هذه مفاهيمنا

صالح آل الشيخ

مقدمة

مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضللْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. وبعد: فإن الفتن في هذا الزمان تتابعتْ، وتَنَوعت وتكاثرت، فمنها الفاتن للجوارج، ومنها الفاتن للقلوب، ومنها الفتَّان للعقول والفهوم، وقد خاض أناس في الفتن غير مبالين، وخاض أناس غير عالمين، وخاض فئام عالمين، وخاضت جماعات مقلدين. حتى أصبح ذو القلب الحي ينكر من يراه وما يراه، فلا الوجوه بالوجوه التي تعرف، ولا الأعمال بالأعمال التي تعهد، ولا العقول بالعقول المستنيرة، ولا الفهوم بالفهوم المنيرة. فهو مخالط للناس بجسمه، مزايل لهم بعَمَلِه، يعيش في غرْبَتِه بين جلْدَتِه، حتى يأذن الله بحلولِ الأجل فيلحقَ -إنْ عفا الله وغَفَرَ- بمنْ يفكُّ غربته، ويؤنسُ وحشته. وإن من أعظم تلك الفتنِ، وأشدِّها صَرْفاً عن الصراط المستقيم، الفتنةَ عن تحقيق معنى الشهادتين، شهادةِ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، فكم من فاتنٍ عنها بعلم، وكم من مفتونٍ عنها بتقليد.

ولهذه الفتنةِ عن تحقيق معنى الشهادتين صور كثيرة، جمع صورَها هذا الزمانُ وأهله، وما اجتمعت في وقتٍ اجتماعها وتوارُدها في هذا الزمن، فما أقلَّ الفقيهَ بها، المجاهدَ لها، على تنوعها وتشعبها، وظهورها وجلائها. فطوائفُ من الناس إذا سئلوا عن معنى كلمة التوحيد، ظنوا معناها لا خالقَ موجود إلا الله، وكأنَّ أهلَ الجاهلية والعمى ممن بعثت إليهم الرسلُ يقولون بتعدد المبدعين الخالقين المدبرين، حتى تبعثَ لهم الرسلُ بلا إله إلا الله. والشأنُ أنَّ أولئك الجاهلين كانوا يُعَددون معبوديهم لا خالقَهم، فأتت الرسل بـ "لا إله إلا الله"، ومعناها ما قال نوح لقومه: {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود: 26] بالمطابقة. والعبادة: هي الذلُّ والخضوعُ والاستكانة في لغة العرب، وسُمِّيت العباداتُ بذلك لأنها تُفْعَل مع الذلِّ والخضوع والاستكانة، وتورثُ الخضوعَ لربِّ العالمين في المآل، لأمره ونهيه، والأنسَ به والذلِّ بين يديه والانكسار. هذا ما تعلمه العربُ من كلامها، فلفهمِهم المعنى أبوا أن يخضعوا لـ " لا إله إلا الله " ولو بنطقِ كلمة. وإذا تدبرت أحوالَ بعض الناس اليومَ وجدتَ ذلَّهم وخضوعهم عند القبور وأبنيتها، وتحت قبَابِها، وفي المسير إليها أعظمَ من خَضَعَانِهم وانكسارهم، إذا كانوا في مسجدٍ لله ليس فيه قبر، ولا قُبَّة. وعند القبورِ تلك من نواقضِ معنى إفرادِ الله بالعبادة شيء لا تحصر صوره، فمن طائف بالقبر سبعاً، ومن قائل: يا ولي الله! اشفِ مريضي، وأزلِ الدينَ عني. ومن قائل: أنا في حَسْبك ووقايتك ارفعِ الآفات عني. يعتقدون في المقبور أن له تصرفاً في الكون بتفويض اللهِ له التصرفَ، فمنهم من أُعطيَ بلداً يرزقُ من يشاء ويَدْفَعُ عمن يشاء، ومنهم من أعطي

قُطراً، ومنهم من فُوَّضَ له ربعُ العالم، ومنهم من فُوَّض له أمرُ الأرض كلها، وهو المسمى بالغوثِ، هكذا يزعمُ عبادُ القبور. وهؤلاء في ذلك كمن اعتقد تفويضَ الله أمرَ العالمَ للكواكبِ السبعة. ومنهم من أبى عقلُه أن يشركَ في التصرف، كما فعله أولئك، ولكنه سار مع طائفةٍ أخرى في ما سماه أبو البقاء الكفويُّ في " الكليات ": شركَ تقريبٍٍ، وهو سائقٌ لشركِِ التصرف. فادعى مع المُدَّعين، وخاض مع الخائضين، وطَلبَ من الأموات المقبورين أن يشفعوا له في غُفْران ذنبه، أو سَعَةِِ رزقه، أو رَفْع كربته، أو شفاء مريضه، يدعون الوسائطَ أن تتوسطَ لهم عند الله فتشفعَ بحاجاتهم. وكأنَّ الله جَلَّ وعلا قد أغلقَ أبوابَهُ دون حاجاتهم ودَعَواتهم، وكأنه في ملزومِ فعلِهم لا يعطي ولا يُمَتِّعُ إلا بتوسطِِ وسيطٍٍ، وفي هذا من التنقصِ ما فيه. وتجدُهم يتحببون لهذا المقبور بأنواع القُرَب: فمن مهريقٍ الدمَ باسمه، ومن ناذرٍ له، ومن طائفٍ حول قَبره يتقرب بالسعي والطوافِ لنيل شفاعته. فهذان النوعان من الشرك الأكبر قد فَشَيا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد أشرتُ أثناءَ هذه الورقاتِ إلى أن أولَ من أحدث الشركَ الأكبرَ في المسلمين من هذه الأمة هم الباطنيون؛ وعلى رأسهم " إخوانُ الصفا "، وتولى كبر ذلك الدولةُ العبيدية. وكثر انخداعُ الناسِِ، وخاصةً الجهالَ بها، ووجد أناسُ آخرون في ذلك نعم المصدرُ لاكتسابِ معايشهم، وراج ذلك أكثرَ ما راج في الصوفية لكثرة المتعبدين بجَهْلٍ فيهم، فصاروا لُعْبةً وسَلْوى لأولئك، يتحكمون فيهم؛ لأجل الدنيا.

ثم شاع بعد القرن الخامس ذاك في الناس وكثر، فعَمَّ وطَمَّ وقَلَّ أن سَلِمَ منه بلدٌ، وفي كل قرن يعيش أولياء، وكل من مات قُبَّبَ على قبره، واتُّخِذَ مزاراً، يستشفعُ به، ويسأل ويدعى. فكثرت القبورُ، وكثرت العطايا للقبور، فكثر السدنةُ والمنتفعون، والمالُ فِتْنَةٌ، والجاهُ فِتْنَةٌ، والسيادةُ فِتْنَةٌ. وأحبَّ من لم يتبع التوحيد أن يعظمَه الناسُ في حياته، فمن مُقَبِّلٍ للأيدي والأرجل، ومن متمسحٍ بالثياب خاضعٍ بالقول، والقلب والجوارح. وقد رأيت مرة رجلاً يُظَنُّ عالماً في المطافِ حول البيت العتيق، وهو يدورُ مقهقهاً مع رفيقٍ له، ومن الناس من تمسَّح به وقَبَّلَ يده! أي حالٍ تلك؟! وأي قلوبٍ هاتيك القلوبُ التي تقهقه حول الكعبةِ المشرفة، ثم هم أولياءُ في زعمهم؟! ووصفُ أحوال المنتسبين للإسلام اليوم يطولُ، ولكنَّ الإيماءَ كافٍ، فالإطالةُ تضني، وقد جادلت يوماً ببلدٍ إفريقيِّ أحدَ المفتونين من كبار العلماءِ المُحَبَّذين لعبادة القبور والسدنةِ حولها، في حالهم، ومعنى العبادة، ومفهوم الشهادتين، فقال: أنا أعلم أنكم على الحق؛ ولكن (سيب) الناس تعيش! إن هذا هو الواقعُ، فالمسألةُ ليست نصرةً للحقِّ بدلائله، ولكنها سيادةٌ وجاهٌ وسمعةٌ وأموالٌ، ثم يبحث لتثبيتِ هذا المقررِ سَلَفاً في الدلائل الشرعيةِ، وإنْ كانت أحاديثَ مكذوبة، وفي الدلائل العقلية، وإن كانت أوهى من خيوط العناكب. وإن المحافظةَ على المجد والسيادة مما يحرص عليها ناصروا المذاهب البدعية، يورثونها أولادهم لحبهم أن يدعوا الورثة أغنياء! وإذا هلك صُيَّر مدفنه ضريحاً إن استطيع، وتُوَجَّه قلوبُ الناس إليه، فيزداد الخليفةُ جاهاً وطاعةً ومالاً.

وفي كل صِقْعٍ من الأرض وُجِدَ فيه عبادُ القبور تجد فيه غالباً طائفةً على هدي النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم سائرة لا يخدعهم تسيُّدٌ، ولا تُؤثِّر فيهم شبهةٌ، وأولئك غرباء في كثير من البلاد، يدلُّون الناسَ على السنةِ، ويهدونهم إلى التوحيدِ، وصَرْفِ القلوب إلى الله، وتعظيمِه وإجلالِه، والهيبة والخوفِ منه، ورجاءِ ما عنده، يعلقون القلوبَ بخالقِهم وحده، لا بأحدٍ من الخلق، فلا يحبون إلا لله، ولا يبغضون إلا لله، ولا يعبدون إلا إياه، همهم دعوةُ الناسِ إلى توحيدِ ربِّهم في الأعمال: أعمالِ القلوب وأعمالِ الجوارح. يسمون أنفسهم أتباعَ السلفِ الصالح، وأكْرِمْ به من اتِّباع مقابلةً باتباعِ غيرهم للخلف الطالح، وأسْفِلْ به من اتِّباع. ويسميهم أعداؤهم: الوهابيةَ أو المتطرفةَ، ويسعى أعداؤهم في نشر الكتب الناقضةِ دعوة الشيخ المصلح محمدِ بن عبدِ الوهاب -رحمه الله تعالى-، رداً عليهم، وعلى أتباع الدعوة السلفية الخالصة. وتتخذ هذه الردودُ أشكالاً تناسبُ البلدَ المنشورَ فيه الردُّ، فبينما يُصَرَّحُ بذلك في بلدٍ، يُسَرُّ به في بلدٍ ويأتي تلويحاً لا تصريحاً. والحَمْلةُ واحدة، والطريقُ قديمة سابلَةٌ، ولها وُرَّادٌ، ودعاةٌ على جنباتها، إذا صَرَخَ داعٍ تجاوبَ الجميعُ بالصَرُّاخ. والطريقُ ليست علميةً كما قد يُظَن، ولكنها سبيلٌ غايَتُها التمكين لدعاة الباطلِ في أرضِهم، وأرضِ غيرهم. ومن تلك الردود على الدعوة الإصلاحية كتابٌ سماه كاتبهُ: " مفاهيم يجب أن تصحح " طبع بمصر سنة 1405هـ، ثم طبع بالتصوير " الأُفست " في المملكة العربية السعودية بأعداد كبيرة، ووُزَّع سراً وعَلَناً في كثير من أرجاء البلاد، وفي الحرمين وما جوارها أكثر. وفي هذا الكتاب " مفاهيم يجب أن تصحح " تجويزُ كاتبه -وتحبيذُه حيناً- سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعةَ في قبره، وسؤاله التوسط، وتجويزه ودعوتُه

لطلب الغَوْث منه صلى الله عليه وسلم، فالاستغاثة به منجاة عنده، وطلبُ شفاعتهِ مشروعٌ عنده بعد موته، وسؤاله الإعانة ونحو ذلك، وطَرَدَ هذا في الصالحين ونحوهم. بل زاد بأنَّ قولَ القائل: يا رسول الله! أريدُ أن تردَّ عيني، أو يزولَ عنا البلاءُ، أو أن يذهبَ مرضي: من الجائزاتِ، التي لا عَتْبَ على قائلها، كما ذكره في ص98 من كتابه. وفي كتابه من التدليل لشُبهه المتهافتةِ بالأحاديثِ الموضوعةِ، والواهية، والمُنْكرة، والباطلة والضعيفة جداً، والضعيفة شيءٌ كثير، وكثير منها يَسْتَدِلُّ بها بتعسفٍ مع وهاء الدليل وضعفه. والقوم لهم وَلَعٌ بالمكذوبات الواهيات، وإعراض عن الصحاح العاليات الغاليات. وليس هذا جديداً، بل شأنُ كلِّ من نَهَجَ غير سبيل السلف وأتباعهم حبُّ البدع، وإغلاؤها، حتى صار وضعُ الحديث عند طائفةٍ من أولئك والكذبُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلاً خفيفاً. ومنهم من يضع الحديثَ ويفتري على رسول الله صلى الله عليه وسلم عالماً، ومنهم من يكونُ جاهلاً، وهاك مثالاً لهؤلاء وأولئك تُبْصِرُ به ما وراء ذلك.

جاء في كتاب " الدرر السنية في الرد على الوهابية " لأحمد بن زيني دحلان ص55 1: " ذكر العلامة السيد علوي بن أحمد بن حسن بن القطب السيد عبد الله الحداد باعلوي في كتابه الذي ألفه في الرد على ابن عبد الوهاب المسمى " جلاء الظلام في الرد على النجدي الذي أضل العوام " وهو كتاب جليل ذكر فيه جملة من الأحاديث. منها حديث مروي عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم أسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: " سيخرج في ثاني عشر قرناً في وادي بني حنيفة رجل كهيئة الثور، لا يزال يلعق براطمه، يكثر في زمانه الهرج والمرج، يستحلون أموال المسلمين ويتخذونها بينهم متجراً، ويستحلون دماء المسلمين ويتخذونها بينهم مفخراً، وهي فتنة يعتز فيها الأرذلون والسُّفَّل، تتجارى بينهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ". قال: ولهذا الحديث شواهد تقوي معناه، وإن لم يُعرف من خرَّجه انتهى. فهذا من وضع الرجل المذكور أو شبهه، يكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم عياناً أمام الخلق، فيالها من قلوبٍ تلك التي تتجرأُ على ذلك! ويالها من قلوب تلك التي تحبُّ أولئك! يكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدَّعون محبةَ النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يجتمعان في قلبٍ؟ كلا والله، إلا في قلب مبتدع مأفون كاذب، ومن العجب أنه قال: "وإن لم يعرف من خرجه"، ولو أسنده إلى كتاب معدوم

_ 1 ومن كذب على النبي صلى الله عليه وسلم فكذبه على غيره ممن سار على نهجه واقتفى سنته أولى، فقد افترى هذا الرجل على الشيخ محمد بن عبد الوهاب افتراءاتٍ: منها قوله: " (والظاهر من حال محمد بن عبد الوهاب أنه يدعي النبوة") اهـ ص50، ومنها قوله ص 54: "وكان ابن عبد الوهاب يأمر أيضاً بحلق رؤوس النساء اللاتي يتبعنه" اهـ، والافتراءات كُثُر.

مفقودٍ لراج كذبُه أكثرَ على الجهال، لا على العلماء الذين يعرفون نورَ كلامِ النبوة. ومن الصنف الثاني الذين كذبوا على جهل، ما جاء في " الرد المحكم المنيع " (ص17) قال: " المعلوم لطلبة العلم، والعامة، فكيف للعلماء قوله صلى الله عليه وسلم: " الناس مؤتمنون على أنسابهم" اهـ. والمعروف عند العلماء بل طلاب العلم بل صغار طلبة العلم أن جملة "الناس مؤتمنون على أنسابهم" من قول الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى. وكل من أحبَّ البدعَ هَجَرَ السننَ، وكل من زَيَّنَ البدعةَ فسينقصُ من معرفته بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدر ذلك، ومن تأمل ذلك في الخلق عَلِمَه. وكتابُ " مفاهيم يجب أن تصحح " مَجْلَبٌ لما تفرق من شُبَه الذين عارضوا دعوةَ الشيخِ محمدِ بن عبد الوهاب، فهو يتابعُهم حتى في أوهامهم، وفي عَزْوِهم، وفي فِكْرِهم، حتى إنه لم يتكلفْ عناءَ توثيقِ أقوالهم، أو تعنَّى فوجدَ خلاف ما كتبوا، فأثبته كما أرادوا. ولما كان هذا الكتابُ يعبِّر فيه كاتِبهُ عن رأيه، وفيه من الشطاطِ عن فهم التوحيد ما فيه، ومن عدم الفهمِ لدعوة الشيخ ما فيه، ومن الخوض في الدفاع عن الداعين أصحابَ القبور من الأنبياء والصالحين، وفي تجويز ما قال الفقهاء في باب " الردة ": إنه كفرٌ بالإجماع، ولما لكاتبه من تَبَعٍ ومريدين، استعنتُ اللهَ في كشفِ ذلك، وبيان الحق فيه، وبيان أنَّ ما جوزَه الكاتبُ في " مفاهيمه " من الشرك الذي بُعِثَ الرسلُ جميعاً وآخرُهم محمدُ بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لقمعه. والشركُ في الإلهيةِ له صورٌ يزينُها الشيطانُ للواقعين فيه، وهو شَغِفٌ لهَفٌ على أن يخوضوا فيما نهاهم الله عنه، ويُقْنعهم بأنهم لم يخوضوا فيما نهى الله عنه. فله طرقٌ وسبلٌ، وعلى كل سبيلٍ زينةٌ وبهجةٌ يخدعُ بها

الناسَ، والمنكرُ واجب الإزالةِ بحسب المراتب التي جاءت في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. فعسى أن يأذنَ الله لهذه الورقاتِ بالقبول عنده، وأن يُنْتَفَعَ بها، فإن المُنْيَةَ الانتفاع بها، وليس وراء القبول مُبْتَغَىَ، ولا سواه مُرْتَجى، وسميتُ هذا الردَّ " الورقات الكاسرة للمفاهيم الخاسرة ". ولما أطلعتُ على هذا الكتاب سماحةَ والدي ومن له بعد اللهِ الفضلُ علَّي نصر المولى به الحقَّ، وجزاه الله أحسنَ الجزاء، ورفع درجتَه، وأمْتَعَ به، أشار بتسميته " هذه مفاهيمنا "، وإشارته أمرٌ، وطاعَتُه غُنْمٌ، فسميتهُ بما سمَّاه به طَرْحاً لما أرى عند ما يَرَى، ورَفْعاً لرأيِه، واتهاماً لقولي عند مقاله. وكتبته مقطعاً1، والقلبُ مشتَّتُ الشواغلِ، في كلّ وادٍ منه مُزْعَة، والهمومُ لتدني الأحوالِ مترادفة، والفتنُ الطاغيةُ صادةٌ عن صفاءِ المقالِ، وإحكام الأقوال، والأنيسُ قليلٌ، بل عزيزٌ، فاللهم إنَّ مفزعَنَا إليك لا إلى غيرك، فثبتْ أقدامَنا على الحقِّ، وبَصَّرْنا بأنفسنا، ولا تجعلْ من عملنا لأحدٍ سواك شيئاً، ونعوذ بك أن نشركَ بك على علم، ونستغفرك مما لا نعلم، فإنَّ صفتَنا التقصِير، وصفةَ الرب العَفْوُ والغفرانُ، فاغفر اللهمَّ جَماً، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ رَبَّ العالمين. كتبه: صالح بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ. يوم الخميس13/5/1406هـ.

_ 1 ورددت به على الباب الأول من كتابه، وفصلاً من الثاني؛ لأني رأيت أن أصول أقواله في هذين، وفي الكتاب أغلاط كثيرة سيما في الحديث، وأغلاط في الاستدلال، فتركت الكلام على ذلك، واقتصرت على رد الشركيات ووسائلها، وما يبين به منهج المؤلف في مفاهيمه، والبصير ينظر بعين ما ذكر إلى ما طوى.

الباب الأول: التوسل وحكمه

الباب الأول: التوسل وحكمه ... قال ص 45: "الوسيلة: كل ما جعله الله سبباً في الزلفى عنده، ووصلة إلى قضاء الحوائج منه. والمدار فيها على أن يكون للوسيلة قدرٌ وحرمة عند المتوسل إليه" اهـ. أقول: كلامه حوى جملتين: الأولى من الحق، والثانية فيها إجمال به يتوصل إلى ما نهى الله عنه، ولم يجعله وسيلة. فقول: "والمدار فيها.. الخ" مجمل يمكن تفسيره على أحد وجهين: الأول: أن يدخل في ذلك ذوات الأنبياء والصالحين باعتبار أن لهم من المنزلة والزلفى عند الله ما يجل عن الوصف، فإن كان هذا معنياً، فالله سبحانه وتعالى لم يجعل ذوات الأنبياء والصالحين أو جاههم أو حرمتهم وسيلة إليه، ولا سبباً للزلفى لديه. وإنما جعل الوسيلة إليه هو اتباعهم وتصديق ما أخبروا به، واتباع النور الذي جاءوا به، والجهاد من أجل تقريره وتثبيته بين الخلق، فهذا من الوسائل المشروعة التي يشرع للداعي بمسألة أن يقدمها بين يدي مسألته، ولا يصح للداعي -دعاء عبادة- دعاؤه إلا باتباعهم وتصديقهم. فهذا من الوسائل المشروعة التي أمر الله بها، وشرعها. وأما الأنبياء والصالحون فليس من المشروع التوسل بذواتهم ولا جاههم ولا حرمتهم كما سيأتي بيانه، وإنما يشرع التوسل بدعائهم في حياتهم، كما كان يفعله المسلمون زمنه صلى الله عليه وسلم وبعده من طلب الدعاء في الاستسقاء وغيره. وأما بعد مماتهم فليس التوسل بدعائهم ولا ذواتهم مشروعاً بإجماع القرون المفضلة.

الثاني: أن تكون الوسائل من الأعمال ونحوها مشروعة، لم تتبع فيها سبل المبتدعة، وإنما اتبع فيها السنة، وهذا حق. والكاتب أجمل ليدخل الوسيلة المبتدعة في خللِ كلمات الحق، وقد بينا ما فيها، وما كان ينبغي له ذلك وهو يفسر آية من كتاب الله. وفي الوسيلة قولان ذكرهما أهل التفسير، وقربهما ابن الجوزي في "زاد المسير" (2/348) قال: "أحدهما: أنها القربة، قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد والفراء. وقال قتادة: تقربوا إليه بما يرضيه. قال أبو عبيدة: يقال: توسلت إليه، أي: تقرَّبتُ إليه، وأنشد: إذا غفل الواشُونَ عُدْنا لِوصْلِنا وعاد التَّصَافي بيننا وَالوَسَائلُ الثاني: المحبة، يقول: تحببوا إلى الله. هذا قولُ ابن زيد" اهـ. وفي أسئلة نافع بن الأزرق لابن عباس: أخبرني عن قوله تعالى: {وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة 35] ، قال: الوسيلة الحاجة. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت عنترة وهو يقول: إنَّ الرجالَ لهم إليكِ وسيلةٌ أن يأخذوكِ تكحَّلي وتخضَّبي وفي المادة شواهد غير ما ذكر. فالوسيلة: التقرب إلى الله بأنواع القرب والطاعات، وأعلاها: إخلاص الدين له، والتقرب إليه بمحبته، ومحبة رسوله، ومحبة دينه، ومحبة من شرع حبه، بهذا يجمع ما قاله السلف، وقولهم من اختلاف التنوع. وتأمل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة 35] ، ففي تقديم الجار والمجرور "إليه" إفادة اختصاص

الوسائل بالله، لا يشركه معه فيها أحد. كما في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة 5] . قال العلامة الشنقيطي رحمه الله في "تفسيره" (98/2) : "التحقيق في معنى الوسيلة هو ما ذهب إليه عامة العلماء من أنها التقرب إلى الله تعالى بالإخلاص له في العبادة على وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وتفسير ابن عباس داخل في هذا؛ لأن دعاء الله والابتهال إليه في طلب الحوائج من أعظم أنواع عبادته، التي هي الوسيلة إلى نيل رضاه ورحمته. وبهذا التحقيق تعلم أن ما يزعمه كثير من ملاحدة أتباع الجهال، المدعين للتصوف من أن المراد بالوسيلة في الآية الشيخُ الذي يكون له واسطة بينه وبين ربه، أنه تخبط في الجهل والعمى، وضلال مبين، وتلاعب بكتاب الله تعالى. واتخاذ الوسائط من دون الله من أصول كفر الكفار، كما صرح به تعالى في قوله عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر 3] ، وقوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس 18] . فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الطريق الموصلة إلى رضا الله وجنته ورحمته هي اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن حاد عن ذلك فقد ضل سواء السبيل. {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء 123] ، الآية" انتهى كلامه.

قال الكاتب ص 43: "إن التوسل ليس أمرا لازما أو ضروريا، وليست الإجابة متوقفة عليه، بل الأصل دعاء الله تعالى مطلقا، كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة 186] ،.. " انتهى. أقول: إذا كان الأصلُ هو دعاءَ الله تعالى بلا واسطة، فلِمَ العدول عن الأصل إلى غيره؟! ولا يخفى أن غير الأصل لا يتمسك به إلا من عَدِم الأصل، والله جل جلاله حي قيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، يحب أن يدعوه عبدُه، وأن يرجوه، وأن يخافه، وأن يتوسل إليه بأسمائه وصفاته. فإذا كان هذا لا ينقطع عن مسلم في أي بقعة كان وهو الأصل الأصيل، فلِمَ العدول عنه، والتنكب له؟! أفتعدل إلى طريق هي أهدى؟! تقولُ: إن التوسل الذي ننكره وهو التوسل بالذوات وعمل غير الداعي ونحوها، ليس الأصل، بل الأصل معكم وأنتم حقيقون بالأصل، تقر لنا بالهداية والاتباع، وترغب في مخالفة الأصل دون دليل صحيح! أما في الأصل لك كفاية؟! أما في دعاء الله وحده بلا واسطة لك مقنع؟! إذا كان الحي القيوم الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، يحب أن يدعوه عبده كل حين: دعاء عبادة أو دعاء مسألة، وهو الذي يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة 186] ، إذا كان كذلك فلِمَ العدول إلى الأموات يُتَوسَّلُ بذواتهم أو جاههم أو حرمتهم وغيرها من الألفاظ البدعية؟! لمِ َلا يُعلْم المسلمون دعاء الله وحده، فتخلص قلوبهم من الالتفات إلى غيره في دفع كربة أو رفع بلاء، أو جلب نفع؟ علموهم هذا ولا تعلقوا

قلوبهم بغير الله فيتخذوهم أنداداً، فيذهب ذكرهم لربهم وحده، وحبهم له وحده، إذ نفعهم معلق في أذهانهم بوسائط. إن من انفتح عليهم باب البدعة في التوسل ألقى بهم ولو بعد حين إلى دائرة الإشراك، إذ هو طريقه وسبيله، ومنه يتدرج إلى دعاء الأموات أنفسهم أو سؤالهم الشفاعة، أو الإغاثة، أو الإعانة. وكل هذه صرح كاتب المفاهيم بتجويزها في مواضع من كتابه، كما سيأتي في مباحث الشفاعة. وكل ذلك من سيئات ترك الأصول المتفق عليها، واتباع المتشابهات المنهي عنها. قال الكاتب ص 44: "ونحن نرى أن الخلاف شكلي، وليس بجوهري؛ لأن التوسل بالذوات يرجع في الحقيقة إلى توسل الإنسان بعمله، وهو المتفق على جوازه ... ". أقول: هذا خطل من القول، ومخادعة للنفس ظاهرة، إذ المتوسلون بالذوات يعلمون بُعْدَ هذا التبرير والتأويل، وأن الخلاف جوهري لا صوري، وبرهان ذلك فساد الدليل الذي ادعيتموه، وهو راجع إلى المجاز العقلي، والكلام فيه سيأتي مفصلاً، ثم هل عمل الذات المتوسَّل بها عمل للمتوسِّل به المتفق على جوازه؟ ولكنى أقول هنا على سبيل المجاراة والمناظرة: هب أن الخلاف شكلي، أفلا يجب عليكم ترك الألفاظ الموهمة لأمور غير شرعية؟ فإن القائل: أتوسل بفلان، دالٌ ظاهر لفظه على التوسل بالذات المجردة عن الجامع بين الذاتين، ولا قرينة لفظية ولا غير لفظية، متصلة ولا غير متصلة تصرفه عن هذا الظاهر. والقرينة المدعاة قلبية خفية، والحكم على ما في قلوب الناس فرع الاطلاع عليها، ولا سبيل إلى ذلك. ومن المتقرر أن الشريعة المطهرة جاءت بترك الألفاظ الموهمة لما ينهى عنه شرعأ، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة 104] فقد كانت يهود تستعمل "راعنا" للسب، والمسلمون حين قالوها لا يَشْركونهم في ما عقدت قلوبهم عليه من تفسير اللفظ، ومن اليقين أن الصحابة لم يقولوا اللفظ وهم يعنون المعنى الفاسد، فهذه من أقوى القرائن القلبية، ومع هذا نهوا عن ذلك. قال القرطبي في "تفسيره " (75/2) : "في هذه الآية دليلان: أحدهما: على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعريض للتنقيص والغض. الدليل الثاني: التمسك بسد الذرائع وحمايتها" انتهى. وقال الجصاص في "أحكام القرآن" (1/58) : "وقوله {رَاعِنَا} ، وإن كان يحتمل المراعاة والانتظار، فإنه لما احتمل الهزء على النحو الذي كانت اليهود تطلقه نهوا عن إطلاقه، لما فيه من احتمال المعنى المحظور اطلاقه، وجائز في اللغة أن يكون الإطلاق مقتضياً لمعنى الهزء وإن احتمل الانتظار، ومثله موجود في اللغة ... " انتهى كلام الجصاص. فتأمل كيف أن الصحابة استعملوا هذا اللفظ وهم أبعد الناس عن إرادة معنى الهزء والتنقص، فنهاهم الله تعالى عن ذلك اللفظ لما فيه من الاشتراك، ولم يكفِ في تجويز استعماله ما قام بقلوبهم ونياتهم من المعنى الخيّر الصحيح، وهذا جلي لمن تجرد!

قال ص 44:"ومحل الخلاف في مسألة التوسل هو التوسل بغير عمل المتوسل، كالتوسل بالذوات والأشخاص، بأن يقول: اللهم! إني أتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، أو أتوسل إليك بأبي بكر الصديق، أو بعمر بن الخطاب، أو بعثمان أو بعلي رضي الله عنهم". أقول: الواجب عند الاختلاف الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفهم أصحابه الكرام رضى الله عنهم، كما قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً} [النساء 115] . ومسألة التوسل بالذوات، وكذا التوسل بأعمال من انقضى سعيهم، لا خلاف عند السلف من الصحابة والتابعين أنها ليست من الدين، ولا هي سائغة في الدعاء. وبرهان ذلك أنه لم ينقل عن واحدٍ منهم بنقل صحيح مصدق أنه توسل بأحد الخلفاء الأربعة أو العشرة أو البدريين. والعمل على وفق ما فهموه هو المنجي كما فُضِّل في "السلف والسلفية" من هذا الكتاب، ومن ابتغى نهجاً جديداً فهو الخَلَفي، وليس له حظ منهم. إذا تقرر هذا، فالتوسل بالذوات ونحو ذلك ممنوع لأوجه: الأول: أنه بدعة لم تكن معروفة عند الصحابة والتابعين، وكل بدعة ضلالة، وليس على الله أكرم من الدعاء، وفي الحديث: "الدعاء هو العبادة" أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما بإسناد صحيحعن النعمان ابن بشير. فإذا كان عبادة بل هو العبادة فإحداث أمرٍ في العبادة مردودٌ باتفاق العلماء.

الثاني: أن قول القائل: أتوسل بأبي بكر وعمر ... خطأ محض، جَرَه إليه سقم فهمه، وكثافة ذهنه، واعتقاده أن كل شيء توسل به يكون وسيلة، وهذا غلط. فمن قال أتوسل بأبي بكر مثلاً فقد جمع بين ذاتين، لا وسيلة ولا طريق توصل وتجمع أحدهما بالآخر، فكأنما هذا القائل قد لفظ لفظاً لا معنى له، بمنزلة من سرد الأحرف الهجائية، إذ لا اتصال بين ذاتِ المتوسِّل والمتوسَّل به حتى يجمع بينهما. فلا بد من جامع يتوسل به، وهو حب الصحابة مثلاً، وهو من عمل المتوسِّل، فإذا قال: أتوسل إليك ربِّ بحبي لأبي بكر، أو بحبي لعمر، أو بحبي لصحابة نبيك كان هذا حسناً مشروعاً. وكذا إن قال: أتوسل إليك بتوقيري وتعزيري وحبي واتباعي لنبيك نبي الرحمة، كان هذا من الوسائل النافعة. فلازم ذكر الإيمان أو العمل الصالح الذي يصل بين ذاتين لا يجمع بينهما إلا بجامع. كما حكى الله عن عباده المؤمنين قولهم: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران 53] ، وقوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْأَنصَارٍ {192} رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْآمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّاسَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} [آل عمران 193] . والآيات في هذا الباب كثرة. فإذا كان خيرةُ الخلق الأنبياء والرسلُ وأتباعُهم وحواريوهم لم يحيلوا على ما في قلوبهم، بل قالوا بلسانهم ما حواه جنانهم، وهم الذين لا يشك بما في قلوبهم، أفلا يكون الخلوف الذين جاؤوا من بعدهم أولى وأحرى أن يفصحوا، وأن يظهروا، وأن لا يتحيلوا لفاسد قولهم بالمجاز العقلي؟!

الثالث: أن الصحابة فهموا من التوسل: التوسل بالدعاء لا بالذوات، فعمر بن الخطاب رضى الله عنه توسل بدعاء العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، ومعاوية ابن أبي سفيان توسل بدعاء يزيد بن الأسود. ولو كان التوسل بالذوات جائزاً عندهم لأغناهم عن تكلف غيره، ولتوسلوا بذات أكرم الخلق وأفضل البشر وأعظمهم عند الله قدراً ومنزلةً، فعدلوا عن ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم الموجودة في القبر، إلى الأحياء ممن هم دونه منزلة ورتبة. فعلم أن المشروع ما فعلوه، لا ما تركوه. قال الشهاب الألوسي في "روح المعاني" (6/113) في الكلام على عدول الصحابة: "وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس إلى التوسل بعمه العباس، وهم يجدون أدنى مساغ لذلك. فعدولهم هذا مع أنهم السابقون الأولون، وهم أعلم منا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبحقوق الله تعالى، ورسوله عليه الصلاة والسلام، وما يشرع من الدعاء وما لا يشرع، وهم في وقت ضرورة ومخمصة، يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق دليلٌ واضح على أن المشروع ما سلكوه دون غيره" انتهى. الرابع: أن يقال تنزلاً: لا يخلو التوسل بالذوات أن يكون أفضل من التوسل بأسماء الله وصفاته، والأعمال الصالحة أوْ لا، فإن قيل: التوسل بالذوات أفضل فهو قول كفري باطل، وإن كان التوسل بأسماء الله وصفاته وبالأعمال الصالحة أفضل فلم ينافح عن المفضول، وتترك نصرة الفاضل وتأييده ونشره وتعليمه للناس؟!

قال كاتب المفاهيم ص 46: "وقد جاء في الحديث أن آدم توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم. قال الحاكم في المستدرك: حدثنا أبو سعيد عمرو بن محمد بن منصور العدل، حدثنا أبو الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، حدثنا أبو الحارث عبد الله بن مسلم الفهري، حدثنا إسماعيل بن مسلمة، أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم [عن أبيه] عن جده عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب! أسألك بحق محمد لما غفرت لي ... الحديث". أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه [ج 2 ص 651] ، ورواه الحافظ السيوطي في الخصائص النبوية وصححه، ورواه البيهقي في دلاثل النبوة، وهو لا يروي الموضوعات، كماصرح بذلك في مقدمة كتابه، وصححه أيضا القسطلاني، والزرقاني في المواهب اللدنية [ج 2ص 62] ، والسبكي في شفاء السقام. قال الحافظ الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وفيه من لم أعرفهم. "مجمع الزوائد" (ج 8 ص 253) . اهـ كلام الكاتب. أقول: هذه الأسطر حوت أغلاطاً، واستغفالاً، وتحريفاً، مما سأبينه إن شاء الله، وما كنت أظن أن يتجاهل الجاني على نفسه، المعجب بعلمه، علماء زمانه، ومن انتسب للعلم من أتباعه حتى يكتب ما كتب على هذا الحديث وما بعده من الأحاديث، ولي مع الكاتب هنا وقفات ثلاث: الأولى: في ماكتبه، وفي عزوه الحديث لمن خرَّجه. الثانية: في الكلام على رواية الحديث. الثالثة: في النظر في متن الحديث ودرايته. أما الأولى: فينتظم عقدها أموراً:

الأول: عزوه الحديث فيه قصور، فقد رواه جماعة من طبقة مشايخ الحاكم ومن نحو طبقته ومن بعدهم، وكلهم رووه من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فكثرتهم لا تفيد الخبر قوة، ولذا لن أذكر أولئك حتى لا يستكثر بهم الجهول بالحديث واصطلاحات أهله. الثاني: ساق إسناد الحاكم ولم يحسن النقل، فقد سقط من الإسناد [عن أبيه] وألحقتها بالإسناد، ووهم أيضاً في توثيق النقل من المستدرك، فذكره مرتين [ج 2 ص 651] وهذا قلب وخطأ، وليس سبق قلم لأنه تكرر مرات، ثم طالعت رسالة "إعلام النبيل" لواعظ بالبحرين، فوجدته عزاه كما هنا [ج 2 ص 651] ، وقد طبع قبل المفاهيم، فتأمل تواردهم على التقليد في كل شيء! وصواب التوثيق (2/615) ، والمستدرك لم يطبع إلى هذه السنة إلا طبعة هندية واحدة، وقال: وصححه، يعني: الحاكم وهذا غلط، فالحاكم كتب: صحيح الإسناد، والمشتغلون بالحديث يفرقون بين صحة الإسناد وصحة الحديث. الثالث: قوله: "ورواه الحافظ السيوطي ... وصححه" من عجائب مفاهيمه، ومما يدل على عدم تعاطيه علم الحديث -وإن أعطي شهادة الزور- لأن قوله "رواه" خطأ لا يستعمله المحدثون، فمن يذكر الحديث ويسوقه في كتاب له مستدلاً به على مراده لا يجوز أن يقال إنه رواه. فكلمة "رواه" لا تقال إلا لمن ساق حديثاً أسنده عن مشايخه، إلى منتهاه. وأما قوله: "وصححه" فأعجب، إذ أن السيوطي لم يعقب الحديث بتصحيح في "الخصائص" الذي نقل منه تصحيحه، وهذا افتراء على السيوطي.

والكاتب -لضعفه العلمي- أخذ قول السيوطي في مقدمة الخصائص (1/8) : "ونزهته عن الأخبار الموضوعة وما يرد" فعممَّه، وقول السيوطي لا يفيد صحة كل ما يورده. ولذا صرح بضعف إسناد الحديث في كتابه الآخر "مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفاء" ص 30 (طبع بمصر طبعة حجرية سنة 1276) . والسيوطي في، "الخصائص" تبع أبا نعيم في "الخصائص" له، وإن كان الإسناد مظلما، أو كان المتن منكراً، صرح بهذا في كتابه (1/47) ، فقال بعد ذكره حديثين شديدي النكارة: "ولم تكن نفسي لتطيب بإيرادها، ولكني تبعت الحافظ أبا نعيم في ذلك " اهـ. الرابع: قال عن البيهقي "وهو لا يروي الموضوعات" اهـ. أقول: لِمَ لَمْ يَنقل ما قاله البيهقي نصاً بعد رواية الحديث؟! لِمَ يجعل ديدنه التلبيس والإجمالات التي تلبس على البسطاء؟! فهو دائماً طاوٍ للذي يقوض دليله. قال البيهقي في "دلائل النبوة" (5/489) بعد سياقه الحديث: "تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من هذا الوجه عنه وهو ضعيف " اهـ. وكلمة البيهقي هذه غالية، يعرف قدرها المحدثون، أما المبتدعة فلا يعرفون إلا الإجمال، شأن الطلبة الذين لا يعرفون مصطلحات أهل العلم. قال الحافظ الذهبي في "ميزان الإعتدال" (3/40 ا-141) : "وإن تفرد الصدوق ومن دونه يعد منكراً" اهـ. فإذا كان هذا شأن الصدوق، وشأن من دونه ممن خف حفظهم وكثر نسيانهم وضاع أكثر ضبطهم، فما بالك بتفرد الضعيف الذي أجمع أهل العلم بالجرح والتعديل على عدم تعديله، فقال بعضهم –كالحاكم-: أحاديثه موضوعة، مما ستقف عليه إن شاء الله تعالى. الخامس: قال الكاتب: "وصححه القسطلاني".

أقول: هذا كتاب المواهب فهل صححه، أم أنه ذكر كلام البيهقي الذي سلف؟ ونصه (1/76 مع شرحه) : "وقال -أي البيهقي-: تفرد به عبد الرحمن" هذا كلام القسطلاني، وفهم مراده شارح المواهب الزرقاني فقال: "تفرد به عبد الرحمن، أي: لم يتابعه عليه غيره، فهو غريب مع ضعف راويه" اهـ. والقسطلاني في المواهب وبعض كتبه الأخرى ينقل عن السيوطي في مؤلفاته دون عزوٍ إليه، وجرت في ذلك كائنة تحكى نقلها ابن العماد في "شذرات الذهب"، وأسوقها ليعلم أن القسطلاني في المواهب يأخذ كلام غيره فلا يتكثر به في "التصحيح"، وليس معدوداً في أهل التخريج والتعديل والتجريح وإنما هو ناقل1، قال ابن العماد (8/122-123) : "ويحكى أن الحافظ السيوطي كان يغض منه ويزعم أنه يأخذ من كتبه ويستمد منها، ولا ينسب النقل إليها، وأنه ادعى عليه بذلك بين يدي شيخ الإسلام زكريا، فألزمه ببيان مدعاه، فعدد مواضع قال إنه نقل فيها عن البيهقي، وقال: إنه للبيهقي عدة مؤلفات، فليذكر لنا ذكره في أي مؤلفاته؛ لنعلم أنه نقل عن البيهقي ولكنه رأى في مؤلفاتي ذلك النقل عن البيهقي فنقله برمته، وكان الواجب عليه أن يقول: نقل السيوطي عن البيهقي. وحكى الشيخ جار الله بن فهد أن الشيخ رحمه الله قصد إزالة ما في خاطر الجلال السيوطي، فمشى من القاهرة إلى الروضة إلى باب السيوطي ودق الباب. فقال له: من أنت؟ فقال: أنا القسطلاني، جئت إليك حافياً مكشوف الرأس ليطيب خاطرك عليّ، فقال له: قد طاب خاطري عليك، ولم يفتح له الباب، ولم يقابله" انتهى النقل عن الشذرات.

_ 1 أعني للتخريج والتصحيح، وكتبه نافعة مع الاحتراز عن الواهيات التي يسوقها.

وللسيوطي كتاب سمَّاه: "الفارق بين المصنف والسارق" لعلّه -ولا أجزم- يعني القسطلاني، حيث قال فيه: "وأغار على عدة كتب لنا أقمنا في جمعها سنين، وتتبعنا فيها الأصول القديمة، وعمد إلى كتابي "المعجزات والخصائص" الطويل والمختصر، فسرق جميع ما فيها بعباراتي التي يعرفها أولو البصر1" انتهى. السادس: قوله: وصححه الزرقاني في "المواهب اللدنية" (ج2 ص 62) . أقول: ليس للزرقاني كتاب باسم المواهب، وكأن الكاتب أراد شرح المواهب، ثم إن الزرقاني ضعفه ولم يصححه، فقال (1/76) : "هو غريب مع ضعف راويه"، فلِمَ ينقلُ الكاتب ما ليس صحيحاً ويُحرِّف؟! وكم هو يجيد التلبيس، وَلِمَ يوثِّق نقله توثيقاً خطأً فيحيل إلى -ج2- وهو في الجزء الأول؟! السابع: قال في تعداد من صحح الحديث: "والسبكي في شفاء السقام"، والسبكي قلد الحاكم في تصحيحه، والمقلد لا يستكثر به، قال السبكي ص 163: "وقد اعتمدنا في تصحيحه على الحاكم" اهـ. والسبكي مقر بوجه ضعفه لكنه قال: "عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لا يبلغ في الضعف إلى الحد الذي ادعاه". الثامن: أسقط من نقله عن الهيثمي عزو الحديث إلى "المعجم الصغير" للطبراني، فلزم التنبيه.

_ 1 ص 745 من مجلة عالم الكتب، ربيع الثاني 1402هـ، فقد نشرت رسالة "الفارق" كاملة، بتحقيق قاسم السامرائي.

الوقفة الثانية: الكلام على الرواية، وإسناد الحديث. مما سبق سَطْرُه ورقمه تجلى أن الحديث لم يقل بصحة إسناده إلا الحاكم، قال الحاكم في "المستدرك" (2/615) : "صحيح الإسناد1 وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم" انتهى، ومدارالحديث عند كل من أخرجه مرفوعاً على عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا الموضع أن الحاكم لا يقبل كلامه هنا عند التحقيق العلمي، وذلك لأمور: الأول: أنه قال في كتابه "المدخل إلى الصحيح" (1/154) : "عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه" اهـ. وكان قال في أول "المدخل" (1/114) : "وأنا مبين بعون الله وتوفيقه أسامي قوم من المجروحين ممن ظهر لي جرحهم اجتهاداً، ومعرفة بجرحهم، لا تقليداً فيه لأحد من الأئمة، وأتوهم أن رواية أحاديث هؤلاء لا تحمل إلا بعد بيان حالهم؛ لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديثه: "من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" انتهى. وسردهم، وذكر منهم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم كما نقلناه لك. فهذا تعارض وتناقض من الحاكم، فما السبب فيه؟! وما الحامل له على تصحيح إسناد حديثٍ فيه عبد الرحمن؟!

_ 1 ومن اللطائف أن طبعة المستدرك الهندية، وقع فيها خطأ مطبعي، هكذا: "هذا حديث صَيح الإسناد" وصَيّح من قولك تصيَّح الشيء إذا تكسر، كما في "تاج العروس شرح القاموس" (2/186) ، فمعنى: صيح الإسناد: منكسر الإسناد، وهذه عجيبة ولله حكمة في وقوع هذا الخطأ فتبصروا!

الجواب معلوم عند أهل الحديث والنظر السالم من الهوى، وهو أنه ابتدأ كتابة كتابه المستدرك سنة 393 هـ1 أي بعد بلوغه 72 سنة من عمره، قال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" 5/233: "ذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره، ويدل على ذلك: أنه ذكر جماعة في كتاب "الضعفاء" له، وقطع بترك الرواية عنهم، ومنع من الاحتجاج بهم، ثم أخرج أحاديث بعضهم في "مستدركه" وصححها، من ذلك: أنه أخرج حديثاً لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وكان قد ذكره في الضعفاء، فقال: إنه روى عن أبيه أحاديث موضوعة، لا تخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه" انتهى كلام الحافظ ابن حجر. وجرى على هذا علماء الحديث في شأن المستدرك، ومنه قول السخاوي في فتح المغيث (1/36) يقول: "إن السبب في ذلك أنه صنفه في أواخر عمره وقد حصلت له غفلة وتغَيُّر، أو أنه لم يتيسَّر له تحريره وتنقيحه، ويدل له أن تساهله في قدر الخمس الأول منه قليل جداً بالنسبة لباقيه، فإنه وجد عنده "إلى هنا انتهى إملاء الحاكم" انتهى. وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم راوي الحديث الذي احتج به مجيزوا التوسل بالذوات ضعيف جداً في الحديث، قاله علي بن المديني، وقال أبو حاتم الرازي: كان في نفسه صالحاً، وفي الحديث واهياً، وضعفه أحمد وابن معين والبخاري والنسائي والدارقطني وغيرهم كثير، وقال الطحاوي: "حديثه عند أهل العلم بالحديث في النهاية من الضعف". فهذه عبارة إمام الحنفية في وقته، وشيخ المصريين في زمانه، أفيستحل الكاتب أن يتقرب إلى الله ويتعبد بحديث في النهاية من الضعف؟! كيف

_ 1 كما هو مثبت في السماع ج1 ص 2 وغيرها.

تقوى قدماك على التماسك وأنت تسأل أمام ربك؟! وبم تحتج؟! وعلى من تتكئ؟! أعد للمسألة جواباً، فإن الأمر عظيم. الثاني: أن في إسناد الحاكم والبيهقي رجلاً اسمه عبد الله بن مسلم الفهري ترجمه الحافظ الذهبي في "الميزان " 2/405 وقال: "روى عن إسماعيل ابن مسلمة بن قعنب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم خبراً باطلاً فيه "يا آدم! لولا محمد ما خلقتك" رواه البيهقي في دلائل النبوة" انتهى. قال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" 3/360: "قلت: لا أستبعد أن يكون هو الذي قبله فإنه من طبقته" اهـ. يعني بالذي قبله الترجمة السابقة لترجمة الفهري، وهو عبد الله بن مُسَلَّم بن رُشَيد قال الذهبي: ذكره ابن حبان، متهم بوضع الحديث ... الثالث: أن إسناد الحديث ضعفه جماعة كثيرون: فمنهم: البيهقي في "دلائل النبوة" (5/486) . ومنهم: الذهبي في "تلخيص المستدرك" (2/615) ، قال: "موضوع"، وفي "الميزان": قال: "باطل"، فهو موضوع الإسناد باطل المتن. ومنهم: الشيخ تقي الدين بن تيمية حكم بوضعه في "الرد على البكري" ص 6 من مختصره. ومنهم: ابن عبد الهادي الحافظ، نَصَرَ القول بوضعه في "الصارم المنكي". ومنهم: الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" (2/323) ، قال عن راويه: "وهو متكلم فيه"، ونقل كلام البيهقي بضعف راويه. ومنهم: الهيثمي في "مجمع الزوائد" (8/253) . ومنهم: السيوطي في "تخريج أحاديث الشفاء" (ص 30) ومنهم: الزرقاني في "شرح المواهب" (1/76) . ومنهم: الشهاب الخفاجي في "شرح الشفاء" (2/242) .

ومنهم: ملا علي القاري في "شرح الشفاء" (1/215) . ومنهم ابن عراق في "تنزيه الشريعة" (1/76) وذكر القول ببطلانه.

الوقفة الثالثة في النظر في النظر في متن الحديث ودرايته. إن الثابت أن الدعاء الذي به قبل الله توبة آدم هو ما قاله الله في سورة الأعراف: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف 23] فهذه هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه، كما قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة 37] قال ابن كثير الحافظ في "تفسيره" (1/116) : "رُوي هذا عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة، ومحمد بن كعب القرظي، وخالد بن معدان، وعطاء الخراساني، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم" اهـ. عشرة من أهل العلم فسرها بآية الأعراف، ومنهم عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم راوي الحديث المنكر في توسل آدم، وهذا مما يزيد في توهين روايته الحديث المنكر الواهي وهناً على وهن، ولم يذكر أن أحداً من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم فسر الكلمات بتوسل آدم بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، بطريق صحيحة ولا ضعيفة، إلا أن تكون واهية موضوعة ولعلّ قصة مغفرة ذنب آدم بتوسله بمحمد صلى الله عليه وسلم تلقاها جهلة المسلمين من أهل الكتاب في عيسى عليه السلام، فأرادوا إثبات فضيلة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا ما قالوا. نقل الشهرستاني في كتابه "الملل والنحل" (1/524) عن عقائد النصارى قولهم: "والمسيح عليه السلام درجته فوق ذلك؛ لأنه الابن الوحيد، فلا نظير له، ولا قياس له إلى غيره من الأنبياء، وهو الذي به غفرت زلة آدم عليه السلام" اهـ. فهذا من اعتقاد النصارى، فنافسهم جهلة المسلمين في ذلك.

