هذه أخلاقنا حين نكون مؤمنين حقا

محمود محمد الخزندار

بين يدي الكتاب

بين يدي الكتاب الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، المتمِّم لمكارم الأخلاق، والمشهود له بالأسوة الحسنة والخلق العظيم، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فكم من المشاريع بدأت من فكرة عابرة! وكم من الأفكار انطلقت من رأي عَجِلٍ! وكم من الدراسات تولدت من موقف طارئ .. ثم تنقدح الخطط وتنبري الهمم لتصبح فكرةُ الأمس واقعًا قائمًا اليوم، وليغدو الاقتراح العابر مشروعًا حيًّا على ساحة العمل. هكذا نبتت فكرة هذا الكتاب .. وتلك هي قصته. لم تكن مواضيع كتاب اليوم سوى مقالات الأمس المنشورة شهريًّا في صفحة (من أخلاق المجاهد) وشهرًا تلو شهر ثم سنة تلو سنة بدأت تتوارد رسائل كتابية وكلمات شفوية بجمع هذه المادة بين دفتي كتاب. وببركة الشورى نبتت فكرة المقالة ثم فكرة الكتاب، وببركة التعاون بدأت تنقلب إلى حقيقة واقعة، وبدأ الكتاب يصل إلى يدَي القارئ الكريم بعد حوالَي عشر سنوات مشحونة بالمعاناة من خلال تجربة فريدة للعمل الإسلامي المعاصر. وفي هذا المقام لا بدَّ أن أتقدَّم بجزيل شكري وصالح دعائي لكل مَن ساهم معنا برأيه أو بجهده أو بتشجيعه، ولكل من يسعفنا بملاحظاته وتوجيهاته. ولعله إن كُتِب لهذا العمل القَبولُ بين الناس أن يُطوَّر ويُكمَل ويُعَد، ونسأل الله أن يرزقنا الإخلاص وأن يتقبل منا، إنه سميع مجيب. (ربيع الأول/ 1415 هـ)

مقدمات

مقدمات - الفكرة وليدة تجربة عملية. - لماذا الأخلاق؟ - منهج التربية بالأحداث. - منهجنا في الكتابة والتوثيق. - من خصائص التربية الأخلاقية في الإسلام. - ملاحظات على بعض الكتب في الأخلاق. - مزايا هذه الدراسة.

الفكرة ولدية تجربة عملية

الفكرة ولدية تجربة عملية اليوم تُبدِئ وسائل الإعلام وتُعِيد في الحديث عن معاناة شعب (البوسنة والهرسك)، ويتم إثارة العالَم وتهييج الشعوب وحفز الدول للمشاركة بالكلمة أو المال، وبتوظيف جميع وسائل الإعلام، مع التحفُّظ على فتح المجال للمشاركة بالنفس أو تقديم السلاح؛ لئلا ينقلب السحرُ على الساحر، كما حدث بالأمس. بالأمس كان نفس الهياج، وتحت سمع العالم وبصره، جُنِّد المال والرجال، وتعاونت الشعوب والدول لاستخدام الحربة الأفغانية في القضاء على الكابوس الشيوعي، بعد هذا التنادي والتداعي اجتمع لخدمةِ هذه القضية من شباب الإسلام مجتمعٌ بشري فريد ومتميز، على بقعة صغيرة من الأرض، ولهدف عامٍّ مشترك، رغم تعدد المشارب وتباين الوسائل، واختلاف سُلَّم الأولويات. وكان لهذه التجرِبة الجديدة الفريدة إيجابياتٌ لا يمكن إغفالها أو التقليل من أهميتها، كما كان لها سلبيات لا يمكن غضُّ الطرف عن خطورتها، وكان من أبرز هذه السلبيات - بنظري - عدم القدرة على التعايش في صورة فريق عمل منسجم، ومجتمع إسلامي متعاون، بحيث تُستَهلك الأوقات والأموال والجهود في البناء لا في الهدم، وفي التكامل لا في التضادِّ، وذلك خللٌ لا بدَّ من المصارحة فيه؛ لقطف العبرة من تجرِبة كبيرة ونادرة، كان يُؤمَّل منها أن تُقدِّم نموذجًا عمليًّا لأخوَّة الإسلام التي طال الحديث في وصفها وضرب أمثلتها نظريًّا.

كان يُتوقَّع للمبادئ والقيم التي تربَّى عليها الشباب أن تأخذ طريقَها إلى العمل والتنفيذ، وكان الذي نرجوه، أن تتحوَّل بصيرتنا بمداخل الشيطان ومصائده وحبائله إلى حذر شديد، واحتياط بالغ؛ لئلا يكون بأسنا بيننا. وكان الشيطان يخترق الصفوف، ويُفرِّق بين الأحبة، ويشيع الدَّخَن بين القلوب، ولو أنه فعل ذلك بدواعي الهوى وشهوة المال أو حب الزعامة؛ لكان الأمر مفضوحًا مكشوفًا ظاهر العَوَر، لكنه كان يفعل فعله بدوافعَ ظاهرُها الخير، فتسأل الواحد من الناس: ما سر العداوة مع فلان؟ فتسمع عددًا من الإجابات منطلقها الظاهر الشرع - والله أعلم بخفايا الصدور وكيد الشياطين -: لأنه عميل، لأنه لا يوثق بدينه، لأنه لا يتَّبع السنة، ليس لديه علم، عقيدته فيها خلل، ولا نبرئ طرفًا ونتهم آخر، فقد ولغ الجميع في نفس البلاء بأقدار متفاوتة. في وسط هذا الجو المغاير لِمَا ينبغي أن يكون، كان لا بدَّ من صمام أمان يُتيح لكل طرف أن يُنصِت لسماع رأي الطرف الآخر، وأن يرد الثاني بأدب ولطف، بغير تجريح ولا اتهام، وأن ينفض الجميع من مجلسهم متحابِّين متعاونين، يعذِرُ بعضهم بعضًا إذا لم يتَّفقوا. وكان هذا الصمام المفقود هو (الأخلاق)، فالتربية الأخلاقية لكل شاب لم تكن قد أخذت حظها من الصقل والرعاية، بقدر ما تدرب الشاب على عرض فكرته، ونقض آراء المخالفين، من أجل سد هذه الثغرة كان لا بدَّ من الأخلاق؛ لأننا نتَّفق جميعًا على أن الصدق والحياء والتكافل والصبر من محاسن الأخلاق، كما نتفق على أن الخيانة والحسد والغيبة والكبر من مساوئ الأخلاق، فأردنا أن نتقي وساوس الشيطان، من الباب الذي قد يندر فيه الخلاف: (التربية الأخلاقية).

لماذا الأخلاق؟

لماذا الأخلاق؟ منذ مطلع حياتنا في أجواء التربية الإسلامية، كانت تصطرع حولنا أفكار، نحفظ ألفاظها ولا ندري مبرِّر الاختلاف عليها، هؤلاء يقولون: التربية الفكرية أولًا لتحصين الشاب من الغزو الفكري، ومن اعتقاد تصورات خرافية حول سنن الله في الكون. وآخرون يقولون: التربية الأخلاقية أولًا لحماية الشاب من الانجراف وراء سعير الشهوات، ومن الغرق في حمأة الرذيلة، فذاك يريد دفع الشبهات، وهذا يُحصَّن من الشهوات. كنا يومها - بالفطرة - نشعر أننا مطالبون بكلا الأمرين إذا ما أردنا أن ندخل في السِّلْم كافَّة، وكنا نرى في واقع الحياة أن الشيطان يستعمل كلا السلاحين: الشهوات والشبهات. ولكم رأينا من العابدين الذين نحسبهم من أهل العلم والصلاح لا يعيشون عصرهم، ولا يُدرِكون كيف يُواجهون الأفكار الدخيلة بأكثر من تَمْتَمات وتعاويذ وحَوْقَلة وتهليل، وبقي يسرح في عالمه، وبقيت الشبهة عالقة بقلوب الناس، لم تُزِلْها من قلوبهم تهويمات العابد ولا انفعالاته! وكم رأينا من ذوي الفكر الرَّصين، والنظر الثاقب، والعرض الجذاب للإسلام، والقدرة الفائقة في بيان أوهام الأفكار الضالة والمذاهب الهدامة، الذين حين نُفتِّش في سلوكهم عن عناصر القدوة نجدها

ضامرة، وإن واجه المخالف له بدأ يسخر ويطعن ويجرح، وإن لقي ندًّا هوَّن من أمره، وكشف من عيوبه ما يظهر فضله عليه، فتجد وراء هذا الفكر البرَّاق مرضًا أخلاقيًّا خطيرًا، فعلمنا - بفطرتنا - أيضًا أن في كلٍّ من الفريقين ميزة، كما في كل من الفريقين نقص وخلل. ثم إن الكتابات التي خدمت الفكر الإسلامي وخاطبت العقل وسعت لنشر الوعي وتعميق المفاهيم، هذه الكتابات ملأت الساحة الثقافية، وأُتْخِمت بها المكتبات، وتدور بها المطابع كل يوم، بينما لم تحظَ التربية الأخلاقية بهذا القدر من الاهتمام، وكان ما يُكتَب فيها نادرًا، وربما كانت الكتابة في المجال الأخلاقي محدودةَ المواضيع لا تحتمل الكثير من التجديد لا في المحتوى ولا في الأسلوب، غير أن الهدف الأخلاقي يمكن أن يشارك في تعميق غورِه كلُّ كاتب إسلامي من خلال المقالة أو القصة أو الشعر، بحيث تغطي مسحة الأخلاق كل صور التعبير الأدبي والفكري. ولست أعني أن الكتابة عن الأخلاق هي التي ستعدِّل الأخلاق. إن التربية الأخلاقية تؤخذ بالمعايشة والقدوة والمواقف الحياتية، وما الكتابة عن الأخلاق سوى إشاراتٍ تدل على الطريق، وتُذكِّر بالقيم، وترفع الأبصار إلى القمم، لنرى البون الشاسع بين ما نحن فيه وما ينبغي أن نكون عليه، وحين نحس بأزمتنا التربوية، ومشكلتنا الأخلاقية، وحاجتنا المُلِحَّة إلى التأديب والتهذيب، عندئذٍ قد نضع أقدامنا على بداية الطريق بمجاهدة النفس وحسن الصحبة والتناصح ومجالسه الصالحين. إن الواقع العملي لحملة الفكر الإسلامي على اختلاف مشاربهم

قد يُحدِث بينهم نوعًا من التقارب الفكري في أجواء الحوار الهادئ والتعامل المهذَّب والاحترام المتبادل إذا وجدت الأخلاق، وإن أصحاب الفكر الواحد قد يتقاذفون الاتهامات ويَفْجُرون في الخصومات، ويشقون الصفوف، وتحركهم الأهواء إذا ضعفت فيهم الأخلاق، فالخلق الفاضل يجمعهم على ما بينهم من اختلاف، وسوء الخلق يُفرِّقهم على ما بينهم من وحدة فكرية. لقد ملك المسلمون في قرونهم الأولى - قرون الخير - أعلى مستوى من التربية الأخلاقية، وكان الناس يدخلون في هذا الدين أفواجًا لِما يرون من حسن المعاملة وجميل الأخلاق أكثر مما كانوا يدخلونه بالمناظرات الكلامية والمنطق السديد في العرض. كانوا يملكون من القدوة أكثر مما يملكون من قوة البيان، وخاصة في دعوة العجم؛ حيث لم يكونوا يملكون مزيد بيان، واستطاع ذلك الجيل أن يُدخل الناسَ في دين الله قبل أن يعرف منطق أرسطو والفلسفة اليونانية، وبعد أن دخلت إليه الفلسفة وعلم الكلام بدأت تضمُرُ التربية الأخلاقية، وبدأت تتنامى على حسابِها العلومُ العقلية. إذا تحدَّثنا عن الأفكار تتعدد المواقف بتعدد المشارب. وإن تحدثنا في قضية فقهية تجاذبتنا الخلافات المذهبية واختلفنا أكثر في الراجح والمرجوح، والمعتبر وغير المعتبر. وإن حاولنا أن نتحدث في العقيدة لا يخلو الأمر من الفرق والملل والنِّحل، التفسيق والتبديع والتكفير. أما إذا تحدثنا في الأخلاق، فالحسن منها تكاد تجمع على حسنه العقول البشرية، كما تجمع على قبح القبيح منها، وتضيق دائرة الخلاف حولها بين المؤمنين وحتى مع غير

المسلمين، وإن أحب الناس إليك لينفضون عنك حين تكون فظًّا غليظ القلب، وإن أبغض الناس إليك ليحتكمون إليك حين تكون صادقًا وأمينًا.

منهج التربية بالأحداث

منهج التربية بالأحداث إن منهج التربية في القرآن قام على معالجة المشاكل القائمة، والتعليق على الأحداث الواقعة، والقطع فميا فيه الاختلاف، بحيث تتنَزَّل الآيات مُواكِبةً في تنَزُّلها مسيرة المجتمع الإسلامي الأول، فتنقش آثارها التي لا تُمحَى في القلوب، وقد قام على تتبع هذه الظاهرة علم (أسباب النزول). وكذلك الأمر في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث كان الحدثُ يجري أمام سمع وبصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكون له عليه تعليق، أو إقرار، أو استنكار، حتى تركت هذه التربيةُ العمليةُ بصماتِها على شخصية الصحابة، بحيث كان أحدهم يستحضر موقفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأمر كلما تكرر مثيلُه أمام الصحابي، وحتى كان الواحد منهم حين يروي ما سمع أو رأى، كثيرًا ما كان يؤدي السنة مع الألفاظ والكلمات والحركات والإشارات وتشخيص الموقف وتمثيله، وهو ما سُمِّي في علم مصطلح الحديث بالحديث (المسلسل)، وجُمِعَت الأحاديث ذوات المناسبة تحت علم (أسباب الورود). إن التجرِبة التي عشناها دهرًا في هذا المجتمع البشري ذي المواصفات والظروف الخاصة - بحلوِها ومرِّها - كانت تُملِي علينا ضرورة العودة إلى صقل المفاهيم، وأهمية مراجعة النفس لتحديد معالم الطريق، ومعالم الشخصية الإسلامية كما ينبغي أن تكون، لا كما هي كائنة، وفي كل شهر كنا نراجع النفس لتحديد أكبر الأمراض ظهورًا

لتكون الكتابة عن ضده من محاسن الأخلاق. إن ذكر الحوادث الدافعة لكتابةِ كل موضوع فيه من الفضيحة ما لا ينبغي أن نُشارِك فيه، مما يسيء إلى الصديق ويسر العدو، غير أنه يكفينا أن نقطف العبرة؛ لتكون هذه الأخلاق حصنًا لأي تجمع مثيل، يمكن أن يقوم مرة أخرى بنفس الاتساع أو بصورة أصغر، فأمراضنا هي هي، نحملُها معنا حيث حلَلْنا، وتظهر بارزة حيث نكون مجتمعين، أكثر مما تظهر ونحن مُوزَّعون ومشتَّتون، وتظهر حيث نشعر بنوع من الحرية، أكثر مما تظهر حين نعيش في بلد ذي نظام صارم وقوة وسلطان. كانت الفتن تدعونا إلى العودة إلى كتاب ربنا عز وجل، وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وفهم القرون الأولى وسيرتهم؛ حتى نُعِيد صياغةَ عقولنا، وتعديل سلوكنا من جديد، فوجدنا كنوزًا مدفونة يجدها مَن يُنقِّب عنها، وحاولنا أن نبرز ما أسفر عنه التنقيب.

منهجنا في الكتابة والتوثيق

منهجنا في الكتابة والتوثيق إن الكتابة عن الأخلاق من وراء مكتب فارهٍ، وبالنظر إلى عناوين وأسماء الأخلاق التي سبق أن كُتِب عنها أمر سهل ويسير، فالموضوعات محدودة، والأحاديث المشهورة في كل موضوع تكاد تكون مكررة في أكثر كتب الحديث، لقد كان اختيار الموضوع مستوحًى من واقع أليم لا من فهارس الكتب، ولقد كانت المادة المختارة - في كثير من الأحيان - مستخرَجة من غير مظانِّها في كتب الحديث، ولقد كان اختيار العناوين أيضًا بما يناسب الهدف والمحتوى. حاولنا أن نتوسَّع في معنى الأخلاق، بحيث يشمل كل ما يمكن أن يتَّصِف به المسلم من الصفات المحمودة، التي إن التزم بها، ودوام عليها، صارت له خلقًا مميزًا. ولقد كان تسلسل المواضيع تابعًا لِمَا يتوارد من أحداث - كما أشرنا - غير أنه لَمَّا انعقد العزم على إخراج هذه المواضيع في كتاب، تم تصنيف هذه الأخلاق على أبواب تشمل بمجموعها جوانب شخصية المسلم بنوع من التوازن، واقتضى الأمر إعادة النظر في المواضيع لاستبعاد ما ينبغي استبعاده، وإضافة ما يحسن إضافته، وتعديل ما يلزم تعديله، فإن الصفحة الواحدة من المجلة التي كنا ألزمنا أنفسنا بها، كانت تضطرنا إلى مزيد من الإيجاز، بحيث نترك الكلام لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أكثر مما نستأثر به لأنفسنا، وألا يكون كلامنا أكثر من تمهيد، أو تعليق، أو ربط بين النصوص. إن طبيعة الكتابة في مجلة غير متخصصة، لم تكن تتيح لنا وضع الحواشي والتخريجات، فلما أن عزمنا على إخراج الكتاب إلى

النور، كان لا بدَّ أن يُوثَّق بالمصادر والمراجع، وتخريجات الأحاديث. ولقد حاولت ألا أعتمد على حديث ضعيف - قدر الاستطاعة - فما علمت ضعفه، ولم يُصحِّحه أحد من العلماء، استبعدته. وأشرت في الحاشية إلى المرجع الذي استخرجت منه لفظ الحديث، مشيرًا إلى الكتاب والباب ورقم الحديث - غالبًا - بحيث يعين الباحث - وإن اختلف رقم الصفحة باختلاف الطبعات. وكان جلُّ اعتمادي على الصحيحين، وغالبًا أقدم رواية البخاري، وأقتبس من فهم ابن حجر في (فتح الباري)، كما أفدت كثيرًا من الكتب التي خدمها كل من الشيخين (الألباني والأرنؤوط) - رحمهما الله تعالى - والذي كان يتعبني ندرة المراجع في الغربة، وخصوصًا في محاولة توثيق (مسند أحمد)، واعتمدت في تخريج بعض أحاديثه على طبعة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله - التي لم تكتمل - وطبعة الشيخ عبد الرحمن البنا الساعاتي في كتابه (نيل الأماني على الفتح الرباني) رغم عناء البحث وصعوبة الطلب. واكتفيت في التوثيق بمجرد العزو إلى المراجع والمصادر، وأعفيت نفسي - لئلا يتأخر الكتاب - من شرح الألفاظ الغريبة، وإن كنت حاولت في تعبيري ألا أُغرِب، ونصوص الأحاديث يغلب عليها الوضوح. كما أعفيت نفسي من الترجمة للرجال أو الأماكن، واكتفيت من نصوص كثير من الأحاديث بموضع الشاهد، حرصًا على الإيجاز وعدم الإطالة، وخشية من توزع الفكر وتشتت الذهن إذا تعددت مواضيع الحديث الواحد، فمَن أراد الحديث بتمامه رجع إلى موضعه المشار إليه في الحاشية، وما كان من الأحاديث الموقوفة أو المرسلة استبعدت ما علمت ضعفه، وما لم أعلم لسنده صحة ولا ضعفًا أبرأت الذمة بعزوه إلى مصدره، وارتياحًا مني بموافقة معناه لأصول صحيحة.

من خصائص التربية الأخلاقية في الإسلام

من خصائص التربية الأخلاقية في الإسلام 1 - ربانية المصدر: الأخلاق الإسلامية ليست رأيًا بشريًّا، ولا نظامًا وضعيًّا، وإنما هي مستمدة من شرع ربِّ البشر، سواء منها ما أثبته الشرع ابتداءً، أو أقره مما قد تعارف عليه الناس، وحتى ما لم ينصَّ عليه الشرع من محاسن الأخلاق، فربانيته في اندراجه تحت أصل شرعي عام: (ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن) فهي ربانية المصدر، وربانية الهدف والغاية والقصد، غير أن أصول الأخلاق وأمهاتها مستمدة من الشرع، ويبتغي المسلم بها رضا الله. 2 - عبادية القصد: مهما تخلَّق إنسان بالأخلاق الإسلامية، فإنها ستبقى صورة بلا روح، طالما لم يُرِد بها صاحبُها وجه الله ورضاه، فليس الغرضُ من الأخلاق الإسلامية وجودَ صورتها الخارجية، التي لا تعدو أن تكون طلاءً يسقط لأي حكَّة، وإنما تهدف الأخلاق الإسلامية إلى أن تملك على المسلم قلبه، فيدفعه إليها إيمانه، ويزيده الالتزام بها إيمانًا، فمصدرها قلبيٌّ، وأصلها صلاح الباطن، فالعدل مع العدو أقرب إلى التقوى؛ لأنها مسألة عبادية، ومهما حسنت أخلاف الكافر فهي هباء منثور؛ لأنها لم تكن خالصة لوجه الله، وما لم تكن الأخلاق خالصة، فإنها ستظهر نفاقًا أو لمصالح، ثم تزول ويظهر ما وراءها من سوء الخلق. 3 - مثالية واقعية: الأخلاق الإسلامية تدعو الناس إلى السمو، وتراعي نفسية البشر واحتياجاتهم وقدراتهم على الارتقاء، كما

4 - شمولية متكاملة

تراعي حقهم في ألا يُعتدَى عليهم، وفي أن يُقتص لهم، فلا تطالبهم بما فوق طاقتهم، عملًا بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ولا يعد الجائع خائنًا للأمانة إن سرِق ليأكل، ولا يعتبر الخائف أو المكرَه ناقضًا للصدق إن كذب لينجو - حين لا ينجيه من البطش إلا الكذب - ولا يتعد طيشًا وخروجًا عن خلق الحلم إن غضب وثار من استفز أو استغضب. 4 - شمولية متكاملة: الأخلاق الإسلامية تشمل جميع جوانب حياة الإنسان: مع ربه، ومع الناس، في بيته وفي عمله، وفي خلوته، في البيع والشراء، في السلم والحرب، في الوجدان، وفي المجتمع، في الظاهر والباطن، ولكل هذه الجوانب أخلاق تدعو المسلم إلى التميز بالسلوك الفاضل في جميع مجالات الحياة وبصورة متكاملة. 5 - ثابتة: الأخلاق الإسلامية تكون أصيلة في نفس صاحبها، بحيث يصدر منه الخلق نفسه كلما تكرر الموقف نفسه الذي يقتضي ذلك الخلق، فلا يتغير خلقه مع الضعفاء ولا الأقوياء، ولا في حال فقره أو غناه، ولا في إقامته أو سفره، ولا في خلوته أو جلوته، ولا في حال رضاه أو غضبه، ولا في حال النعمة أو البلاء، لا فيما له أو عليه، ولا تختلف أخلاقه حين يكون أميرًا أو مأمورًا، ومصدر ثبات هذه الأخلاق أنها تعبُّدية، يدور صاحبها مع الحق حيث يدور، ومصدر تذبذب الأخلاق غير الإسلامية أنها تدور مع المصالح والأهواء، وهذه متقلبة؛ تدير صاحبها على حسب تقلبها. 6 - متوازنة: الأخلاق الإسلامية لا تُغلِّب جانبًا على جانب، فكل الأخلاق الإسلامية مطلوبة ودون تغليب بعضها وإغفال البعض،

7 - تنال بالمجاهدة

وإلا ستكون الشخصية ممسوخة، فإن غلبت على الشخص صفات القوة والشجاعة والتضحية والعزة والنصرة، فسيجأر الناس إلى الله من عدوانه وجبروته وتكبُّره، وإن غلبت عليه صفات العفو والسماحة والتواضع والسكينة، ربما وُجدت فيه شخصية الذليل المستكين، وإن غلبت عليه أخلاق الصراحة والجرأة والنصيحة والأمر بالمعروفة، ربما شكوا من سوء أدبه وقلة احترامه، فالخلاق الإسلامية مع تكاملها متوازنة، تدعو إلى العزة والتواضع، كما تدعو إلى الانتصار والعفو، فيها الصراحة والاحترام وفيها الكرم والاقتصاد، وهي شجاعة بغير تهور، ولين في غير ضعف، هذه بعض معالم الشخصية الإسلامية ذات الأخلاق المتوازنة. 7 - تُنال بالمجاهدة: هنالك أخلاق يتفضل الله عز وجل على بعض خلقه فيجعلهم عليها، ويطبعهم بها، عن غير كسب منهم ولا جهد، فمثل هذه فضل ومنَّة على من أوتيها، ومَن لم يُؤتَها مكلَّف بمجاهدة نفسه؛ لكي يأطرها على الحق أطرًا، ويجرها إلى الجنة بالسلاسل، ويلزمها بكسر هواها، وتغليب رضا الرب على ما سواه، إلى أن تصبح هذه الصفات الفاضلة خلقًا مكتسبًا بعد الترويض والمجاهدة، وإلى أن يكتسبها يحتاج إلى أن يتكلف فعل هذه الأخلاق الفاضلة، فيؤدي تكراره لها، وتعوده عليها، إلى ترشحها في قلبه، وانقلابها مع الزمن إلى طبع ثابت، وخلق أصيل؛ ولذلك جاء في الحديث: «ومَن يستعفف يُعفَّه الله، ومن يتصبر يُصبِّره الله»، وهكذا كل الأخلاق، بالتشجع يصبح شجاعًا، وبالتسامح يصبح سمحًا، وبالتورع يصبح ورعًا،

8 - تؤخذ بالتأسي

والسعيد مَن وفَّقه الله للصبر على المجاهدة، إلى أن تتأصل فيه الأخلاق الفاضلة ويكتسبها. 8 - تؤخذ بالتأسي: من واقعية الأخلاق الإسلامية أنها لم تُقدِّم إلى الناس قائمة من مكارم الأخلاق النظرية ليعملوا بها، وهم في معزل عن النموذج البشري الذي يقيم عليهم الحجة بأن الارتقاء إليها في مقدور البشر، والذي يسهل على مَن يضعفون عن اكتساب الأخلاق بالمجاهدة - بأنفسهم - أن يكتسبوها بالاقتداء به، وباقتفاء أثره، وبالتأسي بسلوكه، إلى أن تصبح لهم عادة، والذي ينقش في أذهان الناس صورًا عملية لا تنسى للخُلُق الفاضل الذي يظهر في المواقف التي تقتضي ذاك الخُلُق، بينما قد ينسى الناس التعليمات النظرية، أو لا يدركون كيفية تطبيقها، أو يَحُول بينهم وبين العمل بها اعتقادُ مثاليتها، واستبعاد واقعيتها؛ ولذلك فإن الله لم ينزل كتبه إلا ومعها العامل بها، والقائم عليها من رسله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ...} [الأنعام: 90]. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ ...} [الأحزاب: 21] ولذلك أيضًا فإن فطرة الصبي تبدأ بالانحراف، حين يعيش بين والدينِ لا يلتزمان بمحاسن الأخلاق، أو في مجتمع تتفشى فيه مفاسد الأخلاق؛ ولأجل ذلك أيضًا كان من توبة قاتل المائة أن يهجر قرية السوء؛ ليعيش في قرية صالحة، بين قوم صالحين، يعينه التأسي بهم على الطاعة وعلى مكارم الأخلاق، وهكذا تتوارث

9 - تراعي التدرج

الأجيال الأخلاق العالية بالنظر إلى أخلاق القرون الأولى، ويتوارث الأفراد مكارم الأخلاق بالتأسي بأحاسنهم أخلاقًا. 9 - تراعي التدرج: ومن الواقعية أيضًا أن الأخلاق الإسلامية لا تُطلَب من الناس بكمها الكبير، وكليتها الشاملة، منذ الانخلاع من الجاهلية والولوج في بوابة الهداية، وإنما تقوم تربية الإسلام على التدرج في إلقاء الأوامر والواجبات، بتقديم الأهم والأوجب، واجتناب الأفحش والأكبر، وحتى في سُلَّم التحلية يمكن أن يتدرج في مستوى الصعود، فيطالب ابتداءً بالصدقة بما تجود به نفسه، ولا يطالب بالتنازل عن كل ماله كما فعل أبو بكر - رضي الله عنه -، ولا ننتظر منه أكثر من العفو عمن أساء إليه، أما أن يحسن إلى المسيء، فتلك مرتبة أعلى، ومقام أرفع، يمكن أن يرتقي إليها بالتربية، وحين أقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يُمثِّل بسبعين من المشركين؛ جزاءَ تمثيلهم بجثة سيدنا حمزة - رضي الله عنه - أنزل الله عز وجل عليه مبادئ متدرجة: أدناها {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ...} [النحل: 126] وأرفع منها: {... وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] واللائق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ ...} [النحل: 127] ويبقى القفز إلى معالي الأخلاق من العزيمة التي يُوفَّق إليها ذَوُو الهمم الكبيرة، ولكن أغلب النفوس يربيها التدرج. 10 - ذات أثر اجتماعي: أخلاق الرهبنة تبقى بين العبد وربه، وفي إطار صومعته، وبما أن الإسلام دين الحياة، فإنك ستجد المسلم في كل مجالات الحياة متخلقا بأخلاق الإسلام، فالعبادات تنعكس على السلوك الاجتماعي {... إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ

} [العنكبوت: 45] {... كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ...} [الحج: 37] ومعالجة آفات القلوب من (حقد، وحسد، ورياء، وعُجْب ...) وكلها خفية، تنعكس معالجتها على السلوك الاجتماعي الظاهر؛ محبةً وإخلاصًا وتواضعًا وتنافسًا، فليس في الإسلام انفصامٌ بين عَلاقة المؤمن بربه، وعَلاقته بمجتمعه، وهو في كل حركة يصدر عن الإسلام.

ملاحظات على بعض الكتب في الأخلاق

ملاحظات على بعض الكتب في الأخلاق لا أزال أذكر أننا كنا نُقبِل على قراءة الكتب الحديثة عن خلق المسلم وأخلاق المؤمنين والتربية الروحية، وبعض الكتب القديمة في مكارم الأخلاق ومدارج السالكين ومنهاج القاصدين، وكان لهذه الكتب بمجموعها أكبر الأثر في تربيتنا الأخلاقية وثقافتنا التربوية، ويلاحظ على هذه الكتب - قديمها وحديثها - التي تيسر لنا الاطِّلاع عليها بعض الملاحظات؛ منها: 1 - عدم الاقتصار على الصحيح: فبعضها كتب تجمع لك نصوصًا من السنة، لا تميز بين صحيحها وضعيفها، مقتصرة على الأحاديث المشهورة في كل باب، حتى غدت بعض الأحاديث تتكرر في نفس الباب من كل كتاب، وكأنه لا يوجد في السنة غيرها. 2 - غلبة الأسلوب الإنشائي: بعض كتب الأخلاق فيها استرسال في العرض الإنشائي حتى غدا مجموع الخواطر، والمواقف الحياتية، والأمثلة من الواقع، يغلب على مادة الكتاب، ويطغى على حظِّ السنة فيه.

3 - صعوبة الأسلوب والمصطلحات

3 - صعوبة الأسلوب والمصطلحات: تجد بعضها قد ركز على آفات النفس، وأمراض القلوب، وعلاج هذه الأمراض والآفات، ووصف الخطوات والدرجات في سُلَّم الرقي بالمستوى الروحي، وهذه الكتب - غالبًا - لا تخلو من أحاديث ضعيفة، وإن سلمت منها فلا تخلو من مصطلحات صوفية، أو عبارات فلسفية، لها معانيها الخاصة عند أهلها، وفي زمن نشوئها، وكثيرًا ما يَحُول بينك وبين أن تستروح في الآفاق الروحية ما يعترضك من العبارات التي تُكد الذهن، وتُتعِب الفكر في مجرد محاولة تفكيكها، والوصول إلى المراد منها، عدا ما يواجهك من الحديث عن بعض الفرق، التي زال وباد أكثرها، ويمكن للمتخصص أن يراجعها في مظانِّها. 4 - نقول وقصص غير محققة: بعضها تُكثر من نقل عبارات التابعين وغيرهم في تعريف الخُلُق الواحد، وكل منها تكون قد أخذت جانبًا من هذا الخُلُق، وحقيقتُه ربما تتَّسِع لكل التعريفات، فلا تعارض ولا تضاد بينها، ويحتار القارئ بأيها يأخذ، وعلى أيها يعتمد. ثم إن هذه الأقوال أو القصص ربما نُقلت دون تعليق المحققين عليها، وبعضها إن دققت النظر فيه، ربما وجدته مخالفًا لهَدْي النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام؛ بما فيه من غلو في فرعية، أو تعارض

5 - الإطالة

مع نصوص شرعية، أو ابتداع لأحوال لم يكن عليها أخشانا لله وأتقانا لله - صلى الله عليه وسلم - كما قد تجد صورًا من مجاهدة النفس أقرب ما تكون إلى طقوس ورياضات الهندوس والبوذيين. 5 - الإطالة: كثير منها يغلب عليها التطويل إلى بضعة مجلدات حتى بدأ الناس يقبلون على المختصرات والتهذيبات، خاصة في عصر كلّت فيه الهمم، وكثرت فيه المشاغل. 6 - الحديث عن فلسفة الأخلاق: بعضها قد يحمل اسم (الأخلاق الإسلامية) فتجده دراسة عن فلسفة الأخلاق، وعن معنى الأخلاق في القديم والحديث، عند المسلمين وعند غيرهم. 7 - المثالية: كثير منها تركز على الأخلاق العالية والسامية المحلِّقة، دون إشارة للضعف البشري، ولا مراعاة قدرات الناس على المجاهدة، وتعرض المستوى الأخلاقي بصورة قد تشعر القارئ بأن البون بينه وبينها كبير جدًا، وأنه قد لا يصل إليها مهما جاهد نفسه؛ لأنها أخلاق خواصِّ الأولياء وكبار الزهاد، ومثل هذه الكتب تجدها غالبًا تُركِّز على أخلاق المؤمن مع ربه، ولا تكاد تهتمُّ بأخلاقه مع الخلق.

كل هذه الملاحظات لا تنفي ما في تلك الكتب من نقع، ولا تلغي أهميتها كمراجع ومصادر سابقة في هذا الميدان، ومَن يستطيع أن يدَّعي لنفسه الكمال! وإنما يتفاوت الناس بعدد أخطائهم لا بالعصمة منها.

مزايا هذه الدراسة

مزايا هذه الدراسة 1 - الجمع: فقد جمعتُ قريبًا من ألف نص شرعي حول بضع وخمسين خلقًا، وقد كان التركيز على السنة أكثر؛ لأن فيها مادة ثرية تحتاج إلى تنقيب وإبراز، ولو أن القارئ اقتصر على مجرد قراءة النصوص، لكان بين يديه كتاب حديث في الأخلاق. 2 - الاقتصار على الصحيح: وقد تم ذلك ضمن القدرات المتاحة والمراجع المتيسرة، ولئن كتب الله عز وجل في العمر بقية يتم التدقيق والتحقيق والتحبير. 3 - الإيجاز: فإن تعبير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبلغ وأفصح، فنقدم بيانه على بياننا، وبعض القصص يطول عرضها، وموضع الشاهد فيها بضع كلمات، فيتم الاقتصار على ما يؤدي الغرض، ولذلك لم نسترسل في خواطرنا حول كل نص، وإلا لطال الأمر واتسع، ولكان مدعاة لملل القارئ. 4 - التوثيق: وهذا الذي أخذ الجهد الكبير لعزو النصوص إلى مواضعها في الطبعات المتوفِّرة، وبتفصيل يتيح للباحث العودة إلى مواضع النصوص المقتبسة، والتحقق منها، أو التوسع فيها. 5 - استقاء المواضيع من تجرِبة عملية: وهذا قد يعطي الطرح نوعًا من الواقعية، وقربًا من حقيقة حاجاتنا التربوية، من خلال حركتنا بهذا الدين وظهور جوانب ضعفِنا البشري عند التطبيق.

6 - البساطة والوضوح

6 - البساطة والوضوح: حاولنا أن يكون التعبير مباشرًا، بعيدًا عن الإلغاز وغريب الألفاظ، يتسم بالبساطة، ويتميز بالوضوح؛ لأن الغرض تربوي، فأي عائق يحول دون توصيل الفكرة وتحقيق الهدف ينبغي اجتنابه؛ ليبقى القارئ مسترسلًا مع المعاني، ومعايشًا للنصوص. وأخيرًا: إنما هي بداية، قد تتكامل وتنضج مع الزمن، وهي بين يدي الخطيب والواعظ، والمطالع والمثقف، والمتصفح والمتسلي، ومحاولة لوضع بعض الخطوط المنهج التربية الأخلاقية في الإسلام، يستفيد منه المتأني والمتأمِّل، وينتفع به العامل والمبلِّغ، وتستمر رحلة التربية طول العمر ولا تتوقف، ويقدم كل جيل نتاج خبرته، وثمرات دراساته، ولعل الله ينفع بهذه الجهود، إنه نعم المولى ونعم النصير.

الباب الأول من أخلاقنا في الجهاد

الباب الأول من أخلاقنا في الجهاد الفصل الأول: الثقة بنصر الله. الفصل الثاني: الاستعداد للشهادة. الفصل الثالث: النصرة. الفصل الرابع: الانتصار. الفصل الخامس: الشجاعة. الفصل السادس: الصبر والمصابرة.

الفصل الأول الثقة بنصر الله

الفصل الأول الثقة بنصر الله

الإسلام يعلو ولا يُعلى تظهر حقيقة اليقين بالله في مراحل الضعف؛ إذ ليس صاحب اليقين من تنفرج أساريره، وينشرح صدره، ويتهلل وجهه حين يرى قوة الإسلام وعزة أهله وبشائر نصره، وإنما يكون اليقين لصاحب الثقة بالله مهما حلك الظلام، واشتد الضيق، واجتمعت الكروب، وتكالبت الأمم؛ لأن أمله بالله كبير، ويقينه بأن العاقبة للمتقين، وأن المستقبل لهذا الدين. ولأن المجاهد يسعى لإقامة دين الله في الأرض، فإن سبيله إلى ذلك الصبر واليقين، يقول ابن القيم: (سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول: بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين، ثم تلا قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] (¬1). وأهم ما يؤتاه المرء اليقين، كما في الحديث: «وسلوا الله اليقين والمعافاة، فإنه لم يؤتَ أحدٌ بعد اليقين خيرًا من المعافاة» (¬2). ولا تهلِكُ هذه الأمة إلا حين يبخَل أبناؤها بتقديم الجهود المتاحة لنصرتها، ثم يتجرَّعون كؤوس الأمل بلا عمل؛ لذلك قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: «صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلِك آخرها بالبخل ¬

(¬1) تهذيب مدارج السالكين - منزلة الصبر - ص 352. (¬2) صحيح الجامع برقم 4072 (صحيح).

والأمل» (¬1). ولأن الله وحده هو عالم الغيب فلا ندري متى النصر؟ ولا نعلم أين الخير؟ ولكن الذي نعلمه أن أمتنا أمة خير - بإذن الله - يُرجَى لها النصر من الله - ولو بعد حين - ويشير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بقوله: «مَثَل أمتي مَثَل المطر، لا يُدرَى أوله خير أم آخره» (¬2)، ولا ندري على يد أي جيل يكشف الله الغمة، ويرفع شأن هذه الأمة، ولكن الذي ندريه أن سنة الله في الكون كما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال الله يغرِسُ في هذا الدين غرسًا يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة» (¬3). ولقد جاءت بشائر كثيرة في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تجدد الأمل وتثبت اليقين، منها وعد الله بأن يبلغ مُلْك الأمة المشارق والمغارب، ومازالت هناك بقاع لم تقع تحت ملك المسلمين، ولابد أن يفتحها الإسلام، كما في الحديث: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوِي لي منها» (¬4). فإذا عرَفنا أن الأصل في الإسلام العلوُّ والسيادة والتمكين، فلا نستيئس من ضعف المسلمين حينًا من الدهر، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الإسلام يعلو ولا يُعلى» (¬5). وقد أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باستمرار زيادة الإسلام: «... ولا يزال ¬

(¬1) صحيح الجامع برقم 3845 (حسن). (¬2) صحيح الجامع برقم 5854 (صحيح). (¬3) صحيح الجامع برقم 7692 (حسن). (¬4) صحيح مسلم - كتاب الفتن - باب 5 - الحديث 19/ 2889. (¬5) صحيح الجامع برقم 2778 (حسن).

الإسلام يزيد، وينقص الشرك وأهله، حتى تسير المرأتان لا تخشيانِ إلا جورًا، والذي نفسي بيدِه لا تذهب الأيام والليالي، حتى يبلغ هذا الدين مبلغ هذا النجم» (¬1)، فالأمل باقٍ، وامتداد سلطان المسلمين مستمر - بإذن الله. وقد بشَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببشريات تذيب كل يأس، وتدفع كل قنوط، وتثبِّت كل صاحب محنة، وتريح قلب كل فاقد للأمل بأبناء هذا الدين، حين لا يجد بصيص أمل يلمع له حيث قال: «بشَّر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والنصر والتمكن في الأرض ..» (¬2). والجهاد مستمر إلى يوم القيامة، والطائفة الظاهرة على الحق لا يضرها من خذلها، وهي مستمرة حتى يأتي أمر الله، وفي ذلك يقول - صلى الله عليه وسلم -: «لن يبرح هذا الدين قائمًا، يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة» (¬3). والمقياس عند الله غير مقياس البشر، إن الله يجعل من الضعف قوة، وذلك واضح من التأمل في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها؛ بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم» (¬4)، إن ذلك المسلم المَسُوق بالأغلال، المحبوس في الأَقْبِية، المُلاحق في كل مكان، الفاقد للسلاح، الفقير المُعدَم؛ بدعوته وصلاته وإخلاصه ينصرُ الله هذه الأمة، رغم كل صور الضعف التي تمثَّلت فيه، وكما أشار رسول الله ¬

(¬1) صحيح الجامع برقم 1716 (صحيح) وطرفه «إن الله استقبل بي الشام ...». (¬2) صحيح الجامع برقم 2825 (صحيح). (¬3) صحيح مسلم - كتاب الإمارة - باب 53 - الحديث 172/ 1922. (¬4) صحيح سنن النسائي للألباني - كتاب الجهاد - باب 43 - الحديث 2978.

- صلى الله عليه وسلم -: «رُبَّ أشعثَ مدفوعٍ بالأبواب لو أقسم على الله لأبرَّه» (¬1). قد نرى القوةَ اليوم بيد أعدائنا، والغلبة لهم علينا، ولكن لا ننسى أن الله هو المتصرِّف بهذا الكون، وعينُه لا تغفُلُ عن عبادة المؤمنين، ولن يرضى لهم دوام الذلة واستمرار القهر، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الميزان بيد الرحمن، يرفع أقوامًا، ويضع آخرين» (¬2)، ولابد أن يرفعَنا بعد أن وضعنا؛ إذا رأى منا صدق السعي لمرضاته. وفي كل قرنٍ يُعِيد الله اليقين إلى نفوس الأمة، بأن يجعل فيها سبَّاقين في الخير، لا يُبالون بالمحن، يتأسَّى الناس بهم كما في الحديث: «في كل قرن من أمتي سابقون» (¬3)، كما يجعل في الأمة مَن يُصحِّح لها المفاهيم، ويسير بها على الجادَّة، ويقودها إلى الهداية، ويجدد لها أمر دينها، وقد بشَّر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يُجدِّد لها دينها» (¬4)، فإما أن يأتي الفرج على أيدي السابقين، وإما على أيدي المجددين، ولكنَّ الكرب لا يدوم. وجميع أعداء الإسلام واقعون في دائرة تهديد الله لهم بالحرب، ومَن كان الله حربًا عليه فلا خوف منه ولا أمل باستمرار سلطانه علينا، كما جاء في الحديث القدسي: «مَن عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب» (¬5). ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب البر والصلة - باب 40 - الحديث 138/ 2622. (¬2) صحيح الجامع برقم 6737 (صحيح). (¬3) صحيح الجامع برقم 4267 (حسن). (¬4) صحيح سنن أبي داود للألباني - كتاب الملاحم - باب 1 - الحديث 3606/ 4291 (صحيح). (¬5) صحيح البخاري - كتاب الرقاق - باب 38 - الحديث 6502.

فلنتواصل بالصبر على البلاء، والثبات إذا وقع القضاء، ولنكن بشيرَ خيرٍ، ولا نكونن نذير شر، ولنقُلْ للمتشائمين بعد طول انتظار كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه حينما اشتكوا من كثرة البلاء وشدته: «واللهِ ليُتِمَّن الله هذا الأمر .. ولكنكم تستعجلون» (¬1). إن الثقة التي يريدها الرب سبحانه وتعالى من عباده هي الثقة التي تحققت في أم موسى عمليًّا، حين قال عنها: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ...} [القصص: 7] وهكذا ألقته في اليم ولم تخَفْ، ولم تحزن، مع أن اليم خطير على الطفل الرضيع عادة، وكتب الله له النجاة، وتلقَّى فرعونُ الطفل الرضيع، ولم يخَف من كفالته في قصرِه؛ لأن الطفل الرضيع لا يخيف من ربَّاه عادة، فكان هلاك فرعون على يديه، وهكذا تجري عجائب قدر الله. وقد حدَّث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثلاثة أصناف من الناس لا خير فيهم: «ثلاثة لا تسأل عنهم ... ورجل في شك من أمر الله، والقنوط من رحمة الله» (¬2)، ولذلك فإن الأمة التي نخرها الشك، ونهشها القنوط لا يُرجَى خيرها ما لم تستَعِدِ الثقةَ واليقين بنصر رب العالمين. إن عقيدة الإيمان بالقدر مصدر من مصادر الثقة بأن العاقبة للمتقين، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن لكل شيء حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإيمان، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئَه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه» (¬3). ¬

(¬1) صحيح سنن أبي داود الألباني - الجهاد - باب 107 - الحديث 2307/ 2649 (صحيح). (¬2) صحيح الجامع برقم 3059 (صحيح). (¬3) صحيح الجامع برقم 2150 (صحيح).

ليست المسألةُ مسألة تخلُّف وعد الله - حاشاه سبحانه - ولكنها مسألة التوقيت المقدور، والأجل المحدود، الذي لا يتقدَّم لاستعجال متعجِّلٍ، ولا يتأخر لهوى كسول، ولذلك كان عمر بن عبد العزيز كثيرًا ما يدعو: (اللهم رضني بقضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أحب تعجيل شيء أخرته، ولا تأخير شيء عجلته) (¬1)، وبهذه النفسية تزول ظاهرة الاستعمال، ويطمئن القلب بأن العاقبة للمتقين. ولئن مرَّت الأمة بفترات ضعف، فلا ننسى أنها تقادير الله، الذي يقدر على إعادة عزٍّ ضاع، واسترجاع سيادة مضت، وشأن البشر الصعود والنزول، كما في الحديث: «مَثَل المؤمن مَثَل السنبلة؛ تميل أحيانًا وتقوم أحيانًا» (¬2)، المهم أنها تقوم يومًا ما - وتلك سنة كونية - وهذا اليوم آتٍ لا محالة، إذا توفرت الأسباب. وهكذا مضت سنة الله في الأمم، كما في الحديث: «عُرضت عليَّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد ...» (¬3). ومع ذلك استمرت الدعوة، وستبقى مهما لقيت من الضعف في بعض الأزمان، ولن يعيب النبيَّ الذي ليس معه أحد أنه لم يهتدِ على يديه أحد، رغم بذلِه جهدَه في دعوته، كما لا يعيب المجاهدَ ألا يصل إلى النصر رغم طول جهاده، إنما يَعيبُنا التقصير في أخذ الأسباب، والبخل بالجهد المستطاع - وإن قلَّ - والباقي ¬

(¬1) تهذيب مدارج السالكين - منزلة الرضا - ص 380. (¬2) صحيح الجامع برقم 5845 (صحيح)، وبرقم 5844 رواية: «تستقيم مرة، وتخر مرة» (صحيح). (¬3) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب 94 - الحديث 374/ 220 (ِشرح النووي 3/ 93).

تعهَّد به الله حين يشاء. ولِمَا يخشاه الشهداء على مَن بعدهم من الأحياء من ضعفِ الثقة المُفضِي إلى الزهد بالجهاد، أو اليأس من ثماره، يقولون لربهم سبحانه وتعالى: «مَن يبلِّغ إخواننا عنَّا أنَّا أحياء في الجنة نُرزق؛ لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عند الحرب، فقال الله سبحانه: أنا أبلغهم عنكم ..» (¬1). فلابد لليلِ أن ينجلي، ولابد للغثاء أن يذهب جفاءً، ولابد لِمَا ينفع الناس أن يمكث في الأرض، ويمضي قدر رب العالمين في أن تكون العاقبة للمتقين. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - صاحب اليقين واثق بالله مهما ضاقت عليه الدنيا. - بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين. - اليقين خير ما يُؤتاه المرء، وبه صلَحت الأمة. - لا يزال الله يغرِسُ لهذا الدين، والخير آتٍ بإذن الله. - من البشائر بنصر الله: - مُلك الأمة سيبلغ المشارق والمغارب. - الإسلام يعلو ولا يُعلى، وهو يزيد، والشرك ينقص. - الوعد بالتمكين، ولن يبرح الدين قائمًا. - ينصر الله الأمة بضعيفها، ويرفع أقوامًا ويضع آخرين. - في كل قرن سابقون ومجددونـ والله آذن أعداءه بالحرب. ¬

(¬1) صحيح سنن أبي داود للألباني - كتاب الجهاد - باب 27 - الحديث 2199/ 2520 (حسن). وفي صحيح الجامع برقم 5205 (صحيح).

- النصر آتٍ ولكن الناس يستعجلون، أو يشكون ويضعف إيمانهم بالقدر. - الوعد آتٍ، ولكن الله هو الذي يحدِّد ميقاته. - لا حرج في قلة الأتباع، ولكن الحرج في التقصير في الأخذ بالأسباب.

الفصل الثاني الاستعداد للشهادة

الفصل الثاني الاستعداد للشهادة

«.. فلا جهاد ولا صدقة، فلِمَ تدخُلُ الجنة إذًا؟!» الموت قدرٌ محتوم على كل مخلوق، والشهادة أسمى صور الموت يصطفي الله لها مَن يشاء، والمؤمن مأمور على كل حال بالاستعداد للموت، فمَن كانت أمنيته الشهادة كان أولى بالاستعداد، وأحرى بالتطلع لاصطفاء الله له. ولقد صدقَت فراسة كثيرين في إخوان لهم، توقَّعوا لهم الشهادة لمظاهرَ من سمتِ الصلاح بدَت عليهم، فقيل فيهم بالتوقيع ما قيل في طلحة بالوحي الصادق: «شهيدٌ يمشي على وجه الأرض»، وفي رواية: «هذا ممن قضى نحبه» (¬1)، فكيف نستعدُّ للشهادة ونتهيَّأ لها لنكون من أهلها حقًّا؟ لعل الله يرزقنا الشهادة في صورة من صورها. أول العُدَّة للشهادة: التوبة الصادقة، وقد ورد في الحديث: «يضحك الله إلى رجلينِ يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة؛ يقاتل هذا في سبيل الله فيُقتَل، ثم يتوب الله على القاتل فيُستشهد» (¬2)، فليس غريبًا أن ينال الشهادةَ مَن كان له ماضٍ جاهلي تاب منه، وقد رؤيت نماذج معاصرة من صدق جهادِ حديثِي الهداية، وقد ذهب بعض ¬

(¬1) صحيح سنن ابن ماجه للألباني - المقدمة - باب 11 - الحديثات: (102 صحيح، 103 حسن). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الجهاد - باب 28 - الحديث 2826 (فتح الباري 6/ 39).

الصحابة إلى غزوة أُحُدٍ بعد ليلة من شرب الخمر: (اصطبح ناس الخمر يوم أحد ثم قُتِلوا شهداء) (¬1) - وذلك قبل تحريم الخمر - وحتى الذين شرِبوها بعد تحريمها في قرون الخير، فإنها لم تكن تمنعهم من البحث عن الشهادة لعلها تُكفِّر عنهم ما بدر منهم. ولابد في الاستعداد للموتِ في سبيل الله أن يستتبع التوبة إصلاح العمل، وقد كان ابن عمر يقول: (إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) (¬2)، يقول ابن حجر في شرح الحديث: (أي اعمَل ما تلقى نفعه بعد موتك، وبادِر أيام صحتك بالعمل الصالح، فإن المرض قد يطرأ فيمنع من العمل، فيُخشى على مَن فرط في ذلك أن يصل إلى المعاد بغير زاد) (¬3). كما جاء في تعليل النهي عن تمني الموت، قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يتمنى أحدكم الموت إما محسنًا فلعله يزداد، وإما مسيئًا فلعله يستعتب» (¬4)، (وقوله: يستعتب أي يسترضي الله بالإقلاع والاستغفار، والاستعتاب طلب الإعتاب، والهمزة للإزالة؛ أي: يطلب إزالة العتاب) (¬5)، وفي بيان ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الجهاد - باب 19 - الحديث 2815 (فتح الباري 6/ 31). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الجهاد - باب 3 - الحديث 6416 (فتح الباري 11/ 233). (¬3) فتح الباري (11/ 235) عند شرحه للحديث 6416. (¬4) صحيح البخاري - كتاب التمني - باب 6 - الحديث 7235 (فتح الباري 13/ 220). (¬5) فتح الباري 6/ 122 عند شرحه للحديث 7235.

توفيق الله للعبد إلى حسن الخاتمة يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله، قالوا: وكيف يستعملُه؟ قال: يُوفِّقه لعمل صالح قبل موته» (¬1)، وإن الإكثار من ذكر الموت والحساب ليُجدِّدُ الدافع لإصلاح العمل، ولعل الله يستعملنا في طاعته، ويُحسِن خاتمتنا. لا يثبت لامرئٍ صدقُ سعيِه للشهادة بغير التضحية؛ لأن الجهاد يكون بالنفس والمال، وكلاهما يحتاج إلى جود وتضحية، فمَن لم يعُدَّ نفسه ليُقدِم ويعطي فكيف يحلم بالجنة؟! وَرَد عن بشير بن الخصاصية أنه جاء لمبايعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأراد أن يستعفي من الالتزام بشرطين من شروط البيعة، فقال: (أما اثنتان، فوالله ما أُطِيقهما: الجهاد والصدقة، فإنهم زعموا أنه مَن ولى الدبر فقد باء بغضب من الله، فأخاف إن حضرت تلك جشعت نفسي، وكرهت الموت، والصدقة؛ فوالله ما لي إلا غنيمة وعشر ذود هن رسل أهلي وحمولتهم)، فعلَّل خوفه من الجهاد بالخوف من وقوعه في كبيرة الفرار، وعلَّل خوفه من الصدقة بقلة ما يملكه، فقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده، ثم حركها وقال: «فلا جهاد ولا صدقة، فلم تدخل الجنة إذًا؟!» يقول الصحابي: (فبايعتُ عليهن كلهن) (¬2)، فالمسألة جد ولا تحتمل المساومة ولا التنازل. ¬

(¬1) مسند أحمد 3/ 106، وصححه الترمذي ووافقه الأرناؤوط: (جامع الأصول الحديث 7588). والألباني: (صحيح الجامع برقم 305). (¬2) مسند أحمد 5/ 224، وفي أسد الغابة 1/ 230: " .. فبم تدخل الجنة .. " في ترجمة بشير بن الخصاصية ط. كتاب الشعب.

ولا تضحية بغير جرأة، ولذلك عد من الشهداء مَن قتل دون دمه، أو عرضه، أو ماله كما في الحديث: «مَن قتل دون ماله فهو شهيد» (¬1) لتبقى روح رفض الظلم ومقاومته حية في النفوس، فإن لم يرزق صاحبها الشهادة لم يفته أجرها - بإذن الله -. ثم كيف تحمل اسم المجاهد بغير بذل الجهد؟! إذ إن الجهاز بذل أكبر الطاقة وأقصى الجهد، وغاية الوسع في نصرة الإسلام، ويمثل هذا المعنى حديث ابن ماجه: «خير معايش الناس لهم: رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله، ويطير على متنِه، كلما سمع هَيْعَة أو فزعة طار عليه إليها، يبتغي الموت أو القتل مظانه ..» (¬2). وصورة أخرى للمجاهد الجاد في طلب الشهادة من غزوة خيبر؛ حيث قتل عامر بن الأكوع - خطأ - بارتداد سيفه على ركبته، فقال بعض الصحابة: (حبِط عمله) - لظنِّهم أنه قتل نفسه - فذهب أخوه سلمة بن الأكوع يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن له لأجرين - وجمع بين أصبعيه - إنه لجاهدٌ مجاهد، قلَّ عربي مشي بها مثله» (¬3)، (قال ابن دريد: رجل جاهدٌ؛ أي: جادٌّ في أموره، وقال ابن التين: الجاهد مَن يرتكب المشقة) (¬4)، وكانت شهادةً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نيلِه أجرَ القتل ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب المظالم - باب 33 - الحديث 480. (¬2) صحيح سنن ابن ماجه للألباني - كتاب الفتن - باب 13 - الحديث 3212/ 3977 (صحيح). (¬3) صحيح البخاري - كتاب المغازي - باب 38 - الحديث 4196. (¬4) فتح الباري 7/ 467، عند شرحه للحديث 4196.

في سبيل الله، وأجر الجد والنشاط فيه رغم المشقة، وهذا شأن المتحفِّزين للشهادة. وصورة من غزوة أحد لأنس بن النضر الذي لم يُكتَب له حضور غزوة بدر، فعاهد ربه أن يعوض ما فاته: (لئن أشهدني الله مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليرين الله ما أجد)، وحضر غزوة أحد وتقدم بسيفه لما رأى الناس ينهزمون وقال لسعد بن معاذ: (أين يا سعد؟! إني لأجد ريح الجنة دون أحد، فمضى فقتل، فما عُرِف، حتى عرَفته أخته بشامةٍ أو ببنانه، وبه بضع وثمانون: من طعنة، وضربة، ورمية بسهم) (¬1)، وفي وصف شدة قتاله في أحد (قال سعد بن معاذ: فما استطعت يا رسول الله ما صنع ... ودل ذلك على شجاعة مفرطة في أنس بن النضير؛ بحيث إن سعد بن معاذ مع ثباته يوم أحد وكمال شجاعته ما جسر على ما صنع أنس بن النضر) (¬2)، فلا تدَّخِر شيئًا من وقتك أو جهدك دون أن تنصر دينك على ثغرة من الثغرات، لتكون من الذين جاهدوا في الله حق جهاده، واستعدوا لمقام الشهادة. ليس الموت هدفًا لذاته، ولا ابتغاء مظانِّ الموت انتحارًا، ولا تمني الشهادة يأسًا من الحياة، كما أنه ليس من الجبن أن تحتمي بخندق، ولا من التعلق بالحياة أن تستكمل الأسباب، ولا من الجرأة عدم التحرز من الأخطار. ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب المغازي - باب 17 - الحديث 4048. (¬2) فتح الباري 7/ 355، عند شرحه للحديث 4048.

بل إن مزيدَ يوم في عُمر المسلم يزداد فيه طاعةً، وينكأ فيه عدوًا، ويَغيظ به كافرًا، ولقد عجب الصحابة رضي الله عنهم من رجلين أسلما معًا، وكان أحدهما أشد اجتهادًا من الآخر، فاستشهد المجتهد، ومات الآخر بعده بسنة، فرأى طلحة بن عبيد الله أن الثاني دخل الجنة قبل صاحبه المجتهد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أي ذلك تعجبون؟ فقالوا: يا رسول الله! هذا كان أشد الرجلين اجتهادًا، ثم استشهد، ودخل هذا الآخر الجنة قبله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ قالوا: بلى، قال: وأدرك رمضان فصام، وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟ قالوا: بلى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض» (¬1). إن المستعدَّ للشهادة حقًّا يكون قد وطن نفسه لما قد يُصيبه من البلاء، وروض نفسه على الصبر عن الفرار، ولو أدى به هذا الصبر إلى الموت، يروي البخاري أن نافعًا سُئل على أي شيء بايع الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ على الموت؟ (قال: لا، بل بايعهم على الصبر) (¬2)، ويليه في صحيح البخاري حديثٌ عن سلمة يثبت البيعة على الموت، فربط ابن حجر بين الروايتين ربطًا لطيفًا؛ فقال: (ولا تنافِيَ بين قولهم بايعوه على الموت، وعلى عدم الفرار؛ لأن المراد بالمبايعة: ألا يفروا ولو ماتوا، وليس المراد أن يقع الموت ولابد، وهو الذي أنكره نافع وعدل إلى قوله: بل بايعهم على الصبر؛ أي على ¬

(¬1) صحيح سنن ابن ماجه للألباني - كتاب التعبير - باب 10 - الحديث 3171/ 3925 (صحيح). (¬2) صحيح البخاري - الجهاد - باب 110 - الحديث 2958. وحديث البيعة على الموت 2960.

الثبات، وعدم الفرار، سواء أفضى بهم ذلك إلى الموت أم لا) (¬1)، ويؤكد هذا المعنى أنا أبا أمامة - رضي الله عنه - رجا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات - في مواقف متفرِّقة، أن يدعو له بالشهادة، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يزيد على أن يقول: «اللهم سلمهم وغنمهم» (¬2)، فالأصل أن حياة المسلم تزيد سوادَ المسلمين، وتُقوِّي شوكتهم وتَغيظ الكفار، ولكنه مع ذلك مهيأ للثبات، مستعدٌّ للصبر مهما عظم البلاء. ومثل هذه التربية على الاستعداد للشهادة هي التي تجعل مَن ينشد الشهادة جريئًا في الحق، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر» (¬3)، ويُعلِّق الغزالي على هذا المعنى فيقول: (ولَما علم المتصلِّبون في الدين أن أفضل الكلام كلمة حق عند سلطان جائر، وأن صاحب ذلك إذا قتل فهو شهيد - كما وردت به الأخبار - قدموا على ذلك موطنين أنفسهم على الهلاك، ومحتملين أنواع العذاب، وصابرين عليه في ذات الله، ومحتسبين لما يبذلونه من مهجهم عند الله) (¬4). وبغير هذه النفسية تكون الأمة غثاءً كغثاء السيل، وتكون نتيجة تلك الغثائية أن الله (ينتزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن)، ولما ¬

(¬1) فتح الباري 6/ 118، عند شرحه للحديث 2958. (¬2) مسند أحمد 5/ 248، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح - بلوغ الأماني 22/ 392 - . (¬3) صحيح سنن أبي داود للألباني - كتاب الملاحم - باب 17 - الحديث 3650/ 4344 (صحيح). (¬4) إحياء علوم الدين 2/ 343.

سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوَهَن قال: «حب الدنيا وكراهية الموت» (¬1)، وذلك الوهن هو الذي يجعل الأمة تستمرئ الذل وترضى بالدنية. ثم كيف تكون قاصدًا منزلةَ الشهداء إن لم تكن صادق التوكل على الله؟! يروي البخاري عن عائشة في أجر الصابر على الطاعون قوله - صلى الله عليه وسلم -: «... فليس من عبدٍ يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرًا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد» (¬2). ثم يعلق ابن حجر فيقول: (صابرًا؛ أي: غير منزعج ولا قلق، بل مُسلِّمًا لأمر الله، راضيًا بقضائه - وهذا قيد في حصول أجر الشهادة لمن يموت بالطاعون - .. وقوله: يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له - قيد آخر -) (¬3). وملاك الأمر كله في الاستعداد للشهادة الإخلاص وتجريد النية من الشوائب. وتأمَّل هذه الصورة من غزوة خيبر لرجل يقاتل المشركين: (رجل لا يدع لهم شاذَّة ولا فاذَّة إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقيل: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان) (¬4)، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه في النار؛ لما يعلم من نفاقه، وتبعه صحابي فوجده لم يصبر على جراحه فقتل نفسه، ولذلك جاء في الحديث: «إن أكثر ¬

(¬1) صحيح سنن أبي داود للألباني - كتاب الملاحم - باب 5 - الحديث 3610/ 4297 (صحيح). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الطب - باب 31 - الحديث 5734. (¬3) فتح الباري 10/ 193، عند شرحه للحديث 5734. (¬4) صحيح البخاري - كتاب المغازي - باب 38 - الحديث 4202.

شهداء أمتي أصحاب الفرش، ورب قتيل بين الصفينِ اللهُ أعلم بنيته» (¬1). فربما يموت رجل على فراشه ولا يُحرَم أجر الشهداء؛ لما يرى الله من صدقه، وربما يُحمل رجل مُضرَّج بدمائه من أرض المعركة، وهو عند الله من الخاسرين؛ لما شاب نيتَه من عُجب، أو فخر، أو عصبية، أو حب سمعة، وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة منها قوله - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم: «من طلب الشهادة صادقًا أعطيها ولو لم تصبه» (¬2)، وأخرجه الحاكم بلفظ: «مَن سأل القتل في سبيل الله صادقًا ثم مات أعطاه الله أجر شهيد»، وفي رواية أخرى للحاكم: «مَن سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه» (¬3)، والإخلاص لا يعلمه إلا الله، ولا تنقيه إلا محاسبة النفس، فحاسب نفسك، وراقب قلبك، وضع نفسك في الميزان، لترى مدى استعدادك للشهادة، عسى أن تكون {... مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - من عدة الشهادة: - التوبة الصادقة. - إصلاح العمل. ¬

(¬1) مسند أحمد 1/ 397، استشهد به ابن حجر، وقال: رجال سنده موثقون - الفتح 10/ 194. (¬2) صحيح مسلم - كتاب الإكارة - باب 146 - الحديث 1908. (¬3) أدرج ابن حجر روايتي الحاكم بعد رواية مسلم في فتح الباري 6/ 16.

- البذل والتضحية. - الجرأة في دفع العدوان. - تقديم أقصى الجهد في خدمة الإسلام. - البيعة على الموت ماذا تعني؟ - الموت ليس هدفًا لذاته، وزيادة العمر زيادة في الطاعة وإغاظة للعدو. - الجرأة في الحق تقتضي الزهد في الدنيا وكراهية الموت. - صدق التوكل على الله. - الإخلاص وتجريد النية. - طلب الشهادة بصدق طريق إلى نَيْلها أو نَيْل أجرها.

الفصل الثالث النصرة

الفصل الثالث النصرة

«انصُرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا ..» كم في المسلمين من ذوي الحاجة وأصحاب الهموم وصرعى المظالم وجرحى القلوب الذين لم يجدوا مَن يطرق بابهم، أو يسأل عن حالهم، أو يسعى في كشف الغم عنهم بدافع من خُلُق (النصرة). نعني بالنصرة تلك الغَيْرة الإيمانية التي تدفع المسلم لرفع الظلم عن أخيه المسلم المستضعف، أو لمد يد العون إليه، وبقدر ما تمارس هذا الخلق في حياتك اليومية تكون أقدر على الاستجابة لنداء داعي الجهاد لمنازلة البغاة أو الكافرين. الأخوة الإيمانية ضريبتها النصرة، والقائم بحق النصرة أو المتخاذل عنها؛ كل منهما يلقي ثمرة ذلك - في الدنيا قبل الآخرة - جزاءً وفاقًا كما جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من امرئ يخذل امرءًا مسلمًا عند موطِن تُنتهك فيه حرمتُه، وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله عز وجل في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر امرءًا مسلمًا في موطن ينتقص فيه من عرضه، ويُنتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته» (¬1). وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبعٍ، كان منها (نصر المظلوم)، ونصه: «أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبع، ونهانا عن سبع، فذكر عيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ورد السلام، ونصر المظلوم، ¬

(¬1) مسند أحمد 4/ 30، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم 5690.

وإجابة الداعي، وإبرار القسم» (¬1). ويصف ابن الجوزي الظلم بأن المعصية فيه أشد من غيرها من المعاصي معلِّلًا ذلك بقوله: (لأنه لا يقع غالبًا إلا بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار) (¬2). وليس من شأن المسلم أن يرتضي لنفسه إيقاع الظلم بأخيه، أو أن يدع أخاه فريسةً بيد ظالم بذله، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلِمه، ومَن كان فيه حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة» (¬3). فهل بعد هذا ترى مصيبة واقعة بأخيك وتسلمه لها وتخذله فيها، أم تُحتَقن دماؤك في عروقك ولا يروق لك نوم حتى تبذل ما تستطيع من جهد لكشف ما نزل من ضرٍّ بأخيك؟ لقد كان أبناء الجاهلية يتناصرون في الخير والشر، وأراد الإسلام لهذا الخلقِ أن يستمر بوجهه الخير معطيًا له معنًى جديدًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «انصُرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا.، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: تحجزه - أو تمنعه - من الظلم فإن ذلك نصره» (¬4). فإن كنت تنصر قومك وعشيرتك وعُصْبتك، وتمنعُهم بكل الوسائل من إيقاع ظلم بمسلم - منهم أو من غيرهم - فتلك هي النصرة، وإلا فهي العصبية المقيتة المنتنة؛ التي أُمرنا ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب المظالم - باب 5 - الحديث 2445 (فتح الباري 5/ 99). (¬2) عن فتح الباري 5/ 100 - كتاب المظالم - باب 8 - من شرح الحديث 2447. (¬3) صحيح البخاري - كتاب المظالم - باب 3 - الحديث 2442 (فتح الباري 5/ 97). (¬4) صحيح البخاري - كتاب الإكراه - باب 7 - الحديث 6952 (فتح الباري 12/ 323).

بأن ندعها، وقد قال في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشبهًا حال صاحب العصبية ببعيرٍ هلك: " من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي ردي، فهو ينزع بذنبه" (¬1). والقادر على النصرةِ لأخيه المسلم بكلمة أو شفاعة أو إشارة بخير، إن لم يقدمها مع قدرته على ذلك وهو يرى بعينه إذلال أخيه، ألبسه الله لباس ذل أمام الخلق يوم القيامة؛ لتقصيره في نصرة أخيه ورفع الذل عنه، وفي ذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أُذِل عنده مؤمنٌ فلم ينصره - وهو قادر على أن ينصره - أذله الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة» (¬2). لابد لكل دعوة من رجال متشبعين بخلق النصرة، وإلا فلن تكتب لها الحياة، وأدناها النصرة بالمعونة ورفع المظالم، وأعلاها النصرة في الجهاد، وحين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض دعوته في المواسم بمنى كان يقول: «مَن يُؤويني؟ مَن ينصرني؟» (¬3). وحين بُويِع بيعة العقبة اشترط النصرة، فقال: «... وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن تُؤونا، وتنصرونا، وتمنعونا مما منعتم منه أنفسكم» (¬4). وحتى ورقة بن نوفل كان يقول له في مطلع الرسالة: (وإن يُدرِكني يومك أنصُرْك نصرًا مؤزرًا) (¬5). والله عز وجل قادر على أن ينصر رسوله، لكنه ترك للمؤمنين حظًّا في النصرة يؤدُّونه، ويُسألون عنه ويؤجرون عليه، قال تعالى: ¬

(¬1) صحيح سنن أبي داود للألباني - كتاب الأدب - باب 121 الحديث 4270/ 5117 (صحيح). (¬2) مسند أحمد 3/ 487، وحسّنه عبد الرحمن البنا (بلوغ الأماني 19/ 69). (¬3) مسند أحمد 3/ 322، صحح الحاكم إسناده وأقره الذهبي، وقال ابن كثير في تاريخه: هذا إسناد جيد على شرط مسلم (عن بلوغ الأماني 30/ 270). (¬4) مسند أحمد 4/ 119، وفي بلوغ الأماني 20/ 276 (رجاله ثقات). (¬5) صحيح البخاري - كتاب بدء الوحي - باب 3 - الحديث 3 (فتح الباري 1/ 23).

{... هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62] والمفلحون هم الذين {آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ ...} [الأعراف: 157]. وقد شرع للمؤمن أن يدعو بالنصرة، كما في الحديث: «ربِّ أعنِّي ولا تُعِن عليَّ، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسِّر الهدى إلي، وانصرني على من بغى علي» (¬1)، ولكن هذه النصرة لا تكون غالبًا بسبب غيبي، وإنما بتسخيرك يا صاحب خلق (النصرة) لتؤدي دورك بحميَّتك الإيمانية، وغيرتك للحق، أما الخذلان في ساعة الحاجة، فشأن المنافقين مع أوليائهم الذين قال الله فيهم: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ ...} [الحشر: 12]. وقد اشترط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجالسين على قارعة الطريق أن يتحمَّلوا ضريبة جلوسهم هذا، وشهودهم لمواقف تقتضي منهم التدخُّل وأداء الواجب، فقال لهم: «إن أبيتم إلا أن تجلسوا فاهدوا السبيل، وردُّوا السلام، وأعينوا المظلوم» (¬2). والمبادرة إلى نصرة الأخ في الله في الدنيا - وخاصة في حال غيابه حيث تسقط المجاملات وتظهر حقيقة المشاعر، وتخلص النصرة لله - يكون من ثمرتها أن يسخر الله للناصر مَن يقف إلى جانبه وينصره في الدنيا ويتولاه الله في الآخرة، كما في الحديث: «من نصر أخاه بظهر الغيب، نصره الله في الدنيا والآخرة» (¬3). ¬

(¬1) صحيح سنن ابن ماجه للألباني - كتاب الدعاء - باب 2 - الحديث 3088/ 3830 (صحيح). (¬2) مسند أحمد 4/ 282، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 1407. (¬3) صحيح الجامع برقم 6574 (حسن).

وأوجبُ صور النصرة ما يكون فيه دفع أذى من أمير أو ذي سلطان أو صاحب سطوة؛ لأن هؤلاء أذاهم شديد، وناصحوهم قليل، والمتملقون لهم كثير، فيضيع الحق في غمرة المجاملات والمداراة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبرأ ممن يعينهم على ظلمهم، ولا ينصرهم على أنفسهم وأهوائهم بردعهم عن الظلم، وقد جاء هذا المعنى في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه ستكون بعدي أمراء، من صدّقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، وليس بوارد علي الحوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه، وهو وارد علي الحوض» (¬1). وإذا كان منع ظلم الملوك بنصرة المستضعفين خُلُقًا يتجمل به غير المسلمين، فالمسلمون به أولى وأحرى، وقد وصف عمرو بن العاص الروم بخصال استحسنها فيهم، فقال: (إنّ فيهم لخصالًا أربعًا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرَّة بعد فرّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك) (¬2). ومن كانت نصرته بصورته الجاهلية نصرة على الباطل، ودورانًا مع العصبية، وإعانة على الظلم، فقد غضب الله عليه، كما في الحديث: «من أعان على خصومة بظلم - أو يعين على ظلم - لم يزل ¬

(¬1) صحيح سنن النسائي للألباني - كتاب البيعة - باب 35 - الحديث 3923 (صحيح). (¬2) صحيح مسلم - كتاب الفتن - باب 10 - الحديث 35/ 2898 (شرح النووي 9/ 239).

في سخط الله حتى ينزع» (¬1). فكن نصيرًا للحق حيث كان، وإلا فلا تطمع بوسام الجهاد ولا شرف الاستشهاد. خلاصة هذا الفصل وعناصره: النصرة استعداد لنصرة المستضعف، وهي ضريبة الأخوة. - صاحب (النصرة) ينصره الله في موطن يحب فيه نصرته. - الظلم لا يقع - غالبًا - إلا على الضعيف فهل تُسلمه أو تخذله؟ - الجاهليون يتناصرون فكيف تكون النصرة للمسلم؟ - الدعوات تقوى بالنصرة لمن يقوم بتبليغها. - يشرع للمؤمن أن يدعو ربه بأن ينصره. - تتوجب النصرة بشهود مواقف الظلم أو العلم بها. - حقيقة النصرة الخالصة نصرتك لأخيك في غَيبته. - أوجب صور النصرة بدفع ظلم ذوي السلطان. - مما استحسن عمرو بن العاص في الروم منعهم ظلم الملوك. - في النصرة للعصيبة، والإعانة على الباطل، سخط الله. ¬

(¬1) صحيح سنن ابن ماجه للألباني - كتاب الأحكام - باب 6 - الحديث 1878/ 2320 (صحيح).

الفصل الرابع الانتصار

الفصل الرابع الانتصار

{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} إن صفة التوازن التي تميز بها ديننا تجعل المؤمن في بعض المواطن متواضعًا متسامحًا؛ يعفو ويصفح، وإذا ما غصب يغفر، وفي مواطن أخرى تجده أبيًّا حريصًا على مروءته، مطالبًا بحقه، مقتصًّا من ظالمه، منتصرًا من المسيء إليه، فمتى يكون الانتصار؟ يوضح ابن العربي جواب هذا التساؤل بقوله: (أن يكون الباغي معلنًا بالفجور، وقحًا في الجمهور، مؤذيًا للصغير والكبير، فيكون الانتقام منه أفضل). ويصف الحالة المقتضية للعفو، فيقول: (أن تكون الفلتة، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة، ويسأل المغفرة، فالعفو هاهنا أفضل). وأكد هذا المعنى إلكيا الطبري في أحكامه، ووافق ابن العربي في أن أفضلية الانتصار تُفهَم من قول إبراهيم النخعي عن السلف: (كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفساق)، وخصص العفو فيما إذا كان الجاني نادمًا مُقلعًا. وقد استحسن القرطبي هذا التفصيل وأقره، وحمل الغفران على غير المصر، وقال: (فأما المصر على البغي والظلم، فالأفضل الانتصار منه) (¬1). ¬

(¬1) جميع النقول والأحكام السابقة من تفسير القرطبي 16/ 39، وقول النخعي استشهد به البخاري في ترجمة باب 6 من كتاب المظالم بلفظ: كانوا يكرهون أن يُستذلوا فإذا قدروا عفوا.

