحرير يقول: لا يمكن أن ننشر شيئًا عن المسيح أو الهولوكوست، والأعجبُ من ذلك كله -وهو آخِرُ خبر- أن المخطئَ -رَغمَ اعتذاره- قد أُعطِيَ في إجازة مفتوحة، فتأمل مدى حريةِ الرأي والتعبير، وكيف أنها تُطَبِّقُ في مجالٍ وتُمنع في آخَر، ألاَ ينبغي بعد ذلك كلِّه أخذ إجراءاتٍ صارمةٍ لمنع مثل هذه الترهات تحت هذه الشعارات الزائفة؟.

البيان: هل الشعب الدانماركي يَجهلُ حقيقةَ المصطفى -عليه الصلاة والسلام-؟ وبماذا تُوصي المسلمين لتبيين حقيقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للشعب الدانماركي؟. - إنَّ ما جَرى ويجري وما واكب ذلك من مواقفَ يدلُّ بوضوح ٍعلى جَهل القومِ بشخصيةِ نبيِّنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -، ولكن ليس هذا هو السبب الوحيد، بل الخلفيةُ الفكريةُ والثقافيةُ التي أَقصت الدينَ عن كلِّ مناحي الحياةِ وأضعَفت في النفوسِ معانيَ الاحترام والقَداسة، كل ذلك لَعِب دَورًا كبيرًا في الجُرأةِ على نَشرِ تلك الرسومات، يدلُّ عليه موافقةٌ أكثريةٌ (حسب إحصائهم) وعدمُ مبالاة الباقين؛ لأن القضيةَ لا تعنيهم، وكأن شيئًا لم يكن؛ لذا فإنه -ولا سيَّما بعد تكرارِ نشر تلك الرسومات في أغلب البلاد الأوروبية- فإنه لا بد من السعي على جهتين: الأولى: جهةٌ دعوية تُعنَى بتوصيل رسالةِ الإسلام وسماحتِه لهؤلاء عَبْرَ كل الوسائل المتاحة، بل ابتكارِ كل ما من شأنه أن يوصِّل هذا الصوتَ المبارك، وهنا أنصحُ بالتنسيقِ الكامل بين العلماء الربانيين وبين المثقَّفين المأمونين الذين يعون الغرب تمامًا، وكيف يمكن مخاطبتُه. الثانية: الجهةُ القانونيَّة؛ وذلك بالعمل لاستصدارِ قانونِ دانمركي، بل أوروبي إن لم أقل عالَميًّا، يُحرِّمُ نَشرَ مثل تلك الأمورِ، بل يُعاقِبُ ويُجرِّم مرتكبيها؛ لأنه إن غابت القداسةُ لمِ يَعُد ثَّمَ وازعٌ يردع، ولم يَبْقَ إلاَّ الجانبُ القانوني؛ لأنه يُحترَمُ في الغرب ويردعُ كثيرًا لخوفهم من عواقب المخالفة؛ فإنْ تَحقَّقَ فهو خيرٌ عظيم؛ لأنه يَجلبُ مصلحةً ويدفع مفسدة.

البيان: السؤال الأخير: سمعنا أنَّ رئيس تحرير إحدى الجرائد المتورَّطة قدَّم اعتذارًا شفهيًّا للجالية المسلمة بالدانمارك، وأنَّ الدانمارك نفسَها قدَّمت اعتذارًا للمسلمين، برأيكم هل هذا صحيح؟ وهل آتى هذا الاعتذارُ أُكُلَه، وخصوصًا أنَّ الاستهزاءَ عاد مرةً أخرى في يوم 22 و 23 من الشهر الجاري؟ - أخي الكريمَّ، أحب أن أَشهدَ شهادةً للتاريخ أُسأل عنها أمام الله أنه حتى هذه اللحظة 11/ 1/ 1427هـ لم يَصدُرْ أيُّ اعتذارٍ من جانبِ الدنماركيين على الصعيدين الرسمي أو الإعلامي من قِبَل الجريدة، عما نُشر من إساءةِ لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. أما من جهةِ الجريدة، فإنها إبَّانَ ظهورِ الضجَّةِ العارمة، ولا سيَّما المقاطعة التي نُودي بها في بلادِ الحرمين، فإنَّ الجريدةَ وجَّهت خطابًا -باللغة العربية- على صفحتها في الإنترنت، عنونته بـ (إلى مواطني المملكة العربية السعودية المحترمين)، وقد تضمن هذا المقالُ أغاليطَ كثيرةً، كنت قد رددتُ عليها بمقالٍ هو على صفحتنا www.islamudni.net عنونته (ردود موثَّقة على مزاعمَ ملفَّقة)، وغايةُ ما في خطابهم الأسفُ لمشاعرِ الحزنِ التي لَحِقَتْ بالمسلمين جَرَّاءَ نشرِ تلك الرسومات، وليس فيه أيُّ اعتذارٍ عنها أو عن نشرها، وكان ذلك محاولةً ماكرةً من الجريدة بعد ضغوطٍ كثيرةٍ عليها من داخل الدانمارك (سياسيًّا واقتصاديًّا) بتحميلها مسؤوليةَ ما يجري على الدانمارك، فأرادت بذلك تخفيف الحَملة ظنًّا منها أنها بذلك ستُنهي المشكلة، ولا ينقضي عَجَبُنا هنا من هذا الإصرارِ على معاملةِ المسلمين وكأنهم غيرُ عقلاء لا يفهمون ما بين السطور!. ولَمَّا لم تَجِدْ أن رسالتَها هذه قد أفادت، ومع تزايُدِ الضغوطاتِ

المتراميةِ الأطرافِ عَمَدت الجريدةُ إلى حِيلةٍ عجيبة سَبَقت خروجَ رئيسِ تحريرها على التلفاز الدانماركي بلحظاتٍ وهو يتبجَّحُ قائلاً: "إن الرسوماتِ لا تخالفُ القانونَ، وإنه لن يعتذر عن نشرها"، ولكن بعد لحظاتٍ تَفَاجَأَ المراقبون بمقالهم باللغتين العربية والدانماركية وعلى موقعهم بعنوان صريح وواضح "صحيفة اليولاند بوستين تعتذر عن الإساءة للمسلمين"، وقُدِّم لمقالٍ أرسله رئيسُ التحرير لوكالة الأنباء الأردنية بجملةٍ ليست فيه أصلاً "تعتذر صحيفة اليولاند بوستين، وبما لا يَدع مجالاً للشك على أنها أهانت العديدَ من المسلمين من خلال رسومات للنبي محمد". ولكنَّ الرِّيبة من هذا الكلام كان سيدَ الموقف؛ لأنه في ثنايا المقال ليس هناك اعتذارٌ واضح، بل تلاعُبٌ مُرِّر معه التدليلُ على قانونيةِ نشرِ تلك الرسومات، ولكنِ انجلت الأمورُ بعدَ أربعين دقيقةً تمامًا عندما سَحبوا هذا المقالَ ووَضعوا الكلامَ الأصلي بعنوانٍ مُغايِر تمامًا "حضرات المواطنين العرب"، وليس فيه تلك الجُمَلُ المصرِّحةُ بالاعتذار، وقد حصل ذلك كلُّه يومَ الإثنين ليلاً في 30/ 1/ 2006، وكأنها مخادعةٌ إعلاميةٌ من أجل تمريرِ الخبرِ ليهدأَ العالَمُ الإسلاميُّ، وللأسف تلقَّفت بعضُ القنوات هذا الاعتذارَ المزعوم، وقامت بدَورٍ مشبوهٍ في إقناع المشاهد أن الاعتذارَ قد حَصَل، وأن الله قد كفى المؤمنين القتال. ولَمَّا لم يُجْدِ ذلك نفعًا غيَّروا عنوان المقال فقط "حضرات المواطنين المسلمين"!. وهكذا أصبح مقالُ رئيسِ التحرير وكأنه نصٌّ من كتابِهم المقدَّس، له عدة شروحات وتفسيرات! كيف وقد طالَعَنا رئيسُ التحرير مرارًا عَبْرَ التلفاز

وعلى صفحات جريدته بما يتعارضُ مع مزاعم الاعتذار؟! كان من آخرِها مقالٌ يوم 9/ 11/ 1427 هـ حاول فيه إقناعَ الرأي العام عن مدى إيجابيته ومدى استعدادِه لحوارِ المسلمين كي تنتهيَ الأزمةَ، وقد ضَمَّن رسالته هذه ثلاثة شروط: الأول: قد يَعتذرُ، ولكن عن الإساءة الناتجة عن نشرِ الرسومات، وليس عن الرسومات نفسِها ولا عن نشرها. الثاني: مطالبتُه المسلمين بتوقيع على إقرار (الديمقراطية الدانمركية) والتي أخبرنا مرارًا أنها تُبيحُ له فَعْلَته هذه، وأن عَمَله على ضوئها قانونيٌّ تمامًا، وكأنه يُريدُ منَّا ما قاله الله: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)} [النساء: 27]. الثالث: وهو الأدهى -وقد صَرَّح بعد سُويعةٍ من هذا المقال-: أنه لا يستطيعُ أن يَعِدَ المسلمين بعدم تكرارِ إهانتِهم مرةً أخرى!!. فتأمل -بارك الله فيك-! أيُعقل بعدَ ذلك كلِّه أن يقال: إنهم قد اعتذروا؟؟!. أمَّا مِن الجهة الرسميةِ، فهناك إصرارٌ على أنهم لا يُمكنُهم الاعتذارُ عن عمل الصحيفة ولا حتى التنديدِ بعملها، والذي التبس على الناسِ ما قاله رئيسُ الوزراء: إنه يُرحِّبُ باعتذارِ الجريدة (الذي بينَّا حاله سابقًا)، بينما في صبيحةِ تلك الليلة المخادعةِ عَنونت الصُّحُفُ نقلاً عن رئيس الوزراء: "لن نعتذر"، فهل يُعقل قبولُ اعتذارٍ خجولٍ وغيرِ واضحٍ ولا ثابتٍ ولو لساعات، بل حتى لم يُنشر على صحيفتِهم اليومية، بل نشروه على موقِعهم

الرد البارد الميت الصدمة من شيخ كبير على هذا التطاول الدانماركي

لغايةِ غيرِ مخفية؟! (¬1). * الردُّ الباردُ الميِّتُ الصدمة من شيخٍ كبير على هذا التطاول الدانماركي: نَشرت جريدة "الأسبوع" القاهرية في عددها (461) في 23 من ذي الحجة 1426هـ 23 من يناير 2006م مقالاً تحت عنوان "عفوًا مولانا الإِمام: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس مجردَ شخصٍ ميِّت" في الصفحة الثالثة عشرة، قالت فيه صاحبة المقال "زينب عبد اللاه": "قبل أن نَشْرعَ في كتابةِ هذه السطور، نؤكِّدُ أن القلم توقَّف لساعاتٍ طويلةٍ دونَ أن نعرفَ من أين وبأيِّ كلماتٍ نبدأ؟! وماذا نقول أو نكتب .. مزيجٌ من مشاعِرِ الصدمةِ والإحباطِ والحزنِ والحَيرةِ عَجَزت أمامَه كلُّ الكلمات عن التعبير. هذه المشاعرُ شارَكَنا فيها كل مَن تَحدَّثنا معه من علماءِ الأزهر بعد أن اطَلَّعْنا على الكلماتِ التي أدلى بها فضيلةُ الإمامِ الأكبرِ شيخُ الأزهر وإمامُ المسلمين أثناءَ مقابلته التي التقى فيها مع سفير الدانمارك بالقاهرة صباح الأربعاء بمشيخةِ الأزهر .. لم نُصدِّق أنفسَنا، ولم نصدِّق حتى الأوراقَ التي صَدرت عن مكتب شيخ الأزهر والإدارة المركزية للعلاقات العامة والإعلام به، والتي تحوي هذه الكلمات التي صَدَمَتْنا أكثرَ من الإساءاتِ الدانماركية أو غيرِها من إساءاتٍ موجَّهةٍ للإسلام والمسلمين ونبيِّهم الكريم - صلى الله عليه وسلم -، لأن هذه الكلماتِ صَدَرت عن فضيلةِ الإِمام الأكبر، وعَجَزت عن الدفاع عن الرسول، واكتَفَت بوصفِهِ مَيْتًا انتهى أجَلُه، ولا يستطيعُ الدفاعَ عن نفسه، وأنه ليس من الحكمةِ أن يُسيئَ العقلاءُ لمن لا يستطيعون الدفاعَ عن ¬

_ (¬1) مقالة حوار مع الشيخ رائد حليحل - مجلة "البيان"- العدد (222) - (ص 26 - 29).

البيان الصدمة

أنفُسهم!!. وقد لا يُصدَّقُ الكثيرُون أن تصدرَ هذه الكلماتُ عن شيخِ الأزهر وإمامِ المسلمين الذي وَجَب عليه الدفاعُ عن الإسلام والمسلمين بصفةٍ عامة، فما بالُنا بما يُوجَّه إلى رسولِنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - من إساءاتٍ، ولذلك نُفضِّل أن نستعرضَ هذه الكلماتِ كما وَرَدت بنصِّها في الأوراقِ الرسميةِ الصادرة عن مكتبِ شيخ الأزهر. * البيان الصدمة: فقد أَكَدَ شيخُ الأزهر -وفْقَ ما جاء بالبيان الصادر عَقبَ لقائِه بسفير الدانمارك- أنَّ مصر تربطُها علاقةٌ طيبةٌ بدولةِ الدانمارك، موضِّحًا أن الدراسةَ بالأزهر الشريف تقومُ على السماحةِ وعلى الإخاءِ الإنساني، وأن شريعةَ الإسلامِ تَعتبرُ الناسَ جميعًا إخوةً في الإنسانية!! ويضيفُ البيانُ: "ثم تطرَّق فضيلتُه في حديثه إلى ما نُشر بإحدى الجرائدِ الدانماركية التي أساءت إلى نبيِّ الإسلام محمدِ - صلى الله عليه وسلم -، مُشيرًا إلى أنَّ الإساءةَ إلى الأمواتِ بصفةٍ عامَّةٍ تتنافى مع المبادئ الإنسانيةِ الكريمةِ، سواءً أكانت هذه الإساءةُ إلى الأمواتِ من الأنبياء أو المُصْلِحين أو غيرهم الذين فارقوا الحياةَ الدنيا (!!) فالأممُ العاقلةُ الرشيدةُ تحترمُ الذين انتهت آجالُهم وماتوا، وهذا ما تقتضيه العقولُ الإنسانيةُ السليمةُ، وفي الوقتِ نفسه نحن نُقدسُ الحريةَ .. ولكنْ الحريَّةُ في حدودِ ما أباحته القوانينُ والشرائع .. كما نوجِّهُ رسالةً إلى العالَم أجمع بأن نتركَ الإساءةَ إلى الأمواتِ الذين لا يستطيعون الدفاعَ عن أنفسِهم، كما أن شريعةَ الإسلامِ تحترمُ جميعَ الأنبياءِ من سيدنا إبراهيم وحتى سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - انتهى كلام فضيلة الإِمام وردُّه على الإساءات التي تم توجيهُها للرسول

الكريم - صلى الله عليه وسلم - في بيانه وكلماتِه للسفير الدانماركي. فهل يُعقل أَنْ يَذكُرَ إمامُ المسلمين -أو حتى أيُّ فردٍ مسلم عادي- الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - بأنه ميِّتٌ لا يستطيعُ الدفاعَ عن نفسه؟! وإن كان الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - قد مات، فهل مات المسلمون جميعًا ولم يَعُد محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - يَجِدُ مَن يقولُ كلمةَ حق يتصدَّى بها لمن يُسيئُ إليه؟!! كيف طاوعك لسانُك -فضيلةَ الإمام - كي تختزلَ كلَّ المعاني التي يُمثِّلُها رسولُ الله المصطفى خاتمُ الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - في قلوبِ ملايين المسلمين في كلِّ بِقاع الارضِ لِتضعَه في صَفٍّ واحدٍ مع زُمرةِ الأموات -وفيهم المفسدون والمصلحون، وبينهم الشخصياتُ العامة والتاريخية التي يُباح نَقدُها ونَقدُ تصرُّفاتها حتى بعدَ موتها بمئات السنين-؟!!. وهل يُعقل أن نختزلَ مكانةَ الأنبياءِ في نفوسِ أتباعِهم لهذه الصورة؟! وهل افتَقَدْنا القُدرةَ والجُرأةَ حتى عن مجردِ ذِكرِ ما يُمثله الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - من مكانةٍ لدى المسلمين ووصف ما تُسبِّبُه الإساءةُ إليه من إيذاءٍ وجرحٍ لمشاعرهم؟! " هـ. شيَّخ الشيخَ بياضُ الشَّعْرِ ... وهو للأطفالِ مثل السُّخرِ هل يُعقل أن ندافعَ عن الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - ونتحدَّثَ عنه بمنطقِ "الضرب في الميَّت حرام"؟!. ° يقول الدكتور "محمد مختار المهدي" - أستاذ الدراسات الإسلامية، وإمام الجمعيات الشرعية بمصر-: "إن هذا الأسلوبَ في الحديثِ عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - غيرُ مُوفَّقٍ؛ لأنه يَضَعُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - موضعَ اتهامٍ، ويَعتمدُ على أنه لا يجبُ اتهامُ من لا يَستطيعُ الدفاعَ عن نفسه لأنه مات وانتهى أجَلُه ..

حاشا لله. ° وقال الدكتور "العجمي الدمنهوري" - رئيس قسم الحديث بكلية أصول الدين، ورئيس جبهة علماء الأزهر-: "كم كنتُ أودُّ أن تختلفَ لغةُ هذا البيانِ عن هذا الأسلوبِ الضعيف. ويتساءل: ما فائدةُ هذه الأمَّة إنْ لم تدافعْ عن نبيِّها ورسولها - صلى الله عليه وسلم -؟! وكيف نتحدَّثُ عنه ونساويه بأي شخصٍ ميت؟! ". إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن وَضعُه في صفٍ واحدٍ مع أيّ من الأموات، وإنَّ اقتصارَ الدفاع عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمجردِ أنه ميت فقط يُمثل إهانةً لشخصه الكريم، كما أن الموتَ ليس معيارًا للدفاع عن كل مَن ماتوا فمنهم المفسدون ومُجرمو الحروب الذين يَخضعون للنقد والتقييم في كل زمانٍ ومكان .. إنَّ القرآنَ الكريمَ نفسَه قد ذَكَر بعضَ الطُّغَاةِ ممن انتهت آجالُهم وماتوا -مثلَ فرعونَ وهامانَ وقارونَ وقوم عادٍ وثمود-، الذين قال الله فيهم: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَة .. }، فهل يعقل أن نضعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في صفٍّ واحدٍ مع هؤلاء لكونهم موتى؟!. إنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يَعيش بقِيَمِهِ وتعاليمِه وأحاديثه وآدابِه في نفوسِ ما يَزيدُ على مليار مسلم .. وإن الإساءةَ إليه هي إساءةٌ لكلِّ المسلمين. • ولقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأنبياءُ أحياء في قبورهم يُصَلُّون" (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح: رواه أبو يعلى (3425) وتَمَّام في "الفوائد" (58) .. وقال الهيثمي في "المجمع" (8/ 386): "رواه أبو يعلي والبزار، ورجال أبي يعلى ثقات" .. وصححه العلامة الألباني في "صحيح الجامع" (2790) و"الصحيحة" (621) .. وصححه أيضًا الشيخ حسين الداراني محقق "مسند أبي يعلى".

وكم ذا بمصر من المبكيات!!!

* وكم ذا بمصر من المُبْكيات!!!: لم يكد يمر شهرٌ على هذا البيانِ الصدمة حتى فاجأتنا جريدةُ "النبأ" بعنوانٍ كبير بالصفحة الأولى في عددها (861) الصادر في 5 مارس 2006م الموافق 5 من صفر 1427هـ "الشيخ عبد الصبور عضو مجمع البحوث الإسلامية: الشذوذُ حلال، وزنا المحارِم حريةٌ شخصية"!!. ° ثم في الصفحة الثالثة يُطالعُنا مقال "عبد المؤمن قدر" وحواره مع الشيخ "الدكتور عبد الصبور الكاشف" أحد أعضاء مجمع البحوث الإسلامية -وكان كبير أخصائي الترجمة بالمجمع، وحاليًا على درجةِ وكيل وزارة بالأزهر الشريف، حاصل على ليسانس لغات وترجمة من جامعة الأزهر، واستكمل دراسته في الأدب الإنجليزي من جامعة "كاليفورنيا"، وتَدرَّج في المناصب إلى أن أصبح حاليًا عضوًا بمجمع البحوث الإسلامية-، وجاء في قوله: "إنَّ الإنسانَ جاء إلى الدنيا، وَيعيشُ فيها مجبورًا في صورةِ مختار، فإذا قَتل إنسان إنسانًا آخَرَ فلا يجبُ أن يعاقَب، لأنه مجبورٌ على ذلك". ° ويقول: "هناك مسلمون لا يُصلُّون ولا يصومون، ولكنْ أفعالُهم مقبولةٌ عند الله، وهم أولياءُ، وعلى درجةٍ كبيرة من العبادة". ويعتقدُ الدكتور "الكاشف" أن التشريعاتِ تختلفُ من العامة إلى الخاصة، وضَرَب المثالَ بنفسه أنه لا يُصلِّي، ومع ذلك على درجةٍ كبيرةٍ من الدين، وله صَلاتُه الخاصةُ التي تختلفُ عن العوامِّ (!!) وتزدادُ درجةُ الحديثِ مع الشيخ "عبد الصبور الكاشف" -عضو مجمع البحوثِ بالأزهر الشريف- سُخونةً، حين يُطلِقُ فضيلتهُ عددًا من الفتاوى الغريبة، لعلَّ

أبرزَها أن السارقَ والزانيَ والشاذَّ جنسيًّا لم يرتكبوا شيئًا مُحَرَّمًا على اعتبارِ أن السرقةَ والزنا والشذوذَ ليست حرامًا، وإنما هي أفعالٌ لا إراديَّة، وطالب الشيخُ الكاشفُ الحكومةَ أن تُخصِّصَ أماكنَ للزناةِ والشواذِّ يمارِسون فيها ما يشاؤُون، ولا نحاسبُهم على ما يفعلون؛ لأن اللهَ يعلمُ كل شيءِ ويتركُهم. ° ثم فجَّر هذا المرتدُّ مفاجأةً أكبَرَ من سابقتها بإعلانِ استعدادِه لاستقبالِ أيِّ شابٍّ يُريدُ أن يزني بفتاةٍ في منزلِهِ، معتبرًا ذلك ليس زنًا، لأنه لم يُجبِرْها على ذلك، بل وانسَحب ذلك العرضُ الغريبُ أيضًا على زنا المحارم، وأفتى بأنه لا يَمنع الزنا مع الأمِّ أو الأختِ أو الحماة!! وزاد على ذلك بأنَّ نِكاحَ المحارِم جائزٌ شرعًا طالَما أنه لا إجبارَ على أحدٍ، مشيرًا إلى أن هناك كثيرًا من أولياءِ الله الصالحين شواذُّ جنسيًّا!!. ° ثم زاد المرتدُّ كفرًا فوقَ كُفره، فقال: "إن فرعونَ موسى مات شهيدًا ودخل الجنَّة؛ لأنه آمن قَبْلَ غَرَقه". ° أمَّا في واقعةِ قوم لوطٍ، فما أصابهم لم يكن بسبب اللِّواطِ، وإنما لأنهم حاولوا ممارستَه مع الملائكة، وأن سيِّدنا لوطًا -عليه السلام- لم يرفضِ اللواطَ، بل رَفَض الطريقةَ فقط "حاشاه". ° ويرى عضو مجلس البحوث الإسلامية (المرتد): أن كلَّ أُمةٍ لا بد أن يكون فيها نبيٌّ، والمولى -عز وجل- يقول: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]، وبالتالي -حسب رؤية الشيخ الكاشف- فإن "بوش" نبيٌّ، وشارون نبي؛ لأنهما مُكلَّفان، ويَعملان بأمر الله، وكذلك الحالُ بالنسبةِ لفيفي عبده لأنها مُكَلَّفة بشيء معيَّن مِن قِبَل الله، مشيرًا إلى أن

الغرب الصليبي كان وما يزال عدوه الإسلام حتى يلج الجمل في سم الخياط

هناك شفاعةً لأُناسٍ معيَّنين، ولا يجبُ علينا أن نُكَفِّرَهم (!!). ° وحَوْلَ واقعة "الإسراء والمعراج" يقول الشيخ "الكاشف": "إن الرسولَ لم يَصْعَدْ إلى السماء، وإنه لم يخرج من بيته يومها، وشاهَدَ كلَّ شيءٍ من مكانه، وكل كلامه - صلى الله عليه وسلم - مُؤَوّل، و"البُرَاقُ" نفسُه ليس حقيقةً، بل خيالاً" (¬1). انتهى كلام المرتد المأفون الكذاب الأشِر، قاتله الله وأخزاهُ في الدنيا قبل الآخرة .. لقد تفوَّه بالكفرِ الذي لم يَقُلْ به أحد، وتطاوَلَ وتجرَّأ، ونَسَب إلى الأنبياء -زُورًا وبهتانًا- ما لا يقبلُه أيُّ مسلم. * قال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60]. * الغرب الصليبي كان وما يزال عدوُّه الإِسلامَ حتى يَلجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخياط: موقفُ الغرب دائمًا وأبدًا من الإسلام تُلخصه كلماتُ الزعيمِ السياسي البريطاني المعروف، حيث قال: "لن تستطيعَ أوروبا أن تسيطرَ على دولِ الشرق، بل لن تستطيعَ أن تعيشَ في مأمنٍ ما بَقِي هذا القرآنُ حَيًّا يُتلى" (¬2). ° أو كما قال "جاردنر": "إن القوةَ التي تكمُنُ في الإسلامِ هي التي تُخيفُ الغربَ" (¬3). ¬

_ (¬1) جريدة "النبأ"- العدد (861) - 5 مارس 2006 - الموافق 5 من صفر 1427 هـ (ص 3). (¬2) "المنصفون للإسلام في الغرب" (ص 19). (¬3) "المنصفون للإسلام في الغرب" (ص 19).

الرد على الكذاب الأشر بابا الفاتكيان بنديكت السادس عشر أو السيوف البواتر في نحر بابا الفاتيكان الكافر

الرَّدُّ على الكذابِ الأشِر بابا الفاتكيان بنديكت السادس عشر أو السيوفُ البواتر في نحر بابا الفاتيكان الكافر

عدو الرسول - صلى الله عليه وسلم -: البابا النازي .. "بوم روما" بنديكت السادس عشر ينفث سمه

* عدُّو الرسول - صلى الله عليه وسلم -: البابا النازي .. "بُوم روما" بنديكت السادس عشر يَنفُثُ سُمَّه: البابا الالمانيُّ النازيُّ "بنديكت أو بنديكتوس السادس عشر" الجالسُ على كُرسيِّ البابويَّةِ في الفاتيكان، هذا القِزمُ القَمِيءُ والزعيمُ الرُّوحي لأكثرَ مِن مليارٍ وثمانيةَ عَشَرَ مليون من الدَّجَاجلة "كاثوليك العالم"، يَنفُثُ سُمَّه علانيةً، وتبدو البغضاءُ بأبشعِ صُورِها مِن فِيهِ، وما يُخفي صَدرُه أكبرُ. * وهو أكبر عدوٍّ للمسلمين في عصرِنا الحالي: ففي أول قُدَّاسٍ أشرَفَ عليه -بعد انتخابه في أواخرِ إبريل من عام 2006 م-، لم يَذكر المسلمينَ بكلمةٍ واحدة، في الوقت الذي دَخل في غَزَلٍ صريحٍ -وربما فاضح-، لِمَا أسماهم "الإخوة الأعزَّاء" ويَقصِدُ بهم اليهودَ الذين اخْتَصَّهم في ذلك القُّدَّاسِ بكلماتٍ كانت تَفيضُ مَوَدَّةً وإعزازًا!!. ° وبعد ذلك بأيام في مدينة "كولونيا الألمانية" كان التقريعُ والذمُّ من نصيب المسلمين، عندما التقى البابا "بوم روما" بوفدٍ من مُمثِّلي الجاليةِ المسلمةِ في أسقُفيَّةِ المدينة، التي كانت تحتضنُ معسكرَ الأيام الدوليةِ للشباب أواخرَ أغسطس، لِيُعرِبَ لهم عن بالغ انشغالِه بتفشِّي "الإرهاب"، بل إنه زادَ مِن دونِ أدنى مناسبةٍ مُقرِّعًا الوفدَ قائلاً: "يجبُ أن يَنزعَ المسلمون ما في قلوبهم من حِقدٍ، وأن يَعمَلوا على مواجهةِ كلِّ مظاهرِ التعصُّب، وما يمكنُ أن يصدرَ عنهم من عنف". مِثلُ هذه إلنبرةِ التوبيخيَّةِ -التي كان لها بالطبع وقعٌ سيِّئٌّ في نفوسِ المسلمين- جَعَلَتْهم يُفيقون من غَيبوبتهم، ويَعرفون قَذارةَ وحقارةَ أكبرِ

أعدائِهم وما يُخفي -بل ويُبدي- من عداوةٍ لهم. ° ثم تلا ذلك الموقفَ موقفٌ آخَرُ، وابتساماتٌ ومجاملاتٌ رقيقةٌ للكاتبة "أورينالا فالاتشي"، وهي مسيحيةٌ إيطالية تُقيمُ منذ فترةٍ طويلةٍ في الولايات المتحدة الأمريكية، وتُعرَفُ بمقالاتها الناريةِ التي تَنشرُها في العديدِ من الصحف الأمريكيةِ الشعبيَّة، التي تُؤلِّبُ فيها الأمريكيِّين على الإسلام والمسلمين، إذْ إن "فالاتشي" لا ترى فَرْقًا بين إسلامٍ متطرِّفٍ وآخَرَ معتدِلٍ، وكتاباتُها تدورُ دائمًا حول أن "الإسلام كلَّه متطرِّف، والتناقضَ بينه وبين المسيحية جوهريٌّ، ومِن ثَمَّ فلا شيءَ قابلٌ للنِّقاش". قبل تولِّيه كرسيَّ البابوية، كان البابا "بنديكت السادس" كاردينالاً ألمانيا اسمُه "جوزيف راتسينجر"، وكان من أشدِّ المعارِضين لانضمامٍ تركيا -البلد الإسلامي-، إلى الاتحاد الأوربي. ويَحملُ مَلَفُ البابا الإرهابَ بعينه، فقد وُلد "جوزيف راتسينجر" في قرية "تراونشتَين" التابعة لإقليم "بارفاريا" في ألمانيا، وعندما بَلَغ الرابعةَ عَشْرةَ من عُمره انضمَّ إلى جيشِ "شبيبة هتلر" وكان جيشًا غير نظاميٍّ، مخصَّصًا للشباب أيامَ الحكم النازيِّ. وقد سَعى الفاتيكانُ مِرارًا إلى محاولاتٍ لِمَحْوِ تلك المرحلةِ من حياةِ البابا الجديد، ربَّما كان من أشهرِها تلك المحاولةُ- التي جَرَت على لسانِ مؤرخ الفاتيكان الشهير "جون ألين" الذي كَتَب بعدَ أسابيعَ من ترسيم "بنديكتوس" أنه: "كان عُضوًا بالفعل في جيش "شبيبة هتلر"، لكنه لم يكنْ متحمِّسًا للجيش، بل ورَفض أن يَحضُرَ اجتماعاتِه، وعَبَّر في مُقتَبَل عُمرِه

عن معاداتِه للنازية". ولقد خَدَم هذا البابا في جيشِ النازيِّ لسنواتٍ، بدايةً من سنة 1943 م حين أُرسل في السادسةَ عَشْرةَ من عُمره -ضِمنَ مجموعةٍ من الجنود- إلى شمالِ مدينة "ميونخ" لحراسةِ مصنعٍ لمحرِّكاتِ الطائرات. ° إنَّ اختيارَ اسم "بنديكت" له دلالةٌ خطيرة، فهذا الاسمُ لأحدِ أسماءِ الباباوات السابقين الذين شاركوا في الحملاتِ الصليبية ضدَّ الإسلام، وهو اسمٌ لبابا آخرَ كان يقول: "إنه سيِّدُ أوربا"، وأعلن في أكثرَ من لقاءٍ أنه لا تراجُعَ عن عملياتِ التبشيرِ والتنصيرِ، ويستخدمُ كلَّ الوسائلِ لتحقيقِ ذلك. ° "وبنديكت" يريدُ استكمالَ مسيرةِ سَلَفِه "البابا يوحنا بولس الثاني" في محاربةِ الإسلام حَسْبَ تصريحاتِه الموثَّقة، واستكمالِ تنصيرِ العالَم الإسلامي، وإذا ما كانت عمليةُ اقتلاعِ الإسلام تمَت قديمًا في صَمْتٍ وخَفَاءٍ، فمنذ عام 1982 م أصبحت تتمُّ في وَضَحِ النهار، وذلك بعدَ أن أعلنها البابا "يوحنا بولس الثاني" صراحةً مُطالبًا بضرورةِ إعادةِ تنصيرِ العالَم، حتى لا يَبقى على الصعيدِ العالميِّ سوى كاثوليكيةِ رُوما. ° قبل أيامٍ من تصريحاتِ "بنديكت" الأخيرة، كان "بوش" يَصِفُ الإسلاميين بأنهم "فاشيُّون"، وقال إبَّانَ الاعتداءاتِ الإسرائيليةِ على لُبنانَ بأنه يجبُ القضاءُ على الشُّموليةِ الإسلاميةِ، والانتهاءُ من أيِّ تعصُّبٍ دينيٍّ، وإقامةُ شَرقٍ أوسطَ جديد (¬1). ¬

_ (¬1) انظر جريدة "العربي" العدد (1026) (ص 3) الأحد 24 من شعبان 1427 هـ- =

"بنديكت بوم الفاتيكان"، عدو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

* "بنديكت بوم الفاتيكان"، عدوُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: في كلماتٍ مسمومةٍ حاقدة، تحمل كلَّ ضغينةٍ للإسلام، وتَعدَّت كل الحدود في الكفر وسُوءِ الأدب والوقاحةِ والبذاءةِ والحماقةِ، وَقَف البابا أمامَ حَشدٍ كبير من أساتذةٍ جامعييِّن وطُلاَّبٍ في جامعة "ريجنزبورج" جنوبَ ألمانيا وَسَطَ جُموعٍ حاشدةٍ تزيدُ على مِئتي ألفِ شخصٍ يوم الثلاثاء 12/ 9/ 2006 م لِيُطلقَ حُممًا وبراكينَ، وليتجنَّى بكلِّ وقاحةٍ وجرأةٍ على سيِّد البشر - صلى الله عليه وسلم - وعلى الإسلام، وكان عنوانها "الإيمان والعقلُ والجامعة .. ذكريات وانعكاسات". ° بدأ البابا المحاضرةَ باجترارٍ للذكرياتِ التي عايَشها أثناءَ مرحلةِ الدراسة والعَمَل بالجامعاتِ الألمانية -ومن بينها جامعة "ريجنزبورج"-، مشيرًا إلى أن هذه الجامعةَ كانت -وما زالت- فخورةً بكُلِّيّتَي اللاهوت التابعتين لها، لِمَا لهما من دَورٍ في تعميقِ مفهوم "الإيمان"، وكيف أن جميعَ مَن في الجامعة -مِن أساتذةٍ وطُلابٍ- كانوا يَلتَقون للحوارِ على اختلافِ التوجُّهاتِ والآراءَ. وقال: "هذا التماسُكُ الداخليُّ للإِيمان داخلَ هذا الكَوْن لم يتأثَّرْ عندما قال أحدُ الزملاء بجامعتنا: "إنه مِن المُثيرِ للدهشة أن هناك كُلِّيتَينِ تنشغلانِ بأمرٍ غيرِ موجودٍ في الواقع، ألاَ وهو الرب .. ".". ثم انتقل للحديثِ عن العلاقةِ بين العقل والعنفِ في الديانةِ ¬

_ = 17/ 9/ 2006 م وجريدة "الأسبوع" العدد (495) الإثنين 25من شعبان 1427 هـ- 18/ 9/ 2006 م (ص1، 2، 6، 7).

الإسلامية، والخلافِ في هذا الصددِ بين الديانتين الإسلاميةِ والمسيحية، واستَشهد بهذه المناسبةِ بكتابٍ يُفترض أنه للإِمبراطور البيزنطي "مانويل الثاني" (1350 - 1425)، وفي هذا الكتاب الذي يَحملُ عنوان "حوارات مع مسلم .. المناظرة السابعة"، وقدَّمه ونَشَره في الستينات عالمُ اللاهوت الألماني اللبنانيُّ الأصل "تيودور خوري" من جامعة "مونستر"، يَعرِضُ الإمبراطورُ الحوارَ الذي أجراه بين (1394 و 1402) على الأرجح مع عَلاَّمةٍ فارسيٍّ مسلمٍ مفترَض. ° وفي ما يلي ترجمةٌ عربيةٌ من "إسلام أون لاين نت" للنصِّ الكامل لحديثِ البابا خلالَ المحاضرة عن هذا المحور "العلاقة بين العقل والعنف في الإسلام والمسيحية"، نقلاً عن موقع الفاتيكان الإلكتروني باللغة الألمانية: "تداعت هذه الذكرياتُ إلى ذِهني عندما قرأتُ منذ فترةٍ وجيزةٍ جُزءً من حوارٍ نَشَره البروفيسير "تيودور خوري" من جامعة "مونستر"، جرى بين الإمبراطور البيزنطيِّ العالِمِ "مانويل الثاني" ومُثفَّفٍ فارسيٍّ حولَ المسيحية والإسلام وحقيقةِ كلٍّ منهما خلالَ إقامتِه بالمعسكر الشتوي بالقرب من "أنقرة" عام 1391. - يبدو أنَّ هذا الإمبراطورَ قد سَجَّل هذا الحوارَ إبَّانَ حِصارِ القسطنطينية بين عامَي (1394 و 1402)، يدلُّ على ذلك أن مناظرتَه كانت أكثرَ توسُّعًا من مناظرةِ مُحاوِرِه الفارسيِّ. - الحوارُ تناوَلَ كلَّ ما يتعلَّقُ بشرح بُنيانِ العقيدةِ حسبَما وَرَد بالكتاب المقدس والقرآن، ورَكَّز الحوارُ -بصفةٍ خاصةٍ- على صورةِ "الرب" وصورة "الإنسان"، أو على العلاقةِ بين ما نُسمِّيه "الشرائع الثلاثة" أو "نظم الحياة

الثلاثة"، ألاَّ وهي: العهد القديم، والعهد الجديد، والقرآن. - في هذه المحاضرة لا أريدُ أن أُناقشَ هذه القضية، ولكنْ أريدُ التطرُّقَ لنقطةٍ واحدةٍ فقط -هامشيَّةٍ نسبيًّا، وشَغَلتْني في كلِّ هذا الحوار، وتتعلقُ بموضوع "الإيمان والعقل"-، وهذه النقطة تُمثِّلُ نقطةَ الانطلاقِ لتأمُّلاتي حولَ هذا الموضوع. -ففي جولةِ الحوارِ السابعة -كما أوردها البروفيسير "خوري"- تناول الإمبراطورُ موضوعَ "الجهاد"-أي الحرب المقدسة- .. ومن المؤكد أن الإمبراطورَ كان على علمٍ بأن الآية (256) من السورة الثانية بالقرآن "سورة البقرة" تقول: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} .. إنها من أوائل السور- كما يقول لنا العارفون-، وتعودُ للحِقبةِ التي لم يكن لمحمدٍ فيها سُلطةٌ ويَخضعُ لتهديدات .. ولكنَّ الإمبراطورَ من المؤكَّدِ أيضًا أنه كان على دِرايةٍ بما وَرَد في مرحلةٍ لاحقة في القرآنِ حولَ الحربِ المقدسة. - وبدون أن يتوقفَ عن التفاصيل -مثل الفَرقِ في معاملة "الإسلام" للمؤمنين وأهل الكتاب والكفار-، طرح الإمبراطور على نحو مفاجئٍ على مُحاوِرِه السؤالَ المركزيَّ بالنسبة لنا عن العلاقةِ بين الدينِ والعنفِ بصورةٍ عامة، فقال: "أرني شيئًا جديدًا أتى به مُحمدٌ، فلن تَجِدَ إلاَّ ما هو شريرٌ ولا إنساني، مِثلَ أمرِه بنشرِ الدينِ الذي كان يُبشِّرُ به بحدّ السيف". - الإمبراطورُ يُفسِّرُ بعد ذلك بالتفصيل لماذا يَعتبرُ نَشرَ الدينِ عن طريق العنف أمرًا منافيًا للعقل، فعنفٌ كهذا يتعارضُ مع طبيعةِ الله وطبيعةِ الروح، فالربُّ لا يُحِبُّ الدمَ، والعملُ بشكل غيرِ عقلانيٍّ مخالفٌ

لطبيعة الله، والإيمانُ هو ثمرةُ الروح وليس الجسدَ؛ لذا مَن يُريدُ حَمْلَ أحدٍ على الإيمان، يجبُ أن يكونَ قادرًا على التحدُّثِ بشكل جيِّدِ والتفكيرِ بشكلٍ سليم، وليس على العُنفِ والتهديد .. لإقناع رُوحٍ عاقلةٍ لا نحتاجُ إلى ذِراعٍ أو سلاحٍ، ولا أيِّ وسيلةٍ يُمكنُ أن تُهدِّد أحدًا بالقتل. - الجملةُ الفاصلةُ في هذه المُحاججة ضدَّ نشرِ الدينِ بالعنفِ هي: العملُ بشكل مُنافٍ للعقل مُنافٍ لطبيعة الرب .. وقد علَّق المُحرِّر "تيودور خوري" على هذه الجُملة بالقول: بالنسبةِ للإمبراطور -وهو بيزنطيُّ تَعلَّم من الفلسفة الإغريقية-، هذه المقولة واضحة .. في المقابل -بالنسبةِ للعقيدة الإسلامية-، الربُّ ليست مشيئتُه مطلقةً وإرادتُه ليست مرتبطةً بأيٍّ من مقولاتِنا ولا حتى بالعقل. - ويَستشهد "تيودور خوري" في هذا الشأن بكتابٍ للعالِم الفرنسي المتخصِّصِ في الدراساتِ الإسلامية "روجيه أرنالديز" -تُوفي في إبريل الماضي- الذي قال: إن "ابن حزم" -الفقيه الذي عاش في القرنين العاشر والحادي عشر- ذَهَب في تفسيره إلى حدِّ القول: إن الله ليس لزامًا عليه أن يتمسَّك حتى بكلمته، ولا شيءَ يلزمُه على أن يُطلِعَنا على الحقيقة، ويمكنُ للإنسان -إذا رَغِبَ- أن يعبدَ الأوثان. - مِن هذه النقطة يكونُ الطريقُ الفاصلُ بين فَهم طبيعةِ الله، وبين التحقيقِ المتعمِّقِ للدين الذي يتحدَّانا اليومَ، فهل مِن الفِكرِ اليوناني فقط أن نعتقدَ أنه أمرٌ منافٍ للعقلِ مخالفٌ طبيعةَ الله؟ أم أن هذا أمرٌ مفهومٌ من تلقائِه وبصورةٍ دائمة؟ أعتقدُ أنه -من هذه الوجهة- هناك تناغمٌ عميقٌ

ملحوظٌ بين ما هو إغريقيٌّ وبين ما وَرَد في الكتابِ المقدَّس من تأسيسٍ للإيمان بالرب. أولُ آيةٍ في "سِفر التكوين" -وهي أولُ آيةٍ في الكتاب المقدس ككلٍّ- استَخدمها "يوحنا" في بدايةِ إنجيله قائلاً: "في البدء كانت الكلمة"، هذه هي الكلمة التي كان الإمبراطور يحتاجُها: الرب يتحاورُ بالكلمة، والكلمةُ هي عقلٌ وكلمةٌ في نفس الوقت، العقلُ القابلُ للخلق ويمكن تناقلُه، شريطةَ أن يَظَل رشدًا. يوحنا أهدانا بذلك الكلمةَ الخاتمةَ لمفهوم "الرب" في الكتاب المقدَّس، ففي البَدءِ كانت الكلمة -والكلمة هي الرب-، الالتقاءُ بين الرسالة التي نَقَلها الكتابُ المقدَّس وبين الفِكرِ الإغريقيِّ لم يكن وليدَ صدفةٍ، فرؤيا "بولس" المقدس الذي نَظر في وجهِ مقدونيًّا وسَمِعه يدعوه: "تعالَ وساعِدْنا"، هذه الرؤية يجبُ أن تفسَّرَ على أنها تكثيفٌ للتلاقي بين العقيدةِ التي يَشتمل عليها الكتابُ المقدسُ وبين السؤالِ اليوناني. - اليومَ نعرفُ أن الترجمةَ اليونانيةَ للعهدِ القديم بالإسكندرية (المعروفة باسم السبتواجنتا) -أي الترجمة السبعينية-، لم تكن مجردَ ترجمةٍ للنصِّ العِبريِّ فقط، بل إنها خُطوةٌ هامةٌ في تاريخ الوحي الإلهيِّ، التي أدَّت إلى انتشارِ المسيحية. - كان هناك تلاقٍ بين الإيمانِ والعقل، بين التنويرِ الحقيقيِّ والدين، "مانويل الثاني" كان يُمكنُه القولُ من خلالِ الإحساس بطبيعةِ الإيمان المسيحي، وفي الوقت نفسِه بطبيعةِ الفِكرِ اليونانيِّ الذي اختَلط بالعقيدة

وامتَزَج بها: "مَن لا يتحاورُ بالكلمةِ فإنه يُعارِضُ طبيعةَ الرب". - هنا يمكنُ ملاحظةُ أنه في نهاياتِ العصرِ الوسيطِ ظَهرت اتجاهاتٌ في التفسير الدينيِّ تَجاوزت التركيبةَ اليونانيةَ والمسيحية، فتميَّزت مواقفُ تقتربُ مما قاله ابنُ حزمٍ وتتأسسُ على صورةِ تعسُّفِ الربِّ الذي لا يَرتبطُ بحقيقةٍ أو بخيرٍ. -الاستعلاءُ -الذي هو الطبيعةُ المخالفةُ للرب- نجاوزت المدى، لدرجة أنَّ رُشدَنا وفَهمَنا للحقيقةِ والخيرِ لم يَعُدِ المرآةَ الحقيقيةَ للرب، وتَظلُّ إمكانياتُها غيرُ المحدودةِ مخفيةً وغيرَ متاحةٍ لنا إلى الأبد، في مقابل ذلك تمسَّكَ الاعتقادُ الكَنَسي بحقيقةِ أنه يوجدُ بيننا وبين الربِّ وبين رُوحٍ الخَلقِ الأبديةِ وبين عَقلِنا تطابقٌ. - وختامًا فرغمَ كل السرورِ الذي نَرى به الإمكانياتِ الجديدةَ التي أدخَلَها الإنسانُ، نرى أيضًا التهديداتِ التي تتنامى مِن هذه الإمكانيات، ويجبُ أن نسألَ أنفسَنا: كيف يمكنُ أن نسيطرَ عليها، ولن يمكنَنا ذلك إلاَّ إذا تلاقى العقلُ والإيمانُ بصورةٍ جديدة، ومِن خلال ذلك فقط يمكنُنا أن نكونَ مؤهَّلين لحوارٍ حقيقيٍّ بين الحضاراتِ والأديانِ الذي نحن في أمسِّ الحاجة إليه. العقلُ الذي يكونُ فيه الجانبُ الربانيُّ أصمَّ -والدينُ ينتمي إلى الثقافاتِ الثانوية- هو عقل غيرُ صالحٍ لحوارِ الحضارات، وقد قال "مانويل الثاني": "إنه ليس من العقل ألاَّ يكونَ التحاورُ بالكلمة؛ لأن ذلك سيكونُ معارضًا لطبيعة الرب"، قال ذلك من خلال منظورِه لصورةِ الربَّ المسيحية، لمحاوِرِه الفارسي .. بهذه الكلماتِ وبهذا البُعدِ من العقل ندعو لحوارِ الحضاراتِ مع شركائِنا.

اتحاد العلماء يطالب باعتذار بابا الفاتيكان

* اتحاد العلماء يطالب باعتذار بابا الفاتيكان: أصدَرَ الاتحاد العالميُّ لعلماءِ المسلمين بيانًا فنَّد فيه التصريحاتِ المسيئةَ التي أدلى بها بابا الفاتيكان "بنديكت السادس عشر" حولَ الإسلام والرسولِ - صلى الله عليه وسلم -. وطالَبَ الشيخ يوسفُ القرضاوي -رئيسُ الاتحاد- بابا الفاتيكان (يومَ الخميس 14/ 9/ 2006) بالاعتذارِ عن هذه التصريحات. ° وفيما يلي نصُّ البيان: فوجئتُ وفوجئ المسلمون في أقطارِ الأرض بتصريحاتِ البابا "بنديكتوس السادس عشر" خلالَ زيارتِه إلى ألمانيا، حولَ الإسلام وعلاقتِه بالعقل من ناحية، وعلاقتِه بالعُنفِ من ناحية أخرى. وكنا ننتظر من أكبرِ رجل دين في العالَم المسيحيِّ: أن يتأنَّى ويتريَّثَ ويُراجعَ ويشاوِرَ، إذا تحدَّثَ عن دينٍ عظيمٍ كالإسلام، استمرَّ أكثرَ من أربعةَ عَشَرَ قرنًا، ويتبعُه نحوُ مليارٍ ونصفٍ من البشر، ويَمتلكُ الوثيقةَ الإلهيةَ التي تتضمن كلماتِ الله الأخيرةَ للبشرية "القرآن الكريم" الذي لم يَزَلْ يقرأ كما كُتب في عهد الخليفة الثالث عثمانَ بنِ عفانٍ - رضي الله عنه -، ولم يَزَل يُتلى كما كان يتلى في عهدِ النبوة، ويَحفظُه عشراتُ الألوف في أنحاءِ العالم. ولكنَّ البابا -الذي قالوا: إنه كان يَشغل مَقعدًا لتدريس اللاهوت وتاريخ العقيدة في جامعة "راتيسبون" منذ 1969 م- سارَعَ بنقدِ الإسلام- بل بمهاجمتِه- في عقيدته وشريعته، وبطريقةٍ لا يَليق أن تصدرَ من مِثلِه. ففي وَسَطِ الجُموع الحاشِدةِ التي تَزيدُ على مِئتي ألفِ شخصٍ، تحدَّث

البابا عن الإسلام دونَ أن يرجعَ إلى كتابه المقدَس "القرآن" وبيانِه من سُنَّةِ نبيِّه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واكتفى بذِكرِ حوارِ دارَ في القرن الرابع عَشَر بين إمبراطورٍ بيزنطيٍّ ومسلمٍ فارسيٍّ مثقَّفٍ، وكان مما قاله الإِمبراطور للرجل: "أرني ما الجديدُ الذي جاء به محمدٌ؟ لن تَجِدَ إلاَّ أشياءَ شريرةً وغيرَ إنسانيةٍ، مِثلَ أمرِه بنشرِ الدين -الذي كان يبشِّرُ به- بحدِّ السيف! ". ولم يذكر البابا ما رَدَّ به الفارسيُّ المثقف على الإمبراطور. ونسي البابا: أن محمدًا جاء بالكثيرِ الكثيرِ الذي لم تأتِ به المسيحيةُ ولا اليهودية قَبلَها، جاء بالمَزج بين الرُّوحيةِ والماديَّة، وبين الدنيا والآخرة، وبين نورِ العقل ونورِ الوحي، ووازَنَ بين الفردِ والمُجتمع، وبين الحقوقِ والواجبات، وقَرَّر بوضوح الإخاءَ بين الطبقاتِ داخلَ المجتمع، وبين المجتمعاتِ والشعوبِ بعضِها وبعض، وقال كتابه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا .. } [الحجرات: 13]. * وشَرعً مقابلةَ السيئةِ بمِثلها، ونَدَب إلى العفوِ، ودعا إلى السلام، ولكنْ أَمَر بالإعدادِ للحرب: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]. وأنصف المرأةَ وكرَّمها إنسانًا وأنثى وابنةً وزوجةً وأمًّا وعُضوةً في المجتمع. * ونَسَخ كثيرًا من الأحكام التي كانت أغلالاً في اليهودية، كما قال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].

* وأمَّا ما قاله الأمبراطورُ البيزنطيُّ مِن أن محمدًا لم يَجِئْ إلاَّ بالأشياء الشريرة وغيرِ الإِنسانية، مثلِ الأمرِ بنشرِ دينِه بحدِّ السيف! فهو قولٌ مبنيٌّ على الجهل المَحضِ، أو الكَذِبِ المحض، فلم يُوجدْ مَن حارَبَ الشرَّ، ودعا إلى الخير، وفَرَض كرامةَ الإنسان، واحتَرَم فِطرةَ الإنسان، مثلُ محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي أرسله الله {رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}. * ودعوى أنه أَمَر بنشرِ دينهِ بحدِّ السيف أكذوبةٌ كبرى، فهذا ما أَمَر به قرآنُه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. * والحقيقةُ أن الإسلامَ لم ينتصرْ بالسيف، بل انتَصَر على السيف الذي شُهر في وجهه من أول يوم، وظلَّ ثلاثةَ عَشَرَ عامًا يتحمَّلُ الأذى والفتنةَ في سبيل الله، حتى نَزل قولُه تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 39، 40]. * إنما فَرَض الإسلامُ الجهادَ دفاعًا عن النفس، ومقاومةً للفتنة (¬1)، والفتنة أشدُّ من القتل، وأكبرُ من القتل، ولذا قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [البقرة: 190]، {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ ¬

_ (¬1) كلاَّ .. ليس الجهاد في الإسلام قاصرًا على "جهاد الدفع"، بل فيه أيضًا "جهاد الطلب" لإعلاء كلمة الله تبارك وتعالى .. وقَصْرُ الجهاد على "جهاد الدفع" -فقط- من الأخطاء الفادحة لأصحاب "المدرسة العقلية".

عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء: 90]. * والإسلامُ لا يَقبلُ إيمانَ مَن يدخلُ عن طريقِ الإكراه، كما قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ .. } [البقرة: 256]. ° وأما قولُ البابا فيما جاء في الكتاب المقدس في "سِفر التثنية" من التوراة: "إن البلدَ التي يدخلُها موسى ومَن معه، عليهم أن يقتلوا جميعَ ذكررها بحدِّ السيف، أمَّا بلادُ أرضِ الميعاد، فالمطلوبُ دينًا ألاَّ يستبْقوا فيها نَسَمةً حِيَّةً". يعني: الإبادةَ والاستئصالَ الذي نَفَّذه الأوربيون النصارى حينما دخلوا أمريكا مع الهنود الحمر، وحينما دخلوا استراليا مع أهلها الأصليين!. كنَّا نربأُ بالبابا أن يستدلَّ بهذا الكلامٍ المبتورِ في سياقِ حديثهِ عن الإسلامِ ونبيِّ الإسلام. ° وما يمارسُه بعضُ المسلمين من العنف، فبعضُه مشروع -بإقرارِ الأديان والشرائع والقوانين والأخلاق- مِثلُ دفاع المقاومةِ الوطنيةِ ضدَّ الاحتلالِ في فلسطينَ أو في لُبنانَ أو في العراقِ أو في غيرِها، وتسميةُ هذا عُنفًا وإرهابًا: ظلمٌ بيِّن، وتحريفٌ للحقائق. وبعضُ ذلك أنكرته جماهيرُ المسلمين في كل مكان، مثل أحداث 11 سبتمبر، ومُعظمُ العنفِ غيرِ المشروع سببُه الأكبرُ المظالمُ التي تقعُ على المسلمين في كلِّ مكان، ويَسكتُ عنها رجالُ الدين في الغرب، وربما بارَكها بعضُهم!. ° وُيقرِّرُ البابا في لقائِه الجماهيري: "أن الله في العقيدةِ الإسلامية مُطلَقُ السموِّ، ومشيئتُه ليست مرتبطةً بأيِّ شيءِ من مقولاتنا، ولا حتى بالعقل! ".

وأقام مقارنةً مع الفِكرِ المسيحيِّ المتشبع بالفلسفةِ الإغريقية، موضِّحًا أن "هذا الفكرَ يرفضُ عدمَ العمل بما ينسجمُ مع العقل، وكلِّ ما هو مخالفٌ للطبيعة الإلهية". ولو كَلَّف الحبرُ الأعظمُ نفسه، أو كَلَّف أحدًا من أتباعِه بالرجوع -ولو قليلاً- إلى مَصدرِ الإسلام الأول "القرآن"، لَوجد فيه من عشراتِ الآياتِ -بل مِئاتها- ما يُمجِّدُ العقلَ، ويأمرُ بالنظر، ويَحضُّ على التفكير، ويرفضُ الظنَّ في مجالِ العقائد، كما يرفضُ اتباعَ الأهواءِ وتقليدَ الآباء والكبراء، حتى كتَب بعضُ كبارِ الكُتَابِ بحق: "التفكير فريضة إسلامية". * وحسبنا قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ: 46]، وقوله سبحانه {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185]. ° ولو أحببنا أن نقارنَ بين الديانتين -الإسلام والنصرانية-، لوجدنا النصرانيةَ هي التي لا تُعِيرُ العقلَ التفاتًا في عقائدها، وتقولُ تعليماتها: "آمِنْ ثم اعلَمْ، اعتقِدْ وأنت أعمى، أغمِضْ عينيك ثم اتبَعْني". في حينِ أن العِلمَ في الإسلام يَسبقُ الإيمان، والإيمانُ ثمرةٌ له، كما في قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 54]، وهكذا: ليعلموا، فيؤمنوا، فتخبت قلوبهم. لقد ألَّف الشيخ محمدُ عبده كتابه "الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية" ليردَّ به على أحدِ نصارى الشرق الذي زَعَم أن النصرانيةَ تتسعُ للعلمِ والمَدَنيةِ بما لا يتَّسعُ له الإسلام، فكان ردُّ الشيخ العلميُّ الموثَّقُ بالمنطقِ

والتاريخ وحقائقِ الدينِ والعلم: أن الأصول التي يقوم عليها الإسلامُ هي التي تُثمِرُ الحضارةَ والمَدَنية، من الإيمان بالعقل، والجمع بين الدنيا والآخرة .. إلخ، بخلافِ المسيحية التي تقومُ في أساسها على الخوارق، ولا تؤمنُ برعايةِ السنن التي أكدها القرآنُ، والتي يقولُ أحدُ فلاسفتها الدينيين "أوغستين": "أومنُ بهذا؛ لأنَّه مُحال، أو غير معقول"!. ولو كان الإسلامُ يُنكِرُ العقلَ، أو يُهمِلُه، فكيف أقام المسلمون تلك الحضارةَ الشامخةَ التي جَمَعت بين العلم والإيمان، وبين الإبداع الماديِّ والسموِّ الرُّوحيِّ؟ والتي ظل العالَمُ يَستمدُّ منها أكثرَ من ثمانيةِ قرون، ومنها أوروبا التي اقتَبست منها المنهجَ التجريبيَّ الاستقرائيَّ، بَدَلَ المنهج القياسيِّ الأرِسطيِّ، كما شَهِد بذلك مؤرِّخو العلم من أمثالِ "غوستاف لوبون، وبيير بغولف، وجورج سارطون" وغيرهم. ° وقول البابا: "إن مشيئةَ الله في الإسلام مطلَقةٌ لا يَحُدُّها شيء"، صحيحٌ في الجُملة، ولكنْ أجمَعَ علماءُ الإسلام على أن مشيئةَ الله تعالى مرتبطةٌ بحكمتِه لا تنفصلُ عنها، فلا يشاءُ أمرًا مخالفًا للحكمة، فإنَّ من أسمائه الحسنى التي تكرَّرت في القرآن: "الحكيم"، فهو حكيمٌ فيما خَلق، وحكيمٌ فيما شَرعَ، لا يَخلُقُ شيئًا باطلاً، ولا يَشْرعَ شيئًا اعتباطًا. • والله تعالى لا يفعلُ إلاَّ ما فيه الخيرُ والصلاحُ لخَلقِه، كما قال نبيُّ الإسلام - صلى الله عليه وسلم - في مناجاته لربه: "الخيرُ بين يديك، والشر ليس إليك" (¬1). ليست هذه هي المرةَ الأولى التي يقفُ البابا الحالي من الإسلام ¬

_ (¬1) رواه مسلم.

والمسلمين موقفًا سلبيًّا، يُظهِرُ فيه الإهمالَ أو التوجُّس، أو ما هو أكثر. ففي أول قُدَّاسٍ أشرَفَ عليه بعد إنتخابه في أواخرِ إبريل 2005 م لم يَذكرِ المسلمين بكلمةٍ، على حينِ خَصَّ "الإخوةَ الأعزَّاءَ" -على حد قوله- من الشعبِ اليهوديِّ بكلماتٍ تَفيضُ مودةً وإعزازًا!!. وفي مدينة "كولونيا" الألمانية -آخِرَ شهر أغسطس أثناءَ الأيام العالمية للشباب- التَقى بمُمثِّلين عن الجالية المسلمة في أسقفية المدينة، فأعرَبَ عن بالغ انشغالِه بتفشِّي الإرهاب، وأكد في هذا اللقاءِ ضرورةَ "نَزعِ المسلمين ما في قلوبهم من حقدٍ، ومواجهةِ كلِّ مظاهِرِ التعصب، وما يمكن أن يَصدُرَ منهم من عنف"!. وهذه النبرةُ التوبيخيةُ كان لها وَقعٌ سيِّئٌ في نفوسِ المسلمين، لِمَا فيها من رؤيةٍ ضيقةٍ ومن تصوُّرٍ تبسيطيٍّ لمنابعِ الإرهاب وأسبابه. كما أن استقبالَه للكاتبة الإيطالية المقيمة في الولايات المتحدة "أوريانا فالاتشي" والتي تكتبُ كتبًا ومقالاتٍ ناريةً تؤلِّبُ على الإسلام والمسلمين، والتي لا تَرى فرقًا بين إسلامٍ متطرِّفٍ وإسلامٍ معتدل، فالإسلامُ كلُّه متطرفٌ، والتناقضُ بين المسيحية والإسلام "جوهري". كانت هذه مواقفُ تُعَدُّ سلبيةً بالنسبة للمسلمين، أما اليوم، فقد أصبح الأمرُ يتعلَّقُ بالإسلام ذاتِه، ونحن -المسلمين- نعتبرُ النصارى أقربَ مودةً للمسلمين، والنبيُّ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أنا أولى الناسِ بعيسى بنِ مريمَ" (¬1). ولمريمَ عليها السلام سورةٌ في القرآن، ولأُسرةِ المسيح سورة في القرآن ¬

_ (¬1) رواه أحمد والشيخان.

"سورة آل عمران"، وللمسيح وكتابه في القرآن مكانٌ معروف، ونحن لا نُريد أنْ نُصَعِّدَ الموقفَ، ولكن نريدُ تفسيرًا لِمَا يَحدُث، وما المقصود من هذا كلِّه؟! كما نطلُبُ مِن حَبرِ المسيحية أن يعتذرَ لأمةِ الإسلام عن الإساءةِ إلى دينها. ° هل يريدُ الحَبرُ أن نُغلِقَ أبوابَ الحوار، ونستعدَّ للصراعِ في حربٍ -أو حروبٍ- صليبيةٍ جديدة؟!. ° وقد بدأها "بوش" وأعلنها صريحةً باسم "اليمين المسيحي"، ونحن ندعو إلى السَّلْم؛ لأن دينَنا يأمرُنا بذلك، ولكننا إذا فُرضت علينا الحرب خُضناها كارهين، نتربَّصُ فيها إحدى الحُسنَيَين، كما قال قرآننا {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]. • وكما قال نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتمنوا لقاءَ العدو، وسَلُوا اللهَ العافية، ولكن إذا لَقِيتُموه فاثبُتوا، واعلَموا أن الجنةَ تحتَ ظِلالِ السيوف" متفق عليه. فنحن ندعو إلى التسامح لا إلى التعصب، وإلى الرِّفق لا إلى العُنف، وإلى الحوارِ لا إلى الصدام، وإلى السلام لا إلى الحرب، ولكنَّا لا نقبلُ أن يهاجِمَ أحدٌ عقيدتَنا ولا شريعتَنا ولا قِيمَنَا، ولا أن يَمسَّ نبيَّنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بكلمةِ سَوء، وإلاَّ فقد أَذِن اللهُ لنا أن ندافعَ عن أنفسنا، فإن الله لا يحبُّ الظالمين. رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين/ يوسف القرضاوي 21 شعبان 1427هـ-14/ 9/ 2006م

وقفات مع كلام القزم القميء .. بابا الفاتيكان

* وقفاتٌ مع كلامِ القزم القمِيءِ .. بابا الفاتيكان: ° هذا الكافر "يَهرِفُ بما لا يعرف"، وكلامُه: "إن محمدًا لم يَجيءْ إلاَّ بالأشياءِ الشريرةِ وغيرِ الإنسانيةِ مثل الأمر بنشر دينِه بحدِّ السيف"، فهذا جهلٌ مَحضٌ وكَذِبٌ مَحْضٌ، ولم يُوجد مَن حارَبَ الشرَّ ودعا إلى الخيرِ مثل محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - الذي قال عنه ربُّه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فكيف يردِّدُ البابا مقولةَ إمبراطور بيزنطا: "أرِنيَ ما الَجديد الذي جاء به محمدٌ؟ لن تجد إلاَّ أشياءَ شريرةً وغيرَ إنسانيةٍ .. مثل أمره بنشر الدين الذي كان يُبشِّرُ به بحدِّ السيفِ". ° إن قتلى كلِّ غزواتِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - من الجانبيْن -أي: من المسلمين وغيرِهم- كانت 386! ويَعلمُ هذا البابا الكذَّابُ الأشِرُ الذي يَصدُقُ فيه قولُ القائل: "رَمَتْني بدائها وانسلَّتْ" أنَّ الحروبَ الدينيةَ بين البروتستانت والكاثوليك أبادت 40% من شعوبِ وسطِ أوربا، بما يُماثِلُ 10 ملايين في ذلك الوقت!. ويذكر التاريخُ أن الكنيسةَ الكاثوليكيةَ الرومانيةَ قد اضطَهَدت البروتستانت، حتى بَلَغ من أُحرِق في فرنسا في مدينةٍ واحدةٍ في يوم واحد 230 ألفًا، وفي إيطاليا سنة 1560 م قُتِل ألوفُ الألوف، وقد أَصدر "لويس الخامس" سنة 1521 م أمرًا بطردِ البروتستانت مُستندًا إلى موافقةٍ من البابا. وقَتل أحدُ الأمراء في عهدِ ابنِ الملك لويس 18000 في أشهر قليلة. أما عن اضطهادِ الكاثوليك للبروتستانت، فقد بلغ أَشُدَّه، فالولدُ لا يرثُ والِدَيْه، ولا يتعلَّمون، ولا يُعَيَّنون في مناصبِ الدولة، ويَدفعون

الضرائبَ مضاعفةً، وتمَّ حَملُ كثيرٍ من رُهبانِهم وعلمائِهم بأمرِ الملكة "إليزابيث"، وتمَّ إغراقُهم في البحر. ° وطَردت فرنسا اليهودَ سَبعَ مراتٍ، وعددُ اليهود الذين أُخرِجوا من النِمسا وحدَها 71000 أسرة، وقُتِل كثير منهم، ونُهبت أموالُهم، وفي إنجلترا أَصدر "إدوارد الأوَّل" أمرًا بنهبِ أموالِهم، ثم طردِهم، فأجلى 15 ألفًا في غاية الفقر. ° وارتكب الكاثوليك المذابحَ ضدَّ المسملين في أسبانيا عَقِبَ تسليمهم مدينةَ "غرناطة" لفيرناندو، وتم تشكيلُ محاكِم تفتيشٍ لإِبادةِ المسلمين على مَدَارِ قرونٍ طويلة، حتى إن المستشرقَ الفرنسيَّ "جاك ميرك" أشار إلى إبادةِ أكثرِ من ثلاثةِ ملايين مسلمٍ على يدِ المَلِكِ "فيليب الثاني" مَلِكِ أسبانيا، حتى إنهم كانوا يَحمِلون المسلمين بالسُّفنِ ويُلقُونهم في البحر أحياءً. وقد قدَّم الكاردينال "سبسيزوس" النموذجَ الأبشعَ للتعصُّبِ الدينيِّ بتفنُّنه في تعذيبِ وإبادةِ المسلمين آنذاك. ° يقول "لورنتي" واصفًا الاضطهادَ الصليبيَّ الداميَ لمحاكم التفتيش: "ألقت محكمةُ التفتيش أكثرَ من (31000) نَفْس في النار، و290000 عقوبةٍ تلي الإعدام، ولا تَشملُ هذه الأرقامُ الذينَ أَوْدَتْ بحياتهم فُروعُ هذه المحكمة الأسبانية في "مكسيكو" و"ليما" بأمريكا الجنوبية، و"قرطاجة"، و"صقلية"، و"سردينيا"، و"أوران"، و"مالطا". ° وبابا الفاتيكان الكافرُ الخبيثُ يَعلمُ أكثَرَ من أتباعِه أنَّ كاثوليك أوربا -الهَمَجَ الرَّعاعَ قُساةَ القلوب- قَتلوا بمباركةِ بابا آخَرَ مِثلِه سبعين ألفًا من

المسلمين في ساحاتِ الأقصى يومَ دخلوا ودنَّسوا ترابَه أيامَ الحَملةِ الصليبيةِ عليه يومَ الجمعة 16 يوليو 1099 م. ° يقولُ "غوستاف لوبون" في كتابه الشهير "حضارة العرب": "كان أولُ ما بدأَ به "ريكاردوس" الإنجليزي أنه قَتَل من معسكرِ المسلمين ثلاثةَ آلافِ أسيرٍ سَلَّموا أنفسَهم إليه، بَعدَ أن قَطَعَ على نفسِه العهدَ بحَقنِ دمائهم". ° وماذا فعل "ريتشارد قلب الأسد" الكاثوليكي بثلاثةِ آلافٍ من المسلمين في "عكَّا" بعدَ أن أجرَوا معه مُفاوضاتٍ بحَقنِ دمائِهم، فغَدَر بهم إبليسُ الغرب الكاثوليكي، وذَبَحَهم عن بَكرةِ أبيهم. ° بل ماذا يقول "بابا الفاتيكان" الرحيم هو وطائفتُه الكاثوليك عن أكلٍ كاثوليكِ الغرب -رجالِ الحملةِ الصليبية- لجثثِ موتى المسلمين بعد شِّيها؟!. ° قول "رانسيمان" في كتابه عن الحروب الصليبية: "وكان الجيشُ في "مَعَرَّةِ النُّعمان" يُعاني الجوعَ بعد أن نَفِدَتِ المُؤَنُ التي استولى عليها من الجوار، ولم يكن له من سبيلٍ سوى أن يأكلَ لحومَ البشر". يَشوُوُنَ جُثَثَ قتلاهم من الرجال والصِّبيان المسلمين ويأكلونها!!. ° وكتب المؤرِّخُ "راؤل دي كايين" المرافقُ للفرنج قائلاً: "في مدينة "المَعَرةَّ" كان رجالُنا يقومون بغَلْي شُبَّانِ الوثنيين -أي: المسلمين- في آزانات .. ويُوثِقُون الأطفالَ على الأسياخ ويأكلونهم مشويِّين". ° وانظر ما كتبه المؤرِّخُ الفرنسي "ميشو" راجع المجلد الأول من كتابه

"تاريخ الحروب الصليبية" (ص 357، 577)، و"ببلوغرافيا الحروب الصليبية" صفحات (48، 76، 183، 248)، كلُّها تدورُ حولَ أكل لحومِ المسلمين الموتى بعد شيِّها على يدِ جنودِ الفِرنجةِ الصليبيين في مدينةِ "المعَرَّة" عام 1098م (¬1). ذئابُ البشرية وأبالسةُ ووحوشُ الكاثوليك يتكلَّمون عن الطُّهرِ وأيديهم مُلَطَّخةٌ بالدماء، ثم يأتون إلى أطهرِ وأعفِّ وأرحم مَن مَشَى على الأرض رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ويتكلَّمون -وبئس الكلامُ كلامُهم- أنه ما أتى إلاَّ بكلِّ شرٍّ للبشريةِ!!! .. فِرعونُ لو قِيست عليه فِعالُكم ... لغَدَا مسيحًا للهدايةِ يُنتَظَر أمَّا أبو جهلٍ فيَخجلُ عندما ... تُتلَى مخازِيكم على سَمعْ البشرْ ايهِ يا بنديكت اللعين ... سابٌّ للرسولِ - صلى الله عليه وسلم - ولا سيفَ عُمرَ له!! .. وغدًا إذا اعتدلت موازينُ الحياة تُقتَّلُون إِن قيل للأشواك: بُعْدًا .. مَرْحَبًا بالياسمين إن صار همسُ الحقِّ أقوى من ضجيجِ المبطِلين وأزاح نورُ اللَّه كلَّ غِشاوةٍ فوقَ العيون واستوطنت سُحُب الكآبةِ وجه بنديكت اللعينْ * * * وغداً إذا اعتَدَلت موازينُ الحياة تُقَتَّلُون اِن عادَ يُمسِكُ بالحياة خليفةُ المتوضِّئين ¬

_ (¬1) انظر "حروب صليبية بكل المقاييس" (ص 12) للدكتورة زينب عبد العزيز.

وتَضَرَّمت للغَيظ نارٌ في قلوبِ الكافِرِينْ ثم اكْتَسَت بالذلُّ أوجُهُ مَن تنادوْا مُصبِحينْ فحَصادُهم عَصفٌ .. هشيمٌ .. خيبةٌ .. كَدَرٌ وهُون ° إيهٍ يا بنديكت الفاجر، ما تقول فيما جاء في كتابك المقدَّس في سِفر "الثَنية" من التوراة "الإصحاح العشرون": "وإن لَمْ تُسالِمْك أيُّ قرية، بل حارَبَتْك فحاصِرْها، وإذا دَفَعها الربُّ إلهُك إلى يَدِك فاضربْ جميعَ ذُكورهم بحدِّ السيف، وأما النساءُ والأطفالُ والبهائمُ، وكلُّ ما في المدينة كلُّ غنيمتها فتغتنمُها لنفسك، وتأكلُ غنيمةَ أعدائِك التي أعطاك الربُّ إلهك .. أما بلادُ أرضِ الميعاد، فالمطلوبُ دينًا ألاَّ تَسْتَبْقوا فيها نَسَمَةً حيَّةً! " يعني الإبادةَ والاستئصالَ الذي نَفَّذه الأوربيون النصارى حينما دخلوا أمريكا مع الهنود الحُمْر، وحينما دَخلوا استراليا مع سُكَّانها الأصليين. ° إن عندكم من الفضائح ما تَضجُّ منه الأنوفُ يا بنديكت. إن عدمَ استقبالِ رأسِ الكنيسة الأرثوذكسيةِ القبطية بمصر للبابا الكاثوليكي "يوحنا بولس" في مقر الكاتدرائية وقوله: "إنه يُمثِّل إيمانًا مختلِفًا لا يجوزُ السماحُ لصاحبه بدخولِ الكاتدرائية"! فقلوبكم شتَّى، وكفرُكم أنواعٌ متعدِّدة. ° يا لِفكرِكَ الأسودِ الفَجِّ يا "بنديكت"! يا لِوجهك القبيح وقولِك القبيح: "إن اللهَ في العقيدة الإسلامية مُطلَقُ السُّمُوِّ، ومشيئتُه ليست مرتبطةً بأيٍّ من مقولاتِنا ولا حتى بالعقل"!. ثم يدعي أن الفِكرَ المسيحيَّ يرفضُ عدمَ العمل بما ينسجمُ مع العقل وكلِّ ما هو مخالفٌ للطبيعة الإلهيَّة.

° ونقول لك: إنَّ المسيحيةَ هي التي لا تُعِيرُ العقلَ التفاتًا في عقائدِها، وتقول تعليماتُها: "آمِنْ ثم اعْلَمْ .. اعتقِدْ وأنت أعمى .. أغمِضْ عَينيك ثم اتبعني". * وفي الإسلام العلم قبل القول والعمل: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 54] وهكذا: ليعلموا، فيؤمنوا، فتخبت قلوبهم. * وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]. والشرعُ يُخبرُ بمحاراتِ العقول، لا بمحالاتِ العقول (¬1). فلتَخْسَإِ الحكماءُ عن ربٍّ ... له الأفلاكُ تَسْجُدْ ومشيئةُ اللهِ مرتبطةٌ بحكمتِه، فهو العليمُ الحكيم، الخيرُ بين يديه، والشرُّ ليس إليه. ° يا بنديكتُ الذميم، تظن أن تستَخِفَّ بعقولِ العالَم كلِّه الذي سَمعِ تصريحاتِك بجميع لغاتِه عَبْرَ وسائل الإعلامِ المختلفة حين تقول: إن الناس أخطؤوا في فَهم كلامك .. وأنت الذي اخترتَ ما تنقلُه من كلامِ الإمبراطور البيزنطيِّ .. وأنت الذي أخرجتَ هذا الكتابَ من قَبره في مكتبةِ الفاتيكان لتنقلَ منه أَسوأَ ما فيه؟!. ° بعضُ المدافعين عنكَ قالوا: إن الاقتباسَ الذي نَقَله من ذلك الكتاب ¬

_ (¬1) أي: الشرعُ يأتي بأمورٍ تحتارُ فيها العقولُ من عظمتها وغرابتها .. لكنه لا يأتي بشيءٍ يقول العقل: "هذا مستحيلٌ حُدوثُه".

رأي الفاتيكان في الإسلام

"وُظِّف خَطَأً"، ولا أفهم هل وظَّفه خطأً المسلمون الذين غَضِبوا لدينهم ونبيِّهم؟ أم وظَّفه خطأً الذي نَقَله وأذاعه وفاخَرَ بالمحاضرة به على الناس، وصَفَّق له مستمعوه من الكافرين أمثاله؟! وصدق القائل: لكل داءٍ دواءٌ يُستطَبُّ به ... إلاَّ الحماقةَ أعيَتْ مَن يُداويها ° أمَّا نعيُه على الجهادِ وأنه لا يناسِبُ الربَّ، فما قولُه في أسفارِ العهد القديم، حيث تقعُ أحاديثُ الحرب في 36 آيةً من ثمانيةِ أسفار، هي "التكوين، العدد، القضاء، صموئيل الأول، الملوك الثاني، حِزْقيال، التثنية، يوشع"؟ وما قوله فيما نُسِب للمسيح -عليه السلام- وقولِه عن الحرب: "لا تظنُّوا أني جئتُ لأُرسيَ سلامًا على الأرض، ما جئِتُ لأُرسيَ سلامًا، بل سيفًا، فإني جئتُ لأجعل الإنسانَ على خلافٍ مع أبيه، والبنتَ مع أمِّها، والكَنَّةَ مع حماتها، وهكذا يصيرُ أعداءُ الإنسانِ أهلَ بيته". * رأي الفاتيكان في الإِسلام: مِن أهمِّ المقولات التي قِيلت بلا هوادةٍ في المؤتمر الفاتيكانيِّ الثاني: "لابدَّ من تنصير العالم"، والوثيقةُ الخاصةُ بالإسلام والمسلمين تمَّت صياغتُها بإدراجِ الإسلامِ ضمنَ الديانات الآسيويةِ الكُبرى، التي وُجدت بعيدًا عن المسيحية واليهودية، لاستبعادِ الإسلام عن رسالةِ التوحيد! وهذا التوجُّهٌ غيرُ الامين -حتى في صياغة النصِّ المليءِ بالمغالطات- يكشف عن تلك النوايا التي لم تَعُدْ خَفِيَّةً على أحدٍ، فالفاتيكان -رأسُ الكفر، وقلعةُ الأبالسة، وديارُ المجرمين- لا يعترفُ بالإسلام كديانةٍ سماويةٍ توحيديَّةٍ مُنَزَّلةٍ. ° وقد لَخَّصَ الأبُ "ميشيل لولنج" هذه الحقيقة قائلاً: "إن الكنيسةَ

تعتبرُ المسيحَ خاتمَ الرسالة؛ لذلك فهي لا تعترفُ بنبيِّ الإسلام الذي أدانه المسيحيون بطريقةٍ سلبيةٍ تهجُّميَّةٍ وعُدوانية". ° وكان الأبُ "كاسبار" قد أوضح الموقفَ نفسَه أيامَ انعقادِ المؤتمر قائلاً: "إن هناك من بين رجالِ الدين الحاضِرين مَنْ يعتبرون أن الإسلامَ خطأٌ مُطلق لا بدَّ من رَفضِه؛ لأنَّه يُمثِّل خطرًا بالنسبة للكنيسة، ولابدَّ من محاربته" (¬1). والحقُّ أبلجُ لو يبغون رؤيتَه ... هيهاتَ يُبصِر مَن في ناظِريه عمى وصَرخةُ الحقِّ تأباها مسامِعُهم ... مَن يَسمَع الحقَّ منهم يَشتكي الصَّمَمَا فهم لا يعترفون بالإسلام كديانةٍ .. نعم هم لا يرتقون إلى مُرتَقى الإسلام الجميل الوضيئ الذي أراده الله دينًا للبشرية، وتَمنَّى إبراهيمُ أن يُحشَرَ عليه: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 83]. * وقال تعالى عن خليله إبراهيم: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128]. * وقال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)} [البقرة: 133]. ¬

_ (¬1) "حرب صليبية بكل المقايس" (ص 40).

وقبل أن ننهي الكلام مع رأس الضلالة، نهديه من ماضي صليبيي إيطاليا هذه الفقرات

* وقبلَ أن نُنهِيَ الكلامَ مع رأسِ الضلالة، نُهديه من ماضي صَلِيبيّي إِيطاليا هذه الفقرات: قبل الختام نذكر "لبنديكت" القائل: "إن محمدًا لم ياتِ إلاَّ بالأشياءِ الشِّرِّيرة وغير الإنسانية، ونَشَر الدين بِحَدِّ السيف" .. نذكر له صفحةً اجتمع فيها الشرُّ كلُّه وامتهانُ الآدمية لصليبيِّي إيطاليا أثناء غَزِوهم واحتلالهم لليبيا. ° لقد تَحدَّث عن جرائمِ الإيطاليين المجاهدُ الأميرُ "شكيب أرسلان" الذي عاصَرَ الأحداثَ وشارَك فيها، وكانت له علاقةٌ حميمةٌ بقائدِ المجاهِدين الليبيين الشهيد "عمر المختار" -رحمه الله-، الذي قَبض عليه الإيطاليون وحَكموا عليه بالإعدام، وقبلَ أن يُنفَّذَ فيه الحكمُ راودوه أن يَخنَعَ ويَخضعَ في مقابِل العفوِ عنه، فأبى وقال: "لئن كَسَر مدفعُكم سيفي، فلن يَكسِرَ باطلُكم حقِّي، وإن عفوتم عني فسأعودُ إلى قتالِكم من جديد" .. وفي كتاب "حاضر العالم الإسلامي" شواهدُ كثيرة (¬1). * عَددُ الذين شَنَقهم الإيطاليون من طرابلس وبَرْقة: لقد قُدِّر عددُ الذين شَنَقتهم القواتُ الإيطاليةُ الصليبيةُ من أهل "طرابلس وبَرْقة" بعشرين ألفَ نَسَمة، وكان من بين الذين عُلِّقوا على أعوادِ المشانق عددٌ كبيرٌ من النساءِ المسلمات اللواتي جُرِّدْنَ من ثيابِهن، وأبقَوهُنَّ مُجرَّداتٍ عدةَ أيام، وكانوا يَسلُكون ستينَ شخصًا -أو سبعين- في سِلسلةٍ واحدةٍ، وَيحبِسونهم على هذه الصورة حتى يموتوا، وقُذف في البحر مرةً ¬

_ (¬1) "حاضر العالم الإسلامي" لشكيب أرسلان (2/ 65 - 85).

طرد الليبيين من أرضهم المخصبة لإسكان الإيطاليين مكانهم

عِدَّةُ جُثثٍ إلى ساحل "السَّلُّوم" مربوطًا بعضُها ببعض. * طَردُ الليبيين من أرضِهم المُخصِبة لإِسكانِ الإِيطاليين مكانهم (¬1): لقد كانت أراضي الجبل الأخضرِ من "بَرْقة" أجودَ أراضي طرابلس، ففيها العيونُ والمياهُ الجارية، والغابات الملتفَّة، والمروجُ المَريعة، فتوجَّهت أنظارُ الطلْيان إليها، وأرغموا أهلَها على هجرِها بطريقةٍ في غايةِ الوحشيةِ والقسوة. لقد جَمع الطليانُ من سكانِ المنطقة ثمانين ألفَ نسمةٍ -رجالاً ونساءً وأطفالاً-، وساقُوهم إلى صحراء "سِرْت" في الأراضي الواقعةِ بين "بَرْقة وطرابلس" على مسافةِ عَشَرةِ أيام من أوطانهم الأصلية، وأنزلوهم في معاطِشَ ومجادِبَ لا يُمكنُ أن يعيشَ فيها بَشَرٌ ولا بقر، فمات قِسمٌ كبيرٌ منهم جوعًا وعطشًا، وماتت مواشيهم بأَسْرِها مِن فَقدِ الكلأِ والماء، فارتفعِ صُراخُ هؤلاء الأهالي، وراجعوا الحكومةَ الإيطاليةَ، وشَكَوا إليها موت ذراريِّهم وموتَ مواشيهم، فما زادها ذلك إلاَّ قسوةً ومَضاءً على عزيمتها، وزادت الطينَ بِلَّةً، فأخذت منهم الرجالَ الذين بلغوا حتى سنِّ الأربعين، وأدخلتهم في الجُندية، ثم عَمَدت إلى الأحداثِ من فوقِ أربع سنواتٍ وحتى سنِّ الثانيةَ عَشْرةَ سنةً، فأخذتهم قَهرًا من أحضانِ أمهاتهم، ودفعتهم إلى إيطاليا لأجلِ تربيتِهم وتَنشئتهم في النصرانية!. على الرغم من الاحتجاجاتِ الكثيرةِ من أهالي البلاد المُهجَّرين، لم تَستجب الحكومةُ الإيطالية لإرجاع الأهالي إلى أراضيهم وديارهم، بل ¬

_ (¬1) المصدر السابق (2/ 66 - 68).

استباحة القرى والمدن بوحشية منقطعة النظير

انتَخبت من بقاياهم أربعةَ آلافٍ، وأرجعتهم إلى الجبلِ الأخضرِ يَحرُثون ويزرعون -كعامِلين وليسوا مالكين- عند المستعمِرِين الإيطاليين. * استباحُة القرى والمُدُنِ بوحشيةٍ منقطعةِ النظير (¬1): لقد قام الإيطاليون الصليبيون في سنة 1931م باحتلالِ واحةِ "الكَفْرة"، فاستباحوا قُراها ثلاثةَ أيام، فقتلوا مَن صادفوه من الأهالي، ثم انتشروا في القُرى والبساتين، ونَهبوا كلَّ ما وَقع تحت أيديهم، ولم يَرحموا الشيوخَ ولا الأطفالَ ولا النساء، وصادفوا الشيخَ "مختار الفذامسي" -وهو شيخٌ فانٍ بالغٌ ثلاثًا وتسعين سنةً، ومن جِلَّة علماءِ السنوسية-، فحمَلوه مُقيَّدًا بالحِبال على جملٍ، ونَفَوه من "الكَفْرة"؛ فمات في الطريق، ثم اغتصبوا النساءَ في أعراضِهن، وقتلوا منهن كثيرًا ممن دافَعن عن أعراضِهِنَّ، وكان نحوٌ من (200) مئتي امرأةٍ من نساء الأشراف قد فَرَرْنَ إلى الصحراء قبل وصولِ الجيش الإيطالي، فأرسلوا قوةً في إثرِهِنَّ حتى قَبَضوا عليهن، وسحَبوهن إلى "الكَفْرة" حيث خلا بهن ضباطُ جيش الطليان واغتَصبوهن، ولما احتَجَّ بعضُ الشيوخِ على هَتكِ أعراضِ السيدات، أَمَر القائدُ الصليبيُّ بقتلهم. * الطليان يُدنِّسون المُصحفَ، ويَعمَلون على تنصيرِ المسلمين (¬2): لقد استباح الإيطاليون الصليبيون الزاويةَ السنوسيةَ المسماة بـ "التاج"، وأراقوا فيها الخُمور، وداسُوا المصاحفَ الشريفةَ بأقدامهم، ولقد أَجْلَوْا ¬

_ (¬1) المصدر السابق (2/ 69 - 70). (¬2) نفس المصدر (2/ 70).

شهادات المرافقين للجيش الإيطالي على فظائعهم

ثمانيةَ عَشَرَ ألفًا من عَرَبِ الجَبَل الأخضرِ عن أوطانهم، وأماتوهم جوعًا، وأخذوا أطفالَهم قهرًا إلى إيطاليا لتنصيرهم، وقد قاموا بفظائعَ تقشعرُّ لها الأبدان وتَشيبُ لهولها الوِلدان، إذ حملوا الشيخ "سعد" شيخَ قبيلةِ "الفوائد" وخمسةَ عَشَرَ شيخاً من رِفاقه بالطيارات وقذفوهم من الجوِّ على مشهدٍ من أهلهم، حتى إذا وَصل أحدُهم إلى الأرض وتَقطَّع إرَبًا صَفَّق الطليان طَرَبًا ونادوا العرب قائلين: "ليأتِ محمدٌ -هذا نبيكُّم البدويُّ الذي أمركم بالجهاد- ويُنقِذْكم من أيدينا"!!. * شهاداتُ المرافِقين للجيشِ الإِيطالي على فظائعهم (¬1): 1 - شهادة "فرانز ماكولا" الإنجليزي: "أَبيتُ البقاءَ مع جيشٍ لا همَّ له إلاَّ ارتكابُ جرائمِ القتل، وإنَّ ما رأيتُه من المذابح وتركِ النساءِ المريضاتِ العربياتِ وأولادِهن يُعالِجُون سَكَراتِ الموت على قارعةِ الطريق: جَعَلني أكتبُ للجنرال "كانيفا" كتابًا شديدَ اللهجة، قلتُ له: إني أرفضُ البقاءَ مع جيشٍ لا أَعُدُّه جيشًا، بل عصابةً من قُطَّاع الطُّرُقِ والقَتَلة". 2 - شهادة الكاتب الألماني "فون غوتبرغ": "إنه لم يَفعل جيشٌ بِعَدُوِّه من أنواع الغَدرِ والخيانةِ ما فعله الطليانُ في "طرابلس"، فقد كان الجنرال "كانيفا" يستهينُ بكلِّ قانونٍ حربيٍّ، ويأمرُ بقتل جميع الأسرى -سواءٌ أقبُض عليهم في الحرب أو في بيوتهم-، وفي "سيراكوز" الآن كثير من الأسرى الذين لم يؤسَرْ واحدٌ منهم في الحرب، ¬

_ (¬1) نفس المصدر (2/ 72، 81).

وأكثرُهم من الجنودِ الذين تُركوا في مستشفى طرابلس، وقد قَبض الطليانُ على ألوفٍ من أهل طرابلس في بيوتهم، ونَفَوهم -بدونِ أدنى مُسوِّغٍ- إلى جُزرٍ إيطاليةٍ، حيث مات أكثرُهم من سُوءِ المعاملة. 3 - شهادة النمساوي "هرمان رنول": "قد قَتل الطليانُ في غيرِ ميدان الحرب كلَّ عربيٍّ زاد عمرُة على 14 سنةً، ومنهم مَن اكتَفُوا بنَفيه، وأحرق الطليانُ في 26 أكتوبر سنة 1911 خلف بنك روما، بعد أن ذبحوا أكثرَ سكانه بينهم الشيوخ والأطفال". وقال أيضًا: "رجوتُ طبيبَينِ عسكريَّينِ من أطباءِ المستشفى أن يَنقِلوا بعضَ المرضى والمصابين المطروحِين على الأرض تحتَ حرارةِ الشمس، فلم يفعلاَ، فلجأتُ إلى راهبٍ من كبارِ جمعيةِ "الصليبِ الأحمر" هو الأب "يوسف بافيلاكو"، وعرضتُ عليه الأمر، وأخبرتُ شابًّا فرنسيًّا أيضًا، لكنَّ الأب "بافيلاكو" حَوَّل نَظَرَه عنِّي، ونَصَح الشابَّ بأنْ لا يُزعجَ نفسَه بشأنِ عربيٍّ في سكرات الموت، وقال: "دَعْه يموت". ورأيتُ على مسافةٍ قريبةٍ جنديًّا إِيطاليًّا يرفسُ جُثَّةَ عربيٍّ برِجلِه .. وصباحَ اليوم التالي، وجدتُ الجرحى والمرضى الذين رَجوتُ الراهبَ من أجلِهم قد ماتوا، وقد رأى ذلك معي "فون غوتبرغ" الألماني، وبكى من تأثُّره". 4 - شهادة المسيو "كوسيرا" مراسِل جريدة "أكسينسور" الباريسية: "لا يَخطر ببالِ أحدٍ ما رأينا بأعيُننِا من مشاهدِ القتل العام، وفي أكوامِ جُثثِ الشيوخِ والنساءِ والأطفال، يتصاعدُ منها الدخانُ تحت ملابِسهم

الصوفيةِ كالبُخور يُحرقُ أمامَ مَذبَحٍ من مذابح النصرِ الباهر، ومررتُ بمئةِ جثةٍ بجانبِ حائطٍ قُضي عليهم بأشكالٍ مختلفة، وما فررتُ من هذا المنظر حتى تَمثَّلَتْ أمامَ عيني عائلةٌ عربية قُتلت عن آخِرِها وهي تستعدُّ للطعام، ورأيتُ طفلةً صغيرةً أَدخلت رأسَها في صندوقٍ حتى لا ترى ما يَحِلُّ بها وبأهلِها .. إن الإيطاليين فَقَدوا عقولَهم وإنسانيتَهم من كلَّ وجه". 5 - قال المستر "إليس إشميد برتلت" مراسِل شركة "روتر" في رسالةٍ بَعث بها من "مالطة" يَصِفُ فيها ما شاهَده بعينه هو والمستر "كرانت" مراسل "الديلي ميرور" والمستر "انيس" مراسل "المورننغ بوست"، وقد سُجِّلت هذه الرسالةُ في دائرةٍ رسميةٍ إنكيلزيةٍ تحت توقيعهم: "صادَفْنا بمجردِ خروجِنا من المدينة جماعةً -بين رجالٍ وأولادٍ لا يَقِلُّ عددُهم عن السبعين- قُتلوا بدون محاكمة، وكنَّا نُشاهدُ في طريقِنا بعدَ كلِّ بضع خُطواتٍ جُثثَ القتلى في كلِّ مكان، قُتل بعضُهم برؤوسِ الحراب، والبعضُ ضربًا، وآخرون جُرحوا وماتوا على إثرِ جراحِهم .. وأبصَرْنا على مسافةٍ قريبةٍ خمسين رجلاً ووَلدًا هَلَكوا بالرصاصِ والسيوف، وشاهدنا رؤوسًا مهشَّمةً .. ومن المشاهِدِ التي رأيناها: أ- شيخٌ عربيٌّ عاجزٌ، بينما هو جالسٌ بقُربِ مدرسةِ الزراعة، إذ اتخذته طائفةٌ من الجُندِ الإيطالي هدفًا لرصاصِ بنادقهم فمات. ب- سَمِعنا فجأةً صوتَ عِيارٍ ناريٍّ، فعَلِمنا أنه أُطلق على رجلٍ خرج من منزله، فسَقط والدمُ يتدفَّقُ منه، وخَرَجت زوجتُه وبيدها إناءٌ فيه ماء .. لعلها تريدُ أن تَسقِيَه أو تَغسِلَ جِراحه .. فلما رأتنا نَكَصَتْ على أعقابها

خوفًا منا. جـ- التقينا في أحدِ الشوارع بثُلَّةٍ من الجنود، أمسكوا ثلاثةً من العرب وصَفُّوهم عند حائط، وأخذوا يتلهَّون بإطلاق النار عليهم. 6 - قال المستر"بنيت يورلي" مراسل "الدِّيَلي تليغراف": "قَتل الطليان في 7 نوفمبر أربعةَ آلافِ شخص -بينهم 400 امرأةٍ-، ورأيتُ رجلاً مُقْعَدًا قَتَله الجنودُ قريبًا من قنصلية النسما". 7 - قال مراسل "فرانكفورتو نسايتونغ": "لقد رأيتُ بعينيَّ فظائعَ هائلةً لم تَسمعْ أُذُنُ إنسانٍ بمثلها، ولقد بَلَغ إلى الآن عددُ المذبوحين من الأهالي سبعةَ آلافٍ من رجالٍ ونساءٍ وأولاد، إذ أُبيح للجنود قتلُ كلِّ مَن يصادفونه". هذا ولقد أُلِّفت كتبٌ في جرائم الإيطاليين الصليبيين في ليبيا، وأهمُّ هذه الكتب كتاب "الفظائع السُّود الحُمْر"، وكتاب "فظائع الطليان في طرابلس الغرب". ° ومما جاء في الكتاب الأخير أن الطليانَ يُهينون الدينَ الإسلاميَّ، ويتعرَّضون للمسلمين في مساجدهم، ويُدخِلون جنودَهم سُكارى في الجوامع ليهزؤوا بعبادةِ المسلمين، ويُجبِرون المسلمَ -ولو كان في وَسَطِ الصلاة- أن يقومَ بأداء التحيةِ للضابط الإيطالي أو المأمورِ الإيطالي أيًّا كان. ° ولقد أَصدرت الحكومةُ الإيطاليةُ في لواءِ بنغازي أمرًا بسدِّ جميع الكتاتيبِ التي تُعلمُ الاطفالَ أمورَ دينهم وتُحفِّظُهم قرآنهم الكريم. ° وفاجأَ "الفاشيستُ" رجلاً يدعى الشيخ "يونس بن مصطفى

ووقفة أخرى .. لبوم الفاتيكان وسليل النازية

البرعصي" وهو معتكِفٌ في غارٍ بزواية "الفايدية" بالجَبَل الأخضرِ، فسَدُّوه عليه، وأحرقوه مع عائلتِه المؤلَّفةِ من تِسعةِ أشخاص. ° جَمَع الجنرالُ "غارسياني" جميع مشايِخ السنوسية ومتوالِّيَ أوقافِها وأئمةَ المساجد والمؤذِّنين والفقهاءَ والسَّدَنة، وسجنهم كلَّهم في مركزِ "بنينه" وهو بناءٌ قديمٌ لا سَقفَ له، ذاقوا فيه أمر العذاب جُوعًا وعطشًا وعذابًا، ثم نُقلوا إلى سجون إيطاليا، وبعد أن مَكَثوا فيها مدةً أُعيدوا إلى "بنينه" حيث أُفنُوا بالجوع وغيره، ولا ذنبَ لهؤلاء سوى أنهم يُعلِّمون أبناءَ المسلمين كتابَ الله وسُنَّةَ رسولِه الكريم - صلى الله عليه وسلم - (¬1). * ووقفةٌ أخرى .. لبوم الفاتيكان وسليل النازية: اقرأ -أيها النازيُّ الكذَّابُ الأشِرُ- ما قاله "جوستاف لوبون" في كتابه "حضارة العرب" عن محاكِم التفتيش في أسبانيا وهمجيَّةِ الكاثوليك: "وكان تعميدُ العربِ كُرْهًا فاتحةَ ذلك الدَّوْر، ثم صارت محاكمُ التفتيش تأمرُ بحَرقِ الكثيرين، ولم تَتِمَ عمليةُ "التطهير بالنار" إلاَّ بالتدريج لتعذُرِ حَرقِ الملايين من العربِ دَفعةً واحدة، ونَصَح كاردينال "طليطلة" التَّقيُّ (!!!) بقَطع رؤوسِ جَميع مَن لم يتنصَّرْ من العرب رجالاً ونساءً وشيوخًا ووالدانًا .. وقَرَّرت أسبانيا تهجيرَ العرب عن أسبانيا، فقُتِل أكثرُ مُهاجري العرب في الطريق، فأبدَى ذلك الراهبُ "بيلدا" ارتياحَه لقتل ثلاثةِ أرباع أولئك المهاجرين في أثناءِ هِجرتهم، وهو الذي قَتَل مئةَ ألفِ مهاجرٍ قافلةٍ ¬

_ (¬1) "الصراع مع الصليبيين" (ص261 - 266) للدكتور محمد عبد القادر أبو فارس- دار البشير- طنطا.

واحدة كانت مؤلَّفةً من مئةٍ وأربعين ألفَ مهاجر مسلم (140.000)، حينما كانت مُتَّجِهةً إلى أفريقيا، وخَسِرت أسبانيا بذلك مليونَ مسلمٍ من رعاياها في بضعةِ أشهر، ويُقدِّرُ كثير من العلماء -ومنهم "سيديو"- عددَ المسلمين الذي خَسِرتهم أسبانيا منذ أن فَتح "فرديناندُ" "غرناطة" حتى إجلائهم الأخيرِ بثلاثة ملايين، ولا نَعُدُّ ملحمةَ "سان بارتلمي" إزاء تلك المذابح سوى حادثٍ تافهٍ لا يُؤبَهُ له، ولا يَسَعُنا سوى الاعترافِ بأننا لم نَجِدْ بين وحوشِ الفاتِحِين مَن يُؤاخَذُ على اقترافِه مظالِمَ قَتل كتلك التي اقتُرِفت ضدَّ المسلمين. وممَّا يُرثَى له أنْ حُرِمَت أسبانيا عمدًا هؤلاء الملايينَ الثلاثةَ الذين كانت لهم إمامة السُّكَّانِ الثقافية والصناعية" (¬1) اهـ. ° يحاول الثعلبُ الماكرُ "بنديكت" التنصُّلَ من كلامِه، أو يُبدِي أنه يتراجعُ عمَّا قال -وهو كاذبٌ-، أو يقولُ: إن كلامَه فُهِم فهمًا خاطئًا، فهو العاقلُ الوحيدُ وكل الناسِ ليس لها عقولٌ تفهمُ بها .. فَلِم يتراجعُ "ظلُّ اللهِ في الأرض"، وصاحب "العِصمة المطلَقة"، وهذا لم يَحْدُثْ في تاريخ الكنيسة والفاتيكان؟!. ° قال "البابا شنودة" بابا الأرثوذكس إجابةً على سؤال: "هل البابا -أي: بنديكت- معصومٌ من الخطأ، وبالتالي لا يمكُنه الاعتذار؟ ": "اعتقادُنا نحن أنه ليس معصومًا من الخطأ، أي أنه يُمكن أن يُخطئَ، ولكنَّ الكاثوليك يعتقدون خلافَ ذلك، فلقد قالوا: ليس هناك داعٍ للحديث عن حياتِه ¬

_ (¬1) "حضارة العرب" (ص 270 - 272) لجوستاف لوبون.

الخاصة، وهو معصومٌ من الخطأ في التعليم الكَنَسيِّ، أي: في كلِّ ما يُقال من فوقِ مِنبرِ الكاتدرائية؛ لأن هذا التعليمَ يكونُ قد وافَقَ عليه مَجمَعُ الهيئاتِ الكَنَسيَّةِ، ويُصبحُ البابا مُعبِّرًا عن هذا التعليمِ، لكنَّ الكاثوليك عمومًا لا يستطيعون القولَ: إن البابا قد أخطأ". - معنى هذا أن القدِّيسيَّة التي يَتمتَعُ بها "بابا الفاتيكان" تُعَدُّ عاصِمَةً له من الخطأ!!. - "هذا عند الكاثوليك ولكن ليس لدى الأرثوذكس". - "ليس هناك غيرُ مفهومٍ واحدٍ ممَّا أورده، فالعبارةُ صريحةٌ، تتحدَّثُ عن أنَّ كل ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - كان شرًّا وغيرَ إنساني!! ". - "طبعًا هذا غيرُ مقبولٍ أن يُردَّ على لسان البابا، وكان يتعيَّنُ عليه أن يَحسَبَ حسابًا لردود الفعل في العالَم الإسلامي". ° ما رؤيتُكم حولَ ما أورده "بنديكت" من أنَّ الإسلامَ تمَّ نَشرُه بالسيف -أي: بالعُنف والقوة-، وأن النبيَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قد أَمَر بذلك؟. - لا .. لم يأمُر بذلك، والدليلُ يُمكن أن نَجدَه في القرآن، على أنَّ الإسلام لم يَتِمَّ نَشرُه بالعنف .. يقول القرآن: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، ويقول: {لا إِكْرَاهَ فِي الدّينِ} [البقرة: 256]، ويقول: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22]، فدائمًا نَشرُ الدينِ يكونُ عن طريقِ الإقناع؛ لأنَّه أمرٌ يتعلَّقُ بالفكرِ والقلب .. أمَّا هل يَسلُكُ المسلمون هكذا على طولِ

بابا روما: لا عتب عليك، فأنت بكتابك اقتديت

الخط؟ فهذه مسألةٌ أخرى (¬1) " (¬2) اهـ. ° يا بنديكت اللئيم .. إن حُكمَك في تطاوُلك على سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - القتلُ، ولا شيءَ غيرَه بإجماعِ العلماء. * بابا روما: لا عَتْبَ عليك، فأنت بكتابك اقتَدَيت: ° قال أبو إسلام أحمد عبد الله: "بابا روما، أدعو اللهَ كثيرًا -بدايةً- أن يَشفِيَك، وأن يَرُدَّ عليك وَعْيَك، وأن يُثَبِّتَ لك عَقْلَك، فإنَّ الذي في مكانتك محسوبةٌ عليه أنفاسه .. وإنْ أخطأَ كلُّ الناس، ففضيحةٌ كبرى أن تُخطئَ أنت .. وإنْ زَلَّ كلُّ الناس، فزَلَّتُك خطيئةٌ لا تُغتفر .. وإن جَهِل الناسُ بعضَ العلم والتاريخ، فجَهلُك جهالةً تُوسِمُ تاريخَ البابَويةِ بالتخلُّفِ والانحطاط، لذلك أتلمَّسُ لك العُذرَ، لكنَّني -عفوًا- لا أُحسِنُ بك الظنَّ أبدًا، فقد شاء اللهُ لك أنْ تأتيَ من بيئةٍ غيرِ سَوِيَّةٍ، ووظيفةِ غيرِ كريمةٍ في عُرفِ الإنسانية، وهي رئاسةُ محاكِم التفتيشِ تحتَ اسم "تثبيت الإيمان"! لتحتلَّ مرةً واحدةً مكانةَ أكبرِ رجل دينٍ مسيحيٍّ في العالَم، ولعلَّه قَدَرُ الله فيك أن تتعثَّرَ القُرعةُ التي اختاروك بها، لِتُعيدَ لشعوبِ العالَم ذاكرتَها، بعد أن استُغفِلت لفترةٍ ليست بالقصيرة، ظانَّةً أن "الكاثوليكية الجديدة" تناسَت أحقادَها ودَمَوِيَّتها القديمة، وتلك مشيئةٌ عظيمةٌ من ربِّ العِزَّةِ سبحانه وتعالى، أن يَفضَحَ بك تاريخَك خصوصًا، وتاريخَ الكاثوليكية عمومًا، إذ ¬

_ (¬1) ماذا يريد بكلامه هذا؟! عامله الله بما يستحق. (¬2) "جريدة الأسبوع" -العدد (469) - 2 من رمضان 1427 هـ- 25/ 9/ 2006 م (ص 9) - حوار البابا شنودة الثالث لـ "الأسبوع"- أجرت الحوار: سناء السعيد.

إن ملايين -بل ومليارات- الإنسانية لا يَعرِفون الكثيرَ عن الماضي الأسودِ لكنيسةِ حّبْرِكمِ المُبجَّل، ولا عِلمَ لهم بالإجرامِ الذي تأسَّست على قواعدِه عقيدتُكم، ويَجهلون تمامًا بشاعةَ ماضيكم المليءِ بالخياناتِ والمؤامراتِ والقتل والحَرقِ والسَّحْل والسَّحقِ والهَتْكِ والفَتْكِ وكلِّ ما تَقشعرُّ له الأبدان. ° عفوًا نيافةَ الحَبرْ المُبجَّل، أرجوك ألاَّ تبتئسَ كثيرًا مما أقول، وإن كان حقِّي الشرعيُّ الذي تَنصُّ عليه عقيدتُك أنْ أقولَ فيك وأن أَصِفَكَ بالسُّوء الذي وَصَفْتَ به خاتَمَ الأنبياءِ والمرسلين وأكرَمَ خَلْقِ الله أجمعين، لكنني -عفوًا- مضطرٌّ لأن أكونَ عفيفًا في قولي لك بحسبِ وصيةِ الرسولِ الذي أسأتَ أنت إليه، ألاَّ أكون سبَّابًا، ولا فحَّاشًا. ° عفوًا نيافةَ الحَبْرِ المُبجَّل، إنني مضطرٌّ للتعامل معك وِفقَ منهجٍ عقليٍّ مُيَسَّر يتناسبُ مع السَّقطةِ البَشِعةِ التي أَوقعت نفسَك فيها، بسبب افتقادِك أولاً للكياسة التي يجبُ أن يتحلَّى بها أصحابُ المراكزِ الوظيفية المرموقة، وبسبب افتقارِك لأدبياتِ الخطابِ "الدبلوماسي" الذي يَجبُ أن تتدربَ عليه طويلاً، وإلاَّ فسوف يكونُ عمرُك قصيرًا للغاية على عَرشِ مملكتِك الفاتيكانية، ثم أخيرًا بسبب جَهلِك الفاضحِ بتاريخِ الأم، وكان جَهلُ حَبْرِكُمُ المُبجَّل مُرَكَّبًا؛ لأنَّ الأُمَّةَ التي أنت جَهِلْتَها أكبرُ من أن يَجهَلَ سِيرتَها واحدٌ من صغارِ كَهَنَتِكم. ° ولأنَّ المَقامَ ليس عن تاريخ أمةِ الإسلام، وهو أيضًا ليس عن تاريخ أُممِ وطوائفِ عَبَدَةِ الصليب، إنما عن مفهومِ السُّوء حسبما تُقرِّرُه عقيدَتَيِ

المسيحية والإِسلام، رُجوعًا إلى وَصْفِكَ غيرِ المهذبِ وغيرِ الكريمِ وغيرِ اللائق بكم، على مستويين: - المستوى الشخصي: بصفتك قد تجاوَزتَ الثمانين من عُمرك، ولديك من الرُّشدِ ما كان ينبغي أن تَعرِفَ به أقدارَ الناس، وما كان مهمًّا أن تسموَ بعقلِك في التمييزِ بين رجالِ الله الموحِّدين، وغيرِهم من رجالِ الشيطانِ المشركين. - أما على المستوى العَقَدي: فإنني أَعذِرُك كثيرًا فيما قلتَ من السُّوء في حقِّ خيرِ خلقِ الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ قَدَّر اللهُ لي أن أطلعَ على نَبع المسيحيةِ الذي به تسترشدون في أقوالِكم وأفعالِكم ووصاياكم وأنشِطَتِكم، وأعرفُ -كما تعرفُ أنتَ وكلُّ إنسان عاقل- أنَّ المعانيَ الأخلاقيةَ لا يختلفُ عليها اثنانِ من البشر -مثل الخطأِ والخطيئةِ والذَّنبِ والمعصيةِ والفُحشِ والزنا والدعارةِ والقتل والكذبِ والجهل وسوءِ الأخلاق وسوءِ الأدب-، فكل تلك المعاني مشتركةٌ في دلالاتها بين جميع البشرِ -مهما اختلفت عقائدُهم أو ألوانُهم أو جِنسياتُهم-. ومِن هنا أبدأُ التجوُّلَ بصُحبةِ حَبْرِكُمُ المُبجَّل في أصولِ نيافتكم العَقَدية، دونَ عصبيةٍ، أو غَضَبٍ، أو حَيدةٍ، لنُحدِّدَ سويًا ويَشهدَ علينا الملايينُ الذين سيقرؤون هذه الرسالةَ المهذَّبةَ منِّيَ -أنا المسلم الذي أتبعُ أخلاقَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -"، إلى شَخصِكم المُبجَّلِ الذي اتَّهم محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بأنه "لَم يأتِ إلاَّ بكل سِّيئٍ، وتعرفُ أن القرآنَ هو أغلى وأسمى ما أتى به - صلى الله عليه وسلم -، فسَبَبْتَ قرآنَنا قصدًا مع سَبقِ الإصرار، أو عَفْوًا وجهالةً وسوءَ فَهمٍ،

° أولا: حقيقة كتاب نيافتكم المقدس

وحسُبك -همًّا وغمًّا لتاريخ كنيسةِ حَبْرِكم- أنك أشرتَ فيما أَسميته تدليسًا "بالاعتذارِ للمسلمين" أن ذلك النصَّ البذيءَ الذي نَطَقَتْ به نيافتُكم، قد نَقَلْتَه في كلمتك عن أجدادِك الأوائل في العصورِ الوسطى، لِتُجدِّدَ معهم العهدَ والوعدَ، شهادةً على موقفِكم الحاقدِ المتعصِّبِ من خيرِ بشرٍ وُلِد على الأرض، أنك مِثلُهم، وأنهم كانوا مِن قَبل مِثلَك نيافةَ الحَبْرِ المبجَّل، أتعشَّمُ كثيرًا أن تتحمَّلني، وتَقبَلَ مني أن أُذكِّرَك فقط على ملأٍ من البشرية؛ لأنَّ الملايينَ منهم يَجهلُ السرَّ الذي دَفَع نيافتَكم لهذا السُّوءِ من القول في حق خيرِ نبيٍّ لخيرِ أُمةٍ أُخرجت للناس، وهو ذلك الكتابُ الموصوفُ خطأً بالقَدَاسة، وهو لا يتجاوزُ "الفولكلور الشعبيَّ" بحسب تعبيرِ الآباء الدومينيكان، فقد رَجعتُ إليه، ووجدث أن سِبابَك وشَتْمَك لنبيِّ الرحمة والسلام، هو اقتداءٌ بما وَرَد زُورًا وبهتانًا على لسان "يسوع" وهو يُوزِّعُ أذاه على مَن يعرفُ ومَن لا يَعرف، معاهدًا اللهَ الواحدَ الأحدَ الفردَ الصمدَ، أن ألتزمَ بنصوصِ كتابِك فيما أنقُل، دون نقصٍ، أو زيادةٍ، أو تعديل، لنعرفَ جميعًا ما السَّيِّئُ، ومَن المُسيء، ومَن المُساءُ إليه، مسترشِدًا في ذلك معِ نيافتِكم بقول رسولِكم "بولس" في "سِفر الأمثال": "جَاوِبِ الْجَاهِلَ حَسَب حَمَاقَتِهِ لِئَلاَّ يَكُونَ حَكِيمًا في عَيْنَيْ نَفْسِهِ". ° أولاً: حقيقة كتاب نيافتكم المقدس: جاء في الدراسةِ القيمةِ المسمَّاةِ "مدخل إلى الكتاب المقدس"، والتي نَقَلَتْها الرهبانيةُ اليسوعيةُ من الترجمة المسكونية الفرنسية للكتاب المقدس "إصدار الرهبانية اليسوعية"، بيروت، دار المشرق، 1985م: "إن أسفارَ

الكتابِ المقدَّس هي عَمَلُ مؤلِّفِينَ ومُحرِّرِينَ، ظَلَّ عددٌ كبيرٌ منهم جهولاً، لكنهم -على كلِّ حال- لم يكونوا مُنفرِدين؛ لأنَّ الشعبَ كان يُسانِدُهم". ° ويقولُ الآباءُ اليسوعيون في مقدِّمة الكتاب المقدس: "فما مِن عالمٍ كاثوليكيٍّ في عصرنا يعتقدُ أن موسى ذاتَه قد كَتَب كلَّ البانتاتيك "الأسفار الخمسة" منذ قِصَّةِ الخَلْقِ إلى قصةِ موته" (ص 4). ° وتقولُ دائرة المعارف الأمريكية [ AMERICANA ENCYLOPAEDIA] طبعة 1959 الجزء الثالث: "لَم يَصِلْنا أيُّ نسخةٍ بخطِّ المؤلِّفِ الأصليِّ لكُتُبِ العهدِ القديم، أمَّا النصوصُ التي بين أيدينا، فقد نَقَلَتْها إلينا أجيالٌ عديدةٌ منَ الكَتَبَةِ والنُسَّاخ، ولدينا شواهدُ وفيرةٌ تُبيِّنُ أن الكَتَبَةَ قد غَيَّروا -بقصدٍ أو دونِ قصدٍ منهم- في الوثائق والأسفار التي كان عَمَلُهم الرئيسيُّ هو كتابتُها ونقلُها، وقد حَدَث التغييرُ دون قصدٍ حين أخطؤوا في قراءةِ بعضِ الكلمات .. كذلك حين كانوا يَنْسَخون الكلمةَ أو السطرَ مرَّتين، وأحيانًا يَنْسَون كتابةَ كلماتٍ -بل فقرات بأكملها-، وأمَّا تغييرهم في النصِّ الأصلي عن قَصدِ، فقد مارسوه مع فِقراتٍ كاملةٍ حين كانوا يتصوَّرون أنها كُتبت خطأً في الصورة التي بين أيديهم، كما كانوا يَحذِفون بعضَ الكلماتِ أو الفقرات، أو يُضيفون على النصِّ الأصليِّ فقراتٍ توضيحيةً". ° وتقول الترجمةُ الفرنسية المسكونية تحت عنوان "فساد النص": "لا شكَّ أن هناك عددًا من النصوصِ المشوَّهة التي تفصلُ النصَّ المسوري الأول عن النصِّ الأصلي، فعلى سبيل المثال: تَقفزُ عَينُ الناسخُ من كلمةٍ إلى كلمةٍ

° ثانيا: أخلاق المسيحية بحسب نصوصها المقدسة

تُشبِهُها، وتَرُدُّ بعدَ بضعةِ أسطرٍ مُهمَلَةٍ كل ما يَفصِلُ بينهما .. والجديرُ بالذِّكر أن بعضَ النُّسَّاخ الأتقياءِ أقدموا بإدخالِ تصحيحاتٍ لاهوتيةٍ على تحسينِ بعضِ التعابيرِ التي كانت تبدو لهم معرصةً لتفسيرٍ عقائديٍّ خَطِرٍ" "كتب الشريعة الخمسة": منشورات دار المشرق- بيروت. وهكذا يتَّضُح للعالَم كلِّه أن الحَبْرَ الأعظمَ إنما يعتنقُ كتابًا هو يَعلمُ وتلامذتُه أنه ليس مقدَّسًا وليس وحيًا، وليس من كلام موسى-عليه السلام-، وليس من كلامِ عيسى -عليه السلام-، ورَغمَ ذلك يُدلِّسُ على الدنيا كلِّها أنَّ كتابه مُقدَّسٌ، ومَن يفعل ذلك لا بأسَ أن يُسِيءَ إلى النبي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، بل وإلى ربِّه جلَّ وعَلا. ° ثانيًا: أخلاقُ المسيحية بحسب نُصوصها المقدسة: ثم أَسْبِرُ بصُحبتِك غَوْرَ ذلك الكتابِ الذي فَرَضْتَ نيافتُكم -والذين مِن قَبْلِكم- على ملايينِ البشر الإيمانَ به باعتبارِه "مقدَّسًا"، وأنت عليمٌ بأنه غيرُ مقدَّس -كما أشار علماءُ نيافتكم سابقًا-، وأبدأُ استشهاداتي إليك بما قاله "بولس"، عمادُ عقيدتكم، في رسالتِه الأولى إلى "كورنثوس" (6: 10) "بأن الشتَّامون لا يَرِثون ملكوتَ الله" .. بينما أنت شَتمتَ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وكلَّ أتباعِه وقرآنَه الذي أُنزل عليه، فهل أنت ممن سيَرِثون الملكوتَ؟ أم أن مَثواك جهنمُ وبئس المصير [إذا مِتَّ على هذا الضلالِ الكبير]؟. * وأنتقل بنيافتكم إِلى صُلبِ معتَقَدِكم، وسَبَبِ شَتْمِكم، وأصلِ اقتدائِكم، لِنقفَ مباشرةً على مستوى أخلاقِ نيافتكم: ° الرب يأمرُ بسرقةِ المصريين: "قال الربُّ لموسى: تكلَّم في مسامع الشعبِ أن يَطلُبَ كلُّ رجلٍ من

° الرب يأمر بشرب الخمر

صاحبه وكلُّ امرأةٍ من صاحبتها أمتعةَ فِضَّةٍ وأمتعةَ ذهبٍ، وأعطى الربُّ نِعمةً للشعبِ في عيون المصريين"، و"فَعَل بنو إسرائيل -بحسب قول موسى-، طَلَبوا من المصريين أمتعةً من فضةٍ وأمتعةً من ذهبٍ وثيابًا، وأعطى الربُّ نعمةً للشعب في عيونِ المصريين حتى أعاروهم، فسلبوا المصريين" "الخروج" (12: 35، 36). ° الرب يأمرُ بشرب الخمر: "لا تكنْ في ما بعدُ شَرَّابَ ماءٍ، بل استَعمِلْ خمرًا قليلاً من أجل مَعِدَتِك وأسقامِك الكثيرة" "تيموثاوس" (5: 23). ° الرب يأمرُ بالزنا: ° أولُ ما كلَّم الربُ هوشع قال الربُّ لهوشع: اذهبْ خُذْ لنفسِك امرأةَ زِنًى، وأولادَ زِنًى؛ لأنَّ الأرضَ قد زَنَت زنًا تاركةً الرب، فذهب وأَخَذ جومر بنت دبلايم، فحَبَلت وولدَت له ابنًا" "هوشع" (1: 2). ° الرب يأمر بالقُبلات بين الرجال والنساء: "سلِّموا على تريفينا وتريفوسا وبرسيس المحبوبة وروفس وأمه أمي وهرماس بتروباس وهرميس، وعلى الإخوةِ الذين معهم، سَلِّموا على فيلولوغس وجوليا ونيريوس وأخته وأولمباس، سلِّموا بعضُكم على بعض بقبلةٍ مقدَّسةٍ". "كورنثوس" 2 (12: 13). ° إله المحبة يشتم امرأةً كنعانيةً: "عندما جاءت امرأةُ كنعانيةٌ تسترحمُ يسوع بأن يَشفِيَ ابنتَها، ردَّ عليها قائلاً: لا يجوزُ أن يُؤخَذَ خُبزُ البنين وُيرمى للكلاب" "متى" (15: 26).

° وشتم الأنبياء عليهم السلام

° وشَتَم الأنبياء عليهم السلام: "يقول يسوع: أنا بابُ الخِراف، وجميعُ الذين جاؤوا قَبلي سارقون ولصوص". "يوحنا" (7: 10). ° وشَتَم مُعلِّمي الشريعة: "قائلاً لهم: يا أولاد الأفاعي" "متى" (3: 7)، "أيها الجُهَّالُ العُميان" "متى" (17: 23). ° ووَصَف تلميذَه الأولَ "بطرس" الذي هو خيرُ رسل الفاتيكان: بقوله: "يا شيطان" "متى" (16: 23). ° وشَتَم آخَرين منهم: "بقوله: أيها الغبيَّانِ والبطيئا القلوب في الإيمان" "لوقا" (24: 25). ° بل شَتَم الذي استضافه ليتغذَّى عنده في بيته: "سأله فريسيُّ أن يتغذَّى عنده، فدخل يسوع واتكأ، وأما الفريسي فلمَّا رأى ذلك تعجَّب بأنه لَم يَغتسِلْ أولاً قَبلَ الغداء، فقال له الرب: أنتم الآن أيها الفريسيون تُنَقُّون خارجَ الكأس، وأما باطنُكم فمملوءٌ اختطافًا وخُبثًا يا أغبياء! ويل لكم أيها الفريسيون! ... فأجاب واحدٌ من الناموسيين وقال له: يا مُعلِّم، حين تقول هذا تشتمُنا نحن أيضًا! فقال: وويلٌ لكم أنتم أيها الناموسيون! " "لوقا" (11: 32). ° وشَتَم هيرودس: "قولوا لهذا الثعلب" "لوقا" (13: 32). ° وأساء يسوعُ الخطابَ مع أمِّه أمامَ الناس: "عندما قال لها في فَرَح قانا: ما لي ولك يا امرأة؟! " "يوحنا" (2: 4).

° وأساءَ استخدامَ الألفاظ في خطابه مع الناس: "لا تُعطوا القدسَ للكلاب، ولا تطرحُوا دُرَرَكم قُدَّام الخنازير" "متى" (7:6). ° وطلب إحضار معارضيه لذبحهم بالسيف أمامه: "أما أعدائي الذين لم يُريدوا أن أَملِكَ عليهم، فأتُوا بهم إلى هنا، واذبحوهم قدامي" "لوقا" (19: 27). ° ويلعن شجرةَ التين: شجرةٌ لا ذنبَ لها سِوى أنها لم تُثمِر؛ لانَّه لم يكن وقتُ الثمر: "وَإذ رأى من بعيدٍ شجرةَ تينٍ مورقَةَ، توجَّهَ إليها لعلَّهُ يجدُ فيها بعض الثَّمرِ. فلمَّا وصل إليها لم يجد فيها إلاَّ الورقَ؛ لأنَّه ليس أوانُ التينِ. فتكلَّم وقالَ لها: لا يأكلنَّ أحَدٌ ثمَرًا منكِ بَعْدُ إلى الأبَدِ" "مرقس" (11: 12). ° ممارسةُ العنف تحديًا للسلطات: "صَعِدَ يسوع إلى أورُشَلِيمَ، فوجدَ في الهيْكَل باعةَ البقرِ والغنمِ والحمامِ، والصَّيَارفَةَ جَالسينَ إلى موائدهم، فجدلَ سوطًا من حبالٍ، وطردهُم من الهيكل، مع الغنم والبقَرِ، وبعثرَ نُقودَ الصَّيَارِفَةِ وقَلَبَ مناضِدَهُم" "يوحنا" (2: 14). ° يقتل ألفي خنزير استجابةً للأرواح النجسة: "وكان هناك قَطيعٌ كبيرٌ من الخنازيرِ يَرْعَى عند الجبل، فتوسَّلتِ الأرواح النَّجِسَة إلى يسوعَ قائلةً: أرسِلْنا إلى الخنازيرِ لندخُلَ فيها! فأذنَ لها بذلك. فخرجتِ الأرواحُ النَّجِسَة ودخلت في الخنازيرِ، فاندفعَ قطِيعُ

الخنازيرِ من على حافةِ الجبل إلى البُحيرةِ، فغَرِقَ فيها. وكان عدده نحو ألفينِ" "مرقس" (5: 11). ° يَشترط لطاعته أن يَكرَهَ الإنسانُ نفسَه وأباه وأمَّه وزوجتَه وأولادَه: فيقول: "إن جاءَ إليَّ أحدٌ، ولم يبغض أباهُ وأمَّهُ وزوجتَهُ وأولادَهُ وإخوتَهُ وأخواتِه، بل نفسَهُ أيضًا، فلا يُمكنه أن يكون تلميذًا لي" "لوقا" (14: 26). ° يعلن أنه جاء ليُلِقَي سيفًا لا سلامًا: "لا تظنُّوا أنِّي جئتُ لألقي سلامًا على الأرضِ. ما جئتُ لألقي سلامًا، بل سيفًا. فإنِّي جئتُ لأجعل الإنسانَ على خلافٍ مع أبيه، والبنتَ مع أمِّهَا، والكَنَّةَ مع حماتها" "متى" (10: 34). ° جاء ليلقي نارًا على الأرض: "جئتُ لألقي على الأرض نارًا، فلكم أودُّ أن تكون قد اشتعلت؟ " "لوقا" (12: 49). ° يقتل الأطفال بذنب أمهاتهم: يقول في إيزابيلا التي ادعت النبوة: "فإني سأُلقيها على فراشٍ، وأَبتلي الزانين معها بمحنةٍ شديدة، وأولادُها أقتلُهم بالموت، فستعرفُ جميعُ الكنائس أنِّي أنا هو الفاحصُ الكُلَى والقلوبَ، وأجازي كلَّ واحدٍ منكم بحسبِ أعماله" "سفر الرؤيا" (2: 21 - 23). وهكَذا نيافةَ الحَبْرِ المبجَّل، نكونُ قد أَوقفنا العالَمَ كلَّه -الذي يَعلمُ والذي لا يَعلم-، أنك عندما آذيتَ المسلمين وقرآنَ المسلمين، ولَمَّا آذَيتَ

من رحمة النصرانية: دعوة أحد أبنائها لضرب مكة بالقنبلة النووية

نبيَّ المسلمين - صلى الله عليه وسلم -، إنما كنت مقتديًا حَذْوَ النَّعْل بالنعل، بما جاء في كتابك على لسانِ ربِّك، لذا لَم أَحْزَنْ منك على الإطلاق، وأدركتُ أنك رجلاً يسوعيًّا بحق، كشفتَ لنا بجِلاءٍ أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن هو المقصودَ بسُوءِ ما أتى به، إنما السوءُ كان فيما أتيتَ أنت به وأتى به كتابُك، ولولا تقديري لك، واحترامي لرغبتِك في استمرارِ جهالتِك بالإسلام ونبيِّ الإسلام، لكنتُ عَرضتُ عليك شيئًا مما أتى به محمد - صلى الله عليه وسلم -، لتعلمَ مساحةَ التباين بين ما كان عندك، وما هو عندنا، خاتمًا رسالتي إلى حَبرِكمُ المبجَّلِ بقول "بولس" في سفر "الأمثال" (4: 26): "لا تُجَاوبِ الجاهل حسب حماقَتِهِ، لِئَلاَّ تَعدلَهُ أنت". معاذَ الله -سعادةَ الحَبْرِ المبجَّل- أن أَعْدِلَكَ فيكونَ مقامُك هو مقامي، أو مقامي -والعياذُ بالله- يكون مقامك". أبو إِسلام أحمد عبد الله * من رَحمةِ النصرانية: دعوةُ أحدِ أبنائها لضربِ مكةَ بالقنبلة النووية: ° يقول المحرِّر الأمريكي "ريتش لوري": "إنني أقترحُ أن تُضرَبَ مكةُ بقنبلةٍ نووية، ويكونُ ذلك بمثابةِ إشارةٍ إلى المسلمين .. إنَّ "طِهرانَ وبغداد" هما الأقربُ لتلقِّي الضربةِ النووية الأولى .. يجبُ علينا أن نُحذِّر دمشقَ والقاهرةَ والجزائرَ وطرابلسَ والرياضَ من خطرِ الإبادة النووية إذا ما أظهروا أيةَ علامة اعتراض" (¬1). هؤَلاء الصليبيون هم أعداءُ البشر، هم الذين ينشرون أفكارَهم بإبادةِ الآخرين. ¬

_ (¬1) نُشر المقال في مجلة "ناشيونال ريفيو" على موقع المجلة الإلكتروني.

° يقول "مايكل هولي إيغل" الأمريكي في حديثه عن قتل الهنود الحمر: "تاريخنا مكتوبٌ بالحبر الأبيض، إن أولَ ما يفعلُه المنتصرُ هو محوُ تاريِغ المهزومين، ويا الله ما أغزَرَ دموعَهم فوقَ دماءِ ضحاياهم! وما أسهَلَ أن يسرِقوا وُجودَهم من ضميرِ الأرض! هذه واحدةٌ من الإباداتِ الكثيرةِ التي واجهناها وسيواجهها الفلسطينيون .. إن جِلادَنا المقدَّس واحد" (¬1)!!. ° في عام (1730 م) أصدر البرلمان الأمريكي لمن يسمُّون أنفسَهم "البروتستانت الأطهار" تشريعًا يُبيحُ عمليةَ الإبادةِ لمن تبقَّى من الهنود الحمر، فأصدرت قرارًا بتقديمِ مكافأةٍ مقدارها (40) جنيهًا مقابل كلِّ فروةٍ مسلوخةٍ من رأسِ هنديٍّ أحمر، و (40) جنيهًا مقابلَ أسرِ كلِّ واحدٍ منهم، فكان سَلخُ الرأسِ أوفرَ لهم. وبعدَ خمسةَ عشَرَ عامًا ارتفعت المكافأة إلى (100) جنيه، و (50) جنيهًا مقابلَ فروةِ رأس امرأةٍ، أو فروة رأسِ طفلٍ. وفي عام (1763 م) أمَرَ القائدُ الأمريكي "جفري أهرست" برَمْي بطانيَّاتٍ كانت تستخدَمُ في مصحَّاتِ علاج الجُدري إلى الهنود الحمر، بهدفِ نشرِ المرض بينهم، مما أدَّى إلى انتشارِ الوباءِ الذي نتج عنه موتُ الملايين من الهنود، ونتج عن ذلك شِبْهُ إفناءٍ للسكان الأصليين في القارة الأمريكية" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر "حق التضحية بالآخر .. أمريكا والإبادات الجماعية" (ص 7) لمنير العكش- دار رياض الريس. (¬2) انظر كتاب "أمريكا والإبادات الجماعية"، فعامته عن تاريخ قتل الهنود الحمر.

ثورة المنطق في وجه البابا

° وقال الرئيس الأمريكي "وليام ماكيليني": "نحن لم نذهبْ إلى الفلبِّين بهدفِ احتلالها، لكنَّ المسألةَ أن السيدَ المسيحَ زارني في المنام، وطلب مني أن نتصرَّف كأمريكيِّين، ونذهبَ إلى الفلبِّين لكي نجعلَ شعبَها يتمتعُ بالحضارة" (¬1). * ثورةُ المَنْطِقِ في وَجْهِ البَابَا (¬2): أين العدالةُ والهُدى والمَنْطقُ؟! ... والقَسُّ جانٍ .. والمؤرِّخُّ أخرَقُ!! والرَّبُ ثالوثٌ -تعالى جَدُّهُ- ... هو واحدٌ لكنَّهُ مُتَفَرِّقُ!! أينَ العدالةُ والهُدى والمَنْطقُ ... والأمُّ تَحْمِل بالإلهِ وتَطلِقُ!! فهو الجنينُ تَحَشْرَجَتْ أودَاجُه ... وهو الرضيعُ المُسْتَغِيثُ المُوْثَقُ!! وهو الغريبُ هنا يُطاردُهُ الظَّما ... طَوْرًا فيُسقَى، أو يَجُوعُ فيُرْزَقُ!! وهو الطريدُ هنا .. المُعذَّب ها هنا ... وهناك في عَرْضِ الصليبِ مُعَلَّقُ!! وهو الدَّفْينُ هنا ثلاثًا فاعْجَبُوا ... من ذا الذي يُحيي بهن ويرزقُ؟!! أين العدالةُ والهُدى والمَنْطقُ؟! ... والذَّنْبُ إرثٌ والمُخَلَّصُ يُشْنَقُ!! ورقابُهُمْ أسِرَتْ بزلَّةِ آدم .. ... ما لي بوِزْرِ الأخَرِينَ أُطَوَّقُ؟!! واللهُ أوسعُ رحمة وعدالةً ... من أنْ يُجَرِّمَهُم ولما يُخلِقُوا وأرى المُخَلِّصَ لَمْ يُخلِّص نَفْسَه ... وهْو الضَّعيفُ المُسْتَباحُ المُرْهَقُ!! وصُكوكُ عفْرانِ الذنوبِ تِجَارةٌ ... فالقَسُّ يَجْمَعُ والكنيسةُ تَعْتِقُ ¬

_ (¬1) "أمريكا التي تعلمنا الديمقراطة والحرية والعدل" للدكتور فهد العرابي الحارثي. (¬2) لصالح بن علي العمري.

وتُقَدَّسُ الصُلبَانُ إجماعًا وقد ... صُلِبَ الإلهُ بها فأينَ المَنْطِقُ؟! أين العدالةُ والهُدى والمَنْطقُ؟! ... والقَسُّ يكْذِبُ والحقائقُ تُزْهَقُ فإذا اليهودُ القَاتِلونَ بِعُرْفهمْ ... رَمزُ البَرَاءِ .. وقسُّهم يتملَّقُ كم هيَّجَ الأحقادَ في حَمَلاِتهِ ... ولِكُلِّ جَيشٍ للقسَاوسِ فَيلقُ!! نيرانُ كُرهٍ في حُطامِ ملاحِمٍ .. ... والموتُ يُرْعِدُ، والعَدَاوة تُبْرِقُ وَفَدوا إلى أرْضِي بِكلِّ سَريَّةٍ ... فَبَكَتْ فلسطينُ وضجَّ المَشْرِقُ ومَحَاكمُ التَّفْتِيشِ يَشْهَدُ قَبْوُهَا ... بِجَحِيمِها وسجونُها والخَنْدَقُ و"أبو غريبِ" فضائحٌ مشهودةٌ ... وسجونُ "كوبا" أنَّةٌ تتحرَّقُ وَغدَت رُبا الأَفْغانِ قاعًا صفصفًا ... وهنا العراقُ ضغائنٌ تتدفَّقُ عيسى رَسُولُ محبةٍ وتسامحٍ ... والقِسُّ يَعْبَثُ في البلادِ ويَحْرِقُ!! عيسى لأخْلاقِ الوَفَاءِ مَنَارةٌ ... والقَسُّ يَغْدُرُ بالعِبَادِ ويَسْرق!! عيسى يُقيمُ المَيْتَ من غَفَواتِهِ ... والقَسُّ يَغْتَالُ الحَيَاةَ ويُزْهِقُ!! أين العدالةُ والهُدى والمَنْطقُ؟! ... والفِكْرُ يُغْمَطُ .. والحِجَا مُسْتَغْلَقُ حاربتُمُ العِلمَ الحديثَ بِغِلظةٍ ... ودماءُ غاليلو هُنالكَ تُهرَقُ!! وغللتُمُ العَقْلَ الصَّرِيحَ تَعَنُّتًا ... فإذا رؤى الإلحادِ ظلُّ مُوْنِقُ ولِكلِّ إنجيلٍ لديكم وُجْهةٌ ... والزَّيْفُ في أصْلِ الروايةِ يُوبِق والسِّفْرُ عندكمُ عُرى وثنيِّةٍ ... عن بولسٍ .. وهو الدَّعيُّ المُلصَقُ وكتابُنا متواترٌ ونبيُّنا ... خيرُ البريَّة .. والحديثُ مُوثَّقُ و"عَشاؤكم" فيهِ القساوسُ تحتسي ... أمَّ الخبائثِ والجموعُ تُصَّفِّقُ

وبشرعِكم: "لا للتعددِ" .. والزِّنَا ... متيسِّرٌ .. والزوجُ ليستْ تَطلُقُ!! الزاهدونَ عن الزواج وقَسُّهم ... يُثني على خُلُقِ الشذوذِ فيُغْدقُ أين العدالةُ والهُدى والمَنْطقُ؟! ... وروايةُ التأريخِ لا تتملَّقُ لَمَّا حكمْنا الأرضَ أشرقَ دينُنا ... نورًا .. وراياتُ الأمانِ تُحلِّقُ وتألقتْ شمسُ الحضَارةِ في الدُّنا ... عدلاً وعلمًا وائتلافًا يعْبِقُ تلكَ القصورُ الشامخاتُ شواهدٌ ... للدهرِ بالحَقِّ المُغيَّبِ تنْطقُ فاسألْ بلنْسية وقرْطُبة النَّدى ... وصروحُها بالمُعْجزاتِ تَفَتَّقُ واسألْ سُهولَ القِبْطِ كيف تسربلتْ ... أمنًا، وآياتُ العهودِ تُوثَّقُ حتى إذا دارَ الزمانُ لكُمْ غدتْ ... أرضي بأصنافِ العَداوةِ تفْهَقُ فإذا بلادُ الشامِ نارٌ تصْطَلي ... والقُدْسُ تُسْبى والخليلُ وجِلَّقُ وإذا بذورُ الكُرْهِ تربو نبتةً ... للثائرينَ وفَجْرُهُمْ يَتَفلَّقُ فإذا فلولُك مُسْلِمٌ ومُسلِّمٌ ... والهالكونُ كأنَّهُمْ لَمْ يُخلقوا أين العدالةُ والهُدى والمَنْطقُ؟! ... والعقلُ يحجبُه الظلامُ المُطْبِقُ ما دينُكم يا أيُّها البابا سوى ... إرهابِ رُهْبَانٍ .. وحُمْقٌ يُغْرِقُ فتكتْ بنا الفتيكانُ فَتكًا حينما ... غابَ النُّهى دهرًا وطاشَ المنطقُ دعني أُخاطبُ كلَّ صاحبِ فِطْنةٍ ... واللهُ يَهْدي من يشاءُ ويُعْتِقُ يا ابن النصارى آنَ أنْ تصحو فقدْ ... جَارَتْ سياستُكم وضلَّ البِطرقُ * * *

درء تعارض العقل مع الوحي والنقل

* دَرْءُ تعارُضِ العقل مع الوحي والنقل: ما عَظَّم العقلَ دينٌ ما عظَمه الإسلامُ، و"يكفيك من العقل أن يعرِّفك صدقَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومعاني كلامه، ثم يُخَلِّي بينك وبينه"، و"العقلُ سلطانٌ وَلَّى الرسولَ، ثم عَزَل نفسه" (¬1). والعقلُ كالدابةِ توصِّلك إلى بابِ المَلِك، ثم تدخل عليه بعدَ ذلك بالتسليم المطلق. والعقولُ لا تَسْتَقِلُّ بمفردها بمعرفةِ حقائقِ الإيمانِ وتفصيلِه أو الشرائعِ دونَ الرسل. * فعقلُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أكمل عقولِ أهل الأرضِ على الإطلاق، فلو وُزِن عقلُه بعقولهم لَرَجَحَها، وقد أَخبر اللهُ أنه قَبْل الوحي لم يكن يَدري الإيمانَ كما لم يكن يَدري الكتاب، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]. * وقال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 6 - 8]، وتفسير هذه الآية بالآية التي في آخر سورة الشورى [الشورى: 52]. * وإذا كان أعقلُ الخَلقِ على الإطلاق، إنما حَصَل له الهدى بالوحي كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا ¬

_ (¬1) "مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" لابن القيم- اختصار محمد بن الموصلي (1/ 255) "أضواء السلف".

يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ: 50]. * فكيف يَحصلُ لسفهاءِ العقول وأخفَّاءِ الأحلام الاهتداءُ إلى حقائقِ الإيمان بمجرَّد عقولهم دونَ نصوصِ الوحيِ حتى اهتَدَوا بتلك الهدايةِ إلى المعارضة بين العقل ونصوصِ الأنبياء؟! {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 89 - 90] (¬1). ° إن للعقل دَورًا لا يتعدَّاه، فهو كالميزان الحسَّاسِ، فهو أصلحُ شيءٍ في موضعه، تَزِنُ به ما دَقَّ من الأوزان، فإن استعملته في خارج طَورِه وما أعِدَّ له أفسَدْته، فلا يصلحُ أن تَزِنَ به جِبالَ الدنيا. ° ولا تعارُضَ بين العقل السليم والوحي الكريم، ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتابٌ عظيمٌ مفخرةٌ للمسلمين هو "درء تعارض العقل والنقل"، فارجع إليه فإنه نفيسٌ نفيس يُكتب بماء الذهب. ° والذين يدَّعون معارضةَ العقلِ للنقلِ، وقدَّموا العقلَ على الوحي إنَّما يسيرون على طريقةِ الشيخ أبي مرَّة "إبليس"، فهو إمامُهم، وهذا ميراثٌ عنه .. فعلى عُقولِكُمُ العَفَاءُ لأنكم ... عادَيتمُ المعقولَ والمنقولاَ وطلبتمُ أَمْرًا مُحالاً وهو إدْ ... راكُ الهدى لا تتبعون رسولاَ وزعمتمُ أن العقولَ كفيلةٌ ... بالحقِّ أين العقلُ كان كفيلاَ؟! ¬

_ (¬1) "مختصر الصواعق" (1/ 215 - 216).

وهو الذي يَقضي فيَنقضُ حكمَه ... عقلٌ، تروْن كليهما معقولاَ! وتراه يجزم بالقضاء وبعد ذا ... يَلقَى لديه باطِلاً معلولاَ لا يَسْتَقلُّ العقلُ دونَ هداية ... بالوحي تأصيلاً ولا تفصيلاَ كالطَّرْف دون النورِ ليس بمُدْرِكَ ... حتى تراهُ بُكرةً وأصيلاَ وإذا الظَّلاَمُ تلاطمت أمْواجُهُ ... وطَمِعْتَ بالأبصارِ كنتَ مُحِيلاَ وإذا النُّبُوَّة لم يَنَلكَ ضياؤُها ... فالعقلُ لا يَهْديكَ قطُّ سبيلاَ نور النُّبُوَّة مثل نورِالشمس للـ ... عينِ البصيرةِ فاتَّخِذْهُ دليلاً طرقُ الهُدَى مسدودةٌ إلاَّ علَى ... مَن أمَّ هذا الوحيَ والتنزيلاَ فإذا عَدَلتَ عن الطريق تَعَمُّدًا ... فاعلمْ بانك ما أردتَ وصولاَ يا طالِبًا دَرَكَ الهُدَى بالعقلِ دو ... نَ النقل لن تَلقَى لذاك دليلاَ كم رَام قبلَك ذاكَ مِن مُتَلَدِّد (¬1) ... حيرانَ عاشَ مَدَى الزَّمانِ جهولاَ ما زالتِ الشبهاتُ تغزو قلبَه ... حتى تَشَحَّطَ بينهنَّ قتيلاَ فتراه بالكُلِّي والجُزئيِّ والـ ... ـعرَضيِّ طولَ زمانِه مشغولاَ (¬2) ¬

_ (¬1) تَلَدَّدَ فلان: إذا تَلَفَّتَ يمينًا وشمالاً وتحيَّر مُتَبَلِّدًا، مأخوذٌ من: لَديدَي الوادي أي جانِبيْه .. انظر اللسان والتاج مادة (لدد). (¬2) هذه مصطلحات منطقية: "فالكلِّي": هو اللفظُ المفردُ الذي يَصلحُ لأن يَشتركَ في معناه أفرادٌ كثيرةٌ لوجودِ صفةٍ أو مجموعةٍ من الصفاتِ في مِثل هذه الأفراد، مثل "شجرة" و"كتاب" و"إنسان" وهي أسماءُ الأجناسِ والأنواعِ والمعاني الكليَّةِ العامَّة. وأما "الجزئي": فهو ما يُطلَقُ على شيءٍ واحدٍ بعينه، أو هو اللفظُ المفرَدُ الذي لا يَصلحُ معناه لأن تشتركَ فيه أفرادٌ كثيرة، مثل "زيد" و"هذه الشجرة" و"هذا الفَرَس" فإنَّ المتصوَّر من لفظ "زيد" شخص مِعيَّن لا يشاركُه غيرُه في كونه مفهومًا من لفظ زيد. =

فإذا أتاهُ الوحيُ لم يأذَنْ له ... ويقومُ بين يديْ عِداهُ مثيلاَ ويقولُ تلكَ أدِلَّة لفظيَّةٌ ... معزولةٌ عن أنْ تكونَ دليلاَ وإذا تَمُرُّ عليه قال لها اذهبي ... نحو المُجَسِّم أوْ خُذِي التأويلاَ وإذا أبَتْ إلا النزولَ عليه كـ ... ـان لها القِرَى التحريف والتبديلاَ فيحل بالأعداء ما تلقَّاهُ من ... كيدٍ يكونُ لحقِّها تعطيلاَ واضرب لهم مثلاً بُعميانٍ خَلَوْا ... في ظلمةٍ لا يهتدُونَ سبيلاَ فتصادموا بأكُفِّهِم وعِصِيِّهِمْ ... ضربًا يُديرُ رَحَى القتالِ طويلاَ حتى إذا مَلُّوا القتالَ رأيتَهم ... مشجوجًا أو مفجوجًا أو مقتولاَ وتسامَعَ العميانُ حتى أقبلوا ... للصُّلح فازدادَ الصياحُ عويلاَ ° ومِن رحمةِ الله تعالى أنه لم يتَركْ عبادةً للعقل فقط، "فالمعقولاتُ ليس لها ضابطٌ، ولا هي محصورةٌ في نوع معيَّن، فإنه ما مِن أُمةٍ من الأمم إلاَّ ولهم عَقليَّاتٌ يختصمون إليها ويختصُّون بها، فللفُرسِ عقليَّات، وللهند عقليَّات، وللمجوس عقليَّات، وللصابئةِ عقليَّات .. وكلُّ طائفةٍ من هذه الطوائفِ ليسوا متَّفِقِين على العقليات، بل بينهم فيها من الاختلافِ ما هو معروف عند المُعْتنينَ به، ونحن نُعفيكم من هذه المعقولات واضطرابها، ونحاكمُكم إلى المعقولات التي في هذه الأمة، فإنه ما من مدَّةٍ من المُدَد إلاَّ وقد ابتُدعت فيها بِدَعٌ يزعُم أربابُها أن العقلَ دَلَّ عليها" (¬1). ¬

_ = و"العرضى": قسمٌ لألفاظِ الكُلِّيات الخمس. انظر: "معيار العلم" (ص 44 - 45). (¬1) "مختصر الصواعق" (2/ 420).

° وانظر إلى المعقولاتِ عند اليابانيِّين والهنودِ وهم الذين بَرَعوا في الصناعاتِ ولم يُوجد لهم نظيرٌ يُكافِئُهم أو ينافسُهم فيها .. كيف هَدَتهم عقولُهم إلى عبادة "بوذا"!! وكيف هَدَت عقولُ الهند الهنودَ إلى عبادةِ البقرة حتى يقول غاندي: "عندما أرى البقرةَ، لا أجدُني أرى حيوانًا، لأني أعبدُ البقرة، وسأُدافعُ عن عبادتها أمامَ العالَم أجمع". ° ومضى عابدُ البقر يقول: "إنَّ ملايين الهنود يتَّجهون للبقرة بالعبادةِ والإجلالِ، وأنا أعُدُّ نفسي واحدًا من هؤلاء الملايين" (¬1). مَن أنتَ يا رِسْطُو وَمَن ... أفلاطُ قَبْلَكَ يا مُبَلَّدْ؟! ومَنِ ابنُ سينا حين قَرَّر مـ ... ـا هَدَيتَ له وأرشدْ؟! هل أنتم إلاَّ الفراش ُ ... وقد رأى نارًا توهَّجْ؟! فلنا فأحرقَ نفسَه ... ولو اهتدى رشدًا لأبعَدْ فلتخْسَأِ الحكماءُ عن ... ربٍّ له الأفلاكُ تَسجُدْ ° وانظر كيف هَدَت عقولُ الجهميَّةِ والفلاسفةِ أن يَزعموا أن نصوصَ الأنبياءِ غيرُ مطابقةٍ للحقيقة، وإنما كَذَبها الأنبياءُ على العَوَام؛ لأنَّ مِن مَصلحةِ العوامِّ أن يُخاطَبُوا بما يوافِقُ عقولَهم، وقد وَضَع الفلاسفةُ قانونَهم على هذا الأصل، كالقانون الذي ذكره ابن سينا في رسالته "الأضحوية" (¬2). ° يقول ابن تيمية: "وهؤلاء يقولون: الأنبياءُ قَصَدوا بهذه الألفاظ (¬3) ¬

_ (¬1) "نظرات في النبوة" لصلاح الدين المنجد (4/ 32) -مكتبة القدس- بغداد. (¬2) مقدمة كتاب "درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية" للأستاذ محمد رشاد سالم (ص 11) - دار الكنوز الأدبية. (¬3) أي الجنة والنار والملائكة واليوم الآخر.

الإسلام هاد للعقل .. وشرف العقل سجوده للوحي

ظواهرها، وقَصَدوا أن يَفهمَ الجمهورُ منها الظواهرَ، وإنْ كانتِ الظواهرُ في نفسِ الأمر كَذِبًا وباطِلاً محْضًا ومخالَفةً للحق، فقَصَدوا إفهامَ الجمهورِ بالكَذِبِ والباطل للمصلحة". ° "ثم مِن هؤلاء مَن يقول: إنَّ النبيَّ كان يَعلمُ الحقَّ، ولكنه أظَهَر خلافَه للمصلحة. ومنهم من يقول: ما كان يعلمُ الحقَّ، كما يَعلمُه نُظَّارُ الفلاسفةِ وأمثالُهم، وهؤلاء يُفَضِّلون الفيلسوفَ الكاملَ على النبيِّ، ويفضِّلون الوليَّ الكاملَ الذي له هذا المَشهدُ على النبي، كما يُفضِّلُ ابنُ عربيٍّ الطائيُّ خاتَمَ الأولياء -في زعمه- على الأنبياء. وكما يُفضِّل الفارابيُّ ومُبشِّرُ بنُ فاتِك وغيرُهما الفيلسوفَ على النبي" (¬1) - صلى الله عليه وسلم -. * الإِسلامُ هادٍ للعقل .. وشَرَفُ العقلِ سجودُه للوحي: "يحلو لكثيرٍ من الناسِ أن يتحدَّث عن موقفِ القرآنِ من العقل، ويَذكُرُ في بحثِه أو محاضرته أن القرآنَ هو كتابُ العقل، وأنه بأكملِه دعوةٌ صارخةٌ لتحريرِ العقل من عِقالِه، وأنه يدعونا -بعباراتٍ تختلفُ في أسلوبها وتتَّحدُ في معناها- إلى استعمالِ العقلِ ووَزْنِ كل شيءٍ بميزانه، وأنه يتركُ لنا الحريةَ في أن نعتقدَ ما يُرشِدُ إليه عقلُنا، وأن نتَبعَ السبيلَ الذي يُنيرُه مَنطقُنا، أو يَهدينا إليه تفكيرُنا. ¬

_ (¬1) "درء تعارض العقل والنقل" (ص 9 - 10).

ويستدلُّون بالآيات الكريمة التالية: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]. * وقال تعالى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. * وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185]. * وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]. * وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَ نْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 66 - 71]. * {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان: 21].

أما الصراط المستقيم فيما يتعلق بصلة الدين بالعقل فهو

* وقال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 19 - 22]. هذه الآياتُ الكريمة -بل والقرآنُ في جُمْلتِه-، والأحاديثُ الشريفةُ في جُملتها، وتاريخُ الإسلام، إن كل ذلك يدلُّ -حسبما يَرَوْن- على أن الإسلامَ دينُ العقل. ويَرَون بذلك أنه يُحكِّمُ العقلَ في المسائل والمبادئِ والقواعد. ويَنتهي ذلك -لا مناصَ- بأن يكونَ العقلُ هو القائدَ وليس الدينَ، وذلك قلبٌ للأوضاع، وانحرافٌ عن الصراط المستقيم!!. * أما الصراطُ المستقيم فيما يتعلَّقُ بصِلَةِ الدينِ بالعقلِ فهو: 1 - أولاً: جاء الدينُ هاديًا للعقلِ في مسائلَ مُعَيَّنة، هي: أوَّلاً: ما وراءَ الطبيعة: أي العقائدُ الخاصَّةُ بالله سبحانه، وبرسولِه - صلى الله عليه وسلم -، وباليوم الآخِرِ، وبالغَيب الإلهيِّ -على وجه العموم-. وثانيًا: في مسائل الأخلاق: أي الخيرِ والفضيلة، وما ينبغي أن يكونَ عليه السلوكُ الإنسانيُّ ليكونَ الشخصُ صالحًا. وثالثًا: في مسائلِ التشريعِ الذي يَنتظمُ به المجتمعُ، وتَسعَدُ به الإنسانيةُ.

وجاء الدينُ هاديًا للعقل في هذه المسائل بالذات؛ لأن العقلَ إذا بَحث فيها مستقلاًّ بنفسه، فإنه لا يَصِلُ فيها إلى نتيجةِ يتَّفقُ عليها الجميع. ومعنى ذلك: أنه لو تُرك الناسُ وعقولَهم في هذه المسائل، فإنهم يختلفون ويتفرَّقون فِرَقًا عديدة، ويتنازعون، ولا ينتهي الأمرُ بهم إلى الوِحدةِ والانسجام، ولا إلى الهدوءِ والطمأنينة. 2 - وجاء القرآنُ: يَفهمُه العقلُ في المُحكَم فيه، ولا يُناقِضُ العقلَ في المتشابه منه، ذلك أن القرآن: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]. * وقد أراد الإِسلامُ مِن المسلم أن يستمسكَ بالمُحكماتِ استمساكًا تامًّا، وأن يعتصمَ بها اعتصامًا كاملاً: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]. وأن يُسلِّمَ الأمرَ لله في المتشابه، اللَّهم إلاَّ إذا فَتح اللهُ عليه بوساطةِ الإِلهامِ الإِلهيِّ عن شيءٍ من أسرارِ هذا المتشابِهِ الذي لا يُناقِضُ العقلَ، ولا يتعارضُ مع مبادئه. 3 - وجاء القرآن حاسمًا لا يتردَّدُ ولا يُقِرُّ الترددَ، ولا يَتشكَّكُ ولا يُقِرُّ التشككَ، وكان الأمرُ كذلك لأنه جاء بالحق، الحق الذي لا يأتيه الباطلُ مِن بين يديه ولا مِن خَلفِه، الحقِّ المعصوم، لقد جاء بالحقِّ العاقل المعقول، الحقِّ المُتَّزِنِ الموزون، لقد جاء بالحقِّ الذي كلُّ ما عداه باطلٌ، ولقد تَركَّز الحقُّ في

مسائل الدين بين دَفَّتَيْ هذا الكتابِ المُوحَى، وفيما أخبر به الرسولُ صلواتُ الله وسلامُه عليه، شرحًا له وتفسيرًا وإبانةً، وعلى مَن أسلم أن يتَّبعَ هذه المبادئَ أو هذا الحق اتباعًا لا تردُّدَ فيه ولا انحرافَ عنه. 4 - وجاء القرآنُ لا يَستشيرُ الإنسانَ في شيءٍ، وتعالى الله عن أن يستشيرَ المخلوقَ، وتعالى الربُّ عن أن يستشيرَ المربوب، وتعالى العليمُ الحكيمُ عن أن يحتكمَ إلى البشر أو يُحكِّمهم فيما أنزله إليهم هدايةً وتربيةً. ° هذا هو موقفُ الدينِ من العقل، وهو موقفٌ يُقِرُّنا عليه كلُّ مَن له شعورٌ دينيٌّ سليم، وهو موقفٌ تُرشدُنا إليه الآياتُ السابقةُ نفسها، ونأخذُ منها -كمِثالٍ عام- قوله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29]. في هذه الآيةِ الكريمة: يأمرُ اللهُ سبحانه وتعالى رسولَه - صلى الله عليه وسلم - أن يُخبِرَ بأنَّ ما أتى به إنما هو الحقُّ، وإذا كان هو الحقَّ، فإنَّ كلَّ ما عداه باطل، وما مِن رَيبٍ في أنَّ كلَّ شخصٍ يُعمِلُ فِكرَه، ويُجِيلُ نَظَرَه ويتأمَّلُ في هذا الحق: فإنه لا مَحالةَ -إذا أخلَصَ- سينتهي بالاعترافِ والإقرارِ والإيمان. أما مَن أضرَبَ عن ذلك صَفْحًا، واتَّبع الآباءَ والأسلافَ -لمجردِ أنهم آباءٌ وأسلافٌ-، فإن مَثَلَه كمَثَلِ البهيمة التي تَسيرُ وراءَ أصحابِها لمجردِ أنهم يقودونها، وتتبعُهم لأنهم يَسيرون أمامها!. ومَن شاء مِن الناس أن يؤمنَ بهذا الحقِّ الذي ليس بعدَه إلاَّ الباطل،

فلْيؤمنْ به ولْيَتْبَع الهُدى الهادي، ومَن شاء أن يكفرَ بالحق وَيتَّبعَ الباطلَ مُعرِضًا عن الحق، فله ذلك، ولكنْ لِيعلمْ أن اللهَ سبحانه أعدَّ لمن لم يَتَّبع الإيمانَ {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29]. ° والقرآنُ دينُ العقل بهذه المعاني فهو: هادٍ للعقل، ومرشدٌ له، وقائدٌ. وهو مبادئُ يفهمُها العقلُ في سُهولةٍ ويُسْرٍ. وهو لا يُناقضُ العقلَ. وعلى العقل أن يَلجأَ إليه في كلِّ ما أتى به. 5 - على أن القرآنَ في حقيقة الأمر نَزَل لِيقودَ الإنسانيةَ نحوَ الكمالِ الرُّوحيِّ، والإنسانُ إنسان بالجانبِ الروحيِّ منه، وكلما سَما الإنسانُ روحيًّا، كان أعلى في معنى الإنسانية. والمعنى الروحي، ووسيلةُ المعنى الروحي: لا سبيلَ إلى تحديدِهما من الإنسانِ نفسِه، وإنما تحديدُهما موكولٌ إلى الله سبحانه، ذلك أن السُّمُوَّ الروحيَّ قُربٌ من الله تعالى -وإذا لم يكن قُربًا من الله فليس بسُموٍّ رُوحيٍّ-، والقُربُ من الله -أو بتعبيرٍ أدقَّ: تقريبُ اللهِ للإنسان- إنما مرجعُه -هدفًا ووسيلةً- هو اللهُ نفسه. وكلُّ مَن حاول أن يتَّخذَ طريقًا آخر، فإنما يَجري وراءَ سراب. والغايةُ والوسيلة: حَدَّدَهما اللهُ في كتابه الكريم، إنه حدَّدهما بالأسلوبِ الإلهىِّ نفسه، أي أن التعبيرَ عنهما -التعبيرَ نفسَه- إنما كان من الله

سبحانه، ومِن فضل اللهِ على المسلمين -وعلى اللغةِ العربيةِ- أنْ كانت وسيلةُ فَهم الإسلام هي التعبيرُ الإلهي- بما فيه من دِقَّةٍ كاملة، وجَمالٍ مُعجِز، وكمالٍ غيرِ منقوص-. وما دام الأمرُ كذلك، فليس للعقلِ إلاَّ التسليمُ والخشوعُ والخضوعُ، أو بتعبيرٍ أدقَّ: السجود. وهو ليس سُجودًا تعسُّفيًّا أو تحكُّميًّا، وإنما هو سجودٌ مصدرُه الإيمانُ اليقينيُّ بأن هذا من عندِ الله، وما دام من عندِ الله، فإنه لا يأتيه الباطلُ مِن بين يديه ولا مِن خَلفِه؛ لأنَّه تنزيلٌ من حكيمٍ حميد، ولأنَّه أُحكمت آياته، ثُمَّ فُصِّلت مِن لَدُنْ حكيمٍ خبير. من ذلك نتبيَّنُ أن الدينَ هادٍ للعقل، وأن العقلَ يجبُ أن يَخضعَ ويَسجُدَ للوحي الإلهيِّ. * ونعودُ من جديدٍ إلى المسألة التي بدأنا بها الحديث، نعودُ من جديدٍ إلى مسألةِ "القرآن والعقل"، سيقولون: ولكنَّ القرآنَ يُطالِبُ دائمًا بالتفكُّرِ والتدبر: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2]. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]. وينعي على المشركين التقليدَ، ويتهكَّمُ بهم في اتباعهم آباءَهم، فيتساءل: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]؟!.

وكثيرًا ما نجدُ الآيات تُختم بـ {أَفَلاَ تَعقِلُون}، {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُون}، {أَفَلاَ تُبصِرُون}. وكل ذلك يدلُّ على أن القرآنَ يَدفعُ الناسَ إلى استعمالِ العقل. والواقعُ أن القرآنَ لا يَستشيرُ الإنسانَ في أيةِ قضيةٍ من القضايا التي جاء بها الوحيُ، ولا يَحتكمُ الوحيُ إلى الإنسانِ -باعتبارِه حَكَمًا- في أيِّ مبدإٍ من مبادئه، ولا يَطلبُ منه مشورةً في أيةِ قاعدةٍ من القواعدِ التي شَرَعها، بل هذه الأوهامُ لا تدورُ بخَلَدِ المتديِّن قطُّ. ذلك أن الوحيَ نَزَل على أنه رسالةُ السماءِ النهائيةُ إلى العالم، ونَزَل يُبلِّغُ أن هذه الرسالةَ صِدقٌ كلُّها، حقٌّ جميعُها، وليس فيها مبدأٌ مشكوكٌ فيه، ولا قضيةَ تحتملُ الصدقَ والكذب، وليس فيها جملةٌ زائدة، ولا كلمةٌ ليست في موضعها، ولا حرفٌ كان يَحسُنُ ألاَّ يوجد. كلاَّ، إنها الحقُّ الخالص، مَن اتبعها فقد اهتَدى، ومَن حادَ عنها فقد انحرف، ومَن ابتغى الهُدى في غيرها أضلَّه الله، ومَن تركها مِن جبَّارٍ قَصَمه الله؛ لأنَّها صراطُ اللهِ المستقيمُ، ونورُه اللألاَءُ. وكل ما ذَكره من التفكيرِ والنظرِ والتدبرِ، إنما أراد به "الاعتبار"، وأراد أن يقول: تفكَّروا لِتَرَوا أن ذلك هو الحقُّ، انظُروا لِتعلموا أن ذلك هو الخيرُ، أمَّا إذا رأيتم غيرَ ذلك، فإنما العَيبُ في بَصركم، أو في بَصيرتكم .. إذا رأيتم غيرَ ذلك، فإن الفسادَ في عقولكم وفي تفكيرِكم، وإذا رأيتم غيرَ ذلك، فاعلَموا أن فِطرتَكم فَسَدت لانحرافِكم، وأن قلوبَكم رانَ عليها الإثمُ فضَلَّت، وأن عقولَكم قد صَدِئت، فأصبحت لا تَرى الحقَّ حقًّا ولا

الخيرَ خيرًا، وأصبحت مِن الضلال بحيث تَرى الخيرَ شرًّا والشرَّ خيرًا، وأصبح أصحابُها كالأنعام -بل هم أضلُّ سبيلاً-، كلُّ ذلك لانحرافِكم عن الصراطِ المستقيم. إنَّ اللهَ -في عظمتِه وجلالِه سبحانه- لا يُلقي برسالتِه لِيبحَثَها الإنسانُ ويُبديَ فيها رأيَه نفيًا أو إثباتًا، سَلْبًا أو إيجابًا .. كلاَّ، بل كلُّ من تَوهَّم ذلك فإنه لا يَقْدِرُ اللهَ حق قَدْرِه، وتعالى اللهُ عن ذلك علوًّا كبيرًا، وإنما ألقاها سبحانه لِتُتَّبَع، ولِتُتّبَعَ في خضوعٍ وسجود، ولِتُتّبَعَ دونَ حَرَجٍ يَحيكُ في الصدر، أو شَكٍّ يجولُ في النفس: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. وكلُّ مَن وَجَد في نفسِه حَرَجًا من قضايا الدين، وكلُّ مَن لم يُسلِّمْ تسليمًا كاملاً مطلقًا تامًّا، كل مَن كان كذلك، فإنه يَحسُنُ به أن يَرجعَ إلى إيمانِه لِيُصحِّحَه، ولْيتُبْ إلى الله توبةً نصوحًا، وبابُ الله مفتوحٌ للتائبين آناءَ الليل وأطرافَ النهارِ -وفي كلِّ لحظة-. كان سَلفُنا الصالحُ يَنزِعون هذه النَّزعة -نزعةَ الخضوع المُطلَقِ لِمَا جاء به الرسولُ - صلى الله عليه وسلم -، لقد كانوا يَسجُدون للنص، يَسجدون له بجوارحِهم وقلوبِهم، وأرواحِهم وعقولِهم، لقد كانوا يُخضِعون عقولَهم للنص، ويَجعلونه القائدَ الحَكَمَ المُهيمِنَ .. وكانوا يَعرفون أن إدخالَ شخصيتِهم في النصِّ إنما هو انحرافٌ يَعظُمُ أو يَقِلُّ بحسب مَدى التدخُّلِ البشريِّ في النص، وكانوا يَعرفون أن الوحيَ إنما جاء هاديًا للعقل وقائدًا له في الأمور

التي لا يتأتَّى للعقل أن يَلِجَ ميادينَها، أو يقتحمَ حِماها، أو يُدليَ فيها برأيٍ يتَّفقُ علي الناس، وهذه الميادينُ هي الدين، والدينُ ليس رأيًا بشريًّا، إنه تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ، وكلُّ موقفٍ من الشخصيةِ البشريةِ تُجاهَ النصِّ سوى موقفِ السجودِ له: إنما هو موقفٌ لتبديلِ الدينِ مِن أن يكون إِلهيًا إلى أن يكونَ بشريًّا، ولو كان يستقيمُ الأمرُ على ذلك، لَمَا كان هناك مِن حاجةٍ إلى الدين. ° يَروي أبو داود والدَّارَقُطْنِيُّ عن سيِّدنا عليٍّ - رضي الله عنه - قال: "لو كان الدينُ بالرأيِ، لكان أسفَلُ الخُفِّ أولى بالمسحِ من أعلاه، لقد رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَمسحُ على ظاهِرِ خُفيهِ" .. "أثر صحيح". إن الدينَ ليس رأيًا، وليس بالرأي، وانظر إلى الحديث التالي، إنه مُعبِّرٌ أقوى ما يكونُ التعبير، دقيقٌ في مغزاه دِقةً بالغةً: • عن البَرَاءِ بن عازب - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتيتَ مَضْجَعَك، فتوضَّأ وُضوءَكَ للصلاة، ثم اضطَجِعْ على شقِّكَ الأيمن، ثم قُلْ: "اللَّهم إني أسلمتُ نفسي إليك، ووجَّهتُ وجهي إليكَ، وفوَّضتُ أمري إليك، وألجأتُ ظَهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا مَلجأَ ولا مَنْجَا منك إلاَّ إليك، آمنتُ بكتابك الذي أنزلتَ، ونبيِّك الذي أرسلتَ"، فإن مِتَّ في ليلتِك، فأنت على الفِطرةَ، واجعَلهُنَّ آخِرَ ما تتكلَّمُ به". ° البراء - رضي الله عنه -: "فرَدَدْتُها على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا بلغتُ: "آمنتُ بكتابك الذي أنزلتَ" قلت: "ورسولك، قال: "لا .. ونبيِّك الذي أرسلت" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه الستة.

زاد البخاري والترمذي: "فإن مِتَّ في ليلتِكَ، مِتَّ على الفِطرة، وإنْ أصبحتَ أصبتَ خيرًا". إن الصحابيَّ الجليل البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: "رسولك" بدلَ أن يقول: "نبيك"، وكلمة "رسول" تتضمَّنُ معنى النبوة، فهي إذن فيها المعنى وزيادة، ويحسب منطقِنا، وبحسب عَقلِنا تكونُ صالحةً .. ولكننا لا نَرى بعقلِنا ومنطقِنا إلاَّ الشكلَ والظاهرَ .. أمَّا بواطن الأمور، أمَّا أسرارُ الكلمات، أمَّا حِكمةُ الأوضاع المحدَّدة، أمَّا اكتِناُه خفايا التقديراتِ الإلهية، إنَّ كلَّ ذلك -إذا لَم يَكشِفِ اللهُ عنه، أو عن بعضِه-، فإننا لا نَصِلُ إليه بمنطقِ البشر، ولقد أخطأ البراء بنُ عازبٍ - رضي الله عنه - في استبدالِ كلمةِ "رسول" بكلمةِ "نبي"، وأخطأنا معه حينما قَدَّرنا بعقولنا أن هذا البَدَلَ يصحُّ. * {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]. * واكِتناهُ سرِّ هذا القَدَرِ اكتناهًا تامًّا لا يَصِلُ إليه الإنسانُ، بل لا تَصِلُ إليه الملائكة {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:31 - 32]. إن العلمَ الصحيحَ الصادقَ في عالَمِ الهداية الإلهيةِ والتربيةِ الربانية، إنما هو مِن الله سبحانه، وكل ابتعادٍ عنه أو خروجٍ عليه أو تغييرٍ فيه، إنما هو ضلال. وما من شكٍّ في أن الإنسانَ منذ أن وُجد على ظَهرِ الأرض: يُحاولُ أن يَنزعَ نزعةً بشريةً بَحتةً، ويتصرَّفُ في الوحيِ الإلهيِّ نقصًا وزيادةً، وبَتْرًا

وإضافةً، وتغييرًا وتبديلاً، ويُحاولُ أن يُقيمَ كلَّ ذلك على قواعدَ يزعمُها صحيحةً، فيقول مثلاً: - إنَّ الحكمةَ في تحريمِ شُربِ الخمر، إنما هي المفاسدُ التي تنشأُ من الشخصِ الشارب، فإذا ما انتَفَتْ تلك المفاسدُ، فلا مانعَ من شُربِ الخمر. - والتكاليفُ الدينية: إنما جاءت لإصلاحِ الضمير، فإذا كان الضميرُ صالحًا فلا لزومَ للتكاليف الدينية. - وأعمالُ العبادةِ إنما هدفُها القربُ من الله، فإذا حَصَل القربُ، فلا حاجةَ إليها .. إلخ. وهكذا يخرجُ الإنسانُ بأهوائه، ولا نقولُ: بعقله -لأنَّ كلَّ ذلك أهواءٌ يُصوِّرُها الشيطانُ مَنطقًا معقولاً -عن الدين، كما خرج إبليسُ قديمًا -بأهوائه التي تمثَّلت لذهنِه منطقًا- عن الدين. والإمامُ الغزَّاليُّ - رضى الله عنه - يُمثِّلُ لذلك بمثالٍ مُعبِّرٍ، فيَذكرُ قصةَ رجلٍ بَنى له أبوه قصرًا على رأسِ جبل، ووَضَع فيه شجرةً من حشيشٍ طيِّبِ الرائحة، وأكَّد الوصيةَ على ولدِه مرةً بعد أخرى، ألاَّ يُخلِيَ هذا القصرَ عن هذا الحشيشِ طوالَ عمره، وقال: "إياكَ أن تسكنَ هذا القصرَ ساعةً من ليلٍ أو نهار إلاَّ وهذا الحشيشُ فيه"، فزَرع الولدُ حولَ القصرِ أنواعًا من الرياحين؛ وطَلَب من البَرِّ والبحرِ أوتادًا من العُودِ والعنبر والمِسك، وجَمَع في قَصرِه جميعَ ذلك من شجراتٍ كثيرةٍ من الرياحين الطيبةِ الرائحة، فانغمرت رائحةُ الحشيش لَمَّا فاحت هذه الروائح، فقال: "لا شكَّ أن والدي ما أوصاني بحفظِ هذا الحشيشِ إلاَّ لطِيبِ رائحتِه، والآن قد استغنينا بهذه الرياحينِ عن رائحته، فلا فائدةَ فيه الآن، إلاَّ أن يُضيِّقَ على المكان" .. فرماه من القصر.

فلمَّا خلا القصرُ من الحشيش، ظَهر من بعضِ ثقوبِ القَصر حيَّةٌ هائلةٌ، وضربته ضربةً أشرف بها على الهلاك، فتَنبَّه -حيثُ لَم ينفعْه التنبُّهُ- أن الحشيشَ كان من خاصيته دَفعُ هذه الحيةِ المُهلكة، وكان لأبيه بالوصيةِ بالحشيش غرضان: أحدهما: انتفاعُ الولدِ برائحته، وذلك قد أدركه الولدُ بعقله. والثانى: اندفاعُ الحيَّاتِ المُهلِكاتِ برائحته، وذلك مما قَصُرَتْ عن دَرَكِه بصيرةُ الولد، فاغتَرَّ الولدُ بما عنده من العلم، وظن أنه لا سِرَّ وراءَ معلومِه ومعقولِه كما قال تعالى: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم: 30]. * وقال سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر: 83]. والمغرورُ من اغتُرَّ بعقله، فظنَّ أن ما هو مُنتَفٍ عن علمِه فهو مُنتَفٍ في نفسِه .. اهـ. وما من شكٍّ في أن آراءَ المِلَل وكلَّ ما فيها من الأوضاع ليس سبيلُها أن يُمتحَنَ بالآراءِ والرويَّةِ والعقولِ الإنسية؛ لأنَّها أرفعُ رُتبةً منها، إذ كانت مأخوذةً من وحيٍ إلهي؛ لأنَّ فيها أسرارًا إلهيةً تَضعُفُ عن إدراكِها العقولُ الإنسيةُ ولا تبلغُها. وأيضًا: فإن الإنسانَ إنما سبيلُه أن تُفيدَه المِللُ بالوحي ما شأنُه ألاَّ يُدرِكَه بعقلِه وما يَخورُ عقلُه عنه، وإلاَّ فلا معنى للوحي، ولا فائدةَ إذا كان إنما يفيدُ الإنسانَ ما كان يعلمُه، وما يمكنُ إذا تأمَّله أن يُدركَه بعقله، ولو كان كذلك لَوُكِلَ الناسُ إلى عقولهم، ولَمَا كانت بهم حاجةٌ إلى نبوَّةٍ ولا إلى

وحيٍ، لكنْ لم يَفعل بهم ذلك، فلذلك يَنبغي أن يكونَ ما تُفيده المِللُ من العلوم: ما ليس في طاقةِ عقولِنا إدراكُه، ثم ليس هذا فقط، بل ما تَستنكرُه عقولُ بعضٍ منَّا، فإن ما تستنكرُه بعضُ العقولِ وتَستبشعُه بعضُ الأوهامِ قد لا يكونُ في واقعِ الأمرِ منكَرًا ولا بشعًا. فإن الإنسانَّ -وإن بَلَغ نهايةَ الكمالِ في الإنسانية-، فإنَّ منزلتَه عند ذوي العقولِ الإلهية- العقولِ التي استنارت بالوحي وسَمَتْ بالمبادئِ الإلهية- منزلةُ الصبيِّ والحَدَثِ والغَمْرِ (¬1) عند الإنسانِ الكامل. وكما أن كثيرًا من الصِّبيان والأغمار يستنكرون بعقولهم أشياءَ كثيرةً مما ليست في الحقيقةِ مُنكرةً ولا غيرَ ممكنة، ويقعُ لهؤلاء أنها غيرُ ممكنة؛ فكذلك مَنزلةُ مَن هو في نهايةِ كمالِ العقل الإنسيِّ عند العقولِ الإلهيةِ التي أفاض اللهُ عليها من نورِه وغَمَرها بإلهاماته، وكما أن الإنسانَ -مِن قَبل أن يتأدَّبِ ويَتحنَّكَ- يستنكرُ أشياءَ كثيرةً ويستبشعُها، ويُخيَّلُ إليه فيها أنها مُحالةٌ، فإذا تأدَّب بالعلوم واحتَنَك بالتجارِب زالت عنه تلك الظنونُ فيها، وانقَلبت الأشياءُ التي كانت عنده مُحالةً، فصارت هي الواجبةَ، وصار عنده ما كان يتعجَّبُ منه قديمًا في حدِّ ما يتعجَّبُ من ضدِّه. كذلك الإنسانُ الكاملُ الإنسانية، لا يُمتنع من أن يكونَ يَستنكرُ أشياءَ ويُخيَّلُ إليه أنها غيرُ ممكنة، مِن غيرِ أن تكونَ في الحقيقةِ كذلك. ° وَيشرحُ الشيخُ الجليل أبو سليمان المنطقي كلَّ ذلك، في دقةٍ دقيقة، وفي أسلوبٍ جميل فيقول: "إن الشريعةَ مأخوذةٌ عن الله عزّ وجل بوَساطةِ ¬

_ (¬1) الغَمْر: الجاهل.

السفيرِ بينه وبين الخَلقِ من طريقِ الوحي، وبابِ المناجاة، وشهادةِ الآيات، وظهورِ المعجزات، وفي أثنائها ما لا سبيلَ إلى البحثِ عنه والغَوصِ فيه، ولا بدَّ من التسليم المدعوِّ إليه والمُنَبَّهِ عليه، وهناك يَسقُط "لِمَ؟ " ويَبطُلُ: "كيف؟ " ويزول: "هلاَّ؟ " وتذهبُ: "لو" و"لَيت" في الريح!. ولو كان العقلُ يُكتفى به، لم يكن للوحيِ فائدةٌ ولا غَناء. على أن مَنازلَ الناسِ متفاوتةٌ في العقل، وأنصباءَهم مختلفةٌ فيه، فلو كنا نستغني عن الوحي بالعقل، كيف كنَّا نصنعُ؟ وليس العقلُ بأَسره لواحدٍ منا، فإنَّما هو لجميع الناس .. ولو استقلَّ إنسانٌ واحدٌ بعقلِه في جميع حالاته، في دينِه ودنياه، لاستقلَّ أيضًا بقُوَّته في جميع حاجاته، في دينِه ودنياه، ولكان وحدَه يَفِي بجميع الصناعاتِ والمعارفِ، وكان لا يَحتاجُ إلى أحدٍ من نوعِه وجِنسه، وهذا قولٌ مردود، ورأيٌ مخذول" (¬1). ° يقول الشيخ الجليل أبو سليمان المنطقي: "إن منازلَ الناس متفاوتةٌ في العقل، وأنصباءَهم مختلفة فيه"، معنى ذلك أن هذا الذي يَروقُ لشخصٍ عقليًّا، ربما لا يَروقُ لغيره عقليًّا، ويَجبُ من أجل ذلك ألاَّ يتدخَّلَ العقلُ في الدين، وإلاَّ لاختلف الناسُ باختلافِ عقولهم، وادَّعى كلٌّ أنَّ ما هو عليه إنما هو الحقُّ، وما عليه غيرهُ هو الباطل، ونَتَج عن ذلك اتَّباعُ كلٍّ أهواءه. * {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]. فتتفرَّقُ الأمة، وتخرجُ عن ما أحبَّه الله وأمر به. * {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]. ¬

_ (¬1) انظر كتاب "إخبار العلماء بأخبار الحكماء" للقِفْطي.

وإذا تساءلت الآن: ما هو إذن موقفُ العقل من الدين، وموقفُ الدينٍ من العقل؟. فإننا نُجمِلُ الموضوعَ في النقاط الآتية: نَزل الدينُ هاديًا للعقل في جميع الأمور التي لو تُرك العقلُ وشأنَه فيها ضَلَّ السبيل، وعَجَز عن الوصولِ إلى الحقيقة .. وهذه الأمور هي: (أ) العقائد. (ب) المبادئ الأخلاقيةُ إجمالاً وتفصيلاً. (ج) التشريعُ في قواعِدِه العامة، وفي بعضِ تفصيلاته، وقواعِده العامة التي تتضمنُ الجزئياتِ على مرِّ الزمن، وعلى اختلافِ البيئات. أما الطبيعةُ والكون -من سمائه وأرضه، ومن جِبالِه وبحاره، ومن كواكبه وأقمارِه وشموسه-، أما المادة والطاقة، أما أعماقُ البحار وآفاق السماء .. إنَّ كلَّ ذلك قد تركه الله سبحانه للإنسانِ يدرسُه في مَصنعِه ومَعمَلهِ بآلاته وأدواته، وحَثَّه على أن يُجوِّلَ في ذلك ما استطاع إليه سبيلاً، حتى يكتشفَ سُنَنَ اللهِ الكونية، ونواميسَه الطبيعية، ويرى صُنعَ الله الذي أتقَنَ كلَّ شيءٍ. ولَم يَحجُرِ الدينُ على الإنسانِ في هذا المجال، اللهم إلا الواجبَ الذي ينبغي أن يكونَ شعارُه دائمًا، وهو أن يكون هدفُه من كلِّ ذلك الخير. والإسلام دينُ العقل بكلِّ هذه المعاني التي ذكرناها" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر "الإسلام والعقل" اللدكتور عبد الحليم محمود (ص 15 - 30) - دار المعارف.

السمع الصحيح لا ينفك عن العقل الصريح .. والوحي هو الحجة العظمى

* السَّمْعُ الصحيح لا يَنفكُّ عن العقلِ الصريح .. والوحيُ هو الحُجَّةُ العُظمى: ° قال الإِمام ابن قيم الجوزية في "مختصر الصواعق المرسلة": "إن الحُجَجَ السَّمْعيَّةَ مطابِقةٌ للمعقول، والسمعَ الصحيحَ لا ينفكُّ عن العقل الصريح، بل هما أَخَوانِ وَصَل الله تعالى بينهما، فقال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)} [الأحقاف: 26]. فذَكَر ماَ يُنال به العلوم، وهي السمعُ والبصرُ والفؤادُ الذي هو مَحِلُّ العقل. * وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]. فأَخبروا أنهم خَرجوا عن مُوجِبِ السمع والعقل. * وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس: 67]، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} [الرعد: 4 - 4]. * وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]. فدعاهم إلى استماعِه بأسماعِهم وتدبُّرِه بعقولهم. * ومثلُه قوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68]. * وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]. فجَمَع سبحانه بينَ السمعِ والعقلِ، وأقام بهما حُجَّته على عبادِه، فلا

ينفكُّ أحدُهما عن صاحبِه أصلاً، فالكتابُ المُنزَّلُ والعقلُ المُدرِكُ حُجَّةُ الله على خَلقِه، وكتابُه هو الحُجَّةُ العُظمى، فهو الذي عَرَّفنَا ما لم يكن لعقولِنا سبيلٌ إلى استقلالِها بإدراكِه أبدًا. فليس لأحدٍ عنه مذهبٌ، ولا إلى غَيره مَفزَعٌ في مجهولٍ يَعلمُه ومُشكِلٍ يَستبينُه، فمَن ذهب عنه فإليه يَرجع، ومَن دَفَع حُكمَه فبه يُحاجُّ خَصمَه، إذ كان بالحقيقةِ هو المرشِدُ إلى الطرقِ العقليةِ والمعارفِ اليقنية، فمَن رَدَّ من مُدَّعي البحثِ والنظرِ حكومتَه، ودَفَع قضيتَه، فقد كابَرَ وعانَدَ، ولم يكن لأحدٍ سبيل إلى إفهامِه. وليس لأحدٍ أن يقول: إني غيرُ راضٍ بحُكمِه، بل بحُكم العقل، فإنه متى رَدَّ حُكمَه، فقد رَدَّ حُكمَ العقل الصريحِ، وعاند الكتابَ والعقلَ. والذين زعموا -مِن قاصِرِي العقل والسمع- أن العقلَ يجبُ تقديمُه على السمع عند معارضتِهما، إنما أُتُوا من جهلِهم بحُكم العقل ومقتضى السمع، فظنوا ما ليس بمعقولٍ معقولاً، وهو في الحقيقةِ شبهاتٌ توهِمُ أنه عقلٌ صريح -وليست كذلك-، أو مِن جَهلِهم بالسمع: إمَّا نسبتُهم إلى الرسولِ ما لم يَقُلْه. أو نِسبتُهم إليه ما لم يُرِدْه بقوله. وإمَّا لعدمِ تفريقِهم بينَ ما لا يُدرَكُ بالعقول وبين ما تُدرَكُ استحالتُه بالعقول. فهذه أربعةُ أمورٍ أَوجبت لهم ظنَّ التعارضِ بين السمعِ والعقل، واللهُ سبحانه حاجَّ عبادَه على ألسُنِ رُسُلِه فيما أراد تقريرَهم به وإلزامَهم إياه

ذكر الحجج العقلية التي تضمنها القرآن الكريم والأمثلة عليها

"بأقربِ الطُّرقِ إلى العقل وأسهلِها تناولاً وأقلِّها تكلفًا وأعظمِها غَناءً ونَفعًا، فحُججُه سبحانه العقليةُ التي في كتابه جَمعت بين كونِها عقليةً سمعيةً ظاهرةً واضحةً قليلةَ المقدِّمات" (¬1). * ذِكرُ الحُجَجِ العقليَّةِ التي تضمَّنها القرآنُ الكريم والأمثلةِ عليها: * المثال الأول: مِثلُ قوله تعالى فيما حاجَّ به عبادَه من إقامةِ التوحيد وبطلانِ الشِّركِ وقَطْع أسبابِه وحَسْمِ موادِّة كلِّها: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22 - 23]. * المثال الثاني: قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42]. * المثال الثالث: قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91]. * المثال الرابع: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11]. * المثال الخامس: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ ¬

_ (¬1) "مختصر الصواعق" (1/ 176 - 179).

عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)} [الأحقاف: 4]، فطالَبَهم بالدليل العقلي والسمعي. * المثال السادس: قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16]. فاحتَجَّ على تفرُّدهِ بالإلهية بتفرُّده بالخلق، وعلى بطلانِ إلهيَّةِ ما سواه بعَجزِهم عن الخلق، وعلى أنه واحدٌ بأنه قهَّار، والقهرُ التامُّ يستلزمُ الوِحدةَ، فإن الشَّرِكةَ تُنافي تمامَ القَهْرِ. * المثال السابع: وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 73 - 74]. * المثال الثامن: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23]. * المثال التاسع: قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38]. وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13]. وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}

[الطور: 33 - 34]. ثم أسجَلَ عليهم إسجالاً عامًّا في كل زمانٍ ومكانٍ بعجزهم عن ذلك ولو تظاهَرَ عليه الثَّقِلانِ، فقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]. * المثال العاشر: قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 68 - 70]. * المثال الحادي عضر: قال تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)} [يونس: 16 - 16]. * المثال الثاني عشر: قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46]. * المثال الثالث عشر: قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} [يس: 78 - 79]. * المثال الرابعِ عشر: قوله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ

إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 51 - 52]. * المثال الخامس عشر: قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 36 - 40]. * المثال السادس عشر: قوله تعالى {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 17]. * المثال السابع عشر: قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)} [الزخرف: 17 - 18]. * المثال الثامن عشر: قوله تعالى عن خليله إبراهيم: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 80 - 82]. * المثال التاسع عشر: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي

وبعد: يا حبر النصارى وبابا الفاتيكان

وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]. * المثال العشرون: قوله تعالى {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 13 - 14]. * المثال الحادي والعشرون: قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35 - 36]. * المثال الثاني والعشرون: قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 20 - 21]. * وبعدُ: يا حَبْرَ النصارى وبابا الفاتيكان: ما تقولُ في هذه الأمثلة .. أما زالتَ مصرًّا على قولك في أن الإسلام يُنافي العقلَ؟! أم أن هذه الأمثلةَ والحججَ العقليةَ الناصِعةَ تحتاجُ إلى مجلَّداتٍ لشرحها وبيانِ عِظَم وجَمالِ ما فيها؟!. * هل يصحُّ لذِي عقلٍ نسبتُكم القبائحَ إِلى الأنبياءِ والمرسلين: ووقفةٌ أخرى -أيها القِزمُ الذميم-، هل يَصحُّ في العقول -إن كانت لكم عقول- نسبتُكم القبائحَ إلى الأنبياء والمرسلين وإيمانُكم بما في العهدِ الجديد والقديم من هذه الرذائل والقبائح التي تَشين؟! وأنتم تُصدِّقون التوراةَ المُغَيَّرةَ المحرَّفةَ الموجودةَ اليوم، بالإضافةِ إلى ما في الإنجيل المُحَرَّف.

° فأنتم تؤمنون بهذه القبائح الموجودةِ في العهد القديم "التوراة"، ومنها: - أن نبي الله "هارون" صَنَع عِجْلاً، وعَبَده مع بني إسرائيل .. [إصحاح (32) عدد (1) من سفر الخروج]. - أن "إبراهيم" خليلَ الرحمن - صلى الله عليه وسلم - قدَّم امرأتَه سارةَ إلى فرعون حتى ينالَ الخيرَ بسببها .. [إصحاح (12) عدد (14) من سفر التكوين]. - ومِن ذلك أن "لوطا" عليه السلام شَرِبَ خمرًا حتى سَكِر، ثم قام على ابنتَيه فزَنَى بهما الواحدةِ بعدَ الأخرى .. [سفر التكوين، إصحاح (19) عدد (30)]. ومعاذَ الله أن يفعلَ نبيُّ الله لوطٌ - صلى الله عليه وسلم - ذلك. - وأن "يعقوب" عليه الصلاة والسلام سَرَق مواشيَ من حميِّه، وخَرَج بأهله خِلْسةً دونَ أن يُعْلِمَه .. [سفر التكوين، إصحاح (31) عدد (17)]. - وأن "راوبين" زنى بزوجةِ أبيه يعقوب، وأن يعقوبَ -عليه السلام- عَلِم بهذا الفعل القبيح وسَكَت .. [سفر التكوين، إصحاح (35) عدد (32)]. - وأن "داود" -عليه السلام- زنى بزوجةِ رجلٍ من قُوَّادِ جيشه، ثم دّبَّر حِيلةً لقتل الرجل، فقُتِل، وبعدئذٍ أَخذ داودُ الزوجة، وضَمَّها إلى نسائِه، فولدَت له سليمان .. [سفر صموئيل الثاني- إصحاح (11) عدد (1)]. - وأن "سليمان" ارتدَّ في آخِرِ عُمره، وعَبَد الأصنام، وبَنى لها المعابدَ .. [سفر الملوك الأول، إصحاح (11) عدد (5)] (¬1). ¬

_ (¬1) "الرسل، الرسالات" لعمر سليمان الأشقر (ص 105، 106، 107) - دار النفائس.

وهذي مخازيكم في إنجيلكم المحرف التي لا يقر بها من له أدنى مسكة من عقل

* وهذي مخازيكم في إِنجيلكم المحرَّفِ التي لا يُقِرُّ بها من له أدنى مُسْكةٍ من عقل: ° وَرَد في إنجيل "متى" أن عيسى من نَسل سليمانَ بنِ داود، وأنَّ جَدَّهم "فارض" الذي هو من نَسل الزنى مِن يهوذا بن يعقوب .. [إصحاح متى الأول، عدد (10)]. ° وفي إنجيل [يوحنا] إصحاح (2) عدد (4) أن يسوع أهان أُمَّه في وَسطِ جَمْعٍ من الناس. ° وأن يسوعَ شَهِد بأن جميعَ الأنبياء الذين قاموا في بني إسرائيل هم سُرَّاقٌ ولصوص .. [إنجيل يوحنا، إصحاح (10) عدد (8)] (¬1). * بابا الفاتيكان -واللهِ- ليس لك عقلٌ، وإِلاَّ فأجبني أنت وقومُك: أعُبَّادَ المسيح لنا سؤالٌ ... نُريدُ جوابَه مِمَّن وَعَاهُ! إذا ماتَ الإلهُ بِصُنع قومٍ ... أماتوهُ، فما هذا الإلهُ؟ وهل أرضاهُ ما نالوه منه؟ ... فبُشراهم إذا نالُوا رضاهُ! وإِنْ سَخِط الذي فعلوهُ فيه ... فقُوَّتُهم إذًا أوهتْ قُواهُ! وهَلْ بقي الوجودُ بلا إله ... سميعٍ يَستجيبُ لِمَنْ دعاهُ؟ وَهَلْ خلت الطَّبَاقُ السَّبْعُ لَمَّا ... ثوى تحت التراب، وقد علاهُ؟ وَهَلْ خَلَت العوالمُ مِن إِلَهٍ ... يُدبرُها وقد سُمِرت يداهُ؟ وكيف تَخَلَّت الأملاكُ عنه ... بنَصرِهمُ، وقد سَمعوا بُكاهُ؟ وكيف أطاقتِ الخَشَباتُ حَمْلَ ... الإلهِ الحقِّ شُدَّ عَلَى قفاهُ؟ ¬

_ (¬1) نفس المصدر السابق.

وكيف دنا الحديدُ إليه حتَّى ... يُخالِطَه، ويَلحَقَه أذاه؟ وكيف تمكَّنتْ أيْدي عِدَاهُ ... وطالتْ حيث قد صَفَعوا قفاهُ؟ وَهَلْ عاد المسيحُ إلى حياةٍ ... أم المُحِيي له ربُّ سِوَاهُ؟ ويا عجبًا لقَبْر ضَمَّ رَبًّا ... وأعجبُ منه بطنٌ قد حواهُ! أقامَ هناك تِسْعًا من شهورٍ ... لدى الظُّلَماتِ من حَيْضٍ غِذاهُ! وشَقَّ الفَرجَ مولودًا صغيرًا ... ضعيفاً، فاتِحًا للثَّدْيِ فاهُ! ويأكلُ ثم يشربُ، ثم يأتي ... بلازمِ ذاك، هلْ هذا إلهُ؟ تعالى اللهُ عن إِفْك النَّصارَى ... سيُسأل كلُّهمْ عمَّا افتراهُ! أعُبَّادَ الصَّليبِ لَأيَّ مَعْنىً ... يُعظَّمُ أوْ يُقَبَّحُ مَن رماهُ؟ وَهَلْ تقضي العقولُ بغيرِ كسرٍ ... وإحراقٍ له، ولِمَنْ بَغاهُ؟ إذا رَكِب الإلهُ عليه كُرْهًا ... وقدْ شُدَّت لتسميرٍ يداهُ! فذاكَ المركَبُ الملعونُ حَقًّا ... فدُسْهُ، لا تبُسْه إذ تراهُ يُهانُ عليه ربُّ الخَلْق طُرًّا ... وتعبُدْه!! فإنك مِن عداهُ! فإِن عَظَّمْته مِن أجَلِ أن قدْ ... حوى ربَّ العباد، وقد عَلاهُ! وقد فُقِد الصليبُ فإِن رأينا ... له شكلاً تذكَّرْنا سناهُ! فهَلاَّ للقبور سجدت طرًّا ... لِضَمَّ القبرِ ربَّك في حشاه؟ فيا عبد المسيح أفِقْ فهذاه ... بدايتُه، وهذا مُنْتهاهُ (¬1) ¬

_ (¬1) "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن قيم الجوزية (2/ 290 - 292).

ووقفة أخيرة لنرد على بابا الفاتيكان باطله

* ووقفة أخيرة لنردّ على بابا الفاتيكان باطله: ردًّا على مزاعمك وكذبك وتطاولك على الإسلام، وادعائك أنه يُصادم العقل نقول: 1 - "إن هناك أمورًا هي مصلحةٌ للإنسان، لا يستطيعُ الإنسانُ إدراكَها بمجرَّد عقلِه، لأنها غيرُ داخلةٍ في مجالِ العقل ودائرته، "فمن أين للعقل معرفةُ الله تعالى بأسمائه وصفاته .. ؟ ومن أين له معرفةُ تفاصيل شرعِهِ ودينه الذي شَرَعه لعباده؟ ومن أين له معرفةُ تفاصيل محبته، ورضاه وسخطه، وكراهيته؟ ومن أين له معرفةُ تفاصيلِ ثوابِه وعقابه، وما أَعَدَّ لأوليائه، وما أَعَدَّ لأعدائه، ومقاديرِ الثواب والعقاب، وكيفيتهما، ودرجاتهما؟ ومن أين له معرفةُ الغيب الذي لم يُظْهِرِ اللهُ عليه أحدًا من خلقه إلاَّ من ارتضاه من رُسُلِه .. إلى غير ذلك مما جاءت به الرسل، وبلَّغته عن الله، وليس في العقل طريقٌ إلى معرفته؟! " (¬1). 2 - "إن الذي يُدرك العقلُ حُسنَه أو قُبحَه يُدْرِكُه على سبيل الإجمال، ولا يستطيع أن يُدرك تفاصيلَ ما جاء به الشرع، وإن أُدرِكتِ التفاصيل فهو إدراكٌ لبعض الجُزئِيَّات، وليس إدراكًا كُلِّيًا شاملاً: "فالعقل يُدرك حُسنَ العدل، وأمَّا كون هذا الفِعْل المُعَّين عَدْلاً أَوْ ظلْمًا، فهذا مما يَعجِزُ العقلُ عن إدراكه في كلِّ فِعْلٍ وعقد" (¬2). 3 - "أن العقول قد تحارُ في الفِعل الواحد، فقد يكونُ الفِعْل مشتملاً ¬

_ (¬1) "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (2/ 117). (¬2) "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (2/ 117).

على مصلحةٍ ومفسدة، ولا تعلمُ العقولُ: مفسدتُه أرجحُ أو مصلحته؟ فيتوقف العقل في ذلك، فتأتي الشرائعُ ببيان ذلك، وتأمرُ براجح المصلحة، وتَنهى عن راجح المفسدة، وكذلك الفعلُ يكونُ مصلحةً لشخصٍ، مفسدةً لغيره، والعقلُ لا يدرك ذلك، وتأتي الشرائعُ ببيانه، فتأمرُ به مَن هو مصلحةٌ له، وتَنهى عنه من حيثُ هو مفسدةٌ في حقِّه، وكذلك الفعلُ يكونُ مفسدةً في الظاهر، وفي ضمنه مصلحةٌ عظيمة لا يَهتدي إليها العقلُ، فتجيءُ الشرائعُ ببيانِ ما في ضِمنهِ من المصلحةِ والمفسدةِ الراجحة" (¬1). ° وفي هذا يقولُ ابنُ تيمية: "الأنبياء جاؤوا بما تَعجِزُ العقولُ عن معرفته، ولم يجيؤوا بما تعلمُ العقولُ بُطلانَه، فهُم يُخبرون بمُحاراتِ العقول، لا بمحالات العقوِل" (¬2). 4 - ما يتوصَّلُ إليه العقلُ -وإنْ كان صحيحًا-، فإنه ليس إلا فَرْضيَّات، قد تَجرِفُها الآراءُ المتناقضةُ، والمذاهبُ المُلحِدة. ولو استطاعت البقاءَ فإنها -في غَيبةِ الوحي- ستكون تخميناتٍ شتَّى، يلتبسُ فيها الحقُّ بالباطل (¬3). 5 - "البراهمةُ -وهم طائفةٌ من المجوس- زعموا أن إرسالَ الرُّسلِ عَبَثٌ، لا يليقُ بالحكيم؛ لإغناءِ العقل عن الرسل، لأن ما جاءت به الرسلُ، إن كان موافقًا للعقل حَسَنًا عنده، فهو يفعلُه -وإن لم يأتِ به-، وإن كان ¬

_ (¬1) المصدر السابق (2/ 117). (¬2) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" (2/ 312). (¬3) "الرسل والرسالات" للأشقر (ص 38).

مخالفًا قبيحًا، فإن احتاج إليه فعله، وإلاَّ تَرَكه" (¬1). ويكفي للردِّ على البراهمةِ أن نُوجِّهَ الأنظارَ إلى ما قادتهم إليه عقولُهم التي زعموا أنهم يستغنون بها عن الوحي، ونذكرُ ما سَبق ذكرُه من قولِ زعيم من زعمائهم في القرن العشرين -وهو المهاتما غاندي- يقول مُفاخرًا: "عندما أرى البقرةَ لا أجدُني أرى حيوانًا؛ لأني أعبدُ البقرة، وسأُدافعُ عن عبادتها أمام العالم أجمع". ° ولقد قاده عقلُه إلى تفضيل أُمِّه البقرةِ على أُمِّه التي ولدته: "وأمي البقرة تفضلُ أُمِّي الحقيقيةَ مِن عِدَّةِ وُجوهٍ: فالأمُّ الحقيقةُ تُرضِعُنا مُدَّة عامٍ أوْ عاميْن، وتَتطلَّبُ منَّا خَدَماتٍ طولَ العُمرِ نظيرَ هذا، ولكنَّ أمنَّا البقرةَ تمنحُنا اللبنَ دائمًا، ولا تطلبُ منَّا شيئًا مقابلَ ذلك سوى الطعام العادي" (¬2). ° يقول الدكتور عمر سليمان الأشقر: "وقد قَرأتُ منذ مُدَّةٍ في مجلة "العربي" التي تصدُر في الكويت عن معبدٍ فَخمٍ مَكْسُوٍّ بالرُّخامِ الأبيضِ تُرسَلُ إليه الهدايا والألطافُ من شتَّى أنحاءِ الهند، بَقِيَ أن تعلَمَ أن الآلهةَ التي تُقدَّم لها القرابينُ وتُرسَلُ لها النذورُ في ذلك المعبَدِ الفخم إنما هي الفئران!!! هذه بعضُ الترَّهاتُ التي هَدَتهم إليها عقولُهم التي زعموا أنَّ فيها غُنيةً عن الوحي الإلهيِّ" (¬3). 6 - ألاَ يَعلمُ البابا أن فِعلَ العقلِ (تعقلون- يعقلون) وَرَد ذِكرُه في ¬

_ (¬1) "لوامع الأنوار البهية" للسفاريني (2/ 256). (¬2) "نظرات في النبوة" (4/ 32). (¬3) "الرسل والرسالات" (ص 39).

القرآن 49 مرَّة، وفِعلُ "التفكُّر" وَرَد ذِكرُه في القرآن 17 مرَّة، ولفظُ "الألباب" -أي العقول- وَرَد ذِكرُه في القرآنِ 16 مرَّةً. 7 - القرآنُ يُخاطِبُ العقولَ المتخصِّصة بحقائقَ عِلميةٍ لم تُعرف إلاَّ بعدَ نزولِ القرآن بأكثرَ مِن ألفِ عامٍ، جَعلت "موريس بوكاي" أستاذَ الجراحة الفرنسيَّ الشهيرَ يَخِرَّ ساجدًا أمامَ عَظَمةِ القرآن ويُشهِرُ إسلامه، ويؤلِّفُ كتابَه الشهير "القرآن والتوراة والإنجيل والعلم"، وهو مترجَمٌ بعدَّةِ لغات، وجَعلت "كث ألمور الكندي" وهو من أشهرِ علماءِ الأَجِنَّةَ يَخِرُّ ساجدًا ويَدخلُ الإسلام، ويُقدِّمُ برنامجًا في التلفزيون الكندي عن عِلِم الأَجِنة في القرآن والسُّنة يؤكِّدُ فيه أن ما جاء في القرآن مِن وصفٍ لمراحل الجنين تتطابقُ مع ما اكتُشف حديثًا من حقائقَ في علمِ الأجِنَّة، ودراسةُ دستورِ القرآن العالمي جعلت الدكتور "مراد هوفمان" المتحدِّثَ الإعلاميَّ لمُنظَّمةِ حِلفِ شمال الأطلنطي يقولُ أمامَ أعضاءِ المنظَّمةِ: "إن الإسلام طَوْقُ النجاةِ للحضارةِ العالميةِ المهدَّدة"، ويُشهِرُ إسلامَه بعد أن دَرَس الإسلام فوجد فيه دستورًا عالميًّا يُحقِّقُّ العدلَ والتوازنَ بين الإِنسانِ ونفسِه، وبين الإنسانِ وأخيه الإنسان، وبين الإنسانِ والكونِ مِن حولهِ .. والكثير والكثير. 8 - يزعمُ كثيرٌ من الناسِ أنَّ الوحيَ يُلْغي العقلَ ويَطمِسُ نُورَه، ويُورِّثُه البلادةَ والخُمولَ، وهذا زَعمٌ كاذبٌ، ليس له من الصحَّة نصيبٌ، فالوحيُ الإلهيُّ وجَّه العقولَ إلى النظرِ في الكَون والتدبُّرِ فيه، وحَثَّ الإنسان على استعمارِ هذه الأرضِ واستثمارِها، وفي مجالِ العلوم المنزَّلةِ من الله وظيفةُ العقل أنَ ينظر فيها؛ ليستوثِقَ من صحة نسبتها إلى الله تعالى، فإِنْ تَبيَّن له

صِحَّةُ ذلك فعليه أن يَستوعبَ وحيُ اللهِ إليه، ويستخدمَ العقلَ الذي وَهَبه اللهُ إيَّاه في فهم وتدبُّرِ الوحي. والوحيُ مع العقل كنُورِ الشمسِ أو الضوءِ مع العين، فإذا حُجِب الوحيُ عن العقلِ لم يَنتفع الإنسانُ بعَقلِه، كما أن المُبْصِرَ لا ينتفعُ بعَينه إذا عاش في ظُلمةٍ، فإذا أشرَقَت الشمس، وانتَشر ضوؤُها انتَفع بناظِرَيْه، وكذلك أصحابُ العقول إذا أشرقَ الوحيُ على عُقولِهم وقلوبِهم أبصرت واهتَدت {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] (¬1) أ. هـ. 9 - يقول الدكتور عبد الحليم محمود في كتابه "الإسلام والعقل" عن "خلفاء إبليس": "وإنَّ مِن أحدثِ اختراعاتِ إبليسَ في هذا الزمنِ الحاضرِ إنما هو المذهبُ المسمَّى بالوجودية: وهو مذهبٌ يدعو كلَّ إنسانٍ لأن يُحقِّقَ وجودَه حسبما يَرى وتبعًا لما يريد، غيرَ متقيِّدٍ بعُرفٍ، ولا عاداتٍ، ولا تقاليدَ، ولا دِينٍ، ولا أوضاع أيًّا كانت، وهو إذن يَهدِمُ نفسَه بنفسِه، لأِنه لا يقومُ على أُسسٍ ثابتةٍ، ولا ينتهي إلى مبادئَ حقيقيةٍ، وأحسنُ تشَبيهٍ للوجودي هو ما قاله أحدُ كِبارِ الكتاب الغربيين: "إن الوجوديَّ مَثَلُه كَمَثل الكلب الذي يَجري دائرًا حولَ نفسِه ليُمسِكَ بذَنَبِه، فلا هو يُدرِكُ ذَنَبَه ولا هو يقفُ عن الجَريِ، وهي لُعبةٌ يلعبُها الكلاب، حينما يجدون الفراغَ فيَلهَون بما لا نتيجةَ له". على أن هذا المذهبَ الوجوديَّ قديمٌ، إذ إنه المذهبُ السوفسطائيُّ ¬

_ (¬1) "الرسل والرسالات" (ص40 - 41).

اليوناني، وهو مذهبٌ يَظهرُ دائمًا في عصور الانحلال، وفي البيئاتِ المُنحلَّة، ولا وجودَ له في عصورِ الجِدِّ، ولا في البيئاتِ الجادة، ذلك أن المجتمعاتِ الناهضةَ الجادةَ، لا تُبيحُ لأفرادِها أن يَتشبَّهوا بالكلاب -حينما تلهُو الكلاب- في الجَري وراءَ أذنابِها ليُمسِكوا بها. فالوجوديةُ إذن اختراعُ إبليس، لإخراج طائفةٍ من البشرِ عن نطاقِ السجود لله، إلى نطاقِ السجود للأهواء. ° خلفاءُ إبليس ثانيًا هم: طائفةُ الفلاسفةِ العقليين الإلهيين. ذلك أن الفلسفةَ العقليةَ -مهما حاولَ المتفلسفون تزييفَ أهدافِها وتزيينَ غاياتها-: ليست إلاَّ محاولةَ تحكيم العقل فيما أتى به الوحيُ. وهي -من غيرِ ما رَيبٍ- تريدُ أن تَخترعَ عقليًّا ما فَرغَ منه الوحيُ في قضاياه ومبادئه، إنها تريدُ ابتداعَ دينٍ عقليٍّ بجوارِ الدينِ الإلهي، وهذا الدينُ العقليُّ يختلفُ من فيسلوفٍ إلى آخر، وهو مِن أجل ذلك: يختلفُ في هذه القضيةِ أو تلك مع الدين الإلهيِّ. فإذا كانت البيئةُ متشبِّعةً بالدين الإلهيِّ، يَغمُرُ قلبَها الإيمانُ، وتَغمُرُ وِجدانَها الهداية، حاوَلَ المتفلسفون -في طريقةٍ إبليسية- أن يُوفِّقوا بين الدينِ والفلسفة. ومعنى هذا: أنهم يَجعلون موقفَ اخترعاتِهم العقليةِ بالنسبة للدين، موقفَ الندِّ للند، فيحاوِلون التوفيق، فيُخطِئُهم التوفيق فيما يأتون وما يَدَعُون، ذلك أنهم -قلوبُهم وأفئدتُهم- هواءٌ. وإذا كان الاتفاقُ بينهم لم يَتمَّ، فإن التوفيقَ بين أهوائِهم وظنونِهم،

وشكوكِهم وأوهامِهم، وبين الوحيِ والعِصمة، واليقينِ والهداية، إنما هو عملٌ لا يَسيرُ في رِكابه إلاَّ أتباعُ إبليس. والفلاسفةُ إذن لم يَسجدوا لله. ° أما الطائفةُ الثالثة التي لم تَسجد لله إلاَّ شكلاً، فإنها طائفةُ المعتزلة من علماءِ الكلام، إنهم لم يَسجدوا لله سجودَ خضوع وإذعان، ومذهبُهم قائمٌ على تحكيمِ العقلِ في الدين، ووَصَل بهم الأمرُ إلى أنهم يُوجِبون على اللهِ بعضَ الأعمالِ، سبحانه وتعالى، ويُحرِّمون عليه إتيانَ بعضِها سبحانه وتعالى، فوضعوا أنفسَهم بعَمَلهم هذا موضعَ المشرِّعين لله سبحانه، يُلزمونه سَلْبًا، ويلزمونه إيجابًا، وزَّين لهم الشيطانُ أعمالَهم، وصَدَق فيهم قولُ الله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8]. ثم إنَّهم خاضوا فيما نَصَح الدينُ بعَدَمِ الخَوضِ فيه، كالذات الإلهية، والصفات، وكالقَدَر، وكان لابدَّ -وقد اتبعوا أهواءَهم- أن يختلفوا ويتفرَّقوا وتذهبَ بهم الأهواءُ كلَّ مذهب، فكانوا فِرَقًا وأحزابًا شتَى، لا تكادُ تدخل تحتَ حَصر. وكل مَن نَهَج النَّهجَ العقليِّ في الدين، في العصرِ الحاضر، إنما هو تابعٌ من أتباعِ المعتزلة، ولا مَناصَ من الإقرارِ بأن مدرسةَ الشيخ محمد عبده، إنما هي مدرسةٌ اعتزالية في مبادئِها وأصولها، وهي مدرسةٌ اعتزالية في غاياتِها وأهدافِها، ذلك أنها تضعُ قضايا الدين في ميزانِ عقلِها، فتَنفي

وتُثبت حسبما تقتضيه الأهواءُ والنزعات. والمدرسةُ العقليةُ في الدين -أيًّا كانت، وفي أيِّ مكانٍ وُجدت، وفي أي زمانٍ نشأت- لم تَسجدْ لله سجودَ خضوعٍ واذعان، وإنما سَجدت للعقل، وعَبَدت العقلَ، فتفرَّقت إلى ما لا يكادُ يُحصى من الفِرَق، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] ". وسبيلُ المؤمنين إنما هو السجودُ لله وحده، وذلك أيضًا سبيلُ الراسخين في العلم، إذ الراسخون في العلم هم دائمًا مؤمنون ساجدون لأمرِ الله، وإليهمِ تُشيرُ الآية الكريمة {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]. ومن البديهيِّ أن المؤمنَ الحقيقيَّ هو وإبليسُ على طَرَفَي نقيضٍ، وَيرسُمُ اللهُ سبحانه وتعالى صورةَ المؤمن، فيُبيِّنُ تعارضَها مع كلِّ الصورِ الإبليسيةِ على تفرُّقها واختلافِها، ويُبيِّنُ جزاءَ المؤمنين عنده فيقول سبحانه: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 15 - 17] " (¬1) اهـ. ¬

_ (¬1) "الإسلام والعقل" (ص 38 - 40).

10 - رَحِم اللهُ الشافعي القائل: "ما جَهِل الناسُ ولا اختلفوا إلاَّ لتَرْكِهِم لسانَ العرب ومَيلِهم إلى لسان أرسطو". اختلف فلاسفةُ اليونان "انكسيمندر" عن "طاليس"، واختَلف "هرقليط" عنهما، ووَصَل الامرُ إلى أرسطو الذي اخترع المنطقَ ليعصمَ الذهنَ عن الانحراف والضلال، فلاحَظَ عليه تلاميذُه وأبناءُ مدرستِه ومناصِروه أخطاءً لا حَصرَ لها، إنهم مع ما لهم من باعٍ واسعٍ في عِلمِ الفلسفة، كانوا أعجَزَ من أن يُمكنهم الدفاعُ عن المعلِّم الأول. وعَجَزت آلةُ عِصمةِ الذهن عن عِصمةِ ذهنِ مخترِعها، وعن عصمةِ ذهنِ أتباعه، ولكنَّ المعترِضين على أرسطو لم يُقِر أحدٌ من كِبارِ الفلاسفة لهم بالصواب المُطلَق، وإنما كانت آراؤهم هي الأخرى مَثارَ جَدَلٍ واعتراضٍ وتجريحٍ ونقضٍ، وجاء الكِنْدي، والفارابي، وابن سينا، كلما جاءت أُمَّةٌ لعنت أختها. وكَشَف الزمنُ عن أن عالَمَ الغَيبِ إنما هو حِجْرٌ محجور بالنسبة للعقلِ البشري، فلن يتأَتَّى -بوضعِه البشريِّ- أن يَطَأَ حِماه، ولا أنْ يَلِجَ بابه، وتَقدَّس عالَمُ الغَيبِ عن أن يُمسِكَ بمفتاحِه، أو يَكشِفَ عن مساتيره إلاَّ مَن أَذِنَ له اللهُ من نبيٍّ مُكرَّمٍ، أو من رسولٍ مأذون. ° وللَّه درُّ الشافعيِّ إذ يقول: "رأيي في علماءِ الكلام أن يُضرَبوا بالجريدِ والنَّعال، وأن يُطوَّفَ بهم في العشائرِ والأمصار، ويُقال: هذا جزاءُ مَن تَرَك الكتابَ والسُّنَةَ وأقبَلَ على عِلم الكلام". وما أحلى سجودَ العقلِ لله خالقه!.

إنهم لا يعتذرون!

أفهمتَ -وما إخالُك تَفهمُ- يا حَبْرَ النصارى .. ويا رأس الفاتيكان .. يا عارَ البشرية .. ويا صورةَ الحِقدِ الصليبيِّ في أنتنِ شَكل .. وأوقَح عبارةٍ .. وأرذَلِ هيئةٍ .. وأقبح لسان؟! .. إبليسيٌّ فاق إبليس .. تَعجَّبَ إبليسُ مِن كُفره ووقاحتِه وإجرامِه {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 31]. * إِنهم لا يعتذرون!: عندما أساء البابا "بنديكت السادس عشر" مؤخَّرًا للعالم الإسلاميِّ أجمعَ بإهانتِه لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - طالَبه الجميعُ بالاعتذار، حتى بعضُ وسائل الإعلامِ الغربية التي لم يُعرَف عنها التعاطفُ مع الإسلام طالَبته بالاعتذار. ° لقد كتبت صحيفة "نيويورك تايمز" في افتتاحية عدد يوم السبت (16 من سبتمبر 2006 م) مطالبةً البابا باعتذارٍ وَصَفَتْه بأنه يجبُ أن يكونَ "عميقًا ومقنعًا"، وعَقَّبت قائلةً في نفسِ الافتتاحية: "إن العالَمَ يستمعُ باهتمامٍ لكلمات أيِّ بابا .. وإنه من الخطيرِ والمؤلم أن يَنشُرَ أحدٌ ما الأَلَمَ سواءٌ عامدًا أو غيرَ مكترثٍ .. إن البابا بحاجةٍ إلى أن يُقدِّم اعتذارًا عميقًا ومقنعًا ليبيِّنَ أن الكلماتِ يُمكنُ أيضًا أن تَشفي الجراح" .. فهل اعتذر البابا؟. ° نقلت قناة ( BCC) عَبرَ موقعِها الإلكترونيِّ البيانَ الذي أصدره البابا "بنديكت السادس عشر"، والذي يقولُ فيه -بالحرف الواحد-: "إن البابا المقدَّس "آسِفٌ جدًّا" أن بعضَ فقراتِ خطابِه قد بَدَت وكأنها تهاجمُ مشاعرَ المسلمين"، وأعقَبَ قائلاً: "إنه يحترمُ الإسلام، ويأملُ أن يتفهَّم المسلمون المعنى الحقيقيَّ لكلماته".

لم يَعتذِرِ البابا، وإنما اتَّهَمَنا نحن بقِلَّةِ الفَهم، بل ويطالبُنا أن نَقبَلَ ما قال، وذَكَر أنه يَحترمَ الإسلام، ولكنه في المقابل لم يذكرْ نبيَّ الإسلام، أو يَعتذرْ عما قاله في حقِّه - صلى الله عليه وسلم -، بل تعمَّد تجاهُلَ إهانتِه للنبي بكلماتِه الجارحةِ على مَسمعٍ من العالم أجمعَ، فأين هو الاعتذار؟!. إن البابا يقول إنه "آسف جدًّا" أن عباراته بَدَت وكأنها هجومية، ولكنه لم يَعتذرْ عن هذه العبارات، أو يَشرحْ لنا كيف يمكنُ ألاَّ تكون هجوميةً .. هو فقط "آسف جدًّا" لِمَا حَدَث .. فأين الاعتذار؟! ومَن قال: إننا -في هذا المقام- نهتمُّ لمشاعره، أو نُعِيرُها أدنى اهتمام؟ إن البابا يستخدم حِيَلَ الإعلام المعروفة في التهرُّب من مواجهةِ النفس، أو مواجهةِ مَن أساء إليهم بطُرقٍ إعلاميةٍ ملتويةٍ وعباراتٍ فَضفاضةٍ، ولا يَليقُ برجل دينٍ في مكانتِه وقدْرِه لمن يَعتنِقون دينَه أن يفعلَ ذلك، إنْ كان قد أخطأَ في وصفِ نبيِّ الأمة الإسلامية بأنه لا يأتِ إلاَّ بالشرِّ، فلماذا لم يَعتذِرْ عن ذلك بوضوح؟ إنه يعالج الإهانةَ الأولى التي جَرحت كرامةَ كلِّ مسلمٍ بإهانةٍ ثانيةٍ تَفترضُ في كلِّ المسلمين الغباءَ أيضًا!. إنَّ هذا الأمرَ متكرِّرٌ في المواقفِ الغربيةِ تُجاهَ العالَم الإسلامي، فبعد أزمةِ الرسوم المسيئة عن نبيِّ الإسلام، ومطالَبةِ الجميعِ لرئيس الوزراء الدانمركي بالاعتذارِ باسم الحكومة الدانمركية على الإصرار على تصعيد الأزمة، حاوَرَ رئيسُ تحرير صحيفة "الأهرام ويكلي Al Ahram weekly" المصرية التي تَصدرُ باللغة الإنجليزية رئيسَ الوزراء الدانمركي، وحثَّه على الاعتذارِ لإنهاء الأزمة، فما كان من رئيسِ الوزراء إلا أن رد قائلاً: "يُسعدني

وعاب عليه بنو جلدته

أن أقدم هذا التصريحَ بشكل مكتوبٍ إلى قُرائكم، ولكنك تدرك بلا شكٍّ أنه لا الحكومةُ ولا شعبُ الدانمرك يمكنُ اعتبارُهم مسؤولين عما تمَّ نشرُه" (¬1). * وعاب عليه بنو جِلدته: أنكرت أكثرُ الصحفِ الأوربيَّة كلامَ البابا، وانتقدوه وعابوا عليه: ° "ففي هولندا رأت صحيفة "دي فولكسكرانت" أن ما فَعله البابا ليس سوى نوعٍ من الاستفزاز لمشاعرِ المسلمين، ولا يمكنه سوى أن يَلومَ نفَسه وحدَها بشكلٍ أساسي". ° وكَتَبت صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية تقول: "إنَّ هذا البابا البالغَ من العمر 78 عامًا يرتكبُ هفواتٍ متتاليةً منذ تعيينه، وستُشكَّلُ لدينا في نهايةِ المطاف قناعة بأنها ليست عَرَضِيَّةً، بل تكشفُ عن فِكرِه الدَّفين". ° بل إن رئيسَ وكالةِ الأنباءِ الكاثوليكية: "رنج إيفل" نفسَه قد انتقد البابا بحدَّةٍ معارِضًا تصريحاتِه، ومتنصِّلاً عنها قائلاً: "إن البابا أراد هنا ارتداءَ ثوبِ البروفيسور، واعتقد أنه يستطيعُ أن يتجرَّد من منصبِ البابا ولو لمدةِ نصفِ ساعة .. وهذا لم يكن سِوى سذاجةٍ سياسية". ° بينما وَجَّهت صحيفة "لاريبوبليكا" التي تصدر في روما انتقاداتٍ حادةً للبابا الحالي بسببِ خطئِه في تصريحاتِه التي أَجْبَرَتْه على التراجع ليكونَ أولَ بابا في التاريخ يحاولُ التراجعَ بهذا الشكل عن شيءٍ قاله، مؤكدةً أن ردَّ الفعل السريعَ والواضحَ للفاتيكان وتراجعَه لتفادِي تداعياتِ ¬

_ (¬1) "لماذا يكرهونه -الأصول الفكرية لعلاقة الغرب بنبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم -" للدكتور باسم خفاجي (ص 22 - 24) كتاب البيان.

إيه يا بنديكت بابا الفاتيكان

الأزمةِ سببُه أيضًا الانتقاداتُ الحادةُ التي تلقَّاها من الفاتيكان نفسِه بعد أنِ انتَهت الكنيسةُ الكاثوليكيةُ إلى أن "بنديكت" قد اقتَرَف هنا خطأً واضحًا لا يُمكن إنكارُه". ° وقال المؤرِّخ المديني الفرنسي "أودون فاليت" لوكالة الأنباء الفرنسية بأن البابا الحالي أكثرُ قربًا للولاياتِ المتحدة من البابا السابق الذي عارَضَ غزوَ العراق وأفغانستان، حيث إنه لم يَقُمْ منذ تولِّيه بأيِّ إدانةٍ للسياسةِ الخارجيةِ الأمريكية. ° وقال "فاليت": "لا شك أنه يوجدُ بُعْدٌ سياسيٌّ في تصريحاتِ البابا، حتى وإن تخفَّت وراءَ فكرٍ لاهوتيٍّ واضحٍ" (¬1). * إِيه يا بنديكت بابا الفاتيكان: سيجيئُكَ صوتُ أبي بكرٍ ويَصيحُ بخالد قمْ واقطعْ رأسَ الشيطانْ فمحمَّدُ باقٍ ما بَقيت دنيا الرحمن وسيعلو صوتُ اللهِ ولو كرهوا في كُلِّ زمانٍ ومكانْ ¬

_ (¬1) "جريدة الأسبوع" العدد (497) (ص 7) - 9 من رمضان 1927 هـ 2/ 10/ 2006.

مقالات في الدفاع عن الإسلام والرد على بابا الفاتيكان

مقالاتٌ في الدِّفاع عن الإسلام والردِّ على بابا الفاتيكان * "لا لاعتذارِ البابا": ° قال عُلوي بن عبد القادر السَّقَّاف: "لم تكنْ مصادفةً أن يُعلنَ رئيسُ دولةِ الصليب أن الحربَ في العراق حربٌ صليبية، ثم يُهانُ المصحفُ في سُجونه في العراق وجوانتنامو، ثم يُساءُ إلى الإسلام ونبيِّ الإسلام في رسومٍ كاريكاتيرية في أكثرَ من صحيفةٍ غربية، ثم يُتَّهمُ الإسلام بالفاشية، وأخيرًا يُساءُ إلى نبيِّ الإسلام -عليه أفضلُ الصلاة والسلام- على لسانِ أكبرِ زعيمٍ للنصارى -بابا الفاتيكان-، لم يكن ذلك كلُّه مصادفةً ولا مستغرَبًا عنهم، {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118]، ولم يكن مُستغربًا أن يَغضبَ المسلمون لنبيِّهم - صلى الله عليه وسلم -، بل هذا هو الواجب عليهم، لكنَّ المستغرَبَ هو هذه الضَّجةُ الإعلاميةُ التي انخَدع بها الكثيرون وصاروا يُطالبونه بالاعتذار، ممَّا كان سببًا في إعلاءِ شأنه، ولو أنهم تَركوه لحقارته لما عَبَأَ به أحد، فما كان منه إلاَّ أنِ اتَهمهم مرةً بالغباء وأنهم لم يَفقَهوا قَولَه! ومرةً بأسفِهِ على الألم الذي سبَّبته تعليقاتُه، وها نحن -المسلمين- صباحَ مساءَ نذُمُّهم ونَذُمُّ دينَهم المحرَّفَ، ونَصِمُهم بالضلال يوميًّا في صلاتنا وخارجَها، ولم يُلقوا لنا بالاً، ولم يطلبوا منا أن نعتذر، ولو أن أكبرَ علماءٍ المسلمين قال: "إنَّ النصارى كفار، وإنَّ دينَهم محرَّف، وليس هو الدين الذي أتى به عيسى -عليه الصلاة والسلام-"، أَتُراهم سيأبهون به ويطالبونه بالاعتذار؟! أجزمُ أن عقلاءَهم أعقل من عقلانِّيينا الذين طاروا في العجَّة -كما تقول العامة-، ولن يطالبوه بالاعتذار؛ لأنَّ ذلك يُعلِي من شأنه، ثُمَّ ماذا لو قال لنا البابا: "أنا على استعداد أن أعتذر عن إساءتي لكم، لكن

بشرطِ أن تعتذروا أنتم أيضًا عن إساءتكم لنا بوَصمِنا بالكفر والضلال في كتابكم وعلى ألسِنةِ علمائكم"؟! .. أكنَّا فاعلين؟!. ومرةً أخرى أقول: إنَّ غَضبَ المسلمين أمرٌ واجبٌ عليهم، وغيرُ مستغرَبٍ، لكنَّ المستغربَ أن يطالِبَ بذلك مَن يستنكرون اليومَ عليه، وغدًا يجلسون معه على طاولةِ الحِوارِ لتقريبِ الأديان، هؤلاء هم الذين جَرَّؤُوه!. - جرَّأه الذين لا يُكفِّرونهم، ويزعمون أنهمِ أهلُ كتابٍ مؤمنون، واللهُ كَفَّرهم مِن فوق سبع سماوات: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}. - جَرَّأه مَن عدَّ النصارى إخوانًا لنا في الإنسانية، في حين يَتَّهمُ باباهم نبيَّنا -عليه أفضل الصلاة والسلام- باللاإنسانية. - جرأَة مَن أبلى بلاءً سيئًا في رَفعِ المقاطعةِ عن دولةِ الدانمرك التي سَبَقَتْه في الإساءة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس ببعيدٍ أن يأتيَ مَن يَقبلُ اعتذارَه الأخيرَ كما قَبِل البعضُ اعتذارَ الصحيفةِ الآثمةِ صاحبةِ الكاريكاتير. - جرَّأه الذين ما زالوا يَدْعُون إلى التسامحِ والتعايُشِ والحِوارِ مع الآخَرِ، والآخرُ هذا يَشتُمُهم ويَشتُمُ نبيَّهم - صلى الله عليه وسلم -. هذا وغيرُه هو الذي جرَّأ هذا الكافرَ وأمثالَه على الإساءةِ للإسلام ونبيِّ الإسلام - صلى الله عليه وسلم -. وإنَّ مِن المزالِقِ الخطيرةِ التي وَقع فيها بعضُ الذين طالَبوا البابا بالاعتذار ونُشرت في وسائل الإعلام: قبولَ بَعضِهم اعتذارَه الممجوجَ، ونسي هؤلاء -وربَّما جَهِلوا- أنه لو اعتذر بأصرح عبارةٍ ممكنٍ أن يعتذرَ منها مخطيءٌ، لما قُبل اعتذارُه؛ لأنَّ هذا حقُّ للنبي - صلى الله عليه وسلم -ليس لأحدٍ غيره-،

"لا تطالبوا البابا بالاعتذار"

أرأيتَ لو أنَّ رجلاً شَتَم جارَك، ثم جاء ليعتذرَ إليك، هل من حقِّك أن تقبلَ عُذرَه؟ أم تقول له: هذا جاري دونَك، فاعتذرْ منه؟ فحقُّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أجلُّ وأعظم. ومِن هذه المزالق دعوى بعضِهم أن الجهادَ في الإسلام للدفاع عن النفس، لِيدفعَ تهمةَ انتشارِ الإسلام بالسيف، ونَسِي أن التاريخَ الإسلاميَّ مَلِيءٌ بالفتوحات الإسلامية. فهؤلاء وأولئك هم الذين جرَّؤه، وسيُجَرِّؤن غيرَه على الإساءةِ للإسلام ونبيِّ الإسلام. ° ولهؤلاء أقول: إنْ كان الدفاعُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يتطلَّبُ منكم كلَّ ذلك، فلا حاجة إليه، واللهُ حافظٌ دينَه وكافٍ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم -، {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} ". اهـ. * "لا تطالبِوا البابا بالاعتذار": ° قال د. محمد بن إبراهيم السعيدي، رئيس قسم الدراسات الإسلامية بكليَّة المعلِّمين بمكةَ: "ضَجَّ العالَمُ الإسلاميُّ -كما ينبغي له- جَرَّاءَ افتراءاتِ البابا من حينِ تَلقَّتها عنه وسائلُ الإعلام، ووقَف المفكِّرون الإسلاميون -كما ينبغي لهم أن يَقفِوا- حيالَ مِثل هذه الافتراءات، وأدَّت الحكوماتُ الإسلاميةُ بعضَ ما ينبغي عليها في مِثل هذه المواقف. إلاَّ أننا وجدنا أبرزَ ما طُولبِ به رأسُ الكنيسة الكاثوليكية من أكثرِ القياداتِ الفكريةِ في العالَم الإسلامي وأكبرِها: أن يَعتذرَ عمَّا بَدَرَ منه، ولكنَّ أحدًا لم يقل: كيف يريدُ من البابا أن يعتذر؟.

هل يكفي أن يأسفَ على إساءتِه لمشاعرِ المسلمين؟. إن كان كذلك، فلا يُسمَّى هذا اعتذارًا، لا لغةً ولا اصطلاحًا، بدليل أن المسلمين لم يَقبَلوا مِثلَ هذه الصيغةِ من دولةِ الدانمرك. أم عليه أن يُقِرَّ بخطئه، ويُصرِّح بأن ما قاله، أو نَقَله في حقِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - غيرُ صحيح؟. إنْ كان هذا هو المراد، فقد كلَّفناه ما لا يستطيعُ عوامُّ النصارى أن يقوموا به، فكيف برئيسِ كُهَّانِ العالم؟. وكيف نُطالِبُه بهذا الاعتذار، ونحن نعلمُ أن دينَ النصارى لا يتمُ إلاَّ مع الإيمانِ بما هو أعظمُ مما قاله البابا، وهو أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كاذبٌ، وحاشاه ذلك -فداه أبي وأمي-. كما أن مطالَبته بالاعتذارِ تعني أننا على استعدادٍ أن نَعتذرَ إذا قلنا في دينِ النصارى بمِثل ما قاله البابا في الإسلام!. ولْنَتصورْ أن يطالِبَ النصارى أئمةَ الحَرَمِ المكيِّ بالاعتذار إذا قرؤوا سورةَ الفاتحة في صلاتِهم التي تُنقَلُ عَبرَ وسائل الإعلام إلى جميع أنحاء العالم. لِنتصورْ أن يطالِبَنا النصارى بحَذفِ الآياتِ المسيئةِ للديانةِ النصرانيةِ من القرآن الكريم الذي تُوزَّعُّ طبعاتُه وترجماتُه من المملكةِ العربيةِ السعودية إلى جميع أنحاء العالم، ومِن بينها بالطبع دولُ النصارى، أو على الأقل أن نحذفَ تلك الآياتِ من الطبعاتِ التي تُوزع في أوروبا .. هل نتصور ذلك؟!.

* أليس في القرآن الكريم تَسفيهٌ وتكذيبٌ لِمَا عليه جميعُ النصارى في العالَم من الإيمانِ بألوهية عيسى -عليه وعلى نبينا أفضلُ الصلاة والسلام-؟ قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 72 - 73]. * وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 88 - 90]. * وقال تعالى {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157]. إلى غير ذلك من الآيات والأحاديثِ التي تتحدثُ عن عقيدة النصارى بوصفِها عقيدةً مفتراةً، ووَصْفِ أهلِها بالكفر، وتوعُّدِهم بالنار، فهل بوُسعِنا أن نستجيب لأيِّ مُطالَبةٍ لنا بالاعتذار حين نقولُ هذا القولَ الذي لا نَرى لِمَن يخالفُه حظًّا من الإسلام؟!. إنني -وكلَّ مسلمٍ غَيُورٍ محبٍّ لله ورسوله- نفرحُ بهذه الانتفاضةِ الإسلاميةِ التي تَجتاحُ العالَمَ الإسلاميَّ كلَّما أسيءَ إلى الإسلام ونبيِّه الكريم، وتتجاوبُ معها الحكوماتُ بشكل إيجابيٍّ -ولله الحمد والمِنَّة-،

ولكنني أدعو إلى تجنُبِ التورُّط بالمطالبة بالاعتذارِ لأمرين: أحدهما: أن هذا لا يمكنُ أن يكونَ، وإذا أردتَ أن تُطاعَ فاطلُبْ ما يُستطاع، وإذا أردتَ أن يذهبَ جَهدُكَ عبثًا، فاطلب ما لا يُستطاع. الأمر الآخر: أن المطالبةَ بالاعتذار حُفرةٌ خَطِرةٌ، نأملُ من مفكِّرينا تجنُّبها؛ لأنها تؤدِّي حتمًا إلى تسويغ مطالبتِهم إيانا بمثلِ ذلك إذا قلنا عن النصارى: "إنهم مشركون، وإن ما يؤمنون به هو ديانةٌ محرفةٌ أنتجها لهم "بولس" الذي يتربَّعُ البابا على كرسيه، ونحن نعتقد أنه -أي: بولس- كذابٌ أَشِر!! ". والمعلومُ أن الدعوةَ إلى الإسلام بين النصارى لا يمكنُ أن تتمَّ إلاَّ بمناقشةِ تلك الأمورِ التي يُعِدُّها النصارى من مسلَّماتهم، ونُعِدُّها نحن من مكذوباتهم. هل يَسُرُّ أحدًا من هؤلاء الذين يُطالبون البابا بالاعتذار أن تقومَ حكوماتُ الدُّولِ النصرانية بمَنع المسلمين في مساجدهم من قِراءةِ الفاتحة وسورةِ الإخلاص، بحُجَّةِ أنها تسيءُ إلى مشاعِرِ المسيحيين؟!. وأكثرُ ما ساءني وآلَمَني في هذه الحَملةِ ضد البابا: وقوعُ عددٍ من علماءِ المسلمين في مأزقٍ خطيرٍ، حين أصدروا بيانًا ذَكروا فيه أن الجهادَ في الإسلام إنما شُرع للدفاع عن النفس!!. وهذا إنْ دل على شيءٍ فإنما يدل على نجاح هذه الحَمْلة، ولكنْ لصالح البابا وأعداءِ الإسلام الذين اضْطَرُّوا علماءَ المسلمين إلى الوقوفِ موقفًا انهزاميًّا أدَّى بهم إلى الافتراءِ على الإسلامِ بأعظمَ مِن فِريةِ البابا عليه،

"وإذا لم يعتذر البابا .. فكان ماذا؟ "

وذلك بإنكارِهم مشروعيةَ "جهادِ الطلب"، الأمرُ الذي يَلزمُ منه القولُ بأن جميعَ الفتوحاتِ الإسلاميةِ كانت حروبًا غيرَ شرعية، واستعمارًا إِمبراطوريًّا لا علاقةَ له بالإسلام؛ لأنَّه لم يكنْ بحالٍ من الأحوال -دفاعًا عن النفس، وهذا القولُ هو عينُ قولِ البابا، بل هو قولٌ أخطرُ مِن قول البابا بصفةِ أن قائلَه مجموعةٌ من علماء المسلمين. وأخيرًا أدعو مفكِّرينا إلى أن يكونوا موجِّهين لمِثلِ هذه الانتفاضات الشَّعبية، ومؤثِّرين فيها، لا أن يكونوا -كما عليه كثيرٌ منهم الآن- متأثِّرين ومُنساقين، وينحصرُ دورُهم في الإعلانِ عن هذه المشاعِرِ دون توجيهها" (¬1). * "وإِذا لم يَعتَذِرِ البابا .. فكان ماذا؟ ": ° قال د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه: "سؤالٌ مشروع .. لَمَّا صَدَر عن البابا اتهامُ المسلمين والإسلام بأنه "شريرٌ، وغيرُ إنساني، وغيرُ عقلاني"، طالَبه جَمعٌ كبيرٌ من الشخصياتِ والمنظماتِ الإسلامية بالاعتذار العَلَنيِّ الصريحِ، وأَلَحُّوا في ذلك جدًّا، وأكَّدوا، وأصرُّوا، ولم يَقبَلوا تصريحَه الثاني ولا الثالثَ، الذي تضمَّن أسفًا على سُوءِ فَهمِ كلامه؛ إذ لم يكنْ سوى أسفٍ وليس اعتذارًا. وتفاعَلَ كثيرٌ من المسلمين غَيرةً على دينهم مع هذه المطالبة، وقد كانت حالةً تجسَّدت فيها المعاني الإيمانيةُ والغَيرةُ والاعتزازُ بالانتماء إلى الإسلام. ¬

_ (¬1) "الموقع الإلكتروني: الإسلام اليوم".

غيرَ أنه وَسَطَ هذه المَوجةِ من الغضب لم يسألْ أحدٌ: ما المقصودُ والغايةُ من اعتذارِ البابا؟. وإذا لم يعتذر -كما هو الحال- فكان ماذا؟. هل سيتضرَّرُ الإسلام والمسلمون من ذلك؟. وإذا اعتذر هل سيكون ذلك خيرًا للإسلام والمسلمين؟. ° الأحداث: في محاضرةٍ له في جامعة "جنيسبرج" بولاية "بفاريا" الألمانية، في 12/ 11/ 2006م، والتي كانت بعنوان: "العقل والإيمان"، أورد البابا حوارًا جَرى بين الإمبراطور "مانويل الثاني" (1350 - 1425) ومثقَّف فارسيٍّ قال فيه: "أرني شيئًا جديدًا جاء به محمد، فلن تجِدَ إلاَّ ما هو شريرٌ ولا إنساني، مِثلَ أمرِه بنَشرِ الدين -الذي كان يُبَشِّرُ به- بحدِّ السيف". ° وفي المحاضرة أكَّد البابا على: - رسوخ العنفِ في بِنيةِ الدينِ الإسلاميِّ، من خلال إفادته بأن آيةَ البقرة: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، إنما نَزلت في بدايةِ الدعوة، حين لم يكن لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - قوة ولا مَنَعةٌ. - أن الإسلامَ يخلُو من العقل، واستَدلَّ عليه بأن مشيئةَ الربِّ في العقيدة الإسلامية وإرادتَه ليست مرتبطةً بمقولاتنا، ولا حتى بالعقل، وأنَّ ابنَ حزمٍ ذهب في تفسيره إلى حدِّ القولِ بأن اللهَ ليس لزامًا عليه أن يتمسَّكَ حتى بكلمته، ولا شيءَ يلزمُه أن يُطلِعَنا على الحقيقة. وحينما عَرَّج على المسيحية سَبَغها بكل ما جَرَّد الإسلامَ منه: بالسماحة والعقلانية، واستَدلَّ عليه بأولِ نصٍّ في الكتاب المقدس، في

"سِفْر التكوين": "في البَدءِ كانت الكلمة"، فالربُّ يتحاورُ بالكلمة، والكلمةُ هي عقلٌ وكلمةٌ في نفس الوقت. في نهاية كلمتِه دعا إلى المحاورةِ بين الحضاراتِ بالعقل والإيمان وبالكلمة؛ ليكونَ موافقًا لطبيعةِ الربِّ. ويُلاحَظ في كلمته هذا: محاولةُ الاستئثارِ المسيحيِّ بالربِّ والعقل والتسامح معًا، وتجريدِ الإسلام منها، فالمسيحيةُ هي التي تعملُ وِفقَ إرادة وطبيعةِ الرب، ووفقَ العقل، والإسلامُ يعملُ مُعارِضًا لطبيعةِ وإرادةِ الربِّ والعقل؛ لكونِه يتَّخذُ العنفَ والسيفَ طريقًا للإقناع، ولأنه يُلَصِقُ بالربِّ الاستعلاءَ المطلَقَ، والمشيئةَ المطلَقةَ، التي لا تتغيَّرُ ولا تتبدلُ، ولا ترتبطُ بمقولاتِنا ولا العقل .. ؟!!. ° إثرَ هذه المحاضرةِ انطلقت ردودُ الفعل -المعتادة!! - من المسلمين، تمثَّلت في التعبيراتِ التالية: - غضبٌ إسلاميٌّ عبَّرت عنه: دولٌ، ومنظَّمات، وشخصياتٌ، ومظاهَراتٌ جماهيرية. - استنكارُ جهاتٍ إسلاميةٍ ونصرانيةٍ شرقيةٍ -خصوصًا- من هذا التصريح. - مطالبةٌ بالاعتذارِ العَلَنيِّ الصريح، وطَلبُ توضيحِ موقف البابا من الإسلام. - أن التصريح كان في سِياقِ تبريرِ الحَمْلاتِ الصليبيةِ الأخيرة على بلادِ الإسلام.

- الردُّ على الادعاءِ البابَويِّ حولَ العنفِ واللاعقلانيةِ المنسوبةِ إلى الإسلام، وذلك من طريق: ا- نفي "جهادِ الطلب" وقَصْرِه على "جهادِ الدفع" (¬1). 2 - رَسم عقلانيةِ الإسلام من خلالِ موقفِ الأشعريةِ في رَفضِ إيمانِ المُقلِّد، وإيجابِ النظر، وموقفِ العتزلةِ في إيجابِ الأصلح على الله تعالى (¬2). 3 - بيانِ تسامحِ الإسلام مع الديانات بعدَ الفتح الإسلامي. 4 - فضحِ السلوكِ المسيحيِّ في العالم؛ احتلالاً، ونهبًا، وتقتيلاً، واضطهادًا. وقد كان الصوتُ الأعلى هو صوتُ المطالِب بالاعتذار، الحاثِّ على غَضْبَةٍ إسلاميةٍ كبرى، ومحاولةِ دفع التهمةِ عن الإسلامِ والمسلمين، والذين قاموا بالردِّ بالمِثل -أي ببيانِ فضائحِ الاعتقادِ والسلوكِ النصرانيِّ في العالم- كانوا قليلين، وليست لهم من الشهرةِ كالتي للذِين اكتَفَوا بطَلَبِ الاعتذار، دونَ نقدٍ للمسيحية عقيدةً أو تاريخًا!!. ° الاعتذار؟: نعودُ إلى السؤال المشروع، فنقول: يُطلَبُ الاعتذارُ في العادةِ من المخطيء بقصد الحدِّ من الآثارِ السلبيةِ التي تَنجُمُ عن الخطأ مِن ردِّ فِعلٍ غيرِ ملائم، يُضِرُّ بالجانبين: المخطئ والمخطئ عليه. ¬

_ (¬1) جاء هذا في ردّ الدكتور القرضاوي على البابا .. وهو سقيم لأنه رد على البابا بقول أهل البدع. (¬2) جاء هذا في ردّ الدكتور القرضاوي على البابا .. وهو سقيم لأنه رد على البابا بقول أهل البدع.

فالاعتذارُ يَنزعُ فَتيلَ أزمةٍ تكادُ أن تقعَ بسببِ ذلك الخطأ. والأزمةُ ورَدُّ الفعل يقعُ من شعورِ المخطئِ عليه بالإهانةِ التي لَحِقت به، فيسعى في ردِّ الاعتبار وإزالةِ التشويه، وذلك بتقريرِ المخطىِء بخطئه، أو بطريقٍ آخَرَ هو الردُّ بالمِثل، فإنْ لم يَنْجَحْ لَجَأَ إلى التصادم ورَدِّ الاعتبار بالقوة، ومِن هنا تتدخَّلُ أطرافٌ أخرى لِمَنع مثل هذا التصادم. وفي حالةِ تصريح البابا، فإنه تسَّببَ في الطعنِ في الإسلام والمسلمين، وتشويهِ الصورة، وفَتْح بابٍ -مفتوح أصلاً- للتصادمِ بين الإسلام والمسيحية، أو المسلمين والمسيحيين. وهنا نفهمُ لِمَ تصدَّتْ كلُّ هذه القوى الإسلامية للرد؟ إنهم يقصدون: رَدَّ الاعتبار، وإزالةَ التشويهِ الذي لَحِقَ بالإسلام والمسلمين، ومَنْعَ التصادمِ بين الحضارةِ الإسلاميةِ والمسيحية، ولأجلها طالبوا بالاعتذار، فكان الاعتذارُ وسيلتَهم الوحيدة -تقريبًا- في تحصيلِ هذه المقاصد. لكنْ ألَمْ يكن ثَمَّةَ وسيلةٌ أخرى لتحصيل هذه المقاصد؟!. وبصورةٍ أخرى: هل كانت وسيلةُ الاعتذار هي الوسيلةُ المثلى، التي لا تَحمِلُ معها اْيَّةَ آثارٍ سلبية؟. في هذا التساؤل إثارةٌ لمسألةِ سلبيةِ الاعتذار، أو لِنَقل المُحتوى الآخَرِ للاعتذار غيرَ ما ذُكر، فإن للاعتذار وجهًا آخَرَ غيرَ تلك التي ذُكِرَتْ في المقاصد، أُغفِلت، فلم يذكرْها إلاَّ القليل، وهي: - أن على الطرفَينِ ألاَّ يبادرَا بأيِّ فعل فيه نقدٌ وطعنٌ تُجاهَ الآخر، وهكذا يستطيعُ كلُّ طَرَفٍ أن يُحاجَّ الآخَرَ، إن هو بادَرَ بنَقدٍ أو طعن، بأنه

خَرَج عن القاعدةِ والأصل، وعليه أن يَعتذر. وفي حالةِ تصريح البابا، فإن مطالَبَته بالاعتذارِ يحتوي ضِمنًا التعهُّدَ بعدمِ الطعنِ والنقدِ في المسيحية، فلا يَنتقدُ المسلمون النصرانية، ولا يتكلمون في بطلانها، وتحريفِ كتابها، ومصادمتِها للمعقول. مع أن هذا النقدَ أمرٌ من صميم دينِ الإسلام، وصميمٍ الواجباتِ على المسلمين، لبيانِ الحق، والدعوةِ إليه، ودَحضِ الباطل المُبين، وعليه دَرَجَ العلماءُ حينما ألَّفوا في بطلانِ النصرانية، كابنِ حزمٍ، وابنِ تيمية، وابنِ القيم، ومِن المعاصرين: رحمت الله الهندي، وأبو زهرة. فهذا هو الأساسُ الذي بُنيت عليه فِكرةُ الاعتذار، سكوتُ كلِّ طرفٍ عن الآخر، من مبدأِ التساوي، وبه يمكنُ للمسيحيين أن يكفُّوا، وأن يطالِبوا المسلمين بالمِثل، لكنْ إذا كان نهجُ الإسلام هو الردَّ ونقضَ النصرانية، واتهامَها بمخالفةِ المعقولِ والمنقول، فإن ذلك يُضعِفُ موقفَ المطالبين بالاعتذار، فهل كان هؤلاء مُدرِكين لمثلِ هذه النتيجة؟ أم أنهم مُستعدُّون للكفِّ عن نَقدِ النصرانية؟. إن كانوا غيرَ مُدرِكين، فعليهم أن يُدركوا. وإن كانوا مُدرِكين، وهم مستعدُّون للكفِّ وعدمِ الخوض في بطلانِ النصرانية، فتلك هي الداهية!!. ويُسأل عن سببها: هل هو إيمانٌ بفِكرةِ "وحدةِ الأديان"، أم شعورٌ بالضعف؟. أما وحدةُ الأديان، فنُبِّرؤُهم منها، ونُعيذهم، لكنا ذكَّرنا بها؛ لأن موقفَهم يَنسجمُ تمامًا مع فكرةِ "وحدة الأديان"، التي تقومُ على اعتبارِ صحَّةِ

جميع الأديان، وتساويها، ومِن ثَمَّ فلا وجهَ لِنَقدٍ أو طعنٍ يُوجَّه تُجاهَ إحداها. لكنه شعورٌ بالضعف -يبدُو- يَحملُ على السكوتِ أمامَ عدوٍّ نصرانيٍّ كبير، يَحملُ معه كلَّ أدواتِ التدمير، ويَتحكَّمُ في مصيرِ ملايينِ المسلمين، محاولةً للإبقاءِ على المسلمين، نظرًا إلى عدمِ تكافؤِ القُوى، وهذا هدفٌ نبيلٌ لا شك، غيرَ أن المتابعةَ للأحداثِ تدلُّ على أن هذه الطريقةَ غيرُ نافعةٍ في تحصيل الهدف، بل ضارَّةٌ، فإنَّ على أهل الحقِّ بيانَ الحق، وإنْ عُذِروا حينًا، فلا يعذَرون كلَّ حينٍ في السكوت على الباطل. ومُداراةُ المسيحيين ومحاباتُهم- طلبًا للسلامة وكفِّ شرورهم-، بهذه الطريقة لم تنجح، بل زادت شرَّهم، فمنذ عقودٍ وبعضُ المسلمين في محاولةٍ لِمَدِّ جُسورِ التواصُل والتقارُبِ والحوارِ والتعايُشِ .. إلخ .. ولو بالسكوت عن نقدِ المسيحية، ودعوةِ المسيحيين للإسلام، لكنْ لم يَظهرْ في الأفقِ المسيحيِّ سوى العُدوانِ الصريحِ، فهم الذين احتلُّوا: أفغانستان، والعراق، والشيشان، ودمَّروا البوسنة، وكوسوفا، ولبنان، وهم الداعِمون لإسرائيل، وقد عَبَّروا عن صليبيتهم في كلمة الرئيس الأمريكي "جورج بوش الابن" الأخيرة: "إنها حربٌ صليبية"، وموقفُهم من الرسومات المسيئةِ للنبيِّ واضح، فدولٌ أوربيةٌ كثيرةٌ حَذَتْ حَذوَ الدنمارك، آخِرُها النرويج قبلَ أيام، أعادت نَشرَ الصور، ثم هذا البابا يخرج بمِثل هذه التصريحات، مع أن "الفاتيكان" هي الراعيةُ للحوار بين الحضارات!. فكلُّ ما بَذَله هؤلاء المسلمون من الحوار، والتقارب، والتعايش، والذي حَمَلهم على السكوتِ عن نَقدِ النصرانية، لم يُفِدْ بشيءٍ، بل زاد مِن

هَجمتهم ضدَّ الإسلام، وصَدَق ربُّنا إذ يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]. فهذا موقفٌ خاطئٌ مِن هذه المنظَّماتِ والشخصياتِ المطالِبة بالاعتذار، خطأً واقعًا، -كما تقدم-، وخطأً شرعًا، فإنَّ الشرعَ يأمرُ بقَولةِ الحق، والصَّدع بها، لا عَقْدِ تحالفاتٍ لغضِّ النظرِ عن فسادِ المعتقَدات، والسكوتِ عن بيان الحق، مهما كانت الدعاوى، مِن ضَعفٍ أو عَجْزٍ، فإنه إذا نظرنا في تاريخِ الدعوة، فإن الدينَ كان ضعيفًا، ثم ما زال يَقْوَى بالدعوةِ والبلاغ؛ ببيانِ محاسِنِ الإسلام، ومساوئِ ما سواه -ومن ذلك النصرانية-، وعلى هذا دَرَجَ القرآن. فإذا ما اتُّخذ مبدأُ السكوت بداعي الضعف، فمتى يُهدَى الناسُ إلى الإسلام، ومتى يَنتشر ويَقْوَى، وقد عُلم أن قُوَّته إنما تتحصَّلُ بالدعوةِ والبلاغ، التي تَزيدُ من أتباعِه المتمسِّكين به؟!. إن الموقفَ الصحيحَ في الردِّ على البابا -وكلِّ تصريحٍ من هذا النوع هو: الردُّ بالمِثل، وفي التاريخِ والدينِ النصرانيِّ من النقاطِ السوداءِ الكبيرةِ ما لا تُعجِزُ ناقدًا -حتى لو كان عاميًّا- ببيانِ فسادِ المُعتقَد النصرانيِّ، ومعارضتِه للعقل وللرحمة، وتأييد ذلك بالتاريخ المسيحي. "فالتثليثُ" و"الصَّلبُ"، و"الفِداءُ"، و"العَشاءُ الرباني"، عقائدُ مسيحيةٌ معارِضةٌ للعقل، كانت سببًا في رِدَّة طائفةٍ من النصارى، ورفضها للمسيحية. وتاريخُ الحروب الصليبية شاهدٌ على دَمَويةِ وعنفِ وإرهابِ

المسيحيين، منذ أيام الحاكم الروماني "قسطنطين"، و"نيرون"، واضطهاد الكاثوليك -حِزب البابا- للأرثوذكس في مصرَ وغيرها، والآريوسيين .. وما حَدَث في حقِّهم من مجازِرَ أمرٌ لا يخفى. - كما أن محاكمَ التفتيش في أسبانيا -والتي قُتل فيها مئاتُ الآلافِ من المسلمين على الهُويَّةِ الإسلاميةِ، تَركت نَدبةً سوداءَ في تاريخِ أوربا المسيحية. - ومِثلُها ما حَدَث من تطهير عِرقيٍّ في البوسنة، وتحديدًا في "سربرنتشا"، تحتَ سَمع وبصرِ -بل وعَون- "النيتو"، و"الأمم المتحدة"، و"دول أوربا"، و"أمريكا"، سُفك الدمُ الحرامُ لما يَزيدُ عن ثمانيةِ آلافِ مسلم، قُتلوا بدمٍ بارد، ودُفنوا في مقابر جماعية، هذا عَدَا إجرام أمريكا الصليبية في أفغانستان، والعراق، حيث قُتل مئات الآلاف. فبعدَ كلِّ هذا، ألاَّ يستحي البابا من اتهامِ المسلمين بالعنفِ واللاعقلانية؟!. وألم يَجِدِ الذين غَضِبوا من تصريحِه حلاًّ لرد الاعتبار سوى المطالبةِ بالاعتذار؟!. إن صفحةَ المسيحيين سوداءُ مُخزيةٌ مليئةٌ بالإجرام، كان يكفي هؤلاءِ المُخلِصين أن يُسلِّطوا الضوءَ على إحداها، بدلَ المطالبةِ بالاعتذار، الاعتذارُ يُعطيه قيمة، ويُرسَّخُ مفهومَ التساوي والسكوتِ عن بيانِ الحق فيهم، وهذه هي الداهية. كان عليهم بعدَه التعريجُ على محاسِنِ الإسلام، وصنائعِه المباركةِ في

العالم وتاريخِه أجمعَ، حتى شَهِد بعَدلِه وبِرِّهِ وإحسانِه وقِسطِه المنصفون من أتباع الديانات، من كاثوليك، وأرثوذكس. إنها لفرصةٌ تاريخيةٌ لإحياءِ الدعوةِ إلى الإسلام من جديد في العالَم كلِّه، وفضَحِ الدينِ المسيحيِّ في عقيدته وتاريخِه كان من الواجب استغلالُها؛ بنشرِ المؤلَّفات الميسَّرة للذكر والفهم، بكافةِ اللغات، وبالبرامج والمحاضرات والندوات الفضائية المكثَّفة، على نِطاقٍ شاملٍ وواسع؛ لتكونَ تصريحاتُ البابا أداةَ وصولِها إلى الأسماع في الأصقاع. لكنْ وبدلاً من ذلك، اتَّجه الحلُّ إلى المطالَبة بالاعتذار، واستَنفدَ هؤلاء المُخلِصون جَهدَهم ورأيَهم وكلِمَتَهم فيه، مع تمنُّعٍ وتمتُّعٍ نصرانيٍّ بهذا الإلحاح، ثم لم يَخرجوا من البابا بشيءٍ يُذكر، ففي كلِّ مرةٍ يخرجُ فيها، يُربِّتُ على أكتافِ الغاضبين، يُهدِّئُ من رَوعهم، ويقولُ لهم كمُعلِّم: "هذه الحقيقة، فاسمعوها، ولو غضبتم .. فنحن نعمل على ترشيدكم وترقيتِكم إلى ما هو أسمى"!!. هذا هو معنى أَسَفِه من سُوءِ فَهم المسلمين كلامَه، وعدم اعتذاره. لدينا خللٌ في التعاطِي مع المخالِفين، بين مَن لا يَرى إلاَّ السيفَ معهم حلاًّ وحيدًا، وبين مَن لا يَرى سوى التقاربِ والكفِّ حتى عن بيانِ الحق فيهم، تحت ذرائعَ شتى. لكن أين مَن يقولُ لهم: نحن لا نتعدَّى عليكم، لكنَّ دينَكم باطل .. نحن لا نَظلِمُكم، لكنكم ضالُّون .. نحن نحبُّ لكم الخيرَ، فتعالَوا إلى الإسلام .. أنتم في شقاءٍ، فتعالَوا إلى الراحةِ والنعيم .. أنتم في ضِيقٍ

وقفات مع اقتباسات بنديكت

وظُلمة .. فتعالَوا إلى السَّعَةِ والنور؟! وصَدَق الله تعالى إذا يقول: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]. اهـ. * وقفاتٌ مع اقتباساتِ بنديكت: ° قال مهران ماهر عثمان نوري: "الحمد لله رب العالمين، والصلاةُ والسلام على خيرِ المرسَلين وخاتمِ النبيين، وعلى آلِهِ وصَحبِهِ أجمعين، أمَّا بعد: فإن أُمةَ الإسلام لم تَنْسَ الجريمةَ النكراءَ التي وَقعت فيها الدنمارك، حتى فُوجئت بإساءةٍ ألمانيةٍ جديدةٍ لنبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - ولدينِ الإسلام. فقد قام أكبرُ رَمزٍ ديني كاثوليكيٍّ -وهو البابا الكاثوليكي "بنديكت السادس عشر"- بإلقاءِ محاضرةٍ يومَ الثلاثاء التاسعَ عَشَرَ من شعبان 1427 بعنوان "العقل والإيمان" .. حيث لا عَقلَ ولا إيمان!. ° لا عَقلَ لما يلي: 1 - يعتقدون أنَّ الإلهَ يمكنُه أن يُولَدَ كما يولَدُ البشر من فَرْج المرأة!. 2 - يقولون: "إن الأصغرَ يحوي الأكبر"، فعندهم أن رَحِمَ مريمَ -وهي ناسوت- احتوى على عيسى -عليه السلام- وهو لاهوت-. 3 - يعتقدون أن أعداءَ عيسى -عليه السلام-: صَلَبوه وأبُوه لم يفعلْ شيئًا. 4 - عندهم أن عيسى صُلب حتى يُخلَّصَ اللهُ الناسَ من الخطيئة. باللهِ عليكم لو أن لوالدٍ ولدَيْنِ أذنَبَ أحدُهما فعاقب الأبُ الآخرَ، ما تقولون في هذا الوالد!!. 5 - لو سلَّمنا بأنَّ عيسى -عليه السلام- صُلب -ولا نُسلَّم- لكان الأجدرُ أنْ

أما الوقفات

يُمتَهَنَ الصليب -رمزُ صَلبِ إلههم- لا أنْ يُكرَمَ ويُوضَعَ على الصدور. 6 - يعقلون أن إلهًا يطارَد ويُصلَبُ ولا يَقدِرُ على دَفع السوء عن نفسه. ° وأمَّا لا إيمان، لأنه كافرٌ بعيسى -عليه السلام-، فنحن نعتقدُ أن مَن كَفَرَ برسولٍ واحدٍ، فقد كَفَر بكل المرسلين. جاء في هذه المحاضرة اقتباساتٌ اقتبسها من حوالي بين إمبراطورٍ بيزنطيٍّ وزعيمٍ فارسيٍّ في القرنِ الرابعَ عَشَرَ عندما حاصر المسلمون القسطنطينية، وأقِفُ مع اقتباسين: الأول: قول البيزنطي للفارسي: "أرِني الجديدَ الذي جاء به محمد، سوف لن تَجِدَ إلاَّ الشرَّ واللاإنسانية". الثاني: فكرةُ الجهاد تخالفُ إرادةَ الله. وكلُّ من اقتبس كلامًا وسلَّم به، فله حكمُ قائلِه. ولي حيالَ هذا الكلام وقفاتٌ، وسؤالٌ، وتنبيهٌ. أما الوقفات: 1 - أما الجديدُ الذي أقرَّ البابا أنَّه لا يُوجدُ فيما جاء به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، فهذا يدل على جهلٍ مُطبَقٍ بسيرةِ هذا النبيِّ العظيم، وأُذَكِّرُه بجديدٍ واحدٍ فقط .. لقد بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - في قومٍ كانت الحروبُ تَنشَبُ بينهم لأتفهِ الأسباب، كان القريبُ يقتلُ قريبَه على مَورِدِ الشاة، فلما بُحث النبي - صلى الله عليه وسلم - اسمع إلى الجديدِ يا أيها البابا- لَمَّا بُعث كان حالُهم كما قال أنس بنُ مَالِك": قدم عبد الرحمن ابن عوفٍ، فآخَى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهُ وبين سعدِ بن الربيع الأنصاري، وعند الأنصاري امرأتَان، فعَرَضَ عليه أن يُنَاصِفَهُ أهلَه ومالَه، فقال: بَاركَ اللهُ

لك في أهلِكَ ومَالِكَ، دُلُّونِي على السُّوق". إلى هذا الحدِّ آتت الأخُوَّةُ الإيمانيةُ التي غَرَس بِذرَتَها نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - في نفوسهم ثمارَها. 2 - وأما الشر، فأي شرٍّ يُنسب إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ أيُّ شرٍّ يُنسَبُ إلى نبي ضَمِنَ اللهُ له إجابةَ دعوةٍ، وكان بالإمكان أن يَخُصَّ بها نفسه، أو يدعو بها للمؤمنين ويُشركَ نفسه معهم .. ولكنه رسولُ الله، الرحمةُ المهداة .. عيسى -عليه السلام- تعجَّل دعوته، وجميعُ الأنبياء تعجَّلوها، إلاَّ رسولَنا - صلى الله عليه وسلم -، تأمَّل ماذا قال .. قال: "لكل نَبيٍّ دَعْوَةُّ مُستَجَابَةٌ فتَعَجَّلَ كل نَبيٍّ دَعْوَتَهُ، وإني اخْتَبَأتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأمَتِي يَوْمَ القَيامَة، فهيَ نَائِلةٌ -إنْ شاء اللهُ- مَنْ مَاتَ مِنْ أمَّتِي لا يُشْرِكُ بالله شيئًا" (¬1). وإذا رَحِمْتَ فأنتَ أمٌّ أَو أبٌ ... هذانِ في الدنيا هُما الرُّحَماءُ 3 - وأمَّا قوله: "واللاإنسانية"، فأكتفي بإيرادِ حديثٍ واحدٍ لا علاقةَ له بالإنسانية! ولكنه يَدحضُ فِريةَ اللإنسانية هذه!!: عَن نافع عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "عُذِّبتِ امْرَأَةٌ في هرَّةٍ سَجَنتهَا حَتى مَاتَتْ، فَدَخَلتْ فيهَا النَّارَ، لا هي أطعَمَتْها وسَقتْهَا إذ حَبَسَتْها، ولا هِي تَرَكتهَا تأكُلُ مِنْ خَشَاش الأرْضِ". هذا في هِرَّةٍ .. فما بالُك بمَن يدخلون في إطار "الإنسانية"!!. لقد أخبَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن مَن قَتل كافرًا معاهَدًا، فلا يمكنُ أن يَدخلَ الجنَّة، أمَا عَلِم المسكينُ المقتبِسُ بهذا الكلام. ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم.

4 - وأمَّا اقتباسُه الثاني الذي أقره "فكرة الجهاد تخالِفُ إرادة الله" .. فأقول: نعم يا "بيندكت"، ما فَعَله الصِّربُ في البوسنة يوافقُ إرداةَ الله؟ اغتصابُ الروس لأخواتنا في الشيشان يوافقُ إرادةَ الله؟ غزوُ أمريكا للعراق وجرائمُها في "أبي غريب" يوافق إرادة الله؟ قتلُهم للمدنيِّين في أفغانستان يوافق إرادة الله؟ أمَّا أن ندافعَ عن أنفسِنا، وندحرَ عدوَّنا فهذا أمرٌ يخالفُ إرادةَ الله، ثم تُحدِّثُنا عن العقل يا .. يا بابا. سؤال أطرحُه على "الحَبْر الأعظم"!! أوَ مَا قرأتَ ما قاله "رودي بارد"، الذي ينتمي إلى طائفتِك وبلدك، فهو ألمانيٌّ كاثوليكي، يقول: "كان من بين مُمثِّلي حركةِ التنوير مَن رأوا في النبيِّ العربي أدلَّةَ الله، ومُشرِّعًا حكيمًا، ورسولاً للفضيلة، وناطقًا بكلمةِ الدين" ["الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية" (ص 15)]. هذا قولُ عُقلائكم في بلادِكم من طائفتكم في عدوِّكم. ° وأختمُ بعزاءٍ فيه تسليةٌ لمحبِّي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كلمةٌ مشرقةٌ تُكتبُ بماءِ العَين على جِدارِ القلبِ، سطَّرها التاريخ للإمام السَّعدي، قال -رحمه الله -: "قال تعالى: {إِنا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}: بك وبما جئت به، وهذا وَعدٌ من اللهِ لرسوله أنْ لا يضرَّه المستهزئون، وأن يَكفيَه اللهُ إياهم بما شاء من أنواع العقوبة، وقد فعل تعالى، فإنه ما تظاهَرَ أحدٌ بالاستهزاءِ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به، إلاَّ أهلكه الله وقَتَله شر قِتلة" (¬1). * {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}. ¬

_ (¬1) "تفسير السعدي" (ص 435).

{وما تخفي صدورهم أكبر}

{وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} ° الحمدُ لله، والصلاة والسلامُ على رسول الله محمد، وعلى آله وصحابته ومن والاه، أما بعد: فإن كتابَ الله -تعالى- فيه خَبَرُ ما قبلنا، ونَبَأُ ما بَعدَنا، هو الجِدُّ ليس بالهَزْل، مَن أنزله مِن نفسِه هذه المَنزلةَ نَفَعه اللهُ بما فيه، وسَعِد به في الدنيا والآخرة، وعَرَف صديقَه من عدوِّه، وتمكَّن من إفسادِ مُخطَّطات" الأعداءِ بمجردِ متابعتِه، حتى ولو لم يَعلمْ بهذه المخطَّطات، وقد أظهر اللهُ -تعالى- في كتابِه كثيرًا مما يريدُه بنا أعداؤُنا من أهلِ الكتاب، حتى لقد بَدَتِ البغضاءُ من أفواههم، لكنْ رغمَ كثرةِ هذه الظاهرة؛ فما تُخفي صدورهم أكبر. * قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118]. ثم يُعقِّبُ القرآنُ على تلك الحقيقةِ الثابتةِ في عَداوةِ أهلِ الكتاب للمسلمين: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118]. فتبيَّن أن الذين يَتبيَّنُ لهم عداوةُ الكفارِ للمسلمين هم الذين يَعقلِون، وأنَّ مَن غابت عنهم هذه الحقيقةُ فهم من ناقِصِي العقل. ° يقول ابنُ كثير -رحمه الله تعالى-: "قال تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118]، أي: قد لاح على صَفَحاتِ وجوههم، وفَلَتاتِ ألسنتِهم من العداوة، مع ما هم مُشتمِلون عليه في صدورِهم من البغضاء للإسلام وأهله، ما لا يخفى مِثلُه على لبيبٍ

عاقل؛ لهذا قال: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] (¬1). ° وقال القرطبي: "قوله تعالى: {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}، إخبارٌ وإعلامٌ بأنهم يُبطِنون من البغضاءِ أكثرَ ممَّا يُظهِرون بأفواههم". وقد ظَهرت في هذه الأيام مِن بعضِ المسلمين اتجاهاتٌ تحاولُ تبرئةَ الكفارِ أعداءِ الله ورسولهِ من كل هذه الأمور التي أثبتها القرآنُ لهم، فزَعَموا أن هذه الأحكامَ كانت في أولِ الأمرِ حين كانت العلاقةُ بين الإسلام وبين مخالِفيه متوتِّرةً، ولكنْ بعدَ استقرارِ الأوضاع عادت العلاقاتُ بين المسلمين وبين مخالفيهم من أهل الكتاب إلى مَجراها الطبيعيِّ من حيثُ التعاونِ من خلال التعدُّدية التي هم عليها، فكانت هذه الاختلافاتُ مَدعاةً للتعاون والتكامُل، وليس التناحرَ والتطاحن. فها هم يَقفِزون على كلِّ النصوصِ الشرعيةِ وكلِّ حقائقِ التاريخ، في سبيل ترويجِ هذه الفِرية، لكن اللهَ -تعالى- يأبى إلا أن يكشفَ خَطَلَهم وخَلَلَهم من خلالِ الوقائعِ التي لا يُماري في دلالتها إلاَّ الذين لا يَعقلِون. * فقال -تعالى-: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]. فالله -تعالى- يُري الناسَ مِن الدلالاتِ والعلاماتِ التي يتبيَّنُ بها أن ما أخبَرَ به -سبحانه- حقٌّ وصدقٌ لا يَتخلَّف؛ لأنَّه كلامُ مَنْ هو بكل شيءٍ عليم. ¬

_ (¬1) "تفسير ابن كثير".

° قال ابنُ كثير -رحمه الله تعالى-: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ}، أي: سنُظهِرُ لهم دلالاتِنا وحُجَجَنا على كونِ القرآن حقًّا منزَّلاً من عند الله -عز وجل- على رسولِه - صلى الله عليه وسلم - بدلائلَ خارجيةٍ {فِي الآفَاقِ} من الفتوحاتِ وظهورِ الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان" (¬1). ° وقد تواتر من العلاماتِ والدلالاتِ على مَدارِ التاريخ ما يُبيِّنُ أنَّ ما أخبَرَ اللهُ -تعالى- به في هذه القضيةِ هو الحق؛ فهناك الحمْلاتُ الصليبيةُ التي استمرَّت قرنَين من الزمان، حاول فيها أهلُ الكتاب النَّيلَ من الإسلام؛ لكنها -بفضل الله- اندَحَرت بعد طُولِ مواجهات، ثم جاءت فترةُ الاحتلالِ العسكريَّ تحت مسمَّى "الاستعمار"، والتي ظَلَّت ما يَقرُبُ من قرنَينِ من الزمان، ولم تتوقفْ في تلك الفترة الحَمْلاتُ التنصيريةُ على المسلمين، حتى إن جَهْدَهم في تنصيرِ المسلمين وإخراجِهم من دينِهم أكبرُ من جَهدِهم في دعوةِ الوثنيين إلى دينهم، ومع دخولِ التقنيات الحديثةِ في وسائل الاتصالِ لم تنقطعْ حَملاتُهم من خلالِ الطعنِ في الإسلام وفي رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فها هي القنواتُ التنصيريةُ الموجَّهةُ إلى المُستمع المسلم، ثم ها هي عملياتُ الغزوِ والاحتلالِ لبلادِ المسلمين، التي لم يَخْجَلْ مَن يقومُ بها بتسميتها باسمِها الصريح وهو "الحرب الصليبية" -وإن كان هناك مِن بنِي جِلْدَتِنا مَن يحاولُ أن يُخرجَ تلك الألفاظَ عن ظاهرها-، ثم ها هي الحملاتُ الإعلاميةُ للقَدحِ في رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وما خَبَرُ الصورِ القبيحةِ التي رسمتها الصحيفةُ الدانماركيةُ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - خيرِ الورى، ثم تَبِعَتْها فيه كثيرٌ من صُحف ¬

_ (¬1) المصدر السابق.