قال ص 47: بعد سياق حديث "لما أصاب ... " واستشهد ابن تيمية به. قال: "فهذا يدل على أن الحديث عند ابن تيمية صالح للاستشهاد والاعتبار؛ لأن الموضوع أو الباطل لا يستشهد به عند المحدثين" إلخ.. أقول: بل إن شيخ الإسلام ذكر الحديث في "الرد على البكري" في أوله، وحكم عليه بالوضع، وأنه أشبه بحكايات بني إسرائيل قال ص6: "هذا الحديث وأمثاله لا يحتج به في إثبات حكم شرعي لم يسبقه أحد من الأئمة إليه، وإثبات عبادة لم يقلها أحد من الصحابة ولا التابعين وتابعيهم؛ إلا من هو أجهل الناس بطرق الأحكام الشرعية، وأضلهم في المسالك الدينية، فإن هذا الحديث لم ينقله أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا بإسناد حسن ولا صحيح، بل ولا ضعيف يستأنس به ويعتضد به". وشيخ الإسلام ذكر في غير موضع أن الحديث موضوع، ولكنه لما كان فيما نقل الكاتب طرفاً منه في كلام مع أهل وحدة الوجود، ذكر هذين الحديثين بأسانيدهما على خلاف عادته، فهو لا يذكر إسناداً إلا نادراً، وإنما ساق الأسانيد ليعلم حالهما من طالعهما، وعادة العلماء أن من ساق إسناداً فقد أدى عهدته، والحكمُ عليه بعد ذلك بوضع أو غيره، إنما يكون إذا أراد الرد على من يعتمده في لفظٍ من ألفاظه. ولهذا تجد حفاظ الحديث كأبي نعيم والخطيب ونحوهما، والبيهقي أحياناً، يذكرون من الأحاديث الموضوعة أو شديدة الضعف ما يعرفه أهل النظر، واعتذر عنهم: بأنهم يسوقون الأسانيد، ومن ساق الإسناد فقد ذكر عواره أو ظلامه، إن كان فيه عوار أو ظلمة.

قال ص50: "وفي الحديث التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتشرف العالم بوجوده فيه، وأن المدار في صحة التوسل على أن يكون للمتوسل به القدر الرفيع عند ربه عز وجل، وأنه لا يشترط كونه حياً في دار الدنيا" اهـ. أقول: لم يكتف الكاتب بتصحيح حديثٍ موضوع، بل استخرج للحكم الوارد فيه علِّة، ثم عدى العلة بالقياس إلى غير محل الحكم وإلى غير زمان الحكم. وتوضيح هذا: أن في الحديث توسل آدم بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل وجوده، أي: قبل حياته، أي: وهو فاقد الحياة، ولا معنى لتوسله بمن كان كذلك إلا جوازه في الحياة، وقبلها وبعدها، كذا استنتاج الهوى وقياس الردى. ثم إن تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم عند هذا الكاتب بالتوسل لا معنى له، حيث قاس كل من كان له عند الله القدر الرفيع على النبي، بجامع النبوة، أو الولاية، أو الكرامة. وهذا هو عين احتجاج أصحاب القبور المفتونين بعبادتها من دون الله، عدوا بالقياس دعاء الميت والطلب منه على طلب الدعاء من الحي، وجادلوا في ذلك، فلما ظنوا أنه ثبت لهم ما زعموه في حق النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: لا معنى لاختصاص النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالدعاء أو الاستشفاع أو نحوه من العبادات، بل يعدى جواز هذا الفعل إلى غيره صلى الله عليه وسلم بجامع النبوة إن كان نبياً أو الكرامة. أو كما قال هذا القائل هنا: "المدار في صحة التوسل على أن يكون للمتوسل به القدر الرفيع عند ربه عز وجل"، وهذا تمهيد وتقعيد لمسائل لم يفصح عنها في هذا الموضع. فانظر هذا التجرؤ على أحكام الشرع: تصحح الموضوعات، وقياس فاسد لم يقل به أحد قط منذ بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى انتهاء القرون الثلاثة

الأولى، حتى ظهرت القرامطة الباطنية وأتباعهم "إخوان الصفا"، وهم جماعة مشهورة ظهروا في أول القرن الرابع، وهم الذين جلبوا هذا الذي تبناه الكاتب، وقبله أخذه أهل الضلالة، فانظر ما قاله إخوان الصفا! وكيف شرعوا هذا الدين الذي لم يعرفه المسلمون في المئات الثلاث! فسبحان من صير القلوب إلى قلبين. جاء في الرسالة 42 من رسائل إخوان الصفا (4/21) قولُهم: "اعلم يا أخي! أن من الناس من يتقرب إلى الله بأنبيائه ورسله، وبأئمتهم وأوصيائهم، أو بأولياء الله وعباده الصالحين، أو بملائكة الله المقربين والتعظيم لهم ومساجدهم والاقتداء بهم وبأفعالهم، والعمل بوصاياهم وسننهم على ذلك بحسب ما يمكنهم ويتأتى لهم، ويتحقق في نفوسهم ويؤدي إليه اجتهادهم. فأما من يعرف الله حق معرفته فهو لا يتوسل إليه بأحد غيره، وهذه مرتبة أهل المعارف الذين هم أولياء الله. وأما من قصر فهمه ومعرفته وحقيقته فليس له طريق إلى الله تعالى إلا بأنبيائه، ومن قصر فهمه معرفته فليس له طريق إلى الله تعالى إلا بالأئمة من خلفائهم وأوصيائهم وعبادة الصالحين. فإن قصر فهمه ومعرفته بهم فليس له طريق إلا اتباع آثارهم، والعمل بوصاياهم والتعلق بسننهم، والذهاب إلى مساجدهم ومشاهدهم، والدعاء والصلاة والصيام والاستغفار، وطلب الغفران والرحمة عند قبورهم، وعند تماثيلهم المصورة على أشكالهم، لتذكار آياتهم، وتعرف أحوالهم من الأصنام والأوثان وما يشاكل ذلك طلباً للقربة إلى الله والزلفى لديه. ثم اعلم! أنه على كل حال من يعبد شيئا من الأشياء، ويتقرب إلى الله تعالى بأحد فهو أصلح حالا ممن لا يدين شيئا ولا يتقرب إلى الله البتة" اهـ. هكذا أدخل إخوان الصفا الباطنيون الشرك في المسلمين، فانتشر في الجهال انتشاراً، واشتعل فيهم اشتعال اللهب في يابس الشجر، فقام

جماعات من العلماء ينكرون هذا، وكان أول أمره غَير متضحة غايته، ولا مستبين سبيله؛ لأن المسلمين لم يكن دين الأصنام فيهم، ثم استبان الشأن، وانكشف الغطاء، فأنكره العلماء في القرن الرابع والخامس، ومنهم ابن عقيل الحنبلي، فقال: "لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفار لهذه الأوضاع، مثل: تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها يا مولاي! افعل بي كذا وكذا، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداءً بمن عبد اللات والعزى". فهذا الشرك الأكبر أصله وسببه هذا القياس الفاسد الباطل الذي قاله صاحب المفاهيم. باب التوسل بالذوات الذي لا نقول بأنه شرك بل هو بدعة من الطرق والوسائل لهذا الشرك الأكبر، وكل ما كان وسيلة إلى الكفر والشرك، فهو ممنوع يجب سد بابه وإغلاقه ووصده وتتريبه حتى لا يفتح مرة أخرى. ومن في قلبه حب لله وللإسلام الذي جاء به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليغار ويشتد غضباً أن يعود شرك الجاهلية، الذي أزالته بعثة حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم. وعقد المؤلف فصلا ص 51 عَنْوَنَه بـ: توسل اليهود به صلى الله عليه وسلم. وساق فيه أن ابن عباس قال: "كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فلما التقوا هزمت يهود، فدعت يهود بهذا الدعاء: "وقالوا: إنا نسألك بحق النبي الأمي، الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان أن تنصرنا عليهم ... " "تفسير القرطبي" (2/26- 27) اهـ. وأقول: إن المؤلف أغرب كثيراً في الاستدلال بفعل اليهود الذي نقله، فمن حيثُ الرواية: فإن قول ابن عباس ذكره الكاتب غير مُخَرَّج، ولم

يذكر من صحح إسناده؛ لأنه لم يجد من صححه، وقد أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/263) ، والبيهقي في "دلائل النبوة" (2/76) من طريق عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس من كلامه. وقال الحاكم بعد ذكره الحديث: "أدت الضرورة إلى إخراجه في التفسير وهو غريب" اهـ. قال الذهبي في "تلخيصه": قلت: لا ضرورة في ذلك، فعبد الملك متروك هالك" اهـ. وذكر السيوطي في "الدر المنثور" أن إسناده ضعيف، وهو لا يقول ضعيف إلا إذا لم يكن في الإسناد حيلة يصحح بها. والحاكم قد ذكر عبد الملك في "المدخل" (1/170) ، وقال: "روى عن أبيه أحاديث موضوعة"، وعبد الملك هذا كذبه ابن معين وابن حبان والجوزجاني وغيرهم، وهو الذي وضع حديثاً لفظه: "أربعة أبواب من أبواب الجنة مُفَتَّحة: الإسكندرية، وعسقلان، وقزوين، وعبادان، وفضل جُدّة على هؤلاء كفضل بيت الله على سائر البيوت". كذب صريح، ويروج ما يرويه جهلة المسلمين، ممن لا يغارون على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقوم لهم وَلَعٌ بالكذوبات، وإعراض عن الصحاح. قال شيخ الإسلام في "التوسل والوسيلة" (1/299-300 مجموع الفتاوى) : "قوله تعالى: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ} [البقرة 89] إنما نزلت باتفاق أهل التفسير والسير في اليهود المجاورين للمدينة أولاً، كبني قينقاع وقريظة والنضير، وهم الذين كانوا يحالفون الأوس والخزرج، وهم الذين عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، ثم لما نقضوا العهد حاربهم ... فكيف يقال: نزلت في يهود خيبر وغطفان؟! فإن هذا من كذاب جاهل، لم يحسن كيف يكذب.

ومما يبين ذلك أنه ذكر فيه انتصار اليهود على غطفان لما دعوا بهذا الدعاء، وهذا مما لم ينقله أحد غير هذا الكذاب" انتهى. إذا ظهر هذا وانجلى فالرواية الثابتة الصحيحة ما أخرجه ابن جرير (2/333 ط. شاكر) ، وأبو نعيم في "الدلائل" (1/ من الأصل) والبيهقي في "الدلائل" (2/75) ، كلهم من طريف ابن إسحاق في "سيرته" (ص63 رواية يونس بن بكير) قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: حدثني أشياخ منا قالوا: لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منا: كان معنا يهود، وكانوا أهل كتاب، وكنا أصحاب وثن، وكنا إذا بلغنا منهم ما يكرهون قالوا: إن نبياً مبعوثاً الآن قد أظل زمانُه، نتبعه فنقتلكم قتل عاد وإرم، فلما بعث الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم اتبعناه وكفروا به، ففينا وفيهم أنزل الله عز وجل: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ} [البقرة 89] وهذا إسناد جليل، فإن الأشياخ هؤلاء صحابة، أدركوا الأمر وعلموه فما أجل هذا وأحسنه! وقد جاءت أخبار كثيرة في هذا المعنى عن ابن عباس وغيره، تركتها اجتزاءً بما صح، وحذر الملال بسرد الطوال، فاللهم! ألهم وعلم.

ذكر الكاتب ص 52: حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه في توسل الضرير بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته. أقول: هذا الحديث رواه الإمام أحمد في "مسنده" (4/138) ، والترمذي في "جامعه" (5/569) ، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (417-418) ، وابن ماجة في "سننه" (1385) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (9/19) ، والحاكم في "المستدرك" (1/313 و519) وغيرهم. قال أحمد: ثنا عثمان بن عمر ثنا شعبة عن أبي جعفر قال سمعت عُمَارةَ بن خُزَيمة يحدث عن عثمان بن حنيف به. ثم رواه أحمد قال: حدثنا رَوْح قال: حدثنا شعبة عن أبي جعفر المديني به. ثم رواه أحمد قال: ثنا مؤمل قال: حدثنا حماد –يعني: ابن سلمة- قال: حدثنا أبو جعفر الخطمي به. قال النسائي في "عمل اليوم والليلة": خالفهما هشام الدستوائي وروح بن القاسم فقالا: عن أبي جعفر عمير بن يزيد بن خراشة عن أبي أمامة بن سهل عن عثمان بن حنيف. وهذا الاختلاف علة، قد يرد بها بعض المحدثين الحديث، وهي موضع تأمل. وإسناد رواية شعبة وحماد حسن لابأس به، فإن أبا جعفر هو الخطمي المدني كما ثبت في روايات أحمد وغيره، وهو عمير بن يزيد الأنصاري الخطمي المدني، قال الحافظ في "التقريب": "صد وق". ورأى طائفة من أهل العلم ضعف الحديث؛ لأن أبا جعفر فيه كلام، وبعضهم ضعف الإسناد؛ لأجل عدم التثبت أن أبا جعفر هو الخطمي، معتمدين على نفي الترمذي أن يكون هو الخطمي. هذا؛ ولا حجة في الحديث على ما ادعاه مجيزوا التوسل بالذوات والجاه ونحوها؛ لأنه جارٍ على أصول الشريعة في باب التوسل، وهو التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وهو معنى الشفاعة، فمدلول الحديث التوس

بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، والتوجه بدعائه في حياته، وهذا مما ثبتت به السنة في أمور غير هذا الحديث، فأثبته أهل السنة والحديث، ولا مراء في هذا، ولا استشكال في معنى الحديث. ومن ظن أن الحديث فيه توسل بالذات فيلزمه تساؤل، وهو أن يقال: كيف يخفى هذا الدعاء الذي فيه توسل بالذات على عميان ومكفوفي الصحابة، فلم يستعملوه في حياته ولا بعد مماته، ولا من بعدهم، والناس حريصون على جوارحهم وحواسهم؟! نعلم من هذا الإلزام أن الحديث إنما فيه التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لا بذاته، وهذا مقطوع به جزماً، فيبقى الحديث خاصا بهذا الأعمى وحده ومعجزة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والحمد لله الموفق للصالحات. ثم قال الكاتب: "وليس هذا خاصاً بحياته صلى الله عليه وسلم بل قد استعمل بعض الصحابة هذه الصيغة من التوسل بعد وفاته صلى الله عليه وسلم". واستدل له بتعليم عثمان بن حنيف رجلاً له حاجه عند عثمان أن يدعو فيقول: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد! إني أتوجه بك إلى ربك فيقضي حاجتي، وتذكر حاجتك.." ففعله، فقضى عثمان حاجته. هذا مختصر ما رواه الطبراني: قال: "هذه القصة صححها الحافظ الطبراني والحافظ أبو عبد الله المقدسي". أقول: هنا بدأ صاحب المفاهيم وشرع في تعميته الحقائق، وكَفْره النقول الصادقة، وأخذه في التمويه على غير المتتبعين لمقالاته. فقال: هذه القصة صححها الحافظ الطبراني! ... وما صححها الطبراني وحاشاه، ولو نقلت ما قاله صدقاً وأمانة لما لبست على المطالع لكلامك، إذ الثقة فيمن ينتسب إلى العلم تعمي كثيرين عن تتبع نقول

وهل يصدق فيها ولا يحرف، أم الشأن استغلال الثقة في نشر وترويج غير الحق؟! قال الطبراني في "الصغير" (1/184) : "لم يروه عن روح بن القاسم إلا شبيب بن سعيد أبو سعيد المكي -وهو ثقة- وهو الذي يحدث عنه ابنه1 أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد الأيلي. وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر الخطمي واسمه عمير بن يزيد -وهو ثقة- تفرد به عثمان بن عمر بن فارس عن شعبة والحديث صحيح" اهـ. فبهذا النقل اتضح أن تصحيح الطبراني للحديث السابق وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن القصة لم يتعرض لها الطبراني بتصحيح ولا غيره، بل قال "لم يروه ... الخ"، وهو يشعر بضعف القصة عنده، وهو الحق. وبيان هذا أن القصة رواها الطبراني في الصغير والكبير (9/17-18) من طريق شيخه طاهر بن عيسى بن قيرس المصري التميمي، حدثنا أصبغ بن الفرج حدثنا عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني به. وهذا الإسناد آفته رواية عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد وهي منكرة عند أهل الحديث لم أر بينهم اختلافا في ذلك، قال ابن عدي في "الكامل في ضعفاء الرجال" (4/1347) : "حدث عنه ابن وهب بأحاديث مناكير"، ثم قال: "ولعلّ شبيب بمصر في تجارته إليها كتب عنه ابن وهب من حفظه فيغلط ويهم، وأرجو أنه لا يتعمد شبيب هذا الكذب" اهـ. والقصة مدارها على هذا الإسناد، فالمتن منكر، ولا خير في منكر. ثم مما يدلل على هذه النكارة أن الحديث رواه الحاكم (1/526-527)

_ 1 تحرفت مطبوعة المعجم الصغير في هذه الجملة، والتصويب من"مجمع البحرين" للهيثمي (1/101/1) نسخة أحمد الثالث بتركيا.

وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (ص 170 ط الهند) من طريق أحمد بن شبيب بن سعيد قال: حدثنا أبي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر المدني وهو الخطمي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه رجل فذكر الحديث دون القصة. وهذا الرواية أصح؛ لأنها من روايات أحمد بن شبيب عن أبيه قال الحافظ في "التقريب" في ترجمة شبيب: "لا بأس بحديثه من روايات ابنه أحمد عنه، لا من رواية ابن وهب" اهـ. فأحمد بن شبيب وهو الراوي المختص بأبيه لم يذكر القصة عن أبيه، وهي من نفس الطريق التي رواها ابن وهب عن شبيب، فدل تفرد ابن وهب عن شبيب على نكارتها، ودلت مخالفة رواية ابن وهب عن شبيب -وهي منكرة- لرواية أحمد بن شبيب عن أبيه شبيب دل ذلك على شدة نكارتها وبطلانها، وأنها يمكن أن تكون مكذوبة. إذا تبين هذا؛ فالقصة إما مكذوبة أو منكرة للأمور التي ذكرنا، وهي حجة كافية ناصعة بيضاء لمن أراد الله تبصرته، ومن يضلل الله فما له من هاد. والعجب من صاحب المفاهيم كيف يكون حبه للمنكرات والواهيات أشد من حبه لما صح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حقه صلى الله عليه وسلم نفي الكذب عنه، وترك الواهيات المنسوبة له، لا نشرها وترويجها، وفي الإسناد شيخ الطبراني طاهر بن عيسى، وهو مجهول لا يعرف بالعدالة، ذكره الذهبي ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، فهو مجهول الحال، لا يجوز الاحتجاج بخبره، لا سيما فيما يخالف نصوص الكتاب والسنة، قاله الشيخ سليمان بن عبد الله في "تيسير العزيز الحميد" ص 212 ط-الأولى.

قال ص 54: إن عثمان بن حنيف علّم من شكا إليه إبطاء الخليفة عن قضاء حاجته هذا الدعاء الذي فيه: التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، والنداء له، مستغيثاً به بعد وفاته صلى الله عليه وسلم" اهـ. أقول: هذه ثالثة الأثافي، وقاصمة الظهر، أنستنا ما قبلها من التوسل البدعي، فإذا الشأن في النداء للموتى والاستغاثة بهم! فما كنت أظن أن يبلغ صاحب المفاهيم هذا المبلغ من الهوى حتى رأيت رقمه ببنانه، وقوله بلسانه، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ويا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على طاعتك. وهذا القول فاسد مناهض لدين الإسلام، موافق لما عليه أهل الجاهلية من الاستغاثة بالأنبياء والصالحين، وندائهم لكشف الملمات ورفع المدلهمات، أفما يقرأ هؤلاء القرآن، ويسمعون قول سلف الأمة من الصالحين؟! أفما قرؤوا قوله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء: 56، 57] . ففي هذه الآية إنكار عام على كل من دعا من دون الله شيئاً، جنياً أو نبياً فكلمة (الذين) في الآية اسم موصول، والأسماء الموصولة من صيغ العموم عند الأصوليين والنَحْويين، كما هو مقرر في هذين العلمين. فقوله: (الذين) يعم كل من دُعِيَ من دونه تعالى في كشف الضر أو تحويله، فعمت الأنبياء والصالحين وغيرهم من الملائكة والجن، فالدعاء لهؤلاء لا

يجوز، فإنه دين الجاهلية والمشركين وصور هذا الدعاء كثيرة: فمنها: النداء للموتى أنبياء أو غيرهم، كما هو ظاهر من الآية، ومنها الاستغاثة، فالأنبياء والصالحون بعد مماتهم لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، فكيف يملكون لغيرهم؟! فهذه الآية تظهر دين المشركين وتبينه، فما لهؤلاء يعودون إلى دين المشركين، ما لهم يدعون دين الرسل المتيقن، ويرضون بدين الجاهلية الباطل؟! وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن ص 24 من رده على ابن جرجيس: "وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَمِن دُونِ اللهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُأَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 20، 21] ، وليست هذه الآية في الأصنام كما يزعمه من لم يتدبر؛ لأن (الذين) لا يخبر به إلا عن العقلاء؛ ولأن الأصنام من الأخشاب والأحجار لا يحلها الموت؛ فإنها لم تحلها الحياة حتى يحلها الموت؛ ولأنها لا تبعث يوم القيامة بعث الإنسان ليجزى بما كسبت يداه، ولا يعقل منها شعور بهذا البعث حتى ينفيه الله عنها، وقد قال تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 21] ، فهذه الآية فيمن يموت ويبعث، كما لا يخفى على من تدبرها، وتأمل قوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 21] ، وهذا إنما يستعمل فيمن يعقل، كما لا يخفى على من له معرفة باللغة العربية، فالحمد لله على ظهور الحجة وبيان المحجة". عَوْدٌ إلى استدلاله الفاسد بقول المكروب بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم: "يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي"، وأي دليل في هذا بعد معرفة بطلان الحديث ونكارته؟! أفيحتج بالمنكرات والأباطيل؟! إنه لعجب عجيب،

وأمر غريب، واستدلال مريب، فنتنزل معهم في المناظرة بالكلام على معنى هذا اللفظ فأقول: أولاً: أيكون قولك وقول المسلمين في "التشهد": السلام عليك أيها النبي ... نداءً للنبي بعد مماته؟ أينادي المسلمون النبي في كل صلاة، أم أن لفظ النداء هنا لاستحضار منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليكون أمكن في القلب لما يجب في حقه من تعزيره وتوقيره ونصرته؟ فما استدل واحد من العلماء المهتدين بالتشهد على دعوى جواز مناداة النبي بعد موته، وهذا إجماع لا خلاف فيه. وهذا الأثر -مع نكارته الشديدة- من هذا الباب إنما يكون لاستحضار ما قلنا في لفظ المصلي في التشهد، وهو: التفات، والالتفات له مقتضيات معلومة في فنون المعاني والبيان، وأقول هذا تنزلاً في المجادلة، وإلا فما ينبغي ابتداءً، والمناسب هنا ما ذكرنا آنفاً. ثانيا: غاية ما في هذا الأثر المنكر الضعيف أنه توجه بالنبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء، فأين هذا من دعاء الميت؟! فإن التوجه بالمخلوقات سؤال به لا سؤال منه، وكل أحد يفرق بين سؤال الشخص وبين السؤال به، فإنه في السؤال به قد أخلص الدعاء لله، ولكن توجه إلى الله بذاته، وأما في سؤاله نفسه ما لا يقدر عليه إلا الله، فيكون قد جعله شريك الله في عبادة الدعاء، فليس في حديث الأعمى وحديث ابن حنيف هذا إلا إخلاص الدعاء لله كما هو صريح فيه، إلا قوله: يا محمد إني أتوجه بك، وهذا ليس فيه المخاطبة للميت فيما لا يقدر عليه، إنما فيه مخاطبته مستحضراً له في ذهنه كما يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته1 كما أوضحته في الوجه الأول.

_ 1 تيسير العزيز الحميد ص 212.

ثالثاً: أيكون هذا الدعاء الذي تفرج به الكروب، وتزول به الشدائد المهلكات، وتحصل به المنجيات خفياً على الأمة، فلم يستعملوه حين أصابتهم الشدة والضيق؟! قحط المسلمون في زمن عمر فتوجهوا بالعباس -أي: بدعائه- والرسول صلى الله عليه وسلم ميت عندهم، وأصاب المسلمين فتن في زمن عثمان وعلي، وبعده محن وأمور لا يعلم شدتها إلا الله فلِمَ لَمْ يستعملوه؟! أين زعمكم يا أرباب الحجا، وأصحاب الفهوم؟!! قوله ص 54: "ولما ظن الرجل أن حاجته قضيت بسبب كلام عثمان مع الخليفة بادر ابن حنيف بنفي ذلك الظن، وحدثه بالحديث الذي سمعه وشهده، ليثبت له أن حاجته إنما قضيت بتوسله به صلى الله عليه وسلم، وندائه له واستغاثته به" اهـ. أقول: هذا افتراء على صحابي جليل شهد بدراً وما بعدها، وقول بالظن، والظن أكذب الحديث، وجراءة ما بعدها جراءة. وقد قدم كلامه هذا بمقدمة فيها: أن القصة صحيحة صححها الطبراني والمقدسي، ونقل تصحيحهم لها المنذري والهيثمي وغيرهم، وهذا هوى ظاهر إذ أن كلام الطبراني كما سبق نقله بحروفة، إنما هو في تصحيح الحديث أي: المرفوع، ولم يقل: "القصة صحيحة"، بل قال: "الحديث صحيح"، وليت شعري! أما اقشعر بدن كاتب المفاهيم وهو يفتري هذه الافتراءات، وينقل ويكذب في النقل، {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 105] ، ولا شك أن افتراءً كهذا على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى حفاظ المسلمين وأئمتهم تشق قراءته وتشق رؤيته.

قال ص 68 معنوناً: "التوسل به في المرض والشدائد". عن الهيثم بن [حنش] 1 قال: كنا عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فخدرت رجله، فقال له رجل: اذكر أحب الناس إليك. فقال: يا محمد! فكأنما نشط من عقال. وعن مجاهد قال: خدرت رِجْلُ رَجُلٍ عند ابن عباس رضي الله عنهما فقال له ابن عباس: اذكر أحب الناس إليك فقال: محمد صلى الله عليه وسلم، فذهب خدره، ثم قال: فهذا توسل في صورة النداء" اهـ. أقول: الكلام هنا في أمرين: الأول: الرواية: فالخبر الأول أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (رقم 170) ، قال: حدثنا محمد بن خالد بن محمد البرذعي قال: ثنا حاجب بن سليمان قال: ثنا محمد بن مصعب، قال: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الهيثم بن حنش به. وهذا إسناذ ضعيف جدأ، فيه علل كثيرة: منها: أن محمد بن مصعب القُرقُساني ضعيف عندهم، قال ابن معين: لم يكن من أصحاب الحديث، كان مغفلاً. وقال النسائي: ضعيف، ومثله عن أبي حاتم الرازي. وقال ابن حبان: "يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل، لا يجوز الاحتجاج به"، وقال الإسماعيلي: محمد بن مصعب من الضعفاء. وقالي الخطيب: كان كثير الغلط لتحديثه من حفظه. وقال أحمد: ليس به بأس، ونحوه عن ابن عدي. ووثقه ابن قانع وابن قانع من المتساهلين. فمن هذا يتضح ضعفه كما ذهب إليه أئمة أهل العلم. وأما قول أحمد: ليس به بأس، يعني في نفسه فهو صدوق في نفسه، ولكنه ضعيف الحديث.

_ 1 وحُرِّف اسم الراوي في "المفاهيم" إلى الهيثم بن خنس، فصححته.

ومنها: أن الهيثم بن حنش مجهول العين، قال الخطيب في "الكفاية في علوم الرواية" ص 88: "المجهول عند أصحاب الحديث هو كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه، ولا عرفه العلماء به، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راوٍ واحد، مثل: عمرو ذي مر، وجبار الطائي، وعبد الله بن أغر الهمداني، والهيثم بن حنش ... هؤلاء كلهم لم يرو عنهم غير أبي اسحاق السبيعي" اهـ. ومنها: أن أبا إسحاق السبيعي مدلس، وقد عنعنه عن هذا المجهول. ومنها: أن أبا إسحاق قد اختلط، ومما يدل على تخليطه في هذا الحديث أنه رواه تارة عن أبي شعبة (أو أبي سعيد) ، وتارة عن عبد الرحمن بن سعد. وهذا اضطراب يرد به الحديث. وأمثل ما روي في هذا الباب وأصحه على تدليس أبي إسحاق فيه، ما رواه البخاري في "الأدب المفرد" (964) قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن سعد قال: "خدرت رِجْلُ ابن عمر، فقال له رجل: اذكر أحب الناس إليك فقال محمد". وهذه الرواية أصح ما روي، وأفادت فوائد: الأولى: قول ابن عمر: محمد، بدون حرف النداء، والشائع عند العرب -كما سيأتي- استعمال "يا النداء" في تذكر الحبيب؛ ليكون أكثر استحضاراً في ذهن الخادرة رجله، فتنطلق. وابن عمر عدل عن الاستعمال الشائع إلى غيره؛ لما في الشائع من المحذور. الثانية: أن تذكره للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أحب الناس إليه هو الحق؛ لأنه لا يؤمن أحذ حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين؛ بل ومن نفسه التي بين جنبيه. وهذا ما نعقد عليه قلوبنا، بهداية ربنا.

الثالثة: أن سفيان من الحفاظ الأثبات، فنقله خبر أبي إسحاق بهذا اللفظ يدل على أنه هو المحفوظ، وسواه غلط مردود. وأما الخبر الثاني: فأخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (169) . وفي إسناده: غياث بن إبراهيم كذبوه. قال ابن معين: كذاب خبيث. ولفظه في تذكره (محمداً) مجردٌ من حرف النداء. فلا حجة فيه، والكلام فيه على نحو ما مر في قول ابن عمر. الأمر الثاني: في الدراية: يقال لهذا المستدل: غاية ما ذكرته أن فيه ذكراً للمحبوب، لا طلب حاجة منه أو به أن يزال ما به، ولا أن يكون واسطة لإزالة خدر الرجل، وليس فيه توسلٌ، وإلا لكان لازماً أن من ذكر محبوبه فقد استغاث به وتوسل به في إزالة شدته، وهذا من أبطل الباطل، وأمحل المحال. فما قوله إذا ذكر الكافرُ حبيبه فزال خدَرُ رجله وانتشرت بعد قيد وخدور؟ أفيكون توسل به؟ ويكون من يزيل الأمراض والأخدار -سبحانه وتعالى- قد قبل هذه الوسيلة؟! وهذا الدواء -التجريبي- للخدر كان معروفاً عند الجاهليين قبل الإسلام جُرِّب فنفع، وليس فيه إلا ذكر المحبوب، وقيل في تفسير ذلك: إن ذكره لمحبوبه يجعل الحرارة الغريزية تتحرك في بدنه، فيجري الدم في عروقه، فتتحرك أعصاب الرجل، فيذهب الخدر. وجاءت الأشعار بهذا كثيراً في الجاهلية والإسلام: فمنها: قول الشاعر: صبُّ محبُّ إذا ما رِجْلُه خَدَرت نادى (كُبَيْشَةَ) حتى يذهب الخَدَر وقول الآخر: على أنَّ رجلي لا يَزَالُ امْذِلالُها مقيماً بها حتى أُجيْلَكِ في فكري

وقال كُثَيِّر: إذا مَذَلَتْ رجلي ذكرتُكِ أشتفي بدعواك من مَذْلٍ بها فيهون وقال جميلُ بثينةَ: وأنتِ لعَيْنِيْ قُرَّةٌ حين نَلْتَقِي وذِكْرُكِ يَشفِيْني إذا خَدَرتْ رجلي وقالت امرأة: إذا خدرت رجلي دعوتُ ابنَ مُصْعبٍ فإنْ قلتُ: عبدَ اللهِ، أجْلَى فتورَها وقال الموصلي: واللهِ ما خَدَرَتْ رجلي وما عَثَرَتْ إلا ذكرتُكِ حتى يَذْهبَ الخدَرُ وقال الوليد بن يزيد: أثيبي هائماً كَلِفاً مُعَنَّى إذا خَدَرتْ له رجْلٌ دَعاكَ1. وغير ذلك من الأشعار، أفيقال: إن هؤلاء توسلوا بمن يحبونه، من نساءٍ وغلمان، وأجيب سؤلهم، وقبلت وسيلتهم؟!! وقال ص 68 معنوناً: "التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم". ونقل أحاديث من "مجمع الزوائد" للهيثمي (10/132) . والهيثمي الحافظ بَوَّب لهذه الأحاديث بقوله: "باب ما يقول إذا انفلتت دابته، أو أراد غوثاً، أو أضل شيئا"، ساقه ضمن أبواب أدعية السفر. وفِقْهُ الهيثمي في هذا التبويب ظاهر، وأما من بوب بـ "التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم"، فليس بفقيه في النصوص، وسأبين هذا. استدل صاحب المفاهيم تحت هذه الترجمة بأحاديث: قال: "عن عتبة بن غزوان عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أضل أحدكم شيئاً أو أراد عوناً وهو بأرض ليس بها أنيس، فليقل: يا عباد الله! أعينوني، فإن

_ 1 بلوغ الأرب (2/320-321) .

لله عباداً لا نراهم. وقد جرب ذلك" ... رواه الطبراني ورجاله وثقوا على ضعف في بعضهم، إلا أن يزيد بن علي لم يدرك عتبة." انتهى كلامه. والكلام عليه من أوجه: الأول: ما وقع في نقله من التحريفات، فمنها: أنه جعل قوله: "وقد جرب ذلك" من كلام رسول الله، إذ أدخله بين الحاصرتين وهو ليس من كلامه، إنما من قول بعض الرواة المتأخرين كما سيأتي. ومنها: أن (يزيد) محرفة وصوابها زيد بن على، كما هو في معجم الطبراني. الثاني: الحديث رواه الطبراني في "معجمه الكبير" (17/117) ، من طريق أحمد بن يحيى الصوفي ثنا عبد الرحمن بن شريك1 حدثني أبي عن عبد الله بن عيسى عن زيد بن علي عن عتبة بن غزوان مرفوعاً. قال الحافظ ابن حجر في "نتائج الأفكار": "أخرجه الطبراني بسندٍ منقطع" اهـ. ويقال: ومع الانقطاع ففي إسناده كلامٌ من وجهين: 1- عبد الرحمن بن شريك: قال أبو حاتم: واهي الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ، ذكر ذلك ابن حجر في "تهذيب التهذيب"، ولم يذكر سوى هذين القولين. 2- شريك والد عبد الرحمن هو ابن عبد الله النخعي القاضى المشهور، قال الحافظ في "التقريب": "صدوق، يخطئ كثيراً، تغير حفظه منذ ولي قضاء الكوفة، وكان عادلاً فاضلاً عابداً، شديداً على أهل البدع" اهـ. فاجتمع في هذا الإسناد ثلاثُ آفات: الانقطاع، وضعف عبد الرحمن، وضعف شريك. فالإسناد ضعيف بيقين.

_ 1 هكذا في نسختي المصورة عن مكتبة أحمد الثالث (9/27/1) وقد تحرفت في المطبوعة إلى: عبد الرحمن بن سهل.

وقال: "وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن لله ملائكة [في الأرض] سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر، فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض فلاةٍ فليناد: أعينوني يا عباد الله! " رواه الطبراني ورجاله ثقات. اهـ نقله عن "مجمع الزوائد". أقول: وفي نسخة من "مجمع الزوائد" رواه البزار، ولعلّه أصوب، فإن أثر ابن عباس أخرجه البزار في "البحر الزخار"، وذكره الهيثمي في "كشف الأستار" (4/33-34) ، قال البزار: "حدثنا موسى بن إسحاق ثنا منجاب بن الحارث حدثنا حاتم بن إسماعيل عن أسامة بن زيد عن أبان بن صالح عن مجاهد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره. قال البزار: "لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد" اهـ. وفي هذا الإسناد نظر: 1- أسامة بن زيد هو الليثي المدني. عدَّلَه بعضهم وجرح حديثه آخرون، قال أحمد بن حنبل: ليس بشيء رواها الأثرم عنه. وقال عبد الله بن أحمد لأبيه: أراه حسن الحديث، فقال: إن تدبرت حديثه فستعرف فيه النكرة، وكان يحيى بن سعيد يضعفه. وقال أبوحاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال البرقي: هو ممن يضعف، وقال: قال لي يحيى: أنكروا عليه أحاديث. هذه حكاية أقوال بعض من تكلموا فيه. وممن وثقه: ابن معين في رواية أبي يعلى، وكذا نحوه في رواية عباس، وفي رواية الدارمي عن ابن معين: ليس به بأس. وتبع ابن معين ابنُ عدي فقال: ليس بحديثه بأس. ووثقه ابن شاهين، وابن حبان وزاد:

"يخطئ"، ومن تدبر هذه الأقوال علم أن ما تفرد به حقه الرد، فإن توبع قبل، ومن أحاديثه التي تفرد بها حديث ابن عباس. 2- حاتم بن إسماعيل الراوي عن أسامة بن زيد قال فيه الحافظ: "صحيح الكتاب صدوق يهم" اهـ. قال الشيخ ناصر الألباني: "خالفه جعفر بن عون فقال: ثنا أسامة بن زيد ... فذكره موقوفاً على ابن عباس. أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (2/455/1) ، وجعفر بن عون أوثق من حاتم بن إسماعيل فإنهما وإن كانا من رجال الشيخين، فالأول منهما لم يجرح بشيء، بخلاف الآخر، فقد قال فيه النسائي: ليس بالقوي، وقال غيره: فيه غفلة. ولذلك قال فيه الحافظ: صحيح الكتاب صدوق يهم، وقال في جعفر: "صدوق"؛ ولذلك فالحديث عندي معلول بالمخالفة" اهـ. 3- تفرد أسامة به، وقد نقدم أن تفرد ضعيف الحفظ يعد منكراً، إذا لم تؤيده أصول صريحة صحيحة. وقال الحافظ ابن حجر: "هذا حديث حسن الإسناد، غريب جداً" اهـ. من "شرح ابن علان للأذكار" (5/151) ، ومن المعلوم أن حسن إسناده لا يدل على حسن الحديث دائماً. والحديث على ضعفه من أبواب الأذكار لا يدل على ما يدعيه المبطلة من سؤال الموتى ونحوهم، بل إنه صريح في أن من يخاطبه ضال الطريق هم الملائكة، وهم يسمعون مخاطبته لهم، ويقدرون على الإجابه بإذن ربهم؛ لأنهم أحياء ممكنون من دلالة الضال، فهم عبادٌ لله، أحياء يسمعون، ويجيبون بما أقدرهم عليه ربهم، وهو إرشاد ضال الطريق في الفلاة، ومن استدل بهذه الآثار على نداءِ شخص معين باسمه فقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يلاحظ ويتدبر كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وذاك سيما أهل الأهواء.

إذا تبين هذا فالأثر من الأذكار التي قد يتساهل في العمل بها مع ضعفها؛ لأنها جارية على الأصول الشرعية، ولم تخالف النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، ثم هو مخصوص بما ورد به الدليل؛ لأن هذا مما لا يجوز فيه القياس لأن العقائد مبناها على التوقيف. ولهذا روى عبد الله بن أحمد في "المسائل" (ص 245) عن أبيه قال: "ضللت الطريق في حجة وكنت ماشياً فجعلت أقول يا عباد الله! دلونا على الطريق، فلم أزل أقول ذلك حتى وقعتُ على الطريق". فما بَوّبَ به صاحب المفاهيم هذا الحديث وأشباهه بقوله: "التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم" هو من عدم تدبر الأحاديث وفهمهما كما فهمها أئمة العلماء، فلم يقل عالم من المتقدمين إنها دليل في التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم، كيف وقد أجمعوا على منعه؟! وقال ناقلاً عن "مجمع الزوائد" وعن عبد الله بن مسعود أنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة: فليناد: يا عباد الله! احبسوا، فإن لله حاضرا في الأرض سيحبسه". رواه أبو يعلى والطبراني، وزاد: "سيحبسه عليكم" وفيه معروف ابن حسان وهو ضعيف اهـ. أقول: الحديث في "المعجم الكبير" (10/267) ثنا إبراهيم بن نائلة، و"مسند أبي يعلى" (2/244) ، وفي "عمل اليوم والليلة" لابن السني (ص 136) من طريق أبي يعلى، كلاهما قال: حدثنا الحسن بن عمر بن شفيق حدثنا معروف بن حسان (أبو معاذ) السمرقندي عن سعيد بن أبى عروبة عن عبد الله بن بريدة عن عبد الله بن مسعود به مرفوعاً. وهذا إسناد ضعيف لأمور: 1- معروف بن حسان: قال أبو حاتم: "مجهول"، وقال ابن عدي: "منكر الحديث"، قلت: هو الراوي عن ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن

عمر مرفوعا: "من ربى شجرة حتى نبتت كان له كأجر قائم الليل صائم النهار"، وهو حديث موضوع، رواه الكنجروذي في"الكنجروذيات". 2- سعيد ابن أبي عروبة: اختلط، قال النسائي: من سمع منه بعد الاختلاط فليس بشيء. ومعروف بن حسان من الصغار، ولم يسمع منه قبل الاختلاط إلا الكبار، وسمع منه قبل استحكام اختلاطه جماعة، وسمع منه بعد استحكام الاختلاط كثير. وكان بدأ اختلاطه سنة 132 هـ واستحكم 148 هـ، أفاده البزار. 3- تدليس سعيد بن أبي عروبة: قال الحافظ "كثير التدليس"، وروى هذا الحديث معنعناً عن ابن بريدة فلا يقبل. قال الحافظ في "نتائج الأفكار": "حديث غريب أخرجه ابن السني، وأخرجه الطبراني، وفي السند انقطاع بين ابن بريدة وابن مسعود" اهـ. فهذه علة رابعة أفادها الحافظ وهي الانقطاع. 4- روى ابن أبي شيبة في "المصنف" (10/424- 425) : حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره. وهذا الإسناد معضل، وتدليس ابن إسحاق مشهور، فهذه علل تِلْوَ علل، ليس لها دواء من التلف، وإسناده مطروح. ولهذا كله لم يصَحَّحْ أو يحسن هذا الحديث أحدٌ ممن له معرفة أو مشاركة في علم الحديث، بل إما مضعف، أو ناقل تضعيف غيره. وبعدُ: فقول صاحب المفاهيم ص 69: "فهذا توسل في صورة النداء" من الدعاوي العريضة لغةً، وشرعاً. فأما اللغة: فلا يعرف أن من صور التوسل النداء، بل النداء دعاءٌ وطلب مباشر، لمنادى حاضر يسمع ويجيب، والتوسل جعل القرب سبباً لقبول الدعاء.

وأما الشرع: فالأحاديث ضعيفة، والأول والثالث شديدا الضعف، والثاني: والذي فيه ذكر الملائكة ضعيف وغريب جداً، ولا دلالة فيه على المدعى وهو التوسل، إذ هذا نداء حي يقدر على إجابته. وما أحسن ما روى الهروي في "ذم الكلام" (4/68/1) : "أن عبد الله ابن المبارك ضل في بعض أسفاره في طريق، وكان قد بلغه: أن من اضطر في مفازة فنادى: عباد الله! أعينوني؟ أعين. قال: فجعلتُ أطلب الجزء أنظر إسناده". قال الهروي: فلم يستجز أن يدعو بدعاء لا يرى إسناده1 اهـ. فهذه طريق السلف وأتباعهم، البحث في الأسانيد، وصنيع بعض الخلف وأتباعهم الفرح بكل ما يؤيد رأيهم ولو بالموضوعات المكذوبات، ولا يغارون على سنة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ص 69: "وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بعد ركعتي الفجر: "اللهم رب جبرائيل وإسرافيل وميكائيل ومحمد صلى الله عليه وسلم أعوذ بك من النار". ثم قال: "وتخصيص هؤلاء بالذكر في معنى التوسل بهم، فكأنه يقول: اللهم! إني أسألك وأتوسل إليك بجبريل.. الخ. وقد أشار ابن علان إلى هذا في الشرح" انتهى كلامه. أقول: في ما قاله تعليل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحليل لما في نفسه صلى الله عليه وسلم، وإلا فما أدراه عما في قلبه صلى الله عليه وسلم حتى يقول "كأنه يقول"، هذا تجرؤ عظيم على مقام الرسالة.

_ 1 سلسلة الأحاديث الضعيفة 2/109.

ثم أيَّد تجرأه بنسبته ذلك إلي ابن علان في "شرح الأذكار" (2/141) ، وما قاله ابن علان ولا أشار إليه، ولكنه تحريف تبديل، وصنيع مذموم رديء. فهاك ما قاله ابن علان في "شرح الأذكار" قال: "إنما خصهم بالذكر -وإن كان تعالى رب كل شيء- لما تقرر في القرآن والسنة من نظائره من الإضافة إلى كل عظيم المرتبة وكبير الشأن، دون ما يستحقر ويستصغر" ثم قال: "فالتوسل إلى الله سبحانه بربوبية الله لهذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة له تأثير عظيم في حصول الحاجات ووصول المهمات" اهـ. وهو كلام جيد من ابن علان، فالتوسل بربوبية الله لهذه الأرواح لا بالأرواح، وهو توسل بصفةٍ من صفات الله العلى، وهذا التوسل مما يحبه الله ويرضاه، واختاره رسوله وانتقاه. فجرَّد المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وذر الخائضين ذوي المين والحين، محبي إفساد ذات البين. وعقد صاحب المفاهيم ص 69 عنواناً، قال فيه معنوناً: "معنى توسل عمر بالعباس"، قلب فيه ما قاله العلماء في معنى هذا التوسل، وأنه توسل بالدعاء؛ لأن العباس يملكه، فقال عجباً، فاسمعه: "ومن فهم من كلام أمير المؤمنين أنه إنما توسل بالعباس ولم يتوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن العباس حي والنبي ميت: فقد مات فهمه، وغلب عليه وهمه، ونادى على نفسه بحالة ظاهرة، أو عصبية لرأيه قاهره، فإن عمر لم يتوسل بالعباس إلا لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم..". أقول: ما أعجب هذا وأسهل صده ورده، وإنما أتي كاتبه من أمرين: الأول: شهوةٌ خفية تُرى خلل أسطر قوله، وأحرفه. الثاني: قلة التتبع والفقه لمعنى الاستسقاء بالصالحين وتأريخه، فقد صح أن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- استسقى بـ "يزيد بن

الأسود". قال الحافظ العَلَم يعقوب بن سفيان في كتابه "المعرفة والتاريخ" (2/380-381) : حدثنا أبو اليمان قال حدثنا صفوان عن سليم بن عامر الخبائري: أن السماء قحطت، فخرج معاوية بن أبي سفيان وأهل دمشق يستسقون، فلما قعد معاوية على المنبر قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟ فناداه الناس. فأقبل يتخطى الناس فأمره معاوية فصعد المنبر، فقعد عند رجليه، فقال معاوية: اللهم! إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا، اللهم! إنا نستشفع إليك بيزيد بن الأسود الجرشي، يايزيد! ارفع يديك إلى الله، فرفع يزيد يديه، ورفع الناس أيديهم. فما كان أو شك أن فارت سحابة في الغرب كأنها تُرْس، وهبت لها ريح، فسقينا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم. وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" (7/444) ، وأبو زرعة في "تأريخ دمشق" (1/652) وإسناده مسلسل بالثقات الكبار، فهو في غاية الصحة. فهذا معاوية الصحابي -رضى الله عنه- فهم من الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم حال حياته أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لهم. وفهم من فعل عمر بالعباس، أن يدعو العباس لهم، وسار على هذا الفهم، فاستسقى واستشفع بيزيد يدعو لهم، وأي قرابة ليزيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ولا شك أن قرابته مع صلاحه سبب لقبول دعائه، أما مجرد القرابة من غير صلاح فلم تفد عمه أبا لهب ونحوه. إنما هو السبب الأعظم، والحبل الأكرم، اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن على فهم الصحابة مقتفون ومتبعون، ولمجانب سنة الخليفة الراشد والصحابة من بعده مجانبون، ولفهم أهل الأهواء رادون ناقضون، والحمد لله رب العالمين.

قال ص 65 معنوناً: "توسل النبي صلى الله عليه وسلم بحقه وحق الأنبياء والصالحين". ثم استدل بحديث قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت أسد أم علي -رضى الله عنه- وفيه: "اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجتها، ووسع عليها مدخلها، بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي". قال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه روح بن صلاح وثقه ابن حبان والحاكم وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح [كذا بمجمع الزوائد ج 9 ص 257] رواه الطبراني في الأوسط والكبير بسند جيد. ورواه ابن حبان والحاكم وصححوه عن أنس. ورواه ابن أبي شيبة عن جابر. وابن عبد البر عن ابن عباس. واختلف بعضهم في روح بن صلاح أحد رواته، ولكن ابن حبان ذكره في الثقات وقال الحاكم: ثقة مأمون، وكلا الحافظين صحح الحديث، وهكذا الهيثمي في "مجمع الزوائد" ورجاله رجال الصحيح. ورواه كذلك ابن عبد البر عن ابن عباس، وابن أبي شيبة عن جابر، وأخرجه الديلمي وأبو نعيم، فطرقه يشد بعضها بعضاً بقوة وتحقيق. اهـ. هذا كلام صاحب المفاهيم بحروفه أطلت الكتاب بنقله؛ ليتبين لمن طالع كلامه أمور: الأول: قلة معرفته بالتخريج وأصوله. الثاني: تناقضه في حديث واحد، وفي أسطر متقاربة في مواضع: منها: أنه نقل عن الهيثمي أول كلامه ما يفيد ضعف الحديث، ثم قال في آخره: صححه الهيثمي. فكيف يزعم أنه صححه، وإنما قال عن روح: "وفيه ضعف"، قاله بعد سياق من وثقه مستدركا عليهم. ثم قوله: "رجاله

رجال الصحيح"، إنما تفيد لو كانوا كلهم رجال الصحيح أن رواته ثقات، ولا دخل للحكم على الإسناد بالصحة فكيف بتصحيح الحديث؟! ومنها: أنه قال: بسند جيد، ثم ذكر صحته من الطريق نفسها التي قال إن إسنادها جيد. ومنها: قوله: وأخرجه الديلمي وأبو نعيم، وإنما أخرجاه من طريق روح؛ ليلبس وليوهم كثرة الطرق. الثالث: تكراره لرواية ابن أبي شيبة وابن عبد البر مرتين وما أدري لم؟! ولكن يريد تطويلاً. وعبارته في هذا الحديث مختلة مضطربة متكررة العبارات، ليست بمستقيمة كما هو ظاهر لمن قرأها فضلاً عمن تأملها، فكيف لم ينبه عليها الذين قرضوا كتابه؟! تخريج الحديث: حديث أنس المذكور: أخرجه الطبراني في "الأوسط" (1/152-153) ، وفي "المعجم الكبير" (24/352) ، وأبو نعيم في "الحلية" (3/121) ، من طريق روح بن صلاح حدثنا سفيان الثوري عن عاصم الأحول عن أنس. وفي هذا الإسناد روح بن صلاح: ضعفه الدارقطني، قال الذهبي: الدارقطني لا يضعف إلا من لا طِبّ فيه. اهـ، نقله عنه المناوي في "فيض القدير" (1/28) . وضعفه ابن عدي، وابن ماكولا وقال: "ضعفوه"، وقال ابن يونس في "تاريخ الغرباء": رويت عنه مناكير. أما توثيق ابن حبان فعلى قاعدته في توثيق المجاهيل، وقد ترجم روحاً في "الثقات" فقال: "روح بن صلاح من أهل مصر، يروي عن يحيى بن أيوب وأهل بلده". "روى عنه محمد بن إبراهيم البوشنجي وأهل مصر" اهـ (2/132/2 من ترتيب الهيثمي نسخة دار الكتب) . فهذا ظاهر أنه مجهول، فلا يتكثر بتوثيق ابن حبان، والحاكم تلميذ ابن حبان، فلعلّه استقى توثيقه منه، ومن كان ضعيفاً فلا يقبل حديثه،

فكيف إذا تفرد به؟! فإن هذا الحديث لم يروه أحدٌ من أصحاب سفيان الثوري مطلقاً، ولذا قال الطبراني في "الأوسط" ونقله عنه أبو نعيم في "الحلية": "تفرد به روح بن صلاح" ومعلوم أن الضعيف إذا تفرد بحديث صار منكراً كما قاله الذهبي في "الميزان" في ترجمة ابن المديني، وسبقت الإشارة إلى ذلك. قوله: "رواه ابن حبان والحاكم وصححوه عن أنس"، لم يذكر هذا التخريج الحفاظ الجهابذة، ابن حجر في "الإصابة" ولا السيوطي في "الجامع الكبير"، وذكر كل ما فيه المتقي الهندي في "كنز العمال" في موضعين ولم يذكر هذا المخرج. وكأن المؤلف اغترّ بالكوثري، فهو الذي عزا هذا العزو في "مقالاته" ص 391، وحاله في التلبيس والتحريف يُعْلم من "التنكيل" للعلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني. أما قول الكاتب: "ورواه كذلك ابن عبد البر عن ابن عباس"، فهذا تدليس شديد، وتلبيس عتيد، فرواية ابن عباس ليس فيها توسل النبي صلى الله عليه وسلم بحقه وحق الأنبياء، فهذه اللفظة ليست في رواية ابن عباس فلماذا يلبس صاحب المفاهيم على المطالعين لكتبه؟! أيريد إثبات أمر لم يثبت ولم يروَ؟! إن إيراد الشواهد في باب: معناه عند العلماء أن الشاهد يدل على ما ترجم به، وهذا لا يوجد في كلام صاحب المفاهيم، فكأن له قصداً يستخفي به، ويتدسس لإثباته. وإليك ما قاله ابن عبد البر في "الاستيعاب" (4/1891) ، قال: "روى سعدان بن الوليد السابري عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: لما ماتت فاطمة أم علي بن أبي طالب ألبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه واضطجع معها في قبرها، فقالوا: ما رأيناك صنعت ما صنعت بهذه!. فقال: إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبرّ بي منها، إنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة، واضطجعت معها ليهون عليها" اهـ.