ومما ذكره القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} [الشورى: 39]: (هو عام في بغي كل باغٍ من كافر وغيره، أي إذا نالهم ظلم من ظالم لم يستسلموا لظلمه) (¬1) وبعد أن عرض القرطبي جملة من الأقوال علق قائلًا: (وبالجملة العفو مندوب إليه، ثم قد ينعكس الأمر في بعض الأحوال، فيرجع ترك العفو مندوبًا إليه .. وذلك إذا احتيج إلى كف زيادة البغي وقطع مادة الأذى، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل عليه) (¬2)، واستدل بحديث انتصار عائشة من زينب - رضي الله عنهما - وسيأتي تفصيله. جاء في تفسير الآية {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ..} [الشورى: 39، 40]؛ (أي: ينتقمون ممن بغى عليهم ولا يستسلمون لظلم المعتدي، قال أبو السعود: هو وصف لهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر الفضائل، وهذا لا ينافي وصفهم بالغفران، فإن كلاًّ في موضعه محمود. {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}؛ أي: وجزاء العدوان أن ينتصر ممن ظلمه من غير أن يعتدي بالزيادة. قال الإمام الفخر: لما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} أردفه بما يدل على أن ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيدًا بالمثل دون زيادة، وإنما سمى ذلك سيئة لأنها تسوء من تنزل به) (¬3). ولما استقى الإمام مالك في قول سعيد بن المسيب: (لا أحلل أحدًا). وجَّه هذا القول في: عدم التجاوز عن الرجل الظالم، فقال: ¬

(¬1) تفسير القرطبي 16/ 39. (¬2) تفسير القرطبي 16/ 44. (¬3) عن صفوة التفاسير 3/ 144 عند تفسير الآيات 39 - 43 من سورة الشورى.

(لا أرى أن يجعله من ظلمه في حل)، وعلل ابن العربي فتوى مالك بقوله: (إن كان ظالمًا فمن الحق ألا تتركه لئلا تغترَّ الظَّلَمة ويسترسلوا في أفعالهم القبيحة) (¬1). ويؤكد الصاوي في حاشيته على الجلالين هذا المعنى فيقول: (من مكان الأخلاق التجاوز والحلم عند حصول الغرض، ولكن يشترط أن يكون الحلم غير مخل بالمروءة)، وأما إذا انتهكت حرمات الله (فالواجب حينئذٍ الغضب لا الحلم، وعليه قول الشافعي: مَن استُغضِب فلم يغضب فهو حمار، وقال الشاعر: وحلم الفتى في غير موضعه جهل) (¬2). وفي تفسير قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ...} [النساء: 148]. نقل القرطبي في تفسير الآية على قراءة مَن قرأ {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} قول أبي إسحاق الزجاج: (يجوز أن يكن المعنى: إلا مَن ظلم، فقال سوءًا فإنه ينبغي أن تأخذوا على يديه) وعلق القرطبي قائلًا: " قلت: ويدل على هذا أحاديث منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «خذوا على أيدي سفهائكم» (¬3). وقوله: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»، قالوا: هذا ننصره مظلومًا فكيف ننصره ظالمًا؟ قال «تكفُّه عن الظلم» (¬4) " (¬5). وفي حديث طويل تنتدب نساءُ النبي - صلى الله عليه وسلم - السيدةَ زينب رضي ¬

(¬1) قول مالك وتعليله من تفسير القرطبي 16/ 42 - 43. (¬2) عن صفوة التفاسير 3/ 143 (الصاوي 4/ 40 عند تفسير الآية 39 من سورة الشورى). (¬3) استشهد به القرطبي وهو في ضعيف الجامع برقم 2819 (ضعيف). (¬4) رواه البخاري في كتاب المظالم - باب 4 - الحديث 2444 (فتح الباري 5/ 98). (¬5) تفسير القرطبي 6/ 4.

الله عنها لطلب مساواتهن بالسيدة عائشة رضي الله عنها؛ إذ كن يشعرن أن لها في قلبه منزلةً ليست لغيره، وكن يرين هدايا الناس تأتي أكثر ما تأتي حين يكون في بيت عائشة .. واستطالت زينب على عائشة بالكلام وعائشة تنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. تقول: (حتى عرَفت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكره أن أنتصر ..) (¬1)، وفي رواية: حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «دونك فانتصري»، فأقبلت عليها حتى رأيته وقد يبس ريقها في فيها، ما ترد علي شيئًا، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتهلل وجهه) (¬2). ولا يجوز للمنتصِر أن يتعدى على أخيه المسلم بأكثر مما أساء إليه، ولا يحق له أن يغمطه حقه، ففي رواية مسلم لحديث عائشة السابق تقول عائشة وفاءً لضرتها التي كانت تساميها في المنزلة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (.. ولم أرَ امرأة قطُّ خيرًا في الدين من زينب؛ وأتقى لله وأصدق حديثًا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالًا لنفسها في العمل الذي تصدق به وتقرب به إلى الله تعالى، ما عدا سَوْرةً من حدَّة كانت فيها، تسرع منها الفيئة) (¬3)، وذلك أدب النبوة فمع مبادأتها بالسباب لم تتجاوز حد العدل، ولم تغفل عن أن تعذرها. ويجب أن نفرِّق بين انتصارنا من أخينا الذي غلب خيره والانتصار من الظالم المصر أو الكافر المستكبر، وإذا توقَّعت أن انتصارك من أخيك المسيء إليك قد يزيد الشر، ويوغل في التمادي وتفاقم ¬

(¬1) صحيح مسلم فضائل الصحابة باب 13 الحديث 83/ 2442 (شرح النووي 8/ 214). (¬2) صحيح سنن ابن ماجه للألباني كتاب النكاح باب 50 الحديث 1611/ 1981 (صحيح). (¬3) صحيح مسلم - الحديث 2442 (سبق تخريجه).

الخطب، فاسدد أبواب الشيطان، وقدر المصالح والمفاسد. وفي سنن أبي داود حديث بهذا المعنى، فقد ورد أن رجلًا وقع بأبي بكر فآذاه - بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولما آذاه الثالثة انتصر منه أبو بكر، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين انتصر أبو بكر، (فقال أبو بكر: أوجدتَ عليَّ يا رسول الله! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نزل ملك من السماء يكذبه بما قال لك، فلما انتصرت وقع الشيطان، فلم أكن لأجلس إذ وقع الشيطان» (¬1). قال الخطابي في شرح الحديث: (إنما وقع الشيطان حين انتصر أبو بكر؛ لأن انتصاره يغري صاحبه - سيما وقد بدا الشر منه بتكرير الإساءة - بالتزيد والتمادي، فيكون ذلك سببًا في تفاقم الخطب) (¬2). والمغلوب على أمره يتأسى بنوح عليه السلام حينما عجز عن قومه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} [القمر: 10] أما القادر على الانتصار - بقيوده وشروطه الشرعية) (¬3) - فلا عذر له في الخنوع والاستكانة للظالمين. فأما قوله تعالى {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43]، فقد قال فيه القرطبي: (هو محمول على الغفران عن غير المصرِّ، فأما المصرُّ على البغي والظلم فالأفضل الانتصار منه) (¬4)، وأما كظم الغيظ، فمستحسن ومندوب إليه بعد التمكن من الظالم ¬

(¬1) صحيح سنن أبي داود للألباني - كتاب الأدب - باب 49 - الحديث 4094/ 4896 (حسن). (¬2) شرح سنن أبي داود (معالم السنن للخطابي 5/ 204). (¬3) من القيود والضوابط التي أشير إليها في الانتصار من الظالم المسلم: - أن يكون العفو عنه يجرؤه - أو أن يكون مسترسلًا في ظلمه ومصرًا عليه - كما أن من قيود المنتصر ألا يتعدى بأكثر مما ظلم - وألا يؤدي انتصاره إلى شر أكبر من المظلمة بحسب توقعه وراجح ظنه. (¬4) تفسير القرطبي 16/ 39.

والقدرة عليه، وإذا عُلم صدق توبته وندمه، أو أنها زلَّة منه لم يصر عليها، فالعفو عنه عندئذٍ هو الأولى، أما عفو الضعيف فهو عفو المكرَه المستضعف، ولا فضيلة فيه. إن إحياء خلق (الانتصار) هام وضروري؛ لئلا تعتاد الأمة قَبول الذل، لا من فاسق يقهرها، ولا من كافر ينحرها؛ لأن الأمة التي تعتاد السكينة أمام الظلم، والوداعة أمام الخسف والعسف، تفقد دافعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتنعدم فيها روح الجهاد، فهل نحن منتصرون حين يلزم الانتصار ممن لا يرتدع إلا بالانتصار؟ خلاصة هذا الفصل وعناصره: - الانتصار تكميل لخلق العفو والسماحة حيث لا ينبغي العفو. - الانتصار من الباغي المعلِن المصرِّ أولى من العفو، والعفو عن النادم المقلع أولى. - الشجاعة في الانتصار لا تتنافَى مع قابلية العفو عن صاحب الفلتة. - فتوى مالك بالانتصار من الظالم لئلا يغتر ويسترسل في ظلمه. - القصد في الانتصار أن يكون بالمثل وألا يزيد عن ظلم المعتدي. - يشترط في الحلم ألا يخل بالمروءة، وإلا فالانتصار أولى. - في تفسير {الجَهْرَ بِالسُّوءِ ...} الأخذ على يد السفيه وكفه عن الظلم. - موقف انتصار بين عائشة وزينب رضي الله عنهما. - لا يجوز للمنتصر تجاوز حد العدل والإنصاف. - المغلوب على أمره يدعو، والقادر ينتصر، ولا فضيلة في عفو الضعيف. - حمل القرطبي آية {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ} على غير المصر. - خلق (الانتصار) يحيي في الأمة روح الجهاد.

الفصل الخامس الشجاعة

الفصل الخامس الشجاعة

«.. وإن الشجاع منا للذي يحاذي به» حين يكون دين المرء أعز ما لديه في هذه الدنيا يكون في المنافحة عنه بالغ الشجاعة، عظيم الجرأة، قوي الإقدام. تنبع الشجاعة من غرائز فطرية، وتقويها التربية الجهادية؛ بالمران والتدريب وخوض المواقف؛ حتى يكتسب الشاب هذا الخلق، وإلى ذلك أشار سيدنا عمر - رضي الله عنه - بقوله: (.. والجرأة والجبن غرائز يضعها الله حيث شاء، فالجبان يفر عن أبيه وأمه، والجرئ يقاتل عما لا يؤوب به إلى رحلة، والقتل حتف من الحتوف) (¬1)، ويعلق فؤاد عبد الباقي على الفقرة الأخيرة بقوله: (والقتل حتف من الحتوف: أي نوع من أنواع الموت، كالموت بمرض أو نحوه، فيجب ألا يرتاع منه، ولا يهاب هيبة تورث الجبن) (¬2). وقد جعل الله أمر الدين لا يقوم إلا بالشجاعة، ولذلك إن جبن أهل الحق يستبدل بهم قومًا غيرهم، وهذا ما أراده ابن تيمية بقوله: (ولما كان صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم إلا بالشجاعة والكرم، بين سبحانه أن من تولى عن الجهاد بنفسه أبدل الله به من يقوم بذلك) (¬3). ¬

(¬1) الموطأ - كتاب الجهاد - الحديث 35. (¬2) من حاشية الأستاذ فؤاد عبد الباقي على الحديث السابق في الموطأ. (¬3) فتاوي ابن تيمية 28/ 157.

ولا يمكن أن يعتمد على النفعيين والمنافقين؛ لأنهم يفتقدون حرارة الحرص ودافعية الاهتمام، لذلك وصفهم أبو طلحة يوم أُحُد بقوله: (.. والطائفة الأخرى المنافقون، ليس لهم همٌّ إلا أنفسهم، أجبن قوم وأرعبه، وأخذ له للحق) (¬1). إن أصحاب المروءة من أبناء الجاهلية يتعايَرون بالجبن، ويتفاخرون بالشجاعة، ويمثل هذا المعنى الحوار الذي دار بين أبي جهل وعتبة بن ربيعة يوم بدر، حيث قال عتبة: (يا قوم، إني أرى قومًا مستميتين لا تصلون إليهم وفيكم خير، يا قوم، اعصبوها اليوم برأسي، وقولا جبن عتبة بن ربيعة - وقد علمتُم أني لست بأجبنكم، فسمع ذلك أبو جهل فقال: أنت تقول هذا؟! والله لو غيرك يقول هذا لأعضضته، قد ملأت رئتك جوفك رعبًا، فقال عتبة: إياي تعير يا مُصفِّر استه؟! ستعلم اليوم أينا الجبان) (¬2). ولأن الجبن شر فقد استعاذ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أعوذ بك من الجبن ..» (¬3)، ولقد اعتبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شر صفات الرجال: «شر ما في رجل: شُح هالع، وجبن خالع ..» (¬4)، ومثل هذا الجبن الذي يخلع القلوب إنما ينشأ من طبيعة التربية وآثار البيئة، وأمثال المجتمع ¬

(¬1) صحيح سنن الترمذي للألباني - كتاب التفسير: آل عمران - الحديث 2406/ 3208 (صحيح). (¬2) مسند أحمد 1/ 117، وعن بلوغ الأماني 20/ 32: (قال الهيثمي: ورجال أحمد رجال الصحيح، غير حارثة بن مضرب وهو ثقة). (¬3) صحيح البخاري - كتاب الجهاد - باب 25 - الحديث 2822. (¬4) صحيح سنن أبي داود للألباني - كتاب الجهاد - باب 22 - الحديث 2192/ 2511 (صحيح).

وقِيَمه، ولذلك كان لا بدَّ من غرس الشجاعة منذ الطفولة في نفوس الأبناء لإعدادهم للجهاد. وإن شدة التعلق بالدنيا وزينتها تنقلب على صاحبها داعية إياه إلى التخوف على مصالحه، والجبن عن خوض الغمار، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الولد مبخلة مجبنة» (¬1) والفرق بين نفسية الشجاع والجبان ملحوظ وظاهر وفي ذلك يقول ابن القيم: (.. فإن الشجاع منشرح الصدر .. والجبان أضيق الناس صدرًا، وأحصرهم قلبًا، لا فرحة له ولا سرور، ولا لذة له ولا نعيم؛ إلا من جنس ما للحيوان البهيمي) (¬2). ومن يتصدَّى لإمرة الناس وقيادتهم يجب أن يكون قدوة في شجاعته، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - «أحسن الناس، وأشجع الناس، وأجود الناس» (¬3). ويقول: «لو كان لي عدد هذه العِضَاهِ نَعَمًا لقسمتُه بينكم، ثم لا تجدوني بخيلًا ولا كذوبًا ولا جبانًا» (¬4). وفي فوائد الحديث يقول ابن حجر: (وفيه ذم الخصال المذكورة وهي البخل والكذب والجبن، وأن إمام المسلمين لا يصلح أن يكون فيه خصلة منها) (¬5)، والجنود يفخرون بشجاعة قائدهم، ويزدادون إقدامًا، لذلك قال البراء في حديثه عن يوم حُنين: (كنا والله إذا احمرَّ البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به) (¬6) لما كانوا يرون من شجاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) صحيح سنن ابن ماجه للألباني - كتاب الأدب - باب 3 - الحديث 2957/ 3666 (صحيح). (¬2) زاد المعاد 1/ 187. (¬3) صحيح البخاري - كتاب الجهاد - باب 24 الحديث 2820. (¬4) صحيح البخاري - كتاب الجهاد باب 24 الحديث 2821، وتكرر برقم 3148. (¬5) فتح الباري 6/ 254 - كتاب فرض الخمس - باب 19 في شرح الحديث 3148. (¬6) صحيح مسلم - كتاب الجهاد - الحديث 79.

ولا ينبغي للمؤمن أن يُرِي عدوه من نفسه جبنًا، حتى إن الصحابي الشهيد خُبيبًا لما صلى ركعتين قبل قتله قال للمشركين: (والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت) (¬1) وهو مقبل على الموت يخشى أن يلصق بالمسلمين شبهة الجزع والجبن. وشجاعة المؤمن تتبدى على أعدائه، وفي جرأته الأدبية في نصح إخوانه، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتخرج الشجاعة عن حد القصد حين تكون على الإخوة والأصدقاء، وعلى المساكين والضعفاء. أمة الشهادة على الناس بحاجة إلى أصحاب الشجاعة في حماية الحق والجرأة الأدبية في الدعوة إليه. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - يكون المرء بالغ الشجاعة إذا كان دينه أعز ما لديه. - أمر الدين لا يقوم إلا بالشجاعة. - لا يمكن أن يعتمد على النفعيين والمنافقين. - إن أصحاب المروءة من أبناء الجاهلية يتعايرون بالجبن. - الجبن شر صفات الرجال. - إن شدة التعلق بالدنيا تؤدي إلى الجبن. - كان النبي - صلى الله عليه وسلم - «أحسن الناس، وأشجع الناس، وأجود الناس». ¬

(¬1) صحيح البحاري - كتاب المغازي - باب 10 - الحديث 3989 (فتح الباري 7/ 309).

الفصل السادس الصبر والمصابرة

الفصل السادس الصبر والمصابرة

{اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} المجاهد الذي ارتضى لنفسه طريق التضحية لن يستمر في هذا الطريق ما لم يتحلَّ بالصبر، وأية فئة اختارت طريق الابتلاء فلن تدوم رابطتها، ولن تتماسك بنيتها ما لم تتواصَ بالحق وتتواصَ بالصبر، والمؤمنون جميعًا مخاطبون بقول ربهم - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]. عُرِّف الصبر الاختياري بتعريفات كثيرة نختار منها الأقوال التالية: - قال الطبري: (الصبر: منع النفس محابها، وكفها عن هواها) (¬1). - وقال إبراهيم الخواص: (الصبر: هو الثبات على الكتاب والسنة) (¬2). - ووصفه ابن الجوزي بأنه: (حبس النفس عن فعل ما تحبه، وإلزامها بفعل ما تكره في العاجل، مما لو فعله أو تركه لتأذى به في الآجل) (¬3). وأما الصبر على البلاء المقدور والمصائب النازلة التي ليس فيها للإنسان إرادة ولا اختيار، فكما قال ابن عطاء: (الصبر: الوقوف مع ¬

(¬1) عن فتح الباري 3/ 172 من شرح كتاب الجنائز - باب 42 - الحديث 1302. (¬2) شرح النووي لصحيح مسلم 2/ 104. (¬3) عن فتح الباري 11/ 304 من شرح كتاب الرقاق - باب 20.

البلاء بحسن الأدب). وقال أبو علي الدقاق: (حقيقة الصبر ألا يعترض على المقدور ..) (¬1). والحياة صراع بين الحق والباطل، ويفوز في هذا الصراع الأطول نفسًا والأكثر احتمالًا: {.... وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ...} [الفرقان: 20]. ويتواصى أهل الباطل بالصبر على باطلهم: {وَانطَلَقَ المَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ ...} [ص: 6] {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا ...} [الفرقان: 42]، أفلا يقول أهل الحق للمبطلين: {... وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا ...} [إبراهيم: 12] حتى تتحقق فيهم سنة الله بالنصر والتمكين: {... وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ...} [الأعراف: 137] {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ...} [السجدة: 24]. كثير من الناس يتعللون بأن طباعهم تغلبهم، وأنه ليس لديهم القدرة على التحمل والصبر، ولو جاهد أحدهم نفسه لكظم الغيظ، وعف عن الحرام، ووسع صدره، وقنع بما آتاه الله إياه، وتجلد على ما ابتلاه الله به؛ حتى يكتسب هذا الخلق، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «ومن يستعفِفْ يعفَّه الله، ومن يستغنِ يُغنِه الله، ومن يتصبر يصبِّره الله ..» (¬2). ويوضح هذا المعنى ابنُ حجر بقوله: (.. يصبره الله: أي فإنه يقويه ويمكنه من نفسه حتى تنقاد له، ويذعن لتحمل الشدة، فعند ذلك يكون الله معه فيظفره بمطلوبه) (¬3). ¬

(¬1) قول ابن عطاء، وقول الدقاق من شرح النووي لصحيح مسلم 2/ 104. (¬2) صحيح البخاري كتاب الزكاة - باب 50 - الحديث 1469 (فتح الباري 3/ 335). (¬3) فتح الباري 11/ 304 - كتاب الرقاق - باب 20 - من شرح الحديث 6470.

والصبر المحمود ما كان بغير تسخط ولا جزع ولا يأس ولا شكوى، وفي هذا المعنى يقول - صلى الله عليه وسلم -: «ليس من أحد يقع الطاعون؛ فيمكث في بلده صابرًا محتسبًا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد» (¬1). يقول ابن حجر: (صابرًا؛ أي: غير منزعج ولا قلق، بل مسلمًا لأمر الله راضيًا بقضائه) (¬2)، وحين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصبر في بداية الدعوة أمر بالصبر الجميل {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} [المعارج: 5]. يقول القرطبي: (والصبر الجميل: هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله) (¬3). والصبر المحمود ما كان فيه تمامُ التوكل على الله وكمال اليقين به، هذا اليقين الذي يجعل المجاهد مقبلًا غير مدبر، (قال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن قتلتُ في سبيل الله يكفر عني خطاياي؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نعم. إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر ..» (¬4) وهو الصبر المتجمل باليقين في ساعة المصيبة؛ بحيث لا يفقد صوابه ولا يهذي بلسانه. وفي الحديث القدسي: «ابن آدم، إن صبرت واحتسبت عند الصدمة الأولى لم أرضَ لك ثوابًا دون الجنة» (¬5). قال الخطابي: (المعنى أن الصبر الذي يُحمَد عليه صاحبه ما كان عند مفاجأة المصيبة، ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الأنبياء - باب 54 - الحديث 3474. (¬2) فتح الباري 10/ 193، من شرح كتاب الطب - باب 31 - الحديث 5734. (¬3) تفسير القرطبي 18/ 184. (¬4) صحيح سنن الترمذي للألباني - كتاب الإيمان - باب 32 - الحديث (صحيح). (¬5) صحيح سنن ابن ماجه للألباني - كتاب الجنائز - باب 55 - الحديث 1597 (حسن).

بخلاف ما بعد ذلك فإنه على الأيام يسلو) (¬1). إن الذين عاشوا حياة الصبر ذاقوا لذتها وقطفوا ثمرتها وتركت تلك المواقف الصابرة أثرها في حياتهم، قال عمر - رضي الله عنه -: (وجدنا خير عيشنا بالصبر) (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «.. وما أعطي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر» (¬3). وقد وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبر بقوله: «والصبر ضياء» (¬4). يقول النووي: (والمراد أن الصبر محمود، ولا يزال صاحبه مستضيئًا مهتديًا مستمرًّا على الصواب) (¬5). وقد تعجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الخيرية التي تعم حياة الصابرين "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له» (¬6). وقال تعالى: {... وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] وأهم ما في حياة الصبر من الخير أنها تميز الصف، وتكشف معادن الرجال {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]. وقد يظن الناس أن الصبر ذلة لصاحبه مع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤكد أنه «.. ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله - عز وجل - ¬

(¬1) عن فتح الباري 3/ 150 من شرح كتاب الجنائز - باب 31 - الحديث 1283. (¬2) ذكره البخاري في ترجمة الباب 20 من كتاب الرقاق. (¬3) صحيح البخاري - كتاب الزكاة - باب 50 - الحديث 1469. (¬4) صحيح مسلم - كتاب الطهارة - باب 1 - الحديث 1/ 223 (شرح النووي 2/ 101). (¬5) شرح النووي لصحيح مسلم 2/ 103 - 104. (¬6) صحيح مسلم - الزهد والرقائق - باب 13 - الحديث 64/ 2999 (شرح النووي 9/ 335).

عزًّا» (¬1). والثابت على الصبر الدائب في العمل يبشره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما بشر به ابن عباس: «واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا، وأن النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا» (¬2). والمجتمع المسلم هو الذي يعم فيه التناصح بالصبر والتواصي به، فحين مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بامرأة وهي تبكي عند قبر قال لها: «اتقي الله واصبري» (¬3)، وحين أرسلت إليه إحدى بناته تخبره أن ابنها قُبِض أرسل إليها بقوله: «إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب ...» (¬4). ولا يزول الخسران عن المجتمع البشري ما لم يكن من صفاتهم: {... وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] {... وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 17]. ولأن طعم الصبر مرٌّ فلابد أن يتعهد الإنسان نفسه ويتزود بالصبر الجميل، ومما يعين المسلم على التصبر استحضار ما أعد الله للصابرين؛ من تكفير السيئات ورفع الدرجات وتكثير الحسنات؛ ففي قصة المرأة التي كانت تصرع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيَّرها: «إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة، وإن شئتِ دعوت الله أن يعافيك .. فقالت: أصبر ..» (¬5). ¬

(¬1) صحيح الجامع برقم 3024 (صحيح). (¬2) مسند أحمد 1/ 307 - 308، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 7957. (¬3) صحيح البخاري - كتاب الجنائز - باب 31 - الحديث 1284 (فتح الباري 3/ 148). (¬4) صحيح البخاري - كتاب الجنائز - باب 32 - الحديث 1284 (فتح الباري 3/ 151). (¬5) صحيح البخاري - كتاب المرضى - باب 6 - الحديث 5652 (فتح الباري 10/ 114).

وجاء ثلاثة نفر إلى عبد الله بن عمرو بن العاص يشكون إليه حاجتهم للنفقة والدابة والمتاع فخيَّرهم: (إن شئتم رجعتم إلينا فأعطيناكم ما يسر الله لكم، وإن شئتم ذكرنا أمركم للسلطان، وإن شئتم صبرتم فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفًا» قالوا: (فإنا نصبر لا نسأل شيئًا) (¬1). ويعين المرء على الصبر والثبات تذكُّر سير الصالحين والتأسِّي بهم، فحين ذُكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رجلًا قدح في قسمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» (¬2)، وقد وجَّهه القرآن إلى هذا المعنى {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]. ويهون على النفس استقبال البلاء وتلقِّي المحن، حين تعلم أن البلاء والصبر على قدر صلابة الدين وقوته، سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس أشد بلاءً؟ فقال: «الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى العبد على حسب دينه؛ فإن كان في دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتُلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة» (¬3). وفي حديث آخر: «لقد كان أحدهم ¬

(¬1) صحيح مسلم - أول كتاب الزهد - الحديث 37/ 2979. وانظر (شرح النووي 9/ 320 - 321). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الأنبياء - باب 28 - الحديث 3405 (فتح الباري 6/ 436). (¬3) صحيح سنن ابن ماجه للألباني - كتاب الفتن - باب 23 - الحديث 3249 (حسن صحيح).

يُبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها فيلبسها، ويبتلى بالقمل حتى يقتله. ولأحدهم كان أشد فرحًا بالبلاء من أحدكم بالعطاء» (¬1). وحين يعلم الصابر ما يُزِيحه الصبر عن كاهله من الذنب؛ يكون أكثر طمعًا في رحمة الله، وأكثر رضًا بقدر الله، فبعض الناس ليس لهم أعمال صالحة يداومون عليها ترفع درجاتهم، يصلون إلى المراتب العليا بالصبر: «إن الرجل ليكون له المنزلة عند الله فما يبلغها بعمل، فلا يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها» (¬2) وهؤلاء يغبطهم أهل نعيم الدنيا على ما هم فيه «ليودُّن أهل العافية يوم القيامة أن جلودهم قُرِضت بالمقاريض مما يرون من ثواب أهل البلاء» (¬3) هذا عدا معية الله للصابرين {... وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]. وعدا وفاء الله بوعده لعباده الصابرين {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الروم: 60، غافر: 55، 77]. وكم يهون عليك الصبر حين تتفكر في جرأة العباد على ربهم، ثم في كرم الله معهم: «ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى: إنهم يجعلون له ندًّا، ويجعلون له ولدًا، وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم ويعطيهم» (¬4). كما يهون علينا الصبر حين نتذكر أن أعداءنا يألَمون كما نألَم، يقول سيد قطب - رحمه الله -: (وإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي في الطريق، فما أجدر الحق أن يكون أشد إصرارًا ¬

(¬1) صحيح الجامع برقم 995 (صحيح). (¬2) صحيح الجامع برقم 1625 (حسن). (¬3) صحيح الجامع برقم 5484 (حسن). (¬4) صحيح مسلم - كتاب المنافقين - باب 9 - الحديث 50/ 2804 (شرح النووي 9/ 152).

وأعظم صبرًا على المضي في الطريق) (¬1)، من أجل ذلك كله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]. ومن صور الصبر التي يمتحن الله بها عباده: الابتلاء في الصحة، كما جاء في الحديث القدسي: «إذا ابتليت عبدي بحبيبتَيْه فصبر، عوَّضته منهما الجنة» (¬2)، كما قد يبتلي المرء بمحيط يحسده، ويعد عليه أنفاسه، ويستأثر عليه بكل خير، وهذا متوقع من الضعف البشري، خاصة إذا انفتحت الدنيا على الناس وتنافسوا فيها، لذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنكم سترون بعدي أثرة شديدة فاصبروا ..» قال أنس: (فلم نصبر) (¬3). ومن أعظم صور الصبر ما يكون في مواقف النزال والمواجهة والصراع، لذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تمنَّوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا ..» (¬4)، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذ عليهم العهد بألا يفروا، وذلك بأن يبايعهم على الصبر (¬5). ¬

(¬1) في ظلال القرآن 1/ 546. في ظلال الآية الأخيرة من سورة آل عمران. (¬2) صحيح البخاري - كتاب المرضى - باب 7 - الحديث 5653 (فتح الباري 10/ 116). (¬3) صحيح البخاري - كتاب فرض الخمس - باب 19 - الحديث 3147 (فتح الباري 6/ 251). (¬4) صحيح البخاري - كتاب الجهاد - باب 32 - الحديث 3025 (فتح الباري 6/ 156). (¬5) حديث البيعة على الصبر في صحيح البخاري - الجهاد - باب 110 - الحديث 2958.

وقد ضرب لنا القرآن مثلًا عمليًّا في الصبر على طلب العلم؛ حيث اشترط العبد الصالحُ على موسى عليه السلام الصبرَ من البداية، وظن موسى أنه يستطيع أن يصبر: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ ...} [الكهف: 69]، وفي كل مرة يُذكِّره العبد الصالح {قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف: 75]، حتى فارقه بعد ثلاث مرات من تذكيره إياه، وقد جاء في الحديث: «.. ولو صبر لرأى العجب» (¬1)، فالعلم لا يفتح كنوزه إلا للصابرين المثابرين. والصبر ضروري في تربية الأولاد، وخاصة إن كن بنات، وبالصبر على التربية ينفتح للمربي باب من الأجر أو يكتب له ستر من النار كما في الحديث: «مَن كان له ثلاث بنات فصبر عليهن وأطعمهن وسقاهن وكساهن من جِدَتِه كن له حجابًا من النار يوم القيامة» (¬2). وقال تعالى: {وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]. ولأن المؤمن إلف مألوف فلا بد أن يتزود بالصبر على أخطاء الناس؛ ليتمكن من مخالطتهم، ومن إصلاح أحوالهم، وفي ذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرًا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» (¬3)، ومن الثلاثة ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب الفضائل - باب 46 - الحديث 172/ 2380 (شرح النووي 8/ 153). (¬2) صحيح سنن ابن ماجه للألباني - كتاب الأدب - باب 3 - الحديث 2959 (صحيح). (¬3) صحيح سنن ابن ماجه للألباني - كتاب الفتن - باب 23 - الحديث 3257 (صحيح).

الذين يحبهم الله «الرجل يكون له الجار يؤذيه جواره فيصبر على أذاه؛ حتى يفرق بينهما موت أو ظعن ...» (¬1). والمجاهد الذي يسعى لاستئناف الحياة الإسلامية وإقامة المجتمع الإسلامي لا بدَّ له من الصبر على طول الطريق، وضعف الإخوة، وعناء المجاهدة، وعنت البلاء، بالإضافة إلى صبره على مدافعة الظلم والظالمين، وعندئذٍ يتذوق معاني الإيمان «أفضل الإيمان الصبر والسماحة» (¬2). (والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة؛ الصبر على شهوات النفس ورغائبها، وأطماعها ومطامحها، وضعفها ونقصها، وعجلتها وملالها من قريب، والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصوُّرهم، وانحراف طباعهم، وأثرتهم، وغرورهم، والتوائهم، واستعجالهم للثمار! والصبر على تنفج الباطل، ووقاحة الطغيان، وانتفاش الشر، وغلبة الشهوة، وتصعير الغرور والخيلاء! والصبر على قلة الناصر، وضعف المعين، وطول الطريق، ووسوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق! والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة من الألم والغيظ، والحنق والضيق، وضعف الثقة أحيانًا في الخير، وقلة الرجاء أحيانًا في الفطرة البشرية؛ والملل والسأم واليأس أحيانًا والقنوط! والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى ¬

(¬1) مسند أحمد 5/ 151، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 3074. (¬2) صحيح الجامع برقم 1097 (صحيح).

الانتقام، وتجاوز القصاص الحق إلا الاعتداء!) (¬1). خلاصة هذا الفصل وعناصره: - لا يستمر جهاد بلا صبر. - أهل الباطل يصبرون على باطلهم، وأهل الحق أولى. - الصبر يُكتسب بالتصبر. - عاقبة الصبر خير. - الصبر المحمود ليس فيه سخط ولا جزع ولا شكوى. - الصبر المحمود بتمام التوكل وكمال اليقين. - الصبر هو العز، وفي الثبات عليه يكون الفرج. - يعين على الصبر الجميل. - استحضار ما أعد الله للصابرين من الأجر. - التأسي بسير الصابرين. - تذكر أن البلاء على قدر صلابة الدين. - استحضار ما يمحوه الصبر من الذنوب. - تذكر صبر الله على عباده. - من صور الصبر: - الصبر على المرض وبلاء البدن. - الصبر في مواقف النزال. - الصبر في طلب العلم. - الصبر في تربية الأبناء. - الصبر على أخطاء الناس. - الصبر على طول الطريق وعناء المجاهدة. ¬

(¬1) في ظلال القرآن 1/ 545 - 546.

الباب الثاني من أخلاقنا في الدعوة

الباب الثاني من أخلاقنا في الدعوة الفصل الأول: التحبب إلى الناس. الفصل الثاني: الدفع بالأحسن. الفصل الثالث: التبشير. الفصل الرابع: الحكمة. الفصل الخامس: الهمة. الفصل السادس: التيسير. الفصل السابع: تقديم النفع.

الفصل الأول التحبب إلى الناس

الفصل الأول التحبب إلى الناس

«ادع الله أن يحببني .. إلى عباده المؤمنين». لا شك أن مقصود المسلم رضا الله قبل رضا سواه، كما أنه لا شك بأننا حين نتَّسِم بالفظاظة وغلظة القلب نُنفِّر الناس منا وينفضُّون عنا، والجمع بين ما يحبه الله والتحبب إلى الناس ليس بالأمر العسير؛ إن التزَمْنا الحكمة واشتغلنا بمقاصد الشرع. ما نقصده بالتحبب إلى الناس: التخلق بمجموعة من الصفات الرفيقة والودودة، التي إن توفرت في شخصية المسلم تجعل الناس ينجذبون إليه، ويتعلقون به، ويقبَلون منه، وقد كان هذا شأنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد ورد في الأثر أنه: (من رآه بديهةً هابه ومَن خالطه معرفةً أحبه) (¬1)، فالحرص على التحبب إلى الناس إنما يقصد منه المسلم ضمان فتح القلوب لقَبول الدعوة، وبالوسائل والأساليب المؤثرة في طباع البشر عادة، ولقد كان أبو هريرة - رضي الله عنه - يطلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له بالحب والتحبب: (ادعُ الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا)، فاستجاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودعا: «اللهم حبِّب عُبَيدك هذا - يعني أبا هريرة وأمه - إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين ..» (¬2). ولم يكن من العيب أن يأتي رجل ليقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دُلَّني ¬

(¬1) سنن الترمذي - المناقب - باب 38 - الحديث 3718، وقال الترمذي: (ليس إسناده بمتصل). (¬2) صحيح مسلم - فضائل الصحابة - باب 35 - الحديث 158/ 2491 (شرح النووي 8/ 284).

على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس، بل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدله على أسباب تحصيل هذه المحبة، كما في الحديث: «ازهَد في الدنيا يحبَّك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يُحبُّوك» (¬1). وواضح في هذا حرص الصحابة على أن تكون شخصياتهم مقبولة ومرضية لدى الناس؛ بالإضافة إلى حرصهم على أن يبلغوا رضا الله بغير تعارض بين الحرصين؛ لأن في كل منهما رضا الله، فآل الأمر في كليهما إلى شيء واحد. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحبب إلى بعض ضعاف الإيمان بشيء من العطايا تأليفًا لقلوبهم واستنقاذًا لهم من النار، كما في قوله: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه خشية أن يكُبَّه الله في النار» (¬2). وهل ترى حافزًا على التحبب إلى الناس أكثر من تحريض الأئمة والأمراء على التقرب إلى الرعية، ودفع الرعية إلى التحبب لأمرائهم الأتقياء؟! وفي ذلك يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبركم بخيار أمرائكم وشرارهم؟ خيارهم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتدعون لهم ويدعون لكم، وشرار أمرائكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم» (¬3). ولا ريب أن خلق التحبب هذا إن لم يكن خالصًا لله فسينقلب ¬

(¬1) صحيح سنن ابن ماجه للألباني كتاب الزهد - باب 1 - الحديث 3310/ 4102 (صحيح). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الإيمان - باب 19 - الحديث 27 (فتح الباري 1/ 79). (¬3) صحيح سنن الترمذي للألباني - كتاب الفنن - باب 63 - الحديث 1845/ 2376.

إلى نوع من النفاق والمداهنة والتزلف، فالحب في الله هو الذي يجعلك تحرص على اكتساب حب الناس لك؛ لما تطمح من إيصال خير إليهم على يديك، فالواجب على المؤمن: «أن يحب المرء لا يحبه إلا الله» (¬1)، وإذا تمت المحبة بهذه الصورة دلت على كمال الإيمان: «من أحب لله وأبغض لله، وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل الإيمان» (¬2). وقد وردت نصوص كثيرة تربط بين الإيمان وخلق التحابب، ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم» (¬3)، ولعظم شأن نشر المحبة واكتسابها اقتضى الأمر أن يدل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمته إلى وسائلها وأسبابها، كما اقتضى قبل ذلك أن يجعل كمال الإيمان مرتبطًا بها. ومن الصور الداعية إلى كسب الأصدقاء واستقطاب القلوب: الهدوء والسكينة، والوقار في المجالس، يروي أبو مسلم الخولاني أنه دخل مسجد حمص، فوجد شابًّا بين ثلاثين كهلًا من الصحابة (فإذا امترى القوم في شيء أقبلوا عليه فسألوه، فقلت لجليس لي: من هذا؟ قال: معاذ بن جبل فوقع له في نفسي حب ... ثم قلت: والله إني لأحبك، قال: فيم تحبني؟ قلت: في الله تبارك وتعالى، قال: أبشر إن كنت صادقًا، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء ..» (¬4). ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الإيمان - باب 9 - الحديث 16 (فتح الباري 1/ 60). (¬2) صحيح سنن أبي داود للألباني كتاب السنة باب 16 الحديث 3915/ 4681 (صحيح). (¬3) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب 22 - الحديث 93/ 54 (شرح النووي 1/ 395). (¬4) مسند أحمد 5/ 239، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 4312.

وكذلك فإن من المفاتيح السهلة للقلوب: اللقيا بالترحيب، والاستقبال بالبشاشة، واستدامة التبسم، فقد جاء في وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قول الصحابي: (ما رأيت أحدًا أكثر تبسمًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬1)، وربما كان من حكمة الأمر بإعلان من تحبه بحبك له لتتفجر معاني الحب وتقوي أواصره لدى الطرفين (¬2). (وفي شمائل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجوانب سيرته صور دقيقة تدل على مزيد حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التحبب إلى الناس، ومنها أنه: (كان يمر بالصبيان فيسلم عليهم) (¬3)، ويلاطفهم ويمازحهم، وحاله - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه كذلك أنه: (كان إذا لقيه أحد من أصحابه فقام معه، قام معه فلم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه، وإذا لقيه أحد من أصحابه، فتناول يده ناوله إياها، فلم ينزع يده منها حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده منه، وإذا لقي أحدًا من أصحابه فتناول أذنه، ناوله إياها، ثم لم ينزعها حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها عنه) (¬4). وعُلم من تحبُّبه - صلى الله عليه وسلم - حتى إلى ضعاف الناس أنه كانت تستوقفه الجارية في الطريق وتحدثه، فما ينصرف عنها حتى تكون هي التي تنصرف، و (كان يأتي ضعفاء المسلمين، ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم) (¬5). و (كان لا يُدفع عنه الناس، ولا يُضربوا ¬

(¬1) صحيح سنن الترمذي للألباني - المناقب - باب 41/ 22 - الحديث 2880/ 2903 (صحيح). (¬2) الإشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه إياه» صحيح سنن الترمذي للألباني - كتاب الزهد - باب 42 - الحديث 1950/ 2515 (صحيح). (¬3) صحيح الجامع برقم 5014 (صحيح). (¬4) صحيح الجامع برقم 4780 (حسن). (¬5) صحيح الجامع برقم 4877 (صحيح).

عنه) (¬1)، كما (كان لا يكاد يقول لشيء: لا، فإذا سُئل فأراد أن يفعل قال: نعم، وإذا لم يرد أن يفعل سكت) (¬2)، كما كان (يخدم نفسه) (¬3). ومجموع هذه الصفات تجعل صاحبها مقبولًا عند الناس ومحببًا إليهم، ولذلك كان الرجل يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يُطيقه، ثم يخرج من عنده ولا يؤثر عليه أحدًا، ومن ذلك ما حدث به عمرو بن العاص عن نفسه: (.. لقد رأيتني وما أحد أشد بغضًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني، ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته ..)، وبعد أن تعرض لتأثير تحببه - صلى الله عليه وسلم - انقلب الحال، (وما كان أحد أحب إلي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالًا له، ولو سُئلت أن أصفه ما أطقتُ؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه) (¬4). وقد يكون التحبب أحيانًا بصور شخصية بسيطة، كالتي أشار إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «الرؤيا الصالحة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث بها إلا من يحب ..» (¬5)، وذلك كنوع من المشاركة الوجدانية حتى للهموم القلبية، وخواطر العقل الباطن، وعالم ما وراء الشعور، وتلك أقصى مستويات التحبب والتفاعل الأخوي، ولذلك كان يحاول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعايش هموم أصحابه في اليقظة والمنام، حين كان ينصرف من صلاة الفجر ويعبر للناس رؤاهم، يقول ابن عباس: (كان مما يقول لأصحابه: من رأى منكم رؤيا فليقصها؛ أعبرها ¬

(¬1) صحيح الجامع برقم 4850 (صحيح). (¬2) صحيح الجامع برقم 4869 (صحيح). (¬3) صحيح الجامع برقم 4996 (صحيح). (¬4) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب 54 - الحديث 192/ 121 (شرح النووي 1/ 496). (¬5) صحيح مسلم - كتاب الرؤيا - الحديث 4 (شرح النووي 8/ 24).

له ..) (¬1)، واختيار المداخل إلى القلوب يحتاج إلى فطنة، وترصد للمواقف المناسبة، وأصل الأمر ومِلاكه أن تكون محبوبًا من الله، فهو بعدئذٍ يضع لك القبول في الأرض، فاحرِص على حب الله لك يفتح لك قلوب الناس، وتخلّق بما يدعو إلى التحبب، فالداعية اللبيب من يكون قادرًا على فتح قلوب العباد؛ لتُفتح له البلاد. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - الجمع بين ما يحبه الله والتحبب إلى الناس أمر شرعي. - لا تعارض بين هيبة الناس لك وحبهم إياك. - كما حرَص الصحابة على رضا الله، فقد كانوا يحرصون على التحبب إلى الناس. - بعض التحبب ضروري لتأليف قلوب ضعاف الإيمان. - حتى الأئمة والأمراء مدعوون للتحبب إلى الرعية. - التحبب إن لم يكن خالصًا لله، كان نفاقًا ومداهنة. - هنالك ارتباط بين الإيمان، وبين التحبب للمؤمنين. - من دواعي التحبب: - التزام السكينة والوقار. - بسط الوجه وطيب المعشر. - التقرب إلى الضعاف والمساكين. - التواضع والذلة للمؤمنين. - الاهتمام بالمشاركة الوجدانية والتفاعل الأخرى. - المحبوب عند الله يكتب له القبول في الأرض فيحبه الناس. ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب الرؤيا - باب 3 - الحديث 17 (شرح النووي 8/ 36).

الفصل الثاني الدفع بالأحسن

الفصل الثاني الدفع بالأحسن

{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ .. (¬1)} كم سيكون مجتمعًا بغيضًا ذلك المجتمع الذي يتبارى الناس فيه بما يدبرونه من الكبد ردًا على إساءة؟! وكم ستكون نفسًا خبيثة تلك النفس التي لا تطمئن حتى تكيل الصاع صاعين لمن أخطأ في حقها؟! إن المبادرة بالإحسان إلى أي إنسان أسهل بكثير من دوام الإحسان إلى مَن أساء إليك، واستمرار الصلة مع من قطعك، والتزام العفو عمن ظلمك، وذلك هو الدفع بالأحسن. إن المتشبِّع بروح التضحية، والمتسنم لذروة سام الإسلام، والمتطلع إلى مقامات الشهادة، لن يصعب عليه أن يقوى على فورة لانفعال البشري؛ ليعفو ويصفح، بل يُنتظر منه أن يكسر شوكة الهوى، ونزعة الضعف لديه ولدى المسيء إليه؛ بمقابلة الإساءة بالإحسان. وتبدأ تربية النفس على الإحسان بالخروج من طوق (الإمَّعة) إلى التميز بالشخصية: (لا تكونوا إمَّعة؛ تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا) (¬2)، كما جاء هذا المعنى في قول عثمان - رضي ¬

(¬1) [المؤمنون 96]. (¬2) سنن الترمذي - البر - باب 63 وحسنه الأرناؤوط (جامع الأصول 11/ 699 - الحديث 9349).

الله عنه -: (فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم) (¬1). وبتوطين النفس على التميز تتحرر شخصية المجاهد من ردود الفعل الطائشة، ومن إسار التقليد الأعمى. وحين تزل القدم، وينفلت الزمام، وتجد نفسك قد انحدرت إلى هاوية الإساءة، فبادر إلى إصلاح خطئك بخيرٍ تعمله؛ حتى تمسح آثار الذلة، وتعود إلى فطرة الخير الأصيلة في نفس المسلم، فإن ذلك يعين أخاك على الدفع بالتي هي أحسن، ويصبح مجال التنافس كله في ميدان الإحسان والدفع بالأحسن، وإن سحر الخلق الفاضل ليفوق في كثير من الأحيان قوة العضلات وسطوة الانتقام، فإذا بالخصم ينقلب خلقًا آخر، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] يقول ابن عباس في تفسير الآية: (ادفع بحلمك جهل من يجهل عليك) (¬2)، ويُروى عنه أيضًا قوله: (أمر المسلمين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم، كأنه ولي حميم) (¬3). وحال الدافعين بالحسنى المحافظة على وقارهم واتزانهم، وعدم الانجراف مع استفزازات المحرشين اللاغين، وقد وصفهم الله عز ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الأذان - باب 56 - الحديث 695 (فتح الباري 2/ 188). (¬2) تفسير القرطبي 15/ 361. (¬3) فتح القدير 4/ 517.

وجل بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3]. {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ...} [القصص: 55]، {... وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان: 63]، {... وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]، ومما وجه الله إليه نبيه - صلى الله عليه وسلم - في مجال الدفع بالأحسن قوله سبحانه: {... وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ...} [النحل: 125] {وخُذِ العَفْوَ وَامُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. إن أدنى صور الدفع بالتي هي أحسن: أن تمتص غضبتك، وتكظم غيظك، لتنفذ من هذا الباب إلى الحُور العِين التي تتطلع إليها، فقد جاء في الحديث: «من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة؛ حتى يخيّره في أي الحور شاء» (¬1). ومن أخطر المنزلقات إلى هاوية الانتقام للنفس، والأخذ بالثأر، أن يكون المرء ذا إمرة وسلطان، ولقد جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشكو خادمه: إن لي خادمًا يسيء ويظلم أفأضربه؟ قال: «تعفو عنه كل يوم سبعين مرة» (¬2). ومن آخر ما أوصى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحابته وهو يوصي بالأنصار خيرًا: «فمن ولي شيئًا من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فاستطاع أن يضر فيه أحدًا، أو ينفع فيه أحدًا، فليُقبِل من محسنهم، ويتجاوز عن ¬

(¬1) صحيح سنن ابن ماجه للألباني - كتاب الزهد - باب 18 - الحديث 3375/ 4186 (حسن). (¬2) مسند أحمد 2/ 90، وصحح أحمد شاكر إسناده (8/ 28 برقم 5635).

مسيئهم» (¬1). وهذا ما وصفت به السيدة عائشة رضي الله عنها خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (.. ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح) (¬2)، وجاء وصفه في التوراة هكذا، كما في رواية البخاري (¬3). ومن صور الدفع بالأحسن أن تقابل المسيء بالدعاء له، وبهذا فسر أنس قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}؛ حيث قال: (يقول الرجل لأخيه ما ليس فيه، فيقول له: إن كنت كاذبًا، فإني أسأل الله أن يغفر لك، وإن كنت صادقًا فإني أسأل الله أن يغفر لي) (¬4)، حتى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استنكر على مَن قال لفاعل كبيرة: (أخزاك الله)، رغم شناعة فعله، وقال: «لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان، ولكن قولوا رحمك الله» (¬5). ولو كان كل إنسان سيقابل أخاه بمثل شرِّه لتخلي الناس عن خصال الخير، وغدوا في غابة لا ضابط لها ولا رابط، خاصة وأن صور الإساءة قد تغري بالدفع بمثلها - على أقل الأحوال - وقد جاء صحابي يشكو: (يا رسول الله، إن لي ذوي أرحام، أصل ويقطعون، وأعفو ويظلمون، وأُحسِن ويسيئون، أفاكافئهم؟ قال: «لا، إذًا تتركون ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الجمعة - باب 29 - الحديث 927 (فتح الباري 2/ 404). (¬2) صحيح سنن الترمذي للألباني - كتاب البر - باب 68 - الحديث 1640/ 2102 (صحيح). (¬3) صحيح البخاري - التفسير - سورة 48 - باب 3 - الحديث 3838 (فتح الباري 8/ 585). (¬4) تفسير المراغي 18/ 54، عند شرحه للآية 96 من (سورة المؤمنون). (¬5) مسند أحمد 2/ 300، ورواه البخاري في الحدود باب 5 - الحديث 6781 (الفتح 12/ 75).

جميعًا، ولكن خذ بالفصل وصلهم، فإنه لن يزال معك من الله ظهير ما كنت على ذلك» (¬1). وسأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الرجل أمر به فلا يقريني ولا يضيفني، فيمر بي، أفأجزيه؟ قال: «لا، أقرِهْ» (¬2)، وهذا من أعلى مقامات العفو، بأن تقابل الإساءة بالإحسان، وهنيئًا لمن قدر على ذلك {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35]، وبذلك تحيا معاني الخير في النفوس، ويتبارى الناس في الإحسان، وتُغلق أبواب الشر على الشيطان، ولا يُتاح للإساءة أن تتفاقم، ويغمرها الإحسان، ويقضي على دوافعها. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - المبادرة بالإحسان أسهل على النفس من دفع المسيء بالحسنى. - الدفع بالأحسن يقتضي قدرة كبيرة على المجاهدة. - يعين على الدفع بالأحسن. - توطين النفس ألا تكون إمَّعة. - التنافس في ميدان الإحسان. - البعد عن اللغو والاستفزازات. - كظم الغيظ. - من صور الدفع بالأحسن: - احتمال إساءة الأتباع. ¬

(¬1) مسند أحمد 2/ 208، وقال أحمد شاكر 10/ 173 برقم 6700: (إسناده صحيح). (¬2) صحيح سنن الترمذي للألباني - كتاب البر - باب 63 - الحديث 1632/ 2091 (صحيح).

- الدعاء للمسيء. - لو لم يدفع الناس بالأحسن لغدوا في غابة لا ضابط لها. - دفع المسيء بالحسنى من أعلى المقامات.

الفصل الثالث التبشير

الفصل الثالث التبشير

«يَسِّروا ولا تُعسِّروا وبَشِّروا ولا تُنفِّروا». (التبشير) شعار أعلنه المنصِّرون، وتسموا به، وسلكوا طرقه وأساليبه، وكثيرًا ما كنا نرى أساليبهم يستبشر لها المتعاملون معهم، بينما كانت طريقة تعامل بعض الدعاة ينفر منها المدعوُّون، أوليس الداعية أحقَّ باسم التبشير خُلقًا ووسيلة وغاية؟! وأقصد بخلق (التبشير): التخلق بالصفات التي تستدعي الاستئناس والارتياح والتحبب وبث الأمل في القلوب، والبعد عن أساليب (التنفير) ودواعي الانقباض، حتى في التخويف من الله والترهيب من النار. لقد بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيرًا لأتباعه، نذيرًا لأعدائه، بل كانت مهمة الرسل لا تعدو هذينِ الوصفين: {وَمَا نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ...} [الأنعام: 48]، [الكهف: 56]، وقد أمر الله في كتابه بتبشير المؤمنين والصابرين والمحسنين والمخبتين، في آيات كثيرة. وكان من أساليب تبشير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يختار الوقت المناسب والقدر المناسب لأداء الموعظة والعلم كيلا ينفر الصحابة، وفي ذلك يقول - صلى الله عليه وسلم -: «يَسِّروا ولا تُعسِّروا، وبَشِّروا ولا تُنفِّروا» (¬1). وعلق عليه ابن ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب العلم - باب 11 - الحديث 69 (فتح الباري 1/ 163).

حجر بقوله: (المراد تأليف من قرب إسلامه، وتركُ التشديد عليه في الابتداء، وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطف ليقبل، وكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج؛ لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلًا حبب إلى مَن يدخل فيه، وتلقَّاه بانبساط، وكانت عاقبته غالبًا الازدياد ..) (¬1). ومن حكمته - صلى الله عليه وسلم - أنه استعمل أساليب التبشير في إيقاظ الهمم والتنشيط للطاعة، ومن ذلك قوله: «بشِّر المشائين في الظُّلَم إلى المساجد بالنور التامِّ يوم القيامة» (¬2)، وصلى العشاء مرة بأصحابه، وقبل أن ينصرفوا قال لهم: «على رسلكم، أبشروا، إن من نعمة الله عليكم أنه ليس أحد من الناس يصلي هذه الساعة غيركم»، قال أبو موسى الأشعري: فرجعنا ففرحنا بما سمعنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ويحتاج الإنسان في حالات الاضطراب إلى التبشير بما يزيل عنه دواعي الاضطراب، فبعد نزول الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر لخديجة رضي الله عنها ما جرى له، وأخبرها بخوفه على نفسه من هذه الظاهرة الجديدة، فبشَّرته بأن له من سابقة الخير ما يستبعد معها مكافأة الله له بمكروه، فقالت: (كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله ¬

(¬1) فتح الباري 1/ 163. (¬2) صحيح سنن ابن ماجه للألباني - كتاب المساجد - باب 14 - الحديث 633/ 781 (صحيح). (¬3) صحيح البخاري - كتاب المواقيت - باب 22 - الحديث 567 (فتح الباري 2/ 47).

أبدًا، فوالله إنك لتَصِل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلَّ، وتَكسِب المعدوم، وتعين على نوائب الحق ..) (¬1)، وكان هذا شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أمته ليزيل عنها دواعي القلق على مستقبل هذا الدين: «بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض ..» (¬2). وحتى في حالات الضعف البشري لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليعنِّف أصحابه بفظاظة وغلظة، وهم الذين سمعوا بقدوم أبي عبيدة بجزية البحرين، فاجتمعوا على صلاة الفجر، وتبعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الصلام، ففهم ماذا يريدون، قال: «فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا ..» (¬3). والمؤمن محتاجٌ في حال البلاء إلى من يكشف همه، ويبشره بما يسره، إما بفرج عاجل، أو بأجر آجل، ولقد وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم العلاء مريضة فقال لها: «أبشري يا أم العلاء، فإن مرض المسلم يُذهب خطاياه، كما تُذهب النار خبث الحديد» (¬4). ¬

(¬1) صحيح البخاري - التفسير - سورة العلق - باب 1 - الحديث 4953 (فتح الباري 8/ 715). (¬2) مسند أحمد 5/ 134، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 2825. (¬3) صحيح البخاري - كتاب الجزية - باب 1 - الحديث 3158 (فتح الباري 6/ 258). (¬4) صحيح الجامع برقم 37 (صحيح).

والمؤمن بشير في مواقف الأسى يسري عن الناس أحزانهم؛ بما يدخل البهجة إلى قلوبهم، ويُبعد الكآبة عنهم، كتب زيد بن أرقم إلى أنس بن مالك زمن الحرة يعزِّيه فيمن قُتل من ولده وقومه، فقال: أبشرك ببشرى من الله عز وجل، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار ...» (¬1). ولقد بشر الله المبايعين على الجهاد بما ادخر الله لهم من الأجر إن وفُّوا بالبيعة: {... فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ....} [التوبة: 111]، وبشر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الموحِّدين بالجنة جزاءَ التزامهم بكلمة التوحيد قولًا واعتقادًا وعملًا - رحمة منه سبحانه -: «أبشروا. وبشروا من وراءكم؛ أنه من شهد أن لا إله إلا الله صادقًا من قلبه، دخل الجنة» (¬2) وقال جبريل عليه السلام لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبشرًا المؤمنين الحذرين من صور الشرك كبيرها وصغيرها: «بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئًا، دخل الجنة ..» (¬3). وفي توبة كعب بن مالك صورة عملية من صور التعاطف الاجتماعي والتهنئة بقبول التوبة، حيث ذهب إليه عدد من المبشرين، فناداه أحدهم قبل أن يصل إليه: (يا كعبُ بنَ مالكٍ، أبشر، يقول كعب: فخررت ساجدًا، وعرفت أن قد جاء فرج)، وتلقاه الناس فوجًا ¬

(¬1) مسند أحمد 4/ 370، وفي إسناده عند أحمد رجل فيه كلام، ولكن رواه الشيخان من وجه آخر (انظر بلوغ الأماني 22/ 173 - 174). (¬2) صحيح الجامع برقم 35 (صحيح). (¬3) صحيح البخاري - كتاب الرقاق - باب 13 - الحديث 6443 (فتح الباري 11/ 261).

فوجًا يهنئونه بالتوبة ويقولون له: (لتهنك توبة الله عليك)، ولما سلم على رسول الله قال - صلى الله عليه وسلم -، وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ..» (¬1). ومن لطيف ما ورد في هذه القصة رواية نقلها صاحب الفتح، تبين مدى حرص المجتمع الإسلامي على تبادل البشريات، يقول كعب: (فأنزل الله توبتنا على نبيه حين بقي الثلث الأخير من الليل، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند أم سلمة، وكانت أم سلمة محسنة في شأني معتنية بأمري، فقال: «يا أم سلمة! تِيب على كعب»، قالت: أفلا أُرسِل إليه فأبشره؟ قال: «إذًا يحطمكم الناس فيمنعوكم النوم سائر الليلة» (¬2). فقد كانت أم سلمة حريصة على ألا تنتظر الصباح وألا تدخر البُشرى لرجل مسلم. وقد وعد الله الذين آمنوا وكانوا يتقون بأن {لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ...} [يونس: 64]، ومن البشرى العاجلة في الحياة الدنيا: أن يلقى المسلم قبولًا حسنًا من إخوانه، وأن تشكره على إحسانه، فذلك من التبشير، وقد روي مسلم في باب: (إذا أُثنِي على الصالح فهي بشرى ولا تضره) حديثًا جاء فيه: (قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟)، قال: «تلك عاجل بُشرى المؤمن» (¬3). وحالُه - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه التبشير، كما ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب المغازي - باب 79 - الحديث 4418 (فتح الباري 8/ 116). (¬2) عن فتح الباري 8/ 121 - 122. (¬3) صحيح مسلم - كتاب البر - باب 51 - الحديث 166/ 2642 (شرح النووي 8/ 428).

في قوله: «إن الدين يسر، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا.» (¬1). قال في الفتح: (وأبشروا: أي بالثواب على العمل الدائم - وإن قل - والمراد تبشير من عجز عن العمل بالأكمل، بأن العجز إذا لم يكن من صنيعه لا يستلزم نقص أجره، وأبهم المبشَّر به تعظيمًا له وتفخيمًا) (¬2). ومبنى هذا الخلق وأساسه أن يكون المسلم مصدرًا للفأل الحسن، والأمل الواسع، والعاقبة الخيرة، وألا يرى أخوه منه ما يكره. أفبعد كل هذه الإشارات يقبل أحدنا لنفسه أن يكون مصدر شؤم، ومظنة تخذيل، أو إحباط، أو تنفير، أو قتل للقدرات؟ أم نشيع البشرى، وننشر التفاؤل، ونحيي النفوس، ونحرض على الخير، ونُعِين على المعروف، ونستنهض الهمم؟ إلى أن يكون كل منا بشيرًا لإخوانه يحيي فيهم الأمل ويدفعهم إلى مزيد من العمل. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - خلق التبشير يُعطي الأنس ويبعد عن التنفير. - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بُعث مبشرًا. - من أساليب التبشير: - أداء الموعظة المناسبة قدرًا وتوقيتًا. - من المواقف التي تقتضي التبشير: • تنشيط الهمم للطاعة. • إزالة دواعي الاضطراب. ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الإيمان - باب 29 - الحديث 39 (فتح الباري 1/ 93). (¬2) فتح الباري 1/ 95.

• تهدئة الضعف البشري. • إزالة هم المكروب. • تحريض المقبلين على الشهادة. - قصة توبة كعب بن مالك وما فيها من التبشير. - يبشر الله عباده في الحياة الدنيا. - ما يلقاه المؤمن من شكر على إحسانه من عاجل بشراه. - حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع صحابته التبشير. - صاحب خلق التبشير ذو فأل حسن.

الفصل الرابع الحكمة

الفصل الرابع الحكمة

{وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} إن صاحب النية الخالصة والعبادة الصادقة يبقى صلاحه قاصرًا عليه ولا يتعداه إلى غيره، إن لم يرزق الحكمة في التعامل، والإصابة في الاختيار، كما أن صاحب الحكمة تغدو حكمته نوعًا من النفاق الاجتماعي، والسياسة المقيتة، إن لم تشفع لها روحانية عالية، واستقامة على نهج الكتاب والسنة. كثير من التفاسير تفسر الحكمة أحيانًا بأنها القرآن، وأحيانًا تفسرها بأنها السنة أو النبوة، ولذلك وردت أحاديث في دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحبر الأمة - ابن عباس - بأن يعلمه الله التأويل والكتاب والفقه في الدين، وأجملها في رواية للبخاري بقوله: «اللهم علِّمه الحكمة» (¬1). والمراد بذلك فهم القرآن والسنة، والعمل بهما، كما صرح بذلك كثير من التابعين، وأكده ابن تيمية بقوله: (.. وأما الحكمة في القرآن فهي معرفة الحق، وقوله، والعمل به ..) (¬2). وإذا عدنا إلى اللغة وجدنا الحكمة: (الإصابة في القول والعمل، وأصلها وضع الشيء في موضعه .. قال في اللسان: أحكم الأمر أتقنه. ¬

(¬1) صحيح البخاري - فضائل الصحاب - باب 24 - الحديث 3756 (فتح الباري 7/ 100). (¬2) مجموع فتاوي ابن تيمية 15/ 45.

ويقال للرجل إذا كان حكيمًا: قد أحكمته التجارب. والحكيم المتقن) (¬1). وبتعريف الداعية المجرب، المستوحي من الحركة لهذا الدين، يُعرِّف صاحب الظلال الحكمة بقوله: (توخي القصد والاعتدال، وإدراك العلل والغابات، ووضع الأمور في نصابها، في تبصر وروية وإدراك) (¬2). وللحكمة جذور فطرية، وأخرى مكتسبة، ومن أسباب اكتساب الحكمة التفقه في الدين، وهو من الخير الكثير الذي أشارت إليه الآية: {... وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [البقرة: 269] وأكدته السنة وبينت سبيل اكتساب الحكمة: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» (¬3). وأشار صاحب الظلال إلى أنها ثمرة التربية القرآنية: (والحكمة ثمرة التعليم بهذا الكتاب، وهي مَلَكة يتأتَّى معها وضع الأمور في مواضعها الصحيحة، ووزن الأمور بموازينها الصحيحة، وإدراك غايات الأمور والتوجيهات ..) (¬4). بينما اعتبرها لقمان الحكيم مما يُكتسب بمجالسة الصالجين الذين يُقتدى بهم، كما في وصيته لابنه: (يا بني، جالس العلماء، وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة؛ كما يحيي ¬

(¬1) عن صفوة التفاسير 2/ 490. (¬2) في ظلال القرآن 1/ 306. (¬3) صحيح البخاري - كتاب العلم - باب 13 - الحديث 71 (فتح الباري 1/ 164). (¬4) في ظلال القرآن 1/ 133.

الله الأرض الميتة بوابل السماء) (¬1). وترجم البخاري في كتاب العلم لباب في: (الاغتباط في العلم والحكمة)، باعتبار أن العلم وسيلة، وأن الحكمة نتيجة طبيعية، ولذلك نقل في الترجمة قول عمر: (تفقَّهوا قبل أن تسودوا)، لما تحتاجه الإمرة من حكمة العلم وتجربة العلماء، ولما قد تشتغل الإمرة المبكرة في سن الصبا، ولم يُرِد البخاري أن يُفهم من قول عمر أن السيادة والإمرة تمنع من التواضع للعلم والعلماء، فعقَّب البخاري: (وبعد أن تسودوا، وقد تعلم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في كبر سنهم) (¬2). ثم إن من مشارب الحكمة الاستفادة من العمر والتجارب، بالاعتبار وأخذ الحيطة لأمر الدين والدنيا، ففي الحديث: «لا يُلدَغ المؤمن من جُحر واحد مرتين» (¬3). وكثرة التجارب هي التي تكسب صاحبها الحلم والحكمة، وهذا ما يُفهم من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة» (¬4)، وعلَّق عليه ابن الأثير: (معناه: لا يحصل الحلم حتى ¬

(¬1) موطأ مالك 2/ 1002 - كتاب العلم - باب 1 - الحديث 1 (وهو من بلاغات مالك). (¬2) صحيح البخاري - العلم - من ترجمة باب 15 الاغتباط في العلم والحكمة (الفتح 1/ 165). (¬3) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب 83 - الحديث 6133 (فتح الباري 10/ 529). (¬4) نقله ابن حجر في فتح الباري 10/ 529 وقال: (أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وأخرجه أحمد وصححه ابن حبان).

يرتكب الأمور، ويعثر فيها، فيعتبر، ويستبين مواضع الخطأ، ويجتنبها ..) (¬1). وربما لا يصل الحكيم إلى ما وصل إليه إلا بعد التعلم من الأخطاء والزلات والسقطات؛ التي وقع فيها بنفسه، أو بأن يتشرب نتائج خبرة من يفوقه عمرًا أو علمًا أو تجربة، والمغفل من لا تنفعه التجارب، ولا تعلمه الأيام، ولذلك فصل الخطابي فقال: (ليكن المؤمن حازمًا حذرًا، لا يؤتى من ناحية الغفلة فيُخدع مرة بعد أخرى، وقد يكون ذلك في أمر الدين، كما يكون في أمر الدنيا، وهو أولاهما بالحذر) (¬2). فالواجب على الحكيم أن يتروَّى ويتعقَّل، ولا يعرض نفسه للزلات، فقد ورد أن صحابيًّا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (.. يا رسول الله، علِّمني وأوجز)، فأجابه: «إذا قمت في صلاتك فصلِّ صلاة مودِّع، ولا تكلَّمْ بكلام تعتذر منه، وأجمعِ اليأسَ عما في أيدي الناس» (¬3)، فجعل الاحتياط في إطلاق الكلمات، وإبعاد النفس عن الوقوع في الحرج، من ثمرات الحكمة التي توجز تجارب الرجال. ومن شُكر صاحب الحكمة لله على ما آتاه: أن يعلم الناس ثمرة حكمته، وخلاصة فقهه وتجاربه، وعندئذٍ يكون حريًّا بأن يغبِطه الناس، ويتمنَّوا الوصول إلى مثل مقامه، كما جاء في الحديث: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسُلِّط على هلكته في الحق، ¬

(¬1) عن فتح الباري 1/ 530. (¬2) عن فتح الباري 1/ 530. (¬3) صحيح سنن ابن ماجه للألباني - كتاب الزهد - باب 15 - الحديث 3363/ 4171 (حسن).

ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها» (¬1). ويفسر ابن حجر الحكمة تفسيرًا جامعًا، فيقول: (المراد بالحكمة: كل ما منع من الجهل، وزجر عن القبيح) (¬2). والغرض من الوصول إلى أعلى درجة من الحكمة الحرص على الإصابة في القول والعمل، واستعمال هذه الحكمة في الدعوة إلى الله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ ....} [النحل: 125] ويقول ابن القيم (أطلق الحكمة ولم يقيدها بوصف الحسنة، إذ كلها حسنة، ووصف الحسن لها ذاتي) (¬3). ولذلك فإن المعايشين للدعاة ذوي الفطانة والحكمة يتذوقون لذة التأدب على أيديهم، ويستقبلون توجيهاتهم بارتياح ورضا وحسن قبول، كما جاء في روح المعاني عن صاحب البحر: (أنها الكلام الصواب الواقع م النفس أجمل موقع (¬4)، وكلما كان الداعية أكثر فقهًا، وأرجح عقلًا، وأصوب بصيرة، كان أكثر حكمة، وقد جاء في فتح القدير أن الحكمة التي أوتيها لقمان هي: (الفقه والعقل والإصابة)، ووافقه القرطبي (¬5). ومن صور الدعوة بالحكمة: (النظر في أحوال المخاطَبين وظروفهم، والقدر الذي يُبيِّنه لهم في كل مرة؛ حتى لا يثقل عليهم، ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الأحكام - باب 3 - الحديث 7141 (فتح الباري 13/ 120). (¬2) فتح الباري 1/ 166، عند شرحه للحديث 73. (¬3) مدارج السالكين 1/ 445. (¬4) روح المعاني جـ 14/ 254 عند شرحه للآية 125 من سورة النحل. (¬5) فتح القدير للشوكاني 4/ 237.

بها، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها؛ فلا تستبدُّ به الحماسة والاندفاع والغيرة؛ فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه) (¬1). خلاصة هذا الفصل وعناصره: - الحكمة بغير الاستقامة نفاق اجتماعي. - من معاني الحكمة: - فهم القرآن، ومعرفة الحق والعمل به. - وضع الشيء في موضعه. - توخِّي القصد ومحاولة إدراك العلل، ووضع الأمور في نصابها. - من أسباب اكتساب الحكمة: - التفقه في الدين. - الاستفادة من تجارب العمر. - التعلم من الأخطاء. - الاحتياط من الوقوع في الخطأ. - من شكر الله على نعمة الحكمة، تعليمها للناس. - الخرص على الوصول إلى الصواب من أسمى الحكمة. - من الحكمة في الدعوة مراعاة أحوال المخاطبين وظروفهم. ¬

(¬1) في ظلال القرآن 4/ 2202.

الفصل الخامس الهمة

الفصل الخامس الهمة

«اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل». لقد كان جيل الصحابة - رضي الله عنهم - على درجةٍ عالية من الهمة والنشاط، اقتضت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدعوَهم في كثير من المواقف إلى الحد من هذا النشاط الزائد، وإلى العودة إلى مستوى القصد والاعتدال والتوازن قائلًا لهم: «اكلَفُوا من الأعمال ما تطيقون» (¬1)، ويقول الواحد منهم: (يا رسول الله! إني أُطيق أكثر من ذلك) (¬2). وحين خارت القوى، وضعفت العزائم، وفترت الهمم، صار الواحد من الناس حين يُطالب بأداء بعض الواجبات يكون جوابه: لا أطيق ذلك. وأصبحنا بحاجة كبيرة للاستعاذة بالله من هذا الحال: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل» (¬3). إن دينًا يخاطب أتباعه بقول الله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [آل عمران: 133] {سَابِقُوا} [الحديد: 21] ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الرقاق - باب 18 - الحديث 6465 (فتح الباري 11/ 294). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الصوم - باب 59 - الحديث 1979 (فتح الباري 4/ 224). (¬3) صحيح البخاري - الجهاد - باب 25 - الحديث 2823 (الفتح 6/ 36) حيث قال: (والفرق بين العجز والكسل: أن الكسل ترك الشيء مع القدرة على الأخذ في عمله، والعجز عدم القدرة).

{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح: 7] {يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ ...} [مريم: 12]. إن دينًا هذا شأنه لا يقبل من أتباعه الكسل والخمول، والعجز والسكون، والفتور والتواني، والاسترخاء وضعف الهمة. ومن الإشارات الطيبة ما جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أحب الأسماء إلى الله تعالى: عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها: حارث وهمام ..» (¬1). حيث يصدق على المرء من واقع حاله في هذه الحياة أن يصيبه الهم لأمر، فتئور فيه الهمة إليه، فيسعى ويحرث ويكتسب، وكلا الاسمين يدلان على الكدح وتجديد الإرادة ومواصلة العمل. إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - خُوطب من بدايات الدعوة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر: 1، 2] {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلًا} [المزمل: 1 - 2]، وحين كان يُدعى بعدها إلى النوم يقول لسان حاله: مضى عهد النوم، ويقول صاحب الظلال في ذلك: (علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يعد هناك نوم، وأن هناك تكليفًا ثقيلًا، وجهادًا طويلًا، وأنه الصحو والكد والجهد .. قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قم فقام وظل قائمًا بعدها أكثر من عشرين عامًا .. إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحًا، ولكنه يعيش صغيرًا، ويموت صغيرًا، فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء فما له والنوم؟ وما له والراحة؟ وما له والفراش الدافئ، والعيش الهادئ، والمتاع المريح؟) (¬2). ¬

(¬1) صحيح سنن أبي داود للألباني - كتاب الأدب - باب 69 - الحديث 4140/ 4950 (صحيح). (¬2) في ظلال القرآن 6/ 3742 - 3744.

إذا كان قوم موسى حين دُعوا للجهاد ولدخول لأرض المقدسة التي كتب الله لهم قعدت بهم الهمم، فقالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، فإن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أبت همَّتُها إلا أن تقول: «اذهب أنت وربك فقاتلا إننا معكما مقاتلون» (¬1). لقد كان ضعف الهمة صفة مميزة للمنافقين والمتخلفين الذين فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، وقالوا: {لَا تَنفِرُوا فِي الحَرِّ} [التوبة: 81]. وصدق سيد قطب حيث قال: (.. والصف الذي يتخلله الضعاف المسترخون لا يصمد؛ لأنهم يخذلونه في ساعة الشدة) (¬2). فلذلك لا بدَّ أن تكون الهمة صفة أصيلة في أخلاق أبناء هذا الدين؛ لكي يكونوا أقدر على الثبات والاحتمال والصمود. إن العرب في الجاهلية كان عندهم من الهمة في تحمل المسؤولية ما نحن بحاجة إلى إحيائه واستنهاضه، ففي قصة بيعة العقبة الثانية حين اشترط رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل ..» (¬3)، فبايعوه على جميع شروط البيعة، فقام أسعد بن زرارة وهو من أصغرهم، يريد أن يستوثق من همتهم، وأن يَلفِت ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 2/ 266. رُوي حديث بيعة العقبة الثانية بإسناد صحيح وله شواهد كثيرة (انظر السيرة النبوية الصحيحة 2/ 359). (¬2) في ظلال القرآن 3/ 1683. (¬3) مسند أحمد 3/ 322، صحح الحاكم إسناده، وأقره الذهبي، وجودّه ابن كثير على شرط مسلم. (انظر بلوغ الأماي 20/ 270).

نظرهم إلى التضحيات التي تنتظرهم، فقال: (رويدًا يا أهل يثرب! فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تَعَضَّكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم جبينة، فبيِّنوا ذلك، فهو عذر لكم عند الله، قالوا: أمطِ عنَّا يا أسعد! فوالله لا نترك هذه البيعة أبدًا ..) (¬1). وإن السعي في أبواب الخير ليقتضي همة ونشاطًا واندفاعًا، وعبر عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «.. وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعَيْك مع الضعيف، كل ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك ..» (¬2). وصاحب الهمة حريصٌ على أن ينصب ويتعب في إنجاز ما كلف به، حتى إذا فرغ منه قام بواجب آخر من الواجبات الكثيرة التي لا تجد لها حملة، فقد قام زيد بن ثابت حين رشَّحه أبو بكر لجمع القرآن بأداء ما طُلب منه، مع أنه قال: (فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن) (¬3)، وأدى الذي عليه رضى الله عنه. وحين كلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيدَ بن ثابت بتعلم لغة اليهود، تدفقت فيه الهمة، فكان من ثمارها ما عبر عنه بقوله: (فتعلمت ¬

(¬1) مسند أحمد 3/ 322 (راجع الحاشية السابقة). (¬2) مسند أحمد 5/ 168 - 169، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 4038. (¬3) صحيح البخاري - كتاب التفسير - سورة 9 - باب 20 - الحديث 4679 (الفتح 8/ 344).