النصارى في سباقٍ محموم، حتى وَصَل الأمرُ أن يَخرُجَ زعيمُ النصارى وكبيرُهم ورأسُ المشركين وعابدي الأوثانِ ليُعلِنَ ويُصرِّحَ بالقَدحِ في الإسلام وفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والمسلمون في مشارِقِ الأرض ومغارِبها يؤمنون برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأن ما جاء به هو الحقُّ، وأن هذه الأقوالَ الفاسدةَ التي يتقيَّؤُها كبيرُ النصارى -ومَن هم على شاكلته- لن تؤَثِّرَ في يقينهم وإيمانهم، وهم لا يحتاجون بعدُ حتى إلى جوابٍ عن تلك الشبهات. والإسلام لم يَنتشرْ بين الناس بحدِّ السيف -كما يُروِّجُ لذلك مَن يُروِّجُ له-، وإنما انتَشر بين الناس لمَا حواه من الحقِّ الذي لا تَملِكُ معه النفوسُ السوية والقلوبُ السليمةُ إلاَّ التسليمَ والإذعانَ والقبولَ به عن رضًا واختيار، وإلاَّ فلْيقلْ لنا هؤلاء: كيف آمَن أبو بكر - رضي الله عنه - وغيرُه من سادات المسلمين؟ بل لِيَقُلْ لنا هؤلاء: كيف آمنَ النجاشي مَلِكُ الحبشةِ في زمنِ البعثة، قَبلَ أن يُفرَضَ الجهادُ وهو في بُقعةٍ بعيدةٍ من الأرض لا تنالُه فيها جيوشُ المسلمين ولا سيوفُهم؟ بل كيف آمَنَ عبدُ الله بنُ سلام الحَبرُ اليهوديُّ مع مَقْدَمِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينةِ بمجردِ رؤيتهِ ومعرفتهِ بالعلاماتِ التي دَلَّ عليها كتابُهم، وغيرُ هؤلاء من كبارِ القومِ الذين دَفَعهم ما في الإسلام من براهينَ قطعيةٍ على صِدقِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى صوابِ ما جاء به إلى الإيمانِ به والدعوةِ إليه، وليكونوا من جُنوده الأوفياء؟. إن الإسلامَ لم تكن منه حربٌ واحدةٌ من أجل استعبادِ الناسِ وسَرِقَةِ خيراتهم واحتلالِ بلادهم، وإنما كان الجهادُ فيه من أجلِ إعلاءِ كلمةِ الله

تعالى ولإخراجِ الناسِ من ظُلمةِ الجهالةِ إلى نورِ الحقِّ واليقين، وقد تَجشَّم المسلمون في سبيلِ هدايةِ الناسِ وإخراجِهم من الظلماتِ إلى النورِ الكثيرَ من الصِّعاب؛ فما أحسَنَ أثَرَهم على الناس، وأقبَحَ أثرَ الناس عليهم!. إن جيوشَ المسلمين -التي كانت تَخرجُ في سبيل الله- كانت تخرجُ لإخراج العِبادِ من عِبادةِ العبادِ إلى عِبادة ربِّ العباد، ومن جَورِ الأنظمةِ القائمةِ إلى عَدلِ الإسلام؛ فلم تؤمنْ بلدةٌ أو مَحِلَّةَ وكانت من المسلمين إلاَّ كان لها ما للمسلمين، وعليها ما على المسلمين دون أدنى فرقٍ، بل كان المسلمون يولُّون على أهلِ الأرض المفتوحة أمراءَهم الذين كانوا عليهم قبلَ دخولِ الإسلام، فلم يكن جهادُ المسلمين لاستعبادِ الناسِ، أو العلوِّ بالباطل عليهم، أو سرقةِ خيَراتِ بلادهم. ° أخرج البخاري في "صحيحه" أن مَيْمُونَ بن سِيَاه سأل أنس بن مالكٍ قال: "يا أبا حمزةَ، ما يُحرِّمُ دم العبدِ ومالَه؟ فقال: من شَهِد أن لا إله إلاَّ اللهُ، واستقبَلَ قِبلتَنَا، وصلَّى صلاتَنَا، وأكلَ ذَبِيحتَنَا فهو المسلمُ، له ما للمُسلم، وعليهِ ما على المُسلم". لِيَقُلْ لنا كبيرُ النصارى -ومَن سار على طريقه-: أيُّ معركةٍ قام بها أتباعُه من أجل إقامةِ حقٍّ أو دفع باطل؟ ولْيَقُلْ لنا: ما المُسوِّغُ الذي استباحت فيه النصرانيةُ قَتلَ مئاتِ الآلاف من اليابانيين بالأسلحةِ التي يَسْعَون لحرمانِ مُخالِفيهم منها؟ وما المُسوِّغُ الذي استباحت به النصرانيةُ قَتلَ الهنودِ الحُمْرِ أصحابِ البلادِ الأصليين والاستيلاء على بلادِهم وديارِهم وأراضيهم وسَلْخِهم كما تُسلَخُ الشاةُ وهم أحياء؟ بل ما المُسوِّغُ الذي استَباحت به النصرانيةُ طَرْدَ شعبِ فِلسطينَ من أرضِه وإعطاءَ دُورهم

وبلادِهم لليهود ومعاونتَهم بكلِّ سبيلٍ على التمكُّنِ من الأرضِ المسروقة، حتى يَندُرَ أن يمرَّ يومٌ لا يَقتلُ اليهودُ فيه فلسطينيًّا أو جماعةً من الفلسطينين؟ بل ما المُسوِّغُ الذي استباحت به النصرانيةُ الهجومَ على البلاد الأفريقيةِ واختطافَ أهلِها منها وجَلْبَهم إلى بلادِ النصارى وبَيْعَهم في أسواق النِّخاسة كما تُباعُ الماشيةُ ليكونوا لهم عبيدًا؟. والإسلامُ كان وما زال دعوةً إلى الخيرِ والبُعدِ عن الشر. ° يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يتكلَّمُ به عن الله تعالى-: "والشرُّ ليس إليك"، فأقوالُ ربنا وأفعالُه وما شَرَعه للناس ليس فيه شرٌّ، بل فيه الخيرُ كل الخير، ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون. لكن لِيَقلْ لنا كبيرُ النصارى المُشرِكُ عابِدُ الأوثان: هل هناك شرٌّ أكثرُ مِن عقيدةٍ تزعمُ أن اللهَ -تعالى عما يقولون- قَتَل ابنَه ليُخلِّصَ الناسَ من الخطيئة؟ فأيُّ رحمةٍ أو خيرٍ فيمن يَقتُلُ ابنَه ليُخلِّصَ غيرَه من الخطايا والذنوب والآثام؟ وإذا كان إلهُهم عندهم على كل شيءٍ قديرًا؛ فما الذي أحوَجَه إلى التضحيةِ بابنه لتكفير الخطايا؟ أَلاَ يَستطيعُ ربُّهمِ وإلهُهم أن يُكفِّرَ خطاياهم بغيرِ هذا الطريقِ الدَّمَويِّ الذي يدلُّ على أن دين هؤلاء قائمٌ على سَفكِ الدماءِ بالذرائع الكاذبة، وهو ما يُثبِتُه الواقعُ في تعامُلِهم مع مخالفيهم حتى مِن بني مِلَّتِهم؟. لكننا نعودُ ونقول: ما الذي جَرَّأ هذا المُشرِكَ الضالَّ عابدَ الأوثانِ على إظهارِ الطعنِ في دين الإسلام ورسولِ ربِّ العالمين؟. قد لا يكونُ مستغربًا أن يَكفُرَ أهلُ الكتابِ بالإسلام رَغمَ ما في كُتبهم من البِشارةِ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قد لا يكونُ مستغربًا أن لا يُحبَّ أهلُ الكتابِ

رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - .. قد لا يكون مستغربًا أنْ يَكرَهَ أهلُ الكتابِ دينَ الإسلام، وأن يَحقِدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أبان شِرْكَهم وضلالَهم وانغماسَهم في ظُلماتِ الجهل، والذي أخرج بالحق الأبلج -الذي جاء به مِن ربه- كثيرًا من النصارى من ديانتِهم الباطلةِ إلى دينِ الحق، والذي أزال مُلْكَهم عن كثيرٍ من البِلدان والمَمَالِكِ التي تَسلَّطوا عليها ظُلمًا وقَهْرًا، والذي ما زال حتى الآن -رغمَ ضَعفِ أتباعه- يُخرج كثيرًا من نوابغ العلماءِ منهم ومِن غيرِهم بالحق الذي احتَواه -يُخرِجُهم مِن كفرِهم وضلالِهم إلى توحيدِ اللهِ -عز وجل- ونَفيِ الشريكِ والصاحبةِ والولدِ، الذي تُثبتُه ديانةُ النصارى. لكن لماذا تجرَّأ كبيرُ المشركين في العالَم ورأسُ عابدي الأوثان على إظهارِ ما بداخلهم من الحقدِ والغَيظِ والكُرهِ للاسلام، وكانوا من قبلُ يُخفُون كثيرًا منه؟. إنَّ ما حَدَث لم يكن زَلَّةَ لِسانِ أو سُوءَ فهم، وإنما هو عن عَمدٍ وإصرار، والذي نراه اليومَ ما هو إلاَّ جُزءً من حَربٍ يَشُنُّها النصارى في العالَم على الإسلام، يُشاركُ فيها السياسيون والفنانون والإعلاميون والقساوسةُ والرهبان. ولسنا في حاجةٍ إلى التذكير بأن أهلَ العهدِ إذا كان لهم عهد عند المسلمين فإن عَهدهم يُنتقضُ بإظهارِ الطعنِ في دين الإسلام، ولسنا في حاجةٍ إلى الرد على سخافاتِ هذا الجاهل الكبير؛ فإن كلماتِه أحقرُ من أن يتكلَّفَ المسلمُ الردَّ عليها، بل هو من أوائل مَن يَعلمُ كَذِبَها وبُطلانَها. فهل أظهَرَ كبيرُ المشركين في العالَم هذا الطعن؛ لأنه رأى أن حُكَّامَ المسلمين لا يَشْغَلُهم غيرُ الحِفاظِ على كراسيِّهم، وأنهم حريصون بكل سبيلٍ

على التقرُّبِ من كبيرِ رُعاةِ البقر، وإظهارِ المودَّةِ له، وعدم إغضابه -ولو على حساب دينِهم وأوطانِهم وشعوبِهم-؟ هل أظهَرَ ذلك لأنه رأى مِن كثير مِن علماء الدين التهالُكَ على حُطامِ الدنيا ومتابعة -السياسيين في بلادِهم وتسويغَ كل تَصرُّفاتهم؟ وهل أظهَرَ ذلك؛ لأنه رأى ضَعْفَ الشعوبِ وعَدَمَ قدرتِها على الاستمرارِ في عمل يُهدِّد النصارى أو يُضيِّقُ عليهم؟ فهذه المقاطعاتُ الشعبيةُ لا تَلبثُ أن يَخْمَدَ لَهيبُها بالالتفافِ عليها من قِبَل بعضِ الناسِ، حتى تُصبحَ المقاطعاتُ غيرَ ذاتِ جدوى. وهل أظهر ذلك لأنهم عَلِموا أن القوةَ الماديةَ التي تَحسِمُ كثيرًا من نتائج الحروب صاروا هم صُنَّاعَها والمالكين لتقنِيَتِها، وأن المسلمين ليس عندهم من وسائِلها إلا ما يشترونه من دُولِ الكفر، وأن الأسلحةَ التي تشتريها دولُ المسلمين ليست للدفاع عن العقيدة، وإنما للدفاع عن كراسيِّ الحكم المهزوزةِ في كثيرٍ من البلدان؟. إذا كان السببُ هو أحدَ هذه الأسبابِ المتقدمةِ أو كلَّها مجتمعةً، أو غيرَ ذلك من الأسباب، فإننا -بمجموع الأمة- مدعوُّون بكل قوةٍ إلى الثبات على دينِنا والمحافظةِ عليه والرد على الطاعنين فيه، وتأديبِهمُ التأديبَ اللائقَ المُوجعَ الذي يَعلمون به أن الطعنَ في الإسلام ليس مجردَ نزهةٍ فكرية. إن طَلَبَ الاعتذارِ ممن يَسُبُّ دينَنا ورسولَنا - صلى الله عليه وسلم - في ظِل ضَعْفِنا وتخاذلِنا عن نُصرةِ دينِنا، لا يَعدُو أن يكونَ مُجردَ استعطافٍ لهم، وهل يكفي في هذا اعتذارٌ حتى لو فعلوه؟ إن مَن لا يَملِكُ القدرةَ على العقاب، فكيف يَعتذرُ له اللئامُ عن خطيئاتهم؟.

انتشار النصرانية بالسيف

فهل يَعي المسلمون الدرسَ، وَيعرِفون حقيقةَ أعدائهم، أم لا يزالُ كثيرٌ منهم يَسبحُ في أوهامِ حواراتِ الأديانِ والتحالفِ من أجل مقاومةِ اللادينية؟. نريدُ اليومَ مشروعًا عَمَليًّا قابلاً للتنفيذِ والبقاءِ والتأثير، وليس مجردَ هَبَّةٍ أو غَضْبَةٍ بحَسَبِ الظروفِ والأحوال، ولا مَندوحةَ عن الوصولِ إلى ذلك المشروع، فهل نتداعى جميعًا من أجل أن يرى هذا المشروعُ النورَ، وأن ننصرَ ديننَا وكتابَنا فنعملَ به ونحكِّمَ شريعتَنا في الدقيقِ والجليل، ونؤدِّبَ كل مَن تُسوِّلُ له نفسُه الضالَّةُ المنحرفةُ عن سبيل الهدى أن يقتربَ من حياض الإسلام؟ {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40] (¬1). * انتشارُ النصرانية بالسَّيف: ° قال الأستاذ الدكتور "جعفر شيخ إدريس" في مقاله بمجلة "البيان" عدد (230): "نقل البابا عن الإمبراطور البيزنطيِّ كلمتَه الفاجرةَ التي قال فيها لمن زَعَم أنه مُحاوِرُه: "دُلَّني على شيءِ جاء به محمدٌ كان جديدًا ولن تجدَ إلا أشياءَ شريرةً وغيرَ إنسانية، مثلَ أمرِه بأن تُنشرَ العقيد التي جاء بها بالسيف، إن اللهَ لا تَسُرُّه الدماءُ ولا تَسُرُّه التصرفاتُ غيرُ العقلية". فقلت سبحان الله! رَمَتْني بدائها وانسلَّت، وهل عَهِدَ الناسُ أهلَ دين هم أبعدُ عن العقلانية وأكثرُ ولوغًا في الدماء وفي ظُلم العِباد من المنتسبين إلى ما يُسمُّونه بالمسيحية؟!. رَدَدْتُ على السخافات التي جاءت في محاضرة البابا كما ردَّ عليها ¬

_ (¬1) مجلة البيان- العدد (230 ص 6 - 8).

كثيرون غيري من المسلمين وغيرِ المسلمين (¬1)، وبينَّا أن الحروبَ التي خاضها المسلمون كانت حروبًا ضدَّ الظلم، الظلم بكلِّ أنواعه، ظُلم المعتدين على المسلمين، وظلم الصادِّين الناسَ عن الدين، وظُلم الناقِضين لعهودٍ أبرموها مع المسلمين، ولم تكن أبدًا لإدخالِ الإيمانِ كُرهًا في قلبِ أحدٍ من العالمين. وبينَّا أنهم لم يحاولوا ذلك؛ لأنهم عَلِموا مِن دينهم أن الإيمانَ مسألةٌ قلبية، وأنه لا مخلوقَ له سلطان على قلوب العباد. لكننا في هذا المقال نودُّ أن نقولَ للبابا: إنه كان يَجدُرُ به أن يتكلمَ عن العنف الذي استَعمله قومُه الغربيون على مرِّ الزمانِ لإكراه الناس على قبولِ دينهم وثقافتهم، ولا نريدُ أن نفعلَ كما فَعَل هو حين استَشهد على افترائه بشهادةِ رجلٍ من بني دِينه عدوٍّ حاقدٍ مغلوب، لن نستشهدَ على زَعمنا بشهادةِ رجالٍ مسلمين، وإنما سنُشهِد عليه شهداءَ من غيرِ المسلمين، فنقول: أولاً: هذه هي المؤرِّخة الشهيرة ( Karen Armstrobg كيرن آرمسترونج) تكتُبُ ردًّا على محاضرة البابا تبين فيها: 1 - إن زَعمَ رجالِ الفاتيكان بان غَرضَ البابا هو "أن يُنمِّي اتجاهَ احترامٍ وحوارٍ نحوَ الأديان والثقافات الأخرى، ومن البديهي نحوَ الإسلام" ليس أمرًا واضحًا في كلماتِه .. وتُشبِّهُه في هذا برجل دينٍ مِثلِه في القرنِ الثاني عَشَرَ وَجَّه رسالةً إلى المسلمين بدأها بقوله: "إنني أريدُ أن أُواصلَكم بالكلماتِ لا بالسلاح، وبالعقل لا بالعنف، بالحبِّ لا بالبغض". ¬

_ (¬1) تجدُ كثيرًا من هذه الردود في موقع "النُّصرة- Ncsrp. com".

لكنه جَعل عنوانَ رسالتِه "مُلخَّص لهرطقة العرب الشيطانية كلها"، وتحدَّث فيها عن "قسوة الإسلام الحيوانية"، وزَعم أن محمدًا وطَّد أمرَه بالسيف: "هل كان محمدٌ نبيًّا حقًّا"؟ تساءل ثم أجاب: "سأكونُ أسوأَ من حمارٍ إذا وافقتُ، أسوأَ من الأنعام إذا أقررتُ". 2 - تُنكِر المؤرخةُ أن يكونَ الإسلامُ قد انتَشر بالسيف، وهي صاحبةُ كتابٍ بالإنجليزية عنوانه "موجز لتاريخ الإسلام" AShort History of Islam. 3- وتُذكِّر البابا "بأن بعضَ الصليبيين الأوائل بدؤوا رِحلتَهم إلى الأرضِ المقدَّسةِ بذَبحِ كل الجماعاتِ اليهوديةِ الساكنةِ على ضِفافِ نهر "الراين"، وأنهم أنهَوا حَربَهم الصليبيةَ في عام 1099 بعد أن ذَبحوا ثلاثين ألفَ مسلمٍ ويهوديٍّ في القدس". ثانيًا: كَتب رئيسُ حركة الإسلام الإسرائيلية "يوري أفنيري" الذي وَصف نفسه بأنه يهوديٌّ مُلحِد- ردًّا علميًّا على البابا، ذكر فيه مِن بين ما ذَكَر المسائلَ التالية: 1 - أن الحوارَ المزعومَ أمرٌ مشكوكٌ فيه، وأن الإمبراطورَ لم يَذكرْ لنا اسمَ الرجلِ الذي حاوره. 2 - أن الإمبراطور "عمانيويل الثاني" الذي تولَّى الحُكمَ في عام 1391 كان على رأسِ إمبراطوريةٍ تُحتضرُ؛ إذ لم يَبْقَ لها من محافظاتِها إلاَّ القليل، وكان هذا القليلُ واقعًا تحتَ تهديد الأتراك. 3 - في يوم 29 من شهر مايو عام 1453 وبعد عِدَّةِ سنينَ من موتِ هذا الإمبراطور سَقطت عاصمتُه "القسطنطينية" (إسطنبول) في يدِ الأتراك.

4 - إبَّان حُكمِه تجوَّل هذا الإمبراطور في أوروبا محاولاً أن يُقنعَ الأوروبيين بمساعدتِه ضدَّ الأتراك، وأن يبدؤوا حربًا صليبيةً جديدةً، واعدًا إياهم بأنه سيُوحِّدُ الكنيسة، وأن هذه الرسالةَ كُتبت في هذا الوقتِ لأسباب سياسية. 5 - محاضرةُ البابا "بنديكت السادس عشر" كانت أيضًا خدمةً للإمبراطور الجديد "جورج بوش" الذي يسعى لتوحيد العالَم النصرانيِّ ضدَّ محورِ الشرِّ الذي هو في غالبه مسلم، وضدَّ مجيء الأتراكِ إلى أوروبا. 6 - إن قضيةَ معاملةِ المسلمين لأهل الأديان الأخرى يجبُ أن يُحكمَ عليها بسؤالٍ بسيط: ماذا فَعلوا بهم عندما كانت لهم القدرةُ على إكراهِهم على الإسلام؟ إنهم لم يَفعلوا شيئًا من هذا، لقد حَكم المسلمون اليونانَ لعدَّةِ قرون؛ فهل صار اليونانيون مسلمين؟ لقد تبوَّأ اليونانُ النصارى مناصبَ كبيرةً في الإدارةِ التركية، لقد عاش البلغاريون والصِّربُ والرومانيون والهنغاريون وغيرُهم من الأمم الأوربية تحتَ الحُكم التركيِّ في وقتٍ أو آخَرَ، لكنَّ أحدًا لم يُكرِهْهم على الدخولِ في الإسلام، فظلوا على دينِهم النصراني. 7 - في عام 1099 تَغلَّب الصليبيون على القدسِ، وذَبحوا سُكَّانها من المسلمين والنصارى -في ذلك الوقت-، وبعد 400 عام من الحكمِ الإسلاميِّ كان النصارى ما زالوا أغلبيةً في القطر. 8 - ليس هناك من دليلٍ ألبتةَ على فرضِ الإسلام على اليهود، وكما هو معروفٌ؛ فإن اليهودَ تمتَّعوا تحتَ الحكمِ الإسلاميِّ في أسبانيا بازدهارٍ

ليس له مثيل إلاَّ في ما يُقارِبُ هذه الأيام، كانوا كُتَّابًا وشعراءَ ووزراءَ وعُلماءَ، لقد كان ذاك هو عهدَهم الذهبي؛ فكيف يُمكنُ لهذا أن يَحدُثَ إذا كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد أَمَر بنشر الإسلام بالسيف؟!. 9 - عندما استولى الكاثوليكُ على أسبانيا مرةً أخرى، فإنهم أنشؤوا عهدًا من الرعُبِ الديني؛ إذ إنهم خيَّروا المسلمين واليهود بين أن يتنصَّروا وبين أن يُذبَحوا أو يغادروا البلاد .. أين ذهب اليهودُ الذين فَضلوا البقاءَ على دينهم؟ هاجروا إلى العالَم الإسلامي، وانتشروا فيه من دولةِ "المغرب" في الغرب إلى "العراق" في الشرق، إلى "بلغاريا" (التي كانت تابعةً لتركيا) في الشمال، إلى "السودان" في الجنوب. 10 - إن كل يهوديٍّ مُخلِصٍ يَعرفُ تاريخَ قومِه لا يَملِكُ إلاَّ أن يشعرَ بالعِرفانِ العميقِ للإسلام الذي حَمَى اليهودَ لمدةِ خمسين جيلاً، بينما كان العالَمُ المسيحيُّ يُعذِّبُهم ويُحاولُ إكراهَهم بالسيف على التخلِّي عن دينهم. ثالثًا: إن استعمالَ النصارى للعُنفِ في فرضِ ثقافتِهم على غيرهم لم يَنْتَهِ بنهايةِ القرونِ الوسطى، وإنما هو أمرٌ مستمرٌّ إلى يومنا هذا، استمع إلى "هنتنجتون" وهو يقول في كتابه الشهير "صراع الحضارات" وفي صراحةٍ عجيبة: "لم يَتغلَّب الغربُ على العالَم بتفوُّقٍ في أفكارِه، أو قِيَمِه، أو دينهِ -الذي لم تَعتنقْه إلاَّ قلَّةٌ من أبناء الحضارات الأخرى-، وإنما غَلب بتفوُّقه في العُنفِ المنظَّم، إن الغربيين كثيرًا ما يَنْسَون هذه الحقيقة، لكن غيرَ الغربيين لا يَنسونَها أبداً". رابعًا: إن غَزْوَ الغربِ للعالم باستعمال ذلك العنف المنظَّم كان أمرًا

تواطَأَ عليه كلُّ الناس في الغرب إلاَّ ما نَدُر؛ فها هو الأستاذ "إدوارد سعيد" يُحدثنا في كتابه "الاستعمار الثقافي" Cultural Imperiasm أنه كان أمرًا تواطَأَ عليه السياسيون والمفكِّرون والفلاسفةُ والشعراءُ وكُتَّابُ القَصَصِ الشهيرةِ من أمثال "ديكنز" وغيرهم. ° أقول: ونحن كثيرًا ما نَنسى أمرًا يؤيِّدُ كلام "إدوارد سعيد" هذا: إن الحركةَ الإمبريالية الاحتلاليةَ للعالم كانت بقراراتٍ ديمقراطيةٍ في كل البلاد الأوروبية، وإن حركةَ استجلابِ الأفارقةِ من بلادِهم واسترقاقِهم كانت أيضًا بقراراتٍ ديمقراطية -بينما لم يكن تحريرُهم بقرارٍ ديمقراطي كما يحدثنا "فريد زكريا" في كتابه عن مستقبل الحرية- مما يعني أن غالبيةَ ممثِّلي الأمةِ -بمَن فيهم المتدينون- كانوا مؤيِّدين لها. خامسًا: وهذا "كيفن فيلبس" يُصدِرُ كتابًا جديدًا يُسميه "أمريكا الثيوقراطية" يَذكرُ فيه حقائقَ مذهلةً عن العلاقةِ القويةِ بين الدينِ وسياسةِ أمريكا الخارجيةِ، بل والتأثيرِ الكبيرِ للدين على سياسةِ أوروبا طوالَ القرون. ° من هذه الحقائق: 1 - أن الاستعمارَ الأوروبي للعالَم -ولا سيما العالَمَ الإسلاميَّ- كانت له دوافعُ أو مُسوِّغاتٌ دينية، بل كانت هنالك روابطُ قويةٌ بين التوسُّعِ الإمبراطوري وبين الدُّعاةِ الدينيين .. انظر إلى المبشرين الذي صارت أسماؤهم رموزًا للاستعمار: "ديفيد لفنجستون" المستكشف، الجنرال "غردون" الذي ذُبح في الخرطوم، والجنرال "هنري هيفلوك" (ص 255).

2 - ينقلُ الكاتبُ عن المؤرِّخ "آرثر ماروك" قوله: "إن كبارَ رجالِ الكنيسةِ أقدموا بحماسٍ على "الحرب المقدسة"، وقوله -نقلاً عن قسيس كاتدرائية "سنت جايلز" بأدنبرة-: "إن الكنيسةَ قد صارت إلى حدٍّ مؤسفٍ أداةً في يدِ الدولة، وإنه في كثير من المنابرِ الكَنَسية كان الواعظُ قد تقمَّص مهمةَ الرقيبِ العسكري المكلَّف بالتجنيد، وإن العَلَمَ البريطانيَّ ارتفع على كلِّ أماكن العبادةِ في طولِ البلاد وعَرضَها" (ص 255). 3 - أما الدوافعُ الدينيةُ لبوش وجماعتِه في سياستهم الخارجية -بل والداخلية-، فأمرٌ لا شك فيه -كما يُبيِّنُ الكاتب-، فهو يقول: إنه ثَبَت عن بوش قوله: "أعتقدُ أن اللهَ يتكلمُ بوساطتي، ولولا ذلك لما استطعتُ أن أؤدِّي مهمتي". وينقلُ عن "قوم دي لاي" قوله: "إن اللهَ يستعملُني دائمًا وفي كلِّ مكانٍ للدفاع عن نظرةِ الكتاب المقدسِ العالمية في كلِّ ما أفعلُ وحيثما كنت، إنه هو الذي يُدرِّبني". 4 - قُبيلَ الهجوم الأمريكيِّ على العراق في عام 2003 كَتبت مجلة "نيوزويك" مقالاً عن رِحلة "بوش" من العَرْبدة إلى التدين، ذَكَرَتْ فيه أن الرئيسَ ينغمسُ كلَّ صباح في قراءةِ مواعظَ تبشيريةٍ للواعظ الأسكتلندي المتجول "أوزولد شيمبرز" الذي كان قد قَضى أيامَه الأخيرة في وعظِ الجنودِ الأستراليين والنيوزيلنديين الذين كانوا قد حُشدوا في مصر في عام 1917 تمهيدًا لغزو فلسطين والاستيلاء على القدس في يوم عيد الميلاد. 5 - بعد عامٍ من استيلاءٍ الجيشِ الأمريكيِّ على بغداد كانت هناك ثلاثون منظمةً تبشيريةً، كما وَجدت جريدة "لوس أنجلوس تايمز" في

استطلاع لها أَخبَرَها فيه المديرُ الإداري لرابطة المبشِّرين القومية: "أن العراقَ سيكونُ المركزَ الذي تنتشرُ منه رسالةُ المسيح عيسى إلى إيرانَ وليبيا وكلِّ مكانٍ في الشرق الأوسط". ° وقال مسؤولٌ في منظمةٍ أخرى: "إن الأحوال في العراق: حربٌ من أجل الأرواح". ولهذا فإنه في غُضونِ سنتين انطلقت سبعُ منظَّماتٍ تبشيريةٍ في بغداد وحدها. ° أقول: إن ما يحدثُ في العراق هو ديدنُ الحركةِ الإمبريالية منذ بداياتها، إن قوَّاتِها تكونُ دائمًا هي الحاميةَ للمنظماتِ التبشيريةِ، حَدَث هذا في السودان حينَ انتشرت المنظَّماتُ التبشيرية في الجنوبِ، وكان من نتائج ذلك ما كان، وهي تنتشرُ الآن في "دارفور". ° وأقول: إذا لم يكن كلُّ هذا نشرًا للمسيحية بالسيف؛ فلستُ أدري ما معنى النشرِ بالسيف؟ لقد كنا نُقللُ من أهميةِ الدافع المدينيِّ في السياسة الخارجية الغربية، وأعتقدُ أن الأمرَ -كما يظهر- إنما هو مطامعُ اقتصاديةٌ ونزواتٌ سياسية، لكنَّ عزاءَنا أنه هكذا كان يَظنُّ كثيرٌ من علماءِ السياسة ومُنظِّروها من الغربيين أنفسِهم كما يقول صاحب هذا الكتاب، حتى كان غُلُوُّ "بوش" هو الذي نبَّههم إلى أن الأمرَ ليس كما كانوا يظنون، وأنه إذا كان "بوش" قد غلا في الأمر، فإنه ليس أولَ مَن بدأه، وإنما هو شيءٌ دَرَجَتْ عليه السياسةُ الغربيةُ، ولا سيَّما فيما يتعلقُ بالعالم الإسلامي. فماذا بعد أنِ انتبهنا وعَرَفنا الحقيقة؟ " (¬1) اهـ. ¬

_ (¬1) "مجلة البيان" عدد (230) (ص 48 - 50).

لهذا لم يعتذر البابا .. ولهذا لم ترتدع الدانمارك

لهذا لم يَعتذرِ البابا .. ولهذا لم تَرتَدِع الدانمارك ° تحت هذا العنوان كتب الدكتور عبد العزيز حامد يقول: "تتوالى طُعونُ الغربيين النصارى عَبْرَ السنواتِ والشهور الأخيرة بشكل لافت، إلى كلِّ مقدساتِ وحرماتِ المسلمين، في حَملةٍ حضاريةٍ وثقافيةٍ صليبية، تتزامَنُ مع الحملةِ العسكرية والأمنية، فبَعدَ جريمةِ الرسوم المسيئةِ إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الدانمارك منذ عام، خَرج الفاتيكان بموقفٍ أشنَعَ، لم يُمَثِّلْه مجردُ رسَّامٍ هابط، أو كاتبٍ باحثٍ عن الشهرة، أو صحيفةٍ تريدُ الرَّواج، وإنما صَدَر من أكبرِ رأسٍ ديني نصرانيٍّ في العالَم الكاثوليكيِّ، في تصريحاتٍ قبيحة، تَنُمُّ عن عداوةٍ صريحةٍ، تَحَوَّل بها العَداءُ الخاصُّ إلى استعداءٍ عام، في نوعٍ من توزيع الأدوار بين طوائفِ النصارى الثلاث، فالبروتستانت الأمريكان -على ما يَظهَر- تفاهموا مع رأسِ الكنيسة الكاثوليكية في العالَم "البابا بنديكت السادس عشر" على أن يَنضمَّ إلى الحملةِ العالميةِ ضدَّ الإسلام، ولكن في جانبها الفِكريِّ والثقافي، ولم يتأخَّرِ "البابا" في تقديم هذه الخدمةِ لأمريكا، اتساقًا مع الدَّورِ المشبوهِ للفاتيكان منذ أيام البابا السابق، في خدمةِ أهدافِ أمريكا، أثناءَ صراعِها مع الاتحاد السوفيتي السابقِ ودولِ أوروبا الشرقية، لكن البابا أدَّى الخدمةَ بخُبثٍ أشدَّ مما أُريدَ منه، وهو أنه باعتبارِه رأسًا للديانةِ الكاثوليكية، ومتواطِئًا مع التوجُّهات البروتستانتية، تحدَّث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بـ "قِلَّة أدب" أرثوذكسي, إذ إنَّ ما نَقَله من نصوصٍ حاقدةٍ، إنما نَسَبه إلى إمبراطورٍ أرثوذكسي، لتجتمعَ أحقادُ الطوائفِ كلَّها في موقفٍ موحَّد .. فالمتحدَّثُ يُمثِّل

اعتداءات بلا اعتذار ... واحتجاجات بلا آثار

الكاثوليكية، وصاحبُ النص من كبارِ الأرثوذكسية، لحسابِ أصحابِ المشروعات البروتستانتية الإجرامية. ولم يَكَدِ العالَمُ الإسلاميُّ يسترخي بعد إنتفاضَتِه وغَضْبَتِه الثانية، بصورةٍ شعبيةٍ عالميةٍ انتصارًا لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - بعدَ تصريحاتِ بابا الفاتيكان، حتى شَرع الطاعنون الحُقَراءُ من طَرَفِ الحكومةِ الدانماركية اليمينيةِ البروتستانتيةِ في معاودةِ الإساءةِ للرسول - صلى الله عليه وسلم - مرةً أخرى، وبطريقةٍ أخسَّ وأنجسَ مما أقدَموا عليه في العام الماضي؛ إذ رَتَّبت إحدى منظَماتِ الشبيبةِ التابعةُ للحزب الحاكم في الدانمارك "مسابقةً" لأكثرِ الرسومِ سخريةً وهُزءً برسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم -!! والتفاصيلُ في الموقِفَينِ الحقيرَينِ الأخيرَينِ للبابا ولدولة الدانمارك أصبحت معروفةً للجميع. لكن خطورةَ الأمر، لم تَعُدْ مُقتصرةً على أفعالٍ عَدائيةٍ مقصودةٍ منهم، ثم ردودِ أفعالٍ تلقائيةٍ محدودةٍ في تداعياتها وآثارِها من طرفنا، وإنما تعودُ الخطورةُ إلى تحوَّلِ التطاوُل إلى ظاهرة تتَّسمُ بالعِناد والتنوع، وبالاطِّراد والتصعيدِ بشكلٍ متتابعٍ يُحاولُ أن يُحوِّل الظاهرةَ المنكرةَ إلى شأنٍ عاديٍّ وسلوكٍ مقبولٍ باسم "الحرية". والهدفُ في النهاية تَعجيزُنا عن الدفاعِ عن أعزِّ ما لدينا من رموزٍ وقيمٍ وعقائد. * اعتداءاتٌ بلا اعتذار ... واحتجاجاتٌ بلا آثار: عندما أقدم الدانماركيون على جريمتِهم الأولى في العام الفائت، وطُولبوا بالاعتذار؛ امتَنعوا جميعًا من الاعتذار، بدءً من المَلِكة ثم رئيس

الوزراء، ثم الصحيفةِ التي نَشرت الرسومَ المسيئة ... ولم يكن في وُسع المسلمين في العالم إلاَّ أن يُظهِروا الاحتجاجَ عن طريقِ المُظاهَراتِ السِّلميةِ والمقاطعهِ الاقتصاديةِ للبضائع الدانماركية .. ولكن ماذا كانت النتيجة .. ؟! لقد اختلفنا -نحن المسلمين- فيما لا ينبغي أن يُختلفَ فيه بعدَ زمن قليل من الحماس، وراح كل صاحبِ اجتهاد يحاولُ فَرضَ اجتهادِه على الأمةِ الغاضبة، حتى فُرِّغ هذا الغضبُ من مضمونه وتَمَيَّعَتِ القضية، وفَتَرَ الحماسُ للمقاطعة، بل بدأ البعضُ بتصنيف الشركات الدانماركية إلى شركات "معادية"، وشركات "محايدة" وشركات أخرى أصبحت "صديقة" لأنها "اعتذرت" بالنيابة عن المَلِكةِ ورئيسِ الوزراءِ والحكومةِ اليمينيةِ والصحيفةِ الصهيونية!!. ولما كانت الجماهيرُ قد عَرفت القليلَ من أسماءِ أشهرِ المنتجات الدانماركية التي تُشكل قيمةً في اقتصاد الدولةِ المعتديةِ على ديننا، فقد كان من الصعبِ أن تُكلَّفَ تلك الجماهيرُ بعمليةِ "تحري" الحلال من الحرام فيمن يُتعاملُ معه ومَن لا يُتعامل معه، وفقَ تقسيماتِ الشركات الدانماركية، وانتَهزت المحلاتُ المستفيدةُ من ترويج تلك البضاعةِ في بلاد المسلمين من ذلك الاختلاف، فالتفَّت على المقاطعة، والفضلُ يعودُ إلى الفتاوى والمواقف المتميِّعة!. ولَد أظهر هذا الارتباكُ ردودَ الفعل الإسلاميةِ على أنها مجردُ تشنُّجاتٍ وقتيَّةٍ وعواطفَ آنِيَّةٍ، سَرعانَ ما تتلاشى سُحُبُها في سماءِ الرغباتِ والشهواتِ غير الحاجية أو الضرورية.

ما ذنبنا نحن .. ؟!

والسؤالُ هنا: كيف فَرَّطنا في سلاحٍ ماض -هو المقاطعة- كان يمكن أن يُؤدَّب به الدانماركيون حتى لا يتجرؤوا على إعادِة الكرَّة مرةً أخرى؟!. الذي حَدَث أن الدانماركيين عادوا إلى الجريمة بشكلٍ أشنع ومن طريقٍ لا يَبعُدُ عن تواطؤِ الحكومةِ نفسِها التي تمادت في التحدي؛ لأن مَن أَمِن العقوبةَ أساء الأدب. ومِن غير المتوقَّعِ أن تعتذِرَ في المرة الثانية ... بعد أن امتَنَعت في المرة الأولى ولم تَجِدْ ما يردعُها، فلا سفارةٌ أغلقت، ولا علاقةٌ قُطعت، ولا مقطاعةٌ رسميةٌ اتُّخذت، ولا شعبيةٌ استمرت!. أما بابا الفاتيكان، فقد أثار الاستهجانَ بعدمٍ اعتذارِه أكثرَ مما أثاره بتصريحاته، وقد فُوجئ الكثيرون بإصرارِ البابا على عدمِ الاعتذار الصريح، والشيء الذي ربما لم يُدرِكْه الكثيرون من المسلمين، أن مَن أَجرَمَ في حقِّ النبي الخاتم المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، قد فعل ذلك وهو معتقِدٌ في نفسه ويعتقدُ فيه أتباعه أنه هو المعصوم!! فبابا الفاتيكان في ديانةِ الكاثوليك "إنسانٌ لا يخطئ"!! هكذا يقولون وهكذا يعتقدون!!. * ما ذَنبُنا نحن .. ؟! لأن باباهم لا يخطئ؛ فليس من حقِّنا أن نَطلَبَ اعتذارَه وهو "المعصوم"؟ مع أن سابِقه المشؤوم؛ اعتَذَر لليهودِ عن اضطهاد الكنيسة لهم عَبْرَ التاريخ؛ فهل كان بابواتُ تلك الكنائس يومَها غيرَ معصومين؟! وهل كان هو قَبلَ اعتذارِه غيرَ معصوم؟! لقد اعتَذَر أيضًا على المَحْرَقَة اليهوديةِ

وأدانها، مع أن سابقَيهِ لِم يفعلوا ذلك .. أما الخطأ في حقِّ المسلمين، فإنه ليس بخطأ .. لا في الحروب الصليبةِ القديمةِ التي لم يَعتذر عنها البابا السابق .. ولا في الحرب الصليبيةِ الجديدةِ التي لم يُدِنْها البابا الحاليُّ. ربما لم يُدرِكْ بابا الفاتيكان "بنديكت السادس عشر" اتساعَ الأصداءِ السلبية لتصريحاتِه القبيحةِ عن الإسلام ونبيِّ الإسلام - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه في الوقت نفسه، كان يُدرِكُ جيدًا أن هذه الأصداءَ من الاحتجاجاتِ والمظاهراتِ والتصريحاتِ، مهما تضاعَفَت؛ فإنها لن تُرغِمَه، ولا يَصلُحُ أن تُرغِمَه؛ على الاعترافِ بالخطأ، ومِن ثَمَّ الاعتذار عنه؛ لأن ذلك يعني ببساطةٍ أنه تنازَلَ بإرادته عن صِفةٍ يتفرَّدُ بها عن بقية البشرِ الساكنين على الأرض وهي صفةً "العصمة من الخطأ"!!. لقد صدر "قرار" مَجْمَع قساوسة الفاتيكان في عام 1870 للميلاد بعِصمة البابا، فأضاف عقيدةً جديدةً إلى المَذهب، لم يكن يَعلمُ بها البابواتُ القُدامى منذ بدأت الكنيسةُ الكاثوليكيةُ حتى ذلك العام!. ومنذ صَدر ذلك القرار، والعالَمُ النصرانيُّ الكاثوليكيُّ يعيشُ تحتَ ولايةٍ دينية "معصومة" برغم كلِّ الجرائم والحروبِ وأنواع الإفسادِ التي باركها البابواتُ طيلةَ هذه السنين، وبرغم ما اشتُهر من أخطاءَ وخطايا لبعضِ البابوات، كان منها عَزْلُ بعضهم، وعدمُ الاعتراف ببعضهم، وتعدُّدُ المتولِّين للبابَوية في زمنٍ واحدٍ بسبب التنافسِ على المنصب. لقد فَلْسَفَ المُحرِّفون لدينِ النصرانية هذه العِصمةَ لبابا الكاثوليك دون بقيةِ البابوات في الطوائفِ لأخرى، مُستنِدِين إلى أن "الروح القدس" -أي

جبريل عليه السلام- يؤدي وظيفةَ الوحي الذي لم يَنقطع عن طريقِ الكنيسةِ ورِجالاتها، ممثَّلين في شخصِ البابا، وبما أن "الإيمان" في العقيدةِ النصرانية يقومُ على ثلاثةِ أُسس، هي: الإيمان بـ "الأب، والابن، والروح القدس"، فسيَظلُّ تطبيقُ الأساسِ الثالثِ مرتبطًا بعصمةِ البابا الذي له وضعيَّةٌ خاصة مع "الروح القدس" كم يزعمون، وأيضاً لأن ذلك البابا -من ناحيةٍ أخرى- هو النائبُ المفوَّضُ للقيام بوظيفة "بطرس الرسول" أحدِ تلاميذ المسيح عليه السلام، الذي يَدَّعون أن عيسى قال له: "فوقَ هذا الهيكل -يعني: الجسد- سوف أبني كنيستي"، يعني ستكونُ كنيسةُ المسيح في المكان الذي سيموتُ فيه، ولما كانت وفاةُ "بطرس" في روما، فقد أصبح لروما -أو جزءٍ منها وهو الفاتيكان- خصوصيةٌ كَنَسِيةِ, وهي خصوصيةٌ تَرْقَى إلى أن يكونَ المسؤولُ الأولُ عن تلك الكنيسةِ مُفوَّضًا عن الإلهِ في الحل والربطِ، مثلَما فَوَّض المسيحُ تلميذَه "بطرس" بذلك، عندما قال له -كما يُدَّعي-: "وأُعطيك مِفتاحَ ملكوتِ السماوات، فكل ما تربِطُه على الأرض يكونُ مربوطًا في السماوات، وكل ما تَحُلُّه على الأرض يكون محلولاً في السماوات" [إنجيل مَتَّى 16 - 19]. إن بابا الفاتيكان الذي يَعتقدُ في نفسه، ويَعتقدُ فيه أتباعُه أنه واسطة "الروح القدس" وخليفةُ "الرسول بطرس" قد صَدَّق أن لديه تفويضًا من الله، يَحُل ما يَحُل، ويَربِطُ ما يربِط كما يشتهي، فاتَّجه إلى دينِنا يَحُل فيهِ ويربط، ويُرغي فيه ويُزبِد، ولهذا قرر -بناءً على قرارِ العصمة- أن العقيدةَ في الإسلام لا تتماشى مع المنطق أو العقل، وأن الإسلامَ الذي يَدينُ به

لا أمل في الاعتذار .. لكن لابد من إعذار

خمْسُ سكانِ العالم، إنما انتشر بالإكراه، وتحتَ التهديد بحدِّ السيف. * لا أملَ في الاعتذار .. لكن لابدَّ من إِعذار: نعم! لا أملَ في اعتذار البابا هذه المرة، ولا في المراتِ التالية من التطاولِ على الإسلام؛ فقد نصَّ قرار "العصمة" على أن "الحَبْرَ الرومانيَّ رأسَ مَجْمَع الأساقفة، يَنْعَمُ بالعصمة بحُكم وظيفته عندما يُعلنُ التعليمَ المتعلَّقَ بالإيمان والأخلاق، بصفته أعلى راعٍ ومعلِّمٍ للمؤمنين .. إن تعاليمَ الحَبرِ الأعظم الصادرةَ عنه شخصيًّا بصفتِه بابا، غيرُ قابلةٍ للتعديل أو المراجعة من أي سلطانٍ آخر، كَنَسِيًّا كان أو بشريًّا" (¬1). لا أملَ أيضًا في أن تعتذرَ الحكومةُ الدانماركية عن إساءاتها السابقةِ، أو إساءاتِها اللاحقة .. لأنها -باختصار- لم تَجِدْ مَن يُوقفُها عند حدِّها لكن لا بد لأمةِ المليار، أن تُقدِّمَ الإِعذارَ إلى الله -تعالى- بطريقةٍ أخرى غيرِ رجاءِ الأشرارِ بالاعتذار، ولن نَعدِمَ حِيلةً، إنْ كنَّا مؤمنين حقًّا بنصرةِ رسولِنا - صلى الله عليه وسلم - نصرًا يَليق بأعظم إنسانٍ مَشى على الأرض؛ فهل هان علينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى نَعجِزَ عن الانتصار له .. ؟!. * {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40]، {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] " (¬2) اهـ. * لغةُ الهزيمة: لغة الهزيمة لغةٌ وضيعةٌ، تسقط فيها كلُّ ألوان العزَّةِ والكرامة .. ! ¬

_ (¬1) نقلاً عن كتاب "نور الأمم" (ص 22). (¬2) "مجلة البيان"- العدد (230) - (ص 76 - 77).

لغةُ الهزيمة لغةٌ تافهة، مُقيَّدة بإسارِ التَّبَعيةِ، لا تجيدُ إلاَّ المحاكاةَ والتقليدَ الأعمى. إنها آيةٌ من آياتِ السقوطِ الفكريِّ والإنسانيِّ، تتقاصرُ بكل مهانةٍ عند مخاطبةِ مَن يُسمُّونهم بالآخَر، وتتعالى بكلِّ قسوةٍ على الأهل والأصحاب، فعُقدةُ تحقير الذات تحاصرها من كلَّ زاوية. خَبَرْنا هذه اللغةَ رَدْحًا طويلاً من زمن العنتريَّات العُروبية الثورية، وها نحن نَجني ثمراتِها في الخِطابِ الليبرالي المتزيِّن بقُبَّعةِ الغرب. خَبَرنا هذه اللغة؛ فهي ليست جديدةً علينا، لكن المؤسفَ حقًّا أن بعضَ معالِمِ ذلك الخطابِ المنهزمِ بدأ يتسلَّلُ أحيانًا إلى بعضِ رُوَّاد الخِطابِ الإسلاميَّ، ممَّن كان ينبغي أن تكونَ العزَّةُ شعارَهَ والأنَفَة دثارَه؛ فصار بعضُ خطابِه واهِنَ القوى، مخفضَ الصوت، يَسري على استحياء!. ° وحسبُنا ها هنا أن نذكِّر ببعض الأمثلة: فبعدَ الهَبَّةِ الشعبيةِ لنُصرةِ النبيِّ الخاتم - صلى الله عليه وسلم -، وبعدَ أزمة الرسومِ الدانمركيةِ، ظهرت عند بعضِ المفكِّرين والدعاةِ لغةٌ اعتذاريةٌ باردةٌ لا يَخفى ضَعْفُها، بل لا يَخفى انحرافها: "فنحن نحبُّ السلام، ونحترمُ جميعَ الأديان وندعو إلى التعايش، ولا نستعدى الآخرين، ولا ندفعُ العالم إلى الصراع الحضاري؛ فلماذا تَستفزون شعوبَنْا"؟!. وعندما تجرَّأ بابا الفاتيكان وانتَقد الإسلام، وعرَّض بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، بادَرَ بعضُهم للمطالبة بالهدوء وعدم التشنُّج، ودعا إلى الحوار والاعترافِ بالآخر، وأنه لا سبيلَ لإطفاءِ التطرُّفِ من الطرفين إلا بالتقارُبِ بين

العقلاء، بل نَهى بعضُهم عن تكفيرِ النصارى، وعَدَّ ذلك من الإجراء الذي لا يتبغي ذِكره في هذه المرحلة!. وعندما زعم البابا أن الإسلامَ انتَشر بحدِّ السيف، بادَرَ بعضهم إلى نفي التُّهمة، وأنكَرَ "جهادَ الطلب"، وقَصَر الجهاد في الإسلام على "جهاد الدفع" فحسب. وعندما دَخل بعضُ الإسلاميين حَلْبَةَ المُعتَرَكِ السياسي، شَنَّ العلمانيون هجومًا شرسًا على المشروع الإسلامي وما أسمَوه بـ "الدولة الثيوقراطية"، فلم يَجِدْ بعضُ هؤلاء إلاَّ المناداةَ بالدولةِ المَدَنية، ونحوَ ذلك من الشعارات الانهزامية!. إنَّ هذه الانهزاميةَ تُرسِّخ نمطًا من أنماطِ التَّبَعةِ التي هَمُّها إرضاء الناس، ولا تلتفتُ كثيرًا إلى رضا الخالقِ سبحانه وتعالى. صحيحٌ أن زمنَ الاستضعاف له فِقهُهُ أولوياتُه، لكن لم يَقُلْ أحدٌ من أئمةِ العلم: إن تحريف الدينِ أو التنازلَ عن بعضِ أصولِه وأحكامِه مِن الفِقهِ في شيءٍ؛ فمَن لم يستطعْ أن يقولَ الحق، فلا يجوزُ له أن يقولَ الباطل" (¬1). أَفتُنشَرُ هذه اللغةُ وتَصيحُ لها الأبواقُ، بينما مَكْرُ الليل والنهارِ قائمٌ على قَدَمٍ وساقٍ من كلِّ غربيٍّ صليبي؟ "بوش"، "كونداليزارايس" -ابنة القس-، "ديك تشيني"، "دونالد رامسفيلد"، والمخطِّطَيْنِ البارزَين أعدى أعداء الإسلام "كارل روف" و"بول وولفويتز"؟!. ¬

_ (¬1) "مجلة البيان"- لعدد (230) (ص 5).

البابا بنديكت السادس عشر

* البابا بنديكت السادس عشر: ° قال الدكتور باسم خفاجي في كتابه "لماذا يكرهونه؟ ": "تَزَعَّم البابا "بنديكت السادس عشر" مؤخَّرًا الهجومَ على الإسلام من جديد، وهو أعلى رمزٍ دينيٍّ في الغربِ المسيحي، اختار البابا أن تكونَ مقدِّمةُ محاضرتِه التي ألقاها في جَمْعٍ من العلماء الألمان في جامعة "ريجينسبرج" يوم 12 من سبتمبر 2006 م عبارةً عن هجومٍ صريحٍ على نبيِّ الإسلام -نَقَلها عن غيره- قائلاً: "أَرِني ماذا قدَّم محمدٌ من جديد، سوف لن تجدَ إلاَّ أمورًا شيطانيةً وغيرَ إنسانية، مِثلَ أوامِرِه التي دعا إليها بنشرِ الإيمان عن طريق السيف". المدهشُ أن المحاضرةَ كانت عن العلاقةِ بين "الإيمان والمنطق" وأهميةِ الحوارِ بين الثقافاتِ والأديان، فهل كان اختيارُ الهجوم على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مصادفةً، أم خطأً غيرَ مقصودِ من الرمزِ الغربيِّ الأعلى للمسيحية المعاصرة؟!. اختار البابا أن يُقدِّمَ لمحاضرتِه باقتباسٍ طويلٍ من أحدِ الكُتب التاريخية، عن أهميةِ استخدام المنطقِ في التعرُّفِ على وجودِ الإله ولم يكنْ الاقتباسُ إلاَّ هجومًا غيرَ مبررٍ على النبيِّ وعلى الإسلام، لقد قَدَّم البابا محاضرتَه قائلاً العباراتِ التالية نقلاً عن النصَّ الرسميِّ الصادر عن الفاتيكان للخطاب: "لقد تذكرتُ ذلك [التفكيرَ في العلاقةِ بين المنطقِ والإله] عندما كنت أقرأُ مؤلَّفَ البروفيسور "تيودور خوري" الذي يتحدَّث في جزءٍ منه عن الحوارِ الذي حَدَث ربما عام 1391 م في الخنادقِ الشِّتويةِ بالقُربِ من "أنقرة"، بين الإمبراطورِ البيزنطيِّ المفكِّر "عمانويل الثاني باليولوجس" وبين أحدِ المثقَّفين الفُرس عن موضوع المسيحيةِ والإسلام،

وحقيقةِ كلًّ منهما. من المحتَمَل أن الإمبراطورَ نفسَه هو مَن رَتَّب هذا الحوارَ خلالَ فترةِ حصارِ القسطنطينية بين عامَي 1394 م و 1402 م، ولعل ذلك ما يُفسَّرُ أن نقاطَ الإمبراطور كانتَ أكثرَ تفصيلاً من ردودِ المثقَّفِ الفارسي، لقد دار الحوارُ بتوسُّع حولَ أُسسِ الإيمانِ في كل من الإنجيل والقرآن، وتَرَكَّز خاصةً حولَ صورةِ الإلهِ وصورةِ الإنسان، مع العَودةِ بشكلٍ متكرِّرٍ إلى العلاقةِ بين "كتب التشريعات الثلاثة": العهد القديم، والعهد الجديد، والقرآن. قال البابا: "إنني في هذه المحاضرة أودُّ أن أناقشَ نقطةً واحدة -قد تكونُ هامشيةً بالنسبة إلى ذلك الحوارِ نفسه- ولكنني وجدتُها بالنسبة إلى موضوع "الإيمان والمنطق" مثيرةً للاهتمام، ويمكنُ أن تُفيدَ كنقطةِ بدايةٍ لتامُّلاتي حول هذا الموضوع. ففي النقاشِ السابع والذي حَرَّره البروفيسور "خوري"، يُناقشُ الإمبراطورُ فِكرةَ "الجهاد" (الحرب المقدسة). لا بد أن الإمبراطورَ كان يعرفُ سورة البقرة التي تنصُّ على: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، إنها واحدةٌ من سُور الفترة الأولى [من الرسالة] عندما كان محمد بلا قوَّةٍ وتحتَ التهديد، ولكنْ من الطبيعيِّ أن الإمبراطورَ أيضًا كان يعرفُ التعاليمَ التي تكوَّنت فيما بعدُ، والتي دُوَّنت في القرآنِ بخصوصِ الحربِ المقدسة. وبدون الانزلاقِ إلى التفصيلاتِ -مثل اختلافِ المعاملةِ الذي مُنح لـ "أهل الكتاب" عن "الكفار"-، فقد واجَهَ الإمبراطورُ مُحاوِرَه بأسلوبٍ مباشر وجافًّ -إلى حدًّ ما- حولَ السؤالِ المِحوريَّ عن العلاقةِ بين الدين

وبين العنفِ بوجهٍ عامًّ من خلالِ هذه العبارات، وأنا أنقلُها هنا: "أرِني ماذا قدَّم محمدٌ من جديد، سوف لن تَجِدَ إلاَّ أمورًا شيطانيةً وغيرَ إنسانية، مِثلَ أوامرِه التي دعا إليها بنَشرِ الإيمانِ عن طريقِ السيف" .. واستمر الإمبراطورُ يَشرحُ بالتفصيل كيف أن نَشْرَ الإيمانِ من خلالِ العنفِ أمرٌ غيرُ منطقيٍّ، إن العنفَ لا يَتناسبُ مع طبيعةِ الإله وكذلك طبيعةِ الروح، ويقول [الإمبراطور]: "إن الإلهَ لا يَفرحُ بإراقةِ الدماء، والتصرفُ بشكلٍ غيرِ منطقيًّ هو مخالفٌ لطبيعةِ الإله إن الإيمانَ يُولَدُ من الروح، وليس من الجسد، إن مَن يدعو شخصًا ما إلى الإيمانِ يَحتاجُ إلى القُدرةِ على الحديثِ الجيَّدِ والتفكيرِ المنطقيَّ المقبولِ دون عنفٍ أو تهديدات .. لكي تُقنعَ نفسًا عاقلةً، لا يحتاجُ الشخصُ إلى ذراع قوية، أو سلاح من أيِّ نوعٍ، أو أيِّ وسيلةٍ أخرى لتهديدِ شخصٍ ما بالموت .. ". إن الفكرةَ الغالبةَ في هذا الحوارِ ضدَّ التحوُّلِ [إلى دين ما] بالعُنف هي التالي: إن عدمَ التصرفِ طبقًا للمنطقِ أمرٌ مخالفٌ لطبيعةِ الإله، ويلاحِظُ محرِّرُ الكتاب "تيودور خوري": بالنسبةِ للإمبراطورِ البيزنطي الذي تَشكَّل فِكرُه من خلالِ الفلسفةِ اليونانيةِ، فإن هذه العبارةَ تُدلِّلُ على نفسِها، أما بالنسبةِ للتعاليمِ المُسلمِة، فإن الإلهَ "لا محدود"، إن إرادتَه لا تَحُدُّها أيٌّ من تقسيماتنا، حتى فيما يَتعلَّقُ بممارسةِ المنطق، ويَنقُل هنا "خوري" عن الكاتب الفرنسي المهتمَّ بالإسلام "أر. أرنالدز" إشارتَه إلى أن ابنَ حزمٍ قد وَصَل إلى درجةِ القول: إن الإلَهَ لا تَلزمُه حتى وُعودُه هو، وليس هناك ما يُجبِرُه أن يُوضِّحَ لنا الحقيقة، وإذا شاء الإلهُ، فيمكنُ أن نجبَرَ على ممارسة

عبادة الأصنام". انتهى هنا كلامُ البابا المتعلِّقُ بالإسلام ونبي الإسلام والجهاد، وهي عباراتٌ أثارت حَفيظةَ المسلمين في كلَّ أنحاءِ العالم، ولكنه رَفَض أن يعتذرَ عنها بشكل صريح وواضح. إن مواقفَ هذا البابا من الإسلام معروفةٌ مسبَقًا، ولكنَّ الأمةَ الإسلاميةَ آثرت في السابق أن تُعطِيَ لهذا البابا فرصةَ إعادةِ النظرِ في تلك المواقفِ بعدَ أن تولَّى أعلى المناصبِ الدينيةِ في العالَم الغربي. ° إن هذا البابا هو مَن عارَضَ -وبشَّدةٍ- دخولَ تركيا إلى الاتحاد الأوربي، ولم يَتنازل عن هذا الموقفِ حتى الآن، وكان تفسيرُه لتلك المعارضةِ أن تركيا "تنتمي إلى دائرة ثقافية أخرى"، وأن دخولَ تركيا إلى الاتحادِ الأوروبي سيكون "خطأ جسيمًا يَسيرُ عكسَ أمواج التاريخ"، فهل كان يُشيرُ إلى التاريخِ الذي وَقَف فيه العثمانيون على أبواب "فيينا"؟، أم تاريخ الحروب الصليبية التي تَسبَّبت في قتل مئاتِ الآلافِ من المسلمين بدعوى نَشرِ المسيحية؟. إن هذا البابا يَبحثُ عن إحياءِ أوروبا المسيحية، ولا أتمنى أن يكونَ بحثًا في طيَّاتها عن أوروبا الصليبيةِ مرةً أخرى، إنه يُنقَّبُ دائمًا في التاريخ عن ذلك، ويَنوي بعد كل ما قال أن يَزورَ تركيا أيضاً في شهر نوفمبر القادم، "وإذا لم تَسْتَحِ فاصْنَعْ ما شِئتَ". ° إن هذا البابا قد كَتب في عام 1996م أن "الإسلام لا يمكنُ أن يتعايشَ مع العالم المتمدَّن"، فهل هذا هو احترامُ الإسلام الذي يَقصِدُه هذا

البابا؟ إنه نفس البابا الذي هاجَمَ في العام الماضي قياداتِ المسلمين في ألمانيا بدعوى أنهم قد فَشِلوا في "إبعاد أبنائهم عن ظلام البربرية الجديدة" .. حقًّا إنه يحترمُ مشاعرنا!. ° وفي اجتماع سِرِّيٍّ عُقد في مدينة "كاستيل جوندولوفو" الإيطالية بحضور البابا في سبتمبر من عام 2005 م، وحَضَره أحدُ الأساقفةِ من "فلوريدا" بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو الأسقف "جوزيف فيسيو"، نَقَل هذا الأسقفُ أن البابا تَحدَّث في الاجتماع المُغلَقِ عن الإسلام، وذَكر أن البابا أعرَبَ من رأيهِ أن الإسلامَ "بخلافِ كلِّ الأديان الأخرى لا يمكنُ إصلاحُه، ولذلك فهو لن يتوافَقَ أبدًا مع الديمقراطية؛ لأن حدوثَ ذلك يقتضي إعادةَ تفسيرٍ جَذريةً للإسلام، وهذا مستحيلٌ بسببِ طبيعةِ القرآنِ نفسِه وعلاقةِ المسلمين به". وعندما ناقَشَه أحدُ الأساقفة أن ذلك ما يزالُ ممكنًا، اعتَرَض البابا بوضوح كما ينقُل عنه الأسقف "جوزيف فيسيو" قائلاً: إن البابا عَلَّق على ذلك بهدوءٍ ووضوح قائلاً: "هناك مشكلةٌ أساسيةٌ في هذا الرأي، أن الرؤيةَ التاريخيةَ الإسلاميةَ تؤمنُ أن اللهَ قد أَنزل كلماتِه على محمدِ، وأنها كلماتٌ باقيةٌ إلى نهايةِ الزمان، وهي ليست كلماتِ محمد .. وبالمقابل فإن هناك منطقًا داخليًّا للإنجيل المسيحي تَسمحُ له وتطالبُه أن يتغيَّرَ ويتأقلَمَ مع المواقف المتجددة". ° وفي تعليقٍ آخَرَ على نفسِ الاجتماع، ذَكر الباحثُ في الإسلام "سمير خليل سمير"، الذي حَضَر أيضًا الاجتماعَ المُغلَقَ أن البابا يرى إمكانيةَ تغيُّرِ الإسلام فقط إن أمكن "إعادة تفسيرِ القرآنِ بشكلٍ جذريًّ

وكاملٍ، وإعادةِ النظرِ بالكامل في مبدإِ عصمةِ الوحي". فهل الحوارُ مع الأديانِ الأخرى يمكنُ أن يَتقدمَ من خلالِ تلك الرؤيةِ السَّوْدَاويَّةِ للإسلام؟! لماذا لا يكون البابا صريحًا وواضحًا في مواقفِه بدلاً من محاولاتِ الاستخفافِ بالأمةِ بشكلٍ مَهينٍ بعباراتٍ مِن مثل "حزين جدًّا" التي لم تَعُدْ تنطلي على أحد؟!. ° قام أحدُ الصحفيين بسؤالِ البابا بشكل مباشر ومُفاجئٍ: إنْ كان يعتبرُ "الإسلامَ دينَ سلام"؟ رَفَض البابا أن يَصِفَ الإسلامَ بدينِ السلام، وإنما قال بثقة: "إنني لا أرغبُ في استخدام الكلماتِ الكبيرةِ لوصفِ أمورٍ عامة .. إن الإسلامَ بالتأكيد يَحتوي على عناصرَ يُمكنُ أن تَميلَ إلى السلام، ولكنه أيضًا يتكوَّن من عناصرَ أخرى .. ولابد لنا أن نختارَ دائمًا أفضلَ العناصر". إن البابا يريدُ لأمة الإسلام أن تكونَ انتقائيةً في تعامُلِها مع ما يأمر به هذا الدينُ، ولكنه في الوقتِ نفسه لا ينتقي من هذا الدينِ أفضلَ ما فيه لكي يتحدثَ عنه، ولكنه يَكتفي بالهجوم غيرِ المبرر والدائم والمتكررِ على الإسلام وعلى رموزِ الإسلام، وفي اليوم السابق لهذا التصريح الصحفي، قام البابا أيضًا بتوجيهِ النصيحةِ التالية للمسلمين: "ارفضوا طريقَ العنفِ الذي تَسبَّب في معاناةٍ ضخمةٍ للسكان المدنيين، واعتنقوا بدلاً من ذلك سياسةَ السلام". لم يُكلَّفِ البابا نفسَه عَناءَ توجيهِ نفسِ الرسالةِ إلى قادةِ الغربِ الذين يَقتلون باسم "الديمقراطية" عشراتِ أضعافِ مَن يُقتلُ ظلمًا وزورًا باسم الإسلام، ولم يُكلِّفِ البابا نفسَه أيضًا عَناءَ مخاطبةِ قادةِ الكِيانِ الصهيونيِّ أن

• اخسأ أبا الفاتيكان

يلجؤوا إلى السلام بدلاً من القتل اليوميِّ والمتكررِ لأبناءِ الأمةِ الإسلامية في فلسطينَ ولبنان" (¬1). • اخسأ أبا الفاتيكان: ° قال محمد أبو الهيثم: "الحمد لله القائل: {لَقَدْ كَفَرَ الَذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَة} [المائدة: 73]، والقائل: {لَقَدْ كَفَرَ الَذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيح ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]. ضاقت أفعى الفاتيكان بما يحتويه صَدرُها مِن سُمٍّ، فلم تَستطعْ نَفْثَه إلاَّ في وجهِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - والإسلام، في وقتٍ أصبحَ الإسلامُ عُرضةً لكلِّ نافثِ سُمٍّ بسبب ضَعفِ أبنائِه، وعَمَالةِ حُكامِهم، وشراءِ الكثيرِ من علمائِه دنياهم وبَيْعِهم دينَهم بأبخسِ الأثمان، إلاَّ مَن رَحِمَ ربي -وهم قليل-. فيا أفعى الفاتيكان، إياك أن تَنسى أنه لولا محمدٌ ما استنارتِ الدنيا في وقتٍ كنتم فيه عُميانًا، وما خَرجتم من عَماكم وظلامِكم إلاَّ في ظلِّ محمد وعلى فُتاتِ نُوره. فلمَّا استقامت لكم دنياكم بفُتاتِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، قَفَزتم على أُمَّتِه بالفِتنِ والحروبِ وإثارةِ القلاقل وشراء الذِّمَم، حتى طَعِمتم ما في أفواهِ أُمَّته، واغتَنيتم على جُثَثِ وأشلاءِ أبناءِها، وبَنيتم حضارتَكم على حسابِ تقهقرِها، فسُحقًا لحضارةٍ تُورِّثُ أبناءَها الوقاحة. أبا الفاتيكان تقول: "إن عقيدتكم مَنطقيةٌ على عكس عقيدة الإسلام"!! فيا ابنَ الجاهلين، أينَ منطقُكم حين استبدَّت كنيستُكم بآرائها، ¬

_ (¬1) "لماذا يكرهونه" (ص 42 - 47).

واستبدَّ قساوستُكم بالحُكم، وقَتلتم علماءَكم، وأنشأتم محاكمَ التفتيش التي لم تتركْ عالِمًا خالَفَ الكنيسةَ ولا مُسلِمًا إلاَّ سحقته؟! فحاربتم العلمَ والعلماءَ بسبب استبدادِكم وجَهلِكم وتمسُّككم بتحريفِكم لكتابِكم وكَذِبِكم على نبيكم، اسأل "جاليليو" وإخوانَه عن تاريخ كنيستِكم التي بُنيت على المنطق كما تدعي!. يا أبا الجاهلين، أمحمدٌ هو الذي لم يأتِ إلاَّ بكلِّ سيَّئٍ؟ أم حروبُكم الصليبةُ القديمةُ والحديثةُ؟!. اسأل أهلَ بيتِ المقدسِ الذين قُتل منهم سبعون ألفًا حتى غاصت الخَيلُ في دمائهم. ويا أبا الجاهلين، اسألِ الهنودَ الحُمرَ عن إبادتِهم باسم الكنيسة والدين، وبِناءِ مَجْدِكم الحديثِ على دماءهم وأوطانهم. يا أبا الكذابين، وشيخَ المتعصبين، وكبيرَ المارقين، هل سَئِمتُم من تحريفِكم المستمرِّ لكتابكم، وانتَهزتَ قوةَ مجنونِ أمريكا لتستعرضَ عضلاتِك على دينِ الحقِّ والنورِ المبين؟! أخرَسَ اللهُ لسانك .. أخرس الله لسانك. محمدٌ جاء بدينِ الحقِّ من ربِّه، وأَبْلَغَه للعالمين، حَمَل رسالةَ السماءِ، وأوصَلَها لكلِّ بيتِ مَدَرٍ ووَبَر، وتَحمَّلَ في سبيل ذلك المشاقَّ، وشَرعَ ربُّه له الجهادَ من أجل إيصالِ كلمةِ السماءِ أمامَ كلَّ مارقٍ مِثلك معاندٍ جاحدٍ، وأوصاه ربُّه بدعوةِ مَن يحاربُ، فلو أسلم فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ولو رَفض الدخولَ وقَبِلَ الجِزيةَ على أن يَسمحَ للمسلمين بنَشرِ دينهم وله منهم المَنَعَة والحماية، فله ذلك، أما لو أصرَّ على الكفرِ، ومَنَع قومَه من سماع الحقِّ والدخولِ فيه، فما بيننا وبينَه إلاَّ السيف .. ليس حبًّا

في الدماء، وإنما لنشرِ كلمةِ السماء. فأين حبُّ الدماءِ فيمن يَضعُ أمامَك كلَّ حلٍّ ممكنٍ لتسمحَ له لِيُبلِّغَ دعوةَ ربِّه، فما يقاتلُك حبًّا في دمك، وإنما حرصًا على إخراج قومِك من جهنمَ والسماح لأهل الحقِّ والنورِ بنشرِ كلمةِ السماء؟ أين هذا ممن قَتلوا ملايينَ الاطفالِ بالعراقِ جُوعًا، وقتلوا أهلَ أفغانستان كَمَدًا، وساعَدوا في قتل الفلسطينيين بأسلحتهم ومَدَدِهم لليهود. أين أخلاقُ الفاتحِ الإسلاميِّ من أخلاقِ الهَمَجِيِّ النصرانيِّ الذي انتَهَك؛ العِرْضَ، وسَفَكَ الدماء، وسَرَق الأموال، وجَنَّد العملاءَ، ونَشَر الفساد؟!. أين أخلاقكم من أخلاقِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -؟! .. أين أخلاقُكم وقد انتَشرت في شعوبكم الأمراضُ النفسيةُ، وعقوقُ الآباء وإهمالهم، وزنا المحارمِ، واغتصابُ النساء والأطفالِ، والشذوذ الجنسي، بسبب ضَعفِ العقائد، وخَفَاءِ دَورِ الدينِ في حياة شعوبكم؟!. ° أين أنت وأين ربُّك "بوش" الذي تَستمدُّ قوَّتك من قُوَّته، وتنتهزُ حماقتَه حتى تَنْفثَ سُمَّكَ إرضاءً له وإرضاءً لمن ورَاءَه من يهود؟!. تُخطَّىُء كل عقيدةٍ تنزِّهُ ربَّ العالمين عن كلِّ نَقصٍ وتُثبِت له كل كمال!!! قبَّحك الله وقَبَّح قولك، وجَعَلك عبرةً لكلِّ معتبر. ويا كل عالِم من علماءِ المسلمين قَصَّر في دعوته، ما حَدَث وَيحدث إلا نتيجةً لتقصيرك .. ويا كل حاكم ساعَدِ في ضَعفِ أمتِه، اعلمْ أن لك كِفلاً ممَّا يَحدُث للإسلام والمسلمين، وأنه ما رَفَع هذا رأسَه إلا عندما أَحْنَيْتَ رَقَبَتَك.

إلجام البابوات عن التجرؤ على خاتم الأديان والرسالات

° ويا أُمةٌ: لكِ الله. ° ويا إسلام: لك ربٌّ يحميك. ° وإنا لله وإنا إليه راجعون" (¬1). على أسْوَار روما (¬2) صة يا رقيعُ فما إخالكَ تشتفي ... إلاَّ بسيف في فؤادك يختفي صهْ يا عقورُ فما أراك مؤهَّلاً ... ليكونَ رأسُك مَوطِئًا للأشرفِ جاوزتَ حَدَّك بالجهالةِ فلتَذُقْ ... حدَّا لحُسام اليعربيِّ المرهَفِ فثقيفُ قبلَكَ بالأذى قد عَربدَتْ ... فلَتُفْتَحَنْ روما كمثلِ الطائفِ لبِّثْ قليلاً سوف تُبصِرُ جَحفلاً ... بأسنَّةِ الأنصارِ أضحى يقتضي لبِّثْ قليلاً سوف تسمعُ نغمة ... قدسيةً بأذانِ أحمدَ تحتفي لبثْ قليلاً يا جهولُ ولا تسَلْ ... فلَتعرِفنَّ اليومَ ما لم تَعرِفِ أفلا بشيرٌ للعوالم أنهُ ... قد أشرقتْ روما بنور المصحفِ؟ * إِلجامُ البابوات عن التجرُّؤِ على خاتم الأديان والرسالات: ° قال د. خلدون مكي الحسني: "إن الحمدَ لله نحمدُه، ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يَهْدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ ألاَّ إله إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، ولا زوجةَ له، ولا ولد، وليس كمِثلهِ شيءٌ، ولم يكن له كُفُوًا أحد؛ وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ الله ورسوله، هو قائدُنا ومعلِّمُنا وسيِّدُنا، خيرُ نبيٍّ ¬

_ (¬1) المصدر: إذاعة طريق الإسلام. (¬2) لِحسَّان العُمر.

اجتباه ورحمةً للعالمين أرسله، بَعثه الله بالحق بدينِ الإسلام، دينِ العلم وإعمالِ الفِكرِ، دينِ الهدايةِ والرأفة، وأيَّده بالقرآن، كتابِ الله المُعجِزِ، فتحدَّى به الإنسَ والجن، فأذعنوا له وآمنوا به، واستكبر الكافرون المعانِدون فقال اللهُ فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 6 - 7]. {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ] [آل عمران: 118]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 - 35]. {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186]. ونحن اليوم -وفي كلِّ يوم وعلى مرِّ السنين- نرى صِدقَ كلام الله سبحانه الذي أَخبرنا به، وما تصريحاتُ رأسِ الفاتيكان إلاَّ من هذا القَبيل، فرغمَ البلاغِ والنذيرِ لم يؤمنْ، فختم اللهُ على قلبه وعلى سمعه، وأعمى

بصرَه وبصيرتَه، وقد بَدت البغضاءُ من فمِه وما يخفي في صَدرِه أكبر، وها هو يَصُدُّ عن سبيل الله ويَكنِزُ الذهبَ ويتسربل به، ثمَّ أخيرًا يؤذي المسلمين المؤمنين بكلامه، فصدقَ الله العظيم. ° وأمَّا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فهيهاتَ هيهاتَ أن يَنالَه شيءٌ من كلامِ هذا السَّفيهِ الجاهل، بل إنَّ كل كلامِه مردودٌ عليه، وما فِعْلُه هذا إلاَّ كما قال حكيمُ الإسلام: أعرِضْ عن الجاهلِ السَّفيه ... فكل ما قالَهُ فهو فيهِ ما ضَرَّ نهرَ الفُراتِ يومًا ... أنْ خاضَ بعضُ الكلاب فيه! ° ومهما حَلَم الحاقدون وحاولوا أن ينالَوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من تشويهِ سيرتِه والكذبِ عليه والتشنيع بدينِه العظيم، فلن يفلحوا ولن يُعكِّروا صَفْوَ الشريعةِ المحمَّديةِ، وستبقى حُجَّةً عليهم إلى يوم الدين، وستبقى شوكةً في حلوقهم إلى يوم يبعثون .. لو رَجَمَ النَّجمَ جميعُ الوَرَى ... لم يَصِلِ الرجمُ إلى النَّجم ° وقد علَّمَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأدبَ والحكمةَ، وأَمَرنا بمجادلةِ أهلِ الكتاب بالتي هي أحسن، وامتثلَ المسلمون لذلك طيلةَ القرونِ الأربعةَ عَشَر المنصرمة، ولكنَّ الحاقدين على الإسلام والذين مُلئت قلوبُهم غيظًا منه لم يُجدِ معهم كلُّ ذلك، {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ}؛ وأنا اليومَ لن أردَّ على ذلك السفيهِ الحاقدِ، فهو أدنى مِن أن يُردَّ عليه؛ لأن الذي تَبلغُ به الوقاحةُ أن يَصِفَ الإسلامَ الذي أتى به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه دينُ العنفِ والسيفِ واللاعقلانية, ويتجاهلُ تاريخَ دينِ كنيستِه المظلم، والمحاربَ للعلم، والقاتلَ للعلماء، والمنافرَ للعقل، والبعيدَ عن التوحيدِ، والمتأصِّلَ بالوثنيَّة ,

ويتجاهلُ الانحطاطَ الأخلاقي لرجالِ الكنيسة الذي لم يعرفْ له مثيلٌ عبرَ التاريخ، ويتجاهلُ الوحشيةَ والدمويَّةَ المغروسةَ في نفوسِ رؤساءِ وأتباع هذه الكنيسةِ والتي ظَهرت جلِيَّةً في صراع البابوات على كرسيِّ الفاتيكان، والوحشيةِ التي تعاملوا فيها بينهم، مِنْ فَقْءِ العيون، وقَطع الألسن، والقتل عطشًا، وفي صراع الفِرَقِ المسيحيَّةِ فيما بينها قديمًا وحديثًا، وما "إيرلندا" عنا ببعيد، وفي حُروبهم الصليبيَّةِ التي لم يَعرفِ التاريخُ مثيلاً لها في الوحشيةِ والهمجيةِ ولا حتى عند التتار، وكذلك محاكمُ التفتيش التي أرعَبَت وأذهلت قوَّادَ الجيوشِ المسيحيين الذين -كما صرَّحوا حينها- لم يكونوا يتخيَّلون وحشيةً كتلك التي رَأَوْها تجري على أيدي رؤساءِ الكنيسة تُجاهَ المسلمين واليهودِ في الأندلس!! كل ذلك لا لنشرِ فضيلةٍ، ولا لإِحقاقِ حقٍّ .. وإنما حُبًّا في سَفكِ الدماءِ وتلذُّذًا بإزهاقِ أرواح الملايين، وما حروبُهم في التاريخِ المعاصِرِ ببعيدةٍ عن أذهانِنا، فقد تطاحَنوا في أوربا في الحَربَينِ العالميتين الأولى والثانية، وأهلكوا الحَرْثَ والنسلَ، وأبادوا بعضَهم بالملايين ومَحَوْا مُدُنًا بكامِلها عن وجه الأرض كما فعل الحلفاء بمدينة "درسدن" الألمانية، بعدما دَمَّر الألمانيُّ "هتلر" صاحبُ الصليب المعقوف أوربَّا شرقًا وغربًا، ولم يَعرفِ العالَمُ حروبًا في همجيَّتِها كهاتين الحربين، ثمَّ يأتينا هذا "البندكت" القَسُّ الألماني ليقول: "إن الإسلام نُشِرَ بالسيف"!! وتناسى أن عددَ القتلى الذين وَقعوا في جميع غزواتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كِلَيِ الطرفين "المسلمين والمشركين" كان ألفَ قتيل تقريبًا!!!! هذا العددُ الذي تَحصِدُه حروبُ الصليبيين في ساعةٍ واحدة. لأجل هذا كلِّه فإن بابا الفاتيكان "بندكتوس" هذا لا يستحقُّ أن يُردَّ

عليه، ولكنني سأذكِّرُ الناسَ بحقيقةِ هذا البابا وجميع البابواتِ مِن قَبلِه كما جاءت تراجمُهم في كُتبهم أنفسِهم، وكما صَرَّح به الكثيرُ من رجالِ دينهم وسَجَّله التاريخُ لهم، لكي يرى الناسُ كم هو وقحٌ، وكم هم أتباعُه حاقدون، وكم كان حريًّا بهم أن يَخجَلوا من أنفسِهم ورجالِهم وباباواتهم ويَدسُّوا رؤوسهم في الترابِ، بدلاً من التطاول على الكبار، ولكن "إذا لم تَستَحِ فاصنَعْ ما شئت"، كما جاء على لسانِ الأنبياء. ° وإليكم الآن مقتطفاتٍ عن تاريخ البابوات في أوربة، ثمَّ ترجمةً موجزةً للعديد منهم: جاء في كتاب "رحلتي من الكفر إلى الإيمان" للكاتبة الأمريكية "مريم جميلة" -وهي سيدة أمريكية من أصلٍ يهودي اعتنقت الإسلام، وهي خبيرةٌ بالدين اليهودي والمسيحي- (ص 167 ط: المختار الإسلامي): "وصلَ البابا "بولس الأول" إلى المنصب عام (757 م)، وبعد وفاتِه أجْبَرَ دوق "نيبي" بعضَ الأساقفةِ على تكريسِ "قسطنطين" -وهو شقيقُه غيرُ الشرعي- لمنصب البابَوية، ولكنِ اجتمع أساقفةٌ آخرون عام (768 م)، وانتخبوا "ستيفن الرابع" للمنصب، وعُوقِبَ "قسطنطين" بفَقْء عينيه، كما قُطعَ لسانُ أحدِ الأساقفة الذين انتخبوه، وتُرِكَ ليموتَ في جُبٍّ من العطش!!. وفي عام (795 م) ألقى ابنُ عمِّ البابا "أدريان" القبضَ على البابا "ليو الثالث" الذي خَلفَ "ستيفن الرابع"، وذهبَ به إلى كنيسةٍ، حيثُ فَقأ عينَيه وقطعَ لسانه، وحل مكانه في المنصب!. وتمرُّ أكثرُ من مئةِ سنةٍ في مؤامراتٍ متبادَلةٍ بين الطامعينِ في البابوية، وكان كلُّ مَن يَصِلُ منهم إلى مُبتغاه يُحاكِمُ خصومَه، ويَحكمُ عليهم

بالموت!!! وخلالَ أربعةِ أعوام فقط من (896 إلى 900 م) وصَلَ إلى المنصب أربعةُ بابوات وعُزِلوا!!. ونصلُ إلى عام (904 م) لِنجدَ صورةً أخرى من الفساد، ففي ذلك العام وصل البابا "سرجيوس الثالث" إلى منصبِ الحَبْرِ الأعظم بالقوَّة المسلَّحة! وقد كان للعاهرة "ثيودورا" سيِّئةِ الصِّيتِ وابنتيها -وهما أيضًا عاهرتان- تأثيرٌ كبير عليه، وكانت "ثيودورا" تعشقُ أيضًا أحدَ الأساقفةِ، وساعدته بنفوذها إلى الوصولِ للبابوية عام (915 م) باسم "يوحنا العاشر". وتمكَّن هذا البابا من الثَّبات في منصبِه لمدةِ أربعةَ عَشَرَ عامًا بفضل مساندةِ "ثيودورا" له، لكنه فَقَدَ مكانه، وأُطيح به عندما تأمرت عليه ابنتها "ماروزيا" بعد أن حَنَقت عليه لأنها فاجأتهُ في القصر البابوي في وضع مخلٍّ مع ابنةِ أخيه!!!. وفي عام (931 م) أوصَلَت "مروزيا" ابنَها غيرَ الشرعيِّ إلى البابوية تحت اسم "يوحنَّا الحادي عشر"، لكن أحدَ أبنائها الآخرين منَ الحرام شَعَرَ بالغَيرة، فألقى القبضَ على أُمَّه وشقيقِه ووضَعَهما في السجن، وجلس على المَقعد البابوي، كذلك انتخب ابنَه غيرَ الشرعيِّ للبابوية عام (956 م) باسم "يوحنا الثاني عشر"، وكان عمرُه في ذلك الوقت ثلاثةَ عَشَرَ عامًا!!. واشتهِرَت فضائحُ هذا البابا الأخير إلى حدِّ أنَّ الشعبَ الألمانيَّ دفعَ الإمبراطور "أوتوا" للتدخل، وعُقِدَ مَجْمَعٌ مقدَّس (!) لمحاكمة "يوحنا الثاني عشر"، وتبيَّن من الجلسات أنَّه كان يتلقى رشاوى لتكريسِ الأساقفة، وأنَّه نَصَّبَ أسقُفًا لا يتجاوز سِنُه العاشرة، بينما أقام احتفال "سيامة" لآخَرَ في حظيرة للخيول.

° فحش البابوات وفسوقهم!!

واتُّهمَ البابا كذلك بالزنا مع محظيَّةٍ لأبيه! وبارتكابِ الفاحشةِ مرَّاتٍ لا تُعدُّ!!!. وكان معروفًا بالانحراف في الشرابِ والمُقامرة والقَسَم بالآلهة الوثنيَّة!!! وعندما طُلِبَ منه المُثولُ أمامَ المَجمع، وأبلَغَهم أنه خارجٌ للصيد، وبعد عزلِه خَلفَه البابا "ليو الثامن" عام (963 م) الذي حاكمَ خصومه ومَثَّل بهم، إلاَّ أن حياتَه انتهت على يدِ رجُلٍ كان قد غرَّرَ بزوجته!! ". انتهى. ° ولكي يطمئنَّ القرَّاءُ لصِدِق هذه المعلومات إليكم تراجمَ هؤلاء البابوات وغيرِهم من المصادر المسيحيَّة المطبوعة والمنشورة، وقد ترجمها أحدُ الكتَاب قديمًا، وهذا جزءٌ منها: ° فُحشُ البابوات وفسوقهم!!: كيف الخلاصُ من الخطيئةِ بعدما ... رَكِبَ الدَّعارةَ زُمرةُ الرُّهبانِ؟! إنَّا نوردُ الآن باختصارٍ موجزَ تلك الجرائم والرذائل التي ارتكبها كثيرون من ساداتِ أحبارِ روميا العِظام، الخلفاءِ الشرعيِّينِ للقديس "بطرس الأول"، الذين شانوا الكرسي الرسوليَّ بتولَّيهم عليه، وقبل أن نُنهيَ كلامَنا عن رؤساءِ الكنيسةِ المنظورِين، يتَّضحُ للقارئ أن كل نقيصةٍ ورذيلةٍ يمكنُ للعقل أن يتصوَّرها قد انتهكها الذين زَعموا أنهم نُوَّابُ المسيح، أو كما يعتقد النصارى نوابُ الله على هذه الأرض!. فالسرقةُ والاضطهادُ والقتلُ والفُحشُ والزنا بالأقاربِ المحارم وغيرهم وما يَخجَلُ منه القلمُ وَيحْمَرُّ منه الجبين، كل ذلك قد ارتكبه هؤلاء الحُكَّامُ المتعالُون بالنصرانية الذين جَلسوا على مركزِ العِصمة وادَّعَوُا الشرعيةَ، وما

تَسَلُّطُهم على عقولِ الشعوبِ النصرانيةِ إلاَّ مَكرٌ منهم ومِن الباباوات القدماءِ لجلب الدنيا إلى هؤلاء الرؤساء!. شَهدْوا على القِدِّيس حيث جَنَابُه ... ركِبَ الزنا أكْرِم به قديسا! ° القديس "داماسوس الأول" (366 - 384 م) .. إنَّ هذا أوَّل بابا لُقِّبَ "بالحَبْر الأعظم"، وحين انتخابه مانَعَ فيه "أرسينيوس" وحِزْبُه، حيث قاموْا على قَداسته شكايةً بأنّه رجلٌ زانٍ (¬1). قال "ريدل": "بعد مقاتلةٍ عنيفةٍ جَرَت ما بين حِزبَي المتخاصِمَينِ، أُبعِد "أرسينيوس" من المدينة، والحُكمُ نفسُه كان على وشك أن يَجريَ ضدَّ سبعةِ قسوسٍ من حِزبه، لكن بمداخلةِ الشعبِ أُخِذ أولئك القسوسُ ووُضعوا في ملجإٍ أمينٍ بالكنيسة، لكن الكنيسةَ نفسَها وحُرمتَها لم تكن قادرةً على حمايةِ أرواح الملتجِئِين إليها من هياج خُصومهم، فـ "داماسوس" كان مُسلَّحًا بالسيف والنار مع بعض أتباعه، وجميعُهم من الإكليروس، وعامَّةُ القوم ذهبوا توًّا إلى المكان الذي التجأ إليه أعداؤهم، وتركوا أكثرَ من مئةٍ وستين منهم قتلى على الأرض ضمن حدودِ ذلك المكانِ المقدَس" (¬2). على أن هذا الخِصام كان مذبحةً -وليس قتالاً بين حِزبَينِ-، حيث لم يُقتل أحدٌ من أتباع "داماسوس" في هذه الموقعة (¬3). وافتضَّ سكستوس بِكْرًا غادةً ... فَليَسْلمِ القديسُ سكستوسُ ¬

_ (¬1) "محفل البابوات" تأليف يالي (ص 26). (¬2) "تاريخ البابوية" (1/ 143). (¬3) "تاريخ الباباوات" تأليف باور (ص 84).

° القديس "سكستوس الثالث" (432 - 440 م) .. إنَّ هذا البابا -حسب رواية "باروينوس وبلاتين"- قد أُقيمت ضدَّ قداسته دعوى، وذلك لأنَّ قداستَه افْتَضَّ بكارةَ إحدى العذارى، وتألَّف مَجْمَعٌ للحُكم على قداسته، لكن هذا المجمَع الذي كان تحتَ رئاسةِ الإمبراطور "فالانتين" تركَ البابا، وحَوَّل إليه كي يحكم بالقضيَّة! "حيث قاضي الكلِّ لا يدنيه أحد" (¬1). عَلِموا بأنَّ اللهَ يُبغِضُ راهبًا ... فتزوَّجَ القديسُ هرمزداسُ ° القديس "هرمزداس" (514 - 523 م) .. كان رجلاً متزوِّجًا وله ولدٌ، تولَى بعد ذلك كرسي البابويَّةِ، وكان قداسةُ هذا البابا طَمِعًا ووَقِحًا في طلباته لدى الإمبراطور، وهو الذي هيَّجهُ لاضطهاد الهراتقة (¬2). في المهدِ قد نطقَ المسيحُ لقومه ... وكذاك نجلُ البابا سرجيوس ° القديس "سرجيوس الأول" (678 - 701 م) .. إنَّ هذا القديسَ قد اتُّهمَ بارتكابِ الزنا، لكنْ بَرْهَنَ على براءته بعبارةٍ عجيبةٍ، حيث الطفلُ الذي قيل: إنَّه ابنُ البابا الزاني الفاسقِ في حين تعميدِه -وكان عمره حينئذٍ ثمانية أيَّام فقط- صرخ قائلاً: "إنَّ الحَبْرَ سرجيوس ليس والدي". ° وقال "برايس" المؤرِّخُ الفرنساويَّ عن البابوات: "إن الذي يُدهِشُني في هذه القصَّة ليس كونُ الطفل الصغيرِ في المهد يتكلمُ، بل كونه أكَّد باعتقادٍ تام على أن البابا ليس والدَه" (¬3). ¬

_ (¬1) "تاريخ البابوات" مجلد 2 وجه 88 تأليف (باور). (¬2) "جرائم النصرانية" مجلد أول وجه 124 تأليف (فوت وهويلر). (¬3) "تاريخ البابوات" مجلد أول وجه 496 تأليف برايس.

وكذلك أدريانوس هنَّأ قاتلاً ... بخطيئةٍ يا نِعمَ أدريانوس!! ° "أدريانوس الثاني" (867 - 882 م) كان كاهنًا متزوَّجًا، وهو الذي هنَّأ "بازيليوس" القاتلَ حين قَتَل الإمبراطور "مكائيل" واتَّحدَ معه (¬1). أيُّ بابا أتى المخاضُ إليه ... في احتفالٍ وولَّده غلامًا؟! ° "يوحنَّا الثامن" (872 - 882 م) .. إن هذا البابا لم يكن رجلاً بل امرأةً .. وأيُّ نوع من النساء؟! .. من النساء الزانيات، وكان الشعبُ مغشوشًا بقداسته، ولم يشكَّ أحدٌ في ذكررته إلاَّ معارفُه الذين يَسُوسون له -أو بالأحرى لها- شهواتِها، وبينما كان هذا البابا ماشيًا في احتفالٍ في مقدِّمةِ الكاردينالات والمطارنة مُحاطًا بالزينة والأنوار علامةً على قوةِ وجلالةِ البابوية، أتى لقداسته "البابا يوحنا الثامن" أو "حِنَّة! " المخاضُ، وذلك في أهمَّ شارعٍ (¬2) من شوارع روما (¬3). أمَّا تاريخُ حياته، فهو ابنةُ أحدِ المُرسَلين الإنكليز، مَسقط رأسها في مدينة "ماينز" أو "انكلهايم"، حيث يوجدُ اختلافٌ في الرواية" وهذه الابنةُ كانت لها علاقةٌ غيرُ شرعيَّةٍ بأحد رُهبان "فولدة"، لذلك لَبِسَتْ ثيابًا كالرجال، وهَرَبت مع عاشقِها إلى "أثينا"، وهنالك مات حبيبُها بمدةٍ قصيرةٍ بعد وصولها. وبعد موتِ العاشق رَجعت هذه الزانيةُ إلى "روميَّا"، وهناك -بسببِ ¬

_ (¬1) "جرائم النصرانية" مجلد 11 وجه 127. (¬2) وذلك ما بين الكولوسيوم وكنيسة القديس [كلامانتوس] بروما. انظر "دائرة معارف بيتون الإنكليزية تحت كلمة (حنة). (¬3) "تاريخ المملكة المغربية" مجلة 3 وجه (330 و 331).

معارفها الممتازة- صارت "خوري فكردينال"، ثُمَّ ارتقت فصارت "بابا"! وظلَّت إلى أن عُرفت أنوثتُها، وذلك لمَا وَلدت طفلاً أمامَ الجمهور وهي ماشيةٌ في مقدمةِ أحدِ المحافِل العظيمة (¬1). ° ومنذ ذلك الوقت حتى أيَّام "لاون العاشر" (1513 - 1522 م) في القرن السادس عَشَر- أي لمدَّةِ نحوِ ستةِ قرونٍ ونصفٍ كانوا يقيمون في روميَّا احتفالات، والتي لا يمكنُ وصفُها هنا، حيث تَحدُث عند انتخابِ كل بابا، وذلك للكشف عليه كي يتأكَّدوا ما إذا كان ذكرًا أم أنثى! (¬2). إنْ قيلَ إن إلهَهم صَلَبوه ... سلْ أُمَّ أسطفانوس أين أبوه؟ ° "أسطفانوس السابع " (896 - 897 م) .. إن هذا البابا نفسه كانت أُمُّه زانيةً (¬3)!!. كيف الذي عَبَدَ الرذيلة يَعْبُدَن ... مولاه مثلَ البابا سرجيوس! ° "سرجيوس الثالث" (904 - 911 م) .. قال "باريتوس" عن هذا البابا: إنَّه كان عبدًا لكل رذيلةٍ، وأعظمَ إنسانٍ شرير، وقداستُه عاش مع "ماروزية" الزانيةِ كسُريةٍ عنده (¬4). ° أمُّ قداستِه زانية: وقداسة البابا الذي مِنْ أُمِّهِ ... عُرِفَ الخَنَا وعَلَّم الأقواما ¬

_ (¬1) نظر "دائرة معارف شامبرس" تحت كلمة حنة. (¬2) "تاريخ المملكة المغربية" مجلد 3 وجه 311. (¬3) "تاريخ المملكة المغربيَّة" مجلد 3 وجه 330. (¬4) "تاربخ البابويَّة" مجلد 2 وجه 36 تأليف "ريدل".

° "يوحنا العاشر" (914 - 928 م)، هذا كانت أُمُّ قداستِه زانيةً (¬1)، وتوصَّلَ إلى تولِّي الكرسي الرسولي؛ لأنَّه كان حبيبَ "ثيودورة" أم "ماروزية" الزانية (¬2). ° "يوحنا الحادي عشر" (931 - 936 م) كان ابنَ البابا "سرجيوس الثالث"، وأمُّ قداسته "ماروزية" الزانية، وقد فاق والدَه في الجرائم، وحين انتخابِه للبابوية -وكان في الثامنةَ عشرة من عمره- طرد أخاه "الباريك" من "روميَّا" وسجنَ أُمَّهما "ماروزية" (¬3). إنَّ الزانيةَ "ماروزية" كانت ابنةً رومانيةً من الأشراف بالولادة، لكنها ذاتُ سُمعةٍ رديئةٍ كأُمَّها الزانيةِ "ثيودورة" من قَبلِها، وُلدت في أواخر القرن التاسع. وهذه الزانيةُ كانت صاحبةَ البابا "سرجيوس الثالث" وأمًّا وجَدَّةً لثلاثةِ باباوات "قداسة يوحنا الحادي عشر، وقداسة يوحنا الثاني عشر، وقداسة لاونِ السابع"، وقد تزوَّجت ثلاثَ مرَّات، وإنْ صَدَّقنا ما رواه لنا "لويتبرند"، فهي كانت السببَ في خَلع وقَتل البابا "يوحنا العاشر"، وهي التي رَفعت ابنَها غيرَ الشرعي "يوحنا الحادي عشر" من حبيبها البابا "سرجيوس الثالث" إلى مَقامِ البابوية. فالقصرُ حَوَّلهُ إلى ماخورة ... "حنَّا" ومات بضربةِ الشيطانِ ° "يوحنا الثاني عشر" (956 - 964 م)، هو ابنُ "الباريك"، وهو أولُ ¬

_ (¬1) "تاريخ المملكة المغربية" (3/ 330). (¬2) "جرائم النصرانية" (1/ 129). (¬3) "جرائم النصرانية" (1/ 126).

بابا غيَّرَ اسمَه، حيث كان اسمُه الأصلي "أوكتافيان"، وهو الذي انتَخب نفسَه للبابوية لَمَّا كان في السابعةَ عَشْرةَ من عمره. ° قال "ولْك": "إنَّ تدنُّسَهُ وتَهتُّكَهُ فاقَ كلَّ حدٍّ". وقد أُقيمت على قداستِه الحجَّةُ عَلَنًا من أجل التسرِّي والزنا بالأقاربِ المحارم والرِّشوةِ بوظائفِ الكنيسة، وهذ البابا كان ذا شهرةٍ رديئةٍ من أجل شهواتِه، حتى إنَّ النساءَ الزَّائرات لم يتجاسَرْن على المجيءِ إلى روميَّا (¬1). ° قال "بوار": "إنَّ هذا البابا قد حَوَّل القصرَ اللاتيريني -الذي كان مَسكنًا للقديسين- إلى ماخورةٍ، وفيه كان يُضاجعُ سُريَّةَ أبيه، وإنَّ النساء مِن أجلِه كنَّ يَخَفْنَ أن يأتِينَ من البلاد الأخرى لِيَزُرنَ قبورَ الرسُل والقديسين في "روميَّا"، وإن قداستَه ما كان يَدعُ أيَّ امرأةٍ، بل كان يُجبِرُ الزوجاتِ والأراملَ والعذارى أن يَخْضَعْنَ لمطالبه الرَّجسة، ثُمَّ تمكَّن "أوتو" مِن خَلع هذا البابا بالتماسٍ من مَجْمَع مؤلَّفٍ من المطارنة والعامة، لارتكابه انتهاكَ حُرمةِ الأشياءِ المقدسةِ والرِّشوةِ بوظائفِ الكنيسةِ والتجديفِ والتشويهِ القاسي؛ لأنَّه قَطَع يدَ أحد الشمامسة اليمنى وخَصَاه، وقَلَع عين "بانديكت" (¬2)، وقَطَع أنفَ حافظِ الأوراقِ القديمةِ وجَلَدَ نيافة مُطران "أسباير"، ولَعَن وحَرَم جميع أضداداه، ثم مات عَقِبَ هذا الحرامِ بضربةٍ أتته على رأسِه بينما كان مضطجعًا في الفراشِ مع إحدى النساء المتزوِّجات (¬3). ¬

_ (¬1) "البابوات" تأليف "ولك" (ص 87). (¬2) أسأل اللهَ أن يقطع لسان "بنديكت السادس عشر". (¬3) "تاريخ البابوات" تأليف باور (2/ 320).

° ولاحظ "جوتن" أنَّ "باروينوس" قال روايًا عن، "لويتبراندس": إن الشيطانَ هو الذي ضَرب البابا "يوحنا" تلك الضربةَ على رأسه، لكن يظهرُ أنه من غيرِ المحتمل أن الشيطانَ يُسيءُ لأخيه بعملٍ يقضي عليه، بل من المرجَّح غالبًا أنَّ الذي ضربَه تلك لضربةَ هو زوجُ المرأةِ الزانيةِ التي كان في فراشها (¬1). ° "بونيفاشيوس السابع" (984 - 985 م) والقديس "غريقوريوس السابع" (1073 - 1087 م) كانا أولادَ زنًا (¬2): تزوَّجَ بابنتي أختِه "حوبا" ... قداستُه كما غفرَ الذُّنوبا ° "بونيفاشيوس الثامن" (1294 - 1303 م) .. إن هذا البابا لَقَّب نفسه بمَلِكِ الملوك، واحتَجَّ الشعبُ على بَيعِه وظائف الكنيسةِ وسَفكِ الدماءِ والنهبِ، ومِنْ سُكناه مع ابنتي أختِه كسُرِّيَّاتِ له، وقد وَلَدَتا من قداسته (¬3). أغوى ولاطَ وأمرُهُ مستنكَرُ ... إنَّ الكنيسةَ للخطايا تغفِرُ! ° "يوحنا الثالث والعشرين" (1410 - 1417 م) .. إن هذا البابا حُوكِمَ أمامَ جَمعٍ تألَّفَ لذلك الغرضِ، وتبرهَنَ ضدَّه بشهادةِ سبعةٍ وثلاثين شاهداً -ومعظمُ أولئك الشهودِ من المَطارنة والقسوس- على أن قداسته مذنبٌ لارتكابه الفِسقَ والزنا بالأقاربِ المحارم، واللِّواطةِ والرِّشوةِ بوظائفِ الكنيسة، والسرقةِ والقتل، وقد شَهِدَ عليه جماعةٌ بأنه أغوى واغتَصب ¬

_ (¬1) "ملحوظات على التاريخ الأكليركي" (3/ 309) تأليف جوزت. (¬2) "تاريخ المملكة المغربية" وجه (330). (¬3) "تاريخ البابوات" وجه 145 تأليف (ولك).

ثلاثَمئةِ راهبة، وقال كاتمُ أسرارِه الخاص "نبام": إنَّ هذا البابا كانت له نِسوةٌ في "بولونيا"، وأصحبت نحوُ مئتي بنتٍ ضحيَّةَ شَهواتِه ورفاهةِ قداسته (¬1). ° الأحبارُ الرومانيَّة: "سكستوس الرابع" (1471 - 1484 م). ° قال "سنجر" في كتابه "تاريخ العهارة" وجه 159: إنه وقعَ تحت نَظَره كتابٌ عن حياةِ البابوت -والكتاب يُدعى "الأحبار الرومانية" طبع مدينة نيويورك سنة 1845 م-، قال: إنه قرأ في ذلك الكتاب أنَّ تذكارًا أُهدي إلى "سكستوس الرابع" بأحدِ أفرادِ عائلةِ الكردينال القديس "لوسيا"، حيث سَمَحَ له أن يرتكبَ جريمةَ اللِّواطة! وأنَّ البابا كتب على ذلك التصريح أو الإذنِ كلمة "فيات" ومعناها "أمر أو حُكم". "إينوستسيوس الثامن" (1492 - 1503 م) .. إنَّ قداسةَ هذا البابا كان من الأدنياء، ولم يكن له أدنى سُلطةٍ على شهواته، وقد اشتهى قداستُه أرملةً وابنتين، فجَعَلهن تحتَ تصرُّفِ شهواتِ قداسته. ° قال "ولْك": إن هذا البابا رجلٌ لا آدابَ عنده، ومُخادعٌ وطَمَّاع، وكَسَلَفِه لم يكن نُصْبَ عَينيه إلاَّ غرضٌ واحدٌ يَرمي إليه، وهو تنميةُ وإكثارُ عائلتِه الوقتيَّةِ الوراثيَّة (¬2). ° وقال عنه "موشايم": "إنَّ دناآتٍ كثيرةً وجرائمَ عظيمةً وارتكاباتٍ فظيعةً قد أُرَّخَت عنه، حتى صار من اللازم المؤكَّد أنه كان رجلاً مُجَرَّدًا -ليس عن الدِّيانة فقط- بل من اللياقةِ والخَجَل (¬3)، وهذا البابا في أحدِ ¬

_ (¬1) انظر كتاب "الخوري والمرأة والاعتراف" وجه (286) طبعة 43 تأليف الأب "شينكوي". (¬2) "البابوت" تأليف "ولك" مجلد 3 وجه (31). (¬3) "جرائم النصرانية" مجلد أول وجه (138).

الأعيادِ كان عند قداستِه نِسوةٌ زانيات يَرقُصْن، وهؤلاء الزانيات بإشارةٍ منه خَلعْنَ ملابسهن و ... نحن نُسدل ستارًا على بقيَّة المنظر (¬1). ° زَنَى بابنَتِه وأخته!!: وقد كان قداستُه يَزني بأختِه وابنتِه "مدموزيل لوكرتيا"، حيث أنجَبَ منها ولدًا! (¬2)، أمَّا من جهةِ روايةِ موته، فنتبع "رِنك" في تاريخه عن البابوات حيث قال: "مِن الثابت والمحُقق أنَّه أراد أن يُسمِّمَ أحدَ الكردينالاتِ الأغنياءِ ليتخلَّص من شرِّه، فأوعزَ إلى الطَّاهي كي يضعَ السُّمَّ في إناءِ الكاردينال، ولكن الكردينال عَرَفَ ذلك، فاحتال بواسطةِ الهدايا والوعودات والصلواتِ وكسبِ قلبِ رئيسِ طهاة البابا، والإناءُ المسموم الذي كان منويًّا وَضعُه أمامَ الكردينال وُضعَ أمام البابا، ومات بالسُّمِّ الذي دسَّه لغيره!! (¬3). "بولس الثالث" (1534 - 1550 م) .. هذا البابا أيضًا كان زانيًا، واعترف بولدٍ وبنتٍ وُلِدا له غيرِ شرعيينِ، ولقد اعترضَ الإمبراطورُ عليه لأنَّه رقَّى حفيدَيه إلى منصبِ الكردينالات، وهما حديثَا السنَّ، فأجاب البابا أنه يريدُ أن يَفعلَ كما فَعَل سَلَفُه مِن قَبلِه!! (¬4). وَرِثوا من الأسلافِ كل كريهَةٍ ... وتستَّروا خَوفًا من الأتباع ¬

_ (¬1) "جرائم النصرانية" مجلد أول وجه (138). (¬2) "الخوري والمرأة والاعتراف" وجه (286) تأليف الأب "شنكوي". (¬3) "تاريخ البابوات" مجلد أول وجه (35) تأليف "رنك". (¬4) "تاريخ البابوات" مجلد أول وجه (163) تأليف "رنك".

° قال الأبُ "شنكوي": لا يظنَّ القارئُ ولا يُخدَع بتصوُّره أنَّ بابوات "روميا" في يومنا هذا أحسنُ أو أشرفُ من بابوات القرون الوسطى! بل هم الآن على نَمَطِ أسلافِهم القدماءِ، لا فرقَ بينهم سوى أنهم في هذه الأيام يَهتمُّون في إخفاءِ خَلاعتِهم خوفًا من هذا العالَم الذي أصبح متمدِّنًا، فهم يخافون على وظائِفهم وتهييج الشعبِ ضدَّهم، فيُخفُون خلاعتَهم وتهتكهم بظواهرِ التَّديُّن قَدْرَ ما أمكن. ° راهباتٌ أم عاهرات؟!!: اذهبِ الآن إلى "روميَّا"، وهناك الرومُ الكاثوليك يَدُلُّونك على البِنتين الجميلتينِ اللتينِ وُلِدَتا للبابا "بيوس التاسع" (1846 - 1878 م) من صاحبتَيه!!! وهناك يُخبِرونك عن أسماءِ خمسِ صاحباتٍ أُخَرَ له -ثلاثٌ منهن راهباتٌ-، وهؤلاء كان يُصاحِبُهن منذ كان خوريَّا ومُطرانًا!! والبعضُ منهن ما زِلْنَ على قَيدِ الحياة يُرْزَقْنَ (¬1). ° البابا "غريغوريس" من أكبرِ سِكِّيري إيطاليا!!: ° قال الأب "شنكوي" في كتابه "الخوري والمرأة والاعتراف": "سَلْ أولئك الذين يَعرفون البابا "غريغوريس السادس عشر" (1832 - 1846 م) سَلَفَ "بيوس التاسع"، وهم يَروُوُن لكَ تاريخَ صاحباتِه، وكانت إحداهن زوجةَ حلاَّقِه! ويُخبرونك أيضًا بأن قداستَه كان من أكبرِ سِكِّيري إيطاليا! (¬2) انتهى. ¬

_ (¬1) "الخوري والمرأة والاعتراف" وجه (287) تأليف شنكوي. (¬2) "الخوري والمرأة والاعتراف" وجه (287) تأليف شنكوي.

مهلا يا بابا! إني أدعوك إلى الإسلام!

وبعدَ هذا العرضِ الموجَزِ للتاريخ المُخزِي لبابوات الفاتيكان، ألاَ يَستحي "بندكتوس السادس عشر" من الظهور أمامَ العالم ليتَحدَّث باسم هذه البابَوية المُقرِفة، فضلاً عن النَيل من شِرْعةِ الإسلام الطاهرة ومن رسولِها الزكي عليه الصلاة والسلام؟؟! وألا يَستحي المُصفِّقون له والمدافعون عنه ودعاةُ التقاربِ معه من الظهورِ أمامَ الناس بعد اليوم؟! " (¬1) اهـ. * مهلاً يا بابا! إِنّي أدعوك إِلى الإِسلام!: ° قال الكاتب: د. عدنان علي رضا النحوي: * رسالة إِلى بابا الفاتيكان: مهلاً يا بابا! إِنِّي أدعوك إِلى الإِسلام!: تحدَّث بابا الفتيكان "بنديكت السادس عشر" في محاضرته في جامعة "ريجينسبورج" في "بافاريا" بألمانيا حولَ ما يَعتقدُه من خلاف بين الإسلام والنصرانيةِ في العلاقة بين "الإيمان والعقل". لم تكنْ إساءتُه الأولى للإسلام فيما ادَّعاه من نقاطٍ مِثلَ سُوءِ فهم الآية الكريمة: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، ومن مِثل "الحربِ المقدَّسة في القرآن"، ولا بقوله الذي خالَفَ فيه الإيمانَ والعقلَ معًا في وقتٍ واحد، حين قال: "أرِني شيئًا جديدًا أتى به محمدٌ، فلن تجدَ إلاَّ ما هو شريرٌ ولا إنسانيٌّ، مِثلَ أمرِه بنَشرِ الدين الذي كان يُبشِّرُ به بحدِّ السيف"، وهنا لم يكن خطؤه مخالفةَ الدين والعقل فحسب، ولكنْ وَقَع في خطإٍ كبيرٍ، ألاَ وهو ¬

_ (¬1) "المقال" للدكتور خلدون مكي الحسني- دمشق 23 شعبان 1427 هـ.

"الافتراءُ"، أو الكَشفُ عن جَهلِه الواسع بالإسلام!. إن إساءتَه الأولى كانت لنفسِه وللنصرانيةِ التي أتى بها عيسى عليه السلام وللدِّينِ كلِّه والعقل كله، فهل يُعَقْلُ أن الله الواحدَ الأحدَ، رب السمواتِ والأرضِ وربَّ العالمين، وجميعُ الخَلقِ عبادٌ له، هل يُعقَلُ أن اللهَ الواحدَ يَبعثُ لعبادِه بأديانٍ مختلفةٍ متصارِعة، ثُمَّ يُحاسِبُهم يومَ القيامة؟! إذا كان الدينُ عند الله هو الحق، بَعَث الرسلَ والأنبياءَ ليُذكِّروا عبادَه بالحق الذي يجبُ أن يتَّبعوه في الحياةِ الدنيا، ليدخلَ المؤمنون الجنَّةَ برحمةٍ من الله، ويدخلَ الكافرون النارَ عدلاً من الله سبحانه وتعالى، إذا كان الدينُ مِن عندِ الله هو الحق، فهل يُعقَلُ أن يَبعثَ رُسُلَه بأديانٍ متصارعةٍ؟! كلاَّ! ثُمَ كلاَّ! فهذا لا يُعقَلُ، فالدينُ عند الله واحدٌ، بَعَث جميعَ رسلِهِ بدينٍ واحدٍ هو دين الإسلام، دينًا واحداً! فاستَمعْ إلى ما يقوله الإسلام: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)} [آل عمران: 19]. * وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85]. * وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)} [البقرة: 83]. ° هذه هي الحقيقة الأولى التي يَفرِضُها العقل والدينُ في وقتٍ

واحد، ألاَ وهي: "أن الدين كله من عند الله وهو دين واحد"! فكيف غابَت هذه الحقيقة عن إيمانِ البابا وعقلِه؟!. * ولذلك جاءت الآياتُ في القرآن الكريم واضحةً جليلةً تُبيِّنُ بشكلٍ حاسم أنَّ جميعَ الرسُل والأنبياءِ جاؤوا بدين واحدٍ من عند الله هو الإسلام، فالإسلامُ دينُ نوحٍ وإبراهيمَ وموسى وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطِ وعيسى وأيوبَ ويونسَ وهارونَ وسليمانَ وداودَ وغيرِهم عليهم السلام ممن ذكرهم القرآن الكريم أم لم يذكرهم: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)} [النساء: 163 - 166]. ولقد جاءت الآياتُ البيناتُ تبيَّنُ أن كل نبي ورسولٍ كان مسلِمًا، وكذلك أن الذين آمنوا به واتبعوه كانوا مسلمين، وهذه هي الحقيقةُ الثانيةُ المرتبطةُ بالحقيقةِ الأولى السابقِ ذكرُها: "أن الإسلام هو دين جميع الأنبياء والرسل، والذين اتبعوهم". * ولذلك أصبح مِن أُسسِ الإيمانِ في الإسلام، في دينِ الله، أن يؤمنَ المسلمُ بجميع الأنبياءِ والرسل، لا يُفرِّقَ بين أحدٍ منهم: {وَوَصَّى بِهَا

إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)} [البقرة: 132]. * وكذلك: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)} [البقرة: 136]. * ونوحٌ عليه السلام يقول: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)} [يونس: 72]. * وإبراهيمُ عليه السلام: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)} [آل عمران: 67]. * وموسى عليه السلام كذلك: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)} [يونس: 84]. * وعيسى عليه السلام ومَن آمن معه: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)} [آل عمران: 52]. وكذلك سائر الأنبياء والمرسلين. * أما قولُ البابا عن التناقضِ بين ما تُشيرُ إليه الآيةُ الكريمة: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)} [البقرة: 256]، وبينَ أمرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بنَشرِ الدينِ بحدِّ السيف: كان أحرى بالبابا أن يذكرَ

الاَيةَ كاملةً حتى يَنجليَ المعنى، فلا تعارض بين قوله سبحانه وتعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، وبين أمرِه سبحانه وتعالى بالجهادِ في سبيل الله، قضيَّتانِ متداخلتانِ تُكمِلانِ المعنى والصورةَ لتكونَ جُزءً من نهجٍ واحدٍ متماسك. فـ {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} تعني: أن اللهَ لا يَقبلُ من أحدٍ إيمانًا لم يكن نابعًا من قلبِه متيقِّنًا منه، فعلى الإنسانِ أن يَستمعَ للدعوةِ إلى الإيمانِ الحق، إلى الإسلام، ثمَّ عليه أن يفكِّرَ، ثمَ عليه أن يُقرِّرَ هو بنفسه -آمَنَ أم لم يؤمن-، ثم ليتحمَّل هو مسؤوليةَ قراره، ولكنَّ المشكلةَ هنا أنه يجبُ أن تَبْلُغَه الدعوةُ واضحةً جليَّةً ليفكِّرَ، وأن يُفسَحَ المجال للإِنسانِ لِيستمعَ ثمَّ ليفكِّر، ثمَّ ليقرِّر، ثمَّ ليتحمَّلَ مسؤوليةَ قراره، ولكلِّ قرارٍ نتيجة: فلو قرَّر الكفرَ فمصيره إلى النار، وإن قرَّر الإيمان فمصيرُه إلى الجنَّة. * وحينَ حَمَّل الله الإنسانَ مسؤوليةَ الإيمانِ أو عَدَمِه، وَفَّر له جميعَ الإمكاناتِ التي تعينه على اتخاذِ قرارِ الإيمانِ لِينجوَ عند الله، واسَتمعْ إلى آياتِ الله البيِّنات: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)} [الكهف: 29 - 31]. ولذلك كان من أهم القضايا التي يؤكِّدُها القرآنُ الكريمُ: أَمْر الله

للإنسان أن يُفكّرَ التفكيرَ الإيمانيَّ السليم، ويُلحُّ القرآنُ الكريمُ بهذه القضيةِ إلحاحًا شديدًا، ويوفِّرُ اللهُ لعبادِه سبيلَ التفكيرِ الإيمانيِّ الذي يَهدي إلى الإيمانِ والعمل الصالح، وذلك بنِعَم من الله كثيرة: 1 - أنْ جَعَل الإيمانَ فِطرةَ الإنسان التي يُولَدُ عليها، وأبواه يُهوِّدانِهِ، أو يُنصِّرانِهِ، أو يمجِّسانِهِ، فتَفْسدَ فطرتُه، ويتحملُ أولئك المسؤوليةَ عند الله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} [الروم: 30 - 32]. • وكذلك الحديث الشريف: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِن مولودٍ إلاَّ يُولَدُ على الفِطرة، فأبواه يُهوِّدانِهِ، أو يُنصِّرانِهِ، أو يُمجِّسانِهِ، كما تُنتِجُ البهيمةُ بَهيمةً جمعاءَ، هل تُحِسُّون فيها من جَدعاءَ؟ " (¬1). ولذلك جَعل اللهُ برحمتِه دينَه دينَ الفِطرةِ التي يُفْطَرُ الناسُ جميعًا عليها، {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ}. 2 - أنْ جَعَل آياتِه بيناتٍ في السموات والأرضِ، وفي الإنسانِ نفسِه آياتٌ بيناتٌ شاهداتٌ على أن اللهَ حقٌّ واحدٌ لَا إله إلاَّ هو: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101]. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد ومسلم.

{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} [الذاريات: 20 - 22]. 3 - أرسَلَ الانبياءَ والرسلَ في كل أُمَّةٍ، حتى لا يكونَ للناسِ على الله حُجَّةٌ بعد الرُّسُل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} [النحل: 36]. وخَتَم الأنبياءَ والمرسَلين بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - الرسولِ الذي بَشَّر به موسى وعيسى والأنبياءُ عليهم السلام. 4 - أنْ أنعَمَ على الإنسانِ بالسَّمع والبصرِ والفؤادِ، وجَعل اللهُ كل أولئك عنه مسؤولاً: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36]. لذلك أَصبحتِ القضيةُ الآنَ -إيمانًا وعقلاً- أن تُبلَّغَ الدعوةُ إلى الناس كافَّةً، وأن لا يَقف أمامَها حاجزٌ يَصُدُّ عن سبيل الله، ويمنعُ وصولَ الحق إلى الناس، فيبدأ المومنون بالتبليغ والبيانِ والتعهُّدِ والموعظة الحسنة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 125 - 128]. * ولم يَكنِ الأمرُ بالدعوةِ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ أمرًا مرهونًا

بزمنٍ، ولكنه أمرٌ ممتدٌّ امتدادَ الدعوةِ الإسلاميةِ ما دامت الطُّرُقُ مفتوحة والأبوابُ مُشْرَعَةً ولا يُوجَدُ اعتداءٌ على الإسلام ولا ظُلمٌ ولا صَدٌّ عن سبيله، وهذا قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)} [العنكبوت: 46]. * نعم! {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}! فهم الظالمون المعتدون!. * ولمَّا نزل قوله سبحانه وتعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)} [الأنفال: 39]. * وقوله سبحانه وتعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} [الحج: 39 - 40]. • فما كِان الجهادُ في الإسلام إلاَّ "ردًّا لعدوانٍ عليه" (¬1)، أو "بلاغًا لرسالةِ الله إلى الناس بعد أن صُدَّ عن سبيله" (¬2)، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خَلُّوا بيني وبين الناسِ حتى أُبلِّغَ رسالةَ ربي"!. وكان أعداءُ الإسلام هم المُعتَدِين بصورةٍ مستمرةٍ، ولذلك جاء قولُه ¬

_ (¬1) وهو جهاد الدَّفْع. (¬2) وهو جهاد الطَّلَب.

سبحانه وتعالى: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)} [التوبة: 10]. وكذلك جَمَع الرومانُ حُشودَهم حولَ الجزيرةِ العربية قبلَ غَزوة "مؤتة" التي أَمَر الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - الصحابةَ أن يتحرَّكوا إليها لمواجهتِهم. وأعجَبُ من كلام البابا هذا بأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أَمَر بنشرِ دينِه بالسيف!! وتناسَى الآياتِ الكريمةَ التي تدعو إلى الدعوةِ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة! والإسلامُ يريدُ أن تُبلَّغَ رسالتُه، فحين تكونُ الحِكمةُ والموعظةُ الحسنةُ هي السبيلَ الممكنَ، يُتَّبَعُ، وإنْ كان هنالك عدوانٌ وصدٌّ عن سبيل الله، فقد شَرعَ اللهُ سبحانه وتعالى الجهادَ في الإسلام حقًّا. إنَّ الإسلامَ جاء ليُخرجَ الناسَ من الظلماتِ إلى النور، ومِن الكفرِ إلى الإيمان، ولِينقذَهم من عذابِ جهنَّمَ إلى نعيمِ الجنَّة، وهذا هو أخطرُ ما في حياةِ الإنسان على الأرض في الحياة الدنيا. أيُعقلُ بعد ذلك أن يُتْركَ الإنسانُ على هواه، إنِ اختارَ الشِّركَ، أو الكفرَ دونَ بَذلِ الجهود لإنقاذه؟ أرأيتَ لو أنك عايَنْتَ رجلاً يكادُ يَغْرَقُ في البحر، أتترُكُه دونَ أن تُنقِذَه وأنت قادرٌ على ذلك؟ فكيف إذا كان الإنسانُ سيُلْقَى في نارِ جهنم، أتترُكُه دونَ محاولةِ إنقاذه؟!. ولو أنك كنتَ تسيرُ على طويقٍ تعرفه , وأمامَك يَسيرُ رجلٌ لا يَعرفُ الطريق، وأمامَه هُوَّةٌ عميقةٌ فيها نارٌ تلظَّى، فلو تركتَه يُتابعُ سَيْرَه سيَهوِي في لَهيبِ النار، أكنتَ تترُكُه يَهوِي، أم تقبِلُ عليه ليرجعَ؟ فإذا اقتنع وعاد إلى الصوابِ والحقِّ، فذلك هو المقصود .. وأما إذا أبي وأصرَّ على أن يمَضيَ

إلى هلاكِه، أكنت تتركُه أم تمنعُه ولو بالقوَّة؟! وإذا كان هذا الرجلُ ابنَك، أو أخاك، أو رجلاً آخر، أكنتَ تاركَه؟!. وهكذا الإسلامُ، جاء لِيمنعَ الناسَ مِن أن يَهْوُوا في نارِ جهنم، لِينقذَهم من النارِ إلى الجَنَّةِ، فالأمرُ أخطرُ مِن أن يؤخَذَ بهذه البساطة، بساطةِ العلِمانيةِ التي تتركُ أمرَ الدينِ للفردِ نفسِه، لا تَحرِصُ على آخِرَته. وهذا الذي ضَرَب البابا مثلاً به، الطالبُ في الجامعة الذي أعلَنَ كفرَه صراحةً، وأنكر وجودَ الرب، فتُرك هو وشأنَه، يقول البابا: "إن التماسُكَ الدخليَّ للإِيمانِ داخلَ هذا الكونِ لم يتأثَّرْ بكُفرِ هذا الرجل"! هذا ظنٌّ ووهم! وإلاَّ ما قيمةُ الدينِ والرسالاتِ السماويةِ إذا كان شأنها أن تَتركَ المُلحِدَ على إلحادِهِ لِيهويَ في جهنم إذا مات على الإلحاد؟! ما قيمةُ الدين إذن، والنتيجة واحدةٌ إذا كان هنالك دينٌ أم لم يكن هنالك دين؟! كيف لا يتأثَّرُ التماسُكُ الداخليُّ للإيمانِ في داخل الكون بوجودِ مُلحِدِين تتركُهم وإلحادَهم؟!. إن الدينَ جاء لِينقذَ الناسَ من خطرٍ هو أعظمُ من أيِّ خطرٍ في الحياة الدنيا، لِينقذَهم بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ ما دامت تُفيد، وبالقوةِ والشدةِ إذا لَزِم الأمر .. وتَركُ الملحِدِ لإلحادِه سيَنشرُ الفسادَ في الأرض، ويَمتدُّ الإلحادُ، وتَطغى الفِتنُ في الأرض كما هي تطغى اليومَ في ظِلِّ سيطرةِ النصرانية، ويُفْتَن الناسُ عْن دينِهم وإيمانهم. ولكننا نَعجَبُ من البابا كيف يَتَّهم الإسلامَ بأنه نُشِر بالسيف، ويتناسى العالَمَ النصرانيَّ منذُ قُرونٍ طويلةٍ وهو يَحمِل كلَّ أنواع السلاح والتدميرِ

غاراتٍ متواصلةً على العالَم الإسلامي، وما زالت ممتدةً ترتكبُ أسوأَ أنواع الجرائمِ في الأرض؟! هذه الجرائمُ باسم "الديمقراطية" يقودها العالَمُ الغربيُّ باسم "النصرانية"، كذلك كما أعلنها "بوش" بأنها "حربٌ صليبيةٌ"، وكما أعلنها غَيره، وكما تنطق التصرُّفاتُ المتتاليةُ المختلفةُ من العالَم الغربي. وموقفُ بابا الفاتيكان موقفُ العَداءِ من الإسلام والمسلمين ليس جديدًا، وإنما هي مواقفُ متكررةٌ في حقدٍ وعَداءٍ مكشوف، ولا نراه بذلك يُطبِّقُ ما يزعمونه بأنه دينُ عيسى عليه السلام. ولا حاجةَ لأن أُذكِّرَ بابا الفاتيكان كيف تكوَّنت الكنيسةُ الكاثوليكيةُ في قَلبِ الإمبراطوريةِ الرومانية، وبعد صِدامٍ وصِراعٍ مع الوثنيةِ لمدةٍ تَزيدُ عن (300) سنة، أثَّرت الوثنيةُ اليونانيةُ الرومانية فيها، فمنها أَخذت طقوسَها التي لم يأتِ بها عيسى عليه السلام، ومنها أَتت فكرةُ "التثليث" التي رَفَضها طائفةُ "الآريوسيين" وتمسَّكوا بالتوحيدِ الخالِصِ لله، فقَضَوا عليهم قضاءً مُبرَمًا. وإذا كان البابا حريصًا على "الإيمانِ والعقل"، ففي كلامِه فارَقَ الإِيمان وفارَقَ العقل، وأَغْرَقَ في الافتراءِ والظلم. نَقصِدُ من هذه الملاحظات أن نُعرِّف بابا الفاتيكان على بعضِ القضايا في الإسلام، القضايا التي هي واضحةٌ في كتاب الله! ولكننا نَظلُّ نَعجَبُ أن يَصدُرَ عن رجل في هذا المركزِ الحساسِ ما يَكشفُ عن جهلٍ كبيرٍ بالإسلام، واضطرابٍ في الإيمان ودَورِ العقل. فالإيمانُ يَفرضُ عليه وعلى غيرِه أن لا يتحدَّثَ عن أيِّ موضوعٍ إلاَّ بعد

دراسته دراسةً أمينةً، ونُذكِّرُ بقوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36]. والعقلُ يَفرِضُ كذلك أنْ لا يتحدَّثَ الإنسانُ عن موضوع إلاَّ بعد دراستِه دراسةً جادةً، ليكونَ أمينًا فيما يَعرِضُه، فالإيمانُ والعقلُ يَفرضانِ الأمانةَ والصدقَ وعدمَ الافتراء. هذه ملاحظاتٌ سريعةٌ نسوقُها، عسى أن تَصِلَ إلى أُذُنِ بابا الفاتيكان، وقلبِه، لِيستفيدَ منها في حياته وآخرته. ° وفي قوله: "أرني شيئًا جديدًا أتى به محمد، فلن تَجِدَ إلاَّ ما هو شريرٌ ولا إنساني .. "!. • فإنَّ محمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - يَردُّ على ذلك في حديثِه الشريفِ الذي يَرويه عنه أبو هريرة وأبو سعيدٍ الخُدْريُّ وأُبَيُّ بنُ كَعبٍ - رضي الله عنهم - "مَثَلي في النبيَّين كمَثَلِ رجلٍ بني دارًا، فأحسَنَها وأَكْمَلَها وأجْمَلَها، وتَرَكَ منها مَوضِعَ لَبِنَة لم يَضَعْها، فجَعَل الناسُ يطوفون بالبُنيانِ ويَعْجَبون ويقولون: لو تَمَّ موضعُ هذه اللَّبِنةِ!! فأنا في النبيين موضعُ تلك اللبِنة" (¬1). وهذا تأكيدٌ على أنَّ الدينَ واحدٌ عند الله، وأنه دينٌ واحدٌ لجميعِ الرسل والأنبياء، وأنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خاتَمُ الأنبياءِ والمرسلين. ولكننا من ناحيةٍ أخرى نَعتِبُ على أنفسِنا -نحن المسلمين-، الذين ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي.

انتشروا في الأرض ملايينَ من الدعاةِ، ثم نكتشفُ كلَّ يوم أنَّ رسالةَ الإسلام لمْ تُبلَّغَ لا إلى هذا ولا إلى ذاك، وأولُ واجبِنا قبلَ أن نهاجمَ البابا هو أن نوضِّحَ له الإسلامَ، ثمَّ ندعوه بشكل واضحٍ صريحٍ إلى الإسلام، إلى دينِ عيسى عليه السلام ودينِ جميع اِلأنبياء والمرسلين، إننا ندعوه ونُلحُّ بالدعوةِ، عسى أن يَهدِيَ الله قلبَه فيؤمن فينجوَ من فتِنةِ الدنيا وعذابِ الآخرة. لقد سَبَق أن ذَهَب وفدٌ من المسلمين إلى الفاتيكان لأجلِ الحوار! أيُّ حوارٍ كانوا يَقصِدون؟! فهم يَعرِفون موقفَ البابا من الإسلام، والبابا يعرفُ موقفَ المسلمين من الفاتيكان، وكلاهما يعرفُ أنّه لا نُقطةَ لقاءٍ بين الفريقين إلاَّ أن يتنازلَ أحدُهما عن عقيدتِه، فهذا إذن ليس حوارًا، وإنما كان يجبُ أن يدعوَ الوفدُ البابا دعوةً صريحةً إلى الإسلام، وأن تكونَ دعوة جليَّةً جريئةً لا مجاملاتِ فيها على حسابِ الحق، وهذا هو أمرُ الله لنا، فلْنستمعْ إلى ما يأمرُنا به الله: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)} [آل عمران: 60 - 61]. * {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)} [البقرة: 62 - 64].

° شتَّانَ بين هذه الدعوةِ الواضحةِ إلى الحقِّ، وبين ما كان يَجرِي عليه الحوار! حتى لقد صَرَّح رئيسُ وفدِ الحوارِ إلى الفاتيكان أنَّ البابا قال لهم: "نحنُ لا نؤمن بأنَّ محمَّدًا رسولٌ من عند الله"! ثمَّ يتساءل: "لِمَ الحوارُ إذن؟! ". نعم! لِمَ الحوارُ وهم لم يطلبوه ولكن أنتم طلبتموه وسعيتُم إليه! ذهبتم ولم تُبلِّغوهم دينَ الله بوضوح، كانوا جريئينَ بضلالهم، ونحنُ ضعفاءُ بالحقِّ الذي نؤمنُ به، هم لا يُجامِلون، ولا يَرقُبُون في مؤمنٍ إِلاًّ ولا ذِمَّةً، ونحن نتنازلُ كلَّ يومٍ عن شيءٍ من ديننا!!. ° ومِن أعجبِ ما قاله البابا: "أرني شيئًا جديدًا أتى به محمد، فلن تجدَ إلاَّ ما هو شريرٌ ولا إنساني"!. فإن كان هناك شيءٌ يكشفُ الوجهَ، فلا شيءَ يَكشِفُه أكثرُ من هذا القول، وليس هذا بجهل فحسب، ولكنه افتراءٌ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأهمُّ ما جاء به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -: مكارمُ الأخلاق، والحبُّ في الله، والكلمةُ الطيبةُ، والإحسانُ، وصِلَةُ الرحم، وبرُّ الوالدين، والبرُّ كله. عَلَّمنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - أَدَبَ الكلمةِ واللفظةِ، بحيث تكونُ صادقةً لا كَذِبَ فيها ولا افتراء .. معاني الإنسانيةِ الحقَّةُ لا نَجِدُها في أي رسالةٍ كما نَجِدُهْا في دينِ الإسلام دينِ جميع الأنبياءِ والرسل الذين خُتِموا بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. ولو أردتُ أن أُعدِّدَ كلَّ ما جاء به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - من عندِ ربِّه -من الخير ومعاني الإنسانية- لاحتجتُ إلى مؤلَّفات، ولكنْ يكفي أن أقولَ: إنه جاء بما أنت بحاجةٍ إليه!.

وحَسُبك حديثُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَرويه عنه أبو هريرة - رضي الله عنه -: "إنَّما بُعثْتُ لأتمِّم صالحَ الأخلاق" (¬1). ° أيها البابا، إني أدعوك إلى الإسلام دعوةً واضحةً صريحةً، فأسلِمْ، عسى أن تَسلَمَ بين يدي الله، إنَّ الحق جَلِيٌّ، واللهُ أرحمُ بعبادِه من أن يَتركَ الحقَّ مبهمًا غيرَ بيِّنٍ أو جَلِيٍّ. فإذا قَضَيتَ وغادرتَ الدنيا، ورأيتَ أنك كنت كما أنت الآن على غيرِ الحق، وبدا لك أنَّ الحقَّ هو ما جاءت به الرسلُ والأنبياءُ والنبيُّ الخاتَمُ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، فماذا أنت فاعل؟! وماذا يفعلُ الذين اتَّبعوك؟!. أُكرِّر بإلحاحٍ -أيها البابا- أنْ أَسْلِمْ، فعسى أن تُنقِذَ نفسَك وتُنقِذَ الملايين ممَّن يتبعونك. أنا لا أنتظرُ اعتذارك! ولكنْ أنتظرُ توبتَك إلى الله، لأنك ارتكبت معصيةً كبيرةً. فالإساءةُ إلى أيِّ نبيٍّ أو رسولٍ إثمٌ ومعصيةٌ عند الله، وبخاصةٍ إذا كانت إلى خاتَمِ النبيين محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واستمع إلى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)} [الأحزاب: 57] (¬2) اهـ. * * * ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أحمد، وابن سعد، والحاكم، والبيهقي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع". (¬2) موقع الدكتور عدنان النحوي على "النت"- تاريخ النشر في الموقع: 10/ 10/ 2006 م- 1427/ 9/6 هـ.

خطاب مفتوح إلى البابا "بنديكتوس السادس عشر"

* خطابٌ مفتوحٌ إِلى البابا "بنديكتوس السادس عشر": ° كتبت الدكتورة زينب عبد العزيز: "أبدأُ بهمسةِ عتابٍ كزميلةٍ في اللقبِ الجامعي -وهو المستوى الذي يَدورُ في نطاقِه هذا الخطاب- وكإنسانةٍ مُسلمةٍ، نالها من الإهانةِ والمرارةِ والألمِ ما نال المسلمين في العالَمِ أجمعَ مما ورد في المحاضرة التي ألقيتموها، في جامعة "ريجنسبرج" بألمانيا، تحت عنوان: "العنف يتعارضُ مع طبيعةِ الله ومع طبيعة الروح". ° فمَن يَحملُ على كاهِلِه أمانةَ ومسؤوليةَ كلِّ هذه الألقاب، عارٌ عليه أن يتدنَّى إلى مستوى السبِّ العلنيِّ لدينٍ يتمسَّكُ به ويتَبعُه أكثر من خُمسِ سكانِ العالم .. وعارٌ عليه أن يختارَ موقفَ التحدِّي الاستفزازيِّ للنَيل من الإسلام والمسلمين .. وهو موقفٌ يندرجُ بلا شك ضمنَ مسلسل الإساءةِ والمحاصرةِ الذي بدأ منذ بدايةِ انتشارِ الإسلام ويتواصلُ حتى يومِنا هذا، إنه موقفٌ وَضَعَكم على أرضِ احتقارِ الآخر، والكذبِ، والجهلِ، باختيارِكم، وكلُّها تشبيهاتٌ لا تليقُ بمَن في مِثلِ منصِبِكم، فهو موقف يكشِفُ عن مدى جَهلِكم بدينِكم وبدينِ الآخرين من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى هو موقفٌ أشبهُ ما يكونُ بإطلاقِ العِنانِ لحملاتٍ صليبيةٍ جديدةٍ ما أغنانا جميعًا عنها!. ° وتؤكِّدُ جريدةُ "لاكروا" المسيحية الصادرة في 17/ 9/ 2006، أن المحاضرةَ قد تمَّ الإعدادُ لها طويلاً، وقرأها العديدُ من المحيطين بكم، مثلَما يحدثُ مع كافةِ النصوص العامةِ على الأقل، كما تؤكدُ الجريدةُ أنه منذ يومٍ الإثنين 11/ 9 وبينما لمِ يكن البابا قد نَطق محاضرتَه بعد، صَدرت الصحفُ الإيطاليةُ بعناوين حولَ "بنديكت السادس عشر والإسلام"! الأمر الذي يؤكدُ ربطَ هذه المحاضرةِ في هذا التوقيت بمسرحيةِ الحادي عشر من

سبتمبر! .. فما أصبح معروفًا يقينًا رغمَ التمويهِ الشديد، أن الأياديَ المدبِّرةَ أمريكيةٌ رفيعةُ المستوى، وكان هدفُ المحاضرة واضحًا في ربطِه بين الإسلام والإرهابِ والشر .. أي أنه موقفٌ متعمَّد. ° ولقد جاء ردُّكم وتعبيرُكم عن "الحزن" الذي انتابكم من ردودِ الأفعال التي أثارتها محاضرتُكم كعُذرٍ أقبحَ من ذنب، فالباحثُ الأكاديميُّ حينما يَستشهدُ في بحثه، يكونُ ذلك لأحدِ أمرين: إمَّا لتأييدِ موقفِه، وإمَّا لِنَقدِ ذلك الاستشهاد، ولا يوجدُ هناك ما يسمَّى باستشهادٍ لا يُعبِّرُ عن رأيِ كاتبهِ بالمعني الذي حاولتم التبريرَ به: فالكاتبُ هو الذي يَستشهدُ. وقولُكم: إن هذه العبارات لا تُعبِّرُ عن رأيكم الشخصي، في الوقت الذي يؤكدُ صُلبُ المحاضرةِ وسابقُ كتاباتكم -وخاصةً خطابُكم الرسوليُّ-، كلُّها كتاباتٌ تؤكدُ أنكم تعنونه، وذلك يَضعُكم في مصافِّ أولئك الباحثين الذين يضعون أفكارَهم على لسانِ غيرِهم حتى لا تُحسَبَ عليهم خشيةَ عواقبها .. وهو موقفٌ علميٌّ يوصفُ بالجُبن، ولا يَليقُ بمَن في مكانتكم. ° وحتى التصريحُ الصادرُ عن المكتبِ الإعلاميِّ للفاتيكان يوم السبت 16/ 9/ 2006 والذي استَشهد فيه المتحدثُ الرسمي بقرارِ وثيقة "في زماننا هذا" الصادرةِ عن مَجمع الفاتيكانِ الثاني سنة 1965، فهو أيضًا بمثابةِ عُذرٍ أقبحَ من ذنب، ويكشف عن الموقفٌ غيرِ الكريم والملتوي -لكي لا أقولَ ذو الوجهين- للفاتيكان، فمن يَطَّلعُ على مَحاضرِ صياغةِ هذا النص تحديدًا، يُصابُ بالغَثَيان مِن كثرةِ ما جاهَدَ كاتبوه لاستبعادِ أن العربَ من سُلالةِ إسماعيل الابنِ البِكر لسيدنا إبراهيم، ولا ينتمون إليه، وإنما يتخذونه مَثلاً!. وأستبعاد حتى أن الله قد خاطَبَ المسلمين عن طريقِ الوحي إلى

سيدنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، والمرجعُ صادرٌ عن الفاتيكان بعنوان "الكنيسة والديانات غير المسيحية"، وبه محاضر الجلسات المُخجِلة، الأمرُ الذي يوضِّحُ مدى تمسُّككم باستمرارِ ذلك الموقفِ غيرِ الأمين تُجاهَ الإسلامِ والمسلمين، لعدمِ الاعترافِ به كديانةٍ توحيدية، وسواء اعترفتم أو لم تعترفوا به، فالإسلامُ موجودٌ ومعترَفٌ به من الجميع على أنه الرسالةُ التوحيديةُ الثالثةُ المرسَلةُ للبشر، ورَفضُه أو إنكارُه لا يُدِينُ إلاَّ شخصَكم، ولا يَسَعُ المجال هنا لتناولِ مختلَفِ النقاطِ التي طَرحتموها في تلك المحاضرة، والتي تَزيدُ عن العشرين موضوعًا، وسأكتفي بالردِّ على ما يَخصُّ الإسلام، وهما نقطتان أساسيتان: ما وصفتم به اللهَ عزّ وجلّ في "المذهب الإسلامي" من أن التصعيدَ المُطلَقَ لله عبارةٌ عن مفهومٍ لا يتفقُ ولا يتمشَّى مع العقل والمنطق، ولا يُمكنُ فهمه، وأن إرادتَه لا ترتبطُ بأيِّ واحدةٍ من فئاتكم المنطقية، ولا حتى فئةِ المعقول؛ وأن سيدَنا محمدًا عليه صلوات الله، لم يأتِ إلاَّ بكلِّ ما هو شرٌّ ولا إنساني، مثل أمرِه بنشرِ العقيدةِ التي يُبشَّرُ بها بالسيف!. ° وأولُ ما يَجبُ توضيحُه هنا هو أن الإسلامَ ليس بمذهب، كما وصفتموه، وإنما دينٌ توحيديٌّ متكامل، شاملُ الأركان، ثابتٌ وراسخ، وخاصةً شديدُ المنطقِ والوضوح، وهو ما يَجذبُ الناسَ إليه، ومجردُ إغفالِ مثل هذه الحقيقةِ يُوصِمُ موقفَكم، ويَكشفُ عن مَدى عَدمِ الأمانةِ العلميةِ والموضوعيةِ التي تتمسَّكون بها!. ولن أحدثِّكَم هنا عن الإسلام الذي يُمكنُكم دراستُه إن شئتم، لكنني سأسألُكم عن الكتابِ المقدَّس بعَهديه , والذي تَرَون أنه بقِسمَيهِ يتفقُ مع العقلِ والمنطقِ دونًا عن القرآن، مشيرِين في موضع آخَرَ: "أن العنفَ

يتعارضُ مع طبيعةِ الله وطبيعةِ الروح، وأن اللهَ لا يُحبُّ الدمَ، والتصرُّفُ بمنافاةِ العقل يُعدُّ ضدَّ طبيعة الله". ° وهنا لا يَسَعُني إلاَّ أن أسألَكم عن كلِّ ما هو واردٌ بالعهد القديم من أمرِ الإله "يهوه" لأتباعِه بإبادةِ كلِّ القُرى وحَرْقِها وذَبحِ الرجالِ والنساء والأطفالِ بحدِّ السَّيفِ، وأَخذِ الذهبِ والفضة .. وفي مكانٍ آخَرَ يطلبُ تعذيبَهم وتقطيعَهم وحَرْقَهم في أفرانِ الطوب .. هل تتمشَّى مثل هذه الآياتِ مع العقل والمنطقِ في نظركم؟ وخاصةً هل تَرَونها تخلُو من الشرّ واللاإنسانية؟! أم هذا هو التسامحُ الذي تُقرُّونه؟!. ° وما هو واردٌ في سِفْر "حزقيال" حين يأمرُه الربُّ أن يأكلَ خبزًا وعليه "خِراءُ الإنسان"، وحينما اشتكى النبيُّ "حزقيال" أَمَره أن يُضيف عليه رَوَثَ البقر! هل يتمشَّى هذا مع العقل والمنطقِ في نظركم؟! وأخجل حقًّا من ذِكرِ بعضِ الإباحياتِ الواردةِ بهذا النصِّ وغيره رَغمَ محاولةِ درئِها بتغييرِها، أو تعديلِها من طبعةٍ لأخرى .. والنصوصُ والطبعات موجودة. ° أما في المسيحية التي تتراَّسون أعلى المناصب فيها، فأبدأُ بسؤالِكم عن تأليه السيدِ المسيح في "مجمع نيقية الأول" سنة 325، رغمَ وجودِ العديدِ من الآياتِ التي يقولُ فيها السيدُ المسيح: إن "الرب إلهنا واحد" (مرقس 29: 12)، "ليس أحدٌ صالحًا إلاَّ واحدٌ وهو الله" (متَّى: 19 - 16) .. "إنِّي أصعدُ إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهِكم" (يوحنا: 17 - 20) .. "للربِّ إلهك تَسجُد، وإياه وحدَه تعبد" (متى: 10: 4)، وما أكثرَ الآياتِ التي يُوضِّحُ فيها أنه إنسان: "أنا إنسانٌ قد كلَّمكم بالحق الذي سمعه من الله، (يوحنا: 40: 8)، كما أن هناك آياتٍ تقول: "هذا يسوع النبي الذي من

ناصرة الجليل" (11: 21)، و"قد قام فينا نبيٌّ عظيم" (لوقا: 16: 7) .. ورَغمَ كلِّ هذه التأكيدات التي لا تزالُ موحودةً ولم تُمْحَ بعد، قامت المؤسسةُ الكَنَسيَّةُ بإعلانِ أنَّ يسوع "إلهٌ حقيقيٌّ من إلهٍ حقيقي، مولودٌ وليس مخلوقًا، ومشاركٌ لآب في الجوهر" .. وبعدَ ذلك جَعَلَتْه اللهَ شخصيًّا، فهل تتمشَّى كل هذه المغالطاتِ مع العقل والمنطق -رغم أنها أدَّت إلى تقسيم المسيحية وإلى مذابح بين أتباعها؟!. ° وفي "مَجمع القسطنطينية الأول" تمَّت إضافةُ أن "الروح القدس مشارِكٌ للآب في الجوهر"، ممَّا أدَّى إلى انفصالٍ آخَرَ للكنائس، وفي "مجمع أفسوس" سنة 431 أقرَّ المَجمعُ بدعة "أن مريم أم الله"، ممَّا أدَّى إلى معاركَ وانفصالاتٍ أخرى .. وفي "مجمع خلقيدونيا" سنة 451 أقر "الطبيعة الثنائية ليسوع" .. وكلُّها عقائدُ وقراراتٌ لا يَذكرُ ولا يَعرفُ عنها يسوعُ أيَّ شيءٍ، فهل هذا يتمشَّى مع العقل والمنطق؟!. ° والمعروفُ من إصداراتكم أنه لم يَتِمَ تقبُّلُ عقيدةِ التثليثِ لقرونٍ طويلةٍ بين الكنائس، بحيث نُطالعُ في قرارِ مجمع "فلورنسا" المنعقدِ سنة 1439، الذي راح يُحدِّدُ لليعاقبة معنى الثالوث لفرضِه بلا رجعة، ويَنصُّ القرارُ على ما يلي: "إن العلاقةَ وحدَها هي التي تُفرق بين الأشخاص، لكن الأشخاصَ الثلاثةَ يُكوِّنون إلهًا واحدًا وليس ثلاثةَ آلهة؛ لأنَّهم من جوهر واحد، وطبيعةٍ واحدة , وألوهيةٍ واحدة، وضخامةٍ واحدة، وخلودٍ واحد، وإن ثلاثتَهم واحدٌ حيث لا تُمثِّلُ العلاقةُ أيَّ تعارض". وعلى الذين لا يَرُوقهم هذا الوضوح تُجيب الكنيسة: "إنه سرٌّ"! فهل مِثلُ هذا المنطق هو الذي تَرَونه يتمشَّى مع العقلِ السليم؟!.

° تعتبرون سيادتُكم أن نصوصَ الكتاب المقدَسِ بعَهده القديم، القائم على الترجمةِ السبعينية، وأناجيلِه الأربعةِ وباقي الكتبِ المُرفقة، هو الكتابُ الذي يُعتدُّ به، فهو يَحتوي على الإيمانِ الإنجيليِّ، وتستعينون بفِكرِه طوالَ محاضرتِكم بعد استبعادِ القرآن، والمعروفُ تاريخنا أن القديسَ "جيروم" هو الذي صاغه بأمرٍ من البابا "داماز"، بعد توليفِه من أكثرَ مِن خمسين إنجيلاً كانت منتشرةً ومستخدمةً حتى القرنِ الرابع، وعند الفراغِ من مهمَّته كَتَب مقدمةً للعهدِ الجديدِ موجِّهًا إياها للبابا "داماز" يقول فيها: "إلى قداسة البابا "داماز"، من "جيروم": تَحُثُّني على أن أقومَ بتحويل عملٍ قديمٍ لأَخرُجَ منه بعملٍ جديد، وتريدُ منِّي أن أكونَ حَكَمًا على نُسَخِ كلِّ تلك النصوصِ الإِنجليةِ المتناثرةِ في العالم، وأن أختارَ منها وأُقَرِّرَ ما هي تلك التي حادت، أو تلك التي هي أقربُ حقًّا من النص اليوناني، إنها مهمةٌ ورعة، لكنها مغامرةٌ خطِرةٌ، إذ سيتعيَّنُ علي تغييرُ أسلوبِ العالَم القديم وأن أعيدَه إلى الطفولة، وأن أقومَ بالحُكم على الآخرين، يعني في نفسِ الوقت أنهم سيَحكمون فيه على عملي , فمَن مِن العلماءِ، أو حتى من الجهلاء، حينما سيُمسكُ بكتابي بين يَديه ويلحظ التغييرَ الذي وَقَعِ فيه، بالنسبةِ للنصِّ الذي اعتادَ قراءَته، لن يَصيحَ بالشتائم ضدِّي وَيتَّهِمني بأنني مُزوِّرٌ ومُدنَّسٌ للمقدسات؛ لأنني تجرَّأتُ وأضفتُ، وغيَّرتُ، وصحَّحتُ في هذه الكتب القديمة؟. وحيالَ هذه الفضيحة، هناك شيئانِ يُخفِّفان من رَوعي، الأمر الأول: أنك أنت الذي أمرتَني بذلك؛ والأمرُ الثاني: أن ما هو ضلالٌ لا يمكنُ أن يكونَ حقًّا، وهو ما تُقرُّه أقذَعُ الألسِنةِ شراسةً، وإذا كان علينا أن نُضفِيَ

بعضَ المِصداقيةِ على مخطوطاتِ الترجمةِ اللاتينية، لِيَقُلْ لنا أعداؤنا أيها أصوبُ؛ لأن هناك من الأناجيل بعددِ الاختلافِ بين نصوصِها ,ولماذا لا يَرُوقُهم أن أقومَ بالتصويبِ اعتمادًا على المصادرِ اليونانية لتصويبِ الأجزاءِ التى أساء فهمَها المترجِمون الجهلاء، أو بدَّلوها بسوءِ نيَّةٍ، أو حتى قام بعضُ الأدعياء بتعديلها؟. وإذا كان علينا دَمجُ المخطوطات، فما يَمنعُ أن نَرجعَ ببساطةٍ إلى الأصولِ اليونانية، ونَبعُدُ بذلك عن أخطاءِ الترجمات السيئة أو التعديلات غيرِ الموفَّقة من جانبِ الذين تصوَّروا أنهم علماء، أو الإضافاتِ التي أدخلها الكَتَبَةُ النعسانين؟ إنني لا أتحدَّثُ هنا عن العهدِ القديم والترجمةِ السبعينيةِ باللغةِ اليونانية التي لم تَصِلْنا إلاَّ بعدَ ثلاثِ ترجماتٍ متتاليةٍ من العِبرية إلى اليونانية، ثم إلى اللاتينية، ولا أودُّ أن أبحثَ هنا ما الذي سيقولُه "أكويلا" أو "سيماك"، أو لماذا آثَر "تيودوسيان" الوسَطَ بين المترجِمِين القدامى والحُدَّاث؟ لذلك سأعتمدُ على الترجمةِ التي يمكنُ أن يكونَ قد عَرَفها الحواريون. ° وأتحدثُ الآن عن العهدِ الجديد، المكتوب بلا شكٍّ باللغةِ اليونانية -فيما عدا "إنجيل متَّى" الذي كان قد استعان أولاً بالعبرية لنشرِه في منطقةِ اليهوديةَ-، إن هذا الإنجيلَ يختلفُ يقينًا عن الذي بَلُغَتِنا نظرًا لتعدُّدِ المصادرِ التي استعانوا بها لتكوينه، وقد آثَرتُ أن أرجعَ إلى نصٍّ أساسيٍّ، فلا أودُّ الاستعانةَ بترجماتِ المدعوَّان "لوشيانوس" أو "هزيكيوس" التي يُدافعُ عنها البعضُ بضراوةٍ عن غيرِ وجهِ حق، واللذان لم يكن مِن حقهما مراجعةُ لا

العهدِ القديم بعد ترجمة السبعينية، ولا أن يقومَا بمراجعةِ النصوصِ الجديدة، فالنصوصُ الإنجيليةُ التي وَصَلَتْنا بلغاتِ شعوبٍ مختلفةٍ تُوضحُ مدى الأخطاءِ والإضافاتِ التي بها، وإذا كنتُ قد قمتُ بذلك بالنسبةِ للنسخِ المكتوبة بلُغتِنا، فلابدَّ وأن أعترفَ بأنني لم أستفِدْ منها شيئًا" انتهى. ° ذلك هو حالُ الكتاب الذي تعتبرونه مقدَسًا! وأكتفي بهذا القَدْرِ من الاستشهاد؛ لأن باقيَ النصِّ متعلق بترتيبِ الأناجيل وتبويبها، وكان ذلك في القرنِ الرابع الميلادي، أي أنه حتى ذلك التاريخ لم تكنِ الأناجيلُ المعروفةُ حاليًا قد استَتَبَّ أمرُها، واندَلعت الخلافاتُ بين الكنائسِ لمدةِ قرونٍ طويلةٍ، حتى قامت المؤسسةُ الكَنَسيةُ الكبرى بفَرضِ هذا الكتابِ المقدسِ على الأتباع على أنه نصٌّ منزَّلٌ و"أن مؤلفه هو الله"، وذلك في "المَجمع التريدنتي" سنة 1547، ثم قام "مجمع الفاتيكان الأول" المنعقد في عامي 1869 و 1870 بإعلان أن الكتابَ المقدَس بعهديه "كُتب بإلهامٍ من الروح القدس، وأن مؤلِّفه هو الله، وأنها قد أُعطيت هكذا للكنيسة" .. أما "مجمع الفاتيكان الثاني" المنعقد بعد ذلك بحوالَي تسعين عامًا، ظَهرت خلالَها من الدرساتِ والأبحاثِ التي أطاحت بمصداقيةِ الكتاب المقدس، ما جَعَله يُعلِنُ عن إصحاحاتِ هذا الكتاب المقدس قائلاً: "إن هذه الكُتبَ وإنْ كانت تتضمنُ الناقصَ والباطلَ، فهي مع ذلك شهاداتٌ لعِلمِ تربيةٍ إلهيٍّ حقيقي"!. تُرى أيها البابا، هل هذا هو المنطقُ الذي تَرَونه حقًّا ومفهومًا؟!. ° ولا تفوتُنا هنا الإشارةُ إلى "ندوة عيسى" التي انعقدت في الولايات

المتحدة الأمريكية سنة 1992، وإن أهمَّ ما خَرج به فريقُ العلماء المساهِمين فيها -وهم حوالي 200 باحثًا لاهوتيًّا وأكاديميًّا- أن 82% من الأقوال المنسوبة إلى يسوعَ لم يتفوه بها، وإنَّما صاغها كَتَبَةُ الأناجيل، وأن موتَ يسوع وبَعْثَه حَدَث في المكان وبالكيفية التي أرادها كَتَبَهُ الأناجيل .. (صفحة 24 من مقدمة الكتاب الصادر عن الندوة) .. وما يأسفُ له هؤلاء العلماءُ هو الجهلُ الشديد لدى عامةِ المسيحيين بكتابهم المقدَس -وخاصةً بالعهد الجديد-، وهو مستوًى يَرَون أنه يَصِلُ إلى درجةِ الأُميَّة! واللهم لا تعليق على ما تعتبرونه مصدرًا للعقل والمنطقِ والإلهام!!. ° تقولون في خُطبتكم الموثَّرة: إن سيدَنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم ياتِ إلاَّ بأشياءَ شريرةٍ ولا إنسانية، مِن قَبِيل أمرِه أن يَتمَّ نَشرُ ما يُبشِّر به بالسيف .. لعلَّكم لا تَجهلون أن البابا "أوربانَ الثاني" هو الذي أعلن قيامَ الحروبِ الصليبية باسم الرب في مجمع "كليرمونت"، قائلاً: "إن الله يُريدُها"، وأنه أطلق على المساهِمين فيها لقب "جُنْدِ يسوع"، وأَمَرهم بوضع علامةِ الصليب على ثيابهم وعَتادِهم، ووَعَد بغفرانِ ذنوبِهم وإعفائِهم من الضرائب، وأغدَقَ عليهم العطايا .. ويَصِفُ المؤرخ المرافقُ للحَملةِ -والمعروف باسم "لانونيم" - قائلاً: "تمَّ طَردُ المدافِعين عن المدينة "القدس" بقَتلِهم وبترِهم بالسيوف أحياءً حتى معبدِ سليمان، وقد وَقعت مَجزرةٌ لا مثيلَ لها، بحيث أن جنودَنا كانوا يَغُوصون بأقدَامِهم في الدماء حتى عراقيبهم"، ثم يُضيفُ بعد ذلك قائلاً: "لعلَّ ما أدَّى إلى نجاح ذلك الهجوم وغيرهِ الانقسامُ الذي كان سائدًا آنذاك بين المسلمين، وعندما سادت المجاعةُ أيامَ حصارِ "عكَّا" كان الصليبيون يَسْلُقون أطفالَ المسلمين ويأكلونهم ..

أذلك هو ما يندرجُ تحت مسمَّى "العقل والأعمال الإنسانية وعدم الانتشار بالسيف"؟!. ° كما تم إنشاءُ محاكم التفتيش لتواكِبَ أعمالَها ولتواصلَ ما أُطلق عليه "عصرُ الظلمات" الذي امتدَّ حوالَي ألفِ عام، بمنع الأتباع من قراءةٍ إنجيلهم، ومَنع التعليم إلاَّ على رجالِ الدين .. والمعروفُ أن الحروبَ الصليبيةَ لم تُوجَّهْ ضدَّ المسلمين وحدَهم في الأراضي المقدسة، وإنما امتدَّت إلى "إسبانيا" لِتعاونَ في اقتلاع الإسلام، كما امتدَّت إلى أوروبا وجنوبِ شرق فرنسا لاقتلاع شعوبِ "الكاتار والبوجوميل والفودوَا"، لأنهم حتى ذلك الوقت كانوا رافِضين لبدعةِ تأليه السيد المسيح .. وما تَذكُرُه المراجعُ التاريخيةُ والعِلميةُ عن عملياتِ التعذيب التي تَفنَّنت فيها محاكمُ التفتيش مِن حَرقِها الناسَ أحياءً، أو فَقْءِ عيونهم، أو انتزاع لسانهم وهم أحياءٌ، أو دَهْنِ أرجُلهم بالزيَّتِ ووضعِها فوقَ النار -بعدَ ربطِهم حتى لا يتحركوا من أماكنهم- لَيُصيبُ القارئَ بالغَثَيان .. وما كَتَبه القَسُّ "برتولوميه دي لاس كازاس" عن وحشيةِ أعمال المبشِّرين ورجالِ الكنيسة وجنودِها -عند غزوهم شعوبَ أمريكا الجنوبية- يفوقُ الخيالَ في بشاعته .. ولم يُسمَحْ بنشرِ مذكِّراته إلاَّ في أواخِرِ القرن العشرين، ولا يَسعُ المجالُ هنا للتحدُّثِ عن الحروبِ الدينية بين المسيحيين كحَربِ الخمسين عامًا، والمئةِ عامٍ، والمجازِرِ المميَّزة كمجزرةِ البروتستانت المعروفة باسم "سانت بارتليمي" .. ولا عن سَردِ كيفيةِ فَرضِ المسيحيةِ بالسيف على أوروبا وضواحيها، أو على باقي بعضِ شعوبِ العالم.

° وإذا ما تَمَّ حَصرُ أعدادِ كلِّ الذين تَمَّ قتلُهم بأمر من الكنيسة الكاثوليكية الرومية الرسولية، لَوصل إلى مئاتِ الملايين من الأبرياء، وهو ما تَذْخَرُ به المراجع .. فمِثلُ هذه الأعمالِ تندرجُ تحت أي منطق في نظر سيادتكم؟ أم لعلَّكم تباركونها لبراءتها وتسامُحِها المسيحي!. سيادةَ الأستاذِ والباحثِ، إنَّ كلَّ ما تقدم -وأكثرَ منه بكثير- هو ثابتٌ عِلميًّا وتاريخيًّا ووثائقيًّا، بل أكثرُ منه جِدُّ كثير، ولا يَسَعُ المجالُ هنا لذِكره .. إنها مجردُ شَذَرات. ° تقولون في الفقرةِ من محاضرتكم: "إن الله لا يُحبُّ الدمَ"، ومع ذلك تصرُّون على استمرارِ العقيدةِ التي تَفرضُ على الأتباع شُربَ دمِه وأكلَ لحمِه عند تناولِ "الإفخار ستيا"، ومَن لا يؤمنُ بذلك إيمانًا قاطعًا بأنه يشربُ دَمَه فعلاً ويأكلُ لحمه فعلاً يكون كافرًا وملعونا .. ومن الواضح أن هناك العديدَ من الأتباع الذين يَنفِرون من مجردِ هذه الفكرة، وتفاوتت حِدَّةُ الصراعاتِ الرافضةِ "للإفخار ستيا" بالمعنى الكَنَسي، وكان من أشهرِ هؤلاء "جان فيكليف" الذي أدانه مَجْمَع "كونستانس" 1418 لأنه نادى بأنه الخُبزَ والنبيذَ لا يتبدَّلانِ في القربان ولا يتحوَّلان، وأن المسيحَ لا يتواجدُ فعلاً بلحمِه ودمِه في القربان، فأدان المَجمعُ كلَّ مؤلَفاتِه، واتَّهمه بالهرطقة، وبعد وفاته أَمَر المَجمعُ بنَبشِ قَبرِه لإلقاءِ عِظامه بعيدًا عن المدافنِ الكنسيَّة (المجامع المسكونية ج 2 صفحة859)، ثم قام مجمعُ "لاتران" بإدخال هذا الطقس الدمويِّ ضمن عقيدة "الإِيمان"!. وكانت آخرُ محاولةٍ مبذولةٍ لدراسةِ كيفيةِ فَرضِ فكرةِ أكلِ لحمِ المسيحِ وشُربِ دمِه فعليًّا وحقيقيًّا، ذلك العامَ الذي كرَّسه البابا "يوحنا بولس

الثاني" في أكتوبر 2004، والذي انتهى بانعقادِ "السينودس" الذي أُقيم من 2 إلى 23 أكتوبر 2005، وحضره 256 أسقفًا من 118 بلدًا حول موضوع: "الإفخارَ ستيا في الحياة والرسالة الحالية للكنيسة"، وقد قمتَ بترأُسه لوفاةِ البابا السابق، وتم اختيارُ هذا التاريخ 23 أكتوبر لإنهاءِ أعمالِ المؤتمر، لِيتَّفقَ مع "اليوم العالمي للتبشير" .. وهو ما يكشفُ عن أن عقيدةَ "الإفخار ستيا" تقفُ عقبةً في عملياتِ التبشيرِ التي تَخوضونها وتجاهِدون لِتدارُسِ كيفيةِ فرضها!. ومن الواضح أن الإصرارَ على فرضِ هذه العقيدةِ بمثل هذا التشبُّث، هي عمليةُ تبرير لاستمرارِ ضرورةِ وجودِ طبقةِ القساوسة التي هي وحدَها تمتلكُ سرَّ تحويل الخُبزِ والنبيذ "بقُدرتهم السحريَّة" إلى لحم ودم المسيح الذي يَتعيَّنُ على الأتباع أكلُه وشُربُه، وإلاَّ لا يَحصلون على الخَلاَص! .. ولا نَملكُ إلاَّ أن نتعجَّبَ لِمَا تعتبرونه معقولاً ومنطقيًّا ويتفهَّمُه العقل والمنطق .. ولعل ذلك هو ما دَفَع الكاتبَ الفرنسيَّ "إميل زولا" أن يقول في إحدى رواياته: "إن الحضارةَ الإنسانيةَ لن تتقدمَ إلاَّ إذا سَقَط آخِرُ حَجَر من آخِرِ كنيسةٍ على رأسِ آخِرِ قسيس"!. أنتقلُ بعد ذلك إلى "مجمع الفاتيكان الثاني" وقرارتِه سنة 1965 التي تُمثل خروجًا سافرًا على نصوصِ وتعاليم العهدِ الجديد، التي تُمثِّلُ جزءً كبيرًا من المشكلات التي تُواجِهُ العالَم حاليًا، فعلى الرغم من اتهامِكم اليهودَ في قُدَّاسِ كل يوم أحد بأنهم قَتَلةُ الرب، وعلى الرغم مِن وجودِ أكثرَ مِن مئةِ آيةٍ صريحةِ الوضوح في اتهامِها بالعهدِ الجديد، نصَّ ذلك المَجمعُ

- مِن ضِمنِ ما نصَّ عليه في نصوصه المتعددة- على: - تَبرأةِ اليهود من دم المسيح. - اقتلاع اليسار في عقد الثمانينات (من القرن العشرين). - اقتلاع الإسلام في عَقدِ التسعينات، حتى تبدأ الألفيةُ الثالثة وقد تَمَّ تنصير العالم، وإن كانت هذه التوصِيَة بدأت بعبارةٍ مضغمة هي "توصيل الإنجيل لكلِّ البشر". - إعادةِ تنصير العالم. - توحيدِ كافةِ الكنائسِ تحتَ لواء كاثوليكيةِ روما. - فرضِ المساهمةِ في عمليةِ التبشير على كافةِ المسيحيين الكَنَسيين منهم والمدنيين، وهي أولُ سابقةٍ من نوعها، وتُوصِمُ أمانةَ الأقليات المسيحية في كل مكان. - استخدام الكنائسِ المحليةِ في عملياتِ التبشير، الأمرُ الذي يَضعُ الأقلياتِ المسيحيةَ في البلدان التي يَعيشون فيها في موقفِ عدم الأمانةِ، أو الخيانةِ الوطنيةِ لصالح التعصُّبِ الكنسي. - فرضِ بدعةِ الحوار، كوسيلةٍ لكسبِ الوقتِ حتى تتمَّ عمليةُ التنصير بلا مقاومةٍ تُذكر. - إنشاءِ لجنة الحوار. - إنشاءِ لجنة خاصة بتنصير العالم. ° ولن أطلبَ منكم تقييمَ قرارتِ هذا المَجْمَع من حيثُ العقلُ والمنطق، أو من حيثُ الشرور واللاإنسانية التي تَمَخَّضُ عنها، فهي ليست

بحاجةٍ إلى تقييم، إنها تجأر بنفسها لكنني سأُضيفُ أن البابا "يوحنا بولس الثاني" كان قد وعَد بتبديل وتغييرِ سبعينَ آيةٍ من آيات الأناجيل لتتمشَّي مع مسلسل التنازلات التي تُقدِّمونها للصهاينة، وللحقِّ لا أعرفُ إنْ كان قد تمكَّن من إتمام ذلك قبلَ وفاتِه؟ أم سيقعُ عليكم الوفاء بهذا الوعد؟. ° ومن بين كلِّ القرارات السابقةِ لن أُعلِّقَ إلاَّ على نقطةِ بدعةِ "الحوار بين الأديان"، لأستشهدَ ببعضِ النماذج الكاشفةِ من الوثائق الفاتيكانية: - أخطر ما يمكن أن يُوقِفَ الحوار: أن يكتشفَ مَن نُحاورُه نيَّتَنا في تنصيره. - من أهمَّ عقباتِ الحوارِ ما قُمنا به في الماضي ضدَّ الإسلام والمسلمين، وهذه المَراراتُ عادت للصحوة حاليًا، فقد أُضيفت الآن قضية إسرائيل وموقفُ الغرب منها، ونحن كمسيحيين نعرفُ ما هي مسؤليتُنا حيال هذه القضية. - ضرورةُ القيام بفَصل المسيحيةِ في حدِّ ذاتها عن العالَم الغربي، ومواقِفِه المُعاديةِ والاستعمارية، فالمسلم لم يَنْسَ ذلك بعد. - إن الحوارَ الصحيحَ يَرمي إلى تجديدِ فردٍ بالارتدادِ الباطنيِّ والتوبة، اعتمادًا على الصبرِ والتأني والتقدم خُطوةً خطوةً وفقًا لِمَا تَقتضيه أحوال الناس في عصرنا. - يَتعيَّنُ على المسيحيين أن يُساعِدوا مؤمِنِي العقائدِ الأخرى على التطهُّرِ من تُراثِهم الدينيّ لِتَقَبُّل عمليةِ الارتداد. - إن أعضاء الديانات لأخرى مأمورون بالدخولِ في الكنيسة من أجل

الخَلاص. - الحوارُ يعني فَرْضَ الارتدادِ والدخولِ في سرِّ المسيح. - إن الكرسيَّ الرسوليَّ يسعى إلى التدخل لدى حُكَّام الشعوبِ والمسؤولين عن مختلفِ المحافِل الدولية، أو الانضمام إليهم بإجراءِ الحوارِ، أو حَضِّهم على الحوارِ لمصلحةِ المُصالحةِ وَسَطِ صراعاتٍ عديدة. وأكتفي بهذا القَدْرِ القليل من غُثاءٍ كثير لأسألَكم: هل مِثلُ هذ التعاملِ غيرِ الأمين واللاإنساني هو ما تعتبرونه مقبولاً من العقل والمنطق؟!. وهنا تَجدُرُ الإشارةُ إلى خطابكم الرسوليِّ الأول "الله محبة"، ولا يَسَعُ المجالُ لتناوله بالتفصيل، فقد أفردتُ له مقالاً آنذاك بعنوان "تنازلات على نَغَمة المحبة"! ومن أهمِّ ما يَجبُ الإشارةُ إليه اعتبارُكم أن اليهودَ والمسيحيين وحدَهم هم الذين يَعبدون اللهَ الحقيقي، ثمَّ قيامُكم بالربط بين الإسلام والانتقام والكراهيةِ والعنفِ باسم الله، وأنَّ الكنيسةَ الكاثوليكيةَ وحدَها هي التي عليها أن تَسُودَ العالَم، وكمٌّ من التنازلات الممجوجة التي قدمتموها للصهاينة، وهو ما يؤكِّدُ أن استشهادكم في المحاضرة لم يكن من قَبيل المصادفة، وإنما تقصِدونه لأنه يُمثِّلُ رأيَكم الدائم. ولا يَسَعُني عند نهايةِ خطابي المفتوح هذا إلاَّ أن أسألَكم: يُصِرُّ الفاتيكانُ على أن رسالتَه هي تنصيرُ العالم، وهو يَبذُلُ قُصارى جَهدِه وبكافةِ الوسائل الصريحةِ والملتوية لِتحقيقِ ذلك، بل لا يَكُفُّ عن حثِّ الكنائسِ الأخرى وتوحيدِها لاستخدامِها في عمليةِ التبشير والتنصير, ولقد تمَّ فرضُ هذا الموقفِ على الأتباع وعلى الكنائس المحليَّةِ في كل مكانٍ بزَعمِ

كشف البيان حول أزمة بابا الفاتيكان

أنها الوسيلةُ الوحيدة للتصدِّي للمدِّ الإسلامي، كما تمَّ استصدارُ القوانينِ الأمريكيةِ الترويعية لتنفيذِ الهوية، فما عساكم فاعِلين بتلك الدُّويلةِ الدينيةِ العنصريةِ التي ساعد الفاتيكانُ على تثبيتها ظلمًا وعدوانًا وانتزاع الأرضِ من أصحابها لقومٍ لا حقَّ لهم فيها وفقًا للنصوص؟ بل ما عساه فاعلاً بهذه الدُّويلةِ العنصريةِ -التي يُعَدُّ إنشاؤها خروجًا سافرًا على دينِه وتعاليمه-، وهناك من الأبحاث اللاهوتية ما يؤكدُ أنه لا حق لهم شرعًا في هذه الأرض، وذلك من قَبيل رسالةِ الأب "لاندوزي" .. ولا نَسخرُ حين نتساءل بكلِّ مرارةٍ وألم: ترى، هل سيقومُ سيادةُ البابا بتنصيرِ اليهود، أم أن الفاتيكانَ هو الذي سيتهوَّد؟! أليست دعوتكم الظالمةُ هي تنصيرَ العالم؟!. إن مَن يَحمِلُ على كاهِله مِثلَ هذا التاريخِ المدرَّجِ بالدماء، ومِثلَ هذا التراث القائم على التزوير والتحريف، ويقومُ بمثل هذه السقطةِ الاستفزازية وسبِّ الإسلام والمسلمين عن عَمدٍ، فلا يجبُ عليه الاعتذارُ الواضحُ فحسب، وإنما يجبُ عليه التنحِّي عن مثل هذ المَنصب، وهو أقل ما يجبُ عليه أن يفعلَه إن كانت هناك أمانةٌ علميةٌ أو دينية". انتهى مقال الدكتورة زينب عبد العزيز أستاذة الحضارة الفرنسية. * كشفُ البيان حولَ أزمةِ بابا الفاتيكان: ° وفي موقعه على "الإنترنت" كتب الأستاذ "خالد سعود البليهد" قائلاً: "لقد ساءني -وساءَ كل مسلم- ما صَدَر من بابا الفاتيكان من إساءةٍ للإسلام ونبي الرحمة، وقد قُوبل ذلك بردودٍ غاضبةٍ من المسلمين على

اختلافِ طبقاتهم، وهي تدل على غيرتهم وحُبِّهم لدينهم وتعظيمِهم لنبيِّهم عليه الصلاةُ والسلامُ، وقد اختَلف الخطابُ في الردِّ، وتنوَّع في الأسلوب حسبَ اختلافِ المدرسةِ الفكريةِ والمذاهبِ والتأصيل العلمي، وهذه تنبيهاتٌ حولَ هذه القضيةِ الخطيرةِ بيانًا للحق، وكشفًا للمشتبه، ووضعًا للأمور في نصابها: الأول: ليس بغريبٍ أن يصدرَ هذا التهجُّمُ والبغيُ من رئيسِ النصارى، والنصارى معروفٌ عنهم الكذبُ، والجحودُ، وإلباسُ الحق بالباطل، وتزويرُ الحقائق، والإساءةُ لخصومهم. * قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]. * قال تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة: 135]. * قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111]. * قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]. * قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109]. والأصلُ في تصرُّفاتِ النصارى ومعاملتِهم للمسلمين الافتراءُ وكَتمُ الحق والازدراءُ بهم والظلمُ وهَضمُ الحقوق، ومَن خالف ذلك منهم فنادرٌ

خارجٌ عن الأصل، ولهذا يُخطىُء كثيرًا مَن يُحسِنُ الظنَّ بهم ويُوادُّهم ويلتمسُ لهم المعاذيرَ ويُثنِي عليهم، وإنما تَحسُنُ أخلاقُهم إذا تحقَّقت مصالحُهم ومكاسبُهم المادية. الثاني: القتالُ للأعداءِ وسيلةٌ مشروعةٌ في الإسلام، وهي من محاسِنِ هذا الدينِ وكمالِه، ودليلٌ على عِزَّةِ الإسلام وأهله، وهو ثابتٌ بنوعيه "قتال الطلب" و"قتال الدفع"، وإنَّما شُرع "قتال الطلب" لإعلاءِ كلمةِ الله، وتحريرِ الخلقِ عن الظلم، وإزالةِ العوائقِ عن معرفةِ الحقِّ واتباعِه، ولم يُشرَعْ لاستعبادِ الناس وإكراهِهم على الدخولِ في الدين. * قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: 29]. ولا شكَّ أن الإسلامَ انتَشر في كثيرٍ من الأصقاعِ بالقتال والتاريخُ شاهدٌ بهذا، كما أنه انتَشر أيضًا في البلادِ الأخرى بالدعوةِ إلى الله، ولا يُنكِر هذا إلاَّ مكابرٌ أو جاهل، ومما يؤسَف له أنَّ بَعضَ المنتسِبين للعلم والدعوة ينكِرون "قتالَ الطلب"، ويزعُمون أن القتالَ لم يشرع إلاَّ للدفاع عن بلاد المسلمين، ويظنون أن إثباتَ ذلك يسيءُ للإسلام، وهم بذلك متأثرون بأطروحاتِ المستشرقين وأتباعِهم من تلاميذ المدرسة العقلية. الثالث: ما حَصَل من البابا دليلٌ صريحٌ على فَشل مشروع "الحوار بين الإسلام والنصرانية، والدعوة إلى تقارب الأديان"، ودعوى "الحوار بين الأديان" عملٌ باطلٌ لا أصلَ له في الشرع، وهو ممتنعٌ شرعًا وواقعًا، وقام

منذ عِدَّةِ عقودٍ ولم يُثمِرْ شيئًا، وهو يتضمَّنُ إبطالَ أصل "الولاء والبراء"، ويقتضي المداهنةَ، ولم يَرِدْ به الشرعُ، ولم يَفعَلْه رسولُنا الكريم ولا خلفاؤه الراشدون ولا الأئمة المتبوعون، وليس بيننا وبين النصارى أصولٌ أو نقاطُ التقاءٍ حتى يُتفقَ عليها، وقد كان منهجُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوتهم يتمثَّلُ في الأمور التالية: (1) الكتابةِ لرؤساء النصارى وعَرضِ الإسلام عليهم. (2) دعوةِ النصارى لمناظرتِهم وجدالهم بالتي هي أحسن. (3) طلبِ مباهلتهم. * وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64]. * وقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]. وبهذا نعرفُ خطأَ بعضِ المفكِّرين في رُدودهم من إثارة الحوارِ والتباكي عليه والسعيِ لتحقيقه. الرابع: حَقَّق الإسلامُ العَدلَ في حَربه مع خُصومه، وذلك أنه حينما شَرع القتال وضَعَ له آدابًا وضوابطَ وإجراءاتٍ تُهذِّبُه وتَرقَى به عن الوحشية، تتمثل في الأمور الآتية: (1) يُقسَّمُ الكفارُ إلى قسمين: 1 - محاربين. 2 - مسالِمِين.

فالأول: يُشرع قتالهم .. والثاني: لا يُشرع قتالهم، سواءٌ كانوا من أهل الذمةِ أو من أهل الصُّلح والهُدنة. (2) تخييرُ العدو عند قتالِه إلى خِصالٍ ثلاثِ: إما الإسلام، أو الجِزية، أو القتال. (3) عدمُ إكراهِ العدوِّ على الدخول في الإسلام. (4) احترامُ وتعظيم الصلح والذمةِ والهدنة، وعدمُ التعرضِ لدماءِ أهل الذِّمةِ وأموالِهم، وليس في شيءٍ من الأديان الأخرى ما في الإسلام من تعظيم أهل الذمةِ ووضع الحقوقِ لهم وعليهم. (5) النهى عن قتل غيرِ المقاتِلين والشيوخ والنساءِ والأولادِ، والنهيُ عن تخريبِ الديارِ والأموال، والنهى عن التمثيل بالمقاتلين إلاَّ على سبيل المكافأة. (6) النهيُ عن استباحةِ البلادِ والعِبادِ حين الانتصار، بل يَلزَمُ الكفُّ مباشرةً إذا صالح العدوُّ أو دخل الإسلام. (7) الكفُّ عن الخَصمِ ساحةِ المعركة إذا أظهَرَ الإسلامَ ونطقَ بالشهادتين، وعَدَمُ التعرضِ له مهما فَعَل من الجنايات، ويُعصَمُ دمُه ومالُه. (8) إذا حَصَل من العدوِّ خيانةٌ -أو هَمَّ بخيانةٍ-، وقُرَّر إجلاؤه، أُمهِلَ فترةً من الزمن لإِجلائِه، لِيجمَعَ مالَه ويُهيِّئ أمرَه، ولم يُؤمَرْ بالجلاء في الحال. (9) إذا حَصل نقصٌ للعهد من بعضِ النصارى ولم يتواطأِ الجميعُ عليه، لم يُقاتَلوا ويؤاخَذوا جميعًا بجَريرة بعضهم، بل يعاقَبُ مَن حَصَل منه ذلك، كما أفتى بذلك العلماءُ في نصارى "طَرَسوس" ونصارى

"قبرص"، ونصارى "جبل لبنان"، والشواهدُ كثيرة في التاريخ. (10) الالتزامُ بالعهودِ والمواثيقِ في الحرب، والنهيُ عن الغَدر مهما كان العدو. (11) استقبالُ المستأمَن، وتعظيمُ حرمته مهما كان، وإكرامه وحمايتُه حتى يرحل. (12) مشروعيةُ الجِوار من كلِّ مسلم ولو كان المُجيرُ امرأةً، وتعظيمُ حُرمةِ مَن أجاره المسلمُ، وعَدَمُ التعرُّضِ له. وغير ذلك من الآدابِ العظيمةِ والأخلاقِ العالية التي دَلَّ الشرعُ عليها، وشَرْحُ ذلك يطول ليس هذا مَحِلَّه. وقد تخلَّق بهذا الولاةُ والقادةُ والعلماءُ، فضَربوا أروعَ الأمثلةِ في العَدلِ والإنصافِ مع خُصومهم، خصوصًا في الصدرِ الأول من الإسلام، فصار لهم عظيمُ الأثر في البلاد والعباد، وقد نَعِمَ بذلك النصارى في كثير من البلدان، وكانوا يَخضعون لحكم الإسلام زمانًا طويلاً آمِنين مطمئِّنين، يَبذلون الجزيةَ مقابلَ حِفظِ حقوقِهم وأموالهم، وقد آثَروا بقاءَ حُكم المسلمين في بلادهم لِعَدلِهم ومساواتهم بغيرِهم، بل دَلَّت الوقائعُ على أن بعضَ النصارى كانوا يَستغيثون بالمسلمين ليُخلِّصوهم من ظلم الطائفةِ الأخرى من بني جِنسهم، وآخرون من النصارى كانوا يَثِقون بالمسلمين في عُهودِهم وصُلحِهم وهُدنتِهم مِن تَركِ القِتال، ويتبادلون المَصالحَ معهم، والتاريخُ زاخرٌ بهذا كلِّه .. والنصارى على خلافِ ذلك، عُرفوا في كثيرٍ من حروبهم ووقائعهم بالظلمِ والتعدِّي والوحشية، ولمْ يَنْسَ التاريخ أبدًا جنايةَ محاكمِ

أسرار وراء كلام البابا عن الإسلام ونبيه - صلى الله عليه وسلم -

التفتيش في الأندلس وغيرها. وإن المَرءَ لَيعجبُ أشدَّ العجبِ ممَّا يدَّعيه بعضُ المسلمين في كَون البابا يجهلُ شرائعَ الأسلام ولا يَعرفُ حقيقةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، بل كلامُه وسياقه صريح في قَصدِ الإساءه للإسلام وأهلِه، ورجلٌ وَصَل لأعلى المنازِلِ في رئاسةِ النصرانية، يَبعُدُ جدًّا كونُه لم يَطَّلعْ على كتاباتِ المسلمين وكتابِهم المقدَّس، لا سيَّما مع تواجُدِ المسلمين في أوروبا منذ قرون، والانتفاحِ الثقافي بين الشعوب، ولكن كما قال الله فيهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]، وقال عزَّ وجل: {لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران: 186]. أسألُ اللهَ أن يُعيدَ للمسلمين عِزَّهم ومَجْدَهم، ويُكبِتَ عَدوَّهم، ويَنصُرَهم على مَن عاداهم، ويَجعلَ الذل والصَّغارَ على من خالفهم" اهـ. * أسرارٌ وراءَ كلامِ البابا عن الإِسلام ونبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: ° وكَتبَ الأستاذ عبدُ اللهِ بنُ عبدِ العزيز الزايديُّ على موقع "الإسلام اليوم": "يَعجَبُ بعضُ المتابعين من الحَملةِ المتزايدةِ على الإسلام من بعضِ الزعماءِ الدينيين والسياسيين النصارى في السنواتِ الأخيرة، وتساءل بعضُهم عن سرِّ التوقيت والتزامُن، فمِن كلام "بوش" عن المسلمين الفاشيِّين، إلى كلام البابا "بندكت السادس" عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقَبلَهما كلامُ رئيس الوزراء الإيطالي عن الحضارةِ الإسلامية، وبعدَه الرسومُ المسيئةُ، وغيرُ ذلك من حملاتِ التشويه.

وربما تساءل البعضُ عن الأسبابِ الكامنةِ في هذه الحملات المتوالية، وربَّما حَمَّل بعضُ الكُتَّابِ إخوانَه المسلمين وِزْرَ هذه الحَملات، نظرًا لِمَا حَدَث من بعضِهم من أعمالِ تفجير وقتل. ° وأقول: إنَّ ثَمَّةَ سرًّا مهمًّا ينبغي ألاَّ نَغفُلَ عنه في بيان السرِّ الحقيقيِّ وراءَ هذه الحَمْلاتِ، ألاَ وهو الانتشارُ الواسعُ لدينِ الإسلام في معاقِل النصرانية، الذي أقَضَّ مضاجعَ الرؤساءِ الدينيين والسياسيين، ممَّا حَدَا ببعضِهم للكلامِ الصريحِ عن ضرورةِ التصدِّي لانتشارِ دينِ الإسلام، وهذه بعضُ الإحصاءاتِ والأخبارِ التي تَشهدُ بها الانتشار: أ- زيادةُ أعدادِ المساجدِ في دولِ الغرب: ففي قلبِ أوروبا بدأت أعدادُ المساجدِ فيها تُنافسُ أعدادَ الكنائسِ في باريس ولندن ومدريد وروما ونيويورك، وصوتُ الأذانِ الذي يُرفع كلَّ يوم في تلك البلاد خَمسَ مرات، خيرُ شاهدٍ على أن الإسلامَ يَكسِبُ كل يوم أرضًا جديدةً وأتباعًا جُددًا. فقد أصبح للأذانِ مَن يُلبِّيه في كل أنحاء الأرض، من طوكيو حتى نيويورك، وعند نيويورك ومساجدها نتوقف، ففي أوقاتِ الأذانِ الخمسِ يَنطلقُ الأذانُ في نيويورك وحدَها في مئةِ مسجد، وبَلغ عددُ المساجدِ في الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ ما يَقرُبُ من (2000) مسجد والحمدُ لله، وترتفعُ في بريطانيا مئذنةُ نحو (1000) مسجد، وتعلو سماءَ فرنسا وحدَها مئذنةُ (1554) مسجدًا ولا تتَّسع للمصلين، وأمَّا ألمانيا، فتقدَّرُ المساجدُ وأماكنُ الصلاةِ فيها بـ (2200) مسجدٍ ومُصَلًّى، وأمَّا بلجيكا فيُوجدُ فيها

نحو (300) مسجدٍ ومُصلًّى، ووصَلَ عددُ المساجدِ والمصلَّيات في هولندا إلى ما يزيد عن (400) مسجد، كما ترتفع في إيطاليا وحدَها مئذنةُ (130) مسجدًا، أبرزُها مسجدُ روما الكبير، وأما النمسا، فيَبلغُ عددُ المساجدِ فيها هو إلي (76) مسجدًا. هذه فقط بعضُ الدول في أوروبا الغربية، عدَا عن أوروبا الشرقية، والأقبالُ على الإسلام يزداد يومًا بعدَ يوم، ومِن هذه المساجدِ يتحرك الإسلام، ويَنطلقُ في أوروبا، لذلك ليس غريبًا أن تُشدِّدَ أوربا وأمريكا في أَمرِ المساجد ومراقبةِ أهلِها، والتضييقِ في إعطاءِ الرخصِ لبنائها، ومِن المفارقاتِ العجيبةِ أن كثيرًا من هذه المساجدِ كانت كنائسَ، فاشتراها المسلمون وحَوَّلوها إلى مساجد!!. ب- تحذير الصحف الغربية من انتشار الإسلام: فقد بدأت الصحفُ الغربيةُ تُطلِق صيحاتِ تحذيرٍ من انتشارٍ واسع لدينِ الإسلام بين النصارى، ومِن ذلك ما جاء في مَقالٍ نُشِر في مجلةِ "التايم" الأمريكية: "وستُشرقُ شمسُ الإسلام من جديد، ولكنها في هذه المرةِ تَعكِسُ كلَّ حقائقِ الجغرافيا، فهي لن تُشرِقَ من المَشرِقِ كالعادة، وإنما ستشرق في هذه المرة من الغرب". أما جريدةُ "الصانداي تلغراف" البريطانية، فقالت في نهاية القرن الماضي: "إن انتشارَ الإسلام مع نهايةِ هذا القرنِ -يعني: الذي مَضَى- ومَطلَع القرنِ الجديد -يعني: الذي نحنُ فيه- ليس له من سببٍ مباشرٍ إلاَّ أن سُكَانَ العالَم من غيرِ المسلمين بدؤوا يتطلَّعون إلى الإسلام، وبدؤوا يَقرؤون

عن الإسلام، فعرفوا من خلالِ اطلاعِهم أن الإسلامَ هو الدينُ الوحيدُ الأسمى الذي يُمكن أن يُتَّبع، وهو الدينُ الوحيدُ القادرُ على حلِّ كلّ مشاكل البشرية". مجلة "لودينا" الفرنسية قالت بعدَ دراسةٍ قام بها متخصِّصون: "إن مستقبلَ نظامِ العالَمِ سيكونُ دينيًّا، وسيَسودُ النظامُ الإسلاميُّ على الرغم مِن ضَعفِه الحالي؛ لأنه الدينُ الوحيدُ الذي يَمتلك قوةً شموليةً هائلة". ج- انتشارُ بَيع نُسَخِ القرآنِ الكريم والكتبِ الإسلامية: وبعدَ تفجيراتِ الحادي عَشَرَ من سبتمبر، التي كان لها آثارٌ سيئةٌ واسعة على النشاطات الإسلاميةِ في الغرب وعلى دُولِ الإسلام، إلاَّ أنه مع ذلك ازدادَ في العالَمِ الغربيِّ الإقبالُ على التعرُّف على الإسلام بصورةٍ غيرِ متوقَّعة، وأصبحت نسَخُ القرآنِ الكريم المترجمةُ من أكثرِ الكتبِ مَبيعًا في الأسواقِ الأمريكيةِ والأوروبيةِ حتى نَفِدَت من المكتبات، لكثرةِ الإقبالِ على اقتنائها، وتسبَّب ذلك في دخولِ الكثيرِ منهم في الإسلام، وفي ألمانيا وَحدها بِيعَتْ خلالَ سنةٍ واحدة (40) ألفَ نسخ من كتابِ ترجمةِ معاني القرآن الكريم باللغة الألمانية، كما أعادت دار نشر "لاروس" الفرنسية الشهيرة طباعةَ ترجمة معاني القرآنِ الكريم بعدَ نفادها من الأسواق. د- تزايدُ أعدادِ الداخلين في الإسلام: ففي عام 2001 نَشرت صحيفةُ "نيويورك تايمز" مقالاً ذكَرت فيه أن بعضَ الخُبراء الأمريكيين يُقدِّرون عددَ الأمريكيين الذين يَعتنقون الإسلام سنويًّا بـ (25) ألفَ شخص، وأن عددَ الذين يَدخلون دينَ الله يوميًّا

تضاعَفَ أربعَ مراتٍ بعدَ أحداثِ الحادي عشر من سبتمبر حسبَ تقديراتِ أوساطٍ دينية، والمدهشُ أن أحدَ التقاريرِ الأمريكيةِ الذي نُشر قبلَ أربع سنواتٍ ذَكَر أن عددَ الداخلين في الإسلام بعدَ ضرباتِ الحادي عَشَرَ من سبتمبر قد بَلغ أكثرَ من ثلاثين ألفَ مسلمٍ ومسلمةٍ، وهذا ما أكَّده رئيس مجلس العلاقاتِ الإسلاميةِ الأمريكي؟ إذ قال: "إنَّ أكثرَ من (24) ألف أمريكي قد اعتَنقوا الإسلامَ بعد أحداثِ الحادي عَشَرَ من سبتمبر، وهو أعلى مستوًى تَحقق في الولاياتِ المتحدة منذ أن دَخَلها الإسلام". أمَّا في فرنسا، فقد أوردت صحيفة "لاكسبرس" الفرنسية تقريرًا عن انتشارِ الإسلام بين الفرنسيين جاء فيه: "على الرغم من كافةِ الإجراءات التي اتخذتها الحكومةُ الفرنسيةُ مؤخَّرًا ضدَّ الحجاب الإسلاميِّ، وضدَّ كلِّ رمزٍ دينيٍّ في البلاد، أشارت الأرقامُ الرسميةُ الفرنسيةُ إلى أن أعدادَ الفرنسيين الذين يدخلون في دينِ الله بلغت عشراتِ الآلافِ مؤخَّرًا، وهو ما يُعادلُ إسلامَ عشرةِ أشخاصٍ يوميًّا من ذَوِي الأصولِ الفرنسية، هذا خلافَ عددِ المسلمين الفِعليِّ من المهاجِرِين ومِن المسلمين القدامى في البلاد". وقد أشار التقريرُ إلى أن أعدادَ المسلمين في ازديادٍ من كافةِ الطبقاتِ والمِهَنِ في المجتمع الفرنسي، وكذلك مِن مُختَلَفِ المذاهبِ الفكريةِ والأديان، مِن عِلمانيين إلى بُوذيِّين إلى كاثوليك وغيرِهم، كما أشار التقريرُ إلى نشاطِ بعضِ الجالياتِ المسلمةِ وجماعاتٍ مثل جماعةِ التبليغ في الدعوة إلى الإسلام في المجتمع الفرنسي. كما وَرَد في التقرير إلى أن عددَ المعتنِقِين الجُدُدِ للإسلام من الفرنسيِّين

يَصِلُ إلى (60) ألفًا مؤخَّرًا، سواء أولئك الذين أسلَموا بدافعِ حُبِّهم وإعجابِهم بهذا الدين، أو بدافعِ البحثِ عن الهُويَّةِ والبحثِ عن الذاتِ، الكثير منهم من شبابِ المُدن، ويتراوَحون ما بينِ "الأصولية" والاعتدال، منهم مهندسون .. جامعيون .. رؤساء شركات .. مُدِّربون .. مدرِّسون .. طلاَّب .. عاطلون .. متحفِّظون أو متديِّنون بشكل واضحٍ .. كل هؤلاء الأشخاصِ يُشكِّلَون لَبِنَةً جديدةً في المجتمع الإسلامي الجديد، وهم بمثابةِ الأُسرةِ الكبيرةِ في مُختَلَفِ مجالاتِ الحياةِ بالمجتمع الفرنسي، ومِن هؤلاء على سبيل المثال: فنان الشراب في مدينة مرسيليا المسمى "إخناتون"، ولاعب الكرة " فرانك ريبري"، ومُصمِّم الرقصات "موريس بيجار" وأيضًا "كليمون" -أصغر أبناء رئيس وزراءِ الحزبِ الاشتراكيِّ السابق "موريس توريز"- .. كل هؤلاء أعلنوا إسلامَهم منذ فترةٍ ليست بالبعيدة .. ومعتنِقو الإسلام مِن الجِيل الأولِ مِن بينهم فنانون وحامِلو شهاداتِ رفيعة، ومعظمُهم يُفضِّلون ممارسةَ الإسلام النقيِّ الصافي، كما أنزله الله على نبيِّه محمد .. انتهى ما ورد في التقرير. ونظرًا لهذه الشواهِدِ المؤكَّدة لإِقبالِ الغربيين على الإسلام، فقد حَذَّر أسقفٌ إيطاليٌّ بارز من "أسلمة أوروبا"، وفي مدينةِ "بولونيا" الإِيطالية حَذَّر أسقفٌ آخر من أن الإسلامَ سينتصر على أوروبا إذا لم تَغْدُ أوروبا مسيحيةً مجددًا .. يَحدث هذا الإقبالُ وهذا التخوُّفُ من الإسلام على الرغمِ من ملاحظةِ أمورٍ مهمة: أولاً: أن الأوضاعَ الحاضرةَ ليست في مصلحةِ الإسلام والمسلمين؛

فالأحداث السيئةُ في بلاد الإسلام قد تُعطي البعضَ نظرةً سيئةً تجاهَ هذا الدينِ بسببِ أوضاعِ أهله. وثانيها: تلك الجهودُ الهائلة والإمكاناتُ الضخمة التي يَبذُلها النصارى في سبيل نشرِ الديانة النصرانية، على كافةِ الأَصعِدة، حتى بَلغت ميزانياتُ بعضِ مجالِسِ الكنائسِ العالميةِ أكثرَ من مليارِ دولارٍ للسنةِ الواحدة. وثالثها: التضييقُ على النشاطاتِ الإسلاميةِ والمراكِزِ والجمعياتِ الخيريةِ الإسلاميةِ في كثير من الدول. ومع ذلك لا يزال هذا الدين الحق -دين الإسلام- ينتشر ويَعتنقه الكثيرون، ونظرًا لأن النصارى -خصوصًا رجال الدين- ينظرون للإسلام بصفتِه دينًا منافسًا، فقد رأوا فيه خطرًا على أوروبا ولذا حَرِصوا على إثارةِ الشبهاتِ حولَه لحمايةِ النصارى من خَطَرِه كما يتصوَّرون. وقد جاءت الأحداث الأخيرةُ ليتَّخذوا منها أدلةً يؤيِّدون بها مزاعمَهم الباطلةَ عن الإسلام، فزَعَمَ كثيرٌ من غُلاة النصارى أن حوادثَ الإرهابِ سَببها دين الإسلام، ويمكن لكل عاقل أن يُجيبَ عن هذه الشبهةِ بحوادثِ التاريخِ القريب والواقعِ الذي نعيشه، فهل نقول: إن دينَ النصارى هو سببُ الإرهابِ لأنهم خلالَ الحربَينِ العالميتين قَتَلوا الملايينَ من أبناءِ جِلدتهم النصارى؟ فضلاً عمن قتلوهم من المسلمين أثناءَ حُروبهم الاستعمارية؟ هل ننسِبُ القتلَ والتدميرَ إلى دينِهم؛ لأنَّ الأمريكانَ النصارى قَتلوا مئاتِ الآلافِ بالقنبلة الذرية؟!. هل نقول: إن دينَ النصارى يدعُو للقتل واحتلال البلدانِ الأخرى؛

لأنَّ الرجلَ المتدِّينَ المحافظَ ربيب القُسُس "بوش"، غَزَا العراقَ ودمَّرها وقتلَ آلافَ المدنيين العُزَّل، وأحدَثَ فيها فوضى يَجني مرارتَها ملايينُ العراقيين؟ هل نقول: إن دينَ النصارى دين القتل والإرهاب؛ لأن قُسَسَ ورهبان "الهوتو" في إفريقية ساهموا في المذابح التي حَدَثت للتوتسي، وقد طُلِب بعضُهم كمجرمي حربٍ للأمم المتحدة؟ هل ما حَدَث في البوسنة والهِرسك من مذابحَ واغتصابٍ للمسلمين على أيدي الصرب يُحسَبُ على دينِ النصارى وعلى المسيح عليه السلام لأنَه جاء في الإنجيل "ما جئتُ لأُلقِيَ سلامًا على الأرض"؟ هل مذابحُ المسلمين في ليبريا وسيراليون التي قام بها النصارى ننسبها للمسيح ودينه؟. إن على البابا "بندكت" أن يُصلِحَ حالَ كنائسِه التي زَكَمَت فضائحُ شذوذ رجالِ الدين فيها الأنوفَ قبل أن يتحدَّثَ عن الإسلام ونبيه بتلك اللهجة المَتحامِلة، فمن كانَ بيتُه من زجاجٍ فلا يرمي الناس بحَجَر" اهـ. * * * يا أيُّها البابا .. أقْصِرْ، فأنتَ أمامَ وهْمٍ حاشدِ ... يا مَن عَبَدْتَ ثلاثةَ في واحدِ أقْصِرْ، فموجُ الوَهْم حولكَ لم يزَلْ ... يقتاتُ حبَّةَ كلِّ قلبٍ حاقدِ أَقْصر فدونَ رسولنا وكتابنا ... خَرْطُ القتَادِ وعَزْمُ كلِّ مجاهدِ يا أيها البابا: رويدَك إِنَّنَا ... لنرى التآمُر في الدُّخانِ الصَّاعِدِ في دينِنا نَبعُ السَّلامِ ونهْرُه ... نورٌ يَفيضُ به تبتُّلُ راشدِ

فلَنَحْنُ أوسطُ أمَّةٍ وقفتْ عَلَى ... مِنهاج خالقِها وقوفَ الصَّامِدِ إنا لنؤمنُ بالمسيحِ ورفعِهِ ... ونزولهِ فينا نزولَ الرائدِ فَعَلاَمَ تَصْدُمُنا بِشَرِّ بِضاعةٍ ... معروضةٍ في سوق وَهْمٍ كاسدِ؟ أنْسَاكَ تثليثُ العقيدةِ خالقًا ... فردًا يتوقُ إليه قلبُ العابدِ أبْدَيْت بغضاءَ الفؤادِ ورُبَّمَا ... أخفيت منها ألف عقدةِ عاقدِ أتراكَ تُدْرِكُ سوءَ ما أحْدَثْتَهُ ... مما اقترفت مِن الحديث الباردِ؟ عجبًا لعقلكَ كيف خانَك وعْيُهُ ... حتى أسأت إلى النبيِّ القائدِ؟ هذا محمد، أيها البابا، أما ... يكفي من الإنجيلِ أقربُ شاهدِ؟ بقدومِهِ هتفَ المسيحُ مُبَشِّرًا ... بشرى بموعود لأعظمِ واعدِ قامتْ عليكَ الحُجَّةُ الكبرى فلا ... تُشْعِل بها نيرانَ جَمْرٍ خامدِ إنْ كانَ هذا قوْلَ مرشدِ قومِهِ ... فينا، فكيف بجاهلٍ ومعانِدِ؟ ما قيمةُ التَّاج المرصَّع حينما ... يُطوَى على وَهمٍ ورأيٍ فاسدِ يا أيها البابا .. لدينا حُجَّةٌ ... كالشمس أكبرُ من جحودِ الجاحدِ مليارُنا حَيُّ الضميرِ وإنْ تكنْ ... عصفتْ به منكم رياحُ مَكايد قعدَتْ بأمَّتِنِا الخطوبُ ولنْ تَرَوْا ... منها إذا انتفضَتْ تخاذُلَ قاعِدِ (¬1) * * * ¬

_ (¬1) للدكتور عبد الرحمن صالح العشماوي -مجلة الأسرة العربية- العدد 2942 - (ص 10) 9 من رمضان 1427 هـ-2/ 10/ 2006 م.

اخْسَأ يا عَدُوَّ الله إخسأ بابا الفاتيكانِ ... اخْسَأ يَا ذا الدُّونُ الجَاني قُبِّحْتَ وَضيعًا مُنْحَطًّا ... يَا حَامِلَ دَعْوَى البُهْتانِ أتُهاجِمُ مَنْ قدْ أرْسَلَهُ ... بِالرحْمَةِ رَبُّ الأكْوَانِ مَنْ أجْلَى ظلمَةَ دنيانَا ... بِبَهِيِّ ضيَاءِ القُرآنِ بِجِهَادٍ كمْ نَجَّى أُمَمًا ... مِنْ ظُلْمَ بُغَاةِ الرومَانِ مِنْ ظُلم الفُرْسِ وَغيرِهمُ ... مِنْ شَرَ فلولِ الطغْيَانِ مَنْ قَامَ العَدْلُ بِه وَرَسَا ... مَنْ أوْقَفَ سَيْلَ العُدْوَانِ مَنْ ثَبَّتَ فِي الدنيا حُكْمًا ... سَعْدًا للقَاصِي وَالدَّاني مَنْ عَاشَ الخَلقُ بِدَعْوَتِهِ ... فِي ظِلِّ أمَانِ الإيمَانِ اخْسأ بَابَا الفاتيكانِ ... اخْسَأ يَا عَبْدَ الصَّلبَانِ قُبِّحْتَ وَضِيعًا مُنْحَطًا ... يَا شَيْخَ الصُّمِّ العُمْيَانِ وَبِما كَسَبَتْ يَدُكَ الشَّوْهَا ... ءُ جَرَعْتَ كُؤُوسَ الخِذْلانِ أتُهَاجمُ شَمْسَ العرْفَانِ ... أتُهَاجِمُ أكرَمَ إنْسَانِ؟! فَلأنْتَ عَدُوُّ الرَّحمنِ ... وَلأنْتَ وَلِيُّ الشَّيْطَانِ مَنْ طَمَّعَ فِينا أعْدَانَا ... منْ خَصْمٍ أوْ منْ خَوَّان؟ من بَابَا أوْ مِن مُطرَان ... وسُخَامِ أذًى أَوْ قَطِرانِ أَفَيفعَلُ ذَلِكَ بَابَاهم ... مِن دُون الدُّون الخَوَّانِ عُلمَاء السوءِ أبالسةٌ ... هم حقًّا ذيَّاك الجاني لولا عملاءٌ أنذالٌ ... لم يفعلْ ذلك نصراني

يا بَابَا رُوما لاَ تَعْجَلْ ... لَنْ تَرْبَحَ غَيْرَ الخُسْرَانِ فَسَتَفْتَحُ رُومَا أمَّتُنَا ... إِنَّا مِنْ ذَا فِي إِيقَانِ فَبذَلكَ أخْبَرَنَا الهَادِي ... مِنْ وَحْىِ اللهِ المَنانِ بِاَلقُسْطَنْطِنيَّةِ نَبَّأ ... وَتَحَقَّقَ وَعْدُ العَدْناني وَبرُومَا بَشَّرَنَا الهَادِي ... مِنْ بَعْدُ هِيَ الفَتْحُ الثَّاني فَسَتَعْلُوا رُومَا يَا بَابَا ... يَوْمًا رَايَاتُ الإيمَانِ وَيُدَوِّي فِيها مُرْتَفِعًا ... تكْبيرُ المَوْلَى الرَّحْمنِ وَسَتُحْكمُ حَتْمًا يَا بَابَا ... بالعدْلِ بِشَرع القُرآنِ وبِنَهْج محمد الهَادِي ... مَخْتَار إلهِ الأكْوَانِ وسيَخسأُ كَذَّابٌ أشِرٌ .... وَسَيَخْسَأُ عَبْدُ الصَّلبَانِ وتُطَهَّرُ أرْضُ اللهِ مـ ... ـنَ الطَاغُوتِ وَرِجِسْ الأوْثَانِ مَوْلاَنَا قَرِّبْ نَجْدتَنَا ... وَلتَكْشِفْ لَيْلَ الأحْزَانِ انْصُرْنَا مَوْلَى الخَلقِ عَلَى ... أعْدَائكَ أهْلِ الكُفْرَانِ يَا رَبِّ وَصَلِّ عَلىَ المُخْتَا ... رِ صَفيِّكَ أهْلِ الإحْسَانِ خَيْرِ الأبْرارِ وَسيِّدِ مَنْ ... فِي الأَرْضِ مَشَى مِن إِنْسَانِ * * *

فتك باباواتنا .. وفتك "بابا الفاتيكان"

* فَتكُ باباواتنا .. وفَتكُ "بابا الفاتيكان": ° يقول دكتور استفهام: "حين يتهَّجمُ رأسُ الكنيسةِ العالميةِ على الإسلام والمسلمين والنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فهذا شأنٌ أراه طبيعيًّا؛ لأنَه يقفُ مع الإسلام في حالةِ خِصام، وهو تَلُوحُ بين عَينيه الحروبُ الصليبيةُ التي قادتها الكنائسُ العالمية، وكان طابعُها دينيًّا مَحْضًا، وإشرافٌ قليلٌ على ما فَعلوا في العالم الإسلاميِّ يُقنِعُهم هم قبلَ أنْ يقتنعَ غيرُهم بمن هو "الإرهابي" الذي غاصت قوائمُ خيولِه في دماء الأبرياءِ من المؤمنين في القُدس والشام ومصر وما حولها. ° إنَّ من البلايا الكبيرةِ أن يتحدَّثَ نصرانيٌّ عن "العقل والمنطق"، فأيُّ عقل وأيُّ مَنطقٍ في الدين النصراني المحرَّف، فكيف يكونُ الثلاثةُ واحدًا والواحدُ ثلاثةً إلاَّ في عقولِ المخرِّفين الذين لم يَستنيروا بنورِ الوحيِ والعقل؟! وأيُّ منطقٍ يُسعِفُ مَن يرى أن إلهَه قَتل ابنَه حتى يُخلِّص الآثِمِين من آثامِهم، فهو كالذي غَضِب على زوجتِه فقَطَع ذَكَرَه؟!. ° لا أستغربُ أن يَصُدرَ من بابا الفاتيكان ما هو أشر من هذا وأشنع، فقد بَدَت البغضاءُ من أفواههم وما تُخفي صدورُهم أكبر، ولكني أعجبُ حين يكونُ هَديُ "القرآن" ومنهجُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ما هو إلاَّ تعاليمَ شريرةً قليلةً، فأصبح الإسلامُ الشاملُ لتفاصيل الحياةِ دقيقِها وجليلِها تعاليمَ شريرة، بينما صارت النصرانيةُ المحرَّفةُ هي الدينُ الذي لا يُخالِفُ العقلَ والمنطقَ .. مع أن الدينَ النصراني "الروحاني" هو الذي أَسَّس العلمانية التي تَجعلُ الدينَ منزويًا في الكنائس، لا يَعرفون منه إلاَّ قَرْعَ الأجراس، وتعميدَ الصِّبية، وأكلَ الخبزِ وشُربَ الخمر، فوجدت "العلمانيةُ" التي أشْقَتِ الناسَ المجتمعَ

النصرانيَّ خاويًا من كل تشريع مدنيٍّ، لأن دينَهم ليس دينًا شموليًّا يأتي على تفاصيلِ الحياة .. بل هو دينٌ هُلاميٌّ لا يرى الرُّوحَ ولا النفسَ، ولا يَحُلُّ مشكلاتِ الواقع، بل هو إلى الخرافةِ أقربُ منه إلى العقل والمنطق!. ° لا أستغربُ هذا أبدًا من رجل يَسُبُّ اللهَ حين يعتقدُ بأنه ثالثُ ثلاثة، أو أن له ولدًا، {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)} [مريم: 90 - 92]. فمن يقولُ هذا يقولُ ما هو أقلُّ منه مِن سبِّ الإِسلام وتعاليمِه، ولكنَّ العجبَ كلَّ العجبِ من "بباواتنا" الذين بَصَموا على كلام البابا، وأيَّدوه، وجَعَلوا كلامَه فُرصةً لتبيينِ حقيقةِ الموقفِ من الإِسلام، وهم قد رَضَعوا مناهجَه في تعليمهم، وخالَطوا أهلَه، ولكنهم يقومون بالإنابة لهدمِ قِيَمِ الإسلام وشرائعِه حين يتَّهمونه بأنه "انتشر بالسيف"، ولا يَقصِدون انتشارَ الإسلام بالسيف بمعنى "الجهاد" الذي يُزيلُ الطواغيتَ التي تَحولُ دون المسلمين ودونَ أن يُسمعوا الناسَ هدايةَ الله، ولكنهم يَقصِدون بانتشارِ الإسلام "بالسيف" أن إكراهَ الناسِ على دينٍ لا يوافقُ العقلَ، والتاريخُ يشهدُ على طُولِه وكثرةِ معاركِ المسلمين أنهم لم يُكرهوا أحدًا على الدخول في الإسلام، بل الإسلامُ ينسابُ إلى نفوسِهم كالماءِ الرقراقِ العَذب، فيَجدون فيه لذةً لا يَجِدونها في أيِّ دين غيرِه، بل أَمِنَ "النصارى" في بلادِ المسلمين وتعايَشوا مع أهل الإسلام ما لم يأَمنوا في بلادِهم الأصليةِ بلادِ بني الأصفرِ! فأيُّ سيف يتحدثون عنه؟!.

إن بليَّتنا الكبرى في مِثل "عبده خال" ومَن حذا حَذْوَه من الكُتَّاب الذين لم يُدركوا أنهم يُصادِمون صَخرةَ الإسلام، الذي أعيا المَناطقةَ والفلاسفة، ووَجدوا فيه توافقًا بين العقل والنقل، وتمازُجًا بين الرُّوح والمادةِ في تعاليمه، وشموليةً من غيرِ تناقض، فلم يَجِدوا إلاَّ المُخاتلةَ بالألفاظ، والتعميمَ في الأحكام، بمثل قولهم: "إن الإسلامَ انتشر بالسيف، وإنه لا يَقبلُ تطبيقَ العقل في النص، ولا أدري أين هو تراثُ المسلمين الذين جَعلوا للعقل مكانتَه الحقيقيةَ من غيرِ إفراطٍ ولا تفريط، وأين هي قراءةُ منهجِ المحدِّثين في نَقدِ مُتونِ السُّنة، وأين هي القواعدُ العقليةُ التي قَعَّدها علماءُ المسلمين على مَدارِ التاريخ، وأين هي حركةُ الفقه الكبيرة والاجتهادِ في أبوابِ العلِم والمعاملات، في تراثٍ لم تَعرِفِ البشريةُ مِثلَه؟ وأين هو عن مدوَّناتِ الفقهِ التي لم تتركْ شاردةً ولا واردةً إلاَّ وذَكرت لها حُكمًا، وأين هو عن "منهج القرآن" الذي دَلَّل على قضايا الاعتقاد والغَيبِ والنبوة والألوهية بأدلةٍ عقلية، وأثنى على أهل العقولِ، وأشادَ بهم في مواضعَ كثيرةٍ .. وكثيرةٍ جدًّا!. إن خُذلانَ الإسلامِ يأتي من دعاةٍ على أبوابِ جهنم، هم أشدُّ فَتكًا به من "بابا الفاتيكان" الذي أخرج خَبيئةَ نفسِه، ثم جَعَلها أسئلةً مشروعة تحتاجُ لإِجابات .. فإنْ كان بابا الفاتيكان قد عاش في كنيستِه وصَومعتِه بين كتبٍ لا تساوي خُروج الحمير، فكيف بمَن تربَّى حولَ البيتِ العتيق، ورَضَع مِن منهجِ الإسلام، ثم ينقلبُ عليه ويَلمِزُه -ولا إخالُه- إلا خاليًا من كل شيمةٍ وعِلمٍ وعقل .. والله المستعان!.

يا بنديكت الذميم، سيفتح المسلمون روما .. هذا وعد نبينا - صلى الله عليه وسلم -

* يا بنديكت الذميم، سيَفتحُ المسلمون روما .. هذا وَعْدُ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -: ° نقول لبنديكت الذميم: "كَشَف الإعلاميُّ السعوديُّ عصام مدير -صهر الداعية الراحل أحمد ديدات- أن تصريحاتِ البابا جاءت على خَلْفيةِ إسلامِ عددٍ كبيرٍ من القساوسة داخلَ الفاتيكان، وصَلَ إلى حوالي 30 قِسِّيسًا، وأنه تَجرِي لهم حاليًا محاكماتٌ واسعةٌ لمعاقبتِهم وطَردِهم من الكنيسة، ونَقَل الخبرَ موقعُ "إخوان أون لاين" ونقلته عنه جريدة "الأسرة العربية" عدد (2936) صفحة (1). * وهديةٌ أخرى نُهديها لك أيها اللئيم: • عن أبي قَبيل قال: كنَّا عند عبدِ الله بن عمرِو بنِ العاص، وسُئِل: أيُّ المَدينتَينِ تُفتح أوَّلاَ "القسطنطينية" أوْ "رُوميَة"؟ فدعا عبدُ اللهِ بصندوقِ له حِلَقٌ، قال: فأخرج منه كتابًا، قال: فقال عبد الله: بينما نحن حَولَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - نكتبُ، إذْ سُئل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ المَدينتَينِ تُفتح أوَّلاً: أقسطنطينيةُ أو رومِيَة؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مدينةُ هِرقلَ تُفتحُ أوَّلاً" .. يعني: قسطنطينية (¬1). و"روميَة" هي روما كما في "معجم البلدان"، وهي عاصمةُ إيطاليا حيث دولة الفاتيكان. ¬

_ (¬1) صحيح: رواه أحمد (2/ 176)، والدارمي (1/ 126)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (47/ 153/ 2)، وأبو عمرو الداني في "السنن الواردة في الفتن"، والحاكم (3/ 422، 4/ 508)، وعبد الغني المقدسي في "كتاب العلم" (2/ 30/ 1)، وقال: حديث حسن الإسناد، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيح".

استباحة الإسلام على يد القزم الكريه .. المجرم الصليبي الفرنسي "روبير ريد يكير" وصحيفة "لوفيجارو" الفرنسية

بابا الفاتيكان: أنا أدري بأنَّكَ ترهَبُ العلياءَ في ديني وتَرْهبني لأني أبعثُ الآمالَ في قلبِ المساكينِ وتَرْهبني لأني الروحُ تسْرِي في الملايين أنا المسلمُ إني أَسمعُ الدنيا تناديني وعندي البَلسَمُ الشافي لأمراضِ الملايينِ ستعلو رايتي في هذه الدنيا وتُعليني وتُورِق في صحارِي الرمل غابَاتٌ من الزيتونِ والتينِ * * * * استباحةُ الإِسلامِ على يَدِ القِزمِ الكريه .. المجرمِ الصليبي الفرنسي "روبير ريد يكير" وصحيفة "لوفيجارو" الفرنسيَّة: بعد أيامٍ قليلةٍ من الجريمة التي ارتكبها بابا الفاتيكان في حق الإسلام والمسلمين، خرج علينا فيلسوفٌ فرنسيٌّ يُدعَى "روبير ريديكير" بمقالٍ رديءٍ في صحيفةِ "لوفيجارو" الفرنسية، يتهجَّمُ فيه على الإسلا م والمسلمين، ويُوجِّهُ فيه السِّبابَ إلى الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - .. وتحت عنوان "في مواجهةِ التهويل الإسلامي ماذا يفعلُ العالم؟ " راح الكاتبُ الفرنسيُّ الشهيرُ يَنْضَحُ حِقْدًا، ويبثُّ سمومًا لا تَقِلُّ أَبدًا عن تلك التي أطلقها سَليلُ النازيةِ والحاقدُ على

الإسلام بابا الفاتيكان. إنها تصبُّ في ذاتِ المستنقع الذي يَغترفُ منه بعضُ هؤلاء مِدادَ أقلامهم وكلماتهم. ° ففي الأسبوع الماضي انطَلقت الصحيفةُ الفرنسيَّةُ، وعلى صَدْر صفحاتِها هذا المقالُ الذي ربَّما لم يَسْتَرْع انتباهَ الكثيرين، رغمَ أن "لوفيجارو" صحيفةٌ فرنسيةٌ شهيرةٌ وذائعةٌ الصِّيت، ولكن يبدو أن استمرارَ الحملاتِ الصليبيةِ الجديدةِ على الإسلام والمسلمين جَعَل من هذه الإهاناتِ والمؤامراتِ وكأنَّها أمرٌ طبيعيٌّ!!. ° لقد شَنَّ الكاتبُ الفرنسي الوقحُ "ريديكير" هجومًا شديدًا في مقالِهِ الأخيرِ، حيث قال فيه: "إن العنفَ والكراهيةَ تعيشُ في الكتاب الذي يُثَقِّفُ المسلمين" -في القرآن الكريم-. ° وقال بكلِّ بجاحةٍ وحِقدٍ: " إن القرآنَ هو كتابُ العنفِ المُطلَق". ° وقال هذا الحاقدُ السَّفيهُ مبرِّرًا للوقاحةِ التي أطلقها بابا الفاتيكان: "إن ردودَ الفعل الإسلاميةَ على خطابِ البابا التحليليَّ، تأتي في إطارِ سعْي هذا الإسلام إلى خنقِ أغلى ما يمتلكُه الغربُ -وما لا يوجدُ في أيِّ بلدٍ مسلمٍ-، وهو حريةُ التفكيرِ والتعبير". ° وشَبَّه الكاتبُ الفرنسيُّ الإسلامَ بالشيوعية، وقال: "اليومَ -مِثلَ الشيوعيةِ بالأمس- يَستغلُّ الإسلامُ كَرَمَ الغرب، وانفتاحَه وتسامُحَه وقِيَمَه الديمقراطية، وهو يسْعَى إلى فرضِ النظام القرآنيِّ على العالَمِ الغربيِّ نفسه".

° وشَنَّ الفيلسوفُ الفرنسي الكريهُ القِزمُ القَمِيءُ الشائهُ الخَلْقِ ميتُ القلبِ هجومًا شرِسًا على رسولِ الله محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وراح يَنفُثُ عن حِقدِه وسُمومِه بكلماتٍ تتَّهمُ رسولَنا الكريمَ - صلى الله عليه وسلم - بأنه "سيِّد الكراهية"، وأنه "قائدٌ لا يَرحم"، وأنه "سارقٌ"، وأنه "جزَّار اليهود"، وأنه "ذو مُيولٍ جنسيَّةٍ تُخوِّله الزواجَ بالعشرات". ° وراح هذا السَّفيهُ يهاجمُ مناسكَ الحجِّ عند المسلمين بقوله: "إذا كان رَجمُ الشيطانِ في مكةَ هو فِعْلٌ مُقدَسٌ، فبإمكانِك عندئذٍ أن تَفهمَ العنفَ في هذا الدين" (¬1). هذا المقالُ الوقحُ الذي تَصدَّر الصحيفةَ الفرنسيةَ لم يُثِرْ أدنى اهتمامٍ عند المسلمين .. ولو ناراً نَفَخْتَ بها أضاءت ... ولكن أنتَ تنَفُخُ في رمادِ ° وكتبت جريدة "الأسبوع" في عددها (497) ما قاله "روبير ريديكير" في مقالِه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن محمدًا يُصوِّر نفسَه في القرآن على أنه مقاتلٌ لا يَرحم، قام بالنِّهْب، وهو قاهرٌ لليهود، ومتعدِّدُ الزوجات .. وإن القرآن الذي يتعلَّمُه كل مسلمٍ يتضمَّنُ الكراهيةَ والعُنفَ". ورَغمَ اعترافِ الصحيفة بعدها بيومٍ بالاعتذارِ عن ذلك على لسانِ نائبِ رئيسِ تحريرها "بيار روسلان" باعتبار أنَّ نشرَ هذا المقالِ كان أمرًا خاطئًا، ومؤكِّدًا أنه لا يُمثِّل رأيَ الصحيفةِ، إلاَّ أنه يَدُل على مَوجةِ الكراهيةِ ¬

_ (¬1) "جريدة الأسبوع"- العدد (496) - مقال "بالعقل": الحرب مستمرة -استباحة الإسلام لمصطفى بكري- 2 من رمضان سنة 1427 هـ-25/ 9/ 2006 م.

مسرحية وقحة تتهكم على الإسلام .. والمسرحي البذيء "هانس نوينفيلس" وصليبيو ألمانيا

العاتيةِ والحقدِ الأسودِ على رسولِنا - صلى الله عليه وسلم - من الغربِ الصليبي" (¬1). * مسرحيةٌ وقحةٌ تتهكَّمُ على الإِسلام .. والمسرحيُّ البَذِيءُ "هانس نوينفيلس" وصليبيُّو ألمانيا: ° بعد مقال "روبير ريديكيه " بأسبوع واحدٍ -أي: خلال أسبوعين فقط من كلمة البابا- اندَلعت أزمة جديدةٌ وخطيرةٌ في ألمانيا، حيث عَقدت مؤسسةٌ للعروضِ الأوبرالية في "برلين" مؤتمرًا صحيفًا يومَ الثلاثاء 26 سبتمبر، أَعلنت فيه "كريستن هارمز" مديرةُ "مؤسسة الأوبرا الألمانية" في برلين عن إلغاءِ عرضِ أوبرا "يدومينيو" لموتسارت التي كانت ستَعرِض أربعةَ عروض في شهر نوفمبر، وذلك خَشيةَ أن يَعتبرَها المسلمون استفزازيةً، وذلك بعد أن أشارت الشرطةُ إلى أن عَرْضَها سيؤدِّي إلى مَخاطرَ غيرِ محسوبةٍ على الجمهورِ والعامِلين في الأوبرا، وذلك لِتَضَمُّنِ المسرحيةِ مَشاهداً لِقَطْع رأسَيِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - وسيَّدنا عيسى عليه السلام، وقالت الشركةُ في بيانٍ وَزَّعته: إنها فعلت ذلك لمعرفتها بما يُمكنُ أن تُحدِثَه من جَدَلٍ بعد أزمةِ الرسوم الكاريكاتيرية، وخَتمت "هارمز" بأنها تلقَّت تحذيراتٍ أمنيَّةً من عَرْضِها, ولذلك فإنَّ قرارَ الإلغاءِ يأتي في صالح الفنَّانين ومُرتادِي الأوبرا!!. وهذه الأوبرا التي أَدخل عليها المسرحيُّ "هانس نونيفيلس" تعديلاتٍ، والمكوَّنةُ من ثلاثةِ فصولٍ، كان قد ألَّفها "موتسارت" عام 1781 م، وسَبق ¬

_ (¬1) "جريدة الأسبوع"- العدد (497) - مقال "حملة شرسة منظمة ضد الإسلام" لوليد الشيخ (ص 7) - 9 رمضان سنة 1427 هـ-2/ 10/ 2006 م.

أن عُرِضَت في ألمانيا في ديسمبر 2003، وأثارت حينَها رُدودَ فعلٍ قويةً لدى الجمهور، وكان يُفتَرض أن يُعادَ عَرضُها في 5 و 8 و 15 و 18 نوفمبر. وهو عَرضٌ يقومُ على الفِكرِ الإلحاديِّ الذي يَعتمدُ هنا على عبارة "نيتشه" (¬1) الفَلسفيةِ الشهيرة "إنَّ اللهَ قد مات" التي أراد أن يَجعلَها عنوانًا لفسلفته التي لا تعترفُ إلاَّ بالحسيَّاتِ وفَقَط بالبشر، وبأنهم هم وحدَهم الموجودون في العالَم، وهنا تَسيرُ التفاصيلُ على جَلْبِ مَلِك "كريت" "أدومينيو" رموزَ جميع الأديان- ومنهم الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - وسيدُنا عيسى عليه السلام-، بل وكذلك "بوذا" و"بوزيدون" -إله البحر عند الإغريق-، ثم قَطْعَ رقابِهم، ووَضْعَ كلّ واحدةٍ منها على كُرسيٍّ من الكراسيِّ لِيثُبِتَ أنه انتَصَر على جميع الأنبياء والمُصلِحين، بل حتى على فكرةِ الإله ذاتها!. لذا فكان طبيعيًّا أن يؤدِّي عَرضُ هذه الأوبرا إلى غَضَبٍ عارمٍ في العالَم الإسلاميِّ بأسره، حيث إنها تُصوِّر عمليةَ قطعِ رقبةِ الرسول - صلى الله عليه وسلم -وكذلك سيدنا عيسى- بصورةٍ لا يُمكن لأحدٍ تحمُّلُها، بل وهناك مشاهدُ لبطلِ العَرضِ يُمسِكُ بالرقبةِ والدماء تنسالُ منها. وبعد إلغاءِ العرضِ، ثارت ضجَّةٌ من السياسيِّين الألمان -وبالذات من قِبَل الاتحادِ المسيحي-، فقد انتَقدت المستشارةُ الألمانية "أنجيلا ميركل" زعيمةُ الاتحاد المسيحيِّ ذلك قائلةً: "علينا أن نتنبَّهَ وألا نتراجعَ أمامَ التخويفِ الذي يَقفُ وراءَه إسلاميُّون راديكاليون مستعدُّون لارتكابِ أعمالِ عُنفٍ". بينما وَصَل الأمرُ بالمتحدِّثِ للشؤون الثقافيةِ للكتلةِ البرلمانية للاتحاد ¬

_ (¬1) لَعَنَه الله.

من يحجب الشمس؟ ..

المسيحيِّ "فولفجانج بورنزن" للقولِ بأن ذلك الإلغاءَ يُمثِّلُ "ركوعًا للإرهابيين" وتشجيعًا للراديكاليين، وسيزيدُ من ممارسةِ الضغوطِ والتهديداتِ على "ثقافتنا وديننا المسيحيِّ"، بينما رآه "بيتر رامساور" زعيمُ المجموعة البلدية للحزب المسيحى الاجتماعي بأنه ليس سوى "جُبْنٍ خالص"، وفي الوقت ذاتِه قام عُمدةُ "برلين" من الحزب الاشتراكيِّ الديمقراطي "كلاوس فوفرايت" -والمعروف بأنه شاذٌّ جنسيًّا وأثارت علاقتُه بصديقه ضجَّةً في الساحة الألمانية- بمهاجمةِ مديرةِ الأوبرا لقرارِها إلغاءَ العَرضِ .. قائلاً: "يجب أن نحيا بجرأةٍ بقِيَمِنا حولَ الانفتاح والتسامح والحريَّة"، بينما وصف وزيرُ الداخلية "فولفجانج شويبله" -أيضًا من الاتحاد المسيحيِّ- إلغاءَ العَرضِ بأنه "غير مقبول" (¬1). * من يَحجُبُ الشمسَ؟ .. ° كَتَب الأستاذ "عزت السعدني" في "تحقيق السبت" بجريدة "الأهرام" بتاريخ 7/ 10/ 2006 م (ص 3) تحت عنوان "مَن يحجبُ الشمسَ؟ " فقال: "هل هناك إهانةٌ للأديان أكثرُ وأبشعُ من عَرضِ رؤوسِ الأنبياءِ مذبوحةً تقطُرُ دمًا على خشبةِ المسرح؟. ° لا تندهشوا .. ولا تتعجَّبوا .. ولا تَضرِبوا كفًّا بكفٍّ .. لقد أصبحت إهانةُ الإسلام وسَبُّ دينِنا وتشويهُ صورةِ سيِّدنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - عند الغربِ فضيلةً من الفضائل .. وتعبيرًا عن حريةِ الفكر والرأيِ والإبداع! ¬

_ (¬1) مقال: "تحالف بين الصقور في الفاتيكان والبيت الأبيض- حملة شرسة منظمة ضد الإسلام" لوليد الشيخ- جريدة الأسبوع العدد (497) (ص 7).

احبِسوا أنفاسَكم، وافتحوا عيونَكم عن آخِرِها، وارهَفوا سمعَكم .. نحن الآن في دار أوبرا برلين في ألمانيا .. أضواءُ الصالةِ تُطْفأ، وأنوارُ المسرح تضاء .. المشهدُ أمامَنا مرعِبٌ مثيرٌ ويَقطرُ دمًا .. بَطَلُ المسرحية "إيدومينو" ملك كريت يَظهر على المسرح وملابسُه البيضاء ملطَّخةٌ بالدماء، وهو يَحملُ حقيبةً كبيرةً مليئةً برؤوس بشريةٍ مقطوعةٍ .. يُخرِجُ البطل الرؤوسَ البشريةَ واحداً بعد الآخر وهي تقطر دمًا، ويَضَعُ كلَّ واحدٍ على كرسي أسودَ قصير .. الرأسُ الأول للإله "بوذا"، والثاني للمسيح عيسى بنِ مريم عليه السلام، والثالث لنبيِّ الله محمدِ بن عبد الله، والرابعُ "لبوسيدون" إلهِ البحرِ عند الإغريق .. الرؤوسُ الأربعة تقطر دمًا يَسيل على الكراسيِّ وخشبةِ المسرح! المشهدُ الأخيرُ في المسرحية: "الرؤوسُ الكريمة المقطوعةُ" لم يكن أبدًا في صُلبِ المسرحية التي كتبها "موتسارت" أشهرُ موسيقارٍ في تاريخ ألمانيا في عام 1791 .. ولم يَخطُرْ على بالِ المؤلف قبلَ مئتين وخمسةٍ من الأعوام .. ولكنه مَشهدٌ أضافته العبقرية الألمانية في الإبداع الفنيِّ وحريةِ الرأي والفكر .. لكي يكونَ مشهدُ النهايةِ رسالةً صريحةً وملعونةً ووقحةً -كما تقولُ الزميلة "الفجر"- إلى الدنيا كلها .. رسالةٌ تقول: "إن الآلهةَ -كلَّ الآلهة- قد ماتت، وإن على الإنسان أن يتولَّى قَدَرَه ومصيرَه بنفسه". والفكرةُ العبقريةُ الألمانية الشيطانيةُ ليست غريبةً على الفِكرِ والفنِّ والأدبِ والإبداع الأوروبي -والألمانيِّ بالذات-، أليست ألمانيا بلدَ الفيلسوف "نيتشه" الذي أعلن من قبل أن الله قد مات؟. ° هل تريدون أن أُلقِيَ مزيدًا من أعوادِ الكبريت على فَحيحِ غضبِكم

وحَنَقِكم واستنكاركم؟. قبل أن نُشعِلَ أعوادَ الثقاب -ولسنا في حاجةٍ إلى إشعالها-، فالمصيبةُ قد وقعت، والإهانة قد وصلت .. هل تريدون أن تَعرفوا قصةَ المسرحية التي تَحمل اسم "إيدومينيو" ولا علاقة لها بالإسلام، أو المسيحية من قريبٍ أو بعيد. و"إيدومينيو" هذا بطلُ المسرحية كان مَلِكًا على جزيرة "كريت" في البحر الأبيض .. وقد ذهب في رحلةٍ بحريةٍ لتحاصرَه العواصفُ والرياحُ والأمواج .. ولَمَّا أوشكت مركبُه على الغَرَق .. دعا "بوسيدون" -إلهَ البحار عند الإغريق- لكي ينقذَه .. ونَذَر له إذا أنقذه أن يقدِّم له قربانًا يذبحه على مِحرابِ الأكروبول .. وهو أولُ مَن تقعُ عليه عيناه بعد نجاته. وينجو "إيدومينيو" من الغَرَق، ويَصِل إلى البَرِّ .. ولكنَّ المفاجأةَ القاتلة: "أن أولَ مَن وقعت عليه عيناه بعد نجاته .. هو ابنهُ الوحيد"!. هكذا كتب "موتسارت" مسرحيتَه قبلَ أكثر من مِئتي عام .. لماذا إذن هذا المشهدُ المؤلمُ والذي أشعل قلوبَ المسلمين والمسيحيين حنقًا وغضبًا؟! رأسُ النبي محمدٍ ورأسُ عيسى بنِ مريم تقطرانِ على المسرح في مشهدِ النهاية؟. آخرُ خبر. . أن المسبرحية لم تعرض .. لاَ الآن ولا في نوفمبر المقبل وهو موعدُ عرضِها الرسمي في أوبرا برلين الشهيرة. ولكنَّ المشهدَ الأخير صوَّروه وقدَّموه للميديا الألمانية, والغريب بعد ساعاتٍ من جريرة البابا بنديكت السادس بابا روما بتصريحاته التي أهانت

إهانة كل 35 دقيقة

الإسلامَ وسَبَّت نبيَّه الكريم!. كانت المسرحيةُ إهانةً سخيفةً وبلا مبرر، شأنها شأن محاضرةِ بابا الفاتيكان الذي أقحَمَ فيها كلامًا مسيئًا للإسلام، برغم أنه كان يتحدثُ عن العقل في المسيحية، فوصف الإسلامَ بأنه بلا عقل!. ثم ما الداعي هنا لوضع رؤوسِ الأنبياء تنزف دمًا في مسرحيةٍ تتحدثُ عن إلهٍ إغريقي هو مجردُ أسطورةٍ يونانية قديمة؟. على أيِّ حالٍ، فإن هذا الإبداعَ الشيطانيَّ الألمانيَّ قد فَتح على مُبدِعيه أبوابَ جهنم .. بدايةً من تهديدِ وزيرِ الداخليةِ الألمانية "أبهر هارت" .. لكريستين هارمس مديرةِ أوبرا برلين بمنع عرضِ المسرحية نهائيًّا قائلاً لها: "إن رأسَ النبيِّ محمدٍ المقطوعَ سوف يأتي بالغضب الإسلاميِّ إلى قلب الدار"!. الصحفُ الألمانية لم تَرْضَ بوقفِ عرضِ المسرحية، وقالت: "لا صوتَ يعلو على صوتِ حرية الرأي والتعبير"، وهو منطِقُ الصحفِ الدنماركية نفسها أيامَ أزمةِ الرسوم المسيئة للرسول .. وإنَّ مَنْعَ عَرضِ المسرحيةِ خيانةٌ لمبادئِ حريةِ الرأي والتعبيرِ في ألمانيا!. * إِهانة كل 35 دقيقة: مرةً أخرى .. لا تندهشوا .. ولا تتعجَّبوا .. ولا تستغرِبوا .. لقد أصبحت إهانةُ الإسلام وسبُّ ديننا وتشويهُ صورةِ نبيِّنا عند الغرب فضيلةً من الفضائل .. وعادةً يوْميةً تخرجُ على الملأ .. وعلى صفحاتِ الصحف .. وعلى شاشاتِ المحطَّات الأجنبيةِ دون خَجَلٍ، ودون مواربةٍ

آخرها على لسانِ أكبرِ رأسٍ في الكنيسةِ الكاثوليكية الذي أهان الإسلامَ، وَصَنَعَ من رسالةِ محمدٍ شرًّا مستطيرًا .. مَثَلُه مَثَل مَن يجلسُ الآن على كرسيِّ أعظم دولةٍ في الوجودِ قوةً ومالاً وأعزَّ نفرًا .. فهو -لا فضَّ فوه- أولُ مَن نَطَق بعبارة: "لقد عادت الحربُ الصليبيةُ من جديد" .. بعد أحداثِ الحادي عشر من سبتمبر، وقالوا يومَها: "إنها زلة لسانٍ" .. وما هي بزلة لسان .. بل عقيدة ويقين. ومِن ساعتها أصبحت إهانةُ الإسلام وتشويهُ صورةِ الرسول عادةً يومية .. حتى إن العالَمَ الغربي أصبح يُطلِقُ إهانةً ضدَّ الإسلام كل 35 دقيقة!. ليست هذه الحقيقة المُفزعةُ من عندنا .. ولكنها إحصائيةٌ رسميةٌ صَدرت من "الميدل إيست ووتش" التي قالت صراحة: "إن هناك إهانةً تخرجُ ضدَّ الإسلام كل 35 دقيقة .. في صورةِ جملةٍ في مقالٍ، أو سَطرٍ، أو حتى برنامجٍ إذاعيٍّ، أو كلمةِ احتجاج في الشارع .. أو حتى نكتةٍ في برنامجٍ ترفيهيٍّ، أو غُرزةٍ من غُرَز ملهًى ليلي .. كما لو كان المسلمون هم تسليةَ العالَم الغربيِّ الوحيدةَ الآن في وقت فراغه"!. وهكذا تَحوَّل المسلمون في بِقاع الأرض إلى أُضحوكةٍ ومادةٍ كاريكاتورية هَزْليةٍ كرتونيةٍ للتسلية والترفيه والتندر والسخرية والضحك. ونحن هنا لا نلومُ الغرب .. ولكننا نلومُ أنفسَنا لأننا بتهاوننا وتخاذُلنا وصمتنا الرهيب كأننا نطلبُ منهم ونرجوهم أن يُحوِّلونا إلى فيلمٍ ضاحك .. مسرحيةٍ ساخرة .. نكتةٍ أضحوكة .. مادةٍ للتسلية

وقتل الوقت!. وإذا كانت إهانةُ بابا الفاتيكان الذي لم يَعتذرْ حتى هذه الساعة .. كلُّ ما قاله: إنه يأسفُ لأننا فهمنا كلامَه خطأً .. الخطأُ خطؤنا نحن .. وعلينا نحن أن نَعتذرَ له عن سوءِ فَهمِنا لكلامه الذي شوَّه فيه صورةَ إسلامنا، ووَصَفه بأنه دينٌ بلا عقل وبلا منطق .. ووَصف رسولَنا الكريم بأنه رسول أتى بالشرِّ كله!. فماذا نريدُ أكثرَ مِن إهانةٍ جديدةٍ لديننا ونبينا كلَّ 35 دقيقة لكي نتحركَ ونُوقفَ هذه الحملةَ المنظمةَ المدبَّرةَ والمقررةَ والمخططةَ سَلَفًا ولاحقًا ضدَّ الإسلام ونبيِّه الكريم؟. لقد أعلن العالَمُ الإسلاميُّ كلُّه عن غضبه وثورته .. ولكنَّ هل الغضبَ وحدُه يكفي؟. لقد رَفض الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الجامع الأزهر أسفَ بابا الفاتيكان .. وطلب منه أن يعتذرَ رسميًّا ودينيًّا وبابويًّا!. ورَفض البابا شنودة الثالث بابا الكرازة المرقسية ما قاله بابا الفاتيكان وما كان عليه أن يتورَّط في مِثل هذه الأقوال. وقال: إن كلام بابا الفاتيكان لا يمثِّلُ كنيسةَ روما ولا الكاثوليك!. وقال الشيخُ القرضاوي رئيسَ الاتحاد الدولي لعلماءِ المسلمين بأن يعتذرَ البابا قولاً وكتابةً وبعباراتٍ صريحةٍ وقويةٍ. لابد أن يعرفَ الغربُ أن الدينَ الإسلاميَّ منطقة محظورةٌ محرَّمةٌ .. ممنوعٌ الاقترابُ منها، أو الدخول إليها .. إلاَّ بالحقِّ والصدق .. لا بالتسليةِ

حمى "الإسلاموفوبيا"!

والسخريةِ والتهكُّم كل 35 دقيقة. وما زال مسلسلُ التهكم والسبِّ والسِّباب معروضًا ومفروضًا علينا في أيام الشهر الكريم. ها هي جريدةُ "الفيجارو الفرنسية" تقول: إن الدينَ الإسلاميَّ يدعو إلى العنف والتطرف. وها هو كاتبٌ جزائري متفرنسٌ يكتب مقالاً يهاجمُ فيه الإسلامَ والرسولَ، ويَصِفُ الإسلامَ بأنه دين العنف .. ويصفُ النبيَّ الكريم -ويا لِهولِ ما قاله- بأنه قاطعُ طريقَ!. وهكذا كلَّ 35 دقيقة إهانةٌ، أو سبٌّ، أو تهكُّمٌ على الإسلامِ والمسلمين والرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -!. يَعني كلَّ 24 ساعة العالمُ الإسلامي في انتظار 45 لطمةً وسَبَّةً وتَهكُّمًا وقلَّةَ حياءٍ وحقدًا وكراهيةً في منظومةِ إهانات لن تتوقف ولن تهدأ .. إذا لم نتحرك عقلاً وتعقلاً وفكرًا ومنطقًا .. لا غضبًا وتهورًا!. * حُمَّى "الإسلاموفوبيا"!: ° ما الذي جرى؟ وما الذي يجري؟ ما الذي يَجري للغرب حتى جُنَّ جُنونه وأُصيب بهستيريا مهاجمةِ كلِّ ما هو مسلم وكل ما هو عربي؟. ما الذي جَرى حتى يصبَح كلُّ مسلمٍ متطرِّفًا .. وكلُّ عربيٍّ إِرهابيًّا؟. ما الذي جَرى حتى يتَّهموا كتابَ الله بالعُنف والتطرُّفِ وهو منه

اليوم عادت كلاب الدانمرك نابحة

بَرَاء .. فالإسلامُ هو دينُ المحبةِ والسلام بين كلِّ البشر؟. ما الذي جَرى حتى يَطلُعَ علينا الرئيس "بوش" في إحدى "تجلِّياته الأُسبوعية" بتعبيرٍ جديد هو "الإسلامُ الفاشي" .. يعني رَبْطًا بين الإسلام والفاشيةِ التي خَرجت من عَباءة "موسيليني" حليف "هتلر" في الحرب العالمية الأخيرة؟. ما الذي جرى لنا حتى نسكتَ على كل هذا الضَّيم وهذا الهَوان .. في ديننا ونبينا؟. ولكن هذه الهجمةُ الشرسةُ على الإسلام والمسلمين يصِفُها الزميلُ العزيز والكاتب الصحفي د. "سعيد اللاوندي" في مكانها الصحيح بقوله: لا تندهشْ، ولا تتعجب مما يجري من حولنا .. انفلاتُ لسانِ بابا الفاتيكان أو تهكُّمُ مسرحيةٍ ألمانية تقطع رؤوسَ الأنبياء على المسرح .. بحُجَّة حرية الرأي والتعبير!. شتائمُ وقِحةٌ من صحفٍ فرنسيةٍ وإيطاليةٍ وألمانيةٍ ونمساوية ودنماركية .. أو بذاءاتُ كاتبٍ متأورب اسمه "سلمان رشدي" .. إنها يا عزيزي ظاهرةُ "الإسلاموفوبيا" التي تجتاحُ الغرب الآن! " اهـ. * بل هي -واللهِ- كما يقول الله عر وجلَّ: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118]. * اليوم عادت كلابُ الدانمرك نابحةً: و"مع ذكرى الرسوم الدانماركية الوقِحَة, يقومُ التليفزيون الدانماركيُّ بنَشرِ صورٍ للنبي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - للمرةِ الثالثةِ في مسابقةٍ دنماركيةٍ لمن يُقدِّمُ أبشعَ

"إذا لم تستح، فافعل ما شئت" يا "خوسيه ماريا أزنار"

صورةٍ للرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -، حيث صَوَّروا النبي الكريمَ في شَكل جَمَلٍ يَشربُ البِيرة، وكذلك في شَكلِ مجاهدٍ سكرانٍ يُحاولُ تفجيرَ "كوبنهاجن"، في نَفسِ الوقتِ الذي يَنفي مسؤولُ نَشرِ الرسوم الكاريكاتورية التي أساءت للرسول - صلى الله عليه وسلم - عَدَمَ نَدَمِه قائلاً: "لستُ نادِمًا على أيِّ شيءٍ، ولو اقتَضى الأمرُ المُعَاودَةَ لعاودت". ° ومِن جهةٍ أخرى ذَكرت وكالةُ الأنباء الفرنسيَّة أنَّ المجتمعَ الدانماركي أضحى أشدَّ نقدًا للإسلامِ، وأنَّ واحدًا من أربعةِ دانماركيين أضحى أكثرَ سلبيَّةَ تُجاهَ الإسلام، وأن قُرابةَ (6, 46%) من الدانماركيين يُقِرُّون صاحبَ الرسوم على موقفِه انسجامًا مع مبدأِ حريَّةِ التعبير (¬1). * "إِذا لم تستحِ، فافْعَلْ ما شئت" يا "خوسيه ماريا أزنار": ثُمَّ ها هو رئيسُ الوزراء الأسباني السابق "خوسيه ماريا أزنار" يطالبُ المسلمين اليومَ بالاعتذار الرسميِّ عن فترةِ حُكمِهم لأسبانيا، ويقول: "إنهم أرادوا كَسْرَ الصليبَ والقضاءَ على المسيحية" (¬2). وأعرَبَ القِزمُ الصليبيُّ عن رَفضِه التام لفكرةِ تحالُفِ الحضاراتِ بين الغربِ والعالَم الإسلاميِّ واصفًا إياها بأنها "فكرةٌ غبيَّةٌ". وهكذا تجتمعُ في آنٍ واحدٍ تصريحاتُ "بوش" عن "الفاشية الإسلامية"، وبابا روما عن شَرِّ الإسلام، وأسقُفِ أستراليا حين هاجَمَ الإسلامَ ثم "أزنار" أسبانيا. ¬

_ (¬1) مجلة التوحيد" العدد (418) (ص 9 - 10). (¬2) المصدر السابق (ص 10).

رئيس الحزب المسيحي الألماني "إدموند شتويبر" الكاره للإسلام

* رئيسُ الحزب المسيحي الألماني "إِدموند شتويبر" الكارهُ للإِسلام: إنه أمرٌ دُبِّر في وَضَح النهار، ولا نقولُ بليل .. قبل زيارةِ البابا لألمانيا كانت هناك تصريحاتٌ غريبةٌ معاديةٌ للإسلام قد صَدَرت عن رئيسِ الحزبِ المسيحيِّ الاجتماعيِّ الألمانيِّ ورئيسِ وزراءِ ولاية "بافاريا" "إدموند شتويبر" والمعروفُ بانتقاداتِه الحادَّةِ للإسلام والمسلمين .. قُبيلَ زيارةِ البابا الأخيرة لولاية "بافاريا" حيث صَرَّح "شتويبر" لصحيافةٍ شعبيةٍ تُدعى "بيلد" تابعةٍ لدار نشر "أكسل شبرنجر" وهي معروفةٌ بدَعمها المطلَق لإسرائيل .. وبمناسبةِ زيارةِ البابا لِمَسْقَطِ رأسِه في ولاية "بافاريا" قائلاً: "إن المسيحيةَ تختلفُ عن الإسلام برَفضِها التعصُّبَ وعدمَ التسامح، وقبولِها الحرياتِ الدينية، واعترافِها بالمساواةِ الكاملة بين الرجل والمرأةِ، وعدمِ سماحِها بالزواجِ عن طريقِ الإكراه". وأضاف قائلاً: "على العكسِ من الإسلام تَعتبر المسيحيةُ الإِنسانَ كائنًا فريدًا، له قيمةٌ كبيرة، ويَتمتعُ بالحق في الحرية والمساواة". الأمرُ الذي لم يَعُدْ مفهومًا سوى بتصريحاتِ البابا التي جاءت بعد تصريحاتِ "بوش" وكأن هناك اتفاقًا سريًا ما لِشَنِّ حملةٍ سياسيةٍ دينيةٍ عالميةٍ ضدَّ الإسلام (¬1). * الكاتب الألماني الصليبي "إِيجون فليج": وعلى نفسِ النهج يتكررُ الأمرُ "في مقالةٍ نشرتها صحيفة "فرانكفورتر ألجمانيه" يوم 16 سبتمبر للكاتب "إيجون فليج" تحت عنوان: "الإسلام ¬

_ (¬1) "جريدة الأسبوع"- العدد (497) (ص 7) مقال "حملة شرسة منظمة ضد الإسلام".

يُريد غزو العالم" هاجَمَ فيها الإسلامَ بحِدَّةٍ ووَصَمَه فيها بالعنف، وبأنه دينٌ قتاليٌّ، وأنه يَرى الأندلسَ ومنطقةَ البَلْقان وجنوبَ إيطاليا والجُزُرَ اليونانيةَ كلَّها باعتبارها مستعمراتٍ إسلاميةً سابقةً، وأنها يجبُ أن تعودُ إلى حِصنِ الإسلام، وأن هَدَفَ المسلمين غَزوُ العالَم بأسره، وتدميرُ دارِ الحرب، والتعويلُ على ذلك بالحربِ والعنفِ، بل وَصَلَ به الأمرُ إلى الدفاع بقوةٍ عن الحروب الصليبيَّةِ، مؤكدًا أن البابا "أوربان الثاني" كان حِينَها على حَقٍّ، وأن هذه الحروبَ تمَّت إمَّا لمساعدةِ المسيحيين المُضْطَهَدين، وإما التحرير الأماكن المقدَّسةِ في فلسطين، أو لحمايةِ المسيحيين من الأطماع الإسلاميةِ، بل إنه تَكلَّم -حتى وعلى عكسِ ما هو ثابتٌ تاريخيًّا- عمَّا أسماه تميُّزًا واضطهادًا من المسلمين تُجاهَ المسيحيين واليهود. ثم وَصَل الأمر بـ "فليج" إلى انتقادِ الإسلام بكلّ قوَّةِ ودعم مَن أسماهم "بالمثقَّفين الإسلاميين" مِن أتْباع الغرب، ليختمَ مقاله قائِلاً: "إن من يَستمرُّ في بَثِّ الأساطيرِ عن التسامح الإسلاميِّ، يَحُولُ دونَ قيام المثقَّفينِ الإسلاميين بأيِّ إصلاحٍ للإسلام" (¬1). وبعدَها بثلاثةِ أيام فقط -يوم 19 سبتمبر- كان مقالُ "روبير ريديكيه" في صحيفةِ "لوفيجارو الفرنسية". * {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}: إنَّ مَن يُهاجمون النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لا يَجهَلون مَن هو، بل يَعرفونه حقَّ ¬

_ (¬1) "جريدة الأسبوع" (497) - نفس المقال السابق.

المعرفة، ألم يُخبِرْنا الحق سبحانه وتعالى أنهم يَعرفونه كما يعرفون أولادهم؟! ألاَ نقرأُ في القرآن: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]؟!. وهي تدلُّ بوضوح على أن علماءَ وقادةَ أهل الكتاب يَعرفون محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وهي معرفة حقيقيةٌ ومستمرةٌ كما تدل الآيةُ الكريمة. * أخبرنا سبحانه وتعالى كذلك أن هذه المعرفةَ جاءت مِن كتبهم، وليس فقط مِن اطِّلاعِهم على أحداثِ العالَم، أو اهتمامهم بالإسلام، فقد قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157]. ولا شك أنهم يَعرفون النبي وهم يُهاجمونه. * قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)} [الفرقان: 31]. * وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]. كيف يُمكن تفسيرُ أن تُزَيَّن بعضُ كنائِس أوروبا بلَوحاتٍ ورسوماتٍ لنبيِّنا محمدٍ وهو -كما يدَّعون- يُعذَّبُ في نارِ جهنم، وأن تَبقى هذه اللوحاتُ في أماكنها في أكثَرَ من كنيسةٍ خاضعةٍ لسلطةِ الفاتيكان، ولم تَلْمَسْها يدٌ، ولم يُحاوِلْ تغييرَ ذلك أحدٌ من دُعاةِ التسامح والحوارِ طوال عشراتِ السنين، وحتى الآن؟.

الصورة النمطية عن الإسلام

كيف يُفسَّر أن يوضَعَ في كنيسةٍ أوروبيةٍ في عاصمةِ الاتحادِ الأوروبي تمثالٌ مُهينٌ لنبي الأمة وهو مَطروحٌ أرضًا تدوسُه أقدامُ ملائكةٍ تُعلِن انتصارَ المسيحيةِ على الإسلام؟ وكيف إذا كان هذا التمثالُ ليس في الكنيسةِ فقط، بل هو في مِحرابها؟ أي أنه يَراه ويشاهدُه كلُّ مَن يَزورُ الكنيسةَ للعبادة أو السياحةِ أو غيرهما، ألاَّ يدل هذا على الإجرام الذي وصفته الآيةُ في الحديث عَمَّن يُعادونَ نبيَّ الأمة؟. إن نوعَ الاتهاماتِ والإهاناتِ المتكررةِ والتي تُلصَقُ بنبي الله - صلى الله عليه وسلم - من قِبَل الحمقى من الغربِ، لا تدلُّ إلاَّ على صفةٍ واحدة في هؤلاء .. وهي الصفةُ التي وصفهم بها ربُّ العزةِ والجلال؛ إنها صفةُ "الإجرام"، ومن المهم أن نسمِّيَ الأشياءَ بمسمياتها الصحيحةِ والحقيقيةِ لِننجحَ في الحوارِ والتعايُشِ مع الآخرين (¬1). "إن الصورةَ المشوَّهةَ عن الإسلام في الغرب لم تكن بسببِ جهل أوروبا به، ولكنها في الواقع نتيجةُ معرفةٍ حقيقيَّةٍ بالإسلام غُلِّفت بالحقدِ والخوفِ من تنامِي تأثيرِ هذا الدينِ على أوروبا نفسِها وعلى العالم أجمع". * الصورةُ النَّمَطيةُ عن الإِسلام: "ساهَمَ المفكرون الأوروبيون الدينيون -وغيرهم أيضًا- في تحويل الإسلام إلى دينٍ كريهٍ بَغيضٍ لدى العامةِ، لكي تحتفظ أوروبا بابتعادها عن الوقوع تحتَ سيطرةِ القوةِ الأخلاقيةِ والفكريةِ الآسِرةِ للدين الإسلامي، كان ¬

_ (¬1) "لماذا يكرهونه" (ص 22).

لابد لذلك مِن تكوينِ صورةٍ نمطيةٍ ذهنيةٍ بشعةٍ عن الإسلام ناحيةٍ، وعن نبيِّ الإسلام من ناحيةٍ أخرى لتحقيق ذلك. ° يجبُ الفصلُ هنا بين رؤيتين -كما يرى المفكِّرُ هشام جعيط-: الأولى: هي رؤيةُ العالَم الشعبي. والثانية: هي رؤيةُ العالَم المدرسي. الأولى تغذَّت من الحروب الصليبية، والثانيةُ من المواجهةِ الإسلاميةِ المسيحيةِ في أسبانيا، واحدةٌ انتشرت على المستوى الخيالي، والأخرى على المستوى العقلاني، في الأدب الشعبيِّ كان المسلمون وَثنيِّين، ومحمدٌ ساحرًا وشخصًا فاسدًا وزعيمَ شعبٍ فاسد، "وأغنية رولاند" Roland التي تمثِّلُ -مِن وِجهةِ النظرِ الفرنسية- ملحمةَ الصراع مع المسلمين، بدَورها تقدِّمُ العَرَبَ على أنهم وثنيون، وهي تَخلطُ الملحميَّ بالخيالي. بالمقابل في الرؤيةِ المتبحِّرةِ هناك معرفةٌ سابقة، ولكنَّ الغَطرسةَ والنوايا السيئةَ لم تُفِد في أن يكونَ التعبيرُ عن هذه المعرفةِ مُنصِفًا أو دقيقًا. لقد استمرَّ بناءُ هذه الصورةِ النمطيةِ الكريهةِ عن الإسلام طُوالَ الألفِ عامٍ الماضيةِ بشكل دؤوب ومستمرٍّ لم يَنقطع إلاَّ في فتراتٍ محدودةٍ للغاية، ولم تُخالِفْه أو تَعترضْ عليه إلاَّ دوائرُ ثقافيةٌ وفكريةٌ صغيرةٌ وغير مؤثِّرةٍ في الموقفِ الفكريِّ الأوروبي. لذلك يمكن القول: إنَّ التصوراتِ الغربيةَ المعاصرةَ حولَ دين المسلمين، لم تتكونْ وترتسمْ في صفحةٍ بيضاءَ خاليةٍ، وإنما انعَكست في مرآةٍ قديمةٍ مشوَّهة؛ إذ إن سكانَ أوروبا المعاصرة وَرِثوا عن أسلافِهم مِن

القرون الوسطى مجموعةً عريضةً وراسخةً من الأفكارِ حولَ الإسلام، التي كانت تتغيَّرُ تدريجيًّا مظاهرُها الخارجيةُ فقط، تَبَعًا لتغيُّرِ الظروف في أوروبا ذاتها، وتبعًا لطبيعةِ علاقاتها ومواقفِها المستجَدَّةِ نسبيًّا مع البلدان الإسلامية وثقافاتِها الحديثة. ° أما مَن ساهَم بالتحديدِ في تشكيل هذه الصورة، فيتحدثُ عنه د. "أليسكي جورافيسكي" في بحثه القيِّم عن الإسلام والمسيحيةِ قائلاً: "إن أدبَ أوروبا القرونِ الوسطى حولَ الإسلام، وضَعَ في غالبيته العظمى مِن طَرَفِ رجالِ الدينِ المسيحيين، الذين استَندوا إلى مصادرَ شديدةِ التمايزِ والتباين، كالحكاياتِ الشعبية، وقَصَصِ الأبطالِ والحُجَّاجِ القديسين، والمولَّفات الجَدَلية -اللاهوتية- الدفاعية للمسيحيين الشرقيين، وشهاداتِ بعض المسلمين، وترجماتِ مفكِّريهم وعلمائهم، كانت المعلومةُ المقدمةُ تنتزعُ في مُعظَمِ الحالات من سياقِها الأصلي، ثم تُقدَّمُ إلى القارئ الأوروبي، وبهذا الشكل شُوِّهَت الوقائعُ بصورةٍ متعمَّدةٍ -واعيةٍ أحيانًا، أو بشكل غيرِ واعٍ في أحيانٍ أخرى في إطارِ البحثِ الحماسيِّ عن حَلٍّ سريعٍ "لمشكلة الإسلام" التي سَيطرت في القرونِ الوسطى على الموضوعاتِ الدينيةِ- الأيديولوجية" (¬1). ° بشكلٍ عام، تكونت في وعيِ الأوروبيين "في القرون الوسطى" ملامحُ اللوحةِ التاليةِ عن الإسلام: "إنه عقيدة ابتَدَعها محمدٌ، وهي تتَّسمُ ¬

_ (¬1) "الإسلام والمسيحية" د. أليسكي جورافيسكي، كتاب رقم 215 من سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، نوفمبر 1996 م، (ص 59).

بالكَذِبِ والتشويهِ المتعمَّدِ للحقائق، إنها دِينُ الجَبْرِ والانحلالِ الأخلاقي والتساهل مع الملذَّاتِ والشهواتِ الحسية، إنها ديانةُ العنف والقسوة"، وانسجامًا مع هذا الموقفِ المعادي، فقد رُسم الإسلامُ على هيئةِ نموذج قبيح سيئِّ، يتعارضُ ويتناقضُ كليةً مع النموذج المثاليِّ للمسيحيةِ بوصفِها ديانةَ الحقيقة، التي تتمير بالأخلاقِ الصارمةِ ورُوح السلام، وبأنها عقيدةٌ تنتشرُ بالإقناع وليس بقوةِ السلاح (¬1). ° لقد حاول هؤلاء أن يَصُدُّوا عمومَ الناسِ عن أيِّ معنًى طيبٍ للإسلام أو عن نبيِّ الإسلام، أحيانًا كانت تلك المحاولاتُ تبدو بعيدةً كلَّ البُعدِ عن الأصولِ العلميةِ، أو الأخلاقيةِ كذلك، انظرْ إلى ما ادَّعاه المستشرقُ الأمريكيُّ "ماكدونالد" تحت مادة "الله" في "دائرةِ المعارف الإسلامية! منكِرًا حتى احتماليةِ أن يكونَ من صفاتِ الله في الإسلام صفةُ "السلام" قائلاً: "ومن أسمائه أيضًا السلام .. وهذه الصفةُ لم تَرد إلاَّ في الآية 23 من سورة الحشر، ومعناها شديدُ الغموض، ونكادُ نقطعُ بأنها لا تَعني "السِّلْم"، ويرى المفسِّرون أن معناها "السلامة" أي البراءةَ من النقائصِ والعيوب، وهو تفسير محتمِل، وقد تكونُ هذه الصفةُ كلمةَ بَقِيَتْ في ذاكرةِ محمد من العباراتِ التي تُتلى في صلوات النصارى" (¬2). ¬

_ (¬1) مونتغميري واط، "تأثير الإسلام على أوروبا في القرون الوسطى"، موسكو 1976 م، (ص 99 - 301). (¬2) "محاولات استشراقية لإرجاع مفاهيم إسلامية إلى أصول في الديانات السابقة"، فؤاد كاظم المقدادي، من كتاب "الإسلام وشبهات المستشرقين"، مطبوعات البلاغ، 1996 م، (ص 116).

الصورة النمطية عن نبي الإسلام

فصفة "السلام" شديدة الغموض (!) ولا يمكنُ أن تَعني "السِّلم"، ولا نَدري مصدرَ هذا القطع والتأكيد؟. أخيرًا فليس من الممكنِ أن يهتديَ نبيُّ الرحمةِ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا المعنى إلاَّ إذا وَصَله من النصارى -كما يقول-. إن التصوُّر النمطيَّ المشوَّة عن الإسلام، لم يَتشكَّلْ بسببِ ضَعفِ معرفةِ الأوروبيين بهذا الدين وحَسب، حيث يُشيرُ الدارسون "لتصوُّراتِ القرونِ القرونِ الوسطى عن الإسلام" إلى ثلاثةِ مكوِّناتٍ "عناصر بنيوية"، أَسهمت في تشكيل هذه القوالبِ النمطية، دون أن تتعارضَ فيما بينها، بل إنها تعايَشَت وتداخَلَت من التأثر والتأثير، وهو المكونات: الميثولوجية، اللاهوتية، والعقلانية (¬1). إن الصورو المشوَّهةُ عن الإسلام في الغرب لم تكن بسببِ جَهل أوروبا به، ولكنها في الواقع نتيجةُ معرفةٍ حقيقيةٍ بالإسلام غُلِّفتِ بالحقدِ والخوفِ من تنامي تأثيرِ هذا الدينِ على أوروبا نفسِها وعلى العالم أجمع. * الصورةُ النمطية عن نبي الإِسلام: أما الصورو النمطيةُ عن نبيِّ الإسلام، فقد تَكوَّنت طُوالَ أكثرَ من ألفِ عام، وتَشَكَلَ معظُمها من خرافاتٍ وأكاذيبَ لا تَمُتُّ للحقيقةِ بصِلَةٍ , ولكنها تراكمت تاريخيًّا لتكوّنَ صورةً قاتمةً وظالمةً عن خَيرِ خلق الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) "تطور تصورات الفكر الاجتماعي لأوروبا الغربية في القرون الوسطى حول الإسلام" (القرن الحادي عشر- القرن الرابع عشر للميلاد)، م. أ. باتونسكي، مجلة شعوب آسيا وإفريقيا، العدد 4، لعام 1971 م، (ص 701) بالروسية.

° ومِن أسوإِ مَن كتَبَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِن مشاهير الفِكرِ الأوروبي "دانتي"، ولِمَن لا يَعرفُ مَن هو "دانتي" فهو "دانتي" أليجييري" (1321 - 1265) أعظم شعراءِ إيطاليا قاطبةً من وجهةِ نظرِ الغرب، ومِن مشاهيرِ الأدبِ العالمي، خَلَّدَ اسمَه بملحمتِه الشعرية "الكوميديا الإلهية"، التي وَصف فيها طَبقاتِ الجَحيم والمُطهِّرَ والفردوسَ في رحلةٍ خياليةٍ ذهنية قام بها بقيادةِ "فيرجيليوس" وحبيبته "بياتريس"، ترجمت الكوميديا إلى كثيرٍ من لُغاتِ العالَم مراتٍ عديدةً في كلّ لغة، مثلاً إلى الإنجليزية أكثرَ من 75 ترجمةً جزئيةً وكاملةً، وإلى الفرنسيةِ أكثرَ من 22 ترجمة، والعدد نفسه إلى الألمانية، وتُرجمت 4 مرات إلى اللاتينية، وإلى أكثرَ مِن لهجةٍ من لهجاتِ إيطاليا المحلية، وفي القرن التاسعَ عَشَرَ وحدَه بَلَغ متوسِّطُ طَبَعاتِ مؤلَّفات "دانتي" كاملةً وجزئيةً والمقالات والبحوث في الدوريات المختلفةُ أكثرَ من 200 في العام في إيطاليا والأراضي الناطقةِ بالإيطالية (¬1). ° أما ما كتبه عن خَيرِ خلقِ الله، فهو مِن أسوإِ ما كُتب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد وَضع نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعه علي بنُ أبي طالبٍ - رضي الله عنه -، في الخندق التاسع من الحَلقةِ الثامنة في "الكوميديا الإلهية" كما أسماها، وهذا الجزءُ من الجحيم، كما يدَّعي "دانتي" قد تمَ تخصيصُه لِمُثيري الصداماتِ والانشقاقاتِ الدينيةِ والسياسيةِ و"مَن يَزرعون الفتنَ فيَحصدون الأوزار". ¬

_ (¬1) "الكوميديا الإلهية" لدانتي، ترجمة ومقدمة حسن عثمان (ص 73 - 77) - دار المعارف بمصر.

° يصفُ الدكتور "إدوارد سعيد" في كتابه عن الاستشراق ما كتبه "دانتي" -ونعتذر أننا نوردُه هنا بنصِّه قائلاً: "يرسمُ "دانتي" صورةً لي "موميتو" أي "محمد" تُجسِّدُ تركيبًا سُلاليًّا متصلِّبًا من الشرور، مع مَن يُسمِّيهم "ناشري الفضيحة والفتنة"، وعقابَ محمدٍ -وهو أيضًا مصيرُه الأبدي- عقابًا مثيرًا للاشمئزازِ من نَمَطٍ فريد، فهو يبدأُ بقَطعِه إلى نصفَين من ذَقنِه إلى دُبُرِه، مِثلَ برميلٍ تمزَّق أضلاعُه -كما يقول دانتي- ولا يوفِّرُ شعرُ "دانتي" على القارئ عند هذه النقطة أيًّا من تفاصيل يوم الحشرِ التي تؤدِّي إليها عقوبٌة فظيعةٌ كهذه، فأمعاءُ محمدٍ وبِرازُه يوصَفان بدقةٍ لا تنتهي. ° يَشرحُ محمدٌ مسبِّباتِ عقابِه لـ "دانتي"، مشيرًا كذلك إلى عليٍّ الذي يُقدِّمُه في صَفِّ الآثمين الذين يَشُقُّهم الشيطانُ الحارسُ إلى نِصفين، كما يَطلبُ محمد من "دانتي" أن يُحذِّرَ رجلاً اسمُه "دوليشينو"، وهو رجلُ دينٍ من الشيس مُرتدٌّ دعا أصحابه إلى المشاركةِ الجماعية في النساءِ والممتلكات، واتهم بأنه كانت له خليلةٌ، مما ينتظرُه من عذاب". لابدَّ أن القارئَ قد أدرك الآن -كما يقول إدوارد سعيد- أن "دانتي" رأى تطابقًا بين الشهوانيةِ المقرِفةِ لدى محمدٍ ودوليشينو، وبين ادعائهما مكانةً دينيةً بارزةً كذلك، وبناءً على ما تقدَّم تُشكِّلُ تمييزاتُ "دانتي" وإدراكُه للإسلام مثَلاً على الحتميةِ الخططيةِ بل الكونية (كوزمولوجية) تقريبًا, التي يُصبحُ بها الإسلامُ وممثِّلوه المَعنيون مخلوقاتٍ أنتجَهَا الفَهمُ الغربيُّ الجغرافيُّ والتاريخيُّ، وفوقَ كل شيء الأخلاقي، وهي رؤيا لا تَقتصرُ بأيُّ حالٍ على الباحث المحترف، بل إنها مِلكٌ مشتركٌ لكل مَن فكَّر

بالشرق في الغرب". انتَشرت منذ ذلك الوقتِ القَصصُ الأسطورية المختلقةُ التي تتعمَّدُ إهانةَ النبي، أو التشكيكِ في نبوتِه أو دعوتِه، أو استحقاقِه للاحترام والتقدير، وقد نُشرت على نطاقٍ واسع في أوروبا الحكايةُ الأسطورية القائلةُ: إن محمدًا قد دَرَّب الحمامةَ لتنقرَ حُبوبَ القمح من أُذنه، وبذلك أَقنع العَرَبَ، أن تلك الحمامةَ هي رسول الروح القدس، الذي كان يبلِّغُه الوحيَ الإلهيَّ، وعُمِّمت هذه الحكاية المُختَلَقَةُ إلى درجةِ أن الشاعرَ الإنجليزي "جون ليدهيت" -وهو من شعراءِ القرنِ الخامسَ عَشَرَ- عندما وَضع سيرةً لحياةِ محمد، سمَّى لون تلك الحمامة "حليبًا- أبيض" (¬1). كما رَدَّد هذه القصةَ المضحكةَ مؤرِّخون أوروبيون .. بل إننا نقرأُ عن شكسبير ذاته في "هندي الرابع، الفصل الأول، المشهد الثاني" كيف أن المَلِكَ "كارل الثاني" يَتوجَّهُ إلى "جان دارك" صارخًا: "ألم تُلهِمِ الحمامةُ محمدًا؟ .. أما أنت فإن النَّسرَ ربما ألهمك! ". كما كانت الصورُ النمطيةُ تؤكِّدُ أن الإسلامَ دينٌ يدعو إلى الشهوانية، وأن نبيَّه يجتذبُ الناسَ إلى دعوته من خلالِ ذلك، وجرى التركيزُ على وصفِ أن الإسلام هو دين البسطاء ومتوسِّطي الذكاء، وهو وصفٌ لا يزالُ يتكررُ في أدبياتِ الغربِ المعاصرة، فمثلاً يؤكد "توما الأكويني" المزاعمَ القائلةَ: إن محمدًا أغوى كثيرًا من الشعوب للدخول في عقيدته، مِن خلال تشجيعِه إياهم على الحصولِ على الملذَّاتِ والشهواتِ الحِسِّية، وعن طريقِ ¬

_ (¬1) "الإسلام والمسيحية"- دكتور أليسكي (ص 5 7).