فأفادنا هذا التوثيق عوار ما قاله صاحب المفاهيم ملبساً تلبيسين: الأول: قوله "رواه" وأنت ترى أن ابن عبد البر لم يروه، وإنما حكى أن سعدان بن الوليد رواه وفرق بعيد بين الحالين. الثاني: أن الشاهد في التوسل بحق النبي والأنبياء ليس له ذكر في خبر ابن عباس، فتحفظ مما يمليه هؤلاء المبطلة، وكن حذراً. وقال صاحب المفاهيم ص 66-67: "قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو نصر بن قتادة وأبو بكر الفارسي قالا: حدثنا أبو عمر بن مطر حدثنا إبراهيم بن علي الذهلي حدثنا يحيى بن يحيى حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن مالك قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر بن الخطاب، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! استسق الله لأمتك فإنهم قد هلكوا. فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: "ائت عمر فأقرئه مني السلام وأخبرهم أنهم مسقون، وقل له: "عليك بالكيس الكيس". فأتى الرجل فأخبر عمر فقال: يا رب لا آلوا إلا ما عجزت عنه. وهذا إسناد صحيح [كذا قال الحافظ ابن كثير في البداية (ج1-ص 91) 1 في حوادث عام ثمانية عشر] اهـ. كلام صاحب المفاهيم. أقول: الكلام هنا في مبحثين: الأول: الحافظ ابن كثير ساق قبل رواية البيهقي رواية سيف، وفيها أن عمر -رضى الله عنه- صعد المنبر، فقال للناس: أنشدكم الله الذي هداكم للإسلام هل رأيتم مني شيئاً تكرهون؟

_ 1 في الأصل ج1 وصوابه ج7، وقد تكرر الخطأ في العزو إلى الجزء في ص 77 أيضا، وكأنه ليس مطبعيا.

فقالوا: اللهم لا. وعم ذلك؟ فأخبرهم بقول المزني وهو بلال بن حارث. ففطنوا ولم يفطن. فقالوا: إنما استبطأك في الاستسقاء فاستسق بنا. اهـ المقصود. وهذه الرواية مبينة أن قول نبي الله لعمر في رواية سيف: "عهدي بك وفي العهد شديد العقد، فالكيس الكيس يا عمر.." هو ما فسرها صحابة رسول الله "ففطنوا ولم يفطن عمر" كما جاء صريحاً، وهو إرشاده للاستسقاء. وفي هذا سرّ لطيف وهو أن قول القائل: "يا رسول الله استسق الله لأمتك" منكر، جره تباطؤ عمر عن طلب السقيا، وعدم الفزع إلى المشروع، يجر إلى وجود غير المشروع، فلذا قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "عهدي بك وفي العهد شديد العقد، فالكيس الكيس.."، أقول هذا مع ضعف الرواية، لأبين مقصد ابن كثير حين ساق الروايتين الضعيفتين. إذا تبين هذا عُلِمَ فضل علم ابن كثير -رحمه الله- حيث جعل رواية البيهقي هي الثانية، ورواية سيف المفصِّلة معنى الكيس هي الأولى، فتأمل هذا! وتبين مقاصد الحفاظ في أحكامهم. ويقال: تأخر عمر عن الاستسقاء وهو العبادة المشروعة التي يحبها الله، لما فيها من الذل بين يديه، والإنكسار له، وتوجه القلوب بصدقٍ وإخلاص نحو ربها لكشف ضرها، إن تأخر عمر عن الاستغاثة المشروعة سبب هذا الأمر غير المشروع. ولذا؛ لم يفعل أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما فعل هذا الرجل الذي جاء إلى قبر نبي الله صلى الله عليه وسلم وقال ما قال، وهم إنما سقوا باستسقائهم، لا بقول الرجل غير المشروع. فتنبه لهذا. الثاني: أن هذه الرواية التي ساقها الحافظ ابن كثير من رواية البيهقي في "دلائل النبوة" فيها علل يعلل بها المحدثون:

الأولى: عنعنة الأعمش، وهو مدلس، والمدلس لا يقبل من حديثه إلا ما قال فيه "حدثنا" و"أخبرنا" ونحوها، دون "قال" أو "عن"، إذ احتمال أنه أخذه عن ضعيف يهي الحديث بذكره، كما هو معلوم في "مصطلح الحديث"، مع أن الأعمش في الطبقة الثانية من المدلسين عند الحافظ وغيره. الثانية: مالك الذي في إسناده والذي هو عمدة الرواية مجهول، وذكره البخاري وابن أبي حاتم، ولم يذكرا فيها تعديلاً ولا جرحاً، فهو مجهول، والمجهول لا يقبل حديثه. وابن كثير إنما صحح الإسناد على طريقته في توثيق مجاهيل كبار التابعين كما يعلم من تتبع صنيعه في التفسير وغيره. وإذا كان مجهولاً فلا علم لنا بتأريخ وفاته. الثالثة: أن أبا صالح وهو ذكوان الراوي عن مالك لا يعلم سماعه ولا إدراكه لمالك، إذ لم نتبين وفاة مالك، سيما ورواه بالعنعنة فهو مظنة انقطاع لا تدليس. الرابعة: أن تفرد مالك المجهول به رغم عظم الحادثة وشدة وقعها على الناس إذ هم في كرب شديد اسوَّد معه لون عمر بن الخطاب، إن سبباً يفك هذه الأزمة ويرشد إلى المخرج منها مما تتداعى همم الصغار فضلاً عن الكبار لنقله وتناقله، كما في تناقلهم للمجاعة عام الرمادة، فإذا لم ينقلوه مع عظم سبب نقله دلّ على أن الأمر لم يكن كما رواه مالك، فلعله ظنه ظناً. ونقل الكاتب ص 67 قول الحافظ في هذه الرواية: "روى ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الداري "وكان خازن عمر" ... " فساق نحواً من حديث البيهقي.

قال صاحب المفاهيم: "وقد أورد هذا الحديث ابن حجر العسقلاني وصحح سنده كما تقدم، وهو من هو في علمه وفضله ووزنه بين حفاظ الحديث، مما لا يحتاج إلى بيان وتفصيل" اهـ. أقول: منزلة الحافظ لا مكان للمجادلة فيها فهو عَلَم أشم في علوم الحديث، ولكن الشان في فهم من ينتسب إلى العلم، ولا يدرك ألفاظ الحافظ ومدلولاتها. فالحافظ المِِدْره الجهْبذ ابن حجر لم يصحح إسناده مطلقاً كما زعمه صاحب المفاهيم، إنما قال: "بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار ... " اهـ ومعنى هذا أن الحافظ صحح سنده إلى أبي صالح السمان، وما ذكر من رجال إسناده لم يقل بصحته كما هو ظاهر لأهل العلم، ففرق بين قوله هذا وبين ما لو قال: "بإسنادٍ صحيح أن مالك الدار ... "، فتبين أن كلام الحافظ هذا لا يمنع من علتين سبق تعليلُ الحديث بهما. الأولى: جهالة مالك الدار. الثانية: مظنة الانقطاع بين أبي صالح ذكوان وبين مالك الدار، إذا تقرر هذا واتَّضح، عُلم فضل قول الحافظ ابن حجر -رحمه الله- على قول ابن كثير الذي سبق. ومنه يتبين ضعف الأثر، ثم قد أوضحت أنه لا حجة في لفظه، بل ينعكس به الاستدلال على صاحب المفاهيم، وذلك إذا سلمت النفوس، وارتضت قواعد أهل العلم طريقاً وسبيلاً للوصول للحق، ومن لم يكن كذلك فلا يباليه أهل العلم باله، ولا يأخذون بالوزن مقاله.

رواية سيف في الفتوح: قال صاحب المفاهيم ص 67: "وقد روى سيف في الفتوح أن الذي رأى في المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة، قال ابن حجر: إسناده صحيح. اهـ[فتح الباري ص 415 ج2] انتهى. أقول: هذا كذب ظاهر على الحافظ ابن حجر، فكلامه انتهى عند قوله أحد الصحابة: أما قوله قال ابن حجر: إسناده صحيح، فهو من مفتريات صاحب المفاهيم على الحافظ، فانظر كيف فعلته، وسوء صنعته، وكيف يصحح الحافظ إسناداً يرويه سيف في "الفتوح"؟! والحافظ هو الذي يقول في سيف في كتابه "تقريب التهذيب": ضعيف الحديث، ومن قال فيه ذلك فلا يقبل حتى في المتابعات كما هو معلوم من اصطلاحه، ذكره في مقدمة كتابه، وسيأتي في المسألة التي تلي هذه، كلام الحفاظ في سيف. فما لصاحب المفاهيم وتعمد الكذب، فتعمده الكذب كبيرة، قال في "المشرع الروي في مناقب آل أب علوي" (1/58) : "إن القبيح من أهل البيت أقبح منه في غيرهم، ولهذا قال العباس لابنه عبد الله -رضى الله عنهما-: يا بني! إن الكذب ليس بأحدٍ أقبح من هذه الأمة أقبح منه بي وبك وبأهل بيتك" اهـ. وقال ص 67: " ذكر الحافظ ابن كثير أن شعار المسلمين في موقعة اليمامة كان [محمداه] " اهـ. أقول: ابن كثير -رحمه الله- ساق ذلك في ضمن خبر طويل عن الغزوة، دخل حديث بعض الأخباريين في بعض، وأما هذا الشعار فقد روى خبره ابن جرير في "تأريخ الأمم والملوك" (293/3) قال: "كتب إلي السري

عن شعيب عن سيف عن الضحاك بن يربوع عن أبيه عن رجل من بني سحيم.." فذكر قصة وفيها الشعار. أقول: هذا إسنادٌ مظلم، وما عهدت مسائل العقيدة والتوحيد، بل ولا غيرها من أحكام الشريعة تؤخذ من كتب التاريخ، وإنما تروى قصص التأريخ للعبرة والعظة، والتصديق بمجموعها، لا تفاصيلها، ولهذا قال أحمد بن حنبل: "ثلاثة ليس لها أصول وذكر المغازي.." وإظلام هذا الإسناد من ثلاث جهات: الأولى: سيف هو ابن عمر مصنف "الفتوح" و "الردة"، يروي عن خلق كثير من المجهولين. قال الذهبي في "ميزان الاعتدال" (2/255) : "روى مطيّن عن يحيى: فَلْس خير منه. وقال أبو داود: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: متروك. وقال ابن حبان: اتهم بالزندقة. وقال ابن عدي: عامة حديثه منكر.." اهـ. الثانية: الضحاك بن يربوع: قال الأزدي: حديثه ليس بقائم قلت: وهو من المجهولين الذين تفرد بالرواية عنهم سيف. الثالثة: جهالة يربوع والرجل السحيمي. وكل واحدة من هذه العلل والقوادح تضعف الحديث، فكيف وهو من رواية سيف بن عمر؟! وقد عرفت ما فيه، نسأل الله العافية. ولا يُستنكر إيراد ابن جرير لمثل هذه الحكايات الواهيات، وتتابع المؤرخين بعده على ذكرها، فقد قال ابن جرير -رحمه الله- في مقدمة كتابه "تأريخ الأمم والملوك" (1/8) ما نصه: "فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارؤه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة، ولا معنى في الحقيقة:

فيعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا، وأنَّا إنما أدينا ذلك على نحو ما أُديَ إلينا". انتهى كلامه. استدل صاحب المفاهيم -على زعمه- بجواز التوسل بحق الصالحين بحديث أبي سعيد الخدري الذي ساقه ص 65-66 ولفظه: "من خرج من بيته إلى الصلاة فقال اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعه.. الحديث". أقول: المؤلف قصَّر في الحكم على الحديث والنظر في إسناده على عادته، فالحديث أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (3/21) ، وابن ماجه في "سننه" (1/256) ، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (85) ، وأشار ابن خزيمة في "التوحيد" ص 17 إلى تخريج الحديث في كتاب آخر، كلهم عن فُضيل بن مرزوق عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري به مرفوعاً. وهذا إسناد ضعيف لأمور: 1- فضيل بن مرزوق: وثقه بعضهم وضعفه آخرون، وهو ممن عيب على مسلم -رحمه الله-، إخراج حديثهم في "الصحيح"، كما قال الحاكم -رحمه الله-، وأغلظ ابن حبان فقال: "يروي عن عطية الموضوعات". 2- عطية العوفي: قال الذهبي في "الميزان": "تابعي شهير، ضعيف ... ، وقال أحمد: ضعيف الحديث.. وقال النسائي وجماعة: ضعيف" اهـ. 3- عطية مدلس مع ضعفه، وتدليسه عجيب، قال أحمد: بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي، فيأخذ عنه التفسير، وكان يكنى بأبي سعيد فيقول: قال أبو سعيد. انتهى. 4- وقد أعلّ الحديث الشيخ ناصر الألباني في "السلسلة الضعيفة" (1/37) بعلة أخرى، وهي: اضطراب عطية أو ابن مرزوق في روايته، حيث إنه رواه تارة مرفوعاً كما تقدم، وأخرى موقوفاً على أبي سعيد، كما رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (12/110/1) عن ابن مرزوق به موقوفاً.

وفي رواية البغوي من طريق الفضيل قال: أحسبه قد رفعه، وقال ابن أبي حاتم في "العلل" (2/184) : موقوف أشبه. انتهى وهو كلام متجه؛ لأن المضطربين ضعاف في حديثهم، فلا يحمل ذلك على غير الاضطراب، كما هو معلوم من "أصول الحديث". وقد حسن إسناد الحديث الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء الصغير" (1/323) ، وحسن الحديث الحافظ ابن حجر فقال في "نتائج الأفكار": "حديث حسن أخرجه أحمد وابن ماجه وابن خزيمة في "كتاب التوحيد" وأبو نعيم الأصبهاني. قال: وفي "كتاب الصلاة" لأبي نعيم عن فضيل عن عطية قال: حدثني أبو سعيد فذكره، ولكنه لم يرفعه. فقد أمن بذلك تدليس عطية.." انتهى. أقول: أفاد الحافظ هنا أن تحسينه الحديث لأجل انتفاء تدليس عطية وفي هذا نظر من وجهين: الأول: أن تدليس عطية ليس هو تدليس الإسناد المعروف حتى يؤمن بقوله: حدثني، بل هو تدليس آخر، فعطية يقول: حدثني أبو سعيد، أو قال أبو سعيد ويعني به الكلبي. كما أفاد الإمام أحمد -رحمه الله. الثاني: أن الحافظ ذكر أن الرواية التي فيها حدثنا أبو سعيد موقوفة، فلم لم يعلّها بالاضطراب، وحقها ذلك؟! إذا عُلم هذا النظر، فقد قال جماعة كثيرون من الحفاظ بضعف الحديث: منهم: الحافظ عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، في "الترغيب والترهيب" (3/459) . ومنهم: الحافظ النووي في "الأذكار" ص 25. ومنهم: شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (1/288) .

ومنهم: البوصيري الحافظ في "زوائد ابن ماجة". وغيرهم، ممن أصاب الحق، فمن تأمل ما ذكر متجرداً منصفاً، علم أن قول هؤلاء الحفاظ الأكثرين هو الأصوب، والله أعلم. تنبيه: قال شيخ الإسلام على هذا الحديث في "مجموع الفتا وى" (1/288) : "وهذا الحديث من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد، وهو ضعيف بإجماع أهل العلم، وقد روي من طريق آخر1، وهو ضعيف أيضاً، ولفظه لا حجة فيه فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق العابدين أن يثيبهم، وهو حق أحقه الله تعالى على نفسه الكريمة بوعده الصادق باتفاق أهل العلم، وبإيجابه على نفسه في أحد أقوالهم. وهذا بمنزلة الثلاثة الذين سألوه في الغار بأعمالهم" انتهى. وقال رحمه الله (1/217) : "ومن قال: بل للمخلوق على الله حق فهو صحيح إذا أراد به الحق الذي أخبر الله بوقوعه، فإن الله صادق لا يخلف الميعاد، وهو الذي أوجبه على نفسه بحكمته وفضله ورحمته، وهذا المستحق لهذا الحق إذا سأل الله به يسأل الله تعالى إنجاز وعده، أو يسأله بالأسباب التي علق الله بها المسببات كالأعمال الصالحة، فهذا مناسب. وأما غير المستحق لهذا الحق إذا سأله بحق ذلك الشخص فهو كما لو سأله بجاه ذلك الشخص، وذلك سؤال بأمرٍ أجنبي عن هذا السائل، لم يسأله بسببٍ يناسب إجابة دعائه" اهـ. وقال (1/214) : "وذلك أن النفوس الجاهلية تتخيل أن الإنسان بعبادته وعلمه. يصير له على الله حق من جنس ما يصير للمخلوق على المخلوق، كالذين يخدمون ملوكهم ومُلاَّكهم، فيجلبون لهم منفعة، ويدفعون عنهم

_ 1 يشير الى طريق الوازع بن نافع العقيلي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر عن بلال بنحوه. قال الحافظ ابن حجر: "هذا حديث واهٍ جداً"، وقد ذكرت من أخرجه، وبقية الكلام عليه بأطول مما هنا في العدد الرابع من مجلة كلية أصول الدين بالرياض.

مضرة، ويبقى أحدهم يتقاضى العوض والمجازاة على ذلك، ويقول له عند جفاء أو إعراض يراه منه: ألم أفعل كذا؟ يمن عليه بما يفعله معه، وإن لم يقل ذلك بلسانه كان ذلك في نفسه. وتخيل مثل هذا في حق الله تعالى من جهل الإنسان وظلمه" اهـ. قال ص 62 معنوناً: "التوسل بآثاره صلى الله عليه وسلم" "ثبت أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يتبركون بآثاره صلى الله عليه وسلم وهذا التبرك ليس له إلا معنى واحد ألا وهو التوسل بآثاره إلى الله تعالى؛ لأن التوسل يقع على وجوه كثيرة لا على وجه واحد، أفتراهم يتوسلون بآثاره ولا يتوسلون به؟! هل يصح أن يتوسل بالفرع ولا يصح بالأصل؟! ". أقول: لما كان أكثر من يتبع ما يدعو إليه المبتدعة الجهال الطغام الذين لا يفقهون الفروق اللغوية ولا الشرعية بين الألفاظ، لما كان كذلك سهل على رؤسائهم وسادتهم أن يتلاعبوا بهم، وبالألفاظ الشرعية واللغوية، فتلوى أعناقها وتكسر أيديها، وتعكف أرجلها لتوافق ما يريدون. وهذه الأسطر التي نقلتها من هذه البابة. فالصحابة ثبت أنهم يتبركون بذاته صلى الله عليه وسلم، وما بأيديهم من آثاره الجسمية كالشعر والعرق ونحو ذلك، والتبرك بذاته صلى الله عليه وسلم مما نقر به ونؤمن به كما يأتي بيانه، ولكن أين وجد مؤلف المفاهيم أن التبرك يسمى توسلا؟! وكيف استجاز أن يخرق أقوال أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم بتسميته توسلاً، والبركة شيء، والوسيلة شي ة آخر؟!! ولذا؛ تعلم مجازفة وتعدي صاحب المفاهيم على صحابة رسول الله بقوله: "هذا التبرك ليس له إلا معنى واحد ألا وهو التوسل بآثاره". ليٌّ لفعل الصحابة ظاهر، وكسر لأعناق تصرفاتهم جائر. وهو يريد تقرير مذهبه ولكن بطريق غير علمية، لا تصلح إلا في الأزمنة الجاهلية، حيث

يتبع الناس ساداتهم دون بحث ونظر، وبقي منهم بقية، ولكن اليقظة العلمية الشرعية كفيلة برد مزاعمه إليه ولو من أتباعه. أنس -رضى اللة عنه- كان عنده شعرة يتبرك بها، فهلا أحضرت لنا نقلاً واحداً أنه قال مرة: "أتوسل بشعر رسول الله.."؟!، لن تستطيع ولو طرت إلى الثريا، لن يأتي المبتدعة بشيء من هذا، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. إن الصحابة يفرقون بين التبرك بالأثر المنفصل عن جسمه، وبين التوسل. ولكن القوم لا يفهمون، أو يفهمون وعلى الصحابة يجنون، والحمد لله فنحن أهلُ السنة على طريق الصحابة سائرون، وبما قالوه قائلون. وقال ص 64: "وهذا في الحقيقة ليس إلا توسلاً بآثار أولئك الأنبياء إذ لا معنى لتقديمهم التابوت بين أيديهم في حروبهم إلا ذلك، والله سبحانه وتعالى راضٍ عن ذلك، بدليل أنه رده إليهم وجعله علامة وآية على صحة ملك طالوت، ولم ينكر عليهم ذلك الفعل" اهـ. هذا آخر كلامه في "التوسل بآثار الأنبياء"، وواضح لأدنى ذي مسكة من علم ما في كلِمه من عُوَار: ففيه: أن تقديمهم التابوت بين أيديهم مفتقر إلى إثباته لا أن تجعل مقالات بعض المؤرخين مما نقله الأخباريون في مجالسهم مقام النصوص التي يستدل بها، ويفرع عليها. فلم أسمع أحداً ممَّن ارتبط بالعلم بسبب من المتقدمين والمتأخرين يستدل لحكم شرعي عقدي بقول مؤرخ.

أسفاً على ما أصله العلماء، فقد ذهب حين نطق أشباه العلماء، فإن كانت الإسرائيليات حجة عند كاتب المفاهيم وأشباهه كما هو ظاهر من احتجاجهم بها، فليحتجوا بما رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (10/9) : قال يوسف عليه السلام: "اللهم! إني أتوجه إليك بصلاح آبائي إبراهيم خليلك وإسحاق ذبيحك؛ ويعقوب إسرائيلك". فأوحى الله تعالى إليه: يا يوسف! تتوجه بنعمةٍ أنا أنعمتها عليهم؟ فاحتجوا بهذا يا أصحاب المفاهيم! وفيه: التجني على مقام الربوبية بقوله "والله سبحانه راض عن ذلك"، فانظر جزمه برضى المولى على فعل نقله الأخباريون لا يثبت عند العلماء، وليس له وزن. يوصف الله بالرضى عن فعلٍ لم يقله هو ولا رسوله، وإنما قاله المؤرخون. ياله من تسرع، وسؤ نظر، وقلة مبالاة، نسأل الله السلامة، نسأل الله السلامة، نسأل الله السلامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال ص 64: معنوناً: "التوسل بآثار الأنبياء". ثم ساق قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . ونقل عن ابن كثير في "تاريخه " قول ابن جرير: "كانوا ينصرون ببركته، وبما جعل الله فيه من السكينة". أقول: كم بين الدعوى والدليل من بون تنقطع أكباد المهاري البزل عن وصوله، فالدعوى: التوسل بآثار الأنبياء، ودليل هذا عند قائله قول ابن جرير: "كانوا ينصرون ببركته". ففي هذا افتئات على العلم الشرعي وجناية من أوجه:

الأول: أن الآيات ليس فيها إلا أنهم أنكروا ملك طالوت، لكونه ليس من سلالة الملك، فقال لهم نبيهم: إن آية صحة ملكه أن يأتيكم التابوت تسكنون لصحة كونه آية، وفيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون، تستدلون بهذه البقية على الصحة دليلاً ثانياً، والدليل الثالث أن الملائكة تحمله. هذا ما دلت عليه الآية. الثاني: أن كلام ابن جرير وغيره بحاجة إلى أن يستدل له لا أن يستدل به. الثالث: هبهم كانوا يتبركون، فأين الدليل على أنهم كانوا يتوسلون به؟! ومؤلف المفاهيم لا يفرق بين التبرك، والتوسل!. الرابع: هبه كما زعمت، فمن أين جزمت أن ما جاز في شرع من قبلنا جائز في شرعنا مطلقاً؟! الخامس: من أدلة عدم جواز فعل ما فعلت بنو إسرائيل -إن صح-: ترك النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، والتوجيه إليه في سراياه التي بعثها، وهزم المسلمون فيها، كغزوة مؤته ونحوها، أفلا بعث شيئاً من آثاره كملابسه ونحوها لينصرون بها؟! إن عدم الفعل مع اشتداد الحاجة إليه دليل على أن ذلك ليس مشروعاً عندنا. السادس: وهذا فهم الصحابة بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم، لم يأخذوا شيئاً من آثاره ليبعثوها مع المجاهدين تبركاً بها، واستنصاراً بها، وإنما بعثوا والرجال العاملين المخلصين، وتفقدوا أمر السنن في حروبهم، تفقدوا آثار أنبيائهم الآمرة الناهية لا آثارهم الجسمية، هذا شأنهم في حروبهم.

وقال في ص 66 معنونا: "التوسل بقبر النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته"، وذكر برهانه على هذا العنوان الغريب، فقال: قال الإمام الحافظ الدارمي في كتابه "السنن": باب ما أكرم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بعد موته. حدثنا أبو النعمان، حدثنا سعيد بن زيد، حدثنا عمرو بن مالك البكري1 حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد الله قال: قحط أهل المدينة قحطاً شديداً، فشكوا إلى عائشة فقالت: انظروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كواً إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، قال: ففعلوا. فمطرنا مطراً حتى نبت العشب وسمنت الإبل (تفتقت من الشحم فسمي عام الفتق، ومعنى كواً أي: نافذة) اهـ. "سنن الدارمي" (ج 1ص 43) . انتهى ما نقله صاحب المفاهيم. ووضعه (تفتقت من الشحم ... ) إلخ بين أقواس من تصرفه، وإخلاله بالنقل السليم، فإن اللفظ في "سنن الدارمي" (1/43) هكذا: "وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسُمِّي عام الفتق" اهـ، هذه عبارة سنن الدارمي، فتصرفه مذموم، وزاد على الأثر قوله: ومعنى كواً أي نافذة، وهذه ليست في سنن الدارمي التي نص على النقل عنها. وهذه الأثر ضعيف جداً لا حجة فيه، لأوجه: الأول: أن راويه عمرو بن مالك النكري ضعيف بمرة، قال ابن عدي في "الكامل" (5/1799) : "منكر الحديث عن الثقات، ويسرق الحديث، سمعت أبا يعلى يقول: عمرو بن مالك النكري: كان ضعيفاً"، ثم قال بعد أن ساق أحاديث: "ولعمرو غير ما ذكرت أحاديث مناكير" اهـ، وقال ابن حبان: "يخطئ ويغرب" اهـ.

_ 1 هكذا حرفها الناقل، وفي السنن: النكري، بالنون.

فعمرو وأمثاله ممن هذه حالهم كيف يجترأ على الاحتجاج بروايتهم؟! أما من غيرة على سنة رسول الله وشريعته من سراق الحديث؟! الثاني: أن سعيد بن زيد الراوي عن عمرو فيه ضعف، قال يحيى بن سعيد: ضعيف، وقال السعدي: يضعفون حديثه، وقال النسائي وغيره: ليس بالقوي، وقال أحمد: ليس به بأس: كان يحيى بن سعيد لا يستمرؤه، ساق هذه الأقوال الذهبي في "الميزان". الثالث: قال شيخ الإسلام في "مختصر الرد على البكري" ص 68-69: "وما روي عن عائشة -رضى الله عنها- من فتح الكوة من قبره إلى السماء لينزل المطر، فليس بصحيح ولا يثبت إسناده، وإنما نقل ذلك من هو معروف بالكذب. ومما يبين كذب هذا أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت كوة بل كان بعضه باقياً كما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعضه مسقوف وبعضه مكشوف، وكانت الشمس تنزل فيه كما ثبت في "الصحيحين" عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها لم يظهر الفيئ بعد. ولم تزل الحجرة كذلك حتى زاد الوليد بن عبد الملك في المسجد في إمارته لما زاد الحجر في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم" انتهى. وبعد أن تبين وانجلى نكارة هذه الحكاية نقلاً وعقلاً، إسناداً وتأريخاً يعلم أن قول صاحب المفاهيم بعد سياق الأثر: "فهذا توسل بقبره صلى الله عليه وسلم، لا من حيث كونه قبراً، بل من حيث كونه ضمَّ جسد أشرف المخلوقين، وحبيب رب العالمين، فتشرف بهذه المجاورة العظيمة، واستحق بذلك المنقبة الكريمة". اهـ.

مما اعتمد فيه على المنكرات الواهيات، ولهذا فلا قيمة لكلامه، ولو بنخالة شعير، أو وزن قطمير وهذا ظاهر لكل أحد، والحمد لله على توفيقه. وقال صاحب المفاهيم في ص 72 بعد سياقه قصة العتبي: [فهذه القصة رواها الإمام النووي في كتابه المعروف بالإيضاح في الباب السادس ص 498. ورواها أيضا الحافظ عماد الدين ابن كثير في تفسيره الشهير عند قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} الآية. ورواها أيضا الشيخ أبو محمد بن قدامه في كتابه "المغني" (ج 3 ص 556) ..] انتهى. أقول: هذه عبارات عامية، ليست علمية، ولا تنبئ عن فهم طالب علم، ذلك أن قوله رواها، ... ورواها ... إلخ خطأ محض؛ لأن كلمة رواها لا تقال إلا لمن ساق القصة بإسناده بقوله: حدثنا أو أخبرنا أو نحوها من كلمات التحمل والأداء. 1- فالنووي لم يروها، وإنما قال في "المجموع شرح المهذب" (8/274) وفي آخر منسكه المعروف بـ "الإيضاح": "ومن أحسن ما يقول: ما حكاه الماوردي والقاضي أبو الطيب وسائر أصحابنا عن العتبي مستحسنين له، قال: كنت جالساً عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " انتهى. فهذا هو قول النووي، وما هو برواية، ومن قال إنه رواية: فإما أن يكون لا فقه له ولا فهم بمصطلحات العلماء، وإما أن يكون متشبعاً بما لم يعط، ملبساً، فهذا لا حيلة فيه. 2- وابن كثير لم يروها، وإنما قال في "تفسيره": [ذكر جماعة منهم الشيخ أبو منصور الصباغ في كتابه الشامل الحكاية المشهورة عن العتبي ... ] وما هذه برواية، وإنما هو نقل.

وابن قدامة في "المغني" لم يروها، وإنما حكاها بصيغة التضعيف (3/557) فقال: "ويروى عن العتبي ... ". وليست هذه رواية، إنما نقل بصيغة التمريض وهي تفيد التضعيف، ثم المؤلف يعلم أن قصة العتبي ضعيفة السند واهية، فهي مردودة غير صحيحة. ولعلمه بذلك أورد الشبهة التي لم يبق له مع الضعف إلا هي، فقال ص 73: "هذه قصة العتبي، وهؤلاء الذين نقولها، وسواءً أكانت صحيحة أم ضعيفة من ناحية السند الذي يعتمد عليه المحدثون في الحكم على أي خبر، فإننا نتساءل ونقول: هل نقل هؤلاء الكفر والضلال؟! أو نقلوا ما يدعو إلى الوثنية وعبادة القبور...." اهـ. أقول: أولا: مادام أنها ليست من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا فعل خلفائه الراشدين، وصحابه المكرمين، ولا من فعل التابعين والقرون المفضلة، وإنما هي مجرد حكاية عن مجهول، نقلت بسند ضعيف فكيف يحتج بها في عقيدة التوحيد الذي هو أصل الأصول؟! وكيف يحتج بها وهي تعارض الأحاديث الصحيحة التي نهى فيها عن الغلو في القبور والغلو في الصالحين عموماً، وعن الغلو في قبره والغلو فيه صلى الله عليه وسلم خصوصاً؟!، وأما من نقلها من العلماء أو استحسنها فليس ذلك بحجة تعارض بها النصوص الصحيحة وتخالف من أجلها عقيدة السلف، فقد يخفى على بعض العلماء ما هو واضح لغيرهم، وقد يخطئون في نقلهم ورأيهم وتكون الحجة مع من خالفهم، وما دمنا قد علمنا طريق الصواب فلا شأن لنا بما قاله فلان أو حكاه فلان، فليس ديننا مبنياً على الحكايات والمنامات، وإنما هو مبني على البراهين الصحيحة. ثانيا: قد تخفى بعض المسائل والمعاني على من خلع الأنداد وتبرأ من الشرك وأهله، كما قال بعض الصحابة "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم

ذات أنواط" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده ما قاله أصحاب موسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} ". حديث صحيح. والحجة في هذا أن هؤلاء الصحابة وإن كانوا حديثي عهد بكفر فهم دخلوا في الدين بلا إله إلا الله، وهي تخلع الأنداد وأصناف الشرك وتوحد المعبود، فمع ذلك ومع معرفة قائليها الحقة بمعنى لا إله إلا الله، خفي عليهم بعض المسائل من أفرادها. وإنما الشأن أنه إذا وضح الدليل وأبينت الحجة فيجب الرجوع إليها والتزامها، والجاهل قد يعذر، كما عذر أولئك الصحابة في قولهم: اجعل لنا ذات أنواط، وغيرهم من العلماء أولى باحتمال أن يخفى عليهم بعض المسائل ولو في التوحيد والشرك. ثالثا: كيف يتجاسر أحد أن يعارض نصوص كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بقول حكاه حاكٍ مستحسناً له، والله سبحانه يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِأَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور 63] ؟!. قال الإمام أحمد: عجبتُ لقومٍ عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِأَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} ، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. رواه عن أحمد الفضل بن زياد، وأبو طالب، ولعله في كتاب "طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم " لأحمد -رحمه الله. فطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة على طاعة كل أحد، وإن كان خير هذه الأمة أبا بكر وعمر، كما قال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر.

فكيف لو رأى ابن عباس هؤلاء الناس الذين يعارضون السنة الثابتة، والحجة الواضحة بقول أعرابي في قصة العتبي الضعيفة المنكرة. إن السنة في قلوب محبيها أعظم وأغلى من تلك الحجج المتهافتة التي يدلي بها صاحب المفاهيم البدعية، تلك المفاهيم المبنية على المنامات والمنكرات. فاعجب لهذا، وجرد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحذارِ ثم حذارِ من أن ترد الأحاديث الصحيحة، وتؤمن بالأخبار الباطلة الواهية، فيوشك بمن فعل ذلك أن يقع في قلبه فتنة فيهلك. رابعا: ما من عالم إلا ويرد عليه في مسائل اختارها: إما عن رأي أو عن ضعف حجة، وهم معذورون قبل إيضاح المحجة بدلائلها، ولو تتبع الناس شذوذات المجتهدين ورخصهم لخرجوا عن دين الإسلام إلى دين آخر، كما قيل: من تتبع الرخص تزندق. ولو أراد مبتغي الفساد والعدول عن الصراط أن يتخذ له من رخصهم سلماً يرتقي به إلى شهواته، لكان الواجب على الحاكم قمعه وصده وتعزيره كما هو مشهور في فقه الأئمة الأربعة وغيرهم. وما ذكر فقيه أن من أحال لتبرير جرمه على قول عالم عُلِمَ خطؤه فيه، أنه يقبل منه ولا يؤخذ بالعتاب. اللهم احفظ علينا ديننا وتوحيدنا. وعنون صاحب المفاهيم ص 76: "بيان أسماء المتوسلين من أئمة المسلمين" وعمدته في هذا إيراد أكثر أولئك العلماء حديثاً فيه التوسل، وهذا من الحكم بالظن المنهي عنه، يل ثبت عن بعضهم -وهم الأكثر- خلاف ما زعمه، والقاعدة المقررة عند أهل العلم أن العالم إذا أورد أثراً بإسنادٍ فقد خفف من العهدة التي تجب عليه من إتباع ذلك بالحكم على الحديث.

وإذا رُوي حديث وصححه راويه في كتاب له فلا يعني هذا إلزامه بالقول به، إذ قد يكون له نظر وفهم، ولعلّ سبباً اكتنف حكم الحديث يمنع من القول به، من إجماع على خلافه، أو نسخ، أو لكونه ليس في شرعنا، ونحو ذلك. وتفصيل هذا الإجمال يطلب من كتب لأصول. قال المؤلف معدداً أسماء: 1. فمنهم الحاكم في المستدرك، فقد ذكر حديث آدم وصححه. والجواب: حال الحديث أنه واضح الضعف، كما نص الحاكم على ضعف راويه في "المدخل"، وأن النسخة التي روي بها الحديث موضوعة، والمستدرك لم يحرره الحاكم، بل أكثره مسودة، كما سبق تفصيل ذلك. فالقول بأنه يقول به مع تضعيفه الشديد لرواية راويه، وضميمة القاعدة التي ذكرنا، ليس بمستقيم مع المنهج العلمي الموفق. 2. ومنهم البيهقي في "دلائل النبوة"، فقد ذكر حديث آدم وغيره، وقد التزم أن لا يخرج الموضوعات. والجواب: أن البيهقي عقب الحديث بيّن تفرد راويه عبد الرحمن مع ضعفه. وهذه علة توجب رد الحديث. 3. ومنهم السيوطي في كتابه "الخصائص النبوية"، فقد ذكر الحديث وغيره. والجواب: ذكره ولم يحكم عليه، وذكره في "تخريج الشفاء" له، وقال بضعف إسناده. 4. ومنهم ابن الجوزي في "الوفاء" فقد ذكر الحديث وغيره. والجواب: أن ابن الجوزي ذكر كل ما وجد ولم يتكفل بصحة إسنادٍ، وقد ذكر في كتابه مكذوبات يعرفها أهل الشأن، ويعدونها من تناقضاته. وقال: (5، 6، 7) ، ومنهم: عياض وملا قاري والخفاجي.

والجواب: أن القاري والخفاجي قد ضعفوا حديث توسل آدم، والعبرة بتضعيفهم لابرأيهم، انظر "شرح القاري" (1/215) ، و"شرح الخفاجي" (2/242) . قال: 8- ومنهم: القسطلاني في كتابه "المواهب اللدنية". والجواب: أن القسطلاني لا يُفرَد بقولٍ بتصحيح حديث آدم، فإنما هو في كتابه هذا ناقلٌ من السيوطي، وقد ذكرنا القصة في ذلك، وما قد يكون سبباً لتأليف السيوطي "الفارق بين المصنف والسارق". قال: 9- ومنهم: الزرقاني في "شرحه على المواهب" (ج1 ص44) . والجواب: ضعف الزرقاني حديث آدم، فإن كان رأياً ارتآه فليذكر دليله، ولم أجد في (ج1 ص44) من شرح المواهب شيئاً من ذلك. قال: 10- ومنهم النووي. أقول: ذكْره قصة العتبي لا يعني أنه يجيز التوسل بالذوات ونحوه. قال: ومنهم ابن كثير. الجواب: نقله قصة الأعرابي لا يعني تجويزه للتوسل بالذوات ونحوه، وقصة آدم ذكرها وضعف راويها. وقصة الرجل الذي جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، بينت ما فيها فارجع إليه، وتصحيح إسنادها لا يعني القول بجواز فعلها، كما يشير إليه صنيع ابن كثير نفسه. وذكره شعار المسلمين [يا محمداه] ليس مقصوداً، بل ورد في أثناء نقل طويل بإسنادٍ مظلم اهـ. قال: ومنهم: ابن حجر فقد صحح سند قصة الرجل الذي جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم. والجواب: لم يصححها، وإنما قال: بإسنادٍ صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار.

وفي هذا تنبيه لعلة الرواية عنده، يفهمها المشتغلون بعلم الحديث. قال: ومنهم: القرطبي المفسر. الجواب: ذكر القرطبي نحواً من قصة الأعرابي، وحكايته لها لا يدل على قوله بموجب كل لفظٍ فيها. ومن هذا ينجلي الغطاء، وينكشف ما تحت الكساء، ويظهر أن قول صاحب المفاهيم فيه تجنّ على أكثر من ذكرنا قولهم، وما كان يحسن به هذا، وهو شيء لم يسبق إليه ولم يفعله المصنفون قبله؛ ذلك لأنه مردود على مقتضى قواعد أهل العلم، وبالله التوفيق. ذكر ص 54: استغاثة الخلق يوم القيامة بالأنبياء وآخرهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليشفع إلى ربه في أهل الموقف ... إلخ. ثم قال: "فهذا إجماع من الأنبياء والمرسلين وسائر المؤمنين، وتقرير من رب العالمين، بأن الاستغاثة عند الشدائد بأكابر المقربين من أعظم مفاتيح الفرج ومن موجبات رضى رب العالمين" اهـ. أقول: هذه جراءة قبيحة على رب العالمين، وعلى أنبيائه ورسله، فلو صعدت أبخرة هذه الجراءة إلى السحاب لنزل ماؤه سماً زعافاً، ولو نزلت إلى ينابيع الماء لقلبتها ناراً تلظى. ولكن الهوى يفسد العقول، ويجر إلى عبادة غير الله {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23] ، {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان: 43] ، أيكون دين الجاهلية قرره رب العالمين؟!

أيكون دين الجاهلية أجمع عليه: الأنبياء والمرسلون؟! ما أقبح الهوى! وما أظهر الجاهلية في كلام كاتب المفاهيم الخاسرة! إن الذي يكون يوم القيامة: أن الخلق يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع لهم إلى ربهم في فصل القضاء بينهم وإراحتهم من الموقف، وهذا الطلب جار على المألوف الجائز من طلب الشفاعة من حي حاضر قادر بمعنى أن يدعو الله للطالب في حصول مقصوده، فالشفاعة معناها: طلب الدعاء من الحي الحاضر، وهذا بخلاف طلب الشفاعة من الميت، أو التقرب إليه بشيء من أنواع العبادة بقصد أن يشفع له كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ} [يونس: 18] . قال ص 55: "وفي الفتاوى الكبرى: سئل شيخ الإسلام -رحمه الله: هل يجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فأجاب: الحمد لله، أما التوسل بالإيمان به، ومحبته وطاعته والصلاة والسلام عليه، وبدعائه وشفاعته ونحو ذلك من ما هو من أفعاله وأفعال العباد المأمور بها في حقه، فهو مشروع باتفاق المسلمين [الفتاوى الكبرى ج1 ص 140] ... " اهـ. أقول: جرى كاتب المفاهيم على هديه الذي رضيه لنفسه، وهو التحريف والتبديل، فبتر آخر كلام شيخ الإسلام؛ ليوهم أنه ساوى بين التوسل بدعائه وشفاعته صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً. وهذا تحريف للمعنى من جنس ما مر من تحريفاته. قال الشيخ بعد قوله الذي نقله الكاتب: "وكان الصحابة -رضى الله عنهم- يتوسلون به في حياته، وتوسلوا بعد موته بالعباس عمه، كما كانوا يتوسلون به" اهـ. فهذا التفسير للإجمال السابق لابد من ذكره ونقله، وفيه أن التوسل به في حياته يكون بدعائه لمن طلب منه الدعاء، أوبابتدائه الدعاء لمن شاء من أصحابه. فهذا حق؛ لأن نبي الله حي

بين أظهرهم، ممكن من الدعاء في دار التكليف، ممكن من سؤال الله لمن طلب منه بالنصوص القطعية. أما بعد انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، والحياة البرزخية، فقد انقطع ما كان يعمله في حياته من الدعاء لمن طلب منه، والشفاعة لمن استشفعه. وما خرج عن ذلك فهو مردود، إلا بنص ولا نص منقول يدل عليه، لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف، كما يفهمه أو لو الشأن. والرسول صلى الله عليه وسلم -كما بُيِّن في باب الشفاعة من هذا الكتاب- لم يتشفع ولم يتوسل بمن قبله من الأنبياء، بل ولا شهداء أحد وأفضلهم حمزة بن عبد المطلب، فلم يسألهم الدعاء ولا توسل بهم وهم الأنبياء، والشهداء الذين ثبتت حياتهم، وأنهم ليسوا بأموات، ولكنها حياة برزخية. هذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن له أتباع، والمبتدعة الضلال لأهوائهم أتباع. ومن نظر في هذا نظرة، حدثت له فكرة، أنجته بإذن مالك الأفئدة من الحسرة، إن كان من طلاب الصراط المستقيم، والهدي القويم، هدي خير الخلق أجمعين. قال ص 56: "مما يستفاد من كلام الشيخ ابن تيمية أن من دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم صح له أن يتوسل إلى الله بدعائه صلى الله عليه وسلم له، وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قد دعا لأمته، كما ثبت ذلك في أحاديث كثيرة" اهـ ثم قال: "لذا؛ فإنه يصح لكل مسلم أن يتوسل إلى الله سبحانه وتعالى بذلك فيقول: اللهم! إن نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم قد دعا لأمته، وأنا من أفراد هذه الأمة، فأتوسل إليك بهذا الدعاء أن تغفر لي وأن ترحمني، إلى آخر ما

يريد، فإذا قال ذلك: لم يخرج عن الأمر المتفق عليه بين كافة علماء المسلمين" اهـ أقول: قد بينت آنفا ما في التوسل بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته من البدعة، والخروج عن فهم السلف للتوسل. والتوسل بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ليس مقصوداً للكاتب، وإنما أتى بذلك ليصل إلى شيء آخر، وهو ما صرح به بقوله: "فإن قال: اللهم! إني أتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، فقد فاته التصريح بما ينويه، وبيان ما ينعقد عليه قلبه، وهو مقصود كل مسلم، ومراده لا يخرج عن هذا الحد" اهـ. فهذا الكلام بيّن لِمَ ساق الكاتب كل ما مر من كلام شيخ الإسلام؟ فانظروا ضعف حجته، وقلة بصيرته في إحالته على قلوب المتوسلين برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته، وهو يزعم أنه بما في قلوبهم عليم، وأن مراداتهم لا تخرج عن الحد الذي اطلع به على قلوبهم. أفتش الكاتب قلوب الداعين؟! أم هو نقيبهم ينافح عنهم. وها هو الكاتب خرج عن هذا الحد المدعى، فتوصل بالتوسل البدعي إلى جواز الاستغاثة بالأنبياء، وطلبهم الشفاعة، فجعله سلماً. ثم ما الذي يحجز الداعي من التصريح بما في قلبه؟! لا يمنعه إلا شيء هو أحسن عنده من ما لم يذكره، فلو كان يعتقد في لفظ أنه أقرب وأصح لقاله فإنه داعٍ سائل، والسائل يتحرى المقرب الصحيح، فلو كان مقصودهم ما اعتذر به الكاتب لصرحوا به، ولكن مقصودهم هو التوسل بذاته، مما هو من البدع، ووسائل الشرك، والإقسام به على الله تعالى، واتخاذه شفيعاً، ومغيثاً، ومعيناً، فيما لايقدر عليه إلا الله أو بعد موته. ثم إنك إن فتشت لا تكاد تجد اليوم أحداً ينافح عن جواز التوسل بالذوات إلا وهو يجيز الشرك: كالاستغاثة بالأموات ودعائهم أو طلب

شفاعتهم. وقد طالعت من كتبهم شيئاً فوجدتهم كما وصفت لك، فلعلك تكون من المستبصرين الناجين. قال ص 57: "جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "حياتي خير لكم ومماتي خير لكم، تحدثون ويحدث لكم تعرض أعمالكم عليّ، فإن وجدت خيراً حمدت الله وإن وجدت شراً استغفرت الله لكم". ذكره الحافظ إسماعيل القاضي في "جزء الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم"، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" وصححه. وهذا صريح بأنه صلى الله عليه وسلم يستغفر للأمة في برزخه، والاستغفار دعاء، والأمة تنتفع بذلك" اهـ. كلام صاحب المفاهيم. أقول: الكلام في هذه الأحرف من أوجه: الأول: هذا الحديث أخرجه إسماعيل القاضي ص 36 في "جزء الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" مرسلاً، فقال: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا غالب القطان عن بكر بن عبد الله المزني، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره بلفظ آخر غير ما ذكر، فأوهم صنيع صاحب المفاهيم أنه رواه باللفظ المذكور، وبكر بن عبد الله المزني من التابعين الثقات، توفي سنة 106 هـ فهو مرسل، والمرسل لا يقبل عند المحدثين. وأما قول الكاتب: "ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" وصححه" ففيه: أن الهيثمي ذكر رواية البزار (وسيأتي ما فيها) ، وقال "رجاله رجال الصحيح"، وهذه العبارة لا تفيد تصحيحه الحديث، فلا يجوز أن يقال إنه صححه، كما تجرأ عليه صاحب المفاهيم، وذلك أن قوله "رجاله رجال الصحيح" تفيد ثقة الرجال وأنهم مخرَّج لهم في الصحيح، ولا تفيد لا صحة الإسناد ولا صحة الحديث.

فصحة الإسناد تفتقر إلى معرفة اتصال الرواية وعدم الانقطاع في الإسناد، وألا يكون في الإسناد مدلس رواه بالعنعنة. فمثلاً: لو روي حديث من طريق أحمد بن حنبل عن سفيان الثوري عن ابن المسيب عن أبي بكر الصديق، لجاز أن يقال: رجاله أئمة أثبات حفاظ، ولا يعني ذلك التكفل بصحة الإسناد، إذ ظاهر الإسناد الانقطاع بين كل راو وشيخه، فأحمد لم يدرك سفيان وهو لم يدرك ابن المسيب، وسعيد لم يدرك أبا بكر. وصحة الحديث ليست بلازمة لصحة الإسناد، بل بينهما مراتب يعرفها أهل العلم والنظر، فكم من حديث صحيح الإسناد وهو شاذ أو غلط أو معلل. وذلك أن تعريف علماء الحديث للحديث الصحيح جمع أمرين: صحة الإسناد وانتفاء الشذوذ والعلة. فما لم يجتمع الأمران، لا يقال بصحة الحديث. ومن هذا يعلم ما في قول صاحب المفاهيم من نسبة تصحيح الحديث للهيثمي من تَقَوُّل على الهيثمي، وزيادة أمرٍ لم يقله الحافظ الهيثمي رحمه الله. ومثله ما نقله صاحب المفاهيم في ص 172 من كتابه من قول العراقي: إسناده جيد. الثاني: الحديث رواه البزار في "مسنده" (1/397 زوائده) فقال: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن سفيان عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام"، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حياتي خير لكم.. الحديث".