كتابهم، ما مرت بي خمس عشرة ليلة حتى حذقتُه، وكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه، وأجيب عنه إذا كتب) (¬1)، وفي رواية أخرى أنه كُلِّف بتعلم السريانية، فتعلمها في سبعة عشر يومًا، ومثل هذه الطاقة لا تتوفر إلا إذا كان وراءها همة قوية ونشاط عال. ومن صور الهمة: الثبات على الخير، والاستمرار فيه، والدوام عليه، وهذا شأن رجال القدوة في كل زمان، سئلت عائشة رضي الله عنها عن عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: (كان عمله ديمة، ويكم يستطيع ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستطيع؟) (¬2). والتأخير والتسويف صورة من صور الضعف البشري التي قد تعتري صاحب الهمة، فيفوته خير كثير، وهذا ما أحرق قلبَ كعب بن مالك إذ فاته الغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، وهو مطمئن بأنه مستعد ومتجهز ولديه عدته، ثم وهو يحدث نفسه بأنه يمكن أن يلحق به ويدركه، ثم كان أن قال: (وتفارط الغزو - أي فات وقته - وهممت أن أرتحل فأدركهم - ليتني فعلت - فلم يُقدَّر لي ذلك ..) (¬3). وعاش بعدها كعب فترة من العذاب النفسي حينما رجع ¬

(¬1) مسند أحمد 5/ 186، أخرجه البخاري في صحيحه تعليقًا، وقال الترمذي: حسن صحيح (انظر بلوغ الأماني 22/ 242)، وحديث تعلم السريانية عند أحمد 5/ 182، وذكر الرواتيتين (تعلم اليهودية والسريانية) في صحيح سنن الترمذي للألباني - كتاب العلم - باب 22 - الحديث 2183/ 2870 (حسن صحيح). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الرقاق - باب 18 - الحديث 6466 (فتح الباري 11/ 294). (¬3) صحيح البخاري - كتاب المغازي - باب 79 - الحديث 4418 (فتح الباري 8/ 113).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم خمسين يومًا من الهجران، إلى أن نزلت توبته، عاش كل ذلك الضيق نتيجة تباطؤ وقع فيه، أو تسويف انزلق إليه. وصاحب الهمة سباق إلى الخيرات في أغلب الأوقات، وكذلك كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكلما ضعف الإيمان ضعفت معه الهمة إلى الطاعات، ومن تصوير سيد قطب لنفسية المنافقين الكسالى قوله: (إن هؤلاء لهم نموذج لضعف الهمة، وطراوة الإرادة، وكثيرون هم الذين يشفقون من المتاعب، وينفرون من الجهد، ويؤثرون الراحة الرخيصة على الكدح الكريم، ويفضلون السلامة الذليلة على الخطر العزيز، وهم يتساقطون إعياء خلف الصفوف الجادة الزاحفة ..) (¬1). ويحدو المسلم ويجدد همته تذكر ما أعده الله له من الأجر والرضا والنعيم، وهذا ما عبَّر عنه ابن القيم بقوله: (كلما سكنت نفسه من كلال السير ومواصلة الشد والرحيل، وعدها قرب التلاقي، وبرد العيش عند الوصول، فيحدث لها ذلك نشاطًا وفرحًا وهمة، فهو يقول: يا نفس، أبشري فقد قرب المنزل، ودنا التلاقي، فلا تنقطعي في الطريق دون الوصول، فيحال بينك وبين منازل الأحبة ..) (¬2). ولابد لصاحب الهمة من أن يكون معلق القلب بالله، مخلصًا له، فنفوس الأشقياء {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 3، 4] وتكون النار بعد كل السعي والجهد المشوب بالرياء أو الشرك حرقة بعد حرقة. وأما في الدنيا فإن أهل الهمة يجدون أنفسهم مدفوعين من داخل قلوبهم إلى أمرٍ ملك عليهم أفئدتهم، ¬

(¬1) في ظلال القرآن 3/ 1682. (¬2) طريق الهجرتين لابن القيم ص 333.

وأمثال هؤلاء غالبًا يظفرون بما سعَوا إليه، ويحققون ما حرَصوا عليه، ويعبر عن ذلك ابن القيم بقوله: (فتلك هي الهمة العالية التي لا يقدر معها على المهلة، ولا يتمالك صبره .. ولا يلتفت عنها .. وصاحب هذه الهمة سريع وصوله، وظفره بمطلوبه) (¬1). والداعية الحريص على سرعة الوصول والظفر بالمطلوب بابه الهمة، فنعوذ بالله من العجز والكسل، ونسأله سبحانه النشاط لما يرضيه. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - لفرط همة الصحابة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يردهم إلى ما يطيقون. - استعاذته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العجز والكسل. - نصوص كثيرة تدعو إلى المسابقة والمسارعة وهذا لا يكون بغير همة. - من أصدق الأسماء عند الله: حارث، همام. - من بداية الدعوى كانت التكليفات تقتضي همة عالية. - ضعف الهمة كان صفة مميزة للمنافقين. - كان لدى عرب الجاهلية من الهمة ما أهلهم لحمل الرسالة. - أعمال البر لا تنجز إلا بالهمة، والهمة تولد القدرة. - من صور الهمة: - الدوام على عمل الخير. - عدم التسويف والتأخير. - عدم إيثاب الراحة والسلامة. ¬

(¬1) تهذيب مدارج السالكين - منزل الهمة ص 507.

- معرفة ما أعد الله من الأجر، يشحذ الهمة للعمل. - الهمة بغير إخلاص شقاء ونصب في الدنيا والآخرة.

الفصل السادس التيسير

الفصل السادس التيسير

«يسروا ولا تعسروا». بما أن الداعية لا بدَّ أن يختلط بالناس، فلابد أن يصبر على أذاهم، وأن يجنبهم أذاه، فلا يعسر عليهم حيث يمكن التيسير، ولا يشق عليهم حيث يمكن التخفيف. خلق التيسير يعني: قابلية الشخص للتنازل والأخذ بالأيسر، طالمًا أن التيسير ممكن ولا حرج منه شرعًا، وإن الأمة التي تعد أبناءها ليكونوا مجاهدين، تعدهم أيضًا ليكونوا ميسرين، لا يتعنتون في طريقهم إلى الجهاد بما يفسد عليهم قلوبهم، أو يعكر صفو علاقاتهم، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الغزو غزوانِ: فأما من ابتغى وجه الله، وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة، ويَاسَر الشريك، واجتَنَب الفساد، فإن نومه ونُبْهَه أجر كله، وأما من غزا فخرًا ورياءً وسمعةً، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض، فإنه لم يرجع بالكفاف» (¬1). يقول الخطابي في شرح الحديث: (ياسر الشريك: معناه الأخذ باليسر في الأمر، والسهولة فيه مع الشريك والصاحب والمعاونة لهما) (¬2)، فالمياسرة إحدى الأخلاق التي تجعل كل الأعمال المباحة للمجاهد مأجورة. ولفظ المياسرة يوحي بأن قابلية التيسير قائمة في كلا الطرفين المتصاحبين. ¬

(¬1) مسند أحمد 5/ 234، وفي صحيح سنن أبي داود - كتاب الجهاد - باب 25 - الحديث 2195/ 2515 (حسن). (¬2) معالم السنن للخطابي 3/ 30.

ولِمَا لشخصية الداعية الميسِّر من كبير الأثر في المدعوين، فقد حمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الوصية للصحابيين - أبي موسى ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما - قبل إرسالهما إلى اليمن: «بشِّرا ويسِّرا وعلِّما ولا تُنفِّرا - وأراه قال - وتطاوعا» (¬1). وفي ترجمة باب عند البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان يحب التخفيف والتسري على الناس) (¬2). ولم يكن صلوات الله وسلامه عليه يقبل من أصحابه أي نوع من الغلظة والجفاء والإحراج، وإنما يقول لهم كما جاء في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد، فثاروا عليه، وكادوا يعقون به: (دعوه، وأهريقوا على بوله ذَنُوبًا من ماء؛ فإنما بعثتُم ميسِّرين، ولم تبعثوا معسِّرين) (¬3)، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان أكبر مثلٍ في التعامل باليسر وعدم الأخذ بالشدة، وهذا ما وصفته به السيدة عائشة رضي الله عنها بقولها: (ما خُيِّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا أخذ أيسرهما؛ ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه ..) (¬4) وقال عن نفسه صلوات الله وسلامه عليه: «.. إن الله لم يبعثني مُعنِّتًا ولا مُتعنِّتًا ولكن بعثني معلمًا ميسرًا» (¬5). ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب الأشرية - باب 7 - الحديث 70 (شرح النووي 7/ 181). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الأدب - من ترجمة الباب 80 - (فتح الباري 10/ 524). (¬3) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب 80 الحديث 6128 (فتح الباري 10/ 525). (¬4) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب 80 - الحديث 6126 (فتح الباري 10/ 524 - 525). (¬5) صحيح مسلم - كتاب الطلاق - باب 4 - الحديث 29/ 1478.

ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في صلاته يحسب حساب من يأتمون به؛ ألا يشق عليهم، وإذا توقع الحرج ولو لواحدٍ ممن خلفه اختصر تيسيرًا ورفعا للحرج، ومن ذلك قوله: «إني لأقومُ إلى الصلاة وأنا أريد أن أطولَ فيها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوَّز كراهيةَ أن أشقَّ على أمه» (¬1)، وكان - صلى الله عليه وسلم - يغضب ممن يطيل بالناس في الصلاة، ويعتبرهم منفرين، أو فتانين .. وذلك ليتشرَّبوا منه خُلق التيسير، وهو من أهم ما يتحلى به الداعية المسلم. وقدوتنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقتضي منا أن نختار الأيسر للناس، ونقبل به، وإن كان فيه تنازل عن حق من حقوقنا، فتلك المياسرة في الدنيا طريق لتحصيل التيسير والمغفرة من الله في الآخرة، كما في الحديث: «يُؤتَى برجل يوم القيامة فيقول الله: انظروا في عمله، فيقول: رب ما كنت أعمل خيرًا، غير أنه كان لي مال، وكنت أخالط الناس؛ فمن كان موسرًا يسرت عليه، ومن كان معسرًا أنظرته إلى ميسرة، قال الله عز وجل: أنا أحق مَن يسَّر فغفر له ..» (¬2)، لم يعمل من الخير إلا أنه كان مياسرًا للناس، مخففًا عليهم، سمحًا معهم، فنال بذلك المغفرة، والتيسير حبيب إلى الله، حبيب إلى خلق الله. وقد ورد في شمائله - صلى الله عليه وسلم - أنه: «كان يحب ما خف على الناس» (¬3)، «إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدع العمل وهو يحب أن يعمل ¬

(¬1) صحيح سنن أبي داود - كتاب الصلاة - باب 127 - الحديث 708/ 789 (صحيح). (¬2) مسند أحمد 5/ 407. وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 2079، والقصة مروية في الصحيحين. (¬3) مسند أحمد 6/ 161، ورواه الترمذي والبيهقي وحسنه البخاري (انظر بلوغ الأماني 15/ 23).

به؛ خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم» (¬1). ويقول البخاري: (.. وكانت الأئمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ومن التزم التيسير على الناس، ورفع الحرج عنهم، فقد تكفل الله له بالوقاية من النار، وبغفران الذنوب، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «حُرِّم على النار كلُّ هيِّن ليِّن سهل قريب من الناس» (¬3)، و «غفر الله لرجل كان من قبلكم سهلًا إذا باع، سهلًا إذا اشترى، سهلًا إذا قضى، سهلًا إذا اقتضى» (¬4). سر هذه المغفرة أن السهولة واليسر طبعت تصرفاته كلها، وطبيعة هذا الدين التيسير، ومن قواعده الشرعية رفع الحرج، فما كان أيسر كان أرضى لله، يقول الإمام الشعبي: (إذا اختلف عليك أمران فإن أيسرهما أقربهما إلى الحق)؛ لقوله تعالى: {.. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ ...} [البقرة: 185] (¬5)، ولأن ديننا قائم على رفع العنت: «إن الدين يسر» (¬6). ومن يُسر الداعية مع الناس أن يأمرهم بما يُطيقون، مثلما كان حال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن يُسر المفتي مع الناس ألا يقصد إيقاعهم فيما يشق عليهم من خلال التنقيب والمساءلة، وفي ذلك يقول ابن العربي ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب التهجد - باب 5 - الحديث 1128 (فتح الباري 3/ 10). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الاعتصام - من ترجمة الباب 28 (فتح الباري 13/ 339). (¬3) مسند أحمد 1/ 415، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 3135. (¬4) مسند أحمد 3/ 340، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 4165. (¬5) عن محاسن التأويل للقاسمي 3/ 427. (¬6) صحيح البخاري - كتاب الإيمان - باب 29 - الحديث 39 (فتح الباري 1/ 93).

في أحكام القرآن: (إذا جاء السائل عن مسألة فوجدتم له مخلصًا فيها فلا تسألوه عن شيء، وإن لم تجدوا له مخلصًا فحينئذٍ اسألوه عن تصرف أحواله وأقواله ونيته عسى أن يكون له مخلص) (¬1). وقد وصف ابن مسعود - رضي الله عنه - جيلَ الصحابة بأنهم تميزوا بالبعد عن التكلف، والعمل بما تيسر (.. أفضل هذه الأمة: أبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلُّفًا) (¬2). والتيسير خير، وثمارُه بركة، ولذلك أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الخيرية والبركة في المرأة التي اتصفت بـ تيسير خطبتها وتيسير صداقها» (¬3)، وفي رواية: «خير النكاح أيسره» (¬4)، لكي يميل الناس إلى البساطة، وعدم المبالغة في المهور والأفراح؛ بما يُرهِق الراغبين في العفَّة، ويسد أبواب التحصين، ويفتح أبواب الانحراف. وبعض الناس قد يشق على نفسه بالأخذ بالعزيمة؛ حيث تُباح له الرخصة، وبالمبالغة في نوافل الطاعات، ثم قد ينفرط حبله، وتملُّ نفسه، وتفتر همَّته، ولا يدوم على عمله هذا، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة، وخير دينكم اليسرة» (¬5)، وفي ¬

(¬1) أحكام القرآن للقرطبي 4/ 163. (¬2) إغاثة اللهفان 1/ 159. (¬3) مسند أحمد 6/ 77 وطرفه: "إن من يمن المرأة .. "، وحسنه الألباني في صحيح الجامع /2235. (¬4) صحيح سنن أبي داود - كتاب النكاح - باب 32 - الحديث 1859/ 2117 (صحيح). (¬5) عن فتح الباري 1/ 94 وبعضه عند أحمد 4/ 337 وحسنه الألباني في صحيح الجامع /2311.

رواية: «إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره» (¬1)، فليس خير الدين ما كان فيه التنطع أو الغلو أو التعنيت، وإنما هو اليسر والسهولة والسماحة. ومن الصور العملية التي تبين أثر تربية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصحابته على خلق التيسير: أن ابن عباس - رضي الله عنه - حين رأى المطر متواصلًا وغزيرًا يوم الجمعة، خشي على الناس التخبط في الطين، أو الانزلاق بسببه، فقال للمؤذن أن يقول بدلًا من (حي على الصلاة): (صلُّوا في بيتوكم)، فكأن الناس استنكروا ذلك، واعترضوا عليه، فقال ابن عباس: (فعله مَن هو خير مني، إن الجمعة عَزْمةٌ، وإني كرهتُ أن أحرِّجكم في الطين والدَّحض) (¬2)، وهذا شأن العلم والعلماء، ولا تجد التشديد - غالبًا - إلا مع الجهل والجهال. ولذلك قال مَعْمَر وسفيان الثوري: (إنما العلم أن تسمع بالرخصة من ثقة، فأمَّا التشديد فيحسنه كل أحد) (¬3). والقصد إلى التشديد ليس من شأن النفوس السوية، ولا يكون من مطالب الشرع ولا من مقاصده، ولذلك يقول الشاطبي: (المشقة: ليس للمكلف أن يقصدها .. وله أن يقصد العمل الذي يعظُم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل .. فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع، من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف ¬

(¬1) مسند أحمد 5/ 479، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح (انظر بلوغ الأماني 19/ 15). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الجمعة - باب 14 - الحديث 901 (فتح الباري 2/ 384). (¬3) جامع بيان العلم وفضله ص 285.

نفس المشقة، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل ..) (¬1)، ونفس المعنى عبر عنه - بصورة أخرى - العز بن عبد السلام فقال: (لا يصح التقرب بالمشاق؛ لأن القُرب كلها تعظيم للرب سبحانه وتعالى، وليس عين المشاق تعظيمًا ولا توقيرًا) (¬2). وبذلك نرى أن اختلاق القيود للناس، وافتعال العُقد، وإلزام الآخرين بالعزائم، والإثقال بالمواعظ، والإكثار من التكاليف .. فيه مجانبة لطبيعة الحنيفية السمحة، ومناقضة لما دعا إليه ديننا من التيسير، ومخالفة لما تميَّزت به الشريعة الإسلامية من رفع الحرج (¬3)، وإنه لمن عوامل نجاح الداعية أن يجنح إلى التيسير فيما يأخذ به الناس، ثم ليأخذ نفسه بما يطيق أن يداوم عليه. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - التيسير: تنازل إلى ما هو أيسر على الناس، فيما يرضي الله. - من صور التيسير: - مياسرة الشريك في الجهاد. - التيسير على المدعوين. - التيسير على الجاهل حتى يتعلم. ¬

(¬1) الموافقات 2/ 128 - 129. (¬2) قواعد الأحكام 1/ 26. (¬3) من البحوث النافعة في هذا الموضوع كتاب (رفع الحرج في الشريعة الإسلامية - ضوابطه وتطبيقاته) للدكتور (صالح بن عبد الله بن حميد) من جامعة أم القرى - كلية الشريعة والدراسات الإسلامية. وقد استفدنا من هذا البحث كثيرًا في إعداد خُلق التيسير، فجزى الله مؤلفه خيرًا.

- التيسير على المؤتم بعدم التطويل. - التنازل عن حق شخصي للتيسير. - الله يحب التيسير، ورسوله كذلك، والخلفاء من بعده. - التيسير وقاية من النار، وغفران للذنوب. - التيسير أقرب إلى الحق؛ لأن الله يريده. - من تيسير الداعية يسره في الفتوى، وتكليف الناس بما يطيقون. - من بركة المرأة يسر نكاحها وصداقها. - التيسير وقاية من الغلو (وخير دينكم اليسرة). - تجد التعسير حيث وجد الجهل. - تعمّد المشقة خلاف قصد الشرع؛ فلا يصح التقرب بالمشاق. - تميزت الشريعة برفع الحرج فلماذا نميل إلى التعنت.

الفصل السابع تقديم النفع

الفصل السابع تقديم النفع

«أَحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم» (¬1) نرى كثيرًا من الطاقات المدفونة بين جوانح أصحابها، ونلمس جوانب من الخير كامنة في نفوس أربابها، ولكنها غير متعدية إلى الآخرين لا بنفع ولا إفادة. وكم تكون الصورة محزنة حين تجد فقيهًا بصحبة جاهل لم يُفِدْه من فقهه، وقارئًا برفقة أُميٍّ لم ينفعه بحسن تلاوته، وعابدًا بجوار فاسق ولم يتعدَّ إليه شيء من صلاحه. الدعوة نفسها نفع عام، فحين دخل أبو ذر في الإسلام كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه أن قال له: «فهل أنت مُبلِّغ عني قومك؛ لعل الله عز وجل أن ينفعهم بك، ويأجرك فيهم» (¬2)، وكانت التربية الأولى لحديث الدخول في الإسلام تربية على الدعوة، والحرص على تعدِّي نفعه إلى الآخرين. وكان خالٌ لجابر بن عبد الله يَرقِي من العقرب، فقال: (يا رسول الله، إنك نهيت عن الرقي، وإني أرقي من العقرب)، وكأنه يستأذن في ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل» (¬3)، ومع التشديد الوارد بشأن السحر، فقد أفتى سعيد بن المسيب بجواز ¬

(¬1) صحيح الجامع برقم 176 (حسن). (¬2) صحيح مسلم - كتاب الفضائل - باب 28 - الحديث 132/ 2473 (شرح النووي 8/ 260). (¬3) مسند أحمد 3/ 302، ورواه مسلم في كتاب السلام برقم 62/ 2199 (شرح النووي 7/ 436).

الاستعانة بساحر في حل السحر عن المصاب به، وقال في ذلك: (لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم يُنهَ عنه) (¬1)، فالأصل في المسلم أنه يسعى لنفع الناس لا أنه يمنع النفع عنهم (¬2). وتجد بعض النفوس أحيانًا تمتنع عن الإقدام على أعمال لا تضرها، مع أن فيها نفعًا لغيرِها، اقتصارًا على مصالحها الشخصية في حدود ذواتها واهتماماتِها، وليس هذا من شأن المسلم، ولذلك عنَّف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - محمد بن مَسْلَمة لما منع الضحَّاك بن خليفة من حفر ساقية ماء تصل إلى أرضه مارَّة بأرض محمد بن مسلمة، فقال عمر: (لِمَ تمنع أخاك ما ينفعه، وهو لك نافع، تسقي به أولاً وآخرًا، وهو لا يضرك .. والله ليَمُرَّنَّ به ولو على بطنك) (¬3). إن الأصل في المسلم أنه يسعى إلى تقديم الخدمة لمن يحتاجها، والنصيحة لمن يجعلها، والمنفعة إلى مَن هو أهل لها، بمبادرة منه وحرص من طرفه، ورسولُنا - صلى الله عليه وسلم - كان يسعى إلى العباس ليقول له: "يا عم! ألا أحبوك؟ ألا أنفعك؟ ألا أصلك؟ .. " (¬4)، وعلَّمه صلاة التسبيح، وهكذا كان يعرض نفسه للنفع، ويعلم الناس النفع، وكان من وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي برزة حين جاءه يقول: يا رسول الله، ¬

(¬1) صحيح البخاري - الطب - من ترجمة الباب 49 (الفتح 10/ 233). (¬2) هذا الكلام في حل السحر على إطلاقه فيه نظر، وانظر الضوابط في ذلك في كتاب: (النذير العريان لتحذير المرضى والمعالجين بالرقي والقرآن) لفتحي بن فتحي الجندي وهو من منشورت دار طيبة. وانظر أيضًا: (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد) في باب النشرة. (¬3) موطأ مالك - كتاب الأقضية - باب 26 - الحديث 33. (¬4) صحيح سنن ابن ماجه - الصلاة - باب 190 - الحديث 1138/ 1386 (صحيح).

علِّمني شيئًا ينفعني الله تبارك وتعالى به، قال له: «انظر ما يؤذي الناس فأعزله عن طريقهم» (¬1)، ومثل هذه الخدمات تُنمِّي في نفس الداعية التواضع، وتعمق في نفسه معاني الخير، وتجعل المجتمع من حوله يرى فيه حرصًا عمليًّا على كل ما يعود عليهم بنفع، أو يدافع عنهم ضررًا. وإذا ما تذكَّر المؤمن نعمة الله عليه بالهداية، وذاق حلاوة الإيمان ونعيم الطاعة، فلن يبخل بالكلمة الطيبة؛ ليستنفذ بها أناسًا مازالوا محرومين مما ذاق، ومحجوبين عمَّا عرَف، ولذلك ضرب - صلى الله عليه وسلم - مثلًا بالأرض الطيبة التي قبلت الغيث فأنبتت، فقال: «فذلك مثل من فقه في دين الله عز وجل، ونفعه الله عز وجل بما بعثني به، ونفع به فعلم وعلَّم ..» (¬2)، والداعية الحريص هو الأرض الطيبة التي تشرَّبت الخير وجادت به. ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليتركَ فرصة ركوب غلام - كابن عباس - خلفه دون أن يزيده انتفاعًا بما يربِّيه ويملأ وقت الطريق، فقال له: «ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن، احفظ الله يحفظك ..» (¬3)، واصطبغ الصحابة رضي الله عنهم بهذا الخُلُق، وكان هذا شأن أبي هريرة مع أنس بن حكيم حيث قال له: (يا فتى، ألا أحدثك حديثًا لعل الله أن ¬

(¬1) مسند أحمد 4/ 423، ورواه مسلم بلفظ مقارب في كتاب البر برقم 132/ 1914. (¬2) صحيح البخاري - كتاب العلم - باب 20 - الحديث 79 (فتح الباري 1/ 175). (¬3) مسند أحمد 1/ 307، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 7957.

ينفعك به؟ .. إن أول ما يُحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة .. " (¬1). ونفعُ الأقربين أكثر وجوبًا وأعظم أجرًا. قال أبو قلابة: (وأي رجل أعظم أجرًا من رجل ينفق على عيال صغار؛ يُعفُّهم أو ينفعهم الله به، ويعينهم الله به ويغنيهم!) (¬2)، وهذا الاهتمام بالأقارب كسبٌ لقلوبهم، وصلةُ رحمٍ، ورمز وفاء، وعنوان محبة، ودليل رحمة، خاصة حين يكون فيهم أطفال صغار، يفتقدون الرعاية والحنان وأهم الحاجات البشرية. إن أبواب النفع كثيرة، أجمَلَها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «على كل مسلم صدقة»، وضرب لها بعض الأمثلة بحسب القدرة: «فيعمل بيديه، فينفع نفسه ويتصدق .. فيعين ذا الحاجة الملهوف ..»، وإن لم يفعل المسلم شيئًا من ذلك: «فليُمسِك عن الشر فإنه له صدقة» (¬3)، وهذه أدنى مراتب النفع التي لا ينبغي لمؤمن أن ينزل عنها، ولا يليق بداعية أن يقف عندها. والجهاد أعلى مراتب النفع، والعزلة أدناها، سأل أعرابي: يا رسول الله! أي الناس خير؟ قال: «رجل جاهد بنفسه وماله، ورجل في شِعْب ¬

(¬1) مسند أحمد 2/ 425، واللفظ المرفوع في صحيح أبي داود للألباني برقم 770/ 864 (صحيح). (¬2) صحيح مسلم - كتاب الزكاة - باب 12 - الحديث 38/ 994 (شرح النووي 4/ 85). (¬3) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب 33 - الحديث 6022 (فتح الباري 10/ 447).

من الشِّعاب، يعبد ربه، ويدع الناس من شره» (¬1)، فالذي جاهد نفع الناس بتضحيته بروحه، وجوده بماله، لحمايتهم ولإرهاب عدوهم، وهذا أكبر الخير، والناس يتفاوتون في الخير ما بين منزلة المجاهد ومنزلة المعتزل الكافِّ لشره عن الناس. وتعظم المسؤولية ويثقل العبء على من تولى أمر بضعة من المسلمين؛ لأنه أقدر على دفع الضر أو جلب النفع بما أوتي من سلطان إمرة وحق الطاعة، وفي ذلك يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «.. فمَن ولي شيئًا من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فاستطاع أن يضرَّ فيه أحدًا، أو ينفع فيه أحدًا، فليقبَل من محسنِهم، ويتجاوز عن مسيئهم» (¬2)، بحيث يبقى أمره يدور بين تكريم محسنهم، والعفو عن مسيئهم، أي بين تقديم نفع، أو دفع أذى؛ لأن أهل الإمرة كثيرًا ما يجورون وهم لا يشعرون، فإذا ما وضعوا نُصب أعينهم مهمة جلب المنفعة ودَرْء الأذى عصموا أنفسهم من الزلل بإذن الله. ومن الصور العملية لخلق النفع ألا تستبقي أرضًا تملكها دون خدمة ولا زراعة، مع وجود أخٍ لك عاطل عن العمل يستطيع أن يستخرج خير الأرض، وأن ينتفع بها، وفي ذلك يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يزرعها فليُزرِعها أخاه» (¬3)، وكم ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الرقاق - باب 34 - الحديث 6494 (فتح الباري 11/ 330). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الجمعة - باب 29 - الحديث 927 (فتح الباري 2/ 404). (¬3) صحيح مسلم - كتاب البيوع - باب 17 - الحديث 88 (شرح النووي 5/ 454).

لدى المسلمين من قدرات معطَّلة، وثروات مكنوزة، وطاقات مهدورة، ولا نلتفت إلى التفكير في استغلالها؛ فيما يعود بالنفع على المسلمين! أفلا تجود بعلمك، وتتصدق بعرقك، وتعين بسعيك؛ لتكون دائمًا ممن جعله الله مفتاحًا للخير، مِغلاقًا للشر، وعندئذٍ بُشراك الجنَّة كما في الحديث: «.. فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه» (¬1). ولدوام النفع بأمثال هؤلاء لا بدَّ من تعزيزهم بالمال والسلطان، وقد ذكر النسائي - عقب حديث في كتاب قسم الفيء - طريقة قسمة سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغنائم بعد وفاته، فقال: (وسهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإمام: يشتري الكراع منهم، والسلاح، ويُعطي منه مَن رأى، ممن رأى فيه غناءً ومنفعة لأهل الإسلام، ومن أهل الحديث والعلم والفقه والقرآن) (¬2). وقد جعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المؤمنَ مثلًا في دوام النفع به، وشبَّه النخلة به لدوام خضرتها وإمكانية الانتفاع بكل ما فيها، فقال: «إني لأعلم شجرة يُنتفع بها مثل المؤمن» (¬3)، والمؤمن يحرص على تقديم خيره إلى الناس لوجه الله، وابتغاء مرضاته، ولا تتحكم به مشاعر شخصية، أو مواقف عارضة، وقد عاتب ربُّنا عز وجل أبا بكر - رضي الله عنه - حين ¬

(¬1) صحيح سنن ابن ماجه للألباني - المقدمة - باب 19 - الحديث 194/ 237 (حسن). (¬2) صحيح سنن النسائي للألباني، من تعقيب النسائي على الحديث 3866 من كتاب قسم الفيء. (¬3) مسند أحمد 2/ 115. كما رواه البخاري في العلم - باب 5 - الحديث 62 (الفتح 1/ 147).

حلف ألا يُنفِق على مِسْطَح بن أُثاثة لمشاركته في حديث الإفك (فحلف أبو بكر ألا ينفع مِسطحًا بنافعة أبدًا)، فلما نزل قوله تعالى: {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 18] قال أبو بكر: (بلى والله، إنا لنُحب أن يغفر لنا) (¬1)، وأعاد النفقة على مسطح. إذا كنت تحب أن يغفر الله لك، فهيَّا إلى مزيد من الدعوة والنصح والإفادة والنفع، واستغلال الأوقت والطاقات .. فإنه كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خيرُ الناس أنفعهم للناس» (¬2). خلاصة هذا الفصل وعناصره: _ إذا لم يَقُمِ المؤمن بتقديم النفع لم يتعدَّ خيره إلى غيره. - «مَن استطاع أن ينفع أخاه فليفعل». - المبادرة بتقديم النفع قبل طلبه. - اغتنام كل الأوقات في توصيل الخير. - أوجب النفع ما كان للأقربين. - من لم يقدر أن ينفع، فليحرص ألا يضر. - أعلى النفع الجهاد، وأدناه العزلة. - يعظم النفع بعظم المسؤولية، والضرر كذلك. - في النفع اغتنام للطاقات المهدرة لمصلحة مَن يحتاجها. - يعظم النفع بتأييده بالمال والسلطان. ¬

(¬1) مسند أحمد 6/ 59 - 61، وروى البخاري في صحيحه قصة حادثة الإفك برقم 4750. (¬2) صحيح الجامع برقم 3289 (حسن).

- من مزايا المؤمن: دوام خيره وكثرة نفعه. - النافع خير الناس.

الباب الثالث من أخلاقنا في الأخوة

الباب الثالث من أخلاقنا في الأخوة الفصل الأول: الحب والتآخي. الفصل الثاني: التكافل. الفصل الثالث: الصراحة الفصل الرابع: الألفة. الفصل الخامس: التنافس الشريف. الفصل السادس: التعاون.

الفصل الأول الحب والتآخي

الفصل الأول الحب والتآخي

«وكونوا عباد الله إخوانًا». العَلاقة بين الحب والتآخي عَلاقة وثيقة، لحمتها العقيدة، فكل من عقد الله بينك وبينه عقد الأخوة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ....} [الحجرات: 10]، يستحق منك مبادلته بلوازم الحب في الله، وكل من يعاملك بالمحبة الإيمانية، يستوجب عليك حقوق الأخوَّة الإسلامية. في مقام النهي عن بعض صور الإساءة إلى المسلم، أو الأمر ببعض صور التكافل والتعاون والتراحم، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشفع توجيهاته تلك بقوله: «.. وكونوا عباد الله إخوانًا» (¬1)، ويُبيِّن القرطبي معنى الأخوة المقصود في الحديث بقوله: (اكتسبوا ما تصيرون به كإخوان النسب؛ في الشفقة والرحمة، والمواساة والمعاونة والنصيحة) (¬2). والميزان الضابط لمفهوم الأخوَّة، والذي لا يتم الإيمان إلا به، ما بينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «والذي نفسي بيده، لا يؤمن عبدٌ حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير» (¬3)، ويعلق الكرماني بقوله: (ومن الإيمان أيضًا أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه من الشر، ولم يذكره؛ لأن حب الشيء مستلزم لبغض نقيضه، فترك التنصيص عليه اكتفاء) (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري وأبو داود والترمذي ومالك (جامع الأصول 6/ 523 الحديث 4731). (¬2) نقلًا عن حاشية الموطأ بتعليق فؤاد عبد الباقي ص 908 كتاب حسن الخلق الحديث 15. (¬3) صحيح الجامع برقم 7085 (صحيح). (¬4) فتح الباري 1/ 58 عند شرح الحديث 13 من كتاب الإيمان - باب 7.

ويُعرِّف النووي المحبة بأنها: (الميل إلى ما يوافق المحب) (¬1). ويزيد ابن حجر: (والمراد بالميل هنا الاختياري دون الطبيعي والقسري .. والمحبة إرادة ما يعتقده خيرًا) (¬2). ومن القديم كان الناس يحرِصون على أخوة صادق في المحبة؛ ليُؤثِروه على أنفسهم، ومما أدرجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العبارات المتداولة في عصره: «اللهم أبغني حبيبًا هو أحب إلي من نفسي» (¬3). وكان الحرص على المحبة والتآخي، يدفع رجلًا مثل أبي هريرة - رضي الله عنه -؛ لطلب الدعاء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لنفسه ولأمة، بالمحبة المتبادلة مع المؤمنين، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم حبِّب عُبَيدك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبِّب إليهم المؤمنين ..» (¬4). والأصل في الحب أو البغض أن يكون لكل ما يحبه الله، أو يبغضه، فالله عز وجل يحب التوَّابين والمتطهِّرين، والمحسنين والمتقين، والصابرين والمتوكلين، والمقسطين، والمقاتلين في سبيله صفًّا، ولا يحب الظالمين والمعتدين، والمسرفين والمفسدين، والخائنين والمستكبرين. كما أن الأصل في الحب أن يكون عامًّا لجميع المؤمنين، ويتفاوت تبعًا لصلاحهم، فلا نستطيع أن نناصب العداء لمن وقع في معاصٍ تاب منها، أو حُدّ فيها، ومازال رغم معاصيه في دائرة الإسلام، فقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لعن صحابي أقيم عليه حدّ الخمر - مرارًا - فقال: ¬

(¬1) فتح الباري 1/ 58. (¬2) فتح الباري 1/ 58. (¬3) صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - باب 45 الحديث 132. (¬4) صحيح مسلم - كتاب فضائل الصحابة - باب 35 - الحديث 158.

«لا تلعنوه، فوالله، ما علمت أنه يحب الله ورسوله» (¬1)، واستنبط منه ابن حجر (أن لا تنافي بين ارتكاب المنهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب، وأن من تكررت منه المعصية، لا تنزع منه محبة الله ورسوله) (¬2). وفي حديث آخر دعا بعض الصحابة على رجل سكران أن يخزيه الله، فكانت لفتنة النبي - صلى الله عليه وسلم - المفعمة بالحب والأخوة أن: «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم» (¬3)، ليَلفِت أنظارهم للدعوة له بالمغفرة، والتوجُّه إليه بالنصح، بدل الدعوة عليه فيما يُفرح الشيطان، ويقوِّيه عليه. وفي الأثر: أن أبا الدرداء - رضي الله عنه - مر على رجل قد أصاب ذنبًا، فكانوا يسبُّونه فقال: أرأيتم لو وجدتموه في قَليب، ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبُّوا أخاكم، واحمَدوا الله الذي عافاكم، قالوا: أفلا تُبغِضه؟ قال: إنما أُبغِض عمله، فإذا تركه فهو أخي (¬4)، وكم من أواصر الأخوة قطعت! وكم حقنت القلوب بالعداوة والغيظ لاجتهاد خاطئ! مع أن في الأمر سَعَة للحفاظ على مودة وأخوة من وقع في المعصية، فكيف بأخوة مَن زلَّ في رأي أو انزلق في اجتهاد؟! ذلك لأن مصدر الأخوَّة ومنبع الحب مازال قائمًا فيه؛ ألا وهو إكرام عقيدة الإيمان التي يحملها، وكلمة التوحيد التي يدعو ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الحدود - باب 5 - الحديث 6780. (¬2) فتح الباري 12/ 78 عند شرح الحديث 6780. (¬3) صحيح البخاري - كتاب الحدود - باب 5 - الحديث 6781. (¬4) عن حياة الصحابة 3/ 413.

إليها، وقد جاء في الحديث: «ما أحب عبدٌ عبدًا لله إلا أكرم ربه» (¬1). إن الله عز وجل جعل الحب في الله والبغض في الله أوثقَ عرى الإسلام، وفي رواية: «أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله عز وجل» (¬2). إن الإيمان لا يكمل إلا بصدق هذه العاطفة، وإخلاص هذه الرابطة: «مَن أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان» (¬3)، ومن أراد أن يشعر بلذة مجاهدة الشيطان، وحلاوة التجرد من الأهواء، وعظمة معاني الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، فهذا هو الطريق: «ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر - بعد إذ أنقذه لله منه - كما يكره أن يُلقى في النار» (¬4)، وقد جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المفاضلة بين الأخوين المتحابِّين، بمدى حب كل منهما لأخيه: «ما تحابَّ اثنانِ في الله تعالى، إلا كان أفضلهما أشدهما حبًا لصاحبه» (¬5)، وإن دخل لشيطان بينهما يومًا من الأيام، فليراجع كل منهما قلبَه، وليحاسب نفسَه، لقوله - صلى الله عليه وسلم - «ما توادَّ اثنان في الله فيفرق بينهما إلا بذنب ¬

(¬1) صحيح الجامع برقم 5516 (حسن). (¬2) صحيح الجامع برقم 2539 (صحيح). (¬3) صحيح الجامع برقم 5965 (صحيح). (¬4) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي (جامع الأصول 1/ 237 برقم 20). (¬5) صحيح الجامع برقم 5594 (صحيح).

يُحدِثه أحدهما» (¬1). ومن المداخل التي يحاول الشيطان أن يلجَ منها؛ للقطيعة بين الأخوين: أن يوسوس لأحدهما، بإثارة أحاسيس الغَيرة من العَلاقة مع شخص آخر، وتأويل هذه العَلاقة بأنها لمزيد محبة تفوق ما بينهما، وقد تكون من نوع ما ضرب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلًا بقوله: «إني لأعطي الرجل، وغيرُه أحبُّ إليَّ منه، خشيةَ أن يُكَبَّ في النار على وجهه» (¬2)، فتألَّف قلب حديث عهدٍ بالهداية، قد يحتاج عناية خاصة، ينبغي ألا تستثير الآخرين. وقد يعتب الأخ على أخيه لم لا يستعمله، ولا يثق بقدراته ولا يؤمره ولا يكلفه؟ ويظن ذلك من ضعفِ محبته له مع أن ذلك لا علاقة لخ بجب أو بغض، وبصراحة المؤمن قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: «يا أبا ذر، أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرَّن على اثنين، ولا توَّلين مال يتيم» (¬3). وللترغيب في الحب في الله بشر الله المتحابين بإكرامِهم عند هول الموقف والحساب، بأن يظلهم في ظل العرش، ومن الأصناف السبعة المخصومة بهذه المزية - كما في الحديث -: «.. ورجلان تحابَّا في الله، فاجتمعا على ذلك، وافترقا عليه ..» (¬4). ويقول الله فيهم - كما في ¬

(¬1) صحيح الجامع برقم 5603 (صحيح). (¬2) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي؛ (جامع الأصول 2/ 684 برقم 1183). (¬3) صحيح مسلم - كتاب الإمارة - باب 4 - الحديث 17. (¬4) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ومالك (جامع الأصول 9/ 564 برقم 7317).

الحديث القدسي -: «حُقَّت محبتي للمتحابين فيَّ، وحُقَّت محبتي للمتواصلين فيَّ، وحقت محبتي للمتناصحين فيَّ، وحقت محبتي للمتزاورين فيَّ، وحقت محبتي للمتباذلين فيَّ، المتحابون فيَّ على منابر من نور، يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون والشهداء» (¬1). هذا بالإضافة إلى البُشرى لمن أحب الصالحين أنه سيحظى بالحشر معهم، كما في الحديث الصحيح: «المرء مع من أحب» (¬2). ولكي يكون مجتمع المسلمين متعاونًا على البر، وغارسًا لمعاني الخير، فقد وردت أحاديث كثيرة، تحث على إعلام الأخ الذي له في نفسك منزلة خاصة، ومحبة متميزة فوق الأخوَّة العامة لجميع المؤمنين - بأنك تحبه، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منزله، فليخبره أنه يحبه لله» (¬3)، وزاد في رواية «فإنه أبقى في الألفة، وأثبت في المودة» (¬4). ومن علامات صدق الأخوَّة وصفاء الحب: أن تحسب حساب أخيك فيما تجره إلى نفسك من نفع، أو ترغب بدفعه عن نفسك من مكروه، وفي وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة: «وأحب للمسلمين والمؤمنين ما تحب لنفسك وأهل بيتك، وأكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك، تكن مؤمنًا ..» (¬5)، وعندئذٍ ينطبق على الإخوة قول رسول ¬

(¬1) صحيح الجامع برقم 4321 (صحيح). (¬2) أخرجه البخاري ومسلم (جامع الأصول 6/ 558 برقم 4787). (¬3) صحيح الجامع برقم 281 (صحيح). (¬4) صحيح الجامع برقم 280 (حسن). عن مجاهد مرسلًا. (¬5) صحيح الجامع - الحديث 7833 (حسن).

الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (¬1). ومن الصور المفجرة لمعاني الحب تبادل العَلاقات الأخوية، والإكثار من الصلات الودية، من نوع ما عبر عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «تصاحفوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء» (¬2)، وكم تذيب الهدية من رواسب الحقد، وكم يمحو البَدْء بالسلام من وحر الصدور؛ حيث لا تكون المصافحة مجرد تلامس للأكف، ولا إلقاء السلام مجرد ألفاظ تتحرك بها الشفاه، وإنما حيث يكون السلام بمعناه الأوسع والأعم، الذي يؤهلنا لدخول الجنة، ويحقق المحبة بيننا، وذلك ما عبر عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «والذي نفسي بيده، لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أَوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» (¬3). ومما يعبر عن صدق الأخوة وحقيقة الألفة: ما تقدمه لأخيك من دعوات صالحات، حيث لا يسمعك ولا يراك، وحيث لا شبهة للرياء أو المداهنة، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل» (¬4). يقول النووي: (وكان بعض السلف إذا ¬

(¬1) أخرجه البخاري ومسلم (جامع الأصول 6/ 547 برقم 4771). (¬2) موطأ مالك 2/ 908 كتاب حسن الخلق - باب 4 - الحديث 16. قال ابن عبد البر: هذا يتصل من وجوه شتى حسان كلها. (¬3) صحيح الجامع برقم 7081 (صحيح). (¬4) صحيح مسلم - كتاب الذكر - باب 23 - الحديث 88.

أراد أن يدعو لنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة؛ لأنها تستجاب ويحصل له مثلها) (¬1). وللأخوة حقوقها في الدنيا: من تشميت العاطس، وعيادة المريض، وإجابة الدعوة، وإلقاء التحية، واتباع الجنازة. كما حرَّم الشرع الهجران بين الأخوين أكثر من ثلاث، ولا يُرفع عملهما حتى يصطلحا، ولم يجعل الله للمؤمنين عقد أخوة غير أخوة الإسلام، وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أنه لو اتخذ لنفسه خليلًا لكان أبا بكر - رضي الله عنه - ولكنه آثر أخوة الإسلام. فقال، «ولكن أخوة الإسلام أفضل» (¬2)، فهل نؤثر عصبيات جاهلية على أخوة الإسلام؟! ويستمر عقد الأخوة هذا إلى الآخرة؛ حيث لا يرى بعض أهل الجنة إخوانهم الذين كانوا معهم في الدنيا، فيسألون ربهم عز وجل عنهم، وقد صوّر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ذلك الموقف بقوله: «فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا، أشد مجادلة من المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدلخوا النار، قال: يقولون: ربنا! إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويحجون معنا، فأدخلتهم النار، فيقول: اذهبوا فأخرجوا مَن عرَفتم منهم ...» (¬3)، فيخرجونهم، ثم يأذن لهم فيخرجون مَن كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان. إن أخوة ¬

(¬1) شرح أحادث حق المسلم برواية البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي (جامع الأصول 6/ 527 برقم 4733). (¬2) من روايات عديدة للبخاري (جامع الأصول 8/ 589 برقم 6408). (¬3) صحيح سنن ابن ماجه للألباني: المقدمة - باب 9 - الحديث 51 (صحيح).

لها هذا المقام عند الله، وإن محبة لها ذلك الفضل في الدنيا والآخرة، لحرية بالحرص عليها، والوفاء بحقوقها، والاستزادة منها: {... رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - عقد الأخوة مبني على الإيمان، ويستوجب حقوقًا للمسلم. - أخوة الإيمان ينبغي أن تفوق أخوة النسب. - ضابط الأخوة أن تحب لأخيك الخير كما تحبه لنفسك. - الأصل في الحب: - النظر فيما يحب الله. - عمومه لجميع المؤمنين. - حب المؤمن وكراهية معصيته. - المحبة في الله أوثق عرى الإيمان، ومصدر حلاوته. - أفضل المتحابين عند الله أشدهما حبًّا لصاحبه. - من مداخل الشيطان للتفريق بين المتحابين: - ذنب يحدثه أحدهما. - تدخل مشاعر الغيرة. - الوجدُ لعدم تكليفه. - من فضل الحب في الله: - استحقاق محبته، والأمن في ظل عرشه.

- مما يقوي مشاعر المحبة الإعلام بالحب. - المصافحة والتهادي، والدعاء بظهر الغيب، تقوّي الحب وتذهب الشحناء. - ليس فوق عقد الأخوة من فضل لأي انتماء.

الفصل الثاني التكافل

الفصل الثاني التكافل

«خذ هذه، فأد بها ما عليك» التكافل صفة شاملة لصور كثيرة من التعاون والتآزر والمشاركة في سد الثغرات، تتمثل بتقديم العون والحماية والنصرة والمواساة، إلى أن تُقضَى حاجة المضطر، ويزول هم الحزين، ويندمل جُرح المصاب. ولا ينعدم خلق التكافل إلا حينما تسود الأنانية، وتفتر المشاعر الأخوية، ويستغرق الناس في همومهم الفردية ومشاغلهم الشخصية. وقد تآزر بنو هاشم - مسلمهم وكافرهم - مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لئلا تقتله قريش، وانحازوا به إلى شِعْب أبي طالب وقاطعَتْهم العرب وحاصروهم في الشِّعب وكتبوا صحيفة المقاطعة وعلقوها في الكعبة، إلى أن اندفع بعض رجال قريش لاستنكار الحصار المضروب على بني هاشم في شِعْب أبي طالب بدافع خُلق التكافل - رغم جاهليتهم - ولم يطمئنوا حتى نقضوا الصحيفة الظالمة التي قضت بهذه المقاطعة (¬1). وفي واقعنا كثيرٌ من صور تكافل أهل الباطل فيما بينهم، وبعض صور تعاطفهم مع المسلمين، بدوافع إنسانية أو قومية أو سياسية، فهل يكون ذلك حافزًا إضافيًّا للتكافل مع أخيك المسلم وأنت به أولى؟ ¬

(¬1) قصة حصار بني هاشم في شعب أبي طالب رواها أصحاب السير والمغازي (انظر السيرة النبوية الصحيحة 1/ 181 - 183).

كما أن السيدة خديجة رضي الله عنها لما أرادت أن تُخفِّف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تخوُّفه من نزول الوحي اتخذت من صفة التكافل التي اشتهر بها قبل النبوة دليلًا عقليًّا على أن الله لا يخزيه فقالت: (كلا، والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتكسِب المعدوم، وتَقرِي الضيف، وتُعِين على نوائب الحق) (¬1). والمهاجر من أحوج الناس إلى أنصارٍ يتكافلون معه، لغربته وفقره وانقطاعه، وقد ضرب أنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكبرَ الأمثلة في التكافل مع إخوانهم المهاجرين، وكان منها أن أشاروا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يقسم النخل، بينهم وبين المهاجرين، فقال: لا، فقال الأنصار: (تكفونا المؤونة، ونشرككم في الثمرة) (¬2)، وبذلك عمل بعض المهاجرين في بساتين الأنصار، وقاسموهم الثمار، وحُلَّت مشكلة البطالة والفقر، وكان من صور تكافلهم أن المهاجر كان يرث أخاه الأنصاري دون ذوي رحمه) (¬3). للأخوة التي آخى رسول الله بينهما، وكانت مرحلة استصفت النفوس، وأخلصتها لله، ثم نُسخ ذلك. وهذا التكافل لا يبرز بأسمى صوره، إلا كلما تعمقت معاني الأخوة والإيثار، واندثرت جذور الأنانية والاستئثار. ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب بدء الوحي - باب 3 - الحديث 3 - (الفتح 1/ 22). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الشروط - باب 5 - الحديث 2719 (الفتح 5/ 322). (¬3) صحيح البخاري - كتاب التفسير - سورة 4 - باب 7 - الحديث 4580/عن ابن عباس (الفتح 8/ 247).

ومما يمكن أن يتميز به مجتمع المسلمين من صور التكافل: إعانة المَدِين (الغارم) بسداد دَيْنه، حتى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فتح الله عليه الفتوح، واستغنى بيت مال المسلمين، قال: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن تُوفِّي من المؤمنين، فترك دَينًا، فعليَّ قضاؤه ..» (¬1)، ومساعدة الرقيق في تحصيل حريته، ومن ذلك أن بَريرة رضي الله عنها جاءت تستعين بعائشة رضي الله عنها، في التحرُّر من رقِّها، فكان من تكافل عائشة معها أن قالت لها: (إن شاء مواليك صببت لهم ثمنك صبة واحدة، وأعتقتك ..) (¬2). ومن صور التكافل الشرعية التكافل مع القاتل في دفع دِيَة المقتول، حيث تكلف عصبته وعشريته الأقربون الموسرون بتحمل دِيَة المقتول، مواساة وإعانة للقاتل خطأً، الذي قد تأتي الدية على كل ماله فترهقه، ولو عجزت عصبته، أو لم يكن له عصبة، دُفعت الدية من بيت المال (¬3). ومن أشد الصور: استنقاذ الأخ الأسير بكل غالٍ وثمين، وقد روي أن سلمة بن الأكوع غزا (هوازن) مع أبي بكر، فنفله جارية من بني فزارة من أجمل العرب، فلقيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، فقال له: «لله أبوك، هبها لي» فوهبها له، ففادى بها أسارى من أسارى المسلمين ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب النفقات - باب 15 - الحديث 5371 (الفتح 9/ 515). (¬2) مسند أحمد 6/ 135 - كما رواه البخاري في كتاب الشروط - باب 3 - الحديث 2717. (¬3) يراجع تفصيل ذلك ذلك في باب العاقلة من كتاب الديات في كتب الفقه.

كانوا بمكة) (¬1)، لا شك أنها من أرقى صور الإيثار والتجرد. ويروي أبو هريرة أنه أتى خَيْبر مع رهط من قومه، وقد فُتِحت خَيْبر على النبي - صلى الله عليه وسلم -، (فكلَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين، فأشركونا في سهامهم) (¬2). إذا لم تكن النفوس تطيب بمثل هذا، فسوف تفتقدها في ميادين التضحية، وسوف لا تجدها عند الهَيْعة ومظانِّ الموت. ونُقِل عن عمر أيضًا قوله في الأسرى: (لأن أستنقذ رجلًا من المسلمين من أيدي الكفار أحبُّ إليَّ من جزيرة العرب) (¬3). وحين يفرز الجهاد أرامل وأيتامًا ومُعوَّقين، فليس من الوفاء تغافلهم، بعد أن قدم أولياؤهم الروح في سبيل الله، ولذلك اعتبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار» (¬4)، بل وعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كافل اليتيم بأن يكون رفيقه في الجنة (¬5)، وكذلك التكافل مع مَن أوذي في الله، أو أصيب في سبيل الله، وإن الواقع العملي لمجتمع المسلمين الأول، ليمثل أسمى صور التكافل، ومن ذلك أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - دخل عليه رجل أصيب في وجهه في غزوة فأمر بإعطائه ألف درهم، وكل ساعة يزيده ألفًا، حتى استحيا الرجل فخرج، فقال ¬

(¬1) صحيح سنن ابن ماجه - كتاب الجهاد - باب 32 - الحديث 2297 (حسن). (¬2) مسند أحمد 2/ 345 - وسنده جيد (بلوغ الأماني 22/ 126). (¬3) حياة الصحابة 2/ 408 حيث عزاه إلى ابن أبي شيبة - كما في الكنز -. (¬4) صحيح البخاري - كتاب النفقات - باب 1 - الحديث 5353 (الفتح 9/ 497). (¬5) إشارة إلى حديث البخاري - في كتاب الطلاق - باب 25 - الحديث 5304 (الفتح 9/ 439).

عمر: (أما والله لو أنه مكث، مازلت أعطيه - ما بقي من المال درهم - رجل ضُرب ضربة في سبيل الله، خضَّرت وجهه) (¬1)، وهكذا يكون الوفاء لذوي سابقة الخير. ولا ننسى أن نشير إلى التكافل النفسي فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبر عنه بالإجمال فقال: «مَن نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة» (¬2). وقد بلغ من تكافل النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أنه كان يتفقد صحابته الذين لا يراهم، ويسأل عن مشاكلهم، وأمثلة ذلك في السنة كثيرة، أختار منها ما ورد في قصة إسلام سلمان الفارسي - رضي الله عنه -، وفي آخرها أنه جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعض المغازي مثل بيضة الدجاجة من ذهب، فتذكر سلمان، وأنه بقي عليه مال ليُعتق نفسه، فقال: ما فعل الفارسي المكاتب؟ فأرسل إليه واستدعاه، فلما جاء قال له: (خذ هذه. فأدّ بها ما عليك يا سلمان) (¬3)، قال سلمان: (فأوفيتهم حقهم وعُتقت فشهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخندق ثم لم يَفُتْني معه مشهد)، وكم يكتسب الداعية قلوب المدعُوِّين حين يرون أنه يفكر بهم، ويسعى في أمرهم، ويهيئ الخير لهم! ومن التكافل الشعوري: تفقُّد حال الأخ، والاطمئنان على ظروفه، وتطييب خاطره، فقد ورد أن ثابت بن قيس بن الشماس لَمَّا نزلت الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ¬

(¬1) حياة الصحابة 2/ 222 حيث عزاه إلى أبي نعيم في الحلية 3/ 355. (¬2) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي (جامع الأصول 6/ 562 - الحديث 4793). (¬3) مسند أحمد 5/ 441 - 444. قال الحافظ في الإصابة: رويت قصة سلمان من طرق كثيرة أصحها ما أخرجه أحمد ... (بلوغ الأماني 22/ 265 - 266).

وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]. قال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حبِط عملي وأنا من أهل النار، وجلس في أهله حزينًا، فتفقده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانطلق بعض القوم إليه، فقالوا له: تفقدك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مالك؟ وأخبروه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا، بل هو من أهل الجنة) (¬1)، وهكذا يشعر كل فرد بقيمته وكل مدعوٍّ بمنزلته في نفس مربِّيه. ومن أسمى الأخلاق: أن يُقابَل التكافل بعفَّة نفس المحتاج؛ كما فعل عبدالرحمن بن عوف؛ حين رفض تقاسم المال والزوجتين مع الأنصاري، وقال له: (بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟) (¬2)، وطلب أن يدُلَّه على السوق ليعمل بيديه، ويعتمد على نفسه، بل كانت ظاهرة عامَّة بعد خيبر، لما استغنى المهاجرون؛ إذ ردُّوا إلى الأنصار ما كانوا أكرموهم به، فقد ورد أنه: (لما فرغ من قتال أهل خيبر، فانصرف إلى المدينة، ردَّ المهاجرون إلى الأنصار منائحهم من ثمارهم ..) (¬3). وإن مجتمعًا يشيع فيه التكافل، لهو المجتمع المتماسك الذي يستطيع أن يجاهد في سبيل الله صفًّا، كأنه بنيان مرصوص، بينما تجد مجتمع الأنانية والبخل متصدعًا من الداخل، تأكله العداوات والأحقاد ¬

(¬1) مسند أحمد 3/ 137. والآية من سورة الحجرات/2. (¬2) صحيح البخاري - كتاب مناقب الأنصار - باب 3 - الحديثان 3780/ 3781 (الفتح 7/ 112). (¬3) صحيح البخاري - كتاب الهبة - باب 35 - الحديث 2630 (الفتح 5/ 242).

قبل حراب الأعداء، فأي المجتمعين نختار لأنفسنا؟ وبأي الأخلاق نتحلَّى؟ خلاصة هذا الفصل وعناصره: - لا ينعدم التكافل إلا حين تسُود الأنانية. - غير المسلمين يتكافلون فيما بينهم، وأحيانًا يتكافلون مع المسلمين! - المشهود له بالتكافل مع الناس لا يخزيه الله. - من أنصع صور التكافل ما كان بين المهاجرين والأنصار. - من الصور التي تقتضي مزيدًا من التكافل: - إعانة الغارم. - تحرير الرقيق. - دية المقتول. - استنقاذ الأسير. - إعانة الأرامل والأيتام والمعوقين. - الوقوف مع من أصيب في الله. - من التكافل النفسي: - تفقد حال الإخوة لقضاء حوائجهم. - مراعاة مشاعرهم وإزالة أحزانهم. - التكافل عظيم، وأعظم منه التعفف. - مجتمع التكافل مرصوص.

الفصل الثالث الصراحة

الفصل الثالث الصراحة

«لا خير فيكم إذا لم تقولوها». هل من لوازم الصراحة سوء الأدب، وإثارة الفتن، والتشهير بالعيوب، والتطاول، أم هي النصيحة الصادقة، والنقد البناء، والجرأة الأدبية؟ (الصراحة): في اللغة: الوضوح والخلوص من الالتواء، ويُعرِّفها صاحب كتاب (الخلق الكامل) اصطلاحًا بأنها: (إظهار الشخص ما تنطوي عليه نفسه، من غير تحريف ولا مواربة؛ بحيث تكون أفكاره واضحة جلية، وبحيث توافق أفعاله أقواله) (¬1). وكثيرًا ما يستنكر الناس صراحةَ الصريح، داعين إلى المداراة، التي ساقت كثيرين من الناس إلى المداهنة، ولَمَّا أفرط الناس في المداراة، كان لا بدَّ من تذكيرهم بالصراحة، وبحقيقة المداراة، ومواطنها الشرعية. جاء في الفتح في شرح (باب المداراة مع الناس): (قال ابن بطال: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، والمداهنة محرمة، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق، وإظهار الرضا بما هو فيه، من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولاسيما إذا احتيج إلى تألفه) (¬2). ترون أن المداراة ¬

(¬1) الخلق الكامل لمحمد أحمد جاد المولى 3/ 464. (¬2) فتح الباري 10/ 528.

بهذا المعنى: صراحة برفق حيث ينبغي الرفق. وما رُوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه دارى، إلا الفاسق ذا الفحش الذي يُخشى شرُّه، أو حديث العهد بالإسلام ضعيف الإيمان، وفيما عدا ذلك كان يصرح بلسانه، ويُعرَف الاستنكار في وجهه، وتلكم هي صراحة المؤمن مع من يرى أنهم إخوة له في الإيمان، مهما تكن منزلته. لما ظهر للصحابة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسي فصلى ركعتين بدل أربع، قال ذو اليدين - بكل أدب -: يا نبي الله أنسيت أم قُصرت؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «لم أنسَ ولم تُقصر»، عندئذٍ أجاب الصحابة - بكل صراحة - «بل نسيت يا رسول الله» (¬1) ولم يُعنِّفهم، ولم يغضب لصراحتهم، ولم يداور عليهم، وتعلموا سجود السهو، كما تعلموا احتمال الصراحة. ومن صراحة الصحابة رضي الله عنهم: ما ورد في حديث الصلاة على عبد الله بن أُبي كبير المنافقين، وكان من أبرزها موقف عمر - رضي الله عنه -، حين استنكر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي على رأس المنافقين، يقول: (تحوَّلت، حتى قمت في صدره، فقلت: يا رسول الله! أعلى عدو الله؟! ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبسم، حتى إذا أكثرت عليه، قال: «أخِّر عني يا عمر»)، وذلك قبل نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة على المنافقين، ولرجائه بأن يغفر الله لهم إن استغفر لهم فوق السبعين - ويقول عمر في آخر الحديث: (فعجبت بعدُ من جرأتي على رسول الله) (¬2). ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب 45 - الحديث 6051 (الفتخ 10/ 468). (¬2) مسند أحمد 1/ 16 - واللفظ له - وهو عند البخاري برقم 4671 (الفتح 8/ 333).

وكل ما في نفوسهم من إجلال وهيبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لم يمنعهم من المصارحة، وكل ما لرسول الله من منزلة عند ربه، لم يدفعه إلى منع الاعتراض، أو التساؤل، أو الاستفسار الناشئ عن صراحة وصدق. فلا يحزننَّ أصحاب الوجاهة من صراحة أتباعهم، ولا يستاءنَّ المؤمن الداعية من وضوح إخوانه، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رفعة قدره، ووجوب طاعته، كان يقابل الصرحاء بالتبسم، وبالكلمة الطيبة. وفي قصة بيعة العقبة أن أبا الهيثم بن التَّيِّهان - رضي الله عنه -، أراد أن يستوثق ويتثبت من مستقبل هذه البيعة، فقال - بصراحة -: (يا رسول الله.، إن بيننا وبين الرجال حبالاً - يعني اليهود - وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله، أن ترجع إلى قومك، وتدعنا؟)، لم ينفعل رسول الله ولم يغضب ولم يقل كما يقول الكثيرون: ألا تثقون بنا؟ أين الجندية؟ أين الثقة بالقيادة؟! بل (تبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: «بل الدَّم الدَّم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم» (¬1)، بهذه التربية تعلَّم الصحابة أن ينطقوا بالصراحة، وأن يقبلوها ممن يصارحهم. وحين قام رجل يأمر عمر - رضي الله عنه - بالتقوى، اعترض بعض الحاضرين، فقال عمر: (دعوه فليقلها، لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها) (¬2). إن الصراحة تدعو صاحبها للاعتراف بضعفه، والتراجع عن خطئه، ومن الأمثلة المعاصرة ما ذكره الدكتور ¬

(¬1) مسند أحمد 3/ 462 وذكره ابن إسحاق - ورجاله كلهم ثقات - (بلوغ الأماني 20/ 274) (¬2) عن كتاب (أخلاقنا الاجتماعية) ص 53.

مصطفى السباعي رحمه الله -: (لقد مرَّت بنا فترات كانت فيها أعصاب الشباب تدفعنا إلى اتهام خصومنا في الرأي، فاللَّهم نشهدك أنا رأينا بأعيننا خطأ ما فعلنا ولمسنا بأيدينا نتيجة ما أفرطنا) (¬1)، وتلك الصراحة ترفع صاحبها في نظر الناس وتزيدهم ثقة به. ويجب أن نكون عونًا للناس على أن يصارحوا، فلا نشدد النكير عليهم إن أظهروا من أنفسهم ضعفًا، ففي قصة المرأة التي جاءت تصارح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، طالبة الطلاق من زوجها - مدعية عدم قدرته على القيام بحقها - قائلة: (ما معه يا رسول الله إلا مثل هذه الهُدْبة - لهُدْبة أخذتها من جلبابها - وما يزيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التبسم) (¬2)، فاحترم صراحتها، وقضى قضاءه بصراحة أيضًا. ومن صور الصراحة الصادقة: موقف بشير بن الخصاصية - رضي الله عنه -، حين جاء يعاهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أعمال من الإسلام، فوافق على كل شيء إلا الزكاة والجهاد، وكان من قوله: (أما الجهاد: فإني رجل جبان، وأخاف إن حضر القتال، أن أخشع بنفسي فأفر، فأبوء بغضب من الله)، فلما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا بشير، لا صدقة ولا جهاد فبم إذًا تدخل الجنة؟» (¬3)، بايعه على كل شيء، ولم يُعلِّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صراحته تلك، ووصفه نفسه بالجبن، بما يجرحه أو يؤذيه. كم تخسر من الأصحاب بسبب عدم الوضوح والصراحة! يقول علي - رضي الله عنه -: (لا تقطع أخاك عن ارتياب، ولا تهجره دون ¬

(¬1) أخلاقنا الاجتماعية - ص 65. (¬2) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب 68 - الحديث 6084 (الفتح 10/ 502). (¬3) عن حياة الصحابة 1/ 240 - 241: وأخرجه أحمد 5/ 224، ورجاله موثقون - كما قال الهيثمي -.

استعتاب) (¬1)؛ إذ ربما تقطعه بلا مصارحة بسبب الريبة، فتحسب الوهم حقيقة، وقد تهجره بلا عتاب، فتتصور الوساوس أمرًا واقعًا. والصحابة بايعوا على قول الحق وإن كان مُرًّا، وعلى ألا تأخذهم في الله لومة لائم، وأن يقولوا بالحق حيثما كانوا؟ وعلى النصح لكل مسلم، ومع كل ذلك فلماذا لا نرتاح للصراحة؟! ألا يتوقع الذين يكرهون الصراحة أن الناس يمكنهم أن يداروهم في الظاهر، ويمقتوهم في الباطن، كما قال أبو الدرداء: (إنا لنَكْشِرُ في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم) (¬2)، وعندئذٍ أيهما أحب إلى العاقل، صديق صادق صريبح، أم منافق في كيل المديح فصيح؟ من تربية القرآن على الصراحة، وعلى حسن قبولها، أدب الاستئذان الذي علمنا الله إياه، بقوله: {... وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ...} [النور: 28]، الرجوع أزكى للمزور لئلا يؤخذ بالحياء وهو كارهٌ، وأزكى للزائر لئلا يكون ثقيل الظل على الآخرين. فإن عدمت الصراحة، وغلبت المجاملات، فقدت الزيارات غايتها، وحُرمت القلوب تزكيتها. وقد كانت (الصراحة بالنصيحة) مطلبًا يسعى إليه الأمراء، وذكرى يبادر إليها العلماء، روي أن عمر - رضي الله عنه -، ذكرت عنده امرأة حامل - قد غاب زوجها - بسوء، وأنه كان يدخل عليها الرجال، فبعث إليها فقالت: (يا ويلها، ما لها ولعمر)، فبينما هي في الطريق ضربها الطلق لخوفها من عمر فألقت ولدًا، فصاح الصبي صيحتين، ¬

(¬1) الخلق الكامل 4/ 248. (¬2) من معلقات البخاري في ترجمة باب 82 من كتاب الأدب (الفتح 10/ 527).

ثم مات، فاستشار عمر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأشار بعضهم أن ليس عليك شيء، إنما أنت والٍ ومؤدِّب، وصَمَت عليٌّ، فأقبل عليه عمر، فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا في هواك، فلم ينصحوا لك، إن دِيَتَه عليك؛ لأنك أفزعتَها فألقته، وضمن عمر دية الجنين (¬1). بهذه الصراحة كانت الحقوق لا تُغمط، وكان أصحاب الحقوق لا يتتَعْتَعِّون في نيل حقوقهم. والمؤمن صريح، لا يعرف النفاق والتحايل، لذلك فإنه يتعامل بوجه واحد، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المذبذَبين والمتملقين: «تجد من شرار الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه» (¬2). وفي بيان ذي الوجهين قال في الفتح: (قال النووي: هو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها، فيظهر لها أنه منها، ومخالف لضدها، وصنيعه نفاق، ومحض كذب وخداع، وتحيُّل على الاطِّلاع على أسرار الطائفتين، وهي مداهنة محرمة، قال: فأمَّا مَن يقصد بذلك الإصلاح بين الطائفتين فهو محمود، وقال غيره: المحمود أن يأتي لكل طائفة بكلام فيه صلاح الأخرى، ويعتذر لكل واحدة عن الأخرى، وينقل إليه ما أمكنه من الجميل، ويستر القبيح) (¬3). ولعلم الإنسان بضعف نفسه، فإن كثيرًا من المواقف تقتضي منه الصراحة، تجنبًا لسوء تصرف قد يصدر منه، أو من غيره، ولذلك قال ¬

(¬1) عن المغني 12/ 35، 101 ط القاهرة 1990 - والقصة في مصنف عبد الرازق (كتاب العقول - باب من أفزعه السلطان). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب 52 - الحديث 6058 (الفتح 10/ 474). (¬3) فتح الباري 10/ 475.

الصحابي الجليل عبد الله بن عبد الله بن أُبَيٍّ: (يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أُبيٍّ فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلًا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخززج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس، فأقتله، فأقتل مؤمنًا بكافر فأدخل النار)، بهذه الصراحة، وبهذا الوضوح، احتاط لنفسه، فكان جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا» (¬1). وهكذا نرى أن التربية على الولاء للحق وحده، تُنشِئ رجالًا صرحاء، لا يعرفون التزييف والالتواء، ويبقى سؤال: هموم أمة الإسلام وآمالها، هل يحملها ويؤدي حقها الخراف الوديعة، أم الأسود الجريئة؟ فلنكن صرحاء. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - إفراط الناس في المداراة انقلب إلى المداهنة. - الفرق الدقيق بين المداراة والمداهنة. - من صراحة الصحابة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: - أقصرت الصلاة أم نسيت؟ - يا رسول الله أَعَلَى عدو الله. - حسبنا كتاب الله. - تربية الصحابة على الصراحة جعلتهم لا يرون خيرًا فيمن لا يصارح. - الصراحة في الاعتراف بالخطأ ترفع من قدر الصريح. - لكي نعين الناس على الصراحة فلنقابل صراحتهم بالرفق. ¬

(¬1) سيرة ابن هشام 3/ 305 - وقد وردت بعض تفاصيل هذا الموقف في روايات بعضها بسند رجاله ثقات، وأخرى بسند رجاله رجال الصحيح - وأصله في الصحيحين - (السيرة النبوية الصحيحة 2/ 410).

- الصراحة عند البيعة ضرورية لما يترتب عليها من مسؤولية. - الصراحة بين الإخوة تقطع دواعي الهجران. - الصراحة أزكى لكلا الطرفين. - الصيحة الصادقة لا تصدر إلا عن صريح. - ذو الوجهين يفر من الصراحة فيقع في النفاق. - الصراحة وضوح مع النفس ومع الناس.

الفصل الرابع الألفة

الفصل الرابع الألفة

«.. ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف». أن تكون متَّصِفًا بخلق الألفة أمرٌ يقتضي منك من سَعَة الصدر ما تحب به الناس، ومن حسن الخلق ما يجعل الناس يحبُّونك، فتكون بذلك سببًا من أسباب اجتماع الكلمة، ووحدة الصف، وترابط القلوب، وعندئذٍ تكون بحق أليفًا ومألوفًا. ربط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلق (الألفة) بالإيمان، فقال: (المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمَن لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفهم للناس) (¬1)، ولذلك فإن عدم الألفة من صفات المنافقين كما جاء في الحديث: (إن للمنافقين علامات يُعرفون بها: مستكبرين لا يألَفون ولا يُؤلَفون) (¬2). إن الاجتماع على الحب في الله، وائتلاف القلوب على الطاعة، وخلوصها من نوازع الجاهلية، لنعمة كبيرة تستحق لفت الأنظار إليها؛ للمحافظة عليها، وعدم التفريط فيها، فقد قال تعالى: {... وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ ...} [آل عمران: 103]. ويشير القرطبي إلى لفتةٍ طيبة حول مطلع الآية: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ...} [آل عمران: 103]، فيقول: (وليس فيه ¬

(¬1) سلسلة الأحاديث الصحيحة - الحديث 426 (حسن). (¬2) مسند أحمد 2/ 293 - في سنده عبد الملك بن قدامة الجحي: وثقه ابن معين وغيره، وضعفه الدارقطني وغيره (حاشية جمع الفوائد 2/ 403).

دليل على تحريم الاختلاف في الفروع، فإن ذلك ليس اختلافًا؛ إذ الاختلاف ما يتعذر معه الائتلاف والجمع، ومازالت الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث وهم مع ذلك متآلفون) (¬1)، فلا يظن أحدنا أن الإصرار على إثبات قول راجح أولى من الحرص على دوام الألفة، ويُؤكِّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى بقوله: «اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فيه فقوموا» (¬2)، سواء كان الاختلاف في فهم معناه أو طريقة أدائه، فالقيام من مجلس الخلاف هو اللائق بالمؤمنين. ولقد كان من أكبر نعم الله في بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن ألَّف به بين قوم قَوِيت بينهم العصبيات، ولذلك قال في خطبته في الأنصار بعد حنين: «يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضُلاَّلًا فهداكم الله بي، وعالةً فأغناكم الله بي، ومتفرِّقين فألَّفكم الله بي» (¬3). وهكذا شأن المسلم يؤلف بين المتفرقين ويأتلف حوله المحبون. قد تستطيع أن تجمع الناس حولك بعَرَضٍ من الدنيا، ولكنك لا تستطيع أن تجعلهم لُحمةً واحدة وجسدًا متماسكًا إلا بتوفيق من الله يسكب الألفة في القلوب فيجمعها على هدف واحد، {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ...} [الأنفال: 63]. ويرى صاحب الظلال صورةً من الإعجاز في التأليف بين قلوب ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن 4/ 159. (¬2) أخرجه البخاري ومسلم (جامع الأصول 2/ 470 - الحديث 932). (¬3) صحيح البخاري - كتاب المغازي - باب 56 - الحديث 4330 (الفتح 8/ 47).

الجيل الأول: (ولقد وقعت المعجزة التي لا يقدر عليها إلا الله، والتي لا تصنعها إلا هذه العقيدة، فاستحالت هذه القلوب النافرة وهذه الطباع الشموس إلى هذه الكتلة المتراصة المتآخية، الذَّلول بعضها لبعض، المحب بعضها لبعض، المتآلف بعضها مع بعض، بهذا المستوى الذي لم يعرفه التاريخ) (¬1). وصاحب الألفة بما يناله من رضا الله وحب ملائكته، «يوضع له القبول في الأرض» (¬2)، وقد قيل في شرح الحديث: (المراد بالقبول الحب في قلوب أهل الدين والخير له، والرضا به، واستطابة ذكره في حال غيبته كما أجرى الله عادته بذلك في حق الصالحين من سلف هذه الأمة ومشاهير الأئمة) (¬3). ولا تعارض بين تألف الناس وبين المحافظة على الهيبة والاحترام، إذا أحسن المسلم التصرف ووازن بين المواقف؛ ولذلك نجد في وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (مَن رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه) (¬4). وخيار الناس في نظر الشرع هم الذين يألفون ويؤلفون، وخاصة حين يكونون في منصب أو مسؤولية؛ إذ قد يَنْزَلقون إلى صور من الغلظة والجفوة حين يكونون مطلوبين لا طالبين. ولذلك يقول - صلى الله عليه وسلم -: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ¬

(¬1) في ظلال القرآن 3/ 1548. (¬2) صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق - باب 6، صحيح مسلم: كتاب البر 157. (¬3) دليل الفالحين 2/ 269. (¬4) رواه الترمذي في المناقب برقم 3641 و 3642 وهو حديث حسن (جامع الأصول 11/ 225 برقم 8784).

وتُصلُّون عليهم ويُصلُّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تُبغِضونهم ويُبغِضونكم، وتلعَنونهم ويلعنونكم» (¬1)، وفي رواية لأحمد: «خياركم وخيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ..» (¬2). وللألفة أسباب تقويها، وصفات تنميها، ومنها حسن التعارف بالخلطة والمعاشرة، كما أن مشاعر الانقباض وعدم الارتياح قد تنشأ من الانكماش عن الناس والفتور في معالمتهم، وربما كان هذا ما أراده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف ائتلف، وما تناكر منها اختلف» (¬3). كما أن إشاعة البسمة وإفشاء السلام من عوامل قوة الألفة وزيادة المحبة كما في الحديث: «أَوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم» (¬4). وفي التعفُّف عما في أيدي الناس كسب لقلوبهم وضمان لخلوص محبتهم «وأزهد فيما أيدي الناس يحبك الناس» (¬5). إن الإحسان إلى غير المسلمين من (المؤلَّفة قلوبهم) إنما شرع لتحبيبهم في الإسلام وجذبهم إليه، واستنقاذهم من دائرة الشرك، ¬

(¬1) رواه مسلم في الإمارة باب خيار الأئمة وشرارهم برقم 1855 (جامع الأصول 4/ 66 برقم 2048). (¬2) مسند أحمد 6/ 28. (¬3) صحيح البخاري - الأنبياء باب 2 - الحديث 4330 (فتح الباري 8/ 47) ورواه مسلم برقم 1061. (¬4) صحيح مسلم - الإيمان باب 22 - الحديث 54. (¬5) صحيح سنن ابن ماجه للألباني برقم 3310/ 4102 (صحيح).