الوعودِ التي قَطَعها لهم ضِمنَ هذا التوجُّهِ الغرائزي، يتابعُ "الأكويني" السَّيرَ في هذا المَنْحَى المتحيِّز، مؤكِّدًا أن محمدًا أَسَّس قواعدَه وأحكامَه التشريعية، التي تتناسبُ مع قدراتِ وإمكاناتِ العقل والمتوسِط وحسب (¬1). فهكذا كان يُقدَّم الإسلامُ لأبناء أوروبا في القرونِ الوسطي، وتَشكَّلت مِن جَرَّاءِ ذلك الصورُ النمطيةُ التي لا تَزالُ عالقةً في الفكر الأوروبي. إن الصورةَ النمطيةَ عن نبيِّ الإسلام في الغربِ هي صورةٌ بشعةٌ وليست إيجابيةً؛ رَغمَ ما يُنشَر في العالَم الغربي مؤخَّرًا من أقوالِ بعضِ المنصفين التي تُصوَّرُ وكأنها تُمثِّلُ إجماعًا غربيًّا حول الموقف من الرسول، هناك اختلافٌ حقيقيٌّ في الرؤيةِ حولَ الرسولِ صلوَّات الله وسلامه عليه بين العالَم الإسلامي وبين شعوب الغرب. إن الرسومَ المسيئةَ عن نبيِّ الإسلام التي نُشرت في الدانمرك في بداية عام 2006 م، وقُوبلت بالغضبِ الشديد في العالَم الإسلامي، أظهَرت هذا الاختلافَ الشديد في الرؤية. إن الشعوبَ الغربيةَ لم تتفهَّمْ سببَ انفعالِ المسلمين لهذه الدرجة؛ ليس لانعدام حساسيةِ تلك الشعوبِ تجاه العالَم الإسلاميِّ ومشاعِرِ الغضب التي اشتَعلت فيه، وإنما بسبب عدم حساسيتهم للهجوم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، والذي تقبَّلته عقولهم ونفوسهم دون أيِّ حساسيةٍ عاطفيةٍ بسببِ تراكمِ الصورِ السلبيةِ عن النبي في نفوسهم. ¬

_ (¬1) "الاستشراق" لإدوارد سعيد ترجمة كمال أوديب -مؤسسة الأبحاث العربية- بيروت (ص 96 - 98).

من يهاجم نبي الأمة

إنها حقيقةٌ مؤلمة، ولكن لم يتمَّ إطلاحُ وتغيير الواقع الحالي إلاَّ عندما ندركُ هذه الحقيقة، ونحاولُ أن نعالجَها بدلاً من إلقاءِ اللَّومِ على الآخرين. * مَن يُهاجمُ نبيَّ الأمة: هناك أربع فئاتٍ رئيسةٍ في العالَم الغربيِّ تهاجم نبيَّ الإسلام بشكلٍ متواصل ومنظَّمٍ طوالَ الأعوامِ الأخيرة، إنهم رموزُ عددٍ من الكنائس الأوروبية والأمريكية الكبرى، والقادةُ السياسيون في الكثير من دولِ أوروبا الغربية وأمريكيا الشمالية، والعديدُ من وسائل الإعلام الغربية (صحافة- تلفاز- سينما- كتب- إعلام إلكتروني- إلخ)، وأخيرًا الرموز الفكرية للتيارات العلمانية. إذا نظرنا إلى هذه الفئات، نجدُ أنها تُمثِّل بمجموعِها نسبةً غالبةً من الحِراكِ الفكري والسياسي في العالم الغربي، أي أننا يمكننا القولُ بالإجمال: إن تيارَ الهجوم على نبيِّ الإسلام هو التيارُ الغالبُ في الحياةِ الفكريةِ الغربيةِ في عالَم اليوم، لا يعني هذا عدمَ وجودِ منصِفين أو حتى متعاطِفين مع رسالةِ خيرِ خلق الله، ولكنهم في النِهايةِ لا يُشكِّلون كمًّا عدديًّا ملحوظًا، أو قوةً فكريةً مؤثرةً، أو كِيانًا ضاغطًا يَسمحُ بترشيدِ الرؤيةِ الغربيةِ في التعامل مع الإسلام، والعلاقةِ مع نبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم -. وسنتناول بشيءٍ من التفصيل في الفقراتِ القادمةِ موقفَ كلِّ فئةٍ من هذه الفئاتِ من نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، وأسبابَ ذلك الموقف، وأهمَّ مظاهِرِه التاريخيةِ والمعاصرة.

مظاهر العداء الديني

* مَظاهِرُ العَداءِ الديني: إنَّ مِن العَجيب في الكنائس الأوروبية والأمريكية أن تَجِدَ هذا الهَوَسَ والوَلَعَ التاريخيَّ والمتجدِّدَ بالهجوم على نبيِّ الإسلام إلى درجةِ أن تَجِدَ في العديدِ من الكنائسِ الأوروبيةِ المعروفةِ رسوماتٍ ولوحاتٍ على أَسقفِ هذه الكنائس، وتماثيلَ في أَفْنيِتَها تَهزأُ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، أو تصوِّره وكأنه يُعذَّبُ في نار جهنم، أو ما شابَهَ ذلك!! وفي بحثٍ إعلاميٍّ حولَ هذا الموضوع، وَجَدنا العديدَ من تلك النماذج المُقزِّزةِ والملفتةِ للنظر أيضًا. إن التساؤلَ الذي يَطرحُ نفسه هنا هو: لماذا يهتمُّ دينٌ ما بالهجومِ الشرسِ على نبيِّ دينٍ آخَرَ إلى درجةِ أن يُصوِّرَه وهو يُعذَّبُ في جهنم -كما يدَّعون- في لوحاتٍ فنيةٍ تُزيَّنُ بها أسقُفُ الكنائس والأديرة؟! إن هذه الظاهرةَ تَنفردُ بها المسيحيةُ الأوروبيةُ والأمريكيةُ عن غيرِها من ديانات العالم -كما نظن-، فلم يُعرفْ في الإسلام مثلاً أدنى اهتمامٍ أو وَلَعٍ بالهجوم على رموزِ أيةِ أديانٍ أخرى إلى الدرجةِ التي تَجعلُنا نهتمُّ بتصويرِ ذلك من خلال الفنون، وأن نحتفيَ به في المساجدِ أو أماكنِ العبادة، ولا يَنتشر ذلك أيضًا في الديانات الشرقيةِ بالعموم، وحتى بين الدياناتِ غيرِ السماويةِ التي يَعتنقُها الكثيرون في آسيا وشِبْهِ القارة الهندية. لا شك أن هناك عَداءً متوارَثًا بين الكثير من الأديان، وهناك تنافُسٌ أيضًا على التأثير الفكريِّ والدينيِّ والثقافيِّ العالمي، ولكن أوروبا تُمثِّل ظاهرةً فريدةً وجديرةً بالفهم والتأمل في علاقتِها بالإسلام، وبشكل أكثَرَ تحديدًا نبي الإسلام صلوات الله وسلامه عليه.

° ومن الأمثلةِ المُخزية فِي هذا الشأن، لوحةٌ توجدُ بكنيسةِ "سن بيترونيو" بمدينةِ "بولونيا" في وسط إيطاليا- petronino basilica in Bolog san na، وهي عبارةٌ عن رَسمٍ لشخصٍ عارِ مُمدَّدِ أرضًا وهو يُعذَّبُ في جهنمَ بشكلٍ بَشع، وقد كُتب على جانبها بحروفٍ واضحةٍ اسمُ النبيِّ صلوات الله وسلامهُ عليه، الرسمُ يرجعُ إلى عام 1415 م، وقام به رسَّامُ معروف في ذلك الوقت، وهو "جيوفاني دو مودينا". ° وتوقيرًا لرسولِ الله فقد آثَرْنا عَدَمَ وَضْع نُسخةٍ مصوَّرةٍ من هذه اللوحةِ ضِمنَ هذا الكتاب -رغم أننا حَصَلنا عليها للتأكيد من دقةِ الوصفِ ولتوثيقِ المعلوماتِ الواردةِ في هذا الكتاب-، حيث إن تلك الصورَ المُشينةَ والمُخزيةَ لشخصِ خيرِ خلقِ الله - صلى الله عليه وسلم - منشورةٌ في أكثرَ منِ رابطٍ إليكتروني، ونُوصي بعدم الاطلاعِ عليها توقيرًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قلنا. ° الغريبُ بالنسبة لهذه اللوحةِ هو رَفضُ الكنيسةِ الكاثوليكية المتكرِّرُ لطَمْسِها، أو حَجْبِها، أو حتى تَغطيتِها حِرصًا على مشاعرِ العالَمِ الإسلامي، رَغمَ النداءاتِ المتكرِّرةِ من مسلمي أوروبا للفاتيكان بذلك، كما أن الشرطةَ الإيطالية قد أَعلنت في العام الماضي أنها أحبطت محاولةً من مُسلَّحين إسلاميين -كما ذكرت الشرطة- حاولوا التخطيطَ لاقتحامِ الكنيسةِ للتعبيرِ عن امتعاضِهم من بقاءِ هذه اللوحةِ معروضةً بسبب ما تُمثِّلُه من إهانةٍ لا تَقبلُ التفسير، خاصةً لمن يدَّعون الرغبةَ في التسامحِ والحوارِ واحترامِ مشاعرِ الآخرين! ° إننا بالتأكيد لا نُقِرُّ استخدامَ العُنفِ لحلِّ مثل هذه القضايا ولذلك نرى أن على الفاتيكان وعلى قادةِ كنائسِ أوروبا وأمريكا تحديدًا أن يكونوا

أكثرَ حساسيةً ولياقةً في التعامل مع هذه التراكمات التاريخية غيرِ المشرَّفة، والتي تَعِكسُ نظرةَ الكنيسة في فترةٍ ما للعالَم الإسلاميِّ ورموزِه الدينية، إن الإصرارَ على الإبقاء على هذه الرسوماتِ والتماثيل الموجودةِ في العديدِ من الكنائسِ الأوروبيةِ تُمثِّلُ وصمةَ عارٍ على جَبينِ مَن يُنادون باحترام الأديان السماوية. ° من الأمثلة الأخرى في هذا الشأن تمثالٌ يوجدُ في محرابِ أحدِ الكنائس المهمة، وهي كنيسة "سيدتنا العزيزة" Church of our Dear lady في مدينة "ديندرموند" في بلجيكا .. التمثالُ منحوتٌ من الخشب في القرن السابع عشر بواسطةِ النحَّات الأوروبي "ماثيويس فان بيفرن"، ويَظهرُ في أسفله صورةُ رسول الله ملقًى على الأرض على وجهِه وهو يحتضن القرآن، وتدوسُه أقدام ملائكةٍ يُعبِّرون عن هزيمةِ وانكسارِ النبيِّ، وعن انتصارِ المسيحية على الإسلام. إن تاريخَ العَداءِ ضدَّ نبيِّ الإسلام قديم قِدَمَ الاهتمام المسيحيِّ الأوروبي بالإسلام، ففي الخُطبةِ الشهيرةِ في مَجمع "كليرمون" في فرنسا، طالب البابا "أوروباتس الثاني" في عام 1095 م الملوكَ والحُكَّامَ الأوروبيين باستعادةِ "أراضينا" المقدسةِ من "قبيلة الفرس- الأتراك"، التي تَخدمُ القوى الشيطانيةَ -على حد قوله-، وقد وَعَدهم البابا بأن يَحصُلوا من هذه الحملاتِ الصليبيةِ المقدسةِ ليس على الخيراتِ المادية فقط مِن الأرض التي تَفيضُ لبنًا وعسلاً -كما جاء في التوارة-، وإنما أن يُصبحوا على طريقِ الجسد المقدس، أي على طريقِ الحجَّاج السائرين إلى القدس، وبذلك يُخدُمون الربَّ في الصراع مع "الكفار"، الذين يمنعون المسيحيين من القيام

رموز العداء الديني للنبي - صلى الله عليه وسلم -

بالحج إلى الأراضي المقدسة (¬1). * رموز العَداء الديني للنبي - صلى الله عليه وسلم -: نورد فيما يلي بَعضَ الشخصياتِ الأمريكيةِ والأوروبيةِ المعاصِرةِ التي عُرفت خلال الأعوام الماضية بعَدائها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومجاهرتِها بذلك إِعلاميًّا وفكريًّا. * جيري فالويل: وهو قسيسٌ إنجيليٌّ معروف، ويُقيمُ في مدينة "لينشبرج" في منطقة "فيرجينيا" بالولايات المتحدة الأمريكية، وله برنامجٌ أسبوعيٌّ إذاعيٌّ وتلفزيونيٌّ يَصِلُ إلى أكثَرَ من 10 مليون منزلٍ أسبوعيًّا، ويَملِكُ كذلك جامعةً خاصةً أصوليةً تُسمَّى "جامعة الحرية"، ويهاجمُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - من خلالِ وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى، إضافةً إلى موقعه الخاصِ على الأنترنت www.falwell.com والذي يَضَعُ في صفحتِه الأولى تأريخًا زائفًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. كما أنه يُروج من خلال موقعه كتاب "فلنتقدم إلى معركةَ هرمجدون March to Armageddon" وهي معركةُ نهايةِ التاريخ كما في معتقدات الإنجيليين. ومِن ضمنِ مواقِفه المُعلَنَةِ في الهجوم على النبيِّ ما قاله على شَبكاتِ التلفازِ الأمريكية وهو ما نصه: "أنا أعتقدُ أن محمدًا كان إِرهابيًّا، لقد قرأتُ ما يكفي منَ المسلمين وغير المسلمين أنه كان رجلَ عُنفٍ، ورجلَ حُروب". * بات روبرتسون: قسيسٌ إنجيليٌّ معروفٌ باهتماماتِه السياسيةِ وتأييدِه المطلَق لإسرائيل، ¬

_ (¬1) "الإسلام والمسيحية" (ص 34).

فرانكين جراهام

ويمتلكُ عددًا من المؤسَّساتِ الإعلاميةِ -من بينها نادي الـ 700 - ، وهو برنامجٌ تلفزيونيٌّ يَصِلُ إلى عشراتِ الملايين في الولايات المتحدة الأمريكية، إضافةً إلى محطةٍ فضائية تَصِلُ إلى 90 دولةً في العالم بأكثرَ من 50 لغةً مختلفةً، وهي محطةُ "البث النصراني Christian Broadcasting"، ومنها إذاعةُ الشرق الأوسط المتخصِّصة في التنصير في منطقة العالم العربي. كما سَعى "بات روبرتسون" إلى الترشيح لمنصبِ الرئيس الأمريكي في عام 1988 م، ويقفُ خَلْفَ إنشاءِ أقوى تحالُفٍ سياسيٍّ دينيٍّ في الحزبِ الجمهوري، وهو "التحالف النصراني، وموقعُه الإليكتروني هو www.patroberson.com، ويَملِكُ أيضًا جامعةً أصوليةً، وهي جامعة "ريجنت". في هجومهِ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال التالي: "كلُّ ما عليك هو فقط أن تقرأَ ما كَتَبه محمدٌ في القرآن، إنه كان يدعو قومَه إلى قَتل المشركين .. إنه رجلٌ متعصِّبٌ إلى أقصي درجة .. إنه كان لصًّا وقاطعَ طريق" .. "إن ما يدعو إليه هذا الرجلُ [محمدٌ] في رأي الشخصي ليس إلاَّ خديعةً وحِيلةً ضخمة .. إن 80% من القرآن نُقل من النصوص النصرانية واليهودية، ولقد ذُكر موسى أكثر من 500 مرةً في القرآن، أن أقول: إن هذا القرآنَ ما هو إلاَّ سرقةٌ من المعتقَدات اليهودية .. ثم استدار محمدٌ بعد ذلك ليقتلَ اليهود والنصارى في المدينة، أنا أقصد أن هذا الرجلَ [محمدًا] كان قاتلاً [سافكًا للدماء] ". * فرانكين جراهام: هو ابنُ القسيس الأمريكي المعروف "بيلي جراهام" وَيعيشُ في أحدِ القرى حول مدينة "شارلوت" في ولاية "نورث كارولينا"، وقد عَمِل والدُه

قسيسًا خاصًّا للرؤساء الامريكيين منذ عهدِ "ريتشارد نيكسون"، وحتى الرئيسِ الأمريكي السابق "بيل كلينتون". يتولَّى ابنُه "فرانكلين جراهام" الآن نفسَ المهمة بعد تقاعِدِ الأب، وقام بالمراسِم الدينيةِ لتنصيبِ الرئيسِ الأمريكي الحالي "جورج بوش"، إضافةً إلى تولِّيه كافةَ مسؤولياتِ الكنيسةِ التي أنشأها أبوه، والتي تُعدُّ من أكبرِ الكنائس الأمريكية عددًا وتأثيرًا، وقامت خلالَ السنوات الماضية بأكثرَ من 450 حَملةَ تنصير في مختلفِ بقاع العالم. يقوم "فرانكلين جراهام" حاليًا بنفسِ الدَّور من خلال هذه الكنيسة التي تَصِلُ بحملاتها إلى الملايين في كل عام، وموقعُه على الإنترنت هو www.samaritans.org، وهو الموقعُ الخاصُّ بالمؤسسةِ الإغاثيةِ له، إضافةً إلى موقع أبيه المعروف www.billygraham.org، والموقعُ يَشملُ معلوماتٍ بستِّ لغات، وموقعٌ خاصٌّ للشباب، إضافةً إلى مجلةٍ أسبوعية. أما "فرانكلين جراهام"، فإنه هو الذي أدلَى الأدعيةَ الافتتاحيةَ في حَفِل تنصيب الرئيس الأمريكي الحالي، وقد أدلى بتصريحاتٍ إعلاميةٍ ذَكَر فيها أن الإرهابَ جزءٌ من "التيار العام" للإسلام، وأن القرآنَ "يحضُّ على العنف". ° وقد صَدَر كتابٌ جديد لفرانكلين جراهام يسمى "الاسم The Name"، يحتوي على نصوصٍ ومسيئةٍ بوضوح للديانة الإسلامية، ومنها ما يلي: "الإسلام .. أُسِّس بواسطةِ مجردِ فردٍ بشريٍّ مقاتلٍ يُسمَّى محمدًا، وفي تعاليمه ترى تكتيك "نشر الإسلام من خلال التوسع العسكري"، ومن خلالِ العنفِ إذا كان ضروريًّا، من الواضحِ أن هَدَفَ الإسلام النهائي هو

جيري فاينز

السيطرةُ على العالم". ° في الصفحة رقم 72 يذكرُ الكتابُ: "يحتوي القرآنُ على قَصصٍ أُخذت وحُرِّفت عن العهدَين القديم والجديد .. لم يكن للقرآنِ التأثيرُ الواسعُ على الثقافتين الغريبةِ والمتحضرةِ الذي كان للإنجيل، الاختلافُ رقم واحد بين الإسلام والمسيحية أن إلهَ الإسلام ليس إلهَ الديانة المسيحية". * جيري فاينز: وهو راعي كنيسةِ في "جاكسون فيل فلوريدا"، يصلُ عددُ أتباعها إلى 25 ألف شخص، وهو من أبرزِ المتحدِّثين الأمريكيين في المؤتمر السنويِّ للكنائس المَعْمَدانيةِ الجنوبية، وهو أكبرُ مؤتمر دينيٍّ يُعقد في كلِّ عام. قام الرئيسُ الحالي والرئيس السابق بمَدحِ هذا القسيسِ، واعتبارِه من المتحدِّثين بصِدقٍ عن دينهم، وموقعُه على الشبكة هو www.fbcjax.com. أصدر هذا الرجلُ تصريحاتٍ مليئةً بالكراهيةِ والعَداءِ للإسلام خلالَ الاجتماع السنويِّ للكنيسةِ المَعْمَدانيةِ الجنوبية، والذي عُقد عام 2001 م في مدينة "سانت لويس" بولايةِ "ميسوري" الأمريكية. وخلالَ الاجتماع افتَرى "جيري فاينز" -الرئيس السابق للمؤتمر السنوي للكنيسة المعمدانية الجنوبية- على الرسولِ محمدِ - صلى الله عليه وسلم -، واتَّهمه بأنه "شاذٌّ يَميلُ للأطفال ويتملَّكُه الشيطان، وتزوَّج من 12 زوجةً آخرُهن طفلةٌ عمرُها تسعُ سنوات". لقد رَفَض قادةُ الكنيسةِ المَعمَدانيةِ الجنوبيةِ إدانةَ تصريحاتِ "فاينز"، وأعلنوا تأييدَهم لفاينز وتصريحاتِه، وقد قام الرئيسُ الأمريكي بمخاطبةِ الحاضرين بالمؤتمر من خلالِ الاقمار الصناعية، ولم يَصُدرْ منه شخصيًّا أيُّ

بذاءات صليبية

تعليقٍ على هذه الإهاناتِ للنبي - صلى الله عليه وسلم - من خلالِ منصَّةِ هذا المؤتمرِ السنويِّ الذي يُعدُّ أكبَرَ المؤتمراتِ الدينيةِ الأمريكية" (¬1) اهـ. * بذاءات صليبية: "تَنتشر في الغربِ التصريحاتُ المسيئةُ للإسلام والمسلمين على لسانِ السياسيين وصُنَّاع القرار، فمثلاً، شَنَّ "شارلي هاغن" (رئيس الحزب التقدمي النرويجي) هجومًا على المسلمين، وشَبَّههم بالنازيين، واتَّهم أعضاء من الحزبِ القوميِّ البريطاني في التلفزيون الفاتحين المسلمين الأوائلَ بأنهم قومٌ من "المجانين والمعتوهين"، بل إن عضوَ الكونغرس الأمريكي "جون هوكس" شبَّه عِماماتِ علماءِ المسلمين بحَفَّاضاتِ الأطفال، أما النائبُ العائمُ السابقُ للولاياتِ المتحدة "جون أشكروفت"، فقد قال طبقًا للتقارير الإعلاميةِ عقب أحداث سبتمبر: إن "الإسلامَ هو الدين الذي فيه يَطلُبُ منك اللهُ إرسالَ ابنٍ للموتِ من أجله، أما المسيحيةُ، فهي الدينُ الذي فيه يرسِلُ الله ابنَه فيه للموتِ من أجلك". القائمةُ في ذلك تَطُول، وليس الهدفُ هنا جَمعَ هذه الأقاويل، أو رَصْدَها، وإنما التأكيدُ أن نماذجَها كثيرةٌ، وتَعكِسُ نوعًا من التوافق بين مختلفِ فئاتِ المجتمع الغربيِّ مؤخرًا على الاستهزاء بالإسلام. ° وعلى سبيل المثال أيضًا احتجَّت جمعياتٌ إسلاميةٌ في إيطاليا على نشرِ مجلة "ستودي كاثوليكي" القريبة من منظمةِ "أوبوس داي" المحافظةِ الكاثوليكية رسمًا يُصوِّرُ الرسولَ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - "في الجحيم"، وكانت وكالةُ ¬

_ (¬1) "لماذا يكرهونه" (ص 30 - 42).

"إنسا" الإيطالية أولَ وسيلةٍ إعلاميةِ تحدَّثت عن هذا الرسم، فأفادت أن مجلةَ "ستودي كاثوليكي" نَشرت في عددها لشهرِ مارس 2006 م رسمًا يصوِّرُ الشاعرَ الإيطالي "دانتي اليغييري" والشاعر الروماني "فرجيليوس" عند أطرافِ دائرةِ من النار ومِن حولهما شياطين، بحَسَب وصف الوكالة، يسأل "فرجيليوس" "دانتي": "هذا الرجلُ المشطورُ إلى اثنين، أليس هو محمداً؟ " ويجيبُ "دانتي" -بحسب "إنسا"-: "أجل شُطر اثنين؛ لأنَّه زَرع الشِّقاقَ في المجتمع". وقال مديرُ المجلة "سيزاري كافاليري" العضو في منظمة "أوبوس داي" للوكالة: "إن الرسمَ الساخرَ غيرَ اللائق سياسيًّا يُجدي نفعًا من وقتٍ لآخر، وهذا ليس سوى تصويرٍ لمقطعٍ من "الكوميديا الإلهية" للشاعر دانتي". وعَقِبَ أحداث سبتمبر 2001 م، كانت هناك مناقشةٌ جادةٌ في "الزاوية" -وهي في دائرة في النسخة الإلكترونية من مجلة National Review، إحدى مجلاتِ الرأي الأمريكية الرئيسِة- حولَ جدوى إسقاطِ القنابل النووية على مدنٍ إسلاميةٍ وعربيةٍ معينة، والمدنُ الرئيسة التي تم اقتراحُها للتدمير النووي هي "طهران وبغداد، ودمشق"، كما تم أيضَا ذِكْرُ "رام الله، وغزة" كهدفين محتمِلين في حالٍ امتلكتْ الولاياتُ المتحدةُ قنابلَ "نظيفة" بشكل لا يُحدِثُ دمارًا في المنطقة المجاورة، وجَرَت مناقشة بين محرري National Review حول ما إذا كان يجبُ تدميرُ مكةَ نفسها! (¬1). ¬

_ (¬1) مقال "البابا والتاريخ والعوالم الجديدة والإسلام" للدكتور رضوان السيد- موقع "إسلام أون لاين" 17 من سبتمبر سنة 2006 م.

وكلاب العلمانيين الغربيين

وهنا مرةً أخرى يتَّضحُ أن الهجومَ على الإِسلام ليس فقط عملاً يقوم به بعضُ المتدينين غَيرةً على دينهم، أو بعضُ الساسةِ وصُنَّاعِ القرارِ من أجل مصالحهم، ولكنه أصبح سَمْتًا عامًا مقبولاً في المجتمع الغربي، وهذا مع تُعبِّرُ عنه الكثير من التصريحاتِ الإِعلاميةِ التي لو ذُكرت في حقِّ دينٍ آخَرَ لقَامت الدنيا ولم تَقعدُ! (¬1). * وكلابُ العلمانيِّين الغربيِّين: لقد اختارت العلمانيةُ الاوروبيةُ أن تَجعلَ الاستهزاءَ من الإسلام ومن نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - أحدَ أهم وسائل تعبيرِ هذا التيارِ عن نزعتِه المعاديةِ للدين والتدين، لذلك قام هؤلاء المفكرون الذين يُشار إليهم بـ "رموزِ التنوير" باتهام الإسلام بالرجعيةِ والتخلفِ ومعاداتِه للتقدُّم في المجالات الفكرية والاجتماعية والثقافية، وأصبحت هذا الفكرةُ منذ نهاياتِ القرنِ الثامنَ عَشَرَ الميلادي تُمثل الفكرةَ السائدةَ والقالَبَ النمطيَّ عن الإسلام بين أنصارِ الفكر العلماني. * "ليفي ستراوس" العلماني القبيح: فهذا مثلاً المفكر المعروفُ "ليفي ستراوس" يناقشُ الإسلامَ بروحٍ تحمل عَداءً ظاهرًا، وتفتقدُ أيضًا لأبسطِ قواعدِ الإنصافِ البحثي والعلمي، إنه "يبدأ تأمُّلاً طويلاً لروح الإسلام ناقصًا في معلوماتِه معاديًا ومتحيزًا بشكل واضح، لكنَّ هذا التأمُّلَ يَبقْى حَدْسيًّا وعميقًا بشكلٍ مذهل، لقد قام الإسلامُ على النفي؛ نفيِ المرأةِ خارجَ جماعةِ الرجال، ونفيِ غير المؤمنِ ¬

_ (¬1) المصدر السابق.

خارجَ جماعةِ المؤمنين، ولذا فإن التسامُحَ المعروفَ عند المسلمين إنما هو (انتصارٌ مستمرٌّ على ذاتهم)، هو في نهايةِ المطاف تسامُحٌ كاذب، الإسلامُ مُحيِّرٌ لذاتيةِ الفردِ المسلم مع أنه يُطِّورُ القُدرةَ على العمل، إن الأُخوةَ الإسلاميةَ لَبِنَةَ الجماعة، هي فقط قاعد ثقافية ودينية، أساسُها منافق؛ لأنها تُدِيمُ الامساواةَ الصارخة، الإسلامُ منعوتٌ أيضًا كدينٍ عسكري، كدينٍ (مسامح)، مِن هنا أتى الانحرافُ الجنسيُّ الذي يُميَّزه، والحديثُ عن فضائل الرجولةِ المرتبطةِ بالنفسِ العربيةِ، هذه الفضائلُ مِن فخر وبطولةٍ وغَيرةٍ، ما هي غالبًا إلاَّ أشكالٌ من التعويضِ لشعورٍ بالنقصِ أمامَ الآخَرِ الذي هو النقيصةُ الكبرى، ورُعبُ الشخصيةِ الإسلامية. ويقول عن الإسلام: إنه دين كبير يقومُ على العَجزِ عن نَسجِ علاقاتٍ في الخارج أكثَرَ مما يقومُ على بديهيةِ وحيٍ، وقُبالةَ العطفِ العالمي للبوذية، والرغبةِ المسيحية في الحوار، يتبنى اللاتسامحُ الإسلاميُّ شكلاً لا واعيًا عند المسملين، لأنهم -وإن لم يَسْعَوا دائمًا وبطريقة فجَّةٍ إلى جَذبِ الآخَرِ لتبنِّي حقيقتِهم-، فإنهم مع ذلك -وهذا أخطر- عاجزون عن تحمُّل وجودِ الآخَر كآخر، إن وسيلتَهم الوحيدةَ للبقاء في مأمنٍ من الشك والاحتقارِ هي في عمليةِ إلغاءِ الآخَرِ كشاهدٍ على إيمانٍ آخَرَ وسلوكٍ آخر". ° جاء تحت مادة "جبريل" في "موسوعةِ المعارف الإسلامية"، -وهي النِّتاجُ الفكريُّ لفريقِ الليبراليين من المستشرقين الذين أرادوا أن يُعيدوا كتابةَ تاريخ الإسلامِ من خلال هذه الموسوعةِ بشكل يمتلئُ بالاتهاماتِ الباطلةِ والظالمةِ عن الدينِ الإسلامي وعن نبيِّ الرحمة صلوات الله وسلامه عليه-،

*

يقول المستشرق "كارادي فو" في هذه الموسوعة: "وقد اصطنع النبيُّ القصةَ التي تقولُ بأَنَّ الرسولَ السماويَّ يتحدَّثُ إلى الأنبياءِ، واعتَقد أنه تلقَّى رسالتَه ووحيَه منه .. والظاهرُ أن النبيَّ عَرَفَ جبريلَ من خَبَرِ البشارةِ الواردِ في الإنجيل، ولكنه لم يكنْ في مَقدورِه أن يَعرفَ الإنجيلَ من غيرِ وساطة، ولعله سَمعَ ذلك الخَبَرَ مِن أفواه بعضِ الفلاسفة أو الباحثين في الأديانِ، أو من أحدِ الحنيفية وقد وَصَلهم الخير مُشوَّهًا" (¬1) اهـ (¬2). * لماذا كلُّ هذا البُغضِ والحِقدِ الأسودِ والكراهيةِ لسيد البشر؟ ولدينه الإِسلام؟: عجبًا أنْ يَكرَهَ من طُمسَتْ بصيرتُهم النورَ الهاديَ إلى الله، وأن يُبِغضَ أناسٌ ينتسبون إلى البشر الرحمةَ في أرقِّ معانيها، وأن يَحقِدَ الناسُ على مَنْ امتلأ قلبه بمحبةِ المخلوقين العابدين لربهم!! لا تَعْجَبْ فإنهم أعداءُ الحياة .. لماذا كل هذا البغضِ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟!. والإجابةُ على هذا السؤال موجودةٌ في كتاب الله عزّ وجلّ لِمَن ألقى السمع وهو شهيد: * قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]. * {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89]. ¬

_ (¬1) "محاولات استشراقية لإرجاع مفاهيم إسلامية إلى أصول في الديانات السابقة" لفؤاد كاظم المقدادي، من كتاب "الإسلام وشبهات المستشرقين" (ص 116). (¬2) "لماذا يكرهونه" (ص 53 - 55).

أتى بالتوحيد .. وكل منهم اتخذ إلهه هواه

* أتى بالتوحيد .. وكلٌّ منهم اتَّخذ إِلهَه هواه: إن المشكلة الرئيسةَ في علاقةِ الغربِ فكريًّا بالعالم الإسلامي، وعَداءِ الغربِ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، هو مركزية توحيدِ الله تعالى وعبادتِه لدى المسلمين، والتي تتجسَّدُ في دعوةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وفي دينِ الإسلام، وفي واقع الأُمَّةِ الإسلامية، بصرف النظر عن درجةِ تديُّنِ والتزام أفرادِ هذه الأمة، ينطلق لغربُ فكريًّا -وبكلِّ فِئاتِ مجتمعاته وكلِّ مفكريه- من فكرةِ مركزيةِ الإنسانِ في الكون، وأن الفردَ هو مركزُ الاهتمام الرئيس، وأنَّ تطلُّعاتِ الفردِ وحقوقَه وحرياتِه تُقدَّمُ على أيِّ أمرٍ آخر، وحتى أمورِ العبادة وعلاقةِ الفرد بالإله. إن الغربَ يَرى أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قد قَدَّم مفهومًا يمكنُ أن يَهدِمَ الفِكرَ الغربيَّ من أساسه .. وهو مركزيةُ محبةِ وعبادةِ الله تعالى في حياةِ البشريةِ، مقابلَ نظرياتِ الغرب التي تقومُ على مركزيةِ الإنسان، اختار الغربُ لذلك أن يَجعلَ عَداءَ الإسلام ضِمن منظومةِ قيَمِهِ الرئيسةِ؛ لأنه يتمكن بهذه الطريقةِ من إبقاءِ الفردِ مركزًا للكون في مواجهةِ دعوةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - التي حافظت على مكانةِ الخالقِ جَلَّ وعلاَ ومركزيتِها في حياة البشر. وحولَ ذلك تحدَّثت المؤلِّفةُ البريطانية "كارين أرمسترونج" -صاحبة كتاب "محمد"- قائلةً: "علينا أن نتذكرَ أن الاتجاهَ العَدائيَّ ضدَّ الإسلام في الغرب هو جزءٌ من منظومةِ القِيَم الغربيةِ، التي بدأت في التشكُّل مع عصرِ النهضةِ والحملاتِ الصليبية، وهي بدايةُ استعادةِ الغربِ لذاتِه الخاصةِ مرةً أخرى، فالقرنُ الحادي عَشَرَ كان بدايةً لأوروبا الجديدةِ، وكانت

بين محمد والمسيح عليهما السلام

الحملاتُ الصليبيةُ بمثابةِ أولِ رد فعل جماعيٍّ تقومُ به أوروبا الجديدة". * بين محمد والمسيح عليهما السلام: تَمَحْوَرَ الفِكرُ الغربي حولَ شخصيةِ المسيح عليه السلام، وتحوَّلت شخصيةُ المسيح بعد تحريفِ الدينِ المسيحيِّ إلى تجسيدٍ للفِكرِ الغربي حولَ مركزيةِ الفردِ في الكون، فقد تحوَّل الإلُه في نظرِ المتدينين إلى شخص .. إله في صورةِ فرد .. دَفَعَ دَمَه ثمنًا مُقدَّمًا لجميع خطاياهم القادمة، وعندما سَيطر الفكرُ النَّفْعيُّ على الشخصيةِ الغربية، أصبح التعلُّقُ بشخصِ المسيح يُمثل قمةَ النَّفعيةِ لِمن اختاروا التدين، فهو قد قام بدفع فاتورةِ خطاياهم حتى قَبْلَ أن يَقعوا فيها، وأبقى لهم الحياةَ لكي يُمارِسوا فيها ما شاؤوا من أفعالٍ طالَما أن محبةَ المسيح -كفردٍ وكإِلهٍ - تُسيطرُ على مشاعِرِهم، أما مَن تركوا الدينَ المسيحي بأكملِه، وأصبحوا لا دينيِّين أو مُلحدين، فقد كان المسيحُ -بعد تحريفِ الدين- أيضاً مركزيًّا في مواقِفهم الفكرية .. فهو فردٌ، وبالتالي لا يمكنُ أن يَختلفَ من غيرِه من البشر، وبالتالي فليس هناك إله -بزعمهم-، كما أن المسيحَ بصورتِه التي قامت الكنيسةُ الغربيةُ بتصويرِها رحيمٌ منعزلٌ عن حياة الناس .. يَقبلُ بكل معاييرِ الحياة الإنسانية، ولا يدعو إلاَّ إلى الحريةِ والمساواة .. وهي أهمُّ قِيَم العلمانيةِ، ولا تُصادِمُ مَن تَركوا الدين، وبالتالي فلا حاجةَ إلى مصادمةِ المسيح. أما العلاقةُ مع محمدٍ، فهي علاقةٌ تصادميةٌ مع كلٍّ مِن التيارِ الدينيِّ والعلمانيِّ في الغَرب على المستوى الفكري، فمحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - حَرِصَ على أن يكون فردًا .. إنسانًا بكلِّ معاني الإنسانية، ورَفَض أن يكونَ إلهًا في صورةِ

إنسان، وبالتالي فهو يناقضُ فَهْمَ المتدينين من الغربِ للإله الذي عَرفوه، وبالتالي تكوَّنت الكراهيةُ والضيقُ مِن كلِّ ما يُمثله محمد - صلى الله عليه وسلم - .. فهو ليس على شاكلةِ المسيح .. في نظرهم، هو يناقضُ أيضًا مشاعرَ ورَغَباتِ غيرِ المتدينين؛ لأنه يَطلُبُ من البشر -كما أَمَره خالقُه- بالكثير من العباداتِ والأعمالِ والالتزامات، ويُقدِّمُ حريةَ المجتمع على حريةِ الفرد، ويُضحِّي بالمساواةِ من أجل العدالة ومنِ أجل صلاح المجتمع، كل ذلك ساهَمَ في تكوينِ صورةٍ سلبيةٍ وقاسيةٍ عن نبي الإسلام. كما عُقدت المقارنةُ بين التوسُّع الإسلاميِّ، ودخولِ المسلمينِ في معاركَ من أجل نَشرِ الدين، أو الدفاع عن المسلمين، مع الروح غيرِ القتاليةِ التي تُصوِّرُها المسيحيةُ الرومانية المُحرفةُ عن حياةِ المسيح عليه السلام، فكما يَذكُرُ أحدُ الباحثين، فإنَّ "تصنيفَ الإسلام كدينِ حربٍ يَستندُ أساسًا إلى صورةِ المِثالِ المسيحي، لقد ابتَعد المسيحُ في تبشيره عن وسائل النجاح السياسية، حتى إنَّ مجْدَه يقومُ على خسارته، إن الكنيسةَ لم تُقِم إمبراطوريةً، لقد مَسَحت الإمبراطوريةَ القائمةَ وتَسلَّلت إليها كما الدودةُ إلى الثمرة، دون شكٍّ، إن التراثَ المديني اليهوديَّ، بعدَ "الأسر"، جَعل من التطلُّع إلى المسيح مُنقذًا هو بمثابةِ تعويضٍ عن الخسارةِ في العالم" (¬1). أما الإسلامُ، فلم يَتَبَنَّ هذه الروحَ التي تَميلُ إلى الخسارة في الدنيا من أجل تحقيقِ المجدِ في الآخرة، وهنا أيضًا استُخدمت هذه المقارنةُ غيرُ الصحيحة للطعنِ في الإسلام، ووُصف نبي الإسلام أنه جاء بالسيف ¬

_ (¬1) "أوربا والإسلام صدام الثقافة والحضارة" لهشام جعيط (ص 45) دار الطليعة بيروت.

تجذر فكرة النبوة الكاذبة

والعنفِ والعُدوان. ° يروي الكاتبُ العربي "هشام جعيط" في تحليله للشخصيةِ الأوروبيةِ كيف أنها نَظرت للعالَمِ الإسلاميِّ ولدعوةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيقول: "يَسيرُ تاريخُ الإسلام لا وِفقَ ديناميكيته الخاصة، بل كانعكاسٍ شاحبٍ ومعكوسٍ لتاريخ الغرب، لِنأخذْ مثلاً على ذلك: شخصيةُ محمد، نلاحظُ أن ضِمنَ كلِّ تحليلٍ لهذه الشخصيةِ تنسابُ عمليةُ مقارنةٍ مع المسيح، إذا كان محمدٌ غيرَ صادقٍ، فذلك لأن المسيحَ كان صادقًا؛ وإذا كان متعددَ الزوجات وشهوانيًّا، فلأن المسيحَ كان عفيفًا، وإذا كان محمدٌ محارِبًا وسياسيًّا، فذلك استنادًا إلى يسوعَ مسالمٍ، مغلوبٍ ومُعذَّب" (¬1). * تَجذُّرُ فكرةِ النُبوَّةِ الكاذبة: قامت الكنيسةُ الغربيةُ تحديدًا منذ بدايةِ الإسلام بالطعن في صِدقِ نبوةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يزالُ هذا الموقفُ هو السَّمتُ المشترَكُ لمعظم المفكرين المتديِّنين الغربيين، رغمَ أن بعضَهم قد تنازَلَ ووَصَف النبيَّ ببعض الصفاتِ الإيجابيةِ كقائدٍ سياسي، أو مُصلحٍ إنساني، أو إنسانٍ طموح، ولكن ليس كنبيٍّ يوحَى إليه، أخطأ كثير منا في فَهم دلالة العبارات، والتي تَطيرُ بها وكالاتُ الأنباء العربيةُ والإسلامية، وكأنها تُمثل تحوُّلاً فكريًّا في نظرة الغرب للنبي، فكم تَغنَّينا بعبارةِ أن "العظماء مئةٌ وأعظمهم محمد"، وغيرِها من العبارات التي يكثُر تقديمُها في هذا السياق. رأى المسيحيون في شخصِ محمد -كما يَروي أحدُ المفكِّرين الغربيين- ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 40).

رجلاً مرتدًّا أو نبيًّا مزيَّفًا، لا يَملِكُ سوى الادعاءاتِ والأضاليل، وفي تفسيراتِهم الأقلِّ تحفظًا صُوِّرَ محمدٌ كساحرٍ، مُعَادٍ للمسيح أو حتى أنه الشيطان ذاته، وصُوِّر الإسلامُ على أنه لون جديدٌ من الهرطقة (اليهودية، أو المسيحية)، أو على أنه ضرْبٌ جديد من الوثنية (¬1). ° كما يقول المستشرقُ "فنسنك": "إنَّ محمدًا كان قد اعتَمد على اليهود في مكَّة، فما لَبِثوا أن اتَّخذوا حيالَه خُطَّةَ عداء، فلم يكن له بُدٌّ من أن يلتمسَ غيرَهم ناصرًا، هناك هداه ذكاءٌ مُسدَّدٌ إلى شأنٍ جديدٍ لأبي العرب إبراهيم، وبذلك استطاع أن يَخلُصَ من يهوديَّةِ عصرِه لِيَصِلَ حَبْلَه بيهوديَّة إبراهيم". ° أما "مارتن لوثر" -مؤسس المذهب البروتستانتي-، فكان له رأيٌ شبيةٌ بذلك في الإِسلام وفي نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه كان يَستغلُّ هذا الرأيَ في الطعنِ في الكنيسة الكاثوليكية أيضًا، يُعبِّرُ عن ذلك المفكِّرُ الغربي "إن. دانيال" قائلاً: "إن لوثر ذاتَه كان وحدًا من أوائل الذين صاغوا نموذجًا جديدًا كليًّا للموقف من الإسلام، مستخدِمًا إياه -كمنوذج سلبي- في جِداله العنيفِ مع الكاثوليكية، حيث يقول: البابا والإِسلام يُشكِّلان -من حيث الجوهر- العدوَّينِ اللدودَينِ للمسيح وللكنيسةِ المقدَّسة، ولكن إذا كان الإسلامُ يمثِّلُ جَسَدَ المسيح الدجال، فإن البابا هو رأسه". هكذا كان "لوثر" يرى الإسلام، ويصفُ النبيَّ لأنه المسيحُ الدجال، لقد كانت فترةُ ظهور البروتستانتية هي أيضًا فترةَ ازدهارٍ لمن اهتمُّوا بالهجوم ¬

_ (¬1) "الإسلام والمسيحية" د. أليسكي (ص 60).

على الإسلام وعلى نبي الإسلام، وأصبح الإسلام هو السُّبَّةَ أو الإهانةَ التي يُمكن أن يوصَفَ بها كل مخالف، وانتَشر في ذلك الوقتِ تبادُلُ هذ الاتهام بين كلٍّ من أنصار الكاثوليكيةِ وأنصارِ البروتستانتية. وقد ساهَمت الرؤية الفكريةُ الغربيةُ بأن نُبوَّة محمدٍ في - صلى الله عليه وسلم - كاذبةٌ في عَقدِ مقارناتٍ ظالمةٍ مع المسيحية الرهبانيةِ، بغَرَضِ تشويهِ صورةِ الإسلام وصورةِ نبيِّه، وهنا تتدخل رؤية للنفسِ المسلمةِ نابعةٌ من شروطِ تطوُّرِ فِكرةِ النبوة الكاذبة، هذه الرؤيةُ مَفادها أن سلوكَ نبي الإسلام هو نَقيضُ سلوكِ القدِّيس القائم على قَمع الغرائز، وأن الإسلامَ شهوانيٌّ وماديٌّ في رُوحِه وفي مَفهومِه للجنة، وأن شرائعَه ومؤسَّساتِه لم تَفعلْ سوى تطويرِ هذه الجرثومةِ القاتلةِ التي تَعيبُه من أساسه، فإذا كان مفهومُ الجَنَّةِ يُبيِّن أننا أمامَ دين خالٍ من الروحية، محصورٍ في صورةِ اللذات المستقبلية، وتفوحُ منه رائحةُ الوثنية، فإنَّ حياة النبي بدَورها تُبرهِنُ على ضعفِ قيمتِها الأخلاقية (¬1). تَسبَّبَ الموقفُ الدينيُّ والفكريُّ الغربيُّ الذي يَدَّعي كَذِبَ نبوةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في تكوُّنِ فكرةٍ مسيحيةٍ استقرَّت في أذهانِ الكثيرِ من المفكرين الدينيين في الغرب، هذه الفكرةُ تتصوَّرُ أن هذه النبوةَ الكاذبةَ في ظنهم قد أوقَفت تطوُّرَ الإنسانيةِ باتجاه المسيحية، يقول أحدُهم: "لقد أمكن لمحمدٍ أن يُكوِّن إمبراطوريةً سياسيةً ودينيةً على حساب موسى والمسيح" (¬2). بالطبع هناك أسبابٌ حقيقةٌ للتخوُّفِ من أن يعيقَ الإسلامُ طريقَ انتشارِ ¬

_ (¬1) "أوربا والإسلام" لهشام جعيط (ص 13). (¬2) المصدر السابق (ص 79).

المسيحية، وَيشرحُ هذه الفكرةَ المفكِّرُ الغربي "مونتغمري واط" قائلاً: إن "الإسلامَ من وِجهةِ نظرِ المسيحية الغربية يَتَّسمُ بخَلفيةٍ إشكاليةٍ لاهوتيةٍ عميقة، لقد ظَهر في أوائل القرنِ السابع للميلاد في مُحيطٍ تميَّز بتأثُّرِه الروحيِّ بالتقاليد اليهودية -المسيحية، مؤكِّدًا من ناحية- وعَبْرَ التوحيدية الإبراهيمية -صِلَتَه المبدئيةَ بتلك التقاليدِ الشرقية اليهودية- المسيحية، ولكنه وَضَع نفسَه من ناحيةٍ أخرى في خندقٍ مضادٍّ متعارِضٍ تمامًا مع التقاليدِ الدينية المذكورة. فمن خلال تعميمٍ مُطلَقٍ غيرِ محدودٍ للتوحيد، ألغى الإسلامُ في حقيقةِ الأمر أيَّ إمكانٍ لتجسيدِ الطبيعةِ الإلهيةِ مع نفيٍ تامٍّ لفكرةِ "الثالوث المسيحية". وبذلك التوجُّهِ العقائدي حَطَم الإسلامُ النظامَ البنيويَّ - اللاهوتي الذي كان مُهيمنًا في التصورات المسيحية- لا سيَّما في العصر الوسيط -حولَ التكوينِ الإلهيِّ للتاريخ، وحولَ التقديس، وتجسيدِ الإله ذاته، هكذا كان ظهورُ الإسلام بالنسبة للديانتين اليهودية والمسيحية نوعًا من التحدي المديني - التاريخي" (¬1). كما يرى بعضُ المفكِّرين الغربيين أن محمدًا ورسالتَه قد تسبَّبا في منع انتشارِ الِمسيحية في الشرقِ الأقصى أو تفاعُلِها مع البوذية، وهي فكرةٌ يعتنقُها بعضُ المفكِّرين المتاثِّرين بالفِكرِ "النِّسَوي" الذي يَرى العالَمَ كان أقربَ إلى رُوح الأنثى، إلى أن جاءَ الإسلام فجعله عالمًا ذكوريًّا ولذلك ¬

_ (¬1) "تأثير الإسلام على أوربا في القرون الوسطى" (ص 8 - 10) لمونتغمري واط.

العنصرية الغربية والاستعلاء الكاذب للجنس الأبيض

يقولُ أحدُهم، وهو المفكر "ليفي ستراوس": "إن وجودَ الإسلام قد لَعِب دوؤًا مزعجًا، لقد قَطَّع إلى نصفين عالَمًا كان يستعدُّ للاتحاد، وتدخَّل بين الهللينيةِ والشرق، بين المسيحية والبوذية، لقد قام الإسلامُ بعمليةِ أسلمةٍ للغرب، ومَنَع المسيحيةَ من أن تتعمق، وأن تُكوِّن ذاتها أكثَرَ فأكثر بعمليةِ تلاقُحٍ مع البوذية، لقد أصبح الغربُ مسلمًا، أي قويًّا ومحاربًا ورجوليًّا وعالِمًا ومنظَّمًا، وفقد حَظَّه في (البقاء امرأة) ". يبقى الإسلامُ في نظرِ الغالبيةِ العظمى من مفكِّري الغربِ دينًا يُعيقُ تقدُّمَ الغربِ مهما بَلغت نجاحاته، ليس مهمًا أن يكونَ الإسلامُ أفضلَ أو أسوأَ من الدينِ المسيحيِّ الذي تَرَكه معظمُ الشعبِ الأوروبي عمليًّا ولكنه لا يزالُ يُحرِّكُ معتقداتِه الفكريةَ في التعامل مع الآخرين بقوة، المهمُّ أن الدينَ الإسلاميَّ وسُنةَ نبيِّ الإسلام - صلى الله عليه وسلم - يُمثلان عائِقًا حقيقيًّا أمامَ تطُورِ المسيحيةِ بالنسبةِ للمتدينين والغربِ عمومًا بالنسبة إلى غير المتدينين، الإسلامُ -في نظرهم- هو حَجَرُ عَثْرَةٍ يَعترضُ مسيرةَ الحضارةِ الغربيةِ برُمَّتها. * العنصرية الغربية والاستعلاءُ الكاذبُ للجنسِ الأبيض: تُغَلَّفُ العنصريةُ الغربيةُ تاريخيًّا بالكثير من الأغلفة الفكرية الخادعة، وقد اتَّخذ الفكرُ الغربيُّ موقفًا معاديًّا من رسولِ الله؛ لأنه يُمثِّلُ رَمْزَ المساواةِ الحقيقية بين البشر، وقَدَّم النموذَجَ العمليَّ للتعايُشِ بين البشرِ دونَ أفضليةٍ لجنسٍ على جنسٍ إلاَّ بالقرُبِ والبُعدِ من الإِيمان والقُربِ من الله، أما الفوارقُ العِرْقيةُ فقد تَقلَّصت إلى حدٍّ بعيدٍ في النموذج الحضاريِّ الإسلاميِّ الذي استَمدَّ تعاليمَه -كما يَعرفُ الغربُ- من رسالةِ الإِسلام وسُنَّةِ النبيِّ

العجز عن إيقاف نمو الإسلام

الكريم - صلى الله عليه وسلم -، لم يُرْضِ ذلك المفكرين الغربيين بالتأكيد؛ لأنهم قَدَّموا لشعوبهم وللعالَم نموذجًا آخَرَ يقومُ على فكرةِ التمايز العِرْقيِّ والعنصري. يرى الباحث "أليسكي جورافيسكي" أن الكثيرَ من الأيديولوجيين الأوروبيين ركَّزوا على مسألةِ التعارضِ المطلَقِ بين الشرقِ والغرب، فالشعورُ بالعظمةِ والتفوقِ الحضاريِّ قاد الشعوبَ الأوروبيةَ إلى فكرةٍ نمطيةٍ جامدة -كما يقول الباحث-، شَكَّلت التُربةَ المناسبةَ لظهورِ نظرياتٍ تُركَّزُ على التعارضِ التاريخي بين أوروبا وآسيا، وكأنه صراعٌ أزليٌّ لا حلَّ له، وضِمنَ هذا المَنْحَى الأُحاديِّ صُور التاريخُ العالمى كصراعٍ بين الغرب الديناميكي، كتب ساندرسون: "إن الجنسَ الآرِيَّ العظيمَ وحدَه فقط القادرُ على قيادةِ البشرية نحوَ طريقِ الحريةِ الدينية والسياسيةِ والحريةِ الفكرية". * العجز عن إِيقاف نموِّ الإِسلام: جاء محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - برسالةٍ سماوية تختلفُ عن المسيحية التي حُرِّفت بعد المسيح عليه السلام، أكَّد محمدٌ أن هذا الدينَ سيبقى ما بَقِيَ الليلُ والنهار، وثَبَتَ صِدقُ ما قال، وأزعَجَ ذلك الغربَ العنصريَّ إزعاجًا شديدًا. إن من المشكلاتِ الحقيقيةِ التي تُعاني منها الكنيسةُ الأوروبية منذ ظهورِ الإسلام هو عدمُ قدرةِ هذه الكنيسةِ على إيقافِ نموِّ الإسلام، فالإسلامُ ينمو في كل الظروف، ومع كل الضغوط، وتحتَ كل الظروف الاجتماعية المختلفة، وفي كلِّ العصور، وهو بالتأكيد ينمو على حسابِ أنصارِ تلك الكنيسةِ التي تهتمُّ اهتمامًا كبيرًا بالتنصير، ويستهدفُ نفسَ المْجتمعاتِ التي تحاولُ الكنيسةُ السيطرةَ عليها، وتحويلَها إلى دينها.

لم يَقتصِرِ الامرُ على رجالِ الدينِ فقط، بل إن المستشرقين أيضًا شَعُروا بالخوفِ من تنامِي الإسلام، لذلك "يفتقدُ المرءُ الموضوعيةَ في كتاباتِ مُعظم المستشرقين عن الدين الإسلامي، في حين أنهم عندما يكتبون عن دياناتٍ وَضْعيةٍ مثل البوذية والهندوكية وغيرهما، يكونون موضوعيين في عَرضِهم لهذه الأديان، فالإسلامُ فقط من بين كلِّ الديانات التي ظَهرت في الشرق والغرب هو الذي يُهَاجَم، والمسلمون فقط مِن بين الشرقيين جميعًا هم الذين يُوصَمون بشتَّى الأوصافِ الدنيئة، ويتساءلُ المرء: لماذا؟. ° ولعل تفسير ذلك يعودُ إلى أن الإسلامَ كان يُمثِّلُ بالنسبة لأوروبا صدمةً مستمرةً، فقد كان الخوفُ من الإسلام هو القاعدة، وحتى نهايةِ القرنِ السابعَ عَشَرَ كان "الخطر العثماني" رابضًا عند حدود أوروبا، ويُمثلُ -في اعتقادهم- تهديدًا مستمرًا بالنسبةِ للمَدَنِيَّةِ النصرانية كلها.، ومن هنا يُمكنُ فَهمُ ما يَزعمُه المستشرق "موير" من أن "سيفَ محمد والقرآن هما أكثرُ الأعداءِ الذين عَرَفهم العالَمُ حتى الآن عنادًا ضدَّ الحضارةِ والحريةِ الحقيقية"، وما يدَّعيه "فون جرونيباوم" من أن الإسلامَ ظاهرةٌ فريدةٌ لا مثيلَ لها في أي دينٍ آخَرَ، أو حضارةٍ أخرى، فهو دينٌ غيرُ إنسانيٍّ، وغيرُ قادرٍ على التطوُّرِ والمعرفةِ الموضوعية، وهو دين غيرُ خَلاَّقٍ وغيرُ علمي" (¬1). ° إن الخوفَ من قوةِ الإسلامِ المُحرِّكة الذي يأخذُ في اللحظاتِ الحماسية شَكْلَ الدفاعِ والصراع والمشاجرة، وهو أحدُ أكثرِ الأشكال ¬

_ (¬1) "الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري"، د. محمد حمدي زقزوق، كتاب "الأمة"- قطر، نقلاً عن الموقع الإلكتروني للشبكة الإسلامية: www.islamweb.net.

إهدار قيمة كل مقدس عند العلمانيين الغربيين

الانفعالية في التاريخ، قد أَبرَزَ مفهومَ الإسلام السياسي كتهديدٍ متواتر، ومفهومَ الدين السياسي كبِنيةٍ تاريخيةٍ في أصول الإسلام، يقول "جولدزيهر": "إن الإسلامَ قد جَعل الدينَ دنيويًّا، لقد أراد أن يَبنيَ حُكمًا لهذا العالَم بوسائل هذا العالم" (¬1). إننا أمامَ منافسةِ شرسةٍ بدأت منذ أكثَرَ من ألفِ عام، وساحَتَها كانت في مُعظَم الأحيان هي كلُّ أنحاءِ المعمورة، ومع ظُهور العولمة، وتزايُدِ حركات الهجرة، ونَقصِ العَمالةِ اليدوية المدرَّبة في أوروبا، وتناقُصِ عددِ السكان في كثير من دولِ شمال وغرب أوروبا، فقد تسبَّب كل ذلك في عَودةِ الوجودِ الإسلاميِّ للظهور بقوةٍ داخل أوروبا، وفي كلِّ عواصمها وحواضِرِها بشكلٍ أصبَحَ يستفزُّ كلَّ مَن يسعى إلى الانتصارِ للكنيسة، أو للغربِ على حساب الإسلام. لقد رأت الكنيسةُ الأوروبيةُ تاريخيًّا -وحتى الآن على أغلب الظن- أن هناكَ خُطورةً من انتشارِ الإسلامِ في كلِّ أنحاءِ المعمورة، وأن هذه الخُطورةَ تُمثِّلُ كارثةً على المسيحية، لذلك فإن المواقفَ الفكريةَ المسيحيةَ تَنحى دائمًا إلى الهجوم على الإسلام وعلى نبيِّ الإسلامِ - صلى الله عليه وسلم -. * إِهدارُ قيمةِ كل مقدَّس عند العلمانيِّين الغربيين: تطوَّرَ مشوعُ العلمانيةِ من "فَصِل الدين عن الدولة" إلى "إقصاء الدين عن الحياة" .. إلى "الهجوم على الدين للقضاء على ثبات القِيم"، واستَتْبَعَ ¬

_ (¬1) "أوروبا والإسلام .. صدام الثقافة والحداثة" هشام جعيط، دار الطليعة، بيروت الطبعة الثانية 2001 م (ص 85).

فشل تحجيم التأثير السياسي والدولي للإسلام

ذلك رغبةُ القائمين على هذا المشروع العلماني في القضاءِ على كلِّ القِيَم الثابتةِ في المجتمعات، وتحويل فكرةِ القِيَم إلى موضوع نسبي متغيِّر تبعًا للزمان والمكان وأمزجةِ الشعوب. يقتضي تحقيقُ هذه الفكرةِ القضاءَ على وَلَعِ الشعوبِ وتقديرِها للمقدَّس، بصرفِ النظر عن قيمةِ ذلك المقدَّس في حياتها، أو مدى اعتزازِها به، من أجل ذلك ظَهرت حملة منظمة في الغربِ طوالَ الأعوام الماضيةِ للنَيل من كلِّ الأنبياءِ والصالحين، وليس نبي الإسلام وحده. فقد ظَهر في الإِعلام الغربي مؤخَّرًا العديدُ من الأفلام التي تهاجمُ المسيحَ عليه السلام، وكذلك نبى الله موسى، وكل ذلك يَندرجُ -في ظننا- ضمنَ مشروع علمانيٍّ يهدفُ إلى تشويهِ صُورِ كلِّ رموزِ القِيَم الأخلاقيةِ غيرِ المتغيرة في العالم، ولعل ذلك يُفسِّرَ أيضًا سببَ تكرارِ الهجوم على نبيِّ الإسلام من أنصارِ التياراتِ المتحررةِ والليبراليةِ في الغرب. * فَشَل تحجيم التأثير السياسي والدولي للإِسلام: إن التياراتِ العلمانيةَ واللادينيةَ التي تَحكُمُ الكثيرَ من دول أوروبا -ولها تأثيرٌ قوىٌ على السياسة الأمريكية أيضًا- لا تكترثُ كثيرًا لمسألةِ انتشارِ الاسلام عدديًّا أو جغرافيًّا أو عقديًّا في مواجهةِ المسيحيةِ، أو أيِّ ديانةٍ أخرى، كثيرٌ من هؤلاء القادةِ السياسيين والإعلاميين والفكريين ممن ينتمون إلى التيار اللاديني أو العلماني لا يهتمُّون لموضوع الدين من ناحيةِ علاقة الإنسانِ بخالقه، أو بمَعبَدِه أو كنيستِه أو مسجده، ما شغلُهم بالتأكيد هو آثارُ التدينِ على مسيرةِ العالَم الاقتصاديةِ والليبراليةِ والحضاريةِ بمفهومهم هم

فقدان الغرب للحب والعاطفة، فقلوب أهله أقسى من الحجارة

لهذه الحضارة السائدة. وفي هذا السياقِ يَبرُزُ الإسلامُ كمصدرِ إزعاجٍ رئيس؛ لأنَّه قوةٌ محرِّكةٌ ومؤثِّرةٌ، وتدفعُ بمُعتنقيهِ إلى رَفضِ الهيمنةِ ومقاومةِ مشروعاتِ الاستعمارِ الفكريِّ والاقتصاديِّ بنفس حِدِّةِ وصَلابةِ ومقاومةِ الاستعمارِ المسلَّح، وهنا يَكمُنُ تفسيرُ اتحادِ التياراتِ الليبرالية العلمانيةِ الغربيةِ مع التياراتِ الدينيةِ المتطرِّفةِ في بعضِ الكنائسِ الأوروبية، من أجل تقليصِ تأثيرِ الإِسلامِ على العالم المعاصر، إنه تحالُفٌ لم يَحدُثْ في التاريخ مِن قبلُ بهذه الدرجة من الشموليةِ والتعقيدِ والانتشارِ الجغرافي أيضًا. وهذا الاتحادُ الفكريُّ بَدأ منذ القديمِ عن طريقِ المفكرين المسيحيين، يذكرُ أحدُ المفكِّرين الروسُ عن ذلك: "إننا لَواجِدون عند كبارِ المفكرين السيحيين -بدءً من أوغسطين وانتهاءً بتوما الأكويني- فكرةً عامةً ملازمةً تقول: إن تطورَ الإنسانية يجبُ أن يُفضيَ حتمًا إلى ملكوتِ المسيح، وهو تطوُّرٌ يجبُ أن يَستوعبَ في داخله العالَمَ كلَّه، وفي الوقتِ ذاته، "فإن مَلِكنا على حقٍّ، أما غيرُ المسيحيين، فهم ليسوا على حقِّ" (أغنية رولان" (¬1). * فُقدان الغَربِ للحبِّ والعاطفةِ، فقلوبُ أهلِه أقسى من الحجارة: إنَّ الأمةَ الإسلاميةَ تَعلَّمت من دينِها أنَّ أوثَقَ وأعلى درجاتِ الإيمانِ أنْ تُحبَّ في الله، وأن تُبغِضَ أيضًا في الله، وأسمى درجاتِ المحبةِ في الله أن ¬

_ (¬1) "الإسلام والمسيحية" (ص 19).

تُحبَّ خيرَ خَلقِ الله - صلى الله عليه وسلم -، نعم نحنُ نؤمنُ برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونراه قائدًا وهاديًّا ورسولاً .. ولكننا أيضًا -وفوقَ كلِّ ذلك- نَحبُّه حبًّا كبيرًا ومختلِفًا عن كلِّ معاني الحبِّ التي تربطُ الغربيين بحُكَّامهم، أو حتى أنبيائهم. بل إن العجيبَ في الأمر -والذي يؤكِّدُ مرضَ الغرب- أننا -نحن المسلمين- نحبُّ أنبياءَهم أكثَرَ من حُبِّهم هم لهم، فليس من الممكن أن تَسمعَ مسلمًا يَهزأُ بالمسيح عليه السلام، ولا يُمكنُ أن تَجِدَ أيَّ فردٍ من أفراد هذه الأمة العربيةِ والإسلاميةِ يَسخَرُ من نبيِّ الله موسى عليه السلام، إنهم أنبياءُ نؤمنُ بهم ونُوقِّرُهم، والأهمُّ في كلِّ ذلك -في هذا السياق- أننا حقًّا نحبُّهم، لَيتَهم في الغربِ يَعرفون ماذا يعني هذا الحبُّ؟! وكم هو جميلٌ أن تكونَ مُحِبًّا .. وأن تحيا بالعاطفة، وليس بالمصلحةِ أو المنفعة. لكنَّ الحُبَّ يُفرِزُ أيضًا عاطفةً مضادةً وهي الكُرْه، وهنا يمكنُ أن نَجِدَ تفسيرًا لحماسِ مفكِّري الغرب في الهجوم على ظاهرةِ حُبِّنا الشديدِ لنبيِّ الإسلام - صلى الله عليه وسلم -، فالحبُّ عاطفةٌ جياشة، وكأيِّ عاطفةٍ، فإنها تَحمِلُ دائمًا ضِمنَ عناصرِها نَقيضَها -وهو الكُرْه-، إن مَن يعرفُ كيف يُحب .. يتيقَّنُ أيضًا كيف يكره. إننا أُمةٌ نحاولُ دائمًا أن نَربِطَ العاطفةَ بمعاييرِ الدينِ والأخلاق، ونحاولُ كذلك أن نتحكَّمَ في الكراهيةِ لكي تنضبطَ ضِمنَ أُطُرِ الدينِ والقانونِ والأعرافِ، ولكننا لا نحاولُ أبدًا أن نتخلَّص منهما، بل إن الدينَ الإسلاميَّ الذي يَحُثُّ على الانضباطِ والتقيُّدِ في الحب .. هو نفسُ الدين الذي يَرى أن الكُرهَ عاطفةٌ بشريةٌ لا يمكن القضاءُ عليها, ولكن يجبُ أن

تُقَنَّنَ وتُضبَطَ ضِمنَ قِيَم وقواعدِ المجتمعاتِ الإسلامية. أما الغربُ، فهو يريدُ أن يتخلَّص الناسُ -وخصوصًا هذه الأمة- من تلك العواطفِ الجيَّاشة .. حبًّا كانت أم كراهيةً .. فكلاً منهما يساعدُ على تقويةِ النقيض .. فمَن يُحِبُّ بشدةٍ -حتى وإنِ انضبط بمعاييرِ الشرع- يمكنُ أن يَكرَهَ أيضًا بشدَّةٍ ضمنَ نفسِ المعايير والضوابط، هناك في الغرب مَن يريدُ تركيعَ البشريةِ حتى لا يَكرهَ أفعالَه أحدٌ، حتى وإنْ قَتل وعذَّب واستَهزأ وهَيْمَنَ وسيطر .. لا بد إذن أن يُقيَّدَ ويُحجَّمَ الحُبُّ .. وأن تُقتلَ مشاعر البغض .. ليس هناك من تدريبٍ أفضلُ على قتلِ العاطفةِ لهذهِ الأمة مِن أن يُستهزاءِ بخيرِ خَلقِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن تُمنعَ الأمةُ من التعبيرِ عن غضبِها من الاستهزاءِ أو حبِّها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، الغربُ يريدُ أن يُطوِّعَنا أن نَقبلَ أن يُهانَ أغلى مَن نُحبُّ، وأن نَمتنعَ عن إظهارِ العاطفة .. وبالتالي سنمتنعُ إيضًا تلقائيًّا -في ظنهم- عن بُغضِ أفعالهم. لن تَنجحَ محاولةُ تدريبِ الأمةِ -أفرادًا وجماعاتٍ- على أن نَنسى العاطفة .. ولن يُفلحَ مَن يُحاولُ أن يَكبِتَ طاقاتِ المحبين، قد يكونُ المطلوبُ -للبعض في الغرب- أن تَفقِدَ الاُمةُ ثِقَتَها في نفسها .. وفي قيمةِ العاطفة .. وبالتالى تَلْفِظُ الحبَّ والكُرْهَ معًا .. وتتحولُ إلى كائنٍ مُطيعٍ ينضمُّ إلى القافلةِ المتحركةِ نحوَ نهايةِ التاريخ عندما ينتصرُ الغرب، ولكنني أشك في إمكانيةِ حدوثِ ذلك، إننا أمامَ معركةِ المستقبل بين العواطفِ والمصالح .. بين الإنسانِ والآلة .. بين سيادةِ القلبِ أم هَيمنةِ العقل .. مِن

محمد - صلى الله عليه وسلم - تجسيد للكمال الإنساني، فاضح لبهيمية الغرب وانحطاطه

أجل ذلك لابدَّ نَقبَلَ خَوضَ المعركة .. وسلاحُنا في ذلك هو العاطفة، وهو تَحدٍّ عقليٌّ وقلبيٌّ مع الغرب، ولكننا سننتصرُ بهما معًا. * محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - تجسيدٌ للكمال الإِنساني، فاضحٌ لِبَهيميَّةِ الغَرْبِ وانحطاطه: يَرى البعضُ في الغربِ في شخصيةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - نموذجًا متكاملاً لنوعٍ من الكمالِ الإنسانيِّ الذي لا يُمكنُ للغرب بأفكارِه ونظرياتِه وممارساتِه أن يَصِلَ لها، وعند هذا الفريقِ من الغربيين، يُصبحُ القضاءُ على هذا النموذج همًّا حقيقيًّا بذاته. فكأنَّ حياةَ النبيِّ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - تُمثِّلُ ذلك الضميرَ الذي يُوخِزُ الغربَ في جَنَباته، وكأنه مِرآةٌ داكنةٌ توضِّحُ لهم بالدليلِ الواقعيِّ مَدى التردِّي الذي وَصَل إليه حالُ الشخصيةِ الغربية نتيجةً لابتعادِها عن النموذج المحمديِّ. • عن تَميم الداريِّ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لَيَبْلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بَلَغَ الليلُ والنهار، ولا يَتركُ الله بَيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلاَّ أدْخَلَه هذا الدينَ بعِزِّ عزيزٍ، أوْ بذُلِّ ذليل، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ به الإسلامَ، وذُلاًّ يُذِلُّ به الكُفرَ" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) صحيح: رواه أحمد في "مسنده" (4/ 103)، وابن حبان في "صحيحه" (1631، 1632)، والحاكم (4/ 430 - 431)، وقال: "صحيح على شرط الشيخين" .. وصححه الألباني في "الصحيحة" رقم (1).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَامُحَمَّدَاهُ {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف الطبعة الأولى 1427 هـ - 2006 م رقم الإيداع بدار الكتب المصرية رقم الإيداع: 22691/ 2006 دار العفاني 3 درب الأتراك خلف الجامع الأزهر - القاهرة ت/ 025108257 - ت/ 0125775711 فرع بني يوسف - برج الري - حي الرمد - بجوار مجمع المحاكم - بني سويف ت/ 0822317344 مطبعة العمرانية تليفون 3756299

بل هي حرب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - والإسلام

بَل هي حَرْبٌ على الرسول - صلى الله عليه وسلم - والإسلام

الصليبي سمير جعجع، قائد القوات الصليبية - بلبنان يسب الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين

الصليبي سمير جعجع، قائدُ القوَّات الصَّليبيَّة - بلُبنانَ يَسُبُّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين تَقدَّمت المحاميةُ "ميُّ الخنساء" ببلاغ إلى النائب العام اللبنانيِّ، تطالب فيه بالتحقيق مع كُلٍّ من "سمير جعجع" قائدِ القوَّاتِ اللبنانيَّةِ المسيحيَّة، والمسؤولين عن موقع القوَّات على الإنترنت، لنشرهم مقالاً يتضمَّن سِبَابًا مُقْذِعًا للمسلمين سنَّةً وشيعةً وللرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهاجم المقالُ -الذي حَصلت "الأهرامُ العربي" على نُسخةٍ منه "حسن نصر الله" الأمينَ العامَّ لحزب الله، ووَصَفه بالكاذِبِ والمخادع، وأنه يضحكُ على المسلمين بادعاءِ أنه قادر على محاربةِ إسرائيل، متناسِينَ أن إسرائيل قادرةٌ على إبادةِ كلِّ العرب، وعلى تدميرِ السدَّ العالي لإغراقِ مصر، وعلى تدميرِ "طِهران"، وعلى الوصولِ إلى غرفةِ نومِ الرئيس السوري "بشَّار الأسد"!!. ووَصَف المقالُ المسلمينَ سُنَّةً وشيعةً بأَنهم "مهابيل"، وأنهم كائنات لم تَصِلْ بعدُ إلى درجةِ "القِرْد" على مِقياس "دارون". كما وُصف الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - بألفاظٍ نَعِفُّ عن إعادةِ نشرها. ° وخَتَم القول: "إن الخداعَ الذي يُمارسُه "حسن نصر الله" وحزبه على هؤلاء المساطيل يُعتَبَر تافِهًا إذا ما قُورِن بأساطير محمد بن عبد الله". "ميُّ الخنساء" أوضحت للأهرم العربي أن المقالَ منشورٌ على موقع القوَّات اللبنانية http://www.lebanese-forces.com/web ، وهو يُمثِّلُ جريمةً طبقًا لقانونِ العقوبات اللبناني، وقد طَلبت في البلاع المقدَّم منها بتوقيف "جعجع" والمسؤولين عن الموقع وإحالتِهم إلى المحاكمة أمام القضاء

الحرب الصليبية العاشرة

المُخْتَصّ، ومطالبتهم بدفع تعويضِ مِئةِ مليون دولار، يتم توزيعُ 80% منه على عائلاتِ شُهداء وأسرى المقاومة، و10% يُسلَّم لدار الفتوى، ومثلُها إلى المجلس الشيعيَّ الأعلى، تخصص لطباعة كتبٍ عن سيرة الرسول الأكرم - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ° وقبل "سمير جعجع" بعشراتِ السنين كانت الحربُ اللبنانية الصليبية العاشرةُ. * الحرب الصليبية العاشرة: سمَّاها بهذا الأستاذ "أحمد بهاء الدين" (العربي- العدد 213 - أغسطس 1976) حربٌ شاب لهولها الأطفالُ من المسلمين، قَدمت أكثرَ من خمسينَ ألفاً من القتلى -تسعون في المئة منهم من المسلمين-، وثَلاثِمِئةِ ألفِ جريح، وهم ألوفٌ لم يَخسرِ العربُ مجتمِعين نِصفَهم في حروبهم الأربع مع إسرائيل!. صليبية ... سلوكُ أوغادِها ومجرميها من المارون صليبي، تفكيرُهم صليبي، حُلْمُهم صليبي .. أسفروا عن وجوهِهِم الكالحة، وباطنُهم العفنُ يقودُهم: 1 - "حزبُ الكتائبِ اللبنانيِّ" الذي يتزعمه "بِيير الجميل" (¬2)، و"بَشير الجميل". ° يقول "بيير الجميل": "إنَّ مهمةَ الكتائِب في لبنانَ مهمةٌ رسوليَّة". ¬

_ (¬1) مجلة "المختار الإسلامي" (العدد 287) غرة رجب 1427 هـ- 26 يوليو 2006 م- كلمة المحرر تحت عنوان "موقع لسمير جعجع يسبُّ الرسول والمسلمين". (¬2) وقد ذهب قريبًا إلى ربَّه ليجد عاقبة عمله كاملةً.

2 - "تنظيمُ النمور" يقودهم "كميل شمعون" رأس الأفعى المارونيَّة. ° صَرَّح هذا القَذِرُ للصحفي "جي سيتون" مندوبِ "نوفيل ابرز فاتور" الفرنسية قائلاً: "يوجد في شَرْقِنا هذا فئتانِ من المسيحيين، المسيحيون الأحرار الذين لم يَقبلوا أبدًا بأن تكونَ لأحدٍ سُلطةٌ عليهم، والمسيحيون الآخرون الذين خَضعوا للخلفاءِ المسلمين، وأدَّوُا الجزيةَ في سبيل البقاء على قَيد الحياة، وهؤلاء الذين يرفضون الحمايةَ الإسرائيليةَ جُزءٌ من هذه الفئة الثانية، فهم ليسوا من العِرْقِ اللبناني، وإنني أعتقدُ بأننا -على الأقل- يهود مِثلُهم" (نقلاً عن الجمهورية- القاهرة-6/ 8/ 1978 م) (¬1). 3 - "جبهة حُرَّاسِ الأَرْزَ"، وهي الجَناحُ العسكريُّ لحزب "الطليعة التبادعية" الذي يقودُه الشاعر الصليبيُّ الكارهُ للإسلام "سعيد عقل". 4 - "حزب التحرير الزغرتاوي" يقودُ جيشَه "طوني سليمان فرنجية". 5 - "الرابطة المارونية". 6 - "فتيات مارون". 7 - "فتيان مار نهرا". 8 - "جبهة الموت لأعداء مارون". المارون تحالَفوا مع المسيحيين القادمين من أُوربَّا في القرون الوسطى خلالَ الحربِ الصليبيةِ، وهم الآنَ ألدُّ أعداء المسلمين .. يُشكّلون نسبة 17% من سُكَّان لبنان، ويشكّلُ المسلمون المستضعَفون 65% من سكان لبنان. ¬

_ (¬1) "الحرب الصليبية العاشرة" لحلمي محمد القاعود (ص 152) - دار الاعتصام.

° صليبيُّون حتى النخاع ... "سعد حدَّاد" و"سامي شِدْياق" وهما يقومانِ بعمليةِ تصفيةٍ للمسلمين في جنوب لبنان، والاتصالِ الدائم مع "مِناحم بيجين" رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت، والأبِ "شربيل القَسَّ" أو "الأباتي شربي" كما يطلقون عليه في لبنان، هو أكثرُ تعبيرًا عن صليبيتِه، وله الزياراتُ المتكرَّرةُ إلى الفاتيكان، وسافَرَ إلى إسرائيل عن طريق قبرص، واجتمع بالمسؤولين الإسرائيليين، وحَصَل منهم على كميَّاتٍ من الأسلحة والذخائِرِ، كما حَصَل على مُساعَداتٍ ماديةٍ قُدَّرت بثلاثةِ ملايين دولار، فحوَّل الأديرةَ في جبال لبنان إلى ترسانةِ أسلحة، وقام بتدريب سبعةِ آلافِ راهبٍ مارونيَّ، اشتركوا في القتال في الحربِ الصليبيةِ العاشرةِ العنيفةِ الشرسةِ والضاريةِ في لبنانِ (¬1). ° وتبقى مذابحُ مخَّيمِ "تل الزعتر" في شهر يوليو 1976 دليلاً فاضحاً على الجرائم البشعة للمارون ضدَّ المسلمين .. لقد ظل الُمخَّيم صامدًا مدةَ ثلاثةٍ وخمسيِن يوماً، بعد أن صَدَّ سبعين هجومًا. عنيفًا تحت أقسى الظروف .. وبعد سقوطِ المخيَم كانت المذابحُ المرَّوعةُ. الموارنة ومعهم جيش "حافظ الأسد" الخائن، وتنضمُّ إليهم منظمة "أمل" الشيعيَّة. ° قاله "حافظ الأسد" لكمال جنبلاط: "لن نسمحَ لكم أن تتغلبوا على الانغزاليين أبداً .. فقال له جنبلاط: إنهم أعداء العروبة والإسلام! قال الأسد: هذا لايمنع من أننا سنمنعُكم بالقوةِ من أن تنتصروا على الانغزاليين" (¬2). ¬

_ (¬1) نفس المصدر السابق (ص34). (¬2) "الحرب الصلبيية العاشرة" (ص74)،ومجلة الإذاعة والتليفزيون 2/ 10/ 1976.

° سوف نتوقفُ لحظات ٍعند الَمجزرة التي قادتها الكتائبُ والمارون يومَ 7 ديسمبر 1975،والتي أُطلق عليها مذبحة "السبت الدامي" (راجع "روز اليوسف"، رسالة عاجلة من بيروت بقلم "بكر الشرقاوي "-العدد2481 - بتاريخ 29/ 12/ 1975). فقد تَّم في هذا اليومِ وخلالَ دقائق َقليلةٍ ذَبح 30 مسلماً -ما تُذبح الشاه -في قلب الشوارع، وقد كان المارون يسألون من يمر بهم قبل هذه المذبحة عن دين، فإذا عرفوا أنه مسلم قالوا له:"سُبَّ ربَّك" .. فإذا سَبَّ الله وهو في رُعبٍ شديدٍ، عادوا وقالوا:"سَبَّ محمدًا نبيك".فإذا سَبَّ -وكان سَبُّه مُقذِعاً وفاحشاً في كلَّ ما طُلب منه-، أعتَقوه وجعلوه يمَرُّ!. هذا ما كان يحدثُ أيام الهدوء النسبيَّ -كما يذكرُ مراسل ُ"روز اليوسف" .. أماَّ ما حدث بعد ذلك في يوم "السبت الدامي"، فتقشعرُّ له الأبدان: ° على سبيل المثال: - أمٌّ عجوزٌ كانت تعبرُ الشارع مع ابنها، التقطوه وذبحوه أمامها مِن الوريد إلى الوريد؛ ولم يرحموا ضراعتها!. - زوجةٌ مسلمةٌ صغيرةُ السنِّ، اصطادوها هي وزوجَها، بَقَروا بطنهَ وفقؤوا عَينيه، ثم أجهزوا عليه بضربةِ بَلطةٍ فوقَ رأسه، ثم عادوا واستداروا لها وغَمَدوا "السونكي" في فَرجها من فوقِ ملابسها وقالوا لها: "هاي ليكي يا مسلمة"!. - ولدٌ كتائبيٌّ (16 سنة) راح يَدفعُ أمامَه رجلاً مسلمًا وهو يوجَّهُ الرشَّاشَ إلى بطنِه .. سَقط الرجلُ على الأرضِ بعد أن تعثَّر من الرعب،

أمسك هذا الصبيُّ الرجلَ من شعره، وسَحَب سكيِّنا طويلاً من حِزامه، وراح يذبحُ الرجلَ من رقبتِه حتى تمكَّن من فصلها في النهاية أمام "سينما ريفولي" بساحة البرج!!. - إحراق المصاحف .. فقد كانت سيارةٌ متوجِّهةٌ إلى سورية على الطريق الدولي في منعطفِ "عاريَّا"، وتَحمِلُ مصاحفَ مطبوعة، أوقَفَها الكتائبيون، وقَلَبوا المصاحفَ على الأرض، وأشعلوا فيها النار بعد ذَبح سائقها! (¬1). وسَجَّلت كلُّ وكالاتِ الأنباء إمدادَ إسرائيل بالسلاحِ للمارون والكتائب. وذَكرت وكالةُ الأنباء الفرنسيةِ في نبإٍ عاجلٍ لها من لبنان: أن من المرتزَقة الأقباط المصريين كانوا يَعملون في صفوفِ قوات "حزب الوطنيين الأَحرار" برئاسة "كميل شمعون". ولك أن تتخيلَ أن القواتِ السوريةَ الخائنةَ لله ورسوله التي قاتَلت بجانبِ المارون، كانت أربعين ألفَ رجل ومعهم سبعُمئةِ دبابةٍ، وأن نفقاتها يوميًّا على الأقل كانت مليون دولار، تُساندُ (000، 15) من قوات المارون الصليبيين، و (000، 12) مقاتلٍ من قوات الجيش اللبناني الرسميِّ بقيادة العميد "حَنَّا سعيد" انضمَّت أغلبيَّتُها إلى الجبهة الصليبية. ° يقول كميل شمعون: "لا خلاص لأحداثِ لبنان ووقفِ القتال، سوى إخراجِ الفلسطينيين من لبنان، وقتل من يتبقى منهم، وإقامةِ لبنان الحر ¬

_ (¬1) "الحرب الصليبية العاشرة" (ص 25 - 26).

كلهم البابا "أوربان الثاني"

الذي لا ينتمي لا للعروبة ولا للإِسلام". * كلهم البابا "أوربان الثاني": كلُّ صَلِيبي هنا في أرض العرب لا يَقلُّ عن البابا "أوربان الثاني" و"بطرس الناسك كيو كيو"- أي: الضئيل كما كان مواطنوه يُسَمُّونه- و"والتر المفلس"، كلُّهم يَحملُ حقداً رهيبًا للإسلام. يذكرُ التاريخ أن "بطرس الناسك" اجتَمع بشمعون بطريَرك القدس، وشكى شمعونُ أحوالَ المسيحيين (¬1)، وأجابه بطرسُ قائلاً: "اعلمْ -أيها الأبُ المقدَّس- أنه لو كان لدى الكنيسةِ في روما والملوكِ في الغرب أيُّ مُخبِرٍ حَذِرٍ وموثوق يُخبِرُهم بالمصائبِ التي تُكابدونها (¬2)، لكانوا سيحاولون حتمًا تقديمَ العلاج بالسُّرْعةِ الممكنةِ وبالقولِ والفعل لمصاعبكم هذه، ولذلك اكتُبْ أنت بكلِّ اجتهادِ إلى البابا العظيم وإلى الكنيسة في روما، واكتبْ أيضَا إلى ملوكِ وأمراءِ الغرب، وصادِقْ على الرسالة بخاتَم سُلطانِك الكهنوتي، وبالحقيقة -إنني لمداواةِ رُوحي- لن أتوانَى عن الاضطلاع بهذه المهمة" (¬3). وهكذا كتب بطريرك القدس الخائنُ الرسالةَ، وسلَّمها لبطرس الناسك الذي سَلَّمها بدوره للبابا أوربان الثاني. ¬

_ (¬1) على حد زعمه الباطل الذي يصوره "وليم" رئيس أساقفة "صُور" وكبير مستشاري ملك القدس في كتابه "تاريخ الحروب الصليبية" (ص 163). (¬2) وهذا كذب. (¬3) "تاريخ الحروب الصليبية" (ص 164).

° ودعا البابا أوربانُ الثاني الجماهيرَ الصليبيةَ وخَطَبهم في مؤتمرهم وهو على باب كنيسة "كليرِمون" في نوفمبر (1095م- شوال 488 هـ) قائلاً: "يا شعبَ الفرنجة! شعبَ اللهِ المحبوبَ المختار، لقد جاءت من تُخومِ قلسطين" ومن مدينة القسطنطينية أنباءُ مُحزِنةٌ تُعلِنُ أن جنسًا لعينًا -أبعدَ ما يكونُ عن الله- قد طغَى وبَغَى في تلك البلادَ -بلادِ المسيحيين-، وخَربها بما نَشَره فيها من أعمال السلب والحرائق، ولقد ساقوا بعضَ الأسرى إلى بلادهم وقَتلوا بعضهمُ الآخرَ بعد أن عَذبوهم أشنَعَ تعذيب، وهم يَهدِمون المذابحَ والكنائسَ بعد أن يُدنَّسوها برِجْسهم؛ ولقد قطُعوا أوصالَ مملكةِ اليونان، فانتزعوا منها أقاليمَ بَلَغ من سَعَتِها أن المسافرَ فيها لا يستطيعُ اجتيازَها في شهرَينِ كاملَيْن. عَلَى من تقعُ تَبِعةُ الانتقامِ لهذه المظالم، واستعادة تلك الأصقاع، إذا لم تَقَع عليكم أنتم؟! أنتم يا مَنْ حباكم "اللَّه ُ-أكثَر من أيَّ قوم ٍآخرين- بالمجدِ في القتالِ وبالبسالةِ العظيمة، وبالقدرة على إذلال رؤوسِ مَن يقفون في وجوهكم؟!. ألا فليكنُ من أعمالِ أسلافكم ما يُقوَّي قلوبَكم -أمجاد شارلمان وعظمته، وأمجاد غيرِه في ملوككم وعظمتم-، فليُثِرْ همّتَكم ضريحُ المسيح المقَّدس ربنَّا ومُنقذنا، الضريحُ الذى تمتلكُه الآن أممٌ نجسة، وغيره من الأماكن المقدَّسة التى لُوثَّت ودُنَّست لا تدعوا شيئًا يقعدُ بكم عن أملاككم أو من شؤون أُسَرِكم، ذلك بأن هذه الأرضَ التي تسكنونها الآن -والتي تُحيطُ كلها عن جميع جوانبها البحارُ وقُلَلُ الجبالِ- ضيقةٌ لا تتَّسع لسكَّانها

الكثيرين، تَكادُ تَعجزُ عن أن تجودَ بما يَكفيكم من الطعام، ومِن هذا يَذبحُ بعضُكم بعضًا، ويَلتهمُ بَعضُكم بعضاً، وتتحاربون ويَهلِكُ الكثيرون منكم في الحروب الداخلية. طهِّروا قلوبكم إِذنْ من أدرانِ الحِقد، واقْضُوا على ما بينكمِ من نزاعٍ، واتخِذوا طريقَكم إلى الضريحِ المقدَّس، وانتزِعوا هذه الأرض من ذلك الجنسِ الخبيثِ، وتملَّكوها أنتم، إنَّ "أورشليم" أرضٌ لا نظيرَ لها في ثِمارِها، هي فردوسُ المباهج. إن المدينةَ العظيمةَ القائمةَ في وسط العالم تَستغيثُ بكم أنْ هُبُّوا لإنقاذها، فقوموا بهذه الرحلةِ راغبين متحمِّسين، تتخلَّصوا من ذنوبكم، وثِقوا أنكم ستنالون من أجل ذلك مجدًا لا يَفْنى في السماوات" (¬1). ° يقول "وليم" -رئيسُ أساقفةِ "صور"- في كتابه "تاريخ الحروب الصليبية" بعض ما جاء في موعظة البابا -حسب روايته-: "إنَّ مَهْدَ عقيدتِنا وموطنَ ربِّنا وأُمَّ الخلاص يَستولي عليها الآن بكلِّ قوة شعبَ بدون ربٍّ، إنه ابنٌ لجاريةٍ مصرية (¬2)، وهو يفرضُ شروطًا مفرِطةً في شدَّتها على الأبناءِ الأسْرى للمرأةِ الحُرَّة (¬3)، وذلك على الرَّغْم من أنه هو المستحِقُّ لهذه الأحوال. ¬

_ (¬1) انظر "قصة الحضارة" لول ديورنت (15/ 15 - 16) الترجمة العربية بقلم محمد بدران، وكتاب "وثائق الحروب الصليبية" للدكتور محمد ماهر حمادة- مؤسسة الرسالة. (¬2) أي: المسلمون باعتبار أن أمهم هاجر أم إسماعيل عليه السلام. (¬3) أي: سارة - رضي الله عنه - أم إسحاق عليه السلام.

لقد اضطَّهد عرقُ السراسنة (¬1) الشّرِيرُ التابعُ للمعتقداتِ الخرافيَّةِ (¬2) النَّجِسةِ -لسنواتٍ عديدة وبكلِّ عُنفٍ واستبدادٍ - الأماكنَ المقدَسةَ حيث ارتكزت أقدامُ ربِّنا، وأخضَعَ المؤمنين لرغباته، وحَكَم بالعبودية عليهم، ولقد دَخلت الكلابُ الأماكنَ المقدَّسةَ، وجَرى تدنيسُ المقدَّسات، وإذلالُ الناس عَبَدةِ الربَّ. إنَّ معبدَ الربَّ الذي طَرَد منه -بغَيرته- الذين باعوا واشتَرَوا، حتى لا يُصبحَ بَيتُ أبيه مَغَارة للصوص، قد جُعِل بيتًا للشياطين. إن مدينةَ مَلِكِ الملوك التي نَقلت إلى الآخَرين مبادئَ عقيدةٍ عصماءَ، تُدْفَع علي الرَّغم من إرإدتها لتكونَ خاضعةً لدعاوى الشعوبِ المُنْحَطَّة. كما أن "كنيسةَ القيامة" المقدَّسة -مكانَ الاستراحةِ الأخيرة للرب النائم-!! تتحمَّل حُكمَهم، وقد دنَّستها قذارةُ الذين ليس لهم نصيبٌ في القيامة (¬3)، بل مُقدَّرٌ عليهم أن يُحرَقوا للأبدِ كالقَشَّ بأَلسِنةِ النيرانِ السَّرمَدِية. لِنذهبْ إلى نجدةِ إخوانِنا، لِنقطعْ قيودَهم، ولْنَطرحْ عنهم رَبْطَهم، اذهبوا ولْيكنِ الربُّ معكم، وجَّهوا أسلحتَكم التي لطَّختموها بشكلٍ محرم في ذبح بعضِكم بعضًا إلى أعداءِ العقيدة وأعداءِ اسم المسيح. عليكم أن تكبَحوا بكراهيةٍ قويمةٍ غطرسةَ الكَفَرة (¬4) الذين يُحاولون ¬

_ (¬1) أي: العرب المسلمون. (¬2) يقصدون بذلك الإسلام. (¬3) يعني: المسلمين. (¬4) أي: المسلمين.

استعباد الممالِكِ والإماراتِ والقُوى، وأن تُهاجِموا بكُلَّ قوَّتِكم أولئك العاقدي العزمَ على تدميرِ الاسم المسيحي، وإلاَّ فسيحدثُ أن كنيسةَ الربّ -التي تُكابِدُ الآنَ من نِيرِ العبودِية المُجحِفة- ستُعاني خلالَ فترة قصيرة من خَسارةِ العقيدةِ، وستنتصرُ خرافاتُ الوثنيين (¬1) .. ولقد رأى بعضُكم بأُمَّ عينيه هذه الأشياءَ التي نتحدَّثُ عنها الآن، ويَعرفُ نوعَ المِحنةِ التي يَعيشُ إخوانُنا فيها، وإن كتابَهم الذي أحضَرَه باليد "بُطرس" الرجلُ المُبَجل الموجودُ معنا هنا ينطِقُ بمحتوى هذه الرسالة ذاتها. وبناء عليه نقومُ واثِقين برحمةِ الرب، وبسلطانِ الرسل المبارَكِين -بطرس وبولس- بمَنع المسيحيين المؤمنين الذين يَحمِلون السِّلاحَ ضد المُلحدين (¬2)، ويتولَّون للقيام بأعباءِ هذا الحج مغفرة للعقوباتِ المفروضةِ عليهم بسببِ خطاياهم، ولْيَثِقِ الذين سيَرحلون إلى هناك بتوبةٍ صادقةٍ أنهم سيُلاقون التكفيرَ عن آثامِهم، وسَيَجنون ثمارَ الجزاءِ السَّرْمَدِيِّ، ونضع في الوقتِ نفسِه تحتَ حمايةِ الكنيسةِ وحمايةِ بطرسَ وبولسَ المباركَيْنِ جميعَ الذين سيُباشِرون هذه المهمَّةَ بحماسةِ الإيمان ويتوَلَّون قتالَ المُلحِدِينِ". ° يقول أسقُف صور: "ويمكن القولُ بالفعل بأن قولَ الربِّ كان يتحقَّقُ حيث يقول: "ما جئتُ لأُلقيَ سلامًا بل سيفًا" (¬3). فماذا فعل الصليبيون بأتباع محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في الحملةِ الصليبية؟!. ¬

_ (¬1) يعني المسلمين. (¬2) يقصد المسلمين. (¬3) "تاريخ الحروب الصليبية" (ص 169 - 173).

عندما دخلوا "أنطاكية" عام 491 هـ قَتلوا وأسَروا وسَبَوْا ما لا يدركه حَصْرٌ (¬1). ° يقولُ صاحب كتاب "أعمال الفرنجة": "إن الإنسانَ لم يكن يَسير في الطرقات إلاَّ على الجثث، وقد تَعفَّنت كلها تحتَ شمسِ يونيو وحرارته" (¬2). ° وعندما هاجموا "معرَّةَ النعمان" سنة 491 هـ، واضطُرَّ أهلُها للاستسلام مقابلَ أمانٍ أخذوه، غدر الفرنجةُ بأهلها، ونَهَبوا ما وجدوه، وقدَّر عددُ القتلى من المسلمين بأكثرَ من عشرينَ ألفاً، بينما يقدِّرُهم ابنُ الأثير بمئةِ ألف" (¬3). ° أما في بيت القدس: فقد فاقت وحشيَّتُهم كلَّ وصف، ارتَكبوا فيها ما قد استنكره مؤرِّخو الإفرنجِ أنفسُهم. ° روى شاهدُ عيان منهم ما فَعله قومُه عندما دخلوا بيت المقدس، فقال: "إن النساءَ كُنَّ يُقتَلْن طعنًا بالسيوف والحِراب، وكان الأطفالُ يُختَطَفون بأرجُلهم من أثداءِ أمَّهاتهم، فيُقذَف بهم من فوقِ الأسوار، أَوْ تُهَشَّمُ رؤوسهم بدقِّها بالأعمدة، وذُبح سبعون ألفًا من المسلمين الذين بَقُوا في المدينة" (¬4). ¬

_ (¬1) "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي (ص 135). (¬2) "نور الدين محمود" لحسين مؤنس (ص 59). (¬3) "الكامل في التاريخ" (8/ 187). (¬4) "قصة الحضارة" (4/ 25) لول ديورانت -ترجمة محمد بدران- طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1957 م.

° وذَكَر الراهبُ "روبرت" بيتَ المقدس بعد فتحها فقال: "كان قومُنا يَجُوبون الشوارعَ والميادينَ وسُطوحَ المنازل؛ ليَرْوُوا غَلِيلَهم من التقتيل، كانوا كاللبؤات التي خطِفت صِغارُها، يَذبحون الأولاد والشُّبانَ والشيوخَ، ويقطِّعونهم إرَبًا إرَبًا. كانوا يَشنقون أناسًا كثيرين بحبلٍ واحد بُغيةَ السرعة، ويا للغرابة أن تُذبح تلك الجماعة الكبيرةُ المسلمة بأمضى سلاح، من غيرِ مقاومة!!. كان قومُنا يَبقرون بطونَ الموتى، ليخرجوا منها قطعًا ذهبية، فكانت الدماءُ تَسيل كالأنهار في طرقِ المدينة المغطَّاةِ بالجثث" (¬1). ° قال ابنُ الأثير: "قَتلوا بالمسجد الأقصى ما يَزيدُ على سبعين ألفًا، منهم كثيرٌ من أئمةِ المسلمين وعلمائِهم وعُبَّادِهم وزُهَّادهم ممن فارَقَ الأوطان، وجاوَرَ ذلك الموضعَ الشريف" (¬2). ° يقول "وليم" أسقف صور: "لقد كان بالفعل حُكمُ اللهِ القويمُ (¬3) الذي قَضَى على الذين دنَّسوا حَرَمَ المسيح بطقوسهم الخرافية، وجَعلوه مكانًا غريبًا بالنسبة لأهلِه المؤمنين: أن يُكفروا عن خطاياهم بالموت، وأن يُطهَّروا الأَرَوِقةَ المقدَّسةَ بسَفكِ دمائهم. وبات من المحالِ النظرُ إلى الأعدادِ الكبيرة للمقتولين دونَ هَلَع، فقد انتَشرت أشلاءُ الجثثِ البشرية في كل مَكان، وكانت الأرضُ ذاتها مُغطَّاةً بدم القتلى، ولم يكن مَشهدُ الجثثِ التي فُصلت الرؤوسُ عنها والأضلاعِ ¬

_ (¬1) "حضارة العرب" لغوستاف لوبون (ص 325). (¬2) "الكامل في التاريخ" (8/ 189). (¬3) بل هو -واللهِ- حُكمُ الشيطان الرجيم.

المبتورةِ المتناثرة في جميع الاتجاهات هو وحدَه الذي أثارَ الرعبَ في كلّ مَن نظر إليها، فقد كان الأرهبُ من ذلك هو النظر إلى المنتصرين أنفسهم وهم مُلَطَّخون بالدم من رؤوسهم إلى أقدامهم .. إنه منظر مشؤوم جَلب الرعبَ لجميع مَن واجهوه" (¬1). ° يقول "وليم" أسقف صور: "طاف بَقيَّةُ الجنودِ خلالَ المدينة بحثًا عن التعساء الباقين على قَيد الحياة، والذين يُمكن أن يكونوا مختبئين في مداخلَ ضيِّقةٍ وطرقٍ فرعيَّةٍ للنجاة من الموت، وسُحب هؤلاء على مرأًى من الجميع، وذُبِحوا كالأغنام، وتَشَكَّل البعضُ في زُمَرٍ، واقتَحموا المنازلَ حيث قَبضوا على أربابِ الأُسَرِ وزوجاتِهم وأطفالِهم وجميع أُسرهم، وقُتِلت هذه الضَّحايا، أو قُذِفت من مكانٍ مرتفع حيث هَلكت بشكلٍ مأساوي" (¬2). * * * ¬

_ (¬1) "تاريخ الحروب الصليبية" (ص 433). (¬2) "تاريخ الحروب الصليبية" لوليم أسقف صور.

بل هي حرب على الإسلام

بل هي حربٌ على الإسلام * من أوربان الثاني إِلى البابا يوحنَّا بولس الثاني: اسمُه "كارول فوجيتلا" من بولندا .. وُلد في 18 مايو 1920 م، وفي 14 أكتوبر 1978 انتُخب "كارول" باباً للكرسيِّ الرسولي للفتيكان، وهو أولُ بابا غيرِ إيطالي يَتِمُّ اختيارُه منذ 450 سنة، وسُمِّي بالبابا "يُوحنا بولس الثاني". * رأيُ "يوحنا بولس الثاني" في القرآن: ° رأي البابا في القرآن أنه مقتبَسٌ من التراث المسيحي (¬1)، فقد قال البابا في حوارٍ له مع صحافيًّ إيطالي: "أيُّ شخص ٍيقرأُ القرآنَ -وهو على درايةٍ مُسبَقَةٍ بالعهد القديم والجديد-،سيلَحظُ بوضوح: سياقَ الاختزالِ الذي تعرَّض له التنزيلُ الإلهيُّ المسيحيُّ، ومن المحالِ ألاَّ يَصطدمَ المرءُ من عدم الفهم الذي يَظهرُ في القرآن بوضوح لما قاله الله عن نفسه: أوَّلاً: عن طريق الأنبياء في العهدِ القديم، ثم لِمَا قاله بصورةٍ نهائيةٍ في العهد الجديد عن طريقِ ابنه، وبالفعل إن كلَّ هذا الثراءَ الخاصَّ يَكشفُ اللهُ عن ذاته، والذي يُمثِّل تراثَ العهد القديم والجديد، قد تُرِك جانبًا في الإسلام" (¬2). * رأيُ البابا في إِله المسلمين: ° يقول هذا القِزم: "إنَّ اللهَ القرآنيَّ تُطلقُ عليه أجملُ الأسماءِ ¬

_ (¬1) انظر كتاب "الفاتيكان والإسلام" للدكتورة زينب عبد العزيز- دار الكتاب العربي 2005. (¬2) "كلام في الممنوع .. الاختراق اليهودي للفاتيكان" (ص 14 - 15) لمحمد عبد الحليم عبد الفتاح- القاهرة.

عداوة دفينة أبدية

المعروفةِ في اللغة الأسبانية، لكنه في نهايةِ المطافِ إلهٌ يظَلُّ غريبًا عن العالم، إنه إلهٌ عبارة عن إلهِ جلاله (كبرياء) فحسب، وليس إلهًا متواصلاً مع البشر (عمانوئيل) -اللهُ معنا- إن الإسلامَ ليس دينَ فِداء، وهو لا يُعطي أيَّةَ مساحةٍ للصليبِ ولا للبعث" (¬1). * عداوة دفينةٌ أبدَّيةٌ: من أين جاءت هذه العداوةُ الدفينةُ من الصليبيين في الشرقِ أو الغرب عَرَبًا كانوا أم عجمًا لكلِّ ما يَمُتُّ إلى الإسلامِ ونبيَّة والمسلمينَ بصِلَةٍ؟! حتى كأن الشعرَ الجاهلي "لَقيطَ بن يَعْمَرَ الإيادي" يَعنيهم حين قال: في كل يوم يسنُّون الحِرابَ لكم ... لا يهْجَعون إذا ما غافلٌ هَجَعَا خزرٌ عيونهمُ كأن لَحْظَهم ... حريقُ غابٍ ترى منه السَّنا قِطَعًا ° يقول "غوستاف لوبون": "لقد تجمَّعت العُقَدُ الموروثة، عُقَدُ التعصُّب التي ندينُ بها ضدَّ الإسلام ورجاله، وتراكمت خلالَ قرونٍ سحيقةٍ، حتى أصبحت ضِمنَ تركيبنا العضوي" (¬2). هل خَبَت هذه الرُّوحُ التي لا تُطيقُ سماعَ اسم محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أو المسلمين من أتباعه؟! واللهِ ما خَبَت يومًا رُوحُ العداوةِ للنبيِّ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وأتباعِه، بل هي في ازدياد، وما وقع في البوسنة والعراق فاق محاكِمَ التفتيشِ في الأندلس، أو ¬

_ (¬1) نفس المصدر السابق. (¬2) مقدمة "التعصب الأوربي أم التعصب الإسلامي"، تعليقات الأمير شكيب أرسلان على كتاب "مئة مشروع لتقسيم الدولة العثمانية" (ص 11) هذبه محمد العبدة- دار ابن حزم.

إبادةَ الهنود في أمريكا الشمالية. ° يَصِفُ "كافين رايلي" في كتابِه "الغرب والعالم" المذبحةَ التي تَمَّت للمسلمين يومَ سقوطِ القُدسِ على أيدي الصليبيين بقوله: "بعد أن سَقطت المدِينةُ وقَعَت المذبحة؛ إذْ ذُبح كلُّ المسلمين رجالاً ونساءً وأطفالاً، فيما عدا الحاكم وحَرَسَه، الذين تمكَّنوا من افتداءِ أنفُسِهم بالمال، وتمَّ اصطحابُهم إلى خارج المدينة". وفي مَعبد"سليمان" وحولَه، خاضت الجيادُ في الدم حتى الركب واللجام، فقد كان حُكمُ اللهِ عادلاً ورائعًا، ففي هذا المكانِ نفسه ارتفعت هَرطقاتُ هؤلاء المُجدِفين (¬1) في حق اللهِ الذي يتلقَّى فيه دماءَهم الآن". وقد نَظَم الصليبيون يوم ذاك مواكب النصرِ إلى كنيسة القبر المقدَّس، وهم يَبكُون من شدةِ الفرح، ويُغنُّون أغانيَ الشكرِ للربَّ "يسوع": أيُّها اليومُ الجديد أيتُها البهجة أيها الفرح الجديدُ الدائم ذلك اليومُ خالدةٌ ذِكراه طوالَ القرونِ الآتية حَوَّل كلَّ عذابنا ومصاعبنا إلى فرحٍ وبهجة ¬

_ (¬1) يعني بذلك المسلمين .. والمجدفين أي الضالين.

الصليبيون الإنجليز عند دخولهم الهند

ذلك اليوم تثبيتٌ اكيدٌ للمسيحية وسحقٌ للوثنية وتأكيدٌ لإيماننا" (¬1). ويومَ أن عادت القدسُ على يدِ البطل "صلاح الدين الأيوبي" ما نَسِيَ الصليبيون له هذه، ويومَ اجتاحت جَحافلُ الصليبِ الفرنسيِّ أرضَ سوريا، فأقدم الجنرالُ الصليبيّ الحاقد "غورو"، ووَضَع قدمَه على قبرِ "صلاح الدين" قائلاً: "قُمْ يا صلاح الدين، ها قد عدنا" .. وقالها الجنرال "إِلِلنْبي" عند دخوله القدس: "الآن انتهت الحروبُ الصليبية". * الصليبيون الإِنجليز عند دخولهم الهند: يوم أنِ احتلَّ البريطانيون الهندَ، فعلوا بالمسلمين ما يَفوقُ الوصف، وخُذْ على سبيل المثال: ° يقولُ المؤرخُّ الأمريكي "إدوارد توماس": "سيق 85 جنديًّا إلى المحكمةِ العسكرية، تحتَ مراقبةِ الحُرَّاس، وحُكِم عليهم جميعًا بأن تُعَرَّى أجسادُهم جميعًا، وأن يُكَبَّلُوا بالأصفاد، وأن يُترَكوا بلا طعام، وكان منظرًا مؤلمًا، ارتجفت له قلوبُ الرفقاء، إذ كان بينَهم مَن خَدَم هؤلاء الصليبيين خِدماتٍ جليلة، ومنهم مَن حارَبَ في صفوفهم، ولَقِيَ الشدائدَ والأذى في سبيل إرضائهم. ¬

_ (¬1) "عندما حكم الصليب" (ص 16 - 17) لأبي إسلام أحمد عبد الله -بيت الحكمة- القاهرة.

ولكنهم كانوا جميعًا ينتمون إلى دينِ الإسلام؛ ولذا فَقَد صدر القرارُ أن يَموتوا هكذا جوعًا وعطشًا وذِلَّةً، وهم عرايا كما ولدتهم أُمَّهاتُهم مُكبَّلون في القيود أمام أعيُنِ الجميع، حتى عَلق اللورد "كايننج" -حاكمُ الهند العام- على هذا الحكم الذي شارك في إصدارِه بقوله: بلغ هذا الحكمُ من السَّفاهة مبلغًا لا يُوجدُ له نظيرٌ في تاريخ الهند" (¬1). ° يقول المؤرِّخ الأمريكي" إدوارد توماس" عن مذابح الإنجليز للمسلمين بالهند: "لقد تطوَّرت مذابحُ الإنجليز، حتى باتُوا لا يكتفون بالشَّنق، بل كانوا يُغلِقون عليهم بيوتَهم، ثم يُشعِلون فيها النار؛ فيصيرون رمادًا". ° وكتب "دلين لين" مدير صحيفة "تايمز أو إنديا" نقلاً عن أجندةِ أحدِ الجنود: "كان المسلمون يُحَاطُون بجلود الخنازير، ثم يُخيِّطونها عليهم، أو يَدْلكونهم بشحومها، ثم يُشعلون فيهم النارَ وهم أحياءٌ كما كان يُجبَرُ المسلمون على أن يفعلَ أحدُهم الفاحشةَ في أخيه. وسوف تظلُّ هذه التصرَّفاتُ وصمةَ عارٍ على جَبينِ المسيحيين الإنجليزِ لا تُمحَى على مر الأيَّام". ° ونقلاً عن سطور من كتاب قائدِ قوَّات الجيشِ البريطاني في الهند (41 سنة)، كتب يصفُ حالَ مدينة "دلهي" يوم أن دَخَلها في 24 سبتمبر 1857 فقال: "لقد كانت "دلهي" في الحقيقة مدينةَ الأهوال، ليس بها داع ولا مُجيبٌ، فلا صوتَ إلا صوتُ سنابك الخيل، ولم يَقَعْ بصرُنا على عِرْقٍ ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 24 - 25).

ينبض، أو عينٍ تَطرِف، لم تكن هناك إلاَّ جُثث هامدةٌ مبعثرةٌ هنا وهُناك، وقد كانت في أوضاع مختلفةٍ ضَيَّعها صراعُ الحياة مع الوت في أدوارٍ مختلفة. كُنَّا لا نتكلَّمُ إلاَّ همسًا؛ حتى لا نُزعجَ هؤلاء الأشقياءَ الذين كانوا مستغرقين في نَومةِ الوت، إنَّ ما رأيناه من الناظِرِ كانت هائلةً مُفزِعةً، وكانت مُؤسِفةً مُحزنةً، وقد كانت بعضُ الجثثِ تنَتهشُها "كلاب"، وكان عند بعضها "نِسرٌ" يرفرف بجناحَيْه، وُيحاوِل أن يَطير، فلا يستطيعُ، لفرط الشَبَّع والثُّقْل. لقد كان منظرًا مَهيبًا مُوحِشًا لا يمكن تصويرُه، وكأنَّ خَيْلَنا قد استولى عليها الذُّعْر، فكانت تَجفَلُ وتنتفخُ مناخرُها، وقد كان المحيطُ كله مُرَوِّعًا، يَغُضُّ بروائحَ مُضرةٍ تَبعثُ الأمراض" (¬1). ° ويُسَجِّل الشيخُ أحمد حسين المدني -أحدُ شهودِ العيان- سلوكَ الصليبيِّين الإنجليز قائلاً: "إني لا أجدُ وصْفًا أُعَبِّر به عن أعمالِ البشاعة وما فيها من خِسَّةٍ ودناءةٍ ارتكبها أهلُ الصليب، فقد أَمروا خَوَنةَ السِّيخ أن يفعلوا أفعالاً شاذَّةً قبيحةً مع المسلمين على أعْينِ الناس، وعَلَّقُوا رؤوسَ الشهداءِ وجُثَثَهم على الأشجار، وحَوَّلوا مسجد "شاه جهان" إلى مكانٍ للقمامة". ° وقال الشيخ "فضل حق خير أبادي" أحد علماء الهند الكبار: "بهذه الرُّوح الخبيثة -رُوح التَّشَفِّي والانتقام- انهالوا على "دلهي" وأهلِها يُدَمِّرون ¬

_ (¬1) "المسلمون في الهند" لأبي الحسن الندوي (ص 76 - 77) -دار الفتح- دمشق.

وَيقتُلون وينهبون، حتى بَلغ عددُ قتلى المسلمين (27) ألفًا، وتحوَّلت معظمُ أحيائها أنقاضًا، والمساجدُ خرابًا، وتكدَّست الجثثُ في الشوارع، وجَرَتِ الدماءُ في الساحاتِ أنهارًا". ° ويقرِّر "إدوارد توماس" فظاعةَ الصليبيين وخِسَّتهم فيقول: "في "دلهي" قُبض على المَلِكِ وأسرته جميعًا، وسِيقُوا مُقيَّدين في ذِلَةٍ وانكسار، وفي الطريق أَطَلَقَ الضَّابطُ الصليبي "هيدسين" الرصاصَ على ثلاثةٍ من أبناءِ المَلِك، ثم قَطعوا رؤوسَهم، ثم سَوَّلت للذين يدَّعون الحضارةَ نفوسُهم بالبشاعة إلى حدًّ تشمئزُّ منه النفوس، فحين قدموا الطعامَ للمَلِك وهو في السجن، كانت مفاجاةً مُذهِلة عندما كَشَف الغطاء، فلم يجد طعامًا، بل وجد رؤوسَ أبنائِه الثلاثة. وهنا تمالك الشيخ الضعيفُ نفسَه في رباطةِ جأشٍ وقال: "إن أبناءَ التيموريِّين البواسلَ يأتون هكذا إلى آبائهم مُحْمَرة وجوهُهم". ثم أخذوا الرؤوسَ، وعلَّقوها على بوابةٍ كبيرة في "نيودلهي" تُسمَّى الآن "فوني دروازه" أي: "بوَّابة الدماء". ° يقول المؤرَّخ "سبنسر بول" شاهدًا على جرائم أهل الصليب: "إن الإنجليزَ عندما استولَوا على "دلهي" نَصبوا المشانقَ في الشوارع، وصَلَبوا (3000) رجل مسلم، كان منهم (29) من الأسرة الحاكمة". ° ولعلَّ أفضلَ تلخيصٍ لموقفِ عَبَدَةِ الصليب من أتباع محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، هو ذلك الطلبُ الذي تقدَّم به القائدُ الإنجليزيُّ "الفنسين نكلسون" إلى سيِّده

محاكم التفتيش في أسبانيا: (من سنة 1552 إلى سنة 1609 م)

"إدوار كايننج" الحاكم العام للهند: "علينا أن نَسُنَّ قانونًا يُبيحُ لنا إحراقَ المسلمين وسَلْخَ جُلودهم؛ لأن نارَ الانتقام لا تَشفِي الغليل، ولا تُخمِدُه، بالشَّنق وحده" (¬1). * محاكم التفتيش في أسبانيا: (من سنة 1552 إِلى سنة 1609 م): فَعَل فيها الصليبيون ما تقشَعِرُّ لهوله الأبدان: "آلاتٌ لتكسير العظام وسَحقِ الأجساد، كانوا يبدؤون بسَحقِ عِظامِ الأرجل، ثم عِظامِ الصدرِ والرأسِ واليديْن، حتى تأتيَ الآلةُ على البَدنِ المهشَّمِ كلِّه، فيَخرجُ من الجانب الآخَرِ كتلةً واحدةً. ° وصندوقٌ في حجم رأسِ الإنسان تمامًا، تُوضعُ فيه رأسُ المُعَذَّبُ بعد أن يُربَطَ بالسلاسل من يدَيْه ورِجلَيْه، ثم تُقطَرُ على رأسِه نُقطٌ من الماءِ الباردِ من ثُقبٍ أعلى الصندوق، فتَقعُ على رأسِه بانتظام، حتى يَلفِظَ أنفاسَه مجنونًا، وآلات لتقطيع اللسان، وأخرى لتمزيق أثداء النساءِ وسَحبِها من الصدورِ بواسطة كلاليب، ومجالد من الحديد الشائكِ لضرب المُعَذبين وهم عرايا حتى يتناثرَ اللحمُ عن العظم. كانت تَصدُرُ أحكامُ الإعدامِ بالجملة بصفةٍ يوميةٍ ضدَّ المسلمين رميًا بالرصاص في مهرجاناتٍ ضخمةٍ يحضرُها القساوسةُ ورجالُ الدولةِ والأهالي، وكثيرًا ما كان المَلِكُ يَحضُرُ بنفسِه ليباركَ عملَ الكنيسة!. أما عائلاتُ المسلمين، فكان يتمُّ حَرقُهم في محارِقَ ضخمةٍ أسمَوْها "مواكب الموت". ° يقول المؤرَّخُ "لورنتي": "ألقت محكمةُ التفتيش أكثَرَ من ¬

_ (¬1) "عندما حكم الصليب" (28 - 31).

(000، 31) نَفْسى في النار و (000، 290) عقوبةٍ تلي الإعدام". أما عن عقوبة الإلقاء في النار، فقد أُقيمت محارقُ عدَّةٌ في الميادين العامةِ بالمدن الكبيرة، وكانت تنُظمُ لها مهرجاناتٌ واحتفالات، يَشهَدُها الأحبارُ وأبناءُ الكنيسة والملوكُ أحيانًا، كأنها أعيادٌ يَطرَبُ لها الناس، ولا يَجِدُون في مناظِرها ما يدعُو إلى الضِّيق والاشمئزاز" (¬1). ومِن آلاتِ التعذيبِ عند هؤلاء الصليبيينَ -الذين نُزِعت من قلوبهم الرحمة، فلم تَبْقَ منها ذرةٌ واحدة في صدورهم، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُنزع الرحمةُ إلاَّ مِن شَقِيًّ" (¬2) -، فمن وسائل تعذيبهم: غُرفٌ صغيرة في حجم الإنسان، بعضُها رأسي، وبعضُها أُفقِي، كانت مُخَصصةً للسجناء يَقضُون فيها حياتَهم إلى الممات، ثم تبقى الجثثُ في سِجنها الضيَّق حتى تَبلَى ويتساقَطَ اللحمُ عن العظم، وتبقى الهياكلُ البشريةُ في أغلالها سجينةً. ° ومن آلاتِ التعذيب عند هؤلاء الوحوش اَلةٌ تُسمَى "السيدة الجميلة"، وهي عبارةٌ عن تابوتٍ تنامُ فيه صورةُ فتاة جميلةٍ مصنوعةٍ على هيئة الاستعداد لعناق من يَنامُ معها، وقد بَرزت من أعضائها سكاكينُ حادةٌ، كانوا يَطرحون الشاب المعذبَ فوقَ الصورة، ثم يُطبِقُون عليه بابَ ¬

_ (¬1) "الاضطهاد الديني في المسيحية" (ص 40) لتوفيق الطويل- الزهراء للإعلام العربي القاهرة. (¬2) صحيح: رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم في "المستدرك" عن أبي هريرة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7467).

ومن أعداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الصليبيون الفرنسيون الذين احتلوا الجزائر وفعلوا بها الأفاعيل

التابوت، حتى يتمزَّقَ جسدُ الشابِّ ويُقطَعَ إربًا. * ومن أعداءِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الصليبيون الفرنسيون الذين احتلُّوا الجزائر وفَعلوا بها الأفاعيل: إرهابٌ صليبيٌ قذر يَدُلُّ على نفوسٍ مُنحَطَّةٍ مُجرمةٍ لا تَمُتُّ إلى الإنسانيةِ بصِلَةٍ، تحاول فرضَ العقيدةِ الصليبيةِ على مُسلِمِي الجزائرِ جبرًا وبمباركة الكنيسة!. ففي عام 1832 م أعلن القائدُ "روفجيو" عن تحويل مسجدِ "القشاوة" -أجمل مساجد الجزائر، والذي يَقعُ بالحيِّ الأوروبي وسط مدينة الجزائر- إلى كنيسة. وتحدَّد ظُهرُ يوم 18 ديسمبر 1832 م لإنجازِ هذا العمل، وتقدَّمت في الموعدِ المحدَّدِ إحدى طائراتِ الجيش، أَنزلت فرقةً من سلاح المهندسين، توجَّهت مباشرةً إلى محاصَرةِ أبوابِ المسجد "بالبُلَط" و"الفؤوس"، وبداخل المسجدِ أربعةُ الآفِ مسلم، كانوا قد اعتَصموا داخلَ المسجد خَلْفَ متاريس. ثم اندَفعتِ القوةُ العسكريةُ تَسبِقُها سناكي البنادق، فخرَّ المسلمون جَرحى وصَرعى تحتَ أرجل الجنود، واستمرَّت هذه المذبحةُ طوالَ الليل، حتى إذا جاء الصباحُ صار الجامعُ "كاتدرائيةَ الجزائر". وما أن انتهى الجنودُ من وَضْع الصليبِ على كل بابٍ من أبوابِ المسجد، وفي نَشوةِ هذا الانتصار، داروا على أعقابِهم صَوْبَ مسجد "القصبة"، فدخله الضُباطُ والجنودُ، وأقاموا فيه شعائرَهم الدينية.

° وتَزعَّم القَسُّ "شوسيه" -الوكيلُ العامُّ لأسقفِ- الجزائر -قيادةَ طابورهم، يُرتّلون أنشودةَ الغُفران .. وأَعدَّ هذا القَسُّ لنفسِه منبرًا للوعظ، وأُتي له بمنبر أثريٍّ من مسجدٍ يُقال. له: "المقدَّس"، ووقف سكرتيرُ الحاكم "يوجو" يقول: "إنَّ آخِرَ أيام الإسلام قد دَنَتْ، وفي خلالِ عشرين عامًا، لن يكونَ للجزائر إلهٌ غير المسيح، ونحن إذا أمكننا أن نشكَّ في أن هذه الأرضَ تملِكُها فرنسا، فلا يمكنُنا أن نشكَّ -على أيِّ حالٍ - أنها قد ضاعت من الإسلام للأبد .. أما العرب، فلن يكونوا مِلْكًا لفرنسا إلاَّ إذا أصبحوا مسيحيين جميعًا" (¬1). ° وانظر إلى نموذج من خِسة الصليبيين الفرنسيين وبشاعةِ مذابحهم للمسلمين التي وصفتها التقاريرُ الرسميةُ التي أُرسلت إلى العاصمة "باريس": "جريمةٌ شنعاءُ، وهي إبادةُ قبيلةٍ بأكملها، تحت دعوى اتهام أحدِ أفرادها بارتكابِ جريمةِ سرقة، ثم تحقَّق بعد أن تمَّت عمليةُ الإبادة أن المتهمَ بريءٌ!!. وبِناءً على تعليمات الجنرال "روفجيو" خرجت قوةٌ من الجنود من مدينةِ الجزائر في ليل 6 أبريل 1832، وانقضَّتَ قُبيلَ الفجر على أفرادِ القبيلة، وهم نيام تحت خيامِهم، فذَبَحتهم جميعًا بغيرِ ما تمييز في الأعمار والأجناس، وعاد الفرسانُ الفرنسيُّون من هذه الحملة، وهم يَحملون رؤوسَ القتلى على أَسِنَّة رِماحهم" (¬2). ¬

_ (¬1) "الجزائر الثائرة" لكوليت جانسون، وفرانسين- ترجمة محمد علوي الشريف (ص 41) دار الهلال، وراجع أيضَا "ثورة الجزائر" لجوان جليسبي ترجمة عبد الرحمن صدقي (ص 78) - إصدار الدار المصرية للتأليف والترجمة. (¬2) "الجزائر الثائرة" (ص 21).

مجرمون أبالسة أعداء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -

° وباتت عملياتُ إبادةِ الجزائريين المسلمين شيئًا يستحقُّ الفَخْرَ والتهنئة والمباركةَ من الكنيسة، فكَتبت إحدى الصحفِ الفرنسيةِ "مثلاً" في أكتوبر 1836 م قائلة: "أُرسلت إلى باريس مؤخَّرًا عشرون رأسًا، ليبلغَ عددُ الرؤوس التي وَصلت إلى معسكرِ العمليَّات ثمانيةَ وستين رأسًا، وهي معلَّقةٌ على سناكي البنادق، إنها لَصفقةٌ عظيمةٌ وبداية طيبةٌ تفتحُ لنا الطريق". ° وُيعلق الجنرالُ الفرنسيُّ "شارنجارنييه" قائلاً: "إن رجالي وَجَدوا التسليةَ في قَطع رقابِ المسلمين من رجالِ القبائل الثائرةِ في بلدتي "الحراش" و"بورقيقة" .. ". ° وانظر إلى بشاعةِ اللئام: في تقريرٍ كَنَسِيًّ جاءت هذه السطور "أمَّا باقي الغنيمة، فقد عُرِضت في سوق "باب عزون"، حيث عُرِضت أساوِرُ النساء وهي ما زالت تُحيط بمعاصمِهنَّ المقطوعة، والأقراطُ تتدلَّى من قِطَعِ لحم آدميًّ، وقد بِيعت بأكملِها ووُزِّع ثمنها". * مجرمون أبالسةٌ أعداءٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يَقفُ رسولُ الله يوم القيامة يَسألُ العسكريين الصليبيين الفرنسيين عمَّا اقترفوا من مذابحَ لأتباعه في الجزائر .. أبالسة فرنسيون أبادوا المسلمين .. سيسألُهم الله عزّ وجلّ عمَّا اقترفوا من مذابح عام 1841 م وما بعدها في الجزائر، منهم الجنرالُ الصليبي" يوجو" الذي تولَّى الحُكمَ في الجزائر، يُعاوِنه الجنرال "بليسيه"، والجنرال "سانت أرنو" و"شانجارنييه" و"دي هيريسون" و"مونتانياك" و"لاموريسيير" و"كافينياك" .. شياطينُ الإنسِ

وفرنسا في جزائر الإسلام. ° يقول الصليبي "سانت أرنو" في خطابِ لأسرته بفرنسا: "لقد أحرَقْنا فيها (¬1) كل شيء، دمرنا كل شيء، الحربُ أوَّاهُ منها، ما أكثَرَ مَن هلك فيها من نساءِ وأطفالِ هاجروا إلى جِبال "الأطلس"، فقَضَوْا نَحْبَهم بين ثلوجِها، بتأثيرِ البردِ والبؤس!! ". ° وكتب في رسالةٍ أخرى لزوجته عام 1843 م يقول: "لقد كنتُ في قبيلةِ "البزار"، فأحرقتُ أفرادَها جميعًا، ونَشرتُ حولَهم الخرابَ، أنا الآن عند "السنجا"، أُعيد فيهم الشيءَ نفسَه، ولكن على نطاقٍ واسع". ° ويقول "مونتانياك" في كتاب له بعنوان "رسائل جندي":" إنَّ أولادَ سعدٍ كانوا قد تركوا نساءَهم وأولادَهم جميعًا في"الأحراج"، وقد كان يُمكنُني أنْ أقضيَ عليهم جميعًا، ولكن لم يكن عَددُنا كافيًا للتفرُّغ لهذا. لقد كانت مذبحةً شنيعةً حقاً، كانت المساكنُ، والخيامُ في الميادين، والشوارعُ، والأفنيةُ التي انتشرت عليها الجثثُ، في كلِّ مكان، وقُمنا بعملِ إحصائيةٍ في جوٍّ هادئٍ بعد الاستيلاء على المدينة، فبَلَغ عددُ القتلى من النساء والأطفال (300, 2)، أما عددُ الجرحى، فلا يَكادُ يُذكَر، لسببٍ يسير، هو أننا لم نتركْ جَرحاهم على قيدِ الحياة". ° وكتب الكونت "دي هيريسون": "فظائعُ لا مثيلَ لها، أوامرُ بالشَّنق تَصدُرُ من نفوس كالصخر، وقلوب كالحجر، أوامرُ بالرَّمْي بالرصاصِ أحيانًا، وباستعمالِ السيف أحيانًا أُخرى في أُناسٍ مساكين، جُلُّ ذنبِهم أنهم ¬

_ (¬1) أي: في الجزائر.

يَستطيعون إرشادَنا إلى ما نطلبُ إليهم أن يُرشِدونا إليه". ° ثم تحكي "كوليت جانسون" مؤلِّفة كتاب "الجزائر الثائرة" فتقول: "وتَصِلُ الحالُ على هذا المنوال حتى عام 1845 م، إذْ تبلغ الهَمَجِيَّةُ شأوها، وتَندثُر المُثُلُ الإنسانية وتتلاشى، ويَجتاجُ الجزائَر لَونٌ جديدٌ من ألوان البربريَّة، والخِسَّة، والإجرام، والوحشيَّةِ في حقِّ المسلمين العزَّل. ففي ذلك العام أدخِل نظامُ "الإبادة" للقضاءِ على الشعبِ الجزائري، "طريقة جهنم"، وما أدراك ما جهنم!! وقد نشأت هذه الطريقة -أولَ ما نشأت- عن مَحضِ الصُّدْفة، ولكن سَرعانَ ما أصبحت نظامًا من أنظمةِ الجيش المعمولِ بها في مهمَّتِه ضدَّ المسلمين. ففي يونيو (1845) كانت قبيلةُ "أولاد الرياح" قد تَلَقَّتْ من القائدِ الفرنسي أمرًا بالتسليم، ولكنَّ القبيلةَ بدلاً من الامتثالِ للأمرِ، لاذتْ بالفرارِ إلى المغاوِرِ والكهوف لتستأنفَ الجهادَ والمقاومة، فلما ضَيَّق القائدُ "بليسيه" الخناقَ على أفرادِ القبيلة، وهم في بطن أحدِ الكهوف، واشتَرطوا عليه سَحْبَ القوَّاتِ الصليبيةِ ليَخرجوا إليه، رفض هذا الشرط، وقرَّر أن يَصُبَّ عليهمِ نارَ جهنم؛ لِيَصْلَوها سعيرًا، وأَنَّى للقلم أن يَصفَ هذا المشهدَ الجبَّارَ العاتي؛ فالقواتُ الفرنسية تتقدَّمُ تحتَ جُنْح اليل البهيم صَوْبَ فجوةِ الكهف يَسُدُّونها بالمتاريس، ثم يقذفون النارَ بداخلها ويُشعلونها من حولها، وهؤلاء هم المسلمون المعتصِمون في جوفِ الكهف، تنطلق منهم الأنَّاتُ والصرخاتُ، فتَصُمُّ الآذان، وتولوِلُ النساء، ويَصرخُ الأطفال،

وتَنعِقُ الحيوانات، وتحترقُ الصخور؛ فتنهار وتنتشرُ منها الأتربةُ تخنقُ المجموع .. وتتناثرُ الجنادل، فتصيبُ الرؤوس، وتنفجرُ الذخائر، فيَعُمُّ الدَّمار، وتنتشرُ جُثَثُ الموتى، وبرغم كلَّ هذا، ما زال الرجالُ يجاهِدون للخروج من بطنِ الأرض، فتنطبقُ عليهم، ويَقبُرُهم الجماد". ° ثم تستطرد كاتبةُ "الجزائر الثائرة" فتقول: "ويُقبِل الصباحُ، وتتولَّى فرقةٌ من الجنود الفرنسيين -يتدلَّى الصليبُ على صُدورهم- مُعاينةَ الأتُونِ الذي صَبَّوا فيه النيرانَ في أثناءِ الليل، فيرتدُّ منهم البصرُ من هولِ ما يَرَون، ففي مدخل الغَوْر انتشرت هياكلُ ثيرانٍ وحميرٍ وخِرافٍ حَدَتْ بها الغريزة صَوبَ مخرج الكهف، لاستنشاقِ الهواء الذي عُدِم بالداخل، وتكدَّست بين هذه الحيوانات، ومِن تحتها جُثثُ رجالٍ ونساءٍ وأطفال، وشُوهِد رجلٌ ميت وهو جاثٍ على رُكْبتيه، وقد أمسكت يداه قَرْنَ ثورٍ نافِق، وبجواره امرأةٌ ميتةٌ تحتضنُ بين ذراعيْها طِفلَها الميتَ، مما يَدُل على أن الرجل قد اختنق وهو يُدافعُ عن امرأتِه وطِفلِه اللذَيْنِ اختَنَقا أيضًا من هجومِ الثوْر عليهما أثناء الحريق. وفي سراديبِ هذه المغاوِرِ الفسيحةِ، وجَدَ الجنودُ الفرنسيون (760) جُثةً، أخرجوا منها (60) مُسلمًا يُعانون سَكْرةَ الموت، ما لَبِث أربعون منهم أنْ قَضَوا نَحْبَهم، وعشرةٌ منهم حَمَلتهم سياراتُ الإسعَاف، والباقون أُطلِق سراحُهم ليعودوا إلى مساكنهم، عِبرَةً لمن لا يعتبر، ولم يَبْقَ من حُطامِ الدنيا سوى الدَّمع القاني يذرفونه على الدَّمار العميم" (¬1). ¬

_ (¬1) الجزائر الثائرة" (ص 28 - 30).

هيلاسلاسي الصليبي الأثيوبي عدو الله ورسوله والمسلمين

° وكان الذي أمر بهذا هو المارشال "يوجو" في أمره إلى القائد "بليسيه" 11 يونيو سنة 1845 م: "إذا احتَمَى هؤلاء الرَّعاعُ في الكهوف، فافعلوا بهم ما فعله "كافينياك" من قبل، وأحرقوهم حَرْقَ الثعالب". * هيلاسلاسي الصليبي الأثيوبيُّ عدوُّ الله ورسوله والمسلمين: استولت الحبشةُ عن "أرِيتْرِيا" المسلمة بتأييدٍ من فرنسا وإنجلترا، فماذا فعلت فيها؟!!. صادرت معظمَ أراضيها، وأسلَمَتْها للإقطاعيين من الحبشة، كان الإقطاعيُّ والكاهنُ مخَوَّليْنِ بقتل أيِّ مسلم دون الرجوع إلى السلُّطة، فكان الإقطاعيُّ أو الكاهنُ يَشنقُ فلاَّحِيه أو يُعذبهم في الوقتِ الذي يُريد. فُتحت للفلاحين المسلمين سجون جماعية رهيبة، يُجلَد فيها الفلاَّحون بسِياطٍ تَزِنُ أكثَرَ من عشرةِ كيلو غرامات، وبعد إنزالِ أفظع أنواع العذاب بهم كانوا يُلقَوْن في زنزاناتٍ بعدَ أن تُربَطَ أيديهم بأرجُلِهم، وُيتركون هكذا لعشرِ سنين أو أكثر، وعندما كانوا يخرجون من السجون كانوا لا يستطيعون الوقوف؛ لأن ظهورهم قد أخذت شكل القَوْس. كل ذلك كان قبلَ استلام "هيلاسلاسي" السلطةَ في الحبشة، فلمَّا أصبح إمبراطورًا للحبشة وَضَع خُطَةً لإنهاء المسلمين خلالَ خمسةَ عَشَرَ عامًا، وتباهى بخُطَته هذه أمام الكونغرس الأمريكي. ° شنَّ تشريعاتٍ لإذلالِ المسلمين، منها: أن عليهم أن يَركعوا لموظَفي الدولةِ وألا يُقتلوا. ° أمر أن تُستباحَ دماؤُهم لأقل سبب، فقد وُجِد شرطيٌّ قتيلاً قُرب

قريةٍ مسلمة، فأرسلت الحكومةُ كتيبةً كاملةً قَتلت أهلَ القريةِ كلَّهم، وأحرقتهم مع قريتهم، ثم تَبيَّن أن القاتلَ هو صديقُ المقتول، الذي اعتدى على زوجته، وحاول أحدُ العلماء -واسمه "الشيخ عبد القادر"- أن يثورَ على هذه الإبادة، فجمع الرجال، واختفى في الغابات، فجَمعت الحكومةُ أطفالَهم ونساءَهم وشيوخَهم في أكواخ من الحشيش والقَصَب، وسَكبت عليهم البنزينَ وأحرقتهم جميعًا. ومَن قَبَضَت عليه من الثوَّار كانت تُعذبه عذابًا رهيبًا قبلَ قتلِه، من ذلك إطفاءُ السجائر في عينيه وأُذنَيْه، وهَتْكُ عِرضِ بناتِه وزوجتِه وأخواتِه أمامَ عينيْه، ودَقُّ خِصيَتْيه بأعقابِ البنادق، وجَره على الأسلاكِ الشائكةِ حتى يَتفتَّت، وإلقاؤهُ جريحًا قبل أن يموتَ لتأكلَه الحيواناتُ الجارحةُ، قبلَ أن تربطَهُ بالسلاسل حتى لا يُقاوِم. ° أصدر "هيلاسلاسي" أمرًا بإغلاقِ مدارسِ المسلمين، وأَمَر بفتح مدارس مسيحيَّةٍ، وأجبَرَ المسلمين على إدخالِ أبنائِهم فيها ليُصبِحوا مسيحيين. ° عَيَّن حُكَّامًا فجرةً على مقاطعاتِ أريتريا، منهم واحدٌ عيَّنه على مقاطعةِ "جَمَّة"، ابتدأ عَمَلَه بأن أصدر أمرًا أن لا يَقطِفَ الفلاَّحون ثمارَ أراضيهم إلاَّ بعد موافقته، وكان لا يَسمحُ بقُطافِها إلاَّ بعد أن تتلفَ، وأخيرًا صادر 90% من الأراضي، أخذ هو نصفَها، وأعطى الإمبراطورَ نصفَها، ونَهَبَ جميعَ ممتلكاتِ المسلمين. ° وأمرهم أن يَبنُوا كنيسةً في الإقليم فبَنَوْها .. ثم أَمَرهم أن يُعمِّروا كنيسةً عند مَدخل كل قريةٍ أو بَلدةٍ .. ولم يكتفِ بذلك، بل بنى دُورًا

السفاح الصليبي عدو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جوليوس نيريري"

للعاهرات حول المساجد ومعها الحاناتُ التي يَسْكَرُ فيها الجنودُ، ثم يدخلون إلى المساجدِ ليبولوا بها ويتغوَّطوا، وُيراقصوا العاهرات فيها وهم سُكارى. كما فَرض على الفلاحين أن يَبيعوا أبقارَهم لشركةِ "أنكودا" اليهودية فكافاه الإمبراطورُ "هيلاسلاسي" على أعماله هذه بأن عيَّنه وزيرًا للداخلية. وكانت حكومةُ الإمبراطور تُلاحِقُ كلَّ مثقَّفٍ مسلمٍ لتزُجَّه في السجن حتى الموت، أو تُجبِرَه على مغادرةِ البلاد حتى يبقى شعبُ "أريتريا" المسلم مُستعْبَدًا جاهلاً وغير ذلك كثيراً" (¬1). هذا مع العلم بأن نسبةَ المسلمين في أثيوبيا بلغت 75% من سكانها، فلعنةُ الله على "هيلاسلاسي" ومن هو على شاكلته. * السَّفَّاحُ الصليبيُّ عدوُّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "جوليوس نيريري": كيف لا يكونُ الصليبي "جوليوس نيريري" عدوَّ الله ورسوله والمسلمين -بل والبشريةِ جمعاء-، ولم تَجِفَّ بعدُ دماءُ المسلمين في "زنجبار" يومَ أباد (000، 12) مسلم، وألقى (000، 4) آخرين في عَرضِ البحر (¬2). * التحالفُ الصليبيُّ الوثنيُّ وعلى رأسِه "تشارلز تايلور"، يقتل 25 ألف مسلم في ليبريا: تقعُ ليبيريا على ساحل الجنوب الغربيِّ من القارةِ الأفريقية، ويَحدُّها جنوبًا المحيطُ الأطلسي، وعددُ سكانها 3 ملايين نسمة، 35% مسلمون، و 25% نصارى، والباقي وثنيُّون. ¬

_ (¬1) "كفاح دين" للشيخ محمد الغزالي (ص 60 - 80) مُلَخَّصًا. (¬2) "عندما حكم الصليب" (ص 12).

° والإسلامُ أسبقُ من النصرانية في هذه البلاد وأقدمُ رسوخًا. وتعرض المسلمون في التسعينات 1994 م لمجازرِ إبادةٍ وتشريدٍ واعتداءٍ على الأعراض وسَلبٍ للمتلكات. وشَتَّت مجموعةٌ وثنيَّةٌ متمرِّدة حاقدة على الإسلام والمسلمين تحتَ اسم "الجبهة الوطنية الليبيرية" بقيادةِ الصليبي الكريه عدِّو الإِسلامِ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - "تشارلز تايلور" هجومًا شرسا من "ساحل العاج" بحثًا عن كلِّ ما هو مسلمٌ أو إسلاميٌّ للقضاءِ عليه. وفي حوارِ مجلة "الدعوة" مع الشيخ "سيكو أبو بكر" ممثِّل "حركةِ إنقاذِ مسلمي ليبيريا" في المملكة السعودية، أوضَحَ أن مُحصَّلةَ المحنةِ من الضحايا والأضرار المادية والمعنوية كالآتي: 1 - قتل ما لا يَقِل عن 25 ألفِ مسلمٍ شَرَّ قِتْلةٍ، حيث أُحرِقَ الدعاةُ والأئمةُ بإشعالِ النيران فيهم بعدَ صبِّ البنزينِ عليهم، وفُصِلت رؤوسُهم عن أجسامِهم، وقُطِعت ألسُنُ وآذانُ المؤذنين أحياءً، وبُقِرَت بطون الحوامِل .. فضلاً عن المذابح الوحشيةِ البشعة التي في ارتُكِبت في أكثرَ من مكان. 2 - وجودُ عشراتِ الآلاف من المفقودين والجرحى والمصابين. 3 - تشريدُ وإخراج أكثرَ من 700 ألف مسلم من ديارِهم، وهم موجودون الآن لاجئين في الدولِ المجاورة مِثل غينيا وسيراليون. 4 - اغتصابُ عددٍ كبير من النساءِ والفتياتِ المسلمات. 5 - هدمُ المساجدِ ومنازلِ المسلمين ومؤسساتِهم التعليميةِ والاقتصاديةِ،

الصليبي القذر "يعقوب غاوون" وإرادته القضاء على المسلمين في نيجيريا

وسرقةُ ونهبُ كل ممتلكاتِ المسلمين -بما في ذلك المكتباتُ الإسلامية العامة-، مع تدنيسِ المصاحف (¬1). * الصليبيُّ القذر "يعقوب غاوون" وإِرادتُه القضاءَ على المسلمين في نيجيريا: في عام 1967 م قام الصليبيُّ "يعقوب غاوون " بانقلابٍ دمويًّ في نيجيريا على الصليبي "جويبي إيرونسي"، وكان "غاوون" ممثِّلَ الكنيسةِ العالَمية، وكان هدفُه القضاءَ على الوجودِ الإسلاميِّ في نيجيريا، حتى لو استدعى ذلك قيامَ حربُ أهلية في البلاد، وهذا ما حَدث بالفعل في عام 1967 م عندما اشتَعلت الحربُ الأهلية في نيجيريا، والتي ذهب ضحيتَها أكثرُ من مليون نيجيري، ولقد ساعد "غاوون" الحركةُ الانفصاليةُ في إقليم "بيافرا" التي أبادت آلافَ المسلمين (¬2). * وفي "تشاد" ذَبَح الصليبيون الفرنسيون 400 من خِيرةِ علماءِ المسلمين: عندما احتل الفرنسيون "تشاد" في أوائل القرنِ العشرين الميلادي، ذَبح الفرنسيون الصليبيون 400 من خِيرةِ المسلمين وعلمائِهم في مذبحةِ "كبكب" الشهيرة .. فلعنة الله على الكافرين. * نشيدُ الصليبيين الإِيطاليين البُغاة عند احتلالهم لليبيا: كان الجنديُّ الصليبي الإيطالي ينادِي بأعلى صوته، حين كان يَلبسُ ¬

_ (¬1) "وجاء الدور على الإسلام" لرضا محمد العراقي (ص 84) - دار طريق للنشر والتوزيع. (¬2) المصدر السابق (ص 75).

عباد البقر من أشد الناس عداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم -

بَذَّةَ الحرب قادمًا إلى ليبيا: أمَّاه .. أتمي صلالك .. لا تبكي ... بل اضحكي وتأمَّلي ... أنا ذاهب إلى طرابلس ... فَرحًا مسرورًا ... سأبذل دَمِي في سبيلِ سَحقِ الأُمةِ الملعونة ... ساُحاربُ الديانةَ الإسلاميةَ ... ساُقاتِل بكل قوتي، لمحو القرآن (¬1) * عُبَّادُ البقر من أشدِّ الناس عداوةً للنبي - صلى الله عليه وسلم -: قَتَل الجيشُ الهنديُّ في "بنجلاديش" -عُبَّادُ البقر الذي كان يقودُه اليهودُ- عشرةَ آلافِ عالم مسلم بعد انتصاره على جيشِ باكستان عام 1971 م، وقَتل مئةَ ألفِ من طلبةِ المعاهد الإسلامية، وموظَّفي الدولة، وسَجَن خمسين ألفًا من العلماء وأساتذةِ الجامعات، وقَتَل رُبعَ مليون مسلم هنديٍّ هاجروا من الهند إلى باكستانَ قبل الحرب، وسَلَب الجيشُ الهنديُّ ما قيمتُه (30 مليار رُوبية) من باكستانَ الشرقية التي سَقطت من أموال الناس والدولة (¬2). ¬

_ (¬1) "قادة الغرب يقولون: دمَّروا الإسلام أبيدوا أهله" (ص 10) لجلال العالم- مكتبة ابن تيمية. (¬2) "مأساة بنغلاديش" لمحمد خليل الله (ص 7، 19، 20، 22، 23).

في ولاية "جامو وكشمير" المسلمة

* في ولاية "جامو وكشمير" المسلمة: ° كتب أحدُ رموز الهندوس وكُتَّابِهِم المدعو "أمير شبح الهندوسي" الحقيرُ مقالاً يَستهزيء فيه بالإسلامِ وبتاريخ الإسلام وبأُمةِ الإسلام، وقال: "حياةُ المسلمين أقربُ إلى حياةِ الحيوان" (¬1). كمْ مِن هَمَّ يَركبُ ناصيةَ القلبِ ويقود زِمامَه!! وكم من دمعةٍ حرَّى تَخطُّ وَسْمًا على الخَدِّ بعد أن حَوَّل الهندوس -عبَّادُ البقر- أرضَ كشمير إلى جحيم مُستَعِر يَلتهمُ الأخضَرَ واليابس، يَقتلُ الأبرياءَ، ويَهتِكُ الأعراضَ، ويَهدِمُ المساجدَ!!. ° يقول الشيخ "إعجاز الإسلام" عن الجرائم التي قام بها الهنودُ في كشمير: "إنه لا يُوجَدُ لها مثيل في تاريخ العدوان والظلم .. قاموا بقَتلِ الأبرياء، وذَبح الشبابِ أمامَ آبائهم وأمهاتهم، كما اعَتَدوا على الذكور من الشباب، وقاموا بتصفيتهم، وهتكوا أعراضَ النساءِ المسلمات جماعيًّا، ونَهبوا الأموال، وأحرَقوا البيوتَ والمتاجر، وهناك أكثرُ من خمسينَ ألفًا من المسلمين في زنزاناتِ التعذيب، وتمَّ قتل أكثَرَ من واحدٍ وعشرين ألفًا، وهناك أكثر من 52 ألف معوَّق وكل ذلك جَرَى مؤَخَرًا" (¬2). ° سيطر الاستعمارُ البريطاني على ولاية "جامو وكشمير"، ثم اشترى مِن طائفةِ (الدوجرة) الهندوسية "كشمير "بمبلغٍ ضئيلٍ قَدرْه سبعة ُملايين ¬

_ (¬1) "مأساة إخواننا المسلمين في كشمير المسلمة" (ص 70) للدكتور فهد حمود العصيمي- دار النشر الدولي. (¬2) المصدر السابق (ص49).

ونصفُ مليون روبية، أي قد بيع النفرُ الواحد بسبع روبيات، وهي تعادلُ ثُلُثَ الدولار الأمريكي، وتلك الاتفاقيهُ لبَيع الولايةِ تُسمَّى اتفاقية "أمرتسر"، وليس لهذه الاتفاقية أيَّةُ مكانةٍ من الناحية القانونية والخُلُقِيَّة. ولمَّا تمكَّن المسلمون من إنقاذِ ثُلُثِ الولاية، وأسسوا الحكومةَ الحرَّة لولاية "جامو وكشمير" المسلمة في 24 من أكتوبر عام 1947، واضْطُرَّ الملكُ الهندوسيُّ "هري سنغ" إلى الفرارِ من عاصمةِ الولاية إلى "جامو"، وقدَّم خلالَ فرارِه إلى الحاكم العامِّ للهند طلبًا للموافقةِ على انضمام الولايةِ الهند، وصَدَر قرارُ الأمم المتحدة بإجراءِ استفتاءٍ لتقريرِ مصيرِ الولاية بانضمامِها إلى باكستان أو الهند -وذلك في 5 من يناير عام 1949 م-، وماطلت الهندُ لعلمها مُسْبَقًا بما تكونُ عليه نتيجة الاستفتاء، إذ إن نسبةَ المسلمين في كشمير 85% من سكانها. ° لقد ارتكب الهنود عُبَّاد البقر من الجرائم البشعةِ ما يفوقُ الوصفَ وما لا تفعلُه الوحوشُ الضارية. ففي قرية "كنان بوش بورا" ليلة 23 فبراير 1991، حين دخل القريةَ مئاتٌ من جنود الكتيبةِ الرابعةِ "لراجيوت رايلفز" التابعةِ للفرقة 68 مشاة في تلك الليلةِ الباردةِ، وأوقفت كلَّ الأولادِ والرجالِ في ملابسِ نومهم في العَرَاء وهم يَقْشَعِرُّون البرد، بينما بدأ الجنودُ يَنهَبون وَيحرِقون ويغتصِبون، فحطَّموا الأبوابَ، وطافوا بالبيوت بيتًا بيتًا، واغتَصبوا على الأقل (53) امرأة، كانت أكبرهن سنًّا "جانا" التي تبلغ من العمر 80 سنة والتي تعَرَّضت لاغتصابٍ جماعيٍّ هي وزوجة ابنها، وأصغرُهن تعرُّضًا للاغتصاب هما الفتاة "ميشرا" البالغة من العمر 13 سنة وأختُها البالغةُ من

العمر 18 سنة، واغتصبوا "ظريفة" التي تبلغُ من العمر 21 سنة وهي في الأيام الأخيرة من حملها، ووضعت مولودَها بعد ثلاثةِ أيام من الحادثة، وقالت: "أحيا فقط لكي يكبرَ ابني ويثأرَ لي" (¬1). ° وعلى سبيل المثال انظر إلى موجز عن العمليات الإجراميَّةِ الوحشيةِ للجيشِ الهندوسي البربريِّ الغاشِم في ولايةِ "كشمير" المسلمة منذ يناير 1990 م حتى يناير عام 1992 م: - عددُ الشهداء من مُسلِمي "كشمير" رجالاً ونساءً وأطفالاً على أيدي الجنودِ الهندوس: 39 ألف شهيد. - عددُ الجرحى من الرجال والنساء والأطفال: 50 ألف جريح. - عددُ الطلاَّب الذين قد حُرقوا أحياءً في مدينة "كبواره" في أكتوبر 1990 م: 200 طالب. - عددُ الطلاَّب الذين قد حُرقوا أحياءً في المدارس الابتدائية الأخرى: 500 طالب. - عدد المسلمين من الرجال والنساء والأطفال في السجون ومراكز التفتيش "في كشمير": 50 ألف سجين. - عددُ المسلمين الذين قد حرقوا أحياءً في بيوتهم: 600 مسلم. - عددُ المسلمين المهاجرين من "كشمير": 20 ألف مهاجر. - عددُ النساء المسلمات اللاتي قد هُتكَت أعراضُهن جماعيًّا: 3 آلاف أمرة مسلمة. ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 87).

أما هدم المساجد في الهند

- عدد النساء المسلمات التي قد وُجدت جُثثهن في "نهر جهلم" بعد هَتكِ أعراضهن: 350 امرأة مسلمة. - عدد الشابات المسلمات اللاتي استشهدن بسبب هتك أعراضهن جماعيًّا: 150 مسلمة. - عددُ النساء الحواملُ اللاتي قد وَضعن قبل الموعد بسبب هتكِ أعراضِهن جماعيًّا: 150 مسلمة. - عدد البيوت والدكاكين التي قد حُرِقت بالبنزين والبارود في مساكن المسلمين: 25 ألف دكان ومنزل. - عددُ المستشفيات والمدارس والكليات التي قد حُرِقت بالبنزين والبارود: 500. - عددُ الأنعام التي قد حُرِقت حَيَّةً: 000، 1 من المواشي. - قيمةُ الحبوب الغذائية التي قد حُرِقت: 000، 1 مليون دولار. - قيمةُ البساتين والغابات التي قد حُرِقت: 000، 1 بليون دولار. الجيشُ الهندوسي القَذِرُ في "كشمير" يَغتصبُ ويَحرِقُ ويدمرُ ويَقتلُ ويسرق كأحطَّ ما يفعلُ البشر. * أما هدمُ المساجد في الهند: فقد قام الهندوسُ في 6/ 12/ 1992 بهدم المسجد "البابري" وإقامةِ معبدٍ وثنيٍّ مؤقَّتِ على أنقاضِه لإلههم "راما" الذين زَعموا أنه وُلِد في مكانِ المسجد، ولَمَّا هَبَّ المسلمون مستنكِرين لهذا في مناطقِ الهند قُتل منهم خمسةُ آلافِ مسلم، وعشراتٌ منهم أُحرِقوا أحياءً.

عودة أخرى إلى "كشمير"

* عودة أخرى إِلى "كشمير": لقد قَتل الهندوس أكثرَ من 120 ألفًا من المسلمين في سنواتٍ أربعَ فقط. * وا إسلاماه: ° ويذكر الشيخ "نفيس كشميري" رئيس "اللجنة السياسية لتحريك المجاهدين "الاعتداءَ الهنديَّ الغاشم على قرية "كونن بشه بوره"، فيقول: "إنهم أخرجوا الرجالَ في الحاديةَ عَشْرةَ ليلاً من بيوتهم، ودخلوا على النساء -وكن ثلاثًا وخمسين امرأةً مسلمة-، فعاثوا في أعراضِهن هتكًا، كان الرجال مقيَّدين خارج القرية لا حول لهم ولا قوَّة، والنساُء يصرُخْنَ بأعلى أصواتهنَّ: "واإسلاماه واإسلاماه" .. ومما يذوبُ منه القلبُ كَمَدًاو ألَمًا أن الجنود قاموا بهتك أعراضِ النساء جماعيًّا، ثم قاموا بقتلهنَّ وألقَوا بجثثهن في الأنهار وأن جثث مئاتٍ من النساء المسلماتِ قد وجدت في نهرِ "جهلم" .. " (¬1) ° ومن جرائمِ هؤلاءِ الكفَرَةِ عُبَّادِ البقر: تعليقُ الرجالِ والنساء في الأشجارِ من رؤوسهم حتى الموت أو الجنون. ° وذَكرت مجلة "آسيا واتش" الهنديةُ في تقريرها الشامل ِ في مايو 1991 ميلادية: قيامَ القواتِ الهندوسية يوم 23 فبراير 1991 م باقتحامِ البيوت في قرية "كونان بوشبورا" والقيام باغتصابِ كافَّةِ النساءِ والفتيات من 13 إلى 80 سنة. ¬

_ (¬1) "مأساة إخواننا المسلمين في كشمير المسلمة" (ص 50).

الهندوس واليهود

° وذكر الشيخ "أحمد القطَّان" أنه تَمَّ في يومٍ واحدٍ قَتلُ نصفِ مليون مسلم في وَضَحِ النهار بدون أن يَعلمَ العالَم، وقتَها كان العالمُ الإسلاميُّ غارِقاً في سماع أغاني كوكب الشرق وفيروز (¬1). * الهندوس واليهود: التاريخُ يُعيدُ نفسَه .. مِثلما شَهِدَ اليهودُ للمشركين بأنهم أهدى سبيلاً وأضحُّ دينا كما قال الله عزَّ وجلَّ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)} [النساء: 51] ... سافر "شيمون بيريز" -دَجَّالُ اليهود- إلى الهند، وقال هناك: "غاندي هو بمثابةِ نبيٍّ للإسرائيليين" (¬2). أما موضوعُ مباحثاتِ "بيريز" مع القادةِ الهنود، فهو: "التصدِّي للأصولية الإسلامية"، ويؤكد القادةُ الكشميريُّون أن عددًا من جنرالاتِ الجيش الصهيوني يُشرِفون على حرب الإبادة التي يمارسُها الجيشُ الهنديُّ ضدَّ الشعب الكشميري (¬3). ° ولقد قال "بنيامين نيتانياهو" -أحد وزراء حكومة "شامير" السابقة- لصحيفة "هاآرتس" الصهيونية: "إن ديمقراطيةَ الهندِ وإسرائيلَ تُواجِهُ بربريةَ العرب والمسلمين في آسيا وأفريقيا" (¬4). ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 76). (¬2) المصدر السابق (ص 133). (¬3) المصدر السابق (ص 152). (¬4) المصدر السابق ص (151 - 152).

تركستان المسلمة والدب الروسي عدو الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - القياصرة منهم والشيوعيون

° ولا تعجبْ! فالكُفُر مِلةٌ واحدة .. "وعندما أرادت الهندُ أن تُمزِّق دولةَ باكستان، اختارت لجيشها قائدًا يهوديًّا، مع أن عددَ اليهود في الجيش الهنديَّ يتجاوز أصابعَ اليد الواحدة" (¬1). * تركستان المسلمة والدُّبُّ الروسيُّ عدوُّ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - القياصرةُ منهم والشيوعيون: بلاد التُّركستان "وهي الجمهورياتُ الإسلاميةُ في الاتحاد السوفيتي سابقًا .. وهي "تركستان الغربية"، أما "تركستان الشرقيةُ"، فقد استولت عليها الصينُ عام 1881 م .. أما تركستان الغربية، فقد استمرت حروب الدبَّ الروسى لها مُتصلةً لفترةٍ دامت (348) سنة، بدأت في عام (1552 م) باحتلان "قازان"، وتوففت عام 1900 م بالوصول إلى "بامير" على حدود الصين. هذه الدولةُ التي دخلها الإسلامُ سنة 232 هـ بإسلامِ خاقانها "ستوق بوغراخان" ووزرائِه وقوَّادِ جَيشِه، وأصبح دينُها الرسمي الإسلام، وكَوَّنت إمبراطوريةً عظيمةً خلالَ القرنيْن الرابعَ عَشَر والخامسَ عَشَرَ، وكانت "موسكو" تُسمَّى شيخة "الموسكوف" وحُكَّامها يدفعون الجزيةَ للمسلمين. وتغيرَّت الأيامُ بإخلادِ المسلمين إلى التَّرَفِ والحياة الدنيا، وهَجَم عليها "إِيفانُ الرابع" -كناز موسكو- المدعو والمعروف بـ "إِيفانِ الرهيب" على رأسِ مئتَي ألفِ جُنديًّ وعددٍ كبيرٍ من رجالِ الدين والمهندسين المدنيين الألمانِ المستأجَرين بالمال، وحارَبَهم أهلُ قازان، ودام القتالُ أربعين يومًا، ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 153).

تَلِف فيه نِصفُ الجيشِ الروسيِّ المهاجِم، لكن تَمكَّن المهندسون الألمانُ من نَسفِ جُسور القلعة بالبارود، ثم احتلُّوها .. وبعد بِضعةِ أيام سَقطت "قازان" عاصمة الدولة الإسلامية في 15 أكتوبر سنة (1552 م) (¬1). وانطلق الروسُ القياصرةُ الذين كانت مساحةُ بلادهم عام (1430 م) لا تزيدُ على (40000) كم 2، حَولَ موسكو .. انطلقوا بوحشيتهم البربريةِ الصليبيةِ حتى أخذوا من ديارِ المسلمين مساحةً تزيدُ على 10 مليون كم 2. ° يقول عدوُّ اللهِ ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الجنرال الروسي -جَلاَّد "طَشْقَند" -عما شهده بأمِّ عَيْنه عند سقوطِ" طشقند": "إن مدينةَ "طشقند" كانت مستعدةً بأكياسِ الرِّمال في شوارعها، وكانت المقاومةُ عنيفةً جدًّا، وقد مات كثيرٌ من الناسِ وهم يُهاجِمون جماعاتٍ أو منفردين في شوارع المدينة، ولم يَستَسْلموا -بل ماتوا على أَسِنةِ الرِّماح-، ورأى جنودُنا "الروس" الذين اجتازوا الشوارعَ مقاومةً عنيفةً وقتالاً شديدًا، ولم تُبْسَطْ أيدينا على مجتمع "أوتاد" إلاَّ بعد أن سَبَحَ جنودُنا في بحارٍ من الدماء"!!! (¬2). ° جاء في كتاب "الخطر الإسلامي على الدولة السوفيتية" لمؤلِّفَيْه "ألكسندر بنيجست" و"ماري بروكسوب": "اعتُبرت روسيا" ثَغْرَ أوربا الشرقي، كما كانت أسبانيا "الأندلس" ثغر أوروبا الغربي -أي: دولة المواجهة مع المسلمين-، والتي تحمي أوربا من الخطر الإسلامي". والتاريخُ الروسي يقومُ على مقولةٍ تَزعُم أن روسيا أَنهكت نفسَها في ¬

_ (¬1) "تركستان بين الدب الروسي والتنين الصيني" (ص25 - 26) - دار الدعوة بالإسكندرية. (¬2) المصدر السابق (ص 31 - 32).

كفاح بطوليٍّ ضدَّ المسلمين دار عِدَّةَ قرونٍ، ولكنه لم يَذهبْ هَباءً، فقد أَنقذ هذا الكفاحُ أوروبا التي استطاعت -بفضل الحمايةِ الروسيةِ- أن تَمضيَ في تطويرِ حضارتها الرائعة، ولكنَّ الثمنَ كان فادِحًا، لأن روسيا تقهرُ برابرةَ آسيا!!!. كان عليها أن تَهبطَ لمستواهم، وتتبنَّى أساليبهم مثل: الحكم الاستبدادي، والأساليب الهمجية، وفقدان الحريَّة .. هذه هي الصورةُ التي تُقَدَّم في الأدب الروسي .. روسيا هي الفارسُ الذي قَتل التِّنين الآسيويَّ المسلم، وأنقذ "الأميرة" أوروبا، ومِن ثمَ للفارس حق السيادة على الأوربيين الصغار، وامتياز تحضيرِ الآسيويين الروس المتوحّشين مقابلَ الدَّورِ الذي لَعِبه في قهرِ المسلمين!!!. ولكنَّ الحقيقةَ مخالِفةٌ لهذا الزعم تمامًا، فقد كان المسلمون في قِمَّةِ الرُّقِيِّ والحضارة، وكان الرُّوسُ في قمَّةِ التخلُّف. ومنذ الغزو القيصريِّ الروسيِّ لبلاد التركستان إلى بدايةِ الثورةِ الشيوعيَّة، كان القياصرةُ الروسُ الصليبيون أعداءُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَهدِفون إلى التخلُّصِ النهائي من المسلمين بالأساليب القذرةِ الآتية: 1 - الإبادةُ بالطردِ اجماعي، وهي سياسة قاسية بربرية، وقد استُخدمت مع قبائل الشركس، ومسلمي "أبخاذيان" وجزئيًّا مع تتارِ القِرْم الذي أُجِبروا على الهجرة إلى الدولةِ العثمانية عام (1865 م) ليَحُل مَحِلَّهم الروسُ والجورجيُّون (1).

_ (1) انظر المصدر السابق (ص 35 - 36).

2 - الإبادةُ بالقتل الجماعي، مثل المذابحِ التي قام بها الجنرالُ الصليبي القذر "سكوبولوف" ضدَّ التركمان عام (1881 م). 3 - الابتلاعُ من خلالِ عملياتِ التنصير للمذهبِ "الأرثوذكسي"، وهي سياسةٌ طبَّقوها مع تتارِ "الفولجا" في القرنِ السادسَ عَشَرَ، ثم في القرن التاسعَ عَشَرَ. لقد استخدم الروسُ أبشعَ وأحطَّ الوسائل مع المسلمين، وصُودرت أوقافُهم، واختَفى ما بين سنة 1738 م إلى سنة 1755 م (418) مسجدًا من مجموع 536 مسجدًا، وكانت عقوبةُ الإعدام هي جزاءَ مَن يدعو إلى الإسلام، وما بين 1865 م و (1900 م) -أي خلالَ خمسةٍ وثلاثين عامًا- اعتنق أكثرُ من مئةِ ألف تَتَرِيّ المسيحيةَ قهرًا، وحين انتهى حكمُ القياصرة عام 1917 م، أصدر"لينين" أمرًا في إبريل عام 1918 بالزحف إلى البلادِ الإسلامية، وأخذت الدباباتُ تَحصِدُ المدنَ حَصدًا، وتدكُّ القِلاع والحصون، وتَهدِمُ البيوتَ والمنازلَ على رؤوسِ أصحابها. وبعد استيلاءِ الشيوعيَّين على "القِرْم" عام 1920 م، أَخذ الروسُ يطبَّقون سياسةَ الهدمِ والتهجير والتشريد الجماعيِّ لمسلمي القِرْم، التي كان عددُ سكَّانها في ذلك الحين يُقاربُ الخمسةَ ملايين نَسمةً، ونتيجةً للمعاركِ الدمويَّةِ والضغطِ السياسيِّ والحصارِ الاقتصاديِّ أُجبِر مسلمو القِرْم على الهجرةِ بغرضِ إيواءِ اليهود بدلاً منهم؛ ولم يَبْقَ من سكَّانِ البلاد بعد عام (1940م) سوى (400.000) مسلم. لقد هُدِّمت المساجد والمدارس، وحُوّل بعضُها إلى كنائسَ، ولم يَبْقَ

أغرب من الخيال: "ستالين" عدو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ينفي ما يزيد عن (1.5) مليون مسلم عن بلادهم

من (1558) مسجدًا إلاَّ (700)، حُولت مِن بعدُ إلى دُورٍ للَّهو، أو مَقَاهٍ، أو دورٍ للسينما والمسرح، أو مستودعاتٍ للذخائر، أو إستطبلاتٍ للخيول .. أو متاحف!!!. ° وجاء في "تقرير لينين" الذي نَشرته جريدة "أُزفتسيا" أن عدد الذين ماتوا من الجوع في القِرْم (47.069) فردًا. ° وجاء في أقوال "لينين" عن بلادِ القِرْم "المسلمين": "إن أكلَ لحم الإنسانِ لم يكن من الحوادثِ التي يُستغربُ لها، أو يبدو عجيبًا في بابه"!! (¬1). ° وتفرق المسلمون في بلاد القِرْم بحثًا عما يَسُدُّ رَمَقَهم ورَمَقَ عيالهم .. حتى الحشائشُ والعشب، وإذا لم يَعثُروا على هذا ولا ذاك تساقطوا صرعى. ° وتقولُ بعضُ الروايات: "إن المجاعةَ وصلت إلى حدَّ أن بعضَ النساءِ كُن يقتُلْن أولادَهن ويأكُلْنَ لحومَهم، ثم يَجمعون العظام في ركن يَبكينها. * أغربُ من الخيال: "ستالين" عدوُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين يَنفي ما يَزيدُ عن (1.5) مليون مسلم عن بلادهم: وصدر في ديسمبر عام 1943، قرارٌ عن "مجلس السوفيات الأعلى" برئاسة "ستالين" عدوَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينص على ما يلي: 1 - جمهورية "شيشان" المتمتعةُ بالحكم الذاتي، والتي يَبلغُ عدد سكانها (800،000) نسمة. ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 62)، نقلاً عن "كارثة القرم" لولي شاه.

أعداء الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من الروس -سواء القياصرة أم البلاشفة-

2 - جمهورية "قرة- شاي بالقار" المتمتعةُ بالحكم الذاتي، والتي يبلغُ عدد سكانها (350.000) نسمة. 3 - جمهورية "القِرْم" المتمتعةُ بالحكم الذاتي، والتي يبلغُ عددُ سكَانها (400.000) نسمة. هذه الجمهورياتُ يجبُ محوُها لتعاونها مع العدو (¬1)، وسكَّانُ هذه الجمهورياتِ من النساءِ والرجالِ والشيوخ والأطفالِ سيُطردون من بلادهم إلى المناطقِ الشمالية من روسيا (¬2). وأصبح هذا القرارُ ساريَ المفعول في الثالث والعشرين من فبراير 1944 م، وأذيع على العالَم في الخامس والعشرين من يونية 1946 م. فلعنةُ الله على "ستالين" الشيوعيَّ العَفِنِ الذي نفى أكثرَ من مليون ونصف مليون مسلم عن بلادهم إلى "سيبيريا" أكثرَ من ثلاثةَ عَشَرَ عامًا، فعادوا بعد موته في 9/ 1/ 1957 م. ° لقد قَدَّر بعضُ المراقِبين والمُطَّلِعين أنه تم إغلاقُ (90.000) مسجدٍ في جميع أنحاءِ الاتحاد السوفيتي، كما يقول "فور محمد خان" في كتابه "القصة الحقيقية لحياة المسلمين في ظِلَّ الحكم الروسي والصيني". * أعداءُ اللهِ ورسوِله - صلى الله عليه وسلم - من الروس -سواءٌ القياصرة أم البلاشفة-: * "إِيفان الرهيب" (1547 - 1584م): تولَّى الحُكمَ في الفترة من (1547 - 1584 م) إيفانَ الرابع المعروف ¬

_ (¬1) أي: الدولة العثمانية. (¬2) أي: يُنفَوْن إلى سيبيريا.

القيصر بطرس الأول

تاريخياًّ بإيفان الرهيب لدمويته، وقد قام باجتياحاتٍ كبرى للمناطق الإسلامية في القوقاز وآسيا الوسطى. وفي عام (1584 م) هاجَمَ الروسُ بقيادة "إيفان الرهيب" منطقةَ " القِرْم" إلاَّ أن استبسال تتارها ودَعْمَ العثمانيين لهم أفشَلَ الهجوم، وألحَقَ الهزيمةَ للمرةِ الأولى بإيفان الذي مات في العام نفسِه تُشيَّعه لعناتُ اللاعنين بما فعل بالمسلمين (¬1). * القيصر بطرس الأول: "لمَّا ثارت "أستراخان" ضدَّ القيصر بطرس الأول، قَمَع ثورتَها بشدَّة، وارتكب مذبحةً رهيبةً بحقِّ المسلمين التتار" (¬2). * الإِمبراطورة "تسارينا آنا" (1738 - 1755): "في عهدِ هذه الإمبراطورة اللعينة، دَمَرَّ الروسُ في "قازان" وحدَها (418) مسجدًا ومركزًا دينيًّا من أصلِ (536)، وشَنَّ القياسرة حَملاتِ اضطهادٍ ضدَّ المسلمين التتار في القوقاز، لدرجة أن المؤرِّخين يُشبِّهون تلك الفترةَ بفترةِ التطهير العِرقيِّ والديني التي شَنَّها "جوزيف ستالين" في العهد الشيوعي ضد المسلمين، وتنوَّعت أساليبُ القهرِ القيصري من قمع وتهجيرِ المسلمين، ثم فرضوا التنصيرَ القَسْريَّ، لقد كان القانونُ القيصريُّ يُحرَّمُ اعتناقَ أيِّ دينٍ غير المسيحية الأرثوذكسية، واستُبدلت السلافية بكل اللغات العربية والتركية والفارسية" (¬3). ¬

_ (¬1) "محنة الشيشان" لشعبان عبد الرحمن (ص 72) دار الوفاء. (¬2) "محنة الشيشان" لشعبان عبد الرحمن (ص 72) دار الوفاء. (¬3) المصدر السابق (ص 73).

مرة أخرى مع ستالين اللعين .. ومن أولى منه بقعر الجحيم؟!

* مرةً أخرى مع ستالين اللعين .. ومَن أَولى منه بقعر الجحيم؟!: الدُبُّ الأحمر، لكأنَّا نوجِّه إهانةً مباشرةً إلى فصيلة الدُّبِّ، وأَوْلَى به أن يُوصفَ بأنها "خنزيرٌ أحمر"، وإن كان دونَ مستوى الخنازير، لفظًا ومعنىً، وشكلاً وحقيقةً، وعَرَضًا وجوهرًا. لقد وَلَغَ في دماءِ المسلمين -في روسيا- كالكلبِ العقور .. ففي أقلَّ من نصفِ قرنٍ، لَقِيَ أكثر من عشرينَ مليون مسلم مصرعهم، وتقولُ الأحصائيات: إن "ستالين" وحدَه خلالَ حُكمِه الذي دام زُهاءَ ثلاثين عامًا، قَتَل اكثَرَ من أحَدَ عَشَرَ مليون مسلم، لقد كان هذا الكلبُ العقورُ لا يتلذذُ إلاَّ بالقتل الجماعي، وبمنظرِ حماماتِ الدم التي كان يُشرِفُ عليها (¬1). وليلهُ ليلُ سُكرٍ وعَربدةٍ: ° وبرغم ذلك كتب الأستاذ "خالد محمد خالد" في جريدة "المصري" إثر هلاك الطاغية في الرابع من مارس 1957 م مقالاً إضافيًا تحت عنوان "طبتَ حَيًّا وميَتًا يا ستالين! " (¬2). ° ستالين الذي كان التهجير الثاني في فبراير 1944 م لأهل الشيشان إلى سيبيريا على يديه، "وكان التهجير إلى مناطقِ سيبيريا القارة المتجمِّدة والتي تَصِلُ درجة الحرارةِ فيها إلى (50) درجةً تحت الصفر، ففي الشعب الشيشاني كلِّه (1.2 مليون)، وقد مات (50%) من الشعب الشيشاني أثناءَ ¬

_ (¬1) "الذين طغوا في البلاد" (ص 115 - 116) لمحمد عبد الله السمان -الكلمة المطيبة- للنشر والتوزيع. (¬2) المصدر السابق (ص 117).

هذا التهجيرِ القَسْريَّ من الأطفال والنساء بسبب سياسةِ التجويع حتى الموت، لقد كانت وسائلُ التهجير في غايةِ القسوة، فقد جُمع الشعبُ الشيشاني ُّبأكملِه في محطاتِ القطارات دونَ السماح لهم بحَمل أي شيءٍ من المتاع مجردين من كل شيءٍ -حتى المال- تحت طلقاتِ الرصاصِ وتهديدِ الحراب، وحُشِر الناسُ في عرباتِ القطارات الخاصةِ بالبضائع والحيواناتِ إلى أراضي البراريَّ في شَمالِ جمهورية "قازاخستان" دونَ طعام ولا ماءٍ ولا كساء، وكلُّ مَنْ يرفضُ تنفيذَ الأوامر يُقتلُ مباشرةً أمامَ الناسِ بوحشيةٍ تُرْهِب مَن يَرى ويسمع .. أما أهالي الجبال -أصحابُ العزائم الشديدة-، فقد جُمِعوا في إسطبلات الخيول، وسُكِب عليهم البترولُ وأُحْرِقوا أحياءً، ومِن بين المواقع التي أُحْرِق فيها أعداد لا حَصْرَ لها قريه "خيباخي" التي ما زالت شاهدةً على هذه الأحداثِ الجِسام" (¬1). ° قال هذا الدبُّ الأحمر "ستالين" في أُخريات حياته: "انتهيتُ أنني لا أثقُ بأحدٍ حتى ولا بنفسي" (¬2). ° فلعنةُ الله على هذا الصليبي الشيوعيَّ ستالين. ¬

_ (¬1) "محنة الشيشان" لشعبان عبد الرحمن (ص 75، 76). و"الشيشان بين المحنة وواجب المسلمين" لمصطفى دسوقي كسبة- هدية مجلة الأزهر لذي القعدة 1415 هـ (104) "تاريخ النفي ورد في خطاب خرتشوف السِّري- فبراير 1956 م- كان في مارس 1944 م، وتقول المصادر الغربية: إنه كان في 20 فبراير عام 1944 م. (¬2) "ستالين" لبسام العسيلي نقلاً عن "الذين طغوا في البلاد" (ص 118).

وا إسلاماه .. وا إسلاماه

* وا إِسلاماه .. وا إِسلاماه: * مسلمو البُشناق -البوسنة والهِرْسك وكوسوفو-، ووحشيَّةُ الصِّرْب والكُرْواتِ الصليبيين أعداءِ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -: الصليبيون في البوشناق من القديم هم وحوشٌ ضوارٍ وأفاعٍ، وذئابٌ وثعالب، بلغوا أقذَرَ درجاتِ الانحطاطِ البهيمي .. أقاموا من المجازر ما يَعجِزُ الخيالُ عن تصوَّرِه .. هم أعداءُ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حقًّا، وإنْ لم يكونوا هم أولَ أعدائِه، فليس على ظهرِ الأرض للرسول - صلى الله عليه وسلم - عدوٌّ، هم الذين أذاقوا مسلمي البوسنةِ والهِرسك وكوسوفو أشدَّ أنواع العذاب في الدنيا في هذا القرن .. هم الذين اغتصبوا النساءَ جماعيًّا .. إن رجالَ الدينِ الارثوذكس كانوا هم أنفسُهُم يُحرضون الجنودَ على اغتصابِ المسلمات .. وللعلم، فإن الصربَ الأرثوذكس تابعون لكاتدرائيةِ الإسكندرية وللبابا شنودة!!. ° تقول إحدى الصبايا المسلمات التي اعتُدِي عليها مخاطِبةً العالَم الإسلاميَّ: "إنْ عَجزتُم عن مَدِّنا بالسلاح للدفاع عن شَرفِنا وديننا، فأمِدُّونا بحبوبِ مَنع الحمل حتى لا تتعاظمَ المصيبة" (¬1). ° والمقابرُ الجماعيةُ التي ستظلُّ وصمَةَ عارٍ لأوربا الصليبية، كلُّها أقذرُ من محاكم التفتيش. ¬

_ (¬1) انظر "ملحمة البوسنة والهرسك الجريمة الكبرى" للدكتور عدنان النحوي (ص 96) -دار النحوي-، و"البوسنة والهرسك- القضية والمأساة" لعبد العزيز المهنا، وكتاب "الصراع في يوغوسلافيا ومستقبل المسلمين" لعبد الله عاصم إسمايتش.

الصليبي ملك الصرب "كرال بيتر"

لِنرجعْ إلى الوراءِ قليلاً، ونسألِ التاريخَ عن قذارةِ الصربِ والكُرْوات. ° قبل الحربِ العالميةِ الثانية تم هدم (170 ألف) مسجد، وقُتِل (24 ألف) مسلم، وتَشَرَّد مئات الآلاف من المسلمين. ° وقد نَشرت صحيفةُ "لوتون" الفرنسية في أحدِ أعدادِها الصادرة في أبريل سنة (1919 م) حديثًا لرئيسِ العلماء المسلمين في يوغسلافيا قال فيه: "إنه في السَّنةِ الأولى من حُكم الصِّرب تم إحراقُ وتدميرُ (270) قرية، وقَتلُ آلافِ المسلمين" (¬1). * الصليبيُّ مَلِكُ الصرب "كرال بيتر": تتحدثُ الوثائقُ والبياناتُ الدقيقةُ عن المجازِرِ البشعةِ الكثيرةِ التي ارتُكِبت بحقِّ مسلمي كوسوفو والبوسنة في تلك الفترةِ بقيادة مَلِكِ الصِّرب "كرال بيتر" .. وإليك واحدةً من تلك المجازِرِ البشعةِ الكثيرةِ التي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى. ° يَروي عالِمٌ يوغسلافيٌّ مشهورٌ "برانكو هورفان" -وهو كرواتي من "زَغْرب"- في كتابه "مسألة كوسوفو": "أن مَلِكَ يوغسلافيا في الفترة ما بين الحربيْن مَرَّ في طريقه من "كوسوفو" إلى "ماكدونيا" بحَشدٍ من المسلمين تحتَ رقابةِ الجنودِ الصربيِّين، فسأل مساعديه: مَن هؤلاء؟ قالوا: إنهم مسلمون. قال: إن هؤلاء لا فائدةَ للملكة منهم، ويجبُ أن يُبادوا جميعًا، ¬

_ (¬1) "جمهورية البوسنة والهرسك والحقد الصليبي الصهيوني على المسلمين" لأم القعقاع (ص 31) - دار ابن الجوزي ..

مذابح للمسلمين في الحرب العالمية الثانية من قبل عصابات "التشتنيك" الصربية والصليبي "دراجا ميخائيلوفتش" وزير حربية يوغسلافيا عدو الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -

ولكنْ مِن دونِ أن نخسَرَ تَكْلِفَةَ الذخيرةِ والرصاص، اقتُلوهم بالخَشَبِ على حافَةِ الطُرقات .. ونُفِّذت أوامرُه على الفَورِ، فكانت المجازرُ الجماعيةُ سلوكًا عاديًّا في تلك الفترة" (¬1). وما زال المسلمون المتقدَّمون في السَّن يَذكُرون مواقعَ بعضِ هذه المجازِرِ التي لم يكنْ عددُ الضحايا فيها يَقِلُّ عن ثمانيةِ آلافِ مسلم في المذبحة الواحدة من المذابح الكثيرة، كان الجيشُ الصربي يمر ببعضِ القُرى المسلمة فيحرقُها بكل ما فيها من بَشر وحيواناتٍ ومنازل .. وفي مناسباتٍ أخرى كانوا يصُفُّون الذكورَ ويَعدِمُونهم جميعًا دونَ استثناء. وعلى صعيدٍ آخَرَ هدموا مساجدَ المسلمين، وحَولوا بعضَها إلى ملاهٍ، وانتهكوا مقابرَهم، وحوَّلوها إلى ملاعبِ كرة (¬2). * مذابحُ للمسلمين في الحرب العالمية الثانية مِن قِبلَ عِصَابات "التشتنيك" الصربية والصليبي "دراجا ميخائيلوفتش" وزير حربية يوغسلافيا عدوُّ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -: عندما دخلت القوَّاتُ الألمانية وسائرُ قواتِ "المِحور" في الحربِ العالمية الثانية أراضي "يوغسلافيا"، ونشأ عن ذلك تشكيلُ مجموعاتِ مقاوَمةٍ تمثَّلتْ في قِسْمَيْن: الجيش اليوغسلافي أو "التشتنيك"، و"جيش التحرير الوطني" يقوده "جوزيف بروز تيتو" -الكرواتي الأصل- الذي أصبح أمينًا عامًّا للحزب الشيوعي، وتكوَّنت قوةٌ ثالثةٌ هي "الأستابشا"، وهي حركةٌ ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 31). (¬2) المصدر السابق (ص 31 - 32).

مؤيدةٌ للنازية، ودار التنافس بين هذه القُوى الثلاثُ، وأدَّى ذلك إلى حربٍ أهليةٍ نفَّذت فيها عمليات إبادةٍ منهجيةِ ضدَّ المسلمين، حتى بَلَغ عددُ الضحايا التي قَتَلها "التشتنيك" بحدود نصفِ مليون شخصٍ في البوسنة والهرسك وسنجق وكوسوف كما يذكر الأستاذ "عبد الله عاصم" في كتابه (¬1)، ولكنَّ الأرقامَ تختلفُ من مصدرٍ إلى مصدر، وربمَّا كان العدد النصفُ مليون يمثلُ الضحايا في المناطق كلَّها. ° ويذكر سماحةُ الحاج "محمد أمين الحسيني" في كلمته عن البوسنة والهرسك في مجلة "فلسطين" أن عددَ القتلى أَرْبَى على مِئتَيْ ألفٍ، وأن هذه الفاجعةَ كانت بتوجيهِ "دراجا ميخائيلوفتش" وزيرِ حربية يوغوسلافيا ورئيسِ العصابات الصربية للقضاء على المسلمين في "سنجق بني بازار"، وعلى المسلمين والكاثوليك في "البوسنة والهرسك"، وذلك على إِثْرِ الخلافِ الشديد بين الصرب وكرواتيا ورغبةِ كلِّ منهما بالتوسُّع وضمِّ عناصِرِهم الموزعين في البوسنة والهرسك وغيرها إليهم. لقد استَنجد أهل البوسنة والهرسك آنَذَاك بكلِّ مَن يعرفونه لمساعدتهم على النَّجاةِ من المجازِرِ المروِّعة التي يرتكبها الصَّرب ضدَّ المسلمين العُزَّل، فاتَّصلوا بسماحةِ مفتي فلسطين الحاج "محمد أمين الحسيني" ... واهتم سماحتُه بالأمر أثناءَ وجودِه في ألمانيا، ويقول سماحته: "لقد كنتُ في روما في 19 كانون الأول سنة 1942 م، حينما اتَّصَل بي السيد "مصطفى بوصولا جيتش" البوشناقي الطالبُ في جامعة روما، وأنبأني بالمجزرةِ ¬

_ (¬1) "الصراع في يوغوسلافيا" (ص 31 - 35).

الوحشيةِ التي اقترفت ضدَّ المسلمين في منطقتي بوسنة وهرسك من قِبَل عصابات "التشتنيك" الصربية، ثم تتابعت الأنباءُ المُحزِنةُ تفضِّلُ تلك الفظائعَ الرهيبة" (¬1). وكان للشيخ "أمين الحسيني" جَهْدٌ مشكور مع الحكومةِ الألمانيةِ والإيطالية، ووافقت الحكومةُ الألمانية على تجنيدِ الشُّبان المسلمين وتسليحِهم للدفاع عن أنفسِهم وعن عائلاتهم داخل بلادِهم، وتكوَّنت فِرقتانِ مدربتانِ: فرقة "خنجر" وفرقة "قاما"، بلغ عددُ جنودهما 37 ألفًا، كما تكونت فِرَقٌ من الشرطة والحرس، حتى بَلغ مجموعُ المجاهدين كلِّهم بحدودِ مئةِ ألفٍ .. وقفت هذه القوى في وجه السَّفَّاح "ميخائيلوفتش" قائدِ المجازر والمذابح، لما حاول العودةَ إلى الاعتداء على المسلمين، فاستطاعوا بذلك إيقافَ المجازِرِ عن جميع مسلمي البَلْقَان، وقد كتب سماحة المفتي الحاج "محمد أمين الحسيني" إلى "مصطفى النَّحاس باشا" يُطلِعُه على تفاصيل عملياتِ الإبادة، ويَطلُبُ منه التدخلَ مع مَلِك يوغوسلافيا الملك "بطرس" الذي كان مقيمًا في مصر، فقام مصطفى النحاس بجَهدٍ طيِّب، وزار المَلِك، وهدَّد بإخراج جميع اليوغوسلافيين من مصرَ إذا استمرت هذه الاعتداءات .. ولقد كان "ميخائيلوفتش" من أتباع المَلِك" (¬2). لَعَن الله ميخائيلوفتش وأسكنه الله سقر جزاءَ ما فَعل بأتْباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) "ملحمة البوسنة والهرسك" (ص 70، 71). (¬2) انظر المصدر السابق (ص 71 - 74).

° ونُشيرُ هنا إلى واحدةٍ من المذابح التي تعرَّض لها المسلمون أثناءَ الحرب العالمية الثانية -وذلك في شهر سبتمبر سنة 1941 م حين كان الرجالُ في الحربَ، قام الصرب -الذين يُكِنُّون للمسلمين حِقدًا وغِلاًّ شديديْن- بَجمع حوالَي تسعةِ آلافِ مسلم ومسلمةٍ من النساء والأطفال والشيوخ من بعضِ المدن، ثم حَشَدوهم في سهل "فوجا"، وأطلقوا عليهم النار، فقتلوهم جميعًا، ثم الْقَوْا بهم في نهر "درينا"، ثم كَرَّروا المذبَحةَ مرَّةً أخرى في شهر ديسمبر مع ما يَقرُب من (30 ألف) مسلم آخَرين، حيث كانت درجة الحرارة عِشرين تحتَ الصِّفر، ومارسوا معهم أشدَّ أنواع العنف، حيث كانوا يَفتِكون بالأطفال، ويَبقُرُون بطونَ النساء، ثم يلقُونهم في النهرِ الذي تحوَّل إلى مقبرةٍ مثلَّجةٍ مغمورةٍ بدم المسلمين الأبرياء. لقد كانت الحربُ العالميةُ الثانية من سنة (1941 م- 1945 م) -والتي راح ضحيَّتَها مئاتُ الآلاف من المسلمين في إبادةٍ جماعيةٍ من سفاحين وقَتَلَةٍ من تشتنيك الصرب واستاش "منظمة فاشية كرواتيه ينظمها اليهودُ"- من أخطرِ المراحل للمسلمين في يوغسلافيا. وعلى سبيل المثال نَظَّم الجنرالُ الصربيُّ "ميخائيلوفتش" في (20/ 12/ 1941 م)، عملياتِ قمع وإبادةٍ رسميةً بأمر رسميٍّ منه برقم (370)، وذلك غدرًا بالمسلمين، حيث أَمَر عصابته بذَبح المسلمين عن بَكْرةِ أبيهم، وخلالَ بضعةِ أيام ذُبح من المسلمين (أ150لف شهيد) -منهم الأطفال والنساء والشيوخ والشباب-، ومَن لم يَمُتْ ذبْحًا مات غَرَقًا أو تحتَ الأنقاض أو حَرْقًا.

هذا أول قربان في هذا العيد

° وتكوَّنت منظمةٌ عالمية للتنصير في أوربا، وقال رئيس المنظمة آنَذَاك -ويُدْعى "جورج"-: "ينبغي محاربةُ الإسلامِ في نفوسِ المسلمين المقيمين في أوربا". ° وقال أيضًا: "إنَّ الملايينَ العشرةَ من المسلمين المقيمين في أوربا هدية بَعَثها اللهُ لنا". وخَرجت وسائلُ الأعلام توعِزُ لمن تبقَّى من المسلمين بعدَ هذه المجازر باعتناقِ المسيحيةِ حرصًا على سلامتهم (¬1). ° لقد مارس الصربُ والكرواتُ الشيوعيون والصليبيون مع المسلمين كلَّ ما تفتَّق عنه الذهنُ الشيطاني للتنكيل بهم. * هذا أول قربان في هذا العيد: لما دخلت الكتائبُ الصليبيةُ مدينةَ "فوتشا بوم" يومَ عيدِ الأضحى سنة (1942 م)، أخذ أميرُ الكتائبِ مفتي المدينة، وثَبَّت سنابكَ الخيل على رِجْلَيِ المفتي بالمسامير، ثم رَكِبَ ظَهرَه إلى المسجد حيث ذَبح المفتي على عتبةِ المسجد قائلاً: "هذا أولُ قربانِ في هذا العيد" (¬2). * مذابحُ على نهر "درينا"، وتجميدُ الكاتبِ الشيوعي "إِيفوندريس" صاحبِ جائزة "نوبل" عدوّ الله ورسوله لها: قتل الصِّربُ على جسور نهر "درينا" في يومِ عيد الأضحى سنة (1942 م) حوالَي (22 ألف) مسلم، كما قتلوا إبَّانَ الحربِ العالميةِ الثانيةِ ما ¬

_ (¬1) "جمهورية البوسنة والهرسك" (ص 32 - 34). (¬2) "جمهورية البوسنة والهرسك والحقد الصليبي الصهيوني على المسلمين" (ص 57).

يَزيدُ على (240 ألف) مسلم في نفس المنطقة .. ووراءَ هذه المجازر الأصابعُ اليهودية" (¬1). فقد كتب أحدُ كُتَّابِ اليهود -وهو الكاتبُ الشيوعي "إيفوندريس" كتاب "جسر على نهر درينا" وقد طُبع للمرة التاسعةِ حتى سنة 1953 م، وتُرجِم الكتاب إلى لُغاتٍ كثيرة، ونال الجائزةَ اليهوديةَ المسمَّاة "نوبل" ولا عجَب أن يَلقى الكتابُ كلَّ هذه الدعايةِ والرَّوَاج إذا عَلِمنا أنه يتهجم على الإسلام والمسلمين، وخاصةً شعبَ البُشناقِ البطل الذي صَوره الكاتب اليهوديُّ أشنعَ تصوير، ناسبًا لهم وللإسلام الأعمالَ الوحشية، معتمدًا على الأكاذيبِ والخُرافات، وقد سارعت السلطات اليوغسلافيةُ الشيوعيةُ إلى تشجيع الناس على اقتناءِ الكتاب، بل وسَخَّرت صحافاتِها وإذاعاتِها للإطراء على الكاتب الذي حَبَّذَ القتلَ الجماعيَّ، وأشاد بالمذابح التي ذهب ضحيتَها عشراتُ الألوف من البشناق المسلمين، وبارك ذبح المسلمين (¬2). ° يقول الكاتب الدكتور عدنان النحوي: "وفي بداية نوفمبر سنة 1924 م، وقعت أبشعُ جرائم الإبادةِ في قُرى "صاهوبيتش" و "بافينو بوليا" في مقاطعة "بيلوا بوليا"، حيث ذَبح رجالُ الجبل الأسود (600) مسلم في ليلةٍ واحدة، كانت أجسامُ الرجال الأحياءِ تمزَّق، والعيونُ تُخرق، والآذانُ تُقطَع، وأجزاءُ من الجسم تُفصل، والأجهزةُ الداخليةُ -كالمَعِدة وغيرها- تُخرج، وتُرسَمُ علامةُ الصليبِ بالسكاكين على الأجسام (¬3) .. ثُمَّ يَتبعُ ذلك ¬

_ (¬1) "الدعوة"- 20 شوال سنة 1412 هـ. (¬2) "جمهورية البوسنة والهرسك" (ص 73 - 74). (¬3) نفس المصدر (87 - 88).

احتفالاتٌ حيوانيةٌ يقيمها المجرمون (¬1). ومن الوسائل البشعةِ للتعذيب: سَلخُ جِلدِ الوجهِ والرأسِ والظَهرِ للمرأة المسلمة، إشارةَ من الصرب المجرمين إلى انتقامهم من حِجابِ المرأةِ المسلمة .. وكذلك سَلْخُ جِلدِ اليدين إشارةً إلى انتقامهم من وضوءِ المسلم وغَسل يديه عند الوضوء (¬2). وذُبح المسلمون على ضفافِ نهر "درينا"، حتى يُظهِر لهم المجرمون الصربُ أنه لم يَعُدْ لهم جُسورٌ تَربِطُهم بالمستقبل. وكان يُلقَى بالمسلمين أحياءً في آبارٍ طبيعية، وُيضربُ الأطفالُ الضعفاءُ على الصخور، وُيذبَحُ بعضُهم وُيلقى في الأنهار، أو تُلقَى الجُثَثُ دون دفنٍ أشهرًا عديدة. أعدادٌ كثيرة من الناجين لا يُعرف مصيرُهم، قَصَصٌ مُرعبة تقشعر منها الأبدان، وتَشيبُ لهولها النواصي، وترتجفُ القلوبُ وتتجَّمدُ الدماء، وتتكتَّمُ العناصرُ الصربيةُ على هذه الجرائِم، وتُعاقِبُ مَن يحاولُ الإشارةَ إليها، وتُزيلُ آثارَ أماكنها، وعجيب لهم -وهم يَدَّعون انتسابهم لدينٍ- ألاَّ يعلموا أن اللهَ يراهم ويَعلمُ سرهم ونجواهم، وأن الحسابَ الحق عنده والعذابَ الشديدَ للمجرمين يوم القيامة؟!. نَبَشوا قُبورَ المسلمين وأزالوها، وحَرقوا الكُتبَ، ودمَّروا المكتبات، ¬

_ (¬1) "البوسنة والهرسك" لوكالة الأنباء الإسلامية (ص 16)، و"ملحمة البوسنة والهرسك" (78). (¬2) المصدر السابق (ص 22)، و"ملحمة البوسنة والهرسك" (ص 78، 79).

عدو الله ورسوله القسيس الشاعر "نيقوس" وديوانه "انتقام الجبل"

وغيَّروا أسماء الشوارع. * عدوُّ اللهِ ورسولهِ القِسيس الشاعر "نيقوس" وديوانُه "انتقام الجبل": لقد سَجَّل القسيسُ الشاعر "نيقوس" في ديوانه "انتقام الجبل" -أي: الجبل الأسود- الأعمالَ الإجراميةَ التي قام بها الصربُ مُنطلِقين من الجبل الأسود .. هذا القِسيسُ يُسوِّغُ كل جرائم الذبح في المسلمين مثيرًا كل النعراتِ الجاهلية، وأهدى ديوانَه هذا إلى القائدِ الصربيِّ الأعلى لأولِ عُدوانٍ صربيٍّ ضدَّ مُسلِمي البوسنة، وأسوأُ حالاتِ الإبادة لمسلمي البوسنة كما صوَّرها ديوان "انتقام الجبل" وَقعت عشيةَ رأسِ السنةِ الأرثوذكسية .. أيُّ دينٍ هذا؟! أيُّ عِيدٍ هذا؟! أي حضارةٍ هذه؟! وظَلَّت ذكرى ليلةِ رأس السنة الأرثوذكسية يُحييها الصربيون بمذابحَ جديدةٍ في المسلمين كلَّما واتتهمُ الفرصةُ لذلك، وخاصةً خلالَ سِنِي الحربِ العالمية الثانية (1941 م -1945م) (¬1). لم تكن أعمالُ التصفية مقتصرةً على مُسلمي البوسنةِ والهرسك، ولكنها طالت المسلمين في كلِّ أرضِ البَلقان، حيث كانت أيدي النصارى الصربِ تنالُهم، ففي (8/ 1/ 1807 م) دخل المجرمون الصربُ مدينةَ "بلغراد"، وأشعلوا المذابحَ بالمسلمين وغيرهم، وهَدموا المساجدَ والمدارسَ والقبورَ، ولم تَشهَدْ بلغراد ليلةً مِثلَ تلك الليلةِ في تاريخها المليءِ بالمآسي (¬2). ¬

_ (¬1) "البوسنة والهرسك" لوكالة الأنباء الإسلامية (ص 11 - 12). (¬2) "ملحمة البوسنة والهرسك" (ص 77 - 78).

السفاح الكرواتي "تيتو" جزار المسلمين الشيوعي عدو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

* السَّفَاحُ الكُرْوَاتيُّ "تيتو" جَزَّارُ المسلمين الشيوعي عدوُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: في عام (1945) م أصبحت يوغوسلافيا جمهوريةً شيوعيةً تحت قيادة "تيتو"، وهنا بدأ فصلٌ جديدٌ من العنف والإرهاب ضدَّ المسلمين، فقد خَدَع المقاطعاتِ الإسلاميةَ، ومنَّاها بالاستقلال بعد الحرب، وقاتَلَ المسلمين حتى انتصر الحلفاءُ ومعهم "تيتو"، فكانت المكافأةُ أنِ اعترف "تيتو" بالاستقلالِ الذاتي لجمهوريات يوغسلافيا وبقومياتها ما عدا المسلمين في البوسنة والهرسك، واعتَرف بقوميةِ الصِّرب والكروات، وتجاهَلَ قوميةَ البشناق المسلمين .. كان الجميعُ يتمتعُ بحرياتِ شخصيةٍ ما عدا المسلمين الذين كانت تُقام ُلهم المجازرُ بلا سبب، وكان يزجُّ بهم في السجون بتُهَمٍ مُفتَعَلة، ففي سنة (1947 م) حَكم على اثنَيْ عَشَرَ عالِمًا بالسَّجن مُددًا تتراوحُ بين سنتين وخَمْسَ عَشْرةَ سَنةً مع مصادرة أملاكهم. وفي سنة (1949 م) حُوكم بعضُ الشباب المسلم بتهمةِ "محاولة قَلبِ نظام حكم تيتو"، وأُعدم منهم مَن أُعدم، وسجن كثير منهم حيث قاسُوا داخلَ السجون صنوفًا من العذاب، فأُصيب بعضهم بالجنون والبعضُ الآخر بالعَمَى، أو تكسير العظام، وكلُّ ذنبِهم أنهم تنادَوا فيما بينهم بإقامة شعارِ الإسلام وتركِ الإلحاد (¬1). وفي ظل الحكم الشيوعي أُلغي ما كان يُسمَّى بمجلس العلماء المسلمين في كلٍّ من سيراييفو واسكوب والجبل الأسود وبني بازار. ¬

_ (¬1) "محاضرة الطالب اليوغوسلافي" في جامعة أم القرى.

وكان للمسلمين أربعَ عَشْرَةَ مدرسةً ثانويةً، واحدةٌ منها للبنات في سيراييفو سنة (1933 م) ومدرسة شرعية ثانوية، وأكاديمية إسلامية لإعداد المثقفين كلُّها أُلغيت. كان للمسلمين محكمة شرعية في كل مركز يضمُ عددًا من المسلمين يتجاوز الخمسةَ آلاف، وكانت صِلتهم بالأزهر الشريف والعالم الإسلامي قويةً، ولكنْ في عهدِ الحُكم الشيوعي أُلغيت المحاكمُ الشرعيةُ، ومُنع تحكيم الشرع الحنيف في مسائل الأحوال الشخصية والمواريث. وصُودرت المجلات والصحف الإسلامية. ومن القوانين التعسُّفية التي أصدرتها الشيوعية: قانونُ إجبار المسلمات على السفور، وتشجيعُ الفتياتِ المسلمات على الفساد والانحلال (¬1)، وصدورُ قانونِ إرغام المسلمين -سواءٌ في الجيش أو منازلِ الطلبةِ وكتائبِ العمل- على أكل لحم الخنزير وشَحمِه، وصدورُ أوامرَ بهدمِ المساجدِ أو استخدامِها كمخازنَ للغلال أو لأغراض ٍأخرى، ولا بد من الإشارةِ إلى وسائل التعذيبِ التي استخدمها الشيوعيون ضدَّ المسلمين الذين أوقعهم سُوءُ حظَّهم تحتَ الحُكم الشيوعيَّ الباغي (¬2). وتجدُرُ الإشارةُ إلى أن هذه الوسائلَ الوحشيةَ هي مِن وَحيِ التوراة والتِّلمود، وهي من صُنع اليهود، وتدلُّ على أن أصابعَ الصهيونيةِ الخفيَّةِ وراءها. ¬

_ (¬1) نشرة من هيئة الإغاثة العالمية. (¬2) "الأفعى اليهودية في معاقل الإسلام" عبد الله التل (ص 122 - 123).

نُهبت أموالُ المسلمين وأراضيهم، وسَلِمت للنصارى الأرثوذكس، ثم بدأت أعمالٌ تَهدِفُ إلى إفقارِ المسلمين، وإجبارِهم على اعتناقِ المسيحية، أو الرحيل عن البلاد (¬1). لقد هاجر قُرابةُ ستةِ ملايين مسلم بعد الحربِ العالمية الثانية من يوغوسلافيا فرارًا بدينهم (¬2). أُعدَّ برنامجٌ لإرغام المسلمين على الإلحادِ بالقوةِ والقهر، ومَن يَرفُضُ الارتدادَ عن دينه يُقتل. كما أُلغيت المدارسُ الخاصة بالمسلمين، والتي كانت تُنفِقُ عليها الأوقافُ الإسلاميةُ، والمدارسُ الثانويةُ التي يُعنى فيها بتدريسِ العلوم الدينية عنايةً كاملة، وأُلغيت الكتاتيبُ، وكان عددُها قبل الشيوعية (897) تضمُّ (43) ألف طفل و (946) معلمًا سنة 1935 م. وهذه نصُّ المذكِّرة التي رَفعها رئيسُ جماعةِ "الكفاح لتحرير الشعوب الإسلامية" إلى الأمم المتحدة: ° "نتشرَّف بَرفع هذه الشكوى إلى هيئتكم الموقَّرة، باسم الشعوب الإسلامية التي تَرسُفُ في أغلالِ الذُّل والعبوديةِ تحتَ وطأةِ الحُكم الشيوعي الذي امتدَّ سلطانُه حتى شَمِلَ البلادَ الواقعةَ بين شِبهِ جزيرةِ البَلْقان والمحيط الهادي. ¬

_ (¬1) "محنة الإسلام في يوغوسلافيا" -نشرة رقم 17 - بيروت سنة 1962 م (ص 14). (¬2) شريط كاسيت -محاضرة للشيخ "سلمان العودة" عن أوضاع المسلمين في البوسنة والهرسك.

ويُقيمُ على هذه الرُّقعةِ اكثرُ من مئةِ مليون من المسلمين في أحوالٍ وظروفٍ تفوقُ في فظاعتها وقسوتِها أظلَمَ عصورِ التاريخ الغابرة (¬1). حتى إن الأجيالَ المُقبلةَ ستستحي وتخجلُ من مدنيَّتِنا الحديثةِ المعاصِرة، ومِن نُظُمِنا السياسية والخُلقيةِ والفلسفية جميعًا، عندما نذكر هذه الظروفَ القاسيةَ التي يَعيشُ فيها مئةُ مليون من بني الإنسان، دون أن تتحركَ الهيئاتُ العالميةُ لنجدتهم .. تلك الهيئاتُ التي أُسَّست لحمايةِ الكرامة الإنسانية، ولضمانِ أبسطِ الحرياتِ التي نؤمن وتؤمنون معنا بوجوبِ توفُّرِها للناس أجمعين من غيرِ نظرٍ إلى دينهم أو جِنسِهم أو لَونِهم أو لُغتِهم، فإن هناك قاسِمًا مشتركًا بين بني البشر جميعًا -وهو الإنسانية-، إننا نجأرُ بالشكوى لدى هيئتِكم الموقَّرة ضدَّ نظامِ الحكم المفروضِ بقوةِ السلاح على هؤلاء الناس، وهو نوعٌ من الحكمِ يَسعى إلى هدم كلِّ ما بَنَتْه يدُ الإنسان منذ آلافِ السنين، ويحاولُ أن يدوس بأقدامِه كل ما قَدَّسَتْه الإنسانيةُ منذ القِدم ليخلقَ عالمًا جديدًا خاليًا من الاعتقادِ بالله، لا عبادةَ فيه إلا للقوة الغاشمة والمادة الفانية. إن أكثرَ من مئةِ مليون من المسلمين مُهدَّدٌ كِيانُهم في بلادٍ كانت يومًا ما مركزًا للحضارة الإسلامية -بل الحضارة العالمية جمعاء-". وهذه أمثلةٌ لاضطهادِ المسلمين الذين دأبت الشيوعيةُ على مَحوِ معالِم دينِهم ومدنيتِهم. ¬

_ (¬1) "الأفعى اليهودية في معاقل الإسلام" عبد الله التل (ص 226 - 227).

أباد الشيوعيون في يوغوسلافيا بعدَ الحرب العالمية الثانية مباشرةً (24) ألف مسلم - (15) ألف من مقاطعة طوزلا، (3) آلاف من مدينة سراييفو، (6) آلاف من ماكدونيا وكوسوفا-، أَتَوا بهم إلى مدينة "دويرونيك" ثم أبادوهم. هَدُم المساجد، وتحويلُها إلى دُورٍ للهوِ، واستخدامُها في أغراضٍ أُخرى، وإقفالُ المدارسِ الدينية، فقد هَدَموا في مدينة "زَغْرب" في يوغوسلافيا جامعًا عظيمًا، وأغلقوا في مدينة "سراييفو" الأكاديميةَ الإسلاميةَ العليا للشريعة الإسلامية وجميعَ المدارس الدينية باستثناء واحدةٍ فقط أبقَوا عليها للدعاية (¬1). قَتلُ رجالِ الدين، أو نَفيُهم، أو الحكمُ عليهم بالأشغال الشاقة، أو مَنعُهم من الحقوقِ السياسية، بل الحقوقِ الإنسانية، وإيجادُ أيةِ عقبةٍ أخرى تحولُ بينهم وبين مزاولتهم لمهنتهم، ففي يوغوسلافيا قَتلوا مُفتي كرواتيا فضيلة الشيخ "عصمت منقتيشي" والعالِمَ الفاضلَ الشيخَ "مصطفى حبيتش"، وحكموا بالأشغالِ الشاقة مُدَدًا مختلفة على (12) عالِمًا دينيًّا بعد محاكمةٍ صوريةٍ في مدينة "سراييفو"، منهم فضيلة الشيخ "قاسم دوراجا" شيخ علماء البوسنة والهرسك، وفضيلة الشيخ "عبد الله دروبسيوفتش" وكلاهما من علماء الأزهر. قَتلُ الزعماءِ السياسيين أو نفيُهم .. من أمثال ذلك في يوغوسلافيا: ¬

_ (¬1) "الأفعى اليهودية في معاقل الإسلام" عبد الله التل (ص 230).

حَكمت محكمةُ "اسكوب" في "ماكدونيا" سنة 1947 م على سبعةَ عَشَرَ زعيمًا ألبانيًّا من الألبانيين المقيمين في يوغوسلافيا، وفي نفس السنة حَكمت محكمة "بريثينا" على 37 من الأعيان ثلاثة منهم بالإعدام، والباقي بالأشغال الشاقة. وفي سنة 1949 م -أي بعد إنفصال يوغوسلافيا من دول الكومنيفورم- حَكمت محكمةُ سراييفو على 13 زعيمًا من المنتمين إلى جمعية الشبَّان المسلمين المُنحلَّةِ أربعةٌ منهم بالإعدام، والباقي بالأشغال الشاقة. - مَنعُ المسلمين من التمتع بالنُّظُم الإسلامية في دائرة الأحوال الشخصية، فقد أُلغيت المحاكمُ الشرعيةُ في كل أنحاءِ البلاد التي تحكمُها الشيوعية، وفي يوغوسلافيا نَشرت جريدة "نوفودوب" الصادرة في سراييفو -بتاريخ 13 مارس سنة 1946 م- قانونًا بإلغاءِ المحاكم الشرعية في جميع أنحاءِ يوغوسلافيا، ومعنى ذلك خروجُ الأسرةِ الإسلامية من دائرة توجيه الشريعة الإسلامية إلى دائرةِ القوانين الشيوعية التي تُنادي بالإباحيةِ التامة، وانحلالُ روابط الأسرة. - هذا إلى جانب نَهبِ البلادِ الإسلامية، ونَقل ثرواتها إلى مقاطعاتٍ أخرى وتمزيقِ أوصالِ كلِّ بلدٍ إسلامي، وخَلْقِ قومياتٍ مستقلَّةٍ على أساسِ اللهجاتِ بقصدِ تشتيتِ المسلمين، وخَلقِ منازعاتٍ مصطَنعةٍ بينهم. - ثم نذكرُ أن الشيوعيين يقومون بشتَّى أنواع الدعاية اللادينية دون أن يَسمحوا بالدعايةِ الدينية. - مِن أمثال ذلك قيامُ الشبيبةِ الشيوعيةِ وجماعةِ الملحدين الروادِ

وا إسلاماه .. وا إسلاماه .. وا إسلاماه

بمظاهراتٍ لا دينيةِ صاخبةٍ في مواسم الأعياد الإسلامية، وُيهينون كل ما يُقدِّسُه المسلمون. بِناءً على ما سبق، نتشرفُ برفع هذه الشكوى إلى هيئتكم الموقَّرة رجاءَ بحثها، واتخاذِ قرارٍ فيها يردُّ لمئةِ مليون مسلم حقوقَهم الطبيعيةَ والإنسانية، وَيرفعُ عنهم هذه المظالِمَ البشعةَ ليتمكَّنوا من الاشتراك مع غيرهم من بني الإنسان مِن بِناءِ عالَمٍ أفضلَ يسودُه العدلُ والحريةُ والمساواة، ويكونُ أساسُه تمتُّعَ كلِّ شعبٍ بحقِّ تقريرِ مصيره. هذا وتقبَّلوا فائقَ الاحترام. القاهرة يناير سنة 1965 م. محمد عبد اللطيف دراز (¬1). * وا إِسلاماه .. وا إِسلاماه .. وا إِسلاماه: مذابحُ المسلمين في البوسنة والهرسك سنة 1992: أعلن الصربُ ضَمَّهم البوسنةَ والهرسكَ وعاصمتَها سراييفو إلى يوغوسلافيا الجديدة، وكان ذلك في منتصفِ مارس سنة 1992 م، وتفجَّر الموقفُ في البوسنة والهرسك في 5 رمضان 1412هـ (9 مارس سنة 1992 م) عندما أعلن راديو كرواتيا عن معارك يَشُنها الصِّربُ في جمهورية البوسنة والهرسك، وازداد القتالُ ضراوةً عندما دَخل الصِّرْبُ بالمدرَّعات والدباباتِ بَلدةَ "بوسانسكي برود"، فأخلى الجيشُ الصربيُّ المدينةَ من كلِّ ¬

_ (¬1) "جمهورية البوسنة والهرسك" (34 - 40).

سكَّانها، وأحرق 80% من مبانيها، وفي 18 رمضان 1412 هـ (22 آذار 1992 م) بدأ قصف مدينةِ سراييفو. وامتدَّ الاعتداءُ واتَّسع على المسلمين، وازداد وَحْشيَّةً وضراوةً وجنونًا، وما أتى يوم 21 رمضان (25 مارس) حتى عمَّ القتال جميعَ مدنِ البوسنة والهرسك، وتشرَّد أكثر من سبعين ألفَ مسلمٍ بعد أن هدِّمتِ منازلهم ونَجَوا بأرواحهم. وأرسل رئيس جمهورية البوسنة مئةَ رسالة إلى زعماءِ العالَم الإسلاميِّ والدولِ الأخرى، فلم يتلق إلاَّ ثلاثَ رسائل (¬1). ووَجَد الصربُ الدعمَ العلنيَّ الكاملَ من الجيشِ اليوغوسلافيِّ الاتحاديِّ الذي كان أقربَ ما يكون لجيشٍ صِرْبي .. وبدأت المذابح الوحشية للأطفالِ والوجالِ العُزل المدنيين، وشَهدت عدة مُدنٍ عدةَ مذابحً رهيبةٍ في شهر شوَّال، كان من أشدِّها ما تَمَ في مدينة "بيلينيا". وفي 25 شوال 9492 هـ (7 إبريل 9992 م) أعلنت النمسا والولاياتُ المتحدة الأمريكية لمجموعة الأوربية اعترافَها يجمهورية "البوسنة والهرسك"، وازداد عدد الدولِ المعترِفة، حتى بلغ في منتصفِ إبريل 27 دولة .. ولم يُبالِ الصرب بكل هذا، لم يبالوا بفَزَع الطفل الذي يذبحونه والشيخ الذي يقطعونه، ومضوْا في جريمتهم تزداد كلَ يوم وحشية. واشترك في الجريمة جميع أنواع الأسلحة التي تملِكها الصِّربة أو ¬

_ (¬1) "كتاب البوسنة والهرسك" (ص31) لوكالة الأنباء الإسلامية- إيتا.

الجيشُ الاتحاديُّ، من دبَّاباتٍ وطائرات وقاذفاتٍ وأسلحةٍ خفيفةٍ وثقيلةٍ، حتى الخناجر والمُدَى الكبيرة والصغيرةُ اشتركت في صنع الجريمة، وحتى الفؤوس ومختلفُ وسائل التعذيب. بلغ عددُ القتلى في البوسنة، والهرسيك -حَسْبَ تصريح وزير خارجيتها في مؤتمر وزراء خارجيَّةِ الدولِ الإسلامية في "جدَّة"، في 9 جمادى الآخرة 1413 هـ، 3 ديسمبر 1992 م -: مئةً وعشرين ألفَ قتيل تقريبًا. كانت عمليات الذبح بالمُدَى واسعةَ الانتشار، يقيد الشابُّ الأَعزل، ويلْقى أرضًا، ثم يذبح، ثم يلقى في نهر أَو في أَكوام، أو يمَثَّل بالجثةِ تمثيلاً قَذِرًا نستحي من وصفه، أو يقَطَّعُ إربًا إربًا. كانت عملياتُ الذبْح والتمثيل تَشمل الشبابَ والشيوخَ والأَطفالَ والنساء، والصور التي توزعها وكالات الأَنباء تقشعرُّ منها الأبدان. كان الاعتداء على النساءِ واغتصابهنَّ يُمثِّلُ عمليةً مخططًا لها، تتبنَّاها قيادةُ الصربِ النصرانيةِ وجنودُها، وتَنزلُ التعليماتُ الرسمية المشددةُ بها .. والأَعجب أن رجال الدين الأرثوذكس كانوا هم أَنفسُهم يُحرضون الجنودَ على اغتصاب المسلمات (¬1). ° ونَشرت الصحفُ الأَجنبيةُ قَصصًا مُفزِعةً عن هَولِ هذه الجرائم، ¬

_ (¬1) "البوسنة والهرسك- القضية والمأساة" عبد العزيز المهنا. (ص 69)، والكتاب يَروي مآسيَ كثيرةً في صفحاتٍ متعددة، وكذلك كتاب "وكالة الأنباء الإسلامية"، وكتاب رضا العراقي، وكتاب الصراع في يوغوسلافيا ومستقبل المسلمين لعبد الله عاصم إسمايتش.

الهجرة الواسعة التي تهدف إلى تفريغ الأرض من سكانها المسلمين بعمليات الإبادة الوحشية أو التهجير

وتقول إحدى الصبايا التي اعتُدي عليها مخاطبة العالم الإسلامي: "إن عَجَزتم عن مَدِّنا بالسلاح للدفاع عن شَرَفِنا وديننا، فأمِدُّونا بحبوب مَنع الحمل حتى لا تتعاظم المصيبة". امتدَّ الاعتداءُ على المساجدِ التاريخيةِ ودُورِ العلم وتهديمُها وقَتلُ من فيها، وكم قَتلوا من أَئمةٍ فيها، ثم يُعلقون جُثَثَهم على المنابرِ أَو الشجرِ، أو يُمثِّلون بهم بصورةٍ يتفجَّرُ الحقد منها. الهجرةُ الواسعةُ التي تَهدفُ إِلى تفريغ الأَرض من سكانها المسلمين بعمليات الإِبادة الوحشيَّة أَو التهجير: كان أَهلُ البوسنة يُضطرُّون بالقوةِ والتهديدِ إلى تركِ منازلهم وأَثَاثهم وثرواتهم، وربما كان يأخذُ رجالُ الصرب النصارى توقيعَهم على التخلِّي عن ذلك كلِّه مقابلَ خروجِهم أَحياءً. لقد امتد اللجوءُ إلى دول أوروبا، حيث تتلقَّف المؤسساتُ النصرانيةُ الأَعدادَ الهائلةَ لتحولهم إلى النصرانية تحت ضغطِ الحاجة أو تحتَ تأثيرِ الإغراء، ولقد كان العددُ الأَكبرُ من اللاجئين من الأطفال، وربما تجاوزت نسبتهم 60% من مجموع اللاجئين، إنهم الأطفالُ الذين فَقدوا آباءهم، أو نُزِعُوا منهم حتى يبقى الآباءُ في ميدانِ القتال، ونسبةٌ أُخرى عاليةٌ كانت من النساءِ الصبايا أو الأَيامى والثكالى، ممن نَجَيْنَ بأَرواحِهن أو بشرفهن أَو تَرَكْنَ أَزواجَهن وأَبناءَهن في ساحات القتال. لقد مُزِّقت العائلاتُ المسلمةُ بين قتلى ومقاتلين ولاجئين، افتَرق الابنُ

عن أبيه والزوجةُ عن زوجها في متاهةٍ مُظلِمةٍ تَلفُّها الأعاصير، وربما تجاوزَ عددُ الذين أُرغموا على تركِ منازلهم 1.5 مليون (¬1). وحاصر الصربُ عددًا من المُدن كان من أهمها "سراييفو"، وعَطَّلوا الكهرباءَ والمياهَ ومصادرَ الحياة لينشروا الموتَ والهلاكَ فيها. كل هذا يتم على مَسمَع ومرأَى العالَم المتحضرِ الذي يتحدثُ في مؤسساته عن حقوقِ الإنسان، هذه المؤسساتُ المتحضرةُ التي تغضبُ وتَشغلُ العالَمَ بسبب خطفِ رجلٍ أو بِضعةِ رجال، إنها تَغضبُ وتَعتبرُ هذا إخلالاً بحقوقِ الإنسان، وتعتبرُ إسقاطَ طائرةٍ هنا جريمةً كبيرةَ وإسقاطَها هناك مسألةً بسيطةً .. قضيةُ رجل أَو طائرةٍ تستدعي الحصارَ والحربَ والويلَ والثبور، وقضيَّةُ شعبٍ كاملٍ يبادُ لا يستدعي التدخلَ العسكريَّ، ولا الغضبةَ الإنسانيةَ، ولا تَحَرُّك لِجانِ حقوقِ الإنسان: قَتلُ امريءٍ في غابة ... جَريمةٌ لا تُغْتَفَرْ وقتلُ شَعبٍ آمِنٍ ... مَسْألةٌ فيها نَظَرْ عالَم كأنَّما تموجُ به الوحوشُ الضواري والأفاعي والذئابُ والثعالبُ، ويَطْلُعُ هؤلاء بمبادئَ برَّاقةٍ كل يوم: حقوق الإنسان، النظام العالَمي الجديد، الديمقراطية، الحرية، حرية الأديان. في بلاد المسلمين يجبُ إعطاءُ المسيحي حُريةَ دينهِ وإقامةَ كنائسَ ولو لم يكن من أهل البلاد، إذا مَنعتَ ذلك فهذه جريمةٌ كبيرةٌ واعتداءٌ على حقوق الإنسان وحرية العبادة، وأنت لا تمنعُه عادةً إلا بصورةٍ قانونيةٍ، أو ¬

_ (¬1) "وكالة الأنباء الإسلامية- اينا- البوسنة والهرسك" (ص 50).

عدو الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - السفاح والجزار البربري رئيس الصرب الصليبي سلوبودان ميلو سيفيتش

لأنهم مفسدون في الأرض، أما في البوسنة والهرسك، فتُهدمُ المساجد وتُحرق ويقتل المصلّون والأئمة والعلماء، ويعلَّقون على الأشجارِ والأعمد، أو يُقَطَّعون ويُمثَّلُ بأجسادهم، وتُغتصبُ النساء، ويَزيدُ عددُ القتلى على (130) ألف قتيل، وتُمزَّقُ العائلات، ويُقطَّعُ الأطفال، ويُحرَّك رجالُ الكنيسة كل هذ الجرائم والعالَمُ أعمى أصمّ أبكمُ، والخائنُ العميلُ الصليبي "بُطرس غالي" أمين عام الأممِ المتحدة، عدوُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصرَّح في 24/ 10/ 1412 هـ: "إن توسيع عمليَّاتِ حفظِ السلام ونَشرِ قوَّات الأمم المتحدة في البوسنة والهرسك ليس أمرًا عمليًّا" (¬1) .. ثم يطلب توسيع ذلك في موزامبيق!!!. * عدو الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - السَّفاحُ والجزَّارُ البربريُّ رئيسُ الصربِ الصليبي سلوبودان ميلو سيفيتش فَعَل هذا الوغدُ بالمسلمين أقذَرَ وأنكى ما فعل صليبيٌّ في هذا القرن، هذا الكافرُ الفظ غليظُ القلب الذى لا يُحرِّكه بكاءُ يتيم، ولا تَقَضُّه استغاثة أرملة أو بَقْرُ بطنِ حاملٍ أو اغتصابُ الفتيات حتى بعد موتهن، الذي لا يبالي بأنين الشيخ .. يُشبَّههُ بعضُ السياسيين بهتلر. لقد وُلد هذا الحاكمُ عام سنة 1930 م في بلجرد العاصمة، ولم يُكمِلْ تعليمه الجامعي، وانخرط في قواتِ الأنصار أثناءَ الحربِ العالمية الثانية، وتدرج داخل صفوفِ الحزب الشيوعي حتى صار عضوًا في اللجنةِ المركزية بفرع الحزب في صربيا أواخِرَ السبعينات، ثم صار عضوًا في برلمان صربيا ثم ¬

_ (¬1) "البوسنة والهرسك" لوكالة الأنباء الإسلامية (ص39).

في مجلس رئاستها، وفي عام 1987 م تولَّى "سلوبدان" قيادةَ رابطةِ الشيوعيين في صربيا، إلى أن قَفَزَ إلى الرئاسةِ الأولى عام 1988 م (¬1). ° يقول السياسيون: "إنه "الميكافيلي" الذي لا يَعرفُ معنى الحقيقة، أو في أحسن الأحوالِ القيصرُ الصغيرُ، حيث استطاع أن يوظِّف مَلَكاتِه الشخصيةَ كخطيبٍ حماسيٍّ مُفوَّهٍ لِشَحذِ هِمَم الناس، ولَعِب في ذلك على وَتَرَينِ حسَّاسين لدى الصِّرب: أولاً: الوتر القومي. ثانيًا: الوتر الديني. كان هذا الكافرُ يخرجُ على الناسِ مرتديًا مُسوحَ الأرثوذكسي المتديِّن، ويُخاطبُهم بآياتٍ من الكتاب المقدَّس، ويذكِّرُهم بما تعرض له الأرثوذكسيون الصربيون على يدِ الأتراكِ والكاثوليك، ومرةً أخرى تكونُ "كوسوفو" هي الضحية، فيخاطِبُ الناس مشيرًا إلى موقعة كوسوفو التي هُزم فيها أجدادُه أمامَ الأتراك، ويُقيم احتفالاتٍ ضخمةً في كوسوفو نفسها، ويطالِبُ بتطهيرها من المسلمين الذين استوطنوها -حسب زعمه- منذ هزيمةِ أجداده، وبدأت حملاتُ العنفِ والمجازِرِ تُقامُ للشعب الألباني، وحاول كَسْبَ أوربا إلى صفه بأنِ ادَّعى أن حَمْلتَه العدوانيةَ على ألبان كوسوفو إنما يحمي بها البوابةَ الجنوبيةَ الغربيةَ من خطر الأصولية الإسلامية!!. وسعى "سلوبودان ميلوسيفيتش" دكتاتور الصرب إلى أيِّ سلوكٍ من شأنه أن يَبعثَ الحقدَ الأسودَ في نفوس النصارى ليُحفِّزَهم على الانتقام من المسلمين، فمِن أعجبِ الأمور أن يُخرجَ حاكمُ الصربِ تابوتَ الأمير ¬

_ (¬1) "الشرق الأوسط" -العدد (4956) - الثلاثاء 23/ 6/ 1992 م (ص 6) مقال أسعد طه.

وهذي نماذج مما فعل هذا الخنزير بالمسلمين

"لازار" آخرِ حُكَامِ دولةِ الصَّربِ من قبرهِ، ويَطوفَ به في جميع المناطقِ التي يُقيمُ فيها شعبُ الصرب في يوغوسلافيا، لقد مر 600 سنة على زوال عرشِ الأمير" لازار" الذي انهزم سنة 1389 م أمامَ الفتوح العثمانيةِ، وسَقَط حكمُ الصربِ الذي كان يتولاه "لازار"، ولهذا سَلك حاكمُ الصربِ ذلك السلوكَ الاستفزازيَّ ليُذكَّرَ الصربَ بذُلِّ الهزيمة وضرورةِ إعادةِ مجدِ الدولةِ الصربيةِ، وقد رافقت هذا الطوافَ هتافاتٌ بوجوبِ الانتقام من المسلمين، وطَرْدِ ما يُطلقون عليهم "العثمانيين". * وهذي نماذجُ مما فَعَل هذا الخنزير بالمسلمين: المذبحة الكبرى في مدينة "مبيلينا": تقعُ مدينة "مبيلينا" على بعد (250) كيلو متر من العاصمة سيراييفو "يُشكِّلُ الصربُ 60% من السكان، والمسلمون 40%"، اقتحمت المليشياتُ الصربيةُ المسلحةُ بقيادةِ "الكوماندانت أركان" -الذي يدَّعي أن الجيشَ يَخضعُ لسلطته-، اقتحمت الحواجزَ التي أقامها المسلمون للدفاع عن أنفسهم، واستولت على وسط المدينة، وفي أيام عيدِ الفطرِ الثلاثِ ارتكب الصربُ أشنعَ مجزرةٍ عَرَفها التاريخ، وهاجم الصربُ بيوتَ المسلمين العُزَّل، وقتلوا (150) شخصًا أكثرُهم من الأطفالِ والنساءِ والشيوخ، ودخلوا القرى المحيطة بالمدينة، وفَعلوا مِثلَ ذلك، ونَهَبوا الأموال، واعتدَوا على الحرائر أمامَ ذويهم، وبَقَروا بطونَ الحوامل، وأخرجوا الأَجِنَّة، وألقَوا بها في الشوارع، وحَرَقوا المنازل بمَن فيها من الأبرياء، ومَنعوا الناسَ مِن نَقل جَرحاهم إلى المستشفات، كما أمَرُوا المستشفياتِ أن لا تقبلَ جَرحى

المجازر اليومية في العاصمة سيراييفو

المسلمين، وتُركت الجثثُ تملاُ الشوارعَ عدَّةَ أيام (¬1). ° المجازرُ اليوميةُ في العاصمة سيراييفو: حاصَرَ الجيشُ الاتحاديُّ عاصمةَ المسلمين سيراييفو، وغَدَتِ المجازرُ تُرتكبُ فيها يوميًّا، والمدينةُ هدفٌ لقَصفِ الطائرات والدبابات. - شَكَّل الصربُ منظَّماتٍ إرهابيةً من القَنَّاصةِ تدرَّبوا على أيدي اليهود، فاعَتَلوا أسطُحَ المنازل، وكانوا يَصطادون المسلمين بأسلحتِهم ورشاشاتهم، وذَهب ضحيةَ هذه الأعمالِ الإرهابيةِ أعدادٌ كبيرةٌ من المسلمين. ° في مدينة "زخورنيك": دخل الجيشُ الاتحاديُّ، واحتجز ثلاثةَ آلاف مسلم مِن بينهم نساءٌ وأطفال، وجَعلوهم رهائنَ مهددةً بالقتل بعدَ أن أملَوا شروطَهم على المسلمين. - أذاع راديو "زغرب" أن المليشياتِ الصربيةَ دخلت معاركَ ضدَّ المسلمين. - ترددت أنباءُ بوقوع اشتباكاتٍ ضدَّ المُدنِ الآتية: "بوسكانسكي برود" شمال البوسنة، "فوتشا" جنوب شرق العاصمة، و"موستار". استولى الجيشُ الاتحاديُّ على "زخورنيك" وبها 60% من السكان من المسلمين وعددُهم عشَرةُ آلافِ مسلم. ¬

_ (¬1) تقرير من رابطة العالم الإسلامي/ هيئة الإغاثة الإسلامية في 16/ 10/ 1412 هـ- 19/ 4 / 1992 م.

ما أشبه اليوم بالبارحة!!

- صرَّحت هيئةُ الإذاعةِ البريطانيةِ في تقرير لها عن "سراييفو" أن الآلاف من أهالي البوسنةِ والهِرسك يَفِرُّون من القتالِ الضاري الذي تَشهَدُه الجمهوريةُ، وأن الفارِّين لا يعرفون إلى أين يتَّجِهون بعدَ أن تَدخَّل الجيشُ الاتحادى إلى جانبِ الصربِ في قتالهم، فأصبحوا محاصَرين من كل جانب. * ما أشبَهَ اليومَ بالبارحة!!: ومثلما فَعَلت الكتائبُ الصربيةُ في عيد الأضحى سنة 1942 م في مدينة "فوتشا يوم" وذبحوا مُفتي المسلمين على عتبة المسجد، جاء دَورُ أبنائِهم ليقتفوا آثارَ آبائِهم حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّة، وها هم يُعاوِدون الكَرَّةَ بعد أن أعدُّوا العُدَّةَ منذ 40 سنة لِمعركةٍ تاريخيةٍ مقدسةٍ مع المسلمين -كما يسمونها-، ففي مدينة "بيلينا" شمالَ شرق البوسنة نجا فقط ثلاثة من أعضاءِ المجلسِ التنفيذيِّ للحزب الإِسلامي ( SDA) ، وأما الآخَرون فقد ذُبحوا، ورُسمت على جُثثهم صلبانٌ صِربيةٌ أرثوذوكسيةٌ بالسكاكين، وقد وقعت المذبحةُ إثرَ هجوم القواتِ الصِّربيةِ المكوَّنةِ من المرتزَقة المجرِمين المدربين على أيدي الإسرائيليين، وسَبق الهجومَ قصفٌ عنيفٌ بالمدافع وبالتنسيق مع الجيشِ الاتحادي بعدَ آخِرِ صلاةِ التراويح في رمضان من السنة الجارية 1412 هـ، وعَقِبَ خروج المُصلِّين من المسجد أَخذت القُواتُ الصربيةُ اثنين مِن المصلِّين، وذَبَحَتْهما على باب المسجد، ثم أطلقتِ النارَ على الآخرين، عندئذٍ هُرع المصلُّون إلى داخل المسجد، فألقى الصربُ القنابلَ في داخلِه، ثم قَضَوا الحاجةَ على جثثِ القتلى المسلمين!!.

ويبدو أن الذي يُخطِّطُ لهم أحدُ شياطين بني إسرائيل، فقد نَقل تلفزيون بلغراد هذا المشهدَ المروِّع، وبَثَّه في نشرةِ الأخبار بعد أن عَرَض القتلى في الكنيسة بدلاً من المسجد المُهدَّم، وعَلَّق على الصورة بأن المسلمين المدعومين من الخارج هكذا يُعامِلون أفرادَ الشعبِ الصربي في البوسنة والهرسك!! وأنَّ هذا هو مصيرُ ما يَزيدُ على مليونَ صربي، ولمنع هذه المجزرة ناشَدَ جميعَ شبابِ الصِّربِ سرعةَ الالتحاقِ بمراكزِ المتطوعين لإنقاذِ الصرب الأبرياء!!. وفي إثرِ هذه المذبحة هاجَرَ ما يَزيدُ عن 40 ألفًا من المدينة فرارًا بدينهم وعِرضهم، ثم بدأ قصفُ ثلاثِ مدن حدوديةٍ أخرى هي: زرونيك وفيتشغراد وفوتشا ذات الأغلبية المسلمة، وذلك مع القصف المستمرِّ على سيراييفو، والتركيزِ على الأحياءِ القديمةِ ذاتِ الآثارِ العثمانية الإسلامية. وفي مدينة "زرونيك" وحدها أَسَرَ الصربُ المرتزقةُ ثلاثةَ آلافِ مسلم كما أحرقوا نِصفَ مدينة "فوتشا"، وفي جميع هذه المُدن اغتَصب الصربُ كثيرًا من النساء المسلمات، وكانوا يُجبرون الرجالَ على خَلع الملابس، فمَن وجوده مختوناً [أي: مسلمًا] قَتلوه ورَسموا على جُثَّتهِ الصليبَ بالسكين. ولم يسلم مسجدٌ من المساجدِ في هذه المدن التي دنَّسوها من عدوانِهم وكُفرِهم وبَغيهم .. وقد قُتل في هذه المذابح 60 شخصا، ومُثِّل بجُثَثِهم، فلم يتمكَّن الشهودُ من تحديدِ هُويةِ القتلى، فقد اقتلع الصربُ عيونَ القتلى، وقَطعوا آذانَهم، وأحيانًا يقومون بإحراقِ الجثة.

مذبحة كوبرس

° مذبحةِ كوبرس: مدينةٌ واقعةٌ على بعدِ 90 كيلو متر من سيراييفو، استولت عليها قواتٌ كرواتيةٌ، وقد ذكر راديو بلغراد أن مئاتِ الأشخاصِ قد قتلوا. ° مذبحة دونمي فاكوف: شهدت قتالاً عنيفًا، حيث نَصب الصربُ كمينًا لخمسِ حافلاتٍ تُقِلُّ عُمَّالاً مسلمين من سيراييفو كانوا في طريقهم للانضمام إلى المسيرةِ السِّلْميةِ التي أَعلن المسلمون عن تنظيمها لتأييدِ قرارِ المجموعةِ الأوربيةِ باستقلالِ البوسنة، ففَتَح الصربُ نيرانَهم على الحافلاتِ الخمسِ مما أدَّى إلى مَصرع الكثيرين وإصابةِ الكثيرين بإصابات خطيرة. وطريقةُ الذبح كما وصفها شاهدُ عِيانٍ: يُجمَع المسلمون، ويقيدون بالسلاسل، ويَذهَبُ بهم على حافةِ النهر، ثم يتم الذبحُ بالسكين كالنِّعاج، مدعين أن الرصاصةَ خسارةٌ في المسلم!. ° يَروي مُفوَّضُ جمهورية البوسنة والهرسك في دُولِ الخليج قَصَصًا مروِّعةً ومخازيَ يَندى لها تاريخُ البشرية، ووصمةَ عارٍ في جبينِ القرن العشرين، فيقول حسين عمر سباهيتش: "يروي شهودُ العِيانِ الذين نَجَوا من سكاكين ومناشيرِ العصابات الصربيةِ المسمَّاة "تشتنيك" (¬1) قصصًا بشعةً منها: قام "تشتنيك" لإحراقِ المسلمين داخلَ مساجدِهم وبيوتهم في جنوبِ شرق البوسنة، وكانوا يُمثِّلون بالقتلى بعد ذبحِهم بالسكاكين، ويَقْطَعون أثداءَ النساء بعد اغتصابهن، كانوا يَبقُرون بطونَ الحوامل للتمثيل بالأجنَّةِ ¬

_ (¬1) مجلة المجتمع 24 شوال سنة 1412 هـ (العدد 998).

أو يُلقُون بهم أحياءً في الماءِ المغلي، أو يَشوُونهم شَيَّ الذبائح، ويُرسلون هذه الرؤوس المشويةَ هديةً لذويهم، كما كانوا يَقطَعون رؤوسَ الرجالِ وَيشوونها وُيرسلونها هديةً إلى قادتهم". وقد استطاعت جريدةُ "المسلمون" أن تَدخل قُرى ومدُنَ البوسنة والهرسك، وشاهَدَ مُوفَدها "فراج إسماعيل" أكبرَ محطةٍ لتكريرِ النفطِ في الجمهورية، وقد قَصَفتها الدباباتُ الصربية، وقُدِّرت الخسائرُ بأكثرَ من مئةِ مليون دولار، وتُعدُّ هذه المحطةُ شُريانَ الحياةِ الرئيسيِّ في البوسنة، حيث تُولَّد بواسطتها معظمُ الطاقةِ الكهربائية، وقال شاهد عيانٍ: إنه شاهَد من التلفزيون الكرواتي أن سيراييفو تحترقُ معظمُها. وفي مدينة "بيلينا" ذَبحت المليشياتُ الصربيةُ إمامَ المسجد، وأَطلقت النيرانَ على المصلِّين، وقاموا بالتمثيل بالجثث، ورَفْع العَلَم الصربيِّ على المئذنة. يُقيم الصربُ معسكراتٍ للسبايا النساء، حيث يتعرضنَ للمعاملاتِ الوحشيةِ والاغتصاب، كما قاموا بتقطيع أثداءِ بعضِهن. وشَهِد أيضًا مندوبُ جريدة المسلمون مذبحةً في قرية "جورنية تولبية" والتي ذُبح فيها 200 مسلم، معظمُهم من النساء والأطفال، وقد دَمَّروا القرية تمامًا. أذاع رئيسُ بلدية "زفورنيك" الواقعةِ قُربَ الحدودِ الصربية في الإذاعة "سيراييفو" أن المدينة تعرَّضت لهجوم وحشيٍّ من قِبَل المليشياتِ الصربيةِ المسلَّحةِ والجيشِ الاتحاديِّ اليوغسلافي، علمًا بأن المدينةَ بها 60% من

المسلمين، وأنه لا شيءَ يَمنغ هذه المليشياتِ من ارتكاب جرائمِها ضدَّ المسلمين، وأن عملياتِ النهبِ والسلبِ واسعة النطاق (¬1). ° وقال الرئيسُ "علي عزت": "إن قواتِ الصربِ احتَجزت في هذه المدينة -زفورنيك- ثلاثةَ آلافِ مسلم، وتُهدِّدُ بقتلهم". أصدر اتحاد الطلابِ العربِ والمسلمين في مدينة "زَغرب" بكرواتيا البيان التالي: "نُعلِمُكم أن المسلمين يتعرصون في البوسنةِ والهرسك للذبح، واغتصابِ الحرائر، وتدنيس وتدميرِ بيوتِ الله، وإلقاءِ القنابل وسط المساجد، وإطلاقِ النيران على المصلين، بل إن المليشيات الصربيةَ تقضي حاجتَها على جُثث المسلمين" (¬2). أقيمت معسكراتٌ للفارِّين بدينهم من مذابح دكتاتور الصرب في كرواتيا، ولكن نقلت وكالاتُ الأنباءِ أخبارَ ترحيل الأطفالِ المسلمين إلى ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، وأن الليشيات الصربيةَّ لا تتصدى لهذه الأتوبيساتِ عما تتصدى للمهاجِرين الآخرين، وكذلك وُجد القساوسةُ يقومون بتنصيرِ المسلمين وَيطرحون إغراءاتِ التنصيرِ على المسلمين مستغلين ظروفَهم الصعبة، وبعضُهم يَعرِض استضافةَ الأطفال في كنائسهم (¬3)، ومَن لم يستجب لهذه العروض يتعرض لسرقةِ أطفاله، فقد اشتكى الكثيرُ من المسلمين من اختفاءِ أطفالهم من المعسكرات. ¬

_ (¬1) الدعوة العدد 1337، 13 شوال سنة 1412 هـ. (¬2) الإغاثة الإسلامية 6 ذو القعدة سنة 1412 هـ. (¬3) "المسلمون" العدد 381.

قام الصرب بتلغيم نَفَق "برادين" الواقع على الطريق السريع بين مدينتي "سراييفو" و"موستار"، وأدى ذلك إلى إغلاقِ كافةِ المداخل المؤديةِ لمدينةِ "سيراييفو" ومَنْع دخولِ الطعام ورجالِ الصحافةِ والأعلام، وتتعرضُ العاصمة لمجاعة. ° صرَّح الدكتورُ "عادل بترجي" رئيسُ "لجنةِ البر" بالندوة العالمية للشباب أنه قد قُتل في "سيراييفو" قرابةُ خمسةِ آلاف مسلم (¬1). هناك ملفٌّ فظيعٌ من الصورِ والمنشورات أحضَرَها أحدُ أعضاء "لجنةِ البر" المنبثِقةِ من الندوة العالمية للشباب الذين مَكَثوا عدةَ أسابيعَ في كرواتيا على مقربةٍ لِمَا يجري في جمهورية البوسنة والهرسك، وفي هذا الملفِّ الصربيون يُمزِّقون المصاحف، وَيبقُرون بطونَ النساء، ويضع الصربي قَدَمَه على رَقبةِ المسلم ثم يذبحُه، ويقول له: "هل ترى الجنةَ أم النار؟ ". اعتصم بعض المسلمين في أحدِ المساجد يَبكون مِن هَول ما رأوا، فهدم المسجد ُعلي رؤوسهم، وفي مدينة "يانيا" شنق الصربيون إمامَ المسجد ومؤذِّنَه ثم أذاعوا من ميكوفونات المسجد الأغانيَ القوميةَ لإِذلال المسلمين (¬2). سَقطت مدينة "برتشكو" وفيها واحدٌ وأربعونَ ألفَ وسَبعمئةِ مسلم ¬

_ (¬1) محاضرة للدكتور عادل البترجي مسجلة على شريط كاسيت في ذي الحجة سنة 1412هـ. (¬2) محاضرة للشيخ عائض القرني. انظر كل هذا الملف في كتاب "جمهورية البوسنة والهرسك" (ص 55 - 66).

تقرير موجز عما خلفته الحرب في غضون 3 أسابيع

بعدَ أن استبسل جنودُ محمد - صلى الله عليه وسلم - وهمُ يرددون "لا إله إلا الله " تحت قَصفِ المدفعية الثقيلة. وفي إحدى القرى دخلوا مدرسةَ أطفالٍ لا تتجاوزُ أعمارُهم العاشرة، وقَتلوهم عن بَكرةِ أبيهم، ثم اتجهوا إلى القرية، ولم يتركوا بها طفلاً أو امرأةً إلا قتلوه، وهرب البعضُ، ولكنَّ "جماعاتِ الصقورِ البيضاء المتوحشة" من الصربيين كانت في انتظارِ الهاربين من القرية، فأكملت المذبحة (¬1). * تقريرٌ موجَزٌ عمَّا خَلَّفته الحربُ في غضون 3 أسابيع (¬2): ° أسفرت الحربُ الصربيةُ خلالَ ثلاثةِ أسابيع عن: 1 - ثلاثةِ آلاف قتيل وعشرات الآلاف من الجرحى. 2 - تشريدِ أكثر من (350.000) مهاجر نَزحوا عن منازلهم إلى كرواتيا. 3 - اغتصابِ مئاتِ النساء ثم قَتلِهن، واختطافِ بعضِهن، والهربِ بهن إلى صربيا. 4 - تدميرِ 160 ألف منزل في المدن والقرى الإسلامية. 5 - تدميرِ مئات المساجدِ بالقَصف، وإحراقٍ متعمَّدٍ لمحتوياتها. 6 - تدميرِ عشراتِ المصانع ومحطاتِ الكهرباءِ والمرافقِ الحيوية الأخرى. ¬

_ (¬1) نفس المصدر السابق. (¬2) تقرير لجنة مسلمي البوسنة والهرسك بالندوة العالمية للشباب الإسلامي 22/ 7/ 1412 هـ انظر كتاب "البوسنة والهرسك" (ص 70 - 71).

السفاح الصربي الحنزير يستعين باليهود

7 - تدميرِ مئاتِ المدارسِ وعشراتِ المستشفيات. 8 - سقوطِ عَشْرِ مُدُنٍ وعديدِ من القرى بأيدي الصرب، ونهبِ المحلات والبنوك، وسرقةِ أغراضِ المسلمين وأموالهم من منازلهم، ونقلِها إلى صربيا، ثم بيعها هناك. 9 - تدميرِ عشراتِ الجسورِ التي كانت تمتدُّ فوقَ أنهارِ البوسنة وكانت تربطها بكرواتيا. 10 - إصابةِ مِصفاةِ البترول الوحيدة في الجمهورية وإحداثِ أضرارٍ ماديةٍ جسيمةٍ، علمًا بأن المصفاة كُلِّفت 600 مليون دولار. 11 - ذَكرت جريدة "المدينة" أن الوزير النمساوي لوزارة الداخلية صرَّح بأن عدد اللاجئين من كافةِ الجمهوريات اليوغسلافية بَلغ (1.300) مليون نسمة منهم (1700 ألف) من البوسنة والهرسك فقط خلالَ الأسابيع القليلة الماضية (¬1). 12 - اعتَقلت قواتُ القائد الديمقراطي للحزب الصربي "كراجيتش" الإرهابية (218) مسلمًا في بلدة "فوتشتشت" وحَرَمتهم من الأكل. وُيرسلُ الصليبيون المجرمون رسائلَ إلى المسلمين تقول: "تقبلوا تهانيَنا بمناسبة العيد، وتبريكاتِنا باستقلالِ الجمهورية، والاعترافِ الدولي". * السفاحُ الصربيُّ الحنزير يستعين باليهود: لا عجبَ أن نَرى الجرائمَ البشعةَ التي يَندى لها جبينُ الإنسانية ¬

_ (¬1) جريدة المدينة ذو القعدة سنة 1412 هـ، وجريدة عكاظ 26/ 11/ 1412 هـ.

تَستشري على أرضِ يوغوسلافيا، إذا استعان شيطانُ الصرب "سلوبدان ميلوسيفيتش" بشياطينِ اليهود .. لا عَجبَ إذا عَلِمنا أن يوغوسلافيا يعيشُ على أرضها أقليَّة يهوديةٌ تعدادها (5500) يهودي (¬1)، وهذه نماذجُ من أساليبِ التعذيب التي اتُّبِعت في الخمسينات والستينات من هذا القرن العشرين، أما الآن فقد تفتَّقت الوحشيةُ اليهوديةُ الصليبيةُ عن اختراع وابتكارِ أساليبَ أشدَّ وحسية وأكثرَ إمعانًا في الاستهانةِ بالإنسان الذي يُعتبر في نظرِ التوراة والتلمود حيوانًا يَحِلُّ ذبحه أو ركوبُه، واستخدامُه لتحقيقِ أهدافِ الشعب المختار!: 1 - دَقُّ مساميرَ طويلةٍ في الرأس حتى تَصِلَ إلى المخ (¬2). 2 - إحراقُ المسجون بعد صبِّ البترول عليه وإشعالِ النار فيه. 3 - جَعلُ المسجون هدفًا يتدرَّبُ الجنودُ عليه في إطلاق الرصاص. 4 - وضعُ أَغطيةٍ معدنية على الرأسِ، وتمريرُ التيارِ الكهربائيِّ فيها لاقتلاع العيون. 5 - صَبُّ الزيتِ المَغلِي على جسم المعذَّب. 6 - ضربُ المعذَّب على أعضائه التناسلية. 7 - إدخالُ شَعرِ الخنزير في فَتحةِ العُضوِ التناسلي، وإدخال قضيب حديدي ساخن في الأماكن الحساسة من الجسم. 8 - تمشيطُ الجسم مشاط حديديةٍ حادة. ¬

_ (¬1) "الدعوة" العدد 1338، 20/ 10/ 1412 هـ. (¬2) "الأفعى اليهودية" لعبد الله التل (ص 126).

الصربي الصليبي "شيشل" يقترح إبادة الألبان

9 - صبُّ مواد حارقةٍ وكاويةٍ في فم المسجون وأنفِه وعينيه بعدَ ربطه ربطًا محكمًا. 10 - تسميرُ أُذُنَيِ المسجونِ في الجدار حتى يَظلَّ واقفًا ليلاً ونهارًا. 11 - خياطةُ أصابع اليدين والرجلين، وشبكُ بعضِها إلى بعض. 12 - رَبطُ الرأسِ في طرفِ آلةٍ ميكانيكية وباقي الجسم في آلةٍ أخرى، ثم تُدارُ كلٌّ منهما في اتجاهين متعاكسين، فيتمدَّد الجسمُ وينفصل الرأسُ عن الجسد نتيجةً للجذب المعاكس للآلتين. 13 - خَلعُ الأظافرِ، والنومُ على الثلج شِتاءً بلا ملابس، والضرب بالكرابيج حتى يتساقطَ اللحم ويَبرُزَ العظم. ° انظر إلى قذارةِ السفاح الصليبيِّ الصربيِّ ويهود: فحادث تسمم الأطفالِ بالألبانِ الشهير الذي وُضِعت فيه موادُّ سامَّة في خزَّاناتِ المياه التابعة لبعضِ المدراس الابتدائية .. لا يفعله إلاَّ وَحشٌ كاسر لا ينتمي إلى البشر، بل هو إلى الخنازير أشبه، وأوردت الأنباء وقتَها أن هذا السُمَّ قد تَمَّ استيراده خصِّيصًا من إسرائيل (¬1). * الصربيُّ الصليبيُّ "شيشل" يقترحُ إِبادةَ الألبان: حِقدٌ أسودُ بَثَّه هذا الصليبيُّ الصربيُّ الزعيمُ "شيشل" الذي يشكِّلُ امتدادَ المليشياتِ الصربيةِ القوميةِ في الحرب العالمية وزعيمُ "تشتنيك" حين يُعلِنُ مرارًا عن استحالة التعايشِ الصربي الإسلامي، واقترح إبادةَ الشعبِ ¬

_ (¬1) "الشرق الأوسط" الثلاثاء 23/ 6/ 1992 م (ص 6).

الصليب في الفلبين يشرف على قتل المسلمين

الألباني في كوسوفو إذا رفض مغادرة أراضيه (¬1). * الصليب في الفلبين يشرِف على قتل المسلمين: ° يقول الشيخ "سلامات هاشم" رئيسُ "جبهة تحرير مورو الإسلامية": "إن السلطاتِ الفلبينيةَ كلَّها من النصارى الذين يكرهون المسلمين، ويعدُّونهم العدوَّ الأولَ لهم". ° ثم قال: "يُمكنُ القولُ: إن عددَ الشهداء -منذ بدأت الحرب في عام 1970 م- هو (326.845) شهيدًا ومفقودًا من الرجال والنساء والأطفال حتى نهاية 1991 م، أمَّا عدد الشهداءِ الذين استُشهدوا في ساحاتِ الجهاد، فهو (24.786) من الرجال والنساء" (¬2). * البوذيُّون أعداء رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في "كمبوديا" يَطردون المسلمين من المدن، ويُدبِّرون المذابحَ البشعةَ لهم: قررت الحكومة الكمبوديةُ مَنْعَ وجودِ المسلمين في العاصمةِ "فنوم نبه"، وتهجيرَ جميع العائلاتِ المسلمةِ إجباريًّا إلى القُرى النائِية، وإجبارَهم على العَيشِ في منازلِ الصفيح والأخشاب، وذلك خوفًا على البوذيَّة من المدّ الإسلامي!. وتمَّ ترحيلُ المسلمين بطريقةٍ مَهينةٍ إلى القُرى والنجوع النائيةِ خَلْفَ نهرِ "الميكونج" في منطقةٍ تسمي "رس كيو"، وقد وَضعت الحكومةُ في المنطقة أكثَرَ من ثلاثةِ آلافِ عائلةٍ مسلمةٍ في حالةٍ سيئةٍ للغاية. ¬

_ (¬1) "جمهورية البوسنة والهرسك" (ص 112 - 113) لأم القعقاع. (¬2) "وجاء الدور على الإسلام" (ص 154).

الصليبيون آكلو لحوم المسلمين

ويتذكَّر المسلمون في "كمبوديا" المذابحَ الإجراميَّة التي قامت بها عصاباتُ "الخمير الحمر" أواسطَ السبعيناتِ ضدهم، حيث إن هذه العصاباتِ قامت بقَتل عشراتِ الاَلافِ من المسلمين وَسَطَ تعتيم إعلامى واسع، فلم يَعرف أحد هذه المذابحَ إلاَّ بعد فرارِ بعضِ المسلمين الناجِين من المذابح إلى الدول المجاورة لكمبوديا (¬1). والكفر ملة واحدة .. والحقدُ على الإسلام والمسلمين ونبيِّهم - صلى الله عليه وسلم - شعارُ القوم ودثارُهم .. فلعنة الله على الجميع. * الصليبيُّون آكِلُو لحومِ المسلمين: ° يقول "رانسيمان" في كتابه عن الحروب الصليبية: "كان الجيشُ في "معرَّة النعُمْان" يُعاني الجوعَ بعد أن نَفِدَتِ المُؤَنُ التي استولى عليها من الجوار، ولم يكنْ له من سبيل سوى أن يأكلَ لحومَ البشر"، "وهذا دَرْكٌ لا يَنحدِرُ إليه الحيوان" -على حدِّ قولِ مترجم ذلك الكتاب-. ثم قال "رانسيمان": "فراح فرسانُ المسيح يَشْوُون جُثثَ قتلاهم من الرجالِ والصبيان المسلمين ليأكلوها" .. واللهم لا تعليق!. ° وقد كتب المؤرِّخُ "راؤل دي كايين" المُرافق للفرنج قائلاً: "في مدينة "المَعَرَّة" كان رجالنا يقومون بِغَلْي شبانِ الوثنيِّين (¬2) في آزانات، وُيوثِقون الأطفالَ على الأسياخ ويأكلونهم مَشْويِّين". وما أكثَرَ الوثائقَ الموجودةَ عن قصصِ آكلي لحوم البشر التي ارتكبها ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 157 - 158). (¬2) أي المسلمين.

"يلتسين" المجرم الروسي عدو الرسول - صلى الله عليه وسلم - والإسلام وما فعله بأهل الشيشان

جنودُ "الفرنجة" الصليبيُّون في مدينة "المعرَّة" عام 1098 م، وحتى القرن التاسعَ عَشَرَ كان يمكن العثورُ عليها في كتابات المؤرخين الأوربيين، وهو ما نُطالعُه في كتابِ "تاريخ الحروب الصليبية" للمؤرخ "ميشو" الفرنسي المنشور فيما بين 1817 - 1822 م (راجع المجلد الأول ص 357، 577)، و"ببلوغرافيا الحروب الصليبية" صفحات (48، 76، 183، 248). أمَّا في القرنِ العشرين، فقد تمَّ التعتيمُ على مِثل هذه الحقائق، إذْ لا نكادُ نَجِدُ لها أثرًا، اللهم إلاَّ عبارةَ "رانسيمان" السالفةَ الذِّكْر، وما أكثَرَ ما اعتادوا التعتيمَ عليها (¬1). الصليبيون عارُ الإنسانية ورِجسُها ودَنَسُها ونَتْنُها ووَحْلُها، والمسلمون عبيرُ الوجود وَطُهْرُه وطِيبُه. * "يلتسين" المجرمُ الروسيُّ عدوُّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - والإِسلام وما فَعَله بأهل الشيشان: شَنَّ "يلتسين" الدُّبُّ الروسيُّ حَملةَ إبادةٍ على الشعب الشيشانيِّ، شاركه فيها رئيسُ وزرائه السَّفَّاحُ المجرمُ "فلاديمير بوتين"، وهذه بعض آثارِ الحربِ الروسية في الشيشان التي خلّفتها الجولة الأولى (1994 - 1996 م) من الحربِ الشيشانية، وما تَلا ذلك من عملياتٍ سرَّيةٍ وحَملاتٍ إعلاميةٍ ضدَّ الشيشانِ وشَعْبِها، هي في الحقيقة استمرار للحربِ الروسيةِ التي بدأتها روسيا فورَ إعلانِ الشيشان استقلالها سنة 1991 م. ¬

_ (¬1) "حرب صليبية بكل المقاييس" للأستاذة الدكتور زينب عبد العزيز (ص 12) - دار الكتاب العربي- دمشق، القاهرة.

أولا: خسائر فادحة في الأنفس

° أولاً: خسائرُ فادحةٌ في الأنفس: ففي الشيشانِ -التي لا يَزيدُ تِعدادُ سكَّانها عن مليونَ وثلاثِمئةِ ألفِ نسمةٍ - قَتَل الروسُ منهم أربعين ألفَ مدنيٍّ، وفُقد ألفانِ من السكان، ألقت المخابراتُ الروسيةُ القبضَ عليهم في بيوتهم وفي الشوارع، ولم يُعرف مصيرُهم حتى هذه اللحظة. وعلاوةً على القتلى، خَلَّفت الحربُ 74 ألف مُعاقٍ منهم 19 ألف طفل، وفَقد منهم ألفانِ حاسةَ الأبصار، وألف وخَمْسُمئةِ فَقدوا السمعَ والنطق، وفي الشيشان 12 ألف طفل يتيم فقدوا آباءهم، ومن الشيشانيين 35% دُمِّرت منازلهم، فأصبحوا بلا مأوًى، و 85% لا يَجِدون عَمَلاً، وبين كلِّ عَشَرةِ أُسر شيشانيةٍ هناك تسعةُ أُسَرٍ لا تجدُ ما يكفي لطعامها اليومي، وبدأ الناسُ بالفعل يأكلون عَلَفَ الماشية، فقد دَمَّرت الحربُ المصانعَ وقَتلت معظمَ حيوانات المزارع. ° ثانيًا: تدميرُ البِنيةِ الأساسيةِ للنظام التعليمي: كان تدميرُ النظامِ التعليميِّ أولَ ما استهدفته القواتُ الروسية في الحرب، فقد دُمِّرت الجامعةُ الشيشانيةُ إلى جانب ثمانيةِ معاهدَ فنيةٍ للدراسات العليا، وأربعةِ مدارسَ فنيةٍ متوسطة، وأربعةِ مراكزَ للأبحاث، إلى جانب التدميرِ المتعمَّدِ لقاعاتِ المحاضراتِ والأرشيفِ الوطنيِّ والمُتحَفِ الوطني. ° كارثةٌ بيئية وصحيَّة: دَمَّرت القواتُ الروسيةُ آبارَ البترول، فتدفَّقت آلافُ الأطنانِ المشتعِلةِ

منه في حدائقَ لوَّثت الهواءَ والتربةَ، وأحدثت كارثةً بيئيةً لا تقل عن كارثةِ الكويت في حربِ الخليج الثانية. وتدهورت الأوضاع الصحيةُ للشعب الشيشانى، خصوصًا بين الفئات الضعيفة والأكثرِ فقرًا من النساء والأطفال وكبارِ السنن، نتيجةً لسوءِ التغذية وتدنِّي الخدماتِ الصحيةِ، وافتقادِ النظافةِ والمَرافقِ الصحية، والتلوُّثِ البيئي الذي أصاب المياهَ والهواء. ولذلك ارتفعت نسبةُ الوَفَياتِ بين الأطفال (120 من كل ألفِ طفل يموتون)، وطبقًا لأبحاثِ دوليةٍ أُجريت، وُجد أن كل ثاني طفل مولودٍ يموتُ في شهرِه الأول، وأن الأطفالَ الشيشانيين يُعانون من الأنيميا وفُقدانِ سوائل الجسم، وُيولدُ كثرةٌ من الأطفالَ مرضى وضعافَ البِنيةِ ومشوَّهين. وهناك قصور في الخِدماتِ الصحيةِ للحوامل والتوليد، فقد دَمَّر الروسُ المستشفياتِ متعمَّدين، ولا توجدُ في المستشفيات الباقيةِ سوى (6، 6%) من الاحتياجاتِ المطلوبة للأطفال. وفي السنتين السابقتين للجولة الثانية من الحرب، انخَفَض معدلُ المواليد مرتينِ ونصفَ مرةِ عن معدَّلاتها الطبيعية السابقة. ويوجدُ نَقصٌ هائل في الأدويةِ والأدواتِ الطبيةِ، حتى أصبحت الحُقنةُ الواحدةُ يتكررُ استخدامُها لمرضى آخَرين. وهناك يأس عامٌّ ورعبٌ دفينٌ يُطِلُّ من عيونِ الأطفال الذين رَوَّعتهم أحداثُ الحربِ واجتثَّتهم من بيوتِهم وحياتِهم المستقرة، وألقت بهم في الملاجئ وأصبحت الكثرةُ الغالبةُ منهم لا يَعرِفون طريقَهم إلى المدارس

الروس الكفرة مصاصو الدماء

التي دمَّرتها الروس. النساءُ الشيشانياتُ مُشكلاتُهن الصحيةُ أكثرُ حَرَجًا -خصوصًا الحوامل منهن-، فقد دُمرت المؤسساتُ التي كانت ترعاهن، وأول ما يُعانِينَ منه إصاباتُ الجهازِ الهضمي التي تؤدي إلى الوفاة بنسبة 80%، هذا إلى جانب أمراضِ الكبدِ الفيروسية وسرطاناتِ الدم، وقد وُجد أن امرأةً من كل خمسةِ نساءٍ حواملَ تحتاجُ في الولادةِ إلى عمليةِ قيصرية. استشرى مرضُ الدرن الرئوي (السِّل) بشكلٍ وبائي، ولا يوجدُ مكان للعلاج، وإذا وُجد المكانُ فلا يوجدُ أطباءُ ولا أدوية كافية، فالمستشفياتُ كلُّها تقريبًا محطَّمة، والتي لم يتم تحطيمُها معطَّلة، أو لا تعملُ بكامل طاقتها، خصوصًا بعد رحيل هيئةِ الصليبِ الأحمر الدولية على إِثْرِ مقتل ستةٍ من موظفيها على يدِ عملاءِ المخابرات الروسية. * الروس الكَفَرةُ مصاصو الدماء: يُطلِقُ الروسُ على الشيشانيين المسلمين لقب "مصاصِي الدماء"!! والروسُ أولى الناس بهذا، وهم -والله- وحوشُ البشرية وأعداءُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بل وأعداءُ الحياة، وإليك أنموذجًا صغيرًا من مجازِرِهم: ° مجزرة قرية سامشكي: للشيشانيين تقاليدُ راسخةٌ في كَرَم الضيافة، وعِشقِ الحرية والمساواة، ورُوح الفروسية، مما تردَّد صداه في الأدبِ الروسي الكلاسيكي والكتاباتِ الأخرى، وفي الحربِ التي فَرَضَتها الحكومةُ الروسيةُ عليهم تصرفوا بشجاعةٍ وكانوا أبطالاً شرفاء، فلما انتهت الجولةُ السابقةُ من الحرب

وأُبرمت اتفاقية سلامٍ بينهم وبين القوات الروسية، نَفَّذوا بُنودَها بأمانةٍ وشرفٍ، وأفرجوا عن جميع الأسرى الروس دون أن يَمَسُّوا أحدًا منهم بسوء، أما الروسُ، فكانوا أبعدَ ما يكونون عن الأمانةِ والشرف، فلم يعبؤوا بتنفيذِ الاتفاقيةِ التي وَقَّعوها، لم يَفوا بوعودهم وعهودِهم، وكان لديهم ألفَا سجينٍ مدنيٍّ قتلوهم بلا محاكماتٍ ولا توجيهِ تُهَم إليهم. وكان سلوكهم في الحرب سلوكَ قَتَلَةٍ وقُطَّاع طرقٍ لا سلوكَ محارِبين، وفيما يلي نموذجٌ واحدٌ من مئاتِ الجرائم التي ارتكبوها أثناءَ الحرب في حقِّ المدنيين: فقد قامت القواتُ الروسيةُ في 5 إبريل 1995 م باقتحام قرية "سامشكي" الشيشانية، وأوقعوا بالأهالي المسلمين مجزرةً وحشيةً. ° يقول شهود العيان: "توجَّهْنا إلى القرية بعد خروج الروس منها لنتحققَ من خبر شاع في المنطقة بأن مجزرةً ما حَدثت في مدرسةِ أطفال القرية، فلما وَصَلْنا إلى المدرسة هالنا منظرُ عشراتٍ من جُثثِ الأطفال ممزَّقةٍ بالرصاص في أرجاءِ المدرسة، وكان هناك نساءٌ من أمهاتِ الأطفال وأقارِبهم يحاوِلْنَ جَمْعَ الأشلاء المبعثَرةِ لدفنها، ثم انتقلنا بعد ذلك إلى منزلٍ أشار إليه الأهالي، فدخلناه لَنفاجأَ بمشهدٍ مروِّع لجُثثِ أطفالٍ مشنوقين بأسلاك كهرباء، معلَّقين في سقف المنزل، كانت عيونُهم جاحظةً ووجوهُهم متورِّمة .. لقد هرب هؤلاء الأطفالُ من مجزرةِ المدرسة، ولكن تتبَّعهم الجنود الروسُ إلى حيث عثروا عليهم مختبِئين في ذلك المنزل، فأمسكوا بهم وشَنقوهم هناك، ولم يَكتفِ الروسُ بقتل الأطفالِ فقط، وإنما

قاموا بإحراقِ ثلاثينَ جثةً رأيناها مبعثرةً حولَ المنزلِ المنحوس". ° فماذا فَعل الروسُ بعد المجزرة؟ لقد أحاطوا القريةَ بسِياج، ومَنعوا الدخولَ إليها لمدةِ ثلاثةِ أيام في محاولةِ لإخفاءِ معالِم جريمتهم، ولكن يبدو أنه لم يكن لديهم الوقتُ الكافي لطَمسِ كل آثارِ المجزرةِ، فأشعلوا النارَ في جُثثِ الأطفال قبلَ أن يَرحلوا (انظر في هذه الواقعة تقارير منظمة العفو الدولية في نوفمبر 1995 م). ° وفي الجولة الثانية من الحربِ التي بدأت في سبتمبر 1999 م -ولا تزال تطوراتُها المأساويةُ تطالِعُنا حتى اليوم-، ارتكبت القواتُ المسلحةُ الروسية جرائمَ وحشيةَ ضد المدنيين، عَرَفنا أطرافًا منها، وخَفِيَ عنَّا الكثيرُ من حقائقها وتفاصيلها؛ وذلك بسبب التعتيم الإعلاميِّ الذي تَفرِضُه السلطات الروسية بالقوةِ والتهديد بالقتل، فالصحفيون الروس ممنوعون من دخولِ أراضي الشيشان، أو التحدَّثِ مع الشيشانيين، وقد صرح بعضُهم أن تهديداتٍ بالقتل وجِّهت إليهم من مصادرَ أمنيةٍ إذا تحايلوا على الدخولِ إلى الشيشان أو نَشروا أخبارًا أو صورًا عن الحربِ غيرَ تلك التي تنشرُها السلطاتُ الرسمية في أجهزةِ إعلامها. ° وفي 30 ديسمبر 1999 م أَفرجت السلطات الروسية عن سبعةٍ من الصحفيين الأجانبِ تمكَّنوا من دخول الشيشان، وأذاعوا أخبارًا عن وجودِ مقابرَ جماعيةٍ ومجازِرَ وقعت في بلدةِ "خان يورت"، فقَبضت عليهم السلطاتُ الروسية وحَجَزتهم عدةَ أيام بحجَّةِ التحقيق معهم لدخولهم -إلى الشيشانِ بدون تصريح رسميّ، وصادرت الأفلامَ التي كانت معهم، ولكنْ تمكَّن بعضُهم من تهريبِ بعضِ صورٍ للقتلى وللمقابر الجماعية.

° في "الأوبزرفر" البريطانية قصةُ المأساةِ التي تَعيشُها قريةُ "سامشكي" مرةً ثانيةً في الحرب الحالية بعد مرورِ أربعةِ أعوامٍ على مجزرتِها السابقة، فقد قامت الصحفية" إميلدا جنتلمان" بتحقيق تحت عنوان "أسرار الحرب الانتقامية: الرعب في الشيشان محجوب عن العالم"، تحكي فيه قصةَ القرية من خلال مأساةٍ حَلَّت بأسرةٍ فيها تقول: ("مدينا عبد الرحمانوف" فتاةٌ شيشانية كَسر الروس ساقَها في الحرب السابقة، وفي هذه الحرب قَطعوا ساقَها وذراعيها جميعًا، إنها فتاة في الثانيةِ والعشرين من عمرها، مَكثت المرةَ الأولى خمسةَ أشهُر في المستشفى بعد هجوم إبريل 1995 م، وهي ترقدُ الآن في المستشفى للمرة الثانية غارقةً في أوجاع لا تُحتمل، أجريت لها عدةُ عملياتٍ جراحيةٍ، ولكنها لم تَنجح، وهي لا تدري كم من الوقت ستبقى في المستشفى. والدةُ "مدينا" عمرها 42 سنة واسمُها "خافا" كانت تعملُ محاسبةً في مصنع تعليبِ أغذيةٍ، تقول: كنتُ أُجهزُ طعامَ العَشاءِ في مطبغ مُظلِم بدونِ كهرباء ولا غاز، عندما رأيتُ الطائراتِ الروسيةَ تُحلّقُ فوقَ القرية في الشهرِ الماضي، فأَسرعتُ أنا وابنتي إلى مخبإٍ بأسفل البيت، هو غرفةٌ صغيرة كنَّا نحفظُ فيها محصولَ البطاطس، وكنا قد أعددناه لنأويَ إليه أثناءَ الغارات في الحربِ السابقة، ولم تَزَلِ الشموعُ موجودةً به، كانت أصواتُ الانفجاراتِ تَصُمّ الآذانَ، فكنا لذلك صامِتين أثناءَ القَصْف، وبين الغارةِ والأخرى كنَّا نتحدثُ أحيانًا ماذا سنفعلُ إذا نَجَوْنا من هذه الحربِ؟ وكيف سيكونُ الحالُ إذا قُتلنا؟. "سامشكي" التي كانت رمزًا للدمار التي أحدثتْه القواتُ الروسيةُ في

الحرب الشيشانية الأولى، أصبح سكَّانُها أشدَ رُعبًا من القصفِ هذه المرة، ولذلك اتفقت إدارةُ القريةِ مع القواتِ الروسية أن تُخلِيَ القريةَ من المتمردين في مقابل ضمانٍ من القواتِ الروسيةِ ألاَّ تهاجمَ القريةَ. تقول "خافا": "كنا نعرفُ أنه ليس عندنا متمردون ولا مسلحون فيما عدا بعضَ صبيانٍ كانوا يَلبَسون زِي المقاتِلين وَيمشُون مزهوِّين في القرية، وقد اقتنعوا بالرحيل عن القريةِ والالتحاقِ بالمقاتِلين في "جروزني"، وعَلِم الروسُ بالأمر، ومع ذلك قَذَفوا القريةَ بوابلٍ من القنابل"، وهكذا قالت "إيمان أفديفيا" عندما تحدثنا إليها في عَربةِ قطارٍ قديمةٍ هي ملجؤها في "إنجوشيا" بعد خروجِها من القرية لتعيشَ فيها مع أطفالها الأربعة). ° وتمضي "ميلدا جنتلمان" في استكمالِ قصة "سامشكي" المنكوبة، فتكتب على لسان لاجئ ٍآخر كان يَعملُ بالشرطة الشيشانية هو "وحيد دربيشيف": "حدث أعنفُ هجومٍ روسي علينا يوم 23 أكتوبر استمر لمدةِ ساعةٍ ونصفٍ متواصلةٍ، كانت الصواريخُ تُمرق سكونَ الليل في القرية وتتساقطُ علينا من كل ناحية، وفي الصباح خرجنا إلى قائدِ القواتِ الروسيةِ المرابِطِ خارجَ القرية، فقالت لنا: "لقد كان خطأً"، ووعد ألا يتكررَ هذا الخطأ، وكان علينا أن نَقبلَ الوعد، فلم يكن في مقدورنا الخروجُ من القريةِ والرحيلُ إلى "إنجوشيا"؛ لأن الطريقَ الذي كان مفتوحًا لسَفَرِ اللاجئين أغلقه الروسُ بحُجةِ أنهم لا يستطيعون التمييزَ بين الأهالي وبين الإرهابيين، وفي 25 أكتوبر عاد الروسُ لقَصفِ القريةِ مرةً أخرى، وفي هذا الهجومِ ارتَفع عددُ الضحايا كثيرًا، وغضب الأهالي، فذهبوا يَشكون إلى إدارة القرية، فقيل لهم: "لا حيلةَ لنا مع الروس إنهم يَعِدُون وُيخلِفون".