قال البزار: "لا نعلمه يروى عن عبد الله إلا بهذا الإسناد" اهـ. وهذا إسنادٌ فيه: عبد المجيد بن أبي رواد، وهو ممن لا يقبل ما ينفرد به عندهم، ولذا قال الحافظ العراقي شيخ الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح إلا أن عبد المجيد بن أبي رواد وإن أخرج له مسلم ووثقه ابن معين والنسائي، فقد ضعفه بعضهم" فهذا هو التحقيق، وقد تفرد بهذه الزيادة "حياتي خير لكم ... ". أما أول الحديث إن لله ملائكة ... الخ فهو محفوظ من حديث سفيان عن عبد الله بن السائب به، واتفق رواة الحديث عن سفيان على هذا القدر تم أتى عبد المجيد فتفرد عنهم بهذه الزيادة فهي شاذة ضعيفة كما يقتضيه التحقيق. الثالث: لوثبت الحديث لم يكن فيه ما ادعاه صاحب المفاهيم من جواز التوسل بعموم استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته؛ لأن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته لأمته وسؤاله الله لهم أبلغ وأقطع من استغفاره بعد موته -إن ثبت-، وهذا السبب الذي كان موجوداً في حياته هو عين السبب الذي علق الحكم به بعد مماته، فلما لم يشرع هذا العمل وهو التوسل بالاستغفار العام مع قيام المقتضي له في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أن إحداثه بدعة. ويؤيد هذا أن خير القرون ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، لم يستعمل أحد منهم التوسل بهذا الطريق الذي اخترعه عشاق البدع، وهُجَّار السنن. أقول: وتوسع صاحب المفاهيم على عادته بتمسكه بأدنى شبهة وأبعدها، فقال ص 173 أواخر كتابه حول الحديث: "الحديث صحيح لا مطعن فيه" اهـ، وهذا افتراء أو قلة علم؛ بل فيه مطعن كما قدمناه. قال: وهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أعمالنا بعرضها عليه، ويستغفر الله لنا على ما فعلنا من سيئ وقبيح، وإذا كان كذلك فإنه يجوز لنا أن

نتوسل به إلى الله ونستشفع به لديه؛ لأنه يعلم بذلك فيشفع فينا ويدعو لنا ... " اهـ. أقول: في الحديث عرض الأعمال، والكاتب يستدل به على جواز طلب الشفاعة، يا له من فقه غاب عن الأمة بضعة عشر قرناً، حتى ظهر هؤلاء المبتدعة فأدركوه! فعرض العمل عليه صلى الله عليه وسلم شيء وتجويزك طلب الشفاعة أمر آخر بعيد، فإن عرضت عليه أعمالك فلن يرضى صلى الله عليه وسلم بالشرك الذي فيها، ومنه طلب الشفاعة من الموتى، ولن يستغفر لمشرك يستغيث بالأموات، {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَنيَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِمَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] . إن طلبك الشفاعة من الأموات سيء من العمل وشرك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستغفر لمن ترك دينه واتبع هواه فأشرك. إن استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم وشفاعته، إنما تكون في حياته وفي الدار الآخرة لا في دار البرزخ، وله أنواع من الشفاعات ليس فيها نصيب لمشرك. فمن طلب الشفاعة منه بعد موته، فحري أن يكون فوت على نفسه شفاعته صلى الله عليه وسلم في الآخرة، وإن من سيئ الكلام تعدي صاحب المفاهيم على مقام النبوة حيث جزم بقوله "فيشفع فينا ويدعو لنا". وإن من سيء القول وخطله وشنيعه تعدي الكاتب على مقام الألوهية، فيجوز طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، والشفاعة حق لله وحده، وإنما تطلب منه وحده، كما يدعو المخلصون بقولهم: اللهم! شفع فينا نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم. وفي باب الشفاعة بيان هذه الأصول بما فيه مقنع لمن أراد الله هدايته.

وضع ص 61 عنواناً هو: "الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب لا ينكر التوسل". أقول: تحليتك محمد بن عبد الوهاب بالشيخ الإمام: إما أن تكون اعترافاً بفضله قي تجديد أمر دين الإسلام، وإصلاحه وجهاده، وإما أن تكون عنيت بها وضعها اللغوي. فإن أردت المعنى الأول فالشيخ قد أقام دعوته في محاربة أصناف الشرك الجلي والخفي، الأكبر منه والأصغر، وحارب وسائل الشرك التي تجر إليه مما حرمه الله ورسوله، ومن تأمل كتاب التوحيد ألفاه في فلك ما ذكر دائر، وعلى الصراط المستقيم سائر. والشيخ -رحمه الله- جاهد في إرجاع الناس إلى دينهم الذي جاء به رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وجاهد في إقناعهم بأن ما يفعله بعض الناس في زمانه ويدّعونه إسلاماً هو عين ما عليه المشركون الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان كثير من المنتسبين إلى الدين في زمانه عبَّاداً للقبور: يدعون أصحاب القبور استقلالاً من دون الله، ويدعونهم مع الله طلباً للشفاعة منهم والقربى إلى الله زلفى، ويرجونهم دفع المضرات، ورفع المهلكات، وتفريج الكربات، كما قال الله عن أشباههم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] . ثم هم يقدمون لأولئك المقبورين أصناف القرابين والعبادات التي لا تكون إلا لله جل وعلا: كالذبح، والنذر، وهم يخضعون لأولئك المقبورين الميتين أعظم من خضعانهم في مساجد الله. كانوا يستغيثون بالأموات، ويخافونهم خوف السر، ويحبونهم أشد من محبة الله، ويتقربون إليهم أكثر من تزلفهم إلى ربهم، بل نسوا ربهم

وذكره، وفشت فيهم مذاهب الإلحاد والزندقة، كمذهب وحدة الوجود، وتعظيم الأولياء على الأنبياء، كما قال مقدمهم: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي هذا جزء في واقع أسود رآه الشيخ في هذه الديار، فجاهد متوكلاً على ربه، مقتفياً سنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى في سيرته الجهادية، فنصره الله وأعزه، ومكن له الدين. وذلك الواقع الذي وصفنا موجود في أكثر البلدان الإسلامية، والواجب تبصيرهم بالمكفرات الواقعة الكثيرة، ثم جهادهم بأنواع الجهاد باليد واللسان والقلب، ولكن اثَّاقل الناس إلى الأرض، إلا قليلاً. هذا الذي ذكر من أصناف الشرك الأكبر كانت محاربته وتغييره، وهداية الناس إلى الإسلام همَّ الشيخ الأول، ثم إن الشيخ -رحمه الله- داع حكيمٌ متروٍ، فإذا كان المخاطب واقعاً في أصناف الشرك فمن غير الحكمة أن ينهاه عن البدع ووسائل الشرك وهو لم يعلم بعدُ أن الشرك موجود بين الناس، بل الواجب أن يبين الشرك ثم إذا استقرت حقيقة الإسلام في قلب العبد وترك وجاهد الشرك الأكبر، فهو سينكر وسائل الشرك؛ لأن العاقل البصير إذا كره شيئاً كره وسائله ودواعيه. إن السلامة من سلمى وجارتها أن لا تحل على حالٍ بواديها فهذا الشاعر القديم عرف هذه الحقيقة، وإليها يهتدي العقلاء، وقد دلت الشريعة إليها وحضت عليها قاعدة "سد الذرائع". وقال ملخصاً مباحثه في التوسل ص 73: "إن التوسل: ليس مقصوراً على تلك الدائرة الضيقة التي يظنها المتعنتون".

أقول: هذه كلمات ينفر منها ذووا القلوب الحية، التي قد ملأت محبة الله وإعظامه وإجلاله جوانحها، ويستأنس لها من شغل بذكر غير الله مع الله، أو نسوا الله فأنساهم أنفسهم. يالها من ألفاظ لو مزجت بماء البحر لمزجته، ولو سالت على زروع الناس لأفسدت معيشتهم. سبحان الله!! التوسل بأسماء الله وصفاته دائرة ضيقة! أسماء الله التي لا تحصى دائرة ضيقة للتوسل! صفات الله العُلى وأفعاله الحكيمة دائرة ضيقة! سبحان الله! ولا حول ولا قوة إلا بالله! يا صاحب المفاهيم! لو دعوت ربك متوسلاً إليه بأسمائه لانقضى عمرك وعمر من معك، ولم تبلغوا نهاية، ولم تحصوا لها عدداً. يا صاحب المفاهيم! لو ظللت تدعو الليل والنهار لا تفتر أبداً تتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى لم تنقض، ولانقضى عمرك. يا صاحب المفاهيم! لو توسلت إلى الله بأسمائه الحسنى بما يناسب مطلوبك من أسمائه، لا نقضت حوائجك ولم تبلغ بعضاً من أسماء الله. يا صاحب المفاهيم! إن من أسماء الله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة، فلو ظللت تدعو بها مفردة، ثم تجعل مع الاسم آخر، ثم هكذا، لبلغت ما لو دعا به الخلق من أولهم إلى آخرهم ما يسعهم غير مكررٍ ولا معيد. يا صاحب المفاهيم! إني أنذرك مغبة هذه الكلمة الوبيلة التي يقْشَعِرُ منها البدن، وعليك بالانطراح بين يدي الله والتوبة من هذا القول، وما جرَّ إليه من الشرك، وما قرب إليه من البدع، ولا حول ولا قوة إلأ بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم إنا نبرأ إليك من قول من قال: إن التوسل بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا دائرة ضيقة، فتقبل اللهم براءتنا، وعلمنا من أسمائك، وآثار صفاتك، ما يقوي قلوبنا، ويهدينا إلى صراطك المستقيم.

الباب الثاني: مسائل في توحيد الربوبية والألوهية

الباب الثاني: مسائل في توحيد الربوبية والألوهية ... الشرك في قوم نوح: أخرج البخاري في " صحيحه " (8/667) في تفسير قوله تعالى: {وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً} الآية [نوح: 23] ، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: " صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعدُ. أما وَدّ فكانت لكلب بدومة الجندل. وأما سواع فكانت لهذيل. وأما يغوث فكانت لمراد، ثم بني غطيف بالجرف عند سبأ. وأما يعوق فكانت لهمدان. وأما نسر فكانت لحمير لآلِ ذي الكلاع. أسماءُ رجالٍٍ صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتَنَسَّخَ العلم عبدت"، ومما جاء في معنى كلام ابن عباس ما أخرجه عبدُ بن حميد عن محمد بن كعب في قوله: {وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} [نوح: 23-24] . قال: " كانوا قوماً صالحين بين آدم ونوح، فنشأ قوم بعدهم، يأخذون كأخذهم في العبادة. فقال لهم إبليس: لو صورتم صورهم، فكنتم تنظرون إليهم، فصورا ثم ماتوا. فنشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس: إن الذين كانوا من قبلكم كانوا يعبدونها، فعبدوها". وأخرج عبد بن حميد عن أبي مطهر قال: ذكروا عند أبي جعفر، يزيد ابن المهلب، فقال: "أما إنه قتل في أول أرض عبد فيها غير الله، ثم ذكر وداً، قال: وكان ودٌّ رجلاً مسلماً، وكان محبباً في قومه، فلما مات

عسكروا حول قبره في أرض بابل، وجزعوا عليه، فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبه في صورة إنسان، ثم قال: أرى جزعكم على هذا، فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه به؟ قالوا: نعم، فصور لهم مثله فوضعه في ناديهم، وجعلوا يذكرونه. فلما رأى ما بهم من ذكره قال: هل لكم أن أجعل لكم في كل منزل كل رجل تمثالاً مثله، فيكون في بيته فتذكرونه؟ قالوا: نعم. فصور لأهل كل بيت تمثالاً مثله، فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به، قال: وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعونه به، وتناسلوا ودرس أمر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلهاً يعبدونه من دون الله. قال: وكان أول ما عبد غير الله في الأرض ود، الصنم الذي سموه بود". اهـ. وهناك روايات أخر، قال الحافظ في " فتح الباري " (8/669) : " قال بعض الشراح: محصل ما قيل في هذه الأصنام قولان: أحدهما: أنها كانت في قوم نوح. الثاني: أنها كانت أسماء رجال صالحين. إلى آخر القصة. قلت: بل مرجع ذلك إلى قولٍ واحد، وقصة الصالحين كانت مبتدأ عبادة قوم نوح هذه الأصنام، ثم تبعهم من بعدهم على ذلك" انتهى كلام الحافظ ابن حجر.

الشرك في قوم إبراهيم: قال الشهرستاني في " الملل والنحل " (1/560-563) : "وكانت الفرق في زمان الخليل -عليه السلام- راجعة إلى صنفين اثنين: أحدهما: الصابئة. والثاني: الحنفاء. فالصابئة كانت تقول: إنا نحتاج في معرفة الله تعالى ومعرفة طاعته وأوامره وأحكامه إلى " متوسط "، لكن ذلك المتوسط يجب أن يكون روحانياً لا جسمانياً، وذلك لزكاء الروحانيات وطهارتها وقربها من رب الأرباب، والجسماني بشر مثلنا يأكل مما نأكل، ويشرب مما نشرب، يماثلنا في المادة والصورة. قالوا: {وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 34] . والحنفاء كانت تقول: إنا نحتاج -في المعرفة والطاعة- إلى متوسط من جنس البشر، تكون درجته في الطهارة والعصمة، والتأييد والحكمة: فوق الروحنيات، يماثلنا من حيث البشرية ويمايزنا من حيث الروحانية. فيتلقى الوحي بطرف الروحانية، ويلقي إلى نوع الإنسان بطرف البشرية، وذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110] ، وقال عزَّ ذكره: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 93] . ثم لما لم يتطرق للصابئة الاقتصار على الروحانيات البحتة والتقرب إليها بأعيانها والتلقي عنها بذواتها، فزعت جماعة إلى هياكلها، وهي السيارات السبع وبعض الثوابت. فصابئة النبط والفرس والروم: مفزعها السيارات.

وصابئة الهند: مفزعها الثوابت. وسنذكر مذاهبهم على التفصيل على قدر الإمكان بتوفيق الله تعالى. وربما نزلوا عن الهياكل إلى الأشخاص التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنهم شيئاً. والفرقة الأولى: هم عبدة الكواكب. والثانية: هم عبدة الأصنام. ثم قال ص673 ذاكراً مذهب أصحاب الروحانيات: " ومذهب هؤلاء أن للعالم صانعاً فاطراً حكيماً مقدساً عن سمات الحدثان، والواجب علينا معرفة العجر عن الوصول إلى جلاله. وإنما يتقرب إليه بالمتوسطات المقربين لديه، وهم الروحانيون المطهرون المقدسون: جوهراً، وفعلاً، وحالة. أما الجوهر فهم المقدسون عن المواد الجسمانية المبرؤون عن القوى الجسدانية، المنزهون عن الحركات المكانية، والتغيرات الزمانية، قد جبلوا على الطهارة، وفطروا على التقديس والتسبيح، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وإنما أرشدنا إليهم معلمنا الأول: عاذيمون، وهرمس. فنحن نتقرب إليهم ونتوكل عليهم، وهم أربابنا وآلهتنا، ووسائلنا وشفعاؤنا عند الله، وهو رب الأرباب وإله الآلهة رب كل شيء ومليكه" اهـ. والغرض من نقل هذا كله تبيان بعض حال الصابئة الذين عبدوا الكواكب؛ لشبهة الوصول إلى الله عن طريق من جُبلَ على الطهارة والتقديس والتسبيح. وبين شرك قوم نوح وشرك قوم إبراهيم جامعٌ تفرعت عنه أصناف الشرك بعد في الناس، فمقل من الشبه ومستكثر، فبعثت لهم الرسل، فكان شرك قوم نوح يرجع إلى مظاهر الصلاح في البشر، وشرك قوم

إبراهيم من العقل والفلسفة لأسرار الطبيعة ووظائف الأفلاك. فشرك قوم نوح شرك تقريب وشفاعة. وشرك قوم إبراهيم شرك أسباب وإعانة، فإذا اتخذت له أصنام كان شرك تقريب وشفاعة، كما دل عليه آخر كلام الشهرستاني. شرك العرب وديانتهم: اعلم أن العرب كانوا بعد إبراهيم -عليه السلام- على دينه الحنيفية، وبُثَّ هذا الدين فيهم، فتلقوه من ولد إسماعيل عليه السلام، وانتشرت فيهم الحنيفية، وأحبوا البيت وهوت إليه قلوبهم. " وأول من وضع فيه الأصنام عمرو بن لُحَيْ بن غالوثة بن عمرو بن عامر لما سار قومه إلى مكة، واستولى على أمر البيت، ثم صار إلى مدينة البلقاء بالشام، فرأى هناك قوماً يعبدون الأصنام، فسألهم عنها، فقالوا: هذه أرباب اتخذناها على شكل الهياكل العلوية، والأشخاص البشرية: نستنصر بها فننصر، ونستسقي بها فنسقى، ونستشفي بها فنشفى. . فأعجبه ذلك. وطلب منهم صنماً من أصنامهم فدفعوا إليه هبل، فسار به إلى مكة ووضعه في الكعبة. وكان معه إساف ونائلة على شكل زوجين، فدعا الناس إلى تعظيمها، والتقرب إليها، والتوسل بها إلى الله تعالى "1. وذكر الشهرستاني أيضاً أديان العرب واعتقاداتهم، فأجملهم: الطائفة الأولى: منكروا الخالق والبعث والإعادة وهم شرذمة وأفراد. الطائفة الثانية: منكرو البعث والإعادة. الطائفة الثالثة: عباد الأصنام.

_ 1 الشهرستاني، " الملل والنحل " (2/1222-1223) ط. بدران.

ومنهم من كان يميل إلى اليهودية، ومنهم من كان يميل إلى النصرانية، ومنهم من كان يصبو إلى الصابئة. قال عند ذكره الطائفة الثالثة (2/1232) : " وصنف منهم أقروا بالخالق وابتداء الخلق، ونوع من الإعادة، وأنكروا الرسل، وعبدوا الأصنام، وزعموا أنهم شفعاؤهم عند الله في الدار الآخرة، وحجوا إليها ونحروا لها الهدايا، وقربوا القرابين، وتقربوا إليها بالمناسك والمشاعر، وأحلوا وحرموا. وهم الدهماء من العرب إلا شرذمة منهم نذكرهم" اهـ. كيف دخل الشرك في المسلمين؟ وببعثة نبي الهدى والرحمة محمد صلى الله عليه وسلم زالت عبادة الأصنام على أصنافها، وتحررت العقول من دناءة تفكيرها، ووضاعة تصورها، فارتقت إلى التوحيد بعد أن كانت في حمأة الشرك، وأصبحت قلوب العرب وغيرهم متجهة إلى الله وحده، لا شريك معه غيره لا نبي مرسل ولا ملك مقرب، فأتم الله الأمر، وأكمل دينه، وأعلا كلمته. فدام على هذا المسلمون زماناً وقروناً، حتى ظهرت فيهم الحركات الباطنية الخبيثة: كالإسماعيلة وما تفرع عنها من قرامطة، وإخوان الصفا، وعبيديين، ودروز ونحوهم مما يعدون صوراً لعقيدة واحدة. اتخذت هذه الحركة منذ القديم تقديس أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم شعاراً لها، وسلسلوا الإمامة في إسماعيل بن جعفر، وكانوا في تقديسهم لآل البيت مشهورين، فالدولة الفاطمية أثر هذه الحركة الباطنية. فالمسلمون في القرون الأولى لا يوجد بينهم من تحوم مظاهر الشرك في ذهنه كشرك العرب باتخاذ الصالحين والأنبياء وسائل وشفعاء، حتى بث الاسماعيليون معتقداتهم بين الناس سراً، فاستحسن الجهال هذا الأمر لخفته وطرح التكاليف الشرعية، فأخذ يظهر الاعتناء بالقبور وتشييد

مزارات ومشاهد، وتحري الدعاء عندها، حتى نقلهم الشيطان إلى اتخاذهم شفعاء، ثم نقلهم إلى دعاء صاحب القبر، ثم نقلهم إلى الاعتقاد بأن له تصرفاً في الكون، تدرج هذا في قرنين أو نحوها. وإن أقدم من وقفت عليه يرجع المسلمين إلى دين الجاهلية في الاعتقاد بالأرواح والقبور هم الاسماعيليون، وبخاصة إخوان الصفا، تلك الجماعة السرية الخفية التي بثت عقائدها، ورسائلها الخمسين بسرية تامة حتى لا يكاد يعرف لها كاتب ولا مصنف، وإن ظن ظناً. ثم تبعهم على تقديس المقبورين من أهل البيت الموسويون الملقبون بالاثني عشرية، وصنفوا التصانيف في الحج إلى المشاهد، وفي كيفية الزيارات والأدعية عند القبور، يسندونها بطرق باطلة كاذبة إلى أئمة أهل البيت رضي الله عنهم. وقد طالعت كتاب " الزيارات الكاملة " لابن قولوية 1 فرأيت فيه من هذا شيئاً كثيراً، وهو مطبوع، ومن طالع تراث الإسماعيلين، وحركة إخوان الصفا وجد ما قلتُه ماثلاً أمامه، فإن الشأن عظيم، وإن فتنة الناس بالقبور واتخاذ أهلها شفعاء ووسطاء لم تعرف قبلهم، ولما غلب الجهل قبل ظهور الدولة الفاطمية عرفت هذه الأمور طائفة من الناس، فلما ظهرت الدولة العبيدية شيدت المشاهد ونشرت ما كان سراً من عقائدها. جاء في الرسالة الثانية والأربعين من "رسائل إخوان الصفا" ما يبين هذا، ويبرهن له، فقال مؤلفوا الرسائل (4/19-21) : " وذلك أن القوم الذين بعث إليهم النبي عليه الصلاة والسلام والتحية والرضوان، كانوا يتدينون بعبادة الأصنام، وكانوا يتقربون إلى الله تعالى بالتعظيم لها والسجود

_ 1 هو أبو القاسم جعفر بن محمد، المتوفي سنة 367 هـ، وكتابه طبع طبعة حجرية بالنجف سنة 1356هـ.

والاستسلام والبخورات، وكانوا يعتقدون أن ذلك قربة لهم إلى الله زلفى، والأصنام هي أجسام خرس، لا نطق لها ولا تمييز ولا حس ولا صورة ولا حركة، فأرسلهم الله، ودلهم على ماهو أهدى وأقوم، وأولى مما كانوا فيه. وذلك أن الأنبياء -عليهم السلام- وإن كانوا بشراً فهم أحياء ناطقون مميزون، علماء مشاكلون للملائكة بنفوسهم الزكية، يعرفون الله حق معرفته، والتقرب إلى الله بهم أولى وأهدى وأحق من التوسل بالأصنام الخرس التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنك شيئاً. ثم اعلم أنا نبين هاهنا بدء عبادة الأصنام فنقول: بأن بدء عبادة الامم للأصنام أولاً كان عبادة الكواكب، وبدء عبادة الكواكب كان عبادة الملائكة، وسبب عبادة الملائكة كان التوسل بهم إلى الله تعالى، وطلب القربة إليه. وذلك أن الحكماء الأولين لما عرفوا بذكاء نفوسهم وصفاء أذهانهم أن للعالم صانعاً حكيماً، وذلك لتأملهم عجائب مصنوعاته، وتفكرهم في غرائب مخلوقاته، واعتبارهم تصانيف أحوال مخترعاته، ولما تحققت في نفوسهم هويته، أقروا له عند ذلك بالوحدانية ووصفوه بالربوبية، وعلموا أن له ملائكة هم صفوته من خلقه، وخالص عباده من بريته: طلبوا عند ذلك إلى الله القربة، وتوسلوا إليه بهم، وطلبوا الزلفى لديه بالتعظيم لهم، كما يفعل أبناء الدنيا، ويطلبون القربة إلى ملوكهم بالتوسل إليهم بأقرب المختصين بهم، وكان من الناس من يتوسل إلى الملك بأقاربه وندمائه ووزرائه وكُتّابه وخواصّه وقواده، وبمن يمكنه بحسب ما يتأتى له، الأقرب فالاقرب والأدنى فالأدنى، كل ذلك طلباً للقربة إليه والزلفى لديه.

فهكذا؛ وعلى هذا المثال فعلت الحكماء وأهل الديانات ومن عرف الله، وآمن به وأقر به، فإنهم طلبوا القربة إليه والزلفى عنده: كل واحد بحسب ما أمكنه وتأتى له، وأدى إليه اجتهاده، وتحقق في نفسه. فلما مضى أولئك الحكماء والربانيون العارفون بالله حق معرفته، وانقرضوا، خلفهم قوم آخرون لم يكونوا مثلهم في المعرفة والعلم، ولم يعرفوا مغزاهم في دياناتهم، فأرادوا الاقتداء بهم في سيرتهم واتخذوا أصناماً على مثل صورتهم، وصوروا تماثيل على مثل ما فعلت النصارى في بيعهم، من التماثيل والصور مثل أشباه المسيح -عليه السلام- ومثل الروح القدس وجبرائيل ومريم -عليهما السلام-، وكذلك أحوال المسيح في متصرفاته؛ ليكون ذلك تذكاراً لهم بأحواله كيفما يمموا تلك التصاوير والتماثيل. ثم قال إخوان الصفا الباطنيون: فصل: ثم اعلم يا أخي! أن من الناس من يتقرب إلى الله بأنبيائه ورسله وبأئمتهم وأوصيائهم، أو بأولياء الله وعباده الصالحين، أو بملائكة الله المقربين، والتعظيم لهم ومساجدهم، ومشاهدهم، والاقتداء بهم وبأفعالهم، والعمل بوصاياهم وسننهم على ذلك بحسب ما يمكنهم، ويتأتى لهم، ويتحقق في نفوسهم ويؤدي إليه اجتهادهم، فأما من يعرف الله حق معرفته فهو لا يتوسل إليه بأحد غيره، وهذه مرتبة أهل المعارف الذين هم أولياء الله. وأما من قصر فهمه ومعرفته وحقيقته: فليس له طريق إلى الله تعالى إلا بأنبيائه، ومن قصر فهمه ومعرفته بهم فليس له طريق إلى الله تعالى إلا بالأئمة من خلفائهم وأوصيائهم، والتعلق بسننهم، والذهاب إلى مساجدهم ومشاهدهم، والدعاء والصلاة والصيام والاستغفار وطلب الغفران والرحمة

عند قبورهم، وعند التماثيل المصورة على أشكالهم، لتذكار آياتهم، وتعرف أحوالهم، من الأصنام والأوثان وما يشاكل ذلك طلباً للقربة إلى الله والزلفى لديه. ثم اعلم! أنه على كل حال من يعبد شيئاً من الأشياء ويتقرب إلى الله تعالى بأحد فهو أصلح حالاً ممن لا يدين شيئاً ولا يتقرب إلى الله البتة. ." انتهى ما نقلته من رسائل إخوان الصفا. وهذه الجماعة الباطنية كان مبدأ نشاطاتها في أول القرن الثالث، ولم تعرف رسائلها التي قعدت لمذهبها، وبثت ذلك في أواسط الناس إلا في القرن الرابع الهجري، بسرية تامة فدخلت الأفكار في الطغام، وأنكرها العلماء الأعلام، وكفروا أصحابها كما قال ابن عقيل صاحب الفنون وهو من علماء القرن الخامس حيث انتشرت المذاهب بتأييد الدولة العبيدية قال: " لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفار لهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها: يا مولاي! افعل بي كذا وكذا، أو إلقاء الخرق على الشجر اقتداءً بمن عبد اللات والعزى. . ." انتهى.

فصل قال صاحب المفاهيم ص26 معنوناً: "الواسطة الشركية"، ذكر قوله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] فقال: " هذه الآية صريحة في الإنكار على المشركين عبادتهم للأصنام واتخاذها آلهة من دونه تعالى، وإشراكهم إياها في دعوى الربوبية على أن عبادتهم لها تقربهم إلى الله زلفى. فكفرهم وشركهم من حيث عبادتهم لها ومن حيث اعتقادهم أنها أرباب من دون الله. وهنا مهمة لا بد من بيانها وهي أن هذه الآية تشهد بأن أولئك المشركين ما كانوا جادّين فيما يحكي ربنا عنهم" اهـ. أقول: حوى هذا الكلام على مسألتين: الأولى: أن كفار العرب ومشركيهم يعتقدون أن أصنامهم أرباب من دون الله، تخلق وترزق، وهذه تخالف صريح القرآن فيما حكاه عنهم. الثانية: أن قولهم فيما حكى الله عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ، لم يقولوه على سبيل الجد، فيما حكاه الله عنهم، وهذه المسألة الثانية من عجائب الأقوال، وغرائب المخترعات، مما سبق به كتاب " المفاهيم " غيره، وبزّه! ! فالله يحكي عن المشركين قولاً يبني عليه حكماً وعند هذا أنهم غير جادين، وكأن الله حكى عنهم غير عالم أنهم ليسوا جادين، أفتراه يحكي هزلاً، والقرآن فصل؟ ! {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 13، 14] .

وكلماته في هذه المسألة مما يأنف أن يقوله طالبُ علم، بل لا يقوله إلا من في قلبه زغل وفتنة، وشرك وبدعة. يقول الله تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3] ، هذه الآية بتمامها، أسيقت لقولٍ غير جاد؟ سبحان الله من هذا الافتراء المحض! ! الذي خالف أقوال أهل العلم جميعاً، ولم يقل به أحداً من المفسرين هذا الذي فهمه صاحب المفاهيم. قال الفخر الرازي في " تفسيره " (26/241) : "واعلم! أن الضمير في قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] عائد على الأشياء التي عبدت من دون الله، وهي قسمان: العقلاء، وغير العقلاء، أما العقلاء: فهو أن قوماً عبدوا المسيح وعزيراً والملائكة، وكثير من الناس يعبدون الشمس والقمر والنجوم، ويعتقدون فيها أنها أحياء عاقلة ناطقة، وأما الأشياء التي عبدت مع أنها ليست موصوفة بالحياة والعقل فهي الأصنام. إذا عرفت هذا فتقول: الكلام الذي ذكره الكفار لائقٌ بالعقلاء، أما بغير العقلاء فلا يليق، وبيانه من وجهين: الأول: أن الضمير في قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ} ضمير للعقلاء، فلا يليق بالأصنام. الثاني: أنه لا يبعد أن يعتقد أولئك الكفار في المسيح والعزير والملائكة أن يشفعوا لهم عند الله، أما يبعدُ من العاقل أن يعتقد في الأصنام والجمادات أنها تقربه إلى الله؟ . . . " اهـ.

ولا بأس أن نشفع كلام الرازي بكلام أحد المتأخرين، هو سيد قطب في كتابه " في ظلال القرآن " قال: (5/3037) : "فلقد كانوا يعلنون أن الله خالقهم وخالق السماوات والأرض. . . ولكنهم لم يكونوا يسيرون مع منطق الفطرة في إفراد الخالق إذن بالعبادة، وفي إخلاص الدين لله بلا شريك. إنما كانوا يبتدعون أسطورة بنوة الملائكة لله سبحانه، ثم يصوغون للملائكة تماثيل يعبدونها فيها، ثم يزعمون أن عبادتهم لتماثيل الملائكة -وهي التي دعوها آلهة أمثال اللات والعزى ومناة1 - ليست عبادة لها في ذاتها، إنما هي زلفى، وقربى لله؛ كي تشفع لهم عنده وتقربهم منه! وهو انحراف عن بساطة الفكرة واستقامتها، إلى هذا التعقيد والتخويف، فلا الملائكة بنات الله، ولا الأصنام تماثيل الملائكة، ولا الله -سبحانه- يرضى بهذا الانحراف، ولا هو يقبل فيهم شفاعة، ولا هو يقربهم إليه عن هذا الطريق، وإن البشرية لتنحرف عن منطق الفطرة، كلما انحرفت عن التوحيد الخالص البسيط الذي جاء به الإسلام، وجاءت به العقيدة الإلهية الواحدة مع كل رسول. وإنا لنرى اليوم في كل مكان "عبادة" للقديسين والأولياء تشبه عبادة العرب الأولين للملائكة، أو تماثيل الملائكة، تقرباً إلى الله بزعمهم، وطلباً لشفاعتهم عنده. وهو سبحانه يحدد الطريق إليه، طريق التوحيد الخالص الذي لا يلتبس بوساطة أو شفاعة، على هذا النحو الأسطوري العجيب ".

_ 1 ليست اللات والعزى ومناة تماثيل للملائكة، كما يعلم من تفسير سورة النجم، بل هي تماثيل لبشر أو حجر.

وفي تفسير " التحرير والتنوير " (23/322) : "والاستثناء في قوله: {إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا} ، استثناء من علل محذوفة. أي: ما نعبدهم لشيءٍ إلا لعلّة أن يقربونا إلى الله، فيفيد قصراً على هذه العلة قَصْر قلب إضافي. . . " انتهى. ولو نقلت ما قاله المفسرون لبلغ مئاتٍ من الصفحات، ولكن فيما ذكر فتحُ بابٍ لمن أراد مزيداً من النقول. فبهذا ظهر أن قول صاحب المفاهيم: " وإن أولئك المشركين ما كانوا جادين فيما يحكي ربنا عنهم" من المفاهيم الباهتة التي تفرد بها بعد أربعة عشر قرناً، ولازمها أن هذا القرآن فيه كلام يحكيه رب العالمين ليس صدقاً بل هزلاً، فبئست المقالة. وقد أظهر صاحب المفاهيم هذا اللازم حيث قال ص27: "وقل ذلك أيضاً في قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] ، فإنهم لو كانوا يعتقدون حقاً أن الله تعالى الخالق وحده، وأن أصنامهم لا تخلق لكانت عبادتهم لله وحده دونها" اهـ. وهذا كلام لو مزج بماءٍ فراتٍ لمزجه، ويأتي رده في المسألة التالية كلامي هذا.

توحيد الربوبية والإلهية أما المسألة الأولى: وهي زعمه أن كفار العرب الذين بعث إليهم رسول الله إنما كفروا وأشركوا؛ لأنهم اعتقدوا أن أصنامهم أرباب، تخلق وترزق، فصاحب المفاهيم يظن أن كفار العرب لم يكونوا يقولون بأن الله خالقهم، وذكر آية لقمان والزمر: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] ، فقال: إنهم لا يعتقدون ذلك، وإنما حكى الله عنهم ما لم يعتقدوه كما مر نقله بنصه آنفاً. وهذه المسألة أصل ضلال كثير من الخلق، وأصلها الذي سبَّب نشرها بين الناس هو منطق اليونان المذموم، ومن تتلمذ له من أهل الكلام المشؤوم، وهي القاعدة التي ارتكز عليها أتباع أولئك الأقوام في تفسير كلمة التوحيد. والحق الذي لا مرية فيه وأطبق عليه كل العلماء وهو صريح القرآن، أن مشركي العرب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعتقدون أن الله خالقهم ورازقهم، فهم مقرون بتوحيد الرب بأفعاله، من الخلق والرِّزق والتدبير والإحياء والإماتة والتسخير ونحو ذلك من أفعال الرب، فلم يكونوا يعتقدون مشاركة أحدٍ له في ذلك، وهو الذي سماه العلماء: " توحيد الربوبية". فهم مقرون بهذا التوحيد، ولم يدخلهم في الإسلام، وليسوا مقرين بتوحيد الله بأفعالهم: كالدعاء والاستغاثة والرجاء والخوف والمحبة والنذر والذبح ونحو ذلك، مما سماه العلماء: " توحيد الألوهية"، أي: توحيد العبادة.

وقد نوع الله جل وعلا في كتابه الكريم الدلائل في إقرار المشركين بتوحيد الربوبية، وإشراكهم في الألوهية، بما إذا قرأه المسلم زاد تبصراً في حالهم، وفقهاً في عقيدتهم. النوع الأول من الدلائل على ذلك: كقوله تعلى في سورة (يونس) : {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [يونس: 31] . وقال عز وجل في سورة (المؤمنون) : {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84-89] ، فتأمل تعقيبه بـ {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} ، والنكتة فيه أن من أقر بكل هذا ولم يوحد الله بالعبادة فهو مسحور، سحر جاهٍ أو سحر رياسة، أو نحوه. وقال تعالى اسمه وتعاظم في سورة (العنكبوت) : {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَنْ نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ

مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت:61-63] وقال تعالى في (لقمان) : {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] ، وفي (الزمر) : {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر: 38] الآية. وغير هذه الآيات في القرآن. وهي ظاهرة في أن اعتقاد المشركين: أن لا رازق إلا الله، وأنه تعالى مالك السمع والأبصار، والمحي المميت، وهو مدبر الأمر. وأنه تعالى له الأرض ومن فيها، وله السماوات السبع والعرش العظيم، وأنه بيده ملكوت كل شيء، ليس لأحدٍ ملك، وأنه يجير ولا يجار عليه. وأنه خالق السماوات والأرض، ومسخر الشمس والقمر، وأنه منزل القطر، ومحي الأرض بعد موتها. كل هذا اعتقاد مشركي العرب وغيرهم، حكاه القرآن عنهم، وألزم أولئك بأنهم ما داموا مقرين بذلك فَلِمَ لَمْ يوحدوه بعبادته؟ ! ولِمَ يتخذون شفعاء يطلبون شفاعتها من عقلاء أموات، أو جمادات؟ ! وصاحب المفاهيم ينكر هذا ويقول: إن هؤلاء المشركين لم يقروا بما حكاه الله عنهم، فيا لها من جراءة ما بعدها جراءة! ! النوع الثاني: كقوله تعالى في سورة (الأنعام) : {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 19] ، فهذه الآية الكريمة أفادت أن المشركين يشهدون بأن الله إلههم، ولكنهم يقولون إن

معه آلهة أخرى، وهذه الشهادة منهم أكدت بالقسم وبأداة التأكيد " إنّ "، وأكدت باللام. فلفظ "مع" في قوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى} يدل على أنهم مقرون بربوبية الله، وكذا بألوهيته، لكنهم جعلوا معه آلهة أخرى، جعلوها مع الله، فشركهم من حيث إشراكهم آلهة مع الله يتوجهون إليها كوسائط توصلهم إلى الله، وترفع حاجاتهم، وتلبي طلبهم بالدعاء لها، هذا اعتقادهم ودينهم. وجاء مثل هذا المعنى في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ} [الحجر: 95، 96] ، وقوله: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117] ، وقوله تعالى في آيات النمل: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60] ، وقوله: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النمل: 61] ، وقوله: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62] ، وقوله: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 63] ، وقوله: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64] ، وقوله تعالى: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 213] ، وقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [قّ: 26] ، والآيات كثيرة، يذكر الله في كتابه ما يعتقده المشركون أن مع الله إلهاً، فهم مقرون بربوبية الله وأحديته،

ولكن يتخذون معه آلهة في العبادة، ومن تأمل هذا وتدبر تلك الآيات الكريمات العزيزات، انفتحت له من العلم أبوابٌ ولج منها إلى الفهم الصحيح لما بعث الله به رسله. النوع الثالث: كقوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْلَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 148] ، وقوله: {وَجَعَلُواْلِلّهِ شُرَكَاء} [الرعد: 33] في الرعد وغيرها من الآيات المفيدة أنهم مقرون على أنفسهم بالشرك، في العبادة بل القرآن كله في مخاطبته للمشركين مضمن هذا. ولفظ الشرك لا يكون في لسانٍ إلا ومعناه إشراك شيئين في حكم، فهم مع اعترافهم بشركهم مقرون بربوبية الله، ولكنهم أشركوا به في الإلهية. النوع الرابع: إخباره تعالى عن هؤلاء المشركين الذين كَذَّبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاربوه وقلوه، أنهم لا يشركون إلا في الرخاء واليسر، لا في الشدة والكرب والعسر، فهم حين ذلك مخلصون لله وحده لا يدعون سواه، ولا يتخذون وسائط. وهذا النوع متعدد في القرآن الكريم العزيز، كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس: 22] ، وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِيالْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَاهُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] ، وقال: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى

الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32] . فيا من قال: إن أولئك الكفار يشركون بربوبية الله لا في عبادته؛ ويتأول آياتٍ تأويلاً من نوع اللعب! يا من قال ذلك! أفيدعو أولئك مخلصين في حالة الشدة من لم يعتقدوا ربوبيته وإلهيته؟ ! إن الحق الذي لا يجوز المحيد عنه وهو الذي دل عليه القرآن، من إقرار المشركين بربوبية الله، وكذا بألوهيته، لكنهم أشركوا مبررين صنيعهم بتأويلات وشبهات باطلة، فإذا كان الشدة والكرب، أخلصوا دينهم لله، وتركوا طلب الدعاء من غير الله، وتركوا الاستغاثة بغير الله، أخلصوا ذلك كله لله، ونسوا غيره من الملائكة والأنبياء والصالحين. النوع الخامس: كقوله تعالى في آخر سورة (يوسف) : {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106] ، وإيمانهم بالله هو قولهم: الله خالقنا ورازقنا، ومميتنا وحيينا، وإشراكهم هو جعلهم لله شريكاً في عبادته ودعائه، فلا يخلصون له بالطلب منه وحده، وبنحو هذا قال أهل التأويل: ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وعامر، وقتادة، وعطاء، وجمع كما في " تفسير ابن جرير " (13/50-51) ، وابن أبي حاتم. هذا هدى، فهل لهؤلاء من آذانٍ صاغية، وقلوب تخاف الآخرة، ونفوسٍ تكره النار وغضب الجبار؟ ! اللهم! اهدهم فإنهم لا يعلمون.

الدليل من السنة على إقرار المشركين بتوحيد الربوبية وكذا في السنة أدلة على إقرار المشركين بالربوبية، وأن ذلك الإقرار لا ينفع إلا إذا شهد المقر بالربوبية "أن لا إله إلا الله"، والإله هو المعبود كما قال تعالى: {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ} [هود: 26] ، فمن ذلك: ما أخرجه مسلم في " صحيحه " (2/4) عن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذاناً أمسك وإلا أغار. فسمع رجلاً يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على الفطرة، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خرجت من النار، فنظروا فإذا هو راعي معزى". فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قال: " الله أكبر": على الفطرة، أفاد فائدة وهي أن هذا القول وما يدل عليه من توحيد الربوبية، هو في الفطر مستقر1، ولذا لم يحكم بنجاته من النار وإسلامه إلا بقوله: " أشهد أن لا إله إلا الله"، شهادة متضمنة نفي كل معبود سوى الله، وهو توحيد الألوهية، ودلالة هذا ظاهرة. ومن ذلك ما جاء في " صحيح مسلم " (15/11 مع شرح النووي) عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: "ردفتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ ، قلت نعم، قال: هيه، فأنشدته بيتاً، فقال: هيه، ثم أنشدته بيتاً، فقال: هيه، حتى أنشدته مئة بيت".

_ 1 ومن ذلك قول أوس بن حجر: وباللات والعزى ومن دان دينها وبالله إن الله منهم أكبرُ.

ورواه مسلم من طريق أخرى بمثله، وزاد: قال: " إن كاد ليسلم"، وفي الطريق الأخرى طريق عبد الرحمن بن مهدي قال: "فلقد كاد يسلم في شعره". قال النووي: " واستزاده من إنشاده لما فيه من الإقرار بالوحدانية والبعث" اهـ. ومن شعر أمية قولُه: الحمد لله ممسانا ومصبحنا بالخير صَبَّحنا ربي ومَسَّانا ربُّ الحنيفة لم تنفد خزائنها مملؤة طبق الآفاق أشطانا ألا نبي لنا منا فيخبرنا ما بعد غايتنا من رأس هجرانا بينا يُربَّبُنا آباؤنا هلكوا وبينما نقتفي الأولاد أبلانا وقد علمنا لو أن العلم ينفعنا أن سوف تلحق أخرانا بأولانا وقد عجبت وما بالموت من عجب ما بال أحيائنا يبكون موتانا وشعره معروف سائر، وكثير منه في نحو هذه المعاني، المفردة رب الخليقة بالربوبية، المؤمنة بالبعث. فانظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن كاد ليسلم"، فلم يحكم له بالإسلام بمجرد توحيده رب الخليقة بالخلق والإحياء والإماتة ونحو ذلك، وهو من الجاهلين الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. والاكتفاء بهذين الحديثين من سنة حبيبنا صلى الله عليه وسلم فيه كفاية لمن أراد الحق وسعى إليه. ومن شعر العرب الدال على إقرارهم بالربوبية، قول أوس بن حجر1: وباللات والعزى ومن دان دينها وبالله إن الله منهن أكبر

_ 1 الأصنام ص17.

ومنه قول درهم بن زيد الأوسي1: إني ورب العُزّى السعيدة والله الذي دون بيته سَرَفُ! وفي الباب أشعار كثيرة فيها الإقرار بالربوبية، ولكني أجتزأت منها بما ذكرت؛ لأجل ورود ذكر الله جل جلاله وأصنامهم في بيت واحد؛ ليكون أدل على المراد، وأثبت عند الحجاج. وكانت تلبية نزار إذا ما أهلت: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك2.

_ 1 الأصنام ص19. 2 الأصنام (ص7) .

المجاز العقلي وتعلق صاحب المفاهيم به في تبرير أعمال الشرك ووسائله أكثر صاحب المفاهيم من تبرير وتسويغ ما يقوله المتوسلون بالذوات والجاه والحرمة ونحوها، وكذا ما يقوله المتخذون رسول الله صلى الله عليه وسلم والصالحين واسطة بينهم وبين الله في الدعاء والشفاعة، وكشف الضراء وجلب السراء، وغفران الذنوب بحجة المجاز العقلي. وكذا ما يفعله العاكفون على القبور من استغاثتهم بالأموات، وطلب الشفاعة من الصالحين المقبورين وغيرهم ممن قد لا يعرفون بصلاح، يجادل في الحكم عليهم بالشرك بحمل صنيعهم على المجاز العقلي. والاحتجاج بالمجاز العقلي، وإن احتاج إليه بعض المتأخرين من البيانيين لتخريج بعض أنواع الإسناد في قصائد الشعراء، أو في كلام العرب، فلا يجوز لتخريج الكلام الذي ظاهره شرك وكفر، بحجة صدوره من مُقِرًّ بوحدانية الخالق، وهذا مجمع عليه بين علماء الشريعة: الفقهاء والمحدثين. ولم يحتج بالمجاز العقلي في منع التكفير إلا قلة من متأخري المنتسبين للعلم، بعد ظهور دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، لجأوا إلى ذلك تخلصاً من الإنكار عليهم، وتبريراً لأوضاعهم الفاسدة، وتخريجاً لأقوالهم الشركية، وهو عمل باطل لأن الأصل في الكلام الحقيقة، ولا يصار إلى المجاز إلا بدليل؛ ولأن فتح هذا الباب يُحْيي شجرة الشرك. وإليك شيئاً من كلامه:

قال ص 16 تحت عنوان: المجاز العقلي واستعماله: " الاعتقاد الصحيح هو اعتقاد أن الخالق للعباد وأفعالهم هو الله وحده، فهو الخالق للعباد وأفعالهم، لا تأثير لأحدٍ سواه، لا لحي، ولا لميت. فهذا الاعتقاد هو التوحيد المحض، بخلاف ما لو اعتقد غير هذا فإنه يقع في الإشراك" اهـ. أقول: هذا الاعتقاد هو توحيد الربوبية، وما هو بالتوحيد المحض، بل التوحيدُ المحض هو ما جمع بين توحيد الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وما لم تجتمع فيه هذه الثلاثة فليس بتوحيد محض. وقد قدمنا بالأدلة القاطعة من القرآن والسنة أن المشركين الذين بُعِثَ إليهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مقرين بما سماه صاحب المفاهيم " توحيداً محضاً ". اسمع قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 31-33] ، فهم مقرون بأن الله هو الخالق وحده، والمحيي المميت وحده، وهو وحده مدبر الأمر، ومع ذلك أخبر أنهم ليسوا مؤمنين، وأنهم على ضلال. فاحتج عليهم بما يقرون به: وهو توحيد الربوبية، على ما ينكرونه توحيده سبحانه بأفعالهم وهو الألوهية، ولا بُدّ عند الحجاج أن يقدم للمعارض ما به يقر، فانظر إلى لطيف هذه الحجة واستعمال القرآن لها.

والمشركون الذين بعث إليهم نبي الله إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- مقرون بذلك المعنى، ومقرون بأن الله خالق ما يعملون، فهم مخلوقون وأفعالهم مخلوقة لله. ولذا احتج عليهم إبراهيم -عليه السلام- بما يقرون به فقال لهم ما أخبر الله عنه: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95، 96] فأنكر عليهم العبادة: وهي صرف القلب لهذه المنحوتات المصورة على صور الوسائط، وحجهم بما يقرون به، وهو خلق الله لهم ولما يعملونه، فأين هذا من التوحيد المحض، وهم المشركون شركاً محضاً؟ ! وقوله: " لا تأثير لأحد سواه لا لحي ولا لميت إلخ" تفوح منه رائحة قول غلاة الصوفية القائلين بوحدة الوجود، وأنه ما ثَمَّ إلا الله، وأفعال العباد هي أفعاله، وقول صاحب المفاهيم: " بخلاف ما لو اعتقد غير هذا فإنه يقع في الإشراك"، نابع ومتفرع عن أصل أهل الكلام المذموم، وهو أن غاية التوحيد توحيد الربوبية، والمشرك من اعتقد وجود خالقين، أو نابع من القول بوحدة الوجود كما ذكرنا، ومن عرف حال المشركين الذين أخبر الله بأحوالهم ومعتقداتهم، تيقن بطلان هذا الكلام العقلي لا الشرعي، فإنه ليس له من دلائل الكتاب السنة نصيب، بل القرآن كله في تقرير خلافه. ولكن تتلمذ فئام لأهل الكلام وكتبهم، وانصرفوا عن تدبر كتاب ربهم، والإشراك أقسام: منها: ما يقع في الربوبية كاعتقاد الثنوية القائلين بوجود خالقين. ومنها: ما يقع في الألوهية، كما هو شرك أكثر بل كل من بعثت لهم الرسل الذين قصَّ الله علينا في القرآن أخبارهم.