والإحسانُ إلى أخيك وتأليفُ قلبه أولى وأجدر لتحافظ على مَن دخلوا في الإسلام ألا ينفروا منه ويرتدوا على أدبارهم، وقد تحاول أن تتألفه بعد نفورِه فلا يستجيب فتبوء بإثمك وإثمه، وقد ترجَم البخاري لباب (الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم) (¬1). وكلما ازدادت الألفة ارتفعت الكُلْفة، وقوِيت الرابطة بين أبناء الجسد الواحد وأمة البنيان المرصوص، ونكون عندئذٍ أقدر على دفع الأهواء، ونَبْذ الخلافات، وصد مكائد الكائدين. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - الألفة حب للناس وتحبب إليهم. - المنافقون لا يألفون ولا يؤلفون. - الخلافات الفقهية لا تنقضُ الألفة. - الداعية يؤلف بين المتفرقين ويأتلف حوله المحبون. - إن لم تكن الألفة بالله ولله فلن تدوم. - لا تعارض بين تألف الناس والمحافظة على الهيبة. - خير الأمراء مَن يحب رعيته وتحبه. - تأليف القلوب مطلوب مع غير المسلمين. - بازدياد الألفة ترتفع الكلفة. ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الجهاد - باب 100 (فتح الباري 6/ 107).

الفصل الخامس التنافس الشريف

الفصل الخامس التنافس الشريف

«وفي ذلك فليتنافس المتنافسون». ليس عجيبًا أن يفوق امرؤ أخاه في علمٍ أو خبرة، أو في أي مجال من مجالات الحياة، كما أنه ليس من المستهجَن أن يسعى الأدنى للحاق بالأعلى، وأن يبذل جهدَه للتفوق عليه، في حدود ابتغاء رضا الله، والسلامة من آفات الكبر والعُجْب والرياء، وبقيد طهارة المشاعر القلبية، ونقاء العلايات الأخوية، وبضابط الإنصاف، والعدل في التقويم، للنفس وللآخرين، بحيث يؤدي ذلك كله في النتيجة إلى تحقيق مصلحة إسلامية عليا، بعيدًا عن هوى النفس وتقديس الذات. حين تتفشى المنافسة الشريفة تكون وقودًا للهمم، ومحرضًا على البذل المتواصل، وسبيلًا لتوجيه الأبصار إلى أعمال الخير، التي يُفَجِّرُ التنافس فيها مزيدًا من الخير للفرد والمجتمع، حتى يصبح الفرد من هذه الأمة يتطلع دائمًا إلى الأسمى، وكيف يرضى بالدون؟! وهو الذي يطمح أن يجعله الله للمتقين إمامًا، وهو الذي يتطلَّع إلى الفردوس الأعلى وصحبة النبيين والشهداء والصالحين، وهو الذي يرجو أن يكون من السابقين بالخيرات: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61]، {... فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ ...} [البقرة: 148]. {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]. ومن ذلك التنافس الشريف ما جاء في الحديث الشريف عن القائم والمنفق: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن، فهو

يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جارٌ له، فقال: ليتني أُوتِيت مثلما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالًا، فهو يُهلِكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل» (¬1). يقول ابن حجر: (وأما الحسد المذكور في الحديث فهو الغبطة، وأطلق الحسد عليها مجازًا، وهي أن يتمنَّى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه، والحرص على هذا يسمى منافسة فإن كان في الطاعة فهو محمود) (¬2). ومن صور ذلك التنافس الشريف المسابقة إلى صور من العبادة، قد لا يصبر على المداومة عليها إلا السابقون، وذلك كالأذان والصف الأول والتبكير إلى الصلوات، والحرص على جماعتي العشاء والفجر، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتَوْهما ولو حبوًا» (¬3). ومن الصور العملية لذلك التنافس الشريف ما يكون بين الأنداد من التسابق في الخير، كالذي كان من المسابقة في البِرِّ بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ومن ذلك أنهما سمعا ثناء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قراءة ابن مسعود، بقوله: «مَن سرَّه أن يقرأ القرآن غضًّا كما أنزل ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب فضائل القرآن - باب 20 - الحديث 5026 (فتح الباري 9/ 73). (¬2) فتح الباري 1/ 167 - من شرح باب 15 من كتاب العلم. (¬3) صحيح البخاري - كتاب الأذان - باب 9 - الحديث 615 (فتح البراري 2/ 96).

فليقرأه من ابن أم عبدٍ» (¬1)، فبادر عمر ليلًا لينقل البشرى لابن مسعود، فقال ابن مسعود: (ما جاء بك هذه الساعة؟ قال عمر: جئت لأبشرك بما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن مسعود: قد سبقك أبو بكر - رضي الله عنه - قال عمر: إن يفعل فإنه سباق بالخيرات، ما استبقنا خيرًا قط إلا سبقنا أبو بكر) (¬2). ومثل هذه الصورة تكرَّرت عندما طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صحابته أن يتصدَّقوا، يقول عمر: ووافق ذلك عندي مالًا فقلت: اليوم أسبق أبا بكر - إن سبقته يومًا - فجئتُ بنصف مالي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أبقيت لأهلك؟»، قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: «يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، عندئذٍ قال عمر: لا أسبقه إلى شيء أبدًا» (¬3). هكذا يكون التنافس بين الأنداد بحب واحترام، وليس بالحقد والامتهان، أما التنافس غير الشريف، فيبدأ فيما بيَّنه النووي في شرح مسلم: (قال العلماء: التنافس إلى الشيء المسابقة إليه، وكراهة أخذ غيرك إياه وهو أول درجات الحسد، وأما الحسد فهو تمني زوال النعمة) (¬4). ومثل ذلك ما بيَّنه ابن حجر: (... والتنافس من المنافسة: وهي الرغبة في الشيء، ومحبة الانفراد به، والمغالبة عليه) (¬5). وفي موضع ¬

(¬1) صحيح ابن ماجه للألباني - المقدمة - باب 11 - الحديث 114/ 138 (صحيح). (¬2) مسند أحمد 1/ 38 عن عمر بن الخطاب، وصحح أحمد شاكر إسناده في تعليقه على المسند (265). (¬3) صحيح سنن الترمذي - كتاب المناقب - باب 41 - الحديث 2902/ 3939 (حسن). (¬4) شرح صحيح مسلم 18/ 308 من شرح الحديث (7) من كتاب الزهد. (¬5) فتح الباري 11/ 245 - من شرح الباب 7 من كتاب الرقاق.

آخر قال عن الحسد: (الحسد تمني الشخص زوال النعمة عن مستحق لها - أعم من أن يسعى في ذلك أولًا - فإن سعى كان باغيًا، وإن لم يسعَ في ذلك، ولا أظهره، ولا تسبب في تأكيد أسباب الكراهة التي نُهِيَ المسلم عنها في حق المسلم، نُظر: فإن كان المانع له من ذلك العجز؛ بحيث لو تمكن لفعل، فهذا مأزور، وإن كان المانع له من ذلك التقوى، فقد يعذر؛ لأنه لا يستطيع دفع الخواطر النفسانية، فيكفيه في مجاهدتها ألا يعمل بها، ولا يعزم على العمل بها) (¬1). وأحيانًا تصيب المرء مشاعر لا يملك مدافعتها، فأقل ما يعمله إيقافها عند حد الأمان كما في الحديث: «ثلاث لا يسلم منها أحد: الطيرة والظن والحسد، قيل: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ» (¬2). وعن الحسن البصري قال: (ما من آدمي إلا وفيه الحسد، فمَن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظلم، لم يتبعه من شيء) (¬3). ويوضح القرطبي الحسد المذموم بقوله: (فالمذموم أن تتمنى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم، وسواء تمنيت مع ذلك أن تعود إليك أو لا .. وإنما كان مذمومًا؛ لأن فيه تسفيه الحق سبحانه، وأنه أنعم على من لا يستحق!) (¬4). ¬

(¬1) فتح الباري 10/ 482. (¬2) أدرجه ابن حجر في الفتح 10/ 482 ولم يعقب عليه، وفي ضعيف الجامع بألفاظ مقاربة عن الحسن مرسلًا برقم 2526. (¬3) فتح الباري 10/ 482 من شرح الحديث 6064 من باب 57 من كتاب الأدب. (¬4) الجامع لأحكام القرآن 2/ 71 من تفسير الآية {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ...} [البقرة: 109].

وهذا التنافس الذي قد يؤول إلى الحسد، هو الذي توقعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فتحت على المسلمين فارس والروم فقال: ... «... تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون ثم تتباغضون ...» (¬1)، وهو المنهي عنه في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تحسَّسوا ولا تجسَّسوا، ولا تنافسوا ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا» (¬2). وأخشى ما يخافه المرء على نفسه، أن ينزلق إلى التنافس في المعاصي، أو التنافس على الدنيا وزينتها، وقد حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته من هذا المنزلق فقال: «إني فرطكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها» (¬3). ولما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسارعة الناس عندما علموا بقدوم أبي عبيدة بأموال من اليمن قال لهم: «فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من قبلكم، فتنافسوها، كما تنافسوها، وتلهيكم كما أَلْهَتهم» (¬4). إن مجتمعًا شأنه التنافس الشريف، يتسابق فيه الأطفال ليشاركوا في القتال، وتتسابق فيه النسوة لخدمة المجاهدين، ويتبارى فيه الناس فيما يحفظون من كتاب الله، وفيما يعملون به من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب الزهد - باب 7 - الحديث 2962 (شرح النووي 9/ 308). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب 57 - الحديث 6064 (فتح الباري 10/ 481). (¬3) صحيح البخاري - كتاب الرقاق - باب 7 الحديث 6426 (فتح الباري 11/ 243). (¬4) صحيح البخاري - كتاب الرقاق - باب 7 - الحديث 6425 (فتح الباري 11/ 243).

وحين يُفقد مثل هذا الجو النظيف، يكون التنافس في الاستكثار من المتاع، وفي التهافت على كل جديد، حتى يصيب أحدَهم انتفاشةٌ جوفاء، إن هو حاز على شيء من الدنيا، لم يسبقه إليه غيره. والأخطر من هذا كله تنافس الكسالى والبليدين، الذين ينتظرون أن تُصب نعم الله عليهم صبًا، رغم بَلادتِهم وضعف هممهم، وإن لم تغمرهم هذه النِّعم وهم قاعدون، حرَّكتهم همة الشر للكيد لمن يعملون، والتشفي بمن يفوقهم، والحسد لمن سبقهم، والحقد على من أنعم الله عليه مما لم يُنعم عليهم، وقد حذَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، حالقة الدين لا حالقة الشعر، والذي نفس محمد بيده لا تُؤمِنوا حتى تحابوا، أفلا أُنبِّئكم بشيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» (¬1)، والسلام الحقيقي هو الارتياح القلبي المتبادل، وما التحية إلا مظهرًا من مظاهره. وحين يشيع مجال التنافس في الخيرات، لا يتطلَّع المرء إلا للَّحاق بمن يفوقُه ورعًا وعبادةً، ودعوةً وجهادًا، والذي يمدُّون أعينهم إلى ما متَّع الله به بعض خلقِه، فتحدثهم أنفسهم أن يسابقوهم في الاشتغال بالتكاثر من النِّعم، أو بالنظر إليهم نظرة الحسد المقيت، يردهم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «انظُروا إلى مَن أسفلَ منكم، ولا تنظروا إلى مَن هو فوقكم؛ فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم» (¬2). ¬

(¬1) مسند أحمد 1/ 165 وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم 2038/ 2641 وحسنه الأرناؤوط (جامع الأصول 3/ 626). (¬2) صحيح مسلم - كتاب الزهد - الحديث 9/ 2963 (شرح النووي 9/ 309).

ومن أقوال العلماء التي استشهد بها النووي في فهم الحديث: «قال ابنُ جَرير وغيره: هذا حديث جامع لأنواع من الخير؛ لأن الإنسان إذا رأى مَن فُضِّل عليه في الدنيا، طلبت نفسُه مثل ذلك، واستصغر ما عنده من نعمة الله تعالى، وحرص على الازدياد، ليلحق بذلك أو يُقارِبه، هذا هو الموجود في غالب الناس، وأما إذا نظر في أمور الدنيا إلى من هو دونه فيها، ظهرت له نعمة الله تعالى عليه، فشكرها وتواضع، وفعل فيه الخير» (¬1). وهذا الصنف من الناس أشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما سئل: أي الناس أفضل؟ قال: «كل مخموم القلب، صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غلَّ ولا حسد» (¬2). ولا يكتمل الإيمان في قلب من انجرف به التنافس غير الشريف إلى الحسد كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «.. ولا يجتمعان في قلب عبد: الإيمانُ والحسدُ» (¬3). وللحسد عواقب وَخِيمة على الحاسد قبل غيره، وفي بيان بعض عواقب الحسد يقول القرطبي: (والحسد مذموم، وصاحبه مغموم، وهو يأكل الحسنات، وقال الحسن: ما رأيتُ ظالمًا أشبه بمظلوم من حاسد؛ نَفَسٌ دائم، وحزن لازم، وعَبرة لا تنفد. وقال عبد الله بن مسعود: لا تُعادُوا نعم الله، قيل له: ومن يعادي نعم الله؟ قال: الذين ¬

(¬1) شرح النووي لصحيح مسلم 9/ 308 - 309 من شرح الحديث 9 من كتاب الزهد. (¬2) صحيح سنن ابن ماجه للألباني - كتاب الزهد - باب 24 - الحديث 3397/ 4216 (صحيح). (¬3) صحيح سنن النسائي للألباني - كتاب الجهاد - باب 8 - الحديث 2912 (حسن).

يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ...) (¬1). وما شُرِعت الاستعاذة من {شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (¬2)، إلا لما يدفعه إليه تنافسه غير الشريف: من كيد، ومكر، وحيلة، ووقيعة، وما ذنب المحسود إلا الله فضَّله ببعض نعمه، أو وفَّقه لاغتنام وقته وقدراته، إلى أن حاز قدم السبق، وصار محطَّ الأنظار. يقول الشوكاني: (ومعنى إذا حسد: إذا أظهر ما في نفسه من الحسد، وعمل بمقتضاه، وحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود) (¬3). وقد تتكرَّر قصة ابني آدم: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} [المائدة: 27]، والسعيد مَن ثبَّته الله على ألا يقابل الإساءة بالإساءة كما فعل ابن آدم الأول حين قال: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 28]، وتتكرَّر القصة في أبناء آدم حسدًا على دنيا، أو غيرة من صلاح وهمة أو غير ذلك. ومن أقبح الحسد: ما يكون من المنعَّمين والسبَّاقين في كثير من مجالات الحياة، وكأنما يريدون احتكارها لأنفسهم. يقول صاحب الظلال: (إنه لمن آلام الحسد: أن يحسد ذو النِّعمة الموهوب، لقد يحسد المحروم ويكون الحسد منه رذيلة، أما أن يحسد المغمور بالنعمة فهذا هو الشر الأصيل العميق ..) (¬4). ¬

(¬1) هذه الأقوال منقولة من الجامع لأحكام القرآن 5/ 251 من تفسير الآية 55 من سورة النساء. (¬2) من الآية (5) من سورة الفلق. (¬3) فتح القدير الشوكاني 5/ 521 عند تفسير سورة الفلق. (¬4) في ظلال القرآن 2/ 683 من ظلال الآية 55 من سورة النساء.

ومن أبواب السقوط في التنافس غير الشريف: ما يكون بين الأنداد والمتشابهين من علماء الفن الواحد، أو المهنة الواحدة، أو المنزلة الاجتماعية، أو المرتبة الإدارية؛ حيث يتتبَّع كل واحد سقطات الآخر، بدلًا من أن يُعمل الفكر والجهد لتقديم الأنفع والأصلح والأبدع. ويشخِّص ابن قدامة المقدسي هذا المرض، فيقول: (تعلم أن النفس قد جُبِلت على حبِّ الرفعة، فهي لا تحب أن يعلوها جنسها، فإذا علا عليه شق عليها، وكرِهَته، وأحبَّت زوال ذلك ليقع التساوي، وهذا أمر مركوز في الطباع، فأما إن أحب أن يسبق أقرانه، ويطلع على ما لم يُدرِكوه، فإنه لا يأثم بذلك، لإنه لم يؤثر زوال ما عندهم عنهم، بل أحب الارتفاع عنهم؛ ليزيد حظه عند ربه) (¬1). والأمر خطير يحتاج إلى ضبط المشاعر، وتنقية القلب، وإخلاص القصد لئلا يخرج هذا التنافس عن الحدّ المحمود إلى الحسد والتباغض. ومن بشرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحاب التنافسِ الشريف، والبراءةِ من التحاسد: أن أول زمرة يدخلون الجنة «قلوبهم على قلب رجل واحد؛ لا تباغض بينهم ولا تحاسد» (¬2). ولا يمكن أن يتماسك مجتمع الساعين لاستئناف المجتمع الإسلامي الكبير، ما لم يتطهر مجتمعهم الصغير الناشئ من الكيد والتحاسد، وما لم يستنزف جهودَهم التنافسُ في الخيرات. ¬

(¬1) مختصر منهاج القاصدين ص 202. (¬2) صحيح البخاري - كتاب بدء الخلق - باب 8 - الحديث 3254 (فتح الباري 6/ 320).

خلاصة هذا الفصل وعناصره: • التفاوت بين الناس أمر قدري وطبيعي. • المنافسة الشريفة تُحرِّك الهمم إلى الخيرات. • أكثر ما يكون التنافس في الطاعات البدنية والمالية. • قدَّم الصحابة رضي الله عنهم أطهر صور التنافس بين الأنداد. • الخطورة أن ينقلب التنافس إلى التحاسد. • أكثر ما يكون التحاسد بعد انفتاح الدنيا على الناس. • المجتمع النظيف يعم فيه التنافس الشريف. • الإيمان والحسد لا يجتمعان في قلب عبد. • شر الحاسد ما يدفعه إليه حسده من كيدٍ ومكر. • من أقبح الحسد: - ما يكون من حسد المنعّم لمن دونه. - ما يكون بين الأنداد في العلم والمنزلة. • أول زمرة يدخلون الجنة، لا تباغض بينهم ولا تحاسد. ****

الفصل السادس التعاون

الفصل السادس التعاون

{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} الأصل في مجتمع المسلمين أنه مجتمعُ تعاونٍ وتكاتف وتعاضد، ولكن باتجاه الخير والبر والتقوى، وبعيدًا عن الشر والإثم والعدوان. وطالما يعيش الإنسان في المجتمعات البشرية، فإنه مدفوع لا محالة إلى صور من التعاون تعبر عن ولائه لأبناء مجتمعه، ومحتاج لا محالة إلى صور من التعاون تعبر عن ضعفه وعجزه، وعدم استغنائه بنفسه عن معونة من يعيشون حوله. من الصدقات التي يزكي بها المسلم يومَه ويتصدَّق بها على نفسه أنه «يعين ذا الحاجة الملهوف» (¬1)، «ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها، أو يرفع عليها متاعه» (¬2)، وإذا ما وجدت عظمًا في طريق الناس كان «رفعك العظم عن الطريق صدقة، وهدايتك الطريق صدقة، وعونك الضعيف بفضل قوتك صدقة، وبيانك عن الأرتم صدقة» (¬3).إن مجتمعًا يفشو فيه التعاون لا يضيع فيه أحد ولا يشتكي مخلوق، لأن كل واحد منهم عندئذٍ مقضي الحاجة، مُعانٌ على ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الزكاة - باب 30 - الحديث 1445 (الفتح 3/ 307). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الجهاد - باب 128 - الحديث 2989 (الفتح 6/ 132). (¬3) مسند أحمد 5/ 154.

الشدة، ويكون فيه «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا» (¬1). قال ابن بطال: «المعاونة في أمور الآخرة، وكذا في الأمور المباحة من الدنيا مندوب إليها» (¬2). وإن الذي يمنع عونه عن إخوانه قد يتخلى الله عنه حيث يحتاج إلى العون، ولذلك فقد جاء في الحديث أن من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم: «.. ورجل منع فضل مائِه، فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك» (¬3). وإن من رحمة الله بمَن يتولَّى أمرًا من أمور المسلمين أن يرزقه الله مَن يُعِينه على أمره ويساعده على القيام بواجبه وهو واجب من واجبات البطانة ندر من يقوم به في هذا الزمان. وقد جاء في الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزير صدق؛ إن نسي ذكَّره، وإن ذكَّر أعانه، وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء؛ إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يُعِنه» (¬4). إن مجرد دخول الإنسان في دائرة الإسلام يجعله مصونًا محفوظًا محمي الذمار مُقال العثرة. يذكر بلال - رضي الله عنه - عن نفقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف كانت، فكان فيما قاله: (.. وكان إذا أتاه الإنسان مسلمًا فرآه عاريًا؛ يأمرني فأنطلق فأستقرض، فأشتري له البردة فأكسوه وأطعمه ..) (¬5). ويدور الزمان ليغدو المسلم حربًا على أخيه ذي الشيبة ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب 36 - الحديث 6026. (¬2) فتح الباري 10/ 450. (¬3) صحيح البخاري - كتاب المساقاة - باب 10 - الحديث 2369 (الفتح 5/ 43). (¬4) صحيح سننن أبي داود - كتاب الإمارة - باب 4 - الحديث 2544/ 2932 (صحيح). (¬5) صحيح سنن أبي داود - كتاب الإمارة - باب 35 - الحديث 2628/ 3055 (صحيح الإسناد).

في الإسلام، وبدلًا من أن يسد خلته، ويرد فاقته، يحاربه في رزقه ويكون عونًا للشيطان عليه! فهل هكذا يكون البنيان الذي يشد بعضه بعضًا؟! إن من فوائد التعاون رفع الظلم عمن أريد به الشر، وقد جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: «الرجل يأتيني فيريد مالي؟ - يعني ماذا أفعل معه - قال: ذكَّره بالله، ولأن الرجل يعلم أن بعض النفوس لا يكفيها مجرد التذكير بالله قال: فإن لم يذكر؟ قال: فاستعِن عليه مَن حولك من المسلمين، قال: فإن لم يكن حولي أحد من المسلمين؟ قال: فاستعن عليه بالسلطان، قال: فإن نأى السلطان عني؟ قال: قاتِلْ دون مالك حتى تكون من شهداء الآخرة، أو تمنع مالك» (¬1). فالأصل أن يحال دون وقوع الظلم على الضعيف بعون المسلمين له من حوله وبعون السلطان والقضاء له لكيلا يضطر للمقاتلة بنفسه؛ حيث لا يجد معينًا، وإذا تُرك الناس ولم يُعانوا كثرت الخصومات وعظمت الثارات؛ لأنه لم يعُدِ المؤمن للمؤمن كالبنيان. وإذا كان الله - عز وجل - يتعهَّد ويتكفَّل بعون أصناف من عباده أفلا نتشرف بأن نكون سببًا لهذا العون وستارًا لقدر الله في قضاء حوائج الناس؟ ومن ذلك ما جاء في الحديث: «ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف» (¬2)، وكلها عون على حق بشري أن يعيش المرء ¬

(¬1) صحيح سنن النسائي - كتاب تحريم الدم - باب 21 - الحديث 3803 (حسن صحيح). (¬2) صحيح سنن الترمذي - كتاب فضائل الجهاد - باب 20 - الحديث 1352/ 1722 (حسن).

حرًّا، فيُعان المجاهد على التحرر من طغيان الطغاة والبغاة، كما يعان المكاتب على التحرر من ذل الرق، ويعان الشاب على التحرر من رق الشهوة، ويُحصَّن المسلم من كل صور الاستعباد والذل بتقديم العون له. وفي التعامل مع الخدم والرقيق وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى معاونة أحدهم على ما يقوم به من أمر الخدمة: «إخوانكم فأحسِنوا إليهم أو فأصلحوا إليهم، واستعينوهم على ما غلبكم، وأعينوهم على ما غلبهم» (¬1). وفي قصة تحرر سلمان برزت أسمى صور التعاون؛ حيث وجَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلمان للمكاتبة وقال للصحابة: «أعينوا أخاكم»، وكان سيده قد طلب منه ثلاثمائة نخلة يزرعها ومالًا يؤديه ليحرره، فتطوع كل منهم بثلاثين نخلة وبخمس عشرة نخلة وبعشر حتى سدَّدوا عنه ثلاثمائة نخلة، وأعانه الصحابة في الحفر لها، وأعانه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في زراعتها، ولما أُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل بيضة الدجاجة من ذهب في بعض المغازي دعا سلمان وقال له: «خذ هذه فأدِّ بها ما عليك ..» (¬2)، وبذلك أعتق سلمان - رضي الله عنه -. وكل ما يخطر على البال من صور التعاون بين المؤمنين يعمُّه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن نفَّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومَن يسَّر على مُعسِر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومَن ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، ¬

(¬1) مسند أحمد 5/ 58. (¬2) مسند أحمد 5/ 443.

والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه» (¬1). ولقد كانت النسوة تقدم خدماتها في ميادين الجهاد، ومن ذلك موقف نساء من بني غِفارٍ، أردن الخروج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر فقلن له: «يا رسول الله، قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا، فنداوي الجرحى، ونعين المسلمين بما استطعنا. فقال: على بركة الله» (¬2)، فإذا كان هذا شأن النساء في التعاون فهل يحجم الرجال؟! وأصحاب الأهداف العظيمة لا يصلون إلى أهدافهم بالجهود المتضادة المتنافرة، ولنا في ذي القرنين أسوةٌ حين قال لقومه: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف: 95]، فنتعاون بقوة للخير وعلى الخير، ولنخرج من دائرة الأنانية والاهتمامات الفردية، ولنعش مشاعر الأمة ذات الجسد الواحد. خلاصة هذا الفصل وعناصر: • الإنسان لا يستغنى عن التعاون مع أفراد مجتمعه. • كثير من صدقات المرء على نفسه إنما هي من صور التعاون. • من أبرك صور التعاون، التعاون مع الأمير الصالح. • حديثُ الدخول في الإسلام تقدم إليه خدمات تعاونية. • من أعظم التعاون: - التعاون في دفع الظلم. - في تجهيز الغازي. ¬

(¬1) صحيح سنن أبي داود - كتاب الأدب - باب 68 - الحديث 4137/ 4946 (صحيح). (¬2) مسند أحمد 6/ 380.

- في تزويج العزّاب. - في معاونة الخدم. - في تحرير الرقيق. • أثر التعاون في الدنيا يلاقيه صاحبه في الآخرة تنفيسًا وتيسيرًا. • المجتمع المتعاون يشترك جميع أفراده. * * *

الباب الرابع من أخلاقنا في الإمرة

الباب الرابع من أخلاقنا في الإمرة الفصل الأول: حُسْن الأسوة. الفصل الثاني: العدل. الفصل الثالث: التثبت. الفصل الرابع: أدب المطاوعة. الفصل الخامس: اصطفاء البطانة. ****

الفصل الأول حسن الأسوة

الفصل الأول حُسْن الأسوة

{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} يتطلع الناس إلى مَثَلٍ أعلى يقتدون به، ويقتَفون أثره، ويحذون حذوَه، وتربية الإسلام تنشئ في نفوس أتباعه السعي إلى معالي الأمور، والترفُّع عن سفسافها، والصعود نحو ذورة سنام الإسلام، ولذلك كان من دعاء عباد الرحمن: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]. وفي تفسير هذه الآية يوضح (مجاهد) المقصود بالإمامة هنا فيقول: (أئمة في التقوى؛ حتى نأتم بمن كان قبلنا، ويأتمَّ بنا مَن بعدنا) (¬1)، ومعنى ذلك أن صاحب الأسوة الحسنة متتبِّع لخطى الذين سبقوه في الخير، وقدوة لمن يلونه، فهو يرأس الناس في فعل الخير، ويقتدي الناس به، كما يتحرّى أن يقتدي بالصّالحين من سلف الأمة، وهذا ما يكون سبب الثقة به، وإتباعه، والتأسِّي به. وقد أكَّدت هذا المعنى تفاسير عديدة، ونقل ابن حجر عدة أقوال تؤيِّد هذا المعنى، وقد كان هذا حال سيد المجاهدين؛ إذ جعله الله أسوة لمن بعده، كما أمره الله أن يقتدي بمن سبقه من الأنبياء: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90]. وإن لم يكن الدعاةُ والهداة على هذا المستوى من الأسوة، حُرِموا الاستخلاف في الأرض، وهذا خليل الله إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الاعتصام - من ترجمة باب 2 (فتح الباري 13/ 248).

لَمَّا جعله إمامًا للناس يُقتدى به قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}، أخبره الله تعالى أن فيهم عاصيًا وظالمًا لا يستحق الإمامة فقال: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] (¬1)، فإذا أردنا أن يعيننا الله في إقامة الإمامة الكبرى، فلنستعِن بالله على أنفسنا؛ لنستأهل إمامة القدوة والتأسِّي. ورأس الأمر في إمامة الأسوة: أن ندعو الناس بأفعالنا قبل أقوالنا. يقول عبد الواحد بن زياد: «ما بلغ الحسن البصري إلى ما بلغ؛ إلا لكونه إذا أمر الناس بشيء يكون أسبقهم إليه، وإذا نهاهم عن شيء يكون أبعدهم عنه» (¬2)، ولما نبذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتَمَه الذهبي، نبذ الناس خواتمهم (فدل ذلك على أن الفعل أبلغ من القول) (¬3). إن صاحب الأسوة الحسنة يترك كثيرًا من المباح، احتياطًا لأمر دينه، وبعدًا عن الشبهات (¬4)، ويبتعد عن مواطن سوء الظنِّ؛ لأنها تُنفِّر الناس من الاقتداء به (وهذا متأكد في حق العلماء، ومن يُقتدى به، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلًا يوجب سوء الظنِّ بهم، وإن كان لهم فيه مخلص؛ لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم) (¬5)، كما قال ابن حجر. وإن الرجل القدوة لأشدُّ على أعداء الله من كل عُدَّة، ولذلك لَمَّا ¬

(¬1) عن تفسير القرطبي 2/ 107 عند تفسير قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124]. (¬2) نقلًا عن ممرات الحق 2/ 91، والمنطلق ص 255. (¬3) فتح الباري 13/ 275 من شرح الحديث 7298 من كتاب الاعتصام - باب 4. (¬4) في مدارج السالكين 2/ 26: (فالعارف يترك كثيرًا من المباح إبقاء على صيانته). (¬5) فتح الباري 4/ 280 عند شرحه لحديث (إنما هي صفية ..).

تمنَّى الناس (ذهبًا ينفقونه في سبيل الله) كانت قولة عمر - رضي الله عنه -: (ولكني أتمنَّى رجلًا مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله) (¬1). ولن يثق الناس بك، ولن يتأثَّروا بحديثك، وأنت ترتعُ في نعيم لا يجدونه، ولذلك كان سيدنا علي - رضي الله عنه - يحتاط لنفسه ولأعين الناس، فيلبس المرقع من الثياب، فلما اعترض بعضهم على لباس علي - رضي الله عنه -، أجابهم: (ما لكم وللَّباس، هو أبعد من الكبر، وأجدر أن يقتدي بي المسلم) (¬2)، وفي رواية قال: (يخشع به القلب، ويقتدي به المؤمن) (¬3). وإن الذي ينحدر للتَّسابق في الملذَّات؛ لن يرقى في سلَّم الطاعات؛ لأن القدوة تسابق في الخيرات، ومجاهدة للنفس إلى أن تحيا بنا دعوتنا؛ إذ (لا حياة لفكرة لم تتقمَّص روح إنسان، ولم تصبح كائنًا حيًّا، دب على وجه الأرض في صورة بشر) (¬4)، فلا ينسين الداعية أن الناس ينظرون إليه على أنه مثلهم الأعلى، الذي يرون في سلوكه مصداق ما يدعو إليه، فإن زلَّ زلوا معه، وإن عاد إلى الصواب بعد ذلك قد لا يعودون. إن من أبرز صفات الساعي لأن يكون للمتقين إمامًا: الحذر من سوء التصرف الذي قد يفتن بهم العامة، وقد يُلبِّس على مَن يحسنون الظن بهم، ولو كان الفعل في حدود ما تحتمله الاجتهادات الفرعية ¬

(¬1) نقلًا عن ممرات الحق (4/ 87). (¬2) مسند أحمد 1/ 91. (¬3) عن حياة الصحابة 2/ 709. (¬4) أفراح الروح لسيد قطب 25 - 26.

والرخص. ولذلك لمّا رأى ابن عباس أخاه عبيد الله صائمًا يوم عرفة حذّره بقوله: (إنكم أئمة يُقتدى بكم) (¬1)، ولما نهى عمر - رضي الله عنه - عنه عبدالرحمن بن عوف عن لبس الخفَّين في الحج - أخذًا بالرخصة في ذلك - لخشية عمر أن يتوسع الناس في ذلك، قال له: (عزمت عليك إلا نزعتَها، فإني أخاف أن ينظر الناس إليك، فيقتدون بك) (¬2)، ومثل هذا الموقف تكرر في استنكار عمر على طلحة حين رآه يلبس ثوبًا مصبوغًا وهو مُحرِم، فقال له: (إنكم - أيها الرهط - أئمة يقتدي بكم الناس) (¬3). إن أبا سفيان وهو على كفره حين سأله هرقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خشي أن يكذب وهو كبير قومه فيتناقلها الناس، فقال: (فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليَّ كذبًا لكذبت عنه) (¬4)، أفليس عباد الرحمن أجدر بتلك الرجولة وذلك الحياء. صاحب الإمامة وحسن الأسوة، لا يستأثر بدنيا على إخوانه، فإن للإمرة ضريبتَها، وللرجولة ثمنها، ولا تُنال الرفعة في الدين إلا بالمجاهدة، ولذلك حين جاءت فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشكو من تشقق يديها من الطحن بالرحى، وتطلب خادمًا فلم تُعطَ (¬5)، وكان - صلى الله عليه وسلم - يجوع حتى يضع الحجارة على بطنه؛ لتخفف من جوعه، وينام ¬

(¬1) مسند أحمد 1/ 346. (¬2) مسند أحمد 1/ 192. (¬3) موطأ مالك (1/ 326) الحديث 10 من كتاب الحج باب 4. (¬4) صحيح البخاري - كتاب بدء الوحي - باب 6 - الحديث 7 (فتح الباري 1/ 31). (¬5) صحيح البخاري - كتاب فضائل الصحابة - باب 9 - الحديث 3705 (الفتح 7/ 71).

على الحصير حتى يؤثر في جنبه (¬1)، وهكذا كان حال الصالحين الذين يعدُّون الإمارة مغرمًا لا مغنمًا. وكما تكون الإمامة والأسوة في الخير، فهنالك (أئمة يدعون إلى النّار) أي قدوة للضلال (¬2)، وكلا الطريقين متاح، فهل تكون أسوة هدى، أم قدوة ضلال؟ لقد كان الحرص على حسن الأسوة، والحذر من الميل عمّا كان عليه حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يدفع رجلًا مثل أبي بكر - رضي الله عنه - ليقول: (إني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ) (¬3)، وإن من سار في طريق المجاهدة لا يرتضي لنفسه أن يكون من الخلوف، الذين وصفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنهم: «يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون» (¬4)، وإنما يحرص على أن يكون من أتباع النبي الذين وُصفوا بأنهم: (يأخذون بسنته ويقتدون بأمره) (¬5)، وكما يقول مالك بن دينار: «إن العالم إذا لم يعمل بعلمه، زلَّت موعظته عن القلوب؛ كما يزلُّ القطر عن الصخرة الصماء» (¬6). ولا يليق بصاحب خلق (حسن الأسوة) أن يكون إمَّعة يسيء مع المسيئين، فقد روي عن ابن مسعود قوله:) وطّنوا أنفسكم: إن ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب المظالم - باب 25 - الحديث 2468 (الفتح 5/ 116). (¬2) كما في تفسير الألوسي 2/ 83 سورة القصص - الآية 41. (¬3) صحيح البخاري - كتاب فرض الخمس - باب 1 الحديث 3093 (فتح الباري 6/ 197). (¬4) أخرجه مسلم (جامع الأصول 1/ 326) الحديث 108. (¬5) نفس المرجع السابق. (¬6) عن ممرات الحق (2/ 300).

أحسن الناس أن تحسنوا، وإذا أساؤوا أن تتجنبوا إساءتهم ((¬1)، وكذلك وطنوا أنفسكم ألا يفتتن بكم إمعة من الرعاع، وألا يتخذكم غيركم رأسًا في الضلال، يقول ابن العربي في شرح قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ولا غدرة أعظم من غدرة إمام عامة» (¬2): (وإنما جعلها أعظم من الإمام؛ لأن متعلقاتها من المغرور به أكثر، ففحشت بكثرتها) (¬3). والرأس في الخير لا بد أن يقدم رأسه ثمنًا لرياسته، وأن يهون في نظره كل شيء في سبيل ثباته في مواقف الابتلاء، وقد سُجن البويطي - خليفة الشافعي - في فتنة خلق القرآن وقُيِّد بالسلاسل والأغلال، ولم يقبل أن ينطق بغير الحق ولو همسًا وهو يقول:) إنه يقتدي بي مائة ألف، ولأموتن في حديدي هذا؛ حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم ((¬4). فعسى إن كنا على مستوى حسن الأسوة والتأسي، أن يجعلنا الله أئمة ويجعلنا الوارثين، ويُمكِّن لنا في الأرض، ويجعلنا للمتقين إمامًا. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - عباد الرحمن يتطلعون لأن يكونوا للمتقين إمامًا. ¬

(¬1) مشكاة المصابيح 3/ 1418 صححه الألباني موقوفًا على ابن مسعود. (¬2) أخرجه الترمذي (جامع الأصول 11/ 747 برقم 9444) وحسنه الترمذي، وضعفه الأرناؤوط وقال: لبضع فقراته شواهد. (¬3) عارضة الأحوذي 9/ 42. (¬4) طبقات الشافعية 1/ 275 من ترجمة يوسف بن يحيى البويطي.

- صاحب الإمامة يقتدي بمن سلف ويكون قدوة لمن خلف. - الذين لا يكونون على مستوى الأسوة لا يُمكِّن لهم في الأرض. - صورة صاحب الإمامة: - يدعو بأفعاله قبل أقواله. - يبتعد عن الشبهات. - يتمناه الأمير الصادق. - زاهد في الدنيا. - الحذر من سوء التصرف لئلا يفتن به الناس. - التزام الصدق. - أخذ النفس بالعزيمة. - الخلوف يقولون ما لا يفعلون. - صاحب الأسوة يوطن نفسه على الإحسان وإن أساء الناس. - صاحب الأسوة معرَّض للبلاء.

الفصل الثاني العدل

الفصل الثاني العدل

{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} من أغراض الجهاد في الإسلام: إخراج الناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن دوافع الهجرة إلى الحبشة أن «فيها ملكًا لا يُظلم عنده أحد» (¬1)، ومن أهم مزايا دعوة الإسلام أنها نشرت العدل وعمَّمته. بالرجوع إلى كثير من نصوص القرآن التي تتحدث عن الظلم والظالمين، نجد أنها: نفت عنهم الفلاح، واستبعدتهم من أن ينالهم عهدُ الله، وبشَّرتهم بأن الله لا يحبهم، ولا يزيدهم إلا خسارًا، وحكمت عليهم بالخيبة وسوء العاقبة (¬2). وفي مقابل ذلك فإن لله اسمًا مشتقًّا من العدل، وهو الذي لا يظلم الناس مثقال ذرة، وأمر رسوله بالعدل، وعمَّم الأمر بالعدل على جميع عباده (¬3)، وجُعِل في مقدمة السبعة الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله (إمام عادل) (¬4). ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 321. (¬2) إشارة إلى الآيات التالية: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 21] {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 57]. (¬3) إشارة إلى قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]. (¬4) صحيح الجامع برقم 3603 (صحيح) وهو في الصحيحين.

كما جعل الإمام العادل من الثلاثة الذين لا تُرَد دعوتهم (¬1). ولكي تقوم حياة الناس على العدل، فقد ذكَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلم بأنه: «كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الناس صدقة» (¬2)، وربط عدله في الدنيا بمصيره في الآخرة، حيث يوضع الميزان، ويحاسب الناس بالقسطاس المستقيم، فأخبر - صلى الله عليه وسلم - بأن من المُنجِيات: «العدل في الغضب والرضا» (¬3)، وهذه أعلى مراتب العدل؛ إذ قد يعدل المرء في حال الرضا، ولكن يندر أن يعدل وهو غاضب أو ساخط أو كاره، وقد خصَّ الله أهل العدل في الدنيا، بإعلاء شأنهم في الآخرة، وتقريبهم منه سبحانه، كما في الحديث: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن - وكلتا يديه يمين -: الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما وُلُّوا» (¬4). والأمة المسلمة لا يشفع لها إسلامها في استحقاق التأييد من الله إذا كانت ظالمة، فمن أسباب التمكين في الأرض، والتأييد من الله، أن يُحال دون تفشِّي المظالم، وأن يعمَّ العدل حياةَ المسلمين، ولذلك يقول ابن تيمية: «إن الله يقيم الدولة العادلة - وإن كانت كافرة - ولا يقيم الدولة الظالمة - وإن كانت مؤمنة -» (¬5)، وكذلك فإن دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرًا؛ لأن فجوره لا يقتضي التعدي عليه بغير حق، ¬

(¬1) صحيح الجامع برقم 3064 (حسن) ونصه (ثلاثة لا يرد الله دعاءهم: الذاكر الله كثيرًا والمظلوم، والإمام المقسط). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الصلح - باب 11 - الحديث 2707 (الفتح 5/ 309). (¬3) سلسلة الأحاديث 4/ 416 الحديث 1802 (حسن). (¬4) صحيح مسلم - كتاب الإمارة - باب 5 - الحديث 1827 (6/ 452). (¬5) مجموع فتاوي ابن تيمية 28/ 146.

ولا غمط حق من حقوقه، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجرًا ففجوره على نفسه» (¬1). إن عدل الله عز وجل يسع البهائم مثلما يسع الناس، ومن الخير للعبد ألا يظلم مخلوقًا في الدنيا من إنسان أو حيوان، وأن يبادر إلى أداء الحقوق في هذه الدنيا مختارًا، قبل أن يقاد بها يوم القيامة، ولذلك يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لتُؤَدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة؛ حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» (¬2)، ولذلك فإن «مَن كانت عنده مظلمة لأخيه: من عرضه، أو شيء منه، فليتحلَّله منه اليوم، من قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه، فحمل عليه» (¬3)، كما في الحديث الصحيح. ومهما يكن المظلوم ضعيفًا، فإن الله ناصره، ومن له بالله طاقة حتى يتجرأ على ظلم العباد؟! فقد جاء في الحديث: «... ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزَّتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين» (¬4) فلا يتجرأنَّ ظالم إن أمهله الله؛ لأن الله ناصر كل مظلوم - ولو بعد حين - قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42] قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا ¬

(¬1) صحيح الجامع برقم 3382 (حسن). (¬2) أخرجه مسلم والترمذي (جامع الأصول 10/ 432 برقم 7960). (¬3) أخرجه البخاري (جامع الأصول 10/ 431 برقم 7958). (¬4) أخرجه الترمذي وحسنه ووافقه ابن حجر والأرناؤوط (جامع الأصول 4/ 145 برقم 2103).

أخذه لم يُفْلته»، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] (¬1). وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعلِّم أصحابه أن يدعوا ربهم بدفع الظلم عنهم، ووقايتهم من شرور كل ظالم؛ لينمي في نفوسهم بغض الظلم والظالمين، وليزرع في قلوبهم مشاعر العزة والكرامة، وقلما كان يقوم من مجلس حتى يدعو لأصحابه بمثل قوله: «واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا .. ولا تسلِّط علينا من لا يرحمنا» (¬2)، وفي حديث آخر دعاؤه: «ربِّ أعنِّي ولا تُعِن عليَّ، وانصرني ولا تنصر علي، واهدني ويسر الهدى إليَّ، وانصرني على من بغى عليَّ ...» (¬3)، أفلا يرتجف قلب الظالم من دعوة مظلوميه؟ أو لا تنبعث في نفوسنا دوافع رفع الظلم وإفشاء العدل والتواصي به؟ ومما يُفتن به الظالم الوجيه في قومه أنه لا يرى مَن يزجره، بل قد يجد مُن يُحسِّن له عدوانه، ويُبرره له بأنه عين الحكمة - كما هو شأن بطانة السوء في كل زمان - فليراجع كل ظالم نفسه إذا كان حريصًا على نجاته، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يكون أمراء فلا يُرَدُّ عليهم قولهم، يتهاتفون في النار يتبع بعضهم بعضًا» (¬4). وأولى بالبطانة أن تحضَّ على الخير، وتقف مع صاحب الحق، كما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين انتهر الصحابة أعرابيًّا اشتد على رسول الله في طلب دَينه، فقال ¬

(¬1) الحديث متفق عليه (جامع الأصول 2/ 195 برقم 671). (¬2) صحيح سنن الترمذي للألباني 3/ 168 برقم 2783/ 3749 (حسن). (¬3) صحيح سنن الترمذي للألباني 3/ 178 برقم 2816/ 3803 (حسن). (¬4) سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/ 398 برقم 1790 (حسن).

لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هلَّا مع صاحب الحق كنتم» (¬1). ومصداقية الداعين إلى الإسلام أمام أتباعهم، لا تكون إلا بإشاعة روح العدل، ومناصرة المظلومين، وقد قال أحد الدعاة معبّرًا عن هذا المعنى: (لم نسمع من الدعاة ولا من المتمسلمين، صيحات مدوِّية تشق آذان الظلمة، وتنادي بإنصاف العامل المفصول بغير حق، من أجل ذلك أخشى على الإسلام من المنتسبين إليه نفاقًا، والمحسوبين عليه صورة، أكثر مما أخشى عليه من أعدائه المجاهرين برفضه، والمعلنين الحرب على أهله) (¬2)، ولذلك تبرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشياطين الخرس؛ الذين يعينون على الظلم بسكوتهم عنه: «إنه سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم قصدّقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، وليس بوارد عليّ الحوض ..» (¬3). وتمام العدل حين يكون مع الصديق والعدو، كما علّمنا القرآن: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] وقد فقه يهود أن هذا العدل به تقوم السماوات والأرض، حين جاءهم عبد الله بن رواحة مبعوثًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لتقدير محصولهم من الثمار والزروع، وتقاسمها حسب ما تم الاتفاق عليه بعد فتح خيبر، فحاولوا رِشوة ابن رواحة ليرفق بهم، فقال لهم: «والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من أعدائكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبِّي إيَّاه وبغضي ¬

(¬1) صحيح سنن ابن ماجه 2/ 55/ برقم 1969/ 2426 (صحيح). (¬2) السلوك الاجتماعي في الإسلام ص 108. (¬3) أخرجه الترمذي والنسائي وحسنه الأرناؤوط (جامع الأصول 4/ 75 برقم 2061).

لكم علي ألا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض» (¬1). خلاصة هذا الفصل وعناصره: - اختيار الهجرة إلى الحبشة؛ لأنه لا يظلم فيها أحد. - الإمام العادل لا تُرَد دعوته ويظله الله في ظل عرشه. - من أعلى مراتب العدل أن يكون في الغضب والرضى. - ينصر الله الدولة الكافرة العادلة على ظلمة المسلمين. - الظلم مُستقبَح حتى مع البهائم. - التحلل من المظلوم في الدنيا قبل يوم الحساب. - الله يستدرج الظالمين فإذا أخذهم لم يفلتهم. - كثير من الأدعية تحمل النفرة من الظلم. - إذا لم يجد الظالم من يأخذ على يديه تمادى. - من العدل الوقوف مع صاحب الحق وإن كان وضيعًا. - من عوامل قبول الداعية وقوفه مع المظلومين. - تمام العدل أن يكون مع الصديق والعدو. **** ¬

(¬1) حياة الصحابة 2/ 108 - البداية والنهاية 4/ 199.

الفصل الثالث التثبت

الفصل الثالث التثبت

{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} قد انقطع الوحي الذي يكشف المنافقين والكاذبين، ولكن لم تنقطع الضوابط الشرعية والأصول الإسلامية للتبيُّن والتثبت، وما أحوج المؤمنين والدعاة - قادة وجنودًا - لأن يتدبروها ويتخلقوا بها! من أول مزالق عدم التثبت سوء الظن، ولذلك يقول الغزالي - رحمه الله -: (ليس لك أن تعتقد في غيرك سوءًا إلا إذا انكشفت لك بعيان لا يقبل التأويل) (¬1). ثم ينحدر الظن إلى مزلق آخر، وهو إشاعة ظنه ذاك، وقد نقل الشوكاني عن مقاتل بن حيان قوله: (فإن تكلم بذلك الظن وأبداه أثم) (¬2)، وحكى القرطبي عن أكثر العلماء: (أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز) (¬3)، وقال الغزالي: (اعلم أن سوء الظن حرام، مثل سوء القول، فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال، وهو بعين مشاهدة أو بينة عادلة) (¬4). يقول ابن قدامة: (فليس لك أن تظن بالمسلم شرًّا، إلا إذا انكشف أمر لا يحتمل التأويل، فإن أخبرك بذلك عدل، فمالَ قلبك إلى تصديقه، كنت معذورًا ... ولكن أشار إلى قيد مهم فقال: «بل ¬

(¬1) عن محاسن التأويل للقاسمي 15/ 5463. (¬2) عن فتح القدير للشوكاني 5/ 64. (¬3) عن فتح القدير للشوكاني 5/ 64 أيضًا. (¬4) عن محاسن التأويل 15/ 5463.

ينبغي أن تبحث هل بينهما عداوة وحسد؟) (¬1). ويروى أن سليمان بن عبد الملك قال لرجل: (بلغني أنك وقعت فيَّ وقلت: كذا وكذا، فقال الرجل: ما فعلت، فقال سليمان: إن الذي أخبرني صادق، فقال الرجل: لا يكون النمام صادقًا، فقال سليمان: صدقت، اذهب بسلام) (¬2). والفطن من يُميِّز بين خبر الفاسق وخبر العدل، ومن يفرق بين خبر عدل عن ندٍ له، أو عمّن يحمل له حقدًا، وبين شهادة العدل المبرَّأة من حظ النفس، ومن يميز بين خبر العدل وظن العدل، والظن لا يغني شيئًا، ومن يفرّق بين خبر دافعه التقوى، وخبر غرضه الفضيحة أو التشهير. والذي لم يتخلق بخلق (التثبت) تجده مبتلًى بالحكم على المقاصد والنويات والقلوب، وذلك مخالف لأصول التثبت، يقول الشافعي - ووافقه البخاري -: (الحكم بين الناس يقع على ما يُسمع من الخصمين، بما لفظوا به، وإن كان يمكن أن يكون في قلوبهم غير ذلك) (¬3). ومن أخطر المزالق أن يحسن الأمير الظن برجل من الناس ليس أهلًا للثقة، ثم يكون أسيرًا لأخباره، أُذنًا لأقواله، يصغي إليه ويصدقه، يقول ابن حجر: (المصيبة إنما تدخل على الحاكم المأمون من قبوله قول من لا يوثق به، إذا كان هو حسن الظن به، فيجب عليه أن يتثبت في ¬

(¬1) مختصر منهاج القاصدين ص 172. (¬2) مختصر منهاج القاصدين ص 175. (¬3) عن فتح الباري 13/ 175 من شرح الباب 29 كتاب الأحكام.

مثل ذلك) (¬1). ومن أصول التثبت ألا يؤخذ أحد بالقرائن، طالما هو ينكر ولا يقرُّ وشواهد ذلك في السنة كثيرة، ومنها ما رواه ابن ماجة بسند صحيح عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة، لرجمتُ فلانة، فقد ظهر فيها الريبة، في منطقها وهيئتها ومن يدخل عليها» (¬2)، ومع ذلك فلم يرجمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنها لم تقر، ولم يقذفها بلفظ الزنا. وأكاد أجزم أن أهم أصول التثبت فيما يُنقل من أخبار: السماع من الطرفين، فقد أخرج أبو داود والنسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أرسل عليًّا - رضي الله عنه - إلى اليمن قاضيًا، فأوصاه: «... فإذا جلس بين يديك الخصمان، فلا تقضين حتى تسمع من الآخر، كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء» (¬3)، يقول علي - رضي الله عنه -: (ما شككت في قضاء بعد)، فكان الصواب حليفه بالتثبت، وكم زلَّت أقدام، ووقعت فتن بسبب عدم التثبت! يقول الشوكاني: (الخطأ ممن لم يتبين الأمر، ولم يتثبت فيه، هو الغالب، وهو جهالة ..) (¬4). وكم تجد من الناس مَن يُسارِع للشهادة على أمرٍ لم يفقَهْه، في حق امرئ لا يعرفه! ولذلك أفتى الحسن البصري تحريًا للتثبت: ¬

(¬1) فتح الباري 13/ 190 - كتاب الأحكام - باب 42. (¬2) صحيح سنن ابن ماجه 2/ 82 - كتاب الحدود باب 11 - الحديث 2073/ 2559 (صحيح) وروى الشيخان شطره الأول. (¬3) صحيح سنن أبي داود 2/ 684 الحديث 3057 (حسن). (¬4) عن فتح القدير 5/ 60.

(لا تشهد على وصية حتى تُقرأ عليك، ولا تشهد على مَن لا تعرف) (¬1). وليس من خلق المتثبت التسرع والعجلة، وإن - صلى الله عليه وسلم -، حين أرسل خالدًا - رضي الله عنه - للتحقق من عداوة بني المصطلق (أمره أن يتثبت ولا يعجل) (¬2) ولما أرسله إلى بني جذيمة، للتحقق من إسلامهم، فتعجل في القتل، قال - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» (¬3)، بل إن مما ذكر القاضي شهاب الدين الشافعي في كتابه (آداب القضاء): (وعليه - إن لم يتضح له الحق - تأخير الحكم إلى أن يتضح ..) (¬4). قال الشوكاني في تفسيره لآية التبين: (ومن التثبت: الأناة، وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع، والخبر الوارد، حتى يتضح ويظهر ...) (¬5). وإن سؤال العلماء ومشورتهم يسدِّد المتثبت، وقد نقل ابن حجر عن الشعبي - بسند جيد - قوله: (مَن سرَّه أن يأخذ بالوثيقة من القضاء، فليأخذ بقضاء عمر فإنه كان يستشير) (¬6) ولا تخافوا من المشورة فإنها تقربكم إلى الحق. ¬

(¬1) عن فتح الباري 13/ 144 - كتاب الأحكام - باب 15. (¬2) عن تفسير القرطبي 16/ 205 عند تفسير الآية 6 من سورة الحجرات. (¬3) صحيح البخاري - كتاب الأحكام - باب 35 - الحديث 7189. (¬4) آداب القضاء - ص 110. (¬5) فتح القدير 5/ 60 عند تفسير الآية 6 من سورة الحجرات. (¬6) فتح الباري 13/ 149 - من شرح باب 16 من كتاب الأحكام.

وكثيرًا ما يُتهم شخص بتهمة، فينفيها، أو يبين عذره فيها، ثم يستمر الحديث عنه والتحذير منه، فهل هذا من التثبت؟! إن حاطب ابن أبي بَلْتَعة حين صدر منه إفشاء سرِّ - صلى الله عليه وسلم -، طلب عمر أن تقطع عنقه، غير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استمع إليه، حتى إذا انتهى قال: «صدق. لا تقولوا له إلا خيرًا» (¬1). وكل مسلم ظاهره الصلاح صادق ولا نقول له إلا خيرًا، وإلا فإن الاتهام بغير تثبت سبب في كثير من المظالم، ولذلك كتب عمر بن عبدالعزيز إلى أحد أمرائه - عَدِي بن أرطأة أمير البصرة - في قتيل وُجد عند بيت ولم يُعرف قاتله: (إن وجد أصحابه بينة، وإلا فلا تظلم الناس، فإن هذا لا يقضى فيه إلى يوم القيامة) (¬2) بل جاء في الحديث المتفق عليه: «لو يعطى الناس بدعواهم، لذهب دماءُ قوم وأموالهم» (¬3). وإن الواحد من الصحابة على عدالته كان يُطالبَ - في الخصومات - بإحضار شهود أو الإدلاء ببيانات، أو القسم، ولم تكن عدالته لتشفع له في استقطاع شيء من حقوق الناس، أو مسِّ أعراضهم. وقد اشترط الشرع البينة دفعًا للاتهامات الرخيصة - غير المسؤولة - لئلا يبادر أحد إلى اتهام أحد إلا عن يقين، ولذلك حين قُتل صحابي وجد بين بيوت اليهود في خيبر، اتهم أصحابه اليهود في قتله، فطالبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبينة) قالوا: ما لنا بينة، قال: فيحلفون، ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب استتابة المرتدين - باب 9 - الحديث 6939. (¬2) صحيح البخاري - كتاب الدياث - من ترجمة الباب 22. (¬3) صحيح البخاري - كتاب تفسير - باب 3 - الحديث 4552.

قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود ((¬1)، فاضطر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدفع ديته مائة من الإبل، ولم يتهم اليهود بلا بينة. ولم يجعل الشرع لفاقد البينة إلا يمين خصمه - ولو كان الخصم غير ثقة عند المدعي - ويؤيد ذلك ما رواه مسلم في قصة الحضرمي المدعي على كندي؛ بأنه غصبه أرضه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا، قال: «فلك يمينه»، قال: يا رسول الله إن الرجل فاجر، لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء، فقال: «ليس لك منه إلا ذلك» (¬2)، ولم يعترض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على اتهام الرجل لخصمه بعدم التورع في الحلف؛ لأنه من كلام الخصوم بعضهم في بعض - كما بوّب البخاري في الخصومات - وعقب ابن جحر بقوله:) أي فيما لا يوجب حدًا ولا تعزيرًا فلا يكون ذلك من الغِيبة المحرَّمة ((¬3)، كما قال ابن حجر:) يمين الفاجر تسقط عنه الدعوى، ولولا ذلك لم يكن لليمين معنى ((¬4). وإن من التثبت: أن ترفض الاستماع إلى النمَّام، فقد جاء في مسند أحمد: «لا يبلغني أحدٌ عن أحدٍ من أصحابي شيئًا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» (¬5). ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الديات - باب 22 - الحديث 6898. (¬2) إرواء الغليل 8/ 257 من رواية مسلم - كتاب الإيمان - باب 61 الحديث 139. (¬3) فتح الباري 5/ 73 كتاب الخصومات - باب كلام الخصوم بعضهم في بعض. (¬4) فتح الباري 11/ 563 كتاب الأيمان والنذور - باب 17. (¬5) مسند أحمد 1/ 396 وأخرجه الترمذي وأبو داود (جامع الأصول 8/ 452 - الحديث 6222) ضعف الأرناؤوط إسناده - وأشار ابن الأثير الجزري إلى أن الشيخين رويا معناه.

فلا تجعلوا بطانتكم من النمَّامين، فإن مَن وشى إليكم اليوم يشي بكم غدًا، ومثله ليس أهلًا للثقة - لفسقه بالنميمة - وفي ذلك يقول ابن قدامة المقدسي:) لا تصدِّق الناقل، لأن النمَّام فاسق، والفاسق مردود الشهادة ((¬1)، فإن ركنتم إلى النمَّامين، وأصبتم إخوانكم بجهالة فلا تنسوا أن تصبحوا على ما فعلتم نادمين. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - بعد انقطاع الوحي لا بد من ضوابط للتبين. - من منزلقات عدم التثبت: - سوء الظن بغير بينة. - إشاعة هذا الظن. - الحكم على المقاصد والنوايا. - عدم التمييز بين خبر الفاسق وخبر العادل. - إحسان الظن فيمن لا يوثق به. - من أصول التثبت: - الاعتماد على إقرار المتهم وليس على القرائن. - الاستماع إلى الطرفين. - استشارة أهل العلم. - عدم الشهادة على ما لا نعلم بيقين. - عدم التسرع حتى يتضح الأمر. - لا يجوز التحدث عن شخص بتهمة لم تثبت عليه. - الاتهام بغير تثبت سبب كثير من المظالم. - الصحابة رغم عدالتهم كانوا مطالبين بالشهود والبيّنات. ¬

(¬1) مختصر منهاج القاصدين - ص 190.

- يمين المدعى يدفع عنه التهمة وإن لم يكن ثقة. - من التثبت عدم الاستماع إلى النمام. ****

الفصل الرابع أدب المطاوعة

الفصل الرابع أدب المطاوعة

«.. وتطاوعا ولا تختلفا». كلما كان المسلمون أقرب إلى قطف الثمرة كانوا أحوج إلى تقديم مصلحة الأمة على الأهواء الشخصية، فلابد أن يتنازل أحد الأطراف المختلفة؛ ليطاوع الطرف الآخر، مؤثرًا - رضي الله عنه -، وجلب الخير العميم، ودفع الشر العظيم. المطاوعة - في حقيقتها -: استعداد من كل طرف للتنازل للطرف الآخر، إذا وقع اختلاف على أمر ما، وليس المقصود بهذا التنازل الرجوع عن حق صريح واضح، وإنما هو لين جانب حينما يكون الاختلاف بين الحسن والأحسن، أو إرجاء المناظرة في الأمر المختلف فيه؛ إبقاء على المودة، وإيثارًا لصفاء القلب، فكل منهما طيع في يد أخيه، يتنازل هذا تارة، ويتنازل ذاك أخرى. وهذا الأدب كان واضحًا بين صحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وخاصة إذا خفي وجهُ الحق في مسألة اجتهادية، ولأننا بشر، فلا نستطيع أن نقطع لأنفسنا بصواب الرأي، وسداد البصيرة، ولابد من التوجه إلى الله؛ ليسدد الخطأ، ويثبت على الحق، وقد كان من دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قيامه: «اهدِني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» (¬1). ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب المسافرين - باب 26/ الحديث 770 (شرح النووي 3/ 203)

وأخطر ما يكون التنازع في مواقف الجهاد والدعوة، ولقد ترجم البخاري بابًا بقوله:) باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب (، واستشهد بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ وأبي موسى قبل إرسالهما إلى اليمن: «يسِّرا ولا تُعسِّرا وبشِّرا ولا تنفِّرا وتطاوعا ولا تختلفا» (¬1)، وكم يكون محرجًا؛ حين يتنازع داعيان فاضلان حول مسألة شرعية والناس بأعينهم ينظرون! وإنما يحتاج المؤمن لشجاعة التراجع عن الرأي المفرِّق، والتزام الرأي الجامع، وقد ذكر ابن حجر أن عليًّا وعمر - رضي الله عنه - كانا يُفتِيان بألا تُباع أم الولد، فقال عبيدة لعلي - رضي الله عنه -:) رأيك ورأي عمر في الجماعة، أحب إليَّ من رأيك وحدك في الفرقة ((¬2)، فتراجع علي عن فتواه، وقال:) اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الاختلاف ((¬3)، ونبذ الخلاف مقدم على الإصرار على تثبيت رأي أو وجهة نظر اجتهادية، وأما الحق المقطوع فيه، فيقدر الداعية الحكيم على إيصاله بحكمته، بعيدًا عن المشاجرة والخصومات. ولو أننا نتذكر حال المؤمنين في الجنة، لسعينا لأن نجعل رحلتنا في الدنيا صورة عن حياة أهل الجنة، الذين وصفهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «لا اختلاف بينهم ولا تباغض، وقلوبهم قلب واحد» (¬4)، ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُحذِّر من الوقوع في دواعي الاختلاف؛ ¬

(¬1) صحيح البخاري كتاب الاجتهاد - باب 164 الحديث 3038 (الفتح 6/ 126). (¬2) فتح الباري 7/ 73. (¬3) صحيح البخاري - كتاب فضائل الصحابة - باب 9 - الحديث 3707 (الفتح 7/ 71) (¬4) صحيح البخاري - كتاب بدء الخلق - باب 8 - الحديث 3245 (الفتح 6/ 318).

حتى لا تتنافر نفوس الأمة «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» (¬1)، ولذلك كان كثير من العلماء يحتفظون لأنفسهم بفتاوى لا يشيعونها بين الناس؛ لتفرُّدهم بها، ولخروجها عما اشتهر في المسألة حذرًا من فتنة العامة أو تشويش طلبة العلم. وكان من وصيته - صلى الله عليه وسلم - عندما يسوي صفوف الصلاة أن يقول: «استووا، ولا تختلفوا؛ فتختلف قلوبكم» (¬2)، حتى الاختلاف في صف الصلاة قد ينعكس أثره على تأجيج اختلاف القلوب، فلِينُوا في أيدي إخوانكم، وسوُّوا صفوفكم، واتَّبعوا إمامكم، لعله يترشح من ذلك ائتلاف قلوبكم. وكلما كان احتكامنا للشرع خالصًا نكون أبعد عن مهاوي الفرقة، وهذا ما يذكر المسلم به نفسهن وهو يدعو في تهجُّده: «اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت» (¬3). ويجب على عقلاء الأمة أن يكونوا عونًا في دفع كل خلاف، وفض كل نزاع، والمبادرة إلى الأخذ بما يوحد الصفوف، وقد صف سيدنا عمر اختلاف الناي فيمن يبايعون بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلى أن قال:) فكثر الغلط، وارتفعت الأصوات، حتى فرقت من الاختلاف، فقلت: ابسُطْ يدك يا أبا بكر، فبسط يده، فبايعته، وبايعه ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب الصلاة - باب 28 الحديث 432 (شرح النووي 2/ 398). (¬2) صحيح مسلم - كتاب الصلاة - باب 28 الحديث 432 (شرح النووي 2/ 398). (¬3) صحيح البخاري - كتاب التهجد - باب 19 - الحديث 1120 (الفتح 3/ 3).

المهاجرون، ثم بايعته الأنصار ((¬1)، وبهذا الموقف الجريء قضى على فتنة كان من الممكن أن تصدع صفوف المسلمين. ويعين على خلق المطاوعة: التزام حدود الشرع، وطاعة الأمير، وهذا ما وجه إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال: «.. ومَن يعِشْ منكم فسيري اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوًا عليها بالنواجذ ..» (¬2)، وكثيرًا ما يكون أمر أميرك - في عمل أو سفر - مخالفًا لما تميل إليه، فإن ذهب كل امرئ حسب هواه، فسنرى اختلافًا كثيرًا، وإن تطاوع كل امرئ مع أميره، وتنازل لرأيه، فتلك هي السنة. ولابد أن يتنادى المخلصون للقضاء على أي فتنة عند بوادر أي اختلاف، وهذا ما كان من حذيفة حين أخبر عثمان باختلاف الناس في قراءة القرآن، فقال له:) أدرِكْ هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى .. ((¬3). ولعل ما يحبب في المطاوعة، وينفر من الخصومة، استحضار ما ورد في الترهيب من اللجاجة والمراء والتنازع، فقد جاء في صفات المنافق أحاديث كثيرة منها: «.. وإذا خاصم فجر» (¬4)، و «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» (¬5)، وقد تعهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببيت في ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الحدود - باب 31 - الحديث 6830 (الفتح 21/ 144). (¬2) صحيح سنن ابن ماجه للألباني - مقدمة - باب 6 - الحديث 40/ 42 (صحيح). (¬3) صحيح البخاري - فضائل القرآن - باب 3 - الحديث 4987. (¬4) صحيح البخاري - كتاب الإيمان - باب 24 - الحديث 34 (الفتح 1/ 89). (¬5) صحيح البخاري - كتاب الأحكام - باب 3 - الحديث 7188 (الفتح 13/ 180).

رَبَض الجنة لمن يترك المراء والجدل وهو يعلم أنه على حق وصواب: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة، لمن ترك المراء وإن كان محقًّا» (¬1)، وهذه أعلى درجات المطاوعة. وإنما يكون هلاك الأمة باختلافها كما جاء في الحديث: «.. فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا» (¬2)، ولو تنازل بعضهم لما اختلفوا، ولما هلكوا، وقد كان القرن الأول في أسمى صور المطاوعة، ومن ذلك ما ورد أن عثمان - رضي الله عنه - صلى في منًى أربعًا فبلغ ذلك ابن مسعود - رضي الله عنه - فأزعجه ما سمع، ومع ذلك صلى معه أربعًا، فلما سئل عن ذلك قال: (الخلاف شر) (¬3)، ولما نُوقشت البيعة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال رجل من الأنصار: منا رجل ومنكم رجل، فقال عمر - رضي الله عنه -: (سيفان في غمد واحد؟! إذا لا يصطلحان) (¬4)، وهذا من فقه عمر - رضي الله عنه -. وإن النفوس العالية لتملك أن تعامل بسلامة الصدر مهما عظم الخلاف فقد قال علي - رضي الله عنه - في حق من خرجوا عليه يوم الجمل حين سئل عنهم: أكفار هم؟ أم منافقون؟ أم ماذا؟ فقال: (إخواننا بغوا علينا) (¬5) ولم يقبل أن يتهمهم بكفر أو نفاق، وقد كان ممن قاتله في معركة الجمل الصحابي طلحة - رضي الله عنه -، فكان يقول لعمران بن ¬

(¬1) أخرجه أبو داود وإسناده صحيح (جامع الأصول 11/ 734 برقم 9419). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الخصومات - باب 1 - الحديث 2410 (الفتح 5/ 70). (¬3) حياة الصحابة 2/ 9 (نقلًا عن الكنز 4/ 242). (¬4) سنن البيهقي 8/ 173. (¬5) طبقات بن سعد 3/ 224، وسنن البيهقي 8/ 173.

طلحة: (إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله عز وجل فيهم: {مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] (¬1)، أفلا نتخلق بالمطاوعة، والنفور من الاختلاف؛ لنكون إخوانًا في الدنيا والآخرة، ولتسلم صدورنا من تحريش الشيطان، ولتقوم للأمة دولة وسلطان. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - المطاوعة استعداد للتنازل عند الاختلاف. - لا نستطيع أن نقطع بصواب رأي اجتهادي. - من أوجب المواطن للمطاوعة مواقف الجهاد والدعوة. - نبذ الخلاف مقدم على الإصرار على إثبات رأينا. - لئلا يقع الخلاف نتجنب دواعيه. - من صور المطاوعة اللين في تسوية صفوف الصلاة. - يقضى على الخلاف باتخاذ رأي حازم والشروع فيه. - المخلصون يتنادون للقضاء على أي خلاف. - من عواقب البعد عن المطاوعة الوقوع في الخصومات والجدل. - الخلاف من أسباب هلاك الأمة. - مهما عظم الخلاف فلا ينبغي الخروج عن الإنصاف. **** ¬

(¬1) طبقات بن سعد 3/ 224، وسنن البيهقي 8/ 173.

الفصل الخامس اصطفاء البطانة

الفصل الخامس اصطفاء البطانة

«اللهم يسر لي جليسًا صالحًا». سواء أكنت رئيسًا أم مرؤوسًا، مأمورًا أم آمرًا، فلابد أن يكون لك أصحاب تقربهم إليك، وتستأنس بهم، وتشاورهم في كثير من أمورك، وهؤلاء هم بطانتك، وقد غلب استعمال لفظ «البطانة» مع الأمراء، وقد فسر ابن حجر البطانة: بالدخلاء، جمع دخيل: (وهو الذي يدخل على الرئيس في مكان خلوته، يفضي إليه بسره، ويصدقه فيما يخبره به مما يخفى عليه من أمر رعيته، ويعمل بمقتضاه) (¬1). كثيرًا ما نرى من أهل الصلاح من يزل زلات، إنما استدرجته إليها بطانة فاسدة، زينت له الباطل، وحجبت الحق عن عينيه، ومسؤولية أحدنا تبدأ من حسن الاختيار للأصحاب، فالصاحب دليل على صاحبه؛ إذ إن النفوس المتماثلة تتجاذب فيما بينها، كما بيَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل» (¬2)؛ لأن أية صحبة لا تخلو من تأثير وتأثر، وقد كان سلف الأمة يحرصون على الأنس بالجليس الصالح، والصاحب التقي، الذي يعني على الخير، ويزيل وحشة الغربة، وقد ورد عن علقمة أنه حين قدم الشام غريبًا دعا: (اللهم يسر لي جليسًا صالحًا) (¬3)؛ لأن الجليس الصالح يذكرك إذا ¬

(¬1) فتح الباري 13/ 190 - كتاب الأحكام - باب 42. (¬2) أخرجه أبو داود والترمذي وإسناده حسن (جامع الأصول 6/ 667 الحديث 4967). (¬3) صحيح البخاري - كتاب فضائل الصحابة - باب 20 الحديث 3743 (الفتح 7/ 91).

غفلت، ويعينك إذا تذكرت. والرسول - صلى الله عليه وسلم - بيَّن أنه ما من نبي، ولا خليفة، إلا ويقع بين دواعي بطانتين: «ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه» (¬1)، وفي رواية «وبطانة لا تألوه خبالًا» (¬2)، وإذا أردت أن تحتاط لأمر دينك، فمن البداية خذ بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باختيار صالحي المؤمنين لبطانتك: «لا تصاحب إلا مؤمنًا» (¬3) ثم لاحظ ما تراه من حرص أخيك على جلب الخير إليكن وعلى اتقاء مساءتك، فإن أفضلهم صحبة - كما في الحديث - أكثرهم حرصًا على جلب الخير إليك: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه» (¬4). وأولى الناس بالتقريب، هم أهل العلم والصلاح، ولذلك فقد كانت بطانة عمر - رضي الله عنه - من القراء، روى ابن عباس أنه: (كان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته - كهولًا كانوا أو شبانًا) (¬5)، وكلما كانوا من أهل العلم والتقوى كنت أبعد عن الزلل - بإذن الله - وقد توَّج البخاري أحد أبواب صحيحه بقوله: (وكانت الأئمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - يستشيرون الأمناء من أهل العلم ..) (¬6)، وفي فاتحة باب آخر ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الأحكام - باب 42 - الحديث 7198 (الفتح 13/ 189). (¬2) مسند أحمد 2/ 237. وقد صحح أحمد شاكر رحمه الله إسناده (7238). (¬3) أخرجه ابو داود والترمذي وإسناده حسن (جامع الأصول 6/ 666 الحديث 4966). (¬4) صحيح سنن الترمذي للألباني 2/ 184 الحديث 1586 (صحيح). (¬5) صحيح البخاري - كتاب التفسير - باب 5 - الحديث 4642 (الفتح 8/ 304). (¬6) صحيح البخاري - كتاب الاعتصام - من ترجمة باب 28 (الفتح 13/ 339)

ينقل عن علي وشريح قولهما في المرأة التي تدعي أنها حاضت في شهر ثلاثًا: (إن جاءت ببينة من بطانة أهلها - ممن يرضي دينه - .. صدقت.) (¬1)، فالمقياس صلاح دين الرجل، وليست معايير الطين والمادة، والذوبان في شخصية الصاحب. وإن كتمان العيوب عن الصاحب خيانة، والكيد لوقيعة من اصطفاك لبطانته جريمة، ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - استعاذ من ذلك: «.. وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة» (¬2)، وحين سأل ابن مسعود عن أيام الهرج متى تكون؟ أجابه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبرز فتن هذه الأيام. فقال: «حين لا يأمن الرجل جليسه» (¬3)، فهذا أمر يحتاج إلى التحري والاصطفاء البعيد عن الهوى؛ حتى يجد المرء من يأمنه، ومن يطمئن لصحبته. ومن مزايا البطانة - إذا صلَحت - أنها تَحُول دون شر كبير، وتحض على خير كثير، ومن خطورة البطانة - إذا فسدت - أنها قد تحسن القبيح، أو تقبح الحسن؛ بالوسوسة والتظاهر بالإخلاص، وقد وصف أشهب بطانة الحاكم بقوله: (وليكن ثقة مأمونًا فطنًا عاقلًا؛ لأن المصيبة إنما تدخل على الحاكم المأمون من قبوله قول من لا يوثق به، إذا كان هو حسن الظن به، فيجب عليه أن يتثبت في مثل ذلك) (¬4). ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الحيض - من ترجمة باب 24 (الفتح 1/ 424). (¬2) أخرجه أبو داود والنسائي - وهو حسن - (جامع الأصول 4/ 357 الحديث 2389). (¬3) مسند أحمد 1/ 448 وصححه أحمد شاكر في شرح المسند 6/ 143 برقم 4286. (¬4) فتح الباري 13/ 190 - كتاب الأحكام - من شرح الباب 42.

وقد رأينا في واقعنا أناسًا خاصموا وفجروا وقاطعوا وهجروا .. بتحريض بطانة حركت الغضب للذات، وأبدت الحرص على صاحبها، والهيام فيه، أكثر من عصبيته لنفسهن فاستعظم الرجل نفسه، وهوى في شباك وساوس شياطين الإنس، فعادى الناس وشاتمهم مع ما يعرف من صلاحه الشخصي. فالجليس الصالح كحامل المسكن وقد تكون الريح الطيبة التي تجدها منه كلمة حق صريحة، فيجب أن تلقى منك تجاوبًا وتقديرًا؛ لأن مبعثها الإخلاص للحق، ومن شواهد ذلك أن عبادة بن الصامت حدث بحديث استنكره معاوية؛ لأنه لم يسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال عبادة: (لنحدثن بما سمعنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كره معاوية) (¬1). ومن ثمرات البطانة الصالحة: المشورة بالرشد والسداد للرأي؛ لأن الأصل في المستشار الأمانة، والإشارة بالأصلح، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «المستشار مؤتمن» (¬2)، وفي الحديث: «مَن استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد فقد خانه» (¬3)، فانظر فيمن وثقت، وبمن استرشدت، فكل امرئ يحشر مع بطانته المختارة، لأن «المرء مع من أحب» (¬4) - كما أخبر ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب المساقاة - باب الربا - الحديث 80 (شرح النووي 11/ 14). (¬2) أخرجه أبو داود والترمذي - وحسنه الأرناؤوط (جامع الأصول 11/ 562 الحديث 9172). (¬3) مسند أحمد 2/ 321 واللفظ له، ورواه أبو داود بإسناد حسن (جامع الأصول 11/ 562). (¬4) أخرجه البخاري ومسلم (جامع الأصول 6/ 558 الحديث 4787).