استمَّر القصفُ بعد ذلك لعدةِ أيام دون انقطاع والأهالي قابعون في المخابئ لم يجرؤ أحدٌ على الخروج أثناءَ النهار، كانت المحلاَّت التجارية مغلقةً، ولم يَذهبْ أحدٌ إلى العمل، فالمصانع أيضًا كانت مغلقة". ° وتمضي "إميلدا جنتلمان" تستكمل قصةَ قرية" سامشكي" على ألسِنةِ أهلها في المهجر: "بعيدًا في إنجوشيا التقيتُ بالطفل "رستم دربيشيف" 12 سنة كانت أسرتُه قد أرسلته إلى إنجوشيا ليعيشَ في خَيمةٍ مع إخوته الثلاثة .. يقول: بدأ الروس يَقصِفون القرية، ثم دخلوها وقتلوا ابنةَ عمتي، وقتلوا جدي برصاصةٍ في ظهرِه، وكَذَبوا علينا عندما قالوا: إنها كانت حادثةً، لقد بدأتُ أكرهُ الروسَ من قلبي. ويعقِّبُ "وحيد أبو رستم" يَصِف الهجومَ الذي قُتلت فيه ابنةُ أخته: بدأ الهجوم الساعة 8.19 مساء يوم 26 أكتوبر، واستمرَّ طول الليل .. كل شيء في القرية كان يحترق .. لم نكن قد تمكَنَّا من إعادةِ قطيع الماشية من الحقول .. وكان الروس ُيقتُلون كلَّ شيءٍ حيّ يتحرك على الأرض .. قتلوا البقرَ والكلابَ والقِططَ لم يتركوا شيئًا .. في تلك الليلة قُصف منزلُ أختي فأُصيبت في رأسها وعمودِها الفَقري، وقُتلت ابنتها على الفور .. في الصباح أسرعت إلى منزل أُختي، فحَمَلتها إلى المستشفى .. ولكني وجدتُ المستشفئ مليئةً بالجرحى .. رأيتُ الجحيمَ في المستشفى: أكوامٌ من البشر بدون أذرعٍ وبدون أرجل، وأنينٌ يفوقُ الاحتمال .. نَصَحني الطبيب أن نَذهبَ إلى مستشفى أخرى، فأخذتُها وذهبُ، وكانت الطائراتُ الروسية تحومُ فوق رؤوسنا .. كانت أختي تهلوسُ ودرجة حرارتِها مرتفعةٌ، وتقول

في أنينٍ: "كانت ابنتي بجانبي طوالَ الوقت فأين ذهبت .. أين ذهبت؟ ". ° في ذلك الصباح أُصيبت "مدينا" عندما خرجت من مخبئها تُحضِّرُ بعضَ مياهٍ للشرب، تقول أمها: "توقفَتِ الغارةُ ذلك الصباح، وظننَّا أن هذا كان نهايةَ الهجوم فخَرَجْنا، وعندئذٍ استأنف الروسُ غاراتِهم من جديد، وكان منزلُنا أولَ منزلٍ تُصيبُه القذائف .. استعنت بجارٍ لنا، حَمَلناها في سيارته، وذهبنا نبحثُ عن مستشفى، ولكنَّ الطائراتِ كانت تَقصِفُ طريقَنا والسيارةُ تسيرُ بسرعةٍ كبيرةٍ، وظننا أن نهايتنا قد اقتربت". ° يتذكرُ أهالي قرية "سامشكي" المتقدمون في العُمر أنها كانت قريةً جميلةً آمنةً ترقدُ في أحضانِ النهرِ وتمتلئُ حقولُها بأشجارِ التفاح، أما اللاجؤون العائدون منها حديثًا، فإنهم يقولون: "إنها أبشعُ الأماكنِ وأكثرُها خرابًا"، ويقول أحدُهم واسمه "حسبو اللاطوف"، عمره 63 سنة، رَحَل منها الأسبوع الماضي: "الذين قرَّروا البقاءَ في القرية يلاقُون أسوأَ معاملةٍ وأقسى اضطهادٍ من الجُنود الروس، فهؤلاء الجنودُ لديهم تعليماتٌ لتطهيرِ القريةِ من سكانها .. إنهم يُفتِّشون البيوتَ كل يوم، ويقرؤون كل ورقةٍ فيها بحُجةِ البحثِ عن أسلحةٍ، ويَقتحِمون البيوت المهجورة، فيَسرقون كل ما فيها لا يتركون شيئًا من الدقيقِ أو الأجهزة الكهربائية .. حتى لَعبِ الأطفال". سكانُ قرية "سامشكي" عشرةُ آلافٍ، هَرَب نصفُهم لاجئين، وأما الباقي، فبعضُهم من كبارِ السنِّ أقعَدَهم العجزُ، والآخرون فضَّلوا البقاء في وطنهم مع خطرِ الموت على عذابِ اللجوء والتشرد.

بوتين الرئيس الروسي عدو الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وعدو الحياة

* بوتين الرئيس الروسي عدو الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وعدوُّ الحياة: المتعطشُ للثأر من المسلمين، وعصابتُه الذين اغتالوا كلَّ مَظهر من مظاهرِ الحياة في الشيشان -وخاصةً عاصمتها جروزني- بجيشي روسي نظامي لا يَقِل عن نصفِ مليون، كما قال المجاهد "خطَّاب" -رحمه الله- وعلى رأسِ الأبالسةِ من عصابة "بوتين" الجنرال "أناتولي كفاشني" رئيسُ الأركان القائل: "لابدَّ في هذه المرة من استئصالِ الداءِ من جذورِه قبل أن تستشريَ العَدْوى في كل مكان". و"فيكتور كازانتسيف" قائدُ قواتِ منطقةِ شمال القوقاز (54 سنة، كولونيل جنرال)، رغم أنه لم يَشتركْ في الحرب السابقة، ولكن أُصيب فيها ابنُه بجُرح بليغ، ربما يفسِّرُ عُنفَه وحدَّته، إنه يجيدُ الوقوفَ أمام الكاميرات والحديث إلى التلفاز، وكثيرًا ما صرخَ قائلاً: "لقد تعلمْنا من الشيشانيين أشياء، وجاء دَوُرنا لنعلِّمَهم الكثير". و"فلاديمير شمانوف" قائدُ الجبهة الغربية (42 سنة، جنرال بنجمة واحدة)، كان من قادةِ الحربِ السابقة، وعندما قيل له: "كن رحيمًا بالنساء البريئات"، قال ساخرًا: "عن أيِّ نساءٍ بريئات تتحدثون؟! ليس في الشيشانِ إلاَّ مجرمون" .. إنه من أشرسِ الشخصيات في الجيش الروسي، ويكرهُ الشيشانيين كراهيةً عمياءَ. و"جينادي تروشيف" قائدُ الجبهة الشرقية (52 سنة، جنرال بنجمتين)، من قادة الحرب السابقة، كان معتادًا على التفاوُضِ مع الأهالي لإقناع المتمرِّدين بالخروج من بلدةٍ ما، فإذا خَرجوا دَكَّها بالمدافع كنوع من

العقوباتِ الجماعية، فهو رجلٌ لا يَرحم ولا يَرعى شرفَ الكلمة. أسقط المجرمون القنابلَ الإنشطاريةَ -زنِةَ خَمْسِمئةِ كيلو جرام من المتفجرات-، وأَسقطت الطائراتُ الروسية قنابلَ النابالمَ المحرَّمة دوليًّا، وقنابلَ الغازِ السامِّ، والأسلحةَ غيرَ التقليديةِ ذاتَ الدمار الشامل. وقَدَّرت المصادرُ الشيشانيةُ حَجمَ خسائرِ الشيشان في الحصارِ بين حَرْبَيْ 94 - 99 بنحو 250 مليار دولار. لم يَرحم العدو الروسي الهمجي أيَّ شيءٍ، وسَوَّى بالأرضِ المساكنَ والمستشفياتِ والمؤسساتِ والمصانع، وأصبح الشعبُ في العَراء. أجهَزَتِ الحربُ حتى 9/ 9/ 1996 م على كل شيءٍ تقريبًا: هنا 110 آلاف راحوا شهداءَ، وبَقِيَ 15 ألفًا من الجرحى بينهم 14 ألفًا من الأطفال، وتفشَّت أمراضُ الحرب، وأبرزُها مرضن الصدر الذي افترس 5100 شخص، 70% منهم رجال، وهذا هو المسجَّل فقط .. ولم يَبقَ في المدينة حَجَرٌ على حجر، واختفت كل مظاهِرِ الحياة. والغريبُ أن الغربَ الصَليبي الذي كان يُدينُ وُيندد بالموقف الروسي قَدم لروسيا مساعداتٍ في الحرب (ما بين سنة 94 - 96) بلغت (11.5) مليار دولار .. فماذا يكون الحالُ إذن في هذه الحربِ التي انقلب فيها موقفُ الغربِ الصليبي مئةً وثمانين درجةً لصالح الموقفِ الروسي على الصعيد السياسي والإعلامي؟!. وهل يُصدق عاقل في هذه الدنيا ما يقولُه الدبُّ الروسيُ -بل قل الشيطان- عن المسلم الشيشاني بأنه هجمي، ومصاصُ دماءِ، وقاطعُ طريق،

عدو الله - صلى الله عليه وسلم - المتعصب الروسي الأحمق"جيرنيوفسكي"

وقائدُ عصاباتِ لصوص، وإرهابيٌّ، وبربري، وكما يَصِفُهم كتابُ وزارة الداخلية الروسية "النظام الإجرامي من 1991 إلى 1995 م "؟!. الفكرةُ الأساسية للكتاب تتركَّزُ حولَ تصويرِ الشيشان بأنها دولةُ عبيد، وأحدُ فصولِه يَحملُ عنوان "عبيد القرن العشرين"، وهو محاولةٌ للتأثير على القارئ، بل حَمْلِهِ على الاعتقادِ بانحطاطِ أخلاقِ الشيشانيين، حيث يَصِفُهم بالوحشيةِ والساديةِ والتعصُّبِ والفاشية، بل يتهمُهم بأنهم مسؤولون عن إدمانِ الشبابِ الروسي للفودكا وإغرائهم بالإفراطِ فيها. الكتابُ حافلٌ بمثل هذه الاتهاماتِ والسبابِ المُقذع دون تقديم أدلةٍ أو وقائعَ تُثبِتُ هذه الاتهامات، وتتلخصُ رسالةُ الكتاب في آخِرِ عبارة وردت به: "لقد نَفِد صبرُ الشعب الروسي .. فمن لهؤلاء المجرمين لكلي يوقفوهم عند حدودهم؟ ". ° في الصحافة كتب "ميخاييل بارسكوف" في "أخبار موسكو" (20 يناير1996م يقول: الشيشاني قادر فقط على القتل، فإذا لم يَستطع ذلك فإنه يسطو، فإذا لم يستطع السطوَ يسرق، وليس هناك نوع آخرُ عن الشيشانيين خلاف ذلك". ° هذا ما يقول الدب الروسيُ "بوتين" وعصابتُه أبالسةُ البشر. . ولكن الله يمهلهم .. حتى إذا أخذهم لم يُفلِتهم لإجرامِهم في حق المسلمين أتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * عدو اللهِ - صلى الله عليه وسلم - المتعصبُ الروسيُّ الأحمق"جيرنيوفسكي": ° يقول المتعصب الروسي "جيرنيوفسكي" الذي ظَهرَ أخيرًا بقوةٍ

على المسرح السياسي بعد انهيارِ الاتحاد السوفيتي: "إن جميعَ مصائب روسيا آتيةٌ من الجنوب (¬1)، ولابدَّ من حملة ٍصليبيةٍ يشُنُّها الجيشُ الروسيُّ للوصولِ إلى شطآنِ المحيطِ الهنديَّ والبحر ِالمتوسِّط" ° ويقول أيضاً: "فالجنسُ التركي الملعونُ (!!) هو الجنسُ الذى هدد أوربا -ولايزل-،وهو الجنس الذى دمر "القسطنطينية"،وقرع أبواب "فيينا"، وشن حربَ إبادة على العِرْق السُّلافي" (¬2). ° وفي مقابلةٍ مع هذا الحاقدِ العنصري، يقول: "سنطرحُ تجزئةَ تركيا وإيران أفغانستان بوَصفِها دولاً مُصطنعةً لا آفاقَ لها، خُذ تركيا مثلاً: فقيل خمسة قرون ركِبَ الأتراكُ خيولَهم ويمَّموا صَوبَ الغَرب، حيث كانت تزدهر الإمبراطورية البيزنطية بعلومها وفنونها، الآن هناك "استنابول" بدلاً من القسطنطينية، إنه اغتصابُ أراضيِ الغير، ينبغي أن تعودَ الأمورُ إلى نِصابها، وأن يتَحدَ العالَمُ المسيحيُّ مجدَّدًا في القدس، وأن تصدحَ في القسطنطينية أجراسُ الكنائس .. إذا لَم نتحرك نحوَ الجنوبِ فإنهم (¬3) سيَصعدون إلى الشمال، وليس ثَمَةَ خِيارٌ ثالثٌ" (¬4). ° يقول الأمير "شكيب أرسلان": "إن الروح الصليبيةَ لم تَبرحْ كامتةً في صُدور النصارى كُمُونَ النَّارِ في الرماد، وروحَ التعَصُّبِ لم تنفَكَّ مُعتلِجَةً في قلوبهم حتى اليوم ِكما كانت في قلبِ "بطرس الناسك" من ¬

_ (¬1) أي: من المسلمين. (¬2) جريدة "الحياة" 6/ 5/ 1994. (¬3) المسلمون. (¬4) جريدة "الحياة" 10/ 5/ 94، وكتاب التعصب الأوربي أم التعصب الإسلامي مقدمة لمحمد العبدة (ص 12 - 13).

"غودفروا كورت" الصليبي وكتابه "الصليب والهلال"

قبلُ، وإنَّ ما يَدْعُوه الفرنجةُ عندنا في الشرق تعصبا مذمومًا، هو عندهم في بلادهم العصبيةُ الجنسيةُ المبارَكةُ والقومتةُ المقدَّسة" (¬1). * "غودفروا كورت" الصليبي وكتابه "الصليب والهلال": ° يقول "غودفروا كورت" في كتابه "الصليب والهلال" الذي كتبه في سنة 1889 م: "إن الإسلامَ قد عَمِل ما لم يَقْدِرْ أن يَعْمَلَه -بل ما لم يجرؤ أن يَعملَه- دينٌ آخرُ؛ وذلك بأن الصليبَ تغَلَّبَ على كل شيءٍ أمامه، وجاء الإسلامُ أحيانًا فتغلب عليه، وكان الصليبيون يقولون في قتال الإسلام: هكذا يريدُ الله، ونحن يمكنُنا أن نُعيدَ اليوم العبارةَ نفسَها، وأن نحاربَ العدوّ الذي حارَبَه آباؤنا". ° ولا يزال التاريخُ يذكرُ أن أولَ من دعا الأوربيين إلى حربٍ صليبيةٍ هو البابا "سلفستر الثاني" -وذلك سنة1002 م-، ثم جاء البابا "غريغوريوس السابع"، فاستنفر جميعَ ملوكِ أوربا لحربٍ دينيةٍ ضدَّ الإسلام، وذلك سنة (1075). ° ولمَا سقطت "عكا وصور"، كتب البابا "نيقولا الرابع" كتابًا تاريخُه 23/ 8/ 1291 إلى "فيليب لوبيل" ملك فرنسا، يُظهر له به أَلَمَه، ويستنجدُه ليجمعَ كلمةَ ملوكِ النصارى، ويتتقمَ من الإسلام، ولكن البابا مات قبل تحقيقِ أمله (¬2). ° وتقدَّم البابا "أكليما ندوس الخامس" إلى "جاك دوموليه" رئيس ¬

_ (¬1) "حاضر العالم الإسلامي" (1/ 137). (¬2) "تعليقات الأمير شكيب أرسلان على مئة مشروع لتقسيم الدولة العثمانية" (ص 28).

الصليبي المجرم "بيوس الخامس"

نظام الفرسان الهيكليين "فرسان المعبد أو فرسان الهيكل" "الداوية" بترتيبِ برنامجٍ لمحاربةِ المسلمين، وذلك سنة 1307 م، فأشار هذا الرئيسُ بجمع كلمةِ النصرانية على قتالِ المسلمين، وأنه لا يجبُ أن يَقِل الجيشُ عن خمسةٍ وستين ألفَ مقاتل، وأن يكون معزرًا بأسطولٍ يرسو في مياه قبرص (¬1). ° وكتب البابا "سيلفويورس" إلى السلطان "محمد الخامس" سنة 1463 م يدعوه أن يتنصَّر، وقال له: "بقليل من الماءِ على بدنك تتعمَّدُ وتصيرُ نصرانيًّا خادمًا للإنجيل، فإن فعلتَ هذا لا يكونُ على وجهِ الأرض مَلِكٌ يمكنه أن يفوقَك في المجدِ والاقتدار" (¬2). * الصليبيُّ المجرم "بيوس الخامس": ما أسمَجَ هذه الرسالة، وما أقل عقولَ هؤلاء القُسُس!!. ° ومِن أعداءِ المسلمين المتعصبُ الصليبي القذر "البابا بيوس الخامس" الذي جَمع جيوشَ فرنسا وإسبانيا والبندقية وملوكَها لمحاربةِ العثمانيين والانتصارِ عليهم في خليج "ليبانت" (¬3) سنة 1571 م. ومن أراد التوسُّعَ في عمل الصليبيين ضد الإسلام، فليقرأْ كتاب "مئة مشروع لتقسيم الدولة العثمانية"، يستوي في ذلك الرجال والنساء .. وما أمرُ "إيزابيللا" ملكة أسبانيا، و"كاترينا الثانية" إمبراطورة روسيا -الألمانية الأصل- منا ببعيد. ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 32). (¬2) المصدر السابق (ص 34). (¬3) خليج ما بين شبه جزيرة المورة وبقية شمال اليونان عند مدينة ليبانت.

أمريكا عدوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و"عاصفة الصحراء" أو "المجد للعذراء":" Avemary".

° ضع إلى جانبِ هولاء الأفعى اليهودية عَدوَّةَ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بدءً من "هرتزل، وبن جوريون، ومناحم نيجين، وشارون، ورابين، وموفاز، وكيسنجر" .. ولا ننسى الأفعى عدوَّةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم "جولدا مائير" التي وصفها "بن جوريون" في مذكِّرَاته بإنها "الرجل الوحيد في إسرائيل"، وهي التي طافت بدولِ الغرب، وجَمَعت المال لقيام دولةِ "إسرائيل" .. عليها لعنةُ الله ولعنةُ اللاعنين. * أمريكا عدوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و"عاصفةُ الصحراء" أو "المَجْدُ للعذراء":" Avemary". لقد كان الاسم الكوديُّ لمعركةِ العراق كفيلاً بأن يفهم أي غَبِيًّ مراميه، كان " Ave mary"، وتعني "المجد للعذراء" فهولاء السفلةُ الفُجَّارُ نسبوا للعذراء الطاهرةِ ما هي منه براء (¬1). ° وقال الدكتور محمد عباس: "إن الاسمَ الرمزيَّ لحرب تدميرِ العراق ليس "عاصفة الصحراء"،بل "المجد للعذراء - AVe Mary"، كانت هذه الترتيلةُ الكنسيةُ في تحيةِ وتمجيد العذراء مريم هي الصيحةُ التي أطلقها السفاحُ "شوارتسكوف" مع أولِ صاروخ في حرب الخليج، ولقد كتبوا على صاروخ منها: "إن كان محمدهم لا يستجيبُ لدعائهم، فليدعوا المسيح". وفي مخبأ "العامرية" في بغداد قُتل مئات المدنيين، من بينهم أكثر من أربعمئة طفل بصاروخٍ من صوريخ المجزرة الأطلسية في حرب ¬

_ (¬1) "بغداد عروس عروبتكم" (ص 223 - 224) للدكتور محمد عباس -مكتبة مدبولي الصغير.

الخليج" (¬1). قبلَ دخول أمريكا العراق قَدَّم "رامسي كلارك" شكوى جنائيةً ضدَّ الولاياتِ المتحدة الأمريكية لتسبُّبِها في موتِ أكثرَ من مليون ونصف مليون شخص- بينهم (750.000) طفل دون الخامسة -عن طريق عقوباتِ الإبادة الجماعية. ° ماذا فعلت أمريكا بالعراقيِّين في حرب الكويت قبل غزوِها واحتلالها للعراق نفسه؟! هذا ما يقصُّه علينا الدكتور محمد عباس في كتابه "بغداد عروس عروبتكم" (ص 218 - 225): "يقول الطيار الأمريكيُّ "ريتشارد وايت" عن الغارات الجوية على العراق: إنها كانت "تكاد تُشبِهُ إضاءةَ المصباح في المطبخ ليلاً، فتنطلق الصراصيرُ مسرعةً فتقتلها". ° لم يكنِ القرارُ قرارَ الأمم المتحدة، كان قرارَ أمريكا المجرمة، ولقد نشرت صحيفةُ "الإندبندنت" أن "صدام حسين" قال للأمين العام للأمم المتحدة: "إن قراراتِ الأمم المتحدة كانت في الواقع قراراتٍ أمريكيةً، وليست ما يريدُه مجلسُ الأمن" .. فرد عليه: "أوافقك الرأي". أظهَرَ شريطُ فيديو متطورٌ التُقط ليلاً المجنَّدين العراقيين سيئي الحظَّ والنارُ تطلَق عليهم في الظلام، وبعضُهم قد تمزَّق بفعل قنابل المدفعية. ° وكتب "جون بالزار" من صحيفة "لوس أنجيلوس تايمز" يقول، إن العراقيين كانوا: "مِثلَ قطيعٍ من الغنم أُخرج من حظيرته، كانوا مصعوقين ¬

_ (¬1) "إني أرى الملك عاريًا" للدكتور محمد عباس (ص 158).

ومرتعِبين، استيقظوا فزِعين فارِّين من خنادقِ النار، كانوا يُذبَحون واحدًا بعد الآخَر على أيدي مهاجمين لا يستطيعون رؤيتَهم أو فهمهم، ومزَّقت بعضَهم انفجاراتُ قذائفَ مدفعيةٍ عيار (ثلاثين ملم)، وسقط جندي وتلوَّى على الأرض وحاول النهوض، ولكن انفجارًا آخَرَ مزقه إرَبًا". ° الطيارُ الأمريكي المجرم "رون بالاك" يفخر قائلاً: "عندما عدتُ جلستُ على جَناح الطائرة ورُحتُ أضحك، ربما كنتُ أسخرُ من نفسي، أتسلل إلى هناك، وأضربُ هنا، وأضرب هناك، اقترب رجل مني وربَّت كلٌّ منَّا على ظَهرِ الآخر، ثم قال: يا إلهي، ظننتُ أننا قَصَفْنا مزرعةً، بدا وكأن أحدًا قد فتح بوابةَ حظيرةِ الخراف". ° أما القرصانُ الضابط "براين ووكر"، فقد كان يتطلِعُ إلى المزيدِ من نفسِ النوع من القتل حيث قال: "لا يوجد ما يمكنُ أن يُخرجهم من أماكنهم مثل الآباتشي -طائرة هجومية-، سيكون الأمر مِثلَ صَيدِ البط". أحدث العَرضُ الشامل للأسلحة المتطوَّرةِ مجزرةً جماعيةً لعدوًّ لا حول له ولا قوة، استَعملت الجيوشُ الأمريكيةُ والبريطانيةُ قاذفةَ صواريخ من طراز" MLRS" وكلُّ عربةٍ من هذا النوع تستطيعُ إطلاق اثنَي عَشَرَ صاروخًا لمسافةٍ تزيدُ على عِشرينَ ميلاً، وُيطلِقُ كل صاروخ من هذا النوع ثمانيةَ آلافِ قنبلةٍ مضادةٍ للأفراد". ° في المراحل الأخيرةِ من الحرب أطلَقَ الجيشُ الأمريكي عشَرةَ آلافِ قذيفة " MLRS" في حين أَطلقت القواتُ البريطانية 2500 قذيفةٍ أخرى.

° قنابل "روك" -أي العنقودية- تحتوي الواحدةُ منها على (247) قنبلةً يدويةَ ضدَّ الأفراد تنفجرُ إلى ألفَيْ شظيةٍ عاليةِ السرعة كالمُوسَى تُمزَّق الأشخاص". ° ويقول: "بدأت هذه المرحلةُ من المذبحة عندما رَصدت الطائراتُ الأمريكيةُ أرتالاً من الرجالِ اليائسين في طوابيرَ من العَجَلاتِ العسكرية والمَدَنيةِ متَجهةً صَوبَ العراق، كان العراقيون وقتَها يَلتزمون بمطالبِ الأمم المتحدة بالانسحاب من الكويت، غيرَ أن هذا الانسحابَ الواضحَ لم يُنقِذْهم، وتعاقَبت الطائرتُ الأمريكيةُ على شنِّ الغارات، فكانت المذبحةُ كاملةَ .. هُوجم العراقيون الهاربون، وأَسَرَهم الكويتيون بلا رحمةٍ بالقنابل العنقودية التي تَقطَعُ اللحمَ البشري قِطَعًا صغيرةً .. كانت المجزرةُ جهنميةً، واستمرث ساعاتٍ عدةً، وتناثرت الجثثُ والأشلاءُ المقطعةُ في كل مكان، وتَحَجَّر بعضُ الجثثِ في العجلات، واحترق بعضُها الآخر، ولم يَتبقَّ من الوجوه سوى الأسنان". ° عَلق ضابطُ الاستخباراتِ العسكريةِ المقدِّم "بوب نجنت" أنه لم يشاهِدْ مِثلَ هذه المجزرةِ حتى في "فيتنام". ° ووردت تقاريرُ بأن قواتِ التحالُفِ استعملت البلدوزرات لدفنِ الآلافِ من قتلى العدوّ في الخنادق، وأثناءَ تقدمها قُتل جنود عراقيون كثيرون بدفنهم أحياءً. ° العقيدُ الأمريكي "لون ماغارت" يُقدِّرُ أن القوةَ التابعةَ له قَتلت 650 عراقيًا (¬1) .. ومثالاً على البربريَّة الأمريكية: ¬

_ (¬1) "بغداد عروس عروبتكم" (ص 22) للدكتور محمد عباس- مكتبة مدبولي الصغير.

° تحت عنوان "المجد للشيطان" كتب الدكتور محمد عباس قائلاً: "كان ما حَدَث في مخبأِ إلعامرية مجدًا للشيطان، وأيَّ مجد!. هاجمت طائرةٌ أمريكيةُ من نوع "الشبح" ملجأَ العامرية بصاروخ موجَّهٍ بالليزر مُحدِثًا فتحةً في السطح والسقفِ، وانفجر في مستشفى الملجإ، وبعد أربع دقائقَ وُجه صاروخٌ اَخَر عَبَر الفتحةَ نفسَها التي أحدَثها الصاروخُ الأول، وأغلق انفجارُ الصاروخ الثاني الأبوابَ الفولاذيةَ التي يَبلغُ وَزنُها ستةَ أطنانٍ وسُمكها نصفَ متر، وأَحرق مئاتٍ عدةً من الأشخاص، في الطابق الأعلى، تبخَّر كثيرون منهم بالحرارةِ، التي بَلغت درجتُها آلافًا عدةً والمتولِّدةِ من الانفجار، وكان مصير مئاتٍ عدةٍ من الأشخاصِ الغَلَيانَ حتى الموتِ في مياه المراجِل الضخمةِ المدمَّرةِ في الانفجار. لا يُعرفُ على وجهِ التأكيد عدد المدنيين الذين قُتلوا في ملجإِ العامرية في تلك الليلة، كان السجِل المدونةُ به أسماءُ الأشخاص الذين احتَمَوا بالملجإِ قد أُودع في الملجإِ نفسِه ولم يَعُدْ له أثرٌ، ولكن من المعروف أنه قَبل تلك الليلة، كان (1500) شخصٍ يُوقِّعون عند دخول الملجإِ كل ليلة، وعُثر بعدَ الجزرةِ على أحدَ عَشَرَ شخصًا قذف بهم خارجَ الملجإ، وبعد ساعاتٍ عدةٍ مرعبةٍ استُخرجت من البناية البقايا السوداءُ المشوَّهةُ لأربَعِمئةٍ وثلاثةِ أشخاص، وقُدر أن مئاتٍ عدةً من الأشخاص قد احتَرقوا وتبخَّروا ولم تَعُدْ ثَمَّةَ وسيلةٌ لتحديدِ هُويَّتِهم أو حتى عددِهم، ووَصَف شهودٌ -منهم "تام دالي" العضو العمالي في البرلمان البريطاني- آثارَ النساءِ والأطفال المتفحِّمةَ على جُدران الملجإ، تفحمت طَبعات أقدامٍ وأيدٍ صغيرةٍ على الجدران والسقوفِ، وانطبعت على جدرانِ الطابق الأسفل عند علامةِ الماء في

جرائم الإبادة الأمريكية للمسلمين في العراق وأفغانستان وفلسطين وغيرها

الخوانات المتفجرة آثارُ اللحم البشريِّ على ارتفاع خمسةِ أقدام" (¬1). * جرائمُ الإِبادةِ الأمريكية للمسلمين في العراق وأفغانستان وفلسطين وغيرها: إن هذه الصفحاتِ تكتب بدموع العين ودماءِ القلوب .. كل سطر فيها يَنطق بالبربريةِ والوحشيةِ الأمريكيَّة .. كلّ حَرف فيها يكتب بالقنابل العُنقودية المحرَّمة دوليًّا .. وإذا جمعت مذابحُ المسلمين في كلِّ مكان، فهي ضئيلة بالنسبة لِمَا حَدَثَ ويَحدُثُ في العراق وأفغانستان، والسلاح الأمريكى في فلسطين يُسيلُ أنهارَ الدماء المسلمة، والقتلُ الوحشي والجماعيُّ للأطفال والشيوخ، بل ودَفنُ المسلمين أحياءً، والاغتصاب الجماعيُّ للفتيات والنساء، وما سِجنُ "أبو غريب" مِنَّا ببعيد .. قَتلُ الأخضر واليابس، وقَتلُ الحياة كأبشع ما يكون القتل: بَقْر بطونِ الحوامل، واغتصابُ الحرائر، وذَبحُ الشيوخ والأطفال، والشذوذ مع الرجال .. رأسُ الأفعى أمريكا تُهدِّدُ العالم، ونحن قطعانٌ تُساق إلى المجزرة .. أجسادُنا أجسادٌ ممزقةٌ بمخالبِ الوحوشِ الأسطورية. ° لقد فعلت أمريكا بالبشر ما لا يُصدِّقه عقل، يقول "تشومسكى" عن القتل الذي يُمارسه الأمريكيون غِلاظُ الأكباد: "لم يكن عملُ القوَّاتِ التي حَركناها هو القتلَ العادي، ولكن كان بصفةٍ رئيسيةٍ القسوةَ والتعذيبَ الساديَّ: تعليقُ النساءِ من أقدامِهن بعد قطع أثدائِهن وتقشيرِ بَشَراتِهن، قَطعُ رؤوس الناس وتعليقُها على خوازيق، وضرب الأطفال بالحوائط". ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 334 - 225).

القس المجرم عدو الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -: زكريا بطرس، أقذر أهل الأرض

لا تكتفي فِرقُ الموت بقتل المواطنين، بل تَفْصِلُ رؤوسَهم وتَضعُها على خوازيق .. تَنزعُ أحشاءَ الرجال، وتَقطَعُ أعضاءَ ذكررتهم، وتَضعُها في أفواههم .. ولا يكتفي الحرسُ الوطنيُّ باغتصابِ النساء، بل بقطع أرحامهن، ولا يَكتفي بقتل الأطفال، بل يَسحبهم على الأسلاكِ الشائكةِ، أمامَ أعيُنِ آبائهم" (¬1). ° واللهِ لو أن شياطينَ الإنسِ والجن اجتمعوا لدمارِ قُطرٍ ما زادوا على ما فَعَلَتْه أمريكا بأهل العراق وأفغانستان .. وهي رأسُ الشرَّ ضدَّ المسلمين في كل مكان .. فلعنةُ الله على النصارى الصليبيين الذين روعوا ديارَ المسلمين وملؤوها دماءً ودموعًا .. واللهُ حسيبهم، وهو المنتقمُ منهم .. وإن غدًا لموعدهم قريبًا. * القَسُّ المجرمُ عدوُّ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -: زكريَّا بطرس، أقذرُ أهل الأرض: نعم .. هو أقذرُ أهل الأرض وأنتنُهم وأقبحُهم وأفجرُهم، وأشدُّ أعداء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ما نال في عصرِنا أحدٌ من نبيِّنا ما نال، وما حَقد أحدٌ على نبينا ما حَقَد هذا اللئيمُ، وما افترى أحد على نبينا ما افترى هذا الخنزيرُ عارُ البشرية الذي يبثُّ سمومَه على قناتِه "الحياة" وهو عدوُّ الحياةِ والبشرية .. واللهِ لو لَقِيتُه يومًا لَثأرتُ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ثأرًا يقربني من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلما فَعل "صلاح الدين" مع الفارس اللص "أرناط". ° إنَّ نهايةَ هذه الأكاذيبِ المتفشية، ونهايةَ هذه الغطرسةِ العنصريةِ وتلك الثرثرةِ المنشورة، نهايةُ كل هذا سُمٌّ مصفًّى يتسرَّب في شرايينِ هذا ¬

_ (¬1) "بغداد عروس عروبتكم" (ص 33).

تحريف القرآن

الوغدِ الذميم القمِيء "زكريا بطرس". ° وهذه أمثلةٌ لرؤوسِ شبهاتِه التي يبثها سامةً على القناة .. وهذه الأكاذيبُ سنُفرِدُ لها رَدًّا خاصًّا .. فانظرْ إلى قُبح الرجل وسُمومِه، تَعلمْ سِرَّه وطويَّته وسوءَ سِرِّه وعلانيته .. وهذه السمومُ جَمَعها فضيلة الشيخ "أبو إسلام أحمد عبد الله" من كل تسجيلات هذا المجرم تمهيدًا للردّ عليها. * تحريف القرآن: 1 - هل مخطوطة "سمرقند" هي نفسها القرآن الحالي؟. 2 - انظر بعينك إلى سورة "الولاية" في مصحف الشيعة بإيران. 3 - قرآن واحد أم أكثر؟. 4 - الإتقان في تحريف القرآن. 5 - هل القرآن معصوم؟. 6 - المتناقضات في القرآن. 7 - قضية الناسخ والمنسوخ في القرآن. 8 - الشيعة والقرآن. 9 - مصحف محرَّف يُغرِقُ الأسواقَ اليمنية. * تجسد الله وصفاته: 10 - الله جالس على حيوانات. 11 - الله له صورة وكفَّان. 12 - الله بيلعب استغماية ويغير صورته أمام الناس.

13 - الله يضحك ويَهتز عرشُه. 14 - الله يمسحُ الظَهر بيمينه. 15 - الله له صورة وله يد. 16 - الله له إبهام وأنامل وأصابع. 17 - الله دمُه خفيف ويضحك. 18 - لله له يد يمنى. 19 - الله يَبسطُ يده. 20 - الله يَتزلُ للسماء الدنيا. 21 - الله له خمسُ صابع. 22 - الله له قدم ويضعها في جهنم. 23 - الله له يمين. 24 - الله ينفق بيدٍ ويحمل ميزانًا بيده الأخرى. 25 - كيف سترى اللهَ اللا محدود بعينك المجردة يا مسلم؟. 26 - الله مكسوف ويضع رداءً على وجهه. 27 - الله يهرول ويركض. 28 - الله ليس أعورَ. 29 - الله "سكسي" ويكشف عن ساقه أمام الناس. 30 - الله يكشف عن وجهه ويريهم شكله الحقيقي. 31 - المسلمون يَزورون الله ويجلسون معه.

32 - الله خَلق آدم على صورته. 33 - الله ينزل للعباد ليقضيَ بينهم. 34 - الله يجلسُ على ديك ويتحدث معه (كو كو كو كووووو). 35 - الله يملُّ ويسأم. 36 - الله يقف أمامَ المسلم بينه وبين القِبلة، فلا تَبزُقوا أمامكم. 37 - الجنة والنار يتحاورانِ، والله يتدخل في الحوار، ويضع رجله في جهنم. 38 - محمد رأى اللهَ بعينه أكثر من مرة (لماذا لم تصفه لنا يا أستاذ؟). 39 - اللهُ يقبِّلُ ويضحك لمن استلقى على دابته. 40 - الله له يَدًا وَيدين وأيدِ، وَوَجْهًا وعينًا وأَعينًا (¬1). 41 - الرعد هو منطق الله، والبرق هو ضحك الله. 42 - الله ينزله يوم الجمعة راكبًا علي جمل وعليه إزار. 43 - الله يتجلي للناس عامةً، ويتجلى لأبو بكر خاصةً. 44 - الله جالس على كرسيًّ من ذهب محفوفِ بمنابرَ من ذهب مكللةٍ بالجواهر. 45 - لغة حملة العرش الفارسية، وكلام الناس يوم القيامة السريانية. 46 - محمد رأى اللهُ قدميه على خضرة ودونه ستر من لؤلؤ. 47 - الله له حقو (خَصْر)، تتعلقُ به الرحم والله يتكلم مع الرحم. ¬

_ (¬1) كذا قال .. وواضحٌ لحنُه القبيح في كل كلامه الخبيث الفاجر.

48 - يجلسُ على العرش والعرشُ له أَطيطٌ وصريرٌ من ثُقله، ويشبه الراكب على الرحل. 49 - حَمَلةُ عرش الله هم أوعال (حيوانات)، وهم فوق بحر بعد السماء السابعة. 50 - حَمَلةُ العرش إنسان وثور وأسد، لهم أجنحةٌ، إذا حركوا أجنحتَهم فهو البرق. 51 - ينزل للسماء الدنيا بروحه فتنتفض روحُه وتنتفض الملائكة. 52 - الله يدنو ويقتربُ ويتدلَّى كالخفاش. 53 - الله يتحسر. 54 - الله يَرمي وَيقتلُ وُيقاتل ويحارب في الحروب. 55 - الله ينفخُ في الفروج (تعالى الله عما تقولون). 56 - اللهُ يأتي ويجيئ راكبًا على غمامة. 57 - اللهُ يشمُ رائحةَ فم الصائم، ويحب رائحةَ فمِه أكثرَ من المسك. 58 - يستوي على العرش. 59 - الله يشعرُ بالأسف. 60 - الله يتبشبش. كما يتبشبشُ الناسُ عند استقبال الغائب عند عودته. 61 - الله يُبغضُ ويَكرهُ الناسَ ويَفرضُ على جبريل أن يُبغِضَهم ويكرههم.

62 - الله يتجلي للجبل، ويتجلَّى في صورة نار، ويتجلَّى في شجرة. 63 - الله له خِنصر (إصبع من أصابع اليد). 64 - الله يتردد (سبحان الله عما يصفون). 65 - الله يَعجَب ويتعجب (سبحان الله). 66 - الله مخادع، يخادع الناس. 67 - الله زارع ويزرع. 68 - الله طبيب. 69 - الله ماكر ويَمكُر. 70 - يشبهون نورَ الله بمشكاة فيها مصباح، والمصباح في زجاجة يوقَدُ من شجرةٍ مزَّيتةٍ بزيتٍ. 71 - إله الإسلام جاهل ولا يعلم. 72 - الله ضعيف الذاكرة وينسى. 73 - الله نَعجةٌ وشاةٌ وبقرةٌ وثور (تعالى الله عما تصفون). 74 - الله يأمرُ بالفسق. 75 - الله يُبدِّلُ كلامَه ويغيَّرُ رأيَه. 76 - الله يردحُ لأبو لهب وامرأته حماله الحطب (منذ الأزل وفي اللوح المحفوظ). 77 - تسبيحٌ وتهليلٌ حول العرش كصوتِ دويِّ النحل. 78 - عَرشُ الله معلَّقٌ عليه قناديلُ، وتدخل فيها الأرواح التي هي في

جَوفِ طيورٍ خضراءَ. 79 - الله يصلي؟ .. ماذا يقول؟ .. ولمن يصلي؟ .. وصلاته مثلُ صلاة محمد؟. 80 - الحجر الأسود يمين الله، واللهُ يصافح الناس بيمينه. 81 - كلتا يدي الله يمين وأُناسٌ جالسون عن يمينِه على منابرَ من نور. 82 - الله يقفُ أمامَ المسلم عندما يصلِّي، والذين كانوا يَبصُقون كانوا يَبصُقون على الله. 83 - اللهُ يُمسكُ خُبزةً بيده كما يُمسكُ الإنسانُ خبزته. 84 - البشرُ يُقرِضون اللهَ أموالاً. 85 - اللهُ له جد؟ يا ترى من أبوه وأمه؟!. 86 - الله يستشيرُ الملائكة في خلق آدم والملائكة تعترض على الله؟؟. 87 - اللهُ يرسلُ الشيطانَ مع الملائكة لمحاربةِ الجن وقتلهم، لأنه فشل في خَلقِهم وأفسدوا في الأرض؟. 88 - إلهُ الإسلام يُحلِّلُ الكذبَ وإنكارَ ذات الله. 89 - إلهُ الإسلام يَشرع ويحلل، يُزيِّنُ شهوةَ النساء للمسلمين. 90 - الناس يُقرِضون الله أموالاً وحدائقَ ونخيلاً ويدخلون الجنة!!!. * أخلاق نبي الإِسلام {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم}: 91 - محمد يقتلُ زوجَ صفيةَ بنتِ حُيي وأباها وعمَّها وكلَّ قومها ويأخذُها لنفسه. 92 - محمد يشتهي زينبَ بنتَ جحش (مرأة ابنه بالتبني زيد بن

الحارثة) ويتزوجُها. 93 - محمد يحلل الدعارة. 94 - طريقُ الجنة هو السرقةُ والزني. 95 - والله إنكن لاحبُّ الناس إلي. 96 - التمتعُ بالنساء. 97 - محمدٌ قليلُ الأدب وَيسبُّ ويَلعن. 98 - ثكلتك أمك. 99 - محمدٌ يُعرِّي ابنتَه فاطمة أمام العبيد. 100 - آية المتعة. 101 - محمد يَزني مع ماريا القبطية. 102 - الطلاق والمحلَّل وتذوُّقُ العُسيلة. 103 - محمد يشتهي النساءَ، ويأتي نسائه، ويحلل شهوة النساء بشرطِ إتيان الأهل. 104 - محمدٌ يمج في الماء، ويغسل قدميه ويتوضأ، ثم يأمرُ الناسُ أن تشربَ منه. 105 - الرسول يأكلُ مما ذُبح للأنصاب والأوثان وزيدٌ يرفض. 106 - محمد تزوجَ ميمونة وهو مُحرِم. 107 - مضاجعةُ الحائضُ. 108 - إذا تزوج العبدُ بغير إذن سيده كان عاهرًا.

109 - كان يرفعُ يديه حتى يُرى بياضُ إبطيه. 110 - مفعولُ الفياجرا والرسول. 111 - إن ربك لَيسارعُ في هواك، والمرأة التي تَهَبُ نفسَها للرجل. 112 - فاتزرت وهي حائضٌ ثم يباشرها. 113 - يباشِرُ عائشة وهو صائم. 114 - يَمصُّ لسانَ عائشةَ وهم صائم. 115 - يطوفُ على نسائِه بغُسل واحد. 116 - اكشِفي عن فخذيك. 117 - اضطجَعَ مع امرأةٍ في القبر. 118 - قائمةٌ بأسماء زوجاتِ النبي. 119 - مَن عَقَد عليهن ولم يدخل بهن. 120 - مَن خطبهن ولم يَعْقِد عليهن، أو عَرَضْنَ نفسَهنَّ، أو عُرِضْنَ عليه. 121 - سراريه. 122 - كان يأتيه الوحيُ وهو في لحاف عائشة. 123 - مات ورقةُ بن نوفل وفَتَر الوحيُ وحاول محمد الانتحارَ مرارًا. 124 - أفخاذ خديجة وبرهان الوحي. 125 - محمد يصلي وَيغمِزُ أفخاذَ عائشةَ لتغلقَ رجلَيْها وإذا قام بسطتهما. 126 - محمد يصلي من غيرِ وضوء.

127 - أمر بالوضوء بماءٍ مخلوط بحيضٍ ولحمِ كلابٍ ونتانةٍ. 128 - يحكُّ النخامةَ والمخاطَ والبُصاق بيده. 129 - محمدٌ لا يضمنُ دخول الجنة. 135 - المرأةُ لها قُبُلٌ شهي، والرجل له ذَكر لا ينثني. 131 - اقرأُ عن الجنسِ والدعارة في الجنة وفي محضرِ الله القدوس. 132 - غَسَلَ فرجَه، وتمضمض، ودَلَك يده بالحائط. 133 - يتبرزُ أمامَ الناس ويأمرُهم أن يأتوه بثلاثة أحجار. 134 - محمدٌ يستغفرُ ويتوبُ في اليوم أكثرَ من سبعين مرةً. 133 - باعِد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب. 136 - فاغفر لي ما قدَّمت وما أخرت. 137 - يقول: إنه سيد الناس يوم القيامة (اقرأ واحكم بنفسك). 138 - الخطيئة مورثَّة في الإسلام. 139 - تحليلُ شرب الخمر في القرآن. 140 - ألا خمَّرته؟. 141 - الرسولُ خبير في الخمور. 142 - كان الناسُ يَنبِذون لمحمد. 143 - يأمرُ عائشةَ أن تأتيَه بالخمرِ في المسجد. 144 - يُنبذُ له الزبيبُ في السقاء. 145 - يُنبذ له يومَ الإثنين، ويَظلُّ يشربُ منه إلى يوم الأربعاء.

146 - محمد يتوضأ بالنبيذ. 147 - محمدٌ يأمر باللواط ومباشرةِ الرجل للرجل والمرأةِ للمرأة. 148 - عشرة ما بينهما ثلاثة ليالي (نظام البوي فريند، والجيرل فرند). 149 - لَبيد بن الأعصم اليهودي يسحرُ محمدًا (النبي المسحور). 150 - الإسلامُ يُحلِّل نكاحَ الرجل ابنتَه من الزنى أو أختَه من الزنى أو بنتَ ابنِه من الزنى. 151 - زواج المتعة. 152 - انكح وادْفَع الأجر. 153 - النساء يَهَبْنَ أنفسَهن وأجسامَهن لمحمدٍ (الزنى حلال عليه وحرام على غيره). 154 - {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51]. 155 - آيات شيطانية في القرآن يتكلم بها محمدٌ ويسجد للأصنام. 156 - محمدٌ الشكاك يشكُّ في الوحي (حتى بعد مرور 14 سنة من رسالته). 157 - تأخذُ فلوس وتبقى مسلم؟ (المؤلفة قلوبهم). 158 - دعارة في المسجد على زمن الرسول. 159 - محمد يصلي على حمار. 160 - محمد يصلي إلى مُؤَخِّرة الحيوانات. 161 - محمد كان ينافقُ ويرائي المشركين بالحجر الأسود.

162 - محمد مبتكرُ سكوك الغفران. 163 - محمدٌ يحتقرُ العُميان وَيعبَسُ في وجوههم. 164 - محمدٌ يطردُ الفقراء. 165 - يأمرُ الناسَ أن يأكلوا جيفةَ حمارٍ ميتٍ (لاحظ ألفاظ محمد القذرة). 166 - لا يسمحُ لأحدٍ أن يُكلِّمه إلا بعد أن يدفعَ له نقود. 167 - محمدٌ يُغري ويفتن الرجال بالنساء لكي يغزوا. 168 - يَقبلُها على الناس، ولا يقبلها على ابنته. 169 - يأمرُ الناسَ بالوضوءِ بلحم الإبل. 170 - محمدٌ المقمَّل تفلي رأسَه امرأة. 171 - تحتَ سريرِه قدح يبول فيه بالليل. 172 - يقرأُ القرآنَ ورأسُه في حِجر عائشة وهي حائض. 173 - محمدٌ يشتهي طِفلةً فوق الفطيم. 174 - الرسول يمصُّ لسانَ علي بن أبي طالب، ويُغذيه من ريقه المبارك. 175 - محمدٌ يلبسُ مِرْطَ عائشة وهو مضطجعٌ كاشفًا فخِذيه. 176 - محمدٌ عريان ويَحضِنُ ويُقبِّلُ الرجال. 177 - محمدٌ يصلي من غيرِ وضوء. 178 - محمدٌ يأكل لحمَ الميتة.

179 - محمد ابنُ السوقة يقول لأميمة بنت النعمان: "هبي لي نفسك". 180 - محمدٌ كان يبول جالسًا أم واقفًا؟. 181 - مزمارُ الشيطانُ عند محمد. 182 - الكذبُ حلالٌ في الإسلام. 183 - تتبعون رسولاً فاسقًا. 184 - كان يتنخم والناس يأخذون نخامتَه ويدلِكون بها وجوهَهم وجلودهم ويتباركون بفضلاته!!. 185 - محمد يُصلي بالنعلين!!. 186 - محمد يكسِرُ كلام ربه الذي نهاه أن يصلي على الميتِ وأن يُقيمَ على القبورِ، وعمرُ بن الخطاب يوبِّخه. 187 - حلالٌ على محمد وحرام على الناس!. 188 - محمدٌ يسمحُ بدخول الجَمَلِ داخل المسجد!!. * نبي الرحمة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً لِلْعلَمِينَ}: 189 - رحمةُ إله الإسلام الشيطاني طبقًا للآيات القرآنية. 190 - نصُّ الوثيقة العمرية. 191 - قَطعُ اليد في ربع دينار أو بيضة. 192 - محمد يقطع الأيادي والأرجل ويَسمِرُ الأعين بمسامير. 193 - يقتلُ الرجالَ، ويَقسِمُ النساء والأطفال والأموال.

194 - يُقاتُل جميعَ الناسِ حتى يقولوا: إنه رسول الله، وإلا قتلهم وأخذ أموالهم. 195 - أسلِموا تسلموا .. وإجلاءُ اليهود من الأرض. 196 - كان يأمرُ بقتل الناس وحَرْقِهم. 197 - مقتلُ كعب بن الأشرف. 198 - أَمَر برجمِ ماعز بن مالك (لاحظ ألفاظ محمد القذرة). 199 - مَن بدَّل دينه فاقتلوه. 200 - كان يَحرِقُ النخيلَ والزرع. 201 - يأمرُ بقتل النساء والأطفال. 202 - محمدٌ يشقُّ أُّمَّ قرفةَ بين جَمَلين. 203 - قتلُ أبي رافع بن أبي الحُقيق وهو نائم. 204 - قتلُ كنانةَ بنِ الربيع (زوج صفية بنت حيي) وسرقةُ كنزه. 205 - اغزُو تغنموا بناتِ الأصفر ونساءَ الروم. 206 - حتى الكلاب أَمَر محمد بقتلهم. 207 - إنما الأرضُ لله ورسوله. 208 - مَن رابَنا ضَربنا عُنقَه. 209 - إلى كل مسلمٍ يهوديًّا أو نصرانيًّا. 210 - الله يضعُ ذنوب المسلمين على اليهود والنصارى. 211 - يهوديُّ خلفي تعالَ اقْتُلْه.

التمتع بالأطفال والشذوذ

212 - لأخرجن اليهودَ والنصارى من جزيرة العرب. 213 - محمدٌ يلعن اليهودَ والنصارى. 214 - كلُّ مسلمٍ يموتُ يُلقِي اللهَ مكانَه بالنار يهوديًّا أو نصرانيًّا. 215 - لا تبدؤوا اليهودَ والنصارى بالسلام. 216 - الجنة تحت ظلال السيوف. 217 - نُصرت بالرعب، وأُحِلَّت لي الغنائم. * التمتع بالأطفال والشذوذ: 218 - فتوى مُفاخذة الصغار. 219 - قصة زواج الطفلة عائشة. 220 - يُجلس الأطفالَ في حِجره فيبولون عليه. 221 - الرسولُ يمصُّ لسانَ الحسن وشَفَتَه. 222 - إباحةُ زواج الأطفال في القرآن. 223 - استمناءُ الصائم بيدِ الطفلة الصغيرة. 224 - جوازُ التفخيذِ والتمتع حتى بالرضيعة وإتيانِ المرأة في دبرها. 225 - محمد يشتهي طفلة فوق الفطيم. 226 - الرسولُ يمصُّ لسان عليَّ بن أبي طالب ويُغذيه من ريقه المبارك. 227 - محمد يلبسُ مِرطَ عائشة وهو مضطجعٌ كاشفًا فخذيه. 228 - يأتيه الوحيُ وهو في ثوبِ عائشة.

رأس الأفعى الصليبية المصرية بطريك الأرثوذكس

229 - محمدٌ في لحافِ عائشة. 230 - محمدٌ عريانٌ ويحضنُ ويُقبَّلُ الرجال. 231 - فما رئي بعد ذلك عريانًا. 232 - محمدٌ يتكحلُ كالنساء. 233 - الرسول الخَنيثُ يحنِّي شعرَه الطويل الذي يبلغ كتفيه. 234 - الرسول ينائم على أفخاذِ الرجالِ وينفخ. 235 - نكاحُ البطيخةِ والإكرنبج والاستمناء. 236 - كان يدخلُ على أزواج النبي في بيته مخنثٌ. 237 - جوازُ الصلاة خلف المخنث. 238 - محمد وزاهر. 239 - يجوزُ ذلك شرعًا ... الإسلام لا يمنعنُي. * رأسُ الأفعى الصليبيةِ المصرية بطريك الأرثوذكس: ° من خطابِ "البابا شنودة" لشعبِ الكنيسة في مصر نقرأُ ما يلي: "يجبُ مضاعفةُ الجهودِ التبشيريةِ الحالية، إذ إن الخُطةَ التبشيريةَ التي وُضعت على أساس اتُّفق عليه للمرحلةِ القادمة، هو زحزحةُ أكبرِ عددٍ ممكن من المسلمين عن دينهم والتمسك به، على ألاَّ يكونَ من الضروري اعتناقُهم المسيحية، فإنَّ الهدفَ هو زعزعةُ الدين في نفوسهم، وتشكيكُ المجموع الغفيرةِ منهم في كتابهم وصِدقِ محمد، ومِن ثَمَّ يجبُ عملُ كلِّ الطرقِ واستغلالُ كلَّ الإمكانيات الكَنَسيةِ للتشكيك في القرآن، وإثباتِ بطلانِه وتكذيبِ محمد.

وإذا أفلَحْنا في تنفيذِ هذا المخطَّطِ التبشيري في المرحلة المُقبلةِ فإننا نكون قد نَجَحْنا في إزاحةِ هذه الفئةِ من طريقنا، وإن لم تكن هذه الفئاتُ مستقبلاً معنا فلن تكون علينا. غيرَ أنه ينبغي أن يراعى في تنفيذِ هذا المخطَّط التبشيريِّ أن يَتِمَّ بطريقةٍ هادئةٍ لَبِقَةٍ وذكيَّةٍ، حتى لا يكونَ ذلك سببًا في إثارةِ حفيظةِ المسلمين أو يقظتهم" (¬1). هذا الذي جاب الأرضَ شرقًا وغربًا دَعْوَةً إلى التنصير .. وهو المسؤول الأوَّلُ عمَّا يفعلُه الأرثوذكس بالمسلمين وعلى رأسِهم الصرب، فبكلمةٍ منه واحدةٍ كان يستطيع أن يمنعَ مجازرَ الصربِ للمسلمين، ولكنه لم يفعل، ولن يفعلَ مع أيِّ مجزرةٍ للمسلمين. وللأرثوذكس في مصرَ الكذب الفاجرُ بادعاءِ اضطهادِ المسلمين لهم وحرمانِهم من المناصبِ العُليا في الدولة. وهذه نسبتُهم في مصر سنة 2006 من موقعٍ لا يُحابي ولا يُجامل المسلمين في أي يوم من الأيام، وهو موقعُ جهاز المخابرات الأمريكية يوليو 2006. www.cia.gov/library/publications/the-world-factbookprint/eg.html عدد سكان مصر في يوليو 2006 هو: ( population:78.887.007 (july 2006 est ¬

_ (¬1) انظر كامل الخطاب في كتاب "قذائف الحق" للشيخ محمد الغزالي .. وانظر "أجنحة المكر الثلاثة" لعبد الرحمن حسن بن حَبنكَة الميداني -دار القلم- دمشق.

نسبة النصارى المصريين في يوليو 2006 هو: Religious:muslim (mostly sunni) 90% coptic 9% otheristian 1% عدد النصارى الأقباط (المصريين) في يوليو 2006 هو أقل من: 7.1 مليون مسيحي قبطي. ينقسمون إلى ثلاثة طوائف كبرى هي: الأرثوذكس (7 طوائف)، والكاثوليك (7 طوائف)، والإنجيليين (73 طائفة)، وعشرات الطوائف الصغرى مثل الأدفنتست، وشهود يهوة، وكنيسة الله الخمسينية، والعلم المسيحي، والمورمون وغيرهم (¬1). ° يقول الدكتور محمد عمارة:" إن الأرقام -التي لا تكذبُ ولا تُجامِلُ- تُعلن أن الأقليةَ القبطية -التي لا تتعدَّى الثلاثةَ الملايين- هي الحاكمةُ الفعليةُ في المجتمع المصري -الذي يَزيدُ تعدادُه على الستين مليونًا!! - فهم يملِكون ويمثلون: - 22.5% من الشركات التي تأسَّست بين عامَي 1974 م و 1995 م!!. -و 20% من شركات المقاولات في مصر. - و 50% من المكاتب الاستشارية. - و 60% من الصيدليات. - و 45% من العيادات الطبية الخاصة. - 35 percentage من عضويةِ غرفة التجارة الأمريكية وغرفة ¬

_ (¬1) نقلاً عن مركز التنوير الإسلامي للخدمات المعرفية والنشر- لأبي إسلام أحمد عبد الله.

التجارة الألمانية. - و 60% من عضوية غرفة التجارة الفرنسية (منتدى رجال الأعمال المصريين والفرنسيين). - و 20% من رجال الأعمال المصريين. - و 20% من وظائف المدراء بقطاعات النشاط الاقتصادي بمصر. - وأكثر من 20% من المستثمرين في مدينتي "السادات"، و"العاشر من رمضان". - و 15.9% من وظائف وزارة المالية المصرية. - و 25% من المهن الممتازة والمتميزة- الصيادلة والأطباء والمهندسين والمحاميين والبيطريين-. أي أن 5.9% من سكان مصر -الأقباط- يملكون ما يتراوح بين 35% و 40% من ثروة مصر وامتيازاتها!! .. تُرى كم هي نسبةُ الأقباطِ في الأميَّة وفي سُكنَى المقابر وفي البطالة وفي المعتقلات وفي المقتولين من التعذيب؟!. وكم نسبتُهم في الجامعات؟! وكم نِسبتُهم في أصحابِ البلايين؟! وكم نسبتُهم في أصحاب الملايين؟! .. كم نسبتهم؟!. كم نسبةُ الكنائسِ إلى عدد السكان؟ .. وأيهما أكثر: نسبةُ الكنائس أو نسبة المساجد؟! ولماذا لم يتطرَّقِ الأقباطُ إلى هذه التساؤلات قط؟!. إن نسبةَ الكنائِس إلى السكان أعلى من نسبة المساجد، فحسبَ التقرير

المسرحية الملعونة "كنت أعمى والآن أبصر"

الاستراتيجي للأهرام لعام 1999، فإن هناك كنيسةً لكلِّ سبعةَ عَشَرَ ألفَ قبطي، بالمقابل هناك مسجدٌ لكل ثمانيةَ عَشَرَ ألف مسلم. ° ويُعلِّقُ الدكتور عمارة على ذلك قائلاً: "إذا كانت نسبةُ الكنائس لعدد النصارى تكادُ أن تساويَ نسبةَ المساجدِ لعدد المسلمين، فإن الواقعَ يقول: إن الكنائسَ مفتوحة على مدارِ النهارِ والليل .. والمساجدَ تُغلَقُ عقب الصلاة. ومنبر الكنيسة حرٌّ كل الحرية،، ومنبرُ المسجد مؤمَّمٌ، لا يرقاه إلاَّ من ترضاه وترضى آراءه "الأجهزة"! .. والشبابُ القبطي المتدينُ ينام في بيته آمنًا، ونظيرُه المسلم يعيشُ في رُعبِ قوائم "الاشتباه "! .. وأروقة الكنائس مفتوحة أمام التبتل النصراني -وحتى الرهبنة-، بينما الشابُ المسلم إذا أراد الاعتكافَ بالمسجد في رمضان، لا يُتاح له ذلك إلاَّ إذا تقدم بصورة البطاقة إلى "الأجهزة الأمنيَّة" (¬1). * المسرحيةُ الملعونة "كنتُ أعمى والآن أُبصرُ": مسرحية ساقطة ملعونة أجازها كاهن أو كَهَنَة ساقطين على مسرح "بيت العبادة" الذي حَوَّله أبناءُ الأفاعي -كما وصف أمثالَهم عيسى عليه الصلاة والسلام- إلى مغارةِ لصوص .. مُثلت المسرحيةُ المجرمة التي تسيءُ إلى الإسلام أبلغَ إساءة، مُثِّلَتْ في إحدِى الكنائس في مدينة الإِسكندرية هذه المسرحية كلُّها إجرام وبَذاءةٌ وكذبٌ تُسَفِّه الإسلامَ وتحتقرُه وتزدريه. ¬

_ (¬1) "هل أصبح المسلمون في مصر هم الأقلية" (ص 29 - 31) للدكتور محمد عباس- كتاب المختار.

إن ما وَرد في هذه المسرحية الساقطة إساءةٌ للإسلام نفسِه، إساءةٌ فاجرة، للإسلام وليس للإرهاب، الإسلامِ المتمثل في القرآن الكريم والسنةِ الشريفةِ مباشرةً .. نعم .. الإهانةُ مُوَجَّهةٌ للإسلامِ: للقرآن الكريم وللرسولِ العظيم - صلى الله عليه وسلم - (¬1). إن هذه المسرحيةَ السافلةَ ليست سوى قِمَّةِ جَبَل الثلج العائم الذي يَختفي معظمه .. هي المفضوحُ وما تُخفيه صُدُورهم أكبر .. كما أنها مُتَّصلةٌ بسياقٍ يتصلُ فيه الداخلُ بالخارج والماضي بالحاضر في منظومةٍ شيطانيَّةٍ واحدة منذ "يوحنا الدمشقي" حتى الآن، سياقُ المؤامرة، سياقُ الغارة على العالم الإسلامي، سياقُ تبرير للجرائم التي يوشكون على ارتكابها فيُبادرون بالتمهيدِ والتبرير لها، وفي هذا السياقِ المتَّصل يقول خنزير من خنازيرهم في مجلة "صوت مصر الحُرِّ": "أنا القبطيُّ الفرعوني صاحبُ الأرض، أنا القبطي الشامخُ صاحبُ هذا الوطن الذي سُلِب مني منذ الغزو الأسباني وإلى الآن، وسيرحل قريبًا كما رَحَل من أسبانيا، فلم تُعد النَّعرةُ الإسلاميةُ لها جاذبيتُها الآن في جوٍّ أصبح الغربُ المتحضّرُ يَفهمُ أن العربَ جُرْبٌ". فأيُّ كذبٍ فاجر وخِسَّةٍ وانحطاط، وهل رأى الناسُ كذبًا أكثَرَ وقاحةً وفُجْرًا؟! كَذِبُ الماضي وكَذِبُ الحاضر وكَذِبُ التاريخ .. كذبٌ يُبارزون فيه الشيطانَ فيتفوَّقون (¬2). ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 10). (¬2) المصدر السابق (ص 11، 12، 13).

° "هذه الفتنةُ التي أشعلها أعداءُ الله وأعداءُ الرسل وأعداءُ البشر ليستِ طارِئًا قَطع ما اتَّصل .. بل هي انحراف ممتدٌّ عبرَ التاريخ، ذلك أن هذه الحملةَ العدوانيّةَ الشرسةَ -المتمثلةَ في تصوير الإسلام ونبيِّه - صلى الله عليه وسلم - في صورةٍ بالغةِ البشاعةِ ومغايرةٍ تمامًا للحقيقة وقائمةٍ على التلفيق والكذب- حَملةٌ تعفَّنت عبرَ القرون حتى أصبحت أشبَهَ بالمستنقع الآسِنِ التي تغرفُ منه الميديا الغربية والمسيحية الصهيونية، وينشرونها عَبْرَ وسائلهم المختلفة على أنها حقائق .. ينشرونها أيضًا عَبْرَ عملائهم وجواسيسِهم مِن أقباط مَهْجَرَ في الخارج وعلمانيِّين وشيوعيين وقوميِّين في الداخل. نعم، الحملةُ لا تقتصرُ على المسرحية السافلةِ ولا على الكاهِنِ الساقطِ الذي باركها .. الحملةُ سلسلةٌ طويلة تمتدَّ من "يهوذا الإسخربوطي" إلى كاهن الكنيسة الساقط .. الحملةُ تضمُ الآلافَ والملايين. الحملةُ تضمُّ خنازيرَ مثل "جيري فالويل" و "بات روبرتسون" و"فرانكلين جراهام" و"جيري فاينز" و "روبرت أوف كيتون" و"بطرس المُكرَّم"، والتي لا تزيدُ أقوالُهم عما جاء في المسرحية الملعونة. إن عُواءَ الذِّئاب ونُباحَ الكلابِ والخنازير على الإسلام لم يتوقفْ أبدًا، والمسرحيةُ السافلة التي مُثَّلت في مغارةِ اللصوص لم تكن استثناءً، بل استمرارًا لحملةٍ شيطانيةٍ بدأت منذ غزوةِ "مؤتة" ولم تنقطعْ، ولكنها لم تؤثِّرْ في الإسلام أبدًا، فقد شكَّلت تلك الحملةُ النَّجسةُ العفنةُ موردَ الماءِ الوحيدِ لقُطعانِ العلمانيين والقوميِّين والشيوعيين في بلادنا .. وإذا عُرِف المنبعُ

النَجِسُ بَطَل العجب" (¬1). ° جاء في النص الحرفيِّ من حَيثيِّاتِ حكم محكمةِ القضاء الإِداريِّ بتاريخ 3 فبراير 1982 في التظلُّم المُقدَّم من البابا شنودة ضد قرار رئيس الجمهورية بعَزله من منصبه: "إن البابا شنودة خَيَّب الآمال، وتنكَّب الصراطَ المستقيمَ الذي تُمليه عليه قوانينُ البلاد، واتَّخذ من الدين ستارًا يُخفي أطماعًا سياسية، كلُّ أقباط مصر بَراءٌ منها (¬2). وإذا به يجاهرُ بتلك الأطماع واضعًا بديلاً لها -على حدِّ تعبيره- بحرًا من الدَّماء تَغرقُ فيه البلاد من أقصاها إلى أقصاها، باذلاً قُصارى جَهدِه في دَفع عَجلةِ الفتنة بأقصى سرعةٍ وعلى غيرِ هدًى، في كل أرجاءِ البلادِ، غيرَ عابيء بوطنٍ يُؤويه ودولةٍ تَحميه، وبذلك يكون قد خرج عن ردائِه الذي خَلعه عليه أقباطُ مصر" (¬3). ولعلَه يتذكَّرُ يومًا فيرعوي ماذا فعل الرومانُ ببطريق الإسكندرية قبلَ دخولِ المسلمين لمصر، وكم سنةً أجبَرَه الرومانُ على الاختفاءِ والتشرُّدِ، ومَن الذي رَدَّه إلى مَنصبِه، حتى يَعلمَ مَن هم المسلمون الطيبون الذي يَعبقُ نَشرهم وعَبيرهم وأريجُهم فيعطر الدنيا بأسرها، والكونَ كلَّه، ويضفون بقيمهم التي استمدُّوها من دينِهم ونبيهم - صلى الله عليه وسلم - جمالاً ونورًا وألقًا على الكون كلَّه. ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 46 - 44). (¬2) بل والله شركاؤه فيها. (¬3) المصدر السابق (ص68 - 69).

الجامعات التبشيرية في ديار المسلمين .. الكارهه لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى رأسها "الجامعة الأمريكية"

* الجامعاتُ التبشيريةُ في ديارِ المسلمين .. الكارههُّ لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى رأسها "الجامعة الأمريكية": مغاراتُ وأوكارُ لصوص من المنصِّرين الذين يسمُّونهم "المبشِّرين" .. لا يريدون إلاَّ تذويب الهُويةِ الإسلامية وقطعَ الصلةِ بين أبناءِ المسلمين ورسولِهم - صلى الله عليه وسلم - والتأسي به. ولقد ذكرنا أن المبشِّرين إذا لم يستطيعوا أن يُنصِّروا المسلمين، فتَنصَبُّ جهودُهم إلى أن يتركَ المسلم دينَه حتى يعيشَ بلا دين ولا رسالةٍ، فيَسهل السيطرةُ عليه وتوجيهُه حسب مخططاتهم الخبيثة، ففي المؤتمرِ التبشيريِّ الذي عُقد في القدس سنة 1935 صرَّح القَسُّ "صموئيل زويمر" بما يلي: "إن مهمةَ التبشير التي نَدَبَتْكم دولُ المسيحيةِ للقياِم بها في البلاد المحمدية، ليست هي إدخالَ المسلمين في المسيحية، فإن في هذا هدايةً لهم وتكريمًا، وإنما مهمَّتُكم أن تخرِجوا المسلمَ من الإسلام ليصبحَ مخلوقًا لا صِلةَ له بالله، وبالتالي لا صلةَ تربطه بالأخلاقِ التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، ولذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعةَ الفتح الاستعماريِّ في الممالك الإسلامية، وهذا ما قمتم به في خلالِ الأعوام المئةِ السالفةِ خيرَ قيام، وهذا ما أُهنؤكم عليه، وتهنؤكم دولُ المسيحية والمسيحيون جميعًا من أجلِه كلَّ التهنئة. لقد قَبَضْنا -أيها الإخوان- في هذه الحِقبةِ من الدهر -من ثُلتِ القرنِ التاسعَ عَشَرَ إلى يومنا هذا- على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية المستقلَّة، أو التي تَخضعُ للنفوذ المسيحيِّ، أو التي يَحكُمُها المسيحيون حُكمًا

مباشرًا، ونَشَرْنا في تلك الربوع مكامنَ التبشير المسيحيِّ والكنائس والجمعيات، وفي المدارس الكثيرةِ التي تُسيطرُ عليها الدولُ الأوربية والأمريكية وفي مراكز كثيرة .. إنكم أعددتم بوسائلكم جميعَ العقول في الممالكِ الإسلامية إلى قبولِ السَّيرِ في الطريق الذي مهدتم له كلَّ التمهيد (إخراج المسلم من الإسلام)، إنكم أعددتم نشئًا لا يَعرفُ الصلةَ بالله، ولا يريدُ أن يعرفَها، وأخرجتم المسلمَ من الإسلام، ولم تُدخلوه في المسيحية، وبالتالي جاء النشءُ الإسلاميُ طبقًا لما أراده له الاستعمار، لا يهتمُّ بالعظائم، ويحب الراحةَ والكسل، فإذا تعلَّم فللشهوات، وإن تبوَّأ أسمى المراكزِ ففي سبيل الشهوات" (¬1). ومن وسائل الغزوِ الصليبي في العصر الحديث: التركيزُ على إفسادِ المرأةِ وإبعادِها عن دينها، وكذلك العملُ على إفسادِ أبناءِ الحُكَّام في البلاد الإسلامة بإنشاءِ معاهدَ ومدارسَ خاصةٍ لهم، يقومُ على تربيتهم صليبيون حاقدون على الإسلام وأهلِه ليجتالوهم عن دينهم (¬2)، وما أُنشئت كلية ¬

_ (¬1) "جذور النبلاء" لعبد الله التل (275 - 276). (¬2) وهؤلاء الخبثاءُ قد يَفتحون بعضَ أبواب الخيرِ للمسلمين، ليُوقعوهم في ما هو أعظمُ وأخطر .. واستمعْ معي إلى هذه القصة: قال بعضُ الدعاة: (ذهبنا إلَى الدعوة في "نيجيريا"، فوجدنا مسجدًا في إحدى القُرى، فسألنا: مَنِ بَنَى هذا المسجد؟ فقيل: بناه رجلٌ نصرانِي .. فتعحبنا، وقلنا: سبحان الله! نصراني يبني مسجداً؟ فقيل لنا: ليس هذا فحسب، بل لقد بنَى مَدرسةً لأولادنا أيضًا .. فذهبنا إلى هذه المدرسة، ووجدنا فيها مَجموعةً من الأولاد جالسين، فأردنا أن نَختبِرهم .. فكتبنا على "السبورة": مَن ربُّك؟ فرفع الأولاد أصابعَهم طلبًا للإجابة .. فاختَرْنا صبيًّا منهم، فقام وقال: ربِّي المسيح) .. ولا تعليق!! -. من كتاب: "قصص رائعة من الأشرطة"، لِمحمد بن يَحيي مفرح (92، 93 - ط: دار العاصمة).

"فكتوريا" على يد "كرومر" إلا لإفسادِ هؤلاءِ الأبناءِ وتغريبهم ليفكروا بعقليةِ الغزاة الصليبيين، وهذا ما صرَّح به اللورد "لوبد" الممثل البريطاني في مصرَ، فقد قال في خطبةِ له في كلية "فكتوريا" بالإسكندرية سنة 1936 عن طَلَبةِ هذا المعهد:"كلُّ هؤلاء لا يَمضي عليهم وقتٌ طويلٌ حتى يتشبَّعوا بوجهةِ النظر البريطانية، بفضل العِشْرةِ الوثيقةِ بين المعلمين والتلاميذِ، فيصيروا قادِرين على أن يَفهموا أساليبَنا ويَعطِفوا عليها" (¬1). * وعن الدَّورِ التبشيريِّ الخطيرِ القذرِ الذي تلعبه الجامعةُ الأمريكية بمصر، يحدّثنا البطُل "عبد القادر الحسيني" في تجربة خاصة معه فيقول: "تدَّعي إدارةُ الجامعةِ الأمريكية بالقاهرة أنها علمية محضة، وليس لها أدنى علاقةِ بالتبشير، وهي تتبرأُ مما حَصَل في المعادي حيث يسكنُ أساتذتُها المبشرون، وفيهم من أُرسل خصيصًا على حسابِ أحدِ الموسِرين الكبار للتبشير، وادعاءُ الجامعة أنها علمية ليس صحيحًا، وإليك حُجَّتي وأدلتي الواضحة: من هو رئيس الجامعة؟: رئيسُ الجامعة هو الدكتور "شارلز واطسون" مبشِّر، ووالدُه وأُمُّه مُبَشِّرانِ، فهو من سُلالةِ مبشِّرين، وإني أَستشهدُ على ذلك بكتابه المسمى: "حروب صليبية مسيحية في مصر"، ويعني بهذا الحروبِ الحملةَ التبشيريةَ، وقد قال في مقدمةِ ذلك الكتاب: "أُهديه لأمي وأبي اللذين قضيا حياتَهما مبشِّرينَ في مصر". ¬

_ (¬1) انظر "مجتمعنا المعاصر" (ص294) للدكتور محمد عبد القادر أبو فارس، نقلاً عن كتاب التبشير والاستعمار.

ويوجَّهُ فيه الدعوةَ إلى أهل الخير والإحساس، ليَرَوا الانتصارَ الباهرَ لأعمالِ التبشير في مصر، كما أنه يوجِّهُ إلى المبشرين كلمةً مؤداها: "أنهم هم الذين سوف يتم تنصيرُ مصرَ بأكملِها على أيديهم"، وبذلك يتوِّجون رؤوسَهم بأكاليل الظَّفَرِ والفخَار، جزاءً لهم على جهادِهم المقدس. ° أوَ تدري ماذا يقول ُهذا المبشَّرُ أيضًا في كتابه المشار إليه؟ إنه يقول: "إن للمسلمين طقسًا دينيًّا أساسُ الإسلام، وهذا الطقسُ هو الحجُّ، ويجبُ على كلّ مقتدرٍ أن يؤدِّيَه، وهو عبارةٌ عن الذهاب إلى الكعبة، حيث تقام طقوس دينيةٌ مخزِية، وهذا المكانُ -الكعبة- قَلب العالَم الإسلامي، وَكرُ لصوصٍ تؤتى فيه جميعُ أنواع المخازي الأخلاقية (كذا)، ولكنه يَجعلُ بين المسلمين رابطهً متينةً يخاف منها". وبعد .. فهذا رئيس الجامعة الأمريكيةِ الدكتور "شارلز واطسون" كما تراه في كتاب واحدٍ من كتبه .. والآن إليك غيرُ هذا الرجل من أقطاب الجامعة: هناك قسم في الجامعة الأمريكية يسمونه "مدرسة اللغات الشرقية" يؤمٌّه الأجانب، ويرأسه الدكتور "جوفري" وهو رجلٌ لاهوتي، وهذا القسم إن هو إلاَّ معهدٌ لتدريب المبشرين وتعليمِهم اللغةَ العريية، وكيفيةَ مهاجمةِ الإِسلامِ مهاجمةً علميةً فنيةً، ومَن يَزُرْ مكتبةَ الجامعة وَيرى الكتبَ التي نُقلت من هذا القسم إليها يحقِّق صِدقَ قولي. وهذه الكتب تؤلِّف الآنَ قسمًا كبيرًا من المكتبة، وكلُّها تِبشيرية، بعضها يبحثُ الحركاتِ التبشيريةَ -تاريخَها ونجاحَها وأعمالَها- في الشرقَينِ

الأدنى والأقصى، وبعضُها يبحث في كيفيةِ التنصير، والبعضُ -وهو أكثرها- يَحتوي على شتائمَ في الإسلام والمسلمين. والدكتور "جوفري" رئيس هذا القسم هو مبشِّرُ الجامعةِ الأكبر، ويليه المستر "مولر"، وكلاهما قاطن بالمعادي، حيث المبشِّر "بطرس عيان" صديقُهم الأعزُّ وبطلُ الحادثة المشهورة. والدكتور "جوفري" يصلِّي بطلبة الجامعة أيامَ الآحاد وهم مجبَرون على الاستماع لطعنِه في الإسلام والمسلمين ونبيهم، بل في المذاهب المسيحية التي لا تتفق مع مذهبِه، وأذكر أنه قال يومًا في إحدى عِظاته وعنوانها: "النبي الكاذب": "إن محمداً لا يمكن أن يكون نبيًّا" ولأن مستوى أخلاقِه العادي (كذا)، إذ أباح لنفسه أن يتزوجَ من عدةِ نساء (كذا)، كما اختَصَّ نفسَه بأثمنِ أسلابِ الحرب، فهو رجلٌ شهواني (كذا) ". وفي عِظةٍ أخرى ألقاها هذه السنة، أتانا ببراهينَ واهيةٍ ليقنعَنا بأن القرآنَ ليس من كلام الله، كما أنه ليس كلُّه من كلام محمد؛ لأنه أُدخل عليه كثيرٌ من الآيات التي ثَبت علميًّا أنها لا يمكن أن تكونَ من رُوح محمد. هذا عدا ما يقولُه في الدروسِ اليومية التي يسمُّونها "علم الأخلاق وفلسفة الديانات، وعلم النفس وعلم الاجتماع" من الافترءات والشتائم، مما لا يتلفظ به مسيحيٌّ، لأن الدين المسيحي نفسَه دين سماحةٍ ولُطف، أما ما يفعله هؤلاء فتحاملٌ وشتائمُ وسبابٌ وبثُّ كراهية وإشعالُ حروب، فالإسلام في رأيهم دينٌ وحشيٌّ بربريٌّ، يحثُّ على القتال والسَّلْب والنهب، ولن يرتقيَ الشرقُ وَيسعد حالاً إلا إذا تخلَّص من هذا الدين،

والكَثلكةُ لديهم عبادةُ أوثانِ وخرافاتٌ وأساطيرُ مضرَّةٌ مخلَّةٌ بالآداب .. إلخ. أكتفي بهذا القدر الآن مشيرًا إلى أن هذه الحركةَ التي تقومُ بها الجامعةُ الأمريكيةُ غيرُ محمودة، بل هي تَخلُقُ رُوحًا سيئةً في البلاد، فالواجبُ على كل وطني -مسلمًا كان أم مسيحيًّا- أن يحاربَ هذه الفكرةَ ليعيشَ المسلمون والمسيحيون أهلُ هذا البلد وغيرِه من الأقطار هانئين آمِنين". عبد القادر الحسيني خريج الجامعة الأمريكية بمصر وقد كان للبطل الفلسطيني المحبَّ لدينه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أكبرُ الأثرِ في فَضحِ هؤلاءِ الدجاجلةِ الصليبيين، إذ إنه في حفلةِ تخرُّجه من الجامعة الأمريكية بعد انتهاء دراسته، وعندما نوديَ على اسمه ليصعد إلى منصة التكريم ويتسلم شهادةَ التخرُّج، ألقى قنبلةً مُدَوَّيةً عن نشاطِ الجامعةِ التبشيري وكرهِهم للإسلام ونبيَّه - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لا يُشرِّفه تسلُّم هذه الشهادةِ .. وأُسقط في أيدي القوم بعدما فضحهم هذا البطلُ الغيُور على دينه. وعلى إثر ذلك اتصلت إدارةُ الجامعةِ بالإنجليز والأمريكان، الذين اتَّصلوا بدَورهم بالحكومة المصرية وأخبروها بالأمر، وطلبوا منها إخراجَ عبد القادر من مصر، فما كان من الحكومةِ المصرية إلا أن أصدرت قرارًا يقضي بوَضعِه في سجنِ الأجانب كإجراءٍ احترازي، ثم بطردِه من مصرَ خلالَ أربع وعشرين ساعة، وبعد ذلك أصدرت الحكومةُ المصريةُ قرارًا موقَّعًا من رئيس الوزراء الطاغية "إسماعيل صدقي" بإخراج عبد القادر

وترحيلِه إلى فلسطين في تموز 1932 م (¬1). أسكنه الله فسيحَ جِنانه وكَتَب له الشهادةَ إن شاء الله بعد أن سَقَط البطلُ في ساحةِ القتال على أبوابِ القدس. * * * ¬

_ (¬1) انظر "الصراع مع الصليبيين" (ص 274 - 276).

مؤتمرات المبشرين

مؤتمرات المُبشَّرين مَرَّت أعمال المبشِّرين في مراحلَ تكاملت فيها خُططُهم وبرامجُهم وأعمالُهم الراميةُ إلى تحقيقِ أهدافهم، وأخذوا خلالَ هذه المراحل يُعدِّلون فيها ويُحسَّنون، فيَحذِفون أشياءَ ويُضيفون أخرى، وجَعلوا يُطوِّرون وسائلَهم، ويَبتكرون فيها أشياءَ جديدةَ تُوصِّلُ إليها حِيَلُ الذكاء والتجاربُ والاختباراتُ ورَصدُ نتائج الأعمال، أو تُرشِدُ إليها مداولاتُ الآراءِ في المؤتمرات التي يعقِدونها لهذه الغاية. ولَمَّا كانت مؤتمراتُهم تُمثِّلُ جانبًا مُهمًّا من تاريخ التبشير والمبشِّرين، اقتضى البحثُ في تاريخ التبشير عَرضَ أمثلةٍ موجَزةٍ منها، وفيما يلي طائفة من ذلك: 1 - المؤتمر التبشيري الذي انعَقد في القاهرة سنة (1906 م): كان "زويمر" رئيس إرسالية التبشير في البحرين أوَّلَ مَنِ ابتَكر فكرةَ عقدِ مؤتمرٍ عامٍّ يَجمعُ إرسالياتِ التبشيرِ البروتستانتية، للتفكير في مسألةِ التبشير بين المسلمين. وفي سنة (1906م) أذاع اقتراحَه، وأبانَ الكيفيَّةَ التي يكونُ بها، فوُضعت هذه الفكرةُ على بِساطِ البحثِ في "ميسور" من ولايةِ "كرناكا" في الهند، نظرًا إلى أنَّ هذه الولايةَ كانت ذاتَ أهميةٍ كبرى عندَ المبشِّرين فيما يتعلَّقُ بالمسائل الإِسلامية، لوجودِ مدرسة "عليكرا" هناك. ثم عُرض الاقتراح على مؤتمر التبشير الذي كان يَنعقدُ في مدينة

"مِدراس" الهندية كل عشر سنوات، فأقر َّالمؤتمِرون عقدَ المؤتمر الذي قَدَّم "زويمر" الاقتراحَ بشأنه. ولما تقرر عقدُ المؤتمر شَرعَ المبشِّرُ "زويمر" مع زميل له يَعُدَّان ما يلزمُ لتأليف لجنةٍ مؤقتةٍ تضعُ جدولَ أعمالِه، وتدعو المبشِّرين المنتشرين في كل البلادِ للاشتراك فيه. وفي اليوم الرابع من شهرِ نيسان "إبريل" من سنة (1906 م) تم انعقادُ المؤتمر في القاهرة، وحَضر فيه ممثِّلون عن إرسالياتِ التبشيرِ الأمريكية، والإنكليزية، والإسكتلندية، والألمانية، والهولندية، والسويدية، وعن إرسالية التبشير الدانمركية الموجودةِ في بلاد العرب. ° وانتُخب "زويمر" رئيسًا للمؤتمر، وقد تناول جدولُ أعمالِ المؤتمرِ مداولةَ المسائل التالية: 1 - ملخص إحصائي عن عدد المسلمين في العالم. 2 - الإسلام في إفريقية. 3 - الإسلام في السلطنة العثمانية. 4 - الإسلام في الهند. 5 - الإسلام في فارس. 6 - الإسلام في الملايو. 7 - الإسلام في الصين. 8 - النشرات التي ينبغي إذاعتُها بين المسلمين المتنورين والمسلمين العوام.

9 - الارتداد. 10 - وسائل إسعاف الذين يُضطهدون بسبب تركهم للإسلام. 11 - شؤون نسائية إسلامية. 12 - موضوعات تتعلق بتربيةِ المبشرين، والعلاقات بينهم، وكيفية التعليم في الإسلام. ° ومن البحوث التفصيليةِ التي دارت في المؤتمر: الصعوباتُ التي تَحُول دونَ تبشيرِ المسلمين العوام، والوسائلُ التي يمكن استجلابُهم بها، وتُحبِّب المبشِّرين إليهم، وقد وُجِّه المؤتمِرون لضرورةِ استخدام الوسائل التالية في التبشير: أ- استخدام وسيلة العزفِ بالموسيقى الذي يَميل إليه الشرقيون كثيرًا. ب- عرض مناظرِ الفانوسِ السحري على المسلمين. جـ- تأسيسُ الإرساليات الطبيَّةِ التي يجبُ أن تَنبَثَّ بينهم. د- ضرورةُ تعلُّم المبشرين لهجاتِ المسلمين العامية، واصطلاحاتِها نظريًّا وعمليًّا، وضرورةُ دراستهم للقرآن حتى يَقِفوا على ما يحتويه. هـ- أن يخاطبَ المبشرون عوامَّ المسلمين على قَدْرِ عقولهم ومستوى علمهم. و- ينبغي أن يُلقِيَ المبشرون الخُطبَ على عوامِّ المسلمين بأصواتِ رخيمة، وبفصاحةٍ، وينبغي أن يَخطُبَ المبشِّرُ وهو جالس، ليكونَ تأثيرُه أشدَّ على السامعين، وأن لا تتخلَّلَ خطاباتِه كلماتٌ أجنبية عنهم، وأن يَبذُلَ عنايتَه في اختيارِ الموضوعات، وأن يكونَ بصيرًا بآياتِ القرآنِ والإنجيل،

عارفًا بمحلِّ المناقشة، وأن يستعملَ التشبيهَ والتمثيلَ أكثَرَ مما يَستعملُ القواعد المنطقية. ز- ضرورةُ كونِ المبشِّرِ خبيرًا بالنفس الشرقية. وناقَشَ المؤتمرُ الصعوباتِ التي يُلاقيها المبشرون لدى تبشير المتنوِّرين من المسلمين، وهذه الصعوباتُ هي التي جَعلت المؤتمرُ يَبحثُ في الوسائل التي يكونُ لها تأثير ما على عقيدةِ الأجيالِ الناشئةِ الإسلاميةِ المتنوِّرة. ° وهنا قال أمين سر المؤتمر: "إن الخُطةَ العَدائيةَ التي انتهجها الشُّبَّانُ المسلمون المتعلِّمون ضدَّ المبشرين؛ اضطَرَّتِ المبشرين في القطرِ المِصري إلى محاولةِ إعادةِ ثقةِ الشُّبانِ المسلمين بهم، فصار هؤلاء المبشرون يُلقُون محاضراتِهم في موضوعاتٍ اجتماعيةٍ وخُلُقيةٍ وتاريخية، ولا يستطردون فيها إلى مباحثَ دينية، رغبةً في جلبِ قلوبِ المسلمين إليهم". وأنشؤوا بعدَ ذلك في القاهرة مجلةً أسبوعيةً اسمها: "الشرق والغرب"، افتتحوا فيها بابًا غيرَ ديني، وأخذوا يبحثون فيه أمورًا تتعلقُ بالشؤون الاجتماعية والتاريخية، وأسسوا أيضًا مكتبةً لبيع الكُتب بأثمانٍ قليلة، والغرضُ من ذلك اجتلاب الزبائن، ومحادثتهم أثناء البيع. ° وبعدَ ثلاثِ سنواتٍ فقط تَسنَّى للمبشرين أن يَتوصلوا إلى النتائج التالية: الأولى: أنهم عَرفوا أحوال البلاد، وأفكارَ المسلمين، وشُعورَهم، وعواطفَهم، وميولَهم. الثانية: أنهم حَصُلوا على ثقةِ عددٍ من المسلمين بهم.

الثالثة: أن المبشَّرين تحقَّقوا أنهم بتظاهُرِهم في وِدادِ المسلمين، ومَيلِهم إلى ما تَطمح إليه نفوسُهم من الاستقلالِ السياسي والاجتماعيِّ والنشأةِ القومية، يمكنُهم أن يَدخلوا إلى قلوبهم. ثم عَرَض أمينُ سرِّ المؤتمر اقتراحًا بتأسيسِ مدرسةٍ جامعةٍ تشتركُ فيها المؤسساتُ التبشيريةُ كلُّها، على اختلافِ مذاهبِها لِتتمكَّنَ من مزاحمةِ الجامع الأزهر بسهولة، وتتكفَّلُ هذه المدرسةُ الجامعةُ بإتقانِ تعليم اللغة العربية، وقال: "إن في الإمكانِ مباشرةَ هذا العمل في دائرةٍ صغيرة". ثم اقتَرح أحدُ المندوبين في المؤتمرِ أن تُراجَعَ المؤلفات التي قَدُم عليها العهدُ لإصلاحها، واستخدامِها في تبشير "المسلمين المتنورين، الذين اقتبسوا علومَهم في المعاهدِ العصرية، مثل مدرسةِ أكسفورد وبرلين، وأشار إلى وجوب تخفيفِ اللهجةِ في المجادلاتِ الدينية. ثم بَحَث المؤتمرُ بعد ذلك في مسألةِ إرسالياتِ التبشيرِ الطبية، فقام المستر "هارير" وأبان عن وجوبِ الإكثارِ من الإرسالياتِ الطبية، لأن رجالَها يحتكُّون دائمًا بالجماهير، ويكونُ لهم تأثيرٌ على المسلمين أكثَرَ مما للمبشرين الآخرين. ثم قام الدكتور "اراهارس" طبيبُ إرسالية التبشير في طرابلس الشام، فقال: إنه قد مر عليه اثنان وثلاثون عامًا، وهو في مِهنته التبشيرية عن طريقِ الطب، فلم يَفشَلْ إلاَّ مرتينِ فقط، ذلك عَقِبَ مَنع الحكومةِ العثمانيةِ أو أحدِ الشيوخ لاثنين من زبائنِه من الحضورِ إليه. ° وأورد إحصاءً لزبائنه فقال: "إن (68) في المئة منهم مسلمون،

ونصفُ هؤلاءِ من النساء". ° ثم قال: "يجب على طبيبِ إرساليات التبشير أن لا يَنسى ولا في لحظةٍ واحدةٍ أنه مبشِّر قبلَ كل شيءٍ، ثم هو طبيب بعد ذلك". ثم تكلَّم المبشر الطبيب الدكتور "تمباني"، وذَكَر الصعوباتِ التي يلقاها الطبيبُ في التوفيق بين مِهنتَيِ التبشيرِ والطب، كما حَدَث معه هو، إلا أن ما بَذَله من المجهوداتِ قد أعانه على النجاح، حتى تمكَّنَ من تأسيسِ مستشفى التبشير عن طريق التبرعات، وكان أولُ متبرع لهذا المستشفى التبشيري رجلاً من المسلمين. ° وخَطب الأستاذ "ممبسون" بعد ذلك، فتحدَّث عن فضل الإرساليات الطبية، ومما قاله: "إن المرضى والذين يُنازعُهم الموتُ بوجهٍ خاص لابد لهم من مراجعةِ الطبيب، وحَسَنٌ أن يكونَ هذا الطبيب في جانبِ المريضِ حينما يكون في حالةِ الاحتضار، التي لا بد أن يَبلغَها كل واحدٍ من أفراد البشر". ° ثم خطبت المبشِّرةُ "أتاوستون"، فتحدثت عن إرساليةِ التبشيرِ الطبيةِ في مدينة طنطا قائلة: "إن ثلاثين في المئةِ من الذين يُعالَجون في مستشفى هذه الإرسالية، هم من الفلاَّحين المسلمين" وأكثرهم من النساء". وتحدَّث المؤتمر عن الأعمالِ النسائية في التبشير، وكان لهذا الأمرِ اهتمامٌ كبير من قِبَل الأعضاء؛ لأنَّه خاص -كما قالوا- بنصفِ مسلِمِي العالَم. ° فقالت المبشرةُ "ولسون": "إن النساءَ المبشَّراتِ يَسْتَعِن في الهندِ بالمدارس وبالعياداتِ الطبية، وزيارةِ قرى الفلاحين، لِيَنْشُرن أفكارَهن بين طبقاتِ الناس".

ثم حثَّتِ المبشرةُ "هلداي" على الرفقِ بالمرأة المسلمة. ° ثم تناوَبَ الحديثَ عددٌ مِن المبشرات، فتحدَّثْنَ عن نجاحِهِنَّ في المناطق التي انتُدبنَ للتبشير فيها، وقالت إحداهنَّ: "إن المسلِماتِ الفارسياتِ يُظهِرنَ ميلاً شديدًا للعلم، بالرغم من جَهْلِهِنَّ باتساع نطاقه، وهن يعتقدنَ أن الذي يعرفُ جغرافيةَ البلاد نابغةٌ". ° ثم انتقل المؤتمرُ إلى بحثِ موضوع "تربية النساء اللاتي يتطوَّعن للتبشير" .. وناقش المؤتمرُ بعد ذلك بعضَ وسائل التبشير الحكيم، فعَرض المبشِّرُ القسيس "هاريك" على المؤتمر نتائجَ أبحاثِه التي أجراها في بلادِ السلطنةِ العثمانية، فكان مما عَرَضه أنه لا فائدةَ تُرجى من استخدامِ وسيلةِ المناظرةِ والجدل التي وضعها المبشرُ الدكتور "فاندر"، وذكر أن نَشْرَ الكتبِ التبشيرية بدون مناقشةٍ أو مجادلةٍ أكثرُ فائدةً وأعمُّ نفعًا، وقال: "إن الجدلَ والمناظرةَ يُبعِدانِ المحبة لتي لها وقعٌ كبير على قلوبِ الأغيار .. فالمحبةُ والمجاملةُ هما آلةُ المبشِّر؛ لأن طريقَ الاعتقادِ غايتُه دائمًا هي قلب الإنسان". وأكَد المبشِّرُ "هاريك" على أنه يجبُ على المبشِّر أن يتحلى بمبادئ الدعوة التي يُبشِّرُ بها، قبل أن يُعنَى بالأمور النظرية. ° ثم عَرض المبشِّرُ القسيسُ "ثرونتن" على المؤتمر بعضَ النظرياتِ الأوليةِ في أساليبِ التبشيرِ بين المسلمين، واستنتج منها القواعدَ التالية: القاعدة الأولى: يجبُ على المبشر أن لا يُثيرَ نزاعًا مع مسلم. القاعدة الثانية: يجبُ على المبشِّر أن لا يُحرِّضَ المسلمَ على الموافقةِ والتسليم بالمبادئِ التي تخالفُ دينَه إلاَّ عَرَضًا، وبعد أن يَشعُرَ المبشِّرُ بأن

الشروطَ الطبيعيةَ والعقليةَ والروحيةَ قد توافرت في ذلك المسلم. القاعدة الثالثة: إذا حَدث سُوءُ تفاهم حولَ المبادئ التي يُدْعى المسلمُ إلى الاعتقاد بها، فيجبُ أن يُزالَ في الحال، ولو أفضى الأمرُ إلى ترك المناقشة. ° ثم أكد أسقفُ "لاهور" ضرورةَ استخدامِ الوسائل اللينة في التبشير، فكان مما رآه ما يلي: 1 - أن المبشَّر الذي يُعدُ نفسَه لمجادلةِ المسلمين في أمورِ الدين، يجبُ أن تتفوق فيه الصفاتُ الخُلقيةُ والاستقامةُ التامةُ على المزايا العقلية. 2 - أن يكون صحيحَ المجاملة، وأن يَضَعَ الأملَ بالفوزِ على خَصمه نُصبَ عينيه. ثم أبدى استنكارَه لقسوةِ التعاليم القديمة، وأنها كانت تَرمي إلى التغلُّبِ على العدوّ، لا إلى اكتسابِ مودَّته. ° ثم قال: "ويظهرُ لي أن كثيرًا من إخواننا المبشَّرين يريدون أن يُبشَّروا الناس برَشقِهِم بالحجارة". ° وختم كلامه بقوله: "يجبُ على المبشِّرِ أن يتذَّرعَ بالصبرِ والسكينة، وأن يكونَ حاكمًا على عواطِفه إلى الغايةِ القصوى، وأن لا يُخاجَ نفسَه أقل ريبٍ في أنه هو الذي سيفوز". ° ثم انتهى المؤتمر، وختمه رئيسُه المبشر "زويمر" فقال: "إن انعقادَ هذا المؤتمرِ كان بالتقريبِ نتيجةً لأعمال "شبان التبشير المتطوعين"، أما البحثُ في أحوال العالم الإسلامي وتبشيرُه، فقد سبق الخوضُ فيه في مؤتمر

"كلفلند"، وهذه الخريطةُ التي نراها أمامنا الآن موسومةً باسم "خريطة تنصير العالم الإِسلامي في هذا العصر" قد بَعثت الأملَ في قلوبِ ألوفٍ من الطلبة في مؤتمر "ناشفيل" الذي انعَقد في شهر فبراير (شباط) الماضي (أي: من سنة 1906 م)، والتبشيرُ متوقفٌ على وجودِ زُمرةٍ من البشِّرين المتطوِّعين الذين يَقفِون حياتَهم ويُضحُّونها في هذا السبيل". ثم خَتم كلامَه راجيًا أن يكونَ لندائِه صدًى في الدارس والجامعات في أوربا وأمريكا. * * * 2 - مؤتمر "إِدنبرج" التبشيري: في شهر أيلول (سبتمبر) من سنة (1910 م) انعقد مؤتمرُ "إدنبرج" التبشيري، وكان للمسائل الإسلامية حظٌّ كبيرٌ من مداولاتِ أعضائه، وقد تفرَّغت فيه لجنتانِ من أهمِّ لجانِه للبحث في أمرِ الإِسلام والمسلمين، وكيفيةِ القيامِ بمهامَّ التبشير بينهم. ° وقد نُشرت أعمال هذا المؤتمر في تِسع مجلدات، وتحدَّثت ثلاثُ مجلاتٍ تبشيريةٍ عن بعضِ ما جَرى فيه من بحوث، وهي: 1 - "مجلة الشرق المسيحي" التابعة لجمعية التبشير الشرقية الإلمانية. 2 - "مجلة العالم الإِسلامي" التبشيرية الإِنكليزية. 3 - "مجلة إرساليات التبشير البروتستانتية" التابعة لجمعية التبشير في "بال" بسويسرا.

° وقد جاء في مجلة "العالم الإسلامي" الفرنسية التبشيرية لدى حديثِها عن هذا المؤتمر: "وأعمالُ مؤتمرِ إدنبرج لم تكن حِبْرًا على ورق، بدليل أن المؤتمرَ الاستعماريَّ الألمانيَّ الذي عُقد عَقِبَ مؤتمرِ إدنبرج التبشيري اهتمَّ بأمرِ إرسالياتِ التبشير الجرمانية، حتى خُيِّل إلى الناسِ أن هذا المؤتمرَ الاستعماريَّ السياسي تحوَّل إلى مؤتمو تبشيري ديني". ونشرت "مجلة الشرق المسيحي" التابعةُ لجمعية التبشير الشرقيةِ الألمانية مقالةً بقلم المبِشِّر الألماني "فون لبسيوس" تحتَ عنوان "دخول التبشير العام في طور جديد"، ذَكر فيها أهميةَ مؤتمرِ إدنبرج الذي أبان عن ارتقاءٍ في أعمال المبشرين، وقد حَضر في هذا المؤتمر مئتانِ وألفُ مندوبٍ، منهم بعض كبارِ السياسيين في دول عالمية كبرى. واقتبس صاحبُ هذه المقالة من مستندات مؤتمر "إدنبرج" أنَّ عددَ جيشِ المبشرين البروتستانت قد بَلَغ (98388) ثمانيةً وتسعين ألفًا وثلاثَمِئةٍ وثمانيةً وثمانين، تَعضُدُهم لِجان يبلغُ عددُ أعضائِها خمسةً ملايين ونصف المليون، يُضافُ إلى ذلك أعداد كثيرةٌ أخرى من رجالٍ ونساءٍ وطلابٍ وأساتذةٍ وأطباءَ وممرِّضاتٍ وغيرهم. وقد كان هذا كلُّه في سنة (1902 م)، ومَن يقارنُ بينه وبين ما وصل إليه إحصاءُ العاملين في مهمات التبشير سنة (1911 م) يلاحظُ ارتقاءً باهرًا؛ لأنَّ عددَ إرسالياتِ التبشيرِ العامةِ في هذه السنة قد بَلغ (3838)، وأما الإرسالياتُ التي هي في الدرجة الثانية، فقد بلغ عددُها (34719)، وعددُ الأساتذةِ والتلاميذِ قد بلغ مليونًا ونصفَ المليون تقريبًا، ووصل عددُ الجامعاتِ والكلِّياتِ إلى ثمانيةٍ وثمانين، وصار لدى المبشرين خَمْسُمئةٍ

واثنتانِ وعشرون مدرسةً دينيةً لتخريج المبشرين، هذا إلى جانبِ حشدٍ كبير من المدارس العليا والابتدائيةِ والمستشفياتِ والصيدليات، وُيشرِفُ على إرسالياتِ التبشيرِ نحوُ ألفِ جمعيةٍ ما بين جمعياتِ عموميةِ عاملة، وجمعياتٍ لإعانتها، وجمعياتٍ أخرى. ° وجاء في "مجلة العالم الإسلامي" الإنكليزيةِ التبشيريةِ التابعةِ لإرسالية البحرين ما يلي: "ومجلتُنا تَستحسنُ الاهتمامَ الشديدَ الذي أبداه مؤتمر "إدنبرج"، وستجتهدُ في متابعةِ البحثِ والمداولةِ في المسائل التي بَحث المؤتمرُ فيها". ° وقد نشرت هذه المجلةُ مقالةً بقلم المبشِّر المستر "تشارلس وطسون" تحت عنوان "العالم الإسلامي" قال فيها: "إن من الخطإِ الحُكمَ على مؤتمرِ "إدنبرج" بأنه لم يهتمَّ بالمسائل الإسلامية .. فقد كان المؤتمرُ مؤلَّفًا من ثماني لجان، اختُصت الأولى والرابعة منها بالتوسُّع في بحثِ المسألة الإسلامية، أما مهمةُ اللحنةِ الأولى، فهي أن تَبحثَ في المسائل الإسلامية من الوجهةِ الخارجية، وفي إيجادِ ميدانٍ عامٍّ مشتركٍ لأعمالِ المبشِّرين، واختيارِ خُطةِ الهجوم والغارة، وتقريرُ هذه اللجنة يتضمن إحصاءً متعلِّقًا بالمسلمين وعددِهم ومَبلغ ارتقائهم في كل قُطر؛ ثم تناولت اللجنةُ البحثَ في الأمورِ الاجتماعية الإسلامية التي تُمهدُ السبيلَ لتحويل المسلمين عن دينهم، فحَضَّت جمعياتُ التبشير على توسيع نطاقِ التعليم الذي يُشرِفُ عليه المبشرون، وحَصرت قراراتِها بجُملَتَينِ اثنتين: ° وقد جاء في الجملةِ الثانيةِ منهما ما يلي: "إن المسائلَ الإسلاميةَ في

الشرق على الخصوصِ صار لها مكان هامٌّ في أعمالِ المبشرين، عَقِبَ الانقلاباتِ التي حَدثت في بلادِ الدولةِ العثمانيةِ وفارسَ، ولذلك أصبح من مقتضياتِ الظروفِ أن تقومَ إرسالياتُ التبشيرِ بعمل ينطبقُ على المسائل الإسلامية". ° وقالت اللجنةُ الثالثة في تقريرها: "اتفقت آراءُ سُفراءِ الدولِ الكبرى في عاصمةِ السلطنةِ العثمانيةِ على أن معاهدَ التعليمِ الثانويةِ التي أسَّسها الاروبيون كان لها تأثيرٌ في حل المسألة الشرقية، يَرْجحُ على تأثيرِ العمل المشتَرَكِ الذي قامت به دولُ أوربا كلها". وتداولت اللجنةُ الخامسةُ في كيفيةِ تعليم المبشرين وتربيتهم، وألَحَّتْ على ضرورةِ تعليم الذين يَقومون بالتبشيرِ في البلادِ الإسلامية دينَ الإسلام ولغةَ البلاد. ° وجاء في تقريرِ اللجنة الثامنة قولها: "الأمرُ الذي لا مِريةَ فيه أن المهمةَ الصعبةَ التي يقومُ بها المبشرون في البلادِ الإسلاميةِ لم تَظهَرْ في غايةِ الصعوبة إلاَّ لأنه يَعسُرُ على جميعةِ تبشير واحدةٍ أن تقومَ بها، ولكنَّ وِحدةَ العمل ستكونُ أحسنَ وأسرع حل لهذه المُعضِلةِ في إكمالِ مهمةِ التبشير". ° وتحدَّثت "مجلة إرساليات التبشير البروتستانتية" التابعةُ لجمعيةِ التبشير في مدينة" بال" بسويسرا عن مؤتمرِ "إدنبرج" في سلسلةِ مقالات، ومنها مقالةٌ بقلم المبشَّر "شلاثار"، وجاء فيها ما يلي: "ولما انتهت اللجنةُ السابعةُ من أعمالِها قال "اللورد بلفور" رئيس الشرف: "إن المبشرين هم ساعِدٌ لكلِّ الحكومات في أمورٍ هامة، ولولاهم لتعذَّر عليها أن تقاوِمَ كثيرًا

نتائج مؤتمر "إدنبرج"

من العقبات، وعلى هذا فنحن في حاجةٍ إلى لجنةٍ دائمةٍ يُناطُ بها التوسطُ والعملُ لِمَا فيه مصلحةُ المبشَّرين"، فأجيب "اللورد بلفور" إلى اقتراحه، وتألَّفت لجنةٌ مختلِطةٌ، ولجنةٌ لمواصلةِ العمل" (¬1). * نتائج مؤتمر "إِدنبرج": وعلى إثْرِ انتهاءِ أعمالِ مؤتمر "إدنبرج" تألفت لجنة لمواصلةِ الأعمالِ التي بدأ بها، وانبَثَق عن هذه اللجنة فروع كثيرة، بعضُها للإِحصائيات، وبعضُها للنشر والمطبوعات، وبعضُها للتربية والتعليم، وآخَر لحسم المشكلاتِ بين المبشّرين، وفرغ خاصٌّ لدراسةِ علاقاتِ المبشِّرين بالحكوماتِ (أي: الاستعمارية)، كما خُصِّص أحدُ الفروع لدراسةِ العقباتِ التي تَحولُ دونَ التبشير بين المسلمين. وفي شهرِ أيار (مايو) من سنة (1911 م) اجتمعت لجنةُ مواصلةِ أعمالِ المؤتمر، وبَحثت في طرائقِ التربيةِ والتعليم التي يَنبغي للذين يقومون بمهمةِ التبشير بين المسلمين أن يتبِعوها، وقرَّرت أن تنتهزَ الفرصَ، وتنتفعَ بالظروف السانحة، وأن تنشر مجلةً مشتركةً تصدُر سنة (1912 م) مرةً في كلِّ ثلاثةِ أشهر. ° وتقول مجلة "العالم الإسلامي" الأنكليزية التبشيرية: "إنَّ أوَّل ما يُنفَّذُ من قراراتِ مؤتمر "إدنبرج" إنشاءُ مدرسةِ تبشير مشتركةٍ بين كل الفرق البروتستانتية، وتكونُ خاصةً بتعليمِ مبشِّري الأقطار الإسلامية، وهذه المدرسةُ يُحتفل بافتتحها في خريف سنة (1911 م) وتَقبَلُ النساءَ والرجال، ¬

_ (¬1) وهذا يكشف لنا العلاقة الوثيقة بين التبشير والاستعمار.

مؤتمر "لكنو" التبشيري

وتُعلَّمُ فيها اللغةُ العربية والعلومُ الإسلامية، وتاريخُ الأوضاع الإسلامية، والأمورُ الاجتماعيةُ التي اقتبسها المبشِّرون من بلاد الإسلام، وسيكونُ لهذه المدرسةِ مكتبةٌ تحتوي على أمهاتِ الكتبِ العربيةِ وغيرِ العربية المتعلِّقةِ بالإسلام. * * * 3 - مؤتمر "لكنو" التبشيري: في مَطلَع سنة (1911 م) انعَقَد في الهندِ مؤتمرُ "لكنو" التبشيري، وتداول المؤتمِرون أمورًا كثيرةً تتعلقُ بالعالَم الإسلامي، وكيفيةِ إحكامِ الخَناقِ عليه، وتفكيكِ أواصِرِ وِحدةِ المسلمين. ° فكان ممن تكلَّم فيه المبشر القسيسُ "سيمون"، فتحدث عن فكرةِ الجامعة الإسلامية التي تُهيمنُ على الشعوبِ المسلمةِ في مختلَفِ بلادِ الإسلام، ثم قال: "ولكنْ عبثًا يَبني هؤلاء آمالَهم على الجامعةِ الإسلامية؛ لأنَّ التربيةَ غيرَ الإسلامية قد انبَثَّت في دمائِهم بفضل مدارس التبشير". ° وتحدث في المؤتمر المبشِّرُ الأستاذ "مينهُف" فكان مما قاله: "ينبغي لإرسالياتِ التبشير أن تحتكَّ بالمسلمين، وتتسلَّحَ بالمعداتِ الكافيةِ لقتالهم، وأن لا تَخشَى ذلك كما كانت تفعلُ حتى الآن، وينبغي لهم أن لا تكونَ أعمالُهم لاهوتيةً فقط، بل يَنبغي أن يَطرُقوا أبوابَ الطبِّ والصناعةِ وكُل الأعمال التي يتفوقُ فيها الأوربيُّ على الشرقي". ° أما المبشِّرُ الأستاذ "استِورَدْ كْرَوْفورد"، فقد عَلَّق في المؤتمر المذكور

أهميةً كبرى لدى تبشيرِ المسلمين على أسلوبِ التدرج والصبر، ثم قال: "إن المسلمين يقتبسون من حيثُ لا يَشعرون شَطْرًا من المدنيَّةِ المسيحية، وُيدخلونها في ارتقائِهم الاجتماعي، وما دامت الشعوبُ الإسلاميةُ تتدرجُّ إلى غاياتٍ ونزعاتٍ ذاتِ علاقةٍ بالإنجيل؛ فإن الاستعدادَ لاقتباسِ المسيحيةِ يتولَّدُ فيها من غير قصدٍ منها". وفي تقريرِ المبشِّر القسيس "ويلسون" ما يُفصحُ عن أن "ويلسون" هذا لا يشكُّ في أن التربيةَ الغربيةَ هي بمثابةِ قوةٍ تنحلُّ بها عُرى الروابطِ الإسلامية. ° وقال المبشِّرُ القسيسُ "جون تكل" في تقريره: "إن الوقوفَ على أسبابِ نمو الإسلام يُمهِّدُ للحصولِ على وسائل توقيفِ تياره". ثم أورد بعضَ مقترَحاتٍ تتعلقُ بالاحتياطاتِ التي يجدُرُ بالمبشرين اتخاذُها، وأهمها ضرورةُ زيادةِ القوى البشرية الاختصاصية. ° أما القراراتُ التي دَوَّنها هذا الموتمرُ التبشيري في مَحضر جَلْساتِه، فقد كان منها ما يلي: 1 - يُعقَدُ المؤتمرُ مرةً أخرى في القاهرة سنة (1916 م)، وإذا طرأت أمورٌ سياسية، أو أمورٌ أخرى تحولُ دون اجتماعِه في هذه المدينة، فيُعقَدُ في لندن. 2 - مؤتمر "لكنو" يوافقُ مؤتمرَ إرسالياتِ التبشير الذي عُقد سنة (1910م) على ضرورةِ حصرِ الجهودِ في القارَّةِ الإفريقية، دون أن تُمسَّ الجهودُ التي تُبذلُ في البلاد الأخرى.

مؤتمر القدس التبشيري

ولذلك فهو يَرى أنه يَجدُرُ بالجمعيات التبشيرية، أن تتكاتفَ وتتعاضدَ لكي تؤلِّفَ سلسلةً قويةً من إرساليات التبشير، تطوفُ كل إفريقية، وتؤسِّسُ مراكزَ قويةً في الأماكنِ التي هي موطنُ الخطر. ويجبُ أن يكونَ إخراجُ هذه الفكرةِ إلى حيِّز الفعل موضعَ بحثٍ أهمَّ وأوسعَ مما كان في السابق، سواءٌ من جهةِ تربيةِ المبشرين، أو من جهةِ حُسنِ اختيارهم، الأمرُ الذي يُحتِّمُ اتخاذَ التدابيرِ بلا تأخير لإتمام المشروعات التي بُوشر بها. 3 - ويرى المؤتمرُ أنه من الضروري العاجل تأسيسُ مدرسةٍ في مصرَ خاصةٍ بالتبشير، تكونُ عامةً لكلِّ الفِرَق البروتستانتية، وُيشدِّدُ بلزوم التدقيقِ التامِّ في انتقاءِ المبشِّرين الأَكْفاء الممتازِين بصفاتِهم ومواهبِهم العقلية، وبلزوم تعليمِهم اللغةَ العربيةَ بوجهٍ خاص. * * * 4 - مؤتمر القدس التبشيري: كان القسيسُ الدكتورُ "صمويل زويمر" رئيسَ إرسالية التبشير في البحرين منذ مَقْدَمِه إلى الشرقِ في أوائل القرنِ العشرين، إلاَّ أن نشاطَه التبشيريَّ الزائدَ وسَعْيَه لعقدِ مختلفِ المؤتمراتِ التبشيرية، جَعله يرتقي في المراتبِ بين المبشرين، حتى صار رئيسَ المبشرين في الشرق، وحتى صاروا يُلقِّبونه بـ "الرسول المختارِ إلى العالم الإسلامي"، أي: حاملُ رسالةِ تحويل المسلمين عن دينهم. فمن المؤتمراتِ التبشيرية التي دعا إليها هذا القسيسُ: مؤتمرُ "القدس"

الذي تمَّ انعقادة برئاسته في نِيسان سنة (1935م) إبَّانَ الاحتلالِ البريطاني لفلسطين. وبعد أن شَرح أعضاء المؤتمر العقباتِ الكثيرةَ التي اعتَرضت سبيلَ المبشرين، والتي لم تَسمحْ لهم بأن يُخرِجوا المسلمين عن دينهم، ويدخلوهم في المسيحية، وبعدَ أن خَطَب كثيرٌ منهم خُطَبَهم اليائسة، قام "زويمر" رئيس المؤتمر، وألقى على المؤتمرين الخطبة التالية (¬1): "أيها الإخوانُ الأبطال، والزملاءُ الذين كَتب الله لهم الجهادَ في سبيل المسيحية، واستعمارها لبلادِ الإسلام، فأحاطتكم عنايةُ الرَّبِّ بالتوفيقِ الجليل المقدَّس، لقد أدَّيتمَ الرسالةَ التي نِيطت بكم أحسَنَ أداءٍ، ووفِّقتم لها أسمى توفيق، وإن كان ليخَيَّلُ إليَّ أنه -مع إتمامِكم العملَ على أكمل الوجوه-، لم يَفطِنْ بعضكم إلى الغايةِ الأساسية منه، إنني أُقِرُّكم على أنَّ الذين دَخلوا من المسلمين في حظيرةِ المسيحيةِ لم يَكونوا مسلمين حقيقيين، لقد كانوا كما قلتم أحدَ ثلاثة: - إما صغيرٌ لم يكنْ له من أهلِه مَن يُعرِّفه ما هو الإسلام. - أو رجل مستخفٌّ بالأديان لا يبغي غيرَ الحصولِ على قوْتِه، وقد اشتدَّ به الفقر، وعَزَّت عليه لُقمة العيش. - وآخَر يَبغي الوصولَ إلى غايةٍ من الغايات الشخصيَّة. ولكنَّ مهمةَ التبشيرِ التي نَدَبَتْكم دولُ المسيحيةِ للقيام بها في البلاد ¬

_ (¬1) انظر كتاب "جذور البلاء" لعبد الله التل (ص 275).

المحمَّدية، ليست هي إدخالَ المسلمين في المسيحية، فإنَّ في هذا هدايةً لهم وتكريمًا، وإنَّما مهمتكم أن تخرجوا المسلمَ من الإسلام، ليصبحَ مخلوقًا لا صِلةَ له بالله، وبالتالي فلا صِلةَ تَربِطه بالأخلاق التي تعتمدُ عليها الأممِ في حياتها، وبذلك تكونون أنتم بعَمَلكم هذا طليعةَ الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية، وهذا ما قمتم به خلالَ الأعوام المئةِ السالفةِ خيرَ قيام، وهذا ما أُهنِّؤُكم عليه، وتُهنِّؤُكم دول المسيحيةِ والمسيحيون جميعًا عليه كلَّ التهنئة. لقد قَبَضنا -أيها الإخوان- في هذه الحِقبةِ من الدهر مِن ثُلُثِ القَرنِ التاسعَ عَشَرَ إلى يومِنا هذا على جميع برامج التعليم في الممالكِ الإسلامية، ونَشَرنا في تلك الربوع مكامِنَ التبشير، والكنائسِ، والجمعياتِ، والمدارسِ المسيحيةِ الكثيرةِ التي تهيمن عليها الدولُ الأوربيةُ والأمريكية، والفضلُ إليكم وحدَكم أيها الزملاء. إنكم أعددتُم له بوسائِلِكم جميعَ العقولِ في الممالكِ الإسلامية إلى قبولِ السير في الطريقِ الذي مَهَّدتم له كل التمهيد. إنكم أعددتم شبابًا في ديار المسلمين لا يعرفُ الصِّلةَ بالله، ولا يريدُ أن يَعرِفَها، وأخرجتم المسلمَ من الإسلام، ولم تدخلوه في المسيحية، وبالتالي جاء النشء الإسلاميُّ طبقًا لما أراده له الاستعمارُ، لا يَهتمُّ للعظائم، ويحبُّ الراحةَ والكسل، ولا يُصرِّفُ هَمَّه في دنياه إلاَّ في الشهوات، فإذا تَعلَّم فللشهوات، وإذا جَمَع المال فللشهوات، وإن تَبوأَ أسمى المراكزِ فللشهوات، ففي سبيل الشهوات يجودُ بكلّ شيء.

مؤتمرات أخرى

إنَّ مهمتَكم تمت على أكملِ الوجوه، وانتهيتم إلى خيرِ النتائج، وباركَتْكم المسيحية، ورَضِي عنكم الاستعمار، فاستمِرُّوا في أداءِ رسالتِكم، فقد أصبحتم -بفضل جهادكم المبارِك- موضعَ بركاتِ الربِّ". وبهذه الكلماتِ انتهى خطابه، وما أحسَبُ هذا الخطابَ بحاجةٍ إلى أي تعليق عليه، ولكنَّني لستُ أدري ما هو هذا الربُّ الذي تُلتمسُ بركاته ثوابًا على تضليل الناس، وإخراجِهم من دينِهم وعقائدِهم بالله وبرسالاته، وغمسِهم بالشهواتِ والموبقات والرذائل؟!. * ويكفيني عن أي تعليق قولُ الله تعالى في سورة "الجاثية/ 45 مصحف/ 65 نزول): {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]. وقد بلغ القسيسُ "زويمر" الخامسةَ والثمانينَ، ومات سنة (1952م) دون أن يَظفَرَ بما كان يصبو إليه، إلاَّ أنه قد لَقِي عند ربه جهنَمَ وبئسَ المصير، إذ كرَّس حياتَه لتضليلِ أهل الإيمان، وتحويلِهم عن صراطِ الله. * * * 5 - مؤتمرات أخرى: وما يزال المبشِّرون يَعقِدون المؤتمراتِ لتطويرِ وتحسينِ وسائلِهم لتنصيرِ العالم الإسلامي. ° ومن هذه المؤتمراتِ مؤتمرْ كَنَسيٌّ عُقد في ولاية "كولارادو" بأمريكا في عام (1977م)؛ وموضوع هذا المؤتمر هو ما يلي: "العملُ على اكتشافِ

وتحديدِ المسؤوليات المسيحيةِ في أمريكا الشمالية تُجاهَ تنصيرِ المسلمين". وهذا المؤتمرُ امتدادٌ لمؤتمراتٍ أخرى عُقدت لهذا الغرضِ في "لوزان" عام (1974م) بهدفِ تنصيرِ شعوبِ العالم. وتمَّ اختيارُ المرشَّحين لهذا المؤتمر من المبشِّرين المهتِّمين بتنصيرِ المسلمين. وكان الإحساسُ السائدُ بين المشارِكين في المؤتمر أنه يجمث تغيير طريقةِ العمل الرئيسة وفقًا لوضع العالَم الإسلاميِّ المعاصر؛ وأنه يجب قبولُ مبدإِ قُدرةِ الله وسيطرتِه وتحكُّمِه، لإزالة الشكِّ الذي لدى المسلمين الذي يَرى أن العالَم المسيحيَّ يُشجِّعُ بقوةٍ عمليةٍ توجيهَ العالَم الإسلاميِّ إلى العِلمانية. ووافق المشتركون في المؤتمر على أنَّ الموقفَ المتشدِّدَ تُجاهَ العالَم الإسلامي لن يُعينَ في عمليةِ تنصيرِ العالم الإسلامي، لذلك فهم يَعتقدون أنه يجبُ العملُ على إيجادِ جوٍّ وُدِّي بينهما. ° ومن مقررات هذا المؤتمر ما يلي: 1 - يجبُ بذلُ الاهتمام الكافي والتركيزُ بقوةٍ على زَرع جالياتٍ مسيحيةٍ في قلب العالم الإسلامي، وهم سيحاولون بدَورهم تطويرَ وإيجادَ وسائلَ منهجيةٍ جديدة أكثَرَ ملاءمةً عند تقديم الإنجيل للمسلمين. ويجب الاهتمامُ الشديدُ باستخدام الآياتِ القرآنيةِ ذات الصلةِ بهذه الموضوعات، وخاصةً في المراحل الأوليةِ لعمليةِ التنصير. 2 - بناءُ وزَرعُ الكنائس التي تهتمُّ بالمتنصِّرين، والترتيباتِ الخاصة بهم، والشعائرِ الدينية. إلى غير ذلك من مقررات.

مجالات أنشطة المبشرين

مجالات أنشطة المبشرين 1 - التحدِّي المباشِرُ للإِسلام عن طريقِ المُناظرة لعلماء المسلمين: كان المجالُ الأولُ الذي بدأ به المبشرون (المنصرون) هو مجالُ التحدِّي المباشِر للاسلام، عن طريقِ المناظَرةِ لعلماء المسلمين. وقد بدأ هذا التحدِّي القَسُّ "فاندر" أحدُ مؤلفي كتاب "ميزان الحق" عمدةُ المبشرين والمستشرقين في مناظراتهم للمسلمين. وتصدَّى له في الهند الشيخ "رحمة الله الهندي" (الكيرانوي" (1233 - 1308 هـ) صاحب كتاب "إظهار الحق". قامت بينهما مناظرةٌ علنيةٌ في (11 رجب سنة 1275 هـ) الموافق لـ (10 نيسان 1854م) في مدينة "أكبر آباد آكره" إحدى مجالاتِ النشاطِ التبشيري في الهند، وقد حَضَرَ هذه المناظرةَ ولاةُ المديرية.، وموظَّفو الثكنةِ الإنكليزية من الإنكليز، وعددٌ كبيرٌ من أعيانِ البلد ووجهائه. وقد أَسفرت هذه المناظرةُ في يومها الأول عن اعترافِ القَسِّ "فاندر" بوقوع التحريفِ في ثمانيةِ مواضعَ من الأنجيل. وفي اليوم التالي تزايد عددُ الذين حَضروا المناظرة من الحُكَّام الإنجليز والمسيحيين والهنادك والسيخ، وظَهر ضَعف القَسّ "فاندر" في المناظرة وظَهر تعنُته. وفي اليوم الثالث لم يَعُدِ القَسُّ إلى مجلسِ المناظرة التي لم تَنْتَهِ، وكان

2 - مجال الخدمات الصحية

كلَّما عَلم بوجود الشيخ -رحمه الله- في مكانٍ غادره (¬1). ثم عَدَل المبشِّرون عن مِثل هذه المواجهةِ الصريحة، وانطلقوا في المجالاتِ الأخرى غيرِ المباشرة. 2 - مجالُ الخِدماتِ الصحية: وكان ذلك بتأسيسِ المستشفيات والمستوصفاتِ التبشيرية، وتوجيهِ الأطباءِ المتنقِّلين، والمستوصفاتِ المتنقَّلة، وقد تحمَّلوا في ذلك مشقاتِ الدخولِ في أصعبِ الأماكنِ الإفريقية، وغيرها. وقد وَجَّهوا اهتماماتٍ كبرى لتنصيرِ المسلمين في مجالِ خِدماتِهم الطبية، في معظم بلدانِ العالم الإسلامي الكبرى والصغرى، واستثمروا مؤسساتِهم الطبيةَ استثمارًا اقتصاديًا واسعًا مع قيامهم بمهمَّاتِ التنصير. 3 - مجال تأسيسِ الكنائسِ والأديرة والرهبنات: وذلك في كلِّ بلدٍ إسلامي يوجَدُ فيه نصارى، ولو لم يتجاوزوا عددَ أصابع اليدين، لتكونَ هذه المؤسساتُ الدينية بؤرةً للتنصير، ومسوِّغًا للادعاءاتِ المستقبليةِ بحقوقٍ تاريخيةٍ في بلاد المسلمين 4 - مجال تأسيس المدارس: وذلك في المرحلةِ دون المرحلةِ الجامعية التي هي من اختصاصِ المستشرقين، وقد أسَّسوا في هذا المجالِ مدارسَ كثيرة في بلدانِ العالم ¬

_ (¬1) انظر ما كتبه الشيخ "أبو الحسن الندوي" في مجلة البعث الإسلامي بعددها الممتاز رمضان وشوال من سنة (1402 هـ).

5 - مجال الخدمات الاجتماعية المختلفة

الإسلامي، مِن دُورِ الحضانة حتى شهادةِ الدراسة الثانوية، وأتقنوا بناءَها ونظامها، واجتَذبوا إليها أعدادًا هائلةً من أبناءِ وبناتِ المسلمين، وكان من ثمراتِها إخراجُ أجيالٍ متنكرةٍ لدينها، ولأمتها، ولأوطانها، تابعةٍ للغرب، متشبثةٍ بذيولِ الحضارةِ الأوربية وبريقِ ألوانها، مع ما فيها مع انحلالٍ وفوضى خُلُقيةٍ وسلوكية، دون الأخذِ بعوامل النهضةِ الماديةِ الحقيقة. ومن الأمثلة على ذلك: ما تَكشِفُه الإحصائياتُ عن وجودِ قُرابةِ (140) مدرسةً طائفيةً وأجنبيةً في الأردن في السبعيات من القرن العشرين الميلادي البخاري، وعددُ الطُّلابِ والطالباتِ فيها يَزيدُ على ثلاثين ألفًا، معظمُهم من أبناءِ وبناتِ المسلمين، والمعلِّمون والمعلِّماتُ فيها معظمهم من غيرِ المسلمين. 5 - مجال الخدمات الاجتماعية المختلفة: كدُورِ الأيتام، والعَجَزةِ، والأرامل، والمطلَّقاتِ، ونحو ذلك. 6 - مجالُ العلاقات الاجتماعية: فمن ذلك الصِّلاتُ الوديِّةُ الشخصيةُ والصداقاتُ والزياراتُ العائلية، والعلاقاتُ الاجتماعيةُ والاقتصاديةُ والثقافيةُ المختلفةُ، واتخاذُ هذه الأمورِ وسيلةً لإفسادِ المسلمين والمسلمات. 7 - استغلالُ الأزماتِ والكوارثِ الفرديةِ والاجتماعية: ويتجلى ذلك بتصيُّدِ اللقطاءِ والمشردين والمشرداتِ وأصحابِ الأزمات المختلفة من أبناءِ وبناتِ المسلمين، وكذلك الذين فَقدوا أهليهم في

الحروب، والفتن، والمجاعات، والكوارثِ الطبيعية، والأزماتِ الأخرى، وإيوائهم لتنصيرهم. ومن أمثلة ذلك: الحملاتُ المكثفةُ التبشيريةُ لتنصيرِ أطفال المسلمين اللاجئين في الصومال، التي نَشرت الصحفُ عنها في عام (1402 هـ). والحملاتُ التبشيريةُ لتنصيرِ أطفال لاجِئي الأفغانِ في باكستان، الذين فرَّ بهم أهلُوهم، خوفًا عليهم من التدميرِ الشيوعي الأحمر، وقد نُشر عنها في عام (1403 هـ). وهذه الحملاتُ تأتي تحتَ قناع هيئةِ "الصليب الأحمر". وكذلك الحملاتُ التبشيريةُ لتنصيرِ أطفال من إندونيسيا، ليكونوا إذا كَبِرُوا مبشرين بالنصرانية بين ذَويهم، وقد أسمَوا هذا المشروعَ بمشروع "الأسر البديلة". وحَصَل ما هو أشنعُ من ذلك في أطفال المسلمين اللبنانيين، وذلك في الفِتن السياسية التي قامت بين الطوائفِ اللبنانيةِ المختلفة، في السبعينات، وأوائل الثمانيناتِ من القرنِ العشرين الجاري، إذْ كانوا يُلتقطون ليؤخذوا إلى معسكراتِ وملاجئ التنصير، أو إلى القتل. ونشرت الصحفُ أن بعضَ النصارى اللبنانيين باعُوا ألفين من أطفال المسلمين في لبنان إلى المؤسساتِ التنصريةِ في أوربا وأمريكا. ونَشرت الصحفُ أيضًا ما يُثبتُ أنَّ هناك منظماتٍ سريةً يُشرِفُ عليها قساوسة لشراءِ أطفالِ من أبناءِ المسلمين، بُغيةَ أخذِهم إلى معسكرات التنصير.

8 - تأسيس الإذاعات

8 - تأسيسُ الإِذاعات: وهي الإذاعاتُ الخاصةُ بالدعوةِ إلى النصرانية، ونشرِ الإنجيل بصورةِ علنيةٍ ظاهرة، أو بصورةٍ خفيةٍ متوارية. ° ومن هذه الإذاعات: 1 - إذاعة "مونت كارلو". 2 - إذاعة "صوت الغفران". 3 - إذاعة "مركز النهضة". 4 - إذاعة "قبرص" في نيقوسيا. 5 - إذاعة "فيبا" بجمهورية السيشيل في المحيط الهندي. 9 - توزيع المطبوعات والمنشورات الداعية إِلى النصرانية: وذلك ببثِّها بين صفوفِ المسلمين، مقروناً بالأساليب الودِّية، والوعد بتلبية المطالب. والمبشِّرون بالنصرانية يستغلُّون إمكاناتِهم الواسعةَ الماديةَ والعلميةَ والبَشَريةَ، لطبع ملايينِ الكتب، والرسائل، والمنشوراتِ، وتوزيعِها بين المسلمين. ومع ما لديهم من أموالٍ وفيرةٍ، تُحوَّلُ إليهم فوائد ودائع المسلمين في البنوك الغربية، الذين يوُدِعون أموالهم فيها، ولا يأخذون فوائدَها الربوية، وهم بذلك قد ساعَدوا أعداءَ الإسلام بأموالهم مرَّتين.

10 - الإغراء بين الجنسين

10 - الإِغراءُ بين الجنسين: وذلك بتصيدِ الشباب عن طريقِ الفتيات الحسناوات المرضيات بصداقاتهن الخاصة، والآسراتِ للنفوس، والباذلاتِ أجسادَهنَّ ولو بطرقٍ محرَّمةٍ. 11 - تأسيسُ الجمعياتِ والمنظماتِ والنوادي: ومن مجالاتِ أنشطةِ المبشِّرين بالنصرانية، الجمعياتُ والمنظماتُ والنوادي ذاتُ النشاطِ الاجتماعي أو الأدبي أو الثقافي، أو الفني أو الرياضي. ° ومن هذه المنظمات ما يلي: 1 - منظمة "نداء الرجاء" بمدينة "شتوتكارت" الألمانية. 2 - منظمة "بعثة الصداقة" التي لها فروع في لبنان، وهولندا، وألمانيا، وفرنسا، وأمريكا. 3 - منظمة "مركز الشبيبة النصراني" ومركزُها الرئيسي بألمانيا الغربية، ومؤسِّسُها "فالتر فاشرمان" الألماني الجنسية .. إلى غيرها من المنظمات. 12 - المساعدة على افتتاح أكبرِ عدد ممكنٍ من دور الخمور: وقد تمَّ ذلك في بلدانِ العالم الإسلامي، لنشرِ معاقرةِ الخمورِ بين المسلمين. وقد لاحَظَ المتتبِّعون في السودان أنَّ الكنيسةَ والمؤسَّساتِ التبشيريةَ وراءَ تعطيل أيِّ مشروع لتحريم الخمر، فعندما أعلَن مجلسُ منطقةِ أمِّ دِرمانَ تحريمَ بَيع الخمور، قامت الكنيسةُ بمعارضةِ ذلك، واضطَربت، ودَفعت

13 - الاهتمام بالمجتمعات الإسلامية النامية والنائية

الأموالَ الطائلةَ لتعطيل تنفيذ القرار. 13 - الاهتمامُ بالمجتمعاتِ الإِسلامية الناميةِ والنائية: تهتمُّ حركاتُ التنصيرِ بالمجتمعاتِ النائيةِ والنامية، والتي تكثُر فيها الأمية، وينتشرُ فيها الفقرُ والمرض، لاستغلالِ حاجاتهم والبؤسِ الذي يعانون منه، الأمرُ الذي قد يُسهِّلُ عليهم بَيعَ دينِهم لتحصيل الغذاءِ والدواءِ والكِساءِ، والعمل الذي يُحصِّلون عن طريقِه أرزاقَهم. ويَقْنَعُ المنصِّرون بمن يتنصَّرُ طمعًا بتأمينِ حاجاته، لا عن إيمان بالنصرانية، ولا عن اعتقادٍ بصحتها. 14 - استغلالُ أشرطة "الكاسيت": واستَخدمت حركاتُ التنصير -مع انتشارِ آلاتِ التسجيل على نطاقٍ واسع في العالم- طبعَ أشرطةِ "الكاسيت" وحَشْوَها بما يريدون بثَّه من أفكار، وتوزيعَها في مجالات أنشطتهم. 15 - تأسيس منظمات سِريةٍ تعمل في الخفاء: ومن أمثلةِ هذه المنظماتِ السريِّةِ ما أعلنته الصحفُ السودانيةُ في أواخِرِ السبعينات من أن سُلطاتِ الأمنِ السودانية اكتَشفت خليةً سريةً تعملُ في الخفاء لبث الدسائسِ والأفكارِ المعاديةِ للإسلام، والداعيةِ إلى النصرانية، وذلك إذْ داهمت هذه السلطاتُ وَكرَ خليةٍ من خلايا هذه المنظمة في "الخرطوم" العاصمة السودانية. وزعيمُ هذه الخليةِ طبيبٌ سويسري يعملُ في "الخرطوم"، وهي متابعة لمنظمةٍ دوليةٍ مركزُها في "بازل" بسويسرا، ولهذه المنظمةِ فروع في ألمانيا،

16 - مجال المسابقات بأنواعها

والنمسا ولبنان. وحين تمَّت مداهمةُ هذا المركز عُثر على (200) ألف كتابٍ من الكتب المعادية للدين الإسلامي، والمحرِّفةِ له، والمشوِّهةِ لصورتهِ الحقيقية، والداعيةِ إلى الردَّة عنه. وضُبطت فيه أيضًا كمياتٌ كبيرة من الأشرطة التي سُجِّلت فيها موضوعاتٌ وأحاديث مناوئةٌ للإسلام، وبعضُها يشتملُ على تلاواتٍ شبيهةٍ بالتلاوات القرآنيةِ -هي ليست قرآنًا- بل معاديةً ومناقضةً له، بُغيةَ تضليل عوام المنتمين إلى الإسلام في إفريقيةِ وغيرها، حيث الجهلُ بالإسلام منتشر. وذَكرت الصحفُ السودانيةُ آنئذٍ أن رئيسَ هذه المنظمةِ هو الألماني "فالتر فشرمان"، وأنه كان قد بَعث بخطابٍ إلى الطبيبِ السويسري مديرِ الخليةِ في "الخرطوم" يدعوه فيه إلى تكثيفِ النشاطِ للحدِّ من المدِّ الإسلامي. 16 - مجالُ المسابقات بأنواعها: ومِن هذه المسابقاتِ الإعلانُ عن مسابقاتٍ عن طريقِ المراسلة، ومضامينُ هذه المسابقاتِ تتطلبُ التعرفَ على موضوعاتٍ يُهِمُّ المبشِّرين التعريفُ بها. وتُرصَدُ لهذه المسابقات جوائزُ مادية وعَينية قيمة، بُغيةَ شد انتباهِ الناس إليها، وتحريكِ مطامع ذَوِي المطامع للمشاركةِ فيها. 17 - تأليف الكتب: وهي الكتبُ المعدة لتكونَ مراجعَ للبحوث الدينية، ومنها الكتبُ

18 - مجال الفنادق العالمية الكبرى

التالية: 1 - "ميزان الحق" مؤلَّف من ثلاثة أجزاء. 2 - "تنوير الأفهام في مصادر الإسلام". 3 - "الهداية" مؤلَّف من أربع أجزاء. 4 - "مقالة في الإسلام". 5 - "الباكورة الشهية في الروايات الدينية". 6 - "دعوة الحق". 7 - "أصول الإيمان". 8 - "الصليب في الإنجيل والقرآن". 9 - "دين المسيح لم ينسخ". 10 - "شخصية المسيح في الإنجيل والقرآن". 18 - مجال الفنادق العالمية الكبرى: وذلك باستغلال الفنادق العالمية الكبرى ذات الفروع في معظم عواصم العالم، ودسِّ ما يمكن عن طريقها من غزوٍ تبشيري صليبي، وسلوكٍ غربي يخدم مصالح الاستعمار الغربي، ويُحوِّل المسلمين عن مفاهيمهم الإسلامية، وأنواع سلوكهم الإسلامي. 19 - استخدام الأسواق المجُمعة "السوبر ماركت": يتمُّ ذلك باستغلالها لترويج ما يخدم أفكار الغزاة، ويُشجع على ممارسة أنواع سلوكهم وطرائق حياتهم.

التآزر بين المبشرين والمستعمرين

20 - إِنشاءُ معاهدَ لإِعدادِ المنصِّرين المتخصِّصين بتنصيرِ المسلمين: مثل: "معهد صمويل زويمر" الذي أُنشئ في شمال "كاليفورنيا"، وقرروا إنشاءَ معهدٍ آخَرَ، ورصدوا له مليارَ دولار أمريكي. وهنالك مجالاتٌ كثيرة أخرى قائمة، أو يمكن أن تتفتَّقَ أذهانُ أعداء الإسلام لاستخدامها. * * * التآزُرُ بين المبشِّرين والمستعمرين 1 - تتابعت مخططاتُ المبشِّرين الهادفةُ إلى محوِ الإسلام من الوجود، وتمزيقِ وحدةِ المسلمين، واتَّسعت دوائرُ أعمالِهم وملاحقتِهم للإسلام في كل بلدٍ اتساعًا كبيرًا، ولكنهم لم يَظفَروا بكلِّ ما يُريدون تحقيقَه داخلَ المجتمعاتِ الإسلامية، عن طريقِ أعمالِهم ونشاطاتِهم الخاصةِ المنفصلةِ عن الحكوماتِ الاستعمارية، فلجؤوا إلى هذه الحكوماتِ يلتمسون منها العَونَ والتأييدَ المالي والسياسيَّ والعسكري. فرأت الدولُ الاستعماريةُ جيوشَ المبشرين كَنزًا ثمينًا لها، فقررت أن تُدعِّمها في أهدافِها التبشيرية، لتستخدمَها في الأهداف الاستعمارية. وقد كان المبشِّرون الذين يَفِدُون إلى البلاد الإسلامية، يأتون أولَ الأمر متستِّرين بأسماءٍ مختلفة، فإذا استقروا في البلاد أَخذوا يقُومون بالتبشيرِ على مقدارِ وُسعِهم، فإذا وَجدوا من الدولِ الإسلاميةِ مراقبةً لهم وتذمُّرًا من

أعمالِهم وملاحقةً لتصرفاتهم لجؤوا إلى قناصلهم طالبين حمايتَهم، وكان المسؤولون في القنصلياتِ الأجنبيةِ يُدافعون عنهم ويَحمُونهم بوصفِهم من رعاياهم، وكلما ضَعُفت الدولُ الإسلاميةُ إمامَ نفوذِ الدولِ الأجنبيةِ زادت هذه الدولُ في دعم المبشِّرين داخلَ البلادِ الإسلامية، وفي حمايتهم وتأييدهم. ومن أمثلةِ ذلك: لمَا أراد الخديوي "إسماعيل باشا" أن يُغلِقَ مدارسَ البشرين البروتستانت في مصر؛ لأن هؤلاء كانوا يتدخلون في السياسة، وُيثيرون الاضطراباتِ في البلاد، وَيزيدون مشاكلَ الحكومة، تدخلت في الأمر قنصليتانِ تابعتانِ لأكبرِ دولتينِ يومئذٍ، فأيدتَا المبشرين، وحَمَلتا الحكومةَ المصريةَ على أن تتقيدَ بالخط الهمايوني (أي: بالدستور) الذي ينص على احترام الحريةِ الدينية، عِلمًا بأن احترامَ الحريةِ الدينيةِ لا يتعارضُ مع الأمرِ لإغلاقِ مدارسَ تبشيريةٍ أجنبية، تحاولُ أن تَعبَثَ بعقائدِ المسلمين وتُخرِجَهم عن دينهم، ولكن سياسةَ دعم المبشرين هي التي حَرضت الدولَ الأجنبيةَ على أن تتدخلَ لصالح التبشيرِ هذا التدخلَ السافر. 2 - ويكشفُ سياسةَ التآزرِ بين المبشرينِ والمستعمرين ما جاء في الكتابِ المئوي للمبشرين اليسوعيين، بعد أن أَمْسَتْ سورية ولبنان تحتَ الانتداب الفرنسي، وهو قولهم: "أجل، لقد كنا نعتمدُ على مساعدةِ فرنسا الظافرة، والآن ها هي فرنسا هنا". 3 - وفي المؤتمر الذي أقامة المبشرون على ظَهرِ الباخرة "غالف" في البحر الأحمر، صَرَّح حاكمُ إفريقية الشرقية: بأنه يجب على الحكومةِ وعلى

المبشرين أن يَشتركوا في العمل ضدَّ الإسلام. 4 - وفي سبيل مؤازرةِ المبشّرين للدول الاستعمارية المتربِّصة، أَخَذَ المبشرون يفتعِلُون داخلَ البلاد الإسلامية الأسبابَ التي تقودُ إلى الحرب؛ لأن الحربَ ستُضعِفُ الدولَ الإسلامية، ومِن خلال ذلك يجدُ المبشرين منافذَ واسعةً لهم، كي يَقوموا بمهمةِ التبشير بين المسلمين على ما يُحبُّون، ويحاولُ المستعمرون مِن جهتهم تحقيقَ أهدافِهم الاستعمارية، بينما يحاولُ المبشِّرون تحقيقَ أهدافِهم التبشيرية. وهذا ما أَعطى الحروبَ التي كانت تُشن ضدَّ العالم الإسلاميّ صفةً دينيةً صليبيةً، بما في ذلك الحروبُ التي شنتها الدولُ الأوربيةُ على الحكوماتِ الإسلاميةِ في القرنين التاسعَ عَشَرَ والعشرين. ° يقول المبشر"لورانس براون": "وكذلك شنت الدولُ الأوربيةُ في القرن التاسع عَشَرَ والقرن العشرين حروبًا عُدوانيةً على الحكوماتِ المسلمة، ثم انتَزعت منها أراضيَ ضمتها إلى سُلطانها هي، ولقد كانت النتائجُ في أحوالٍ كثيرةٍ غيرَ سارةٍ لبعضِ الشعوب التي استُعبدت، وخصوصًا من المسلمين، ولكن هذه الشعوبَ لم تَصِلْ بعدُ إلى درجةٍ تَشعُرُ فيها بأنها أصبحت أقلياتٍ مضطهدةً". ° ويقول "وليم كاش" في كتابٍ صغير له: "قبلَ هذه التطوراتِ التي طرأت على العالَم الإسلامي بعدَ الحربِ العالمية الأولى، كان المبشِّرون قد اتخذوا مراكزَ استراتيجيةً في العالَم الإسلامي، واستطاعوا في أثناءِ الثورات والحروبِ والاضطراباتِ أن يُتابعوا عَمَلَهم بهدوءٍ وثبات، ولقد

كُتب هذا الكتاب الصغير ليدلَّ على هذه التطوراتِ التي حَدثت، وليبين للكنائسِ تلك الحاجةَ الملحة للتقدُّم بمشروعِها في يومِ الفرصةِ السانحة". وقبل أن يحتلَّ الاستعمار الإيطاليّ "إِرِتْرِيا" استَخدم الطليانُ المبشِّرَ الطلياني الأب "سابيتو" ليبتاعَ لهم "عَصَب" من الأريتريين، ففعل، وكان ذلك هو البدايةُ للاحتلال الاستعماري. وكذلك كانت للمبشرين أدوارٌ كثيرةٌ مماثلةٌ في التمهيد للاستعمار، كما كان للدول الاستعمارية أدوارٌ كثيرة في مساعدة المبشرين ومؤازرتهم وحمايتهم لهم، وخططُ العمل من الفريقين يكمِّلُ بعضها بعضًا. 5 - ونجدُ الآنَ بعد استقلالِ البلادِ الإسلاميةِ من الاستعمارِ المباشر، نشاطًا كبيرًا للمبشرين في بلاد كثيرةٍ من بلاد المسلمين، وهذا النشاطُ تُدعِّمُه الدولُ الاستعمارية الكبرى، منه نشاط المبشِّرين في إفريقية، ونشاطُ المبشرين الكبير في إندونيسيا، إذ تتزايدُ فيها الإرسالياتُ التبشيريةُ تزايدًا كبيرًا. نشرف صحيفة "واشنطن بوست" في عددها الصادر في (7/ 9/ 1973م) تعليقًا بعنوان: "تعاظُمُ التنصير في إندونيسيا" أشارت فيه إلى ازديادِ عددِ الكنائسِ في أوساط إندونيسيا المسلمة .. وذكرت أن "جاوه" -وهي أكثر الجزرِ ازدحامًا بالسكان، إذ تبلغُ نسبة عددِ سكانها (65%) من مجموع سكان إندونيسيا- أصبحت تربةً صالحةً لنشاطِ الإرسالياتِ التبشيرية، وقد تضاعَف عددُ كنائس البروتستانت والكاثوليك في "جاوه الوسطى والشرقية" إلى أربعةِ أضعافِ ما كان عليه .. ويبلغ عددُ أعضاء كنيسة "جاوه الشرقية" وحدها (21000) واحدًا وعشرين ألف

شخص .. ورغم ما يواجهُ رجالَ التبشير في بعضِ المناطقِ الإسلاميةِ من مقاومةٍ وإعراض، إلاَّ أنهم بالأغراءِ الماديِّ المسيحيِّ استطاعوا أن يتغلَّبوا على هذه المصاعب. ° وقالت الجريدة: "إنه توجدُ في إندونيسيا الآن جريدتانِ إحداهما للبروتستانت، والأخرى للكاثوليك". ° وقالت: "إن المسيحيين الذين تبلغُ نسبتُهم (5%) من مجموع سكان البلاد يُسيطرون على بعض المرافق". وأعادت الصحيفةُ إلى الأذهانِ أن طلائعَ البعثاتِ التبشيريةِ دَخلت إندونيسيا في عام (1500م) مع البرتغاليين الذين استعمروا جُزر البهارات .. وقد استَمرت الحملاتُ التبشيريةُ وبعثاتُها تتوالى على البلاد في مختلفِ العهودِ التي مرت بها (¬1). ومع تزايُدِ النشاط التبشيري في إندونيسيا أَخذت الأموالُ تتدفقُ عليها من دولِ الغربِ ومن أمريكا بالذات، ومعظمُ هذه الأموالِ لخدمةِ أهدافِ المبشرين الراميةِ إلى تنصيرِ الشعبِ المسلم في إندونيسيا. 6 - ومما يدل على أن التبشيرَ تمهيدٌ للاستعمار ومقدمة له، ما جاء في خطاب القسيس "زويمر" الذي ألقاه في مؤتمرِ القدس التبشيري، الذي سبق بيانه، إذ قال فيه للمؤتمرين: "وبذلك تكونون أنتم بعَملكم هذا طليعةَ الفتح ¬

_ (¬1) مقتبس من مقال كتبه الدكتور محمد ناصر رئيس وزراء أندونيسيا الأسبق وعضو المجلس التأسيسي لرابطه العالم الإسلامي، نشر قسم منه في جريدة أخبار العالم الإسلامي، العدد 353 في 24/ 10/ 1393 هـ.

الاستعماري في الممالك الإسلامية". ° ويقول المبشر "لورنس براون" -وهو أحدُ أقطابِ المبشرين في العالم-: " .. ولكنَّ الخَطرَ الحقيقيَّ كامن في نظام الإسلام، وفي قُوته على التوسع والإخضاع، وفي حيويتِه، إنه الجدارُ الوحيدُ في وجهِ الاستعمار الأوربي". ° وتقول مجلة "العالم الإسلامي" الإنكليزية: "إن شيئًا من الخوف يجبُ أن يُسيطرَ على العالَم الغربي، ولهذا الخوفِ أسبابٌ، منها: أن الإسلامَ منذُ أن ظَهر في مكةَ لم يَضعُف عدديًّا، بل هو دائمًا في ازديادٍ واتساع، ثم إن الإسلامَ ليس دينًا فحسب، بل إن من أركانِه الجهادَ، ولم يَتَّفِقْ قط أن شعبًا دخلَ في الإسلام ثم عاد نصرانيًّا". 7 - ويكشفُ سياسةَ التآزرِ بين المبشرين والمستعمِرين ما جرى في المؤتمر الاستعماري الألماني. فقد نشرت "مجلة إرساليات التبشير البروتستانتية" التابعةُ لجميعة التبشير في مدينة "بال" بسويسرا مقالةً ذاتَ شأنٍ عن موقفِ إرساليات التبشير في المؤتمر الاستعماري الألماني، ومما يَزيدُ في أهميةِ هذه المقالة أنها مكتوبة بقلم المبشر "م. ك. اكسنفلد" صاحبِ التقرير عن الفرع المختص بالإسلام في المؤتمر الاستعماري المذكور، وهو أيضًا أمينُ سر جميعةِ التبشير في برلين. ° قال صاحب المقالة:، إنَّ المؤتمر الاستعماري امتاز بِمَزِيَّتين: الأولى: أنه بَحث في الشؤونِ الصناعيةِ والاقتصادية. الثانية: إجماعُه على وجوبِ ضمِّ المقاصِدِ السياسيةِ والاقتصاديةِ إلى

الأعمالِ الأخلاقيةِ والدينيةِ في سياسةِ الاستعمارِ الألماني. واستَشهد بقول "شنكال" رئيسِ غرفةِ التجارةِ في "همبرغ": "إن نموَّ ثروةِ الاستعمار متوقفٌ على أهميةِ الرجال الذين يَذهبون إلى المستعمراتِ، وأهمُّ وسيلةٍ للحصول على هذه الأمنية إدخالُ الدينِ المسيحي في البلادِ المستعمَرة؛ لأن هذا هو الشرطُ الجوهري للحصول على الأمنيةِ المنشودة، حتى من الوِجهة الاقتصادية". ثم حَضَّ "اكسنفلد" على تقديرِ عمل المبشرين، وإحلالِه في مَحِله اللائق به، وعندما أَخذ المؤتمرُ الاستعماري يبحثُ في أعمالِ فرعِه الرابع الخاص بالمسألة الإسلامية، أفاض المبشرون المشتركون في المؤتمر، وتوسَّعوا في القول، حتى خُيِّل للجميع أن المؤتمرَ الاستعماري تحول إلى مؤتمر تبشيري. ° وجاء في قرارات المؤتمر الاستعماري المذكور ما يلي: "إن ارتقاءَ الإسلام يُهدَّدُ نموَّ مستعمراتنا بخطر عظيم، ولذلك فإن المؤتمرَ الاستعماري يَنصحُ الحكومةَ بزيادةِ الإشرافِ والمراقبةِ على أدوارِ هذه الحركة". والمؤتمرُ الاستعماري -مع اعترافِه بضرورة المحافظة على خُطَّةِ الحِيادِ تمامًا في الشؤون الدينية- يُشيرُ على الذين في أيديهم زِمامُ المستعمراتِ أن يقاوِموا كلَّ عمل من شأنِه توسيعُ نطاقِ الإسلام، وأن يُزيلوا العراقيلَ من طريقِ انتشارِ المسيحية، وأن يَنتفعوا من أعمالِ إرسالياتِ التبشيرِ التي تبث مبادئَ المدنية، خصوصًا بخدماتهم التهذيبية والطبية. ومِن رأيِ المؤتمر"أن الخطر الإسلامي يدعو إلى ضرورةِ الانتباهِ لاتخاذ التدابير -من غيرِ تسويفٍ- في كَل الأرجاء التي لم يَصِلْ إليها الإسلامُ بعد".

° وجاء في خِطابٍ ألقاه الأستاذُ "باكر" أحدُ أعضاءِ المؤتمرِ الاستعماري الألماني: "إن السياسةَ التي يَنبغي الجريُ عليها في معاملةِ المسلمين، تُحِّتمُ علينا وَضْعَ خُطةٍ جديدةٍ في مَجرى سياسةِ حكومتنا .. والمبشِّرون هم الذين اختُصُّوا وحدَهم بالاهتمام بأمرِ الإسلام، والبحثِ في شؤونه في كلِّ مستعمراتنا الألمانية إلى هذه الأيام الأخيرة .. وأنا لا أرى أن تَظَلَّ الحالةُ على ما هي عليه، بل مِن رأيي أن تَنتقلَ أزمةُ السياسةِ الإسلامية منذُ الآن وبعد الآن إلى يدِ الحكومةِ في مستعمراتنا، ويجبُ على حكومتنا في هذه الخطة الجديدة التي أُشير إليها أن تَستعينَ بالوجهةِ الوطنيةِ لا بالوجهةِ الدينية، كيما تتوصَّل إلى مقاصدها". ° ثم قال: "وأنا أقترحُ على حكومتنا أن تضعَ خُطةً موطَّدةَ الأركان في الأمور الآتية: الأول: في الخطةِ العامةِ للنظام الإداري والديني. الثاني: في علاقةِ الشرع الإسلامي بالقوانين الأوربية. الثالث: في نظام التعليم". ° ثم خَتَم خطابه بقوله: "يجبُ علينا بالرغم من العنايةِ برعايةِ الإسلام أن نهتم بمقاومةِ انتشارِه في مستعمراتِنا على قَدْرِ الإمكان، وليس هنالك غير واسطةٍ واحدةٍ توصلنا إلى هذه الغاية، وهي إنشاءُ مراكزَ ثابتةِ الأركان، كما تفعلُ إرساليات التبشير". 8 - ويكشفُ سياسةَ التآزر بين المبشِّرين والمستعمِرين ما قاله القَسُّ اليسوعي "مييز" في معرض حديثه عن سياسة فرنسا الدينية في الشرق: "إنَّ

الحربَ الصليبةَ الهادئةَ التي بدأها مبشِّرونا في القرن السابعَ عَشَرَ، لا تزالُ مستمرة إلى أيَّامِنا هذه، ولقد احتَفظت فرنسا طويلاً بروح الحربِ الصليبيَّة، وبالحَنين إلى تلك الحروبِ حيَّةً في نفسها، وكان من غاياتِ الامتيازات الأجنبيةِ دائمًا أن تحتفظَ فرنسا بالدَّور الذي يلعبُه رُهبانها، وقد اعترِفَ لقناصِلنا وسُفرائنا بالحمايةِ للنصارى، وكثيرًا ما اختارت فرنسا قناصِلَها وسفراءَها من رجال الدين" (¬1). 9 - ويكشفُ سياسةَ التآزر بين المبشِّرين والمستعمِرين الكتابُ الذي أصدرته لجنةُ التبشير الامريكي، والتي تهتمُّ بالاستفادةِ من الحروبِ في أعمال التبشير في عام (1920م). ° وقد جاء في مقدمة هذا الكتاب:"من أبرز الأمور المتعلِّقة بدخولِ الولاياتِ المتحدة في الحرب العالمية الأولى، أن الآراءَ والمبادئَ الَتي كانت تهدف إليها الإرساليات التبشيرية، قد تَبنَّتها الآن الأمَّةُ الأمريكية، ثم أعلتت أنها هي أهدافُها الأخلاقية، وغاياتُها من خوضِ تلك الحرب، إنَّ هذه المبادئَ التبشيريةَ قد سُميت الآن أسماء سياسيةً فقط" (¬2). * * * ¬

_ (¬1) أخذًا مما نقله الطاهر المعموري في بحثه الذي تحدَّث عنه عبد الله الرفاعي في جريدة المسلمون (العدد: 63) تاريخ (10 - 16) شعبان 1406 هـ. (¬2) المصدر السابق.

الأموال التي تجمع للتنصير مع إعداد المنصرين ووسائل التنصير

الأموالُ التي تُجمع للتنصير مع إعدادِ المنصِّرين ووسائلِ التنصير (1) إِينا "نيويووك": ذَكرت مجلة أمريكيَّة أنَّ ما تَمَ جمعُه خلالَ العام الماضي من تبرُّعُاتٍ لأغراض كنسيَّةٍ من غربِ أوروبَّا وشمالِ أمريكا بلغ (151) بليون دولار، وذلك لتمويل النشاطِ الكنسيِّ في إفريقية، ولدى المؤسساتِ التنصيرية (1900) محطةِ إذاعةٍ وتليفزيون، ولديهم أربعةُ ملايين وعشرون ألفَ منصِّر متفرِّغ، وأربعمئة مجلَّة دوريةٍ مسيحية (¬1). (2) وجاء في مقال كتبه: "د. كامل الدقس" (¬2): "إن مجلسَ الكنائس العالمي رَصَد (130) بليون دولار أمريكي لتنصير قارَّةِ آسيا وأفريقية، وقد رَصدوا لجزيرةِ "جاوة" وحدها بليون دولار، لكي تكونَ مسيحيَّةً بحلول سنة (2000 م)، وقد جَمع "بيل جراهام" زعيمُ البروتستانتيين في أمريكا بليونَيْ دولارٍ أمريكي لتمويل مشروعاتِه التنصيرية في أفريقية وآسيا؛ ولدى الفاتيكان ميزانية ضخمةٌ للتنصير، قَدَّرها بعضُ الاقتصاديّين بأنَّها تجعل من العالم الثالثِ أغْنَى دول العالم" (¬3). * * * ¬

_ (¬1) نقلاً عن إحدى صحف المملكة العربية السعودية. (¬2) انظر: جريدة "الندوة" العدد (9386) الخميس 9/ 5/ 1410 هـ. (¬3) انظر: "أجنحة المكر الثلاثة" (89: 118) للعلامة عبد الرحمن بن حسن حبنَّكة الميداني.

* ولنختم أخيرًا بهذا الخبر: "بيت الساحر": ° قال الشيخ عمر سليمان الأشقر -حفظه الله-: "في حديقةٍ عامةٍ في مدينة "روما" في إيطاليا مبنى مسجدٍ يُشبِهُ مساجدَ المسلمين، كُتب عليه "بيت الساحر"، لم يُبْنَ لتُقامَ فيه الصلاة، ويرتفعَ من مِئذنته صوتُ المؤذِّنِ مناديًا إلى الصلاة والفلاح، ولكنه شُيِّد للصدِّ عن دينِ الله، وتشويه صورة الإسلام والمسلمين. تدخُلُ ذلك المبنى الذي دُعي بـ "بيت الساحر"، فلا تخطو خُطوةً إلاَّ قابلَكَ أمرٌ مُفزع مرعِبٌ مصنوعٌ بطريقةٍ سِحرية، وهكذا يرتبطُ اسمُ المسجدِ بالسِّحرِ والسحَرة، حتى تَنفِر نفوسُ الذين لا يَعرِفون حقيقةَ المسجدِ ورسالتِه من كل مسجد، فيُصَدُّ الناسُ عن الهداية والرشاد. ولم يَكتفِ مُشيِّدو هذا المبنى بِمَلْئِهِ بالحِيَل السحريةِ المرعبة، بل نَصَّبوا فوقَه صُوَرَ ثلاثةِ أشخاص صُنعوا ليتحركوا في دائرة، صورةَ امرأةِ عربية، يتبعُها عبدٌ، وخَلْفَهما عربي يُمسِكُ بسَوطٍ غليظٍ مُلاحقًا المرأةَ والعبدَ ليهويَ عليهم بسوطه. وفي البناء الذي سَمَّوه "بيت الساحر" مئذنةٌ، تُفتحُ فيها نافذة بين الفَينةِ والفَينة لِتَبرُزَ من خلالها صورةُ امرأةٍ عربيةٍ جميلة. إنها مَشاهِدُ يُرادُ لها أن تَغرِسَ في نفوسِ مُشاهِديها صُورًا مُشوهةً للمسلمين، فالغربيون الذين جَعلوا المرأةَ سِلعةً يُداسُ عفافُها باسم "الحرية والحضارة والرقي" يَسِمُون المسلمين بظُلم المرأة!!. والغربيون الذين لا يزالون بين الفَينةِ والفَينةِ يُقيمون أعراسًا حُمْرًا لكل مَن كان لونُه أسودَ، يَعيبوننا بأننا نَقهرُ ونسترق الجِنسَ الأسود!!.

والمرأةُ في المِئذنةِ صورةٌ يُراد لها أن تُقرِّرَ في نفوس مِن يُشاهدونها أن المرأةَ تَعيشُ في الأغلال والقيود، فلا يؤذَنُ لها أن تَخرجَ إلى سَعَةِ الحياة. لقد حاولتُ أن أعترضَ لدى القائمين على ذلك المبنى، ونقلتُ تألمي لإحدى السفاراتِ الإسلاميةِ مطالبًا تدخلهم لإِيقافِ هذا الباطل، ولا أدري هل لا يزالُ "بيت الساحر" يقوم بدَوره في تشويهِ صورةِ الإسلام والمسلمين، أم أنه أوقِفَ وأزيل، فقد كانت رؤيتي له من عَشْرِ سنوات تقريبًا. لقد وصل الغربيون إلى مراحلَ متقدمةٍ في تشويهِ صورتِنا في عقولِ الذين لا يعرفوننا، وبخاصةٍ شبابِهم الذين يَخشَون عليهم من الإسلام. وقد اطَّلعت في الوقت الذي شاهدتُ فيه ما دَعَوه "ببيت الساحر" في مجلة "العربي" الكويتية في عددها (364) مارس 1989 على مقالٍ كتبه الأستاذ "عبد الرحمن حمادي" تحدَّث فيه عن تشويهِ صورةِ الإسلام في نفوسِ الناشئةِ عن طريقِ الأفلام التي تُبذل فيها الأموال والجهود الهائلة لتحقيقِ هذا المَقصِدِ الخبيث. وقد تحدَّث الأستاذُ "عبد الرحمن" عن ثلاثةِ أفلام من هذا النوع، الأول منها يسمى بـ "القط الطائر". ° يقول الأستاذ في حديثه عن هذا الفيلم: "أذكر أنني في بيروت بَقِيتُ أسبوعًا أحاول الدخولَ للصالة التي تَعرِضُ فيلم "القط الطائر"، وما نَجحث إلاَّ بالحصولِ على بطاقةٍ من السوق السوداء؛ ولقد ذُهلت حينما اكتَشفتُ أنني أمامَ أحدِ أسوإِ الأفلام عَدائيةً وتشويهًا لصورة العربي. الفيلمُ من إنتاج شركة "مترو غولدن ماير" الشهيرة، وهو موجه للأطفال والناشئة أساسًا، بَيْدَ أنه بتقنياتِه وطَرافةِ موضوعِه يجعل الكبارَ

-قبلَ الصغار- يتسابقون لمشاهدته، ويتحدثُ عن قط صغير جميل يأتي من كوكبٍ بعيدٍ -كلُّ سُكَّانه من القِطط-، وهذا القِطُّ يَملِكُ قوةً خارقةً في السيطرة على الأشياء، وذلك بسِوارٍ مُعلَّق في عنقه. وَيسعى عالِم أمريكي للاستفادة من السوارِ بعدَ أن يُقيمَ علاقةَ صداقةٍ مع القط، وهدفُ العالِم الأمريكيِّ أن يَحلَّ مُشكلةَ المجاعاتِ في العالَم الثالث (لنلاحظ الصورة المشرقة للإنسان الغربي)، بَيْدَ أن عِصابةً خطيرةً تظهر فجأةً، وتحاولُ السيطرةَ على السِّوارِ لتسيطرَ به على العالَم، وهذه العصابةُ تَلبَسُ اللباسَ العربيَّ التقليدي، وتتسلَّحُ بالسيوف المعقوفة، ويتخاطبُ أفرادُها بأسماءٍ إسلاميةٍ عربية "أحمد- محمد- جعفر"، لكن "لابدَّ للشرِّ العربي أن يَنهزم" -كما يقول الفيلم-، وذلك من خلال تصدي العالِم الإمريكي للعصابة "المسلمة" وتدميرها. إنه فيلم لا يَذكر العربَ مباشرةً، ولكنْ من الواضح أنهم ما صَنعوه إلاَّ ليُشوهوا من خلاله صورةَ العرب، ولِيُقنعِوا أطفالَهم وناشِئَتَهم -قبلَ بالِغِيهم- أن الخطرَ في العالَم مصدرة العرب، وعلى الغربِ أن يَسعى لتدميرِ هؤلاء العربِ قبل أن يُدمروا العالَم". ° ويتحدثُ الكاتبُ عن الفيلم الثاني فيقول: "هو من إنتاج شركة "متروغولدن ماير" أيضًا، يتحدثُ عن رِحلةٍ عِلميةٍ لعلماءَ أمريكيين في منْطاد، ومعهم مساعِدة شقراءُ جميلة، وفي رِحلتهم يتعرض مِنطادُهم لعطل، فيَقَعون في أَسْرِ جماعةٍ من المتوحِّشين آكِلِي لحوم البشر في إفريقيا، بَيْدَ أنهم بعدَ سلسلةٍ من المغامرات يَنجحون في الهربِ بمنطادهم، وقد هَمَّ الأفارقةُ بطَهيهم وأكل لحومهم.

ثم يَصِل بهم مِنطادُهم إلى صحراءَ شاسعةِ، ويُحلقُ فوقَ مدينةٍ إسلاميةٍ ترتفعُ فيها المآذن بكثرة، وحين يَرى سكانُها المنطادَ يظنونه شيطانًا سماويًّا، فيخِرُّون ساجِدِينَ برُعبٍ، ويَهرعُ المؤذنون للمآذِنِ يُكبرون ويبتهلون لله أن يَصُدَّ عنهم هذا الشيطان. وَيهبِطُ العلماءُ بمنطادِهم ليتزودوا بالمؤونة من هذه المدينةِ العربيةِ التي تَسْرَحُ فيها الجِمالُ، وَيعيشُ سكَانُها وَسَطَ القاذوراتِ والبهائم، والذين ما إن يطمئنوا إلى أنَّ هؤلاء الهابطين عليهم بَشَرٌ مِثلُهم، حتى يقودهم إلى أميرِهم في قَصْرِه الكبير. والأميرُ المسلمُ هذا محاط بالحريم ورجالِ الدينِ الإسلامي، ويقرأُ القرآن، ويرتكبُ الفواحش -هكذا يقول الفيلم-، وما إن تَقَعْ عيناهُ على المساعِدةِ الشقراءِ حتى يَسيلَ لُعابُه على لحيته، وُيقرر اغتصابَها وضَمها إلى حريمةِ (لنراجع الأفلام التي حللها الدكتور جاك شاهين، وكيف أنها تُصوِّر العربي شَبِقًا)، ثم تدورُ مغامرات يُجابِهُ فيها الأمريكيون سُكانَ المدينةِ المسلمةِ الذين كلما شَعُرواَ بالهزيمة سَجدوا مبتهِلين لله أن يَنصُرَهم، وفي النهاية ينجحُ العلماءُ في إنقاذِ مساعِدتهم الشقراء (بالطيران بها)، وقد أوشك الأميرُ المسلمُ أن يفترسَها. إنه فيلم مملوء حقدًا وعُدوانيةً على العرب، ولا يوفِّرُ وسيلةً في تشويهِ الإسلام والمسلمين، مُصوِّرًا إياهم بصورةٍ أسوأَ بكثير من صورةِ آكِلِي لحوم البشر المتوحشين، وخلافًا لِمَا عَهِدناه في هذا النوع من الأفلام، لا ينتهي الفيلمُ بتدميرِ المدينةِ العربيةِ المسلِمة، بل يتركُها في محاولةِ إقناع ناجحةٍ للمشاهِد بأن المسلمين والعرب خَطَر قائم مستمر، يجبُ أن تتكاتفَ الجهودُ

لصدِّه وإنهائه. ° أما الفيلمُ الثالثُ فهو: "مغامرات في مصر" للثنائي "بود سبنسر" و"ترانسس هيل"، حيث مغامراتُهما الشيقةُ هذه المرةَ تدورُ على أرضِ "مِصر"، وتبدأُ بهبوطهما في "مطارِ القاهرة الدولي" بكل حداثتِه وحضاريَّتِه وسَعَتِه، ثم يَنتقلانِ لمدينة "القاهرة" التي هي عبارةٌ عن خِيَم وإبِل تسيرُ في شوارعَ صحراوية، وأناسٌ بعباءاتهم العربيةِ التقليديةِ يُحاربون بالسيوف المعقوفةِ ويَمْتَطُون الإبل، ويَهربون عند سماعِهم أصواتَ الطلَقات النارية من مسدس سبنسر وهيل!! ". ° ويقول الأستاذ "عبد الرحمن" في خاتمة مقاله: "وحتى أفلامُهم التي تظاهروا فيها بالحياديةِ، لم يَخرجوا فيها من أَسْرِ نظرتِهم العَدائيةِ للعرب، ومحاولاتِهم الدائبةِ لتشويههم، كما في فيلم "عملية ميونخ"، فقد عُرض الفيلمُ في جميع الأقطار العربية وفي "إسرائيل"، كفيلم تحدث بحيادية عن "عملية ميونخ" الشهيرة، لكن الحقيقةَ أن الهَمْسَ استمرَّ على العرب طوالَ مَشاهِدِ الفيلم بشكل غيرِ مباشر، قد لا ندركُه نحن العرب، لكن يدركُه المشاهِدُ الغربي الذي هيَّأته السينما الأمريكيةُ والغربيةُ بصورة سابقةٍ عن العرب، فقائدُ العمليةِ العربى مثلاً حينما يَفْشَلون بالتفاوُضِ معه أو جَعْلِه يَلِينُ، يُرسِلون له مُضيفةً شقراء وسَرعانَ ما يَلِينُ أمامَها، ويكادُ يستسلمُ لها وللمطالِبِ التي تنقُلُها .. وُيعلنُ الفيلمُ مرةً أخرى أن العربي لا يَستطيعُ مقاومةَ شَبَقِهِ تُجاه الأنثى، وهي الصورةُ التقليديةُ عن العربيِّ في السينما الغربيةِ والأمريكية" .. " (¬1). ¬

_ (¬1) "جولة في رياض العلماء"، للشيخ عمر سليمان الأشقر (ص 123 - 127).

دعاة السفور والتبرج والإباحية

* دعاةُ السُّفور والتبرُّج والإِباحِية: أَنْكَى مكيدةٍ ضدَّ الحجاب -وهو من ثوابت هذا الدين الطاهر-، ونَزَعاتٌ شيطانيةٌ سافلةٌ، وتخانيثُ المدنيَّة الأوربيةِ الشاذَّة، ومدنِيَّة الدجَّالِ القبيحة، تُظهِر التبرج وكأنه أجملُ الأشياء يقودها شياطينُ الأنسِ من أقزام التغريب، وأبواقُ الإفرنج التي: تُرَمرم مِن فُتات الكُفرِ قوتًا ... وتَلعَقُ من كؤوسهم الثُّمَالةْ تُقبِّل رَاحةَ الغَربي دَوماً ... وتلثُمُ دونما خَجَلٍ نِعَالَهْ ° شياطينُ من شياطينِ الإنسِ خبيثةٌ تبتدعُ فكرةَ عَرضِ الآثام مكشوفةً في أجسامها .. شياطين تتألَّى أن تُفسِدَ الآدابَ الإنسانيةَ كلَّها بفسادِ خُلُقٍ واحد، هو حياءُ المرأة. ° كُلٌّ منهم جَزَّار يريدُ أن يسلُخَ المرأةَ مِن ثيابِها ليمضيَ بها بعدَ ذلك إلى المواخير. ° يريد هؤلاء الشياطينُ أن يُحَوِّلوا جماعةَ المسلمين إلى سائمةٍ تُسامُ، وقطيع مهزوزٍ اعتقادُه، غارقٍ في شهواته، مستغرِقٍ في ملذاته، مُتَبَلدٍ في إحساسِه، لا يعرفُ معروفًا ولا يُنكِر مُنكَرًا. ° يريدُ دعاة الفتنةِ هؤلاء أن يَزُجُّوا بنساءِ المسلمين إلى مدارج الفتنةِ وَيسعَوْن إلى إشاعةِ الفاحشةِ ونشرِها، وزلزلةِ نقاءِ الأعراضِ، وفتح أبواب الأطماع إلى اقتحامها بدَعَواتٍ آثمة، وشعارات مضَلِّلَة ترفعها عقولٌ صغيرة، وأفكارٌ مريضة لمُخَنَّثون وشواذ يَدْعون لإسقاط الحجاب وخلعه، ونشر التبرُّج والسفور، والعُرْي، والخلاعة، والاختلاط.

° يريدون أن يُخرِجوا المرأة المسلمة من طُهْرِها وعِفَّتِها وحيائها لِتُصبح أُنْثَى مُتَرَجِّلة تنظرُ إلى الرجل نظرةَ الرجل إلى الأُنْثَى. ° كلماتٌ شيطانيَّة تَخْرُج كأنها فحيح الثعبان، وبعض هذه الكلمات هي أنيابُ الثعلب وصلاةُ الثعْلَب حين يتظاهَر بالتقوى أما الدجاجة. ° كَلِماتٌ خادعة تُقال للغافلات، هي أُخت الكلمة التي تُقالُ ساعةَ إنفاذِ الحكْم للمحكوم عليه بالشنق. ° نَشرت صحيفة "المصري اليوم" يوم الخميس 16 نوفمبر تحت باب "قضايا ساخنة" للمحرِّرة "فتحية الدخاخني" تصريحات لفاروق حسني وزيرُ الثقافة المصري .. وبدأت المحررة موضوعها كالتالي: "اعتبر فاروق حسني وزير الثقافة حجابَ المرأة تأخُّرًا وعودةً للوراء، وقال في تصريح خاص لـ "المصري اليوم": "النساء بِشَعْرِهِنَّ الجميل كالورود التي لا يجب تغطيتها وحجبها عن الناس". ° وقال: "الحجاب يعود بنا إلى الخلف وبسببه لن نتقدَّم، ومصر المحروسة يجبُ أن تَكُفَّ عن تقليدِ العَرَب -ربَّما على اعتبارِ أننا أحفادُ فراعنةٍ -، لأن مصر -التي تخلَّفت بلُبسِ الحجاب- كانت في وقتٍ من الأوقات قطعةً من أوروبا"!!. واسترسل الوزير في تصريحاتِه التي حَمَلت معانيَ أن الحجابَ هو حجابُ القلب، واللبس لا علاقةَ له بالتصرُّفاتِ، والبنات على الكورنيش مع الأولاد وهُنَّ بالحجاب، وأنَّ الجرائمَ ترتَكب اليومَ باسم الحجاب والنّقاب، وسنغافورة تقدَّمت وعمرُها مئة سنةٍ فقط، ونحن تخلَّفنا

بسبب الحجاب (¬1). ° وقال:"الدينُ الآن أصبحَ مرتبطًا بالمظاهِرِ فقط، رغمَ أن العلاقةَ الإيمانيةَ بين العبدِ وربه لا ترتبطُ بالملابس .. أعتقدُ أن الأمرَ ليست له علاقة بالتقوى والورع، وإلا فما تفسيرُ مشاهدةِ مناظرِ الشبابِ والبناتِ على الكورنيش وعدد كبير منهن محجَّبات .. إن الجرائمَ اليوم تُرتَكَب باسم النقاب والحجاب" (¬2). ° وقال: "العالَمُ يسيرُ للأمام، ونحن لن نتقدَّم طالما بَقِينا نُفكِّرُ في الخَلْف، ونذهبُ لِنستمعَ إلى فتاوَى شيوخ بـ (تلاتة مليم). ° واستطرد: "نحن عاصَرْنا أمهاتِنا وتربينا وتَعلمْنا على أيديهن عندما كُن يذهبْنَ للجامعاتِ والعمل دون حجاب، فلماذا نعودُ الآنَ إلى الوراء؟ " (¬3). ° وفي "الأهرام العربي" كان "موضوعُ الغلاف" في العدد (505) الصادر في 25/ 11/ 2006 تحت عنوان "وزير الأزمات .. ومشايخ التكفير .. !! " جاء: "من جديد تُطِل على مجتمعاتِنا العربية تلك الأفكارُ الشاردةُ، وكأننا على قَدَرٍ مع تلكِ الهموم الثقيلة .. فها هو أقدمُ وزير بالحكومة المصرية "فاروق حسني" وزير الثقافة، رَغم كِبَرِ سِنه -68 عامًا، فهو من مواليد 1938 م- يُجَددُ أفكارَه القديمةَ عن الحجابِ والزي الإسلامي ¬

_ (¬1) جريدة "الأسبوع" العدد (503) - 21 من شوال 1427 هـ - 13 من نوفمبر 2006 م (ص5) تحت عنوان "وزير الثقافة يسخر من الحجاب " للمحررة نفيسة عبد الفتاح. (¬2) جريدة "العربي" العدد (1034) (ص14) 19/ 11/ 2006. (¬3) المصدر السابق.

للمرأةِ رافضًا -مثلما رَفَض قديمًا- تلك الحِشمةَ وذلك الوقارَ الذي تَربَّت عليه مجتمعاتُنا التي تَعرفُ جيداً كلمة "العيب". وكأننا به من جديدٍ يُفجِّرُ أزمتَه القديمةَ حين ضَحِك هازئًا للمذيع على شاشةِ التلفزيون المصري منذ أكثرَ من عَشْرِ سنوات مُعَلقًا على سؤالٍ عن عدم زواجِه قائلاً: "امرأة واحدة لا تكفي .. وإن الفنانَ مِثلُ الفراشة ينتقلُ من زهرةٍ إلى زهرة .. ، وبهذا المفهوم كثرت زهورُ الوزير وربما زهراته" (¬1). ° وقولُ فاروق حسني إنكارٌ لمعلوم من الدين بالضرورة وثابتٍ من ثوابت الإسلام، والحجابُ فرض بالكتابِ والسُنةِ وإجماع علماءِ الأمة. ° وتَبِعه في مقالتِه كظيظٌ من زِحام المعدومين المجهولِين من أهل الريب والفِتَن، المُستَغرِبين المُسيرين بحَمل الأقلام المتلاعِبةِ بدينِ الله وشَرعِه، يختالون في ثيابِ الصحافةِ والإعْلام، وقد شَرحوا بالمنكَرِ صدرًا، فانبَسَطت ألسنتُهم بالسوء، وجَرَت أقلامُهم بالسُّوأَى، وجميعُها تلتئمُ على معنًى واحدٍ: التطرف الجنوني في مزاحمةِ الفِطرَة، ومنابذةِ الشريعة، وجَر أَذيال الرذائل على نساء المسلمين، وتفريغِهِن من الفضائل، بدعوتهم الفاجرةِ في بلاد الإسلام إلى التبرج والاختلاط و "خلع الحجاب"، ونداءاتهم الخاسرة من كُل جانبٍ بتفعيل الاسبابِ لخلعهِ من البقيةِ الباقية في نساءِ المسلمين، اللائي أسلَمْنَ الوجهَ لله -تعالى- وسَلَّمْنَ القيادةَ للنبي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) "الأهرام" العربي- العدد (505) (ص 42) بتاريخ 25/ 11/ 2006. (2) جريدة "العربي" - العدد (1034) (ص 14).

° وهؤلاء الرُّماةُ الغاشُّون لامتِهم، المشؤومون على أهليهم وبني جِنسِهم، بلْ على أنفُسِهم، قد عَظُمَت جَرَاءتُهم، وتلوَّن مَكْرُهم بكلماتٍ تخرُج من أفواهِهم، وتَجْرِي بها أقلامُهم؛ إذْ أخذوا يهدِمُون في الوسائل، وَيخترقون سَدَّ الذرائع إلى الرذائِل، ويتقحَّمون الفضائل، وُيهَوِّنون من شأنها، ويسخرون منها ومِن أهلها. ° كلُّ هذا البلاء المتناسِل، واللغوِ الفاجر، وسَقَطِ القولِ المتآكِل تَفيضُ به الصحفُ حتى يَقيلَ ذوو الفَسَالةِ المُسْتَغْرِبون إلى هذه الغاية الآثمة: تفرنُج المرأة. ° وإذا خُلع الحجاب فلا تسألْ عن انكسارِ عيونِ أهل الغَيرة، وتقلُّصِ ظِل الفضيلةِ وانتشارِ الرذيلة، والتحلل من الدِّين، وشيوع التبرج والسفورِ والتهتُّكِ والإباحية بين الزناةِ والزواني وأن تَهَبَ المرأةُ نفسَها لِمَن تشاءُ .. قال تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27]. ° قال مجاهد: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} قال: الزناة، {أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}، قال: يزني أهلُ الإسلام كما يزنون، قال: هي كهيئة {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] ". ° يريدون وَاقِعًا إِباحِيًّا أثيمًا، وانتصارًا فاجرًا للرذيلة، وتجاوزًا لحدود الله، وانتهاكًا لحُرُمات شرعه المطهَّر. وإذا كان هؤلاءِ الذين في قلوبهم مرضٌ يأبَون إلاَّ الإعلانَ بهَدم ثوابتِ الدين، وإعلانِ المنكر، وهَضم المعروفِ والصد عنه، فلابدَّ من كلمةِ حق

ترفعُ الضَّيمَ عن نساءِ المؤمنين، وتدفعُ شرَّ هؤلاءِ المستغرِبين المُعْتدين على الدِّين والأمة، فلابد من صوتٍ جهير بإحسانٍ يبلُغ الحاضرَ والبادِيَ، إقامةً لشعيرة الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي به يُنافَحُ عن الدينِ، ويَنصحُ للمسلمين عن التردئي في هُوَّةِ صيحاتِ العابثين، وبه تُحْرَسُ الفضائل، وتُكبَتُ الرذائل، وُيؤخَذُ على أيدي السفهاءِ الأجَراءِ المستغربين وأتباعِهم الأجراء من سَذَجة الفُسَّاق، أتباع كل ناعقِ الذين يُفوقون سِهامَهم لاستلابِ الفضيلةِ من نساءِ المؤمنين. هؤلاء تعروا من كل فضيلةٍ، وعَادَوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في الطعنِ في الثوابتِ من دينِه، فلزامٌ أن نُعَرِّيهم ونفضَحهم .. والجزاء من جنس العمل. ° مجلة "روز اليوسف" -ومعروف توجهها البغيضُ الكارهُ لثوابتِ الإسلام، الساخرُ منها أبدًا وعلى الدوام، الشانئُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَصدرُ عَددُها (4094) يتصدره عنوان "الإرهاب .. بالحجاب": - "حماستُنا في الدفاع عن موقفِ فاروق حسني ضدَّ هجمةِ التطرُّف والتطاولِ عليه" بقلم رئيس التحرير (ص5). - كيف تجرأ أحمد عمر هاشم وأعلن "دولة الحجاب" من قاعة كبارِ الزوار في مجلس الشعب (ص 12)؟ وانظروا إلى مقالِ عبد الله كمال بروزاليوسف (4094): "إن الاختلافَ مع الحجابِ له ما يُبرره .. وَينبغي توضيحُه في النقاطِ التالية: 1 - في الذهنية العامة، أنه تمَّ التخلُّصُ من الحجاب في غضونِ سقوطِ دولةِ الخلافةِ العثمانية، ومع صُعودِ المدِّ الحَدَاثي .. ومِن ثَمةَ فإن العودةَ إليه

تُعيدُ في الأذهانِ هذه الذكرى الأليمة .. لمجتمع تمَّ فيه حَجْبُ النساءِ خَلْفَ ستارٍ بعيد .. وظَلَّت فيه المرأةُ مجرد جاريةٍ أو زوجة .. أو كأيِّ كَمٍّ مهمَل. 2 - إن هناك مَن يحاولُ الربطَ بين المستوى الديني للمرأة وبين ما تَرتديه .. في حين أن ذلك غيرُ صحيح على الإطلاق. 3 - إن الحجابَ إذا كان يُعبِّر عن التزام ديني، إلاَّ أنه زيٌّ .. تبدو له أبعاد طائفية .. لأنه يَفصِلُ بين المصريةِ المسلمة والمصريةِ المسيحية من حيثُ الشكلُ. 4 - إن الدعوةَ للحجابِ تُمثِّل في كثير من الأحيانِ مدخلاً إلى إبعادِ المرأةِ عن الحياةِ العامةِ .. وتقويضِ مشاركتها .. وإرجاعها إلى الوراء. 5 - القولُ بأن الحجابَ فريضة .. هو أمر خطير جدًّا؛ لأنَه يُوجدُ خلافٌ عميق حول ذلك .. والقولُ بأنه فريضةٌ قد يَدفعُ إلى عنفٍ وتوتر إذا ما رأى فريق من الناس أنه ينبغي تطبيقُ الفريضة" (¬1). ° روزاليوسف في حوارها مع وزير الثقافة المصري:"هل ترى في الفترة المقبلةِ أن الحجابَ كقطعةِ قماشٍ سيكونُ مقدَسًا مثل عَلَم الدولة لا يجوز الاقترابُ منه؟ " (¬2). ° وفي بيانٍ أصدره 113 من الكُتَابِ والفنَانين والمثقَّفين قالوا عن حديث فاروق حسني بأنه: "لم يخرج عن كونه مجردَ رأيٍ شخصيّ في ¬

_ (¬1) انظر مقال عبد الله كمال "الإرهاب بالحجاب" (ص 12 - 19) روزاليوسف عدد (4094). (¬2) "روزاليوسف" عدد (4094) (ص 27).

قضيةٍ لا تُمثلُ جَوهرَ الدينِ وأهدافه" (¬1)!!. وعلى نفسِ النهج كان بيانُ حِزبِ التجمُّع اليساري الخط، والحزبِ الدستوريِّ وُيمثله ممدوح قناوي (¬2). ° وعلى نفس الخط سار محمد مستجاب، ويوسف القعيد الذي قال: "إن الحجابَ يدعو للتفرقة". ° ودكتور عبد الأحد جمال الدين ممثل الأغلبية بالبرلمان يقول: "إن الحجابَ قضية خلافيَّةٌ بين علماءِ الدين"! فثار عليه الأعضاءُ من كافةِ الاتجاهات، خاصةً من داخل الحزبِ الوطني ذاته، وهو ما دعا دكتور سرور إلى إنهاء كلمته (¬3). ° المكارسيون الجُدد يُعلِنون الحربَ على كل مَن يتمسك بالثوابتِ وُيمارسون الإرهابَ الفكري (¬4). ° حسين فهمي الممثلُ في برنامج (90 دقيقة) على قناة المحور، يُدافعُ عن موقف فاروق حسني ويقول: "إن الفتاةَ المحجبةَ معاقةٌ ذهنيًّا"، ثم يَنفي كلَّ ما قاله في الصحف (¬5). ° وتقول إقبال بركة:"السؤال الآن أصبح، هل أتحجَّب أم أتنقب؟! الخطوةُ خطيرةٌ وتعيدُنا للوراء، وأتوقعُ أن يتفشى النقابُ كما النارُ في ¬

_ (¬1) "روزاليوسف" عدد (4094) (ص 30). (¬2) المصدر السابق (ص 31، 32). (¬3) جريدة "الأسبوع" -العدد 505 (ص3) - 6 من ذي القعدة 1427هـ-27/ 11/ 2006. (¬4) المصدر السابق. (¬5) "الأهرام العربي" عدد (505) (ص 57) تحت عُنوان "أصداء".

الهشيم؛ لأننا لدينا عقليات هشة وفارغةٌ، وتستطيعُ أن تملأَها بما تشاءُ من أفكار". ° ثم قالت حين سُئلت: "كيف تَرَيْنَ الفترةَ المقبلةَ في معركةِ الحجاب والنقاب؟. فأجابت: ما لم يَنتفِضِ المثقفُون المصريُّون من سُباتهم العميقِ وما لم يَخلَعوا عنهم رداءَ اللامبالاة والسَّلبية، ستتواصلُ مرحلةُ الإظلام في مصر، وانظر ماذا حَدَث في القضيةِ الأخيرة .. أين أصدقاءُ فاروق حسني وزيرِ الثقافة الذين كانوا يحيطون به ليلَ نهارَ إحاطةَ السِّوارِ بالمعصم، لماذا لم يَهُبُّوا للدفاع عنه؛ إنها السلبيةُ في الشخصية المصرية، وأن يفضلوا الابتعادَ عن المشاكل" (¬1). ° "وأضافت -إقبال بركة- أنها تَشعرُ بحزنٍ عميقٍ عند رؤيتها للشارع المصري المليءِ بالمحجبات، وترى أن دَورَها كمُفكرةٍ وكاتبةٍ وصاحبهِ قلم، يُلزِمها أن تجتهدَ وتحاولَ أن تَصِلَ لأي حقيقةٍ مورِّقةٍ للعقل، فهذا أمرٌ سامٍ لا ينبغي أَن تُلم عليه، وأفادت أنها تَشعرُ بحالةِ رضا مع نفسِها، ومع اللهِ تشعرُ أنها سوف تُجازَى خيرًا على ذلك". والدكتورة الكاتبة نوال السعداوي التي أَعلنت أكثر من مَرَّةٍ عن وجهةِ نظرِها في رفضِ الحجابِ والاستنادِ دائمًا أننا نحيا في مجتمع ذكوريٍّ يريدُ أن يطمسَ النساء (¬2). ¬

_ (¬1) "روز اليوسف" عدد (4094) (ص 41 - 43). (¬2) جريدة "الأسرة العربية" عدد (2985) (ص4) الاثنين 27 نوفمبر 2006 - 6 من ذي القعدة 1427 هـ.

° وجمال البنا يقول: "بناتُ حسن البنا لم يكنَّ يرتدين الحجابَ أو النقاب"!! فيما نَسَبه إليه عاصم حنفي نقلاً عن حمدي رزق نقلاً عن جمال البنا شقيق الشيخ حسن البنا (¬1). ° وعندما سُئل: هل قضيةُ الحجاب تُعلي من شأنِ العنصريَّة الدينية؟ قال جمال البنا: "بالطبع؛ لأن الحجابَ كان دائمًا مَطلَبًا للرجل في كلِّ الأديان؛ لأنه يدخلُ من باب السيطرةِ على المرأة ليس إلاَّ، وقد تخلَّصت منه كلُّ الأديان السماوية، ما عدا الدينَ الإسلاميَّ الذي كُلَّما تخلَّص منه رجع له مرةً أخرى" (¬2). ° وعلى نفسِ الخطِّ سارت مديحة يسري التي قالت: "تزوَّجت من قُطْبٍ صوفي (¬3)، ورفض أن أرتديَ الحجاب" (¬4). ° وسارت على نفس الخطِّ سكينة فؤاد، وفريدة الشوباشي، وإنعام محمد علي المخرجة، وسلمى الشماع، وهالة حشيش رئيس قناة النيل للأخبار، وسمية الألفي تؤمن بحجابِ الأخلاق!! والمستشار سعيد العشماوي -وما أدراك ما العشماوي-! اقرأ له مقالة "الحجاب فريضة سياسية" بروزاليوسف عدد (4094) (ص 62 - 64)، وارجع إلى كتابَيْه "حقيقة الحجاب وحُجِّيَّة الحديث"، ومقال "وفاء حلمي" في "العربي" العدد (1034) (ص 14). ¬

_ (¬1) "روز اليوسف" عدد (4094) (ص 71). (¬2) المصدر السابق (ص 45). (¬3) تعني الشيخ إبراهيم شيخ الحامدية الشاذلية. (¬4) "روز اليوسف" عدد (4094).

° وممن تولَّى كِبْرَ هذا التجرؤ على ثوابتِ هذا الدين والدعوةِ إلى التبرج ومناصرته جريدة "الفجر" في العدد (77) الصادر في يوم الإثنين 27/ 11/ 2006 م وقولهم: "تقرير شارك فيه محرِّرو الفجر ووافقوا عليه"، وظهرت العناوينُ الوقحةُ التي تدل على سُوءِ طَوِيَّةِ مَن قالوها ومرضِ قلوبهم {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]، وانظر إلى بعضِ هذه العناوين: - وزير مجلس الشعب السابق (¬1) يقول: "إن البنتَ التي تحترمُ دينَها تتَّجهُ للحجاب"، و"الأهالي" تسألُ سوزان مبارك عن رأيها فيما قال ورجمه المحصنات؟ (¬2). - زكريا عزمي يقول:"نصف نساء الوزراء محجَّبات والناسُ تسأل: ولماذا لا يتحجبُ النصف الآخر؟ .. بل ولماذا لا تتحجبُ السيدةُ الأولى ومَن حولها؟ " (¬3). - "لو كان رمزًا للفضيلة لدَعَوْنا الرجالَ إليه أيضًا .. الرذيلة تحت الحجاب" مقال لمحمد الباز بنفس الجريدة (ص 4). - ومقال عادل حمودة -وما أدراك ما عادل حمودة-: "الحجاب ليس دليلاً على الفضيلة .. أحياناً"! (ص5). - ومرةً أخرى يقول جمال البنا: "إن شقيقَه حسن البنا لم يكن يهتمُّ ¬

_ (¬1) يعنون: كمال الشاذلي. (¬2) جريدة "الفجر" العدد (77) مقال "النظام يركع للإخوان". (¬3) المصدر السابق (ص 3).

كثيرًا بمشكلةِ الحجاب وغطاء الرأس؛ لأن الأمور كانت طبيعية على الفطرة. فقال له المحرر عبد الحافظ سعد: وهل أَمَر حسن البنا بناته بالحجاب وغطاءِ الرأس أو طلبه منهن؟ قال: مطلقًا الإمامُ حسن البنا لم يَطِلُبْ من بناته أن يتحجبن، وكان يتركُهن على حريتهن؛ لأنَه علمهنَّ صحيحَ الإسلام". ° وُيضيف البنا: "إن بعضَ بناتِ العائلةِ لم تَرْتَدِ أيَّةُ واحدةٍ منهنَّ الحجابَ، وكان هذا أمرًا عاديًا للغاية". ° وقبلها قال:"الحجابُ ليس فرضًا إِسلاميًا" (¬1). - ومقالٌ آخر لمنال لاشين: "الفاسدون يدافعون عن الحجاب" (ص 7)، ومقال أكرام القصاص في نفس الصفحة. - والمقالُ الفاجرُ الساخرُ لوائل عبد الفتاح -عامله اللهُ بما يستحقُّ-: "إعلانُ الدولة الدينية .. الحزبُ الوطني الديمقراطي يقدمُ مسرحيةَ الموسم: "إحنا بتوع الحجاب" .. وقال فيه: "هل الحجابُ هو بديل "الميني جيب"؟ ليس صحيحًا بالطبع .. كما أنه ليس الفرضَ السادس في الإسلام .. إنه اختيارٌ شخصيٌّ .. والمشكلةُ ليست فيه أو في الموديل الذي تختارُه امرأةٌ من موديلاته الحديثة لكن في أن يكونَ الموديل الوحيد .. أن يكونَ علاقةَ الإيمانِ الوحيدة، علاقةَ الفصل العنصري بين المسلمين والمسيحيين .. " (¬2). ¬

_ (¬1) جريدة "الفجر" - العدد (77) (ص 6). (¬2) انظر هذا المقال القبيح للجاهل وائل عبد الفتاح- جريدة "الفجر" عدد 77 (ص 9).

- ومقال "الدنيا تحت النقاب .. رجل وامرأة وخطيئة" ليسرا زهران (ص 8). - ومقال نبيل عمر: "برلمان الغيبوبة والعودةِ إلى الوراء" (ص 9). - ومقال إبراهيم خليل "اليوم ذُبح فاروق وغدًا مصر" (ص 10). - وممدوح البلتاجي وزير الإعلام السابق يقول: "يجبُ ألا نتوقَّف عند مسائلَ شكليةٍ كالحجاب، ولكننا نحذّز من وقوع فتنٍ طائفيةٍ في مصر" (¬1). - وكلام إسماعيل منتصر في مجلة "أكتوبر": "حجاب فاروق حسني مسرحية رديئة .. لعب فيها الجميع أسوأَ أدوارِهم بلا استثناء" (¬2). هكذا قال دعاةُ التغريبِ والسفور والتبرج .. وحسابهم على الله. ونقول لهم: "هذه دناءة وسقوط وتبذل وسُعارٌ ونزوات، ووقاحةٌ وخلاعةٌ وخِزي وعار، وإنكار للمعلوم من الدين بالضرورة". ونقول: لو كان العارُ والتبرج في بئر عميقةٍ لَقَلَبها الشيطانُ مئذنةً ووقف يؤذن عليها .. ليسى أفظع من الزلزلةِ المرتجة تشقُّ الأرض إلاَّ تبرج المرأة. إذا خرجت المرأة من حدودِ دينها وشريعتها وتبرتجت، فلا يبقى منها إلاَّ أنثى مجردة تجريدها الحيواني المتكشَف. وهي حين تطاول مرآتها لتتبرَّج وتخرجَ في زينتها، تنظر إلى خيالها في المرآةِ بأهواءِ الرجال لا بعين نفسِها. ¬

_ (¬1) جريدة "الفجر" (ص 9) نقلاً عن ندوة "شركاء التنمية". (¬2) مجلة "أكتوبر" العدد (1570) (ص 4 - 5).

لا تنظرُ المتبرجةُ -حين تتبرجُ- في مرآتها إلاَّ إبتغاءَ أن تتعهَّدَ من جمالها ومن جسمِها مواقعَ نظراتِ الفجور وأسبابِ الفتنة، وما يَستهوي الرجلَ وما يُفسِدُ العفَّة عليه، فكأن المتبرجةَ وخيالَها في المرآة رجل فاسقٌ ينظرُ إلى امرأة، لا امرأة تنظر إلى نفسها، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكرُونَ} [الأعراف: 26]. لقد كان العُرْيُ وتكشُّفُ السوآت، والخَصفُ من ورق الجنة ثمرةً لمعصية الله، وفي مواجهةِ مشهدِ العُري الذي أَعقب خطيئةَ آدم، ومواجهةِ العري الذي كان يزاولُه المشركون في الجاهلية، يذكر السياقُ في هذا النداءِ نِعمةَ اللهِ على البشر، وقد عَلَّمهم وَيسَّر لهم، وشَرعَ لهم اللباسَ الذي يَسترُ العوراتِ المكشوفة، ثم يكون زينةً بهذا السِّترِ وجمالاً، بدل قُبح العُريِ وشناعته. واللباس: قد يُطلَقُ على ما يُواري السوأة، وهو اللباس الداخلي. والرياش: قد يُطلَقُ على ما يسترُ الجسمَ كلَّه ويَتجمَّلُ به، وهو ظاهرُ الثياب، كما قد يُطلق "الرياش" على العيش الرغد، والنعمةِ والمال، وهي كلُّها معانِ متداخلةٌ متلازمة. * قال تعالى: ممتنًّا على عباده باللباس والزينة: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل:81]. * وقال تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ... }

إن التبرج كبيرة مهلكة

[الأعراف: 26].الآية؛ فهناك تلازمٌ بين شرع اللهِ اللباسَ لستر العورات والزينة، وبين التقوى، كلاهما لباسٌ، هذا يَسترِ عوراتِ القلبِ ويُزينه، وذاك يَستر عوراتِ الجسم وُيزينه، وهما متلازمان، فعن شعورِ التقوى لله والحياء منه يَنبثقُ الشعورُ باستقباح عُريِ الجسدِ والحياءِ منه، ومَن لا يَسْتَح من الله ولا يَتَّقِهِ، لا يُهِمّه أن يتعرَّى وأن يدعوَ إلى العُرْي .. العريِ من الحياء والتقوى، والعريِ من اللباس وكشف السوأة!. إن سَترَ الجسدِ حياءً ليس مجردَ اصطلاح وغرفٍ بيئيٍّ، كما تزعمُ الأبواقُ المُسَلَّطةُ على حياءِ الناس وعِفَّتهم لتدميرِ إنسانيتهم، وِفقَ الخُطَةِ اليهوديةِ البشعةِ لتي أعلنتها مُقرَّراتُ حُكماءِ صهيون، إنما هي فطرة خَلَقها اللهُ في الإنسان، ثم هي شريعة أنزلها الله للبشر، وأقدَرَهم على تنفيذها بما سَخَّر لهم في الأرض مِن مُقدَّراتٍ وأرزاق، واللهُ يُذكر بني آدمَ بنعمتهِ عليهم في تشريع اللباس والسِّتر؛ صيانةً لإنسانيتهم من أن تتدهورَ إلى عُرفِ البهائم، وفي تمكينِهم منه بما يسَّر لهم من الوسائل، {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26]. * إِنَّ التبرج كبيرةُ مُهْلِكة: • جاءت أُمَيمةُ بنتُ رُقَيْقَةَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تُبايعُه على الإسلام، فقال: "أبُايعُكِ على أن لا تُشرِكي بالله، ولا تَسرِقي، ولا تَزني، ولا تَقتُلي ولَدَك، ولا تأتي ببهتان تَفتَرِينَهُ بين يديك ورِجلَيكِ، ولا تنوحُي، ولا تتبرجي تبرج الجاهليةِ الأولى" (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح: رواه أحمد والطبراني .. وقاله الهيثمي في "المجمع": "رجاله ثقات" .. وصححه الشيخ شعيب الأرنؤرط في "المسند" (2/ 196).

والتبرج يجلب اللعن والطرد من رحمة الله

* والتبرجُ يَجلِبُ اللعنَ والطردَ من رحمةِ الله: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "سيكونُ في آخِرِ أمتي نساءٌ كاسياتٌ عاريات، على رؤُوسِهِن كأسْنِمَةِ البُخْتِ، العَنُوهن فإنهن ملعونات" (¬1). * والتبرج من صفاتِ أهلِ النار: • قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "صنفانِ من أهلِ النار لم أرَهُمَا: قوم معهم سياطٌ كأذنابِ البَقَر يَضرِبون بها الناس، ونساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ، مُميلات ماَئلات، رؤوسُهنَّ كأسنمةِ البُختِ المائلة، لا يَدْخُلنَ الجنةَ، ولا يَجِدْنَ رِيحَها، وإنَّ ريحَها ليُوجَدُ من مَسيرةِ كذا وكذا" (¬2). * التبرجُ نفاق: • فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ نسائِكم الودودُ الولودُ، المواتيةُ المواسية، إذا اتقَيْنَ اللهَ، وشَر نسائِكم المتبرجاتُ، المتخيلات، وهُنَّ المنافقاتُ، لا يدخلُ الجنةَ منهن إلاَّ مِثلُ الغرابِ الأعصم" (¬3). والغراب الأعصم: هو أحمرُ المِنقارِ والرجليْن، وهو كناية عن قِلَّةِ مَن يدخلُ الجنةَ من النساء؛ لأن هذا الوصفَ في الغِربانِ قليل. * والتبرجُ تهتك وفضيحة: • قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أيما امرأةٍ وَضعت ثيابَها في غيرِ بيتِ زوجِها ¬

_ (¬1) صحيح: انظر "الصحيحة" (2683) .. والبخت نوع من الإبل. (¬2) رواه مسلم. (¬3) صحيح: رواه البيهقي في "الكبرى"، وصححه الألباني في"صحيح الجامع" (3330).

والتبرج فاحشة ومقت، فالمرأة عورة

فقد هتكت سِترَ ما بينها وبين الله عز وَجَل" (¬1). * والتبرج فاحشة ومقتٌ، فالمرأة عورة، والشيطان يأمر بهذه الفاحشة .. قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268]. * وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19]. * والتبرج سنَّة إبليسية؛ فقصةُ آدمَ وحواءَ مع إبليس تكشِف لنا مَدَى حِرصِ إبليس على كشف السوءات، وهتك الأستار، وإشاعة الفاحشة، وأن التهتكَ والتبرج هدف أساسي له، قال الله عر وجل: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف: 27]. فإبليسُ إذن هو مؤسس دعوةِ التبرج والتكشف، هو زعيمُ زعماءِ ما يُسمى بتحرير المرأة، وهو إمام هؤلاء المتبرجات الداعياتِ إلى التبرج عدوَّاتِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: صفية زغلول، وهدى شعراوي، ودريَّة شفيق، وسيزانبراوي .. والكشفُ طويل .. في مقدمته قاسم أمين. والتبرج طريقة يهودية، واليهود هم أصحابُ الباع الأكبرِ في التبرج. • قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أولَ فِتنةِ بني ¬

_ (¬1) صحيح: رواه أحمد والأربعة إلاَّ النسائي .. وحسنه العلامة شعيب الأرنؤوط في "المسند" (6/ 41).

إسرائيل كانت في النساء" (¬1) .. " (¬2). إن الذين يُريدون تعريةَ المرأة من حِجابها ونقابها، يريدون تعريتَها من تقواها، وحيائها، بل وتعريتَها من دينها. وهؤلاءِ لابدَّ أن يُعريهم ويفضحَهم كلُّ صادق، حتى يعلمَ كلُّ غافلٍ أن هؤلاء الممسوخين المشوهين، ما هم إلاَّ صبيانٌ لإباحيةِ الغرب، وأقزامٌ تُرمرِمُ من فُتاتِ مدرسةِ العُرْيِ الصليبية، وتشربُ من كؤوسهم حتَّى الثمالة، يَنعِقُ هنا الأقزام، وتتصدَّى دولةٌ صليبةٌ كبرى لفتاةٍ مسلمةٍ تريدُ ارتداءَ الحجاب، وتمنعُها من دخولِ المدرسة، دولة صليبية كفرنسا ترتعشُ من حجاب امرأةٍ ارتدته لباسًا وريشًا؛ تعبيرًا عن لباس التقوى لباطنها .. قمرٌ تَوَشَّحَ بالسحَابْ غَبَشٌ تَوَغَّلَ حَالِمًا بِفِجَاجِ غَابْ فَجْرٌ تَحَمَّمَ بِالنَّدَى وَأطَل مِنْ خَلف الهِضَابْ الوَرْدُ فِي أكْمامه ألَقُ اللآليء في الصَّدَفْ سُرُجٌ تُرَفْرِفُ فِي السُّدَف ضَحِكَاتُ أشْرِعَةٍ يُؤَرِّجُهَا العُبَابْ ¬

_ (¬1) رواه مسلم. (¬2) انظر "الحجاب لماذا؟ " لشيخنا محمد إسماعيل المقدم- طبع دار ابن الجوزي.

وَمَرافئٌ بيضاءُ تنبُضُ بِالنَّقَاءِ العَذبِ مِن خَلَلِ الضباب مِنْ أي سِحرٍ جِئتِ أيتها الجَمِيلَة؟ مِن أي بَارقَةٍ نبِيلَة هَطَلَت رُؤَاك عَلَى الَخَمِيلَةِ فَانْتَشَى عِطرُ الخَمِيلَة؟ مِنْ أي أُفُقٍ ذَلكَ البَردُ المُتوَّجُ بِاللهِيبِ وَهَذه الشمسُ الظلِيلَةْ؟ مِن أي نبعٍ غَافلِ الشَّفتينِ تندَلِعُ الوُرُودُ؟ مِنَ الفَضِيلَة هِيَ مُمكِنَاتٌ مُستحيلَةْ قَمَرٌ عَلَى وَجه المَياه يَلُمُّهُ العُشبُ الضئيل وليس تدرِكُهُ القبَاب قمرٌ عَلَى وَجهِ المَياهِ سُكوتهُ فِي الاضطِرَابِ وَبُعدُهُ فِي الاقْتِرَاب عيب يَمُدُّ حُضُوَرَهُ وَسطَ الغِيَاب وَطَنٌ يَلُمُّ شَتَاتَهُ فِي الاغتِرَاب رَوْحٌ مُجنَحَةٌ بِأعمَاقِ التُّرَاب

وَهِيَ الحَضَارَةُ كُلُّهَا تَنْسَلُّ مِنْ رَحِم الخَرَابْ وَتَقُومُ سَافِرَةً لِتَخْتَزِلَ الدُّنا فِي كَلِمَتَيْنِ (أنَا النِّقَابْ) الحُسنُ أسفَرَ بِالحِجَابْ فَمَا لَهَا حُجَبُ النُّفُور نَزَلَتْ عَلَى وَجْهِ السُّفُوز وَاهًا ..... أرَائِحَةُ الزهورِ تَضِيرُ عَاصِمَةَ العُطُورْ؟ أتَعفُّ عَنْ رَشفِ الندَى شَفَةُ البُكُور أيَضِيقُ دَوحٌ بِالطيورْ؟ يَا لِلغَرَابَة لا غَرَابَة أنَا بَسْمَةٌ ضَاقَت بِفَرْحَتِهَا الكآبةْ أنَا نَغَمَةٌ جَرَحَتْ خُدُودَ الصَّمْتِ وَازْدَرَت الرتابَة أنَا وَقْدَةٌ مَحَتِ الجَلِيدَ وَعبأتْ بِالرعبِ أفْئِدَةَ الذئاب

أنَا عِفَّةٌ وَطَهَارَةٌ بَيْنَ الكلاَبْ الشمْسُ حَائِرَة يَدُورُ شِرَاعُهَا وَسطَ الظلام بِغَيرِ مَرْسى اللَّيْلُ جَنَّ بِأُفْقِهَا وَالصبْحُ أمْسَى وَالوَرْدَةُ الفَيحاءُ تَصْفَعُهَا الرياحُ وَيَحْتَويهَا السَيْلُ دَوْسَا وَالحَانَةُ السَّكْرَى تُصَارِعُ يَقْظَتِي وَتَصُبُّ لِي ألَمًا وَيَأسَا سَأغَادرُ المَبْغَى الكبِيرَ وَلَسْتُ آسى أنًا لَسْتُ غَانِيةً وَكَأسَا نَعْلاكِ أوْسَعُ مِنْ فَرَنسَا نَعْلاكِ أطهَرُ مِنْ فَرَنْسَا كلهَا جَسَدًا وَنَفْسَا نَعْلاكِ أجْمَلُ مِنْ مَبَادِئ ثَوْرَةٍ ذُكرَتْ لِتنسَى مُدِّي جُذُوْرَكِ فِي جُذُورِكِ وَاتْرُكيِ أنْ تَتْرُكِيهَا قِرِّي بِمَمْلَكَةِ الوَقَارِ

وَسَفِّهِي المَلِك السَّفيها هي حرَّةٌ ما دامَ صوتكِ مِلءَ فِيهَا وَجَمِيلَةٌ مَا دُمْت فِيهَا هِيَ مَا لَهَا مِنْ مَالِهَا شَيء سِوَى (سِيدا) بَنِيها هِيَ كُلُّهَا مِيرَاثُكِ المَسْرُوقُ أَسْفَلتُ الدُّرُوبِ حجارَةُ الشُّرُفَاتِ أوْعيَةُ المَعَاصِرْ النِّفطُ زَيْتُ العِطر مَسحُوقُ الغَسيلِ صَفَائِحُ العَرَبَاَتِ أَصْبَاغُ الأظَافر خَشَبُ الأسِرَّةِ زِئْبَقُ المِرآةِ أقْمِشَةُ الستَائِرِ غَازُ المَدَافِئ مَعْدَنُ الشَّفَراتِ أضوَاءُ المَتاجِرِ

وَسِوَاهُ مِنْ خَيرٍ يَسِيل بِغَيرِ آخِر هِيَ كُلُّهَا أمْلاكُ جَدِّكِ فِي مَرَاكش أو دِمَشق أوْ الجَزَائِر هِي كُلُّهَا مِيرَاثُكِ المغصُوبُ فَاغْتَصِبِي كُنُوزَ الاغتصَابِ زَادَ الحِسابُ عَلَى الحِسَابِ وآنَ تَسْدِيدُ الحِسَابِ فَإذَا ارْتَضَتْ .. أهْلاً وإنْ لَمْ تَرْضَ فَلتَرْحَلْ فَرَنْسَا عَنْ فَرنسا نَفْسِهَا إن كانَ يُزْعِجُها الحجاب (¬1) * * * ¬

_ (¬1) قصيدة "الحسن أسفر بالحجاب" نقلاً عن مجلة هاجر ملحق "مجلة المختار الإسلامي لنساء المسلمين" العدد الأول ربيع الأول 1411 هـ (ص 17).

* قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31 - 33]. ° من عجيبِ ما روي من حال المشركين الذين خُوطبوا بهذه الآيات أولَ مرةِ، ووجِّه إليهم هذا الاستنكار الوارد في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ .. }: ما رواه الكلبي قال: "لَمَّا لَبِس المسلمون الثيابَ، وطافوا بالبيت، عيرهم المشركون بها .. فنزلت الآية". * فانظر كيف تَصنعُ الجاهلية بأهلها، ناسن يطوفون ببيتِ الله عرايا، فسَدَت فِطرتُهم، وانحرفت عن الفطرةِ السليمة التي يَحكيها القرآنُ الكريم عن آدم وحواء في الجنة: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 22]، فإذا رَأَوُا المسلمين يطوفون بالبيت مَكْسوينَ في زينةِ الله التي أنعم بها على البشر؛ لأرادته بهم الكرامةَ والسِّتر، ولتنموَ فيهم خصائصُ فِطرتِهم الإنسانية في سلامتها وجمالِها الفِطري، وليتميزوا في العُرْيِ الحيوانيِّ الجِسميِّ والنفسيِّ، إذا رأوا المسلمين يطوفون ببيت الله في زينةِ الله وِفقَ فِطرةِ الله، عيَّروهم!!. هكذا تصنعُ الجاهليةُ بالناس، هكذا تمسح فِطَرَهم، وأذواقَهم، وتصوُّراتِهم، وقِيَمَهم، وموازينَهم، وماذا تصنع الجاهليةُ الحاضرةُ بالناس

في هذا الأمر غيرَ الذي فعلته بالناس في جاهلية المشركين العرب، وجاهليةِ المشركين الإغريق، وجاهليةِ المشركين الرومان، وجاهليةِ المشركين الفرس، وجاهليةِ المشركين في كل زمانٍ وكل مكان؟!. ماذا تصنعُ الجاهليةُ الحاضرة بالناس إلاَّ أن تُعريهم من اللباس، وتُعريهم من التقوى والحياء؛ ثم تدَّعي أنَّ هذا رُقيُّ وحضارةٌ وتجديد، ثم تُعيِّر الكاسياتِ من الحرائرِ العفيفات المسلمات، بأنهن رجعيات .. تقليديات .. ريفيات. المَسخُ هو المسخ، والانتكاسُ عن الفطرة هو الانتكاس، وانقلابُ الموازين هو انقلاب الموازين، والتبجُّحُ بعد ذلك هو التبجح، {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 53]. وما الفَرقُ كذلك في علاقةِ هذا العُريِ، وهذا الانتكاسِ، وهذه البهيميةِ، وهذا التبجُّع، بالشرك، وبالأربابِ التي تَشرعُ للناس من دون الله؟. لئن كان مُشركو العرب قد تلقَّوا في شأنِ ذلك التعرِّي من الأرباب الأرضية، التي تستغل جهالتهم، وتستخف بعقولهم لضمانِ السيادةِ لها في الجزيرة؛ فإنَّ مُشركي اليوم ومشركاتهِ يتلقَّون في هذا عن الأربابِ الأرضيةِ كذلك، ولا يَملِكون لأمرهم ردًّا. ° إن بيوتَ الأزياءِ ومُصمميها وأساتذةَ التجميل ودكاكينَها، لهي الأربابُ التي تَكمُنُ وراءَ هذ الخَبَل الذي لا تُفيقُ منه نساءُ الجاهليةِ الحاضرة، ولا رجالُها كذلك.

° إن هذه الأربابَ تُصدِرُ أوامرَها، فتُطيعُها القُطعانُ والبهائمُ العاريةُ في أرجاءِ الأرض طاعةً مزريةً صاغرةً، تُطيعُ تلك الأرباب، وإلاَّ عُيِّرت من بقية البهائم المغلوبة على أمرها. ° ومَن الذي يَقْبَعُ وراءَ بيوتِ الأزياء، ووراءَ دكاكينِ التجميل، ووراءَ سُعارِ العُريِ والتكشُّف، ووراء الأفلام، والروايات، والمجلات، والصحف التي تقودُ هذه الحملةَ المسعورة؟ الذي يَقبَعُ وراءَ هذه الأجهزة كلِّها يهود؛ يهودُ يقومون بخصائصِ الربوبية على البهائم المغلوبة على أمرها. ° إن قضيةَ اللباس ليست مُنفصلةً عن شرع الله ومنهجِه للحياة، ومِن ثَمَّ ذلك الربطُ بينها وبين قضية الإيمان والشركِ في السياق. ° إنها ترتبطُ بالعقيدة والشريعة بأسباب شتى. ° إنها تتعلقُ قبلَ كل شيءٍ بالربوبية، وتحديدِ الجهة التي تَشرعُ للناس في هذه الأمور، ذاتِ التأثير العميق في الأخلاق والاقتصادِ وشتى جوانبِ الحياة، كذلك تتعلقُ بإبرازِ خصائصِ الإنسانِ في الجنس البشري. ° وبعد ذلك عندنا جاهليون يقولون: "ما للدين والزي؟ ما للدين وملابسِ النساء؟ ما للدين والتجميل؟ "! إنه المَسخُ الذي يُصيبُ الناسَ في الجاهلية في كلِّ زمان، وفي كل مكان!!. ° ولأن هذه القضيةَ التي تبدو فرعيةً، لها كلُّ هذه الأهميةِ في ميزانِ الله، وفي حسابِ الإسلام لارتباطِها أولاً بقضية التوحيد والشرك؛ فإن السياقَ يُعقِّبُ عليها بإيقاعٍ قويٍّ مؤثِّر، يُوقعُ به عادةً في مواقفِ العقيدةِ

التبرج تخلف وانحطاط

الكبيرة .. إنه تعقيبٌ بتنبيه بني آدم إلى أن بقاءَهم في هذه الأرض محدود مرسوم؛ وإنه إذا جاء الأجل، فلا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون. ° يقول سيدنا الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم: "التبرج جاهلية مُتْتنة: * قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33]. وقد وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوى الجاهلية بأنها مُنتِنة، أي: خبيثة، وأَمَرنا بنبذِها، وقد جاء في صفته - صلى الله عليه وسلم - في التوراة أنه {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]. فدعوى الجاهلية شقيقةُ تبرج الجاهلية، كلاهما مُنتِنٌ خبيث، حَرمه علينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "كل شيءٍ من أمرِ الجاهلية موضوعٌ تحتَ قَدَمي" (¬1). سواءٌ في ذلك: تبرجُ الجاهلية، ودعوى الجاهلية، وحُكمُ الجاهلية، وظن الجاهلية، وحَمِيةُ الجاهلية، وربا الجاهلية. * التبرج تخلُّف وانحطاط: إن التَكَشُّفَ والتعَرِّيَ فِطرةٌ حيوانيةٌ بهيمية، لا يَميلُ إليها الإنسانُ إلا وهو يَنحدرُ ويرتكسُ إلى مَرتبةٍ أدنى من مرتبةِ الإنسان الذي كرمه الله، وأنعَمَ عليه بفِطرةِ حُبِّ الستر والصيانة، وإن رؤيةَ التبرج والتهتُّك والفضيحةِ جمالاً ما هي إلا فسادٌ في الفطرة، وانتكاسٌ في الذَّوق، ومؤشِّرٌ ¬

_ (¬1) متفق عليه.

على التخلف والانحطاط" (¬1). ° فانظر كيف باء بها الذي تولَّى كِبْرَه، ودعا المرأةَ إلى كشفِ رأسها؛ لان شَعْرَها كالورود! وانظر كيف مَدَحَه الفرنسيون بقولهم: إنه "أفضلُ وزيرِ ثقافةٍ في العالم، وهو وزير مستنير يَرُدُّ جحافلَ التخلف"! وتابعه الكثير .. وقد أظهرت هذه الفتنةُ الكثيرَ والكثيراتِ ممن يحبونَ أن تشيعَ الفاحشةُ في الذين آمنوا، تَصيحُ إحدى الممثلات بهذا الوزير في مهرجان القاهرة السينمائي عام 2006 م مناديةً عليه قائلةً له: "يا كايدهم"!. رسام كاريكاتوري "مصطفى حسين"- يرسمُ حالَ الناس سنة 2028 وقد ظهرت بنتٌ كاشفةً عن بطنها، وفي الرسم يقول صاحبُها لها -أو تقول هي له-: "تصوَّرْ، إنه كان هناك من 22 سنةً فتنةُ أو مشكلةُ الحجاب"، وكأنه يُعرِبُ عن أمله في أن تتبرجَ النساءُ في المستقبل حتي تُصبحَ الدعوة إلى الحجاب وقد ذهبت أدراجَ الرياح، ونقول له: ذلك ظن الجاهلية، {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 12]. * ونقول لهم جميعًا: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران: 119]. ° نقول للمحجبات (¬2) والمنتقبات هذه القصيدة "لآليء الأصداف" (الحجاب): إِليهَا تِلكَ الرَّافِلَةُ في جِلبَابِهَا الهَادِئِ الفَضفَاضِ، تُطَاوِلُ السَّمَاءَ رِفعَةً وسُمُوًا، ¬

_ (¬1) "الحجاب لماذا" (ص 24 - 25). (¬2) لشقيقي عبد الله بن حسين العفاني -حفظه الله-.

وتَفُوقُ الجِبَالَ رُسُوخًا وثَبَاتًا، وتُشَابِه الطيورَ رِقَّةً، وتُمَاثِلُ الغُيُوثَ طُهْرًا، تَقْتَفِي أثَر خَدِيجَةَ، وتَسْتَشْرِفُ دَرْبَ فاطِمةَ .. إِلَيْهَا .. أُهْدِي هَذِهِ الخَاطِرَةَ .. رُوحٌ يُجنِّحهَا الهُدَى، فَتَبُذُّ سَفْسَافَ الضَّلالِ، تَطِيرُ تَرْفُلُ في الفَضَا، تَسْمُو .. ، وتَحْتَضِنُ السَّمَاءَ .. ، يُلثِّمُ الوَجْهَ الربابْ .. ولآلئٌ تَأوِي إلى أصْدَافِهَا، وتَعِيشُ طُهْرَ الطُّهْرِ بَيْنَ شِغَافِهَا، مُتَستِّرَات عن ذِئابِ البَحْرِ، عَنْ زَبَد يَمُورُ بِهِ العُبَابْ. وقُلُوبُ نَخْلات تَفِيضُ رَهَافَةً .. ، وتَذُوبُ مِن فَرْط الحَيَاءِ، تَغُوصُ في أكْمامِهَا، وتُطِلُّ مِنْ خَلفِ الهِضَابْ وجَدَاوِلٌ تَسرِي رَوَافِدُ شَهْدِهَا، مَا بَيْنَ صَفْصَافٍ وغَابْ.

تَنْسَابُ بَيْنَ زُهُورِه وظِلالِهِ، لِتُنَمِّقَ الجَنَّات في الصَّخْرِ اليَبَابْ .. هِيَ أَنْتِ، يَا أمَّاه، يَا أخْتَاه، يا بِنْتَاه، يَا ... ، هِيَ أنتِ، يَا كُلَّ النِّسَاءِ بِأعْيُنِي، يَا سِرَّ أسْرَارِ الحَيَاةِ بِمُهْجَتِي، يَا ربَّةَ الطُّهْرِ العَتِيقِ بِعَالَمِي، هِيَ أنْتِ، يَا ذَاتَ الحِجَابْ. * * * أنْتِ الحَضَارَةُ صَدِّقِينِي، فَالحَضَارَةُ -في حَقِيقَتَها- العُلا، فَوْقَ الجُسُوم وطِينِهَا .. ، فَوْقَ النُّفُوسِ وغَيِّهَا .. ، وحشُاشَةُ المَجْدِ الفَلاحْ. مَاذَا يَعُوقُكِ إن سَمَوْت إِلَى الذُرَا، في ذَلِكَ الثوْبِ الَّذِي،

يَسْمُو .. ، ويَقْطُرُ عِفَّةً .. ، وَيشِي بِذَا السَّمْتِ الوَقُورِ .. عَنِ الفَضِيلَةِ والصلاح؟! أنَا لَسْتُ أدرِي، كَيفَ يَرْتَبِط التَقَدمُ عِنْدَنَا، بتَبَرتُج الحُمُرِ الرقيع .. ، وبِالتهتكِ .. بِالنُّباحْ؟! أنم أنهم يَرمُونَ عِفتنَا بقيحِ فُجُورِهِمْ؟! ويُلّبِّسُونَ عَلَى الوَرَى، بِالزورِ .. ، بِالدَّجَلِ الرخيصِ .. ، وبِالصياحْ؟ فَليُخْبِرُونِي، أيْنَ كَانَ تَمَدُّنُ العُرْيِ الدنِيءِ بِغَرْبِهِمْ؟ أيامَ عِشْنَا الدينَ مَلحَمَةً، ورَفْرَفَ -مِن حَضَارَتِنَا- عَلَى الدُّنْيَا جَنَاح؟! وإذَا رَأوا في العُريِ أصْلَ حَضَارَةِ! فَهَلِ ارْتَقَى عُرْيُ البَهَائِم ربوَةً؟!

وقَدِ اعْتَلَتْ، أعْلَى ذُرَا العُرْيِ المُبَاحْ؟! وَالهَفَ قَلبِي، حِينَ يُصبِحُ مَجْدُنَا رَهْنًا بِعَارِيَةٍ وغَانِيَة ورَاحْ!!! تَبّاً لِمَجْد نَعْتَلِيهِ بِعُرْيِنَا، ونَعُودُ منْهُ بِعَارِنَا، بِالعُرْيِ يَلتَزَمُ السِّفَاحْ!!! لا تَذْهَلِي أخْتَاهُ، لا تَتَعَجَّبِي لِبِذَائِهِمْ، فَشِعَارُ أرْبَابِ الفُسُوقِ تَبَجُّحٌ، مُذْ كَانَتِ الدُّنْيَا، فَمَا رَضَعُوا حَيَاءَ الآيِ، أوْ خَفَرَ الصِّحَاح. فِي كُل ثَانِيَةٍ تَتِيهُ بِعُريهَا، مِنْ قَوم لُوطٍ طُغمَةٌ، وتُعيِّرُ الطُّهرَ العَفِيفَ بِطُهرِهِ!

وتَوَدُّ لَوْ تَنْفِي مِنَ الدُّنْيَا طَهَارَتَهَا، ولَوْ تَئِدُ الصباحْ!!! فِي كل ثَانِيَةٍ يُعَرْبِدُ أسْوَدٌ، وُيجَاهِرُ الكَذَّابُ يَنْشُرُ زُورَهُ، وتُفَاخِرُ الدُّنْيَا -بِسَوْأتِهَا- سَجَاحْ!! لا تَحْزَنِي، هِيَ رِدة الأخلاقِ .. ، نَكْسَةُ عَقْلِهَا .. ، فِي وَجْهِ طُوفَانِ الجُسُوم، وثَوْرَةِ الشَّهَوَاتِ، والعُهْرِ الصُّرَاحْ!!! هِيَ جَاهِلِيَّةُ قَرْنِنَا العِشْرِينَ، تُعْلِنُ عُرْيَهَا، وتُسَفِّهُ المُتَطَهَّرِينَ لِطُهْرِهِم، وهُنَالِكُمْ مِن ألفِ عَامٍ "بِنتُهَا"، طَافَتْ بِبَيْتِ اللهِ عَارِيَةً،

وعَيَّرَتِ الوِشَاحْ! فَليُخْبِرُونِي أيُّنا رَجْعِيَّة؟! تَهْفُو إِلَى طَبعْ البَهَائِم رُوحُهُ! بَلْ أيُّنَا ارْتَكَسَتْ إِلَى دَرْكِ البَهَائِم ذَاتُهُ؟! ومَضَى يُدنِّس كُلَّ سَاحْ! هِيَ سُنةُ الشيْطَانِ، أسكنَهَا شِغَافَ قُلُوبِهِمْ، فَعَدَوْا بِهَا بَيْنَ الوَرَى، يَسْتَحْقِرُونَ "جِهَادَهُ" لجِهَادِهِمْ، يُحْيُون سنَة غيِّهِ، ويُطَوِّرُونَ فُنُونَهَا، وُيجَدِّدُونَ لِشَرْعِهِ، مَا رَاحَ أَدْرَاجَ الرِّيَاحْ!!! هِيَ خِسَةٌ، ونِخَاسَةٌ، يُسبِي الحَرَائِرَ زُورُهَا، وَيقُودُهَا نَحْوَ الشَّوَارع والمتَاجِرِ كَالدُّمَى،

بَل كَالرقيقِ بِعُريِهَا وطِلاِئهَا، سِلَعٌ يُبَاعُ عَفَافُهَا، لَمِنِ اشترى، ومَنِ اكتَرَى، ومَنِ استَبَاح!!! * * * أختَاه لا تَستَيِئسي، مِنْ تُرَّهَاتِ هُرَائِهِم، وعُوَائهِم، فَلَكَم تَزِيدُ تَيَقُّظَ الراعيِ عُوَاءَاتُ الذئابْ. لا تَفزَعيِ لِدُخَانِهِمْ، فُهُمُ الدُّخَانُ لَمِجْمَرٍ، حِقدًا تَميَّزُ نَارُهُ، تَحتَ التُّرَاب! لَكِننا اليَاقُوتُ، تَصقُلُهُ مَجَامِرُ نَارِهِم، تَنفِي الدَّخِيلَ الغثَّ،

تَسْتَصْفِي مَعَادِنَهُ الصِّلابْ. لا تَحْزَنِي، ولتَفْرَحِي، فَاللهُ نَاصِر دِينِهُ، أنَّى ارْتضَى، ولتَفقَهِي: لا تنجِس الأنهَارَ أذيَال الكِلابْ، لا تنجِس الأنْهَارَ أفْوَاهُ الكِلابْ (¬1) ° ونقول أخيرًا لخير أُمَّةٍ أُخرجت للناس: يا أمةَ الحقِ والآلامُ مقبلةٌ ... متى تَعِينَ ونارُ الشرِّ تستَعِرُ متى الخلاصُ وقد طَمَّتْ مُصيبتُنا ... متى النجاةُ وقدْ لمَّت بنا العِبَرُ متى يعودُ إلى الإسلام مسجِدُهُ ... متى يعودُ إلى محرابِهِ عُمَرُ؟! أكُلَّ يومٍ يُرى للدينِ نازِلَةٌ ... وأمةُ الحق لا سمعٌ ولا بصرُ؟! * * * ¬

_ (¬1) السبت 4 من ذي القعدة سنة 1427 هـ (25/ 11/ 2006 م).

° وما أروعَ قولَ القائل: إنا سَمِعنا أُخْتَنا شيئًا عُجابْ ... قالوا كلامًا لا يَسُرُّ عن الحِجَابْ قالوا خيامًا عُلِّقَتْ فوقَ الرِّقابْ قالوا ظلامًا حالكًا بين الثيابْ ... قالوا التأخُّرُ والتخلفُ في النِّقابْ قالوا الرشاقةُ والتَطوُّرُ في غِيابْ نادَوْا بتحرير الفتاة وألَّفُوا فيه الكتاب ... رَسَموا طريقًا للتبَرُّجِ لا يُضيِّعُه الشبابْ يا أُخْتَا هم ساقِطون إلَى الحضيضِ إلَى الترَابْ يا أختنا هم سافِلون بِغيِّهِمْ مثلَ الكلابْ ... يا أُختنا هذا عُواءُ الحَاقدينَ مِن الذِّئابْ يا أختنا هذا نُباحٌ لا يؤثِّرُ في السحابْ يا أختنا صبرًا تذوبُ ببَحرِه كلُّ الصعابْ ... يا أختنا أنتِ العفيفةُ والمصونةُ بالحجابْ يا أَختنا فيكِ العزيْمةُ والنزاهةُ والثواب فالنارُ مَثوى الظالِمين لَهم عقابْ ... واللهُ يكشفُ ظُلمَهُم يوم الحسابْ والجَنة مأوَى ويا حُسْنَ المآبْ * * *

وهل يخفى القمر؟! الثناء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أكابر مفكري الغرب

وهل يخفى القمر؟! الثناء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أكابر مفكري الغرب

وهل يَخفَى القمر؟!! لا يستطيغ أيُّ مُنصِفٍ أن يحجُبَ الحقيقةَ والنور .. ومَن يحاولُ حَجْبَ النورِ فهو كمن يحاولُ بكفِّ طفلٍ صغيرٍ أن يُخفِيَ شُعاعَ الشمسِ أو ضوءَ القمرِ أو إدراجَ الشمسِ في قبر أو كهفٍ من كهوفِ الزمن .. ولقد مَدَح وأثنى على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرٌ من مُفكري الغرب، وعَدَلتُ في عنوان هذا الفصل عن تسميته "المنصِفون للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الغرب" .. فإن قولَ بعضِ أهل الفكرِ فيه بأنه كان "عبقريًّا"، عظيمًا، ما شَهِدت مِثلَه البشرية، أو مُصلِحًا عظيمًا ما جاء مِثْلُه مَدَى الأيام في بلادِ العرب" .. هذا ليس إنصافًا، بل حَطًّا من مرتبته، فهو رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافةً، وهو خاتَمُ النبيين .. وأيُّ إنكارٍ لهذه المرتبةِ والمنزلةِ ليس إنصافًا، فتمامُ الإنصاف الاعترافُ بنبوتِه الخاتمةِ والدخولُ في دينه. • قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسُ محمد بيده، لا يَسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمة، لا يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ، ثم يموتُ ولم يُؤمنْ بالذي أُرسلتُ به، إلا كان من أصحابِ النار" (¬1). وأي ثناءٍ على الإسلام والقرآنِ أذكرُه هنا، فهو ثناءٌ على رسولِ الله عين، فلا يمكنُ الفَصلُ بين الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، وبين الدينِ العظيم الذي جاء به، وبين الكتابِ المُبين والذكْرِ الحكيم الذي أُنزل عليه. ولكنْ قبلَ الشروع في بيانِ أقوال هؤلاء؛ لابد من ذِكرِ أصلٍ وقاعدةٍ ¬

_ (¬1) رواه أحمد ومسلم.

في غاية الأهمية .. وهي أن الإسلامَ ليس بحاجةٍ إلى شهادةِ غيره من أهل المِلَل الأخرى، ذلك لأن "الإسلام يعلُو ولا يُعلَى" -كما قال الحبيبُ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - (¬1) -، وإنما أوردنا شهادتَهم من باب {وَشَهِدَ شَاهِدٌ منْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26]، وليكون كلامُهم حجَّةً على أنفسهم أولاً، ثم حجةً على بَنِي قومهم ثانيًا عند الله تبارك وتعالَى غدًا .. وقد كفانا الله سبحانه بإسلامنا العظيم عن شهادة أيِّ مِلَّةٍ ونَهجٍ آخرَ. * قال سبحانه ممتنًّا على عباده: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3]. ونحن -بحمد الله- نكتفي ونرضَى بما رَضِيَ لنا به ربُّنا العظيمُ جل جلالُه، ولو فَرَضْنا أن الكلماتِ القادمةَ في مدح الإسلام ونبيه - صلى الله عليه وسلم - لَم تصدُرْ من هؤلاء، فإن نبينا - صلى الله عليه وسلم - لن يَنقُصَ قَدْرُه، ولن يَنْزِلُ -قِيْدَ شَعْرةٍ - من سُمُوِّه .. وسيظل دينُه -رغمَ أنفِ الدنيا كلِّها- هو الدينَ الحقَّ المصانَ من التبديل والتحريف .. وسيظل مُحمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - شاء المتكبِّرون أم أبَوْا- خاتَمَ الأنبياء والمرسلين، والمبعوثَ بالحق من عند رب العالَمين، وشريعته الغراءُ ناسخةً لِجميع الشرائع من قبله .. ومَن زكَّاه اللهُ عز وجل لا يَحتاجُ لتزكيةِ مَن فوقَ التراب .. وكيف وهو الشاهدُ على الأمم والرسل يومَ القيامة!!. فذِكرُنا لكلام هؤلاء إذن ليس احتجاجًا به، ولا تعظيمًا له، وإنَّما هو زيادة في الحُجةِ والبيان .. على أن مَدح هؤلاء له - صلى الله عليه وسلم - مدحٌ ناقص .. إذ لا ¬

_ (¬1) حسن: رواه الدارقطني (3/ 252) والبيهقي (6/ 205) .. وحسنه الألبانِي في "صحيح الجامع" (2778).

*

يتمُّ المَدحُ والتعظيمُ إلاَّ بالدخول في دينه والانصياع لأمره .. والله المستعان، وعليه التُّكلان. وها نحن نَشرعُ في ذكرهم: * جورج بِرنارد شو: كاتبٌ ومفكِّرٌ أيرلنديٌّ، وُلد عام 1856 في مدينة "كانيا"، وتُوفي عام 1950، اشتُهر بنقدِه اللاذع للمجتمع البريطانيِّ، وخاصةً في عصرِ الملكة فكتوريا (تُوِّجت ملكةً عام 1837، وتُوفيت عام 1901)، وقد بلغت الإمبراطوريةُ البريطانيةُ أَوْجَهَا في العصرِ الفِكتوري، كذلك اشتُهر "برنارد شو" بنقده للغربِ بوجهٍ عام، وقد حَصل على جائزة "نوبل" في الأدب عام 1925م. ° يقول جورج برنارد شو: "لقد كنتُ دائمًا أحتفظُ لدينِ محمدٍ عندي بأعلى التقدير، وذلك بسببِ حيويتِه المدهشة، إنه الدينُ الذي يبدو لي أنه يَمتلكُ القُدرةَ على استيعابِ تغيُّرِ أطوارِ الحياة، بما يَجعلُه مَحِلَّ إعجابٍ لكل العصور. لقد دَرستُ محمدًا -ذلك الرجلَ العجيبَ-، وفي رأيي أنه أبعدُ ما يكونُ عمن يُسمَّى "ضد المسيح" (¬1)، ويجبُ أن يُسمَّى: "مُنقِذَ الإنسانية". إني أعتقدُ لو أن شخصًا مِثلَه تولَّى الحُكمَ المُطلَقَ للعالَم المعاصِر، لَنَجَح في حلِّ مشاكله بطريقةٍ تجلِبُ له ما هو في أشدِّ الحاجة إليه من سلام وسعادة. ¬

_ (¬1) - He must be called the savior of Humaritry.

هاملتون جب

لقد تنبَّأتُ بأن دينَ محمدٍ سيكونُ مقبولاً في أوربا الغد، كما أنه بدأ يكونُ مقبولاً في أوربا اليوم" (¬1). ° وله مؤلَّف أسماه "محمد" - صلى الله عليه وسلم - أحرقته السلطةُ البريطانيةُ .. قال برنارد شو: "إن العالمَ أحوجُ ما يكونُ إلى رجل في تفكير محمد، هذا النبي الذي وَضع دينَه دائمًا موضعَ الاحترام والإجلال، فإنه أقوى دين على هَضم جميع المدنيات، خالدًا خلودَ الأبد، وإني أرى كثيرًا مِن بني قومي قد دخلوا هذا الدينَ على بينةٍ، وسيجدُ هذا الدينُ مجالَه الفسيحَ في هذه القارة -يعني أوروبا-، وإذا أراد العالَمُ النجاةَ من شروره، فعليه بهذا الدين، إنه دينُ السلام والتعاونِ والعدالةِ في ظل شريعةٍ متمدنةٍ محكمة، لم تَنْسَ أمرًا من الدنيا إلاَّ رسمَتْه ووزنته بميزانِ لا يُخطئُ أبدًا، وقد ألفتُ كتابًا في "محمد"، ولكنه صُودِر لخروجه عن تقاليد الإنكليز". * هاملتون جب: يُعتبر واحدًا من أكبرِ المستشرقين الإنجليزِ في العصر الحديث، وهو عضوُ المجمع العِلمى العربي في دمشق ومجمع اللغةِ العربيةِ في القاهرة، وهو أستاذُ الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة "هارفارد" الأمريكية، ومن كبارِ محرري وناشري "دائرة المعارف الإسلامية". ° يقول "هاملتون جب" في كتابه: "الإسلام إلى أين؟ ": "لا يزالُ لدى الإسلامِ فَضلٌ آخَرُ يبذُله مِن أجل قضيةِ الإنسانية، فهو يَقفُ -على كل حال- أقرب إلى الشرقِ أكثَرَ من موقفِ أوربا منه، كما أنه يَمتلكُ تقاليدَ ¬

_ (¬1) - G. B. Shaw: the Genuine Islam, Vol.1. No. 81938

رائعةً فيما يتعلَّقُ بالتفاهم والتعاونِ بين أجناسِ البشر، فلم يُحرِزْ أيُّ مجتمعٍ آخَرَ -غير إسلامي- مِثلَ هذا السجِل من النجاح في التوحيدِ بين ذلك القَدْرِ الهائل والمتنوِّع من الأجناسِ البشريةِ بتحقيق المساواة أمامَ القانون، وتكافؤِ الفُرصِ للجميع. ولا يزالُ الإسلامُ قادرًا على تحقيقِ مُصالحةٍ بين عناصرِ الجِنسِ البشريِّ وتقاليدِها التي تَستعصي على التصالح (¬1). لماذا قُدِّر أن يَحِلَّ التعاونُ يومًا ما مَحِل التعارضِ القائم بين المجتمعاتِ الكبيرة في الشرق والغرب، فإن وساطةَ الإسلام تُصبحُ شَرطًا لا غِنًى عنه، إذ يَكمُنُ بين يديه -إلى حد كبير- حل المشكلةِ التي تواجِهُ أوربا في علاقتِها بالشرق" (¬2). * مايكل هارت: عالم أمريكى معاصِر، يتمتعُ بسَعَةِ تخصصِه في مجالاتٍ علميةٍ متعددةِ مثل الفَلَك والرياضياتِ والفيزياء، كما أنه مُحامٍ ومؤرخ من الهُواة، يَعملُ في وكالةِ أبحاثِ الفضاءِ الأمريكية المعروفة اختصارًا باسم: "ناسا". ° يقول "مايكل هارت" في كتابه: "المائة: تصنيف لأعظم ¬

_ (¬1) - If ever the oppostion of the great societies of East and West is to replacced by cooperation, the mediation of Islam is an indispensible con- dition. In its hands Lies very largly the solution of the problem with which Europe is faced in its relation with EAST. (¬2) H.Gibb: Whither Islam?, London, 1932,P.379-

الشخصيات أثرًا في التاريخ" -وقد وضع محمدًا رسولَ الله على رأس هذه القائمة-: "إن اختياري محمدًا ليكونَ على رأسِ القائمة لأعظم الشخصيات العالَمية في التاريخ، قد يُدهِشُ بعضَ القُراء، كما أنه قد يكونُ مَحلَّ تساؤلٍ من البعض الآخر، لكن محمدًا كان هو الإنسانَ الوحيدَ في التاريخ الذي بَلَغ أعلى درجاتِ النجاح على المستويَينِ المديني والدنيوي. لقد استطاع محمدٌ -رغمَ أنه جاء من أصولٍ متواضعة (¬1) - أن يؤسسَ وينشرَ واحدةً من أعظم دياناتِ العالَم، كما أصبح زعيمًا سياسيًّا ذا تأثير هائل، واليوم -وبعدَ مرورِ ثلاثةَ عَشَر قرنًا على وفاته- لا يزالُ تأثيرُه قويًّا واسعَ الانتشار. إن أغلبَ الشخصياتِ المذكورةِ في هذا الكتاب "المئة" تتميزُ بأنها وُلدت وتربت في مراكزِ الحضارة، ونشأت في أُممٍ عاليةِ الثقافة، أو ذاتِ أهميةٍ عُظمى في السياسة، لكنَّ محمدًا وُلد عام 570 في مدينةِ "مكة"، جنوبَ بلادِ العرب التي كانت آنَذَاك منطقةً متخلِّفةً بين بلاد العالم، وبعيدةً عن مراكزِ التجارةِ والفنِّ والمعرفة، ولقد أصبح يتيمًا وهو في السادسةِ من عُمره، ونشأ في بيئةٍ متواضعة، وكان أغلبُ العرب آنَذَاكَ وثنيينَ يَعبدون آلهةً كثيرةً، وعندما بَلَغ محمدٌ الأربعينَ مِن عُمرِه صار مقتنعًا بأن الإلهَ الواحدَ الحق -الله- يُكلِّمُه، وأنه اختاره لنشرِ الدين الحق، غيرَ أن تلك الجيوش العربيةَ الصغيرة -وقد وَحَّدها محمدٌ لأولِ مرةٍ في التاريخ، ونَفَخ ¬

_ (¬1) بل هو أشرفُ الناس نسبًا - صلى الله عليه وسلم -.

فيها الإيمانَ بالإلهِ الواحدِ الحق رُوحًا جديدة- ما لبثت أن قامت بسلسلةٍ من الفتوحات تعتبر واحدةً من أكثرها مَدْعاةً للدهشةِ في تاريخ البشرية، وعلى الرغم مِن أن القوةَ العدديةَ للعرب في مَيدانِ المعركةِ لا يمكنُ أن تكونَ مَحل مقارنةٍ مع القوةِ العدديةِ الهائلةِ لخصومهم، فإن أولئك العربَ المتحمِّسينَ سَرعانَ ما فَتحوا كلَّ بلاد ما بين النَهرين وسوريا وفلسطين، وفي عام 642 كانت مصر قد انتُزعت من قبضة الإمبراطورية البيزنطية، بينما تم سَحقُ الجيوشِ الفارسيةِ في المعارك الحاسمة: في "القادسية" عام 637، و"نهاوند" عام 642. لكنَّ هذه الفتوحاتِ العظيمةَ -التي تمَت تحتَ قيادةِ صاحِبَيْ محمدٍ الحميمَينِ وخليفتَيهِ المباشِرَينِ، وهما أبو بكر وعمرُ بن الخطاب- لم تكن هذه الفتوحاتُ نهايةً لزحفِ العرب، ففي عام 711 اكتَسحت الجيوش العربيةُ شَمالَ إفريقيا بالكامل حتى وصلت إلى المحيطِ الأطلسي، ومِن هناك استدارت شَمالاً، فعَبَرت مَضِيقَ جبل طارق، ثم سَحقت مملكة "القوط الغربيين" في أسبانيا، ولقد بَدا آنَذَاك أنَّ المسلمين على وَشَك أن يَسحقوا أوربا المسيحيةَ بالكامل، ولكنْ أخيرًا -وفي عام 732 - هَزم الفرنجةُ جيشًا إِسلاميًّا كان قد زَحف إلى قلبِ فرنسا، وذلك في معركة "بواتيه" الشهيرة. وعلى الرغم من ذلك، فإن أولئك البَدْوَ القبَلِيِّين اِلذين نَفَخت فيهم كلمات النبي روحًا جديدةً، قد استطاعوا خلالَ أقلَّ مِن قَرنٍ من الحرب أن يُقيموا إمبراطوريةً تمتدُّ مِن حدودِ الهندِ إلى المحيطِ الأطلسي، وكانت أكبَرَ

الإمبراطوريات التي عَرَفها العالم. وخلالَ القرونِ المتلاحقة، كان من الطبيعي أن يستمر الدينُ الجديدُ في الانتشار بعيدًا فيما وراءَ الحدودِ الأصلية للفتوحاتِ الإسلامية. ويَعتنقُ هذا الدينَ حاليًا عشراتُ الملايين في إفريقيا وآسيا الوسطى، وأيضًا في باكستان وشمالِ الهند وأندونيسيا، ولقد كان هذا الدين الجديدُ عاملاً لتوحيدِ أندونيسيا. ونظرًا لأن عددَ المسيحيين في العالَم يُقدَّرُ تقريبًا بضِعفِ عددِ المسلمين، فقد يَبدو غريبًا أنْ يُوضَعَ محمدٌ في القائمةِ قبل عيسى، لكنْ هناك سببانِ رئيسانِ لهذا القرار: أولهما: أن محمدًا لَعِب دورًا هامًّا أبعَدَ أثرًا في نَشرِ الإسلام وبيانِه أكثَرَ مما فعله عيسى في المسيحية، فعلى الرغم من أن عيسى كان مسؤولاً عن المبادئِ الأساسيةِ للسلوك والتعاليم الأخلاقية في المسيحية، فإنَّ القديسَ "بولس" كان هو المسؤول عن وضع قواعدِ اللاهوت المسيحي، وناشرَ المسيحيةِ الأول، ومؤلِّفَ الجزءِ الأكبرِ من أسفارِ العهد الجديد. أما محمد، فقد كان هو المسؤولَ عن وضع قواعدِ الإسلام والمبادئِ الأساسيةِ والتعاليم الأخلاقية، وبجانبِ هذا، فقد لَعِب الدورَ الرئيسيَّ في نشرِ العقيدةِ الجديدةِ وترسيخ الممارسةِ الدينيةِ للإسلام، والقرآنُ يُمثِّلُ كلماتِه بالضبط إلى حدٍّ بعيد، على حينِ أنه لم يَبْقَ لنا مِثلُ هذا التصنيفِ التفصيليِّ لكلماتِ المسيح وتعاليمه. وربما كان التأثير النسبى لمحمدٍ على الإسلام أكبرَ من التأثيرِ المشتركِ

ليسوعَ المسيح والقديس بُولس على المسيحية، وعلى المستوى الدينيِّ الخالص، يُمكن أن يكونَ تأثيرُ محمدٍ في تاريخ الإنسانية مِثلَ تأثيرِ عيسى -وأكثر من هذا-. وعلى العكس من عيسى، فإن محمدًا كان زعيمًا دنيويًّا كما كان زعيمًا دينيًّا، وفي حقيقةِ الأمر وبصفته القوةَ المحركةَ للفتوحات العربية، يمكنُه أن يكونَ أكثرَ الزعماءِ السياسيين تأثيرًا عَبْرَ كلِّ العصور، وقد يمكنُ القولُ: إن كثيرًا من الأحداثِ التاريخيةِ الهامةِ كان محتَّمًا وقوعُها حتى دون وجودِ الزعيم السياسي المعين الذي وَجَّهها، ولكنْ مِثلُ هذا القولِ لا يُمكنُ أن يَنطبقَ على الفتوحاتِ العربية، فلم يَحدُثْ مِثلُ ذلك قبلَ محمدٍ، ولا يُوجد سببٌ يدعو للاعتقادِ بأن تلك الفتوحاتِ كان يُمكنُ حدوثُها دونَ محمد. إن الفتوحاتِ الوحيدةَ في تاريخ البشرية -والتي يمكنُ مقارنتُها بالفتوحاتِ العربية-، هي فتوحاتُ "المغول" في القرنِ الثالثَ عَشَر، والتي يَرجعُ الفضلُ فيها إلى تأثيرِ "جنكيزخان"، لكن فتوحاتِ المغول -رغمَ امتدادِها أكثَرَ من الفتوحاتِ العربية- لم يُكتب لها الدوام، ويحتل المغولُ اليومَ نفسَ المساحةِ التي كانوا فيها قَبلَ عصرِ "جنكيزخان". إن هذا يختلفُ تمامًا عمَّا حَدَث للفتوحات العربية، إذ تمتدُّ من العراق إلى المغربِ سلسلةٌ متَصِلةٌ من الأمم العربية، لم تتَّحِدْ فقط في إيمانِها بالإسلام، ولكنْ وَحَّدها أيضًا لُغتُها العربيةُ وتاريخُها وثقافتها، وفوق ذلك، نرى أن الفتوحاتِ العربيةَ التي حَدَثت في القرنِ السابع، لا تزالُ

برنارد لويس

تلعبُ دورًا هامًّا في تاريخ البشرية حتى اليوم (¬1). وبسبب هذا الجَمْع الذي لا نَظيرَ له بين الدين والدنيا، أرى أن محمدًا من حقه أن يُعتبَرَ أعظمَ الشخصياتِ البارزةِ أثرًا في تاريخ الإنسانية" (¬2). * برنارد لويس: وُلد عام 1916، وحَصل على الدكتوراة من جامعة "لندن" عام 1939م، وهو أستاذُ دراساتِ الشرقِ الأدنى بجامعةِ "برنستون"، وأستاذ زائر في كاليفورنيا وكولومبيا وإنديانا، وعُضوُ شرفٍ في الجمعية التاريخية التركية، وعضوُ الجمعيةِ الفلسفيةِ الأمريكية والمعهدِ المَلَكي للشؤون الدولية، وعددٍ آخَرَ من الجمعيات العلمية العالمية. ° كَتَب "برنارد لويس" عن الإسلام يقول: "أرسَلَ اللهُ المَلَكَ جبريلَ ليُمليَ القرآنَ على محمد، وبهذا يُكمِلُ القرآنُ سلسلةَ الوَحْي التي سَبقت إلى أنبياءِ اليهودِ وإلى عيسى، ومِن ثَمَ يكونُ محمد أعظمَ الأنبياءِ وخاتَمَهم، ويكونُ القرآنُ هو "الكتابَ" الأخيرَ والتعبيرَ الكاملَ عن إرادةِ الله فيما يتعلَّقُ بحياة الناس. إنَّ المسيحيةَ في إخلاصِها إلى "إنسان- إله" إنما تُلهِمُ مُثُلاً عُليَا دنيويةً، ¬

_ (¬1) - It is this umparalled combintion of secular and religious influence which I feel entitles Muhammad to be considered the most influential single figure in human history. (¬2) -M.Hart: the 100: A Ranking of the Most influential persons in His- tory, pp.33-40

بينما الإسلامُ في إخلاصِه للقرآن، إنما هو حضارة، إذ لا يُمكنُ فَصلُ محتواه الديني عن تنظيم حياةِ البشر، ذلك التنظيمُ الذي كان يُوضَع مَوْضعَ التنفيذِ فورًا بمجرد التنزيل. لقد كان "قيصر" هو إلهَ روما الإمبراطورية، وبالنسبة للمسيحي، يَعترفُ بأنْ "يُعطَي ما لقيصرَ لقيصر، وما لله لله"، أما بالنسبة للمسلم، فإن اللهَ هو قيصر (¬1)، لن يعترفَ بأي مصدرٍ آخَرَ للسلطةِ سوى الله. ويتفقُ المسلمون وغيرُ المسلمين -بوجهٍ عامٍّ- على إعطاءِ كلمةِ "الإسلام" معنى "التسليم لله"، وبخاصةٍ استسلام المؤمن لمشيئةِ الله، ولقد فُهِم الإسلامُ -في نظر محمدٍ نفسِه، وفي نظرِ المسلمين الأوائل- على إنه ليس دينًا جديدًا، وإنما هو استمرارية تمثلُ المرحلةَ الأخيرةَ في الصراع الطويل بين الشرك والتوحيد، ولقد كان الأنبياءُ الكثيرون الموحدون وتلاميذهم -الذين شاركوا في هذا الصراع قَبْلَ محمدٍ -، كانوا جميعًا مسلمين، وتدلُّ كلمةُ "الإسلام" على الدينِ الحقِّ الذي دعا إليه كل المرسَلين الذين اختارهم الله. واليهوديةُ مَثَلُها مَثَلُ المسيحية، كانت كل منها مرحلةً سابقةً في نفسِ سلسلةِ الوحي الإلهيِّ، وكانتا في أولِ أمرِهما ديانتَينِ صحيحتَينِ، ولكنْ بالنسبة للمسلمين فإن بَعثةَ محمدٍ قد نسختهما، فما كان فيهما من حقٍّ، قد ¬

_ (¬1) يقصد أن المسلم يعتقد أن الله سبحانه هو الحاكم الأوحد .. ولكن المسلمَ لا يُمكنُ أن يُشبه الله جل جلاله بقيصرَ أو بغيره .. تعالى الله عن ذلك .. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

احتَوته رسالة النبي، وما كان فيهما من غيرِ الحق، إنما جاء نتيجةً لِمَا لَحِقَ بهما مِن تحريفٍ. وعلى المستوى الديني، يُعتبر الإسلامُ هو النهاية، ولكنْ من الجهة التاريخية يمكنُ النظر إليه باعتباره بداية، فقد كان تأسيسًا لدين جديد، وإمبراطوريةٍ جديدة، وحضارةٍ جديدة (¬1). وهنا نقطة هامة كان بناءً عليها قَدَرُ محمدٍ مختلفًا جذريًّا عما قُدِّرَ لعيسى والأنبياءِ الآخرين، وهي أن حياتَه قد تميزت بالنجاح الزمَني، ومن المؤكَّدِ أنه لم يكنْ في بَدءِ رسالته إلاَّ داعيةً متواضعًا ومضطَهدًا -مِثلَ بقيةِ رُسل الله-، ولكنه بدلاً من أن يُقاسيَ الاستشهادَ، فإذا به يرتفع إلى السلطة (¬2)، إن الإسلامَ منذ بدايتِه وهو مرتبطٌ بممارسةِ السلطةِ السياسية، والذي حَدَث أن جماعةَ المسلمين بالمدينة كَوَّنت أيضًا دولةَ، ثم كان على الأحداثِ التي تَعقُبُ ذلك أن تَجعلَ منها نَواةَ لإمبراطوريةٍ. لقد كان اللهُ في نظرِ المسلمين هو المصدرَ الأسمى للسلطة، ومنه استمدَّ النبي سُلطتَه وشريعتَه في نفسِ الوقت، ولقد كان النبي هو مُبلِّغَ وَحيِ الله، ورسولَ العنايةِ الإلهية، والرئيس المفوَّضَ من الله لقيادة جماعةِ ¬

_ (¬1) - La fondation d'une nouvelle religiorr, d'un mouvel empire, d'une nouvelle civilisation. (¬2) -L'Islam, des ses debuts, s'engagea dans l'exercice du pouvoir poli- tique. Il se trouvait que la communatue musulmane de Medine constitu- ait aussi un Etat ; les evenements qui allaient suivre devaient en faire le noyau d'un empire.

المؤمنين، لقد عَلَّم يسوغ المسيحيين أن يُعطوا لقيصرَ ما لقيصر، وأن يُعطوا لله ما لله، وخلالَ ثلاثةِ قرونٍ من الصراعات والاضطهادات، تَوطَّد بصلابةٍ هذا الفَصلُ بين السلطتينِ الدينيةِ والزمنيةِ في العقيدة المسيحية وممارستها، ولقد أقامت الديانةُ المسيحيةُ مؤسساتِها المنفصلةَ عن مؤسساتِ الدولة، إذ أقامت الكنيسةَ وطبقةَ الكهنوت المسيحي. ولقد حَدَث التغييرُ الكبيرُ مع تحوُّلِ الإمبراطور الروماني "قسطنطين" إلى المسيحية، وابتداءِ علاقاتٍ سيئةٍ في صَدرِ المسيحيةِ بين الكنيسة والدولة (¬1). إن هذا الفَصلَ بين السُّلطتَين (الدينية والزمنية) غيرُ موجودٍ على الإطلاق في الإسلام، كما أن هناك زَوجَينِ من الكلماتِ مثل: "دنيويٌّ نجِسٌ، وديني"، "رُوحيٌّ، وزمني"، لا يوجَد لهما مكافيءٌ في العربية الفصحى، وفي "روما" كان "قيصر" هو الله، وفي المسيحية تقاسَمَ قيصرُ واللهُ المسيحيةَ، أما في الإسلام، فاللهُ هو قيصر. وعندما مات محمد، كانت بَعثتُه الروحيةُ والنبويةُ قد اكتملت، وكانت مُهمتُه -التي حَددها الله- هي: استعادةُ التوحيدِ الحقيقيِّ الذي علَّمه الأنبياءُ السابقون -لكنه ما لَبِث أن تَعرَّض للتحريفِ والفساد-، ثم القضاءُ ¬

_ (¬1) cette separation de deux pouvoirs n'existe nullement dans L'Islam; d'ailleurs, des couples de mots tels que "profance et religieux","spirituel et temporel" n'ont pas d'equivalents en arabe classique. A Rome, Cesar Etait Dieu; dans la chretiente, Diue et Cesar se partageaient le pouvoir. Dans L'Islam, diue est Cesar.

على الوثنية، وتبليغُ الوحي الذي جَدَّد الدينَ الحقيقي والشريعةَ الإلهية، وكان هذا ما فَعله محمدٌ أثناءَ حياته، وعند موته عام 11هـ - 632 م كانت إرادةُ الله قد أَوحى بها كاملةً إلى البشرية، ولن يكون بعد ذلك نبيٌّ أو وحيٌ آخَر. وإذا كانت المهمةُ الروحيةُ قد انتَهت، فلا تزالُ هناك مهمةٌ دينيةٌ أخرى يجبُ تحقيقُها، ألاَ وهي الحِفاط على الشريعةِ الإلهيةِ، والدفاعُ عنها، وإخضاعُ بقيةِ البشريةِ إلى الدين (¬1)، ولقد تَطلَّب إنجاز مِثل هذا العمل ممارسةَ قوةٍ سياسيةٍ وعسكرية، أو باختصارٍ ممارسةَ سيادةٍ داخلَ دولة (¬2). ويزعَمُ أحيانًا أن الدينَ الإسلامي قد فرض بالقوة؛ لكنَّ هذا القولَ غيرُ صحيح -ولو أن عملياتِ الفتح قد ساهمت إلى حدٍّ كبير في امتداد الإسلام والعروبة-، فبعد وفاةِ النبي بقرن، وفي إمبراطوريةٍ واسعةٍ يحكمُها وَرَثةُ محمدٍ، وتَضمُّ العديدَ من الأقطارِ والشعوب، كان الإسلامُ هو الدينَ السائدَ، وكانت اللغة العربيةُ تَحل سريعًا مَحل اللغاتِ الأخرى، وَتفرِضُ نفسَها، وخاصةً في الإدارة والتجارة والتعليم. لقد قامت حضارةٌ أصيلةٌ مستوحاةٌ من العقيدة الإسلامية، ومتمتعة بحمايةِ الدولةِ الإسلامية، ومدعمة بثَراءِ اللغة العربية، حضارة تنمو وتتَسعُ ¬

_ (¬1) - L' accomplissement d'une telle tache exigeait l'exercice d'une pou- voir politique et militaire - en un mot, d'un mot, d'une souverainete- au sein d'un Etat. (¬2) - On Pretend parfois que la religion islamaique s'est imposee par la force. Cela est inexact.

الفيلسوف الشهير لاون تولستوي الروسي

وتَعيشُ طويلاً وقد صَنَعها الرجالُ والنساء من مختلفِ الأعراق والديانات، وقد اصطبغ كل شيءٍ فيها بالعروبةِ والمبادئِ والقِيَم الإسلامية" (¬1). * الفيلسوف الشهير لاون تولستوي الروسي: تولستوي (1828 - 1910) مؤلِّفٌ قَصَصيٌّ، اشتَغل بالإصلاح، وهو كاتبُ روسيا الأعظم، ثار على الزعماءِ من حُكَام "وا كليروس"، فمَهَّد السبيلَ للثورةِ ولانتشار الشيوعية. ° قال في كتابه "الإنسان والحياة": "وقد صَدَّقَتْ عائلة النبي محمدٍ برسالته، وكذلك عليُّ بنُ أبي طالب وزَيدٌ، وانضم إليه أبو بكر وخديجةُ بنتُ خويلد -وهي أولُ مَن أسلم من النساء-". ° إلى أن قال: "إن محمدًا نبيَّ الإسلام -الذي آمن به الآن أكثر مِن مِئَتَيْ مليون نَفْس-، قد قام بعمل عظيم جدًّا، فإنه هَدى الوثنيين -الذين قَضَوا حياتَهم بالحروب الأهلية وسَفكِ الدماء وتقديم الضحايا البشرية- إلى معرفةِ الإلهِ الواحد، وأنار أبصارَهم بنورِ الإيمان، وأعلن أن جميعَ الناس متساوون أمامَ الله سبحانه. والحق الذي لا مِراءَ فيه، أن محمدًا قام بعمل عظيم وانقلابٍ كبير في العالم". ° وقال في كتابه "حكم محمد": "ومَن أراد أن يَتحققَ ما عليه الدينُ الإسلاميُّ من التسامُح، عليه أن يُطالع القرآنَ الكريم بإمعان، ذلك الكتابُ ¬

_ (¬1) - Bernard Lewis: L'Islam d'hier a Aujourd'hui,pp.9-11,16,20

الذي جاء به محمدٌ، وقد جاءت فيه آياتٌ كريمة تدلُّ على رُوح الإسلام السامية، فمنها الآية الكريمة: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103] ". ° يقول الدكتور عبد الحليم محمود: "ومن مآثِرِه الكريمة أنه حينما رأى الحَمْلَةَ الظالمةَ على الإسلام، وعلى رسولِ الإسلام - صلى الله عليه وسلم -، كَتَب رأيَه في هذا الدين الذي أُعجب به، وتحدَّث عن رسوله الذي نال إكبارَه، وكان جزاؤه على ذلك -أي على كلمةِ الحق التي يَدينُ بها- أنْ حَرَمه البابا من رحمة الله، فكان ذلك -كما يقول الشيخ محمد عبده مخاطبًا الأديب الكبير-: فليس ما حَصَل لك من رؤساءِ الدين سوى اعترافٍ منهم -أعلنوه للناس- أنك لستَ من القوم الضالِّين". ° يقول "تولستوي": "لا ريبَ أن النبيَّ محمدًّا - صلى الله عليه وسلم - من كبار (عظماءِ) الرجال المُصلِحين الذين خَدَموا الهيئةَ الاجتماعيةَ خِدمةً جليلة. ويكفيه فخرًا أنه هَدَى أُمةً برُمَّتها إلى نورِ الحق تجنَحُ (تخضع) للسكينةِ والسلام، وتُفضِّل عِيشةَ الزهد، وتكفُّ عن سَفكِ الدماء وتقديم الضحايا البشرية. ويكفيه فخرًا أنه فَتَح لها طريقَ الرُّقِيِّ والتقدُّم والمدنيَّة، وهذا عملٌ عظيمٌ لا يفوزُ به إلاَّ شخصٌ أُوتِي قوَّةً وحكمةً وعِلمًا، ورجل مِثلُه جديرٌ

بالاحترام والإجلال" (¬1). * توماس كارليل الإِنجليزي: توماس كارليل (1762 - 1805م) مستشرقٌ إنجليزي، أحدُ كبارِ كُتَّاب الإنجليز، أخذ العربيةَ في بغداد، وكان أستاذًا للعربية في "كمبردج" ببريطانيا. و"كارلايل" أحدُ كِبارِ كُتَّابِ الإنجليز، شاعريُّ النَّزْعةِ والفِطرة، متحرِّرٌ من الرياء والخَبَث، يتتبعُ البطولة، فيكتبُ عنها ويَمتدحُها، ويُحبِّبُ الناسَ في السموِّ بأنفُسهم إلى منازلِ الأبطال -أو على الأقل إلى التشبُّه بهم-، وقد أثار كتابه: "الأبطال" إعجابًا في ميدانِ الفكر العالمي، وتُرجم إلى كل اللغات الحية، وحينما ترجَمه محمدُ السباعي -رحمه الله- إلى اللغةِ العربية، أثار الكثيرَ من الإعجاب، وقد كان الأسلوب الأستاذِ "السباعي" البارع أثر في انتشارِ الكتاب، ومَن لم يقرأْه لمعانيه قرأه لأسلوبه، وفي هذا الكتاب فَصلٌ مستفيضٌ عن حياة الرسول -صلوات الله وسلامه عليه-، نقتطفُ منه ما يلي: ° "مِن العار أن يَصغَي أيُّ إنسانٍ متمدِّنٍ من أبناءِ هذا الجيل إلى وَهم القائلين: "إن دينَ الإسلام كَذِب، وإن محمدًا لم يكن على حق". لقد آن لنا أن نحاربَ هذه الادعاءاتِ السخيفةَ المُخجِلة، فالرسالةُ التي ¬

_ (¬1) "أوربا والإسلام" للدكتور عبد الحليم محمود (ص 64 - 65) - دار المعارف، و"آفاق جديدة للدعوة الإسلامية في عالم الغرب" (ص 120) للأستاذ أنور الجندي- مؤسسة الرسالة.

دعا إليها هذا النبي، ظَلَّت سراجًا منيرًا أربعةَ عَشَرَ قرنًا من الزمان، لملايينَ كثيرةٍ من الناس، فهل من المعقول أن تكونَ هذه الرسالةُ التي عاشت عليها هذه الملايينُ وماتت، أكذوبةَ كاذبةً، أو خديعةَ مُخادع؟ ولو أن الكَذِبَ والتضليلَ يَرُوجانِ عند الخَلقِ هذا الرَّواجَ الكبيرَ، لأصبحت الحياةُ سُخفًا وعبثًا، وكان الأجدرُ بها ألاَّ توجد. هل رأيتم رجلاً كاذبًا يستطيعُ أن يَخلُقَ دينًا، ويتعهَّدَه بالنشرِ بهذه الصورة؟!. إن الرجلَ الكاذبَ لا يستطيعُ أن يَبنيَ بيتًا من الطوب، لجهلِه بخصائصِ موادِّ البناء، وإذا بناه فما ذلك الذي يَبنيه إلا كَومةً من أخلاطِ هذه المواد، فما بالُك بالذي يَبني بيتاً دعائمُه هذه القرونُ العديدة، وتَسكنُه هذه الملايينُ الكثيرةُ من الناس؟!. وعلى ذلك، فمن الخطإ أن نَعُدَّ محمدًا رجلاً كاذبًا متصنِّعًا متذرِّعًا بالحِيَلِ والوسائل لغايةٍ أو مَطْمَع، أو يَطمحُ إلى درجةِ مَلِكٍ أو سلطانٍ أو غيرِ ذلك من الحقائرِ والصغائر .. وما الرسالةُ التي أداها إلاَّ الصدقُ والحقُّ الصُّراحُ، وما كَلِمته إلاَّ صوتُ حق صادقٍ صادرٍ من العالَم المجهول .. كلاَّ، ما محمدٌ بالكاذب، ولا الملفِّق، وإنما هو قطعةٌ من الحياة قد تفطَر عنها قلبُ الطبيعة، فإذا هو شهابٌ قد أضاء العالَمَ أجمعَ، ذلك أمر الله .. وذلك فَضلُ اللهِ يؤتيه من يشاء. أُحبُّ محمدًا لبراءةِ طبعِه من الرياء والتصنُّع، ولقد كان ابنَ الصحراء، مستقلَّ الرأي، لا يَعتمدُ إلاَّ على نفسه، ولا يَدَّعي ما ليس فيه،

ولم يكن متكبِّرًا ولا ذليلاً، فهو قائمٌ في ثوبِه المرقَّع، كما أوجَده اللهُ يُخاطِبُ بقوله الحُرِّ المبينِ أكاسرةَ العَجَم وقياصرةَ الروم، يُرشِدُهم إلى ما يجبُ عليهم لهذه الحياةِ والحياةِ الآخرة. وما كان محمدٌ بعاشق قط، ولا شابَ قولَه شائبةُ لَعِبٍ ولهو، فكانت المسائلُ عنده مسألةَ فَناءٍ وبقاء .. أما التلاعبُ بالأقوال، والعبثُ بالحقائق، فما كان من عادتِه قط. وَيزعُمُ المتعصّبون أن محمدًا لم يكن يريدُ بدعوته غيرَ الشهرةِ الشخصيةِ ومفاخِرَ الجاهِ والحياةِ والسلطان .. كَلا واسم الله، وأيم الله، لقد كان في فؤادِ ذلك الرجل الكبير، ابنِ القفارِ والفَلَواتِ، المتوقِّدِ المُقلَتَيْنِ، العظيم النفس، المملوءِ رحمةً وخيرًا وحَنانًا وبِرًا وحِكْمةً وحِجًى: أفكارٌ غيرُ الطمع الدنيويِّ، وأهدافٌ ساميةٌ، (ونواياه) غيرُ طلبِ الجاهِ والسلطانِ، وكيف وتلك نَفسٌ صافيةٌ كبيرةٌ، ورجل من الذين لا يُمكنُهم إلاَّ أن يكونوا مخلِصِين جادِّين، فبينما ترى آخَرِين يَرضَوْن بالاصطلاحاتِ الكاذبة، إذْ ترى محمدًا لم يَرْض أن يلتفَّعَ بمألوفِ الأكاذيب، ويتوشَّح بمتَّبَع الأباطيل، لقد كان منفردًا بنفسِه العظيمةِ وبحقائق الأمور. ويزعمُ الكاذبون أن الطمعَ وحبَّ الدنيا هو الذي أقام محمدًا وآثارَه"!! حُمقٌ وسخافهٌّ وهَوَس إنْ رَأَيْنا رأيَهم، أيةُ فائدةٍ لرجل على هذه الصورةِ في جميع بلاد العرب، وفي تاج قيصرَ وصَوْلَجانِ كسرى جميعُ ما بالأرض من تِيجان؟!. لم يكن كغيره يَرضى بالأوضاع الكاذبة، ويَسيرُ تَبَعًا للاعتبارات

الباطلة، ولَم يَقبَلْ أن يتَّشحَ بالأكاذيب والأباطيل. لقد كان منفردًا بنفسه العظيمة، وبخالِقِ الكونِ والكائنات، لقد كان سِرُّ الوجودِ يَسطَعُ أمامَ عينهِ بأهوالهِ ومحاسنِه ومخاوفه. لهذا جاء صوتُ هذا الرجل منبعِثًا من قلبِ الطبيعةِ ذاتها .. ولهذا وَجَدْنا الآذانَ إليه مُصغِيةً، والقلوب لِمَا يقولُ واعيةً. لقد كان زاهدًا متقشِّفًا في مَسكنِه ومأكلِه ومَشْرَبِه ومَلْبَسِه وسائرِ أموره وأحواله، فكان طعامُه عادةً الخبزَ والماء، وكثيرًا ما تتابعت الشهورُ ولم تُوقَدْ بداره نار. فهل بعد ذلك مَكرُمة ومَفْخَرةٌ؟ فحبَّذا محمدٌ من رجل متقشفٍ، خَشِنِ الملبسِ والمأكل، مجتهدٍ في طاعةِ الله، دائبٍ في نشرِ دينِ الله، غيرِ طامع إلى ما يَطمعُ إليه غيرُه من رتبةٍ أو دولةٍ أو سلطان. ولو كان غيرَ ذلك، لَمَا استطاع أن يَلْقَي من العربِ الغِلاظِ احترامًا وإجلالاً وإكبارًا، ولَمَا استطاع أن يقودَهم وُيعاشرَهم مُعظَمَ وقتِه، ثلاثًا وعشرين حِجّةً وهم ملتفُّون حولَه، يقاتِلون بين يديه ويجاهدون معه .. لقد كان في قلوبِ العرب جَفَاءٌ وغِلظة، وكان من الصعبِ قيادتُهم وتوجيُههم، لهذا كان مَن يَقدِرُ على ترويضِهم وتذليلِهم بطلاً -وأيم الله-. ولولا ما وَجدوا فيه من آياتِ النُّبل والفضل لَمَا خَضَعوا لإرادته، ولَمَا انقادوا لمشيئته. وفي ظنِّي أنه لو وُضع قيصرُ بتاجِه وصَولجانِه وَسَطَ هؤلاءِ القوم بَدَل هذا النبي، لمَا استطاع قيصرُ أن يُجبِرَهم على طاعتِه، كما استطاع هذا النبي

في ثوبه المرقَّع". ° وقال (ص 7) منه: "لقد أصبح من العار على أيِّ متمدِّنٍ أن يُصغيَ إلى ما يُظن من أن دينَ الإسلام كذب، أو أنَّ محمدًا كذاب، وقد آن لنا أن نحاربَ ما يُشاعُ مِن مِثل هذه الأقوالِ السخيفة، فهل رأيتم رجلاً كاذبَاً يستطيعُ أن يُوجِدَ دينًا؟! والله إن الرجلَ الكاذبَ لا يستطيعُ أن يبنيَ بيتًا من الطوب". ° وقال (ص 53) منه -تحت عنوان: تأثيرُ الإسلام على العرب، وفضلُه عليهم-: "لقد أخرج اللهُ العربَ بالإسلام مِن الظلمات إلى النور، وأحيا به من العربِ أُمةً هامدةً، وهل كانت إلا فئةً من جوَّالةِ الأعراب، خاملةً فقيرةً تَجوبُ الفَلاة، منذُ بَدءِ وجودها لا يُسمع لها صوت، ولا تُحَسُّ منها حركة، فأرسل اللهُ لهم نبيًّا بكلمةِ من لدُنْه، ورسالةٍ مِن قِبَلِه، فإذا الخمولُ قد استحال شُهرةً، والغموضُ نباهةً، والضَّعَةُ رفعةً، والضَّعفُ قوةً، وَسع نورُه الأنحاءَ، وعَمَّ ضَوؤُه الأرجاء، وعَقَد شعاعُه الشمالَ بالجنوب، والمَشرِقَ بالمغرب، وما هو إلاَّ قرنٌ بعد هذا الحادث، حتى أصبح لدولةِ العرب رِجل في الهند ورِجلٌ في الأندلس، كلُّ ذلك بنورِ الفضل والنُّبل والمروءةِ والبأسِ والنجدة ورَونَقِ الحقِّ والهدى، وما زال للأمةِ العربية رقيٌّ في دَرَج الفضل، وتَعريجٌ إلى ذُرى المَجد، ما دام مذهبُها اليقين، ومنهاجها الإيمان". وقد وَصف المستشرقُ المذكور (محمدًا) أكمل وصف، وأثنى عليه أعظمَ الثناء في كتابه "الأبطال"، فقد أسَهب في وصفِ عبقريتهِ وبطولتِه في نبوته.

