هل شكرت الله على نعمه

أزهري أحمد محمود

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله تعالى أسبغ النِّعم الكثيرة. وأعطى العطايا الغزيرة .. والصلاة والسلام على النبي الطاهر، وآله وأصحابه أكرم ناصر. وبعد: إليك يا من أظلتك السماء بنجومها .. وأقلتك الأرض؛ فرتعت على ظهرها وأديمها! شربت من مائها .. وأكلت من زرعها .. سخِّرت لك الأنعام .. وذللت لك الأرض، ومخرت في لجج البحار! فأخرجت منها لحمًا طريًا .. وحلية تتزين بها! نِعمٌ دارَّة .. وعطايا نازلة! لا يحصيها العدُّ .. ولا يحبط بها العلم! يا ابن آدم! هل تذكرت يومًا صاحب هذه النِّعم؟ ! هل لهج لسانكَ بشكر رب تلك النعم؟ ! أخي المسلم: نِعَمُ الله تعالى عليك كثيرة .. فهل شكرت الله تعالى عليها؟ ! حاسب نفسك .. واسألها: هل أنت من الشاكرين؟ ! كم من نعمة عليك في صباحك ومسائك؟ ! وكأنها تناديك: هل أديت شكري؟ ! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]. {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14]. {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ

لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]. {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73]. {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [يس: 71 - 73]. فعجبًا لمن رتع في نعم الله تعالى؛ ونسي أن يذكرها! نسي أن هذه النعم من الوهَّاب الذي بيده خزائن كل شيء! عن عبد الله بن عمر بن عبد العزيز قال: «ما قلّب عمر بن عبد العزيز بصره إلى نعمة أنعم الله عز وجل بها عليه؛ إلا قال: اللهم إني أعوذ بك أن أبدل نعمتك كفرًا، أو أكفرها بعد معرفتها، أو أنساها فلا أثني بها». وعن ابن أبي الحواري قال: «جلس فضيل بن عياض وسفيان بن عيينة ليلة إلى الصباح يتذكران النعمّ! فجعل سفيان يقول: أنعم الله علينا في كذا، أنعم الله علينا في كذا، فعل بنا كذا، فعل بنا كذا». هكذا كان الصالحون يتذكَّرون نعم الله تعالى عليهم .. ويظل ذلك دائمًا حديث نفوسهم؛ فلا يغيب عنهم لطف الله تعالى بهم .. وإفضاله عليهم. قال ابن المنكدر لأبي حازم: «ما أكثر من يلقاني فيدعو لي بالخير، ما أعرفهم، وما صنعت إليهم خيرًا قط! » فقال له أبو حازم: «لا تظنَّ أنَّ ذلك من قبلك، ولكن انظر إلي الذي جاءك ذاك من قبله فاشكره».

ما أروع أولئك الرجال! الذين ما غاب عنهم مراقبة آلاء من لا زال متفضِّلاً عليهم بدقائق النعمَ! فهنيئًا لقلب وقف عند النظر إلى جلائل إحسانه؛ فأقر بالنعمة لخالقه تبارك وتعالى؛ فاشتغل بشكره .. ولهج بالثناء عليه .. فأين أنت أخي المسلم من قافلة الشاكرين؟ ! فإيَّاك أن تكون بعيدًا عنها! وإلاَّ وجدت نفسك في طريق آخر .. ولعله طريق أهل الكفران بالنعمة! ولا تظنَّ أن نعم الله تعالى لا تتجاوز مأكلك ومشربك وملبسك! فإن من ظنَّ ذلك فهو جاهل .. غافل! قال الحسن البصري: «من لا يرى لله عليه نعمة إلا في مطعم أو مشرب أو لباس، فقد قصر علمه، وحضر عذابه! ». جاء رجل إلى يونس بن عبيد، يشكو ضيق حاله. فقال له يونس: أيسرك ببصرك هذا الذي تبصر به مائة ألف درهم؟ قال: لا! قال: فبيدك مائة ألف؟ ! قال الرجل: لا! قال: فبرجليك؟ ! قال الرجل: لا! قال: فذكَّر نعم الله عزَّ وجلَّ. فقال يونس: أرى عندك مئين الألوف، وأنت تشكو الحاجة؟ ! أخي المسلم: هذا هو طرف من نعم الله تعالى على خلقه نبَّه إليها هذا الإمام هذا الرجل الذي جاءه يشكو إليه الحاجة، وقد غاب عنه ما هو فيه من النعمة!