- صلى الله عليه وسلم - ومن بركة البطانة الصالحة أنه تعمك الرحمة بينهم، وإن لم تكن بمنزلتهم، فقد جاء في الحديث أن الله يشهد ملائكته بأنه يغفر لقوم جلسوا يذكرون الله، فيقول ملك: فيهم فلان ليس منهم، وإنما جاء لحاجة، فيقول الله عز وجل: «هم الجلساء؛ لا يشقى بهم جليسهم» (¬1)، وتلك من بركات صحبة أهل الخير. فإن كانت لك بطانة فأحسن اختيارها، واعمل بما يشيرون عليك من الخير، وإن كنت بطانة لغيرك فكن صريحًا صادقًا أمينًا، وأَشِرْ بكل خير. وبالتزام خُلُق «اصطفاء البطانة» تسقط الأقنعة الكاذبة وتنكشف الحقائق، ويتميز كل فريق باهل وده وأصحاب خلته، فانظر من تخلل. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - البطانة تؤثر بأفكارها وأخبارها. - حسن اختيار البطانة يجنب كثيرًا من المفاسد. - من أراد الاحتياط لدينه يختار الصالحين لصحبته. - أهل العلم هو أولى الناس بالتقريب والمشورة. - في أيام الفتن لا يأمن الرجل جليسه. - من خطورة البطانة الفاسدة: - أنها تحسن القبيح. - تسبب الخصومات. ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الدعوات - باب 66 - الحديث 6408 (الفتح 11/ 208)

- من ثمرات البطانة الصالحة: - حسن المشورة. - عموم الرحمة.

الباب الخامس من أخلاقنا في الربانية

الباب الخامس من أخلاقنا في الربانية الفصل الأول: الربانية. الفصل الثاني: الاهتمام بالآخرة. الفصل الثالث: الورع. الفصل الرابع: إطابة المطعم. الفصل الخامس: سرعة الفيئة. الفصل السادس: الثبات. ****

الفصل الأول الربانية

الفصل الأول الربانية

{.. كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ ..} كم ينشرح صدرك حين تلقى قوة المؤمن وصلابته وعزيمته وجديته .. مشفوعة بسكينة وإخبات ورقة وصفاء! وهو ما يتمثل في شخصية المسلم بخلق الربانية. وُصِف الربانيون في القرآن بأوصاف عديدة تتكامل بها صفاتهم. فقد وُصفوا بالثبات في الجهاد والصبر على البلاء {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]، والرِّبِّيُّون بمعنى الجماعات الكثيرة من العباد والعلماء والربانيين - جمعًا بين التفاسير (¬1). ومن علامات الربانيين أنهم يحرِصون على تحكيم الشريعة وإقامة الدين {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} [المائدة: 44]، وفي موضع آخر وصفهم الله بأنهم المرشَّحون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} [المائدة: 63]. وجعل الله الأمر بالاتصاف بالربانية على لسان مَن يُؤتِيهم الله ¬

(¬1) يراجع تفسير القرطبي 4/ 230 عند تفسير الآية 146 من آل عمران.

الحكم والنبوة وجعل الله ميزة الربانيين في قيامهم بتعليم كتاب ربهم وحرصهم على الاستمرار في التعلم {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]، فالرباني يبني نفسه ويبني غيره، يعمل بما علم ويعلم ما تعلم. وقد حوت كتب التفسير والسنة كثيرًا من الصفات المميزة للرجل الرباني، ففي صحيح البخاري وعند ترجمة (باب العلم قبل القول والعمل): (قال ابن عباس: كونوا ربانيين: حلماء فقهاء، ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره) (¬1). يقول ابن حجر: (والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله، وبكباره ما دق منها، وقيل: يعلمهم جزئياته قبل كلياته، أو فروعه قبل أصوله، أو مقدماته قبل مقاصده ..) (¬2). فالرباني صاحب حكمة وصاحب فقه، ومن حكمته أنه يتدرج بالمدعوِّين وييسر عليهم على علم وبصيرة وحسن عمل، ينقل ابن حجر عن ابن الأعرابي قوله: (لا يقال للعالم رباني حتى يكون عالمًا معلِّمًا عاملًا) (¬3). وأساس الربانية الإخلاص في ابتغاء رضي الرب - عز وجل - قال الأصمعي والإسماعيلي: (الرباني نسبة إلى الرب أي الذي يقصد ما ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب العلم - من ترجمة الباب 10. (¬2) فتح الباري 1/ 162 عند شرح الباب 10 من كتاب العلم. (¬3) المصدر السابق.

أمره الرب بقصده من العلم والعمل) (¬1)، وقيل إنه منسوب إلى التربية، والتربية أبرز ما في حال الرباني. وقد روي عن علي - رضي الله عنه - في وصف الربانيين قوله: (هم الذين يغذُّون الناس بالحكمة ويربونهم عليها) (¬2)، كما قيل إنه مشتق من قولهم: ربه يربه فهو ربان إذا دبره وأصلحه. (فمعناه على هذا: يدبرون أمور الناس ويصلحونها) (¬3)، وفي تفسير ابن مسعود لقوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} قال: حكماء علماء. ويقول ابن جبير: حكماء أتقياء. ومن اللفتات الطريفة في وصف الرباني أنه الذي يجمع إلى العلم البصر بالسياسة (¬4)، وهي إشارة طريفة تنفي التصور المتفشي عن العالم الرباني بأنه بعيد عن عصره، مغفل في قضايا الحكم والسياسة. وقد أكد هذه الميزة في الرباني أبو عبيدة بقوله: (سمعت عالمًا يقول: الرباني العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي، العارف بأنباء الأمة وما كان وما يكون) (¬5). فهو مدرك لتاريخ الأمة، مبصر لسنن الله في خلقه بصرًا يتيح له أن يتوقع ما يكون حين تتوفر أسباب مضاء السنة الكلونية والاجتماعية. ويتميز (الرباني) بأنه الكامل في العلم والعمل، الشديد ¬

(¬1) فتح الباري 1/ 161 عند شرح الباب 10 من كتاب العلم. (¬2) زاد المسير في علم التفسير 1/ 413 عند تفسير الآية 79 من سورة آل عمران. (¬3) تفسير القرطبي 4/ 122 عند تفسير الآية 79 من سورة آل عمران. (¬4) عن تفسير القرطبي 4/ 122. (¬5) المصدر السابق.

التمسك بطاعة الله عز وجل ودينه» (¬1)، أما حين يغفل العلماء عن مجتمعاتهم أو يسكتون عما يجري فيها ويتساهلون فتلك ظاهرة الفناء كما يقول سيد قطب رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} [المائدة: 63] يقول: (فهذه السمة - سمة سكوت القائمين على أمر الشريعة والعلم الديني عما يقع في المجتمع من إثم وعدوان - هي سمة المجتمعات التي فسدت وآذنت بالانهيار) (¬2). ويتميز سيد قطب رحمه الله غيظًا من علماء المسلمين الذين انزلقوا إلى ما وقع فيه علماء أهل الكتاب حيث يقول: (ومثل هذا الفريق من أهل الكتاب فريق ممن يدعون الإسلام ويدعون العلم بالدين .. وهم أولى بأن يوجه إليهم هذا القرآن اليوم، وهم يلوون النصوص القرآنية ليًّا لإقامة أرباب من دون الله في شتى الصور، وهم يتصيدون من النصوص ما يلوونه لتمويه هذه المفتريات {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78] (¬3). فلا مجاهد بلا ربانية، ولا ربانية بغير علم وعمل وحكمة وإخلاص وصبر وتربية وبصيرة .. والذين يتبوؤون مراكز التوجيه ويتصدرون ساحات الجهاد لا بدَّ أن يأخذوا أنفسهم بالعزيمة ليحسنوا ¬

(¬1) تفسير أبي السعود 1/ 379. (¬2) في ظلال القرآن 2/ 928 عند تعليقه على الآية 63 من سورة المائدة. (¬3) في ظلال القرآن 1/ 420 عند تعليقه على الآية 78 من آل عمران، والآية الأخيرة من آل عمران.

أداء دورهم "القدوة" وليستحقوا من الله تبوأ "العليين" و"مقعد صدق" في الدار الآخرة، ولينالوا وسام (الربانية) بما يتعلمونه ويعلمونه. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - من صفات الربانية: - الثبات في الجهاد والصبر على البلاء. - تحكيم الشريعة وإقامة الدين. - تعلم الكتاب وتعليمه. - تعليم صغار العلم قبل كباره. - الإخلاص والحكمة. - العلم مع البصر بالسياسة. - الكمال في العلم والعمل. - تفسد المجتمعات حين لا يقوم الربانيون بدورهم. - إذا لم يتميز العلماء بالربانية لم يؤمن عليهم من لي النصوص. ****

الفصل الثاني الاهتمام بالآخرة

الفصل الثاني الاهتمام بالآخرة

«من جعل الهموم همًّا واحدًا هم المعاد كفاه الله سائر همومه» يعيش المؤمن الداعية كثيرًا من الهموم، وربما كان تكاثر الهموم سببًا لتشتيت القلب عن الهدف، ولصرف الهمة إلى مشاغل أهل الدنيا واهتماماتهم فتزول الميزة وينعدم التميز وتختلط الموازين. إن من هوان أمر الدنيا أن جعلها الله لا تدوم لأحد «إن حقًّا على الله تعالى أن لا يرفع شيئًا من أمر الدنيا إلا وضعه» (¬1)، وإنما هي أيام يداولها الله بين الناس، فيرفع أقوامًا ويضع آخرين، ويعز أقوامًا ويذل آخرين لتتحقق حكمة الله في ابتلاء العباد. إن الله يعطي الدنيا للمؤمن والكافر ولا يعطي الدين إلا لمن يحب. وقد تعجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عبد الله بن عمرو حين رآه يصلح جدار بيته ويطينه فأراد أن يخلي قلبه من التعلق بالدنيا، وأن يُذكِّره بقرب الأجل للاستعداد له، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك» (¬2)، ليجعل الآخرة همه والاستعداد لها شغله فإذا بالغ امرؤ في الانصراف عن أعمار الدنيا والسعي فيها فيحتاج إلى لفتة من نوع آخر {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77] بحيث يبقى على جادة القصد والتوازن. ¬

(¬1) صحيح الجامع برقم 2057 (صحيح) (¬2) صحيح الجامع برقم 5526 (صحيح).

وإن العبد المحفوف بالنعيم قد يكون مُستدرَجًا لمزيد من المسؤولية والعذاب وهو لا يدري «إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج» (¬1)، فلا تحزن على ما فاتك منها، ولا تمُدنَّ عينَيْك إلى ما أوتي الناس من الدنيا فربما كانوا لا يحسدون عليها إذا لم يؤدُّوا حقها. والخطورة في أن تكون هذه النِّعم الأجر العاجل ليُحرَم صاحبها الأجر الآجل حيث يكون في أشد الحاجة لما يرجح كف حسناته؛ ولذلك طيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاطر أصحابه حين ذكروا نعيم الروم والفرس، فقال: «أولئك قوم عُجِّلت لهم طيِّباتُهم في الحياة الدنيا» (¬2). وغالب حال الناس كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «أكثر الناس شبعًا في الدنيا أطولهم جوعًا في الآخرة» (¬3)، وذلك لقلة الشاكرين، وكما قال ربنا عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18]. وكل نعمة مهما صغرت، عليها حساب ومسؤولية، فالمسكين مَن لم يقم بحقها لا من حرم منها في الدنيا: «إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصحَّ لك جسمك ونُروِيَك من الماء البارد؟» (¬4). ولذلك كان من علامة طريق الجنة أنه محفوفٌ بالبلاء، ولا يهون ¬

(¬1) صحيح الجامع برقم 561 (صحيح). (¬2) صحيح البخاري - كتاب المظالم - باب 25 - الحديث 2468 (الفتح 5/ 116) (¬3) صحيح الجامع برقم 1199 (حسن) (¬4) صحيح الجامع برقم 2022 (صحيح).

البلاء إلا على من جعل الآخرة همه، «حُفَّت الجنة بالمكاره وحُفَّت النار بالشهوات» (¬1). وإن كمسؤولية المسلم الذي يُقدِّر الله حق قدره أن يوحد همه فيفكر في المال والمصير، لا أن يصرف كل جهده وفكره ووقته في صغائر الأمور وتوافهها. وبقدر ما يكون لله في قلب العبد من توقير وإجلال ورهبة يكون للعبد عند الله من الأجر والمنزلة «من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده» (¬2). ومن كان دائم التفكير في رضي الله فإنه لا تشغله النعمة ولا يعميه البلاء، ومن كان مع الله في اليسر كان الله له في العسر «تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة» (¬3). ومثل هذا الحال يقتضي من المؤمن أن يكون دائم الرقابة لله والحياء منه أكثر مما يحتاط ويستحيي من البشر «ما كرهتَ أن يراه الناس منك فلا تفعله بنفسك إذا خلوت» (¬4)، و «اعبُدِ الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (¬5). والمهتم بآخرته إذا ذكر بخطئه سريع الفيئة قريب الرجعة «إذا ذُكِّرتم بالله فانتهوا» (¬6). ¬

(¬1) أخرجه مسلم والترمذي (جامع الأصول 10/ 521). (¬2) صحيح الجامع برقم 6006 (حسن). (¬3) صحيح الجامع برقم 2961 (صحيح). (¬4) صحيح الجامع برقم 5659 (حسن). (¬5) صحيح الجامع برقم 1037 (حسن). (¬6) صحيح الجامع برقم 546 (حسن).

والذي يخاف الله في الدنيا ويحذر معصيتَه ويحتاط لأمر آخرته، فذلك هو الآمن يوم القيامة «قال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين، إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي» (¬1). والمهتم بآخرته يفكر فيما يقربه إلى الجنة ويباعده عن النار، وقد جعل الله مدار المسؤولية على انبعاث إرادة الإنسان إلى الطاعة أو المعصية لذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شِراك نعله، والنار مثل ذلك» (¬2)، وإذا صدق المرء في مجاهدة نفسه يسر الله له السبيل {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76]. والمهتم بآخرته لا يرى الدنيا دار قرار لشعوره بقرب الرحيل إلى دار الخلود، قال - صلى الله عليه وسلم -: «قال لي جبريل: يا محمد عِشْ ما شئتَ فإنك ميِّت، وأحبِبْ مَن شئت فإنك مُفارِقه، واعمَل ما شئتَ فإنك مُلاقِيه» (¬3). ولذلك كا مما تعجب منه - صلى الله عليه وسلم - انفتاح أبواب الخير وغفلة الإنسان عنها ولاحقة الفتن للمرء وعدم فراره منها «ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها» (¬4)، بينما يكون المهتم بآخرته شديد الحرص على اتقاء المنكرات، والمسارعة في الخيرات. وحال المهتم لأمر آخرته التخفف من العلائق والزهد بالصوارف ¬

(¬1) صحيح الجامع برقم 4332 (حسن). (¬2) أخرجه البخاري (جامع الأصول 10/ 522 برقم 8071). (¬3) صحيح الجامع برقم 4355 (حسن). (¬4) أخرجه الترمذي (جامع الأصول 11/ 19 برقم 8487).

«كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» (¬1) والجدية في الحياة علامة مميزة للراغب الراهب «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا» (¬2) والهمة في العمل علامة صدق الاستعداد للآخرة والخوف من الله، وذلك ما مثله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «مَن خاف أدلج ومَن أدلَج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» (¬3)، أما من كان سفره طويلًا، وانطلاقه متأخرًا، وحركته بطيئة، وهمته ضعيفة فلن يبلغ مراده، ولن يصل إلى مقصوده. ومن أهم ما يورثه الاهتمام بأمر الآخرة أن يزيح الله به عن القلب باقي الهموم ليصفوَ القلب لله وإن كان في بحر من الابتلاءات، قال - صلى الله عليه وسلم -: «من جعل الهموم همًّا واحدًا همَّ المعاد كفاه الله سائر همومه، مَن تشعَّبت به الهموم من أحوال الدنيا لم يُبالِ الله في أي أوديتِها هلك» (¬4). و «مَن كانت الآخرة همَّه؛ جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومَن كانت الدنيا همَّه؛ جعل الله فقرَه بين عينَيْه، وفرَّق عليه شمله. ولم يأتِه من الدنيا إلا ما قُدِّر له» (¬5). فتجارة الآخرة لا تبور، والتهافت على الدنيا لا يغير المقدور. ¬

(¬1) أخرجه البخاري والترمذي (جامع الأصول 1/ 392 برقم 185). (¬2) صحيح البخاري - كتاب التفسير - باب 12 - الحديث 4621 (الفتح 8/ 280). (¬3) صحيح الجامع برقم 6222 (صحيح)، ومعنى الإدلاج: السير في أول الليل. والمراد به التشمير في أول الأمر، فإن سار من أول الليل كان جديرًا ببلوغ المنزل (جامع الأصول 4/ 9/ الحديث 1981). (¬4) صحيح الجامع برقم 6189 (حسن). (¬5) صحيح الجامع برقم 6510 (صحيح).

خلاصة هذا الفصل وعناصره: - من سنة الله في أمور الدنيا أنها ترفع وتوضع - من هوان الدنيا على الله أنه يَهَبُها للكافر. - لكما زادت النعم عظُمت المسؤولية. - قد تكون النعم عاجل الأجر لصاحبها - من علامة طريق الجنة أنه محفوف بالبلاء. - المهتم بآخرته: - يتعرف إلى الله في الرخاء والشدة. - سريع الفيئة إذا أخطأ. - يفكر فيما يقربه إلى الجنة ويباعده من النار. - لا يرى الدنيا دار قرار. - يتخفَّف من الدنيا ويزهد. - شديد الهمة والخوف من الله. - يجعل همومه هما واحدًا هم المعاد. - غنى القلب. ****

الفصل الثالث الورع

الفصل الثالث الورع

«كن ورعًا تكن أعبد الناس» إن مَن عرَف ربه وقدَّره حق قدره، وعظَّم حرماته وشعائره، يصل به التعظيم إلى الحيطة والحذر من كل ما يكون مظنة غضب الرب - عز وجل - في الحال أو في المال. فالورع عنده نوع من الخشية والرهبة تجعله يترك كثيرًا من المباحات إن التبَست عليه مع الحرام لئلا يجازف بدينه؛ ولهذا عرف الهروي الورع بقوله: (الورع تَوْقٌ مُستقصًى على حذر، وتحرُّج على تعظيم) (¬1). ومن العلامات الأساسية للورعين بشدة حذرهم من الحرام، وضعف جرأتهم على الأقدام إلى ما قد يجر إلى الحرام، وفي ذلك يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شُبِّه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان» (¬2)، فمَن تجرَّأ على مواضع الريبة والشك تزدَدْ جرأتُه على ما هو أشد «وأنه مَن يخالط الريبة يوشك أن يجسر» (¬3).فالورع الحقيقي كما وصفه يونس بن عبيد: (الخروج من كل ¬

(¬1) تهذيب مدارج السالكين ص 290. (¬2) صحيح البخاري - كتاب البيوع - باب 2 - الحديث 2051 (الفتح 4/ 290). (¬3) سنن أبي دواد - كتاب البيوع باب 3 الحديث 3329 من روايات حديث «الحلال بيِّن والحرام بيِّن»

شبهة ومحاسبة النفس في كل طرفة عين) (¬1). ورحلة الانحدار تبدأ بزلة واحدة، والحريص على آخرته يجعل بينه وبين الانزلاق وقايات تستره وتحميه، وقد أشار إلى هذا المعنى الشيخ القباري بقوله: (المكروه عقبة بين العبد والحرام؛ فمَن استكثر من المكروه تطرَّق إلى الحرام، والمباح عقبةٌ بينه وبين المكروه؛ فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه) (¬2)، واستحسن ابن حجر قوله هذا وزاد عليه: (أن الحلال حيث يخشى أن يؤول فعله مطلقًا إلى مكروه أو محرم ينبغي اجتنابه كالإكثار - مثلاً - من الطيبات فإنه يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في أخذ ما لا يستحق، أو يفضي إلى بطر النفس، وأقل ما فيه الاشتغال عن مواقف العبودية، وهذا معلوم بالعادة، مشاهد بالعيان ...) (¬3). والعلامة الأساسية لصاحب الورع قدرته على ترك ما فيه مجرد الشك أو الشبهة كما قال الخطابي: (كل ما شككت فيه فالورع اجتنابه) (¬4). ونقل البخاري عن حسان بن أبي سنان قوله: (ما رأيت شيئاً أهون من الورع: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (¬5) كما ورد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب - وإن أفتاك ¬

(¬1) تهذيب مدارج السالكين ص 290. (¬2) فتح الباري 1/ 127 عند شرح الحديث 52 (الحلال بين) من كتاب الإيمان - باب 39. (¬3) فتح الباري 1/ 127. (¬4) فتح الباري 4/ 293 - من شرح الباب 3 - من كتاب البيوع. (¬5) صحيح البخاري - من ترجمة الباب 3 - من كتاب الإيمان.

المفتون» (¬1) ويؤكد ذلك ما رواه ابن عساكر مرسلاً: «ما أنكره قلبك فدعه» (¬2). وأصحاب المراتب العالية يحتاطون لأنفسهم بالحذر من بعض الحلال الذي قد يُفضِي إلى شيء من المكروه أو الحرام، فقد ورد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به البأس» (¬3)، ويُؤكِّده الحديث الآخر: «اجعلوا بينكم وبين الحرام سترًا من الحلال ...» (¬4)، ومن لطيف ما حدَّث به ابن القيم - رحمه الله - (قال لي يومًا شيخ الإسلام ابن تميمة - قدس الله روحه - في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العالية، وإن لم يكن تركه شرطًا في النجاة) (¬5). وكما يشمل الورع صور الكسب والمعاملات فإنه يشمل اللسان. فقد تجد كثيرا من الناس يندفعون إلى الفتوى وهم لا يعلمون؛ ولذلك عقد الدارمي بابًا في (التورُّع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة). ويعتبر إسحاق بن خلف الورعَ في الكلام أشدَّ من الورع في التعاملات المالية؛ حيث يقول: (الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة ..) (¬6). ومِن تأمُّلِ ابن القيم في أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلن أنه (جمع ¬

(¬1) صحيح الجامع برقم 2881 (صحيح). (¬2) صحيح الجامع برقم 5564 (صحيح). (¬3) أخرجه الترمذي - حسنه الترمذي وغيره (جامع الأصول 4/ 682 الحديث 2791). (¬4) صحيح الجامع برقم 152 (صحيح). (¬5) تهذيب مدارج السالكين ص 292. (¬6) تهذيب مدارج السالكين ص 290.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الورع كله في كلمة واحدة، فقال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه») (¬1). ومن الثمرات البارزة لخلق الورع أنه يعصم صاحبه من الاستدراج لذلك تجد (من تعاطى ما نهي عنه يصير مظلم القلب لفقدان نور الورع فيقع في الحرام ولو لم يختَر الوقوع فيه) (¬2)، كما قال ابن حجر، وفي حديث الإفك تقول السيدة عائشة رضي الله عنها عن السيدة زينب بنت جحش حيث حَمَت سمعها وبصرها من الخوض فيما لا تعلم: (فعصمها الله عز وجل بالورع) (¬3). كما أن صاحب الورع يحمي دينه وعرضه من الطعن (فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه) (¬4). يقول ابن حجر: (وفيه دليلٌ على أن مَن لم يتوقَّ الشبهات في كسبِه ومعاشه، فقد عرَّض نفسه للطعن فيه، وفي هذا إشارة إلى المحافظة على أمور الدين ومراعاة المروءة.) (¬5). فإذا كانت أعلى منازل العبادة الورع (كن ورعاً تكن أعبد الناس) (¬6)، وإن كان أفضل الدين التورُّع (خير دينكم الورع) (¬7)، أفلا يرتقي الداعية المؤمن إلى تلك الذروة ويربأ بنفسه عن السقوط والانزلاق، وهو الحريُّ بالحذر والاحتياط والخوف من أن يُحبَط عمله ¬

(¬1) المصدر السابق. (¬2) فتح الباري 1/ 127 - 128 من شرح الباب 39 من كتاب الإيمان. (¬3) صحيح البخاري - كتاب المغازي - باب 34 - الحديث 4141 (الفتح 7/ 431). (¬4) صحيح البخاري - كتاب الإيمان - باب 30 - الحديث 52 (الفتح 1/ 126). (¬5) فتح الباري 1/ 127. (¬6) صحيح الجامع برقم 4580 (صحيح). (¬7) صحيح الجامع برقم 3308.

وهو لا يشعر. فإن كثيرًا من الصحابة كانوا يخافون على أنفسهم من النفاق، ويعلل ابن حجر ذلك بقوله: (ولا يلزم من خوفهم من ذلك - النفاق - وقوعه منهم، بل ذلك على سبيل المبالغة منهم في الورع والتقوى رضي الله عنهم) (¬1). هكذا كانوا فلنراجع أنفسنا ولنَزِنْ أعمالنا. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - الورع خشية تدفع إلى ترك كثير من المباحات احتياطًا. - من علامات الورع: - شدة الحذر من الحرام والشبهات. - اتخاذ وقاية بينه وبين المنهيات. - اجتناب كل ما يشك فيه. - عدم التوسع في المباح. - عدم الفتوى بغير علم. - تركه ما لا يعنيه - من ثمرات الورع. - تحصين النفس من الاستدراج. - حماية الدين والعرض. - من ورع الصحابة أنهم كانوا يخشون على أنفسهم من النفاق. **** ¬

(¬1) فتح الباري 1/ 111 من شرح باب 36 من كتاب الإيمان.

الفصل الرابع إطابة المطعم

الفصل الرابع إطابة المطعم

{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} إن تحرِّي الرزق الحلال مسألة يومية، تقتضي من كلٍّ منا أن يديم استحضارها والتواصي بها، فإن لم يكن لدينا كوابحُ إيمانية توقفنا عن الانسياق وراء شهوة المال وقعنا في الشبهات ثم في الحرام، والخطورة تكمن في استمراءِ النَّفْس للحرام واعتيادها عليه أو عدم مبالاتِها فيه. كثيرًا ما أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتحليل الرزق و «إن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ...} [المؤمنون: 51] (¬1)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ...} [البقرة: 172]» وجعل - عليه الصلاة والسلام - عدم المبالاة بهذا الأمر من صفات شرار الخلق فقال: «يأتي على الناس زمان لا يُبالِي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام» (¬2)، وقد ورد في خطبة لعثمان بن عفان - رضي الله عنه - (وعفُّوا إذا أعفَّكم الله، وعليكم من المطاعم بما طاب منها) (¬3). ومن أبرز صور الرزق الطيِّب ما كان بعمل اليد مع استفراغ الجهد والطاقة في الإتقان والإحسان «ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل ¬

(¬1) الحديث أخرجه مسلم والترمذي (جامع الأصول 10/ 565 الحديث 8131). (¬2) صحيح البخاري - كتاب البيوع - باب 7 - الحديث 2059. (¬3) الموطأ - كتاب الاستئذان - باب 16 - الحديث 42.

يده» (¬1)، وإذا ما أردت أن تأوي إلى مضجعك منشرح الصدر فإن (من بات كالاًّ من عمله بات مغفورًا له) (¬2). ولا فرق بين مهنة وضيعة ومهنة رفيعة، المهم أن يكون الرزق حلالاً، وقد كان هذا شأن الأنبياء، وعلى ذلك ربَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحابته، فكان يُخاطِبهم بكل وضوح: «لأن يحتطِبَ أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه» (¬3). والمصيبة الكبرى في سؤال الناس أن نفسية المرء تعتاد الاتكال على الآخرين وتركن إل الكسل، والدين الذي يدعو إلى الجهاد لا يقبل لأتباعه أن يكونوا عالةً في أرزاقهم، ولا متطفِّلين على أموال غيرهم بغير طيب نفس، «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس ... منه» (¬4)، وقد طلب حكيم بنُ حزامٍ - رضي الله عنه - من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موقفٍ واحد ثلاث مرات، ورسول الله يعطيه في كل مرة، ولكنه لم يتركه حتى أدَّبه بأدب الإسلام: «يا حكيم، إن هذا المال خضر حلو؛ فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى» (¬5)، فأقسَم حكيمٌ ألا يطلب بعد ذلك شيئًا، ووفى بقسمه ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب البيوع - باب 15 - الحديث 2072. (¬2) أدرجه ابن حجر في (الفتح 4/ 306) عند شرح الحديث 2072 وعزاه إلى فوائد هشام بن عمار. (¬3) صحيح البخاري - البيوع - باب 15 - الحديث 2074. (¬4) صحيح الجامع برقم 7662 (صحيح). (¬5) صحيح البخاري - كتاب فرض الخمس - باب 19 - الحديث 3143، رواه مسلم في كتاب الزكاة برقم 1035.

إلى أن مات، وذلك لأن إطابة المطعم وتحليل الرزق تبدأ باجتناب الشبهات، وتنتهي إلى عدم استشراف النفس إلى ما بأيدي الناس بحيث تعف اليد ويقنع القلب. وقد يظن بعض الناس أن كثرة الجدل وأن الإحراج في تحصيل شيء إنما هي من علامات الذكاء والفطانة، وقد نهى عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُلِحُّوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئًا فتُخرِج له مسألته مني شيئًا وأنا له كارهٌ فيبارك له فيما ... أعطيتُه» (¬1). فما أخذ بالحياء ليس بالرزق الطيب، وما حصل بالإحراج عديم البركة، ومن هانت عليه نفسه اليوم ليسأل الناس، لا يبعد أن يصل به الهوان إلى عدم تحري الحلال. أما الرزق الذي يسوقه الله إليك، ولم تتلهف إليه نفسك، ولم يتعلق به قلبك فخُذْه، وقد كان عمر - رضي الله عنه - كلما عرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عطاء يقول: أعطه من هو أفقر إليه مني، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خذه. إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه فتموله. فإن شئت كله وإن شئت تصدق به. وما لا فلا تتبعه نفسك» (¬2). والرزق الطيب من أسباب قبول الدعاء ومما يشرع طلبه في الدعاء، والزكاة تطهر ما بقي من المال «إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم ..» (¬3). ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب الزكاة - باب 33 - الحديث 1038. (¬2) صحيح البخاري كتاب الزكاة الحديث 1473، وصحيح مسلم - كتاب الزكاة الحديث 1045. (¬3) سنن أبي داود كتاب الزكاة باب 33 الحديث 1664 (إسناده حسن/ جامع الأصول 2/ 163).

ولا تقبل الصدقة إلا من المال الطيب، ولا بركة إلا فيما كان طيبًا «إن الله طيِّب لا يقبلُ إلا طيِّبًا، ثم ذكر الرجل يُطِيل السَّفر أشعثَ أغبرَ يمدُّ يدَيْه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام وملبسه حرام، وغُذِي بالحرام فأنَّى يُستجاب لذلك؟!» (¬1). ومن كان تحت يده أموال عامَّة يتولى تصريفها بحكم مسؤوليته أو مكانته الاجتماعية، وهو متفرِّغ لهذا الأمر، فمن حقِّه أن يأخذ ما يكفيه وأسرته بقدر حاجة مثله عرفًا، وأما التوسع فيه فوق الحاجة والاستئثار به دون الناس، والتبذير في التوافه فليس من إطابة المطعم، وإلى ذلك أشار ابن حجر بقوله: (إن للعامل أن يأخذ من عرض المال الذي يعمل فيه قدر حاجته؛ إذا لم يكن فوقه إمام يقطع له أجرة معلومة) (¬2)، والمرأة التي يبخل عليها زوجها قال لمثلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» (¬3). وإن كان في نفس أحدنا شبهة فليحلل رزقه ببذل أقصى الجهد وغاية الوسع إلى أن يشعر أنه قد أحل مطعمه ومشربه؛ فالبر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في صدرِك حين تخلص نفوسنا للحق ولا تستعبدها الشهوات. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - إطابة المطعم سنة المرسلين. - من أطيب الطعام ما كان من عمل اليد. ¬

(¬1) أخرجه مسلم والترمذي (جامع الأصول 10/ 565 الحديث 8131). (¬2) فتح الباري 4/ 35 من شرح الحديث 2070. (¬3) صحيح البخاري - كتاب النفقات - باب 9 - الحديث 5364.

- الحريص على إطابة المطعم لا يتحرج من أية مهنة. - ليس من طيب المطعم ما أخذ من الناس بغير طيب نفس. - ما أخذ بالإلحاح في المسألة لا يبارك فيه. - إطابة المطعم من أسباب قبول الدعاء. - ليس من طيب المطعم التوسع في المال العام. - ضابط إطابة المطعم استفراغ الجهد في الكسب. ****

الفصل الخامس سرعة الفيئة

الفصل الخامس سرعة الفيئة

«فخيرهم بطيء الغضب سريع الفيئة». مَن يراجع سيرة خير القرون يجد أن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا متميزين بالعصمة من الوقوع في الخطأ مع الخلق أو الخالق، وإنما كانوا بشرًا تميزوا بأنهم {... إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135] وأنهم {... مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] هذه المبادرة إلى التوبة وتلك المسارعة إلى الرجوع للحق هي ما نَعْنيه بسرعة الفيئة. كثيرًا ما تكون بعض الطبائع التي لم تهذب سببًا من أسباب زلة القدم والوقوع في بعض الخصومات، وقد ورد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر طبائع الناس وأخلاقهم في إحدى خطبه فقال: «يكون الرجل سريع الغضب، قريب الفيئة، فهذه بهذه، ويكون بطيء الغضب بطيء الفيئة فهذه بهذه، فخيرهم بطيء الغضب سريع الفيئة وشرهم سريع الغضب بطيء الفيئة» (¬1). وحبل الخيرية بيدك أيها المؤمن، وما عليك إلا أن تضبط عواطفك فلا تغضب ولا تُسِئ، وإن لم تتمالك نفسك فلا يطل عليك الأمد ويتراكم على قلبك الران، وإنما تفيء إلى دائرة الحق بسرعة، وترجع إلى جادة الصواب على عجل. ¬

(¬1) مسند أحمد 3/ 61 ورواه الترمذي في الفتن وحسنه، وفي سنده ضعيف ولبعض فقراته شواهد: جامع الأصول 11/ 848.

ولم يخلُ بيتٌ من بيوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خصومات تقع بين زوجاته، ولكن انظروا إلى شهادة عائشة رضي الله عنها في ضرتها زينب رضي الله عنها وإلى ما ذكرت من خُلُق زينب: (ولم أر امرأة قط خيرًا من زينب وأتقى لله، وأصدق حديثًا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تصدق به وتقرب إلى الله تعالى، ما عدا سورة من حدة كانت فيها تسرع منها الفيئة) (¬1). فلم تكن تُنكر عليها سوى حدَّةٍ في طبعها، ولكنها رضي الله عنها كانت تسارع فتستدرك وتصلح ما نتج عن حدتِها. ولذلك حين تعرض الأعمال يومي الاثنين والخميس يغفر لكل مؤمن إلا المتخاصمين فيقال: «أنظِروا هذين حتى يصطلحا» (¬2)، وفي رواية: «اتركوا هذين حتى يفيئا» (¬3)، «وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» (¬4). والمتوقع من المؤمن الصادق أنه يسرع الفيئة ويسابق إلى الصلح، أنا من يلجُ في الخصومة ويغرق في التمادي فإن «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» (¬5)، وفسره ابن حجر بأنه: شديد العوج، كثير الخصومة (¬6). ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب فضائل الصحابة - باب 13 - الحديث 83 (شرح النووي 15/ 215). (¬2) سنن أبي داود - كتاب الأدب - باب 55 - الحديث 4916 (صحيح). (¬3) صحيح مسلم - كتاب البر - باب 11 - الحديث 2565 (شرح النووي 16/ 358). (¬4) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب 62 - الحديث 6077 (الفتح 10/ 492). (¬5) صحيح البخاري - كتاب الأحكام - باب 34 - الحديث 7188 (الفتح 13/ 180). (¬6) فتح الباري 8/ 188.

بل إن من صفات المنافق أنه «إذا خاصم فجر» (¬1)، يقول ابن حجر: (والفجور الميل عن الحق والاحتيال في رده) (¬2)، وكم يكون عظيمًا ذلك الذي يذل للمؤمنين، ويؤوب إلى الرشد، ويعجل إلى ربه ليرضى عنه. ولقد ضرب أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - مثلاً رفيعًا في سرعة الفيئة حين علم أن مسطح بن أثاثة الذي يأكل من نفقة أبي بكر كان قد شارك في اتهام ابنته السيدة عائشة بحديث الإفك، فأقسم أبو بكر ألا يُنفَق عليه، ونزل قوله تعالى: {وَلَا يَاتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]، فما أن سمع أبو بكر خاتمة الآية حتى صاح: (بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي)، وتغلَّب على عواطفه التي تدعوه للثأر لغرض ابنته البريئة (فرجع إلى مِسطَح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا) (¬3). ليس العيب في الوقوع في الخطأ؛ إذ «كل بني آدم خطاء. وخير الخطائين التوابون» (¬4)، وإنما تكمن المصيبة في الإصرار على الخطأ والتمادي في الباطل، مع أن أبواب الرحمة مفتحة تدعونا لسرعة الفيئة «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الإيمان - باب 24 - الحديث 34. (¬2) فتح الباري 1/ 90. (¬3) صحيح البخاري - كتاب المغازي - باب 34 - الحديث 4141 (الفتح 7/ 434). (¬4) صحيح سنن ابن ماجه للألباني 2/ 418 الحديث 3428 (حسن).

ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» (¬1)، وتستطيع تجاوز العقبة بأن تكون صريحًا مع نفسك وتعترف بخطئك، وهذه بداية طريق التوبة والفيئة إلى الله «فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه» (¬2)، وإذا كان ربنا يدعونا إلى سَعَة رحمته ويقابل ضعفنا بإحسانه، فما الذي يبطئ بنا عن إصلاح أنفسنا، وما الذي يحول بيننا وبين الفيئة السريعة والرجعة النصوح؟ وقد جاء في الحديث القدسي: «وإن تقرب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته ... هرولة» (¬3).فهرول أيها العبد إلى رحمة الله وإياك والتسويف. إن الذي يَحُول دون التعجيل بالتوبة الوقوع في قيد الإصرار، ولقد ترجم البخاري أحد أبواب كتاب الإيمان بقوله: (خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى: {... وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل العمران: 135] (¬4)، ويُعلِّق ابن حجر على هذا الباب (وكأن المصنف لمح بحديث عبد الله بن عمرو المخرج عند أحمد مرفوعاً قال: «ويل للمُصرِّين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون»؛ أي: يعلمون أن مَن تاب تاب الله عليه ثم لا ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب التوبة - باب 5 (شرح النووي 17/ 83). (¬2) صحيح البخاري - كتاب التفسير - باب 6/ الحديث 4750 (الفتح 8/ 454). (¬3) صحيح البخاري - كتاب التوحيد - باب 15 - الحديث 7405 (الفتح 13/ 384). (¬4) صحيح البخاري ترجمة الباب 36 من كتاب الإيمان الفتح 1/ 109.

يستغفرون، قاله مجاهد وغيره) (¬1). وصورة الإصرار كما فسَّرها الشوكاني: (العزم على معاودة الذنب وعدم الإقلاع عنه بالتوبة منه) (¬2)، فهل يختار المؤمن مصير الويل أم يقاوم هواه ويستعلي على نزوات الشيطان لينطلق من قيدها ساعيًا إلى رحمة الله؟ إن خلق سرعة الفيئة من أول ما يطالعك في أول منازل الآخرة حيث تأتيك البشرى بالخير ويقول لك عملك: «أنا عملك الصالح، كنت والله سريعًا في طاعة الله، بطيئًا عن معصية الله؛ فجزاك الله خيرًا». أو تأتيك البشرى بالشر ويقول لك عملك: «أنا عملك الخبيث، كنت بطيئًا عن طاعة الله، سريعًا في معصية الله؛ فجزاك الله شرًّا» (¬3). فإذا أسأت فأحسِن، وإذا أذنبتَ فاستغفر؛ لعل عملك يشهد لك بالسرعة في طاعة الله. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - تميز الصحابة في سرعة فيئتهم وليس بعصمتهم. - من أسباب زلة القدم الانسياق للطباع الغضبية. - بيت النبوة لم يخلُ من خصومات ولكن الفيئة كانت سريعة. - المتخاصمان إذا لم يُسرِعا الفيئة حُرِما قَبول العمل. - الذي يحب أن يغفر الله له يسرع الفيئة. ¬

(¬1) فتح الباري 1/ 112 من شرح الباب 36 من كتاب الإيمان، وحديث أحمد في المسند 2/ 165 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 897. (¬2) فتح القدير للشوكاني 1/ 382. (¬3) مسند أحمد 4/ 295 - 296 من حديث طويل طرفه (إن المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا ..).

- يعين على سرعة الفيئة: - الاعتراف بالخطأ والصراحة مع النفس. - عدم الإصرار، والتعجل بالتوبة. - سريع الفيئة يشهد له عمله في أول منازل الآخرة. ****

الفصل السادس الثبات

الفصل السادس الثبات

«يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» (*) كثيرًا ما نجد شبابًا يحنُّون إلى البدايات التي كانوا يتفجَّرون فيها حيوية، ويتدفقون حماسًا، ويبالغون في الحرص على دقائق السنن، ناهيك عن البعد عن دائرة الحرام والشبهات، ثم ماذا؟ كلَّت النفوس، وفترت الهمم، واكتفى كل شاب بأن يكون واحدًا من عامة المسلمين. وهذا أحسن حالاً ممن انقلبوا على أعقابهم فغَدوا يعادون الدعوة ويسخرون من أهلها ويحذرون من سبيلها، إنها معركة تقرير المصير بين الارتداد على الأعقاب والثبات. نعني بالثبات الاستمرار في طريق الهداية، والالتزام بمقتضيات هذا الطريق، والمدوامة على الخير، والسعي الدائم للاستزادة، ومهما فتر المرء، فهنالك مستوى معين لا يقبل التنازل عنه أو التقصير فيه، وإن زلت قدمه فلا يلبث أن يتوب، وربما كان بعد التوبة خيرًا مما كان قبلها، ذلك هو حال المتصف بخلق الثبات. وللثبات صور تشمل عددا من جوانب حياة المسلم منها الثبات في المعركة كما ثبت الربيون الكثير مع أنبيائهم، وكان قولهم {... رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا ...} [آل عمران: 147] والفئة الصابرة بإمرة طالوت الذين قال الله فيهم {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا ...} [البقرة: 250] وفي ذلك توجيه للمؤمن أن يلتجئ ¬

(*) صحيح الجامع - الحديث 7987 (صحيح).

إلى الله طالبًا منه التثبيت. وخُوطِب أبناءُ هذه الأمة بأمر الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ...} [الأنفال: 45]. ومن الكبائر في ديننا الفرار من الزحف؛ ولذلك كان من الوصايا العشر التي أوصى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل: «وإيَّاك والفرار من الزحف وإن هلك الناس، وإذا أصاب الناس مُوتانٌ وأنت فيهم فاثبُتْ» (¬1)؛ لأن الثبات يزيد المؤمنين قوة، ويوقع في نفوس العدو رهبة، وتزعزعُ المواقف يخذل الصديق ويُشمِّت العدو، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمق هذا المعنى يوم الأحزاب وهو ينقل التراب وقد وارى التراب بطنه وهو يقول: (لولا أنت ما اهتدينا، ولا تصدَّقْنا ولا صلَّينا، فأنزل السكينة علينا، وثبِّت الأقدام إن لاقينا، إن الأُلَى قد بغَوْا علينا إذا أرادوا فتنة أبَيْنا) (¬2). ولأن مسألة الثبات على الدين قضية تشغل فكر المسلم فإنه يكثر من الدعاء بها، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر من قول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» (¬3)، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخشى على نفسه في مواجهة الجاهلية أن يداهن أو يلين، ولذلك خاطبه ربنا عز وجل بفضله عليه بأن أخلص ولاءه لله {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ ¬

(¬1) مسند أحمد 5/ 238 وطرفه (أوصاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعشر كلمات قال: لا تشرك بالله شيئاً ..). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الجهاد - باب 34 الحديث 2837 (الفتح 6/ 46). (¬3) مسند أحمد 3/ 112.

الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ...} [الإسراء: 74، 75]، فليحذر الدعاة وهم يواجهون الطغاة من زلزلة الأقدام وزعزعة الولاء. وقد حذَّر حذيفة العلماء العباد لأنهم قدوة: (يا معشر القراء استقيموا، فإن أخذتُم يمينًا وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيدًا) (¬1)، ولو أن ضلال المتذبذب يمينًا وشمالاً يقتصر عليه لهان الأمر، ولكن يفتن بضلاله آخرون. وقد كان من وسائل أهل الكتاب في زعزعة صفوف المسلمين أن يتظاهروا بالدخول في الإسلام، ثم يرتدون ليرتد معهم آخرون {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل العمران: 72]، فالسعيد مَن وفقه الله للثبات، وختم له بخير ومات وهو يعمل عمل أهل الجنة إلى أن يرزقه الله التثبيت حين يسأل. ولو تأملت في أحاديث الحوض من صحيح مسلم لوجدت أناسًا مُنعوا منه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يا رب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك»، فيدعو عليهم رسول الله «سحقًا سحقًا لمن غير بعدي»، وفي رواية أخرى يقال له «والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم»، فكان ابن أبي مُلَيكة - أحد رواة هذا الحديث - يقول: (اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن عن ديننا) (¬2)، وكلمة "ما برحوا يرجعون" توحي بالتراجع البطيء المتواصل المؤدي إلى ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الاعتصام - باب 2 - الحديث 7282 (الفتح 13/ 250). (¬2) صحيح مسلم - كتاب الفضائل - باب 9 - الأحاديث 2289 - 2295 (شرح النووي 8/ 58).

الهاوية. وربما يصعب الرجوع بعد طول الاستدراج. فهنيئًا لمن استدرك نفسه لئلا تزل قدمه بعد ثبوتها. نجد كثيرًا من الأدعية تركز على معنى الثبات، ومن ذلك دعاء عبدالله بن مسعود: (الله إني أسألك إيمانًا لا يرتد، ونعيمًا لا ينفد ...) (¬1)، وقال شدَّاد بن أَوْسٍ: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعلِّمنا كلمات ندعو بهن في صلاتنا. الله إني أسألك الثبات في الأمر، وأسألك عزيمة الرشد) (¬2). ومن صور الثبات في الفتن: الصبر في أيام الصبر التي وصفها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «الصبر فيهن مثل القبض على الجمر»، وفي رواية: يأتي على الناس زمانٌ الصابر فيه على دينه، كالقابض على الجمر) (¬3)، ومن ذا الذي يثبت قابضًا على الجمر؟! لذلك بشَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن الثابت من هؤلاء له أجرُ خمسين من الصحابة: «إن من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهن يومئذٍ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم» (¬4). وفي أشد ما يلقاه المسلمون من الفتن حين يخرج الدجال ويعيث يمينًا وشمالاً، فإن الوصية الأساسية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي يوصي بها أمته حينئذٍ: «يا عباد الله، اثبتوا» (¬5). من أهم صور الثبات ¬

(¬1) مسند أحمد 1/ 400 من دعاء ابن مسعود. (¬2) مسند أحمد 4/ 125 وطرفه «ما من رجل يأوي إلى فراشه ..». (¬3) الرواية الأولى لأبي داود والترمذي، والثانية للترمذي (ضعف الأرناؤوط إسنادهما، وقواهما بشواهدهما) (جامع الأصول 10/ 403 الحديثان 7543 - 7545). (¬4) سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/ 812 الحديث 494. (¬5) صحيح سنن ابن ماجه 2/ 386 الحديث 3294/ 4075.

المداومة على الطاعات: فالمطلوب في بعضها المثابرة عليها، يروي الترمذي: «مَن ثابر ثنتَي عشرة ركعة من السُّنة بنَى الله له بيتًا في الجنة» (¬1). وفي رواية مسلم تقولُ أم حبيبة راوية الحديث، ويقول كلٌّ من عمرو بن أوس والنعمان بن ثابت - من رجال السند -: (ما تركتهن منذ سمعتهن) (¬2). وتقول عائشة رضي الله عنها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه) (¬3)، وعند مسلم كذلك (وكانت عائشة إذا عملت العمل لزمته) (¬4). وحين سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أحب الى الله؟ قال: «أدومه وإن قل» (¬5)، (وكان آل محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا عملوا عملاً أثبتوه) (¬6)، يقول النووي: (أي لازموه وداوموا عليه) (¬7). والثبات مظهر بارز للاستقامة؛ لأن المذبذب المتقلِّب لا يقدر على الثبات، ولا يقوى على الاستقامة، فقد كان الواحد من الصحابة يقول: يا رسول الله، حدِّثني بعملٍ أستقيم عليه وأعمله، فأجابه بأوجب ¬

(¬1) صحيح الجامع - الحديث 6183 (صحيح). (¬2) صحيح مسلم - كتاب المسافرين - باب 15 الحديث 728 (شرح النووي 3/ 252). (¬3) صحيح مسلم - كتاب المسافرين - باب 31 الحديث 221 (شرح النووي 3/ 321). (¬4) صحيح مسلم - كتاب المسافرين - باب 30 الحديث 218 (شرح النووي 3/ 319). (¬5) صحيح مسلم - كتاب المسافرين - باب 30 الحديث 216 (شرح النووري 3/ 318). (¬6) نفس المصدر السابق الحديث 215. (¬7) شرح النووي لصحيح مسلم 3/ 319.

الواجبات وقتها: «عليك بالهجرة فإنه لا مثل لها» (¬1). وكان من دقيق ملاحظة الصحابة لظاهرة الثبات في يلوك كل فرد أن بريدة بن الحصيب لقي سلمة بن الأكوع قادمًا من البادية فظن أنه قطع هجرته إلى المدينة وأقام خارجها، فقال له: (ارتددتَ عن هجرتك يا سليمة؟! فقال مسلمة: معاذ الله إني في إذنٍ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬2). ومن الملعونين على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المرتد أعرابيًّا بعد هجرته) (¬3)، هذه صورة الجيل الفريد كيف يحرِص على الثبات ويتواصى به، ويخشى الانقلاب على الأعقاب، وإلى عام (حجة الوداع) والرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعو للصحابة بالثبات على هجرتهم إلى المدينة لتقوى بهم الدولة الناشئة: «اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تردَّهم على أعقابهم» (¬4). والقول الجامع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيان حقيقة الإسلام: إيمان وثبات «قُل لي في الإسلام قولاً لا أسال عنه أحدًا بعدك، قال: قل آمنتُ بالله ثم استقم» (¬5). خلاصة هذا الفصل وعناصره: - أكثر الشباب قد لا يستمرون على حماس البدايات. ¬

(¬1) صحيح سنن النسائي - كتاب البيعة - باب 14 الحديث 3885 (حسن صحيح). (¬2) مسند أحمد 4/ 55. (¬3) صحيح الجامع - الحديث 5 (صحيح). (¬4) صحيح البخاري - كتاب الجنائز - باب 36 - الحديث 1295 (الفتح 3/ 164). (¬5) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب جامع أوصاف الإسلام.

- من صور الثبات: - الثبات في مواجهة العدو. - الثبات على دين الله. - الثبات على الاستقامة. - الثبات في أيام الفتن. - المداومة على فعل الطاعات. - المتذبذب قد يفتن الناس بعدم ثباته. - الثبات مظهر بارز للاستقامة. - مما يعين على الثبات التواصي به. - حقيقة الإسلام إيمان وثبات. ****

الباب السادس من أخلاقنا في الوجدان

الباب السادس من أخلاقنا في الوجدان الفصل الأول: الحياء. الفصل الثاني: الطيبة. الفصل الثالث: التواضع. الفصل الرابع: الإحساس والتأثر. الفصل الخامس: القناعة والعفة. ****

الفصل الأول الحياء

الفصل الأول الحياء

«الحياء لا يأتي إلا بخير». إنه لمن مظاهر التوازن، ومن علامات التكامل في التربية، أن تجد المؤمن القوي الحازم الدؤوب حييًّا خجولاً أديبًا وقورًا. والحياء الممدوح: (خلق يبعث على ترك القبيح) (¬1)؛ كما عرَّفه ابن حجر. أما التحرج من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، واتخاذ المواقف الجريئة في الحق، والتفقه في الدين، فليس من الحياء، وهذا بعض ما أشار إليه ابن حجر حين صنَّف الحياء إلى شرعي وغير شرعي، فقال: (الشرعي الذي يقع على وجه الإجلال والاحرتام للأكابر - وهو محمود - وأما ما يقع سببًا لترك أمر شرعي، فهو مذموم وليس هو بحياء شرعي، وإنما هو ضعف ومهانة) (¬2). لا ينبغي الحياء في المطالبة بالحقوق، ولا في تعليم الجاهل، ولا في السؤال عما لا نعلم، فقد قال مجاهد: لا يتعلم العلم مستحيٍ ولا متكبِّر، وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (نِعْم النساء نساءُ الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين) (¬3)، وكانت أم سُلَيم تسأل في مسائل دقيقة من أحكام النساء، وتستفتح سؤالها بقولها: (يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق)، قال ابن حجر: (أي لا ¬

(¬1) فتح الباري 10/ 522 عند شرحه لباب الحياء من كتاب الأدب - الحديث 6118. (¬2) فتح الباري 1/ 229 عند شرحه لباب الحياء في العلم من كتاب الإيمان. (¬3) صحيح البخاري - كتاب العلم - من ترجمة باب 50 (الفتح 1/ 228).

يأمر بالحياء في الحق) (¬1). ومَن لم يُرزَق الحياء بالفطرة، طُولِب به بالقصد والاكتساب والتعلُّم، خاصة وأنه الخلق المميز لأتباع هذا الدين، كما جاء في الحدث الحسن: «إن لكل دين خلقًا، وخلق الإسلام الحياء» (¬2)، وقد ورد أنه من سنن المرسلين، وأنه من الإيمان: «الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبَذاء من الجفاء، والجفاء في النار» (¬3)، وقد كان حبيبنا وقدوتنا (أشد حياء من العذراء في خدرها) (¬4) (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حييًّا كريمًا يستحيي ..) (¬5)، وبعد كل ذلك هل نختار الحياء أم البَذاء؟ ونتحلى بالإيمان أم بالجفاء؟ ونُؤثِر أخلاق أهل الجنة أم أخلاق أهل النار؟ لقد كان أهل الجاهلية - على جاهليتهم - يتحرَّجون من بعض القبائح بدافع الحياء، ومن ذلك ما جرى مع أبي سفيان عند هرقل، لَمَّا سئل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويقول في ذلك: (فوالله لولا الحياء من أن يؤثروا عليَّ كذبًا، لكذبتُ عنه) (¬6)، فمنعه من الحياء الافتراء على رسول الله، لئلا يوصف بالكذب، ويشاع عنه ذلك. وكذلك ما جرى مع السيدة خديجة، حيث وافق أبوها في حضرة جمعٍ من قريش - وهو سكران - على خطبتها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلما صحا من سكره، وفكَّر ¬

(¬1) المصدر السابق، عند شرح ابن حجر لقطعة من الحديث 130 من صحيح البخاري. (¬2) صحيح سنن ابن ماجه 2/ 406 - الحديث 3370/ 4181 (حسن). (¬3) صحيح سنن ابن ماجة 2/ 406 - الحديث 3373/ 4184 (صحيح). (¬4) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب 77 - الحديث 6119 (الفتح 10/ 521). (¬5) مسند أحمد 6/ 314. (¬6) صحيح البخاري - كتاب بدء الوحي - باب 6 - الحديث 7 (الفتح /31).

بالتراجع، ما ردعته إلا بالاستحياء من أن يقر بأنه كان سكران، فقالت له: (أما تستحيي؟ تريد أن تُسفِّه نفسك عند قريش، تخبر الناس أنك كنت سكران؟ فلم تزل به حتى رضي) (¬1)، وكم يحتاج المسلمون اليوم إلى إحياء هذا الخُلُق بالالتزام بالكلمة والارتداع عن الوقوع في القبائح أو الشبهات بشيءٍ من الحياء. ترى الرجل الحَيِيَّ يحتقنُ وجهه؛ وتحمرُّ وَجْنتاه، إذا صدر منه أو من غيره ما ينافي الحياء: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد حياءً من عذراء في خدرها، وكان إذا كرِه شيئًا رئي ذلك في وجهه) (¬2). ومن سمة الحياء: ما يتميز به الحَيِيُّ من مظاهر الوقار والسكينة؛ إذ روي عن بشير بن كعب قوله: (مكتوب في الحكمة: إن من الحياء وقارًا، وإن من الحياء سكينة) (¬3). قال القرطبي: (معنى كلام بشير: أن من الحياء ما يحمل صاحبه على الوقار، بأن يوقر غيره، ويتوقر هو في نفسه، ومنه ما يحمله على أنه يسكن عن كثير مما يتحرك الناس فيه من الأمور التي لا تليق بذي المروءة ..) (¬4)، فالحياء يحجز النفس عن كثير من خوارم المروءة، وقوادح الدين. ومن الحياء الواقع إجلالًا واحترامًا للأكابر: ما كان من ابن عمر حين سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحابة: «إن من الشجرِ شجرةً لا يسقط ورقها، وهي مثل المسلم، حدِّثوني ما هي؟» (¬5)، فعرَف ابن عمر أنها ¬

(¬1) مسند أحمد 1/ 312. (¬2) صحيح سنن أبن ماجه 2/ 406 الحديث 3369 (صحيح). (¬3) صحيح البخاري - كتاب الأدب باب: 77 الحديث: 6117 (الفتح 10/ 521). (¬4) عن فتح الباري 10/ 522 عند شرحه للحديث 6117 (¬5) صحيح البخاري - كتاب العلم - باب 4 - الحديث 61؟.

النخلة، واستحيا أن يُجيب، ويُعلِّل حياءه - كما في روايات الحديث - بأنه وجد نفسه أصغر الجالسين، وأنه رأى أبا بكر وعمر لا يتكلَّمان، فكرِه أن يتكلَّم (¬1). كم يشرح الصدر ذلك المجتمع الذي يستحيي في الصغير من الكبير، ويتعامل الناس فيه بالاحترام والتوقير. والحياء بنفسه وقاية من الوقوع في المعاصي، فقد ورد أن أحد الصحابة كان يعاتب أخاه على حيائه، وكأنما يقول له: قد أضر بك الحياء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْه فإن الحياء من الإيمان» (¬2)، قال أبو عبُيَد الهَرَوِي: (معناه أن المستحيي ينقطع بحيائه عن المعاصي، فصار كالإيمان القاطع بينه وبين المعاصي) (¬3)، ولذلك عمَّم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بيان ثمرات الحياء، فقال: «الحياء لا يأتي إلا بخير» (¬4)، ووصفه بأنه زينة للسلوك، فقال: «ما كان الفُحْش في شيءٍ قط إلا شانه، ولا كان الحياء في شيء قط إلا زانه» (¬5). ومظاهر الخجل الاجتماعي، التي قد تجر إلى الشر، لا يمكن أن تكون من الحياء المحمود شرعًا؛ إذ إنه لا يأتي إلا بخير، ومداراة بعض الأعراف الاجتماعية المنحرفة، لا يعد حياءً؛ لأن الحياء زين وليس بشَين، والانحراف هو عين القبح والشين. وكما أن الحياء أدب مع الخلق، فإن أسمى صورِه الأدب مع الخالق، وقد ورد أن عددًا من الأنبياء (آدم - نوح - موسى)، تطلب منهم الشفاعة يوم الموقف، والناس يقولون لكل منهم - لما يرون من ¬

(¬1) فتح الباري 1/ 146. (¬2) صحيح البخاري - كتاب الادب - باب 77 - الحديث 6118 (الفتح 10/ 521). (¬3) عن فتح الباري 10/ 522 عند شرح الحديث 6118 (¬4) صحيح البخاري - كتاب الادب - باب 77 - الحديث 6117 (¬5) صحيح سنن ابن ماجه 2/ 407 الحديث 3374 (صحيح)

هول الموقف -: «.. فاشفَع لنا عند ربك؛ حتى يُريحَنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناكم - ويذكر ذنبه فيستحيي - .. لست هناكم - ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم فيستحي - .. لست هناكم - ويذكر قتل النفس بغير نفس فيستحيي من ربه -» (¬1)، وكل منهم متحرج، ويمنعه الحياء من الجرأة على الشفاعة. ولإحساس المؤمن في الدنيا بأن الله يراه على جميع أحواله، فإنه يستحيي من ربه، ولذلك ورد في التستر عند الاغتسال في الخلوة، قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الله أحق أن يُستَحْيَا منه من الناس» (¬2)، والذي يستحيي من ربه، إن كشف عورته في خلوته، حريٌّ به أن يمنعه الحياء من الإقدام على معصية. ويكفي في فضيلة الحياء وأثره، أن الأنبياء السابقين حذروا من كسر حاجز الحياء، لئلا يقع المرء في كل القبائح - وليس له رادع ولا وازع - كما في الحديث: «إن مما أدرك الناسُ من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت» (¬3). ومن الوجوه التي يفهم بها هذا الحديث أنه: حيث تشعر بالحرج، وتخشى التأثم، فتوقف، وحيث يطمئن القلب، ولا تشعر بالحرجن فاصنع ما شئت. ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب التفسير - سورة 2 - باب 1 - الحديث 4476 (الفتح 8/ 160). (¬2) من معلقات البخاري في كتاب الغسل - باب 20. قال في الفتح 1/ 386: (.. وحسنه الترمذي وصححه الحاكم) .. (¬3) صحيح البخاري - كتاب الادب - باب 78 - الحديث 6120 (الفتح 10/ 523)

فاقد الحياء فليصنع ما يشاء، ولينظر بعدئذ ماذا يفعل الله به. ليس عجيبًا ما نراه من منكرات الأخلاق، إذا علمنا أن رادع الحياء قد مات، فالذي لا يستحيي - عادةً - يصنع ما يشاء، بلا حرج من أحد (¬1). أفلا يكون كل منا عونًا لأخيه في مجاهدة النفس، وتجنُّب ما لا يليق، والتزام حدود الأدب مع الخلق والخالق، في الخلوة والجلوة، وفي الغِيبة والشهادة، فقد جاء في الحديث: «إن الله عز وجل حليم، حَيِيٌّ، ستِّير، يحب الحياء والستر ..» (¬2)، وربما كان لاقتران الحياء والستر فيما يحب الله، إشارة إلى أنه حيث وجد الحياء، وجد الستر والعفاف، وحيث تحل الجرأة على القبائح، يحل معها التكشف والفضائح وعيوب النفس مستورة بجلباب الحياء، فإذا ما نزع الستر، تكشفت أمراض النفوس، وتجرأ الصغير على الكبير، وانطلق الناس من كل قيد، وتحرَّروا من كل وازع، وغرِقوا في أوحال الرذيلة، وستبقى الفطرة ميالة إلى الحياء والستر. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - الحياء خلق يبعث على ترك القبيح. - ليس من الحياء الامتناع عن التعلم أو المطالبة بالحقوق. - إن لكل دين خلقًا وخلق الإسلام الحياء. ¬

(¬1) يراجع فتح الباري 6/ 523 - شرح الحديث 3483 وكذا 10/ 523 - شرح الحديث 6120. (¬2) صحيح سنن النسائي 1/ 87 - كتاب الغسل - باب 7 - الحديث 393 (صحيح)

- أهل الجاهلية كان عندهم من الحياء ما يمنعهم من بعض القبائح. - الحياء وقار ومروءة. - من الحياء احترام الأكابر. - الحياء وقاية من الوقوع في المعاصي. - من أسمى الحياء التأدب مع الخالق. - الحياء وصية النبوة الأولى. - كمال الحياء حين يكون مع الستر. ****

الفصل الثاني الطيبة

الفصل الثاني الطيبة

«حتى يَميز الخبيث من الطيب». نعني بالطيبة سلامة الصدر، وصفاء النفس، ورقة القلب، ويتأصل هذا الخلق باستمرار التزكية للنفس، ثم تنعكس آثاره على السلوك: أخوةً وسماحةً وسكينةً ووفاءً، والذين يفتقدون هذا الخلق، تراهم غارقين في صور من التحاليل والكيد، وسوء الظن والخبث. ومعنى «الطيب» في اللغة: الطاهر والنظيف، والحسن والعفيف، والسهل واللين، وذو الأمن والخير الكثير، والذي لا خبث فيه ولا غدر (¬1)، ومن هذه المعاني نفهم المراد بالرجل الطيب، والزوجة الطيبة، والبلدة الطيبة، والقول الطيب، والذرية الطيبة، والريح الطيبة، والحياة الطيبة، وكلها معاني طهر وعفة وصفاء ونقاء، وهذا حال صاحب خلق «الطيبة». إن الله عز وجل حين خلق بني آدم «جعل منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن وبين ذلك، والخبيث والطيب وبين ذلك» (¬2)، ولا يستوي الخبيث والطيب، ولا يأتلف كل واحد إلا مع قرينه وشبيهه. وحرصًا من النبي - صلى الله عليه وسلم - على اعتزاز المؤمن بالطيبة، نهاه أن ¬

(¬1) يراجع في لسان العرب مادة (طيب) 1/ 563. (¬2) مسند أحمد 4/ 406. وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 1759.

ينسب الخبث إلى نفسه، فقال: «لا يقولن أحدكم خَبُثَت نفسي ..» (¬1)، ويورد ابن حجر قول ابن أبي حمزة في بيان الحكمة من هذا النهي، فيقول: (وفيه أن المرء يطلب الخير حتى بالفأل الحسن، ويضيف الخير إلى نفسه ولو بنسبة ما، ويدفع الشر عن نفسه مهما أمكن، ويقطع الوصلة بينه وبين أهل الشر حتى في الألفاظ المشتركة) (¬2). ولقد شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمن الذي يقرأ القرآن بثمرة «الأترُجَّة»: «طعمها طيب وريحها طيب» (¬3)، وضرب للمؤمن مثلًا آخر، فقال: «والذي نفس محمد بيده، إن مثل المؤمن لكمثل النحلة، أكلت طيبًا، ووضعت طيبًا ..» (¬4)، وكلها تؤكد على أصالة عنصر الطيبة في نفسية المؤمن، وسمة الخيرية في تعامله. والرجل الطيب، قد يختلف حاله .. فيكون أحيانًا أكثر انشراحًا، وأحسن بشاشة .. تبعًا لما يمر به من أقدار، وقد لاحظ الصحابة - رضي الله عنهم - ذلك مرةً على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقال بعضهم: «نراك اليوم طيب النفس، فقال: أجل. والحمد لله. ثم أفاض القوم في ذكر الغنى. فقال: لا بأس بالغنى لمن اتقى، والصحة لمن اتقى خير من الغنى، ¬

(¬1) (صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب 100 - الحديث 6179 (الفتح 10/ 563) (¬2) فتح الباري 10/ 564 (¬3) صحيح البخاري - كتاب التوحيد - باب 57 - الحديث 7560 (الفتح 13/ 535) (¬4) مسند أحمد 2/ 199 - وإسناده قوي: كما في تخريج الحديث 876 في سلسلة الأحاديث الصحيحة.

وطيب النفس من النعيم» (¬1). والعبادة صورة يومية من صور جلاء القلب، وتصفية النفس من كل خبث، ويؤكد هذا المعنى ما رواه البخاري، من أن الشيطان يعقد على قافية النائم ثلاث عقد، قائلاً له: «عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضَّأ انحلت عقدة، فإن صلَّى انحلَّت عقده كلها، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان.» (¬2). يقول ابن حجر: (قوله: طيب النفس؛ أي: لسروره بما وفَّقه الله له من الطاعة، وبما وعده من الثواب، وبما زال عنه من عقد الشيطان. كذا قيل. والذي يظهر أن في صلاة الليل سرًا في طيب النفس ..) (¬3). وما جعل الله مواطن البلاء إلا للتمحيص والتمييز، كما قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 79]، وفي ظلال الآية: أن دور الأمة المسلمة (يقتضي التجرد والصفاء، والتميز والتماسك .. وكل هذا يقتضي أن يصهر الصف؛ ليخرج منه الخبث .. ومن ثَمَّ كان شأن الله - سبحانه - أن يَميز الخبيث من الطيب) (¬4)، وتجري سنة الله في أن الزَّبَد يذهب جُفاءً، وأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض. ¬

(¬1) صحيح سنن ابن ماجه 2/ 6 - كتاب التجارات - باب 1 - الحديث 1741/ 2141 (صحيح) (¬2) صحيح البخاري - كتاب بدء الخلق - باب 11 - الحديث 3269 (الفتح 6/ 335) (¬3) فتح الباري 3/ 26 من شرح الحديث 1142 من كتاب التهجد. (¬4) في ظلال القرآن 1/ 525.

المؤمن الطيب رجل متورِّع عن الشبهات، ولقد كان أبو طلحة في مرض له ينزع غطاء فراشه؛ لما عليه من نقوش؛ فلما اعترض عليه بأنه ليس في الغطاء تصاوير منهي عنها، أجاب: (بلى. ولكنه أطيب لنفسي) (¬1). والمؤمن الطيِّب يحافظ على صفاء الود مع أخيه، كما في الحديث القدسي: «وحُقَّت محبتي للذين يتصافون من أجلي» (¬2)، ويبادر إلى زيارة أخيه المسلم، أو عيادته، فيقول الله له: «طبتَ وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلًا» (¬3). فالتصافي والتواصل علامة طيبة، ولا يتخلق بها إلا الطيب. والمجاهد الطيب لا يطمئن قلبه بالقعود حين يستنفر الناس، ولذلك وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسية صحابته الكرام - لو أنه خرج في كل سرية - فقال: «ولا تطيب أنفسهم أن يقعدوا بعدي» (¬4). ولذلك كان المنافقون - لما في نفوسهم من الخبث - لا يتحرَّجون من أن يتعللوا بأعذار واهية، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع صحابته في الحر والنصب، والمنازلة والطعان. وتطييب قلوب عباد الله من علامات طيب القلب، فقد وصف ¬

(¬1) صحيح سنن الترمذي 2/ 150 - كتاب اللباس - باب 18 - الحديث 1431/ 1819 (صحيح) (¬2) ميند أحمد 4/ 386 وطرفه «إن الله عز وجل يقول: قد حقت محبتي ....» (¬3) صحيح سنن الترمذي 2/ 195 - كتاب البر - باب 63 - الحديث 1633/ 2093 (حسن) (¬4) صحيح مسلم - كتاب الإمارة باب 28 - الحديث 106 (شرح النووي 13/ 25)

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين يؤدون إلى الناس حقوقهم - وافية وزائدة - بقوله: «أولئك خيار عباد الله عند الله يوم القيامة: المُوفُون المطيبون» (¬1)، وأقصر طريق إلى القلوب بالكلمة الطيبة: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم يكن فبكلمة طيبة» (¬2)، وقد وصف الله الصالحين من عباده بقوله: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24]. وإن الملائكة لتستقبل أرواح الطيبين: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ} [النحل: 32]، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل صالحًا قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فينفتح لها، فيقال: مَن هذا؟ فيقولون: فلان. فيقال: مرحبًا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان. فلا يزال يقال لها ذلك، حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل. وإذا كان الرجل السوء قال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري حتى تخرج، ثم يعرج إلى السماء، فلا يفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان، فيقال: لا مرحبًا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنها لا تفتح لك ¬

(¬1) مسند أحمد 6/ 269 ومطلعه: (ابتاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من رجل من الأعراب جزوراً) (¬2) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب 34 - الحديث 6023.

أبواب السماء، فيرسل بها من السماء ثم تصير إلى القبر» (¬1)، وعلى أبواب الجنة يقال لأهل الطيبة: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] بعد أن أحياهم الله الحياة الطيبة في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح. إن غلبة التعامل بالطيبة، ونقاء المجتمع من الخبث، حصانة من غضب الله وانتقامه، ولذلك تساءلت زينيب بنت جحش: «أفنَهلِكُ وفينا الصالحون؟»، فأجابها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نعم إذا كثر الخبث» (¬2). قال ابن العربي: (وفيه البيان بأن الخير يهلك بهلاك الشرير، إذا لم يغير عليه خبثه) (¬3). الطيب نقي القلب، سليم السريرة، حسن الظن بالناس .. ومن دعائه - صلى الله عليه وسلم -: «ونق قلبي من الخطايا، كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس» (¬4)، ولا يغُرَّنَّك ما يلصقه الخبثاء بالطيبين: من صفات الغفلة، وضعف العقل، وقلة الحيلة، والهوان على الناس. فلأن تكون مقبولًا عند الله خير لك من أَوْسِمة الدهاء والحيلة والخبث. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - من معاني الطيبة في اللغة والقرآن. - المؤمن يعتز بطيبته. ¬

(¬1) صحيح سنن ابن ماجه - كتاب الهد - باب 31 - الحديث 3437/ 4262 (صحيح). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الفتن - باب 28 - الحديث 7135 (الفتح 13/ 106). (¬3) نقلًا عن فتح الباري 13/ 109. (¬4) صحيح البخاري - كتاب الدعوات - باب 39 - الحديث 6368 (الفتح 11/ 1769.

- العبادات تؤصل الطيبة في القلب. - طيب النفس من النعيم. - مواطن البلاء تميز الخبيث من الطيب. - الطيب يتورع عن الشبهات. - الملائكة تدعو للمتحابين الطيبين. - لا يطيب قلب المؤمن بالقعود حين يُستنفر الناس. - من طيب القلب تطييب قلوب العباد. - النفس الطيبة ترحب بها الملائكة. - غلبة التعامل بالطيب وقاية من غضب الله. - أبرز ما في الطيب نقاء قلبه وسلامة سريرته.

الفصل الثالث التواضع

الفصل الثالث التواضع

«وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله». الله عز وجل عزيز، ويريد لعباده أن يكونوا عزيزين، على ألا تمتد مساحة عزتهم على إخوانهم، فتغدو عندئذٍ إعجابًا بالنفس، واستعلاءً على الآخرين، وحطًّا من شأنهم. والله عز وجل يمن على عباده أن هداهم للإيمان، فإن أبَوْا إلا الضلالة، فهو قادر على الاستبدال بهم قومًا يعتزُّون بإيمانهم، ويتواضعون لإخوانهم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَاتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]، فهذه الذلة على المؤمنين صفة المصطفين لحمل هذا الدين - حين يرتد عنه المرتدون. وفي تفسير الآية: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: يرأفون بالمؤمنين، ويرحمونهم، ويَلِينون لهم، ويغلظون على الكفار، ويعادونهم. قال ابن عباس: هم المؤمنين كالوالد للولد، والسيد للعبد. وهم في الغلظة على الكفار، كالسبع على فريسته؛ قال الله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] (¬1). وفي تعليل استعمال حرف الجر (على) في قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}؛ تفسيران: ففي قول إنه (ضمنه معنى الحنو والعطف ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن 6/ 220.

كأنه قال عاطفين على المؤمنين على وجه التذلل والتواضع)، وفي قول ثان أن (على) تدل على علو مقامهم، وأنه رغم فضلهم وارتفاع منزلتهم (يذلون ويخضعون لمن فضلوا عليهن مع شرفهم وعلو مكانهم) (¬1). العزة صفة محمودة، والكبر على الناس والعجب بالنفس مذمومان، وإن الله عز وجل قد حط من قيمة الدنيا في نظر المؤمن، وبين هوانها على الله؛ ليعلم الناس جميعًا أنه {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10] وأن الله يُكرِّم بها أولياءه حتى وهم في ذروة المحنة {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُون} [المنافقون: 8]، مع كل هذه العزة، فالمطلوب من المؤمن الشديد على الكفار، أن يتراحم مع المؤمنين، واللائق بالمؤمن العزيز على الكافرين، أن يتعامل بالذل على المؤمنين. يقول ابن قدامة المقدسي في حديثه عن التواضع: (واعلم أن هذا الخلق كسائر الأخلاق، له طرفان ووسط: فطرفه الذي يميل إلى الزيادة يسمى تكبرًا، وطرفه الذي يميل إلى النقصان يسمى تخسسًا ومذلة. والوسط يسمى تواضعًا - وهو المحمود - وهو أن يتواضع من غير مذلة ..) (¬2). إن من تأديب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين على خلق (الذلة على المؤمنين) أنه كان يدعو: «اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين» (¬3)، يقول ابن الأثير: (أراد به التواضع ¬

(¬1) تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 3/ 412. (¬2) مختصر منهاج القاصدين ص 254. (¬3) صحيح سنن الترمذي 2/ 275 كتاب الزاهد - باب 23 - الحديث 1917/ 2471 (صحيح).

والإخبات، وألا يكون من الجبارين المتكبرين) (¬1). وقد كان عمر - رضي الله عنه - عنه يُدرِّب ولاته على الذلة على الرعية، وينهاهم عن إذلال الناس، كما يعلم الناس حقهم في أن يعيشوا كرامًا، ومما جاء في خطبة له: (إلا إني والله ما أُرسِل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم؛ ليعلموكم دينكم وسنتكم، فمَن فُعِل به شيء سوي ذلك، فليرفعه إلى، فوالذي نفسي بيده إذًا لأقصنه منه ... ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ..) (¬2)، وكان عمر - رضي الله عنه - عنه يوصي واليه على الحمى بقوله: (اضمُمْ جناحك عن المسلمين واتقِ دعوة المسلم ينح فإن دعوة المظلوم مستجابة) (¬3). الاعتراف بالخطأ يحتاج إلى شجاعة كبيرة، ونزاهة عالية، وتواضع جم. وإن حدثتك نفسك أن اعترافك قد يضع من قدركن فأحرص على سلامة الحق، أكثر من حرصك على تزيين نفسك، كما أن قبول عذر المعتذر إليك تواضع رفيع، وكرم عال. فالنفوس الخبيثة تتمنى الزلة من الآخرين؛ لتتشفى بالنقد والمحاسبة والتشهير .. ويعبر ابن القيم عن هذا المعنى بقوله: (مَن أساء إليك ثم جاء يعتذر عن إساءته، فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته - حقًّا كانت أو باطلًا - وتكل سريرته إلى الله تعالى .. وعلامة الكرم والتواضع: انك إذا رأيت الخلل في عذره، لا توقفه عليه، ولا تحاجه ..) (¬4)، فابتعِد عن الإحراج، واقلب الصفحة، ¬

(¬1) من حاشية صحيح الجامع 1/ 271 تعليقًا على الحديث 1261. (¬2) مسند أحمد 1/ 41 وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: إسناده حسن (286). (¬3) صحيح البخاري - كتاب الجهاد - باب 180 - الحديث 3059 (الفتح 6/ 175). (¬4) تهذيب مدارج السالكين ص 433.