فولتير

* فولتير: بعد أنْ كتب "فولتير" مسرحيتَه الشهيرةَ "التعصب أو محمد النبي"، ووَصَفه بأنه كان "دجَّالاً، ومستبدًّا، تحرِّكه الشهوات الحسيةُ، ومتعطشًا للدماء" .. تراجع "فولتير رويدًا رويدًا عن أباطيله في الإسلام ونبيِّه. لقد جَمع "القاموس الفلسفيُّ" لـ "فولتير" مقالاتِه في مختلفِ الموضوعات، مرتبةً ترتيبًا أبجدياً، ونجدُ في "المجلد السابع" من هذا القاموس حديثًا عن القرآن، يقول فيه "فولتير" (¬1): "لا يزال القرآن في واقع الأمر يَشتهر إلى اليوم بأنه الكتاب الأكثر تميُّزًا وسموًّا، الذي كتب بهذه اللغة "العربية"، لقد أَلْصَقْنا بالقرآنِ ما لا نهايةَ له من السفاهاتِ التي لم تكن به على الإطلاق، لقد كان هذا موجَّهًا بالدرجةِ الأولى ضدَّ التُّركِ الذين أصبحوا من أتباع محمدٍ، فكَتب رهبانُنا الكثيرَ من كتبِ المطاعِن هذه، إذ لم تكن هناك وسيلةٌ تمكنهم من مواجهةِ فاتِحِي القسطنطينية خلافَ ذلك، كما أن مؤلِّفينا والذين هم في كثرتهم الهائلةِ أكبرُ عددًا من جنودِ الإنكشارية، لم يَجدوا صعوبةً تذكرُ في جعل نسائنا تقف في صَفِّهم (¬2). ¬

_ (¬1) - En effet,l' Alcoran passe encore aujourd'hui pour le livre le plus el- (1) egant et le plus sublime qui ait encore ete ecrit dans cette langue. Nous avons impute a l'Alcoran une infinite de sottises qui n'y furent jamais. (¬2) -ils leur persuaderent que Mahonet ne les regardait pas comme des animaux intelligeents; qu' elles etaient toutes es- chavaes par les lois de l'Alcoran; qu'elles ne possedaient aucun bien dans ce monde, et que dans l' auter elles n' avaient aucun part au pardis. Tout cela est une faus- sete, evidente; et tout cela a ete cru fermement.

لقد أقنعوهنَّ بأن محمدًا لم يَعْتَبِرْهُن ضِمْنَ الحيواناتِ الذكية، وأنهن جميعاً إماءٌ وِفقَ شريعةِ القرآن، ولن يَنَلْنَ أيَّ خَير في هذه الحياة، وفي الحياةِ الأخرى لا نصيبَ لهن في الفِردوس على الإطلاق!. مِن الواضح أن كل هذا كَذِبٌ وبطلان اعتقدوا فيه بكل قوة. كان يَكفي مع ذلك قراءة السورتين -الثانية والرابعة- من القرآن، حتى يَهتديَ الناسُ إلى الحق، ففيهما التشريعاتُ التالية (¬1) التي تَرَجَمَها كل مِن: ¬

_ (¬1) ذكر "فولتير" ثماني مجموعات من الآيات نوردها كما هي، مع بيان اسم السورة ورقم الآية في الهامش: [1] {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِن وَلأَمَةٌ مؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مَن مشرِكَةٍ} [البقرة: 221]. [2] {لِلذِينَ يُؤلونَ مِن نسَائِهِمْ تَرَبصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226]. [3] {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا .. (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 229 - 230]. [4] {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا .. وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 34 - 35]. [5] {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإنْ خِفْتُمْ أَلأ تَعْدِلُوا فَوَاحِدة .. =

"دي رير" الذي عاش مدةً طويلةً في القسطنطينية، و"ماراكي" الذي لم يَزُرْها أبدًا، ثم "سأل" المستشرقُ (الإنجليزي) الذي عاش خمسةً وعشرين سنةً بين العرب. إن في هذا ما يكفي لعمل مصالحةٍ بين النساء ومحمدِ الذي لم يعامِلْهُنَّ أبدًا بمثِل تلك الشِّدةِ المزعومة، كما أننا لا نستطيعُ أن ندينَه على عقيدتِه في الإله الواحد، فهذه هي كلماتُ السورة رقم (112) تقول: {اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} (¬1). ¬

_ = وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً .. وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قوْلاً معْرُوفًا} [النساء: 3 - 5]. [6] {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ .. وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 19 - 20]. [7] {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ .. وأن تصبروا خيرٌ لكم} [النساء: 25]. [8] {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ .. فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233]. (¬1) - ces paroles dis- je, lui ont soumis l' Orient encore plus que son epee.

إنني أقولُ: إن هذه الكلماتِ أَخضعت له الشرقَ أكثَرَ مما فَعَل سَيفُه. وفي كلمة موجزة، فإن شريعتَه صالحة، وعقيدتَه تدعو إلى الإعجاب" (¬1). ° كذلك كَتب "فولتير" مقالاً جاء في "المجلد الثامن" من قاموسه الفلسفي، بعنوان: "المحمديين"، قال فيه مخاطبًا مواطِنيه -وخاصةً طبقةَ الكهنوت الذين يَتزعَّمون حَمْلَةَ التشهيرِ بمحمدٍ ودينه وأتباعه (¬2): "أُكرِّر لكم القولَ -أيها الجَهَلةُ الأغبياءُ الذين خَدَعهم جَهَلةٌ آخَرون، إذ أقنعوكم بأن الديانةَ المحمديةَ ديانةٌ شهوانيةٌ ولذاتٌ جَسَدية، بينما هي ليست شيئًا من ذلك، ولقد خُدعتم في هذا الموضوع، كما خُدعتم في موضوعاتٍ أخرى كثيرة-: أيها الأساقفةُ والرهبانُ والقُسُس، إذا فَرض عليكم الإيمانُ أن تَمتنِعوا عن الطعام والشرابِ من الساعةِ الرابعةِ صباحًا حتى العاشرة مساءً في شهر يوليو، عندما يَحِلُّ الصومُ في هذا الوقت القائِظ، وإذا حُرم عليكم لَعِبُ الميسر وإلاَّ حَلت بكم اللعنةُ، وإذا حُرمت عليكم الخمرُ تحت التهديدِ بالجزاءِ نفسه، وإذا فُرض عليكم الحجُّ مرةً في الصحارِي المُحرقة، وإذا فُرض ¬

_ (¬1) - DICTIONNARIRE PHIL OSOPHIQUE de VOLTAIRE, TOME VII,PP. 46-8 (¬2) - Je vous le dis encore, ignorants, imbecilels, a qui d' autres ignorants ont fait accroire que la religion mahometane est vo- lupteuse et sen- suelle, il n' en est rien; on vous a trompes sur ce point comme sur tant d'autres.

عليكم إعطاءُ 2.5% على الأقلّ من دَخْلِكمُ السُّنويّ إلى الفقراء، وإذا كنتم معتادِين على التمتع بثمانيةَ عَشَرَ امرأةً، فإذا بمن جاء في ضربةٍ واحدةٍ ليَقتطعَ منهن أربع عَشْرَةَ امرأةً (ليبقى منهن أربعة فقط)، فهل تجرؤُوُن بعد ذلك على القولِ -مخلِصِين-: إن هذه الديانةَ ديانة شهوانية؟!. إنني أَمقتُ الافتراءَ على الناس، لدرجةِ أني لا أَقبلُ إلصاقَ التهَم حتى بالأتراكِ -مهما كانت كراهيتي لهم لسوء معاملتهم للنساء، ولعداوتهم للفنون-، لكن هناك مَن يؤمنون بضرورةِ القتالِ دون توقف! وإذا ما تم هَدمُ ضلالة، فإنه يُوجَد دائمًا مَن يَعمل على بَعثِها من رَقْدَتِها واستبقائها! " (¬1). ° لقد دافع "فولتير" عن الإسلام ونبيه والمسلمين قَدْرَ استطاعته، وحَسْبَ ما توافَرَ لديه من معلوماتٍ ودراسات، وذلك في عصرِ الاستعمار العاتي وسَطْوَةِ الكنيسةِ وشيوع التعصبِ الأعمي، وإذا كان "فولتير" قد أبطل الفِرْيَةَ التي تَزعُمُ أنه لا مكانَ للمرأة في الجَنَّة، وأنها في الإسلام حِكْر علي الرجال، فمِن عَجَبٍ أن هذا الزعمَ الباطلَ لا يزال يتردَّدُ إلى الآن في الغرب!!. ° ففي يناير 1993 يسأل شاب مسلم في ألمانيا كاتبَ هذه السطور عن لردٍّ العلمي على ذلك الزعم الباطل!!. لقد أجاب "فولتير" عن ذلك قبلَ أكثَرَ من مِئَتَيْ عام، وأجاب غيرُه إجاباتٍ أخرى أكثَرَ استفاضةً وتنوعًا. ° ويقول "فولتير" عن الإسلام والقرآنِ ومحمدٍ: "إن معتقداتٍ بمِثل ¬

_ (¬1) - ibid,TOME VIII, p.43

هذه البساطة قد جَذَبت بسرعةٍ الاحترامَ والثقةَ في دينه، وإن عقيدةَ الإيمانِ بوحدانية الله دونَ غموض -والتي هي متوافِقة مع الفهم البشري- قد جَلبت تحتَ شريعتِه جماهيرَ كبيرةً من الأمم ما بين الشعوبِ السوداء في إفريقيا إلى شعوبِ الجُزر المتناثرةِ في المحيط الهندي. هذا الدينُ يُسمَّى "الإسلام" -أي: الخضوعُ لإرادة الله-، وهذه الكلمة الفريدة -"الإسلام"-، لا بد لها أن تَجلِبَ مُهتدين كثيرًا إلى هذا الدين (¬1). إن الإسلامَ الذي يَعتنقُه أكثرُ مِن نصفِ مَن يَعيشون في نصفِ الكرةِ الأرضيةِ، ما كان أبدًا باستخدام السلاح، وإنما انتشر بالحماس، وبالقدرةِ على الإقناع، ثم على وجهِ الخصوص بالمثال الذي ضَرَبه المنتصِرون. فبمجرد أنِ اجتازَ العرب (المسلمون) حدودَ بلادهم التي لم يكونوا قد بارحوها مِن قبلُ حتى ذلك الوقت، فإنهم لم يُجبروا أحدًا من الأجانب على الدخول في الإسلام، لقد أعطَوُا الشعوبَ التي خَضعت لهم حُريَّةَ الاختيار ما بين أن يكونوا مسلمينَ، أو أن يَدفعوا لهم الجزية .. وعندما فقدوا حيازتَهم بعد ذلك لأقاليمَ في آسيا استولى عليها الأتراكُ والتتار، فإنهم جَعلوا من قاهِرِيهم مهتدِين جُدُدًا إلى الإسلام، وصار الفوضويون التتارُ شَعبًا مُسلِمًا كبيرًا، ومِن هنا يَظهرُ الواقعُ أنهم حوَّلوا إلى الإسلام شعوبًا أكثَرَ في البلادِ التي لم تَخضعْ لهم. ¬

_ (¬1) - ce ne fut point par les armes que l' Islamisme s'etait dans plus de la moitie de motre hemisphere, ce fut par l'entheousiasme, par la persua- tion, et surtout par l'exemple des vainqueurs.

والقليلُ الذي أريدُ أن أقولَه إنما يُكذٍّبُ تمامًا كل ما يقولُه لنا مؤرخونا وخُطباؤنا وأحكامُنا المسبقة، ولكنَّ الحقيقةَ لابد أن تُقالَ وأن تصفعهم". ° وفي استعراضٍ مقارِنِ لِمَا يُوجَدُ في بعضِ الدياناتِ، يقول "فولتير: "لا توجدُ أبدَاً ديانةٌ لم تأمر بإعطاءِ الصدقات، لكن الإسلامَ هو الدينُ الوحيد الذي جَعل منها أمرًا شرعيًّا إِيجابيًّا لا غنى عنه. وبينَ القواعدِ السلبية -وأعني بذلك التي تحض على الامتناع عن فِعل شيءِ ما-، سوف لا نجدُ سوى التحريم العام على كل الأمةِ المسلمةِ أن تشربَ الخمر، وهذا شيءٌ ما جديد بين الديانات، وتشريع خاصٌّ بالإسلام والمسلمين فقط. ولربما كان تحريمُ جميع أنواع المَيسرِ والقمارِ هو التشريعُ الإسلاميُّ الذي لا نجدُ له نظيرًا في أي دين آخَرَ سوى الإسلام (¬1). ° وقال في كتابه "محمد": "إنّ في نفس محمدِ لشيئَاً عجيبًا طريفًا رائعَاً، يَحملُ الإنسانَ على الإعجابِ والتقدير، ولعَمْري إن الرجلَ وَقف وحدَه يدعو إلى الله، ويتحملُ الأذى في سبيل هذه الدعوة سنواتٍ عديدةَ، وأمامَه الجُموعُ المُشركة، تَعملُ جَهدها لمعاكستِه وقَتل فِكرتهِ، إنه إذًا يستحق كل تقدير وتمجيد، ثم إنك لتراه في أدوارِ حياته هو نفسُه لا يَسحبُ يَدَه مِن صديق، محبَّبٌ للأطفال الذين كان لا يمر بهم إلا تلطَّف معهم ووقف بينهم باسمًا متواضعًا، والواقعُ أن المزايا التي كان يَنعتُهم بها محمد تَمحَقُ الانتقادَ مَحْقًا، ولا تتركُ مكانَه إلاَّ الإعجابَ به والتقديرَ لشخصيته"اهـ. ¬

_ (¬1) - OEUVRES de VOLTAIRE, TOME 3, PAIRS, 1835,PP.99'100

إدوارد جيبون

* إِدوارد جيبون: وُلد "إدوارد جيبون" في إنجلترا عام 1737، كان عضوًا في البرلمان، وقد بدأ حياتَه الأدبيةَ عام 1761، وظَهر الجزءُ الأولُ من مُصنَّفه الضخم "انحدار الإمبراطورية الرومانية وسقوطها عام 1776، ثم استَكمل بقيةَ الأجزاء حتى ظَهر آخِرُها عام 1788، وقد تُوفي في لندن عام 1794. أفرَدَ "إدوارد جيبون" البابَ الخمسينَ من كتابه "انحدار الإمبراطورية الرومانية وسقوطها"، للحديث عن الإسلام، وقد كَتب مُصنَفه هذا في عصرِ حروبِ وتوسع استعماري، ووَسَطَ مخارفَ تجتاحُ أوربا من قوةِ الإسلام المتمثلةِ آنذَاك في الإمبراطورية العُثمانية التي كانت قد تَوسعت في بلادٍ أوربيةٍ كثيرة، فاحتَفَت شِبْهَ جزيرةِ "البلقان"، وهَددت إيطاليا والفاتيكان، وأخضعت المَجَرَ، وحاصرت فِيينَا عام 1663. ° فكان الخوفُ من الإسلام هو الشغلَ الشاغلَ لصانِعي القرارِ في الغرب، وكانت محاولاتُ التشويهِ ونَشرِ الأكاذيبِ حولَ الإسلام ونبيه هي السلاح الرخيصَ في أيديهم، ولم يستطع "جيبون" التخلُصَ من أَسرِ الأفكارِ الشائعةِ حولَ الإسلام ونبيه- مِثلَ كثيرٍ غيرِه-، ومع ذلك، فهذا بعضُ ما كتبه: "إن عبقريةَ النبي العربي، وسلوكياتِ أُمتِه، ورُوحَ ديانتِه، كل ذلك يتضمَّنُ أسبابَ انحدارِ الإمبراطوريةِ الرومانيةِ الشرقيةِ وسقوطِها، وإن أنظارَنا لَتتجِهُ في دهشةِ نحوَ واحدةٍ من أكبرِ الثوْراتِ الجديرةِ بالذكرِ في العالَم، والتي طَبعت بعمقٍ أثرًا جديدًا وخالدًا في أُمم الأرض. ° إنَّ مسيحيي القرنِ السابع (عند ظهور الإسلام) قد ارتدُّوا -دون أن

يَدْروا- إلى ما يشبِهُ الوثنيةَ، وكانوا يَحلِفون -في أمورِهم الخاصةِ والعامة- بالصورِ والآثارِ الدينيةِ التي كانت تَملأُ بالخِزي كنائسَ الشرق، وبَدَتْ أسرارُ التثليثِ والتجسُّدِ في تناقض مع توحيد الله، فالمعنى الواضح لذلك هو القولُ بثلاثةِ آلهةٍ متساوية، وتحويلُ الإنسانِ "يسوع" إلى جَوهرِ ابنِ الله، وكانت كل طائفةٍ من الطوائفِ الشرقيةِ في هَوَس بالغ مِن أجل الإقرار بأن جَميعَ مَن عداها من المسيحيين يستحقون اللَّومَ والخِزْيَ بسببِ وثنيتهم وشِركِهم (¬1). ° إن عقيدةَ محمدٍ خاليةٌ من الشكِّ أو الغموض، والقرآن شهادةٌ مجيدةٌ على وحدانيةِ الله، ومِن الهند حتى مراكشَ يَشتهر المهتدون إلى دِينه باسم "الموحدين"، وقد انزاح خطر الوثنيةِ بتحريم الإسلام للصور. إن مواهبَ محمدٍ تجعلنا نَكيل له المديحَ، إلاَّ أن نَجاحَه ربما كان هو الذي جَذَب بقوةٍ انتباهَنا إليه، وإن ما يَستحق إعجابَنا ليس انتشارَ ديانته، وإنما استمراريتُها (¬2)، إنَّ نَفْسَ الانطباع النَّقِيِّ الكامل الذي حَفَره في الأذهانِ في مكةَ والمدينةِ لا يزالُ مَصونًا إلى اليوم -بعد انقضاءِ اثنَيْ عَشَرَ قَرْنًا- عند الذين اهتَدَوا بالقرآن من هنودٍ وأفارقةٍ وتُرْكٍ، ولو عاد الرسولانِ المسيحيانِ -القدِّيس بطرس، والقديس بولس- إلى الفاتيكان اليومَ، فلربَّما تساءلاَ عمَّ يكون ذلك الإلهُ الذي يَعبدونه بمِثل تلك الطقوسِ التي تكتنفها ¬

_ (¬1) - bigui- The creed of Mahomet is free form suspicion or am ty; the koran is a glorious testimony to the unity of god (¬2) The same pure and perfect impression which he en - graved at mec - ca and Mediana is preserved after the revolutions of twelve centries.

الأسرارُ في هذه الكنائسِ الفخمة! ولعلَّه من الواجب عليهما أن يَدرُسَا بتمعن كتابَ "تعاليم أساسيات العقيدة" الذي تُصدِرُه الكنيسةُ، وأن يَدرُسَا كذلك شروحَ المفسرين وتعليقاتِهم على ما كتباه، وعلى كلماتِ مُعلِّمِهما!. لقد قاوم المسلمون باستمرارٍ غِوايةَ النزولِ بجوهرِ إيمانِهم وعبادتِه إلى مستوى حواس الإنسانِ وتخيلاته، وإن إعلانَ الإسلام البسيطَ الثابتَ بلا تغير هو: "أشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ الله، وأن محمدًا رسولُ الله" .. إن الصورةَ الذهنيةَ عن الإلهِ لم تَنحط على الإطلاق إلى صورةِ صنم يُرى، وإن مظاهرَ التكريم للنبى لم تَتجاوزْ أبدًا معاييرَ الفضائل البشرية، ولقد أبقَتْ تعاليمُه الأخلاقيةُ الحية اعترافَ تلاميذِه بفضلِه في حدودِ العقل والدين. لقد أُثيرت في مدارسِ المسلمين الفكريةِ تلك الأسئلةُ التي تتعلقُ بما وراءَ الطبيعة عن خواص الإلهِ وحريةِ الإنسان، كما أُثيرت في مدارسِ المسيحيين، لكنها عند المسلمين لم تَشغَلْ أبدًا عواطفَ الناس، ولم تُعكِّرْ صَفْوَ الدولة. إن سببَ هذا الاختلافِ الهام بين الفِكرِ المسيحيِّ والفكرِ الإسلامي، يُمكنُ إرجاعُه إلى مبدإ الفصل بين الشخصياتِ القائمةِ بأمورِ المُلْك، والشخصياتِ القائمةِ بأمورِ الكهنوت، أو مبدإ التوحيد بينهما. لقد كان اهتمامُ الخلفاءِ الذين تَولَّوا الحكمَ بعد النبي، وكانوا أمراءَ المؤمنين: أن يَكبِتوا البِدَعَ الدينية، ذلك أن الرَّهْبَنةَ وطموحَ الإكليروس الزمني والروحي غيرُ معروفٍ عند المسلمين، وإن فقهاءَ الشريعةِ هم مُرشِدوهم وِفقَ الضميرِ والعقل، وهم المُجيبون على الأسئلةِ المتعلقةِ بأمورِ دينِهم.

ونجد أنه من المحيطِ الأطلسي غَربًا إلى أقاصي الهندِ شرقًا يعترف بأن القرآنَ هو الدستور الأساسي، ليس فقط في مسائل الإلهياتِ، ولكنْ فيما يتعلق بالقوانينِ المَدَنيةِ والجنائيةِ، والقوانينِ التي تُنظم سلوكياتِ البشر. لقد نَفَثَ محمدٌ بين المؤمنين روحَ الأخوَةِ والإحسان، وأوصى بممارسةِ الفضائل الاجتماعية، وكَبَحَ بشريعتِه وتعاليمِه الأخلاقيةِ التعطشَ إلى الانتقام وظُلم الأرامل واليتامى، ولقد تَوحَّدتِ القبائلُ التي كانت في عَداءٍ تحتَ مَظِلَّةِ الدينِ والطاعة، وتوجَّهت شجاعةُ المقاتلِين -التي أُنفقت هَدَرًا في صراعاتٍ داخلية- نحوَ العدوِّ الخارجيِّ، فانتَشرت بذلك أمصارُ الأمُةِ الإسلامية شرقًا وغربًا" (¬1). إن سموَّ إحساسِ محمدٍ جَعَله يحتقرُ بَهْرَجَ المُلْك، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُخضغ نفسَه لِمَا تَتطلبه حياةُ الأُسرةِ مِن عمل، فقد أَوقد النارَ، وكَنَس المنزل، وحَلَب الشاة، وخَصَفَ بيديه نَعْليه، ورَتَق ثَوبَه، لقد كان قانعًا يأكل كما يأكل العربي والجندي، وكان في مناسباتٍ قليلةٍ يُولِم لرفاقهِ في سَعَةٍ، ولكن الأسابيعَ الكثيرةَ كانت تَنقضي ولا يوقَدُ في بيتِه نارٌ لطعام، وكان يُحرِّمُ الخمر، كما يَقضي بذلك الدينُ، وكثيرًا ما كان يُخفف وطأةَ الجوع بكِسرةٍ من خُبزِ الشعير (¬2). ¬

_ (¬1) - E. Gibbon: Decline and FALL of the Roman Empire, pp. 649,655-9, 693-5 وانظر "الإسلام في الفكر الغربي" للواء أحمد عبد الوهاب (ص 35 - 38). (¬2) "آفاق جديدة للدعوة الإسلامية" للأستاذ أنور الجندي (ص 117 - 118).

المسيو (إميل درنجم)

* المسيو (إميل درنجم): "إميل درمنجم" (1790 - 1857 م)، وُلِد في "تولوز"، وله عِدّةُ مؤلفاتٍ، منها "حياة محمد"، وهو من كِبارِ الفرنسيين ورجالِ الفكر. ° قال في مقدمة كتابه المذكور: "لا يُوجد في الدنيا واحدٌ يُمكنه أن يُنكِرَ وجودَ محمد، ولكنْ وُجِد مَن يُنكِرُ بعضَ ما جاء في ترجمةِ محمدٍ في الكُتب العربية، ومِن الناس مَن يتجاوزُ الحد والنقدَ والاعتراضَ حتى يَقَعَ في الظلم، أمّا أنا، فقد جَعلتُ كتابي هذا سيرةً حقيقيةً، مبنيةً على المنابع العربيةِ الأصلية، بدونِ إهمالِ جميع ما وَصَلَت إليه تدقيقاتُ المتخصِّصين في هذا الموضوع في الأزمنةِ الأخيرة، وقد أردتُ أن أُمثلَ لمحمدٍ - نبيِّ المسلمين- صورةً مطابقةً له بقَدْرِ الاستطاعة، كما فهمتُه من الكتبِ التي قرأتُها وأمعنتُ النظرَ فيها، ومن مشافهةِ الأحياءِ من المؤمنين، فإذا كانت كلُّ حياةٍ بشريةٍ تَنطوي على تعليم، وكانت كل حادثةٍ تَشتملُ على مَشهدٍ يُمثل حقيقةً من الحقائق، فكم يكونُ مؤثرًا ومفيدًا التلاقي مع رجل عظيم من الرجالِ العِظام الذين يَقتدي بهم جانبٌ عظيمٌ من الإنسانية"!. ° وقال (ص 183): "وإن كان بَعضُهم يَعيبُ محمدًا في كثرةِ مَيله إلى النساء، فإنه مما لا مُشاحَّةَ فيه أن محمدًا لم يكن شَرِهًا ولا فخورًا ولا متعصبًا ولا منقادًا للمطامع، بل كان حليمًا، رقيقَ القلب، عظيمَ الإنسانية، وكان بشوشًا دَمِثَ الأخلاق، حَسَنَ المُعاشرة، ساذَجَ المَعيشة، يَكنِسُ غُرفتَه بيده، وُيصلحُ ثيابَه، ويَخصِفُ نَعْلَه، ويَحلِبُ شياهَه، ويَضطجعُ في أرضِ المسجد، ويَنهضُ ويَفتحُ البابَ لأجل هِرَّةٍ تُريدُ أن

وليم موير

تدخل، وَيمسحُ ببُرْدَته عَرَقَ جوادِه، وُيوزع الصدقات، وَيتجنبُ كل شيءٍ يَظهرُ فيه بمَظهرٍ دنيويٍّ، وكان يَمنعُ الناسَ أن يَجعلوه سيدًا". * وليم موير: ° قال "وليم موير: "امتاز محمد بوضوح كلامِه، وُيسرِ دِينه، وقد أتمَّ من الأعمالِ ما يُدهِش العقول، ولم يَعْهَدِ التاريح مصلِحًا أيقظَ النفوس، وأحيا الأخلاق، ورَفَع شأنَ الفضيلة في زمن قصير كما فعل محمد. ° وقد سُئل السير "وليم موير" الإنجليزي عن محمدٍ نبي المسلمين، فقال: "كان من عقيدةِ محمدٍ أن الإنسانَ عاجزٌ عجزًا تامًّا أمامَ الله سبحانه، وأنه لا عذرَ له بين يديه، ولكنه يعفو عن كثير، ومن عقيدته أنَّ الإنسانَ أخو الإنسان (¬1)، وأن يومَ الدينونة لا يُضيعُ اللهُ مِثقالَ ذرَةٍ على كلِّ عامل مع الله يومَ كان يَعيش في ظلّ الحياة" (¬2). * دوزي: ° عُني "دوزي" في بعضِ فصوله من كتاب "ملوك الطوائف" بالردِّ على ما رَدَّده خصوم الإسلام فقال (ص 405): "لو صح ما قاله القساوسةُ من أنَّ محمدًا نبي منافقٌ كذاب، فكيف نُعلِّل انتصارَه؟! وما بال فتوحاتِ أتباعه تترى، وتتلو إحداها الأخرى؟! وما بالُ انتصاراتهم على الشعوب لا تَقِفُ عند حد؟! وكيف لا يَدل ذلك على معجزةِ هذا الرسول؟! لقد كانوا ¬

_ (¬1) بل: "المؤمن " أخو "المؤمن". (¬2) المجلد الرابع من مجلة "الهلال" - الجزء السابع.

المؤرخ سيديو الفرنسي

يعتقدون أوَّلَ أمرِهم أنَّ خُذلانَ المسلمين سيتمّ بمعجزةٍ قريبة، فطالَما سَمِعوا عن معجزاتِ الكنيسة، وانتظروا هذه المعجزةَ التي تخلّص البلادَ المسيحيةَ من غَزواتِ المسلمين، ولكنَّ انتظارَهم هذه المعجزةَ قد طال، وذهب أدراجَ الرياح، وأعجب مِن ذلك أنَّ معجزةً أعظمَ قد حَدَثت، وكانت معجزةً أعظمَ مما كان يتوهَّمُه القدِّيسُون أنفسُهم، وأيّ معجزةٍ أعظمُ وأروعُ من أن نَرى شعبًا كان إلى زمن قليل في غايةٍ من الخمول، ثم ظَهَر إلى الدنيا فجأةً، وظَلَّ يتقدَّمُ بسرعةٍ لا مَثيلَ لها؟! ". * المؤرخ سيديو الفرنسي: مستشرقٌ ومؤرِّخٌ كبير، وأحد أعضاء "جمعية العلماءِ الفرنسية"، وُلِد عام 1817م، وتُوفِّي عام 1893، وله كتاب "خلاصة تاريخ العرب". ° رَدَّ المؤرِّخُ "سيديو" على اتهام النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالقسوةِ أو الجُبنِ مما جاء في كتاباتِ خصوم الإسلام فقال: "مِن التجنِّي على حقائقِ التاريخ ما كان مِن عَزْوِ بعض الكُتَّابِ إلى محمدٍ القسوةَ والجبْنَ، فقد نَسِيَ هؤلاء أنَّ محمدًا لَم يَأْلُ جَهدًا في إلغاءِ عادةِ الثأرِ الموروثةِ الكريهةِ التي كانت خُطوةً لدى العرب، كخُطوةِ المبارزاتِ بأوروبا فيما مضى، وكأن أولئك الكُتَابَ لَم يَقرؤوا آياتِ القرآن التي قَضى محمدٌ فيها على عادةِ الوَأْدِ الفظيعة، وكأنهم لم يُفكروا في العَفُوِ الكريم الذي أنعَمَ به على ألدِّ أعدائه بعدَ فتح مكة، ولا في الرحمةِ التي حَبَا بها كثيرًا من القبائل عند ممارسةِ قواعدِ الحرب الشاقة، ولا إلى ما أبداهُ من أسفٍ على بعضِ الأحكام المبتسَرة، وكأنهم لم يَعلَموا أنَّ محمدًا لم يُسِئِ استعمالَ ما اتُّفق له من السلطان العظيم، قضاءً لشهوةِ

القسوةِ الدنيئة، وأنه لَم يَألُ جَهدًا -في الغالب- في تقويم مَن يجورُ من أصحابه، وكل يَعلمُ أنه رَفَض بعد غزوة "بدر" رأيَ عمرَ بنِ الخطاب في قَتل الأسرى، وأنه عندما حَل وقُتُ مُجازاةِ بني قُريظةَ تَرَك الحُكمَ في مصيرِهم لحليفِهمُ القديم سعدِ بنِ معاذ، وأنه صَفَح عن قاتِل عمه حمزة، وأنه لَمِ يَرفضْ قَط ما طُلب إليه من اللطف والسماح، وليس بمجهولِ أن خالدَ بن الوليد -الذي كان من أشجع قُؤَادِه- لَم يستطعْ أن يَرعويَ -بعد إسلامه- عن رُوح القسوةِ والصَّولةِ التي كانت تُلازمُه في زمنِ الجاهلية، فلاحت له الفرصةُ بأن يثأرَ لقريبهِ القتيل، فأثخَنَ في بني خُزيمة، فأجمِعَ المسلمون على استفظاع عَمَلهِ، فلما نُبِّئ محمد بما صَنَع خالد، أسرع في ذمه جهارًا، فرفع يَدَيه إلى السماء قائلاً: "اللهم إنِّي أبرأ إليك مما صَنَع خالد" .. ". ° وقال في كتابه "خلاصة تاريخ العرب" (ص 54): عن نوم عليٍّ -رضي الله عنه- في فِراشِ النبي وحِفظ الله له: "دعا محمد ابنَ عمه عليًّا، وأمره أن ينامَ على فراشه، مُتَّشِحًا ببُرد، فدَفع اللهُ شرهم عنه، وهو أوْلى أن يَحفظَ نبيه القائمَ بالدعوة له، وأحق أن يَجعلَ كَيدَهم في نحورهم، وما زال آخذًا بيمينه، حتى غنَّى له الزمنُ وصفق له الدهر". ° ثم قال: "وبعدَ ظهور محمدِ - صلى الله عليه وسلم - الذي جَعل مِن قبائل العربِ أُمة واحدةً، تقصِدُ مقصدًا واحدًا، ظهرت للعيانِ أمة كبيرة مَدَّت جَناحَ مُلكِها من "نهر تاج" في إسبانيا حتى (نهر المانج) في الهند، ورَفعت على منارِ الإشادة أعلامَ التمدن في أقطار الأرض أيامَ كانت أوربا مُظلِمةً بجهالاتِ أهلِها في القرون المتوسطة".

المستشرق الإنجليزي "بودلي"

* المستشرق الإِنجليزي "بودلي": ° رَد المستشرقُ الإنجليزي بودلي على الزعم القائل بأن محمدًا سَرَق ما في الإنجيل من تعاليم، فقال: "الزعمُ بأنه قد سَرق الإنجيلَ زَعم باطل، فإنه ما رأى الإنجيلَ أبدًا، والقولُ باطِّلاعِه على ترجمةِ الإنجيل الناقصةِ التي قام بها وَرقةُ بنُ نَوفل لا يَضَعُ أمامَه إنجيلاً ليراه، وحتى هذه الترجمةُ لم يَرَها، فإن أولَ ترجمةٍ عربيةٍ رسميةٍ للعهدَين -القديم والجديد- ظَهرت بعد وفاةٍ محمدٍ بِعِدةِ قرون". ° وقال الكولونيل "بودلي" في كتابه "حياة محمد": "إن محمدًا لَم يَدع لنفسِه صِفةً إلهيةً، وإنه صَرَّح كثيرًا بأنه بشر يُوحَى إليه، وإن السببَ في سرعة انتشارِ الإسلام عن غيره من الأديان، هو عدمُ ادعاء النبي صفةً إلهيةً، وعدمُ دعوتهِ إلى عبادةِ شخصِه، وكذلك تسليمُ القرآنِ بصحَّةِ الديانات المنزلة من قبلُ". ونحا باللائمةِ على الذين لم يفهموا محمدًا وشريعته. * الكاتبة الإِيطالية الدكتورة لورا فيتشيا: ° دافعت الكاتبةُ الإيطاليةُ الدكتورة "لورا فيتشيا" عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحماس بالغ، فقالت: "قام أعداءُ الإسلام الألداءُ الذين أعماهم الحِقدُ والتعصب، واتهموا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، ذلك الرجلُ النبيلُ الذي كان يُنظَرُ إليه قبلَ الرسالةِ نَظرةَ إكبارٍ وإجلالٍ من جميع مواطنيه لِمَا تَحلَّى به من الأمانةِ والسجايا الكريمة، وكانت هذه التهمةُ التي رَموه بها مما لا يَقبَلُه عَقل، ولا يُمكنُ أن يُسلمَ به عاقل، فضلاً عن أنها لا تقومُ على أي أساس، وهي تهمةُ

الغِشِّ والخداع، وليتَ شِعري كيف أن هؤلاء الناسَ لم يسألوا أنفسَهم إذا كان النبيّ في الحقيقةِ كاذبًا، فكيف اجترأ على أن يُوجِّه في القرآن إلى الكذَّابين والخادِعين أشدَّ عباراتِ الذمِّ وأقساها؟! وكيف تَوعَّدهم بالنار وسوءِ العذاب؟! وإذا كان كاذبًا في دعوته -كما يَفترون-، فكيف صَمَد للمقاومة أكثَرَ من عَشْرِ سنين، وهو في مكةَ احتَمل في أثنائها الشيءَ الكثيرَ من صُنوف الاضطهادِ والآلام، وهو ذلك الرجل الوديع الهاديء ممن الطباع؟! وكيف تَهيَّأَ له أن ينحازَ إليه طواعيةً واختيارًا -بل وبمنتهى التحمُّسِ- جماعاتٌ كبيرةٌ من رِجالاتِ قريش ونبلائهم، وأن يَنضَووا تحتَ لوائِه مع غيرِهم من السُّوقة والعَبيد. أمَّا تهمةُ القَسوةُ التي يُوجِّهونها إليه، فمِن السهل دَفعُها لأنَّ محمدًا الذي كان على رأسِ حُكومةٍ، ويتولَّى الدفاعَ عن حياةِ الشعبِ وحريتِه، كان يُحاكِمُ الخارجين على القانون بصرامةٍ وشدةٍ اقتضتهما ظروفُ البيئةِ التي كان يَعيش فيها. ولقد كان محمدٌ -كرسولٍ يدعو إلى الله رجلاً رحيمًا، ليِّنَ الجانب حتى لأعدائِه الشخصيِّين، وبذلك اجتَمَعت فيه فضيلتانِ كلتاهما أكبرُ الفضائل التي يتصوَّرُها العقل البشري، وهما الرحمةُ والعدالة. وبحَسبه أن الحربَ -التي هي أقصى ضروراتِ الحياةِ الإنسانية- قد صارت -بفضلِه- أقل وحشيةً وقسوةً، إذ إنه كان يَطلبُ إلى جنوده ألاَّ يَقتُلوا شيخًّا ولا امرأةً ولا طفلاً، ولا يهدموا بيوتًا لم تُتَخذْ كمعاقلَ حربية، وقد أراد أعداء الإسلام أن يُظهِروا النبيّ في صورةٍ رجل شَهْوانيٍّ إباحي، بأن اتخذوا من زِيجاته المتعددةِ حِجَّةً لاتّهامه بضعفٍ خُلُقِيٍّ لا يَتَفق ومركزَ النبوة.

الدكتور وغسطون كرستا الإيطالي

ولكنْ فاتهم أمر هامٌّ لم يَحسِبوا له حسابًا، وهو أن النبيَّ أيامَ فُتُوتِه وعُنفوانِ شبابه لم يتزوَّجْ إلاَّ مِن امرأةِ واحدة، ولم يتزوَّجْ من غيرِها حتى ماتت، مع أنه كان يَعيشُ بين قوم سادت فيهم كثرةُ الطلاق والزواج، وكان يَندُرُ أن يَقتصرَ الرجلُ منهم على زوجةِ واحدة، ولَمَّا فُقدت زوجتُه -وكانت سِنُّهُ حين ذاك خمسينَ سنةَ- تزوَّج من أخرى، كما عَقَد زِيجاتِه المختلفةَ التي كانت في أغلبِ الأحيان لدواع اجتماعيةِ أو سياسية؛ لأنه كان يُريدُ بهذه الطريقةِ أن يَكتسِبَ إلى صَفِّهِ رجالاً أو نساء تقيَّاتِ، ويرتبطُ بروابطِ المصاهرةِ بأُسرٍ قوية، وكان كلُّ ذلك بقَصْدِ نشرِ الإسلام" (¬1). * الدكتور وغسطون كرستا الإِيطالي: وُلد في "ترياسته" 1840، وتوفي فيها 1897: ° قال في كتابه "الكياسة الاجتماعية": "كان محمدٌ يُعلِنُ أنه رسولُ الله تعالى، لإصلاح دينِ إبراهيمَ المطهَّرِ الذي أفسده أبناؤه، وأقام العبادةَ الزكيةَ التي أنشأها ذلك النبيُّ، ثم فَسدت على مَمر الزمن، ولِيؤيِّدَ -وهو خاتمةُ الرسل- ما كان اللهُ أنزله على مَن سَلَفه من الأنبياء موسى وداودَ وإشعيا وعيسى. إنَّ هذه الجُدرانَ العادية، لدليل على قوةِ عظيمة لمحمد، مِثالَ القيادةِ ورَمزَ السياسة". * * * ¬

_ (¬1) كتاب "محاسن الإسلام" ترجمة طه فوزي .. انظر "آفاق جديدة للدعوة" (ص 120 - 122).

الكونت هنري دي كاستري

* الكونت هنري دي كاستري: لقد دَرَس الكونت "هنري دي كاستري" الإسلامَ دراسةً عميقةَ، وكَتب عنه كتابًا قيمًا، ترجمه فتحي زغلول، ونُشر بعنوان "الإسلام سوانحُ وخواطر". ° تحدَّث الكونت "هنري" في هذا الكتاب عن كثير من جوانبِ الإسلام، سواءٌ أكان ذلك فيما يتعلقُ بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، أم فيما يتعلقُ بالتعاليم الإسلامية، وقد تحدَّث -فضلاً عن ذلك- عن آراءِ مواطِنِيه، خصوصًا القدماءَ منهم في صورةٍ من السخرية والتهكُّم: (وذهبوا إلى أن محمدًا وَضَع دينَه بادعائه الألوهية!. ومن المستغرَبات قولُهم: "إن محمدًا -الذي هو عدوُّ الأصنام ومُبيدُ الأوثان- كان يدعو الناسَ لعبادتِه في صورةِ وَثَنٍ من ذهب، كما كان يعتقدُ "والكرلوفنجيون"!. بل لقد أغرق خَيالُهم في الضلال، فذَهبوا إلى أبعدَ مِن ذلك، وذهبوا إلى أن صُورةَ "ماهوم" (¬1) كانت تُصنعُ من أنفَسِ الأحجار والمعادنِ بأحكم صُنع وأدقِّ إتقان! ". ° وبعد أن ذكر الكثيرَ من آرائهم قال: "ولقد أطَلنا القولَ في تلك الأضاليل، لأن تاريخَ "إسكندر" (¬2) المذكور لم يُزِلْها، ولأنها تَركت أثرًا في ¬

_ (¬1) المقصود محمد - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) ألف القسيس "إسكندر دويون" كتابًا 1258م عن محمد، وكان الناس يعدونه تاريخًا صحيحًا للرسول مع أنه ليس كذلك.

الأذهانِ وَصَل إلى أهل هذه الأيام، وتَشبَّعت به أفكارُهم في النبيِّ وكتابه. ولكنْ ما سِر هذه الحَمْلةِ الشَّعواءِ الشَّعواءِ الضالَّةِ التي تَهزأُ بالحقِّ والضمير، والتي لا يُقِرُّها دين أيًّا كان؟! ". ° "ولو سأل سائلٌ: هل كان أولئك المفسِّرون يَعتقدون صحةَ ما يقولون؟ لأجبناه جوابَ أهل "نورمندة": "لا- ونعم"، إذ من المحقق أن الاختلاطَ بين المسيحيين والمسلمين سَهلٌ للمُنشِدين معرفةَ الدينِ المحمديِّ على حقيقته، ولكنهم ما كانوا يقصِدون الحقائقَ التاريخيةَ في أناشيدهم، بل حِفْظَ رُوح البغضاءِ في نفوس قومهم. هل هذه الروحُ التي كانت سائدةً عند المسيحيين تُجاهَ الإسلام، اقتَصرت على العصورِ الوسطى؛ كلاَّ. فلم يَزَل هذا الروحُ سائدًا عند المسيحيين، حتى إن المستشرق "بريدو" الإنكليزي ألَّف سنة 1733 كتابًا في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - عنوانه: "حياة ذي البدع محمد"!. وترجَمَه بعضُهم إلى لُغتنا، وجَعل له مقدمةً بيَّن فيها مَقْصِدَ المؤلِّفِ، فقال: إن غَرضَ واضع هذا الكتاب، هو خِدمةُ المَقصِدِ المسيحي الحكيم". ° ثم يُعقٍّبُ "الكونت" على ذلك بهذه الكلمة الحكيمة: "أولئك كُتَّابٌ ما قَصدوا التاريخ، ولكنهم أرادوا خِدمةَ المَقصِدِ المسيحيِّ الحكيم -كما يقولون-، وكان سلاحُهُمُ الوحيدُ في تأييدِ سواقِطِ حُجَجِهم، أنْ يُشبِعوا خَصْمَهم سَبًا وشَتْمًا، وأن يُحرِّفوا في النَّقل مهما استطاعوا". ثم يأخذُ "الكونت" في الرد على الافتراءات، ومِن أولى هذه

الافتراءات: أن الرسولَ صلواتِ الله وسلامه عليه، كان يَقرأُ ويكتب، فقرأ التوراةَ، وقرأ الإنجيل، وأخذ تعاليمَه منهما!. * وقد رد القرآن على هذه الفِريَةِ فقال: {وَمَا كنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِيِنك إِذًا لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48]. ° ويقول "الكونت" في هذا المعنى: "ما كان يقرأ ولا يكتب، بل كان -كما وَصَف نفسَه مرارًا- نييًّا أميًّا، وهو وَصفٌ لم يُعارِضْه فيه أحد من مُعاصِرِيه، ولا شك أنه يستحيل على رجل في الشرقِ أن يتلقى العِلمَ بحيثُ لا يَعلمُه الناسُ؛ لأنَّ حياةَ الشرقيين كلَّها ظاهر للعِيان، على أنَّ القراءةَ والكتابةَ كانت معدومةً في ذلك الحينِ من تلك الأقطار، ولم يكن بمكةَ قارئٌ أو كاتبٌ سوى رجل واحدٍ، ذَكَرها "جارسين دي تارس" في كتابه الذي طبعه سنة 1874. كذلك مِن الخطإِ -مع معرفةِ أخلاقِ الشرقيين- أن يُستدل على معرفةِ النبي للقراءةِ و"الكتابةِ باختيارِ "السيدة خديجة" - صلى الله عليه وسلم - إياه لِمَتاجِرِها في الشام، ولم تكن لِتعهدَ إليه أعمالَها إن كان جاهلاً غيرَ متعلم. فإنا نشاهدُ بين تجَّارِ كلِّ قوم غيرِ العرب وُكلاءَ لا يقرؤون ولا يكتبون، وهم -في الغالب- أكثَر أمانةً وصدقًا". ° ويقول: "أما فكرةُ التوحيد: فيستحيلُ أن يكونَ هذا الاعتقاد وَصَل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من مطالعتِه التوراةَ والإنجيل، إذ لو قرأ تلك الكُتبَ لَرَدَّها لاحتوائها على مذهبِ "التثليث"، وهو مُناقِضٌ لفطرته، مخالف لوجدانِه منذ خِلْقه، فظهور هذا الاعتقادِ بوسطتِه دَفعةً وأحدةً هو أعظم مَظهر في

حياته، وهو بذاته أكبرُ دليل على صِدقِه في رسالتِه وأمانتِه في نبوته". ° أمَّا صِدقُ الرسول وسُموُ رسالته، فقد أَخذ كثيرٌ من رجالِ الكنيسة ومِن رجالِ الاستعمار يُشكِّكون فيهما، وبرغم الوضوح الواضح في صِدقِ الرسولِ وفي سُمو الرسالةِ الإسلامية، فإنَّ رِجالَ الدينِ المسيحيين ورجالَ الاستعمارِ لا يزالون يُبدؤون ويُعيدون في تِردادِ التشكيك. ° إلى هؤلاء وأولئك يقول الكونت: "والعقلُ يَحارُ كيف يتأتَّى أن تَصدُرَ تلك الآياتُ عن رجل أُمِّي، وقد اعترَف الشرقُ قاطبةً بأنها آيات يَعجِزُ فِكر بني الإنسانِ عن الإتيانِ بمِثلها لفظاً ومعنًى، آياتٌ لَمَّا سمعها "عُتبةُ بن ربيعة" حار في جَمالها، وكَفى رفيع عبارتها لأقناع "عمرَ بنِ الخطاب" -رضي الله عنه-، فآمَنَ بربِّ قائلِها، وفاضت عين نجاشي الحبشةِ بالدموع لَمَّا تلا عليه "جعفر بن أبي طالب" سورةَ "مريم"، وما جاء في ولايةِ "يحيى"، وصاح القسيس (¬1): "إن هذا الكلامَ واردٌ من موارِدِ كلام عيسى! " .. ". ° قال ناقل هذه الرواية: "كوزان دي بير سوفال": "فلما كان اليومُ الثاني طَلب النجاشي جعفرًا، وأشار إليه بتلاوةِ ما في القرآن عن المسيح، ففعل، واستَغرب المَلك لَمَّا سَمع أن "المسيحَ" عبدُ الله ورسولُه ورُوحٌ منه نَزَل في أُمِّه "مريمَ"، وأُعجب أشدَّ الإِعجابِ بهذه المعاني، وحَمَى المسلمين، ولَم يُسَلِّمْهم إلى رُسُل قريش، ولم يَنْفِهم من بلاده". أما هؤلاء الذين بَلَغ بهم التعسُّف مداه، فظنوا أن هذه الفَتَراتِ التي يَغيبُ فيها الرسولُ عن هذا العالَم ليكونَ بكُلَيَته مستغرِقًا في الملإ الأعلى، ¬

_ (¬1) أي: النجاشي .. وانظر الخبر في "المسند" (1/ 201)، و"السيرة النبوية" (1/ 375).

إنما هي فتراتٌ مَرَضيَّةٌ، أو هي الصَّرَعُ، وبرغم تكذيبِ الطب لمزاعمهم مستنِدًا إلى الاختلافِ الكُلي بين أعراضِ الصَّرَع وأعراضِ الوحي، فقد أعماهم التعصُّبُ عن رؤيةِ الحقيقة. ° وإليهم يقول الكونت:"ومن ذلك الحِينِ -أي البَعثة- أخذت شفتاه تَنطلقُ بألفاظٍ بعضُها أشدُّ قوةً وأبعدُ مرمًى من بعض، والأفكارُ تتدفَّقُ من فَمِه على الدوام، إلى أن يَقِفَ لسانُه ولا يُطيعه الصوت، ولا يَجِدُ من الألفاظِ ما يُعبِّرُ به عن فِكرٍ قد ارتفع عن مدارِكِ الإنسان، وسما عن أن يُترجِمَه قَلَمٌ أو لسان. وكانت تلك الانفعالاتُ تَظهرُ على وجهِه باديةً، فظَن بعضُهم أن به جِنَةً!! وهو رأيٌ باطل؛ لأنه بدأ رسالتَه بعد الأربعين، ولم يُشاهَدْ عليه قَبلَ ذلك أي اعتلالٍ في الجسم أو اضطرابٍ في القوة المادية، وليس مِن الناس مَن عَرف الناسُ جميعًا أحوالَه في حياته كلها مثلُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلقد وَصل المُحدِّثون عنه إلى أنهم كانوا يَعُدُّون الشَعْرَ الأبيضَ في لِحيته، ولو أنه كان مريضًا لَمَا أَخفى مَرَضَه؛ لأن المرضَ في مِثل تلك الأحوالِ يُعتبرُ أمرًا سماويًّا عند الشرقيين. وليست حالةُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وانفعالاتُه وتأثراتُه بحالةِ ذي جِنَّة، بل كانت مِثلَ التي قال نبيُّ بني إسرائيلَ في وصفها: لقد شَعُرتُ بأن قلبيَ انكسَرَ بين أضلُعي، وارتَعَشت مني العِظام، فصِرتُ كالنَّشوان، لِمَا قام بي من الشعورِ عند سماع صوتِ الله وأقواله المقدسة" (¬1). ¬

_ (¬1) "أوروبا والإسلام" (ص 53 - 58).

° ويردُّ "الكونت" على اتهام النبي - صلى الله عليه وسلم - بتأليفِ القرآن ويقول: "وكيف يُعقلُ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألَّف هذا الكتابَ باللغة الفصحى، مع أنها في الأزمانِ الوسطى كاللغةِ اللاتينية، ما كان يَعقِلُها إلاَّ القومُ الصالحون (¬1)، وقد شاهَدْنا أُناسًا -وكان أكثرُهم أُميين- قاموا في أُمَّة العَرَب وادَّعَوُا النبوةَ -منهم "مُسيلِمة" الذي زَعَم أنه قَرينُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أتى بسُورٍ سَخِر منها العربُ، ولو لم يكن في القرآن غيرُ بهاءِ معانيه وجمالِ مبانيه، لكفى بذلك أن يستوليَ على الأقطار، ويأخذَ بمجامع القلوب. أتى محمد بالقرآن دليلاً على صِدقِ رسالته، وهو لا يزالُ إلى يومنا هذا سِرًّا من الأسرارِ التي تَعذَّرَ فَكُّ طَلاَسِمِها، ولن يَسبِرَ غَوْرَ هذا السرِّ المكنون إلاَّ مَن يُصدِّقُ بأنه مُنزَّل من الله؛ اللهمَّ إلاَّ إذا اعتَمَدْنا على قولِ مُمجدي الدينِ المسيحي مما كنَّا نرتاحُ إليه أيامَ شبيبتنا (وهو يَرجعُ إلى أن القرآنَ تأليفُ فاتح أراد تأييدَ سُلطته، فجَمَع مِن كُتب اليهود والمسيحيين قانونًا أودعه بعضَ قواعِدِ الادبِ والدين، وأضاف إليه قَصصَ الوقائع العظيمةِ لتأييدِ رسالته). وعلى كل حال -أي سواءٌ توصَّلْنا إلى معرفةِ حقيقةِ القرآن أم لا-، فلا يُنكِرُ أحدٌ أن مَظهَرَ محمدٍ كان مَظهَرَ نبوَّةٍ بالفعل -بقَطع النظرِ عن صِدقِ تلك النبوة- وعدم صِدقها-، لأن النبوة -مِن حيث هي- عبارة عن قيام رجل يُملي على الناس أمرَ ربه، ويَعتقدُ حقًّا أن ما يقولُه آتٍ من عند الله. ¬

_ (¬1) هذا كلام غير صحيح .. فإن العرب كانوا جميعًا فصحاء، ولم يكن عندهم لهجةٌ عاميةٌ مثل لهجاتنا اليوم .. بل كل "لغاتهم" كانت فصيحةً، كما قال نابغة العربية مصطفى صادق الرافعي في كتابه "تاريخ آداب العرب" (ج 1).

ومحمدٌ -كما قال "إيوالد" عن أنبياءِ بني إسرائيل- أعتقدُ أن رُوحًا من الله استولت على لُبِّه، فلم يَشعُرْ بأن له فِكرًا خاصًّا، بل إنه أُوتِيَه من عندِ ربِّه، واختَفت في نظرِه أنانيَّته، ولم يَعُدْ يَسمعُ غيرَ صوتِ ذاتٍ فوقَ ذاته، ومِن ذلك الحِينِ أَخذت شَفَتاهُ تَنطِقُ بألفاظٍ بعضها أشدُّ قوةً وأبعدُ مرمًى من بعضٍ، والأفكارُ تتدفَّقُ مِن فَمِهِ على الدوام، وكانت تلك الانفعالاتُ تَظهر على وجهه، فظنَّ بعضُهم أن به جِنَةً، وهو رأيٌ باطل؛ لأنه بدأ رسالتَه بعد الأربعين، ولم يُشاهَد عليه قبلَ ذلك أيُّ اعتلالٍ في الجِسم، أو اضطرابٍ في القوة المادية". ° ويقول: "إذن فليس محمدٌ من المبتدِعِين، ولا من المنتحلين كتابَهم، وليس هو نبيًّا سلاَّبًا -كما يقول "سايوس"-، نعم، قد نرى تشابهًا بين القرآنِ والتوراةِ في بعضِ المواضع، إلاَّ أن سَبَبه ميسورُ المعرفة، ذلك أن محمدًا كان يُلصِقُ ديانةَ الإسلام بالديانتين المسيحية واليهودية (كذا)؛ وحينئذٍ لا عَجَبَ إذا تشابهت تلك الكتبُ في بعضِ المواضع، خصوصًا إذا لاحَظْنا أن القرآنَ جاء ليُتمِّمَها، كما أن محمدًا هو خاتمُ الأنبياء" (¬1). ° يقول الدكتور عبد الحليم محمود: "ونختمُ الحديثَ عن آراء "الكونت" بهذا الوصفِ الرائع لتلك الساعةِ الأليمة التي فارق فيها الرسول عالَمنا الدنيوي، لِيَلحَقَ بالرفيق الأعلى، ولِينعمَ برِضوانِ الله، إذ يقول: ولمَّا أَحس بقُربِ الأجل، ذَكَر الفقراءَ، فإنه لم يَرغبْ طولَ حياتِه في المال، ¬

_ (¬1) "آفاق جديدة للدعوة الإسلامية" (ص 122 - 124) نقلاً عن "الإسلام سوانح وخواطر" للكونت هنري ترجمة أحمد فتحي زغلول.

بل كان كلَّما جُمع إليه شيء منه أنفقه في الصدقات، وكان قد أعطى عائشةَ مالاً يسيرًا لِتَحفَظَه، فلما حَضَره المرض أَمَر بإنفاقِه على المُعوِزِين لساعته، وغاب في سِنَةٍ، ولَما أفاق سألها إن كانت أنفَذَت أمرَه، فأجابته: "كلا"، فأمر بالنقود وأشار إلى الأُسَرِ المُعوِزات، فَوزع عليهم، وقال: "الآن استراح قلبي، فإنني كنت أخشى أنْ أُلاقِيَ ربِّي وأنا أَملِكُ هذا المال". وكان في مرضه يَخرجُ كلَّ يوم ليُصلِّيَ الظهرَ بالناس، وآخِر يومٍ خَرَج فيه هو الثامنُ من شهرِ يونية سنة 632 م، وكانت مِشيتُه مضطربةً، فتوكَّأ على الفَضلِ بن العباسِ وعليِّ بنِ أبي طالب، وقَصَد مِنبرَ الخطابةِ الذي كان يَعِظُ الناس عليه قَبْلَ الصلاة، وحَمِدَ اللهَ، وأثنى عليه، ثم خَطب في المسلمين بصوتٍ رفيع سَمِعه مَن كان خارجَ المسجد، فقال: "يا أيها الذين تسمعون قولي، إن كنتُ ضَربتُ أحدَكم على ظَهرِه، فدونَه ظَهري فلْيَضْرِبْه، وإن كنت أسأتُ سُمعةَ أحدٍ فلْينتقمْ مِن سُمعتي، وإن كنتُ سَلبتُ أحدًا مالَه، فإليه مالي يقتصُّ منه، وهو في حِلٍّ من غَضَبي، فإنَّ الغِلَّ بعيدٌ عن قلبي". ثم نَزَل مِن على المنبر، وصلَّى بالجماعة، ولَمَّا أراد الانصرافَ أَمسك به رجل مِن إزاره، وطلب منه ثلاثةَ دراهمَ دَينًا له، فأدَّاها على الفور قائلاً: "لَخِزيُ الدنيا أهون من خِزي الآخرة". ثم دعا لِمن حارَبَ معه في "أُحد"، وسأل اللهَ لهم الرحمةَ والغفران. وكان مَشهدُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بين المؤمنين في ذاك اليوم مَشْهَدَ جلالٍ ووقار، والناس يلمَحون على وجهِه تأثيرَ السُّمِّ الذي شَرِبه من يدِ يهوديةِ خيبر، وقلوُبهم مُنفطِرةٌ من الوَجدِ عليه، ذلك أنه لَمَّا كان في واقعةِ "خيبر" قَدَّمت

فارس الخوري اللبناني

إليه يهوديةٌ -اسمها "زينب"- شاةً مَشْويةً أضافت إليها سُمًّا، فأخذ منه النبي قِطعةً واحدةَ بين شفتيه، وأحس بأنها مسمومة، فألقاها، ثم لَما حَضَرَتْه الوفاةُ بعدَ حينِ، كان يقول: "ما زالت تُعاوِدُني أكْلَةُ خَيبر". وكان أبو بكر -رضي الله عنه - نفسُه يبكي، ويقول للرسول - صلى الله عليه وسلم - هلا افتَدَينا رُوحَك بأرواحنا؟ ". ثم أوصله الصحابةُ إلى بيتِ عائشةَ -رضي الله عنها - واضْطَجَع تَعِبًا مهزولاً، وصار المرضُ يشتدُّ عليه، فتَخلَّف عن الصلاةِ بالمسلمين، وقيل له:"قد جاء وقتُ الظهر"، فأشار إلى أبي بكر ليُصلِّيَ بالناس، فكان مِن وراءِ هذه الإشارةِ خلافةُ أبي بكر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ° وأَخبرت عائشةُ -رضي الله عنها - عن حالةِ الاحتضارِ، فقالت: "كان رأسُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مُسنَدًا على صدري، وبقُربِه قِدْرُ ماءٍ، وكان يقومُ لِيضعَ فيها يَدَه ويَمسحَ جَبينَه، ويقول: "ربِّ أعنِّي على تحمُّل سَكراتِ الموت، ادْنُ منِّي يا جبريل، ربِّ اغفِرْ لي، واجمَعْ بين أصحابي في السماء"، ثم ثَقُلت رأسُه، ومال ثانيةً إلى صَدري" .. ! " (¬1). * فارس الخوري اللبناني: ° يرى "فارس الخوري" أن محمدًا أعظمُ عظماءِ العالم، إذ يقول: "لم يَجُدِ الدهرُ بعدُ بمثله، والدينُ الذي جاء به أوفى الأديانِ وأكملُها". ° ويقول: "إن محمدًا أودَعَ شريعتَه المطهَّرةَ أربعةَ آلافِ مسألةٍ علميةٍ ¬

_ (¬1) "أوروبا والإسلام" (ص 58 - 60).

بشارة الخوري اللبناني

واجتماعيةٍ وتشريعية، ولم يَسَع عُلماءَ القانون المُنصِفين إلاَّ الاعترافُ بفضل الشريعة التي دعا الناسَ إليها باسم "الله"، وبأنها متَفِقةٌ مع العلم، مطابقة لأرقى النُّظُم. إن محمدًا -الذي يَحتفِلون به- أعظمُ عظماءِ الأرض-سابقِهم ولاحقِهم-، فقد استطاع توحيدَ العربِ بعد شتاتهم، وأنشأ منهم أُمةً واحدةً فَتحت العالَمَ المعروفَ يومئذٍ، وجاء لها بأعظم ديانةٍ عَيَّنت للناس حُقوقَهم، وواجباتِهم، وأصولَ تعامُلِهم على أُسسٍ مِن أرقى دساتيرِ العالَم وأكملِها" (¬1). * بشارة الخوري اللبناني: ° قال صاحب جريدة "البرق" لمناسبة حفلة ذِكري مولدِ الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - نقلاً عن المجلد السابع والعشرين من مجلة "العرفان"-:"إن للرسول محمدٍ في عُنفوان شبابه من المعجزاتِ ما يَقِفُ دونَه الفِكرُ صاغرًا، ولكنْ له -وهو في حَداثته- ما تَصغُرُ عندَه عَظَمةُ العظيم، ويَبطُلُ عنده سِحرُ الساحر، إنه وقد أَخرج أُمةً بأسرها من ظُلماتِ الجاهلية إلى أضواءِ المدنيَّة، إنه وقد أبدَلَ معائبَ الجاهليةِ بمحاسِن الإسلام، إنه وقد أبطَلَ وأدَ البناتِ، وحَرَّم الزنى، ونَقَّى القلوبَ من العداوات، إنه وقد أذل لِسَيْفِه كلَّ سيف، ولعرشه كل عرش، إنه -وهو كذلك- ليس في عيني أعظمُ منه، وهو الابنُ الناشئُ فقيرًا، الدارجُ يتيمًا، الحاملُ السَّعْدَ في وجهه، والطُّهْرَ في قلبِه، والأملَ في عينيه، والحكمةَ في شفتيْه". ¬

_ (¬1) "آفاق جديدة للدعوة" (ص 121).

الدكتور شبلي شميل اللبناني

* الدكتور شبلي شميِّل اللبناني: طبيب لبناني شقيق "أمين شميِّل"، وُلد سنة 1860م، وتُوفِّي سنة 1917. ° كتب إلى صاحب "المنار" -كما ورد في المجلد الثالث العدد العاشر منها- قال: "أنت تنظرُ إلى محمدٍ [كنبيٍّ] وتجعلُه عظيمًا، وأنا انظر إليه كرجُل وأجعلُه أعظمَ". * الدكتور نظمي لُوقا: ° قال في كتابه "محمد الرسالة والرسول" المطبوع في مصر الطبعة الأولى 1959م صفحة (25): "إن موقفَ الناسِ من الوحي واحد، أيًّا كانت الرسالةُ المُوحَى بها والرسولُ المخبِرُ عنها، يُطلَبْ مِن رسولٍ قَبْلَ محمدٍ بُرهانٌ عيانيٌّ على وَحيه كي يطالَبَ به محمد، فمَن اعترف بوحى منْ السماءِ إلى رسولٍ من البشر، لَزِمَتْه الحُجَّةُ أنْ لا يُنكِرَ نزولَ الوحيِ على محمدٍ من حيثُ المبدأ، فوجهُ الامتناع هنا غيرُ قائم بمبرِّرٍ نزيهٍ، ومِن هنا وَجب النظرُ النزيهُ في رسالةِ محمدٍ، والبحثُ في مضمونها، لنلتمسَ فيها آياتِ الصدقِ التي صَدَّق الناسُ بِمِثلها مَن سَبَقه من المرسلين، ولنرى هل فيها ما يدعو للريب، ويُبرِّرُ دَمْغَها بالزيف أو الدَّجَل أو البطلان. ذلك هو الحدُّ القوَّامُ الذي لا افتئاتَ فيه على إنصاف، ولا يَنبغي أن يَحيدَ عنه مَن له في النزاهة مَطْمَع". ° وقال صفحة (88) -منه: "صَدَق رسولُ الإسلام، وما غادره

صِدقُ الإلهام، وهو القائل: "من رأى منكم منكرًا فليُغيِّرْه بيده، فإن لم يَستطعْ فبلسانه، فإن لم يَستطعْ فبقلبه -وذلك أضعف الإيمان-"، أجل -يا رسولَ الخير والصِّدقِ والحقِّ، فالناسُ بخير وحكومتُهم ما بَقِيَ للحقِّ في قلوبهم مكان، وللغَيرةِ على العَدلِ في قلوبهم الكلمةُ والسلطان". ° وقال صفحة (56): "إن رسولَ الإسلام هو أولُ رسولٍ بُعث إلى الناس، وانبَرى لدعوتهم إلى دينه، مِن غير مَدَدٍ من المعجزاتِ الخاطفةِ للأبصار الخالِبةِ للألباب، فقد أُريد للناس أن يَشعُروا أن رسولَهم مِثلُهم حقًّا وصِدقاً -كما جاء في سورة "الكهف"-، لا يَملِكُ من الخوارقِ أكثرَ مما يَملِكون، وليس له مِن سلطانٍ عليهم، وإنما الأمر إليهم". ° وقال صفحة (97): "وليس التنظيمُ الإسلاميُ لأُمورِ الدنيا بنظام مُقفَلٍ جامد، بل هو التنظيمُ الجوهري الذي لُبابُه قولُ صاحب الرسالة الكريم: "لا ضررَ ولا ضرار"، و"أنتم أعلمُ بأمورِ دُنياكم"، فما لم يَرِدْ فيه نصٌّ بتحريم لسببٍ من أسبابِ العقيدة الروحيةِ، فلا بأسَ على الناس فيه، ما لم يكن فيه ضرر لصاحبه، أو إضرار بسواه. خُلق كريم، وإيثارٌ، ونجدةٌ ابتغاءَ وجهِ الله واتقاءً لغضبه في معاملةِ الناس، وإصلاح لحال الدنيا من غيرِ إضرارٍ بالناس، وحِرصٌ على مصالح الجماعة، وتعاوُنٌ على البر والتقوى، وترفُعٌ عن التَّرَفِ والإسرافِ في البَذَخ، حتى لا تَستسلِمَ الروح لشهوات الجسد، فذلك هو النموذجُ الكاملُ للإنسان".

الشاعر بولس سلامة اللبناني

° وقال صفحة 107: "فإذا نظرنا إلى الرسالة الإسلامية، وجدناها أبعدَ ما تكون عن شُبهةِ تَعلُّقِ الشهوات، أو إباحةِ الأهواء، أو رِشوةِ المنافع. كان العربُ في الجاهلية أهلَ إباحة، لا رادعَ لهم ولا وازع، قَصْفهم مُجون، ولَهوُهم فجور، وحياتُهم عدوان، وكَسبُهم سُحْت، ولَيلُهم خَمرٌ وميسر، فكيف يقالُ [ما يُقال] عن دينٍ اقتَلَع جُذورَ هذا كلَّه، ووَضعِ الحدودَ لكل وجهٍ من وجوهِ النشاط البشري؟! إنْ لم يكن هذا الدين والتنظيمَ والسموَّ، فما عسى أن يكون؟!. * الشاعر بولس سلامة اللبناني: ° قال في مقدمة ملحمته الصروفهِ باسم "ملحمة الغدير" -صفحة (24) -: "إن العروبةَ المستيقظةَ اليومَ في صُدورِ أبنائها من المغربِ الأقصى إلى جزيرة العرب، لأَحوجُ ما تكونُ إلى التمثُّل بأبطالها الغابرين، وهم كثيرون، على أنه لم يَجتمعْ لواحدٍ منهم ما اجتَمع لعليٍّ من بطولةٍ وعِلم وصلاح، ولم يَقُمْ في وجهِ الظالمين أشجعُ من الحُسين، فقد عاش الأب للحق، وجَرَّد سَيفَه للدفاع عنه، واستُشهد الابنُ في سبيل الحُرية يومَ "كربلاء"، ولا غَرْوَ، فالأولُ ربيبُ محمدٍ، والثاني فَلْذَةٌ منه". ° وقال صفحة (26): "مسيحيٌّ يَنحني أمامَ عظمةِ رجل يَهتفُ باسمه مئاتُ الملايين من الناس في مشارقِ الأرض ومغاربها خمسَ مراتٍ كل يوم، رجل ليس في مواليد حَواءَ أعظمُ منه قَدْرًا وأخلَدُ ذِكرًا وأبعدُ أثرًا، رجل أطل من غياهبِ الجاهليةِ، فأطَلَّتْ معه دنيًا أظلها بلِواءٍ مَجيد، كَتب عليه بأحرُفٍ من نور: لا إلهَ إلا الله، الله أكبر".

° وقال في "ملحمته" المشهورة صفحة (47) -تحت عنوان "مولد محمد"-: مَن تُرى ذلك الصبيُّ الذي إن ... ذَرَّ دَمعًا فالجوُّ في إعطاء؟ مبسَمٌ من لآليء الفجرِ أنقى ... وجبينٌ كالنجمةِ الغَرَّاءِ ° إلى أن قال: هلَّ يومٌ في صفحةِ الدهرِ فذٌّ ... طيِّبُ الفَوح رافلٌ بالبهاءِ لم يَشُب ذلك النهارَ مساءٌ ... فهو يومٌ مُسْمِرُ الأضواءِ وانزوى الليلُ خاشعًا كيتيمٍ ... ضَيعته مباهجُ الأغنياءِ أرهفَ الكونُ سَمْعَه وتَمشَّت ... في الجماداتِ نَشوةُ الصهباءِ واستفاقت جزيرةُ العُربِ حَيرى ... "فمَناة" و"اللاتُ" في الدقعاءِ أخرسَ الناسَ خَطبُها فتبارَوا ... في استلام الآلهةِ الصماءِ ابن "وَدٌّ" وأين بطش "سُواعٍ " ... كان ذاك النذيرُ بَدْءَ انتهاءِ وتوالت في أرضِ فارسَ أرزا ... ءٌ جِسام فنارُها في انطفاءِ وارتجاسُ الإيوانِ هَزَّ قلوبَ الفُر ... سِ هَزَّ السَّنابِلِ العَجْفاءِ تُحفةُ العالَم القديم ومَجدُ الـ ... ـعين والفنِّ والعُلى والبناءِ إنْ تداعى فشمسُ كسرى كسُوفٌ ... مؤذنٌ بالنهايةِ السواءِ حُلمُ الموبِذانِ بالنورِ يَجري ... والصحارِي مَرُعَةٌ بالرُّغاءِ والخيولُ العِرابُ سَيلٌ أتى ... ضابحاتٍ في مَسْمَع الزَّوراءِ أجفلَ السُّورُ المدائن خوفًا ... مِن صَهيلِ السوابح الجَرْداءِ وإذا الفُرسُ والمدائنُ صرعى ... في مجالِ السنابِكِ الحمراءِ * * *

حُسب الرملُ ذلك اليومَ تِبْرًا ... يُنبِتُ الحُلمَ في عيونِ الرائي فسهولُ الحجازِ بحرٌ نُضارٌ ... مِن نثيرِ السبائِكِ الصفراءِ ضَحِك السَّبْسَبُ الخليُّ وشَقَّت ... أنمُلُ الوردِ صفحةَ الدهناءِ ذاك عُرسُ الدنيا ولا غَرْوَ أنْ ... بَثَّتْ صلاها ونمنمت في الكساءِ رَحَّبت بالوليدِ جاء يتيمًا ... فهو والفقرُ توأمٌ في رِداءِ يا فقيرًا ودونَه الشمسُ عزًّا ... سوف تعلُو مناكبَ الجَوزاءِ خَلفَك النسرُ والسُّها والثريَّا ... سائراتٌ في الركبِ سَيْرَ الإماءِ فقرُ كفٍّ والنَّفسُ كنزٌ خَلودٌ ... هكذا كان مولدَ الأنبياءِ * * * ° وقال فيها (ص 54) تحت عنوان "البعثة": وأشبَّ الغلامُ فامتدَّ صِيتًا ... كامتدادِ الشُّعاع في الدَّيجورِ طَبعُه الصدقُ والأمانةُ فالآ ... راءُ تَهدي هَدْيَ الصباحِ المنيرِ واصطفته خديجةُ لاتِّجارٍ ... عاد منه والربحُ فَيضُ بحورِ فاصطفته لنفسِها فحَبَاها ... شَرفًا أن تكونَ فوقَ الحُورِ كلَّ عامٍ يرتادُ غارَ حِراءٍ ... مُفعَمَ الروحِ مُلهَمَ التفكيرِ يُرسِلُ الطرْفَ في السماءِ كلامًا ... ليس تجلُوه صَنعةُ التعبيرِ ذلك الصمتُ دونَه جهرُ موسى ... بالدعاءِ الحميم فوقَ الطُّورِ فالصلاةُ الصلاةُ خفقةُ قلبٍ ... وهُيامٌ مُغلغَلٌ في الشعورِ قال عيسى مُلكُ الإله لديكم ... لو نَبَشتمُ عن كَنزِه في الصدورِ * * *

صموئيل زويمر الإنكليزي

هدأ الكونُ وامَّحى الصوتُ حتى ... لَتُحِسَّ الآذانُ هَمْسَ العصورِ وإذا صوتُ هاتفٍ يهتفُ:"اقرأ" ... فيردَّ الصَّدى نداءَ البشيرِ فتهادى محمدٌ وتمشَّت ... في حناياه رِعشةُ المَقرورِ قال جبريل: يا محمدُ كِّبرْ ... باسم ربٍّ مِلْءَ الوجودِ قديرِ صفحةُ الكونِ بَدَّلت في ثوان ... بين مرآتها ضميرَ الدهورِ فإذا أحمدُ العظيمُ نبيٌّ ... والمجيدُ القرآنُ حُلمُ العصورِ * صموئيل زويمر الإِنكليزي: البروتستانتى الإنكليزي المبشرُ، وهو مستشرقٌ، محرر مجلة "عالم الإسلام" الإنكليزية، له مؤلفاتٌ ذاتُ شأنٍ في العلاقات بين الإسلام والمسيحية، منها: "يسوع في "إحياء" الغرالي" .. تُوفي في بلدته "ليدس" 1914. ° قال -وهو من أشد الناسِ عداوةً للنبي - صلى الله عليه وسلم - في كتابه "يسوع في "إحياء" الغرالي": "إن عبقريةَ محمدٍ هي السببُ في نجاحهِ واستطارةِ شأنِه، يُضافُ إلى هذا كله معرفتُه العظيمةُ بالدياناتِ في عصرِه، وقُوته في اجتذاب القلوبِ إليه، ومقدرتُه في الإدارة والحرب، ولباقتُه في السياسةِ الفائقة، لم يَكَدْ يَقْدِرُ على البر وإسداءِ المعرفةِ وإظهارِ شكرِه للنعمة واعترافِه بالجميل حتى ضَرَب للناس في ذلك أروع الأمثال". * المسيو ديسون الألماني: وُلد في مدينة "كولونيا" عام 1817، ولم نعثُرْ على تاريخ وفاته. ° قال في كتابه "الحياة والشرائع": "وليس يَزعمُ أحدٌ اليومَ أن محمدًا

برتلمي سانت هليار السويسري

راحِ يُزوِّر دينًا، وأنه كاذب في دعواه وأفَّاكٌ في دعته، إذا عَرَف محمدًا ودَرس سيرتَه، وأشرف على ما يتمتَعُ به دينُه من تشريعاتٍ تَصلُحُ أن تَظَل مع الزمن مهما طال، وكل مَن يكتبُ عن محمدٍ ودينِه ما لا يجوز، فإنما هو من قِلَّةِ التدبرِ وضَعفِ الاطلاع". * برتلمي سانت هليار السويسري: أستاذ الفلسفة الإغريقية في "كوليج دي فرانس"، وقد وُلد عام 1807، وتوفي 1873. ° قال في كتابه "مع الشرق": "لقد كان محمدٌ أذكى العربِ في عهدِه، وأكثرَهم تقوى ودينًا، وأرحَبَهم صدرًا، وأرفقَهم بأعدائهِ وخصوم دِينه، وما استقامت إمبراطوريتُه إلاَّ بسبب تفوُّقِه على رجالِ عصره، وأما الدينُ الذي راح يدعو إليه، فقد كان خيرًا كثيرًا على الشعوب التي اعتنقته وآمنت به". * القَسُّ لوازون الفرنسي: ° قال في إحدى محاضراته: "وآخِرُ جميع الأنبياء -كما يعتقد المسلمون- هو محمدٌ الذي وُلد في مكة لعشرِ ليالٍ مَضَت من أبريلَ سنة 570 للميلاد، وكانت عائلتُه أشرفَ عائلةٍ في قريش، وهي إحدى القبائل الشهيرة في بلادِ العرب، وصاحبُ النسب المرتقي إلى إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ الخليل، وقد كان جَدُّه متوليًّا سَدَانةَ الكعبة، وكانت دارَ حكومتهم، ومَعبَدَ ديانةِ العرب الوثنية، وتُوفِّي والدُه عبد الله قبلَ ولادته، وتُوفِّيت أُمُّه وهو ابنُ سِتَّةِ أشهرُ، وكان على أعظمِ يكونُ من كريم الطباع، وشريفِ

جورج سيمون

الأخلاق، ومنتهى الحياء، وشدَّةِ الإحساس، وقد كَفَله عمُه وهو ابنُ ستِّ سنواتٍ، وأثناءَ كَفالتِه بدأت تظهرُ من محمدٍ علاماتُ الذكاء ورَجاحةُ العقل، ومرَّ بصِبيانٍ يلعبون، فدَعَوه للَّعِبِ معهم، فأجابهم: "إن الإنسانَ خُلق للأعمال الجليلة، والمقاصِدِ الشريفة، لا للأعمالِ السافلةِ والأمورِ الباطلة"، وكان على خُلقٍ عظيم، وشِيَم مَرضيَّة، شَفُوقًا على الأطفال، مطبوعًا على الإحسان، غيرَ مُتمشدِقٍ في نفسه، ولا صَلِفٍ في معاملته مع الناس، وكان حائزًا قوةَ إدراكٍ عجيبة، وذكاءً مُفرِطًا، وعواطفَ رقيقةً شريفة" (¬1). ° وقال في كتابه "الشرق" (ص 61): "إنَّ محمدًا -بلا التباس ولا نُكران- كان من النبيين والصِّدِّيقين، وهو رسولُ الله القادرِ على كلِّ شيء، بل إنه نبى جليلُ القَدْر، ومهما تحدثنا عنه، فليس بالكثير في حقه، لأنه جاء إلى العالَم بدينٍ جَمَع فيه كل ما يَصلُحُ للحياة". * جورج سيمون: ° قال: "إنَّ محمدًا قد رَفع أعلامَ التمدُّن". * اللورد هيدلي وإِسلامه: ° قال الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر: "كان لإسلام اللورد "هيدلي" ضجَّةٌ كبيرة -لمركزه، ولِمَا يَعلمُه فيه عارفوه من نُضجٍ في التفكير، وَتَروٍّ في الأمور-، وحينما أراد الحجَّ مر بالإسكندرية، فأقام له أهالي الثغرِ حَفلةً كُبرى وُضعت تحت رعايةِ الأمير السابق "عمر طوسون" ¬

_ (¬1) نقلاً عن مجلة "المقتطف" -المجلد الرابع- العدد السابع.

كيف أسلم اللورد "هيدلي"؟.

الذي ألقى كلمةً حيَّا فيها الضيفَ الكريمَ، ابتدأها بقوله: "مرحبًا مرحبًا وأهلاً وسهلاً، لقد خَفَّت مصرُ إلى استقبالكم، وابتهجت بمقدَمِكم الكريم، وكان سُرورُها بذلك عظيمًا، حتى لقد تمنَّت كلُّ مدينةٍ أن تسعى بأهلِها إليكم، أو يكونَ لكم مُتَّسَعٌ من الوقتِ لزيارتها، فتقومُ بما يجبُ لكم من الإجلالِ والإعظام، والترحيبِ والإكرام". وكانت الحفلةُ برئاسةِ صاحب الفضيلة الشيخ "عبد الغني محمود" شيخ علماء الإسكندرية". * كيف أسلم اللورد "هيدلي"؟. ما هي العواملُ التي دَعَتْه إلى اعتناق الإسلام؟. إننا في الصفحاتِ التاليةِ سنذكرُ جُملةً من النصوص تُرشِدُ القارئَ إلى سبب رفضِه المسيحيةَ وإلى سببِ إسلامه، وإلى تصوره لكثيرٍ من وجهاتِ النظر الإسلامية. ° يقول اللورد: "عندما كنتُ أقضي -أنا نفسي- الزمنَ الطويلَ من حياتي الأولى في جو المسيحية، كنت أشعُرُ دائمًا أن الدينَ الإسلامي به الحُسنُ والسهولةُ، وأنه خِلْوٌ من عقائِدِ الرومانِ والبروتستانت. وثَبَّتني في هذا الاعتقاد زيارتي للشرقِ التي أعقَبَت ذلك، ودراستي للقرآن المجيد". له الله .. لكم تألَّم وقاسى في سبيل وصوله إلى الحق. ° استمعْ إليه يقول: "فكَّرتُ وصلَّيتُ أربعين سنةً، كي أصلَ إلى حَلٍّ صحيح، ويجبُ عليَّ أن أعترفَ أيضًا أن زيارتي للشرق ملأتني احترامًا

عظيمًا للدين المحمدي السَّلِسِ الذي يَجعلُ الإنسانَ يَعبدُ اللهَ حقيقة طُولَ مُدَّةِ الحياة، لا في أيام الآحاد فقط". ° ويرى أن الإسلامَ هو الدينُ العالَميُّ حقًّا، إذ يقول: "أيُمكنُ إذن أن يوجَدَ دينٌ يُمكَنُ العالَمَ الإنساني من أن يُجمعَ أمرَه على، عبادةِ الله الواحدِ الحقيقي -الذي هو فوقَ الجميع وأمامَ الجميع- بطريقةٍ سهلةٍ خاليةٍ من الحشو والتلبيك؟. فكِّرْ لحظةً -وذلك تفكيرٌ لازمٌ لكمالِ البشر في الحقيقة-، إنه إذا أصبح كلُّ فردٍ في الإِمبراطوريةِ الإنجليزيةِ محمديًّا حقيقيًّا -بقلبه ورُوحهْ-، أصبحت إدارةُ الأحكام أسهل ممن ذلك؛ لأن الناسَ سيُقادون بدينٍ حقيقي". ° وها هو ذا يُعبِّرُ عن الشكرِ حينما هداه الله: "رُوحُ الشكرِ هي خلاصةُ الدينِ الإسلامي، والابتهالُ أصلٌ في طلب الهداية والإرشاد من الله. إنه -وإن كان شُكري للهِ على كَرَمهِ وعنايتِه كان متأصِّلاً فيَّ من صِغَري وأيام حداثتي-، فإنني لا أستطيعُ أن أشاهدَ ذلك من خلال السنينَ القليلةِ الماضية، التي قَرعَ فيها الدينُ الإسلامي لُبِّي حقًّا، وتَمَلَّك رُشدي صِدقًا، وأقنعني نقاؤُه، وأصبح حقيقةً راسخةً في عقلي وفؤادي، إذِ التقيتُ بسعادةٍ وطمأنينة ما رأيتُهما قطُّ مِن قبلُ، كما أستنشقُ هَواءَ البحرِ الخالصَ النقي، وبتحقُّقي من سلاسةِ وضياءِ وعَظمةِ الإسلام ومَجْدِه، أصبحتُ كرجلٍ فَرَّ من سِردابٍ مُظلِم إلى فسيح من الأرضِ تُضيؤُه شمسُ النهار".

° ومما يَذكرُ من تعاليم الإسلام مُشِيدًا به: "ليس هناك في الإسلام إلاَّ إلهٌ واحد، نَعبدُه ونَتْبَعُه، إنه أمامَ الجميع، وفوقَ الجميع، وليس هناك قُدوسٌ آخَرُ نُشرِكُه معه، إنه لَمِن المُدهِشِ حقًّا أن تكونَ المخلوقاتُ البشريةُ ذواتُ العقول والألباب على هذا القَدْرِ من الغَباوةِ، فيسمحون للمعتقَداتِ والحِيَل الكهنوتية أن تَحجُبَ عن نظرِهم رؤيةَ السماء، رؤيةَ ربهمُ القَهَّار، المتَّصِل دومًا بكل مخلوقاتِه، سواء كانوا عاديين، أو أولياءَ مقدَّسِين. مفتاحُ السماء موجودٌ دائمًا في مكانه، ويمكنُ إدارتُه بأذلِّ وأقل المخلوقاتِ دون أيَّة مساعدةٍ من نبي أو كاهن أو مَلَكٍ، إنه كالهواء الذي نَستنشقُه مجانًا لكل خَلقِ الله. أما هؤلاء الذين يجعلون الناسَ يَفهمون غيرَ ذلك، ما دعاهم إلى هذا العمل إلاَّ حبُّ الفائدة. ليس غَرضي الرئيسي أن أُهاجمَ أي فرع معيَّن من فُروع الديانة المسيحية، لأُبينَ جلالَ وسلاسةَ الديانةِ الإسلامية -التي هي خالية في نظرِ الكاتبِ المُنصِفِ من العوائقِ الظاهرةِ- جليًّا في كثير من الديانات الأخرى". ° ولقد افترى كثيرون على الإسلام، وها هو ذا يَردُّ على افتراءاتهم: "ليس في وُسع الإنسان في الحقيقةِ إلاَّ أن يَعتقدَ أن مُدَبِّجي وناسِجي هذه الافتراءاتِ، لم يتعلموا، حتى ولا أولَ مبادِئِ دينِهم، وإلا لَمَا استطاعوا أن يَنشُروا في جميع أنحاء العالم تقاريرَ معروف لديهم أنها مَحضُ كذبٍ واختلاق.

إن تعاليمَ القرآنِ الكريم قد نُفِّذت ومُورست في حياة محمدٍ الذي -سواءٌ في أيام تَحمُّلِه الألمَ والاضطهادَ، أم في زمنِ انتصارِه ونجاحِه- أظهَرَ أشرفَ الصفاتِ الخُلقيةِ التي لا يَتسنَّى لمخلوقٍ آخَرَ إظهارُها. فكلُّ صفاتِ الصبرِ والثباتِ في عصرِه كانت تُرى في أثناء الثلاثَ عَشْرةَ سنةً التي تألَّمَها في مُجاهداته الأولى بمكة، ولم يَشعُرْ في كل زمن هذا الجهادِ بأيِّ تزعزُع في الثقةِ بالله، وأَتمَّ كل واجباته بشَمَمٍ وحَمِيَّة. كان - صلى الله عليه وسلم - مثابِرًا، ولا يَخشى أعداءَه؛ لأنه كان يَعلمُ بأنه مكلَّفَ بهذه المأمورية مِن قِبَل الله، ومَن كَلَّفه بهذا العمل لن يَتخلَّى عنه. لقد أثرت تلك الشجاعةُ التي لا تَعرفُ الجُفولَ -تلك الشجاعةُ التي كانت حقًّا إحدى مميزاتِه وأوصافِه العظيمة- إعجابَ واحترامَ الكافرين، وأولىك الذين كانوا يَشْتَهون قتلَه .. ومع ذلك فقد انتبهت مشاعرُنا وازدادَ إعجابُنا به بعد ذلك في حياتِه الاخيرة، أيامَ انتصارِه بالمدينة، عندما كانت له القوةُ والقُدرةُ على الانتقام واستطاعتُه الأخذَ بالثأرِ ولم يفعل، بل عفا عن كل أعدائه. العفوُ والإحسانُ والشجاعة، ومِثلُ هاتيكَ الصفات، كانت تُرى منه في كل تلك المدة، حتى إن عددًا عظيمًا من الكافرين اهتَدَوا إلى الإسلام عند رؤية ذلك. عفَا بلا قَيدٍ ولا شَرطٍ عن كل هؤلاء الذين اضْطَهَدوه وعَذَّبوه، آوى إليه كل الذين كانوا قد نَفَوه من مكة، وأغنى فقراءَهم، وعَفَا عن ألدِّ أعدائه، عندما كانت حياتُهم في قبضةِ يَدِه وتحتَ رحمته.

جون وانتبورت السويسري

تلك الأخلاق الربانيةُ التي أظهَرَها النبيُّ الكريم، أقنَعت العربَ بأن حائزَها يجبُ ألا يكونَ إلاَّ مِن عندِ الله، وأن يكونَ رجلاً على الصراطِ المستقيم حقًّا، وكراهيتُهم المتأصِّلةُ في نفوسهم حوَّلتها تلك الأخلاقُ الشريفة إلى مَحبَّةٍ وصداقةٍ متينة". ° محمدٌ المَثَل الكامل: "نحن نعتبرُ أن نبي بلادِ العربِ الكريمَ ذو أخلاقٍ متينة، وشخصيةٍ حقيقةٍ وُزِنَت واختبرت في كلّ خطوةٍ من خُطَى حياته، ولم يُرَ فيها أقلُّ نقصٍ أبدًا. وبما أننا في احتياجٍ إلى نموذج كامل يَفي بحاجاتِنا في خُطواتِ الحياة، فحياة النبي المقدَّسِ تَسدّ تلك الحاجة. حياةُ محمدٍ كمرآةٍ أمامنا تَعكِسُ علينا التعقُّلَ الراقيَ، والسخاءَ والكرمَ، والشجاعةَ والإقدام، والصبرَ والحِلمَ، والوداعةَ والعَفْوَ، وباقيَ الأخلاق الجوهريةِ التي تكوِّن الإِنسانية، ونرى ذلك فيما بألوانٍ وَضَّاءة .. خذْ أي وجهٍ من وجوهِ الآدابِ وأنت تتأكَّد أنك تَجِدُه موضَّحًا في إحدى حوادثِ حياته. ومحمدٌ وَصَل إلى أعظم قوةٍ، وأتى إليه مُقاوِموه، ووَجدوا منه شَفقةً لا تجَارَى، وكان ذلك سببًا في هدايتهم ونقائهم في الحياة". رَحِم الله اللورد "هيدلي"، وجزاه عن الإسلام خير الجزاء (¬1). * جون وانتبورت السويسري: وُلِد في مدينة "لوزان" سنة 1795م، وتُوفِّي سنة 1863م. ¬

_ (¬1) "أوروبا والإسلام" (ص 67 - 72).

البرنس كاتيان الإيطالي

° قال في كتابه "محمد والقرآن": "بقَدرِ ما نرى صفةَ محمدٍ الحقيقيةَ بعين البصيرة والتروِّي في المصادر التاريخية الصحيحة، بقَدْرِ ما نرى مِن ضَعفِ البُرهانِ وسُقوطِ الأدلةِ لتأييدِ أقوالِ الهَجْوِ الشديدِ والطعنِ القبيح الذي اندفن على رأسه وانهار عليه من أفواهِ المُغرضين والذين جَهِلوا حقيقةَ محمدٍ ومكانتَه، ذلك الرجلُ العظيمُ عند كلِّ دَرَس صفاتِه العظيمةَ، كيف لا، وقد جاء بشرع لا يَسَعُنا أن نتَّهمَه فيه؟! ". * البرنس كاتيان الإِيطالي: ° قال في كتابه "أديان العرب" (ص 34): "إن مَزِيَّةَ محمدٍ هي كفاءتُه العجيبةُ كسياسيٍّ محنَّكٍ أكثَرَ منه كنبيٍّ موحًى إليه!! وليس في وُسع أحدٍ فَهِمَ محمدًا أن يَحُطَّ مِن كرامته، ومَن فعل ذلك فقد ظَلَم نفسَه وظَلم محمدًا". [ألمانيا] * العلامة كارل ماكس الألماني: ولد العلامة "كارل ماكس" في "تريف" بألمانيا 1817، توفي 1883، من رجال السياسة والفلسفة الاجتماعية، ومحرر "البيان الشيوعي". ° قال في كتابه "الحياة": "إن الرجلَ العربي الذي أدرك خطايا المسيحيةِ واليهودية، وقام بهمةٍ لا تخلو من الخطرِ بين أقوام مشركين يَعبدون الأصنام، يدعُوهم إلى التوحيد، وَيزرعُ فيهم أبَدِيَّةَ الروح، ليس من حقه أن يُعدَّ بين صفوفِ رجالِ التاريخ العِظام فقط، بل جَدير بنا أن نعترفَ بنُبوته، وأنه رسولُ السماء إلى الأرض".

الشاعر المعروف جايتي الألماني

ـ[ومن ألمانيا]ـ * الشاعر المعروف جايتي الألماني: ° قال في كتابه "الإسلام" (ص 67) بعد تِعدادِ ما جاء به الإسلام: "إذا كان ذلك هو الإسلام، فَكُلُّنا إذًا مسلمون، نعم كلُّ مَن كان فاضلاً شريفَ الخُلُقِ فهو مسلم، ألاَ إنَّ دينَ محمدٍ كلُّه إخلاصٌ ودين اجتماع وأخلاقٍ ورعايةٍ لبني الإنسان، فإذًا يمتازُ شرعُ محمدٍ ودينُه عن غيره". * الكاتب الشهير دريترسي الألماني: ولِد في "برلين" 1821م، وتُوفِّي 1888م، مستشرقٌ ألماني. ° قال: "إن علومَ الطبيعةِ والفَلَكِ والفلسفةِ والرياضياتِ التي أنعَشَتْ أوروبا في القرن العاشرِ للميلاد مُقتبسةٌ من قرآنِ محمد، بل إن أوروبا مَدِينةٌ للإسلام الذي جاء به محمد". ° وقال: "إننا لو أنصفنا الإسلامَ، لاتَّبَعْنا ما عنده من تعاليمَ وأحكام، لأن الكثيرَ منها ليس في غيره، وقد زاده محمدٌ نموًّا وعَظمةً، بحُسنِ عنايتِه وعظيم إرادته، وَيظهرُ من محمدٍ أن دعوتَه لهذا الدينِ لم تكن إلاَّ عن سببٍ سماويٍّ .. إننا نقول هذا لو أنصفناه فيما دعا إليه ونادَى به، وإن مَن اتَّهم محمدًا بالكذب، فليتَّهم نفسَه بالوَهْن والبلادةِ وعدم الوقوفِ على ما صَدَع به من حقائق". * الهر ماركوس الألماني: دكتور بالفلسفة، وُلد في "تريف" عام 1818، وتوفِّي عام 1884، محرر "البيان الشيوعي"، ومن رجال السياسةِ والفلسفة.

العلامة برتلي ساشا هيلر الألماني

° قال في محاضرةٍ له القاها عام 1872 نقلتها عنه مجلة "المقتطف" المصرية المجلد الخامس منها: "تعالَوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا نُنصِف بها الإسلامَ الحنيفَ، ونَبيَّه العظيمَ محمدًا، ولْنَجعلْ موضوعَنا اليومَ "الحكومة الإسلامية في صدر الإسلام"، ولْنستعرضْ تنظيماتِها في عهدِ سيَّدها وقائدِها وزعيمِها ذلك الرسولِ الكريم، لنبيَّنَ أن الصحابةَ والخلفاءَ الراشدين وقادةَ الإسلام كانوا يقُومون بواجباتهم بكلَّ أمانةٍ ودقةٍ، وِفقًا للشريعة الغرَّاء التي جاء بها محمد، لم يكنْ في فجرِ الإسلام شِيَعٌ ولا أحزاب، بل على العكسِ من ذلك، كانت الحكومة الإسلاميةُ تُمثلُ جَميعَ المسلمين تمثيلاً صحيحًا، وهي عبارة عن هيئةٍ منظمةٍ مشتَرَكة، تَنطِقُ بحق بلسان كافةِ المسلمين، كلُّ مسلمٍ يَشُدُّ أَزْرَ أخيه المسلم، وكان عَدلُ محمدٍ منتشرًا بين المسلمين، بحيث كان المسلمُ الواحدُ مطمئنًا إذا كان هو رافلاً في بُحبوحةٍ من العَيش، وهناءِ بالٍ، ولم يكن مخطئًا في ذلك، بل كان هذا هو الحقَّ الواقع". ° إلى أن قال: "وهذه البدعةُ التي اشتَرَعها محمدٌ، كانت بمثابةِ يُنبوع فيَّاضٍ يَكفُلُ حاجةَ المسلم الفقير، فيتناولُ نصيبَه من بيتِ المال بانتظام، وفي ذلك مساعدةٌ عظمى لأمته". * العلامة برتلي ساشا هيلر الألماني: مستشرقٌ ألماني، ولد في "درسدن" 1793، وتُوفي 1884. ° قال في كتابه "الشرقيون وعقائدهم":"كان محمدٌ رئيسًا للدولة، وساهرًا على حياةِ الشعبِ وحُرَّيته، وكان يعاقِبُ الأشخاصَ الذين

الدكتور تيودور نولدكه الألماني

يَجترِحون الجناياتِ حَسبَ أحوالِ زمانه وأحوالِ تلك الجماعاتِ الوحشية التي كان يَعيشُ النبي بين ظَهرانَيها، فكان النبي داعيًا إلى ديانةِ الإلهِ الواحد، وكان في دعوته هذه لطيفًا ورحيمًا، حتى مع أعدائِه، وإن في شخصيتِه صِفَتَينِ هما من أجل الصفاتِ التي تَحمِلُها النفسُ البشريةُ، وهما العدالة والرحمة". * الدكتور تيودور نولدكه الألماني: ° هو من مشاهير المستشرقين الألمان، وُلد في "همبورغ " عاصمة ألمانيا التجارية عام 1836، وتوفي 1920، اشتَغل في اللغاتِ السُّريانيةِ والفارسيةِ والعربية .. له "تاريخ القرآن"، قال فيه، (ص 83): "نزل القرآنُ على محمدٍ نبيِّ المسلمين -بل نبيِّ العالَم-؛ لأنه جاء بدين إلى العالَم عظيم، وبشريعةٍ كلُّها آدابٌ وتعاليم، وحَرِيٌّ بنا أن ننصِفَ محمدًا في الحديثِ عنه؛ لأننا لم نقرأْ عنه إلا كلَّ صفاتِ الكمالِ، فكان جديرًا بالتكريم". * العلامة كارل هينرش بكر الألماني: مستشرق ألماني، وُلد في بلدته "لاكازا" من ألمانيا الغربية عام 1876، وتوفي 1937، له عِد مؤلَّفاتٍ، وهو المؤسسُ لمجلة "العالم الإسلامي"، وكان يفضِّلُ الأدبَ الإسلاميَّ على الأدب المسيحي. ° قال في كتابه "الشرقيون": "لقد أخطأ مَن قال: إن نبيَّ العرب دَجَّالٌ أو ساحر؛ لأنه لم يَفهم مَبدأَه الساميَ، إنَّ محمداً جديرٌ بالتقدير، ومبدؤه حَرِيٌّ بالاتباع، وليس لنا أن نحكمَ قبلَ أن نَعلم، وإن محمدًا خيرُ رجل جاء إلى العالَم بدينِ الهدى والكمال، كما أننا لا نرى أن الديانةَ

ويلكي كولنز الألماني

الإسلامية بعيدةٌ عن الديانة المسيحية". * ويلكي كولنز الألماني: ° الروائي المعروفُ .. قال في كتابه "جوهرة القمر": "لقد جاء محمدٌ بصيانةِ النساءِ وحثهِنَّ على العفاف، وحَذَّر من السير على خلافِهما، مُشيرًا إلى ما في هذين من النقصِ والخِسَّة، وكم لِمِثل هذا من نظيرٍ في شريعته السامية". * القَسُّ ميشون الألماني: ° قال في كتابه "سياحة دينية في الشرق" (ص 31): "إنه لَمِنَ المحزِنِ أن يتلقَّى المسيحيون عن المسلمين روحَ التعامل وفضائلَ حسنِ المعاملة، وهما أقدس قواعِدِ الرحمةِ والإحسانِ عند الشعوبِ والأم، كل ذلك بفضل تعاليم نبيِّهم محمد". * شاعر ألمانيا الكبير "جوته" (1749 - 1832): ° مَرَّ بنا سابقًا ما قاله "جوته" عن القرآن الكريم: "إنه الكتاب الذي يكرِّر نفسَه تكراراتٍ لا تنتهي، فيثير اشمئزازنا دائمًا كلما شَرَعنا في قراءته". ° وهو القائل عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كما سَبَق-: "نَصب حَولَ العربِ غلافًا دينيًّا كئيبًا، وعَرَف كيف يَحجب عنهم الأملَ في أيِّ تقدُّم حقيقي" (¬1). وهنا وِجهة نظر أخرى لدى الباحثةِ الألمانية "د. كاثرينا ممسين" عن ¬

_ (¬1) "صورة الإسلام في التراث الغربي" (ص 57).

"جوته" في كتابها "جوته والإسلام"، ترجمته "شيرين حامد فهمي"، وأصدرته مكتبة "الشروق الدولية"، تتحدثُ "د. كاثرينا ممسين" عن إعجابِ "جوته" بالقرآن .. وكان مفهومُ "التسامح" هو الذي جَذَب "جوته" إلى الإسلام، ولكي يَفهمَ لُغةَ القرآن تَعلَّم اللغةَ العربيةَ والخط العربي، وكان يَصِفُ لُغةَ القرآنِ بالقوةِ والعظمةِ والرهبةِ والسكونِ في خليطٍ عجيب. ° وتذكرُ "د. كاثرينا ممسين" أمثلةً من كتاباتِ "جوته" ورسائلِه التي تدل على مدى احترامِه للاسلام؛ فقد كتب رسالةً وهو في الثانية والعشرين من عمره قال فيها: "أُريد أن أدعوَ كما دعا موسى ربَّه في القرآن {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25] "، مما يدل على أنه قرأ القرآن وتأثَّر به. وعندما بَلَغ السبعين أَعلن عن قرارِه بالاحتفال بتلك الليلةِ المقدَسةِ التي نَزل فيها القرآنُ مِن أعلى السماوات إلى النبيِّ محمدِ - صلى الله عليه وسلم -، وهذه اللغةُ في الحديث عن الإسلام كانت بعيدةً كل البُعدِ عن اللغة التي كان العالَمُ الغربي يتحدَّثُ بها عن الإسلام. ° تقول "د. كاثرينا ممسين": "إن "جوته" رأى -خلافًا للعالَم الغربي- التأثيرَ الإلهي للقرآن على البشرية، وإن اقتباسات "جوته" من القرآنِ في مواضعَ كثيرةٍ في كتاباته تَعكِسُ تقديرَه الشخصي واقتناعَه بأمورٍ كثيرةٍ في الإسلام، وكانت سورة "البقرة" من أكثرِ السورِ التي أثَّرت في هذا الشاعر الكبير، وهو يذكُرُ عدَّةَ آياتٍ يتوقفُ عندها ويُشيدُ بما فيها من الفِكر الرائع العميق (¬1) مثل: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا ¬

_ (¬1) القرآن ليس فكرًا، بل هو كلامُ العلي الكبير، وهو سبحانه لا يُوصَف بالتفكير.

خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112]. * كما يتحدَّثُ عن آيةٍ أخرى من نفسِ السورة، يقول: إنها تُعبِّرُ عن دليل وجودِ الله في الكون كلِّه: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115]. والآية: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] * وسَجَّل "جوته" إعجابَه بما في الإسلام من الدعوةِ إلى الخير، فقال: "إنَّ الله يقولُ في القرآن: إنه لم يَبعث رسولاً إلى قوم إلاَّ أن يكونَ منهم، ويتحدثَ بلُغتهم، وَيعرفَ ثقافَتهم" .. ويَستشهدُ بالآية: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27]. والآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم: 4]. ° وكتب "جوته" رسالةً إلى المفكر والمؤرخ البريطاني "توماس كارليل" في سنة 1827م قال له فيها: "إن القرآنَ يقول: إن الله أرسلَ لكل قوم رسولاً يتحدَّثُ بلُغتهم"، وأشار إلى الكفار الذين طالبوا الرسولَ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بأن يأتيَ بمعجزات، وعَلَّق على ذلك بأبياتٍ من الشعر قال فيها: قال لهم: المعجزاتُ لا أستطيعُ الإتيانَ بها، المعجزةُ الكبرى هي وُجودي بينكم رسولاً" (¬1). ¬

_ (¬1) "المنصفون للإسلام في الغرب" (ص 216 - 217) لرجب البنا- دار المعارف.

° كان للشاعرِ الفرنسيِّ الشهير "فولتير" مسرحية بدأ عَرضُها عام 1742، واشتُهرت في الغرب، اسمها "تطرف النبيِّ محمد"، وأعلن "جوته" أن هذه المسرحيةَ قَدَّمت أبشَعَ صُورةٍ يمكنُ تصوُّرُها عن نبيٍّ، وألَف مسرحيةً تُعارضُها بعنوان "الدراما المحمدية" من مشهَدين: في المشهد الأول: يُصوِّرُ بَعثةَ النبيِّ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وكيف جاءه الوحيُ بتكليفِه بالرسالة. والمشهد الثاني: يُصوِّرُ معاناةَ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - مع قومهِ في تبليغ رسالةِ التوحيد، وقَدَّم "جوته " بعد ذلك "أغنية محمد" التي تُعتبر أولَ تبجيل للرسول - صلى الله عليه وسلم - من شاعر أوروبي. وفي هذه الأغنية يَظهرُ انبهارُ "جوته " بشخصيةِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم انبهارُه بجهادِه وعدم اكتفائِه بالدعوةِ، وكفاحِه لتأسيسِ مجتمع قائمٍ على مبادئِ الدينِ الذي جاء به، ورَبَط بنِ النبي - صلى الله عليه وسلم -المُعلِّم الرُّوحيّ، والنبيّ الإنسانِ ذِي الصفاتِ العالية، ويَعكسُ "جوته" في أشعاره عُمومًا إعجابَه بما في شخصِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المَزج بين الشخصيةِ التي تؤسِّسُ دِينًا جديدًا، وبين نفس الشخصيةِ وهي تُكرِّسُ جَهدَها لتربيةِ البشرِ روحيًّا. وجاء في أشعارِ "الدراما المحمدية" الكثير من تعبيراتِ الإعجابِ والتقديرِ للرسول - صلى الله عليه وسلم - مثل: بين مضايِقِ الجبالِ سار وبخُطى أقدام القائدِ شدَّ معه أصحابَه

تنتعشُ الورودُ تحت أقدامه وفي غيرِ ظِلِّه لا توجدُ الورود وها هو ذا يسيرُ في الوادي متلألئًا بهيًّا والأنهار والجداولُ تهتفُ به صائحةً: يا أخانا خُذ إخوانَك وخُذْنا معك إلى ربِّك الدائم والآن يعلُو ويُكبِّرُ ويَحملُ معه الأمراء وفي وسطِ انتصاراتهِ دانت المُدنُ تحتَ قدميه وهو يسيرُ تاركًا التَّرَفَ والثراء لا يَعبأُ بهما .. وهكذا حَمَل أصحابَه وأطفالَه ولا يكتبُ هذه الصورةَ المليئةَ بالتقديرِ إلاَّ مَن يؤمنُ بأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رسولٌ بحقٍّ، وأن دينَه هو دينُ الحق. ° وتذكرُ "كاثرينا ممسين" مواقفَ كثيرةً تدلُّ على اعتقادِ "جوته" بالتسليم لله كما في العقيدة الإسلامية؛ ففي عام 1820 م مَرِضت أختُه غيرُ الشقيقة بمرضٍ خطيرٍ، فكتب إلى صديق له: "لا أستطيعُ إلاَّ أن أقول: إنني أجدُ نفسي -مرةً أخرى- باحثًا عن الإسلام". ° وفي عام 1831 انتشر وباءُ الكوليرا، فكتب: "هنا لا يستطيعُ أحدٌ أن يَنصحَ غيرَه فيما يفعلُه، فنحن جميعًا نَعيشُ في الإسلام الذي يُعطينا الشجاعةَ في مواجهةِ الحياة". ° وقبل موته بأربعةِ أسابيع -وهو في عامِه الثاني والثمانين- كتب: "من أجل أن يتحرَّر البشرُ من الخوف انتَهوا بإلقاءِ أنفُسِهم في حِضنِ الإسلام واثِقين في اللهِ وفي أقدارِه غيرِ المكشوفة لنا".

° فهو مؤمنٌ بما في الإسلام من الخضوع لله والرضا بما كتبه، ويُعبِّرُ عن ذلك بقوله: "إنه لمن اللافتِ للانتباه أن نرى كيف كان المؤمنون بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - يقومون بتربيةِ الأجيالِ المسلمة، وكان الدرس الأولُ هو تثبيت عقيدةِ القضاءِ والقدر، والإنسانُ لا يواجهُ أمرًا إلاَّ وقد كَتَبه اللهُ له، ومِن ثَمَ يعيشون حياتَهم آمنين مطمئنين". ° ولقد واجه "جوته" الكثيرَ من الانتقاداتِ والاتهاماتِ لإعجابِه بالإسلام، ومعارضتِه للتيارِ العَدائي الغالبِ للإسلام وللرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكان ردُّه على ذلك في كتاب "المقولات" بأبيات قويةٍ وصريحةٍ قال فيها: مِن حماقةِ الإنسانِ في دنياه أن يتعصَّبَ كلٌّ منا لرأيه وإذا كان الإسلامُ معناه التسليمُ لله فعلى الإسلام نحيا ونموتُ أجمعون ° هل كان الشاعرُ العظيم "جوته" معجَبًا برُوحانيةِ الإسلام فقط -وهو الذي نشأ في أُسرةٍ بروتستانتية -؟ أو كان مسلمًا بقلبه -كما يقول البعض-؟. ° تقول الباحثة الألمانية: "د. كاثرينا ممسين": "إن "جوته" عندما أصدر ديوان "الغرب والشرق" في مايو 1814 ثار معظمُ الألمان عليه؛ لأن هذا العملَ لا يَصدرُ إلاَّ عن شخصٍ على علاقةٍ رُوحيةٍ وثيقةٍ بالإسلام، ثم ازدادت ثورتُهم عليه عندما قال بعد ذلك بعامَين -أي في عام 1816 - : "إن مؤلفَ هذا العمل لا ينَفىِ الفكرةَ بأن يكون هو نفسُه مسلمًا".

وهو يتحدثُ في هذا الديوانِ عن الأصالةِ الدينيةِ في الشرق، وعن رغبتهِ في تجاوزِ التناقضاتِ العَدائيةِ بين الديانتين، والجمع بين هذين العالَمين تحتَ مَظِلَّةٍ واحدة (¬1)، كما يتحدثُ به عن شخصياتٍ إسلاميةٍ أحبها مثل: السلطان سليم، والمتنبي، وحاتم الطائي، والفردوسي وغيرهم". ويبدو في ديوان "الغرب والشرق" أن "جوته" كان دارسًا للقضايا التي شَغلت المُفكرين المسلمين على مدَى العصور، فهو -على سبيل المثال- يُشيرُ إلى المعركةِ التي قامت حول "هل القرآن مخلوق أو هو قديم"، والتي تعرض فيها الإمامُ أحمدُ بنُ حنبل للتعذيبِ لأنه تمسك برأيه في أن القرآنَ قديم. ° يقول جوته في إشارته إلى "القرآن المقدس": هل القرآنُ قديم؟ (¬2) شيء لا أسالُ عنه هل هو مخلوقٌ شيء لا أدريه وكثير من أبيات الديوان عن القرآن، فهو يَستلهمُ من الآية {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} في سورة الفاتحة مناجاته: يُنازعنُي الغَيُّ والضلال لكنك تعرفُ كيف تَهديني ¬

_ (¬1) كيف هذا .. أهو مذهب وحدة الأديان الذي دعا إليه من بعد رجاء جاروي!!. (¬2) هذا ما يقوله .. وهي مسألة هامة في عقيدة أهل السنة والجماعة .. والقرآن من كلام الله وكلام الله غير مخلوق، كما أنه لا يوصف الله سبحانه ولا كلامه ولا سائر صفاته بوصف "القديم".

اهدني أنت في أعمالي الصراطَ المستقيم ويردِّد "جوته" الآية: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115] فيقول: لله المشرق لله المغرب وله الأرض شَمالاً وجنوبًا وكان "جوته" يعبرُ دائمًا عن حُبِّه للحروف العربية والخط العربي. ° وفي كتابات "جوته" ما يدل على تأثره بالقرآن ويقول: "إنه كتاب ليس له مثيلٌ على وجه الأرض، ولا مثيلَ لِمَا فيه من ذِكر لأسماءِ الله الحسنى". ° وقد رأى في القرآنِ الرؤيةَ الإسلاميةَ للذاتِ الإلهية، كما كان أسيرَ الإعجابِ بشخصيةِ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويقول: "إنه جَمَع بين الإنسان والنبي". ° وقد اكتشف أحدُ الباحثين مخطوطةَ ديوانٍ لم يُنشر كَتَبه "جوته" بعنوان "بعثة محمد"، نُشرت في باريس عام 1907 م يقول فيها: حينما كان يتأمَّلُ في الملكوت جاءه المَلاكُ ومعه النور اضطَرَب، فهو لم يقرأ أبدًا كلمة "أقرأ" تعني الكثيرَ بالنسبة له

لكن المَلاَكَ بَلغه الرسالةَ وبدأها بالأمر "اقرأ" واستَمَع إلى الأمر .. وبدأ طريقه ° وعلى رغم إعجاب "جوته" بالإسلام وكتابِه ورسوله، فإنه يُوجِّهُ القَومَ إلى المسلمين لابتعادِهم عن روح الإسلام، ويوجِّهُ هذا اللومَ إلى المسيحيين أيضًا، ويتَّهمهم بالابتعادِ عن روح المسيحية، مقارنًا بين ما كان عليه المسيحيون عند ميلادِ المسيحية، وما صاروا إليه بعد ذلك، عندما تحولت الكنيسةُ إلى سلطةٍ سياسةٍ وانشغلت بجَمع الأموالِ وتملُّكِ الأراضي وبَحثِها عن أمور الدنيا، وهو ينتقذ الانقسامَ الذين حَدَث بين الكاثوليك والبروتستانت، وفي ذلك كَتب في عام 1816م يقترح إقامةَ احتفالٍ واحدٍ يَجمعُ المؤمنين بالأديان جميعًا أسماه "احتفال الإنسانية النقية"، وفيه لا يُسأل أحد عن دينه، "الجميع يذهبون يتلمَّسون الضَّوءَ من شُعاع واحد، وتَسمو أرواحُهم، ويتذكَّرُ كلٌّ منهم عِيدَه فيحتفلُ به" (¬1). ° ولقد كان تأثير "جوته" عظيمًا، وما زال كذلك حتى اليوم، فقد تأثر به الشاعرُ الروسي الكبير "ألكسندر بوشكين" (1799 - 1837 م)، والشاعرُ البولندي "آدم ميليفكس" (1798 - 1855)، فكانت أشعارُهما تعكِسُ تعاطُفًا تُجاهَ العالَم الإسلامي، وامتَدت أصداءُ شِعرِ "جوته" إلى آسيا، فتأثَّر به الشاعر والفيلسوف الباكستاني "محمد إقبال" (1877 - 1938م)، وله كتابٌ شهير باسم "سفارة الشرق" يعتبرُه النقَّادُ الصَّدى الصافيَ لديوان "الغرب والشرق". ¬

_ (¬1) "المنصفون للإسلام في الغرب" (ص 217 - 221).

العلامة ديسون الفرنسي

° ونَختمُ الحديثَ عن "جوته" بما قاله في مقدمة كتاب "المحمديات" "لديسون" الألماني، والذي عرَّبه عن الفرنسية إلى العربية الكاتبُ الشهير "عمر أبو النصر". ° قال تحت عنوان -نشيد محمد أو فيض الإسلام-:"انظر إلى يُنبوع الجَبَل يضطرِبُ مليئًا صافيًا، كأنما هو شُعاعٌ دُرِّيٌّ فوقَ السُحب، أَرْضَعَتْ ملائكةُ الخيرِ طفولتَه في مَهدِه يومَ كان بين أفلاقِ الصخور المُعْشَوْشِبة، إنه يَنحدرُ من السحابةِ فتيًّا نقيًّا، ثم يَتنزى منها جَذلانَ فَرِحًا، إنه يَسيرُ في الأخاديدِ الوَعْرة، جارِفًا أمامَه مِن ألوان الحَصباءِ ما لا يُحصى، ساحبًا في إثرِه أخواتٍ من العيونِ الثرَّارة، كأنما هو مُرشِدُها الأمين، وأما في الوادي، فالرياحينُ تنبثقُ عند قدميه، والمُروجُ تحيا من أنفاسِه، لا يَثنيه الوادي الظليل، ولا الرياحينُ التي تُطوِّق ساقيه، وتحاولُ أن تَسبِيَه وتستهويَه بلِحاظها الفواتِن". ° إلى أن قال: "وها هو العُبابُ طاميًا زاخرًا، تَرفِدُه الروافدُ، فيَخلعُ في مجراه على الأمصار أسماءَها، وتَنشأ عند أقدامه المُدُنُ، بَيْدَ أنه لا يَني، فلا يَبرحُ هادرًا يَندفعُ، لا يَثنيه ثانٍ، مُخلفًا وراءَه المنائرَ والصروح، نِتاجَ خِصبه وانتاجِه، ذلك هو محمدُ بن عبد الله". * العلاَّمة ديسون الفرنسي: ° قال في كتابه "المحمديات" تعريب البحَّاثة "عمر أبو النصر" (ص 19): "لقد وُلد محمد نبيُّ العرب في قلبِ البلاد العربية عام 570 بعدَ المسيح، وتَمكَّن الإسلامُ في أواخِرِ القرن السابع أن يَقتحمَ سوريا وفارسَ

الفيلسوف الألماني شبلنجر

ومصرَ والمغربَ، وأن يَمتدَّ إلى إفريقيا الشمالية، وأن يَحتل كلَّ الجُزرِ الواقعةِ في البحرِ المتوسط، وأن يتَّصلَ بالهندِ والصينِ، فلما آذَنَت شمسُ القرنِ الثامن بشروقٍ، اقتَحم الإسلامُ إسبانيا، وأخذ "شارلمان" و"هارون الرشيد" يتبادلانِ السفراءَ والهدايا". ° إلى أن قال (ص 22) منه:"وليس يصح أن يُنظرَ إلى دينِ محمدٍ كدينٍ مليءٍ بالخرافات والأكاذيبِ وغيرِ ذلك، فهذا مخالف للحقيقةِ بعيدٌ عن الواقع، فإن التعاليمَ الإسلاميةَ شريفة سامية، والأخلاقَ رفيعةٌ عالية، وفي الإسلام من العقائدِ والآراءِ ما يستحق احترامَ الفلاسفةِ وعُلماءَ الاجتماع له". ثم يذهبُ "المسيو ديسون" إلى أن بَعضَ المؤرخين يَذكرُ عن محمدٍ أنه كان كارهًا للأصنام بعيدًا عن عبادتها والتقرب منها، وإن كان لا يَعلمُ أنه سيُنشئُ في مُقبلاتِ الأعوام دينًا يُبدلُ الأرضَ غيرَ الأرض، وُيحدِثُ في العالَم ظاهرةً جديدةً لا تزالُ آثارُها بعيدةَ المدى عظيمةَ الخطورة .. إلى آخِرِ كلامه .. * الفيلسوف الألماني شبلنجر: * قال الفيلسوفُ الألماني "شبلنجر" في كتابه "أُفُول الغرب": "إن حضارةَ الإسلام حضارةٌ جديدةٌ أوشكت على الظهورِ في أروع صورةٍ، والإسلامُ يَملِكُ اليومَ أقوى قوةٍ رُوحانيةٍ عالَميةٍ نقيَّةٍ" (¬1). ¬

_ (¬1) "االمنصفون للإسلام في الغرب" (19).

بول ديورانت

* بول ديورانت: ° قال المفكِّر الكبيرُ "بول ديورانت": "إذا حَكَمنا على العَظَمة بما كان للرجل العظيم مِن أثر في الناس، فلابُدَّ أن نقولَ: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كان أعظمَ عظماءِ التاريخ" (¬1). * أنَّا ماري شيمل أعظم مَن أنصَفَ الإِسلام في ألمانيا: " أَنَّا ماري شيمل" أعظمُ المستشرقات اللاتي أنصفن الإسلامَ في الغرب .. وما تقوله له تأثير على كثير من المستشرقين والألمان بصفةٍ خاصة، ويمتد تأثيرها إلى بقيةِ دول أوروبا، وهي حائزةٌ على جائزة "السلام للناشرين الألمان"، وهي أهمُّ الجوائز الثقافية والفكرية في ألمانيا. وبسبب موقفها من "سلمان رشدي " وروايته تعرضت لحملةِ اضطهادٍ شديدةٍ في ألمانيا. ° تقولُ: "ولولا أن الرئيسَ الألماني في ذلك الوقت كان يُساندني لكانت الذئاب قد افترستني، ولكنني مع ذلك قضيتُ في هذه المِحنة ستةَ شهور" (¬2). حَصَلت "أنَّا ماري شيمل" على جوائزِ تقديرٍ عديدةٍ من أنحاءِ العالَم يَصعُبُ حَصرها، منها وِسامُ "الاستحقاق الكبير"، أعلى وسام ألماني في عام 1981، وإنتاجها المنشور عن الإسلام والشرقِ بَلَغ أكثَرَ من ثمانينَ مُجلدًا، وصَدَر أكثر من 200 كتاب عنها وعن أبحاثها وأفكارها، وهي ¬

_ (¬1) "المنصفون للإسلام في الغرب" (19). (¬2) المصدر السابق (ص 19).

معروفة عالميًّا ومقروءٌ باللغات الإنجليزية، والفرنسية، والفارسية، والتركية، والأوردو، والعربية، والإندونسية، وتُوفِّيت يومَ الثلاثاء 4 فبراير 2003. ° وإجابةً عن سؤالٍ عن رأيها في الإسلام قالت بوضوح: "إنني أُحب الإسلامِ، ولولا أنني أحبه ما كتبتُ عنه أكثَرَ من ثمانينَ كتابًا، وقد وَجدت فيه دين تسامُحٍ وروحانيةٍ، وتوقفتُ كثيرًا عند كلماتِ القرآن: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، وقد قلتُ لمن وجَّهوا إليَّ النقد: إني أحب الرسول محمدًا - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). ° وفي رأيها أن التشهيرَ بالإسلام والمسلمين في الغرب قضيةٌ لها جُذورٌ وعُمقٌ تاريخي (¬2). ° وتقول: "الإساءةُ إلى الإسلام كانت شائعةً في القرون الوسطى، ويَظهرُ ذلك في الشعر الفرنسي من القرن الحادي عشر إلى القرن الرابعَ عَشَر، كما يَظهرُ في الأدبِ الإنجليزي والأسكتلندي، حتى إنهم حرَّفوا اسم النبي "محمد" إلى " Mahaund" وهم اسمٌ يتكوَّن من مَقطعين، والمقطع الثاني " haund" يعني "كلب"، وفي نصوص أخرى نجدُ أن اسمَ النبي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - تحول إلى اسم معناه "الشيطان"، وحتى في الأشعار الألمانيةِ الرومانسيةِ سنة 1801 نجدُ اسم محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وقد تحول إلى " Mahom " " ماحوم"، وإشاراتٌ إلى أن المسلمين يَعبُدون أصنامًا ذهبيةً لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - .. وهكذا لا ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 18 - 19). (¬2) المصدر السابق (ص 19).

يوجَدُ شيءٌ سلبيٌّ لم يُلصِقْه الغربيون بالإسلام من القرن الثامن حتى القرنِ العاشر، وازدادت مع بدايةِ الحروب الصليبية، وفي نوفمبر سنة 1995 تحدَّث الكُتَّابُ الغربيُّون بفخرٍ عن ذِكرى مرور 900 سنة على انطلاقِ أولِ حَمْلةٍ صليبية، مما يدل على أن تلكَ الحِقبةَ ما زالت حَيَّةً في عقولِ الغربيين" (¬1). ° وأجملُ ما قالته "أَنَّا ماري شيمل": "إن وسيلتها للحديث عن الإسلام ليست بإصدارِ البيانات، أو بالظهورِ المسرحيِّ، ولكنها تؤمنُ بأن المياهَ التي تسيرُ سيرًا هادئًا وباستمرارٍ قادرةٌ مع الزمن على أن تُذيبَ الحَجَرَ الصَّلب" (¬2). ° وفي حديثٍ لها مع الدكتور "ثابت عيد" نُشِر في "مجلة أكتوبر" في عدد 10 مارس 1996 أكَّدت "أنَّا ماري شيمل" استنكارها لسلوكِ الغرب تُجاهَ الإسلام، ووجهت إنذارًا شديدَ اللهجة إلى أعداءِ الإسلام؛ لأنهم على باطل، قالت فيه: "إن الفكرةَ السائدةَ في الغرب بأن الإسلامَ يُعادِي المرأةَ فِكرةٌ خاطئة، بل إن في الغرب مفكِّرين يقولون: "إن المرأةَ في الإسلام كائنٌ بلا روح" .. ولكي نعرفَ كَذِبَ هذا الادِّعاءِ، نعود إلى القرآن الكريم، وسوف نرى أنه يُسوِّي بين الذكر والأنثى، وبين المؤمنين والمؤمنات، ولم يفرق بينهما في مجالِ الفرائضِ الدينية .. وإذا قيل: "إن للمرأةِ نصفَ نصيب الرجل في الميراث"، فإن ذلك لسببٍ عَمَليٍّ، فالمرأةُ ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 25 - 26). (¬2) المصدر السابق (ص 30).

حين تتزوَّجُ تحصُلُ على مهرٍ مناسبٍ، والزوج هو المسؤول شَرْعًا عن الإنفاقِ عليها، وهكذا تظهرُ العدالة في توزيع الأعباء والمسؤوليات، وفي النهاية سنجدُ أن المرأةَ هي الرابحة" (¬1). ° وقالت: "إنني أقولُ دائمًا للغربيين الذين يُشوِّهون صورةَ الإسلام: إن الإسلام مَنَحَ المرأةَ حقَّ الاحتفاظِ باسمها، وبما تَملِكُه من مالٍ قبلَ زواجها، وبما تَكسِبه بعد الزواج، وهذا يتضمَّن حق المرأةِ في أن تعملَ وتكسِبَ من أيَّة مِهنةٍ أو تجارة، والمرأو في أوروبا لم تتوصَّلْ إلى حق الاحتفاظ بما تَملِكَه من مالٍ بعدَ زواجها إلاَّ منذ فترةٍ قريبة". ° وتقول: "إنني كمؤرخةٍ للأديان أقفُ بإعجابٍ عند الآية (187) من سورة البقرة التي تحدِّد العلاقةَ بين الرجل والمرأة في إطارِ الزواج: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187]، و"اللباس" يعني الذات الأخرى أو النفْسَ الأخرى، وبذلك يكون معنى الآية: أن الرجل والمرأة يكمِّلُ كل منهما الآخرَ، وأنَّ كُلاًّ منهما هو النِّصفُ الأفضلُ للآخر، وأعتقدُ أنه يَجبُ تسليط الضوءِ على هذه الآية -عند الحديث على مكانةِ المرأة في الإسلام-" (¬2). ° وتقول: "إن ما يُقالُ في الغرب من أن العقيدةَ الإسلاميةَ عقيدة منحرفةٌ، اتهامٌ باطل وجهه مسيحيُّو القرونِ الوسطى إلى الإسلام، ومسيحيُّو القرونِ الوسطى اعتَبروا الإسلامَ هرطقةً مسيحية، بل إن بعضَ الأساطير في القرون الوسطى تقول: "إنَّ محمدًا كاردينال مسيحي، استاء ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 22 - 23). (¬2) "المنصفون للإسلام في الغرب" (ص 23).

المؤرخ ديكنز

لعدم اختياره بابا، فقام بالانفصال عن الكنيسة، وأسَّس لنفسه ديانةً جديدةً"، وقد أثارت مثلُ هذه الكتاباتِ الفَزَعَ من الإسلام ومن الرسولِ في نفوسِ المسيحيِّين العاديِّين في الغرب؛ لأنهم اعتقدوا أنهم ليس من الممكن أن تَظهرَ ديانةٌ سماويَّةٌ أخرى بعد المسيحية، وهذا الرأيُ ما زال شائعًا بين الكثير من الأوساطِ المسيحية حتى يومِنا هذا .. ومن المؤسِف أنَّ مِثلَ هذه الأفكارِ الخاطئةِ تبقى إلى وقتٍ طويل في ذاكرةِ الأفراد، وفي "الوَعيْ الجماعي" و"اللاشعور الجماعي" في الغرب، ويمكنُ إحياؤها في أيِّ وقت! " (¬1). ° وتَردُّ "أَنَّا ماري شيمل" على المقولةِ الكاذبةِ القائلة بأنَّ الإسلام انتشر بحدِّ السيف، فتقول: "هذا ادِّعاءٌ شائعٌ في الغرب .. إنَّ الإسلامَ لم ينتشر بحدِّ السيف في شِبهِ القارة الهندية، وماليزيا، والصين، وغربِ أفريقيا، بل انتشر عن طريقِ الصوفيِّين والتجَّار الذين قدَّموا العقيدةَ الإسلامية بطريقةٍ بسيطةٍ لهذه الشعوب" (¬2). * المؤرخ ديكنز: ° يقول المؤرخ "ديكنز" في كتابه "معالم تاريخ الإنسانية": "إنَّ الإسلامَ ساد لأنه خيرُ نظامٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ ظَهَر في التاريخ" (¬3). ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 24). (¬2) المصدر السابق (ص 24). وُيؤخَذ عليها اهتمامها بجلال الدين الرومي، والحلاج وابن عربي وإعجابُها الكبير بقول ابن عربي: لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ ... فمَرعًى لغزلانٍ ودَيرٌ لرهبانِ وبيتٌ لأوثان، وكعبةُ طائفٍ ... وألواحُ توراة، ومصحفُ قرآنِ (¬3) المصدر السابق (ص 20).

المفكر الألماني الدكتور مراد ويلفريد هوفمان

* المفكِّر الألماني الدكتور مراد ويلفريد هوفمان: وُلدِ عام 1910، حاصلٌ على الدكتوراة في القانون من إحدى جامعاتِ الولايات المتحدة، عمل خبيرًا نوويًّا في حِلف الأطلنطي، وعمِل سفيرًا لبلاده في الجزائر والإمارات والسعودية، واعتَنق الإسلامَ، وأصبح واحدًا من أشهر المُنصِفين للإِسلام والمسلمين في الغرب، وله كُتب عديدة، منها "الإسلام كبديل" و"الإسلام عام 2000"، و"يوميات ألماني مسلم"، و"الإسلام في الألفية الثالثة". ° يقول "د. مراد هوفمان": "إنَّ المستشرقين حاولوا إثبات أن القرآنَ ليس من عند الله، وفشِلوا، كما فشِلوا في إثباتِ حُدوثِ تغيير في أي حوف أو كلمة فيه" (¬1). وهو يردُّ على المستشرقين ردًّا مفحِمًا، ويدافعُ عن الإسلام ورسولهِ - صلى الله عليه وسلم -. [بريطانيا] * السير وليم سوير الإِنكليزي: ° قال في كتابه "سيرة محمد" (ص 31): "امتاز محمدٌ بوضوح كلامه ويُسرِ دينهِ، وأنه أَتَم من الأعمال ما أدهش الألباب، ولم يَشهدِ التاريخُ مُصلِحًا أيقظ النفوسَ، وأحيا الأخلاقَ الحسنة، ورَفَع شأنَ الفضيلةِ في زمن قصير كما فَعل محمد". * السير وليام ميو الإِنجليزي: ° قال في كتابه "محمد": "ومِن صفاتِ محمدٍ الجليلةِ الجديرةِ ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 109).

المؤرخ الكبير فتلي الإنجليزي

بالذكر والحَرِيَّةِ بالتنويه: الرقة والاحترام، اللتانِ كان يُعامِلُ بهما أصحابَه، حتى أقلهم شأنًا، فالسماحةُ والتواضعُ والرأفةُ والرقةُ تغلغلت في نفسه، ورَسَّخت محبتَه عند كلِّ مَن حولَه، وكان يَكرهُ أن يقول: "لا" فإنْ لم يُمكِنْه أن يُجيبَ الطالبَ على سؤاله، فضَّل السكوتَ على الجواب، ولقد كان أشدَ حياءً من العذراءِ في خِدْرها، وقالت عائشة -رضي الله عنها -: "وكان إذا ساءه شيءٌ تبيَّنَّا ذلك في أسارير وجهه، ولم يَمس أحدًا بسُوءٍ إلاَّ في سبيل الله". ويؤثَرُ عنه أنه كان لا يَمتنعُ عن إجابةِ الدعوةِ من أحدٍ -مهما كان حقيرًا-، ولا يَرفضُ هديةً مُهداةً إليه مهما كانت صغيرةً، وإذا جَلس مع أحدٍ -أيًّا كان- لَم يَرفعْ نحوَه رُكبتَه تشامُخًا وكبرًا. وكان سهلاً ليِّنَ العريكة مع الأطفال، لا يأنَفُ إذا مر بطائفةٍ منهم يلعبون أن يُقرِأَهم تحيةَ السلام، وكان يُشرِكُ غيرَه في طعامه، وعامَلَ حتى ألد أعدائِه بكلِّ كرمٍ وسخاءٍ حتى مع أهل مكة، وهم الذين ناصَبوه العَداءَ سِنين طوالاً، وامتَنعوا من الدخولِ في طاعته، كما ظَهر حِلمُه وصَفحُه حتى في حالَتَيِ الظَّفَرِ والانتصار، وقد دانت لطاعته القبائلُ التي كانت مِن قبلُ أكثرَ مناجَزةً وعَداءً له". * المؤرخ الكبير فتلي الإِنجليزي: مستشرقٌ بحَّاثةٌ، وُلِد سنة 1815، وتُوفي سنة 1890م. ° قال في مقدمة كتابه "الحياة" -تعريب الدكتور "سامي العشا" المصري-: "قد ينَحرفُ المؤرِّخ عن موضوعِه ليتأمَّلَ حياةَ رجل نال سُلطةً

الليدي إيفيلين كوبرلد

خارقةً على عقولِ أتباعِه وأعمالِه، ووَضعت عبقريتُه نظامًا أساسيًّا دينيًّا ساميًا سياسيًّا، وما زال يَحكُمُ الملايينَ من البشر من أجناس مختلفةٍ وصفاتٍ متباينة. إن نجاحَ محمدٍ كُمشرِّعٍ بين أقدم الأمم الأسيوية، وثباتَ نُظُمِه على مدى أجيالٍ طويلةٍ في كلِّ نواحي الهيكل الاجتماعي، دليلٌ على أن ذلك الرجلَ الحاذقَ قد كوَّنه مزيجٌ نادرٌ من الكفاءات". * الليدي إِيفيلين كوبرلد: ° قالت الشاعرة الليدي "إيفلين كوبرلد" البريطانية في كتابها "الأخلاق" (ص 66): "لعمري لقد استطاع محمدٌ القيامَ بالمعجزاتِ والعجائب، لمَّا تمكَّن من حَمل هذه الأُمةِ العربيةِ الشديدةِ العنيدةِ على نَبذِ الأصنام، وقبولِ الوحدانيةِ الإلهيةِ، ولقد كان محمد شاكرًا حامدًا، إذ وُفِّق إلى خَلْقِ العرب خَلْقًا جديدًا، ونَقَلَهم من الظلماتِ إلى النور، ومع ذلك كان محمد سيِّد جزيرةِ العرب، وزعيمَ قبائلِهم، فإنه لم يُفكَّرْ في هذه، ولا راح يَعملُ لاستثمارها، بل ظَلَّ على حالِه، مكتفيًا بأنه رسولُ الله، وأنه خادمُ المسلمين، يُنظِّفُ بيتَه بنفسِه، ويُصلحُ حِذاءَه بيده، كريمًا بارًّا كأنه الريحُ الساريةُ، لا يَقصِدُه فقيرٌ أو بائس ٌإلاَّ تفضل عليه بما لديه، وكان يَعملُ في سبيل الله والإنسانية". * جون أروكس الإِنجليزي: ° قال في كتابه "عظماء التاريخ" (ص 83): "لم نَعلمْ أن محمدًا تسربَلَ بأيَّةِ رذيلةٍ مُدَّةَ حياته؛ لذلك نراه عظيمًا".

العلامة إلياس جون جيب الإنجليزي

* العلاَّمة إِلياس جون جيب الإِنجليزي: من مشاهير مُستشرقي الإنكليز، تُوفِّي في مدينة "كردف" بلدته 1903. ° له مؤلَّفات عديدة ظَهرت بعد وفاته، منها "العرب قبلَ الإسلام وبعده"، قال فيه: "عقيدةُ محمدٍ خالصةٌ، ليس فيها لَبسٌ ولا إبهام، ومَن يتَّهِمُها بما يتنافى مع كرامتها، فإنما هو متَّهمٌ في فَهمِه ووجدانه". * المسيو مار كودار الإِنكليزي: ° وُلد في بلدته "بلاما" 1837م، وتُوفي 1893 م -نقلاً عن مجلة "الهلال" المجلد الرابع الجزء 9 - ، وهو أحدُ مستشرقي الإنكليز قال: "كان محمدٌ يعامِلُ الغني والفقيرَ على السواء، وإنه لنبي مبارَكٌ أرسله الله للبشر". * السير هربرت سبنسر الإِنكليزي: فيلسوفٌ إنكليزي تأثر بمذهبِ التطوُّر، مِن آرائه أنَّ المرءَ لا يَستطيع الوصولَ إلى معرفةِ الله، وُلد في مدينة "كرودف" من مُدن بريطانيا عام 1820، وتُوفِّي عام 1903. ° قال في كتابه "أصول الاجتماع" (ص 37): "فدونَكم محمدًا، إنه رَمزٌ للسياسةِ الدينيةِ الصحيحة، وأصدقُ مَن نَهَج مِنهاجَها المقدَّسَ في البشريةِ كافةً، ولم يكن محمدٌ إلاَّ مثالاً للأمانةِ المُجسَّمةِ والصِّدقِ البريء وما زال يَدأبُ لحياةِ أُمتِه ليلهَ ونهارَه".

المسيو بالمر الإنكليزي

* المسيو بالمر الإِنكليزي: ° مستشرقٌ إنكليزي، وُلد في بلدة "باركا" عام 1795، وتُوفي 1883، تَرجَمَ القرآنَ إلى اللغةِ الإنكليزية، قال في مقدمته: "لقد جاء محمدٌ بمبدإٍ للعالَم عظيم، ودينٍ لو أنصَفَتِ البشرية لاتخذَتْه لها عقيدةً ومنهاجًا تسيرُ على ضوئه، وقد كان محمدٌ عظيمًا في أخلاقه، عظيمًا في صِفاته، عظيمًا في دينه وشريعته، وإنني لا أُبالغُ إذا قلتُ: إن شريعتَه تَحملُ إلى الناسِ تعاليمَ ونُظُمًا وقوانينَ ليس في غيرها مما سَبق مِثلُها، ولقد كانت الأمم السابقةُ تعتنقُها مَبدأً وعقيدةً لأنها لَمَست ما فيها من حياةٍ رُوحيةٍ وركائزَ رصينةٍ". * البحَّاثة ستانلي جيفونس البريطاني: مستشرقٌ بريطاني، ولد في بلدته "كانالي" عام 1841، وتُوفي 1904، من مشاهيرِ الرّوَّاد، توغل في مجاهل إفريقيا. ° قال في كتابه "الديانات والعصور" (ص 51): "إن دراستَنا لعصورِ بَعثاتِ الأنبياء تدل على أنهم جاؤوا ليَحُلُّوا مشاكلَ عَجزَت عقولُ البشرِ عن الاهتداءِ إلى حلولٍ لها، فلم توجَدْ لدى الإسرائيليين -قبلَ رسالة موسى- طريقةٌ للخلاص من اضطهادِ الفراعنة، ولا توفيرُ رخاءِ الشعب إلى آخِرِ الحالاتِ المستوجِبةِ للعلاج، ولا وُجِد -قبل بَعثة المسيح- طريقٌ لإدخالِ الأمل على النفوس اليائسة، في عصرٍ كانت تتألَّفُ فيه الجماعاتُ السِّريَّةُ لتنظيم الانتحار، ولقَتل المُترَفين، لأن الشعوبَ كانت تَئِنُّ من الحِرمانِ والفقر، وكان المُلوكُ وبطاناتُهم يَمضَغُون الذهب، وكانت المادةُ تَطغى على

المسيو صموئيل مارغوليوث الإنكليزي

الفضيلة، فلذا بُعث عيسى مخلوقًا روحيًّا، فجاء عيسى بحَلٍّ عجيبٍ، ليس من صُنعِ العقل البشري، جاء يقول للناس: "لا يَلزمُكم مِزوَدٌ للطريق، ولا اقتناءُ ثوبينِ ولا عصًا"، وجاء يُزهِّذ الناسَ في الغِنى، بل يُنفِّرُهم منه، فقال لهم: "لا يدخلُ غنيٌّ إلى ملكوتِ السموات". ونبوة محمدٍ جاءت لتعالجَ كلَّ جوانبِ الحياةِ العموميةِ جميعًا، ومما لا ريبَ فيه أن دعوةَ محمدٍ قد زَلزلت أركانَ الدنيا، وقد استَولت على القِسم المُهمِّ منها". * المسيو صموئيل مارغوليوث الإِنكليزي: ° مستشرقٌ إنكليزي، وُلد عام 1868، وتوفِّي 1940، عضوُ المَجمع العِلمي في دمشق، نَشر "مُعجمَ الأدباءِ" لياقوت الحموي، و"الأنساب " للسمعاني، و"رسائل المَعري" بترجمةٍ إنكليزية، دُعي لحفلةٍ ميلاديةٍ في دمشق عام 1927 قال فيها: "إن يومَ ميلادِ محمد لَيومٌ عظيمٌ على العالَم -لا على العرب فقط-؛ لأنه لم يُولَدْ إلاَّ لأمر عظيم، ألاَ وهو رسالتُه التي بَلَّغها للعالَم، فاعتنقها قوم وتركها آخرون، وهي طافحةٌ بالحضارةِ والتعاليم التي تَخدُم البشريةَ وتُوليها زِمامَ الحياة، ولكنها رسالةٌ أَخذت بها أُمةٌ جَهِلت ما فيها، وخير ما فيها طابعُ صلاحيةِ البقاء مع الزمن مهما طال وامتد". * السير موير الإِنجليزي: ° قال في كتابه "تاريخ محمد" (ص20) المطبوع عام 1912: "إن محمدًا -نبي المسلمين- لُقِّب "بالأمين" منذ الصغر بإجماع أهل بلده لشرفِ

العلامة هيليار بلاون البريطاني

أخلاقه، وحُسنِ سُلوكه، ومهما يكنْ هناك من أمرٍ، فإنَّ محمدًا أسمى مِن أن ينتهيَ إليه الواصفُ، ولا يَعرِفُه مَن جَهِله، وخبيرٌ به مَن أنعم النظرَ في تاريخ المجد، ذلك التاريخُ الذي تَرَك محمدًا في طليعةِ الرسل ومفكري العالَم". * العلاَمة هيليار بلاون البريطاني: مستشرق بريطاني، وُلد في بلدته "كوارير" عام 1847. ° قال في كتابه "فكرة الحياة" (ص 63 و 64): "بينما كانت مُدُنُ الإمبراطوريةِ البيزنطيَّة تَحتفلُ بانتصاراتِ الإمبراطور هرقل على الفرس، وبينما كان الناسُ في سرورِ وجَذَلٍ عظيمَينِ، حَدَثتِ المعجزةُ المحمديَّةُ، حَدَث شيءٌ لم يكنْ أحدٌ ينتظرُه ولا يَفطِنُ له، حَدَث أمرٌ كان أقربَ إلى الهِزة الأرضيةِ أو الفيضانِ العامِّ في سُرعتِه وشِدته ووقوعِه دونما سابقِ إنذارِ ولا إشارة. لم تكن هناك أعراضٌ سَبَقت هذا الحدثَ العظيمَ الضخم، ولا أماراتٌ تدعو إلى انتظارِه والتهيُّؤِ له، ولم يكن مَضَى على انتصاراتِ هرقلَ إلاَّ سنواتٌ قلائل، لَما مشى إلى أرضِ الإمبراطورية فِرسانٌ من الصحراء، ما سَمع عنهم أحدٌ شيئًا إلاَّ ما كان يُقالُ مِن أنهم جماعةٌ يضربون أرضَ الصحراء على خُيولهم وإبِلِهم طلبًا للكَلإ والماء، وأنهم قومٌ من البدو". ° ويمضي "هيليار بلاون" فيقول: "إني أقول: إنَّ معجزةً كهذه من حيثُ خَطَرِها، وبُعدِ أثرها، وعظيم نتائجِها، كانت مَسُوقةً بقوةٍ لا يُستطاعُ تفسيرُها، وإنْ كان ما لدينا من المصادر والوثائقِ يُساعدُنا على تفهم

السير تشارلز إرمان البريطاني

الأسبابِ التي جَعَلَتْها أمرًا واقعًا منظورًا". * السير تشارلز إِرمان البريطاني: ° مؤرِّخ بريطانيٌّ معروف، وُلد عام 1886، وتُوفي 1940، له كتابٌ صغير عن الإسلام، قال فيه: "إن شخصيةَ محمدٍ ثوريةٌ وانقلابية، تفوق مَقدِرةَ الشخصِ الموهوبِ العادي، فلم تُنتجْ بلادُ العرب قَبلَه ولا بعدَه فَردًا أثَّر في مجموع تاريخ العالَم، ويكونُ مِن المُضحِك حقًّا الادعاءُ إنه نتيجةٌ محتَّمةٌ لحالةِ بلادِ العربِ الفكريةِ والاقتصاديةِ في القرنِ السابع بَعد المسيح، بل إن مَبدأه الذي جاء به هو مبدأٌ اعتنقته أمٌم، وسَرعانَ ما تحققت فكرتُه في بلادِ العرب لأنها نافعةٌ، ولم يكن فيها ما يُحارِبُ لأجله غيرَها من الدياناتِ السابقةِ". * العلاَّمة ماكس موللر الإِنكليزي: مستشرق إنكليزي، وُلد في بلدته "تكيا" سنة 1790، وتُوفي 1865، مؤرِّخٌ قَصصيٌّ، له جَولةٌ واسعةٌ في بلاد العرب، وله مؤلَّفاتٌ، منها "محمد والمحمدية". ° قال فيه (ص 27): "سوف يَعلمُ المسيحيُّون بدَهَشٍ عظيمٍ أنَّ محمَّدًا أَحدُ معضِّدي يسوع، وأن الديانةَ المحمَّديةَ ما هي إلاَّ شِيعةٌ من شِيَع الديانةِ النصرانية (¬1)، وإذ ذاك يَندهشُ المسلمون والمسيحيون مما يُسبِّبُ ما جاء في ¬

_ (¬1) بل هي الرسالةُ الخاتمةُ لرسالات البشر، وهي المهيمنةُ على ما قبلَها من الشرائع، ومحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - مُصدقٌ لِما قبلَه من إخوانِه الأنبياء، وهو أفضلُهم عند الله تعالى.

بوسورت سمث البريطاني

تاريخهما من الخِصام والعَداءِ بسبب الذين الذي جاء به محمدٌ، وسوف يَعلم المسيحيون في العالَم أن دينَه خالٍ من كلِّ غُشٍّ، وأن فيه كلَّ ما يَصلُحُ للبشر". * بوسورت سمث البريطاني: ° عالمٌ كبير إنكليزي، وُلد في بلدته "نيوكاسل" عام 1815، وتُوفِّي في 1892م، وهو من كبارِ رجالِ الفِكرِ وعالِمٌ كيميائي، وله كتابٌ عن الشرقيين اسمه "الأدب في آسيا"، قال في مقدمته: "إن المعجزةَ الخالدةَ التي ادعاها محمد هي القرآن، والحقيقةُ إنها لكذلك، وإذا قَدرْنا ظروفَ العصرِ الذي عاش فيه، واحترامَ اتباعِه له احترامًا لا حَدَّ له، ووازنَّاه بآباءِ الكنيسة أو بقِدِّيسي القرونِ الوسطى لتبينَ لنا أن أعظمَ ما هو معجِزٌ في محمدٍ نبيِّ المسلمين أنه لم يَدَّعِ القدرةَ على الإتيانِ بالمعجزاتِ، وما قال شيئًا إلاَّ فَعَله وشاهَده منه في الحال أتباعُه، ولم يَنسِبْ إليه الصحابةُ معجزاتٍ لم يأتها أو أنكر صدورَها منه، فأيُّ برهانٍ أقطع من ذلك؟ ولقد كان محمدٌ يَدعي مِن آخِرِ حياته -كما ادَّعى من مبدإ أمره- أنه رسول الله حقًّا، وإني أعتقدُ أن الفلسفةَ المسيحيةَ العاليةَ ستَعترفُ له بذلك يومًا من الأيام". ° وقال في كتابه "محمد والإسلام": "إذا قَدَّرْنا تاريخَ الإسلامِ -إذ ننظر إليه من نافذةِ الإنصاف- فإنما نُقدِّرُ صاحبَه الذي أسَّسه ووَضَع حجَرَه الأساسيَّ، وهو محمدٌ الذي لا نستطيع أن نقولَ في حقِّه إلاَّ أنه رجلٌ عظيم بعَقلِه وعَمَلِه وأخلاقِه وبلاغتِه وتديُّنِه، وسيَحمل له المنصِفون من النصارى وغيرِهم الإخلاصَ متى عَرَفوه في المستقبل".

جورج بروك عضو البرلمان الإنجليزي

° وقال في كتابه "حياة محمد" (ص 346): "إن محمدًا جاء بكتابٍ مشتملٍ على دستورِ الشرائعِ والعباداتِ وأخبار الأُمم، نَقِيُّ العبارةِ من الألفاظِ المستهجَنة، باهِرُ الحِكمةِ والحقائق، وهو أعظمُ معجزةٍ للنبي محمدٍ، والحقُّ يقال: إنَّه لَمعجزة". * جورج بروك عُضْوُ البرلمان الإِنجليزي: ° جاء في مجلة "العالم الإسلامي" لمؤسَّسها القَسَّ" صموئيل زويمر" الإنجليزي، في عددها السابع الصادر باللغة الإنكليزية من سَنَتها الخامسة، نقلاً عن العدد الرابع من مجلة "الأزهر" لعام 1952 (ص 105): "إن جَمعيةَ المسلمين في مدينة "برد فورد" بإنجلترا قد أقامت منذُ قريبٍ حفلاً، فكان من خُطبائه المستر "جورج بروك" عضوُ البرلمان الإنكليزي، وقد نَوَّه في خطابه بما يَبُثُّه الإسلامُ من شعورِ الإخاءِ بين أبنائه". وقال: "إنه يستطيعُ أن يردَّ الاهتمامَ بالدينِ الإسلاميَّ إلى أنه دينٌ عالَميٌّ بطبيعته". ° ثم قال: "إن الإسلامَ دينُ السلام والمحبةِ بين البشر، وإنه يَلعبُ دَورًا خطيرًا الآن في شؤون العالَم، وإني أعتقدُ أن خَطَرَه وتأثيرَه في مستقبل العالم سيزدادُ جيلاً بعد جيل". * المستر داز الإِنكليزي: مستشرقٌ إنكليزيٌّ ومؤرَّخٌ كبير، ولد في "منشستر" 1823، وتُوفي 1907. ° قال في كتابه "مع الشرق والغرب" -وهو أحدُ مؤلَّفاته-: "إن

مرة أخرى مع بوسورت سميث الإنكليزي

محمدًا كان مجموعةً من الخيال والنبوغ والبحث .. كان محمدٌ زراعيًّا وطبيبًا وقانونيًّا وقائدًا، اقرأْ ما جاء في أحاديثه، تعرفْ صِدقَ ما أقول، ويكفي أنَّ قوله المأثور عنه: "نحن قومٌ لا نأكلُ حتى نجوع، وإذا أكَلْنا لا نشبع" (¬1) هو الأساسُ الذي بُني عليه عِلمُ الصَّحة، ولا يَستطيعُ الأطباءُ -على كثرتِهم ومهارتِهم حتى اليوم- أن يأتوا بنصيحةٍ أثمنَ من هذه". ° ثم قال: "إن محمدًا هو الذي استطاعَ في مدةٍ وجيزةٍ -لا تَزيدُ على رُبع قرنٍ- أن يَكتسحَ دولتَينِ من أعظم دُولِ العالَم، وأن يُحدِثَ ذلك الانقلابَ المدهشَ، وأن يَكبَحَ جِماحَ أُمةٍ اتخذَتِ الصحراءَ المحرقةَ سكنًا لها، واشتُهرت بالشجاعة والغزوِ ورَباطةِ الجأشِ والأخذِ بالثأر .. فمَن الذي يَشكُّ أن القُوَّةَ الخارقةَ للعادةِ التي استطاعَ بها محمدٌ أن يَقهرَ خصومَه هي من عند الله؟! ". * مرة أخرى مع بوسورت سميث الإِنكليزي: مؤرَّخ إنكليزي، وُلد 1833، وتوفَّي 1897. ° قال في مؤلَّفٍ له أسماه "الأدب في التاريخ": "مِن حُسنِ الحظَّ الوحيدِ في التاريخ -دون غيره- هو أن محمدًا أَسَّس في وقتٍ واحدٍ ثلاثةً هي من عظائم الأمور وجلائل الأعمال، فإنه مؤسَّس لأُمةٍ إمبراطوريةٍ وديانة، وقلَّما كان يقرأُ ويكتبُ (¬2)، وكان داعيًا إلى الرحمة والعدلِ والكرمِ والشجاعةِ والصبرِ على المكاره والصَّدقِ وغير ذلك من مكارم الأخلاق". ¬

_ (¬1) لا يصح عن رسولنا - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) بل لم يكن يقرأ ويكتب إطلاقًا.

المستر جون ديفولبوت البريطاني

° وقال: "إن الدينَ وحدَه هو القانونُ الطبيعيُّ الذي يَجبُ على الناسِ أن يَتَّبعوه". * المستر جون ديفولبوت البريطاني: مستشرقٌ بريطاني، وُلد سنة 1832، وتوفِّي1902، وهو من علماءِ الطبيعة، وأستاذٌ في علم الجيولوجيا. ° قال في أحد مؤلَّفاته "العجائب": "هل بالإِمكانِ إنكارُ فضل محمدٍ نبيَّ العرب الذي قام بإصلاحاتٍ غريبةٍ وعظيمةٍ، فكانت خالدةً لبلادِه؟! فقد جَعَل أهلَها يَعبُدون الله، ويهجُرون عبادةَ الأصنام، وهو الذي مَنَع قَتلَ الموؤودةِ، وحَرَّم شُربَ الخمر وفِعْلَ الميسر، وتَرَك لأُمَّته مَبدأً لا يزال، وعليه يَعملُ الملايينُ من الناس". * إِدوارد لين الإِنجليزي: ° مستشرقٌ عاش رَدْحًا من الوقتِ في القاهرة، وُلِد عام 1803 م، وتُوفّي سنة 1877 م، وذلك في بلدته "إكسياد"، له عدَّةُ مولَّفاتٍ، منها: "أخلاق وعادات المصريين" جاء فيه: "إنَّ محمدًا كان يَتَّصفُ بكثيرٍ من الخِصالِ الحميدة، كاللُّطفِ والشجاعةِ ومكارمِ الأخلاق، حتى إنَّ الإنسانَ لا يَستطيعُ أن يَحكمَ عليه دون أن يتأثَّر بما تتركُه هذه الصفاتُ في نفسِه من أثَرٍ، كيف لا! وقد أحتَمل محمدٌ عَداءَ أهلهِ وعشيرتِه بصبٍر وجَلَدٍ عظيمين، ومع ذلك فقد بَلَغ من نُبْله أنه لم يكن يَسْحَبُ يَدَه من يدِ مصافِحِه -حتى ولو كان يُصافحُ طفلاً-، وأنه لم يَمرَّ يومًا من الأيام بجماعةٍ -رجالاً كانوا أو أطفالاً- دونَ أن يُقرِأَهم السلامَ وعلى شَفَتَيه ابتسامةٌ حُلوة، وقد كان محمدٌ

القس "زويمر"

غَيُورًا ومتحمِّسًا، وكان يُحارِبُ الباطل، وكان رسولاً من السماء، وكان يُريدُ أن يؤدِّيَ رسالتَه على أكملِ وجهٍ، كما أنه لم يَنْسَ يومًا من الأيامِ الغرضَ الذي بُعث لأجله، ودائمًا كان يَعملُ له ويتحمَّلُ في سبيله جَميعَ أنواع البلايا، حتى انتهى إلى إتمامِ ما يُريد". * والفضل ما شهِدتْ به الأعداء: نَقلت مجلة "العرفان اللبنانية" في آخر الجزءِ الثالث من المجلد (321) عن مجلة "العالم الإسلامي" الإنجليزية لصاحبها القَسِّ "زويمر" ما يلي: "فالقرآن الذي نَزل على محمد بدلاً مِن أن يكونَ ضربةً قاضيةً على التقدُّمِ، هو كتابٌ {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]، فيه آياتٌ بينات، ودلائلُ واضحات، وأخبارٌ صادقة، ومواعظُ رائعة، وشرائعُ راقية، صالحةٌ لكلِّ أُمةٍ ولكلِّ زمان". * العلاَّمة لين بول البريطاني: مستشرق بريطاني، وُلد عام1853، وتوفِّي عام 1917، له اطِّلاعٌ واسعٌ على تاريخ العرب، وهو واضعُ فهرست المسكوكات المحفوظة في دار الكتب المصرية عام 1897، وله رسالةٌ في تاريخ العرب، قال فيها: "إنَّ ما اتَّصف به محمدٌ من الصبر واحتمالِ المكارِه والعفوِ عند المقدرة، لَبرهانٌ لنا واضحٌ على أنه كان صادقًا، إذ يقول: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، فمحمدٌ ذو يقينٍ راسخٍ وقوةِ عزمٍ هائلة". * * *

الراهبة البريطانية كارين أرمسترونج تدافع عن الإسلام

* الراهبة البريطانية كارين أرمسترونج تدافعُ عن الإِسلام: من هؤلاء المُنصِفِين للإسلامِ الكاتبةُ البريطانية "كارين أرمسترونج"، وهي في الأصل راهبة، تحوَّلت إلى البحثِ في تاريخ الأديان، وقد تَركت الرَّهْبنةَ بعدَ أنْ وَجَدت أن حياةَ الأديرةِ لا تُناسبُ طبيعتَها وتمسكُّها بحريةِ التفكير للوصول إلى الحقيقة دون ضغطٍ عليها، وقد توصَّلت إلى أن هناك قاسمًا مشتركًا بين الدياناتِ الثلاثة، وأن القِيَمَ الجوهريةَ في كلِّ الديانات واحدة. "وكارين أرمسترونج" تُقدِّمُ الدليلَ للغربِ على أن الإِسلامَ دينٌ من عند الله، وأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم -رسولٌ بعَثه اللهُ بدينِ الإسلام، وأن هذا الدينَ للبَشَر جميعًا -وليس للعرب وحدَهم-، وبموضوعيةٍ ملحوظةٍ قامت بتصحيح المفاهيمِ المغلوطةِ عن الإِسلام، وقد اتَّخذت مِن رُدودِ فِعلِ المسلمين إزاءَ كِتابِ سلمان رشدي "آيات شيطانية" ومبالغةِ الغرب في الدعايةِ لهذا الكتاب، مُنطلقًا لكتابِها "محمد .. سيرة النبي"، ولحُسن الحظِّ أن هذا الكتابَ ترجَمَه إلى العربية اثنانِ من أكفإِ المترجِمِين وأكثرِهم خِبرةٍ ودِقةً، هما الدكتورة "فاطمة نصر"، والدكتور "محمد عناني"، وقدَّما للكِتابِ بمقدِّمةٍ مهمةٍ، قالا فيها: "إن حافزَهما على ترجمةِ هذا الكتاب ليس الزهوَ بذلك الصوتِ الغربيِّ المسيحيِّ الذي حاول إنصافَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقدَّم شهادةً موضوعيةً عنه وعن الإسلام، فهما لن تَضِيرَهما عداوةٌ أو تُنصِفَهما صداقةُ أحد". والكتابُ موجَّهٌ إلى القارئ الغربيِّ، وليس إلى القارئ العربيِّ المسلم،

فلن يُضيفَ إليه جديداً، ولكنه نموذجٌ للكتابةِ الموضوعيةِ غير المتحيِّزة، خاصةً وأنها تكشفُ في هذا الكتاب التناقضَ في العقليةِ الغربيةِ بين ادِّعائها بأنها عقليةٌ علميةٌ وموضوعيةٌ ومُحايِدة، وبين تحيُّزِها المبدئيِّ ضدَّ الإسلامِ ورسولِه دونَ دراسةٍ أو تحليلٍ كافيَينِ لعقائدِ الإسلامِ وسيرةِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتاريخِ الحضارة الإسلامية. ° تقول "كارين أرمسترونج": "إنَّ لدينا في الغربِ تاريخًا طويلاً من العَداءِ للإسلام، راسخَ الجذور، ولم يَعُدْ يَمنعُ الناسَ شيءٌ عن مهاجمةِ هذا الدين، حتى لو كانوا لا يَعرِفون عنه غيرَ أقلِّ القليل! ويرجعُ هذا العَداءُ إلى الفترة التي نشأت فيها الإمبراطوريةُ الإسلامية في القرنِ السابع الميلادي، وكانت أوربا منطقةً متخلِّفةً، وامتَدَّت الفتوحاتُ الإسلاميةُ بسرعةٍ إلى مُعظَمِ مناطِقِ العالَم المسيحيِّ في الشرق الأوسط، وإلى الكنيسةِ المسيحيةِ العظيمةِ في شمالِ إفريقيا، وكان زَحفُ الإسلام بهذه القوةِ والسرعةِ خطرًا داهمًا يتهدَّدُ الغرب، إذ تساءلوا: هل تخلَّى اللهُ عن المسيحيين، ومَنَح رضاه لهؤلاء (الكفار)؟، وحتى بَعَد أن خَرَجت أوربا من عصورِها المُظلِمة وأنشأت حضارتَها العظيمةَ، ظلَّ لديها الخوفُ من توسُّع الإمبراطوريةِ الإسلامية، خاصةً وقد تأكَّد لأوربا عَجْزُها عن التأثيرِ في تلك الثقافةِ القوية، وكان الفشلُ هو نهايةَ المشروع الصليبيِّ في القرنين الثاني عَشَر والثالثَ عَشَرَ، ولم يَلبِث العثمانيون أن جاؤُوا بالإسلام إلى داخل أوربا نفسِها، وكان مِن المُحالِ على المسيحيين الغربيين أن يلتزموا بالعقلانية أو الموضوعية تُجاهَ العقيدةِ الإسلامية، فكانوا يَنسجون مِن خيالهم صُورًا

مخيفةً عن اليهود، ويرسُمون في نفسِ الوقت صُورةً شائهةً (قبيحةً) للإسلامِ تُعبِّر عن الشعورِ بالقلق في أعماقهم من هذا الدين". ° وتقول "كارين أرمسترونج": "إن علماءَ الغرب كانوا يُهاجمون الإسلامَ، ويَصِفون محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بأنه "المدَّعِي الأكبر"، ويتَّهمونه بأنه أنشأ دينًا قائمًا على العُنفِ والسَّيفِ لفَتحِ العالم، وحَرَّفوا اسمَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - إلى "ماهوميت" تعبيرًا عن كراهيتهم للاسم ولصاحبه .. وقد أصبح اسمُ "ماهوميت" البُعبُعَ الذي يُخيفُ الناسَ في أوربا، حتى إنَّ الأمهاتِ كنَّ يَستعمِلْنَ الاسمَ لتخويفِ أطفالِهن، وكانت المسرحياتُ الغربيةُ تُصوِّرُ "ماهوَميت" ودعوتَه في صورةِ العدوِّ للحضارة الغربية، حتى أصبحت هذه الصورةُ الزائفةُ للإِسلام من الأفكارِ الراسخةِ التي لا تزالُ توثِّرُ حتى اليومِ في آراءِ ونَظرةِ الغربيين إلى العالم الإِسلامي، وزاد مِن تعقيدِ المشكلة أن المسلمين قابلوا عَداوةَ الغربِ لهم بالعداوةِ للغرب". ° وتُشير "كارين أرمسترونج" إلى الكتاباتِ السابقة عن محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأهمُّها كتابَيْ "مونتجومري وات" وهما "محمد في مكة"، و"محمد في المدينة"، وتقول عنهما: "أنهما كتابان دراسيَّان موجَّهان للطلبة، وكلٌّ منهما يَفترضُ معرفةَ القارئِ بحياةِ محمدٍ وهي غائبةٌ عن كثيرين"، وكتاب "مارتن لنجز" وهو بعنوان "محمد .. سيرة حياته استنادًا إلى أقدم المصادر"، وفيه معلوماتٌ باهرةٌ استقاها من كُتبِ السيرة من القرنِ الثامنِ الميلادي إلى القرن العاشر، ولكنَّ هذا الكتاب موجَّهٌ إلى المقتنعين بالإِسلام ورسوله، ولا يناقشُ المخالِفين والرافضين، وكتابُ المستشرق الفرنسي "ماكسيم

رودنسون" وهو بعنوان "محمد". ° وتقول "كارين أرمسترونج": "لقد تعلَّمتُ من كِتابِ "رودنسون" كثيراً، ولكنه كَتَبه من وِجهةِ نظرِ المتشكك، ورَكَّز على الجوانبِ السياسيةِ والحربيةِ في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك لا يُساعِدُ قارئَه الغربيَّ على تفهُّمِ الرؤية الرُّوحيةِ للنبيِّ محمد - صلى الله عليه وسلم -". ° وبَعد هذا الاستعراضِ تتحدَّثُ عن منهجِها في دراسةِ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فتقول: "إن نقطةَ الانطلاق هي أننا نَعرفُ عن محمد - صلى الله عليه وسلم - أكثَرَ ممَّا نعرفُ عن أيِّ مؤسِّسٍ لأيِّ دين من الأديان الرئيسة الأخرى، وإنَّ دراسةَ حياتِه يُمكنُ أن تَهَبَنا إدراكًا عميقًا ومُهِمًّا لطبيعةِ التجربةِ الدينية". وترى "كارين أرمسترونج" أن التجرِبةَ الدينية التي خاضها محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - تتشابهُ مع تجارِبِ أنبياءِ بني إسرائيل ومع تجربةِ القِدِّيسة "تيريزا"، ولقد نَجَح محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - نجاحًا سياسيًّا غير عاديٍّ، ويَميلُ المسيحيون إلى التشكيكِ في الطابع الإِلهيِّ لهذا الانتصارِ الدنيوي. ° وتتسائل: "ألاَ يوجدُ طريقٌ آخَرُ يوصَّلُنا إلى الله سوى طريقِ الإخفاقِ الذي سَلَكه المسيح؟ ". ° الفصل الأول من كتاب "كارين أرمسترونج" بعنوان "العدو محمد"، تقول فيه: "إن الغربيين أدانوا المَشهدَ الذي ظَهَر فيه المسلمون في إحدى المُدنِ البريطانيةِ وهم يَحرِقون روايةَ "سلمان رشدي"، ولكنهم لم يتذكَّروا حوادثَ إحراقِ الكُتبِ في أوربا المسيحية على مرِّ القرون! وعلى سبيل المثال، فقد قام الملِكُ "لويس التاسع" -ملك فرنسا- بإدانةِ التِّلمود

اليهوديِّ باعتبارِه هجومًا خبيثًا على شخصِ السيد المسيح، وكان المَلِك "لويس التاسع" يَشغَلُ منصبَ قدِّيسٍ رسميِّ في الكنيسة الكاثوليكية، وأصدر أمرًا بحَظْرِ الكِتاب، وأُضرِمَتِ النارُ في جميع النُّسخِ أمام المَلِك، ولم يَقبلْ مناقشةَ خلافاتِه مع الجالياتِ اليهوديةِ في فرنسا بالوسائل السِّلمية، وقال: "إن الأسلوبَ الوحيدَ للمناقشةِ مع اليهوديِّ أن تقتلَه بطعنةٍ نافذةٍ في بطنهِ بأقصى ما يَصِلُ إليه السيفُ". وكان "لويس التاسع" هو الذي بدأ الحملةَ الأولى من محاكم التفتيش، ولم يَكتفِ بإحراقِ كُتبِ مَنِ اعتَبَرهم المارقينَ من المسيحيين، بل أحرَقَ المئاتِ من الرجالِ والنساءِ منهم، كما كان يَكرهُ المسلمين، وقاد حَمْلَتَينِ من الحَمْلاتِ الصليبيةِ ضدَّ العالم الإسلامي". وتَعتبرُ "كارين أرمسترونج" أن التاريخَ المريرَ للعلاقاتِ بين المسلمين والغربِ بدأ بالهجوم على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - في الأندلس، ففي عام (850) ميلادية خَرج راهبٌ اسمه "بير فكتوس" إلى السوق في "قُرطبة" -وكانت عاصمةَ الأندلس الإسلامية، فقابلَ بعضَ المسلمين، وسألوه أن يُفاضلَ بين النبي عيسى والنبيِّ محمد، فانطلق يَصُبُّ وابلاً من الشتائم، زَعَم مِن خلالِها أن نبي الإسلام دجالٌ ومُولعٌ بالجنس، وأنه هو المسيحُ الدجال، وسُرعانَ ما أُلقي به في السجن. وكانت تلك حادثةً شاذةً في "قرطبة"، لأن العلاقاتِ كانت طيبةً بين المسلمين والمسيحيين، وكان الحُكمُ الإسلاميُّ في الأندلس يُعطِي الحريةَ الدينية للمسيحيين واليهود، وكانت الحضارةُ الإسلاميةُ ورُوحُ التسامحِ

الدينىِّ فيها سابقةً لجميع دول أوربا. وعندما وصل "بير فكتوس" إلى القاضي كان يَرتعدُ خوفًا ورُعبًا، ولكنَّ القاضي لم يُصدِرْ حُكمًا بإعدامِه لإهانتِه الإسلامَ ورسولَه، لأنه رأى أنه كان ضحيةَ استفزازٍ من المسلمين، ولكن" بير فكتوس" بعد إطلاقِ سراحِه ظل يَسُبُّ نبيَّ الإسلام سبًّا بذيئًا، فلم يَجِدِ القاضي بُدًّا من الحُكم بإعدامه، فتَجمَّع عددٌ من المسيحيين، وكوَّنوا جماعةً اعتَبرت "بير فكتوس" شهيدًا، وبعدها بأيام ظَهَر راهبٌ آخرُ يُدعى" إسحاق" ظَلَّ يَسُبُّ الإِسلامَ ونبيَّ الإسلام بحرارةٍ جَعلت القاضي يظنُّ أنه مخمورٌ أو مختلٌّ عقليًّا، ولَّما استمرَّ في السِّباب -وهو في كامل وعيه- لم يَجِدَ القاضي بُدًّا من الحُكم عليه، ولم يكن المسلمون يَضيقون بمعتقداتِ الدياناتِ الأخرى بما فيها نقاطِ الخلافِ مع الإسلام، لأن الإسلامَ وُلد في ظلِّ التعدُّديةِ الدينية، وتَعايَشَ مع جميعِ العقائد على مرِّ العصور، ولم يكن القانونُ في الإمبراطوريةِ الإسلاميةِ يُحَرِّمُ الدعوةَ المسيحيةَ، وكان يَشترطُ فقط ألا يتعرَّضَ المسيحيونَ في دعوتهم للهجوم على النبيِّ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. ولم تَمضِ أيامٌ على إعدام "إسحاق" حتى وصل سِتَّةُ رُهبانِ من الدَّيرِ نفسِه، وقاموا بالتهجُّم على النبيِّ محمد - صلى الله عليه وسلم - بصورةٍ مُقذِعة، وانتشرت هذه الظاهرةُ حتى بَلَغ عددُ من حُكم عليهم خمسين، واشترك أسقفُ قرطبة في إدانتِهم، ولكنهم اعتُبِروا "شهداءَ قرطبة" وانتَشرت هذه القصَّةُ في الغرب، وكان الإسلامُ في ذلك الوقتِ قوةً عامليةً، وكانت أوربا قد اكتَسحتها القبائلُ الهمجيةُ، وأصبحت بِركةً رااكدةً، وكان العالَم يبدو كأنه

قد أصبح كلُّه إِسلاميًّا، كما نرى العالَمَ اليومَ كأنه أصبح كلُّه غربيًّا، وظلَّ الإسلامُ في كلِّ العصور يُمثِّلُ التحدِّي للغرب. ° وكانت صيحاتُ التهجمُّ على الإسلامِ ورسولِه التي أطلقها "شهداء قراطبة" تَستندُ إلى وَهمٍ في عقولٍ (سيطر عليها الرعبُ) أن محمدًا دجَّال، نَصَّب نفسَه نبيًّا لِيخدعَ العالَم، وأنه فاسقٌ يدفعُ أتباعَه إلى محاكاتِه، وأنه يُجبِرُ الناسُ على اعتناق عقيدتِه بحدِّ السيف .. وانتهت هذه الأوهامُ إلى القولِ بأن الإسلامَ ليس دينًا، بل هو بدعةٌ، أو صورةٌ مشوَّهةٌ من المسيحية. هذه الصورةُ التي تكونت من الأوهام في الأندلس، أُسدل عليها سِتارُ النسيان، ثم عادت بعد (250) سنةً لتُردِّدَ نفسَ هذه الأوهام، وهناك بعضُ الباحثين المتعمِّقين حاولوا وضعَ تصوُّرٍ موضوعيٍّ لنبيِّ الإِسلام وللدينِ الذي أتى به، لكنَّ الصورةَ المشوَّهةَ استمرَّت على المستوى الشعبي، وما تزالُ آثارُ هذه الأوهامِ القديمةِ موجودةً حتى يومِنا هذا، وما زال شائعًا في الغربِ القولُ بأن محمدًا ليس سوى رجلٍ قام باستغلال الدين لتحقيق الفتوحاتِ وسيادةِ العالم، وأن الإسلامَ دينُ عُنفٍ وحرب، على الرغمِ من ظهورِ دراساتٍ تُبَيِّنُ خطأَ وفُحشَ هذه الأسطورة. ° وكان جَهلُ الأوروبيَّين بالإسلام في زمنِ الحربِ الصليبية يَصِلُ إلى تصوُّرِهم للمسلمين بأنهم يركعون أمامَ ثلاثةِ آلهة هي "أبولو" و"تيرفاجان" و"محمد"، ولم يعتبروا المسلمين بَشَرًا مِثلَهم، ولذلك قاموا بارتكابِ مذبحةٍ لا مَثيلَ لها في التاريخ لسُكَّان القدسِ المسلمين، وقالوا: "إن

المسلمين وَباءٌ لا بدَّ من تطهيرِ الأماكنِ المقدَّسةِ منه"، وكانوا عندما يتحدَّثون عن المسلمين يُطلقون عليهم اسم "القذارة". ° وتُشير "كارين أرمسترونج" إلى أن اهتمامَ أوربا بالنبيِّ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - يكادُ يكونُ معدومًا حتى عام (1100) ميلادية، وشاعت المعرفةُ به في (1120) على أنه "ماهاوند" عدوُّ الممالِكِ المسيحية، وتنقلُ عن الباحث البريطاني "د. وساذرن" سُطورًا عن دراسته بعنوان "صور الإسلام في الغرب في العصور الوسطى"، يقول فيها: "لا شك أنهم عندما وَضعوا هذه الأساطيرَ والأوهام، كانوا يَرَون أنها الصورةُ الحقيقية، ولم تتغيَّرْ صورةُ محمدٍ وأتباعِه كثيرًا عن كونهم أبناءَ الصحراء". وتُعلِّقُ على ذلك بأن هذا الطابعَ الخياليَّ لشخصيةِ "ماهاوند" هو الذي أدَّى إلى صعوبة النظر إلى النبي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في الغرب على أنه شخصيَّةٌ تاريخيةٌ جديرةٌ بالدراسة كما يفعلون مع "نابليون" أو "الإِسكندر الأكبر"، ولهذا كانت الصورةُ الخياليةُ لشخصية "ماهاوند" في رواية "سلمان رشدي" متَّقفةً مع هذه الأوهامِ الغربيةِ الراسخةِ بعُمق، ومن ذلك الزعم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -كان ساحرًا خَدَع الناسَ بمعجزاتٍ زائفة، وأنه قام بتدريب حَمامةٍ على التقاط حَبَّات البازلاَّء من أُذنيه، حتى يبدوَ للرائي كأنَّ رُوحَ القدسِ تتنزَّلُ عليه وتَهمِسُ له بالوحي، وقالوا أيضًا: "إنه - صلى الله عليه وسلم -كان يُعاني من الصرع"، وأفاضوا في الحديث عن حياتِه الجنسيَّة. تُعلِّقُ "كارين أرمسترونج" على كل ذلك بأن المسيحيين الغربيينَ لم يستطيعوا تفسيرَ الرؤيةِ الدينيةِ الرائعةِ والمُقنِعةِ التي أتى بها محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - وسِرِّ

نجاحِها إلاَّ بإنكارِ الوحي والقولِ بأن الإسلامَ فِرقةٌ خارجةٌ على المسيحية، كما تُفسِّرُ قَلَقَ المسيحيين من الإسلام بالأعمالِ العُدوانيةِ التي ارتكبوها باسمِ المسيحية ضدَّ المسلمين في الحروب الصليبية، وهي ممارساتٌ لا علاقةَ لها بدعوةِ السلام التي جاء بها المسيح. ° وتقول: "إن الكنيسةَ كانت تَفرِضُ على رجالِ الدينِ الامتناعَ عن الزواج مع رغبتِهم فيه، فكانت المبالغةُ في الرواياتِ عن الحياةِ الجنسيةِ للنبيِّ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - تعبيرًا عن الكَبْتِ الذي يُعاني منه هؤلاء أكثَرَ ممَّا هي تعبيرٌ عن الحقائق .. أما اتهامُهم للإسلام بأنه لا يَعترفُ بالحريةِ الدينيةِ، فهو نوعٌ من إلقاءِ التُّهمة على الآخر؛ لأن الغربَ -وليس الإِسلام- هو الذي مَنَع حريةَ المناقشةِ في المسائل الدينية، وكان يُعاقِبُ كلَّ مَن يَخرجُ على الفِكرِ الذي تَفرِضُه الكنيسةُ بالحَرْقِ على أيدي "محاكم التفتيش"، وكذلك قامت بعد ذلك حركةُ اضطهادِ البروتستانت والكاثوليك بعضِهم لبعضٍ بسبب الخلاقاتِ الدينية بين الطائفتين. ولمَّا كانت اليهوديةُ هي الدينَ الأجنبيَّ الوحيدَ في أوروبا في ذلك الوقت، فقد بدأت الحَمْلاتُ الصليبيةُ بمَذابحَ لليهود في "وادي نهر الراين"، وكانت تلك أولى المذابحِ الجماعيةِ في أوروبا، وأصبح العَداءُ للساميةِ مرضًا مُزمنًا، حتى إن الأساطيرَ الأوروبيةَ وَصلت في عَدائِها لليهود إلى حدِّ القولِ بأن اليهودَ يَقتُلون الأطفالَ وَيمزجُون دماءَهم بخبزِ "عيدِ الفصح" العبراني، وأنهم يُدبِّرون مؤامرةً دوليةً للإِطاحة بالمسيحية". ° وتقول "كارين أرمسترونج": "إن مِثلَ هذه الأساطيرِ الُمعاديةِ لليهود

لم يَظهرْ مِثلُها في العالَم الإِسلامي في أيِّ عصرٍ من العصور، لكنَّ التعصُّبَ كان في أوروبا، حتى إنه بَعد إلاستيلاءِ على الأندلس وجنوبِ إيطاليا وصقلية وعودتِها إلى المسيحية، بَقِيَ في هذه المناطقِ مسلمون ويهود فُرضت عليهم العُزلة، ومَنعت الحكومةُ المسيحيين من التعامُل معهم، وصَدرت تشريعاتٌ كَنَسيَّةٌ خاصةٌ في المجلسَينِ البابويَّينِ، أحدُهما عُقد سنة 1179، والثاني في سنة 1215 تَعتبرُ اليهودَ والمسلمين "العدوَّ"، وتَفرضُ هذه التشريعاتُ عقوباتٍ على كل مَن يتعاملُ مع المسلمين واليهود أو يُشارِكُه الطعامَ بالطردِ من الكنيسة ومصادرةِ الممتلكات، وقد أصدر البابا "جريجوريوس التاسع" في عام 1227 مراسيمَ بابَويةً تَفرضُ على المسلمين واليهودِ أن يَرتَدُوا ملابسَ مميَّزةً، ويَحظُرُ عليهم الظهورَ في الشوارع أثناءَ الأعياد المسيحية، ويُحرِّمُ توليَّهم مناصبَ حكوميةً في البلادِ المسيحية، ومَنَع الجَهْرَ بالأذان حتى لا يؤذيَ أسماعَ المسيحيين. وبعد ذلك أعلن البابا "كليمنت الخامس" (1305 - 1314) أنَّ وجودَ مسلمٍ على الأرضِ المسيحيةِ يُعتبرُ إهانةً لله. وقبل ذلك قام مَلِكُ فرنسا "شارل آنشوا" عام 1301 بإبادةِ مَن بَقِيَ من المسلمين أبناءِ صقلية وجنوب إيطاليا. وقد ظَلَّت محاكمُ التفتيش في إسبانيا تضطهدُ المسلمين وذريتهم على مَدى 300 سنة". وسِجِلُّ العَداءِ أكبرُ ممَّا يَصِلُ إليه الخيال، ويمكنُ لمن يريدُ معرفةَ المزيدِ العودةُ إلى كتاب "كارين أرمسترونج"، ففيه الكثير.

وهي بعدَ ذلك تتحدَّثُ في فصلٍ بعنوان "محمد رجل الله" عن معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم -: وأوَّلُها: أنه أصبحت كلمة "الله" تتردَّدُ لأولِ مرة في بلاد العرب. وثانيها: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حَقَّق معجزةً بتوحيدِ العربِ، وكان مستحيلاً أن تتوحَّد هذه القبائلُ المتحارِبة .. وعلى هذا فإنْ كان ذلك النصرُ السياسيُّ هو الإِنجازَ الوحيدَ لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فمن حَقِّه علينا أن يَحوزَ إعجابَنا، لكنَّ النجاحَ الأكبرَ لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - كان في نَشرِ الإيمانِ بالدينِ الذي غَيَّر مَجرَى التاريخ. أمَّا شخصُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - كما تقول، وكما تُظهِرُ الكتابات- فإنه يختلفُ كلَّ الاختلافِ عن شخصيةِ المسيح المثاليَّةِ الخارقةِ للطبيعية -كما يُظهِرُها الإنجيل-، وعلى رَغمِ أنه أصبح لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - عند المسلمين هالةٌ رمزيةٌ إلاَّ أنهم لم يَدَّعوا أبدًا أنه مقدَّس، بل إنه -كما تُقدِّمُه السِّيرُ الأولى- شخصيةٌ إنسانية، ليس فيها تشابُهٌ مع شخصياتِ القِدِّيسين المسيحيين، وتُماثِلُ شخصيةُ محمد - صلى الله عليه وسلم - شخصياتِ التوراةِ النابضةَ بالحياة من أمثالِ موسى، وداودَ، وسليمانَ، وإلياسَ، وإسحاقَ، وتبدو شخصيةُ محمد - صلى الله عليه وسلم - شخصيةً قويةَ المشاعر ذاتَ أبعادٍ مركَّبةٍ، ويتمتَّعُ بمواهبَ رُوحانيةٍ وسياسيةٍ عظيمة، وكان يتملَّكُه الغضبُ أحيانًا، كما كان شديدَ التأثرِ والرحمة. وتقول: "لم نقرأْ أبدًا أن المسيحَ ضَحِك، ولكنْ كثيرًا ما نقرأ أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كان يبتسمُ ويُداعِبُ الأطفالَ والصحابة، ويختلفُ مع زوجاتِه، ويَبكي لموتِ أحدِ أصحابه، ويَعرِضُ ابنَه الوليدَ مزهوًّا كأيِّ أبٍ، فإذا نظرنا

إليه كشخصيةٍ تاريخيةٍ عظيمةٍ، فمن المؤكَّد أننا سنراه من أعظمِ العباقرةِ الذين عَرَفهم التاريخ؛ ولكي نُوفِّيَ عبقريتَه حقَّها، علينا أن ندرُسَ المجتمعَ الذي وُلد فيه، والقُوى التى كان عليه أن يدخلَ معها في صِراع، فقد كان اليهودُ يؤمنون بإلهٍ واحد "يهوه"، لكنهم كانوا يعتقِدون في وجودِ آلهةٍ آخرى، والوصايا العشرُ في التوراة تعترفُ ضِمنًا بوجودِ آلهةٍ أخرى يعبدونها، مِثلِ الوصية التي تقول: "لا يكنْ لك آلهةٌ أُخرى أمامي"، ولم تتحقَّقِ الوحدانيةُ في اليهودية إلاَّ على يد "إشعيا الثاني" بعد 700 سنةٍ من خروج الإِسرائيليين من مصرَ عام 1250 قبل الميلاد .. أما محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، فقد انطلق ليجعلَ العرَبَ يؤمنون بالتوحيدِ في فترةٍ لا تتعدَّى 23 عامًا، وهذه عمليةٌ صعبةٌ تتطلَّبُ تغييرَ الوعي الإنسانيِّ نفسه". ° وتقف"كارين أرمسترونج" عند مسألةٍ حسَّاسةٍ في السِّيرة النبوية، عندما حاوَلَتْ فهم الآيات: {وَإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَينَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً (74) إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإِسراء: 73 - 75]. ° فتقول: "إن الدارِسينَ في الغرب يَفترِضون أن تلك الآيةَ تشيرُ إلى حادثةِ ما يُدعى "آيات شيطانية" يدَّعون بها أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قَدَّم تنازلاتٍ مؤقَّتةً للمشركين، والقصةُ -كما في "طبقاتِ ابن سعدٍ" و"تاريخ الطبري"- أن الشيطانَ تدخَّل في إحدى المناسبات، وتقول المأثورات: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أثناءَ تلقيه سورة "النجم" شَعُر بإيحاءٍ أن ينطقَ بآيتين تقولانِ: إن الآلهةَ

الثلاثَ "أللات وألعُزَّى ومناة" من الممكن أن يكنَّ وسيطاتٍ بين الله والبشر، وبما أن قريشًا كانت تعتقدُ أنهن "بناتُ الله"، وأنهن مقدَّسات، فقد ظنُّوأ خطأَ أن القرآنُ قد وَضع هذه الآلهةَ في منزلةٍ واحدةٍ مع الله، واعتقادًا منهم أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قد تَقبَّل آلهتَهم سَجَدت قريشٌ لتؤدِّيَ الصلاةَ مع المسلمين، وبدا وكأنَّ الخِلافَ قد انتهى، وتقول القصة: "إنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - تلقَّى الوَحىَ الإلهيَّ بأن قَبولَه الظاهريَّ لهذه الآلهةِ كان وحيًا من الشيطان، وبِناءً على ذلك حُذفت الآيتانِ من القرآن، واستُبدلتا بآياتٍ أخرى تَلعنُ الآلهةَ الثلاث"!! ". ° وتُعلَّق "كارين أرمسترونج" على هذه الرواية التي يُروِّجُ لها كثيرٌ من الغربيين فتقول: "إن هذه القصةَ غيرُ صحيحةٍ ومشكوكٌ في صحَّتِها لدى المسلمين، ولا توجدُ إشارةٌ واضحةٌ إليها في القرآن، وفي التسجيل المبكِّرِ للسيرةِ "في سيرة ابن إسحاق" لا توجدُ أيَّةُ إشارةٍ إلى هذه الواقعة، كما أنها لم تُذكر في مجموعاتِ الأحاديثِ الكييرةِ التي جَمَعها البخاريُّ ومسلمٌ في القرنِ التاسع الميلادى، وحينما يَرفضُ المسلمون شيئًا من التراث، فإنهم لا يفعلون ذلك بدافعِ احتمال التأويلاتِ النقديَّةِ لِمَا يرفُضون، لكنْ لعدم كفايةِ الأدلة، ومع ذلك فإنَّ أعداءَ الإسلام في الغرب -كما تقول- رَأَوا في هذه القصةِ مناسبةً كي يُشككوا في محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وليقولوا: كيف لرجلٍ قام بتغييرِ الكلماتِ السماويةِ طِبقًا لِمَا ارتآه أن يكون نبيًّا؟ وعلى رغمِ ذلك فقد حاول باحثون -مِثلُ ماكسيم رودنسون، ومنتجومري- مؤخَّرًا أن يُبرهنوا على أنَّ القصةَ في صياغتِها لا تَحتملُ تأويلاً سلبيًّا، ولكنَّ هذه القصةُ التي لم يَهتمَّ

بها المسلمون ظَلَّت على قَدرٍ كبيرٍ من الأهمية في الغرب، وتفجَّرت عام 1988، وهو العام الذي نَشر فيه "سلمان رشدي" روايته "آيات شيطانية"، وجَعل من هذه القصةِ مِحورًا لروايته. وهذه القصةُ -كما تقول كارين أرمسترونج- تُكرِّرُ الأساطيرَ الغربيةَ القديمةَ عن محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -،وتُكرِّرُ القولَ بأنه مُدَّعٍ ذو طموحاتٍ سياسية، والأكثرُ إيلامًا للمسلمين أنها تُشوِّهُ صِدقَ القرآن، وهذا ما أثار المسلمين، فقد رأى المسلمون أن كِتابَ "سلمان رشدي" اتَّخذ من القصةِ المدسوسةِ عن الآياتِ الشيطانيةِ عنوانًا له، وقد وَظَّف "سلمان رشدي" هذه القصةَ لِيُبرهِنَ على أن القرآنَ المقدَّسَ عند المسلمين لا يُميِّزُ بين الطيِّب والخبيث، وأن ما يُقال: "إنه مشيئة الله"، ما هو إلاَّ إيحاآتٌ إنسانيةٌ -كما يدَّعي النُقَّادُ الغربيون-". ° وتَصِلُ "كارين أرمسترونج" إلى أن الذين أيَّدوا "سلمان رشدي" استغلُّوا ما جاء في كتابه ليكرِّروا الادِّعاءَ بأن الإسلامَ ضدُّ حريةِ الإبداع وحريةِ البحثِ العِلميِّ، وقد تبنَّى "سلمان رشدي" الرؤيةَ الغربيةَ القائمةَ على الكراهيةِ للمسلمين ورسولِهم، وقد فَتح ذلك جِراحًا عميقةً -كما تقول- بين الغربِ والإسلام. ° وتقول: "إن هذه القصةَ تتعارضُ مع الرواياتِ الموثَّقةِ ومع القرآنِ نفسِه، ومِن الثابتِ أن الرسولَ - صلى الله عليه وسلم -رَفض عروضًا من قريشٍ دون تردُّدٍ بأنْ يَسمحَ لهم بعبادةِ آلهتهم مع عبادةِ الله، ولكنْ في الغربِ -كما تقول- مَن تأثَّر بفكرةِ "السقوط" -بمعناها المسيحيِّ- لِيخلَعها على محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، كما أن

آدمَ استَسلم لغوايةِ الشيطان، وفي روايةِ الطبري إنكارٌ لهذه الواقعة، ومكانةُ هذه الآلهة حدَّدها القرآنُ بصورةٍ قاطعة: {إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 23] ". ° وتقول: "هذه هي أكبرُ إدانةٍ قرآنيةٍ لتلك الآلهة، كما أن الإسلامَ جاء برسالةِ توحيدٍ لا تَقبلُ أن يكونَ مع الله إلهٌ آخر، وليس أدلُّ على ذلك من سورة "الإخلاص" التي يَقرؤُها المسلمون في صلاتهم اليومية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [سورة الإخلاص] .. فكيف يُمكنُ مع هذا التوحيدِ الخالصِ أن يأتيَ ذِكرُ آلهةِ قريشٍ وأصنامِها على لسانِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أنَّ لها مكانةً أو شفاعةً؟! ". ° وتُخصِّصُ "كارين أرمسترونج" صفحاتٍ من كتابها للتدليلِ على عدمِ صحةِ هذه الروايةِ المدسوسةِ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتقول: "إن تاريخَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - منذُ بدايته فيه كراهيةٌ لآلهةِ قريش، ومن الأدلة على ذلك أن كبارَ قريشٍ ذَهبوا إلى أبي طالب -عمِّ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا له: "يا أبا طالب، إنَّ ابنَ أخيك قد سَبَّ آلهتَنا، وعاب دينَنا، وسَفَّه أحلامَنا، وضَلَّلَ آباءنا، فإما أن تَكُفَّه عنَّا، وإما أن تُخلِّيَ بينَنا وبينه، فإنك على مِثلِ ما نحن عليه من خِلافه، فَنكْفِيْكَه". وبعد فترةٍ عادوا إلى أبي طالبٍ ثائرين، وقالوا له: "إنا واللهِ لا نَصبرُ على هذا مِن شَتم آبائنا، وتَسفيهِ أحْلامِنا، وعَيبِ آلهتِنا، حتى تَكُفَّه عنَّا،

أو ننازِلَه وإياك في ذلك حتى يَهلِكَ أحدُ الفريقين". ونستدلُّ من هذا الموقف أن محمدًا لم يتنازَلْ عن مُحاربةِ آلهةِ قريش، بل إن قريشًا عَرضت عليه أن يكونَ مَلِكًا عليهم، وأن يَجعلوه أكثرَهم ثروةً مقابلَ التنازلِ عن دينِه، فقال: "واللهِ لو وَضعوا الشمسَ في يميني، والقمرَ فِيِ شِمالي، على أن أتركَ هذا الأمرَ ما تركتُه حتى يُظهِرَه اللهُ أو أهلِكَ دونه" .. ". ° بهذا المنطق تُدافع "كارين أرمسترونج" عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتَكشِفُ عدمَ صحَّةِ هذه الرواية التي أقام عليها "سلمان رشدي" كتابَه، وهي تفعلُ ذلك من مُنطلِق البحثِ العلميِّ النزيه، فهي ليست مسلمةً، ولا صِلَةَ لها بالدولِ الإسلامية، ولكنها قرأت كلَّ ما كُتب عن سيرةِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعقليةٍ ناقدة، وكَتبت عن الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - بمنهجٍ علميٍّ مدقِّقٍ لا يَخضعُ لأحكامٍ مُسبَقةٍ، وهي تُسجِّلُ بموضوعيةٍ نجاحَ المشروعِ الإِسلاميِّ بعد وفاةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - كدليلٍ على صِدقِ الرسالة، وتتحدَّثُ عن الرُّوحانيةِ التي أسَّسها دون أن يَعتزلَ الحياة، ولم يَنتظرْ إلى حين حلولِ عالمٍ يخلو من الشرورِ والصراعات، وسَعى إلى إقامةِ مجتمعِه المثاليِّ في المدينة، واحتَذى المسلمون حَذْوَه منذ البداية. • وتُسجِّل "كارين أرمسترونج" مشاعرَ الحبِّ الجارفِ لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - لدى المسلمين، ومع ذلك فإنهم يؤكِّدون أنه لم يكنْ إلاَّ رجلاً، ولم يكنْ إلهًا أو ملاكًا، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هو الذي قال عن نفسه: "إنْ أنا إلاَّ ابنُ امرأةٍ كانت تأكلُ القَدِيدَ في مكة"، وذلك حرصًا منه على تأكيدِ طبيعتِه كإنسان، وبذلك أصبحت حياةُ محمدٍ آيةً من الآياتِ في العالَم التي يدعو القرآنُ المسلمين

إلى التأمَّلِ فيها وتفهُّمِها، فإن رسالتَه النبويةً "رمزٌ" يَعكِسُ الاستسلامَ التامَّ لله، وحُبُّ المسلمين له هو ارتباطٌ بالرمزِ الذي يُضيءُ لهم حياتَهم، ويُضيفُ إليها معنًى جديدًا. ° وتقول "كارين أرمسترونج": "إنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يُعتبر على المستوى الرمزي "الإنسانَ الكامل" و"النموذج"، وتنظرُ إلى رحلة "الإسراء والمعراج" على أنها المثالُ الكاملُ للفَناءُ في الله، والمسلمون يَسْعَون إلى محاكاةِ الرسول في حياتِهم اليوميةِ لكي يقتربوا مِن هذا الكمالِ بقَدْرِ الإمكانِ ويقتربوا من الله". ° وتختم "كارين أرمسترونج" كتابَها بقولها: "إن الإسلامَ والغربَ يشتركانِ في أمورٍ كثيرة، والمسلمون عَرفوا ذلك منذ زمنِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، إلاَّ أن الغربَ غيرُ قادرٍ على تقبُّلِ هذه الحقيقة، والمسلمون يَشعرون أن حضارةَ الغربِ امتَهنت كرامتَهم واحتَقرتهم، ونحن في الغربِ بحاجةٍ إلى أن نُخلِّص أنفسَنا من بعضِ أحقادِنا القديمة، ولعلَّ شخصَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - يكون مناسبًا للبَدءِ، فقد كان ذا عبقريةٍ تستعصي على الإدراك، وأسَّس دينًا وحضارةً للإسلام، ولَفظُ "الإسلام" ذو دِلالةٍ على السلام والوفاق مع سائرِ البشر". أليس من واجبِ المسلمين أن يُقدِّموا التحيةَ لهذه الراهبة التي قالت كلمةَ الحقِّ بجرأةٍ وبراعةٍ تفوقُ ما فعله المسلمون للدفاع عن دينِهم في الغرب؟! (¬1). ¬

_ (¬1) انظر "المنصفون للإسلام في الغرب" من (ص 184 - 197).

ومن فرنسا

ومِن فرنسا * القَسُّ إِسحاق تيلر الفِرنسي: مستشرقٌ فرنسي، وُلد في بلده "بوردو" 1810، وتُوفّي 1897، له مؤلَّفٌ أسماه "حقائق التاريخ". ° قال فيه (ص 76): "إننا إذا قَلَّبنا الطَّرْف، لا نَجدُ في أعمالِ محمدِ ونبوَّته شيئًا يناقِشُ النصرانية الحساب، ويَقِفُ لها بالمرصاد، بل نراها الحدَّ الفاصلَ بين اليهوديةِ والنصرانية، وإن الإسلام منه أتت السعادةُ وأفاد المَدَنية، وإن محمدًا شابَهَ موسى في تعدُّد الزوجات والاسترقاق، والاسترقاقُ ليس من العقيدةِ الإسلاميةِ في شيءِ، فأباحه محمد للضرورة، أما تعدُّدُ الزوجات، فإنه لم يُحرِّمْه موسى في" توراته" ولا داودُ في "زَبُوره"، وعلينا أن نفهمَ أن آدابَ الإسلام أسمى من آدابِ النصرانية". * المسيو إِميل برنامكام الفِرنسي: وُلد في "بركادا" 1857، وتُوفَّي عام 1924 .. وهو من مشاهيرِ كتَّابِ القرن التاسعَ عَشَرَ للميلاد. ° قال في كتابه "الشرق والإسلام" -وهو أحدُ مؤلَّفاته-: "إنني أردتُ أن أُصوِّرَ محمدًا صورةً مطابِقةً للواقع على قَدْرِ الإمكان -كما فهمتُها ممَّا قرأتُه عنه في الكتب، وكما رأيتُها في أرواحِ أتباعِه الحيَّة-". ° إلى أن قال:"نشأ معتمِدًا على نفسه، يَرجعُ إليها في الكبيرة والصغيرة، ويَجْهَدُ ويَعملُ لكسبِ رِزقِه من عَرَقِ جبينه، إذ لم يكنْ ذا ثروةٍ

العلامة الكبير غوستاف لوبون الفرنسي

تَكفيه مُؤنةَ السَّعي، فكانت ثروتُه عند نشأته: صِدقَه وأمانتَه ونزاهتَه وإخلاصَه، وتلك -لَعَمْرُ اللهِ- أسمى الثرْواتِ وأغلاها، تلك كانت صفاتِ محمدٍ في وَسَطٍ مُنْحَلٍّ لا يَعرفُ أخلاقًا ولا نُبلاً". * العلاَّمة الكبير غوستاف لوبون الفرنسي: وُلد عام 1841 في "تولوز"، وتوفي 1931، فرنسيٌّ من فلاسفةِ عِلم الاجتماع، نَقل بعضَ مؤلفاته إلى العربية. ° قال في كتابه "الحياة" عند حديثِه عن العرب في الشرق (ص 43): "إن محمدًا -رَغم ما يُشاعُ عنه على وجهٍ عام-، قد ظَهَر بمظهرِ الحُكْم الوافر والرَّحابةِ الفسيحةِ إزاءَ أهل الذِّمَّة، وحَرَّر بلادًا واسعةً من الرومِ والفُرسِ، وتَرَك أهلَها في طليعة الأمم". ° وقال في كتابه "التمدُّن الإسلامي" -وهو 800 صفحة، والمنقول من اللغة الفرنسية إلى اللغة الفارسية- (صفحة 67): "إنني لا أدعو إلى بدعةٍ مُحدَثةٍ، ولا إلى ضلالة مُستهجَنةٍ، بل إلى دين عربيٍّ قديمٍ أوحاه اللهُ إلى نبيِّه محمدٍ، فكان أمينًا على بثِّ دعوتِه بين قبائلَ رُحَّلٍ تلهَّت بعبادةِ الأحجارِ، وتلذَّذت بتُرَّهاتِ الجاهلية، فجَمَع صفوفَهم بعدَ أن كانت مُبعثَرةً، ووَحَّد كلمتَهم بعدَ أن كانت مُتفرِّقةً، ووجَّه أنظارَهم لعبادةِ الخالق، فكان خيرَ البَرِيَّةِ على الإطلاق حَسَبًا ونَسَبًا وزعامةً ونبوَّةً، هذا هو محمدٌ الذي اعتَنق شريعتَه أَربَعُمِئةِ مليون مسلم، منتشرِين في أنحاءِ المعمورة، يُرتِّلون قرآنًا عربيًّا مُبينًا". ° إلى أن قال: "فرسولٌ كهذا جديرٌ باتِّباع رسالته، والمبادرةِ إلى

اعتناقِ دعوته، إذ إنها دعوةٌ شريفة، قِوامُها معرفةُ الخالق، والحضُّ على الخيرِ، والرَّدعُ عن المنكَر، بل كلُّ ما جاء فيها يرمي إلى الصلاحِ والإِصلاح، والصلاحُ أنشودةُ المؤمن، وهو الذي أدعو إليه جميع النصارى". ° وفي كتابه "الدين والحياة" قال: "إن محمدًا حَصَل على طاعةِ قومه، ولَم يَحصُلْ نظيرُها لأيَ مَلِكٍ أو أمير، أو أيِّ فاتح، وقد كان ذا أخلاقِ عاليةٍ، وحِكمةٍ، ورِقَّةِ قلبٍ، ورأفةٍ، ورحمةٍ، وصِدق، وأمانة". ° وقال: "كان عقلُ محمدٍ من أكبرِ العقول، وكانت آراؤه من أسدِّ الآراء". ° وقال في كتابه "الآراء والمعتقدات" (ص 6): "لقد اعتَنَقت قبائلُ البَدْوِ في جزيرةِ العرب دِينًا أتى به أميٌ، فأقامت -بفضل الدِّينِ- في أقلَّ من خمسين سنةً، دولةً عظيمةً كدولةِ الإسكندر، وزَيَّنت جيدَها بقلادةٍ من المباني الفخمةِ التي هي آيةٌ في الإعجاز". ° ثم قال: "ولو لم يكنْ أميًّا لَمَا استطاعَ أن ينشرَ دينَه". ° إلى أن قال: "ينشأُ من المعتقَدِ القوميِّ يقينٌ لا يُزعزعُه شيءٌ، ومِن مِثل هذا اليقينِ تُشتقُّ أكثرُ حوادثِ التاريخ أهميةً، فقد أيقن محمدٌ أن الله أَمَره بالدعوة إلى دين جديدٍ أُوحي إليه لتجديدِ العالَم، فاستطاع بفضل يقينِه أن يَقلِبَ الدنيا". ° وقال في كتابه "التمدُّن الإِسلامي" (ص 127): "البابُ الثاني في القرآن: القرآنُ هو الكتابُ المنزَّلُ من السماءِ، الذي فيه مباحثُ وقوانينُ

إدوار مونتيه الفرنسي

دينيةٌ وسياسيةٌ واجتماعية، والقرآنُ -وإنْ نزل من عند الله- لكنه في بعضِ المقاماتِ لم تكنْ بعضُ آياتِه مرتبطةً ببعض (¬1)، وعِلَّةُ ذلك أن آياتِه نَزلت على التوالي المقتضِي الحاجاتِ في ذلك الزمن، وكان جبريلُ المَلَكُ يَنزلُ به على محمدٍ من عندِ الله فتُحفظ، ولم تُجمع إلاَّ بعد وفاةِ محمدٍ، وكانت سُورُه (114) سورة، ويَعتقدُ المسلمون أن القرآنَ حتى الآنَ لم يَنزلْ كتابٌ من السماء مِثلُه، والحقُّ أن في القرآن مِن المعاني الشِّعريةِ والنثريةِ وحُسنِ البيانِ ما لم يُوجَدْ في غيره، أما عقائدُه ونظرياتُه وما يَرجعُ إلى عالَم الكائناتِ، فهو موجودٌ تقريبًا في دين اليهود والنصارى، والقرآنُ مما لا شكَّ أنه نَزل على محمد"اهـ. * إِدوار مونتيه الفرنسي: وُلد في "ليون" 1856، وتوفي 1927، أستاذُ اللغاتِ الشرقيةِ في جامعةِ "جِينف"، مستشرقٌ فرنسي. ° قال في كتابه "حاضر الإسلام ومستقبله": "أما محمدٌ، فكان كريمَ الأخلاقِ، حَسَنَ العِشرة، عَذْبَ الحديث، صحيحَ الحُكم، صادقَ اللفظِ، وقد كانت الصِّفةُ الغالبةُ عليه هي صِحَّةُ الحُكم، وصراحةُ اللفظ، والاقتناعُ التامُّ بما يَقبَلُه ويقولُه، إن طبيعةَ محمدٍ الدينيةَ تُدهِشُ كلَّ باحثٍ مدقِّقٍ نزيهِ القصد، بما يتجلَّى فيها من شِدَّةِ الإخلاص، فقد كان محمدّ مُصلِحًا دينيًّا، ذا عقيدةٍ راسخةٍ، ولم يَنهضْ إلاَّ بعد أن تأمَّلَ كثيرًا، وبَلَغ سنَّ الكمالِ ¬

_ (¬1) كلاَّ .. بل آيات القرآن جميعًا بينها روابطُ عميقةٌ يفهمُها أهلُ الغوص على المعاني.

ألفونس دي لا مارتين الفرنسي

بهاتيك الدعوةِ العظيمة، التي جَعَلَتْه من أسطع أنوارِ الإنسانية، وهو في قتالِه الشَّركَ والعاداتِ القبيحةَ التي كانت عند أبناءِ زمنه، كان في بلادِ العرب أشبَهَ بنبيٍّ من أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا كبارًا جدًّا في تاريخ قومهم، ولقد جَهِل كثيرٌ من الناس محمدًا، وبَخَسوه حقَّه، وذلك لأنه من المصلِحين الذين عَرف الناسُ أطوارَ حياتهم بدقائقها". * ألفُونس دي لا مارتين الفرنسي: وُلد في بلده "بوردو"1790، وتُوفّي 1869، وهو من مشاهيرِ الشُّعراء الفرنسيين، ومِن ممثِّلي المذهب "الرمانتيسم"، ومن مؤلَّفاته الشَّعرية "التأملات" والنثريةِ "السفر إلى الشرق"، نُقل إلى العربية. ° قال فيه (ص 47): "إن محمدًا فوقَ البَشَر ودُونَ الإله فهو رسولٌ بحكمِ العقل، ودلالاتُ المعجزاتِ تَعضُدُ ذلك، وإنَّ اللغزَ الذي حَلَّه محمدٌ في دعوتِه، فكَشَف فيها عن القيم الرُّوحية، ثم قدَّمها لأمَّته العرب دينًا سماوِيًّا، وسَرعانَ ما اعتَنقوه، هو أعلى ما رَسَمه الخالقُ لبني البشر". ° وقال في "السفر إلى الشرق" (ص 84): "أتَرَون أن محمدًا كان أخا خِداعٍ وتدليس، وصاحبَ باطلٍ ومَيْن؟! كلاَّ .. وبعدما وَعَينا تاريخه، ودَرَسْنا حياتَه، فإن الخِداعَ والمَينَ والباطلَ والتدليسَ، كلُّ أولئك مِن نفاقِ العقيدة، كما أنه ليس للكذبِ قُوَّةُ الصِّدق". ° إلى أن قال:"إن حياةَ محمدٍ وقُوَّةَ تأمُّلِه، وتفكيرَه، وجهادَه، ووَثْبَتَه على خرافاتِ أمته وجاهليةِ شعبه، وشهامتَه وجُرأتَه، وبأسَه في لقاءِ ما لَقِيه مِن عَبَدةِ الأوثان، وثباتَه، وتَقبَّله سخريةَ الساخرين، وحَميَّتَه في

المسيو جول لابوم الفرنسي

نَشرِ رسالته، وحروبَه التي كان جيشُه فيها أقلَّ نفيرًا من عدوِّه، ووثوقَه بالنجاح، وإيمانَه بالظفَر، وتطلُّعَه إلى إعلاءِ الكلمةِ وتأسيسِ العقيدة، ونجواه التي لا تنقطعُ مع الله، كلُّ هذا لأَعظمُ دليلٍ على أنه لم يكنْ يُضمِرُ خِداعًا أو يَعيشُ على باطلٍ أو مَيْن، بل كان وراءَها عقيدةٌ صادقة ويقينٌ مضيءٌ في قلبه، وهذا اليقينُ الذي ملأ رُوحَه هو الذي وَهَبه القوة على أنْ يَردَّ الحياةَ فكرةً عظيمةً، وحُجَّةً قائمةً، ومبدأً مزدوجًا، وهو وحدانيةُ الله سبحانه". * المسيو جول لابوم الفرنسي: وُلد في بلده "كاساريا" 1791، وتُوفِّي 1868. ° قال في مقدمة الفهرس الذي وضعه للقرآن الكريم المترجم إلى اللغة العربية (ص 63): "لأجل أن يَفهمَ الإِنسانُ تمامَ الفهم أيَّ دعوةٍ من الدعوات، يَلزمُه أولاً الإلمامُ بحالِ الداعي بذاته". ° إلى أن قال: "ومِن هذه النُّبذةِ الوجيزةِ التي خصَّصناها لمحمد المُشرِّعِ العربي، مؤسِّسِ ما يُمكنُ تسميتُه بالجامعةِ الإِسلامية حوالَي ميلادِ محمد، وإذا بالعالَم يتَّسعُ لأضواءِ هُداه، فكأني بالعالَم وقد خُلق من جديد، وفَتح عينيه على مبادئَ عاليةٍ سامية". * المسيو ميسمر الفرنسي: ° قال في كتابه "العرب في عهد محمد" المعرَّب إلى اللغة العربية عام 1922 بقلم "فؤاد بطرس السوري": "إنَّ مَن تَسافَهَ وأنكر صِدقَ محمدٍ، فقد بَتَّ بهذه المسألة دون أن يَحُلَّها، وحَمَّل ضميرَه مسؤوليةَ المكابرة،

الأب إسكندر دوماس الفرنسي

ورَمى بنفسِه إلى نهايةٍ سيئة، إذ ليس من وَحيِ الضمير الحرِّ ما يُقارفُه أولئك المُغرِضون على محمدٍ الذي اتَّصف بكلّ صفات الكمال". * الأب إِسكندر دوماس الفرنسي: ° وُلد 1803، وتوفِّي 1870، مؤلِّفٌ قَصصيٌّ، له كتاب "الفرسان الثلاثة"، قال فيه: "كان محمدٌ معجزةَ الشرق لِمَا في دينه من معالم، وفي أخلاقِه من سمُو، وفي صفاتِه من محامد". * جان بروا الفرنسي: وهو من كبار المستشرقين الفرنسيين، له مؤلَّفاتٌ عديدة، منها "محمد نابليون السماء" (¬1)، نقله عن الفرنسية "محمد صالح البنداق". ° قال (ص 52) منه: "إن إبلاغَ الرسالةِ إلى العالَم هو الهدفُ الأولُ والأخيرُ للنبيِّ محمد، ولم تكن مشاغلُ الأسرةِ والحياةِ لِتَحُولَ بينَه وبين أدائها أبدًا، وإنك إذا نظرتَ إلى عُنفِ قريشٍ ومؤامراتِها الدمويةِ ورَبْطِ جأشِها على اغتيالِه مرارًا، بل إذا نظرتَ إلى كلِّ القبائل العربيةِ حينَذاك، ألفَيْتَ الغزوَ جُلَّ عَمَلِها، ولم يكن النبيُّ إلى ذلك الوقتِ -وإن كَثُر حَولَه الرجال- قد أُذن له في النِّضال ودَفعِ العُدوان بالعدوان، ولكنْ بعدَ كلِّ تلك الاعتداءاتِ جاء الوحيُ الإلهيُّ يُبيحُ له حَربَ المعتِدين: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ ¬

_ (¬1) معاذ الله أن يُشَّبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال عنه ربُه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَة لِّلْعَالَمِينَ} بنابليون المجرم سَفَّاكِ الدماء الظلُوم الذي قَتل من الشعوب ومن المسلمين ما قتل، والذي غَدَر بأسراه في عكا بعد إعطائهم الأمان: ألَم ترَ أن السيفَ يَنقصُ قَدرُه ... إذا قيل: إن السيفَ أمضى من العصَا؟

المسيو برتلمي سانت هيليار الفرنسي

بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 39 - 40]، وجاء أيضًا: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدينَ} [البقرة: 190] ". ° إلى أن قال: "وكان محمدٌ نبيًّا، ومُشرِّعًا، وسياسيًّا، ومَلِكًا عظيمًا، وخطيبًا مفوَّهًا، وقائدًا خطيرًا محنَّكًا، وإنْ كان لم يَدخُلْ جامعةً من جامعاتِ الرومان، ولا مدرسةً من مدارسِ فارس، إن محمدًا قد كَبُر اسمُه، واعتزَّ بربِّه، حتى عُرف باسمه وحدَه دون ذِكرِ أسرته -كما عرف نابليون-، إنَّ محمدًا لَنابليون السماء (¬1)، ولم يكن لمحمدٍ من عدوٍّ لدودٍ قد استباح المحرَّمات، وأعدَّ الأُهبةَ للبطش به وبدعوته سِوى مكة". * المسيو برتلمي سانت هيليار الفِرنسي: مستشرق فرنسي شهير، وُلد في بلدته "كلدا" 1817، وتُوفِّي 1892. ° قال في كتابه "مع الحياة": "كان محمدٌ أزكى العربِ في عهده، وأكثرَهم تقوًى ودينًا، وأرحبَهم صَدرًا، وأرفَقَهم بأعدائِه ووخصومِ دينه، وما استقامت إمبراطوريتُه الخارقةُ إلا بسبب تفوُّقِه على رجالِ عصره، وأما الدينُ الذي راح يدعو إليه، فقد كان خيرًا عظيمًا على الشعوب التي اعتنقته وآمنت به". * المؤرِّخ الشهير لاتيس الفرنسي: وُلد في مدينة "بورود" 1847، وتُوفِّي 1909. ° قال في مقالٍ له نشرته عنه مجلة "الهلال" المصرية -المجلد الثالث، ¬

_ (¬1) نفس الهامش السابق.

العلامة كليمان هوار الفرنسي

الجزء الثامن-: "إن محمدًا كان مشهوراً بالصِّدق منذ صباه، حتى كان يُلقَّبُ بـ"الأمين"، وما زال يَسهرُ لحياةِ دينِه والعربِ حتى مات، وما مات حتى أسَّس دينًا وأقام دولة". * العلاَّمة كليمان هوار الفرنسي: وُلد 1854، وتوفِّي 1927، مستشرقٌ فرنسي، وقَضى مدةً في دمشق تُرجمانًا لقنصل فرنسا فيها ولسفير فرنسا في "الأستانة"، ورئيسُ مجمع الكتاباتِ والآداب في باريس، وأستاذُ اللغاتِ الشرقيةِ فيها، وله كتاب "تاريخ العرب". ° قال في الجزء الأول منه: "كيف تَعرَّف محمدٌ إلى خديجة، وكيف أمكن أن يَحصُلَ على ثِقتها ويتزوَّجَ بها؟! الجواب على الشقِّ الأول لا يزالُ غيرَ معروف عندنا، وأمَّا على الشق الثاني، فقد اتَّفقت الأخبارُ على أن محمدًا كان في الدرجة العُليا من شرفِ النفس، وكان يُلقَّبُ بـ"الأمين"، أي بالرجل الثقةِ المعتَمَدِ عليه إلى أقصى درجة، إذ كان المَثَلَ الأعلى في الاستقامة". * الكاتب المعروف ديسون الفرنسي: ° قال في حديثٍ له عن النبي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: "ليس يصحُّ أن يُنظر إلى دينِ محمدٍ كدينٍ مليءٍ بالخرافات والأكاذيب، فهذا مخالفٌ للحقيقة، وإن محمدًا نفسَه قد راح يُصرِّحُ بأن الإسلامَ يُتمِّمُ المسيحية" (¬1). ¬

_ (¬1) إن كان يَقصِدُ أنه يُتمِّمُ ديانة التوحيد فنعم.

الأستاذ دافيد دي لويس الفرنسي

* الأستاذ دافيد دي لويس الفرنسي: وُلد في بلدته "ساماتا" 1848، وتوفِّي 1925. ° قال في كتابه "الإسلام": "إنَّ محمدًا قد ذَكر المجتمعَ العربيَّ بأشكاله الابتدائية، وشَيَّد بنيانًا اجتماعيًّا على الأُسسِ التي كانت توافقُ أعمَقَ غرائزِ ذلك المجتمع، فالذين يؤمنون بالله الواحد وبنبوَّةِ محمدٍ يُصبحُ لهم حقُّ الانتسابِ إلى أُمةِ محمد، ومحمدٌ هو الشهيدُ بين العربِ أمامَ الله". ° إلى أن قال: "ولا يُمكنُ لله أن يَبعثَ أو يختار رسولاً ومبشِّرًا بعدَ أن أرسلَ محمدًا مبشِّرًا للناس ومنذِرًا بكلمته النهائية". * المسيو شانليه الفرنسي: ° قال في مجلسٍ -وقد سُئل عن رسالةِ الإِسلام-، نقلاً عن مجلة "المقتطف" -المجلد الثالث- عدد 7: "إن رسالةَ محمدٍ هي أفضلُ الرسالاتِ التي جاء بها الأنبياءُ قبلَه، لأنها جاءت إلى الشعوبِ نقيةً من كلِّ عيبٍ، وخاليةً من كلِّ نقص، بل إنه يُوجدُ فيها من التعاليم القيِّمة ما لا يوجدُ في غيرها من الديانات". * الفيلسوف إِدوار مونته الفرنسي: مستشرقٌ فرنسي، وُلد في بلدته "لوكادا" 1817، وتُوفِّي 1894. ° قال في آخِرِ كتابه "العرب": "عُرف محمد بخُلوصِ النيةِ والملاطفةِ وإنصافِه في الحُكم، ونزاهةِ التعبير عن الفِكرِ والتحقُّق، وبالجملة كان محمدٌ أزكى وأدينَ وأرحمَ عربِ عصره، وأشدَّهم حِفاظًا على الذِّمام، فقد

العلامة رينيه غروسه الفرنسي

وجَّههم إلى حياةٍ لم يَحلُموا بها من قبلُ، وأسس لهم دولةً زمنيةً ودينيةً لا تزالُ إلى اليوم". * العلاَّمة رينيه غروسه الفرنسي: مستشرقٌ ومؤرِّخٌ وأديبٌ فرنسي، له عِدَّةُ مؤلَّفاتٍ، منها "تاريخ الحروب الصليبية"، ومنها "مدنيات الشرق". ° قال في الأخير: "كان محمدٌ لَمَّا قام بهذه الدعوةِ شابًّا كريمًا نجِدًا، ملآنًا حماسةً لكلِّ قضيةٍ شريفة، وكان أرفعَ جدًّا من الوسط الذي يَعيشُ فيه، وقد كان العربُ يومَ دعاهم إلى الله منغمِسين في الوثنية، وعبادةِ الحجارة، فعَزَم على نَقلِهم من تلك الوثنية إلى التوحيدِ الخالِصِ البحت، وكانوا يهتِفون بالفوضى وقتال بعضِهم بعضًا، فأراد أن تؤسَّسَ لهم حكومةٌ ديموقراطيةٌ موحَّدة، وكانت لهم عاداتٌ وحشيةٌ همجيةٌ صِرفة، فأراد أن يُلطِّفَ أخلاقَهم، ويُهذِّبَ من خشونتهم". * العلاَّمة لا بلابس الفرنسي: من مشاهيرِ علماءِ الفَلَك الفرنسيين، صاحبُ الرأي المعروف أن العالَم تكوَّن في بَدئِه كرةً ضبابيةً انفَجرت وصَدَرت منها الأجرامُ السماوية -ومنها أرضنا-. ° قال فى كتابه "الأديان": "إننا -وإن لم نعتقدْ بالأديان السماوية-، ولكنَّ دينَ محمدٍ وشريعتَه مِثالانِ اجتماعيانِ لحياةِ البشر، فنحن نعترفُ لمحمدٍ بأنه عظيمٌ بدينِه ومبدئِه وعقليَّته، فلا مَحيصَ عن الأخذِ بتعاليمه".

المسيو بوستل غليوم الفرنسي

* المسيو بوستل غليوم الفرنسي: مستشرقٌ فرنسي، وُلد عام 1581، وتوفِّي 1654، ألَّف أبجدياتٍ في اثنَتيْ عَشْرةَ لغةً -منها العربية-، طُبع بعضها. ° قال فيما كتبه باللغة العربية: "اللغةُ العربيةُ أفصحُ اللغات آدابًا، وهي لغةُ أُمةٍ على رأسِها محمدٌ النبيُّ العربي، وهو أفصحُ من نطق بالضاد، ولقد جاء بأفصح ما يُمكنُ في خلالِ كلماتهِ المأثورةِ عنه، لذلك نحترمُه ونحترمُ لغتَه". * ويغان مكسيم الفرنسي: ° ولد في "بركسل" 1867، قائدٌ فرنسيٌّ، ومندوبٌ ساقي في سوريا ولبنان 1923، له مذكراتٌ قيِّمة، دُعي إلى حفلةٍ لذكرى ميلاد الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - في بيروت سنة 1925 .. قال فيها: "مهما احتَفل المسلمون بعيدِ ميلاد محمدٍ، فهو قليل؛ لأنه جاءهم بدينٍ هو فوقَ الأديان، وهو في نفسِه كبير، وفي أخلاقه عظيم، وفي شريعِه سيِّدُ الأنبياء، فعلى المُنصِفين أن يحتفِلوا بذكرى عظماءِ التاريخ، وفي طليعتهم محمدٌ الرسولُ العربيُّ والقائدُ الأعلى لتحقيق شريعةِ الله على الأرض، وتركيزِها في صدور الناس". * رينيه ديكارت الفرنسي: وُلد عام 1597، وتُوفِّي 1650، اشتُهر بكتابه "مقالة الطريقة" الذي كان له الأثرُ البيلغُ في الفِكرِ العربي، نقله إلى العربية "جميل صليبا" عام 1950، وهو مَصدرُ الفلسفة الحديثة.

دي سلان ماك غوكين الفرنسي

° قال فيه: "نحن والمسلمون في هذه الحياة، ولكنهم يعملون بالرسالتين العيسوية والمحمَّدية، ونحن لا نعملُ بالثانية، ولو أنصَفْنا لكنَّا معهم جنبًا إلى جنب؛ لأنَّ رسالتَهم فيها ما يتلاءمُ مع كلِّ زمانٍ، وصاحبُ شريعتهم محمدٌ الذي عَجَز العربُ عن مباراتِ قرآنِه وفصاحته، بل لم يأتِ التاريخُ برجلٍ هو أفصحُ منه لسانًا، وأبلغُ منه منطقًا، وأعظمُ منه خُلقًا، وذلك دليلٌ على ما يتمتَّعُ به نبيُّ المسلمين من الصفاتِ الحميدةِ التي أهَّلته لأن يكون نبيًّا في آخِرِ حَلْقاتِ الأنبياء؛ ولأنْ يَعتنقَ دينَه مئاتُ الملايين من البشر". * دي سلان ماك غوكين الفرنسي: وُلد في "باماكو" 1810، وتُوفِّي 1879، مستشرقٌ فرنسي، وَضع فهرس المخطوطات الشرقية الموجودة في المكتبة الوطنية في باريس، أتمَّ ترجمةَ "مقدمة ابن خلدون"، ونقلها إلى الفرنسية، وعُني بنشرِ كتبٍ عديدة. ° قال في الترجمة (ص 107): "إن العربَ أُمةٌ تمتازُ بكثيرٍ من الصفات، ولها دينٌ جامع شامل، لا يَعيبُه إلاَّ مَن يَجهلُه، وصاحبُ دينهم محمدٌ الفقير، وقبلَ أن نعرفَ الدينَ يجبُ أن نعرفَ مَن أتى به، وحقًّا أقول: ليس كمحمدٍ في سلسلةِ الأنبياء، ولا كشريعتِه في سلسلةِ الشرائع، ولا نبالغُ إذا قلنا: إن محمدًا خيرُ مَن أتى بشريعة، ولقد وَقف في وجهِ الطغاة من قريش، حتى أتمَّ ما أراد، وبَلَغ منتهى الطريقِ الذي سلكه وعَمِل له، وإذا به وبشريعتِه يَتمتَّعانِ بذِكرٍ عاطِرٍ وحديثٍ حَسَنٍ، وليس باستطاعتنا

المسيو سيفتر دي ساسي الفرنسي

أن نُثيرَ عليهما غُبارَ الانتقاص". * المسيو سيفتر دي ساسي الفرنسي: وُلد في بلده "سيلوم" 1750، وتُوفي 1838، مستشرقٌ فرنسي، أنشأ "الجمعية الأسيوية الفرنسية"، وبَعَث في قلوبِ معاصريه الغيرة على الدروس الشرقية -ولا سيَّما العربية-، له المؤلَّفاتُ العديدة في الشؤونِ الشرقية. ° قال في كتابه "الحياة" (ص 26): "لست أرى بُدًّا مِن القول بأن الإِسلامَ جامعٌ مانع، وفيه التعاليمُ الحيوية، كيف لا وبانيه محمدُ بنُ عبدِ الله المفكِّرُ العظيم والفيلسوفُ الكبير (¬1)، ودينُه صالح لأن يبقَى ولا يتغيِّر، ومِن المعلوم أن محمدًا كان معروفًا منذ الصِّغرِ بالصدقِ والأمانةِ والوفاءِ والتواضُع، وقد عُرف عنه أنه بليغٌ في منطقِه، سديدٌ في رأيه، نشيطٌ في دعوته". * هيليار بلوك الفرنسي: الكاتبُ الفرنسيُّ الشهير، والمؤرَّخُ الكبير، وُلد عام 1815، وتُوفي 1895، بَحَثَ أديانَ الشرقِ، له مؤلَّفان "بوذا الهندي" و"محمد والقرآن". ° قال في الأخير (ص 37): "إني أقول: إن معجزةً كهذه من حيثُ خطرُها وبُعدُ أثرِها وعظيم نتائجِها، كانت مَسوقةً بقوَّةٍ لا يُستطاعُ تفسيرها، وإن كان ما لدينا من المصادِرِ والوثائق يُساعدُنا على تفهُّم الأسبابِ التي ¬

_ (¬1) لم يكن محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - مفكرًا ولا فيلسوفًا، بل كان نبيًّا رسولاً.

المسيو برتلمي هربلو الفرنسي

جَعَلَتْها أمرًا واقعًا منظورًا. كانت الحركةُ دينيةً -ما في ذلك شك-، فلم يَخرجِ العربُ من جزيرتهم للنَّهْب والسَّلْب، وإنما خرجوا لنشرِ الدينِ الجديد الذي جاء به محمدٌ، والتبشيرِ بالمُثُلِ العليا التي نادى بها محمدٌ، والصفاتِ الجليلة التي دعا إليها محمدٌ". * المسيو برتلمي هربلو الفرنسي: مستشرقٌ فرنسي، وُلد عام 1695، وتُوفِّي 1776، جَمع المخطوطات العربية، ودَرَس اللغةَ العربية في باريس، له كتاب: "المكتبة الشرقية"، وهو معجمٌ جامع لِما في الشرق من فلسفةٍ وأدب. ° قال فيه: "إنَّ اللغةَ العربيةَ هي أعظمُ اللغاتِ آدابًا، وأسماها بلاغةً وفصاحةً، وهي لغة الضاد، ولقد تغنَّى محمد نبيُّ الإسلام بما يدلُّ على شرفِ هذه اللغة بقوله: "أنا أفصحُ مَن نطق بالضاد" (¬1)، وصحيح عنه ذلك لأن كلماتِه المأثورةَ تدلُّ عليه". * الدكتور وايل الفرنسي: مستشرقٌ فرنسي، وُلد عام 1818، وتوفي 1889، دَرَس في باريس العربيةَ والسريانية، اشتَغل في الجزائر مدرِّسًا ومترجِمًا، ترجم "أطباق الذهب" للزمخشري، وله "تاريخ الخلفاء". ° قال في الأخير: "إنَّ محمدًا يستحقُّ كلَّ إعجابِنا وتقديرنا كمُصلحٍ ¬

_ (¬1) لا يصحُّ عن رسولنا - صلى الله عليه وسلم -.

المسيو كوسان دي برسفال الفرنسي

عظيم، بل ويستحقُّ أن يُطلَقَ عليه أيضًا لقب "النبي"، ولا يُصغَى إلى أقوالِ المُغرِضين وآراءِ المتعصِّبين، فإن محمدًا عظيمٌ في دينه وفي شخصيته، وكلُّ مَن تحامَل على محمدٍ، فقد جَهِله وغَمَطه حقَّه". * المسيو كوسان دي برسفال الفرنسي: مستشرقٌ فرنسي، وكاتبٌ معروف، ومؤرِّخ مشهور، وُلد في بلدته "لاتاي" عام 1868، ألَّف في العربية عِدَّةَ كتب، وله مؤلَّفاتٌ بالفرنسية منها "تاريخ العرب". ° قال فيه: "الذي ثَبَت عندي أن محمدًا نبيَّ العرب وُلد في 20 آب سنة 570 م، ذلك الرجلُ الذي جاء إلى قومه بدينٍ جديد بعدَ أن توفَّرت دواعي النبوة، وإن دينَه خالٍ من الشكوك والأضاليل، وقد جاء بالمعجزاتِ دليلاً على دعوته المباركة، ثم سار لانتشارِ دينه القويم متحمِّلاً من قومِه الاضطهادَ المتزايدَ، ثم ارتحل إلى المدينة، وبعد فَتحِ مكةَ عفا عنهم، فآمنوا به". * العلاَّمة ساديو لويس الفرنسي: وُلد في باريس عام 1808، وتوفِّي 1875، له كتاب "تاريخ العرب". ° قال فيه (ص 37): "لم يكن محمدٌ نبيُّ العرب بالرجل الفاتحِ للعربِ فحسب، بل للعالَم -لو أنصفه الناس-؛ لأنه لم يأتِ بدينٍ خاصٍّ بالعرب، وإن تعاليمَه الجديرةَ بالتقدير والإعجابِ تدلُّ على أنه عظيمٌ في دينه، عظيمٌ في أخلاقه، عظيمٌ في صفاته، وما أحوجَنَا إلى رجالٍ للعالم

العلامة لوزن الفرنسي

أمثالِ محمدٍ نبيِّ المسلمين، وعلى العربِ خاصةً أن يحتفِلوا لذكراه كلَّ عام؛ لأنه هو الذي رَفَعهم من حضيضِ الجهالة، وإذا هم أمةٌ لها شأنُها في عِدادِ الأمم الراقية" (¬1). * العلاَّمة لوزن الفرنسي: وُلد في بلدته "لورد" 1786، وتُوفي 1837، وهو أستاذٌ في علوم الكيمياء والفلك. ° قال في كتابه "الله في السماء": "لقد بُعث محمدٌ رسولاً إلى العرب، وعاشت بلادُ العرب الأزمانَ الطويلةَ عاكفةً على عبادة الأصنام، وتَوغَّلت في ذلك حتى احتاجت إلى انقلابٍ ديني عظيم". ° إلى أن قال: "ولمَا فتح محمدٌ مكة، جاء بيتَ الله -الكعبةَ- في احتفالٍ عظيم، وفيها 360 صنمًا، فكان محمدٌ يقفُ أمامَ كلِّ صَنمٍ، ثم يضربُه بعصاه ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الاٍسراء: 81] ثم يَهوي إلى الأرض تحت أقدامه، وليس محمدٌ نبيَّ العرب وحدَهم، بل هو أفضلُ نبيٍّ قال بوحدانيةِ الله، وإنَّ دينَ موسى -وإنْ كان من الأديان التي أساسُها الوحدانيةُ- إلاَّ أنه كان قوميًّا محضًا وخاصًّا ببني إسرائيل، وأما محمد، فقد نَشر دينَه بقاعدتَيهِ الأساسيتين -وهما الوحدانية والبَعث-، وقد أعلنه لعمومِ البشر في أنحاءِ المسكونةِ، وإنه لَعملٌ عظيمٌ يتعلَّقُ بالإِنسانيةِ جُملةً وتفصيلاً عند مَن يُدرِكُ معنى رسالةِ محمدٍ الذي ¬

_ (¬1) تعظيم النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -لا يكون بعصيانه، فلا نحتفل بميلاده كي نظهر له التعظيم، وإنما التعظيم في اتباعه فيما أمر، لا فيما نهى عنه.

الدكتور موريس أندارا الفرنسي

اعتنَق مبدأه وعَمِل على رسالته أرْبَعُمئةِ مليون من الناس". ° إلى أن يقول: "فرسولٌ كهذا الرسول يَجدُرُ باتِّباع رسالته والمبادرةِ إلى اعتناق دعوته، إذ إنها دعوةٌ شريفة، قِوامُها معرفةُ الخالق، والحثُّ على الخير، والرَّدعُ عن المنكر، بل كلُّ ما جاء به يَرمي إلى الصلاحِ والإِصلاح، والصلاحُ أنشودةُ المؤمن، هذا هو الدينُ الذي أدعو إليه جميعَ النصارى". * الدكتور موريس أندارا الفرنسي: مؤرِّخ كبير، وله عدَّةُ مؤلَّفاتٍ، وُلد في بلدته "يلي" 1795، وتُوفِّي 1872. ° قال في أحد مؤلَّفاته، وهو "الإنسان والحياة" (ص 13): "إنَّ محمدًا يَرى أمرَ الحياة جسيمًا، ويَرى لكلِّ عملٍ إنسانيٍّ -مهما حَقُر- خطارةً كبرى، فما كان من سِّيىٍء فله السوءُ نتيجةً أبدية، وما كان صالحًا فله من الصلاح ثمرةٌ سَرْمَدِيَّة، وإنَّ المرءَ قد يسمُو بصالحاتِه لأعلى عِلِّيين، ويَهبِطُ بموبِقاته إلى أسفل السافلين. كلُّ ذلك كان يَلتهب في نفسِ ذلك الرجل القَفْرِيِّ كأنما قد نُقِش ثَمَّةَ بأحرُفِ النار، وتَوجَّه إلى بني قومِه بكلماتِ النور، وأيُّ ثوبٍ لَبسَتْه هذه الحقيقة، وأيُّ قالبٍ صبَّتْه فيه، فلا تزالُ أولى الحقائقِ مَقدَّسةً في أيِّ أسلوب وأىِّ صورة". * المسيو جان تورنون كرو الفرنسي: مستشرق فرنسي، ولد في بلده "كراي" 1867، وتوفِّي 1924، ألَّف كتابًا أسماه "العرب" وذَكر فيه وقائعَ الحربِ العامة، وتحرَّى فيه إلى أقصى

درجاتِ التحرِّى. ° قال في مقدمته: "إنَّ الله اصطفة محمدًا لإِرشادِ أمَّته، وعَهِد إليه هَدْمَ ديانتِهم الكاذبةِ وإنارةِ أبصارِهم بنورِ الحق، فأخذ مِن ذلك العهدِ يُنادي باسمِ الواحدِ الأحد، بحسبِ ما أُوحي إليه، وبمقتضى عقيدتِه الراسخة". ° إلى أن قال: "وقُذف في نفسِ محمدٍ مجموعُ كتابٍ ملآنٍ بالأسرار الإلهية، وأُوحي إليه مجموعةُ حقائقَ تجتازُ مسافةَ عقلِه الطبيعي، لذلك اللهُ عَلَّم الإنسانَ بالقلم، علَّمه ما لم يَعلم .. هذا هو سِرُّ الوحيِ، وهو سِرُّ الكلمةِ المكتوبة، وكانت الكلمةُ المكتوبة وحيًا إِلهيًّا". ° وقال (ص 5 6) منه: "وفي نواحي سنة 610 للمسيح، بَلَغ محمدٌ أَشُدَّة، فكان لا يَقدِرُ أَنْ يتصوَّرَ حالَ قومِه بدون أن يتألَّم، وكان يَرى أن أمرًا ضروريًّا يَنقُصُه ويَنقُصُ قومه، وكان العربُ كلُّ قبيلةٍ منهم عاكفةٌ على صَنَمِها، وكانوا يقولون بالجنِّ والأشباحِ والغيلان، ولكنهم كانوا في غَفلةٍ عنها، وكانت هذه الغفلةُ هي الموتَ الرُّوحيَّ، وكان قلبُ محمدٍ قد خلا من كلِّ فِكرِ غيرِ الفكرِ بالله، وكان قد تجرَّد من كلِّ قوةٍ غير هذه القوة، وكان ليس في نظرِه غيرُ واجبِ الوجود الأحدِ الصمد". ° إلى أن قال: "وأَحَبَّ محمدٌ في تلك الفترة العُزلةَ، فكان يَشعرُ في خَلْوتِه في جبل "حِراء" بسرورٍ عميق، يَتزايدُ يومًا فيومًا، فكان يَقضي هناك الأسابيعَ، وليس معه إلاَّ قليلٌ من الغذاء؛ لأن نفسه كانت تلتذُّ بالصوم والتهجد (¬1) .. " إلى آخر ما كتب. ¬

_ (¬1) ما عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - التهجّد إلا بعد نزول الوحي إليه وعرف كيفية الصلاة والتهجد.

المسيو ديته فنان الفرنسي

* المسيو ديته فنان الفرنسي: مستشرقٌ فرنسي جال في بلادِ الشرق عام 1857، وقد وُلد 1823، وتُوفيِّ 1879، له كتاب" أشعة خاصة بنور الإسلام". ° قال فيه (ص 29): "إن القرآنَ الذي جاء به محمدٌ هو دونَ الكُتبِ المقدَسةِ الأخرى، فهو الكتابُ الوحيدُ الذي يأمرُ بالرِّفق والإحسان". * البحاثة كاوادوفو الفرنسي: وُلد عام 1872، وتُوفِّي 1933 في بلدته "ماريانا"، وهو مستشرقٌ عريقٌ بالأدب الفرنسي، وقد اضطَلَع في "تاريخ العرب"، فألَّف كتابًا اسمُه "العرب". ° جاء في مقدمته: "كان محمدٌ أُميًّا لا يَقرأُ ولا يَكتب، ولم يكن فيلسوفًا ,ولكنه لم يَزَلْ يُفكِّرُ في هذا الأمر إلى أن تكوَّنت في نفسه بطريق الكشفِ التدريجي المستمرِّ عقيدةٌ كان يراها الكفيلةَ بالقضاء على الوثنية (¬1) ومن المعروف عن محمد أنه مع أمَّتِهِ كان أرجحَ الناس عقلاً وأفضلَهم رأيًا، دائمَ البِشْر، مُطيلَ الصمت، ليِّنَ الجانب، سَهْلَ الخُلق، يُكثِرُ الذكر، ويُقِلُّ اللغوَ، يَستوي عندَه في الحق القريبُ والبعيد، والقويُّ والضعيفَ، يُحبُّ المساكين، لا يَحقرُ فقيرًا لفقره، ولا يَهابُ مَلِكًا لِمُلكِه، يؤلَّفُ أصحابَه ولا يُنفِّرُهم، ويُصابرُ مَن جالَسه أو قاومه، ولا يَحيدُ عمَّن صافَحه حتى يكونَ الرجلُ هو المنصرف، يَجلسُ على الأرض، ويَخصِفُ ¬

_ (¬1) إنها النبوة لا الكشف التدريجي.

° البحاثة ليون دوني الفرنسي

النَّعل، ويُرقِّعُ الثوب". ° البحَّاثة ليون دوني الفرنسي: مستشرقٌ فرنسيٌّ كبير، وُلد 1845، وتُوفِّي 1908. ° نقل "محمد فريد وجدي" في كتابه "الإسلام في عصر العلم" (ص 367) من الجزء الأول قال: "لقد نَقلت "المجلة الروحية" في جزئها الصادر في يوليو سنة (1903) من مُلَخَّصِ خطبةٍ خَطَبها فيلسوف الإسبرتزم وخطيبُها الُمفوَّهُ "ليون دوني" في غرفةِ الزراعة بباريس، تكلَّم الخطيبُ في أثناء الخطبةِ عن وظيفةِ رجالِ القرائحِ الكبرى في العالَم الإنساني، وعلى مكانهم في هِدايةِ الخَلق، وإرشادهم". ° ثم قالت المجلة: "المسيو "ليون دوني" استعرض أمامَ سامِعيه كبارَ الوسطاءِ بين الملإِ الأعلى والناس، وهم الذين خَلَّد لنا التاريخُ أسماءهم، وسَرَد أدلَّةً وحُجَجًا استملاها من الحوادث ومن تفاصيل حياتهم، وذَكر من أولئك: المسيح ومحمدًا". ° إلى أن قال: "إنَّ كلَّ العامِلين العِظامِ على ترقيةِ النوع الإِنساني، كان يُوحى إليهم مِن قِبَل الأرواح العالية النيِّرة، هذه الخاصيةُ كانت دائمًا الممِدَّةَ للقرائحِ العالية، والمهذِّبةَ للعالم، والُمعلِّمةَ المُرشدةَ للأمم والشعوب" اهـ. * الفيلسوف الفرنسي رُوجيه جارودي: أشَهرُ مَن أنصف الإسلامَ في الغرب في القرن العشرين الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي، الذي كان من أكبر المتحمِّسين للشيوعية والفلسفة

الماركسية المادية، وأُصيب بصدمةٍ بعدما اكتشف زَيْفَ الشيوعية بدايةً من عام 1956 بعد أن كَشَف الرئيس الروسيُّ "خرشوف" فضائح عهدِ "ستالين". وبدأ جارودي -كمفكِّرٍ- رحلةَ الشكِّ بحثًا عن اليقين بدراسةِ الأديان، إلى أن توقَّفَ عند الإسلام لدراسته كدينٍ وحضارة، وقارَنَ بينَ ما في القرآن مِن الإشاراتِ العِلميةِ والاكتشافات العلميةِ الحديثة. ° وعَبَّر عن هذه المرحلةِ من حياتِه قائلاً: "كلَّما تعمَّقتُ في الدراسةِ والمقارنةِ، ازددتُ اقتناعًا بأن الإسلامَ هو الدينُ الذي أبحثُ عنه". ° وأعلن "جارودي" إسلامه (¬1) في شهر رمضان عام 1982، وأصبح اسمُه "رجاء جارودي"، وأصدر كتابَه الشهير "وعود الإِسلام"، فكان ذلك الكتابُ بدايةَ حربٍ شعواءَ شُنَّت عليه مِن أكثرَ مِن جهة، خاصةً أنه قد أعلن في كتابه هذا "أنه لا توجدُ اليومَ أمة تَحملُ كلمةَ الله بأمانةٍ وصدقٍ غيرُ الأمةِ الإسلامية، ولا يوجدُ كتابٌ سماويٌّ يُمثِّلُ كلمةَ الله بحقٍّ -دون تحريفٍ- إلاَّ القرآن، ولا أملَ في إنقاذ الغربِ إلاَّ بأن يعترفَ بأنه مَدِينٌ لحضاراتٍ أخرى، ويُغيِّرُ موقفَه المعنِّتَ من الإسلام؛ لأن الغربَ الذي رَفض رُوحانياتِ الإِسلام هو اليومَ أحوجُ ما يكونُ إليها، ورَفَض الغربُ عقيدةَ التوحيد، وغَرِق في المادةِ، فانتهى به الأمرُ إلى خَواءٍ رُوحيٍّ وتمزُّقٍ بين الأيديولوجيات .. والإسلامُ ليس كفرًا -كما رَوَّج المُغرِضون القُدامى في الحرب الصليبية-، وليس إرهابًا -كما يُصوِّرُه ألمُغرِضون الجُدد- .. إنه الدينُ العَمليُّ الذي يُقدِّمُ للإِنسان نظامًا كاملاً شاملاً لحياةٍ إنسانيةٍ بكلِّ ¬

(¬1) انظر "حول إسلام جارودي" جمعي وكتابي "أعلام وأقزام في ميزان الإسلام".

احتياجاتِها، وليس مجردَ عقيدةٍ منعزلةٍ عن دنيا الناس". ° وُيرِكِّزُ جارودي على أن الإسلامَ هو الدينُ الذي يَعترفُ بالديانات السماوية، والمبدأُ الذي قرَّره الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - سَبَق به الدعوةَ إلى حقوقِ الإنسان بقرونٍ، وهو "لا فضل لعربيًّ على أعجميًّ، ولا لأعجميٍّ على عربيٍّ إلاَّ بالتقوى"، فليس في الإسلامِ تمييزٌ على أساسِ اللون أو الجنس. ° وقد تولَّى "جارودي" في كتابه "وعود الإسلام" تفنيدَ الاتهامات التي تُردَّدُ في الغربِ ضدَّ الإسلام. ° ويقول "جارودي": "إن الغربَ غَرِق في الفَردية، فلم يَعُدْ للأسرةِ ولا للصداقةِ ولا للأُخوَّةِ الإِنسانيةِ وجود، وتحوَّل الإنسانُ إلى ذئبٍ أمامَ أخيه، بينما يُعلِّمُ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - المسلمين: "لا يؤمن أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه"، و"المسلمُ أخو المسلم، لا يَظلِمُه، ولا يَخذُلُه، ولا يَكذبُه"، و"كلُّ المسلم على المسلمِ حرامٌ دمُه ومالُه وعِرضُه"، و"المؤمنُ للمؤمن كالبُنيانِ يَشُدُّ بعضُه بعضًا". هذا هو دستورُ الإِسلام لبناءِ مجتمع متماسكٍ يَصُونُ حقوقَ أفراده". ° ويَحكي "جارودي" تجربةَ دخولِه في الإسلام منذ بدايتها، فيقول: "بدأتُ إسلامي بالشهادتين، وهذا ركنُ الإسلام الأولُ، وبه يُسلِمُ الإنسانُ قلبَه لله الواحدِ الخالقِ المدبِّرِ الجديرِ بالعبادةِ وحدَه دون شريك .. {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]. ومحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - رسولُ الله المبعوثُ من الله للناس كافةً .. ووَجدتُ في الصلاةِ تعبيرًا جميلاً عن اتصالِ الإنسانِ بالله، وتَشعُرُ بعظمةِ الإسلام حين

ترى المسلمين وقد وَقفوا في وقتٍ واحدٍ صفوفًا منتظمةً متَّجهينَ إلى قِبلةٍ واحدة، وقبلَ الصلاة يكونُ الوضوءُ -وهو نوعٌ من الطهارةِ الجسديةِ- تمهيدًا للوقوف بين يَدَي الله". ° ويتحدَّثُ عن الزكاة فيقول: "إنها في الإِسلام لا تُعتبرُ صدقةً .. بل هي حقٌّ معلومٌ للفقراء من أموالِ الأغنياء، والمالُ كلُّه لله في مفهومِ الإسلام، فالزكاةُ وسيلةُ التكافلِ والتضامنِ الاجتماعيِّ في المجتمعِ الإسلاميِّ، تُزيلُ الحقدَ من نفوسِ الفقراء، كما تُزيلُ الجَشعَ من نفوسِ الأغنياء .. أمَّا الحج، فإنه يَجمعُ المسلمين في وقتٍ واحدٍ ومكانٍ واحدٍ أمامَ الله بلا تمييزٍ طَبَقي، ليُشعرَهم بعظمةِ دينِهم، وُيقوَّي فيهم الإحساسَ بالترابطِ، ويؤكِّدَ المساواةَ بين المسلمين أمام الله". ° وعن الاقتصاد في الإسلام يقول: "إنه يقومُ على مبادئَ، مِثلِ: التوازن في توزيعِ الدخل، وتحريم الاحتكار، وجَعلِ المِلكيةِ الفرديةِ لصالح الفرد والجماعة، واعتبارِ السُّوقِ وسيلةً وليس غاية، وأهمُّ من كل ذلك أن المسلمَ يَجعلُ اللهَ أمامَ عينيه في كلِّ ما يقول وكل ما يعمل، ولا يَسمحُ لنفسه بأنْ يتعدَّى حدودَ الله. أما في الغرب فإن الهدفَ هو السَّعيُ إلى المَزيدِ من الربح، والمزيدِ من الإنتاج، والمزيدِ من الاستهلاك". ° وَيعتبر "جارودي" أن وَضْعَ المرأةِ في الإسلام هو الوضعُ الأمثلُ، فقد رَفع الظُّلمَ عنها، وساوَى بينها وبين الرجل في الحقوقِ والواجبات .. وصان المرأةَ، وحافَظَ على كرامتها. ° ويُشير إلى وضع المرأة في الغربِ على مدى العصور؛ فقد أباح

"سقراط" أن يُقرِضَ الزوجُ زوجتَه لمن يشاء من أصدقائه، "وأفلاطون" قرَّر ضرورةَ شيوعِ النساء، أي: أن تكونَ كلُّ النساء لكلِّ الرجال، ولا يكونَ لرجلٍ امرأةٌ بعينها، والأبناءُ هم أبناء المجتمع!!. ° وقد أعطى الإِسلامُ للمرأةِ حقوقًا لأولِ مرةٍ، منها: حقُّ التملُّك، وجَعَل لها نصيبًا في الميراث بعد أن كانت هي نفسُها ضِمنَ الترِكة، وأعطاها حقَّ التعلُّم والعملِ واختيارِ الزوجِ وطلبِ الطلاق، وقرَّر الإسلامُ للمرأةِ حقوقًا بعد الطلاقِ، منها: النفقة، وحِضانةُ الصغار. ° ويَسخرُ "جارودي" من زيادةِ الأطفالِ غيرِ الشرعيين في المجتمعاتِ الغربيةِ والتفاخُرِ بحريةِ العلاقات الجنسيةِ خارجَ الزواج، ويتساءل: "أيهما أفضلُ وأكثرُ حمايةً للمرأة وللأبناء: تعدُّد الزوجات في إطار الشرعية أو تعدد العلاقات غير الشرعية؟! " (¬1). ° ويتكلَّمُ "جارودي" عن الأفكارِ الرائجةِ في الغرب التي تَدفعُ الشبابَ إلى الإحباطِ واليأس، ويَشعرون -كما قال فلاسفة الوجودية- بأن الحياةَ ليست سِوى جَحيم، وأن الآخَرين هم أيضًا جحيم، وأن الإنسانَ يَسيرُ في حياتِه -بعين مُغمضةٍ - نحوَ هاويةٍ لابد منها، ومن هؤلاء مَن حَصل على جائزةِ نوبل أو رُشِّح لها، ولهم تلاميذُ كثيرون اعتَنقوا أفكارهم، ويتجرَّأُ أحدُهم إلى حدِّ إعلانِ موتِ الله، كما فعل الفيلسوف الألماني "نيتشه" من قبلُ، وبعضُهم يَصِفُ الإنسانَ بأنه مجردُ دُميةٍ على مسرحِ العرائس الذي نُسميه الحياة!. ¬

_ (¬1) "المنصفون للإسلام في الغرب" (ص 221 - 225) باختصار.

° يقول "جارودي": "كيف أصفُ هؤلاء المفكِّرين والكُتَّاب؟ إنهم سفَّاحو الثقافةِ والفكر، بينما عقيدةُ الإسلام قادرةٌ على إعطاءِ الأملِ للإنسان، وشَحْذِ عزيمتِه، وإرشادهِ إلى طريقِ الخيرِ والفضيلةِ، ووعودُ الإسلام بالحسابِ في الآخرة ثوابًا أو عقابًا تكفي لإعطاءِ الحياةِ أعظمَ المعاني". ويدعو "جارودي" مفكَّري الغربِ إلى تفهُّمِ الإسلام، وأن يتعلَّموا كيف يُمكِنُهم الوصولُ إلى الرُّوح -رُوحِ الإسلام-، وحينئذٍ سوف تمتلىُء نفوسُهم بالأملِ في الحياةِ وما بعدَ الحياة. ° وفي نفس الوقت يدعو "جارودي" المسلمين إلى أنْ يتحرَّكوا ويجدِّدوا حياتَهم في ظلِّ الإسلام، وألا يستسلموا للجمودِ ويقعوا في عبادة الماضي، ويَستشهدُ على ذلك بعبارةٍ بليغةٍ لمفكِّرٍ فرنسيٍّ شهيرٍ هو "جورس" الذي قال: "إن إخلاصَ المرءِ لأجداده لا يكون بالإبقاءِ على رَمادِ المدفأة التي كانوا يستعملونها .. بل بإذكاءِ جَذوةِ النارِ فيها". ° وفي محاضرةٍ شهيرةٍ في جامعة الأزهر في مارس 1983، بدأ "روجيه جارودي" حديثَه بعباراتٍ قاطعة فقال: "إن الإِسلامَ اليوم هو الدينُ الذي ما زال في حالةِ تقدُّم مستمر، وإنْ كان قد أصاب المسلمين الضعفُ في القرن الثامن في الأندلس، إلاَّ أن الإسلامَ ما زال ينتشرُ في آسيا، والهند، وأندونيسيا، وفي أماكنَ أبعدَ مِثل ماليزيا، وبورما، وتايلاند، والصين، وكوريا، واليابان، وفي الفترة التي وقف فيها "عبدُ الناصر" في مواجهةِ الغرب حَدَث اندحارٌ للاستعمار في أفريقيا، وتحرَّر كثيرٌ من الدول، وأصبحت القارةُ الأفريقيةُ بأكملها في سبيلها لأن تكونَ قارَّةً إسلامية، كما

وصلت هذه المَوجةُ أيضًا إلى الولاياتِ المتحدة وآسيا الوسطى .. وهكذا فإنَّ هناك صورةً جديدةً للإِسلام بدأت في الظهور تُكمِلُ نَهضَته وتَفتُّحَه حتى في البلادِ التي تَسُودُها الضغوطُ السوفيتية، وعندما تتفجَّرُ هذه الآفاق سيظهرُ للعالَم أنَّ الإسلامَ حيٌّ يستطيعُ مواجهةَ تحدياتِ القرن، كما استجاب في الماضي لمتطلَّباتِ عصورٍ ومجتمعاتٍ عديدة". وانتشارُ الإِسلام- في رأي جارودي- هو ردُّ فعلٍ لطغيانِ الغرب .. فالغربُ يسيطرُ على العالم بدونِ شريكٍ منذ خمسةِ قرون، وفَرَض نموذجَه الحضاريَّ والثقافي، والنموذجُ الغربيُّ للتنميةِ قائمٌ على نَهبِ الثرْواتِ المادية البشريةِ التي تمتلكُها الشعوبُ الأخرى، مع أن شعوبَ الغربِ تعادِلُ خُمْسَ سُكَّانِ الكرةِ الأرضية فقط، والغربُ يُنتجُ أيَّ شيء بكمياتٍ كبيرة، سواءٌ كانت مفيدةً أم ضارةً أم قاتلةً، مثلَ الأسلحةِ المدمِّرة التي تُعدُّ سُوقًا رائجةً يعتمدُ عليها الغربُ في تحقيق الرخاء الذي يَنعَمُ به حاليًا. وذلك النموذجُ المخيفُ للتنميةِ يَكشفُ طبيعتَه الانتحارية، ففي عام 1982 مثلاً بَلَغ الإنفاقُ على الأسلحة 650 مليار دولار، وكان لكلِّ فردٍ في العالَم ما يُوازِي أربعةَ أطنانٍ من المتفجِّرات التقليدية، وأصبح مِن الممكن نظريًّا تدميرُ كلِّ أثرٍ للحياة في هذه الأرض، وذلك الاحتمالُ -وإن كان بعيدَ الوقوع- إلاَّ أنه يَحدُثُ لأولِ مرةٍ في تاريخ البشرية، أي منذ ثلاثةِ ملايين سنةٍ على الأقل! بينما تشيرُ إحصاءاتُ الأممِ المتحدة عن نفسِ العام (1982) إلى أن الذين ماتوا جُوعًا بلغوا 50 مليونَ إنسانٍ في العالم الثالث، ولا يمكنُ تخيُّلُ صورةٍ أبشعَ من هذه الصورة التي وَصل إليه العالَمُ بعد خمسةِ قرونٍ من الحضارة والتقدُّم -كما يقولون في الغرب-.

° ويَرصُد" جارودي" كتاباتٍ في الغرب اتَّجهت إلى إنصافِ الإسلام ومحاولةِ فهمه، ويقول: "إن هذه الكتاباتِ كانت في ألمانيا فقط؛ لأنها لم تَستعمرْ بلادَ المسلمين كما فعلت بريطانيا وفرنسا، وهذا ما جَعل المفكِّرَ "هيردر" (1744 - 1803) يعترفُ بأن العربَ هم "أساتذة أوروبا"؛ فنجدُ "فردريك شليجل" يُشيدُ بالفنون الشرقية الإسلامية، والشاعرَ الألماني الكبير "جوته" الذي كَتب عام 1774 قصيدةً في تمجيدِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ودعا في كتابه "الديوان الشرقي" إلى الهجرةِ إلى الشرقِ لِينهلَ الغربُ منه شبابًا جديدًا، وقد أُعجب "جوته" بالشعراء الصوفيين الكبارِ أمثال ابن الرومي، وحافظ الشيرازي، والسعدى، وكان المستشرق "سلفستر دي ساسي" قد تَرجم بعضَ أشعارهم، كما كان "جوته" أولَ من قال في الغرب: "إذا كان الإسلامُ يعني التسليمَ لله، فإننا جميعًا نعيشُ ونموتُ على الإسلام". وأبدى الفيلسوفُ الألماني "هيجل" تقديرَه للإسلام؛ لأن اللهَ الواحدَ الأحدَ في الدين الإسلامي يُحرِّمُ التمييزَ العِرْقيَّ والطائفي، ويُحرِّمُ استعلاءَ طبقةٍ على أساسِ المِلكيةِ وحدها، ويُعوِّدُ المسلمين الدقَّةَ في حياتِهم بفروضٍ أهمُّها الصومُ والصلاةُ والزكاة. ° وكان الفيلسوف الألماني: "أوزوالد شبلنجر" أكثَرَ جُرأةً في إنصافِه للإسلام في كتابِه الشهير "سقوط الغرب" عام 1917، حيث قال: "لم يكن لغزُ النجاحِ الخارقِ للإسلام بسبب اندفاعِه الحربي؛ ولكن لأنه استوعب كلَّ الديانات". ° أين هذا من نظرةِ الاستعلاءِ والصَّلَف عند الصليبيِّ "لورانس العرب" -رجل المخابرات البريطانية- الذى يقولُ في كتابه "أعمدة الحكمةِ

الدكتور جرينييه

السبعة": "إنَّ جميعَ ولاياتِ الإمبراطورية العثمانيةِ لم تكنْ تُساوِي -في نظري- حياةَ إنسانٍ بريطانيٍّ واحد"؟!. ° ويعارضُ "جارودي" التيارَ الغربيَّ الذي يتهمُ الإسلامَ بأنه دينٌ ينتمي إلى الماضي، فيقول: "إنَّ الإسلامَ قوةٌ رُوحيَّةٌ عظيمةٌ للإِصلاح والتقدم في المستقبل كما كان دائمًا". ° ولَمَّا دوَّى صوتُ "جارودي" في الغرب دِفاعًا عن الإِسلام، تحمَّل بسببِ ذلك الكثيرَ من الاضطهاد والمطاردة إلى حدِّ محاكمته والتهديدِ بسجنه. * الدكتور جرينييه: ° قال الرحَّالة السيد "محمود سالم" في مقالٍ له نُشِر في مجلة "المنار"، مجلد 14 (ص 518): "قَصَدتُ في سياحاتي مدينةَ "بونتارليه" لمقابلة الدكتور "جرينييه" المسلمِ الفرنساويِّ الشهير، الذي كان في السابق عُضوًا في مجلس النوَّاب، قابلتُه لأجلِ أنْ أسألَه عن سببِ إسلامه، فقال: "إني تتبَّعت كلَّ الآياتِ القرآنيةِ التي لها ارتباط بالعلوم الطبيَّةِ والصحيَّة والطبيعية، والتي دَرستُها من صغري وأعلمُها جيِّدًا، فوجدتُ هذه الآيات منطبقةً كل الانطباقِ على معارِفِنا الحديثة، فأسلمتُ لأني تيقنتُ أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أتى بالحقِّ الصُّراح مِن قبل ألفِ سَنة، مِن قَبْل أن يكونَ مُعلمٌ أو مدرِّسٌ من البشر، ولو أن كل صاحبِ فنٍّ من الفنون، أو عِلمٍ من العلوم قارن كلَّ الآياتِ القرآنيةِ المرتبطةِ بما تعلَّم جيِّدًا كما قارنت أنا، لأَسلم بلا شك .. إنْ كان عاقلاً خاليًا من الأمراض" (¬1). ¬

_ (¬1) "أوربا والإسلام" للشيخ د. عبد الحليم محمود (ص 87 - 88).

ومن أمريكا

ومن أمريكا * الدكتور ليتنز الأمريكي: ° قال في موضوع له في مجلة "المقتطف" -المجلد الخامس- الجزء 4، عَرَّبه الأستاذ "وليم باسيلا" المصري: "إنَّ محمدًا نبيٌّ، وقد أوحى الله إليه، ومرةً أوحى إليه وحيًا شديدَ المؤاخذة؛ لأنه أدار وجهَه عن رجلٍ فقيرٍ أعمى، ليُخاطبَ رجلاً غنيًّا مِن ذَوِي النفوذ، وقد نَشَر ذلك الوحيُ، فلو كان كما يقولُ أغبياء النصارى بحقِّه، لما كان لذلك الوحيِ من وجود، ولَتَركَتْه العصورُ التي مرَّت عليه أنقاضًا". * أندرا وليامس الأمريكي: ° مستشرقٌ أمريكي، قال في كتابه "أميركي في البلاد العربية" -تعريب عمر أبو النصر-: "قد يكون اسم "محمد" أكثرَ الأسماء شيوعًا في العالمَ، وأشهرُ مَن حَمَل هذا الاسمَ على الإِطلاق عربي أبصر النورَ في قريةٍ نائيةٍ من أرض الجزيرة العربية -وهي "مكة"- عام (571) للميلاد، إليه أوحى اللهُ كلمتَه فأجراها في كتاب، ونَشَرها بين النالس، ودعا أصحابَه للإيمان بالإله الواحد ربًّا، وبمحمدِ بنِ عبدِ الله رسولاً، وبالعمل الصالح والنَّهيِ عن المنكر قِبلةً ومُصلًّى، وآذنت حياتُه بمغيبٍ في الثالثة والثلاثين بعد السِّتمئة من البلاد، تاركًا لقومه دينًا جديدًا، وكتابًا منزَّلاً، ورسالةً ضخمةً لنشرِ الدين وإقامةِ الحضارة، ولقد دعا محمد في عهدِه إلى أَخَوِيَّةٍ جديدة، أخويةِ المسلم لأخيهِ المسلم، لا فَرقَ بين أولٍ وآخر، سواءٌ أكان أميرًا أم عبدًا إلاَّ بالعملِ الصالحِ والخيرِ والإحسانِ، ثم أرسل قومَه بعد هذا لغزوِ العالَم،

هارون ماركوس الأمريكي

وتوحيدِ الأرض في صعيدٍ واحد، فإذا تَقطَّعت سنواتٌ بعد وفاته، نجدُ الإسلامَ ينتقلُ من نصرٍ إلى نصر، ومِن فتح إلى فتح، وإذا هو يضمُّ العالم المعروفَ في عهدِه إلى سلطانه، وإذا به يَجمعُ بين الشرق والغرب". * العلاَّمة واشنطن إِروينك الأمريكي: ° قال في محاضرةٍ ألقاها في حفل ميلاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في "ديترويت" سنة 1934 - نقلاً عن مجلة "الرفيق"، المجلد الثالث العدد الرابع-: "لم يكن محمدٌ محبًّا للدنيا قط، وقد لَقِي من الاستهزاءِ مِن قومه والإهانات، حتى اضطُرَّ إلى الهرب، ولم يكن في نَظَرِه إلاَّ تقويمُ دينه، وكانت له آراءُ عالية، واعتقادٌ حسنٌ بربِّه، ويقينٌ بشريعتِه فوقَ يقينِ أيِّ رسولٍ من الرسل، ويَدُلُّنا على ذلك قوله: "لو وَضعوا الشمسَ في يميني والقمرَ في يَساري على أن أتركَ هذا الأمرَ، ما تركتُه" (¬1) .. ". * هارون ماركوس الأمريكي: وُلد 1812، وتُوفي 1887 .. دكتور بالفسلفة. ° قال في كتابه "حياة محمد نبيِّ المسلمين": "تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا نُنصِفْ بها الإسلامَ الحنيف، ونَبيَّه العظيمَ محمدًا، ولْنجعلْ موضوعَنا اليوم "الحكومة الإسلامية في صدر الإسلام"، ولْنستعرضْ تنظيماتِها في عهدِ سيِّدها وزعيمِها وقائدِها -ذلك الرسولِ الكريم-، لنبيِّنَ أن الصحابةَ والخلفاءَ وقادةَ الإسلام، كانوا يقومون بواجباتهم بكلِّ أمانةٍ ودقَّةٍ وِفقًا للشريعة الغرَّاءِ التي جاء بها محمد، لم يكن في فجرِ الإسلام شِيَعٌ ولا ¬

_ (¬1) هذا لفظ ضعيف.

جورج دي تولدز الأمريكي

أحزاب، بل على العكس من ذلك، كانت الحكومةُ الإسلاميةُ تُمثِّلُ جميعَ المسلمين تمثيلاً صحيحًا، وهي عبارةٌ عن هيئةٍ منظَّمةٍ مشترَكة، تنطقُ بحقًّ، بلسانِ كافةِ المسلمين، كلُّ مسلمٍ يَشُدُّ أَزْرَ أخيه المسلم، ويَشعرُ بأنَّ منَ الحق والواجبِ عليه أن يتوجَّعَ لوجعه، وكان عَدلُ محمدٍ منتشرًا بين المسلمين". ° إلى أن قال: "فقد كان محمدٌ زعيمًا وقائدًا سياسيًّا بما في أسمى معاني الزعامةِ السياسيةِ من معنًى وسيادة، هذه كانت تتجلَّى في أروع المظاهرِ التي عَرَفها بنو الإنسان، وخَليقٌ بي -وأنا في صَدرِ الكلام من الزعامة السياسية- أن أدحَضَ فِريةً وأرُدَّ بهتانًا، لا يزالانِ عالِقَينِ في أذهانِ قاصِري العقول، الذين لا يَملِكون ذرَّةً من حصافةِ الرأي، وتلك الفريةُ وذلك البهتانُ هما ما يُردِّدُه أولئك الأغبياءُ، الذين يَزعُمون أنْ لا علاقةَ بين الدين والسياسة، وأنْ لارابطةَ تربِطُ أحدَهما بالآخر!! إنَّ من الخطأ أن يَظنَّ ظانٌّ هذا". * جورج دي تولدز الأمريكي: ° وُلد في "شيكاغو" 1815، وتوفي 1897، كان رئيسَ بنكِها التجاري، وله مؤلَّفات عديدة استعرض فيها عاداتِ العرب، ومنها كتاب "الحياة"، قال فيه: "إنَّ من الظُّلمِ الفادحِ أن نَغمِطَ حقَّ محمدٍ -والعربُ على ما علِمناهم من التوُّحش قبلَ بعثتهِ-، ثم كيف تبدَّلتِ الحالةُ بعدَ إعلانِ نبوَّته، وما أوْرتُه الديانةُ الإسلاميةَ من النور في قلوبِ الملايين من الذين اعتنقوها بكلِّ شوقٍ وإعجابٍ من الفضائل، لذا فإن الشكَّ في بَعثةِ محمدٍ إنما هو شكٌّ في القُدرة الإلهية التي تشتملُ الكائناتِ جَمعاءَ".