وهذا حال الكثيرين ممن قصر فهمهم عند إدراك حقيقة نِعَم الله تعالى .. وافهم أيها العاقل؛ أن من أعظم نعم الله عليك: الهداية إلى دين الإسلام .. والثبات على التوحيد. جاء عن مجاهد في قوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}. قال: لا إله إلا الله .. وقال سفيان بن عيينة: «ما أنعم الله عز وجل على العباد نعمة أفضل من أن عرَّفهم أن لا إله إلا الله .. قال: وإن لا إله إلا الله لهم في الآخرة كالماء في الدنيا». وقال بكر بن عبد الله المزني: «من كان مسلمًا، وبدنه في عافية؛ فقد اجتمع علبه سيد نعيم الدنيا، وسيد نعيم الآخرة! لأن سيد نعيم الدنيا هو العافية، وسيد نعيم الآخرة هو الإسلام». ودخل رجل على سهل بن عبد الله، فقال: «اللص دخل داري وأخذ متاعي. فقال: اشكر الله، فلو دخل اللص قلبك – وهو الشيطان – وأفسد عليك التوحيد، ماذا كنت تصنع؟ ! ». أخي المسلم: تلك هي نعمة الإسلام أعظم وأغلى نعمة نعمت بها .. فهل شكرت الله تعالى عليها؟ ! هل تذكَّرْتَ عظم هذه النعمة؟ ! كم هم مساكين أولئك الذين وقفت عقولهم عند نعمة الأكل والشرب، ولم تتذكر هذه النعمة العظيمة!

قال ابن القيم: «شكر العامة على المطعم والملبس وقوت الأبدان، وشكر الخاصة على التوحيد والإيمان وقوت القلوب». أخي المسلم: إذا كنت من الشاكرين لله تعالى على نعمه فأنت على خير عظيم .. وإن الهداية إلى الشكر نعمة تستحق الشكر! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أنعم الله على عبد نعمة فحمد الله عليها؛ إلاَّ كان ذلك الحمد أفضل من تلك النعمة ... » [رواه الطبراني وغيره/ صحيح الجامع: 5562]. قال ابن القيم: «يقال: الشكر على الشكر أتمُّ من الشكر؛ وذلك لأن ترى شكرك بتوفيقه، وذلك التوفيق من أجلِّ النِّعم عليك؛ تشكر على النعم، ثم تشكره على الشكر». وجاء عن بكر بن عبد الله المزني أنه قال: «ما قال عبد قط: الحمد لله؛ إلا وجبت عليه نعمة بقوله: «الحمد لله! » قلت: فما جزاء تلك النعم؟ قال: «جزاؤها أن يقول: الحمد لله، فجاءت نعمة أخرى، فلا تنفد نعم الله عز وجل! ». فلتحاسب نفسك .. هل أنت من الشاكرين؟ ! وإذا كنت منهم .. هل أنت من الشاكرين على نعمة الشكر؟ ! ثم: هل حاسبت نفسك على إحاطة نعم الله بك من كل ناحية؟ ! وها أنت غاد ورائح في نعم الله تعالى .. وكل ذلك يدعوك إل الشكر والثناء على الوهاب تبارك وتعالى .. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله ليرضى عن العبد أن يأكلَ الأكلَة فيحمده عليها، أو يشرب الشَرْبَة فيحمدَهُ عليها» [رواه مسلم]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الطاعم الشاكر؛ له مثل أجر الصائم

الصابر» [رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والدارمي/ صحيح ابن ماجه للألباني: 1440]. أخي المسلم: تذكر دائمًا أنك راتع في نعم الله تعالى .. فلا تستحقرنَّ نعمة من نعمه .. فكم من نعمة يضيق العلم عن معرفة قدرها وعظمها! ولا تفهمن أن النعمة أن تكون كثير المال .. واسع الثراء .. غارقًا في أنواع اللذات .. بل إن نعم الله تعالى عليك؛ فيها ما هو أعظم من ذلك وإن كنت قليل المال .. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أصبح منكم آمنًا في سريه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنَّما حيزَتْ له الدنيا بحذافيرها! » [رواه البخاري في الأدب المفرد، والترمذي وابن ماجه وغيرهم/ صحيح الجامع: 6042]. وعن مكحول: «أنه سئل عن قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قال: بارد الشراب، وظل المساكن، وشِبْع البطون، واعتدال الخَلْقِ، ولذَّة النَّوم». وقال يونس بن عبيد: «قال رجل لأبي تميمة: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بين نعمتين لا أدري أيتهما أفصل! ذنوب سترها الله فلا يستطيع أن يُعيِّرني بها أحد، ومودَّة قذفها الله في قلوب العباد لا يبلغها عملي؟ ! ». فكما ترى أن العارفين فهموا حقيقة النعم، وأنها لا يشترط فيها أن تكون في بعض الأمور الظاهرة كما يفهم ذلك البعض! فكم من صاحب نعمة؛ كثير المال، عريض الثراء؛ لم يستفد من ذلك؛ بسبب أمراض لزمته، أو هلع حلَّ به؛ فتراه غير متمتع بطيب الطعام، ولا هانئ بلذيذ المنام! كثير الشكوى! قليل الشكر!