فما من منازع في توحيد الربوبية عند العرب إلا شرذمة لا يصح أن تنسب لهم مقالة كما قاله جمع من العلماء، وما أولئك بالموحدين توحيداً محضاً. قال صاحب المفاهيم ص21: " والأمر الجامع في ذلك أن من أشرك مع الله جل جلاله غيره في الاختراع والتأثير، فهو مشرك، سواء كان الملحوظ معه جماداً، أو آدمياً، نبياً، أو غيره، أو ملكاً، أو جناً، أو عملاً عمله. ومن اعتقد السببية في شيء من ذلك اطردت أو لم تطرد، فجعل الله تعالى سبباً لحصول مسبباتها، وأن الفاعل هو الله وحده لا شريك له فهو مؤمن، ولو أخطأ في ظنه ما ليس بسببٍ سبباً؛ لأن خطأه في السبب لا في المسبب الخالق المدبر جل جلاله، وعظم شأنه". أقول: وهذا الاعتقاد هو عين ما كان يعتقده مشركوا العرب حَذْو القذة بالقذة والنعل بالنعل، لا فرق، فكيف تجري هذه الشبه في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أكرمها الله ببعثة نبيه وإجابته واتباعه؟ ! ثم إن أهل وحدة الوجود يقولون: إن من اعتقد أن هناك فاعلاً غير الله فقد أشرك وهو قول الجبرية أيضاً، وذلك ما يدل عليه كلامه. والمشركون لم يعتقدوا أن أوثانهم تخلق بنفسها، ولا أنها تنفع بنفسها ولا أنها تفعل هي، بل الفاعل عندهم والمدبر هو الله كما قال تعالى: {وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ} [يونس: 31] ، وقال: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 88، 89] ، فإذا أخبرنا الله أن أولئك الأقوام إنما أشركوا شرك

واسطة، لا شرك خلق وإيجاد، أشركوا شرك تسبب لا شرك استقلال، فلماذا لا نتبع ما قال الله وندع قول أحفاد اليونان من أهل الكلام؟ ! إنها فتنة عظيمة شديدة عسى الله أن يخرج أقواماً منها، قال تعالى إخباراً عن أهل النار: {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ} [الشعراء: 96-100] ، فتأمل قوله تعالى حق التأمل وتدبره، واجمع بينه وبين قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] ، {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] تعلم من ذلك أمرين: الأول: أن تسوية المشركين معبوديهم برب العالمين لم تكن في الخلق والإيجاد، بل سووهم برب العالمين في التوجه والعبادة. فحق الله أن لا يتوجه بطلب الغفران ورفع الدرجات والعطاء والرحمة إلا منه. وهم توجهوا بطلب الغفران والعفو وطلب الخير من أصنامهم الممثلة على صور الصالحين، وكان شعارهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ، وكذا قولهم: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَاعِندَ اللهِ} [يونس: 18] . فتبين باليقين القاطع أن تسويتهم معبوداتهم برب العالمين، إنما هي في المحبة والتعظيم والتوجه والقصد، وطلب الشفاعة والواسطة. فالقرآن حق كله، وأحسن وأعلى وأغلى ما فسر به القرآن القرآن. الثاني: أن اتخاذ الشفعاء ودعاء المقبورين طلباً لشفاعتهم شرك وهو عين شرك الجاهلين، وشركهم كان في الألوهية في التسوية بين الله وبين خلقه في التوجه والقصد طلباً للشفاعة والدعاء والتسبب، وقول صاحب

المفاهيم: " إن هذا سبب" كذب على الشرع، فإن الله لم يجعل هذا سبباً لقبول الدعاء ولا أمر به ولم يشرعه لعباده. ومن توجه إلى كتاب الله وتفقه فيه وتبصر بآياته وما أخبر الله فيه عن عقائد المشركين وعقائد الموحدين، وأحوال الرسل مع أقومهم وما يتصل بذلك من بيان التوحيد والشرك فإنه من المهتدين حقاً. وسيقوم بقلبه من محبة الله وتوحيده، وتعظيمه وطاعته ما به يصل برحمة الله إلى اليقين في الدنيا، والجنة والنعيم في الآخرة. اللهم! يسر لنا أسباب ذلك منة منك وتكرماً. قال صاحب المفاهيم ص25: "وإذا وجد في كلام المؤمنين إسناد شيء لغير الله تعالى يجب حمله على المجاز العقلي، ولا سبيل إلى تكفيرهم " اهـ. أقول: يعني بهذا أن من قال للنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته: أستغيث بك يا رسول الله! إذا كان القائل موحداً فيجب حمله على المجاز العقلي، إذ لا يعقل استغاثة موحد بالأموات على سبيل الاستقلالية عند الكاتب. بل المعنى الذي طلبه المستغيث هو التسبب، وهذا المعنى كثير وروده في كتاب " مفاهيم يجب أن تصحح "، والحق ينبني على أن هذه المقدمات والأمور التي يعلل بها للمستغيثين باطلة مقدماتها، وباطلة نتائجها، وكشف ذلك يتم بأمرين: الأول: أن يقال: ومن قال إن المستغيث والداعي إذا قصد التسبب لا يكفر، بل القرآن لما كشف حال العرب أعلم أنهم لم يكن شركهم إلا بقصد التسبب لا الاستقلالية، كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّوَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106] ، أي: وما يؤمن أكثرهم بأن الله هو خالقهم وما يعملون، وهو المحيي المميت، وأنه الذي يجير ولا يجار عليه إلا

وهم مشركون به في اتخاذ الأصنام وسائط، واتخاذ الأرواح التي صورت على أجسام أصحابها الأصنام سبباً لتحصيل مقصودهم فيما يزعمون. أفلا ترى إلى أنهم إذا أيقنوا بالهلاك في البحر أخلصوا الدعاء لله، فلم يتخذوا وسيلة إليه من المخلوقين كما يفعلونه في الرخاء؟ فعلم من ضد أحوالهم وبنصّ القرآن أن أولئك المشركين ما كانوا يعتقدون الاستقلالية، بل كانوا يعتقدون التسبب بما لم يجعله الله سبباً ولم يأذن به، فلم لم يحتج لهم بالمجاز العقلي؟ ! ولم كفروا بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ، وهم إنما جعلوهم سبباً لتقريبهم إلى الله زلفى؟ ! الثاني: أن تخريج أقوال عباد القبور -المستغيثين بالموتى، الداعين إياهم ليشفعوا لهم عند ربهم، المحبين أصحابها أعظم من محبتهم لله- على المجاز العقلي منكر كبير، وخطأ عظيم مخالف لحقيقة حالهم؛ ذلك أن كثيراً يعكفون على قبور الميتين ويعتقدون أن لصاحب القبر تصرفاً في الكون، وأنه يفعل ما شاء مطلق التصرف1 بإعطاء الله له، وهذا كفر أعظم من كفر اعتقاد التسبب، وهذا لم يخطر على أذهان الجاهلين من العرب، ولذا تجد هؤلاء المشركين المعاصرين ينادون معبودهم، ويستتغيثون به ولو كانوا بعيدين عنه بعداً كبيراً، لاعتقادهم بأن له قوة أكبر من قوتهم البشرية، أعطاه الله إياها، وفوض له إصلاح شؤون طائفة من الخلق، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيراً.

_ 1 ونقل موسى محمد علي في كتابه " التوسل والوسيلة " ص 229 عن محمد عبد الله الشكاز قوله الآتي مستحسناً له مستسهداً به، فال: " الرجال أربعة: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} ، وهم رجال الظاهر شهداء الجهاد البواسل، و {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} ، وهم رجال الباطن، جلساء الحق تعالى ولهم المشورة. . . ثم قال: فرجال الظاهر هم الذين لهم التصرف في عالم الملك والشهادة" اهـ.

ومن سمع أقوال المستغيثين بأصحاب القبور علم أنهم يعتقدون أن لهم شيئاً من التصرف والاستقلالية، وهو كفر فوق كفر التسبب والواسطة. قال أبو الفضل الشهاب الألوسي في تفسيره " روح المعاني " (6/115) : "ولا أرى أحداً ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعو الحي الغائب أو الميت المغيب يعلم الغيب، ويسمع النداء، ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير أو دفع الأذى وإلا لما دعاه، ولما فتح فاه، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ". فالألوسي يبصر عبدة القبور المستغيثين بأصحابها، ويعرف ما يدور بخلدهم من كثرة ما يراهم، وعلى مثل حال من ذكر كثير من الذين يصرفون وجوههم إلى غير الله. وقد وقع في هذا صاحب المفاهيم حيث قال ص91 في وصف نبي الله ورسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم: " فإنه حي الدارين، دائم العناية بأمته، متصرف بإذن الله في شؤونها، خبيرٌ بأحوالها. . . " اهـ، فإنه يُلْمِح ويشير إلى ذلك المعنى الذي عليه عبدة القبور، من اعتقاد تصرف المقبورين من الأنبياء والصالحين بشؤون الناس. قال صاحب المفاهيم ص95: "فالقائل: يا نبي الله اشفني واقض ديني، لو فرض أن أحداً قال هذا فإنما يريد: اشفع لي في الشفاء، وادع لي بقضاء ديني، وتوجه إلى الله في شأني، فهم ما طلبوا منه إلا ما أقدرهم الله عليه، وملكهم إياه من الدعاء إياه من الدعاء والتشفع. وهذا هو الذي نعتقده فيمن قال ذلك، وندين الله على هذا، فالإسناد في كلام الناس من المجاز العقلي الذي لا خطر فيه على من نطق به" اهـ.

أقول: أولاً: ومن قال إن الدعاء والشفاعة يملكها ويقدر عليها من حياته برزخية نبياً كان أو غيره؟ فهذه قالة فاسدة يقيناً. وقد فصلت في موضعٍ آخر حكم الواسطة، وكذا حقيقة الشفاعة، وكيف تطلب، فيراجع في محله. الثاني: أن هذا القول فيه من الزعم على الإطلاع على قلوب عباد القبور شيء كثير، وكأنما صاحب المفاهيم كفيل بكل من دعا أصحاب القبور أن يدافع عنهم! وكان قصارى ما يجب عليه إنصافاً وعدم مكابرة أن ينسب ذلك إلى اعتقاده هو نفسه، وإلا فقلوب الناس لا سبيل إلى معرفة حقيقة ما فيها. الثالث: أن من نتائج هذا القول السيئ إلغاء أقوال الفقهاء في باب حكم المرتد، إذ كل من صدر منه قولٌ شركي وكفري سيخرج من عهدته بالمجاز العقلي. فهؤلاء المنافقون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قالوا في غزوة تبوك: " ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء: أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء" فنزل فيهم قول الله جل وعلا: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة 65، 66] الآيات، أخرجه ابن أبي حاتم بإسنادٍ حسن، وأخرجه ابن جرير وغيره. فلمْ يعذرهم عن استهزائهم، ولا قبل منهم، ولوكانوا في هذا الزمان لخرّج أصحاب المجاز العقلي قولهم، ولم يكفروهم، وكذا من قال من الزنادقة: الشيطان ربي، أو الحلاج إلهي، أو الولي الفلاني مطلع على

سري، أفيقول فقيه: إن كان موحداً حمل قوله على: الشيطان عصى ربي، والحلاج أضله إلهي، أو رب الولي الفلاني مطلع سري؟ ! هذا ما لم تحم حوله أقوال فقيه، ولا خرَّجها مخرج، ولا اعتذر عنهم بذلك معتذر، ولو أجيز ذلك لسمعت الأقوال الكفرية الشركية صباح مساء من الفسقة والمنافقين، ولطعنوا جهاراً في الدين، ثم إذا أتت الأمور عند الحاكم أحال كل منهم على المجاز العقلي، وخَرَجَ من عهدة الشرك. أفيقول بهذا حاكم؟ ! أم يتسيغه مفتٍ؟ ! أم يقول به طالب علم؟ ! أم يفوه به منتسب لأهل العلم؟ ! إن قبل هذا قابل فأبشر بعزةٍ لدين الزنادقة، وتولٍ لدين الموحدين، دين رب العالمين، ثم أبشر بكل شر. أفيجوز بعد هذا أن يحتج محتج بالمجاز العقلي الحادث؟ ! فهذا مذهب المالكية في الردة لا يقبل المجاز العقلي، فمن ذلك ما قاله الدردير في " شرحه الصغير " (6/144) وما بعدها: " الردة: (كفر مسلم) متقرر إسلامه بالنطق بالشهادتين مختاراً، يكون: (بصريح) من القول: كقوله أشرك بالله. (أو قول يقتضيه) أي: يقتضي الكفر، كقوله: جسم كالأجسام. (أو فعل يتضمنه) أي: يستلزمه لزوماً بيناً ". ثم قال في حكم من سبّ نبياً (6/154) : " (ولا يعذر) الساب (بجهل) ؛ لأنه لا يعذر أحد في الكفر بالجهل، (أو سَكْرٍ) حراماً (أو تهور) : أي كثرة الكلام بدون ضبط. ولا يقبل منه سبق اللسان (أو غيظ) فلا يعذر إذا سب حال الغيظ بل يقتل إلخ (أو بقوله: أردت كذا) فلا يقبل منه ويقتل" اهـ. فانظر إلى عدم الاعتداد بقوله: أردت كذا، وهو عين المجاز العقلي، الذي يزعمه الزاعمون.

وفي " شرح الشيخ عليش على مختصر خليل " (4/477) قال: " (و) سب لـ (تهور) أي: توسع ومبالغة (في) كثرة (كلامه) وقلة مراقبة وعدم ضبطه وعجرفته، فلا يعذر بالجهل ولا بدعوى زلل اللسان " اهـ. وعند الحنفية من التكفير بمجرد القول ما يطول، وقد اختلفوا في قول القائل من الخطباء في ألقاب السلطان: العادل الأعظم، مالك رقاب الأمم، سلطان أرض الله، مالك بلاد الله، حكى ابن نجيم في " البحر الرائق " (5/124) الخلاف في كفره، والموحد ظاهر مرادُه، وأنه لا يعني بمدحه السلطان، إضافة هذه الأشياء له حقيقة، بل إنما يعني به الإسناد المجازي، وهو المجاز العقلي، فلم يمنع ذلك من حكم بعضهم بكفره. ومقصودنا التمثيل لا التتبع، وبما ذكرنا يبطل تبرير الأقوال الشركية والكفرية بالمجاز العقلي.

فصل: قال صاحب المفاهيم ص 16: " ولا شك أن المجاز العقلي مستعمل في الكتاب والسنة" انتهى. أقول: قال القزويني في " الإيضاح في علوم البلاغة " ص 28-29 بعد سياق حد المجاز العقلي وأمثلته: " واعلم أنه ليس كل شيء يصلح لأن تتعاطى فيه المجاز العقلي بسهولة، بل تجدك في كثير من الأمر تحتاج إلى أن تهيء الشيء، وتصلحه له". ثم قال: "وأنكر السكاكي وجود المجاز العقلي في الكلام" اهـ. وهذا الكلام من شيخ البلاغة القزويني يبطل أن تبرر أقوال عبدة القبور بالمجاز العقلي، إذ استعماله وتعاطيه ليس سهلاً، خاصة في الأمور الشرعية، وأعلاها الكفر والإيمان. وأما في قول أديب أو شعر شاعر فيتعاطى مع شيء من العسر، والسكاكي وهو من هو أنكر وجوده في الكلام، وهو وإن كان يسميه تسمية أخرى، فإخراج التسمية يبعد شيئاً من تطبيقاتها. وما من شك في أن أولئك المستغيثين بعباد الله الصالحين ممن وارتهم القبور لم يحم حول خاطرهم معنى المجاز العقلي، بل ولا عرفوه ولا سمعوا به والقول بالمجاز العقلي عند من أجازه مقترن بقصد المتكلم به، أما من لم يحم حوله له بال فما يخرج قولهم عليه. وقد اختلف العلماء في وقوع المجاز أصلاً في اللغة، وفي القرآن، فنفى جماعة من محققي العلماء وقوعه في اللغة: منهم أبو إسحاق الإسفرائيني،

وأبو علي الفارسي، قال: إنه لا مجاز في اللغة أصلاً، أفاده ابن السبكي في " جمع الجوامع " من كتب الأصول. ونصر هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة شمس الدين ابن القيم في " الصواعق " وغيرهما. قال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي في كتابه " منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز " ص7: " ثم إن القائلين بالمجاز في اللغة العربية اختلفوا في جواز إطلاقه في القرآن، فقال قومٌ: لا يجوز أن يقال في القرآن مجاز منهم: ابنُ خُوَيْز منداد من المالكية، وابن القاص من الشافعية، والظاهرية. وبالغ في إيضاح منع المجاز في القرآن الشيخ أبو العباس ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى، بل أوضحا منعه في اللغة أصلاً. والذي ندين الله به ويلزم قبوله كل منصف محقق أنه لا يجوز إطلاق المجاز في القرآن مطلقاً على كلا القولين" اهـ. ولا يحسن في مثل هذا المختصر الإطالة بتفصيل الإجمال، ولكن ينبغي أن يعلم أن النافي للمجاز -وهم طائفة من أئمة الأصول والعربية والعقائد- يعنون منع اطراده في كل ما شاء من يجيزه. فالتوقف عند ما استعملته العرب في مجاري كلامها هو التحقيق، فما استعملته العرب جاز استعماله مما يفيد بسياقه غير ما يفيده بأفراده، أعني: أن تركيب الكلام يفيد ما لا يفيده أفراد الكلام. فإن استعملت العرب هذا المعنى التركيبي صح استعماله، وهو حقيقة في المعنى المركب، لا في المعنى الإفرادي، ومن أراد أن لا يفرق بين ما استعملوه مركباً وما استعملوه في وضعه الأول، فسيعكر عليه ذلك نصوص كثيرة.

فما يسميه المجيزون مجازاً هو عند النافين أسلوب من أساليب اللغة العربية، واللغة العربية كلها حقيقة، والحقيقة تكون لفظية أي: يدل اللفظ على معناه بمفرده، وتكون تركيبية أي: تدل الألفاظ على معناها بتركيبها. والفرق بين هذا وبين القول بالمجاز: أن المجاز أعم، وقول المحققين أخص، فالمدعون للمجاز يجوزون عباراتٍ وأساليب لم تعهدها العرب في كلامها، بتقدير محذوفاتٍ في الكلام وتقدير نسبٍ لا ضابط لها. والعقل ليس أصل اللغة جزماً، بل أصل صحة الاستعمال السماع، فما جاء عنهم مستعملاً في موارده قبل، وسمي: حقيقة، وما لم يستعملوه فلا يستعمل في دلالات الألفاظ ومفرداتها، ولا في قواعدها وأبنيتها. والمسألة معروفة مشهورة، ولا تحتمل أكثر من هذا في مثل هذه الردود المختصرة.

الباب الثالث: الشفاعة

الباب الثالث: الشفاعة ... الشفاعة معنى الشفاعة في اللغة: تقولُ: شَفَعَ لي يَشْفَعُ شفاعةً، وتَشَفَّعَ: طَلَبَ. قاله ابن سيده في " المحكم " 1، ونقله في " اللسان "، قال أبو منصور: " روى أبو عمر عن المبرد وثعلب أنهما قالا في قوله تعالى {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] ، قالا: الشفاعة: الدعاء ها هنا. والشفاعة: كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره" 2. وشفع إليه: في معنى طلب إليه. والشافع: الطالب لغيره، يتشفع به إلى المطلوب، فمعنى الشفاعة: الدعاء. وعلى هذا يفسر موارد اللفظ في القرآن والسنة، في لفظ الشفاعة، فمما ورد في السنة ما رواه أبو هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في صلاته على الجنازة: " اللهم أنت ربها، وأنت خلقتها، وأنت هديتها للإسلام، وأنت قبضت روحها، وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئنا شفعاء فاغفر له " رواه أحمد. وعن أنس وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مئة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه " رواه مسلم. وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلمٍ يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه " رواه مسلم.

_ 1 1/233. 2 تهذيب اللغة، للأزهري 1/436-437.

فهذا معنى الشفاعة في وضع اللغة واستعمال الشرع. آيات الشفاعة جاءت في الشفاعة آيات كثيرة في كتاب الله الكريم، فبعضها ينفي الشفاعة مطلقاً عن أحدٍ غير الله، وأخرى فيها إثبات الشفاعة عنده تعالى وتقييد الانتفاع بهذه الشفاعة بإذن الرحمن -جل وعلا- بالشفاعة، وفي آيات غيرها تقييد الانتفاع برضى الله -جل شأنه- عن عن المشفوع له. فمما جاء في اختصاص الشفاعة بالله وحده ولا يملكها أحد غيره قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 43، 44] ، فهذا نفي بالنص الصريح أن يملك أحدٌ الشفاعة؛ لقوله: {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44] . ومن ذلك نفيه تعالى أن يكون من دون الله شفيع، قال: {لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} [الأنعام: من الآية51] وهذه الآية في المؤمنين قال: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْإِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 51] ، وهذا نفي منه تعالى أن يكون للمؤمنين شفيع من دون الله، ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْمِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَشَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] . فنفى تعالى أن يكون في ذلك اليوم شفاعة، ومنه قوله تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ

يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] ، وفي آيات أُخر: ذكر الله تعالى أن الشفاعة موجودة في ذلك اليوم، وتنفع بقيد وشرط: أن يأذن الله تعالى للشفيع أن يشفع. فمنه قوله تعالى في أعظم آية في القرآن: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] ، وقال في أول يونس: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3] ، وقال تعالى في النجم: {وَكَم مِّنْ مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} [النجم: 26] ، وغير ذلك من آيات الذكر الحكيم. وفي آياتٍ أُخر ذكر تقييد الانتفاع برضى الله، واتخاذ الشافع والمشفوع له عهداً عند الله، قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 28، 29] ، وقال: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87] . وقال: {يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109] ، وآيات أخر لا تخفى على من تتبع ما في الباب من آيات، فإذا تبين أن الله -تبارك وتعالى- قد نفى في كتابه شفاعة، وأثبت شفاعة، وجب على طالب الحق أن ينظر في هذه الشفاعة المنفية، والشفاعة المثبتة، ومعنى هذه وهذه، حتى لا يضل في هذا الأمر الذي ضل فيه فئام من أمة محمد، وإنما كان سبب ضلالهم أن كل فرقة أخذت بآية، وبنت

عليها أحكاماً ولم تتتبَّع آيات الشفاعة في القرآن، فضربوا كتاب الله بعضه ببعض، والقرآن حق كله، والحق لا يناقض حقاً أبداً. فالآيات الأولى دلت على أن هناك شفاعةً منفية ليست لأحدٍ من الخلق، وهذه الشفاعة هي ذاك النوع الذي يظنه المشركون في الجاهليات، وأولئك المشركون ظنوا أن الشفاعة عند الله، كالشفاعة عند غيره، وهذا أصل ضلال النصارى أيضاً. فمن ظن أن الشفاعة المعهودة من الخلق للخلق تنفع عند الله، مثل: أن يشفع الإنسان عند من يرجوه المشفوع إليه أو يخافه، كما يشفع عند الملك ابنه، أو أخوه، أو أعوانه، أو نظراؤه الذين يخافهم ويرجوهم، فيجيب سؤالهم؛ لأجل رجائه أو خوفه منهم، أو أن لهم حقاً عنده يوجب عليه الإجابة فيمن يشفعون فيه عنده، وإن كان يكره شفاعتهم، ويشفعون بغير إذنه. فهذه الشفاعة هي التي نفاها الله -جل وعلا- في الآيات الأولى، وهي أن يكون للشافع حق عند الله كما للشفعاء حق عند الملوك ونحوهم. وهذا النوع هو الشركي الذي أشرك به من أشرك بالله، واتخذ وسائط يسألهم الشفاعة، كما كان يفعله النصارى، وأشباههم في ذلك من هذه الأمة، ويعتقدون أن لهم أن يسألوا المقبورين من الأنبياء والصالحين شفاعتهم، وهم يعتقدون أن لهم حقاً عند الله به يجيب شفاعتهم ولا يرد شفاعتهم. وهذا غلط: فإن دعاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- قد يرد، وليس كل ما دعوا به أجيب، بل ربما امتنعت إجابتهم لحكمة يعلمها الله -عز وجل-،

إما أنه قد سبق في القضاء ما يخالف ما دعوا به، أو لأنهم دعوا وشفعوا فيمن لم يرض الله قوله، أو نحو ذلك من الموانع. ومن المتقرر في الكتاب والسنة أن الأنبياء ليس لهم حق في أن يجاب جميع ما دعوا به، ودعاؤهم حري بالإجابة وهم أرفع من غيرهم من أممهم، فإجابة سؤالهم إما إعطاؤهم عين ما سألوا، أو تأخير ذلك بالأجر الجزيل لهم. وقد يستنكر بعض الناس هذا لكونه لم يرتو من علوم الكتاب والسنة، ولم يتفقه فيها، ولذا سأسوق بعض الدلائل لعلّها تكُفُّ بعض الناس، وتبصر أقواماً: فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال الله له: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 80] ، فرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم -وهو خير الخلق وأعظمهم قدراً عند الله- لو استغفر لأولئك المنافقين لم يغفر لهم، وذلك لوجود مانع يمنع الإجابة، وهو أن المُسْتَغْفَر له غير مرضي عنه، فشرط الرضى غير متحقق في المشفوع له؛ فلم يُجب الداعي فيما سأل، وفي الآية بيان لهذا بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ} ، وقد تمتنع إجابة الله للرسول صلى الله عليه وسلم لحكمة يعلمها الله -جل وعلا-، كما في الحديث الذي أخرجه مسلم في " صحيحه " (8/171-172) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سألت ربي ثلاثاً فأعطاني ثنتين، ومنعني واحدة: سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها".

وأورد الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " قول بعض شراح المصابيح: " اعلم أن جميع دعوات الأنبياء مستجابة " فتعقبه بقوله (11/97) : "وأما جزمه بأن جميع أدعيتهم مستجابة فيه غفلة عن الحديث الصحيح: سألت الله ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعنى واحدة. . الحديث" انتهى كلام الحافظ1. وأخرج البخاري (11/96) ومسلم (1/130-132) عن أبي هريرة وأنس بن مالك ومسلم نحوه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبىء دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة"، هذا لفظ نسخة الأعرج عن أبي هريرة. قال الحافظ في " الفتح ": "وقد استشكل ظاهر الحديث بما وقع لكثير من الأنبياء من الدعوات المجابة ولا سيما نبينا صلى الله عليه وسلم، وظاهره أن لكل نبي دعوة مستجابة فقط، والجواب: أن المراد بالإجابة في الدعوة المذكورة القطع بها، وما عدا ذلك من دعواتهم فهو على رجاء الإجابة " اهـ. وعلى هذا جرى أهل العلم وشراح الحديث، وقال الكَرْماني في " شرح البخاري " (22/122) عند شرح الحديث: " معناه لكل نبي دعوة مجابة البتة، وهو على يقين من إجابتها، وأما باقي دعواتهم فهو على رجاء إجابتها، وبعضها يجاب وبعضها لا يجاب" انتهى. وكذلك غيره من الأنبياء لهم دعوة مستجابة، وما كل ما دعوا به أجيب، فهذا نوح قال: {رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}

_ 1 لعل شارح المصابيح اعتمد في قوله على ما روي عن عائشة في حديثٍ: " وكل نبي مجاب" وهو حديث ضعيف؛ ولذا لم يعرج الحافظ عليه بالاستدلال، فتنبه.

[هود: 45، 46] فسأل نوح ربه الشفاعة في ابنه فلم يعطها؛ لأنه فقد شرط الرضى على الابن، ولذا قال: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} . وهذا إبراهيم خليل الله لم تنفع شفاعته في أبيه، وأمثال هذا معلوم لمن تدبر القرآن والسنة، مقرر فيهما أوضح تقرير وأبلغه، فإذا انتفى هذا عن الأنبياء، فالصالحون أولى وأولى. وبعض الخلوف الجهال يظنون أن للأنبياء حقاً عند ربهم لا يرد، ولا يعلمون بهذه الآيات والأحاديث، وذلك من تسويل الشيطان وتلاعبه بهم. قال ابن جرير في تفسير آية البقرة: {وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 123] : " فتأويل الآية إذًا: واتقوا يوماً لا تقضي نفس عن نفس حقاً لزمها الله -جل ثناؤه- ولا لغيره، ولا يقبل الله منها شفاعة شافع، فيترك لها ما لزمها من حق. وقيل: إن الله -عز وجل- خاطب أهل هذه الآية بما خاطبهم بها فيها؛ لأنهم كانوا من يهود بني إسرائيل، وكانوا يقولون: نحن أبناؤ الله وأحباؤه وأولاد أنبيائه، وسيشفع لنا عنده آباؤنا، فأخبرهم الله -عز وجل- أن نفساً لا تجزي عن نفس شيئاً في القيامة، ولا يقبل منها شفاعةُ أحدٍ فيها، حتى يستوفي لكل ذي حق منها حقه" 1 انتهى. والطائفة الثانية من الآيات أفادت إثبات الشفاعة، وهي الشفاعة الشرعية المخالفة لما عليه المشركون. وأخبر الله -تعالى- أنها لا تنفع إلا بشرطين: الأول: إذنه سبحانه للشافع أن يشفع. الثاني: رضاه سبحانه عن المشفوع له.

_ 1 2/32 ط. الأستاذ محمود شاكر.

وهذان الشرطان لازمان لكل شفاعة ترجى منفعتها، فأما الإذن: فهو إذن الله -تعالى- للشافع، ونكتة هذا القيد وسره صرف الوجوه إلى الله وإسلامها له وتعلقها به، وترك تعلقها بغيره لأجل الشفاعة؛ لذلك يساق هذا بعد ذكر التوحيد وذكر ما يدل على وجوب عبادة الله وحده، وهذا الشرط لم يفهمه فئام من الناس، ظنوا أن الاستثناء يفيد إثبات الشفاعة مطلقاً، وطلبها من غير الله فعادوا لما ظنه المشركون وقصدوه. وحقيقتها أن الله إذا أراد رحمة عبده ونجاته أذن لمن شاء في الشفاعة رحمة للمشفوع فيه، وكرامة للشافع. وإذا سأله الشفاعة ولم يأذن الله له لم تنفعه كما في شفاعة نوح لابنه، وإبراهيم لأبيه، ونبينا محمدٍ لعمه في استغفاره، حتى نزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَنْ يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِمَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] صلى الله عليهم وسلم تسليماً. فالرسل المذكورون صلوات الله وسلامه عليهم لم يأذن الله لهم الإذن الشرعي في أن يشفعوا: فلذا ردت شفاعاتهم، ولم يرض سبحانه فيمن شفعوا فيهم لأنهم كفار مشركون؛ فلذا لم تنفع شفاعة هؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. والله لا يرضى إلا التوحيد كما قال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] ؛ ولذا فسر السلف الرضا في الآيات التي وردت بها بالإخلاص والتوحيد، وترك الشرك كله. فأخرج ابن جرير في " تفسيره " (16/97) ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم في " تفسيره "، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 109 كلهم من طريق معاوية ابن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى في مريم: {لَا

يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87] قال: شهادة أن لا إله إلا الله، ويتبرأ إلى الله من الحول والقوة ولا يرجو إلا الله. وهذه الطريق هي التي قال فيها الإمام أحمد هاتيك الكلمات، قال: " إن بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصداً ما كان كثيراً". قال الحافظ ابن حجر: " وهي عند البخاري عن أبي صالح وقد اعتمد عليها في صحيحه فيما يعلقه عن ابن عباس " انتهى. وهذه الطريق أعلى الطرق جودة وصحة عن ابن عباس في التفسير. وفي المعنى ما أخرجه ابن مردويه في " التفسير " في هذه الآية عن ابن عباس قال: "من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة". وأخرج ابن جرير (17/13) ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في " البعث " وفي " الأسماء والصفات " ص 109 عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} ، يقول: الذين ارتضى لهم شهادة أن لا إله إلا الله. وهذه الطريق سلف الكلام عليها. وفي قوله تعالى في الملائكة: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} . قال قتادة:: {وَلَا يَشْفَعُونَ} قال: لا تشفع الملائكة يوم القيامة: {إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} قال: لأهل التوحيد، أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير (25/62) ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزخرف: 86] ، قال: كلمة الإخلاص.

شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم: إذا تقرر هذا فينبغي النظر في نصوص الشرع الخاصة بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففي الحياة الدنيا طلب الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم وهو معنى أن يشفع لهم، وهذا لا ينازع فيه أحد، وإنما الشأن في طلب الشفاعة منه بعد موته، وأهل السنة مجمعون في القرون الثلاثة المفضلة على أمرين: الأول: عدم مشروعية طلب الشفاعة منه في قبره، وإنما ظهر خلاف من خالف من شذّاذ الناس بعد نشاط الدعوات الباطنية كالإسماعلية والفاطمية، ومن تأثر بها كالموسوية الجعفرية وشبهها، فروجوا هذا في الناس، فأشكل على بعضهم. فقد كان المسلمون في القرون الثلاثة المفضلة لا يعرفون طلب الشفاعة منه بسؤاله إياها، بل مضى الخلفاء الراشدون ولم يسأل أحد منهم نبي الله الشفاعة بعد موته، ولو كانت مشروعة لكانوا أحرص عليها، ولم يتركوا طلبها منه بعد موته. فلو لم يكن تغير نوع الحياة له أثر عندهم لما تركوا ذلك، وكذلك مضى التابعون وتابعوهم بإحسان وتابعوهم، حتى نشطت الدعوات الباطنية التي تسترت بالتشيع لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنهم ألفوا الكتب باسمهم، وهذا ظاهر لمن درس حركة إخوان الصفا والعبيديين (الفاطميين) وكلها باطنية إسماعيلية، شعارهم التشيع لأهل البيت بزعمهم، وهم أول من أحدث الكذب في النسب إلى آل البيت رضي الله عنهم. فالمقصود من هذا أن الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم بسؤاله الشفاعة بعد موته محدث أحدثه الباطنيون.

الثاني: وهو الأهم، أن أهل السنة مجمعون أن للنبي صلى الله عليه وسلم أنواعاً من الشفاعة يشفع بها، ولم يذكروا منها طلبها منه في قبره، بل كلها يوم القيامة. فينبغي تأمل هذا، ومن خالف إجماع أهل السنة فليس منهم.

فصل: وبرهان هذا الإجمال الذي قدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أنه: "أول شافع، وأول مشفع" أخرجه مسلم (7/59) . وهذه الشفاعة هي الشفاعة العظمى لأهل الموقف، بالنص والإجماع. فهذه قوله: نحكمه على من ادعى محبته وتصديقه، فقوله: " أنا أول شافع، وأول مشفع " يقتضي أولوية مطلقة لا استثناء فيها، على كل من قامت قيامته. ومن زعم أنه بعد موته في قبره يشفع، وأن الصالحين يشفعون بعد موتهم في قبورهم فلا معنى لقوله: "أنا أول شافع" عند ذاك الزاعم، إذ لو كان النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في قبره لكان يشفع من حين موته إلى أن ينفخ في الصور، وحينئذ فلا معنى لقوله: "أنا أول"، إذ لو كان يشفع في قبره لانتفى تخصيصه صلى الله عليه وسلم بهذه الفضيلة يوم القيامة! فإذا كان في حياته يشفع لهم بالدعاء، وبعد موته يشفع، وبعد قيام قيامة الناس يشفع، فأي معنى لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول شافع"؟ ! فهو على هذا الفرض مستديم الشفاعة، ودائم قبولها منه عند أولئك الزاعمين، وإذا كان كذلك فأي فائدة من إنشاء هذا الخبر أنه أول شافع وأول مشفع؟ ! فتدبر هذا فإنه مفيد لمن أراد الله به خيراً. فأهل السنة المتمسكون بما كان عليه الصحابة يطلبون في حال موت النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة من الله، ويسألون الله أن يشفع فيهم نبيه صلى الله عليه وسلم، وطلبهم هذا يكون بأمرين: الأول: الاستقامة على تحقيق كلمة التوحيد لا إله إلا الله، وفهم معناها، والعمل بمقتضاها، ومخالفة معتقدات مشركي العرب وأشباههم

ممن قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ، وممن قالوا: {هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ} [يونس: 18] ، يشيرون إلى أوثانهم التي مثلوها بصور الأنبياء والصالحين. الثاني: التضرع والاستكانة بين يدي الله في أوقات الإجابة والأسحار أن يمنّ عليهم بالاستقامة على التوحيد، ويثبتهم عليه، وأن يشفع فيهم نبي الله محمداً صلى الله عليه وسلم حين يأخذ الناس الكرب، فيكون أول شافع وأول مشفع. اللهم! أنلنا شفاعته، واجعلنا ممن شفعته فيهم، ولا تحرمنا هذه الشفاعة، ونسألك الثبات على التوحيد، والعزيمة على الرشد. وبهذين الأمرين يكون أهل الحق والسنة قد أخذوا بقوله صلى الله عليه وسلم: " كل نبي دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً " متفق عليه. وهو تفسير لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: " أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قبل نفسه " متفق عليه. فأهل الحق أخذوا وأعملوا القولين، ولم يحرفوا أحد القولين عن مراد الله، فاهتدوا، فزادهم هدى وآتاهم تقواهم.

فصل قال صاحب المفاهيم ص 78: " زعم بعضهم أنه لا يجوز أن تطلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا، بل ذهب البعض الآخر من المتعنتين إلى أن ذلك شرك وضلال، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44] وهذا الاستدلال باطل، ولا يدل على فهمهم الفاسد، وذلك من وجهين: أولاً: أنه لم يرد نص لا في الكتاب ولا في السنة ينهى عن طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا" اهـ. أقول: هو لا يعني بقوله في الدنيا حال حياته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعلم أن هذا لم يقله أحد، وإنما يعني بقوله: " في الدنيا" طلبها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته، كما صرح به بعد، بقوله ص81: "لا بأس بطلبها منه أيضاً بعد موته" اهـ. وهذا الوجه مردود من وجوه كثيرة، أجتزئ منها أوجهاً: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته لا يقال إنه في الدنيا لا عقلاً ولا شرعاً. الثاني: أن هذا برهان لا يقوم عند العارفين بالبراهين، إذ قوله: "لم يرد نص" متهافت، فمن أراد أن يثبت حكماً ويعتمده وينصره، فلا بد أن يأتي بنص يدل على ثبوته، فقوله بجواز طلب الشفاعة من المقبورين أنبياء وصالحين هو الذي يجب أن يبرهن عليه بنص، لا أن يقال لمن نفاه معتمداً على عمومات النصوص في حال المشركين، إنه لم يرد نص، وكذا لمن نفاه بناءً على النفي الأصلي حتى يرد دليل الإثبات؛ لأن العبادات توقيفية، لا بد لها من أدلة صريحة.

الثالث: أن قوله: " لم يرد نص" غير صحيح، فعمومات النصوص تنهى عن طلب الشفاعة من الأموات؛ لأنهم أفضوا إلى ما قدموا، فتأمل قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ} [يونس: 18] والدعاء هو العبادة، والشفاعة طلب الدعاء، فعلم أن قولهم {هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا} تفسير لـ {وَيَعْبُدُونَ} في أول الآية. وهنا نقلٌ أسوقه عن الرازي1 ليستبين به الحال، وأن لا يقال إن هذا فهم (الوهابيين) فقط! قال في " تفسيره " (17/59-60) : " اختلفوا في أنهم كيف قالوا في الأصنام إنهم شفعاؤنا عن الله! . . " فذكر صوراً منها قوله: " ورابعها: أنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله تعالى. ونظيره في هذا الزمان: اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر، على اعتقادهم أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون لهم شفعاء عند الله" اهـ. وهو كلام يقضي على قول صاحب المفاهيم من أُسَّه، حتى يواري كلامه في رمسه، من رجل هو عندهم مقدم في قوله وحسه. والآيات في الشفاعة الشركية كثيرة، نوَّعَها الله جل وعلا في كتابه؛ ليتدبر باغي الخير، متحري الصراط المستقيم. وهو إخبار عن قوم مشركين كي نبعد عن حالهم وصفتهم، وسياقة الآيات كلها وأقوال أهل التفسير والعلم فيها يخرج بي عن قصد الاختصار

_ 1 والنقول كثيرة، لكن اخترت الفخر لأنهم يفخرون بفهمه في (أصول الدين) ، وهذا المنقول عنه من أصول الدين.

والإيجاز، وقد قدمت طرفاً منها، ويرجع المستزيد لأقوال المفسرين وأهل العلم عند آيات الشفاعة. الرابع: قال تعالى في سورة سبأ: {وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] ، والآية قبلها قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22، 23] . فأبطل تعالى صور الشرك التي يعتقدها المشركون في كل زمان، وهذه الآية قال فيها بعض أهل العلم المتقدمين: هذه الآية تقطع عروق شجرة الشرك لمن عقلها. قال الرازي في " تفسيره " (25/254-255) : " واعلم أن المذاهب المفضية إلى الشرك أربعة. . " فذكر ثلاثة ثم قال: " رابعها: قول من قال: إنا نعبد الأصنام التي هي صور الملائكة ليشفعوا لنا، فقال تعالى في إبطال قولهم: {وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] ، فلا فائدة لعبادتكم غير الله، فإن الله لا يأذن في الشفاعة لمن يعبد غيره، فبطلبكم الشفاعة تفوتون على أنفسكم الشفاعة" اهـ كلام الرازي بحروفه. فتأمل قوله: إن من طلب الشفاعة فوت على نفسه الشفاعة التي تكون يوم القيامة؛ لأنها لا تنال إلا بالتوحيد، ومن التوحيد ترك طلب الشفاعة من المقبورين، سواء كانوا أنبياء أو صالحين وإنما تطلب شفاعة الأنبياء من الله سبحانه لا منهم، وتطلب من الله بتحقيق التوحيد والاستقامة عليه، وترك طلب الشفاعة ممن لا يملكها.

وهذا هو الحق الذي اتفقت عليه أقوال أهل العلم قبل إحداث الباطنية التعلق بالأموات، والتفلسف لإثباته بطرق عقلية لا شرعية. وإنما ضل من ضل بسبب أنه ظن أن ما في القرآن من آيات في الشفاعة هي عن قوم مضوا وانتهوا، وهذا من مداخل الشيطان والأهواء على النفوس، وما أحسن قول شمس الدين ابن القيم1 على هذه الآية: " فكفى بهذه الآية نوراً وبرهاناً ونجاةً وتجريداً للتوحيد، وقطعاً لأصول الشرك وموارده لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته، وتضمنه له، ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثاً. وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن. ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم وشر منهم ودونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك. ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة؛ إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية، وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك، وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره، ودعا إليه وصوبه وحسنه، وهو لا يعرف أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره أو شر منه، أو دونه، فينقض بذلك عرى الإسلام عن قلبه" اهـ.

_ 1 مدارج السالكين " (1/343-344) .

قال صاحب المفاهيم ص78: " ثانياً: أن هذه الآية لا تدل على ذلك، بل شأنها شأن غيرها من الآيات التي جاءت لبيان اختصاص الله سبحانه وتعالى بما هو ملك له دون غيره، بمعنى أنه هو المتصرف فيه، وهذا لا ينفي أنه يعطيه من يشاء إذا أراد فهو مالك الملك، يعطي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء. ." إلخ كلامه. ثم قال: " كذلك الشفاعة كلها له، وقد أعطاها للأنبياء وعباده الصالحين، بل وكثير من عامة المؤمنين كما نطقت به صحاح الأحاديث المتواترة معنوياً، وأي حرج في أن يطلب الإنسان من المالك بعض ما يملكه. . إلخ" اهـ. أقول: أولاً: اختصاص الله بالشفاعة اختصاص ملك، ومعنى ذلك أنه ليس لأحدٍ من الخلق شفاعة إلا من أخبر الله أن له شفاعة مقيدة بقيود، فالله -جل وعلا- هو مالكها يأذن لمن شاء أن يشفع، في من رضي أن يشفع فيه. فالشفاعة ليست ملكاً مطلقا ً لهم كما زعمه الكاتب؛ لأن المالك له التصرف فيما يملكه، وإنما حقيقة الشفاعة أنها لله وحده، لكنه سبحانه يأذن لمن شاء أن يأذن له، وفي هذا تمام صرف القلوب إلى خالقها وحده مالك الشفاعة، وعلى هذا دلت الآية في الزمر قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 43، 44] .

فأخبر تعالى أن من اتخذهم المشركون شفعاء لا يملكون شيئاً، وشيئاً نكرة في سياق النفي، فتعم الشفاعة وغيرها، فهم لا يملكون الشفاعة، كما نبه عليه جماعة من المفسرين. فهذه الآية صريحة في أنهم لا يملكون الشفاعة، وهذا الملك هو الذي يظنه المشركون وهو المطلق من شرطي الإذن للشافع، والرضى عن المشفوع له، فالشفيع مع هذين الشرطين يملك الشفاعة ملك انتفاع موقت، لا ملكاً دائماً؛ ولذا يحتاج في كل شفاعة أن يأذن الله ويرضى، فليست الشفاعة للشفيع مطلقاً؛ ولذا قال سبحانه: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} [الزمر: 43] ، فقوله: {مِن دُونِ اللَّهِ} أي: من دون إذنه ورضاه. ثانياً: قول الكاتب إن الشفاعة أعطيت للأنبياء والصالحين. . . الخ، مغالطة ظاهرة، فالشفاعة أعطيت للأنبياء والصالحين يوم القيامة مع شرط الإذن والرضى، لا إعطاءً مطلقاً؛ ولذا لا نصيب فيها لمشرك، وصحاح الأحاديث المتواترة معنوياً -كما قال- هي في الشفاعة يوم القيامة لا في الحياة البرزخية. ففي الحياة البرزخية لا يجوز أن يسأل أحدٌ ميتاً الشفاعة؛ لأنهم لا يملكونها في الحياة البرزخية حتى ولا ملك انتفاع؛ لأنهم قد أفضوا إلى ما قدموا. والنبي صلى الله عليه وسلم الذي أخبر بأنه سيشفع يوم القيامة، لم يخبر بأنه في قبره يشفع، ولا يوجد دليل صحيح ولا ضعيف في ذلك. فقوله: " كما نطقت به صحاح الأحاديث المتواترة معنوياً" تلبيسٌ على الأغمار، فالأحاديث في شفاعة القيامة لا الحياة البرزخية، ولذا عدل الكاتب عن إثبات الحجة إلى الإحالة الإجمالية وما فيها من تلبيس، لينخدع بها من عري عن العلم.

ولم لا يحاكم الكاتب نفسه إلى الصحابة الكرام؟ ! فهل طلب الشفاعة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم صحابي من العشرة، أو طلبها أحدٌ من البدريين، أو أحدٌ ممن شهد بيعة الرضوان، أو ممن حج معه حجة الوداع، أو من شاء من الصحابة؟ فلم يطلب أحد منهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته البرزخية الشفاعة، بل عدلوا إلى طلبها -وهي الدعاء- ممن هو دونه عام القحط، وهذا إجماع منهم. ثالثاً: أن آية الزمر: {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44] رد على من يصرف قلبه لغير الله احتجاجاً بالشفاعة، كما كان مشركو العرب يصنعون مع آلهتهم، فإنهم كانوا يعتقدون في آلهتهم أنها شفعاءُ لهم، فأخبر تعالى أن الشفاعة له، ليس لأحدٍ منها شيء. قال الرازي في " تفسيره " (26/285) : " اعلم أن الكفار أوردوا على هذا الكلام سؤالاً. فقالوا: نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقاد أنها آلهة تضر وتنفع، وإنما نعبدها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عند الله من المقربين، فنحن نعبدها لأجل أن يصير أولئك الأكابر شفعاء لنا عند الله. فأجاب الله تعالى بأن قال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} [الزمر: 43] . وتقرير الجواب: أن هؤلاء الكفار إما أن يطمعوا بتلك الشفاعة من هذه الأصنام، أو من أولئك العلماء والزهاد الذين جعلت هذه الأصنام تماثيل لهم. والأول باطل؛ لأن هذه الجمادات وهي الأصنام لا تملك شيئاً ولا تعقل شيئاً، فكيف يعقل صدور الشفاعة عنها؟ !

والثاني باطل؛ لأن في يوم القيامة لا يملك أحدٌ شيئاً، ولا يقدر أحدٌ على الشفاعة إلا بإذن الله، فيكون الشفيع في الحقيقة هو الله، الذي يأذن في تلك الشفاعة، فكان الاشتغال بعبادته أولى من الاشتغال بعبادة غيره " انتهى. قال صاحب المفاهيم ص 78-79: " وأي حرج في أن يطلب الإنسان من المالك بعض ما يملكه لا سيما إذا كان المسؤول كريماً، والسائل في أشد الحاجة إلى ما سأله ". أقول: هذا على أن الشفاعة وإن كانت ملكاً لله، فقد ملكها الأنبياء والصالحين، وهذه المقدمة قد احتج بها مشركو العرب، فيظنون أن الله ملك الملائكة والأنبياء الشفاعة تمليكاً مطلقاً من القيود، وهذا غلط في الفهم أسوأ غلط؛ لأن الله -جل جلاله- وتقدست أسماؤه لم يملك أحداً من خلقه الشفاعة تمليكاً مطلقاً من القيود، بل لا أحد يشفع عنده إلا بأمرين: 1- إذن الله للشافع أن يشفع. 2- رضاه عن المشفوع له. والإذن هنا ليس هو الإرادة الكونية، بمعنى أنه لو لم يأذن لم يقع ولم يكن، بل من ظن هذا الظن فقد ظن نظير ما قاله المشركون: {لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148] ، فإنهم قالوا لو لم يشأ الله شركنا لم يحدث في ملكه وملكوته، ولم يأذن بوقوعه، وهذه الشبهة أصل ضلال كثيرين. فالمقصود هنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين إنما يشفعون لمن أذن الله له يوم القيامة، ورضي توحيده وقوله، وأما في الدنيا في حياتهم وتمكنهم من الدعاء، فقد يشفعون بمعنى أنهم يطلبون من الله ويدعون، فمن دعا من

الأنبياء دون إذن من الرحمن وشفع فيمن لم يأذن الرحمن بالشفاعة فيه، فهذا يرد عليه ولا تقبل شفاعته، وهذا ظاهر، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم لما استغفر لعمه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَنْ يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِمَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] . وقال لنبيه: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] ، والآية في شأن المنافقين الذين كانوا يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله ويصلون مع الناس ويجاهدون، لكنهم لم يخلصوا ولم يوحدوا ربهم بأعمالهم، فكان هذا شأنهم، فلم ينفعهم استغفار نبي الله صلى الله عليه وسلم. قال ص79: " وهل الشفاعة إلا الدعاء، والدعاء مأذون فيه، مقدور عليه لا سيما الأنبياء والصالحين في الحياة، وبعد الوفاة في القبر، ويوم القيامة، فالشفاعة معطاة لمن اتخذ عند الله عهداً، ومقبولة لديه عز وجل في كل من مات على التوحيد" اهـ. أقول: وهذه الجملة من كلامه حوت تلبيساً وغلطًا، فالنصوص قد جاءت بجواز طلب الشفاعة أي: الدعاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وجاءت بطلبها منه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، ولم تجئ بطلبها منه في حياته البرزخية. ومما يؤكد منع طلبها منه وهو في البرزخ: أن الأحاديث جاءت في حياته ويوم القيامة، فلو كان طلبها في البرزخ مشروعاً لانتفى تخصيص الحياة والقيامة بالذكر.

فلما كان كذلك علم منه أن النوع الثاني من الحياة، وهو الحياة البرزخية تخالف ما قبلها وما بعدها، وبدليل أن الصحابة لم يفعلوا ذلك بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فتقرر أنها لا تطلب من الأموات. وهذا برهان إجمالي، وأما تفصيل الرد على قوله فيقال: قوله: " الدعاء مأذون فيه مقدور عليه"، ليس صحيحاً على إطلاقه في الحياة والموت. فأما والداعي حي قادر فهذا صحيح، وأما بعد موته فليس الأمر كذلك، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل قبره مسجداً، فقال فيما روته عائشة وابن عباس وأبو هريرة: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"؛ يحذر ما صنعوا. قالت: فلولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً. متفق عليه، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. والشاهد أن هذه اللعنة لمن اتخذ القبر مسجداً إنما هي لأن المسجد يقصد للدعاء، وأعلى أنواع الدعاء الصلاة، والصلاة دعاء في اللغة، قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: 103] . وقال الأعشى في شعره المشهور: تقولُ بنْتي وَقَدْ قَرَّبْتُ مُرْتحِلاً يا ربّ جّنَّب أبيْ الأوْصَابَ والوجعا عليكِ مثلُ الذي صليتِ فاغتمضي نوماً، فإنَّ لجنْبِ المرءِ مضطجَعا قوله: " صليتِ" يعني: دعوتِ، وشواهد هذا المعنى كثيرة، والصلاة كلها دعاء عبادة، ودعاء مسألة، ومن لم يعرف هذين النوعين للدعاء لم يوفق لفهم الآيات في الدعا. فإذا كانت المساجد إنما تقصد لدعاء الله فيها؛ فلعنة الله على من اتخذ قبور أنبيائه مساجد، معناها: النهي البليغ الشديد عن الدعاء

عندها، ولمن دعا عندها. وإذا كان من دعا عندها كذلك ولم يدع إلا الله، فكيف به إذا سأل الميت الدعاء؟ ! والحي إذا أتيته وسألته الدعاء كان لك جائزاً. وأما الميت إذا سألته أن يدعو الك فذلك شركٌ؛ ولأجله نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، يدعى عندها ويصلى عندها، ونحو ذلك من وسائل الشرك، وهذا مع إخلاص السائل في دعائه، وإنما تحرى القبر لشرف المقبور، ولظنه أن المكان مبارك، وهذا من جنس من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن شرار الناس، فإن المساجد بنيت لدعاء الله فيها بالصلاة والذكر. إذا تقرر هذا فانظر إلى فهم الخليفة الراشد عمر فيما عَلَّقه البخاري في " صحيحه "، وقد رأى أنس بن مالك يصلي عند قبر فقال: القبر، القبر، القبر، يحذر أنساً، ويعلمه أن بقرب مكان صلاته قبراً. ولو كان الميت يملك الدعاء، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك بعد موته أن يدعو لمن سأله، ويقدر على الدعاء، كما يقدر عليه حياً، فلأي معنى نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره مسجداً؟ ! فالمسلمون كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم، وكان يدعو لهم في حياته فلو كان دعاؤه لهم مقدوراً مستديماً بعد موته صلى الله عليه وسلم لما نهى عن اتخاذ القبور مساجد، وهي الذريعة الكبرى، والوسيلة العظمى للإشراك الأكبر برب الأرباب، بطلب الدعاء من الأموات، والاستغاثة بهم، ونحو ذلك. الثاني: أن يقال: إذا كان طلب دعاء الأموات من الأنبياء جائزاً وهم يقدرون على الدعاء، فلأي معنى لم يطلب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم منه أن يدعو لهم بعد موته وعدلوا إلى العباس ويزيد الجرشي وهم أعلم الأمة وأحرص الأمة على الخير؟ !