المؤرخ الكبير المستر أورينج الأمريكي

* المؤرِّخ الكبير المستر أورينج الأمريكي: ° قال في أول كتابه "الحياة والإسلام": "كان النبيُّ لأخيرُ بسيطًا خلُوقًا، ومفكِّرًا عظيمًا، ذا آراءَ عالية، وإنَّ أحاديثَه القصيرةَ جميلةٌ ذاتُ معانٍ كبيرة، فهو إذًا مقدَّسٌ كريم". * المستر ستنلي لبن بول الأمريكي: وُلد في بلدته "لاكاسا" 1880. ° قال في كتابه "أقوال محمد": "كان محمدٌ رؤوفًا شفيقًا، يعودُ المريضَ، ويَزورُ الفقير، ويُجيبُ دعواتِ العبيدِ الأرِقَّاء، وقد كان يُصلحُ ثيابَه بيده، فهو إذًا لا شك نبيٌّ مقدَّس، نشأ كيتيمٍ مُعوِزٍ حتى صار فاتحًا عظيمًا". * العلاَّمة ماكس الأمريكي: مستشرق، ولد في "غرونلندا " 1795، وتوفي 1868، وله مؤلَّفاتٌ قَصيصةٌ وكتابُ "عظماء الشرق". ° قال فيه (ص 93): "لقد نَفَذت روحُ الإسلام من محمدٍ رسولِ الله إلى المسلمين، إلى الهُداة والصالحين، وإنَّ هذه الرُّوحَ القويةَ حَدَتْ بالنبيِّ إلى الهجرةِ من مكةَ إلى المدينة، بينما كان أعداؤه مِن المشركين يَجِدُّون في البحثِ عنه ليؤذوه، بل ليُذيقوه رَيبَ المنون، ومِن الغريب أن أعداءَ النبيِّ لم يُقنِعوا أنفسَهم بتركِ مكة، بل تَعقَّبوه في هِجرته، وهناك ضَربوا على نُزله سيِاجاً من الحَيطةِ لأجل القبضِ عليه، ولكنَّ رُوحَ الإسلامِ الدفينةَ في أعماقِ الهِمَّة، ألهمته أن يتناولَ قبضةً من ترابٍ، فتناوَلها ورَمَى بها عليهم،

المستر سنكس الأمريكي

فأخذتهم سِنَةٌ مِن النوم، تمكَّن خلالَها النبيُّ من النجاةِ منهم في الصحراء حيث اختفى في غارٍ هناك، ولا تَقُلْ: إن اختفاءَه في الغار يَحُولُ دون هلاكه وحَتْفه، ولكنَّ الإسلامَ وما في ثناياه من رُوحانيةٍ وقوَّة، جَعل الحمامَ يَبيضُ على بابِ الغار (¬1)، ولَمَّا أفاق أعداؤه من غَشَيانهم تتبَّعوا أثَرَه إلى الغار، وأخذتهم هواجسُ الظنِّ، لِعلمهم بأنَّ النبيَّ لا يُمكنُ بأيِّ حالٍ أن يكونَ في الغار، فمَن يُرِدْ أن يؤمنَ بوحدانيةِ الله، فعليه أن يشاهدَ بسهولةٍ يدَ اللهِ المحرِّكةَ للكائنات مِن غيرِ أن تُبصِرَها العينُ المجرَّدة، وبخاصةٍ عندما أُحيطت حياةُ النبيِّ مِن يدِ العدوانِ برعايةِ الطيرِ الذي اندَفَع إلى حمايةِ محمدٍ بيدِ الإِلهِ الخافيةِ عن الأبصار". * المستر سنكس الأمريكي: مستشرق أمريكي، وُلد في بلدته "بالاي" عام 1831، وتُوفي 1883، له كتاب "ديانة العرب". ° قال في مقدمته: "ظهر محمدٌ بعد المسيح بخَمْسِمئةٍ وسبعين سنةً، وكانت وظيفتُه ترقيةَ عقول البشر، بإشرابها الأصولَ الأوليةَ للأخلاقِ الفاضلة، وبإرجاعها إلى الاعتقادِ بإلهٍ واحد، وبحياةٍ بعد هذه الحياة". ° إلى أن قال: "إنَّ الفكرةَ الدينيةَ الإسلامية، أحدثت رُقيًّا كبيرًا جدًّا في العالَم، وخلَّصت العقلَ الإِنسانيَّ من قيودِه الثقيلة، التي كانت تأسِرُه حولَ الهياكلِ بين يَدَيِ الكُهَّان، ولقد توصَّل محمدٌ بمَحوِهِ كلَّ صورةٍ في المعابد وإبطالِه كلَّ تمثيلٍ لذاتِ الخالقِ المُطلَق: إلى تخليصِ الفِكرِ الإنسانيِّ من عقيدةِ التجسيدِ الغليظة". ¬

_ (¬1) الحديث الوارد في قصة العنكبوت والحمامتين لا يَصحُّ.

الدكتور بيرودج الأمريكي

* الدكتور بيرودج الأمريكي: ° رئيس الجامعة الأمريكية في لبنان، وقد احتفل شبابُ الجامعة المسلمون بعيد ميلاد "محمد" - صلى الله عليه وسلم - عام 1923، قال فيها -نقلاً عن مجلة "العرفان"، المجلد الثالث والثلاثين، العدد السابع-: "إنكم تجتمعون اليوم -مُحتفِلين بمولدِ مُصلحٍ عظيم، ألا وهو النبيُّ محمد، فهل لكم أنْ تتشرَّبوا مِن رُوحِ الإصلاح الذي يَحمِلُه محمدٌ، فتَخرجوا لإصلاح مجتمع مِلؤُه الجهلُ والاضطرابُ؟! ". * المؤرِّخ إِريك بنتام الأمريكي: مبشِّرٌ مسيحي، أنفق فترةً طويلةً في أعمال التبشير في الشرق الأوسط، له كتاب "الوصول إلى الإسلام"، وقد حاوَل فيه أن يردَّ بطريقةٍ غيرِ مباشرةٍ المصاعبَ التي تُواجُهها بَعثاتُ التبشير في عالَم الإِسلام، وحاول المؤلِّفُ فيه أيضًا أن يَشرحَ لقُرَّائِه كيف أن الإسلامَ وتعاليمَ الرسولِ الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - قد تأصَّلت في نفوسِ المسلمين، وخَلقت فيهم مَناعةً ضدَّ قبولِ المذاهبِ الدينيةِ المسيحيةِ التي تَولَّى صاحبُنا المؤلِّفُ الدعوةَ إليها في أوساط المسلمين. ° ولقد قال -بعدَ بيانٍ مُسهَبٍ في الموضوع السابق-: "إنَّ الخلافَ الجوهريَّ بين الإسلامِ والمسيحيةِ يعودُ إلى أن الإسلامَ لا يَرضى بأن يُشركَ مع ربِّه أحدًا، فنظرية "الثالثوث المقدس" التى يَستندُ إليها دعاةُ المسيحية بين الإسلام، لا تَجِدُ أيَّ صدًى بين الجماعات الإسلامية مهما كانت عليه هذه الجماعات من جهلٍ أو معرفة".

ومن سويسرا

° ثم قال: "هذا الاعتقادُ بين المسلمين مِن أهمِّ الأمور التى سَبَّبت فشلَ الدعوةِ المسيحيةِ في العالم الإسلاميِّ". ثم استَعرض موجزَ العقيدةِ الإسلامية، وأثنى على صاحبها محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بما لم يَسبق إليه أحد. ومِن سويسرا * الدكتور بندلي جوزي السويسري: وُلِد في بلدته "لوزان" (1803 م)، وتُوفي في (1883 م). ° قال في كتابه" الجاهلية والإسلام" (ص 23): "إننا لو بَحَثْنا عمَّا تمَّ على يدِ النبيِّ الأُمِّي محمدٍ من الإصلاح، لَمَا استطعنا أنْ نُنكرَ أنه قام بأكثرِ وعوده، وحَقَّق قِسمًا كبيرًا من أمانيه، ولو قُدِّر له أن يعيشَ أكثَرَ مما عاش، لكان الإِصلاحُ الذي أدخله على حياةِ الأمةِ العربيةِ أتمَّ وأوسعَ، ومع ذلك فإنَّ عَمَلَه الذي عَمِلَه في هذه السنينَ القلائلِ التي قضاها في المدينة بين الحروب والمنافساتِ الشخصية والدسائسِ والحربِ والمكرِ والنفاقِ، لهو شيءٌ عظيمٌ لا يُنكِرُه إلاَّ مكابرٌ عنيدٌ، أو متعصِّبٌ أعمى". * المستر هربرت وايل السويسري: ° قال في كتابه "المعلِّم الأكبر": "ظهر محمدٌ، فأزال كلَّ الأوهام، وحَرَّم عبادةَ الأصنام، فهو الذي أرشَدَ أهلَ الضلال إلى الصراطِ المستقيم، ورَفَع عن كاهلِ العرب كابوسَ الجاهليةِ، وأخرجهم إلى حيِّز الرُّقيِّ من الجهلِ المسيطر".

المسيو حنا دا كنبرت السويسري

* المسيو حنا دا كنبرت السويسري: وُلد في بلدته "لاون" التابعة لمدينة "لوزان" 1836، وتُوفِّي 1912. ° قال في كتابه "محمد والإسلام": "كلَّما ازداد الباحثُ تنقيبًا في الحقائق التاريخيةِ الوثيقةِ المصادرِ فيما يَخصُّ الشمائلَ المحمَّدية، ازداد احتقارًا لاعداءِ محمدٍ -مثل: ماركس، وبريدر، وشلجل، وغيرهم- الذين أشرَعوا أَسِنَّةَ الطعنِ في محمدٍ قبلَ أن يعرِفوه، ونَسبوا إليه ما لا يَجوزُ أن يُنسبَ إلى رجلٍ حقيٍر فضلاً عن رجلٍ كمحمدٍ الذي يُحدِّثُنا التاريخُ عنه أنه رجلٌ عظيم". * المسيو ميسمر السويسري: وُلد في جنيف 1827، وتُوفي في 1898. ° قال في كتابه "الإسلام في الشرق": "لقد نَجح صاحبُ الشريعةِ الإسلامية" .. إلى أن قال: "وعند الفلاسفةِ المحقِّقين أن الرجالَ أولي العَظمةِ الذين تَبقَى أعمالُهم على مَدى الدهر، هم من أهلِ النباهةِ الكبرى الذين يَجيؤون لإصلاح العالم، وشِفاءِ عَصرِهم من مَرضِه، وما فعله محمدٌ هو أنه لَمَّا رأى ضلالَ الناس في معرفةِ الخليقة، عَزَم على إرشادِها، وتطبيقِ قوانينِ الطبيعةِ على أُمورِ العالَم، بقَدرِ ما كان معروفًا في ذلك الوقت، لذلك أعلن الوحدةَ الإلهية، بدلاً من الخرافاتِ التي مقتضاها تَثليثُ إلهٍ وجَعلُه مركَّبًا من "الأب والابن وروح القدس"، فالوحدانيةُ هي أساسُ دينِ الإسلام، وسببُ نُصرةِ محمدٍ".

المسيو سيدللو السويسري

* المسيو سيدللو السويسري: وُلد في "كونتاي" 1887. ° قال في كتابه "تاريخ العرب" -الطبعة الثانية عام 1877 الجزء الأول (ص 58) -: "ولَمَّا بَلَغ محمدٌ من العمرِ خَمسًا وعشرينَ سنةً، استَحقَّ بحُسنِ سيرته واستقامتِه مع الناس أن يُلقَّب بـ"الأمين"، ثم استمرَّ على "هذه الصفاتِ الحميدةِ حتى نادى بالرسالة ودعا قومَه إليها، فعارضوه أشدَّ معارضة، ولكنْ سَرعانَ ما لَبَّوا دعوتَه وناصَروه، وما زال في قومِه يَعطِفُ على الصغيرِ ويحنو على الكبير، ويَفيضُ عليهم من عَمَلِه وأخلاقه". * ر. ف: بودلي السويسري: ° قال في كتابه "حياة محمد" المترجَم إلى العربية -تعريب محمد فرج وعبد الحميد جودة (ص 6): "إنَّنا لا نجدُ ما دَوَّنه معاصِرو موسى أو كونفوشيوس أو بوذا، ولا نعرفُ إلاَّ شَذَراتٍ عن حياةِ السيح بعدَ رسالته، ولا نعرفُ شيئًا عن الثلاثين سنةً التي مَهَّدت الطريقَ للسنواتِ الثلاثة التي بَلَغ بها أَوْجَهُ، ولكننا نجدُ أن قصةَ محمد واضحةٌ كلَّ الوضوح، ففي سيرةِ محمدٍ نجدُ التاريخ بدَّلَ الظلال والغُموض، ونعرفُ الشيءَ الكثيرَ عن محمدٍ، كما نعرفُ ذلك عن رجالٍ عاشوا في أزمانٍ أكثرَ قُربًا من زماننا، وما كان تاريخُه الخارجي وشبابُه وأقرباؤُه وعاداتُه خرافةً من الخرافات، ولا شائعةً من الشائعات، وما كان تاريخُه الداخليُّ بروايةٍ مُبهَمةٍ لمبشِّرِ غامض أو مشوِّش، فبين أيدينا الآن كتابٌ معاصِر -وهو القرآن-، فريدٌ في أصالته وفي سلامته".

العلامة ماكس فان برشم السويسري

* العلاَّمة ماكس فان برشم السويسري: مستشرقٌ وُلد في "لوزان" 1863 - وتُوفِّي 1921 م، جالَ في بلاد الشرق، له عدَّةُ مؤلفات: منها "العرب في آسيا"، ومنها "الإنسان"، ومنها "مجموع الكتابات العربية القديمة"، وهو على جانبٍ عظيمٍ من الأهمية لمعرفةِ تاريخ الشرق العربي السياسي والثقافي. ° قال في مقدمة: "العرب فى آسيا": "إن محمدًا نبيَّ العرب من أكبر مُريدي الخير للإِنسانية، إنَّ ظهورَ محمدٍ للعالم أجمعَ إنما هو أثرُ عقلٍ عالٍ وإنِ افتَخْرت آسيا بأبنائها، فيَحقُّ لها أن تفتخرَ بهذا الرجلِ العظيم، إنَّ من الظلم الفادحِ أن نَغمِط حقَّ محمدٍ الذي جاء من بلاد العرب، وإليهم وهم على ما عَلِمنَاه من الحقد البغيض قبلَ بعثته، ثم كيف تبدَّلت أحوالُهم الأخلاقيةُ والاجتماعيةُ والدينية بعد إعلانه النبوة، وبالجملة مهما ازداد المرءُ اطلاعًا على سِيرتِه ودعوتِه إلى كل من يَرفعُ من مستوى الإنسان، إنه لا يجوزُ أن يَنسبَ إلى محمدٍ ما يَنقُصُه، ويدركُ أسبابَ إعجابِ الملايين بهذا الرجل، ويَعلمُ سببَ محبتهم إياه وتعظيمِهم له". * العلامة فونالبس السويسري: مستشرقٌ سويسري، وُلد عام 1793، وتُوفي 1861، من أدباء القرن التاسعَ عَشَرَ، له عدةُ مقالاتٍ نُقل بعضُها عنه كتاب "مجالي الغرر لكتَّاب القرن التاسع عشر" لجامِعِه "يوسف صفير". ° وقد قال في إحدى مقالاته: "أليس الإيمانُ هو المُعجزةَ الحقَّةَ الدالةَ على الله؟ فشعور محمدٍ إذ اشتَعلت رُوحُه بلهيبِ هذه الحقيقةِ الساطعة بأن

الحقيقة المذكورةَ هي أهمُّ ما يجبُ على الناسِ عِلمُه، لم يكن إلاَّ أمرًا بديهيًّا". ° إلى أن قال: "فحبَّذا محمدٌ من رجلٍ خَشِنِ اللباس خَشِنِ الطعام، مجتهدٍ في الليل، قائمِ النهار، ساهرِ الليل، دَئِبٍ في نشرِ دينِ الله، غيرِ طامحٍ إلى ما يَطمحُ إليه أصاغرُ الرجال من رُتبةٍ أو دولةٍ أو سلطان، غير متطلِّع إلى ذِكرٍ أو شُهرةٍ كيفَما كانت، وإلاَّ فما كان ملاقيًا من أولئك العرب الغِلاظِ توقيرًا واحترامًا إكبارًا وإعظامًا، وما كان يقودُهم ويُعاشرُهم معظمَ أوقاته مدَّةَ ثلاثٍ وعشرين سنةً وهم ملتفُّون به، يُقاتِلون بين يديه وُيجاهدون حوله، لقد كان في هؤلاء العربِ جَفاءٌ وغِلظةٌ وبادرةٌ وعجرفة، وكانوا حُماةَ الأنوفِ، أباةَ الضيم، صِعابَ الشكيمة، حتى قَدَر على رياضتِهم وتذليلِ جانبِهم، حتى رَضَخوا له، فذلكم -وأيم الحق- بطلٌ كبير: ولولا ما أبصَروا فيه من آياتِ النُّبلِ والفضلِ لَمَا خَضَعوا له ولَمَا أذعَنوا، كيف وقد كانوا أطوعَ إليه من بَنانه؟ وظنِّي أنه لو أتيح لهم بَدَلَ محمد قيصرٌ من القياصرة بتاجِه وصَولجانه، لَمَا كان مصيبًا من طاعتهم مِثلَ ما ناله محمدٌ في ثوبه المرقَّع بيده، فكذلك تكون العَظمةُ، وهكذا تكونُ الأبطال". ° ثم قال: "إن ما اتَّصف به محمدٌ من محامِدِ الصفات يُرينا فيه أخا الإنسانية الرحيمَ، أخانا جميعًا، وإني لأُحبُّ محمدًا لبراءةِ طبعِه من الرياءِ والتصنع، ولقد كان ابنَ القِفارِ، لا يقول إلاَّ على نفسِه، ولا يدَّعي ما ليس فيه، ولم يكن متكبِّرًا، ولم يكن ذليلاً ضَرِعًا، فهو قائمٌ في ثوبه المرقَّع كما أوجده الله وكما أراد، يخاطِبُ بقوله الحُرِّ البينِ قياصرةَ الروم وأكاسرةَ

ومن كندا

الفُرس، ويُرشدُهم إلى ما يجبُ عليهم لهذه الحياةِ وللحياةِ الآخرة". * ومن سويسرا أيضاً: إدوار مونته السويسري مدير جامعة "جنيف"، ولد 1810، 1882. ° قال في كتابه: "المدنية الشرقية" (ص 47): "كان محمدٌ نبيًّا بالمعنى الذي كان يعرفُه العبرانيون القدماء، ولقد كان يدافعُ عن عقيدةٍ خالصةٍ لا صِلَةَ لها بالوثنية، وأَخذ يَسعى لانتشالِ قومِه من ديانةِ جافةٍ لا اعتبار لها بالمرة، ليخرَجهم من حالةِ الأخلاقِ المنحطَّةِ كلَّ الانحطاط، ولا يمكنُ أن يُشكَّ لا في إخلاصِه، ولا في الحَمِيَّةِ الدينيةِ التي كان قلبُه مُفعمًا بها". ـ[ومِن كندا]ـ * المستر جيبون الكندي: المُعاصِرُ لأوائلِ القرنِ التاسعَ عَشَر، وقد وُلِد عام 1773، وتُوفي عام 1827 م في بلدته "كيبيك"، ألف كتابًا أسماه "محمد في الشرق". ° قال فيه (ص 17): "إن دينَ محمدٍ خالٍ من الشكوك والظنون، والقرآنُ أكبرُ دليلٍ على وحدانية الله، بعد أن نهى محمدٌ عن عبادةِ الأصنام والكواكب، وبالجملةِ دينُ محمدٍ أكبرُ من أن تدرِكَ عقولُنا الحاليةُ أسرارَه، ومَن يتهمُ محمدًا أو دينَه فإنما ذلك من سُوءِ التدبر، أو بدائع العصبية، وخيرُ ما في الإنسان أن يكونَ معتدِلاً في آرائه، ومستقيمًا في تصرفاته". * المستر داود أرلوهات الكندي: وُلد في "كيبيك" عام 1843، وتوفي عام 1904، له كتاب "الإسلام

الدكتور زويمر الكندي

والعرب"، نُقل إلى اللغتين الفرنسية والعربية. ° قال فيه: "إن محمدًا الذي هُدمت لبعثته الأصنام، وتمزَّق لنبوته رِداءُ الجهل الذي كان كغشاوةٍ على أبصار العرب، قد أشرق قرآنُه بصَقْعهم نورًا يا له من نور! وهو نورُ حكمة، وهو الذي أنزله على صَدْرِ نبيِّه المبعوثِ لا محالةَ لإِرشادِ البشر، واللهُ يعلمُ حيث يجعلُ رسالتَه". * الدكتور زويمر الكندي: مستشرقٌ كندي، ولد عام 1813، وتوفي عام 1900. ° قال في كتابه "الشرق وعاداته" (ص 27): "إنَّ محمدًا كان -ولا شك- من أعظمِ القُوَّاد المسلمين الدينيين، ويَصدقُ عليه القولُ أيضًا: إنه كان مصلِحًا قديرًا، وبليغًا فصيحًا، وجريئًا مغوارًا، ومفكِّرًا عظيمًا، ولا يجوزُ أن نَنسِبَ إليه ما يُنافي هذه الصفات، وهذا قرآنُه الذي جاء به وتاريخُه يشهدانِ بصحة هذا الادعاء". ـ[ومِن إسبانيا]ـ * العلامة ليبيار الأسباني: وُلد 1837، وتوفي عام 1902، له عدَّةُ مؤلفات، منها "الحياة والشرق". ° قال فيه: "كان محمدٌ -صاحبُ الرسالةِ الإسلامية- يجعلُ الحكمَ شورى بينه وبين أصحابه، وقد جرى العلماءُ المسلمون على هذا النهج، وهم أقطابُ الدين وذادةُ الشرع، وما بَرِحوا هكذا يتشاورون حتى اليوم".

الدكتور تورتو كرو الإسباني

* الدكتور تورتو كرو الإِسباني: مستشرق إسباني، ولد في "أشبيليا" 1810، وتُوفِّي عام 1875. ° قال في إحدى محاضراته -كما نقلت عنه مجلة "الهلال" العدد العاشر من المجلد الثالث-: "إن محمدًا لم يَعتمِدْ في نبوته على المعجزات، وكانوا يقولون له: "إنْ كنتَ نبيًّا، فاعملْ لنا من خوارقِ العادات ما هو كذا وكذا"، فكان يُجيبهم: "إن رسلاً كثيرين جاؤوا بالمعجزات، وكَذَّبهم البشرُ، وأنا مهما جئتُكم بالمعجزات فلن تؤمنوا ما دامت قلوبُكم قاسية، وما معجزتي إلاَّ القرآن" .. ". ° إلى أن قال: "ولَمَّا كان لكل نبيًّ معجزة، كانت معجزتي القرآن" (¬1). * العلامة جولد تسيهر الإِسباني: مستشرق إسباني، ولد عام 1836، وتوفي 1903، ومؤرَّخٌ معروف له القِدْحُ المُعَلَّى في الكيدِ للإِسلام ولرسولِه - صلى الله عليه وسلم - وسُنَّته، له عدَّةُ مؤلفات، منها "العقيدة والشريعة في الإسلام" ترجمة علماء الأزهر. ° قال في كتابه المذكور (ص5 - 6): "يمكننا أن نُلقيَ نظرةً عامةً شاملةً في الأثرِ التاريخي الذى قامت به الدعوةُ إلى الإسلام، خاصةً أثرُها في الدائرةِ القريبة، التي كان تبشيرُ محمدٍ موجَّهًا إليها بطريقٍ مباشر قبلَ غيرِها، حقًّا لا جِدَّةَ ولا طرافةَ في هذه الدعوة، ولكن قد استُعيض عنها بأن محمداً قد بَشَّر بمذهبه للمراة الأولى بحماس، لم يَفتُرْ، ولم تُعوِزْه المثابرة، وبعقيدة ثابتةٍ بأن هذا المذهبَ يُحقِّقُ صالحَ الجماعةِ الخاصة، وقد كان في ¬

_ (¬1) ما قال هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل معجزاته كثيرة، وسنفرد لها مُجَلَّدًا كبيرًا خاصًّا بها.

المؤرخ الكبير الدكتور ريتين الإسباني

ذلك كلِّه مُظهِرًا إنكار الذات، برغم سخريةِ الجمهور، إذِ الحقُّ أن محمدًا كان بلا شك أولَ مصلحٍ حقيقيِّ في الشعبِ العربي من الوجهة التاريخية، تلك كانت طرافتَه برغم قلَّةِ المادةِ (¬1) التي كان يُبشِّرُ بها". * المؤرِّخ الكبير الدكتور ريتين الإِسباني: مستشرقٌ إسباني، له مقالاتٌ قيمة في أحوالِ العرب، وتاريخٌ خاصٌّ لسوريا ولبنان. ° قال فيه: "دينُ محمدٍ قد أكَّد إذًا من الساعةِ الأولى لظهوره -وفي حياة النبي- أنه عامٌّ، فإذا كان صالحًا لكلِّ جنس، كان صالحًا بالضرورةِ لكلِّ عقل، ولكلِّ درجةٍ من درجات الحرارة". ° ثم قال: "إليك يا محمدُ -وأنا الخادمُ الحقيرُ- أقدِّمُ إجلالي بخضوع وتكريم، إليك أُطأطِئُ رأسي، إنك لَنبيٌّ حقٌّ من الله، قوَّتُك العظيمةُ كانت مستمدَّةً من عالَمِ الغيب الأزلي الأبدي". * المستر إِريك بنتام الإِسباني: المستر "إريك بنتام" مستشرق إسباني، وُلد في غرناطة سنة 1815، وتوفي 1887، له كتاب أسماه" الحياة". ° قال فيه: "إن الإسلامَ وتعاليمَ الرسولِ الكريم محمدٍ قد تأصَّلت في نفوس المسلمين: وخَلقت فيهم مناعةً ضدَّ قبول المذاهب الدينيةِ المسيحية". ° وقال: "إن الخلافَ الجوهريَّ بين الإسلام [والمسيحية] يعودُ إلى أن ¬

_ (¬1) هذا والله هو العمى .. فدين محمد - صلى الله عليه وسلم - ثَرٌّ غزيرٌ شاملٌ للدنيا والآخرة.

المستر ألبيلير إنكولوبيديا الإسباني

الإِسلامَ لا يَرضى أن يشرِكَ مع ربِّه أحدًا، وإن دين الإسلامَ هو دينُ الوداعةِ والوِفاقِ والصدقِ والأمانة، وكلُّ ما جاء به لا تُنكرُه الأذواقُ السليمة والعقولُ النَّضِجة، لذلك فإننا لو أنصفنا أنفسَنا لوحَّدنا صفوفَنا مع المسلمين، ولَنَبَذْنا ما بنا من عصبيةٍ عمياء خَلَقها لنا ذوو الأطماع، وسنَّها لنا مَن دفعت به شهواتُه، وفي النفس ما فيها من التأثرِ البالغِ من تلكم الفوارق التي أثبتها الدينُ المسيحيُّ، ومَنَعها الشرعُ الإسلاميِّ، وأَرَى أنَّ غَضَّ النظرِ عن التصريحِ، والضربَ صَفْحًا عن المُكاشَفة، أوْلى وأليق". * المستر ألبيلير إِنكولوبيديا الإِسباني: ولد في بلدته "جاكاي" 1810، وتوفي 1872. ° قال في (ج 8/ 326) من كتابه "المعارف": "إن لغةَ القرآن هي أفصحُ لغاتِ العربِ وأساليبه، وبلاغتُه تَسْحَرُ الألباب بحُسنها، وسيبقى غيرَ معارَضِ إلى الأبد، ومواعظةُ ظاهرةٌ، وكل مَن يَتبعُها يحيا حياةً طيبةً، وأخيرًا أقول: إن القرآن يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرَى}، ويقول: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}. فعلى هذا يلزمُ على كلِّ فردٍ من البشر أن يستغفرَ لذنبه ويعملَ صالحًا كي يتأهَّلَ لدخولِ الجنة، كل هذا جاء به محمدٌ نبيُّ العرب، ولا يَسَعُنا إلاَّ أن نحترمَه ونحترمَ ما جاء به لما فيه مِن خيرٍ عميم". * المستر جان ليك الإِسباني: مستشرقٌ إسباني، وُلِد في بلدة "ملعة" عام 1822 م، وتُوفي 1897 م، كان شغوفًا بالكتابة واستطلاع التاريخِ العربي، ألَّف كتابًا اسمه

العلامة سان إليار الإسباني

"العرب". ° قال فيه (ص 43): "ما أجملَ ما قاله المعلِّمُ العظيمُ "محمد" - صلى الله عليه وسلم - "الخَلقُ كلهم عيالُ الله، وأحبُ الخلق إلى الله أنفعُهم لعياله" (¬1)!. ° ثم أطال في الثناء على الرسول قائلاً: "أليس من المعجزاتِ الباهرات، أنَّ محمدًا بالقوة الأدبية، وبلفظٍ واحدٍ جَعَل الصادِقين من أتباعه في حِرزٍ حريزٍ من شرِّ المُسكِرات جيلاً بعد جيل؟ فسَلمِ من هذا الشرِّ مئاتُ الملايينِ من البشر؟ حياةُ محمدٍ التاريخيةُ لا يمكنُ أن تُوصَفَ بأحسنَ مما وَصَفها اللهُ نفسُه بألفاظٍ قليلةٍ، بيَّن فيها سببَ بَعثةِ النبيِّ محمدٍ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] .. كان محمدٌ رحمةً حقيقةً لليتامى والفقراء وابنِ السبيل والمنكوبين والضعفاءِ والعُمَّال وأصحابِ الكدِّ والعناءِ، وإني بلهفةٍ وشوقٍ أُصلِّي عليه وعلى أتباعه". * العلاَّمة سان إِليار الإِسباني: ° قال في كتابه "تعاليم اللغة العربية" نقلاً عن كتاب "أشعة خاصة بنور الإِسلام" للعلاَّمة "ألفونس إتيين دينييه الفرنسي" إنَّ أوضحَ مبادئ الحريةِ الفكريةِ قد كُسفت أمثال "لوثير وكالفين"، وعاد الفضلُ فيها إلى رجلٍ عربيٍّ من رجالِ القرنِ السابع، ذلك هو صاحبُ شريعةِ الإسلام". ¬

_ (¬1) ضعيف جدًّا: رواه أبو يعلى والبزار عن أنس .. والطبراني عن ابن مسعود .. وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" (2946) و"الضعيفة" (1900).

ومن روسيا

وَمِن روسيا مَرَّ بنا مِن قبلُ قولُ الأديب الروسي الكبير "تولستوي". * ماكس مايرهوف الروسي: وُلد في مدينة "ساراتوف" 1815، وتُوفِّي عام 1887. ° قال في كتابه "العالم الإسلامي": "إن محمدًا عام 610 للميلاد كان كثيرَ التفكير والانفراد، وكان يقصِدُ إلى البادية، ويخلو بنفسه فِي جبل "حراء" قُربَ مكة، فرأى ذاتَ يوم رؤيا هي أن المَلَكَ "جبريلَ" تجلَّى له، وناوله كتابًا (¬1) وقرأَ عليه هذه الآياتِ هي السورة السادسة والتسعون من القرآن: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلخ، نزل عليه هذا الكلامُ وحيًا، فأخبر امرأتَه بما وقع، ثم جاء وحي آخر فيما بعد، فلمَّا شَعُر تغطَّى بثوبٍ فسمع هذه الكلمات: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}، ومنذ ذلك الوقتِ اقتَنع بأن اللهَ اختاره مبشِّرًا بعقيدةٍ جديدة، وتَسمَّى بـ"رسول الله" ليدعوَ إلى الله بلسانٍ عربي مبين". * آرلونوف الروسي: ° لقد جاء في مجلة "الثقافة" الروسية المجلد السابع عدد 9 - تحت عنوان "النبي محمد"- لكاتب اسمه "آرلونوف" تَصدُرُ في مدينة "اركنجل": "في شِبهِ جزيرة العرب المجاورة لفلسطين، ظَهرت ديانةٌ أساسها الاعترافُ بوحدانية الله، وهذه الديانةُ تُعرفُ بالمحمدية، أو كما يُسمِّيها أتباعُها ¬

_ (¬1) كلاَّ .. بل أقرأه شفاهًا دون كتاب.

العلامة جان ميكائيليس الروسي

الإسلام، وقد انتَشرت هذه الديانةُ انتشارًا سريعًا، ومؤسِّسُ هذه الديانة هو العربيُّ محمد، وقد قَضى على عاداتِ قومِه الدينية، ووَحَّد قبائلَ العرب، وأنار أفكارَهم وأبصارَهم بمعرفةِ الإله الواحد، وهَذَّب أخلاقَهم، ولَيَّن طِباعَهم وقلوبَهم، وجَعَلها مستعدَّةً للرقيِّ والتقدم، ومنعهم من سَفكِ الدماء ووأدِ البنات، وهذه الأعمالُ العظيمةُ التي قام بها محمدٌ تدلُّ على أنه من المصلِحين العِظام، وعلى أنَّ في نفسِه قوةً فوقَ قوةِ البشر، وكان ذا فكرٍ نيِّرٍ وبصيرةٍ وقَّادةٍ، واشتُهر بدماثةِ الأخلاقِ ولِينِ العَريكة والتواضعِ وحُسنِ المعاملةِ مع الناس، قضى محمدٌ أربعين سنةً مع الناس، قضاها بسلامٍ وطمأنينة، وكان جميعُ أقاربه يحبُّونه حُبًّا شديدًا، وأهلُ مدينته يحترمونه احترامًا عظيمًا، لِمَا كان عليه من المبادئِ القويمةِ، والأخلاقِ الكريمةِ، وشرفِ النَّفسِ والنزاهة". * العلامة جان ميكائيليس الروسي: مستشرق روسي، ولد في بلدته "بروا" 1717، وتوفي 1791، له تصانيفُ في أصول العربية وآدابها وآداب السريانية والعبرانية، له مؤلفات عدَّة. ° قال في بعض مؤلفاته في "أصول اللغة العربية" واسمه "آداب اللغة العربية": "إن الدينَ الإسلاميَّ له فضلٌ عظيمٌ على الشرق؛ لأنه أكسَبَهم حضارةً ذاتَ قيمة، وفضلُ مَن جاء به أعظمُ، لأنه عَرَضه عليهم فرفضوه، وتحمَّل في سبيله المَضَضَ وكابَدَ كثيرًا، ولقد كان فقيرًا يتيمًا مضطهدًا، ولدى ثباتِه أَخذ النتائجَ الكافيةَ في أداءِ رسالته التي هي مدنيَّة وحضارة، وما

ومن الهند

مات محمدٌ نبيُّ العرب وصاحبُ هذه الرسالة حتى أحدَثَ انقلابًا هائلاً في عاداتِ وأديانِ الجزيرةِ العربية". ° وقال في كتابه "العرب في آسيا": "لم يكن محمدٌ نبيُّ العربِ المشعوذَ ولا الساحرَ -كما اتهمه السفهاءُ في عهده-، وإنما كان رجلاً ذا حِنكةٍ وإدارةٍ وبطولةٍ وقيادةٍ وأخلاقٍ وعقيدة، فلقد دعا لدينه بكلِّ صفاتِ الكمال، وأتى للعرب بما رَفَع به شأنَهم، ولم نَعرفْ عن دينِه إلاَّ ما يتلاءَمُ مع العصور -مهما تطورت-، ومَن يَتَّهمْ محمدًا ودينَه بخلافِ هذا، فإنه ضالٌّ عن الطريقةِ المُثلى .. وحَريٌّ بكلِّ الشعوب أن تأخذَ بتعاليمه". ومن الهند * جواهر لال نِهْرو الهندي: رئيس وزراء الهند، وهو هندوكيُّ العقيدة، ولد عام 1889، وتُوفي عام 1964. ° قال في كتابه "لمحات من تاريخ العالم" (ص 54): "إن الإسلامَ هو الباعثُ لهذه اليقظةِ العربية، بما بَثَّه في أتباعِه من ثقةٍ ونشاط، حَمَل رسالةَ الإسلام إلى العرب نبيٌّ جديدٌ اسمُه "محمد"، ولد في مكة عام 570 للميلاد، ولم يكن محمدٌ عجولاً في نَشرِ رسالتِه، بل ظلَّ زمنًا يَعيشُ حياةً هادئةً، يَعجَبُ بها مواطنوه، ويَثِقون به حتى لَقَّبوه بالأمين، فلما قام يُبَشِّرُ برسالته ويُهاجمُ الأوثان، قام الناسُ عليه وآذَوه، فاضُطرَّ لأن ينجوَ بحياته، وأن يهاجِرَ من مكة، وكانت رسالتُه (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ". ° وقال (ص 26): "كان محمدٌ واثقًا بنفسه ورسالته، وقد هيأ بهذه

ومن هولندا

الثقةِ وهذا الإِيمانِ لأمته أسبابَ القوةِ والعزَّةِ المَنَعة، وحَوَّلهم من سُكانِ صحراءَ إلى سادةٍ يفتحون نصفَ العالم المعروفِ في زمانهم، كانت ثقةُ العرب وإيمانُهم عظيمَين، وقد أضاف الإسلامُ إليها رسالةَ الأخوَّة والمساواة والعدلِ بين جميع المسلمين، وهكذا وُلد في العالم مبدأ ديموقراطيٌّ جديد .. وَثَب الشعبُ العربيُّ بنشاطٍ فائقٍ أدهَشَ العالَمَ وقَلَبه رأسًا على عقب، وإن قصةَ انتشارِ العربِ في آسيا وأفريقيا وأوروبا والحضارةِ الراقية، والمدنيَّةِ الزاهرةِ التي قدَّموها للعالَم هي أُعجوبةٌ من أعجوباتِ التاريخ". ومِن هولندا * العلامة "وث" الهولندي: ° مستشرقٌ وُلِد في مدينة "اوترخت" 1814، وتوفي عام 1899، وقد كان عضوًا عام 1864 في المجمع العلمي، جاء إلى بلاد الشرق عام 1867، وتجوَّل فيها، وقد نَقل القرآنَ إلى اللغةِ الهندية، وله عدَّةُ مؤلَّفات، منها "محمد والقرآن" قال فيه (ص 78): "لقد جاء قرآنُ العرب على لسانِ نبيِّهم محمدٍ العظيم، وعلَّمهم كيف يَعيشون في هذه الحياة، وقد وَحَّد محمد صفوفهم، وجَمَع كلمتهم، وأدَّبهم، حتى لا ترى أُمةً من الأمم أحسَنَ منهم، وبالنهاية اعتمدوه في كل أمورهم، وكان يتلقَّى الوحيَ من ربِّه الذي يُوحِي إليه، ثم ينقلُه إلى الناس بعد أن يكتبَه له الكُتَّابُ الذي انتدبهم لذلك، وابتدأت دعوتُه لدينه الجديد من تاريخ 610 م حتى قبضه ربُّه إليه، وذلك سنة 633 م".

العلامة فلوتن يان الهولندي

* العلامة فلوتن يان الهولندي: ولد في مدينة "لاهاي" 1807، وتوفي عام 1879. وهو مستشرق هولندي، له عدةُ مؤلفات، منها "مفاتيح العلوم"، وكتاب "الفصول". ° قال في الأخير (ص 103): "إن محمدًا لم يَلبثْ أن أصبحَ له تفوُّقٌ رُوحيٌّ وزمنيٌّ بعدَ سنين قلائلَ من الجهادِ والاضطهاد، كما يدلُّ على ذلك غيرُ آيةٍ من القرآن، وذلك بتحوُّلِ أهل المدينةِ إلى الإسلامِ بفضلِ ذلك النفوذِ الذي كان يتمتعُ به الرسولُ دينًا قويًّا، وقد انتَشر بينَ الشعوب عن طريقِ الإنذارِ والوعيد (¬1)، ولم يتردد النبيُّ في رَميِ أهل الكتابِ بالكذبِ والتضليل، واتهامِهم بالتحريفِ في كُتبهم، حين رأى دينَه الذي كان يَرمي إلى نَشرِه لم يُرضِ اليهود، كما أنه لم يَرُقْ للنصارى، هكذا استطاع أن يُحاجَّ أهلَ الكتاب بتصريحه أنه أرقى الأديان، وأن دينَه وحدَه دينُ الحق، وكان من أثرِ اصطدام محمدٍ بالنصارى واليهودِ في بلاد العرب أن طَردوا اليهودَ من المدينة، وشُنَّت الغارات على المسيحيين في بلاد بيزنطة في اللحظةِ التي انتقل فيها محمدٌ إلى جِوارِ ربَه". * المسيو راينهارت دوزي الهولندي: مستشرق هولندي، ولد في "اتروخت" 1820، وتوفي عام 1884، مدرس للغة العربية في "لايدين"، اشتغل في تواريخ الدول الإسلامية في ¬

_ (¬1) ما انتشر الإسلام بالإنذار والوعيد، وإنما دخل الناس في دين الله أفواجًا؛ لأنه الحق، وما سواه باطل.

ومن إيطاليا

الأندلس والمغرب، له عدَّةُ مؤلفات، منها "عرب إسبانيا". ° قال فيه: "كان يوجدُ على عهدِ محمدٍ في بلادِ العرب ثلاثُ ديانات؛ المُوسَوية والعيسوية والوثنية". ° ثم بَسَط القولَ خصوصًا في عاداتِ الوثنيين الذميمة إلى أن قال: "في عهد هذه الأحوالِ الحالكة، ووَسَط هذا الجيل الشديدِ الوطأة، وُلِد محِمدُ بنُ عبد الله في شهرِ أغسطس 29 منه عام 570، من هذا نرى أن العالم الإنسانيَّ كان بحاجةٍ إلى حادثٍ جَلَلٍ يُزعجُ الناسَ عما كانوا فيه، ويضطرُّهم إلى النظرِ والتفكير في أمرِ الخروجِ من المأزقِ الذي تورَّطوا به، وللهِ في خلقه شؤون". ° إلى أن قال: "لقد جاء محمدٌ بتعاليمَ رَفعت مستوى البشرِ إلى عالَمِ الكمال". ومن إيطاليا * العلامة لورافكشيا فاليبري الإِيطالي: مستشرق إيطالي، ولد عام 1839، وتوفي 1897. ° قال في مقدمة كتابه "الأديان" المترجَم إلى الفرنسية (ص 96): "إنه مما لا شك فيه أن وَصفَ "محمد" بتلك الأكاذيب التي كانوا يُشِيعونها في القرون الوسطى عنه وعن ديانته، قد خَفَتَ كثيرًا في هذا العصر، وصاروا يَنشُدون الحقيقةَ التاريخيةَ عن محمدٍ وعن الإسلام الذي قَلَب وجهَ العالم، وإنَّ جماعةً من المستشرقين يؤيدون رسالةَ محمد، ويقولون: إنه خاتمُ الرسل".

المحامي العلامة غوسطن كرستا الإيطالي

* المحامي العلامة غوسطن كرستا الإِيطالي: أحدُ رجالِ الفكرِ الإِيطاليين، وُلد في بلدته "كيا" 1840، وتوفي 1897. ° قال في كتابه "الكياسة الاجتماعية": "وإنك لَتجدُ في كلِّ موضعِ من القرآنِ الذي جاء به محمدٌ إلى العرب آياتٍ تحثُّ عن فِعل الخير، وأما هو، فقد كان أمينًا وأعدلَ رجلٍ، ولا يَسَعُنا إلاَّ أن نُقدِّرَ له جهودَه في سبيلِ دينهِ وعقيدتهِ". ° إلى أن قال: "لقد جَعل محمدٌ الإخاءَ والمحبةَ رُكنَينِ للمجتمع الإسلامي، وهذا لَعَمري تقدُّمٌ باهر إذا قابلنا عَهْدَ الإسلامِ بعهدِ الجاهلية أيامَ كان أربابُ الثروةِ والسيادةِ يَزدرون بصَلَفِهم المساكينَ وَيسُومونهم الخَسْفَ". * المسيو ميخائيل أماري الإِيطالي: مستشرق إيطالي، ولد في بلده "بالرمو" في "فبرنزة"، درس اللغات العربيةَ والفارسيةَ والتركية في مدينة باريس "فرنسا"، وانتهى إلى التخصص بالأدب العربي وتاريخِه، له مؤلفاتٌ كثيرة، منها "تاريخ المسلمين". ° قال فيه: "لقد جاء محمدٌ نبيُّ المسلمين بدين إلى جزيرةِ العرب يَصلُحُ أن يكونَ دينًا لكلِّ الأمم؛ لأنَّه دينُ كمالٍ ورُقي، دينُ دَعَةٍ وثقافة، دينُ رِعايةٍ وعناية، ولا يَسَعُنا أن نَنقُصَه، وحَسْبَ محمدٍ ثناءً عليه أنه لم يُساوِمْ ولم يَقبَل المساومةَ لحظةً واحدةً في موضوع رسالته، على كثرةِ فنونِ المساوماتِ واشتدادِ المحن، وهو القائلُ: "لو وضعوا الشمسَ في يميني والقمرَ في يساري على أن أتركَ هذا الأمر، ما تركتُه" (¬1) .. عقيدةٌ راسخة، ¬

_ (¬1) إسناده ضعيف.

ومن بلجيكا

وثباتٌ لا يُقاس بالنظير، وهَّمةٌ تَركت العرب مَدِينين لمحمد بن عبد الله، إذ تركهم أُمةً لها شأنُها تحت الشمسِ في تاريخ البشر". ومن بلجيكا * الدكتور هنري ماسه البلجيكي: وُلد في "بروكسل" 1820، وتوفي 1886، علاَّمةٌ في الكيمياء والتاريخ. ° قال في كتابه "حول الإسلام" (ص 11): "إذا بَحَثنا عن محمدٍ بحثًا إِجماليًّا، نجِدُه ذا مِزاجٍ عصبي (¬1)، وفكرٍ دائم التفكير، ونفس باطنُها حُزن، وأمَّا مداركُه، فهي تمثِّلُ شخصًا يعتقدُ بإلهٍ واحد، وبوجودِ حياةٍ أخرى، ويتَّصفُ بالرحمةِ الخالصة، والحزم في الرأي والاعتقاد، ويُضافُ إليه أنه رَجلُ حكومة، وأحيانًا رجلُ سياسةٍ وحَربٍ، ولكنه لم يَكن ثائرًا، بل كان مسالمًا". * ألفرد ألفانز البلجيكي: ° قال في كتابه "علم النفس": "شَبَّ محمدٌ حتى بَلَغ، فكان أعظمَ الناسِ مروءةً وحِلمًا وأمانةً، وأحسنَهم جوابًا، وأصدقَهم حديثًا، وأَبعَدَهم عن الفُحش، حتى عُرِف في قومه "بالأمين"، وبَلغت أمانتُه وأخلاقُه المَرضيةُ خديجةَ بنتَ خويلد القرشية -وكانت ذاتَ مال-، فعَرَضت عليه خروجَه إلى الشام في تجارةٍ لها مع غلامها "ميسرة"، فخَرج ورَبحَ كثيرًا، ¬

_ (¬1) حاشا لله أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هكذا.

العلامه إدوار جيبون البلجيكي

وعاد إلى مكة، وأخبرها ميسرةُ بكراماته، فعَرضت نفسَها عليه -وهي أيِّم، ولها أربعون سنة-، فأصْدَقَها عشرين بَكْرةً، وتزوَّجها وله خمسٌ وعشرون سنةً، ثم بَقيت معه حتى ماتت" (¬1). * العلامَّهّ إِدوار جيبون البلجيكي: ولِد 1715، وتوفي 1783 في بلدته "دوداف". ° قال في كتابه "الحضارة الشرقية" (ص 27): "إن دينَ محمدٍ خالٍ من كلِّ شيءٍ يَشينه، وإن القرآنَ لأكبرُ دليل على وحدانية الله، وقد نهى محمدٌ عن عبادةِ الأصنام والكواكب". ومن أسكتلندا * روبرستن سميث الأسكتلندي: مستشرقٌ أسكتلندي، وُلد في بلدته "بروزا" 1856، وتوفي 1911، جاب بلادَ الشرق، له كتابٌ في "أنساب العرب وزواجِ الجاهلية"، قال فيه: "من حُسنِ الحظ الوحيدِ في التاريخ أن محمدًا أتى بكتابٍ هو آيةٌ في البلاغة، دستورٌ للشرائع والصلاة والدين في آنٍ واحد". * وليم موير الأسكتلندي: مُستشرق شهير، وُلِد في "أديبورك" عام 1829 م، وتوفِّي في عام 1905 م، وله مؤلَّفانِ: "حياة محمد" و"التاريخ الإِسلامي". ° قال في كتابه "حياة محمد" -وذلك عند كتابته عن رحلتِه مع عُمَرَ ¬

_ (¬1) هذه القصة ضعيفة السند.

العلامة: روبر أسميث الأسكتلندي

إلى الشام (ص 42 و 43) -: "إن الذين دوَّنوا سيرةَ الرسولِ قد ذَكروا تفاصيلَ كثيرةً تدلُّ على عظمةِ نبوَّته المنتظَرة، وأنه في نفسِه عظيمٌ، وفي رسالتِه عظيم، وما عسى أن نتحدَّثَ عن سيرةٍ لرجلٍ خَلق أمةً متراميةً بعد أن كانت خاملةً، وإذا بها ذاتُ كِيانٍ عظيم". ° وقال في كتابه "حياة محمد" المترجَم إلى اللغة الفارسية عام 1934 (ص 46): "لقد جاء محمدٌ بتوجيهاتٍ رائعةٍ وتعاليمَ قيمةٍ، تحدَّى ببلاغتها العَهدَين التوراةَ والإنجيل، وترك لهما الغبارَ في سباقِ التعاليم الرسولية، وإن مَن يعرفُ محمدًا في عقيدتِه بالله، وعَطْفَه على الفقراء، وزُهدَه في دنياه، ومُضيَّه لتركيزِه مبدأَه وإدارتَه وحِنكتَه وبطولته، يَشرُفُ على الاعتقاد بدينه والتصديقِ برسالته التي ما جاء بها إلى العالَم إلاَّ لرفعِ مستوى الإنسان". * العلامة: روبر أسميث الأسكتلندي: مستشرق، ولد في "أديمبورغ" عام 1856، وتوفي 1901، كان رئيسًا لواضعي "دائرةِ المعارف البريطانية" عام 1887، جاء إلى بلاد الشرق، وتعرَّف على بيئتهم وعاداتهم، وله مؤلَّفٌ في أحوالِ لعرب قبلَ الإسلام وبعده. ° قال فيه (ص 17 و 18): "لقد كان العربُ قبلَ الإِسلام على جانبٍ من الغِلظةِ والخشونة، وَيعيشون عن طريقِ الغزو، وكان قد نُزعت الرحمةُ من صدورهم، وكانوا يَعبدون الأصنامَ، ولكلِّ قبيلةٍ صَنَمٌ، حتى جَمَعوا في كَعبتهم ثلاثَمئة ستينَ صنمًا، وقد جاء محمدٌ في أواخِرِ القرن السادس، فدعاهم إلى دينه، وأعلن أنه لا يجوزُ أن تتخذوا أصنامَكم أربابًا من دونِ

ومن أيرلندا

الله، وكان محمدٌ على خُلقٍ عظيم، فاتبعوه بعد أن لاقى منهم الأذى، حيث دعاهم إلى دينِه القويمِ، وعَرَفوا أنه دينٌ لا يُصادِمُ الخيرَ والإنسانية، وأنه جاء لصلاح المجتمع". ومن أيرلندا * جون ديفو الأيرلندي: مستشرق معروف، له قلمٌ سيَّال في التاريخ والرياضيات، ولد في بلده "دبلن"، وتوفي فيها عام 1906. ° قال في كتابه "العرب وعاداتهم": "ما كان محمدٌ بعد هجرته إلى المدينة يستقرُّ قرارُة حتى أصبحَ مع القيامِ بالأعباء الإلهية والدعوةِ الدينية محاربًا وفاتحًا، وصاحبَ دولةٍ ونظامِ جماعةٍ تزدادُ كل يوم، فاصطبغ الإسلامُ بصِبغته الأخيرة، وأُسِّستِ القواعدُ الأولى لأوضاعه الدينية والسياسية والاجتماعية، فكانت هذه الأسسُ نبراسًا يُستضاءُ به في تشريعِ الأجيال المقبِلة، واقتفى آثارَها العلماءُ والفقهاءُ، فانتشرت المذاهبُ الإسلاميةُ ذلك الانتشارَ الرائع". اهـ. * المستر موير الأيرلندي: ولِد في بلدته "ليشكانا" عام 1808 م، وتُوفي سنة 1867 م. ° قال عند ذِكرِه رحلةَ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - سنةَ 595 للميلاد من كتابه "الإسلام" (ص 103): "إن محمدًا لم يكن في وقتٍ من الأوقات طامعًا في الغنى، إنما سعَيُه كان لغيره، ولو تَرك الأمر لنفسِه لآثر أن يعيشَ في هدوءٍ وسلامِ قانعًا بحالته، ولَمَا فكَّر في رِحلةٍ كهذه، ولكنه لَمَّا عَرض عليه عمُّه

المستر هربرت وايل الأيرلندي

السفر، شَعُرت نفسُه الكريمةُ بضرورةِ تفريجِ كُربةِ عمِّه، فأجاب طلبَه مسرورًا". ° إلى أن قال: "إن محمدًا إنما لُقِّب "بالأمين" بإجماعِ أهلِ بلدِه لشرف أخلاقه وحُسنِ سلوكه بين قومه، ولذا سَرعانَ ما انقلبوا عن عبادةِ، الأصنامِ ورَحَّبوا بتعاليمه المباركة". * المستر هربرت وايل الأيرلندي: ° قال في كتابه "المعلِّم الأكبر" (ص 17): "بعد سِتِّمئة سنةٍ من ظهور المسيح، ظَهَر محمدٌ، فأزال كلَّ الأوهام، وحَرَّم عبادةَ الأصنام، وكان يُلقِّبُه الناس بالأمين، لِمَا كان عليه من الصدقِ والأمانةِ، وهو الذي أرشد أهلَ الضلال إلى الصراطِ المستقيم". ومن الأرجنتين * البحاثة جون ديفو الأرجنتيني: وُلد عام 1845، وتوفي 1917. ° قال في كتابه: "الحياة تبدأ بالأربعين": "ولما استَكمل محمدٌ أربعين سنةً، جاء بدينٍ للعالَم يدعو فيه إلى الإصلاحِ وتركِ العاداتِ التي كان عليها أهلُ الجاهلية من وأدِ البنات وغيره، ومحمدٌ نبيُّ المسلمين عُرف منذ الصغر بالصدقِ والأمانةِ والعفَّةِ والنزاهة". * دون بايرون الأرجنتيني: ولِد في بلده "آنسيكار" عام 1839 م، وتُوفي عام 1900. ° قال في كتابه "أَتحِ لنفسك فرصةً" تعريب "عبد المنعم محمد الزيادي": "لا يَبعُد أن يكونَ محمدٌ يُحسُّ بنفسه أنه في طينته أرقى من

ومن المجر

معاصِرِيه، وأنه يفوقُهم جميعًا ذكاءً وعبقريةً، وأن اللهَ اختارَه لأمرٍ عظيم، وقد اتَّفق المؤرِّخون جميعًا على أنَّ محمدًا بن عبد الله كان ممتازًا بين قومه بأخلاقٍ جميلة، مِن صدقِ الحديث والأمانةِ والكرم وحسنِ الشمائل والتواضع، حتى سمَّاه أهل بلدِه "الأمين"، وكان مِن شدَّةِ ثقتِهم به وبأمانته، يُودِعون عندَه ودائعَهم وأماناتهم، وكان لا يَشربُ الأشربةَ المُسْكِرَة، ولا يحضرُ للأوثانِ عيدًا ولا احتفالاً، وكان يَعيشُ مما يُدِرُّه عيه عَمَلُهَ من خير". ومن المَجَر * الدكتور إِيليوس جرمانوس المَجَري: وُلد عام 1884، أستاذ بجامعة "بودابست- المجر"، مستشرقٌ هنغاري، جال في البلادِ الإِسلامية في آسيا ومصر، وخَبَر الديانةَ الإسلامية، فأسلَمَ وحَجَّ إلى مكةَ، له كتاب "الله أكبر" ترجَمه إلى العربية الأستاذ "فتحي رضوان" قال فيه: "إن تعاليمَ القرآنِ هي أوامرُ الله، وهي مُرشِدٌ أبديٌّ للبشر، إنه كتابٌ ملؤهُ الصراحةُ والوضوحُ لمن صَدَقت رغبتُه في تفهُّمه، وإنَّ محمدًا لأَعظمُ مُصلحِ ثوريٍّ عَرَفه التاريخُ مؤيَّدٍ بوحيٍ من عند الله، ونحن مأمورون أن نفهمَ تعاليمه، ونطبِّقَها على شؤون حياتنا الدنيوية، مع الإيمان بأن ما أُوحي به إليه إنما هو أساسٌ لا يهتزُّ ولا يتعثَّرُ لكونه إِلهيًّا. ولقد أخطأ المسيحيون إذ لم يَفهموا الإسلامَ على حقيقته، وبالتالي لم يتشبَّعوا برُوحه، إن ما يمُيِّزُ الإِنسانَ عن الحيوان هو إدراكُه أن الكونَ تحكمُه قوانينُ روحيةٌ، وتسيِّرُه قوًى غيرُ محسوسة. وهذه الحقيقةُ هي أساسُ كلِّ دين، ولكنه لا يُوجَدُ دينٌ يؤكِّدُها أكثرُ

ومن أسوج

من دين الإسلام، الذي يُبسِّطُ أمامَ الإنسان طريقًا وَسَطًا لا تتجرَّدُ فيه الروحُ عن البَدَن، ولا البدنُ عن الروح، بل يكونُ وسطًا بين المادة والروح، على أن لا يَنسى أنه كائنٌ رُوحيٌّ قبلَ كلِّ شيءٍ". ومن أسوج * كازانوفا الأسوجي: وُلد عام 1837، وتوفي 1903. ° قال في كتابه "حضارة الشرق" (الجزء الأول، ص 23): "يُهمُّني أن أَجْهَرَ أولاً بأنني لا أُسلِّمُ أصلاً بكلِّ نظريةٍ يُفهم منها الريبُ بصِدقِ محمد، إن سيرةَ النبيِّ العربيِّ من بدايتها إلى نهايتها تدلُّ على أنه ثَبْتٌ رصينٌ أمين، ولا مَناصَ من الإِقرارِ بأن محمدًا كان على ذكاءٍ عظيم. إن التعقلَ ونضوجَ الفكرِ اللذَينِ دلَّ عليهما، إذ أظهَرَ الآياتِ الأُولى الموحاةَ إليه، وحُسْنَ سياستِه في توحيدِ القبائل العربية، رَغمَ الخرافات المتأصِّلة، وفي تمييزِ ما ينبغي الإبقاءُ عليه منِ تقاليدِها القديمة، كلُّها أدلةٌ على أنه كان له في الأُمور نَظَرٌ سديد، كان يَرى الغايةَ ويَسعى إليها بغريزةِ السياسيِّ العاقل، ونُورانيةِ النبيِّ الصادقِ على السواء. * العلاَّمة سينرستن الأسوجي: مستشرق أسوجي، وُلد عام 1866، أستاذ اللغات السَّاميَّة، ساهَمَ في "دائرةِ المعارف"، وجَمَع المخطوطاتِ الشرقيةَ، محرِّرُ مجلَّة "العالم الشرقي" له عدَّةُ مؤلَّفات، منها "القرآن الإِنجيل المحمدي"، ومنها: "تاريخ حياة محمد". ° قال في الأخير (ص 18): "إننا لم نُنصِفْ محمدًا إذا أنكرنا ما هو

رودلف دتوراك الأسوجي

عليه من عظيمِ الصفات وحَميد المزايا، فلقد خاض محمدٌ معركةَ الحياةِ الصحيحةَ في وجه الجهل والهمجية، مُصرًّا على مبدئه، وما زال يحُاربُ الطغاةَ حتى انتهى به المطافُ إلى النصرِ المبين، فأصبحت شريعتُه أكملَ الشرائع، وهو فوقَ عظماءِ التاريخ". * رودلف دتوراك الأسوجي: مستشرق أسوجي، ولد في "سلمو" 1852، وتوفي 1920، أستاذ اللغات الشرقية في "براغ" عاصمة "تشكوسلوفاكيا"، من مؤلَّفاته كتابٌ في شِعر "أبي فِراس الحمداني "وترجمةِ حياتِه باللغةِ الألمانية. ° قال فيه (صفحة 13): "ليس بالبعيد، بل ولا شكَّ أن محمدًا نبيَّ العرب كان يتحدَّثُ إلى الناس عن وحيٍ من السماء؛ لأنَّه أتى إلى العالَم بدعوةٍ ومِن ورائها المعجزاتِ والآيات، وهي أعظمُ شاهِدٍ على مُدَّعاه، ولا يجوزُ لنا أن نُفنِّدَ آراءَه، بعد أن كانت آياتُ الصدقِ باديةً عليها، فهو نبيٌّ حقٌّ، وأولَى به أن يُتَّبَع، ولا يجوزُ لمن لم يَعرفْ شريعتَه أن يتحدثَ عنها بالسوء، لأنها مجموعةُ كمالاتٍ إلى الناس عامةً". * ماكس سايكس الأسوجي: ولد في بلدته "ملمو" سنة 1876، وتوفي 1927 - نقلاً عن مجلة "الهلال" المجلد الخامس (العدد 3) -. ° قال: "إن محمدًا قد استطاع بعبقريته الفذَّةِ والتعليماتِ الواسعةِ المعنى أن يَجمعَ التفكيرَ إلى العمل، فكانت مملكتُه من هذا العالم، كان نبيًّا ثاقِبَ الفِكر، وكان مُشرِّعًا، وكان حاكمًا بين الناس".

غوستاف الأسوجي

* غوستاف الأسوجي: ° وُلد في "ملمو" عام 1746، وتوفي 1792، حارَبَ روسيا، ونَشَر في أسوج مبادئَ الثوِرةِ الفرنسية، قال في مقدمة كتابه "الإِسلام في الحجاز": "إن الأساس للدين الإِسلاميِّ بسيطٌ جدًّا، وهو "لا إله إلا الله"، وإن محمدًا هو الذي أتى بهذه الحقيقة، ولا يوجدُ في هذه الحقيقة ما يُصادِمُ ويُخالِفُ علومَ العصرِ الحالي، فحريٌّ بهذا الدين أن يُتّبَع". ومن يوغوسلافيا * الدكتور ألتر بتكين اليوغسلافي: ولد في "مكدونيا" 1833، وتوفي 1907، وله مؤلَّفات قيمة، منها "الحياة تبدأ بالأربعين". ° قال فيه: "في إحدى ليالي شهرِ رمضانِ، بينما كان محمدٌ نائمًا في أحدِ كهوفِ حِراء، عاد فتجلَّى عليه ذلك الشَّبح، وفي يدِه قِطعةٌ من الحرير عليها كتابة، وقال له ذلك الشخصُ: "اقرأ" فأجابه: "لست بقارئ"، فأعاد عليه القولُ ثانيًا: "اقرأ"، {اقْرأْ بِاسْم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِن عَلَقٍ}، إلى آخِرِ السورة، فردَّد محمدٌ هذه الكلمات، وأحسَّ بالنورِ قد أَشرق على قلبه". * الدكتور ويلسن اليوغسلافي: ولد في مدينة "زارا" 1815، وتوفي 1887. ° قال في إحدى محاضراته: "إننا إذا لم نَعتبر محمدا نبيًّا، فإننا لا نَستطيع أن نُنكِرَ أنه مرسَل من الله، ذلك أنه ليس هناك غيرُه قد راح يُفسِّرُ المسيحيةَ الأولى تفسيرًا رائعًا صادقًا، وإنَّ دينَه الذي جاء به لا يُعارِضُ

ومن لبنان

الديانةَ المسيحية (¬1)، وكلُّ ما جاء به حسن". ومن لبنان * الأستاذ رشيد سليم الخوري اللبناني: الشاعرُ المعروفُ بالملقَّبُ بالشاعرِ القَرَوي، ولد في "البربارة" لبنان 1887، له ديوان "الرشيديات" 1916 و"القرويات" 1922. ° قال في إحدى محاضراته: "فلا "وليم شكسبير" ولا "فكتور هوغو" ولا "لاون تولستوي"، ولا غيرهم من أمثالهم يطولون مهما اشرأبت أعناقُهم إلى الدرجةِ السُّفلى من تلك المنصَّةِ العالية التي يقفُ عليها محمدُ بن عبد الله؛ لأنَّه الرجلُ الذي تلتقي أَكملُ الصفاتِ في قلبِه الكبير، وعقلِه الفريد، ورِقَّتِه المتناهية ورُوحِه المتدفِّقة بشرفِ الإحساسِ ورُوحِ العاطفة". ° وقال في قصيدته اليائية المعروفة: عِيدُ البرية عيدُ المولدِ النبوي ... في المَشْرِقَينِ له والمَغْرِبَينِ دَوِي عِيدُ النبيِّ ابنِ عبدِ الله مَن طَلَعت ... شمسُ الهدايةِ من قُرآنه العُلوي بَدا مِن القفرِ نورًا للورَىَ وهُدًى ... يا للتمدُّنِ عمَّ الكونَ من بدوي يا فاتحَ الأرضِ مَيدانًا لقوته ... هذي بلادُك مَيدانٌ لكلِّ قوي يا شاهرَ السيفِ للفَتحِ المُبينِ به ... اليومَ يَندى حياءً سَيفُك الدموي يا قومُ هذا مسيحي يناشدُكم ... لا يُصْلِحُ الشرقَ إلاَّ حُبُّنا الأخَوي إذا ذكرتم رسول الله تكرمةً ... فبلِّغوه سلامَ الشاعرِ القَرَوي * جورج جرداق اللبناني: ° الكاتبُ الشهيرُ البحَّاثة .. قال في كتابه "الإِمام علي صوت ¬

_ (¬1) إن قصد شريعة المسيح النازلة من السماء، نعم .. وأما غير ذلك، فلا.

أمين بك نخلة اللبناني

العدالة الإنسانية" (1/ 31) تحت عنوان: "صوت محمد": "مِن لهيبِ الصحراء المُحرقةِ وَهَجٌ في عينيه، ومن انبساطِ الرمالِ أمامَ وهَجِ الشمس صراحةٌ على شفتيه، ومن جنائنِ يثربَ وخمائلِ الطائفِ ومِن واحاتِ الحجازِ السابحةِ في الفضاءِ كأنها الجُزُرُ المتناثرةُ في محيطٍ من الرمل تحتَ ضوءِ القمر، نداوةٌ في قلبه ورِفقٌ في دمه، ومِن عَصْفِ الريحِ الهُوْجِ ثورةٌ في خياله، ومِن بيانِ الشِّعر ونورِ السماءِ سِحرٌ في لسانه وقَبسٌ في روحه، ومِن صِدقِ العزيمةِ ولغةِ الله مَضاءٌ في حسامه ورسالة في يمينه. ذاك هو محمدُ بن عبد الله نبيُّ العرب ومُحطِّم الوثنية، التي أقْصَتِ الإِنسانَ عن أخيهِ الإِنسان، وثنيَّةِ المال ووثنيةِ العادة ووثنية العنصر الخرقاء". إلى أن قال (ص 35): "واتسع ظلُّ محمدِ بن عبدِ الله وتعاظَمَ حتى اكتَنَف العالَمَ القديم، فإذا هو مِن مَطْلَع الشمس إلى مغربها أرضٌ تُنبتُ الخيرَ والمعرفةَ والسِّلم، وإذا بنبيِّ الصحراء يَمُدُّ يَدَه فوقَ الدنيا لِيبذُرَ في أرضِها بُذورَ الإخاءِ والحبِّ، يَمُدُّها حتي تُطاوِلُ الأُفق، وهي ما زالت في امتدادٍ، وصار لدولةِ العرب رِجلٌ في الهند ورِجلٌ في الأندلس، وعُقد على جَبينِ الشمسِ تاجُ شعب عظيم". * أمين بك نخلة اللبناني: الأستاذ المعروف، والشاعر المحلِّق أمين بن رشيد نخلة. ° قال في مقدمة كتاب الأستاذ لبيب الرياشي "نفسية الرسول العربي" (ص 16): "محمد نغمةٌ لا كلمة، لفَرط ما مسحت على شفاه الخلائق، تأخذُ بالسمع قبلَ الأخذِ بالذهن، وتُفيدُ خفَّةَ الحروفِ وحلاوةَ اللفظاتِ قبل

لبيب الرياشي اللبناني

أن تُفيدَ العلاقةَ بالله، وليس على الأرضِ بسيطٌ لا ينفتحُ لها صدره، ولا تَرُجُّ جوانبَ نفسه، فمن لم تأخذْه بالإسلام أخَذَتْه بالعروبة، ومَن لم تأخذْه بالعروبة أخذته بالعربية". * لبيب الرياشي اللبناني: ° قال في أول كتابه "نفسية الرسول العربي": "لِنتجرَّدْ ولنتطَّهْر من جُذام التعصُّب وأَثَرَةِ الجنسية". ° وقال في أولِ كتابِه "فلسفة الرسول العربي" (ص 6) تحت عنوان "اعتراف قبل التحلل وقبل الدرس": "ما نَدِمتُ على شيءٍ في حياتي ندمًا عصبيًّا ساحقًا، مثلَ نَدَمي على جَهل نفسيةِ الرسول العربي والإمامِ الأعظمِ العالمي". ° وقال في آخر كتابه المذكور: "حقًّا يا محمدُ، إنك رسولُ الثقافة والعلم، رسولُ الهداية والتضحية، رسولُ الفلسفة الجديدة، رسولُ الإنسانيةِ الجديدة". ° وقال في (ص 11): "أمَا لو أدرك المسلمون سِيرةَ الرسول بجَوهرها، وشَرْعَ الرسولِ بسَنائه، وحِكَمَ الرسول بجلالها، وإبداعَ الضمائرِ الجديدةِ التي ابتدعها الرسولُ بجدَّتها الوضَّاءة، وعَمِلوا بما أدركوا، لكان المسلمون غيرَ هؤلاء المسلمين، ولكان العالَمُ غيرَ هذا العالم". ° ثم قال: "أمَا لو دَرَس عُشَّاقُ الرسولِ وعُشَّاقُ العظماء والحكماء والُمبدعين غيرِ العرب، بطهارةِ وجدانٍ وبراءةِ سريرة، وتَحليل عبقريًّ، حياةَ الرسول العربي، وسُمُوَّ الرسول العربي، وبراءةَ سريرته وأعمالِه

الكاتب ميخائيل طعمة

وشَرعِه، لاستكشفوا أعظمَ شخصيةٍ وأقدَسَ رسالةٍ للتاريخ الإنساني، ولقد طالعت مئاتِ المجلَّدات وقرأتُ حياةَ ألوفِ العظماء والرسل، ولكنَّ مئاتِ المجلدات وحياةَ ألوفِ العظماء والرسل ما فَعَلت بنفسي وأثَّرت في دماغي، وهَذَّبت وثقَّفت وأدهشَت، مثلما فَعَلت حياةُ الرسولِ العربيِّ العالمي، محمد بن عبد الله". * الكاتب ميخائيل طعمة: ° نَشر الصحافي المعروف "نجيب نصار" صاحب جريدة "الكرمل" التي كانت تَصدُرُ في "حيفا"، نَشر فيها مقالاً للكاتب "ميخائيل طعمة"، جاء فيه: "لو لم يكن خلُقُ محمدٍ عظيمًا لانقلب عليه مُحيطُه، ولو لم يكن خلُقُ محمدٍ عظيمًا لَضَعفُ أمامَ ما اعتَرضه من العقبات، ولرأى نفسَه مضطرًّا إلى مُجاراتِ محيطِه، ولَمَا قَوِيَ على إحداثِ ما أوجَدَهِ من الانقلابِ العظيم، فبدَّل الضلالَ بالهدى، والجَهلَ بالعلم، والهمجيَّة بالمدنية". * الدكتور شبلي شميِّل اللبناني: وُلِد في "كفر شيما" بلبنان عام 1860، وتوفي 1917 م، له مؤلَّفات عديدة- "الأهوية" و"المياه" و"البلدان" لأبي الطب أبقراط الحكيم، ورسالةُ "الحقيقة"، وكان يَرى فيها مذهبَ "دارون". ° قال في إحدى مقالاته -مأخوذة عن "المقتطف"، المجلد السابع عدد 6 - : "لقد أصبح من أكبرِ العارِ على أيِّ فرد متمدِّن من أبناءِ هذا العصرِ أن يُصغيَ لما يُظنُّ من أن دينَ الإسلام كَذِبٌ، وأن محمدًا خَدَّاعٌ مزوِّر، وآن لنا أن نَحاربَ ما يُشاعُ مِن مِثل هذه الأقوالِ السخيفةِ المُخجِلة، فإن

الأستاذ حنا خير الله اللبناني

الرسالةَ التي أدَّاها ذلك الرسولُ ما زالت السراجَ المنير". ° وقال في قصيدةٍ له: دع من محمدٍ في سُدى قرآنه ... ما قد نَحاه للحمةِ الغاياتِ إني وإن أكُ قد كَرتُ بدينهِ ... هل أكفرنَّ بمُحكَمِ الآياتِ أو ما حَوَت في ناصعِ الآياتِ من ... حِكَمٍ روادعَ للهوى وعظاتِ وشرائعَ لو أنهم عَقَلوا بها ... ما قيَّد العمرانُ بالعادتِ نِعمَ المدبِّرُ والحكيمُ وإنه ... ربُّ الفصاحةِ مُصطفَى الكلماتِ رجلُ الحِجى رجلُ السياسةِ والنهى ... بطلٌ حليفُ النصرِ والغاراتِ ببلاغةِ القرآن قد غَلب النهى ... وبسيفه أنحى على الهاماتِ مِن دونه الأبطالُ في كل الورى ... مِن غائبٍ أوحاضرٍ أو آتي * الأستاذ حنَّا خير الله اللبناني: ° قال في إحدى حفلات ذكرى ميلاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - نقلاً عن مجلة "العرفان" -المجلد السابع والعشرين الجزء 3 - : "يكفي النبيَّ العربي عظمةً أنه خَلَّد اللغةَ العربيةَ وقُدْسَها، وأوجب على جميع أتباعِه تَعلُّمَها". ° إلى أن قال: "إننا نُعطِّمُ ذِكْرَ مَن خلَّد لأُمتنا أعظمَ مجد، وأشرفَ تاريخ، وأسمى منزلةٍ، وحَفِظ لغتَنا مقدَّسةً إلى أبدِ الدهر، لِنُبرهنَ على أننا نُكرِّمُ محمَّداً -النبيَّ العربي- ونحتفلُ بذكرى مولِدِه المبارَك، إنا نقدِّرُ محمدًا، وأعمالَ محمد، وعظمةً محمد - صلى الله عليه وسلم - وغاية محمد". * شبلي الملاط اللبناني: ° من قصيدةٍ قالها في مهرجانٍ أُقيم لأميرِ الشعراء "أحمد شوقي" في

الشاعر محبوب الخوري الشرتوني اللبناني

القاهرة: مَن للزمانِ بِمثل فَضلِ محمدٍ ... وعَدالةٍ كعدالة الخَطَّابِ رَفَع الرسول عِمادَ أُمةِ يَعربٍ ... وأعزَّها بالآلِ والأَصحابِ فَشَتِ الفتوحُ وصَفَّقت راياتُها ... في الشرقِ فوقَ أباطحٍ وهِضابِ وتَغلغلت في الغَربِ طائرةً على ... أكتافِ صقرٍ جارحٍ وعُقابِ ° إلى أن قال: أخذت قريشُ بحُزنها وبَكَتْ بها ... غرناطةُ في رِقَّةٍ وعِتابِ لولا يدُ الإسلامِ لم يَسْلَمْ بما ... فيها من الأخلاقِ والآدابِ مَن لم يُطِقَّ لغةَ الجدودِ فليس مِن ... قوميةٍ تَنسِبُه في الأنسابِ * الشاعر محبوب الخوري الشرتوني اللبناني: هو شاعرٌ معروف من أُدباء "عالية لبنان" 1886، تُوفي 1931، له ديوانٌ طُبع في نيويورك، ومِن شعرِه قصيدتُه المعروفة: قالوا: تُحِبُّ العُرْبَ قلتُ أُحِبُّهُمْ ... يَقضي الجِوارُ عليَّ والأرحامُ قالوا: لقد بَخِلوا عليكَ أجبتُهُم ... أهلي وإن شحُّوا عليَّ كرامُ قالوا: البداوةُ، قلتُ: أطهرُ عُنصرٍ ... صَفَتِ القلوبُ هناك والأجسامُ ومحمدٌ بطلُ البريَّةِ كلِّها ... هو للأعاربِ أجمعين إمامُ * إلياس فامور السوري: "إلياس فامور" شاعرٌ وأديب، وُلد في "اللاذقية" 1897، نَشرت له بعضُ الصحفِ السوريةِ قصيدةً قالها في حَفلٍ أُقيم لميلادِ الرسول عام 934، منها:

قسطاكي الحمصي السوري

بَزَغَتْ ولكن في جَبينِ محمدٍ ... شمَسٌ تدلُّ على سَناهُ الأنور فتهلَّلت بِشرًا ملائكةُ السما ... في يومِ مَولِدِه العظيمِ الأكبرِ أمحمدُ ولأَنت أرفعُ رتبةً ... مِن كلِّ سامٍ في الورى ومُوقَّرِ إني لأَعجِزُ عن مديحِك عالِمًا ... أني أعودُ بصفقةِ المتحيِّرِ أطلعتَ شمسَك فاختفت وتضاءلَتْ ... كلُّ النجومِ وسال ذَوبُ المرمرِ وملأتَ أفئدةَ الخصومِ بحِكمةٍ ... فيَّاضةٍ وبَهَرتَ كلَّ منكَّرِ وشَقَقْتَ جِلبابَ الظلامِ بصارمٍ ... تجلُو مضاربُه ضَبابَ العَثْيَرِ وبَذَلْتَ نفسَك للصوارمِ والقَنا ... بين الجحافلِ في العِجاجِ الأكدرِ نفسٌ بشامخةِ النجومِ مُهمَّةٌ ... أزْرَتْ بسابقه العِتاقِ الضُّمَّرِ فُرقانُه كالشمسَ يَسطعُ في الضحى ... وحديثُه كضياءِ بَدرٍ مُقمِرِ ذو طَلعةٍ رَدَّت ظلامَ زمانِه ... صُبْحًا بمثلِ ظلامِ ماضي الأعصُرِ لو شئتَ نَظْمَ فرائدَ مِن نثرِه ... أعيَتْ وضاق بها مِدادُ الأبحُرِ * قسطاكي الحِمْصي السوري: ° وُلد في "حلب" 1858، وتُوفي في "حمص" 1941، عُضوُ المجمع العلمي في دمشق، وصديقُ إبراهيم اليازجي، له مؤلَّفاتٌ عدَّةٌ، منها "أدباء حلب ذَوُو الأثر"، وهو شاعرٌ معروفٌ وكاتبٌ لا يُنكرُه أحد، وقد نَشرت له "مجلةُ الفتح" التي تَصدُر في القاهرة عام 1930 ما يلي: "إذا كان سيِّدُ قريشٍ نبيَّ المسلمين ومؤسسَ دينهم، فهو أيضاً نبي العرب ومؤسسُ جامعتِهم القومية، وكما أنه منَ الحُمق والمكابرةِ أن نُنكرَ ما لسيدِ قريش مِن بعيدِ الأثرِ في توحيدِ اللهجاتِ العربية، وقتلِ العصبياتِ الفرعيةِ

في نفوسِ القبائل، بعدَ أن أنهَكَها القتالُ في قتالِ الصحراء، وتناحَرَ ملوكُها في الشامِ والعراقِ تناحُرًا طالَ أَمَدَ الحمايةِ الرومانية والفارسية في البلدَين العربيِّينِ الشقيقَينِ حتى الفتح الإسلاميِّ، فمن الخَطَل أن تُنكرَ ما للرسولِ العربيِّ الكريم وخُلفائِه من يدٍ على الشرق في إثارةِ تلكِ الحَمَاسةِ والبطولةِ النادرةِ المتدفِّقةِ في صُدورِ أولئك النَّفَر الميامين -الذين كانوا قابِعين في حُزونِ الجزيرة وبِطاحها- في سبيلِ الفتح، والمنافحةِ لتحرير الشرقِ من رِقِّ الرومان وأسرِ الفرس. إن سيدَ قريشٍ هو المُنقذُ الأكبرُ للعرب مِن فَوضى الجاهلية، وواضعُ حَجَر الزاويةِ في صَرحِ نَهضتِهم الجبارةِ المتأصِّلةِ في تُربةِ الخلود، ولقد بَنيتُ قصيدتي الآتية، وحَذَوتُ فيها حَذْوَ "البردة" في مناجاةِ رسولِ العرب وحارسِ العرب "بالمصحف الخالد الآيات والكلم"، وإذا حُقَّ لأولئك الأعلام -وهم من حُماةِ الإِسلام- إطلاقُ اسم "البردة النبوية" على قصائدهم، فقد حُقَّ لي -وأنا من شباب العرب المنادين في سبيل الجامعة القومية- أن أُطلِقَ على قصيدتي اسمَ "البردة العربية"، وأصُبَّ حِمَمِها على المستعمِرين الطغاة. ° وإذا كان فقيدُ الإسلام محمد علي يقول: "الإسلامُ أولاً والهندُ ثانيًا"، فأنا أقول: إن مسيحيَّتي لا تَحُولُ ولن تحولَ دونَ وقفٍ يُراعي على خدمةِ أمتي وتَضحيتي في سبيلِ استقلالها، كما أن عروبتي لا تحولُ ولن تحولَ دون قيامِي بشعائِرِي الدينية، وهذه قصيدتي: باللهِ يا جِيرةَ البطحاءِ والعلَمِ ... عُودُا خشوعًا وحَيُّوا ساكِنَ الحَرَمِ

واستعطِفوا على صَبٍّ تَملَّكه ... حُبُّ العروبة نَبْتِ المجدِ والشِّيَمِ عساه يُصغي إلى شكواه إن لها ... بثَّ الفؤادِ ومعنى الشجوِ والشَّمَمِ ويُلهِمُ العُرْبَ من إعجازِ حكمتِه ... أن يَنهضوا لاقتحام الهولِ والعُظَمِ ويستردُّوا مَقامًا طالَما سَجَدَتْ ... له الجبابرُ من رُومٍ ومِن عَجَمِ فما الحياةُ التي يَحْيَون وَيْحَهُمُ ... إلاَّ حياةَ ضِعافِ الشاة والبَهَمِ يا سيدَ العُرْبِ والأيامُ شاهدةٌ ... إني أُوفِّي لعهدِ العُرْبِ كلِّهمِ أنقذتَ قُدْمًا بني عدنان من عَمهٍ ... في غمرة الجهلِ والطغيان والظُّلمِ وقُدْتَهم صُعُدًا والدينُ قائدهم ... والعَدلُ رَائدُهم في مَسلَكَ العِلمِ فصافَحوا المجدَ والأيامُ في يَدِهم ... طَوْعَ البَنانِ وأضحَوْا سادةَ الأُممِ ودَوَّخوا الغَربَ حتى لان جامِحُه ... وخَرَّ مسترحِمًا مِن وطء خَيلِهِم والآن قد دال مَجدُ العُربْ والَهَفي ... وأصبحوا كُبغاثِ لطيَرِ والغَنَمِ يسُومُهم عبدُهم بالأمس وا كبدي ... مُرَّ العذابِ ويُغليهم على ضَرَمَ ويَستبيحُ حِماهم غيرَ مُحَتشِمٍ ... كأنهم عنده مِن أحقرِ الخَدَمِ ° إلى أن يقول: فاهبِطْ أبا القاسمِ الميمونِ مؤتزِرًا ... بالعَزم وابْعَثْ مَوَاتَ العزمِ والهممِ وانفُخْ بعَدنانَ مِن رُوحِ النبوةِ ما ... يُثيرُهَا للعُلى في أرفعِ القِمَمِ واسألْ لها نُصرةً من ربِّنا فعسى ... نَصرٌ قريبٌ وفتحٌ غيرُ مُنثَلِمِ سيندمُ الغَربُ عمَّا جاء مُعتسِفًا ... ولاتَ ساعةَ عَضِّ الكَفِّ مِن نَدَمِ ° وقد وَقَّع الشاعرُ المذكورُ المسيحي تحتَ القصيدةِ المذكورة: "فتى العرب" حِمْص .. الشام

الأستاذ ميشيل عفلق السوري

* الأستاذ ميشيل عفلق السوري: رئيسُ حزب "البعث" العربي في دمشق. ° قال في كتابه "في سبيل البعث" (ص 53): "حتى الآن كان يُنظرُ إلى حياةِ الرسولِ محمدٍ من الخارج، كصورةٍ رائعةٍ وُجدت لِنعجَبَ بها ونُقدِّسَها، فعلينا أن نبدأَ بالنظرِ إليها من الداخل لنحياها، كلُّ عربيٍّ في الوقت الحاضرِ يَستطيعُ أن يحيا حياةَ الرسول العربي، ولو بنسبةِ الحصاةِ إلى الجبل والقطرةِ إلى البحر، طبيعي أن يَعجِزَ أيُّ رجل مهما بَلغت عظمتُه أن يَعملَ ما عَمِلَ محمدٌ، ولكنْ من الطبيعي أن يستطيعَ أيُّ رجلٍ مهما ضاقت قدرتُه أن يكونَ نموذجًا مصغَّرًا ضئيلاً لمحمدٍ، ما دام ينتسبُ إلى الأُمةِ التي حَشَدت كلَّ قواها فأنجبت محمدًا، أو بالأحرى ما دام هذا الرجلُ فردًا من أفرادِ الأمة التي حَشَد محمدٌ كلَّ قُواه فأنجبها، في وقتٍ مَضَى تلخَّصت في رجلٍ واحدٍ كلُّ حياةِ أمته، واليومَ يجبُ أن تُصبحَ كلُّ حياةٍ هذه الأمةِ في نهضتِها الجديدة تفصيلاً لحياةِ رجلِها العظيم، كان محمدٌ كلَّ العرب، فليكنْ كلُّ العربِ اليوم محمدًا". ° إلى أن قال: "إنَّ الإسلامَ لم يُوجَدْ ليكونَ مقصورًا على العرب، إذا قلنا ذلك ابتعدنا عن الحقِّ وخالَفْنا الواقر، فكلُّ أمةٍ عظيمةٍ عميقةِ الاتصال بمعاني الكونِ الأزلية، تَنزعُ في أصلِ تكوينِها إلى القِيَمِ الخالدةِ الشاملة، والإِسلامُ خيرُ مُفصحٍ عن نزوعِ الأمةِ العربيةِ للخلودِ والشمول، فهو إذًا واقعه عربي، وفي مرامِيه المثاليةِ إنساني، فرسالةُ الإسلامِ إنما هي خُلُق إنسانية عربية.

الدكتور نجيب أرمنازي المصري

إن العربَ ينفرِدون -دونَ سائر الأُممِ- بهذهِ الخاصيةِ، إنَّ يقظتَهم القوميةِ اقتَرنت برسالةٍ دينية، أو بالأحرى كانت هذه الرسالةُ مُفصِحةً عن هذه اليقظة القوميَّة، ولم يتوسَّعوا بُغيةَ التوسُّع، ولا حكموا البلاد استنادًا إلى حاجةٍ اقتصاديةٍ مجردة، أو ذريعةٍ عنصريةٍ أو شهوةٍ للسيطرةِ والاستعبادِ، بل ليؤدُّوا واجبًا دينيًّا كلُّه حقٌّ وهدايةٌ ورحمةٌ وعَدلٌ وبَذلٌ، أراقوا من أجله دماءَهم، وأقبَلوا عليه خِفافًا ومتهلِّلين لوجه الله، وما دام الارتباطُ وثيقًا بين العروبة والإِسلام، وما دمنا نرى في العروبةِ جسمًا رُوحُه الإِسلام، فلا مَجالَ إذًا للخوفِ من أنْ يشتطَّ العربُ في قوميتهم، إنها لن تبلغَ عصبيةَ البغيِ والاستعمار". * الدكتور نجيب أرمنازي المصري: وُلِد في بلدته "ماهاي" عام 1819، وتوفي 1887 م، له كتاب "عن "الشرع الدولي في الإِسلام". ° قال فيه (ص 56): "كان العربُ لَمَّا بُعث محمدٌ فيهم على الفِطرة البيضاءِ النقية، لم يُكَّدرها مُكدِّر، ولم يَعْبَثْ برَونقها عابث، تطلَّع إلى أمرٍ عظيم، وخَطبٍ جسيم، قد استكنَّت من المواهبِ الشريفةِ والقوى الكامنة والعزائمِ الشديدة ما يسمو كالنارِ إلى إشاعةِ ذكره وتعرُّفِ خَبَرِه، واستفاضت فيها رُوح الحياة، وشاع في الناس نبأُ حادثٍ دينيٍّ كبير، يكونُ عنوانَ تاريخِ جليل". ° إلى أن قال: "فقد ظَهر الإِسلامُ في عنفوانِ تلك البعثة، وأصاب بدعوته شاكلةَ القلوب، ودانت له العربُ، فأصلح بينَهم، وجَمَع كلمتَهم، وحينئذٍ نَفَروا من البادية، وانتشروا في أقطارِ الأرض، تَنقادُ لهم أَعِنَّةُ الأُمم

عبد المسيح أفندي وزير المصري

انقيادًا يُشابِهُ المُعجِزات، ولَمَّا أظهر محمدٌ دعوتَه قال لعشيرته الأقربين: ما أعلمُ أن إنسانًا في العرب جاء قومَه بأفضلَ مما جئتُكم به، فقد جئتُكم بخير الدنيا والآخرة". ° وقال في (ص61): "قام محمدٌ -وهو عربيٌّ من صميمِ العرب- يدعو قومَه إلى توحيدٍ لا رَيبَ فيه ولا هوادة، مُنوِّهًا عن رموزِ الأحبار وزخارفِ الكُهَّانِ، وَيحُثُّهم على الاستكثارِ من الخيرِ في هذه الدنيا، والحِرصِ على مَدارِكَ أخرى في الحياةِ أشرفَ منزلةً وأبعدَ غايةً". * عبد المسيح أفندي وزير المصري: نشرت جريدة "الاستقلال" 1927 مقالاً للأستاذ "عبد المسيح أفندي وزير" الكاتب المعروف، تحت عنوان "محمد والحضارة"، وذلك يومَ ذكرى مَبعَثِ الرسول محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. ° جاء في المقال ما يلي: "في مثل هذا اليوم المبارك ننشرُ في هذه الجريدةِ مقالاً في محمدٍ فيه ذكرى -والذكرى تنفعُ المؤمنين-، وقد عالجتُ الموضوعَ فيما مضى من وجوهٍ غيرِ الوجه الذي عَقدتُ العزيمةَ على مُعالجته الآن، إذ كانت المقالاتُ السابقةُ في قالب شِعريٍّ أدبيٍّ، أما اليوم، فأبحثُ في بعثةِ محمدٍ بحثًا علميًّا محضًا لا أثرَ للتخريبِ فيه، وقد آليتُ على نفسي أن أُبرهِنَ أن الحضارةَ الأوربيةَ الحديثةَ -أو بالأحرى الحضارة المسيحية- إنما قامت -وهي قائمةٌ وستقومُ- على مبادئِ الإسلام، مبادئِ محمدٍ التي نَشرها على العالم، فعَمِل بها العالَمُ المتمدِّنُ كلُّه مِن يومِ محمدٍ حتى هذه اللحظة، والحضارةُ في واقعِ الأمرِ حضارةٌ واحدة لا أدوارَ لها".

البحاثة جرجي زيدان

° إلى أن قال: "قال "بوذا" و"كنفونيس" و"عيسى" بالمسالمة والاستكانة، وقال محمدُ بنُ عبد الله النبيُّ العربيُّ بالقوة، وأصبحت جميعُ الأممِ اليومَ لا تعملُ إلاَّ بالقوة، ففي العالم اليوم فلسفتانِ في الدين، فسلفةُ التصوف، وفلسفةُ العمل -أي: القوة-، فلنأخذِ المسيحيةُ- وهي أرقى ما في التصوف بمبادئها-، ولنأخذ الإِسلام -وهو القائم على مبدإ القوة-، ونقارِنْ بين المبدأين لنرى أيهما الفائزُ في حضارتنا: ° قال المسيح عليه السلام: "مَن ضَرَبك على خَدِّك الأيمن، فحوِّلْ له خَدَّك الأيسر، ومَن طلب ثوبَك، فأعطِهِ رداءك"، ومعنى هذا أن على الإنسانِ أن يكون مسالمًا مستكينًا لا يُبدي حِراكا في حضارةٍ تُنازعُ البقاء، أمَّا محمد فيقول: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60]، أي: نازعْ من أجلِ بقائك وكيانِك بكلِّ ما أُوتيتَه من قوة، فالمبدأُ الأساسيُّ هو مبدأُ تنازع البقاء، فإذا ثَبَتَ لزومُ المبدإِ لكِيانِ الحضارة، كان محمدٌ فائزًا في هذا المضمار، وكفى بهذا المضمار مسرحًا للمبدإِ الصحيح الذي جاء به محمدٌ وعَمِل لأجله". ° إلى أن قال: "ثُمَّ لَمَّا كان المسلمون خاصةً والعربُ عامَّةً عامِلين بمبدإِ نبيِّهم -محمد- شادوا حضارةً مجيدةً وأصبحوا سادة الدنيا، ولكنهم فرَّطوا بالابتعادِ عن هذا المبدإِ، ورَكَنوا إلى الاستكانةِ فباتوا مَسُودين" .. إلى آخر المقال. * البحَّاثة جرجي زيدان: وُلد في "بيروت- لبنان" عام 1861، وتوفي 1914 م. مؤسِّسُ مجلة

"الهلال" عام 1892، نَشَر فيها المقالاتِ الأدبيةَ والتاريخيةَ واللغويةَ، ومؤسِّسُ "دار الهلال" للطباعة والنشر، وله دراساتٌ قيمةٌ في الأدب والتاريخ، أهمها: "العرب قبل الإسلام" و"تاريخ التمدُّن الإسلامي" و"تاريخ آداب اللغة العربية"، و"تراجم مشاهير الشرق". ° قال في "تاريخ العرب قبل الإسلام": "إن أقدمَ المصادِرِ العربيةِ لتاريخ العرب وأقربَها إلى الصحة القرآنُ، فقد جاء فيه ذِكرُ القبائل البائدةٍ -كعادٍ وثمود-، وبعضُ أخبارِ ملوك اليمن -كسَيلِ العَرِمِ وغيره-، وإذا قرأتَ تلك الأخبارَ فيه، تجدُ ما ذكره القرآنُ صحيحًا تؤيدُه الاكتشافاتُ الحديثةُ، وهو الُمعجِزُ الذي جاء به محمد". ° وقال في كتابه "التمدُّن الإسلامي": "ولمَّا عَمَد المسلمون إلى تلاوةِ القرآن والحديثِ وتفسيرهِما، أُشكل على غير العرب إعرابُهما؛ لأن مَلَكةَ اللغةِ غيرُ راسخةٍ فيهم". ° إلى أن قال: "جملةُ القول: إن ما اشتَغل به المسلمون في صدرِ الإسلام من العلوم مَرجِعُه إلى القرآن الذي نَزل على محمدٍ، فهو المِحورُ الذي تدورُ عليه العلومُ الأدبيةُ واللسانيةُ فضلاً عن الدينية، ورَسَخ في الأذهانِ أنه لا يجوزُ أن يُنظرَ في كتابٍ غيرِ القرآن؛ لأنَّه جاء ناسخًا لكلِّ كتابٍ قبلَه، وقد نهى الشرعُ الإسلاميُّ يومئذٍ عن النظرِ في الكُتب المُنزَّلةِ غيرِ القرآن لاتحادِ الكلمةِ واجتماعِها على الأخذِ به، وقد أعلن محمدٌ النبي العربيُّ أن رسالتَه خاتمةُ الرسالات، وصحيحٌ ذلك؛ لأنَّ فيها ما يَصلُحُ للبشرِ في مختلفِ أطوارِهم وسائرِ أدوارِهم".

الدكتور نيس الأندونيسي

* الدكتور نيس الأندونيسي: أستاذُ الديانةِ المسيحيةِ في جامعة "برمنكهام". ° قال في إحدى محاضراته نقلاً عن "مجلة الهلال" الجزء الخامس من المجلد الثالث: "يا ابنَ مكة، ويا نَسلَ الأكرمين، ويا مُعيدَ مجدِ الآباء والأجداد، ويا مُخلِّصَ العالَم من العبودية، إن العالَمَ يفتخِرُ بك، ويشكرُ اللهَ على تلك المِنحةِ العزيزة، بل ويُقدِّرُ لك مجهوداتِك كلَّها، يا نَسلَ الخليلِ إبرهيم، يا مَن مَنحتَ السلامَ للعالم، ووَفَّقتَ بين قلوبِ البشر، وجَعلتَ الإخلاصَ شعارَك، يا مَن قُلتَ في شريعتك: "إنما الأعمالُ بالنيات"، لك منَّا الشكرُ الجزيل". * "رينيه جينو" "الشيخ عبد الواحد يحيى": "رينيه جينو" مِن الشخصيات التي أخذت مكانَها في التاريخ، وهو العالِمُ الفيلسوف الذي يُدوِّي اسمُه في أوروبا قاطبة، وفي أمريكا، يَضعُه المسلمون بجوارِ "الغزَّالي" وأمثالِه، ويَضعُه غيرُ المسلمين بجوارِ "أفلوطين"، صاحب الأفلاطونية الحديثة. وقد كان إسلامُه ثورةً كبرى هَزَّت ضمائرَ الكثيرين، مِن ذَوِي البصائرِ الطاهرة، فاقتدَوا به، واعتَنقوا الإسلام، وكوَّنوا جماعاتٍ مؤمنةً مخلِصةً، تعبدُ اللهَ على يقينٍ في معاقلِ الكاثوليكية في الغرب. وكان سببُ إسلامه يسيرًا؛ لقد أراد أن يعتصمَ بنصٍّ مقدَّس، لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا مِن خلفه، فلم يَجدْ -بعد دراسةٍ عميقةٍ- سوى القرآن، فهو الكتابُ الوحيدُ الذي لم يَنَلْه التحريفُ والتبديلُ؛ لأن الله تكفَّل

بحِفظِه، وحَفِظه حقيقةً: {إنَّا نَحْن نَزَّلْنَا الذِّكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظونَ} [الحجر: 9]. لم يجد سوى القرآن نصًّا مُقَدَّسًا صحيحًا، فاعتصم به، وسار تحتَ لوائِه، فغَمَره الأمنُ النفسانيُّ في رِحابِ الفرقان. ومؤلَّفاتُه كثيرةٌ مشهورة، مِن بينها كتابُ "أزمة العالم الحديث"، بيَّن فيه الانحرافَ الذي تسيرُ فيه أوروبا الآن، والضلالَ المبين الذي أعمى الغربَ عن سواءِ السبيل. ° أما كتابه "الشرق والغرب"، فهو من الكتبِ الخالدة، التي تجعلُ كلَّ شرقيٍّ يفتخرُ بشرقيتِه. ° يقول الشيخ الدكتور "عبد الحليم محمود" شيخ الجامع الأزهر: "وإذا كان الشخصُ في بيئتنا الحالية لا يُقدَّرُ التقديرَ الذي يستحقُّه إلاَّ بعد وفاته، فقد كان من حُسنِ حظِّ "رينيه جينو" أنه قُدِّر في أثناء حياته، وقُدِّر بعد وفاته، أمَّا في أثناءِ حياته، فكان أولُ تقديرٍ له: أنْ حَرَّمت الكنيسةُ قراءةَ كتبه، والكنيسةُ لا تفعل هذا إلاَّ مع كِبارِ المفكِّرين الذين تخشى خطرهم، فقد وضعتْه بذلك بجوار عباقِرةِ الفِكرِ الذين اتخذت تُجاهَهم نفسَ المَسْلَك، ولكنها رأت في "رينيه جينو" خطرًا يَكبُرُ كلَّ خطرٍ سابق، فحرَّمت حتى الحديث عنه. واستجاب كثيرون لدعوةِ "رينيه جينو"، فألفَّوا جمعياتٍ في أنحاءِ العالم، وعلى الخصوص في سويسرا وفي فرنسا واتخذوا الإِسلام دينًا. ومن التقدير الإِيجابي أنَّ كتب "رينيه جينو" برغم تحريمِ الكنيسة لقراءتها، قد انتَشرت في جميعِ أرجاءِ العالم، وطُبعت المرةَ بعدَ الأخرى، وتُرجم الكثيرُ منها إلى جميع اللغات الحية، ما عدا العربية.

وبعد مماته كَتبت عنه جميعُ صُحف العالم، وقد خَصَّصَتْ له مجلة "فرنسا- آسيا" وهي مجلةٌ محترمة، عدداً ضخمًا؛ كَتب فيه كبارُ الكُتَّاب الشرقيين والغربيين، وافتتحته بتقدير كاتب فرنسا الأكبر "أندريه جيد"، وقوله في صراحةٍ لا لبس فيها: إن آراءَ "رينيه جينو" لا تُنقض. وخصَّصت مجلة "ايتودترا ديسونيل" عددًا ضخمًا من أعدادها، ثم خَصَّص له الكاتبُ الصحفيُّ الشهير "بول سيران" كتابًا ضخمًا تحدَّث فيه عن حياتِه وعن آرائه. بعد أن بَهرت أشعةُ الإسلامِ الخالدةُ "رينيه"، وغَمَره ضياؤُه الباهرُ، اعتَنَق الإسلامَ، وأصبح جنديًّا من جنوده يدافعُ عنه ويدعو إليه. ومن أمثلتِهِ ما كَتبه في كتابه "رمزية الصليب" تفنيدًا للفِريةِ التي تقول: "إن الإسلام انتشر بالسيف". ومن أمثلتةِ ذلك أيضًا ما كتبه في مجلة "كابيه دي سور" في عددها الخاص بالإسلامِ والغرب، دفاعًا عن الرُّوحانية الإسلامية، لقد أنكر الغربيون رُوحانية الإسلام، أو قلَّلوا من شأنها، وأشادُوا برُوحانيةِ المسيحيةِ وأكبَرَوا من شأنها، فأتى الشيخ "عبدُ الواحد يحيى" وبيَّن سُمُوَّ الروحانيةِ في الإسلام وروعتها، وقارَنَ بين ما يُسمُّونه بـ "التصوُّفِ المسيحي" أو "المستيسزم"، وانتهى بأن هذا "المستيسزم" لا يمكنُه أن يبلغَ -ولا عن بُعدٍ- ما بلغه التصوُّفُ الإسلامي (¬1) من سُموٍّ وجلال" (¬2). ¬

_ (¬1) أي الصحيح القائم على الكتاب والسنة الصحيحة، لا أقوال أصحاب التصوف الفلسفي أو البدعي الذي ضيَّع الأمة. (¬2) "أوربا والإسلام" (ص 72 - 76).

الفنان الفرنسي "ألفونس إتيين دينييه"

* الفنان الفرنسي "ألفونس إِتيين دينييه": وُلِد "ألفونس إتيين دينييه" في باريس سنة 1861، وهو من كبارِ أهل الفنِّ ورجالِ التصوير، وصاحبُ اللوحاتِ الكبيرةِ النفيسةِ القيِّمة، وله في مُتحف "لوكسمبرج" عدةُ صورٍ، منها الصورةُ الشهيرةُ المعروفة باسم "غداة رمضان"، وكذلك له صورةٌ في متحف "بو"، وكذلك في متحف "سدني" باستراليا، و"الحج إلى بيت الله الحرام"، وله عدةُ مؤلَّفاتِ منها "حياة العرب"، وكتاب "السراب"، و"حياة الصحراء"، وكتاب "ربيع القلوب"، وكتاب "الشرق كما يراه الغرب"، ومن أهمِّ كُتبه "السيرة النبوية" وهو مجلد كبيرٌ جليلٌ وَضَعه باللغةِ الفرنسية، وله رسالةُ "أشعة خاصة بنور الإِسلام"، قام بتعريبها الأستاذُ الأديب "راشد رستم"، وقد أعلن إسلامه رسميًّا بالجامع الجديد بمدينة الجزائر، عام 1927 م، وسمى نفسه "ناصر الدين دينيه"، وطَلب أن يُدفنَ في بلده "بوسعادة" بالجزائر حنيفًا مسلمًا. ° قال في كتابه "محمد رسول الله" (ص 48): "إنَّ حدودَ هذا السِّفْرِ لن تسمح لنا بأن نقدِّمَ جميعَ التفاصيلَ وجميعَ النواحي لحياةٍ حافلةٍ بالعظائم، إلى هذا الحدِّ كما هو الشأنُ في حياةِ النبي محمد نبيِّ المسلمين". ° وقال (ص 49) منه: "والحقُّ أننا نَرى من بين جميِع الأنبياءِ الذين أَسَّسوا دياناتٍ، أن محمدًا هو الوحيدُ الذي استطاع أن يستغنيَ عن مَدَدِ الخوارقِ والمعجزاتِ المادية، معتمدًا فقط على بداهةِ رسالته ووضوحِها، وعلى بلاغةِ القرآنِ الإلهية، وإنَّ في استغناءِ محمدٍ عن مَدَدِ الخوارقِ والمعجزاتِ لأَكبرُ معجزةٍ على الإطلاق".

° وقال (ص 52) منه: "إن في مَرأَى المؤمنين وفي أعمالهم لَصورةٌ تلمحُها منعكِسةً من مآثر محمد، وإذا ما كانت بالطبعِ باهتةً بالقياس إلى كمالاته العليا، فإنها لا جِدالَ في صحَّتها، هذا على حين نجدُ قياصرةَ روما -مع دِقَّةِ تماثيلهم- لا يطالعُنا منهم سِوى قِناعٍ مزيَّفٍ لوجوههم الجامدة تحت صورةٍ من الخُيلاء، إن صُورَهم تظلُّ مَيتةً يَعجِزُ خيالُنا عن أن يَلمحَ لها شيئًا من الحياة، وإنه لبوحي هذه الحقيقة المقرَّرةِ قامت برؤوسنا فكرةُ نشرِ لوحاتٍ في تاريخِ محمدٍ، تمثِّلُ المآثرَ الدينيةَ لأتباعه، وبعضَ صُورٍ من حياةِ العرب، وبعضَ مُدنِ الحجاز الذي هو وطنه". ° وقال (ص 87) منه: "محمد لم يؤلِّفِ القرآن، حقًّا أنه لَيُدهِشُني أن يَرى بعضُ المستشرقين أن محمدًا قد انتهز فرصةً، فروَّى ورتَّب عَمَله المستقبل، بل لقد ذَهب بعضُهم إلى أبعدَ من ذلك، فوسوس بأن محمدًا ألَّف في تلك الفترة القرآنَ كلَّه!. أحقًّا لم يُلاحظوا أن هذا الكتابَ الإِلهيَّ خالٍ عن أيةِ خُطةٍ سابقةٍ على وجوده، مرسومةٍ على نَسَقِ المناهجِ الإنسانية، وأن كلَّ سُورَةٍ من سُوره منفصلةٌ عن غيرها، وخاصةٌ بحادثةٍ وقعت بعد الرسالةِ طيلةَ فترةٍ تَزيدُ على عشرين عامًا، وأنه كان من المستحيل على محمدٍ أن يتوقَّع ذلك ويتنبَّأَ به؟! ". ° وقال (ص 345) منه: "فدينُ الرسول محمدٍ أكَّد من الساعة الأولى لظهوره أنه دينٌ عامٌّ صالحٌ لكلِّ زمانٍ ومكان، وإذًا كان صالحًا بالضرورة لكلِّ عقل، إذ هو دينُ الفطرةِ، والفطرةُ لا تختلفُ في إنسانٍ عن آخر، وهو

فاندبرج

لكلِّ هذا صالحٌ لكلِّ درجةٍ من درجاتِ الحضارة". ° وقال في كتابه "أشعة خاصة بنور الإسلام" ترجمة الأستاذ "راشد رستم": "إن نبي الإسلام هو الوحيدُ من بين أصحابِ الدياناتِ الذي لم يَعتمدْ في تمامِ رسالته على المعجزاتِ، وليست عمدتُه الكبرى إلاَّ بلاغةَ التنزيل الحكيم، وفي ذلك يقول تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59] ". * فاندبرج: ° قال: "لقد وَضَع الإسلامُ قواعدَ جليلةً للرقيق تدلُّ على ما كان يَنطوي عليه محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - من شعورٍ إنسانىًّ نبيلٍ يُناقِضُ -كلَّ المناقضة- تلك الأساليبَ التي كانت تتخذُها إلى عهدٍ قريبٍ شعوبٌ تدَّعي أنها تمشِي في طليعةِ الحضارة. لهذا كان كثيرٌ من الرقيق يُفضِّلُ حياة الرِّقِّ في ظلالِ هذه المبادئِ على الحريةِ الوهميةِ في بلادٍ وأممِ تَستِرقُّ شعوبَها بالجملة" (¬1). الإسلامُ العظيمُ الذى رَفع شأنَ "بلال"، فجعله من أئمة الصحابة، حتى قال عنه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-" أبو بكر سيدُنا .. أعتق بلالاًسيدَنا". وفيه نزل قولُ الله عز جل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]. ¬

_ (¬1) "لماذا يخافون الإسلام" (ص 122) -للدكتور عبد الودود شلبي- دار الاعتصام.

الكاردينال "أشوك كولن يانق" أمين عام "مجلس الكنائس العالمي" لوسط وشرق أفريقيا سابقا يشهر إسلامه

أين هذا من قدل الفيلسوف العُنصري "لونج" في كتابه "تاريخ جامايكا" عن الزنوج: "إنهم غيرُ خَليقين بالحياة، وإنهم لا يَزيدون عن القرود التي تتعلَّمُ لتأكلُ وتشربَ، وإن قيمتهم لا تَزيدُ عن قيمةِ أيِّ سِلعةٍ تُباعُ في الأسواق"؟. ° بل ويقول "منتسيكو" عن السُّود: "إني أعتقدُ أن اللهَ أحكَمُ مِن أن يَضَعَ رُوحًا -فضلاً عن رُوحٍ طيبةٍ- في جِسمِ حالِكِ السواد" (¬1). * الكاردينال "أشوك كولن يانق" أمين عام "مجلس الكنائس العالمي" لوسط وشرق أفريقيا سابقًا يُشهرُ إِسلامه: ° في مقال الكاردينال السابق "أشوك كولن يانق"، يكشف جوانبَ جديدةً عن رحلته إلى الإسلام لرجب الدمنهوري والمنشور بمجلة "المختار الإسلامي" العدد (281) -غرة المحرم 1427 هـ- 31 يناير 2006 م (ص 68) إلى (ص 71) قال: "أثارت المقابلةُ التي أجرتها "المختار الإسلامي" مع أمين عام مجلس الكنائس العالمي لوسط وشرق إفريقيا سابقًا "أشوك كولن يانق" ردودَ فعلٍ واسعةَ النطاق، وتناقلتها عشراتُ المواقع الإلكترونية ووسائلِ الإعلام .. وكان "كولن يانق" الذي اعتنق الإسلام عام 2002 قد كَشف في حوارِه أبعادَ المُخطَّطِ الكَنَسيِّ الرامي لتنصيرِ المسلمين وضَربِ الحركةِ الإسلاميةِ عَبْرَ توظيفِ العِلمانيين لمواجهةِ المدِّ الإسلامي، وإنفاق أموالٍ طائلة على بعض الأجهزة والأفراد ذَوِي الصِّلة .. وفي هذا العدد يكشفُ الكاردينال السابق جوانبَ جديدةً في رحلتِه "من الظلمات إلى النور ومِن الكفر إلى الإسلام، ومن حالِ أهلِ النار إلى حالِ أهل القِبلة" -على حدِّ ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص 128).

تعبيره-، وفيما يلي التفاصيل: ° "تغييرُ الإنسان عقيدتَه ليس أمرًا سهلاً، خاصةً إذا كان هذا الإنسانُ يحتلُّ قمةَ الهَرَمِ الذي يدعو إلى هذه العقيدة .. فما الذي قادك إلى التغيير، ومِن ثَم اعتناقِ الإسلام من واقع دراستك للأناجيل؟. - سؤال مهم .. الإنسان مهما علا شأنُه إذا كان صادقًا وجادًّا في البحث عن الحقيقة، فإنه حتمًا سيصلُ إليها يومًا ما، وهذه الحقيقةُ التي سيصلُ إليها إما أنها تُعزِّزُ ما يؤمنُ به، أو تَهديه إلى سبيلٍ آخَرَ .. هذا أولاً. أما كيف غيَّرتُ عقيدتي، فأُجيبُ من خلالِ أقوالِ المسيحِ التي وردت في الأناجيل، فقد جاء في إنجيل "يوحنا" في "الإصحاح الثامن- فقرة 40" عندما هَمَّ اليهود بقتله: "ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني، وأنا إنسانٌ قد كَلَّمكم بالحق الذي سَمِعه من الله". فالمسيحُ عليه السلام إنسانٌ اختارَه اللهُ وحمَّله رسالةً، وجعله نبيًّا؛ ولذلك يقدلُ عليه السلام كما جاء في "الإصحاح الثامن- فقرة 42": "لو كان اللهُ أباكم لكنتم تُحبونني: لأنني خرجتُ من قِبَل الله وأَتيتُ، لأني لمِ آتِ من نفسي، بل ذلك أرسلني، لماذا لا تفهمون كلامي؟ "، وقد صرَّحَتْ بعضُ الأناجيل بنبوة عيسى عليه السلام كما جاء في "لوقا -الإصحاح السابع- فقرة 16": "فأخذ الجميعَ خوفٌ ومجَّدوا الله قائلين: قد قام فينا نبيٌّ عظيم". وجاء في "متى -الإصحاح الحادي والعشرين- فقرة 9، 10، 11": "ولما دخل أورشليم ارتجَّتِ المدينةُ كلُّها قائلةً: مَن هذا؟ فقالت الجموعُ: هذا النبيُّ الذي مِن ناصِرةِ الجليل".

وهذه النصوصُ تتفقُ مع قوله تعالى في القرآن الكريم: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [المائدة: 75]. * رسالة عيسى: ° إذًا أنت ترى أن هذه النصوصَ التي اقتبستَها من الأناجيل كفيلةٌ بتغييرِ العقيدةِ من النصرانية إلى الإسلام؟. - الإيمانُ برسالة سيدنا عيسى عليه السلام يكونُ بتصديقِه فيما أَخبر، فلا نردُّ خَبَرَه ولا نُكذِّبُ قولَه ولا نخالفُه، فالمسيحُ عليه السلام جاءنا من الله لأمرَين مهمَّين: أولاً: لِتَعلَمَ الأُمةُ التي بُعث إليها كيف تتقربُ إلى الله وتَعبدُه، أمَّا معرفةُ الله، فيقول المسيحُ عليه السلام: "إنَّ اللهَ واحدٌ لا شريك له ولا نظيرَ له ولا شَبيهَ له". فقد جاء في إنجيل "مرقص" في "الإِصحاح الثاني عشر- فقرة 30" لَمَّا سأله الكاتبُ: "أيُّ وصيةٍ هي أولُ الكل؟ فأجاب يسوع: إن أولَ كلِّ الوصايا هي: اسمَعْ يا "إسرائيل"، الربُّ إلهُنا ربٌّ واحد، وتُحِبُّ الربَّ إلهَك من كلِّ قلبك ومِن كلِّ نفسِك ومِن كلِّ فِكرِك ومِن كل قُدرتِك، هذه هي الوصيةُ الأولى، وثانيةٌ مِثلُها، هي أن تحبَّ قريبَك كنفسِك، ليس وصيةٌ أخرى أعظمَ من هاتين. فقال له الكاتب: صحيحٌ يا مُعلِّمُ، حَسَبَ الحقِّ تكلمتَ، فإن اللهَ واحدٌ لا آخَرَ سواه". وتتأكدُ هذه الحقيقةُ عن ذاتَ الله بما جاء في إنجيل "متى -الإصحاح

23 - فقرة 8"، يقول المسيح عليه السلام: "وأما أنتم فلا تَدْعوا لكم أبًا على الأرضِ؛ لأن أباكم واحدٌ الذي في السماء"، وجاء في "يوحنا" في "الإِصحاح 20 فقرة 18" قال المسيح: "إني أصعدُ إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم". وكلمة "الأب": "أبي وأبيكم" تعني في لغةِ الإِنجيل "الرب" أي: "ربي وربكم". فإلى مُحبِّي المسيح أقول: ألم تتضمَّنْ وصايا المسيح عليه السلام تعريفًا واضحًا لذاتِ اللهِ العليِّ الكبير المتفرِّد؟. * يقول الله تعالى في القرآن: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) {اللَّهُ الصَّمَدُ (2) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [سورة الإِخلاص]. * وكما جاء في القرآن الكريم أيضًا: {{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. ثانيًا: إن مهمةَ عيسى عليه السلام الثانيةَ أن يَهدِيَ الأُمةَ التي بُعث إليها إلى عبادة الله، وهي أُمةُ بني إسرائيل، أما غيرُهم من الأمم فلا تَعنِيهم شريعةُ عيسى، وهذا ما تقرِّرُه الأناجيلُ المسيحية، فقد جاء في إنجيل "متى- الإصحاح 15 فقرة 5" قولُ يسوع: "لم أُرسَل إلا لخرافِ بني إسرائيلَ الضالة". وجاء في "متى- الإصحاح 10 فقرة: 5": "هؤلاء الاثنا عَشَرَ أَرْسَلَهم يسوعُ وأوصاهم قائلاً: إلى طُرُقِ أُممٍ لا تَمْضُوا، وإلى مدينةِ السامريين لا تَدخُلوا، بل اذهبوا بالحَرِيِّ إلى خِرافِ بني إسرائيل الضالة" (أعمال الرسل 11 الفقرة الأولى).

وإلى مُحبِّي المسيح أقول: يا مَن تبحثُ عن الحق، ويا مَن آمَن بالله الواحد الأحد، إليك هديةً من القلب: آمن بالله إلهًا واحدًا، وبأن المسيحَ رسولُ الله وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ ورُوحٌ منه، وبأن محمدًا عبد الله ورسوله وخاتمُ النبيين والمرسلين، واتَّبعْه حقَّ الاتباع، قل: "لا إله إلا الله" يؤتِك اللهُ أجرَك مرتين. * قال تعالى في القرآن الكريم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [القصص: 54]. * اللحظة الفاصلة: ° صِفْ لنا اللحظةَ الفاصلةَ التي قرَّرتَ فيها اعتناقَ الإسلام؟ وماذا ترتب على ذلك. - حينما قررتُ اعتناقَ الإِسلام، ذهبتُ إلى الكنيسة، وتقدَّمتُ بطلب إجازةٍ لكي أقضيَها مع أسرتي، فطُلب مني أن أنتظرَ حتى تعتمدَ لي الكنيسةُ من 50 إلى 100 ألف دولار لكي أنفقَها على أولادي، قلتُ لهم: أنا لا أريدُ "قروشكم" وكانت عندي للكنيسة عمارتان و"قروش" تبلغ مليونين و 400 ألف دولار أمريكي، و 320 مليون جنيه سوداني، فقمت بتسليمها إلى راعي ميزانيةِ التنصير، فكانت مفاجأةً كبيرةً للكنيسة. وبعد ذلك قضيتُ يومين مع أسرتي نفكِّرُ في هذا الأمر ونناقشُه، وقد كانت أسرتي المكونةُ من زوجتي وأربعةِ أبناءَ تدرك أنني أفكِّرُ في اعتناقِ

الإسلام، وحينما أبلغتُهم أن الوقتَ قد حان، كان ردُّهم: "أنت أعلمُ منا، ونحن نثقُ بك، وقرارُك قرارنا"، وبالفعل ذهبنا إلى أحدِ المساجدِ المجاورِة "مسجد النور" وأشهَرْنا الإسلام، وصحيحٌ أنني خسِرتُ أموالاً كثيرةً، غيرَ أنني كَسَبتُ الإيمانَ والراحةَ النفسيةَ بعد 40 سنة قضيتُها في الباطل، وعلى إثْرِ ذلك اتَّهمتني الكنيسة بالجنون وأنني مريضٌ نفسيًّا!. * لست مجنونًا: ° قلت: إن الكنيسة اتهمتك بالجنون .. فهل أثبتَّ لها أنك في كاملِ قُواك العقلية وقد أسلمتَ بعد قناعةٍ ودراسةٍ أم ماذا حدث؟. - لقد شاء الله أن أدرسَ مقارنةَ الأديان، وكان الهدفُ أن أتعرفَ على الأديانِ السماويةِ وغيرِ السماوية من أجل ممارسةِ التنصيرِ بعلمٍ وخبرةٍ ومنهجية، لكن اللهَ أراد شيئًا آخر، فقد درستُ الأديانَ السماويةَ وهي معروفة، كما درستُ غيرَ السماوية -وهي البوذيةُ والهندوسيةُ وعبادةُ النار والشمسِ والشيطانِ والأصنام-، وخلالَ مرحلةِ الدراسة كانت تتكشَّفُ أمامي الحقائقُ عن الإسلام أولاً بأول، وبدأ تكويني الديني يتشكلُ وأفكاري تتغيَّر وتتداخل، وفي إحدى مراحل الدراسة أيقنتُ أن الإسلام هو الدينُ الصحيح، فكنتُ حينما أسمعُ الأذان أتوقفُ عن إلقاءِ المحاضرةِ احترامًا للنداء الإلهي، وحينئذٍ أصبحتُ شخصًا بوجهين، وجهٍ يرى أن الإسلام الدينُ الحقُّ وأن اللهَ واحدٌ لاشريك له، ووجهٍ يغالطُ نفسَه، ويواصلُ انخراطَه في الأعمال الكَنَسية والتمتع بأموالها الطائلة. ولما بدا تعاطُفي مع الإسلام اجتمعَتْ مجالسُ القساوسة والرهبان

الكاردينالية

والكاردينالات، وكان رأيُهم أنني أَميلُ للإِسلام، وهنا مارس مجلسُ الكنائس ضغوطًا كثيرةً علي، ولَمَّا فَشِل قرَّر إيقافي عن العمل بالكنيسة، وصَدَر قرارٌ من الكنائس بأن الجنونَ قد أصابني، فقلتُ لهم: إنني لستُ مجنونًا، فأنا أخافُ اللهَ الواحدَ ربي وربَّكم وربَّ محمدٍ وعيسى، إنني أخافُ من عذابِ الله، إنني أخافُ من الله، وعلمتُ بعد ذلك أن تقريرَ الأطباء أثبت أنني لستُ مجنونًا، ولكنني أتطلَّعُ إلى اعتناق الإسلام. ° السيد أشوك .. لماذا لم تُغِّيرِ اسمَك إلى اسمٍ مسلم كما جَرَت عادة كل مَن يعتنقُ الإسلام؟. - لم أغيِّر اسمي لاعتبارين: الأول: لأن الإسلام لا يَرى في ذلك حَرَجًا، وهذا ما يُهمُّني بالدرجة الأولى، فلا بأسَ أن يَعتنقَ غيرُ المسلِم الإسلامَ ويَبقى محافظًا على اسمِه القديم، فالدينُ الإسلامي يركِّزُ على الإيمان. الثاني: لقد أحببتُ الاحتفاظَ باسمي لأهدافٍ دعويةٍ وهي أنْ أَظَلَّ مقبولاً لدى غير المسلمين، ومن ثَم أستطيعُ أن أبينَ لهم الحق، بعد أن شَرَح اللهُ صدري بالإسلام وخرجتُ من الظلمات إلى النور، ومِن الكفر إلى الإسلام، ومِن حال أهل النار إلى حالِ أهل القبلة. * الكاردينالية: ° وصلتَ في الكنيسة إلى درجةِ "كاردينال"، كما احتَلَّ والدُكم هذا المنصب .. ماذا يعني منصب كاردينال؟ وما وظيفتُه في الكنيسة؟. - لقد تقلدتُ مناصبَ كبيرةً في الكنيسة، ومن بين ذلك كنت كاردينالاً

كما كان والدي كذلك، وهذا المنصبُ في الكنيسة الكاثوليكية يوازي وظيفةَ "المفتي" في الإسلام، ويجبُ أن يعرفَ القَسُّ أنه ليس إلهًا لكي يغفرَ للناس ذنوبَهم وآثامَهم، فالعجيبُ أنه إذا أخطأ عبدٌ ذهب إلى القَسِّ يومَ الأحد قبلَ الصلاة، ويقول له: "لقد أخطأتُ في كذا وكذا"، فيقدل القسُّ: "اذهبْ قد غُفر لك"، كيف يتجرأُ هذا القس على حَمْل سُلطةِ الله؟! ومَن الذي أعطاه هذه الصلاحيةَ وهو بشر؟!. وأنا أتحدَّى أيًّا من كبارِ القساوسةِ الشرقيين أو الغربيين أن يُحاجِجَني، بل أنا على استعدادٍ لمناظرةِ أيِّ درجةٍ عاليةٍ في الكنيسة لإثباتِ صحَّةِ الإسلام وأحقيَّتِه بالاتباع، فأنا لم أُسلِمْ عاطفيًّا أو عَبَثًا، وإنما أسلمتُ بعد دراسةِ معمَّقةٍ للأديان، ووصلتُ في نهاية الدراسةِ إلى أن الإسلامَ هو الدينُ السماويُّ الذي خَتم اللهُ به الرسالاتِ السماويةَ، وأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - هو خاتَمُ الأنبياء والمرسلين، وأن عيسى عليه السلام إنسانٌ من البشر، وهو نبيٌّ ورسولٌ وليس أكثر من ذلك. * قال تعالى في القرآن الكريم: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [المائدة: 75]، وأنا لستُ أولَ مَن يُسلِمُ من القساوسة، فقد سبقني إلى الإِسلام عدد كبير من القساوسة والمبشِّرين، وعلى رأسهم الأمينُ العام لمجلس مؤتمر المطارنة في الكنيسة الكاثوليكية، ورئيسُ القساوسة في الولايةِ الشرقية" اهـ. * * *

مرجيلوث يثني على القرآن

ـ[يا له من دينٍ أتى به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - لو أنَّ له رجالاً!!]ـ هذا الدين العظيم الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَفْخَرةٌ للبشرية، والقرآنُ الذي أنزل عليه فيه سعادة كلِّ البشرية -لو التزمت نَهْجَه وسارت على دربه-. * مرجيلوث يُثني على القرآن: مستشرقٌ إنجليزي، شديد التعصُّبِ ضدَّ الإِسلام ونبيه، وُلِد عام 1858، وتوفي عام 1940 م، كان أستاذًا للغة العربية في جامعة "أكسفورد" منذ عام 1889، وعضوًا بعدَّةِ مجامعَ علميةٍ، كالمجمع اللغوي الإنجليزي، والمجمع العلمي العربي بدمشق، والجمعية الشرقية الألمانية، كما كان مرجليوث من محررِّي "دائرة المعارف الإِسلامية"، وله مؤلفاتٌ عديدةٌ عن الإسلام والأدبِ العربي وتاريخه، ومنها كتابه: "أصول الشعر العربي"، وهو المرجعُ الذي اعتمد عليه "طه حسين" في كتابه عن "الشعر الجاهلي" الذي صدر عام 1926 م. ° يقول مرجليوث عن القرآن: "باعترافِ الجميع، يحتلُّ القرآنُ مكانةً هامةً بين الكتبِ الدينيةِ العظيمةِ في العالم، وعلى الرَّغم من أنه قد جاء الأحدثَ في قائمةِ مِثل هذا النوع مْن الأعمال التي تُعتبرُ مَطْلَعَ عهدٍ جديدٍ في الفكر والتاريخ، فيكاد لا يُضاهِيه عملٌ آخَر في تأثيرِه العجيبِ الذي أحدَثه في جموعٍ هائلةٍ من البشر! لقد خَلق طَورًا جديدًا في الفِكرِ الإنسانيِّ، ونوعًا حديثًا من الشخصيةِ الإِنسانية.

مونتجمري وات

ففي بدايةِ الأمر، حَوَّل القرآنُ عددًا من القبائلِ الصحراويةِ غيرِ المتجانسةِ في شِبهِ الجزيرةِ العربية إلى أُمةٍ من الأبطال، ثم واصل -على نحوٍ مطَّرد- خَلْقَ الهيئاتِ الدينيةِ السياسيةِ الكبيرةِ في العالم الإسلامي، والتي تُعتبر إحدى القوى العُظمى التي يجبُ على أوربا والشرق أن يَحسَبَا لها حساباً اليوم". * مونتجمري وات: رئيس قسم الدراسات العربية في جامعة "أدنبرة"، له عدةُ كتبٍ ودراسات، منها "من تاريخ الجزيرة العربية" (1927)، و"عوامل انتشار الإسلام" (1955)، و"محمد في مكة" (1958). ° يقول "مونتجمري وات" في كتابه: "الإسلام والمسيحية اليوم": "ولستُ مُسلمًا بالمعنى المألوف، ومع ذلك فإني أرجو أن أكون مُسلمًا كإنسانٍ استسلم لله، بَيْدَ أني أعتقدُ أن القرآنَ وغيرَه من تعبيراتِ المنظورِ الإسلامي، ينطوي على ذَخيرةٍ هائلةِ منَ الحقِّ الإلهيِّ، الذي ما زال يجبُ عليَّ أنا وآخَرِينَ منَ الغربيين أن نتعلمَ منه الكثير. ومن المؤكَّد أن الإسلامَ منافِسٌ قويٌّ في مجالِ إعطاءِ النظامِ الأساسي للدينِ الوحيدِ الذي يَسُودُ في المستقبل". * إِدوارد مونتيه: مستشرقٌ من أصلٍ سويسري، ولد عام 1856، ودَرَس في جامعاتِ "جنيف وبرلين وهايدلبرج"، حَصَل على الدكتوراة في اللاهوت من "جامعة باريس" عام1883، عُيّن أستاذًا للعبرية والأرامية والعهدِ القديم في

جرونيباوم

جامعة "جنيف"، ثم أُضيف إليه العربية وتاريخ الإسلام، رَأَسَ جامعةَ "جنيف" (1910 - 1912)، وتُوفي عام 1927. ° يقول "إدوارد مونتيه" في كتابه "الدعاية المسيحية وأعداؤها المسلمون": "إن الإسلامَ في جَوهره دينٌ عقلانيٌّ وِفقَ أوسَعِ المعاني لهذا المصطلح من الوجهةِ الاشتقاقيةِ والتاريخية، إن تعريفَ العقلانية، باعتبارها نظامًا يُقيمُ المعتقداتِ الدينيةَ على مبادئَ يُدعِّمُها العقلُ، إنما يَنطبقُ تمامًا على الإسلام، وعلى الرَّغم من التطورِ الخِصب -بكلِّ ما في هذه الكلمة من معنًى- لتعاليم النبي، فقد احتَفَظ القرآنُ بمنزلتِه الثابتة، كنقطةِ البدايةِ الرئيسةِ لفهم الدين، وصار يُعلِنُ دائمًا عن عقيدةِ توحيدِ الله في سموٍّ وجلالٍ وصفاءٍ دائمٍ مع اقتناعٍ يقينيٍّ متميزٍ، من الصعبِ أن يوجَدَ ما يفوقُه خارجَ نطاقِ الإسلام، إن هذا الإخلاصَ للمعتقَدِ الأساسي للدين، والبساطةَ الجوهريةَ للصيغة التي يَنطقُ بها، والبرهانَ الذي يكتسبُه من الاقتناع الذي يلتهبُ حماسةً لدعاته القائمين بنشره، كلُّ ذلك يُقدِّمُ أسبابًا كثيرةً تُعلِّلُ نجاحَ مجهوداتِ الدعاةِ المسلمين. إن عقيدةً بمِثلِ هذه الدقة، ومجردةً من كلِّ التعقيداتِ اللاهوتية، وبالتالي يمكنُ للفهم العادي أن يتقبَّلها بسهوله، فمِن المتوِّقعِ أن تكونَ لها قدرةٌ عجيبةٌ وهي في الواقعِ تمتلكُ هذه القدرةَ -على اكتسابِ طريقِها إلى ضمائرِ البشر". * جرونيباوم: ° قال في كتابه "الإسلام": "إن الأمرَ الذي اقتضى عشراتِ السنين

من المسيحيين الأوائل لكي يُدركوه، قد أدركه محمدٌ بعد سنواتٍ قليلة، وهو: أنه ما دامت إرادةُ اللهِ قد اقتضت أن تمتدَّ الحياةُ الدنيا فترةً من الوقت -طالت أو قَصُرت-، فإن جماعته (¬1) ينبغي أن تستقرَّ فيها في التقاءٍ كاملٍ مع تعاليمِ الوَحىِ المُنَزَّل .. ومن ثَمَّ أصبحت مهمةُ الجماعةِ أن تُنشِئَ نَمَطًا شاملاً للحياة في ظِلِّ "الله" (¬2) يشملُ كلَّ وجهٍ من وجوهِ الوجود البشري -مِن أوَّل التصوُّرِ إلى الدفن (¬3) -، ويُلغى كلَّ تمييزٍ بين المقدَّسِ والدنيويِّ من مظاهر الحياة، يجعلُ كلَّ دقيقةٍ من دقائق الحياة متصلةً بعضُها ببعضِ برباط الدين، ومحتاجةً إلى مراسم "دينية" لتكملتها عند أيِّ عملٍ من الأعمال -مهما كان نوعه-، وبهذه الطريقة توحَّدت صور السلوك إلى حدٍّ ما .. ولكنَّ الحياةَ كلَّها -حتى أدقَّ تفصيلاتِها- أُعطيت صورةً ساميةً مستمدَّةً من دلالتها الدينية .. ولم تكن حياةُ الفرد وحدَه هي التي ينبغي لها أن تتحوَّل إلى مجموعةٍ مُتَّسقةٍ من الأعمال التي يطلبُها الله منه .. بل إنَّ المجتمعَ الإسلامي -في مجموعه- كان ينبغي أن يُحوَّلَ بالمِثل، فصارت الدولة والجيش والخزانة (¬4) في اصطلاح المؤمنين الأوائل: دولةَ الله، وجيشَ الله، وخزانه الله" (¬5). * * * ¬

_ (¬1) أي: المسلمين. (¬2) أي: في ظلٍّ وحي الله. (¬3) أي: يشملُ الأمور الفكرية والمعنوية، كما يشمل الأمور السلوكية والمادية. (¬4) أي: بيت المال. (¬5) نقلاً عن: "هل نحن مسلمون؟ " لمحمد قطب (25 - 26).

إدوارد جيبون

ـ[صفاءُ العقيدةِ الإسلاميةِ وقوَّتِها]ـ * إدوارد جيبون: وُلِد إدوارد جيبون في إنجلترا عام 1737م، وكان عُضوًا في البرلمان، وقد بدأ حياته الأدبية عام1761 م، وظَهَر الجزءُ الأولُ من مصنَّفه الضخم: "انحدارُ الإِمبراطووية الرومانية وسقوطها" عام 1776 م، ثم استكمل بقية الأجزاء حتى ظهر آخرها عام 1788 م، وتُوفي عام 1794 م. ° أفرد "جيبون" البابَ الخمسين من كتابه "انحدار الإمبراطورية الرومانية وسقوطها" للحديثِ عن الإِسلام .. ولم يَستطع "جيبون" التخلُّصَ من أَسْرِ الأفكارِ الشائعةِ حول الإِسلام، ومع هذا فقد قال: "إنَّ عبقريةِ النبيِّ العربي، وسلوكياتِ أُمَّتِه، ورُوحَ ديانتِه، كلُّ ذلك يتضمَّنُ أسبابَ انحدارِ الإِمبراطوريةِ الرومانية الشرقية وسقوطها، وإن أنظارَنا لتتجهُ في دهشةٍ نحوَ واحدةٍ من أكبر الثوراتِ الجديرةِ بالذِّكر في العالم، والتي طَبعت بعمقٍ أثرًا جديدًا وخالِدًا في أمم الأرض". ° وقال: "إن عقيدةَ محمدٍ خاليةٌ من الشكِّ أو الغموض، والقرآنُ شهادةٌ مجيدةٌ على وحدانيَّةِ الله، ومن الهند حتى مراكش يَشتهرُ المهتدون إلى دينه باسمِ "الموحِّدين"، وقد انزاح خَطَرُ الوثنية بتحريمِ الصور. إنَّ مواهبَ محمدٍ تجعلُنا نُكيلُ له المَدْحَ، إلاَّ أن نَجاحَه ربَّما كان هو الذي جَذَب انتبْاهَنا إليه، وإنّ ما يَستحقُّ إعجابَنا ليس انتشارَ ديانته، وإنما استمراريتُها. إنَّ نفسَ الانطباعِ النقيِّ كاملِ الذى حَفَره في الأذهانِ في مكة

والمدينة لا يزالُ مصونًا إلى اليوم بعد انقضاءِ اثني عَشَرَ قرنًا، عند الذين اهتَدَوا بالقرآنِ من هنودٍ وأفارقةٍ وتُرك". ° وقال: "نجدُ أنه من المحيطِ الأطلسي غربًا إلى أقاصي الهند شرقًا، يُعترفُ بأن القرآن هو الدستور الأساسي، ليس فقط في مسائل الإلهيات، ولكن فيما يتعلَّقُ بالقوانينِ المدنيَّةِ والجنائيةِ والقوانين التي تنظِّمُ سلوكياتِ البشر. لقد نَفَثَ محمدٌ بين المؤمنين رُوحَ الأخوَّةِ والإحسانِ، وأوصى بممارسةِ الفضائل الاجتماعية، وكَبَحَ بشريعته وتعاليمه الأخلاقيةِ التعطُّشَ إلى الانتقامِ وظُلمِ الأرامل واليتامى، ولقد تَوحَّدَتِ القبائلُ التي كانت في عَداءٍ تحت مَظِلَّةِ الدينِ والطاعة، وتوجَّهت شجاعةُ المقاتلين -التي أُنفقت هدرًا في صراعَاتٍ داخليةٍ- نحوَ العدوّ الخارجي، فانتشرت بذلك أمصارُ الأمةِ الإسلاميةِ شرقًا وغربًا" (¬1). ° وقال "فولتير" عن العقيدة الإِسلامية: "إن عقيدةَ محمدٍ خاليةٌ من الشكَّ أو الغموض، والقرآنُ شهادةٌ مجيدةٌ على وحدانية الله .. هذه هي كلماتُ سورة الإخلاص تقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [سورة الإخلاص]. إنني أقول: إن هذه الكلماتِ أَخضعت له الشرقَ أكثرَ مما فَعَله سيفُه" (¬2). ¬

_ (¬1) "الإسلام في الفكر الغربي" (ص 35 - 38) مُلخَّصًا. (¬2) المصدر السابق (ص 129).

ـ[الغرب عاش على تَشْويه الإِسلام]ـ ° قال "فولتير": "لقد أَلْصَقْنا بالقرآنِ ما لا نهايةَ له من السفاهاتِ التي لم تكنْ به على الإطلاق. إن مؤلِّفينا لم يَجِدوا صعوبةً تُذكرُ في جَعلِ نسائنا تقفُ في صفِّهم، لقد أقنعوهنَّ بأن محمدًا لم يَعتَبِرْهُن ضمنَ الحيواناتِ الذكية، وأنهنَّ جميعًا إماءٌ وِفقَ شريعة القرآن .. ومن الواضح أن كلَّ هذا كذبٌ وبطلانٌ اعتقدوا فيه بكلِّ قوة. أيها الجهلةُ الأغبياء الذين خَدَعهم جَهَلةٌ آخرون، إذ أقنعوكم بأن الديانةَ المحمديةَ ديانةٌ شهوانيةٌ ولذَّاتٌ جسدية، بينما هي ليست شيئًا من ذلك". ° وقال "روجيه دي باسكيه": "إن الغربَ المسيحيَّ، أو الذي فَقَد مسيحيتَه، لم يَعرِفِ الإسلامَ أبدًا، فمنذ أن ظَهَرِ على المسرح العالمي، والمسيحيون لا يَكفُّون على اختلاقِ الأكاذيب حولَه وتحقيرِه من أجل إيجادِ المبرراتِ اللازمةِ لقتاله، لقد أُلحقت بالإسلام صُوَرٌ مشوَّهةٌ كثيرةٌ، لا تزال آثارُها منطبعةً بعُمقٍ في العقلية الأوربية إلى اليوم. ويجبُ الاعترافُ بأن الدراساتِ الاستشراقيةَ في الغَرب لم تكن مستوحاةً أبدًا من رُوحِ النزاهةِ العلميةِ الخالصة، ولا يمكن إنكارُ أن بعضَ المتخصِّصين في الدراساتِ الإسلاميةِ والعربيةِ قد قاموا بأبحاثهم بهدفٍ واضحٍ هو تحقيرُ الإسلام والمسلمين" اهـ.

برنارد لويس

ـ[الإِسلامُ دين التقدَّمِ والحضارةِ وهو دينُ المستقبل]ـ يا لِجمالِ الإسلام الذي أتى به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، هذا الدينُ العظيمُ لا يُعرِضُ عنه إلاَّ منكوسٌ موكوسٌ مطموس. * برنارد لويس: وُلِد عام 1916 م، وحَصَل على الدكتوراة من جامعةِ لندن عام 1939 م، وهو أستاذُ دراساتِ الشرق الأدنى بجامعة "برنستون"، وأستاذٌ زائر في "كاليفورينا وكولومبيا وأنديانا"، وعضوُ شرفٍ في "الجمعيةِ التاريخيةِ التركية"، وعضوٌ في "الجمعية الفلسفية الأمريكية". ° يقول عن الإِسلام: "أرسل اللهُ المَلَكَ جبريلَ ليُمليَ القرآنَ على محمدٍ، بهذا يُكِملُ القرآنُ سلسلةَ الوحيِ التى سَبقت إلى أنبياءِ اليهودِ وإلى عيسى، ومِن ثمَّ يكونُ محمد أعظمَ الأنبياء وخاتَمَهم، ويكونُ القرآنُ هو "الكتاب" الأخيرُ والتعبيرُ الكاملُ عن إرادةِ الله فيما يتعلَّق بحياةِ الناس". ° وقال: "كان الإِسلامُ تأسيسًا لدينٍ جديد، وإمبراطوريةٍ جديدة، وحضارةٍ جديدةً". ° وقال: "لقد قامت حضارةٌ أصيلةٌ مستوحاةٌ من العقيدةِ الإِسلامية، ومتمتعةٌ بحمايةِ الدولة الإِسلامية، ومُدعَّمةٌ بثراءِ اللغة العربية، حضارةٌ تنمو وتتسعُ وتعيشُ طويلاً وقد صنعها الرجالُ والنساءُ من مختلفِ الأعراق والديانات، وقد اصطبغ كلُّ شيءٍ فيها بالعروبة والمبادئِ والقيم الإسلامية".

هربرت فيشر

* هربرت فيشر: مؤرِّخٌ سياسيٌّ إنجليزي، عَمِلَ بعدَ الحرب العالمية الأولى مندوبًا مفوَّضًا لدى "عصبة الأمم"، وفي عام 1926 م عاد إلى جامعة "أوكسفورد" عميدًا بإحدى كلياتها. ° يقول في فَصْلٍ كَتَبه عن الإِسلام ضمن كتابه "تاريخ أوروبا": "لقد وَجَدَتِ الدولُ المسيحيةُ نفسَها تُواجِهُ التحدِّي من حضارةٍ شرقيةٍ جديدةٍ تأسَّست على دينٍ شرقيٍّ جديد. وهكذا انتَشرت الحضارةُ الإِسلاميةُ، وساهَم فيها (الكثيرون) ليُقدِّموا جميعًا العصرَ الرائعَ للآدابِ والفنونِ الإِسلاميةِ، التي مَكَّنت شعوبَ الإسلام من السيادةِ الفكريةِ للعالَم طِيلةَ أربعةِ قرون، بينما كان العقلُ الأوربيُّ غارقًا في قِيعانِ الجهل والكسل". * مارسيل بوازار: أستاذُ جامعةٍ سويسري، عاش لمدةِ أكثرَ من اثنَيْ عَشَر عامًا في بلادٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ خاصة، كممثِّلٍ للجنة الدولية للصليب الأحمر في: الجزائر واليمن والمملكة العربية السعودية وسوريا والأردن ومصر، وبصفته مديرًا مشاركًا في برامج التثقيفِ الدبلوماسي بالمعهد الجامعي للدراسات الدولية العليا بجنيف، وكمندوبٍ مفوَّضٍ أوربي بالجمعيةِ الثقافيةِ الدوليةِ المعروفة باسم "الإِسلام والغرب"، فإنه قام بنَشرِ عدةِ بحوثٍ حولَ بعضِ أوجُهِ الحضارةِ الإِسلامية، وحولَ عددٍ من موضوعاتِ السياسةِ الثقافيةِ في بلجيكا والنمسا وباكستان والمغرب وغيرها من البلدان.

° يقول "مارسيل بوازار" في كتابه " الجوانب الإنسانية في الإسلام" (¬1): "الإسلامُ دينٌ وحضارة .. لا شك في أن الوحيَ الدينيَّ قد ظَهر في منطقةِ الشرقِ الأوسط، مَهْدِ دياناتِ التوحيدِ الثلاث، ولعل الإسلامَ يُعتبرُ هو التجلِّيَ الأخيرَ والأكملَ للحضارةِ في هذه المنطقةِ من العالم، ولقد نَفَذَت أفكارُه إلى أوربا، وآسيا باللغة العربية، عبرَ البحرِ الأبيضِ المتوسطِ وفوقَ جبالِ البرانس. والإسلاُم باعتبارهِ دينًا -وِفقَ المعاني الاشتقاقيةِ الثلاثِ لكلمةِ الدين في اللغة الفرنسية-، فإنه يَقتضي -من ناحيةٍ - اختيارًا تطوّعيًّا، أو اختيارًا حرًّا بالخضوعِ إلى شريعةٍ وإلى قواعدَ للأخلاق، وممارسةِ الشعائرِ، كما يستلزمُ -من ناحيةٍ أخرى- تصنيفَ تراثٍ إنسانيٍّ خاصٍّ والحفاظَ عليه. وأخيرًا -وعلى وجهِ الخصوص-، فإنَّه يُحدِّدُ وَضْعَ المؤمنِ أمامَ القيوم، وكذلك علاقاتِ التضامنِ بين الناس، وهكذا يَظهرُ لنا الإسلام كعملٍ باهرٍ ومتوافقٍ سياسيًّا واجتماعيًّا، وظاهرةً تاريخيةً جديرةً بالتأمل والاعتبار. وفي كلمةٍ موجزة، فإنَّ الإسلامَ حضارةٌ أَعطت مفهومًا خاصًّا للفرد، وحدَّدت بدقةٍ مكانَه في المجتمع، وقَدَّمت عددًا من الحقائقِ الأوليةِ التي تحكمُ العلاقاتِ بين الشعوب، كما أن هذه الحضارةَ لم تُقدِّمْ فقط مساهمتَها التاريخيةَ الخاصةَ في الثقافةِ العالمية، ولكنها كانت تؤكِّدُ أيضًا -ولها مبرراتهُا - على تقديمِ حلولٍ للمشاكلِ الرئيسةِ للأفرادِ والمجتمعاتِ، والمشاكلِ الدوليةِ ¬

_ (¬1) الترجمة الحرفية لاسم الكتاب هي "إنسانية الإسلام" وأولى منها أن يقال: "الجوانب الإنسانية في الإسلام".

التي تُثيرُ الاضطراباتِ في العالم المعاصر". ° وقال: "لقد أنجَب هذا الدينُ "أمَّةً"، وأوجَدَ أسلوبًا للحياةِ والعمل والتفكير، وفي كلمةٍ واحدة، فقد أنجبَ "حضارةً". ويؤكِّدُ الإسلامُ طُموحَه السياسيَّ على المستوى العالمي، ويتابعُ انتشارَه بانتظامِ، وخاصةً في أفريقيا السوداء، وإذا نظرنا اليومَ إلى كِيانِ الإسلام ووِحدته، تَبين أنه ليس جسدًا مَيْتًا نُقشت عليه ذكرياتُ ماضٍ مجيد، وإنما هو واقعٌ حيٌّ فعلاً. ويدلُّ التاريخُ على وجودِ حقيقةٍ ثابتةٍ مثاليةٍ في الحضارة الإسلامية، التي كانت منذُ بَدئِها -ولا تزالُ- متوجِّهةً توجُّهاً كاملاً نحوَ الله، وهذه الظاهرةُ التي تَغيبُ دائمًا عن الفكرِ والتحليل الغربيِّ الحديث، تُعطي للإسلامِ طابعَه المتميِّزَ بالدوام". ° وقال: "لقد أظهرت الرسالةُ القرآنيةُ وتعاليمُ النبيِّ أنها تقدُّميَّةٌ بشكلٍ جوهري، وتُفسِّرُ هذه الخصائصُ المميزةُ انتشارَ الإسلام السريعَ بصورةٍ عجيبةٍ خلالَ القرونِ الأولى من تاريخه. ومن المفيد أن نُسجِّل إلى أيِّ مَدًى يؤثِّرُ مفهومٌ معيَّنٌ للعلم والإيمانِ بمصيرٍ عالميٍّ للإنسانية، في طَبعِ السلوكِ اليوميِّ لملايين الأنفُسِ من البشر، ولا يمكنُ لأيِّ طريقةٍ مُثلى (أيديولوجية) معاصرةٍ أن تَدَّعي منافسةَ الإسلامِ في هذا الصدد". ° وقال: "لم يكن محمدٌ حاكمًا مستبِدًّا (أتوقراطيًّا) ". ° وقال: "في الإسلام لا يمكنُ فَهمُ السياسةِ بعيدًا عن الدين".

روجيه دي باسكيه

ـ[عالَمِيَّةُ الإِسلام]ـ ° وقال: "علاوةً على أن الإسلامَ حقيقةٌ إلهيةٌ تامةٌ ومَثَلٌ أعلى رُوحيٌّ كامل، وأنه خُلق كيانًا سياسيًّا وتنظيمًا اجتماعيًّا خاصَّين به، فهو [حقيقةٌ] عاليةٌ ترتكزُ على وَعيٍ عميق بالتوحيد، إذ كان دينَ اليقين الذي يدفع طاقاتِ المؤمنين وإرادتِهم الواعيةَ نحو تنظيمِ العالم الدنيوي". ° وقال: "إنَّ فعاليةَ الإسلام وحيويتَه حقيقةٌ واقعةٌ على المستوى الديني، يشهدُ لها استمراريتُه في تحول الناسِ إليه، فالإسلامُ ينتشرُ أكثرَ من أيِّ دينٍ آخَرَ وخاصةً في أفريقيا وآسيا، حيث تَكتسبُ البساطة المنطقيةُ لعقيدتِه ويُسر تعاليمه مهتدِين إليه جُددًا كلَّ عام". ـ[المستقبل للإِسلام]ـ ° قال "برناردشو": "لقد تنبَّأتُ بأن دينَ محمدٍ سيكونُ مقبولاً في أوربا الغد، كما أنه بدأ يكونُ مقبولاً في أوروبا اليوم". ° وقال: "إنه الدينُ الوحيدُ الذي يَبدو لي أنه يمتلكُ القدرةَ على استيعابِ تغيُّرِ أطوارِ الحياةِ بما يجعلُه مَحِلَّ إعجابٍ لكلِّ العصور". * روجيه دي باسكيه: هو الكاتبُ والصحفيُّ السويسري الذي اعتنق الإسلام، تحت اسم "سيدي عبد الكريم"، وكذلك أسلمت زوجته الهولندية. ° قال "روجيه دي باسكيه": "إن الإسلامَ بأبعاده الأفقية والرأسية، قادرٌ على عملِ توافُقٍ قويٍّ بين الإنسان والكونِ المحيطِ به، وكذلك بين الإنسانِ والإلهِ خالقِ كلِّ شيءِ ومبدعه، إن الإسلامَ

عالميٌّ بكلِّ معنَى الكلمة. فمهما حَدَث في العالَم الغربيِّ المزدهِرِ وفاسدِ الأخلاق، أو حَدَث للشعوب التي تُعاني من فقرِ المستلزماتِ الماديةِ للحياةِ مِثل تلك التي يُطلَقُ عليها "العالم الثالث"، فإن الإسلامَ يقدِّمُ الحلَّ الأكثرَ وضوحًا وجوهريةً وحتميةً، من أجلِ مواجهةِ التحدي الحديث. وبالنسبةِ لهؤلاءِ الذين يَعتنقدن الإسلامَ ويُطبِّقونه عمليًّا، فإنه يقدِّمُ لهم العلاجَ الأكثَرَ فعاليةً وشفاءً من شرور هذا العصر". ° وكتب كتابًا من أجل تعريفِ الغربِ بالإسلامِ تحت اسم "اكتشاف الإسلام" قال فيه: "من المسلَّم به حاليًا وبوجهٍ عام، أنه بينما تتراجعُ الدياناتُ الكبرى -أو على الأقلِّ تتخذُ موقفَ الدفاع-، فإن الإسلامَ ذاتَه في تقدم، وتُعطي أفريقيا أكثرَ الأمثلةِ وضوحًا على ذلك. إن قوةَ الإسلامِ هذه -مقارنةً بضعفِ المسيحية- تمُثِّلُ حقيقةً كبرى في التاريخ المعاصر، ولقد قامت عدَّةُ دراساتٍ اجتماعيةٍ واستشراقيةٍ بمحاولةٍ لتفسير ذلك، فأظهرت أن هناك وجهاتِ نظرٍ عديدة. لقد جاء الإِسلامُ إلى الناسِ لمساعدتهم على عبورِ هذه المرحلةِ الأخيرةِ من التاريخِ العالمي، دون أن يتعرَّضوا للضياع، وباعتبارِه الوحيَ الأخيرَ في سلسلةِ النبوات، فإنَّه يُقدِّمُ وسائلَ لمقاومةِ الفوضى التي تَسُودُ العالَم حاليًا، وإقرارِ النظامِ والنقاءِ في داخل الإنسان، وإيجادِ التآلُفِ والانسجامِ في العلاقاتِ الإنسانيةِ، وتحقيقِ الهدف الأسمى الذي من أجله دعانا الخالقُ إلى هذه الحياة".

° وقال: "والإسلام بأبعادِه الأفقيةِ والرأسيةِ قادرٌ على عَمَلٍ تُوافُقٍ قويًّ بين الإنسانِ والكونِ المحيط به، وكذلك بين الإنسانِ والإلهِ خالقِ كلِّ شيءٍ ومُبدِعه، إن الإسلامَ عالميٌّ بكلِّ معنى الكلمة، إن الغربَ المسيحيَّ -أو الذي فقد مسيحيته- لم يَعرِفِ الإسلامَ أبدًا". ° ويرى مارسيل بوازار أن الإسلام هو الحلُّ لمشاكل العالَم، ويقول: "لقد عَرف الإسلامُ -بمحافظتِه على العقيدة- كيف يقاومُ تحطيمَ جماعتِه السياسية، ولم يكنِ الإسلامُ منذ ظهورِه وتحتَ إدارةِ النبيِّ إلاَّ ثوريًّا معتدلاً على المستوى الاجتماعي، فهناك تكليفٌ مفروضٌ بالتكافل والتضامنِ على جميع أعضاءِ الجماعةِ المسلمة، مِن أجل تأمينِ الرخاءِ والكرامةِ لجميع الأفرادِ في حدودِ الإمكاناتِ المتاحة، ويُمثِّلُ هذا مظهراً متمِّمًا لطابعِ الجماعةِ المسلمةِ وشيئًا تتميزُ به مبادئُ الأخلاق التي طَبَعها الوحيُ القرآني. ولقد أقام الإسلامُ نظامًا اقتصاديًّا مرتكزًا على الأخلاقِ، وذلك بتنظيمِ توزيع الدخلِ عن طريقِ نظامِ ضريبيٍّ مقدسٍ هو "الزكاة"، وبإدخالِ مفهومٍ جديدٍ للمِلكية الخاصةِ التي ليست في كلمةٍ موجزةٍ سوى حقِّ انتفاع بالنِّعم التي أفاءها اللهُ على الإنسان، وبذلك حقق الإسلامُ -من وجهةِ نظرِ خاصة- الجمعَ بين قِيمتي رأسِ المالِ والعمل". ° وقال مونتجمري وات: "من المؤكَّد أن الإسلامَ منافِسٌ قويٌّ في مجال إعطاءِ النظامِ الأساسيِّ للدينِ الوحيدِ الذي يَسُودُ في المستقبل". ° وقال إدوارد مونتيه: "احتفظ القرآنُ بمنزلتِه الثابتة، كنقطةِ البداية الرئيسةِ لفَهمِ الدين، وصار يُعِلِنُ دائمًا عن عقيدةِ توحيدِ الله في سُمُوٍّ

وجلالٍ وصفاءٍ دائمٍ، مع اقتناعٍ يقينيٍّ متميِّزِ من الصعب أن يُوجَدَ ما يفوقُه خارجَ نطاقِ الإسلام". ° وقال جورج برنادرشو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يجبُ أن يُسمَّي "منقذَ الإنسانيةَ"، وإني أعتقدُ لو أن شخصًا مثلَه تولَّى الحكمَ المُطلَقَ للعالَم المعاصِر، لَنجح في حلِّ مشاكِلِه بطريقةٍ تجلبُ له ما هو في أشدِّ الحاجةِ إليه من سلامٍ وسعادة". ° وذكر الأمير شكيب أرسلان في كتابه "لماذا تأخَّر المسلمون؟ " -بعد كلامه عن الفتوحاتِ الإسلامية-: "على أن تلك الفتوحات التي فتحوها في نصفِ قرنٍ -أو ثُلُثَىْ قرنٍ- قد أدهَشَت عقولَ العقلاء والمؤرِّخين والمفكِّرين، وحَيَّرتِ الفاتحين الكبار، وأَذهَلَت "نابليون بونابرت"، وله تصريح في ذلك نَقَله "لاكاس" الذي رافقه إلى جزيرة "سانتة هيلانة" وغيرة من المقيِّدين لحوادثِ نابليون المتتبِّعين لأقواله، فقد ثَبَت ثُبوتًا قطعيًّا من أقوال نابليون وسيرتِه أيامَ كان بمصرَ أنه كان مُعجبًا بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعُمر -رضي الله عنه- وبكثير من أبطالِ الإسلام، وأن نفسَه حدَّثته لَمَّا كان بمصَر أن يتَّخذ الإسلامَ دينًا له" (¬1). ° ونختم بما قال "مايكل هارت": "لكنَّ محمدًا كان هو الإنسانَ الوحيدَ في التاريخ الذي بَلغ أعلى درجاتِ النجاح على المستويَيْنِ الدينيِّ والدنيوي. وبسببِ هذا الجَمع -الذي لا نظيرَ له بين الدينِ والدنيا- أرى أن محمدًا من حقِّه أن يُعتبرَ أعظمَ الشخصياتِ البارزةِ أثرًا في تاريخ الإنسانية". ¬

_ (¬1) "لماذا تأخر المسلمون؟ " (21، 22).

فصل وقفات فقهية مع حكم سب النبي - صلى الله عليه وسلم - والاستهزاء به ولمزه والطعن فيه وفي رسالته

فصل وقفات فقهية مع حكم سب النبي - صلى الله عليه وسلم - والاستهزاء به ولمزه والطعن فيه وفي رسالته

سب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تنقصه بتعريض أو نص

سبُّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تنقُّصُه بتعريضٍ أو نصًّ * تعريف " السَّبِّ": "السبُّ" لغةً واصطلاحًا: الشَّتْم، وهو مشافهةُ الغيرِ بما يَكره، وإنْ لم يكن فيه حدٌّ، كـ "يا أحمق، ويا ظالم" (¬1). ° قال الدسوقي: "هو كلُّ كلامٍ قبيح .. وحينئذٍ فالقذفُ، والاستخفافُ، وإلحاقُ النقصِ، كلُّ ذلك داخلٌ في السبِّ" (¬2). * ألفاظ السَّبِّ: ° من ألفاظِ السَّبِّ قوله: "كافر، سارق، فاسق، منافق، فاجر، خبيث، أعور، أقطع، ابن الزَّمِن، الأعمى، الأعرج، كاذب، نمَّام" (¬3). * الألفاظُ ذات الصلة بالسَّبِّ: أ- العيب: 2 - العيبُ خلافُ المستحسَنِ عقلاً، أو شرعًا، أو عرفًا، وهو أعمُّ من السب (¬4). ° قال الزُّرقاني: "فإنَّ مَن قال: "فلانٌ أعلمُ من الرسول - صلى الله عليه وسلم - "، فقد ¬

_ (¬1) الزرقاني على المواهب اللدنيَّة (5/ 318)، و"الدسوقي مع الشرح الكبير" (4/ 309). (¬2) "الدسوقي مع الشرح الكبير" (4/ 309). (¬3) "المغني" (8/ 220). (¬4) "الدسوقي" (4/ 309)، و"تحفة المحتاج مع حواشي الشرواني وابن قاسم العبادي" (8/ 96).

ب- اللعن

عابه، ولم يَسُبَّه" (¬1). ب- اللعن: 3 - اللعن: هو الطردُ من رحمة الله تعالى (¬2)، لكنه يُطلَقُ ويرادُ به السبُّ. • روى البخاري: "إن مِن أكبرِ الكبائرِ أن يَلعَنَ الرجلُ والدَيه"، قيل: يا رسولَ الله، وكيف يَلعنُ الرجلُ والدَيه؟ قال: "يَسُبُّ الرجلُ أبا الرجلِ، فيَسُبُّ أباه، ويَسُبُّ أُمَّه، فيَسُبُّ أُمَّه" (¬3). • وروى مسلم في "الصحيح": "مِن الكبائرِ شَتمُ الرجلِ والديه". قالوا: يا رسولَ الله، وهل يَشتمُ الرجلُ والديه؟ قال: "نعم، يَسُبُّ أبا الرجل فَيسُبُّ أباه، ويَسُبُّ أُمَّه فيَسُبُّ أُمَّه" (¬4). فَسَّر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - اللعنَ بالشتم. • وقال ابنُ عبد السلام: "اللعنُ أبلغُ في القُبحِ من السبِّ المطلَق" (¬5). جـ- القذف: 4 - يُطلَقُ "السبُّ" ويُرادُ به القَذفُ، وهو الرَّميُ بالزِّنى في مَعرِضِ ¬

_ (¬1) "الزرقاني على المواهب اللَّدنيَّة" (5/ 315). (¬2) "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" لعز الدين بن عبد السلام (1/ 20). و"الفتاوى البزازية" (4/ 291). (¬3) أخرجه البخاري (الفتح 10/ 403 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عمرو. (¬4) أخرجه مسلم (1/ 92 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو. (¬5) "قواعد الأحكام" (1/ 20).

بيان ما هو في حقه - صلى الله عليه وسلم - سب أو نقص من تعريض أو نص

التعيير (¬1) كما يُطلَقُ "القذفُ" ويُراد به السبُّ (¬2). وهذا إذا ذُكر كلٌّ منهما منفردًا. • فإذا ذُكرَا معًا، لم يَدُلَّ أحدُهما على الآخر (¬3)، كما في حديثِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتدرُون ما المُفلِسُ؟ ". قالوا: المُفلِسُ فينا مَن لا درهمَ له ولا متاع. قال: "إنَّ المفلسَ من أمتي مَن يأتي يومَ القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاة، ويأتي قد شَتَم هذا، وقَذَف هذا، وأَكَل مالَ هذا، وسَفَك دمَ هذا، وضَرَب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا مِن حسناته، فإن فَنِيَتْ حسناتُه قَبلَ أن يَقضيَ ما عليه، أُخذ مِن خطاياهم، فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار" (¬4). وعند التغايُرِ يكونُ المرادُ بالقذفِ: ما يُوجبُ الحدَّ، وبالسبِّ: ما يُوجبُ التعزيرَ إنْ كان السبُّ غيرَ مكفِّرٍ (¬5). * بيانُ ما هو في حقِّه - صلى الله عليه وسلم - سبٌّ أو نَقصٌ من تعريضٍ أو نص: ° قال العلاَّمة شهابُ الدين أحمد بن محمد الخفاجي في "نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض": "مَن سَبَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وشَتَمه "أو نَقَصه" مما لا يَليقُ به -وإن لم يكن سبًّا- "من تعريض" بطريقِ الكناية والإيماء، ¬

_ (¬1) "الجمل على المنهاج" (5/ 122)، "أسهل المدارك" (3/ 192)، وابن عابدين (4/ 237)، "إعانة الطالبين" (4/ 150)، "تبصرة ابن فرحون" (2/ 287). (¬2) "فتح القدير" (4/ 213)، و "تبصرة ابن فرحون" (2/ 286 - 287). (¬3) "إعانة الطالبين" (4/ 295). (¬4) أخرجه مسلم (4/ 1997 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة. (¬5) انظر "الموسوعة الفقهية" ط- وزارة الأوقاف الكويتية.

"أو نصٌّ" صريحٌ لا يَحتملُ التأويل، فقد قال القاضي عياض -رحمه الله -: (اعلمْ وَفَّقَنا الله وإياك) لمعرفةِ حق النُّبُوَّة وما يجبُ له - صلى الله عليه وسلم -، (أنَّ جميعَ من سَبَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم) بشتمِه (أو عابه) -هو أعمُّ مِن السَّب، فإنَّ من قال: "فلانٌ أعلمُ منه - صلى الله عليه وسلم - "، فقد عابه ونَقَصَه ولم يَسُبَّه-، (أو ألحق به نقضًا في نفسِه)، وذا ممَّا يتعلَّقُ بخُلُقِه وخِلْقَته (أوْ نسبه)، كأنْ يُفضِّلَ أحدًا على قومِه وأصوله، وكأن يقول: "إنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن قرشيًّا"، فإنه كَفَر، كما صَرَّح به الفقهاء، وليس من تنقيصِ النسبِ ما وقع من الاختلافِ في إسلام أبوَيْه -كما هو ظاهر-. (أو دينه) أي: نَقَصَ شريعتَه أو نَسَبَه لقُصورٍ، فيما يجبُ منها (أو خَصلةٍ من خصاله) وصفةٍ من صفاته كشجاعتِه وكرمه، (أو عَرَّض به)، أي: قال في حقِّه - صلى الله عليه وسلم - ما لا يَليقُ به تعريضًا لا تصريحًا، (أو شَبَّهه بشيءِ) غيرِ حسنٍ (على طريق السَّبِّ له) بتنقيصِه (أو الإِزراء عليه)، أي: التنقيص له، وإن لم يكن قصَد السَّبَّ، (أو التصغير بشأنه)، أي: تحقيرَه، كتصغير اسمه، أو صفةٍ من صفاته (أو الغضِّ منه) بمعنى، (أو العيب له، فهو سابٌّ)، أي: كالسابِّ معنًى. (وكذلك مَن لَعَنه، أوْ دعا عليه، أو تَمنَّى له مَضَرَّةً له، أوْ نَسَب إليه ما لا يَليق بمنصِبه)، أي: بأصلِه وحسَبه، وهذا هو حقيقة المَنصِبِ (على طريق الذَّمِّ) له (أو عَبَثَ) أي: ما قاله على طريقِ الهزل والمُجونِ (في جِهتِه العزيزة)، أي: بشيءٍ له تعلُّقٌ بجانبه الشريف (بسُخفٍ من الكلام وهُجْرٍ، ومُنكَرٍ من القول وزور، أو عَيَّره بشيءٍ مما جرى من البلاءِ والمِحنةِ عليه)، (أو غَمَصَه)، أي: نَقَص من قَدْرِه - صلى الله عليه وسلم - (ببعضِ العوارضِ البشريةِ الجائزةِ

والمعهوده لديه .. قال أبو بكر بن المنذر: أجمَعَ عوامُّ أهل العلم) هو جَمعُ "عامةٍ"، بمعنى جماعةٍ كثيرة، والمتقدمون -كالشافعي- يُعَبَّرون بهذه العبارةِ للعموم، ولِيس المرادُ العاميَّ، فإنه غيرُ صحيح، إذْ لا عِبرةَ بهم وبإجماعهم؛ لأن العاميَّ لا يكونُ أهلَ علمٍ، (على أنَّ مَن سَبَّ النبيَّ) - صلى الله عليه وسلم - (يُقتل) مطلقًا، (وممن قال بذلك)، أي: حَكَم بقتله مطلقًا: (مالكُ بنُ أنسٍ، والليثُ بنُ سَعد، وأحمدُ، وإسحاقٌ، وهو مذهبُ الشافعي). قال القاضي عياض: (وهو مقتضى قولِ أبي بكرٍ الصِّدِّيق، ولا تُقبَل توبتُه عند هؤلاء) القائلين بوجوبِ قتلِه مطلقًا، صَوْنًا لمقامِ النُّبُوَّة، كما قال المتنبِّي: لا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرفيعُ من الأذى ... حتى يُراقَ على جوانِبِه الدمُ ° وقال الإِمام محمد بن سَحنون: "أجمع العلماءُ على أنَّ شاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - المتنقِّصَ له كافرٌ، والوعيدَ جارٍ عليه بعذابِ الله له: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التربة: 61]، وحُكمه عند الأُمَّةِ القتلُ، ومَن شَكَّ في كُفره وعذابِه كَفَر" .. لأن الرضى بالكُفْر كُفر. واحتجَّ إبراهيمُ بنُ حُسينِ بنِ خالدٍ الفقيهُ في مِثلِ هذا بقَتلِ خالدِ بنِ الوليد -رضي الله عنه- مالكَ بن نُويرةَ لقوله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، "صاحبكم" يعني به النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وفيه تنقيصٌ له بتعبيرهِ عنه بـ "صاحبكم" دونَ "رسولِ الله" ونحوه، وإضافتُه لهم دونه المُشعِرُ ذلك بالتبرِّي من صُحبته - صلى الله عليه وسلم -، واتِّباعِه واستنكافه، وهو في غايةِ الظهور، ومالكُ بنُ نُويرة هذا كان له وِفادةٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان شجاعًا شاعرًا سيِّدًا مطاعًا في قومه "بني تميم"، فولاَّه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم وعلى أُخذِ زكاتِهم، فمَنعوها بعدَه - صلى الله عليه وسلم -، فأَرسل

أبو بكر - رضي الله عنه - خالدَ بنَ الوليدِ لطَلَبها، فقال له مالكُ بنُ نُويرة: "أنا آتِي الصلاةَ دون الزكاة، فقال له: لا تُقبل إحداهما بدون الأخرى، فقال: قد كان صاحبُكم يقول ذلك. فقال خالد: أمَا تراه صاحبًا لك؟! لقد هَممتُ بضربِ عُنقِك، فقال مالكٌ: أبذلك أَمَر صاحبُك، فقال له: أهذه بعد تلك" -يُنكِرُ عليه خالدٌ تكريرَ قولِ "صاحبكم" بعدما وعده عليه-، ثم أَمَر ضرارَ ابنَ الأزور، فضَرب عُنقَه لإِنكارِه قَولةَ: "صاحبكم" مرتين استصغارًا له - صلى الله عليه وسلم -. ° وقال أبو سليمان الخَطَّابي: "لا أعلمُ أحدًا من المسلمين اختَلف في وجوب قتلِه إذا كان مسلمًا". وإنما الخلافُ في الكافر .. وحكاه عبدُ الله بن مُطرِّف -وهو ابنُ أختِ الإمامِ مالكِ- في كتاب ابن حبيب: "من سَبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - من المسلمين قُتِل -ولم يُستَتب-. ° وقال ابنُ القاسم في "العتبية": "مَن سَبَّه، أو شَتَمه (¬1)، أو عابَه أو تنقصَّه (¬2)، فإنه يقتل، وحُكمه عند الأُمَّة القتلُ كالزنديق. ° وعن عثمانَ بنِ كِنانةَ -وهو من أئمة المالكية- في كتابه "المبسوطة": "مَن شَتَم النبي- صلى الله عليه وسلم - من المسلمين قُتِل أو صُلِب حيًّا -ولم يُستتب-، والإِمامُ مُخَيَّرٌ في صَلبه حيًّا، أو قَتْلِه". ° قال مالك: "مَن سَبَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أو شَتَمه، أو عابه، ¬

_ (¬1) بنسبة ما لا يليق به - صلى الله عليه وسلم -، في ذاته ممَّا لا يحقره ككونه جبَّارَا قهَّارًا ونحوهما. (¬2) أي نسب له نقصًا، وإن لم يكن شتْمًا كقوله: غيره أعلم منه، أو أعقل.

أو تَنقَّصَه: قُتِل -مسلمًا كان أوْ كافرًا-، ولا يُستتاب". ° وقال أيضًا: "مَن سَبَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أو غَيرَه من الأنبياء -من مسلمٍ أو كافر- قُتِل ولم يُستَتب". ° وقال أصبغُ -مفتي قرطبةَ المالكي-: "يُقتَل على كلِّ حالٍ -أسرَّ ذلك أوْ أخفاه-، ولا يُستتاب؛ لأن توبتَه لا تُعرَف". ° وروى ابنُ وهب عن مالك: "من قال: إنَّ رداءَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ويُروى: زِرَّ النبيِّ -وَسخٌ- أراد به عَيبَه- قُتِل" (¬1). ° قال ابنُ حجر الهَيتمي -بعد سياقِه كلامَ المصنِّف-: "ويؤخذُ منه أنه لو أَطلق ذلك، أو قَصَد الإخبارَ عن تواضُعِه - صلى الله عليه وسلم - لا يَكفُر، وهَو ظاهرٌ في إرادةِ التواضع، ومُحتَمَلٌ عند الإطلاق؛ لأنه ليس صريحًا في النقص، وإذا قلنا بعدمِ الكفر، فظاهرٌ أنه يُعزَّرُ التعزيرَ البليغُ لذِكره ما يُوهِمُ نقصًا. واختَلفوا فيما لو قال: "كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - طويلَ الظُّفر"، والذي يَظهرُ أنه لو قال ذلك احتقارًا له - صلى الله عليه وسلم -، أو استهزاء به، أو على جِهةِ نسبةِ النقصِ إليه: كفر، وإلاَّ فلا، بل يُعزَّرُ التعزيرَ الشديد" ... انتهى ملخصًا. (وقال بعض علمائنا) -يعني المالكية-: (أجمع العلماءُ)، تقدَّم الكلام في الإجماع في هذه المسألة، (على أنَّ مَن دعا على نبي من الأنبياء بالويل)، فقال: "ويلاً له"، وهي كلمةٌ يُدعى بها، ومعناها: الهلاك أو البلاء والمصيبة والعذاب والمشقة. ¬

_ (¬1) فإن لم يقصد ذلك لم يُقتلَ. وكذا كل أذيَّة فإنها لا تكون كُفرًا إلاَّ إذا قصد بها الأذيَّة له - صلى الله عليه وسلم -، ولذا لم يُكفَّر الخائضون في الإفك مع أنه أذيَّة له - صلى الله عليه وسلم - بنصِّ القرآن كما صَّرح به السبكي في "السيف المسلول".

(أو) دعا عليه (بشيءٍ من المكروه) مما يكرهُه الناسُ وَيشُقُّ عليهم: (أنه يُقتل بلا استتابة)، أي: لا تُطلَبُ توبتُه ولا تُقبل. ° وقال ابنُ حجر الهيتمي في "فتاويه": "من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - أنَّ من زَنا بحضرته كَفَر .. ونَظَّر فيه في "الروضة"، وأجيب: بأنه ظاهرٌ في الاستخفاف، فكان كفرًا، فيؤخَذُ منه أن غيرَه من الأنبياء كذلك. (وأفتى القابِسيُّ) أبو الحسن علي بن محمد بن خلف المغافري القَيرواني شيخ الحديثِ وفقهِ مالكٍ، الضريرٌ الزهدُ العابد، صاحبُ التصانيفِ الجليلة في الفقه والأصول، عديمُ النظير، تُوفِّي سنةَ ثلاثٍ وأربعَمِئةٍ (فيمن قال في النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: الحَمَّال -بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم قبل ألف ولام-، وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اشتَرى شيئًا من السُّوق حَمَلَه بنفسه، فإذا لَقِيه مَن أراد أن يَحمِلَه قال: "رَبُّ المَتاعِ أولى بحَملِه"، كما روي في كتب الحديث. (أو قال: يتيم أبي طالب)؛ لأنَه ربَّاه بعد موت أبيه وجَدِّه عبدِ المطلب (بالقتل) لِمَا فيه من الاستخفافِ والتحقير، وقَصَد قائلُه ذلك -لقيام قرينةٍ عليه-. ° قال ابنُ حجر: "والظاهرُ أن مذهبَنا لا يأبى ذلك لما في عبارتِه من الدلالة على الإزراء، فإنْ ذَكَر "يتيم أبي طالب" فقط، لم يكن صريحًا في ذلك فيما يَظهر .. نعم إن كان السياق يدلُّ على الإزراء، كان كما لو جَمَع بين اللفظين. ° وأفتى شيخُ المالكية بالمغرب -الشيخ أبو محمد بن أبي زيد عبدُ الله القيرواني المالكي- بقَتل رجل سَمع قدمًا يتذاكرون صِفةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، إذْ مَرَّ

عليهم رجلٌ قبيحُ الوجهِ واللحية فقال لهم: تريدون تعرفون صفتَه - صلى الله عليه وسلم -؟، قالوا له: نعم، فقال: هي في صفة هذا المَارِّ في خَلْقه ولحيته. قال: ولا تُقبل توبته" .. وذلك لكُفرِه وعِظَم جُرْمِه. ° قال ابنُ حجر: "ومذهبُنا قاضٍ بذلك، وقد كَذَب هذا الرجلُ في مقالته هذه -لعنه الله وأخزاه وقبَّح وجَههَ-، وليس يخرجُ ما قاله هذا الملعونُ مِن قلبٍ سليم الإيمان، بل عديمِ العقل والإيمان". ° وقال أحمدُ بن أبي سليمان صاحب سحنون -وهو من كبار علماء المالكية-: "مَن قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَسْوَدُ" يُقتَل"؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان من الحُسنِ وبَياضِ الوجهِ بصفةٍ لا تخفى". فهذا القائلُ قد كَذَب وافترى، ووَصْفه - صلى الله عليه وسلم - بما ليس فيه إشعارٌ بالتحقير -لعنه الله وسوَّد وجهَه يومَ تبيضُّ وجوهٌ وتَسودُّ وجوه-، وهذا مما صرَّح به الفقهاءُ، وعلَّلوه بأنه قَصَد الكذبَ استخفافًا، فهو كما لو قال: "لم يكن - صلى الله عليه وسلم - قرشيًّا". ° وقال ابنُ أبي سليمان أيضًا في رجلٍ قِيل له: "لا، وحقِّ رسول الله"، فقال الرجل المخاطَب: "فَعَل اللهُ برسولِ الله كذا وكذا" -وذَكَر كلامًا قبيحًا-، فقيل له: "ما تقولُ يا عدوَّ الله؟! "؛ فقال له أشدَّ من كلامه الأول، ثم قال -يُوجِّه كلامَه القبيحَ ويُأولِّه-: "إنما أردتُ برسول الله (¬1): الصَّعق (¬2) .. ¬

_ (¬1) الذي وصفته بصفات أنكرتموها. (¬2) لأن الله هو الذي أرسلها وساقها كما في قوله: {وَيرْسِلُ الصَّوَاعِقَ} [الرعد: 13]، وهذا حقيقة معنى الإرسال، وهذا مما لا شك في معناه، وإنكاره مُكابرة، لكنه لا يُقبل من قائله، وادعاؤه أنه مراده؛ لأن "رسول الله" صار في كلامهم لا يراد به إلا الأنبياء =

فقال ابن أبي سليمان للذي سأله: "اشهَدْ عليه وأنا شريكُك" يَريدُ في قتله وثوابِ ذلك. ° قال يحيى بنُ حبيب بن الربيع -مُوَجِّهًا لقول ابنِ أبي سليمان وفتواه بقتله-: "لأنَّ ادعاءَه التأويلَ في لفظٍ صُراحٍ لا يُقبل؛ لأنَّه امتهان -أي: فيه تحقيرٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحَسَبِ صريحه ومدلولِه المعروف، وهو -أي: قائلُه- غيرُ مُعزِّرٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي: مُعَظِّم- ولا مُوَقِّر له، فوجب إباحةُ دمِه". ° وأفتى أبو عبد الله بن عَتَّاب -من فقهاء المالكية- في عَشَّار -وهو مَن يأخذُ العُشرَ، وهو المَكَّاس-، قال لرجلٍ طَلَب منه المَكْس، فامتنع، وقال له: "إنه ظُلمٌ لا يَرضى به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "، فقال له المَكَّاس: "أَدِّ، واشكُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - منِّي ومن ظُلِمي لك"، -ومِثلُه تحقيرٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - والشريعة، كأنه يقول: "لا قُدرةَ له على دَفْعِه لو كان حيًّا موجودًا الآن"، فلذا أُفتي فيه بوجوبِ القتل. ° قال ابنُ حَجر: "ومذهبنا قاضٍ بذلك أيضًا، بل الذي يَظهرُ أنَّ مُجرَّدَ قوله: "أد واشْكُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - "- بقصدِ عدمِ المبالاة- كفرٌ أيضاً". ° وأفتى فقهاءُ الأندلس بقتل ابن حاتمٍ المتفقِّه الطُّلَيطِلِيِّ وصَلْبِه بما شُهِد عليه به من استخفافِه بحقِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وتسميتِه إيَّاه أثناءَ مناظرته "باليتيم" (¬1)، ¬

_ = والرسل عليهم الصلاة والسلام، ولا يخطر غيره ببال أحد، فلذا لم يقبل تأويله. قال ابن حجر: ومذهبنا لا يأبى ذلك. (¬1) كما كان يقوله الكفرة استخفافًا به وإزراءً، ومثل هذا إذا سبق مُشْعِرًا بتحقير ٍكان كُفرًا، فإن لم يشعر به جاز كما في قول البوصيري في البردة: كفاك بالعلم في الأمِّيِّ معجزةً ... في الجاهلية والتأديب في اليُتمِ

و"خَتَنِ حَيْدَرَةَ" (¬1)، وزَعمِه أن زُهدَه لم يكن قصدًا (¬2)، ولو قَدَر على الطيِّبات أَكَلَها .. إلى أشباهٍ لهذا. ° قال ابنُ حجر:"ومذهبُنا لا يُنافي ذلك، بل زَعمُه ما ذَكَر في الزهد ينبغى أن يكونَ كافيًا في كُفره، وهو ظاهرٌ لنسبةِ النقصِ إليه - صلى الله عليه وسلم - ". ° وأفتى فقهاءُ القيروان وأصحابُ سحنون بقتل إبراهيمَ الفَزَاريِّ، وكان شاعرًا متفنِّنًا من العلوم، وكان ممن يَحضُرُ مجلسَ القاضي "أبي العباس بن طالب" للمناظرة، فرُفِعت عليه أمورٌ مُنكَرةٌ من هذا الباب في الاستهزاء بالله تعالى وأنبيائِه ونبيِّنَا عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، فأحضر له القاضي يحيى بنَ عمر -وهو قاضي القيروان وعالِمُها- .. وغيرَه من فقهاء المالكية، وأَمَر بقَتلِه وصَلْبِه، "فطُعِن بالسكينِ وصُلِب مُنَكَّسًا، ثم أُنزِل وأُحرِق بالنار. ° ومن قال: "إن النبيَّ هُزم"، يُستتاب، فإن تاب وإلاَّ قُتل لأنه تنقيص. ° قال ابنُ حجر: "وقضيةُ مذهبنا، أنه لا يكفرُ بذلك، إلاَّ إنْ قاله على قصدِ التنقيص؛ لأنَّه ليس صريحًا فيه، لأن الهزيمةَ قد تكونُ من الجِبِلاَّت البشرية، فإنْ لم يَقصِدْ ذلك لم يَكفُرْ، بل يُعَذر التعزيرَ الشديد" انتهى. ° وحُكم من غَمَصَه أو عَيَّره برعايةِ الغَنَم، أو بالمَيلِ إلى نسائه، فحُكم ¬

_ (¬1) ختن حيدرة: أي قال الطليطلي: إنه ختن حيدرة، أي: أبو زوجته، يعني: فاطمة الزهراء - رضي الله عنها -، فعبر به عنه - صلى الله عليه وسلم - استخفافًا به، فحكموا بقتله. والختَن: كل قريب لامرأة رجل، كأب، وأخ. (¬2) يعني: أن زهده - صلى الله عليه وسلم - لم يكن قصدًا منه واختيارًا، بل عجزًا واضطرارًا.

هذا كله لمن قَصَد نَقْصَه القتلُ. ° قال السيوطي في كتابه "تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء" -وهو كتابٌ جليل- أن رجلاً سَبَّ آخَرَ بأنه راعٍ، فقال له: ما مِن نبيٍّ إلاَّ رعى الغنم بجمعٍ من العامة. ° فقال قاضي القضاة المالكي: "لو رُفع لي هذا ضربته بالسياط"، فلما سُئلت عنه أجبتُ بأنه يُعذَّرُ أبلغَ تعزير؛ لأنه لا ينبغي ضَرْبُ آحادِ الناس مثلاً لنفسه بالأنبياء، والمستدِلُّ بمثله قد يكونُ في مقامِ التدريسِ والإفتاءِ والتصنيف، وبيانُ العلم لأهلِه لا يُنكَرُ عليه، إمَّا في مقام الخصام والتبرِّي عن مَعَرَّةِ نقصٍ نُسَبٍ له أو لغيره، فهو محلُّ الإنكارِ والتأديبِ لا سيَّما بحضرةِ العوام وفي الأسواق، فهو سبٌّ وقذف، ولكلِّ مقامٍ مقالٌ يناسبه. وسُئل الحافظُ ابنُ حجر: عمَّا يَقعُ في المَوَالِدِ من الوُعَّاظِ بين العوامِّ مِن ذِكرِ الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، بما يُخِلُّ بالتعظيم، حتى يَحصُلَ لسامِعه رِقَّةٌ وحُزن، كقولهم: "إن المَراضعَ لم تأخُذْه - صلى الله عليه وسلم - لعدم مالِه حتى أَخذَتْه "حليمةُ" شفقةً عليه"، ويقولون: " إنه كان يَرعى غنمًا"، وينشدون في ذلك: بأغنامِه سار الحبيبُ لكي يَرعَى ... فيا حبَّذا راعٍ فؤادي له يَرعى فأجاب بأنه ينبغي أن يُحذَفَ من الخبر ما يُوهِمُ نقصًا، وإن لم يَضُرَّه، بل يجبُ ذلك" انتهى (¬1). ¬

_ (¬1) انتهى مُلَخَّصًا من "نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض" لشهاب الدين أحمد ابن محمد الخفاجي (6/ 146 - 164) - دار الكتب العلمية.

حكم من سب النبي - صلى الله عليه وسلم -

° وفي "الموسوعة الفقهية" الصادرة عن وزارة الأوقاف الكويتية: * حُكمُ مَن سَبَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: * سبُّ المسلم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: - إذا سَبَّ مسلمٌ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنه يكونُ مرتدًّا (¬1) .. وفي استتابته خلاف (¬2). * سَبُّ الذَّمِّي النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: - للعلماءِ عِدَّةُ أقوالٍ في حُكمِ الذِّمِّيِّ إذا سَبَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: فقيل: إنه يُنقَضُ أمانُه بذلك -إن لم يُسْلِم-، وقيل غيرُ ذلك (¬3). ويُقتلُ وجوبًا عند المالكية بهذا السبِّ إن لم يُسلِم، فإن أسلَمَ إسلامًا -غيرَ فارٍّ به من القتل- لم يُقتل، لقوله تعالى: {قل لِّلَّذِينَ كفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]. ¬

_ (¬1) "الفتاوى البزازية" (6/ 321 - 322)، "فتاوى عليش" (2/ 25)، "تبصرة ابن فرحون" (2/ 286)، "الجمل على المنهج" (5/ 130)، "التحفة مع حاشيتي الشرواني وابن قاسم العبادي " (8/ 96)، "المغنى" لابن قدامة (8/ 150)، "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" (10/ 326، 332)، "الزرقاني على المواهب" (5/ 318، 319) - ط. دار المعرفة. (¬2) "الفتاوي البزازية" (6/ 322)، و "الزرقاني على المواهب" (5/ 321)، "منح الجليل" (4/ 477)، "فتح العلي المالك" (2/ 25)، "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" (10/ 332). (¬3) "فتح القدير" (4/ 381، 407)، "منح الجليل" (4/ 477)، "الزرقاني على خليل" (3/ 147)، "الخرشي" (4/ 149)، "المغني" لابن قدامة (8/ 233، 525)، "الإنصاف" (10/ 333).

التعريض بسب الأنبياء

قالوا: وإنما لم يُقتل إذا أسلم -مع أن المسلمَ الأصليَّ يُقتل بسبِّه - صلى الله عليه وسلم -، ولا تُقبل توبته- من أجل حقِّ الآدمي، لأنَّا نعلمُ باطنَه في بُغضِه وتنقيصِه بقلبِه، لكنَّا منعناه من إظهارِه، فلم يَزِدْنا ما أظهَرَه إلا مخالفتَه للأمر، وتقضًا للعهد، فإذا رَجَع إلى الإسلام سَقَط ما قبلَه، بخلافِ المسلم، فإنا ظننَّا باطنَه بخلافِ ما بدا منه الآن (¬1). ° وعند الشافعية: إن اشتُرِطَ عليهم انتقاضُ العهد بمِثل ذلك، انتُقض عهدُ السابِّ، وُيخيَّرُ الإمامُ فيه بين القتل وألاسترقاق والمَنِّ والفداء -إن لم يَسألِ الذِّميُّ تجديدَ العقد- (¬2). * ولا فَرقَ بين نبيٍّ وغيرهِ من سائرِ الأنبياء -وكذا الرسلُ-، إذ النبيُّ أعمُّ من الرسول على المشهور (¬3). والأنبياءُ الذين تَخُصُّهم هذه الأحكامُ هم المتَّفَقُ على نبوَّتِهم، أمَّا مَن لم تَثبُتْ نبوَّتُهم، فليس حُكمُ مَن سَبَّهم كذلك، ولكن يُزجَرُ مَن تَنَقَّصهم أو آذاهم، ويؤدَّبُ بقدْرِ حالِ القول فيهم، لا سيَّما مَن عُرفت صِدِّيقيَّته وفَضلُه منهم -كمريم-، وإن لم تَثبُتْ نبوَّتُه، ولا عِبرةَ باختلافِ غيرِنا في نبوَّةِ نبيٍّ من الاَّنبياء، كتَفيِ اليهودِ نبوةَ داود وسليمان. * التعريضُ بسبِّ الأنبياء: التعريضُ بسبِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كالتصريح .. ذَكَر ذلك فقهاءُ الحنفية ¬

_ (¬1) "الزرقاني على خليل" (3/ 147)، الخرشي (4/ 149). (¬2) "الجمل على "المنهج" (5/ 227)، "شرح روض الطالب" (4/ 223). (¬3) "تبصرة الحكام، " (ص 192 - 93 1)، و"تبصرة ابن فرحون" (2/ 388)، "إعانة الطالبين" (4/ 136)،" الهندية" (3/ 263)، "الزرقاني على خليل" (3/ 147).

سب السكران النبي - صلى الله عليه وسلم -

والمالكيةِ والشافعية، وهو قولٌ للحنابلة (¬1). ويقابلُه عندهم: أن التعريضَ ليس كالتصريح. وقد ذَكر عياضٌ -رحمه الله تعالى- إجماعَ العلماءِ وأئمةِ الفتوى مِن لَدُنِ الصحابةِ ومَن بَعدَهم على أن التلويحَ كالتصريح (¬2). * سَبُّ السكرانِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: اختَلف الفقهاءُ في حُكم السكرانِ إذا سَبَّ في سُكرهِ نبيًّا من الأنبياء، هل يكونُ مرتدًّا بذلك وهل يُقتل؟!. ذهب الحنفيةُ، وهو قولٌ للشافعية: إلى أن رِدَّةَ السكرانِ لا تُعتبر، وحُجَّتُهم في ذلك: أن الردةَ تُبنى على الاعتقادِ، والسكرانُ غيرُ مُعتقِدٍ لما يقول (¬3). وذَهب أحمدُ -في أظهرِ الروايتين عنه-، والشافعيةُ في المذهب إلى وُقوع رِدَّةِ السكران، وحُجَّتُهم: أن الصحابةَ أقاموا حدَّ القذفِ على السكران، وأنه يَقعُ طلاقُه، فتَقعُ رِدَّتُه، وأنه مُكلَّف، وأن عقلَه لا يَزولُ كُلِّيًّا، فهو أشبهُ بالناعسِ منه بالنائم أو المجنون (¬4). ¬

_ (¬1) "الزرقاني على المواهب" (5/ 315)، "منح الجليل" (4/ 476، 478)، "شرح روض الطالب" (4/ 122)، "شرح منتهى الإرادات" (3/ 386، 390)، "الإنصاف" (10/ 333)، "معين الحكام" (ص 192)، "إعانة الطالبين" (4/ 139)، "الدسوقي" (4/ 309). (¬2) "تبصرة ابن فرحون" (2/ 286). (¬3) "المبسوط" (10/ 123)، و"تحفة الفقهاء" (4/ 532)، و"البدائع" (7/ 134)، و"ابن عابدين" (4/ 224)، والمهذب" (2/ 222)، و "القليوبي" (4/ 176). (¬4) " الإنصاف" (10/ 331)، و "المغني" (8/ 563)، و"الأم" (6/ 148)، و"الشامل" =

المكره على سب النبي - صلى الله عليه وسلم -

* المُكرَهُ على سَبِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -: الإكراهُ: اسمٌ لفعلٍ يَفعلُه المرءُ بغيره، فيَنتفي به رضاه، أو يَفسُدُ به أختيارُه، مِن غير أن تنعدمَ به أهليَّتُه، أو يَسقطَ عنه الخطاب (¬1). والإكراهُ نوعان: نوع يُوجِبُ الإلجاءَ والاضطرارَ طَبْعًا، كالإكراهِ بالقتل أو القطع أو الضربِ الذي يُخاف فيه تَلَفُ النفسِ أو العضوِ -قَلَّ الضربُ أو كَثُرَ-، وهذا النوعُ يُسمَى "إكراهًا تامًّا". ونوعٌ لا يُوجبُ الإلجاءَ والاضطرارَ، وهو الحَبسُ أو القَيدُ أو الضربُ الذي لا يُخافُ منه التَّلَفُ، وهذا النوعُ من الإكراه يسمَّى "إكراهًا ناقصًّا" (¬2). واتفق الفقهاءُ على أن مَن أُكرِه على الكفرِ فأتى بكلمةِ الكفر، لَم يَصِرْ كافرًا، لقوله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانهِ إِلاَّ مَنْ أكْرِهَ وَقَلْبُة مُطْمَئِن بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكفرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ} [النحل: 106]. ° وما نُقل من أنَّ عمَّارَ بنَ ياسر - رضي الله عنها - حَمَله المشركون على ما يَكرهُ، فجاء إلى النبي- صلى الله عليه وسلم -، فقال له: "إن عادوا فعُدْ" (¬3) وهذا في الإكره التام (¬4). ¬

_ = (6/ 102)، و"القليوبي"، (6/ 176). (¬1) " المبسوط" (24/ 38)، "البدائع" (7/ 175)، و"مرآه الأصول" (ص 359). (¬2) "البدائع" (7/ 170). (¬3) أخرجه ابن سعد (3/ 219) من حديث محمد بن عمار مرسلاً. (¬4) "المبسوط" (10/ 623)، و"ابن عابدين" (4/ 224)، و"الأم" (6/ 652)، و"الشامل" (6/ 148) و"شرح الأنصاري" (4/ 249)، و"منح الجليل" (4/ 407)، و"المغني" (8/ 561)، و"الإقناع" (4/ 306).

الأدلة على كفر ساب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشاتمه والمستهزئ به والمتنقص له

الأدلة على كُفْرِ سابِّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشاتمِه والمستهزئِ به والمُتَنَقِّصِ له الآياتُ الدَّالةُ علَى كُفرِ الشاتم وقتلِه، أو على أحدِهما -إذا لم يكن مُعَاهِدًا- وإن كان مُظهِرًا للإِسلام، كثيرةٌ، مع أن هذا مُجْمَعٌ عليه، وقد حَكى الإجماعَ غيرُ واحد. * الدليل الأول: قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النبِي وَيَقُولونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لكُمْ} [التربة: 61] إلى قوله تعالي: (وَالَّذينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ الله لَهُمْ عَذَاب أَلِيٌم} إلى قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَن لَهُ نَارَ جَهَنمَ} [التوبة: 63]. فعُلم أن إيذاءَ رسولِ الله محادَّةٌ لله ولرسوله؛ لأن ذِكْرَ الإيذاءِ هو الذي اقتَضى ذِكرَ المحادَّة، فيجبُ أن يكون داخلاً فيه، ولولا ذلك لم يكنِ الكلامُ مؤتلِفًا إذا أمكن أن يقال: "إنه ليس بمحادٍّ"، ودَل ذلك على أن الإيذاءَ والمحادَّةَ كفر؛ لأنه أخبَرَ أن له نارَ جهنم خالدًا فيها، ولم يقل: "هي جزاؤه"، وبَينَ الكلامين فَرْق، بل المحادَّة هي المعاداةُ والمشاقَّة، وذلك كفر ومُحاربة؛ فهو أَغْلَظُ من مجردِ الكفر، فيكون المؤذِي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كافراً، عدوًّا للهِ ورسوله، محاربًا لله ورسوله؛ لأن المحادَّة اشتقاقُها من "المباينة" بأن يصيرَ كلُّ واحد منهما في حدٍّ، كما قيل: "المشاقَّة: أن يصيرَ كلٌّ منهما في شِقٍّ، والمعاداة: أن يصيرَ كل منهما في عُدْوةٍ" (¬1). • وفي الحديث: أن رجلاً كان يسبُّ النَبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مَنْ يَكْفِيِني ¬

_ (¬1) عُدوة: بالضم والكسر، أي: جانب الوادي وحافته، وقيل: المكان المرتفع. انظر "النهاية" لابن الأثير (3/ 194)، "لسان العرب" (5/ 2850) عدا.

عَدُوِّي؟ " (¬1)، وهذا ظاهرٌ. وحينئذٍ فيكونُ كافرًا حلالَ الدم؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} [المجادلة:. 2]. ولو كان مؤمنًا معصومًا لم يكنْ أذلَّ؛ لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، وقوله: {كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [المجادلة: 5]. المؤمنُ لا يُكبت كما كُبت مُكذِّبو الرسلِ قط، ولأنه قد قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]. ¬

_ (¬1) من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (5/ 237 - 9477، 5/ 307 - 9704) ولفظه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم -سبه رجل من المشركين، فقال:" من يكفبني عدوِّي؟ " فقال الزبير: أنا، فبارزه الزبير فقتله، فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - سَلَبه". وينظر: "حلية الأولياء" (8/ 45)، وقال عَقِبه: "غريب من حديث إبراهيم لم نكتبه إلا من هذا الوجه". وروى ابن حزم في "المحلى" (11/ 413) مسألة رقم (2308) حديثًا مسندًا بلفظ: "منَ يكفيني عدوًّا لي؟ ". وهو بتمامه كما يأتي: "حدثنا حمامٌ، نا عباس بن أصبغَ، نا محمدُ بن عبد الملك بنِ أيمن، نا أبو محمد حَبيبٌ البخاري -هو صاحبُ أبي ثور ثقة مشهور-، نا محمدُ بنُ سَهل: سمعتُ علي بنَ المَديني يقول: "دخلتُ على أميرِ المؤمنين، فقال لي: أتعرفُ حديثًا مسندًا فيمن سَبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيُقتل؟ قلت: نعم. فذكرتُ له حديثَ: عبدِ الرزاقَ، عن مَعْمَر، عن سِماكِ بنِ الفضل، عن عُروةَ بنِ محمدٍ، عن رجل من بلقين قال: "كان رجلٌ يشتمُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من يكفيني عدوًّا لي؟ " فقال خالدُ بن الوليد: أنا، فبَعَثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه فقتله"، فقال أميرُ المؤمنين: ليس هذا مُسنَدًا؛ هو عن رجل، فقلت: يا أميرَ المؤمنين، بهذا يُعرفُ الرجل، وهو اسمُه، قد أتى النبي- صلى الله عليه وسلم - فبايعه، وهو مشهورٌ معروف. قال: فأمَرَ لي بألفِ دينار". قال أبو محمد -رحمه الله-: "هذا حديث مسندٌ صحيح، وقد رواه علي بنُ المَديني عن عبد الرزاق، وهذا رجلٌ من الصحابة معروفٌ اسمه الذي سمَّاه به أهلُه، رجلٌ من بلقين"أ. هـ.

فإذا كان مَن يُوَادُّ المحادَّ ليس بمؤمنٍ، فكيف بالمحادِّ نفسه؟!! فالمحادُّ كافرٌ حلالُ الدم. * وأيضًا، فقد قال سبحانه وتعالى: {وَلَوْلا أَن كتَبَ اللهُ عَلَيْهِم الْجَلاءَ لَعَذَّبَهمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِاَنَّهمْ شَاقوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاق اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 3 - 4]. فجَعَل سببَ استحقاقِهم العذابَ في الدنيا ولعذابِ النارِ في الآخرة هو مُشَاقَّةَ اللهِ ورسوله، والمؤذِي لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مُشَاقٌّ لله ورسوله، والعذابُ هنا هو الإهلاكُ بعذابٍ من عنده، أو بأيدينا، وإلا فقد أصابهم ما دون ذلك من ذَهَابِ الأموالِ وفِراقِ الأوطان. * وقال سبحانه: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} إلى قوله: {سألْقِي فِي قلُوبِ الَذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبوا فَوْاقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَان (12) ذَلِكَ بِأنَّهمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 12 - 13]. فجَعَل إلقاءَ الرُّعبِ في قلوبِهم والأمرَ بقتلِهم لأجل مشاقَّتِهم لله ورسوله، فكلُّ مَنْ شاقَّ الله ورسولَه يستوجبُ ذلك، والمؤذِي للنبيِّ مشاقٌّ للهِ ورسولِه، فيستحقُّ ذلك. وقولهم: {هُوَ أُذُنٌ} [التوبة: 61]. ° قال مجاهد: {هوَ أُذُنٌ}: "يقولون: سنقول ما شئْنَا، ثم نَحلفُ له فيصدقنا" (¬1). ° وقال الوالبي (¬2) عن ابن عباس:"يعني أنه يَسمعُ من كلِّ أحدٍ" (¬3). ¬

_ (¬1) "تفسير مجاهد" (ص 283)؛ وعنه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (10/ 169). (¬2) هو التابعي الجليل: سعيد بن جُبيَر بن هشام الأسدي الوالبي. (¬3) "تفسير الطبري" (10/ 168)، و"تفسير ابن عباس ومرويَّاته في التفسير" (1/ 465).

° قال بعضُ أهل التفسير: "كان رجالٌ من المنافقين يؤذون رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ويقولون ما لا ينبغي، فقال بعضُهم: لا تفعلوا؛ فإنا نخافُ أن يَبلُغَه ما تقولون فيقعَ بنا، فقال الجُلاَّس (¬1): بل نقول ما شئنا، ثم نأتيه فيُصدِّقُنا، فإنما محمدٌ أذُنٌ سامعة .. فأنزل الله هذه الآية" (¬2). ° وقال ابنُ إسحاق: "كان نَبْتَلُ بنُ الحارث (¬3) الذي قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فيه: "مَنْ أَرَادَ أنْ ينظُرَ إلى الشَّيْطَانِ، فَليَنْظُرْ إلى نَبْتَلِ بنِ الحَارِثِ" يَنِمُّ (¬4) حديثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المنافقين، فقيل له: لا تَفْعَلْ، فقال: إنما محمدٌ أُذُن، مَنْ حَدَّثه شيئًا صدَّقه، نقول ما شِئنا، ثم نأتيه فنَحلِفُ له، فيُصدِّقُنا عليه .. فأنزل الله هذه الآية" (¬5). ¬

_ (¬1) هو الجلاس بن سويد بن الصامت الأنصاري الأوسي، ثم من بني عمرو بن عوف، كان من المنافقين ومن المتخلفين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تبوك، ثم تاب وحسنت توبته. انظر "أسد الغابة" (1/ 346)؛ "الإصابة" (1/ 252). (¬2) انظر "أسباب النزول" للواحدي (ص 204)، "زاد المسير" لابن الجوزي (3/ 460)، "الدر المنثور" (4/ 10/ 227)، "لباب النقول" للسيوطي (ص 119). (¬3) هو نَبْتَل بن الحارث، أخو بني عمرو بن عوف، كان رجلاً جسيمًا ثائر شعر الرأس واللحية، آدم -أسمر- أحمر العينين، أسفع الخدين مشوّه الخلقة. ذكره "الطبري" (10/ 168)، و"القرطبي" (8/ 192) في تفسيرهما. (¬4) نَمَّ الحديث، يَنِمُّه نمًّا فهو نمام، والاسم: النميمة، وهي نقل الحديث من قوم إلى قوم على جهة الإفساد والشر. انظر "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 120) (نمم). (¬5) انظر "تفسير الطبري" (10/ 168)؛ و"أسباب النزول" للواحدي (ص 204)؛ و"زاد المسير" لابن الجوزي (3/ 460)، وأورده السيوطي في "الدر المنثور" (4/ 10/ 227)، وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

الدليل الثاني

° وقولهم: {هُوَ أُذُنٌ} قالوه لِيُبيِّنوا أن كلامَهم مقبولٌ عنده، فأخبَرَ اللهُ أنه لا يُصدِّقُ إلاَّ المؤمنين، وإنما يَسمعُ الخَبَرَ، فإذا حَلَفوا له فعفا عنهم، كان ذلك لأنه أُذُنُ خير، لا لأنه صدَّقهم. ° قال سفيانُ بن عُيَيْنَة:"أُذُنُ خيرٍ يَقبلُ منكم ما أظهرتُم مِن الخير ومِن القول، ولا يؤاخِذُكم بما في قلوبِكم، ويَدَعُ سرائرَكم إلى الله وربما تَضَمَّنت هذه الكلمةُ نوعَ استهزاءٍ واستخفاف". * الدليل الثاني: قوله سبحانه: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 64 - 66]. وهذا نصٌّ في أن الاستهزاءَ بالله وبآياتِه وبرسولِه كفر، فالسبُّ المقصودُ بطريق الأَوْلى. وقد دلَّتْ هذه الآيةُ على أنَّ كلَّ مَنْ تنقَّصَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - جادًّا أو هازلاً فقد كفر. ° وقد رُوي عن رجالٍ من أهل العلم -منهم ابنُ عمرَ ومحمدُ بنُ كعبٍ وزيدُ بنُ أسلمَ وقَتَادة- دخل حديثُ بعضِهم في بعض، أنه قال رجل من المنافقين (¬1) في غزوةِ تبوك: "ما رأيت مثل قُرَّائِنا هؤلاء أرغبَ بطونًا، ولا أكذبَ ألْسُنًا، ولا أجْبَنَ عند اللقاء، يعني رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه القُرَّاء، ¬

_ (¬1) يقال له: مُخَشِّن بن حُمَيْر: رجل من بني أشجع حليفٌ لبني سلمة (حليف الأنصار)، قاله ابن إسحاق، وقال ابن هشام (4/ 524): "ويقال: مَخْشِيٌّ"، وقال خليفة بن =

فقال له عَوْفٌ بن مالكٍ: كذبتَ، ولكنك منافق، لأُخبِرَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فذهب عوفٌ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ليُخبِرَه، فوجدَ القرآنَ قد سَبَقه، فجاء ذلك الرجلُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ارتَحَل وركِبَ ناقته، فقال: يا رسولَ الله، إنما كنا نَلْعَبُ ونتحدَّثُ حديثَ الرَّكْبِ نَقْطَع به عناءَ الطريق. ° قال ابنُ عمر: "كأني أنظُر إليه متعلقًا بِنِسْعةِ (¬1) ناقةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وإن الحجارة لَتنكُبُ رِجليه وهو يقول: إنما نخُوضُ ونلعب، فيقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} [التربة: 65]. ما يلتفتُ إليه، وما يَزيدُه عليه" (¬2). ¬

_ = خياط في "تاريخه" (ص 114): "اسمه مخاش الحِمْيري"، وقال ابن حجر في" الإصابة" (6/ 71، 79) مخاشن ثم قال: "وجزم ابن فتحون بأنه مخشي "، وذكروا أنه كان ممن عُفي عنه، فقال: يا رسول الله: غيِّر اسمي واسم أبي، فسماه عبد الله بن عبد الرحمن، فدعا عبدُ الله ربَّه أن يقتل شهيدًا حيث لا يُعَلَم به، فقُتل يوم اليمامة، ولم يُعلمْ له أثر. (¬1) نِسْعة: بكسر النون وسكون المهملة: حبل يشد به الرحل، ولا يطلق على الزمام. قال فيإ القاموس" (3/ 88): "النسع -بالكسر-: سير ينسج عريضًا على هيئة أعِنَّة النِّعال، تُشَد به الرحال، والقطعة منه نِسْعة، وسمي نِسْعاً لطوله"، وينظر "لسان العرب" (7/ 4410) (نسع). (¬2) هذا الأثر ذكره "المصنف" مجموعًا من رواية ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة. فأما أثر ابن عمر: فقد رواه ابن جرير الطبري (10/ 172)، وقال عنه السندي: "وسنده حسن لغيره؛ لأن فيه عبد الله بن صالح كاتب ليث بن سعد، وهو صدوق كثير الغلط كما في "تقريب التهذيب" (ص 308). وله شواهد ومتابعات أخرجها ابن جرير عن قتادة وعكرمة مولى ابن عباس وعن مجاهد بن جبر المكي". ورواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (4/ 63) وقال عنه الوادعي: "ورجالُ سنده رجال الصحيح إلا هشام بن سعد، فلم يخرج له مسلم إلا في الشواهد كما في "ميزان الاعتدال" (4/ 299)، وقد نسب السيوطي في "الدر المنثور" (4/ 10/ 230) إخراج =

الدليل الثالث

فهؤلاء لَما تنقَّصوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، حيث عابوه والعلماءَ من أصحابه، واستهانوا بخبره، أخبَرَ الله أنهم كفروا بذلك، وإن قالوه استهزاءً، فكيف بما هو أغلَظُ من ذلك؟ وإنما لم يُقِم الحدَّ عليهم لكونِ جهادِ المنافقين لم يكن قد أُمِرَ به إذ ذاك، بل كان مأمورًا بأن يَدَعَ أذاهم؛ ولأنه كان له أن يعفوَ عمَّن تنقَّصه وآذاه (¬1). * الدليل الثالث: قوله سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58]. واللمزُ: العيبُ والطعن (¬2)، قال مجاهد: "يتَّهمُك يسألك يزْراك" (¬3). وقال عطاء: "يَغتَابُك". * وقال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة: 61] الآية. وذلك يدلُّ على أن كلَّ مَنْ لَمَزه أو آذاه كان منهم؛ لأنَّ {الَّذِينَ} و {وَمَن} اسمان موصولانِ، وهما مِن صِيَغ العموم، والآية وإن كانت ¬

_ = هذه الرواية إلى أبي الشيخ وابن مردويه. وينظر: "تفسير القرطبي" (8/ 196)، و" أسباب النزول" للواحدي (ص 205)، و"لباب النقول" للسيوطي (ص 119). وأما رواية محمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة. فهي معروفة لكن بغير هذا اللفظ وقد أخرجها ابن جرير الطبري (10/ 172)، وهي مرسلة. ينظر: "الصحيح المسند من أسباب النزول" للوادعي (ص 77 - 78)، و"الذهب المسبوك" للسندي (ص 144). (¬1) قال الله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، وقال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13]. (¬2) انظر "تفسير الطبري" (10/ 155)، و"أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 956)، و"تفسير ابن كثير" (2/ 363)، و "الدرّ المنثور" (4/ 10/ 219). (¬3) زَرَى: عابه وعاتبه، والإزراء: التهاون بالشيء، انظر "اللسان" (3/ 1830) زرى.

الدليل الرابع

نزلت بسبب لَمْزِ قَوْمٍ وأذى آخَرِين، فحُكمُها عامٌّ كسائِر الآيات اللواتي نزلْنَ على أسباب، وليس بين الناس خلافٌ نعلمُه أنها تعمُّ الشخصَ الذي نزلت بسببه ومَنْ كان حالُه كحاله، ولكن إذا كان اللفظُ أعمَّ من ذلك السبب، فقد قيل: "إنه يَقتصِرُ على سببه". والذي عليه جماهيرُ الناس أنه يجبُ الأخْذ بعموم القول، ما لم يَقُمْ دليلٌ يوجبُ القَصْرَ على السبب. وأيضًا، فإن كَوْنَه منهم حُكمٌ معلَّقٌ بلفظٍ مشتقٍّ من اللمز والأذى، وهو مناسبٌ لكونه منهم؛ فيكونُ ما منه الاشتقاقُ هو علَّةً لذلك الحكمِ، فيجب اطِّرَادُه. وأيضًا، فإن هذا القولَ مناسبٌ للنفاق؛ فإن لَمْزَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأذاه لا يفعلُه مَنْ يعتقدُ أنه رسولُ الله حقًّا، وأنه أَوْلى به من نَفْسه، وأنه لا يقولُ إلاَّ الحق، ولا يَحكمُ إلاَّ بالعدل، وأن طاعتَه طاعةٌ لله، وأنه يجبُ على جميعِ الخلق تعزِيرُه وتوقيره، وإذا كان دليلاً على النفاق نفسِهِ، فحيثما حَصَل حَصَل النفاق. * الدليل الرابع: قوله سبحانه وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. أقْسَمَ سبحانه بنفسهِ أنهم لا يؤمنون حتى يحكِّموه في الخصومات التي بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم ضيقًا من حكمه، بل يُسلِّموا لِحكمِهِ ظاهرًا وباطنًا. * وقال قبل ذلك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ومَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن

الدليل الخامس

يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صدُودًا} [النساء: 60 - 61]. فبيَّن سبحانه أن مَنْ دُعي إلى التحاكمِ إلى كتاب الله وإلى رسوله، فصدَّ عن رسوله كان منافقًا. * وقال سبحانه: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 47 - 51]. فبيَّن سبحانه أن مَن تولَّى عن طاعةِ الرسول وأعرض عن حُكمه فهو من المنافقين، وليس بمؤمن، وأن المؤمنَ هو الذي يقول: "سمعنا وأطعنا"؛ فإذا كان النفاقُ يَثبُتُ، ويَزولُ الإيمانُ بمجردِ الإعراضِ عن حُكمِ الرسول وإرادة التحاكمِ إلى غيره، مع أن هذا تركٌ محض، وقد يكون سببُه قوةَ الشهوة، فكيف بالتنقُّصِ والسبِّ ونحوه؟. * الدليل الخامس: ما استَدلَّ به العلماءُ على ذلك: قوله سبحانه: {إِنَّ الَذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسولَة لَعَنَهُمُ الله فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا (57) وَالَذِينَ يُؤْذونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} [الأحزاب: 57 - 58] الآية.

° ودلالتها من وجوه: أحدها: أنه قَرَن أذاه بأذاه، كما قَرَن طاعتَه بطاعته، فمَن آذاه فقد آذى الله تعالى، وقد جاء ذلك منصوصًا عنه، ومَن آذى اللهَ فهو كافرٌ حَلالُ الدَّمِ، يبِّينُ ذلك أن الله تعالى جَعَل محبةَ الله ورسولِه، وإرضاءَ الله ورسولهِ، وطاعةَ الله ورسوله شيئًا واحدًا. * فقال تعالى: {قلْ إِن كَانَ آبَاؤكمْ وَأَبْنَاؤُكمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتكمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتموهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كسَادَهَا وَمَسَاكِن تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسولِهِ} [التوبة: 24]. * وقال: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران: 132] في مواضع متعددة، وقال تعالى: {وَالله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضوهُ} [التوبة: 62]. فوحَّدَ الضميرَ، وقال أيضًا: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعونَ اللهَ} [الفتح: 10]، وقال أيضًا: {يَسْألُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1]. * وجَعل شِقَاقَ اللهِ ورسولِه، ومحادَّةَ الله ورسوله، وأذى اللهِ ورسولِه، ومعصيةَ الله ورسوله شيئًا واحدًا. * فقال: {ذَلِكَ بِأنَّهمْ شَاقوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسولَهُ} [الأنفال: 13]. * وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يحَادُّونَ اللهَ وَرَسولهُ} [المجادلة: 20]. * وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 63]. * وقال: {وَمن يَعْصِ اللهَ وَرَسولَهُ} الآية. [النساء: 14]، و [الأحزاب: 36]، و [الجن: 23].

الدليل السادس

وفي هذا وغيرِه بيانٌ لتلازُم الحقَّين، وأن جهةَ حُرمةِ اللهِ ورسولِه جهةٌ واحدة؛ فمَن آذى الرسولَ فقد آذى اللهَ، ومَن أطاعه فقد أطاع الله؛ لأنَّ الأُمَّةَ لا يَصِلون ما بينهم وبين ربِّهم إلاَّ بواسطة الرسولِ، ليس لأحدٍ منهم طريقٌ غيرُه ولا سببٌ سواه، وقد أقامه اللهُ مَقَام نفسِهِ في أمره ونَهْيه وإخبارِه وبيانه، فلا يجوزُ أن يُفَرَّقَ بين الله ورسوله في شيءٍ من هذه الأمور. وثانيها: أنه فَرَّق بين أذى اللهِ ورسولِه، وبين أذى المؤمنين والمؤمنات، فجَعل هذا قد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا (¬1)، وجَعَل على ذلك لعنتَه في الدنيا والآخرة، وأعدَّ له العذابَ المُهين (¬2) .. ومعلومٌ أن أذى المؤمنين قد يكونُ من كبائرِ الإِثم وفيه الجَلْد، وليس فوق ذلك إلاَّ الكفرُ والقتل. الثالث: أنه ذَكَر أنه لَعَنَهم في الدنيا والآخرة وأعَدَّ لهم عذابًا مهينًا، واللَّعْنُ: الإِبعادُ عن الرَّحمةِ، ومَنْ طَرَده عن رحمته في الدنيا والآخرة لا يكونُ إلاَّ كافرًا، فإنَّ المؤمن يَقرُبُ إليها بعضَ الأوقاتِ، ولا يكون مباحَ الدَّمِ؛ لأن حقْنَ الدمِ رحمةٌ عظيمة من الله؛ فلا يَثبُتُ في حقِّه. * الدليل السادس: قوله سبحانه: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كجَهْرِ بَعْضكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]. أي: حَذَرًا أن تَحْبَطَ أعمالُكم، أو خَشْيَةَ أن تحبط أعمالكم، أو كَرَاهةَ أن تحبط، أو مَنْعَ أن تحبط، هذا تقديرُ البصريين، وتقدير الكوفيين: "لِئَلاَّ تَحْبَطَ" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر الأحزاب: 58. (¬2) انظر الأحزاب: 57. (¬3) انظر "تفسير االطبري" (26/ 119)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (7/ 457)، و"تفسير =

فوَجْهُ الدلالة أن الله سبحانه نهاهم عن رفعِ أصواتِهم فوقَ صوته، وعن الجهرِ له كجهرِ بعضِهم لبعضٍ؛ لأنَّ هذا الرفعَ والجهرَ قد يُفْضي إلى حُبُوطِ العمل وصاحبُه لا يشعر؛ فإنَّه عَلَّلَ نَهْيَهم عن الجهرِ وتركَهم له بطَلَبِ سلامةِ العملِ عن الحبوط، وبَيَّن أن فيه من المَفْسَدَةِ جوازَ حبوطِ العمل وانعقادَ سبب ذلك، وما قد يُفْضِي إلى حُبوطِ العمل يجب تركُه غايةَ الوجوبِ، والعملُ يَحْبَطُ بالكفر. * قال سبحانه: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَاُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217]. * وقال تعالى: {وَمَن يَكْفرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُةُ} [المائدة:5]. * وقال: {وَلَوْ أَشْرَكوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88]. * وقال: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]. * وقال: {ذَلِكَ بِاَنَّهمْ كرِهُوا مَا أَنزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9]. * وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهم اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكرِهوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28]. * كما أن الكفر إذا قَارَنه عمل، لم يُقْبل؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمتَّقِينَ} [المائدة: 27]. * وقوله: {الَّذِينَ كفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 1]. ¬

_ = القرطبي" (16/ 306).

الدليل السابع

* وقوله: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسولِهِ} [التوبة: 54]. وهذا ظاهرٌ، ولا تَحْبطُ الأعمالُ بغير الكفر؛ لأن مَنْ مات على الإيمان، فإنَّه لاُبدَّ أن يدخلَ الجنةَ ويخرجَ من النار إنْ دَخَلَها، ولو حَبِطَ عملُه كلُّه لم يدخلِ الجنةَ قط، ولأن الأعمالَ إنما لُحْبِطها ما ينافيها، ولا يُنافي الأعمالَ مطلقًا إلا الكفرُ، وهذا معروف من أصول أهل السنة. * نعم قد يَبطُلُ بعضُ الأعمال بوجودِ ما يفسده، كما قال تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة: 264]، ولهذا لم يُحبِطِ اللهُ الأعمالَ في كتابه إلاَّ بالكفر. فإذا ثَبَتَ أن رَفْعَ الصوتِ فوقَ صوتِ النبيِّ والجَهْرَ له بالقول يُخافُ منه أن يكفرَ صاحبُه وهو لا يشعر ويَحْبَطَ عَمَلُه بذلك، وأنه مَظِنَّةٌ لذلك وسببٌ فيه؛ فمِن المعلوم أن ذلك لِمَا ينبغي له - صلى الله عليه وسلم - من التعزيرِ والتوقيرِ والتشريفِ والتعظيمِ والإكْرامِ والإجْلال. * الدليل السابع: قولُه سبحانه: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. أَمَرَ مَن خالف أمرَه أن يحذَرَ الفتنةَ، والفتنة: الردَّةُ والكفر (¬1). ¬

_ (¬1) للإمام أحمد كتاب بعنوان "طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولعل هذه الرواية تكون منه. وقد ذُكر هذا الكتاب في "المسودة" (ص 14)، "طبقات المفسرين" للداودي (1/ 71). وقد جاء في "مسائل الإمام أحمد" برواية عبد الله "باب طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -" (3/ 1355): "حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: ذكر الله =

* قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]. * وقال: {وَالْفِتْنَة أَكبَر مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217]. * وقال: {وَلَوْ دُخِلَتْ علَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا} [الأحزاب: 14]. * وقال: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فتِنوا} [النحل: 110]. ° قال الإمامُ أحمد في روايةِ الفضلِ بن زياد: "نظرتُ في المصحف فوجدتُ طاعَةَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثةٍ وثلاثين موضعًا"، ثم جعل يتلو: {فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور: 63] الآية. * وجعل يُكرِّرها ويقول: "وما الفتنة؟ الشرك، لعلَّه إذا ردَّ بعضَ قولِه أن يَقَعَ في قلبه شيء من الزيغ فيزيغَ قلبُه فيُهلِكَه"، وجعل يتلو هذه الآية: {فَلا وَرَبِّكَ لا يؤْمِنُونَ حَتَّى يحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]. ° وقال أبو طالب المُشْكَاني -وقيل له: "إن قدمًا يَدَّعون الحديثَ ويذهبون إلى رأيِ سفيانَ وغيره فقال: أعْجَبُ لقومٍ سمعوا الحديثَ وعرفوا الإسنادَ وصحته، يَدَعُونَهُ ويذهبون إلى رأيِ سفيانَ وغيره! قال الله: {فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِه أَن تصيبَهُمْ فتْنَةٌ أَوْ يُصيبَهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ} [النور: 63]، وتدري ما الفتنة؟ الكفر، قَال الله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكبر مِن ¬

_ = تبارك وتعالى طاعة رسول الله عليه السلام في القرآن في غير موضع -فذكرها أبي كلها أو عامها فلم أحفظ، فكتبتها بعد من كتابه" اهـ. يعني: من كتاب "طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للإمام أحمد المذكور آنفًا. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد أمر بطاعة الرسول في نحو أربعين موضعًا"اهـ. ثم سَرَد بعضها. "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" (1/ 4، 67)، (19/ 83).

الدليل الثامن

الْقَتْلِ}، فَيَدَعُونَ الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،وتَغلِبُهم أهواؤهم إلى الرأي". فإذا كان المخالِفُ عن أمره قد حُذِّر من الكفرِ والشرك، أو من العذابِ الأليم، دلَّ على أنه قد يكونُ مفضِيًا إلى الكفر أو إلى العذاب الأليم، ومعلومٌ أن إفضاءَه إلى العذاب هو مُجَرَّدُ فعل المعصية، فإفضاؤه إلى الكفر إنما هو لِمَا قد يَقترنُ به من استخفافٍ بحقِّ الآمر، كما فَعَلَ إبليس، فكيف بما هو أغلظُ مِن ذلك كالسبِّ والانتقاصِ ونحوه؟. وهذا بابٌ واسع، مع أنه بحمدِ الله مُجْمَع عليه، لكن إذا تَعدَّدَتِ الدلالاتُ تعاضَدَتْ على غِلَظِ كُفرِ السابِّ وعِظَمِ عقوبته، وظَهَر أنَّ تركَ الاحترام للرسول وسُوءَ الأدبِ معه مما يُخاف معه الكفرُ المُحبِطُ، كان ذلك أبْلَغَ فيما قصدنا له. ومما ينبغي أن يُتَفَطَنَ له أن لفظ "الأذى" في اللُّغة هو لِمَا خفَّ أمرُه وضعف أثرُه من الشرِّ والمكروه -ذَكَره الخطَّابي وغيره-، وهو كما قال (¬1)، فإن استقراء موارده يدلُّ على ذلك. فعُلِم أن قليلَ ما يُؤذيه يكَفَّر به صاحبُه ويُحِلُّ دَمَه. * الدليل الثامن: أن الله سبحانه قال: {وَمَا كانَ لَكُمْ أَن تؤْذوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَه مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكمْ كَانَ عِندَ اللهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53]. فحَرَّم على الأُمَّةِ أن تَنكِحَ أزواجَه من بعده؛ لأنَّ ذلك يُؤْذيه، وجَعَله ¬

_ (¬1) انظر "تاج العروس" (10/ 13)، وفيه نقل قول الخطَّابي.

عظيماً عند الله تعظيمًا لحرمته، وقد ذُكر أن هذه الآية نزلَتْ لَمَّا قال بعضُ الناس: "لو قد تُوُفِّي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - تَزوَّجتُ عائشة". ثم إنْ مَنْ نكح أزواجَه أو سَرَاريه، فإن عقوبتَه القتلُ، جزاءً له بما انتهك من حرمته، فالشاتِمُ له أولى. والدليل على ذلك ما رَوَىَ مسلم في "صحيحه" عن زُهَيْر، عن عَفَّان (¬1)، عن حَمَّاد، عن ثابتٍ، عن أنس أن رجلاً كان يُتَّهَمُ بأمِّ ولدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعليٍّ: "اذْهَبْ فَاضْرِبْ عُنُقَه"، فأتاه عليٌّ فإذا هو في رَكِيٍّ (¬2) يتبرَّدُ، فقال له عليٌّ: اخرُجْ .. فناوَلَه يَدَه، فأخرجه، فإذا هو، مَجْبُوبٌ ليس له ذَكَر، فكفَّ علي، ثم أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنه لمجبوبٌ، ما له ذَكَر". فهذا الرجلُ أمَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بضربِ عُنقِه لِمَا قد استحلَّ من حُرمته، ولم يأمرْ بإقامةِ حدِّ الزنى، لأنَّ حدَّ الزنى ليس هو ضربَ الرقبة، بل إن كان مُحْصَنًا رُجِمَ، وإن كان غيرَ محصن جُلد، ولا يقامُ عليه الحدُّ إلاَّ بأربعةِ شهداءَ، أو بالإقرارِ المعتبر، فلمَّا أمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بضربِ عُنقه من غيرِ تفصيلٍ بَيْنَ أن يكون مُحصَنًا أو غيرَ محصن، غلم أن قتلَه لِمَا انتَهَكه من حُرمته، ولعله قد شَهِد عنده شاهدان أنهما رَأيَاه يباشِرُ هذه المرأة، أو شَهِدا بنحو ذلك، فأمر بقتله، فلما تبيَّن أنه كان مَجْبُوبًا، عَلم أن المفسدةَ مأمونةٌ منه. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (22/ 40)، و"زاد المسير" (6/ 416)، و"تفسير ابن كثير" (3/ 505)، و"الدر المنثور" للسيوطي. (¬2) الرَّكِيُّ: جنس للرَّكِيَّة، وهو البئر، وجمعها رَكايا. انظر "النهاية" لابن الأثير (ركا) (2/ 261).

° ويدلُّ على ذلك أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تزوَّجَ قَيْلَةَ بنتَ قَيْسِ بنِ مَعْدِي كرب -أختَ الأشعث-، ومات قبلَ أن يَدْخُل بها، وقبل أن تَقْدَمَ عليه (¬1)، وقيل: إنه خَيَّرها بين أن يضربَ عليها الحجابَ وتَحرُمَ على المؤمنين، وبين أن يُطَلقها فتنكحَ مَنْ شاءت، فاختارت النكاحِ، قالوا: فلما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوَّجها عِكْرِمةُ بنُ أبي جَهْل بحَضْرَمَوْت، فبلغ أبا بكر، فقال: "لقد هممتُ أن أحرقَ عليهما بيتَهما"، فقال عمرُ: "ما هي مِن أمهات المؤمنين، ولا دَخَل بها، ولا ضَرَبَ عليها الحجاب". وقيل: إنها ارتَدَّتْ. فاحتجَّ عمرُ على أبي بكر أنها ليست من أزواجِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بارتدادها (¬2). ° فوجهُ الدلالة: أن الصدِّيق - رضي الله عنه - عَزَم على تحريقها وتحريقِ مَنْ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في "الإصابة" (8/ 174): أخرج أبو نعيم من طريق إسحاقَ بنِ إبراهيم بن حَبيب الشهيدي، عن عبد الأعلى، عن داود بن أبي هندٍ، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوَّج قَيلةَ أختَ الأشعث، ومات قبلَ أن يُخيِّرها"، قال الحافظ: "وهذا موصول قوي الإسناد". (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (22/ 41) وعنه ابن كثير في "تفسيره" (3/ 506) عند تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53]. قال ابن جرير الطبري: "حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الوهَّاب، قال: ثنا داودُ، عن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات وقد مَلَك قَيلةَ بنتَ الأشعث، فتزوَّجها عكرمةُ بنُ أبي جهل بعد ذلك، فشَقَّ على أبي بكر مشقةً شديدة، فقال له عمر: يا خليفةَ رسول الله، إنها ليست من نسائه، إنها لم يُخيِّرها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يَحجُبْها، وقد برأَها منه بالردَّة التي ارتدَّت مع قومها، فاطمأن أبو بكر وسكن. ينظر: "طبقات ابن سعد" (8/ 147)، "المستدرك" (4/ 38)، "أسد الغابة" (7/ 240)، "الإصابة" (8/ 174).

الأدلة من السنة

تزوجها، لِمَا رأى أنها مِن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى ناظَرَه عمرُ أنها ليست من أزواجه، فكفَّ عنهما لذلك، فعُلم أنهم كانوا يَرَوْنَ قَتْلَ مَنِ استَحلَّ حُرمةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. ° ولا يقال: "إن ذلك حدُّ الزنى؛ لأنَّها كانت تكونُ محرمةً عليه، ومَنْ تَزَوَّجَ ذاتَ مَحْرمٍ حُدَّ حَدَّ الزنى أو قُتل"؛ لوجهين: أحدهما: أن حَدَّ الزنى الرجْمُ. الثاني: أن ذلك الحدَّ يفتقر إلى ثبوت الوطْءِ ببيِّنةٍ أو إقرار، فلمَّا أراد تحريقَ البيتِ مع جوازِ ألاَّ يكونَ غَشِيَها، علم أن ذلك عقوبةٌ لِمَا انتَهكه من حُرمةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * الأدلة من السُّنَّة: الحديث الأول: ما رواه الشَّعْبيُّ عن عليٍّ: "أن يهوديةً كانت تَشْتُم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتَقَعُ فيه، فخَنَقها رجلٌ حتى ماتت، فأَبْطَل (¬1) رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم - دمها". هكذا رواه أبو داود في "سُنَنه" (¬2)، وابنُ بَطَّة في "سننه"، وهو من جُملة ما استدلَّ به الإمامُ أحمدُ في روايةِ ابنه عبد الله، وقال: ثنا جرير عن مغيرة، عن الشَّعبيِّ قال: كان رجلٌ من المسلمين -أعني: أعمى- يأوِي إلى امرأةٍ يهودية، فكانت تُطْعِمُه وتُحسِنُ إليه، فكانت لا تزالُ تَشتمُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أبْطل: أي: أهدر "لسان العرب" (1/ 302) (بطل). (¬2) إسناده جيد: رواه أبو داود في "سننه" -كتاب الحدود- باب فيمن سبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - (4/ 530 ح 4362)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 60) و (9/ 200).

الحديث الثاني

وتؤذيه، فلما كان ليلةٌ من الليالي خَنَقَهَا فماتت، فلمَّا أصبح ذُكِرَ ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فَنَشَدَ الناسَ في أمرها، فقام الأعمى، فذَكَر له أمرها، فأبطَلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - دَمَها (¬1). وهذا الحديث نَصٌّ في جواز قتلِها لأجل شَتمِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ودليلٌ على قَتلِ الرجلِ الذِّمّيِّ وقتلِ المسلمِ والمسلمةِ إذا سبَّا بطريق الأَوْلى؛ لأن هذه المرأة كانت مُوَادِعةً مُهَادِنة؛ لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -لَمَّا قَدِمَ المدينةَ وَادعَ جميعَ اليهود الذين كانوا بها مُوَادَعةً مطلقةً، ولم يَضرِبْ عليهم جِزْيَةً، وهذا مشهورٌ عند أهلِ العلم -بمنزِلةِ المتواتر بينهم-، حتى قال الشافعي: "لم أعلَمْ مخالفًا من أهل العلم بالسَّيَرِ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا نَزَل المدينة وادعَ يهودَ كافةً على غيرِ جزية" (¬2). الحديث الثاني: عن عِكْرِمةَ، عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -: "أن أعْمى كانت له أمُّ ولدٍ تَشْتُم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتَقَعُ فيه، فَينْهَاها فلا تَنْتَهِي، ويزجُرُها فلا تنزجر، فلما كان ذات ليلةٍ جَعَلَتْ تقعُ في النبي - صلى الله عليه وسلم - وتشتُمه؛ فأخَذَ المِغْول (¬3) فوضَعَه في بطنها واتَّكَأَ عليها فقتلها، فلما أصبَحَ ذُكِرَ ذلك للنبي ¬

_ (¬1) جيد: الحديث بتمامه رواه الخلال في أحكام أهل الملل":كتاب الحدود- باب فيمن شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - (ق/ 104/ أ)؛ والبيهقي في "السنن الكبرى، مختصرًا (7/ 60)، و (9/ 200) عن الروذباري عن محمد بن بكر عن أبي داود عن عثمان بن أبي شيبة وعبد الله بن الجراح عن جرير به .. وقد ذكر الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (1/ 363) رواية تدل على أن الأعمى هو عبد الله بن أم مكتوم -رضي الله عنه-. وجود إسناده ابن تيمية، والشعبي قد رأى عليًّا. (¬2) انظر "الأم" للشافعي- "الحكم بين أهل الذمَّة" (4/ 222). (¬3) المِغْول: شبيه المشْمل؛ وهو السيف القصير ذو النَّصْل الدقيق الماضي.

- صلى الله عليه وسلم -،فجَمَع الناسَ فقال: "أنْشُدُ اللهَ رَجُلاً فَعَلَ ما فَعَلَ لِي عَلَيْهِ حَقٌّ إلاَّ قَامَ"، فقام الأعمَى يتخطَّى الناسَ وهو يَتدلدلُ (¬1) حتى قَعَدَ بين يَدَي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، أنا صَاحِبُها، كانت تشتمُك وتَقَعُ فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجُرُها فلا تَنزَجر، ولي منها ابْنَانِ مِثْلُ اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقةً، فلما كان البارحةُ جَعلت تشتُمُك وتقعُ فيك، فأخذتُ المِغْول، فوضعتُه في بطنها واتَّكَأتُ عليه حتى قَتلتُها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألاَ اشْهَدُوا أنَّ دَمَها هَدَرٌ" (¬2). فهذه القصةُ يمكنُ أن تكون هي الأُولى، وعليه يدلُّ كلامُ الإِمام أحمد؛ لأنه قيل له في رواية عبد الله: "في قتل الذمي إذا سَبَّ أحاديث؟ قال: نعم، منها حديثُ الأعْمى الذي قَتل المرأة، قال: سَمِعْتُهَا تَشْتمُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ". ثم روى عنه عبدُ الله كلا الحديثين، ويكون قد خَنَقَها وبَعَجَ بَطْنَهَا ¬

_ (¬1) يتدلدل: أي: يضطرب في مشيته. (¬2) رواه أبو داود في كتاب الحدود -باب الحكم فيمن سب النبي - صلى الله عليه وسلم - (4/ 528 ح 4361) وفيه عبارة: "فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم"، وفي لفظ: "يتخطى الناس وهو يتزلزل"؛ والنسائي في كتاب تحريم الدم -باب الحكم فيمن سب النبي - صلى الله عليه وسلم - (7/ 107)، والدارقطني في كتاب الحدود والديات وغيره (3/ 112 ح 103)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 354)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 60)، و (10/ 131) وعنده بلفظ "المعول" بالعين المهملة في الموضعين وهو تصحيف. الحديث سكت عنه أبو داود، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ ابن حجر في" بلوغ المرام" (ص 255 ح 1230):"رواته ثقات" وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (3/ 824 ح 3665).

الحديث الثالث

بالمِغْول، أو يكون كيفيةُ القتل غيرَ محفوظة في إحدى الروايتين. ويؤيدُ ذلك أن وقوع قِصَّتين مثلِ هذه لأعْمَيَيْنِ كلُّ منهما كانت المرأة تُحسِنُ إليه وتُكَرِّر الشتم، وكلاهما قَتَلها وحده، وكلاهما نَشَدَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فيها الناسَ، بعيدٌ في العادة، وعلى هذا التقدير فالمقتولَةُ يهودية كما جاء مُفَسَّرًا في تلك الرواية، وهذا قولُ القاضي أبي يَعْلَى وغيره، استدلُّوا بهذا الحديث على قتل الذمِّي ونَقْضِه العهدَ، وجعلوا الحديثين حكايةَ واقعةٍ واحدةٍ. ويمكن أن تكون هذه القصَّةُ غيرَ تلك. الحديث الثالث: ما احتَج به الشافعي على أن الذميَّ إذا سبَّ قُتِل وبَرِئت منه الذمة، وهو قصَّةُ كعبِ بن الأشْرَفِ اليهوديِّ. ° قال الخَطَّابيُّ: قال الشافعيُّ: "يُقتل الذميُّ إذا سَبَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وتبرأُ منه الذمَّة"، واحتَج في ذلك بخبرِ كعبِ بنِ الأشرَفِ، وقد مَرَّ حديثُه. والاستدلالُ بقتل كعب بن الأشرف من وجهين: أحدهما: أنه كان مُعاهَدًا مُهَادَنًا، وهذا لا خلافَ فيه بين أهل العلم بالمغازي والسير، وهو عندهم من العلمِ العامِّ الذي يُستغنى فيه عن نقل الخاصة. ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم -، جَعَل كعبَ بنَ الأشرف ناقضًا للعهد بهجائِه وأذاه بِلِسانه خاصة، والدليل على أنه إنما نَقَض العهدَ بذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "مَن لِكعبِ بن الأشرف، فإنه قد آذَى اللهَ ورسولَه". وقوله - صلى الله عليه وسلم -:"لو قَرَّ كما قَرَّ غيرُه مِمَّنْ هو على مثْلِ رأيه ما اغتِيل، ولَكِنَّه نال مِنَّا الأذى وهَجَانا بالشِّعْر، ولَم يَفْعَلْ هذا أحدٌ مِنكم إلاَّ كَان

السيفُ"، نصٌّ أنه إنما انتُقض عهدُ ابن الأشرف بالهجاء ونحوه، وأنَّ من فعل هذا من المعاهَدين فقد استحقَّ السيف. الوجه الثاني: من الاستدلال به: أن النَّفَرَ الخمسة الذين قَتَلوه من المسلمين: محمد بن مَسْلمة، وأبا نائِلة، وعَبَّادَ بن بِشر، والحارثَ بنَ أوس، وأبا عَبْسٍ بن جَبْر، قد أذنَ لهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يغتالوه ويَخْدعُوه بكلامٍ يُظْهرُون به أنهم قد أَمَّنوه ووافقوه، ثم يقتلوه، ومن المعلوم أن مَن أظهَرَ لكافرٍ أمانًا لم يَجُزْ قَتلُه بعد ذلك لأجلِ الكفر، بل لو اعتَقد الكافرُ الحربيُّ أن المسلمَ آمَنَه وكَلَّمه على ذلك صار مستأمَنًا. • قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عنه عَمرُو بنُ الحَمِق: "مَنْ آمنَ رَجُلاً عَلَى دَمِهِ وَمَالِهِ ثُمَ قَتَلَهُ، فَأنَا مِنهُ بَرِيءٌ، وإنْ كَانَ المَقْتُولُ كَافِرًا" (¬1). • وعن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الإيْمانُ قَيَّدَ الفَتْكَ (¬2)، لا يَفْتِكُ ¬

_ (¬1) صحيح: رواه الإِمام أحمد: في "المسند" (4/ 223، 224، 437) بلفظين: الأول: "مَن أمَّن رجلاً على نفسه فقتله أُعطي لواءَ الغْدرِ يوم القيامة". والثاني: "أيُّما مؤمنٍ أمَّن مؤمنًا على دمه فقتله فأنا من القاتل بريء"، ورواه ابن ماجه: في كتاب الديات -باب من أَمنَ رجلاً على دمه فقتله (2/ 896ح 2688)، والطبراني في "المعجم الصغير" (1/ 46 ح 38)، (1/ 350 ح 584)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 353). الحديث قال عنه الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، وقال البوصيري في "الزوائد" على ابن ماجه."وإسناده صحيح ورجاله ثقات"، وقال الهيثمي في"مجمع الزوائد" (6/ 288): "رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات". وصحح إسناده أيضًا الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" (2/ 107ح 2177)، وفي"الصحيحة" (1/ 725ح 440). (¬2) الفتك أي: يأتي الرجل صاحبه وهو غارٌّ غافل، فيشد عليه فيقتله، والغِيلة: أن يخدعه ثم يقتله في موضع خفي. ينظر: "النهاية" لابن الأثير (3/ 409) (فتك). ومعنى "الإيمان قيَّد الفتك"، أي: أن الإيمان يمنعُ من الفتك كما يمنعُ القيدُ عن التصرف، فكأنه =

مُؤمِن" (¬1). وقد زَعم الخَطَّابي (¬2) أنهم إنما فَتكوا به؛ لأنَّه كان قد خَلَع الأمان، ونَقَض العهدَ قبل هذا، وزَعَم أن مِثلَ هذا جائزٌ في الكافرِ الذي لا عَهدَ له كما جاز البَياتُ والإغارة عليهم في أوقات الغِرَّة. لكن يقال: هذا الكلام الذي كَلَّموه به صار مستأمنًا، وأدنى أحواله أن يكون له شُبهةُ أمان، ومِثلُ ذلك لا يجوزُ قتلُه بمجردِ الكفر؛ فإن الأمانَ يَعصِمُ دمَ الحربي ويصيرُ مستأمَنًا بأقلَّ من هذا -كما هو معروف في مواضعه (¬3) -، وإنما قتلوه لأجل هجائِه وأذاه للهِ ورسوله، ومَن حَلَّ قتلُه بهذا الوجه لم يُعصَمْ دمُه بأمانٍ ولا بعهدٍ كما لو آمَنَ المسلمُ مَنْ وجب قتلُه لأجل قطع الطريق ومحاربةِ الله ورسوله والسعيِ في الأرض بالفسادِ الموجِبِ ¬

_ = جعل الفتك مقيدًا، ومنه قولهم في صفة الفرس: "هو قيد الأوابد"، يريدون أنَّه يلحقها بسرعة، فكأنها مقيدة به لا تعدوه. ينظر: "النهاية" (4/ 130) (قيد). (¬1) صحيح: رواه أبو داود: في كتاب الجهاد- باب في العدو يؤتى على غرة ويتشبه بهم (3/ 87ح 2769) عن أبي هريرة. ورواه أحمد: في "المسند" (1/ 166، 167) عن الزبير بن العوام. ورواه أحمد أيضًا في "المسند" (4/ 92)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 352) عن معاوية بن أبي سفيان. قال أبو داود عن حديث أبي هريرة: "في إسناده أسباط بن نصر الهمداني، وإسماعيل بن عبد الرحمن السُّدِّي. وقد أخرج لهما مسلم وتكلم فيهما غير واحد من الأئمة" اهـ. وصحح إسناده الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (2/ 533 ح 2407). وحديث الزبير صحح إسناده أحمد محمد شاكر في شرحه على"المسند" (2/ 3/ 19ح 1426). وحديث معاوية سكت عنه الحاكم، وحسنه السيوطي في "الجامع الصغير" (1/ 124). (¬2) في"معالم السنن" (4/ 82، 83). (¬3) انظر "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى (ص 48).

للقتل، أو آمن مَنْ وجب قتلُه لأجل زِناه، أو آمن مَنْ وجب قتلُه لأجل الرِّدة، أو لأجلِ تركِ أركانِ الإسلام ونحو ذلك، ولا يجوزُ أن يَعقِدَ له عَقدَ عهدٍ، سواءٌ كان عقدَ أمانٍ، أو عَقْدَ هُدنةٍ، أو عَقْدَ ذِمة؛ لأنَّ قتلَه حدٌّ من الحدود، وليس قتلُه لمجردِ كونهِ كافرًا حربيًّا كما سيأتي، وأمَّا الإغارةُ والبياتُ فليس هناك قولٌ أو فعلٌ صاروا به آمنين، ولا اعتَقدوا أنهم قد أُمِنوا، بخلافِ قصةِ كعبِ بنِ الأشرف. فثَبَت أن أذى اللهِ ورسولهِ بالهجاء ونحوِه لا يُحْقَنُ معه الدمُ بالأمان، فلأَن لا يُحْقَنَ معه بالذمةِ المؤَبَّدة والهدنةِ المؤقتةِ بطريقِ الأولى، فإن الأمانَ يجوزُ عقدُه لكلِّ كافر، ويَعقِدُه كلُّ مسلم، ولا يُشترطُ على المستأمَن شيءٌ من الشروط، والذمةُ لا يَعقِدُها إلاَّ الإمامُ، أو نائبُه، ولا تُعقَدُ إلاَّ بشروطٍ كثيرةٍ تُشترطُ على أهل الذمة: مِن التزامِ الصَّغَارِ ونحوه، وقد كان عَرَضَتْ لبعضِ السفهاء شُبْهَةٌ في قتلِ ابنِ الأشرف؛ فظن أن دمَ مثلِ هذا يُعصَمُ بذمةٍ متقدِّمةٍ، أو بظاهرِ أمان، وذلك نظيرُ الشُّبهةِ التي عَرَضت لبعضِ الفقهاء، حتى ظنَّ أن العهدَ لا يُنتقض بذلك، فروى ابنُ وهب: أخبَرَني سفيانُ بنُ عُيَينة عن عُمرَ بنِ سعيد -أخي سفيانَ بنِ سعيدٍ الثوريِّ-، عن أبيه، عن عَبايةَ قال: ذُكر قتلُ ابنِ الأشرف عند معاوية، فقال ابنُ يامين: كان قَتلُه غدرًا، فقال محمدُ بنُ مَسْلَمة: يا معاوية، أيُغَدَّرُ عندك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لا تُنكِر؟ واللهِ لا يُظِلُّني وإياك سقفُ بيت أبدًا، ولا يخلو لي دمُ هذا إلاَّ قتلتُه" (¬1). ¬

_ (¬1) "معالم السنن" للخطَّابي (4/ 82 - 83).

الحديث الرابع

° وقال الواقدي (¬1):"حدثني إبراهيمُ بنُ جعفر، عن أبيه قال: قال مَرْوانُ بنُ الحكم -وهو على المدينة وعنده ابنُ يامين النَّضيري-: كيف كان قتلُ ابن الأشرف؟ قال ابنُ يامين: كان غَدْرًا -ومحمدُ بنُ مسلمةَ جالس شيخٌ كبير-، فقال: يا مروان، أَيُغَدَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عندك؟ واللهِ ما قتلْناه إلاَّ بأمرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، واللهِ لا يؤويني وإياك سقفُ بيتٍ إلاَّ المسجد، وأما أنت يا ابنَ يامين، فللَّهِ عَليَّ، إن أفلتَّ، وقَدَرْتُ عليك وفي يدي سيفٌ، إلاَّ ضربتُ به رأسك. فكان ابنُ يامين لا ينزلُ من بني قريظة حتى يبعثَ له رسولاً ينظرُ محمدَ بنَ مسلمة، فإن كان في بعضِ ضِياعِه نزل فقضى حاجته ثم صَدَر، وإلاَّ لم ينزل، فبينا محمدٌ في جنازةٍ وابنُ يامين بالبقيع، فرأى محمدٌ نعشًا عليه جرائدُ رطبةٌ لامرأة، فجاء فحلَّه، فقام إليه الناس، فقالوا: يا أبا عبد الرحمن ما تصنع؟ نحن نكفيك، فقام إليه، فلم يَزَلْ يضربه بها جريدةً جريدةً حتى كَسَّر ذلك الجريدَ على وجهه ورأسه حتى لم يترك به مَصَحًّا (¬2)، ثم أرسله ولا طَباخَ (¬3) به، ثم قال: واللهِ لو قدرتُ على السيفِ لضربتُك به". الحديث الرابع: ° عن أبي بَرْزَةَ قال: أغلَظَ رجلٌ لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، فقلت: ¬

_ (¬1) "المغازي" للواقدي (1/ 192 - 193). (¬2) مَصَحًّا: يُروى بفتح الصاد وكسرها، والفتح أعْلى، وهي مفْعَلة من الصحة: العافية انظر "النهاية" (3/ 12)، و "لسان العرب" (4/ 2402) (صحح). (¬3) الطَّبَّاخ: القوة .. انظر "القاموس المحيط" (1/ 264).

أقتُلُه؟ فانتهرني وقال: "ليس هذا لأحدٍ بعدَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). ° ورواه أبو داود في "سننه" بإسنادٍ صحيحٍ عن عبد الله بن مُطَرِّف عن أبي برزة قال: "كنتُ عند أبي بكر - رضي الله عنه -، فتغيَّظ على رجل، فاشتدَّ عليه، فقلت: تأذنُ لي يا خليفةَ رسول الله أضربُ عُنقَه. قال: فأذهَبتْ كَلمتي غَضَبَه، فقام فدخل، فأرسل إليَّ فقال: ما الذي قُلْتَ آنفًا؟ قلت: تأذَنُ لي أضْرِبُ عنقه، قال: أكنتَ فاعلاً لو أمرتُك؟ قلت: نعم، قال: لا، واللهِ ما كانت لبشرٍ بعدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬2). ° قال أبو داود في "مسائله" (¬3): "سمعت أبا عبد الله يُسْأل عن حديث أبي بكر "ما كانت لأحدٍ بعد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - "، فقال: "لم يكن ¬

_ (¬1) ينظر: "سنن النسائي": كتاب تحريم الدم -باب الحكم فيمن سب النبي - صلى الله عليه وسلم - (7/ 109)، "مسند الإِمام أحمد" (1/ 9)،"مسائل الإِمام أحمد" برواية ابنه عبد الله (3/ 1292 ح 1795)،"مستدرك الحاكم" (4/ 355)،" السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 60). والحديث صحح إسناده الألباني في "صحيح سنن النسائي" (3/ 854 ح 3795). (¬2) ينظر: "سنن أبي داود": في كتاب الحدود -باب الحكم فيمن سب النبي- صلى الله عليه وسلم - (4/ 530 ح 4363)، وفيه لفظ: "ما كانت لبشر بعد محمد- صلى الله عليه وسلم -.و"سنن النسائي": في كتاب تحريم الدم- باب ذكر الاختلاف على الأعمش في هذا الحديث (7/ 110 - 111) بنفس الطريق وبطرق أخرى أطول من هذا؛ و"المستدرك" للحاكم: في كتاب الحدود (4/ 354) عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن أبى برزة به ... الحديث صحح إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية كما ذُكر آنفاً، وقد قال النسائي عقبه: "هذا الحديث أحسن الأحاديث وأجودها والله تعالى أعلم"، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. وصحح إسناده الألباني أيضًا في "صحيح سنن النسائي" (3/ 824 ح 3666). (¬3) في (ص 226، 227) (باب حد الذمي والعبد).

لأبي بكر أن يقتلَ رجلاً إلاَّ بإحدى ثلاثٍ -وفي رواية: بإحدى الثلاث التي قالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كفرٌ بعد إيمان، وزِنًى بعد إحصان، وقتلُ نفسٍ بغير نفس، والنبي- صلى الله عليه وسلم - كان له أن يَقتل". وقد استَدلَّ به على جواز قتلِ سابِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعاتٌ من العلماء، منهم أبو داود، وإسماعيل بن إسحاق القاضي، وأبو بكر عبد العزيز، والقاضي أبو يَعْلى وغيرُهم من العلماء، وذلك لأن أبا برزةَ لَمَّا رأى الرجل قد شَتَم أبا بكر وأغلَظَ له حتى تغيَّظَ أبو بكر، استأذنه في أن يقتلَه لذلك، وأخبره أنه لو أمره لَقَتَلَه، فقال أبو بكر: "ليس هذا لأحدٍ بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ". فعُلمِ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له أن يقتلَ مَن سَبَّه ومَن أغلَظَ له، وأن له أن يأمرَ بقتلِ مَنْ لا يَعلمُ الناسُ منه سببًا يُبيحُ دمَه، وعلى الناس أن يُطيعوه في ذلك؛ لأنَّه لا يأمرُ إلاَّ بما أَمَر اللهُ به، ولا يأمرُ بمعصيةِ الله قط، بل مَن أطاعه فقد أطاع الله. ° فقد تضمن الحديثُ خَصِيصَتَيْنِ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إحداهما: أنه يُطاعُ في كلِّ مَن أَمر بقتله. والثانية: أنَّ له أَن يَقْتُل مَن شَتَمه وأغلظ له. وهذا المعنى الثاني الذي كان له باقٍ في حقِّه بعد موته؛ فكلُّ من شَتَمه، أو أغلَظَ في حقِّه، كان قَتْلُه جائزًا، بل ذلك بعد موته أَوْكَدُ وَأَوْكَد؛ لأنَّ حُرْمَتَه بعد موته أكملُ، والتساهلَ في عِرْضِه بعد موته غير ممكن. وهذا الحديث يُفيدُ أن سبَّه في الجُملةِ يُبيحُ القتل، ويُستدلُّ بعمومه على قتل الكافر والمسلم.

الحديث الخامس

الحديث الخامس: قِصَّةُ العَصْماءِ بنتِ مروان. • ما رُوي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: هَجَتِ امرأةٌ من خَطْمَةَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "مَنْ لِي بِهَا؟ ". فقال رجل من قومها: أنا يا رسول الله، فنَهَض فقتلها، فأخبَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "لاَ يَنْتَطِحُ فِيْهَا عَنْزَانِ" (¬1). وقد ذكر بعضُ أصحابِ المغازي وغيرُهم قصتَها مبسوطة. ° قال الواقديُّ (¬2): "حدَّثني عبد الله بن الحارثِ بنِ الفضيل، عن أبيه أن عَصْماءَ بنت مَرْوانَ من بني أمية بن زيدِ كانت تحتَ يزيدَ بن زيدِ بن حِصْن الخَطْمِيِّ، وكانت تؤذي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتَعيبُ الإسلام وتُحرِّضُ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقالت شعرًا: فَبِإسْتِ بني مَالكٍ والنَّبِيتِ ... وَعَوفٍ، وبإسْتِ بَني الخزرجِ أطعتم أَتَاوِيَّ (¬3) مِنْ غَيرِكُم ... فَلاَ مِنْ مُرَادٍ ولا مَذحِجِ تُرَجُّونَهُ بعد قَتلِ الرؤوسِ ... كما يُرتَجَى مرَقُ المُنْضَجِ ¬

_ (¬1) روى هذه القصة ابن عدي في "الكامل" (6/ 2156)،والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (13/ 99) مطولة، كلاهما عن محمد بن الحجاج اللخمي عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس به. وقال ابن عدي في آخرها: "قال الشيخ: وهذا الإسناد مثل الإسناد الأول .. ولم يروه عن مجالد غير محمد بن الحجاج وجميعًا مما يُتَّهم محمد بن الحجاج بوضعها" اهـ. وينظر: "العلل المتناهية" لابن الجوزي (1/ 175). ومعنى "لا يَنتطحُ فيها عنزان" أي: لا يلتقي فيها اثنان ضعيفان؛ لأن النِّطاح من شأن التُّيوس والكِباش لا العُنوز، وهو إشارة إلى قضية مخصوصة لا يجري فيها خُلْف ونزاع. ينظر: "النهاية" (5/ 74) (نطح). (¬2) في كتابه "المغازي" (1/ 172 - 174)، "ذكر سريّة قتل عصماء بنت مروان". (¬3) الأتاوي: الغريب، وأرادت به النبي - صلى الله عليه وسلم -.انظر "غريب الحديث" للخطابي (1/ 21) "أتى".

° قال عُمَيْر بن عَدِيٍّ الخَطْميُّ حين بَلَغه قولُها وتحريضها: اللهم إن لك عليَّ نذرًا لئن رَددتَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة لأقتلنَّها- ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ ببدر-، فلما رَجَع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من بدرٍ جاءها عُمَير بن عديٍّ في جوفِ الليل حتى دخل عليها في بيتها وحولَها نفرٌ من ولدِها نيام منهم مَن تُرضِعُه في صدرها، فجَسَّها بيده، فوجد الصبيَّ تُرضِعُه، فنحَّاه عنها، ثم وضع سيفه على صَدرِها حتى أنفذه مِن ظَهرِها، ثم خرج حتى صلَّى الصبحَ مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما انصرف النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى عمير فقال: "أقتلتَ بنت مروان؟ " قال: نعم، بأبي أنت يا رسول الله، وخَشِي عُمير أن يكونَ افتأتَ (¬1) على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلها، فقال: هل عَلَيَّ في ذلك شيءٌ يا رسول الله؟ قال: "لا يَنْتَطِحُ فيْهَا عَنْزَانِ"؛ فإن أولَ ما سُمِعت هذه الكلمة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال عمير: فاَلتفتَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مَنْ حوله فقال:" إذَا أحْبَبْتُم أَنْ تَنْظُرُوا إلى رَجُلٍ نَصَرَ اللهَ وَرَسُولَهُ بِالغَيْبِ، فَانْظُرُوا إلَى عُمَيْر بنِ عَدِيٍّ"، فقال عمرُ بن الخطاب: انظروا إلى هذا الأَعمى الذي تسرَّى (¬2) في طاعةِ الله، فقال: "لا تَقُل الأعمى، ولكنه البصير". فلما رجع عميرٌ من عندِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجد بنيها في جماعةٍ يدفنونها، فأقبلوا إليه حين رأوه مقبلاً من المدينة، فقالوا: يا عميرُ، أنت ¬

_ (¬1) افتأت عليه أي: انفرد برأيه دونه، وهو افتعل من الفوات: السبق. يقال لكل من أحدث شيئًا في أمرك دونك: قد افتأت عليك فيه. وفي "اللسان": افتات أي: استبد برأيه وانفرد، وقد صح الهمز فيها؛ افْتَأَتَ عليَّ ما لم أقل أي: اختلقه. ينظر: "النهاية" (3/ 477) (فوت)؛ "لسان العرب" (6/ 3333) (فأت). (¬2) تسَرَّى: أي: جاءها في جوف الليل. والسُّرَى: سيْرُ الليل.

قتلتَها؟ فقال: نعم، فكيدوني جميعًا ثم لا تُنْظِرُون، فوالذي نفسي بيده لو قلتم بأجمعكم ما قالت، لَضربتُكم بسيفي هذا حتى أموتَ أو أقتلَكم، فيومئذٍ ظهر الإسلامُ في بني خَطْمة، وكان منهم رِجالٌ يَسْتَخْفُون بالإسلام خوفًا من قومهم. ° قال "أنشدنا عبد الله بن الحارث: بَني وَائلٍ وَبَنِي وَاقفٍ ... وَخَطمَة دُوْنَ بَنِي الخَزْرَجِ مَتَى ما دَعَتْ أُخْتُكُمْ وَيْحَهَا ... بِعَوْلَتِهَا (¬1) والمنَايَا تَجِي فَهَزَّتْ فَتًى مَاجِدًا عِرْقُهُ ... كرِيْم المداخلِ وَالمَخْرَجِ فَضَرَّجَهَا (¬2) مِنْ نَجِيع الدِّمَا ... قُبَيْلَ الصَّبَاحِ وَلَمْ تَخرُجِ فَأوْرَدَكَ اللهُ بَرْدَ الجِنَا ... نِ جَذْلاَن في نِعْمَةِ المَوْلِجِ ° قال عبدُ الله بن الحارث عن أبيه: وكان قتلُها لخمسِ ليالٍ بَقِينَ من رمضان مَرجعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - من بدر". وإنما سقنا القصةَ من رواية أهل المغازي -مع ما في الواقدي من الضعف- لشهرةِ هذه القصة عندهم، مع أنه لا يَختلفُ اثنانِ أن الواقدي من أعلمِ الناس بتفاصيلِ أمور المغازي، وأخبَرِ الناسِ بأحوالها، وقد كان الشافعي وأحمدُ وغيرهما يستفيدون عِلْمَ ذلك من كتبه، نعم هذا الباب يَدخلُه خَلْطُ الروايات بعضِها ببعض، حتى يظهرَ أنه سمع مجموعَ القصة ¬

_ (¬1) بِعَوْلتها: من العَوْل والعَوْلة والعويل: رفع الصوت بالبكاء انظر "النهاية" (3/ 321)، و"لسان العرب" (5/ 3174) (عول). (¬2) ضرجها: لطَّخها.

من شيوخه، وإنما سمع من كلِّ واحدٍ بعضها، ولم يميزه، ويدخله أخذ ذلك من الحديثِ المرسل والمقطوع، وربما حَدَّثَ الراوي ببعضِ الأمور لقرائن استفادها من عدَّةِ جهات، ويُكثِرُ من ذلك إكثارًا، فيُنْسَبُ لأجله إلى المجازفة في الرواية وعدم الضبط، فلم يمكن الاحتجاجُ بما ينفرد به، فأما الاستشهادُ بحديثِه والاعتضادُ به، فمما لا يمكنُ المنازعة فيه، لا سيما في قصةٍ تامةٍ يُخبِرُ فيها باسمِ القاتل والمقتول وصورة الحال؛ فإنَّ الرجل وأمثالَه أفضلُ من أن يقعوا في مثلِ هذا في كذبٍ ووضع، على أنَّا لم نُثبت قَتْلَ السابِّ بمجرد هذا الحديث، وإنما ذكرناه للتقويةِ والتوكيد، وهذا يحصلُ ممن هو دُونَ الواقدي. * ووجه الدلالة: أن هذه المرأةَ لم تُقتلْ إلاَّ لمجردِ أذى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهَجْوه، وهذا بَيِّنٌ في قول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "هَجَتِ امرأةٌ مِنْ خَطْمةَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "من لي بها؟ "، فعُلِم أنه إنما نَدَبَ إليها لأجل هَجْوِها. وكذلك في الحديث الآخر: "فقال عميرٌ حين بَلَغَهُ قولُها وتحريضُها: اللهم إن لك عليَّ نَذْرا لئن رددتَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة لأقتلنها". وفي الحديثِ لَمَّا قال له قومه: "أنت قتلتَها؟ فقال: نعم، فكيدوني جميعًا ثم لا تُنْظِرون، فوالذي نفسي بيده لو قُلتم جميعًا ما قالت لضربتُكم بسيفي حتى أموتَ أو أقتلَكم"، فهذه مقدمة. ومقدمةٌ أخرى، وهو أن شِعرَها ليس فيه تحريضٌ على قتالِ النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يقال: التحريضُ على القتال قتال، وإنما فيه تحريضٌ على تركِ دينهِ وذَمٌّ له ولمن اتَّبعه، وأقصى غايةِ ذلك أن لا يدخلَ في الإسلام مَن لم يكن دَخَل، أو أن يخرجَ عنه مَن دخل فيه، وهذا شأنُ كلِّ ساب.

الحديث السادس

وكذلك ندْبُ النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى قتْلها. الحديث السادس: قصة أبي عَفَك اليهودي (¬1). وقد مرَّ ذكرها. الحديث السابع: حديث أنس بن زُنَيْم الدِّيلي. وهو مشهور عند أهل السير، ذكره ابنُ إسحاقَ والواقديُّ وغيرهما. ° قال الواقدي (¬2): حدثني عبدُ الله بنُ عمرِو بنِ زُهير، عن مِحجنِ ابنِ وهب قال: كان آخِرُ ما كان بين خزاعةَ وبين كِنانةَ أن أنسَ بنَ زُنيم الدِّيليَّ هجا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فسمعه غلامٌ من خزاعة، فوقع به، فشَجَّه، فخرج إلى قومه فأراهم شَجَّته، فثار الشرُّ مع ما كان بينهم وما تَطلُبُ بنو بكر من خُزَاعة من دمائها. ° قال الواقدي (¬3): "حدثني حِزامُ بنُ هشامِ بنِ خالدٍ الكعبيُّ، عن أبيه قال: وخَرَج عمرُو بن سالم الخُزاعيُّ في أربعين راكبًا من خُزَاعَةَ يستنصرون رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ويخبرونه بالذي أصابهم" -وذكر قصةً فيها إنشاد القصيدة التي أولها-: اللهم إني ناشدٌ محمدًا ............... قال: "فلما فرغ الرَّكْبُ قالوا: يا رسول الله، إن أنس بن زُنَيْم الدِّيلي ¬

_ (¬1) انظر "المغازي" للواقدي (1/ 174) (سَرِيَّة قتل أبي عَفك)، و"الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 28) (سريَّة سالم بن عُميْر). (¬2) "المغازي" للواقدي (2/ 782 - 789) "شأن غزوة الفتح". (¬3) "المغازي" للواقدي (2/ 788).

قد هجاك، فنَدَر (¬1) رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - دَمَه، فبلغ ذلك أنسَ بنَ زُنَيْم، فقَدِم معتذرًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما بَلَغه عنه، فقال: أنْتَ الَّذِي تُهْدَى مَعَدٌّ بِأمْرِهِ ... بَلِ الله يَهْدِيْها، وَقَالَ لَكَ اشْهَدِ فَما حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا ... أبَرَّ وَأوْفَى ذِمَّةً مِنْ مُحَمَّدِ تَعَلَّمْ رَسُوْلَ اللهِ أَنَّكَ مُدْرِكِي ... وَأنَّ وَعِيْدًا مِنْكَ كَالأخْذِ بِاليَدِ ° وفيها: تَعَلَّمْ رَسُوْلَ اللهِ أنَّكَ قَادِرٌ ... عَلىَ كُلِّ سَكْنٍ (¬2) مِنْ تِهَامٍ وَمُنْجِدِ وَنُبِّي رَسُوْلُ الله أَنِّي هَجَوْتُهُ ... فَلاَ رَفَعَت سَوْطِي إليَّ إذًا يَدِي سِوَى أنَّني قَدْ قُلتُ يَا وَيْحَ فِتْيةٍ ... أُصيْبُوا بَنَحْسٍ يَوْمَ طَلْقٍ (¬3) وَأسْعُدِ ° ويقول فيها: فإنِّي لاَ عِرْضًا خَرَقْتُ وَلاَ دَمًا ... هَرَقْتُ فَفَكِّر عَالِمَ الحَقِّ وَاقْصِدِ ° قال الواقدي (¬4):"أنشدنيها حِزام، وبلغت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -قصيدتُه هذه واعتذاره، وكلَّمه نَوْفَلُ بنُ معاوية الدِّيلي (¬5)، فقال: يا رسول الله، أنت أولى الناس بالعفو، ومَن منَّا لم يُعادِك وُيؤْذِك؟ ونحن في جاهليةٍ لا ¬

_ (¬1) ندر، أي: أهدر. (¬2) السَّكن: أهل الدار، اسم الجمع سَاكِن. ينظر: "الصحاح" (5/ 2136)، "لسان العرب" (4/ 2053) (سكن). (¬3) الطلق: اليوم المشرق، يقال: يوم طلق إذا لم يكن فيه حَرٌّ ولا بَرْد ولا شيء يؤذي. ينظر: "لسان العرب" (5/ 2694) (طلق). (¬4) "المغازي" (2/ 780). (¬5) من مسلمة الفتح - رضي الله عنه -.

ندري ما نأخذُ وما نَدَعُ حتى هدانا الله بك، وأنقذنا بك من الهُلْك، وقد كَذَب عليه الركب، وكَثُروا عندك، فقال: دَعِ الركب عنك؛ فإنا لم نجد بتهامةَ أحدًا من ذي رحمٍ ولا بعيدِ الرحم كان أبرَّ من خُزاعة، فأسكت نوفلُ ابنُ معاوية، فلما سكت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَدْ عَفَوْتُ عَنْه"، قال نوفل: فِدَاك أبي وأمي". ° وقال ابنُ إسحاق: وقال أنسُ بنُ زُنَيم يَعتذرُ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مما كان قد قال فيهم عمروُ بنُ سالم حين قَدِم على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يستنصرُه، ويذكر أنهم قد نالوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنشد تلك القصيدة، وفيها: وتَعلم أنَّ الركبَ رَكْبَ عُوَيْمِرٍ ... هُمُ الكَاذِبُونَ المُخْلِفُو كُلَّ مَوْعِدِ (¬1) فوجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان قد صالَح قريشًا وهادنهم عام الحديبية عَشْرَ سنين، ودخلت خزاعةُ في عَقْده، وكان أكثرُهم مسلمين وكانوا عَيْبَةَ (¬2) نُصحٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمهم وكافرهم، ودخلت بنو بكر في عهدِ قريش؛ فصار هؤلاء كلُّهم معاهِدين، وهذا مما تواتر به النقلُ ولم يختلف فيه أهل العلم. ثم إن هذا الرجلَ المعاهَد هجا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - على ما قيل عنه، فشَجَّه بعضُ خزاعة، ثم أخبروا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنه هجاه يَقصِدون بذلك إغراءَه ببني بكر، ¬

_ (¬1) انظر "السيرة النبوية" لابن هشام (2/ 424). (¬2) العَيبَة: الخاصة وموضع السِّر. والعرب تكني عن الصدور والقلوب بالعِياب، لأنها مستودع السرائر كما أن العِيبَ مستودع الثياب. انظر "الصحاح" (3/ 327) (عيب).

فَنَدَر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - دمه -أي: أهدره-، ولمُ يُندِرْ دمَ غيرِه، فلولا أنهم عَلِموا أن هجاءَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من المعاهدِ مما يوجبُ الانتقامَ منه، لم يفعلوا ذلك. ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نَدَرَ دَمَه بذلك، مع أن هِجاءَه كان حالَ العهد، وهذا نصٌّ في أن المعاهَدَ الهاجي يُباح دمه. ثم إنه لَمَّا قدم أسلم في شِعره، ولهذا عَدُّوهُ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقوله: "تَعَلَّم رسول الله"، "ونُبِّي رسول الله" دليل على أنه أسلم قبل ذلك، أو هذا وحدَه إسلام منه، فإن الوثنيَّ إذا قال: "محمدٌ رسول الله" حُكم بإسلامه، ومع هذا فقد أنكر أن يكون هجا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورَدَّ شهادَةَ أولئك بأنهم أعداءُ له، لما بين القَبيلتين من الدماء والحرب، فلو لم يكن ما فَعَلَه مُبيحًا لدمه لَمَا احتاج إلى شيءٍ من ذلك. ثم إنه -بعد إسلامه- واعتذارِه، وتكذيبِ المخبرين، ومَدْحِه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما طَلَبَ العفو من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إهْدارِ دمه، والعفوُ إنما يكون مع جَوَاز العقوبة على الذنب، فعُلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له أن يُعاقبَه بعد مجيئه مسلمًا معتذرًا، وإنما عفا عنه حِلْمًا وكرمًا. ثم إن في الحديث أنَّ نَوْفَلَ بنَ معاويةَ هو الذي شَفَع له إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكر عَامَّةُ أهل السَّيرِ أن نوفلاً هذا هو رأسُ البكرييِّن الذين عَدَوْا على خُزاعة وقَتَلُوهم، وأعانتهم قريشٌ على ذلك، وبسبب ذلك انتقض عهدُ قريش وبني بكر، ثم إنه أسلم قبلَ الفتح حتى صار يَشفعُ في الذي هَجَا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعُلم أن الهجاءَ أغْلَظُ من نقضِ العهد بالقتال بحيث إذا نَقَض قومٌ العهدَ بالقتال، وآخرون هَجَوا ثم أسلموا، عُصِمَ دَمُ الذي قاتل، وجاز

الحديث الثامن

الانتقامُ من الهاجي، ولهذا قَرَنَ هذا الرجلُ خَرْقَ العِرْضِ بسفك الدَّم، فعُلم أن كليهما موجِبٌ للقتل، وأن خَرْق عِرْضِهِ كان أعظمَ عندهم من سفكِ دماءِ المسلمين والمعاهدين. ومما يوضِّحُ هذا أن النبيَّ لم يُهدِرْ دمَ أحدٍ من بني بكر الناقضين للعهد بعينه، وإنما مَكَّن منهم بني خزاعةَ يومَ الفتحِ أكثرَ النهار، وأهدَرَ دمَ هذا بعينه حتى أسلم واعتذر؛ هذا مع أن العهدَ كان عهدَ هُدنةٍ ومُوادعة، لم يكن عهدَ جزيةٍ وذِمَّة، والمهادنُ المقيمُ ببلده يُظهِرُ ببلده ما شاء من مُنْكَراتِ الأقوالِ والأفعالِ المتعلِّقةِ بدينهِ ودنياه، ولا يَنتقضُ بذلك عهدُه حتى يحارِب؛ فعُلم أن الهجاءَ من جنسِ الحِرابِ -وأغلظُ منه-، وأن الهاجيَ لا ذمَّةَ له. الحديث الثامن: قصَّةُ عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح: ° وهي مما اتفق عليها أهل العلم، واستفاضت عندهم استفاضةً يُستغنى بها عن روايةِ الآحاد، وذلك أثبتُ وأقوى مما رواه الواحدُ العدل، فنذكرها مسندةً مشروحةً ليتبيَّنَ وجهُ الدلالة منها: ° عن مصعبِ بن سعدٍ، عن سعدِ بن أبي وقاص قال: "لَمَّا كان يومُ فتح مكة، اختبأ عبدُ الله بنُ سعد بن أبي سَرْحٍ عند عثمانَ بنِ عفان، فجاء به حتى أوقفه على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، بَايع عبدَ الله، فرفع رأسه، فنظر إليه ثلاثاً، كلُّ ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاثٍ، ثم أقبل على أصحابه. فقال: "أما كان فيكم رَجُلٌ رَشيد، يقومُ إلى هذا حيث رآني كفَفْتُ يَدي عن بيعته فيقتُلَه؟! " فقالوا: مَا ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألَا أوْمَأْت إلينا بعينِك، قال: "إنه لا يَنْبَغِي لنبيٍّ

أن تكون له خائنةُ الأعْيُن" (¬1). • ورواه النَّسائىُّ كذلك بأبسطَ من هذا عن سعدٍ قال: "لما كان يومُ فتح مكة أَمَّنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الناسَ إلاَّ أربعةَ نَفَرٍ وامرأتيْن، قال: "اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلِّقين بأستار الكعبة": عكرمةُ بن أبي جهل، وعبدُ الله بن خَطَل، ومِقْيَس بن صُبَابة، وعبدُالله بنُ سعدِ بن أبي سرح. ° فأما عبدُ الله بنُ خطل، فأُدْرِك وهو متعلِّقٌ بأستارِ الكعبة، فاستَبَق إليه سعيدُ بن حُريث وعمَّارُ بنُ ياسر، فسبق سعيدٌ عمَّارًا -وكان أشبَّ الرجُلين-، فقتله. وأمَّا مِقْيَس بن صُبَابة، فأدركه الناسُ في السوق، فقتلوه. وأمَّا عكرمةُ، فركب البحرَ، فأصابتهم عاصف، فقال أصحابُ السفينة: أخلِصوا، فإنَّ آلهتَكم لا تُغني عنكم شيئًا ها هنا، فقال عكرمة: واللهِ لَئِنْ لم يُنجِنِي في البحرِ إلاَّ الإخلاصُ، لا يُنجيني في البرِّ غيرُه، اللهم إنَّ لك عليَّ عَهدًا إن أنت عافيتَني مما أنا فيه، أن آتيَ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - حتى أضعَ يدي في يده، فلأَجدنَّه عفوًّا كريمًا، فجاء وأسلم. وأمَّا عبدُ الله بنُ سعدِ منِ أبي سَرح، فإنَّه اختبأ عند عثمانَ بنِ عفان، ¬

_ (¬1) صحيح: رواه أبو داود في كتاب الحدود- باب الحكم فيمن ارتد (4/ 527 ح 4359)، ورواه أيضًا بأطول من هذا: في كتاب الجهاد- باب قتل الأسير ولا يُعرَض عليه الإسلام (3/ 133 ح 2683)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 45)؛ والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 40) وابن كثير في "البداية والنهاية" (4/ 297). الحديث قال عنه الحاكم:"صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي، وصحح إسناده شيخ الإسلام، وصححه الألباني في "الصحيحة" (4/ 300 ح 1723). وفي "صحيح سنن أبي داود" (3/ 823 ح 3663).