وكم من فقير .. مُعْدَم .. لا يملك قوت يومه .. ولكنَّه معافًى في جسده .. ضاحكًا .. مسرورًا .. لا يحمل هم قوت غده .. شاكرًا ربه تعالى .. فأين هذا من ذاك؟ ! قال الحسن البصري: «الخير الذي لا شرَّ فيه العافية مع الشكر، فكم من منعم عليه غير شاكر! ». أخي المسلم: اجعل الشكر من ديدنك، وأنت تطالع نعم الله عليك .. ولتعلم أن الشكر الصادق ما صدقَتْهُ الأعمال؛ فليس شاكرًا لله من شكره بلسانه، وعصاه بجوارحه .. فأين أنت من شكر الجوارح؟ ! عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: «الشكر: العمل، لقوله تعالى: {اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا} يعني: اعملوا عملاً تؤدون به شكرًا». وقال نصر بن محمد السمرقندي: «ويقال: الشكر على وجهين: شكر عام، وشكر خاص. فأما الشكر العام فهو: الحمد باللسان، وأن يعترف بالنعمة من الله تعالى، وأما الشكر الخاص: فالحمد باللسان، والمعرفة بالقلب، والخدمة بالأركان، وحفظ اللسان وسائر الجوارح عمَّا لا يحل». فيا من رتعت في نعم الله تعالى؛ إن من لوازم ذلك أن تحب واهب هذه النعم، وتقوم بحق طاعته تبارك وتعالى .. لتكون بذلك مؤديًا حقَّ شكره ..

ولكن كم هو عجيب أن ترى بعض أولئك الغافلين؛ الذين استعانوا بنعم الله على معصيته! فصار حالهم كعبد أعطاه سيده مالاً، وأنعم عليه بخير عظيم، فجعل العبد هذا المال عُدَّة له في أذى سيده ومعاداته! قال رجل لأبي حازم: ما شكر العينين يا أبا حازم؟ قال: إن رأيت بهما خيرًا أعلنته، وإن رأيت بهما شرًا سترته. قال: فما شكر الأذنين؟ قال: إن سمعت بهما خيرًا وعيته، وإن سمعت بهما شرًا أخفيته. قال: ما شكر اليدين؟ قال: لا تأخذ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقًا لله هو فيهما. قال: ما شكر البطن؟ قال: أن يكون أسفله طعامًا، وأعلاه علمًا. قال: ما شكر الفرج؟ قال: كما قال الله تبارك وتعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7]. قال: فما شكر الرجلين؟ قال: إن رأيت حيًا غبطته؛ استعملتَ بهما عمله، وإن رأيت ميتًا مقته؛ كفقتهما عن عمله، وأنت شاكر لله. وأما من شكر بلسانه، ولم يشكر بجميع أعضائه؛ فمثله كمثل رجل له كساء، فأخذ بطرفه ولم يلبسه، فلم ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر! ».

أخي المسلم: إن شكر النعم أمان للنعم من الزوال .. وقيد لها من الفرار .. كما أن كفران النعمة سبب في زوالها! قال الحسن البصري: «إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء، فإذا لم يُشكر عليها؛ قلبها عذابًا! ولهذا كانوا يسمون الشكر الحافظ؛ لأنه يحفظ النعم الموجودة، والجالب؛ لأنه يجلب النعم المفقودة». وقال عمر بن عبد العزيز: «قيِّدوا نعم الله عز وجل بالشكر لله تعالى». وقال بعض السلف: «النعم وحشية؛ فقيدوها بالشكر». ومن شكر النعمة؛ التحدث بها؛ وفي ذلك لفت للسامع إلى نعم الله تعالى .. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «التحدُّث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، ومن لا يشكر القليل؛ لا يشكر الكثير، ومن لا يشكر الناس؛ لا يشكر الله، والجماعة بركة، والفرقة عذاب» [رواه البيهقي في الشعب/ صحيح الجامع: 3014]. وأيضًا أخي المسلم إن شكر النعمة مربوط بالزيادة؛ فمن شكر الله تعالى على نعمه؛ زاده .. والزيادة من الله تعالى؛ زيادة من الغني .. مالك كل شيء! قال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]. قال علي - رضي الله عنه - لرجل من أهل همدان: «إنَّ النعمة موصولة بالشكر، والشكر متعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن، فلن ينقطع المزيد من الله عز وجل؛ حتى ينقطع الشكر من العبد».

الخاتمة

أخي المسلم: تلك هي أهم معالم شكر الله تعالى، وإن الموفق من وُفِّق إليها .. وكان من أهلها .. فحاسب نفسك: أين أنت من مرتبة الشكر؟ ! وما هو حظك من هذه البضاعة الغالية؟ ! فلتراقب نعم الله تعالى وهي تَرِدُ إليك بعين الشكر .. ولا تستعملنَّ نعمه في معصيته تبارك وتعالى .. واسأل الله تعالى الإعانة على شكره .. عسى أن تكون من الشاكرين .. والحمد لله تعالى .. والصلاة والسلام على النَّبي وآله وصحبه .. * * * *

§1/1