الثالث: هؤلاء شهداء أحد معروف مكانهم وفضلهم، معروفة قبورهم لم يذهب إليهم أحد من المسلمين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ولا بعد مماته يسألونهم الدعاء، وهم أحياء حياة برزخية بنص القرآن: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَالْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169-171] ، فَلِمَ ترك أولئك طلب دعاء هؤلاء الشهداء، بل كانوا يدعون لهم، لا يسألونهم الدعاء، وهم أحياء بنص كريم، لكن حياتهم ليست كحياتنا على الأرض؟ ! نعلم منه أنهم وإن كانوا أحياء حياة برزخية لا نعلمها، فهي مختلفة في ما يقدرون عليه عن حياتهم في الدنيا، وهذا تقرير نافع لمن تأمله وتدبره، والحمد لله رب العالمين. الرابع: أن مسلماً أخرج في " الصحيح " (7/189) عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن خير التابعين رجل يقال له أويس، وله والدة وكان به بياض، فمروه فليستغفر لكم ". وأخرج أيضاً أن عمر قال لأويس لما لقيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يأتي عليكم أويس بن عامر " الحديث وفيه: " لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل " فاستغفر لي، فاستغفر له. وفقه هذا الحديث الصحيح: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد عمر إلى أن يطلب الدعاء من أويس وهو تابعي، وأين منزلته من منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ! فأرشده الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يدعو له المفضول ويترك طلب الدعاء من خير الخلق في قبره، وهذا دليل واضح في أن الفرق هو تغير نوع الحياة، وقدرة

الحي على الدعاء للمعين، بخلاف من حياته برزخية -عليه الصلاة والسلام- فتأمل. قوله: " لا سيما الأنبياء والصالحين في الحياة، وبعد الوفاة في القبر، ويوم القيامة، فالشفاعة معطاة لمن اتخذ عند الله عهداً ". أقول: قد مر فيما سبق في الوجهين الثاني والثالث الماضيين ما به يرد على هذه المقالة السيئة، التي تخالف شريعة محمد صلى الله عليه وسلم. وبقي هنا أمر وهو أن يقال: قوله: " وبعد الوفاة في القبر" مما لا يستطيع أن يأتي عليه بدليل، بل إن المشركين في الجاهلية اتخذوا بعض أصنامهم عند أماكن أناس صالحين، وعند قبورهم، ولم يكونوا يطلبون منها سوى الشفاعة. والمشركون لم يكونوا يحجون لأصنامهم ولا يتصدقون لها، بل كانوا يدعون أصنامهم الممثلة على صور الصالحين، أو المتخذة على قبورهم، وكان لهم معها حالان: 1- حال الرخا: وهم أنهم يسألونها حيناً أن تدعو لهم، وحيناً يدعونها أنفسها، وهم يعتقدون أن أرواح من اتخذ الصنم على صورته تحل عند الصنم، فتسمع الدعاء وتدعو لهم فتجيبهم إلى ما يطلبون. ويسألونها جلب الخيرات، وإغداق الأموال، واستمرار المسرات، فهذه كانت حالهم في الرخاء كلها دائرة على طلب الدعاء من الأصنام، أو دعوتها، وحالهم قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] أي: ما ندعوهم. ويستعينون على تحقيق استجابة الأوثان لهم بصرف النذور لهم، وإيصال القرابين إلى أعتابهم فتذبح بأسماء الأوثان، فيجيب الجن بعض ما طلبوا، فيظنون أن المجيب هو المدعو، فقويت عبادتهم عندهم.

2-حال الشدة: وأهل الجاهلية كانوا في هذا الحال يخلصون العبادة له، أي: الدعاء، كما أخبر الله عنهم بقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِيالْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَاهُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] وغيرها من الآيات. وهذا يدل على أن الله أعظم في نفوسهم من تلك الأصنام لعلمهم أنه لا يجيب في الشدة إلا بالإخلاص، وتوجيه الدعاء وهو العبادة له سبحانه. وجماع هذا أن من سأل المقبور أن يدعو له لكشف شدته فإنه قد صرف محض حق الله للمقبور، وبيانه أن من وقعت به شدة، وكان به شدة حاجة إلى ما سأله، فسيكون في قلبه من التعلق بمن سأله وحبه ورجائه أمر عظيم، وسيكون قلبه مضطراً لتعظيم هذا المسؤول، وهذا كله مما يجب أن لا يكون إلا لله، فإذا كان الحب ورجاء إجابة السؤال، وتفريج الهموم، وزوال الكروب يطلب من غير الله من المقبورين: أنبياء أو صالحين فما بقي للقلب تعلق بالله، أين المحبة التي لا تكون إلا لله؟ ! فإذا علق هذا بالموتى كان كما قال تعالى عن أشباههم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} [البقرة: 165] . فالحمد لله الذي وفق محبي رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقةً لاتباع سنته وهديه، في دعائه، وفي فعله وتركه، وخذل من شاء من خلقه بعدله، فتركوا سبيله في فعله وتركه، ولم يرتضوها، وتشعبت بهم السبل والطرق، {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104] الآيات.

فالشيطان حريص على إغواء بني أدم ويأتي كلاً بما يناسبه، فيأتي من ينتسب إلى العلم فيضله بما ينتسب إليه، ووقائع أحابيله في العيان ظاهرة، وشبهه في قلوب مواليه قاهرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال ص80: " وإذا صح طلب الشفاعة منه في الدنيا قبل الآخرة فإن معنى ذلك أنه سينالها حقيقة في محلها يوم القيامة، وبعد أن يأذن الله تعالى للشفعاء بالشفاعة لا أنه ينالها هنا قبل وقتها" اهـ. أقول: أولاً: ليس هذا قصد من يطلب الشفاعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا، بل قصده أن يشفع له الآن، وصاحب المفاهيم يرواغ نفسه، ويناقضها، فإذا كان قصده كذلك فلم أطال في إثبات خبر عثمان بن حنيف الباطل الضعيف، فيمن أبطأ عليه عثمان بالاستجابة؟ ! أليس -في زعمه- أن شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم له كانت هنا في الدنيا؟ ! ولم ساق خبر العتبي، وقد أجيبت عندكم شفاعته في الدنيا؟ ! ولم سردت كل ما سردت من أقوال، تريد بها إثبات طلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وتحبب ذلك للناس ببيان أثر طلبها في الدنيا؟ ! لِمَ كل هذا من صاحب المفاهيم؟ ! لِمَ يتناقض، وفي صفحات متقاربة؟ ! أينسى، أم يتناسى، أم هو صاحب هوى؟ ! ثانياً: يقال: إذا كان مقصودكم -إن صدقتم- طلب الشفاعة الآخروية التي تكون يوم القيامة، فلم لا تتبعون السبل المشروعة التي سنها من أعطي الشفاعة صلى الله عليه وسلم؟ ! ومن أمثال ذلك سؤال الله له الوسيلة كما في حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال حين يسمع النداء: اللهم! رب هذه الدعوة

التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة " أخرجه البخاري في " صحيحه " وغيره. وفي " صحيح مسلم " (2/4) من حديثٍ لعبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من سأل لي الوسيلة حيلت له الشفاعة". وكما في قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: " أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه " أخرجه البخاري (1/193) 1. والإخلاص ترك الشرك وإفراد الله بالعبادة، كما في حديث أبي هريرة الآخر: " إني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة -إن شاء الله- من مات لا يشرك بالله شيئاً " متفق عليه. فبهذا وأمثاله تطلب الشفاعة من الله، فيطلبها أهل التوحيد بترك الإشراك وتحقيق التوحيد، وبسؤال الله لنبيه الوسيلة، ولا يطلبها أهل التوحيد الكارهون للشرك بأصنافه -الصحابة وأتباعهم إلى يوم الدين- من النبي صلى الله عليه وسلم في قبره، بل يعلمون بدلائل القرآن والسنة أن من سأله الشفاعة بعد وفاته فهو خليق بحرمانه من الشفاعة. فاتبعوا يا عباد الله المشروع في سؤال شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وابتعدوا عن ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحابته المقربون. وإذا لم نسأل النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة فغيره من الصالحين أولى وأولى، ودلائل هذا ظاهرة، فعسى أن تجد قلوباً مهدية، لم يعل عليها هواها، فالتبصر التبصر، والاتباع الاتباع. ثالثاً: يقال: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة لا تطلب منه في الدنيا لا سيما وهو ميت. وإنما تطلب منه في وقت الحاجة إليها، وفي حال حياته صلى الله عليه وسلم في

_ 1 وهو في الصحيحين باختلاف يسير عن هذا اللفظ.

الآخرة حينما يشتد الحال بأهل الموقف كما صح في الحديث، وحينما يريد أهل الجنة دخول الجنة، وحينما يدخل أهل الكبائر من أمته في النار أو يؤمر بدخولهم فيها، كما دلت على ذلك النصوص الصحيحة، أما طلبها الآن فهو طلب قبل أوانه، ومن تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه. قال ص 92 في رده على أهل السنة والجماعة الذين يفرقون بين ما مكن الله العبد منه في الحياة الدنيا، وبين ما لم يمكنه في الحياة البرزخية. قال: " ولنقتصر هنا على هذا السؤال: أيعتقدون أن الشهداء أحياء عند ربهم كما نطق القرآن بذلك أو لا؟ فإن لم يعتقدوا فلا كلام لنا معهم؛ لأنهم كذبوا القرآن حيث يقول: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِنْ لاَّ تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154] ، {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] . وإن اعتقدوا ذلك فنقول لهم: إن الأنبياء وكثيراً من صالحي المسلمين الذين ليسوا بشهداء كأكابر الصحابة أفضل من الشهداء بلا شك" اهـ. أقول: يظهر أن الكاتب لا يعرف معتقد أهل السنة والجماعة، ولو عرفه لما فتح فاه، ولا نبس بما نبس به، فكتب علماء السنة وخاصة علماء هذه البلاد، وتلامذة الشيخ محمد بن عبد الوهاب منتشرة مشهورة، وفيها بيان اعتقادنا والحمد لله. فمن ذلك ما كتبه الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد عبد الوهاب في الاعتقاد لأهل مكة لما دخلها أتباع الدولة السعودية الأولى سنة 1218هـ فمما قال: "والذي نعتقده أن رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المخلوقين

على الإطلاق، وأنه حي في قبره حياة برزخية أبلغ من حياة الشهداء، المنصوص عليها في التنزيل، إذ هو أفضل منهم بلا ريب" اهـ1. وسئل الشيخ عبد الله أبابطين المتوفي سنة 1282هـ: هل النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره؟ فأجاب: " الله سبحانه وتعالى أخبر بحياة الشهداء، ولا شك أن الأنبياء أعلى رتبةُ من الشهداء، وأحق بهذا، وأنهم أحياء في قبورهم، ونحن نرى الشهداء وميماً، وربما أكلتهم السباع، ومع ذلك هم {أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَبِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْبِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ} [آل عمران: 169، 170] فحياتهم حياة برزخية، والله أعلم بحقيقتها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد مات بنص القرآن والسنة، ومن شك في موته فهو كافر" اهـ 2. فهذا بحمد لله معتقدنا، ولو علمه الكاتب لما حرك قلمه بهذه الشبهة، والقوم يظنون أنهم أفراح بالدلائل الصحيحة الصريحة من أهل السنة والجماعة، وما صح دليل إلا وقد نصره أهل السنة نصراً بليغًا، مع النظر في غيره من الأدلة، والحمد لله رب العالمين. ثم دخل الكاتب في الأرواح وخصائصها، وخاض بغير علم فمما قال ص 93: " ولا شك أن الأرواح لها من الانطلاق والحرية ما يمكنها من أن تجيب من يناديها، وتغيث من يستغيث بها، كالأحياء سواء بسواء، بل أشد وأعظم" اهـ.

_ 1 الدرر السنية 1/114. 2 الدرر السنية 2/165.

أقول: فهلا أتى الكاتب على علمه بالأرواح من دليل نقلي، والله سبحانه يقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85] أم أنه كشف له الغيب فعلم ذلك! وهنا أمور يجب تقريرها: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بما يمكن علمه من شأن الأرواح، وهو لم يعلم صحابته وأمته هذا العلم من أنها "تغيث من يستغيث بها كالأحياء سواء بسواء بل أشد وأعظم"، أفكتم هذا العلم الذي علمه المفسرون المشركون؟ ! . الثاني: أن الأرواح لا تعلم أحوالها وكيف هي، وقدراتها، والذي نعلمه قطعاً أنها لا تجيب من يدعوها، ولا تغيث من يستغيثها. فما ظن الكاتب بدين الجاهلية دين المشركين، أيعبدون أصناماً أحجاراً؟ ! أم أنهم لم يعبدوها إلا وقد رأوا أثرها من إجابة دعاء، وإغاثة؟ ! إن أعظم فتن الشياطين هي الشرك، وبابه القبور حيث يظهر عمل شياطين الجن من تمثل بصورة المقبور، وتكليم الحاضرين، وربما أجاب سؤالاً، وغير ذلك. الثالث: ومما يتفرع عما أسلفتُ ما ذكره الشيخ العلم تقي الدين ابن تيمية في " الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح " (1/322) : " والشيطان إنما يضل الناس ويغويهم بما يظن أنهم يطيعونه فيه، فيخاطب النصارى بما يوافق دينهم، ويخاطب من يخاطب من ضلال المسلمين بما يوافق اعتقاده، وينقله إلى ما يستجيب لهم فيه بحسب اعتقادهم، ولهذا يتمثل لمن يستغيث من النصارى بجرجس في صورة جرجس، أو بصورة من يستغيث به من النصارى من أكابر دينهم إما بعض البتاركة، وإما بعض المطارنة، وإما بعض الرهبان، ويتمثل لمن يستغيث به من ضلال المسلمين بشيخ من الشيوخ

في صورة ذلك الشيخ، كما يتمثل لجماعة ممن أعرفه في صورتي، وفي صورة جماعة من الشيوخ الذين ذكروا في ذلك. ويتمثل كثيراً في صورة بعض الموتى، تارة يقول: أنا الشيخ عبد القادر، وتارة يقول: أنا الشيخ أبو الحجاج الأقصري، وتارة يقول: أنا الشيخ عدي، وتارة يقول: أنا أحمد بن الرفاعي، وتارة يقول: أنا أبو مدْين المغربي، وإذا كان يقول: أنا المسيح أو إبراهيم أو محمد، فغيرهم بطريق أولى. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: " من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي "، وفي رواية: " في صورة الأنبياء "، فرؤيا الأنبياء في المنام حق، وأما رؤية الميت في اليقظة فهذا جني تمثل في صورته. وبعض الناس يسمي هذا روحانية الشيخ، وبعض الناس يقول: هي رفيقه، وكثير من هؤلاء من يقوم من مكانه ويدع في مكانة صورة مثل صورته، وكثير من هؤلاء ومن هؤلاء من يقول يرى في مكانين، ويرى وافقاً بعرفات وهو في بلده لم يذهب، فيبقى الناس الذين لا يعرفون حائرين، فإن العقل الصريح يعلم أن الجسم الواحد لا يكون في الوقت الواحد في مكانين. والصادقون قد رأوا ذلك عياناً لا شكون فيه، ولهذا يقع النزاع كثيراً بين هؤلاء وهؤلاء، كما قد جرى ذلك غير مرة، وهذا صادق فيما رأى وشاهد، وهذا صادق فيما دل عليه العقل الصريح، لكن ذلك المرئي كان جنياً تمثل في صورة إنسان" اهـ. وذكر -رحمه الله- في " قاعدة في التوسل والوسيلة " من تفصيل ذلك ما يزيد المؤمنين هدى، ومما قال (1/174) " مجموع الفتاوى ": "وعند المشركين عباد الأوثان ومن ضاهاهم من النصارى، ومبتدعة هذه الأمة في ذلك من الحكايات ما يطول وصفه.

فإنه ما من أحدٍ يعتاد دعاء الميت والاستغاثة به نبياً كان أو غير نبي إلا وقد بلغه من ذلك ما كان من أسباب ضلالة، كما أن الذين يدعونهم في مغيبهم ويستغيثون بهم فيرون من يكون في صورتهم، أو يظنون أنه في صورتهم، ويقول: أنا فلان، ويكلمهم ويقضي بعض حوائجهم، فإنهم يظنون أن الميت المتسغاث به هو الذي كلمهم وقضى مطلوبهم، وإنما هو من الجن والشياطين. ومنهم من يقول: هو ملك من الملائكة، والملائكة لا تعين المشركين، وإنما هم شياطين أضلوهم عن سبيل الله، وفي مواضع الشرك من الوقائع والحكايات التي يعرفها من هنالك، ومن وقعت له ما يطول وصفه" اهـ. فقَطْع الكاتب بأن أرواح الموتى تغيث من يستغيث بها، كالأحياء بل أشد وأعظم، من الشرك الذي خدعت الجن والشياطين به طوائف من الناس، فتقربوا إلى المقبورين، وإنما تقربوا في الحقيقة إلى شياطين الجن، فتشكلت لهم الجن وأرضوهم حيث أشركوا بهم، وهذا ما يريده إبليس اللعين، وقد أطاعه فيه عباد القبور، والمنافحون عنهم. قال الكاتب ص96 شارحاً لمعنى حديث: " إذا سألت فأسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله " قال: " هذا الحديث الشريف ليس المقصود به النهي عن السؤال والاستغاثة بما سوى الله، كما يفيده ظاهر لفظه، وإنما المقصود به النهي عن الغفلة عن ما كان من الخير على يد الأسباب فهو من الله، والأمر بالانتباه إلى أن ما كان من نعمة على يد المخلوقات فهو من الله وبالله. فالمعنى: وإذا أردت الاستغاثة بأحد من المخلوقين -ولابد لك منها- فاجعل كل اعتمادك على الله وحده، ولا تحجبنك الأسباب عن رؤية المسبب -جل جلاله- ولا تكن ممن يعلمون ظاهراً من هذه الارتباطات

والعلاقات بين الأشياء المترتب بعضها على بعض، وهم عن الذي ربط بينها غافلون " اهـ. أقول: هذا التفسير لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم بناه الكاتب على مفهوماته للتوحيد وهو توحيد الربوبية، وفسره تفسيراً لم ينقله عن عالم يركن إلى تفسيره وشرحه، ولا إلى إمام يحتذى حذو فهمه ويتابع عليه. فإذا كان من عند نفسه فلا شك أنه لن يقبل ولن يصار إليه، والعجب منه كيف جُرُأته على تحريف مرادات رسول الله صلى الله عليه وسلم لنصرة هواه. ومما يدل على بطلان ما فسره به: أولاً: أن هذه الوصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس منقبة لابن عباس، ولو فسرت بما فسرها به الكاتب لكانت غير منقبة، إذ تفسيره يدل على أن المخاطب معه أدنى درجات الإيمان والتوحيد، فهو يحذر من الوقوع في براثن رؤية الأسباب، وحاشا ابن عباس -رضي الله عنه -عن ذلك. الثاني: أن هذا الشرح خارج عما قاله الشراح من أهل العلم، وما كان كذلك فهو من الهوى إن لم يقم صاحبه عليه دليلاً صحيحاً نقلاً ونظراً، وهو مما ليس في قول الكاتب هنا، وأنى له ذلك. قال الحافظ الفقيه ابن رجب في " شرح الأربعين " (2/228) : قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا سألت فأسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله" هذا منتزع من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، فإن السؤال لله هو دعاؤه والرغبة إليه، والدعاء هو العبادة، كذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث النعمان بن بشير وتلا قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وخرج الترمذي من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: " الدعاء مخ العبادة ".

فتضمن هذا الكلام أن يسأل الله عز وجل، ولا يسأل غيره، وأن يستعان بالله دون غيره، فأما السؤال فقد أمر الله بمسألته فقال: {وَاسْأَلُواْ اللهَ مِن فَضْلِهِ} [النساء: 32] ، وفي الترمذي عن ابن مسعود مرفوعاً: "سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل "، وفيه أيضاً عن أبي هريرة مرفوعاً: "من لا يسأل الله يغضب عليه "، وفي حديث آخر: " ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى يسأل شسع نعله إذا انقطع ". وفي النهي عن مسألة المخلوقين أحاديث كثيرة صحيحة، وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئاً منهم: أبو بكر الصديق وأبو ذر وثوبان، وكان أحدهم يسقط سوطه أو خطام ناقته فلا يسأل أحداً أن يناوله إياه". ثم قال ابن رجب: " واعلم أن سؤال الله عز وجل دون خلقه هو المتعين؛ لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على دفع هذا الضرر ونيل المطلوب، وجلب المنافع ودرء المضار. ولا يصح الذل والافتقار إلا لله وحده لأنه حقيقة العبادة، وكان الإمام أحمد يقول: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسألة لغيرك " انتهى كلام ابن رجب. وقال ابن حجر الهيتمي المكي في " الفتح المبين شرح الأربعين " (ص172) : " فمع النظر لذلك لا فائدة لسؤال الخلق مع التعويل عليهم فإن قلوبهم كلها بيد الله سبحانه وتعالى، ويصرفها على حسب إرادته، فوجب أن لا يعتمد في أمر من الأمور إلا عليه سبحانه وتعالى، فإنه المعطي المانع، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، له الخلق وله الأمر. . . ثم قال:

" فبقدر ما يميل القلب إلى مخلوق يبعد عن مولاه لضعف يقينه ووقوعه في هوة الغفلة عن حقائق الأمور التي تيقظ لها أصحاب التوكل واليقين، فأعرضوا عما سواه وأنزلوا جميع حوائجهم بباب كرمه وجوده " اهـ. وفي " الفتوحات الوهبية بشرح الأربعين النووية "، قال إبراهيم بن مرعي المالكي ص 178: "وإذا استعنت أي: طلبت الإعانة على أمر من أمور الدنيا والدين، ولذا حذف المعمول المؤذن بالعموم: " فاستعن بالله"؛ لأنه القادر على كل شيء، وغيره عاجز عن كل شيء، والاستعانة إنما تكون بقادر على الإعانة، وأما من هو كلٌّ على مولاه لا يقدر على إنفاذ ما يهواه لنفسه فضلاً عن غيره، فكيف يؤهل للاستعانة أو التمسك بسببه؟ ! ومن كان عاجزاً عن النفع والدفع عن نفسه، فهو عن غيره أو أعجز، ليت الفحل يهضم نفسه. فاستعانة مخلوق بمخلوق كاستعانة مسجون بمسجون، فلا تستعن إلا بمولاك فهو دليلك في أخراك وأولاك، كيف تستعين بعبد مع علمك بعجزه؟ ! فمن لا يستطيع دفع نازلة عن نفسه كيف يدفعها عن غيره، من أبناء جنسه؟ ! فلا تنتصر إلا به فهو الولي الناصر، ولا تعتصم إلا بحبله فإنه العزيز القادر " انتهى. فهذه شذرة من كلام أهل العلم، يبين بها خروج الكاتب بمفاهيمه عن فهمهم ومن كان كذلك فليس منهم. الثالث: إذا كان هذا كلام العلماء فيمن هو حي يقدر على إجابة السؤال وإعانة الطالب، فما ظنك بالميت الذي هو أضعف في إجابته من الحي، بل لا يجيب حياً سأله في أمرٍ يتعلق به، فالميت مشغولٌ بنفسه: إما في نعيم وروضة وإما في جحيم وحفرة.

قال كاتب المفاهيم العجيبة: " هذا الحديث يخطئ كثير من الناس في فهمه إذ يستدل به على أنه لا سؤال ولا استعانة مطلقاً من كل وجه وبأي طريق إلا بالله، ويجعل السؤال والاستعانة بغير الله من الشرك المخرج عن الملة". أقول: إن من خَطَّأَ العلماء لا يؤبه لكلامه، فالحي الأولى له والأكمل تحقيقاً لتوحيده، أن لا يسأل أحداً شيئاً ولا يستعين بأحد مطلقاً إلا بالله، فهذه مرتبة الأنبياء والصديقين، ولذا قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فو الله ما قال لي: أفٍ قط، ولم يقل لشيء فعلته، لم فعلت كذا وكذا؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟ " وبهذا أوصى طائفة من أصحابه أبا بكر وأبا ذر وثوبان، فهذا من تحقيق كمال التوحيد. وأما سؤال الميت الأشياء والاستعانة به، فهو منافٍ للتوحيد من أصله، إذ الميت لا يمكنه إعانة نفسه، فكيف يعين غيره؟! والميت لأن يعين نفسه أحرص وأشد رغبة، فهو عن الناس في شغل، وحدُّه وقصاراه نفسه لا غير. وقد قال تعالى: {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22] يعني: سمع إجابة، والكاتب يماحل نفسه، ويلوي أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم لتوافق مذهبه، ولو كانت مخالفة لقول أهل العلم أجمعين. ثم إن في تفسيره الحديث بما فسره به تنقصاً لابن عباس -رضي الله عنهما -وقع فيه من جراء اختلاق التفاسير والشروح، ومن خالف وقع. ثم أراد أن يقوي نظرته المخالفة لأقوال أهل العلم بما ليس بدليل، فمما قال ص97:

" وقال صلى الله عليه وسلم: "إن لله خلقاً خلقهم لحوائج الناس يفزع الناس إليهم في حوائجهم، أولئك الآمنون من عذاب الله"، فانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "يفزع إليهم في حوائجهم" ولم يجعلهم مشركين بل ولا عاصين ". أقول: لم يذكر مخرج الحديث، فقد رواه الطبراني في " المعجم الكبير " 1 عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (8/192) : فيه شخص ضعفه الجمهور، وأحمد بن طارق الراوي عنه لم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح، هذا ما نقله المناوي في " فيض القدير " (2/477-478) عن الهيثمي وما في المجمع المطبوع مختل، وبه بياض فلتراجع نسخة مضبوطة. ورواه ابن عساكر في " تاريخه " عن ابن عمر. ورواه ابن عدي في " الكامل في ضعفاء الرجال " (4/1507) من طريق عبد الله بن إبراهيم بن أبي عمرو قال حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر به. وهذا إسناد ضعيف جداً وإن قيل بوضعه كان متجهاً؛ لأن عبد الرحمن حدث عن أبيه بالموضوعات كما قاله الحاكم وغيره، والراوي عنه عبد الله بن إبراهيم من الضعفاء. وأورد الكاتب أحاديث في الحث على قضاء حوائج الناس، مستدلاً بها على فساد فهم أهل العلم الذين قالوا بأن ترك سؤال المخلوق القادر على الإجابة من إكمال التوحيد، وأن من سأل من لا يقدر على الإجابة ممن زال عن دار العمل والتكليف دار الدنيا، فقد أشرك. وما فهم العلماء بفاسد، ولكن فهم المعجب بفهمه هو الفاسد، ونُذَكر الكاتب بقوله في أهل العلم: " وكيف يفتح الله علينا لنستفيد من علومهم إذا كنا نعتقد فيها الانحراف والزيغ عن طريق الإسلام" ص 39، وحق

_ 1 رقم (13334) ، من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه، وعناه الهيثمي حيث قال: فيه شخص ضعفه الجمهور.

هذا فما فتح لكاتب المفاهيم أبواب الاستفادة من أقوالهم؛ لأنه يعتقد فيها الانحراف، حيث قال: " وهذا الحديث يخطئ كثير من الناس في فهمه"، والذين أخطؤوا هم العلماء، فعلى نفسه حكم، ولمفاهيمه وزن. وختم كلامه على الحديث ص 99 بعجب عجيب وأمر مريج فقال: " وبهذا يبين أن المقصود من الحديث ليس ما توهموه، فإنه فاسد واضح الفساد كما تبين، وإنما المقصود الترهيب من سؤال الناس أموالهم بلا حاجة طمعاً فيها". وهذا التأويل يعرف الجهال فساده. قال ص 98: " ومن أخذ بالسبب الذي أمر الله بسلوكه لنيل جوده فما سأل السبب بل سأل واضعه، فقول القائل: يا رسول الله! أريد أن ترد عيني أو يزول عنا البلاء أو أن يذهب مرضي، فمعنى ذلك طلب هذه الأشياء من الله بواسطة شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كقوله: ادع لي بكذا واشفع لي في كذا، لا فرق بينهما إلا أن هذه أصرح في المراد من ذلك" اهـ. أقول: إن قول القائل: يا رسول الله! أريد أن ترد عيني أو أن يذهب مرضي من شرك التصرف، وهو شرك أكبر ناقل عن الملة. وأما قول القائل: ادع لي بكذا واشفع لي في كذا، سائلاً النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته فهو من شرك التقريب والشفاعة. وكلا الأمرين شرك ولكن الأول أعظم وأشد؛ لأن معناه إشراك رسول الله صلى الله عليه وسلم في التصرف، فقائله -كما هو الحال المشاهد من قائلي مثل هذا مع غير النبي صلى الله عليه وسلم من الصالحين- يعتقدون أن الميت يتصرف في جزءٍ من

الكون، فبيده إشفاء المرضى بتفويض الله له ذلك، وبيده إزالة البلاء والقحط والنكبات، لتفويض الله له التصرف في جزءٍ من الكون. وهذا معلوم، والكاتب مغالط فيدعي معرفة عقائد كل من قال تلك الكلمات، وذاك من الدعاوي العريضة التي هي محض تخرص، أو مغالطة. فمن ذلك ما في " رماح حزب الرحيم " لعمر الفوني (1/219) 1 قال في النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه يحضر كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه، وأنه يتصرف حيث شاء في أقطار الأرض وفي الملكوت، وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته" اهـ. وفي شعر لأحدهم2 قال: فلذا إليك الخلقُ تفزَع كلهم في هذه الدنيا وفي اليوم الأهم وإذا دهتهم كربة فرجتها حتى سوى العقلاء في ذاك انتظم جُدْ لي فإن خزائن الرحمن في يدك اليمين وأنت أكرمُ من قسم وعند عباد القبور المستغيثين بأصحابها من اعتقاد تصرفهم في العالم شيء كثير، وهو من أعظم الشرك، الشرك في الربوبية. ومن أدلته على خطأ فهم العلماء لحديث ابن عباس قوله ص98: " ويكفي في بيان الخطأ أن الحديث نفسه إنما هو جواب منه -عليه الصلاة والسلام -لسؤال ابن عباس راوي الحديث بعد تشويق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسأله فإنه قال: "يا غلام! ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن"، فأي تحريض على السؤال أجمل من هذا؟ قال ابن عباس: بلى" اهـ.

_ 1 نقله عنه عبد الرحمن الوكيل في " هذه هي الصوفية " ص 81. 2 نقله عنه عبد الرحمن الوكيل في " هذه هي الصوفية " ص 87.

أقول: الحديث أخرجه الترمذي في " جامعه " (رقم 2516) بإسناده عن ابن عباس قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: "يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فأسال الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. . . " الحديث. وأخرجه أحمد (1/293) هكذا، وجماعة. هذه الرواية المشهورة القوية السند. وهي التي أشار إليها الكاتب حيث قال: " هذا طرف من الحديث المشهور الذي رواه الترمذي وصححه عن ابن عباس مرفوعاً"، وليس فيها السؤال والجواب اللذان أوردهما. وإنما ورد ذلك من طريق ضعيفة منقطعة، أخرجها أحمد في " المسند " (1/307) وغيره، وفي كلام أحمد شاكر على الحديث وبيان انقطاعه كفاية، فيرجع إليه (4/286-288) . ثم قال الكاتب: " ولو جرينا على هذا الوهم ما صح على مقتضاه أن يسأل جاهل عالماً ولا واقع في مهلكة غوثاً. . . إلخ". أقول: هذا مما يعرف بالأسباب الظاهرة للعيان مما جاءت الشريعة بإقراره بين الناس، وأن لا حرج فيه، وأما سؤال الموتى فهذا من الأسباب الخفية التي جاءت الشريعة بردها ونهي الناس عنها، وقتال المشركين من العرب وغيرهم عليها. وشعر الكاتب فداحة الخطأ وتكثير الكلام فيما لا طائل تحته فقال: "فإن قالوا: إن1 الممنوع إنما هو سؤال الأنبياء والصالحين من أهل القبور في برازخهم لأنهم غير قادرين، وقد سبق رد هذا الوهم مبسوطًا ".

_ 1 في كلامه: أن بفتح الهمزة.

أقول: جواب الشرط لم يذكره، والعبارة ركيكة، وأما رده عقيدة السلف والعلماء، فهو مردود عليه؛ لأنه -كما سبق- ينفي شرك التصرف ظاهراً، ويقع في شرك القربى والزلفى. وأبطال دعواه فُصّل فيما كتبته عليها. ثم تكلم الكاتب على حديث رواه الطبراني في " معجمه الكبير " 1 أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال أبو بكر الصديق: قوموا بنا لنستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله ". ساقه هكذا الكاتب. ثم قال في معناه ص101: " فلا بد من تأويله بما يناسب عمومات الأحاديث لينتظم شمل النصوص، فنقول: إن المراد بقوله: ذلك هو إثبات حقيقة التوحيد في أصل الاعتقاد، وهو أن المغيث حقيقة هو الله تعالى والعبد ما هو إلا واسطة في ذلك" اهـ. أقول: ما أجرأ الكاتب على عسف الأحاديث، فإن أبا بكر -رضي الله عنه- هو الصديق أول المؤمنين وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، وفضائله وسبقه مشهور، أفيظن به أنه يحوم على خاطره استقلال الرسول صلى الله عليه وسلم بالإغاثة؟ ! هل يجوّز مسلم أن يأتي على ذهن أبي بكر أن إغاثة الرسول -عليه الصلاة والسلام- مستقلة؟ ! هذا ما قرره كاتب المفاهيم، وفي حمل الحديث على ما حمله عليه من هذا المعنى الباطل نسبة الصديق إلى غاية الضلال، وهو الشك في خالق الأسباب المتفرد بها، يالها من معانٍ سيئة

_ 1 لم أقف على إسناد الحديث في الموجود من "المعجم الكبير" لديَّ.

قبيحة جرها عدم الفقه والفهم، فما أفسد وأشنع مفاهيمك يا كاتب المفاهيم! وفي الجعبة سهام مريشة، والاكتفاء بهذا الوجه في رد إفكه كاف، قال شيخ الإسلام في " رده على البكري " حين أورد جنس كلام كاتب المفاهيم قال ص 204: " والنبي صلى الله عليه وسلم نفى وأثبت، وإن كان ما نفاه لم يخطر بقلوبهم، فأي حاجة إلى نفيه، وإن قيل: إنهم ظنوه فذلك بهتان عظيم، بخلاف ظنهم أنه يقدر على دفع المكروه1؛ فإن هذا الظن قد كان يقع منهم كثيراً، وقد يكون الأمر كما يظنه الظان، فليس فيه قدح لا في الصحابة -رضي الله عنهم- ولا في الرسول صلى الله عليه وسلم بخلاف من يقول: لا تعتقدوا في أني مثل الله أقدر وأستقل بالتأثير كما يفعله الله، فإن هذا المعنى لا يظنه به من هو دون الصحابة، فكيف يظنونه هم" انتهى.

_ 1 يعني في حياته حين استغاثوا به.

الباب الرابع: التكفير

الباب الرابع: التكفير ... التكفير إن من أكبر المسائل التي تصد طوائف عن قبول الحق في مسائل التوحيد وإخلاصه لرب العالمين مسألة التكفير، وتصوير هذه المسألة قولهم: إن المسلم الذي يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ ويصلي ويقيم الأركان الظاهرة، لا يمكن أن يكفر أبداً، ويف يكفر وهو قائم بالأركان؟ ! ولا يتصورون أن هناك نواقض للإسلام تبطله وتناقض لا إله إلا الله، بل إن من الناس من يقول: من قال لا إله إلا الله فهو مسلم ولو لم يعمل، فترك العمل ممن قال كلمة التوحيد لا يخرجه عن الإسلام، وهذا المعروف من مذهب المرجئة والماتريدية، ومن تبعهم اليوم من الناس. وهذان القولان قديمان، ظهرا في العصور الأولى، وليسا جديدين، وأكثر من تشرح وتبين له مسائل إخلاص التوحيد، توحيد الله بأفعال العبيد -من ساقه الشيطان عدو ابن آدم إلى تعظيم الموتى، وطلب شفاعاتهم، ودعائهم، أو سؤالهم العطايا، والغفران، والمعافاة في الأبدان والبلدان- يكبر عليه الحكم على من صرف شيئاً مما ذكرنا للموتى بالشرك الأكبر المخرج من الدين. ويقولون: أيكفر من نطق بالشهادتين وصلى وصام وزكى وحج؟ ! لا يكفر أبداً ولو دعا غير الله، ويستدلون بهذه المقدمة الفاسدة على إنكار أن يكون صرف ما ذكر بعضه للموتى شركاً، فيبطل عندهم الحق بالاستدلال العكسي.

وفي هذا الباب بيان الحق في هذه المسألة التي أوغرت الصدور، لعدم نظر المبطلة في الأدلة الشرعية، وكلام أهل العلم في باب الاعتقاد، وكلامهم في باب المرتد.

فصل وأعظم شروط صحة الإسلام هو إخلاص القلب وتوحيده، كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَ الِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ، وقال سبحانه: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} [الزمر: 11] ، وقال: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي} [الزمر: 14] ، وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14] ، وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} [البينة: 5] والآيات لا تحصى، بل القرآن كله يدعو ويأمر بالإخلاص، إما بالمطابقة أو بالتضمن أو الالتزام، ومن تدبر هذا وجده كذلك. وفي السنة من الأمر بالإخلاص، وعدم قبول دين تاركه شيء كثير، ومن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قيل يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد ظننت يا أبا هريرة! أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه، أو نفسه " قال الحافظ في " فتح الباري " (1/194) : " قوله: " خالصاً" احترازٌ من المنافق، ومعنى أفعل في قوله "أسعد" الفعل، لا أنها أفعل التفضيل، أي: سعيد الناس كقوله تعالى: {وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} " اهـ كلام الحافظ.

وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً، وابتغي به وجهه " أخرجه النسائي في " الجهاد " (6/25) وإسناده حسن. وفي الباب أحاديث عدة، في إخلاص التوحيد والعمل، وبيان أن العمل ما لم يكن خالصاً لا يقبل وهو شرك، وأعظم الأعمال التوحيد، ومن لم يخلص العبادة لله فعمله مردود عليه، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه " أخرجه مسلم (8/223) . والعبادة تارة تكون بالجوارح -والإخلاص أمر قلبي لا يطلع عليه إلا الله- كالصلاة والصيام ونحو ذلك، وتارة تكون قلبية والجوارح مفصحة عن إرادة القلوب. فإن من الناس من قد يخفي رياءه وشركه، ولا يحب أن يطلع على ذلك الناس، كالمنافقين أظهر بجوارحه عبادة، وأشرك في قلبه ولم يخلص. ولكن ليس أحدٌ من الناس المنتسبين للإسلام يظهر الشرك ويبطن التوحيد، فهذا غير موجودٍ، ولا هو حقيقة، فإن من أظهر بلسانه وعمله الشرك وترك الإخلاص فلا بد يقيناً أن يكون قلبه غير مخلص، وهذا لا مخالف فيه. ويستثنى من ذلك المكره بالقتل كما قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} ، أما والمرء مختار راغب في العبادة فلا يعقل أن يظهر لفظًا شركياً وقلبه مخالف لفظه. فالمظهر للإخلاص المبطن خلافه منافق كالمنافقين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمظهر الشرك مشرك من المشركين كالذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مشركي العرب وغيرهم.

فالمنافقون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويصلون معه، ويصومون ويزكون ويؤدون الشعائر الظاهرة ومع كل هذا هم في الدرك الأسفل من النار، تحت الكفار وشر منهم؛ لأنهم لم يخلصوا أعمالهم لله، ولم يقولوا كلمة التوحيد بإخلاص، بل ناقض إظهار الإسلام أعمالٌ كفرية كتولي المشركين، والاستهزاء بالمؤمنين، ونحوها من المكفرات التي دلت على عدم إخلاصهم، فكفروا مع نطقهم بالشهادتين، وفعلهم أركان الإسلام. وهذا من أنفع البراهين الدالة على فساد قول من قال: إن من قال لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وقام بالشعائر إنه لا يتطرق إليه كفر مع قيامه بالأركان، وهم نظروا إلى الظواهر، والأس الأعظم والركن الوثيق الإخلاصُ لم يلتفتوا له. وهذا الإخلاص هو مدلول كلمة التوحيد؛ ولذا سميت كلمة الإخلاص، فإن من قالها غير معتقدٍ ما دلت عليه من إخلاص العبادة لله فلا يسمى شاهداً بها؛ ولذا كان الركن الأعظم من أركان الدين شهادة أن لا إله إلا الله، لا قول لا إله إلا الله فقط. فمن الخلق من يقولها بلسانه، ولكنه لا يشهد بها بقلبه، بمعنى: أنه لا يخلص ما دلت عليه، فهذا فقد من دينه الركن الأوثق وهو الإخلاص.

فصل: ولذا يجد المطالع في كتب أهل العلم الفقهية باباً في كل كتاب منها يسمى: باب الردة، أعاذنا الله منها ومن ما قرب إليها، يذكرون فيه ألفاظًا يكفر بها المسلم ويصير مرتداً مباح المال والدم، مع أن هذا المرتد يكون -غالباً- يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويكون صائماً حاجاً، ولكنه ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام كالشرك فصار مرتداً عن الإسلام. وها أنا أسوق في هذا الموضع عبارات أهل العلم وكلامهم من المذاهب الأربعة المتبوعة لينجلي المقام، وتظهر حقيقة الحال، في هذا الأمر. قال في " مختصر خليل على شرح الدردير " (6/144) ، من كتب المالكية المعتمدة: " الردة: (كفر مسلم) متقررٍ إسلامه بالنطق بالشهادتين مختاراً، يكون (بصريح) من القول كقوله أشرك بالله، (أو قول يقتضه) أي: يقتضي الكفر، كقوله جسم كالأجسام، (أو فعل يتضمنه) أي: يستلزمه لزوماً بيناً: (كإلقاء مصحف) أو بعضه ولو كلمة، وكذا حرقه استخفافاً، لا صوناً، ومثل إلقائه تركُه بمكان (قذر) . . . ومثل المصحف: الحديث وأسماء الله وكتب الحديث، وكذا كتب الفقه إن كان على وجه الاستخفاف بالشريعة. . إلخ ". قال الصاوي في " حاشيته " على أول كلامه: " قوله: (متقرر إسلامه) إلخ: ظاهره أن الإسلام يتقرر بمجرد النطق بالشهادتين مختاراً، وإن لم يوقف على الدعائم، وليس كذلك، بل لابد في تقرير الإسلام من الوقوف على الدعائم والتزامه الأحكام بعد نطقه بالشهادتين" انتهى.

فعلم من هذا أن الردة تلحق المسلم القائل ألفاظ الشهادتين العامل بالأركان، وهو مذهب أهل العلم جميعهم، لا خلاف بينهم في ذلك. والحنفية أكثر الفقهاء توسعاً في باب المرتد رعاية لجانب تعظيم آيات الله ودينه؛ حتى أنهم ليكفرون بألفاظ فيها نوع ترك التعظيم والاحترام الواجب لله ورسوله ودينه وعلماء المسلمين وعلومهم. فهاك نبذًا مما قاله ابن نجيم الحنفي في كتابه: " البحر الرائق شرح كنز الدقائق " (5/119-125) : " ويكفر إن اعتقد أن الله يرضى بالكفر، وبقوله: لو أنصفني الله تعالى يوم القيامة انتصفت منك، أو إن قضى الله يوم القيامة، أو إذا أنصف الله، وبقوله: بارك الله في كذبك. . . وبقوله: الله يعلم أني فعلت كذا وهو يعلم أنه ما فعل. . وبإتيان الكاهن وتصديقه، وبقوله: أنا أعلم المسروقات، وبقوله: لا أعلم أن آدم عليه السلام نبي أو لا. . . ويكفر من أراد بغض النبي صلى الله عليه وسلم بقلبه. . . ويكفر بقوله: إن كان ما قال الأنبياء حقاً أو صدقاً. وبرده حديثاً مروياً إن كان متواتراً، أو قال على وجه الاستخفاف؛ سمعناه كثيراً. . .، وباستخفافه بسنةٍ من السنن. وبإنكاره إمامة أبي بكر -رضي الله عنه- على الأصح، كإنكاره خلافة عمر -رضي الله عنه- على الأصح، لا بقوله: لولا نبينا لم يخلق آدم عليه السلام، وهو خطأ. وبقوله: لا أترك النقد لأجل النسيئة، جواباً لقوله: دع الدنيا للآخرة. . . ويكفر بإنكاره أصل الوتر والأضحية، وباستحلال وطء الحائض. ويكفر باستحلاله حراماً علمت حرمته من الدين من غير ضرورة لا بفعله من غير استحلال. . .، وبقراءة القرآن على ضرب الدف أو القضيب، وباعتقاد أن القرآن مخلوق حقيقة، والمزاح بالقرآن كقوله: والتفت الساق

بالساق، أو ملأ قدحاً وجاء به وقال: وكأساً دهاقاً، أو قال عند الكيل أو الوزن وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، وقيل إن كان جاهلاً لا يكفر. وبترك الصلاة متعمداً غير ناوٍ للقضاء، وغير خائف من العقاب، ويكفر بإتيانه عيد المشركين مع ترك الصلاة تعظيماً لهم. ويكفر بقوله: إن هذه الطاعات جعلها الله عذاباً عليناً، بلا تأويل، أو قال: لو لم يفرض الله هذه الطاعات لكان خيراً لنا، وبالاستهزاء بالأذكار، وبتسميته عند أكل الحرام، أو فعل الحرام كالزنا، ويكفر بالاستهزاء بالأذان لا بالمؤذن. ويخاف الكفر على من قال للأمر بالمعروف: غوغا، على وجه الرد والإنكار، ويكفر بقوله له: فضولي. . . ويكفر بتصدقه على فقير بشيء حرام يرجو الثواب. ويخاف عليه الكفر إذا شتم عالماً أ , فقيهاً من غير سبب. وبخروجه إلى نيروز المجوس والموافقة معهم فيما يفعلون في ذلك اليوم، ويشرائه يوم النيروز شيئاً لم يكن يشتريه قبل ذلك تعظيماً للنيروز، لا للأكل والشرب، وبإهدائه ذلك اليوم للمشركين ولو بيضة تعظيماً لذلك اليوم. . وبتحسين أمر الكفار اتفاقاً، حتى قالوا: لو قال: ترك الكلام عند أكل الطعام من المجوس حسن، أو ترك المضاجعة حالة الحيض منهم حسن فهو كافر. وبذبحه شيئاً في وجه إنسان وقت الخلقة، أو للقادم من الحج أو الغزو، والمذبوح ميتة، وقيل: لا يكفر، وقوله لسلطان زماننا، عادل، وقيل: لا، وعلى هذا الاختلاف قول الخطباء في ألقاب السلطان: العادل الأعظم، مالك رقاب الأمم، سلطان أرض الله، مالك بلاد الله وبقوله: لا تقل للسلطان

هذا، حين عطس السلطان فقال له رجل: يرحمك الله. . . وباعتقاد أن الخراج ملك السلطان. ويكفر بتلقين كلمة الكفر ليتكلم بها ولو على وجه اللعب. وكذا من حسن كلام أهل الأهواء وقال: معنوي، أو كلام له معنى صحيح، إن كان ذلك كفراً من القائل كفراً من القائل كفر المُحَسَّن، وكذا من حسن رسوم الكفرة، واختلف في تكفير من قال: إن إبراهيم بن أدهم رأوه بالبصرة يوم التروية وفي ذلك اليوم بمكة. قال علماؤنا: من قال أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر. وفي "الجامع الأصغر ": إذا أطلق الرجل كلمة الكفر عمداً لكنه لم يعتقد الكفر قال بعض أصحابنا: لا يكفر؛ لأن الكفر يتعلق بالضمير ولم يعقد الضمير على الكفر، وقال بعضهم: يكفر، وهو الصحيح عندي لأنه استخف بدينه. . . والحاصل أنه من تكلم بكلمة الكفر هازلاً أو لاعباً كفر عند الكل، ولا اعتبار باعتقاده. . . إلخ" انتهى كلام ابن نجيم، وهو منبٍ عن كثير من ألفاظٍ يكفر بها عند الحنفية وكثير من غيرهم. وقال الخطيب الشربيني في شرحه لمتن أبي شجاع المسمى " غاية الاختصار " من الكتب الفقهية الشافعية (2/175) بعد تعداد صور يكفر بها المسلم: " وهذا باب لا ساحل له" اهـ وفي الكبائر لابن حجر الهيتمي من ذلك شيء كثير وكذا في " قواطع الإسلام " له. وقال مرعي بن يوسف الحنبلي في كتابه " غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى " (3/353) : " من ادعى النبوة أو صدَّقه، أو أشرك بالله تعالى، أو سبه، أو رسولاً أو ملَكاً له، أو جحد ربوبيته، أو وحدانيته، أو صفة. . . أو كتاباً أو رسولاً أو ملَكاً له، أو وجوب عبادة من الخمس ومنها الطهارة، أو حكماً ظاهراً مجمعاً عليه إجماعاً قطعياً، بلا تأويل

كتحريم زنا أو لحم -لا شحم- خنزير، أو حشيشة، أو حل خبز، ونحوه أو شك فيه ومثله لا يجهله، أو يجهله وعرف وأصرّ، أو سجد لصنم أو كوكب، ويتجه السجود للحكام بقصد العبادة كفر، وللتحية كبيرة، أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعاً، قاله الشيخ. أو أتى بقولٍ أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين، أو امتهن القرآن -صانه الله تعالى -أو ادعى اختلافه أو القدرة على مثله، أو أسقط حرمته كفر. . . إلخ ". فلعله بهذه النقول عن فقهاء المذاهب الأربعة يظهر الحق، ويبطل قول من قال: إن المسلم القائل بالشهادتين القائم بالأركان لا يكفر، كما يدندن حوله كثير من غلاة القبوريين منذ أزمان.