فلمَّا دعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الناسَ إلى البَيعةِ، جاء به حتى أوقفَه على النبي - صلى الله عليه وسلم - .. " (¬1) ثم ذكر الباقي كما رواه أبو داود. ° وعن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان عبدُ الله بنُ سعدِ بنِ أبي سرحٍ يَكتبُ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأزلَّه الشيطان، فلَحِق بالكفار، فأَمَر به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُقتلَ يومَ الفتح، فاستجار له عثمان، فأجاره رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬2). ° ورَوى محمدُ بن سعد في "الطبقات" عن عليِّ بنِ زيدٍ، عن سعيدِ ابنِ المسيَّب أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَمَر بقَتِل ابنِ أبي سَرحٍ يوم الفتح، وفَرْتَنَى (¬3)، وابنَ الزِّبَعْرَى، وابنَ خَطَل، فأتاه أبو بَرزةَ وهو متعَلِّقٌ بأستار الكعبة، فبَقَر بطنه، وكان رجلٌ من الأنصار قد نَذَر إنْ رأى ابنَ أبي سرح أن يقتلَه، فجاء عثمانُ -وكان أخاه من الرضاعة-، فشَفَع له إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد أخذ الأنصاريُّ بقائِم السيف ينظرُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - متى يومئ إليه أن يقتلَه، فشَفَع له عثمانُ حتى تَركه، ثم قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - للأنصاري: "هَلاَّ وَفَّيْتَ ¬

_ (¬1) صحيح: "سنن النسائي" كتاب تحريم الدم -الحكم في المرتد- (7/ 105)، وصحح إسناده الألباني في "صحيح سنن النسائي" (3/ 852ح 3791)، وفي "الصحيحة" (4/ 300 ح 1723). (¬2) صحيح:"سنن أبي داود" كتاب الحدود- باب الحكم فيمن ارتد (4/ 128ح 4358)، و"المستدرك " للحاكم (3/ 45)، و"السنن الكبرى " للبيهقي (8/ 197)، والحديث قال عنه الحاكم: "صحيح على شرط البخاري" ووافقه الذهبي، وحسن إسناده الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (3/ 823ح 3663). (¬3) فَرْتَنَى: إحدى القينتيْن اللتيْن كان ابن خطل يعلمهما الغناء بهجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ثم أسْلَمت هذه وتُرِكَت، وقُتلت الأخرى. انظر "الإصابة" (8/ 166).

بِنَذْرِكَ؟ " فقال: يا رسولَ الله، وضَعْتُ يدي على قائم السيف أنتظرُ متى تومئُ فأقتلَه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الإيماءُ خيانة، ليس لنبيٍّ أن يُومئ" (¬1). • وقال محمدُ بنُ إسحاقَ في روايةِ ابن بُكير عنه: قال أبو عُبيدة بن محمدِ بنِ عمَّار بن ياسر وعبدُ الله بن أبي بكرِ بن حَزْم: إن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -حين دَخل مكة، وفَرَّقَ جيوشَه- أمرهم أن لا يقتلوا أحدًا إلاَّ مَن قاتلهم، إلاَّ نفرًا قد سمَّاهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "اقْتُلُوْهُمْ وَإنْ وَجَدْتُموهُمْ تَحْتَ أَسْتَارِ الكعْبَةِ"، عبدُ الله بنُ خَطَل، وعبدُ الله بنُ سعدِ بنِ أبي سَرح، وإنما أَمَر بابنِ أبي سرحٍ، لأنَّه كان قد أسلم، فكان يكتبُ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الوحيَ، فرجع مشركًا، ولَحِق بمكة، فكان يقولُ لهم: إني لأصرِّفه كيف شئتُ، إنه لَيأمرُني أن أكتبَ له الشيءَ فأقول له: أو كذا أو كذا؟ فيقول: نعم، وذلك أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -كان يقول "عليمٌ حكيم"، فيقول: أو أكتب عزيز حكيم؟ فيقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم كلاهما سواء" (¬2). ° قال ابنُ إسحاق: حدثني شُرَحْبيلُ بن سعدٍ أن فيه نزلت: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93]. فلما دخل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مكة فَرَّ إلى عثمانَ بن عفان -وكان أخاه من الرضاعة-، فغيَّبه عنده حتى اطمأن أهلُ مكة، فأتى به رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستَأْمَن له، فصَمَت رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - طويلاً وهو واقفٌ عليه، ثم قال: ¬

_ (¬1) "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 141). (¬2) "السيرة النبوية" لابن هشام (2/ 409).

"نعم"، فانصرف به، فلمَّا وَلَّى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا صَمَتُّ إلاَّ رَجَاءَ أنْ يَقُومَ إلَيْه بَعْضُكُمْ فَيَقْتُلَهُ"، فقال رجلٌ من الأنصار: يا رسول الله، ألاَ أومأتَ إلَيَّ فأقتلَه؟، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:"إنَّ النَّبِيَّ لاَ يَقْتُلُ بِالإشَارَةِ" (¬1). ° وقال ابنُ إسحاق في روايةِ إبراهيمَ بنِ سعدٍ عنه: "حدَّثني بعضُ علمائِنا أن ابنَ أبي سرحٍ رَجَع إلى قريشٍ فقال: واللهِ لو أشاء لقُلتُ كما يقول محمدٌ، وجِئتُ بمِثل ما يأتي به، إنه لَيقولُ الشيءَ وأصْرِفُه إلى شيءٍ، فيقول: أصَبْتَ، ففيه أنزل الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: 93] الآية. فلذلك أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتله" (¬2). ° فوجهُ الدلالةِ أن عبد الله بنَ سعد بنِ أبي سَرحٍ افترى على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يُتَمِّم له الوحيَ ويكتبُ له ما يريد، فيوافقُه عليه، وأنه يُصَرِّفه حيث شاء، وبغيرِ ما أَمَره به من الوحي، فيُقرُّه على ذلك، وزَعَم أنه سيُنزلُ مثلَ ما أنزل الله، إذ كان قد أُوحي إليه -في زعمه- كما أوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الطعن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى كتابه، والافتراءُ عليه بما يوجبُ الرَّيبَ في نبوَّتهِ قَدْرٌ زائدٌ على مجردِ الكفر به والرِّدَّةِ في الدين، وهو من أنواع السبِّ. وكذلك لَمَّا افترى عليه كاتبٌ آخرُ مثلَ هذه الفِريةِ، قَصَمَه الله وعاقَبه عقوبةً خارجةً عن العادة، ليتبيَّنَ لكلِّ أحدٍ افتراؤه، إذ كان مِثلُ هذا يوجبُ ¬

_ (¬1) "السيرة النبوية" لابن هشام (2/ 409)، و (مستدرك الحاكم) (3/ 45)، و"تفسير القرطبي" (7/ 40)، "الدر المنثور". (¬2) "تفسير الطبري" (5/ 273).

في القلوبِ المريضةِ رَيْبًا بأن يقول القائل: "كاتبُه أعلمُ الناسِ بباطنه وبحقيقةِ أمره، وقد أخَبَر عنه بما أخبر". فمِنْ نَصْر الله لرسوله أن أظهَرَ فيه آيةً يبيِّنُ بها أنه مُفترٍ. ° فروى البخاريُّ في "صحيحه" عن عبد العزيز بنِ صُهيبٍ، عن أنسٍ قال: "كان رجلٌ نصرانيًّا، فأسلم، وقرأ البقرةَ وآل عمران، وكان يكتبُ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فعاد نصرانيًّا، فكان يقول: ما يدري محمد إلاَّ ما كتبتُ له، فأماته الله، فدَفنوه، فأصبح وقد لَفَظَتْه (¬1) الأرضُ، فقالوا: "هذا فِعْل محمدٍ وأصحابه، نَبَشُوا عن صاحبنا فألقوه" .. فحَفروا له وأعمقوا (¬2) في الأرض ما استطاعوا، فأصبح وقد لَفَظَته الأرض، فعَلِموا أنه ليس من الناس، فألقوه" (¬3). ° ورواه مسلم من حديثِ سُليمانَ بنِ المغيرة عن ثابتٍ، عن أنس قال: "كان منَّا رجلٌ من بني النجَّار قد قرأ البقرةَ وآل عمران، وكان يكتبُ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فانطلق هاربًا حتى لَحِق بأهل الكتاب، قال: فعرفوه، قالوا: هذا قد كان يكتبُ لمحمد، فأُعجِبوا به، فما لَبثَ أن قَصَم الله عُنقَه فيهم، فحَفروا له، فَوَارَوْهُ، فأصبحت الأرضُ قد نَبَذَتْه على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فوَاروْه، فأصبحت الأرضُ قد نَبَذَتْه على وجهها، ثم عادوا فحفروا له، فواروه، فأصبحت الأرضُ قد نَبَذَتْه على وجهها، ¬

_ (¬1) لَفِظته: بكسر الفاء وفتحها، أي: طرحته ورَمتْه. (¬2) في "صحيح البخاري": تكررت عملية الحفر منهم ولفظ الأرض له ثلاث مرات. (¬3) رواه البخاري في "صحيحه" -كتاب المناقب- باب علامة النبوة في الإسلام (6/ 722ح 3617).

فتركوه منبوذًا" (¬1). • وعن أنسٍ أن رجلاً كان يكتبُ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد قرأ البقرةَ وآل عمران، وكان الرجلُ إذا قرأ البقرة وآل عمران جَدَّ فينا، يعني عَظُم، فكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُمْلي عليه: "غفورًا رحيمًا"، فيكتب: "عليمًا حكيمًا"، فيقولُ له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اكتب كذا وكذا، اكتب كيف شئتَ"، ويُمْلي عليه: "عليمًا حكيمًا"، فيكتب: "سميعًا بصيرًا"، فيقول: "اكتب كيف شئتَ"، فارتدَّ ذلك الرجلُ عن الإسلام، فلَحِق بالمشركين، وقال: أنا أعلمُكم بمحمدٍ إن كنتُ لأكْتبُ ما شئتُ، فماتَ ذلك الرجل، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الأرْضَ لا تَقْبلُهُ"، قال أنس: فحدَّثَني أبو طَلْحَة أنه أتى الأرضَ التي مات فيها ذلك الرجلُ، فوجده مَنْبُوذًا، قال أبو طلحة: ما شأنُ هذا الرجلِ؟ قالوا: قد دَفَنَّاه مرارًا فلم تَقْبَلْه الأرض" (¬2)، فهذا إسناد صحيح. فهذا الملعون الذي افتَرى على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه ما كان يدري إلاَّ ما كَتب له، قَصَمه اللهُ وفَضَحه بأنْ أخرجه من القبر بعدَ أن دُفن مرارًا، وهذا أمرٌ خارج عن العادة، يدلُّ كلَّ أحدٍ على أن هذا عقوبةٌ لِمَا قاله، وأنه كان كاذبًا، إذ كان عامَّةُ الموتى لا يُصيبهم مثلُ هذا، وأن هذا الجُرمَ أعظمُ من ¬

_ (¬1) رواه مسلم في "صحيحه" -كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (4/ 2145 ح 2781)، وأحمد في "المسند" (3/ 222). (¬2) صحيح: رواه الإِمام أحمد في "مسنده" (3/ 120 - 121)، وابن حبان في "صحيحه" (الإحسان): كتاب الرقائق- باب قراءة القرآن (2/ 62 ح 741). والهيثمي في "موارد الظمآن" -كتاب الحدود- باب فيمن ارتد عن الإسلام (ص 365ح 1521)، والأصبهاني في "دلائل النبوة" (ص 52 ح 35).

مجردِ الارتداد؛ إذ كان عامةُ المرتدِّين يموتون ولا يُصيبهم مثلُ هذا، وأن الله منتقمٌ لرسوله ممن طَعَنَ عليه وسَبَّه، ومُظهِرٌ لدينه ولِكَذِبِ الكاذب؛ إذ لم يُمكِنِ الناسَ أن يُقيموا عليه الحد. ونظيرُ هذا ما حدثناه أعدادٌ من المسلمين العدولِ أهل الفقه والخبرة عما جرَّبوه مراتٍ متعددةً في حَصرِ الحُصون والمدائنِ التي بالسواحل الشامية، لَمَّا حَصَر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا، قالوا: كنا نحن نحصرُ الحصنَ أو المدينة الشهرَ -أو أكثرَ من الشهر- وهو ممتنعٌ علينا حتى نكادَ نيأسُ منه، حتى إذا تعرَّض أهلُه لسبِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - والوقيعة في عِرْضِه، تَعجَّلنا فتحه وتيسَّر ولم يَكَدْ يتأخرُ إلاَّ يومًا أو يومين أو نحو ذلك، ثم يُفتح المكانُ عَنْوَة، ويكونُ فيهم مَلحمةٌ عظيمة، قالوا: حتى إنْ كنَّا لَنتباشَرُ بتعجيلِ الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاءِ القلوب غيظًا عليهم بما قالوه فيه. وهكذا حدثني بعضُ أصحابِنا الثقاتِ أن المسلمين من أهلِ المغرب حالُهم مع النصارى كذلك، ومِن سُنَّةِ الله أن يُعذِّبَ أعداءَه تارةً بعذاب من عنده، وتارةً بأيدي عبادِه المؤمنين (¬1). فكذلك لَمَّا تمكَّن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من ابنِ أبي سرحٍ أهدَرَ دَمَه، لَمَّا طعن في النبوةِ وافترى عليه الكذب، مع أنه قد آمَنَ جميعَ أهلِ مكة الذين قاتلوه وحاربوه أشدَّ المحاربة، ومع أن السنةَ في المرتد أنه لا يُقتل حتى يستتاب إمَّا وجوبًا، أو استحبابًا. ¬

_ (¬1) "الصارم المسلول" (2/ 234 - 235).

° ومعروفٌ أن جماعةً ارتدُّوا على عهدِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم دُعُوا إلى التوبة، وعُرِضت عليهم، حتى تابوا وقُبلت توبتهم. ° وفي ذلك دليلٌ على أن جُرمَ الطاعنِ على الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - السابِّ له أعظمُ من جُرمِ المرتد. ° ثم إن إباحةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - دَمَه بعد مجيئه تائبًا مسلمًا وقوله: "هَلاَّ قَتَلُتُمُوه"، ثم عَفْوه عنه بعد ذلك، دليل على أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان له أن يقتلَه وأن يعفوَ عنه ويَعصِمَ دمَه، وهو دليلٌ على أن له - صلى الله عليه وسلم - أنه يقتلَ مَن سَبَّه وإنْ تابَ وعادَ إلى الإسلام. يوضحُ ذلك أشياء: منها: أنه قد رُوي عن عكرمةَ أن ابنَ أبي سَرحٍ رَجَع إلى الإسلام قبلَ فتح مكة، وكذلك ذَكر آخرون أن ابنَ أبي سرحٍ رَجَع إلى الإسلام قبلَ فتحِ مكةَّ إذ نَزَل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بها، وقد تقدَّم عنه أنه قال لعثمانَ قبل أن يَقْدَمَ به على النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن جُرمي أعظمُ الجرم، وقد جئتُ تائبًا"، وتوبةُ المرتدِّ إسلامه. ثم إنَّه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الفتح وهُدوءِ الناس وبعدما تاب، فأراد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -من المسلمين أن يقتلوه حينئذٍ، وتَربَّصَ زمانًا ينتظرُ فيه قتلَه، ويظنُّ أن بعضَهم سيقتلُه، وهذا أوضحُ دليلٍ عِلى جوازِ قتلِه بعد إسلامه. وكذلك لَمَّا قال له عثمانُ: إنه يفِرُّ منك كلَّما رآك، قال: "أَلَمْ أُبَايِعْهُ وَأُومِنْهُ؟! " قال: بلى، ولكنه يتذكرُ عظيمَ جُرمِه في الإسلام، فقالَ: "الإسلاَمُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ". فبيَّن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن خوفَ القتل سَقط بالبيعة والأمان، وأن الإثمَ زال

الحديث التاسع

بالإسلام، فعُلم أن السابَّ إذا عاد إلى الإسلام جَبَّ الإسلامُ إثمَ السب، وبَقِيَ قتلُه جائزًا حتى يوجَدَ إسقاطُ القتل مِمَّن يَملِكُه إنْ كان ممكنًا. إن غَرَضنا هنا أن نبيِّنَ أن مجرَّدَ الطعنِ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والوقيعةِ فيه يُوجِبُ القتلَ في الحال التي لا يُقْتَل فيه لمجردِ الردة، وإذا كان ذلك مُوجِبًا للقتل، استوى فيه المسلمُ والذمِّيُّ؛ لأنَّ كلَّ ما يوجِبُ القتلَ -سوى الرِّدة- يستوي فيه المسلمُ والذمي. وفي كتمانِ الصحابةِ لابنِ أبي سرحٍ ولإحدى القَيْنَتَينِ دليلٌ على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُوجِب قتلَهم، وإنما أباحه مع جوازِ عفوِه عنهم، وفي ذلك دليلٌ على أنه كان مُخَيَّرًا بين القتل والعفو، وهذا يؤيِّد أن القتل كان لحَقِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحديث التاسع: حديثُ القَينتينِ اللتين كانتا تُغنِّيان بهجاءِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ومولاةِ بني هاشم، وذلك مشهورٌ مستفيضٌ عند أهل السير، أمر - صلى الله عليه وسلم - بقتل فَرْتَنَى. ° وقال موسى بنُ عقبة في "مغازيه" عن الزهري: وأَمَرهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يَكُفُّوا أيديَهم فلا يُقاتِلوا أحدًا إلاَّ مَن قاتَلهم، وأَمر بقتل أربعةِ نفر، قال: وأَمَر بقتل قَينتَينِ لابن خَطَلٍ تُغنِّيانِ بهجاءِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: وقُتلت إحدى القينتين وكَمِنَت الأخرى حتى استؤمن لها. وكذلك ذكر محمدُ بنُ عائذٍ القُرشيُّ في "مغازيه". ° وقال ابنُ إسحاق في روايةِ ابنِ بُكير عنه: قال أبو عبيدةَ بنُ محمدِ ابنِ عمَّارِ بنِ ياسر وعبدُ الله بنُ أبي بكرِ بنِ حزم: إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حين دَخل مكةْ وفرَّق جيوشَه، أَمرهم أن لا يقتلوا أحدًا إلاَّ مَن قاتلهم، إلاَّ نَفَرًا

قد سماهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وقال: "اقْتُلُوهُمْ وإنْ وَجَدْتُمُوهُمْ تَحْتَ أسْتَارِ الكَعْبَة: عبدُ الله بن خَطَل"، ثم قال: "إنما أَمر بقَتل ابنِ خَطَل؛ لأنه كان مسلمًا، فبعثه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُصَدِّقًا، وبَعث معه رجلاً من الأنصار، وكان معه مولًى له يخدمُه، وكان مسلمًا، فنَزل منزلاً وأَمَر المولى يَذبحُ له تَيسًا ويصنعُ له طعامًا، فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئًا، فعدا عليه فقتله، ثم ارتدَّ مشركًا، وكانت له قَيْنَةٌ وصاحبتُها كانتا تُغنيان بهجاءِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأَمَر بقتلِهما معه، قال: ومِقْيَسُ بنُ صُبابة لقَتله الأنصاريَّ الذي قتل أخاه، وسارةُ مولاةٌ لبني عبد المطلب، كانت ممن يؤذيه بمكة (¬1). ° قال ابنُ إسحاق: وحدَّثني أبو عبيدةَ بنُ محمدِ بنِ عمَّارِ بنِ ياسر أنهم كانوا ستةً، فكَتم اسمَ رجلين وأخبرني بأربعة، قال: النسوة قَيْنَتَا ابنِ خطل، وسارةُ مولاةٌ لبني عبد المطلب، ثم قال: والقينتانِ كانتا تُغنَيان بهجائه، وسارةُ مولاة أبي لهب كانت تؤذيه بلسانها (¬2). ° وقال الواقديُّ عن أشياخه: "ونهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -عن القتال، وأَمَر بقتل ستةِ نفرٍ وأربع نسوةٍ، ثم عدَّدهم، قال: "وابن خطل، وسارةُ مولاةُ عمرو بن هاشم، وقَينتين لابن خطل، فَرَتْنَى وقُريبة، ويقال: فُرتنى وأرنب" (¬3). ثم قال: "وكان جُرْمِ ابنِ خطل أنه أسلَمَ وهاجَرَ إلى المدينة، وبعثه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ساعيًا، وبعَث معه رجلاً من خُزَاعة، وكان يَصنعُ طعامَه ¬

_ (¬1) "المغازي" للواقدي (2/ 859 - 860)، و"السيرة النبوية" لابن هشام (2/ 409 - 410). (¬2) "سيرة ابن هشام" (2/ 410). (¬3) المغازي (2/ 825).

ويَخدُمه، فنزل في مَجمع، فأمره أن يصنَع له طعامًا، ونام نصف النهار، فاستيقظ والخزاعيُّ نائمٌ ولم يَصنْع له شيئًا فاغتاظ عليه، فضربه فلم يُقْلعْ عنه حتى قَتَله، فلما قَتَله قال: واللهِ لَيَقتُلَنِّي محمدٌّ به إن جِئتُه، فارتدَّ عن الإسلام، وساق ما أخذه من الصدقةِ وهَرَب إلى مكة، فقال له أهلُ مكة: ما ردَّك إلينا؟ قال: لَم أجِدْ دينًا خيرًا من دينكم، فأقام على شِرْكِه، فكانت له قَينتانِ .. وكانتا فاسقتين، وكان يقولُ الشِّعرَ يهجُو رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ويأمُرهما تُغنِّيانِ به، فيدخلُ عليه وعلى قَينتيه المشركون فيشربون الخمرَ، وتُغنَّي القينتان بذلك الهجاء. وكانت سارةُ مولاةُ عمرو بن هاشم مغنيةً نَوَّاحةً بمكة، يُلقى عليها هجاءَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فتغني به، وكانت قد قَدِمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تطلُب أن يَصِلها، وشَكَت الحاجة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا كانَ لَكِ في غِنَائِكِ وَنِيَاحَتِكِ مَا يَكْفِيْكِ؟ " فقالت: يا محمد، إن قريشًا منذ قُتل من قُتل منهم ببدرٍ تركوا استماعَ الغِناء، فوصَلَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأوقر لها بعيرًا طعامًا، فرجَعَت إلى قريش، وهي على دينها، فأمر بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ الفتح أن تُقْتَل، فقُتلت يومئذٍ. وأما القينتانِ، فأمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بقَتلهما، فقُتلت إحداهما: أَرْنَب أو قُريبة، وأما فَرْتنى، فاستؤمن لها حتى آمنت، وعاشت حتى كُسِر ضِلع من أضلاعها زمنَ عثمان - رضي الله عنه - فماتت، فقضى فيه عثمان - رضي الله عنه - ثمانيةَ آلاف درهم دِيتها، وألفين تغليظًا للجُرم (¬1). ¬

_ (¬1) كتاب "المغازي" للواقدي (2/ 859 - 860).

الحديث العاشر

وحديث القينتين مما اتَّفق عليه علماءُ السير، واستفاض نَقلُه استفاضةً يُستغنى بها عن روايةِ الواحد، وحديثُ مولاة بني هاشم ذكره عامةُ أهلِ المغازي ومَن له مَزِيد خبرةٍ واطلاع، وبعضُهم لم يذكره. فوجه الدلالة: أنَّ تَعمُّدَ قَتلِ المرأةِ لمجرَّد الكفرِ الأصليِّ لا يجوزُ بالإجماع، وقد استفاضت بذلك السنةُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. إذا تقرر هذا، فنقول: هؤلاء النسوةُ كنَّ معصوماتٍ بالأنوثة، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَمَر بقَتْلِهِنَّ لمجردِ كونهن كنَّ يَهجِينَه وهن في دار حرب، فعُلم أنَّ مَن هجاه وسبَّه جازَ قتلُه بكلِّ حال. الحديث العاشر: ما استدلَّ به بعضُهم من قصة ابن خطل ففي "الصحيحين" من حديث الزهري عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة عام الفتح، وعلى رأسه المِغْفَر (¬1)، فلما نَزَعه جاءه رجل فقال: ابنُ خطل متعلِّقٌ بأستار الكعبة، فقال: "اقتلوه" (¬2). ¬

_ (¬1) المِغْفر: بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الفاء: زردٌ ينسج من الدروع على قدر الرأس، وقيل: هو رفرف البيضة، وقيل: هو ما يجعل من فضل دروع الحديد على الرأس مثل القلنسوة. ينظر "النهاية" (4/ 374) (غفر). (¬2) رواه البخاري في كتاب جزاء الصيد- باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام (4/ 70 - 71 ح 1846)، وفي كتاب الجهاد- باب قتل الأسير وقتل الصّبِر (6/ 191 ح 3044)، وفي مواضع أخرى (ح 4286، 5808)؛ ورواه مسلم في كتاب الحج- باب جواز دخول مكة بغير إحرام- (2/ 989 ح 1357)؛ وأبو داود في كتاب الجهاد- باب قتل الأسير- ولا يعرض عليه السلام (3/ 134 ح 2685)؛ والترمذي في كتاب الجهاد- باب ما جاء في المغفر- (4/ 174 ح 1693)؛ والنسائي في كتاب الحج- باب دخول مكة بغير إحرام- (5/ 200 - 201)؛ وأحمد في "المسند" (3/ 109، 164، 186، 231، 232، 233، 240).

وهذا مما استفاض نَقلُه بين أهل العلم واتفقوا عليه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدَرَ دَم ابنِ خطل يومَ الفتح فيمن أهدره، وأنه قُتل. ° وعن ابن المسيَّب أن أبا برزة أتاه وهو متعلِّقٌ بأستار الكعبة، فبَقَر بطنَه .. وكذلك رَوى الواقديُّ عن أبي برزةَ قال: فيَّ نزلت هذه الآية {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1 - 2]. أخرجتُ عبد الله بن خَطَل وهو متعلِّقُ بأستارِ الكعبة، فضربتُ عنقَه بين الركن والمقام (¬1). ° وذكر الواقديُّ أن ابنَ خَطَل أقبلَ مِن أعلى مكة مُدجَّجًا في الحديد .. ثم خرج حتى انتهى إلى الخندمة (¬2)، فرأى خيلَ المسلمين ورأى القتال، ودَخَله رعبٌ حتى ما يَستمسكُ منَ الرِّعْدَة (¬3)، حتى انتهى إلى الكعبة، فَنَزل عن فرسِه، وطَرَح سلاحَه، فأتى البيتَ، فدخَلَ بين أستاره (¬4). وقد تقدم عن أهل المغازي أن جُرمَه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -استَعملَه على الصدقة، وأصحبه رجلاً يخدمه، فغَضِب على رفيقِه لكونه لَم يصنعْ له طعامًا أَمَره بصنعه، فَقَتَله، فخاف ثَمَّ أن يُقتل، فارتد واستاقَ إبلَ الصدقة، وأنه كان يقولُ الشِّعرَ يهجُو به رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، ويأمرُ جاريتَيه أن تُغنِّيا به، ¬

_ (¬1) كتاب "المغازي للواقدي" (2/ 859). (¬2) الخندمة: اسم جبل مكة. ينظر "معجم ما استعجم" (2/ 512) "معجم البلدان" (2/ 392). (¬3) الرعدة: النافض يكون من الفزع وغيره، وقد أرعد فارتعد. ينظر "لسان العرب" (3/ 1669) (رعد). (¬4) كتاب "المغازي" للواقدي (2/ 826، 827).

الحديث الحادي عشر

فهذا له ثلاثُ جرائمَ مبيحةٌ للدم: قتلُ النفس، والردَّة، والهجاء. الحديث الحادي عشر: أمْرُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بقتل جماعةٍ لأجل سبِّه، وقَتَل جماعةً لأجل ذلك، مع كفِّه وإمساكِه عمَّن هو بمنزلتهم في كونه كافرًا حربيًّا، فمن ذلك ما قدمناه عن سعيدِ بنِ المسيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر يومَ الفتح بقتل ابن الزِّبَعرَى. وسعيدُ بن المسيَّب هو الغايةُ في جودةِ المراسيل، ولا يَضرُّه أن لا يذكرَه بعضُ أهل المغازي، فإنَّهم مختلِفون في عددِ مَن استُثني من الأمان، وكلٌّ أخبر بما عَلم، ومَن أثبت الشيءَ وذكره حُجةٌ على من لم يثبته. ° وقد ذَكَر ابنُ إسحاق قال: "فلما قَدِم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة منصرفًا عن الطائف، كتب بُجَيرُ بنُ زهيرِ بنِ أبي سُلْمى إلى أخيه كعبِ بن زهير يخبرُه أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قد قَتل رجالاً بمكةَ ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأنَّ مَن بَقِي من شعراءِ قريش عبد الله بنِ الزَّبعْرَى وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كلِّ وجه؛ ففي هذا بيانٌ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَمَر بقتل من كان يهجوه ويؤذيه بمكةَ من الشعراء مثل ابن الزَّبعْرَى وغيره". ومما لا خفاءَ به أن ابن الزَّبعْرَى إنما ذَنبُه أنه كان شديدَ العداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلسانه؛ فإنَّه كان من أشعرِ الناس، وكان يُهاجي شعراءَ الإِسلام مثلَ حسانَ وكعبِ بنِ مالك، فأمَّا ما سوى ذلك من الذنوب قد شَرَكه فيه وأربى عليه عددٌ كثيرٌ من قريش. ثم إن ابن الزَّبعْرَى فَرَّ إلى نجران، ثم قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - مسلمًا، وله أشعارٌ حسنةٌ في التوبةِ والاعتذار، فأهَدَرَ دَمَه للسبِّ، مع أمانه لجميع أهل

مكة إلاَّ مَن كان له جُرمٌ مثلُ جرمِه ونحو ذلك. ومن ذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، قصَّتُه في هجائه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وفي إعراضِ النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه لَمَّا جاءه مسلمًا مشهورةٌ ومستفيضةٌ. ° فوجه الدلالة: أنه ندر دمَ أبي سفيان بن الحارث دون غيره من صناديدِ المشركين الذين كانوا أشدَّ تأثيرًا في الجهاد باليد والمال، وهو قادمٌ إلى مكة لا يريدُ أن يَسْفِكَ دماءَ أهلها، بل يَستعطفُهم على الإسلام، ولم يكن لذلك سببٌ يختصُّ بأبي سفيان إلاَّ الهجاء، ثُمَّ جاء مسلمًا، وهو يُعْرِض عنه هذا الإعراضَ، وكان من شأنه أن يتألَّفَ الأباعدَ على الإِسلام، فكيف بعشيرته الأقربين؟ كلُّ ذلك بسبب هَتكِه عرضَه كما هو مفسَّرٌ في الحديث. • وقد عفَى عنه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لما قال: "واللهِ لَيقبلَنَّ مني، أو لآخُذَنَّ بيد ابني هذا فلأذهبَنَّ في الأرض حتى أهلِكَ عطشًا وجُوعًا، وأنت أحلمُ الناس وأكرمُ الناس مع رَحِمي بك"، فرقَّ له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. * قِصَّةُ الحُويرثِ بنِ نُقيد: ومِن ذلك أنه أَمَر يومَ الفتح بقَتل الحُويرث بن نُقَيد، وهو معروف عند أهل السِّير، قال موسى بن عقبة في "مغازيه" عن الزهري -وهي من أصحِّ المغازي؛ كان مالك يقول: "مَن أحبَّ أن يكتبَ المغازي فعليه بمغازي الرجلِ الصالح موسى بن عقبة"- قال: وأَمَرهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكفُّوا أيديَهم، فلا يُقاتِلوا أحدًا إلاَّ مَن قاتَلهم، وأَمَرهم بقتل أربعةِ نفر، منهم: الحويرثُ ابن نُقَيْد (¬1). ¬

_ (¬1) "مغازي الواقدي" (2/ 825)، و"الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 136)، و"تاريخ الطبري" (3/ 58).

° وقال سعيدُ بنُ يحيى الأُموي في "مغازيه": حدَّثني أبي، قال: وقال ابنُ إسحاق: "وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهِدَ إلى المسلمين في قتل نَفَرٍ ونسوةٍ، وقال: "إنْ وَجَدتموهُمْ تَحْتَ أسْتَارِ الكَعْبَةِ فَاقْتُلُوهُمْ"، وسمَّاهم بأسمائهم ستة، وهم: عبدُ الله بنُ سعدِ بنِ أبي سَرح، وعبدُ الله ابنُ خَطَل، والحُويرثُ بنُ نُقَيد، ومِقْيَسُ بن صُبَابة، ورجلٌ من بني تيم بن غالب". ° قال ابن إسحاق: "وحدَّثني أبو عبيدة بنُ محمدِ بنِ عمَّارِ بنِ ياسرٍ أنهم كانوا ستةً، فكَتَم اسمَ رجُلين -وأخبرني بأربعة-، وزَعَم أن عكرمةَ بن أبي جهل أحدُهم" (¬1). قال: وأمَّا الحويرثُ بنُ نُقيد، فقَتَله عليُّ بن أبي طالب، وكذلك ذَكَر ابنُ إسحاق في روايةِ ابنِ بُكير وغيرِه عنه من النفر الذين استثناهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: "اقْتُلُوهُم وَإنْ وَجَدتمُوهُم تَحْت أَسْتارِ الكَعْبةِ": الحويرثُ بن نقيد، وكان ممن يؤذِي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ° قال الواقديُّ عن أشياخِه: إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهى عن القتال، وأمر بقَتلِ ستةِ نفرٍ وأربعِ نسوة: عكرمةَ بنِ أبي جهل، وهَبَّارِ (¬3) بنِ الأسود، وابنِ ¬

_ (¬1) "السيرة النبويَّة" لابن هشام (2/ 409 - 411). (¬2) المرجع السابق. (¬3) هَبَّار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العُزَّى، من قريش، شاعر من الصحابة، وكان له قدر في الجاهلية. وهو جد الهباريين ملوك ثغر السند، توارثوها إلى أن انتزعها منهم محمود بن سُبُكْتُكِين (صاحب غزنة)، وكانت قاعدتهم في السند "المنصورة"، وكان هبار في الجاهلية سبابًا. هجا النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل إسلامه، وله معه خبر طويل ذكره ابن حجر، وكان إسلامه بعد الفتح بالجعْرانة. توفي بعد سنة خمس عشرة. ينظر: "أسد الغابة" (5/ 384)، "الإصابة" (6/ 279)، "الأعلام" (8/ 70).

أبي سرح، ومِقْيَسِ بنِ صُبابة، والحويرثِ بن نُقيد، وابنِ خطل (¬1). قال: وأما الحويرثُ بنُ نُقيد، فإنَّه كان يؤذي النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فأهدَرَ دمَه، فبينا هو في منزلهِ يومَ الفتح قد أُغلق بابه عليه، وأقبل عليٌّ يسأله عنه، فقيل: هو في البادية، فأُخبر الحويرثُ أنه يُطْلَب، وتنحَّى عَلِيٌّ عن بابه، فخرج الحويرثُ يريدُ أن يهربَ من بيتٍ إلى بيتٍ آخر، فتلقاه عليٌّ فضَرَب عنقه (¬2). ومثلُ هذا مما يُشتَهَرُ عند هؤلاء مثل الزهري وابنِ عقبةَ وابنِ إسحاق والواقديِّ والأُموي وغيرهم، أكثرُ ما فيه أنه مرسل، والمرسَلُ إذا رُوِيَ من جهاتٍ مختلفةٍ -لا سيما ممن له عنايةٌ بهذا الأمر وتتبُّعٌ له- كان كالمسند، بل بعضُ ما يُشتهر عند أهل المغازي ويَستفيضُ أقوى مما يُروى بالإِسناد الواحد، ولا يُوهِّنه أنه لم يذُكَرْ في الحديثِ المأثور عن سعدٍ وعَمرِو بن شُعيب، عن أبيه، عن جَدِّه، لأن المثْبِت مُقدَّم على النافي، ومَنْ أخبر أنه أَمَر بقَتله، فمعه زيادةُ علم، ولعلَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يأمُرْ بقَتلِه، ثم أَمَر بقتله، وذلك أنه يمكنُ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهى أصحابَه ألَّا يُقاتِلوا إلاَّ مَن قاتَلهم إلاَّ النفر الأربعة، ثم أَمَرهم أن يَقتلوا هذا وغيره. ومجردُ نهيه عن القتال لا يوجبُ عِصمةَ المكفوفِ عنهم، لكنه بعد ذلك آمَنَهم الأمانَ العاصمَ للدم، وهذا الرجلُ قد أَمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتله لمجرَّدِ أذاه له، مع أنه قد آمَنَ أهْلَ البلدِ الذين قاتلوه وأصحابَه وفعلوا بهم الأفاعيل. ¬

_ (¬1) ينظر: كتاب "المغازي للواقدي" (2/ 825). (¬2) "المغازي" (2/ 857).

ومِن ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا قَفَلَ من بدرٍ راجعًا إلى المدينة قَتَل النَّضْرَ بنَ الحارث وعُقْبَةَ بنَ أبي مُعْيطٍ، ولم يَقتل من أُسَارَى بدر غيرهما، وقصتهما معروفة. ° قال ابنُ إسحاق: "وكان في الأَسرى عُقْبَةُ بن أبي مُعْيطٍ والنَّضْرُ بنُ الحارث، فلما كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالصَّفْراء (¬1) قَتَلَ النَّضْرَ بنَ الحارث، قَتَله عليُّ بنُ أبي طالب كما خُبِّرْتُ، ثم مَضى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا كان بِعرْقِ الظَّبْيَة (¬2) قُتل عقبةُ بنُ أبي مُعيط، قَتَله عاصمُ بن ثابت (¬3). فالسببُ الذي أوجَبَ قَتْلَ هذيْن الرَّجُلَيْن من بين سائرِ الأَسرى: أذاهم للهِ ولرسولهِ بالقول والفعل؛ فإنَّ الآياتِ التي نزلت في النَضْر معروفة (¬4). ¬

_ (¬1) الصَّفراء: وادٍ كثير النخل بينه وبين بدر مرحلة. (¬2) عَرق الظبية: هو من الرَّوْحاء على ميلين مما يلي المدينة. (¬3) "السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 644)، و"المغازي" (1/ 114، 138، 149). (¬4) فقد روى ابن جرير الطبري في "تفسيره" (18/ 182) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "أنزل الله تبارك وتعالى في النضر ثماني آيات من القرآن، قوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [القلم: 15]، وكل ما ذكر في الأساطير من القرآن" اهـ. ومن تلك الآيات التي نزلت في النضر بن الحارث، قول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25]. ينظر: "أسباب النزول" للواحدي (175). ومنها قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 31] .. ينظر "الباب النزول" للسيوطي (ص 110) و"تفسير ابن جرير" (9/ 231) .. ومنها: قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]. قال الواحدي (ص 192): "نزلت في النضر بن الحارث". ينظر: "تفسير ابن جرير" =

° قال الواقديُّ: كان النضرُ بنُ الحارث أَسَرَهُ المِقْدَادُ بن الأسود، فلمَّا خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من بدرٍ فكان بالأُثَيِّل (¬1) عُرِض عليه الأسْرَى، فنظر إلى النضرِ بنِ الحارث فأبدَّه البصرَ (¬2)، فقال لرجلٍ إلى جنبه: محمدٌ واللهِ قاتِلي، لقد نظر إليَّ بعينين فيهما الموت، فقال الذي إلى جنبه: "واللهِ ما هذا منك إلاَّ رعب"، فقال النضرُ لمصعبِ بنِ عمير: يا مصعبُ، أنت أقرب مَنْ ها هنا بي رحمًا، كلمْ صاحبَك أن يجعلَني كرجلٍ من أصحابي، هو واللهِ قاتلي إن لم تفعلْ، قال مصعب: إنَّك كنتَ تقولُ في كتاب الله كذا وكذا، وتقول في نبيَّه كذا وكذا، قال: يا مُصعبُ، يجعلُني كأحدِ أصحابي، إن قُتلوا قُتلت، وإن مَنَّ عليهم مَنَّ عليَّ، قال مصعبٌ: إنك كنت تُعذِّب أصحابَه -وذكر الحديث-، إلى أن قال: فقتله عَلِيُّ بن أبي طالب صبرًا بالسيف (¬3). ° وقد أهدَرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - دَمَ كعبِ بنِ زُهير بن أبي سُلْمى لهجائه إيَّاه، ثم قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تائبًا وأنشده قصيدتَه المشهورة "بانت سعاد" وفيها: أنبِئْتُ أنَّ رَسُولَ الله أوْعدَنِي ... وَالعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ الله مَأمُولُ مَهْلاً هَدَاكَ الَّذِي أَعْطَاَكَ نَافِلَةَ الْ ... قرآنِ فِيه مَوَاعيظٌ وتَفْصِيْلُ لاَ تَأْخُذَنِّي بِأقْوَالِ الوُشَاةِ وَلَمْ ... أُذْنِبْ، وَلَو كَثُرَتْ فِيَّ الأقَاوِيلُ ¬

_ = (9/ 232). ومنها قوله تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5]. ينظر: "تفسير ابن جرير" (18/ 182). (¬1) الأثيل: موضع قرب المدينة بين بدر والصفراء. انظر "معجم البلدان" (1/ 93). (¬2) أبده البصر أي: أعطاه بدته من النظر، أي: حظَّه. "النهاية" (1/ 105) (بد). (¬3) "المغازي" للواقدي (1/ 106، 107).

ومن ذلك: أن أصحابه كانوا إذا سَمِعوا مَنْ يَسُبُّه ويؤذيه - صلى الله عليه وسلم - قتلوه، وإن كان قريبًا، فيُقرُّهم على ذلك ويرضاه، وربما سَمَّى مَنْ فعل ذلك "ناصرًا لله ورسوله". فهذه الأحاديثُ كلُّها تدلُّ على أنَّ مَن كان يسبُّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ويؤذيه من الكفار، فإنَّه كان يَقصِدُ قَتْلَه، وَيحضُّ عليه لأجل ذلك، وكذلك أصحابُه بأمره يفعلون ذلك، مع كَفِّه عن غيرِه ممن هو على مِثل حاله في أنه كافرٌ غيرُ معاهَد، بل مع أمانهِ لأولئك، أو إحسانِه إليهم من غير عهدٍ بينه وبينهم، ثم مِن هؤلاءمَنْ قُتل، ومنهم من جاء مسلمًا تائبًا فعُصِم دمه. * سنَّة الله فيمن لا يقدرُ المسلمون على الانتقام منه: ومِن سُنةِ الله أن مَن لم يُمكَّنِ المؤمنون أن يُعذِّبوه مِن الذين يؤذون اللهَ ورسولَه، فإن اللهَ سبحانه ينتقمُ منه لرسوله ويكفيه إياه، كما قدمنا بعضَ ذلك في قصةِ الكاتب المفتَرِي، وكما قال سبحانه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [95]} [الحجر: 94 - 94]. والقصةُ في إهلاكِ الله واحدًا واحدًا من هؤلاء المستهزئين معروفة، قد ذكرها أهلُ السِّير والتفسير، وهم -على ما قيل- نفرٌ من رؤوس قريش: منهم الوليدُ بن المغيرة، والعاصُ بن وائل، والأسودانِ بنُ المطلب وابنُ عبد يغوث، والحارثُ بن قيس. وقد كَتب النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى كِسرى وقيصر، وكلاهما لم يُسْلم، لكنَّ قيصرَ أكرَمَ كتاْبَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأكرم رسوله، فَثَبَتَ مُلكُه، فيقال: إن المُلكَ باقٍ في ذريته إلى اليوم، وكِسرى مَزَّق كتابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،

واستهزأ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقتله اللهُ بعد قليل، ومَزَّق مُلكَه كل ممزَّق، ولم يبقَ للأكاسرة مُلكٌ، وهذا -والله أعلم- تحقيقُ قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3]. فكلُّ من شَنَأه وأبغَضَه وعاداه، فإن الله تعالى يقطعُ دابرَه، ويَمحقُ عينَه وأثَره، وقد قيل: إنها نزلت في العاصِ بنِ وائل، أو في عقبةَ بنِ أبي مُعيط، أو في كعب بن الأشرف، وقد رأيتَ صنيعَ الله بهم (¬1). ومن الكلام السائر: "لحومُ العلماء مسمومة" .. فكيف بلحوم الأنبياء عليهم السلام. • وفي "الصحيح" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" يَقُولُ الله تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالمُحَارَبَةِ" (¬2). فكيف بمَن عَادى الأنبياء؟ ومن حارَبَ اللهَ حُرِبَ، وإذا استَقريتَ قَصَصَ الأنبياءِ المذكورةَ في القرآن تجدُ أُممهم إنما أُهلكوا حين آذَوا الأنبياء وقابلوهم بقبيحِ القول أو العمل، وهكذا بنُو إسرائيل إنما ضُربت عليهم الذِّلَّة، وباؤوا بغضبٍ من الله، ولم يكن لهم نصيرٌ لقتلهم الأنبياءَ بغيرِ حقٍّ مضمومًا إلى كُفرهم، كما ذَكر اللهُ ذلك في كتابه، ولعلَّك لا تَجِدُ أحدًا آذى نبيًّا من الأنبياء، ثم لم يَتُبْ إلاَّ ولابد أن يُصيبَه اللهُ بقارعةٍ، وقد ذكرنا ما جرَّبه المسلمون من تعجيلِ الانتقام من الكفارِ إذا تعرَّضوا لسبِّ ¬

_ (¬1) انظر "تفسير الطبري" (30/ 329)، و"تفسير ابن كثير" (4/ 559). (¬2) جزء من حديث رواه البخاري في "صحيحه" كتاب الرِّقاق- باب التواضع (11/ 348ح 6502) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وفيه عبارة: "فقد آذنته بالحرب"، وقد انفرد البخاري بإخراجه في "صحيحه".

الحديث الثاني عشر

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبلغنا مثلُ ذلك في وقائعَ متعددة، وهذا بابٌ واسعٌ لا يُحاط به، ولم نَقصِدْ قَصْدَه هنا، وإنما قَصَدْنا بيانَ الحُكمِ الشرعيَّ. • وكان سبحانه يَحْميه ويَصْرفُ عنه أذى الناسِ وشَتْمَهم بكلِّ طريق، حتى في اللفظ؛ ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا تَرَوْنَ كيْفَ يَصْرِفُ اللهُ عنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ؟ يَشْتُمُونَ مُذَمَّمًا وَيَلعَنُونَ مُذَمَّمًا، وَأَنَا مَحَمَّدٌ" (¬1). فنزَّه الله اسمَه ونَعْتَه عن الأذى، وصَرَف ذلك إلى مَن هو مذمَّم، وإن كان المؤذي إنما قصد عينه. الحديث الثاني عشر: • روى النسائي عن أبي بَرزةَ قال: أُتي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمالٍ فقَسَمه، فأعطى مَنْ عن يمينه ومَنْ عن شماله، ولم يُعطِ مَنْ وَراءه شيئًا، فقام رجلٌ من ورائهِ فقال: يا محمدُ، ما عَدَلْتَ في القسمة -رجلٌ أسود مطمومُ الشعر، عليه ثوبانِ أبيضان-، فغضب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - غضبًا شديدًا، وقال: ¬

_ (¬1) رواه البخاري: في كتاب "المناقب"- باب ما جاء في أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (6/ 641 ح 3533) وفيه لفظ: "ألا تعجبون"، ورواه الإِمام أحمد: في "المسند" (2/ 244، 340، 369) باللفظين، والنسائي: في كتاب الطلاق- باب الإبانة والإفصاح بالكلمة الملفوظ بها (6/ 159) بلفظ:"انظروا"، والبيهقي: في "السنن الكبرى" (8/ 252). وهذا الحديث لم أجده في "صحيح مسلم"، ويؤيد ذلك ما نص عليه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (6/ 735) في خاتمة المناقب النبوية من كتاب المناقب، حيث ذكر بأن مسلمًا وافق البخاري على تخريج أحاديث المناقب النبوية سوى ثمانية وعشرين حديثًا، وذكر منها هذا الحديث. وصَرَّح بذلك أيضا العلامة أحمد محمد شاكر في شرحه "للمسند" 13/ 50 ح 7327) فقال: "ولم يخرجه مسلم".

"واللهِ لا تَجِدُون بَعْدي رَجُلاً هو أعْدَلُ مِنَّي"، ثم قال: "يَخْرُجُ في آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ كأنَّ هذَاَ منْهُمْ يَقْرَؤُونَ الْقُرآنَ لاَ يُجاوِزُ تَرَاقِيهمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإسْلامِ كمَا يَمْرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، سيمَاهُمُ التَحْليقُ (¬1) لَاَ يَزَالُونَ يَخْرُجُون حَتى يَخْرُجَ آخِرُهم معَ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، فإذا لَقيتُموهُم فَاقْتُلُوهُم، هُمْ شَرُّ الْخَلقِ وَالخَلِيقَةِ" (¬2). ° فهذا دليلٌ على أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَر بقتلِ طائفةِ هذا الرجل العائب عليه، وأخبر أن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم وقال: "لَئِنْ أدرَكْتُهمْ لأقْتُلَنَّهُم قَتْلَ عادٍ"، وذكر أنهم شَرُّ الخَلقِ والخليقة. ° وفيما رواه الترمذِيُّ وغيرُه عن أبي أمامة أنه قال: "هُمْ شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أدِيْمِ السَّمَاءِ، خَيْرُ قَتْلى مَنْ قَتَلوه". * وذُكر أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك مراتٍ متعددة، وتلا فيهم قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران: 106] (¬3). ¬

_ (¬1) أي: كانت طريقة الخوارج: حلق جميع الرأس، وكان السلف يوفرون رؤوسهم لا يحلقونها، كما في "الفتح" (8/ 68ح 4351). (¬2) رواه النسائي: في كتاب تحريم الدم- من شهر سيفه، ثم وضعه في الناس (7/ 119 - 121)، وأحمد: في "المسند" (4/ 421، 424، 425). (¬3) صحيح: رواه الترمذي: في كتاب "تفسير القرآن"- باب ومن سورة آل عمران (5/ 210 ح 3000)، وابن ماجه: في المقدمة- باب في ذكر الخوارج (1/ 62 ح 176)، وأحمد: في "المسند" (5/ 250، 256، 269)، وعبد الله بن أحمد بن حنبل: في كتاب "السنة" (2/ 643 ح 1542)، والحاكم: في "المستدرك" (2/ 149)، والبيهقي: في "السنن الكبرى" (8/ 188). الحديث: حَسَّنه الترمذي، وقال الحاكم: "صحيح على =

فإن ثَبَتَ بهذه الأحاديث الصحيحةِ أنه - صلى الله عليه وسلم - أَمَر بقتل مَن كان من جنسِ ذلك الرجلِ الذي لَمَزَه أينما لُقُوا، وأخبر أنهم شَرُّ الخَليقة، وثَبَتَ أنهم مِن المنافقين: كان ذلك دليلاً على صحَّةِ معنى حديث الشعبي في استحقاق أصلِهم للقتل. * ولقد اختلف العلماءُ في حكمِ الخوارج: فمِمَّن قال بتكفيرهم: الإِمامُ البخاري والقاضي أبو بكر بن العربي وتقي الدين السبكي والطبري والقرطبي والقاضي عياض .. ومِمَّن قال بتفسيقهم: ذهب أكثرُ أهلِ الأصول من أهلِ السنة إلى أن الخوارج فُسَّاق، وأن حُكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين ومواظبتهم على أركان الإسلام. قال الخطابي: أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالتهم فرقة من فرق المسلمين وأنهم لا يُكفَّرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام. وقال ابن بطال: ذهب جمهورُ العلماء إلى أن الخوارج غيرُ خارجين عن جملة المسلمين، ومن توقف في تكفيرهم: وهم المتكلمون، وكادت أن تكون هذه المسألة أشدَّ إشكالاً عند المتكلمين من غيرها، ومنهم: الإِمام أبو المعالي وقيله القاضي الباقلاني، وكذا الغزالي. وللتفصيل في أقوال العلماء وأدلة كل فريق ينظر: "فتح الباري" المطبوع مع "صحيح البخاري" (12/ 313) في آخر شرح الحديثين رقم (6933، 6934)، من كتاب ¬

_ = شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي" (3/ 32ح 2398).

إجماع الصحابة على كفر ساب الرسول - صلى الله عليه وسلم -

"استتابة المرتدين"- باب من ترك قتال الخوارج. * إِجماعُ الصحابةِ على كفر سابِّ الرسول - صلى الله عليه وسلم -: وأمَّا إجماعُ الصحابة - رضي الله عنهم -، فلأنَّ ذلك نُقِلَ عنهم في قضايا متعدِّدة ينتشرُ مِثلُها ويستفيض، ولم يُنكِرْها أحدٌ منهم؛ فصارت إجماعًا، واعلمْ أنه لا يمكن ادِّعاء إجماعِ الصحابة على مسألةٍ فَرْعية بأبْلَغَ من هذا الطريق. ° فمن ذلك ما ذَكره سَيفُ بنُ عمرَ التميميُّ (¬1) في كتاب "الردَّة والفتوح" عن شيوخه، قال: ورُفع إلى المهاجر -يعني: المُهاجرِ بن أبي أمية، وكان أميرًا على اليمامة ونواحيها- امرأتانِ مغنيتانِ غَنَّتْ إحداهما بشَتْمِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَقَطع يدها، ونَزعَ ثَنيَّتها، وغَنَّتِ الأخرى بهجاءِ المسلمين فقطع يَدَهَا، ونَزعَ ثنيتَّها، فكتب أبو بكر: "بَلَغني الذي سرت به في المرأة التي تغنَّتْ وزَمَّرت بشَتمِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلولا ما قد سبقتني فيها لأمرتُك بقَتْلِها؛ لأن حدَّ الأنبياء ليس يشبهُ الحدود؛ فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد، أو معاهدٍ فهو محارِب غادر". ° وكتب إليه أبو بكر في التي تَغنَّتْ بهجاء المسلمين: "أمَّا بعد، فإنَّه بلغني أنك قطعت يَدَ امرأة في أن تَغَنَّتْ بهجاء المسلمين ونزعتَ ثَنِيَّتَهَا، فإنْ كانت ممن تدعي الإسلام فأدَبٌ وتقدمة دون المُثْلة، وإن كانت ذِمِّيةً فلعمري لَمَا صَفَحَت عنه من الشرك أعظم، ولو كنتُ تقدَّمتُ إليك في مثل هذا لبلغتَ مكروهك، فاقبَلِ الدَّعَةَ، وإياك والمُثْلةَ في الناس؛ فإنَها مأثم ومنفرة إلاَّ في قصاص". ¬

_ (¬1) ضعيف في الحديث، عُمدَةٌ في التاريخ.

° وقد ذكر هذه القصةَ غيرُ سيف (¬1)، وهذا يوافقُ ما تقدم عنه أن مَنْ شَتم النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له أن يقتلَه، وليس ذلك لأحدٍ بعده، وهو صريحٌ في وجوب قَتْل من سَبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - من مسلمٍ ومعاهَدٍ -وإن كان امرأة-، وأنه يُقْتَل بدون استتابة، بخلاف مَنْ سبَّ الناس، وأن قتله حدٌّ للأنبياء كما أن جَلْدَ مَن سَب غيرَهم حدٌّ له، وإنما لم يأمرْ أبو بكر بقَتْل تلك المرأةِ؛ لأن الهاجِرَ سَبق منه فيها حدٌّ باجتهاده، فكَرِهَ أبو بكر أن يجمعَ عليها حَدَّيْن، مع أنه لعلَّها أسلمت، أو تابت فقَبِلَ المهاجرُ توبتَها قبلَ كتاب أبي بكر، وهو محلُّ اجتهادٍ سَبق منه فيه حُكمٌ فلم يُغيِّره أبو بكر؛ لأنَّ الاجتهادَ لا يُنقضُ بالاجتهاد، وكلامُه يدلُّ على أنه إنما مَنَعه من قتلِها ما سبق من المهاجر. ° ورَوى حَرْبٌ في "مسائله" عن لَيْث بنِ أبي سُلَيم، عن مجاهدٍ قال: "أُتي عُمرُ برَجُل سَبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقتله، ثم قال عمرُ: مَنْ سَبَّ الله، أو سَبَّ أحدًا من الأنبياء فاقتلوه". ° قال ليثٌ: وحدثني مجاهدٌ عن ابن عباس قال: "أيُّما مسلم سبَّ اللهَ، أو سَبَّ أحدًا من الأنبياء، فقد كَذَّبَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي رِدَّةٌ، يُسْتتاب، فإنْ رَجَع وإلاَّ قُتِلَ، وأيما معاهدٍ عاند فسَبَّ الله، أو سَبَّ أحدًا من الأنبياء، أو جَهَر به، فقد نَقَضَ العهد فاقتلوه". ° وعن أبي مَشجعةَ بنِ رِبعيٍّ قال: "لَمَّا قَدِمَ عمرُ بنُ الخطاب الشامَ قام قُسْطَنْطِين بِطْرِيقُ الشام، وذكر معاهدةَ عمرَ له وشروطه عليهم، قال: اكْتُبْ بذلك كتابًا، قال عمرُ: نعم، فبينا هو يكتبُ الكتابَ إذ ذكر عمر، ¬

_ (¬1) "تاريخ الطبري" (1/ 341)، و"تاريخ الخلفاء" (ص 97).

فقال: إني أستثني عليك مَعَرَّةَ الجيش مرتين، قال: لك ثُنْيَاك (¬1) وقَبَّحَ الله من أقَالَكَ (¬2)، فلما فرغ عمرُ من الكتاب قال له: يا أميرَ المؤمنين، قُمْ في الناس فأخبِرْهم الذي جَعَلْتَ لي، وفرَضْتَ عَلَيَّ؛ ليتناهَوْا عن ظُلْمي، قال عمرُ: نعم، فقام في الناس، فحمدَ الله وأثنى عليه، فقال: الحمدُ لله أحمدُه وأستعينه، مَنْ يَهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلل فلا هاديَ له، فقال النَّبَطيُّ: إن اللهَ لا يُضِلُّ أحدًا، فقال عمرُ: ما يقول؟ قالوا: لا شيءَ، وعاد النبطيُّ لمقالته، فقال: أخبرني ما يقول، قال: يزعمُ أن اللهَ لا يُضِلُّ أحدًا، قال عمر: إنا لم نُعطِكَ الذي أعطيناك لتدخلَ علينا في ديننا، والذي نفسي بيده لَئِنْ عُدتَ لأضربنَّ الذي فيه عيناك، وأعاد عمرُ، ولم يَعُدِ النبطيُّ، فلمَّا فرغ عمرُ أخذ النبطيُّ الكتاب"، رواه حرب (¬3). فهذا عمرُ - رضي الله عنه - بمَحْضرٍ من المهاجرين والأنصار يقولُ لمن عاهده: "إنا لم نُعطِكَ العهدَ على أن تدخلَ علينا في ديننا"، وحَلَفَ لئن عاد ليضربَنَّ عنقه؛ فعُلم بذلك إجماعُ الصحابة على أن أهلَ العهدِ ليس لهم أن يُظهِروا الاعتراضَ علينا في ديننا، وأن ذلك منهم مُبِيحٌ لدمائهم. وإنَّ من أعظمِ الاعتراض سَبَّ نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وهذا ظاهرٌ لا خَفَاء به، لأن إظهارَ التكذيب بالقَدَرِ من إظهار شتم النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإنما لم يَقتُلْه عمرُ؛ لأنه لم يكن قد تقرَّر عنده أن هذا الكلامَ طَعْنٌ في ¬

_ (¬1) لك ثُنْياك، أي: لك ما استثنيت. والثَّنْيا: هي أن يُسْتَثْنَى في العقد شيء. ينظر: "النهاية" (1/ 224) (ثنا). (¬2) أقالك، أي: فسخ عهدك ونقضه. ينظر: "النهاية" (4/ 134) (قيل). (¬3) ورواه المعافى بن زكريا الجريري في كتابه "الجليس الصالح" (3/ 306).

حكم من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - من مسلم أو كافر وجوب قتله

ديننا؛ لجوازِ أن يكون اعتَقد أن عمرَ قال ذلك من عنده، فلما تقدم إليه عمرُ وبيَّنَ له أن هذا ديننا قال له: "لئن عُدْت لأقتلنك". ومِن ذلك ما اسَتدلَّ به الإمام أحمد، ورواه عن هُشيم: ثنا حُصين، عمَّن حدَّثه، عن ابنِ عمر قال: "مرَّ به راهبٌ، فقيل له: هذا يسبُّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: لو سمعتُه لقتلتُه، إنا لم نُعطِهِمُ الذِّمَّةَ على أن يسبُّوا نبيَّنا - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). ورواه أيضَا من حديثِ الثوريِّ، عن حُصينٍ، عن شيخٍ أن ابن عمر - رضي الله عنهما - أَصْلَتَ (¬2) على راهِبٍ سبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسيفِ، وقال: "إنا لم نُصالِحْهم على سبِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬3). * حُكْم مَن سَبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مِن مسلمٍ أو كافرٍ وجوبُ قتلِه: ° قال شيخُ الإسلام ابن تيمية في كتابه المبارَك "الصارم المسلول على شاتم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ":"هذا مذهَبُ عامةِ أهل العلم .. قال ابنُ المُنْذِرِ: "أجمعَ عوامُّ أهلِ العلمِ على أَن حَدَّ مَن سبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - القتل، وممن قاله مالكٌ واللَّيثُ وأحمدُ وإسحاقُ، وهو مذهبُ الشافعي". ¬

_ (¬1) انظر "أحكام أهل الملل" لأبي بكر الخلال: كتاب الحدود- باب فيمن شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - (ق / 103/ ب). وعزاه ابن حجر في "المطالب العالية" (2/ 175 ح 1986) إلى "مسند مُسدَّد" وفي حاشيته: قال البوصيري: رواه مسدد بسند فيه راوٍ لم يُسَمَّ، والحارث في مسنده بسند رواته ثقات. (¬2) أصلت السيف: إذا جَرّده من غِمْده. "النهاية" (3/ 45) (صلت). (¬3) "أحكام أهل الملل" (ق/ 103/ ب- ق/104/ أ)، وفيه بلفظ: "معلت على راهب" مهملة بدون نقط. وهو تحريف.

° قال: "وحُكي عن النعمان (¬1): لا يُقتل -يعني: الذِّمِّيَّ-، ما هُو عليه من الشركِ أعْظَمُ" (¬2). وقد حَكى أبو بكر الفارسي (¬3) من أصحابِ الشافعي -إجماعَ المسلمين على أنَّ حدَّ من يَسبُّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - القتل، كما أن حدَّ مَن سبَّ غيرَه الجَلْدُ. وهذا الإجماعُ الذي حكاه محمولٌ على إجماع الصَّدْرِ الأوَّل مِن الصحابة والتابعين، أو أنه أرادَ به إجماعَهم على أن سابَّ النبِّي - صلى الله عليه وسلم - يجبُ قتلُه إذا كان مسلمًا، وكذلك قَيَّدَه القاضي عِيَاضٌ، فقال: "أجمَعَتِ الأمة على قَتْل متنقِّصِه من المسلمين وسابِّه" (¬4)، وكذلك حَكَى عن غيرِ واحدٍ الإجماعَ على قتله وتكفيره (¬5). ° وقال الإمامُ إسحاقُ بنُ رَاهُوْيَه -أحدُ الأئمة الأعلام-: "أجمع ¬

_ (¬1) يعني: أبا حنيفة. (¬2) ينظر: كتاب "الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف" لابن المنذر: في كتاب الحدود (2/ 682) رقم (285) (رسالة علميَّة)، كتاب "الإجماع " لابن المنذر أيضًا: في كتاب "المرتد" (ص 153) رقم (722). (¬3) هو أحمد بن الحسين بن سهل، أبو بكر الفارسي. إمام جليل، تفقَّه على ابن سريج. وهو أول من درَّس مذهب الشافعي ببَلْخ. قال النووي: "من أئمة أصحابنا وكبارهم ومتقدميهم وأعلامهم" اهـ. صَنف كتاب "العيون على مسائل الربيع" وكتاب "الانتقاد على المُزَني"، وكتاب "الخلاف" معه، وكتاب "الإجماع". مات سنة خمسين وثلاث مئة. (¬4) يُنظر: كتاب "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" للقاضي عياض: القسم الرابع: "في تعريف وجوه الأحكام فيمن تنقصه أو سبَّه عليه الصلاة والسلام" (2/ 211). (¬5) يُنظر: "كتاب الشفا" الباب الأول: في بيان ما هو في حقه - صلى الله عليه وسلم - سبٌّ أو نقص من تعريض أو نص (2/ 215) وما بعدها.

المسلمون على أنَّ من سَبَّ اللهَ، أو سَبَّ رسولَه - صلى الله عليه وسلم -، أو دَفَعَ شيئًا مما أنزل الله عزَّ وجلَّ، أو قَتَلَ نبيًّا من أنبياء اللهِ عزَّ وجلَّ، أنه كافر بذلك -وإن كان مُقرًّا بكلِّ ما أنزل اللهُ-". ° وقال الخَطَّابي: "لا أعلمُ أحدًا من المسلمين اخْتَلَفَ في وُجُوب قَتْله" (¬1). ° وقال محمدُ بنُ سَحْنُون: "أجمع العلماءُ على أن شاتِمَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - المتَنَقِّصَ له كافرٌ، والوعيدُ جارٍ عليه بعذاب اللهِ له، وحُكْمُه عند الأُمةِ القتْلُ، وَمَنْ شَكَّ في كُفره وعذابه كَفَر" (¬2). وتحريرُ القول فيها: أنَّ السابَّ إن كان مسلمًا، فإنه يَكفُرُ ويُقْتَلُ بغير خلاف، وهو مذهبُ الأئمةِ الأربعة وغيرهم، وقد تقدم ممن حكى الإجماعَ على ذلك من الأئمة مثل إسحاق بن رَاهُوْيَه وغيره. وإن كان ذمِّيًّا، فإنه يُقتل أيضًا في مذهب مالكٍ وأهْل المدينة، وسيأتي حكايةُ ألفاظهم، وهو مذهبُ أحمد وفقهاءِ الحديث، وقد نَصَّ أحمدُ على ذلك في مواضعَ متعددة. ° قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: "كلُّ مَن شَتَم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أو تنقَّصه -مسلما كان أو كافرًا-، فعليه القتلُ، وأرى أن يُقتلَ ولا يُستتاب". ° قال: وسمعتُ أبا عبد اللَّه يقول: "كلُّ مَنْ نَقَضَ العهدَ، وأحدَثَ في الإسلام حَدَثًا مِثلَ هذا، رأيتُ عليه القتل، ليس على هذا أُعْطَوا العهدَ والذِّمَّة". ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي- المطبوع مع مختصر سنن أبي داود (6/ 199). (¬2) صنف الإِمام محمد بن سحنون رسالة بعنوان:"رسالة فيمن سبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ".

° وكذلك قال أبو الصقر (¬1): سألتُ أبا عبد الله عن رجلٍ من أهل الذمَّة شَتَم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ماذا عليه؟ قال: إذا قامت عليه البينةُ يُقتل مَنْ شَتَم النبي - صلى الله عليه وسلم -، مسلمًا كان أو كافرًا"، رواهما الخَلَّالُ (¬2). ° وقال في رواية عبد الله وأبي طالب (¬3) -وقد سُئل عمَّن شَتَم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُقتل، قيل له: فيه أحاديث؟ قال: نعم، أحاديث منها: حديث الأعمى الذي قَتَل المرأة، قال: "سمعتها تَشتمُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -"، وحديثُ حُصَينٍ أن ابن عُمرَ قال: "مَن شَتَمَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قُتل" (¬4)، وعمرُ ابن عبد العزيز يقول: "يُقتل" (¬5)، وذلك أنه مَن شتم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فهو مُرْتَدٌّ عن الإِسلام، ولا يَشتُمُ مسلمٌ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ". ° زاد عبدُ الله: "سألتُ أبي عمَّن شَتَم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، يُستتاب؟ قال: قد وَجَب عليه القتلُ، ولا يُستتاب؟ خالدُ بنُ الوليد قَتَلَ رجلاً شَتَم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يَسْتَتِبْه"، رواهما أبو بكر (¬6) في "الشافي". ° وفي رواية أبي طالب: "سئل أحمدُ عمَّن شَتَم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال يُقْتَلُ، قد نَقَضَ العَهْدَ". ¬

_ (¬1) "ورَّاق الإِمام أحمد": يحيى بن يزداد الورَّاق. (¬2) رواهما الخلَّال في "أحكام أهل الملل" في كتاب الحدود-باب فيمن شتم النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) هو أبو طالب المُشْكاني أحمد بن حميد، من الطبقة الأولى من تلاميذ الإِمام أحمد. (¬4) رواه الخلال في "أحكام أهل المل" في كتاب الحدود-باب فيمن شتم النبي- صلى الله عليه وسلم - حصين عمن حدثه عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬5) روى ابن سعد في "الطبقات الكبرى" عن عمر بن عبد العزيز قال: "لا يُقتل أحدٌ في سَبِّ أحدٍ إلاَّ في سَبِّ نبي". (¬6) هو عبد العزيز بن جعفر البغدادي شيخ الحنابلة المعروف بـ "غلام الخلال".

° وقال حَربٌ: "سألتُ أحمدَ عن رجلٍ من أهل الذمةِ شَتَم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: يُقتلُ إذا شتَمَ النبي- صلى الله عليه وسلم -" .. رواهما الخَلَّال (¬1). وقد نصَّ هذا في غير هذه الجوابات. فأقوالُه كلُّها نصٌّ وجوب قتله، وفي أنه قد نَقَض العهد، وليس عنه في هذا اختلافٌ، وكذلك ذَكَر عامةُ أصحابِه، متقدِّمِهم ومتأخِّرِهم، لم يختلفوا في ذلك. وأما الشافعي، فالمنصوصُ عنه نفسهِ: أنَّ عَهْدَه يَنتقضُ بسبِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يقتل .. هكذا حكاه ابنُ المُنْذِر والخطابيُّ (¬2) وغيرهُما. ° والمنصوص عنه في "الأُمِّ" أنه قال: "إذا أراد الإمامُ أن يكتبَ كتابَ صُلحٍ على الجِزية كَتَب .. " -وذكر الشروطَ-، إلى أن قال: "وعلى أنَّ أحدًا منكم إن ذَكر محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أو كتابَ الله أو دينَه بما لا ينبغي أن يَذكُرَه به، فقد بَرِئَتْ منه ذمةُ الله ثم ذمةُ أمير المؤمنين وجميع المسلمين، ونَقَض ما أُعطي من الأمان، وحَلَّ لأميرِ المؤمنين مالُه ودمُه كما تَحِلُّ أموالُ أهل الحربِ ودماؤهم، وعلى أن أحدًا من رجالهم إن أصاب مُسلمةً بزنًى أو اسمِ نكاحٍ، أو قَطَع الطريقَ على مسلمٍ، أو فَتَنَ مسلمًا عن دينه، أو أعان المحارِبين على المسلمين بقتالٍ أو دَلالةٍ على عَوْرَات المسلمين، أو إيواءٍ لعيونهم، فقد نَقَضَ عهدَه، وأحلَّ دَمَه ومالَه .. وإنْ نال مسلمًا بما دون هذا في مالِهِ أو عِرْضِهِ .. لزمه فيه الحكم" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "أحكام أهل الملل" له. (¬2) انظر: "معالم السنن" للخطَّابي (6/ 200). (¬3) انظر: "الأم" للشافعي (4/ 209).

° ثم قال: "فهذه الشروطُ اللازمةُ إن رَضِيَ بها، فإن لم يَرْضَهَا، فلا عَقْدَ له ولا جِزْيَةَ" (¬1). ° ثم قال: "وأيُّهم قال أو فَعَل شيئًا مما وَصفتُه نَقْضًا للعهدِ وأسلم، لم يُقتلْ إذا كان ذلك قولاً، وكذلك إذا كان فعلاً لم يُقتلْ، إلاَّ أن يكونَ في دينِ المسلمين أَنَّ مَنْ فَعَله قُتِل حدًّا أو قِصاصًا، فيُقتلُ بحدٍّ أو قصاصٍ -لا نَقضِ عهدٍ-. وإن فَعَل مما وصفنا وشُرط أنه نقضٌ لعهد الذمة، فلم يُسْلِمْ، ولكنه قال: "أتوبُ وأُعْطِي الجِزْية كما كنتُ أعطيها، أو على صُلْحٍ أجَدِّدُه"، عوقب ولم يُقتلْ، إلاَّ أن يكون فَعَل فعلاً يوجبُ القصاصَ أو الحدَّ، فأما ما دون هذا من الفعل أو القولِ، فكلُّ قولٍ فيُعاقَبُ عليه ولا يُقتل" (¬2). ° وأما أبو حنيفةَ وأصحابُه، فقالوا: "لا يُنتقضُ العهدُ بالسبِّ، ولا يُقتل الذِّمي بذلك، لكن يُعَزَّر على إظهارِ ذلك كما يُعزَّرُ على إظهارِ المنكراتِ التي ليس لهم فِعلُها من إظهارِ أصواتِهم بكتابهم ونحو ذلك". وحكاه الطحاويُّ عن الثوريِّ. ومِن أصولهم أنَّ ما لا قَتلَ فيه عندهم -مِثلَ القتل بالمُثَقَّل والجِماع في غير القُبُل إذا تكرر-، فللإمام أن يقتلَ فاعلَه، وكذلك له أن يَزيدَ على الحدِّ المُقَدَّر إذا رأى المصلَحَةَ في ذلك، ويحملون ما جاء عن الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من القتل في مِثل هذه الجرائم على أنه رَأى المصلحة في ذلك، ويُسمونه "القَتْلَ سياسةً"، وكان حاصلُه أن له أنْ يُعزِّرَ بالقتل في الجرائم ¬

_ (¬1) "الأم" (4/ 210). (¬2) انظر "الأم" (4/ 210 - 211).

الأدلة على انتقاض عهد الذمي الساب

التي تَغَلَّظَت بالتكرار، وشُرع القتلُ في جنسِها، ولهذا أفتَى أكثرُهم بقَتلِ مَنْ أكثر مِن سبِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مِن أهل الذمة وإن أسْلَم بعدَ أخْذِه، وقالوا: "يُقتل سياسةً"، وهذا متوجهٌ على أصولهم" اهـ. من"الصارم المسلول" (¬1). * الأدلةُ على انتقاضِ عهدِ الذمِّي السَّابِّ: ° قال شيخُ الإِسلام ابن تيمية: "والدلالةُ على انتقاضِ عهد الذميِّ بسبِّ اللهِ أو كتابهِ أو دينهِ أو رسولهِ، ووجوبِ قتلهِ وقتلِ المسلم إذا أتى ذلك: الكتابُ، والسُّنة، وإجماعُ الصحابةِ والتابعين، والاعتبارُ. أما الكتابُ: فيُستنبط ذلك منه من مواضع: أحدها: قولُه تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قوله {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. فأمَرَنا بقتالهم إلى أن يُعْطُوا الجزيةَ وهم صاغرون، فلا يجوزُ الإمساكُ عن قتالهم إلاَّ إذا كانوا صاغِرين حالَ إعطائهم الجِزيةَ، ومعلومٌ أن إعطاءَ الجزيةِ من حينِ بَذْلِها والتزامَها إلى حين تسليمِها وإقباضها، فإنهم إذا بذلوا الجزيةَ شَرَعُوا في الإعطاء، ووجب الكفُّ عنهم إلى أن يُقْبِضُونَاهَا فيتمُّ الإعطاءُ؛ فمتى لم يلتزموها أو التزموها أولًا وامتنعوا من تسليمها ثانيًا لم يكونوا مُعطِينَ للجزية؛ لأن حقيقةَ الإِعطاءِ لَم تُوجد، وإذا كان الصَّغَارُ حالاًّ عليهم في جميع المُدَّة، فمِن العلوم أن مَن أظهَرَ سَبَّ نبيِّنا في وجوهِنا وشَتَمَ ربَّنَا على رؤوسِ المَلأ منَّا وطَعَنَ في ديننا في مجامعِنا فليس بصاغرِ؛ ¬

_ (¬1) انظر "الصارم المسلول على شاتم الرسول" (2/ 13 - 32) - دار ابن حزم.

الموضع الثاني

لأن الصَّاغِرَ: الذليلُ الحقيرُ، وهذا فِعلُ متعزَّزٍ مُرَاغِم، بل هذا غايةُ ما يكونُ من الإذلالِ لنا والإِهانةِ. ° قال أهل اللغةِ: الصَّغار: الذُّلُّ والضَّيْم .. يقال: صَغِر الرَّجُلُ -بالكسر-: يصْغَرُ -بالفتح-: صَغَرًا وصُغَرًا، والصَّاغِرُ: الراضي بالضَّيْمِ. ولا يَخفى على المتأمِّل أنَّ إظهارَ السبِّ والشتمِ لدينِ الأُمةِ الذي به اكتَسبت شَرَفَ الدنيا والآخرة، ليس فِعلَ راضٍ بالذلِّ والهوانِ، وهذا ظاهرٌ لا خفاء به. وإذا كان قتالُهم واجبًا علينا إلاَّ أن يكونوا صاغِرين، وليسوا بصاغِرين، كان القتالُ مأمورًا به، وكلُّ من أُمِرْنَا بقتاله من الكفار، فإنه يُقتلُ إذا قَدَرنا عليه. وأيضًا، فإنَّا إذا كُنا مأمورين أن نقاتلَهم إلى هذه الغاية، لَم يَجُزْ أن نَعْقِدَ لهم عهدَ الذمةِ بدونها، ولو عُقِدَ لهم كان عقدًا فاسدًا، فيَبقُون على الإباحة. الموضع الثاني: قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إلى قوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 7 - 12]. نفى سبحانه أن يكون لمشركٍ عهدٌ ممن كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد عاهَدهم، إلاَّ قومًا ذَكَرهم، فإنه جَعل لهم عَهدًا ما داموا مستقيمين لنا، فعُلم أن العهدَ لا يَبقى للمشركِ إلاَّ ما دام مستقيمًا، ومعلومٌ أن مُجاهرتَنا بالشَّتيمةِ والوقيعةِ

الموضع الثالث

في رَبِّنا ونبينا وديننا وكتابنا يَقْدَحُ في الاستقامة، كما تَقْدَحُ مجاهرتُنا بالمحاربةِ في العهدِ، بل ذلك أشدُّ علينا إن كنَّا مؤمنين؛ فإنه يجبُ علينا أنْ نَبذُلَ دماءَنا وأموالَنا حتى تكونَ كلمةُ اللهِ هي العليا، ولا يُجْهَر في ديارنا بشيءٍ مِن أذى اللهِ ورسوله، فإذا لم يكونوا مستقيمين لنا بالقَدْح في أهْوَنِ الأمرين، كيف يكونون مستقيمين مع القدح في أعظمهما؟!. * يوضِّحُ ذلك قولُه تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 8]، أي: كيف يكون لهم عهدٌ، ولو ظَهروا عليكم لم يَرقُبُوا الرَّحِمَ التي بينكم ولا العهدَ الذي بينكم؟ فعُلم أنَّ مَن كانت حالُه أنه إذا ظَهر لم يرْقُبْ ما بيننا وبينه من العهدِ، لم يكنْ له عهدٌ، ومَنْ جَاهَرَنا بالطعن في ديننا، كان ذلك دليلاً على أنه لو ظَهَر لم يَرْقُبِ العهدَ الذي بيننا وبينه؛ فإنه إذا كان مع وجودِ العهدِ والذِّلَّةِ يفعلُ هذا، فكيف يكونُ مع العِزَّةٍ والقُدرةِ؟ وهذا بخلافِ مَنْ لم يُظْهِرْ لنا مثلَ هذا الكلامِ، فإنه يجوزُ أن يَفِيَ لنا بالعهدِ لو ظَهر. وهذه الآية -وإن كانت في أهلِ الهُدْنَةِ الذين يُقيمون في دارهم-، فإن معناها ثابتٌ في أهلِ الذِّمةِ المقيمين في دارِنا بطريق الأولى. الموضع الثالث: قولُه تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12]، وهذه الآيةُ تدلُّ مِن وجوهٍ: أحدها: أنَّ مجردَ نَكْثِ الأيمان مقتضٍ للمُقاتَلة، وإنما ذَكَر الطعنَ في الدين وأَفَرَدَه بالذِّكر تخصيصًا له بالذكر وبيانًا؛ لأنه من أقوى الأسباب

المُوجِبةِ للقتال، ولهذا يُغَلَّظُ على الطاعن في الدين من العقوبة ما لا يُغلَّظُ على غيره من الناقضين -كما سنذكره إن شاء الله تعالى-، أو يكون ذَكَرَه على سبيل التوضيحِ وبيانِ سبب القتال؛ فإن الطعنَ في الدين هو الذي يجبُ أن يكون داعيًا إلى قتالهم لتكونَ كلمةُ الله هي العليا .. وأما مجرَّدُ نكثِ اليمين، فقد يُقاتَلُ لأجلِه شجاعةً وحَمِيَّةً ورياءً، ويكون ذكر لطعن في الدين لأنه أوجَبَ القتالَ في هذه الآية بقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}، وبقوله تعالى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} إلى قوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 13، 14] الآية. فيُفيد ذلك أن مَنْ لم يَصْدُرْ منه إلاَّ مجردُ نكثِ اليمين، جاز أن يُؤمَّنَ ويعاهَد، وأمَّا مَنْ طَعَن في الدين فإنه يتعيَّنُ قتالُه، وهذه كانت سنةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه كان يُنْدِرُ (¬1) دماءَ مَن آذى اللهَ ورسوله وطَعَن في الدين -وإن أمْسَكَ عن غيره-، وإذا كان نقضُ العهدِ وحده مُوجِبًا للقتال -وإن تَجَرَّد عن الطعن-، عُلم أنَّ الطعنَ في الدِّين إما سَبَبٌ آخر، أو سببٌ مستلزِمٌ لنقضِ العهد، فإنه لا بد أن يكونَ له تأثيرٌ في وجوب المقاتَلة، وإلاَّ كان ذِكرُه ضائعًا. الوجه الثاني: أن الذِّميَّ إذا سبَّ الرسولَ أو سبَّ اللهَ أو عاب الإسلامَ علانيةً، فقد نكَث يمينَه وطَعَن في ديننا؛ لأنه لا خلافَ بين المسلمين أنه يُعاقَبُ على ذلك ويُؤَدَّبُ عليه، فعُلم أنه لم يُعاهَدْ عليه، لأنا لو عاهدناه ¬

_ (¬1) يُهدر. ونَدَر أي: أسقط أو أهدر. انظر: "النهاية" (5/ 35).

عليه ثم فَعَلَه، لَم تَجُزْ عقوبتُه عليه، وإذا كنا قد عاهدناه على أن لا يَطعنَ في ديننا، ثم طَعَن في ديننا، فقد نَكَث في يمينه مِن بعدِ عهدِه وطَعَن في دينِنا، فيجبُ قتلُه بنصِّ الآية، وهذه دلالةٌ قويةٌ حسنة. الوجه الثالث: أنه سَمَّاهم "أئمةَ الكفر" لطعنهم في الدين، وأوقَعَ الظاهَر موقع المُضْمَر؛ لأن قوله: {أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} إمَّا أن يَعْنيَ به الذين نَكثوا وطعنوا، أو بعضهم، والثاني لا يجوزُ؛ لأن الفعلَ الموجِبَ للقتال صَدَرَ من جميعهم، فلا يجوزُ تخصيصُ بعضِهم بالجزاءِ؛ إذِ العِلَّةُ يجبُ طَرْدُها إلاَّ لمانعٍ -ولا مانع-، ولأنه عَلَّل ذلك ثانيًا بأنهم لا أيمانَ لهم، وذلك يَشملُ جميعَ الناكثين الطاعنين، ولأن النَّكث والطعن وَصفٌ مشتق مناسب لوجوب القتال، وقد رُتِّبَ عليه بحرفِ "الفاء" ترتيبَ الجزاء على شرطه، وذلك نصٌّ في أن ذلك الفعلَ هو الموجبُ للثاني؛ فثَبَت أنه عَنى الجميع، فيلزمُ أن الجميعَ أئمةُ كفرٍ، وإمامُ الكفر هو الداعي إليه المُتّبَعُ فيه، وإنما صار إمامًا في الكفرِ لأجلِ الطعن، فإنَّ مجرَّد النكث لا يُوجِبُ ذلك -وهو مناسِبٌ -، لأن الطاعنَ في الدين يَعيبُه وَيذُمُّه ويدعو إلى خلافه، وهذا شأنُ الإمام، فثَبَت أن كل طاعنٍ في الدين فهو إمامٌ في الكفر، فإذا طعن الذميُّ في الدين فهو إمامٌ في الكفر، فيجبُ قتالُه لقوله تعالى: {فَقَاتلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}، ولا يمينَ له؛ لأنه عاهَدَنَا على ألاَّ يُظهِرَ عَيْبَ الدين هنا وخَالَفَ، واليمين هنا المراد بها: العهودُ -لا القَسَمُ بالله-، فيما ذكره المفسرون (¬1)، ¬

_ (¬1) انظر "تفسير مجاهد" (274)، و"تفسير الطبري" (10/ 87)، و"زاد المسير" (3/ 404)، و"تفسير القرطبي" (8/ 81)، و"تفسير ابن كثير" (2/ 238).

وهو كذلك. الوجه الرابعِ: أنه قال تعالى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة: 13]، فجَعَل هَمَّهم بإخْرَاج الرَّسُولِ من المحضِّضات على قتالهم، وما ذاك إلاَّ لما فيه من الأذَى، وسَبُّه أغْلَظُ من الهمِّ بإخراجه، بدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - عفَا عامَ الْفَتْحِ عن الذين همُّوا بإخراجِه، ولم يَعْفُ عمَّن سَبَّه؛ فالذمِّيُ إذا أظهر سَبَّه فقد نَكَث عهده، وفَعَل ما هو أعظمُ من الهمِّ بإخراج الرسولِ، وبَدَأ بالأذى؛ فيجبُ قتالُه. الوجه الخامس: قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 14 - 15]. أمرَ سبحانه بقتالِ الناكثين الطاعنين في الدِّين، وضَمِنَ لنا -إن فَعَلْنا ذلك- أن يُعَذِّبهمِ بأيدينا ويُخزيَهم، وينصرَنا عليهم، ويَشفيَ صدورَ المؤمنين الذين تأذَّوا من نقْضِهم وطَعنِهم، وأن يُذهِبَ غيظَ قلوبهم؛ لأنه رتَّبَ ذلك على قتالِنا ترتيبَ الجزاءِ على الشرط، والتقديرُ: إن تُقَاتلوهم يَكُنْ هذا كلُّه؛ فدلَّ على أن الناكثَ الطاعنَ مستحقٌّ هذا كله، وإلاَّ فالكفارُ يُدَالُونَ علينا المرةَ وندَالُ عليهم الأخرَى (¬1)، وإن كانت العاقبة للمتقين، وهذا تصديقُ ما جاء في الحديث: "ما نَقَضَ قَوْمٌ العَهْدَ إلاَّ أُديِلَ عَلَيْهِمُ العَدُوُّ" (¬2) والتعذيبُ ¬

_ (¬1) يُدَالون علينا ونُدال عليهم: أي يغلبونا مرة ونغلبهم أخرى. والإدالة بمعنى الغلبة. انظر "النهاية" (2/ 141) (دول). (¬2) جزء من حديث ابن عباس وابن عمر وبريدة - رضي الله عنه -. فأما حديث ابن عباس فقد أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (11/ 45 ح 10992) =

بأيدينا هو القتلُ؛ فيكون الناكثُ الطاعنُ مستحقًّا للقتل، والسابُّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناكثٌ طاعنٌ كما تَقدَّم؛ فيَستحقُّ القَتْلَ، وإنما ذكر سبحانه النصرَ عليهم وأنه يتوبُ من بعدِ ذلك على مَن يشاء؛ لأنَّ الكلام في قتالِ الطائفةِ الممتنعة، فأما الواحدُ المستحقُّ للقتل، فلا ينقسمُ حتى يقال فيه: "يعذبُه اللهُ، ويتوبُ اللهُ مِن بعد ذلك على مَن يشاء"، على أن قولَه: {مَنْ يشاءُ} يجوزُ أن يكون عائدًا إلى مَنْ لم يَطعنْ بنفسه وإنما أقَرَّ الطاعن؛ فسُمِّيت الفئةُ طاعنةً لذلك، وعند التمييز فبعضُهم رِدْءٌ (¬1)، وبعضُهم مباشر، ولا يَلزمُ من التوبةِ على الرِّدْءِ التوبةُ على المباشر، ألاَ ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهْدَرَ عام الفتح دَمَ الذين باشروا الهجاءَ، ولم يُهْدِرْ دَمَ الذين سمعوه، وأهدَرَ دَمَ ¬

_ = بلفظ: " ... إلا سُلِّط عليهم عدوُّهم". قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 68): "وفيه إسحاق بن عبد الله بن كيسان المروزي، لَينه الحاكم، وبقية رجاله موثقون وفيهم كلام". وأما حديث ابن عمر فقد أخرجه ابن ماجه في كتاب "الفتن"- باب العقوبات (2/ 332 1ح 19 40). وقال البوصيري في "الزوائد" -على إسناد ابن ماجه-: "هذا حديث صالح للعمل به، وقد اختلفوا في ابن أبي مالك وأبيه" اهـ. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/ 545) بلفظ: "ولم ينقضوا عهدَ الله وعهدَ رسوله، إلا سُلط عليهم عدوهم". قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي. وأما حديث بريدة فقد أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/ 126) بلفظ: "ما نقض قوم العهد إلاَّ كان القتلُ بينهم "؛ والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 346)، (9/ 231). وقال عنه الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 272): "روه البزار ورجاله رجال الصحيح غير رجاء بن محمد وهو ثقة"، وقال الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1/ 169 - 71 1ح 107): "وبالجملة فالحديث بهذه الطرق والشواهد صحيح بلا ريب". (¬1) الرِّدْء -بكسر الراء-: المُعين والناصر.

بني بكرٍ، ولم يُهْدِرْ دَمَ الذين أعارُوهم السلاحَ؟!. السادس: أنَّ قولَه تعالى: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}. دليلٌ على أنَّ شفاءَ الصدورِ مِن ألم النكثِ والطعنِ، وذهابَ الغيظِ الحاصل في صدور المؤمنين من ذلك أمْرٌ مقصودٌ للشارع مطلوبُ الحصولِ، وأنَّ ذلك يحصلُ إذا جَاهَدوا كما جاء في الحديث المرفوع: "عليكُم بِالجهَاد فإنَّه بابٌ مِن أبوابِ الله، يَدفَعُ اللهُ به عنِ النُّفُوسِ الهمَّ وَالغمَّ" (¬1). ولا ريبَ أن مَن أظهر سَبَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أهل الذِّمَّة وشَتَمه، فإنه يَغِيظُ المؤمنين ويُؤلِمُهم أكثرَ مما لو سفَكَ دماءَ بعضِهِم وأخَذَ أموالهم؛ فإن هذا يُثِيرُ الغضبَ لله والحَمِيَّةَ له ولرسولِه، وهذا القَدرُ لا يُهَيِّجُ في قلبِ المؤمن غيظًا أعظمَ منه، بل المؤمن المسدَّدُ لا يَغضبُ هذا الغَضَبَ إلاَّ لله، والشارعُ يطلبُ شفاءَ صدورِ المؤمنين وذهابَ غيظِ قلوبِهم، وهذا إنما يحصلُ بِقَتْل السابِّ لأوْجُهٍ: أحدها: أن تَعْزِيره وتأديبَه يُذْهِبُ غيظَ قلوبهم إذا شَتَم واحدًا من المسلمين أو فَعَل نحو ذلك، فلو أذهب غيظَ قلوبهم إذا شَتَم الرسول، لكان غيظُهم مِن شَتْمه مِثلَ غيظهم مِن شَتْم واحدٍ منهم .. وهذا باطل. الثاني: أن شَتْمَه أعظمُ عندهم من أن يَأخُذَ بعضَ دمائهم، ثم لو قَتل ¬

_ (¬1) صحيح: أخرجه أحمد في "المسند" (5/ 314، 316، 319، 326)، والطبراني في "المعجم الكبير والأوسط"، والحاكم في "المستدرك" (2/ 74 - 75)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في "الصحيحة" (4/ 581 ح 1941).

الموضع الرابع

واحدًا منهم لم يَشْفِ صدورهم إلاَّ قتلُه، فأنْ لا تُشْفَى صُدُورُهُم إلاَّ بقتل السابِّ أوْلى وأحْرَى. الثالث: أنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ قِتالَهم هو السببَ في حصول الشِّفاء، والأصْلُ عدمُ سبب آخر يُحصِّلُه؛ فيجبُ أن يكون القتلُ والقتال هو الشافي لصدور المؤمنين من مثل هذا. الرابع: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما فُتحت مكةُ وأراد أن يَشفيَ صدورَ خُزَاعة -وهم القوم المؤمنون- مِن بني بكرٍ الذين قاتلوهم، مَكَّنهم منهم نصفَ النهار أو أكثر مع أمانِهِ لسائرِ الناسِ (¬1)؛ فلو كان شفاءُ صدورِهم وذهابُ غيظِ قلوبهم يحصلُ بدون القتل للذين نكثوا وطعنوا، لَمَا فَعَل ذلك مع أمانِهِ للناس. الموضع الرابع: قولُه سبحانه: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 63]، فإنه يدلُّ على ¬

_ (¬1) صحيح: أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" (7/ 403 ح 36904)، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 179، 207) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: لما فتحت مكة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كُفُّوا السلاحَ إلا خزاعةَ من بني بكر". فأذن لهم حتى صلى العصر ثم قال: "كُفُّوا السلاح"؛ وذكره ابن كثير في "البداية" (4/ 304)، والهيثمي في "مجمع الزوائد" (6/ 180) وقال: "رواه الطبراني ورجاله ثقات"، والحديث صحَّح إسناده أحمد محمد شاكر- في شرحه على "المسند" (10/ 158 ح 6681). وقد كانت خزاعة حلفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت بنو بكر رهطًا من بني كنانة حلفاء لأبي سفيان، وكانت بينهم موادعة أيام الحديبية، فأغارت بنو بكر على خزاعة في تلك المدة، وبَيَّتُوهم ليلاً وهم غارُون آمنون فقتلوا منهم عشرين رجلاً، فبعثوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستمدونه .. فكان فتح مكة. ينظر: "طبقات ابن سعد" (1/ 134)، "السيرة النبوية" لابن هشام (2/ 389، 394).

أنَّ أذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُحَادَّة لله ولرسوله؛ لأنه قال هذه الآيةَ عَقِبَ قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ} الآية. ثم قال: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}. فلو لم يكونوا بهذا الأذى مُحَادِّين لم يَحسُنْ أن يوعَدُوا بأنَّ للمحادِّ نارَ جهنَّم؛ لأنه يمكن حينئذٍ أن يقال: قد عَلِموا أن للمحادِّ نارَ جهنَّم؛ لكنهم لم يُحادُّوا، وإنما آذَوْا، فلا يكون في الآية وعيدٌ لهم؛ فعُلم أنَّ هذا الفعل لابُدَّ أن يندرجَ في عموم المحادَّة؛ ليكونَ وعيدُ المحادِّ وعيدًا له ويلتئمَ الكلامُ. ويدل على ذلك أيضًا ما روى الحاكمُ في "صحيحه" بإسنادٍ صحيحٍ عن ابن عباس أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان فِي ظِلِّ حُجْرَةٍ مِنْ حُجَرِهِ، وعنده نَفرٌ مِنَ المسْلِمينَ، فَقَالَ: "إنَّهُ سَيَأتِيكُم إنسانٌ يَنظُرُ إليكم بعَيْنِ شَيْطَانٍ، فَإذا أَتَاكُمْ فلا تُكَلِّمُوهُ"، فجاء رجلٌ أزرَقُ، فدعاهُ رسولُ اللهَ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "عَلامَ تَشْتُمُني أنت وفُلانٌ وفُلانٌ"، فانطَلَقَ الرجُلُ، فَدَعَاهُمِ، فحلفُوا باللهِ واعتَذَرُوا إليهِ" (¬1) فأنزل اللهُ تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة: 18]. ¬

_ (¬1) صحيح: رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 240، 267، 350)، والطبري في "تفسيره" (28/ 23)، والطبراني في"المعجم الكبير" (12/ 7ح 12307، 12308، 12309)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 482)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (5/ 282)، والواحدي في "أسباب النزول" (ص 348)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (8/ 28/ 85) وفي "لباب النقول" له ص (120). والحديث قال عنه الحاكم: =

* ثم قال بعدَ ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 20]. فعُلم أن هذا داخلٌ في المحادَّة. * وفي روايةٍ أُخْرَى صحيحةٍ أنه نَزل قولُه: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} [التوبة: 96]. * وقد قال: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة: 62]. * ثم قال عَقِبه: ({أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 63]. فثبت أنَّ هؤلاءِ الشاتمين محادُّونَ. * وإذا كان الأذى مُحَادَّةً للهِ ورسولِهِ فقد قال اللهُ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)} [المجادلة: 20 - 21]. والأذلُّ: أبلغُ مِن "الذليل"، ولا يكون أذلَّ حتى يخافَ على نفسه وماله إنْ أظهَرَ المحادَّة؛ لأنه إنْ كان دَمُه ومالُه معصومًا لا يُسْتَبَاح فليس بأذلَّ، يدلُّ عليه قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112]. فبيَّن سبحانه أنهم أينما ثُقفوا فعليهم الذَّلَةُ إلاَّ مع العهد، فعُلم أنَّ مَنْ له عهدٌ وحبلٌ لا ذلَّةَ عليه -وإن كانت عليه المسكنةُ-، فإنَّ المسكنةَ قد تكونُ مع عدم الذِّلة، وقد جَعل المحادِّين في الأَذلِّينَ، فلا يكون لهم عهدٌ، إذ ¬

_ = "صحيح على شرط مسلم"، وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية كما تقدم في المتن، وقال عنه الهيثمي في "مجمع الزوائد" -سورة المجادلة- (7/ 125): "رواه أحمد والبزار ورجال الجميع رجال الصحيح".

العهدُ يُنافي الذِّلَّةَ كما دلَّتْ عليه الآية، وهذا ظاهرٌ، فإن الأذَلَّ هو الذي ليس له قوةٌ يَمتنعُ بها ممن أراده بسُوء، فإذا كان له من المسلمين عهدٌ يجبُ عليهم به نَصْرُه ومَنْعُه، فليس بأَذلَّ، فثبتَ أنَّ المحادَّ لله ولرسولِه لا يكونُ له عهدٌ يَعْصِمه، والمؤذي للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُحَادٌّ، فالمؤذي للنبيِّ ليس له عهدٌ يَعْصم دَمَه، وهو المقصودُ. * وأيضًا، فإنه قد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة: 5]، والكَبْتُ: الإذلالُ والخِزْيُ والصَّرْعُ. ° قال الخليل: "الكَبْتُ هو الصَّرْعُ على الوَجْه". ° وقال النَّضرُ بن شُمَيل وابنُ قتيبة: "هو الغَيظُ والحزن، وهو في "الاشتقاق الأكبر" (¬1) من كبده، كأنَّ الغيظَ والحزنَ أصاب كَبِدَه، كما يقال: أحرَقَ الحزنُ والعداوةُ كبدَه" (¬2). ° وقال أهل التفسير: "كُبِتُوا: أُهلِكوا وأُخْزُوا وحَزِنوا"، فثَبت أن ¬

_ (¬1) الاشتقاق في اللغة: هو أخذ شق الشيء. وفي الاصطلاح: أن تجد بين اللفظين تناسبًا في المعنى والتركيب فَتَرُدّ أحدهما إلن الآخر، والاشتقاق عند الشريف الجرجاني: نَزْع لفظٍ من آخر بشرط مناسبتهما معنًى وتركيبًا، ومغايرتهما في الصيغة. وهو على أنواع: فالصغير: أن يكون بين اللفظين تناسبٌ في الحروف والترتيب نحو: ضَرَبَ من الضَّرْب. والكبير: أن يكون بين اللفظين تناسبٌ في اللفظ والمعنى دون الترتيب، نحو: جَبَذَ من الجَذْب. والأكبر: أن يكون بين اللفْظين تناسبٌ في المخرج، نحو: نَعَقَ من النَّهْقِ. ينظر: كتاب "الاشتقاق" لأبي سعيد عبد الملك الأصمعي، وكتاب "التعريفات" للشريف الجرجاني (ص 27، 28)، وكتاب "العَلم الخفاق من علم الاشتقاق" لأبي الطيب محمد صديق حسن خان. (¬2) ينظر "النهاية" لابن الأثير (4/ 138)، "لسان العرب" (6/ 3805)، "تاج العروس" =

المحادَّ مكبوتٌ مخزِيٌّ ممتليءٌ غيظًا وحزنًا هالكٌ، وهذا إنما يتمُّ إذا خافَ إن أظهرَ المحادَّةَ أن يُقتل، وإلاَّ فمَن أمكنه إظهارُ المحادَّة وهو آمِنٌ على دمه وماله فليس بمكبوت، بل مسرورٍ جَذْلان، ولأنه قال: {كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة: 5]، والذينَ مِن قبلهم ممن حادَّ الرسُلَ وحادَّ رسولَ الله، إنما كَبَتَه الله بأن أهلَكه بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين، والكَبْتُ وإن كان يَحصُلُ منه نصيبٌ لكل مَن لم ينل غَرَضَه كما قال سبحانه: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ} [آل عمران: 127]، لكن قوله تعالى: {كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني محادِّي الرسلِ دليلٌ على الهلاك أو كَتْم الأذى، يُبيِّنُ ذلك أن المنافقين هم من المحادِّين، فهم مَكبوتون بموتهم بغَيظِهم لخوفهم أنهم إن أظهَروا ما في قلوبهم قُتلوا، فيجبُ أن يكون كلُّ محادٍّ كذلك. * وأيضًا، فقوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] عقب قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} [المجادلة: 20] دليلٌ على أن المحَادةَ غالبةٌ ومعادة، حتى يكَون أحدُ المَتحادِّين غالبًا والآخرُ مغلوبًا، وهذا إنما يكونُ بين أهل الحربِ لا أهل السَّلْم، فعُلم أن المحادَّ ليس بمسالمٍ، والغلبةُ للرسل بالحُجَّةِ والقهر، فمن أُمر منهم بالحرب نُصِر على عدوِّه، ومنْ لم يؤمَرْ بالحرب أهُلِك عدوُّه، وهذا أحسنُ مِن قول ¬

_ = (1/ 575) (كبت). وفيه: كبت: يكبته كبتًا: صَرَعه. وقال الأزهري وغيره: أصل الكبت الكبد، فقلبت الدال تاءً، أخذ من الكبد وهو مَعدِنُ الغَيظ والأحقاد، فكأن الغيظ لمَا بَلَغ بهم مَبْلَغَه أصاب أكبادَهم فأحرقها ,ولهذا قيل للأعداء: هم سُودُ الأكباد.

مَن قال: إن الغَلَبةَ للمحارِب بالنصر، ولغيرِ المحارِبِ بالحُجَّة، فعُلم أن هؤلاء المحادّين محارَبون مغلوبون. وأيضاً فإن "المحادةَ" من "المشاقَّة"؛ لأن "المحادَّة" من الحدِّ والفصل والبَيْنُونة، وكذلك "المشاقَّة" من الشَّق وهو بهذا المعنى، فهما جميعًا بمعنى المقاطعة والمفاصَلة، ولهذا يقال: إنَما سُمِّيت بذلك لأن كلَّ واحدٍ من المتحادَّينِ والمتشاقَّينِ في حدٍّ وشِقٍّ من الآخر، وذلك يقتضي انقطاعَ الحبلِ الذي بين أهل العهدِ إذا حادٍّ بعضُهم بعضًا، فلا حَبلَ لمحادٍّ لله ورسوله. * وأيضًا، فإنها إذا كانت بمعنى المُشاقَّة، فإن الله سبحانه قال: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 12 - 13]. فأَمَر بقتلهم لأجلِ مشاقَّتهم ومحادَّتهم، فكلُّ مَن حادَّ وشاقَّ يجبُ أن يُفعل به ذلك لوجودِ العِلَّة. * وأيضاً، فإنه تعالى قال: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر: 3 - 4]. والتعذيبُ هنا -والله أعلم-: القتلُ؛ لأنهم قد عُذِّبوا بما دونَ ذلك من الإجلاءِ وأخْذِ الأموال، فيجبُ تعذيبُ مَن شاقَّ اللهَ ورسولَه، ومَن أظهَرَ المحادَّةَ، فقد شاقَّ اللهَ ورسولَه، بخلافِ مَنْ كتمها، فإنه ليس بمحادٍّ ولا مُشاقٍّ. ° وهذه الطريقةُ أقوى في الدلالة، يقال: هو "محادٌّ"، وإن لم يكن

"مشاقًّا"، ولهذا جَعل جزاءَ المحادِّ مطلقًا أن يكون مكبُوتًا كما كُبِتَ مَن قَبْله، وأن يكونَ في الأذلِّين، وجَعل جَزاءَ المُشاقِّ القتلَ والتعذيبَ في الدنيا, ولن يكونَ مكبوتًا كما كُبِتَ مَنْ قَبلَه في الأذلِّين إلاَّ إذا لم يُمكِنْه إظهارُ محادَّته، فعلى هذا تكونُ المحادَّةُ أعمَّ. * ولهذا ذَكر أهلُ التفسير في قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]، الآية: أنها نزلت فيمن قَتَل من المسلمين أقاربَه في الجهاد، وفيمن أراد أن يَقتلَ لمن تعرَّض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأذى من كافرٍ ومنافقٍ قريبٍ له (¬1) .. فعُلم أن المحادَّ يعمُّ المشاقَّ وغيرَه. * ويدلُّ على ذلك أنه قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ} [المجادلة: 14]، الآيات، إلى قوله: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]. وإنما نزلت في المنافقين الذين تولَّوُا اليهودَ المغضوبَ عليهم، وكان أولئك اليهودُ أهلَ عهدٍ من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم إن الله سبحانه بَيَن أن المؤمنين لا يوَادُّونَ مَن حادَّ الله ورسوله، فلابد أن يدخلَ في ذلك عدمُ المودَّة ليهود -وإن كانوا أهلَ ذِمَّة-، لأنَّه سببُ النزول، وذلك يقتضي أن أهلَ الكتاب ¬

_ (¬1) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص 310)، "أحكام القرآن" لابن العربي (4/ 1763)، و "زاد المسير" لابن الجوزي (8/ 198)، و"تفسير القرطبي" (17/ 307)، و"تفسير ابن كثير" (4/ 329).

محادُّون لله ورسوله -وإن كانوا معاهِدين-. ويدلُّ على ذلك أن اللهَ قَطع المُوَالاةَ بين المسلم والكافر -وإن كان له عهدٌ وذِمَّة-، وعلى هذا التقدير فيقال: عُوهِدُوا على أن لا يُظْهِروا المحادة ولا يُعلنوا بها -بالإجماع كما تقدم وكما سيأتي-، فإذا أَظهروا صاروا محادِّين لا عَهْدَ لهم، مُظْهِرِينَ للمحادة، وهؤلاء مشاقُّونَ، فيستحقُّون خِزيَ الدنيا من القتل ونحوِه وعذابَ الآخرة. فإن قيل: إذا كان كلُّ يهوديٍّ محادًّا لله ورسوله، فمِن المعلوم أن العهدَ يَثبتُ لهم مع التهوُّد، وذلك يَنْقُض ما قدَّمتم من أن المحادَّ لا عهدَ له. قيل: مَن سلك هذه الطريقةَ قال: المحادُّ لا عهدَ له على إظهارِ المحادة، فأما إذا لم يُظهِرْ لنا المحادةَ، فقد أعطيناه العهد، وقولُه تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112]. يقتضي أن الذِّلةَ تَلزمُه، فلا تزولُ إلاَّ بَحبلٍ من الله وحبلٍ من الناس، وحبلُ المسلمين معه على أن لا يُظهِرَ المحادةَ بالاتفاق؛ فليس معه حبلٌ مُطلَق، بل حَبلٌ مقيد، فهذا الحَبلُ لا يَمنعُه أن يكونَ أذَلَّ إذا فَعَل ما لم يُعاهَدْ عليه. أو يقولُ صاحبُ هذا المسلَك: الذِّلَةُ لازمةٌ لهم بكلِّ حال، كما أُطلقت في سورة "البقرة". وقوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112] يجوز أن يكون تفسيرًا للذلة، أي: ضُربت عليهم أنهم أينما ثُقِفُوا أُخذوا وقُتِّلوا إلاَّ بحبلٍ من الله وحبل من الناس، فالحبلُ لا

الموضع الخامس

يَرفغ الذِّلةَ، وإنما يَرفعُ بعضَ موجباتِها وهو القتل، فإن مَنْ كان لا يُعْصَم دَمُه إلا بعهدٍ فهو ذليل -وإن عُصم دمُه بالعهد-، لكنْ على هذا التقديرِ تضعُفُ الدلالةُ الأولى من المحادة. والطريقةُ الأولى أجودُ -كما تقدم-، وفي زيادةِ تقريرِها طُول. الموضع الخامس: قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57]. وهذه توجبُ قتلَ مَنْ اَذى اللهَ ورسولَه -كما سيأتي إن شاء الله تقريرُه-، والعهدُ لا يَعْصِمُ من ذلك؛ لأنا لم نُعاهِدْهم على أن يؤذوا اللهَ ورسولَه. • ويوضِّحُ ذلك قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لكَعْبِ بْنِ الأشْرَف، فَإنَّه قَدْ آذى اللهَ وَرَسُولَه؟ " (¬1) فندَبَ المسلمين إلى يهوديٍّ كان معاهَدًا لأجل أنه آذى اللهَ ورسولَه، فدلَّ ذلك على أنه لا يوصَفُ كلُّ ذميٍّ بأنه يؤذي اللهَ ورسولَه، وإلاَّ لم يكن فَرْقٌ بينه وبين غيره، ولا يصحُّ أن يقال: اليهودُ ملعونون في الدنيا والآخرة مع إقرارهم على ما يوجبُ ذلك؛ لأنا لم نُقِرَّهم على إظهار أذى اللهِ ورسولِه، وإنما أقْرَرْنَاهم على أن يَفعلوا بينهم ما هو من دينِهم" (¬2). ¬

_ (¬1) جزء من حديث طويل من حديث جابر بن عبد الله. رواه البخاري (5/ 169 ح 2510)، (6/ 184 ح 3031)، (ح 3032)، (7/ 390ح 4037)، ورواه مسلم (3/ 1425 ح 1801)، وأبو داود (3/ 211 ح 2768)، والحميدي في "مسنده" (2/ 526 ح 1250). (¬2) انظر "الصارم المسلول" (2/ 32 - 57).

مسألة: يتعين قتل الساب، ولا يجوز استرقاقه، ولا المن عليه، ولا فداؤه

* مسألة: يَتعَيَّن قتل السابِّ، ولا يجوز استرقاقُه، ولا المنُّ عليه، ولا فِدَاؤه: ° قال الإِمامُ ابنُ تيمية في "الصارم المسلول": "أمَّا إنْ كان مُسْلمًا فبالإجماع؛ لأنَّه نوعٌ من المُرْتَدِّ، أوْ من الزنديق، والمرتدُّ يتعيَّن قتلُه، وكذلك الزنديق، وسواءً كان رجلاً أو امرأةً، وفيما قدَّمناه دلالةٌ واضحةٌ على قتلِ السابَّةِ المسلمة من السُّنَّةِ وأقاويل الصحابة، فإنَّ في بعضها تصريحًا بقتل السَّابَّة المُسْلمة، وفي بعضها تصريحٌ بقتل السَّابَّةِ الذِّميَّة، وإذا قُتِلت الذِّمِّيَّة بالسَّبِّ، فقَتْلُ المسلمةِ أولى كما لا يخفى على الفقيه. والصحيحُ الذي عليه العامَّةُ قتلُ المُرتَدَّة، فالسَّابَّةُ أَولَى، وهو الصحيحُ لِمَا تقدم. وإن كان السَّابُّ مُعاهِدًا، فإنه يَتعيَّنُ قَتْله، سواءً كان رجلاً أو امرأةً، عند عامةِ الفقهاء من السَّلف ومَن تَبِعهم. وقد ذَكَرْنا قولَ ابنِ المنذر فيما يجبُ على مَن سَبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أجمع عوامُّ أهلِ العلم على أنَّ مَن سبَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُقتل؛ وممَّن قاله مالكٌ، والليثُ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وهو مذهبُ الشافعي. قال: وحُكي عن النعمان: لا يُقتل مَن سَبَّه من أهل الذمة. وهذا اللفظُ دليلٌ على وجوبِ قتلِه عند العامة، وهذا مذهبُ مالكٍ وأصحابِه، وسائرِ فقهاءِ المدينة، وكلامُ أصحابه يقتضي أن لقتله مأخذَينِ: أحدهما: انتقاضُ عهدِه. والثاني: أنه حدٌّ من الحدود، وهو قولُ فقهاءِ الحديث.

° قال إسحاقُ بن رَاهويَة: إن أظهروا سَبَّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فسُمعَ منهم ذلك -أو تُحُقَّق عليهم-، قُتِلوا، وأخطأَ هؤلاء الذين قالوا: "ما هم فيه من الشرك أعظمُ من سَبِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ". ° قال إسحاق: "يُقتلون؛ لأن ذلك نَقضٌ للعهد"، وكذلك فَعل عمرُ بنُ عبد العزيز، ولا شبهةَ في ذلك؛ لأنه يَصيرُ بذلك ناقضًا للصلح، وهو كما قَتل ابن عمرَ الراهبَ الذي سَبَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "ما على هذا صالحناهم". وكذلك نصَّ الإمامُ أحمدُ على وجوبِ قتلِه وانتقاضِ عهده، وقد تقدَّم بعضُ نصوصِه في ذلك، وكذلك نَصَّ عامةُ أصحابِه على وجوب قَتل هذا السابِّ، ذكروه بخصوصه في مواضعَ هكذا، وذكروه أيضًا في جُملةِ ناقِضِي العهدِ من أهل الذمة. ثم المتقدِّمون منهم وطوائفُ من المتأخرين قالوا: إن هذا وغيرَه من ناقِضِي العهدِ يتعيَّنُ قتلُهم -كما دلَّ عليه كلامُ أحمد-. وذَكَر طوائفُ منهم أن الإمامَ مُخيَّر فيمن نَقض العهدَ من أهل الذمة، كما يُخيَّرُ في الأسير بين الاسترقاقِ والقتل والمَنِّ والفِداء، ويجبُ عليه فِعلُ الأصلح للأمةِ من هذه الأربعةِ بعد أن ذكروه في الناقِضين للعهد، فدَخَل هذا السابُّ في عمومِ هذا الكلام وإطلاقه، وأوجَبَ أن يُقال فيه بالتخيير إذا قيل به في غيرِه من ناقِضي العهد، لكن قَيَّد محقِّقو أصحابِ هذه الطريقة ورؤوسُهم -مثلُ القاضي أبي يعلى في كتبه المتأخرة (¬1) وغيره- هذا الكلام، ¬

_ (¬1) من كتبه المتأخِّرة: كتاب "الخلاف" وهو آخر ما صنَّفه -رحمه الله-.

الأدلة على أنه يتعين قتل الذمي، ولا يجوز استرقاقه

وقالوا: التخيير في غير سابِّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. وأمَّا سابُّه فيتعيَّنُ قَتلُه، وإنْ كان غيره كالأسير، وعلى هذا فإما أن لا يُحكى في تعيُّنِ قتلِه خلاف؛ لكونِ الذين أَطلقوا التخيير في موضعٍ قد قالوا في موضعٍ آخَرَ بأن السابَّ يتعيَّنُ قَتلُه، وصَرَّح رأسُ أصحابِ هذه الطريقةِ بأنه مستثًنى من ذلك الإِطلاق، أو يحكى فيه وجهٌ ضعيف؛ لأن الذين قالوا به في موضعٍ نصُّوا على خلافه في موضعٍ آخر. واختَلف أصحابُ الشافعيِّ أيضاً فيه؛ فمنهم مَن قال: يجبُ قتلُ السابِّ حتمًا، وإنْ خُيِّر في غيره. ومنهم مَن قال: هو كغيره من الناقِضين للعهد، وفيه قولان: أضعفُهما: أنه يَلحقُ بمأمنِه. والصحيح منهما: جوازُ قتله. قالوا: ويكون كالأسير يجبُ على الإمام أن يَفعلَ فيه الأصلحَ للأمة من القتل والاسترقاقِ والمَنِّ والفداء. وكلامُ الشافعيِّ في موضعٍ يقتضي أن حُكمَ الناقضِ للعهد حُكمُ الحربي؛ فلهذا قيل: إنه كالأسير، وفي موضع آخَرَ أَمَر بقَتلِه عَينًا من غير تخيير" (¬1). * الأدلَّةُ على أنَّه يتعيَّنُ قتلُ الذمِّي، ولا يجوزُ استرقاقُه: ° قال ابنُ تيمية - رحمه الله -: "والدليلُ على أنه يَتعيَّنُ قَتلُه، ولا يجوزُ استرقاقُه، ولا المَنُّ عليه , ولا المفاداةُ به، من طريقين: ¬

_ (¬1) "الصارم المسلول" (2/ 467 - 470).

الدليل الأول

أحدهما: ما تقدَّم من الأدلَّةِ على وجوبِ قتل ناقضِ العهدِ إذا نَقَضه بما فيه ضررٌ على المسلمين مطلقًا. الثاني: ما يخصُّه .. وهو من وجوه: الدليل الأول: ما تقدَّم من الآيات الدَّالةِ على وجوبِ قتل الطاعِنِ في الدِّين. الدليل الثاني: حديثُ الرجل الذي قَتل المرأةَ اليهوديةَ على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهدَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - دَمَها، وفي ذلك حديثُ عليِّ بنِ أبي طالب وابنِ عباس، فلو كان سبُّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَرفعُ العهدَ فقط، ولا يُوجِبُ القتل، لكانت هذه المرأةُ بمنزلةِ كافرةٍ أسيرةٍ، وبمنزلةِ كافرةٍ دَخلت إلى دار الإِسلام ولا عَهْدَ لها، ومعلومٌ أنه لا يجوزُ قتلُها، وأنها تصيرُ رقيقةً للمسلمين بالسِّبْي، وهذه المرأةُ المقتولةُ كانت رقيقةً، والمسلمُ إذا كانت له أَمَةٌ كافرةٌ حربيَّةٌ لم يَجُزْ له ولا لغيره قَتلُها لمجرَّد كونها حربيَّةً، ولا نَعلمُ بين المسلمين خِلافًا أنَّ المرأة لا يجوزُ قتلُها لمجرد الكفر إذا لم تكن معاهدة، كما لا نعلمُ أيضًا خلافًا في أن المرأة إذا ثبت في حقِّها حكمُ نقضِ العهد لا يجوزُ قتلها. الدليل الثالث: أن السَّابَّ لو صارَ بمنزلةِ الحربيَ فقط , لكان دَمُه معصومًا بأمانٍ يُعقَدَ له أو ذِمَّةٍ أو هُدْنة، ومعلومٌ أن شُبهةَ الأمانِ كحقيقتِه في حَقْنِ الدم، والنفرُ الذين أرسَلَهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كعبِ بنِ الأشرفِ جاؤوا إليه إليه على أن يَستسلفوا منه، وحادَثوه، وماشَوه وقد آمَنَهم على دَمِه وماله، وكان بينه وبينهم قبل ذلك عَهدٌ وهو يعتقدُ بقاءَه، ثمِ إنهم استأذنوه في أن يَشُمُّوا ريحَ الطِّيب مِن رأسه، فأَذِنَ لهم مَرَّةً بعد أُخرى، وهذا كلُّه يُثبِتُ الأمان، فلو لم يكن في السَّبِّ إلاَّ مجرَّدُ كونِه كافِراً حَرْبيًّا لم يَجُزْ قَتلُه

الدليل الرابع

بعدَ أمانِه إليهم، وبعد أن أظهَروا له أنهم مُؤَمِّنون له، واستئذانهم إياه في إمساكِ يديه، فَعُلِم بذلك أنَّ إيذاءَ اللَّهِ ورسوله موجبٌ للقتلِ لا يَعِصْمِ منه أمانٌ ولا عهدٌ، ولا جزاءَ له إلاَّ القتل. الدليل الرابع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا الناسَ إلى قتل ابنِ الأشرف؛ لأنه كان يؤذِي اللهَ ورسولَه، وكذلك كان يأمرُ بقتلِ مَن يَسُبُّه ويَهجُوه، إلاَّ من عفا عنه بعد القُدرة، وأَمْرُه - صلى الله عليه وسلم - للإِيجاب، فعُلِم وجوبُ قتل السَّابِّ -وإنْ لم يَجِبْ قتل غيرِه من المحاربين-، وكذلك كانت سِيرتَه، فلم يُعلَم أنه تَرك قتلَ أحدٍ من السَّابين بعد القدرةِ عليه إلاَّ مَن تاب أو كان من المنافِقين، وهذا يَصلُح أن يكونَ امتثالاً للأمرِ بالجهادِ وإقامةِ الحدود، فيكونُ على الإيجابِ، يؤيِّدُ ذلك أن في تركِ قتلِه تَرْكًا لنصرِ الله ورسوله، وذلك غير جائز. الدليل الخامس: أقاويلُ الصحابة، فإنها نصوصٌ في تعيينِ قتله: ° مثلُ قولِ عمرَ - صلى الله عليه وسلم -: "مَن سبَّ الله أو سَبَّ أحدًا من الأنبياء فاقتلوه" .. فأمَرَ بقَتلِه عَيْنًا. ° ومثلُ قولِ ابنِ عباس - رضي الله عنه -: "أيُّما معاهَدٍ عاند فسَبَّ اللهَ أو سَبَّ أحدًا من الأنبياء عليهم السلام، أو جَهَر به، فقد نَقَض العهدَ، فاقتلوه" .. فأمر بقتلِ المعاهَد إذا سبَّ عيْنًا. ° ومثل قول أبي بكر - رضي الله عنه - فيما كتب به إلى "المهاجر" في المرأة التي سَبَّتِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لولا ما قد سَبَقْتَني فيها لأمرتُك بقَتلها؛ لأن حدَّ الأنبياءِ لا يُشبِهُ الحدود، فمَن تعاطى ذلك من مسلمٍ فهو مرتَدٌّ؛ أو معاهَدَ فهو محارِبٌ غادر".

الدليل السادس

فبيَّن أن الواجبَ كان قتلَها عيْنًا لولا فواتُ ذلك، ولم يَجعلْ فيه خِيَرةً إلى الإمام، لا سيَّما والسَّابَّةُ امرأةٌ، وذلك وحدَه دليلٌ. ° ومثلُ قولِ ابنِ عمر "وقد مَرَّ به راهبٌ، فقِيل له: هذا يَسُبُّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال ابنُ عمر: لو سمعتُهُ لقتلتُه، إنَّا لم نُعْطِهم الذِّمِّةَ على أن يَسُبُّوا نبيَّنا" (¬1). ولو كان كالأسير الذي يُخيَّر فيه الإمامُ، لم يَجُزْ لابن عمر اختيارُ قَتلِه، وهذا الدليلُ واضح. الدليل السادس: أن ناقضَ العهدِ بسبِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ونحوِه حالُه أغلظُ من حالِ الحربيِّ الأصليِّ، كما أن حالَ المرتدِّ أغلظُ من حالِ الكافرِ الأصلي؛ لأنَّه اجتمع فيه الحرابُ الأصليُّ، وخروجُه عمَّا عاهَدَنا عليه بالطعنِ في الدِّين وأذى اللهِ ورسولِه، ومِثلُ هذا يجبُ أن يُعاقَبَ عقوبةً تَزجُرُ أمثالَه عن مِثلِ حاله، والدليلُ عليه قولُه سبحانه وتعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)} [الأنفال: 55 - 57]. فأمر اللهُ رسولَه إذا صادَفَ الناكثين بالعهدِ في الحرب أن يُشرِّدَ بهم غيرَهم من الكفار، بأن يفعلَ بهم ما يَتفرَّقُ به أولئك. ¬

_ (¬1) رواته ثقات: عزاه ابن حجر في "المطالب العالية" (2/ 175 ح 1986) إلى "مُسند مُسدَّد"، وفي حاشيته: قال البوصيري: رواه مُسَدَّد بسندٍ فيه راوٍ لم يُسَمَّ، والحارث في مسنده بسند رُواته ثقات. انظر "أحكام أهل الملل" للخلال -كتاب الحدود- باب: فيمن شتم النبي - صلى الله عليه وسلم -.

الدليل السابع

* وقال تعالى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة: 13]. فحضَّ على قتالِ مَن نَكَثَ اليمين وهَمَّ بإخرجِ الرسولِ وبدأ بنقضِ العهد، ومعلومٌ أن مَن سبَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد نقض العهدَ وفَعَل ما هو أعظمُ من الهَمِّ بإخراج الرسول وبَدْئِنا أولَ مرة. * ثم قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 14 - 15]. فعُلم أن تعذيبَ هؤلاء، وإخزاءَهم، ونَصْرَ المؤمنين عليهم، وشفاءَ صدورهم بالانتقام منهم، وذَهابَ غيظِ قلوبهم مما آذَوهم به: أمرٌ مقصودٌ للشارع، مطلوبٌ في الدِّين، ومعلومٌ أن هذا المقصودَ لا يَحصُل مِمَّن سَبَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وآذى اللهَ ورسولَه وعبادَه المؤمنين إلاَّ بقتْله، لا يَحصُلُ بمجرد استرقاقه، ولا بالمَنِّ عليه، والمفاداةِ به. وكذلك تنكيلُ غيرِه من الكفَّار -الذين قد يُريدون إظهارَ السَّبِّ- لا يَحصُلُ على سبيل التَّمام إلاَّ بذلك. الدليل السابع: أن الذِّمي إذا سبَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقد صَدَر منه فعلٌ تضمَّن أمْرَيْن: أحدهما: انتقاضَ العهد الذي بيننا وبينه. والثاني: جنايتَه على عِرْضِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتهاكَ حُرمتِه وإيذاءَ الله تعالى ورسوله والمؤمنين وطَعْنَه في الدِّين، وهذا معنًى زائدٌ على مجرد كونِه

كافِرًا قد نَقَض العهد. ونظيرُ ذلك أنْ يَنقُضَه بالزَّنى بمسلمةٍ أو بقَطع الطريقِ على المسلمين وقتلهم وأخذِ أموالهم أو بقتل مسلم، فإنَّ فِعْلَه -مع كونه نقضًا للعهد- قد تضمَّن جنايةً أُخرى، فإن الزِّنى وقطعَ الطريق والقتلَ -من حيثُ هو- هو جنايةٌ، ونقضَ العهدِ جناية، كذلك هُنا سَبُّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -من حيث هو- هو جنايةٌ منفصلةٌ عن نقضِ العهد، له عقوبةٌ تخصُّه في الدنيا والآخرة زائدةٌ على مجرَّدِ عقوبة التكذيب بنبوَّته، والدليل عليه قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57]. فعلَّق اللعنةَ في الدنيا والآخرة والعذابَ المُهينَ بنفسِ أذى الله ورسوله، فعُلِم أنه مُوجِبٌ لذلك. * وكذلك قوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [التوبة: 12]. يوضِّح ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا دَخل مكةَ آمَنَ الناسَ الذين كانوا يُقاتلونه قبلَ ذلك، والذين نَقضوا العهدَ الذي كان بينه وبينهم وخانُوه إلاَّ نفرًا، منهم القَينتانِ اللتانِ كانتا تغنِّيانِ بهجائه، وسارةَ مولاةَ بني عبد المطلب التي كانت تُؤذيه بمكة، فإذا كان قد أَمر بقَتلَ التي كانت تَهجُوه من النساء -مع أن قتلَ المرأةِ لا يجوزُ ألاَّ إذا قاتلت-، وهو - صلى الله عليه وسلم - قد آمَنَ جميعَ أهلِ مكةَ مَن كان قد قاتل ونَقَضَ العهد من الرجال والنساء، عُلِم بذلك أن الهِجاءَ جنايةٌ زائدةٌ على مجرَّد القتالِ والحِراب؛ لأن التفريقَ بين المتماثِلَيْنِ لا يَقعُ

من النبي - صلى الله عليه وسلم -. ° إن سبَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - جنايةٌ لها موقعٌ يزيدُ على عامةِ الجنايات، بحيثُ يَستحقُّ صاحبُها مع العقوبة ما لا يستحقُّه غيرُه -وإن كان كافرًا حربيًّا مبالِغًا في محاربة المسلمين-، وإن وجوبَ الانتصار ممن كان هذه حاله أمرٌ مؤكَّدٌ في الدين، والسَّعيُ في إهدارِ دمِه من أفضالِ الأعمال وأوجَبِها وأحَقِّهَا بالمسارعةِ إليه وابتغاءِ رضوان الله تعالى فيه، وأبلغُ الجهادِ الذي كَتبه الله على عباده وفَرَضه عليهم، ومَن تأمَّل الذين أهدَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - دماءَهمِ يومَ "الفتح"، واشتدَّ غَضَبَه عليهم حتى قَتل بَعضَهم في نفسِ الحَرَم وأعرَض عن بعضِهم، وانتَظر قَتْلَ بعضِهم، وَجَدَ لهم جرائمَ زائدةً على الكفر والحراب من ردَّة وقتل ونحو ذلك، وجُرْم أكثرِهم إنما كان مِن سبِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأذاه بألسنتهم، فأيُّ دليل أوضح من هذا؟!. ° ومما يدلُّ على أن السَّبِّ كان جنايةً زائدةً على كونه كفرًا وحرابًا -وإن كان متضمِّنًا لذلك- أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد كان يعفو عمَّن يؤذيه من المنافقين، وقد كان له أن يقتلَهم، ولو كان السَّبِّ مجرَّد رِدَّةً لَوجب قتلُه، كالمرتدِّ يجبُ قتلُه، فعُلِم أنه قد يُغَلَّبُ في السَّبِّ حقُّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بحيثُ يجوزُ له العفوُ عنه. ° ومما يدل على أن السَّبَّ جنايةٌ مُفرَدةٌ أن الذِّمِّي لَوْ سَبَّ واحدًا من المسلمين أو المعاهَدين ونَقَضَ العهد، لكان سَبُّ ذلك الرجلِ جنايةً عليه يستحقُّ بها من العقوبةِ ما لا يستحقُّه بمجردِ نقْضِ العهد، أفيكون سَبُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دونَ سَبِّ واحِدٍ من البشر؟!. ° ومما يدلُّ على ذلك أن سابَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وشاتمَه يُؤْذيه شَتمُه وهجاؤُه

كما يؤذيه التعرُّضُ لدمه وماله. * قال الله تعالى لما ذكر الغِيْبَة: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]. فجَعل الغِيْبةَ -التي هي كلامٌ صحيحٌ- بمنزلةِ أكلِ لحمِ المغتابِ ميتًا، فكيف ببهتانه؟ وسَبُّ النبي - صلى الله عليه وسلم -لا يكون قطُّ إلاَّ بهتانًا. • وفي "الصحيحين" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لَعْنُ المؤمنِ كقتله" (¬1). ° وأيضًا، فإن ذلك يُؤذي جميعَ المؤمنين، وُيؤذي الله سبحانه وتعالى، ومجرَّدُ الكفرِ والمحاربةِ لا يَحصُلُ بهما مِن أذاه ما يَحصُلُ بالوقيعة في العِرْضَ مع المحاربة. ودماءُ الأنبياء وأعْراضُهم أجَلُّ مِن دماءِ المؤمنين وأعراضِهم، فإذا كان دماءُ غيرهم وأعراضُهم لا تنْدَرجُ عقوبتُها في عقوبةِ مُجَرَّدِ نقضِ العهد، فأَنْ لا تَندرجَ عقوبةُ دمائِهم وأعراضِهم في عقوبةِ نقْضِ العهدِ بطريقِ الأوْلى. ° ومما يوضِّحُ ذلك أَنَّ سبَّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تَعَلَّق به عِدّةُ حقوق: 1 - حقُّ الله سبحانه، مِن حَيْثُ كَفَر برسوله وعادَى أفضل أوليائِه، ¬

_ (¬1) من حديث ثابت بن الضحَّاك. رواه البخاري: في كتاب الأدب- باب ما ينهى عن السِّباب واللِّعان (10/ 479 ح 6047) بلفظ: "ومَن لعن مؤمنًا فهو كقاتله"، وفي كتاب الأيمان والنذور- باب من حلف بِمِلَّةٍ سوى مِلَّة الإسلام (11/ 546 ح 6652)، ورواه مسلم: في كتاب الإيمان- باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه (1/ 104 ح 110)، والترمذي: في كتاب الإيمان- باب ما جاء فيمن رمى أخاه بكفر (5/ 22 ح 2636) بلفظ: "لاَعِنُ المؤمن كقاتله"، وأحمد في "المسند" (4/ 33)، والدارمي في كتاب الديات- باب التشديد على مَن قتل نفسه (2/ 252 ح 2361).

وبارَزَه بالمحاربة، ومِن حيث طَعَن في كتابه ودينه، فإنَّ صحَّتهما موقوفةٌ على صحَّةِ الرسالة، ومِن حيث طَعَن في ألوهيته؛ فإن الطعنَ في الرسولِ طَعْنٌ في المُرسِل، وتكذيبَه تكذيبٌ لله تبارك وتعالى وإنكارٌ لكلامه وأمرِه وخَبَره وكثيرٍ مِن صفاته. 2 - وتعلَّق به حق جميع المؤمنين من هذه الأمَّة ومِن غيرِها من الأمم؛ فإن جميع المؤمنين مؤمنون به -خصوصًا أمَّتُه-، فإن قيام أمرِ دنياهم ودينِهم وآخرتِهم به، بل عامَّةُ الخيرِ الذي يُصيبُهم في الدنيا والآخرة بوساطتِه وسفارته، فالسَّبُّ له أعظمُ عندهم مِن سَبِّ أنفسِهم وأولادهم وآبائِهم وأبنائِهم وسبِّ جميعِهم، كما أنَّه أحبُّ إليهم من أنفسِهم وأولادِهم وآبائِهم والناسِ أجمعين. 3 - وتعلَّق به حقُّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن حيثُ خصوصِ نفسه، فإن الإنسانَ تُؤذيه الوقيعةُ في عِرضِه أكثرَ مما يُؤذيه أَخْذُ ماله، وأكثرَ مما يُؤذيه الضربُ، بل ربما كانت عنده أعظمَ من الجَرْح ونحوه، خُصوصًا مَن يجبُ عليه أن يُظهِرَ للناس كمالَ عِرْضِه وعلوَّ قَدرِه لينتفعوا بذلك في الدنيا والآخرة، فإِنَّ هَتْكَ عِرْضِه قد يكونُ أعظمَ عنده مِن قَتْله، فإنَّ قتْلَه لا يَقدحُ عند الناس في نبوَّتِه ورسالتِه وعلوِّ قدره، كما أن موتَه لا يَقدحُ في ذلك، بخلافِ الوقيعة في عِرْضِه، فإنها قد تُؤثِّرُ في نفوسِ بعضِ الناسِ من النُّفرةِ عنه وسوء الظَّن به ما يُفسِدُ عليهم إيمانَهم، ويُوجبُ لهم خسارةَ الدنيا والآخرة. فعُلِم بذلك أن السَّبَّ فيه من الأذى لله ولرسوله ولعبادِه المؤمنين ما ليس في الكُفرِ والمحارَبة.

الدليل الثامن

إذا ثبت ذلك نقول: هذه الجنايةُ -جنايةُ السَّبِّ- موجَبُها القتل؛ لِمَا تقدَّم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن لكعبِ بنِ الأشرف، فإنه قد آذى اللهَ ورسولَه؟ " (¬1). فَعلِم أنَّ مَن آذى اللهَ ورسولَه كان حقُّه أن يقتَل. ولِمَا تقدَّم من إهدارِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - دَمَ المرأةِ السَّابَّةِ، مع أنها لا تُقتَلُ لمجرَّدِ نقضِ العهدِ، ولِمَا تقدَّم من أَمْرِه - صلى الله عليه وسلم - بقتل مَن كان يسبُّه مع إمساكِه عمّن هو بمنزلته في الدِّين، ونَدبِه الناسَ إلى ذلك، والثناءِ على مَن سارع في ذلك، ولِمَا تقدم من الحديثِ المرفوع، ومِن أقوال الصحابة - رضي الله عنه -: "أَنَّ من سَبَّ نبيًّا قُتِل، ومن سَبَّ غَيرَ نبيٍّ جُلِد". الدليل الثامن: أنَّ سَبَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع كونه من جنسِ الكفر والحراب -أعظمُ من مُجرد الرِّدَّةِ عن الإِسلام، فإنه من المسلم رِدًّةٌ وزيادة، فإذا كان كُفرُ المرتدِّ قد تغلَّظ لكونه قد خَرج عن الدين -بعد أن دخل فيه-، فأوجَبَ القَتلَ عيْنًا، فكُفرُ السَّابِّ الذي آذى اللهَ ورسولَه وجميعَ المؤمنين من عبادِه أولى أن يتغلَّظَ فيُوجِبَ القتلَ عَينًا؛ لأن مَفسدةَ السَّبِّ في أنواعِ الكفرِ أعظمُ من مفسدةِ مجرَّدِ الرِّدَّة. الدليل التاسع: أنَّ تَطهيرَ الأرضِ من إظهارِ سبِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - واجبٌ حَسبَ الإِمكانِ؛ لأنه من تمامِ ظهورِ الدين وعلوِّ كلمةِ الله وكونِ الدينِ كلِّه لله، فحيثما ظهر سبّه ولم يُنتَقم ممَّن فَعل ذلك، لم يكنِ الدِّينُ ظاهرًا ولا كلمةُ الله عاليةً، وهذا كما يجبُ تطهيرُها من الزُّناةِ والسُّرَّاقِ وقُطَّاعِ الطريق بحسَبِ الإمكان، بخلافِ تطهيرها من أصلِ الكُفر، فإنه ¬

_ (¬1) حديث صحيح: سبق تخريجه.

ليس بواجب. وكلُّ جنايةٍ وَجَب تطهيرُ الأرض منها بحَسَبِ القُدرةٍ، تتعيَّنُ عقوبةُ فاعلِها العقوبةَ المُحَدَّدةَ في الشرع إذا لم يكن لها مستحقٌّ مُعيَّن، فوجب أن يتعيَّن قتلُ هذا؛ لأنه ليس لهذه الجنايةِ مستحقٌّ معيَّن؛ لأنه تعلَّق بها حقُّ الله ورسوله وجميع المؤمنين، وبهذا يَظهرُ الفَرقُ بين السَّابِّ وبين الكافر، لجوازِ إقرارِ ذلك على كفره مُسْتَخْفِيًا به ملتزمًا حكمَ الله ورسوله، بخلافِ المُظْهر للسَّبِّ. الدليل العاشر: أَنَّ قتلَ سابِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان قَتْلَ كافِرٍ-، فهو حدٌّ من الحدود، ليس قتلاً على مجرَّد الكفرِ والحراب، لِمَا تقدَّم من الأحاديثِ الدالَّةِ على أنه جنايةٌ زائدةٌ على مجرَّد الكفرِ والمحاربة، ومن أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه أمَروا فيه بالقتل عيْنًا وليس هذا موجِبَ الكُفرِ والمعاينة، ولِمَا تقدَّم من قولِ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه - في التي سبَّت النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ حدَّ الأنبياءِ ليس يُشبِهُ الحدود"، ومعلومٌ أن قَتْلَ الأسيرِ الحربيِّ ونحوِه من الكفار والمحارِبين لا يُسَمَّى "حَدًّا"، ولأن ظهورَ سبِّه في ديار المسلمين فسادٌ عظيمٌ أعظمُ من جرائمَ كثيرةٍ؛ فلابدَّ أن يُشرعَ له حدٌّ يُزجَرُ عنه مَن يتعاطاه، فإن الشارعَ لا يُهمِلُ مثلَ هذه المفاسد، ولا يُخْليها من الزواجر، وقد ثبت أن حدَّه القتلُ بالسُّنَّة والإجماع، وهو حَدٌّ لغيرِ مُعيَّنٍ حيٍّ، لأن الحقَّ فيه لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو ميِّت- ولكلِّ مؤمن، وكُلُّ حَدٍّ يكونُ بهذه المثابةِ، فإنه يتعيَّنُ إقامتُه بالاتفاق. الدليل الحادي عشر: أنَّ نصرَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وتعزيرَه وتوقيرَه واجبٌ، وقتلَ سابِّه مشروع، فلو جاز تركُ قتلِه لَم يكنْ ذلك نَصرًا له ولا تعزيرًا ولا

توقيرًا، بل ذلك أقلَّ نَصره؛ لأن السَّابَّ في أيدينا ونحن متمكِّنون منه، فإنْ لم نَقتُلْه -مع أن قَتلَه جائز-، لكان ذلك غايةً في الخُذلانِ وتركِ التعزيرِ له والتوقير .. وهذا ظاهر" (¬1). رَحِمَ اللهُ شيخَ الإسلام ابن تيمية، وجزاه عن الإسلامِ والمسلمين خيرًا، جزاءَ دفاعه عن نبيِّه العظيم - صلى الله عليه وسلم - .. ونسأله سبحانه أن يحشُرَنا معه يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنون، إلاَّ مَن أتى اللهَ بقلبٍ سليم .. آمين. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الصارم المسلول" (ص 512 - 541).

وقفات شرعية مع جريمة الإساءة إلى مقام النبي - صلى الله عليه وسلم -

وقفاتٌ شرعيَّةٌ مع جريمة الإساءة إلى مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - ° في مقاله الطيِّب بمجلة "البيان" (¬1) قال الشيخ محمد بن صالح المنجد: "ساءَ كلَّ مسلمٍ غيورٍ على دينه ما قام به السفهاءُ المجرمون من الاستهزاء بنبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وهو أفضل من وطئت قدماه الثرى، وهو سيد لأولين والآخِرين صلوت ربي وسلامه عليه-. وهذه الوقاحةُ ليست غريبةً عنهم؛ فهم أحقُّ بها وأهلُها؛ فقد كفروا بالله -تعالى- وسَبّوه ونَسبوا إليه الصاحبةَ والوَلَدَ. فماذا يَنقِمُ هؤلاء من سيدِ البشر محمد - صلى الله عليه وسلم -؟!: هل يَنقمون منه أنه دعا إلى توحيدِ الله -تعالى- وهم لا يؤمنون لله بالوحدانية؟. أم يَنقِمون منه أنه عَظَمَ ربَّه -تبارك وتعالى- ونزَّهه عما يقوله هؤلاء المفترون، وهم ينسِبون إليه النقصَ والصاحبةَ والولد؟. أم ينقمون منه أنه دعا إلى معالي الأخلاق، وتَرْكِ سفسافها، ودعا إلى الفضيلة، وسد كلّ باب يؤدي إلى الرذيلة، وهم يريدونها فوضَى أخلاقية وجنسيةً عارمةً؟. يريدون أن يَغرَقوا في مستنقع الشهواتِ والرذيلة، وقد كان لهم ما أرادوا!. ¬

_ (¬1) مجلة "البيان" العدد (222) (ص 30 - 37).

أم يَنقِمون منه أنه رسولُ الله، والله -تعالى- هو الذي اصطفاه على الناس برسالته ووحيه؟. ودلائلُ نبوتِه - صلى الله عليه وسلم - أكثرُ من أن تُحصَر: شقَّ الله له القمر ليُريَ الكفارَ آيةً، ونَبَع الماءُ من بين أصابعه - صلى الله عليه وسلم - مراتٍ، وتكلَّمت الشاةُ المسمومةُ فأخبرته أن بذِراعها سُمًّا، وأعطاه خَمْسًا لم يُعطِهن أحدًا من الأنبياء قبلَه، منها نَصرُه بالرعب مسيرةَ شهر، وبَعثُه للناس كافَّةً: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28]. أم لم يَسمعوا عن آياته الكبرى، هذا القرآنُ الكريم، كلام ربِّ العالمين، الذي حَفِظه اللهُ -تعالى- فلم تمتدَّ إليه يدُ العابثين المحرِّفين، أما كُتُبُهم المنزَّلةُ على أنبيائهم، فتلاعبوا بها أيَّما تلاعب: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79]. بل من أعظم الأدلةِ على صدقِ نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بقاءُ دينِه هذه القرونَ الطويلةَ ظاهراً منصورًا، وقد كان أمرُه - صلى الله عليه وسلم - في حياته دائمًا إلى ظهورٍ وعُلوٍّ على أعدائه، وحكمةُ الله تعالى تأبى أن يُمَكِّن كاذبًا عليه وعلى دينه من العلوِّ في الأرض هذه المدةَ الطويلةَ، بل في كتبهم التي كَتمها علماؤُهم وحَرَّفوها أن الكذَّاب (مُدَّعي النبوة) لا يمكن أن يَبقي إلاَّ مدةً يسيرةً ثم ينكشفُ أمرُه ويضمحل. كما ذكر عن أحدِ ملوكِهم أنه أُتِي برجل من أهل دينه (نصراني) كان يسبُّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ويَرميه بالكذب، فجَمَع المَلِكُ علماءَ مِلَّتهِ، وسألهم: كم يبقى الكذابُ؟ فقالوا: كذا وكذا -ثلاثين سنةً أو نحوها-، فقال الملك:

وهذا دينُ محمد له أكثرُ من خَمْسِمئة سنةٍ أو سِتِّمئة سنة (يعني: في أيام هذا المَلِك)، وهو ظاهر مقبولٌ متبوع؛ فكيف يكونُ هذا كذابًا، ثم ضَرَب عُنقَ ذلك الرجل (¬1)!!. ألم يعلموا أن كثيرًا من عُقلائهم وملوكهم وعلمائهم لَمَّا وَصلت إليهم دعوةُ الإِسلام بيضاءَ نقيَّةً، لم يَملِكوا إلاَّ الإِقرارَ بصحَّةِ هذا الدين، وعَظَّموا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم مَن أعلن الدخولَ في الإِسلام؟!. فقد أقرَّ مَلِكُ الحبشةِ "النجاشيُّ" بذلك، ودَخل في الإِسلام. ولَمَّا أرسل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كتابًا إلى "هرقلَ" مَلِكِ الروم يدعوه فيه إلى الإسلام، أقرَّ هرقلُ بصحةِ نبوته، وهمَّ أن يُعلِنَ إسلامَه وتمنَّى أن يذهبَ إلى الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - ويكونَ خادمًا عنده، إلاّ أنه خافَ على نفسِه من أهل ملَّته ثم ضَنَّ بمُلكِه وأخذته شهوةُ الرئاسة، فبقي على الكفرِ ومات عليه. ولم يَزَلِ الكثيرُ من مُفكِّريهم وكُتَابهم ومؤرِّخيهم المنصفين يُعلنون الثناءَ على محمد - صلى الله عليه وسلم -. 1 - "برنارد شو" الإِنكليزي، له مؤلَّف أسماه "محمد" يقول: "إن العالَم أحوجُ ما يكون إلى رجلٍ في تفكير محمدٍ، وإن رجالَ الدينِ في القرون الوسطى، ونتيجةً للجهل أو التعصُّب , قد رَسموا لدينِ محمدٍ صورةً قاتمةً، لقد كانوا يعتبرونه عدوًّا للنصرانية، لكنَّني اطلعتُ على أمرِ هذا الرجل، فوجدتُه أعجوبةً خارقةً، وتوصَّلتُ إلى أنَّه لم يكن عدوًّا للنصرانية، بل يجبُ أن يُسمَّى "منقذ البشرية"، وفي رأيي أنَّه لو تولَّى أمرَ ¬

_ (¬1) "شرح العقيدة الأصفهانية" لشيخ الإسلام ابن تيمية.

العالَمِ اليوم، لوُفِّق في حلِّ مشكلاتِنا بما يؤمَّن السلامَ والسعادةَ التي يرنو البشر إليها". 2 - ويقول "آن بيزيت": "من المستحيل لأي شخصٍ يدرسُ حياةَ وشخصيةَ نبيِّ العرب العظيم وَيعرفُ كيف عاش هذا النبي وكيف عَلَّم الناس، إلاَّ أن يَشعرَ بتبجيل هذا النبي الجليل، أحدِ رُسل الله العظماء". 3 - وقال "شبرك" النمساوي: "إن البشريةَ لَتفتخر بانتسابِ رجلٍ كمحمدٍ إليها؛ إذ إنَّه رَغم أُمَّيتِه، استطاع قَبلَ بِضعَةَ عَشَرَ قرنًا أنْ يأتي بتشريع، سنكونُ -نحنُ الأوروبيين- أسعدَ ما نكون إذا توصَّلْنا إلى قِمَّته". 4 - ويقول "جوته" المفكِّر الألماني: "إننا -أهلَ أوروبا- بجميع مفاهيمنا، لمِ نصِلْ بعدُ إلى ما وَصل إليه محمدٌ، وسوف لا يتقدُم عليه أحدٌ، ولقد بحثتُ في التاريخ عن مَثَل أعلى لهذا الإنسان، فوجدته في النبيِّ محمد، وهكذا وَجب أن يظهرَ الحق ويعلو، كما نَجَح محمدٌ الذي أخضع العالَم كله بكلمةِ التوحيد" (¬1). وقد ميَّز الله -سبحانه وتعالى- نبيَّنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وكرمه بعددٍ من المعجزاتِ الباهراتِ، خَصَّه بأشياءَ دون غيرِه من الأنبياء، ومعرفةُ هذه الخصائص تَزيدنا في معرفةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وتَجعلنا نُحبُّه، ويزداد إيماننا به، فنزداد له تبجيلاً، ونزداد له شوقًا. والخصائصُ النبوية: "هي الفضائل والأمور التي انفرد بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) للتوسّع في النقول: انظر "الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الدراسات الاستشراقية المُنصِفة" لمحمد شريف الشيباني.

وامتاز بها إما عن إخوانه الأنبياء، وإمَّا عن سائر البشر" .. فاقَ البُدورَ وَفاقَ الأنبِياءَ فكَم ... بِالخُلقِ وَالخَلقِ مِن حُسْنٍ وَمِن عِظَمِ وخصائصه -عليه الصلاة والسلام- التي اختُص بها دون بقية الأنبياء -عليهم السلام- كثيرة، دنيوية وأخروية (¬1). * فمن الخصائص الدنيوية: اختصاصُه - صلى الله عليه وسلم - بأن آيته العُظمى في كتابه، وبأن كتابَه مشتمِلٌ على ما اشتَملت عليه الكتبُ السابقة، وفضل بالمفصَّل وبخواتيم سورة البقرة وببقاءِ معجزته إلى يوم الدين .. جاء النبيُّون بالآياتِ فاصَرَمَت ... وجئتَنا بحكيمٍ غيرِ مُنصرِمِ ومنها: اختصاصُ النبي - صلى الله عليه وسلم - بكونه خاتمَ النبيين وبإرساله إلى الثَّقَلَينِ. ومنها: اختصاصُ النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن السماءَ حُرست بمبعثه، وباختصاصِه بالإسراء والمعراج، وأنه -عليه الصلاة والسلام- أَمَّهم جميعًا فكانوا وراءَه هو الإمامُ وهم المأمومون، واختصاصُه بأخذِ الميثاقِ له من جميع الأنبياء بالإيمان به ونُصرتِه، وأنه سيدُ ولد آدم، وبأنه أُوتي مفاتيحَ خزائن الأرض. * وأما خصائصَه الأخروية فمنها: اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بأنه أولُ مَن تُشَقُّ عنه الأرضُ يوم القيامة، وبإعطائه لواءَ الحمد، وبأن الله تعالى يَبعثُه يومَ القيامة مقامًا محمودًا، وأنه أولُ مَن يدخل الجنةَ يومَ القيامة، وبأنه أولُ شفيع في الجنة، وأول مَن يَقرعُ بابها، وبأنه أكثرُ الأنبياء تابعًا يوم القيامة، ويدخلُ من أمَّته الجنةَ سبعون ألفًا بغير ¬

_ (¬1) انظر جَمْعي وكتابي "الكوكب الدُّرِّي في خصائص النبي".

حساب، وبأنه أولُ مَن يجوزُ الصراطَ من الرسل بأمَّتِه، وبإعطائِه الكوثر: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]. ربَّاكَ ربُّكَ .. جلَّ من ربَّاكا ... ورعاكَ في كَنَفِ الهدى وحماكا سبحانه أعطاك فَيضَ فضائلٍ ... لم يُعْطِهَا في العالمين سواكا ولَمَّا كان ذلك كذلك، فإن من واجبِ العالَمِ كلِّه -ولا محيصَ له عن ذلك- أن يَجعلَ عظمةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في الخَلقِ جميعًا فوقَ كلِّ عظمة، وفَضْلَه فوقَ كلِّ فضل، وتقديرَه أكبرَ من كلِّ تقدير، ويَجبُ على العالَم أجمعَ أن يؤمِنَ برسالةِ محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنه خاتمُ أنبياء الله الكرام. ونحن نغتنم هذه الفرصةَ وندعو هؤلاء إلى الإِسلام، فإنَّ ما اقترفته أيديهم الآثمةُ لا يمحوه إلا الإِسلام، فإن عاندوا وكابَروا وأصرُّوا على ما هم عليه، فلْيُبشِروا بعذابِ النارِ خالدين فيها أبدًا. * قال الله تعالى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} [المائدة: 72]. * وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85]. • وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وَالَّذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِه لا يَسْمَعُ بي أَحَدٌ مِنْ هَذهِ الأمَّة -يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ-، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلتُ بِهِ، إلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (153).

اختلاف الأعداء وانقسامهم

* ولنا مع هذا الحديثِ وقفات: أولاً: مصالح وبشارات: * قال الله تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)} [النساء: 19]. • وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "عَجبًا لأمْرِ المُؤْمِنِ! إن أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَلك لأحَد إلاَّ للمُؤْمِنِ" (¬1). ° وقديمًا قيل: قد يُنْعِمُ اللهُ بالبلوى وإنْ عَظُمَتْ ... ويَبتلي اللهُ بعضَ الخَلقِ بالنِّعَمِ ° وقيل: "وربما صَحَّت الأبدانُ بالعلل". فما وَقع من الاستهزاءِ أثار حميَّةَ المسلمين لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأيقظهم من سُباتهم، وبَصَّرهم بأعدائهم؛ فهي طعنةٌ آلَمَتْنا ولكنها أيقظتنا، وقد قال تعالى في حادثة الإِفك التي هي صورة من صور أذيَّته - صلى الله عليه وسلم -: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور: 11]. فمِثل هذا الهَجَماتِ صارت سببًا في حصولِ خير كثير للمسلمين، وحصولِ الخِزي والصَّغار لأعدائِهم .. فمن ذلك: * اختلافُ الأعداء وانقسامهم: إذ حَصَل خلافٌ بين الشرِكاتِ الكبرى التي تأثَّرت من المقاطعة من جهةٍ، والجهاتِ التي نَشرت ما نشرت من جهةٍ أخرى، كما انقسم الشعبُ الدانماركيُّ على نفسه إزاءَ ما حَصل: هل هو فعلاً من حريةِ الرأي؟ أم أنه اعتداءٌ وعدوان؟. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2999).

علو الصوت الإسلامي

* علوُّ الصوتِ الإِسلامي: فهذه الأزمةُ أعادت الاعتبارَ للمسلمين، وجعلت لهم وزنًا، وأصبح كل حاقدٍ على الإسلام يُعيدُ حساباتِه قبلَ أن ينالَ من الإسلام وأهله. وتملَّق الكثيرُ من المنافقين للمدِّ الإسلامي، واشترك بعضُهم في المقاطعة قائلاً: "لقد تعدَّت القضيةُ الخطَّ الأحمر"، بل حتى إن بعضَ القنواتِ الهابطةِ أصبحت تُعلِنُ أخبارَ الغضبِ الإسلاميِّ وتُظهِرُ تأييده، وفَرَضت مُجرياتُ الأحداثِ على وسائل الإعلام العالمية أن تقومَ بتغطيتها تغطيةً كاملة، وتكلَّم الساسةُ الكبارُ وزعماءُ الدول وأدلَوا بتصريحاتٍ حول الموضوع. * في الأُمة خيرٌ كثير: أثبتتْ هذه الحادثةُ الدنيئة أن أمَّتنا أمَّةٌ عظيمة، وأنها إذا مَرضت فإنها لا تموت، وفيها رجالٌ يذودون بكلِّ ما أُوتوا دونَ نبيِّهم الكريم - صلى الله عليه وسلم -، وأن فيها خيرًا كثيرًا, ولكنها تعيشُ فترةً من التخديرِ والخمول، وأنها إذا استَيقظت فستتحركُ كالبركان، وهذا ما رأيناه من التسابقِ في المساهَمة والبذل، وما نسمعُه من استنفارِ الأمةِ كلِّها، والتحركِ في جميع المجالات؛ حيث شارك في هذه الحملةِ المحامون والتجارُ والصُّنَّاعُ والأكاديميون والطلابُ والصّغارُ والكبارُ والرجالُ والنساء. * توحيدُ صفوف المسلمين: فرأينا -ولله الحمد- تكاتُفَ المسلمين وتبنَّيَهم لنفسِ المواقف، وإن اختَلفت البلدانُ واللغات.

إحياء جذوة الإيمان في قلوب المسلمين

ويمكنُنا القولُ: إن الأمةَ الإسلاميةَ في العصرِ الحديث قلَّما قابَلَتْ حَدَثًا كان له مِثل هذا التأثير .. عِرضي فدا عِرضِ الحبيب محمدٍ وفداه ... مُهجةُ خافِقي وجَناني وفداه كلُّ صغيرِنا وكبيرِنا ... وفداه ما نَظَرت له العَينانِ * إِحياءُ جَذوةِ الإِيمان في قلوب المسلمين: فقد رأينا من رَدِّ فِعل المسلمين ما يدلُّ على محبَّتَهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى مَن عنده شيءٌ من التفريط في بعضِ واجباتِ الدين، ثار دفاعًا عن الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -، ولا عجبَ في ذلك، فإن للرسول - صلى الله عليه وسلم - في قلوبِ المسلمين المكانةَ العظمى والمحبةَ الكبرى. * ظهر في الأزمة أن أهلَ التوحيد الخالص هم أهلُ النصرة والمحبةِ الحقيقية: بخلاف بعضِ أهل البدع والخرافاتِ الذين ضَعُفت أصواتُهم -إلا ما قلَّ- في الذَّود عن عِرضِ النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر، فدعوى محبةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وآلِ بيته وحدَها لا تكفي، بل لا بد من النُّصرةِ بالقولِ والعمل والمبادرةِ إلى ذلك. * تبيَّن من الأزمةِ حِرصُ عددٍ من الغيُورين على الدعوةِ إِلى الإِسلام، وبيانِ الصورةِ المُشرِقةِ الحقيقيةِ لهذا الدين: من خلالِ ما رأينا من تسابقِ الكثيرين إلى طباعةِ الكتبِ بلُغةِ أولئك

{إنا كفيناك المستهزئين}

وبَذلِ المالِ في سبيل هذا، وهذا مَظهرٌ يُحمَد ويَحتاجُ إلى ترشيدٍ ووَعْي. * مسايرةُ الإِعلامِ وبعضِ كبارِ المسؤولين لمواقفِ الشعوبِ الإِسلاميةِ وحركتِها المباركة. ° إرسالُ رسالةٍ واضحةٍ للغرب أننا -نحن المسلمين- لا نرضى أبدًا أن يُمَسَّ دينُنا أو يُنالَ منه، أو يُعتدَى على رسولنا؛ فكلُّنا فداءٌ له- بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - .. فإنَّ أبي ووالدَه وعِرضي ... لِعِرض محمدٍ منكم فِداءُ * {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}: ° قال ابن سَعدي -رحمه الله -: "وقد فعل -تعالى-، فما تظاهر أحدٌ بالاستهزاء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به، إلاَّ أهلَكه الله وقَتَله شرَّ قِتله". ° فهذه الجريمةُ النكراءُ -مع أنها تُمزِّقُ قلوبَنا، وتملؤُها غَيظًا وغَضَبًا، ونودُّ أن نفدِيَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بأنفُسِنا- إلاَّ أنها مع ذلك مما نَستبشرُ به بهلاكِ هؤلاء وقُربِ زوالِ دولتهم، إذِ اللهُ -تعالى- يَكفي نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - المستهزئين المجرمين. وقد كان المسلمون إذا حاصروا أهلَ حِصنٍ واستعصى عليهم، ثم سَمِعوهم يَقَعون في النبي - صلى الله عليه وسلم - ويَسُبُّونَه، يستبشرون بقُرب الفتح، ثم ما هو إلا وقتٌ يسير, ويأتي اللهُ -تعالى- بالفتح من عنده، انتقامًا لرسوله - صلى الله عليه وسلم -. وشواهدُ التاريخِ كثيرةٌ على هلاكِ وفضيحةِ المستهزئين بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم -.

ظهور اتحاد الغرب على الإسلام

* ظهورُ اتحادِ الغرب على الإِسلام: فما أنِ استَنجدت تلك الدولةُ باتحادِهم حتى وقفوا جميعًا بجانبها، وتواصَى بعضُ المجرمين على نَشرِ هذه الصور في صحافتِهم تعاونًا على الإثمِ والعدوانِ، وتفتيتًا للمقاطعة، وتأكيدًا لحريَّة النشر -بزعمهم-، وكان بعضُ ساستهم يأسفُ لإِهانةِ مشاعر المسلمين، ثم يتصلُ بكبيرِ الدانمارك ليؤيِّده ويقول: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]، حتى يُعلِموا المسلمين أنهم جميعًا في خندقٍ واحد، وأننا لا نستطيعُ مواجهتهم جميعًا. * ظهور الحقد الصليبيّ الدفين: حيث عَبَّر بعضُ مسؤوليهم عن أنه لا بدَّ مِن إيقاف المقاطعة ولو أدَّى ذلك إلى شَنِّ حربٍ صليبيةٍ جديدة، وهذا -وإن لم يصرَحْ به كثيرٌ منهم-، إلا أنها زَلَّةٌ تُمثِّلُ رأيَ طائفةٍ منهم: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)} [آل عمران: 118]. * اتضاحُ غطرسةِ الغربِ وعنادِه: فهو يرفضُ الاعتذارَ -حُكومةً وشعبًا-، وينظرُ للمسلمين نظرة استحقار .. بل يُصرِّحُ بعضُ مسؤوليهم أنهم لا يريدون الاعتذار ولا يرغبون فيه. * اتضاح موقف المنافقين: وهم الواقفون مواقفَ الرِّيبة من هذه الجريمة، إمَّا بالسُّكوت تارةً، أو بالتَّبرير تارةً، أو بالتَّهوين تارةً، أو بالاستهزاءِ من استنكارِ المسلمين لهذه الجريمةِ تاراتٍ وتارات.

المقاطعة الاقتصادية

* ازديادُ أهميةِ التقليلِ من الحَجمِ الهائلِ لمستورَداتِ الدول الإِسلاميةِ من العالم الغربي: والسعى للتعويض عن ذلك بمنتجاتِ دولٍ إسلاميةٍ أخرى من خلال اشتراك المواردِ مع المال مع الخبرات. * ظهورُ جدوى تلك المقاطعةِ التي قام بها المسلمون لمنتجات المعتدين على مقامِ الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: فلم تتحرك دولتُهم لمطالبَ رسميةٍ أو سياسية، لكن لَمَّا قامت المقاطعة لم يَمْضِ عليها إلاَّ أيامٌ قليلة حتى هَبَّتِ الصحيفة الآثمة ورئيسُ تحريرها لتدارُكِ الأمر، وتغيَّرَ أسلوبُ رئيس وزرائهم المكابر، فَلانَ شيئًا ما مع المسلمين -لا بل مع مصالحه-، وبهذا يَظهر سلاحٌ جديدٌ للمسلمين أفرادًا وجماعات يُمكن أن يَستخدموه للتأثير على أعدائهم، وإلحاقِ الضرر بهم (¬1). * المقاطعة الاقتصادية (¬2): لا شك أن للاقتصاد في هذا الزمن تأثيرًا كبيرًا وفعَّالاً على مواقفِ الدولِ واتجاهاتها، وقد أصبحت الدعوةُ إلى مقاطعةِ البضائع والمنتجاتِ التي تُصدِّرها الدولُ التي تحاربُ المسلمين، من وسائل الضغطِ عليها لتوقفَ أو تخفِّفَ من موقفِها المعادي للمسلمين. ¬

_ (¬1) راجع "الصارم المسلول" (ص 116 - 117). (¬2) كتاب "المقاطعة الاقتصادية حقيقتها وحكمها" لخالد الشمراني، ومقال "مقاطعة بضائع الكفار" نظرة شرعية لهاني الجبير "مجلة البيان" عدد 179.

وسلاحُ المقاطعةِ سلاحٌ مؤثرٌ بلا شك في المواجهةِ مع الأعداء. وقد استُخدم هذا السلاح قديمًا وحديثًا. فقديماً: استخدمته قريش ضدَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يُسمَّى بـ "شِعْب أبي طالب"، واستمر ثلاثَ سنوات، وكان تأثيرُه على المسلمين بالغًا. وهدَّد به ثمامةُ بنُ أُثال قريشًا عندما مَنَعَ الحنطةَ من بلاد نجد، حتى جاءت قريشٌ وناشَدت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ياذنَ لثمامةَ أن يبيعَهم الحنطة، والقصة في "صحيح البخاري" برقم (4372). وأما حديثًا: فقد استُخدمت المقاطعةُ في الحربِ العالمية بين المتحارِبين، واستُخدمت مؤخرًا ضدَّ عددٍ من البلادِ الإسلامية كالعِراق وليبيا وأفغانستان والسودان. واستخدمتها الدول الإسلاميةُ قبلَ معاهداتِ السلام ضد الشركاتِ المتعاونةِ مع إسرائيل. وفي الحقيقة إن المُتابعَ لمجرياتِ الأحداثِ يلمسُ ما لهذه المقاطعةِ من آثارٍ كبيرة تدفعُ بعضَ الشركاتِ إلى التبرُّؤِ من العدوانِ والضغطِ على الساسةِ في بلدانهم لاتخاذ ما يُوقفُها. هذا من الناحيةِ الواقعية. * أما من ناحيةِ الحُكمِ الشرعي للمقاطعة الاقتصادية: فإن الأصلَ جوازُ معاملةِ الكفار بالبيع والشراء سواءٌ كانوا أهلَ ذمَّةٍ أو عهدٍ أو محارِبين، فلا تمنع المقاطعة، ولا تُشرع، ولكنَّ هذا الحكمَ قد يتغيَّرُ بالنظر إلى ما يترتبُ على المقاطعة الاقتصادية من مصالحَ أو مفاسد: فإذا غَلب على الظن إفضاءُ المقاطعة الاقتصادية إلى الإضرار بالكفار

الحربيين، من غيرِ أن يترتبَ على ذلك مفسدة تعودُ على المسلمين، فهنا يتأكدُ الأمرُ، وقد يصلُ إلى الوجوب؛ فكل ما يُلحِق الضررَ بِمَن أعلن لنا العَداءَ مطلوبٌ ومأمور به، ولا شك أن التعاملَ التجاريَّ والاقتصاديَّ الحاصلَ في هذا الزمنِ يُباينُ التعاملاتِ التجاريةَ في الأزمانِ السابقة؛ فهو الآن أوسعُ وأشملُ، ولا شك في ارتباطِ الاقتصادِ الآنَ بالسياسةِ وتأثيرِه، وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - على قريش أن تُضيَّق عليهم معيشتُهم؛ فعن ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا دعا قريشًا كذبوه واستَعصَوا عليه، فقال: "اللهم أعنِّي عليهم بسَبعٍ كسبع يوسف"، فأصابتهم سَنَةٌ حَصَّت كل شيء (أي: أذْهَبَتْه) (¬1)، حتى كانوا يأكلون المَيتة، وكان يقومُ أحدُهم، فكان يَرى بينه وبين السماء مِثلَ الدخان من الجَهْد والجوع، فأتاه أبو سفيان فقال: أيْ محمد، إن قومَك هَلكوا، فادعُ اللهَ أن يكشِفَ عنهم (¬2). ففي هذا إشار إلى استخدام السلاح الاقتصاديِّ ضدَّ الأعداءِ المحارِبين. - وإذا كانت المقاطعةُ الاقتصاديةُ لا يترتبُ عليها إضرارٌ بالكفار، بل تعودُ على المسلمين أنفسِهم بالضرر، فهنا يتوجَّهُ القولُ بالتحريم (¬3). ° قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "الفعلُ إذا كان يُفضي إلى مفسدةٍ، وليس فيه مصلحة راجحةٌ: يُنْهى عنه" (¬4). ¬

_ (¬1) "النهاية في غريب الحديث والأثر" (1/ 980). (¬2) "صحيح البخاري" (4823). (¬3) أي: تحريم المقاطعة. (¬4) "مجموع فتاوى ابن تيمية" (1/ 164).

دعوات وشعارات تساقطت

- وأما إذا كانت المقاطعة الاقتصاديةُ ستُوقعُ الضررَ بالكفار، لكنها في المقابل ستوقعُ ضررا بالمسلمين أيضًا؛ فهنا تعارضت مصلحةُ الإضرارِ بالكفار مع مَفسدةِ قوع الضررِ على المسلمين، فيُنظر: فإن كنت المفسدةُ على المسلمين غالبةً مُنعت المقاطعة، وإن كان المصلحةُ بمقاطعتهم غالبةً، كانت مأمورًا بها، وإن تساوت المصلحةُ والمفسدةُ، فدَرءُ المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح. - وأما إذا كانت المقاطعةُ الاقتصاديةُ لا مصلحةَ فيها من حيث الإضرارُ بالكفار، ولا مفسدةَ فيها على المسلمين؛ فلا حَرَج من القولِ باستحبابها؛ لأنها تكونُ من وسائل التعبيرِ عن السُّخطِ ضدَّ ممارساتِ الكفارِ العُدوانية، فلو لم يَنتج عن هذه المقاطعة إلاَّ التعبيرُ عن عقيدةِ الولاء بين أهل الإيمان والبراءةِ من أهل الشِّرك والكفران -والتعبيرُ كذلك عن إرادة الشعوب الإسلامية- لكفى، فهي على الأقل "تسجيل موقف للشعوب الإسلامية". * دعوات وشعارات تساقطت: لقد أظهرت هذه الأزمة حقائقَ كانت خافية على جَمٍّ غفيرٍ من الناس؛ فهؤلاءِ القومُ الذين ما فَتِئوا يدَّعون أن بلادَهم رمزٌ للحرية والديمقراطية، ويتشدَّقون باحترامِهم لجميع الأديان، أظهرت هذه الأزمةُ ما تَنطوي عليه قلوبُ هؤلاء المجرمين من الحِقدِ والكُرهِ للمسلمين، وإنْ تظاهروا في كثير من الأحيان أنهم مسالمون: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118]. ومنها: انكشاف تزويرِ الغرب في معاييره؛ فهنا يحتجُّون بحريةِ الرأي

والتعبير، وكلُّ عاقلٍ يَعلمُ أن حريةَ الرأي المزعومةَ تقفُ عند المِساسِ بحُرمةِ الآخرين والاعتداءِ عليهم، وهم كاذبون في دعواهم حريةَ الرأي؛ فكلُّنا يَذكرُ ما حَدَث منذ سنواتٍ قريبةٍ عندما أقدمت حكومةٌ إسلاميةٌ على تكسيرِ أوثانٍ وأصنامٍ عندها، أقاموا الدنيا وما أقعدوها!! فأين كانت حريةُ الرأي المزعومة؟! ولماذا لم يعتبروا هذا أيضًا من حرية الرأي؟!. وإذا كان الشرعُ والعقلُ -بل والقانون- يَمنعُ الإنسانَ أن يتصرفَ في بيتِه بما يؤذِي جارَه، كالأصواتِ المزعجة أو الروائحِ الكريهة؛ فكيف تقْدِمُ الصحيفةُ على هذه الجريمةِ التي فيها استهانةٌ بمشاعِرِ مليارٍ و 300 مليون مسلم، ثم تحتجُّ بحريةِ الرأي؟. ومنها: بيانُ بطلانِ ما يدعو إليه بعضُ المتغرِّبين من أبناءِ جِلدتنا بمثل قولهم: "لا تقولوا على غيرِ المسلمين "كفارًا"، بل قولوا "الآخَر" حتى لا تشعلوا نارَ الفتنةِ بيننا وبينهم". فتبيَّن من الجريمةِ مَن الذي يَكره الآخر، ولا يُراعي حُرمتَه، ويُعلِنُ الحربَ عليه. ومنها: كَذبُ دعاويهم التي ملؤوا بها الدنيا من "حوار حضارات" القائم على احترام الآخر، وعدم الاعتداءِ عليه!! فأيّ حوارٍ يريدون؟ وأيُّ احترامٍ يزعمون؟. إنهم يريدون منا أن نحترمَهم ونوقَرَهم ونعظِّمَهم، بل ونركعَ لهم ونسجد، أما هم فلا يزدادون إلاَّ استهزاءً بنا وسخريةً وظلمًا!. ° ومِن المعاني التي تساقطت أيضًا في هذه الأزمة: انهزامية الأمة تجاهَ

المخذلون كثر

الغرب، فقد كان الغربيُّون ينظرون إلى الأُمةِ الأسلاميةِ كأنها الرجلُ المريضُ الذي أُصِيب بالشلل، فمهما ضَرَبتَه فلن يتأؤَه، ولن يكونَ له ردُّ فعلٍ، ثم إذا بالموازين تنقلبُ بعد نشرِ تلك الرسوماتِ، وبدأ رئيسُ الوزراءِ الدانماركي -الذي كان يرفضُ مجردَ لقاءِ سفراءِ البلاد الإسلامية في بلده- يستأجرُ بعضَ القنواتِ العربيةِ للظُهور في مقابلاتٍ، محاولاً تبريرَ موقفِه وموقفِ بلاده، وكذلك رأينا رئيسَ الولايات المتحدة الأمريكية يتحدثُ منتقِدًا هذه الرسومات، وكذا الرئيسُ الفرنسي، والأمينُ العامُّ للأممِ المتحدةِ، وغيرُهم من الساسة، إذ أذهلَتْهم ردودُ أفعالِ المسلمين، فكان لا بدَّ لهم من التحدُّثِ بالاستنكارِ ولو تصنُّعًا ومجاراةً. فظَهَر أن مرضَ الأُمةِ مؤقَّت، وأنها متى أَخذت بأسبابِ السلامةِ والعافية -ومن أعظمها: اتحادُها- فسوف تَفعلُ الكثيرَ والكثير. * المُخذّلِون كُثُر: في ظلِّ توحُّد المسلمين واجتماع كلمتِهم على موقفٍ واحدٍ في التصدِّي لهذه الهجمةِ، يُسَرُّ المرءُ لِمَا يرى ويشاهدُ من الغَيْرة الإسلامية العظيمةِ المتولِّدةِ من الغضب لانتهاك حرمته - صلى الله عليه وسلم -. إلاَّ أننا نرى هنا وهناك مَن يحاولُ تخذيلَ المسلمين، والوقوفَ في صفِّ أعدائهم. فقد أغاظتْ هذه المقاطعةُ كثيرًا من المنافقين، فحاولوا التبريرَ تارةً، والتهوين تارةً، وزَعْمَ الإصلاح وارادةِ الخيرِ تارةً أخرى!. فمِن زاعمٍ أَنَّ المقاطعة ستقطعُ الحوارَ معهم!.

وهل نقبل الحوارَ مع مَن يَهزأ بنبينا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ويسخرُ بثوابتنا؟!. ومِن زاعمٍ: أَنَّ سببَ جنايةِ تلك الصحيفةِ هو تقصيرُ المسلمين أنفسِهم في تعريفِهم بالإسلام! فمرادةُ تبرئة هؤلاء المعتدين من جنايتهم، أو تبريرُها لهم، وإناطةُ جُرْمِها بالمسلمين! وقد جَهِل هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أدَّى الرسالة، وبلَّغ الأمانةَ أعظمَ التبليغ، ومع ذلك لم يَسلَمْ من سُخريةِ كفارِ قريش. ومِن مستهزئٍ بالمقاطعةِ فيقول: هذا غاية ما تملكون؟! ترك أكلِ الزبدة والجبنة!!. وهذا شبيهٌ بموقف المنافقين الذي كانوا يسخرون من المؤمنين لكونهم يتصدَّقون بالقليل من المال، مع أنه غايةُ ما يستطيعونه: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)} [التوبة: 79]. ومِن زاعم: أن المسلمين "عمَّموا خطأَ جريدةٍ على دولةٍ كاملة لا تملكُ -بحكمِ القانون- أيَّ سيطرةٍ على هذه الجريدة"!!. والجواب عن هذا: أولاً: أن حكومتَهم قد وَقفت بجانب الجريدة، وبرَّرت فَعْلتها بأنها حريةُ الرأي. وثانيًا: أنَّ شَعْبَهم نفسَه قد وافق غالبيتُه الجريدةَ والحكومةَ على موقفهما؛ ففي استطلاع للرأي رأى 79% ممن شَمِلهم الاستطلاع أن رئيسَ الوزراء يجبُ ألا يعتذَر نيابةً عن الدانمارك، بينما قال 18%: إن عليه الاعتذار.

وقال 62% منهم: إنه لا يتعينُ على الصحيفةِ تقديمُ اعتذار، بينما قال 31%: إن عليها أن تعتذر .. [موقع إسلام أون لاين]. ويَرى بعضُهم أن هذه المقاطعةَ لن تُفيدَ شيئًا، فهل تغاضَوا عن استغاثاتِ الدانمارك المتكررةِ بالاتحاد الأوروبي لإِنهاء المقاطعةِ الإسلاميَّة؟ وهل تجاهَلوا الخسائرَ الدانماركية التي ستُصاب بها حين تقاطعُها الأمةُ الإسلامية؟ حيث بلغت خسارةُ شركةٍ واحدةٍ من شركاتهم للألبان في دولةٍ إسلاميةٍ واحدة ما يتراوحُ بين ثَمانِمئةِ ألفٍ ومليونَ وسِتَمئةِ ألفِ دولارٍ يوميًّا، كما صَرَّح بذلك مديرُ هذه الشركة، فضلاً عن فُرصِ الوظائفِ التي سيفقدُها أصحابُها [موقع الجزيرة]. بل قد صرَّح بعضُهم أن ما بَنَوه في عشراتِ السنوات -أي من السُّمعةِ الحسنةِ لبضائعهم التجارية- قد تَهدَّم في أيام قليلات. ويرى آخرون أن المتضررين من المقاطعةِ إنما هم الوكلاءُ التجاريون الذين يَحمِلون امتيازَ بَيعِها في البلدان الإسلامية!!. وهذا عجيبٌ! أن يتولَّى هؤلاءَ الدفاع عن أولئك التجار؛ مع أن التجارَ أنفسَهم لهم مواقفُ مشرِّفة؛ فقد رأيناهم تداعَوا بشجاعةٍ لطلب المقاطعة؛ فهل هو أحرصُ منهم على أموالهم، أم أنَّها عقليات التطبيع؟!. ومِن هؤلاء مَن بدأ يدعونا للتسامُح معهم والسكوتِ عن أذاهم، وما عَلِموا أن التسامحَ لا يكونُ مشروعًا إلا إذا وقع موقعَه الصحيح، وأولئك المستهزؤون بمَقامِه - صلى الله عليه وسلم - ليسوا موضعًا صالحا للتسامح، بل التسامحُ مع أمثال هؤلاء المجرمين جريمةٌ شرعية، ولئن كان لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -الحقُّ في التجاوز

عمن أساء إليه، فإن هذا ليس إلى الأُمة، بل الأخذُ بحقِّه والغضبُ له واجبٌ شرعيٌّ لا يجوزُ أن يُمَسَّ أو يَتبرعَ أحدٌ بالتنازل عنه. ومِن زاعم: أن المقاطعةَ مجردُ رد فعلٍ عاطفي، ولا يَنبغي أن تكونَ تصرُّفاتُنا مبنيةً على ردودِ الأفعالِ .. وهذا الزعمُ لا بد له من وقفةٍ تُبيِّنُ أهميةَ ردودِ الأفعالِ والتأصيل الشرعيِّ لها من خلال ما يلي: * أمرُ الشارع بإِنكارِ المنكر مثالٌ واقعي لاعتبارِ ردودِ الأفعال في الشريعة: • قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ رَأى مِنكُمْ منكَرًا فَليُغيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإنْ لَم يَسْتَطعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلبِهِ، وَذَلكِ أضْعَفُ الإيمَانِ" (¬1). فإنكارُ المنكر وتغييرُه باليد هو ردُّ فعلٍ على ظهورِ المنكر ورؤيته، وهو ردُّ فعلٍ أَمَر به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "فليُغيِّرْه بيده"، وهو واجبًا بإجماع المسلمين -كما نقله النووي-. * الغضبُ على انتهاكِ حرماتِ اللهِ صورةٌ من صورِ ردودِ الأفعال المأمور بها: إذ من الغضبِ ما يكونُ محمودًا -بل ما يكونُ واجبًا-، وهو الغضبُ لله -عز وجل-، وقد كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يَغضبُ لنفسه، ولكن إذا انتُهكت حرماتُ الله لم يَقُمْ لغضبه شيء. ° فعَنْ عائشةَ - رضي الله عنه - قَالَتْ: "واللهِ ما انتَقَمَ رسولُ - صلى الله عليه وسلم - لنفسِهِ في شيءٍ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (70).

يُؤتَى إليهِ قطُّ حتَّى تُنتَهَكَ حُرُمَاتُ اللهِ، فينتقِمُ لله" (¬1). * بل إِن التعاملَ بردِّ الفعلِ أمرٌ جِبِلِّي: ° ولقد أحسن الإمامُ الشافعي -رحمه الله - حين قال: "مَن استُغضب ولم يَغضب فهو حمار"!! (¬2). فالإنسانُ مجموعةٌ من الأحاسيسِ والمشاعر، فلابد أن يتأثرَ بما يدورُ حوله ويكونَ له ردُّ فعل عليه. ° والميْتُ هو الذي لا يوجدُ لديه ردودُ أفعال، كما قال الشاعر: جَرَحوه فَمَا تألَّم جُرْحًا ... ما لِجُرحٍ بِميِّتٍ إيلامُ * ومن أمثلة ردودِ الأفعال من السنة: قُنُوتُه - صلى الله عليه وسلم - شهرًا على رِعْلٍ وذَكْوانَ وبعضِ أحياءِ العرب لمَّا غَدَروا بالقُرَّاء في "بئر معونة" (¬3)، ودعوتُه - صلى الله عليه وسلم - للبيعةِ على القتالِ لَمَّا بلغته شائعةُ قتلِ عثمانَ في الحديبية، ثم لَمَّا تبيَّن كَذِبَ الشائعةِ كان الصلحُ (¬4). وكغَضَبه - صلى الله عليه وسلم - حينما اختَصم أصحابُه في القَدَر، حتى كأنما يُفقَأ في وجهه حَبُّ الرُّمان -كما عبَّر الراوي (¬5) -. وغيرُ ذلك كثيرٌ مِن صُورِ غضبِه - صلى الله عليه وسلم - تفاعلاً مع ما يَطَّلع عليه أو يُنقل إليه من أقوالٍ أو أفعال. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6288). (¬2) "سير أعلام النبلاء" (10/ 43). (¬3) انظر "البخاري" (3064) ومسلم (677). (¬4) انظر "المصنف" لابن أبي شيبة مرويَّات غزوة الحديبية (ص 124). (¬5) انظر "سنن ابن ماجه" (82).

* ومِن ردودِ أفعالِ الصحابة - رضي الله عنهم - بحَضرتِه - صلى الله عليه وسلم -: ° مقولاتُ عمرَ بنِ الخطاب المتعددة: "دعنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ"، وما شابهها، كما كان مع عبدِ الله بن أُبيٍّ رأس المنافقين لَمَّا قال: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] (¬1). ° وكما حَصَل مع ذِي الخويصرةِ اليماني الذي قال: "اعْدِلْ يا رسولَ الله" (¬2). ولذلك فإن ردودَ أفعالِ المسلمين تُجاهَ هذا السبِّ لِخيرِ من وَطِئت قدماهُ الأرض، مهمٌّ جدًّا؛ لأنه نوعٌ من إنكارِ المنكر أولاً، وهو أمرٌ وجب، بل هذا من أعظمِ المنكراتِ التي يجبُ إنكارها، وقد أَمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بتغييرِ المنكرِ باليد، فإن لم يُستَطع فباللسان، فإن لم يُستَطع فبالقلب، قال: "وذلك أضعفُ الإيمان"، وفي حديثٍ آخر: "وليس وراءَ ذلك من الإيمانِ حبَّةُ خردلٍ" (¬3). وثانيًا: من أجل تقزيم هؤلاء المعتدِين والمفترِين، كي لا يستمرؤوا هذا السبَّ والاعتداء. أمَّا ألاَّ يكونَ هناك غَيرةٌ على حرماتِ الله، ولا يتمعَّرُ وجهُنا غَيرةً وغضبًا؛ فيُسَبُّ دينُ الله، ويُسَبُّ نبيُّنا، دون أن يُحرِّكَ ذلك فينا ساكنًا؛ فهذه واللهِ هي الكارثة. ¬

_ (¬1) انظر البخاري (4905). (¬2) البخاري (3341) ومسلم (1675). (¬3) رواه مسلم (4676).

الواجب علينا

* الواجبُ علينا: على كلِّ مؤمنٍ يُحبُّ اللهَ ورسولَه - صلى الله عليه وسلم -، ويَغارُ على دينِه أن يَنتصرَ لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يُقدِّم كلَّ ما في وُسعه لردِّ هذه الهجمةِ الشرسة، ومهما بذلنا فهو قليلٌ في حقِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -. ° وأما تفصيلُ دَورنا في هذا فمنه: 1 - إعلانُ النكيرِ على كلِّ الأصعدةِ وبشدة: - فعلى الدولِ الإسلاميةِ أن تَهَبَّ على جميعِ مستوياتها لنُصرةِ نبيِّها - صلى الله عليه وسلم -، وتستنكرَ ذلك في المؤتمراتِ والمحافل العامة، وتتخذَ موقفًا حازمًا يتناسبُ مع شناعة الجريمة. وكذلك يكونُ الاحتجاجُ على مستوى الهيئاتِ الرسميةِ وغيرِ الرسمية كوزاراتِ الأوقاف، ودُورِ الفُتيا، والجامعات، وإعلان الاستنكارِ من الشخصياتِ العامةِ كالعلماء، والمفكِّرين، ورجالِ الإِعلام. وكذلك الإنكارُ على المستوى الفردي، كلٌّ حسب ما يستطيع: بإرسالِ رسالة، أو كتابةِ مقالة، أو اتصالٍ هاتفيٍّ بحكومتهم وخارِجيَّتِهم وصحافتِهم، ومراسلةِ المنظَّماتِ والجامعاتِ والأفرادِ المؤثِّرين في الغرب، ولو نَفَر المسلمون بإرسالِ آلافِ الرسائل الرصينةِ القويةِ إلى المنظماتِ والأفرادِ، فإن هذا سيكون له أثرُه اللافت قطعًا. 2 - مطالبة هؤلاء الجُناة بالاعتذارِ الجادِّ الواضح، لا الخداعِ وتبريرِ الجريمةِ الذي يُسمونه "اعتذارا"، فلا نريد اعتذارًا لإهانة المسلمين، وإنما نريدُ إقرارًا واضحًا بالخطإ، واعتذارًا عنه، ومعاقبةً رادعةً للمجرِمين على

جُرمهم، وأن تَكُفَّ حكوماتُهم عن العَداءِ للإسلام والمسلمين. 3 - ذِكرُ فتاوى علماءِ الأمةِ التي تُبيِّنُ حُكمَ مَن تعرَّض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيءٍ من الانتقاص، ووجوبَ بُغضِ مَن فعل ذلك والبراءةِ منه. 4 - بيانُ حُسنِ الإسلام وموافقتُه للعقولِ الصريحة، والردُّ على شبهاتِ المجرمين -من خلالِ قيامِ المؤسساتِ الإعلاميةِ والصحفِ والمجلاتِ والمواقع الإسلاميةِ- بكتابةِ ردودٍ على هذه الافتراءات، وأن تُسطِّرَ على صفحاتها شمائلَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتُبيِّنَ الدورَ العظيمَ الذي قام به - صلى الله عليه وسلم - لإنقاذِ البشرية، وأنه أُرسل رحمةً للعالمين، وهدايةً للناس أجمعين. 5 - استئجارُ ساعاتٍ لبرامجَ في المحطاتِ الإذاعيةِ والتلفزيونيةِ، لا سيما في البلدانِ الغربيةِ لتدافعَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتَذبَّ عن جَنابه، ويُستضافُ فيها ذوو القدرةِ والرسوخ والدرايةِ بمخاطبةِ العقليةِ الغربيةِ بإقناع، وهم بحمدِ الله كُثُر. 6 - إعدادُ المقالاتِ القويةِ الرصينةِ لتُنشرَ في المجلات والصحفِ ومواقع "الإنترنت" باللغات المتنوعة. 7 - مطالبةُ الكتَّاب والصحفيين والإعلاميين -بل كلِّ غَيُورٍ- بالقيام بدَورِ النُّصرةِ للنبي -عليه الصلاة والسلام- من خلالِ محاولةِ إثارةِ الرأي الغربىِّ ضدَّ هذا الانتهاكِ والتدنيسِ العلنيِّ لمعتقداتِنا الدينية. 8 - إنشاءُ مراكزَ متخصصةٍ لبحوثٍ ودراساتٍ في السيرة النبوية والإسلام وفضائِلِه، وترجمةِ ذلك إلى اللغات العالمية. 9 - الحرصُ على دعوةِ هذه الشعوب؛ فإننا وإنْ كنا ننظرُ إليهم بعَينِ

الغضبِ والسُّخط والغيظ، إلَّا أننا أيضًا ننظرُ إليهم بعين الشفقةِ عليهم، فهم عما قريبٍ سيموتون، ويكونون من أهل النار إن ماتوا على ذلك، فدعوتُهم إلى الإسلام والنجاةِ رحمةٌ بهم، وشفقةٌ عليهم؛ ولا سيَّما عوامُّهم الذين غُيِّبَتْ عنهم صورةُ الإسلام المُشرِقة، حتى نقيمَ الحُجَّةَ ونُوصِّلَ نورَ الهدايةِ والحقِّ إليهم، فيتعرَّفوا على ديننا وعظمة نبينا - صلى الله عليه وسلم -: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]. 10 - ترجمةُ الكتبِ التي تَدعو إلى الإسلامِ، والكتبِ التي تُعرِّف بالإسلام ونبيِّ الإسلام، وتُبيِّنُ سيرتَه الحَسَنةَ العَطِرةَ وفضائلَه بلغةِ هؤلاء القوم. 11 - إنشاءُ مواقعَ إسلاميةٍ وبرامجَ متخصصةٍ في الإذاعات والقنواتِ والشبكةِ المعلوماتيةِ للتعريفِ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وشمائلِه وأخلاقِه الكريمةِ باللغاتِ المختلفة، ونَشرُ ذلك في المطبوعاتِ من الصحفِ والمجلاتِ ونحوها. 12 - عقدُ المؤتمراتِ العلميةِ التي يُتكلَّمُ فيها عن نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم - ورسالتِه، مع التركيزِ على تلك الدولِ التي تحتاجُ إلى تصحيحِ تصوُّرِهم عن الإسلام. 13 - نشرُ ما ذكره المُنصِفون من غيرِ المسلمين بشأنه - صلى الله عليه وسلم -، إذ هو أدعى لقبولِ أقوامِهم له. 14 - بيانُ خصائصِ دعوتِه ورسالتِه - صلى الله عليه وسلم -، وأنه بعث بالحنيفية السَّمْحة، وأنه الأصل في دعوته. 15 - المشاركةُ في حواراتٍ عِلميةٍ رصينةٍ مع غيرِ المسلمين من

المتخصِّصين أصحابِ القدراتِ العِلمية واللغوية، ودعوةُ أولئك الباحِثين بالحكمة ِلدراسةِ شخصيةِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - والدينِ الذي جاء به. 16 - الإعلانُ في محركاتِ البحثِ المشهورةِ عن بعضِ الكتبِ أو المحاضراتِ التي تتحدثُ عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 17 - التمسُّكُ بالسُّنةِ والتزامُ هَدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في كلِّ شيءٍ، والصبرُ على ذلك؛ إذ بهذا يَكفينا اللهُ كيدَهم: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا .. } [آل عمران: 120]. 18 - مقاطعةُ منتجاتِهم ما دام لها تأثيرٌ عليهم -وهذا هو الواقعُ-، والبحث عن شركاتٍ بديلةٍ يمتلكُها مسلمون ترسيخًا لمبدإِ الولاءِ للمسلمين والبراءِ من الكافرين. 19 - الوعيُ لكيفيَّةِ إدارةِ أعداءِ الإسلام صراعَهم مع المسلمين، وعدمُ استبعادِ التعمُّد والتخطيطِ المُسبق منهم لهذه الجريمة، مع الدراسةِ المتأنيةِ للمواقفِ المتوقَّعة منهم والتدابيرِ التي ينبغي اتخاذها مع كلِّ موقفٍ، حتى لا يَخلُصوا إلى شَقِّ الصف وإضعافِ قوةِ وحِدَّةِ الموقف. 20 - تبادلُ الأفكارِ في هذه القضية، وإضافة الجديد منها والتواصي بها، وبَحثُ كلِّ واحدٍ عما يُناسب ميولَه وتخصُّصَه منها، وبهذا سيجدُ كلُّ مُحِبٍّ لرسوله - صلى الله عليه وسلم - مجالاً لإظهارِ حُبِّه وغَيرتِه وتعظيمِه؛ فهذا يأتي بفِكرةٍ، وذاك يكتبُ مقالةً، وهذا يُترجم، وذاك يُرسل، وآخر يُموِّل، في نفير عامٍّ لنُصرةِ أفضلِ الخلقِ -عليه الصلاة والسلام-.

ليس من النصرة

رسولَ الحُبِّ في ذكراك قُربي ... وتحتَ لواكَ أطواقُ النجاةِ عليك صلاةُ ربِّكَ ما تجلَّى ... ضياءٌ .. واعتلى صوتُ الهُداةِ يَحارُ اللفظُ في حُسناك عجزًا ... وفي القلب اتِّقادُ المورِياتِ ولو سُفِكتْ دمانا ما قضينا ... وفاءَك والحقوقَ الوجباتِ * ليس من النصرة: إن ما نراه مِن ردودِ فعلٍ غاضبةٍ من المسلمين، وعَملٍ جادٍّ لمواجهةِ تلك الهجمةِ التي يتعرَّضُ لها الإسلام، لَيبعثُ البهجةَ والسرورَ والأملَ في نفسِ كلِّ مسلم، غيرَ أن بَعضَ المسلمين -وهم بحمدِ الله قِلَّةٌ- قد مال بهم حماسُهم عن الصواب، والمأمولُ من المسلمين أن يَلزموا العدلَ والإنصافَ، حتى مع أعدائهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]. * فليس من النصرة: 1 - الاعتداءُ على مَعصومي الدم والمالِ كالمستأمَنين، من أي دينٍ كان. 2 - اختراقُ وتدميرُ مواقعِ صحفٍ ومجلاتٍ لم تصدُرْ منها بنبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - سخريةٌ؛ فمِثلُ هذا العمل يُحرِّضُها هي الأخرى على سبِّ الرسول - صلى الله عليه وسلم -

والنيلِ منه، وَينقلُها من حِيادِها إلى مُصافَّةِ المعتدِي في موقفِه، وُيحرِّضُ سفهاءَهم على تدميرِ مواقِعنِا. 3 - ليس من النصرة في شيءٍ أن نَجودَ بأموالِنا لكلِّ مَن يدعُونا إلى مشروع دعَويٍّ في تعريفِ الكفارِ بالإسلام وبنبيِّه الكريمِ، وفي كشفِ ما يُثارُ حولَه من شبهاتٍ من غيرِ أن نتوثَّقَ من صاحبِ المشروعِ والجهةِ المُشرفةِ عليه، ومِن غير أن نتبيَّن المضمون المرادَ نشرُه، ومن يزكِّي ذلك من أهل العلم. 4 - ما صاحَب بعضَ المُظاهرات التي قام بها المسلمون في أماكنَ شتَّى من إتلافٍ للأنفُسِ والممتلكات. 5 - عدمُ تحرِّي البعضِ في نشرِ الأخبارِ قبل التثبُّتِ من صِحَّتها، كالخبرِ بإسلامِ خمسين دانماركيًّا، أو خَبرِ قتلِ الصحفي. 6 - نَشرُ بعضِ البدعِ والتعلُّقُ بالمنامات، كالدعوةِ إلى توحيدِ الدعاءِ في ساعةٍ معينةٍ وصيغةٍ معينةٍ، أو تناقُلُ رسائلَ بها مخالفاتٌ شرعية، أو التعسفُ في محاولةِ الربطِ بين رقم بعض الآياتِ القرآنيةِ التي لها شيءٌ من التعلُّق بالموضوع ويين الرقم التسلسلي الدولي لمنتجاتِ الدولةِ المعتدية، زاعمِين أن ذلك من الإعجازِ العددي القرآني!. نسأل الله تعالى أن يَجعلَنا من أنصارِ دينِه ونبيِّه - صلى الله عليه وسلم - بوَعيٍ وصدق، وأن يُعلِيَ دينَه، ويَنصُرَ أولياءَه، ويُذِلَّ أعداءَه، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21]. وصلى الله وسلم على أشرفِ خَلقِه نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبِه أجمعين" اهـ.

ذب الشعراء عن سيد الأنبياء - صلى الله عليه وسلم -

ذبُّ الشعراء عن سيد الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - (إلا رسول الله) هم يزعمون بأنَّني لم أرتحلْ ... شوقًا إليك، ولم تكُ المحبوبَا هم يسلكون إلى رِضاكَ دُرُوبَهم ... وأنا أطيرُ وما سَلَكْتُ دروبَا واللهُ يعلم لو قَسَمْتُ مشاعري ... بين القلوبِ لما بقينَ قلوبا د. زاهر الحسن

جمال محمد

جمال مُحَمَّد للدكتور عبد المعطي الدالاتي هاتِ الحديثَ مِزاجُه الأشْواقُ ... وصِفِ الحبيبَ فكلُّنا تَوَّاقُ فَهَوَى الحُروفَ تَعَطَّرتْ أَرْدَانُها ... بِشَذَا الأَحِبَّةِ .. والهَوَى أَذواقُ فغدا يُحَدِّثُ عن جلالِ المُصْطَفى ... فَتَوَضَّأتْ بِدُمُوعِها الأحْداقُ يَحكي بشوقٍ عن جَمَالِ مُحمد ... أَحْلَى اللُّغَى ما قالتِ الأشواقُ عَنْ قلبِه عن حُبِّه عَن لُطْفِه ... عن كُلِّ ما قَدْ جادتِ الأخلاقُ تحيا بذكرِ مُحمَّدٍ ترنيمةٌ ... في القلب تَسْرِي والهَوَى خَفَّاقُ طوبى لِمَن عن نَهْجهِ لم يَغفَلُوا ... يومًا، وذاقوا في الهوى ما ذاقوا طوبى لمن في دربهِ قد أوْغَلُوا ... ناموا على أحلامهم وأفاقوا ساروا إليه تحثُّهم أَمالُهم ... وأنا الأسيرُ، فهل يُفَكُّ وَثَاقُ؟! طَالتْ وطالتْ غربتي يا إخوتي ... وحبيبُ قلبي دَونَه الآفاقُ طالَ الطريقُ فكيف أبدأُ رحلتي ... وأنا الضعيفُ وما لَدَىَّ بُراقُ؟! لا تُطْرِقي يا نفسُ هيَّا فاذهبي ... وتحسّسي .. لا يَنفَعُ الإطراقُ يا نفسُ جِدّي إنْ يشأ ربُّ الورى ... لا يلبثِ الأحبابُ أن يتلاقوا * * * * * *

حديث الدموع

حديث الدموع للدكتور / عبد المعطي الدالاتي يحدِّث دمعُك عند الرُّجوعْ ... فيُصْغِي فؤادي وكُلِّي خشوعْ فحدِّثْ وكَرِّرْ .. أنا لا أَمَلُّ ... ومَن ذا يَمَلُّ حديثَ الدموعْ؟! تناجي دموعك عن أحمدِ ... وكيف ابتدا رحلةَ المسجدِ وكيف أنارت دروبَ الحياةِ ... أحاديثُه الغرُّ في "المُسندِ" فؤادي به -يا أخي- مابه ... من الشوق يُزجى لمحرابهِ فحدث أخيَّ عن المُصطفى ... وعن قلبه .. عن مدى حبهِ حَديثُ الدموعِ أنار السبيلْ ... فسارت خُطاي بدربي الطَّويلْ وكان دليلي اتباع الرسولِ ... وكلُّ الهدى باتباع الرسولْ رِسَالاَت الحب للدكتور / عبد المعطي الدالاتي يَحارُ القلبُ في ذِكْراكْ ... فيسَألُني متى أَلْقاكْ؟ أُصبِّرُهُ .. وأَعْذُرُهُ ... فمن يهواكَ لا ينساكْ يَحَارُ القلبُ والفِكرُ ... يَحارُ اللحنُ والشِّعْرُ رسولَ الله ما السِّرُّ ... مُنى المليار في لُقياكْ! رسولَ الله يا عمري ... ألا يا حَامِل الذِّكْرِ بقلبِ زُجاجَةِ العِطرِ ... حروفٌ تبتغي نجواكْ رسولَ الله في قلبي ... رسالاتٌ من الحبِّ هنا في آخرِ الرَّكْبِ ... مُحِبٌّ قَصْدُه رُؤْيَاكْ

من أخبر الروح أن المصطفى فيه

مَنْ أَخْبَر الرُّوح أَن المصطفى فيه للدكتور / عبد المعطي الدالاتي أُهْدِي إليكَ نَشِيدًا رُحْتُ أخفيهِ ... بينَ الدُّمُوع، حَلاواتُ الهوى فيهِ أُهْدِي إليك فؤادًا رَاحَ يَسْكُنُهُ ... عِطرُ الحبيب، فما أزْكَى مَغانِيهِ! بين الصِّحاحِ تجوبُ الروحُ سائلةً ... عنه الحُروَفَ، وكم جلَّتْ مَعَانِيهِ! لوْ كُنتُ أدرِي حديثَ الركبِ إِذ رَحَلوا ... نحو الحجاز هَوًى .. لو كنتُ أَدْرِيهِ! شَدُّوا الرِّحالَ وفي أَروَاحِهم طَربٌ ... يَحدُو الجِمالَ، فيَطوِي الدَّرْبَ حَادِيهِ سَارُوا إليكَ وكانَ الشَّوقُ يَحْملُهمْ ... لَكِنَّ شوقي أنَا حَارَتْ أَمَانيهِ سَارُوا إليكَ وراحَ القلبُ يسأَلُهمْ ... لو يَعْلمُ القلبُ أن الدَّرْبَ يَبْغِيهِ! أوْ يعلمُ الرَّكْبُ أَنَّ الروحَ تَسبِقُهُمْ ... نَحوَ الحبيبِ، فَهَلْ حَقًّا تُلاقيهِ! رُوحي تَطِيرُ وَتْهوِي عند مَسْجِدهِ ... مَنْ أَخْبَرَ الرُّوحَ أن المُصْطَفَى فِيهِ؟! * * *

نجوى إلى ضيف حراء

نَجْوى إِلى ضَيفِ حِرَاء للدكتور عبد المعطي الدالاتي كُلُّ طَيْرٍ قد تَغَنَّى ... يَعْمُرُ الأكوانَ فَتَّا كُلُّ عُنقودٍ تَدَلَّى ... رَاحَ يُجْنَى أو سَيُجنَى كُلُّ شَوقٍ في فُؤادٍ ... قد تَمَنَّى ما تَمَنَّى كلُّ فِكرٍ جَابَ كونًا ... كُلُّ شِعْرٍ سَار حُسنَا كلُّ لوحاتٍ تراءت ... في الدُّنُى لونًا فَلَوْنَا كلُّ بيتٍ من قصيدي ... فوقَ بيتٍ رَاحَ يُبْنَى كُلُّ حَرْفٍ من حروفي ... كلُّ لفظٍ، كُلُّ معنى كلّ هَذا يا حبيبي ... صِيغَ في نَجواكَ لَحْنَا * * * أَيُّ شَوقٍ للسماءِ ... في ابتهالاتِ حِرَاءِ أَيُّ شكوى أيُّ نَجْوَى ... أيُّ خوفٍ ورَجَاءِ أَى عطرٍ نبويًّ ... عمَّ أرجاءَ الفضاءِ أَىُّ دمعٍ راحَ يرنُو ... نحو أبواب السماءِ أَيُّ نورٍ لاح يمحو ... كلَّ جَهْلِ الجُهلاءِ أَيُّ حُبٍّ أَحْمَدِيٍّ ... مَجَّ عطرًا في دِمَائي أَنتَ أَنسامُ صَبَاحي ... أَنتَ أَحلامُ مسائي أَنتَ عِطْرِي أنت عمري ... يا خِتامَ الأنبياءِ * * *

ومليار يسلم يا حبيبي

وَمِليارٌ يُسَلِّم يا حبيبي للدكتور عبد المعطي الدالاتي يَمُوجُ القلبُ في كونٍ رَحيبِ ... ويَشْدُو الحُبُّ في لَحْنٍ غريبِ فبعضُ اللحنِ صمتي ودُمُوعي ... وبعضُ اللحنِ قوْلي: يا حبيبي رأيتُ القلبَ مِن شوقٍ سَبَاهُ ... يجوزُ الدَّربَ، لا يدري مَدَاهُ وليس يحارُ قلبي في سُراهُ ... وكيف يحارُ مَن يَبْغِي حبيبي؟! يَسيرُ الركبُ في دَرْبٍ طويلِ ... نهايتُه بمحرابِ الرَّسُولِ ومَن يَدْرِي بحالي في وصولي ... أَأَسْكُتُ! أم أناجيهِ: حبيبي؟! سلامُ الله نُلْقيهِ عليكَ ... رسولَ الله .. كم نَهْفوُ إليكَ! سلامُ الله يَغْشَى صاحبيْكَ ... ومِليارٌ يُسلِّمُ يا حبيبي رسولَ اللَّه! حَيرَني المقامُ ... وما أدري، أَيُسْعِفُني الكَلاَمُ؟! فبعضُ البَوْحِ نَجْوى وسَلامُ ... وبعضُ البوحِ صَمتٌ يا حبيبي * * * * * *

يا رسول الإسلام

يا رسول الإِسلام للدكتور عبد المعطي الدالاتي يا رسولَ الإسلامِ؛ إنَّ رَجَائِي ... أنْ يسُودَ الإسلامُ في الأرْجَاءِ أن يقودَ الإيمانُ كُلَّ فُؤادٍ ... أن يُنِيرَ القُرآنُ كلَّ فضاءِ أن يَغيبَ الظلامُ مِن كُلِّ دربٍ ... ليصيرَ عمري دفقةً من سَنَاءِ أنتَ فخري وأنت نُعْمَى حياتي ... أنتَ عمري يا سيِّدَ الأنبياءِ أنتَ خيرٌ ورحمةٌ مهداةٌ ... جئتَ تمحو مَدامعَ الصَّحْرَاءِ أيُّ طهرٍ عمَّ دنيانا وعطرٍ ... وسلامٍ سَرَى من نجاوى حِراءِ! يا رسولَ التوحيد، إنَّ دعائي ... أنْ يَظلَّ التوحيدُ ملءَ دمائي يا رسولَ الإسلام، إنَّ رجائي ... أنْ تقول الأجيالُ: أينَ لوائي؟ * * *

إنا ليؤلمنا تطاول كافر

إِنا ليؤلمنا تطاولُ كافر شعر: عبد الرحمن صالح العشماوي "اللهم إني أحببتُك وأحببتُ نبيَّك - صلى الله عليه وسلم - حبًّا صادقًا أرجو أن تغفر به الذنب، وتُسهد به القلب، اللهم تَقَبَّلْها دفاعًا عن سيد الأبرار". مِن نَبعْ هَدْيكَ تُستَقَى الأنوارُ ... وإلى ضيائك تَنْتَمِي الأقمارُ رَبُّ العبادِ حَبَاك أَعظمَ نعمةٍ ... دِينًا يَعِزُ بعِزِّه الأخيارُ حُفظَتْ بكَ الأخلاقُ بعد ضياعهَا ... وَتَسامقتْ في روضها الأشجارُ وبُعِثْتَ للثَّقَلَينِ بَعثةَ سَيدٍ ... صَدَّقتْ به وبدينه الأخبارُ أصْغتْ إليكَ الجنُّ وانبهرتْ بمَا ... تتلوه، وعَمَّ قلوبَها استبشارُ يا خيرَ مَنْ وطئَ الثَّرى وتشرَّفتْ ... بمسيره الكُثبانُ والأحْجَارُ يا مَنْ تتوق إلى محاسنِ وجهه ... شمسٌ ويَفرحُ أنْ يراه نَهارُ بأبي وأمي أنتَ، حين تشْرَّفتْ ... بكَ هجرةٌ وتشرَّف الأنصارُ أنشأتَ مدرسةَ النبوَّة فاستقى ... من عِلمها ويقينها الأبرارُ هي للعلوم قديمِها وحديثِها ... ولمنهج الدين الحنيفِ مَنارُ لله درُّك مُرشِدًا ومعلِّمًا ... شرُفت به وبعلمِهِ الآثارُ ربَّيْتَ فيها من رجالكَ ثُلَّةً ... بالحقِّ طافوا في البلاد وداروا قومٌ إذا دعت المطامعُ أغلقوا ... فَمَها، وإنْ دَعَتِ المكارمُ طارُوا إنْ واجهوا ظُلْمًا رَمَوه بعدلهم ... وإذا رأوْا ليلَ الضلال أناروا

قد كنتَ قرآنا يسيرُ أمامَهم ... وبك اقتدَوا فأضاءت الأفكارُ عَمَروا القلوب كما عَمرتَ، فما مضوا ... إلاَّ وأفئدَةُ العباد عَمَارُ لو أطلق الكونُ الفسيحُ لسانَه ... لسَرَتْ إليك بمَدْحِه الأشعارُ لو قيل: مَنْ خيرُ العباد؟ لردَّدتْ ... أصواتُ مَنْ سَمِعوا: هو المختارُ لمَ لا تكونُ؟ وأنتَ أفضلُ مُرسَلٍ ... وأعزُّ مَنْ رَسَوا الطريقَ وساروا ما أنتَ إلا الشَّمْسُ يَمْلأُ نورُها ... آفاقَنا، مهما أُثيرَ غُبارُ ما أنت إلا أحمدُ المحمودُ في ... كلِّ الأمور، بذاكَ يَشْهَد غَارُ والكعبةُ الغرَّاءُ تشهدُ مثلما ... شَهِدَ المَقامُ ورُكْنُها والدَّارُ يا خَيرَ مَنْ صلَّى وصامَ وخيرَ مَنْ ... قاد الحجيجَ وخيرَ مَنْ يَشْتَارُ سَقَطَتْ مكانةُ شاتمٍ، وجزاؤه، .. إنْ لم يَتُبْ ممَّا جناه، النَّارُ لكأنني بخُطاه تأكُلُ بعضَها .. وَهَنًا، وقد ثَقُلَتْ بها الأوزارُ ما نال منك منافقٌ أو كافرٌ ... بَلْ منه نالتْ ذلَّةٌ وصَغَارُ حلَّقْتَ في الأُفقِ البعيدِ، فلا يَدٌ ... وَصَلتْ إليك ولاَ فَمٌ مِهْذَارُ وَسكَنْتَ في الفردوسِ سُكْنَى مَنْ به ... وبدينه يتكفَّلُ القَهَّارُ أعلاكَ ربُّكَ همَّةً ومكانةً ... فلك السُّموُّ وللحسود بَوارُ إنَّا ليُؤْلمنا تَطاولُ كافرٍ ... مَلَأَتْ مشاربَ نفسِه الأَقذارُ وَيزيدُنا ألَمًا تخاذُلُ أمَّةٍ ... يشكو اندحارَ غثائِها المِليارُ وقفتْ على باب الخضوع أمامَها ... وَهَنُ القلوب، وخَلفَها الكُفَّارُ يا ليتَها صانتْ محارمَ دارِها ... من قبل أَنْ يَتَحَرَّكَ الإعصارُ

يا خيرَ مَنْ وطئ الثرى، في عصرنا ... جيشُ الرذَّيلة والهوى جَرَّارُ في عصرنا احتدم المحيطُ ولم يَزَلْ ... متخبِّطا في مَوجِه البحَّارُ جمحتْ عقولُ الناس، طاشَ بها الهوى ... ومِن الهوى تتسرَّب الأخطارُ أنت البشير لهم، وأنتَ نذيرهم ... نِعم البشارةُ منك والإنذارُ لكنهم بهوى النفوسِ تشرَّبوا ... فأصابَهم غَبَشُ الظُّنُون وحَاروا صَبَغوا الحضارةَ بالرَّذِيلة، فالْتقى ... بالذئبِ فيها الثعْلَبُ المكَّارُ ما "دانمركُ" القوم، ما "نَرويجهم"؟ ... يُصغِي الرُّعاةُ وتَفهم الأبقارُ ما بالهم سكتوا على سفهائهم ... حتى تمادى الشرُّ والأشرارُ؟! عجبًا لهذا الحقدِ يَجري مثلَما ... يجري "صديدٌ" في القلوب، و"قَارُ" يا عصرَ إلحادِ العقولِ، لقد جرى ... بك في طريقِ المُوبِقاتِ قِطارُ قَرُبَتْ خُطاكَ من النهايةَ، فانتبهْ ... فلربَّما تتحطَّم الأسوارُ إني أقولُ، وللدموع حكايةٌ ... عن مِثلِها تتحدَّث الأمطارُ: إنَّا لنعلمُ أنَّ قَدْرَ نبيِّنا ... أسمى، وأن الشانئين صغَارُ لكنَّه ألمُ المحبِّ يزيده ... شرفًا، وفيه لمن يُحبُّ فَخَارُ يُشقِي غُفَاةَ القومِ موتُ قلوبهم ... ويذوقْ طعمَ الرَّاحةِ الأخيارُ (¬1) * * * ¬

_ (¬1) (مجلة حورية- العدد الرابع- المحرم 1427 هـ- (ص 20 - 21) - وقد وردت في مواقع أخرى بعنوان "هو المختار" بتاريخ (28/ 12/ 1426 هـ).

إلا رسول الله

إِلاَّ رَسُوْلَ الله لعيسى جرابا (¬1) أشْرَقْتَ مِن قَلب الدُّجَى فَتَبَدَّدَا ... وَهَطلْتَ فانَتَعَشَ اليَبَابُ وَغَرَّدَا وَسَرَيْتَ تَمْنَحُ كُلَّ بَارقةٍ فَمًا ... يَفْتَرُّ بالبُشْرَى وَيَرْسُمُ مَوْلِدَا أسْرَجْتَ خَيْلَ الحَقِّ فانْطَلَقتْ بلا ... كللٍ تَدُكَّ مِنَ الضَّلالِ مُشَيَّدَا وَتَلوْتَ آيَ الذِّكْر لَحْنًا خَالِدًا ... مترقرقًا مَا ضَلَّ فِيْهِ مَنِ اهْتَدَى وَلَوَيْتَ أعْنَاقَ الهَوَى فتَصَاغَرَتْ ... ذُلاًّ وَمَا أحْنَتْ لِغَيْرِكَ سَيِّدَا وَتَفَتَّقتْ هِمَمٌ رَوَيْتَ غِرَاسَهَا ... بيَدَيْكَ جَاوَرَتِ النُّجُوْمَ تَفرُّدَا وَسَرَتْ قوَافِلُ مِنْ ضِيَاءٍ ألْهَبَتْ ... ظهْرَ الطَّريْق تألُّقًا وَتَوَقُّدَا تَقْفُو خُطاكَ وَتَسْتَنِيْرُ بًحِكْمَةٍ ... أسْدَيْتَهَا هَدْيًا فَصَارَ لَهَا حُدَا وَسَمَت كمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ طِيْنًا وَمَا ... أسْمَاهُ يَعْصِفُ بالهَوَى مُتمَرِّدَا! فَتَلألأتْ رَغْمَ الدُّجَى كَكَوَاكِبٍ ... أنَّى لَهَا تَخْبُو وَأنْتَ لَهَا مَدَى؟! يَا سَيِّدَ الثَّقلَيْنِ مُهْجَةُ أحْرُفِي ... ثارَتْ فدًا فرَأتْكَ أعْظمَ مُفتَدَى وَافتْكَ خَجْلَى كيْفَ لا وَأمَامَهَا ... خَيْرُ البَريَّةِ رَحمَةً وَتَوَدُّدَا؟ رَكَضَتْ تَذُوْدُ وَلِلصَّفاقةِ ألْسُنٌ ... نَفَثتْ سُمُومَ الكُفْرِ حِقْدًا أسوَدَا بَاتَتْ تُشِيْرُ إِلَيْكَ أطمَعَهَا تَخَا ... ذلُ أمَّةٍ ملْيَارُهَا يَهْذِي سُدَى إِلَّا رسُوْلَ اللهِ مَا أَعْرَاضُنَا ... وَدِمَاؤُنَا ألَّا تَكُونَ لَهُ فَدَى؟! ¬

_ (¬1) (3/ 12/ 1426 هـ).

بأبي وَأمِّي أنْتَ دُوْنَكَ مُهْجَتِي ... فِي صَدْرِ مَن سَلقُوْكَ أغْرسُهَا مُدى تَاللهِ مَا عَرَفُوْكَ إلاَّ رَوْضَةً ... غَنَّا تَطِيْبُ جنًى وَتَعْذبُ مَوْردَا لَكِنَّهُ كبْرُ الطُّغاة فمَا بهِ ... مِنْ مُبْصِرٍ إلاَّ وَأصْبَحَ أرْمَدَا يَا سَيِّدَ الثَّقلَيْنِ كَمْ قَلْبٍ يَئِـ ... ـنُّ أسَىً! وَكَمْ طرْفٍ يَبيْتُ مُسَهَّدَا! وَالنَّاعِقوْنَ فَمٌ مَريضٌ مُتْرعٌ ... زَيْفًا كَأعْمَى بَاتَ يرْجُو مُقعَدَا خَاضُوا كَمَا بالإِفكِ خَاضَتْ عُصْبَةٌ ... مِن قبْلُ وَاتَّخَذتْ هَوَاهَا مِقْوَدَا فِإذَا بنُورِ الوَحْي يَكْشِفُ سَوْءَةً ... الأفَّاكِ للدَّنْيَا وَيَصْدُقُ مَوْعِدَا مَا أنْقصُوْكَ فأنتَ أنْتَ أجَلُّ خَلْـ ... ـق الله مَنْزلَةً وَأكمَلُ سُؤْدَدَا يَكْفِيْكَ أنَّ الحَقَّ مِنْ عَيْنَيْكَ فَا ... ضَ سنًا فأَتْهَمَ فِي القُلُوْبِ وَأنْجَدَا وَانْسَابَ فاهْتَزَّ الوُجُوْدُ وَأزهَرَتْ ... آمَالُهُ وَبغيْرِ حُبِّكَ مَا شَدَا أيُلامُ صَبٌّ أنْ تَسَاقتْ لَوْعَة ... عَيْنَاهُ غَصَّ بهَا فأمْسَى مُجْهَدَا؟! يَا سَيِّدَ الثَّقليْنِ حَسْبي أنَّنِي ... قلْبٌ إلَى لُقْيَاكَ ذابَ تَوَجُّدَا مَا لاحَ بَدْرُ التَّمِّ تَزْدَانُ السَّمَا ... ءُ بنُوْرِهِ إلاَّ ذكَرْتُ مُحَمَّدَا صَلَّى عَليْكَ اللهُ مَا ارْتَفَعَ الأذَا ... نُ عَلَى القِبَابِ وَباليَقِيْنِ تَرَدَّدَا مَا صَارَ هَذَا الكَوْنُ كالخَبَرِ المُفِيْـ ... دِ وَتَمَّ إلاَّ حِيْنَ كنْتَ المُبْتَدَا * * *

قسما يا ذا الوجه الأنور

قَسَمًا يا ذا الوجه الأنور للشاعر مبارك المحيميد قسمًا يا ذا الوجه الأنور ... بِعُلا من أعطاك الكوثر أنَّ لأمرِك كلَّ عُلوٍّ ... ولشانِئِك الأمرُ الأبْترْ بأبي أنت .. وأمي .. وبما ... نَهَوى من أبيضَ أو أصفرْ لنبي الرحمةِ .. للهادي ... للشَّافِعِ في يومِ المحشَرْ يَفدي عرضَك كلُّ مُحبٍّ ... الأكبرُ منا والأصْغَرْ يَفدي عرضَك كلُّ عزيزٍ ... بَذْلاً للنَّفْس وما يُذخَرْ يُفدَى مَن بلَّغ أمتَهُ ... يُفدَى مَن بشَّر أو أَنْذَرْ فالعالمُ رِجسٌ .. مخمورٌ ... إذ بُعث "مُحَمَّدُ" فتطهَّرْ تأتيه الناسُ طواعيةً ... الأبيضُ منهم والأسمرْ "سلمانُ وسعدٌ وصهيبٌ" ... و"بلالٌ" في الأمر كـ "جعفر" ومُلوكٌ تُذعِنُ مُسْلِمَةً ... لهُدَاه .. كـ "أَصْحَمةَ الأبجرْ" فالحقُّ نهارٌ .. واللهُ ... أقسمَ بالصُّبحِ إذَا أَسفرْ والباطل ُ ليل ٌ .. واللهُ ... أقسمَ بالليلِ وقد أَدْبَرْ إنْ هو إلاَّ حقدٌ كَشَّرْ ... إنْ هُوَ إلاَّ سحرٌ يُؤثر من قبل "الدنمرك" تولَّى ... بالحسرةِ كلُّ مَنِ استهترْ مِن "كعب الأشرف" حين قضى ... لـ "أبي رافعَ" تاجرِ خيبرْ

و" أبو جهل" حين تعدَّى ... أقبل "حمزةُ" كيما يثأرْ أَهْوَى بالقوس فشجَّ له ... رأسًا .. ولإسلامٍ أظهرْ و" أبو لهب" تبَّ .. وتَبَّت ... منه يداهُ .. حين استكبرْ وَ"عُمَيرٌ" جاء .. وقَد أَخْفَى ... من تحتِ رِدَاءَيْه الخِنجرْ فانقلب لمكةَ مُنشَرِحًا ... للخير .. وقد أقبلَ بالشَّرْ و (ثمامةُ) مأسورٌ لَمَّا ... أمر (الهادي) ألاَّ يُؤسرْ فمضى يعلنُ حبَّ نبيٍّ ... أكرم مثوى سيدِ مَعشرْ يكفيه الله .. ويعصِمُه ... والباغي دومًا يَتَعثرْ فنداءُ النصرةِ قد زمجرْ ... وليوثٌ في الساحة تزأرْ ومحالٌ أنْ ينهشَ منه ... أربابُ البقرِ ولا نثأرْ!! شُذَّاذُ الثالوثِ .. ومَنْ هُم ... أتباعُ الدَّجّالِ الأعورْ تَعِسُوا .. والراية قد سَقَطَتْ ... وصليبٌ فيها يتسعَّرْ جاءَ الحَقُّ .. وزَهَق الباطلَ ... إنَّ الباطلَ .. أبدًا يخسرْ * * *

حاشا لوجهك أن يأتي به القلم

حاشا لِوْجهِكَ أن يأتي به القلم للدكتور: جهاد بني عودة أقولُ فيكَ ودَمعُ العَينِ يَنسَجِمُ ... حَاشى لِوَجهِكَ أن يأتي به القلَمُ حاشى لِوَجهٍ كَشَمسِ الأرضِ طالِعَةً ... أن تَستَقيمَ بإشراقاتِهِ الرُّسُمُ حَاشى لِشَخصِكَ أن تَغتابَه صُوَرٌ ... حَاشى لِذِكركَ أن تَنتابَه التُّهَمُ كيف استَطابَ يَراعٌ رَسْمَ هَيئَتِهِ ... يا ذلكَ الحَدَثُ المَشنوءُ والجُرُمُ لو كانَ يَعلمُ من قد راحَ يَرسُمُهُ ... لقامَ في خَجَلٍ يَذوي ويَنقسِمُ وقامَ عن كلِّ خَطٍّ منه مُعتَذِرًا ... والحزنُ يَعصُرُهُ والسُّخطُ والنَّدَمُ يُنَزَّهُ الجِسمُ عن وصفٍ وعن صُوَرٍ ... تُنَزَّه الرأسُ والأردانُ والقدَمُ لو كان يَعرفكَ الكُتَّابُ لارتَكَسُوا ... وقامَ مُعتَذِرًا عنهم يَراعُهُمُ لو يُنصِفوكَ لقالوا أنتَ سيِّدَنا ... أو يَفهَموكَ أقامُوا الدِّينَ عِندَهُمُ قد صَنَّفوكَ عَظيمَ الأرضِ واحِدَها ... لكنَّهم جَهِلوا مِن بَعدِ ما عَلِموا يا وَيلَ ما كَسَبت أقلامُهُم هُزُوًا ... يا ويلَ ما اكتَسَبَت أيمَانُها العَجَمُ كَيف استَساغوا بأن يَحووهُ في وَرَقِ ... يا قُبحَ ما فعَلوا يا وَيلَ ما رَسَموا كُلُّ الشَّمائِلِ قامَت تَحتَ صُورَتِهِ ... العَزَمُ والفخرُ والإقدامُ والهِمَمُ ما أظلمَ الغربَ في إفكٍ يَخوضُ بهِ ... أيُّ البُغاةِ هُمُ .. أيُّ الجُناةِ هُمُ يا ويحَكُم أبخَيرِ الخَلقِ لمزَكُمُ ... أما وَجَدتُم سوى المَعصومِ ويَلَكُمُ تخَبَّط الغَربُ من مَسِّ الجُنونِ بهِ ... وأوهَنَ الغَربَ في تَخريفِهِ الهَرَمُ يا سيِّدَ الناسِ قد غالت غوائِلُهُم ... فصَوَّركَ بما لا تَقبلُ الشِّيَمُ

لكنَّ مثلَكَ ما ضَرُّوا بإظفَرهِ ... مهما رَمَتكَ بهِ الغربانُ والبُوَمُ ما ضَرَّهُ البَدرُ سارٍ في مَهَابَتِهِ ... أن تَعتَرضهُ بإيضاءاتهِ الدَّيَمُ فالنُّورُ أنتَ وأنت النُّورُ مَصدَرُهُ ... زالَ الظَّلامُ بهِ والظُّلْمُ والظلَمُ لولاكَ يا حِليَةَ الدُّنيا وزينتَها ... ما تَأمَنُ الذِّئبَ في مِسراحِها الغنمُ لولاكَ لم تَعرف الدُّنيا مَكارمَها ... ما الجُودُ ما النُّبلُ ما الإحسانُ ما الكَرَمُ لولاكَ يا مَن بهِ المَولى تَدَارَكَنا ... لكانَ يُعبَدُ نَجمُ اللَّيلِ والصَّنَمُ فدِينُكَ اليَومَ سارٍ في حَواضِرنا ... تَعاقبا نَشرَهُ الإصباحُ والغَسَمُ وكُلُّ أرضٍ بها من نُور قبَسٌ ... وَحيٌ بهِ تُحفظ الأعراضُ والحُرَمُ لَولاهُ ظلَّت بلادُ الغَربِ غَابرةً ... عَصرُ العَبيدِ بها والأعصُرُ الدُّهُمُ إذا ادلَهَمَّت على الأعلامِ مُعضِلَةٌ ... فإنَّ رأيَكَ فيها الفَصْلُ والحَكَمُ ما الناسُ لولا رَسولُ الله بينَهُمُ ... ما الأرض لولاهُ ما الإنسانُ ما الأمَمُ ضَجَّت له الأرضُ والأخلاقُ ثائِرَةٌ ... العَرفُ والنُّبلُ والأعراقُ والقِيَمُ تَفديهِ أفئِدَةٌ تَفنى لِنُصرَتِهِ ... لا تَشتَفي أبَدًا حَتى يُراقَ دَمُ تَبتَزُّها غَدَراتُ الرُّومِ سِيِّدَها ... كالمَشرَفِيَّةِ إذ تَبتَزُّها اللُّجُمُ تَحِنَّ للبَشَر المَبعوثِ أمَّتُه ... كَما تَحِنَّ إلى أمَّاتِها الفُطَمُ هذي المَسيراتُ في الدُّنيا تُذَكِّرُهُم ... بأنَّهُ حَرَمٌ وذِكرُهُ حَرَمُ يا ابنَ الخِيار خِيار العُربِ من مُضَرٍ ... ساداتِ يَعرُبَ كلٌّ سَيِّدٌ عَلَّمُ لمَّا أتيتَ وَقد غَنَّى الرَّبيعُ رضًى ... واستَبشَرَ النَّخلُ والزُّراعُ والأكَمُ صاحَت وُحوشُ الفَلا وانتَشَت فرَحًا ... النَّسرُ والصَّقرُ والعُقبانُ والرَّخَمُ

الوَحيُ هلَّ وهلَّ الخيرُ يَعقبُهُ ... النُّورُ والهَديُ والنَّعماءُ والنِّعَمُ عَزَّت قريشُ بهذا الأمر وافتَخَرَت ... فخرَ المُلوكِ فلا كِندَا ولا لَخَمُ البَحرُ والبَرُّ في طه سَعادَتُهُم ... الجِنُّ والإنسُ والأحيَاءُ والرِّمَم إنَّ الحَضارَة بالعَدنانِ مَبدؤُها ... فهوَ المُؤسِّسُ لا عادٌ ولا إرَمُ وكلُّ خَيرٍ من الإصلاحِ أصَّلَهُ ... في كلِّ أمرٍ فلا قيسٌ ولا هَرمُ يا سَيِّدَ الناسِ إني اليوم أُعلِنُها ... حَربًا على الشِّركِ فيها الشِّعرُ يَنتَقِم ما قيلَ فيكَ من المُدَّاحِ مقتَضَبٌ ... ما كان فيكَ يَفيهِ القولُ والكَلِمُ في مثلِ طه وهَل من مِثلِهِ أحَدٌ ... يَحلو النَّشيدُ ويَحلو الشِّعرُ والنَّغمُ وكلُّ نَظمٍ به مُستَعذبٌ حَسَنٌ ... فالمَدحُ فيهِ كما الياقوتُ يَنتَظِمُ فقد أفاضَ أمَيرُ الشِّعر بُردَتَهُ ... تَشيبُ منها نواصِي الشَّعر واللِّمَمُ وثجَّ من مُعصِراتِ الجَوَى وَدَقًا ... كأنَّهُ دِيمَةٌ مِدرارَةٌ تَثِمُ نفيسَة سَكَنت أصدَافَ لُؤلُؤةٍ ... إن النّفائِسَ في أصدَافِها التُّوَمُ كَأنَّها لُجَجٌ مِن فوقِها لُجَجٌ ... وإنَّهَا قِمَمٌ مِن فوقِها قِمَمُ فما ذكَرتُكَ يا طهَ بقافِيَةٍ ... إلاَّ وقلبيَ والعَينينِ تَختَصِمُ فما يُفَرَّقُ غَيرَ الدَّمعِ بينَهُما ... يَجريَ سَخِينًا عَلى الخَدَّينِ يَزدَحِمُ والنَّفسُ بينَهُما مَقهورَةٌ كَمَدًا ... ما بينَ مُعتَرَكِ الأعضاءِ تَلتَطِمُ يا سَيِّدَ النَّاسِ قسرًا عن أنُوفِهمُ ... إن أخرَجَت أَشَرًا سَاداتِها الأمَمُ إني أهَابُكَ في قولي وقافِيَتي ... فالشِّعرُ فيكَ مَنيعُ الجَنبِ معتَصِمُ أقسَمتُ باللهِ لا أنفَكُّ ممتَدِحًا ... لا يشفَعُ الفِعل إن لم يَشفعِ القسَمُ حُبًّا إليكَ رَسولَ اللهِ قافِيَتِي ... والحُبَّ يُنجِي وَبَعضُ الحُبِّ ما يَصِمُ

جَاهَدتُ كِتمانَها في مُهجَتي زَمَنًا ... حَتَّى تأبَّت فليسَ اليومَ تَنكَتِمُ وَيَسأمُ القلبُ مِن أمرِ يُسِرُّ به ... يا وَيحَ مُضغةِ صَدري طبعُها السَّأمُ كلُّ الحِبالِ وإن كانت مُغلَّظة ... ما كانَ فيها بغير الحُبِّ يَنصَرمُ لهُ صُنوفٌ بأسبَار الجَوَى عَدَدٌ ... مِنها الشُّخوصُ ومِنهَا البَانُ والعَلَمُ أقلُّ تَقدِمَتي شِعرٌ نَقمتُ بهِ ... والشِّعرُ يُسعِفُ إن لم تُسعِفِ النِّقمُ لا بَارَكَ اللهُ في شِعرٍ تَلوكُ بهِ ... ولم يَكُن بصِراطِ الحَقِّ يَلتَزمُ القول بالهَدي أو لا قُلتَهُ أبَدًا ... فكلُّ ما قيلَ في غَيرِ الهُدى لَمَمُ كُلُّ الرِّجالاتِ من عُربٍ ومن عَجَمٍ .... ببَابِ أحمَدَ حُجَّابٌ لَهُ خَدَمُ يا أمَّة الغَربِ صَرحُ الشِّركِ مُهتَرئٌ ... وكُل صَرحٍ بغَير الدِّينِ مَنهَدِمُ أما قرأتُم من التَّوراةِ هَيئَتهُ ... ألم يُبَشِّر بهِ الإنجيلُ عِندَكُمُ أما عَلِمتم بأنَّ الله ناصِرُهُ ... يَكفيهِ هُزوَ شِرار النَّاسِ مثلَكُمُ لَم تَسمَعوهُ وَقد شُقَّ الهِلالُ لَهُ ... وكيفَ يَسمَعُ من في سَمعِهِ صَمَمُ إنَّ انتفاشَ حَضاراتِ العِدا عَرَضٌ ... والدَّاءُ يَظهَرُ من أعراضِهِ الوَرَمُ فاربأَ ببَطنِكَ أن يَقتاتَ حاجَتَهُم ... أقلَّ حَربَهُمُ في بَيتِكَ اللَّقمُ فكَيفَ يُفلِحُ قومٌ سُبَّ سَيِّدُهُم ... وَلم يَثورُوا على هذا وَيَنتَقِموا وَالزَم تُراثَ رَسولِ اللهِ سُنَّتَهُ ... فالدِّينُ مُمتَنِعٌ والحَقُّ مُلتَزَمُ كلُّ المَبادِئ والأعرافِ سَائِبَة ... من غير أحمَدَ لا عَهدٌ ولا ذِمَمُ إن قامَ قامَ أريجُ المِسكِ يَلحَقُهُ ... نَوَاشِرُ الطِّيبِ من جَنَبيهِ يُنتَسَمُ أو قالَ أجمَعَ بالإحكامِ مَنطِقهُ ... فصْلُ الخِطاب وفصْلُ القومِ والحِكَمُ به بَيانٌ حَلالُ السِّحر فِتنَتُهُ ... يُستَنطقُ الصَّخرُ من مَبناهُ والبُكُمُ

تَفَجَّرَ الماءُ من إبهَامِ إصبَعِهِ ... كأنهُ نَهَرٌ أو هَاطِلٌ عَرمُ أهلُ السَّماءِ وأهلُ الأرضِ تَذكُرُهُ ... والجِذعُ حَنَّ لهُ والحِلُّ والحَرَمُ ما قامَ قاصِدُهُ فيما يُؤمِّلُهُ ... إلا وتَسبقُهُ في سُؤلِهِ نَعَمُ وَمَا تَحَدَّثَ نَحوَ النَّاسِ مُبتَدِرًا ... إلا وَيَظهَرُ نُورُ اللَّوحِ والقلَمُ يَهديكَ لِلحَقِّ من غير الدُّعاءِ لَهُ ... ببَسمَةِ الوَجهِ حَولَ الثَّغر تَرتَسِمُ قد أسلمَ ابنَ جَريرِ طولُ نَظرَتِهِ ... يُقلِّبُ الطَّرفَ في خَدَّيهِ يَبتَسِمُ سَالَ الغمامُ بهِ من بَعدِ ما قحَطت ... سَعدُ بنُ بَكرٍ ودَرَّ الشَّاءُ والنَّعَمُ عَمَّ الرَّضيعُ بَني سَعدٍ بطلَّتِهِ ... وأقحَطت مُضَرٌ وأقفَرَت جُشَمُ قد أثخَنوهُ جِراحَ الحَربِ في أحُدٍ ... وهيَ التي برَسولِ اللهِ تَلتَئِمُ يَشفي السَّقيمَ إذا ما جاءَ مُشتَكِيًا ... بريقِهِ فيَزولُ السُمُّ والسَّقمُ كساهُ سَمتٌ وَقارًا لا عُلُوَّ به ... عَلاهُ حُسنٌ بسيما الخَير يتَّسِمُ لمَّا رأتهُ قرِيشٌ صَاحَ صَائِحُهاَ ... وَتوشِكُ الحَربُ أن تَضرا وتَضطَرمُ هذا الأمينُ أمينُ القومِ نقبَلُهُ ... هذا الصَّدوقُ وهذا الرُّكُنُ يَستَلِمُ بَني بهِ الحَجَرَ المُسوَدَّ موضِعَهُ ... بَنى به قبلهُ من بَينَهم رَحِمُ فلا تَحُدُّ دروسُ العِلمِ سيرَتَهُ ... ولا يُحَيط به شَرحٌ ولا كلِمُ وكلُّ ما ذكَرَ التَّاريخُ مُختَصَرٌ ... ما خَطَّهُ قلمٌ أو قالَ عنهُ فمُ ما بال صَيدَكَ قد زادَت طرائدُهُ ... يا ذلكَ الليث أهل ضاقت بك الأجمُ لِيَفهمَ الغربُ أنَّ الحقَّ مُعتَصِمٌ ... ويفهم الموتُ إن لم يَفَهم الفهمُ فللسِّلاحِ إلى أجسادِهِم وَلَعٌ ... ولِلسُّيوف إلى أعناقِهِم قرَمُ وَاهًا على زَمَنٍ صُنَّاهُ مَحتَرَمًا ... فيهِ الكَنائِسُ والأديانُ تحتَرَمُ

دَكَّت خُيولُ بَني مَروانَ مَغربَهُم ... واستَنهَضَتهُم إلى عَليائِها الهمَمُ الغافِقِيُّ (¬1) على أبوَابهِم وَثِبٌ ... والبَربَريُّ (¬2) الَّذِي سارَت بهِ التَّخَمُ لنا مَعادٌ بلادَ الغربِ فارتَقِبي ... لم يُنسِنا عَنكُمُ بُعدٌ وَلا قدَمُ ماقصَّرَت عَنهُ خَيلُ المُسلمينَ مَضَت ... تَدعُو إليهِ هُناكَ الأينُقُ الرُّسُمُ سارَت قوافِلُهَا بالدِّينِ تَنشُرُهُ ... ما أعجَزَ السيَّفَ لم يَعجِز لهُ الأدَمُ إنا رَضَعنا قتامَ الحَربِ أغلِمَة ... والبَعضُ يَبلُغُهُ في ساحِها الحُلُمُ يَشِبَّ ناشِئُنا حتى يَشيبَ بها ... والموتُ يَفطمُنا عنها فننفَطِمُ القابضونَ على جَمرِ عَقيدَتِهُم ... مُستَمسِكونَ برُكنٍ لَيسَ يَنفصِمُ لا يُنصَرُ الحَقُّ إن لم يَحتَرب زَمنًا ... فالحَربُ تَفعَلُ ما لا يَفعلُ السَّلمُ أزكَى صَلاةٍ رسول اللهِ يَبعَثُها ... قولِي وَقلبي بها مُستَعذِبٌ شبَم مولايَ صلِّ وَسَلِّم دائمًا أبَدًا ... على صَفِيِّكَ خَير خَلق الَلَّهِ كلِّهِمُ مولايَ صَلِّ وبارك ما أرَدْتَ على ... مُحَمَّدٍ من بهِ الأخيارُ قد خُتِموا فما ذكَرتُكَ ياطهَ بقافِيَةٍ ... إلا وقلبيَ وَالعَينينِ تَختَصِمُ فما يُفَرِّقُ غيرُ الدَّمع بينَهُما ... يَجريَ سَخِينًا عَلى الخَدَّينِ يَزدَحِمُ والنَّفسُ بينهما مَقهورَةٌ كَمدًا ... ما بينَ مُعتَرَكِ الأعضاءِ تَلتَطِمُ لله درك يا دكتور جهاد، لا فُضَّ فوك، وبارك الله لك في قلمك، وجَمَعك بنبيك - صلى الله عليه وسلم - في الفردوس الأعلى. * * * ¬

_ (¬1) هو عبد الرحمن الغافقي الذي وصل بجيوشه إلى جنوب باريس. (¬2) البربريّ: يعني به طارق بن زياد فاتح الأندلس.

جل من رباك

جَلَّ مَنْ رَبَّاك لمحمد بن عبد الرحمن المقرن (¬1) ربَّاكَ ربُّكَ .. جلَّ من ربَّاكا ... وَرَعاكَ في كَنَفِ الهُدَى وحَمَاكا سبحانَه أَعْطاكَ فَيْضَ فَضائلٍ ... لَم يُعْطها في العَالَمِين سِوَاكَا سَوَّاك في خَلقٍ عظيمٍ وارْتَقَى ... فيكَ الجَمالُ .. فَجَلَّ مَنْ سَوَّاكا سبحانه أعطاكَ خيرَ رِسَالَةٍ ... للعالَمِين بها نَشَرْتَ هُدَاكَا وَحباكَ في يومِ الحسابِ شَفاعَةً ... مَحْمودةً .. ما نَالَها إلاَّكَا اللهُ أرسلَكُم إلينا رَحْمَةً ... مَا ضَلَّ من تَبِعتْ خُطاهُ خُطَاكَا كنَا حَيارَى في الظَّلا مِ فأشْرَقَتْ ... شمسُ الهداية يومَ لاحَ سَنَاكَا كنَّا وَربِّي غَارِقِين بِغَيِّنَا ... حتى رَبَطْنَا حَبْلنَا بِعُرَاكَا لولاكَ كنَّا ساجِدِين لِصَخْرَةٍ ... أَوْ كَوْكَبٍ .. لا نَعرِفُ الإشْراكَا لولاكَ لم نَعْبُدْ إلهًا وَاحدًا ... حتى هَدَانا اللهُ يومَ هَدَاكَا أنتَ الذي حَنَّ الجمادُ لِعَطْفهِ ... وَشَكا لَكَ الحيوانُ يوم رآكَا والجِذْعُ يُسمعُ بالحنين أنِينُه ... وبكاؤُهُ شوقًا إلى لُقْيَاكَا ماذا يَزِيدُك مدحُنا وثناؤُنا ... واللهُ في القرآن قد زَكَّاكَا؟! ماذا يُفيدُ الذَّبُّ عنك وربُّنا ... سبحانَه بعيونهِ يَرْعاكا؟! "بدرٌ" تُحَدِّثُنَا عن الكَفِّ التي ... رَمَتِ الطُّغَاةَ فبُورِكَتْ كَفَّاكَا؟! و"الغَارُ" يُخبِرُنا عن العَيْنِ التي ... حَفِظَتْكَ يومَ غَفَتْ به عَيْنَاكَا ¬

_ (¬1) 29/ 12/ 1426 هـ-29/ 1/ 2006.

لَمْ أَكْتُبِ الأشْعَارَ فيك مَهَابَةً ... تُغْضِي حروفي رَأسَها لِعُلاكَا لكنها نارٌ على أَعدائِكُم ... عَادَى إلهَ العرش مَن عَادَاكَا إنَّي لأُرْخِصُ دون عِرْضِكِ مُهجَتِي ... رُوحٌ تَرُوحُ ولا يُمَسُّ حِمَاكا شُلَّتْ يَمِينٌ صَوَّرَتْكَ وجُمِّدَتْ ... وَسْطَ العُرُوقِ دماءُ من آذَاكَا وَيْلٌ فَوَيْلٌ ثم وَيْلٌ للَّذِي ... قَدْ خَاضَ في العِرْضِ الشريفِ وَلاكَا يا إخوةَ الأبقارِ رَمْزُ سِباقِكُمْ ... "مَنْ في القَطِيع سَيُصْبِحُ الأَفَّاكَا؟! " النارُ يا أهلَ السباقِ مصِيركُم ... وَهُنَاكَ جائزةُ السِّبَاقِ هُنَاكَا!! تَتَدافعونَ لِقَعْرِهَا زُمَرًا ولَنْ ... تجِدُوا هُناكَ عن الجَحِيم فِكَاكَا هُبُّوا بَنِي الإسلامِ نَكْسِرُ أَنْفَهُم ... ونكون وَسْطَ حلوقِهم أَشْواكَا لك يا رسولَ الله نَبْضُ قَصَائِدي ... لَوْ كانَ قلبٌ للقَصِيدِ فَدَاكا همْ لَنْ يَطُولُوا مِن مَقامِك شعرةً ... حتى تَطُولَ الذَّرةُ الأفْلاَكَا!! واللهِ لَن يَصِلُوا إليكَ ولا إلى ... ذَرَّاتِ رَمْلٍ مِن تُرابِ خُطَاكَا هُمْ كالخَشَاشِ على الثَّرَى وَمقامُكُم ... مثلُ السَّمَا .. فَمَن يَطُولُ سَمَاكا؟!! رُوحي وأبنائي وأَهْلي كُلُّهُم ... وجميعُ ما حَوَتِ الحياةُ فِداكَ * * *

في نصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -

في نصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأحمد محمد سعد أمْطِرِينا يا سماءَ الله جَمْرًا ... واحرقي الإحْسَاسَ مِنَّا قَدْ تَبَلَّدْ وارْجُمِينا يا جبالَ الأرضِ صَخْرًا ... وارجُمِي مِنَّا لِسَانًا قَدْ تَجَمَّدْ كيف يَهْنِينَا الطعامُ وقد صُرِعْنَا ... واستُبيح القُدْسُ والصَّرْحُ المُمَرَّدْ كيف يُنْعِشُنَا النَّسيمُ وقدْ سَمِعْنا ... مَن بأرضِ الكُفْرِ يَسْخَرُ مِن مُحَمَّدْ أيُّ ضَيْمٍ فَاقَ ضَيمَ النَّاسَ طُرًّا ... أيُّ كفْر صَارَ يُحْمَى أَوْ يُمَجَّدْ؟! ألفُ مليونٍ بِلا وَزْنٍ تَرَانا ... ما ترى فينا صَلِيلاً يَتَردَّدْ يَدْفَع الباغينَ عَنْ عِرْضِ نَبِيٍّ ... نُورُه يَهْدِي إلى الخَيْر المُسدَّدْ جاءَ للدُّنْيا فأشْرَقَ في رُبَاها ... فاسْتَقَتْ مِنْه الهُدَى دَومًا لِتَسْعدْ أدَّبَ الشِّرْكَ وأَرْدَاهُ طَرِيدًا ... دونَ مَأوَى في البراري يتَشَرَّدْ عَلَّمَ الناسَ السعادةَ كَيْفَ تُهْدَى ... لفقيرٍ مِن لَظَى الفَقْرِ مُهَدَّدْ وَسَرى في رُوحِنا يَرْوِي قُلُوبًا ... مِن ظَلامِ الكُفْرِ والإجرامِ جَلْمَدْ يومُ مَكَةَ في رُؤَى التاريخِ يَومٌ ... رحمةُ الهادي الحبيب بِه تُجَدَّدْ حينَ قالَ لمَن بَغْى يَوْمًا قريبًا ... "أنتمُ الطلَقَاءُ" في الأَرض تُرَدَّدْ يا بلادَ اللهِ هَلْ شاهدتِ يَوْمًا ... في جبينِ الدَّهْرِ إِنسانًا كأحْمَدْ؟! مَنْ تَبَارى فيه أهلُ الحُبِّ جَمْعًا ... عِشْقُه للصَّبِّ أَمْجادٌ وسُؤْدُدْ حِينَ تَنْسَى الرُّوحُ أنَ الحُبَّ يَرْوِي ... نَسْتَقِي مِن حُبِّه حبًّا يُمَدَّدْ والليالي في مَحَبَّتِهِ ضِياءٌ ... والضياءُ بِحُبِّه خُلْدٌ وَسَرْمَدْ يا نَبِيًّا شَلَّ كُلُّ الَجِسمِ مني ... إن سَكَتُّ على الَإساءةِ يا مُحَمَّدْ!

دفاع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

ما الذي يَبْقَى لنا بعدَ رَسُولي ... ليسَ تَنْفَعُنَا صلاةٌ إن تَهَدَّدْ يا رجالَ الحَقِّ بالإيمانِ قُومُوا ... واقطعوا الكُفْرَ الجبانَ بِلا تَرَدُّدْ ذاكَ عِرْضُ المصطفى يُجتاحُ جهرًا ... ذاكَ عِرْضُ المُجْتَبَى الهادي مُحمَّد إنَّ صَمْتَ النَّاسِ خِزيًا وانكسارًا ... منه كُلُّ الكونِ والأحياءِ تَفْسَدْ دفاع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للدكتور ثامر القحطاني أيَطِيبُ مَمْسًى أو يروقُ صَباحُ ... وجَنابُ أحمدَ للطغامِ مُتاحُ؟ كُتبَ الصيامُ عن المُزاح فما لنا ... بَعْدَ السِّبَابِ تَفَكُّهٌ ومُزاحُ إنَّا إذا سِيمَ الرسولُ أذِيَّةً ... تَلْفى لدينا أُهْبَةٌ وكفاحُ وَإلى المَنيَّةِ مُسلمين نُفوسَنا ... نُلْفى وللجُرْدِ العِتَاقِ صُبَاحُ هذِي جحافلُ خالد قد أقبَلتْ ... فيها لجُند الكافرينَ ذُبَاحُ تَفدِي الرسولَ طِرافُنا وتِلادُنا ... وحَريمُنا دون الرسول مُباحُ ودِماؤُنا دون الرسول رخيصةٌ ... ففداؤه المُهَجَاتُ والأرواحُ قل للذي شتمَ الرسولَ محمدًا ... ستَنالُ منكَ أَسِنَّةٌ وَرِمَاحُ وتُداسُ بالأقدامِ دونَ هَوادةٍ ... وتُزالُ منكَ قَوَادمٌ وجَناحُ أفَبَعْدَ شَتْمِ الكافرينَ محمَّدًا ... يُرجَى السَّلامُ ويُبْتَغى الإصلاحُ؟ هيهاتَ ليس سِوى الأسِنَّةِ مَرْكَبٌ ... سَيْفٌ يُسَلُّ وغَارَةٌ مِلْحَاحُ وطِرَادُ يَوْم كريهة يُخزَى بهِ ... حِزْبُ الصَّليبِ فَمَقْتلٌ وجِراحُ يا أيها البلدُ الحقيرُ تُراثُهُ ... ورجالُه الأقْزَامُ والأشْباحُ ونِساؤُهُ الرجْسُ الخبائثُ طِينَةً ... أعمارُهنَّ قَذارةٌ وسِفاحُ

أتَطاولَ الأوْغادُ فيكَ على الذي ... مَلأ الوجودَ عَبِيرُه الفَوَّاحُ؟ وأنارَ ضَوءُ كتابِه وصراطِه ... كلَّ البرَى فيه الظَّلامُ مُزاحُ مَنْ جاءَ بالدينِ الحَنيفِ مُخَلِّصًا ... فَلَنَا بِقَفْوِ سَبِيله إنْجاحُ هذا الكتابُ المُسْتبِينُ ومِثلُهُ ... سُنَنٌ حِسانٌ تُحْتَذَى وَصِحَاحُ خيرُ البريَّةِ كُلِّها وإمَامُها ... وسِرَاجُها الوَهَّاجُ والمِصْباحُ والرحمةُ المُهْداةُ والعَلَمُ الذي ... بِمَقامِه يوْمَ النُّشُورِ نُراحُ يا بُؤْرَةً للخِزْيِ ساءَ قرارُها ... للكَوْنِ منها أَنَّةٌ وصِيَاحُ أَتقِرُّ شَتْمَ الهاشِمِيِّ دِيَانَةٌ؟!! ... لا سِفْرَ يَرضاهُ ولا إصْحاحُ لا عقْلَ يَقْبَلُهُ ولا مَدَنِيَّةٌ ... إلا لَدَيْكِ فَلَيْسَ فيهِ جُناحُ والدَّانَمَرْك بُلَيْدَةٌ ملعونةٌ ... فيها لمجتمعِ الكلابِ نُباحُ خُبْثٌ تَأصَّل في النفوسِ جِبِلَّةً ... قِدْمًا وكُفْرٌ فوقَ ذاك بَواحُ وخلائقٌ وَصَفَتْ حقارةَ معدِنٍ ... مَا إنْ لهمْ عنها الزمانَ بَرَاحُ ليسَ الجزاءُ فَحَسْبُ حَظْرَ بضائعٍ ... مِنهنُّ تُجْنَى فيكمُ الأرْباحُ بل سوف تَلقَون النَّكالَ مُعَجَّلاً ... وتَسيلُ منكمْ بالدماءِ بِطاحُ وتَغَصُّ بالأشْلاءِ مِنْكمْ بُقْعةٌ ... لَخِنَتْ وساءَ غُدوُّها ورَواحُ وتُبَدَّلُ الأفْراحُ فيكم مأتَمًا ... يَغْشاهُ مِنْ ليلِ المُصابِ جَناحُ خَطْبٌ يُجلِّلُ جَمعَكمْ ويُذيقُكمْ ... خِزْيًا يَظَلُّ على المَدى يَنْداحُ أيَطيبُ نَومٌ أو يَلَذُّ لمسلمٍ ... عَيشٌ وعرْضُ الهاشميِّ مُباحُ؟! لَعِبَتْ به بينَ الأنامِ أصابعٌ ... فلهنّ فيهِ مَسْرحٌ ومُرَاحُ يا مسلمونَ كَفاكمُ نومًا فقدْ ... صاح النَّذِيرُ وصَرَّحَ الإصباحُ

جئنا إليك رسول الله نعتذر

أوَما كفاكُم أنَّهمْ قد دَنَّسُوا ... عَلنًا مَصاحفَ حَشْوهُنَّ فَلاحُ!! واليوم صالوا صَوْلةً هَمجِيَّةً ... هُزْءًا بمَن هُوَ للهُدى مِفتاحُ تاللهِ لن يصِلوا إليه بِكيدهمْ ... ما للكلابِ سوى النُّباحِ سِلاحُ يا خيرَ مَنْ وَطِئَ الحَصَىَ وأجَلَّ مَنْ ... بَرأَ الإلهُ ومَنْ هُداهُ صلاحُ يا منْ تكِلُّ عن الوفاءِ بحقِّه ... دُرَرُ البديع وتَعْجِزُ الأمْداحُ يا قُرةَ العينينِ يا بَرْدَ الحَشاَ ... يا منْ تُزاحُ بوجههِ الأتْرَاحُ إنا كذلك لا نزالُ على الذي ... تَرضى وإنْ مكَرَ العُداةُ وصَاحُوا نَحنُ الفداءُ وقلَّ ذلك عِنْدَنا ... المالُ والمُهَجَاتُ والأرواحُ ستحطِّمُ الطاغوتَ خيلُك عاجِلاً ... وتَهُبُّ للنَّصرِ المُبِين رِياحُ * * * جئنا إِليك رسول الله نَعْتَذِرُ لماجد بن عبد الله الغامدي (¬1) جئنا إليكَ رسولَ الله نعتذرُ ... ممَّا تجرَّأ ذاكَ الفاجرُ الأشِرُ فأنتَ مؤتمنُ الرحمنِ إذ خُتمتْ ... بكَ الرسالاتُ واستهدت بك البَشَرُ جاهدْتَ في اللهِ إذْ بلَّغتَ دعوَتَهُ ... فالكفرُ مندحِرٌ والشركُ منكَسِرُ صَلَّيتَ بالرُسلِ في مسراكَ كنتَ بهم ... كما يزيِّنُ ضوءَ الأنجمِ القَمَرُ تركتَ فينا كتَابَ اللهِ ننهَجُهُ ... وسُنَّةً فُسَّرتْ في ضوئِها السُّوَرُ ففي جبينك نورٌ يشرق القمرُ ... وفي حديثِكَ ذاكَ الهَدْيُ ينهمرُ ¬

_ (¬1) الخبر.

وفي سجاياكَ يا خيرَ الورى مُثُلٌ ... وفي حياتِكَ ذَاكَ المُقْتدَى الأثَرُ قد كنتَ قَلبًا لنشرِ الدينِ مُجْتَهِدًا ... وكنتَ كَفًّا لبذلِ الخيرِ تَبْتَدِرُ إذا وَهَبتَ فلا مَنٌّ ولا قَتَرٌ ... وإنْ دُعيتَ فلا مُطْلٌ ولا ضَجَرُ وكنتَ قرءانَنا يمشي بخيرِهدًى ... مَاذا نقولُ وماذا فيكَ نَخْتَصِرُ؟ يا ناصر الدين .. يا وحي الإله به ... يرفرفُ القلبُ والأرْواحُ والفِكَرُ يا أشرفَ الخلقِ لن نرضى بما اقترفوا ... هذي القُلوبُ تَكادُ اليومَ تَنْفَطِرُ وُجْدَانُنُا في جحيمِ الغيطِ مُشْتَعِلٌ ... قلوبُنا بلهيبِ الإفْكِ تَسْتَعِرُ يا مَن أضاءَ بنورِاللهِ سُنَتَهُ ... للمقتدينَ فتلكَ الأَنْجُمُ الزُهُرُ مَناقِبُ النَّصرِ في أرجاءِ دعوته الـ ... ـغَرَّاءِ فيها قلوبُ الشركِ تَنْبَهِرُ ما بينَ مُسْتَتِرٍ عنها ومُنْكَسِرٍ ... تلكَ الفلولُ بعونِ اللهِ تَنْدَثِرُ هُدَاكَ زلزلَ كسرى في مدائِنِه ... وخرَّ قيصرُ إذْ لَمْ تُغنِهِ النُّذُرُ يا خَاتَمَ الرسلِ لم نجزعْ لِمَا كَتَبُوا ... فالجهلُ يُغوي وهذا شأنُ مَن كَفَرُوا غُلَّتْ أيَادِيهمُ إذ صَدَّقُوا خَرِفًا ... شُلَّتْ يداهُ .. وَتَبًّا للذي نَشَرُوا يقينُنا أننا نفدي بما مَلَكَتْ ... أَيْمانُنا إِنْ تَوالتْ حَولَكَ الزُمَرُ بل تفتديك وأَيْمُ الله أفئدة ... لِنُصرةِ الحقِ والقرآنِ تُعْتَصَرُ أرواحُنا ودِمانا فيك نَبذلُها ... نذودُ عَنْك بقولِ اللهِ نَأتَمِرُ لا نرتضي قولَهم .. كَلَّا وما فَتِئَتْ ... ضَرَاغِمُ الحقِّ لا جُبْنٌ ولا خَوَرُ فَكَمْ لَقِينا ولم تَضْعُفْ عزائِمُنا ... وكم تغيَّرَتِ الأفلاكُ والسِّيَرُ لكنَّ إيمانَنا وما ضَعُفَت ... منا العزائمُ إِنْ ضَجُّوا وإن سَخِرُوا

أترى ستنفع في القلوب عظات؟

فالنّورُ إيمانُنا .. والنَّارُ نِقْمَتُنَا ... نارٌ تُبيدُ فلا تُبْقِي ولاتَذَرُ جِئْنا نلبِّيكَ لا لن نَنْثَني أبدًا ... جئنا نُفَدِّيكَ لاخوفٌ ولاحذرُ إيمانُنا أن وعدَ الله مُدْرِكُهُم ... وأن موعدَ ذاكَ المُفتَرِي سَقَرُ وأنَّكَ المصطفى البُشْرَى النذيرُ وقد ... ذُكرتَ إِذْ أُنزلَ الإنجيلُ والزُّبُرُ أدَّيْتَ فينا أماناتٍ وقد شَهِدَت ... لَكَ القلوبُ وذاكَ السَّمع والبَصَرُ عَزاؤُنا عُقْبَى الدارِ مَوعِدُنا ... طُوبَى لِمَن آمنُوا .. بُشْرَى لِمن صَبَرُوا صلَّى عليكَ إلهُ الكونِ- نسألُهُ ... لكَ الوسيلةَ- والشيطانُ مُنْدَحِرُ أَتُرَى سَتَنْفَعُ في القلوبِ عِظَاتُ؟ لسليمان بن أحمد بن عبد العزيز الدويش أتُرَى سَتنفعُ في القلوبِ عظَاتُ؟ ... أمْ هَل سَتحْسم أمرَنا العَبَرَاتُ؟ أمْ سَوفَ يَرْفَعُنا من الذّلِّ الذي ... عِشنا به التنديدُ والآهاتُ؟ الأرضَ منَّا قَدْ عَلَتْهَا تُخْمَةٌ ... أَعْدادُنا ضاقتْ بها الجَنَبَاتُ يا ألفَ مليونٍ وخمسَ مِئينها ... وَلَهُمْ بِكُلِّ فِجَاجِها أَنَّاتُ يا ألفَ مليونٍ غثاءٌ كُلَّهم ... مُتَشَتِّتونَ مع الشَّتَاتِ سُبَاتُ مَوْتَى إِذَا عَبَثَ العَدُوُّ بِدِينهم ... أحياءُ هُمْ لِكَنَّهُم أمواتُ وَتَراهمُ عندَ الحُطَامِ ضَياغِمًا ... وكأنَّها في فَتْكِها الحَيَّاتُ الذُّلُّ فيهم ضَارِبٌ أطْنَابَه ... وَلَهُ بِهم يا وَيْحَهُ صَوْلاَتُ والوَهَن شَاهَ الوَهَن بِئْسَ ضَجِيعُهُم ... مِن بَطشِهِ يَتَعَذَّرُ الإِفْلاتُ

هُمْ ألفُ مليونٍ ولَكِنْ لَيْتَ لي ... مِن كُلِّ ألفٍ واحدٌ إن فَاتُوا يا ألفَ مليونٍ تَسَنَّمَ ظَهْرَه ... الأوْغَادُ وا لأنْذَالُ والعَاهَاتُ حَتَّامَ تَرْضَوْن الدناءَةَ والرَّدَى؟ ... وإِلامَ هذا الذُّلُّ والإخْبَاتُ؟ لا خيرَ في عيشٍ بغيرِكرامةٍ ... لا خيرَ في دُنْيَا بها أَقْتَاتُ شَمَخَتْ فِرَاخُ البَغْيِ فوقَ رُؤوسِنا ... وَلَهُمْ بِوَسْطِ جِباهِنا بَصَمَاتُ سَخِرُوا من القرآنِ أيُّ مَهَانةٍ ... خيرٌ لحُرٍّ دونَ ذاكَ مَمَاتُ بَلْ صَوَّرُوا المُخْتارَ أقبحَ صُوْرَةٍ ... أَوَّاهُ مِمَّا ضَمَّتِ الصَّفَحَاتُ جَعَلُوهُ رَمْزًا للتَّخَلُّفِ والرَّدَى ... شَتَمُوهُ حتى بُحَّتِ الأصْواتُ وَعَلَى بَنِي الإسلامِ صَبُّوا حِقدَهمْ ... غَزَوُا البلادَ وَهدَّدُوا بالنَّاتُو والمسلمونَ عن المكائدِ غُيِّبُوا ... الدينُ يَجْمَعُهُمْ وَهُمْ أشتاتُ وحِمَاهُمُ كَلأٌ مُبَاحٌ للعِدَا ... وَكَأنَّ حَقَّ حِماهمُ اللَّعَنَاتُ جَالَ العدو به وصَالَ ولمْ يَجِدْ ... إلاَّ الهَوَى والتيهُ والقَنَواتُ بالأمسِ أفغانُ الكرامةِ دُمِّرَتْ ... واليومَ بغدادٌ لَنَا وَفُرَاتُ يا أمةَ الإسلامِ هَلْ مِنْ عَودَةٍ ... عَجْلَى فما فَوْقَ الرُّفاتِ رُفَاتُ هُبُّوا فدينُ اللهِ خَيْرُ تجارةٍ ... أَمَّا الحُطامُ فَمَا عَليهِ فَوَاتُ * * *

بأبي وأمي

بِأَبِي وأمّي لرمضان عمر هذا المِدَادُ بِمِسْك أحْمَدَ قدْ هَمَا ... وازدانَ فيه مَعَ النَّسيم مِثالُ أَزْهُو بهِ في رِقَّةٍ أَشْدُوا بها ... ليطيبَ في مَدحِ الحبيبِ مَقَالُ أَقْفُو به كعبَ الأوائلِ لَيْتَنِي ... كنْتُ الذي آبَتْ بِهِ الآمَالُ فَتُصِيبُنِي بعضُ الشَّفاعَةِ حِينَها ... فأكونُ أسعدَ مَن حَوَتْهُ رِمَالُ أفْدِيكَ يا خَيْرَ الخَلائِقِ كُلِّها ... إِنْ شَطَّ قَومٌ أو بَغَى الدَّجالُ بأبي وأمي كيفَ لا أَفْدِيكَ إِذْ ... بَدَأ القتالُ وَدَقَّتِ الأطبَالُ وَتَطَاوَلَتْ عُصَبُ الكِلابِ وأَنْفَث ... مِنْ كُلِّ سُمٍّ ناقعٍ رِيغَالُ قَدْ زَادَ حَدُّ الحَدِّ حتى لمْ يَعُدْ ... يُجْدِي مع الفِعْلِ الشَّنِيعِ جِدَالُ وَتَمَرَّدَ الأزْلامُ حتى أثْخَنُوا ... طَعْنًا وَكيدًا والحروبُ سِجَالُ كَذَبُوا ولو صَدَقوا لقالوا: إِنَّهُ ... سِحْرُ الوجودِ فَلَن يُعابَ كمَالُ! خَيرُ البَرِيَّةِ رَغْمَ أنْفِ أُنُوفِهم ... حَاشَا لِمِثْلِكَ أَنْ يُسِيءَ مَقَالُ فالقولُ دُونَك في المَدِيحِ وِإنْ عَلاَ ... وَلِشِسعْ نَعْلِكَ تَسْقُطُ الأقْوَالُ فَلْيَخْسَئُوا، ولَبِئْسَ ما جاءتْ به ... صُفْرُ الوُجُوهِ الخِسَّةُ الأنذَالُ الرَّاتِعُونَ مع الشِّياهِ كَأنَّمَا ... شاهتْ وجوهُ الغربِ فهي سِمَالُ القَاصِرُونَ عن الفضائِلِ ما ارْعَوَوْا ... واللُّؤْمُ فيهم شِيمةٌ وخِصَالُ شَرَّ البَرِيَّةِ يا أشَرَّ خَلِيقةٍ ... خجلَتْ لمْثِلِ فِعَالِهنَّ بِغَالُ أحضارةَ الدَّجَلِ السَّخِيفِ أَهَكَذَا ... تُؤْتَى المكارمُ؟! بِئسَما الأفْعالُ

أَخْزَى الذي سَمَك السماءَ بناءَكُم ... يَا أيُّها السُّفَهَاءُ والأنذَالُ أحْلاَمُ هَرْطَقَة، وَخِسَّةُ قَاصِرٍ ... رَسَمَ الحقيرُ وشَبَّه المُحْتَالُ لا ليسَ في رَسمِ الخَسِيسِ بلاغةٌ ... إِنَّ البلاغةَ في الحبيبِ تُقَالُ فهو الكريمُ إذا الكِرَامُ تَعَاظَمَتْ ... عِنْدَ الزِّحَامِ، وَعزَّت الأحْمَالُ وَهْوُ الفَصِيحُ إِذَا الفصاحةُ أيْنَعَتْ ... سَالَتْ بِعَذْبِ حَدِيثِه الأقْوَالُ فَبِذِكرِهِ كَانَ الغُدُوُّ رِياضَنا ... ومع الغُدُوِّ تَمَازَجَتْ آصَالُ وَبِمَدْحِهِ مُهَجُ القُلُوبِ تَرنَّمَتْ ... وتَرَاقَصَتْ طَربًا لَهُ الأوْصَالُ يا أيُّها المُختارُ حَسْبُك رُتْبَةٌ ... مهما تَعَمْلَقُ لَم يَصِلْكَ خَيَالُ فَالْكُلُّ خَلْفَك وَاجِمُونَ كَأنَّهُم ... كُبتوا تَشُدُّ وُجوهَهم أحْبَالُ خُيِّرْتَ بَيْنَ الخَمْرِ واللَّبنِ الذي ... فُطِرَتْ عليهِ مِنَ الورى الأجيالُ فاخْتَرْتَ فِطرةَ أُمَّةٍ لَمَّا تَزَلْ ... خَيرَ القُرونِ فَتِيَّةً تختالُ وَبَنَيْتَ للإسلامِ صَرْحًا شامِخًا ... طالَ السَّمَاءَ فَكَيْفَ ذَاكَ يُزَالُ أضْحَتْ به بغدادُ نِجْمَةَ عَصْرِها ... ضَاءَتْ إذا غَرَب الجنوبَ شمالُ وَمَشَى السَّحَابُ لِكَي يُفَارِقَ أرْضَها ... فَمَشَتْ تُوازِي ظِلَّهُ الأجْيَالُ وتتابَعَ العُلَماءُ حتى أزْبَدَتْ ... سُوحُ البِطاح فَحِمْلُهُنَّ ثِقَالُ ذَاكَ ابن سينا والفَرَابيُّ الذي ... لو زِين زانت عُشْرَهُ الأثقالُ (¬1) وَلدحْيةَ الكَلِبْيِّ إِذْ بَسَطَتْ لَهُ ... شُمُّ القياصِرِ كِبْرَها الأمثالُ لَغَسَلْتُ دُونَ الكعبِ لو سَنَحَتْ لنا ... لُقْيَا الأمِينِ وفي اللِّقاء جَمَالُ ¬

_ (¬1) راجع مقالتنا في ابن سينا والفارابي وغيرهما من الفلاسفة.