وابدأ من جديد، وسيكبر لك صاحبك حسن تجاوزك عنه، وعدم التحقيق في عذره. وإذا أصررت على أن تضع أخاك في موقف تذله فيه وتحاسبه محاسبة الأرباب، فقد تجرأت على حرب الله عز وجلن وليس لك به طاقة لما جاء في الحديث القدسي: «مَن أذل لي وليًّا فقد استحل محاربتي» (¬1)، والله ولي كل مؤمن. إن الذي يتصدر لقيادة الناس وتوجيههم، وكسب قلوبهم، لا بدَّ أن يتمتع بقدر كبير من التواضع، ولذلك أمر الله عز وجل نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215] فما بال أكابر أمته من بعده، وهم دونه في المنزلة والخلق، لا يخفضون جناحهم؟! وقد جاء في الحكم: (من كثر تواضعه كثر صديقه)، فإذا أردت أن تكسب أنصارًا لدعوتك، فعليك بالتواضع، واحذر العجب والكبر، وأخطره عجب الطاعة، الذي يجعلك تستصغر الناس إزاء ما تقوم به أنت من طاعات، ولذلك يروى عن مطرف قوله: (لأن أَبِيت نائمًا، وأصبح نادمًا، أحب إليَّ من أن أبيت قائمًا، وأصبح معجبًا) (¬2). ويعرف الفضيل بن عياض تواضع المؤمن بأنه: (أن يخضع للحق، وينقاد لهن ويقبله ممن قاله) (¬3)، وهذا الخضوع للحق هو عين العز؛ لأن طاعة الله، ورجوع إلى الصواب، وتعويد للنفس ألا تصر على ¬

(¬1) مسند أحمد 6/ 256. (¬2) مختصر منهاج الصادقين ص 254. (¬3) تهذيب مدارج السالكين ص 429.

باطل. ولذلك يقول - صلى الله عليه وسلم -: «وما تواضع أحد لله، إلا رفعه الله» (¬1)، ومن كان قصده رضا الله، هان عليه الانقياد للحق؛ كالذي روي عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه سئل عن مسألة، فغلط فيها، فلما نبه إلى غلطهن أطرق ساعة، ثم رفع رأسه فقال: (إذاً أرجع وأنا صاغر، لأن أكون ذَنَبًا في الحق، أحب إليَّ من أن أكون رأسًا في الباطل ((¬2)، وهذا الأصل في العالم، أن يتواضع لله وينقاد للحق؛ لأنه مقصوده، وإن كان بينه وبين من ظهر الحق على لسانه أي نوع من العداوة والاختلاف. وعدم الخضوع للحق هو عين الكبر والبغي، ولذلك عرَّف الرسول - صلى الله عليه وسلم - الكبر بقوله «الكبر: بطر الحق، وغَمْط الناس» (¬3)، وبهذا نرى أن التواضع بالإضافة إلى كونه خلقًا وجدانيًّا محمودًا، فإنه وقاية من الوقوع في الظلم، وحماية من التعالي والتفاخر على إخوة الدين، وفي الحديث: «إن الله أوحى إليَّ: أن تواضعوا؛ حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد» (¬4). ومن رفعة مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه حين رأى رجلًا يرتعد منه، وكأنما كان يظنه كملوك الأرض، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هوِّن عليك فإني لست بمَلِك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القَدِيد» (¬5)، وإقراره بما كانت عليه أمه من الفقر أو خشونة العيش، يزيد من إكباره في نفس سامعه، ولا يَضِيره شيئًا، ويدرب أصحابه بذلك على عدم ¬

(¬1) أخرجه مسلم والترمذي: (جامع الأصول 6/ 455 الحديث 4660). (¬2) تهذيب التهذيب 7/ 7 (12). (¬3) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب 39 - الحديث 147. (¬4) صحيح مسلم - كتاب الجنة - باب 16 - الحديث 64. (¬5) صحيح سنن ابن ماجه 2/ 232 الحديث 2677/ 3312 (صحيح).

التعالي على الخلق؛ باستحضار جوانب من بشريتهم، أو سابق حالهم، وبتذكر أنهم جميعًا بنو آدم، وآدم من تراب، وأن الكرم عند الله بالتقوى، وأن المتفاخر بالقيم الجاهلية أهون على الله من الجعلان. ومع ما عُرِف عن ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السرعة، فقد سبقتها مرة ناقة أعرابي، وشق ذلك على الصحابة، بينما تلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمر بكل بساطة، بل اغتنم الفرصة، وعمق في النفوس سنة كونية، فقال: «حق على الله: ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه» (¬1)، بحيث يرتدع المتعالين ويتواضع المتفاخر؛ لأنه لا يدوم شيء في الدنيا على حاله، فقد يَذِل الرفيع، ويرتفع الوضيع. ومن كمال ما عرف عن تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يخدم أهله - وهو القادر على أن يستعين بالخدم - ويُسلِّم على الصبيان الذين يلقاهم في الطريق - وهو الذي تهابُه الملوك - وحتى حين يكون في أوجِ قوَّتِه وانتصاره، لا يكون جبارًا في الأرض، فقد كان يوم غزو بني قُرَيظة على حمار مخطوم بحبل من ليف، وحين دخل مكة فاتحًا، دخل منكس الرأس، تواضعًا لربه، وحذرًا من تسلل مشاعر الكبر إلى نفس المنتصر، الذي تحدثه نفسه بأنه هو الذي صنع النصر، وقد ينسى فضل الله وتوفيقه، وقد وصف ابن تيمية حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (إنه اختار العبودية - والتواضع وإن كان هو الأعلى وهو ومن اتبعه - .. ولم يرد العلو، وإن كان قد حصل له) (¬2). ويكفي المتكبرين ليؤوبوا إلى رشدهم، أن يعلموا أن الله لا ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الجهاد - باب 59 - الحديث 2872 (الفتح 6/ 739). (¬2) مجموع فتاوى ابن تيمية 11/ 131.

يحبهم، ويصرفهم عن آياته، ويطبع على قلوبهم، ويسقيهم طينة الخَبَال، وتوعدهم بأن يقصمهم، و «مَن كان في قلبه مثقال حبة خَرْدل من كِبْر أكبَّه الله على وجهه في النار» (¬1)، كل هذا الجزاء من أجل مثقال حبة خردل من كبر، فكم يحتاج المرء إلى حفظ قلبه من مشاعر الكبر والعجب والغرور! ولا يدفع المرء إلى الكبر، إلا حب التميز عن الآخرين، أو الرغبة في عدم الخضوع لأحد، أو محاولة إخفاء نقص في ذاته، وكلها مهلكة للمرء «.. فأما المهلكات: فشُحٌّ مُطاع، وهوى متَّبع، وإعجاب المرء بنفسه» (¬2). كما يكفي المتواضع أن يعلم: أن الله يرفعه، وأن عباد الله تحبه، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوته، وأنه أعرف بقدر ربه وبقدر نفسه، فاحذر من الانزلاق مع وساوس الشيطان، وأهواء النفوس، لعلك تكون من الذين يحبهم الله ويحبونه {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين} [المائدة: 54]. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - الذين يحبهم الله ويحبونه متواضعون. - لا تعارض بين العزة على الكافرين والذلة على المؤمنين. - عمر يدرب ولاته على الذلة لرعيتهم. - من التواضع الاعتراف بالخطأ وقبول أعذار الناس. - خفض الجناح من صفات مَن يتصدر لقيادة الناس. ¬

(¬1) مسند أحمد 2/ 215 ورواته رواة الصحيح. (¬2) صحيح الجامع - الحديث 3045 (حسن)،

- من التواضع الخضوع للحق والانقياد له. - يعين على التواضع تذكر الأصل البشري الواحد. - من أعظم التواضع ما يكون في أوج القوة والانتصار. - يعين على التواضع استحضار ما فيه من الأجر وما على المتكبرين من الوزر. - يكفي المتواضع محبة عباد الله له ورفع الله إياه. ****

الفصل الرابع الإحساس والتأثر

الفصل الرابع الإحساس والتأثر

«من سرَّته حسنته وساءته سيئته، فذلكم المؤمن». المؤمن الذي يتمتع بدرجة عالية من الإحساس والتأثر، يبقي حي القلب، مرهف الحس، وينعكس ذلك على سلوكه، بتفاعله مع ما يجرى حوله، وانفعاله بما يثير ويحرك فيغضب الله، ويفرح لنصرة دين الله، ويتمعَّر وجهه إذا انتهكت حرمات الله، ويهتم لحال عباد الله وسطوة أعداء الله. والفاقد لهذا الخلق: تراه بليدًا جامدًا، ميت الشعور، خامل الإحساس، يتلقى كل ما يجري حوله بفتور، إلا أن يكون أمرًا يمس مصالحه الشخصية، فيثور له ويغضب ويهتم لأجله ويسعى، وهل أمر نفسه أولى عنده من أمور جميع المسلمين؟ وهل مصيبته في نفسه أشد عليه من كل مصائب المسلمين؟. إن صاحب (الإحساس والتأثر) يراعي مشاعر إخوانه، ويحترمها، ويحذر أن يمسها بسوء، يروى أن أبا سفيان - في هدنة صلح الحديبية - قبل إسلامه، مر على سلمان وصهيب وبلال، فأرادوا أن يسمعوه قولًا يغيظه، فقالوا: والله ما أخذت سيوفُ الله من عنق عدو الله مأخذها. فاستنكر عليهم أبو بكر ما قالوا، وقال لهم: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟! وذهب أبو بكر فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما جرى، فكان أول أمر أهم رسول الله، أن تساءل عن مشاعرهم تجاه ما صدر من أبي بكر، فقال له: «يا أبا بكر لعلك أغضبتَهم، لئن كنت أغضبتهم، لقد أغضبت ربك»، فأتاهم أبو بكر يسترضيهم، ويستعطفهم، قائلًا: يا إخوتاه! أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك

يا أخي (¬1) حين تكون هذه الصورة نموذجًا يحتذي في العلاقات بين الإخوة، تتحقق فينا أخوة الإسلام بأسمى صورها. ومن علامات حياة القلب، والتفكير في الآخرين، والاهتمام بأمورهم؛ أن يحزن المؤمن لحزن من يحب، ومن الصور البارزة لهذه المشاركة الشعورية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاور أصحابه في أسرى بدر، فرأى عمر أن يقتلوا، ورأى أبو بكر أن يعتبروا أسرى، ويؤخذ منهم الفداء، فمال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رأى أبي بكر، فلما نزلت الآية في اليوم التالي: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67]، والآية تعاتبهم {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ}، وتشير الآية التي تليها إلى أنه كان سيَمَسُّهم عذاب لذلك: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]. فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبكي، وأبو بكر يبكي معه، ووجدهما عمر على هذا الحال فقال: «يا رسول الله، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدتُ بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما» فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أبكي للذي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة ..» (¬2). وحين أذن الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بزيارة قبر أمه، (بكى هناك، وأبكى ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب فضائل الصحابة - باب 42 - الحديث 170 (شرح النووي 16/ 299). (¬2) صحيح مسلم - كتاب الجهاد - باب الإمداد بالملائكة - (شرح النووي 12/ 84 - 87).

من حوله) (¬1) من الصحابة، ولما زار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن عبادة - وهو يحتضر - فرأى ما غشِيه من نزع الروح، بكى (فلما رأى القوم بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، بكوا) (¬2)، وبذلك نرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان رقيق القلب، سريع الدمعة، بالغ التأثر، قوي الإحساس، وكذلك كان الصحابة من حوله، فكيف نجد قلوبنا من بعدهم؟ ومن شواهد هذا الإحساس، وذلك التأثر، في مجتمع المسلمين، أن امرأة من الأنصار، لما علمت حزن عائشة، لما رُمِيت به من حديث الإفك، ذهبت إليها، وجلست تبكي معها (¬3)، فهل يطيب لك نوم، وأنت تعلم أن أخًا لك في محنة؟ إذا وجدت مصائب إخوانك تمر على مشاعرك دون أن تحركها، وتعبُرُ أمام عينيك ولا تدمعها، فاعلم أن قلبك بحاجة إلى جلاء وإحياء. ومن أبرز ما يتمثل فيه خلق (الإحساس والتأثر): حزن المرء على نفسه إذا أذنب، وندمه على ما اجترح، بحيث يدفعه ذله إلى التوبة. يروى أن السيدة عائشة - رضي الله عنه - كانت نذرت أن تهجر ابن أختها عبدالله بن الزبير، ثم تَمَّ الإصلاح بينهما (.. وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي، حتى تبل دموعُها خمارَها) (¬4)، لحزنها على ما نذرت من شر، ثم يأتي على الناس زمان، يفعلون فيه الموبقات وهي أدق في عيونهم من الشعر؛ لاستصغارهم لما فعلوا، ويفعل أحدهم الذنب، فلا يتأثر له إلا كما يتأثر مَن وقفت على أنفِه ذبابة، فهشها ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب الجنائز - الحديث 108 (شرح النووي 7/ 52). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الجنائز - باب 44 - الحديث 1304 (الفتح 3/ 175) (¬3) صحيح البخاري - كتاب الشهادات - باب 15 - (الفتح 5/ 271). (¬4) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب 62 - الحديث 6073.

بيده وانتهى كل شيء. إن هذا لدليل ضعف الإيمان، وحياة القلب هي علامة الإيمان، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: «.. مَن سرَّته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن» (¬1)، ومثل هذا يأمن عذاب الله في الآخرة؛ لخوفه من ذنبه في الدنيا. قال أبو أيوب الأنصاري: (.. وإن الرجل ليعمل السيئة، فلا يزال منها مشفقًا، حتى يلقى الله آمنًا) (¬2)، وقد جاء في وصية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: «.. وابكِ على خطيئتك» (¬3). وأول علامات حياة القلب: الشعور بالخطأ، ثم الشعور بالندم، ثم البكاء، ولا يبكي من لم يندمْ، ولا يندم مَن لم يشعر بعظم ذنبه. إن التأثر بالمواقف التي تستدعي الشفقة والرحمة، صورة من صور هذا الخلق، ومن ذلك أن أبا أيوب الأنصاري رأى امرأة في السبي تبكي؟ فعلم أنه فرق بينها وبين ولدها، فجاءها بولدها فاعترض عليه أميره عبد الله بن قيس؟ وقال له: ما حملك على ما صنعت؟. قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من فرق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين الأحبة يوم القيامة» (¬4)، إنه التأثر لما قد يقع من ظلم، حتى على غير المسلمين. ومثل ذلك التأثر بالمواقف، التي تستدعي السخط على الظلم والظالمين، فقد ورد أن بعض الصحابة، أرادوا المرور بديار أصحاب الحجر، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تدخلوا على هؤلاء القوم ¬

(¬1) صحيح سنن الترمذي - أبواب الفتن - باب 7 - الحديث 1758/ 2268 (صحيح). (¬2) فتح الباري 11/ 330 وعزاه ابن حجر غلى أسد بن موسى في الزهد من حديث أبي أيوب الانصارى .. (¬3) صحيح سنن الترمذي - أبواب الزهد - باب 47 - الحديث 1961/ 2530 (صحيح) (¬4) مسند أحمد 5/ 413 وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/ 24.

المعذَّبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم مثلما أصابهم» (¬1). ومن المواقف التي تقتضي التأثر: رؤية ما يغضب الله، أو ينفر الناس من الدعوة، فقد شكا رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - طول صلاة إمامهن يقول أبو مسعود الأنصاري:) فما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في موعظة أشد غضبًا من يومئذ ((¬2). والحري بأن يكون أكثر الناس إحساسًا بإخوانه، وتأثرا لما يحبه الله أو يبغضه، ولما يفرح المؤمنين أو يغيظهم، الحري بذلك أكثر من غيره، من كان أكثر علمًان فمزيد العلم يزيد الخشية، فإذا لم يتفاعل المرء مع ما يتعلم لم يرقَّ قلبه ولم يخشع، وقد استعاذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع (¬3)، ولذلك لو وصل علمنا، إلى ما وصل إليه علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لضحكنا قليلًا، ولبكينا كثيرًا (¬4)، وقد كان الصالحون من سلف الأمة يتعهدون قلوبهم، فيقارنون بين حقيقة حالهم، ومحتوى أقوالهم، يقول إبراهيم التيمي: (ما عرضت قولي على عملي، إلا خشيت أن أكون مكذبًا) (¬5). إن القلوب إذا طال عليها الأمد قست، وإذا ذكرت لانت ورقت، وتأثرت وشفت، وذلك حال المؤمنين حقًّا: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2]. ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الصلاة - باب 53 - الحديث 433 (الفتح 1/ 530). (¬2) صحيح البخاري - كتاب العلم - باب 28 - الحديث 90 (الفتح 1/ 186). (¬3) يراجع مسند أحمد 2/ 167، وصحيح سنن النسائي 3/ 1112. (¬4) يراجع صحيح البخاري الحديث 1044 (الفتح 2/ 529). (¬5) صحيح البخاري= كتاب الإيمان - من ترجمة الباب 36 (الفتح 1/ 109)،

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]، بينما إخوان الشياطين الذين ماتت قلوبهم {يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 202]. إن هذا الدين بحاجة إلى مَن يتبنَّى همومه، ويحمل مسؤوليته، ويشعر بخطورة دوره، وليس بحاجة إلي أبواق رنانة، وأصوات طنانة، فليست النائحة كالثكلى. فتعهَّد حساسية قلبك نحو حالك مع الله، وأحوال المسلمين .. فإذا سرَّك الخير وأفرحك، وساءك الشر وأهمك فأنت مؤمن، حي القلب، يقظ المشاعر. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - الإحساس علامة حياة القلب ورهافة الشعور. - من علامات الإحساس: - تقدير مشاعر الإخوة ومراعاتها. - الحزن لحزنهم والفرح لفرحهم. - الوجد والبكاء في المواقف المؤثرة. - الحزن على النفس إذا أذنبت - التأثر بمواقف الظلم. - الانفعال عند رؤية المنكر. - أحرى الناس بالإحساس العلماء. - تقسو القلوب إذا طال عليها الأمد. - لا يقوم الدين إلا على أكتاف المتحرقين عليه.

الفصل الخامس القناعة والعفة

الفصل الخامس القناعة والعفة

«وكن قنعًا تكن أشكر الناس». صورة اللاهث على الدنيا، المتهافت على الاستكثار منها بجشع وطمع، الذي يرضى بالدنية، ويعتاد الشكوى، ويُلحِف في السؤال، هذه الصورة لا تنسجم مع عزة المجاهد، وقناعته، وتعففه، ورضاه بما قسم الله له. إن الاستسلام لدواعي الطمع ليس له نهاية، إذا أرخى المرء عنان شهواته؛ لذلك جاء في الحديث: «.. إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع ..» (¬1). ويغلب الطمع على المتنافسين في الدنيا وزينتها، والمتطلعين دوما إلى من هو فوقهم، يعلل الإمام النووي ذلك بقوله: (لأن الإنسان إذا رأى من فضل عليه في الدنيا، طلبت نفسه مثل ذلك، واستصغر ما عنده من نعمة الله تعالى، وحرص على الازدياد؛ ليلحق بذلك أو يقاربه، هذا هو الموجود في غالب الناس ...) (¬2). وهذا الحرص الزائد في نفس المرء، يفسد عليه دينه، كما جاء في الحديث: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الزكاة - باب 50 - الحديث 1472. (¬2) شرح مسلم للنووي - كتاب الزهد والرقائق - من شرح الحديث 2963.

على المال والشرف لدينه» (¬1). والتعلق القلبي الزائد بزينة الحياة، وبالاستكثار من المال، يستعبد المرء، وقد دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أولئك بالتعاسة: «تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة: إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس ...» (¬2). ولا تنال القناعة إلا بمجاهدة النفس وبتوفيق من الله «.. من يستعفف يعفه الله، ومن يستعن يغنه الله» (¬3) وقد كان الصحابي الكريم حكيم بن حزام يمتنع من أن يأخذ حقه في الفيء - رغم إلحاح سيدنا عمر عليه - ويفسر ابن حجر سبب ذلك بقوله: (وإنما أمتنع حكيم من أخذ العطاء - مع أنه حقه - لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئا، فيعتاد الأخذ، فتتجاوز به نفسه إلى ما لا يريده، ففطمها عن ذلك، وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه ..) (¬4). وقد عد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل الجنة: «عفيف متعفف، ذو عيال» (¬5) إذ أنه يجاهد نفسه مع وجود الحاجة. ومن تمام الاستعفاف: أن بعض الصحابة كانوا يبايعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ألا يسألوا الناس شيئا، ويصف الرواي حالهم بعد رسول الله، فيقول: (.. فلقد كان بعض أولئك النفر يسقط سوطه، فما يسأل ¬

(¬1) صحيح سنن الترمذي - كتاب الزهد - باب 30 - الحديث 1935/ 2495 (صحيح). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الجهاد - باب 70 - الحديث 2887. (¬3) صحيح البخاري - كتاب الزكاة - باب 50 - الحديث 1469. (¬4) فتح الباري - كتاب الزكاة - باب 50 - من شرح الحديث 1472. (¬5) صحيح مسلم - كتاب الجنة - باب 16 - الحديث 63.

أحدا أن يناوله إياه) (¬1) مبالغة منهم في الالتزام بما بايعوا عليه. وفي حوار مع أبي ذر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كيف أنت وجوعاً يصيب الناس، حتى تأتي مسجدك فلا تستطيع أن ترجع إلى فراشك، ولا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: عليك بالعفة ...» (¬2). ومن المجاهدة ألا تكون الشكوى إلا إلى الله، وألا ينتظر الفرج إلا منه سبحانه، ففي الحديث: «من أصابته فاقة فأنزلها بالناس، لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله، أوشك الله له بالغنى: إما بموت آجل، أو غنى عاجل» (¬3). وفي حالات الضرورة الشديدة التي تدفع المرء إلى أن يمد يده بالسؤال، شرط السؤال عدم وجدان الغنى لوصف الله الفقراء بقوله: يقول ابن حجر: {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ ...} [البقرة: 273]؛ إذ من استطاع ضربا بها فهو واجد لنوع من الغنى، والمراد بالذين أحصروا: الذين حصرهم الجهاد؛ أي: منعهم الاشتغال به من الضرب في الأرض - أي التجارة - لاشتغالهم به عن التكسب) (¬4). الصورة التي أذِن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسؤال، قيدها بحد معين «حتى يصيب قوامًا من عيش، أو سدادًا من عيش ... فما سواهن ¬

(¬1) ورواه مسلم أيضاً. كتاب الزكاة - باب (35) الحديث (1043) ورواه أبو دواد أيضاً. (¬2) صحيح سنن ابن ماجه - كتاب الفتن - باب 10 - الحديث 3197/ 3958 (صحيح). (¬3) صحيح سنن أبي داود - كتاب الزكاة - باب 29 - الحديث 144/ 1645 (صحيح). (¬4) فتح الباري 3/ 240 - كتاب الزكاة - باب 53 - .

من المسألة - يا قبيصة - سحتًا يأكلها صاحبها سحتًا» (¬1). وقد ذكر الإمام النووي اتفاق العلماء على النهي عن السؤال لغير ضرورة، واشترط في سؤال القادر على الكسب ثلاثة شروط: (ألا يذل نفسه، ولا يلح في السؤال، ولا يؤذي المسؤول، فإن فقد أحد هذه الشروط، فهي حرام بالاتفاق، والله أعلم) (¬2). والمال الذي يأتي بغير تطلع النفس إليه، قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا جاءك من هذا المال شيء - وأنت غير مشرف ولا سائل - فخذه، وما لا، فلا تُتبِعه نفسك» (¬3)، وفضَّل ابن بطال الأخذ على الترك، بشرط عدم استشراف النفس، وعلَّل الأفضلية بما يدل على مزيد فقه بطبائع البشر، فقال: (والوجه في تعليل الأفضلية: أن الآخذ أعون في العمل، وألزم للتصيحة من التارك، لأنه إن لم يأخذ، كان عند نفسه متطوعًا بالعمل، فقد لا يجد جدَّ مَن أخذ، ركونًا إلى أنه غير ملتزم، بخلاف الذي يأخذ، فإنه يكون مستشعرًا بأن العمل واجب عليه، فيجد جدَّه فيه) (¬4). ولكي تتوفر في المسلم، دواعي الكفاية والقناعة، بشرف وعزة، دعاه الإسلام إلى العمل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده، لأن يأخذ أحدكم حبله، فيحتطب على ظهره، خير له من أن يأتي رجلًا فيسأله، أعطاه أو منعه» (¬5)، وذكر ابن حجر من فوائد الحديث: ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب الزكاة - باب 35 - الحديث 1043. (¬2) شرح صحيح مسلم للنووي - كتاب الزكاة - باب 33 - . (¬3) صحيح البخاري - كتاب الزكاة - باب 51 - الحديث 1473. (¬4) نقلا عن فتح الباري 13/ 154 من شرح الباب 17 من كتاب الأحكام. (¬5) صحيح البخاري - كتاب الزكاة - باب 50 - الحديث 1470.

(الحض على التعفف عن المسألة والتنزه عنها، ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق، وارتكب المشقة في ذلك، ولولا قبح المسألة في نظر الشرع، لم يفضل ذلك عليها، وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال، ومن ذلِّ الرد إذا لم يُعطَ) (¬1). يقول أحمد في الدعوة إلى التوكل والتكسب: (أجرة التعليم والعلم، أحب إلب من الجلوس لانتظار ما في أيدي الناس، - وقال أيضا -: من جلس ولم يحترف، دعته نفسه إلى ما في أيدي الناس) (¬2). والزهد بما في أيدي الناس، يحبب المرء إليهم، وفي وصية موجزة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «.. وأجمعِ اليأسَ عما في أيدي الناس» (¬3)، كما في وصية جبريل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - «.. واعلَم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس» (¬4). وإذا علمنا ما كان عليه حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هان علينا أن نقنع بما نحن فيه، فقد وصف حاله النعمان بن بشير بقوله: (لقد رأيتُ نبيَّكم، وما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه) (¬5)، وكان - صلى الله عليه وسلم - يدعو: «اللهم اجعَل رزقَ آل محمد قوتًا» (¬6). ومن أسباب القناعة: أن ينظر المرء إلى حال مَن كان دونه؛ ليعرف ¬

(¬1) فتح الباري 3/ 336 - كتاب الزكاة - باب 50 - من شرح الحديث 1470. (¬2) نقلا عن فتح الباري - كتاب الرقاق - باب 16 - . (¬3) صحيح سنن ابن ماجه - كتاب الزهد - باب 1 - الحديث 3363/ 4171 (حسن). (¬4) صحيح الجامع - الحديث 73 (حسن). (¬5) صحيح سنن الترمذي - كتاب الزهد - باب 26 - الحديث 1932/ 2491 (صحيح). (¬6) صحيح سنن الترمذي - كتاب الزهد - باب 25 - الحديث 1924/ 2480 (صحيح).

نعمةَ الله عليه، كما جاء في الحديث: «انظروا إلى مَن أسفلَ منكم ولا تنظروا إلى مَن هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم» (¬1). وصاحب النفس العفيفة لا يرضى أن تكون يده السفلى، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة» (¬2)، وسيكون أكثر تعففًا؛ حين يتخيل هذا التصوير لمال الصدقة: يذكر عبد الله بن الأرقم أنه طلب بعيرًا من بيت المال، فعرض عليه جمل من الصدقة، فأبى واستنكر أن يعرض عليه ذلك، وقال لصاحبه: (أتحب أن رجلاً بادناً في يوم حار، غسل لك ما تحت إزاره ورُفْغَيْه، ثم أعطاكه، فشربته؟ فغضب الرجل وقال: يغفر الله لك، أتقول لي مثل هذا؟! فقال عبد الله بن الأرقم: إنما الصدقة أوساخ الناس؛ يغسلونها عنهم) (¬3). ووما يُقوِّي القناعة: علم المرء بأن السؤال ذل في الدنيا، وعذاب وفضيحة في الآخرة، وفي ذلك يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سأل الناس أموالهم تكثرًا، فإنما يسأل جمرًا، فليستقل أو ليستكثر» (¬4). وكذلك (من سأل وعنده ما يغنيه، فإنما يستكثر من النار) (¬5)، ولماذا يستكثر من حيزت له الدنيا بأمنها وعافيتها وقوت يومها؟: «من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت بومه، فكأنما حيزت ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب الزهد والرقائق - الحديث 2963. (¬2) صحيح مسلم - كتاب الزكاة - باب 32 - الحديث 1033. (¬3) الموطأ 2/ 1001 - كتاب الصدقة - باب 3 - الحديث 15 (قال الأرناؤوط في حاشية جامع الأصول 10/ 150 - إسناده صحيح) والرفغ: أصول الفخذين من باطن. (¬4) صحيح مسلم - كتاب الزكاة - باب 35 - الحديث 1041. (¬5) صحيح سنن أبي داود - كتاب الزكاة - باب 24 - الحديث 1435/ 1629.

له الدنيا» (¬1)، ولماذا يحزن المرء على شيء فاته من الدنيا، إذا اطمأن أنه من المفلحين؟ «قد أفلح من أسلم ورزق كفافا، وقنعه الله بما آتاه» (¬2)؟ وكيف يلهث طامعًا إذا علم بخطر ذلك على عاقبته، إن لم يؤد حقَّه؟: «الأكثرون هم الأسفلون، إلا من قال هكذا، وهكذا، وهكذا» (¬3). وما فائدة الاستكثار والكنز إذا كانت احتياجات المرء محدودة بضرورات معينة؟: «وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت أو ليست فأبليت؟!» (¬4). والخلل في قناعة المسلم قد ينشأ عن اهتزاز بعض مفاهيمه الإيمانية، من الرضا بالقدر، في العسر واليسر، لذلك كان من دعائه - صلى الله عليه وسلم -: «.. وأسألك نعيمًا لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بالقضاء» (¬5). وفي دعاء الاستخارة: «.. واقدر لي الخير حيث كان ثم رضِّني به» (¬6)، ومن دواعي الرضا بالتفكير بالأجر، كما في الحديث: «لو تعلمون ما لكم عند الله، لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة» (¬7)، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لو تعلمون ما ادُّخِر لكم، ما حزنتم ¬

(¬1) صحيح سنن الترمذي - كتاب الزهد - باب 21 - الحديث 1913/ 2463 (حسن). (¬2) صحيح مسلم - كتاب الزكاة - باب 43 - الحديث 1054. (¬3) صحيح سنن ابن ماجه - كتاب الزهد - باب 8 - الحديث 3333/ 4131 (حسن صحيح). (¬4) صحيح سنن الترمذي - كتاب الزهد - باب 21 - الحديث 1909/ 2459 (صحيح). (¬5) صحيح سنن النسائي - كتاب السهو - باب 62 - الحديث 1238 (صحيح). (¬6) صحيح البخاري - كتاب التوحيد - باب 10 - الحديث 7390. (¬7) صحيح الجامع - الحديث 5265 (صحيح).

على ما زوي عنكم» (¬1). قد يكون أب فقيرً قانعًا مستعففًا، كما قد يكون الغني طماعًا جشعا، ذلك لأن الغنَى غنى النفس، قال - صلى الله عليه وسلم -: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس» (¬2)، وقد وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حال الناس في القرون المتأخرة، فعد من أشراط الساعة «.. وأن يعطى الرجل ألف دينار، فيتسخطها» (¬3)، وهذا من أشد صور الحرص والطمع، كما أن القناعة أعلى صور الشكر والرضا: «.. وكن قنعًا تكن أشكر الناس» (¬4). خلاصة هذا الفصل وعناصره: - المستسلم لدواعي الطمع كالذي يأكل ولا يشبع. - التنافس على الدنيا من دواعي الطمع. - لا تُنال القناعة إلا بالمجاهدة. - من تمام عفَّة الصحابة بيعتهم على ألا يسألوا الناس شيئًا. - من شروط العلماء في السؤال: - عدم وجدان الغنى. - عدم إذلال النفس. - عدم الإلحاح في السؤال. - عدم استشراف النفس. ¬

(¬1) صحيح الجامع - الحديث 5261 (صحيح). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الرقاق - باب 15 - الحديث 6446. (¬3) صحيح الجامع - الحديث 3607 (صحيح). (¬4) صحيح الجامع - الحديث 4580 (صحيح).

- يعين على العفة والقناعة: - العمل لتأمين الكفاية. - الاقتداء بحال السلف. - النظر إلى من هو دونك. - استحضار ما في السؤال من ذل الدنيا والآخرة. - احتياجات المرء محدودة فلا حاجة للطمع. - تصاب القناعة بالخلل إذا اهتز الإيمان بالقدر. - من أغرب الأحوال قناعة الفقير وطمع الغني. - القناعة أعلى صور الشكر والرضى. ****

الباب السابع من أخلاقنا في ضبط السلوك

الباب السابع من أخلاقنا في ضبط السلوك الفصل الأول: تجنب الفتن. الفصل الثاني: الأعذار. الفصل الثالث: القصد. الفصل الرابع: المراجعة والتصحيح. الفصل الخامس: الحرص على الانتفاع. الفصل السادس: المداومة على فعل المعروف. ****

الفصل الأول تجنب الفتن

الفصل الأول تجنب الفتن

«إن السعيد لمن جُنِّب الفتن ..». نعني بالفتنة ما يصيب الفرد أو الجماعة من هلاك أو تراجع في المستوى الإيماني، أو زعزعة في الصف الإسلامي. من أول أسباب الوقوع في الفتنة استعداد القلب لقَبولها كما في الحديث «تُعرَض الفتن على القلوب .. وأي قلب أُشرِبَها نُكِتَت فيه نكتة سوداء» (¬1)، وكذلك قَبول السعي فيها، ففي الصحيح «.. الماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه» (¬2)؛ أي: مَن تطلَّع لها صرعته فيها. وأشد ما يُؤجِّج الفتن الخوض بالألسنة، يقول القرطبي في تعليل أسبابِ كثيرٍ من الفتن أنها تبدأ: (بالكذب عند أئمة الجور، ونقل الأخبار إليهم، فربما ينشأ من ذلك الغضب والقتل، أكثر مما ينشأ من وقوع الفتنة نفسها) (¬3). وكم تكبُرُ الفتنة حينما يبني المرء موقفه على وهم!! وذلك مثلما حصل مع الصحابيَّين الكريمين أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - حينما أشار أبو بكر بتأمير رجل على وفد بني تميم وأشار عمر بتأمير ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب 65 - الحديث 231 - واللفظ لأحمد 5/ 386. (¬2) صحيح البخاري - كتاب الفتن - باب 9 - الحديث 7081. (¬3) عن عون المعبود 11/ 347.

غيره، فقال أبو بكر: (إنما أردتَ خلافي)، وعمر يقول له: (ما أردت خلافك)، وعلت أصواتُهما عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إن راوي الحديث قال: (كاد الخيِّران أن يهلِكا) (¬1). وأخطر ما يقود إلى الفتن تقديم الرأي على حكم الشرع، فقد جاء في صحيح البخاري أن سهل بن حُنَيف قال عند فتنة الصحابة: (أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم) (¬2). وقد تفر من الفتنة فيلاحقك أهلها وأنت كاره للخوض فيها كما ورد عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -: (إن ناقدت ناقدوك، وإن تركتهم لم يتركوك، وإن هربت منهم أدركوك) (¬3). وقد يكون استلامك لإمارة لا تقدر عليها سببَ فتنةٍ لك ولمن معك، ولذلك جزع عمرو بن العاص - رضي الله عنه - جزعًا شديدًا لما حضرته الوفاة، وتذكر حياته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن قال: «فلو مت حينئذٍ قال الناس: هنيئًا لعمرو أسلم وكان على خيرٍ فمات فرُجِي له الجنة، ثم تلبست بعد ذلك بالسلطان وأشياء، فلا أدري عليَّ أم لي ..» (¬4). وإن كنت في موضع القدوة أو الإمرة فلا تحمل الناس ما لا يُطِيقون، فتفتنهم، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما علم أن معاذاً - رضي الله ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الاعتصام - باب 5 - الحديث 7302. (¬2) صحيح البخاري - كتاب الاعتصام - باب 7 - الحديث 7308 موقوف على سهل ابن حنيف. (¬3) كنز العمال: الحديث 30989 - وقال: «رواه الخطيب وابن عساكر .. وصحح الخطيب وقفه». (¬4) مسند أحمد 4/ 199.

عنه - يُطِيل الصلاة بالناس قال له ثلاثًا: «يا معاذ! أفتَّان أنت؟!» (¬1)، وفي خطبة لعمر - رضي الله عنه - قوله (ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم) (¬2). وإن الانشغال بالقول عن العمل كثيرًا ما يفضي إلى كثير من الفتن والمشكلات، يقول ابن تيمية - رحمه الله -: (فإذا ترك الناس الجهاد في سبيل الله فقد يبتليهم بأن يوقع بينهم العدواة، حتى تقع بينهم الفتنة - كما هو الواقع -) (¬3)، وفي المثل: (العسكر الذي تسوده البطالة يجيد المشاغبات) (¬4). إن من آثار الفتنة أنها تُنسِي الواقعين فيها حقائق يعرفونها وحدودًا كانوا يلتزمونها، وإن الواقِع في الفتنة تخف تقواه، ويرقُّ دينه، ولذلك حين يبعد أناس عن الحوض كان يظنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أمته يجاب: «لا تدري مشوا على القَهْقَرى»، قال راوي الحديث - ابن أبي مُلَيْكة -: (اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نُفتَن) (¬5). وفي الحديث الذي يسأل فيه حُذَيفةُ عن الشرِّ: «.. يا رسول الله، الهدنة على الدخن ما هي؟ قال: «لا ترجع قلوب أقوام على الذي ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب 74 - الحديث 6106. (¬2) مسند أحمد 1/ 41. قال الشيخ أحمد شاكر: إسناده حسن (286). ومعنى تجمروهم: أي تطيلون غيابهم عن زوجاتهم. (¬3) مجموع فتاوي ابن تميمة 15/ 44. (¬4) نقلا عن كتاب (العوائق) ص 15. (¬5) صحيح البخاري - كتاب الفتن - باب 1 - الحديث 7048.

كانت عليه» (¬1)، يقول شارح الحديث: (أي لا تكون قلوبهم صافية عن الحقد والبغض كما كانت صافية قبل ذلك) (¬2). ترى الرجل العاقل ولا تدري أين ذهب عقله في حال وقوع الفتنة، ينقل ابن حجر حديثًا لابن أبي شيبة في الفتن: «ثم فتنة تموج كموج البحر وهي التي يصبح الناس فيها كالبهائم»؛ أي: لا عقول لهم، ويؤيده حديث أبي موسى: «تذهب عقول أكثر ذلك الزمان» (¬3). وحين بيَّن ابن حجر استحباب الاستعاذة من الفتن، حتى في حق مَن علم أنه على حق، علل ذلك بقوله: (لأنها قد تُفضِي إلى وقوع ما لا يرى وقوعه) (¬4). ومن أخطر آثار الوقوع في الفتن انعدام التأثر بالموعظة، روى أحمد (أن أخاً لأبي موسى كان يتسرع في الفتنة فجعل ينهاه ولا ينتهي فقال: (إن كنت أرى سيكفيك مني اليسير - أو قال من الموعظة - دون ما أرى ...) (¬5)، بل ويستصغر الناس المعاصي. يقول عبدالله بن عمر: (في الفتنة لا ترون القتل شيئاً) (¬6)، فما سبيل النجاة من الفتن؟ من المنجيات من الفتن: أن تتنازل عن حقك في الدنيا، وإن كان ¬

(¬1) صحيح سنن أبي داود للألباني - الحديث 3571 (حسن). (¬2) عون المعبود 11/ 317، عند شرحه للحديث 4227. (¬3) فتح الباري 13/ 49 - كتاب الفتن - الباب 17. (¬4) فتح الباري 13/ 52، عند شرحه للحديث 7098. (¬5) مسند أحمد 4/ 401، والشاهد من الحديث موقوف على أبي موسى. (¬6) مسند أحمد 2/ 32، موقوفا على عبدلله بن عمر.

الصبر على ذلك شاقاً على النفس، كما جاء في سنن أبي داود: «إن السعيد لمن جُنِّب الفتن - ثلاثاً - ولمن ابتلي فصبر فواهاً» (¬1)، ومن كانت الفتنة تحيط به ولا مُنجِيَ به منها فليفرَّ بدينه من الفتن أو ليكثر من العبادة كما في الحديث: «العبادة في الفتنة كالهجرة إليَّ» (¬2)، والتزود بالأعمال الصالحة مطلوب للوقاية من الفتنة قبل وقوعها، قال - صلى الله عليه وسلم -: «بادروا بالأعمال فتنًا» (¬3). يقول النووي في شرح الحديث: (معنى الحديث الحث على المبادرة إلى الأعمال قبل تعذُّرها، والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتراكمة المتكاثرة) (¬4). ومَن كان يملك أسباب الفتنة فليتخلَّص منها كما جاء في الحديث: «كسِّروا فيها قِسِيَّكم» (¬5) حتى إن كعب بن مالك - رضي الله عنه - يذكر في قصة الثلاثة الذين خلفوا؛ كيف جاءه كتاب من ملك غسَّان وفيه (قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نُواسِك)، يقول كعب: (فقلت لما قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء فتيمَّمت التنُّور فسجرتُه بها) (¬6). ¬

(¬1) صحيح سنن أبي داود للألباني - الحديث 3585 (صحيح). (واهاً: ما أطيب الصبر على البلاء). (¬2) مسند أحمد 5/ 27، وفي صحيح الجامع برقم 4119 بلفظ «العبادة في الهرج ..» (صحيح) (¬3) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب 51 - الحديث 186. (¬4) شرح صحيح مسلم للنووي 1/ 492. (¬5) صحيح سنن الترمذي للألباني - الحديث 1795/ 2314 (صحيح). (¬6) صحيح البخاري - كتاب الفتن - باب 17 - الحديث 7098.

وحاول في الفتنة ألا تكون أميرًا فإن أسامة - رضي الله عنه - كان يقول: (ما أنا بالذي أقول لرجل - بعد أن يكون أميرًا على رجلين -: أنت خير) (¬1)، يقول ابن حجر: (فكان أسامة يرى أنه لا يتأمر على أحد، وإلى ذلك أشار بقوله: لا أقول للأمير: إنه خير الناس) (¬2). والدعاء بالحماية من شرور الفتن سبب من أسباب النجاة ففي مسند أحمد: «وإذا أردت بعبادك فتنة أن تقبضني إليك غير مفتون» (¬3)، وفي دعاء عمر - رضي الله عنه -: (نعوذ بالله من شر الفتن)، وقال أنس - رضي الله عنه -: (عائذاً بالله من شر الفتن) (¬4). وينجيك عند الله أن تنكر الفتنة، ولا ترضى بها، ولا تعين عليه، قال - صلى الله عليه وسلم -: «.. وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامتِ السماوات والأرض» (¬5). وأهم المنجيات أن يفقه المرء دينه، وأن يميز حدود الشرع - دون التباس - فقد نقل ابن حجر عن ابن أبي شيبة حديثاً عن حذيفة يقول فيه: (لا تضرك الفتنة ما عرفت دينك، إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل) (¬6). ورغم كل هذه الأسباب المنجية وغيرها، لا بدَّ للقلب من أن يبقى ¬

(¬1) فتح الباري 13/ 52، عند شرحه للحديث 7098. (¬2) مسند أحمد 1/ 368، وفي صحيح الجامع برقم 59 (صحيح). (¬3) صحيح البخاري - كتاب الفتن - باب 15 - الحديث 7089. (¬4) صحيح البخاري - كتاب الفتن - باب 15 - الحديث 7090. (¬5) صحيح الجامع برقم 2960، ورواه أحمد ومسلم. (¬6) فتح الباري - 13/ 49 - كتاب الفتن - من شرحه للباب 17.

معلقا بالله، وحقاً: «إن السعيد لمن جُنِّب الفتن»، فاجتناب الفتن حفظ رباني، أكثر من كونه كسبًا بشريًّا، فخذ بالأسباب واستعِن بالله. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - من أسباب الوقوع في الفتنة: - استعداد القلب لقبولها. - الخوض بالألسنة واعتقاد الأوهام. - تقديم الرأي على حكم الشرع. - استلام إمارة لا يُعان عليها. - الانشغال بالقول عن العمل. - من آثار الفتنة: - تُنسِي الناس حقائق يعرفونها. - ترقق الدين. - تُذهِب العقل. - تعدم التأثر بالموعظة. - من المنجيات من الفتن: - التنازل عن حقك في الدنيا. - الفقه في الدين. - التخلص من وسائل الفتنة وأسبابها. - عدم تولي إمرة في الفتنة. - الدعاء بالحماية من شرها. - إنكار القلب للفتنة. - التزود بالعمل الصالح. - اجتناب الفتن حفظ رباني أكثر من كونه كسبًا بشريًّا.

الفصل الثاني الإعذار

الفصل الثاني الإعذار

«مَن أقال مسلمًا أقاله الله عثرته». لما بالغ الناس بسوء الظن وبالمبادرة الى التعنيف والتأثيم، كان لا بدَّ من وقفة مع (الإعذار)، ونعني به: العفو عن المخطئ المستعفي عن إساءته، وقبول عذر صاحب العذر، والتماس العذر لمن لا نعرف عذره. يساعدك في قبول عذر إخوانك أو التماس العذر لهم، أن تكون في تقويم الناس والحكم على أعمالهم، بعيدًا عن الاعتداد برأيك، متهمًّا لنفسك، يقول سهل بن حُنَيف - رضي الله عنه -: (يا أيها الناس! اتهموا رأيكم على دينكم؛ لقدر رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددته ..) (¬1)، وعلل مقولته تلك بأنهم - في نظر العقل - ما كانوا يعذرون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية، مما كاد يجعلهم يردون أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتوقع سوء التقدير منك قبل المسارعة إلى اتخاذ رأي أو موقف. كما يساعدك على الإعذار؛ الفقه في الدين وإدراك حدود الشرع، يقول أنس بن مالك: (لقد كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة، لو صلاها أحدكم اليوم لعِبْتُموها عليه) (¬2)، فقد يكون منشأ إنكارك هو جهلك، وليس خطأ أخيك. وحين يخالفك أخوك في الاجتهاد، قد يكون في الأمر سَعة لا ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الاعتصام - باب 7 - الحديث 7308. (¬2) مسند أحمد 3/ 158، موقوفاً على أنس بن مالك.

تقتضي الإنكار عليه، يقول أنس بن مالك: (كنا نسافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يُعِب الصائم على المُفطِر ولا المفطر على الصائم) (¬1)، وفي مثل هذه المواطن تجد الحكمة في أن نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه. وليس من التقوى أن تتتبع عَوْرات الناس، وتحصى عليهم زلاتهم، فقد (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطرق الرجل أهله ليلًا؛ يتخوَّنهم، أو يلتمس عثراتهم) (¬2)؛ وذلك لأن الأصل حسن الظن والستر، وليس إقامة الحجة على الناس بتأثيمِهم أو استدراجهم للوقوع في الإثم، فذلك مخالف لخلق (الإعذار). وإذا عرَض أخوك عليك عذرًا، فلا تُجادِله فيه، يقول ابن القيم: (وعلامة الكرم والتواضع، أنك إذا رأيت الخلل في عذره، لا توقفه عليه ولا تحاجه؛ وقل: يمكن أن يكون الأمر كما تقول) (¬3). وإن دواعي الإعذار لكثيرةٌ؛ على رأسِها أن الله سبحانه يحب أن يعذر ولذلك لا يعذب عباده؛ حتى يقيم عليهم الحجة؛ بحيث لا يبقى لهم عذر، وقد صرح بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين» (¬4). وكل واحد منا لا بد أن يهفو، ويحب عندئذٍ أن يجد من ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الصوم - باب 37 - الحديث 1947. (¬2) صحيح مسلم - كتاب الإمارة - باب 56 - الحديث 184. (¬3) تهذيب مدارج السالكين - منزلة التواضع - ص 433. (¬4) صحيح البخاري - كتاب التوحيد - باب 20 - الحديث 7416.

يعذره، ولذلك جاء في الحديث: «مَن أقال مسلمًا أقاله الله عثرته» (¬1)، فتجاوزك عن عثرة أخيك تجده في تجاوز الله عن عثرتك. ومن دواعي الإعذار مراعاة الضعف البشري الذي يصيب كل إنسان، فإن آخر رجل يدخل الجنة كلما أعطاه ربه شجرة قريبة إلى الجنة يستظل بها، ويشترط الله عليه أن يعاهد على ألا يطلب غيرها، وبعد أن يعاهد على ذلك، يرى شجرة غيرها أقرب إلى الجنة، فيطلب من ربه أن يدنيه إليها، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «وربه عز وجل يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه» (¬2)، لو تذكرت هذا فسوف تعذر أخاك في كثير مما لا صبر له عليه، وكلنا نضعف. ومن صور الإعذار أن تعذر صاحب المنزلة والوجاهة الذي لا يعرف بالشر، فلا تغلظ عليه، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بإقالة عثرته: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود» (¬3). ولما بدأت بوادر عداوة عبد الله بن أبي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال سعد بن عُبادة: «يا رسول الله، اعفُ عنه واصفح» (¬4) وعلل طلب العفو؛ بأن هذا الرجل كاد يتوج ملكاً على المدينة، وأنه أحس وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدومه إلى المدينة - قد استلبه ملكاً، وذلك سر عداوته، وكان هذا التعليل محاولة من سعد بن عبادة لإعذار رأس المنافقين أمام ¬

(¬1) صحيح سنن ابي داود للألباني - كتاب الإجازة - باب 18 الحديث 2954/ 3460 (صحيح). (¬2) صحيح مسلم ح - كتاب الإيمان - باب 83 - الحديث 187. ورواه أحمد 1/ 410. (¬3) صحيح سنن أبي داود للألباني - كتاب الحدود - باب 4 - الحديث 3679/ 4375 (صحيح). (¬4) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب 115 - الحديث 6207.

عوامل الضعف البشري. ولما نزلت آية القذف تشترط أربعة شهود، تساءل سعد بن عبادة: «أهكذا نزلت يا رسول الله؟!»، فتعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - من تساؤله، غير أن الأنصار قالوا: «يا رسول الله! لا تلمه؛ فإنه رجل غيور» ثم تكلم سعد: «والله يا رسول الله! إنى لأعلم أنها حق، وأنها من الله تعالى» (¬1)، ووضح سبب تساؤله، بأنه لو ذهب يبحث عن أربعة شهود، يكون الزاني قد قضى حاجته، فقبِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عذره، وأعلمه أن الله أغير منه، وهكذا إن كان لأخيك طباع خاصة تدفعه إلى سلوك لا ترضاه فتأول له، وأرفق به، واستوضحه. وإن من دواعي الأعذار توقع الجهل من المذنب ففي حديث ماعز أنه لما جاء يعترف بالزنا قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لعلك قبَّلت، أو غمزت، أو نظرت»، يقول ابن عباس: (كأنه يخاف ألا يدري ما الزنا) (¬2)، فخشية أن يكون قد جهل المعنى الشرعي للزنا استفسر، فلما تحقق من وقوعه فيما لا يحتمل الشك، أقام عليه الحد الشرعي. ومن شواهد الأعذار بالجهل قصة رجل ممن قبلنا، «طلب من بنيه أن يُحرقوه إذا مات، ويذروه في الريح؛ حتى لا يقدر الله على جمعه وتعذيبه - بظنه - فجمعه الله، وسأله ما دفعك إلى هذا؟ قال: يا رب خشيتك، فغفر الله له» (¬3)، واستدل بعض العلماء بذلك على أعذار هذا ¬

(¬1) مسند أحمد 1/ 238. والقصة عن البخاري (حدود - باب 40) ومسلم (اللعان - باب 16). (¬2) هذا جمع بين رواية البخاري (حدود - باب 28 - الحديث 6824) ورواية مسند أحمد 1/ 325، وموضع الشاهد من رواية أحمد. (¬3) صحيح البخاري - كتاب الأنبياء - باب 54 - الحديث 3481. وله روايات عديدة ويراجع فتح الباري 6/ 522 - 523.

الرجل بجهله في مسألة من مسائل العقيدة، أو أعذاره بشدة خوفه من الموت، وأنه لم يقصد حقيقة ما قال، أفلا تعذر أخاك بجهله فيما هو أدنى من هذا؟! مع أن هذا في حق الله، أفلا تعذر في حق نفسك؟ قال ابن القيم: (من أساء إليك، ثم جاء يعتذر عن إساءته، فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته - حقًّا كانت أو باطلًا - وتكل سريرته إلى الله) (¬1)، فكن متواضعًا واعذِرْ. وإنَّ بعض جوانب الخير في شخصية أخيك المسلم لتدعوك أن تعذِرَه، بأن الشر ليس أصيلًا في نفسه، وفي صحيح البخاري أن رجلًا جلد بشرب الخمر، فلعنه رجل من القوم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا تلعنوه، فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله» (¬2)، فالأعذار بلمسة الحنان والرفق والإعانة على الشيطان، فيما عدا الحد فإنه حق الله، ولا رأفة فيه إذا ثبت، يقول ابن القيم: (الله عز وجل أرحم وأغنى وأعدل من أن يعاقب صاحب عذر، والثابت أنه لا عذر لأحد البتة في معصية الله ومخالفه أمره، مع علمه بذلك، وتمكنه من الفعل والترك) (¬3)، فإنه لا تعارض بين وجوب الأعذار، ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكم تكون ظالماً حين تتهم النيات! وكم تكون متكبرًا حين تستعلي على عذر أخيك. بالأعذار تستطيب القلوب، وتقضي على بذرة الشر، وتستأصل الضغينة، وتعين على التوبة، فلنخذل ¬

(¬1) تهذيب مدارج السالكين - منزلة التواضع - ص 433. (¬2) صحيح البخاري - كتاب الحود - باب 5 - الحديث 6780. (¬3) تهذيب مدارج السالكين - منزلة التوبة ص 126.

الشيطان ولنعذر. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - الأعذار قبول العذر أو التماسه. - يعين على الأعذار: - عدم تقديم الرأي على الدين. - إدراك حدود الشرع والعلم بالرخص. - إحسان الظن بالناس. - من دواعي الأعذار: - أن الله سبحانه يحب أن يعذر. - كل امرئ يحب أن يجد مَن يعذره. - مراعاة الضعف البشري. - إقالة ذوي الهيئات. - توقع الجهل من المذنب. - وجود جوانب خير في شخصية أخيك. - من الظلم اتهام النوايا وعدم قبول العذر. ****

الفصل الثالث القصد

الفصل الثالث القصد

«عليكم هَدْيًا قاصدًا فإنه مَن يشاد هذا الدين يغلبه» (¬1). تبتهج النفس برؤية شاب متحرق، متدفق، وينشرح الصدر لحديث الهداية حين ينطلق بقوة وهمة، ويرتاح القلب لحماسة الشباب للجهاد والدعوة والعلم، .. ومقابل كل هذا يغيظ القلب ما نرى من مظاهر الدعة والعجز والكسل والضعف والفتور، فهل نتفاءل بالانطلاقة المفرطة أم بالسكينة المفرطة؟! القصد هو الاعتدال في السلوك، والتوازن في الفكر، والتوسط في كل الأمور بين طرفي الإفراط والتفريط، وخير الأمور الوسط {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ...} [البقرة: 143]. ولا يظنَّن أحدٌ أن القصد خلاف السنة، أو أن الغلوَّ زيادة في التقوى، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استنكر على مَن عزم على الغلو في الصيام أو القيام أو الانقطاع عن الشهوة، وأفهَمهم أن التوسط هو الأتقى: «أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأُفطِر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (¬2). ¬

(¬1) صحيح الجامع برقم 4086 (صحيح). (¬2) صحيح البخاري - كتاب النكاح - باب 1 - الحديث 5063 (ومسلم، النكاح، الحديث 1401).

كما أن الطبيعة البشرية - بفطرتها - أقرب إلى القصد، ولديها قابلية الانحدار والصعود، ولن يستطيع امرؤ أن يتجاوز طبيعته لبشرية إلى الطبيعة الملائكية، ولذلك لما ظن حنظلة الكاتب التميمي الأسيدي ملاعبته لأهله وضحكه معهم بعد أن كان في خشوع وبكاء في مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما ظن هذا التبدل في الحال نوعًا من النفاق، طمأنه رسول الله بقوله: «يا حنظلة! لو كنتم كما تكونون عندي، لصافحتكم الملائكة على فرشكم، يا حنظلة! ساعة وساعة» (¬1). والقصد أقرب إلى الطاقة والاحتمال، لذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعلِّق على صورِ الغلو في العبادة بقوله: «عليكم بما تُطِيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملُّوا» (¬2)، «ليُصَلِّ أحدكم نشاطه فإذا فتَر فليقعُد» (¬3). والقصد أدعى إلى الدوام على العمل والاستمرار فيه والثبات عليه، يقول ابن حجر رحمه الله: (لأن المُشدِّد لا يأمن من الملل، بخلاف المقتصد فإنه أمكن لاستمراره، وخير العمل ما دوام عليه صاحبه) (¬4) وقال النووي: (بدوام القليل تدوم الطاعة، حتى يثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة) (¬5)، وقال ابن حزم: (فأمر أمته بأن يقتصدوا في الأمور؛ لأن ذلك يقتضي ¬

(¬1) صحيح ابن ماجه للألباني - كتاب الزهد - باب 28 - الحديث 3417/ 4239 (صحيح). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الإيمان - باب 31 - الحديث 43 (ومسلم، المسافرين، الحديث 221). (¬3) صحيح البخاري - كتاب التهجد - باب 18 - الحديث 1150. (¬4) فتح الباري 9/ 105 (من شرح كتاب النكاح باب 1). (¬5) شرح صحيح مسلم للنووي 6/ 318 - 319.

الاستدامة عادة) (¬1). وإلى ذلك أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «سدِّدوا وقارِبوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا» (¬2). يقول ابن حجر في شرح الحديث: («وقاربوا» أي لا تفرطوا، فتجهدوا أنفسكم في العبادة؛ لئلا يُفضِي بكم ذلك إلى المَلال؛ فتتركوا العمل فتفرطوا، وقد أخرج البزار: «إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق، ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله، فإن المنبتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى» (¬3). وليس المقصود بالقصد التقصير، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوجز الصلاة ويكملها (¬4) وفي حديث آخر: (وكانت خطبته قصدًا وصلاته قصداً) (¬5)، كما روى ابن عباس في وصف وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... (فتوضأ ولم يكثر من الماء، ولم يقصر في الوضوء) (¬6). بل كان القصد صفة بارزة للأنبياء كما في الحديث «السمت الحسن، ¬

(¬1) نقلاً عن فتح الباري 11/ 300 - الرقاق - باب 18. (¬2) صحيح البخاري - كتاب الرقاق - باب 18 - الحديث 6463 (الفتح 11/ 294). (¬3) فتح الباري 11/ 297. حيث قال: (وقد أخرج البزار من طريق محمد بن سوقة عن ابن المندر عن جابر - ولكن صوب إرساله - وله شاهد في الزهد لابن المبارك من حديث ابن عمرو موقوف). (¬4) صحيح البخاري - كتاب الأذان - باب 64 - الحديث 706 عن أنس بن مالك. (¬5) صحيح سنن ابن ماجه للألباني - كتاب الإقامة - باب 85 - الحديث 908/ 1106 (صحيح). (¬6) صحيح مسلم - كتاب المسافرين - باب 26 - الحديث 189 (شرح النووي 6/ 297)

والتؤدة، والاقتصاد، جزء من أربعة وعشرين جزءًا من النبوة» (¬1). وحين نستنكر الغلو، فإننا ننكر الإفراط بشدة الإقبال والالتزام المفضي إلى الترك، أو الملل أو الخروج عن القصد، بسبب المبالغة في النوافل، أو العمل على جهل وغفلة، كما ننكر التفريط والتهاون بشدة التكاسل والتقصير والإعراض والانفلات، ولكن الثاني تستنكره الطباع السليمة عادة، أما الأول فهو الذي يغتر به النغترون، ويلتبس على كثير من الناس، وهو الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هلك المتنطعون» (¬2)، وحذر منه بقوله: «يا أيها الناس، إيَّاكم والغلو في الدين؛ فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» (¬3)، قال القرطبي في الخوارج: (لما حكموا بكفر من خالفهم، استباحوا دماءهم، وتركوا أهل الذمة، فقالوا: نفي لهم بعهدهم، وتركوا قتال المشركين، واشتغلوا بقتال المسلمين، وهذا كله من آثار عبادة الجهال، الذين لم تنشرح صدورهم بنور العلم، ولم يتمسكوا بحبل وثيق من العلم ..) (¬4). ¬

(¬1) صحيح الجامع - الحديث 3692 (حسن) عن عبد لله بن سرجس مرفوعاً. ونقل الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي في حاشية الموطأ قول الباجي: (يريد أن هذه من أخلاق الأنبياء وصفاتهم التي طبعوا عليها وأمروا بها، وجبلوا على التزامها - قال: ونعتقد هذه التجزئة ولا ندري وجهها، يعني لأن ذلك من علوم النبوة فطريق معرفة ذلك بالرأي والاستنباط مسدود). (¬2) صحيح مسلم - كتاب العلم - باب 4 - الحديث 2670 (شرح النووي 16/ 461). (¬3) صحيح سنن ابن ماجه للألباني - كتاب المناسك - باب 63 - الحديث 2455/ 3029 (صحيح). (¬4) نقلاً عن فتح الباري 12/ 301 - النرتدين - باب 7 - وعزاه ابن حجر إلى كتاب المفهم للقرطبي.

ويعلق ابن حجر على نتائج الغلو فيقول: (.. من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروج منه، ومن غير أن يختار دينًا على دين الإِسلام) وحذَّر من الاغترار بالغالين في بعض صور العبادة، وأن ذلك لا يكفي دليلًا على الصلاح، فقال: (لا يُكتفى في التعديل بظاهر الحال، ولو بلغ المشهود له بتعديله الغاية في العبادة والتقشف والورع، حتى يُختبر باطنه) (¬1). وإنه لمن الغلو في الدين، ومن مجانبة القصد، أخذ النفس بالعزيمة؛ فيما ترخَّص به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي ذلك يقول: «ما بال أقوام يتنَزَّهون عن الشيء أصنعه؟ فوالله إني أعلمهم بالله، وأشدُّهم له خشية» (¬2)، وفي الفتح: (.. نقل ابن التِّين عن الداودي أن التنَزُّه عما ترخَّص فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعظم الذنوب؛ لأنه يرى نفسه أتقى لله من رسوله، وهذا إِلحاد. قلتُ (ابن حجر): لا شك في إلحاد مَن اعتقد ذلك .. فمهما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من عزيمة ورخصة فهو في غاية التقوى والخشية) (¬3). وقد طالبنا الشرع بالتعوُّد على القصد والتوازن في أمورنا الحياتية؛ حتى يغدو القصد خُلقًا وطبيعةً، فقد قال ربنا تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29] {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 76] ¬

(¬1) فتح الباري 12/ 301 - 302 (¬2) صحيح البخاري - كتاب الاعتصام - باب 5 - الحديث 7301. (¬3) فتح الباري 13/ 279.

ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المغالاة في الطعام والشراب، وعن المغالاة في المهور، مثلما نهى عن الغلو في الرجاء الذي يجعل الناس يتَّكلون، وعن الغلو في الخوف الذي يجعلهم يقنَطون، وعن الغلو في المديح الذي يجعلهم يشركون أو ينافقون؛ كقوله: «لا تُطْرُوني كما أَطْرَتِ النصارى ابن مريم، فإنّما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله» (¬1)، وكما نهى عن الغلو في الحب الذي يُعمي عن القبائح، والبغض الذي يعمي عن المحاسن، كقوله: «أحبِبْ حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بَغيضك يومًا ما، وأبغِضْ بغيضك هونًا ما، عسى أن يكون حبيبك يومًا ما» (¬2). وكل ما نخشاه حين نغلو أن نقع في مشقة الدنيا وجحيم الآخرة، كما في قوله تعالى: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 4، 3] ويضيع بشؤم الغلو ثمرة الجهد في العبادة، بينما الهَدْي القاصد أهدى وأتقى وأبقى، ولا يكون التزام التوسط إلا بالعلم والمجاهدة. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - القصد هو الاعتدال في السلوك والفكر فلا إِفراط ولا تفريط. - ليس في القصد خروج عن السنة، ولا في الغلو مزيد تقوى. - من مزايا القصد: - أنه أقرب إلى الفطرة البشرية. ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب أحاديث الأنبياء - باب 48 - الحديث 3445 (الفتح 6/ 478). (¬2) صحيح سنن الترمذي للألباني - أبواب البر - باب 59 - الحديث 1625/ 2082 (صحيح).

- أنه أقرب إلى الطاقة والاحتمال. - أنه أدعى إلى الدوام على العمل. - ليس المقصود بالقصد التقصير. - يُستنكر الغلو في الطاعة إِذا كان يفضي إِلى الترك. - من الغلو الاقتصار على العزيمة في كل أمره. - القصد مطلوب في العبادات والعادات والأعراف. - الهدي القاصد أهدى وأتقى وأبقى. * * *

الفصل الرابع المراجعة والتصحيح

الفصل الرابع المراجعة والتصحيح

{وَلم يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُم يَعلَمُونَ} (*). حتى لا يسترسل المسلم في خطأ وقع فيه، أو هوى انساق إليه، لا بدَّ له في حياته من وقفات مع نفسه ومع إخوانه؛ لمراجعة حساباته من جديد، والسير - بعدئذٍ - على بصيرة. وقد افتتح البخاري أحد أبواب الصوم بكلمة لأبي الزناد جاء فيها: (إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيرًا على خلاف الرأي ..) (¬1)، فحين يتخذ أحدنا لنفسه قناعات لا يَحيد عنها، ولا يقبل المراجعة فيها، قد لا يسلم من هوى يطغيه، أو فساد في الرأي يرديه. وإن ديننا حين بشَّر المجتهد المخطئ بأجر، فإنه لا يقبل في الوقت نفسه التعامي عن الخطأ، والإِصرار عليه، وكم أفتى فقهاؤنا بفتاوى ثم رجعوا عنها، لما أعادوا النظر فيها، وتبيَّن لهم الصواب في غيرها، وإن الذين تردهم الملائكة عن الحوض، إنما مصيبتهم في الاسترسال في الغي، ويُقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «.. إنهم قد بدَّلوا بعدك، ولم يزالوا يرجعون على أعقابهم، فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سحقًا سحقًا» (¬2)، يدعو عليهم بالهلاك؛ لأنهم لم يراجعوا أنفسهم، ولم يفيئوا إِلى الصواب. ¬

(*) سورة آل عمران، الآية 135. (¬1) صحيح البخاري - كتاب الصوم - من ترجمة الباب 41 عن أبي الزناد (الفتح 4/ 191). (¬2) صحيح سنن ابن ماجه للألباني - كتاب الزهد - باب 36 - الحديث 3475/ 4306 (صحيح).

المراجعة وسيلة لمحاسبة النفس، والتصحيح نتيجة، تظهر آثارها بالرجوع عن المعصية الجلية، أو الخطأ في الاجتهاد والرأي. ومن وسائل المراجعة للتصحيح: الاستماع إلى المشورة بنيَّة البحث عن الحق، وقد أورد البخاري قصة اقتراح عمر على أبي بكر - رضي الله عنهما - أن يجمع القرآن، ولم يقبل أبو بكر بذلك (فقال عمر: هو والله خير - قال أبو بكر -: فلم يزل عمر يراجعني فيه، حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر ..) (¬1)، ولم يُصِرَّ على رأيه، ولم يحجزه المنصب عن قَبول الصواب ممَّن دونه. ويعين على الصواب: مطالبة البطانة الصالحة بالتذكير بما هو خير وأصوب، وخاصة حين لا يبادر الآخرون بالتذكير، ولن نكون أصوب رأيًا، ولا أهدى فكرًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث يقول: «.. إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإِذا نسيت فذكروني ..» (¬2)، وحينما نشعر الناس بالترحيب بالتذكير، ونرفع عنهم الحرج الذي يتوقَّعونه، تكون عيون الناس - عندئذٍ - مرآتنا التي تقوِّمنا على الدوام. وتضمن لنفسك سلامة الطريق وصواب الرأي باتخاذ البطانة الصالحة، وعدم الالتفات إلى المدَّاحين؛ الذين لا يُبصِّرون أخاهم بأخطائه، ففي الحديث أن: «مَن ولَّاه الله عز وجل من أمر المسلمين شيئًا، فأراد به خيرًا، جعل له وزير صدق، فإن نسي ذكَّره، وإن ذكر أَعانه» (¬3). ¬

(¬1) صحيح البخاري كتاب التفسير سورة 9 باب 20 الحديث 4679 (الفتح 8/ 344). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الصلاة - باب 31 - الحديث 401 (الفتح 1/ 503). (¬3) صحيح سنن النسائي للألباني - كتاب البيعة - باب 33 - الحديث 3920 (صحيح). ورواه أحمد 6/ 70 واللفظ له.

وقد كان الحُرُّ بنُ قيس من مقرَّبِي عمر بن الخطاب، وهمَّ عمر أمامه بضرب عُيَيْنة بن حصن لتطاوله عليه، فقال له الحر: (يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - {خُذِ الْعَفْوَ وَامُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين)، يقول الراوي: (والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافًا عند كتاب الله) (¬1) وكم من المظالم يمكن أن تزول، وكم من الممارسات الخاطئة يمكن أن تُصحِّح؛ حين تقوم البطانة بدورها الصالح. والخلوة بالنفس من أنجح صور المراجعة؛ لمحاسبة النفس، وتصحيح العمل، رُوي عن عمر بن الخطاب قوله: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وتزيَّنوا للعرض الأكبر) (¬2)، ويروى عن ميمون بن مهران قوله: (لا يكون العبد تقيًّا حتى يحاسب نفسه كما يحاسب شريكه) (¬3)، والرابح أخيرًا هو أنت، وليس العيب في الرجوع عن الخطأ، وإنما البلاء الكبير في الإصرار على الباطل. ومن بركات هذه المراجعة للنفس: أنها سببٌ من أسباب رفع لبلاء وتخفيف الحساب، ففي بقية كلمة عمر السابقة: (وإنما يخفَّف الحساب يوم القيامة على مَن حاسب نفسه في الدنيا) (¬4). ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب التفسير - سورة 7 - باب 5 - الحديث 4642 (الفتح 8/ 304). (¬2) سنن الترمذي - كتاب القيامة - باب 14 - الحديث 2577 موقوفًا على عمر (تحفة الأحوذي 7/ 155). (¬3) سنن الترمذي - كتاب القيامة - باب 14 من قول ميمون بن مهران. (¬4) بقية قول عمر السابق في سنن الترمذي - كتاب القيامة - باب 14 - الحديث 2577.

وحين تعمُّ المفاسد في أي زمان فالمخرج بالرجوع إِلى ديننا، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إِذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سّلط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم»، وفي رواية: «حتى يراجعوا دينهم» (¬1)، وبذلك تكون المراجعة بداية رفع البلاء والذل. كما أن مراجعة النفس وتصحيح مسارها سببٌ من أسباب انشرح الصدر للخير، وإيثار الباقي على الفاني، ففي حديث طويل لابن مسعود: (بينما رجل فيمَن كان قبلكم، كان في مملكته، فتفكَّر، فعلم أن ذلك - أي المُلك - منقطع عنه، وأن ما هو فيه قد شغله عن عبادة ربه)، فاعتزل الملك، وذهب إلى مملكة أخرى يكسب رزقه من عمل يده، وعلم ملك هذه البلاد به وبصلاحه، فقصده الملك، وسعى إليه، واستفسر منه فقال ملك البلاد: (ما أنت بأحوج إِلى ما صنعتَ مني، ثم نزل عن دابته فسيبها، ثم تبعه فكانا جميعًا يعبدان الله عز وجل ..) (¬2)، واستطاع كل منهما أن يُصحِّح ما أفسد دون أن يعميهما بريق الملك، وفتنة الكرسي، وما بدأت صحوة كل منهما إلا بالتفكُّر والمراجعة. والمراجعة والتصحيح فرصة لرأب الصدع بين القلوب، وإصلاح ذات البَيْن، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أبواب الجنة تُفتَح يوم الاثنين ويوم ¬

(¬1) صحيح سنن أبي داود للألباني - كتاب الإِجازة - باب 20 - الحديث 2956/ 3462 (صحيح) والرواية الأخرى المُشار إِليها رواية أحمد 2/ 28. (¬2) مسند أحمد 1/ 451، رواه ابن مسعود ولم يرفعه، وقال البنا في بلوغ الأماني 20/ 155: (أورده الهيثمي وقال: رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه. وفي إِسنادهما المسعودي وقد اختلط).

الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجل بينه وبين أخيه شحناء، فيُقال: أنظِروهما حتى يصطلحا - مرتين -» (¬1)، وما فائدة إنظارهما إن لم يراجع كل منهما نفسه ليبدأ صاحبه بالسلام؟! وهي سبب من أسباب البراءة من النفاق، قال إبراهيم التيمي: (ما عرضتُ قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبًا) (¬2)، وقال ابن أبي مُلَيكة: (أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، كلهم يخاف النفاق على نفسه) (¬3)، وتعليقًا عليه ينقل ابن حجر قول ابن بطال: (إنهم خافوا لأنهم طالت أعمارهم، حتى رأوا من التغيير ما لم يعهدوه، ولم يقدروا على إنكاره، فخافوا أن يكونوا داهنوا بالسكوت) (¬4). وجِماع الأمر ومِلاكه أن يفترض المسلم في نفسه الخطأ، وأن يستحضر عدم العصمة، لئلا يثقل عليه الاعتراف بخطئه، فتسد عليه أبواب التصحيح. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ...} [الرعد: 11]، ولأن الإنسان مخلوقٌ ضعيف، فهو كثير التغير والتقلُّب، وهنيئًا لمن كانت نيَّته فيئته إلى سنة، ومراجعته إِلى صواب، وتصحيحه إلى ما يرضي الله، فإن الرجوع إلى الحق شأن الأوابين والتوابين. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - فائدة المراجعة عدم الاسترسال في الخطأ. ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب البر - باب 11 - الحديث 2565 (شرح النووي 8/ 358) ورواه أحمد 2/ 400 واللفظ له. (¬2) صحيح البخاري - كتاب الإيمان - من ترجمة الباب 36 - (الفتح 1/ 109). (¬3) نفس المصدر السابق (¬4) فتح الباري 1/ 111 عند شرحه لكتاب الإِيمان - باب 36.

- يعتذر المجتهد من المخطئ ولا يعذر بعد تبين الخطأ له. - المراجعة محاسبة للنفس، وتصحيح السلوك ثمرتها. - من وسائل المراجعة: - المشاورة بنية معرفة الحق. - اتخاذ البطانة الصالحة وحضها على التذكير بالأصوب. - الخلوة بالنفس. - من بركات المراجعة أنها: - من أسباب رفع البلاء وتخفيف الحساب. - من أسباب انشراح الصدر للخير. - من أسباب رأب الصدع بين القلوب. - من أسباب البراءة من النفاق. - جماع الأمر في المراجعة توقع الوقوع في الخطأ وعدم الاعتداد بالنفس. * * *

الفصل الخامس الحرص على الانتفاع

الفصل الخامس الحرص على الانتفاع

«احرِص على ما ينفعك واستعِنْ بالله». لا تكتمل شخصية المسلم النافع لغيره، مالم يكن من خلقه الحرص على استنفاد نفسه، واستغلال طاقاته، ومواقف حياته فيما ينجيه عند ربه. إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وجَّهنا إلى هذا الخلق بقوله: «احرِص على ما ينفعك» (¬1)، وبتحذيره لعشيرته الأقربين: «أنقذوا أنفسكم من النار» (¬2) وبتذكيره باليوم الذي يفر فيه كل خليل من خليله، ويقول كل نبي: «نفسي، نفسي، نفسي» (¬3)؛ حيث {... لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ...} [الأنعام: 158]. بدافع من هذا الخُلق نجد صحابيًّا مثل خيثمة بن الحارث يصرُّ على الخروج لغزوة بدر، ويلِّح على ابنه سعدٍ أن يبقى مع نساء آل بيته، ويأبى سعد إلا أن يخرج بنفسه، ويصارح أباه قائلًا: (لو كان غيرَ الجنة لآثرتك به، إني أرجو الشهادة في وجهي هذا. فاستهما فخرج سهم سعد ..) (¬4). ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب القدر - باب 8 - الحديث 2664 (شرح النووي 16/ 215). (¬2) صحيح مسلم - كتاب الإِيمان - باب 89 - الحديث 348 (شرح النووي 2/ 80). (¬3) صحيح البخاري - التفسير - سورة الإِسراء - باب 5 - الحديث 4712 (الفتح 8/ 395). (¬4) حياة الصحابة 1/ 498 - 499 - باب الجهاد - رغبة الصحابة في الموت والقتل في سبيل الله، وقد عزيت هناك للحاكم 3/ 189.