فصل فإذا تقرر إجماع أهل العلم أن الذي يقول لا إله إلا الله محمد رسول، ويصلي ويزكي ويصوم ويحج، قد يخرج من الدين جملة، فيكون مرتداً لقولٍ يقوله، أو فعلٍ يفعله، أو اعتقادٍ يقوم بقلبه، فإننا بعد ذلك نقيم البرهان من كلام أهل العلم على تكفير عباد القبور، العاكفين عليها الداعين أصحابها، أو المستشفعين بأهل القبور كائناً من كانوا، وإن في كلام الله -تبارك وتعالى- وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لأكبر العلم الذي ليس بحاجة معه إلى نقل كلام آخر، ولكن من الناس من لا يفقه دلائل الكتاب والسنة حتى تنقل له أقوال العلماء، وإن هذا الفصل منشأ لهذه الغاية، بما لا يظل بعده للمنازع حجة، ولا سبيل إلى الاعتراض، إذ من تأتي النقول عنهم صرحوا بكفر وشرك من سأل غير الله، أو اتخذه واسطة. فمنها: ما قاله ابن حجر الهيتمي في "شرح الأربعين" قال: "من دعا غير الله فهو كافر" اهـ. ومنها: ما قاله الشيخ العلامة صنع الله بن صنع الله الحلبي ثم المكي المتوفي سنة 1120هـ في كتابٍ رد به على من ادعى أن للأولياء تصرفاً في الحياة وبعد الممات، قال: " هذا وإنه قد ظهر الآن بين المسلمين، جماعات يدعون أن للأولياء تصرفاتٍ في حياتهم وبعد الممات، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات. . .، قال: وهذا الكلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالف لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة ".

ثم ساق قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13] ، وذكر آياتٍ في هذا المعنى ثم قال: فقوله في الآيات كلها: {مِنْ دُونِهِ} أي: من غيره، فإنه عام يدخل فيه من اعتقدته من ولي وشيطان تستمده. . . إلى أن قال: وأما القول بالتصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة، قال جل ذكره: {نَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] ، {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر: 42] . ثم قال: " وأما قولهم: فيستغاث بهم في الشدائد، فهذا أقبح مما قبله، وأبدع، لمصادمة قوله جل ذكره: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} [النمل: 62] ، {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّنظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 63] "، وذكر آياتٍ لهذا المعنى ثم قال: "فإنه جل ذكره قرر أنه الكاشف للضر لا غيره، وأنه المستعان لكشف الشدائد والكرب، وأنه المتفرد بإجابة المظطرين، وأنه المتسغاث لذلك كله، وأنه القادر على دفع الضر، والقادر على إيصال الخير فهو المنفرد بذلك. فإذا تعين -جل ذكره- خرج غيره من ملك ونبي وولي، فمن اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك في كشف كربةٍ أو قضاء حاجته تأثيراً فهو على شفا حفرة من السعير.

قال: فهذا ظن أهل الأوثان، كذا أخبر الرحمن: {هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ} [يونس: 18] ، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ، {أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَيُنقِذُونِ} [يّس: 23] . فإن ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر من نبي وولي وغيره على وجه الإمداد منه إشراك مع الله، إذ لا قادر على الدفع غيره، ولا خير إلا خيره) انتهى كلام العلامة صنع الله الحلبي ثم المكي الحنفي1. 3. وقال العلامة أحمد بن علي المقريزي المتوفى سنة 845 صاحب التصانيف في كتابه " تجريد التوحيد المفيد " ص 8: " وشرك الأمم كله نوعان: شرك في الإلهية، وشرك في الربوبية. فالشرك في الإلهية والعبادة هو الغالب على أهل الإشراك، وهو شرك عباد الأصنام، وعباد الملائكة، وعباد الجن، وعباد المشايخ والصالحين الأحياء والأموات، والذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ويشفعوا لنا عنده، ولنا بسبب قربهم من الله وكرامته لهم قرب وكرامة، كما هو المعهود في الدنيا من حصول الكرامة والزلفى لمن يخدم أعوان الملك، وأقاربه وخاصته. والكتب الإلهية كلها من أولها إلى آخرها تبطل هذا المذهب وترده، وتقبح أهله، وتنص على أنهم أعداء الله تعالى، وجميع الرسل -صلوات الله عليهم -متفقون على ذلك من أولهم إلى آخرهم، وما أهلك تعالى من الأمم إلا بسبب هذا الشرك ومن أجله ".

_ 1 باختصار من تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله، ص (196-199) .

وقال ص 12-13: " والناس في هذا الباب أعني: زيارة القبور على ثلاثة أقسام: قوم يزورون الموتى فيدعون لهم، وهذه هي الزيارة الشرعية. وقوم يزورونهم يدعون بهم، فهؤلاء المشركون في الألوهية والمحبة1 وقوم يزورونهم فيدعونهم أنفسهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد " وهؤلاء هم المشركون في الربوبية". وقال المقريزي أيضاً ص 18-19: " ومن خصائص الألوهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبهه به، ومنها التوكل، فمن توكل على غيره فقد شبهه به، ومنها التوبة، فمن تاب لغيره فقد شبهه به، ومنها الحلف باسمه فمن حلف بغيره فقد شبهه به، ومنها الذبح له فمن ذبح لغيره فقد شبهه به، ومنها حلق الرأس إلى غير ذلك. هذا في جانب التشبيه، أما في جانب التشبه فمن تعاظم وتكبر ودعى الناس إلى إطرائه ورجائه ومخافته، فقد تشبه بالله، ونازعه في ربوبيته، وهو حقيق بأن يهينه الله غاية الهوان، ويجعله كالذر تحت أقدام خلقه" انتهى. وقال الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي في " شرح درر البحار ": "إن النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلاً: يا سيدي فلان! إن رُدّ غائبي أو عوفي مريضي فلك من الذهب والفضة أو الشمع أو الزيت كذا باطل إجماعاً، لوجوه: -إلى أن قال-: "منها ظن أن الميت يتصرف في الأمر، واعتقادُ هذا كفر" انتهى، نقله عنه جماعة منهم سراج

_ 1 يعني بـ "يدعون بهم" الاستشفاع بهم، وسؤالهم الشفاعة والتوسط، ولا يعني التوجه بالذوات أو الجاه ونحو ذلك؛ لأن هذا ليس شركاً، بل بدعة ووسيلة إلى الشرك.

الدين بن نجيم في " النهر الفائق شرح كنز الدقائق "، وعنه نقل الشوكاني في " الدر النضيد " ص 40، وغيرهم. وقال العلامة محيي السنة في الأصقاع اليمانية حسين النعمي المتوفى سنة 1187هـ في كتاب " معارج الألباب في مناهج الحق والصواب " ص 209 بعد كلام طويل في الدعاء: " فدعاءُ غير الله تعالى: إخراج للدعاء عن محله وموضوعه، كقيامه بتلك الصلاة على تلك الكيفية للمقبور والحجر، سواء بسواء، والفصل بين الصلاة والدعاء: فصلٌ بين متآخيين، وتفريق بين قدين، وإلا فليجعلوا للمقبور صلاة وصياماً، ونحوهما، يفارق الذم والتشريك، ويكون صالحاً خالياً عن الفساد والمنكر، سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم " اهـ. وكتابه كله في موضوع القبور، وعبادها، وفيه من البراهين المنيرة، والحجج القويمة ما يرجع كل ضال كتبت له الهداية إلى سواء الصراط. وقال قرين النعمي ومؤاخيه في نصر السنة في اليمن العلامة محمد ابن إسماعيل الأمير الصنعاني المتوفى سنة 1182 في داليته المشهورة في مدح الشيخ محمد بن عبد الوهاب: ويَعْمُر أركانَ الشريعةِ هادماً مشاهدَ ضلَّ الناسُ فيها عن الرشد أعادوا بها معنى سُوَاعٍ ومثله يغوثُ وودٌ بئسَ ذلك من وَدّ وقد هتفوا عند الشدائد باسمها كما يهتِفُ المضطرُّ بالصَمَدِ الفرد وكم عقروا في سَوْحها من عقيرةٍ أهلْتْ لغير الله جهلاً على عمد وقال في كتابه " تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد " ص 15: " والنذور بالمال على الميت ونحوه، والنحر على القبر، والتوسل به، وطلب الحاجات منه: هو بعينه الذي كانت تفعله الجاهلية، وإنما يفعلونه

لما يسمونه وثناً وصنماً، وفعله القبوريون لما يسمونه ولياً وقبراً ومشهداً، والأسماء لا أثر لها، ولا تغير المعاني ضرورة لغوية وعقلية وشرعية" اهـ. وقال عالم اليمن في القرن الثالث عشر محمد بن علي الشوكاني في " الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد " ص 19 بعد سياقه الأدلة على كفر عباد القبور المستشفعين والمستغيثين بأصحابها: " فإن قلت: إن هؤلاء القبوريين يعتقدون أن الله هو الضار النافع، والخير والشر بيده، وإن استغاثوا بالأموات، قصدوا إنجاز ما يطلبونه من الله سبحانه. قلت: وهكذا كانت الجاهلية، فإنهم كانوا يعلمون أن الله هو الضار النافع، وأن الخير والشر بيده، وإنما عبدوا أصنامهم لتقربهم إلى الله زلفى كما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز. ثم قال ص 21: " فإن قلت: إن المشركين كانوا لا يقرون بكلمة التوحيد، وهؤلاء المعتقدون في الأموات يقرون بها. قلتُ: هؤلاء إنما قالوها بألسنتهم وخالفوها بأفعالهم، فن من استغاث بالأموات، أو طلب منهم ما لا يقدرُ عليه إلا الله سبحانه، عظّمهم أو نذر لهم بجزء من ماله، أو نحر لهم، فقد نزلهم منزلة الآلهة التي كان المشركون يفعلون لها هذه الأفعال، فهو لم يعتقد معنى لا إله إلا الله، ولا عمل بها، بل خالفها اعتقاداً وعملاً، فهو في قول لا إله إلا الله كاذب على نفسه، فإنه قد جعل إلهاً غير الله" اهـ. ومثل هذه النقول كثيرة في الشرق والغرب من علماء كل بلد، الذين تخلصوا من التقليد والتبعية للمشايخ الكذبة المستفيدين من المساكين الجهلة.

والنقول كثرة فتتبعها تجد ما قلنا، وما زال أهل العلم1، في كل قرن ينكرون هذه الأمور ويكفرون فاعلها، ففي القرن الخامس: أنكرها وكفر بها ابن عقيل الحنبلي صاحب الفنون. وفي السادس: ابن الجوزي، وفي السابع: أبو شامة والنووي وغيرهم وابن تيمية، وفي الثامن: ابن القيم وابن عبد الهادي وابن كثير وابن مفلح وكلهم حفاظ مشهورون، وفي التاسع: المقريزي وغيره كابن قطلوبغا، وفي العاشر: البركوي، وفي الحادي عشر: صنع الله الحلبي والبهوتي، وفي الثاني عشر: جماعات تفرقت بلدانهم والتقت كلماتهم بهدي ربهم، ففي وسط الجزيرة محمد بن عبد الوهاب، وفي اليمن النعمي والصنعاني، وغيرهم جماعات ثم بعد ذلك كثر القول بالحق في أصقاع الأرض في الهند والعراق ومصر والشام والجزيرة وغيرها من البلدان في الشرق والغرب. ولو قال عالم أو عالمان في مسألة حكماً بدليها لوجب الرجوع إلى قولهما، فكيف بأمة من العلماء ينهون ويحذرون عن هذا الشرك وأدلتهم أوضح أدلة، وأصحها في النقليات، وأصرحها في العقليات؟ ! فليخف كل إنسان على نفسه وإسلامه، فإن الأمر أمر كفر وإسلام، وإلحاد وإيمان، فالخوف الخوف، والنجاة النجاة يا عباد الله!

_ 1 ومن ذكرت أسمائهم على سبيل التمثيل والتصريح.

فصل وللشيخ تقي الدين ابن تيمية وعلماء الحنابلة الأقوال المستفيضة في كفر متخذ الشفعاء والأنداد من الأموات، فهاك بعضها تتميماً للمقام: قال شيخ الإسلام: " من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم، يدعوهم، ويسألهم -كفر- إجماعاً" نقله عنه جماعة مقررين له، ومنهم ابن مفلح في " الفروع " (6/165) ، والمرداوي في " الإنصاف " (10/327) ، والشيخ مرعي في " غايةالمنتهى " (3/355) ، وفي " الإقناع وشرحه " (4/100) ، ونقله من غير الحنابلة ابن حجر الهيتمي المكي في " قواطع الإسلام ". قال الشيخ سليمان في " تيسير العزيز الحميد " ص 194: "وهو إجماع صحيح ومعلوم بالضرورة من الدين، وقد نص العلماء من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم في باب حكم المرتد على أن من أشرك بالله فهو كافر، أي: عبد مع الله غيره بنوع من أنواع العبادات. وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن دعاء الله عبادة له، فيكون صرفه لغير الله شركاً" اهـ. وقال ابن تيمية في " الرسالة السنية ": " فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان! انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل" اهـ. وقال تلميذه ابن القيم في " مدراج السالكين " (1/340) : " والذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم: أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك، وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله،

وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن الله أن يشفع فيه، ورضي قوله وعمله، وهم أهل التوحيد. وقال: وترى المشرك يكذب حالُه وعملُه قولَه، فإنه يقول: لا نحبهم كحب الله، ولا نسويهم بالله ثم يغضب لهم ولحرماتهم -إذا انتهكت -أعظم مما يغضب لله، ويستبشر بذكرهم، ويتبشش به، سيما إذا ذكر عنهم ما ليس فيهم من إغاثة اللهفات، وكشف الكربات، وقضاء الحاجات، وأنهم الباب بين الله وبين عباده، فإنك ترى المشرك يفرح ويُسَرّ ويحن قلبه، وتهيج منه لواعج التعظيم والخضوع لهم والموالاة، وإذا ذكرت له الله وحده وجردت توحيده لحقته وحشة، وضيق وحرج، ورماك بنقص الإلهية التي له، وربما عاداك. رأينا والله منهم هذا عياناً، ورمونا بعداوتهم، وبغوا لنا الغوائل، والله مخزيهم في الدنيا والآخرة، ولم تكن حجتهم إلا أن قالوا كما قال إخوانهم: عاب آلهتنا، فقال هؤلاء: انتقصتم مشايخنا" اهـ. وقال الحافظ ابن عبد الهادي في كتابه " الصارم المنكي " آخر ورقة منه: " قوله -أي السبكي-: إن المبالغة في تعظيمه واجبة1 أيريد بها المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيماً حتى الحج إلى قبره، والسجود له والطواف له، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي ويمنع، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين، ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن شاء، ويدخل الجنة من شاء، فدعوى وجوب المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك، وانسلاخ من جملة الدين" اهـ.

_ 1 أي: تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم.

فتدبر مقالة هذا الحافظ العلم، والحافظ قبله، تعلم منه أن الخزي والسوء على المشركين، الذين سهلوا قيادهم لمردة الشياطين وجند إبليس، وهو على إضلالهم حريص، فقال لرب العالمين: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82، 83] . فافطن لهذه المواضع التي التقت فيها كلمة أهل العلم الذين أثنى عليهم وشهد لهم بالإمامة والفقه واتباع السنة علماء عصرهم، ومن بعدهم إلى يومنا. وبهذه النقول الجليات، والكلمات الواضحات، والأحرف النيرات، من العلماء الأعلام، تنزاح شبه طالما علقت بقلوب الذين زين لهم المتسيدون الفساد والشرك جهلاً أو عن علم. والواجب الوقوف على هذه المكفرات، المحكوم على مرتكبها، بالشرك الأكبر المخرج من الدين، والنظر فيها وفقه معانيها، وسؤال الله الابتعاد عنها، وتجنب أهلها، والبراءة منهم قولاً وعملاً. ويتحتم شرعاً على طالب السلامة، مبتغي الجنة ورضا رب العالمين أن يتعلم التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، ويتعلم فضله، وأنواعه، وأن يتعلم حكم ضده ليحذر منه، من الشرك الأكبر ووسائله ودواعيه. وليستقيم طالب النجاة على التوحيد قولاً وعملاً واعتقاداً، وليباعد نفسه من كل ما يخدشه، أو يكْلِمه، وليوطن نفسه على تحقيقه كاملاً تاماً من شوائب النقصان، فبهذا تنال الكرامة عند الله، ويلحق المؤمن بأفضل الخلق محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وبأصحابه، والصديقين والشهداء، {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] .

فصل قال الشوكاني في " الدر النضيد " ص (27-28) : "واعلم أن ما حررناه وقررناه من أن كثيراً مما يفعله المعتقدون في الأموات يكون شركاً، قد يخفى على كثيرٍ من أهل العلم، وذلك لا لكونه خفياً في نفسه، بل لإطباق الجمهور على هذا الأمر وكونه قد شاب عليه الكبير وشب عليه الصغير، وهو يرى ذلك ويسمعه ولا يرى ولا يسمع من ينكره، بل ربما يسمع من يرغب فيه، ويندب الناس إليه. وينضم إلى ذلك ما يظهره الشيطان للناس من قضاء حوائج من قصد بعض الأموات الذين لهم شهرة وللعامة فيهم اعتقاد، وربما يقف جماعة من المحتالين على قبر، ويجلبون الناس بأكاذيب يحكونها عن ذلك الميت؛ ليستجلبوا منهم النذور، ويستدروا منهم الأرزاق، ويقتنصوا النحائر، ويستخرجوا من عوام الناس ما يعود عليهم وعلى من يعولونه، ويجعلون ذلك مكسباً ومعاشًا. وربما يهولون على الزائر لذلك الميت، ويجعلون قبره بما يعظم في عين الواصلين إليه. . . ثم قال: فبمجوع هذه الأمور مع تطاول الأزمنة، وانقراض القرن بعد القرن يظن الإنسان في مبادئ عمره وأوائل أيامه أن ذلك من أعظم القربات، وأفضل الطاعات، ثم لا ينفعه ما تعلمه من العلم بعد ذلك، بل يذهل عن كل حجة شرعية تدل على أن هذا هو الشرك بعينه، وإذا سمع من يقول ذلك أنكره ونبا عنه سمعه، وضاق به ذرعه؛ لأنه يبعد كل البعد أن ينقل ذهنه دفعة واحدة في وقت واحد عن شيء يعتقده من أعظم الطاعات إلى

كونه من أقبح المقبحات وأكبر المحرقات، مع كونه قد درج عليه الأسلاف، ودب فيه الأخلاف، وتعادوته العصور، وتناوبته الدهور. وهكذا كل شيء يقلد الناس في أسلافهم، ويحكمون العادات المستمرة، وبهذه الذريعة الشيطانية، والوسيلة الطاغوتية بقي المشرك من الجاهلية على شركه، واليهودي على يهوديته، والنصراني على نصرانيته، والمبتدع على بدعته، وصار المعروف منكراً والمنكرمعروفاً، وتبدلت الأمة بكثير من المسائل الشرعية غيرها، وألفوا ذلك ومرنت عليه نفوسهم، وقبلته قلوبهم، وأنسوا إليه، حتى لو أراد من يتصدى للإرشاد أن يحملهم على المسائل الشرعية البيضاء النقية التي تبدلوا بها غيرها لنفروا عن ذلك ولم تقبله طبائعهم، ونالوا ذلك المرشد بكل الكره، ومزقوا عرضه بكل لسان) انتهى كلام العلامة الشوكاني، وهو فصل فيما ذكرهن فعسى الله أن يهدي به أقواماً إلى طريقه القويم، وصراطه السابل الكريم.

فصل وكثيراً ما يردد المفتونون بالقبور، الغالون في الصالحين في منع الحكم على فعلهم بالشرك أن هذه الأمة لا يقع فيها إشراك بالله، ورجوع إلى أديان من سبق من الأمم، فيحتجون بهذا مع احتجاجهم بمنع تكفير من تلفظ بلا إله إلا الله، ولم يعمل بما دلت عليه من إخلاص العبادة لله، وإفراده وحده بأنواع أفعال العباد كالمحبة والرجاء والخوف -خوف السر- والدعاء والاستغاثة والاستعانة والذبح والنذر ونحوها. ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد قطع هذه الشبهة من القلوب، وبصر أمته بهذه المسألة فتركها وقد حذر وأنذر وأخبر، فحذر من سلوك مسلك اليهود والنصارى، وأخبر بأن أمته تحذو الأمم قبلها في ما عملته تلك الأمم من شرك وعصيان، فروى الشيخان البخاري ومسلم في " صحيحيهما " عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه -عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم "، قلنا: يا رسول الله! آليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ " هذا لفظ البخاري (13/300) ، وأخرجه البخاري عن أبي هريرة. قال ابن بطال في " شرح البخاري ": "أعلم صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور، والبدع، والأهواء، كما وقع للأمم قبلهم، وقد أنذر في أحاديث كثيرة بأن الآخر شر، والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، وأن الدين إنما يبقى قائماً عند خاصة من الناس" اهـ.

قال الشيخ سليمان بن عبد الله1: "وهذا من معجزاته، فقد اتبع كثير من أمته سنن اليهود والنصارى وفارس في شيمهم ومراكبهم وملابسهم، وإقامة شعارهم في الأديان والحروب والعادات من زخرفة المساجد، وتعظيم القبور واتخاذها مساجد، حتى عبدوها ومن فيها من دون الله، وإقامة الحدود والتعزيرات على الضعفاء دون الأقوياء، وترك العمل يوم الجمعة، والتسليم بالأصابع، وعدم عيادة المريض يوم السبت. . . واتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله، والإعراض عن كتاب الله، والإقبال على كتب الضلال من السحر والفلسفة والكلام، والتكذيب بصفات الله التي وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم". قال: " إن الأمم قبلنا وجد فيها الشرك، فكذلك يوجد في هذه الأمة كما هو الواقع"، وروى أحمد في " المسند " (5/278، 284) ، وأبو داود في " السنن " (4252) ، وابن ماجه (3952) ، والحاكم (4/449) ، وغيرهم عن ثوبان -رضي الله عنه- في حديثٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان ". هذا لفظ أحمد وأبي داود، وإسناده صحيح على شرط مسلم، ففي الحديث الرد على من قال بخلافه من عباد القبور، الذين ينكرون وقوع الشرك وعبادة الأوثان في هذه الأمة. وفي معناه ما أخرجه البخاري (13/76) ، ومسلم (8/182) عن أبي هريرة مرفوعاً: " لا تقوم الساعة حتى تضطرب ألياتُ نساء دوس على ذي الخَلَصة ".

_ 1 تيسير العزيز الحميد ص 320-321 ط. الأولى.

وأخرج مسلم (8/182) عن عائشة مرفوعاً: " لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى ". وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً، وإن عبادة اللات والعزى لكائنة. قال ابن بطال في شرحه للبخاري: " هذا الحديث وما أشبهه ليس المراد به أن الدين ينقطع كله في جميع أقطار الأرض حتى لا يبقى منه شيء؛ لأنه ثبت أن الإسلام يبقى إلى قيام الساعة، إلا أنه يضعف ويعود غريباً كما بدأ " اهـ. ففي هذه الأحاديث دليل على أن الأمة يكون فيها الشرك قبل قيام الساعة، وفي حديث ثوبان دليل واضح على وقوع الشرك في قبائل، وفي لفظ: " فئام" أي: جماعات كثيرة، وهناك قبائل من أمته على الحق ثابتون، فدل على أن هذا عند غربة الدين واشتداد ذلك، وهذا من علامات القيامة الصغرى التي تكون قبل قيام الساعة بأزمان مديدة، شأنها شأن سائر العلامات الصغرى التي تكون كما أخبر نبي الله صلى الله عليه وسلم من بعد موته إلى قرب قيام الساعة. وهذه العلامات كثيرة في أحاديث مشهورة، ولحوق قبائل من أمته بالمشركين، وعبادة قبائل الأوثان من جنسها مما يكون شيئاً إلى قيام الساعة. وحديث عبادة اللات والعزى وذي الخلصة تكون العبادة -وهو الظاهر- لها بأعيانها، وقد يكون أراد أجناسها مما يعبد من دون الله، والأول أليق لتعين حمل النص على ظاهره.

فصل ويحتج بعض المبتدعة المخرفين بحديثٍ رواه مسلم في " الصحيح " (8/138) : عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم "1. والجواب: أن يقال: إن الشيطان أيس بنفسه -ولم يُأَيَّس- لما رأى عز الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وإقبال القبائل على الدخول في هذا الدين الذي أكرمهم الله به، فلما رأى ذلك يئس من أن يرجعوا إلى دين الشيطان، وأن يعبدوا الشيطان أي: يتخذوه مطاعاً. وهذا كما أخبر الله عن الذين كفروا في قوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} [المائدة: 3] فهم يئسوا أن يراجع المسلمون ما عليه المشركون من الدين الباطل القائم على اتخاذ الأنداد مع الله، وصرف العبودية إلى أشياء مع الله أو من دونه. فلما رأى المشركون تمسك المسلمين بدينهم يئسوا من مراجعتهم، وكذا الشيطان يئس لما رأى عز المسلمين ودخولهم في الدين في أكثر نواحي جزيرة العرب. والشيطان -لعنه الله- لا يعلم الغيب، ولا يعلم أنه ستحين له فرص يصد الناس بها عن الإسلام والتوحيد، وكانت أول أموره في صرف الناس لعبادته بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أطاعه أقوام وقبائل، فارتدت عن الإسلام إما بمنع الزكاة، أو باتباع مدعي النبوة.

_ 1 ساقه صاحب المفاهيم ص 27 هكذا: " إن الشيطان قد أيس أن يعبد في جزيرتكم -جزيرة العرب"، فحذف كلمة " المصلون" الثابتة.

فنشط وكانت له جولة وصولة ثم كبته الله، والمقصود أن الشيطان ييئس إذا رأى التمسك بالتوحيد والإقرار به والتزامه، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وهو حريص على أن يصد الناس عن هذا. ولذا تمكن من هذا في فتراتٍ مختلفة، فعبده القرامطة عبادة طاعة وهم في الجزيرة وأفسدوا ما أفسدوا، وعبده من بعدهم مما يعرفه أولو البصيرة. {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يس: 60-61] . قال أبو جعفر محمد بن جرير إمام المفسرين -رحمه الله- في " تفسيره " (22/23 حلبي) : "يقول: وأَلَم أعهد إليكم أن اعبدوني دون كل ما سواي من الآلهة والأنداد، وإياي فأطيعوا، فإن إخلاص عبادتي، وإفراد طاعتي، ومعصية الشيطان هو الدين الصحيح والطريق المستقيم " انتهى. ثانياً: إن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه هذا القرآن الذي فيه فصل ما بين الشركوالتوحيد، ونُوَّع هذا في القرآن وقرر حتى صار مما يعلم بالضرورة أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم بعثه الله يدعو إلى التوحيد -توحيد العبادة -وينهى عن الشرك وهو اتخاذ الأنداد وعبادة غير الله ومحبة غيره كمحبة الله. فهذا معلوم بالضرورة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أناساً مقرين بتوحيد الربوبية وهو أن خالقهم ورازقهم ومدبر أمورهم ومحيهم ومميتهم، قاتلهم ليقروا ويلتزموا بتوحيد الإلهية الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله. فبهذا الأصل وهو الركن الأوثق والطود الأعظم نعلم يقيناً أن الله -جل وعلا-لم يترك هذا الأمر ملتبساً أو مما يجتهد فيه أهل الذكر، بل هو أصل مقطوع به، مجزوم به لا اشتباه فيه ولا التباس، كما قال عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم في حديث العرباض بن سارية الصحيح:

" تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك "، فهذه البيضاء هي مضمون لا إله إلا الله، وهي إفراد الله بالعبادة وخلع الأنداد، والكفر بما يعبد من دون الله، والبراءة من الشرك وأهله، كما فسرها أهل العلم -رحمهم الله-. فإذا علم هذا يقيناً فمحال أن يكون الشرك بصورته التي نهى الله عنها موجوداً في بلادٍ كثيرة ويحكم عليها بالشرك، ويوجد في الجزيرة بصورته ولا يحكم عليها بالشرك، هذا من التلاعب والهوى الصارخ، فمعنى الحديث متضح والحمد لله. ثالثاً: جاء في الحديث إياس الشيطان من أن يعبده المصلون، والصلاة من أركان الإسلام العظام، وهي أعظم الأركان بعد الشهادتين، والصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر، كما قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَر} [العنكبوت: 45] ، وأعظم المنكر الشرك بالله وصرف محض حق الله إلى غيره من الأنبياء والصالحين، فيكون هذا القيد لازماً للشهادة وإخلاص الدين، فيكون المعنى: إن الشيطان يئس أن يعبده المخلصون دينهم لله، فتأمل نكتة تقييده بالمصلين، ويعني بها حقيقة الصلاة وثمرتها، وهذه نكتة مفيدة منَّ الله بها، والحمد لله الموفق للصالحات.

الباب الخامس: التبرك

الباب الخامس: التبرك ... التبرك تقول: تبرك يتبرك تبركاً. مأخوذ من البركة. قال أبو منصور في " تهذيب اللغة " (10/231) : "وأصل البركة: الزيادة والنماء ". فالبركة: زيادة ونماء في شيءٍ يريده المتبرك في تبركه بما تبرك به. وهذه الزيادة والنماء قد تكون في أمكنةٍ، وقد تكون في ذوات، وقد تكون في صفاتٍ، هذا على مقتضى ورودها اللغوي، وأما الشرعي فيأتي تفصيل الكلام فيه إن شاء الله. ومن الأول قوله تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا} [فصلت: 10] ، وقوله: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137] ، وقوله: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96] ، وقوله: {وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا} [المؤمنون: 29] . ومن الثاني قوله تعالى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 113] ، وقوله تعالى في قصة نوح: {اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} [هود: 48] . ومن الثالث قوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] ، وقوله: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [الأنبياء: 50] ، وإذا تدبرت كتاب الله العزيز وجدت أنه يدل

على أن البركة من الله، وتُطلب منه سبحانه وتعالى وحده، وهو يضعها فيمن شاء من خلقه، وفي ما شاء من بريته. قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] ، وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا} [الفرقان: 61] ، وقال: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] ، وقال: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 78] ، والآيات الواردة بلفظ (تبارك) كثرة. ولفظ {تَبَارَكَ} لم يرد في كتاب الله إلا مسنداً إلى الله، وهي صيغة مفيدة أعظم أنواع معنى البركة، وأكثرها نفعاً، وأعمها متعلقاً وأثراً. فالبركة لله، والله -سبحانه وتعالى -أخبر أنه أعطى بركة لأصنافٍ من خلقه: فمن ذلك: 1 -الأنبياء والرسل، كما قال تعالى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} [الصافات: 113] ، وقال في إبراهيم وأهل بيته: {رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73] ، وقال في نوح: {اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ} [هود: 48] ، وقال عيسى عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم: 31] . 2-ومن ذلك وضعه البركة في أماكن العبادة كالمسجد الأقصى، والمسجد الحرام، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}

[الإسراء: 1] ، وقال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران: 96] . 3- ومن إخباره عن ما أنزله من الذكر أنه مبارك، قال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُمُ نكِرُونَ} [الأنبياء: 50] ، وهذا الذكر هو القرآن العظيم كما قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92] ، وقوله: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29] . فالقرآن الحكيم ذكر مبارك، وتدبر آياته عمل مبارك، ومن هذا التدبر علوم القرآن، والسنة مبينة لمجمل القرآن، وهي مباركة، واتباع القرآن والسنة مبارك، وعلومهما الناشئة عن تدبر آيات الكتاب وفقه السنة علوم مباركة. هذه أنواع ثلاثة فيها بركة خاصة، دل عليها الذكر الحكيم، وهناك بركة عامة، لها أنواع أيضاً: فمن ذلك: 1- أن المطر مبارك لما يحصل به من زيادة في معايش الناس وزروعهم، ونماء في ذلك، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9] . 2- ومن ذلك مباركته تعالى في الأرض كما قال: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا} [فصلت: 10] ، وقوله: {مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137] . 3- ومن ذلك مباركته تعالى ما يأتي من السماء وما يخرج من الأرض، كما قال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ

مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96] ، فهذه وأشباهها، مباركة عامة يحصل بها النفع والخير، والنماء والزيادة. ولعله يظهر أن البركة الخاصة اللازمة لذاتٍ -دون المكان والصفة -تكون متعدية يحصل التبرك بأعيانها لما فيها من البركة اللازمة الدائمة بالذات. وأما البركة الخاصة بمكان العبادة كالمسجد الحرام والمسجد النبوي، فإن البركة لا تكون متعدية بأجزاء المسجد، فلا يتمسح بأعمدة المساجد ولا جدرانها بإجماع المسلمين، والمساجد مباركة، فعلم أن بركتها معناها زيادة ونماء في ما يحصله العابد من الخير، فالمسجد الحرام صلاة فيه بمئة ألف صلاةٍ فيما سواه، والمسجد النبوي بألف صلاة. وهذا نحو بركة الرسل -صلوات الله عليهم- فإنها في أحد قسميها بركة اتباع عمل، فالمتبع لسنتهم المهتدي بهديهم يحصل له نماء وزيادة في ثواب عمله بسبب اتباعهم، فهذه معنى البركة الخاصة بقسميها، بخلاف المباركة العامة فإنها قد تحصل في وقتٍ دون وقت، أو في نوع دون نوع، فمما هو بَيَّن أنه ما كل ما جاء من السماء وخرج من الأرض يكون مباركاً دائماً، بل إعطاؤه البركة من الله متعلق بأمورٍ أخرى، إن وجدت أعطي البركة، وإن انتفت زالت البركة، فهي بركة عامة من حيث ظرفها، خاصة من حيث وقتها، غير لازمة للشيء، إذا تقرر هذا، فالبركة في مواردها من الكتاب والسنة قسمان: الأول: بركة ذات، وأثرها أن يكون ما اتصل بتلك الذات مباركاً، وهذا النوع للأنبياء والمرسلين لا يشركهم فيه غيرهُم، حتى أكابر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي لا يشركونهم في هذه البركة.

ولا يعتدى أثر بركة الأنبياء إلا لمن كان على ما دعى به سائرين، وبعمله مقتدين، وبأمره ملتزمين وعن نهيه منتهين، ولذا فصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تتعهد إليهم بركته في معركة أحد حين خالفوا أمره وعصوه. وهذا النوع من تعدي البركة قد انقطع بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من أجزاء ذاته باقياً بيقين بعد موته أحد، وقد ذهب ذلك المتيقن مع انقراض قرن الصحابة -رضي الله عنهم-. الثاني: بركة عمل واتباع: وهي عامة لكل من وافق عمله سنة النبي صلى الله عليه وسلم فكل مسلم فيه بركة عمل مقدرة بقدر اتباعه وموافقته لأمر الله ونهيه، بالإتمار بالأمر، والانتهاء عن النهي. ولذا جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري في " صحيحه " (9/569) في النخلة: " وإن من الشجر لما بركته كبركة المسلم ". فكل مسلم بركة بقدره، وليست هي بركة ذات، معلوم هذا باليقين وما ادعاه مدع، وإنما هي بركة عمل. وفي الصالحين من عباد الله المتبعين بركة عمل واتباع بقدر ما فيهم من مقتضيات تلك البركة، فالعالم بالسنة له بركة علم، والحافظ لكتاب الله الواقف عند حدوده فيه بركة من أثر ذلك، وهكذا. وإن أعلى الصالحين بركة أشدهم اتباعاً لدين الإسلام، ومحافظة على واجباته، ومباعدة عن محرماته، ومن المحرمات أفعال القلوب، فكم من مبتعد عن محرمات الجوارح، خائض في محرمات القلوب، ولا يبالي. وبهذا تجتمع النصوص، فما كان من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- فهو مما اجتمع فيه نوعي البركة، وما كان من غيرهم فهم مما بورك فيهم بركة عمل وعلم واتباع، ولذا تجد أثر هذه البركة لا يتعدى إلا بالأعمال، لا بالذات ولا بأجزائها.

ولذا قال أُسيد بن حُضير في سبب مشروعية التيمم: " لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر" أخرجه البخاري في " التفسير " من صحيحه. واللفظ المروي عند الشيخين البخاري ومسلم: "ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر" ومعنى اللفظين واحد، ومعلوم أنه ما كان أسيد ولا غيره يبتغي من أبي بكر أو آله بركة ذاتٍ كما كانوا يفعلونه مع النبي صلى الله عليه وسلم، من التبرك بشعره ونحوه، وإنما هي بركة عمل هو الإيمان والتصديق والنصرة والاتباع. ومن ذلك ما قالته عائشة -رضي الله عنها- لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث قالت: " فما رأيت امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها" أخرجه أحمد في " المسند " (6/277) ، وأبو داود في " السنن " بإسناد جيد. فهذه بركة عمل لتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بها، فكان أن سبب ذلك عتق كثير من قومها. التبرك بالنبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم: إن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم مبارك الذات، مبارك الصفات، مبارك الأفعال، وهذه البركة فيه صلى الله عليه وسلم متحققة في ذاته وصفاته وأفعاله. فقد ثبت عن بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يتبركون بأشياء منفصلة عن بدنه كالشعر، والوضوء، والعرق وغير ذلك، مما جاءت به الأحاديث الصحيحة، في الصحيحين وغيرهما. فله صلى الله عليه وسلم من أنواع البركة أعلى ما يهبه الله بشراً من رسله، وأجزاؤه صلى الله عليه وسلم تتعدى بركتها، ويجوز التبرك بها، كما فعلت جماعة من الصحابة. وأما آثاره المكانية كمكانٍ سار فيه، أو بقعةٍ صلى فيها، أو أرض نزل بها فلم يعرف دليل شرعي يومئ أو يشير إلى أن بركة بدن الرسول صلى الله عليه وسلم

قد تعدت إلى هذا المكان، فيكون مباركاً يشرع التبرك به، ولذا لم يكن يفعل هذا صحابته في حياته ولا بعد مماته. فما سار فيه رسول الله أو نزل فيه فلا يجوز التبرك به؛ لأن هذا وسيلة إلى تعظيم البقاع التي لم يشرع لنا تعظيمها، ووسيلة من وسائل الشرك، وما تتبع قوم آثار أنبيائهم إلا ضلوا وهلكوا. قال المعرور بن سويد الأسدي؛ خرجت مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من مكة إلى المدينة، فلما أصبحنا صلى بنا الغداة، ثم رأى الناس يذهبون مذهباً، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ قيل: يا أمير المؤمنين! مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هم يأتون يصلون فيه، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، يتبعون آثار أنبيائهم، فيتخذونها كنائس وبيعاً، من أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل، ومن لا فليمض، ولا يتعمّدها. أخرجه سعيد بن منصور في " سننه "، وابن أبي شيبة في " المصنف " (2/376) ، ومحدث الأندلس محمد بن وضاح القرطبي في " البدع والنهي عنها " ص 41، بإسناد صحيح. فهذا قول الخليفة الراشد، الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله -عز وجل- جعل الحق على قلب عمر ولسانه " أخرجه أحمد (2/95) عن ابن عمر بإسنادٍ صحيح، ورواه من طريق أخرى عن ابن عمر (2/53) ، ورواه أحمد (5/145) ، وأبو داود (رقم2962) عن أبي ذر، ورواه أحمد (2/401) عن أبي هريرة ورواه جمعٌ1 عن هؤلاء وغيرهم من الصحابة. ولا شك أن قول عمر السالف في النهي عن تتبع الآثار من الحق الذي جعله الله على لسان عمر رضي الله عنه. قال ابن وضاح رحمه الله ص43:

_ 1 من أصحاب الكتب الستة كالترمذي وابن ماجه وغيرهم كأبي يعلى والحاكم والطبراني.

" وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد، وتلك الآثار للنبي صلى الله عليه وسلم، ما عدا قباء وأحداً" 1. قال ابن وضاح: " فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين، فقد قال بعض من مضى: كم من أمرٍ هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان منكراً عند من مضى، ومتحبب إليه بما يبغضه عليه، ومتقربٍ إليه بما يبعده منه، وكل بدعة عليها زينة وبهجة" اهـ. فانظر إلى كلامه المتين: وكانت وفاة ابن وضاح سنة 286 هـ. فالمقصود من هذا أن السلف سلف الأئمة كانوا ينكرون التبرك بالآثار المكانية، وينكرون تحريها والتعلق بها رجاء بركتها، ولم يخالف في ذلك إلا ابن عمر -رضي الله عنهما- فقد كان يتتبع الأماكن التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصلي حيث صلى، ونحو ذلك. وما نقل نقل مصدق عن غير ابن عمر من الصحابة أنه كان يفعل مثل ما فعل ابن عمر في الآثار المكانيّة. وابن عمر ما كان يطلب بركة المكان، ولكنه يطلب تمام الاقتداء بكل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، حتى إنه أراد الصلاة في كل مكانٍ صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يتتبع ذلك ويعلمه، وما كان فعله -فيما يظهر- قصداً للتبرك بالبقعة كما يفهمه المتأخرون، وإنما قصد تمام الاقتداء، ولم يفعله غيره من صحابة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم يوافقوه، بل إن أباه نهى الناس عن تتبع الآثار المكانية، وقوله مقدم على رأي ابنه عند الخلاف باتفاق، وهو خلاف لا يقوم في مقابلة اتفاق عمل الصحابة على ترك ما فعله ابن عمر -رضي الله عنه- ولا شك أن

_ 1 وفي نقل الاعتصام عنه: ما عدا قباء وحده.

الصواب، والحق مع عمر -رضي الله عنه- وبقية الصحابة، وهو الحري بالاتباع، الفاصل عند النزاع، والله أعلم. التبرك بذوات الصالحين: قد تقدم أن بركة الذوات لا تكون إلا لمن نص الله على إعطائه البركة كالأنبياء والمرسلين وأما غيرهم من عباد الله الصالحين فبركتهم بركة عملٍ، أي: ناشئة عن علمهم وعملهم واتباعهم لا عن ذواتهم، ومن بركات الصالحين: دعاؤهم الناس إلى الخير ودعاؤهم لهم ونفعهم الخلق بالإحسان إليهم بنيةٍ صالحة ونحو هذا. ومن آثار بركات أعمالهم ما يجلب الله من الخير بسببهم ويدفع من النقمة والعذاب العام ببركة إصلاحهم، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] . وأما أن يعتقد أن ذواتهم مباركة، فيتمسح بهم، ويشرب سؤرهم وتقبل أيديهم للبركة دائماً ونحو ذلك، فهو ممنوع في غير الأنبياء لأوجه: الأول: عدم مقاربة أحدٍ للنبي صلى الله عليه وسلم فكيف بالمساواة في البركة والفضل؟ ! الثاني: أنه لم يرد دليلُ شرعي يدل على أن غير النبي صلى الله عليه وسلم مثلُه في التبرك بأجزاء ذاته، فهو خاص به كغيره من خصائصه. الثالث: ما قاله الشاطبي -رحمه الله- حين تعرض لقياس غير النبي عليه بجامع الولاية، قال في كتاب " الاعتصام " (2/6-7) : " إلا أنه عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه، مشكل في تنزيله، وهو أن الصحابة -رضي الله عنهم -لم يقع من أحدٍ منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه، إذ لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فهو كان خليفته، ولم يفعل به شيء من ذلك، ولا عمر رضي الله

عنه، وهو كان أفضل الأمة بعده، ثم كذلك عثمان ثم علي ثم سائر الصحابة، الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة، ثم لم يثبت لواحدٍ منهم من طريق صحيح معروف أن متبركاً تبرك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها1، بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتبعوا فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فهو إذًا إجماع منهم على ترك تلك الأشياء" اهـ. وكذا لم يفعلوا ذلك مع الحسن والحسين -رضي الله عنهما- ولا فاطمة -رضي الله عنهم أجمعين-، فالبركة الذاتية لا تنتقل بالنطفة، خلافاً لمن زعم غير ذلك من غلاة الرافضة، ومن تبعهم من مقلدة وغيرهم. الرابع: أن سد الذرائع قاعدة من قواعد الشريعة العظيمة قد دلّ عليها القرآن العظيم في مواضع، وفي السنة شيء كثير يقارب صحيحه المئة، ولعلّه لهذا لم يسلسل التبرك بذوات الصالحين، إنما اختص به الأنبياء. الخامس: أن فعل هذا النوع من التبرك مع غيره صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أن يفتنه، وتعجبه نفسه فيورثه العجب والكبر والرياء وتزكية نفسه، وكل هذا من محرمات أفعال القلوب.

_ 1 يعني التبرك بالعرق والشعر والوضوء ونحو ذلك.

فصل قال صاحب المفاهيم ص 156 بعد أن ساق آثاراً وأحاديث فيها تبرك بعض الصحابة بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو بعض أجزاء ذاته، قال: " والحاصل من هذه الآثار والأحاديث هو أن التبرك به صلى الله عليه وسلم وبآثاره وبكل ما هو منسوب إليه سنة مرفوعة، وطريقة محمودة مشروعة " اهـ. أقول: في هذا الكلام إجمال سببه عدم التحقيق، وترك تدبر النصوص، فصاحب المفاهيم لم يفرق بين التبرك بذاته، أو ما انفصل منه، وبين الآثار الأرضية من بقاع صلى فيها، أو جلس فيها. الأول: كما تقدم بيانه قد فعل بحضرة النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأقره فهو سنة ومشروع. الثاني: وهو التبرك بالآثار الأرضية، فليس بمشروع، ولذا لم يستطع صاحب المفاهيم أن يأتي بدليلٍ يصدق عليه دعواه العريضة في قوله: "سنة مرفوعة "، وهذا من عدم التفرقة بين المتفرقات، وترك سبيل المحققين من أهل العلم. ومما يدل على أن التبرك بالآثار الأرضية غير مشروع ومحدثٌ أمورٌ: الأول: أن هذا النوع من التبرك لم يكن في عهده صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل فيه شيء نقلاً مصدقاً، لا بإسنادٍ صحيح ولا حسن ولا ضعيف، فلم ينقل أن أحداً تبرك في زمانه بأثر له أرضي، وإذا لم ينقل مع توافر الدواعي على نقله، ووجود الهمم على نقل ما هو دونه بكثير: علم أنه لم يكن في زمانه صلى الله عليه وسلم وما كان كذلك فإحداثه بدعة، وكل بدعة ضلالة، والبدع يجب النهي عنها ومضادتها.

وهذا ما أرشد الخليفة الراشد إلى النهي عنه، وعن تتبع الآثار الأرضية، كما مَرّ في ما رواه المعرور بن سويد الأسدي. الثاني: أن بركة ذوات الأنبياء والمرسلين لا تتعدى إلى الأمكنة الأرضية، وإلا لزم أن يكون كل أرضٍ وطئها، أو جلس عليها، أو طريق مر بها، تطلب بركتها، ويتبرك بها. وهذا لازم باطل قطعاً، فانتفى الملزوم، وهذا جلي لمن تأمل اتساعه وتسلسله. الثالث: أن طلب التبرك بالأمكنة الأرضية خلاف سنة الأنبياء جميعاً قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلم يتحروا الآثار الأرضية للأنبياء قبلهم، ولا أمروا بتحريها، وكل ما كان خلاف ذلك فهو مما أحدثه الخلوف -الذين يفعلون ما لا يؤمرون- بعد أنبيائهم حين صعبت عليهم التكاليف الشرعية، فرغبوا في التعلق لغفران الذنوب وزيادة الحسنات بالتبرك المبتدع بالآثار المكانية؛ ولذا قال عمر: "إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، يتبعون آثار أنبيائهم"، وقد سبق تخريجه. الرابع: أن الأمكنة الأرضية لا تكون مباركة إلا بدوم الطاعة فيها، وهي سبب إعطاء الله البركة، فالمساجد مباركة لذلك، وبركتها لا تكون مع زوال الطاعات عنها. فمما يمثل به على هذا: أن المساجد التي غلب عليها الحربيون وصيروها كنائس زالت عنها بركة المسجد التي كانت حين كان يطاع الله فيه، وبعد أن أحدث فيها الشرك وتعبد فيها بغير شريعة الإسلام، فالبركة تنتزع، وهذا مما لا منازع فيه ولا مجادل. الخامس: أن التبرك بالآثار المكانية وسيلة إلى ما هو أعظم: من تقديسها والاعتقاد فيها، ولا غرو، فقد قال الإخباريون عن أولاد إسماعيل صلى الله عليه وسلم: أنهم " ضاقت عليهم مكة، ووقعت بينهم الحروب والعداوات، وأخرج بعضهم بعضاً فتفسحوا في البلاد والتماس المعاش.

وكان الذي سلخ بهم إلى عبادة الأوثان والحجارة أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم وصبابة بمكة"1. وما كان هذا شأنه فمنعه أوجب، إذ الوسيلة إلى ما ليس بمشروع ليست بمشروعة سداً للباب، وقطعاً للذريعة. إن السلامة من سلمى وجارتها أن لا تحلََّ على حالٍ بواديها السادس: أن تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم والتماس بركته وتحريها يكون بما بقي اليوم من نوعي البركة وهي بركة الاتباع، والعمل بسنته، وجهاد أعداء سنته، والمخالفين لأوامر شرعه، والمنافقين الذي فتنوا الناس وأضلوهم، وبهذا رغب السلف من التابعين وأئمة الهدى، الذين حققوا محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنالهم من بركة اتباعه ما أذن الله فيه، وتركوا عدا هذا من التبرك بالآثار الأرضية، فعلم من هذا أن ما تركوه غير معروف عندهم، ولا هو بمشروع. وفي هذه الأمور لطالب الهداية والتوفيق مقنع، وللراغب في سداد القول والعمل منجع، وإن الحق لأحق أن يتبع، والحمد لله الموفق للصالحات. وقال صاحب المفاهيم ص 156: " وبالنصوص التي نقلناها، يظهر كذب من زعم أن ذلك ما كان يعتني به ويهتم بفعله أحد من الصحابة إلا ابن عمر، وأن ابن عمر ما كان يوافقه على ذلك أحد من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا جهل أو كذب أو تلبيس. فقد كان كثير غيره يفعل ذلك ويهتم به، ومنهم: الخلفاء الراشدون -رضي الله عنهم- وأم سلمة، وخالد بن الوليد، وواثلة بن الأسقع، وسلمة

_ 1 الأصنام ص 6، ولم أسقه للاستدلال، وإنما لبيان ما قيل في حالهم.

ابن الأكوع، وأنس بن مالك، وأم سليم، وأسيد بن حضير1 وسواد بن غزية، وسواد بن عمرو، وعبد الله بن سلام، وأبو موسى، وعبد الله ابن الزبير، وسفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم وسرة خادم أم سلمة، ومالك بن سنان، وأسماء بنت أبي بكر، وأو محذورة، ومالك بن أنس وأشياخه من أهل المدينة كسعيد بن المسيب، ويحيى بن سعيد" انتهى. أقول: لن أطيل القول في تخريج ما نسبه إلى هؤلاء الصحابة والتابعين، ولكن هنا أمور: الأول: أن اتهام صاحب المفاهيم من قال بتفرد ابن عمر بالاهتمام بالآثار المكانية بالكذب ثم بالجهل والكذب والتلبيس، من سيئات المقال، وفضائح الأحوال، إذ ما كان يظن بالصغار أن يكذبوا الكبار من أئمة الحديث والفقه والدين الذين قالوا بتفرد ابن عمر. الثاني: أن هذا القول نسبتُهُ إلى الجهل أحق، إذ من لم يفرق بين البركة الذاتية، والآثار المكانية فخليق باطراح قوله. الثالث: أن من أورد أسماءهم إنما رُوي عنهم التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم الذاتية الباقية بعد وفاته صلى الله عليه وسلم والعرق والجبة والرداء وما شاكل ذلك على القول بصحته، وإلا فعند التحقيق فلا يصح منه إلا شيء قليل. فلِمَ يُكذَِّب من يقول بالفرق وهو الحقيق بالنظر الصحيح، والقول المنيع؟ ! أما من لم يسبر العلم ورضي منه بحظ أدنى الناس نظراً ومعرفة فلا وزن لقوله عند أهل العلم. وهذه التعمية من صاحب المفاهيم ينخدع بها من يحسن الظن به ويثق بعلمه، وتبعتهم يوم القيامة كبيرة {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ} [البقرة: 166] .

_ 1 تحرف اسم حُضَير بالحاء المهملة إلى خضير بالخاء المعجمة، فصححته.