أقْرِئ نَبِيَّكَ يا دِحْيَةُ إنَّه ... حَان الزَّمَانُ ومُلكُنا سَيُزَالُ سيزولُ ليلُ الظُّلم حتى تَنْضَوِي ... كُلًُّ المكائدِ تَخْتَفِي الأدْغالُ وَيَعُمُّ كُلَّ الكونِ عَدْلُ مُحَمَّدٍ ... ويذوبُ بَغْيٌ تَنْتَهي الأهوالُ يا أمَّةَ المليارِ هَلْ مِن غَضْبَةٍ ... تُذْكِي النُّفُوسَ كأنها المِرْجَالُ تَجْتَثُّ شأفَةَ حاقدٍ مِنْ أَصْلِه ... حتى يَثُوبَ مَعَ الرَّدَى الدَّجَّالُ فالصَّافِنَاتُ مِنَ الجِيادِ عَلَى الذُّرَى ... قَدْ أُسْرِجَتْ، وتَقدَّمَ الخَيَّالُ والعَادِياتُ الصبْحُ تَبْرُقُ في الدُّجَا ... والمُورِياتِ القَدْحُ والأجْمَالُ يا سيدي مَا إِن رَمَوْكَ بِسَهْمِهِمْ ... حَتَّى تدافعَ لِلوَغَى الأبْطَالُ وَتَعَالَتِ الرَّاياتُ تُعْلِنُ زَحْفَهَا ... للنَّصْرِ يَعْلُو فَوْقَهُنَّ هِلاَلُ مِنْ قُبَّةِ الإِسْرَاءِ تَغْزِلُ عَزْمها ... أتَذُودُ بالعَزْمِ الفَتِى نِصَالُ وَتُرِيقُ مِن دَمِها الزَّكِيِّ جَدَاوِلاً ... نِعْمَ الدِّمَاءُ فِدَاكَ حِينَ تُسالُ دَكَّتْ بِهِ جُنْدُ الحَمَاسِ حُصُونَهم ... فَمَشَى النَّعيُ يُقُودُه الإعْوَالُ والسَّمْهَرِيُّ بِهَا يَغُدُّ خُطُوطَه ... فَهَوَتْ عُروشٌ حُطِّمَتْ أَغْلالُ وَتَقَهْقَرَ الأسْطُولُ أُسْطُولُ الخَنَا ... والبُشُّ يَصْرخُ أَنْ هَلُمَّ تَعَالُوا وَتَنَاقَصَ الشَّيْطَانُ لاَ يَلوِي إِلى ... مَا قَدْ دَعَا وَتَقطَّعَتْ أحْبَالُ وَتَشَرْذَمُوا فِرَقًا تَجُرُّ خُيُولُهم ... أَذْيَالَ نَكْسَتِهِم، وآلَ مَآلُ لاَ تَفْرَحُوا .. أمَا فَطِنْتُم أنَّنَا ... سَنَجُزُّ رَأسًا لَن يَطُولَ نِزَالُ وَيُبَاعُ في سُوقِ النِّخَاسة بُشُّكُمْ ... حتى تَدُوسَ جَبِينَهُ الأطفالُ يا أيُّهَا الغَرْبُ الكسيحُ رُوَيْدَكُم ... إِن المَعِامَع حِمْلُهن ثِقَالُ

وَلَنا خُلِقْنَ وَلَنْ تُسَارَ لِغَيْرِنَا ... تِلكَ المَكَارِمُ أَيُّها الجُهَّالُ إِنَّا قَدَحْنَا بالحَمَاسِ نُفُوسَنا ... فاسْتَنْفَرَتْ شَرَرًا بنا الأوْصَالُ وتَضَاعَفَتْ أَحْقَادُنا حَتَّى إِذَا ... حَمِيَ الوَطِيسُ أَتَاكُمُ الزِّلْزَالُ سَنَهُزُّ عَرْشَ الكُفْرِ تَكْسَرُ أَنْفَهُ ... هذي الجُمُوعُ يقودُها الرِّئْبَالُ هذي الجُمُوعُ تَدَافَعَتْ نَحْوَالرَّدَى ... تَفْدِي الحَبيبَ نُفُوسُها والمالُ سَنُغَيِّرُ التاريخَ نُصْلِحُ أَمْرَهُ ... حتى تَعُودَ لِهَدْيِها الأجْيَالُ وَنَدُقُّ رُوما ثم نزوِي بعدَها ... كُلَّ المدائِنِ لَنْ يَدوُمَ ضَلاَلُ وَعْدُ النَّبِيِّ فكيفَ يُخْلَفُ وَعْدُه ... كُلُّ الوُعُودِ مع النَّبِيِّ تُنالُ هَذِيِ حَقَائِقُ هَدْيِنَا نَسْمُو بِها ... نحن الأشاوسُ نِسوةٌ ورِجَالُ مهما بَطَشْتُم يا قَساوِسَةَ الفَنَا ... فالحربُ كَرٌّ تَارَةً وَسِجَالُ والحَرْبُ شَمُّ خِيارِنا إنا لها ... نُحنُ الأُلَى مَهَرُوا الوغى الأبْطَالُ نحنُ الأُلى باعوا النُّفُوسَ لِربِّهَا ... فَهُوَ الذي قُضِيَتْ بِه الآجَالُ فالموتُ إِمَّا أَنْ يَجِيءَ فَمَرْحبًا ... يَا موتُ حَيَّ ففي المَنُونِ مَنالُ فَهْوَ الطَّرِيقُ إلى لقاءِ مُحَمَّدٍ ... أحْمَدَ بُغْيَةٌ وأَمَالُ * * *

الاعتذارية

الاعْتِذَارِيَّة لزياد بن عبد الغفار (¬1) ضياءُ الشَّمْسِ أمْ نُورُ النَّهَارِ؟ ... أمِ انْزَاحَ السِّتَارُ عن النَّوَارِ؟ أَمِ اللَّيلُ اكتسى بالنُّورِ لَمَّا ... رأَى النَّوارَ مِن غَيْرِ الخِمَارِ؟ فَكَمْ قَلبِي يَهِيمُ إذا ذُكِرْتُم ... ودَمْعُ العينِ يا نَوَّارُ جَارِ وَلَوْ أَنِّي طَلَبْتُ لَكُمْ مَثيلاً ... لكانَ مَثيلُكُم دُرَّ المَحَارِ وَلَكِنِّي شَغَلْتُ القلبَ عَنْكُم ... وعَنْ حُبِّ الغواني والجَوَارِي بُحِبًّ صَادِقٍ لا زَيْفَ فيهِ ... أَبُوحُ به وقد نَفِدَ اصْطِبَارِي أَلاَ مَنْ مُبْلغُ الثَّقَلَيْنِ عني ... وَيَشْفِي القلبَ من جُهْدٍ ونَارِ فَحبي للرسولِ فَدَتْهُ نَفْسِي ... وآلُ البيتِ حبُّهمُ شعارِي وَأصْحابُ الرسُولِ لهم سَلاَمٌ ... فقدْ نَصَرُوهُ أيامَ الذِّمَارِ فكانوا بَعْدَهُ أصحابَ خَيْرٍ ... وآلُ البيتِ فيهم كالمَنَارِ فَأصْغرُهم كبِيرٌ قدْ تَبَدَّى ... بِهَيْبَتِهِ فأَنْعِمْ بالصِّغَارِ سَقَتْ أَرْضًا بها صَارُوا جميعًا ... سَحَائِبُ هَاطِلاتٌ بالصغارِ إليكَ رسولَنا مِنَّا سَلامٌ ... ومني كُلُّ شوقي واعتذِاري أَساءَ إليك عُبَّادُ الصَّلِيب ... بِقَوْلٍ من صَحِيحِ القولِ عَارِ أذَلَّهُمُ المُهَيمِنُ أَيَّ ذُلٍّ ... وأعْقَبَهمُ بِخِزْيٍ وانْكِسَارِ ¬

_ (¬1) 1/ 3/ 1427 هـ-30/ 3/ 2006 م.

فداك

وَقُبَّحَ وَجْهُ رَسَّامٍ حَقِيرٍ ... وَأبْدَلَه بوجْهٍ كالحِمَارِ وَلا غَفَرَ الإلهُ له ذُنُوبًا ... يَكُونُ جزاؤُها سُوءَ القرارِ وَضُيِّقَ قبرُه لا كان فيه ... وأسكنه الأفاعي والضَّوَارِي كتبتُ الشعرَ يا خيرَ الأنامِ ... إليكَ لِفْرطِ وجدي وانتظارِي فأرجو أنْ يكونَ جزاءُ شعري ... إذا خُيَّرتُ أوْ كان اختيارِي تَكُنْ يومَ القيامةِ لي شَفِيعًا ... وَأذْكُرُ خالقي عندَ احتِضارِي فِدَاك لحسن بن زريق القرشي (¬1) أُكَفْكِفها مِن مُقْلَتي أَدْمعًا حَرَّى ... أُتَرْجِمُها في الحُبِّ للمصطفى شِعْرَا وَأَنْظِمُها حَتَّى إذا ما رَضِيتُها ... بعثتُ بها شوقي وقد ضُوِّعتْ عِطرَا وَقَدْ سَبَقَتْ خَيْلُ المديحِ رَكَائبي ... قَديمًا ولكنْ هِمَّتي تَطلُبُ الفَخْرَا وأيُّ فَخَارٍ أنْ جعلتُ قصائدي ... وصَيَّرتُها في الذَّودِ عن قدوتي مُهْرَا إذا لَمْ يَكُنْ عَذْبُ القصيدِ مُنَافِحًا ... يَغِيظُ العِدَا سِرًّا ويَرْدَعهُمْ جَهْرَا فَلا أَنْطَقَ اللهُ الشفاة بِجُمْلَة ... ولاَ سَطَّرَتْ يُمْنَى ولا كتَبتْ يُسْرَا أسيِّدَ خَلْقِ اللهِ كيفَ أصُوغُها ... وكيفَ أحِيلُ الحَرْفَ في مَدْحِكُم تِبْرَا إذَا قُلْتُ بَحرًا في الفضائِلِ والتُّقَى ... تَكُونُ بِحارُ الأرضِ في بَحْرِكُم قَطَرَا وَإنْ قُلتُ ليثًا فيْ الشَّجَاعَةِ إِنَّمَا ... مَدَحْتُ ليوثَ الغابِ إِذْ أحَرَزَتْ ذِكْرَا ¬

_ (¬1) 24/ 12/ 1426 هـ-24/ 1/ 2006 م.

أَأَذْكُرُ عَقْلاً أَمْ سَأذْكرُ حِنْكَةً ... فَضائِلُ جَاءَتْ مِن معينِكُمُ تَتْرَا كلفَى بِك فَخْرًا أنْ مُدِحْتَ بآيةٍ ... وَأَنْ نَزَلَتْ في الغَار يا سَيِّدِي اقْرَا فَكَيْفَ يُدانِيكَ السَّحَابُ بِرفعةٍ ... وَكيْفَ تُوازِيك المَجَرَّة والشِّعْرَى أبَى اللهُ إلاَّ أنْ تَكُونَ مُكرَّمًا ... فَكَيْفَ يَرُومُ الخَلقُ في ذَمِّكُم أمْرَا أحَالِبَةَ الأبقارِ كيْفَ تَجَرَّأتْ ... قُوَاكِ فَنَالتْ مِنْ كَرَامَتِنا قَدْرَا جَهِلْتِ فكانَ القَوْلُ مِنكِ عَدَاوةً ... رَفَعْتِ بها رِجْلاً وثَنَّيْتِ بالُأخْرَى وَمَا ضَرَّ لَوْ سَخَّرْتِها في رِعَايةٍ ... لأبقارِكم؛ فالجُهْدُ في رَعْيِها أحْرَى وَمَنْ يَنْطَحُ الصَّخْرَ الصِّلاَبَ بِقَرْنِهِ ... فَلاَ قَرْنَهُ أَبْقَى ولا حَطَّمَ الصَّخْرَا أَلاَ قَاتَلَ اللهُ الحياةَ إِذا غَدَتْ ... خَنَازِيرُ غربِ الأرضِ قد نطقتْ كُفْرَا تَمَادَتْ وزادتْ في الضَّلاَلِ غِوَايةً ... فكانتْ كَمَنْ جَدَّتْ لِمُدْيتهِا حَفْرَا وَمَن يَتَعَرَّضْ للسِّهَامِ بِنَحْرِهِ ... تُصِبْهُ فلاَ حَمْدًا أصَابَ ولا شُكْرَا أغَرَّكِ صَمْتُ القولِ فازْدَدْتِ جُرْأةً ... وَأَجْرَيْتِ ممَّا لا يَلِيق بنا نَهْرَا فَكَيفَ أبَانَ البُكْمُ يا زمنَ الرَّدَى ... وَكيْفَ غَدَا المليارُ يا أمتي صِفْرَا يُقالُ فما دُونَ الوجوهِ يَصونُها ... سِوَى الكَفِّ تَحْميه وإنْ بُترَتْ بَتْرَا فداكَ رسولَ الله نَحْرٌ جَعَلتُهُ ... لِذْكِرِكَ دِرْعًا أَنْ يُرَادَ به شَرَّا فداكَ أبي مِنْ بَعْدِ أُمِّي وإِخوتي ... فِدَاك صِغارُ القومِ والعِليَةُ الكُبْرَى أَقومي، إِنَ السَّيْلَ قدْ بلَغ الزُّبا ... وخُبْثُ النوايا جاوزَ الحَدَّ واسْتَشْرَى أَلاَ فاجْعَلُوها وقفةً عُمَرِيَّةً ... تُزْلزِلُ أقدامًا وتَسْتَجْلِبُ النَّصْرَا فما الصمتُ في بعضِ المواطنِ حِكمَةٌ ... وَلَكِنَّ مَكْرَ القومِ يَسْتَلزْمُ المَكْرَا

أتسخر من شخص النبي

أتَسْخَرُ مِنْ شَخْصِ النَّبِيِّ د. عبد الرحمن بن عبد الرحمن شميلة الأهدل أتَهْزَأ بالمُخْتارِ يَا سَوَءَةَ الدَّهْرِ ... ويَا قِمَّة التَّضْلِيْلِ وَالخُبْثِ وَالغَدْرِ أتَسْخَرُ مِن شَخْصِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ... رَسُوْلٌ أتَى بالحَقِّ وَالخَيْرِ وَاليُسْرِ رَسُوْلٌ حَبَاهُ الله نُوْرًا وَحِكْمَةً ... وَأيَّدَهُ بالنَّصْرِ فِيْ سَاعَةِ العُسْرِ تَحَلَّى بأخْلاَقِ الكِرَامِ وَإنَّهُ ... رَؤُوْفٌ رَحِيْمٌ مَنبَعُ الفضْلِ وَالصَّبرِ مَحَا ظُلمَةَ الطُّغْيَانِ وَالجَهْلِ وَالهَوَى ... بعَدْلٍ وَإحْسَانٍ وبَالرِّفق في الأمْرِ وَمَا الصَّفْحُ إلاشِرْعَةٌ وَسَجِيَّةٌ ... لدَى المُصْطَفَى مِنْ دُوْن مَنٍّ ولاكِبْرِ كَرِيْمٌ حَلِيْم مَا تَوَانَى عَن الوَفَى ... وَلا ضَاقَ ذَرْعًا مِنْ عَنَاء وَلافقرِ عَليْهِ صَلاةُ اللهِ ثمَّ سَلامُهُ ... وأخْزَاكَ رَبُّ العَرْشِ يَاخِيْزَبَ العَصْرِ رَكِبْتَ عَلى مَوْجٍ منَ الخِزْي فارْتَقِبْ ... دُوَيْهِيَّةً سَوْدَاءَ غُوْلِيَّةَ القعْرِ حيَاتُكَ فِيْ ذُلٍّ وَوَقتُكَ جَمْرَةٌ ... وَفِكْرُكَ لمْ يَسْلمْ مِنَ الدَّاءوَالضُّرِّ فَمَنْ رَامَ نَقْصَ المُصْطَفَى قذفتْ بهِ ... خُطُوْبُ الرَّزَايَا فِيْ سُجُوْنٍ مِنَ الدُّعْرِ وَزَجَّت بهِ الآفاتُ فِيْ كلِّ مِحْنَة ... وصَارَ عَلى دَرْبٍ مَنَ الذُّلِّ وَالقهْرِ خَسِرْتَ وَلمْ تَكْسَبْ سِوَى الضيْمِ وَالرَّدَى ... خَسِئتَ فأنْتَ الشَّينُ وَالمَيْنُ لوْ تَدْرِيْ وَأنتَ سَقِيْمُ الفِكْرِ وَالقلبُ ميِّتٌ ... وَأنْتَ لئِيْمُ الطَّبعْ تَرْتَاحُ لِلوزْرِ أتَاكمْ رَسُولُ اللهِ بالنُّوْرِ وَالهُدَى ... وَأنْذرَ مَنْ يَعْصِيْهِ بالوَيْلِ فِي الحَشْرِ وَعَلَّمَكُمْ دَرْبَ النَّجَاةِ مُبَيِّنًا ... لِمَا جَاءَ فِي التَنْزِيْلِ سَطْرًا عَلى سَطرِ ضَللتُمْ وَحَرَّفتمْ كتَابَ هِدَايَةٍ ... وَمِلتُمْ وأسْرَعْتُمْ عِنَادًا إلى الشَّرِّ

واَمَنَ مِنكُمْ بالنَّبيِّ أولو النُّهَى ... أولو العَدْلِ وَالإنْصَافِ وَالفهْم وَالفِكْرِ وَكَمْ شَهدَتْ مِنْكُمْ رِجَالٌ بنبلِهِ ... وَأخْلاقِهِ العَليَاءِ عَاطِرَةِ النَّشْرِ فَهَلا تَأمَّلتمْ بعَينِ بَصِيْرَةٍ ... وَفِكْرٍ مُنِيْرٍ مُنْصِفٍ بَاسِم الثَّغْرِ وَرَاجَعْتُمُ التَّارِيْخَ فِيْ نَعْتِ أحْمَدٍ ... فإنَّ رَسُوْلَ اللهِ كَالشَّمْس وَالبَدْرِ مضيئًا مُنِيْرًا هَاديًا وَمُبَشِّرًا ... هَدَانَا بفَضْلِ اللهِ لِلخَيْرِ وَالأجْرِ وَأنقذنَا مِنْ ظُلمَةِ الظُّلم وَالهَوَى ... بدِيْنٍ قويْمٍ مَنْبَع الصِّدْقِ وَالطُّهْرِ ألمْ تَقرَإ القرآنَ مُعْجزَةَ الوَرَى ... ألمْ تَسْتَمِع يَوْمًا لاَيٍ مِنَ الذكّرِ ألمْ تتَأمَّلْ فِيْ ثَنَايَا سُطوْط ... وَمَا حَمَلثهُ الآيُ من سالف الدَّهْر ففِيْهِ نِظَامٌ شَامِلٌ مُتَكَامِلٌ ... يَفِيْ باحْتِيَاجِ الخَلقِ يَكْفِيْ مَدَى العُمْرِ وَفِيْهِ عُلوْمُ الأوَّلِيْنَ وَيَنْطَوِيْ ... عَلى كُلِّ آت فِيْ فلاة وَفِيْ بَحْرِ تَلاهُ رَسُوْلُ اللهِ فِيْ كلِّ مَجْمَعٍ ... وَكَانَ هُوَ الأمِّيّ فِيْ مَعشَرِ الكُفْرِ فَمَا حَادَ عَنْ آيٍ وَلاَ كَانَ لاحِدًا ... وَلكِنَّهُ وَحْيٌ أَتَى النَّاسَ بالبِشْرِ فصَدَّقهُ قوْم لِصِدْقِ حَدِيْثِهِ ... وَعَانَدَهُ قوْم فمَاتُوا عَلى الخُسْرِ وَيَا امَّة الإسْلام أُمَّة أحْمَدٍ ... قِفُوا وَقفة الآسَادِ فالكُفْرُ مُسْتَشْرِيْ أيَسْخَرُ أهْلُ الكُفْرِ والظُّلم وَالقَذَى ... بسِيِّدِنَا المُخْتَارِ يَا أمَّة الدِّكرِ ألمْ تَعْلمُوا أنَّ احتِقارَ نَبيِّنَا ... هُوَ الطَّعْنُ فِي التَشْرِيعْ فِي البَطن وَالظَّهْرِ وَأيُّ حَيَاة وَالشَّرِيْعَةُ تُرْتَمَى ... بسَهْمٍ مِنَ التَشْكِيكِ وَالهُزْء وَالسُّخْرِ فسُدُّوا عَلى الأعْدَاء بَابَ سَفَاهَةٍ ... وَبُشْرَاكُمُ يَا قوْمُ بالفوْزِ وَالنَّصْرِ وَصَلوا عَلى طَهَ المُشَفع فِي الوَرَى ... وآلٍ وَأصْحَابٍ شَفَى بَأسُهُمْ صَدْرِيْ

أتهزأ يا غدر بالمصطفى

أتَهْزَأ يَا غُدَرُ بالمُصْطَفَى د. عبد الرحمن بن عبد الرحمن شميلة الأهدل أيَا زُمْرَةَ الكُفْرِ جيْلَ التُخَمْ ... وَرَمْزَ السَّفاهَةِ رَمْزَ النِّقمْ ألم تَهْجَعُوا مِنْ عَدَاءِ الرَّسُوْلِ ... وَسُوْءِ التَّعَامُلِ مُنْذُ القِدَمْ أمَا آنَ لِلظُّلْمِ أنْ يَنْتَهيْ ... أمَا آنَ لِلشَّرِّ أنْ يُخْتَرَمْ سَخِرْتُمْ بشَخْصِ النَّبيِّ الكَرِيْمِ ... وأضْرَمْتمُ النَّارَ بَيْنَ الأمَمْ أتَهْزَأ يَا غُدْرُ بالمُصْطَفَى ... إمَامُ النَبيِّيْنَ طَوْدٌ أشَمْ رَسُوْلٌ عَلى خُلقٍ نَيِّرٍ ... وَدِيْنٍ قوِيْمٍ وَرَمْزِ الهِمَمْ أنَرْوِيْجُ أسَّسْت مَوْقُوْتَة ... بَنَيْتِ مَنَ الجَهْلِ أعْتَى لغَمْ وَكُنْتِ عَنِ الشِّرِّ فِيْ مَعْزِلٍ ... لسْت مِنَ السُّخْرِ ثَوْبَ التُّهَمْ وَالدَّانَمَرْكيُّ شَيْنُ الوَرَى ... تَعَدَّىَ الحُدُوْدَ برَسْمِ القَلَمْ أسَاءَ إلى المُصْطَفَى مُعْلِنًا ... رِضَاهُ وَأوْغَلَ فيْنَا الألمْ وَسَدَّدَ سَهْمًا إلى أُمًّة ... تَحَلَّتْ بنُوْرِ الهُدَى وَالقِيَمْ ومَوْجُ العُتَاةِ أتَى مُعْلِنًا ... بنَقْض العُهُوْدِ وَنَكْثِ القسَمْ * * * أيَا أُمَّة الدِّيْنِ مَاذَا الوَنَى ... فَذُلُّ التَوَانِيْ بنَا قدْ ألمْ شَبَابٌ تَرَبَّى عَلى غَفْلةٍ ... وَرَقصٍ وَلهْو وَتَرْكِ القيَمْ تَرَبَّى عَلى نَعْمَةِ الفَاتِنَاتِ ... فأيْنَ الإبَاءُ وَأيْنَ الشَّمَمْ

أيَسْخَرُ مِنْ شَرْعِنَا زُمْرَةٌ ... قدِ اغْتَالهَا سُوْءُ فِكْرٍ أصَمْ وَأنْتُمْ عَلى مَوْج بَحْرِ الهَوَى ... فأيْنَ العُهُوْدُ وَأيْنَ الذِّمَمْ فتُوْبُوا ففِي الدِّيْنِ عِزٌّ لكُمْ ... ونصرٌ وفخرٌ وفضلٌ وكَم * * * أيَا أُمَّة الدِّيْنِ مَاذَا أرَى ... دَيَاجيْرَ ظُلمٍ وَليْلًا أطَمْ أرَى مَوْجَة الشَّرَّ قدْ آذَنَتْ ... بحَرْبٍ عَلى ديْنِنَا المُحْتَرَمْ أرَى مَوْجَةَ الظُّلم قدْ خَيَّمَتْ ... عَلى حَافَةِ الدِّيْنِ دِيْنِ القِيَمْ وَنَحْنُ عَلى جُرُفِ الهَاوِيَاتِ ... نُغَازِلُ بُرْكَانَ هَمٍّ وَغَمْ أمَا آنَ للَّيْلِ أنْ يَنْجَلِيْ ... وَمَا آنَ لِلبَدْرِ يَبْدُوْ أتَمْ أفِيْقُوا فَإنَّ العَدُوَّ اعْتَدَى ... عَلى سيِّدِ الخَلْقِ مَاحِي الظُّلَمْ رَسُوْلِ الهُدَى وَالنَّبيِّ الكَرِيْمِ ... وَتَاجِ التُّقى وَالوَفَى وَالكَرَمْ أفِيْقُوا فَإنَّ العَدُوَّ اعْتَدَى ... وَأضْرَمَ نَارًا وَفِي النار سُمْ فأعْطُوْهُ مِنْ دَرْسِكُمْ حِصَّةً ... لِتَهْوِيْ بهِ فِيْ عَمِيْقِ النَّدَمْ وَحُطُّوا عَنِ النَّفْسِ أوْزَارَهَا ... بمَالٍ وَنَفْسٍ وَإلاَّ فلمْ * * *

أيها المسلمون في كل قطر

أيها المسلمون في كل قطر د/عبد الرحمن بن عبد الرحمن شميلة الأهدل أطبقَ اللَّيلُ واخْتَفَتْ أضواءُ ... وتَوالَى عَلَى النُّفُوسِ البلاءُ ودموعٌ هَمَتْ كأمطارِ مُزْنٍ ... واقشَعَرَّتْ بسيطةٌ وسَماءُ وبِحارٌ بمائها وجبالٌ ... راسياتٌ جثَى عليها الوَبَاءُ وسحابٌ تَمُرُّ مَرَّ غَضُوبٍ ... ليس ماءٌ يزينها أوْ هَواءُ نَعَمٌ تصطَلِي برمضاءِ قحْطٍ ... هي عَطْشَى وما هنالك ماءُ وانظر الورْدَ والزهورَ بروضٍ ... مسها الضُّرُّ واعْتراها الحَياءُ شَجَرٌ مُذْبَلٌ ودَوْحٌ تهاوَى ... وزروعٌ من الونى حدباءُ ها هي الشمسُ في السماء اكْفَهَرَّتْ ... وانحنى البدرُ والتَوَتْ جَوْزَاءُ كلُّ شبرٍ على البسيطة يشكو ... من أناس كما يقال غُثَاءُ دِينُها يُعْتَدَى عليه جِهارًا ... ورسولٌ يَسُبُّهُ الجهلاءُ كيف نَرْضي مَذِلَّةً وهوانًا ... كيف نرضى الخضوعَ أين الإباءُ أيُّ نَصْرٍ ونحن في بئرِ لَهْوٍ ... أيُّ عِزٍّ وقد غزانا الريَاءُ أي نصرٍ ومنتدانا المَخازِي ... أيُّ نصر وثوبنا الكبرياءُ أيها المسلمون في كل قُطر ... أيها الأتقياء والأولياءُ سدِّدوا السَّهمَ فالعدوُّ تمادى ... لا تَذِلوا فأنتمُ العَلْيَاءُ أرشقوا بالنِّبَالِ كل عُتُلٍّ ... حَرَبه الصالحون والأنبياء وَحِّدُوا صَفَّكُم بجدٍّ وَعْزمٍ ... وانصروا الله أيها الأوفِياء

طه إمام الرسلين

قاطعوا المنتجاتِ صُبُّوا عذابًا ... لا تلينوا أيها الكرماءُ دانمركيُّ ما رسمتَ لرُزْءٌ ... وخطوب وغارة شَعْوَاءُ دانمركيُّ نِلتَ ذُلاًّ وخَسْفًا ... كلُّ عْرضٍ لعرضِ طهِ فِداءُ سيدُ المرسلين خيرُ البرايا ... قائدُ الغُرِّ رحمةٌ وهداءُ صَلِّ ربي على الرسول وآلِهِ ... وصِحابٍ ما غردتَ ورْقاءُ طه إمام الرسَلين د/عبد الرحمن بن عبد الرحمن شميلة الأهدل يَا دَانَمَرْكُ النَّازيَهْ ... يَا بئْرَ فُحْشِ عَاتِيَهْ يَا رَأسَ فِسْقٍ فِي الدُّنَا ... يَا ذا القُلوْبِ القاسيَهْ خَطَّتْ يَدَاكِ جَرِيْمَةً ... أَوْدَتْ بهَا فِي الهَاوَيَهْ فِلِمَ السَّفَاهَةُ وَالخَنَا ... مَاذَا اسْتَفَدْتِ وَمَا هِيَهْ نَارُ المَذلَّةِ فاصْطَلِيْ ... يَا دَانَمَرْكُ الوَاهِيَة مِليَارُ قلبٍ أضْمَرُوا ... أنْ يَقْذِفُوْكِ بداهِيَهْ وَالخَسْفُ آتٍ يَا زَنِيْمُ ... فَلمْ تَذُوْقيْ عَافيَهْ جَاءَتْ شَرِيْعَةُ أحْمَدٍ ... مِنْ ذِي الجَلاَلٍ إلهَيَهْ فِيْهَا الهُدَى مُتَجَلِّيًا ... عَمَرَ القُلوبَ الخَاوِيَهْ وَمَحَى دَيَاجيْرَ الهَوَى ... فَبَدَت عُقولٌ صَافِيَه طَه إمَامُ المُرْسَلِيْنَ ... فَيَا لِرُوحٍ سَامِيَهْ بَرٌّ رَحِيْمٌ سَيِّدٌ ... روحِيْ فِدَاه وَمَالِيَهْ صَلَّى عَليْه اللهُ مَا ... سَمِعَ المُصَلِّيْ الوافِيَهْ وَالآلِ وَالصَّحبِ الكِرَامِ ... هُمُ النُّجُوْمُ العَالِيَهْ

فداه دمي وصاغيتي

فداه دمي وصاغيتي د/ فهد بن عبد الرحمن اليحيى عُدِمنا الشعرَ والنَّثْرَا إذا لم يَسْتَحِلْ جَمْرَا على مَن سَبَّ خيرَ الخلقِ أو آذاهُ أو أزْرَى عُدمنا الشعرَ والنثْرا إذا لم ننتفِضْ نَصْرَا لسيِّدنا وأُسوتِنا .. وقائدِنا وقدوتِنَا لذي الوحي الذي يُتلى وذي المعراجِ والإِسْرَا فلو سَبُّوا لنا رَمْزًا فهل نَرضَى لهم عُذْرَا؟! وهل نُصغِي لهم قَوْلاً؟! وهل نَقْضِي لهم أمرًا؟! فعِرضُ المصطفى أوْلَى وحقُّ المصطفى أحرى إذا "سَامِيَّة" نِيلتْ رأيتَ لقومها زَأْرَا وكم قُطعت علاقاتٌ

وكم هُجرت سفاراتٌ إذا خُدِشَتْ كراماتٌ فعِرضُ المصطفى أغْلَى وفضلُ المصطفى أحْرَى وبعضُ حجارةٍ هُدِمتْ فإذْ بوفودهم هَرَعتْ وإذ بحُروفهم نطقت فعِرضُ المصطفى أولى من الحَجَرِ وأغلى من كنوزِ الأرض والألماسِ والدُّرَرِ ورُبَّ هوامش الكلماتِ سِيق لأجلها القواتُ والآلاتُ واكتظت بها الساحاتُ فألفت بعدها الجرحى وجُندِل تحتها القتلى وسُلسل عندها الأسرى أليسَ المصطفى أولى؟! ونصرُ المصطفى أحرى؟! وذو عهدٍ إذا سَبَّ الرسولَ فعهدُه يَعرى كذا في كل كتب الفقه والتوحيد لو تقرا

فداه أبي ووالدتي فداه دَمِي وصاغِيتي فضائلُه كمِثلِ النهر مثلِ البحر إذ زَخَرا له في الفضلِ غايتُهُ وفي الإيمان ذُروتُهُ ولو قرؤوا شمائلهُ لظلوا دهرَهمُ حَيرَى ولو نظروا لطَلْعتِه لظنوا الشمسَ والقمرَا ولو ظفِروا ببسمته لطارت من كوامِنها قلوبٌ تعشَقُ الفَجْرَا ولو نَعِموا بمجلسه أو اجتازوا بمسجدِه فأسمعهم حديثًا من صنوفِ العلم أو ذِكْرَا لَغنَّت من بلاغته مسامعُهم وحارت من عجائبه مداركُهم وسافرتِ القلوبُ له كما لو عُولجت سِحرا

ولو نظروا لمركبهِ وكل الناس تتبعُهُ .. .. رئيس الدولة الأعلى .. سيبهرهم تواضُعُه فيومَ الفتح يومَ النصر يومَا العز للإسلامِ .. كان المصطفى ذُلاًّ لخالقه قد انكَسَرَا وطأطأ رأسَه لله .. وبين يديه مَن والاه .. فنادى كلَّ من عاداه .. قوموا أنتم الطلقاء لا أُبقي لكم وِزْرَا فلم ينهبْ لهم "نفطًا" ولا مالًا ولا جَمَلاَ ولم يَهدِمْ لهم دارًا ولم يقتل لهم طفلاَ سحائبُ رحمةٍ سَخَّاء فاضت في العِدى عَدْلاَ فيا لَلَّهِ قد أضحت حروبُ المصطفى بُشْرَى! يُدير شؤونَ دولته وينظرُ في رعيته ويبني شرعَ أُمته

وفي كل الذي عاناه أو أداه تعجب من بساطته فسبحان الذي أعطاه يقضي الأمر باليسرى حريصٌ في هدايتنا شفيقٌ من مشقتنا ويوم الحشر يوم النشر يوم الساعة الكبرى ترى كل الورى فزعوا ومن كُرُباته هرعوا لعل الأنبيا شفعوا .. ولكن خصه الرحمن يشفع في الورى طُرَّا وخصَّ المؤمنين به بحوضِ يَستقي الظمآن منه فيتَّقي الحَرَّا فضائلُه كآياتٍ له في صدقه تُتْلى وكل فضائل العلماء والعُبَّاد والزهاد والقُوَّاد .. فهي بفضله تُجْرَى فمن آياته الصدِّيقُ قد عجزوا له قدرا

ولو جَمعوا له الأحبارَ والرهبانْ .. منذ غوابرِ الأزمانْ لما رَجَحوا به الميزانْ وما سَبَقوه في الإيمانْ ومن آياته الفاروقُ مَن ذلَّت له كسرى وسَلَّمه هرقلُ الشامَ لا يَعصي له أمرا وإذ بالمسجد الأقصى يدعو -وحده- عُمَرا: تعال خليفةَ الإسلام ارفعْ رايةَ الإسلام بكل عدالةِ الإسلام فجاء القائدُ الأعلى لأقوى دولةٍ عظمى فيركبُ ناقةً حينًا ويمشي جَنبَها حينًا يخوضُ الطينَ .. والأقوامُ قد عجِبوا له أمرَا ليكتبَ في طريق الفتح

قصةَ عِزَّةٍ غَرَّا بأن العزَّ بالإسلام ليس ببهرجِ الكلماتِ والأنغامِ ولا بمظاهرِ النَّعْماء والإنعامِ سلِ الأحبارَ ما الأخبارِ حين تربَّع الإسلامُ عرشَ المقدسِ المَسْرَى فمن قد علَّم الفاروقَ .. مَن قد خرَّج الفاروقَ .. غيرُ محمد إذ أثمرت آثارُه أثرَا كذا عثمانُ ذو النورين كان لأحمدٍ صِهرا وكان حياؤه منهُ وكان شبيهَهُ طُهْرَا كذا الليثُ الشجاع الفذ يَفري خصمَه نَحْرا عليٌّ صِهره الثاني وزوجُ عظيمةِ الشانِ تربَّى من شجاعتهِ وجُرأته ونجدتهِ

وذاك وجيزُ سيرتهِ ويبقى كنزُها ذُخْرَا لقد رسمت صحابتُهُ كأنقى لوحةٍ فَخْرَا وقامت دولةُ الإسلام أعدلَ أمة دَهْرَا فسَلْ أعداءَ مِلَّته أمَا شهِدوا بحِكمته؟ أما نطقوا بحِنكته؟ أما وَقَفوا بكلِّ مظهرِ الإعزاز؟ حين رأَوا معاني الصدقِ والإعجاز؟ فآمن بعضُهم سرًّا وآمنَ بعضُهم جهرَا وأذعَن آخَرونَ لهُ كمِثلِ هرقلَ صدَّقه وكان بنعتِه أدْرَى * * * سألتك يا إلهَ الحق يا مَن أنزل الذَّكْرَا وأرسل رحمةً للناس أحمدَ يحملُ النورا

أذِقْ قومًا به سخروا عذابًا فيه مُزدَجَرُ ليبقى ذكرُه ذِكرى من اعتبرا * * * معاني الحبِّ قد سُكِبتْ لخير الخلق قد سُبِكتْ قلائدَ من وفاءٍ للذي أهدى لنا الخيرا وحبُّ رسولنا مِن حُبِّ خالقنا ورازقنا وحبُّ الله غايتُنا وحبُّ الله مقصدُنا بحبِّ الله يحيا القلبُ في الدنيا وفي الأخرى فألِحقْنا إلهي أنت ذو الإكرام والمِنَنِ جوارَ المصطفى في روضةِ الجنات والفَنَنِ توسَّلنا إليك بحُبِّه فارفعْ لنا قَدْرا صلاةُ الله نبعثُها سلامُ الله يتبعُها

على خيرِ الورى .. والنفس .. من ذكراه لم تبلغ لها وَطَرا .. (¬1). * * * إِمام المرسلين فداك روحي .. رَدًّا عن عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيامًا ببعض حقه .. صالح بن علي العمري - الظهران إمامَ المُرسلينَ فداكَ رُوحي ... وأرواحُ الأئمةِ والدُّعاةِ رسولَ العالمينَ فداكَ عرضي ... وأعراضُ الأحبةِ والتُقاةِ ويا عَلَم الهدى يفديك عمري .. ومالي .. يا نبيَّ المَكْرُمَاتِ!! ويا تاج التُّقى تفديك نفسي ... ونفسُ أولي الرئاسةِ والوُلاَةِ فداكَ الكونُ يا عَطِرَ السَّجَايا ... فما لِلنَّاسِ دونك من زكاةِ .. فأنتَ قَدَاسة إمَّا استُحِلَّتْ ... فذاكَ الموتُ من قبل المماتِ!! ولو جحد البريَّةُ منك قَوْلاً ... لكُبُّوا في الجحيم مع العُصاةِ وعرضُك عرضُنا ورُؤاك فينا ... بمنزلة الشهادةِ والصَلاةِ رُفِعْتَ منازلاً .. وشُرِحت صَدْرًا ... ودينُكَ ظاهرٌ رغمَ العُداةِ ¬

_ (¬1) 25/ 12/ 1426.

وذكرُكَ يا رسولَ اللهِ زادٌ ... تُضاءُ بهِ أسَاريرُ الحَيَاة وغرسُك مُثمرٌ في كلِّ صِقعٍ ... وهَديُكَ مُشرِق في كلِّ ذاتِ مَا لِجنانِ عَدنٍ من طريقٍ ... بغيرِ هُداكَ يا علمَ الهداةِ وأعلى اللهُ شأنَكَ في البَرَايا ... وتلكَ اليومَ أجْلَى المُعجزاتِ وفي الإسراءِ والمعراجِ معنى ... لقدركَ في عَناق المكرماتِ ولمْ تنطقْ عنِ الأهواء يومًا ... ورُوحُ القدسِ مِنكَ على صِلاتِ بُعثتَ إلى المَلا برًّا ونُعمى ... ورُحمى .. يا نبيَّ المَرْحَمَاتِ رَفَعْتَ عن البريَّةِ كلُّ إِصْرٍ ... وأنتَ لدائِها آسي الأساةِ تمنَّى الدهرُ قبلك طيفَ نورٍ ... فكان ضياكَ أغلى الأمْنِياتِ يتيمٌ أنقذَ الدُّنيا .. فقيرٌ ... أفاضَ على البريّةِ بالهِبَاتِ طريدٌ أمَّنَ الدنيا .. فشادت ... على بُنيانِهِ أيدي البُنَاةِ رحيمٌ باليتيمة وإلأُسارى ... رفيق بالجهول وبالجُنَاةِ كريٌم كالسحابِ إذا أَهَلَّتْ ... شجاعٌ هَدَّ أَرْكانَ البُغَاةِ بليغٌ علَّم الدنيا بِوحْي ... ولم يقرأ بلوحٍ أو دَواةِ حكيمٌ .. جاءَ باليُسْرى .. شَفيقٌ ... فلانتْ منهُ أفئدةُ القُساةِ فمنكَ شريعتى .. وسكونُ نفسي ... ومنكَ هُوِيَّتي .. وسموُّ ذاتي ولي فيكَ إهتداءٌ واقتفاءٌ ... لأخلاق العُلا والمَكْرُمَاتِ وفيك هدايتي .. وشفاء صدري ... بعلمكَ أو بحلمكَ والأناةِ ومنك شفاعتي في يوم ِعَرْضٍ .. . ومن كفَّيْكَ إرواءُ الظُّماةِ ومنكَ دعاءُ إمسائي وصحوي ... وإقبالي وغمضي والتفاتي

رسولَ اللهِ قد أسبلتُ دَمْعي ... وَنَزَّ القلبُ من لَجَجِ البُغَاةِ فهذي أُمَّةٌ الإسلام ضَجَّتْ ... وقد تُجبى المُنى بالنائباتِ!! هوانُ السيفِ من هُونِ المُباري ... ولينُ الرمحِ من لِين القناةِ وقد تَشْفى الجسومُ على الرزايا ... ويعلو الدينُ من كَيدِ الوشاةِ!! وفي هزِّ اللواءِ رؤى اتحادٍ ... ولمُّ الشملِ من بعد الشتاتِ!! وقد تصحو القلوبُ إذا استُفِزَّتْ ... ولفحُ النَّارِ يوقظُ من سُبَاتِ!! ألا بُترتْ روافدُ كلِّ فظٍّ ... تمرَّغَ في وحولِ السيئاتِ ألا أبْلِغْ بَنِي عِلمان عنِّي ... وقد عُدَّ العميلُ من الجُنَّاةِ!! أرَاكمْ تَرْقُصون على أَسَانا ... وتَسْتَحْلون مَيْلَ الغانياتِ!! وإنْ مَسَّ العدوَ مَسيسُ قُرح ... رفعتمْ بيننا صوتَ النُّعاةِ!! وإنْ عَبستْ لكم "ليزا" (¬1) خَنَعْتمْ ... خُنوعَ المُوفضينَ إلى مَناةِ!! إن ما هَاجتْ الشُبُهاتُ خُضْتمْ ... بألسنة شِحاحٍ فاجِرَاتِ!! "حوارُ الآخرِ" استشرى فذُبُّوا ... عن المعصوم ألسنةَ الجُفاةِ!! وصوت "الآخرِ" استعلى فردُّوا ... عن الهادي سِهامَ الإفتئاتِ رميتمْ بالغُلوِّ دُعاةَ ديني ... فهل من حُجَّةٍ نحو الغُلاة؟!! اكُرَّارٌ على قومي كماةٌ ... وفي عينِ المصيبةِ كالبَنَاتِ؟!! ومن يرجو بني علمان عونًا .... كراجي الروحِ في الجسد الرُّفات!! رسولَ الحُبِّ في ذكراك قُربى ... وتحتَ لواكَ أطواقُ النَّجاةِ ¬

_ (¬1) ليزا: كوندليزا رايز

يا رسول الله عذرا

عليك صلاةُ ربِّكَ ما تجلَّى ... ضياءٌ .. واعتلى صوت الهداةِ يَحارُ اللفظُ في نَجْواكَ عَجْزًا ... وفي القلب اتقاد المُورياتِ ولو سُفكتْ دِمَانا ما قَضَيْنا ... وفاءك والحقوقَ الواجباتِ يا رسولَ الله عُذْرًا لمحمد محمود أحمد يا رسولَ الله عُذْرًا ... قالت الدانمارك كُفْرًا قد أساؤوا حين زادُوا ... في رصيد الكفر فُجْرًا حاكها الأوباشُ لَيْلاً ... واستحلوا القَدحْ جَهْرًا حاولوا النَّيْل ولَكِنْ ... قدْ جَنَوْا ذُلاًّ وخُسْرًا كيف للنملة ترجو ... أنْ تطولَ النجمَ قدرًا هل يَعيبُ الطُّهْرَ قذفٌ ... ممن استُرْضِع خَمْرًا دولة نصفها شاذٌ ... ولقيطٌ جاء عُهْرًا آه لو عَرَفوك حقًّا ... لاستهاموا فيك دَهْرًا سيرةُ المختار نورٌ ... كيف لو يَدْروُن سطرًا لو دَرَوا مَن أنتَ يومًا ... لاستزادوا منك غَمرًا قطرةٌ منك فيُوضٌ ... تستحقُ العمرَ شكْرًا يا رسول الله نحري ... دون نحرك .. أنتَ أحْرَى أنتَ في الأضلاع حيٌّ ... لم تمتْ والناسُ تترَى حبُّك الوردي يسري ... في حنايا النفس نَهْرًا

أنت لم تحتجْ دفاعي ... أنت فوقَ الناس ذِكْرًا سيدٌ للمرسلينا ... رحمة جاءتْ وبشرى قدوة للعالمينا ... لو خَبَتْ لم نَجْنِ خيرًا يا رسول الله عذرًا ... قومنا للصمت أسرى ندَّدَ المغوارُ منهم ... وسَوادُ الناس سكرى أي شيءٍ قد دهاهم ... ما لهم يَحْنُون ظَهْرًا لم يَعُدْ للصمت معنًى ... قد رأيتُ الصمتَ وِزْرا مَلَّتِ الأسيافُ غِمدًا ... ترتجي الآسادُ ثأرًا إن حَيِينا بهَوانٍ ... كان جوف الأرض خَيْرًا يؤلم الأحرار سبٌّ ... لرسول اللهِ ظُهْرًا ويزيد الجرح أنَّا ... نكسب الآلامَ شَعْرًا فمتى نقذف نارًا ... تَدْحَرُ الأوغادَ دَحْرًا يا جموعَ الكفر مهلاً ... إن بعد العُسْر يُسْرَا يا نبيّ الله عُذرًا ... فلك الفضلُ وأكثرْ * * * يا نبيَّ الله عذرًا ... فبك العلياء تفخرْ يا رسول الله عذرًا ... ذلك الفضلُ وأكثَرْ يا نبيَّ الله عذرًا ... فبك العَلياء تفخَرْ إن نقضنا اليوم عهَدكْ ... فلنا الخزيُ وأحقَرْ

في سبيل الله نمضي ... إن جُند الله أصْبَر في سبيل الله نسعى ... لا نحيدُ ولا نُؤخَّر إِن عهد الله أبقى ... وحدودُ الله أكَبْر بتُّ في الحزن سهادي ... وأُذينُ القلَب يزأرْ قد منحتم للبرايا ... رحمةٌ بالهَدْي تُؤثر ولسانا جامعًا للـ ... خير كاللؤلؤ يُنثر وأزاهيرًا من النو ... ر ورَيْحانًا مُعَطَّرْ وطريقًا للخلاص ... إن وعاها الحُرُّ يظفَرْ وعهودًا من سلامٍ ... عاجلِ الخيرِ مُيسَّر وتواضعت فكُنتَ ... أسوة تُحكَى وتُعْبَر وتلقَّيْتَ قلوبًا صا ... ديةً بالكفرِ تَجهرْ تُضمرُ الحقد وتعدو ... في ابتغاء الظلم تَسْمَر فغدت في الحق نورًا ... في التماس الخير تسهو وتحمَّلَت خطوبًا ... يهوِي لها الصخر يُقهَو وأبيْتَ أن تكون ... داعيًا بالشرِّ يُنصَر فحباك اللهُ ذكرًا ... في الورى أندى وأعطرْ صِرْت في العَليَا سِرَاجًا ... إن نور الله أنْضَر كيف يأتي اليومَ عبدٌ ... جاهل لا ليس يُذْكَر يدَّعي من فَرطِ جهلٍ ... أن شمسَ الله تُخفَرْ

يبتغي بالبغي مُلكًا ... زائلاً كالجمر يُسعَر إنْ أُقيم الوزن يو ... م الدِّين يَخْسر كيف يزعُم أنَ نور الهدي وَهْـ ... ـمٌ أن عَهد الله أصغرْ يدَّعي السوءَ بسُكرِ ... من نبي الله يسخر؟! * * *

لا يضر القمر نباح الكلاب!

لا يَضَرُّ القَمَرَ نُبَاحُ الكِلاَب! قصيدة بمناسبةِ سخْريةِ (الدنمرك) الصليبيةِ بنبيِّا الكريم (محمد) - صلى الله عليه وسلم -، وما حصلَ بعد ذلك مِن مقاطعةِ المسلمين لبضائعِها. لعبد الكريم بن صالح الحميد نِعَالُ نَبيِّنَا -وَاللهِ- أغْلَى ... مِنَ الكُفارِ طُرًّا (¬1) أجْمَعِينَا وَمَا ضَر المُنِيرَ (¬2) نُباحُ كلبٍ ... وَلَوْ كُل الكِلاَبِ يُنابِحُونا أيَا عُمْيَ البَصَائِرِ لَوْ عَرَفْتُمْ ... نَبِيَّ الله مَعْرَفةً يَقِينا عَلِمْتُمْ أنَّكُمْ صُمٌّ وبُكْمُ ... لـ (إبليسَ) الفَعِينِ مُوَكَّلِينَا دَعَاكُمْ فاسْتَبَحْتم دُونَ خَوْفٍ ... مِنَ الجبَّار رَبِّ العَالَمِينَا تَطَاوَلتُمْ بشَركُّمُو عَلَيْنا ... ألاَ قُبْحًا لَكُمْ يَا مُجْرِمُونَا أخَيْر الخَلْقِ يَسْخَرُ فِيهِ عِلجٌ ... وَهَلْ يَدْرِي العُلُوجُ السَّاخِرُونا بِأن نَبِيَّنَا لا البَدْرُ يَزْهُو ... عَلَيْهِ بِحُسْنِهِ لَوْ يَعْلَمُونا (¬3) وَحُسْنُ الشَّمْسِ مُنكَسِفٌ إذَا مَا ... يُضَاهِي حُسْنَ سَيِّدِنا الأمِينَا (¬4) ¬

_ (¬1) طرًّا: كلهم. (¬2) المنير: القمر. (¬3) وقد وصفه البراء بن عازب - رضي الله عنه - كما في "صحيح البخاري" (رقم 3359) - بأنه (مثل القمر). (¬4) وقد وصفه جابر بن سمرة - رضي الله عنه - كما في "صحيح مسلم" (رقم 2344) - بأنه (مثل الشمس والقمر)؛ ووصفته الرُّبيِّع بنتُ مُعوذ - رضي الله عنها - بقولها لأبي عبيدة بن محمد بن عمار ابن ياسر حينما سألها عن صفة نبينا الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم -: "با بُني .. لو رأيته رأيت الشمس طالعة! " .. رواه الدارمي في "سننه" برقم (65)، والطبراني في "الكبير" (696)، =

أبَى الرحمنُ أنْ يعطِي كَفُورًا ... مُعادٍ رَبّهُ عَقْلاً رَزِينَا عواقبُ مكْركمْ أيقظتُمونا ... عَواقِبُ كيْدِكِمْ نَبَّهْتمُونا عَلِمْنا أنَّنَا فيكُمْ خُدِعنا ... فَبَهْرَجُكُمْ يَغُر النَّاظِرِينا وَمَا دُنياكُمُو إلاَّ غُرُورًا ... وَمَا دُنيَاكُمُو إلاَّ فُتُونا وَمَا عَجبِي مِنَ الكفارِ منْ هُمْ ... سِوَى الأنعَام بَلْ بالنَّصِّ دُونا (¬1) ولكنِّي عَجبتُ لِجَهْلَ قَوْمي ... وَكَيفَ رَضُوا بِذُل التَابعينا وسَارُوا خَلفَ أعجَامٍ طَغَامٍ ... فَصَارُوا تحتهُمْ فِي الأرْذَلِينَا عقوباتٌ مِنَ الدَّيانِ لَمَّا ... تَخَلَّيْنا عَنِ المَبْعُوثِ فِينَا وَلَمْ نرفعْ بهِ رأسًا عَلِيًّا ... وَلَمْ نَفخَرْ بِهِ فِي العَالَمِينَا وَلَمْ نجْعَلهُ قدوتَنَا وَنَمْضِي ... عَلَى آثَارِهِ صِدْقًا يقينَا نُجَاهِدُ كَافِرًا مِنْ أجْلِ دِينٍ ... وَلَيْسَ سِوَاهُ عِندَ الله دِينَا وَما صِدْقُ التديُّنِ بالتَّسَمِّي ... مُخَادَعةٌ تخر الجَاهِلينَا ¬

_ = و "الأوسط" (4458)، والبيهقي في "شعب الإيمان" برقم (1420) وغيرهم، وهذا بعض ما وصفته به أم معبد الخزاعية لمَا مر - صلى الله عليه وسلم - بخيمتها في هجرته إلى المدينة بأنه: "ظاهر الوضاءة، مليح الوجه، حَسَنَ الخَلْق، وسيم، قسيم، أكحل، حلو المنطق، إذا صمَت علاه الوقار، وإن تكلم علاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريب" .. أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (برقم 3605)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" برقم (3485)، واللالكائي في "اعتقاد أهل السنة" برقم (1437)، والحاكم في "مستدركه" برقم (4274) .. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد لم يخرجاه". (¬1) كما في قوله تبارك وتعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44].

وَمَا صِدْقُ التَّديُّنِ بالدَّعَاوِي ... إذا كُنَّا غُوَاةً مُذْنِبينا فَقَدْنا العِزَّ والشَّرَفَ المُعَلَّى ... لأنَّا لِلعُلُوجِ مُشَابهينا ضُرِبْنَا بالمَذِلَّة حُكْمُ عَدْلٍ ... لأنا للعَدُوِّ مُعَظِّمِينا عِبَادَ الله! .. قد صِرْنا بِحَالٍ ... -وَأَيْمُ اللهِ- سَرَّتْ شَامِتِينا أيكفي أن نقاطِعَ أكْلَ قومٍ ... وَنحنُ بِحَبلِهِمْ مَتَوَاصِلِينا أيكفي أنْ نقاطع شُرْبَ قَومٍ ... وَنحنُ بِهَدْيِهِمْ مُسْتَمْسِكِينا لسانُ العلجِ (¬1) فَخْرٌ أيُّ فخرٍ ... رَطَانَتُهُ مَطَالبَ طَالِبِينَا! عُلُومُ العَلجِ يَشرُف متقنوها ... عَليهَا العُرْبُ طرًّا عَاكِفُونا! وَمَا عِلمُ الصَّحابَةِ غَيرَ وَحْيٍ ... بِهِ كَانَ الأشاوسُ مُكْتفُونَا بِهِ كانَ الصحابةُ خَيْرَ قَرْنٍ ... وَخَيْرَ النَّاسِ بَعدَ المُرسَلِينا فَمَا طَلَبُوا بِهِ دُنيًا وإلاَّ ... لَكَانُوا فِي النَّوَايَا سَافِلِينا وَمَا طَلَبُوا بِهِ جَاهًا وَمَدحًا ... لِذَا صَارُوا هُدَاةً مُهْتَدِينا عبَادَ اللهِ! .. فِينَا مُوبِقَاتٌ ... فَتوبوا قَبْلَ مَا لاَ تَحْمَدونا فَلَوْ تُبْنَا إلَى الرَّحمنِ مِنْهَا ... وَسِرْنا حَذْوَ دَرْبِ الصَّادِقِينا وَجَدْنا مَا فَقَدْنا مِن رَشَادٍ ... وَصْرْنا بَعْدَ غَيٍّ رَاشِدِينا كِتَابُ اللهِ يَحكُمُ كُلَّ أمْرٍ ... لِنُنْزِلَ كَافِرًا فِي الأسْفَلينا نِعَالُ نَبِيِّنَا -واللهِ- أبهى ... وَأجْمَلُ مِنْ وُجُوهِ الكَافِرِينَا ويُسخَرُ بالرَّسُولِ ودِينِ ربِّي ... وَغَيْرَتنا نَكُونُ مُقَاطِعِينَا ¬

_ (¬1) لسان العلج، أي: لغته.

مُقَاطَعَةُ الكَفُورِ بَداءُ خيرٍ ... وَلَكِنْ لَيْسَ تكْفِي المُؤمِنِينَا فَأينَ الصِّدْقُ .. أينَ الخيْرُ فينَا ... لنَحْمى دينَنا منْ شَانئينَا؟! عَظِيمٌ سَبُّ أحَمَدَ عِنْدَ ربَي ... وَحَدُّ السَّبِّ قَتْل لاَ يَهُونا (¬1) فَكَمْ فَعلَ الظغَاةُ بنَا فِعَالًا ... يَنُوءُ بِحمْلِهَا طُورٌ بِسِينا أَلَيْسَ يُمَزِّقُ القُرَآنَ رِجْسٌ ... مِنَ الكُفَّارِ صَارُوا حَانِقِينَا .. .. عَلَى دِينٍ بفُرْقَانِ أَتَانا ... يُميِّزُ مُؤمنًا مِن كَافِرِينا كَلاَمُ الله يُلقى فِي المَجَارِي ... مَعَ الأقْذَارِ فعْلُ المُجْرِمِينَا! وَمَهْمَا يَفْعَلُ الأعدَاءُ فيهِ ... فَسَوفَ يَظَل مُحْتَرَمًا مَصُونَا! ألاَ تبًّا لِمَن يُلقِيَ وِدَادًا ... لأعداءِ الإلَهِ المُلحِدِينَا يُوَالِي مَن يُعَادِي دِينَ ربِّي ... ألاَ بُعدًا لِقَوْمٍ أرْذَلِينَا عِبَادَ الله! .. عَوْدًا تَحْمَدُوه ُ ... إلَى هَدْي الرَّسُولِ مُتَابِعِينَا نُعَظِّمُ دِينَهُ أمْرًا ونَهْيًا ... بِصِدق واتَبَاعٍ مُخْلِصِينَا نُقِيمُ حُدُودَهُ نَخشَى عَذَابًا ... يَجِيءُ بِلَيْلِنَا أوْ مُصْبِحِينَا فَفي هَذا نُدَافِعُ سُخْطَ رَبِي ... وَفِيهِ لِدِينِنَا نَصْر مُبِينَا مُقَاطَعَةُ الكَفُورِ بِشِرعْ رَبِي ... بَرَاءَةُ مُسْلِمٍ مِن كَافِرِينا عَدَاوَنُهُمْ مَدَى الأزمانِ حَتى ... يَدِينُوا لِلإلِهِ مُذَلِّلِينَا ¬

_ (¬1) انظر ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمة -رحمه الله- في كتابه النفيس الشهير "الصارم المسلول على شاتِم الرسول - صلى الله عليه وسلم -" وما ذكره من الأدلة وإجماع العلماء بأن مَن يسَب الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه يُقتل من غير استتابة.

خَلِيلُ اللهِ لَمْ يَرْضَ سِوَاهَا ... كَذَاكَ خَلِيلُ رَبِّ العَالَمِينَا (¬1) كَفَرْنَا بِالكَفُورِ وَقَدْ بَرِئْنَا ... إلَى الرحْمَنِ منْهُمْ أجْمَعِينَا وَنَهْجُرُ سُنَّة هُمْ سَالِكُوهَا ... وَنَحْمِي سُنَّةَ المَبْعُوث فِينَا فَمَا دِين سِوَى الإسْلامَ إلاَّ ... يَدِينُ ذَوُوهُ (إبلِيسَ) اللَّعِينَا وَمَا الإسلامُ اسمٌ وانتسَابٌ ... بِلاَ عَمَلٍ نَكُونُ مُحَقِّقِينا تَذكَّرْ غَزْوَتَيْ (أُحُد) (¬2) وَ (بَدْرٍ) (¬3) ... عِتَابُ الله نَالَ المُؤمِنِينَا تَذكَّرْ خَوْفَ (فارُوق) وَمَاذَا ... تخوَّفَهُ وَنَحْنُ الآمِنُوناَ! (¬4) فَوَاغَوْثَا .. أنأمَنُ بَعْدَ هَذا؟! ... وَنَحْنُ عَنِ الهُدَاةِ مُبَاعِدُونا فَيَا رَبَّاهُ، يَا مَنْ لاَ يُضَاهَى ... ولاَ مِثْلٌ لَهُ فِي العَالَمِينَا سَألنَاكَ انتصَارًا عَنْ قَرِيب ... لِدِينِكَ ربَنَا نصْرًا مُبِينا وَصَلَّى الله ربِّي مَعْ سَلاَمٍ ... على خَيْرِ البَرِيَّةِ أجْمَعِينا ¬

_ (¬1) الخليل في الشطر الأول هو النبي الكريم "إبراهيم"، وفي الشطر الثاني هو النبي الكريم "محمد"- صلى الله عليه وسلم - والذي بينه وبين أبيه إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وبين الكفار -ولا يرضون سواه- هو تحقيق قوله تعالى: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]. (¬2) وذلك في إدالة المشركين على المسلمين لمخالفة الرُّمَاة. (¬3) كما في قوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]، وذلك في شأن الأسرى يوم بدر، والحديث أخرجه بتمامه الإِمام أحمد في "مسنده" (208)، وإسناده صحيح. (¬4) عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنهما - قال: "دُعي (أمير المؤمنين) الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لجنازة، فخرج فيها أو يريدها، فتعلقت به فقلت: "اجلس يا أمير المؤمنين؛ فإنه من أولئك -يعني المنافقين"، فقال: "نشدتك بالله .. أنا منهم؟! "، قال: "لا ولا أبرئُ =

حبي لأحمد

حُبي لأحمد لسالم مبارك الفلق حبي لأحمد، لو حبيبُكَ في خَطَرْ ... يدعو لنصرتهِ فسارعْ للخَطَرْ عِرضي ووالدتي ونفسي كلنا ... نفديك بالأرواح يا خيرَ البشر يا خيرَ من وَطئت برجليْه الثرى ... يا صاحبَ النهر المكوثر والسِّيَرْ حنَّت لك الأحجار والغيثُ انهمَرْ ... سارْت لك الأشجارُ وانشق القمرْ دربٌ مشى فيها خبيبٌ راضيًا ... ومعوِّذٌ ومعاذٌ والحامي عمر أتُسَرُّ أنك قد نَجَوتَ مِن الأذى ... ومحمدٌ في ذا المكان على الأثر كلا ولا أرضى يُشاك بشوكةٍ ... وأنا أُصَفَّد في القيُودِ وفي الضرر انظر إلى أسَدِ الرسولِ وعمِّه ... من شاء كان الشِّبل من ذاك الذَّكر في هجرةِ المختارِ قلتُ قصيدتي ... لكنها جاءت على غير الوَطَرْ قامت قيامةُ معشر لمَّا رَأَوْا ... نورَ الإلهِ يسيرُ في بحر وبَر وَتشُنُ غارتٍ دويلةُ كافرٍ ... قد كَرَّها الصمتُ الذليلُ إذا انتشَر نطقت مربية المواشي والبَقر ... نطقت رُوْيبِضةُ النَّصارى والبَشَر شُلَّتْ يدُ الرسام شانِئِك الأشَر ... ورئيسِ تحرير الصحيفة في سَقَر ويلٌ لما اقترفت يداه وويلَهُ ... فاليوم تَلعَنَهُ الليالي والشجر ¬

_ = أحدًا بعدك" .. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 42): "رواه البزار ورجاله ثقات"، وأخرج ابن أبي شيبة نحو في "مصنفه" برقم (37390).

ومسلسلُ التشويهِ لا يخفى له ... أبعادُ في رحم الحضارة تستقر يُرْضون أعداءَ الرسول وُلاتُنا ... ورضا اليهود جريمةٌ لا تُغتفَر يتنعَّمون مُكرمين ولم يَرَوْا ... أنَ الأمين يُهانُ في كلِّ الصُّوَر نِعم الذي سَحَبَ السفيرُ لداره ... يا خادم الحرمين أعلنها شرر بيِّن لعبَّاد الكراسي أنها ... حربُ الصليب تعودُ تقتضي الحَذَر يا حَسرَتاه عَلى العباد يهمها ... زار الرئيسُ وقد تكلمَ أو ظهر ناحت منابرُنا وبُحَّ دُعاتُها ... والليلُ يعبَسُ والنَّهارُ قد انْفَطَر ثارت بقايا نخوةٍ قذفت به ... في وجه طاغوتٍ تكبَّر واعتذَر وتَصُبُّ لعنتَها على الزمن الذي ... رَجَعَ الأُباةَ جُباةَ ليس لهم نظر وسمعت أناتُ القلوب حبيبها ... ودعوت يا أحرارُ يا مَنْ لا يفر أوَ يهزؤون به ليعتذروا لنا ... رُبَّ اعتذار كان لا يُغْنِي وطر عرضوا الكفالة لا كفالة تقبل ... عِرض الرسول فلا يدانيه قدر من ذا يردُّ الظلمَ عنك أَزَفْرَةٌ .... أم دمعةٌ أم دعوةٌ عند السَّحَر لم يبق من صبرٍ لديَّ لما أرى .... حتى نَثَرْتُ وقلتُ شِعرًا كالدرر ويلٌ لقلبٍ لم يغير ما رأى ... من منكرٍ ويكاد يشملُ من صبر * * *

عائدون يا رسول الله

عائدون يا رسول الله لعمر طرافي البوسعاديُّ أيُّ رُمْحٍ رَمَوْهُ جهْرًا نهارا؟ ... يحمل الإفك في السِّنان شِعارا؟ طعنوا المسلمين في صُلبِ دينٍ ... عبثًا بالرسول واستهتارا نقرأُ الحقدَ لا سواه ونرثي ... ذُلَّنا لا يَزيدُ إلاَّ انكسارا يُشتم الشافعُ المشفَّعُ فينا ... ثم نجثُو على الصعيدِ حيارى كيف نغدُو الحياةُ بعد إنبطاح ... مَرَّغَ الأنف في التراب شَنارَا؟! نُصرةُ الدين فوق كلَّ هواء ... في رئاتِ المليارِ يَسري مِرارا أخرسَ الوَهَنُ أمَّةَ الخير لمَّا ... نَخَرَ الصَدُّ عظمَها فتوارى كالحلازين رَخْوةً صَيَّروها ... جرَّدوها لتلبسَ الأخطارا أعرضتْ عن كتاب ربي فنالتْ ... من جزاء الفِعال خِزيًا وعارا كيف تَقْوى على القَصَاصِ بَرْدعٍ ... وهي تخطو بِمَنْسِمَينِ عِثارا؟! كيف ترضى رسولَها في هوان ... في رُسومٍ حقيرةٍ تتبارَى حول جاهٍ وعالميةِ صِيتٍ ... وفلوسٍ تضفي لها استكبارا؟! حسبُنا الشتمُ بالكلام سبَابًا ... في خطاب مزخرفٍ أَشْعارَا حسبُنا الشَّجْبُ والتظاهرُ سَلمًا ... والصراخُ المُولوِلُ استنكارا إنما يَقْظةُ الشعوبِ بحُبٍّ ... عارمٍ للرسولِ يُجلِي السِّتَارا باقتداء واهتداء وسعْي ... نحو خَطوِ الدليلِ ليلاً نهارا عندها يلتقي المُحيط فَروحًا ... بالخليج السعيد رتقًا جوارا

ويرى "الدانمركُ" كم كان أغبى ... ما بني هَدَّموهُ .. صَار قِفارا! ويعود "النرويج" يبكي على ما ... فات .. هل نقبل الإعتذارا؟ تتوالى هزائمُ الغرب تترى ... ويحَها لم تطِق علينا اقتدارا لم تَعُدْ أُمةُ الحبيب كما كانت ... بذلٌ فقد نفضنا الغبارا أصبحتْ باتباع أحمد حِصْنا ... من صَياصي الهدى بَنَتْ أسوارا خفقتْ رايةُ الإلهِ بتوحيدٍ ... ترفرِفُ ينتشي الإنتصارا كلُّنا للفداء نمضي أسودًا ... -لك يا أكرمَ الأنام- هُصَارى إننا عائدون لله بُشْرى ... لفلسطين والعراق بشارا هكذا نصنعُ الحياةَ شُموسًا ... من فَتيل الرُّسوم صرنا مَنَارا مَكَروا بالرسولِ والمَكْرُ سُمٌّ ... يقتل الماكرين هُودًا نصارى آيةُ المَكرَ في الكتاب دليل ... تصدقُ القول فافتحوا الأبصارا يا هنانا بالحبيب لمَّا يرانا ... قد رفعنا لواءَهُ أنصارا وهنانا برِفقةٍ منه لمَّا ... نلتقي في الجنان صُحْبًا جوارَا (1) * * *

عاد محمد - صلى الله عليه وسلم -

عاد محمد - صلى الله عليه وسلم - عمر طرافِيُّ البوسعادي أَيسْخَرُ كَفُّ الليل بالنورِ هازئًا ... ويضحكُ في سُخْفٍ صليبٌ وغَرْقَدُ أَيُشْتَمُ مشكاةُ النبوةِ والهُدَى ... وفي عِرْقِنا نبضٌ تلألأ يُوقَدُ أتَرْسُمُ أَيْدٍ حاقداتٌ رسولَنا ... لها في ذيوع الشر والكفر مَقْصِدُ تطاول عشاق الدنية فامتطَوا ... صحيفة خُبث في السخافة تفندُ!! أباحُوا حِمى الإسلام بالإفك جهْرة ً ... على المصطفى عبثًا أساؤوا وأفسَدُوا وما يرعوي الأوغاد إِنْ صِحْتُ باكيًا ... على الفَعْلةِ النَّكْرَا تنزَّه أحمدُ وما تنتهي الأحقاد ذاكم دفينُهم ... تجلَّى على مرأى العوالِم يَشْهَدُ تصدَّع كل الكونِ من خَطبِ راسمٍ ... دَعِيٍّ سفيه للحصافة يَفْقِدُ تئنُ مَجَرَاتُ الفضاءِ تَقَطُّعًا ... وتنتحب الذرَّاتُ والقلبُ أَكمَدُ ويشتعلُ البركان من حرِّ غَضْبَةٍ ... وينهارُ الطوفانُ يُرْغِي ويُزبِدُ وتنتفض الحيتان في البحر ريثما ... قِصاصٌ يَردَّ العزَّ يُحيي ويُنجدُ ألا ليتَ شعري كم تُعدُّ جسومُنا ... فنعْجِزُ كالموتورِ في الردع يَزْهَد أم الغفلةُ الصماءُ طابَ وِسادُها ... على أعذبِ الأحلام نَغْفُو ونَرْقُدُ لَعمري هو الإسلام نعرف نهجَه ... ولكننا نأبَى السلالمَ نصعدُ وما الرفضُ رفضٌ للعقيدةِ إنما ... كُسَالى إلى الأهواءِ نسعى ونَحفِدُ فمن ذا الذي يأبى السعادة غايةً ... وكل المنى فيها تهيم وتسعدُ ولكن جنانَ الله صعبُ منالها ... غَلَتْ سلعةٌ تُشترَى كذا قال أحمدُ

هي الصحوة العصماء نورٌ بوهجها ... تسيرُ على نهجِ الحبيبِ وترشدُ إذا لم تكن منا ففي نسلنا الذي ... سَنُشْبِعُه من حُب "طه" ونَعْهَدُ سنغرسُ هذا الحبَّ في كلِّ أسرةٍ ... منارةَ إسلامٍ علينا تُشيَّد ويصبح مولودُ العيَايِل راضِعًا ... معينَ الهدى قد صار بالدين يعضدُ وينمو هِزبرًا بين كَتفَيْه لِبْدَةٌ ... يُرَصِّع يمناه الحسامُ المهنَّدُ ويحمل قلباً لا مثيل لعطفه ... صفاءً وَوُدًّا لا يكيد وَيْحقِدُ وترجِع أسرابُ الطيور بِنَغْمها ... مُغَرِّدَةً أحلى التراتيلِ تَنْشُدُ وتنفقُ الأكمامُ وَرْدًا مُعَطّرًا ... يضوع أِريجًا في المساجدِ يَنفدُ فيا أيها الغربُ الغريرُ تمردًا ... على أمة الإسلام تمضي تُهدِّدُ كفاك الغرورَ قد دنوتَ بسفرةٍ ... إلى الموت قد أغواك هذا التَعَنُّدُ إذا لم تتب هذا المصيرُ مصيرُكم ... ترابٌ يواري سوءةَ الغرب مُلحِدُ ويا أمتي هذا خلاصكِ فالزمي ... سفينةَ نوحٍ قادها الحِبُّ أحمدُ بشائِرُكِ الكبرى تلوح من السما ... على الشفقِ الورديِّ: "عاد محمَّدُ" (1) * * *

عذرا رسول الهدي

عذرًا رسول الهدي لعبد الله بن غالب الحميري (¬1) كفْرٌ تَتَفَّس عنه الغَرْبُ لا كانا ... تكادُ تَنْهَدُّ منه الأرضُ أركانَا وقبحُ وجه أزاحُوا عن صَفَاقَتِه ... زيفَ السِّتارِ فبان اليومَ عُرْيانا شُلَّتْ يداهُ بما خَطَّتْ وما رَسَمَت ... في حَق أكرم خلقِ الله إنسانَا وقُبِّحَت أُمةٌ فاهت صحافتُها ... بالنَّيلِ من شخصه المعصومُ عدوانا بَنِي العقيدةِ لا كانت مواقِفُكم ... حتى تُفَجِّر نحو الغرب بُركانا ولا اسْتَقَر لنا عَيْشٌ ولا اكتَحَلتْ ... بالنوم عينٌ إذا ما جانِبٌ لانا أيُزْدَرَى برسول الله بينَكمُ ... جَهْرًا ويُمْتَهَن القرآنُ إِعْلانَا ويُشْتَمُ الله في وَضْحِ النَّهارِ فلا ... تثورُ ثائِرةٌ منَّا لمولانا ورغم ذلك نستبقي مَودتَهم ... ونجتبي سلعَ الكفارِ أطنانا هيا انهضوا أمةَ التوحيدِ وانتصروا ... لله واتَّحِدوا في الدين إخوانا واسْمِعُوا "دنمركا" في وقاحَتِها ... ما يَرْدع الكافرَ الموتورَ أزمانَا حتى تُدينَ كلابُ الغرب فعلتَها ... ويُذْعِن الصاغرُ المأفونُ إِذْعَانَا إِلاَّ نغارُ على عِرْض الرسول فهلْ ... نرجوا الشفاعةَ يومَ الحَشْر مَجَّانا ومن أبى وادعى منا محبَّتَهُ ... فإنه مُدَّع زُورًا وبهتانا ماذا نُؤَمِّلُ من قومٍ عداوتُهم ... معلومةٌ قد بَدَتْ سِرًّا وِإعلانا ¬

_ (¬1) اليمن- إب- 27/ 12/ 1426 هـ.

وما اتخاذهِم الإسلامَ مَسخَرَةً ... إلاَّ على ما حكاهُ اللهُ برهانا إن العلاقةَ لا تُبنَى مُجَرَّدةً ... من الثوابت في شيء وإِنْ هَانَا فلا تسامحَ إن مُسَّت عقيدتُنا ... أو اقتضى الأمرُ إيمانًا وكفْرَانا عذرًا رسولَ الهدى المختارَ إنْ وَهَنَتْ ... منا العزائم شُبَّانًا وشِيبانا فلم يَعُد يَرْهَبُ الأعداءُ صولَتَنا ... وما أقامُوا لنا وَزْنًا ولاَ شَانا ولوا أطعناكَ ما هُنَّا وما اجْتَرَؤُوا ... على مَقامِك أوْ كانَ الذي كانا لكِنْ عصيناكَ فِي جُلِّ الأمورِ فلم ... نُفْلِحْ بشيء ولا حُلَّتْ قَضَايانا عذرًا: فداكَ رسولَ الله أنفسُنا ... وما ملكناه أرواحًا وأبدانا عذرًا: فداك خليل الله كُل أب ... وكُل أم بما أسْدَيْتَ عرفانا فدًى لك الأهلُ والأبناءُ قاطبةً ... وسائرُ الناس عُجْمَانًا وعربانا فداك كُل كفور في الدُّنا عَميت ... عيناهُ عنك وقد أُرْسِلت تبيانا فداك كل يهود والدنا معها ... وأمة ألَّهَتْ في الأرض صُلبانا فدَى ترابِ نعالٍ كنت تلبَسُهَا ... عند الأذى أمةُ -الدنمرك- قُرْبَانا حاشاك حاشاك يا خيرَ الورى رُتبًا ... مما رَمَوْك به ظلمًا وعدوانا وأنتَ اكرمُ من يمشي على قدمٍ ... وأرْجَحُ الرُّسلِ عند الله مِيزانا وأطهرُ الخَلق من عيب ومن دَنَسٍ ... وإن شانِئَك المبتورُ لا كانا * * *

قصيدة

قصيدة حُفِظَتْ بِكَ الأخلاقُ بعدَ ضَيَاعها ... وتسامَقَتْ في روضِها الأشجار وبُعِثتَ للثَّقَلَيْن بعثةَ سيِّدٍ ... صَدَقَتْ به وبدينه الأخبارُ أصْغَتْ إليك الجِنُّ وانبهرتْ بماَ ... تتلو، وعَمَّ قلوبَها استبشارُ يا خيرَ من وَطِئ الثرى وَتشَرَّفَتْ ... بمسيره الكُثبانُ والأحجارُ يا من تتوقُ إلى مَحَاسِنِ وَجْهِهِ ... شمس ويفْرحُ أنْ يَرَاه نَهارُ بأبي وأمِّي أنتَ حين تَشَرَّفَتْ ... بك هجرة وتَشَرَّفَ الأنصارُ أنْشَأتَ مدرسةَ النبوَّةِ فاسْتَقَى ... من عِلمِها ويقينِها الأبرارُ هي للعلوم قديمِها وحديثِها ... ولِمَنهجِ الدينِ الحنيف منارُ لله دَرُّك مُرْشِدًا ومُعَلِّمًا ... شَرُفَتْ به وبعلمِهَ الآثارُ ربَّيْتَ فيها من رِجالك ثُلَّة ... بالحقِّ طافوا في البلاد ودارُوا قومٌ إذا دعت المطامعُ أغلقوا ... فمها، وإن دعت المكارم طَارُوا إِنْ واجهوا ظلمًا رموه بعدلهم ... وإذا رأوا ليلَ الضلال أنارُوا قد كنت قرآنا يسير أمامَهم ... وبك اقْتَدوْا فأضاءَتِ الأفكارُ عَمَرُوا القلوبَ كما عَمَرْتَ، فما مَضَوْا ... إِلاَّ وأفئدةُ العبادِ عَمَارُ لو أطلق الكونُ الفسيحُ لسانَه ... لَسَرتْ إليك بمدْحِه الأشعارُ لو قيل: مَنْ خيرُ العبادِ، لردَّدتْ ... أصواتُ مَن سَمِعوا: هو المختارُ لِمَ لا تكون؟ وأنتَ أفضل مرسَلِ ... وأعزُّ من رَسَمُوا الطريق وسَارُوا ما أنت إلا الشمسُ يملأ نورُها ... آفاقنا، مهما أُثِيرَ غُبارُ

ما أنت إلا أحمدُ المحمودُ في ... كل الأمور، بذاك يشهد غارُ والكعبةُ الغرَّاءُ تشهدُ مثلَما ... شَهِد المقامُ وركنُها والدار يا خيرَ من صلى وصامَ وخيرَ من ... قاد الحجيجَ وخيرَ من يَشْتَارُ سقطتْ مكانةُ شاتِمٍ، وجزاؤُه ... إن لم يتب مما جَنَاهُ النَّارُ لكأنني بخطاه تأكلُ بَعضَها ... وَهَنًا، وقد ثَقُلَتْ بها الأوزار ما نالَ منك منافقٌ أو كافرٌ ... بل منه نالت ذِلَّةٌ وصَغَارُ حَلَّقْتَ في الأُفُقِ البعيدِ، فلا يدٌ ... وصلتْ إليك، ولا فمٌ مهذار وسَكَنْتَ في الفردوس سُكْنَى من به ... وبدينه يتكفَّل القهَّار أعلاكَ ربُّك هِمَّةً ومكانةً ... فَلَكَ السُّمُوُّ وللحَسودِ بَوَارُ إنَّا ليؤلِمُنا تطاولُ كافرٍ ... ملأتْ مشاربَ نفسِه الأقذارُ ويزيدُنا أَلَمًا تخاذلُ أُمَّة ... يشكو اندحارَ غثائِها المليارُ وقفتْ على بابِ الخضوع، أمامَها ... وهنُ القلوبِ، وخْلفَها الكُفارُ يا ليتها صانت محارِمَ دينها ... من قبل أن يتحرك الإعْصَارُ يا خيرَ من وَطِئَ الثرى، في عصرِنا ... جيشُ الرذِيلةِ والهوى جَرَّارُ في عصرنا احتدم الحيطُ ولمْ يَزَلْ ... متخبِّطًا في مَوجِه البَحَّارُ جَمحتْ عقولُ الناسِ، طاشَ بها الهوى ... ومن الهوى تتسرَّبُ الأخطارُ أنتَ البشيرُ لهم، وأنت نذيرُهم ... نِعم البِشارةُ منك والإِنذار لكنهم بهوى النفوس تَشَرَّبُوا ... فأصابهم غَبَشُ الظُّنونِ وحَارُوا صَبَغوا الحضارةَ بالرذيلةِ فالتَقَى ... بالذئبِ فيها الثَّعْلبُ المَكَّارُ

في نصرة خير البرية - صلى الله عليه وسلم -

في نُصرة خير البرية - صلى الله عليه وسلم - ليعقوب بن مطر العتيبي ما عَلى البدرِ حينَ عَمَّ ضِياهُ ... أن يُضِلَّ الحَقودَ عنه عَمَاهُ والمحيطُ العظيمُ ماذا عليهِ ... مِن سَفيه إذا السَّفيه رمَاهُ أيَّها الشانؤونَ خيرَ رسولٍ ... كُلُّنا -أيُّها البُغاةُ- فِدَاهُ هَلْ جَهِلتُم مقامَهُ إذْ شَتَمْتم ... فاسألوا الكونَ عن عظيم عُلاهُ جاءَ بالحقِّ مَنهَجًا وصِراطًا ... ضَلَّ مَن يهتدي بغير هُداهُ جاءَ والخَلقُ في الضَّلالَةِ شَتى ... في سَحيقٍ من الغِوايةِ تَاهُوا عَمَّ كفرٌ وفِتنةٌ وفسادٌ ... وأُهِينَت لأجلِ صَخْرٍ جِبَاهُ سَيِّد القومِ مَن يَطوف بِلات ... و (مَناةٌ) إلهُهُ ومُنَاه يدفِن البنت حيةً ويُوَليِّ ... نحو سَاقٍ من المُدام سَقاهُ سَادَ في الرومِ قيصَرٌ مُستَبِدٌّ ... وعلى الفرسِ قد تغَطرَسَ شَاهُ بينَما الناسُ سَادرون بِغَي ... قد غَشاهُم من الضَّلال دُجَاهُ أشْرَقَ الصبحُ من فؤادِ حِراءٍ ... شَعَّ في الكون نورُهُ وسَنَاهُ أيُ نُعْمَى على البَرِيَّة حَلَّت ... أيُّ جِيلٍ من الهُداةِ بَنَاهُ أي عَدْلٍ كعدلِهِ وصِفاتٍ ... أيُّ دِينٍ كدينِهِ وتُقَاهُ وحديث عن الرسول مَشوقٍ ... أطربَ الكونَ، والزمانُ رَوَاهُ عن عظيمٍ إلى البريَّة أسدى ... أعظمَ النَّفْع لو أَجَابُوا نِداهُ وكريمٍ به المكارمُ تزهو ... فاسألِ الغيثَ عن عَظيم نَدَاهُ

خَلَّدَ اللهُ ذكرَهُ وتَوَلَّى ... حِفظَهُ ذو الجَلالِ ثُمَ حَماهُ أرْهَقَ الشوقُ أنْفسًا تَتَمَنَّى ... لو أُعِيدَت إلى زمانٍ حَوَاهُ وتَتُوق القلوبُ نحوَ حَبيبٍ ... لا تَقَر العُيونُ حتى تَرَاهُ يا مُحِبَّ الحَبيبِ أبْشِرْ بخيرٍ ... حِين يَشْقى لدى الحِسابِ عِدَاهُ تَبَّ غاوٍ على الرسول تَجَنَّى ... ورَجائي بأن تُشَل يَداهُ ضَجَّت الأرضُ من دَعاوَى غبيٍّ ... يَهتكُ السِّتْرَ عن قبيحِ هَواهُ يا عَبيدَ الصَّليبِ أين عُقولٌ ... ثَلّثَتْ واحِدًا، تعالى الإلهُ المَسيحُ الكريمُ مِنكُم بَراءٌ ... كيفَ يرضَى بمَن يسُبُّ أخاهُ وهْوَ مَن بَشَّر الدُّنا بنَبيٍّ ... اسْمُهُ (أحمدٌ) بعَهْدٍ تَلاهُ أمَّةَ الغَربِ أين دَعوى احترامٍ ... و (ضَمانُ الحقوق) ماذا دَهَاهُ هل سَقطنا من (الخريطةِ) حتى ... تَنْطِقَ الزُّورَ ألسُنٌ وشِفَاهُ إن فينا -وإن تخاذلَ قومٌ - ... وَثبَة الليثِ إذ يُباحُ حِماهُ يُوشِكُ الفَجْرُ أن يَمُنَّ بوَصْلٍ ... حينَمَا يبلغُ الظلامُ مَدَاهُ واسْوِدادُ الأسَى يعُودُ بَياضًا ... إنْ يَكن ضَاقَ بالفُؤَادِ شَجَاه لن تَنالوا من الرسولِ وَربِّي ... كَيفَ واللهُ حَسْبُهُ وَكَفاهُ * * *

نصر المختار ودحر الفجار!

نَصْرُ المُخْتار ودَحْرُ الفُجَّار! يوسف مسعود قطب حبيب (¬1) نَبحتْ شرَارُ الخَلقِ تَقذِفُ بالتُّهَمْ ... لِتَعِيبَ مَنْ أرْسَى المَبادِئَ والقِيَمْ أيْنَ النُّباحُ وإن تَكاثرَ أهْلُهُ ... مِنْ نَيْلِ بَدْرٍ قدْ سَما فوْقَ القِمَمُ أو نَيْلِ نَجْمٍ ساطِعٍ يَهْدِي الوَرَى ... سَعِدَتْ به وَبنُوره كُلُّ الأمَمْ جَادَ الكَريمُ بهِ بأعْظَم نِعْمَة ... فَتَحَ القُلوبَ بهِ وأحْيا مِنْ عَدَمْ قدْ تَمَّمَ الأخْلاقَ بَعْدَ ضَياعها ... وشَفَى العَلِيلَ مِن الوَساوِسِ والسَّقمْ بالعَدْلِ وَالإحْسان قامَتْ شِرْعَةٌ ... والفُحْشُ والبَغْيُ البَغيضُ قد انْهَدَمْ فَغَدا ظَلامُ الكَوْنِ صُبْحًا مُشْرِقًا ... لمَّا اسْتَضاءَ بنْورِ أحْمَدَ وابتَسَمْ سَحَّاءُ كَفُّ مُحَمَّدٍ بعَطائِها ... كالغَيْثِ عِنْدَ عُمُومِهِ لا بَلْ أعَمْ مَنْ ذا يُطاوِلُ رَحْمَةً فِي قلبهِ ... مَنْ ذا يُبارِي في السَّماحَةِ والكَرَمْ؟ فَلتسألِ الثقلَيْنِ عَنْ أخلاقهِ ... بَلْ سائِلِ الطير المُحَلِّقَ بالقمَمْ مَنْ صاحَ بالأصحاب رُدُّوا فرْخَه ... كليْ يَسْعَدَ العُشُّ الحزينُ وَيَلتَئِمْ بَلْ سائِلِ الجَمَلَ البَهِيَمَ إذِ اشْتَكَى ... لِمُحَمَّد بدمُوعِهِ مُرَّ الألَمْ فوَعَى الخِطابَ وقامَ يُعْلنُ غاضِبًا ... لا يَرْحَمُ الرحمنُ إلا مَن رَحِمْ وَعَفا عَنِ الخَصْم اللَّدودِ وَسَيْفُهُ ... بيَمِينِهِ وَالخَصْمُ قدْ ألقى السَّلَمْ هَلاَّ رَأيتمْ مِثلَ عَفْوِ محمدٍ ... عَنْ أهلِ مكة عَبرَ تاريخ الأمَمْ؟ ¬

_ (¬1) الدوحة 7/ 1/ 1427 هـ.

يا جاحِدًا لِلحَقِّ هل بدِيارِكُمْ ... لم يَبْقَ ذِكْرٌ للعَدالةِ أو عَلمْ؟ هلاَّ أقمْتَ لِما افتَرْيتَ دَليلهُ ... إنَّ الدَّليلَ لِكُلِّ قوْلٍ يُلتَزَمْ هَلْ يَقتُلُ المُخْتارُ شَيْخًا فانِيًا ... هَلْ يَقبَلُ المُخْتارُ نَقضًا لِلذِّمَمْ؟ هَلْ مَثَّلَ المختارُ أن قتَلَ النِّسا ... هَلْ أهْلكَ المُخْتارُ شَعبًا وانتقمْ؟ فَهُوَ الطَّبيبُ بحَربْه وبسِلمِهِ ... يَجْتَثُّ أسْبابَ الشِّكَايَةِ والسَّقمْ فيُزيلُ أنظمةً تُجَرِّع شَعْبَها ... كَأسَ المَذلةِ والعِبادَةِ لِلصَّنَمْ كَيْ يُشْرِقَ التوْحِيدُ فِي أرْجائِها ... ولِيَشْكُرَ المَخْلوقُ مَنْ أسْدَى النِّعَمْ هذا جهادُ نَبيِّنَا وَمُرَادُهُ ... فاذْكُرْ مَقاصِدَ حَرْبكُمْ كُلَّ الأمَمْ ولتَسْألِ (البوسْنا) تُجِبْكَ نِساؤها ... الثَكْلى وَقبْرٌ جامِعٌ وبحارُ دَمْ بَلْ سائلِ (الشِّيشانَ) مَنْ أوْرَى ... بها نارًا أحَاطتْ بالسِّهولِ وبالقِمَمْ؟ والمسجدُ الأقصى يَئنُّ بجُرْحِه ... بَيْنَ الجماجم سائلاً أينَ القِيَمْ؟ مَنْ أجَّجَ الحَرْبَيْنِ فتكًا بالوَرَى ... أمُحَمَّدٌ أمْ هُمْ أساطِينُ العَجَمْ؟ فاسْأل (هِيروشيما) أو أسألْ أخْتَها ... لَمْ يَنْجُ مِنْ إنْسٍ ولا صَخْرٍ أصَمْ فَهَلِ الدفاعُ عَنِ الحقوقِ جريمةٌ ... والظلمُ والعُدوانُ حقٌّ يُحتَرَمْ؟! * * * يا جَاحِدًا للحقِّ رَغْمَ وُضُوحِهِ ... أبأرْضِكُمْ زمنُ العُقولِ قدِ انصَرَمْ؟ هلاَّ تُقارِنُ بَينَ هَدْيِ مُحمدٍ ... ونُصوصِ أسَفارِ الضَّلالةِ عِنَدكُمْ؟ هلاَّ بَصُرْتُمْ نُورَهُ بَدَلَ العَمَى ... هلا سَمِعْتُمْ قولهُ بَدَلَ الصَّمَمْ؟؟ هَلاَّ لآيات الكتاب عقلتمُ ... هِيَ لِلفَلاحِ صِرَاطُهُ الحَقُّ الأتَمْ

قدْ فاقَ كلَّ المعجزاتِ بهَدْيهِ ... وبنُظمِهِ وحقائقٍ تهْدِي الأممْ يسَلِّمْ أوِ ائْتِ بمِثلهِ أو بَعضِه ... واجْمَعْ شُهُودَكَ ما تَشاءُ مَعَ الحَكَمْ فإذا عَجزْتَ وإنَّ ذلِكَ واقِعٌ ... فَاحْذرْ سَعيرًا فِي مَالِك تَضْطرِمْ واحْذرْ قوارِعَ الطُّغاةِ تتابَعَتْ ... مِنْ عِندِ جَبَّارٍ قوِيٍّ مُنتَقِمْ واسْألْ أبا لَهَبٍ بَلِ اسألْ زَوْجَهُ ... كَيفَ العذابُ بمَنْ بغى وَبمَنْ ظَلمْ؟ واذْكُرْ أبا جهلٍ أو اذكرْ صحبَهُ ... وَقلِيبَ بَدْرٍ قدْ طَوَى تِلكَ الرِّمَمْ * * * لَمَّا وَهَى قوْمِي لِحُبِّ لُعَاعَةٍ ... مِنْ طَيْفِ عَيْشٍ عَنْ قريب يَنْصَرِمْ طَمِعَ الذِّئابُ بعِرْضِنا فَاسْتَأسَدُوا ... وَتَطاوَلَ القِزْمُ الحَقِير عَلى القِمَمْ مَن لِي بسيف اللهِ فِي أصْحابِهِ ... مَن لِي بسَعْد أو بسَيْفِ المُعْتَصِمْ لِيثوبَ جَمع المارِقينَ لِرُشْدِهِمْ ... وَتَلُوذَ أفواهُ السَّفاهة بالبَكَمْ وَتُقبِّلُ الأيْدي كَما قدْ قبَّلَتْ ... قدَمَ الجُدُودِ زَمانَ عِزٍّ مُنْصَرِمْ يا أُمَّتِي هَيَّا انْهَضِي فَعَدُونا ... مُتَرَبِّصٌ وَعُيوُنه لا لَمْ تَنَمْ سِيرِي عَلى هَدْي الرَّسولِ وَصَحْبه ... مَن لازَمَ الهَدْيَ القوِيمَ فقدْ غَنِمْ وَخُذي عَلى أيْدِي السَّفيهِ وَأعْلِني ... مَنْ يسَبَّ أحمدَ يا طُغاةُ فقدْ قَصِمْ * * * فَابْعَثْ إلهَ العالَمينَ لأمَّتِي ... رَجُلاً سدِينِكَ قائِمًا يُعْلِي الهمَمْ كَيْ يَجْمَعَ الصَّفَّ الشَّتِيتَ عَلى الهُدَى ... ويُعِيدَ صَرْحًا لِلكَرامَةِ قدْ هُدِمْ وَاجْعَلْ صَلاتَكَ وَالسلامَ عَلى النَّبي ... ما لاحَ صُبْحٌ أوْ تَشابَكِتِ الظُّلمْ

هذا رسول الله .. كيف يسب؟!

وَكَذا عَلى الآلِ الكِرام وَصَحْبه ... ما طارَ طَيْر فَوْقَ غُصْنٍ أوْ عَلمْ وابْعَثهُ يَوْمَ العَرْض حَيْث وَعَدتَّهُ ... بمَقامِهِ المَحْمودِ مَنْ كل الأمَمْ هذا رسولُ اللهِ .. كيف يُسَبُّ؟! حسن علي النَّجَّار (¬1) هذا رسولُ اللهِ .. كيف يُسَبُّ؟! ... بل كيف يُعلِنُها خسيسٌ كلبُ؟! هذا رسولُ الله .. كيف تجرؤوا؟! ... ويلٌ لهم .. وصواعقٌ تَنْصَبُّ * * * ثُوري براكينًا .. أسودَ محمدٍ ... ثوري جحيمًا غاضبًا لا يخبو ثوري .. فليس هناك صبر دقيقةٍ ... نَفَدَ انتظار الثائرين .. فهبوا * * * رسموا رسولَ اللهِ أقبحَ صورةٍ ... تبَّتْ أيادي الحاقدين وتبُّوا "حرية": قالوا .. أيُلعَبُ بِاللَّظى؟! ... علَّ اللَّظَى بديارهم تَنْشَبُّ دِنِمَرْك .. لا عُذْرًا .. ولا تَتَأسَّفِي ... قَدْ فَات .. فَاتَ الوَقْتُ هَذَا صَعْبُ لا عفوَ .. إن عُقولكُمْ بَقَرِيَّةٌ ... جَفَّتْ ضُروعُ عُقولِكُمْ .. لا حَلْبُ * * * هَا نَحْن أمَّة أحْمدٍ .. لا نَنْحَنِي ... ورُؤُسئنا لا تِعْتِليهَا سُحْبُ ¬

_ (¬1) الإمارات العربية المتحدة- 4.35 صباحًا- 12/ 2/ 2506 م.

هو الرحمة المهداة

عنواننا: اسْتِعْلاءُ أعْظم منْهَجٍ ... والعِزُّ مَنْبَعُهُ .. ونِعْمَ الشِّرْبُ ورَسُولُنَا الأعْلى .. وشَمْسُ حَياتِنَا ... وبِذِكْرِ أحْمَدَكَمْ تَرنَّمَ صَبُّ * * * دِنِمَرْكُ أنتِ أثرْتِ جَمْرًا .. فَابْلَعِي ... جَمْرًا ومُوتِي .. لَنْ يُفِيدَ النَّدْبُ دِنِمَرْكُ .. صَمْتًا رَغْمَ أنْفِكِ .. واعْلَمِي ... هَذا رَسُولُ اللهِ .. كيْفَ يُسبُّ؟! هُوَ الرَّحْمَةُ المُهْداةُ الدكتور/جمال بن صالح الجار الله (¬1) مَقَامُكَ مِنْ كُل المَقَامَاتِ أرْفَعُ ... وسَيْفُكَ مِنْ كُلِّ الصَّوَارِم أقْطَعُ وَوَجْهُكَ نُورٌ والسَّجَايَا حَمِيدَةٌ ... وقَوْلُكَ في كُل المَيَادِينِ أوْقَعُ شَمَائِلُكَ المَعْرُوفُ والحِلمُ والتُّقَى ... وَأخْلاقُكَ القُرآنُ أصْل وأفْرعٌ مَحَجَّتكَ البَيْضَاءُ هَدْيٌ وَرَحْمَةٌ ... وَما زَاغَ إلاَّ هَالكٌ .. يَتَلَعْلعُ لِوَاؤُكَ مَعْقُودٌ عَلَى العَزْم والمَضَا ... وحَوْضُكَ مَوْرُودٌ فَطُوبَى لمنْ دُعُوا ويَا بُؤْسَ مَنْ ذِيدُوا عَنِ الحَوْضَ يَوْمَهَا ... وقِيلَ لَهُمْ بَعْدًا فَلا ثَمَّ مَوْضِعُ * * * أَتَيْتَ وَهَذِي الأرْضُ بَغْيٌ وظُلمَةٌ ... فأشْرَقَ نُورٌ إذَا طَلعْتَ يُشعشِعُ ومَا قَمَرٌ إلاكَ شَعَّ ضِياؤُهُ ... ومَا زَالَ في لَيلِ المُلمَّاتِ يَسْطَعُ تَلألأ فِي كُل النَّوَاحِي فَأشرَقَتْ ... بِهِ كُلُّ أَرْضٍ بِالهُدَى تَتَلَفَّعُ ¬

_ (¬1) 12 محرم 1427 هـ.

وَنَادَى مُنَاد في السَّمَاءِ مُدَويًا ... مُحَمَّدُ مِنْ كُلِّ الخَلِيقَةَ أَرْوعُ هُوَ الرَّحْمَةُ المُهْدَاةُ للنَّاسِ كلِّهمْ ... ومَا فَازَ إلا مَنْ لأَحْمَدَ يَتْبَعُ "هُوَ البَحْرُ مِنْ أيِّ النَّوَاحِي أتَيْتَهُ ... فَلُجَّتُهُ المَعْرُوفُ" والفضْلُ أَوْسَعُ تَرَفَّعَ عَنْ كُلِّ الدنايا ولَمْ يَزَلْ ... وأصْحَابُهُ عَنْ كُلِّ غَيٍّ تَرَفَّعُوا مَقَامُكَ مَحْمودٌ تَفَرَّدْتَ سيِّدًا ... ألَسْتَ الَّذِي يَوْمَ القَيامَةِ يَشْفعُ؟ مَقُامُكَ عَالٍ يا حَبِيبي وسَيدِي ... وتبًّا لِمَأفُونٍ أتَانَا يُجَعْجعُ * * * وكَافيك رَبُّ البَيْتِ مَنْ كُلِّ مُفْتَرٍ ... تَنَكَّبَ دَرْبَ الخَيْرِ لِلشَّرِّ يَنْزِعُ وشَانِيكَ بِالخُسْرَانَ بَاءَ صَنِيعُهُ ... وَلَيْسَ لَهُ إلاَّ جَهَنمَ مَرْتَعُ * * * تُفَدِّيكَ كُلُّ المُؤمِنينَ نُفُوسُهُمْ ... وَأَرْوَاحُهُمْ دُونَ انتِقَاصكَ تَنْزِعُ فَفِي نُصْرَةِ الهَادِى سُمُوٌ وعَزَّةٌ ... ولَوْ أَجْلَبَ البَاغُونَ والنَّاَسُ أَجْمَعُ هَنِيئًا لَكُمْ يا مَنْ نَصَرْتُمْ نَبِيَّكُمْ ... فَسِيرُوا عَلَى دَرْبِ النَّبيِّ وقَاطِعُوا وتَبًّا لِكُلِّ الخَائِنينَ نَبيَّهم ... قُلُوبُهُمُ مِنْ حَقْدَهِا تَتَقطَّعُ * * * ألاَ يَا أُخَيَّ الكُفْرِ حَاذِرْ فإنَّهُ ... مُحَمَّدُنَا الهَادِي شَفِيع مَشَفَّعُ فَمَا نِلتَ مِنْهُ غَيْرَ أنَّ قُلُوبَنا ... إذَا أُوذِيَ المُخْتارُ تغْلِي وتَفْزَعُ وأَبْشرْ بِمَا يُخْزِيكَ يَا شَرَّ مُعْتد ... عَلَى خَيْرِ مَعْصُومٍ فَقَدْ حَانَ مَصْرعُ ومَا نالَ أَسْبابَ المَعَالِي أرَاذِلٌ ... وَهلْ يَعْتَلِي بَيْنَ الخَلاِتقِ ضُفدَعُ؟

ولقد سمعنا ما يسوء قلوبنا ... من دولة الأبقار والأجبان

أيَا خَاتَمَ الرُّسْلِ الكَرام تَحِيةً ... نُرَددهُا عَبْرَ الزَّمَانِ ونَصْدَع عليْكَ صَلاَةُ الله يا خَيْرَ مُرْسَل ... ويا لَيْتَنَا مَعْ صَفْوَةِ الخَلقِ نُجْمَع تَهُونُ عَليْنَا أنفُسٌ وَنَفَائسٌ ... وَلَسْنَا لِحَقِّ المُرْسَلِينَ نُضيَّعُ وَلَقَدْ سَمِعْنَا مَا يَسُوءُ قلوبَنَا ... مِنْ دَوْلَةِ الأَبْقَارِ وَالأَجْبَانِ ماجد بن محمد الجهني الظهران عِرْضِى فِدَا عِرْضِ الحَبِيبِ مُحَمَّدٍ ... وفَداهُ مُهْجَةُ خَافِقِي وجَنَانِي وفِدَاه كُل صَغيرِنا وكَبَيرنَا ... وفِدَاهُ مَا نَظَرَتْ لَهُ العَيْنانِ وفِدَاهُ مُلكُ السَّابِقَينَ ومَنْ مَضَوْا ... وفَدا مَا سَمِعَتْ بِهِ الأُذُنَانِ وفِدَاهُ كُل الحَاضِرِينَ ومُلكُهُمْ ... وفَدِاهُ رُوحُ المُغْرَمِ الوَلهَانِ وفِدَاه مُلكُ القَادمينَ ومَنْ أتَوْا ... أَرْوَاحُنَا تَفْدِيهِ كُل أَوَانِ خَيْرَ البَرِيَّةِ والتُّقىَ مِحْرَابُهُ ... تَسْمُو محَبتهُ عَلى الألحَانِ أزْكَى رَسُول بِالهُدَى قَدْ جَاءَنا ... وَخليلُ ربِّي الوَاحِدِ الرحمَنِ صَلى عَلَيْهِ الربُّ فِي عَليَائِهِ ... إذْ زَانهُ بالصِّدْقِ والإيمَانِ واللهُ أَعْلاَ شَأنَهُ فِي آيهِ ... وَلَدينُهُ يَعْلُو عَلَى الأدْيَانِ أَخْزَى بِهِ ربِّي ضَلالَةَ مُشركٍ ... وأَذَل أَهْلَ الغَي والصُّلبَانِ أَعْداؤُهُ فِي نَكْسَةٍ وبغِلِّهمْ ... يَصْلَوْنَ قَسْرًا ضَحْضَحَ النِّيرانِ أَعْدَاؤُهُ بُكْمٌ وصُمٌ مَا رَأوْا ... أعْدَاؤُهُ هُمْ أخْبَثُ العُمْيَانِ أهْدَاهُمُ إبْليسُ مِنْ نَزَوَاتِهِ ... فَتَقَحَّمُوا فِي النَّارِ كالقُطعانِ

تَبَّتْ يَدٌ لَمَّا أسَاءَتْ رَسْمَهَا ... شُلَّت يَمينُ المُجَرْمِ الفَتَّانِ اللهُ مُخْزِيهِمْ ومُوبِقُ سَعْيهِمْ ... واللهُ ذُو بطشٍ وذُو سُلطَانِ يَكفي الإلَهُ نبِينا مِنْ جُرْمِهِمْ ... واللهُ مُنتَقِمٌ عَظِيمُ الشَّانِ حُبُّ الحَبيبِ مُحَمَّد أُهْزُوجَةٌ ... يَشْدُو بِهَا قَلبِي مَعَ الخَفَقَانِ واللهِ مَا جَادَ النِّسَاءُ بِمْثِلِهِ ... أكْرِمْ بِهِ مَنْ مُرْسَلٍ رَبَّانِي نُورُ البَرِيَّةِ عَمَّنَا بِضِيَائِهِ ... فَهُوَ البَشِيرُ بِصَادِقِ، البُرْهَانِ مَنْ يسَبَّ هَادِينَا وسَبَّ إمَامَنَا ... . فَلَقَدْ غَدَا دَمُهُ بِلاَ أَثْمَانِ فِي حُكْم مَلَّتِنَا وهَدْيِ كَتابِنَا ... مَنْ سَبَّهُ فِي أسْفَلِ النِّيرَانِ مَنْ دَنَّسوُا حُرُماتنا قَدْ أَسْرَفُوا ... عَنْ بَغْيهِمْ يَتَحَدُّثُ الثَّقَلاَنِ قَدْ دَنَّسُوا قُرآنَنَا فِي أمْسِهمْ ... أُوَّاه يَا أَسَفي ويا أَحْزَانِي حَتَّى المَسَاجِد مَا لَهَا قُدْسيَّةٌ ... فِي عُرْفِ أهْلَ الظلُّمْ والعُدْوَانِ وَلَقدْ سَمِعْنا ما يَسُوءُ قُلُوبَنَا ... مِنْ دَوْلَةِ الأبْقَارِ والأجْبَانِ مِنْ دَوْلَةِ الدَّنمَرْكِ سَاءَ مَقِليُهَا ... أَخْبَارُهَا جَاءَتْ مَعَ الرُّكْبَانِ ولِدَوْلَةِ النِّرْويجِ فِي ناقُوسِهِمْ ... سَهْمٌ مِنَ التَّهْريجِ والهَذَيَانِ واللهِ قَدْ هَزُلَتْ وبَانَ هُزَالُهَا ... لما غدونا مطمع الفئران دُوَلٌ كمثْلِ الذَّرِّ فِي مِقْدَارِهَا ... دُوَلٌ مُدَهْدَهَةٌ عَلَى الجُعْلاَنِ الشَّانِؤوَنَ لِسِيرَةٍ قدْ عُطِّرَتْ ... بالمِسْكِ وَالأزْهَارِ والرَّيْحَانِ أخْزَى الذي سَمَكَ السَّماءَ بِنَاءَهُمْ ... وأحَالَهُمْ عِبَرًا مَدَى الأزْمَانِ الشَّانِؤونَ لَهُ تَعَاظَمَ مَكْرُهُمْ ... كُلٌّ لَهُ حِمَمٌ مِنَ الأضْغَانِ

كَمْ مُنْتَدًى للكُفْرِ يُعْلنُ جَهْرَةً ... بِقَبِيح قَوْلٍ منْ بَذِيءِ لِسَانِ كَمْ فِي السُّجُونِ مِنَ الزَّبَانِيَةِ الَّتي ... هَزَأتْ بسيّدِ أُمَّةِ القُرآنِ كَمْ فِي الصَّحَافَةِ مِنْ وَضِيع مُفَكِر ... جَمَعَ الضَّغِينَة فِي لُبُوس ثَانِ مُتعَالِم مُتَحذْلِقٍ مُتَفَذَلك ... مُتَدثِّر بِالزُّورَ والبُهْتَانِ أخْزَاهُمُ رَبيِّ وِفَرَّقَ شَمْلَهُمْ ... وأقَصَّ مَضْجَعَهُمْ بِكل مَكَانِ يَا أُمَّةَ الإسْلام أيْنَ نَفِيرُكُمْ؟ ... أَعْلُو مَنَابِرَ سُنَّةِ العَدْنَانِ أعْلُو مَنَابِرَ سنَّة وتَمَسَّكوا ... بِالهَدْي والتَنَّزْيلِ والفُرْقَانِ أمْوالُكُمْ ضَيْعَاتُكُمْ أوْلادُكُمْ ... لَيْسَتْ أعزَّ مِنَ النَّبيِّ الحَانِي فالسُّنَّةُ الغَرَّاءُ نِيلِ إمَامُهَا ... فَلتَغْضَبُوا لِلَّه يَا إخْوانِي فَبكُمْ نظُنُّ الخَيْرِ يَا أحْبَابَنَا ... أحْيُوا مَواقِفَ عَزًّةِ الشُّجْعَانِ هَذا قَصِيدِي والقصِيدُ مُقَصِّر ... قَدْ قُلتُ مَا فِي الجُهْدِ والإمْكَانِ والله قد شَرُفَ وإنَّه صِيدُ وإنَّهُ ... شَرَفٌ لكُل قَصيدةٍ وبَيانِ شَرَفٌ بأنْ نُجْرِي لَهُ أَقَلامنَا ... شَرَف لِكل فُلانَة وفُلانِ تمَّتْ وَأثْنُوا بالصَّلاةِ ومِثْلِها ... مَا لاَحَ غَيْمٌ أوْ بَدَا القَمَرَانِ * * *

واستمطروا غضبا

واستمطروا غضبًا لعبد الله البصري يَا عَينُ جُودِي بدَمع مِنكِ مُنسَكِبِ ... وَابكِي عَلى الفَضلِ وَالأخْلاقِ وَالأدَبِ وَاسْتَفرِغِي الدَّمعَ لاَ تُبقِيهِ قد عَظُمَتِ ... مُصيبَةُ الكَوْنِ سُبَّ المُصطَفَى العَرَبي سَبُّوا نَبي الهُدَى وَاستَهِزَؤُوا عَلَنًا ... بالهَاشِمِي المُفَدَّى طاهِرِ النَّسَبِ سَبُّوهُ وَاسْتَهْزَؤُوا وَاسْتَمطرُوا غَضبًا ... فَليَرقُبُوا عَن قَرِيب ثَوْرَةَ الغَضَبِ يَا وَيْحَهُمْ أيُّ جُرْمٍ قَدْ أَتَوْهُ أمَا ... لِلْحِقْدِ حَدٌّ وَزُورِ القَوْل وَالكَذِبِ يَا وَيْحَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا إِلَيْهِ دَعَوْا ... في مَجْلِسِ الأمْن مِنْ سِلمٍ وَمِنْ رَحَبِ أَيْنَ الحِوَارَاتُ أمْ أَيْنَ القَرَارَاتُ أَمْ ... أيْنَ الوعُودُ الَّتِي صِيغَتْ مِنَ الذهَبِ أمْ أَنَّهَا دُولَةٌ بَينَ اليَهُود وَمَنْ ... أَمْسَى عَلَى دَرْبهمْ مِنْ عَابدِي الصُّلُبِ تَبًّا لَهَا مِنْ حِوَارَات وَتَبًّا لهُ ... سِلمًا يُدَانُ بِهِ إلاَّ مَعَ العَرَبِ بِالأمْسِ أَبْدَوْهُ تْحقِيقًا لِمَصْلَحَةٍ ... كَانَتْ تُدَارُ وَأخْفَوْا غَيْضَ مُرتَقِبِ وَاليَوْمَ فَاهُوا بما تُخْفِي صَدُورُهُمُ ... مِنْ إحْنَة زَالَ عَنهَا مُظلِمُ الرِّيبِ الحِقْدُ قد بَانَ وَالبَغْضَاءُ قَدْ ظَهَرَت ... وَالكُرْهُ قَد شَبَّ في الطَاغِينَ كالجَرَبِ يُمْسِي بِبَلدَةِ أو غَادٍ وَيُصبِحُ قَدْ ... أَلقَى بِأخْرَى رِحَالَ القَصْدِ عَن كَثَبِ أَغْرِى بِه سَاسَةُ الأبقارِ إِخْوَتَهُم ... فاسْتَجْمَعُوا النَّطحَ في هَرَجٍ وفِي صَخَبِ لَم يَرْقُبُوَا مَوْثِقًا فِينَا وَمَا اكتَرَثُوا ... يَومَ استَخَفُّوا بِدينِ أَوْ بعِرضٍ نَبِي لَكِن لَنَا الله مَوْلاَنَا نُؤَمِّلُهُ ... عندَ الرَّخاءِ وفي الشِّدَّات وَالنُّوَبِ ربٌّ يَغَارُ وَمَن يَطلُبْهُ يدرِكْهُ لاَ ... أَرضٌ تَقيه وَلا قَصْدٌ إلَى هَرَبِ وَهْوَ الحَسيبُ وَكَافِينَا وَنَاصِرُنَا ... في كُل خطبَ فَلاَ نَخْشَى مِنَ الغَلبِ اليَومَ نَبكِي بدَمعٍ لسَاجِمٍ وَغَدًا ... قدْ يَضحَكُ الدَّهرُ مِن أُنسٍ وَمِنْ طَرَبِ

يا حبيبي هاك نحري

يَا حَبِيبِي هَاكَ نَحْرِي عبد الناصر منذر رسلان فَجْأَةً شَاعَ الخَبَر ... هَزَّ قَلبِي مُذْ خَطَرْ قُلتُ في نَفْسِي عَسَى ... كذْبُ إِعْلاَمٍ عَبَر فَاسْتَعَدْتُ الحِسَّ مِنِّي ... مُدْرِكًا فَحْوى الخَبَرْ هَزَّنِي صَوْتُ المُذِيع ... (آذوا) أَحْمَدْ يَا بَشَر حَسْرَةٌ بَانَتْ لِعَينْي ... بَعْدَهَا الدَّمْعُ انْهَمَرْ قُمْتُ مَذْعُورًا أُنَادي ... هَل بَهَذَا نُختَبَر؟ يَا حَبِيبِي هَاكَ نحْرِي ... دُونَكَ القَلْبُ انْفَطَرْ يَا حَبِيبي يَا شَفِيعِي ... أَنْتَ قَلبِي والنَّظَر يَا حِبيبَ اللهِ صَبْرًا ... حَانَ مِيعَاد الظَّفَرْ قَدْ صَحَوْنَا مِنْ رُقادٍ ... وانتَبَهنَا للخَطَرْ واجتمعْنَا بَعدَ نَأي ... بَعْدَ مَا كُنا زُمَرْ يَا حُمَاةَ الدِّينِ هَيَّا ... فانْصُرُوا خَيْرَ البَشَرْ مَزِّقُوا كلَّ كفُورٍ ... نَاشِرًا ذاكَ الخَبَر مَزِّقُوهُ كَيْ يَكُونَ ... عِبرَةً فيمَنْ عَبَرْ قَاطِعُوا كل نِتَاج ... فِيهِ أَيْدِي مَنْ كفَرْ مَزِّقُوا كلَّ الجَرَائِدْ ... قطِّعُوا كُل الصُّوَرْ واحْرِقُوا حَتَّى الهَواءَ ... وادْفِنُوهُمْ فِي الحُفَر

الدفاع عن داعية السلام - صلى الله عليه وسلم -

وانْصُرُوا خَيْرَ البَرَايَا ... مَنْ لَهُ انْشَقَّ القَمَرْ يَا جُنودَ اللهِ إرْمِي ... واقْذِفِيهِمْ بِالشَّرَرْ كُلنا جُندٌ لطه (¬1) ... كلُّنا أَضْحَى عُمَرْ الدَّفَاع عَنْ دَاعِيَةِ السَّلاَمِ - صلى الله عليه وسلم - محمد عبد الله ولد محمد سالم ولد محمد ببَّاه تبوَّأتَ العُلُوَّ مِنَ المَقَام ... وأسبْغْتَ السَّلام عَلَى الأنَام وَألَّفْتَ القُلُوبَ بكُلِّ حُبٍّ ... وما قَصَّرْتَ في صُنعْ الكِرَامِ زَرَعْتَ السِّلمَ في الثّقليْنِ طُرًّا ... فَعَاشَا في أمَانٍ واحْتِرَام وحارَبْتَ الغُلُوَّ وكُنْتَ سَمْحًا ... تُرَبِّي بالمَوَدَّةِ والوِئَام ولَمْ تَكُ قَطُّ في الأفْعَالِ فظا ... ولا مُتَغَلِّظًا وَقْتَ الكَلاَم بِحَسْبِكَ ما رَسَمْتَ مِنَ المَعَالي ... ظَفَرْتَ، وخَابَ رَسَّامُ الظَّلام طَغَى بِرُسُومِهِ شُلَّتْ يَدَاهُ ... وشُلَّ الغَرْبُ عَامًا بعْد عَامٍ حَبِيبي يا رَسُولَ الله إنَّا ... فِداكَ، ودُونَ عَرْضكَ كالسِّهامِ فَلَنْ نَرْضَى المَذَلَّةَ في حَيَاةٍ ... ولَنْ نَرْضَى الدَّنيَّةَ في مُقامٍ فكُل مُوَحِدٍ صَحَّتْ وتَمَّتْ ... عَقِيدَتُهُ فِدَاكَ على الدَّوَامِ سَتَبْقَى رَغْمَ أنْفِ العرْبِ طُرًّا ... على الأعْداء والحُسَّادِ سَامي جَزاكَ اللهُ عَنَّا كُلَّ خيْرٍ ... فقد كنْتَ المُبَشِّرَ بالتَّمَامِ وأحْيَيْتَ الأنَامَ، وكنتَ حَقًّا ... بحَمْدِ الله داعِيَةَ السَّلامِ ¬

_ (¬1) طه ليست من أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم -.

الذوادة

الذَّوَّادَةُ ذَوْدًا عن حياض المصطفى بأبي هو وأمي الَّتي وَلَغَت فِيها كلابُ الدِّانِمَرْكِ سعد بن ثقل العجمي السَّيفُ أشْهرَ واللُّيُوثُ ضَوَارِي ... ذَوَّادَةً عَنْ سَيِّدِ الأبْرَارِ يَا قَائِدَ الأحْرَارِ دُونَكَ أُمَة ... فَاقْذِفْ بُجندِكَ سَاحَةَ الكُفارِ واضْربْ بنا لُجَجَ المَهَالِك غاضِبًا ... حَتَّى تُرَكِّع سَطوَةَ التَيَارِ وَتَقحَّمَنَّ بِنَا الحُتُوفَ تغَطرُسًا ... فَهِيَ الحَيَاةُ بِشِرْعَة الأحْرَارِ الفُرْسُ والرُّومُ العُلُوجُ تَذَمَّرُوا ... مِنَّا فَكيفَ بـ (إخْوَةِ الأَبْقَارِ)؟ دَنِمَرْكُ قَدْ خُضْتِ الهَلاكِ حَماقَةً ... والآنَ صِرْتِ بِقَبْضَةِ الجَبَّار دَنِمَرْكُ يَا بنْتَ الصَّلِيبِ تَجَهَّزِي ... فَلَيَخْطِبَنَّكِ قَاصِفُ الأعْمَارِ دَنِمَرْكُ هَلْ تَسْتَهْزِئِين بأعْظَم الـ ... عُظَمَاء فِي بَلهٍ وَفِي اسْتِهْتَارِ أَوَ مَا عَلِمْتِ بأنَّهُ قَادَ الوَرَى ... لِلمَجْدَ لِلعَليْاءِ لِلإعْمَارِ أَعْلَى بِنَاءَ حَضَارَة قُدْسِيةٍ ... والغَرْبُ كَانَ حَبِيسَ جُرْف هَارِ شَهِدَ الفَلاسِفَةُ العظَامُ بأنَّهُ ... رَبُّ النُّهَى ومُؤَدْلِجُ الأفكَارِ وإذَا أتَى الأرْضَ الخَرَابَ تَزَيَّنَتْ ... لِقدُومِهِ بأطَايب الأزْهَارِ وَجَرَى عَلَيْهَا مِنْ نَمِيرِ عَطَائِهِ ... مَاءُ الحَيَاةِ زَبَرْجَدًا ودَرَارِي وإذا تَبَسَّمَ فَالصَّبَاحُ بِثغْرِهِ ... سَحَرَ القُلُوبَ ولَيْسَ بِالسَّحَّارِ وإذا غَزَا فالرِّفْقُ يَغْزو قَبْلَهُ ... والرِّفقُ أعْتَى جَحْفَلٍ جَرَّارِ

الفَاتِحُ الدُّنْيَا بأبْطَالِ الوَغَى ... يَرْمِي بِهْم قُضُبَ الكِفاحِ عَوَارِيَ الملبِسُ الدنيا ثيابَ تحررٍ ... المُبْدِلُ الظَّلماءَ بالأنوارِ الوَاهِبُ الدُّنْيا شُمُوسَ هَدِايَةٍ ... نبَوِيَّة لألاءَةَ الأفْكَارِ تَفْدِي جَنَابَكَ أَلفُ أَلفِ دُوَيْلَةٍ ... حَكَمَتْ رُبَاهَا سُلطَةُ الفُجَّارِ تَفْدِي جَنَابَكَ أَلفُ أَلفِ عِمَامَةٍ ... مَدْسُوسَة خَوْفًا مِنَ الأخْطَارِ تَفْدِي جَنَابَكَ كُلُّ نَفْسٍ حُرَّةٍ ... عَافَتْ حيَاةَ الشَّرِّ والأشْرَارِ تَفْدِي جَنَابَكَ يَا رَسُولَ الله يا ... خَيْرَ البَرِيَةِ أُمَّةٌ المِليَارِ * * *

الرد المبكي للمجرم الدنماركي

الرَّدُّ المُبكِي للمُجرِمُ الدِّنماركيُّ الشيخ/ محمد بن علي آدم -حفظه الله- المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة لَقد سَاءَنِي جُرْمٌ أَتَانِيَ خُبْره ... مِنَ الدَّوْلَةِ البَغْضَاءِ قَدْ حَاقَهَا الظُّلم لَقدْ سَاءَنِي وَسَاءَ مَنْ كَانَ قَلبُهُ ... مُحِبًّا لِخَيْرِ الخَلْقِ مَنْ سَادَ بالحِكَمْ صنِيعٌ أَتَى بِهِ شَيَاطِينُ دَوْلةٍ ... تَعِيشُ عَلَى الفَسَادِ وَالكُفْرِ والأَضَمْ (¬1) فَيَا لَيْتَهُمْ شُلَّتْ يَمينٌ بَهَا افتَرَوْا ... وآذَانُهُمْ صُمَّتْ وَأَعْمَاهُمُ الغُمَمْ فَدَاءً لَهُ أَبِي وَأُمِّي وَمَهْجَتِي ... فَمَنْ مِثلُهُ فِي النَّاسِ قَدْ حَاطَهُ الكَرَمْ فَيَا مَنْ كفَى المُسَتَهْزِئِينَ حَبيبَهُ ... لِتُنْزِلْ عَلَيْهِمُ عَذَابًا قَد اصْطَلَمْ يَعُمُّهُمُ وَمَنْ غَدَا نَاصِرًا لَهُمْ ... وَيَضْحَكُ مَعْهُمُ إِذِا الكُلَّ قَدْ ظَلَمْ فَسُنَّتكَ الَّتِي خَلَتْ قَبْلُ تَنْزِلُ ... عَلَى كل مَنْ يَبْغِي وَيُؤْذِي أُولِي القِيَمْ فَيَا أُمَةَ الإسَلام قُومُوا عَلَّى العِدَا ... بكُل الَّذِي لَكُمْ لسَانًا أَوِ القَلَمْ فَقَدْ نَزَلَتْ فِيكُمْ مُصَائبُ لَوْ أَتتْ ... عَلَى الرَّاسِيَاتِ الشُّمِّ أركانُها انْهَدَمْ فَإِنْ لَمْ تَرَوْا هَذي مُصَابًا مُجَللًا ... فإنَكُمُ مَوْتَى وَإنَ الهُدَى انْصَرَمْ وَإنْ تَسْكُتُوا بالَعِليم فَالوَيْلُ قَادِمٌ ... وَقد ضَلَّتِ الآمَالُ وَالشَّرُ قَدْ نَجَمْ وَلاَ شَكَّ أَنَّهَا مَضَىَ قَبْل مِثْلُهَا ... توَلَّى قِيَادَهَا أولوُ الحِقدِ والسَّقَمْ تَعَدَّى أَبُو جَهْلٍ وحَمَّالَةٌ طَغَتْ ... وَمَن تَبَتِ اليَدانِ مِنْة قَدِ اضْطَرَمْ (¬2) ¬

_ (¬1) محركة الحقد والحسد والغضب. اهـ. (¬2) أي: التهب.

فَذِي سُنَّةُ الإلَهِ فِي الخَلقِ قَدْ جَرَتْ ... فَيَمْتَحِنُ الأخْيَارَ بِالفِرْقَةِ اللَّوَمْ (¬1) لِيَرْفَعَ قَدْرَهُمْ ويعْلِيَ ذِكرَهُمْ ... وَيَعْرِفَ فَضْلَهُمُ كَثِيرٌ مِنَ الأمَمْ فَلَوْلاَ اشْتِعَالُ النَّارِ فِي العُودِ لَمْ يَفُحْ ... لَهُ عَرْفُهُ الشَّذِي لِمَنْ شَاءَ أنْ يَشَمْ وَلَيْسَ احْتِجَابُ العُمْي لِلشَّمْسِ ضَائِرًا ... فَرِفْعَةُ قَدْرِهَا لِذِي البَصَرِ ارْتَسَمْ فَقَدْرُ رَسُولِ اللهِ فِي الخَلقِ ظَاهِرٌ ... فَمَا ضَرَّهُ قَوْمٌ أَضَلُّ منَ البَهَمْ (¬2) لَقَدْ رَفَعَ الإلَهُ قَدْرَ مُحَمَّدٍ ... فَقَرَّبهُ زُلفَى وَحَلَّاه بِالنِّعَمْ وَيَبْعَثُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شَافِعًا ... لِفَصْلِ القَضَا بِهَا فَمَا أَعْظَمَ الكَرَمْ وَقَدْ شَرح اللَّطِيفُ صَدْرًا وَأوْدَعَهْ ... بَدَائِعَ حِكْمَة فَيَا وَيْلَ مَنْ هَضَمْ (¬3) وَشَقَّ لَهُ البَدْرَ المُنِيرَ مِنَ السَّمَا ... وَشَاهَدَهُ كُلّ بِلَيل قَدِ ادْلَهَمْ وَحَنَّ إلَيْهِ الجِذعُ لَوْلاَ احَتِضَانهُ ... لَمَا فَارَقَ البُكَا إلَى سَاعَةِ النَّدَمْ شَكَى العِيرُ ضُرَّهُ وَسَلَّمَهُ الصَّفَا (¬4) ... فَيَا وَيْلَ أقْوَامٍ أَضَل منَ النَّعَمْ رَسُولُ الهُدَى أحْيى القُلُوبَ بذكرِهِ ... قُلُوبَ ذَوِي الألبَابِ وَالنُّورِ وَالشَيمْ هُوَ الرَّحْمَةُ المُهْدَاةُ لِلخَلقِ كَلُّهِمْ ... كَمَا أخْبَرَ اللهُ الكَرِيمُ فَليُغْتَنَمْ فَمَنْ تَبِعَ الرَّسُولَ كَانَ مُعَزَّزًا ... بِذِي الدَّارِ، والأخْرَى مُعَافًى مِنَ النِّقَمْ ¬

_ (¬1) اللَّوَم محركة: كثرة العذل، وهو هنا على حذف مضاف، أي: ذوي اللوم، أو وُصفوا به مبالغة. (¬2) محركَة، تُسكَّن هاؤه أيضًا: أولاد الضأن والمعز والبقر، أفاده في "القاموس". (¬3) هَضَم من باب قتل: إذا كسر، ويقال: هضمه: إذا دفعه، وكسره، أفاده في "المصباح"، والمراد هنا انتهك حرمة النبي، ودنَّس عرضه، وانتهكه. (¬4) جمع صَفَاة، وهو الحجر الصَّلد.

وَمَن لَم يَرَ الهُدَى لَدَيْهِ فَقَدْ جَنَى ... عَلَى نَفْسِه الوَبَالَ قَدْ نَالَهُ الغمَمْ فَيَا رَبِّ أحْينَا عَلَى حُبِّهِ إلَى ... مُفَارَقَةِ الدُّنْيَا وَنَحْنُ عَلَى النِّعَمْ وَيَا رَبِّ أفَكنَا لإِحْيَاء شَرْعِهِ ... وَنَنْشُرُهُ فِي العُرْبِ أيْضًا وَفِي العَجَمْ وَنَدْفَعُ عَنْ حَرِيمِهِ كُل مُفْتَرٍ ... مَرِيد مُعَانِد وبَالفُحْشِ قَدْ جَرَمْ صَلاَةٌ مِنَ الرحمَنِ ثُمَ سَلامُهُ ... عَلَى سيِّدِ الخلقِ المُحَبَّبِ فِي الأممْ وآلٍ لَه أهْلِ المُرُوءَة وَالهُدَى ... وَأَصْحَابِهِ أولي المَعَارِفِ وَالكَرَمْ يَقُولُ مُحَمَّدٌ أيَا ربيَ ارْحَمَا ... إذَا الأجَلُ انْقَضَى وَحَبْلِي قَدِ انْصَرَمْ * * *

الطرق الشرعية في نصرة خير البرية

الطُّرُقُ الشَّرْعِيَّة فِي نُصْرَةِ خَيْرِ البَرِيَّة حامد خلف العمري لاَ التلاَوُمُ يَكْفِي ولاَ في النَّحِيبِ نَجَاءُ ... لَيْسَ الحُزْنَ نَصْر ولا في العَوِيلِ عَزَاءُ لَيْس فِي جَلدِ ذَاتِ أُمَتِي انْتِفَاعٌ ... لاَ تَقُلْ إن مِليَارَ مِنْهَا جُفَاءُ خَفِّفِ اللَّوْمَ إِنَ فِينَا رِمَاحًا ... لاَ تَقُل غَابَ نَجْمُكمْ يَا غُثَاءُ المَحِ النَّصْرَ وانْشُرِ الفَألَ وارْجُو ... إِن في الفَألِ يَا أُخَيَ غَنَاءُ * * * قَالَ سَبُوا نَبِيَّنا واسْتَحَلُّوا ... شَتْمَهُ حُثَالَةٌ جُبَنَاءُ فِي بَلاد قَدْ عَشْعَشَ الكُفْرُ دَهْرًا ... واسْتَطَالَتْ بِلَيْلهَا الظَّلمَاءُ قُل فِيها مَنْ يَعْرِف اللهَ رَبًّا ... ومنَ الطهْرِ والَعَفَافِ خَوَاءُ ثُمَ أَنْتَ تُرِيدُ مَنا سُكُوتًا ... إِن فِي النفْسِ عَمَّا تَقُولُ جَفَاءُ * * * قُلتُ مَنْ قَالَ إنا رَضينَا ... مَا عَلَيْه تَمَالأ الأشْقِيَاءُ حينَ ضَلُّوا وأَمْعَنُوا في الخَطَايَا ... حَيْثُ سَبُّوا مَنْ شَعَّ مِنْهُ الضِّيَاءُ أكرَمَ النَّاسِ أفْضَلَ الَخَلقِ طُرًّا ... مِثْلَهُ قَط لَنْ يَلدْنَ النِّسَاءُ أَحْلَمَ الخَلقِ أرْحَمَ النَاس قَلَّبًا ... يَسْتَقِي مِنْ نَهْرِ عَطَفهِ الرُّحَمَاءُ جَاوَزَ المَجْدَ رِفْعَةً وشُمُوخًا ... واسْتَظَلَّتْ بِعَليَاَئه الجَوْزَاءُ كيْفَ أَمْدَحُهُ أَمْ كيْفَ أُثْني ... هُوَ أَسْمَى مِنْ أنْ يَنَلهُ الثنَاءُ حَسْبُهُ ثَنَاءُ ربي عَلَيهِ ... حَسْبهُ مَا تَقُولُ فِيهِ السَّمَاءُ

وَلَقَدْ خَفَّفَ المُصَابَ عَلَيْنَا ... أَنَّهُ لَنْ يَضُره اسْتهْزَاءُ حَيْثُ أَنَّ النَّبِي ربِّي كلفَاهُ ... وعَلَى القَوْمِ قَدْ يَحُل البَلاءُ لَكِنِ الحَرثُ وَالمَكِيدَةُ تَقْضِي ... أَنْ نَكُونَ فِي رَدِّنَا حُكَمَاءُ نَهْزِمُ الكُفْرَ والضلاَلَ بِحَقٍّ ... وبوَعْيٍ بمَا يَكِيدُهُ الأعْدَاءُ وَبِعَوْدٍ لِلدِّينِ والشَّرعْ حَقًّا ... إنّ فِي الدّينِ يَا أُخَي النَجَاءُ لَيْسَ فِي النَّدْبِ والقُعودِ لِدِينٍ ... انْتِصَارٌ يُقِرُّهُ العُقَلاَءُ * * * * وَمِنَ النَّصْرِ للنَّبِيِّ اتِّبَاعٌ ... لِطَرِيق قَدْ سَنَّهُ واقتِفَاءُ ثُمَّ نَشْرٌ لِدِينِهِ فِي البَرَايَا ... واعْتِنَاءٌ بِهَدْيهِ واحْتِفَاءُ ومِنَ النَّصْرِ أنْ تُقَاطِعَ قَوْمًا ... ظَهَرَ البَغْيُ مِنْهُمُو والعَدَاءُ نَهْجُرُ الزُّبْدَةَ الشَّهِيَّةَ حَتَّى ... يُدْرِكَ القَوْمُ أَنَّنَا أَقْويَاءُ ومِنَ النَّصْر أَنْ نُجَاهِدَ فِكْرًا ... يَتَنَادَى بهِ ويَلحَنُ الدُّخَلاَءُ زَعَمُوا أَن القَوْم فِيمَا تَوَلُّوْا ... كِبْرَهُ مَا أَخْطَؤوا وأَسَاؤُوا إنمَا نَحْنُ مَنْ أسَاءَ لأنَّا ... فِكْرُنَا فِيهِ سَطحِيَّة وغَبَاءُ يَجْهَلُ الآخَرَ البَرِيءَ ويُقْصِيهِ ... وفِيهِ الكُرْهُ والبَغْضَاءُ * * * لَيْسَ مِنْ نَصْرِه افْتِيَاتٌ عَلَيْه ... وعَلَى مَا يُقَرِّر العُلَمَاءُ باغْتِيَالٍ لِمُسْتَأمَن أَوْ تَعَدُّ ... وَبِزَغمٍ أَنَّ العَدو سَوَاءُ لاَ وَلاَ مِنْ نَصْرِهِ تَجَمعُ حَشْدٍ ... يَتَوَلَّى قِيَادَهُ الغَوْغَاءُ

(شلت يمينك)؟!

يُفْسِدُونَ ويُحْدِثُونَ اضْطِرَابًا ... وخَرَابًا وقَدْ تُرَاقُ دِمَاءُ * * * وَخِتَامًا لاَ تَحْسِبُوا الإفْكَ شَرًّا ... فَلِربِّي فِيمَا قَضَى مَا يَشَاءُ فَلَعَلَّ الأمْرَ فِيهِ امْتِحَانٌ ... لِكَثِيرٍ مِنْ خَلقِهِ وابْتِلاءُ وَلَعَل اللهَ قَدْ رَامَ مَحْقًا ... لِعَدُو بِهِ يَطُولُ الشَّقَاءُ ولَعَل اللهَ رَامَ لِلدينِ نَصْرًا ... فَمِنَ السمِّ قَدْ يَكُونُ الدَّوَاءُ * * * (شُلَّت يَمِينُكَ)؟! قَالُوا جُرِحْتَ، فَمَا تُرَاهُ دَهَانِي ... تِلكَ الجرَاحُ يَقُولُهَا أقْرَانِي مَا لِي أرَى دَمْعِي تَكَاثَرَ سَيْرُهُ ... والقَلبُ يَشْكِي وَطأةَ الأحْزَانِ مَا لِي أرَى كَأسِي يُسَاقُ مَرَارَةٌ ... أَوَ يَا تُرَى مَنْ كَانَ مِنْهُ سَقَاني؟! تِلكَ الفَجِيعَةُ قد أحَاطَتْ أمتِي ... وَمَضَيْتُ مَعْ تِلكَ الجُمُوع أُعَانِي فَالمُسْلِمُونَ تَوَحدَتْ أصْوَاتُهُمْ ... والغَائِبُونَ لَهُمْ أنِينُ العَانِي والصُحْفُ مَلأى بِالحَدِيثِ بِشَأنِهِ ... والحِبْرُ صَارَ مِنَ الكِتَابَةِ فَانِي! والبَحْرُ أُدْهِشَ مِنْ بَوَاخِرِ شِعْرِهمْ ... فَاقَتْ بقُوتِهَا قُوَى الحِيتَانِ والصَّامِتُ الحَيْرَانُ صَارَ مُفَوَّهًا ... فِي خُطَبَة يَرْوِي بَذَاكَ الشَّانِ مَا ذَلك الخَطبُ الجَسِيمُ أَيَا تُرَى ... فَالطِّفْلُ يَرْويِ أمْرَهُ ويُعَاني تِلك المُصِيبَةُ تَكَاتَفَ أهْلُهَا ... مِنْ شِيبَة فِينَا ومِنْ شُبَّانِ لاَ تَعْجَبَن لِحَالِهِمْ يَا صَاحِبي ... فَالأمْرُ يُنْكرُهُ اللَّبِيبُ الحَانِي

هَبُّوا لِنَجْدَةِ سَيد مَلأَ الدُّنا ... نُورًا وَرَاءَ الخَالِقِ المَنَّانِ ذَاكَ الذي نَشَرَ الفَضيلَةَ شَامِخًا ... وَأنَارَ دَرْبَ البضائِع الحَيْرَانِ وَأزَلَ ظُلمَ اليَأسِ بَاتَ مُجَاهِدًا ... يَهْدِي طَرِيقَ الخَيْرِ لِلإنْسَانِ ذَاكَ الإمَامُ الحَق في إِسْلاَمِنَا ... يُرْمَى بِأخْبَثِ صُورَةِ الطغْيَانِ أَيُبَاعُ فِي سوقِ الصحَائِفِ عِرْضُهُ ... بِلِسَانِ مَنْ نُزِعُوا مِنَ الإِيمَانِ؟! سَهْمٌ تَعَاطَى سُمِّهُ فِي دَارِهِ ... ويَجُولُ غَدْرًا قَاصِدًا لِمَكَانِي أوَ نَرْتَضِي بَعْدَ المُصَابِ بصَمْتِنَا ... بُكْمًا نُمَاثِلُ عِيشَةَ الحَيَوانِ؟! أوَ نَرْتَضِي حُريَةً نَطَقُوا بِهَا ... فِي فِعْلِهِمْ، لاَ والذِي أَبْكَانِي نَحْنُ الذينَ نَذُبُّ عَنْ أعْرَاضِنَا ... سَمْعًا لِقَوْلِ الوَاحِدِ الرحمِنِ ونَكُونُ لِلأعْدَاءِ سَهْمًا صَاعِدًا ... فِي قَلب مَنْ رَضِيَ الخَنَا بِزَمَانِي تَفْديكَ رُوحِي يَا مُبَلِّغَ هَدْيِنَا ... وَفدَاكَ أَمِّي لَوْ فَقَدْتُ حَنانِي شُلَّتْ يَمِينُكَ يَا مُبَلِّغَ غَاية ... أطَلَقْتَهَا مِنْ بَلدَة الألبَانِ وَتَرَكْتَهَا تَرْعَى وَربي مَاهِلٌ ... أوَلاَ تَقُولُ: اللهَ جلَّ يَرَانِي أوَمَا تَرَى أنَّ المُصِيبَةَ أرْهَقَتْ ... كُل الأنَام فَكُنْتَ أَنْتَ الجَانِي فَاللهَ أسْألُ فِي غَيَاهِب لَيْلَةٍ ... أجْرَ المُصِيبَةِ فِي الّذِي أَعْيَانِي ويمُدنا نَصْرًا عَظِيمٌ شَاُنهُ ... فَنَرُدُّ كيْدًا ظَالِمًا أَبْلاَنِي تلكَ القَوَافِي سَابَقَتْنِي بُغْيَةً ... لِلذودِ عَنْ عِرْضِ الرَّسُولِ الحَانِي فكَأنَّ جِسْمِي حِينَ وَاجَهَ أمْرَهُ ... قَدْ عَاشَ فِي الدُّنْيَا بِغَيْرِ أمَانِ فَمُصَابُنَا قَدْ وَجَّهتْ لِقَصَائِدِي ... أمْرًا لَهُ فَاسْتَقْبَلَتْهُ بَنَانِ

دمانا فداك

دمَانَا فدَاك لعبد الرحمن العدنِي دِمَانَا فِدَاكَ وآبَاؤنُا ... وَأَبْنَاؤنُا يَا رَسُولَ الهُدَى نَذَرْنَا لأجْلِكَ أَرْوَاحَنَا ... فَمَا غَيْرُكَ اليَوْمَ مِنْ مُفْتَدَى هُوَ اللهُ كَمَّلَ أَوْصَافَهُ ... وَسَمَّاهُ بَيْنَ الوَرَى أَحْمَدَا فَمَا مُنْقِصٌ فَضْلَهُ جَاحِدٌ ... وَمَنْ يَحْجُبُ النورَ مما بَدَا مَقَامُكَ يَا سَيدِى صَيَنٌ ... وَعَنْكَ الإلَهُ يَكُفُّ العِدَا * * * وشَاهَتْ وُجُوهُ الّذِينَ اعْتَدَوْا ... وَبالسُّوءٍ والشَّرِّ مَدُّوا اليَدَا أَلَمْ يَأتِهِمْ مَا جَرَى قَبْلَهُمْ ... لِمَنْ عَاث فِي الأرْضِ أَوْ أُفْسَدَا لِفِرْعَوْنَ لَمَّا هَوَى غَارِقًا ... وَقَدْ عَابَ مُوسَى فَهَلْ أَنْجَدَا * * * هُمُ أَظهرُوا للدُّنا حُبنَا ... لِمَنْ كَانَ فِينَا السَّنَا المُفْرَدَا وَإنَّا ورَبُ الوَرَى شَاهِدٌ ... لَنَارٌ عَلَى مَنْ عَلَيْكَ اعْتَدَى هِيَ الروحُ ذَابَتْ بِأشْوَاقِ ... وغَنَّى الحَنِينُ بِهَا مُنشِدَا وَفِيكَ اسْتَطَابَ الفُؤَادُ الهَوَى ... ودَمْعِي مِنْ مُقْلَتِي غَرَّدَا * * *

باري القوس

بَارِي القَوسِ مَاذَا دَهَاكَ يَا قَلَمِي؟! .. فِي السَّرَّاءِ تَعْدُو .. وفِي الضَّرَّاءِ تَغْفُو!! أَما تَنْهَض؟! .. انْهَضْ فَالخَطْب جَلَلٌ. قُمْ وَأَرِنَا بَقِيَّةَ الأَمَل .. قُمْ .. مَاذَا دَهَاكَ؟ أَمِنْ عَجْز .. أَم اسْتَمْرأتَ الكَسَلَ؟! ذَاكَ الرَّسولُ يَا قَلَم .. ذَاكَ الرَّسُولُ يَا قَلَمُ. عَجِيب .. أَيُّهَا القَلَمُ المُقَفي ... أَرَاكَ اليَوْمَ عَاصٍ .. لاَ تبَالِي! فَلاَ تَنْهَضْ إِذَا مَا اسْتَنْهَضُوكَ ... ولاَ تَجْزع لِحَادِثَةِ الليَالِي تَعَدَّى الكَافِرُ المَلعُونُ حَدًّا ... وَجَاوَزَ بِالشَّتِيمَةِ كُل غَالِي فَلاَ نَثْرٌ سَمِعْنَا مِنْكَ قَوْلاً ... وَلاَ زُمَرَ القَوَافِي سُقْتَهَا لِي رُوَيْدَكَ .. لاَ تَلُمْنِي يَا صَدِيقِي ... فَهَذَا الخَطبُ أَكْبَرُ مِنْ مَقَالِي فَإنْ كَانَتْ لِيَ السَّرَّاءُ سِتْرٌ ... فَهَذَا الضُّرُّ قَدْ أَوْدَى بِحَالِي وَفَاءً لِلحَبيبِ .. وَدَفْعَ شَرٍّ ... أَرَدْتُ كتَابَةَ الحَرْف المُحَالِ لأُنزِلَ كُل قَوْلٍ فِي مَقَامٍ ... شَرِيفٍ .. لاَئِقٍ .. كالطّوْدِ عَالِي فَمَا جَادَتْ بشَيء مِنْهُ نَفْسِي ... وَلَوْ يُشْرَى .. شَرَيْتُ وَلاَ أُبَالِي فَدَاكَ (مُحَمَّدٌ) يَفْديهِ قَوْمِي ... ونَفْسِي ثُمَ أَهْلي ثُمَّ مَالي فَلاَ قَوْلٌ يَفيهِ بَغَضُ حَقٍّ ... وَلاَ شَعْرٌ ولاَ نَثْرٌ مُسَالِ * * *

عند الرحيل

عِنْدَ الرَّحِيلِ شعر: بنت البحر هُبِّي عَذَابًا يَا رِيَاحُ وهَدِّمِي ... بِالثَّأرِ دَارَ الفِسْقِ والفُجَّارِ لا تَتْرُكِي أَثَرًا لأيِّ رَذِيلَة ... وَتَفَنَّنِي بِمَوَاكِبِ الإعْصَارِ هَدْمًا وقَتْلاَ بِالصَّوَاعِقِ فَانْزِلِيَ ... وَزَلازِلًا وَمَقَامِعًا مِنْ نَارِ وَدَعي البِحَارَ تَشُدَّ فِي هَيَجانِهَا ... لِتَدُكَّ كُلَّ شَوَاطِئِ الأشْرَارِ آن الأوَانُ لِسَحْقِهِمْ هَيَّا افْزَعِي ... لِرَسُولِ ربِّكِ كَامِلِ الأنْوَارِ فَمُحَمَّدٌ خَيْرُ الأنَام عَلَى المَدَى ... مُتَعَرضٌ لِلشَّتْم مِنْ كُفارِ يَنْشَقُّ قَلبِي صَارِخًا ومُنَادِيًا ... أهْلَ الأمَانَةِ ثُلةَ الأخْيَارِ أَنْ دَافِعُوا عَنْ حِبَنا وشَفِيعِنَا ... وَتَكَاتَفُوا فِي ثَوْرَةِ الأحْرَارِ إِنْ كَانَ فِيكُمْ نُخْوَةٌ ومُرُوءَةٌ ... لاَ تُحْجِمُوا عَنْ نُصْرَةِ المُخْتَارِ * * *

نبع الهدى

نبُع الهُدى لفهد بن علي العبودي منْ أبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَقْرَبُ ... لَكَ في قَلبي مَكَانٌ أرْحَبُ يَا حَبيبًا نَقَشَ الحُبَّ عَلَى ... كُلِّ قلب لِلهُدَى يَنْتَسِبُ قَلبُ مَنْ يَهْوَاكَ قَلب ثَابِتٌ ... وَسِوَاهُ بِالهُدَى يَضْطَرِبُ إِنْ سَلاَ قَلبُ امْرِئٍ عَنْ حُبِّه ... لَيْسَ يَسْلُو عَنْكَ قَلبٌ قُلَّبُ قَدْ بَذَرْتَ الحُبَّ فِي أعْمَاقِنَا ... مُنْذُ كُنَّا فَهْوَ فِيهَا يخْصُبُ كلَّمَا لاَمَسَهُ مِنْ هَدْيِكُمْ ... وَابِل ظَلَّ بِهَا يَعشَوْشِبُ يَتَنَامَى ذَلِكَ الحُبُّ وِإنْ ... بَاعَدَتْ بَيْنَ مُنَانَا الحِقَبُ يَا رَسُولَ اللهِ يَا خَيْرَ الوَرَى ... مُنْذُ كَانَ الخَلقُ حَتَّى يَذْهَبُوا أَيُّهَا المَبْعُوثُ فِينَا رَحْمَةً ... أَنْتَ في الرَّحْمَةِ أُم وَأبُ لَمْ يَكُنْ لِلعُرْبِ شَأنٌ فِي الدُنا ... ئُمَّ لَمّا جِئْتَ عَزَّ العَرَبُ جِئتَ لِلدُّنْيَا فَضَاءَتْ واهْتَدَتْ ... مِثْلَمَا ضَاءَ بِلَيْلٍ كوْكبُ شَعَّ مِنْ مَكَّةَ نُورٌ وهُدًى ... فَاسْتَضَاءَتْ مِنْ سَنَاهُ يثَربُ واهْتَدَتْ مِنْهُ بِلاَد وقُرًى ... مَا طَوَاهُ مَشْرِقٌ أوْ مَغْرِبُ وَسَعَتْ نَحْوَكَ أَفْواجُهُم ... تَسْتَقِي مِنْكَ الهُدَى أَوْ تَشْرَبُ يَا رَسُولَ اللهِ يَا نَبْعَ الهُدَي ... طَابَ لِلأَجْيَالِ مِنْهُ المَشْرَبُ لَمْ يَزَل نَبْعُكَ عَذْبًا صَافِيًا ... كلَّمَا يُنْهَلُ مِنْهُ يَعْذُبُ لَمْ يَزَل يَسْقِى الَّذِى يَرْتَادُهُ ... وَعَلَى طُولِ المَدَى لاَ يَنْضُبُ

مَنْ يَهَابُونَ لِقَانَا زَمَنًا ... هَا هُمُ اليَوْم عَلَيْنَا وَثَبُوا وَلَدَيْنَا منْ بَنِي جِلدَتِنَا ... مَنْ نَأَوْا عَنْ نَهْجِنَا وَاسْتَغْرَبُوا ذَلَّتِ الأمّةُ لَمَّا تَرَكَتْ ... ذِرْوَةَ الذَينِ وقَامَتْ تَشْجُبُ يَا رَسُولَ الله عُذرًا إنَّنَا ... قَد خَشِينَا القوْمَ لَما اسْتَكْلَبُوا خَسِئَ الكُفَّارُ مَهْمَا سَخِرُوا ... وبِأحْقَادِ هواهمْ عذبوا لَيْسَ تُؤْذِيكَ أَبَاطِيلُهُمُ ... لَوْ تَمَادَوْا فِي الأَذَى واسْتَرْهَبُوا أَنْتَ كالشَّمْسِ عُلُوًّا وسَنَا ... سَيُعَنَي قَاصِدِيهَا التَّعَبُ كلَّمَا حَاوَلَ وَغْدٌ قَذْفُهَا ... قَذَفَتْهُ بِلَظَاهَا الشُّهُبُ إنْ يَكِيدُوا لَكَ كيْدًا رُدَّ فِي ... نَحْرِهِمْ مَا جَمَعُوا أَوْ أَجْلَبُوا حَسْبُكَ اللهُ وَكيلاً نَاصِرًا ... فَإِلَيْهِ المُلتَجَا والمَهْرَبُ * * *

ناصر الحق

ناصر الحق لصالح بن إبراهيم العوض نارٌ تَلُوحُ لَهَا فِي المُوبِقَاتِ سَنَا ... وَقُودُهَا مَا شَرَاهُ الجَاهِلُونَ جَنَى وَيَمْكُرُونَ وَمَا فِي مَكْرِهِمْ لَغَبٌ ... عَلَى التَّقِيِّ إِذَا ما رِيعَ وامْتُحِنَا فَلَيْسَ بَعْدَ بُلُوغِ الكُفْرِ مَأثَمَةٌ ... ولَيْسَ مِنَّا الَّذي يَأسَى لَهُمْ حَزَنَا لَقَدْ تَمَادَتْ بِفُحْشِ القَوْلِ شرْذِمَةٌ ... تُقَدِّسُ الظُّلمَ والطغْيَانَ والوَثَنَا وَتَنْتشِي حِينَمَا تَغْتَالُ أُمَّتَنَا ... وَتَحْسِبُ الدِّينَ مَنْسِيًّا وَمُمْتَهَنَا شَيْطَانُهُمْ لاَ يَنَامُ اللَّيْلَ لاَحِظُهُ ... يَؤُزُّهُمْ لِوُلُوجِ الذُّلِّ مُفْتَتِنَا يدَنسونَ -مُعَاذَ الله- سِيرَتَنَا ... وَناصِرُ الحَق فِي الإِسْلاَم مَا وَهَنَا مُطَففُونَ بِمَا قَالُوا وَمَا فَعَلُوا ... مِكيَالُهُمْ أَزْوَرٌ لاَ يَنْصِفُ الثَّمَنَا يَبْغونَ فِينَا سَبِيلَ الضَّعْفِ نَافِذَةً ... لِيَنْفُثوا السُمَّ فِي الأعْقَابِ والدَّرَنَا يُنَاصِبُونَ بَنِي الإِسْلاَمِ شِرتهُمْ ... وَينصُبِونَ لَنَا فِي دَرْبِنَا شَطَنَا تَوَارَثُوهَا وَأَذْكتْهَا عَدَاوَتُهُمْ ... غِشَاوَةً تَمْسَخُ المَقْبُولَ والحَسَنَا تَسَرْبَلُوا الوَهْمَ حَتَّى ظَن هَازِئُهُمْ ... أَنَ الحَقَائِقَ مَا يُمْلُونَهُ عَلَنَا وَجَنَّدُوا كُل جَيْشٍ مِنْ جَحَافلِهِمْ ... بِلاَ عَدُوٍّ فَرَامُوا المَالَ وَالوَطَنَا وَلَنْ يَنَالُوا -وَحَقِّ الله- طِلبتَهُمْ ... فَلَنْ نَبِيعَ لِعَبْدِ المَالِ مِلَّتَنَا وَإنَّنَا مِنْ أَمَانِ الله فِى دَعَة ... وَمَن يَرُمْ شِرْعَةَ البَارِي فَقَدْ أَمِنَا أَرْواحُنَا لرَسُولِ اللهِ وَاقِيَةٌ ... وَكُل قَلب بِهِ الإِيمَانُ قَدْ سَكَنَا هَذَا مُحَمَّدٌ الهَادِي فَضَائِلهُ ... أتَمَّهَا اللهُ بِالأخْلاَقِ مَا حَسُنَا

غلت أياديهم

حَسَّانُ نَاسِخُ دِرعْ الشِّعْرِ سَابِغَةً ... قَدْ كَانَ فيهَا ورُوحُ القُدْسِ مُؤْتَمَنَا يَصُدُّ سُوءً عَنِ الإِسْلاَم مُذْ بَزَغَتْ ... مآثِرُ الدِّينِ تُفْنِي الجَهْلَ والفِتَنَا يَذودُ عَنْهُ سِهامَ الغَدْرِ مُفْتَدِيا ... بعِرْضِه وَأبِيهِ الصَّادِقَ اليَقِنَا فَكَانَ خَيْرَ أمين فِي رِسَالَتِهِ ... أَعْطَى اللوَاءَ وَإِنْ كَانَ الثرَى كفَنَا حَتَّى انْتَصَرْنَا لِعَبْدِ اللهِ سيدَنَا ... مُحَمَّد خَيْرِ منْ حَلَّ وَمَنْ ظَعَنَا حَسَّانُ إِنا عَلَى نَهْجِ الهُدَى أُمَمًا ... وَإنْ دُفِنْتَ فَإِنَّ الحَقَّ مَا دُفِنَا * * * غُلَّتْ أيَادِيهم (¬1) ماجد بن عبد الله الغامِديُّ -الظَّهران- صَلَّيتَ بالرُّسْلِ فِي مَسْرَاكَ كنتَ بِهِمْ ... كمَا يُزيِّنُ ضَوْءَ الأنْجُم القَمَرُ تَرَكتَ فِينَا كتَابَ اللهِ نَنْهَجُهُ ... وَسُنَّةً فُسِّرَتْ فِي ضَوْئِهَا السّوَرُ فَفِي جَبِينِكَ "نُورًا يُشْرِقُ القَمَرُ" ... وفِي حَدِيثِكَ ذَاكَ الهَدْيُ يَنْهَمِرُ وَفِي سَجَايَاكَ يَا خَيْرَ الوَرَى مَثَلٌ ... وَفِي حَيَاتِكَ ذَاكَ المُقْتَدَى الأثَرُ قَد كُنْتَ قَلبًا لِنَشْرِ الخَيْرِ مجْتَهِدًا ... وَكُنْتَ كَفًّا لبَذْلِ الخَيْرِ تَبْتَدِرُ إِذَا وَهَبْتَ فَلاَ مَنٌّ ولا قَتَرٌ ... وَإِنْ دُعِيت فلاَ مَطلٌ ولاَ ضَجَرُ وَكنْتَ قُرآنَنَا يَمْشِي بِخَيْرِ هُدًى ... مَاذَا نَقُولُ وَمَاذَا فيكَ نَخْتَصِرُ؟! يَا نَاصِرَ الذَينِ .. يَا وَحْيَ الإلَهِ بِهِ ... يُرَفرِفُ القَلبُ وَالَأرْوَاحُ وَالفِكَرُ * * * ¬

_ (¬1) المجلة "العربية"- عدد 349 (ص 125).

يَا أشْرفَ الخَلقِ لَنْ نَرْضَى بِمَا اقْتَرَفُوا ... هَذِي القُلُوبُ تَكَادُ اليَوْمَ تَنْفَطِرُ أرْوَاحُنَا فِي جَحيم الغَيْظ تَشْتَعِلُ ... قُلُوبُنَا بِلَهِيب الإفْكِ تَسْتَعرُ أمَنْ أضَاءَ بِنُورِ اللهِ سُنَّتَهُ ... لِلمُقْتَدِينَ فَتِلك الأنْجُمُ الزُّهُرُ مَنَاقِبُ النَّصْرِ فِي أرْجَاءِ دَعْوَتِه الـ ... ـغَرَّاءِ فِيهَا قُلُوبُ الشِّرْكِ تَنْبَهِرُ مَا بَيْنَ مُسْتَتِرٍ عَنْهَا وَمنكَسِرٍ ... تَلكَ الفُلُولُ بِعَوْنِ اللهِ تَنْدَثِرُ هُدَاكَ زَلزَلَ كسْرَى فِي مَدَائِنِهِ ... وَخرَّ قَيْصَرُ إِذْ لَمْ تُغْنِهِ النُّذُرُ يَا خَاتَمَ الرُّسْلِ لَمْ نَجْزع لِمَا كَتَبُوا ... فَالجَهْلُ يُغْوِي وهَذَا شَأنُ مَنْ كَفَرُوا غُلَّتْ أيَادِيهِمُ إِذْ صَدَّقُوا خَرِفًا ... شُلَّتْ يَدَاهُ .. وَتَبًّا لِلَّذِي نَشَرُوا يَقِينُنَا أننا نَفْدي بِمَا مَلَكَتْ ... إيمَانُنَا إنْ تَوَالَتْ حَوْلَكَ الزُّمَرُ بَلْ تَفْتَدِيكَ وَأَيْمُ اللهِ أفْئِدَةٌ ... لِنُصْرَةِ الحَق والقُرآنِ تَعْتَصِرُ * * * أرْوَاحُنَا ودِمَانَا فِيكَ نَبْذلهَا ... نَذُودُ عَنْكَ .. بِقَوْلِ اللهِ نَأتَمِرُ لاَ نَرْتَضِي قَوْلَهُمْ .. كَلاَّ وَمَا فتئتْ ... ضَرَاغِمُ الحَقِّ لاَ جُبْن وَلاَ خَوَرُ فَكَمْ لَقِينَا وَلَمْ تَضْعُفْ عَزَائِمُنَا ... وَكَمْ تَغيَّرَتِ الأفْلاَكُ وَالسّيَرُ لَكِن إِيمَانَنَا بَاقٍ ومَا ضَعُفَتْ ... مِنَّا العَزَائِمُ إِنْ ضَجُّوا وَإنْ سَخِرُوا إِيمَانُنا أنَّ وَعْدَ الله مُدْرِكُهُمْ ... وَأنَّ مَوْعِدَ ذَاكَ المُفْتَرِي سَقَرُ وَأنَّكَ المُصْطَفَى البُشْرَى النَّذِيرُ وَقَدْ ... ذُكِرْتَ إِذْ أنزِلَ الإنْجيلُ والزبرُ أدَّيْتَ فينا أمَانَات وَقَدْ شَهِدَتْ ... لَكَ القُلُوبُ وَذَاكَ السّمع والبَصَرُ عَزَاؤُنَا أنَ عُقْبَى الدَّرِ مَوْعِدُنَا ... طُوبَى لِمَنْ آمَنُوا .. بُشْرَى لِمَنْ صَبَرُوا صَلى عَلَيْكَ إِلَهُ الكَوْنِ .. نَسْألُه ... لَكَ الوَسِيلَةَ والشَّيْطَانُ مندَحِرُ

أبا القاسم ألا فاشهد

أبَا القَاسِمْ أَلاَ فَاشْهَد لمال محمود علي اليماني أُحِبُّكَ .. أُشْهِدُ الدُّنْيَا وأُسْمِعُهَا نَشِيدَ الشَّوْقِ فِي قَلبِي أَلاَ فَاشْهَدْ حبِيبي يَا رَسُولَ الله يَا أحْمَدْ إِذَا مَا الشَّوْقُ بَرَّحَنِي وَأَشْعَلَ فِي حَنَايَا القَلبِ تَحْنَانًا وَقَدْ أَزْهَرْ أُرَدِّدُهَا .. وَفِي حَلقِي لَذِيد الشَّهدِ والسُّكَرْ أَبَا القَاسِمْ سَتَبْقَى فِي عُيونِ الكَوْنِ أكبَرَ مِنْ جَهَالَتِهِمْ

نَعَمْ أَكبَرْ وَيَبْقَى فِي ضَمِيرِ الكَوْنِ ذَكرُكَ فِي المَدَى أَعْطَرْ وَتَبْقَى أَنْتَ يَا نُورًا أَضَاءَ الكَوْنَ .. نِبْرَاسًا وَتَبْقَى فِي المَدَى الأنْوَرْ فَدع عَنَّا جَهَالاَتٍ حَمَاقَاتٍ تَافَاهَات تَرُومُ الشّمْسَ والنُّجْمَا إِذَا مَا الشَّمْسُ لاَمِعَةٌ وَسَاطِعَةٌ وَأَنْكَرَ نُورَهَا الأعْمَى أَلاَ تَبْقَى .. كتِلكَ الشَّمسِ هَادِيَنا .. وحَادِيَنا أَبَا القَاسِمْ وَيَبْقَى نُورُكَ الأسْمَى!! وَتَبْقَى كَوكَبًا يَسْرِي نَسِيمًا طيِّبَ العِطرِ

نفحات الهجرى

رَبيعًا باسمَ الثغْرِ وَتَبْقَى النُّورَ هَادِينَا بكُلِّ لُحَيْظَةٍ يُولَدْ أُحِبّكَ .. أُشْهدُ الدُّنْيَا .. وأُسْمعُهَا نَشِيدَ الشَّوْقِ فِي قَلبِي أبَا القَاسِمْ أَلاَ فَاشْهَدْ * * * نَفَحَاتُ الهِجْرِىِّ لصالح بن علي العمري شَعَّ الهُدَى، وَالبِشْرُ فِي بَسَمَاتِهِ ... وَاليُمْنُ وَالإِيمَانُ فِي قَسَمَاتِهِ وَتَفَجَّرَتْ فِينَا يَنَابِيعُ الهُدَى ... واسْتَيْقَظَ التَّأرِيخُ مِنْ غَفَوَاتِهِ "اقْرَأ وَرَبِّكَ" فِي حِرَاءَ تَحَرَّرَتْ ... وَالدَّهْرُ غَافٍ فِي عَمِيقِ سُبَاتِهِ جِبْرِيلُ حَامِلُهَا وَأَحْمَدُ رُوحُهَا ... إِنَّ الحَدِيثَ مُوَثَّق بِرُوَاتِهِ مُهَجُ المَلائِكِ بِالتِّلاَوَة تَنْتَشِي ... فَتُقَبِّلُ الكَلِمَاتِ فَوْقَ شِفَاتِهِ يَا مَن كَسَاهُ اللهُ حُلَّةَ سَمْته ... وَكسَاهُ بِالقُرآنِ حُلَّةَ ذَاتِهِ لَمَّا أَضَاءَ اللهُ مُهْجَةَ قَلبَهِ ... هَانَتْ عَلَيْهِ الروحُ فِي مَرْضَاتِهِ غَسَلَ الكَرَى عَنْ أعْيُنِ الدُّنْيَا كَمَا ... يُجْلَى الدُّجَى بِالفَجْرِ فِي فَلَقَاتِهِ

وَأنَارَ بِالآيَاتِ كُل بَصِيرَةٍ ... فَكَأنَّ نورَ الشَّمْسِ مِنْ قَسَمَاتِهِ وَاقْتَادَ لِلجنَّاتِ أسْمَى مَوْكبٍ ... "إِيَّاكَ نَعْبُدُ" تَمْتَمَاتُ حُدَاتِهِ إِقْرَأ مَعَانِي الوَحْى فِي كَلِمَاتِهِ ... فِي نُسْكِهِ وحَيَاتِهِ وَمَمَاتِهِ لَوْ نُظِّمَتْ كُلُّ النُّجُومِ مَدَائحًا ... كانَتْ قَلاَئدُهنَّ بَعْضُ صفَاتِهِ يَا مَنْ بِنَى لِلكَوْنِ أكْرَم أمَّةٍ ... مِنْ عِلمِهَ .. مِنْ حِلمِهِ وَأنَاتِهِ صَارُوا مُلُوكًا لِلأَنَام بُعَيْدَ أنْ ... كَانُوا رِعَاءَ الشَّاءِ فِي فَلَوَاتِهِ فَسَلِ العَدَالَةَ وَالفَضِيلَةَ وَالنَّدَى ... وَسَلِ المُعَنَّى عَنْ مُلِمِّ شَتَاتِهِ وَسَلِ المَكَارِمَ وَالمَحَارِمَ والحَيَا ... مَنْ غَضَّ عَنْ دَرْبِ الخَنَا نَظَرَاتِهِ؟! مَنْ حَطَمَ الأصنَامَ فِي تَكبْيره ... مَنْ عَانَقَ التَّوْحِيدِ فِي سَجَدَاتِهِ مَنْ أطلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ أغْلاَلِهِ ... مَنْ أخْرَجَ المَوْؤُودَ مِنْ دَرَكَاتِهِ؟! مَنْ عَلَّمَ الحَيْرَانَ دَرْبَ نَجَاتِهِ ... مَنْ أَوْرَدَ العَطشَانَ عَذْبَ فُرَاتِهِ؟! مَنْ هَدَّ بُنْيَانَ الجَهَالَةِ وَالعَمَى ... وبَنَىَ الأمَانَ عَلَى رَمِيم رفُاتِهِ؟! فَإِذَا بِأخْلاَقِ العَقِيَدةِ تَعْتَلِي ... زُورَ التُّرَابِ وَجِنْسَهِ وَلُغَاتِهِ وَرَأى جِنَانَ الخُلدِ حَقًّا فَازْدَرَى ... دنيَاهُ .. وَاسْتَعْلَى عَلَى لَذَّاتِهِ أرَأيْتَ إِقْدَامَ الشَّهِيدِ وَقَدْ سَعَى ... لِلحَتْفِ مُعْتِذَرًا إِلَى تَمْرَاتِهِ!! حَمَلُوا الهُدَى لِلكوْنِ فِي جَفْنِ الفِدَا ... فَتَحَرَّرَ الوِجْدَانُ مِنْ شَهَوَاتِه خَيالةَ المَجْدِ المُؤَثَّلِ وَالعُلاَ ... فَكَأنَّمَا ولُدووا عَلَى صَهَوَاتِهِ سُمَّارَةَ المِحْرَابِ فِي لَيْلٍ، وَإنْ ... نَادَى الجِهَادُ فَهُمْ عُتَاةُ كمَاتِهِ فِي الهِجْرَةِ الغَرَّاءِ ذِكْرَى مَعْهَدِ ... نَسْتَلهِمُ الأمْجَادَ مِنْ خَطَرَاتِهِ

سقط القناع

تَارِيخُ أُمَّتِنَا .. وَمَنْبَعُ عَزِّنا ... وَدُرُوبِنَا تَزْهُو بِإِشْرَاقَاتِهِ فِيه الحَضَارَةُ وَالبِشَارَةُ وَالتقى ... ومُقِيلُ هَذَا الكَوْنِ مِنْ عَثَرَاتِهِ فَتَأَلقي يَا نَفْسُ فِي نَفَحَاتِهِ ... واسْتَشْرِفِي الغَايَاتِ مِنْ غَايَاتِهِ * * * سَقَطَ القِنَاعُ للشيخ محمد الفقي سَقَطَ القِنَاعُ، وَعَمَّ لَيْلٌ مُظلِمٌ ... مِنْ أُفْقِ (أورُبَّا) عَلَيْنَا يَهْجِمُ ويُحِيلُ صبحَ العَالَمِينَ سَحَائِبًا ... سُودًا، وكَانَ مِنَ النضَّارَةِ يَبْسُمُ وَمَضَى "كهُولاَكُو" يُدَمِّرُ حَاقِدًا ... كُل الجُسُورِ، ويَسْتَفِز، ويَنْقِم ويَدُوسُ أقْدَاسَ الطهَارَةِ ها هنا ... وهُنَاكَ، والفُسَّاقُ طَيْر حُوَّمُ لَمْ يَكْفِهِمْ مَا لَوثوا الدُّنْيَا بِهِ ... مُتبَجِّحِينَ كَأنَّهُمْ لَمْ يَأثَمُوا فَأتَوْا إلَى الإِسْلاَمِ آخرِ دَفْقَةٍ ... لِلنُّورِ جَاءَ بِهَا كتَابٌ محْكَمُ وَدَعَا بِهَا أَسْمَى نِبَيٍّ أَشْرَقَتْ ... بِخُطَاهُ شَمسٌ بِالهِدَايَةِ تَحْلُمُ وَغَدَوْا عَلَيْهِ حَاقدِينَ لِيُطفِئُوا ... نُورَ الّذِي أَنْوَارُهُ لاَ تُهزَم لَكنهُ حِقْدُ الصَّليبيِّين مَدَّ جُسُورَهُ ... فَدَنَا إِلَيْهِمْ فِي الخَفَاءِ الأرْقَمُ لينَالَ مِنْ قُرآنِنا وَنبِيِّنَا ... هَذَا الحَقُودُ الأحْمَقُ المُتَوَرِّمُ آَنًا بِتَحْرِيفِ الكَتَابِ، وَمَرَّةً ... بِتَطَاوُل فَجٍّ بهِ يَتَهَكَّمُ أَوْ سَبِّهِ شَرَفَ النبِي، وَصَحْبِهِ ... وَنِسَائِهِ، وَبِكُل دَعْوًى تُؤْلِمُ يَتَنَاقَلُ الكُتَّابُ نَشْرَ هُرَائِهَا ... وتُعِيدُ صُحْفُهُمُ الغَبِيةُ عَنْهُم

مِثْلَ الكِلاَبِ النَّابحَاتِ، وَكلَّمَا ... بَصُرَت بِظِلٍّ في الدِّياجِي يُقْدِمُ نَهَمَتْ لُحُومَ الضيْفِ لَمْ تَأبَهْ بِهِ ... إِنْ كانَ ضَيْفًا أَوْ غَرِيبًا يُكْرَمُ قَلَبُوا مَوَازِينَ الحَيَاةِ وبَدلوا ... حَتى رَأَى الأعْمَى، وَفَاهَ الأبْكَمُ إِنِّي لأعْجَبُ مِنْ عَدَاوتَهِمْ لَنَا ... مَاذَا أَتَاهُ المُسْلِمُونَ لِيُظلَمُوا ويُنَالَ مِنْ حُرُمَاتِهِمْ، ويُمَزَّقُوا ... ويُشَتَتُوا، ويُطَارَدُوا، ويُيَتَمُوا ونَظَلَّ طُولَ حَيَاتِنَا فِي خَنْدَق ... لِيَرُدَّ عَنا مَنْ يَصُولُ ويُحْجِمُ مُتَوَرِّمُ الشِّدْقَيْنِ مَمْطُوطُ اللهَا ... وعَلَيْهِ مِنْ آثَارِ ذبْحَتِنَا دَمُ مَا إنْ يَمُدُّ لِسَانَهُ بِزُعَافِهِ ... حَتَّى يَقِيءَ دَمًا وغَيظًا يَكْظِمُ رَكِبَ التَّعَصُّبُ رَأسَهُمْ فَتَطاَوَلُوا ... وَأَغَرهُمْ مِنا الصَّدَى المُسْتَسْلِمُ فَتَهَكَمُوا، وتَهَجَّمُوا، وتَحَكَمُوا ... وعَدَا مَعَ الأغنام غْنَام هَذَا الضَّيْغَمُ فَإِذَا اسْتَبَدَّ فطُعْمَة سَاغَتْ لَهُ ... وَإذَا اسْتَلَذ فَنِعْمَ هَذَا المَطعَمُ يَا مُسْلِمُونَ وذِي نَصِيحَةُ مَخْلِصٍ ... مُنكُمْ يُؤَرِّقُهُ الصُّرَاخُ الأعْجَمُ لَيْسَ الدِّفَاعُ عَنِ النَّبِي مُحَمَّد ... خُطَبًا تُدَبجُ أَوْ كَلاَمًا يُرْقَمُ أَوْ فِي تَظَاهُرَة تُزَلزِل شَارِعًا ... وَتُروحُ لِلبُنْيَان ظُلمًا تَهْدِمُ أَوْ فَيْضِ عَاطِفَة تَفُورُ حَمَاسَةً ... ثُمَّ انْطِفَاء مَيّت وتَشَرْذُم لَكِنَّهُ فِكْر، ونَهْجَ رَاشِدٌ ... ولُزُومُ سنتهِ الَّتِي هيَ أَقْوَم وركوبُ مَتْنِ العِلم أَنَّي يَمَّمَتْ ... آفَاقُهُ، فَالجَهْلُ عَار مُؤلِمُ والآن نَبْكِي، لاَ الدِّيارُ دِيَارُنَا ... وزَمَانُنَا هَذَا الدُّجى المُتَجَهِّمُ فَإذَا أرَدْنَا صَحْوَةً وكَرَامَةً ... تَحْمِي الحِمَى، وتَرُدُّ مَنْ لاَ يَرْحَم

فَالعِلمُ ثُمَّ الوَعْيُ لِلفِتَنِ الَّتي ... مِنْ حَوْلِنَا أبْدَوْا تُحَاكُ وتُبْرَمُ وَلِبِدْعَةِ الخَطَرِ -الصِّرَاع- المُدَّعَى ... بَيْنَ الحَضَارَاتِ الَّتِي تَتَأزَّمُ فَوَرَاءَ هَذَا الغَيْم رَعْدٌ بَارِقٌ ... وصَدَى زُخُوف فِي العَرِينِ تُهَوِّم رُوحِي فدَاؤُكَ يَا رَسُولَ الله مَا ... قَدْ لاَحَ نُورٌ أَوْ شَدَا مُترنِّم وَمَعِي ألُوفٌ مِنْ مَلاَيينَ اكتَوَتْ ... بِالحُزْنِ مِمَّا قَدْ رَمَاكَ المُجرِمُ واسْمَعْ مِنَ الفِرْدوْسِ رَجْعَ هُتافِهَا ... مِلءَ الفَضَاءِ وَبِالوَعِيدِ مُدَمْدِمُ * * *

مقامك أعلي

مقَامك أعلي إلى سَيِّدِي رسولِ - صلى الله عليه وسلم - إنتصارًا له شعر- عبد الغَنِي أحمد الحداد هَذَا مَقَامُكَ رَغْمَ كُلِّ حُسُودِ ... أسْمَى وَأعْلَى فِي ضَمِيرِ وجُودِ مَنْ كَانَ ربِّ النَّاس أعْلَى شَأنَهُ ... هَيْهَاتَ يُؤْذِيهِ جُحُودُ حَقُودِ مَا ضَر مَا فَعَل الحَقُودُ وإنَّمَا ... أهْلُ المَكَارِم عُرْضَة لِحَسُودِ الشانئُونَ طَوَتْهُمُ أحْقَادُهُمْ ... وطَوَتْهُمُ الأيَّامُ فِي تَنْكِيدِ أوَمَا أَتَى هَذَا النَّبِي مُحَرّرًا ... لِلفِكْرِ مَنْ أسْرٍ ومِنْ تَقْيِيدِ عَجبًا لَهُمْ لَمْ يُدْرِكُوا أَفْضَالَهُ ... عَمِيَتْ بَصَائِرهُمْ بِلَيلِ جُحُودِ جَهِلُوا مَكَارِمَهُ الحِسَانَ وفَضْلَهُ ... فِي نَشرِ أنْوار وكسْرِ قُيُودِ جَهِلُوا عِطَايَاهُ الكِبَارَ وَإنَّهُمْ ... ضَلُّوا ومَنْ عَادَاهُ غَيْرُ رَشِيدِ * * * هَيْهَاتَ مَا هَانَتْ رِسَالَتُكَ الّتِي ... أحيَتْ مواتَ الفكر بعد جمودِ قَدَّمْتَ للأجْيَالِ أعْظَمَ دَعْوَة ... تَسْمُو وتَدْعُو لِلهُدَى المَنْشُودِ وحَمَلتَ لِلإِنْسَانِ نُورَ هِدَايَةً ... يَمْضِي بِهِ لِغَد أغَرَّ مَجِيدِ وكَرَامَةُ الإِنْسَانِ تُعْلِي شَأنَهَا ... تَنْأى بِهِ عَنْ واقِع مَكْدُودِ حَررتَهُ مَنْ كُلِّ قَيْد زَائف ... سَاوَيْتَ بَيْنَ مُسَوَّدٍ ومَسُودِ دينُ السَّمَاحَةِ دِيننَا لكِنَّهُمْ ... نَظَرُوا بِعَيْنِ مُكَذِّب وكنُودِ أَوَمَا نَشَرْنَا فِي الوُجُودِ حَضَارَةً ... بَنَّاءَةً كمْ أبدِعَتْ بِجُهُودِ

والعَدْلُ والإِحْسَانُ عُنْوان لَهَا ... والخَيْرُ رَائِدُهَا لِدَرْبِ سُعُودِ أَوَمَا بَنَيْنَا وَحْدَةً مِعْطَاءَةً ... لَمْ تَعْتَرِفْ بِحَوَاجِزٍ وَحُدُودِ * * * يَا أُمَّةَ الإِسْلاَم هَلاَّ غَضْبَةً ... لِلحَقِّ تُعْلِي رَايَةَ التَوْحِيدِ سِيرِي عَلَى نَهْجِ الرَّسُولِ وهَدْيِهِ ... وَبِهِ إلَى عزِّ الحَيَاةِ فَعُودِي سَيري عَلَى دَرْبِ الرَّسُولِ وجَدِّدي ... عَهْدَ الوَفَاءِ لَهُ بكُلِّ صَعِيدِ وامْضِي بِنُورِ الحَقِّ لا تَتَرَدَّدِي ... وَدَعِي الخُمُولَ لمترَفٍ رِعْدِيدِ ودَيِر دُعَاةَ الشَّرِّ فِي أحْقَادهِمْ ... مِنْ كُلِّ أَحْمَقَ فَاسِقٍ عِرْبِيدِ عُودِي لِحَبْلِ اللهِ فِيهِ تَمَسّكي ... قُرآنُهُ هَادٍ لِكُلِّ شَرُودِ * * * يَا سَيِّدِي هَذِي طَلاِئعُ أُمَّةٍ ... غَضِبَتْ لِحَقِّكَ وَاجَهَتْ لِلَدُودِ أَوَ مَا غَرَسْتَ بِهَا مَشَاعلَ عِزَّةٍ ... فِي العَالَمِينَ، وقُوَّةً بِزنُودِ أوَ مَا بَنَيْتَ مِنَ التَّفَرُّقِ أُمَّةً ... حَمَلَتْ لِوَاءَ الحَقِّ رَغَمْ جُحُودِ سَتَعُودُ أُمَّتُنَا بِرَغْم مَكَائِدٍ ... تَبْنِي الحَيَاةَ بِعَزْمِهَا المَعْهُودِ ثَارَتْ عَلَى الطُوفَانِ جَاءَ مُعَرْبِدًا ... يَجْتَاحُ عِزتنا بِكَيْدِ مَرِيدِ تلكَ البشَائِرُ قَدْ تَرَاءى وَمْضهَا ... مِنْ كلِّ أرْضٍ رَغْمَ عَصْفِ قُيُودِ لاَبُدَّ أنْ تَأتِي طَلاِئعُ فَجْرِنا ... تَجْتَاحُ لَيْلَ البَاطِلِ المَنْكُودِ وَيَظَلُّ ذِكْرُكَ فِي المَعَالِي خَالِدًا ... ويَظَلُّ هَدْيُكَ مشْرَعًا لِوُرُودِ (¬1) ¬

_ (¬1) مجلة "الوعي الإسلامي"- العدد (486) - صفر 1421 هـ (ص 33).

بأبي أنت يا رسول الله!

بِأَبِي أنتَ يا رسُولَ اللهِ! (¬1) لشهاب غانم -الإمارات عَلِّمُوهُمْ مَنْ مَنْ يَكُونُ الرَّسُولُ ... كَمْ هَوَتْهُ قُلُوبُنَا والعُقُولُ أبتَرٌ كُلُّ شَانِئٍ وجَهُولٍ ... كَأبي الجَهْلِ وَالمَصِيرُ مَثِيلُ قَاطِعُوهُمْ فَالمَالُ رَبٌّ لَدَيْهِمْ ... فَاضْرِبُوهُمْ فِي جَيْبِهِمْ كَيْ يَحُولُوا عَلِّمُوهُمْ -مِنْ دُونِ عُنْفٍ - بأنَّا ... تَحْتَ هَذَا الرمادِ جَمْرٌ يَسِيلُ وَبِأنَّ الرَّسُولَ لَيْسَ مَجَالاً ... لِلسَّفَاهَات فَهْوُ طَوْدٌ طَوِيلُ شَامِخ .. شَامِخ .. عَظيم .. عَظِيم ... رَائِعٌ .. رَائِعٌ، جَلِيلٌ. جَلِيلُ هُوَ لِلعَالَمِينَ رَحْمَةٌ ... رَحْمَنٌ وَلِلمُؤْمِنينَ ظِلٌّ ظَلِيلُ بأبِي أنتَ يَا رَسُولُ وَأمُي ... نَحْنُ نَفْدِيكَ إنْ تَعَدَّى جَهُولُ أَنْتَ حَيٌّ مَدَى الزَّمَانِ بَهِيٌّ ... بَاهِر .. بَاهِر .. جَمِيل .. جَميلُ وَهُمُ أعْيُن بغَيْرِ عَيُونٍ ... وَقُلُوبٌ مَخْتُومَةٌ، فَهْيَ لَيْلُ أوَلاَ يَشْهَدُونَ دِينًا عَظِيمًا ... فِي انْتِشَارٍ، مَهْمَا الحِصَارُ يَهُولُ أوَ هَذَا هُوَ الّذِي يَصِمُوهُ ... بصِفَاتِ الإرْهَابِ؟ أَيْنَ العُقُولُ؟! أوَ نَفْثُ الأحْقَادِ حُريةُ القَوْلِ ... وهَذَا التَدْليسُ والتَدْجِيلُ؟ أم لَدَيهِمْ كَيْلانِ: كَيْلٌ لِبِيضٍ ... وَيَهُودٍ، وللبَقِيَّةِ كَيْلُ * * * ¬

_ (¬1) "المجلَّة العربية" - العدد (349) - (ص119).

أَيُّهَا السَّاخِرُونَ مِنْ كُلِّ دِينٍ ... وَمِنَ الحَقِّ كَيْفَ ضَاعَ السَّبِيلُ؟! أَتُرِيدُونَنَا اتِّبَاعَ خُطَاكُمْ ... كَيْ إِلَى مِثْلِه يُزَفّ المَثِيلُ؟! إِنَّ دِينَ الإِسْلام دِينُ سَلاَمٍ ... وَحِوَارٍ مَهْمَا عَلاَ التضْلِيلُ هُوَ دِينٌ يُجِلُّ مُوسى وعِيسَى ... واسمُ أُمِّ المَسِيحِ فِيهِ البَتُولُ نَحْنُ لَمْ نَصْنِع المَحَارِقَ ... والحَرْبَانِ مَنْ كَانَ عَنْهُمَا المَسْؤُولُ؟ مَا صَنَعْنَا قَنَابلِ الذَر حَتَّى ... وَلوَلَتْ حَوْلَ "هِيروشيمَا" الطلُولُ دُولٌ كن خَلفَ تِلكَ المَخَازِي ... وَسِجِل الجُنَاةِ حَقًّا يَطُولُ * * * بِأبِي أَنْتَ يَا رَسُولُ وَأُمِّي ... كَمْ شَكَوْنَا فَمَا أَفَادَ العَوِيلُ هُمْ يَظُنُّونَ أننَا قَدْ هُزِمْنَا ... وَانْتَهيْنا وَضَمَّنا المَجْهُولُ وَرَأَيْنَا سَادِيَةً وشُذُوذًا ... بَيْدَ أن الَّذِي تَبَدَّى القَلِيلُ إِنمَا نَحْنُ مَنْ يُلامُ فَظُلمٌ ... وَفَسَادٌ .. وفُرْقَة .. وَخُمُولُ لَمْ يَعُدْ لِلخُيُولِ فِينَا صَهِيلٌ ... أوْ يَعُدْ لِلَسيُوفِ فِينَا صَلِيلُ بِأبِي أَنْتَ يَا رَسُولُ وَأُمِّي ... قُلْ لَنَا كَيْفَ نَقْتَدِي وَنَقُولُ كَمْ تحَمَّلتَ مِنْ دُهَاةِ الأعَادِي ... وَهُمُ اليَوْمَ فِتْنَةٌ وَفَتِيلُ أغْرَقُوا الكَوْنَ فِي صِراعِ الحَضَارَاتِ ... وَهَذَا خَطِيبُهُمْ صَمْوِيلُ هُمْ يُرِيدُونَ ضَرْبَ شرْقٍ بِغَرْب ... لِيَفُوزُوا والكُلُّ جَمْعًا يَدُولُ أيُّها الشَّانِئُونَ فِي الغَرْبِ مَهْلاً ... نَحْنُ نَصْحُوا إِذَا يُسَبُّ الرسُولُ نَحْنُ نَبْغِي تَعَايُشًا وَسَلاَمًا ... وَحِوِارًا فِيهِ الوِئَامُ أَصِيلُ إِنَّمَا نَحْنُ لَنْ نَظَلَّ مَدَى الدَّهَرْ ... نِيَامًا إِذَا تُدَقُّ الطُّبُولُ

فديت أكرم هاد

فديتُ أكرم هادٍ (¬1) د/ عبد الرحمن العشماوي - الرياض يَا بِنَفْسِي فَدَيْتُ خَيْرَ نَبِيٍّ ... وَبِرُوحِي فدَيْتُ أكرَمَ هَادِي وَبِشَعْرِي نَافَحْتُ عَنْهُ ابْتِغَاءً ... لِمَقَامٍ النَّجَاةِ يَوْمَ التَّنَادِي دُونَ عِرْضِ النَّبِيِّ، عِرْضِي وَوَجْهِي ... وَحَيَاتِي وَطَارِفِي وَتِلاَدِي صُورَةُ المُصْطَفَى تُضِيءُ بِهَدْي ... وَيَقِينٍ وحكْمَةٍ وسَدَادِ نَوَّرَ اللهُ وَجْهَهُ، فَهْوَ بَدْرٌ ... يَتَجَلَّى لِحَاضِرٍ وَلِبَادِي صُورَةُ المُصْطَفَى أجلُّ وَأسْمَى ... مِنْ يَد لُوثتْ بِشَرِّ مَدَادِ أَيْنَ أَهْلُ الفِرْدَوْسِ مَنْ أَهْلِ كُفْرٍ ... وَضَلاَلٍ وغَفْلَة وَعِنَادِ؟! إِنهُ المُصْطَفَى الحَبيبُ تَسَامَى ... وَهْوَ حَيٌّ عَنْ سَورَة الأحْقَادِ هَوَ -واللهِ- فِي السَّمَاءِ مُقِيم ... فِي الرفِيقِ الأعْلَى، رَفيعُ العمَادِ فِي المَقَامِ المَحْمُودِ عِنْدَ إِلَه ... صَانَهُ مِنْ تَآمُرِ الحُسَّادِ شَاتِمُ المُصْطَفَى سَيَشْرَبُ نَارًا ... وَسَيَصْلَى بِجَمْرِهَا الوَقَّادِ كلَّمَا حَاوَلَ القِيَامَ تَرَاخَى ... وَتَهاوَى، فَوَجْهُهُ فِي الرمَادِ خَسِرَ الكَافِرُ المُعَانِدُ دنيَا ... قَبْلَ أُخْرَى، وَذَاقَ طَعْمَ الكَسَادِ إِنْ تَمَادَى فَسَوْفَ يَشْرَبُ كَأسًا ... مِنْ صَدِيدٍ جَزَاءَ هَذَا التَّمَادِي * * * ¬

_ (¬1) "المجلة العربية" - العدد (349) - (ص 121).

رَبَّ هَذَا جُهْدُ المُقِلِّ وَقَلبِي ... أنْتَ أدْرَى بِه فَحَقِّقْ مُرَادِي قَالَ حَسَّانُ -ذَاتَ يَوْمٍ- عَدِمْنَا ... خَيْلَنَا إِنْ تَأَخرَتْ عَنْ جلاَدِ وَأنَا قُلتُهَا: عَدِمْنَا قُلُوبًا ... إِنْ تَوَارَتْ عَنْ حُبِّهَا لِلرَّشَادِ وَعَدِمْنَا أرْواحَنَا إِنْ تَوَارَتْ ... عَنْ مَيَادِينِ دَعْوَةٍ وَاتِّحَاد * * *

تحية ودفاع عن عرضه - صلى الله عليه وسلم -

تحيَّة ودفاعٌ عن عرضه - صلى الله عليه وسلم - (¬1) محمد بن عائض القرني مَا بَالُ مَكَةَ قَدْ ضَجَتْ نَوَاحِيهَا؟ ... وَدَمْعُ طَيبَةَ جَرِى مِنْ مَآقِيهَا؟ مَا للجَزِيرَةِ قَدْ مَادَتْ بِسَاكنِهَا؟ ... فَاهْتَزَّ شَامخُهَا وَارْتَجَ وَادِيهَا! مَاَ لِلعُرُوبَةِ وَالإِسْلام رَوَّعَهَا ... خَطبٌ ألَمَّ وظُلمٌ مِنْ أعَادِيهَا؟ أيَسْخَرُونَ مِن الهَادِي الَّذِى شَرُفَتْ ... بِهِ البَرِيَّةُ قاصِيَهَا ودَانِيهَا؟! أيَسْخَرُونَ مِنَ الأنْوارِ قَدْ كشَفَتْ ... مَجَاهِلَ الظُّلم فَانْزَاحَتْ غَواشِيهَا أيَسْخَرُونَ مِنَ المَجْدِ الَّذِي خَضَعَتْ ... لَهُ الجَبَابِرُ حَتَّى ذَلَّ طَاغِيهَا أيَهْزَؤُونَ بهِ؟ شُلَّتْ أكفهمُ ... وَدَمَّرَ اللهُ مَا تَجْني، وَجَانِيهَا أعْدَاءُ كُلّ نَبِي جَاءَ يُنْقِذُهُمْ ... مِنَ الضَّلاَلَةِ لَمَّا أُرْكسُوا فِيهَا مُحَمَّدٌ خَيرُ مَنْ سارتْ به قَدَمٌ ... وَأكْرمُ النَّاسِ مَاضِيهَا وَباقِيهَا أوْفَى الخَلِيقَةِ إِيمَانًا وأكمَلُهَاُ ... دِينًا وأَرْجَحُهَا فِي وَزْنِ بَارِيهَا مَنْ مِثْلُهُ فِي الوَرَى بِرًّا وَمَرْحَمَة؟ ... وَمَنْ يُشَابهُهُ لُطفًا وَتَوْجِيهَا؟ جَاءَتْ رِسَالَتُهُ لِلنَّاس خَاتِمَةً ... وَجَاءَ بالنّعْمَةِ المُسْدَاةِ يَهْدِيهَا أحْيَا الحَنِيفِيَّةَ الغَرَّاءَ مُتَّبعًا ... نَهجَ الخَلِيلِ وَلَمْ يُخْطِئْ مَرَامِيهَا وَسَارَ فِي كنَف الرحمَنِ يَكَلَؤُهُ ... إلَى الحِسَانِ مِنَ الأخْلاَقِ يَبْنِيهَا هوَ البَشِيرُ لَمِنْ أصْغَى لِدَعْوَتِهِ ... هُوَ النَّذِيرُ لِمَغْرُورٍ يُعَادِيهَا ¬

_ (¬1) مجلة "البيان" - العدد (222) - (ص 58).

كسْرَى تَكَسَّرَ إِذْعَانًا لِهَيْبَتِهِ ... قُصُورُ قَيْصَرَ هُدَّتْ أعَالِيهَا! وَأقْبَلَتْ أمَمٌ شَتَّى مُبَايِعَةً ... تَمُدُّ لِلعَدْلِ وَالإِحْسَانِ أَيْدِيهَا نَالَتْ بِدَعْوَتِه نُعْمَى وَمَكْرُمَةً ... وأسْعَدَ اللهُ بَعْدَ البُؤْسِ نَادِيهَا فِي الهنْد والصِّينِ والقُوقَازِ طَائِفَة ... تَذُودُ عَنْ عَرْضِ خَيْرِ النَّاسِ تَنْزِيهَا وَفي (أوَربَةَ) أقوَام قُلُوبُهُمُ ... بِدِينِ أَحْمَدَ قَدْ نَالَتْ أمَانِيهَا الصَّامِدُونَ بِوَجْهِ الكُفْرِ مَا ضَعُفُوا ... يُجَابهُونَ المَنَايَا فِي تَحَدِّيهَا يَفْدُوَن عِرْضَ رَسُولِ اللهِ مَا بَخِلُوا ... وَبِالنُّفُوسِ إِذَا نَادىَ مُنَادِيهَا! حَتَّى إِذَا نَشَرَ الأنْذَالُ حِقْدَهُمُ ... وبَارَزُوا اللهَ مِنْ عُدْوَانِهِمْ تِيهَا تَؤُزّهُمْ زُمَرٌ ضَاقَتْ نُفُوسُهُم ... لَهُمْ عَيُونٌ شُعَاعُ الحَقِّ يُعْشِيهَا بَنُو اليَهُودِ ومَنْ سَاءَتْ سَرِيرَتُهُ ... فَأبْدَلَ الصِّدْقَ تَزْوِيرًا وتَمْويهَا أيَسْخَرُونَ مِنَ المَعْصُوم وَيْلَهُمُ؟ ... وَيَطلُبُونَ لَهُ ذَمًّا وتَشْوِيهَا؟ مَنْ جَاءَ بِالمِلَّةِ البَيْضَاءِ صَافِيةً ... نَقيَّةً؛ وبِنُورِ الوَحْي يُحيِيهَا أقَامَ بِالعَدْلِ مَجْدًا لا زَوَالَ لَهُ ... وأمَّةً كنَفُ الرَّحْمَنِ يَحْمِيهَا مِنْ بِئْرِ زَمْزَمَ سُقْيَاهَا وَمَطعَمُهَا ... مِنْ تَمْر طيبَةَ قدْ طَابَتْ مَغَانِيهَا أَرْوَاحُهَا بِظِلاَلِ البَيْتِ هائِمَةٌ ... مِنْ دُونِهِ تَرْخُصُ الدُّنْيَا ومَا فِيهَا! فَدَاءُ عِرْضِ رَسُولِ الله أنْفُسُنَا ... وكُل نَفْسٍ ومَا تَحْوِيهِ أيْدِيهَا وَصَلِّ يا رَبِّ مَا هَبَّ النَّسيمُ عِلَى ... مُعَلِّم الأمَم الحَيْرَى وهَادِيهَا تَحِيَّة لِرَسُولِ اللهِ أبْعَثُهَا ... وَيَوْمَ هِجْرَتِهِا الغَرَّاءِ أُهْدِيهَا * * *

نداء استغاثة

نِدَاءُ استِغَاثَةٍ لصلاح الدين الغزال (¬1) لتَعْذُرْنَا رَسُولَ اللهِ إِنا ... نُعَانِي تَحْتَ أهْوَالٍ عِظَام أمَاتُوا أمةً هَانَتْ وَنَادَوْا ... بِأن سُبَاتَنَا لِلدِّينِ حَام وَهُمْ أعْدَاؤنُا سِرًّا وَلكِنْ ... هُنَاكَ تَفَاوُتٌ عِنْدَ الصَّدَام وآخَرُ يَدَّعِي الإسْلامَ زَيفًا ... يَسُوسُ النَّاسَ قَسرًا بِالحسَام يَرَوْنَ دِمَاءَنَا لِلسَّفْكِ حِلاًّ ... فُسَاةً يَلهَثُونَ بِلاَ أُوَام غَدَاةَ السِّلم كلهُمُ صُقُورٌ ... وَعِنْدَ الحَرْبِ أشْبَهُ بِالحَمَام يَدُوسُونَ النُّفُوسَ بِلاَ حَيَاءٍ ... وَقدْ جُبِلُوا عَلَى سَحْلِ الأنَام غُثَاءُ السَّيْلِ صَارَ لَنَا شَبِيهًا ... نَهِيمُ بِلا هُدًى مِثْلَ السَّوَام رَسُولَ اللهِ لاَ تَأبَهُ لِرَسمٍ ... شَنِيعٍ صَاغَهُ بَعْضُ اللئَام تَصَدَّى نُورُ وَجْهِك دُونَ لأيٍ ... مَعَ الإيمَانِ جَهْرًا لِلظَّلاَم فَزَالَ الكُفْرُ عَنْ قَيْسٍ وَأضْحَتْ ... . بِكَ الرُّكبَانُ تَرْفُلُ بِالسَّلام وَهَا شَاهَدْتَ فِي الأجْسَادِ نَزْفِي ... وَقَدْ كَرُّوا علَى المَوْت الزُّؤام شَبَابٌ لاَ يَخَافُونَ المَنَّايَا ... تَداعَوْا للَّظَى وَالأفقُ دَام فِدَاكَ أبِي ورَوُحِي دُونَ مَنٍّ ... أُقَدِّمُهَا إلَى مَرْمَى السَّهَام وَلَوْ قدْ كَانَ لِي رَهْطٌ وَخَيْل ... لأسْمَعْتُ الأُلَى خَسئِوُا كَلامي وَلكِنْ لاَ سِلاحَ لَهُ نُفُودٌ ... سِوَى قَلَمِي لإيقَاظِ النِّيَام ¬

_ (¬1) بَنِي غَازِي - لِيبيا.

صرخت ولكن

فَلَيْتَ لَنَا بِجَوْفِ الغِمْدِ سَيْفًا ... وَلَيْتَ لَنَا وَرَاءَ القَوْسِ رَام جَمِيلُ الفِعْلِ لَيْسَ هُنَاكَ شَكٌّ ... نَزِيهٌ أَنْتَ عَنْ كُلِّ اتِّهَام نِدَائِي يَا رَسُولَ الله يَوْمًا ... بِأنْ أُشْفَى بِحَوْضِكَ مِنْ سَقَامِي بِمَدْحِكَ أَرْتَجِي وَالوَيْلُ خَلفِي ... وَقَدْ عَاثَ العِدَى حُسْنَ الخِتَام صَرَخَتْ وَلكِنْ لعبد الله أحمد كامل صَرَخَتْ تُنَادي أُمَّةَ المِليَارِ ... أوَمَا تَرَونَ خَنَاجِرَ الغَدَّارِ فِي القَلبِ يَطعَنُنِي وَجُرْحِي نِازقٌ ... ودَمِي الحَزِينُ يَفِيضُ كَالأنهَار أوَمَا تَرَى الجَلاَّدَ يَحْفُرُ سَوْطُهُ ... ونُدُوبُهُ فِي الجِسْم كَالأغوارِ أو مَا تَرَوْنَ الذِّئْبَ يَنْهَشُ المِعزى ... وَيَسُبُّكُمْ يَا ضَيْعَةَ الأطهَارِ أوَ تَرَى الغِرْبَانَ تَسْحَقُ ضَحْكِيَ ... وَتُحَارِبُ التَّغْرِيدَ فِي أطيَارِي وَعَقَارِبُ الظُّلُماتِ تَنْفُثُ سُمَّهَا ... وَتَشُنُّ هَجْمَتَهَا عَلَى الأنْوَارِ يَسْعَى اللَئامُ لِطَمسِ نُورِ هِدَايتي ... مَا بَالُ أمَّة سَيِّدِ الأقْمَارِ يُرْمَى بِأضْغَانِ الكفورِ وقَوْمهِ ... سِكِرُوا بِكَأسَ مَذَلَّهّ وَصَغَارِ هَاهُم ضَحَايَا رَقْصَة مِنْ حَيًّةٍ ... جَلَبَتْ عَلَى الشُّرَفُاء كُلَّ العَارِ وَقُلُوُبهُمْ سُحِرَت بلَحن مَاجِنٍ ... حُرِمَتْ نَعِيم الذكرِ فِي الأسْحَارِ وعُقُوُلهُمْ كُرَةٌ وَأقْدَامُ العِدَا ... كَادَتْ تُمَزِّقُهَا فَأَيُّ شَنَارِ يَا فَرحَتِي بِالكأسِ بَلْ يَا حَسْرَتِي ... هَذَا وِسَامُ هَزِيمتي وَخَفَارِي

رَكعُوا لِذَابِحِهِمْ فَصَارَ النَّعْلُ سِكِّينًا ... وَيَلكُمْ بغْيَةَ الكُفَّارِ أَسَفَاه قُومُوا يَا سُكَارَى وَيْلَكمْ ... يَا لانْحِطاطِ الوَاهِنِ الخَوَّارِ أيْهَانُ شَمسُ العَالَمِينَ رَسُولُكُمْ ... أوَ تَقْبَلُونَ إهَانَةَ المُخْتَارِ تتسَابَق الحَشَرَاتِ فِي رَسْم العُلاَ ... لِتُهِينَهُ بَاءَتْ بِكُلّ بَوَارِ وَيُخَوِّفُونَ بِرَسْمِهِ أمْثَالَهُمْ ... منْ طِغْمَةِ الأنْجَاسِ وَالأشْرَارِ يُحَارِبُونَ مُحَمَّدًا خَيْرَ الوَرَى ... أَوْ يَرْجُمُونَ الصَّفْوَ بِالأكْدَارِ أيُسَبُّ خَيْرُ المُرْسَلِين مُحَمَّدٌ ... وَالصَّمْتُ يَخْنُق ثُلَّةَ الأخْيَارِ أوَلَم يَذُقْ فِي الحَقِّ أَوَانَ الأذَى ... لِيَعُمَّكُمْ بِهِدَايَة الغَفارِ أوَ لَمْ يُفَارِقْ دَارَهُ مُتَألِّمًا ... لِيكُونَ دِينُ اللهَ أكْرْمَ دَارِ أوَ لَمْ يَفُرْ مِنْ وَجْهِهِ الغَالي الدَّمُ ... الغَالِي لِتَعْلُو رَايَةُ الأبرَارِ أيَجُودُ بِالرُّوحِ الحَبِيبُ لَأجْلِنَا ... وَنَصُدُّ نَهْرَ الجُودِ بِالإِمَتَارِ أوَ مَا تُحِبونَ الرسولَ فَمَا لَكُمْ ... أنَّى تكُونُ بصيحة وشعار إِنيِّ رَأيْتُ الحُبَّ يُثْمِرُ غَيْرةً ... وأرَى مَحَبَّتَكُمْ بِغِيَرْ ثِمَارِ سَئِمَ القَصِيدُ مَدِيحَكُمْ وَهُتَافَكُمْ ... أشْقَيتُمُوهُ بكَاذبِ الأشْعَارِ وروحُ المُحِبِّ يَذُوبُ في مَحْبُوبِه ... والمُدَّعي لِلحُبِّ لَيْسَ بِدَارِ يَا أمَّةَ المُخْتَارِ يُطعَنُ فجرُكُمَ ... أوَ مَا لِفجَر الحَقِّ مِنْ أنْصَارِ صَرَخَتْ وَطَالَ صُرَاخُهَا يَا قَوُمُ يَا ... يَا الِغَفْلَة أُمَّة المليَارِ صَرَخَتْ وَجُن صُرَاخُهَا وتَقَطَّعَتْ ... أوْصَالُهَا يَا غِلظة الأوْقَارِ أنَا لاَ ألُومُ الكَافِرِينَ فَكُفْرُهُمْ ... هُو شَأنُهُمْ فِي الجَهْرِ والإسْرَارِ

رسول الهدى محمد - صلى الله عليه وسلم -

لكَنْ أَلُومُ المُدَّعِينَ وَقَدْ أَبَوْا ... إلاَّ عِنَادَ الوَاحِدِ القَهَّارِ آَذَوْا رسول الله وهو سراجهم ... أوَلَمْ يَخَافُوا نِقْمَةَ الجَبارِ رَسُولُ الهُدَى مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي عَانِقِي المَجْدَ وَاخْفُقِي يَا بِيدُ ... كُلَّ يَوْمٍ عَلَى رِمَالِكِ عِيدُ رَايَةٌ بَعْدَ رَايَة وَزُحُوفٌ ... فِي مَيَادِينِهَا وَفجْرٌ جَدِيدُ لاَ يَزَالُ التَّارِيخُ يَدْفَعُهُ النَّصْـ ... ـرُ ويَبنِيهِ مُؤمِنٌ وشَهِيدُ والنبوَّاتُ آيَةُ الله يُجْلَى الحـ ... ـق فِي نُورِها ويُجْلَى الوُجُودُ تَصِلُ الأرْضَ والزَّمَانَ فتَمتَـ ... ـد مَواثَيقُ أُمَّة وَعُهُودُ يَا لَحَق جُذُورُهُ ضَرَبَتْ فِي الأ ... رْضِ وامْتَدَّ سَاقُهُ والعُودُ إنَّهُ جَوهَرُ الحَيَاةِ وَفَيْضٌ ... عَبْقريٌّ وَفاؤُه وَالجُودُ إِنَّهُ الوَحْيُ والرسالةُ لِلنَّا ... ـسِ وهَذا رَسُولُهَا المَشْهودُ سيّدُ النَّاسِ! بَيْنَ نَصْر مِنَ اللـ ... ـه وَعِزٍّ لِوَاؤُهُ مَعْقُودُ إِنَّهُ أَحْمَدُ النَّبِيُّ! فَبُشْرَى ... بَيْنَ آيات ربِّهِ وَوَعِيدُ فَمِنَ اللهِ كُلُّ فضْلٍ عَلَيْهِ ... آيَةُ الحَقِّ والهدَى التَوْحِيدُ * * * يَا جَلاَلَ الإسْرَاءِ: يَحْمِلُهُ الشـ ... ـوقُ وَجِبْريلُ والبُرَاقُ الشَّدِيدُ والفَضَاءُ المُمْتَدُّ يَنْشُرُ أنْوا ... رًا فَتَنْشَقُّ ظُلمَةٌ وسُدُودُ

أيُّ نُورٍ يَطُوفُ بِالكَوْنِ تُجْلَى ... مِنْ سَنَاهُ أحْنَاؤُنَا والكُبُودُ إنهُ المُصْطَفَى! أَطَل فَهَبَّتْ ... للِقَاهُ نُبُوةٌ وَجُدُودُ وَإذَا السيِّدُ العَظِيمُ إمَامٌ ... وجَلالٌ يَحُوطُهُ وحُشُودُ وَإذَا أنْتِ يَا فِلَسْطِينُ نُورٌ ... يَتَلألأ وَجَوْهَرٌ وَعُقُودُ فَاخْشَعي يَا ربُى فَهَذِي دُرُوبٌ ... لِجِنَانٍ وَمحْشَرٌ وخُلُودُ وَرِبَاطٌ للهِ تَحْرُسُهُ العَيـ ... ـنُ وقلَبٌ ووَثْبَةٌ وَزُنُودُ * * * يَا ظلاَلَ الأقْصَى! نَدَاكِ غَنِيٌ ... بِالرجا، صَادِقُ الوَفَاءِ، رَغِيدُ كُل شِبْرٍ بِهِ مَوَاقِعُ وَحْيٍ ... وَجِهادٌ عَلَى الزَّمَانِ جِديدُ إِن دَارًا يَحُوطُهَا اللهُ تأبْىَ ... أنْ يُخَانَ الوَفَا وتُطوَى الوُعُودُ إِن أرْضًا للهِ لاَ يَتَوَلَّى ... عَنْ حِمَاهَا فَتًى أَبَر جَلُودُ مَنْ يَخُنْ عَهدَهُ مع الله يُرْهِقـ ... ـه عَذَابٌ مِنْ ربه وَصَعُودُ * * * يَا رَسُولَ الهُدَى! سَلاَمٌ مِنَ اللـ ... ـه ومِنْ مُؤْمِنٍ لَهُ تَرْديدُ وصَلاةٌ عَلَيْكَ، تَخْشَعُ فِيهَا ... أضْلُعٌ أسْلَمتْ وهَذِي الكُبُودُ كُل فَتْحٍ بلغْتَهُ هُوَ آيَا ... تٌ مِنَ الله خَيْرُهَا مَمْدُودُ غَيْرَ أن القُلُوبَ أقْسَى عَلَى الفَتْـ ... ـح وَأغْلَى سَبِيلُهَا والجُهُودُ فسَبِيلُ القُلُوبِ هَدْيٌ منَ اللـ ... ـه، سَبِيلُ البِلاَدِ سَيْفٌ حَدِيدُ فَإِذَا مَا التَقَى عَلَى الحَق سَيْفٌ ... وَبَلاغٌ فَذَاكِ فَتْحٌ مَجِيدُ

بنَيتَ الّذِي تُقَصِّرُ عَنْهُ ... عَبْقَرِياتُ أعْصُرٍ وَحُشُودُ أُمَّةٌ لَمْ تَزَلْ إِلَى الله تَسْعَى ... هِيَ فَتْح مِنْهُ وَنصْر فَرِيدُ * * * يَا رَسُولَ الهُدَى! سَلاَم مِنَ اللـ ... ـهِ ومِنَّا الوَفَاءُ والتَوْحِيدُ وَصَلاةٌ عَلَيْكَ نَعْبُدُ فيهَا اللـ ... ـهِ نَرجو رِضَاءَهُ ونُعيدُ رَحْمَة أنْتَ لِلعِبَادِ مِنَ اللـ ... ـهِ وفَضْل مُهْدًى وَخَيْرٌ مَدِيدُ فَاذْكُرِي "أمَ مَعْبَدٍ" قِصَّةَ الشَّـ ... ـاهِ وَقدْ جَفَّ ضَرْعُهَا والوَرِيدُ مَسَحَ الضَّرْعَ فِي يَدَيْهِ رَسُولُ الـ ... ـله فاشْتَدَّ دَرُّهَا والجُودُ رَوِي الصحْبُ وانْثَنَوْا وكأن الضـ ... ـرع تَدْعُوِ: لَئِن ظمِئتُمْ فعُودُوا آيةُ الله في يَدَيْهِ وَذِكرُ الـ ... ـلهِ في قلبِهِ خُشُوع وَحِيدُ إِنْ رَوَى الصَّحْبَ كفُّهُ فِهُدَاهُ ... يَرْتَوِي مِنْهُ صَاحِبٌ وَبَعِيدُ يَرْتَوِي الدَّهْرُ مِنْ هُدَاهُ فَيَدْنُو ... مُؤمِنُ خَاشِعٌ وَيَنْأى كَنُودُ * * * أيُّهَا المُصْطَفَى! تَفَردتَ فِي الخَلـ ... ـق نَبيًّا عُلاَكَ أُفْق فَرِيدُ أَنْتَ مَعْنَى الوَفَاءِ: ذِكْرُكَ في الأرْ ... ضِ حَمِيدٌ وفي السَّمَاءِ حَمِيدُ زَانَكَ اللهُ! حُسْنُ وَجْهكَ إشْرَا ... ق وإشْرَاقُهُ جَلالٌ وَدُودُ لاَ تَكَادُ الشُّهُودُ تَمْلَأ عَيْنَيـ ... ـها فَيْغْضِي مِنَ الجَلالِ الشُّهُودُ ذِرْوَة البَأسِ فِي فُؤَادِكَ فِي الحَرْ ... بِ إِذَا احْمَر بَأسُهُا وَرُعُودُ لَوْ تَنَادَوْا مَن الفَوَارِسُ فِي الدَّهـ ... ـر لَقَالُوا: ذَا الفَارِسُ المَعْدُودُ

أَنْتَ فِي الحَرْب يَحْتَمِي بِكَ أبْطَا ... ل وَيأوْي لظِلِّكَ الصِّنْدِيدُ حَسْبُكَ المَدحُ أن تَكُونَ عَلَى خُلـ ... ـق عَظيمٍ يَتلَى بِهِ الكِتَابُ المَجِيدُ كُل آيٍ مِنَ الكِتَابِ وَذِكْرٍ ... هُوَ ذِكْرٌ عَلَى الزَّمَانِ جَدِيدُ * * * يَا رَسُولَ الهُدَى! حَمَلتَ إِلَى النَّا ... سِ سَلاَمًا يَرْعَاهُ دِينٌ وطِيدُ كَمْ مَسحْتَ الدُّمُوعَ آسَيْتَ مَحْزُو ... نًا فحَنَّتْ إِليْكَ مِنْهُمْ كبُودُ وَدَفَعْتَ الأسَى وَرَعْشَةَ خَوْف ... فاطمأنتْ إِلَى الوَفَاءِ العُهُودُ أنتَ أَرْجَعْتَ لابنِ آدَمَ حَقًّا ... كمْ أَضَاعَتْهُ فِتْنَةٌ وجُحُودُ وَعُتاةٌ بَبَغَوْا عَلَى النَّاسِ حَتى ... تَاهَ في الدَّرْبِ جَائعٌ وطَرِيدُ يَا حُقُوقَ الإِنْسَانِ! هَذَا هُو الحـ ... ـقُّ! سواهُ فَبَاطِل مَرْدُودُ إِنها مِنْحَةٌ مِنَ الله! حَقٌّ ... لَمْ تُشَرِّعهُ عُصْبَةٌ وَعَبِيدُ فاسْتَقِيمُوا للهِ نَبْنِ سَلاَمًا ... لَمْ تُخَالِطهُ فِتْنَة ووعُودُ * * * يَا رَسُولَ الهُدَى! عَدلتَ وسَاوَيـ ... ـتَ فَمَا جَارَ سَيِّدٌ ومَسُودُ جَمَعَ اللهُ أمَّةَ الحَق إِخْوَا ... نًا فَهَبَّتْ عَزَائم وَجُهُودُ غَيْرَ أن الزَّمانَ حَالَ فَعَادَتْ ... لِلشياطينِ دَوْلَةٌ وجُنُودُ أشْعَلُوا الأرْضَ فَجَّرُوهَا بَرَاكِيـ ... ـن فَمَادَتْ ذُرًا ومَادَ عَمُودُ صَاحَ منْ هَوْلِ مَكْرِهِمْ كُل جَبَّا ... رٍ وَجُن اللهِيبُ "والأخْدُودُ" غَيْرَ أن اليَقِينَ يَبْقَى وبَمْضِي ... موْكِبُ الحَقِّ يَجتلِي وَيَرُودُ

كيْفَ أرْقَى إِلَى مَدِيحِكَ لَكِنْ ... غَلَبَ الشُّوْقُ والحَنِينُ الشَّدِيدُ غَلَبَ الشَّوقُ رَهْبَتِي، وصِرَاعٌ ... فِي فُؤادي يَغِيبُ ثُمَّ يَعُودُ كُلَّمَا لَجَّ فِي فُؤَادِيَ شَوْقٌ ... دَفَعَ الشَّوْقُ رَهْبَتِي فَتَزِيدُ وإذَا بِالخُشُوع يَرْفَعُ أشْوَا ... قِي فَتَصْفُو وتَرْتَقِي فَتَجُودُ إنَّمَا اللهُ وَالرَّسولُ هَمَا الحـ ... ـبُّ وللهِ وَحْدَهُ التَوْحِيدُ يَا لَدَرْبٍ شَقَقْتَهُ "في سَبِيلِ الـ ... ـله" عَهْدٌ عَلَى الزَّمانِ جَدِيدُ مَاجَ فِيهِ مِنَ الهِدَايةِ نُورٌ ... وسَرَايا تَتَابَعَتْ وحُشُودُ * * *

وختاما

وختامًا: لشَقيقي عبد الله العفانِي يقول ابنُ أمي وشقيقي أخي عبد الله العفاني، جعله الله في الآخِرين حسَّان في الأوَّلين .. وشِعره ينساب رَقَّةً وعذوبةً، ويحمل أجملَ وأندى وأطيبَ المعاني وأعمقَها .. عن مجيءِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الدنيا ومَوْلِدِهِ: أيُّ قَلبٍ أتَى الحَيَاةَ رَؤُوفًا ... بَاسِمَ الروحِ كَوْثَرِيَّ السِّمَاتِ مِنْ جَنَى رَوْضِهِ يَفِيضُ حَيَاةً ... وزكَاةً وسَلسَبِيلَ هُدَاةِ وحَنَانًا ورَحْمَةً وصَفَاءً ... ووِدَادًا ونَجْدَةً وصِلاتِ وبَديعًا منَ الشَّمائِلِ عَذبًا ... لَيْسَ إلاَّ لِعَاطِرِ النَّسَمَاتِ طَهّرَ الله قَلبَهُ فَتَسَامَى فَوْقَ حَظِّ النُّفُوسِ والشُّبُهَاتِ ثُمَّ أهمَى لَهُ المَلاَكَ فَنَحِّى ... مِنْهُ حَظَّ اللَّعِينِ والنَّزَعَاتِ فَاسْتَوَى أكْرَمَ البَرِيةَ نَفْسًا ... وفُؤَادًا وعَبْقَرِي صِفَاتِ وطَهُورًا بَلْ أطهَرَ الخَلقِ طُرًّا ... قَدْ تَهَادَى مِنْ أَنْسُلٍ طَاهِرَاتِ إِنَّمَا الطهْرُ والأثَالةُ والعِلـ ... ـم عمَادُ الإِصْلاحِ والدَّعَوَاتِ لَيْسَ طِفْلاً بَلْ تِلكَ دَعُوَةُ إِبْرَا ... هِيمَ حَلَّتْ نَدِيَّةَ البَرَكَاتِ وبِشَارَاتٌ زَفَّ عِيَسى شَذَاهَا ... فِي حَنَايَا حَديثِهِ والعِظَاتِ أيُّ عطرٍ أَتَى الحَيَاةَ هَفُوفًا ... فِي شِغَافِ السَّهُولِ والرَّبوَاتِ بَعْدَ أَنْ ضَجتِ الأنُوفُ طَوِيلاً ... مِنْ مَعَاصِي رُبُوعِهَا النَّتِنَاتِ فَاسْتَحالَ الوُجُودُ جَنَّةَ عِطرٍ ... مِنْ فُيُوضَاتِ هَدْيِهِ العَطِراتِ وهَوَى الدَّوْحُ والصخُورُ سُجُودًا ... حِينَ لاَحَتْ بَدَائِعُ السبحَاتِ

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عذرا

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عذْرًا وكما قلنا في البداية "عُذْرَا رسول الله" نقولها في الخاتمة .. إذ يعجز القلمُ أن يسموَ إلى مقامك السامي .. وأختمُ بهذه القصيدة الرقيقة لشقيقي الرقيق عبد الله بن حسين العفاني، لا فُضَّ فُوه وبارك الله له في قلمه ودعوته وأولاده وعلمه وعمره وبيته. أيُّ عطرٍ بِهِ أَخُط قَصِيدِي ... وحَدِيثِي وهَمْسَتِي ونَشِيدِي؟! أيُّ عَطرٍ بِهِ يَخُط يَرَاعِي (¬1) ... طِيبُ مِسْك أمْ أقْحُوَانٍ وعُودِ (¬2)؟! أيُّ عَطرٍ كُل العُطُور تَمَنى ... لَوْ تَخُط الجوَى وسِحْرَ الهُجُودِ (¬3) خَفِرَاتٍ (¬4) فَمَا يُبَلغُ عِطرٌ ... عَنْ مَشُوقٍ إِلَى عَبِيرِ الوُجُودِ؟! * * * أيُّ نورٍ هُنَاكَ مِنْهُ يَرَاعِيْ ... قَدْ تَهَادَى لِكَي يَصُوغَ قَصِيدِي؟! مِنْ سَنَا الصبْحِ قَدْ تَوَهَّجَ شَمْسًا ... أمْ تَهادَى مِنَ الأصِيلِ الوَئِيدِ؟! أَمْ شُعَاعٌ مِنَ الدُّورِ حَنُونٌ؟! ... كُلهُمْ يَشْتَهِي يَخُطُّ مَزِيدِي كُلُّهُمْ يَشْتَهِي ولَكِنْ خَجُولٌ ... أنْ يَخُط السَّنَا لِنُورِ العُهُودِ ¬

_ (¬1) يَرَاعِي: اليَرَاعُ: القَلَمُ يُتَّخَذ مِنَ القَصَبِ. (¬2) أقْحُوَانٍ وعُود: الأُقْحُوانُ: نَبْت طَيبُ الريحِ، حوالَيْهِ ورق أصْفَرُ ووَسَطُهُ أبيَضُ. والعُودُ: ضَرْبٌ مِنَ الطَّيبِ، يُتَبَخرُ بِهِ. (¬3) الجَوَى: الحُرْقَةُ مِنْ عِشْقٍ أوْ حُزْنِ. الهُجُود: الاسْتيقَاظُ مِنَ اللَّيْل لِلصَّلاةِ والمُنَاجَاةِ ونَحُوه. (¬4) خَفِرَاتٍ: الخَفَرُ: شِدة الحياء.

أيُّ خَزٍّ (¬1) عَلَيْه أنْقُشُ وَجْدِي (¬2) ... وهُيَامِي وبَهْجَةَ التَّغْرِيدِ؟! أَعَلَى الوَرْدِ أم هَفُوف نَسِيمٍ ... أَم سَمَائِي أَم الضِّيَاءِ الوَلِيدِ؟! لَيْتَ شِعْرِي وأيُّ خَزٍّ سَيَدْنُو ... بَلْ سَيَرْقَى لِكَفهِ الأَمْلُودِ (¬3)؟! * * * أيُّ كَفٍّ بِهِ أَكَاتِبِ حِبِّي ... أبِكَفِّي بِذِي الخَطَايَا السُّودِ؟! يَا لِشَوْقِي إِلَى أَنَامِلِ غَيْثٍ ... طَاهِرَاتٍ تَخُطُّ عَنِّي بُنُودِي * * * يَا لَهَا حِيرَةً فَأيهُ جَنَانٍ ... عَبْقَرِيٍّ يَصُوغُ سِحْرَ الوُرُودِ أيُّ عَقْلٍ يَصُوغُ شَدْوَ طُيُور ... وسمَات فَوْقَ النهي والحُدُودِ؟! أيُّ قَلبٍ لَدَيِّ حَتَّى يُنَاجي ... أطهرَ الخَلقِ ذِي الصَّفَاءِ العَهِيدِ (¬4) وُيرَوِّي شُعُورَهُ (¬5) منْهُ حَتَّى ... يَتَهَامَى الشُّعُورُ بِالتَرْدِيدِ أَيُّهَا الطيْرُ إِنَّمَا أنتَ قَلب ... منْ عَبِير كمَا فُؤادِ الوَلِيدِ فَلتُعِرْنِي مِنْ قَلبكَ العَذْبِ قَلبًا ... حَالِمَ الرُّوحِ حَاتِمِيَّ الجُودِ سَاجِمَ العَيْنِ (¬6) َ بلسَمِيَّ المَعَانِي ... فَائِقَ الشَّوْقِ كيْ يُذِيبَ جَلِيدِي ¬

_ (¬1) الخَزُّ: ما يُنْسَجُ مِنْ صُوفٍ وحرِير خالصٍ. (¬2) الوجدُ: شِدة الحُبَّ. (¬3) الأمُلُودِ: النَّاعمُ (الشَّبابُ النَّاعِمُ). (¬4) العهِيد: القَدِيم. (¬5) الشُّعُورُ: الحِسُّ. (¬6) سجمتِ العيْنُ: صَبَّت مَاءَهَا.

وتَهَادَيْ أيَا زُهُورَ رَبِيعِي ... لِصُدَاحٍ مِنَ الطيُورِ ومِيدِي (¬1) وانْثُرِي عِطرَكِ الفَتُونَ عَلَيْنَا ... وتَغَنِّيْ بِمِهْرَجَانِي وعيدِي إِنَّنِي أشْتَهِي قَصِيدَةَ حُبٍّ ... لِرَسُولِي سِرِّ الهَنَا والسُّعُودِ أشْتَهِي رِيِّهَا وأَخْشَى عُثَارِي ... بَيْنَ عَجْزِي وبَيْنَ صَرْحٍ تَلِيدِ لَمْ أَزَلْ رَاجِفًا أَخُطُّ وأمْحُو ... تَرْعَوَى (¬2) أَلْسُنِي ويَهْمِي وَرِيدِي * * * وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. ¬

_ (¬1) مِيدِي: مَادَ الشَّيء: مال وتَحرك. (¬2) تَرْعَوَي: أرْعوى عن الشَّيء: كَفَّ وارْتَدَعَ.

فهرس المراجع

فهرس المراجع

(أ) التفسير وعلوم القرآن

فهرس المراجع (أ) التَّفسير وعلوم القرآن (1) "تفسير الطبري" لابن جبرير الطبري- تحقيق محمود شاكر وأحمد شاكر- طبع دار المعارف. (2) "تفسير الطبري" لابن جرير- طبع دار هجر- مصر. (3) "تفسير القرطبي" للإِمام القرطبي- كتاب الشعب- مصر. (4) "تفسير ابن كثير" للحافظ ابن كثير- طبعة مكتبة أولاد الشيخ- مصر. (5) "تفسير مجاهد" للإمام مجاهد. (6) "زاد المسير في علم التفسير" لابن الجوزي- طبع المكتب الإِسلامي. (7) "تفسير البغوي". (8) "تفسير النسائي" للإمام النسائيِ- مكتبة السنة- القاهرة. (9) "تفسير ابن أبي حاتم" لابن أبي حاتم الرازي. (10) "أحكام القرآن" للقاضي أبو بكر بن العربي. (11) "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني" للألوسي- طبع دار الفكر. (12) "محاسن التأويل" للقاسي. (13) "أضواء البيان" للشيخ الشنقيطي- مكتبة ابن تيمية- مصر. (14) "تتمة أضواء البيان" للشيخ عطية محمد سالم- مكتبة ابن تيمية- مصر. (15) "التفسير الكبير- مفاتيح الغيب" للفخر الرازي- طبعة دار الغد. (16) "تفسير عبد الرزَّاق" لعبد الرزَّاق الصنعاني. (17) "تفسير الدر المنثور" للإمام السيوطي- طبع دار هجر- القاهرة. (18) "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" للبقاعي- دار الكتاب

(ب) السنة

الإسلامي- القاهرة. (19) "بدائع الفوائد" لابن قيم الجوزية -جمع يسري السيد- طبع دار ابن الجوزي. (25) "التحرير والتنوير" للشيخ محمد الطاهر بن عاشور- الدار التونسية للنشر- السعودية. (21) تفسير "تيسير الكريم الرحمن" للشيخ عبد الرحمن السعدي- دار ابن الجوزي- السعودية. (22) "في ظلال القرآن" للأستاذ سيد قطب- دار الشروق- القاهرة. (23) "تفسير البحر المحيط" لأبي حيَّان. (24) "أسباب النزول" للسيوطي. (23) "الصحيح المسند من أسباب النزول" للشيخ مقبل الوادعي- مكتبة ابن تيمية- القاهرة. (26) "معاني القرآن" للفرَّاء. (27) "السبعة في القراءات" لابن مجاهد. (28) "التبيان في أقسام القرآن" لابن قيم الجوزيَّة. (29) إعجاز القرآن لمصطفى صادق الرافعي- دار الكتاب العربي. (ب) السُّنَّة (30) "فتح الباري شرح صحيح البخاري" للحافظ ابن حجر العسقلاني -المطبعة السلفية- القاهرة. (31) "شرح مسلم" للنووي- للإمام النووي- دار الشعب. (32) "مسند أحمد بن حنبل" للإِمام أحمد- تحقيق الشيخ أحمد شاكر- طبع دار المعارف. (33) "مسند أحمد" للإِمام أحمد بن حنبل -تحقيق شعيب الأرناؤوط-

مؤسسة الرسالة. (34) "تحفة الأحوذي في شرح سنن الترمذي" للمباركفوري- طبع الهند. (35) "عون المعبود شرح سنن أبي داود" للطيب أبادي. (36) "مختصر سنن أبي داود" للمنذري ومعه "معالم السنن" للخطابي- مكتبة أنصار السنة المحمدية. (37) "مجمع الزوائد" للهيثمي- مكتبة القدسي. (38) "صحيح ابن خزيمة" للإمام ابن خزيمة- تحقيق د. مصطفى الأعظمي والألباني- المكتب الإسلامي. (39) "مسند أبي يعلى الموصلي"- تحقيق حسين سليم أسد- دار المأمون. (40) "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" لعلاء الدين الفارسي- تحقيق شعيب الأرناؤوط- مؤسسة الرسالة. (41) "شرح السنة" للبغوي- تحقيق شعيب الأرناؤوط وزهير الشاويش- المكتب الإسلامي. (42) "صحيح الترغيب والترهيب" للشيخ الألباني- المكتب الإسلامي. (43) "صحيح الجامع الصغير" للشيخ الألباني- المكتب الإسلامي. (44) "فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناوي- المكتبة التجارية. (45) "مشكاة المصابيح" للتبريزي- تحقيق الشيخ الألباني- المكتب الإسلامِي. (46) "المستدرك" للحاكم. (47) "المصنف" لعبد الرزاق الصنعاني. (48) "المصنف" لابن أبي شيبة- طبع الهند. (49) "المعجم الصغير" للطبراني.

(50) "المعجم الأوسط" للطبراني. (51) "المعجم الكبير" للطبراني- تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي- طبع بغداد. (52) "السنن الكبرى" للبيهقي. (53) "شعب الإيمان" للبيهقي- طبع الهند. (54) "ميزان الاعتدال" للحافظ الذهبي. (55) "لسان الميزان" لابن حجر العسقلاني- طبع الهند. (56) "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم- طبع الهند. (57) "السلسلة الصحيحة" للألباني- المكتب الإِسلامي. (58) "صحيح سنن أبي داود" للشيخ الألباني- طبع مكتب التربية. (59) "صحيح سنن الترمذي" للشيخ الألباني- طبع مكتب التربية. (60) "صحيح سنن النسائي" للألباني- طبع مكتب التربية. (61) "صحيح سنن ابن ماجه" للألباني- طبع مكتب التربية. (62) "نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق" للألباني- المكتب الإسلامي. (63) "دلائل التحقيق لأبطال قصة الغرانيق" لعلي حسن عبد الحميد- مكتبة الصحابة- جده. (64) "تخريج الكشاف" للزيلعي. (65) "عمدة القاري" للعيني- طبع الحلبي. (66) "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير. (67) "الصحيح المسنَد من دلائل النبوة" لمقبل بن هادي الوادعي. (68) "علوم الحديث" لابن الصلاح. (69) "الموضوعات" لابن الجوزي.

(جـ) عقيدة

(70) "دراسات في الحديث النبوي" لمحمد مصطفى أعظمي. (71) "شبهات وشطحات السنة" لأبي إسلام أحمد عبد الله. (72) "موقف الجماعة الإسلامية من الحديث النبوي" للشيخ صلاح مقبول أحمد. (73) "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" للدكتور مصطفى السباعي. (جـ) عقيدة (74) "شرح الزرقاني على المواهب اللدنيَّة". (75) "الفرق بين الفرق" لعبد القاهر البغدادي- تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد- دار المعارف. (76) "مقالات الإسلاميين" لأبي الحسن الأشعري. (77) "الفصل في الملل والنحل" لابن حزم. (78) "الملل والنحل" للشهرستاني. (79) "السنة" للإمام أحمد بن حنبل- تحقيق الشيخ إسماعيل الأنصاري. (80) "السُّنة" للخَلاَّل. (81) "خلق أفعال العباد" للبخاري. (82) "فضائح الباطنية" لأبي حامد الغزالي. (83) "تهافت الفلاسفة" للغزالي- طبع دار المعارف- مصر. (84) "المنقذ من الضَّلال" الغزالي. (85) "أبو حامد الغزالي والتصوف" لعبد الرحمن دمشقية -دار طيبة- الرياض. (86) "درء تعارض العقل والنقل" لابن تيمية- تقديم دكتور محمد رشاد سالم.

(87) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" لابن تيمية- مكتبة ابن تيمية. (88) "نقض المنطق" لابن تيمية. (89) "النبوّات" لابن تيمية- طبع مكتبة أنصار السنَة المحمدية. (95) "شرح العقيدة الأصفهانية" لابن تيمية. (91) "الصفدية" لابن تيمية- طبع دار الفكر- لبنان. (92) "مجموعة الرسائل والمسائل" لابن تيمية. (93) "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" لابن تيمية- المطبعة السلفية- القاهرة. (94) "تلبيس إبليس" لابن الجوزي- مطبعة الجزيرة- دار السلام- مصر. (95) "الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة" لابن قيم الجوزية. (96) "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم- اختصار محمد بن الموصلي- طبع أضواء السلف. (97) "دلائل النبوة" للبيهقي. (98) "دلائل النبوة" لأبي نعيم الأصفهاني. (99) "الأسماء والصفات" للبيهقي. (100) "السنة" لابن أبي عاصم- تحقيق الألباني- المكتب الإسلامي. (101) "هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى" لابن قيم الجوزية- دار الريَّان للتراث. (102) "مصرع التصوف" أو "تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي" للبقاعي- تحقيق عبد الرحمن الوكيل. (103) "العلم الشامخ" للمقبلي.

(104) "لوامع الأنوار البهية" للسفاريني. (105) "شرح أصول الاعتقاد" للالكائي. (106) "شرح الزرقاني على المواهب اللدنيَّة". (107) "كتاب ابن عربي الصوفي في ميزان البحث والتحقيق" لعبد القادر بن حبيبالله السندي- دار البخاري- بُريدة. (108) "عقيدة ختم النبوة" لأحمد بن سعد الغامدي- دار طيبة الرياض. (109) "بين الإنجيل والقرآن" لأحمد ديدات- كتاب المختار الإِسلامي. (110) "نظرات في النُّبوَّة" لصلاح الدين المنجد- مكتبة القدس- بغداد. (111) "البابية" لإِحسان إلهي ظهير- إدارة ترجمان السنة- لاهور- باكستان. (112) "البهائية" لإحسان إلهي ظهير. (113) "البهائية" لعبد الرحمن الوكيل- القاهرة. (114) "الإسماعيلية" لإحسان إلهي ظهير- إدارة ترجمان السنة- لاهور. (115) "منهاج السنة النبوية" لابن تيمية- تحقيق د. محمد رشاد سالم- مكتبة ابن تيمية. (116) "الشيعة والسنة" لإحسان إلهي ظهير- إدارة ترجمان السنة- لاهور. (117) "الردُّ القويم على المجرم الأثيم" للشيخ حمود التويجري- مكتبة دار العليان الحديثة- السعودية. (118) "الصارم المسلول على الترابي شاتم الرسول" لأحمد مالك. (119) "آيات سماوية في الرد على كتاب "آيات شيطانية" للدكتور شمس الدين الفاسي.

(125) "سلمان رشدي شيطان الغرب- الرجل المارق" لسعيد أيوب. (121) "كلهم سلمان رشدي". (122) "تعدد نساء الأنبياء، ومكانة المرأة في اليهودية والمسيحية والإسلام" للواء أحمد عبد الوهاب- مكتبة وهبة- القاهرة. (123) "همزات شيطانية وسلمان رشدي" للدكتور نبيل السمَّان. (124) "البعث والنشور" للبيهقي. (125) "هذه هي الصوفية" لعبد الرحمن الوكيل. (126) "الشيعة والتشيع فرق ومذاهب" لإحسان إلهي ظهير- نشر إدارة ترجمان السنة. (127) "كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة" لمحمد بن مالك الحمادي. (128) "طائفة النصيرية- تاريخها وعقائدها" للدكتور سليمان الحلبي- المطبعة السلفية- القاهرة. (129) "النصيرية طغاة سورية"- طبع دار الإفتاء بالسعودية. (130) "هُويتنا أو الهاوية" لمحمد إسماعيل المقدم- دار ابن الجوزي- مصر. (131) "الرسل والرسالات" للدكتور عمر سليمان الأشقر- طبع دار النفائس. (132) "الصلة بين التصوف والتشيع" للدكتور كامل مصطفى- دار المعارف- القاهرة. (133) "الشفافي التعريف بحقوق المصطفى" للقاضي عياض. (134) "عقيدة السلف" للصابوني. (135) "الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح" لابن تيمية.

(136) "التحفة الإثنا عشرية" لشاه عبد العزيز الدهلوي. (137) "مختصر التحفة الإِثنا عشرية" للشيخ محمود شكري الألوسي- المطبعة السلفية- القاهرة. (138) "أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثنا عشرية" للدكتور ناصر القفاري- دار الضياء- مصر. (139) "صورتان متضادتان لنتائج جهود الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - الدعوية والتربوية وسيرة الجيل المثالي الأول عند أهل السنة والشيعة الإمامية" لأبي الحسن الندوي- ندوة العلماء- الهند. (140) "نثر الجوهر على حديث أبي ذر" للشوكاني. (141) "وجاء دور المجوس" لعبد الله الغريب. (142) "إمامة الشيعة دعوة باطنيَّة لاستمرار النبوة" لعبد الملك بن عبد الرحمن الشافعي- مكتبة الرضوان. (143) "انتصار الحق" للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي- المكتبة السلفية. (144) "الردُّ على الرافضة" لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. (145) "القرآنيون وشبهاتهم حول السنة" لخادم حسين إلهي بخش- دار الصديق- السعودية. (146) "أحكام الرِّدة والمرتدين" للدكتور محمود مزروعة. (147) "العصريون معتزلة اليوم" ليوسف كمال. (148) "الحداثة من منظور إيماني" لعدنان النحوي- دار النحوي. (149) "خصائص المصطفى" بين الغلوّ والجفاء" للدكتور الصادق محمد إبراهيم- دار المنهاج الرياض. (150) "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" للقاضي عياض.

(د) التاريخ والتراجم والسير

(151) "نسيم الرياض في شرح شفا القاضي عياض" لشهاب الدين الخفاجي. (152) "منظومة البوصيري في الردِّ على النصارى" للإِمام البوصيري. (153) "كتاب الإسلام وأصول الحكم في الميزان" للدكتور محمد رجب البيومي- كتاب مجلة الأزهر. (154) "الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة" السعودية. (155) "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب" للطبرسي- عرض ونقد الدكتور أحمد عثمان خليفة- دار السلف- الرياض. (156) "مجموعة فتاوى ومقالات متنوِّعة" للشيخ عبد العزيز بن باز. (157) "الشريعة الإسلامية لا القوانين الجاهلية" للدكتور عمر سليمان الأشقر- طبع دار النفائس. (د) التاريخ والتراجم والسير (158) "المعرفة والتاريخ" للفسوي. (159) "الدرر الكامنة" لابن حجر العسقلاني. (165) "تاريخ الطبري" لابن جرير الطبري. (161) "سير أعلام النبلاء" للحافظ الذهبي- مؤسسة الرسالة. (162) "تاريخ الإسلام" للذهبي- دار لفكر- لبنان. (163) "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي. (164) "تاريخ دمشق" لابن عساكر. (165) "العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين" للفاسي المكي- نشر محمد سرور الصبَّان- مكة. (166) "العبر". (167) "خطط المقريزي".

(168) "الكامل" لابن الأثير. (169) "المنتظم" لابن الجوزي. (170) "وفيات الأعيان" لابن خلكان. (171) "شذرات الذهب" للعمار الحنبلي. (172) "الكواكب الدرية" لابن قاضي شهبة. (173) "عيون الروضتيْن في أخبار الدولتيْن النوريَّة والصلاحية" لأبي شامة- مؤسسة الرسالة. (174) "البداية والنهاية" للحافظ ابن كثير- طبع دار هجر- القاهرة. (175) "إخبار العلماء بأخبار الحكماء" للقفطي. (176) "تاريخ الدولة العثمانية" لعلي حسون- المكتب الإسلامي. (177) "حركة الردَّة" للعتوم. (178) "الانشراح ورفع الضيق بشرح سيرة الصدِّيق" للدكتور محمد علي الصلابي- دار الفجر- مصر. (179) "كفاح المسلمين في تحرير الهند" للدكتور عبد المنعم النمر- مكتبة وهبة- القاهرة. (180) "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" لابن تغري بردي- دار الكتب-القاهرة. (181) "اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء" للمقريزي- تحقيق د. محمد حلمي محمد- القاهرة. (182) "البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب". المكتبة الأندلسية- دار الثقافة- بيروت. (183) "طائفة الدروز" للدكتور محمد كامل حسين- دار المعارف- مصر.

(184) "تاريخ الشعوب الإِسلامية" لبروكلمان. (185) "سيرة ابن هشام". (186) "الروض الأنف" للسهيلي. (187) "مغازي الواقدي" للوا قدي. (188) "أنساب الأشراف" للبلاذري. (189) "الطبقات الكبرى" لابن سعد. (190) "سلسلة معارك الإِسلام الفاصلة" لمحمد أحمد بشاميل- المطبعة السلفية. (191) "فجر الإسلام" لأحمد أمين- دار الكتاب العربي- بيروت. (192) "الاستيعاب" لابن عبد البر. (193) "الدرر في اختصار المغازي والسير" لابن عبد البر- تحقيق دكتور شوقي ضيف دار المعارف مصر. (194) "تاريخ مصر في العصر البيزنطي" للدكتور صبري أبو الخير سليم. (195) "تاريخ الحروب المقدسة في الشرق المدْعُوَّة حرب الصليب" لمكسيموس مونروند- ترجمة مكسيموس مظلوم. (196) "محمد رسول الله" - صلى الله عليه وسلم - لمحمد الصادق عرجون. (197) "صلاح الدين الفارسي المجاهد والملك الزهد المُفترى عليه لشاكر مصطفى- دار القلم دمشق. (198) "شخصيات قلقة" للدكتور عبد الرحمن بدوي. (199) "نور الدين محمود زنكي" للدكتور أنس أحمد كرزون- دار ابن حزم. (200) "ابن الفارض والحب الإلهي" للدكتور محمد مصطفى حلمي- دار المعارف.

(201) "الحروب العثمانية الفارسية- وأثرها في انحسار المد الإسلامي عن أوربا" للدكتور محمد عبد اللطيف هريدي- دار الصحوة القاهرة. (202) "الرجل الصنم" لضابط تركي سابق- ترجمة عبد الله عبد الرحمن - طبع مؤسسة الرسالة. (203) "الأعلام" للزركي. (204) "عبقرية محمد" لعباس محمود العقَّاد- دار الكتب الحديثة. (205) "الحلية" لأبي نعيم الأصفهاني. (256) "المعرفة والتاريخ" للفسوي. (207) "الدرر الكامنة" لابن حجر العسقلاني. (208) "دراسات في السيرة النبوية" لمحمد سرور بن نايف- دار الأرقم. (209) "الحاكم بأمر الله" لمحمد عبد الله عنان- مكتبة الخانجي. (210) "تاريخ خليفة" لخليفة بن خياط. (211) "معجم البلدان" لياقوت الحموي. (212) "حقبة من التاريخ" لعثمان الخميس- دار الإيمان- مصر. (213) "الفتوحات الإسلامية في فرنسا وإيطاليا" لجوزيف رينو. (214) "دراسات في التاريخ المديني" لإرنست رينان- باريس. (215) "الصراع مع الصليبيين" للدكتور محمد عبد القادر أبو فارس- دار البشير- طنطا. (216) "رحلة الحج إلى بيت الله الحرام" للشيخ محمد الأمين الشنقيطي. (217) "الشيخ الغزالي كما عرفته" للدكتور يوسف القرضاوي. (218) "أبو زهرة إمام عصره" دار الاعتصام. (219) "حسن البنا" لأنور الجندي- دار القلم. (220) "جيل العمالقة" للأستاذ أنور الجندي- دار الاعتصام.

(221) "صيحة الحق" للشيخ محمود عبد الوهاب فايد. (222) "معالم تاريخ الإسلام المعاصر" لأنور الجندي- دار الاعتصام. (223) "قرة العين" لمارتاروت- طبع باكستان. (224) "سعد زغلول- ذكريات تاريخية" للأستاذ الجزيري- كتاب اليوم. (225) "غاية الأماني في أخبار القطر اليماني" ليحيى بن الحسين بن القاسم. (226) "أيام لها تاريخ" لأحمد بهاء الدين. (227) "تاريخ الباباويَّهُ" لريدل. (228) "محفل الباباوات" تأليف يالي. (229) "تاريخ الباباوات" تأليف برايس. (235) "الباباوات" لولك. (231) "ملحوظات على التاريخ الإكليركي" لجوزيت. (232) "المسلمون في الهند" لأبي الحسن الندوي. (233) "الاضطهاد المديني في المسيحية" لتوفيق الطويل. (234) "الجزائر الثائرة" كوليت جانسوت. (235) "ثورة الجزائر" لجون جليبسي. (236) "مأساة بنغلاديش" لمحمد خليل الله. (237) "مأساة إخواننا المسلمين في كشمير المسلمة" لفهد العصيمي. (238) "تركستان بين الدب الروسي والتنيين الصيني كارثة القرم" لولي شاه. (239) "محنة الشيشان" لشعبان عبد الرحمن. (240) "نور الدين محمد" لحسنين مؤنس. (241) "ذيل تاريخ دمشق" لابن القلانسي.

(س) غزو فكري والرد عليه

(242) "حاضر العالم الإسلامي" لشكيب أرسلان. (243) "حرب صليبية بكل المقاييس" للدكتورة زينب عبد العزيز. (س) غزو فكري والردَّ عليه (244) "الاستعمار .. أحقاد وأطماع" للشيخ محمد الغزالي- دار الكتب الإسلامية- القاهرة. (245) "أولاد حارتنا .. فيها قولان" لمحمد جلال كشك- الزهراء للإِعلام العربي. (246) "جوانيات الرموز المستعارة في (أولاد حارتنا) "- للدكتور عبد العظيم المطعني- مكتبة وهبة. (247) "الطريق إلى نوبل عبر حارة نجيب محفوظ" لمحمد يحيى ومعتزّ شكري- أمة برس للطباعة والنشر. (248) "الصحافة والأقلام المسمومة" لأنور الجندي- دار الاعتصام. (249) "كلمة الحق" للشيخ أحمد شاكر- مكتبة السنة. (250) "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي"- للدكتور محمد البهي- طبع القاهرة. (251) "الابتعاث ومخاطرة" للدكتور محمد الصبّاغ- المكتب الإسلامي. (252) "مفهوم تجديد الدين" لبسطامي محمد سعيد. (253) "محاكمة فكر طه حسين" لأنور الجندي. (254) "الرسول" - صلى الله عليه وسلم - في الدراسات الاستشراقية المنصفة" لمحمد شريف الشيباني. (255) "غزو من الداخل" لجمال سلطان. (256) "أوربا والإسلام" للدكتور عبد الحليم محمود.

(257) "حوار لا مواجهة" لأحمد كمال أبو المجد. (258) "لماذا يخافون الإِسلام" للدكتور عبد الورود شلبي. (259) "هلمَّ نخرج من ظلمات التيه" للأستاذ محمد قطب- دار الوطن- السعودية. (260) "ظاهرة اليسار الإسلامي" لمحسن الميلي. (261) "النظريات السياسية الإسلامية" للدكتور محمد ضياء الريِّس. (262) "قلاع المسلمين مهددة من داخلها" للدكتور محمد عبد القادر هنَادي. (263) "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" للدكتور محمد محمد حسين- مؤسسة الرسالة. (264) "حصوننا مهددة من الداخل" للدكتور محمد محمد حسين- موسسة الرسالة. (265) "محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل" لأنور الجندي- دار الأنصار - القاهرة. (266) "الفكر الإسلامي والثقافة الغربية" للأستاذ أنور الجندي. (267) "مستقبلنا بين التجديد الإِسلامي والحداثة الغربية" للدكتور محمد عمار. (268) "مَن قتل فرج فودة؟ " للدكتور عبد الغفار عبد العزيز- دار الإعلام الدولي. (269) "إسلام آخر زمن" للأستاذ منذر الأسعد- دار المعراج. (270) "مفهوم التجديد بين السنة النبوية وأدعياء التجديد المعاصرين" للدكتور محمود الطحان- دار التراث. (271) "فلسفة الحرب في الفكر المديني الإسرائيلي" للدكتور محمد جلاء إدريس- القاهرة.

(272) "الديانة اليهودية- وموقفها من غير اليهود" لإسرائيل شاحاك- ترجمة حسن خضر- القاهرة. (273) "أقباط ومسلمون منذ الفتح العربي إلى سنة 1922" للدكتور جاك تاجر لأقباط المهجر- مدينة جرسي بأمريكا. (274) "الله ليس كذلك" للدكتورة سيجريد هونكة- دار الشرق- القاهرة. (275) "الأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي" دراسة د. محمد عمارة- طبع بيروت. (276) "الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني" دراسة د. محمد عمارة- طبعة القاهرة. (277) "قادة الغرب يقولون: دمروا الإِسلام أبيدوا أهلها" لجلال العالم- مكتبة ابن تيمية- القاهرة. (278) "الدراسات العربية والإِسلامية في الجامعات الألمانية" لبارت ترجمة مصطفى مهر. (279) "الاستشراق" لادوارد سعيد ترجمة كمال أبو ديب- مؤسسة الأبحاث العربية- بيروت. (280) "صناعة العداء للإِسلام" لرجب البنا- دار المعارف- مصر. (281) "نصوص تحت الطبع" ترجمة ثابت عيد- دار نهضة مصر. 2821) "الإِسلام والغرب أين الخطأ؟ وأين الصواب؟ " للدكتور محمد عمارة- مكتبة الشروق الدولية- القاهرة. (283) "محمد مؤسس الدين الإِسلامي ومؤسس إمبراطورية المسلمين" لجورج بوش الجد- ترجمة وتحقيق د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ- دار المريخ للنشر.

(284) "الإسلام والغرب .. افتراءات لها تاريخ" للدكتور محمد عمارة - مركز الإعلام العربي- القاهرة. (285) "الدفاع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " للدكتور عبد الرحمن بدوي- دار نشر " أفكار"- باريس. (286) "صورة الإسلام في التراث الغربي"- ترجمة ثابت عيد- سلسلة التنوير الإسلامي- طبع دار نهضة مصر. (287) "الإسلام في عيون غربيَّة بين افتراء الجُهَّال وإنصاف العلماء" للدكتور محمد عمارة- دار الشروق. (288) "الإسلام في تصوَّرات الغرب" للدكتور محمود حمدي زقزوق- مكتبة وهبة. (289) "آفاق جديدة للدعوة الإسلامية في عالم الغرب" للأستاذ أنور الجندي- مؤسسة الرسالة. (290) "حروب صليبية بكل المقاييس" للدكتورة زينب عبد العزيز- طبع القاهرة. (291) "حاضر العالم الإسلامي" لشكيب أرسلان. (292) "حضارة العرب" لجوستاف لوبون. (293) "حق التضحية بالآخر- أمريكا والإبادات الجماعية" لمنير العكش- دار رياض الريس. (294) "أمريكا التي تُعلِّمنا الديمقراطية والحرية والعدل" للدكتور فهد الحارثي. (295) "الإسلام والعقل"- للدكتور عبد الحليم محمود- طبع دار المعارف. (296) "لماذا يكرهونه- الأصول الفكرية لعلاقة الغرب بنبي الإسلام

- صلى الله عليه وسلم -" للدكتور باسم خفاجي- كتاب البيان. (297) "مذهب الدروز والتوحيد" للأستاذ عبد الله نجار- دار المعارف- مصر. (298) "التنصير- وثائق مؤتمر كلورادو"- المطبعة العربية- مركز دراسات العالم الإسلامي- مالطة. (299) "إسلام بلا مذاهب" للدكتور مصطفى الشكعة- بيروت. (300) "الفرصة السانحة" لنيكسون- ترجمة أحمد صدقي- طبعة القاهرة. (301) "أمريكا من الداخل" لسيد قطب. (302) "في الفلسفة الإسلامية- منهج وتطبيق" للدكتور إبراهيم مدكور- دار المعارف- مصر. (303) "الإسلام والغرب في كتابات الغربيَّين" للدكتور زغلول النجار- طبع نهضة مصر. (304) "القرآن الأمريكي- أضحوكة القرن الحادي والعشرين" لمحمد السيد عبده- دار الرضوان- مصر. (305) "قراءة في الكتاب المزعوم- الفرقان الحق" للدكتور محمد سالم ابن شديد العوفي- السعودية. (306) "عمل المرأة في الميزان" لمحمد علي الباز. (307) "التوراة والإنجيل والقرآن والعلم" لموريس بوكاي- ترجمة حسن خالد- طبع المكتب الإسلامي. (308) "دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة" لموريس بوكاي- طبع دار المعارف- لبنان. (309) "المنصفون للإِسلام في الغرب" لرجب البنا- طبع دار المعارف- مصر.

(310) "مذاهب الإِسلاميين" للدكتور عبد الرحمن بدوي- دار العلم للملايين- بيروت. (311) "جرائم النصرانية" لفوت وهويلر. (312) "دائرة معارف بويتين الإِنجليزية". (313) "دائرة معارف شامبوس". (314) "اعتقادات فوق المشركين" للرازي- طبع مصر. (315) "الخوري والمرأة والاعتراف" للأب شينكوي. (316) "الشيعة والسنة .. ضجَّة مفتَعَلة" كتاب المختار الإِسلامي. (317) "الإِسلام والمسيحية" للدكتور أليسيكي جورافيسكي- سلسلة عالم المعرفة- الكويت. (318) "تأثير الإسلام على أوربا في القرون الوسطى" لمونتيغميري واط- موسكو. (319) "السُّنة باعتبارها مصدرًا من مصادر التشريع الإِسلامي" لمحمود صالح شريح. (320) "محاولات استشراقية لإِرجاع مفاهيم إسلامية إلى أصول في الديانات السابقة" لفؤاد كاظم المقدادي. (321) "الإسلام وشبهات المستشرقين" مطبوعات البلاغ. (322) "الكوميديا الإِلهية" لدانتي- ترجمة حسن عثمان- دار المعارف- مصر. (323) "أوربا والإسلام- صدام الثَّقافة والحضارة" لهشام جعيط- دار الطليعة ببيروت. (324) "هل نحن مسلمون" لمحمد قطب- دار الشروق. (325) "لماذا تأخر المسلمون" لشكيب أرسلان- دار القلم- دمشق. (326) "الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري" للدكتور

محمود حمدي زقزوق- كتاب الأمة- قطر. (327) "الوسيط" للدكتور عبد الرزاق السنهوري. (328) المدخل للعلوم القانونِية" للدكتور توفيق فرج. (329) "المدخل" لعلي منصور. (330) "علل وأدوية" للشيخ محمد الغزالي. (331) "نظرية الإِمامة لدى الشيعة الإِثنا عشرية" للدكتور أحمد محمد صبحي. (332) "ضُحى الإِسلام" لأحمد أمين. (333) "أباطيل وأسمار" للشيخ محمود شاكر- مكتبة الخانجي- القاهرة. (334) "تجديد ذكري أبي العلاء" للدكتور طه حسين- طبع دار المعارف- مصر. (335) ديوان "زمان القهر علَّمني" لفاروق جويدة- مكتبة غريب. (336) ديوان "الرسم بالكلمات" لنزار قباني. (337) ديوان "أشعار خارجة على القانون" لنزار قباني. (338) "المجموعة الكاملة" لنزار قبَّاني- دار الشروق. (339) "الأعمال الكاملة" لمحمود درويش- مكتبة مدبولي. (340) "الورد والهالوك .. شعراء السبعينيات في مصر" لحلمي القعود- دار الاعتصام. (341) "أجنحة المكر الثلاثة " لعبد الرحمن الميداني. (342) "هل أصبح المسلمون في مصر هم الأقلية" للدكتور محمد عباس - المختار الإِسلامي. (343) "قصص رائعة من الأشرطة النافعة" لمحمد بن يحيى مفرح. (344) "مجتمعنا المعاصر" لمحمد عبد القادر أبو فارس. (345) "جولة في رياض العلماء" للدكتور عمر الأشقر- دار النفائس.

(346) "الحجاب لماذا؟ " للدكتور محمد إسماعيل المقدم مكتبة ابن الجوزي. (347) "الحرب الصليبية العاشرة" لحلمي القاعود- دار الاعتصام. (348) "تاريخ الحروب الصليبية". (349) "قصة الحضارة" لول ديورانت. (355) "وثائق الحروب الصليبية" لمحمد ماهر حمان. (351) "حضارة العرب" لغوستاف لوبون. (352) "الفاتيكان والإِسلام" للدكتورة زينب عبد العزيز. (353) "كلام في الممنوع .. الاختراق اليهودي للفاتيكان" لمحمد عبد الحليم عبد الفتاح. (354) "التعصب الأوربي أم التعصب الإسلامي" مئة مشروع لتقسيم الدولة العثمانية" لشكيب أرسلان- اختصار د. محمد العبد. (355) "عندما حكم الصليب" أبو إسلام أحمد عبد الله. (356) "كفاح دين" للشيخ محمد الغزالي. (357) "وجاء الدور على الإسلام" لرضا محمد عراقي. (358) "قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدوا أهله"- لجلال العالم. (359) "إني أرى الملك عاريا" للدكتور محمد عباس- مكتبة مدبولي. (360) "بغداد عروس عروبتكم" للدكتور محمد عباس- مكتبة مدبولي. (361) "قذائف الحق" للشيخ محمد الغزالي. (362) "الذين طغوا في البلاد" لمحمد عبد الله السمان. 3639) "الشيشان بين المحنة وواجب المسلمين" لمصطفى دسوقي. (364) "ستالين" لبسام العسيلي.

(ط) كتب الفقه وأصول الفقه

(365) "ملحمة البوسنة والهرسك" لعدنان النحوي. (366) "البوسنة والهرسك" لعبد العزيز المهنا. (367) "الصراع في يوغوسلافيا ومستقبل المسلمين" لعبد الله عاصم إسمابتش. (368) "جمهورية البوسنة والهرسك والحقد الصليبي الصهيوني" لأم القعقاع. (369) "الأفعى اليهودية في معاقل الإسلام" لعبد الله التل. (ط) كتب الفقه وأصول الفقه (370) "الصارم المسلول على شاتم الرسول - صلى الله عليه وسلم -" لشيخ الإسلام ابن تيمية طبع دار ابن حزم، ودار ابن خزيمة. (371) "أحكام أهل الذمة" لابن قيم الجوزِيَّة. (372) "البحر المحيط" للزركشي- تحرير د. عبد الستار أبو غدّة- نشر وزارة الأوقاف الكويتية. (373) "شرح الكوكب المنير" لابن النجَّار- تحقيق د. محمد الزحيلي د. نزيه حماد السعودية. (374) "الأحكام في أصول الأحكام" لابن حزم. (375) "مرتب الإجماع" لابن حزم- دار الكتب العلمية- بيروت. (376) "المغني" لابن قدامة- طبع دار هجر. (377) "تحفة المحتاج مع حواشي الشرواني وابن قاسم العبادي". (378) "قواعد الأحكام" لعز الدين بن عبد السلام. (379) "حاشية الجمل على المنهاج". (380) "حاشية ابن عابدين على رد المحتار". (381) "التبصرة" لابن فرحون.

(ص) كتب الفرق الضالة

(382) "الأم" للشافعي. (383) "حاشية قليوبي". (384) "الأوسط" لابن المنذر. (385) "أحكام أهل الملل" لأبي بكر الخلاَّل. (386) "الموسوعة الفقهية" طبع وزارة الأوقاف الكويتية. (387) "الفتاوى البزازية". (388) "الفتاوى الهندية". (389) "شروح روضة الطالب". (390) "منح الجليل على مختصر خليل". (391) "فتاوى الشيني عليش". (392) "المبسوط" للسرخسي. (393) "بدائع الصنائع" للكاساني. (394) "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" للمرداوي. (395) "المقاطعة الاقتصادية حقيقتها وحكمها" لخالد الشمراني. (ص) كتب الفرق الضالَّة أ- كتب الشيعة: (396) "الكافي" لمحمد بن يعقوب الكليني. (397) "الحكومة الإِسلامية" لآية الله الخميني. (398) "الأنوار الإلهية في المسائل العقائدية" للميرزة جواد التبريزي. (399) "بحار الأنوار" لمحمد بقر المجلسي. (400) "نهج البلاغة المنسوب زورًا إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضى الله عنه". (401) "منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة" للميرزا حبيب الله

ب- كتب البابية والبهائية

الهاشمي الخوئي. (402) "توضيح نهج البلاغة" للسيد محمد الحسيني الشيرازي. (403) "شرح نهج البلاغة" للسيد عباس على الموسوي. (404) "مفاهيم القرآن" لجعفر سبحاني. (405) "الشافعي في الإمامة" للشريف المرتضى. (406) "كتاب الحجة" لصدر الدين الشيرازي. (407) "تفسير القمي". (458) "الأنوار النعمانية" لنعمت الله الجزائري. (409) "الثورة البائسة" لموسى الموسوي. (410) "كشف الأسرار" للخميني. (411) "تحرير الوسيلة" للخميني. ب- كتب البابية والبهائية: (412) "الكواكب الدريَّة في مآثر البهائية". (413) "قرة العين"- طبع المحفل البهائي الباكستاني. (414) "الأقدس" للبهاء المازندراني. (415) "مطالع الأنوار" للمازندراني البهاء. (416) "البيان العربي" للباب الشيرازي. (417) "الكلمات البهائية" لحسين بن علي البهاء- طبع لجنة النشر البهائية - كراتشي- باكستان. (418) "نقطة الكاف" للمرزة جاني الكاشاني البابي- طبع ليدن- تحقيق بروفسور برؤن. (419) "المبين" للمازندراني. (420) "الإيقان" لحسين علي المازندراني (البهاء).

جـ- كتب الإسماعيلية

(421) "لوح ابن ذئب" للمازندراني. (422) "مطالع الأنوار" لنبيل الزرندي البهائي- طبع عربي. (423) "إشراقات" للمازندراني. (424) "مكاتيب عبد البهاء" لعباس بن البهاء. جـ- كتب الإسماعيلية: (425) "رسائل إخوان الصفا". (426) "كتاب إثبات النبوات" للسجستاني الإسماعيلي- بيروت. (427) "كتاب الافتخار" للسجستاني الإسماعيلي- بيروت. (428) "كنز الولد" للحامدي (إسماعيلي). (429)) المجالس المستنصرية (إسماعيلي) تحقيق دكتور محمد كامل حسين- دار الفكر العربي. (430) "الذخيرة في الحقيقة" لعلي بن الوليد- بتحقيق الأعظمي- دار الثقافة- بيروت. (431) "المجالس والمسامرت" للنعماني- طبع تونس (إسماعيلي). (432) "رسالة الأصول والأحكام" للدعي حاتم بن عمران- (إسماعيلي) - بيروت. (433) "كتاب الإيضاح" لأبي فراس (إسماعيلي) - طبع عارف تامر- المطبعة الكاثوليكية- بيروت. (434) "تأويل الزكاة" لجعفر بن منصور (إسماعيلي). ° "كُتُب الدروز: (435) "رسالة البلاغ والنهاية والتوحيد" لحمزة بن علي الزوزني- (دروز). ° كتب النصيرية: (436) الهفت الشريف (نُصيري).

° كُتُب القاديانية: (437) "توضيح المرام" للقادياني. (438) "سفينة نوح" للغلام القادياني. (439) "وحي المقدس" للقادياني. (440) "براهين أحمدية" للقادياني. (441) "مواهب الرحمن" للقادياني. (442) "حقيقة الوحي" للقادياني. (443) "إزالة الأوهام" للقادياني. (444) "الفرق في آدم والمسيح الموعود" للقادياني. (445) "مرآة كمالات الإسلام" للقادياني. (446) "در ثمنين" للقادياني. (447) "الحكم السماوي" للقادياني. (448) "ترياق القلوب" للقادياني. ° كُتبُ القرآنيين: (449) "مقالات سرسيد" للسيد أحمد خان- جمع وترتيب محمد إسماعيل- طبع لاهور. (450) "تحرير في أصول التفسير" لسيد خان. (451) "تفسير الجن ولجان على ما في القرآن" لسيد أحمد خان. (452) "تحقيق الجهاد لجزاغ علي" ترجمة غلام حسين- لاهور- باكستان. (453) "أعظم الكلام في ارتقاء الإسلام" لجراغ علي- ترجمة عبد الحق- لاهور. (454) "منهاج الحق" لمحب الحق. (455) "بلاغ لحق" لمحب الحق.

ص- فلاسفة كتب الصوفية

(456) "نوادرات" للحافظ أسلم. (457) "فرقة أهل القرآن" لبرويز. (458) "مقام حديث" للحافظ أسلم. (459) "نكات قرآن" للحافظ أسلم. (460) "ترك افتراء تعامل" لعبد الله جكرالوي. (461) "تبويب القرآن" لبرويز. (462) "قرآني قوانين" لبرويز. (463) "منزل به منزل" لبرويز. (464) "تعليمات قرآن" للحافظ أسلم. (465) "ترجمة القرآن" لجكرالوي. ° كتب منكري السنة: (466) "أضواء على السنة المحمدية" لأبي ريَّة. (467) "الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإِسرائيلية" للسيد صالح أبو بكر. ° كتب الفلاسفة: (468) "رسالة أضحوية في أمر المعاد" لابن سينا- تحقيق د. سليمان دنيا. (469) "الإِشارات والتنبيهات" لابن سينا- تحقيق د. سليمان دنيا. (470) "فصوص الحكم" للفارابي. 4711) "المدينة الفاضلة" للفارابي تأليف الدكتور علي عبد الواحد. (472) "حي بن يقظان" لأبي بكر بن طُفيل الأندلسي. (473) "الفوز الأصغر" لأبي علي أحمد بن مكسويه. ص- فلاسفة كُتب الصوفية: (474) "الفتوحات الملكية" لمحيي الدين بن عربي.

(475) "فصوص الحكم" لابن عربي. (476) "شرح المنصوص" للقاشاني. (477) "ديباجة ديوان ابن الفارض" لسبط ابن الفارض. (478) "الإِنسان الكامل" للجيلي- دار الفكر- بيروت. ° كتب مُضلَّة: (479) "مفهوم النص" لنصر حامد أبو زيد- طبع القاهرة. (480) "نقد الخطاب المديني" لنصر حامد أبو زيد. (481) "الإمام الشافعي وتأسيس الأيدلوجية الوسطية" لنصر أبو زيد. (482) "حوار حول قضايا إسلامية" لفرج فودة. (483) "الحقيقة الغائبة" لفرج فودة. (484) "الطائفية إلى أين؟ " لفرج فودة. (485) "آية جيم" لحسن طلب- الهيئة العامة للكتاب. (486) "تجديد الفكر الإسلامي" لحسن الترابي- الدار السعودية للنشر. (487) "تجديد أصول الفقه" لحسن الترابي- الدار السعودية النشر. (488) "الدين والفنّ" للترابي- الدار السعودية للنشر. (489) "ثورة الإسلام" لأحمد زكي أبو شادي- مكتبة الحياة- بيروت. (490) "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق. (491) "التراث والتجديد" للدكتور حسن حنفي. (492) "قضايا معاصرة في فكرنا المعاصر" للدكتور حسن حنفي- دار لتنوير بيوت. (493) "الإسلام السياسي" لمحمد سعيد العشماوي. (494) "معالم الإسلام" لمحمد سعيد العشماوي. (495) "أصول الشرية" للعشماوي.

(ع) كتب الرقائق

(496) "تاريخية الفكر العربي المعاصر" لمحمد عركون- مركز الإنماء لقومي. (497) "الخطاب العربي المعاصر" لمحمد عابد الجابري. (498) "الفكر الإسلامي والتطوّر" للدكتور محمد فتحي عثمان- الدار الكويتية. (499) "الفتنة الكبرى" لطه حسين- دار المعارف- القاهرة. (500) "النثر الفني في القرن الرابع الهجري" للدكتور زكي مبارك- دار لجيل- بيروت. (501) "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ. (502) "المعتزلة وأصول الحكم" لمحمد عمارة- سلسلة الهلال. (503) "الإسلام وقضايا العصر" للدكتور محمد عمارة. (504) "دليل المسلم الحزين" لحسين أحمد أمين- طبعة مدبولي- القاهرة. (ع) كتب الرقائق (505) "الزهد والرقائق" لعبد الله بن المبارك تحقيق د. أحمد فريد. طبع القاهرة. (506) "الآداب الشرعية" لابن مفلح. (557) "إغاثة اللهفان" لابن القيم الجوزية. (508) "مفتح دار السعادة" لابن قيم الجوزية. (509) "طريق الهجرتين" لابن قيم الجوزية- المكتبة السلفية- القاهرة. (510) "التعرف لمذهب أهل التصوف". (511) "مقامات ابن الجوزي" لابن الجوزي- دار فوزي للطباعة. (512) "المدهش" لابن الجوزي- دار مروان للطباعة. (513) "مقامات عائض القرني" لعائض القرني- دار الصحابة- الإمارات.

(ل) كتب اللغة والشعر

(514) "محمد - صلى الله عليه وسلم - وكأنك تراه" لعائض القرني- دار ابن حزم. (515) "المدائح النبوية حتى نهاية العصر المملوكي" للدكتور محمود سالم محمد- دار الفكر- سورية. (516) "مدارج السالكين" لابن قيم الجوزي- مطبعة أنصار السنة- مصر. (517) "الثبات على دين الله وأثره في حياة المسلم" للشيخ الأمين الصادق الأمين- طبع دار ابن الجوزي- السعودية. (518) "طبائع الاستبداد" لعبد الرحمن الكواكبي. (519) "الإِسلام ومستقبل البشرية" للدكتور عبد الله عزّام. (520) "الإيمان والحياة" للدكتور يوسف القرضاوي- مكتبة وهبة- مصر. (521) "الزهد" لهنّاد بن السري. (522) "الوابل الصيب" لابن قيم الجوزية- المطبعة السلفية- مصر. (523) "الداء والدواء" لابن القيم. (524) "شفاء العليل" لابن قيم الجوزية. (ل) كتب اللغة والشعر (525) "تاج العروس". (526) "لسان العرب" لابن منظور. (527) "من أسرار التعبير القرآني" دراسة تحليلة لسورة الأحزاب للدكتور محمد محمد أبو موسى- مكتبة وهبه- مصر. (528) "ديوان الشوقيات" لأحمد شوقي. (529) ديوان حسّان بن ثابت- تحقيق د. سيد حنفي- دار المعارف القاهرة. (530) "الكامل" للمبرد "ديوان الصرصري". (531) "اللزوميات" لأبي العلاء المعري.

مجلات وصحف

(532) "مقدمة في الشعر العربي" لأودونيس". (533) "الشعر المتفلِّت بين النثر والتفعيلة، وخطره" للدكتور عدنان النَّحوي- دار النَّحوي. مجلات وصحف (534) مجلة "الطليعة" القاهرية. (535) مجلة "المنار" لمحمد رشيد رضا مجلد (6). (536) مجلة "المنار الجديد" العدد (23). (537) مجلة "الدعوة" العدد (7). (538) مجلة "إبداع" عدد (12). (539) مجلة "الاعتصام" سبتمبر 1963. (540) مجلة "أهل حديث الأمرتسريَّة" عدد مارس 1933. (541) صحيفة "الشرق الأوسط". (542) صحيفة "الحياة" اللندنية. (543) صحيفة "الأهرام" (26/ 5)، (2/ 6/ 89). (544) جريدة "الأسبوع". (545) "النيوزويك" الأمريكية عدد (11/ 3/ 2003). (546) مجلة "التمدن الإِسلامي"- مجلد 44 - عدد 7. (547) مجلة "المختار الإِسلامي" عدد (286)، (273). (548) جريدة "الأهالي". (549) مجلة "السياسة الأسبوعية" (31/ 12/ 1927). (550) جريدة "الأحرار" (31/ 8 /1999). (551) مجلة "حصاد الفكر" العدد (168). (552) مجلة "العربي" (307).

(553) مجلة "البلاع". (554) مجلة "اليقظة العربية" القاهرية. (555) مجلة "منار الإِسلام". (556) مجلة "اليسار الإِسلامي" العدد الأول. (557) مجلة "الوعي الإِسلامي". (558) مجلة "آفاق عربية" عدد (610)، (616). (559) جريدة "الوفد" (25/ 6/ 1992). (560) جريدة "الشعب" (30/ 6/ 92). (561) مجلة "البحوث الإسلامية "- العدد الخامس- محرم 1400 هـ. (562) مجلة "المجتمع الكويتية" عدد (393)، (488)، (557). (563) جريدة "الشعب" العدد (331). (564) مجلة "الأسرة العربية" عدد (2837). (565) مجلة "روز اليوسف"- العدد (3809). (566) مجلة "الرسالة". (567) صحيفة "عقيدتي". (568) صحيفة "الجمهورية". (569) صحيفة "العالم الإِسلامي". (570) صحيفة "الأنباء" الكويتية. (571) مجلة "ناشيونال ريفيو". (572) مجلة "البيان" عدد (223). (573) جريدة "العربي". (574) جريدة "النبأ". (575) مجلة "التوحيد".

(576) جريدة "أخبار العالم الإسلامي". (577) مجلة "البعث الإسلامي". (578) جريدة "الفجر". (579) مجلة "أكتوبر". (580) تقرير رابطة العالم الإسلامي. (581) جريدة "المدنية". (582) جريدة "عكاظ". (583) جريدة "الشرق الأوسط". (584) شريط كاسيت لعائض القرني. (585) شريط كاسيت لسلمان العودة عن أوضاع المسلمين في البوسنة والهرسك. * * *

§1/1