فقد كان الحرص على جلب النفع للنفس في الآخرة رائدَهم، ولذلك كان رجاء كل منهم: دُلَّنِي على عمل ينفعني، أو يدخلني الجنة (¬1). وقد تغفل في غمرة جهادك ومشاغلك عن حظ نفسك من التربية فلابد من لفتة إِلى خاصة نفسك، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيّر عمه حمزة خيارًا مُعِبِّرًا: «يا حمزة! نفسٌ تحييها، أحبُّ إِليك، أم نفسٌ تميتها؟ قال: بل نفس أحييها قال: عليك بنفسك» (¬2). بعض الصور والمواقف من حياة لجيل الأول، تؤكد لك رسوخ هذا الخلق في تربية خير القرون، ففي حديث طويل يكرر أبو أمامة طلبه: «يا رسول الله! ادعُ الله لي بالشهادة) وفي كل مرة يصّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له بقوله: «اللَّهم سَلِّمهم وغنِّمهم» ثم أتى أبو أمامة بعد ذلك فقال: «يا رسول الله! مُرْني بعمل آخذه عنك؛ ينفعني الله به»، قال: «عليك بالصوم ..»، يقول الراوي: (فكان أبو أمامة وامرأته وخادمه لا يُلْفَوْنَ إِلا صيامًا)، ثم أتى أبو أمامة بعد ذلك فقال: «يا رسول الله! إِنك قد أمرتني بأمر، وأرجو أن يكون الله عز وجل قد نفعني به، فمرني بأمر آخر ينفعني الله به فأمره بكثرة السجود» (¬3). ومثل ذلك ما ورد عن جارية بن قدامة السعدي حيث ¬

(¬1) صحيح سنن النسائي للألباني - كتاب التطبيق - باب 80 - الحديث 1091 من سؤال معدان ابن طلحة لثوبان (صحيح). (¬2) مسند أحمد 2/ 175، وفي نسخة أحمد شاكر برقم 6639 حيث قال: (إِسناده صحيح). (¬3) مسند أحمد 5/ 255، وعزا البنا إِلى الهيثمي قوله في تخريجه: ورجال أحمد رجال الصحيح.

قال: «يا رسول الله! قل لي قولًا ينفعني، وأقلل عليَّ لعلِّي أعيه»، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تغضب» (¬1)، وهذا الحرص على تحصيل ما ينفع إِذا استمر نمت شخصية المسلم وارتقت. وإن الشخصية التي لا تنتفع بالنصيحة، ولا تتأثر بالموعظة، ولا تستفيد من الفرص، يكون قد أصابها الشلل أو الموت، لذلك (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعوَّذ من علم لا ينفع، ودعاء لا يسمع، وقلب لا يخشع) (¬2)، وعندئذٍ يكون المرء قد فقد قابلية الانتفاع والتأثر، وغطَّى قلبَه الرانُ. وإن رجلًا مثل قبيضة بن المخارق - كبير السن حي القلب - يسعى إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا قبيضة! ما جاء بك؟»، يقول قبيضة: «كبرت سني، ورق عظمي، فأتيتك لتعلمني ما ينفعني الله عز وجل به ..» (¬3) فعلّمه بعض الأدعية، فهل ترى نفسك بهذه الهمة وهذا الحرص رغم مزيد قدرتك وفائض طاقتك؟ قل «اللَّهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني» (¬4). وفي قصة أبي هريرة مع الشيطان حين علَّمه آية الكرسي، يقول الراوي في آخر الحديث في وصف الصحابة: (وكانوا أحرصَ شيءٍ على ¬

(¬1) مسند أحمد 5/ 34، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 7373. (¬2) صحيح سنن أبي داود للألباني - الصلاة - باب 367 - الحديث 1369/ 1548 (صحيح). (¬3) مسند أحمد 5/ 60. (¬4) صحيح ابن ماجه للألباني - كتاب الدعاء - باب 2 - الحديث 3091/ 3833 (صحيح).

الخير) (¬1)، ولم يكن اهتمام جيل الأسوة بصور الأعمال وأعدادها؛ ولكنهم كانوا يبحثون عن الثمرة والأثر، فقد صحَّ عن عبد الله بن مسعود قوله: (ولَيقرأنَّ القرآنَ أقوامٌ لا يجاوز تراقيَهم، ولكنه إذا قرأه فرسخ في القلب نفع) (¬2). وقد وضح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ذهاب العلم بفقد أثره، وبعدم الانتفاع به، لا بذهاب رسمه، وفي ذلك يقول زياد بن لَبيد: «يا رسول الله! وكيف يذهب العلم، ونحن نقرأ القرآن، ونُقرئه أبناءنا، ويُقرئه أبناؤنا أبناءهم، إلى يوم القيامة» قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثكِلتْك أمك يا ابن أم لَبيد! إن كنت لأراك من أفقه رجلٍ بالمدينة. أَوَليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإِنجيل، لا ينتفعون مما فيهما بشيء» (¬3). فبالحرص على الانتفاع بالعلم حياة للقلوب وللعلم، وبهذا تصبح الأمة تعيش المبادئ التي تعتز بها وتدعو إِليها. ولا يفوتنك أن تنتفع بصحبة الصالحين، فقد ورد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما نفعني مالٌ قط إِلا مال أبي بكر، فبكى أبو بكر وقال: وهل نعني الله إلا بك؟ ثلاثًا» (¬4)، فمصاحبة الصالحين تورث الأسوة الحسنة، وتجعل الوقت والمواقف مشحونة بصور الانتفاع لما ينجي في الآخرة. ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الوكالة - باب 10 - الحديث 2311 (الفتح 4/ 487). (¬2) صحيح مسلم - كتاب صلاة المسافرين - باب 49 - الحديث 822 (النووي 3/ 352). ورواه أحمد 1/ 380، واللفظ له. (¬3) مسند أحمد 4/ 160، وفي الفتح الرباني 1/ 182 برقم 79، حيث ذكر في تخريجه: (رواه الحاكم وقال صحيح - قلتُ -: وأقره الذهبي، وله شاهد أيضًا عند ابن حبان .. بإِسناد جيد). (¬4) مسند أحمد 2/ 366، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 5808.

حتى أهل البادية كانوا يقدمون من باديتهم ابتغاء الاستزادة مما ينفعهم، يقول أبو جريٍّ الهجيمي: «يا رسول الله! إنا قوم من أهل البادية، فعلِّمنا شيئًا ينفعنا الله تبارك وتعالى به»، «قال: لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تفرغ من دلوك في إِناء المستسقي ..» (¬1). ولم يكن همُّ الدنيا ليغلب همَّ الآخرة، فقد خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار مرة: «والله لا تسألوني اليوم شيئًا إِلا أعطيتكموه، ولا أسأل الله لكم شيئًا إِلا أعطانيه» فماذا طلبوا؟ قال بعضهم لبعض: «اغتنموها واطلبوا المغفرة» (¬2) فالحرص على الانتفاع بالعُمر في الدنيا إِنما ثمرته الانتفاع في الآخرة بتحصيل المغفرة والنجاة، وقد وعى الصحابة ذلك فحرَصوا عليه، وسعوا إِليه. بل إن الصلاة التي لا يكون من ثمرتها أنها تَنْهَى صاحبها عن الفحشاء والمنكر؛ يستعيذ منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها لم تُحقِّق غرض الانتفاع: «اللَّهم إني أعوذ بك من صلاة لا تنفع» (¬3)، ومن أدق الصور المُنَمِّية لخلق الانتفاع ما ورد عند أحمد والنسائي: «مَن قتل عصفورًا عبثًا عجَّ إلى الله عز وجل يوم القيامة؛ يقول: يارب إن فلانًا قتلني ¬

(¬1) مسند أحمد 5/ 63، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 1352: (وهذا إِسناد صحيح رجاله رجال الشيخين غير عقيل بن طلحة وهو ثقة ..). (¬2) مسند أحمد 3/ 139، وفي الفتح الرباني 22/ 172 في مناقب الأنصار، قال في تخريجه: (أخرجه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإِسناد ... قلتُ: وأقره الذهبي ..). (¬3) صحيح سنن أبي داود للألباني - الصلاة - باب 367 - الحديث 1370/ 1549 صحيح.

عبثاً، ولم يقتلني لمنفعة» (¬1)، فكم أسأنا استغلال ما فينا من طاقات؟ وكم أضعنا من الأمور والأوقات؟ وإِنها لأغلى وأثمن، وإِننا عنها لمسؤولون. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - لا يكمل خلق الانتفاع إِلا بخلق تقديم النفع. - في الطاعات لا يؤثر المرء أحداً على نفسه. - الاستغراق في العمل العام قد يشغل عن حق النفس. - من مزايا الجيل الأول الحرص على ما ينفع الآخرة. - محروم من الانتفاع: - من لا يقبل النصيحة. - من لا يعمل بعلمه. - من لا يتدبر القرآن. - مما يعين على الانتفاع. - مصاحبة الصالحين. - الانتفاع بالوقت. - استغلال الطاقات. - يسأل الله العبد عما لم يحسن الانتفاع به. **** ¬

(¬1) جامع الأصول 10/ 751 الحديث 8419، قال الأرناؤوط في تخريجه: (وهو حديث حسن) وضعّفه الألباني في ضعيف الجامع برقم: 5763.

الفصل السادس المداومة على فعل المعروف

الفصل السادس المداومة على فعل المعروف

«لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا» «عليكم باصطناع المعروف» كل مسلم يحب الخير ويرغب في المعروف، ولكن ليس كل مسلم لديه الدافعية الدائمة المستمرة للبحث عن أبواب المعروف وطرق الخير بحيث لا يترك ثغرةً خالية يمكن أن يسدها بنفسه إلا ويسدها، صغُرت الثغرة أم كبُرت، عظمت أم حقرت. وسوف تجد في أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيلًا من صنائع المعروف تنتظر الحريصينَ على الأجر والمهتمين بشؤون إخوانهم من المؤمنين؛ كقولِه: - صلى الله عليه وسلم - «مَن نفَّس عن مؤمنٍ كربةً من كُرَب الدنيا نفس الله عنه كربة من كُرَب يوم القيامة، ومَن يسَّر على مُعسِّر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومَن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (¬1). ولما أن عدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صورًا من صدقات المرء على نفسه في كل يوم تطلع فيه الشمس ذكر صورًا من الإيجابية الاجتماعية للمسلم منها: «ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويعزل الشوك عن طريق الناس، والعظم والحجر، وتَهْدِي الأعمى، وتُسمع الأصم والأبكم ... - أي تفهمه - حتى يفقه، وتدل المستدلَّ على حاجة له قد علمتَ مكانها، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع ¬

(¬1) صحيح الجامع - الحديث 6577 (صحيح).

الضعيف ...» (¬1). وفي رواية أخرى «على كل مسلم صدقة، فإن لم يجد فيعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، فإن لم يستطع فيُعِين ذا الحاجة الملهوف، فإن لم يفعل فيأمر بالخير، فإن لم يفعل فيُمسِك عن الشر فإنه له صدقة» (¬2) وهذه أدنى درجات المسلم وأقل ما يمكن أن يتوقع منه، فإنه إذا لم ينبعث بنفسه لفعل الخير، ولم يبادر للقيام بمعروف، فلا أقل من أن يأمر بفعل الخير، وإن فاته كل ذلك ولم يقدم على شيء من المعروف الإيجابي، فليضمن نفسه ألا يقع في شر وليلتزم بالامتناع عن الأذى. والأصل في المسلم التطلع إلى الدرجات العلى فكما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خير الناس أنفعهم للناس» (¬3)، «أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تُدخِله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دَينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في المسجد شهرًا ... ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجة حتى يثبتها - يقضيها - له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزلُّ الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخلَّ العسل» (¬4). وهذا الفهم لفعل المعروف يغفل عنه كثير من أهل الصلاح الذين سبقوا في الذكر والاعتكاف والتلاوة والصيام والقيام، ولكنهم تفتر هممهم عن قضاء حوائج الخلق والسعي في مصالح المسلمين، وقد ¬

(¬1) صحيح الجامع - الحديث 4038 (صحيح). (¬2) صحيح الجامع - الحديث 4037 (صحيح). (¬3) صحيح الجامع - الحديث 3289 (صحيح). (¬4) صحيح الجامع - الحديث 176 (صحيح)

تصغر في أعينِهم مثل هذه الخدمات، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «لا تحقِرنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طَلْق» (¬1)، وفي رواية «لا تسبَنَّ أحدًا، ولا تحقِرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك، إن ذلك من المعروف ...» (¬2)، وفي رواية أخرى: «لا يحقرن أحدكم شيئًا من المعروف فإن لم يجد فليلقَ أخاه بوجه طَلْق، وإذا اشتريتَ لحمًا أو طبخت قدرًا فأكثر مرقته واغرف منه لجارك» (¬3)، وهل هنالك أعظم من أن نُزِيل همَّ قلب مؤمن ليحل محله السرور والحبور ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أفضل الأعمال أن تُدخل على أخيك المؤمن سرورًا، أو تقضي عنه دينًا، أو تطعمه خبزًا» (¬4)؟! والمؤمن المهتم بأحوال إخوانه من المجاهدين وأسرهم وضعفاء الحيلة لا يفوته أجر المجاهدين ولا العابدين بهذه الأعمال، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار» (¬5). بل إن عملًا ربما كان في نظر الناس هينًا وبسيطًا، جعل الله له من الأجر ما يحفز الهمم للمعروف، وما يستنفر الجهود لخدمة المسلمين، كالذي جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «نزع رجل لم يعمل خيرًا قطُّ غصن شوك عن الطريق، إما كان في شجرة مقطعة فألقاه، وإما كان موضوعًا فأماطه، فشكر الله له بها فأدخله الجنة» (¬6). ¬

(¬1) صحيح الجامع - الحديث 7245 (صحيح) (¬2) صحيح الجامع - الحديث 7309 (صحيح) (¬3) صحيح الجامع - الحديث 7634 (صحيح) (¬4) صحيح الجامع - الحديث 1096 (صحيح) (¬5) صحيح الجامع - الحديث 3680 (صحيح) (¬6) صحيح الجامع - الحديث 6755 (صحيح)

وصاحب المعروف والحريص عليه محفوظ من الله ومخصوص منه سبحانه بحسن الخاتمة، والوقاية من سوء المصرع في الدنيا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم باصطناع المعروف، فإنه يمنع مصارع السوء ...» (¬1)، والنفس الخيرة يفيض خيرها على من حولها، وصاحب القلب الحيِّ يفكر في إخوانه كما يفكر في نفسه، ولا تفلح أمة يتقلب أبناؤها بين السلبية والأنانية. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - يتفق الناس في حب الخير ويتفاوتون في المداومة عليه. - من صور المعروف: - الاهتمام بأمور المسلمين. - تقديم خدمات اجتماعية. - الأكل من عمل اليد. - الإمساك عن البشر. - المشاركة الشعورية. - النهي عن استصغار بعض صور المعروف. - من أعظم المعروف إزالة الهم وإدخال السرور. - من أعظم المعروف تعهد أسر المجاهدين. - صور صغيرة من المعروف أجرها كبير. - حسن خاتمة المداوم على المعروف. **** ¬

(¬1) صحيح الجامع - الحديث 4052 (صحيح).

الباب الثامن من أخلاقنا ضبط اللسان

الباب الثامن من أخلاقنا ضبط اللسان الفصل الأول: حفظ اللسان. الفصل الثاني: الصدق. الفصل الثالث: الاعتذار. الفصل الرابع: ستر العيوب. ****

الفصل الأول حفظ اللسان

الفصل الأول حفظ اللسان

«كُفَّ عليك هذا». تقوم صراعات، وتثور فتن، وتتفرق جماعات، وتضيع أوقات، وحين تُدقِّق في مبدأ الأمر ومصدره، تجد الشرارة الأولى، من كلمات طائشة، أو اتهامات غاضبة، أو نقل خاطئ، هذه بعض ثمار الاستعمال السيِّئ للسان، في الدنيا قبل الآخرة. يفسر ابن حجر (حفظ اللسان) بالامتناع (عن النطق بما لا يسوغ شرعًا، مما لا حاجة للمتكلم به) (¬1)، ويُشِير النووي إلى ما يُعين المتكلِّم على حفظ لسانه، فيقول: (وينبغي لمن أراد النطق بكلمة أو كلام، أن يتدبَّره في نفسه قبل نطقه، فإن ظهرت مصلحته تكلَّم، وإلا أمسك) (¬2)، فالضابط الأساسي لحفظ اللسان: الحذر من التسرع في الكلام، والتدبر والتفكر قبل إخراج الكلمة، ووزن الكلمة في ميزان الشرع، وابتغاء المصلحة الشرعية، وإلا فليملك المتكلم إرادته، وليلزم الصمت، فإنه نجاة، وهو خير له. ولذلك جاء في الحديث: «فكفَّ لسانك إلاّ من الخير» (¬3)، مما يُفهِم أن الأصل الصمت والكفُّ. ولما سأل عقبةُ بن عامر رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا رسول الله، ما النجاة؟ قال: أمسِك عليك لسانك، وليسَعْك بيتك، وابكِ على ¬

(¬1) فتح الباري 11/ 308. (¬2) شرح صحيح مسلم للنووي 18/ 328. (¬3) مسند أحمد 4/ 299. استشهد به ابن حجر ونقل عن ابن حبان تصحيحه (الفتح 11/ 309).

خطيئتك» (¬1)، وفي البخاري: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا، أو ليصمت» (¬2)؛ وذلك لأن غالب كلام المرء، قد يكون في اللغو أو الحرام، كما جاء في الحديث: «كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو ذكر الله» (¬3). ويُحدِّثنا معاذ بن جبل عن سفر له مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأله فيه: «يا نبي الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار»، فعدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبوابًا من الخير، قال بعدها: «ألا أخبرك بمِلاك ذلك كله؟» فقلت له: بلى يا نبي الله؟ «- فأخذ بلسانه - فقال: كُفَّ عليك هذا»، فقلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخَذون بما نتكلم به! فقال: ثكِلَتْك أمك يا معاذ! وهل يكبُّ الناس على وجوهِهم في النار - أو على مناخرِهم - إلا حصائدُ ألسنتهم؟!» (¬4)، وزاد الطبراني: «ثم إنك لن تزال سالمًا ما سكتَّ، فإذا تكلمت كتب عليك أو ... لك» (¬5). مما يقتضي مزيد الحذر من حصائد الألسن: أن المرء قد يزلُّ لسانه عن غفلة منه، فيوقعه في النار: «وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله لا يُلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم» (¬6) يقول ابن ¬

(¬1) أخرجه الترمذي وحسنه ووافقه الأرناؤوط (جامع الأصول 11/ 698). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الرقاق - باب 23 - الحديث 6475 (الفتح 11/ 308). (¬3) أخرجه الترمذي في الزهد برقم 2414 وحسنه الأرناؤوط (جامع الأصول 11/ 731) (¬4) مسند أحمد 5/ 231 وصححه الأرناؤوط بكثرة طرقه (جامع الأصول 9/ 535). (¬5) عن فتح الباري 11/ 309. (¬6) صحيح البخاري - كتاب الرقاق - باب 23 - الحديث 6478 (الفتح 11/ 308).

حجر: (لا يُلقي لها بالًا؛ أي لا يتأملها بخاطره، ولا يتفكر في عاقبتها، ولا يظن أنها تؤثر شيئًا.) (¬1)، فقبل أن تخرج الكلمة من فيك، أعطِ نفسك فرصة للتفكير، هل ما ستقوله يرضي الله أم يغضبه؟ هل هو من طيِّب الكلام أم من بذيئه؟ هل تكون عاقبته خيرًا أم شرًّا؟ وطالما لم تخرج فأنت مالكُها، فإذا خرجت كنت أسيرَها. وفي الحديث الصحيح من رواية مالك وأصحاب السنن عن بلال ابن الحارث: «وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله عز وجل عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه»، قال علقمة - راوي الحديث - لرجل يحدِّثه: (فانظر - ويحك - ماذا تقول وماذا تكلم به، فرُبَّ كلام قد منعني أن أتكلم به ما سمعت من بلال بن الحارث) (¬2)، والحديث صورة عملية في حسن التلقي، وفي حسن التوريث للمتلقي، لتبقى أمة الخير تحفظ ألسنتها. وكما أن الكلمة الطيبة يدخل بها صاحبها في الإيمان، فرُبَّ كلمة تؤثر على إيمان صاحبها نفاقًا أو خروجًا من الملَّة، ففي حديث حذيفة: (إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيصير بها منافقًا، وإني لأسمعها من أحدكم اليوم في المجلس عشر مرات) (¬3)، وفي الحديث الصحيح: (قيل لابن عمر: إنا ندخل على أمرائنا، فنقول القول، فإذا خرجنا قلنا غيره، قال: كنا نعدُّ ذلك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النفاق) (¬4)، وفي صحيح مسلم: «سباب ¬

(¬1) فتح الباري 11/ 311. (¬2) صحيح سنن الترمذي 2/ 358 الحديث 3969 (صحيح). (¬3) مسند أحمد 5/ 386 من قول حذيفة. (¬4) صحيح سنن ابن ماجه 2/ 359 الحديث 3210/ 3975 (صحيح).

المسلم فسوق، وقتاله كفر» (¬1)، فكم للسان من زلَّات، وكم فيها من الخطر!! والحيطة والحذر تقتضيان من المرء أن يتيقظ ويتنبه في (حفظ اللسان)، وألَّا يدع نفسه على هواها، فيقع فيما يلجئه إلى الاعتذار، وقد كان من وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل قال له: عِظْني وأوجز: «إذا قمت في صلاتك فصلِّ صلاة مُودِّع، ولا تكلَّم بكلام تعتذر منه غدًا، واجمعِ الإياسَ مما في أيدي الناس» (¬2). وتأديب النفس يكون بتعويد اللسان على الخير، وحفظه من كل شر، فقد روي أن عيسى ابن مريم لقي خنزيرًا بالطريق، فقال له: انفذ بسلام، فقيل له: تقول هذا لخنزير؟! فقال عيسى: إني أخاف أن أُعوِّد لساني النطق بالسوء) (¬3)، فطيب الكلام بالدُّربة والتعويد، وفحش الكلام كذلك، ولكل امرئ مع لسانه ما اعتاد عليه، وألفه، فبشيء من المجاهدة يُحفظ اللسان، وفي لحظة من التفريط يكون الانزلاق. وقد كان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحذرون من الكلام المباح، خشية الوقوع في الكلام المحظور، مبالغة منهم في حفظ ألسنتهم، واحتياطًا لدينهم، لذلك كانوا يقولون: (كنَّا نتَّقِي الكلام والانبساط إلى نسائنا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ هيبة أن ينزل فينا شيء. ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب 28 - الحديث 116 (شرح النووي 2/ 413 ..). (¬2) مسند أحمد 5/ 412 وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2/ 405. (¬3) موطأ مالك (2/ 985) - كتاب الكلام - باب 1 - .

فلما تُوفِّي النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلمنا، وانبسطنا) (¬1)، يقول ابن حجر: (قوله (فلما توفي) يشعر بأن الذي كانوا يتركونه كان من المباح، الذي يدخل تحت البراءة الأصلية) (¬2)، فمن أراد السلامة فليجتنب مجالس الغِيبة، وليحفظ لسانه من الزلات، ولا يقولن إلاّ خيرًا، وليتواصَ وإخوانه بحفظ اللسان، وليستعِنْ بالله فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أصحابه الاستعاذة بالله من شر اللسان: «قل أعوذ بك من شر سمعي، وشرِّ بصري، وشرِّ لساني، وشرِّ قلبي، وشرِّ منيِّي» (¬3) يستعيذ بالله من أن يكون شر لسانه على المسلمين، أو أن يكون حلو كلامه مع غيرهم، فهذا والعياذ بالله من الانتكاس واختلال الموازين. وقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أي الإسلام أفضل؟» قال: «مَن سلِم المسلمون من لسانه ويده» (¬4)، أفلا يطمح المؤمن أن يكون من ذوي الإسلام الأفضل! بأن يجعل سلاطة لسانه على أعداء الله، وحلو كلامه وحسن حديثه للمسلمين، فإنَّ «أحب الأعمال إلى الله حفظ اللسان» (¬5). ومن حفظ اللسان: حمايته عن الخوض فيما لا ينبغي ولا يهم، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجّه المسلم لاغتنام طاقاته في المهمات: «من حسن ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب النكاح - باب 80 - الحديث 5187 (الفتح 9/ 253). (¬2) فتح الباري 9/ 254. (¬3) صحيح سنن النسائي 3/ 1108 - كتاب الاستعاذة - باب 4 - الحديث 5031 (صحيح). (¬4) صحيح البخاري - كتاب الإيمان - باب 5 - الحديث 11 (الفتح 1/ 54). (¬5) عن فتح الباري 11/ 309 حيث عزاه ابن حجر إلى أبي الشيخ في كتاب الثواب، والبيهقي في الشعب.

إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (¬1) ومن سوء استعمال اللسان أن يطلق له العنان، ليلوك الأحاديث، ويجتزَّ الأخبار، ويُوقِد الفتن، وقد استشهد ابن ماجه بهذا الحديث في باب كف اللسان في الفتنة، وفي رواية لأحمد: «إن من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا ... يعنيه» (¬2). وكما يكون حفظ اللسان بإخراج خيره للمسلمين، فإنه كذلك بتسليط شره على أعداء الدين، وقد سمَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك جهادًا، فقال: «جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم، وألسنتكم» (¬3)، وحين أنشد ابن رواحة أبياتًا في تبكيت أهل مكة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو داخل لعمرة القضاء، نهاه عمر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خلِّ عنه، فوالذي نفسي بيده لكلامه أشدُّ عليهم من وقع النَّبل» (¬4)، وفي صحيح مسلم عن الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، يقول - صلى الله عليه وسلم -: «فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن» (¬5)، فعد إنكار المنكر، وإقامة الحجة، وتبيين سبيل المجرمين، من جهاد اللسان. وأيُّ حفظٍ للسان أكبر من أن يستعمله صاحبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وإنها لأعلى المنازل، وأدناها إمساك اللسان، والتزام الصمت، والكفّ عن الأعراض، والحفظ ¬

(¬1) صحيح سنن ابن ماجه 2/ 360 الحديث 3211/ 3976 من كتاب الفتن - باب 12 (صحيح). (¬2) مسند أحمد 1/ 201. (¬3) صحيح الجامع - الحديث 3090 (صحيح). (¬4) صحيح سنن النسائي - كتاب المناسك - باب 121 - الحديث 2710 (صحيح). (¬5) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب 50 - الحديث 35 (جامع الأصول 1/ 326).

من كل سوء. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - كثيرٌ من الفتن تبدأ من كلمات طائشة. - ضابط حفظ اللسان الحذر من التسرُّع في الكلام. - زلة من اللسان توقع في النار. - الكلمة الخبيثة قد توقع صاحبها في النفاق أو الفسوق. - يكتسب طيب الكلام بتعويد النفس عليه. - التورع عن بعض الكلام المباح خشية الوقوع في المحظور. - أفضل المسلمين من سلم المسلمون من لسانه ويده. - من أوجب الحفظ للسان كفُّه في الفتنة. - من حفظ اللسان إخراج خيره للمسلمين وشره على المحاربين. - من جهاد اللسان الأمر بالمعروف وإنكار المنكر وإقامة الحجة. ****

الفصل الثاني الصدق

الفصل الثاني الصدق

«عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر ..». الصدق بمعناه الضيق مطابقةُ منطوق اللسان للحقيقة، وبمعناه الأعم مطابقة الظاهر للباطن، فالصادق مع الله ومع الناس ظاهره كباطنه، ولذلك ذُكر المنافق في الصورة المقابلة للصادق، قال تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ ...} [الأحزاب: 24]. والصدق التزام بالعهد، كقوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ...} [الأحزاب: 23] والصدق نفسه بجميع معانيه يحتاج إلى إخلاص لله عز وجل، وعمل بميثاق الله في عنق كل مسلم، قال تعالى: {... وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 7، 8] فإذا كان أهل الصدق سيُسألون، فكيف يكون السؤال والحساب لأهل الكذب والنفاق؟ والصدق من الأخلاق الأساسية التي يتفرع عنها غيرها، يقول الحارث المحاسبي: (واعلم - رحمك الله - أن الصدق والإخلاص: أصل كل حال، فمَن الصدق يتشعب الصبر، والقناعة، والزهد، والرضا، والأنس، وعن الإخلاص يتشعب اليقين، والخوف، والمحبة، والإجلال، والحياء، والتعظيم .. فالصدق في ثلاثة أشياء لا تتم إلا به: صدق القلب بالإيمان تحقيقًا، وصدق النية في الأعمال، وصدق اللفظ في الكلام) (¬1). ¬

(¬1) رسالة المسترشدين ص 170.

ولِمَا للصدق من رابطة قوية بالإيمان، فقد جوَّز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقع من المؤمن ما لا يُحمد من الصفات، غير أنه نفى أن يكون المؤمن مظنة الوقوع في الكذب؛ للاستبعاد ذلك منه، وقد سأل الصحابة فقالوا: «يا رسول الله، أيكون المؤمن جباناً؟» «قال: نعم» فقيل له: أيكون المؤمن بخيلًا؟» «قال: نعم» قيل له: أيكون المؤمن كذابًا؟» «قال: لا» (¬1). والأصل في اللسان الحفظ والصون؛ لأن زلاته كثيرة، وشرَّه وبيل، فالحذر منه والاحتياط في استعماله أتقى وأورع، فإذا وجدت الرجل لا يبالي، ويكثر الكلام، فاعلم أنه على خطر عظيم، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كفي بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع» (¬2)؛ لأن كثرة الكلام مظنة الوقوع في الكذب، باختراع ما لم يحدث، حين لا يجد كلامًا، أو بنقل خبر كاذب - وهو يعلم - فيكون أحد الكذَّابين. وكل خُلُق جميل يمكن اكتسابه بالاعتياد عليه، والحرص على التزامه، وتحرِّي العمل به، حتى يصل صاحبه إلى المراتب العالية، يرتقي من واحدة إلى الأعلى منها بحسن خلقه، ولذلك يقول - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يَهْدي إلى البر، وإن البر يَهْدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق، ويتحرَّى الصدق، حتى يُكتب عند الله صدِّيقًا»، وكذلك شأن الكاذب في السقوط، إلى أن يختم له بالكذب «وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب، ¬

(¬1) أخرجه الموطأ 2/ 990 مرسلًا في الكلام .. وهو حديث حسن مرسل (جامع الأصول 10/ 598 - الحديث 8183). (¬2) أخرجه مسلم وأبو داود (جامع الأصول 10/ 600 - الحديث 8189).

حتى يُكتب عند الله كذَّابًا» (¬1). ومن آثار الصدق ثبات القدم، وقوة القلب، ووضوح البيان، مما يوحي إلى السامع بالاطمئنان، ومن علامات الكذب الذبذبة، واللجلجة، والارتباك، والتناقض، مما يوقع السامع بالشك وعدم الارتياح، ولذلك «فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة» (¬2) كما جاء في الحديث. وعاقبة الصدق خيرٌ - وإن توقع المتكلم شرًّا - قال تعالى: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: 21]، وفي قصة توبة كعب بن مالك يقول كعب بعد أن نزلت توبة الله على الثلاثة الذين خلفوا: (يا رسول الله، إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أُحدِّث إلا صدقًا ما بقيت)، ويقول كذلك: (فو الله ما أنعم الله عليَّ من نعمة قط، بعد أن هداني للإسلام، أعظم في نفسي من صدقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا) (¬3)، وروى ابن الجوزي في مناقب أحمد أنه قيل له: (كيف تخلَّصت من سيف المعتصم وسوط الواثق؟ فقال: لو وُضع الصدق على جرح لبرأ) (¬4)، ويوم القيامة يقال للناس: {... هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ...} [المائدة: 119]. ¬

(¬1) أخرجه البخاري ومسلم والموطأ وأبو داود والترمذي - واللفظ للترمذي - (جامع الأصول 6/ 442 - الحديث 4641). (¬2) أخرجه الترمذي بهذا اللفظ - وإسناده صحيح - (جامع الأصول 6/ 442 - الحديث 4642). (¬3) صحيح البخاري - كتاب المغازي - باب 79 - الحديث 4418 (الفتح 7/ 113). (¬4) عن حاشية رسالة المسترشدين تحقيق الشيخ أبو غدة ص 72.

والصدق يدعو صاحبَه للجرأة والشجاعة؛ لأنه ثابت لا يتلوَّن؛ ولأنه واثقٌ لا يتردَّد، ولذلك جاء في أحد تعريفات الصدق: (القول بالحق في مواطن الهلكة) (¬1)، وعبر عن ذلك الجُنَيد بقوله: (حقيقة الصدق: أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب) (¬2) وكم يكون شقيًّا من يتفنن في اختلاق الأحاديث؛ ليجلب الأنظار، وفي ادعاء القصص؛ ليُضحك الناس، فيؤوبون وهم سعداء بالترويح عن أنفسهم، ويبوء هو بوزر ما كذب، فله الهلاك - كما جاء في الحديث -: «ويل للذي يحدث بالحديث ليُضحك به القوم، فيكذب، ويل له، ويل له» (¬3). وإن أشد الكذب إثمًا، وأعظمه جرمًا، أن يكذب على الله ورسوله، فينسب إلى دين الله ما ليس منه، ويدعي في الشرع بما لا يعلم، ويختلق نصوصًا ليس لها أصل - أراد بذلك الخير أم الشر - فهو كذب شنيع على دين الله، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن كذبًا عليَّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب عليَّ متعمدًا، فليتبوّأ مقعده من النار» (¬4)، ولذلك كان بعض الصحابة يتحرَّجون من الإكثار من رواية حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ خشية الوقوع في خطأ - غير مقصود - فيكونوا قد نسبوا إلى رسول الله ما لم يقل، ومن ذلك ما كان من أنس بن مالك إذ قال: إني ليمنعني أن أحدثكم حديثًا كثيرًا، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

(¬1) تهذيب مدارج السالكين ص 399. (¬2) تهذيب مدارج السالكين ص 401. (¬3) أخرجه أبو داود والترمذي - وإِسناده حسن - (جامع الأصول 10/ 599 - الحديث 8186). (¬4) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي (جامع الأصول 10/ 611 - الحديث 8206).

«من تعمد عليّ كذبًا فليتبوّأ مقعده من النار» (¬1). ومما يدل على مزيد احتياطهم في نقل حديث رسول الله ألا يزيدوا أو ينقصوا: ذلك الموقف الذي رواه مسلم، حيث حدَّث بُشير العدوي بحضرة ابن عباس، وابن عباس لا يأبه به، ولا يبالي بحديثه، ولا ينظر إليه، فقال بُشَير: (يا ابن عباس! مالي لا أراك تسمع لحديثي. أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تسمع؟ فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلًا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بأسماعنا، فلما ركب الناس الصّعب والذّلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف) (¬2) أي لما أصبح الناس يتحدثون في الأمور الصعبة والسهلة، ولا يبالون ولا يحترزون من الوقوع في الخطأ، أصبحنا نحترز من التلقي عن أي كان. فليحذر الذين يبادرون إلى الفتوى بغير علم من الكذب على دين الله، وليحذر الذين يشيعون الأحاديث المنكرة والموضوعة من المشاركة في الكذب على رسول الله. ولقول المرء: لا أدري - وإن قسا على نفسه - أهون له من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولكي تكون حياتك كلها صدقًا، ولتحشر مع الصديقين، فاجعل مدخلك صدقًا، ومخرجك صدقًا، وليكن لسانك لسان صدق، لعل الله يرزقك قدم صدق، ومقعد صدق، ولا تترك فرصة للشيطان ليستدرجك بالاستكثار من المعاريض، فالصدق صراحة ¬

(¬1) أخرجه مسلم والترمذي (جامع الأصول 10/ 610 - الحديث 8204). (¬2) أخرجه مسلم في مقدمة الصحيح ص 13 (جامع الأصول 10/ 612 - الحديث 8208).

ووضوح، والميل عنه التواء وزيغ، وحال المؤمن الصدق، و {إنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ...} [النحل: 105]. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - أدنى الصدق صدق اللسان وأعم منه الصدق مع الله في الظاهر والباطن. - لا صدق بلا إخلاص. - الصدق مرتبط بالإيمان. - قد يجانب الصدق من يُحدث بكل ما سمع. - يُنال الصدق بالتحري. - من آثار الصدق الطمأنينة وثبات القلب. - الصدق نجاة وإن توقع المتكلم شراً. - الصادق جريء والكاذب متلجلج. - أكبر الكذب الكذب على الله ورسوله. - كان الصحابة يحتاطون في رواية الحديث خشية الوقوع في الكذب. - الاستكثار من المعاريض يوقع في الكذب. ****

الفصل الثالث الاعتذار

الفصل الثالث الاعتذار

«ولئن اعتذرت لا تعذرونني!» الاعتذار: أدب اجتماعي في التعامل الإسلامي، ينفي منك شعور الكبرياء، وينفي من قلب أخيك الحقد والبغضاء، ويدفع عنك الاعتراض عليك، أو إساءة الظن بك، حين يصدر منك ما ظاهره الخطأ. ومع أن الاعتذار بهذا المعنى حسن، فالأحسن منه أن تحذر من الوقوع فيما يجعلك مضطرًّا للاعتذار، فقد جاء في الوصية الموجزة، من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -: «ولا تكلَّم بكلام تعتذر منه غدًا» (¬1) فإن زلت قدمك مرة فإنه «لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة» (¬2) - كما في الحديث - وعندئذٍ فإن من التواضع ألا تكابر في الدفاع عن نفسك، بل إن الاعتراف بالخطأ أطيب للقلب، وأدعى إلى العفو، ومعلوم أن توبة الصحابي الكريم كعب بن مالك إنما أنجاه فيها الصدق، فقد كان يقول: (يا رسول الله، إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني أخرج من سخطته بعذر، والله ما كان لي عذر) (¬3)، ولن يُنقض من منزلتك أن تعترف بخطئك، وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا كان يظن أنه لا ضرورة لتأبير النخل ¬

(¬1) مسند أحمد 5/ 412 وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2/ 45 برقم 3363. (¬2) مسند أحمد 3/ 69 وحسنه الترمذي ووافقه الأرناؤوط (جامع الأصول 11/ 699). (¬3) مسند أحمد 3/ 457 واصل القصة في الصحيحين.

أشار بعدم تأبيرها، ثم قال بعد ذلك: (إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًّا، فلا تؤاخذني بالظن) (¬1). ولا تنتظر من نفسك أن تسيء لتعتذر، بل يمكن أن يكون الاعتذار توضيحًا للموقف، أو بيانًا للقصد، فقد كان الأنصار عند فتح مكة، قد توقَّعوا ميل النبي - صلى الله عليه وسلم -، للإقامة مع قومه في مكة بعد الفتح، فقالوا: (أمَّا الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته)، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كلَّا، إني عبد الله ورسوله، هاجرتُ إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم»، فأقبلوا إليه يَبْكُون، ويعتَذِرون بأنهم قالوا ما قالوه لحرصِهم على إقامته معهم في المدينة، فقالوا: (والله، ما قلنا الذي قلنا إلا الضَّن بالله ورسوله)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فإن الله ورسوله يُصدِّقانكم، ويعذرانكم» (¬2). وإن صاحب خلق (الاعتذار) ليستَحْيِي من افتضاح تقصيره، حين يظن من نفسه التقصير، فإن ابن عمر يروي أنه كان في سرية فانهزموا، ومن حيائهم رجعوا إلى المدينة خفية في الليل، واختفوا في المدينة، ثم قالوا: (لو خرجنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واعتذرنا إليه)، فخرجوا لبيان عذرهم، وقالوا له: «نحن الفرَّارون يا رسول الله!» «قال: بل أنتم العكَّارون، وأنا فئتكم» (¬3)، فهوَّن عليهم ووصفهم بالعكَّارين، ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب الفضائل - باب 38 - الحديث 2361 (شرح النووي 15/ 125). (¬2) مسند أحمد 2/ 538 - وصحيح مسلم - الجهاد - باب 31 - الحديث 86 (شرح النووي 12/ 374). (¬3) مسند أحمد 2/ 111 - وأخرجه أبو داود والترمذي وحسَّنه (جامع الأصول 2/ 610).

الذين يغزون كرة بعد كرة، ولا يتوقفون عن الغزو. وإذا جاءك مَن يأمرك بالمعروف، فاقبَل منه، ووضِّح عذرك - إن كان لك عذر - فقد وعظ سالم بن عبدالله شابًّا مسترخي الإزار، فقال: (ارفع إزارك)، فأخذ الشاب (يعتذر فقال: إنه استرخى، وإنه من كتَّان) (¬1)، وبذلك بيَّن أنه لم يُرخِه كبرًا، وإنما استرخى بنفسه؛ بسبب طبيعة قماشه، وهذا شأن المسلم في دفع سوء الظن، وإثبات براءته - حين يكون بريئًا بحق. ومما ورد بهذا المعنى: أن أناسًا من الأشعريين طلبوا من أبي موسى الأشعري مرافقتهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن يعلم ماذا يريدون، وإذا بهم جاؤوا يطلبون التولية على أعمال المسلمين، فظهر أبو موسى وكأنه جاء يشفع لمن طلب الإمارة، فشعر بالحرج الشديد، قال: (فاعتذرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعذرني) (¬2). وكان هذا الخلق صفة مميزة لمجتمع الصحابة رضي الله عنهم، يروي أحمد: أن عثمان بن عفان جاء يعتب على ابن مسعود في أمور سمعها عنه، فقال: (هل أنت مُنْتهٍ عمَّا بلغني عنك؟ فاعتذر بعض ... العذر) (¬3). ويمكن أن يكون الاعتذار دفعًا لاعتراض، أو إزالة لشبهة قد تثور، وما أعظم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب! حين جاء يوم الجابية يوضح للناس أسباب عزل خالد بن الوليد، فقال: (وإني ¬

(¬1) مسند أحمد 2/ 390. (¬2) مسند أحمد 4/ 417 - وفي صحيح سنن النسائي 3/ 1089 - الحديث 4975 (صحيح). (¬3) مسند أحمد 1/ 66.

أعتذر إليكم من عزل خالد بن الوليد)، وما أعظم المجتمع الذي يجرؤ أحد أفراده أن يعلن عدم قبوله لعذر الأمير! قائلًا له: (والله ما أعذرت يا عمر بن الخطاب) (¬1). وقد يدعوك موقفٌ من المواقف إلى الشدَّة، التي قد يظنها الناس منك غلظة، فما أجمل أن تُبيِّن دواعي شدَّتِك؛ حتى لا يُفسِّرها أحد بأنها سوء خلق منك، روى أحمد أن حذيفة طلب ماءً من رجل من أهل الكتاب؛ ليشرب، فجاءه الكتابي بالماء في إناء من فضة، فرماه حذيفة بالإناء (ثم أقبل على القوم، اعتذر اعتذارًا، وقال: إني إنما فعلت ذلك عمدًا؛ لأني كنت نهيتُه قبل هذه المرة؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن لبس الديباج والحرير، وآنية الذهب والفضة) (¬2)، فأوضح لمن معه أن هذا الرجل يعلم حرمة استعمال آنية الفضة على المسلمين، ومع ذلك تكرر منه ما يدعو إلى الغضب والشدة. كل هذه الأخلاق وقاية لمجتمع المسلمين من تفشي سوء الظن، وتقاذف التُّهم، التي إن استقرت في القلوب، لم يعُدْ ينفع معها اعتذار، كما قالت عائشة في حديث الإفك: (والله لئن حلفتُ لا تصدقونني، ولئن اعتذرت لا تعذرونني) (¬3) - فمن تغلب على نفسه فاعتذر، فتغلب أنت على كبريائك فاعذِر، فقد عدَّ ابن القيم قبول عذر المعتذر من التواضع، ويقول في ذلك: (من أساء ثم جاء يعتذر عن إساءته، فإن التواضع يوجب ¬

(¬1) مسند أحمد 3/ 475 - 467. (¬2) مسند أحمد 5/ 400. (¬3) صحيح البخاري - أحاديث الأنبياء - باب 19 - الحديث 3388 (الفتح 6/ 418).

عليك قبول معذرته ... وعلامة الكرم والتواضع: أنك إذا رأيت الخلل في عذره، لا توقفه عليه، ولا تحاجَّه) (¬1). وتلقِّي الأعذار بطيب نفس، وبالعفو والصفح، يحضُّ الناس على الاعتذار، وسوء المقابلة للمعتذر، وتشديد اللائمة عليه، يجعل النفوس تصّر على الخطأ، وتأبى الاعتراف بالزلل، وترفض تقديم المعاذير، فإن بادر المسيء بالاعتذار فبادر أنت بقبول العذر والعفو عما مضى لئلا ينقطع المعروف. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - الاعتذار ينبع عن تواضع وإنصاف. - أحسن من الاعتذار تجنب ما يلجئ إلى الاعتذار. - الاعتذار يدل على حياء المخطئ وعدم مكابرته. - كان الاعتذار أدبًا مميزًا لمجتمع الصحابة. - من مبررات الاعتذار بيان دواعي الشدة. - الاعتذار ينفي سوء الظن وتقاذف التهم. - حسن قبول الاعتذار يعين على الاعتراف بالخطأ. **** ¬

(¬1) تهذيب مدارج السالكين - منزلة التواضع ص (433).

الفصل الرابع ستر العيوب

الفصل الرابع ستر العيوب

«ومَن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة». المجتمع الذي يغلب عليه الطُّهر، لا يطفح فيه من الأخبار إلا ما كان طاهرًا وعفيفًا، ويبقى المسرُّ بالمعصية مستورًا بستر الله عليه، إلى أن يتوب، ويستره المؤمنون؛ لئلا يتجاسر على الجهر بها، أو الإصرار عليها، وليكونوا عونًا له على الشيطان، طالما أسرَّ واستتر. مثلما استنكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث العاصي الفاضح لنفسه، والكاشف لستر الله عنه، فقال: «كلّ أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان! عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه» (¬1)، فقد استقبح أيضًا شأن الفاضح لأخيه، لذلك وصف الله الذين يلوكون أعراض المسلمين بألسنتهم - كما قال تعالى - {يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا ...} [النور: 19]، وما زال الوعيد الشديد يتهددهم {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ} [النور: 19]، ويقابل هذا الوعيد بشارة للذين يكتمون عيوب إخوانهم، بستر الله لهم في الدنيا والآخرة، كما جاء في الحديث الصحيح: «ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة» (¬2). يقول النووي في شرحه لهذا الحديث: (وأما الستر ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب 60 - الحديث 6069 (الفتح 10/ 486). (¬2) أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود (جامع الأصول 6/ 562) وفي صحيح سنن ابن ماجه برقم 184.

المندوب إليه هنا، فالمراد به: الستر على ذوي الهيئات ونحوهم، ممن ليس هو معروفًا بالأذى والفساد، فأما المعروف بذلك، فيستحب ألا يستر عليه، بل تُرفع قضيته إلى ولي الأمر - إن لم يخفف من ذلك مفسدة - لأن الستر على هذا يُطمعه في الإيذاء والفساد، وانتهاك الحرمات، وجسارة غيره على مثل فعله، وأما جرح الرواة والشهود، والأمناء على الصدقات والأوقاف والأيتام، ونحوهم، فيجب جرحهم عند الحاجة، ولا يحل الستر عليهم، إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم، وليس هذا من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة الواجبة) (¬1). ولا يعني ذلك ترك الإنكار على من تستره فيما بينك وبينه، وإذا أنكرت عليه، ونصحته، فلم ينتهِ عن قبيح فعله، ثم جاهر به، جازت الشهادة عليه بذلك - كما أفاد النووي وابن حجر - وفُرِّق بين محلِّ السَّتر والإنكار: (والذي يظهر أن السَّتر محلُّه في معصية قد انقضت، والإنكار في معصية قد حصل التلبس بها، فيجب الإنكار عليه، وإلا رفعه إلى الحاكم) (¬2). ومن أولى الستر: ستر المرء لعيوب نفسه، التي سترها الله عليه، وإن الله عز وجل ليكرمه، لقاء تحرجه من معصيته، واستتاره بها، واستحيائه منها، بن يغفر له: _ كما جاء في الحديث - «إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه، ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي ربِّ، حتى إذا قرَّره بذنوبه، ورأى ¬

(¬1) شرح النووي لصحيح مسلم (16/ 135) كتاب البر والصلة - باب 15 - من شرح الحديث 2580. (¬2) فتح الباري (5/ 97) من شرح الحديث 2442 ومثله عند النووي.

في نفسه أنه هلك، قال: سترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرُها لك اليوم، فيُعطى كتاب حسناته» (¬1)، وقد حلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ثلاثة أشياء، ثم قال: «والرابعة لو حلفت عليها رجوت أن لا آثم: لا يستر الله عبدًا في الدنيا إلا ستره يوم القيامة» (¬2)، فليستر نفسه كما ستره الله. إن من كرامة المسلم على الله: أنه - سبحانه - يتولى الدفاع عنه بنفسه، والانتقام له من المسيء إليه، وفي ذلك يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشر مَن آمن بلسانه، ولم يدخُلِ الإيمان قلبه: لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبِعوا عوراتهم، فإنه مَن يتَّبِع عوراتهم، يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته، يفضحه في بيته» (¬3). فاستُرْ إخوانك، فإنه لا طاقة لك بحرب الله، القادر على كشف عيوبك، وفضح ذنوبك، التي لا يعلمها الناس عنك، وأَلْجِم لسانك عن الخوض في الأعراض، وتتبع العورات، وإفساد صِيت إخوانك، وإساءة سمعتهم. تجد النفس المريضة شغوفة بسماع العيوب، وتتبع السقطات، وتصدر المجالس في تجريح ذوي الهيئات، مع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالتجاوز عن عثراتهم، ومع أن الله عز وجل «يحب الحياء ... والستر» (¬4)، وكأنما قرن بين هذين الخلقين (الحياء والستر)؛ لأن الإنسان الذي ينشر ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب المظالم - باب 2 - الحديث 2441. (¬2) صحيح الجامع - الحديث 3021 (صحيح) وهو في مسند أحمد 6/ 145. (¬3) مسند أحمد 4/ 220، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 7984. (¬4) مسند أحمد 4/ 224، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 1756.

عيوب إخوانه، لا يُقدِم على ذلك إلا بعد أن يهتك كل حجب الحياء، التي يمكن أن تردعه، ولا يستر إلا الحَيِيُّ. وكذلك فإن الستر حياة للمستور، الذي يتعامل مع الناس دون أن تشير إليه الأصابع، وتنهشه النظرات، وتقتله عقدة الذنب، وربما كان هذا بعض ما أراده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «من رأى عورة فسترها، كان كمن أحيا موءودة» (¬1)، ويقول المناوي في (عون المعبود): وجه الشبه أن الساتر دفع عن المستور الفضيحة بين الناس، التي هي كالموت، فكأنه أحياه، كما دفع الموت عن الموءودة من أخرجها من القبر قبل أن تموت) (¬2). ولقد كان من هَدْي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يؤثر الستر، حتى في حق مرتكب الكبيرة، لذلك كان يوجه بقوله "تعافّوا الحدود فيما بينكم" (¬3)؛ لئلا تُنقل إلى الإمام فتفتضح بإقامة الحد، لعل صاحبها يتوب، فيتوب الله عليه. لقد بلغ من حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كرامة المسلم، وسلامة نفسيته، أنه حين جاءه رجل يقول له: «يا رسول الله إني أصبت حدًّا فأقِمْه عليَّ»، يقول أنس بن مالك: ولم يسأله عنه، وبعد الصلاة كرر الرجل مقالته، «فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أليس قد صليت معنا؟ قال: نعم. قال: فإن الله قد غفر ذنبك» (¬4). يقول ابن حجر: (وإنما لم يستفسِرْه إما ¬

(¬1) رواه أبو داود في كتاب الأدب - باب 45 - الحديث 4870 صححه الحاكم ووافقه الذهبي وضعفه الألباني. (¬2) عون المعبود 13/ 235 من شرح الحديث 4870. (¬3) صحيح سنن أبي داود برقم 3680 وصحيح سنن النسائي برقم 4539. (¬4) صحيح البخاري - كتاب الحدود - باب 27 - الحديث 6823.

لأن ذلك يدخل في التجسس المنهي عنه، وإما إيثارًا للستر، ورأى أن في تعرضه لإقامة الحد عليه ندمًا ورجوعًا) (¬1)، وندع الخلاف الفقهي في ذلك الحديث؛ لنقطف المغزى الأخلاقي الذي يُؤكِّد حرمة المسلم ومكانته، حتى حين يقرُّ على نفسه ويعترف بذنبه. أعود إلى واقعنا المؤلم، فأرى أناسًا يتهمون بالظن، ويشيعون بلا بينة، ويفترون على البريء، ويفضحون المذنب المستتر بذنبه، ويُشوِّهون صورة الفضلاء بإبراز صور ضعفهم، فمن يدعي أن هذا من الحياء والستر الذي يحبه الله؟ خلاصة هذا الفصل وعناصره: - المسرُّ بالمعصية مستور بستر الله عليه. - كشف العيوب مستقبح وإن تحدث المرء عن نفسه. - لا تعارض بين الإنكار على العاصي وبين ستره. - تتبع العورات منزلق إلى فضح العيوب. - الارتياح بسماع العيوب علامة مرض القلب. - الستر مطلوب حتى في حق مرتكب الكبيرة. **** ¬

(¬1) فتح الباري 12/ 134 من شرح الحديث 6823.

الباب التاسع من أخلاقنا في التعامل الاجتماعي

الباب التاسع من أخلاقنا في التعامل الاجتماعي الفصل الأول: اللين والرفق. الفصل الثاني: السماحة. الفصل الثالث: الاحترام. الفصل الرابع: الإحسان. الفصل الخامس: مكافأة المحسن. الفصل السادس: الكرم. الفصل السابع: الأمانة. الفصل الثامن: البر. ****

الفصل الأول اللين والرفق

الفصل الأول اللين والرفق

«حُرِّم على النار كل هيِّن ليِّن سهل ...». إن التوازن في شخصية المسلم ليجمعُ الشدة والرحمة، وإن من الحكمة مراعاة كل ظرف بما يناسبه، والتعامل مع كل حالة بما تقتضيه؛ من الأخذ بقوة أو الرفق واللين، غير أنه يبقى أن الأصل في التعامل الاجتماعي اللين والرقة، ما لم يَقُمْ ما يقتضي خلاف ذلك. أما حين تنضُبُ ينابيع العاطفة، فلابد من تطهير القلب من عوامل القسوة؛ لتنعكس صور اللين على المعاملة والسلوك. إن طول الزمن قد يُخفِّف من رقة الشعور، وتطاول الأيام قد ينسي بعض القيم، وتقادم العهد قد يغير المشاعر القلبية، ما لم يتعهَّد المرء نفسه، ويجلو قلبه، ليبقى حاضرَ الفكر، واعيَ القلب، يقظَ الإحساس، ولأن الليِّن ظاهرة سلوكية تنبع عن قلب لين، فقد عاتب ربنا عز وجل الصحابة الكرام حين رأى منهم تغيرًا في القلوب: {أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]، وحدَّث ابن مسعود فقال: (ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية ... إلا أربع سنين) (¬1)، وزاد في رواية (فجعل ينظر إلى بعض ويقول: ما أحدثنا؟!) (¬2)، فإذا كان ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب التفسير - باب 1 - الحديث 24/ 3027 (شرح النووي 9/ 368). (¬2) عن الجامع لأحكام القرآن 17/ 162 عند تفسير الآية 16 من سورة الحديد.

الصحابة الكرام قد احتاجوا إلى تلك اللفتة القلبية بعد أربع سنوات من إسلامهم، فكم تحتاج قلوبنا إلى تعهُّد وتزكية؟! وقسوة القلب قد تكون أحيانًا نتيجة المعاصي، ومظهرًا من مظاهر غضب الله على العبد، ولذلك يقول مالك بن دينا: (ما ضُرِب عبدٌ بعقوبة أعظم من قسوة قلب، وما غضِب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم) (¬1). وإن العيش في أعطاف النعمة ليجعل على القلب غشاوة، تشغل المرء بذاته، وتحد من همته، ولذلك رأى محمد بن كعب في الآية السابقة توجيهًا آخر فقال: (كانت الصحابة بمكة مجدبين، فلما هاجروا أصابوا الريف والنعمة ففتَروا عما كانوا فيه فقسَتْ قلوبهم، فوعظهم الله فأفاقوا) (¬2)، ألا فلنتواصَ حتى نُفِيقَ. إن الانشغال بلغو الكلام وتتبع الهفوات يُجفِّف منابع اللين في القلب، وتنعكس الآثار على صورة حدة في التعامل. جاء في موطأ الإمام مالك قوله: (بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى؛ فتقسوا قلوبكم؛ فإن القلب القاسي بعيد من الله، ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا فيها كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان: معافى ومبتلى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية) (¬3). إن شخصية الداعية لتقتضي القدرة على التعامل مع الناس ¬

(¬1) عن الجامع لأحكام القرآن 15/ 161 عند تفسير الآية 22 من سورة الزمر. (¬2) عن الجامع لأحكام القرآن 17/ 162 عند تفسير الآية 16 من سورة الحديد. (¬3) موطأ مالك - كتاب الكلام - باب 3 - الحديث 8 من بلاغات مالك.

باللين. وقد تعجبت السيدة عائشة من موقف رسول - صلى الله عليه وسلم - حين استأذن رجل بالدخول عليه، فنعته بقوله: «بئس أخو العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام ..» (¬1)، وليس عجيبًا أن يكون هذا شأن نبينا - صلى الله عليه وسلم - وهو القائل: «الكلمة اللينة صدقة» (¬2)، ولما سأل رجل رسول - صلى الله عليه وسلم - عن أفضل الأعمال أوجزها له في صفات ذكر منها: «لين الكلام وبذلك الطعام» (¬3). وإذا كان قصدنا الفوز برضا الله، والنجاة من النار، فإن المسلم لينال باللين ما لا يناله بالغلظة والشدة، كما في الحديث: «حُرِّم على النار: كل هيِّن ليِّن سهل، قريب من الناس» (¬4). ويمكن أن يكون تكلف السلوكيات اللينة مدخلًا إلى اكتساب اللين القلبي، فقد شكا رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قسوة قلبه فقال له: «إن أردت أن يَلِين قلبك؛ فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم» (¬5). وكثيرًا ما يُحرِّش الشيطان في الصدور، حتى في لحظة القيام للصلاة، وتسوية الإمام للصفوف، بتأخير هذا وتقديم ذاك، إلى أن يستقيم الصف، وقد كان من وصيته - صلى الله عليه وسلم - قبل الدخول في الصلاة: «ولِينوا في أيدي إخوانكم» (¬6)؛ لأن إقامة الصفوف وسد الخلل ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب 48 - الحديث 6045 (فتح الباري 10/ 471). (¬2) مسند أحمد 2/ 312. (¬3) مسند أحمد 4/ 204. (¬4) مسند أحمد 1/ 415 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 3135. (¬5) مسند أحمد 2/ 262 وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم 1410. (¬6) مسند أحمد 2/ 98 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 1187 ورواه أبو داود.

تقتضي الاستجابة وعدم المعاندة. وليس المقصود باللين عدم إنكار المنكر، وإنما اللين في الأسلوب حيث يغني اللين ويحقق الغرض، وذلك باستنفاد جميع الوسائل الممكنة التي تضمن الاستجابة، ولا تستعدي الآخرين، وراجع - إن شئت - حديث البخاري في قصة الرجل الذي جامَع أهله في نهار رمضان، كيف عرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عددًا من الخيارات للتكفير عن ذنبه، فقال له: «هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا قال: فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟ قال: لا»، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - تمرٌ، فأعطاه للرجل، وقال له: «خذ هذا فتصدق به». فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله، والله ما بين لَابتَيْها أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه، ثم قال: «أطعمه أهلك» (¬1). فاللين صورة من صور الرحمة يضعها الله في قلب العبد، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ...} [آل عمران: 159]. والرفيق الرحيم أحقُّ الناس برحمة الله كما في الحديث: «الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء» (¬2)، ولذلك فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (كان أرحم الناس بالصبيان والعيال) (¬3)، ونفى كمال الإيمان عمَّن لا يرحم، «ليس ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الصوم - باب 30 - الحديث 1936 (فتح الباري 4/ 1063). (¬2) صحيح الجامع برقم 3522 (صحيح)، وهو عند أحمد وأبي داود الترمذي والحاكم. (¬3) صحيح الجامع برقم 4798 (صحيح).

منا مَن لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا» (¬1)، وحتى الرحمة بالمخلوقات من أسباب استحقاق رحمة الله في الآخرة، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن رحم ولو ذبيحة عصفور، رحِمه الله يوم القيامة» (¬2). والعَلاقات الأُسْرِيَّة مع الأهل وذوي الرحم، ينبغي أن يسودها الرفق واللين؛ للمحافظة على تماسك بنيان الأسرة المسلمة وصفاء أجوائها، كما في الحديث: «إذا أراد الله بأهل بيت خيرًا أدخل عليهم الرفق» (¬3). والهين اللين ينسحب رفقه على كل صور حياته، التي تقتضي السماحة واللين في التعامل مع المؤمنين، حتى يحظَى بمحبة الله «إن الله تعالى يحب الرفق في الأمر كله» (¬4)، كما نحظى بعون الله «إن الله رفيق يحب الرفق، ويرضاه، ويعين عليه ما لا يعين على العنف ..» (¬5). وصورة الشديد الغليظ، الغاضب العنيف، صورة مَشينة مَعِيبة تنفر منها الطباع البشرية؛ بينما صورة السهل الرفيق، اللين اللطيف، صورة تزين صاحبها، وترتاح إليها النفوس، وتأنس إليها القلوب، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه» (¬6). ¬

(¬1) صحيح الجامع برقم 5444 (صحيح) وهو عند أحمد والترمذي والحاكم. (¬2) صحيح الجامع برقم 6261 (حسن). (¬3) صحيح الجامع برقم 303 (صحيح) ورواه أحمد في مسنده). (¬4) صحيح الجامع برقم 1881 (صحيح) وهو أيضًا عند البخاري. (¬5) صحيح الجامع برقم 1770 (صحيح). (¬6) صحيح الجامع برقم 5654 (صحيح).

ولا ينفي كل ما مضى أن المؤمنين أشداء على الكفار رحماء بينهم. ولا أنهم يغضبون لله، كما أنهم يلينون لوجه الله. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - اللين هو الأصل. - من عوامل قسوة القلب: - طول الأمد. - كثرة المعاصي. - كثرة التنعم. - كثرة اللغو. - اللين بالكلام. - تَنال باللين ما لا تناله بالشدة. - يمكن اكتساب اللين بممارسته. - اللين في تسوية الصفوف. - اللين لا ينفي الأمر بالمعروف. - الرجل الرفيق حقيق بالرحمة. - الرفق بالبهائم من الرحمة. - صورة الرجل اللين محبوبة. - لا تعارض بين اللين والشدة. ****

الفصل الثاني السماحة

الفصل الثاني السماحة

«الإيمان: الصبر والسماحة». حين تجد امرءًا سهلًا ميسرًا، يتنازل عن حظِّ نفسه أو جزء من حقه، ليحل مشكلة هو طرف فيها، أو ليطوي صفحة طال الحديث فيها، أو ليتألف قلبًا يدعوه، أو ليستطيب نفس أخيه، وهو قبل ذلك لا يتعدى على حق أخيه، ولا يُلحِف في المطالبة بحقوقه، فذلكم هو الرجل السمح وتلك هي السماحة. وقد دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرحمة للرجل السمح: «رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى» (¬1)، وفي رواية (وإذا قضى)، وما هي إلا صور من المعاملات اليومية، التي تقتضي قدرًا كبيرًا من السماحة. ويعلق ابن حجر على رواية البخاري بقوله: (السهولة والسماحة متقاربان في المعنى، والمراد بالسماحة ترك المضاجرة ونحوها، وإذا اقتضى؛ أي: طلب قضاء حقه بسهولة وعدم إلحاف، وإذا قضى: أي أعطى الذي عليه بسهولة بغير مطل، وفيه الحض على السماحة في المعاملة، واستعمال معالي الأخلاق، وترك المشاحنة، والحض على ترك التضييق على الناس في المطالبة، وأخذ العفو منهم) (¬2)، وأكثر ما تكون الخصومات في المعاملات المالية، والمناظرات الخلافية، والملاسنات الكلامية. وقل أن يسلم فيها من لم يتحلَّ بكرم الخلق، وجود النفس، وسماحة الطبع. ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب البيوع - باب 16 - الحديث 2076 (الفتح 4/ 306). (¬2) فتح الباري 4/ 302 عند شرحه للحديث 2076.

إن صاحب السماحة لا تطيب نفسه بأن يحصل حقًّا لم تطب به نفس الطرف الآخر، فيؤثر التنازل أو السماحة وإن كان الحق له، وهذا ما كان من عثمان - رضي الله عنه - حين اشترى من رجل أرضًا، فتأخَّر صاحب الأرض في القدوم عليه لقبض الثمن، وتبيَّن له أن سبب تأخره أنه بعد أن تم العقد شعر البائع أنه مغبون، وكان الناس يلومونه كيف تبيعها بهذا الثمن؟ قال عثمان: (فاختر بين أرضك ومالك)، ثم ذكر له الحديث: «أدخل الله عز وجل الجنة رجلًا، كان سهلًا مشتريًا وبائعًا، وقاضيًا ومقتضيًا» (¬1). إن إنظار المعسر، أو التجاوز عن القرض أو عن جزء منه، صورة عظيمة من صور الكرم وسماحة النفس. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كان تاجر يُداين الناس، فإذا رأى معسرًا قال لفتيانه: تجاوزوا عنه؛ لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه» (¬2)، بل إن توفيق الدنيا والآخرة مرهون بتيسيرك على أخيك المعسر: «مَن يسَّر على مُعسِر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة» (¬3). وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر برد القرض بخير منه وبالزيادة فيه، ويقول: «أعطِه، فإن خيار الناس أحسنهم قضاء» (¬4)، وما ترك صاحب القرض يمضي إلا وهو راضٍ، كما شهد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شريكه ¬

(¬1) مسند أحمد 1/ 58 وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (1789/ 2202) وصحيح النسائي (4379). (¬2) صحيح البخاري - كتاب البيوع - باب 18 - الحديث 2078 (الفتح 4/ 308). (¬3) صحيح مسلم - كتاب الذكر - باب 11 - الحديث 2699 رواه ابن ماجه برقم 2417 - واللفظ له -. (¬4) صحيح سنن ابن ماجه 2/ 29 - الحديث 1851/ 2285 (صحيح).

في التجارة قبل البعثة: (السائب بن عبد الله) بقوله له: (كنت شريكي في الجاهلية، فكنت خير شريك، كنت لا تداريني ولا تماريني) (¬1)؛ أي: كنت لا تدافعني في أمر ولا تجادلني، بل كنت شريكًا موافقًا، ولم ينسَها له، وكانت سببًا من أسباب محبته له، وتكون سببًا من أسباب النجاة من النار لمن تخلَّق بها «حُرِّم على النار: كلُّ هيِّن ليِّن سهل، قريب من الناس» (¬2). صاحب السماحة لا يحرِصُ على إيقاع الناس في الحرج، ولا يشغَلُه التفكير بما له عن التفكير بما عليه من سماحة مع إخوانه وتقدير لظروفهم، وفي الحديث الصحيح: أن الصحابي أبا اليسر - رضي الله عنه - كان له على رجل قرضٌ، فلما ذهب لاستيفاءِ حقه اختبأ الغريم في داره؛ لئلا يلقى أبا اليسر، وهو لا يملك السداد، فلما علم أبو اليسر أن صاحبه يتخفى منه حياءً لعدم تمكنه من أداء ما عليه، أتى بصحيفة القرض فمحاها، وقال: «إن وجدت قضاءً فاقضِ، وإلا فأنت في ... حلٍّ» (¬3)، وبسماحته تلك أخرج أخاه من الحرج الشديد. وأبرز مواقف السماحة ما يكون مع مَن أساء إليك، كالذي جرى مع أبي بكر - رضي الله عنه - حين أقسَم ألا يُنفِق على مِسْطَح بن أُثاثة؛ لتورُّطه في حديث الإفك، فأمره الله أن يعفو ويصفح، فكفَّر عن يمينه، وعاد ينفق عليه (¬4)، وفي ذلك يقول - صلى الله عليه وسلم -: «ارحموا تُرحموا، واغفروا ¬

(¬1) صحيح سنن ابن ماجه 2/ 29 - الحديث 1853/ 2290 (صحيح). (¬2) مسند أحمد 1/ 415 - صححه الألباني في صحيح الجامع برقم 3135. (¬3) صحيح مسلم - كتاب الزهد - باب 18 - الحديث 3006. (¬4) هذه القصة من حديث الإفك في صحيح البخاري - الحديث 4750 (الفتح 8/ 452).

يُغفَرْ الله لكم» (¬1)، وقد وصف الله عباده المؤمنين بأنهم: {وَإذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37]. وقد يوسوس الشيطان للمسلم: إنك لو تسامحت وصفك الناس بالعجز، وظنوا فيك الضعف؛ ولأن تُؤثرَ أن يقال فيك ما يقال خير لك من الوقوع في الفجور، بحيث يخشى الناس شرَّك، وقد ورد في الحديث: «يأتي عليكم زمان يُخيَّر فيه الرجل بين العجز والفجور، فمن أدرك هذا الزمان فليختَرِ العجز على الفجور» (¬2)، ولابد من الإشارة إلى أن السماحة هنا مع أصحاب الفلتات من المسلمين، أما الذين يظلمون الناس، ويصرُّون على ذلك، فيُعامَلون بخلق (الانتصار). وإن مما يتنافى مع السماحة الانزلاق إلى اللدد والخصومة؛ إذ كما يحب الله السماحة فإن «أبغض الرجال إلى الله الألدٌّ الخَصِم» (¬3)، قال في الفتح: (الألدُّ: الكذَّاب، وكأنه أراد أن من يكثر المخاصمة، يقع في الكذب كثيرًا) (¬4)، وحين يفتقد المرء السماحة تجده ينحدر في أخلاقه، إلى أن ينجرف إلى التصايح والجدل لأمر يعلم بطلانه، أو وقوفًا مع طرف لا يدري مدى أحقيته، «ومَن خاصم في باطل - وهو يعلمه - لم يزل في سخط الله حتى ينزع عنه» (¬5)، وقد قيل في المثل: (ما استرسل كريم قط). ¬

(¬1) صحيح الجامع - الحديث 897 (صحيح). (¬2) مسند أحمد 2/ 278. (¬3) صحيح البخاري - كتاب الأحكام - باب 34 - الحديث 7188 (الفتح 13/ 180) (¬4) فتح الباري 13/ 181. (¬5) صحيح سنن أبي داود 2/ 686 - الحديث 3066/ 3597 (صحيح).

إن خُلُق السماحة يقتضي من صاحبه المبادرة إلى التنازل عند الوقوع في أي موقف جدلي، ولنتذكر دائمًا أن العلم بميقات ليلة القدر خير كبير حُرِمت منه الأمة؛ بسبب انعدام روح السماحة بين رجلين من الأمة: «خرجتُ لأُخبِركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرُفِعت» (¬1)، وكم تُحرم الأمة من البركات والنِّعم والنصر حين تدبُّ الخصومات، بل إن صفة أساسية من أخلاقيات المنافق أنه: «وإذا خاصم فجر» (¬2)، ولا يليق بالرجل السمح أن يتعنَّت ويجادل ويشد ويَصِيح، ناهيك عن أن يفجر في الخصومة (والفجور: الميل عن الحق والاحتيال في رده) (¬3). وإنه مما يتنافى مع روح السماحة أن يقع الإخوة في جدالات تافهة لأمور سياسية، أو قضايا فكرية، أو توقعات غيبية، ثم تجدهم يَنْفضُّون متباغضين، وما كانت البداية إلا روح الجدل، و «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» (¬4)، ولحثِّ المسلمين على السماحة في الحوار، والتنازل عند الاختلاف، وعدم الوقوع في مغبة الجدل، تعهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببيت في الجنة لمن تنازل: «أنا زعيم ببيت في رَبَضِ الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا» (¬5)، ولا يمكن أن يكون سماحة وتنازلًا إلا حين يكون المرء محقًا، وإنه لعسير، وإن أجره لكبير. ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب فضل ليلة القدر - باب 4 - الحديث 2023 (الفتح 4/ 267). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الإيمان - باب 24 - الحديث 34 (الفتح 1/ 89). (¬3) فتح الباري 1/ 90 عند شرح الحديث 34. (¬4) صحيح سنن ابن ماجه 1/ 15 - الحديث 45/ 48 (حسن). (¬5) صحيح سنن أبي داود (1/ 911) - الحديث 4015/ 4800 (حسن).

ومن نتائج انعدام روح السماحة أن تغدو أمتنا تتبارى بألسنتها، فتنقلب إلى أمة كلام بدل أن تكون أمة عمل، وتضيع الأوقات في الشد والجذب والأخذ والرد، وكل يناصر رأيه، إن مما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمته (منعًا وهات) ومما كره لهم (قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) (¬1). ولا يكمل أجر المجاهد إلا بالسهولة والسماحة «الغزو غزوان: فأما مَن ابتغى وجه الله، وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة، وياسر الشريك، واجتنب الفساد، فإن نومه ونبهه أجر كله» (¬2)، قال الباجي في (ياسر الشريك): (يريد موافقته في رأيه مما يكون طاعة، ومتابعته عليه، وقلة مشاحّته فيما يشاركه فيه؛ من نفقة أو عمل) (¬3)، فلنوفر أوقاتنا، ولنحفظ أخوتنا؛ بتعميم روح السماحة فيما بيننا، وبالنزول عند رغبة إخواننا إيثارًا لما هو أغلى. تظهر آثار (السماحة) في جميع مظاهر حياة صاحبها، فانظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع زوجته (عائشة)، حين قصدت الحج والعمرة، فأصابها الحيض، فحزنت لعدم تمكنها من أداء العمرة، وبكت لذلك وقالت: (يرجع الناس بحجة وعمرة، وأرجع بحجة؟!)، يقول جابر بن عبد الله: (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا سهلًا، حتى إذا هَوِيَتْ الشيء تابعها عليه، فأرسلها مع عبد الرحمن بن أبي بكر فأهلَّت بعمرة من التنعيم) (¬4)، قال النووي: (سهلًا: أي سهل الخلق، كريم الشمائل، ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب 6 - الحديث 5975 (الفتح 10/ 405). (¬2) صحيح سنن أبي داود 2/ 478 - الحديث 2195/ 2515 (حسن) (¬3) في حاشية فؤاد عبد الباقي على موطأ مالك 2/ 466. (¬4) صحيح مسلم - كتاب الحج - باب 17 - الحديث 137 (شرح النووي 4/ 410).

لطيفًا ميسرًا في الخلق) (¬1)، فما أعظم سماحته - صلى الله عليه وسلم - مع أهله في مثل هذا الموطن المزدحم، وفي حال السفر. وتأمَّل سماحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعوته: فحين وجد ريح ثُوم في مسجده، نهى الصحابة عن أن يردَّ أحد مسجده قبل ذهاب ريح الثُّوم منه، وكان المقصود بالنهي (المغيرة بن شعبة) يقول - رضي الله عنه -: «أتيته فقلت: يا رسول الله إن لي عذرًا، ناوِلْني يدك - قال فوجدته والله سهلًا - فناولني يده، فأدخلتها في كمي إلى صدري، فوجده معصوبًا»، «فقال: إن لك عذرًا» (¬2)، فعذره حين وجد أنه أكل الثُّوم لمرض، وكم نحتاج إلى أن نتأسَّى بهذه السماحة مع المدعوين لنكون مبشِّرين غير منفِّرين، ميسِّرين غير معسِّرين. وإن مما عرَّف به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإيمان قوله: «الإيمان: الصبر والسماحة» (¬3)؛ حيث عرَّف الإيمان بحسن المعاملة مع الخالق، والمعاملة مع المخلوق، وكأنما يريد بالصبر عَلاقة العبد مع ربه؛ بالصبر على طاعته، والصبر عن معصيته والصبر على أقداره، وكأنما أراد بالسماحة عَلاقة العبد بأخيه؛ بحيث تغلب عليها السهولة والمياسرة والسماحة، وقابلية التوسيع والتنازل لرضى الله، وفيما يرضي الله، وربما كان من حكمة الربط بينهما أن السماحة تقتضي قدرًا كبيرًا من الصبر والتحمل: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43] فكن سمحًا إذا عاملت أو دعوت، سمحًا إذا حاورت ¬

(¬1) شرح النووي لصحيح مسلم 4/ 410 عند شرح الحديث 137 من كتاب الحج. (¬2) مسند أحمد 4/ 252. (¬3) صحيح الجامع - الحديث 2795 (صحيح).

أو رافقت، سمحًا إذا ظُلمت أو جُهل عليك، فرسالتنا حنيفيَّة سمحة. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - صورة السمح. - السماحة في التعامل اليومي. - من صور السماحة: - التنازل عن حق. - إنظار المعسر أو التجاوز عنه. - رد القرض بأحسن منه. - السماحة مع الشريك. - رفع الحرج عن الناس. - السماحة مع من يسيء إليك. - السماحة بين تهمة العجز أو الفجور. - صور تتنافى مع السماحة: - كثرة الخصومات. - كثرة الجدل. - كثرة اللغو. - مواقف تقتضي السماحة: - في الجهاد يكمل أجر السمح. - السماحة مع الزوجة يسر. - السماحة مع المدعوين بالإعذار. - العلاقة بين الصبر والسماحة. ****

الفصل الثالث الاحترام

الفصل الثالث الاحترام

«ليس منا من لم يُجلَّ كبيرنا ويرحم صغيرنا». أولى الناس بالاحترام والتوقير مَن كان حظه من الشرع أوفر، ونصيبه من العمل الصالح أكبر، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين» (¬1)، وذلكم هو ميزان التقديم والتكريم. وصاحب (خلق الاحترام) يُجِلُّ العلم وأهله، ومن احترامك للعالم أن تستشعر مهابته، روى البخاري أن حذيفة حدَّث حديثًا عن الفتن، فأراد التابعون أن يسألوه، قالوا: (فهبنا حذيفة أن نسأله) (¬2). وقد كان هذا شأن الصحابة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففي مرَّة أرادوا أن يسألوه عمَّن قضى نحبه، من المقصود به في قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب: 23]، (قالوا لأعرابي جاهل: سَلْه عمَّن قضى نحبه من هو؟ يقول الراوي: وكانوا لا يجترِئون على مسألته، يُوقِّرونه ويهابونه) (¬3)، وفي حديث سجود السهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى ركعتين بدل أربع، فظن بعض الصحابة أن الصلاة قصرت، يقول ¬

(¬1) صحيح مسلم - كتاب صلاة المسافرين - باب 47 - الحديث 817 (شرح النووي 3/ 346). (¬2) صحيح البخاري - الحديث 525 - ورواه أحمد 5/ 402 واللفظ له. (¬3) صحيح سنن الترمذي 3/ 91 - الحديث 2560/ 3433 (حسن صحيح).