ولا يستطيع صاحب المفاهيم أن ينقل عن غير ابن عمر من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبركه بالآثار المكانية، بسندٍ صحيح أو حسن. الرابع: نسبته ذلك للإمام مالك إمام المدينة وعالمها ليست صحيحة، فمالك -رحمه الله- كان ينهى عن تتبع الآثار المكانية، وينقل مالك هذا عن أعلام التابعين المدنين، وفي كتب أصحاب مالك من هذا نصوص، منها: ما قاله محدث الأندلس ابن وضاح ص 43 في كتابه " البدع والنهي عنها " قال: " وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد، وتلك الآثار للنبي صلى الله عليه وسلم، ما عدا قباءً وأحداً " اهـ. فما للذي ينتسب لمذهب مالك لا يكون مالكياً في هذه المسائل، سلفياً كما كان مالك رحمه الله رحمة واسعة؟ !

فصل في معنى الانتساب إلى السلف والسلفية المسلمون صنفان: سلفيون، وخلفيون. أما السلفيون: فهم أتباع السلف الصالح. والخلفيون: أتباع فهوم الخلف، ويسمون بالمبتدعة، إذ كل من لم يرتض طريقة السلف الصالح في العلم والعمل، والفهم والفقه فهو خلفي مبتدع. والسلف الصالح: هم القرون المفضلة، وعلى رأسهم وفي مقدمتهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أثنى الله عليهم بقوله: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29] الآية. وأثنى عليهم رسول الله بقوله: " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ". وتتابعت أقوال الصحابة أنفسهم، والتابعين لهم بإحسانٍ على الثناء على مجموعهم، والاقتداء بمسالكهم. قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: " من كان منكم متأسياً فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا أبرّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم " وهذا أمر مجمع عليه بين أهل السنة، لا يخالف في ذلك منهم مخالف، وإذا كانوا على مثل هذا الفضل العظيم فلا غرو أن

يتشرف المسلم بالانتساب إلى طرائقهم في فهم الكتاب والسنة، وتفسيرهما، وعملهم بالنصوص. وكانت كل فرقة ضالة من فرق الأمة تستدل لمراداتها ومذاهبها بآياتٍ وأحاديثٍ خلاف فهم السلف لها، وتوسعوا في ذلك حتى كفر بعضهم بعضاً وضربوا كتاب الله بعضه ببعض، كل ذلك بفهمهم للنصوص حَسبَ ما تدعيه كل فرقة، فأصبحت كل الفرق الزائغة تقول: نأخذ بالكتاب والسنة، فالتبس الأمر على ضعيفي النظر، قليلي العلم. والمخرج من هذه الدعاوي والأقوال الزائغة هو اتباع نهج خير القرون، فما فهموه من النصوص هو الحق، وما لم يفهموه ولم يعملوا به فليس من الحق. وهكذا تابعوهم بإحسانٍ ممن تلقوا عن الصحابة الكرام -رضي الله عنهم أجمعين-، فصار من انتسب إلى منهج هؤلاء الصحابة في فهم الكتاب والسنة، ومن أخذ بما صحت روايته عنهم مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن ترك الآراء العقلية والفهم المحدث صار من هذا نهجة وسبيله سلفياً، وصار من لم يكن كذلك خلفياً مبتدعاً، إذ تقرر هذا، فكل مسألة من مسائل العلم لا تخلو من أحد ثلاث أحوال: الأول: أن يكون الصحابة وتابعوهم قد قالوا بها وعملوا بها جميعاً أو بعضهم ولم يظهر له مخالف. الثاني: أن يكون عمل بها بعضهم، وخالف فيها بعض آخر وهم أكثر. الثالث: أن تكون المسألة غير معمول بها عندهم. أما القسم الأول: وهو أن يكون عمل الصحابة كلهم بالمسألة، أو بعضهم ولم يعرف له مخالف، فلا شك أن هذا هو السنة المتبعة، والنهج الواضح البين، والصراط المستقيم، والمحجة البيضاء، فلا يحل لأحدٍ

مخالفتهم في ذلك، وأمثلة هذا أشهر وأكثر من أن تذكر في العقائد والعبادات. وأما القسم الثاني: وهو أن يكون قد عمل بها بعضهم، وخالف آخرون، وهم أكثرهم، حيث آثر عامة الصحابة غير ما اختاره ذلك القليل، وعملوا بغير ما عمل، قال الشاطبي في " الموافقات في أصول الشريعة " (3/57) في وجوب اتباع أكثرهم: " فذلك الغير هو السنة المتبعة، والطريق السابلة، وأما ما لم يقع العمل عليه إلا قليلاً، فيجب التثبت فيه، وفي العمل على وفقه، والمثابرة على ما هو الأعم الأكثر، فإن إدامة الأولين للعمل على مخالفة هذا الأقل: إما أن يكون لمعنى شرعي، فلا بد أن يكون لمعنى شرعي تحروا العمل به، وإذا كان كذلك فقد صار العمل على وفق القليل كالمعارض للمعنى الذي تحروا، وموافقة ما داوموا عليه"1 انتهى. ثم قال (3/70-71) : " وبسبب ذلك ينبغي للعامل أن يتحرى العمل على وفق الأولين، فلا يسامح نفسه في العمل بالقليل، إلا قليلاً، وعند الحاجة ومس الضرورة إن اقتضى معنى التخيير، ولم يخف نسخ العمل، أو عدم صحة في الدليل، أو احتمالاً لا ينهض به الدليل أن يكون حجة، أو ما أشبه ذلك، أما لو عمل بالقليل دائماً للزمه أمور: أحدها: المخالفة للأولين في تركهم الدوام عليها، وفي مخالفة السلف الأولين ما فيها.

_ 1 وساق الشاطبي أمثلة، وفي " التوسل والوسيلة " لشيخ الإسلام ابن تيمية من ذلك أمثلة كثيرة.

الثاني: استلزام ترك ما داوموا عليه، إذ الفرض أنهم داووا على خلاف هذه الآثار، فإدامة العمل على موافقة ما لم يداوموا عليه مخالفة لما داوموا عليه. والثالث: أن ذلك ذريعة إلى اندارس أعلام ما داوموا عليه، واشتهار ما خالفه، إذ الاقتداء بالأفعال أبلغ من الاقتداء بالأقوال، فإذا وقع ذلك ممن يقتدى به كان أشد. الحذر الحذر من مخالفة الأولين، فلوكان ثَمَّ فضل ما لكان الأولون أحق به، والله المستعان" انتهى كلام الشاطبي -رحمه الله-. وأما القسم الثالث: وهو أن تكون المسألة غير معمول بها عندهم، فلا مراء في أن ما خرج عن عملهم كلهم بدعة وشر، إذا كان مما يتقرب به عامله إلى ربه، لا إن كان من العاديات فالأصل فيها الإباحة. ولذا يقال لكل من عمل عملاً لم يكن على طريقة السلف وفهمهم لنصوص الكتاب والسنة: إنك مبطلٌ مبتدع، مُتَّبعٌ غير سبيل المؤمنين. وقد يحسَّن المحدثات التي لم يتقرب بها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أناسُ ينتسبون إلى العلم، في رغبات ونوازع مختلفة، وهو كله خطأ على الدين، واتباع لسبيل الملحدين، فإن هؤلاء الذين أدركوا هذه المدارك، وعبروا على هذه المسالك: إما أن يكونوا أدركوا من فهم الشريعة ما لم يفهمه الأولون، أو حادوا عن فهمها. وهذا الأخير هو الصواب. إذ المتقدمون من السلف الصالح هم كانوا على الصراط المستقيم، ولم يفهموا من الأدلة المذكورة وما أشبهها إلا ما كانوا عليه، وهذه المحدثات لم تكن فيهم ولا عملوا بها1.

_ 1 عن الموافقات للشاطبي (3/73) .

والمحدثات أنواع: فمنها الشركي، ومنها البدع التي تجر إلى الشرك، ومنها بدع تقضي على السنن، وهذه المحدثات بأنواعها لم تكن في زمن الصحابة والتابعين مطلقاً، فلا كان في زمنهم قبور يعكف عندها، وتبنى القبابُ عليها، ويستشفع بأصحابها. ولا كان عندهم توسل بحرمة الأنبياء والصالحين أو جاههم أو ذواتهم، ولا كان عندهم تحرٍ للدعاء عند القبور، ولا كان عندهم هذه الموالد والاحتفالات بمناسبتها، كل هذا لم يكن عندهم بإجماع المسلمين، فإذا كان كذلك فما استدل به الخلف من شبه لتبرير هذه البدع ينقسم ثلاثة أقسام: الأول: آيات كريمة تأولوها على مراداتهم، محرفين لمعانيها عاسفين لها عسفاً. الثاني: أحاديث، وهي قسمان: القسم الأول: أحاديث صحيحة ليست على ما فهموه، ولا توافق مرادهم، وإنما يحرفونها عن معانيها وسياقها. القسم الثاني: أحاديث واهية أو مكذوبة، وما أكثرها عندهم، وما أشدَّ فرحهم بها، وما أعظم إغلاءهم لها، وما أحبهم لترديدها ونشرها. الثالث: حكايات ومنامات يتناقلونها، وكأنها من مصادر التشريع. والمخرج من الاستدلال بالآيات والأحاديث الصحيحة يكون بأمرين: الأول: أن ما يستدل به المبتدعة ليس هو المعنى المراد، فأهل السنة المتبعون لفهم السلف يفهمون منه غير ما فهمه المبتدعة، فيكون فهمُ الخلف مردوداً بفهم السلف. الثاني: -وهو فرع الأول- أن يقال: هل عمل السلف الصالح بفهم الخلف لما يستدلون به أم لم يعملوا به؟ والسلف لم يعملوا بهذه المحدثات اتفاقاً، ولن يقدر مبتدع أن يأتي بعمل للسلف مخالف لعمل الصحابة؛ لأن

أهل السنة متبعون لعمل الأولين من الصحابة والتابعين، بخلاف الخلف الذين يفعلون ما لا يؤمرون. وفي هذا المعنى ما رُوي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "إنه سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله" 1. ولذا لا تجد فرقة من الفرق الضالة ولا أحداً من المختلفين بعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة، والشأن والصواب في صحة الاستدلال لا بمجرد الاستدلال. قال الشاطبي بعد ذكر مجمل هذه المعاني (3/77) : " فلهذا كله يجب على كل ناظرٍ في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به، فهو أحرى بالصواب وأقوم في العلم والعمل" انتهى. إذا تبين هذا وانجلى، وظهر الحق واعتلى، فالذين يصح تشرفهم بالانتساب إلى السلف الصالح يدورون مع هذه المسائل التي ذكرت. 1- فما كان عمل الصحابة به منتشراً، عملوا به. 2- وما تفرد به واحد منهم أو أفرادٌ وخالف فيه بقيتهم ردوه إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم كما أمرهم ربهم بذلك حيث قال: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] .

_ 1 رواه الدارمي (1/47) ، واللالكائي في " السنة "، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله "، وكذا رواه الدارقطني وابن أبي زمنين في " أصول السنة "، ونصر المقدسي في " الحجة على تارك المحجة " وآخرون.

فأمر بالرد إلى الله وهو الرد إلى كلامه المنزل الحكيم قرآنه العظيم، وأمر بالرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وهو الرد إليه في حياته، وإلى سنته الثابتة الصحيحة بعد وفاته، والنظر للاتباع في عمل الأكثرين. فلم يظهر بحمد في قاعدتهم إخلال، ولا نابها اضطراب وهي القاعدة البينة، والسبيل النهج الواضح، والصراط المستقيم، وعليها سار الأئمة الأربعة في أكثر فقههم رحمهم الله وأجزل لهم المثوبة. 3- وما لم يعمل به أولئك الكرام -أعني صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر العبادات- فهو محدث أحدثه الخلوف. فما كف الصحابة والتابعون عما كفّوا عنه إلا لنظر سديد، وفهم حميد لأدلة الكتاب والسنة، ولا تركوا ما تركوا ما أحدثه من بعدهم -مع وجود أسبابه عينها التي برَّرَ بها المحدثون محدثاتهم- إلا عن فهم لأمور الشرع، وتركهم سنة متبعة وسبيل مقتفاة. ولا رغبوا فيما رغبوا عنه مما طلب به الخلوف الأجر والثواب إلا وفِعْل ما رغبوا عنه ليس من الدين، فإنهم أحرص الناس على الخير، وأكثرهم تحرياً لولوج أبواب الطاعات المشروعة، فإنهم لا يتركون مشروعاً إلا وقد أتوه وطلبوا الثواب، وتقربوا إلى الله بعمله. فما أفقه من اتبعهم في أخذهم وتركهم، وفقههم وعلمهم، وفهمهم وعملهم، وما أحراه بكل خير وقربة، وما أجدره بأن يوفق في أمره كله.

الباب السادس: ملابسات محمد المالكي

الباب السادس: ملابسات محمد المالكي ... قال ص 10: "أما هو صلى الله عليه وسلم فإننا نعتقد أنه صلى الله عليه وسلم بشر يجوز عليه ما يجوز على غيره من البشر من حصول الأعراض والأمراض التي لا توجب النقص والتنفير. كما قال صاحب العقيدة: وجائز في حقهم من عرض بغير نقص كخفيف المرض " اهـ. أقول: بئس ما قاله صاحب عقيدتكم من أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يصيبه إلا المرض الخفيف، وبئس القدوة المقتدى بها، فأنتم مقتدون بقوله هذا ونحن متبعون لحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، أنتم تصدقون أقوال صاحب عقيدتكم، ونحن نصدق أقوال حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم فبؤساً لكم باتباع صاحبكم، وهنيئاً لنا باتباع نبيناً محمدٍ صلى الله عليه وسلم وصحابته. يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فقلت: يا رسول الله! إنك توعك وعكاً شديداً. قال: "أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم " أخرجه البخاري في كتاب المرضى من " صحيحة " (10/111) ، قال الحافظ في " الفتح ": "صدر هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه الدارمي والنسائي في الكبرى، وابن ماجه، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم كلهم من طريق عاسم ابن بهدلة عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاءً؟ قال: " الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه. . . الحديث " اهـ كلام الحافظ. فهذا اعتقادنا نتبع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم اتبعوا ناظم عقيدتكم مخالفين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه.

اسمع قول عائشة فيما أخرجه البخاري ومسلم في " صحيحيهما ": "ما رأيت أحداً أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ". فالذي جر الكاتب إلى هذه المخالفة الظاهرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم هو الغلو المنهي عنه، فانظر بطلان دعواهم، وصحة دعوى المتبعين للسلف. قال القاضي عياض -رحمه الله- في " شرح مسلم ": " وليعلم أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر ليتيقن أنهم مخلوقون مربوبون، ولا يفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات، ويلبس الشيطان من أمرهم ما لبسه على النصارى وغيرهم" اهـ. قال ص 31: " الأدعياء والمتطفلون على بساط الحقيقة كثيرون، والحقيقة بريئة منهم، ولا تعترف لهم بصحة نسبتهم إليها "، ثم قال: " ولقد بلينا معشر المسلمين بكثير من هؤلاء، يعكرون صفو الأمة ويفرقون بين الجماعات. . ."، ثم قال: "ويدخلون إلى تصحيح مفاهيم الإسلام من باب العقوق " اهـ. أقول: لقد عاشت هذه البلاد السعودية منذ ضم الحجاز تحت لواء حكمها على عقيدة واحدة، ائتلف عليها جميع رعاياها في شتى أنحائها، لا تسوءُهم بدعة، ولا يؤرقهم عصيان وكفران، كلهم على كلمة واحدة، وجماعة واحدة، في صفوٍ من العيش، لا تفرقات ولا أحزاب إقليمية، متحابين، يصحح مصيبهم مخطاهم، ويسدده ويقيله عثرته، في ما تختلف فيه الأفهام، ويسوغ فيه الاجتهاد والنظر، وكانوا متفقين في الأصول، لا خلاف بينهم فيها، ولا جدال حولها، إذ قر قرارها، وأجمع المسلمون في هذه البلاد على ذلك، لا نعلم مخالفاً لهم بينهم.

ثم ظهر من أثار الفتنة، وفرق المسلمين، وعكر صفو الأمة، وجعل الجماعة الواحدة جماعات: فمَنِ الأدعياء المتطفلون الذين فعلوا هذا؟ ! وجعلوا لا يفتؤون في الصد عن العقيدة التي كانت عليها هذه البلاد من التوحيد الخالص. فهذا سهم ارتد عليك من جعبتك، وقول خشيت أن ترمى به فسارعت إلى الرمي به. ثم نقول لك: من هو الذي يفرق الجماعة؟ ! أهو الذي يدعو إلى عقيدة التوحيد وإفراد الله بعبادة واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والاعتصام بالكتاب والسنة، حتى تكون الأمة جماعة واحدة معبودها واحد: وهو الله، وقدوتها واحد: هو محمد صلى الله عليه وسلم، ودليلها واحد، وهو الكتاب والسنة، وتحت راية واحدة هي راية التوحيد؟ ! ، أم الذي يدعو إلى التعلق بغير الله من الأولياء والصالحين، وإلى اتباع الطرق الصوفية المبتدعة وإلى الاستدلال بالأحاديث الموضوعة، والحكايات المكذوبة والمنامات الشيطانية مما تزخر به كتب القوم؟ ! {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81] . قال ص 33: " وهذا ما حققه علماء الأصول من سلف هذه الأمة -رضي الله عنهم-: كالإمام العز بن عبد السلام، والنووي، والسيوطي، والمحلي، وابن حجر" اهـ. أقول: مما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أن لفظ السلف له إطلاقات: منها: ما هو عامٌ كلي يُعنى به الصحابة والتابعون وتابعوهم، ثلاثةُ القرون المفضلة، وهذا المعنى هو الذي يصح عند إضافته إلى الأمة، كقولهم: سلف الأمة، وإلى هؤلاء وخاصة الصحابة ينسب السلفيون.

ومعنى هذه النسبة: " السلفي": أنه ينهج نهج الصحابة وتابعيهم، فإن اتباع الكتاب والسنة كل يدعيه، وكل يطمح إلى شرف الانتساب إليه، وما كل ما ظنه المرء مطمحاً يصل إليه، فرب طامح تشعبت السبل به، فالفرق الضالة كلها تنتسب إلى الكتاب والسنة، كالمعتزلة من المتقدمين، والقاديانية من المتأخرين، والرافضة المتقدمين والمتأخرين وغير هؤلاء. فحقيقة الانتساب الصحيح إلى الكتاب والسنة الذي به يفرق بين أهل السنة والجماعة وغيرهم اتباع الصحابة، وانتهاج منهجهم، وارتضاء طريقتهم، فبهذا تنقطع الأسباب المدعاة، ويظهر المحق والمبطل، وقد فُصِّل هذا الإجمال في موضع آخر من هذه " الورقات". ومنها: ما هو خاص يضاف إلى القائل بالنسبة لمن سبقه كقولهم: سلفنا، فهذا لفظ يصدق على كل من تقدم القائل، ولا يقتضي رفعة في رتبة شرعية، ولا منزلة دينية، وهذا هو الذي يستعمله المؤلفون عند ذكر علماء الأمة الأجلاء المتأخرين عن مرتبة أولئك، وهو الذي يصدق على الذين ذكرهم المؤلف وأقدمهم وفاة العز بن عبد السلام وكانت وفاته في القرن السابع، وآخرهم ابن حجر الهيتمي. وهؤلاء عند علماء الشافعية متأخرون كما هو اصطلاحهم في المتقدمين والمتأخرين، وحد التفرقة رأس الأربع مئة عند الشافعية، فإطلاق " سلف هذه الأمة" عليهم ليس مستقيماً لا باقتضاء لغوي ولا عرفي. قال ص 41 في فصل " حقائق تموت بالبحث": " وذلك مثلاً كاختلاف العلماء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لله -سبحانه وتعالى- كيف كانت؟ والخلاف الطويل العريض الدائر بينهم في ذلك الباب، فمن قائل: رآه بقلبه، ومن قائل: رآه بعينه، وكل يورد دليله ويستنصر له

بما لا طائل تحته، والذي أراه أن كل ذلك عبث لا فائدة فيه، بل ضرره أكبر من نفعه" اهـ. أقول: هذا قول كاتب المفاهيم الغريبة العجيبة، وفي قوله من الجرأة والانتقاص للسلف الصالح من الصحابة ومن تبعهم بإحسان، ورميهم بالبحث فيما لا فائدة فيه! بل إنهم في زعمه يبحثون فيما ضرره أكبر من نفعه! من علمك هذا الاختيال والزهو؟ ومن صيرك حكماً على أقوال الصحابة تتهمهم بالعبث، ومباحثهم بالضرر؟ . قال أبو العباس القرطبي في " المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم " (1/148) نسخة الأحمدية بحلب: " واختلف قديماً وحديثاً في جواز رؤية الله تعالى، فأكثر المبتدعة على إنكار جوازها في الدنيا والآخرة، وأهل السلف والسنة على جوازها فيهما ووقوعها الآخرة. ثم هل رأى نبينا صلى الله عليه وسلم ربه أم لا؟ اختلف في ذلك السلف والخلف، فأنكرته عائشة وأبو هريرة وجماعة من السلف، وهو المشهور عن ابن مسعود وإليه ذهب جماعة من المتكلمين والمحدثين. وذهبت طائفة أخرى من السلف إلى وقوعه، وأنه رأى بعينيه، وإليه ذهب ابن عباس، وقال: اختص موسى بالكلام، وإبراهيم بالخلة، ومحمد صلى الله عليه وسلم بالرؤية، وأبو ذر وكعب والحسن وأحمد بن حنبل، وحكي عن ابن مسعود وأبي هريرة في قولٍ لهما آخر" اهـ. وطلب دلائل هذه المسألة وسبب الاختلاف له موضع آخر، وإنما المقصود هنا رد قول الكاتب الجريء على السلف، أن ضرر البحث في المسألة أكبر من نفعه.

ولو كان الكاتب ذا أدب علمي، وورع ديني لما ضمن كلامه هذه الاتهامات لخير القرون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال في ص 29 من كتابه في العلماء والسلف الصالح: " كيف يفتح الله علينا لنستفيد من علومهم إذا كنا نعتقد فيها الانحراف " اهـ. فهذا قوله ذكرناه به، وحَتْفَهَا تحمل مَعْز بأظلافها، ويداك أوكتا وفوك نفخ، إذ هو مقر على نفسه بأن فتح باب العلوم لا يجتمع مع التنقص للسلف، وهو متهم بعض علوم الصحابة بالعبث والضرر، فصدق؛ فإن باب علومهم موصدٌ أمامه، مغلق لا يفتح إلا لمن أجلهم ونظر فيما اختلفوا فيه وترضى عنهم. فكتاب المفاهيم بشهادة كاتبه على نفسه ليس له بعلوم الصحابة اتصال، ولا ارتباط بسبب من الأسباب، وإن كان يدعي خلاف ذلك فرب زَعَمات يُسمين عَزَمات. وفي ص 38 عنون بـ " حقيقة الأشاعرة" وقال فيه: "يجهل كثير من أبناء المسلمين مذهب الأشاعرة، ولا يعرفون من هم الأشاعرة ولا طريقتهم في أمر العقيدة. . ولا يتورع البعض أن ينسبهم إلى الضلال أو يرميهم بالمروق من الدين والإلحاد في صفات الله، وهذا الجهل بمذهب الأشاعرة سبب تمزق وحدة أهل السنة. . إلخ". نقول: مذهب الأشاعرة في العقيدة معروف، ومخالفاته لمذهب أهل السنة محررة معلومة، فيجب هنا أن نذكر طرفاً من حال الأشاعرة ليتضح حالهم، ولا يلتبس الآمر فأقول: الأشاعرة جمع أشعري وهي نسبة إلى الإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري جده البعيد أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- ولد سنة 260 تقريباً وتوفي سنة 324هـ.

مات أبوه فتزوجت أمه بعده أحد رؤوس المعتزلة وهو: الجبائي، فتربى الأشعري في حجره، حتى كانت تلمذته له خاصة، فعرف فكره ودرس مذهبه حتى بلغ أربعين سنة فيما قيل يناظر على مذهب الاعتزال. ثم يقال: إنه رقى يوم جمعة كرسياً، ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه نفسي: أنا فلان ابن فلان، كنت قلت بخلق القرآن، وأن الله لا يرى بالأبصار وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع. وقيل غير ذلك واخترت أخصرها لفظًا، والمقصود أنه تاب من اعتزاله، ثم بعد ذلك جلس في حلقة أصحاب ابن كلاّب، فأخذ منهم زماناً، فكان مذهبه المتوسط الذي ينسب إليه أتباعه هو المذهب الكلابي الذي لم يتخلص من براثن الاعتزال وهو نفي الصفات، ما عدا سبعاً منها، والقول بالأرجاء، والكلام النفسي، ونفي الحكمة عن أفعال الله وشرعه. ثم نظر في النصوص نظرة تعلم فتاب من مذهبه ذلك، ورجع إلى مذهب أهل الحديث في الجملة، وهاك نصوصاً من كتبه مقررة لذلك. 1- قال في " مقالات المسلمين " وهو أوثق الكتب نسبه له بعد أن سرد مذهب أهل الحديث وعقائدهم بتفصيل (1/320-325) : " فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله. . . ". 2- قال في " الإبانة " العبارة المشهورة المنقولة: " قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب ربنا، وبسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه، ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون. . . " اهـ.

ولكن المنتسبين إليه بقوا على مذهبه المخالف لمذهب السلف في باب الصفات والقدر وغيره، ولم يكونوا على مذهبه الأخير الذي استقر عليه، بل بقوا على مذهبه الذي رجع عنه والذي هو ضلال وخروج عن منهج السلف، فكيف يقال إن تضليل الأشاعرة تمزيق لوحدة أهل السنة؟ ! بل نقول إن الدفاع عن مذهب الأشاعرة -وهو مذهب باطل -هو التمزيق لوحدة أهل السنة، حيث حسب على أهل السنة من ليس منهم ليحل مذهبهم الباطل على مذهبهم الحق ويدس في صفوفهم من ليس منهم. قال ص 38 عن الأشاعرة: " هم الذين قال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية: [والعلماء أنصار علوم الدين، والأشاعرة أنصار أصول الدين] " الفتاوى " الجزء الرابع" اهـ. أقول: ما قال هذا شيخ الإسلام، وإنما نقله في فتوى له (4/16) عن العز بن عبد السلام من قوله، وهذا نصه: " رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد فتوى طويلة، فيها أشياء حسنة، قد سئل بها عن مسائل متعددة، قال فيها: فذكر نقولاً منها قوله: قال: " وأما لعن العلماء لأئمة الأشعرية، فمن لعنهم عزر، وعادت اللعنة عليه، فمن لعن من ليس أهلاً للعنة وقعت اللعنة عليه. والعلماء أنصار فروع الدين، والأشعرية أنصار أصول الدين ". هذا كلام العز بن عبد السلام، وتعقبه شيخ الإسلام بقوله: "فالفقيه أبو محمد أيضاً إنما منع اللعن، وأمر بتعزير اللاعن لأجل من نصروه من " أصول الدين "، وهو ما ذكرناه من موافقة القرآن والسنة والحديث، والرد على من خالف القرآن والسنة والحديث ولهذا كان أبو إسحاق يقول: إنما نفقت الأشعرية عند الناس بانتسابهم إلى الحنابلة".

وهذا ظاهر عليه وعلى أئمة أصحابه في كتبهم ومصنفاتهم قبل وقوع الفتنة القشيرية ببغداد. ولهذا قال أبو القاسم ابن عساكر في " مناقبه ": "ما رأيت الحنابلة والأشاعرة في قديم الدهر متفقين غير مفترقين، حتى حدثت فتنة ابن القشيري " إلخ كلام الشيخ. فعلم بهذا أن شيخ الإسلام ما أطلق بأن الأشاعرة أنصار الدين، بل إنه رد على أبي محمد بن عبد السلام إطلاقه ذلك القول؛ لأنهم إنما يمدحون بما وافقوا فيه الكتاب والسنة، ويذمون بما خالفوا فيه القرآن والحديث. فالأشاعرة نصروا الدين في مسائل نقضوا بها على المعتزلة، وأحسنوا، ولكنهم لم يتبعوا القرآن والحديث في مسائل معروفة من الأصول، فلذا إنما نصروا جانباً، وعظمت الفتنة بهم فيما ضلوا فيه عن القرآن المجيد والحديث. وكاتب المفاهيم ليس ذا تحرٍ في نقوله، بل إنه مقلد في عباراته، فهذه الجملة من قول العز بن عبد السلام قد نسبها إلى شيخ الإسلام ترويجاً لها رجلٌ أشعري معاصر، يقطن مكة الآن، وجل من ترى اليوم منهم شيوخًا وصغاراً منهجهم عدم التثبت، وترك التوقي، والتلبيس والتزوير، فالله المتسعان. قال ص 39 في تعداد أسماء الأشاعرة: " وأبو حيان التوحيدي صاحب البحر المحيط ". أقول: كيف يؤمن على تصحيح المفاهيم، وتفسير القرآن وشرح الحديث من لا يفرق بين أسماء العلماء ولا يعرفهم. فمن كان هذا شأنه وتلك علومه فسيخلط حين ينسب الأقوال ويتقول على أهل العلم ما لم يقولوه، فربما يقول القول محمدُ بنُ إسحاق ابن خزيمة، فيجعله لمحمد بن إسحاق بن يسار صاحب السيرة، وربما يروي

أبو نعيم الفضل بن دكين خبراً فيجعله من مرويات أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، وربما ينقل عن محمد بن إدريس أبي حاتم الرازي ويجعله لمحمد بن إدريس الشافعي، وربما ينسب لأبي داود السجستاني ما لأبي داود الطيالسي، وربما ينقل عن أبي زرعة العراقي ما لأبي زرعة الرازي، كما صنعه بعضهم، وهكذا. وفي علوم اللغة ربما نسب لابن هشام صحاب السيرة ما لابن هشام شارح مقصورة ابن دريد أو لابن هشام النحوي شارح الألفية، وربما نسب ما لأبي عبيد لأبي عبيدة، أو ما للأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة ما لأخفش آخر، كعلي بن سليمان أو غيره، وربما نقل عن الأزهري أبي منصور ويظنه الأزهري خالداً المتأخر شارح " أوضح المسالك " وغيره، وهكذا. وفي علوم القراءات ربما عزى القول أو القراءة لابن كثير المكي، فظنت لابن كثير المفسر، وبينهما قرون، وربما نسب لنافع المدني ما لنافع مولى ابن عمر، وربما ذكر قراءة عاصم بن أبي النجود فظنت كمنزلة روايته عند المحدثين. وفي علوم الفقه: ربما خلط بين ابن تيمية شيخ الإسلام أبي العباس وبين جده أبي البركات، وربما نسب ما لابن حجر العسقلاني لابن حجر المكي، وربما ظن قول ابن عبد الهادي يوسف قولاً لابن عبد الهادي محمد بن أحمد، وربما خلط بين الهيثمي والهيتمي، وربما ظن ابن نجيم صاحب " البحر الرائق " هو ابن نجيم صاحب " النهر الفائق "، وربما ظن الزيلعي الفقيه هو الزيلعي صاحب " نصب الراية ". وسرد بقية العلوم، أو الاستفاضة فيما أشير إليه ليعلم؛ فلا يخرج بنا عن المقصود الذي مثلنا بنظيره، وألمعنا إلى قليله.

وإني لا نقضي عجبي من قول الكاتب: أبو حيان التوحيدي صاحب " تفسير البحر المحيط "، ثم أعجب أكثر حين أرى أسماء العلماء الذين صدروا كتابه بالتقريظات والثناء العاطر، وكلهم يزعم أنه قرأ الكتاب! ومنهم من حُلّي اسمه بالقاضي العلامة المؤرخ (!) الفقيه، ومنهم العلامة المحدث المحقق، ومنهم العلامة الفقيه، ومنهم العلامة الفقيه الأصولي الذي امتدح كتاب " المفاهيم " بقوله: بحث دقيق عميق لا يقوم له خبط وخَلْطٌ وتدليس وإيهام ومنها تقاريظ لم تنشر تواضعاً! كيف يفوت المقرظين هذا الخلط العجيب بين رجلين عاش أحدهما في القرن الرابع، والآخر في السابع والثامن الهجريين؟ ! كيف لم تمر عليهم هذه العبارة ويصححوها؟ ! أو هي مرت ولم يعرفوها؟ ! ما من شك أن المستنتج أنهم لم يقرؤوا كتابه، إذ فوت مثل هذا على أمة من العلماء لا يتصور إلا بأحد سببين، الأول: ذكرناه، والآخر: نطويه ليتفكر فيه اللبيب. إن المتوسط من طلبة العلم يدرك من هو التوحيدي، ومن صاحب " البحر المحيط "، فهاك يا من زبزب قبل أن يحصرم ترجمة الرجلين، لعلّها تكون لجاماً عن الإعجاب بالنفس، أو الإعجاب بالتقريظات. أما التوحيدي فهو علي بن محمد بن العباس البغدادي، قال الذهبي فيه: " الضال الملحد. . . صاحب التصانيف الأدبية والفلسفية" اهـ. ولد نحو سنة 335هـ وهلك نحو سنة 414هـ أو فيها. له تصانيف فمما طبع: الإمتاع والمؤانسة، وفيه ذكر اتصاله بإخوان الصفا، وله البصائر والذخائر، والصداقة والصديق، ومثالب الوزيرين، وغيرها.

ومذهبه غامض يتدسس فيه وله إعجاب بالمعتزلة، وكأنه لذلك سمى نفسه التوحيدي، نسبة إلى توحيدهم الذي هو نفي الصفات، وقيل نسبة تمرٍ بالعراق يقال له: توحيد، وليس بمستقيم. والتوحيدي أبو حيان يشبه أن يكون من إخوان الصفا الباطنيين، أو من أتباع الإسماعيليين فإنه يردد آراءهم في كتبه، وهذه الآراء شر محض، وفلسفة صرفة، ودين غير دين الإسلام. وأما أبو حيان الأندلسي صاحب تفسير " البحر المحيط " فهو أثير الدين محمد ابن يوسف بن علي بن يوسف بن حيَّان الأندلسي الغَرْناطي النفزي، نسبة إلى نِفْزة، قبيلة من البربر. قال ابن العماد في " شذرات الذهب " (6/145) : "نَحْوي عصره، ولُغويه، ومفسره ومحدثه ومقريه ومؤرخه وأديبه، ولد بمَطْخشَاش مدينة من حضيرة غرناطة في آخر شوال سنة 654هـ" اهـ. وقال الحافظ ابن حجر في " الدرر الكامنة " (4/304) : " كان ظاهرياً وانتمى إلى الشافعية، واختصر المنهاج، وكان أبو البقاء يقول: إنه لم يزل ظاهرياً، قلت: كان أبو حيان يقول: محال أن يرجع عن مذهب الظاهر من علق بذهنه" اهـ. توفي سنة 745 هـ وهو قائل هاتيك الأبيات في شأن الشيخ تقي الدين ابن تيمية لما دخل مصر. قال الكاتب ص 9: " جاء في الحديث: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ". والمعنى أن إطراءه والتغالي فيه والثناء عليه بما سوى ذلك هو محمود، ثم قال: "نعم يجب علينا أن لا نصفه بشيءٍ من صفات الربوبية، ورحم الله القائل حيث قال: دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم

فليس في تعظيمه صلى الله عليه وسلم بغير صفات الربوبية شيء من الكفر والإشراك بل ذلك من أعظم الطاعات والقربات. . " انتهى. أقول: أهل السنة والحديث -بحمد لله وتوفيقه- يعظمون رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أمرنا أن نعظمه به، من الإيمان به وبما جاء به، وتعزيره وتوقيره، واتباع النور الذي جاء به، والاستنان بهديه وسنته في الأمور كلها. وهم يحبون حديثه وسنته، ويدافعون عنها، وينافحون عن أقواله، ولا يرتضون أن ينسب أحد إليه ما لم يقله، أو يترجح أنه ما قاله. يعرفون منزلته التي أنزله الله فلا ينزلونه عنها وحاشاهم، ولا يرفعونه عنها كما فعله الغلاة، وهم في كل ذلك متبعون طريقة الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- ومن بعدهم من أئمة الهدى والدين. ثم لما ظهرت طوائف الابتداع كالصوفية الغلاة اظهروا فتنة عظيمة فتنوا بها الناس ألا هي: إظهار تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأقوال، وهجر اتباعه بالأفعال، فخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطريقة أصحابه الكرام الخلفاء الراشدين فمن بعدهم. وأدخل أولئك المتصوفة من الأحاديث المكذوبة والموضوعة ما لا يكاد يحصى عن قلة علم وجهل بالحديث، أو عن قصد عمد، وأشيعت في الناس وانتشرت حتى هجرت السنن الصحيحة واتبعت الأحاديث المردودة، وهم معترفون بأنهم لا يعرفون الحديث ومخارجه، ولا صحيحه من بهرجه، ومن نظر في كتب القوم وجد ذلك جلياً. وسياق كاتب المفاهيم لحججه بين ضعف الاستدلال والتقليد، فهو مطلق لنفسه الحبل على الغارب، فهذا الحديث الذي استدل به أخرجه البخاري في " صحيحه " (6/478) عن عمر مرفوعاً: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله ".

والكاتب وضع يده على بقية الحديث لئلا يفهم منه قاري كلامه الفهم الصحيح واجتزاؤه هذا مخل، وهو من باب التحريف لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، تحريف معنى، إذ لا يتضح المعنى إلا بإتمامه، فإن معنى الحديث: لا تتجاوزا الحد في مدحي فيفضي بكم ذلك إلى ما آل بالنصارى لما أغرقوا في مدح وتعظيم عيسى -عليه السلام- فإنهم رأوا ما أجراه الله على يديه من معجزات كإحياء الموتى وإسماع الصم وإعادة الأبصار مع ضميمة كونه كلمة الله، فادعوا فيه الألوهية. فالكاف في قوله صلى الله عليه وسلم: " كما" ليست كاف تشبيه، إنما هي كاف التعليل التي تدل على مآل الحال. جاء في إنجيل " برنابا " في الفصل الرابع والتسعين قول عيسى -عليه السلام-: " إني أشهد أمام السماء، وأشهد كل ساكن على الأرض أني بريء من كل ما قاله الناس عني من أني أعظم من بشر؛ لأني بشر مولود من امرأة، وعرضة لحكم الله، أعيش كسائر البشر عرضة للشقاء العام ". ثم جاء فيه رد النصارى عليه: " قال الوالي وهيرو دوس: يا سيد! إنه لمن المحال أن يفعل بشر ما أنت تفعله، فلذلك لا تفقه ما تقول" اهـ. هذا قول عيسى -عليه السلام- وقد أخبر الله عنه في المائدة، أنه قال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] ، وقال لهم: {اعْبُدُواْاللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}

وقال: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} [الصف: 6] ، قال شيخ الإسلام في " رده على البكري " (ص105) : "فلو امتثلوا أمره كانوا مطيعين لرسل الله، موحدين لله، ونالوا بذلك السعادة من الله تعالى في الدنيا والآخرة، فغلوا فيه واتخذوه وأمه إلهين من دون الله: يستغيثون به وبغيره من الأنبياء والصالحين، ويطلبون منهم، ويشركون بهم، وكذبوا بالرسول الذي بشر به، وحرفوا التوراة التي صدق بها، وظنوا في ذلك أنهم معظمون للمسيح، وكان هذا من جهلهم وضلالهم. فإنهم كلما أطاعوه فيما دعاهم إليه كان له مثل أجورهم، وكانت طاعتهم له، والإقرار بعبوديته، وبما بشر به فيه: وله ولهم من الأجر ما لا يحصيه إلا الله، ففوتوا هذا الأجر والثواب عليهم وعليه، وله ولهم فيه الخبر المستطاب، واعتاضوا عن ذلك بما ضرهم في الدنيا والآخرة. وإذا بين لهم قدر المسيح فقيل لهم: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] ، قالوا: إن هذا تنقص بالمسيح، وسب له واستخفاف بدرجته وسوء أدب معه، بل قالوا: هذا كفر وجحد لحقه، وسلب لصفات الكمال الثابتة له " اهـ. ففي حديث عمر " لا تطروني " إرشاداً إلى قطع وسائل الإطراء والأمر بأن نقول فيه: عبد الله ورسوله، هذا الذي ارتضاه صلى الله عليه وسلم لنفسه، أفلا نرتضي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما ارتضاه هو لنفسه؟ ! وقد نهى عن تعظيمه بأحاديث كثيرة؛ قطعاً وحسماً لمادة الإطراء المستوجبة لرفعه فوق منزلته التي أنزله الله، المؤدية لوصفه بما لا يجوز إلا لله.

ثم إن قول الكاتب: " نعم يجب علينا أن لا نصفه بشيء من صفات الربوبية. ورحم الله القائل حيث قال: دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم" أقول: إن قولك كله من مشكاة هذا القائل الذي أبهمته، وأنت من أحفظ الناس لاسمه، إنه البوصيري صاحب البردة، فلم أبهمته، وتركت التصريح باسمه؟ ! وقولك هذا من أقوال شراح البردة، يتناقله الضلال من قديم في ردودهم على أهل الحق، وعلمهم حول البردة يدندن، قال الأزهري في شرحه للبيت ص 22: "اترك ما قالته النصارى -في نبيهم عيسى بن مريم -عليهما السلام- أنه ابن الله كما أخبر الله -سبحانه وتعالى- عنهم، فإن نبينا نهى عن مثل ذلك، حيث قال: " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى "، أي: لا تصفوني بذلك، واحكم بعد ذلك له صلى الله عليه وسلم بما شئت من أوصاف الكمال اللائقة بجلال قدره، وخاصم في إثبات فضائله" اهـ. يعني لا تقولوا ابن الله وقولوا بعد ذلك ما شئتم من الغلو والشرك، وهذا من فروع الإطراء الذي نهى عنه، وقعوا فيه، فالغلو شر كله، وقادهم الغلو إلى قولٍ خطير، عظيم شره، وهو قول البوصيري: لو ناسبت قدرَه آياتُه عظماً أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم قال إبراهيم الباجوري شارحاً للبيت ص 33: "لو ناسبت آياته قدره في العظم لكان من جملة آياته أن يحيى اسمه دارس الرمم حين يدعى به، فلم تناسب آياته قدره في العظم، وهو المطلوب؛

لأن الواقع أن قدره صلى الله عليه وسلم أعظم من آياته، حتى من القرآن المتلو بخلاف غير المتلو" انتهى1. فانظر ما جره إطراء البوصيري من المعاني المستولية الوخيمة، التي تنادي عليهم بالويل والثبور من كل سهل وجبل، وغَوْرٍ ونجد، حتى اتهموا الله بأنه لم يوفه حقه، فاللهم! إنا نبرأ إليك من هذا القول وقائله وممن ارتضاه.

_ 1 قال الإمام ابن جرير الطبري في كتابه " التبصير في معالم الدين ": " من ادعى أن قرآناً في الأرض، أو في السماء سوى القرآن الذي نتلوه بألسنتنا أو نكتبه في مصاحفنا، أو اعتقد ذلك بقلبه أو أضمره في نفسه، وقاله بلسانه فهو بالله كافر حلال الدم وبرئ من الله، والله منه بريء " اهـ المقصود منه، نقله عنه القاضي أبو يعلى في كتابه " إبطال التأويلات لأخبار الصفات " (ص8-9 نسختي الخطية) .

الخاتمة

الخاتمة ... خاتمة الحمد لله بدءًا وانتهاءً، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، أما بعد: فهذا نهايةُ ما أردتُ الردَّ عليه من كتاب مفاهيم يجبُ أن تصحح، وبقيت مسائل تعرَّض لها لم أتناولْها كالمولد، وشدِّ الرحل لزيارة القبر النبوي، والخصائص النبويَّة، ونحوها من المباحث؛ لأجل أن منها ما قد أشبع الكلامُ عليه، ومنها ما لا يتسع الكلامُ في أخبارها، روايةً ودرايةً. وإني أسألُ الله العليَّ القديرَ، العليمَ الحكيمَ، أن يُبَصَّرنا بأنفسنا، وينفع بما كتبتُ، والله المسؤولُ أن يُوفقنا للالتزام بدينه، وتوحيده، كما يحبُّ ويرضى، وأن لا يَكِلَنا لأنفسنا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... دليل المطبوعات المحال إليها في الكتاب، وما طبع بمصر أغفل بلد طباعته. - أحكام القرآن للجصاص: تركيا، الأوقاف، 1325هـ. - الأدب المفرد، للبخاري: السلفية، 1375هـ. - الأذكار، للنووي: دمشق، دار الملاح، 1391هـ. - الأسماء والصفات، للبيهقي: السعادة، 1358هـ. - الأصنام، لابن الكلبي: دار الكتب المصرية، 1343هـ. - أضواء البيان، للشنقيطي: الرياض، المطابع الأهلية، 1403هـ. - الاعتصام، للشاطبي: مصطفى محمد، بلا تأريخ. - الإنصاف للمرداوي: السنة المحمدية، 1374-1378هـ. - الإيضاح، للقزويني: السنة المحمدية بلا تأريخ. - البحر الرائق، لابن نجيم: دار الكتب العربية الكبرى، 1333هـ. - البداية والنهاية، لابن كثير: السعادة، 1351هـ. - البدع والنهي عنها، لابن وضّاح: دمشق، دار البصائر، الطبعة الثانية، 1400هـ. - بلوغ الأرب، للألوسي: الرحمانية، 1343هـ. - تأريخ ابن جرير: دار المعارف، 1960م. - تجريد التوحيد، للمقريزي: المنيرية، 1343هـ. - التحرير والتنوير، لابن عاشور: تونس، 1984م. - تخريج الإحياء للعراقي. - الترغيب والترهيب، للمنذري: مصطفى الحلبي، 1373هـ. - تطهير الاعتقاد، للصنعاني: مكة، السلفية، 1347هـ. - تفسير ابن جرير: بولاق، 1323هـ والحلبي: 1388هـ، المعارف. - تفسير ابن كثير: دار الشعب، بلا تأريخ. - تفسير الرازي: البهية، 1357هـ. - تفسير القرطبي: دار الكتب المصرية، 1373هـ. - تنزيه الشريعة، لابن عراق: ط. الأولى، مكتبة القاهرة. - تهذيب اللغة، للأزهري: الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1384هـ. - تيسير العزيز الحميد، لسليمان آل الشيخ المكتب الإسلامي، 1382هـ. - جامع الترمذي: مصطفى الحلبي، 1356-1385هـ. - جامع العلوم والحكم، لابن رجب: الأهرام، 1389هـ. - الجواب الصحيح، لابن تيمية: فرج الله الكردي، 1322هـ.

- حلية الأولياء، لأبي نعيم: السعادة، 1351هـ. - الخصائص النبوية، للسيوطي: المدني، 1387هـ. - الدرر السنية في الأجوبة النجدية، مكة، مطبعة أم القرى، 1352هـ. - الدرر السنية، لأحمد بن زيني دحلان الحلبي، 1386هـ. - الدرر الكامنة، لابن حجر: الهند، حيدر آباد، 1348هـ. - الدر النضيد، للشوكاني: محمد علي عطية الكتبي، 1351هـ. - دلائل النبوة، للبيهقي: بيروت، دار الكتب العلمية، 1405هـ. - الرد على البكري، لابن تيمية: السلفية، 1346هـ. - الرد المحكم المنيع، للرفاعي: الكويت. - رسائل إخوان الصفا: المطبعة العربية، 1347هـ. - روح المعاني، للألوسي: منيرية، الأولى، 1345هـ. - زاد المسير، لابن الجوزي: المكتب الإسلامي، 1284هـ. - سلسلة الأحاديث الضعيفة، للألباني: ج1: المكتب الإسلامي 1392هـ، ج2: سنة 1399هـ. - سنن ابن ماجه، عيسى الحلبي، 1972م. - سنن أبي داود: ط. الدعاس، حمص، 1388هـ. - سنن الدارمي: المدينة، نشر عبد الله هاشم، 1386هـ. - سنن النسائي: المطبعة المصرية، 1348هـ. - السيرة لابن إسحاق، تركيا، 1401هـ. - شذرات الذهب، لابن العماد: القدسي، 1350هـ. - شرح الأذكار، لابن علان: النشر والتأليف، 1347هـ. - شرح البردة، لأزهري: جمعية المعارف، 1286هـ. - شرح البردة، للباجوري: كستلية، 1291هـ. - شرح الشربيني على متن أبي شجاع، كستلية، 1282هـ. - شرح الشفا، للخفاجي: استنبول، دار الطباعة العامرة، 1264هـ. - شرح الشفا، للقاري: استنبول، دار الطباعة العامرة، 1264هـ. - شرح صحيح البخاري، للكرماني: البهية، 1356هـ. - شرح صحيح مسلم، للنووي: المطبعة المصرية، 1347هـ. - الشرح الصغير لمتن خليل، للدردير: عيسى الحلبي، 1977م. - شرح عليش لمتن خليل: المطبعة الكبرى، 1294هـ. - شرح المواهب اللدنية، للزرقاني: بولاق، 1287هـ. - شفاء السقام، للسبكي: الهند حيدر آباد، 1371هـ.

- صحيح البخاري-مع فتح الباري: السلفية، 1380هـ. - صحيح مسلم: استنبول، دار الطباعة العامرة، 1329هـ. - طبقات ابن سعد: بيروت، دار صادر، 1376هـ. - عمل اليوم والليلة، لابن سني: الهند، حيدر آباد، 1357هـ. - عمل اليوم والليلة، للنسائي: بيروت، الرسالة، 1406هـ. - غاية المنتهى، لمرعي بن يوسف: دمشق، دار السلام، 1387هـ. - فتاوي ابن تيمية: الرياض، ط. الأولى، 1381-1386هـ. - فتح الباري، لابن حجر: السلفية، 1380هـ. - الفروع، لابن مفلح: ط. عبد الستار فراج، 1388هـ. - فيض القدير، للمناوي: مصطفى محمد، 1356هـ. - في ظلال القرآن، لسيد قطب: ط. خامسة، دار الشروق، 1397هـ. - الكامل، لابن عدي: بيروت، در الفكر، 1404هـ. - الكبائر، للهيتمي، بولاق، 1284هـ. - كشاف القناع، للبهوتي: المطبعة الشرقية، 1319هـ. - كشف الأستار، للهيثمي: بيروت، الرسالة، 1399هـ. - الكفاية، للخطيب البغدادي: الهند، حيدر آباد، 1357هـ. - لسان الميزان، لابن حجر: الهند، حيدر آباد، 1329هـ. - مجمع الزوائد، للهيثمي: القدسي، 1352هـ. - المحكم، لابن سيده: الحلبي، 1377هـ، 1393هـ. - مدارج السالكين، لابن القيم: السنة المحمدية، 1375هـ. - المدخل، للحاكم: بيروت، الرسالة، 1404هـ. - المستدرك، للحاكم: الهند، حيدر آباد، 1324هـ. - مسند أحمد: الميمنية، 1313هـ. دار المعارف، تحقيق أحمد شاكر، 1368-1375هـ. - المشرع الروي، لبا علوي: جدة، 1402هـ. - مصنف ابن أبي شيبة: الهند، 1385هـ، 1403هـ. - معارج الألباب، للنعمي: السنة المحمدية، 1369هـ. - المعجم الأوسط، للطبراني: الرياض، مكتبة المعارف، 1405هـ. - المعجم الصغير، للطبراني: المدينة، المكتبة السلفية، 1388هـ. - المعجم الكبير، للطبراني: بغداد، وزارة الأوقاف، 1978م-1983م. - المعرفة والتأريخ، ليعقوب بن سفيان: بغداد 1975م. - مقالات الكوثري: مطبعة الأنوار، دون تأريخ.

- مقالات المسلمين، للأشعري: النهضة المصرية، 1369هـ. - الملل والنحل، للشهرستاني: الأزهر، 1370هـ-1375هـ. - مناهل الصفا، للسيوطي: حجرية، 1276هـ. - الموافقات، للشاطبي، بتعليق دراز: مصطفى محمد، دون تأريخ. - ميزان الاعتدال، للذهبي: عيسى الحلبي، 1382هـ. - هذه هي الصوفية، للوكيل: تصوير، دار الكتب العلمية، 1399هـ.

§1/1