أبو هريرة: (وفي القوم أبو بكر وعمر، فهاباه أن يكلماه) (¬1)، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استحثَّهم على السؤال، فقال: (سلوني، فهاهبوه أن يسألوه) (¬2)، فأرسل جبريل على صورة آدمي ليسأله، ولكي يتعلموا دينهم. ومن احترام العلماء عدم الخوض معهم في نوادر المسائل، فقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الغلوطات، قال الأوزاعي: (الغلوطات شداد المسائل وصعابها) (¬3)، وقد ورد في الحديث الصحيح: «لا تَعَلَّموا العلم لتُهَابوا به العلماء، أو تماروا به السفهاء، ولا لتجزئوا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار» (¬4)، فليحذر الذين يسألون ليجادلوا، أو ليختبروا، لا ليتعلموا. فإن شأن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - التوقير والإجلال للعلم وأهله، و «ليس منا مَن لم يُجِلَّ كبيرنا، ويرحمْ صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه» (¬5). وكما وجب الاحترام للعالِم، فإن للمتعلم حقَّه من التوقير والإكرام، يروي أحمد في حديث وفد عبد القيس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنزلهم ضيوفا على الأنصار: «فلما أن أصبحوا»، «قال: كيف رأيتم كرامة إخوانكم لكم، وضيافتهم إياكم؟» «قالوا: خير إخوان: ألانوا فُرُشَنا، وأطابوا مَطْعَمنا، وباتوا وأصبحوا يُعلِّمونا كتاب ربنا تبارك وتعالى، وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم -» (¬6)، وأوضح من ذلك ما جاء في الحديث ¬

(¬1) صحيح البخاري الحديث 6051 - ورواه أحمد 2/ 234 واللفظ له. (¬2) صحيح مسلم - كتاب الإِيمان - باب 1 - الحديث 7 - 10 (شرح النووي 1/ 278). (¬3) مسند أحمد 5/ 435. (¬4) صحيح الجامع - الحديث 7370 (صحيح). (¬5) صحيح الجامع - الحديث 5443 (حسن). (¬6) مسند أحمد 3/ 432.

الحسن: «سيأتيكم أقوام يطلبون العلم، فإذا رأيتموهم فقولوا لهم: مرحبًا بوصية رسول الله، وأفتوهم» (¬1)، فليستوصِ العلماء بطلابِهم خيرًا، فإن ذلك يزيد المتعلِّمين توقيرًا وتقديرًا لمربِّيهم ومعلِّميهم. وإن من أحوج ما ينبغي التذكيرُ به احترام ذوي سابقة الخير، فقد كان من وصية عمر - رضي الله عنه - قبل وفاته -: (أُوصِي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين خيرًا؛ أن يعرف لهم حقَّهم، وأن يحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيرًا - الذين تبَّوؤا الدار والإيمان - أن يقبلَ من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم) (¬2)، فتجاوز عن زلَّة مَن سبقوك في ميدان الدعوة والجهاد، واحفظ لهم قدرهم ولا تنسَ لهم فضلهم. يروي أنس أن جرير بن عبد الله كان يخدمه مع أنه أكبر منه سنًّا؛ لأن جريرًا هذا لم ينسَ إكرام الأنصار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (لا أجد أحدًا من الأنصار إلا أكرمته) (¬3)، ويروي أحمد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبة: «وإن الأنصار عيبتي التي أويت إليها، فأكرموا كريمهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» (¬4)، وحين يتربَّى أبناء الأمة على إكرام ذوي السبق في الخيرات، والأقدمية في خدمة الإسلام، عندئذٍ يعم الوفاء بين الأجيال. ومن صور الاحترام المحمودة إكرام الصغير لمن هو أكبر منه سنًّا، أو أكثر منه فضلًا، فإن ابن عمر لما عرف جواب سؤال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ¬

(¬1) صحيح الجامع - الحديث 3651 (حسن). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الجنائز - باب 96 - الحديث 1392 (الفتح 3/ 256). (¬3) صحيح البخاري - كتاب الجهاد - باب 71 - الحديث 2888 (الفتح 6/ 82). (¬4) مسند أحمد 3/ 500.

الشجرة التي تشبه المسلم لم يُجب، يقول: (فأردت أن أقول هي النخلة، فنظرت فإذا أنا أصغر القوم، فسكتُّ) (¬1)، وفي حديث صحيح: «البركة مع أكابركم» (¬2)، والكبير في قومه لا يليق أن يقابل بغير الإكرام جاء في الحديث الحسن: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» (¬3). ومن كرمِ المؤمن احترامُه لمن سبق أن أحسن إليه، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينسَ لبعض المشركين ما كان لهم من دور في الذبِّ عنه وعن دعوته، حتى العرب في جاهليتهم كان من الأخلاق المحمودة لديهم: الوفاء والاحترام لمن أحسن إليهم، فقد روي أن رجلًا من المشركين مثل عروة بن مسعود لما أغلظ له أبو بكر القول في مفاوضات صلح الحُدَيْبية، لم يجبه بشيء؛ لما لأبي بكر عليه من جميل سابق لم يكافئه عليه بعد، فلذلك قال: (أما والذي نفسي بيده. لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك) (¬4)، وفي حديث صحيح: «من صنع إليكم معروفًا فكافئوه» (¬5) وأدنى ما تُكافِئ به المحسن إليك أن توقره وتحترمه. وكل مؤمن حريٌّ بالاحترام فلا يُقَام من مجلسه ليجلس غيره، وتجب ضيافته، وتشرع مشاورته، ويُشكر على المعروف، وتُؤَدَّى إليه حقوقه غير مُتَعْتع، ونقابله بطلاقة الوجه، وندخل السرور إلى قلبه، ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب العلم - باب 14 - الحديث 72. (¬2) صحيح الجامع - الحديث 2884 (صحيح). (¬3) صحيح سنن ابن ماجه 2/ 303 - الحديث 2991/ 3712 (حسن). (¬4) مسند أحمد 4/ 324. (¬5) صحيح سنن أبي داود 1/ 314 - الحديث 1486/ 1672.

والإنسان بطبعه يحب أن يقابل بالاحترام والإكرام، ويطلب من ربه أن يكرمه. جاء في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهم زِدْنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تُهِنَّا، وأعطِنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا» (¬1)، ألا خابت أمة لا تتبادل خلق الاحترام والتوقير، و «حسب امرئُ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» (¬2). إن من كان في نفسه حقيرًا قد لا يقابل الآخرين بالاحترام، والإكرام، والذي يحترم نفسه يُتوقع من مثله أن يحترم الآخرين المستحقِّين للاحترام، وفي موقف أبي سفيان في جاهليته درسٌ لأصحاب الجاهليات، ولكثير من المسلمين في احترام النفس. إذا أبت عليه نفسه أن يشهد أمام هرقل وأمام الوفد المرافق له من قومه شهادة كاذبة في حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية ابن إسحاق يعلل ذلك، فيقول: (فوالله لو قد كذبت ما ردوا عليّ. ولكني كنت امرءًا سيدًا أتكرم عن الكذب، وعلمت أن أيسر ما في ذلك إن أنا كذبتُه - أن يحفظوا ذلك عني ثم يتحدثوا به، فلم أكذبه) (¬3). وأحيانًا يكون الاحترام الشكلي حتى مع من لا يستحق الاحترام لمصلحة شرعية كما كان من مخاطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهرقل بـ (عظيم الروم). يقول ابن حجر: (لم يُخْلِه من إكرام لمصلحة التألُّف) (¬4)، وكثيرًا ما يحتاج المسلمون للتعامل بالاحترام والتوقير لمصلحة وحدة الصف وتوفير الجهود، وتأليف القلوب، وإزالة الدَّخَن، وإغاظة العدو، وبقدر ¬

(¬1) صحيح سنن أبي داود 1/ 314 - الحديث 1486/ 1672. (¬2) صحيح مسلم - الحديث 2564 - ورواه أحمد 3/ 491 واللقظ له. (¬3) عن فتح الباري 1/ 35. (¬4) عن فتح الباري 1/ 38.

ما يحترم بعضنا بعضًا نكون في نظر الناس محترمين. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - ميزان احترام المرء بقدر حظه من الصلاح. - من صور الاحترام للعالم: - إجلاله والهَيْبة منه. - إقلال الأسئلة معه. - عدم تعنيتِه بالغلوطات. - احترام العالم لطالب العلم بإكرامه. - احترام صاحب السبق بالخيرات علامة وفاء. - احترام الصغير للكبير. - احترام من أحسن إليك. - كل مؤمن حري بالاحترام. - من يحترم نفسه يحترم الآخرين. - احترام من لا ينبغي لمصلحة شرعية. - التعامل بالاحترام لمصلحة وحدة الصف. ****

الفصل الرابع الإحسان

الفصل الرابع الإحسان

«وأحسِنْ كما أحسَن الله إليك». إن دِينًا يفرض على أتباعه (الإحسان) في كل شيء، لا يرتضي من أتباعه أن يألفوا الإساءة أو أن يمارسوها، فما يدعو إليه دينُنا أسمى وأرفع من ممارساتنا اليومية الخاطئة التي نشوه بها الصورة العملية لأخلاق هذا الدين. منذ الخطوة الأولى على بوَّابة الإسلام، نحن مطالَبون أن نُحسِن إسلامنا لتضاعف أجورنا، فقد روى البخاري «إذا أحسن أحدُكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها» (¬1)، بل إن رُكام الجاهلية الذي يثقل كاهل حديث الهداية لا خلاص منه إلا بصدق التوبة وإحسان العمل؛ ولذلك يقول - صلى الله عليه وسلم -: «مَن أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر» (¬2). الإحسان إتقان للعمل، وتحسين للأداء، وحسن في العطاء يعمُّ مظاهر الحياة الرجل المحسن حقًّا؛ فإن نظرت إلى أخلاقه وجدت خلقه حسنًا، وإن أحبكم وأقربكم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أحاسنكم أخلاقًا» (¬3)، ولذلك قال الفُضَيل بن عِياض: (لأن يصحبني فاجرٌ حسن الخلق أحب إليَّ من أن يصحبني عابد سيِّئ الخلق) (¬4)؟ ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الإيمان - باب 31 - الحديث 42. (¬2) صحيح البخاري - كتاب المرتدين - باب 1 - الحديث 6921. (¬3) صحيح سنن الترمذي 2/ 196 الحديث 1641 (صحيح). (¬4) إحياء علوم الدين 3/ 45.

وإن نظرت إلى الجميع أعمال المحسن وجدت الإحسان فيها غالبًا، ولذلك أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن من خير الناس «مَن طال عمره وحسن عمله» (¬1)؛ لأن كل زيادة في العمر تغدو لديه زيادة في الأجر والخير. إن الحياة كلها مجال للترقي في مدارج الإحسان؛ ولذلك كان النهي عن تمني الموت معللًا بما جاء في رواية البخاري: «لا يتمنَّى أحدكم الموت؛ إما محسنًا فلعله يزداد، وإما مسيئًا فلعله يستعتب» (¬2)، فيسوقه الإحسان إلى التوبة ومحاسبة النفس قبل قدوم الأجل، وحتى صورة القتلة والذبحة - تلك الصورة القاسية بطبيعتها يمكن إشباعها بنفحة إحسان: «وليحدَّ أحدُكم شفرتَه وليُرِحْ ذبيحته» (¬3). ويجمَعُ الغزالي أصول الأخلاق الحسنة في أربعة أخلاق أساسية (الحكمة والشجاعة والعفة والعدل)، فيقول: (في الباطن أربعة أركان لا بدَّ من الحسن في جميعها حتى يتم حسن الخلق ... وكل من جمع كمال هذه الأخلاق استحق أن يكون بين الخلق ملكًا مطاعًا يرجع الخلق كلهم إليه ويقتدون به في جميع الأفعال) (¬4)، فمَن سعى إلى أستاذية العالم لقيادة البشرية فلابد أن يكون مؤهَّلًا بالإحسان في أهم الأخلاق. ويربط الغزالي في عَلاقة التأثير والتأثر بين حسن الباطن بالطبع، وحسن الظاهر بالتطبع ليصوغ من ذلك منهجًا تربويًّا في إصلاح النفس وترويضها نحو الأحسن، فيقول: (الأخلاق الجميلة يمكن اكتسابها بالرياضة وهي تكلُّف الأفعال الصادرة عنها ابتداءً ¬

(¬1) مسند أحمد 5/ 40. (¬2) صحيح البخاري - كتاب التمني - باب 6 - الحديث 7235. (¬3) صحيح مسلم - كتاب الصيد - باب 11 - الحديث 1955. (¬4) إحياء علوم الدين 3/ 47.

لتصير طبعًا انتهاءً، فإن كل صفة تظهر في القلب يفيض أثرها على الجوارح ... وكل فعل يجري على الجوارح فإنه قد يرتفع منه أثر إلى القلب) (¬1). والصلاة نفسها وسيلة من وسائل غرس الإحسان في النفوس؛ لأنها تنهَى عن الفحشاء والمنكر ويدعو المؤمن فيها بالدعاء المأثور: «اللهم اهدِني لأحسن الأخلاق لا يَهْدي لأحسنِها إلا أنت، واصرِف عني سيِّئها لا يصرف عني سيِّئها إلا أنت» (¬2). وساحة الجهاد فرصة من فرص الارتقاء بالخلق وتهذيب الطباع والاستزادة في الإحسان، فقد جاء في سنن ابن ماجه: «يا أكثم، اغزُ مع غير قومك يحسن خلقك وتكرَّم على رفقائك» (¬3)، وربما كان الخروج من التقوقع على النفس، والانخراط مع قوم آخرين في سبيل الله، فرصة للتأثر بخير ما عندهم، وتحسين الخلق بالتأسي بأفضل ما يظهر منهم، فالرفقة القصيرة غالبًا تُبدِي أحسن ما لدى الآخرين وتستر ما وراء ذلك من عيوب يظهرها طول العشرة. ومن أسمى صور الإحسان - وهنيئًا لمن يصل إليها - أن تقابل الإساءة بالإحسان، وأن تكون مقتديًا بكل امرئ بخير ما فيه من خصال، روى البخاري عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قوله: (فإن أحسن الناس فأحسن معهم. وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم) (¬4). ¬

(¬1) إحياء علوم الدين 3/ 51. (¬2) صحيح مسلم - كتاب المسافرين - باب 26 - الحديث 771. (¬3) مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه 2/ 118: (إسناده ضعيف، وله شاهد في صحيح ابن حبان وأبي داود والترمذي. وقال: حسن غريب). (¬4) صحيح البخاري - كتاب الآذان - باب 56 - الحديث 695 (موقوف على عثمان).

وتربية القرآن تُنشِئ في نفس المؤمن صورًا من الإحسان؛ لأنه مخاطب بالتأمل فيما أحسن الله إليه من النعم الغامرة، ومطالب بالإحسان إلى الخلق بمثل ذلك: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ} [القصص: 77]، وكم في القرآن من المرغبات للمرء في أن يحسن: لينال محبة الله وليضمن معية التأييد، وعدم ضياع الأجر، وقرب الرحمة منه، وإيتاء الحكم والعلم جزاءً على إحسانه، وله في الآخرة الحسنى وزيادة، والسلام، وما يشاء (¬1): وكم من مجالات الإحسان أمام الداعية! فإن أراد الدعوة فبالحكمة والموعظة الحسنة، وإن أراد القول فمَن أحسن منه قولًا؟! وهو الذي يقول للناس حسنًا، وإن أمر فبالعدل والإحسان، وهو الذي يأمر الناس أن يقولوا التي هي أحسن، وإن دفع مخالفيه أو جادلهم فبالتي هي أحسن، وهو يتقلب في صور الإحسان عاملًا بها وداعيًا إليها. وقد يجد المرء نفسه في حالات الضعف مائلًا عن الإحسان إلى صور لا تليق بالمحسنين؛ كأن يصبح استماعه للمواعظ تتبعًا للهفوات، وتسقطًا للزلات، بينما كان من الذين {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]، وأخطر أمراض الحائدين عن الإحسان أنهم يسيئون ومع ذلك {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]؛ ذلك أن الواحد منهم {زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا} [فاطر: 8] بسبب انقلاب الموازين لديه وعدم تقبله للنصح وبسبب غلبة الهوى على الرابطة الإيمانية. ¬

(¬1) إشارة لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 34].

فاحذَر أن تكون من أولئك الظالمين لأنفسهم البعدين عن رحمة الله: {إلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النمل: 11] فاجعل الله غايتك، واستزِدْ من الإحسان يُسدِّد الله خطاك، ويكن عونك على من عاداك {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، ووعد الله باق، وسنته مع المحسنين ماضية. خلاص هذا الفصل وعناصره: - يدعونا ديننا إلى الإحسان. - من صور الإحسان (إحسان الإسلام بصدق التوبة). - إحسان العمل بإتقانه. - إحسان الخلق. - إحسان اغتنام الحياة. - الإحسان إلى الذبيحة. - إحسان الباطن والظاهر. - الدعاء عون على الإحسان. - الجهاد يعين على الإحسان. - أسمى صور الإحسان بمقابلة الإساءة بالحسنى. - مجالات الدعوة كلها إحسان. - من أمراض الذين لا يحرصون على الإحسان. - عمى بصيرة المسيء يريه الإساءة إحسانًا. - استحقاق الرحمة بالإحسان بعد الإساءة. - المحسن مؤيد بالعون من الله. ****

الفصل الخامس مكافأة المحسن

الفصل الخامس مكافأة المحسن

«مَن أتى إليكم معروفًا فكافئوه». إنه لمن القبيح أن ينتظر المُحسِن من الناس جزاءً أو شكرًا، وأقبح منه اللئيم الكنود الذي، لا يستشعر فضل المحسن إليه ولا يقابله بالحسنى، وأشد قبحًا من قابل الإحسان بالإساءة والإكرام بالجحود. وإن مكافأة المحسن خُلق فطري ينشأ من خلق الوفاء، إذ أن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، والمؤمن المستقيم لا يكون شاكرًا لله حتى يكون معترفًا بالفضل لأهل الفضل، وفي ذلك يقول - صلى الله عليه وسلم -: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» (¬1)، وفي رواية أخرى: «إن أشكر الناس لله عز وجل أشكرهم للناس» (¬2)، وبهذا نرى أن أخلاق المؤمن لا تكتمل بحسن علاقته بربه فحسب وإنما لا بدَّ أن يكون على نفس المستوى من الأخلاق في التعامل مع الناس. وليس المؤمن بالجشع الذي لا يهزُّه إلا فيض الإكرام ومزيد الإنعام، بل إن نفحة من الإحسان كافية لأن تُثيرَ فيه دواعي الشكر والمكافأة، وقد وضَّح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى بقوله: «مَن لم يشكر القليل لم يشكر الكثير» (¬3). والشكر اللساني أقل ما يُقدِّمه المرء مكافأة لمن أحسن إليه ووفاءً لمن وقف بجانبه، لكيلا يتعلَّم أبناء الأمة الكفران والجحود، ولئلا ¬

(¬1) صحيح سنن أبي داود 3/ 913 - الحديث 4026 (صحيح). (¬2) مسند أحمد 5/ 212. (¬3) مسند أحمد 4/ 278.

يتخلَّقوا بنكران الجميل ونسيان المعروف، وحتى لا تموتَ المروءة في الناس، ولذلك يقول - صلى الله عليه وسلم -: «ومَن أتى إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه» (¬1). ولكي تبقى دافعيةُ الإحسان قائمةً بين الناس، فإن البشر يُؤثِّر فيهم المكافأة على إحسانهم، ومن صور المكافأة المقابلة بالمثل، أو الدعاء لصاحب المعروف، أو الثناء على فعله: «ومَن لم يجد فليثنِ؛ فإن مَن أثنى فقد شكر ومَن كتم فقد كفر» (¬2)، ومقابلة إحسان الناس ببرود ولا مبالاة يقتل فيهم المبادرة للإحسان، ويضعف عندهم التفكير في الآخرين، ويقتل المروءة والنجدة والنخوة، ويفشي السلبية والأثرة؛ لأن من طبيعة الإنسان أن تقوى اندفاعته بالشكر، وإن كان الأصل فيه ألا يبتغي شكرًا ولا جزاءً. وحين ظنَّ المهاجرون أن الأنصار ذهبوا بالأجر كلَّه لما جادت به نفوسهم من الإنفاق على المهاجرين بين لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بابًا من الخير يقربهم من أجر الأنصار، عن أنس أن المهاجرين قالوا: «يا رسول الله، ذهبت الأنصار بالأجر كله، قال: لا، ما دعوتم الله لهم، وأثنيتم عليهم» (¬3)، فعلمهم أن يكافئوا إحسان المحسن بالدعاء له، أو بالثناء عليه، وليس أمام فقير من وسيلة لمكافأة المحسن غير هاتين. ¬

(¬1) مسند أحمد 2/ 68 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود وصحيح سنن النسائي. (¬2) صحيح سنن الترمذي برقم 1656 (حسن) وهو في صحيح سنن أبي داود برقم 4028. (¬3) صحيح سنن أبي داود 3/ 913 - الحديث 4027 (صحيح).

وقد كان من خُلُق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه «كان يقبَل الهدية ويُثِيب عليها» (¬1)، وذلك ضمن الاستطاعة؛ فإذا غدا التهادي نوعًا من التكلف والتقاليد الاجتماعية المرهقة، أو أصبح المهدي يمنُّ أو يتعب على مَن لا يقدر على مكافأته فقد خرجت هذه الأخلاق عن حدِّ الحسن، ودخلت في حيِّز المادية وعدم الإعذار وعدم خلوص العمل بانتظار الجزاء عليه، وهذا من مفاسد التعاملات الاجتماعية حين تفقد الروح الشرعية وإخلاص القصد. وحين اقترض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عبد الله بن أبي رَبيعة المخزومي قبل حُنَين ردَّ إليه القرض بعد الغزوة، وقال له: «بارَك الله لك في أهلك ومالك، إنما جزاء السلف الوفاء والحمد» (¬2)، وكلمة شكر وعبارة حمد لا يخسر قائلها شيئًا، ولا تُكلِّفه جهدًا، ولكنها تعود عليه بكسب ود المحسن، وائتلاف قلبه، وتحريضه على مزيد من الخير. وإن سيدنا موسى عليه السلام حين سقى للمرأتين، ثم تولى إلى الظل لم يلبث كثيرًا حتى لقي جزاء إحسانه من والد المرأتين، الذي أوتي الحكمة، ويدرك ضرورة مكافأة المحسن، فجاءت إحداهما تقول: {... إنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ...} [القصص: 25]، وإن عُروة بن مسعود - رغم شركه - حين أغلظ له أبو بكر بكلمة قاسية في مفاوضات صلح الحديبية لم يزد في تعليقه على كلمة أبي بكر أكثر من قوله: «أما والله، لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ¬

(¬1) صحيح الجامع برقم 4999 (صحيح). (¬2) مسند أحمد 4/ 36 ورواه النسائي وابن ماجه وابن السني وسنده جيد (بلوغ الأماني 15/ 84).

ولكن هذه بها» (¬1)، واعتبر إساءة أبي بكر إليه مغفورة بسابق إحسانه عليه. ولعل هذه الاعتبارات تشيع وتحيا في معاملات المسلمين اليوم. ولقد كانت المكافأة بالسوء مستنكرة حتى مع البهائم؛ إذ حينما فرَّت امرأة من المسلمين من العدو على ناقة مسلوبة كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - نذرت إن وصلت إلى المدينة ناجية أن تنحرها، فلما ذُكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بئسما جزيتِها» (¬2)، ومُنعت من نحرها لهذا المعنى ولعدم جواز نذرها بما لا تملك. وللمحسنين الذين يلقون الإساءة بدل الإحسان عزاء في أن الله ناصر لهم كما جاء في قصة الصحابي الذي جاء يشكو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلًا: «إن لي ذوي أرحام، أصل ويقطعون، وأعفو ويظلمون، وأحسن ويسيئون، أفأكافئهم - أي بمثل إساءتهم -» «قال: لا، إذًا تتركون جميعًا، ولكن خذ بالفضل وصلهم، فإنه لن يزال معك من الله ظهير ما كنت عليه» (¬3)، والكريم لا ينسى الفضل لأهله، ولا يجازي الإحسان بالإساءة، وقد كان من الأجدر بنا ونحن نتحدث عن أخلاق المؤمنين أن نتكلم عن العفو، ومقابلة الإساءة بالإحسان، فذلك هو المقام اللائق بالمؤمنين حقًّا، وحينما استفسر صحابي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا رسول الله الرجل أمرّ به فلا يقريني ولا يضيفني ثم يمرُّ بي أفأجزيه؟ - أي بمثل بخله علي -» «قال: لا، بل أقرِهِ» (¬4)، وهكذا يكون ¬

(¬1) مسند أحمد 4/ 324. (¬2) مسند أحمد 4/ 429. (¬3) مسند أحمد 2/ 208. (¬4) أخرجه الترمذي برقم 2007 وأحمد 3/ 473 وصححه الأرناؤوط (جامع الأصول 7/ 57).

أصحاب النفوس العالية. يحيون المعروف بين الناس فلا يدعون محسنًا إلا ويكافئونه، ولا يدعون مسيئًا إلا ويقابلونه بالإحسان، ولا يمكن أن يكون المؤمن جحودًا للمعروف ولا كفورًا للعشير. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - قبح الجحود واللؤم. - مكافأة المحسن نوع من الوفاء، وصورة من الشكر لله. - من صور مكافأة المحسن: - الشكر اللساني على قليل الإحسان وكثيره. - مقابلة الإحسان بالإحسان. - الدعاء للمحسن. - الثناء على المحسن. - التهادي. - الوفاء بالحقوق. - جزاء المحسن في الدنيا. - من حق المحسن التغاضي عن إساءته. - المكافأة بالشر مستقبحة حتى مع البهائم. - الثابت على الإحسان إلى المسيء ينصره الله. - أسمى صور المكافأة الإحسان إلى المسيء. ****

الفصل السادس الكرم

الفصل السادس الكرم

«إن الله كريم يحب الكرماء». بين الكرم والتضحية ارتباطٌ وثيق وصلة قوية؛ فالمجاهد يَجُود بنفسه - وهذا غاية الجود - والمتحرِّر من شهوة المال، الباسط يده في أبواب البر والإحسان، قد يكون أقدر على الجهاد، لَما يُؤصِّله الكر في النفس من معاني التضحية والإيثار. ولأن الكرم له مجالاته المشروعة، فإن بذل المال في غيرها قد لا يكون كرمًا، ولذلك يقول ابن حجر: (والجود في الشرع إعطاءُ ما ينبغي لمن ينبغي وهو أعم من الصدقة) (¬1)، وضده الشح الذي يعني البخل مع مزيد من الحرص. وصاحب الكرم لا بدَّ أن يكون شديد التوكل، عظيم الزهد، قوي اليقين. ولذلك فإن الكرم مرتبط بالإيمان ظاهره كرم اليد ودافعه كرم النفس، وقد وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المؤمن بقوله: «المؤمن غرٌّ كريم، والفاجر خب لئيم» (¬2)، وفي حديث آخر: «ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا» (¬3). وأعظم صور الكرمِ ما يكون مع الفقر والحاجة وقلة ذات اليد، وهذه كانت من أخلاق العرب في الجاهلية، وأهل الإيمان بها أولى. ¬

(¬1) فتح الباري 1/ 31 من شرح الباب 5 من كتاب الوحي. (¬2) صحيح سنن الترمذي - أبواب البر - باب 14 - الحديث 1599/ 2047 (حسن). (¬3) صحيح سنن النسائي - كتاب الجهاد - باب 8 - الحديث 2913 (صحيح).

وقد ورد أن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه ليس لي من شيء إلا ما أدخل على الزبير أفأعطي؟»، قال: «نعم، لا تُوكِي فيُوكَى عليك» (¬1)، وعلى قلة ما يدخل عليها أشار عليها بالعطاء وبعدم الإحصاء ليُبارِك في الرزق ولمزيد من التوكُّل. وجيء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بلحمٍ، أتدرون ممن كان، كان من بَريرة الفقيرة ومن صدقة قدَّمت إليها: «قال: ما هذا؟» «قالوا: شيء تُصُدِّق به على بَريرة»، «فقال: هو لها صدقة ولنا هدية» (¬2)، فقد كان الواحد منهم لا يملك إلا قوت يومه ويكون كريمًا، وحين سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الصدقة أفضل؟ «قال: جهد المُقلِّ» (¬3). إن دينَنا بماله من أهداف عظيمة ليحتاج إلى النفوس الكريمة التي يفيض خيرها على الأقربين، وينصب في الإعداد والجهاد «أفضل الدينار: دينار ينفقه الرجل على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله. ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله» (¬4). قد تنطلق نفحات الكرم من فاقد الأمل بالدنيا حين يشرف على الموت، ولكن الكرم الحقيقي لصاحب قوة البدن، وطول الأمل، ودواعي الحرص محيطة به من كل جانب، لذلك حين سئل رسول الله ¬

(¬1) صحيح سنن الترمذي - أبواب البر - باب 40 - الحديث 1598/ 2043 (حسن). (¬2) صحيح سنن أبي داود - كتاب الزكاة - باب 31 - الحديث 1457/ 1655 (حسن). (¬3) صحيح سنن أبي داود - كتاب الزكاة - باب 41 - الحديث 1471/ 1677 (حسن). (¬4) صحيح سنن الترمذي - أبواب البر - باب 42 - الحديث 1601/ 2049 (حسن).

- صلى الله عليه وسلم -: أي الصدقة أعظم أجرًا؟ «قال: أن تَصَّدَّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى» (¬1). قال ابن حجر: (ولَمَّا كانت مجاهدة النفس على إخراج المال مع قيام مانع الشح دالًّا على صحة القصد وقوة الرغبة في القربة كان ذلك أفضل من غيره، وليس المراد أن نفس الشح هو السبب في هذه الأفضلية) (¬2). من الصفات المميزة لمن تأصلت فيه خصلة الكرم أنه لا يرد أحدًا يسأله وقد كان هذا الحال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ما سئل عن شيء قط فقال: لا) (¬3)، حتى حين أُهدِيت إليه بُرْدَة وكان محتاجًا إليها رآها عليه رجل من الصحابة، فقال: يا رسول الله ما أحسن هذه فاكسُنِيها. قال: نعم، فلام الصحابة ذلك الرجل قائلين له: (أخذها محتاجًا إليها ثم سألته إياها وقد عرفت أنه لا يُسأل شيئًا فيمنعه، فقال: رجوتُ بركتَها حين لبِسها النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلِّي أكفَّن فيها) (¬4). والكرم من صفات الرب سبحانه وتعالى، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن ربكم حَيِيٌّ كريم، يستَحْيِي من عبده أن يرفع إليه يديه؛ فيردهما صِفْرًا، (أو قال خائبتين)» (¬5). وعباد الله الصالحون يمنعهم حياؤهم وكرمهم من رد حاجة العبد من عباد الله. ومن أوجب الكرم معاملة الكرام بما يستحقون كما في الحديث: ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الزكاة - باب 11 - الحديث. (¬2) فتح الباري 3/ 285. (¬3) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب 39 - الحديث 6034. (¬4) نفس المرجع السابق - الحديث 6036. (¬5) صحيح سنن ابن ماجه - كتاب الدعاء - باب 13 - الحديث 3117/ 3865 (صحيح).

«إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» (¬1)، وقد حث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الضيافة - كمظهر من مظاهر الكرم - بتحريك المشاعر الإيمانية: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ..» (¬2)، ومَن كانت المادة قد التَهَمَتْه واستولت على قلبه وجعلته يعد ويُحصِي ويُحجِم عن المكارم استبقاء لما في الجيب وحذرًا مما يأتي به الغيب فلا خير فيه يقول - صلى الله عليه وسلم -: «لا خير فيمن لا يضيف» (¬3). وقد كانت السمعة والصيت عند أبناء الجاهلية عرضًا يخشون عليه أن يمسّ، فيتحدث الناس عنهم بما لا يحبون، فكانوا يهينون أموالهم حفاظًا على سمعتهم، وعزَّز الإسلام خيار الأخلاق فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ذُبُّوا عن أعراضكم بأموالكم» (¬4)، وأي دناءة يصل إليها المرء حين يؤثر المال الوفير المحفوظ بالشح والبخل والتقتير؟! الناس بفطرتهم لا يُحِبُّون الشحيح البخيل، وإذا لم تتحقَّق المحبة لم تنفتح القلوب للاستجابة والاستقبال، وقد ورد بهذا المعنى: (السَّخي قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، بعيد من الجنة، قريب من النار، ولَجَهِل سخي أحب إلى الله تعالى من عابد بخيل) (¬5). ومما يُعِين المرء على اكتساب صفة الكرم وتأصيلها في نفسه أن ¬

(¬1) صحيح الجامع - الحديث 269 (حسن). (¬2) صحيح سنن الترمذي - أبواب البر - باب 43 - الحديث 1602/ 2050 (حسن). (¬3) صحيح الجامع - الحديث 7492 (صحيح) وهو عند أحمد 4/ 155. (¬4) صحيح الجامع - الحديث 3426 (صحيح). (¬5) أخرجه الترمذي. وقال المناوي: روي بأسانيد ضعيفة يقوي بعضها بعضًا. قال الأرناؤوط: ومعنى الحديث صحيح (جامع الأصول 5/ 3 - الحديث 2979).

يستحضر صفة ربه - عز وجل -: «إن الله تعالى جوادٌ يحب الجود، ويحب معالي الأخلاق ويكره سَفاسفها» (¬1)، «إن الله كريم يحب الكرماء جواد يحب الجَوَدة» (¬2)، «إن الله كريم يحب الكرم» (¬3)، ومَن لا يحب أن يكون كما يحب الله؟! وإن في تأمُّل الحياة العملية للرسول القدوة صلوات الله وسلامته عليه ما يُفجِّر معاني الجود والكرم في قلب المتبع المحب. جاء في الحديث (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس) (¬4)، كما ورد بمثل هذا المعنى: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة) (¬5)، وجوده هذا كان سبب إيمان الكثيرين، ومحبة الكثيرين، واحترام العدو والصديق، وما على حملة الدعوة إلا أن تكون الدنيا أحقرَ ما يكون في أعينهم لتفيض بها أيديهم، وليعم الخير من حولهم. وللشيطان نصيب كبير في قلب البخيل الشحيح، ولذلك شرع لنا الاستعاذة بالله من هذه الصفات الشيطانية، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ دبر كل صلاة من: «اللَّهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن ..» (¬6)، ولعل السر في تلاحق وصف البخل والجبن أن من عزَّ ¬

(¬1) صحيح الجامع - الحديث 1744 (صحيح). (¬2) صحيح الجامع - الحديث 1800 (صحيح). (¬3) صحيح الجامع - الحديث 1801 (صحيح). (¬4) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب 39 - الحديث 6033. (¬5) صحيح البخاري - كتاب بدء الوحي - باب 5 - الحديث 6. (¬6) صحيح سنن النسائي - كتاب الاستعاذة - باب 27 - الحديث 5059 (صحيح).

عليه ماله أن يصرفه في وجوه الخير فبخل، طبيعي من مثله أن تعزَّ عليه روحه أن يُزهِقها في سبيل الله فيجبن، والجود بالنفس أسمى غاية الجود. وإذا افتقدت الأمة الجود بالمال والجود بالنفس، فقد سارت في طريق الهلاك لما جاء في الحديث: «إياكم والشح، فإنما هلك مَن كان قبلكم بالشح: أمرهم بالبخل فبخِلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا» (¬1). وقد حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صفات شرار الخلق في آخر الزمان وكان من صفاتهم الشح: «يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويلقَى الشح، ويكثر الهرج» (¬2)؛ ولأن الكرم صفة قلبية تنعكسُ على السلوك، فإن المريض بالشح مريض بالقلب يقعد به بخله عن البناء، ويحجزه الشح عن المبادرة، ويغدو يأخذ ولا يعطي، وماذا بعد ذلك من شر؟ لذلك يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «شرُّ ما في رجل شحٌّ هالع، وجبن خالع» (¬3). وقد عدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الموبقات فذكر منها «الشرك بالله والشح» (¬4)، وعدَّ المهلكات، فذكر فيها: «هوى متبع، وشح مطاع وإعجاب المرء بنفسه» (¬5)، ¬

(¬1) صحيح سنن أبي داود - كتاب الزكاة - باب 47 - الحديث 1489/ 1698 (صحيح). (¬2) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب 39 - الحديث 6037. (¬3) صحيح سنن أبي داود - كتاب الجهاد باب 22 - الحديث 2129/ 2511 (صحيح). (¬4) صحيح سنن النسائي - كتاب الوصايا - باب 12 - الحديث 3432 (صحيح). (¬5) صحيح الجامع - الحديث 3039 (حسن).

الجيل الأول تميز بزهده ويقينه فصعد؛ فما هي سنن السقوط والهلاك؟ يقول - صلى الله عليه وسلم -: «صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلِك آخرها بالبخل والأمل» (¬1)، قبض اليد والإحجام عن المبادرة والامتناع عن تقديم أي جهد، ثم بعد كل ذلك بناء الأحلام الكبيرة والآمال العريضة، ذلكم تشخيص هلاك الدنيا فهل صرنا إليه؟ أما في الآخرة، فإن الكانز لمال دون أن يؤدي حق الله فيه يخيل له المال يوم القيامة بصورة: «شجاع أقرع يفرُّ منه صاحبه وهو يتبعه يقول له: هذا كنزك الذي كنت تبخل به» (¬2). إذا لم يكن خلق (الكرم) يميز عامة أبناء الإسلام العاملين لنصرته فلن تجتمع حولهم القلوب ولن يحظوا بالثقة، وحين تكرم النفوس وتتخلص من رق الدنيا، ويصغر في عينها كل متاع تنجذب إليها القلوب، وتعظم في الأنظار، ويتسابق الناس في الجود والكرم لا في الحرص والشح، وعندئذٍ نكون أهلًا للتمكين، بإذن الله. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - الرابط بين الكرم والتضحية. - ارتباط الكرم بالإيمان. - من أعظم الكرم جود الفقير وجهد المقل. - الجهاد لا يكون بلا كرم. - الكرم الحقيقي مع وجود دواعي الحرص. - الكريم لا يرد سائلًا. ¬

(¬1) صحيح الجامع - الحديث 3845 (حسن). (¬2) صحيح سنن النسائي - كتاب الزكاة - باب 9 - الحديث 2302 (صحيح).

- البخيل لا خير فيه. - من صفات ربنا عز وجل أنه كريم. - من أوجب الكرم إكرام الكرماء. - الكرم إهانة للمال وحماية للعِرْض. - الكريم قريب من الله والناس. - الله يحب الكرماء. - القدوة يجب أن يكون كريماً. - الرابط بين الجبن والبخل. - الشح مرض قلبي. - الشح من الموبقات والمهلكات في الدنيا والآخرة. - الكرم مدعاة للقبول عند الناس والتمكين في الأرض. ****

الفصل السابع الأمانة

الفصل السابع الأمانة

{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} حين تستقيم الفطرة وتسلَم من اتِّباع الهوى تتمثَّل في صاحبها بخلق الأمانة، وفي تفسير قوله تعالى: {إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]، يقول القرطبي (والأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال) (¬1)، كما يقول في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8]، (والأمانة والعهد: يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولًا وفعلًا، وهذا يعمُّ معاشرة الناس، والمواعيد، وغير ذلك، وغاية ذلك حفظه والقيام به) (¬2). وحين يعم التعامل بالأمانة يؤدي الذي اؤتُمِن أمانته، سواء اؤتمن على قنطار أو دينار؛ لأن الله أمر بأداء الأمانات إلى أهلها، ونهى عن خيانة الله والرسول وخيانة الأمانات، وجعل من صفات المُفلِحين أنهم يرعون عهودهم وأماناتهم، والنفوس البشرية بفطرتها تميل إلى الناصح الأمين، وتثق بالقوي الأمين، حتى غير المسلمين يؤثرون الأمين، فقد روي في قصة أهل نجران لما وافقوا على دفع الجزية أنهم قالوا: «إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلًا أمينًا، ولا تبعث معنا إلا أمينًا. فقال: لأبعثن معكم رجلًا أمينًا، حقَّ ¬

(¬1) فتح القدير 4/ 308 نقلًا عن القرطبي. (¬2) الجامع لأحكام القرآن 12/ 73.

أمين» (¬1)، وأرسل معهم أبا عبيدة. إن من أغلى ما يرزقُه الله للعبد، ولا يحزن بعده على أي عَرَض من الدنيا، ما جاء في الحديث: «أربعٌ إذا كُنَّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وحسن الخلق، وعفة مطعم» (¬2)، فالأمانة ركن من هذه الأركان الأخلاقية الأربعة، التي لا يعدلُها شيء في الدنيا، بل قد تكون سببًا في إقبال الدنيا على العبد، لما يجده الناس فيه. والأمانة صفة مميزة لأصحاب الرسالات، فقد كان كل منهم يقول لقومه: {إنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء: 107، 125، 143، 162، 178]. وكانت تلك شهادة أعدائهم فيهم، كما جاء في حوار أبي سفيان وهرقل، حيث قال هرقل: (سألتُك ماذا يأمركم؟ فزعمت أنه يأمر بالصلاة، والصدق، والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة - قال: - وهذه صفة نبي) (¬3)، وفي موضع آخر في صحيح البخاري: (وسألتُك هل يغدر؟ فزعمت أن لا، وكذلك الرسل لا يغدرون) (¬4). ولئن كانت هذه صفة أصحاب الدعوات فإن أتباعهم كذلك متميزون، ولذلك اقتران تعريف المؤمن بسلوكه المميز، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب المغازي - باب 72 - الحديث 4380. (¬2) صحيح الجامع - الحديث 873 (صحيح). (¬3) صحيح البخاري - كتاب الشهادات - باب 28 - الحديث 2681. (¬4) صحيح البخاري - كتاب الجهاد - باب 102 - الحديث 2941.

«والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم» (¬1). وإذا تمكَّنت صفة الأمانة من صاحبها تعامل بها مع القريب والبعيد، والمسلم، والكافر يقول ابن حجر: (الغدر حرام باتفاق، سواء كان في حق المسلم أو الذمي) (¬2)، وكذلك حال المؤمن حتى مع مَن عُرف بالخيانة، واشتهر بالغدر كما في الحديث: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» (¬3)؛ وذلك لأن خطورة السقوط في الخيانة، وفساد الفطرة بنقض العهد، أشد من مجرد مقابلة الخائن بمثل فعله؛ ولأن السقوط مرة قد تستمرِئُه النِّفس، وتواصل في منحدر الخيانة. وغدر الكبراء والوجهان وخيانة ذوي الهيئات أفحش وأقبح من انزلاقه العامة، لِمَا يترتَّب على زلة الأوَّلين من مفاسد كبرى. ويُوضِّح القرطبي هذه المسألة في حديثه عن غدار الأمراء؛ حيث يقول: (قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إنما كان الغدر في حق الإمام أعظم وأفحش منه في غيره؛ لما في ذلك من المفسدة، فإنهم إذا غدروا وعُلم ذلك منهم، ولم ينبذوا بالعهد على سواء، لم يأمنهم العدو على عهد ولا صلح، فتشتد شوكته، ويعظم ضرره، ويكون ذلك مُنفِّرًا عن الدخول في الدين، وموجبًا لذم أئمة المسلمين، وقد اختلف العلماء ¬

(¬1) صحيح سنن الترمذي - كتاب الإيمان - باب 12 - الحديث 2118/ 2775 (حسن صحيح). (¬2) فتح الباري - من شرح الحديث 3178 من باب 17 من كتاب الجزية. (¬3) صحيح سنن أبي داود - كتاب البيوع - باب 45 - الحديث 3019/ 3535 (حسن صحيح).

هل يُجاهد مع الإمام الغادر؟) (¬1). وإذا كانت الخيانة من الوضيع مذمومة، فإنها من الوجيه أكثر قبحًا، وتصل الدناءة بالمرء حين تفسد فطرته إلى حال أهل النار؛ الذين عدَّ منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والخائن الذي لا يخفى عليه طمع وإن دقَّ إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك» (¬2)، وكم تنفطِرُ قلوبنا حين نرى هذه الأوصاف في بعض المسلمين، فيُهرَعون لكل طمع يلوح، ويخونون في سبيله كل وعد مقدس، وكل عِرْض مَصُون. لا يكفي عديم الأمانة ما يلقاه في الدنيا من مهانة وصغار، وإنما يجدها متمثلة له يوم القيامة عند الصراط؛ لتهوي به من فوق الصراط؛ إلى قعر جهنم؛ لقاء ما ضيّع منها، وفرّط فيها كما في الحديث: «وتُرسل الأمانة والرحم، فتقومان جنبَتَي الصراط يمينًا وشمالًا» (¬3)، وهنيئًا لن قام بحق الأمانة فجرى على الصراط غير هيَّاب ولا وَجِل، والحسرة والندامة - حيث لا تنفع حسرة ولا ندامة - على مَن تساهل فخان، وسقط فغدر؛ لشهوة عارضة، أو لحقد أعمى. ومن الصور العملية للأمانة: أن تنصح مَن استشارك، وأن تصدق من وثق برأيك، فقد جاء في الحديث: «المستشار مؤتمن» (¬4)، «ومَن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه» (¬5)، وماذا يكون ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن 8/ 33 عند تفسير الآية 58 من سورة الأنفال. (¬2) مسند أحمد 4/ 162. ورواه مسلم أيضًا. (¬3) صحيح مسلم - كتاب الإيمان - الحديث 329. (¬4) صحيح الجامع - الحديث 6700 (صحيح). (¬5) صحيح الجامع - الحديث 6068 (حسن).

قد بقي فيه من الخير مَن أشار على أخيه بما لا ينفعه، بل ربما بما يضره؟! والمجاهد في أرض المعركة مأمورٌ بالأمانة، ومنهيٌّ عن الغدر والخيانة والغلول: «لا تغدروا ولا تغلُّوا ولا تمثلوا» (¬1)، والقاعد الذي يخلف المجاهد في أهله بخيرٍ قائمٌ بالأمانة، وإن قصر أو خان وقف له المجاهد يوم القيامة، يأخذ من حسناته ما شاء: «وما من رجلٍ من القاعدين يخلف رجلًا من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم إلا وقف له يوم القيامة، فيأخذ من عمله ما شاء، فما ظنكم؟» (¬2)؛ أي: هل تظنُّون أنه يُبقي له من حسناته شيئًا؟ ومن أخطر الأمانات شأنًا حفظ أسرار الناس، وستر عَوْراتهم، وكتمان أحاديث مجالسهم، فقد ورد في الحديث «المجالس بالأمانة» (¬3)، وإن لم يوصِ المتحدِّث بكتمان حديثه الخاص إليك لم يكن لك أن تُشيِّعه إلا بإذنه وعلمه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا حدَّث رجل رجلًا بحديث ثم التفت فهو أمانة» (¬4)، وأقل ما في هذه الأمانة أن ينقله الناقل - حين ينقله - بنصِّه، ولا يُحمِّله ما ليس فيه بتدليس أو تحريف. ومن الأمانة في العمل إتقانه، وكتمان أسراره، ولذلك ترجم البخاري في كتاب الأحكام (باب: يستحب للكاتب أن يكون أمينًا ¬

(¬1) مسند أحمد 1/ 300 وهو عند مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه والموطأ. (¬2) مسند أحمد 5/ 352 وعند مسلم برقم 1897 في كتاب الإمارة. (¬3) صحيح الجامع - الحديث 6678 (حسن). (¬4) صحيح الجامع - الحديث 486 (حسن).

عاقلًا)، مشيرًا بذلك إلى قول أبي بكر لزيد بن ثابت - رضي الله عنهما - حين أراد أن يستعمله: (إنك رجل شابٌّ عاقل لا نتَّهِمك) (¬1). ومن مخاطر الأزمان المتأخرة اضطراب الموازين، وفساد القيم، إلى الدرجة التي وصفها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «سيأتي على الناس سنوات خدَّاعات؛ يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتَمن فيها الخائن، ويُخوَّن فيها الأمين، وينطِقُ فيها الرُّوَيْبضة في أمر العامة، قيل وما الرُّوَيْبضة؟ قال: الرجل التافِهُ» (¬2). ومن خشي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من انتشار الخيانة بعد قرون الخير فقال: «إن بعدكم قومًا يخونون ولا يُؤتَمَنون» (¬3). ومن ذلك الحين استمرَّ مسلسل السقوط، إلى أن أصبحنا نرى الأمر يوسَّد إلى غير أهله، ويُؤتَمن الخائن، ويُخوَّن الأمين، ويغدو الأمناء - حقًّا - ندرةً يُشار إليهم كما جاء في الحديث: ... «... فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحدهم يُؤدِّي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلًا أمينًا» (¬4)، ومع نُدْرة هؤلاء الأمناء يُستَبعدن ويُولَّى غيرهم، ويكون ذلك سببًا في تضييع الأمانات - وهو من علامات الساعة - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة»، «قال أبو هريرة: كيف إضاعتها يا رسول الله؟» «قال: إذا أُسنِد الأمر إلى غير أهله، فانتظر ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الأحكام - باب 37 - الحديث 7191. (¬2) صحيح سنن ابن ماجه - كتاب الفتن - باب 24 - الحديث 3261/ 4036 (صحيح). (¬3) صحيح البخاري - كتاب الشهادات - بابا 9 - الحديث 2651. (¬4) صحيح البخاري - كتاب الرقاق - بابا رفع الأمانة - الحديث 6497.

الساعة» (¬1)، وفي الفتح: (قال ابن بطَّال: معنى (أُسند الأمر إلى غير أهله): أن الأئمة قد ائتمَنهم الله على عباده، وفرض عليهم النصيحة لهم، فينبغي لهم تولية أهل الدين، فإذا قلَّدوا غير أهل الدين فقد ضيَّعوا الأمانة التي قلَّدهم الله تعالى إياها) (¬2). ومن اللَّمحات الفقهية لتبويب البخاري أنه استشهد بحديث «فإذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة» (¬3)، في كتاب العلم، ويُعلِّل ابن حجر إيراده في كتاب العلم، فيقول: (ومناسبة هذا المتن لكتاب العلم أن إسناد الأمر إلى غير أهله إنما يكون عند غلبة الجهل، ورفع العلم، وذلك من جملة الأشراط) (¬4). الوفاء بحقوق الأمانة من صفات المؤمنين، والإخلال بشيء خصلة من النفاق، ولذلك جاء في صفات المنافق أنه «إذا ائتمن خان» (¬5)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دِين لمن لا عهد له» (¬6). صاحب خلق (الأمانة) حريصٌ على أداء واجبه، بعيد عن الغدر والمكر والخيانة، حافظ للعهود، وافٍ بالوعود. ورسالة عظيمة مثل رسالتنا لا يصلُحُ لحملها والمُضِي بها إلا ¬

(¬1) نفس المرجع السابق - الحديث 6496. (¬2) فتح الباري عند شرح بابا رفع الأمانة من كتاب الرقاق. (¬3) صحيح البخاري - كتاب العلم - باب 2 - الحديث 59. (¬4) فتح الباري عند شرح باب من سئل علمًا وهو مشتغل .. من كتاب العلم. (¬5) صحيح البخاري - كتاب الإيمان - باب 24 - الحديث 34. (¬6) مسند أحمد 3/ 154. صححه الألباني في صحيح الجامع برقم 7179.

الأمناء، فهل نرشح أنفسنا لذلك؟ خلاصة هذا الفصل وعناصره: - تفسير القرطبي للأمانة بأنها تعم وظائف الدين. - حتى الكافر يميل إلى الأمين. - الأمانة صفة المؤمن. - الأمانة لا يعدلها شيء في الدنيا. - الأمانة صفة المرسلين. - أعداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهدوا له بالأمانة. - أفحش الخيانة ما كان من الأمراء والكبراء. - الأمانة تقتص من الخائن عند الصراط. - من صور الأمانة: - الأمانة في الشورى. - الأمانة في الجهاد بعدم الغدر أو الغلول. - أمانة القاعد في حفظ عرض المجاهد. - الأمانة بحفظ أسرار المجالس. - الأمانة بإتقان العمل. - من علامات الساعة: - تخوين الأمين وائتمان الخائن. - وتوسيد الأمر إلى غير أهله. - وندرة الأمناء. - وتضييع الأمانة باستبعاد أهل الدين وبغلبة الجهل. - لا يصلح لحمل الدعوة إلا الأمناء. ****

الفصل الثامن البر

الفصل الثامن البر

«إن الله تعالى يُوصِيكم بالأقرب فالأقرب». البر اسم جامع للخير، ويأتي بمعنى الإحسان إلى الوالدين والأقربين، كما يأتي بمعنى الصلة، وهو في استعمال الشرع: (كلمة جامعة لكل أصناف الخير، ويُراد منه ما هو زائد عن حدود التقوى، فهو مرتبةٌ فوق التقوى، ودون مرتبة الإحسان) (¬1). والرجل البارُّ رجل وفِيٌّ عطوفٌ مُخلِص في محبَّته، ويظهر أثر برِّه في تعامله مع والديه، وأقاربه، وجيرانه، وضيوفه، ومعارفه، ومعارف والديه، وأيتام المسلمين. ويتميز سلوك البارّ بالمداومة على الصلة؛ بالزيارة وبشاشة الوجه، والاستمرار في بذل المعروف، والإنفاق على الأرحام والمعارف، والإيثار على النفس. وقد جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البرَّ في مقابل الإثم في نصوص عديدة، مفسَّرة مرة باطمئنان النفس إلى الحلال الطيب، الذي لا شبهة فيه فقال: «البرُّ ما اطمأنَّت إليه النفس» (¬2)، وفي رواية: «البر ما سكنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس، ولم يطمئن إليه القلب» (¬3)، ووصف ابن حجر النفس البارَّة بأنها: (المطمئنة الموهوبة نورًا، يُفرِّق بين الحق والباطل، والصدق ¬

(¬1) البر والصلة - لابن الجوزي - من المقدمة ص (4 - 5). (¬2) مسند أحمد 4/ 194 قال في بلوغ الأماني 19/ 34: (حسنه السيوطي والنووي). (¬3) صحيح الجامع - الحديث 2881 (صحيح).

والكذب) (¬1)، كما فُسِّر البرُّ في السنة بحسن الخلق كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك»، وقيل في شرحه: (أي التخلُّق بالأخلاق الحسنة مع الخلق والخالق، والمراد هنا المعروف، وهو طلاقة الوجه، وكف الأذى، وبذل الندى، وأنه يحب للناس ما يحب لنفسه) (¬2). ولأن درجة البرِّ من أعلى الدرجات، فلا يصل إليها المسلم إلا بعد مجاهدة للنفس، وإيثار للآخرة على علائق الدنيا وزينتها، ولذلك قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، حتى لا يكون للقلوب تعلُّق إلا بما عند الله، ولتخلص النفوس لبارئها، وعندئذٍ يعلو مقامها عند الله، ولذلك «فالناس رجلان: رجل برّ يرتقيّ كريم على الله، وفاجر شقي هّين على الله» (¬3)؛ كما جاء في الحديث الصحيح، فالبر تقي كريم على الله، ومن كان كريمًا على الله كان كريمًا على عباده الصالحين والعقلاء، ولذلك يقول بعض الحكماء: لا تصادق عاقًّا فإنه لن يبَرَّك، وقد عقَّ من هو أوجب حقًّا منك عليه. ومن أوجب البر الإحسان إلى الأقرب فالأقرب، وليس أقرب من الوالدين، وقد أمرنا بالإحسان إليهما، وبمصاحبتهما بالمعروف، وبشكرهما، وبالصبر عليهما، وعدم التضجر منهما، وبالتواضع لهما، وحسن الحديث معهما، والدعاء لهما، وقد جاء في الحديث: «إن ¬

(¬1) بلوغ الأماني من الفتح الرباني 19/ 33. (¬2) بلوغ الأماني من الفتح الرباني 19/ 33. (¬3) صحيح سنن الترمذي - كتاب التفسير - سورة 49 - الحديث 2608/ 3501 (صحيح).

الله يوصيكم بأمهاتكم - ثلاثًا - إن الله تعالى يوصيكم بآبائكم - مرتين - إن الله تعالى يوصيكم بالأقرب فالأقرب» (¬1) والهالك من أدرك والديه فلم يبرّهما، وقد دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذل والهوان على من فاتته فرصة البر بوالديه فقال: «رغم أنفه. ثم رغم أنفه. ثم رغم أنفه ... مَن أدرك والديه عند الكبر: أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة» (¬2)؛ لأن الحياة فرص، وتفويت الفرصة المتاحة ليس من شأن المؤمن الفَطِن. وعدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الثلاثة لا يدخلون الجنة «العاق ... لوالديه» (¬3)، كما وصفه في حديث آخر بأنه ممن «لا يقبل منهم صرفًا ولا عدلًا» (¬4)، ولا يسلم العاقُّ من عذاب الله حتى في الدنيا، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «بابانِ مُعجَّلان عقوبتهما في الدنيا: الغي والعقوق» (¬5)، بالإضافة إلى أن العقوق من الكبائر، وكما أنه كبيرةٌ شرعًا، فإنه من أكبر صورِ الجحود وعدم الوفاء في نظر العقلاء. وقد جعل الله البر بالوالدين بابًا للفوز برضاه سبحانه، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما» (¬6). ¬

(¬1) صحيح الجامع - الحديث 1924 (صحيح). (¬2) أخرجه مسلم في الأدب برقم 2551 (جامع الأصول 1/ 400 - الحديث 193). (¬3) صحيح الجامع 3063 (صحيح) ونصه: «ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، ورجلة النساء» (¬4) صحيح الجامع 3065 (حسن) ونصه: «ثلاثة لا يقبل الله منهم يوم القيامة صرفًا ولا عدلًا: عاق، ومنّان، ومكذب بالقدر». (¬5) صحيح الجامع - الحديث 2810 (صحيح). (¬6) صحيح الجامع - الحديث 3507 (صحيح).

وهو مَن أحب الأعمال إلى الله «أحب الأعمال إلى الله: الصلاة لوقتها، ثَم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله» (¬1). وقد عبَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المبالغة في التماس رضا الأم بقوله: «الزَم رجلها فَثمَّ الجنة» (¬2)، وآثر الصحابي أن يُقدِّم خدمة والديه على الجهاد الكفائي، فقال له: «فيهما فجاهد» (¬3)؛ يعني الوالدين. وفي قصة الثلاثة الذين حبسهم المطر في غار، واسند عليهم الغار بصخرة كبيرة، مثل بليغ لتنزل رحمة الله وتفريج الكروب، إذا ما صلحت العلاقات المالية، وحفظت الأعراض، واستقرَّت العَلاقات الأُسْرِية؛ حيث توسَّل كل منهم بصالح عمله، ومنهم الحريص على رضا والديه والمقدم لهما على أهله وولده، فكانت تنفرج الصخرة كلما دعَوا حتى خرجوا من الغار سالمين (¬4). ومن أبلغ البر بالوالدين وأصدقه وأخلصه ما يداوم عليه البارُّ في حضور الوالدين، وغِيبتهما، وفي حياتهما، وبعد موتهما، ومن صور هذا البر إكرام أصدقائهما وأحبابهما، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أبر البر أن يصل الرجل أهل وُدِّ أبيه بعد أن يولي الأب» (¬5)، وفي ¬

(¬1) صحيح الجامع - الحديث 164 (صحيح). (¬2) صحيح الجامع - الحديث 1248 (حسن). (¬3) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي (جامع الأصول 1/ 402 الحديث 195). (¬4) القصة في الصحيحين. وهي في اللؤلؤ والمرجان 3/ 236 - الحديث 1745. (¬5) صحيح سنن الترمذي - الحديث 1552/ 1983 (صحيح) ورواه مسلم بألفاظ مقاربة.

رواية أخرى: «من البر أن تصلَّ صديق أبيك» (¬1)، و «مَن أحب أن يصل أباه في قبره، فليَصِلْ إخوان أبيه من بعده» (¬2)، يقول النووي: (وفي هذا أفضل صلة أصدقاء الأب وإكرامه؛ لكونه بسببه، وتُلحَق به أصدقاء الأم، والأجداد، والمشايخ والزوج والزوجة) (¬3). ومن إكرام الأب إكرام العمّ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن عمَّ الرجل صِنْوُ أبيه» (¬4)، ومن البِر بالأم الإحسان إلى الخالة، فقد ورد أن رجلًا أذنب ذنبًا كبيرًا وتساءل إن كان له توبة؟ فدلَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بابٍ من البر يُكفِّر عنه ما أذنب، فقال له: «ألك ولدان؟» قال: لا، قال: «فلك خالة؟»، قال: نعم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فبِرَّها ... إذًا» (¬5). وأثر بر الولد يصل إلى والديه، حتى بعد موتِهما؛ بدعائه لهما، كما في الحديث: «أربعٌ مِن عمل الأحياء تجري للأموات: رجل ترك عقبًا صالحًا يدعو له ينفعه دعاؤهم» (¬6)، وكم يستبشرُ قلبك حين تعلم أن استغفارك لأبيك المؤمن يرفع درجته في الجنة، ويعجب هو هناك، وفي ذلك يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الرجل لتُرفع درجته في الجنة، فيقول: أنَّى لي هذا؟! فيُقال: باستغفار ولدك لك» (¬7). ¬

(¬1) صحيح الجامع - الحديث 5901 (صحيح). (¬2) صحيح الجامع - الحديث 5960 (صحيح). (¬3) عن بلوغ الأماني 19/ 41. (¬4) صحيح الجامع - الحديث 2113 (صحيح). (¬5) مسند أحمد 2/ 14. وأخرجه الترمذي والحاكم وابن حبان وصححه الحاكم وأقره الذهبي: (بلوغ الأماني 19/ 42). (¬6) صحيح الجامع - الحديث 888 (حسن). (¬7) صحيح الجامع - الحديث 1617 (صحيح).

ومن صور البِر إليهما بعد موتهما التصدُّق عنهما، جاء في الحديث الصحيح «أن رجلًا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أبي مات ولم يوصِ، أفينفعه أن أتصدق عنه؟ قال: «نعم» (¬1)، ولقد كان من بر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمِّه رغم أنها ليست من أمته أنه استأذن ربه في الاستغفار لها؛ حيث قال: «استأذنت ربي أن أستغفر لأمي، فلم يأذَن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي» (¬2)، وورد عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: قدمت عليَّ أمي وهي راغبةٌ مُشرِكة، فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت عليَّ وهي راغبة مشركة، أفأصلها؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صِلِيها» (¬3). هذا شأن البارِّ حين يكون ابنًا، وهو إن نشأ على البر انعكس أثر بره في التعامل مع بنيه، وربما كانت التوجيهات النبوية إلى البر بالآباء أكثف وأغزر؛ لأن الإنسان بفطرته ميال إلى ولده، حريص عليه، متلهِّف للأخذ بيده إلى معالي الأمور، بينما قد ينسى البشر جيلًا سابقًا في طريقه إلى أن يولي، وهم في غمرة انشغالهم بجيل لاحق، يوشك أن يتمكن في الأرض، فاحتاج البشر إلى لفتة تذكرهم بفضل الجيل السابق،، لئلا يغفلوا عنه، وليقدموا إليه بعض صور الوفاء بحقه، وهو أنفسهم في طريقهم إلى أن يكونوا في يوم من الأيام ذلك الجيل السابق، وسيندبون ضعف الوفاء في بنيهم إن لم يبَرُّوهم. ومن صور البر بالأبناء التي وجه إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العدل ¬

(¬1) أخرجه مسلم والنسائي (جامع الأصول 6/ 484 - الحديث 4691). (¬2) أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي (جامع الأصول 11/ 152 - الحديث 8667). (¬3) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود بألفاظ مقاربة (جامع الأصول 1/ 405 الحديث 201).

بينهم، بحيث لا تثورُ الضغائن، ولا تتحرك الأحقاد، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: «اعدِلوا بين أولادكم في النِّحَل - العطايا - كما تُحبُّون أن يعدلوا بينكم في البّر واللّطف» (¬1)، ولما جرت به بعض الجاهليات من إيثار الأولاد على البنات، فقد خص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البر بالبنات بلفتات خاصة، منها قوله: «ليس أحد من أمتي يعول ثلاث بنات أو ثلاث أخوات، فيحسن إليهن، إلا كن له سترًا من النار» (¬2). وصاحب البر يتعدى بره الوالدين والأبناء إلى الأرحام والأقارب، ولأن الوفاء والإحسان أصيل فيه، فإنه يتميز به مع جميع الناس الذين يتعامل معهم، وفي مقدمتهم الأقرب فالأقرب، ولذلك حث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على توثيق هذه الصّلاة فقال: «اتقوا الله وصلوا أرحامكم» (¬3)، وهذه الصلة من أحب الأعمال إلى الله: «أحبُّ الأعمال إلى الله: إيمان بالله ثم صلة الرحم» (¬4)، وهي من أبواب الجنة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أَطِبِ الكلام، وأفش السلام، وصِلِ الأرحام، وصَلِّ بالليل والناس نِيام، ثم ادخل الجنة بسلام» (¬5). ولِمَا لبرِّ الأرحام وصلتهم من المنزلة عند الله، فقد أخذ على نفسه - سبحانه - أن يصل البارَّ الواصل، كما جاء في الحديث من قول الله للرحم: «أما ترضين أن أصِلَ مَن وصلك، وأقطع مَن قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فهو لك» (¬6)، وجعل الوصل من أسباب البركة في ¬

(¬1) صحيح الجامع - الحديث 1046 (صحيح) (¬2) صحيح الجامع 5372 (صحيح). (¬3) صحيح الجامع - الحديث 108 (حسن). (¬4) صحيح الجامع - الحديث 166 (حسن). (¬5) صحيح الجامع - الحديث 1019 (صحيح). (¬6) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب 13 - الحديث 5987 (الفتح 10/ 417).

العمر، كما جاء على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سرّه أن يُبسط له في رزقه، وأن يُنسأ له في أَثَره، فليَصِلْ رحمه» (¬1). هذا بالإضافة إلى أثرها الاجتماعي في التأليف والمحبة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «صلة القرابة مثراة في المال، محبة في الأهل، مَنْسَأة في الأجل» (¬2)، وكما يُعجِّل الله عقوبة العاق والقاطع، فإنه ليعجل المثوبة في الدنيا للبار الواصل، كما في الحديث: «وإن أعجل الطاعة ثوابًا لصلة الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونوا فَجَرة، فتَنْمُو أموالهم، ويكثُرُ عددهم، إذا تواصلوا» (¬3)، وهذا رغم فجورهم. وقد يقابل الواصل بالجفاء، مما قد يغريه بالقطيعة، ولكن الله نصيره إذا ما داوم الصلة، جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يا رسول الله، إن لي قرابة، أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليَّ، «فقال: لئن كنت كما قلت، فكأنما تُسِفُّهم المَلَّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت ذلك» (¬4). وخير الوصل، والخالص لوجه الله، ما كان بالبر والإحسان إلى من يقابلك بالعداوة، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن أفضل الصدقة، الصدقة على ذي الرحم الكاشح» (¬5)؛ أي: المعادي، يقول ابن الجوزي في بيان علَّة ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب 12 - الحديث 5985 (الفتح 10/ 415). (¬2) صحيح الجامع - الحديث 3768 (صحيح). (¬3) صحيح الجامع - الحديث 5705 (صحيح). (¬4) صحيح مسلم - كتاب الأدب - باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها - الحديث 2558 (شرح النووي 16/ 115) (¬5) مسند أحمد 5/ 416. وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 1110.

الأفضلية: (وإنما فُضِّلت الصدقة عليه لمكان مخالفة هوى النفس، فأما من أعطى مَن يحب إنما يُنفِق على قلبه وهواه)، وقد كان حال البارِّين الواصلين لأرحامهم على هذه الصورة من الإحسان، حتى مع اختلاف الدين، ويشهد لذلك ما ورد من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُهدِيت إليه حُلَل كان قد قال عن مثلِها: «إنما يلبسُ هذه مَن لا خلاقَ له»، فأهدى منها إلى عمر، فقال عمر: كيف ألبسها، وقد قلتَ فيها ما قلت؟ قال: «إني لم أعطِها لتلبسها، ولكن نبيعها أو تكسوها»، فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يُسلم) (¬1)، ويجب على البارِّ أن يستمر في صلة أرحامه ولو بأدنى صور الوصل، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «بُلُّوا أرحامكم ولو بالسلام» (¬2)؛ أي صلوا أرحامكم. وتتَّسِع دائرة البر لتشمل الجيران، وقد أوصى بهم جبريل كثيرًا: «لقد أوصاني جبريل بالجار، حتى ظننت أنه يورثه» (¬3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليحسن إلى جاره» (¬4)، ونفى الإيمان الكامل عمَّن «لا يأمن جارُه بوائقَه» (¬5)، و «مَن بات شبعانُ وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به» (¬6). وفي وصيته - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: «يا أبا ذر، إذا طبَخت فأكثر المرقة، وتعاهد جيرانك أو اقسم بين جيرانك» (¬7)، وقد ذُكرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة تقوم الليل، وتصوم ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب 9 - الحديث 5981 (الفتح 10/ 414). (¬2) صحيح الجامع - الحديث 2838 (حسن)، بُلّوا: بمعنى صلوا. لأن النداوة صلة. (¬3) صحيح الجامع - الحديث 5126 (صحيح). (¬4) صحيح الجامع - الحديث 6501 (صحيح). (¬5) صحيح الجامع - الحديث 7102 (صحيح). (¬6) صحيح الجامع - الحديث 5505 (صحيح). (¬7) صحيح الجامع - الحديث 7818 (صحيح) ومسند أحمد 5/ 149 واللفظ له.

النهار، وتفعل وتصَّدَّق، وتؤذي جيرانها بلسانها، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا خير فيها، هي من أهل النار» (¬1). وكثيرٌ من صور البر تقتضي جودًا وإنفاقًا، وما حث به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: «نفقة الرجل على أهله صدقة» (¬2)، و «أفضل الدنانير: دينارٌ يُنفِقه الرجل على عياله، ودينار يُنفِقه الرجل على دابَّتِه، ودينار يُنفِقه الرجل على أصحابه في سبيل الله، وأي رجل أعظم أجرًا من رجل ينفق على عيال صغار، يعفُّهم الله ويغنيهم به؟!» (¬3). كل هذه الصور إنما أمثلة من حياة البارِّ، وإن كانت مظاهر برِّه تَسَع جميع المتعاملين معه من القريبين منه والمحتكين به. والبر يولِّد البر، والصلة تستدعي مزيدًا من الصلة، وتلتحم أواصر الأسر، وتتوثق العلاقات الاجتماعية، فإلى مزيد من البر والصلة. خلاصة هذا الفصل وعناصره: - معنى البر جامع للخير. - صورة الرجل البارِّ. - ضد البر الإثم. - البر حسن الخلق. - البر يقتضي المجاهدة لأهواء النفس. ¬

(¬1) مسند أحمد 2/ 440. وقال الهيثمي: رواه أحمد والبزار، ورجاله ثقات. (¬2) صحيح البخاري - كتاب المغازي - باب 12 - الحديث 4006. (¬3) صحيح الجامع - الحديث 1103 (صحيح).

- البر بالوالدين. - من عواقب العقوق: - الذل لمن لم يبر والديه. - العاقُّ لا يدخل الجنة. - عقوبة العاق معجلة في الدنيا. - العقوق من الكبائر. - من فضيلة البر بالوالدين: - رضا الله برضا الوالدين. - البر بالوالدين من أحب الأعمال إلى الله. - خدمة الوالدين مقدمة على الجهاد الكفائي. - تفريج الكروب ببر الوالدين. - من البر بالأبناء: - العدل بينهم. - الإحسان إلى البنات. - البر بالأرحام من أحب الأعمال إلى الله. - البر حتى مع المخالف في الدين. - استمرار الصلة ولو بأدنى صور البر. - البر بالجيران بالإحسان إليهم. - إيذاء الجار من ضعف الإيمان. - البر يوثق العلاقات الاجتماعية. تم بحمد الله وتوفيقه ****

قائمة المراجع

قائمة المراجع - القرآن الكريم. - آداب القضاء، شهاب الدين الحموي الشافعي، تحقيق الدكتور محمد مصطفى الزحيلي. - إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، طبعة عالم الكتب. - رسالة (أفراح الروح)، سيد قطب. - أسد الغابة، ابن حجر. ط. كتاب الشعب. - أخلاقنا الاجتماعية، مصطفى السباعي. - البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي. - البر والصلة، ابن الجوزي. - تفسير أبي السعود، أبو السعود. طبعة دار الفكر (قديمة). - تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني - ط دار الفكر. - تهذيب مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية. تهذيب عبد المنعم صالح العلي - طبعة وزارة العدل في الإمارات. - تخريج أحاديث الإحياء، دار العاصمة للنشر بالرياض ط 1/ 1408 هـ. - تحفة الأحوذي، المباركفوري. المكتبة السلفية - مؤسسة قرطبة - الهرم. - تخريج أحاديث الظلال، علوي السقاف. دار الهجرة للنشر - ط 1/ 1412 - 1991 م.

- جامع الأصول، ابن الأثير الجرزي. تحقيق الأرناؤوط ط 2 دار الفكر - لبنان 1983. - جمع الفوائد، محمد بن محمد بن سليمان. تخريج عبد الله هاشم اليماني - طبعة المدينة المنورة 1961. - الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي. طبعة دار إحياء التراث العربي 1985 م. - حياة الصحابة، محمد يوسف الكاندهلوي. تحقيق وتعليق: نايف عباس ومحمد على دولة ط دار القلم 1987 م. - الخلق الكامل، محمد أحمد جاد المولى. - روح المعاني، محمود الألوسي. ط /1987 - دار الفكر. - رسالة المسترشدين، الحارث المحاسبي تحقيق وتعليق: أبو غدة - نشر مكتب المطبوعات حلب/الإسلامية - زاد المسير، ابن الجوزي. طبعة المكتب الإسلامي ط 4/ 1987. - زاد المعاد، ابن قيم الجوزية. - سلسلة الأحاديث الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني. ط. 1988 - مكتبة المعارف/الرياض. - السلوك الاجتماعي في الإسلام، حسن أيوب. - السيرة النبوية، ابن هشام. تحقيق وشرح: السقا - الأبياري - الشلبي - ط دار المعرفة. - السنن الكبرى، البيهقي. ط. دار الفكر. - صحيح الجامع الصغير، محمد ناصر الدين الألباني. ط 2/ 1986 -

المكتب الاسلامي. - صحيح سنن ابن ماجة، محمد ناصر الدين الألباني. ط 2/ 1987 - مكتب التربية العربي لدول الخليج. - صحيح سنن الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني. ط 1/ 1988 - مكتب التربية العربي لدول الخليج. - صحيح سنن أبي داود، محمد ناصر الدين الألباني. ط 1/ 1989 - مكتب التربية العربي لدول الخليج. - صحيح مسلم بشرح النووي، النووي. ط 1/ 1987 - دار القلم - بيروت. - صفوة التفاسير، الصابوني. ط 1/ 1987 - دار القرآن الكريم - بيروت. - ضعيف الجامع الصغير، محمد ناصر الدين الألباني. ط 2/ 1979 - المكتب الإسلامي. - ضعيف سنن ابن ماجه، محمد ناصر الدين الألباني. ط 1/ 1988 - المكتب الإسلامي. - طبقات ابن سعد، - طبقات الشافعية، - عون المعبود، محمد بن شمس الحق العظيم آبادي. تحقيق عبدالرحمن محمد عثمان ط 2/ 1969 المكتبة السلفية - المدينة المنورة. - عارضة الأحوذي. - في ظلال القرآن، سيد قطب. دار الشروق 1987. - فتح الباري، ابن حجر العسقلاني. ط. دار الفكر (ابن باز - عبد الباقي -

الخطيب). - فتح القدير، الشوكاني. طبعة عالم الكتب. - الفتح الرباني (وبلوغ الأماني). - لسان العرب، ابن منظور. طبعة إيران 1405 هـ. - اللؤلؤ والمرجان، ط.1986 - دار الجيل بيروت. - المعجم المفهرس لألفاظ القرآن، محمد فؤاد عبد الباقي. - المعجم المفهرس للحديث الشريف، لمجموعة من المستشرقين. ط. المكتبة الإسلامية - تركيا. - موطأ مالك، مالك بن أنس - ط 1985 - دار إحياء التراث العربي. - مشكاة المصابيح، الخطيب التبريزي. تحقيق الألباني - ط 3/ 1985 المكتب الإسلامي. - ممرات الحق، الدكتور عبد الهادي. - مصباح الزجاجة، شهاب الدين الكناني البوصيري. دراسة: كمال يوسف الحوت - ط 1/ 1986. - مسند الإمام أحمد، أحمد بن حنبل. دار الفكر - بيروت. - مختصر منهاج القاصدين، ابن قدامة المقدسي. ط 7/ 1986 - المكتب الإسلامي تحقيق زهير الشاويش. - مجموع فتاوي ابن تيمية. - المفني، ابن قدامة. ط. القاهرة - 1990. - محاسن التأويل، القاسمي.

§1/1